المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العصفور والريح


AshganMohamed
01-15-2020, 03:10 AM
فائق محمد حسين









العصفور والريح

- رواية -








من منشورات اتحادكتاب العرب
1998 
















تصميم الغلاف للفنان : اسماعيل نصره






-1 -

حين شممت الرائحة وسمعت الزعيق، كانت يداي معقودتين خلف ظهري، وقدماي الشاردتان حرتين على مهل، ولا تبصران ما أمامهما بوضوح وعيناي الزرقاوين غائرتين، تجولان في الآفاق أو تكنسان الطريق، والدموع تلهث فيهما، بينما تلتهب الشجون في حلقي الجاف.
كان الجو صافياً، هادئاً، وفي السماء التي كانت تطفو فوق الجبال والأشجار العالية، غيوم قطنية مبعثرة تسبح بكسل، وشمس الظهيرة في ذروتها. تلهب سياطها الذهبية رأسي الحاسر وجسدي المتعب.
خنقني الدخان الكريه وأيقظني الصراخ الداوي، من شرودي رفعت بصري لأتبين مصدرهما فبوغتّ بصوت محرك سيارة يهدر في أذنيّ!
ذعرت وساورني الاضطراب وتلفتّ، فإذا بباص المارسيدس على بعد خطوة مني، حتى ليكاد يلامسني! رأيت فروة سلطان الممتدة من مقصورة القيادة. وأبصرت يده البلهاء تلوح محيية، ثم طالعني وجهه المستغرب:
-ما بك يا كاكاحمه؟
فاجأني، فهززت يدي نافياً وجودي شيء. وحركت رأسي معتذراً عن عدم انتباهي.
-أنت تبكي!
لم أهتم لما قاله. انحرفت عن مساري. ابتعدت عن وسط الطريق، فاسحاً المجال لسيارة "عثمان المخرف" كي تتابع سيرها وهممت أحث الخطى في الممر الجبلي الضيق. رافضاً أي نوع من المساعدة.
لم أبال بنداءات السائق، ومساعده، ولم أصغ لصيحات الركاب وتوسلاتهم، أو أستجيب لدعواتهم لي بالصعود. لم أعر أذناً لكل همساتهم وتعليقاتهم وكدت ابتعد عنهم لولا "سلسلة الأفكار “تذكرتها فراحت أنظاري تفتش بينهم تجتاح الكراسي بنهم، تتطلع بلهفة، بحثاً عن "السلماني" دون غيره وإذا مسني اليأس سألت سلطان لأبعد شكوكه: -ألم يأتي عيسى؟
-لا... ماذا تريد منه؟ هل وجدت له وظيفة؟
لم أكن راغباً في محادثة أحد، ومع ذلك تحمست لسؤاله:
-ألم تلد زهرة؟
-هذا أسبوعها الأخير، إن شاء الله. محمد وأمه يلازمانها كالظل. رد بصوت خشن يخالطه الأمل. وصاح مع أكثر من شخص:
-اركب تعال اصعد... لا تعاند. الطريق طويل.. ماذا بك؟ ماذا يدور في رأسك؟
لم أرد، تابعت السير. لم أكن مستعداً لكشف أوراقي، وفضح ما آل وسيؤول إليه مصيري ومسقبلي.
صحيح، إنها ريح عاتية هذه التي تمر عليّ والتي حولت الأحلام في نبضي إلى جناحين، إلا أنها بالتأكيد ريح موسمية. ستتلاشى حتماً بإرادتي، وبفضل اللّه القدير... فكل شيء جائز عنده... كل شيء.. لذا سأقف بوجهها كجدار صلب. وسأتجلد أمام الآخرين، لأظهر بمظهر القوي تماماً، كجبل لا تهزه العواصف. فلقد تحسنت صحتي بعض الشيء، وبدأ شعري الذهبي ينمو... والفضل "لأزرق برلين".
وصحيح أيضاً، أنني خبرت الحياة، وآن لي أن أعرف الشجى وأترنم بألحان الأسى، لكني لن أفعل. لن أستسلم، وسأقاوم. فالصمود واجب مفروض. وكل جهد يهوي مقابل ما سأعمله.
قال الطبيب: اصبر، وابتعد عن الإجهاد والتوتر. كيف أصبر وقد تحدد مصيري؟! يا إلهي، أضاع الشباب حقاً؟ أبداً العد التنازلي؟ ثم كيف لا أجهد نفسي وأعمالي القادمة لن ينجزها إلاّ الجهد والمثابرة؟ يا إلهي، بالأمس كنت فتياً فمتى لحقت بي دودة الهرم بهذه الشراهة، فنزعت مني كل تفاؤلاتي وأبقت لي أفكاراً غائمة تتصارع في مخيلتي؟ لا أعرف كيف أميزها، أو بأيها أبدأ...!
عليّ أن أسرع الخطى، لأصل سالماً قبل أن تخور قواي وأقع. وقبل أن يعاودني الصداع، فيلازمني طويلاً ويؤخرني.. أصل لأبدأ من جديد.. لن أدع" ما حصل" يفسد طموحي وآمالي، وسأبذل كل ما لديّ من طاقة لتنفيذ ما عزمت عليه. سأعمل، فبالعمل وحده أحقق إنسانيتي وأشعر بالراحة.. العمل سيخفف عذاباتي.. لولا أمي ما عدت. إنها مصدر كل معاناتي. ما توقعت أبداً أن أعود هكذا خالي الوفاض، دون نجاح يذكر. "فالعميد" هرب إلى تركيا و"إلهام" التي كنت آمل أن يؤويني صدرها بضعة أيام، تزوجت! ما أشد الخيبة وما أقسى المرارة! خاب أملي بها وتفاقمت مرارتي، حال معرفتي بالنبأ... قصدتها، واضعاً في خيالي أن التجئ عندها إلى حين نيل المرام وتحقيق الهدف، باعتبارها الملجأ الوحيد، الذي يمكن أن أحتمي به وأستدفئ بظله، وأرتوي بحنانه على مغالبة ما ألمّ بي، بل وأصارع الدهر!
ظلت السيارة ولدقائق، تسير بمحاذاتي ببطء متناه، كسلحفاة عجوز، مما أزعجني وزاد من انزعاجي إلحاح سلطان والركاب! وعلى الرغم من أن عقلي كان بعيداً عنهم، سارحاً في ملكوت السموات، ولم انتبه بالضبط لما كانوا يقولونهن إلاّ أني خمنتهم يحثونني على مرافقتهم، ربما عطفاً وشفقة. ظناً منهم بأني تعبت والسير أرهقني. وكأنهم لا يعرفون منْ أنا! عجباً، أتراهم نسوا بطولاتي الرياضية؟ أشرت إليهم شاكراً، وتصرفاتهم العجيبة تثير دهشتي! تساءلت مع نفسي بألم وأنا أشهد إصرارهم: ما الذي يريدونه؟ ما الذي يتصورونه؟ أيعتقدونني جننت؟ لا.. وألف لا.. فأنا بكامل وعيي، وعقلي يزن عقولهم مجتمعة.. أعرف جيداً ما أفعله وما سأفعله... أمامي ثلاثة كيلومترات حتى أصل قريتي بعد أن قطعت خمسة بالتمام. وما دام الإنهاك لم يهد مفاصلي بعد، فساواصل السير بعزيمة، ودونما كلل... وعلى بركة اللّه.
ليعتقدوا بما يشاؤون، فما عادت تهمني كل أعتقاداتهم. ماعاد يهمني أسار الركب أم ركب الأمير... عدت إليهم إنساناً آخر ولينتظروا "فكاكاحمة عاد... عاد" صرخت في أعماقي وتابعت سيري. وحين دب اليأس في أوصالهم، ونخزهم عجزهم عن إقناعي بالصعود معهم، تركوني. ومضت سيارتهم في طريقها، تتهاوى في سيرها كحمار أرهقته الأحمال... بينما أخذني حملي بعيداً وحلّق بي عالياً.
كان حرياً "بالخبر الصاعق" أن يدفع بي إلى القبر، في الحال. لكن "أوراق الجمولي" أعادت لي الأمل، ووهبتني الحياة من جديد ها هي على قلبي ملفوفة بكيس نايلون خشية من العرق المتصبب من جسدي... "أخ لو حصلت عليها من قبل... أخ..."!
أطلقت زفرة حرى. وعضضت أصابعي حسرة. فلو وقعت هذه الأوراق في يدي قبل الآن، وفي ظروف أحسن، لكانت فائدتها أكثر بالتاكيد. ومع ذلك سأستثمرها سأبدأ "بالسلماني" لن أدعه يهنأ بثروته. فبعد أن "باع حصيلة الموسم بربح وفير" وجب أن أستعيد حقي.. سأخرق موتى موتاه.. و"سعدو الخائن" لن يفلت مني. أخذ حصته فليعطني حصتي... ما كنت أعرف أن الأوراق تتكلم! تنطق! إنما "المال يتكلم" فتلك حقيقة لاغبار عليها، كحقيقة أن الفقر وحش شرس، لا يقاوم وأنا سأجعل الدنانير بين يديّ.. وتغني... فلينتظرا... لينتظر الجميع.. فكاكاحمه عاد... عاد.
طوال الأيام القصيرة الماضية انبثقت الأفكار في داخلي! تدفقت بصورة غريبة، كشلال بارد، فأطفأت نيران القلب والروح المتأججة. كنت أعد مشاريعي، أرتبها، أزيد عليها وأنقص منها، ثم أقلع عنها نهائياً! كل ما أفكر به في الليل يمحوه النهار ببساطة! وكل ما أخطط له في الصباح، كنت أتخلى عنه في المساء... ولم أستقر على رأي أبداً، بسبب اضطرابي وتشوش ذهني... ولأن هدفي كان التسلية فقط، وقضاء الوقت. فحسب ما قاله "مجيد": على الإنسان أن يملأ روحه بشيء ما، وإذا لم يفعل وباتت الروح خاوية، فالقلب سيجتر دمه بنهم شديد... واليوم، تغير كل شيء وما عاد هناك تسلية، ولا حاجة لقضاء الوقت... بت في موقع المسؤولية، وباتت أمامي مشاريع جديدة، محددة، لا زيادة فيها ولا نقصان، ولا يمكن الاقلاع عنها ومحوها من الذاكرة... مسؤوليات لا يحق لي التخلي عنها.. أبداً.. أبداً.
كل شيء كان واضحاً لنا، لكن الدليل.. تقديم البرهان أعجزنا... السلماني الكلب، لن يفلت هذه المرة.. لا.. لن يفلت... نذالته وخسته هما وراء موت أبي... طمعه في أرضنا وتهديده لنا ورفضنا عرضه لبيعها له وتشبثنا بها، دفعته إلى حرق محاصيلنا. ولكثرة الديون المترتبة عليه اضطر أبي للعمل عند المخرف، سائقاً لسيارة الأجرة الصغيرة، لكن الأمر لم يدم سوى أشهر. انقلبت في حادث أليم وطارت روحه إلى السماء وعندئذ برز لنا السلماني بأوراقه! إدعى أن أبي باعه الأرض قبل مدة واستلم المبلغ كاملاً عرض لنا ورقة البيع والشراء ممهورة "ببصمة أبي" ومذيلة بشهادة حمودة الأعور وسعدو وزوج خالتي المحامي! صدقنا مرغمين... غير أن الحيرة لازمتنا... الحيرة في النقود! فمتى أخذها أبي وأين صرفها؟! أقسمت أمي بأنها لم تسمع عن البيع شيئاً ولم تر فلساً واحداً! صدقنا إدعاء السلماني، لجهلنا وسذاجتنا... لكن أوراق الجمولي كشفت لي الحقيقة...
تذكرت مصاب أبي والفاجعة التي حلت بنا. فراودني حلم الانتقام القديم من السلماني الذي أكل حقنا وطردنا من الأرض. ولا شيء تكره نفسي في الدنيا كلها مثله، لنذالته، ومثل هذا الطريق الطويل، المتعرج، بالتواءاته القاتلة. التي ضيعت العشرات وعلى رأسهم المرحوم أبي...
كرهت الطريق ولطالما تمنيته رجلاً لأقتله. ولطالما فكرت في وسيلة أتفادى بها المرور عبره، ولم أجد. ووجدت الآن الفرصة متاحة للتفكير...
جالت في ذهني أفكار جديدة، فأتعبتني، وبلبلت حالي... وفجأة برزت واحدة منها، كشعاع منير، انطلق محلقاً في الأعالي. وحوله لاحت نجوم خماسية مضيئة! تسمرّت في مكاني. تجاهلت كل مشاريعي وسلسلة الأفكار. واندفعت صوب مشروع جديد.. أهمّ وأكثر فائدة. طرأ على غير توقع! ولأني أكثر الجميع معرفة بقريتي، أعرف كل شيء عن أحوالها، ناسها وبيوتها، أزقتها وشوارعها أعشابها وأشجارها، حصياتها وصخورها، أوديتها ومنحدراتها ومرتفعاتها، عاينت المكان تفحصت الأرجاء ثم صعدت إلى أقرب تل.
من قمته ألقيت نظرة على الجبل والتلال المجاورة وفكرت: لماذا لا نشرع في إكمال الطريق؟ منذ عشر سنوات ونحن ننتظر الحكومة! فإلى متى سنبقى في الانتظار؟ يكفيها إنها قررت إقامته وفتحت لنا النفق قبل أن توقف أعمالها بسبب القتال... لو أزلنا هذه التلال وبترابها ردمنا الهوّة، لغدا الطريق سهلاً وقصيراً... بالتأكيد...
طابت لي الفكرة واستسهلتها ولأني عدت لأعمل، نسيت تعبي. وبقيت أخطط وأرسم أتخيل فأحضر، أحكم فأردم... حتى ضج دماغي وتشبع خيالي... فتابعت المسيرة وكلي عزم وإصرار على ضرورة التخطيط بعقل، كي لا أتسرع ولا أندم، فالسرعة والندم أخ وأخت ثم أن واجب الإنسان أن يفكر جيداً قبل الإقدام على عمل ما... وعليّ أيضاً أن أستشير المختار والملاّ، فهناك دائماً أصوات متعقلة وسط الفوضى والضلال...
بعد ثلاث ساعات وصلت قريتي. التي تتوضع بمهابة على حافة سهل أربيل الجميل، الذي تختزن أعماقه أسرار وتفاصيل غريبة لا تصدق، وتشرف على أرضه الواسعة، المشهورة بطيب هوائها وبمياهها الرقراقة العذبة، التي تنبع من الأعالي وتنحدر مع الصخور لتشكل جداول ما أروعها، وتطل على الطريق العام...
لاحت مئذنة المسجد شامخة. وبانت أغصان الأشجار المتعانقة. وظهرت البيوت الحجرية العتيقة، متناثرة على امتداد المساحة الخضراء المترامية الأطراف.
لفحتني وأنا أدخل أول منعطف، عذوبة الهواء، ورطب وجهي بنسيم ما بعد الظهيرة العليل، فدمعت عيناي وانتعش قلبي بنسيمات الخريف، الناعمة، الرقيقة، الباردة.
في بداية الشارع المؤدي إلى ساحة القرية والذي كان مظللاً بأشجار اللوز قبل حرقها أيام الحرب وجدت الصبي راضي بن سعدو يسرح بالبقرة عزيزة.
دهش لرؤيتي سائراً على قدميّ سلم عليّ فمازحته وسألته:
-قل لي يا راضي، هل السلماني في القرية؟
-لا.. منذ شهر وهو في أربيل. وأبي ذهب إلى عمك ليقص شعره... ألمني جوابه، وفتّ في عضدي. لأن كل مشاريعي ستتأجل...
تركته ومضيت، فألتقيت بعد قليل بموسى عائداً من جولته اليومية، يقود قطيع الخراف والماعز -أهلاً كاكاحمه... أهلاً... الحمد للّه على السلامة.
بادرني مرحباً بوجهه الطويل المبتسم، وحاجبيه المتصلبين.
كان يمسك بعصاه المعقوفة، ويشد وسطه بزنار جلدي ويستر رأسه بقطعة قماش. رددت التحية وسألته:
-ألم يأت عيسى؟
-عيسى في بغداد... ماذا تريد منه؟ أصدر أمر تعيينه؟ تركته ومضيت قدماً، مخترقاً الساحة حيث كان الأطفال يلعبون كرة قدم. اشتعلت الذاكرة فجأة فوقفت . تذكرت ملاعب طفولتي... الأصدقاء... وبرز شبح أحمد ابن المختار برفقة عمتي بتول وأخي رحيم، فبكيت.. وأصبح طيف أحمد أكثر حضوراً وهو يأخذ بيدي ويقودني....!
سرت بعد دقائق، فوجدت بانتظاري جمعاً حاشداً يقف عند مشارف البيوت وعلى عتباتها، وبقرب مقهى نصار، بحيث ازدحم بهم الممر الترابي الضيق.
استقبلني بعضهم بترحاب بالغ. وأمطرني آخرون بالقبل، وبأسئلتهم اللحوحة المستغربة:
-مضت خمسة أيام على غيابك! أين كنت؟ ماذا قال لك الطبيب؟ لم أنبس بحرف، مما زاد في استغرابهم. اكتفيت بالتطلع إلى وجوههم الصفراء المرتعبة، بحثاً عن وجه أمي. وحين لم أره بينهم تقدمت متثاقلاً، فأفسحوا لي لأمضي بعيداً.
تركتهم في حيرة. ومررت على دكان عمي حسن لأحلق رأسي. لكني لم أدخل لرؤيتي سعدو جالساً بين يديه. سلّمت وابتعدت قاصداً دارنا. أحسست من خلال نظراته ونظرات زبونة القلقة أن هناك أمراً غير طبيعي، لم يخامرني شك في سلامة عقلي، بل خفت على أمي وتلبّسني الذعر...
على امتداد الدرب احتشد الصبيان يتفرجون عليّ، بينما يتقافز الدجاج قربهم بحثاً عن طعام! مما زاد في ذعري، الذي سرعان ما تلاشى.
فعلى العتبة العريضة وجدت أمي تفترش سجادة صلاتها الصوفية تتربع، تسد الباب بجسدها القصير النحيف. المغزل الرفيع يدور بيدها وكيس الصوف ملقى جنبها كخروف صغير!
رأتني فنهضت، أخذتني بالأحضان وشرعت تبكي بدا وجهها الجميل يكتظ بالحزن والأسرار. تشع فيه عينان ثابتتا النظرات، تقرأ فيهما تأريخياً طويلاً من المعاناة والشقاء.
بدل أن أمسح دموعها المتقاطرة، وقفت أمامها كالصنم، بانتظار أن تتزحزح وتفسح لي المجال لأدخل وأستريح، وأستبدل ملابسي بعد أن بللني العرق إلا أنها لم تفعل! حتى أنها لم تدعني أتفوه بكلمة. كنت غاضباً ومتوتراً وتمنيت لوانها تتركني وشأني، ولا تبدي كثير أهمية لعودتي، وتستمر في غزلها دون أن توليني أي اهتمام... ظهر سرورها برؤيتي واضحاً، فآلمتني... وذاب ما بي من غضب وتوتر، وتلاشى. واستلهمت الشجاعة من عينيها اللتين تفحصتا في بروية وحنان، واستفسرنا بهلع ومن خلال الدموع عما حصل لي في أربيل، وَلمَ عدت هكذا بسرعة ... فقلت: أنا بخير.يا أمي... بخير...
داخلها الاطمئنان فاستبشرت أساريرها. أنتشيت بدوري حالما رأيتها تبسط كفيها رافعة بصرها إلى السماء تشكر اللّه.
-لم أتأخر.. لم أرغب في البقاء أكثر من هذا.
أظهرت استغرابها. فأردفت.
-فكرت بك يا أمي... بوحدتك..
أعياني التعب، وفترت قواي خفت أن أتهاوى مجبوراً متهالكاً فسمعتها تستفسر بلهفة:
-هل وجدت عملاً؟ هل حصلت على مال؟ أجلبت معك شيئاً من خالتك؟
-لا يوجد في جيبي فلس واحد.
غاظها ردي. شعرت بخيبة حقيقية فعادت تستفسر:
-عجيت! ولم عدت إذن؟
-جلبت معي هذه الأوراق.. عدت من أجلها..
تسمر فكها عجباً للحظات. غير أن الشفتين اليابستين ارتعشتا قليلاً وتساءلتا بمرح:
-أوراق! أتطعمنا أوراقك هذه؟
-نعم... وسأتزوج بها...
بهتت، تطلعت إليّ بعينين ذاهلتين. وتحركت شفتاها من جديد وانفرج بالتالي ثغرها، لتنطلق منها ضحكة مدوية..
قهقهت حتى ترقرق دمعها! ثم أعقبت بتوضيح ساخر:
-تتزوج؟ مليحة الجرباء رفضت تزويجك ابنتها!
سكتّ، فاستمرت بسخريتها المريرة. تركتني وتمددت على السجادة دلالة الغيظ، وباغتتني بسؤالها القاتل:
-فمن تقبل بإفلاسك وبسواد...؟
-هدهد.
أجبتها، فجنت! لم تصدق. رأيتها تقفز قاعدة وتهبد بيدها فوق صدرها. وفي غمره غيظها تساءلت بقرف وضيق:
-هداية العمياء؟!
ألمني ما سمعت ولم أشأ الدخول معها في نقاش عميق، وعقيم فهي أمي وأنا مرهق والكلام لا يسد جوعاً، قلت بحزم:
-هي بذاتها... وسأتزوجها بعد غد...
أذهلتها... حدقت فيّ بعجب، راحت لثوان تنظر إليّ نظرات ملؤها الوجل والريبة. وحين لحظت جديتي عادت لتتأكد:
-هداية!! هداية العمياء؟! بماذا ستنفعك. وتنفعنا؟ كدت أصرخ بوجهها "إن ابنك مكره لا بطل" لكني عدلت:
-استغفري ربك يا أمي... أنت تكفرين! ألم تعلميني بوجوب شكر الخالق وتحذريني بألاّ نعيب على المنقوش. وحاشا للّه أن نعيب على خلقته، جلت حكمته! ما ذنب المسكينة هدهد، إذا فقدت بصرها في ضربة حاقد؟ وكلنا معرضون لأن نصبح مثلها... تصوري موقفك، لو جاءت الضربة على رأسك؟
صفنت تستوعب المعنى، ولأنها تعرف مدى إصراري، وتشبثي بكلمتي، تراجعت عن سخريتها وغيظها، وأعلنت بصدق:
-لا يا بني... لا... إنني أمزح... أنت سيد العقل، والمال ليس كل شيء في الحياة.. سأكلم الحاج صالح بنفسي... فشذى لن تجد أفضل منك... وهي تنتظر موافقتك.. سأكلمها بعيداً عن عمتك... رقص قلبي لذكرياتي مع شذى، كأنه معلق على جناحي طائر.
-لا تتعبي نفسك... فانا لا أريد شذى.. لا تكلميني عنها ثانية... ثم أنت تعرفين عمتي جيداً، إنها طامعة في بيتنا... وهي لا تحبنا لن ترتاح لي، ولن تتركني أرتاح... هذا إذا وافقت..
-صدقت... مليحة، لئيمة حقودة، وغيور... وعادة البدن لا يغيرها إلا الكفن...
لم تبدأ أمي كامل استسلامها، وإن نطقت بكلمة حق بسبب كراهيتها لعمتي.
حين تركت المستشفى أيقنت أن هدهد، هي الفتاة الوحيدة القادرة على انتزاع الكمد القاتل من قلبي، وإزالة الغمامة السوداء من نفسي، أو تخفيف وهجها على الأقل.
-ماذا جرى يا بني؟! ماذا بك؟ أين عقلك؟
-تركته عند أختك الكاذبة. وأخذت هذه الأوراق بدله.
-خالتك مريم! ماذا حدث بينكما؟ ألم تكن عندها؟
-لم تبقني في بيتها ساعة واحدة! سحبتني بأمر الجمولي الحرامي إلى المستشفى... وتركتني هناك وحيداً ككلب أجرب!!
-لماذا؟! ما الذي حصل؟
-لماذا! كأنك لا تعرفين أخلاق أختك وزجها؟
ما أردت الذهاب معها لولا عنادك. أنت سبب كل ما حصل لي...
صمتت يلفها الندم، كمن يسترجع الذكريات ويتحقق من صحة المعلومات التي تلقاها.
-وكيف جئت إلى هنا؟
-جئت مشياً.. سرت على قدمي، الطريق كله...
-لا بدّ أنك هربت... ماذا قال لك الطبيب؟
أصمت منكسراً... فتكمل بحنان ولهفة:
-اخبرني..
-قال لي: وسواس... تزوج يا كاكاحمه فتتخلص من وساوسك...
-تتزوج! من أين؟ أتظن الزواج لعب أطفال؟ وها أنت تعود حافياً "لا من قدام ولا من ورا غير الهوا" ضحكت... وصفقت باستهزاء... فآمتعضت وأوضحت لها:
-لا ياأمي... لا تقولي هذا... لا تنسي حكمة أبي "من عامود إلى عامود يفرجها الرب المعبود".
-آمنت باللّه.. لكن..
-جئت يا أمي لآخذ حقي... وسترين... كيف سآخذه.
أخبرتها بثاني المشاريع ففغرت فمها مستغربة:
-إنه شرع ربنا، ولا يمكنني التفريط به، سأخذه فأطمئني.
-تأخذه ممن كان يعرف اللّه ويخشاه... لا من السلماني!
-سأفقأ عينيه، ثم أتزوج.
وكأنها لم تستسغ حديثي سارعت تسأل:
-وماذا نقول لعبد اللّه المختار؟ كيف ستواجهه؟
إنه يحبك يا بني...
-وما دخل المختار يا أمي؟! أنا لن أتزوج خطيبته!
-كن عاقلاً وأجل الموضوع. لم تنته أربعينية الحاجة..
ولا أظنه سيوافق على زواجك..
-يا أمي، مختارنا أعقل مما تتصورينه. أمه عجوز، ماتت بعد أوانها بخمسين عاماً.
-عجوز!! أنت لا تحبها. وربما ماتت بسببك أنت... لقد آذيتها كثيراً..
ضحكت.. أدركت قصد أمي، غرضها الواضح، سعيها لعرقلة زواجي. فهي لم تكن في يوم ما على وفاق مع العجوز المتوفاة.
تذكرت شعيرات شارب المرحومة. ولحيتها الناتئة ببشاعة والتي كانت تغريني على أذيتها بكل السبل. وتدفعني إلى اقتلاعها بيدي نتفاً كنت أتسلل خفية إلى مطرحها، أثناء غفوتها. وانتزع الشعيرات انتزاعاً، غير مبال بصراخها وبالألم الذي أسببه لها.. وآخرها قبل ثلاثة أشهر، حين جئت في آخر إجازة عسكرية.
قبل تسريحي من الجيش... تذكرتها وتذكرت جلادة المختار... ومرقت أمامي صورة أحمد، الذي ذبحه. ليحافظ على شرفه، وليبقي رأسه مرفوعاً...!
لم أجد الرغبة في الخوض بما لا أحب. ولم أكن مستعداً لكشف أوراقي وفضح أسراري لأحد، حتى لأمي. انتهى كل شيء... انتهى حسب توقعاتي... انتهت أيام النعيم والشقاء، ولم يبق إلا مسك الختام، والحمد للّه الذي لا يحمد على مكروه سواه.
ثم أن ما جرى لي يخصني وحدي، وحالتي لا تسمح لي بمزيد الكلام والتوضيح. فأنا متعب وجائع. مشيت مسافة طويلة ووجب أن أخلد إلى الراحة. أستريح وأهدأ، فمشواري القادم أطول... مشوار العمل والجهد.. عدت لأعمل لا لأتحدث وأضيع وقتي... أمي تريد قتل ساعاتها الطوال في اللغو والثرثرة. كأرامل قريتنا الشابات، الجميلات. وأنا لا وقت عندي.. لا وقت.
أزحتها جانباً ودخلت. اتجهت إلى غرفتي، فواجهتني لوحة الميداليات. القديفة الحمراء المزركشة المؤطرة. وتحتها انتصب رف الكؤوس... كدليل ساطع على بطولاتي. وحولها توزعت عشرات الصور التذكارية، صور المسابقات والمهرجانات الرياضية وفي الوسط علقت صورتي الكبيرة في إطار من خشب. حفرت في جانبيه أغصان وورود ملونة.. بقايا ذكريات بادت وأيام قضت. تحسرت على الشباب... وندمت لأني لم أحسن التصرف.
دسست الملف تحت الفراش، غطيته جيداً. وأبدلت ملابسي ثم استلقيت على سريري، أنفس عن كربي وأتنفس الصعداء. جالت عيناي في أرجاء الغرفة الصغيرة. لم يكن هناك ما هو غريب خزانة ملابسي، سريري، مشجب، منضدة وضع عليها راديو أبي الكبير العاطل، وساعة دائرية لا تعمل. كان لها جرس تنبيه أخرسته ذات يوم بضربة كف. وعلى الأرض بساط صوفي حاكته أمي قبل زفافها، وتقويم قديم ملون.
لحقت بي أمي مع مغزلها. جلست عند رأسي تسأل وتستفسر. وتوقعت أن تستمر أسئلتها. وخفت أن تستدرجني وتكشف ما بي. كما خفت أن يزل لساني دون إرادة مني، فيبوح لها بما يؤذيها ويجرح فؤادها. وربما يزيد في آلامي.. وأنا الذي أقسمت على الصمت ما دام أحد لم يعرف شيئاً بعد...
استويت قاعداً وخاطبتها بلهجة صريحة وقاطعة:
-اسمعي يا أمي، اذهبي الآن إلى الخانم. أبلغيها سلامي وخذي منها ثوبين صالحين، لفيهما بكيس. واذهبي إلى عم مصطفى. اخطبي لي هدهد. وأخبريه عن لساني، بأني قررت أن أخصي له ثور السلماني وأحفر البئر بنفسي. وسأزوره غداً لأزف له بشرى خاصة.
لم تفهم ما عنيت. ضربت الأرض بقدمها وصاحت موبخة: -أأجننت؟ أتتصورني طفلة أتصرف بمشورتك. أتظن الذهاب إلى الخانم أمراً سهلاً. ثم من قال لك إن مصطفى سيقبل بك؟
-سيقبل يا أمي، فإذا أطعمت الفم تستحي العين. قولي له إن كاكاحمه يسلم عليك بسند الجمولي، وسيكسر رأسك!! إذا امتنعت...
-سند الجولي!! أي سند؟ ماذا تعني؟
-لا يعنيك الأمر يا أمي، أرجوك اذهبي... هيّا..
انتابها الشك في سلامتي. فهذا أمر لم يكن في الحسبان اطلاقاً. مسكت رأسها بحيرة وقالت:
-يا بني، العرس لا يتم هكذا... فلا تستهن بتقاليدنا. فاردمي، شعرت بنوع غريب من التمرد النفسي، فضربت وبشدة حافة السرير بقبضتي وصحت:
-تقاليدنا!! تقاليدنا!! مالي وتقاليدكم؟ كل ما أرغب فيه، أن يتم زواجي بسرعة... بسرعة! هل كفرت؟! أردت القول "فلا وقت لديّ كي أضيعه" لكني سكْتّ. بانت حيرتها، وكنت حائراً مثلها. ويعتريني شعور دفين بالحزن عليها أكثر من الحزن على شبابي.
فضلت التراجع عن غضبي كي لا أجعلها تغوص مثلي في أوحال عذاب مستديم.
تنهدت لأروح من غيظي. إذا إن واجبي يحتم عليّ الهدوء والالتزام بأبسط نصائح الطبيب، قبل أن تعاودني الحالة من جديد. فالصداع الذي استعمر رأسي ولم يتركني منذ كأس العميد، لا يرحم. وإذا ما عاد فسيطرحني في الفراش ممزقاً، محطماً لأيام... لا يعلمها إلاّ اللّه.
-اذهبي يا أمي. أرجوك دعيني أرتاح قليلاً. وسأذهب إلى الملاّ بعد أن آكل..
زفرت بحرقة وكشفت عما بها من مرارة:
-تأكل!! ماذا تأكل؟ لا يوجد في البيت شيء يؤكل. ولا أملك درهماً لأصرفه عليك.
صعقت! أيعقل أن يفرغ بيتنا من الطعام؟ وتفرغ جيوب أمي من المال؟ بيتنا الذي كانت عمتي تصفه بأنه أفضل من دكان زوجها! وأمي التي وعيت على الدنيا وجيوبها ملأى بالدنانير... وصدرها يضج بلمعان القلادتين، وتحتشد الأساور والمعاضد الذهبية بمعصميها!
التقت نظراتنا المستغربة الحزينة فأكملت ودمع غزير صامت ينساب علىخديها.
-لم أبع صوفي بعد. وأختك لم تذكرني منذ يومين!
-ألم تقصدي دكان الحاج صالح؟
-استحيت... كثرت ديوننا.
-وعمي!! ألم تذهبي إليه؟
-عمك حسن ليس أحسن منا. دكان الحلاقة لا يدر ربحاً. ولولا الملاّ لهلك... ثم إننا أثقلنا عليه..
دخت. أمسكت رأسي دهشة وقنوطاً. وقبل أن أقع في شر الاضطراب تماسكت وطالبتها بهدوء:
-إذن اذهبي إلى ملاّعطا اللّه. اخبريه أننا جياع، ليزودنا بمؤونة الشهر. وأعلميه بأني سآتيه بعد صلاة المغرب لآخذه إلى بيت عم مصطفى لنكتب الكتاب... فليكن مستعداً، وليحضّر شاهدين... هيّا توكلي على اللّه...
لحظت ترددها، فلم أتحرج. زفرت بعمق ورجوتها:
-يا أمي، دخيل اللّه لا تؤخريني... أمامي عدة أعمال. لا بدّ من إنجازها... لا بدّ توكلي على اللّه وانهضي..
تمعنت في وجهي بأندهاش صارخ، كأنما تراني لأول مرة في حياتها. حاولت أن تستوضح مني إلاّ أن طبيعتها الهادئة ألجمت اندفاعهما في التصريح عما تحس به.
-قولي له: إن كاكاحمه يعرف كل الحيل والآلاعيب جيداً. لذا فهو لا يحب سماع "أعطونا مهلة نأخذ رأي البنت وأمها" أو"دعونا نستشير ونأخذ خيرة" لا يحب.
أدركت فشل محاولاتها فتركت مغزلها على الأرض، وابتعدت قليلاً.. ثم فرّت من أمامي كغزالة مذعورة. الجوع أشعرني بصداع! بداية صداع قد يهدني. وعلى غير ما تعودت، قررت التخلص منه بنسيانه. فبدل أن أدس رأسي بين وسادتين أرتجف وأبكي، رحت ألوب في أرجاء الدار. لم أرد البقاء طريح الفراش، لا أقدر أن أرى نوراً أو أسمع ضجة لدقائق، بقيت أذرع فناء الدار جيئة وذهاباً. استرجع لحظات سوقي إلى الخدمة العسكرية كجندي مكلف. واختياري من قبل "العريف إسماعيل مونرو" للاشتراك في ألعاب القوى وساعات التدريب الشاق وفوزي المتكرر، لسنتين متتاليتين بالمرتبة الأولى في كل المسابقات.
هدأت وخف الألم. ولم أجد مفراً من المضي إلى بيت المخرف، لأعاتب بشيرة ولأستفسر عن عيسى، ولأتناول عندهم ما يمسك رمقي. فأمي ستتأخر دون شك...
سرت بسرعة، لم أبال بتحيات من قابلني. ولم أرد على سلام أحد منهم. حتى أني لم أجب على أسئلتهم...
كان بيت المخرف في نهاية الطريق الرئيسي، واسعاً، متميزاً بلونه الأبيض. تحيطه حديقة عامرة مسوّرة بأعمدة خشبية متينة، يليها نبات الآس ذو الرائحة الطيبة. وتظلل بابه العريض عريشة عالية من الكروم. تحتها مدت حبال غسيل نثرت عليها ملابس ملونة زاهية، وعلى خشب السور غسيل منشور بكثافة.
لفت نظري منظر الدجاجات وهي تنتشر بكثرة، تدور هنا وهناك وعلى قرب كانت مجموعة من عصافير الدوري تغمس مناقيرها في الطشت النحاسي. فتمنيت اقتناصها وأخذها إلى أمي لتشويها في التنور.
استقبلني أطفال بشيرة الثلاثة تسلقوا ظهري وكتفي كالقرود، فرحين مستبشرين. وخرجت الكبرى حنان تحمل الرضيع سامر شبه عار. أردت توبيخها بسبب برودة الجو، فلاحظت بقعاً حمراء على جلده. وهممت بسؤالها عن سر ذلك فشاغلتني انهمكت في تفتيش جيوبي مستفسرة: -ألم تجلب لنا حلوى يا خالي؟
-خالكم المحترم لا يملك سوى قلاقيله.
أجاب عني صوت هازئ ناعم التفتّ مدهوشاً فشاهدت افتخار تطل من الباب الداخي، وتقترب مني. سر قلبي لرؤيتها وانتشت روحي. بدت نوعاً فريداً من النساء، لم تألفه عيناي في القرية، أصلحت هندامها ورجّلت شعرها فغدت أكثر نضجاً وفتوة!
راقبتها وهي تقف ضاحكة. تشد على يدي وتهمس مازحة
-أهلاً بالغائب الهارب!
وكأنها لاحظت ضعف شهيتي للكلام، وقلة انتباهي.
أشارت إلى أطفال أختي بالانصراف ولكزتني بمرفقها.
-تعال، أنا في شوق إليك.
-عدّت للتحرش بي! ألا تكفين عن ذلك؟
ضحكت من غمازتي خديها وهمست بمحبة ودلع:
-الحب ليس حراماً يا كاكاحمه!
ما زالت ابنة المخرف تستحم بمياه الذكرى، تتعلق بخيوط الشمس الواهية، وتحبني إلى درجة الأحلام. لقد أحببتها بدوري، وسأبقى. فهي لم تزل كما كانت دائماً تضج بأنوثة صارخة. كنت ولم أزل أشتهيها. وحلمت بالزواج منها... لكن اللّه غالب على أمره!
قبل أن أعلق هدر صوت المخرف الأجش، يستفر بآزدراء
-أهذا ابن خجة؟ ماذا جاء يفعل؟
-جاء بتوكيل من عزرائيل ليقبض روحك.
صاحت افتختار وهي تمد رأسها صوب الداخل... سمعته يسبها، فسألتها:
-ألم يمت بعد؟
-أبي لن يموت إلاّ بعد أن يقبرناكلنا.
-اللّه يشفيه ويعافيه.
-قل يقصف عمره ويأخذ أمانته ادع يا كاكاحمه، دعاء الشريف مستجاب.
-هل رشرش الصالة؟
أخرجت حشرجة من حلقها ودمدمت.
-الصالة فقط! بوله غطى البيت كله. ما عدت أطيقه، ما عدت
استشعرت عذابها فسألتها وهي تسحب لي كرسياً، من الكراسي الستة القديمة، المصنوعة من خشب الجوز المصفوفة في الممر.
-ألا تساعدك بشيرة؟
-بشيرة!! اللّه يساعدها ويعينها على أطفالها الخمسة بسببهم ستجن. يكفيها همّهم وهمّ أخي المحترم يحيى، ثم إنه أبي... وأنا أولى بالعناية به.
استأنست بحديثها فقلت وأنا أجلس أمامها مباشرة.
-بارك اللّه بك.
ارتاحت لجوابي فقربت كرسيها مني وتساءلت بمكر:
-أجئت من أجل عيسى حقاً؟ قيل لي إنك سألت عنه.
هل جلبت له أمر التعيين كما وعد الجمولي؟
هززت رأسي نافياً وتمنيت أن أسمع منها ما يفرحني لأبدأ مع أخيها بتحقيق الأمل الذي راود خيالي وسكنه، منذ كلمني مجيد عن الفائدة الكبرى، والذي فكرت به أكثر من أي شيء آخر، وباهتمام فاق تصوري.
-ذهب إلى بغداد ليشتري كتباً جديدة، ليتثقف! لأن شهادة دار المعلمين لم تكفه! أخذ حفنة دنانير من أبي!
-هل يطول غيابه؟
-لا بالتأكيد... ستجده هنا الأسبوع القادم، لكن، قل لي ماذا تريد منه بالضبط؟ إذا كنت تريد أن تفتح له مدرسة هنا، ليكن في علمك إذن... إنهم لا يسمحون لك..
أزعجتني بسخريتها المريرة، فحاولت التهرب من ذلك:
-وأين بشيرة ويحيى؟
-أختك في مملكتها. واللّه، دخلت المطبخ منذ الصباح، ولم تخرج بعد! سمعت بعودتك وأرادت المجيء إليكما فلم تجد الوقت... وأخي خرج بعد الفطور ولم يعد بعد!
-ماذا طبختم اليوم؟ أنا جائع..
-حاضر... على رأسي وعينيّ الاثنين.
-أريد شيئاً خفيفاً.
حركت حاجبيها دهشة وضحكت:
-أراك مستعجلاً!
لم أحب المراوغة والكذب قلت:
-سأخطب هدهد الليلة.
بهتت لحظة ثم أفلتت ضحكة هازئة، كأنها هجست "دعابتي" فلم أجد بداً من مصارحتها دون تردد:
-وسأتزوج غداً.
صعقت، تطلعت إليّ بعجب. قرأت تصميمي وتأكدت من صحة كلامي. فأربد وجهها وأسوّد. ولاح لي أن حزناً غريباً يطل من عينيها، حزن الإحباط قبل أن يتملكها الغيظ وتصيح باستخفاف:
-هداية؟! هداية؟!
يبدو أنني تعجلت بنثر "قباحتي" أمامها وما عاد هناك من مفر. أجبتها:
-نعم، ابنة عمي مصطفى.
أطلقت صفير استهجان وسخرت:
-عمك!! عمى اليعميك..
بعدئذ اختنق صوتها وانطفأت الكلمات فوق شفتيها وبينما لفّها الذهول والصمت رحت استعرض بدايات حبنا كيف صارحتها بحبي واتفقنا على الزواج وتعاهدنا. كنا ننزوي هنا وهناك بناء على أمرها ورغبتها. تنسل قربي وتسحق نهدها البارز على كتفي وتروح تغمر وجهي بقبلاتها النارية.. وكنت دائماً آستأذنها وأخذ شيئاً من الحساب.
فجأة، نطقت بصوت مخنوق:
-أتتكلم من عقلك؟
-لا... من بطني.. ألم تسمعي جيداً؟
آستاءت من سخريتي. لم تستطع إخفاء نظرة حزن هاربة من حدقتيها، وهي تلجأ للملاذ الأخير كحل، سعياً منها للعرقلة، تماماً كما فعلت أمي:
-والمختار!! ماذا تقول له؟
-سأكلمه.. وسآخذ موافقته.
-ألا حرمة للموتى لديك! إنها جدتك!
-أخت جدتي.
اكفهر وجهها بسبب الفشل. وكدت أصيح "ابتسمي أيتها الحبيبة، فالأبتسامة تزيد الوجه إشراقاً".
تملكتني رغبة جامحة في معانقتها، احتضانها وإعادة علاقة استمرت سنوات وانقطعت قبل أشهر. إنها حبيبة القلب الأولى. أحببتها من صميم قلبي وحلقت معها قبل مرضي، على متن آمال عراض... وأمي تعرف ذلك، لكنها خطبت لي شذى بنت عمتي نكاية بالمخرف.
لقد سمنت افتخار! والمرأة تسمن ما دامت في البيت، وتسمن أكثر في الشتاء. لكن هل ستبقى على ما هي عليه الآن بعد الذي سمعته؟ وبعد زواجي؟
ابتسمت لها وانتظرت استجابتها. ترقبتها بأمل. وفهمت مرادي وبدل أن تستجيب لاحظت انفعالها، أرتعاشة شفتيها اختلاج خديها واصفرار عنيها. وحسبت إنها ستهدأ سريعاً وتستكين وتتخلص من دوامة الصعقة. فإذا بها تزمجر مغتاظة:
-أين وعودك لي؟ سلمتك نفسي يا كاكاحمه!
-لم يتعد ما بيننا القبل.
-أتظنها لا تكفي للذبح؟ لو علم إخوتي بها لذبحوك قبلي ذات مرة، لمحنا يحيى ونحن نتبادل الحديث همساً، تحت العريشة فغض الطرف عنا. لاحظته أنذاك، وهو يبتعد خفية حتى لا يشعرنا بوجوده، ويحرجنا... لكن يوسف القصاب لم يسكت حين رآنا. صارحني علانية "إنني أشعر بالقلق كلما لحظت النظرات الغريبة التي تتبادلانها. ولن أسمح لكما بالانفراد".
أحسست بقلبي يغوص في صدري... فحدثتها بصراحة. فلم يكن أمامي إلاّ جرحها بصورة مؤقتة بدل تحطيم حياتها.
-صحيح أنني اتفقت مع يحيى على الزواج منك، لكني فكرت فيما بعد، فوجدت أن العقل والمنطق يمنعان زواجنا... فأنت أكبر مني بخمس سنوات.
أسقط في يدها فشهقت:
-عجيب!
وبدل أن تنخرط في البكاء افتعلت نبرة هزء في صوتها ونهرتني:
-الآن عرفت يا شاطر! ألم تعرف من قبل؟
-لا أريد ظلمك يا افتخار، فأنت شابة طموحة، ربما لا تحتملين إفلاسي ومرضي.
كشرت عن أسنان لؤلوية وبسطت راحتيها راضية مستأنسة وأعلنت:
-أنا موافقة على كل ما بك يا كاكاحمه... موافقة...وأبصم لك بالعشرة... أنا...
اختنقت لفظة (أحبك) في حنجرتها.
-وأنا لا أملك كما تقولين سوى قلاقيلي. وهدهد لا تحتاج إلاّ لهما.
استولت على روحها قبضة خانقة فزفرت بحدة، ثم فركت صدغيها بسبابتها والوسطى وتساءلت:
-لِمَ جعلتني انتظر كل هذه المدة؟!
سكتّ فطفرت حبات الدموع من عينيها المكحلتين، وسال الدمع الأسود فوق خديها، راسماً خطوطاً رفيعة، دروباً طويلة كطرق مظلمة، فآلمني منظرها لكني لم أظهر ليونة، صحيح إنها ستظن وتظن، ولكن سرعان ما تتأكد من بطلان ظنونها لذا تابعت "وقاحتي" كي أدخلها في يأس تام.
-أمي تقول: إن من يتزوج امرأة تكبره سناً يموت قبلها.
-كذب... لعنة اللّه على أمك. تزوج سيدنا محمد (ص) السيدة خديجة وهي أكبر منه، وماتت قبله! وخجة! كانت أكبر سناً من أبيك؟!
أردت ردعها برد يفحمها. غير أني لم أجد ضرورة لذلك تراجعت، وتلافيت زلة لساني. استطعت أن أسترد الكلمات قبل انزلاقها.
غمرتها الكآبة والخيبة وهي تقول:
-أنت تخشى أخوتي، فتتهرب مني..
-أعوذ باللّه.. ولِمَ هذه الخشية؟! لو أردتك يا افتخار لأدخلتك الغرفة الآن.
شع جبينها بالفرح وفي أعماقها صرخ صارخ يعلن رغبتها في تحقيق ذلك، وإن تظاهرت بالسخرية.
استهزأت مني بلسان متلعثم. ووقفت مطوقة خصرها وكأنها تتحدّاني ولسانها يلهج خفية "لو كنت رجلاً بحق فنفذ ما تقول... افعله بلا تردد..."
-أليس صحيحاً ما أقول؟
سألتها فرفعت رأسها بكبرياء مشيرة بالنفي وزعقت:
-أتظنني "هبة الغجرية"؟!
راحت تتكلم وتتكلم. ولم أسمع كل ما قالته. شعرت بالصداع وخفت أن يعتريني الدوار الشديد. فمعدتي بدأت تعضني من الجوع. حاولت إخفاء ارتعاشة شفتيّ ويديّ بسبب وجيب القلب المتصاعد. إلاّ أنها فطنت لم يغب عنها شيء من ذلك.
-ما بك؟ إنك ترتجف! وثمّة حمرة في عينيك... "هذه مصيبتي يا افتخار... أرجو أن تفهمي"
خاطبتها في سري وأجبتها بلساني:
-ليكن، شيء من الراحة بعد الزواج سيعيد إليهما الصفاء، والنقاء تلعثمت وسألت بخوف:
-ألم يصف لك الطبيب دواءً؟
ابتسمت بمرارة وأجبتها مستهدفاً قتل آخر طموحاتها:
-وصف لي الزواج! قال: تزوج. وسأتزوج هدهد.
-مبروك مقدماً..
همست رغماً عنها، فعبرت عن أمتناني بارتباك.
-شكراً..
-يجب أن تدعوني إلى العرس... وإذا لم تفعل سأجعلك تندم وحق اللّه... يا عريس الغفلة...
لم يتسنّ لها سماع جوابي. إذا جاءت بشيرة تحمل همومها. وشرعت حال جلوسها في تقديم الشكوى. والحديث عن مشاكلها فتذرعت افتخار لتبتعد.
-سآتي لك بشيء تأكله... وأعمل... كأس شاي...
تمنيت أن تبقى للحظات أخرى، لكنها راحت تتعثر بأذيال ثوبها. وتعلق بصري عليها وهي تؤوب بانكسار، دون أن تلتفت، حزنت لحزن افتخار، أدركت أنني آلمتها، قسوت عليها وما كان أمامي حلاً آخر تسببت في أذيتها رغماً عني، ولصالحها فأنا أحبها ولا أريد لها أن تشقى وتتعذب مثلما أشقى وأتعذب... فسأرزح تحت أثقال من الهموم قبل أن أمضي خفيفاً مثل الحلم.
كلمات بشيرة الكثيرة المتلاحقة، وحركاتها المثيرة للشفقة أيقظت شرودي.
-ضجرت يا أخي، ضجرت وحق اللّه. ما عدت أحتمل أكثر. هذه السنة الرابعة عشرة. وما زلت قابعة في هذا الجحيم خادمة، ذليلة.. قال لي يحيى: سنة واحدة ونستقل في بيت، وحدنا! حنان، كبرت... صارت امرأة. جاءها أكثر من خاطب... أنت أخي الوحيد فأنقذني... دبرّ لي حلاً...
ضحكت من هلوستها التي لم تنقطع منذ زواجها.
وكالعادة، لم أر غير المزاح، أخفف به عنها.
-يا بشيرة، جئت لآكل لقمة ولست حلالاً للمشاكل.
-أجئت من أجل الأكل؟
استفسرت بامتعاض. فأجبتها:
-ليس في بيتنا شيء يؤكل. فجئت لعتابك. منذ متى لم تمري على أمي وتتفقديها؟
فهمت ما أقصد فآنفعلت. أبدت تذمرها دون حياء:
-أمي!! أمي!! كأنك لا تعرفها فصدقتها. ماذا أفعل وهي لا تقبل أن تأكل في غير بيتها! ولا ترضى بأن تُمد لها يد المساعدة وترفض أي شيء من بيت عمي وعمتي؟!
بكت بحرقة وأسهبت في شرح مأساتها:
-هي وحدها وأنا برأسي أحد عشر نفراً..!
-اطمئني... المخرف سيموت قريباً... فأصبري.
استخفت نصيحتي وبربرت، ووجهها يحتقن غضباً.
-هذه الأسطوانة المشروخة سمعتها آلاف المرات، قبل الآن. ولم تتوقف منذ خمس عشرة سنة. وها هو عم عثمان أمامك بحول الحي الرزاق أقوى من كاوا الحداد. ماتت عمتي أم يحيى غماً وكمداً. ومات أبي بسببه. وبقي هو من أجل عذابي، ليس إلاّ... قل لي ماذا أفعل؟ أخبرني، انصحني. أريد أخذ راحتي... فكفى عذاباً... كفى...
أزعجني إلحاحها فسألتها:
-أيستطيع يحيى أن يفتح لك بيتاً مستقلاً؟
زاغ بصرها إلى السماء وهتفت برجاء:
-يا ريت، أقبل ولو غرفة واحدة... فكوخ يضحك خير من قصر يبكي... ثم لوت عنقها بقهر كأنما تذكرت الحقيقة وأكملت:
-يحيى لم يزل يأخذ مصروف جيبه من عمي.
-وإذا استطاع، فبالتأكيد لن يتمكن من توفير نصف ما يتوفر لك الآن من طعام.
ضربت كفاً بكف وشهقت:
-أنا لم أشتك من قلة الطعام... فالخبز وفير والحمد للّه، وعمي والشهادة للّه لم يبخل علينا بشيء، إنه يصرف دونما حساب.
-جيد. أنت تمتد حين الجانب الطيب منه. إذن فعليك التحمل...
-إلى متى؟
-هل تمنع افتخار عنك الطعام؟
-لا.. إنها أخت وحبيبة..
-أيؤذيك أحد؟ هل أسمعوك ما لا يليق... ما يخدش الحياء؟
-لا.
بكت وهي ترد، عضني الجوع فأحسست بالضعف، ثم بوجع القدمين، وارتخاء في الأعصاب، مثلما شعرت بالضيق من حديثها الممل.
-هل يقصر معك زوجك بشيء؟
أخجلها سؤالي فركبها الحياء وغمغمت:
-لا..
-إذن اخرسي. اقفلي فمك ولا تكرري عليّ أقوالك التافهة. وأحمدي اللّه، وأشكريه على هذه النعمة المباركة... وتأكدي أن عمك المخرف سيموت يوماً...
لابدّ أن يموت وعندئذ سيرث زوجك ثروة طائلة...
قدمت حنان بصينية الأكل. تناولتها أمها ووضعتها أمامي على أحد الكراسي، وهرعت الصبية إلى الداخل كالمهرة. تناولت لقمتين أو ثلاث. ثم تركت كل شيء ونهضت استغربت بشيرة:
-أنت لم تأكل شيئاً!
-أشبعني لغوك الفارغ.
عادت حنان تحمل الصغير سامر، وهو عاري الساقين:
-أبق أشرب الشاي يا خالي. ستجلبه عمتي.
-لتشربه أمك...
كنت مرهقاً وعلى يقين أن عشرات من كؤوس الشاي وفناجين القهوة، لن تفلح في إخراجي من حالة الإرهاق.
-أضجرت مني؟
لم أجبها، تطلعت إلى ساق الصبي وعجبت:
-ما هذه البقع على جلد ابنك؟
تنهدت بشيرة بعمق وأجابت:
-إنها خير دليل على بؤسي وشقائي. هذه من أثر "الشوطة" رضعته من صدري وأنا في قهر وغضب.
-عليك بفوح الرز اغسليه لمدة أسبوع وسيزول كلياً.
-يا ما شاء اللّه... صرت طبيباً!
سخرت وهي ترافقني إلى باب الحديقة.
-أرسلي دجاجة إلى البيت... نظفيها جيداً..
-حاضر... سأبعث اثنتين...
-ليمر عليّ يحيى غداً صباحاً... أريد رؤيته لأمر هام.
-عيسى أم يحيى!
سمعتها تصيح بدهشة وأنا أبتعد.
خطر على بالي الملازم علي. فرددت لازمته المحببة.
"العصفور لازم يشق الريح"
وعليّ أن أفعل ذلك..
في الطريق إلى البيت رأيت بقرة سعدو، ممددة وبجانبها وقف ابنه راضي يرمي كلب نصار بأحجار صغيرة ليبعده عنه.
تطلعت إلى السماء عليّ أرى الغيم الأسود. فها هي البقرة المتمددة تنذر بسقوط المطر... تتنبأ به... راقبت الصبي. أعجبني تصويبه، دقته المتناهية! وراقبت الكلب. ابتعد قليلاً، رفع رجله وبال.. ثم هرول باتجاه المقهى ففرت في تلك اللحظة جوقة من العصافير. تنسمت هواءً عذباً أنعش صدري. وتمنيت أن التحف السماء وأنام. غير أني أحسست فجأة بازدياد خفقات قلبي.
اتجهت إلى البيت مباشرة عدت صاحياً، قلقاً، مرتجف اليدين قبل أن استسلم لنوبة دوار مفاجئة.
استلقيت على سريري.... بانتظار أن تأتي أمي بأخبارها لكنها تأخرت أكثر من المعتاد.
تلك الليلة بدت الرياح موحشة. أرعبتني حقاً. ففي عتمة الظلام سمعت عواءها ونواحها" لكني لم أهتم بها طويلاً... التحمت أجفاني بعد أن سيطر الكرى على عينيّ.
بعد حادثة الغدر آمنت بأن الحياة جديرة ببذل الجهود في سبيل أدامتها. أمنت بأنها أكبر من أن تكون قبض ريح لا مغزى لها. لذلك كان عليّ إبعاد اليأس عني. ومن ثم العمل بلا توان العمل قبل أن تستولي عليّ تشاؤمية لا حدود لها، تتساوى عندها كل المعايير فأضيع... وأفقد الأمل ويدب التخاذل في روحي ويسيطر الجسد وشهواته على عقلي...
 



-2 -
استيقظت باكراً على صوت أمي وهي تصلي، تنصتّ لتمتماتها ولدعائها، استعذت باللّه ونهضت من سريري. حيث نمت بعمق وارتياح، لأول مرة منذ أسبوع.
توضأت ولبست معطفي وخرجت قاصداً الأرض الشرقية. أرض جدي التي استولى عليها السلماني بالحيلة إثر موت أبي. وأنا أشق طريقي إلى ما حلمت به طويلاً، لفحتني نسيمات الفجر الباردة ورطبت وجهي رطوبة الجو، وتناثرت فوق رأسي حبات المطر القليلة، المختبئة على أوراق الشجر منذ ليلة أمس.
على التربة الصلدة صليت. ثم شرعت في إلقاء نظرة شاملة، فاحصة عليها. قررت أن أبدأ معها. أفتتح مشاريعي بها... خططت وحذفت، وسمعت ومحوت، نصبت أسلاكاً وأعمدة وأقمت أسواراً وحدوداً في الهواء، حفرت وطمرت ثم استرحت، بقيت جالساً حتى أشرقت الشمس، وبدأ الناس يتوافدون جيئة وذهاباً. فقررت الذهاب إلى المختار. لكن ما إن ابتعدت عن الأرض حتى قادتني خطاي رغماً عني إلى مقهى نصار!
وجدتها مكتظة بالعاطلين، والعمال الباحثين عن العمل، والأزواج الهاربين من ضغط الحياة، وثرثرة نسائهم ومطالبهن.
وبسبب الحرب كان عدد الرجال قليلاً. وبعد هجرة الفلاحين أصبح عددهم بعدد الأصابع.
استقبلني الأصحاب بالقبل والأسئلة الثقيلة على القلب. وحين أدرت لهم ظهري راحوا يتابعون ثرثرتهم، ويلعبون النرد والدومينو والورق، ويدخنون بشراهة ويتحدثون عن موسم الحصاد الهزيل وظلم السلماني..
بقيت صامتاً لم أتدخل أو أشارك في أي حديث. عيناي وحدهما كانتا تتحركان، ولولاهما لبدوت للكثيرين أشبه بالصنم.
وكاد صمتي يستمر لولا سعدو. تناهى اسمه إلى مسامعي فتنبهت. تنصتّ إلى الحديث الدائر ففهمت أنه في مصيبة" أصغيت جيداً فسمعتهم يتحدثون عن "ثعبان ولج حظيرة حيواناته فقتل خروفاً ودجاجتين. واستقر في مربض البقرة عزيزة، التي فرت هاربة. ولولا زهرة زوجة سعدو وابنه لما استطاع أن يجد لها أثراً".
ونظراً لخبرتي الفائقة مع الكواسر، وشهرتي في الصيد فقد رمقتني العيون. كأنها تترجاني أن أنهض لمساعدته!
وكانت فرصتي... راجعت حساباتي، دورت الأمر في عقلي مرات، ثم وثبت فرحاً.
-إلى أين يا كاكاحمه؟ إلى أين!
هتف أكثر من شخص فلم أجب. أشرت إلى نصار وأنا اقتحم غرفته الملحقة بالمقهى، ليتبعني، ففعل مستغرباً:
-أغلق الباب وراءك يا نصار.
أمرته ففعل وهو أشد استغراباً.
أخرجت رزمة الأوراق من جيب معطفي وسحبت منها ما يخصه. دفعتها إليه، تناولها وتمتم.
-ما هذا يا كاكاحمه؟
قلبها بيدين مرتعشتين. وفحصها بعينيه الذاهلتين وهمس بفرح طاغ:
-إنها الصكوك وسندات الفائدة والأمانة... التي بذمتي لـ...
-أطبق شفتيك... خذ الزناد وأحرقها.
مددت يدي فاختفى. اصفر وجهه وتردد. فصحت به:
-هيّا... لا تؤخرني... احرقها...
انحنى على جبهتي، قبلني بحرارة وتناول الزناد.
أحرق أصابع الجمولي التي كانت تتحكم به، تحكم قبضتها على رقبته ونثر رمادها على الأرض وداسها بنعليه... بعدئذ تنفس الصعداء.
-الآن أصبحت حراً يا نصار... ما عاد الجمولي يخيفك، ويهددك بشيء، فانسى الموضوع برمته، ولا تأت على ذكر ما حصل لأحد: إياك... إياك... وإلاّ سأذبحك بيديّ هاتين..
وأنا أمد يدي مهدداً بان "غدر الصقر بجلاء" فتذكرت قطعة اللحم التي اقتطعها الغادر بمنقاره، وازدردها!
لمحت طيف ابتسامة على شفتي نصار، القوي الطويل، ابن الاربعين.. والذي شغل القرية بشقاوته ومشاكله قبل أن ينتهي به المطاف "أسير مقهاة"... هادئاً مسالماً!
انحنى نصار ثانية وهمّ بتقبيل يدي فرفضت:
-كاكاحمه، أيها العزيز، أنت لم تفك رقبتي من الأسر فحسب، بل أعدت لي الحياة من جديد... إنني مدين لك بعمري...
-السلام عليكم..
قاطعته مودعاً، لم أدعه يكيل لي المديح والثناء، تركته وذهبت إلى المختار ثم إلى الحاج صالح، كل على حدّة، وفعلت الشيء ذاته معهما، حرق الصكوك وسندات الأمانة وتهديدهما بالذبح إذا ما فتح أي منهما فمه. وأخيراً وجدت نفسي حراً، وكي لا يتسرب الضجر إلى روحي كان عليّ أن أبدأ بتنفيذ خططي على الفور، وأشرع دون تردد في استرجاع حقي. فما عاد أمامي مجال للتخاذل، فالأفكار التي تحتشد في رأسي حان أوان إنجازها، لأن الزمن لا ينتظر أحداً... ومن تمر أيامه لا ترجع إليه أبداً. لذا وجب استغلال الفرصة والإسراع في العمل. حتى وإن اقتضى الأمر المجازفة... وليحصل ما يحصل... فلقد ضاعت مني المهجة والبهجة فهان عليّ كل شيء.. كل شيء...
واتتني شجاعة مفاجئة، كدت أجاهر بها وأتفاخر ليس أمام نفسي فقط، بل أمام الدنيا كلها. فاندفعت إلى بيت سعدو وكلي إصرار على استرداد كل فلس سرقه منا..
تحركت بهمّة وحماس، والخطى تهتف بي "هيّا يا كاكاحمه، لا تتراجع إنها تجربتك الأولى فثبت قدمك... ولا تلتحف بالعجز، عجز الواقع فلن يفيدك بشيء... هيّا اكسب المعركة... إنه امتحانك الأول... لكن إياك أن تفاتح سعدو الان بمسألة الأرض وتنزوير الشهادات... إياك"
مضيت قدماً... هادفاً طحن العتمة التي تريد أن تجرني إليها... وأستنبت النور للأيام القادمة، وأقهر اليأس كي تتكسر النصال الحاقدة تلو النصال على جسدي العليل..
صادفت بغلة سعدو تسرح بعيداً، وسحابة من البرغش تحيط بها، فعجبت! لأنه يحرص على ربطها في ساحة داره الأمامية، لتكون نصب عينيه وتسهل عليه مراقبتها وإبعاد الأطفال الذين يحاولون ركوبها، أكثر من خوفه من "البكر".
وعند عتبة الدار وجدت الصغير راضي، يفترش الأرض. يتلهى بآلة الجرش الصخرية، كأنه يساعد أمه. وقفت أراقبه وهو يجرش الطحين، ويدّور العتلة الخشبية بصعوبة. ثبتّ عيني على الحنوب التي يرميها، لاحظت أن الحبة مهما فعلت لتنجو فلا خلاص لها، تسقط بقلب الطاحونة في النهاية! أدركت مصير الإنسان. وحدست أن اللّه أوقفني لأشاهد الحقيقة. ولأعرف أن لا سبيل لنيل الحق إلاّ الإّقدام، ما دام الأمل معلقاً على سحائب من خوف، ويرسم شارات المصير...
اقتحمت الصالة. بوغتّ بالخبيث سعدو يلطم على رأسه، كثكلى فقدت عزيزها الوحيد! وبجانبه جلست امرأته تولول أكثر منه، وعلى وجهها سيماء من حلت بها فاجعة...
تجاوز هذا المحتال القصير القامة الخمسين من عمره ولم يزل موضع الريبة والشك من الجميع وإن تظاهر بالبراءة والطيبة استقبلني بوجهه العابس دوماً. رمقني بدهشة، بنظرة مرتابة، كأنه يتساءل عما جاء بي، وأزاح بصره عني حالما اقتربت منه، وحنى رأسه إلى الأرض. بينما ظلت عينا الخالة زهرة معلقة بي... وقفت أمامه. ربتّ على كتفه الأيمن وخاطبته:
-ما هي خسائرك يا سعدو؟
غزا الاضطراب وجهه كمن أخذ على حين غرة. رفع رأسه الكبير... تأملني في حذر وحنق، وقال بلهجة عتاب:
-أجئت تشمعت بي! اذهب جزاك اللّه خيراً... اذهب.. دفعني دفعاً، مسكت يده. انحنيت فوقه وقلت:
-لم آت لأجل الشماتة يا سعدو.
-إذن لم جئت؟
فكرت: أخيب ظنه وأفزعه بصورة غير متوقعة، فقلت:
-جئت لأسألك عن عقوبة شاهد الزور، ولآخذ حقي. جن، انتفض كالملسوع وصرخ آمراً:
-حقك!! اذهب من هنا... اخرج... هيّا... اخرج...
لم أتحرك من مكاني ولم أنفعل! هو يعرف طبيعتي الهادئة. فأنا مسالم "لا أحل رجل دجاجة" وإذا غضبت فالكلمات تخرج من بين شفتي قسراً... ولولا ذلك لما أخذ يدمدم، يرعد ويزبد... ولا أدري ماذا كان سيفعل لو علم بما لديّ من أوراق!
لم أبال بصراخه تابعت وعينا زوجته تكادان تطفران من محجريهما وكلمات مجيد "باغت عدوك تنل مرامك" ترن في أذني.
-أتريد اللحاق بخروفك ودجاجتيك، أو تدفع فوراً"
ارتعش بدنه. ولحظت ارتجاف عينيه وهو يتأملني بغيظ:
-أدفع ماذا؟!
حاول التملص والمراوغة فأمسكته من كتفه:
-دين أبي... كم بذمتك لنا؟
-ماذا!! ماذا!!
-أبي، أظنك تذكر كم استدنت منه... تذكر جيداً..
-أمجنون أنت؟! اخرج... اخرج..
أحكمت قبضتي على رقبته وهددته:
-سأمهلك دقيقة واحدة فقط لتتذكر جيداً، وترد الدين وإلاّ فسأدفعك إلى حيث الثعبان.
ازداد جنوناً فصاح:
-اتركني... اتركني يا مجنون.
لطمته على رأسه فهطلت دموعه.. وحاول أن يقاوم فرفسته على خصيتيه فجأر من شدة الألم.
وهبّت زوجته متوسلة بعد أن بانت لها جديتي.
-ماذا بك يا كاكاحمه! اتركه... دعنا في مصيبتنا.
-لا تتدخلي يا خالة زهرة.. أرجوك... أنت امرأة مؤمنة.
نهرتها فسكتت على مضض... وعاد هو للصراخ والتهديد:
-سأشتكيك إلى الآغا السلماني... سيدق عنقك. شددت ضغطي على رقبته وهمست:
-مضت نصف دقيقة.
لم يبد تخاذلاً، أو يظهر استسلاماً مما أجبرني على سحبه بقوة نحو الداخل، إلى حيث المربض، وهو يجأر ويرفس الأرض بقدميه. وإذ حدس عدم جدوى ذلك، قام بحركة يائسة من يده تدل على الخضوع.
أدخلته المربض، فلحقت بنا الخالة زهرة، وفي عينيها فزع كبير. تتساءل باستغراب:
-ماذا تريد منه يا بني؟ ماذا تريد؟!
-أريد استرداد حقي... دين أبي الذي أنكره سعدو...
-أي دين هذا يا كاكاحمه؟ أي دين؟!
-خالة زهرة.. أرجوك لا تتدخلي... هذا الخبيث يعرف كل شيء...
-وأين كنت طوال هذه السنوات؟
-كنت غبياً، لا عقل لي. والآن عقلت فجئت آخذ حقي...
-لا شيء لك عندي.. لا شيء..
هتف سعدو بعناد وقدماه لم تتوقفا عن الرفس.
-صحيح أنك بغلت يا سعدو وصرت بليداً، لكنك لم تنس ما بذمتك حتماً... ينسى الدائن ولا ينسى المدين، أليس كذلك؟
خرس ولم يحر جواباً. تمنيت من كل قلبي أن تجري الأمور كما يجب، وقبل أن أدنس يدي وأتورط بعمل أندم عليه... لكن سعدو لم يتح لي مجالاً للتفاهم، فاضطررت إلى سحبه.
-سأرميك وحق اللّه. لن أدعك تفلت من بين ناب الثعبان...
-دخيلك يا كاكاحمه... دخيلك...
-قل، كم بذمتك لأبي؟ قل..
امتنع عن الكلام. وبدأ المقاومة حاول الإفلات لإنقاذ نفسه، وخشية أن يستقوي عليّ ويفلت من بين قبضتي ومهاجمتي وعندها أخسر سمعتي وتضيع مني كل الفرص لتحقيق ما في ذهني من المشاريع، لطمته ثانية بقوة ودفعته إلى الداخل...
تهاوى على قدمي مرعوباً.. واعتقدت أنه سيستلم فإذا به يهبّ واقفاً يروم الخلاص، فأعدته واللطمات تتوالى على رأسه أنذاك فقط أيقن أنني لا أمزح! فرفع يديه مستسلماً بصق دماً، وحدجني بعجب وعض إصبعه وضغط عليه بما تبقى له من قوة وأعلن بيأس:
-مائة وخمسون ديناراً.
-والفائدة؟ فوائد أكثر من خمسة عشرة سنة.
لنقل إنها أربعون، خمسون.. يصبح المجموع مائتا ديناراً زائدا عشرة دنانر عن الحلال والحرام...
-مائتان وعشرة... مائتان وعشرون... اتركني، سأدفعها لك فيما بعد...
-لا... ستدفعها فوراً..
-لا أملك فلساً واحداً..
لا تكذب... قبل أسبوعين سلمك الجمولي ثلاثمائة وخمسون ديناراً... حصتك السنوية..
ارتعب، وتطلعت الخالة زهرة إليّ تستقرئ في ملامحي حقيقة ما سمعته، لقد فاجأتها حقاً وأدهشتها، ظلت لثوان تنظر مستنطقة عينيّ. ثم تمتمت بذهول.
-ثلاثمائة وخمسون ديناراً! من أدراك بها؟
-أنسيت أن الجمولي زوج خالتي.
اكتفيت نحو سعدو يتملكها الغضب وسألته باحتقار:
-لِمَ أخفيتها عني؟
-أراد الزواج بها.
-كذب... لاصحة لذلك.
اعترض سعدو فرفسته في خاصرته. وجنت زوجته حين كشفت لها المزيد من الأسرار:
-ألم تتوسل إلى كهرمان لتتوسط لك مع ابنة أخيها؟
-من هي كهرمان...؟ تساءلت زوجته بذعر. أسقط في يده فخاف استطرادي، رمقني بنظرة ذعر وتوسل، بألا أزيد النيران لهيباً.
-إنها قصة طويلة، لن تنفعك، مهمتنا الآن تنحصر في قص جناح هذا الخبيث.
-سأشعل موتى موتاه..
صرخت وهمّت بمهاجمته، فانكمش وتراجع مذعوراً. حجزت بينهما. منعتها قائلاً:
-هيا سلمني المبلغ.. لا وقت لديّ... سلمه بيد خالتي زهرة لتعطيه إلى أمي... بيد أمي...
بدا مرتبكاً حائراً، لا يدري ماذا يصنع. وأصبح لصوته رنة تضرع وهو يحدث زوجته، التي راحت تولول وتندب حظها.
تقدمت منه وشددت الخناق.
-هيا.. لا تؤخرني... لن أتركك قبل أن تدلها على مخبأ نقودك سلمها المفتاح أولاً... هيّا..
أظهر خنوعاً تاماً، حرك أصابعه المرتعشة باتجاه رقبته الطويلة. انتزع منها خيطاً رفيعاً، تدلى المفتاح في نهايته.
-تعالى... خذيه..
ناديتها فلم تستجب. كانت ترتجف من الغيظ. تود نهش لحم سعدو المر... أخذت المفتاح من يده ورميته إليها.
-هيّا... لا تؤخريني... خذي مائتين وعشرين ديناراً... سلميها لأمي... بيدها... ولتأت إلى هنا لتعلمني.. وخذي الباقي... إنه حصتك أنت وابنك.. اشترى لك ثوباً ولراضي كل ما يحتاجه... هيّا.
كلمتها بانفعال فتحرك الدم في أوصالها. واندفعت بجسدها الطويل المكتنز تلبي ماطلبته. فبانت عجيزتها تتراقص من شدة الفرح.
أخرجت سعدو من الحظيرة وأجلسته قرب بابها.
-ابق هادئاً... لا تتحرك وإلا دفنتك.
أمرته وأنا أتربع على بعد خطوات منه. لم أسمح له بكلمة واحدة.. رحت في سبات اليقظة... خيل إليّ أن "النقيب خالد" يقف على رأسي يبسط كفه مرحباً ويمد ذراعه ليسحبني ففززت صحت به:
-اذهب.. اذهب.
-حاضر... حاضر..
سمعت صوت خالتي زهرة. وهي تستدير وتمضي سريعاً... تحمل رزمة الدنانير، ابتعدت زهرة عن عينيّ لتحل محلها صورة الصغيرة "مها" تنتظر أباها. وبجانبها أمها "سناء" منفوشة الشعر محمرة العينين، تبكي بحرقة تفتت الصخر آلمتني فمددت يدي لأواسيها فسبحت في الهواء! وحلت صورة أمي محل صورتها!
جمدت وانقطعت أنفاسي... للحظات مبهوراً بزغ وجه أمي الضاحك وهي تستفسر والدنانير تملأ كفيها:
-ما هذا يا بني؟ لمن هذا المبلغ؟
لا أدري كم من الدقائق مضت! لكني عرفت بنجاحي... بهرت وعادت أنفاسي تنتظم... لقد نجحت أولى مشاريعي..
-هذا هو المبلغ الذي استدانه سعدو من أبي" وأنكره بعد موته... احفظيه عندك إلى حين...
-أتذكر... كان ذلك منذ زمان!
-خذي خالتي زهرة.. لتشتري ثياباً وطعاماً لها ولراضي.. حاولت أمي الكلام مثلما حاول سعدو فمنعتهما:
-اسمع يا سعدو.. سأكافئك على الوفاء بدينك وحفظك للأمانة، كل هذا الوقت، بإخراج الثعبان من بيتك... دهشت أمي فصاحت محذرة:
-لا.. لا تفعل... إنه ثعبان سام... ليس صقراً أو نسراً أشرت إليها لتخرج ففعلت مع المرأة الفرحة... وزحف سعدو مرعوباً لا يكاد يصدق... لم بنبس بحرف وفر من وجهي معتقداً أنني أنقض على مصيري معصوب العينين.
غدوت وحيداً فتنبهت إلى محتويات الممر الفاصل بين الصالة والحظيرة. خزانة خشبية كبيرة، بلا أبواب رصت على رفوقها أكياس المؤونة، والعلب المعدنية المختلفة الأحجام وكومة من القضبان الحديدية وحاجات أخرى متنوعة. لم أهتم بها. خطوت نحو الحظيرة.
دفعت مصراعي الباب غير المحكم فأنفتحا. دخلت فصدمتني رائحة مقززة. رائحة روث البقر والخراف، مختلطة مع روائح البول المخمر والرطوبة العفنة.
ولجت رغماً عني. وراح بصري يفتش عن الثعبان بحذر بان لي دون عناء. يضطجع باسترخاء فوق الرف المقابل حيث علبة السمن الحر!
لونه الرمادي المبرقع بالأصفر أثار اشمئزازي. قدرت طوله بمتر ونصف وتحفزت.
عاد الصقر يذكرني بغدره. بالدم الذي سال من يدي ومن عينيه. فالتهب صدري بشعور لم أعهده من قبل. شعور يستعذب الألم ويستهين به. فلم تمسني الرهبة أو يتملكني الخوف.
تناولت عصا غليظة وتقدمت بقلب ميت.
أحس بي فرفع رأسه ورآني، انتصب، تماوج. وفح منذراً متوعداً، وهز ذيله... وتحرك.
فجأة، وكالسهم شب عليّ، فابتعدت، ضربته ضربة ماحقة إلاّ أني أخطأته، سقط قرب قدمي حاولت التخلص منه، فسبقني. كان أسرع مني وأكثر خبرة في الغدر. وثب على ساقي، التفّ حولها بمهارة وخفة، وأنبت نابه في لحمي بلؤم.
أحسست بألم العضة فشهقت. شعرت كأن خنجراً حاداً مسموماً يغمد في قلبي. سرى في جسدي ألم مبرح وأنا أمد يدي وأضغط على رقبته بينما راح ذيله يلتف ويضغط كمن يريد شل ساقي.
انغرز نابه في عضلتي. فشددت قبضتي، بحيث غاصت أظافري ومن ثم أصابعي في لحمه الطري. وانبثق دمه، مما دعاه لأن يخفف من عضته ويبعد فكيه عني، فازددت إصراراً على محقه من الوجود.
سحبته سحباً، انتزعته ورميته أرضاً، وأبقيت رأسه في قبضتي، نطحته بالجدار القذر مرة مرتين، ثلاثاً حتى هرسته تماماً. وحين أسلم الروح نزعت حزامي وربطت ساقي بإحكام.
تركته وخرجت. لم آبه للألم ما دامت الأيام تمر تباعاً من تحت أنفي وعيني مرور الكرام. لكني تساءلت:
-أيعجل هذا في مصيري؟
اتجهت إلى باحة الدار، فوجدت سعدو واقفاً يتلصص جلست وعيناه تراقباني بدهشة ممزوجة بالرعب. تنفست بعمق ومسحت العرق المتصبب من جبهتي، ثم أخرجت سكيني شرطت ساقي تشريطاً. ورحت أمص موضع العضة، وأعصر أمص وأعصر... وأبصق ما يأتي من دم وسم إلى فمي على الأرض. ولم يحتمل سعدو المنظر فأنفتل خارجاً، ملتاعاً يطلب النجدة!
جاءت أمي ومعها زهرة، ولحق بهما بعض الرجال وعلى رأسهم نصار وبأمره تناوبوا إلى مص السم والدم الملوث وقذفه إلى الخارج.
أحسست بخدر ثم تورم ساقي.. أرادوا تمديدي على ظهري وإجراء اللازم فرفضت. سمحت لهم برش الخمر المعتق على الجرح.
وجاء عمي حسن يرتعش من الرهبة. استفسر من الموجودين وحين تأكد أنهم أدوا الواجب، أمرهم بحملي إلى أرض الصبيرة. وهناك مددني وحقنني بإبرتين. وأنهمك في قطع كمية لا بأس بها من الصبير الطري، قشرها بسكيني وأمر نصار بدهن موضع العضة والجرح. ثم موضع الخدر، والساق بكامله... واتقاءً لكل المضاعفات تعريت أمام الخلق وراح نصار يدهن الجسد بكامله جاءت أمي لتساعدنا وهي تبكي...
-لا تخافي عليه. جسمه أقوى من أن يؤثر به سم ثعبان عجوز مازح نصار أمي فضحكت وضحك الرجال وهم ينصرفون تباعاً.
-وهذا ليس أوان موتي..
طمأنتها فارتاحت.
أضفت وأنا أرتدي ملابسي الداخلية:
-هل أعطتك الخانم ما طلبته؟
صفن عمي لرؤيتها تتلعثم وتجيب بعد ثوان:
-أعطتني... لكنها استغربت.. ورجتني ألا أخبر الأغا إذا عاد.
-وما دخل هذا الكلب! أهي ملابسه التي أخذناها؟!
إنها ملابس نسائية لا يلبسها هو!
-هل تحتاج لشيء يا بن أخي؟
استفسر عمي بحنان. فعدت للتحقيق مع أمي:
-ومصطفى، هل أعد مستلزمات العرس؟
سكتت برهة كمن تصقل كذبة، وتلفق أقوالاً عن لسان غيرها لتريحني:
-يابني، مستلزمات العرس لا تتم في ساعة! مصطفى فرح حقاً وإن أبدى استغرابه. أنت فأجأتهم بطلبك!
-يعني وافق.
-بالطبع يوافق.
-أتتزوج يا كاكاحمه دون علمي؟!
تنهد عمي مدهوشاً فأجابته أمي:
إنها خطبة.. أخذ رأي فقط.
-على بركة اللّه.. على بركة اللّه..
ردد بطيبة تبادلت مع أمي النظر وسألتها:
-والملاّ؟ ماذا قال لك؟
لم ترد. فهمت من عينيها المحرجتين موقفه.
-رفض أليس كذلك؟ حسناً.. سأذهب إليه بنفسي.. وسأنتف لحيته.
-لا... يا بني لا... الملاّ رجل يحبك، لكنه استغرب.
-كلهم استغربوا!! استغربوا!! ألم يتزوجوا قبلي؟
-ماذا طلبت منه يا كاكاحمه؟ قل لي علّي أستطيع تقديم الواجب.
عرض عمي مساعدته فتدخلت أمي.
-إنه يريد الزواج من...
أغضبتني أمي فقاطعتها بحدة:
-اسمعي يا خجة، وليكن عمي شاهداً. إنني سأتزوج هدهد. وإياك ...إياك أن تمانعي... أوتسمعي مصطفى أو زوجته كلمة تسيء إليهما...
-هداية بنت مصطفى!
تمتم عمي بعجب فصارحته:
-هي يا عمي، ألديك اعتراض؟.
أخذته الرجفة فأوضح:
-اختيار موفق يا كاكاحمه... بارك اللّه بك.. بارك اللّه. أفرحني رد عمي فالتفتّ لأمي:
-أسمعت يا خجة... والآن أعطي لعمي خمسين ديناراً، واحتفظي بالباقي لك وإياك أن تصرفي منها فلساً واحداً على عرسي. إنها أموالك الخاصة. فغر عمي فاه فرحاً، والتمعت عيناه بوميض الدهشة، بينما راحت أمي تعدّ الدنانير:
-لم أفهم! من أين لكم هذا المال... كل هذه الدنانير؟
لم أجب على سؤاله وأمرته بلطف.
-اشتر ما يحتاجه البيت. ولا تنسى الصوف لخالتي هاجر، ستغزل من جديد.
-أهي دين يا بني؟
استفسر بحرج وأصابعه تتلاعب في الهواء دون شعور.
-لا يا عمي.. إنها هدية مني إليك.
لم يصدق. تناول المبلغ من يد أمي، يكاد يطير فرحاً..
-ومن أين ستدبر نفقات العرس؟
-من أين؟! لا تشغلي بالك يا خجة... عدت لأسترداد كل حقوقنا.. ابتدأت بسعدو وسيأتي دور السلماني... كفى سكوتاً يا أمي... -هل أخذت المال من سعدو؟
أستوضح عمي بحيرة. فهزت أمي رأسها بالإيجاب:
-هذا هو المبلغ الذي استدانه من المرحوم لقضاء حاجة، ثم أنكره.
-أعرف ذلك.. أعرف... سألته مرات أن يرده، يعيده إلينا فلم يقبل.
-وكذلك لم يرضخ لتوسلاتي، ولم يأبه لمرارتنا وشظف حياتنا.. أكملت أمي بمرارة فتنهدت قائلاً:
-واليوم قبل ورضخ رغم أنفه! وسيرضخ السلماني أيضاً، سيدفع ما أريد ذعرت أمي، تحركت صوبي مستفسرة، وتبعها عمي مستغرباً:
-ماذا ستفعل؟
-كيف؟!
-إنها قصة طويلة.. قد لا تصدقانها.. وأنا أنتظر السلماني لأباغته بها.
-قصها علينا لنفهم..
-أبي لم يبع الأرض ولم يقبض فلساً واحداً... السلماني زوّر الورقة...
البصمات التي عليها ليست بصمات أبي... الجمولي زوج خالتي ساعد السلماني دله على الطريقة وشاركه في الجريمة. قال له: سعد اللّه مات، فمن يقرأ ويكتب ويتحقق... ولا أحد يعرف بصمات المرحوم.
لا تستغربا.. وأرجو أن تحفظا السر حتى عودة السلماني، لا أريد أن يعرفه أحد غيركما. تطلعا إليّ باندهاش فرجوتهما بعينيّ كي يصمتا. فهم عمي وغيرّ الموضوع:
-ربما يتورم جسمك كله.. دعنا نذهب إلى أربيل..
-لا تهتم يا عمي.. امض إلى بيتك.. سلّم على خالة هاجر وقبّل الصغير.. اشتر لهما ما يحتاجان. ولا تنسى الصوف.. لا تنس..
-وأنت؟ دعنا ننقلك إلى المستشفىن ربما لن تنفعك إبري.
-لا تهتم.. سم يأكل سم.. المستشفى، لن تنفعني وما بقي من سم ربما يطيل عمري.. وعليّ استغلال الوقت.
-لا أفهم.. ما بك؟! ماذا في رأسك؟
-يا عمي، تعلمت في الجيش أن ما يؤخذ بالسيف لن يرده إلاّ سيف أقوى. اذهب يا عمي. وإذا احتجت إليك فسأناديك حلق فرحاً وذهب. تذكرت عمتي " بتول" والاشاعات التي راجت حول إقدامه على ذبحها، تغطية لفضيحة هروبها مع الحبيب! كان عمي في الخمسين من عمره. شبيهاً إلى حد كبير بأبي، مربوع القامة عريض المنكبين، طويل الوجه بارز العينين، أصفر الشعر، يتولى إدارة المسجد وتنظيفه، إضافة إلى محله الصغير، فيتقاضى من الملاّ ما يكفيه لمسك رمقه. فقد أولاده الأربعة تباعاً في الحروب المستمرة والقتال العنيف، في السنوات السابقة، ولم يبق له إلاّ طفل في الخامسة..
-أتدرين أنني لم أحس بنخزات شوك الصبار؟!
أخبرت أمي بعجب. وأضفت:
-لذلك سأنظف الأرض الشرقية.
-احذر يا بني احذر.. ماذا دهاك؟ إنها ليست أرضنا هتفت مذعورة، فزدت ذعرها:
-ستكون. سأزيل أشواكها وأقتلع صبارها وأرفع صخورها.
-يا بني، السم ما يزال في جسمك. ارتد ملابسك، الدنيا باردة.. وربما ستمطر بعد قليل..
لم انتبه لتغير الطقس من قبل. تطلعت إلى السماء. دهشت وأنا أراها تتلبد بالغيوم كأنما تريد أن تمطر حقاً كامرأة حبلى تهمّ بالوضع..
-أنت على حق يا خجة. امضي اجلبي لي شيئاً آكله..
جعت يا أمي.. جعت امضي واجلبي معك المنجل القديم.. إنه على سطح الدولاب..
-ألا ترافقني إلى البيت؟ تساءلت بحيرة وحين لم تسمع ردي مضت. راقبتها وهي تبتعد. لاحظت فرحتها. تبدل حالها وتغير مزاجها سريعاً، والمال لا يبدل الأنفس فحسب، بل ينعش الأرواح.
حاولت أن استنشق مدى الألم الذي عانته، منذ موت أبي، واستشهاد أخي.. فلم أقدر.
رأيتها تقف، تتحدث مع عدد من النسوة والصبايا، كن يتفرجن عليّ عن بعد. خمنت علام دهشتهن وعلام ضحكهن! تمددت شبه عار ورحت أفكر في الأرض الشرقية لقد أدرجتها في أول الجدول.. جدول "قراراتي المصيرية".. أثناء رقودي في المستشفى، وإثر خروجي.
جعت وساورني القلق. سيطر على مشاعري! بالأمس، قضيت إحدى عشرة ساعة في الطريق، سيراً على الأقدام أو طلباً للراحة. نمت ست ساعات بالتمام، وفكرت كثيراً كثيراً فدخت ومن الطبيعي أن أجوع.. لم أفطر اليوم ولم تدعني بشيرة أمس أشبع.. جعت فلم القلق؟!
رحت أفكر.. حتى عجزت.. لم أعد قادراً على تحديد سبب القلق الذي بدأ يلهب أعصابي.. لولا افتخار.
جاءت مع أولاد أختي. مازحتني حول التعري:
-ما فعلها أحد قبلك في القرية!
-هل أعجبك منظري؟
لكزتني بمرفقها وضحكت:
-بعدما "رأتك" كل بنات القرية، ما عدت راغبة فيك.. أضحكتني فأردفت بشماتة:
-إنها "حوبتي" أرأيت كيف أشوّر"! حتى تتأكد إنني لم ولن أسامحك إذا..
لم أسمع بقية كلامها. آنشغلت بأمي العائدة..
جلبت لي خبز شعير وقطعة جبن التهمتها بنهم..
وغفوت بجفوني المتثاقلة




-3 -
حين أفقت بعد ساعة وجدت أمي إلى جواري، جالسة تتملكها الرهبة. وعلى بعد خطوات كان عمي حسن يتبادل الحديث مع موسى ويحيى وبشيرة ما إن رفعت رأسي حتى أمطروني بأسئلتهم. وانهمكوا يتحسسون حرارتي ويجسون نبضي ويعرضون مساعدتهم..
-الآغا يطلبك.. جاء حمودة الذليل لآخذك.
قالت لي أمي ويدها تساعدني على ارتداء ملابسي فملكني الفرح وهتفت في داخلي "آن الآوان يا حضرة الآغا.. آن الآوان".
-متى عاد.. السلماني..؟
-قبل ساعة..
-يا اللّه!! كم أشتاق لرؤيته؟
-للسلماني؟!
-نعم يا أمي.. للسلماني دون غيره..
-منعت حمودة من إيقاظك..
أوضح عمي. ضحك يحيى وأخبرني:
-رأى جسدك المتورم ففزع!
-ماذا يريد السلماني منك؟
سأل عمي مبدياً دهشته. ولم أجد جواباً مقنعاً غير:
-اختصر لي الطريق.. عجل في نهايته.
لفظة الآغا وطلبه، أوقدا تحتي نار الحقد الكامن. وأججا التحدي والعنفوان في صدري. لا أدري ما الذي جرى له فيتجرأ الآن ويطلبني! فمنذ أن أمتلك الخوف قلبه بسببي، دأب على تحاشي الاصطدام بي.. هو يعرف كراهيتي له.. ففي أول لحظة وعيت بها على السلماني كرهته، كراهيتي للشيطان! ثم تحولت الكراهية إلى حقد فظيع حقدت عليه. وأضمرت له العداوة والبغض.. وحين اصطدمت معه استحكم النفور بيننا إلى درجة عالية. صحيح أن قسوته جففت الدمع في عيون الكثيرين منا، لكن براكين الغيظ ظلت تمور وتغلي.. وخلال السنين الماضية تراكم القهر. فوق قهر.. وآن الآوان لوضع الأمور في نصابها. ختم الحكاية واسدال الستار، فهو لم يتعظ كما يبدو من اعترافاتي. ولم يكتف بالأشهر الستة.
-هل جلبت المنجل؟
بدت أمي مستلبة، مدهوشة تجاه السلماني. بالرغم من كراهيتها الشديدة له.
-هذا هو، تحت قدميك.
أشارت بكف ترتعش. فأنحنيت لألتقاطه وإذا ببشيرة تعلن مخاوفها:
-ما الذي ستفعله؟
-سأحش به الرؤوس الزائدة.. العفنة..
-لا تتهور يا كاكاحمه.. كن عاقلاً.
نصحني يحيى وانهالت النصائح والإرشادات. لم أستمع لأحد.. مضيت ومكبر الصوت يصدح بآذان الظهر.
كان المنجل قديماً لكن أسنانه البارزة الحادة، شجعتني على المضي قدّماً لأجني ثمار حصاد يائس.. لم أخف، فالخوف بداية الهزيمة.. وكاكاحمه.. أنا.. لا يمكن أن أهزم...
في الطريق ألتقيت بمحمد بن سلطان السائق أوقفني وأخذني بالأحضان.
-كيف حالك يا كاكاحمه؟ الحمد للّه على سلامتك.
-هل ولدت زوجتك؟
سألته أمي فأحرجته. ولم ير بداً من الرد:
-أكلت شهرها منذ يومين. تعسّرت ولادتها.. وأنا في حيرة.
-لا تهتم.. اذهب إلى الحاج صالح، وخذ منه صوف بعير. ضحك من وصفة أمي وأستفهم منها:
-صوف بعير!! ماذا أفعل به؟
-احرقه أمامها "ستلد حال أستنشاقها بخاره الحار. اذهب فوراً.. لتريحها..
-جئت لتوي يا خالة.. أوصيت أمي بنقلها إلى المستشفى إذا حصل طارئ.. جئت على عجل مع الآغا السلماني..
-إذن لم تترك أربيل وتجئ إلى هنا عبثاً! لا بدّ أن أمراً مهما أجبرك على القدوم؟
حدثته بلهجة الواثق فأجابني:
-هادي المخرف أرسل بطلبي... ليبيع أرضاً أو داراً..
-أما زلت موظفاً في البلدية..؟
-قسم عقارات الطابو..
-أعرف.. أعرف.. بعثك الله في الوقت المناسب.. قل لي.. أمعك أوراق بيع وشراء.. زائدة.
-لا.. ماذا تقصد؟
-إذن أجّل طلب المخرف إلى يوم آخر.
-لا أفهم.
-أنا في حاجة للأوراق.. أريدها اليوم بالذات.. اذهب إلى بيت المختار وانتظرني هناك.. سأرسل بطلبك بعد ساعة على الأكثر. فأنت متعلم وشورك في رأسك. وتعرف أن لا شيء في قريتنا اسمه الحكومة. لذا سينوب عنها هذا السيد تركته مذهولاً لرؤية المنجل المرفوع عالياً.
قصدت دار السلماني والنيران تشتعل في صدري، تضطرم كنيران يوم القيادمة. وصلت الباب بعد قليل، ولحقتني أمي. وقفت بجانبي ترتجف، تبسمل وتستعيذ من شر الشيطان الرجيم. سمعتها تقرأ صغار السور وتهتف بشفتيها:
-يا رب، يا من إذا نشدوك وجدوك.
طرقت المدقة النحاسية وانتظرت ثم عاودت الطرق بالمنجل، بشدة. مما أزعج حسان، فخرج غاضباً.. وزاد غضبه حين رأني.
كان حسان الابن الوحيد للسلماني، شبيهاً بأبيه من حيث التعالي والغطرسة واللؤم وهضم حقوق الآخرين. ولولا "إلهام" التي شاءت الانتقام مني، لما كسر أنفه وأنف أبيه، ومرغا بالتراب. لولاها لبقيا ينهشان لحومنا، ويتغذيان على دمائنا... منذ تلك الحادثة، التي زعزعت هيبة "الآغا" وقفت في عضده، وهدمت صروح ما بناه من ظلم وجور، وكشفت للناس حقيقته، وحسان لا يجرؤ على القيام بما تعود السلماني الطاغي "إذ لزم الوكالة التي استلمها بعد إتهام سعدو بالسرقة وطرده، معطياً لحمودة مسؤولية رعاية البقرات العشر وتربيتهن، إلاّ أنه لم يترك ثوره المميز "البكر"
-ألم تر الجرس الكهربائي؟
زعق بوجهي موبخاً. وعلى غير ما عرف عني "رضوخ وطاعة" لطمته على كتفه بقوة، فترنح كسكير. وكاد يفقد توازنه. أزحته جانباً وشهرت سلاحي الوحيد. منجلي القديم والحاد في وجهه. وفي وجه الخادم حمودة الأعور. وهو يصادفني في الممر ويعترضني! بهت لحظة وجمد شعرت وأنا أتابع سيري، بنظرات عينه الصحيحة تنغرس في ظهري كالسهام!
منذ حادثة "نصار وهبة" فقد دار الآغا منعته، كما فقد سيده نفوذه الواسع وإن ظلّ يحلم بأوهام العودة إلى أيام مجده الضائع على يدي، وسطوته المسلوبة متناسياً أن ما فات قد مات.
اقتحمت المضيف. دخلت كالصاعقة صفقت الباب بحدة أفزعت السلماني وضيوفه. فهبّ من مقعده وتبعتني أمي مستلبة مدهوشة.
قرأت مقدار ذعره وارتباكه لاحظت بياض شاربيه ومكر الذئاب المنبعث من عينيه. وفي وجهه لاحت معالم الحقد والضغينة كان قابعاً على فراش وثير. وعلى جانبيه وسائد عريضة ملونة، مختلفة الأحجام. وجلس أمامه ثلاثة رجال كبار، كما يجلس الخدم! وأحدهم غريب وسمين!
ذهلوا لرؤيتي ولجسارتي، وكأن الطاعون اقتحم ديارهم فألتزموا الصمت وانتظروا كلامي.
إنها المرة الثانية التي أدخل فيها، في الأولى كنت معتقلاً ولم يتجاوز عمري الخامسة عشرة، وكان هو عميلاً للسلطة آنذاك اثنتا عشرة سنة مرت. وبات واضحاً أن محاولاته العقيمة لتشويه الحقائق لم تؤد إلى توفير ما طمح إليه من استقرار وغنى -بعد فشله الذريع في احتوائنا-بل أدت إلى نفور وكراهية متبادلة بينه وبيننا جميعاً. مما ولد التوتر والاضطراب في قلوب كل رجال القرية. وزاد الأمر سخونة عندما تبدلت الأحوال، وانعكس الوضع وذابت السطوة. إثر انطمار وزارة ودفن أخرى، وبقي هو في أتون الصراع!
لم أشأ الوقوع في شرك الحرج وشباك الارتباك ولن أمكنه من خداعي واحتواء الموقف.. لذا وجب التصرف بسرعة فانتزع حجراً من وسط الجدار الآيل إلى السقوط بين لحظة وأخرى كي أفلح. ألم يقل لي مجيد "باغت عدوك تنل مرامك" -ماذا تريد يا سلماني؟
صحت فأرتبك وعاد لموقعه. نظر إليّ بعجب. رفع حاجبيه وكتم غيظه. وذهل الرجال لسكوته، فتطوّع السمين لردعي:
-سلم أولاً أيها الشاب!
لم أنس بعد مساء السبت الأول من تموز 1963 حملتني سيارة شرطة قديمة. واهن الجسد، محطم النفس جروحي تنزّ دماً، وتتعرج في لحمي دروباً زرقاء من آثار التعذيب الوحشي أدخلوني مقيّد اليدين. فراح السلماني مع جماعة من الحرس يسخرون مني. يضحكون ويقهقهون بفظاظة، وينكتون مثلما بهرهم منظري فتعلقت عيونهم المستغربة بي.
تتطلع ولا تكاد تصدق! تراني منفوش الشعر، مفتوح الصدر يرتفع سروالي قليلاً ليكشف عن موضع اللدغة وأثر جرح السكين والورم الذي بدأ يتفشى في كامل جسدي.. تراني.. تتعجب! كذلك بهرتني روعة المضيف، والأبهة الملفتة للنظر. فعلى الأرض مدت السجادة القاشانية الحمراء، الفاخرة التي لاكت الألسن عنها الكثير، فغدت مثار الإعجاب بألوانها وثمنها الخيالي.. والستائر المخملية الزاهية، المدلاة بتناسق. والثريات الثلاث المتلألئة في عز النهار! والمكتبة الخشبية، الفخمة التي غطت كامل الواجهة العريضة!
-كيف تتجاسر وتدخل بمنجلك؟!
زعق السلماني بوجهي كمن يريد استعادة الموقف، وأخذ زمام الأمور. وقبل أن أرد وزيادة في الصلف وكعادته بازدراء الآخرين أطلق سخريته، وهو يسد منخريه بسبابته وإبهامه:
-ما هذه الرائحة؟
تحكمت بأعصابي ريثما تحين فرصة الانقضاض وتحركت أمي خطوة لتعلن انزعاجها:
-إنها رائحة الصبير يا آغا. دهنّا جسده بالصبير الدبق.
-لا يا أمي.. لا.. إنها رائحته هو، رائحة إبطيه.. وما من رائحة أكره من رائحة السلماني...
فاجأته لهجتي الجسورة. فنظر مستنطقاً عينيّ عن مصدر قوتي. وتبادر إلى ذهني أنه أرجع سبب ذلك إلى عضة الثعبان، وأيقن أنها منحتني قوة لا تقهر، فصمت مذهولاً.. وتابعت:
-لو أمتلكت بندقية لحملتها بدل المنجل. ولجئت أصطاد الفئران في أحضانكم.. وهذه رائحة الصبير وضعتها لإثارتها وإخراجها من جحورها..
أثارهم كلامي، فغروا أفواههم دهشة، تطلعوا إليّ وإلى المنجل المرفوع عالياً.
-لم أرسلت بطلبي؟
أعدت سؤالي بغضب فرف جفناه، دار بؤبؤ عينيه هلعاً. ولكي يغطي على حرجه رمقني بنظرة عابرة، مستخفة، على سبيل التهكم. وبدل أن يجيب أشعل لنفسه سيجارة ليتلهىّ بها. عبّ منها نفساً عميقاً وسألني متنمّراً:
-ألم تذهب للعلاج! فلم عدت بهذه السرعة؟
استفزني. كدت أصيح عارضاً عملية النصب، لكني فضلت الهدوء:
-ما عدت بحاجة للعلاج.. شفيت..
-عجيب!!
-علام عجبك يا سلماني.. "إذا مرضت فهو يشفين".
-ماذا فعلت بسعدو؟
سؤاله المفاجئ طعنني في الأعماق نبش في داخلي فثار بركاني:
-وما علاقتك أنت؟ ألأنه شهد على شرائك لأرض أبي؟
اتسعت دهشته، وزاد عجب الرجال. قطب أحدهم حاجبيه:
-عجيب أمرك يا كاكاحمه!! هل جننت؟
زفر الآغا. وذكرني حمودة وهو يلج المضيف مع ابن سيده:
-أنت تتكلم مع الآغا السلماني!
-أعرف يا أعور.. يا شاهد الزور.. أتراني مثلك لا أميز الحمار من الإنسان؟
تلعثم الذليل، انعقد لسانه. وصاح حسان بانكسار:
-ماذا تريد؟ لم جئت؟
-لأتفرج على قباحتكم وأفضحكم.
-تأدب، احفظ لسانك.. ماذا جرى لك؟
-ابني في غاية الأدب. فالتزم الصمت أيها الغريب خير لك.
ردت أمي الرجل السمين، الجالس على يمين السلماني، فخر. خصني السلماني بنظرات ذئب لعب الفأر في عبه من كلامي.. فنفض سيجارته، بسبابته اليمنى، وقال مبدلاً لهجته، مرتدياً مسوح الواعظ.
-جاء، سعدو يشكو منك، ويدعي..
لم أدعه يكمل فمتى ما بدأ الثعلب بالنصح فقدت دجاجاتك..
-لا يصدق الثعلب إلاّ الثعلب.. ثم إنني لم أبدأ معه بعد بشأن الأرض أرتبك، أهتز بصورة ملحوظة. التقط إشارتي فأرتعشت يده وفضحت قسمات وجهه عن مدى اضطرابه. وقبل أن يتكلم أحد استطردت.
-أسألكم جميعاً-وعمري سيصل الثلاثين-أسمعتم أحداً يشكو مني؟ هل تجاسرت أو اعتديت على أحد منكم؟ لم أسمع أحداً كلاماً سيئاً، جارحاً، طوال عمري.
عشت بينكم بعيداً عن المشاكل، لم أمد يدي لمال أحد، أو أرفع بصري في وجه نسائكم أو بناتكم.. لم أخدش شرفكم.. فماذا حصلت؟ ضاع حقي...
-ابني يشرّفكم.. أشرف منكم جميعاً..
-الآن عدت لأطالب بحقوقي الضائعة.. كل حقوقي.. كان بيني وبين سعدو حساب قديم، صفيناه بهدوء.. حسابٌ اعترف به أمام الخالة زهرة وانتهينا منه. فلم تحشر أنفك وتتدخل؟
ازدرد ريقه. راح يغالب أمره ليتمالك نفسه ويخفي اضطرابه.
وبينما ران السكون وتوتر الجو. أخذ ينظر عبر الصمت المريب يحاول أن يستجلي حقيقة ما تراه حدقتاه.
-ألا تعرف أن الظلم لا يدوم ومرتعه وخيم يا سلماني؟
-كفى.. عمّ.. تتكلم؟
قاطعني بنبرة جافة، زعق ثانية مهدداً، ملوحاً بقبضته.
-من تحسب نفسك يا مجنون؟ لقد تماديت كثيراً.. تعديت حدودك..
لم أسمع بقية الكلام، فالغليان اندفع في أعماقي كالمراجل استفحل جنوني، واختمر الذل في داخلي حتى اشتعل ثورة لا تطفئها حراب الآغا ورجاله.
ومن جديد أدركت ضرورة الإسراع. والتصرف دون تردد.. كي لا أدعه هو يتمادى.. فسكوتي يعني أستسلامي، وضياع الفرصة التي تمنيتها، وانتظرتها طويلاً.. وها هو السلماني يتيحها لي.. يفرشها أمامي كبساط.
-اشهدوا يا رجال، إن منير سبني أمامكم دون وجه حق. ويبدو أنه يريد أخذ ثأر الأشهر الستة... لكني لن أمكنه. لم أكمل.. تعمدت مباغتتهم جميعاً، واستغلال عامل الوقت قفزت صوبه بخفة. وفي خلال ثوان كنت أقف خلفه وقبضتي اليمنى التي تتحكم بالمنجل على رقبته، واليسرى تمسك خصلة من شعره الأسود الفاحم.
حاول الحركة والإفلات فضربته بقدمي، رفسته فخمد كخروف العيد. وتقافز الرجال الثلاثة مبتعدين، كأرانب مذعورة. وتحرك حسان مصعوقاً وهدد. وشهر حمودة بندقية فحذرتهم:
-أبقوا في أمكنتكم ولا تخافوا.. لن يمسكم مني أذى.. وأنت أيها الأعور الذليل، أحذر من أن تخطئ الهدف فتصيب سيدك قبل أن أحز رقبته.
ران الصمت مرة أخرى. ثم راح السلماني الذي أخذته المفاجأة يرتعش ويتوسل. كأنه فطن أخيراً لمقدار تهوره، وأردك أنه أشعل النار في بيته، فخاف من الإنفجار المدمر، بعيد المدى، فقال مراوغاً:
-ماذا تريد يا بني؟ وأنت يا حمودة ألق البندقية.. ألق.. كلماته "المهذبة" أعطتني أنطباعاً بتخاذله أعلمتني بانهياره السريع غير المتوقع:
-بكم باعك أبي أرضه؟ بكم اشتريتها؟
-اتركه.. اترك أبي واخرج.. وإلاّ..
هدد حسان بإنفعال وهو يخطو باتجاهنا فنهره:
-ارجع يا حسان.. ارجع ولا تتهور.
توقف الابن ومن ثم تراجع. وعاد السلماني يرواغني ورقبته بيدي:
-أبوك! اللّه يرحمه.. لا أفهم!! قل ماذا تريد؟
"ما أسهل فرض الشروط وإصدار الأوامر وأنت في موقع القوة والاقتدار!" هكذا حدثت نفسي ظناً مني بالنجاح.. لكني لمحت إشارة خفية من حاجبي السلماني، مرسلة إلى ابنه فعرضت مقدار غبائي، لأنني تأخرت كثيراً..
تطلعت إلى حمودة المرتعب، فخمنت دون عناء إنهم سيغدرون بي.. برزت صورة العميد أمامي على حين غرة! حلت ساخرة هازئة مستخفة، فتوترت أعصابي وتحركت أصابعي رغماً عني فحركت المنجل ليحز لحم الرقبة الغليظة!
انبثق الدم كشلال وجأر "الآغا" ككبش ذبيح، وصرخت أمي محذرة، وصرخ حسان متوسلاً:
كدت أجن. استسهلت حركة المنجل وهممت بذبحه لولا العقل! بقايا العقل أشارت عليّ بأن أقتلع الفكرة من نفسي المعذبة، وأستفيد من الفرصة المتاحة.
خرجت حشرجة من حلق السلماني. وتحلب فمه لعاباً وكأنه شم رائحة حليب أمه في فمه تحول صراخه الغاضب إلى همهمة الرضا والاستسلام التام.
تسابق الرجال بالفرار ووقف الابن مذهولاً حائراً.
وأخذ حمودة يتحرك كمن في دبره دودة، هلعاً لا يكاد يثق بماتراه عينه. وذعرت أمي لرؤية الدم المنساب شهقت، توسلت ألا أتهور وفرت هي الأخرى مرعوبة.
-لا تظنني ساذجاً.. أخبرتك بأني جئت لأخذ حقي فعليك الامتثال والخنوع لأمري، بدل الغمز لأبنك.. الحل الأمثل أمامك، الذي ينجيك من الذبح هو إعادة الحق إلى نصابه.
كلمته بحدة فلم ينبس بحرف، أخذ يبكي كرضيع تاه ثغره عن ثدي أمه.
-بكم اشتريت الأرض من أبي يا سلماني؟
-بألفين..
-هل سلمتها له حقاً؟ أم تقاسمتها مع شهود الزور؟
-.....
-من زور بصماته؟
سألته وكفي يتراقص أمام عينيه ملطخاً بدمه فلم يجب.
-ما عاد الإنكار مفيداً. أطلعني الجمولي على كل شيء، أعترف بتزوير ورقة البيع، وشهادة الأعور وسعدو الباطلة.
-الجمولي!!
-كافة الأوراق والمستمسكات أصبحت في حوزتي. سلمتها بيد محام شريف. نصحني بإقناعك أولاً قبل إثارة الموضوع ورفع الدعوى .
-من هو؟!
-سأفضحك وحق الله.. إذا لعبت بذيلك..
-ماذا تريد يا بني؟ أنا طوع أمرك..
أبدى مرونة! تنازل عن جبروته ومسح دموعه.
-لا أريد سوى حقي.. تعيد لي الأرض فوراً.
استمر ببكائه. فلوحت بكفي الملطخ بالدم.
-إضافة إلى ما يترتب عليك جراء استغلالها طوال هذه السنين.. لو حسبنا كل سنة بألف مثلاً..
-أنت تعرف أنها أرض متروكة وأني..
-أتعتقد أنني أصدقك؟. وأنت الذي رأيت "هبة المدفونة" تفر من الحديقة بحقيبتها!
صعق. رفع رأسه ونظر إليّ بعينيه الباكيتين وأقسم:
-بشر في.. سأعيد الأرض لكم.. وسأدفع كل ما تطلبه..
-لا أريد ابترزازك.. لقد حرمتنا من أرضنا طوال هذه السنين.
-قل كم تريد؟
-أتراني أستحق ألفي دينار..
-تستحق.. سأدفعها لك الآن.. الآن..
-إضافة إلى هبة، لا تظنني غافلاً عن دار أربيل والعزيزة "كهرمانة" فقد انضباطه ووقاره تماماً. ارتعشت شفته العليا، وتراقصت شعيرات شاربه. بينما جمد الابن والخادم في مكانيهما،
-يا كاكاحمه.. قل ماذا تريد بعد؟
-لا شيء.. سوى الأرض الشرقية.. أرض أبي، وما عليها..
-خذها مجاناً.. وأغلق فمك..
-لا أريد هذه المكرمة.. سأشتري التجهيزات بفلوسي لا بسكوتي.
-بعتها لك بألف دينار.
-وأنا اشتريتها بخمسمائة دينار.
-مبروك عليك يا كاكاحمه.. مبروك.. إنها لك بشرفي.. همس بصوت خائف. فانبرى حسان معترضاً.
-لا يا أبي.. لا..
-اسكت أنت.. اسكت.
صاح بابنه مما شجعني لمخاطبة حسان باحتقار:
-اتعترض بعد كل ما سمعته! أمامك السيد الوالد وشاهد الزور الأعور يمكنك التأكد منهما.. هيا أسألهما.. هيّا. سكت فازددت حماساً بينما صمت الأب وخادمه: أخبره بالحقيقة يا سلماني.. وأنت يا حمودة، أفي كلامي مبالغة أو افتراء؟ ألم تشهد زوراً مع سعدو في جريمة سيدك بالاشتراك مع الجمولي واصلاً الصمت، فاستطردت آمراً حسان:
-اذهب إلى بيت المختار. ليأت بسرعة ومعه محمد، كاتب البلدية. أبدى امتناعاً فحثه الأب المجروح، والدم يسيل من رقبته على قميصه.
-امض يا بني.. امض.. أنت يا حمودة أسرع فامض.. هيا امض.. بسرعة أمر خادمه حين لحظ تردد ابنه، وتدخلت بدوري مهدداً:
-قبل خروجك، ألق بندقيتك جانباً.. وإياك أن تتهور. رقبة سيدك ستدوسها قدمي قبل أن تقكر بشيء قذر.. وثق أنني سأفقأ عينك الثانية.. ثق، قبل تسليمك للشرطة بتهمة التزوير..
-نفذ ما يقوله لك كاكاحمه.. نفذ يا حموده..
زمجر السلماني ويده تتحسس رقبته. فانطلق الأعور راكضاً لا يلوي على شيء.
-أحسنت يا آغا.. أحسنت.. بدأت تحكم عقلك..
قلت له قبل أن يدخل سلطان متوسلاً:
-دخليلك يا كاكاحمه.. خذلي حقي من الآغا.. خذ لي حقي.. امتعضت، بصقت على الأرض. ورددت كلماته التي قالها لي ذات يوم:
-امشي يا سلطان "حقك تأخذه بنفسك.. لست مسؤولاً عنك ... امش يا جبان..."
قبل أن يمتهن السياقة، كان سلطان تاجر الخضراوات والفواكه الوحيد، في القرية، والمتعهد الرئيسي لنقل البضائع بيننا وبين أربيل والقرى المجاورة. ولولا الطمع لغدا سيد القرية دون منازع دفعه الشيطان ليشارك السلماني بحجة تصدير محاصيلنا إلى الموصل وبغداد. لم تدم الشراكة سوى أشهر غدر به السلماني بلؤم.. سلخ جلده وطرده. وأعطى الوكالة لسعدو قبل أن ينفرد بها حسان ابنه..
ارتبك سلطان أحسّ بالخذلان وتذكر ذلك اليوم الذي التجأت إليه أطلب مساعدته ليكلم شريكه ويرد حقوقنا فنهرني.. وطردني..
أبعد السلماني يدي عن رقبته. ومضى بمراوغته.
-أحسنت يا كاكاحمه.... بارك الله بك... كل شيء حلال عليك. أضاف وهو يمسح الدم بذيل قميصه:
-أنت رجل..... أثبت رجولتك...
-المبلغ الباقي متى ستدفعه؟ ألف وخمسمائة ديناراً
-غداً... والله العظيم.. نقودي في البنك...
-أعرف.. سلمك الجمولي خمسة آلاف.. لذا سأمهلك حتى عصر الغد.. واحذر أنت والجمولي.. قل له ستسلم الأوراق للقضاء عند أول بادرة سوء منه.. وليبتعد عني ولا يريني وجهه ما دام حياً. قاطعني وهو يلقي بعنقه المدمى إلى الخلف. مريحاً رأسه على الجدار. وهرع حسان يخفف عنه، ويساعده.
-أعطيتك كلمة.. ولن أتراجع عنها..
-يا كاكاحمه..
أراد سلطان أن يتملقني فنهرته دون أن أبرح مكاني:
-الأيام تعيد نفسها يا أبا محمد! قبل قليل قلت للسلماني: "الظلم مرتعه وخيم.." وأقول لك الآن: أن من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.. فأخرس يا سلطان.. وأخرج.
رفض سلطان وتحرك محتجاً. فقفز حسان صوبه. يروم إفراغ حقده، ضربه بدلاً عني. فمنعه والده:
-قف يا حسان.. اهدأ واعقل.. اترك سلطان ليخرج.. استجاب الابن وتوقف. توقعت مثل سلطان أن يبادر السلماني إلى ما يفرحه لكنه أمر حسان:
-اذهب إلى البيت. اجلب لي من غرفتي، قنينة كولونيا. لأعقم الجرح.. قد يكون المنجل ملوثاً.. سامحك الله ياكاكاحمه.. سامحك الله..
استدار سلطان ليغادر المضيف متلوعاً من الفشل فناداه السلماني:
-مر عليّ غداً يا سلطان.. مر عليّ غداً.. غداً..
-حاضر.. سيدي الآغا.. حاضر..
هتف سلطان بتملق.. وحلق طائراً.. وتبعه حسان.
-لماذا فعلت بي هذا يا كاكاحمه؟ لماذا؟ أهنتني أمام أصحابي.. أما كان التفاهم أفضل!
الخوف والجبن حولا "الآغا الكبير" من وحش كاسر إلى قطّ مسالم فراح يسترضيني، ويهدئ من ثورتي. كأنه قرأ ما في أعماقي وأدرك جديتي..
أنت البادئ، والبادئ أظلم.
عاد حسان بعد دقيقة بقنينة الكولونيا، ومنشفة نظيفة.
تناولهما الأب وشرع يمسح الجرح النازف، ويرش المطهر.
وبعد دقائق جاء عبد اللّه المختار، يرافقه محمد حاملاً حقيبته الجلدية.
فزعا لرؤية الجرح، الدماء وزاد فزعاً لرؤية منجلي. ووضعية "الآغا".. المسالم!
-ماذا جرى يا بني؟ ماذا جرى؟
-سألني المختار فأجاب السلماني بدلاً عني:
-لا شيء يا حضرة المختار، لا شيء.. حصل سوء تفاهم، وانتهى بحمد اللّه..
لم أهتم لحديثهما.. تذكرت أمي وافتخار فسألته:
-يا مختار، ألديك مانع من زواجي هذا الأسبوع، أي اعتراض؟
بوغت حقاً، بدا الأمر محيراً بالنسبة إليه. فلا مزاح أو تهاون مع الموت، لكن "الصكوك" التي أحرقها فخلصت رقبته من أسر الجمولي و" رقبة السلماني المدماة" دفعتاه ليفعل المستحيل في سبيل إرضائي..
-لا.. لا يا بني.. لا.. ولم المانع!
-قيل لي: أنك ترفض.. تمانع بسبب المرحومة..
-كذب.. الموتى لن يعودوا.. مبروك لك يا بني.. مبروك عليك مقدماً.. وسأحضر بنفسي..
-وسأحضر.. أنا أيضاً..
أعلن السلماني..
لم أكن مستعداً لسماع المزيد. وبدا محمد على عجلة من أمره. لذا استعجلتهم فجرى البيع والشراء بيني وبين منير السلماني بصورة قانونية، وبرضا الطرفين. وشهد المختار وحسان، يلفهما الذعر والرهبة، ويعتريهما العجب والحيرة!
وعندما انتهى كل شيء. أحسست بصداع خفيف يطرق قحف جمجمتي. فتركت المضيف وخرجت متجهاً إلى البيت.
وجدت أمي في سعادة. وهي تلاعب الدنانير المنثورة، على امتداد أرض الصالة!
لم تنتبه لدخولي. سعلت لأشعرها بمجبئي.
التفتت فرأتني واقفاً قربها. خجلت وراحت أصابعها تلمّ الأوراق النقدية.
-أخبرني سلطان بأن الآغا بخير فطمأنني..
قالت مسوغة عدم عودتها إلى المضيف واسترسلت:
-اليوم فقط احترمته.. افتدى روحه بالمال من شر مستطير.. كان من الممكن أن يحرق الأخضر واليابس.
لم أعلق.. فسألتني بمكر:
-أكنت جاداً في ذبحه.؟
-لا أدري.. ربما..
أجبت، ودخلت غرفتي. فلحقتني.
تمددت على سريري. أغمضت عيني فسمعتها تهمس بخوف:
-جسمك متورم..!
قاطعتها بإشارة من يدي.
-دعني أجلب لك الحكيمة..
-لا داعي..
-إنها لدغة ثعبان!
-دعني الآن لأغفو قليلاً، إنها ليست أول لدغة!
-ماذا تقصد؟ ربما يتسمم جسمك كله..
-لا تخافي.. جسمي متسمم قبل الثعبان.. ولكني لن أموت الآن.. لم يحن وقتي بعد.. لم يحن..







-4 -
قبل صياح الديكة استيقظت شعرت وأنا أنهض بحيوية عجيبة، دفعتني لمغادرة السرير.
زال صداع أمس وبدوت في كامل نشاطي! فعجبت ودهمتني الأسئلة. تساءلت وألم الذكرى يعتصر بكلتا راحتيه فؤادي، هل يكذب الأطباء؟ أيمارسون إرهاب مرضاهم؟ أم أنهم لا يجيدون التشخيص؟
توضأت. تجرعت كوباً من اللبن، وأكلت كسرة خبز. وهما بقايا ماجلبته بالأمس أمي التي لم تزل نائمة عندما تركت البيت ومعي منجلي، معلقاً في زناري.
شعرت بعذوبة النسيم وبرودة الهواء، وأنا أواجه الساحة. وتسلل نسيم الليل إلى وجهي، وأنا أتجه إلى المسجد ناوياً الصلاة خلف ملا عطا الله.
بعد خطوات قليلة توقفت أستجمع أنفاسي وأملأ صدري بالهواء. لفحني النسيم البارد فآنتعشت روحي ودمعت عيناي. ارتعشت بنشوة. وسرت وسط الضباب المتجمع.
كانت رائحة الأرض الندية المفعمة بأريج العشب، تعطر الجو الممتلئ بالضباب، وبوشوشة الأعشاب وهسيس الأشجار وطقطقة العيدان، وبصوت اصطفاق باب حظيرة المختار الفارغة.
وجدت باب المسجد مغلقاً. فمضيت قدماً إلى دار الملاّ. طرقت الباب بهدوء، ثم بشدة حين لم أسمع جواباً. وبعد دقائق فتحت زوجته رباب، بعد أن أضاءت المصباح الخارجي.
بدت عليها الدهشة، لرؤيتي منتصباً أمامها!
-كاكاحمه!! ماذا تريد؟
تمعنت في وجهها الملطخ بألوان الليل. وتبسمت:
-جئت للصلاة. ذهبت إلى المسجد فوجدته مغلقاً!
بانت دهشتها بوضوح مع الأصباغ الباهتة:
-ما زال الوقت مبكراً يا كاكاحمه! وعمك الملاّ لم يبرح فراشه بعد!
تناهى إلى سمعي صوت خرير ماء. فداخلني الشك في قولها. ولأني ما تعودت أن أسمع كذباً من خالتي رباب، صدقتها. وكأنما أراد اللّه أن يبرئ ساحتها "مما تدعيه عمتي" تعالى في تلك اللحظة صياح ديك من مكان قريب! ثم تسابقت الديكة بالصياح. وكأنها على اتفاق مسبق.
-اللعنة، نامت الكلاب فاستيقظت الديكة.
-لا يا كاكاحمه.. لا.. لا تسب الديك.. إنه يوقظ المسلمين للصلاة.
نهرتني بأدب، فتراجعت عن لعنتي وقلت مؤكداً:
-أعرف يا خالة رباب.. أعرف.. فإذا صاح الديك فليقل:
أحدكم سبحان ربي الملك القدوس.
ذكرتها بما نسيته فرددت بزهو:
-سبحان ربي الملك القدوس.
وأردفت معاتبة:
-إذ كنت عارفاً كل هذا فلم تتغافل!
لم أول اهتماماً لما قالته. خاطبتها وأنا ابتعد على غير هدى.
-سأتي بعد قليل.. لينهض الملاّ.. سأذهب لإيقاظ الرجال.
ضحكت بهدوء.. ولاحقني صوتها هادراً:
-تعال افطر عندنا.. سننتظرك..
رفعت يدي شاكراً ومضيت.
مررت على بيت جدي المهجور فتوقفت. جالت في ذهني الذكريات المريرة.. تخيلت جدي وهو يخرج حاملاً عصاه! ويروح يتوعدنا.. أنا وأخي "رحيم" ولاح "دم عمتي بتول" وهو يغطي أرض الحمام أكثر احمراراً.. ونقاوة! فلم أحتمل المنظر البشع المحير..
استأنفت سيري فسمعت صوتاً يناديني بعد عدة أمتار! التفتّ فرأيت المختار واقفاً في غرفة نومه، يسند كوعيه على قاعدة الشباك الغربي. يفرك عينيه لطرد النعاس. رثيت لحاله، فهو يعيش وحيداً. يتعاون على خدمته-منذ وفاة زوجته -شباب القرية. يطبخون له وينظفون داره ومكتبه.
-صباح الخير يا حضرة المختار.
-صباح النور يا كاكاحمه.. إلى أين؟
-أريد الصلاة في المسجد..
-المسجد صار خلفك يا كاكاحمه!
-صحيح! سأرجع.
استدرت عائداً فصاح مستغرباً، ساخراً:
-تعال هنا.. ماالذي جرى لك؟ ماذا بك؟ تصرفاتك غريبة!
-لا غريب إلا الشيطان يا حضرة المختار.
-القرية كلها تتحدث عنك.. لا حديث لهم غيرك..
-ما دمت لا أملك أقفالاً، فستظل أفواههم مفتوحة. رددته بسخط وحاولت المضي بعيداً عن وجهه فاستوقفني
-اخبرني باللّه عليك، من أين حصلت على الصكوك؟
أغضبني استفساره. تملكني النفور منه فصحت به:
-رجوتك يا مختار ألا تذكرها! والآن أنذرك إياك.. إياك أن تفتح فمك ثانية.. بصددها.. انسها..
-وحامد الجمولي..؟
-دسه بقدميك كحشرة قذرة. ما عاد له عندك أي شيء حتى عود كبريت.. فلا تخف منه..
-أتظنه يسكت.. سيشتكي علينا؟
-ليلحس البلاط.. كفاه استغلالاً لك.. مضت عشر سنوات على الحادث.. وأنت لم تزل في خنوع مستمر! وإذا ما اقترب منك. سأقتله وحق اللّه. سأحز رقبته وأحسب أن اللّه لم يخلقه.
ابتسم برضا واقتناع. دعاني للدخول فرفضت، وإذا به يسألني:
-لماذا نسيت أوراق الأرض؟
-أية أرض؟
-الأرض الشرقية!
-ما بها؟
رازني بفزع وزفر بغيط:
-لا تجنني يا كاكاحمه! ألم تشترها أمس من السلماني؟
-نعم.
-إذن لم تركت الأوراق ومضيت دون سلام؟!
-أنا!!
-لا.. أمي! نعم أنت.. تركتها بيد السلماني وخرجت! تنهدت وصمت مفكراً. تذكرت كل ما حصل فدهشت. لكني لم أشأ إظهار سذاجتي:
-أيقدر السلماني على اللعب بذيله؟
-كأنك لا تعرفه!
-وأنت لم تعرفني بعد يا حضرة المختار! لو فعل فمنجلي ينتظره.. أين هي الآن؟
-أخذتها منه، أردت تسليمها لخجة، البارحة.
جئت مع محمد... وجدناك نائماً. فأخذها محمد إلى كاتب عدل أربيل، ليوثق عملية البيع ويصدقها بصورة رسمية ليسهل تسجيل الأرض بالسجل العقاري، لتحصل على سند التمليك.
-حسناً فعلت يا مختار.. لكن.. كيف نسيتها عندكم؟
-اسأل نفسك!
-سأسألها..
-عجيب!!
هتف ساخطاً.
تطلعت إليه مستغرباً. فتابع غير عابئ بضجري.
-هل قصة البصمات صحيحة؟ أخبرتني خجة التزوير فلم أصدق. زاد ضجري ولم تعد لي رغبة في متابعة الحديث.
اختصرت الحديث في كلمتين:
-دوختني يا مختار.
تركته دون وداع وعدت من حيث أتيت.
وجدت نفسي بعد عدة أمتار عند باب الملاّ، فطرقته رغماً عني.. لا أدري لِمَ لم أحب هذا الرجل من كل قلبي، ولا أثق به أبداً فتحت لي زوجته. رحبت بي وأدخلتني. وأنسلت هي إلى المطبخ رأيت الملاّ يفترش أرض الصالة بجلبابه الأبيض العريض ولحيته الحمراء، المصبوغة "بحنة يزد" المهربة. يجفف شعر رأسه الكبير بمنشفة قطنية. مما دل على خروجه للتو من الحمام! كان الملاّ في الستين من عمره، قصير، ممتلئاً، طويل الوجه، واسع العينين كبير الأذنين. بينما كانت الخالة رباب طويلة جميلة، تصغره بسنوات قليلة، صحيح أن وجهها الملطخ دوماً يخدع الناظر، لكن رقبتها تفصح عن حقيقة عمرها.
-احك لي قصة الأرض يا كاكاحمه كيف اكتشفت التزوير بعد تلك السنين؟
-ستقصها عليك أمي.
اخرسته. تلعثم وقال بعد قليل:
-جسمك متورم يا بني!
-إنها لدغة ثعبان يا حضرة الملاّ!
-ألم تتداو؟
-نعم دهنت جسدي بعصير الصبير، وحقنت بإبرتين.
-حسناً فعلت.. ألم يكن أفضل لو أخذت حقنة "الأوس بورين"!
-الأسبرين يا ملاّ عطا اللّه.. اسمه الأسبرين.
-ماذا عملت أمس يا كاكاحمه؟
-لا أذكر.
-في بيت الآغا، وقبله مع سعدو؟
-إنه أمر اللّه القدير
أخرسته ثانية بردي القاطع. سكت لحظة وكاد يفتح موضوعاً جديداً لولا زوجته، عادت تحمل صحناً مليئاً بالفول المغطى بطبقة من البيض المحمر، المقلي بالزبد.
وضعته أمامي، فسحبه ناحيته قليلاً! ودعاني.
لم أتردد، شاركته الفطور، بشهية مفتوحة.
ونحن نأكل عاد للأسئلة:
-غبت أسبوعاً عن البيت، فأين كنت وماذا عملت؟
-لا يا ملاّ، إنها خمسة أيام بالتمام. ذهبت مع خالتي مريم لإجراء الفحوص الطبية.
-وماذا قالو لك؟ ماذا؟
-كل خير.. وعليه قررت الزواج اليوم.
-مبروك مقدماً.. أخبرتني أمك حفظها اللّه..
أحسنت الاختيار يا بني، أحسنت وباركك الله..
إنه ثواب كبير.. ستنقذ هذه المسكينة هداية من اليأس. "حين هوجمت قريتنا ودوهمت البيوت، وعبث الأوباش بشوف النساء.. وقتلوا أخي الصغير رحيم، وعبد الكريم الابن البكر لعم مصطفى مع اثنين من ولد المخرف وغيرهم. فقدت هدهد بصرها إثر ضربة ماحقة من أخمص بندقية جندي أرعن، على يافوخها.."
-يا لي من غبي! نسيت!
-نسيت ماذا يا بني؟
استفسر عجباً إثر صراخي المفاجئ فأجبته بهدوء:
-مطالبة السلماني بمصاريف الزواج.
-لا تشغل بالك بهذا الأمر.. سأطالبه أنا.. لكن، هل فكرت بالمختار؟ العجوز ماتت..
ما الذي يجري؟ ماذا حدث؟ أمي، افتخار، الملاّ! أمي مانعت، اعترضت لأنها تشتهي أن تكون "شذى" زوجة لي. وافتخار حاولت العرقلة لأنها تشتهيني، وتتمنى أن تكون زوجتي.. فما هو غرض الملاّ؟ ماذا يقصد هذا العاقر..؟ لو كانت له بنت لقلت إنه يريدني زوجاً لها.
-عمي عبد اللّه لن يمانع.. كلمته بنفسي، بشهادة السلماني.
-على بركة اللّه.
رددها مرتين، ثم ساد الصمت. رحت أمضغ الطعام بسكينة، وعيناي تجوبان الصالة، تتطلعان إلى الآيات القرآنية المذهبة والفضية المنتشرة على مدار الجدران. الهدوء العجيب، المخيم على بيت الملاّ أثار دهشتي. وعجبي الكبيرين. تذكرت سنوات الطفولة والصبا والشباب. وأقفاص البلابل والطيور الجميلة المختلفة الألوان والأنواع. تذكرت أعداد الدجاج والديكة الغفيرة، التي كانت تسرح هنا، داخل البيت وحواليه بكثرة. تذكرت موعظته في المسجد.
كنت صبياً ابن العاشرة أو الحادية عشرة، حين صحبني أبي مع رحيم إلى المسجد. وسمعنا الملاّ يقول "قال الرسول (ص): كثروا من الدواجن في بيوتكم ليتشاغل بها الشيطان عن صبيانكم" وأضاف شارحاً: إن المؤمنين يحبون أن يكون في بيوتهم شيء من الدواجن، مثل الحمام والدجاج. ليعبث بها صبيان الجن ولا يعبثون بصبيانهم..
وددت أن أسأله لماذا ترك عادته، وأفرغ أقفاصه. لولا أنني تذكرت قول نصار "عبث الشيطان في خصيتيه فعقرهما".
-وماذا قررت أن تعمل بعد تسريحك من الجيش؟
-سأبني مدرسة. وأعيد بناء المسجد.
-المسجد!! وماذا به مسجدنا؟
هتف فزعاً كمن أثيرت حفيظته. فأوضحت:
-سنهد هذا البناء القديم، ونبني ما يليق بك يا ملاّ عطا اللّه المحترم. رأفة بعمي حسن وخوفاً على المصلين. انتبه إلى جملتي الأخيرة فحدجني بنظرة غضب وسأل:
-ممن تخاف؟
-من الرياح والأمطار.
ضحك مستخفاً وقال:
-لا أفهم.
-وأنا في المستشفى رأيت حلماً. سقط السقف على رؤوس المصلين..!
-أعوذ باللّه من حلمك.. اسكت.. اسكت.
هتف محتجاً... فاستنكرت بحدة:
-لم تعجب يا عطا اللّه؟! السقف واقف على الصلوات. إنه آيل للسقوط. أما تراه كذلك؟
لم يرد سكت احتراماً لشيبته. إذ عادت زوجته حاملة ابريق الشاي ولوازمه. فتابعت بنبرة جازمة:
-سأبدأ بعد أسبوع.. يوم السبت القادم.. سأحفر لك الأساس يا حضرة الملاّ.
خاف أن أسمعه كلاماً خشناً فسارع للقول وهو ينهض قبل الانتهاء من تناول فطوره.
-بارك اللّه بك يا كاكاحمه. بارك اللّه.. هيّا بنا إلى المسجد.. حان وقت الصلاة.
ونهضت بدوري قائلاً:
-لا.. يا ملاّ. سأذهب إلى الأرض الشرقية. فلا تنسى عقد القران.. عصر اليوم.. وإذا وجدت يحيى ابن المخرف في المسجد أرسله لي... قل له كاكاحمه يريدك.
بانت الدهشة على وجهه وهو يمسك كتفي:
-والصلاة! ألم تأت لتصلي؟
-سأؤجلها للمغرب..
-ابق.. أكمل فطورك.. اشرب الشاي.. أنت لم تأكل..
-شبعت.. أكلت كفايتي.. فولكم قديم يا خالة لكن البيض طازج.. رائع!
-بالهناء والشفاء..
شكرتها وخاطبت الملاّ:
-سأتيك عند المغرب..
ودعتهما وخرجت.
ذهبت إلى الأرض الشرقية، فتضوعت حال وصولي رائحة أجساد أبي وأجدادي مع ذرات التراب. بها تعبوا وعرقوا، زرعوا وحصدوا قبل أن يستحوذ عليها السلماني بحيلة خبيثة وغش فاضح مستغلاً جهلنا وعجزنا عن مواجهته.
شممت رائحتهم فأمتلأ قلبي نشوة. صليت على تربتها وجلست أسترجع الذكريات ورائحة الأجساد تعشش في أنفي. تذكرت ما حدث أمس. وتحسست موضع اللدغة تمعنت في الجرح وفحصت الورم ولم أبال أو أعجب بقدر عجبي: كيف فاتني أخذ أوراق البيع معي بعد توقيع السلماني والشهود عليها!
استرحت لدقائق. أخرجت منجلي ونهضت.
وقفت أتفرج على الأرض الحبيبة التي عادت لي.
لم أر غير الأعشاب والصبار والصخور. كان عليّ أن أزيلها كلها، لأبدأ العمل الحقيقي. حرثها وسقايتها وبذرها. احترت بم أبدأ.. فكرت ثم قطعت صبارة كبيرة. قشرتها وتعريت. وأنا أتساءل لِمَ أهملها السلماني؟ لم تركها دون زرع!
نزعت ملابسي بالكامل ورحت أدهن جسدي، بالسائل الصمغي الكريه الرائحة..
وبينما كنت منشغلاً تناهى لي صوت صفير عال. أعقبه صراخ ساخر:
-استحي على نفسك يا كاكاحمه، وارتد ملابسك التفت فرأيت يحيى، يقف على بعد مني، يضع اصبعيه بين شفتيه ويطلق صفيراً مدوياً..
-تعال ساعدني.
ناديته فاقترب وهو يصيح:
-استر نفسك.. استيقظ الناس..
تظاهرت بعدم السمع واستقبلته:
-هل عاد عيسى؟
عجب لمبادرتي:
-لم تسأل عنه؟! ماذا تريد منه؟
-إنه أملي.
-أطوارك غريبة يا كاكاحمه! ألبس.. البس.. الجو بارد.. أمرني ويداه تضعان ملابسي على كتفي. فمازحته:
-ألم تر عارياً من قبل؟ أم إن ما لديّ أثار عجبك؟!
-أمجنون أنت! أجننت؟!
-أتراك لا تملك مثلي! وبشيرة تستحي أن تقول..
-عيب!! عيب هذا الذي تقول يا كاكاحمه.. صار عندي خمسة أطفال! أم أنك تشكك بأختك...
-اللّه أعلم.. كل شيء جائز..
-لعنة اللّه عليك.. لعنة اللّه..
بمعونته رحت ألبس ملابسي، وعيناه تتمعنان فيّ بحذر وشفقة.
-كيف أنت الآن؟ هل تشعر بتحسن؟
-لا شيء يؤلمني.. لاشيء.. جرح السكين ينخزني أحياناً.
-الورم طبيعي فلا تهتم.. لكن رائحتك كريهة! يجب أن تغتسل.
-قالها السلماني فحززت رقبته.
قهقه بصوت عال وسأل:
-أكنت تروم ذبحه حقاً؟!
حنيت رأسي بالإيجاب وأضفت:
-افتدى روحه بالمال..
أبديت قناعتي بما حدث. واسترسلت بما أذهله:
-وأنت ماذا جئت تفعل هنا؟
-ألم ترسل بطلبي.
-أنا!! متى؟
-أعوذ باللّه.. أخبرني الملاّ الآن..
-الملاّ!! إنه كاذب..
-استغفر اللّه.. ولم يكذب؟ ألم تكن عنده في..
-قلت لك إنه إنسان كاذب.. كاذب.. فلا تجادلني..
زعقت بامتعاض.. ثم سرعان ما هدأت.
-ما بك يا بن عمي..
-لا شيء.. لا شيء.. أنا لا أحب الملاّ ولا أثق به..
-ثمة شيء غريب في عينيك.. قل لي، عليّ أستطيع مساعدتك.
-ربما أرسلك الملاّ لتساعدني في تدليك جسدي..
نظر إليّ بارتياب وردد:
-حسناً.. حسناً.. قل لي أنت، ماذا تفعل هنا في هذا الوقت؟
-ماذا أفعل؟! يا لك من ساذج! إنها أرضي.. جئت لأنظفها..
-صحيح، سمعت أنك اشتريتها بالمنجل.. مبروك.. مبروك
-أتسخر يا يحيى..!
-أعوذ باللّه.. أعوذ باللّه.. أردت القول أنك..
-لا يهم.. لا يهم.. لقد جئت لأنظف أرضي. ألديك مانع؟ لم يبد عليه أنه تأثر بصراخي المقاطع لحديثه ضاعت عيناه بين الصخور المتناثرة والأعشاب. وصاح:
-هل ستزيل العاقول بالمنجل؟
-أتراه قاصراً.. هذا الذي أعاد الأرض وحز رقبة الآغا؟
أم أنك تريد أن أحشه بيدي!
-لا.. يمكنك إحراقه، النار أسرع وأفضل.
-ألا يدمر ذلك الأرض؟
استفهمت منه فقال:
-العاقول لا جذر له.. ويمكنك كنس الأرض قبل حرثها..
-إنها عملية شاقة يا زوج أختي..
رفض قولي: -دعني أنجزها.. لترى بعينيك..
أخرج علبة الكبريت من جيبه. استدار يصد النسيم، الريح الهابة ليمنع الهواء عنه، كي يشعل عود الثقاب فمنعته.
-لا تفعل. لا يحرق بقايا المحاصيل إلاّ الفلاح الجاهل.. فالنار لا تشعل في الأرض الزراعية.. لأن الحرارة تبدد البقايا العضوية.
هز يده مستخفاً واستهزأ..
-واللّه عال!! أي محصول هذا؟
قاطعته موبخاً:
-سأصنع منك فلاحاً عظيماً.. إذا بقيت حياً..
لا أدري كيف انطلقت الكلمات الثلاث من فمي، أفلتها لساني دون فطنة! مما أذهله فاستوضح على عجل:
-ماذا تقصد؟
سارعت لأتفادى هفوتي. قلت:
-السلماني الكلب قد يغتالني هو أو الجمولي.
-صحيح، الحذر واجب.. فهذا كلب بلا أسنان.. لا يستطيع حتى العض.. ولكن الغدر طبيعته..
سكت لحظة وما لبث أن أبدى استغرابه:
-حدثتني بشيرة عن اكتشافك لعملية التزوير! فما الحكاية؟ حدثته بالتفصيل فدهش وحرضني على الشكوى لينال "الأوغاد" عقابهم فرفضت، وسخر من "المبلغ التافه" الذي أخذته كتعويض:
-لا أريد اثارة المشاكل أرسلت بطلبك لتساعدني أوصيت الملاّ. قبل قليل.. ضحك مقاطعاً فسكتّ.. شعرت بارتباك. هززت رأسي لاستعيد وعيي. وقلت بحرج.
-صحيح.. نسيت.. كنت في بيت الملاّ.. قبل الفجر! فتصور!!
-إذن طلبتني بلسانك..!! الحمد للّه.. قل لي يا كاكاحمه، صارحني بالحقيقة، ماذا بك بالضبط؟ هل تشعر بشيء؟
-.....
-ماذا قلت لأختي.. افتخار؟ أخبرتني بشيرة، أنك آذيتها! منذ أمس وهي قابعة في غرفتها، واجمة محزونة. تقلب كفيها على نار.. افتخار تحبك يا كاكاحمه.. أختي وأعرفها جيداً.. تحبك.. فلا تظلمها..
لم يستطيع أن يخفي عني المرارة التي راحت تسيل من عينيه وفي لهجته، مما أوجب عليّ التوضيح. وأنا أغالب دموعي خشية هطولها، والعبرة قبل أن تفضحني:
-لي ظروفي الخاصة التي لن أستطيع الوقوف في مواجهتها.
-إذن دعني أساعدك.. أقف معك..
-لن تستطيع.. لن تستطيع..
-لماذا؟
استفسر بألم فراوغت:
-تستطيع مساعدتي هنا.. لا تنسى أنني سأكرمك..
سأضع الأرض تحت تصرفك..
-لا أفهم..
هتف بغبطة كأنه يستجدي المعلومات، فأخبرته:
-سننظفها ونحرثها معاً.. ثم تبذرها أنت وتحصدها.. ونتقاسم الربح..
بوغت بالعرض المثير فقال:
-وماذا نزرع؟
-هذا يعتمد عليك.. ولن أتدخل في شؤونك.. لاحت سعادة كبيرة في عينيه. لاحظتها تفيض من وجنتيه.
-ولم طلبتني أنا بالذات، دون غيري؟!
-إضافة إلى صلة الرحم، يقال: أعط خبزك للخباز حتى لو أكل نصفه..هل توافق؟
شبك أصابعه ونظر إلى الأفق. زم شفتيه، لحس لسانه شاربيه وقال:
-إنه لأمر يستحق التفكير، مادام السمك في مائة..
-كفى.. لا تتفلسف.. إذا لم توافق فأمامي الكثير من الرجال.. وأولهم سلطان.. وهو على استعداد ليكون خادماً لي.. لا شريكاً..
-موافق.. موافق يا كاكاحمه..
-على بركة اللّه.. هيّا شمر عن ساعديك.. لنبدأ الآن.
-أنت بحاجة للراحة فلا تتعب نفسك .. ثم إن العمل صعب وشاق.. لن نقدر عليه وحدنا.. يستحسن أن نطلب المساعدة..
وجدت كلامه مقنعاً فشئت الحركة:
-سأطلبها من الأصدقاء.. سأسألهم إن كان بمقدورهم تقديم يد العون لنا.. انتظر لن أتأخر..
وقف بوجهي معترضاً وناصحاً:
-إلى أين؟ دع الشمس تشرق أولاً.. وليفتح نصار مقهاه..
رن اسم نصار في دماغي! تذكرت "هبة" الزوجة التي خانته فقتلها.. و"إلهام" الغريبة التي وشت به فسجنته..! تساءلت مع نفسي: لماذا لا يعود إلى مهنته الأصلية كبناء ليربح أكثر.
-صحيح!! ماذا دهاني؟
-تمدد وارتح.. وسأتلهى أنا..
قال وهو يأخذ منجلي. وقبل أن يشرع في العمل طرح فكرة مدهشة:
-سأدع موسى يأتي بأغنامه ليرعى بها.. حوافر الخراف والماعز ستحفر الأرض، وستترك مخلفاتها العضوية كسماد لازم..
رحنا نعمل بجد حتى الثامنة صباحاً. حين قدمت أمي تحمل لنا طعام الفطور:
-لِمَ تتعب نفسك يا بني؟
أبدت أمي مخاوفها كأنها تعاتب يحيى، الذي أجابها:
-طلبت منه أن يعود إلى البيت فرفض..
-ماذا جلبت يا أمي..؟
أبدلت مسيرة الحديث بسبب إحساسي بالجوع. وفرحت حين سمعتها تعلن بغبطة:
-وجدت بيضاً وحلاوة تركية في دكان صالح.
-أراك عدت للشراء منه يا عمتي؟
مازحها يحيى فردت.
-نقدته ديناراً، فأشتريت نصف محله!
-هل أعطيته الدين يا أمي؟
-بفضل اللّه.. لقد فرح كثيراً.. لم يكن يتوقع أن ندفع له كامل الدين..
-ومن أين جلبت هذا الخبز؟
-جلبته بشيرة..
سكتت فجأة، تبادلت مع يحيى نظرات عتاب. واستمرت تكشف سراً:
-جاءت زعلانة.. قالت:
-اسكتي يا عمتي.. يرحم والديك.. ابنتك ما عادت تطاق. عملت لنا هوسة قبل الصلاة..
تلاسنا بهدوء.. عرض المشكلة من وجهة نظره وردته أمي بأدب. ولم أجد بداً من التدخل ونحن نأكل:
-طلقها.. وسأزوجك شذى.. ابنة عمتي..
نصحته فعلقت أمي بامتعاض:
-كل.. كل.. بدأت تجن .. المرض أثر في عقلك!
-ومتى كان لابنك عقل يا عمتي؟!
ضحكنا. راقبت أمي وهي تمسح دموع فرحتها، فتذكرت وجه الخالة رباب. وحتى لا أنسى ما خطر على بالي قلت:
-اسمعي يا خجة، يجب أن تربي الدجاج. لا يعقل أن يظل بيتنا مرتعاً لأولاد الجن.. سأبني لك قفصاً.. في الساحة الخلفية..
ما كدت أنتهي حتى انفجرا في ضحكة متواصلة أخجلتني.. ولتلافي سوء الفهم أفصح يحيى عن دهشته:
-يوجد عندكم أربعة أقفاص! وهي فارغة منذ سنة!
-إذن لا نحتاج إلاّ للدجاج.
-دعنا نرى همتك يا كاكاحمه..
حفزتني أمي ونهضت تروم العودة إلى البيت. لكنها أفادت بحماس قبيل ذهابها:
-بالأمس، جلب لك المختار أوراق الأرض..
لم أدعها تكمل... سألتها:
-لماذا جاء محمد معه؟
قرقرت حنجرتها بضحكة:


-جاء ليتأكد من وصفة صوف البعير! ظنني أمزج أبقت الصينية وابتعدت كمن يفر..
وبعد مضي دقائق جاءت افتخار بطعام ليحيى ما إن وقع بصرها على البيض والحلاوة، حتى دهشت:
-من أشفق عليكما؟
-الآغا السلماني.
تهكم يحيى وعلقت:
-بشيرة أختي، جلبت الفطور لزوجها الحبيب!
-انكما تكذبان.. بشيرة خرجت زعلانة دون إفطاره والآغا لا يتكرم بكسرة خبز بعد ما حز المنجل رقبته.. ضحكنا فعقبت..
-سمعت أنهم نقلوه أمس إلى أربيل، خشية التسمم.
-أراك مهتمة به يا افتخار..!
-تخاف عليك.. فقد يتهور السلماني ويقدم بلاغاً ضدك.. طرح يحيى مخاوفه فلم أهتم وعادت افتخار لاستغرابها.
-قل لي يا كاكاحمه، أمجنون أنت! كيف قمت بذلك العمل البشع؟!
-أتريدين أن أحز رقبتك لتعرفي كيف؟
-اللّه يسامحك..
جلسنا ثلاثتنا، نأكل وندردش. ولما انتهينا انصرف يحيى لجلب من يعاونه. وأفرحته حين دفعته بحماس:
-أخبرهم بأني سأدفع لهم أجوراً..
مضى مسرعاً.. وتشاغلت افتخار بجمع الأواني، وتنظيف المكان:
-شكراً على مجيئك.. وأسفاً على المشقة..
-.....
-قال لي يحيى: إنك زعلانة عليّ . فلماذا؟
حاولت النهوض فسمعتها تتنهد:
-أما زلت مصراً على هداية؟
نخزني سؤالها في القلب. فكررت تصميمي:
-سأتزوجها.. قلت لك ذلك..ولن أتراجع..
تأملتني بمحبة ممزوجة بحزن وخيبة:
-اللّه لا يعطيك العافية يا كاكاحمه.. لقد خنتني بعد أن أودعتك أسراري..
-وأنا سأصون السر.. أقطع عهداً لك.. هزت يدها استهانة ومهانة. فأحسست نحوها برغبة العناق.. وكدت أفعل لولا شمس النهار.. بددت الضباب وعرضتنا على الملأ.. فمنعتني..!
-لماذا يا افتخار لا تباركين زواجي.. ثقي أنني أحبك.. وأخاف عليك.. وأريد لك السعادة..
رفعت كفها بوجهي ودمدمت:
-أنت مجنون.. مجنون!
أجهشت باكية قبل أن تعود مكللة بالخيبة. راقبتها وهي تبتعد. وحزّ في قلبي الألم.
أستلقيت على كومة الحشائش، وسبحت في بحار أحلامي.






-5 -
بعد الظهر، جاءني حسان محملاً بالمال. تماماً كما وعد السلماني.
كنت في ساحة الدار الأمامية. قابعاً على الحصيرة، أراقب أمي وهي تنظف أحشاء دجاجة، بعد أن نتفت ريشها، مستعينة بالماء الساخن.
دق الباب بعنف، رفسها بقدمه. وحين صاحت أمي عمن يكون، دخل دون استئذان! وانتصب أمامنا يزفر الغل والخنق.
أدركت سبب مجيئه وخمنت محتويات الكيس، الذي ينام على صدره. فداخلني الفرح، لكن تصرفه الأرعن ألهبني ناراً.
-ماذا تريد؟
سبقتني أمي بسؤاله، بكراهية وغضب. ولم أحتمل، زعقت بوجهه:
-يا كلب!
ارتبك وحاولت النهوض فارتد خائفاً:
-ما بك يا كاكاحمه؟! ماذا حدث؟!
تعلقت أمي بردني متوسلة:
-اجلس.. اجلس.
ثم التفتت إلى حسان موبخة:
-ألا تستحي! كيف تدخل على هذه الصورة؟
ظهرت الدهشة في عينيه وهو يقسم:
-واللّه العظيم.. طرقت الباب..
سكت لحظة استرد بها أنفاسه وخاطبني:
-جلبت لك المبلغ الذي وعدك به أبي..
رف قلبي كعصفور طليق يسرح في غابة. تناسيت لسع النيران وأعلمته:
-إنه حقي يا بن السلماني أحمد اللّه لأني لم أقدم شكوى.
-كيف حال الآغا يا حسان؟
غيرت أمي لهجتها متظاهرة بالشفقة والعطف. ولم لا "والدينار يغري الضرير والمقمط بالسرير"!
-بخير يا خالة.. بخير.. أخذناه إلى المستشفى.. والحمد لله.. الجرح طفيف.. ادعي بأنه جرح نفسه بموس الحلاقة..
اختصر بخبث. فزادت شفقة أمي قالت وبصرها معلق بالكيس:
-اللّه يعطيه الصحة والعافية..
-شكراً لك يا خالة.. شكراً.. خذ يا كاكاحمه.. هذه ألف وخمسمائة دينار.. كما طلبت.. تناولت المبلغ من بين يديه. ضغطت عليه بأصابعي، بفرح غامر.. إنه أعلى بعشر مرات من أكبر مبلغ حضنته يدي.. طوال عمري..
فرحت به حقاً.. ثم لا أدري لم امتعضت فجأة. وطفرت دمعتي.. لم يسر قلبي لمنظره.. لم أبتهج به.. لقد جاء بعد فوات الوقت.. بعد..
رميته في حضن أمي. وأوضحت لحسان:
-إنه ديني.. لا فضل لأبيك عليّ.. لا فضل.. شهد دمعتي فقال مراوغاً:
-يمكنك عدّه..
أجهشت بالبكاء فارتعش وتوسل إليّ:
-إذا أحببت سأعدّه أمامك..
-لا داعي.. لا داعي.. لن أتعب نفسي.. سيعده الملاّ.
-وما علاقة الملاّ بالأمر؟
استفسر عجباً. وتطلعت أمي ناحيتي، تنتظر توضيحاً. مسحت دموعي وطردته:
-رح أنت.. رح الآن، وتذكر أني لم أبتزكم أخذت أقل من القليل.
-حاضر.. السلام عليكم..
قبل خروجه أوقفته:
-يا حسان، قل لأبيك عن لساني، ابتعد عن طريقي ولاتتحرش بي.. وتذكر أن الموت يطلبك.. سيأتيك حتماً، فكفر عن سيئاتك، رد للناس مظالمهم وأتق اللّه.. وأنت يا حسان لا تفكر بالغدر والطعن بي، وإلاّ..
-أنا!! لا وحق اللّه.. لست كما تظن.. بشهد اللّه أنني لم أتدخل بينك وبين أبي.. هل صدر مني ما يشين..؟
-ربما خشية من المنجل.. لو تدخلت أو تفكر بالتدخل لقطعت لسانك..
-يا كاكاحمه..
-خفف من غلوائك يا حسان.. ما عادت أساليب البطش تنفع في قريتنا.. تغير الزمان.. وما من أحد يهابكم اليوم كما كنتم.. البيوت ملأى بالسلاح.. ورصاصة واحدة تكفي.
-السلام عليكم..
ودعنا وخرج يتعثر بقدميه..
ضحكت رغماً عني.. قرقرت ضاحكاً وأنا أشهد أمي تضع رزمة الدنانير في حضنها كطفل بكر، بينما ذراعاها يتقاطعان فوق بطنها حرصاً واعتزازاً..!
-عيب هذا الذي تفعله.. عيب، إنه الآغا!
حدجتها بمرح وذكرتها:
-أنا لم أشتمه يا خجة. قدمت له النصيحة، فاستفاد. وها هو ابنه أمامك، تأدب في ظرف دقيقة! جاء محارباً فإذا به يرمي سلاحه قبل أن يصل حلبة الصراع!
-يكفي إنه أعاد لنا..
-يا خجة، هذا المبلغ كبير في عيوننا لكنه لا يساوي عند السلماني شيئاً يذكر.. إنه يصرف أضعافه في جلسة سمر واحدة.. ثم ما هذا التغير! ما سبب هذه الشفقة المفاجئة! بالأمس أردت ذبحه أمام عينيك فلم تقولي عيب!! فما الذي حدث بين الأمس واليوم؟
-أتدري كم عدد الذين جاؤوا محذرين؟ إنه الآغا! أنسيت؟
-اسكتي يا خجة.. اسكتي.. إنه بشر مثلنا.. لا أكثر..
وهذه الدنانير كانت تقف حاجزاً بيننا.. والآن تساوينا..
-انت ستجنني .. سأقوم من هنا.. سأبتعد عنك.. سأطبخ.. ثم أنظف غرفتك..
-ولم ياخجة؟!
-قد تأتي بعروسك اليوم أو غداً.. كما تريد..
-لا تتعبي نفسك.. هدهد لا ترى.. فلا حاجة.. منعتها ببلاهة وتهور، لم أفطن لهما إلاّ بعد غضبها.
استاءت وهتفت مهددة:
-حرام عليك يا بني.. إذا كنت تبغي معاملتها هكذا، فلن أسمح لك بتعذيبها.. لن أدعك تتزوجها.. لا لن أدعك شعرت بغلطتي فحاولت التوضيح:
-لا أريد إتعابك.. سأنظفها بنفسي..
كشرت عن أسنانها ودافعت عن وجهة نظرها:
-ستأتي أمها وخالاتها.. وضيوف آخرون...
-لن يدخل أحد دارك غيرها..
بهتت، قطبت من جديد.. مدت بوزها مستفهمة:
-لا أظنك جاداً..
-سنقيم الحفلة في بيت عم مصطفى.. وبعدئذ سأجلب هدهد وحدها.. ولا من شاف ولا من سمع.
لم تصدق. ظهر ذلك في عينيها. قالت:
-أمجنون أنت! ماذا بك؟ إنه عرسك وسأقيم الدنيا..
-لا أريد.. نظفي غرفتنا فقط.. وأفرشي لنا على الأرض.. ونامي أنت في..
رفعت يدي مشيراً بإصبعي نحو الخارج.. ولم أكمل ارتسمت على شفتيها ابتسامة عتاب:
-أتريد طردي منذ الآن؟! أهذا جزاء تربيتي!
-لا....لا يا خجة.. لا تظلميني.. أريد أخذ راحتي ليوم.. لليلة واحدة.. استمتع بوقتي.. أليس الدخول في النعيم.. والتنعيم في شهر العسل من حقي؟
ضحكت أمي من صميم قلبها ومازحتني:
-هداية لا ترى ولكنها تشم..
-يعني.. ماذا تقصدين؟
-لا تدخل عليها برائحتك النتنة هذه..
-أتريدين أن أغتسل؟ وبالأمس لدغني ثعبان!
-إذن كيف ستتزوج!! كل الذين سمعوا بنيتك.. استغربوا.. تساءلوا عن قدرتك ومدى تحمل جسمك..
-لا تخافي.. إنه ورم بسيط.. سيزول بعد يومين..
-إذن أجّل الزواج.. لا تظلم الفتاة المسكينة.. لا تذلها. إنها لا تستحق إلاّ كل خير..
-الحق معك يا أمي.. سأجلب لك ثلاث تنكات ماء، لتغسليني بيديك. بعد أن أمر على عمي حسن ليحلق رأسي ولحيتي.






-6 -
بعد صلاة المغرب، التفت الملاّ نحوي، بينما كانت عيناي تسرحان في رحاب السماء، وسألني:
-أأنت خائف؟
-أنا!! ممن؟
-من سقوط السقف؟
شعرت بلذاعة السخرية وبنبرة الاستهزاء الحادة فانزعجت. ودون تردد أو حياء صحت به:
-أتسخر من أحلامي؟
هجس غضبي فشاء حفظ ماء وجهه. قال:
-استغفر اللّه.. رأيتك ساهماً فأحببت المزاح.. ومزاح المؤمن عبادة يا كاكاحمه.
تدخل عمي موضحاً ومهدئاً فأسكتني.
وتدريجياً تلاشى غضبي واندمجت في الحديث مع يحيى، والرجال الجالسين قربي. حتى باغتني الملاّ باقتراحه:
-هيّا.. توكلوا على اللّه.. لنذهب..
استغربت واستفهمت منه؟
-إلى أين ياحضرة الملاّ المحترم؟
-إلى بيت عمك مصطفى.. إنهم ينتظروننا..
كدت أستفسر منه عما يقصده لولا عمي حسن سارع يقول:
-حضرت اللازم وسأتي مع يحيى كشاهدين..

أنذاك تذكرت هدهد ومشروع زواجي فزحفت نحو الملاّ متلهفاً لتقديم هديتي:
-قبل ذهابنا، خذ استلم هذا المبلغ. إنه مساهمة بسيطة مني في تجديد المسجد..
مددت رزمة الدنانير إليه، أروم وضعها بيديه. فإذا به يرتد مذعوراً! ويلقيها أرضاً في حركة مستهجنة، تنم عن رفض وتوبيخ! ويدمدم بصوت مرتعش:
-أعوذ باللّه.. إنه مال حرام.. مغتصب.
إهانة بالغة غير متوقعة، صعقت لها. ارتعشت وساورني الجنون فصدرت عني كلمات سريعة، غاضبة. دلت على سخط وانزعاج..
وتحركت، كدت أطفر وأنشب أظافري في رقبة عطا اللّه، لولا أياد قوية شعرت بها تشدني، تحكم قبضاتها على كتفي وذراعي. وتعيدني إلى موضعي. وتمنعني من تحقيق غايتي.. ولو للحظات..
انفعلت ورحت أسبهم وابتعد الملاّ هلعاً. وصاح أكثر من شخص محذراً ومتوسلاً: وهدر في أذني صوت خشن يخالطه حزن:
-كفى.. اجلس ولا تتهور.. إنها ليلة زفافك.. أدرت رأسي في غضب فألفيت المختار مبتسماً كثعلب عجوز. ورأيت عمي متشبثاً بكتفي.. ثم راح يربت على كتفي في طيبة وحنان.
فتر انفعالي. وبما تبقى منه صرخت دون إرادة مني:
-لو لم تكن في المسجد للطمتك يا ملاّ عطا اللّه على رأسك وكسرته. منذ ثلاثين سنة والسلماني يغتصبنا بعلمك، ولم تحرم أمواله!
ضج المسجد. علا هرج ومرح بعد أن أنهيت كلامي.. فوجئ الملاّ فارتعش جسده. اكتسب وجهه الطويل اصفرار وهلع.وتلفت خجلاً إلى المصلين، حيث شخصت إليه الأنظار. وكأنه يستسمحهم ويطلب عونهم.
رأيتهم، يهزون رؤوسهم استغراباً، ويمطون شفاههم استهجاناً، فازددت ارتعاشاً..
-عيب، يا كاكاحمه، هذا الذي تفعله عيب..
نهرني يوسف ابن المخرف. وكان يجلس على بعد خطوات فرفست الأرض وصحت به:
-اخرس يا حقير..
وبحركة سريعة، حملت رزمة الدنانير وقذفتها في وجهه. فجأر وزمجر. وسمعت يحيى يوبخه ثم يزجره:
-اسكت.
وبينما التزم الجميع الصمت، وراحت العيون تتطلع إليّ، تحدق فيّ بذهول، تجمهر أكثر من عشرة رجال فوق رأسي، خشية " تهوري " .مما أشعرني بتعاظم الجو العدائي .
فنهضت محاولاً الخروج، يتلبسني البغض .
أفسح المتجمهرون الطريق لأمرّ، فأمسك الملاّ بساقي، ليسمع مني كلمة اعتذار ترد له هيبته .
ولم أبخل . صحت بأعلى صوتي، لأعيد الاعتبار لنفسي :
-اللّه مكنني من استرداد حقي . السلماني بعث أبنه ليسلمني المبلغ . وها هو بينكم فأسألوه .. وجئت أتبرع به لبناء المسجد ... ولم أهبه للملأ ليتزوج امرأة ثالثة .
ارتفع اللغط والصخب، وتعالت عبارات السخط والاستنكار . احمر وجه الملا، وانتصبت لحيته الحمراء . وعاد يتوسل :
-انتظر .. سأتي معك ...
-لا ... ابق في محلك يا عطا اللّه ..مثلك لا يصح أن يكون إماماً .. أنت تتشكك حتى في نفسك .. وتوالي السلماني ورهطه دون حق .. سأذهب بمفردي ... وإياك أن تأتي بعدي .... إياك .. ولعلمك، ألغيتك من بالي تماماً .
-لا .. يا بني .. لا .. أنت لم ...
لم أسمع بقية كلامه . خرجت وفي صدري يتأرجح لهيب الغيظ، وفي رأسي يدور صداع .
ابتعدت بضع خطى ثم استدرت والرعشة تسري في دمي .
تذكرت أمراً بالغ الأهمية ..
صوبت العيون أنظارها إليّ، وأنا أقف عند الباب وأصرخ :
-اسمع يا عطا، قررت إلغاء مساهمتي . لن أتبرع بشيء، فالذي يعوزه البيت يحرم على المسجد . كما أني فطرت عندك اليوم، صحن فول وبيض . وسأرد لك ثمنه .
قهقه المختار، وتعالى الصخب والضحك . لم أبال ... أسرعت خارجاً، فواجهني ظلام أول الليل الباهت ولفحني نسيم عليل، بارد ...
اندفعت إلى بيت عم مصطفى، تعصف بي حمى الرغبة، للقاء هدهد ورؤيتها .. وفي ذهني تختمر الخطط ويتفاقم ولعي الشديد بها . ويزداد تصميمي على تنفيذ ما قررته، أثناء رقادي على سرير المستشفى أو أثناء سيري الطويل في طريق العودة،
استقبلني شقيقها الصغير عرفان بالصياح :
-كاكا حمه وصل ... وصل ...
انحنيت لأقبّله فدفعني قائلاً :
-رح " بوس " هدهد .. رح ..
ضحكت .. وسمعت من يوبخه ..
-عرفان !! أدخل ..
شاهدت الخالة أمينة وبجوارها عم مصطفى، يقفان عند الباب، وعلى وجهيهما لاح الذهول .
أخذ الأب يدي بالرحاب . وأدخلني غرفة الضيوف الصغيرة . وتبعتنا زوجته ..
جلسنا على الأرض . حيث مدت ثلاثة فرش قطنية، وعدة مقاعد ومساند،على بساط صوفي مزركش جميل، فوق حصيرة نايلون . ومن السقف تدلى المصباح الزيتي معلقاً بنهاية سلك معدني طويل . وشرّعت النافذة الوحيدة على مصراعيها رغم النسيم البارد . وأزيحت جانباً الستارة السميكة، المطرزة حوافها بدقة ! فبانت السماء صافية وظهرت النجوم لامعة بوضوح كبير . فأنشددت إليها فرحاً مدهوشاً .
-أهلاً أبني ... أهلاً ..
قالت أمينة وهي تتربع أمامي مباشرة . بينما جلس الأب على يميني ...
رأيت الأحراج ينطبع على ملامحه وهو يسألني ....
-أين الملاّ والجماعة ؟
كانت الرعشة ما تزال متحكمة في مفاصلي، لذا كان صعباً عليّ أن اضبط نفسي وأهدأ خاصة بعد سماعي اسم الملاّ . اكتفيت برد مقتضب :
-لن يأتوا ...
لفه الاستغراب وانقبض قلب الأم . اصفر وجهها بشكل مقيت .
أدركت دون عناء، أنها فهمت من ردي شيئاً خاطئاً، لايطاق . مما استوجب تبديده دون تلكؤ :
-هدهد ستصبح زوجتي الليلة، إن شاء اللّه .
أشرقت ملامحها . بان على محياها الفرح . وهتفت بعينيها السوداوين المكحلتين .
-خجة، أعلمتنا بذلك . ونحن ننتظر قدوم الملا والرجال ...
تجاوزت أمينة الأربعين قبل خمس سنوات . لكن طولها لم يتجاوز المترين، وكتلتها اللحمية تخطت الثمانين كيلو غراماً . ومع ذلك لم تزل بنظر الجميع جميلة فاتنة، ساحرة . وربما أجمل نساء القرية على الاطلاق ..وعلى العكس منها كان مصطفى . نحيفاً كعود القصب . لا شعر له أمرد أملس، سوى لحية بيضاء تغطي ذقنه البارز . أظهرته بشعاً إلى حد مقبول في الرابعة والخمسين . وعلى هيئته استنسخ الملائكة بأمر اللّه ابنه غفران ! بينما أخذت هدهد صفات ومحاسن أمها . ولولا العمى الذي أصابها إثر جريمة الجنود لما سهل التمييز بينهما ...
-لم يأت الملّلا معك !
عاد الأب إلى إلحاحه . فأضجرني :
-قلت لك : إنه لن يأتي .
ذهل، واتسعت عيناه دهشة وحياء .
وازداد ذهولاً واستغراباً حين استرسل لساني :
-رفضت أن يعقد قراني على هدهد شخصاً مثله .
-لماذا ؟ !
نطقت أمينة بحيرة وهلع . وكرر مصطفى سؤالها .
-رفضت الملا أمام الجميع ... في المسجد .. لاثقة لي به ... لاثقة ..
-ولأنه يتعذر عليّ إيجاد البديل في هذه الليلة، جئت اقترح عليكما أن تساعداني ..
-بماذا يابني ؟
خيم السكون انتظاراً لجوابي .
بدا عم مصطفى أشبه بالخائف مني، وغير الواثق من تصرفاتي . فضحكت في سري .. مددت يدي إلى جيبي . تلمست الأوراق التي تخصه . داخلني الأمان لسلامة عقلي، ومتانة موقفي ...
تطلعت إلى وجه أمينة . فهالني رعبها وتخوفها المنتظر مما سأقوله . نقلت بصري صوب المصباح الزيتي، وأخيراً نحو السماء . لمحت النجوم المنتشرة وكأنها قلادة لؤلؤ على صدر زنجية !
حدقت في نجمة مضيئة، حسبتها قمراً صناعياً . وبقربها رأيت نجمة أخرى أكثر ضياءً . في كل منهما رأيت وجهاً مختلفاً .. شاهدت " سناء " باسمة مغتبطة، وعمتي " بتول " ساهمة حزينة .
وفجأة برزت بينهما " إلهام " بقامتها الرشيقة .. حركت ذراعي لأمسكها فمنعني " مجيد " ( وضع يده على رأسي وهمس : لا تتسرع .. تصرف بعقل ..دون تهور قلت له :
ألم تنصحني بعدم التردد ؟ ألم تقل لي : إذا أردت فعل شيء يا كاكا حمه فلا تتردد .. وإذا عزمت فتوكل، إن اللّه يحب المتوكلين .. فضحك وقال : صحيح، لكن لا تنس بقية الكلام .. لا تتردد عن فعل شيء جيد غضبت وصحت موبخاً :
كل أعمالي جيدة .. وما عاد أمامي خيار ... ما عدت أميز بين الصواب والخطأ ... فكلما مرت الأيام، كبرت آلامي، وكبرت معها المرارة التي أحسها في قلبي .. )
-أريد أن أتزوج الليلة . وغداً نكتب الكتاب .
-تتزوج الليلة !!
دمدمت أمينة ووضعت كفها الأيمن على فمها، دلالة الارتباك والحياء . وانتفض عم مصطفى . وعيناه تبرزان كعينيّ نسر . وتساءل بغيظ :
-بدون عقد أو شهود !!
هززت رأسي بالإيجاب . فتابع بشيء من الحدة :
-أأجننت !! أأنت في كامل قواك العقلية ؟
-نعم .. وهذا دليلي ...
أخرجت ما جلبته من الأوراق . وضعتها في كفيه، فبوغت .... تمعن فيها بعجب وهمهم :
-من أين حصلت عليها ؟ كيف ؟!
-ما هذه ؟
سألته أمينة فحار . تطلع إلينا مبهوراً . وأجبتها :
-إنه دليل على حسن تصرفي وسلامة نيتي ... جلبتها لك يا عم مصطفى لتمزقها ... وتنهي تحكم الجمولي فيك ...
-هل دفعت له ... ؟
لم أكن في حالة تسمح لي بالخضوع لتحقيق مطول . سحبتهامن بين أصابعه المرتعشة، ومزقتها أمام عينيه المبهورتين :
-أنت برئ الذمة ..حر من أي دين ...
وتوقعت أن يلين فإذا به يصيح :
-هذا لا يغير من الأمر شيئاً ... سنتكلم عنها فيما بعد ..
-هل توافق ؟
-لقد جننت حقاً ! واللّه سأذبحك وأذبح ابنتي قبل أن أدعكما تفعلان هذا العمل المنكر ....
عجبت، واعتراني الخجل والاضطراب . ثم الإحباط والانكسار وأخيراً الفزع لغضبه العارم .
تحركت مستديراً بجسمي كله صوبه، لأواجهه وأطلب منه توضيحاً، سبباً مقبولاً لرد فعله المتشنج .
فسمعت الخالة أمينة تترجاني برقة متناهية :
-يا بني، لا تشمت بنا الناس، ولا تكسر خاطر المسكينة .
أجهشت بالبكاء فتمزق فؤادي . أحسست بالخذلان واجتاحني شعور عارم من التعاطف والمودة، والألم .
وجعلت أنظر إليها بعين الرثاء والأسى . وناء قلبي بالحزن.
-هل أخطأت يا خالة ؟ هل ارتكبت عملاً مشيناً ...منكراً ؟
نبهيني من فضلك .. فما قصدت إلاّ الخير ... واللّه شاهدي .
-كل الخطأ ...
صرخ مصطفى وأكمل بحسرة :
-يا أسفي عليك .... أتدري ماذا يعني ؟
قدح شكه القاتل في رأسي فقاطعته باستياء :
-اسمع يا عم مصطفى .. أنا لا أعني ما فهمته .. ولا أقصده ..قلت لك بأن نيتي شريفة ... وأنت خير من يعرفني فلا تسيء بي الظن ... جئت خاطباً ... فلا تزد همومي ... فطن لحقيقة الوضع فهدأ واستفزني :
- أتستطيع طلب ذلك من شخص آخر غيري ؟
عرفت مرامه فاستنكرته وانبته :
-لِمَ تقلل من شأنك ؟ تهين نفسك وتهينني معك ! في المعسكر، سمعت بجماعة تتزوج أولاً ثم تعقد القران ... وسألت مجيداً فأكد لي ذلك .. قال : إن البربر وأغلب سكان شمال أفريقيا يفعلون ذلك أيضاً.
احتد وصاح :
-لا علاقة لنا بهم .. لا علاقة ...
-رغبت في الزواج من هدهد وسأتزوجها .. وثق إنني لو رغبت في امرأة أخرى .. في أية فتاة من قريتنا ... لما ترددت أبداً في الزواج منها ... وفي خطفها وكسر رأس أبيها إذا رفض، فزع مصطفى ... أحرجه كلامي . عض شفتيه كي لا ينجرف بتياري . تبادل مع أمينة نظرات قلقة قبل أن تتمتم :
-نحن لم نرفض ...
-أعرف ذلك ..أعرف يا خالة .. اعتقد أنني تسرعت في طلبي ... أخطأت فسامحوني .. اعذروني .. اقترحوا عليّ ما يجب أن أفعله ...نبهوني .. وانصحوني ... تبسم عم مصطفى استرد عافيته وأعلن :
-غداً نستدعي الشيخ علي من أربيل ...
-على بركة اللّه ... اتفقنا .. سآتي صباحاً .
اعتذرت مرة أخرى عما قلته . ونهضت، فتوسلا لإبقائي على العشاء فرفضت ....
لحق بي عم مصطفى إلى خارج البيت يطلب إيضاحاً،عن الصكوك وسندات الدين والفائدة :
-من أين حصلت عليها ؟ كيف وصلت إليك ؟ الجمولي ، ماذا سأقول له ؟ هل أعطيته حقه ؟ هل ...
-اسمع يا عم مصطفى، الأوراق مزقت والجمولي المرابي ماعاد يخيفك أو يهددك .. فلا تذكرها ثانية .. لا تأت على سيرتها لأحد مهما كان .. حتى لخالتي أمينة ... إياك ...إياك .. وإذا سألك .. قل له أنك سددت ما بذمتك كاملاً
تسمر واقفا في منتصف الطريق . ومضيت إلى البيت مستاءً مقهوراً .
حدثت أمي -المنهمكة في رص الحاجات التي اشترتها على رفوف المطبخ -بما جرى، فوبختني على سوء تصرفي، ورعونتي التي لا تقل عن رعونة مجنون ..!
لم أناقشها . لم أكن في حالة تسمح لي بذلك . تركتها وتوجهت إلى غرفتي
وضعت رأسي على الوسادة .. حاولت أن أنام فإذا بي أنهض على حين غرة ... !
( برز لي مجيد . بوجهه العريض الضاحك وعينيه السوداوين قال لي : -لا تنسى وصيتي .. " النورة " ستعطيك مظهراً جذاباً وتريحك .
قلت : -ولكن هدهد بلا عينين !
قال : -لا تكن غبياً إلى هذه الدرجة يا كاكا حمه . أصابع الأعمى هي عيونه . بنانها تتحسس أفضل منك . ستشمئز وتنفر منك إذا بقيت بصوفك.
غضبت وقلت : -أنا لست خروفاً !
ضحك وقال : -استغفر اللّه يا كاكا حمه ... من قال ذلك ؟
أتظنني أبله لا أميز الخروف عن الطلي ... !
تغاضيت عن سخرتيه وقلت : -أتريد أن تكرر ألاعيبك معي ؟
بسببك كاد عريفي إسماعيل يثكل نفسه من الغيظ .. قهقه حتى دمعت عيناه ثم أقسم قائلاً :
-أتظنني أعاملك مثلما أعامل العريف مونرو ؟ لا .. يا كاكاحمة .. لا .. ثق باللّه العلي العظيم أنني أعزك ... فأنت أخي الطيب وصديقي المفضل .. ثم أنني لم أغدر به ولم أقصد أذيته .. وعندما نصحته بوضع البودرة لم أكن أهدف إلا الخير ... لكنه " جحش " لم يستمع للنصيحة جيداً ... لذا احترق جلده .. وضيع فرصة العمر ولقاء حبيبته مارلين مونرو ..)







-7 -
على مائدة الفطور الزاخرة، الغنية بالبيض والزبدة والمربى والجبن والحليب، قالت أمي دون مقدمات :
-أوصيت على عشرين دجاجة .... سأملأ بها الأقفاص، بناء على رغبتك
-حسناً تفعلين ..وسأشتري لك ثلاث معزات .
دهشت، وعبرت عن ذلك بلسان خائف :
-من سيتولى رعايتها وحلبها ؟
-سيرعاها موسى وتحلبها هدهد ..
اطمأنت وتحمست :
-سيفيدنا حليبها .. سيغنينا عن شرائه .. وما سيفيض عندنا نبيعه ..
-لا .. سنهبه إلى بيت عمي مصطفى، إلى حين عودة بقراته . لم تجادل . أبدت موافقتها واقتناعها :
-كما تريد يا بني .. إنها فكرة جيدة ..
-هيّا بنا إليهم ... علينا تهيئة كافة المستلزمات ... اعترضت بإشارة من يدها؛ واحتجت :
-دعني أكمل فطوري .. الوقت مازال مبكراً ...
-أنت تثأرين من جوع قديم يا خجة ! تأكلين منذ ساعة ولم تشبعي !
مازحتها فأبدت مخاوفها :
-وأنت لم تمد يدك بعد !
-أنا أكلت وشعبت .. والحمد للّه ...
-أتظنني غافلة عنك .. راقبتك منذ يومين .. وأنت لست على ما يرام .. على غير عاداتك وطباعك ... ولا تنكر .. فقلبي دليلي .... ربع ما كنت تأكله سابقاً لا يدخل معدتك ! وبشيرة أخبرتني بأنها رأتك تتقيأ ما أكلته عندهم !
-أكلت البيض البارحة ..
-عند الملا ! أخبرتني رباب إنك أكلت نصف البيضة ! ولم تذق الفول ...
مسني الندم على ذهابي ومشاركتهما في الفطور استكرهت دناءه نفسي واحتقرت رباب
-ما أدق أخبارها ! وما أذلها ! مراقبة الضّيف والتدقيق فيما أكل وشرب، عيب . ... عيب .. وعار ..
-لا يا بني .. لا .. رباب بنت ناس . وطيبة النفس .
-سأدفع لهما ثمن ما أكلت .. وعدت الملا بذلك ... ثم أني آخذ كفايتي من الأكل ...
أوضحت لها ودخلت غرفتي ..
وقفت أمام المرآة . ألقيت نظرة شاملة على جسدي تطلعت إلى وجهي . وعاينت موضع العضة . كان الورم يخف تدريجياً ..
جلست على السرير أراجع ما نفذته، وما يتحتم عليّ تنفيذه . فوجدت أمامي قائمة طويلة من المشاريع . وطرحت أفكاراً عديدة جديرة بالاهتمام .. سألت اللّه أن يعينني على إنجازها، وأنا اتجه إلى الحديقة .
قلبت الأرض تمهيداً لشتلها بالورود . وغسلت الحظيرة غسلاً . ثم نظفت الأقفاص وجددت شباكها المعدنية .. وحين انتهيت كان النهار قد انتصف، وارتفع آذان الظهر ...
أعدت رغبتي في الذهاب لكن أمي راوغت وماطلت، حتى العصر .. فما أن حانت الرابعة حتى أبدت حماساً ... !
قدتها إلى بيت عم مصطفى . فبوغتّ بأن هناك من سبقني بالقدوم ! وجدت الملاّ عطا اللّه، وعبد اللّه المختار وعمي حسن وزوج عمتي الحاج صالح، ويحيى مع إخويه يوسف وموسى، ونصار ينتظرونني !
في الحال ربطت بين مماطلة أمي وتعمدها التأخير، وبين حضور هؤلاء وشممت رائحة اتفاق مسبق،جرى خلف ظهري ! لم أبال وراحت عينياي تفتشان عبثاً عن عيسى .. بأمل رؤيته بينهم .. علّه عاد وحضر معهم .. !
رحبوا بي، سألوني عن صحتي وأقنعوني بإتمام العقد على يد الملّا . بعد اعتذاره لي عما بدر منه في الليلة الفائتة .
وقبّل رأسي بمحبة مما أشعرني بالخجل . فأعلنت موافقتي .
-حسناً يا حضرة الملا . ولكني أصر على سحب اقتراحي .. قررت أن احتفظ بأموالي .. لمشاريع أخرى .... لن أمنحك فلساً واحداً ...
-الدنانير عندي يا كاكا حمه وسأعيدها إليك ..
-عندك !! هل تمزح ؟ من أتى بها إليك ؟ إنها في غرفتي ! نظر إليّ الجميع مدهوشين وضحك الملا قائلاً :
-تركتها أنت أمس في المسجد ..
-أنا ! كيف ؟ ومتى ؟
-ألم ترمها في وجهي قبل خروجك غاضباً ؟!
سخر مني يوسف فتذكرت كل ماحصل ! ضحكت فضحكوا . وبين زغاريد النسوة وتكبير الرجال، جلبوا هدهد لتحضر عقد القران .
جاءت تتعثر مغمورة بنشوة عارمة، مصحوبة بأمها وأختي بشيرة . وخلفهن تراءى لي وجه افتخار !
وعلى الرغم من ظهور فرحة هدهد بوضوح، وسعادتها، انتفض قلبي غماً، امتعضت بشدة .
آلمني رؤيتها مرتدية ثوب الخانم القديم . أحسست بسكاكين حادة تمزق أحشائي . أشد فتكاً من كأس العميد، وأكثر لؤماً .. حز في نفسي منظرها .. آلمني جداً فبكيت ...
سألوني والدهشة تعتريهم، عن السبب الذي دفعني إلى البكاء .
فأجبتهم : إنها دموع الفرح .
ضحكوا ومازحوني، وخطر على بالي خاطر ! وصممت على تنفيذه بعد انتهاء الحفل ... وازددت تصميماً وأنا أتطلع إليها مبهوراً متحسراً .
ركزت نظراتي فوق أناملها وهي تحاول تسوية الثوب العريض أنظر إلى وجهها المدور وأسأل اللّه أن يغفر لي ذنبي هذا .. أحدق مدهوشاً في عينيها المغلقتين فتملأني الغبطة، ويعتريني الندم ويتلبسني تأنيب الضمير ... ! سحرتني إشراقة الخدين الحمراوين، المرصعين بغمازتين، كإشراقة تفاحتين ناضجتين . بهرتني بشرتها البيضاء، وشعرها الأصفر المنسرح الطويل . وانشددت إلى الحاجبين الغليظين والشفتين القرمزيتين، فاشتهيتها .. تمنيت احتضانها .. تقبيلها .. زرع ابني في أحشائها اليوم قبل الغد .. فمنعني الخجل المرتسم على وجنتيها .. والحياء الذي ركبها ...
بكيت من جديد ، ليس من فرحي، بل لنذالتي . لأني سأظلم هذه المسكينة التي لا أستحق ظفراً من أظافرها ... أظلمها متعمداً ..عن قصد ... ودراية ....
بين ضحكات أمي ونكات بشيرة وتعليقات افتخار، وتمتمات الملا وتسبيحاته، وهمسات العجائز وصلوات الخالة أمينة تم العقد ...
تم العقد ووزع نصار شراب التوت والليمون، على المدعوين ... بكؤوس زجاجية نظيفة جلبها معه ... تناولت كأسي . قربته من شفتيّ فبرز " العميد " أمامي ! تمثل بشخصه يكركر ضاحكاً ! فركبني الذعر، تحركت للإمساك به فقفز هارباً ! حاولت اللحاق به ... كدت أنهض .. أقفز صوبه وأصرخ . لكن صوتي بحّ فجأة وشددت بقوة إلى الكرسي .. وصحوت من غفوتي على إثر سقوط الكأس من يدي ... !
-انكسر الشر انكسر الشر ...
صاح أكثر من شخص .. وأسرعت بشيرة تنظف المكان . أصرّ المختار على دعوتنا جميعاً إلى العشاء في بيته، فرفضت :
-شكراً لك ياحضرة المختار ...شكراً .. أنت بحاجة لمن يعينك ...
-لا تخش عليّ .. ستطبخ لنا افتخار وبقية البنات ...
-إذن أرجو تأجيل ذلك إلى يوم الزواج ... غداً .... إن شاء اللّه بوغتوا لهذا التحول " تأجيل الزواج " فشرحت لهم :
-زوجتي لن تقل شرفاً وكرامة عن أية عروس في قريتنا .
والواجب يقتضي الحفاظ على علو منزلتها ورفعتها . لذا لا يجوز التقليل من شأنها ولا يمكنني الموافقة على إكمال مراسيم الزواج دون تجهيز كامل ...
-ما الأمر يا كاكا حمه ؟!
استفسر عم مصطفى فأردفت :
-أعدوا للخانم ملابسها وأشكروها ...
-لماذا ؟! ماذا جرى ؟
هتفت أمي بخوف فقلت بحزم :
-سننزل الساعة إلى المدينة، لنشتري كل ما يلزم هدهد من ملابس ومصوغات وحاجات أخري .. جديدة ..
-بارك اللّه بك يا كاكاحمه .. اللّه يفتح عليك ... صاح عمي حسن مستحسناً . وتلته بشيرة ثم تعالت كلمات الثناء والإعجاب والتقدير .
واعترض عم مصطفى بطيبة :
-لا تبذر مالك يا بني .. يكفينا هذا ..
كدت أرد فتدخلت أمي بحدة :
-لا يا مصطفى ... هداية ابنتنا الحبيبة . وكاكا حمة على حق .. ولقد رزقه اللّه بسببها .. سنشتري لها كل ما ترغب وسنقيم حفلاً لن ينسى .. أنه عرس أبني الحبيب .
-صحيح يا أمي . هداية تستحق كل خير .. سنقيم الحفلة غداً ... حفلة كبرى .. ياجماعة، سنقيمها غداً ....
صدح صوت بشيرة المبتهج . وهتف نصار بفرح :
-سأزين المقهى والساحة المقابلة ...
-بالرفاء والبنين .. بالرفاء والبنين ..
ارتفعت الزغاريد بعد كلام عمي وتهانيه . وشدّ الرجال على يدي وهم ينصرفون تباعاً . ولحق بهم عم مصطفى . سمعتهم يتهامسون .. وحدَست أنهم يتفقون . وحين ألححت على أمينة وأمي بضرورة التهيؤ، للنزول إلى المدينة . تكلمت هدهد لأول مرة وهي تبتسم بملء شدقيها.ويدها تستعين بحركة معبرة :
-كاكاحمة، أرجوك .. اصرف النظر عن كل شيء ..هذه الأشياء التي تريد شراءها لا تجلب السعادة . لا أريد شيئاً سوى محبتك لي وإخلاصك ...
يمتلئ صدري بهجة وتدمع عيناي من فرط السرور ... أهرع بأخذ يدها و أصارحها :
-يا حبيبتي، أصبحت زوجتي بشرع اللّه . سأهبك عمري فما قيمة هذه الأشياء ‍ وبالأمس رزقني اللّه من أجلك، ببركاته ..
-ما قالته هداية عين العقل يا كا كاحمه . جلب الرجال هداياهم وسيجلبون المزيد، وهو ما يكفينا وزيادة ... أيدتها أمها . فأعلنت بشيرة رفضي على لسانها
-مشكورين يا خالة أمينة ... الهدايا لن تحول بيننا وبين إداء الواجب ... حق هداية لا يجوز التفريط به يا خالة أمينة .. وما سنشتريه لن يكلفنا بالتأكيد أكثر مما تقدر الحبيبة هداية ... زوجة أخي ...
-هداياي سنختارها معاً... أنا وهدهد ...
اقترحت فإذا بافتخار تحتج :
-لا ... ياأخي .. لا .. لن نسمح لكما ..لن ندعكما تنزلان أنت وهداية أبداً ...
أدهشني اقتراحها وقبل أن أبدي رأياً، رأيتها تغمز بعينيها لتضمن موافقتي . واستطردت :
-أولاً، اليوم عرسكما ..والتعب مرفوض .. كما أن النزول إلى المدينة ليس سهلاً ..
-كلام العقلاء ..
أفنت هاجر زوجة عمي حسن وأكملت :
-أمسح وجهك بالرحمن ودع الأمر لغيرك يا كاكا حمه .
-ماذا تقصدين ؟
سألتها فتطوعت بشيرة للرد :
-غداً صباحاً سأخذ أمي وخالتي أمينة وافتخار، وتنزل مع يحيى . لنشتري كل ما تريده يا كاكاحمه .
رمقتني افتخار بعين منكسرة، وإن تظاهرت بالفرح واللامبالاة . فاشتعلت الذاكرة .. شعرت بمعاناتها وعدت أسبر هواجسي .. وصرخت في أعماقي .. يا مخلف البنات، حامل الهم للممات .
-وكل ما تطلبه هداية وخالتي أمينة .
قلت معقباً فهبت الخالة أمينة قائلة :
-أنا لا أطلب شيئاً يا ابني .. لا أطلب شيئاً .. هداية ابنتكم .. خذوها بثوبها
وهمست هدهد برقة ممزوجة بخجل :
-وأنا لا أطلب شيئاً ....
اقتنعت بخطة افتخار واقتراح بشيرة، فوافقت . وأنا على يقين إن المال لا يتكلم فحسب بل يهدر ...
-لن نتأخر ..سنشتري ما يفيد وينفع، ونرجع بسرعة . حسمت افتخار الأمر . واستسلمت الخالة أمينة :
-وعند المساء سنزفها إليك بعون اللّه ..
-فكن مستعداً ...‍
ضحكت النسوة لمزحة افتخار . وركب الحياء هدهد .
( مثلما ركب عريفي إسماعيل -حين قال له مجيد مداعباً :
-أكيد أنك أكثرت من تقليب النورة عند العمل فتسبب بحرق الجلد .. وفاتني أن أخبرك .. نسيت واللّه .. إن كثرة تقليب العجينة أثناء العمل، أو عند وضعها على الجلد، تزيد حرارتها . ويشتد لهيبها .
-والحل ‍ بماذا تنصحني ؟
-ليس هناك من وصفة غير ما ذكرتها لك يا عريفي..
-نسيتها ..
-خذ قلماً وورقة وأكتبها، لأني لن أعيدها عليك ثانية ..
-أمرك .. تكلم بسرعة .. تكلم ..
-ياعريفي .. اكتب .. اكتب .... يؤخذ عدس مقشر ..
يسحق ناعماً ويداف به ماء ورد خالص . ويطلى به الموضع الذي أثرت فيه النورة .. هذا كل شيء .. أمض بسرعة، أعملها وتعال .... فلديّ أخبار جديدة مؤكدة عن فقيدة الفن وملكة الإغراء الأولى .
-صحيح .. باللّه عليك حدثني ...
-أهذا وقته ‍ رح الآن .. رح .
-أعطني رؤوس أقلام .. أرجوك ...
-ثبت يا عريفي، وبالدليل القاطع إنها اغتيلت على أيدي رجال المخابرات الأمريكية .. ولم تنتحر كما أشيع ...
-صحيح ...‍ حدثني بالمزيد .. من أين حصلت ..
-سأحدثك فيما بعد ... الآن اهتم بمصيبتك .. )
عدنا إلى البيت في حدود العاشرة ليلاً . فوجدنا مفاجأة مبهرة بانتظارنا . أذهلت أمي وأججت غضبها.
كانت أبواب البيت والغرف والدواليب مفتوحة على مصراعيها وحاجاتنا مبعثرة بصورة مخزية، وعبثية ‍ مما يدل على أن يداً خبيثة فتشت كل شيء وفي كل مكان .. وأن الزائر الذي استغل خروجنا كان مستعجلاً .. حزرت السبب فضحكت في سري ورثيت له لأنه خرج خائباً دون أن يجدما يبتغيه ‍
-ما الذي حصل ؟‍ ! من فعل هذا ؟! من ؟!
-لا تهتمي، زارنا زوج أختك المحترم، أو أحد كلابه بالتأكيد .
-ولماذا فعل هذا ؟ لماذا ؟
-ظن أنه سيجد أوراقه ... الغبي ... تصورني غبياً مثله لأخفيها هنا .. نسي أنني كاكا حمه .. توقعت هذه الزيارة منذ أخذت الملف ..فاته أنني أخذته معي إلى بيت عم مصطفى .. وبينما خرجت أمي تعلن ما حصل، رحت أعيد ترتيب كل شيء مستعرضاً أثناء ذلك أسماء الذين يحتمل أن يكلفهم السلماني أو الجمولي باقتحام بيتي لاستعادة الملف، وأفكر بطريقة الانتقام ....
جاء الرجال وعلى رأسهم المختار .... أبدوا دهشتهم واقتراحاتهم .
-سأقيم القرية واقعدها .. هذه سابقة خطيرة .
-لا حاجة يا مختار .. لا أريد مشاكل ... أعدك بأن هذا لن يتكرر -أعدك.




- 8 -
بعد ظهر اليوم الثاني، شعرت وأنا أغط في النوم بأن هناك من ينادي . في الوقت الذي تضرب جزمته قائمة السرير.
استيقظت فواجهني يحيى ساخراً :
-مساء الخير يا عريس
مساء الخير !! أتمزح ؟
-اسم اللّه عليك ... الساعة الآن الثانية والنصف ...
-هل ...
-نعم . ذهبنا وعدنا وأنت في نوم العافية . لم نشأ إزعاجك .
-وأين أمي ؟
-في بيت العروس . أوصتني بإيقاظك لتفطر .. العفو لتتغذى جلبنا لك كباب أربيل كي تتقوى .. ولتبدل لها هذه ... وضع على الفراش ثلاث علب كارتونية . فسألته :
-ما هذه ؟
-أقفال، أوصتني عمتي بشرائها للدولاب ولبابي غرفتها والدار .
-لماذا ؟
-لماذا ؟ !
-أرعبها حادث أمس وعزز مخاوفها .. أصبحتم أغنياء .. والمال السائب يعلم السرقة .. والحرامي سيعاود هجومه بالتأكيد .
-ابد لها أنت .. ولا تزعجني .
لم استمع لتخرصاته ومزاحه . تركت السرير ورحت أغير ملابسي واغتسل وآكل .. ثم أتلهى مع الدجاج . إذ أفرحني منظر الأقفاص المكتظة بها .
-لا تدري كم اتعبتني عمتي، غفر اللّه لها ! ما أن رأت أقفاص الدجاج في أربيل حتى طارت فرحاً ... اشترت ثلاثين دجاجة ! وحملتها أنا مضطراً .. وأجري على اللّه .
قال يحيى بتذمر ومضى .
جاءت أمي وبشيرة وبعدهما جلب سلطان ما أوصيته من الورود. مما أوجب عليّ زرعها وتنظيمها .. وأخيراً دخلت الحمام لأغتسل وأعطر جسدي المتورم، المتسمم وتلك الليلة ضجت القرية، بقرع الطبول ونقر الدفوف وعزف المزامير، ودبكات الرجال ورقص النسوة، وغناء الصبايا وفرح الأطفال . وتطايرت في الجو أسراب الزغاريد .
بقيت في البيت بانتظار مجيء الزفة، يتملكني الفرح وعذاب الضمير ، مترقباً أن تأتي هدهد في موكب مهيب . مصحوبة بأمها وخالاتها .
انتظرت حتى جزعت . وطال انتظاري وكدت أعود إلى الحديقة التي أخذت مني ثلاث ساعات بالتمام .. لولا الضيوف ...
( لا أدري كيف برز العريف مونرو أمامي فجأة كالحلم، انتصب بشاربيه وعينيه الكبيرتين ‍ اللتين لا مثيل لهما في معسكر الغزلاني، ولا في الموصل كلها .
جاء على غير العادة . فسد بقامته المديدة فتحة باب المهجع العريضة . فحجب أشعة شمس الظهيرة . المتسللة إلى أسرتنا . وحل محلها ظله العملاق، الممتد على طول الأرض الإسمنتية .
كنا عائدين تواً من ساحة التدريب . مستلقين على فرشنا، منهكين . نثرثر ونمزح . نستمع لقفشات مجيد ولنكاته، واصطياده البارع لسقطات الجنود، وأخطائهم وعثراتهم أثناء أداء التمارين، زلات ألسنتهم .
كان لسانه السليط، الطليق يروي دون جزع، حين بوغتنا به يتلجلج .. ويتوقف . لأن حركة عند الباب أوحت بدخول أحد ..‍‍!
رفعنا رؤوسنا لنتبين هويته، ونحن نتساءل من يأتينا في هذا الوقت ؟ وقت راحتنا ..
لم نميز العريف في البداية . ودفعنا التعب و الدموع -التي تملأ العيون بسبب سخرية مجيد -إلى الظن، بأنه شخص أخر . لكن سرعان ما تكشفت الحقيقة . إذا تقدم ببطء، وسبقه ظله مهرولاً ! تحرك على عجل فتسلق الجدار المقابل واعتلى جزءاً من السقف الواطئ .
اقترب الجسد الطويل، الخشن منا، فتوضحت ملامحه . رأيناه فخفقت قلوبنا، وانتفضنا دفعة واحدة . قفزنا إثر صرخة طويلة مدوية أطلقها مجيد :
-حضرة العر .. يـ ... ف .. إسمـ ... ا ... عيـ .. ل ..نهوض .
تساءلنا من جديد وبحرقة " ماذا جاء يفعل ... ؟ "
وقف في وسط المهجع كأسد بابل شامخاً، مهيباً .
ولأنه كان دوماً سيفاً مصلتاً على رقابنا، ارتعشت أطرافنا .
في البدء، راز مجيد بنظرة ماكرة، صارمة . بدا واثقاً أن هذا المكلف المشاكس، يسخر منه . وما صرخته إلاّ دليل ساطع . لكنه تحاشى الاصطدام معه، خشية من مكيدة أخرى ... يوقعه بها ... وما أكثر مكائده ... !
تطلع إلينا بعينيه الواسعتين فأرهبنا . حبسنا أنفاسنا بانتظار أن يعلن سبب قدومه . وكما تعودنا فهو أمر لا يسر بأي حال من الأحوال ...
وتحت دهشة الجميع احتواني بنظراته . أشعرني بأن لا يرى سواي في المهجع، فأرهبني . ولأنني أعرف فيه حمق الصلف والقساوة فزاد ارتعاش أطرافي .
وعلى غير توقع مد كفه العريضة، وبسط راحته باتجاهي . وأمرني بصوته الغليظ !
-احزم أمتعتك يا كاكاحمه، واتبعني .
لوهلة، خيل إليّ أنه أخطأ التشخيص . أهتز بدني هلعاً ثم جمدت في مكاني مذعوراً كمن يضبط بجرم ...
ولأني الجندي الوحيد "العاقل " بين الأربعين، لبثت صامتاً، ولم أسأله عما يعينه، وماذا يريد مني . وإن أمتلأت نفسي بالهواجس والظنون . وتطلعت العيون صوب العريف ليقول كلمة أخرى يصحح بها خطأه .
-ماذا فعل يا حضرة العريف المحترم ؟ كاكا حمه إنسان طيب وجندي مثالي ..!
تطوع مجيد للاستفسار نيابة عن الجميع . لم يجبه العريف . استدار عائداً من حيث أتى يتبعه ظله .

وراحت جزمته تدق بعنف على طبلتي أذنيّ، وليس على الأرض الإسمنتية!
وتفاقم ذعري حين همس مجيد مداعباً :
-جاءك الموت يا تارك الصلاة .
ومن آخر القاعة جاءني كلام مبهم وضحكة مريرة . وسمعت كلمات تخدش المشاعر والحياء !
-أنا خائف يا مجيد.
-هل ارتكبت شيئاً من وراء ظهري، ولم تخبرني به ؟
اعرفك، تتظاهر بالسذاجة لكنك من نسل إبليس ..
-لا .. واللّه ..
-خلاص .. صدقت ..إذن لا تخف .. توكل على اللّه وامض خلفه .. اجر قبل أن يعود ويعاقبك ابن الحرام .. بسبب التأخير ..
-تعال معي ...
-سآتي .. لأعرف السبب .. تشجع يا كاكا حمه .. تشجع
-تشجعت ...
ساعدني مجيد في لمّ " يطغى "، وحزم أمتعتي القليلة . وحملها معي .
-لماذا طلبني ؟ أنا بالذات !
سالته بخوف فحثني :
-راجع ما عملته منذ استيقاظك صباحاً حتى عودتنا إلى المهجع -صحيح أنني لم أفارقك لحظة ... لكن الشيطان مازال حياً يرزق ... ومن يدري فربما أظلمَ عينيّ فلم أره حين قادك إلى وكره .. راجع .. راجع عقلك ..
-سأراجع ... سأراجع ..
راجعت عقلي طوال الطريق إلى مكتب العريف، فلم أجد ما يستوجب غضبه مني . خاصة وهو يعرفني، يعرفني جيداً ولطالما نصحني بألا أساير " ابن الكلب مجيد هذا "
-أنا خائف يا مجيد ..
-لا أخفي عليك يا كاكا حمه . فأنا خائف مثلك . لست مرتاحاً من هذه الدعوة المفاجئة . وقلبي ينغزني لأن التاسع عشر من آب يوم نحس وشؤم . فيه أعدم الشاعر لوركا . أجبروه على حفر قبره ليدفنوه فيه ! فعلى ماذا سيجبرونك؟
-لا أدري ...
وصلنا المكتب . ألقينا حملنا، وكدت ألج فأوقفني مجيد. رتب قيافتي وأوصاني :
-لا تنسى التحية ... إياك .. يجب أن تؤديها لعريفك أبو الحق .. لقد حذرك .. لا تنسى ....
-لن أنسى .
وعندئذ دفعني، أدخلني عنوة . وبقي هو قرب أمتعتي واجهني العريف فارتبكت . لكني أديت التحية كما يجب ووفق تعاليم الانضباط العسكري . ثم وقفت بالاستعداد الكامل وحسب ما تقتضيه الأعراف قدمت اسمي ورتبتي ووحدتي . مما أفرح العريف فقال :
-أحسنت يا كاكا حمه .. لقد نجح مجيد في تعليمك .
-منذ شهر وأنا أتدرب عليها ... على إداء التحية العسكرية .
-عال ...عال ..والآن اسمع ... أنت جندي جيد، وأخلاقك حميدة .. لذا تقرر نقلك من المعسكر.
-وإلى أين سأذهب ؟
-إلى بيت العقيد رأفت، في قلب الموصل . اختارك لتكون مراسلاً له . سيأخذك السائق بعد قليل ... لقد زكيتك بنفسي . .
لم أتفوه بكلمة، فاجأني الخبر. لم أفرح كما اعتقد ولم أشكره كما أراد ..زاغ بصري في أرجاء الغرفة بحثاً عن صور معبودته ودهشت لأني لم أر شيئاً مما أخبرني به الجنود !
-إنها فرصتك .. فما رأيك ؟
انتبهت لسؤاله فصارحته :
-لست مرتاحاً وقلبي ينغزني و هذا يوم نحس وشؤم، فيه أعدم الشاعر لوركا ...
دهش العريف فوقف على قدميه مستفسراً :
-من هو هذا " اللوكا " ؟!
-لا أعرف ...
-لا تعرف !! هذا كلام أكبر من رأسك ... ألم أقل لك لا تساير ابن الكلب هذا .. هيّا اخرج ... سلم حاجاتك للمخزن وانتظر السيارة .. هيّا، قال لوكا قال استدرت لأخرج فذكرني :
-التحية .. أدِ التحية يا كاكا حمه !!
نسيت من جديد ! تبسمت له معتذراً وقلت :
-السلام عليكم ..
فإذا به يزعق كالمجنون :
-التحية !!أدّ التحية العسكرية وأخرج ..ليأتني مجيد فوراً ... أديتها على عجل وخوف، وخرجت ...
استقبلني مجيد . نقلت له رغبة العريف فزفر :
-ليذهب إلى الجحيم . إنه يريد سماع أخبار محبوبته الراحلة . بشرني أنت، طمئني، ماذا يريدون منك ؟ أخبرته فصاح عجباً :
-العقيد رأفت !! احذر يا كاكا حمه . فهذا حلو اللسان كافر القلب.. قائل ...
-وماذا سأفعل ؟ هل أرفض ؟
-لا .. اسمعني جيداً يا كاكاحمه، إنها حقاً فرصتك التأريخية كما قال أبو الحق العزيز ...
-لم افهم ..
-عريفي مونرو لم يخترك اعتباطاً . إنه يبعثك كرأس حربة . يريد أن ينتقم بك من العقيد . لا تستغرب، إنها قاعدة معروفة هنا ومثبته . فمن يختاره الضابط بنفسه كمراسل، فلا غبار عليه . أما اختيار العريف فألف علامة استفهام تثار حوله ....
ظل يمازحني بكلمات بذيئة، ويحثني على ارتكاب المنكر . وأنا أسلم للمخزن كل ما استلمته سابقاً، وبعد خروجنا، ولما وبخته أخذ يلح بخبث ويشرح لي . وتملصت منه بعد جهد .. ونحن نصل بوابة المعسكر حيث وجدت السيارة بانتظاري
-واللّه غليت قلبي . فلا تنس أن تطمئننا . ابعث لي أخبارك بين فترة وأخرى، بيد السائق ...
ودعني ...فصعدت دون كلام بجوار السائق .
الذي استقبلني بغيظ، معاتباً :
-السلام للّه يا حجي كاكا !
وحين لم أرد أسمعني كلاماً خشناً، لم أسكت عنه . أخرسته بحدة فازداد غيظاً وامتعاضاً .
-ما بك ؟ وجهك وجه إبليس ! ابتسم للدنيا يا حجي كاكا ... ابتسم .. واضحك لها تضحك لك .... أنت في الطريق إلى الجنة ... ذاهب أنت إلى بيت العقيد ... لا إلى غرفة الإعدام !! إنهم لم يختاروك عبثاً ... مبروك .. ستشبع " حلاوة " وتتخم " باللوز " .. مبروك لنا . سيتحسن نسل جيشنا المقدام !
أغضبني فحاولت ردعه . وبخني مدعياً المزاح ... ثم راح يغني أغنية فاحشة . وبقيت ساكناً، ساهماً .
عند باب البيت العامر أنزلني، وراح يسبني . لم يتح لي فرصة الانقضاض عليه، وتلقينه الدرس الذي يستحق .. انطلق بسيارته هارباً ..!
استقبلني عامل الحديقة ببرود . وهو جندي من الجنوب . ألتقيته في المعسكر مرات عديدة . وفي الموصل مرة، حين نزلت مع مجيد لشراء بعض الكتب ...
أخذ متاعي القليل وأدخلني إلى الصالون . حيث كانت " إلهام " تنتظر على أحر من الجمر ...
اختض بدني بشدة . ارتعشت ثم جمدت مذهولاً، مرتبكاً، وأنا أراها ! شابة في الخامسة والثلاثين . طويلة ممتلئة . وجه أسمر جميل وعينان براقتان، واسعتان تضجان بالكحلة وشفتان كحبتي الكرز !
بهرتني روعتها وأدهشني قميصها المزركش الملون !
وصدرها الصارخ . وتنورتها القصيرة، السوداء . التي تكشف عن ساقين ممتلئين .. رمقتني بنظرة متعالية فشعرت بالاضطراب . وكأنها قرأتني، فلانت . وكما فعل العريف مونرو فعلت هي . احتوتني بنظراتها الغريبة، الفاحشة، فنفذت في أحشائي .توغلت داخلي بعيداً، فأحرجتني . أشعرتني إنها لا ترى بشراً، ولم تر مثلي من قبل !
-ما اسمك ؟
-كاكا حمه سعد اللّه
-وعمرك ؟
-بعد شهر سأدخل في الخامسة والعشرين ...
ضحكت، قهقهت بصوت عال ... وراح ثدياها يتلاعبان في صدر مكشوف نصفه .
-بعد شهر !!
-نعم ...
-هل يخصك يوسف الصديق بقرابة ؟
لم أفهم قصدها فسكّت فواصلت ضحكها .
-سمعت أنك في مدرسة محو الأمية ! هل تعلمت القراءة والكتابة ؟
-قليلاً .. أعرف كل الأسماء والأرقام .
-جيد ..هذا يكفي لتصبح وزيراً ... لماذا لم تتعلم في طفولتك ...؟
-لا يوجد مدرسة في قريتنا ..
-ولِمَ ؟
-السلماني لا يقبل ..إنه الأغا منير .
-وأين تعلمت السباحة والركض والمصارعة والوثب العالي والعريض ؟ !
-في معسكر الغزلاني .. اختارني الملازم علي ودربني ..
-أعرف .. فزت بها كلها ... وكنت الأول في جميع الألعاب .. لكن لم اعتزلت ؟
لم أزل مبهوراً بما أراه . لم أجاملها حتى بابتسامة اعتقدت أن حديثها وحركاتها، لا يتناسبان مع وقارها كزوجة ضابط .
-اعتزلت !! هم الذين أبعدوني عن سباق الجمهورية .
قالوا : إن اسمي ...
-كفى ... كفى ..فهمت ..فهمت .. لا تدوخني .
قرأت ملفك جيداً .... أطلعت على كل التقارير المرفوعة عنك ... وكلها تشيد بأمانتك واخلاصك، وتفانيك في العمل ...فرضيت بك حالما عرضك عليّ رأفت .
فيجب أن تكون عند حسن الظن بك ....
خفّت بهرة الروعة وغدا الصدر المكشوف كحائط أملس، لا حياة فيه، بالنسبة إليّ .! وصممت أن أجعله أمراً عادياً كي لا أموت بذهولي . لكني تذكرت قول مجيد " انتظر سيصير العادي خارقاً ويصبح المألوف مدهشاً "
فاستعذت باللّه .
-إنه الكلام ذاته، الذي أسمعني إيّاه العريف إسماعيل .
-هو الذي رشحك لرأفت ..يبدو أنه يحبك ...
-إنه لا يحب أحداً ...
-إلاّ مارلين مونرو .. حدثني رأفت عن غرامه بها...
قل لي يا كاكا حمه : لماذا لا تؤدي التحية العسكرية ؟
-أحياناً ..أنسى رفع يدي ! أتصورهم إخوتي فأكتفي بلساني .. بالسلام فقط
-ولم خرس لسانك عند الدخول ... دخلت عليّ كالأبله، دونما تحية أو سلام ! أنا لا أحب ذلك ... فأرجو ألا تخرس أمامي ثانية ...
-هل أؤدي التحية العسكرية هنا ؟
-أنت لم تؤدها هناك... فكيف بك هنا ... ؟!
-هل أؤديها، فهميني ؟
-أمامي لا .. أمام رأفت نعم .
-ومن هو رأفت ؟
-عجيب أمرك ... إنه سيدّك العقيد !
صاحت بهزء . ورمقتني من جديد بنظرة زهو . وبرقت من عينيها إشارات تحذير ونذير . ثم نفخت نفساً كاوياً وأمرت :
-اذهب الآن إلى غرفتك .. إنها هناك في الحديقة . استرح بعض الوقت .. وسأناديك ..وأرجو ألا تتعبني . .
-هل أنام مع الآخر ؟
-لا ...هذا الجحش سيترك لك الغرفة ... ويعود إلى الثكنة .. طردته ..
...
استيقظت على أصوات الطبول والمزامير .
نهضت مستغرباً وسألت نفسي " ماذا يحدث ؟ وعلام هذه الضجة وهذا الصخب ؟"
حملت جسدي الذابل، المتسمم . وتفرجت عبر النافذة .
وإذا بزفة هائلة ! موكب عرس مثير، يخترق الشارع الرئيس ويتقدم نحو دارنا .
-ما الأمر ؟! ماذا يحدث ؟
تساءلت من جديد وعيناي تحدقان بذهول .
وزاد من استغرابي وذهولي، رؤية أمي وأختي ترقصان في المقدمة ! تملكني نوع خاص من الغضب !
إنها المرة الأولى التي أراهما ترقصان في حياتي . غضبت حقاً . وتأجج عنفوان حميتي وكرامتي .
وهمّمت بالخروج لتأديبهما لولا أن وقع بصري على هدهد مرتدية ثوب العرس .
(ودخل مجيد بجلباته الأبيض حاملاً كتاباً ومجلة .
وهتف : - مبروك .. مبروك يا كاكا حمه .. جئتك بخبر علمي يفيدك ...
فتح المجلة وشرع يقرأ :
-بعد سنوات مضنية من الجهد والمثابرة، تم اكتشاف الجين المسؤول عن الإصابة بمرض فقد الذاكرة ...
ضحكت على حالي، ولطمت جبهتي . ولبستني رغبة جامحة في الهجوم على هدهد ... غير أني أسرعت، أغسل وجهي وأسرح شعري .. ووقفت أمام المرآة استقرئ صورتي لثوان ... ثم انطلقت خارجاً لاستقبال عروسي .

 


- 9 -
أحسست وأنا أترك السرير قبل الفجر، بنشوة الاحتراق المقدس، وبنشاط وحيوية فائقين !
كانت هدهد تغط في النوم، متكورة على نفسها كطفلة صغيرة، ويدها تحت رأسها كأنها تحرس خرقة الدم . التي " تضطجع " بأمان تحت الوسادة، حتى مجيء الخالة أمينة لتأخذها . كي تمررها على عيون صديقاتها ومعارفها، متباهية بشرف ابنتها المصون !
قضينا ليلة رائعة . استمتعنا بحديث الأماني والتمنيات . ولم تنم هدهد إلاّ قبل ساعة فقط . بينما جفاني النوم وبقيت ساهراً . دون أن يغمض لي جفن ..
-هل أنت راضية، مستأنسة .
هكذا سألتها بالأمس ونحن ننفرد في غرفتنا بعد العشاء ...
-كل الرضا، وسأكون خادمة مطيعة .
-اسمعي يا هدهد، أنا لا أريد خادمة . أنا أريد طفلاً . تزوجتك من أجل ذلك .. فلا تخيبي ظني ...
-سأبذل جهدي، يابن عمي . وبفضلك ومعاونتك لن يعيقني شيء عن إسعادك، إن شاء اللّه ..
استرجعت حديثنا الأول ونزلت إلى المرآة بخفة .
حرصت على الهدوء والتصرف بما تبقى لي من عقل، كي لا أزعجها أو أثير مخاوفها . فهي كأي أعمى، نافذة البصيرة متحفزة الأعصاب، شديدة الانتباه لكل ما يجري حولها .
وقفت استطلع بالمرآة ماطرأ عليّ وأستبين بها ماجدّ وتغير، بين أمس واليوم . لاحظت ازدياد شحوب عينيّ وأصفرار وجهي ! بينما بدأ الورم الذي خلفه الثعبان، يخف ويتلاشى . فثارت ثائري، استدرت فواجهني الوجه الجميل .. اشتهيتها وكدت أجن ...
كانت عزائزي مثارة، ولم تكن بحاجة لمن يثيرها ... لكن ألماً خفيفاً في رأسي منعني من ايقاظها . وأقنعت نفسي بأن الأيام طويلة .. تكفي وتزيد .. ارتديت ملابسي وخرجت ... غادرت البيت دونما هدف !
وجدت نفسي أقف وسط ساحة القرية، بعد ثوان فقط . احترت ماذا أفعل ! وإلى أين أتوجه !
كنت ضجراً والسماء كانت ناصعة، تتلألأ نجومها وتبرق بشكل مثير . ملأت صدري هواء وتنفست بعمق.
سمعت نقيق الضفادع وهي تودع البشر، لتسبت .
فتذكرت أمي، اشتقت لها وترددت في الذهاب إلى بيت المخرف، حيث باتت أمس . تركت دارنا على الضد من رغبتي . وذهبت لتنام مع أختي بشيرة . لتتيح لنا أكبر قدر من الحرية، في ليلة عرسنا الأولى ..!
أنجزت أربعة أعمال مهمة منذ عودتي . وبقيت أمامي عشرة أوأكثر . وعليّ إنجازها قبل " الموعد " وقبل " انقضاء فترة الهدنة "
بالأمس، فكرت وأنا على الفراش وهدهد تمازحني، بالبئر ! وقررت البدء في حفره وسط الأرض الشرقية ... وذلك بعد تنظيف بئر المختار، في أرضه المحاذية لأرضي .. قررت ثم ارتأيت ضرورة تأجيل الحفر والتنظيف .. والشروع في تنفيذ وعدي لعم مصطفى .. واقتنعت أن الوقت مازال مبكراً على البئر .. ويجب الالتفات إلى ثور السلماني ...
فلقد تمادى في غيه كسيده تماماً . وآن الآوان لوضع حد لاستهتاره .
أدركت أن الواجب يدعوني أنا دون غيري لتأديبه، كما أدبت سيده. فكفى ما عمله من فضائح إلى حد الآن ... كفى اتجهت إلى حظيرة المختار، الخالية من الحيوانات منذ ما يقارب السنة . بعد بيع أغنامه السبعين دفعة واحدة، إثر خلافه مع موسى، الذي كان يتولى رعايتها ...
اضطررت وأنا أدخل على عجل للانحناء، كي لا يصطدم رأسي بسقف الباب الواطئ . لكني لم أتخلص من الروائح الكريهة . الروث وبقايا الخراف والرطوبة والهواء الفاسد ... ولم أجد مفراً من التقدم بحثاً عما جئت من أجله .
كان خم الدجاج فارغاً . وتناثرت الصحون والأواني الفخارية على مدار أرضه التي تحتل جزءاً صغيراً من الحظيرة لاتتجاوز العشرة أمتار . وعلى أعمدته الخشبية وقوائم المرابط نسجت العناكب بكثافة غريبة، شباكها الواهية، وكذلك فالزوايا والرفوف وظهر النافذة الصغيرة المغلقة، لم تنج من دنس الشيطان ..
تقدمت فبرز لي خيال " أحمد " فجأة ! تمثل أمامي بوجهه الضاحك .. ثم برقبته المدماة ... فزعت فبكيت .. بكيت بحرقة !
أحمد كان صديقي . ولدنا في أسبوع واحد ونشأنا معاً . هنا كنا نلعب، ننظف البقرات ونحلبها . نملأ السطول ونتسابق في حملها إلى المطبخ الواسع . حيث كانت أمه الراحلة وخالتي مريم قبل زواجها، تغليان الحليب وتصنعان الجبن و " الروبة " واللبن المصفى، والزبدة بصورة أفضل مما تنتجه الخالة أمينة .
بكيت أحمد، الذي غرّر به الشيطان، ووسوس له بأن يتجاسر، وينتهك شرف أبيه . ويلبسه ثوب العار طوال عمره . أحمد الذي ماتت أمه بسببه، ولفظ جده أنفاسه بعد شهر وهو يلهج باسمه .
تذكرت الجد العجوز " أبو لحية التيس " والنظارة الطبية البيضاء . التي داسها الجنود بأحذيتهم الثقيلة .
وتذكرت جدته التي ماتت قبل أسبوعين أو أكثر . وتراءت لي عصاها الخيرزان -الموروثة عن زوجها -وهي تنهال على ظهورنا بسبب أو بدونه، فتلسعنا ..
كان بيتنا القديم المهجور بسبب الجن لصق بيتها .
الأمر الذي ظل يغرينا -أنا وبشيرة -على التفنن بسرقة دجاجات العجوز التي ولعت بتربيتها . إضافة إلى الاستحواذ يومياً على حصتنا من البيض الكثير، والمتراكم .. كنا نبتكر من أجل البيض ما لايستوعبه العقل ... نبتكر خططاً جهنمية لنيلها ! نتسلل، نحفر، نتخفى، نخلع القفل والمزلاج، نكسر الباب، نزيل عيدان السور وخشبه، نعمل فتحة، أو نثقب الصفائح الجدارية ! . وأخيراً أهتدينا إلى حل إثر الحصار الشديد والمراقبة الصارمة ...
كنا نربط حبة " قمح " كبيرة أو " ذرة " بخيط وندليه من السطح .. وننتظر أن تتكرم علينا دجاجة غبية وتلتقطها. مما يسهل علينا سحبها إلى الأعلى ..نصعدها بسرعة عجيبة ونذبحها بعيداً عن عيني خجة اللامعتين .
كنت أحب الجد أكثر من العجوز، أخت جدتي .. وزاد حبي له حين لقنني درساً لن أنساه، به ختمت فصول السرقة . إذ لم أمد يدي بعد ذلك إلى شيء لايخصني .. مازلت أذكر كل شيء بالتفصيل ... فذات صباح ماطر، تسللت كعادتي لأخذ البيض. بعد أن تأكدت تماماً من سلامة موقفي .. فالكلب غداً صديقي ... يعرفني ويتشمّم رائحتي عن بعد، ويهز رأسه مرحباً بقدومي .. لا يمكن أن ينبح ويثير ضجة تتنبه إليها العجوز قبل الجميع .. كما أن هدأة الفجر والخيط الأسود، وسكينة الدجاج، كانت تساعدني إلى حد كبير، مع خفة الثعلب الماكر التي أتقنتها . تسللت بيقظة وحذر وملأت جيوبي، تماماً كما أفعل كل يوم . وهممّت بالخروج، فإذا بي أباغت بعصا الخيرزان تعترضني ! ثم ظهر الجد بملابس النوم وبشعره الأبيض الحاسر وبوجهه الصارم ....وبدا واضحاً أنه كان يراقبني منذ لحظة وصولي ... خفت أن يضربني أو يوبخني ... لكنه لم يفعل !
حتى أنه لم يسألني عما أفعل هنا وكيف دخلت، ومن أجاز لي الدخول . لم يبدر منه ما ينبئني معرفته بالسرقة ..!
بكل طيبة وذكاء ودون أن يجرح شعوري -وأنا ابن الاثني عشر ربيعاً -مازحني ليخفف من رهبتي ... ثم تعمد كسر البيض في جيوبي ! ففي غفلة مني لطم جيوبي الممتلئة براحة كفيه، بحركة سريعة قوية مباغتة .
ومضى دون كلام ! ابتعد عني ساخراً في أعماقه وتركني في موقف لا أحسد عليه . لقنني درساً بليغاً لن أنساه ما حييت . وأكمل أبي الدرس . حيث لقنني " فلقة خالدة " بسبب ملابسي الملوثة بالبيض . والتي لم أكن أملك غيرها
وأيقنت حين عرتني أمي ودثرتني ببطانية سوداء، وتطوعت بشيرة لغسل القماش القديم، الذي لم يجف بسبب البرد إلا بعد ثلاثة أيام، أيقنت أن الجد لم يتركني عبثاً .. بل " كلف أبي " ووكله بمهمة الحساب، دون أن يتدخل أو يفتح فاه ..
ترحمت على روحه وروح الجدة " أم شوارب السخلة " وعلى روح صديقي أحمد . ثم فتشت عن الحبال والمسامير والمطرقة الخشبية الكبيرة، أخذتها مع أربعة قضبان حديدية قصيرة . حملتها صوب شجرة الجوز الضخمة . الواقعة على يمين بيت السلماني ..
اخترت المكان المناسب . نظفت الأرض جيداً بحذائي وبيدي، وثبّت القضبان والمسامير، وجلست لأستريح فارتفعت في تلك اللحظة زقزقة العصافير وهي تكبر للإله . ومن ثم وهي تحوم بين الأغصان والحشائش .
هدني التعب وتقيأت . وعاودني الصداع فغفوت .
مرّ أحمد وأمه وجدته مع أختها وأبي وأخي رحيم، وهبة وخالد أمام عينيّ مروا يضحكون ويبكون في آن واحد ..!
عجبت . أردت سؤال الباكين عن سبب بكائهم، والضاحكين عما يضحكهم فلم أقدر . إذ نهضت على صوت هادر رن في أذنيّ :
-ماذا تفعل هنا ؟ ما بك ؟
فتحت عينيّ بصعوبة، فألفيت أمي تقف على رأسي هلعة مستلبة . قبل أن تنحني عليّ متسائلة :
-ما هذا ! لماذا جئت إلى هنا ؟ لماذا ؟
-صباح الخير يا خجة ..
-ما الذي حدث ؟ أتترك فراش العرس وتنام على الأرض !
-جئت لأعمل ...
-تعمل !! أتعمل في صبحية عرسك ؟ ما فعلها أحد قبلك ! أمجنون أنت ؟ هل جننت ؟
-لا يا أمي .. لا ....
-لماذا تركت البيت ؟ لماذا تركت عروسك وحدها ؟ إنها لم تتعرف بيتنا بعد ...
-تركتها نائمة .... فلا تخافي ....
-لم أصدق حين أخبرتني افتخار بأنها رأتك تغادر البيت .. أنهيت صلاتي وجئتك...
-هل حان وقت الصلاة ..؟
-ألم تسمع الآذان ؟
-لا .. لم انتبه ! وأنت ...
ضحكت قبل أن أنهي كلامي، قهقهت عالياً . وبدورها ابتسمت كأنها خمنت ما يضحكني :
-أنت لم تغادري البيت بسببي .. قولي : مالذي أخرجك في هذا الوقت ؟ كأنك لم تنامي ....
-مبروك عليك يا بني ... مبروك ...
تهربت من الإجابة .. وانحنت على رأسي وقبّلته . استويت جالساً وأخذت رأسها، قبّلته مراراً وقبّلت يديها . وداعبتها :
-المخرف أزعجك .. أليس كذلك ؟
ابتسمت بحياء واعترفت :
-لم يغمض لي جفن طوال الليل . لم يدعني أنام لحظة ... جن جنونه حين علم بوجودي ...
-ألم تتفقي مع بشيرة وافتخار بعدم إخباره !
-لم يخبره أحد ولكنه شم رائحتي، كما يقولون ! تعارك مع يحيى وضرب افتخار التي كانت تجري خلفه، تمسح قطرات بوله ..... شرب قنينتا حليب، وتعش ثلاث مرات !
-هل أسمعك رغبته السابقة ؟ وحبه العظيم !
ضحكت وهي تجرني من يدي .
-هيّا ... انهض .... يجب أن ترجع إلى البيت ....
-لم تركت بيتنا يا أمي ؟ ألم أسألك ألا تفعلي !
-هيّا .. تعال .. عروسك بانتظارك ...
-دعيني أعمل يا أمي .. واذهبي أنت .. خطيبك بانتظارك .. مازحتها فرددت:
-لعنة اللّه عليه .... تعال .... تعال ...
حاولت عبثاً إعادتي معها ... غير أنها اقتنعت بعدم جدوى محاولتها ... أقنعتها بعد جهد بالذهاب وحدها ... فذهبت وهي تعلن استغرابها، عميق دهشتها لتصرفاتي ... فأنا " عريس " لم تمر ساعات بعد على زواجي ...
بقيت أتابع عملي .... وكدت أنهي المرحلة الأولى لولا الحاج صالح زوج عمتي ... تناهى صوته عبر مكبر الصوت يقرأ دعاء الصباح . فأفسد خطتي .. وحتمَ تأجيلها .. أدركت أنهم سيزعجونني ...هو وبقية الرجال .... سيتتابع خروجهم .. سيأتون إليّ .. يسلّمون عليّ ويباركون زواجي ويمضون .. وربما سيستغربون وجودي هنا . ويعلنون دهشتهم .. كما فعلت أمي .... ولما كان الاختباء عن أعينهم شبه مستحيل .. فضلت العودة إلى البيت ... إذ لم أجد مبرراً لبقائي...
اضطررت للعودة دون تحقيق كامل العمل، الذي بدأته . وجدت أمي في المطبخ . تحاول إشعال النار في الموقد . لتهيئ لنفسها إبريق الشاي، ولنا فطور " الصبحية " الذي يفترض أن تجلبه الخالة أمينة ... لكننا ذكرناها برفضنا المسبق، لمعرفتنا " عسر الحال" عندهم ....
أبديت مساعدتي لأمي فأبت ذلك . دفعتني إلى غرفتي دفعاً .... هامسة في أذني بمحبة :
-مكانك هنا وليس في المبطخ .
أغلقت الباب وراءي بهدوء .. لم تشعر هدهد بدخولي كانت تسبح في أحلامها ... تستغرق في نومها بارتياح وهناء.... سألت اللّه وأنا أنزع ملابسي أن يديم علينا الهناء ... دسست جسدي في الفراش . التصقت بها فتنبهت . تقربت مني أكثر ومدت يديها . راحت تجس بأصابعها . تتلمس ببنانها أعضائي، كما فعلت أمس ! ولما اطمأنت إلى أن كل شيء في مكانه، احتضنتني بقوة .
-ماذا تفعلين ؟
-أتأكد من سلامتك ...
-لماذا ؟
-لأنني أسعى لأن أبصر من خلالك، ما عجزت عيناي عن إبصاره .. أريدك أن تكون سالماً معافى دوماً ....
-لم أفهم ...
-... .
-قولي ماذا تقصدين ؟
-رأيت حلماً غريباً ؟
-ياسائر .. يا اللّه .. إن شاء اللّه خير ... بماذا حلمت يا هدهد ؟
-سقط نابي الكبير العلوي ..!
-اسكتي اسكتي ... لا تعيدي الحلم ثانية .... ولا تقصيه على أحد آخر ... أياً كان ..
-أمرك .. ابن عمي .... أمرك ....
همست باستسلام .. والطفت يدي .. قبّلتها بحرارة .. والتصقت بجسدي كأنها تود الذوبان فيه !




- 10 -
تناولت الفطور مع أمي وهدهد، بحضور أمها وبشيرة وابنتها . وتغديت قرب المسجد حيث مدت السُفر داخله بمبادرة من الملا، الذي تطوع بإقامة وليمة كبرى للأهالي احتفاءاً بزواجي ...
حال وصولي توافد الرجال لمباركتي وتقديم التهاني .... لم يكن عددهم كبيراً .. لكن ما أن حل الظهر حتى جاءت القرية كلها ... جاؤوا قبل ساعة من الوقت المقرر للغداء ....!
اتسع المسجد بضيقه للرجال القادمين مع أبنائهم -ولدقائق راح يسمع لهم لغط مكبوت كدوي النحل، سرعان ما تعالى همساً وتصاعد لغواً وثرثرة حادين . وعندما تأخر " الأكل " بدأت علائم فقدان الصبر تطفو على الوجوه ! وكادت تتحول إلى شيء كريه وتنطلق من اللسان .
وحين جلبت الصواني ابتدأت المعركة . وشرعت الملاعق تضرب حافات الصحون، ومن ثم قعورها . وبدا رنينها الرتيب أشبه برنين السيوف الصدئة، وهي تصطدم بالدروع ... وطوال الوقت لم تتوقف طقطقة الفكوك وهي تمضغ الطعام، بشراهة وتلذذ . وكثر التلمظ ولعق الشفاه ومد الألسن، والتهمت الأطباق ولعقت الصحون والكاسات، ومن ثم سال اللعاب وارتفعت أصوات ارتشاف الشاي ...
لم احتمل ذلك . حاولت أن أصبر نفسي فعجزت . ولم أجد بداً من أخذ صحني والجلوس في الخارج ...
بعد الوليمة، وبمساعدة عمي حسن، أقام المختار حفلات ودبكات استمرت طوال اليوم ...
أبدي الجميع فرحتهم بزواجي . فبالإضافة إلى تهانيهم وتبريكاتهم، دعيت إلى حفلة أقامها يحيى، إلاّ أني لم أطق صبراً . لم أحتمل دعابات موسى السخيفة وكاد تنوري يفور بوجهه . فأمام جمع الأصدقاء المدعويين لاطفني :
-أرجو أن توافق يا كاكا حمه على زواج أمك من أبي ... وتسعى لإتمام الفرح . فأبي لا يطيق البقاء عازباً وخجة تسرح أمامه وتمرح ... بالأمس جاءته متحدية فألهبته نيراناً حامية ... ثق بأنه سيكتب لها كل أملاكه .
-قبل أن يفكر المخرف بالزواج، ليوقف إدراره أولاً .
أفهمته بلغة صريحة فخرس .
وطال الحديث وتشعب . ولم أرغب في البقاء أكثر ... اعتذرت بالذهاب إلى البيت ..
تسللت هارباً رغم مما نعتهم .
لا أدري كيف خطر بيت جدي المهجور ببالي . قصدته والأفكار تتضارب في رأسي .. أفكار جديدة مع أخرى قديمة !
تخيلت وأنا في الطريق، الرعب الذي ركبنا طوال سنين . حتى انتقلنا منه إلى بيتنا الجديد، تاركين كل شيء .. على حاله!
(( عند الباب رأيت جدتي تدب بساقيها، مستندة على عكازتها . وتنتصب قرب العتبة . لم تزل حدوة الحصان معلقة على الإطار الخشبي فوق الرأس مباشرة . خوفاً من العين الحسود وتجنباً للشرور ...
-يدبرها اللّه ..
همست بلازمتها المحببة، وهي تبتعد عن طريقي ...
سمعت طرقات عصاها على الأرض، حتى اختفت ))
أهتز رأسي، دار بحثاً عنها .. فلم أجد إلاّ طيفها يحلق في أعالي السموات ... كحمامة بريئة ..مسالمة !
تشجعت .. بسملت ودخلت .
أشعلت المصباح (( فبانت لي عمتي بتول، منكفئة على التخت تضحك . سلّمت عليها قلم ترد ! هرعت إلى الحمام .. ودخلت فجريت، أسرعت خلفها .. ووقفت أراقبها وهي تدلك قدمها بالحجر الأسود . ووجهها " بقرص السبتاج الأبيض ))
استفقت من غفوتي فاعتصرني الألم . ترحمت على روح جدتي وعمتي ... فمازالت ذكرى الأيام الماضية، راسخة بين جوانحي، منتعشة حتى اليوم .
دخلت الغرف وصعدت إلى السطح .. وحتى لا تبقى الخرافات تسيطر علينا ... كان عليّ التخلص من هذا البيت ... لذا قررت هدمه ... سأستفيد من أحجاره بالتأكيد .. سأبنيبها سور الأرض الشرقية .
قررت ووجب أن أحدد الوقت واتفق مع نصار ... واجهت سعدو عقب خروجي . صار أمامي وجهاً لوجه وهو يقود بغلته .. ويحمل أكياساً ملأى بحاجات متنوعة، توحي بأعباء كبيرة، وبمسؤوليات أكبر ....
أقبل نحوي متردداً، مقطباً . فانتحيت به جانباً .
قبّلني رغماً عنه وبارك لي زواجي وكاد يمضي بعيداً .
فأمسكت كتفه، فذعر . تطلع إليّ بعينين مدهوشتين، خائفتين . فسألته بلهفة ودون مقدمات :
-ابق معي ...
هالني ما شاهدت على وجهه من معالم الأسى والحزن العميقين فقلت موضحاً لأخفف من روعه :
-أريد مساعدتك ...
سكت لحظة ثم سألني ساهماً :
-بأي شيء ؟
لم أكن مستعداً للشرح والإطالة : اكتفيت بالقول :
-تعال وسترى.
-لا ... لا أستطيع .. عندي عمل مهم .... يمكنك تأجيل ....
أعلن رفضه القاطع، فأزعجني . سحبته بقوة فأختل توازنه وتكوم تحت قدمي وتناثرت أكياسه على طول الأرض .
اعترض بخبث . فتابعت غير عابئ بمعارضته . نزعت سرج البغلة . رميته بعيداً وصحت به :
-أنت الذي ستؤجل أعمالك ... تعال معي ... هيّا ... مددت يدي، أعاونه لينهض فاستفسر ملتاعاً ...
-إلى أين يا كاكا حمه ؟ ماذا تريد ؟
-سترى بأم عينيك ... فلا تخف ... قلت لك أريد مساعدتك ... فأبق .. احتاجك لتساعدني ... استغرب، وقال ساخطاً :
-أساعدك !! بماذا يا كاكا حمه ؟
-لا تستعجل .. اذهب الآن ... احضر لي خيطاً سميكاً ومخيطاً كبيراً ... ولا تنسى أن حريتك، حياتك بيدي . وسجنك رهن إشارتي ...
بهت . دارت عيناه دهشة .. وتكلم ونظره في نقطة غير محددة:
-ماذا ستفعل بهما ؟
سعدو الخبيث، المتهم بسرقة وكالة الآغا، والذي أنكر دين أبي كان وسيبقى أكثر أهل القرية موضع ريبتي وشكي ...
-اجلبهما لي بسرعة ... وسترى نفعهما .. هيّا اذهب وإياك أن تتأخر .. سأنتظرك عند شجرة الجوز .
ساعدته في لمّ حاجاته .. وتردد في الذهاب، فدفعته ... حدجني بنظرة ذعر ومضى ....
لا حقته بنظراتي، وأنا اتجه إلى الشجرة ... ورغم معرفتي بخبثه وإمكانية غدره إلا أني كنت واثقاً من عودته ..
تفحصت القضبان والمسامير المحكمة الإثبات . ولما داخلني الاطمئنان توجهت إلى بيت السلماني ...
غدا معروفاً للجميع ولع الشاب المستهتر حسان، في دفع ثورة البكر للتحرش ببقرات القرية، بحجة إخصابها . ولأنه بدأ يتحرش بعزيزة -بقرة سعدو المدللة -وانتقاماً لما فعله بعم مصطفى، وخشية أن يكرر فعلته بالبقرات الثلاث اللائي سأشتريهن له، فكرت بحسم الأمر .
أعجبتني شجاعة عم مصطفى، حين وقف بوجه حسان . صده بحزم وأهانه . تلاسن معه وكادت تنشب بينهما معركة حامية، لولا تدخل المختار .... فض النزاع حين أيقن عدم جدواه وبعدما أدرك أن عم مصطفى لم يتردد في خوضها دون خوف ... مما شجع حسان على الاستهتار أكثر، وزاد من غطرسته . فأخذ يرسل ثوره، يقوده إلى حيث ترعى البقرات، مما ولدّلهن جروحاً دامية، أثرت في مردود الحليب . وبالتالي ولّد لعم مصطفى خسارة يومية . لم يتخلص منها إلاّ ببيع مصدر رزقه اتقاء للشر وتفادياً للمواجهة المحتملة .. مع حسان ..
لم يشف غليلي ذلك الجرح البسيط، الذي أحدثته في رقبة السلماني . تمنيت معاودة الهجوم وحز رقبته بالكامل، قطعها .. ورميها للكلاب .. لن أنسى ما حييت ما فعله بي، إبان سلطته وعمالته لنظام العصابات التي نصبها الانكليز انتقاماً من شعبنا . بأمره تم حجزنا -أنا وأحمد وموسى -في كوخ صغير لمدة أسبوع بتهمة مساعدة الأنصار .
وكان قد غطى أرضيته بالماء بعمق متر. فتقززت رئتا أحمد . فأخذ يصرخ متألماً، يبكي ويتوسل، فأخرجوه وساوموه . فرضخ ووقع عهداً بالوفاء والإخلاص للسلماني، وتعهداً بخيانتنا . نفذه بعد شهر .. وكانت السبب في ذبحه ..
منذ يوم الاحتجاز نبعت فكرة الانتقام في صدري، وترسخت في ذهني ... واختمرت بمرور الوقت .. ورحت أترقب الفرصة المناسبة للتنفيذ ..وهاهي تتاح لي .. الآن ... أدبت السلماني أخذت حقي ... فجاء دور حسان ... لم يطمئن قلبي له بعد ...
مشيت بخفة وسرعة، إلى حظيرة السلماني . كان الوقت ظهراً وحمودة كالعادة يتواجد في هذا الوقت، مع حسان في الوكالة .
عبر البوابة المشبكة رأيت البكر، مربوطاً . يدور في مكانه بانتظار مجئ حسان . كي يصطحبه في الجولة اليومية المقررة، لغرض إشباع حاجاته الجنسية، وإطفاء شهوته المتأججة كالنيران، في موسم التزاوج هذا ...
تقدمت، رفعت مزلاج الباب . أبعدت الخشبتين الحاجزتين، واللتين كانتا تعيقان أية حركة يقوم بها الثور للخروج، فيما لو استطاع التخلص من قيوده .... قطعت الحبل بسكيني . وقدت البكر بهدوء . بدا مطاوعاً وكأنه اعتقد أنني سأفسحه بدل سيده ! وآخذه ليعتلي مؤخرات البقر ...
أصعدته إلى المكان المطلوب دون الالتفات لصيحات سعدو المرعوب وهو يقترب هلعاً، مهرولاً :
-ماذا تفعل يا كاكاحمه ؟! ماذا تفعل ؟
-تعال ساعدني من أجل عزيزة ... من أجل سلامتها ..
-لا.. لا قدرة لي ... لا أستطيع .
سلمني الخيط والمخيط . وانصرف مذعوراً، وكأني أريد ذبحه هو ..!
ضحكت منه وراقبته . يفر، يسرج بغلته، ويتوجه إلى بيته .
بهروبه توجب الإسراع . فمادمت وحيداً، فعليّ إضافة إلى الحذر، بذل أقصى مالديّ من قوة . فالبكر ليس سعدو أو السلماني . وخفت أن تخونني يداي . أو تبدر منه مقاومة عنيفة، يتولد عنها حركات تؤذيني، ولا أستطيع صدها أو تلافيها . أو يصدر عنه خوار غير متوقع ينبه الآخرين .
قربته من الشجرة . حشرت رأسه بين ساعدي، مسّدت رقبته . وانحنيت لأربط قوائمه .
لم يبد أية مقاومة، ولم تظهر منه ردود فعل مضادة .
إلاّ أن الصعوبة كمنت في طرحه أرضاً، ومن ثم ربطه بالحبال وشده في القضبان، والمسامير المثبتة منذ الصباح .
ربطته بإحكام، بعناء كبير .. وحسبتني نجحت وسيتم الأمر بسهولة ... لكن ما أن نغزت خصيته بالسكين حتى أطلق خواراً، لم أسمع مثله طوال حياتي ... حتى عند الذبح !
أرهبني الصوت مثلما أرهبني منظر الدم . انبثق بغزارة أكثر مما انبثق من رقبة السلماني، حين حززتها المنجل ... أخذ يتحرك، يحاول الانتفاض، الرفس، وأنا منهمك في استئصال فحولته، دون الاهتمام بمقاومته الضارية التي أسفرت عن انخلاع المسامير.
إذ انخلع المسمار الأول جراء حركته، وتلاه الثاني والثالث . ثم أفلت القضيب الأول ! دون أن أولي ذلك أي اعتبار. لكن ما أن تراءى لي القضيب الثاني يهتز، حتى خفت .
تملكني الخوف من نجاح البكر في الإفلات من قبضتي، قبل الانتهاء من عملي .
انغمست يداي في دمه الأحمر . وتلوثت ملابسي، وتعبت سال عرقي، تصبب على جبهتي بغزارة ...
-توقف .. توقف .. ماذا تعمل ؟
ضجت الصرخة المتوترة في أذني، فتلفتّ لمعرفة صاحبها .
لمحت حسان قادماً والسخط يغلي في شراينيه . لم أبال، تابعت عملي ... فقد كدت انتهي منه .. وبدأت في خياطة الجرح الذي أحدثته . على الرغم من كل الحركات المستميتة، والمقاومة الضارية التي أبداها الثور المدلل !
نفعني المخيط الحديدي والخيط الصوفي المبروم، فراحت أصابعي تعمل بسرعة ومهارة ....
-ماذا فعلت يا مجنون ؟ ! ماذا ؟
صاح حسان وهو يقف على بعد خطوات مني . مدهوشاً مرعوباً لرؤية دماء عزيزه البكر، الثائر المقيد .
-لماذا ؟ ما الذي حدث لعقلك ؟
صرخ مستغرباً . وعيناه تتقدان جمراً .
وخشية أن يباغتني بالهجوم . شهرت سكيني بوجهه:
-سأمزق صدرك ...
هددته وكدت أتقدم ناحيته، لولا فطنته . تجاهلني واتجه إلى البكر ! في محاولة ذكية لإمرار الحادثة بسلام . انحنى عليه ليفك رباطه، ويطلق سراحه .
-حذار .. حذار يا حسان ... لاتمد يدك ... إنه خطر ... خطر ...
زعق نصار من بعيد محذراً . وآكمل آمراً مهدداً حسان من ارتكاب الخطأ الجسيم . وهو تخليص الثور من الحبال، قبل اخماد مرجله .
مسحت يدي في التراب، ثم في ساق الشجرة . ونظفت السكين .. وغادرت المكان مبتهجاً .
اعترضني نصار في الطريق .وواجهني بعتابه :
-لماذا فعلت هذا يا كاكاحمه ؟ لماذا ؟
لم أرد عليه . مضيت قدماً إلى البيت . فصادفت جوقة الراقصين، المتناثرة . توزع أفرادها بين ذاهل واجم، وقف يترقب وصولي، وبين فضولي مرتاب، هرع إلى حين تمدد البكر مضرجاً بدماء خصيتيه . وبجواره وقف حسان هلعاً، محتاراً .
-هات الرماد .. الرماد ... اجلبه من التنور ...
...
جاءني صوت نصار الآمر. ومن ثم مر حمودة من جانبي مهرولاً ...
في اليوم الثالث من إقامتي، دعتني إلهام إلى المطبخ . أرسلت ابنها ميسر إلى غرفتي قبل المغرب .
-أمي تريدك .. بسرعة .
قال لي كالببغاء . وذهب ليلازم غرفته حتى الصباح .
حتى ذلك الوقت اقتصر عملي، على التسوق . شراء ما تحتاجه السيدة الفاضلة إلهام، من حاجات نسائية خاصة بها . أما حاجات البيت الضرورية فهي مهمة العقيد رأفت . إذ يبعثها يومياً بسيارة عسكرية قبل العاشرة صباحاً .
عبرت الصالة الجميلة، ثم ولجت المطبخ، فرأيتها!
فوجئت برؤيتها كعروس في ليلة زفافها ! أثار عجبي وجهها الملطخ ببهارج الألوان ! وشعرها المرتب، المزين بوردة حمراء ! وصدرها العاري !
صدر عريض مكشوف يتباهى بالثديين الصارخين !
وساقان عاريتان لامعتان ! وثوب " ململ " وردي خفيف، يكشف البقية الباقية من الجسد الرشيق، الملتهب .
-" اللّهم اجعلها بقرة "
تمتمت وأنا أتملاها بإعجاب، ودهشة .
-تعال .
نادتني بدلع فتقدمت . سحبت كرسياً كما أشارت عليّ، وجلست أمامها بقلب يخفق حياءً ...
تقابلنا وجهاً لوجه، فأزداد خفقان القلب ... وبدأت أعرق من شدة الخجل .
إنها المرة الأولى التي أجالس فيها أنثى، على هذه الشاكلة .. وأية امرأة ..!
لم يكن يفصلنا سوى شبر واحد، حيث سمعت زفير أنفاسها المتوتر . ولمحت بريق عينيها اللامعتين، اللتين أشعرتاني بالرهبة .
استغفرت ربي واستعذت من شر الشيطان الرجيم .
الذي حدست وجوده مستريحاً على رقبتي !
لدقائق بقينا صامتين ! راحت تتأملني في شبق ووقاحة، وتأملتها في حيرة ودهشة . وتساءلت في سري " ماذا تريد ؟ " .
وعلى حين غفلة لوت رجلاً على رجل . فبدا ما تحت الثوب ! فزعت، أحسست بالكراهية لها، والمقت والاحتقار، تجتاح كياني .
استعذت باللّه من جديد وأبعدت الشيطان عن رقبتي . وأزحت الكرسي قليلاً، وأدرت رأسي عنها حياءً وارتباكاً .
صحيح أن مجيداً كلمني عن مغامراته . وحدثني عن النساء العاريات، اللائي نام وسهر معهنّ . لكني لم أر واحدة .. من قبل .. لم .. واللّه ..
-ماذا بك ؟ لم أدرت وجهك ؟
قهقهت بعد سؤالها المستغرب .
التفتّ مضطراً وسرعان ما ضجرت من عينيها، اللتين راحتا تنزان شظايا الرغبة الجامحة . وتفاقم ضجري حين أنامت عنقها بغنج واضح على كفتها الأيمن وسألت :
-هل تجيد الطبخ والنفخ ؟
صمتّ، لم أدر بم أجيب ! إذ لم أعرف قصدها بالضبط . لم أجد أية علاقة بين الطبخ، وهذا الصدر المضطرب !
-طباختنا العجوز، تركت العمل عندنا .. اليوم ...
-وتريدين أن أحتل محلها ... أقوم بمهامها ؟
-بالضبط .. أعندك مانع ؟
-أنا لم أدخل مطبخاً من ...
أخرستني بإشارة من يدها وأكملت :
-لم تدخل مطبخاً من قبل .. ولا تعرف كيف يقلى البيض .. أعرف كل ذلك .. لا تهتم .. ستتعلم .. لا أحد خرج من بطن أمه طباخاً .. لا أحد ..
كانت عيناها الواسعتان مركزتين في عينيّ ، حين همست بعد ثوان، بشفتين حمراويين رقيقتين :
-سأعلمك يا كاكاحمه .. ستتعلم على يدي ..
-أتوافقون على أكل ما أطبخ ؟!
-توافقون !! من تقصد ؟ رأفت لا يأكل في البيت .
فهو لن يأتي إلاّ مساء الخميس ... ألا تعرف أنه يبيت في المعسكر ...
فغرت فمي دهشة .. فواصلت :
-لا يذهب عقلك بعيداً ... لا زوجة ثانية ولا عشيقة :
سكتت . حدقت بي باستهزاء . وتنهدت :
-أتفهم ما يعني عشيقة ؟
-لا ... لا أعرف ...
استوت جالسة فاستترت . فغرت فمها هي الأخرى مستغربة جهلي التام . وإذ تأكدت من صدقي عادت للقهقهة وبصوت عال! ثم استفسرت :
-ألا تعرف حقاً أم أنك تمزج ؟
اضطربت .. شعرت بالحرج وأكدت :
-قلت لك لا أعرف .. يعني ... لا أعرف ...
قهقهت من جديد، وراحت تنظر إليّ بنهم وشبق ... فتملكني الخجل والحياء قرأت في عينيها ما يدعو للحيرة والدهشة .
-ألم تقرأ ذلك في كتاب ؟! في مجلة ! في جريدة ؟!
-أخبرتك أني لم أعرف القراءة والكتابة إلاّ مؤخراً .
-ألم تشاهد ذلك في السينما، في التلفزيون ؟
-لا تلفزيون في قريتنا ولا سينما ..
-أمرك أعجب من العجيب، وأغرب ! قل لي : ألم تسمع بامرأة " فاسدة "؟
-أنت تسألين كثيراً ... قولي : ماذا تريدين ؟
-ماذا أريد !! لقد توسمت فيك خيراً يا كاكاحمه . ومع ذلك سأبقيك .. سأدعك تنضج كالتفاحة ... سكتّ استوعب كلامها . خيل إليّ إنها تستغفلني . تريد سبر معلوماتي . فلم أشأ إظهار غبائي ..
-تذكرت .. تذكرت " هبة " زوجة نصار . كانت فاسدة فذبحها .. رأيته بعيني .... لكنه أدعى بأنها هربت من القرية . لم تصدق . بان ذلك على ملامحها، وظهر على لسانها:
-عجيب !! متى حدث هذا ؟ متى ؟ هل رأيتها حقاً ؟ عاودني الاضطراب شعرت باستحالة شرح الأمر لها :
-نعم .. . والسلماني شهد أنه رآها تهرب ‍
-من هوالسلماني ؟
-إنه الآغامنير .. عميل السلطة .. كانت هبة تعاشره سراً ... لذلك ساوم نصار ..
-عال .. جداً عال .. قلت " تعاشره " . يعني زوجة نصار كانت " عشيقة " السلماني ....
-عشيقة ‍‍ ولكنهم قالوا عنها : "زانية " .
امتعضت .... لاح الاستياء على محياها وهي تعترض :
-لا ..هناك فرق شاسع يا كاكا حمه .. فرق شاسع ... العشيقة .. امرأة شريفة تحب رجلاً محترماً، وتقيم معه علاقة جنسية .. دون زواج ..
-بالحرام ‍ أعوذ باللّه ..
هتفت مستنكراً فاستطردت توضح :
-المهم أنهما متفاهمان ... ولا أحد يعرف سرهما ... لا أحد سوى اللّه .
-والشيطان .. لأنه دفعهما لعمل المنكر .
-وأنت، ألا عشيقة لك ؟
-أنا ‍!! استغفر اللّه .
أهتف بفزع فتضحك !
تقرقر حنجرتها بضحكة ماجنة . ويتراقص ثدياها خلف قميصها الوردي الشفاف.
أصمت يلفني الذهول. وبغته، تستفسر بخبث :
-ألم تقترب من امرأة، يلتحم جسدك بجسدها ... ؟
تقيم معها علاقة ؟
صعقت لوقاحتها فصحت متنرفزاً :
-أنا لست فاسداً ... وعندما أنهي العسكرية سأتزوج .
تزداد ضحكتها ! ويترقرق الدمع في عينيها .
تصفق بيديها ساخرة وتقول باستهتار :
-أنت " كاكاحمه " فعلاً ... بحق وحقيق ...
تصمت لحظة وتسأل، والضحكة البلهاء تملأ وجهها :
-اتنتظر حتى ذلك الوقت !
شعرت بأن الاضطراب بلغ عندي شأوا يمنعني عن التفكير، ومجارتها :
وقفت أهمّ بالانصراف، فاستوقفتني :
-إلى أين ؟
وسألتها بدوري وأنا أتحرك، ابتعد عنها قليلاً :
-ماذا سأطبخ اليوم ؟
لوت شفتيها بامتعاض . تنهدت بعمق، وطردتني بإشارة من سبابتها :
-لا تشغل بالك بالطبخ . عليّ أن أطبخك أنت أولاً يا شاطر ... "






- 11 -
للمرة الثالثة منذ استيقاظنا، لاحظت أصابع هدهد تنسل خفية وعلانية وتروح تجسني جساً ! تتفحص وجهي، خدي الأيمن ثم الأيسر، صدري وبطني و ... ! لم اهتم في المرتين السابقتين . لكنها أثارت فضولي في المرة الأخيرة . راقبتها بعجب . فقرأت الاستغراب على وجهها ! حاولت الاستفهام عما تنشده، فسبقني سؤالها .
طرحته بحياء كمن يكلم نفسه :
-يا إلهي، أتخدعني بناني ؟!
-ما بك ؟
-... .
لم يتسن لي مطالبتها بالتوضيح، إذ عادت تقول بذعر :
-رأيت الحلم من جديد!
-أي حلم ؟!
اصفر وجهها، انكمشت وتمتمت :
-سقط نابي الكبير العلوي !
اشتعلت غضباً، فالتقطت خصلة من شعرها، وسحبتها بقوة، أفهمتها :
-إذا زارك الحلم مرة ثالثة فلا تخبريني به .
-حاضر يا بن عمي ... حاضر .. لكن .. من هو أزرق برلين ؟
-أزرق برلين !! كيف عرفت ؟
-سمعتك تقول في المنام .. الفضل لأزرق برلين !
-صحيح ..الفضل له .. فهو صديق .. أنقذني من موت محتم .... لفت ذراعيها حول عنقي واحتضنتني . امتزجت روحي المعذبة بروحها، وذبنا في نشوة عارمة، قبل أن تتناهى إلى آذاننا زغرودة مدوية .... وأعقبتها هلاهل أمي الصادحة، المعبرة .
-جاءنا ضيوف...
همست في أذن هدهد ... التي أذهلتني، لم تأبه بكلامي فحسب، بل راحت تتحسس أعضائي من جديد، وكأنها تريد الاطمئنان على شيء ما !
وحين أعدت الهمس تنهدت بضجر :
-من يشرفنا في هذا الصباح ؟
تنصتّ فسمعت صوت أمي، وهي تحدث عمتي مليحة .
حدست أن وراء قدومها المبكر سبباً وجيهاً، غير مباركتها زواجي . تمنيت أن يكون الحاج صالح -العطار المؤذن-معها .
ففي رأسي فكرة تنفعه، وفي جعبتي حديث طويل يخصه .
بعكس ما كان أبي هادئاً مسالماً، كانت عمتي ثرثارة مشاكسة " تشتري المشاكل بالمال " ... معركتها الأخيرة مع الخالة رباب غدت حديث كل لسان، فبعد صداقة امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، اختلقتا في أشياء تافهة ... على إثرها شنت عمتي حملة شعواء ..نقلت افتخار لي بعضها ..
" لا يغرنكن وجهها الملطخ، انظرن إلى رقبتها المجعدة ... إنها ما تزال تنام عارية بحضن الملّا حتى لا يطلقها، كزوجته الأولى .
رباب لم تسمع ديك الفجر مرة ولا تعرف صلاة الصبح ... لم تؤدها مرة واحدة ..تظل نائمة للظهر ... ويضطر الملّا إلى تسخين الماء بنفسه والشطف قبيل الفجر حتى يذهب إلى المسجد .. "
-ارتدي ملابسك .
قلت لهدهد وأنا أترك السرير .
انذاك برز طيف عمتي الصغيرة " بتول" . تذكرت يوم زواجها وهو اليوم الأخير الذي وقعت عيوننا عليها .
كان أول خميس من آذار . وقبل زفافها إلى بيت المخرف .. عروسة جميلة ليوسف . الذي عمل المستحيل لنيلها، وإقناع أبي ...
كان الوقت ظهراً، حين دخلت الحمام ... في بيتنا القديم .. فتأخرت ساعتين ..مما أثار الشك والريبة في نفوسنا !
ناديناها .. طرقنا الباب فلم تجب ... فاضطررنا إلى كسر القفل، واقتحام الحمام .. فبوغتنا -أنا وأمي وعمتي مليحة وعمي حسن -بمنظر رهيب .. لا ينسى ! لم نجد إلاّ شعرها .. ضفائرها الصفراء الطويلة، مبتورة ملقاة على الأرض .. تحيطها بقع دم .. طازجة!
وبين الذهول والصخب والرهبة، استعاد الجميع ما روته أمي ق3232333334343435353636373738383939394040414142424 34344444545464647474830484849495050515152525353545 43031313030313131303031313130303131312222232324242 52526262727282829293030313131323233333434353536363 73738383939404041414242434344444545464647474848494 9505051515252535354543030313131.303031313131313131 3131ل31313131313131313
ين313131323232322222232324242525252626272728282929 30303131313232323333343435353636373738383939404041 41424243434444454546464747484849495050515151525253 325353545432tmapini v$ ¬a ù من يوسف ومحاولتها الهرب مع .. الحبيب "!
ساعدت هدهد في تهيئة حالها وترتيب نفسها، وخرجت لاستقبال عمتي مليحة .
رحبت بها وشكرتها على هديتها.
-ألم يأت الحاج صالح معك ؟
استغربت سؤالي فردت ضاحكة :
-إنه في جيبي !
وأضافت حين لم تلحظ على وجهي ابتسامة مجاملة :
-إذا أردته فأذهب إلى البيت .. فهو لم يخرج بعد ...
-سأذهب ..
-لا ليس الآن ... ابق كاكاحمه ... جئت من أجلك يا ابن أخي... ابق قليلاً .. أريد أن أحدثك ...
-بخصوص ؟
-إنهم يتحدثون عنك! ويقولون ..
من كلمات أبي التي لا تنسى، تذكرت جملته الشهيرة .
التي تعلقت بلسان أمي وظلت تكررها بمناسبة أو بدونها :
" إذا فُتِحَ فم مليحة فاستعيذوا باللّه " !
لذلك قاطعتها بمزاح :
-ليأخذوا راحتهم .. يا عمتي .. حرام إن نمنعهم... ليتحدثوا بما يشاؤون غادرت البيت، وفي داخلي عاصفة من الضحك . بسبب الحرج الذي أوقعت العدوتين فيه ... معاً، متعمداً ..
بعد حادثة " الخنزير والقط الأسود " التي حدثت قبل ولادتي، نشبت عداوة بغيضة بين المرأتين. تحولت إلى كراهية بمرور الوقت .. لم تكن أمي تحب عمتي، وبدورها عمتي لم تكن تطيق رؤيتنا جميعاً . خاصة بعد ملاسنتها مع بشيرة، إثر موقفها المتعنت ورفضها الشديد خطبتي لشذى .
رغم موافقة الفتاة والحاج صالح، دون شروط ... ما نعت وأصرت على تزويجها " لمن يملك مالاً " ... حين أخبرتني بشيرة بأنها تشاجرت معها، ذهبت لأستقصي الحقيقة فطردتني عمتي شر طردة -لم أغضب .. قلت لها " إن الله عزيز ذو انتقام " .. ومنذ تلك اللحظة انقطعت علاقتنا بها، وانقطع رزق شذى .. فلم يقدم أحد على خطبتها حتى يومنا هذا .. نكاية بعمتي الطامعة ... وخوفاً مني ...
واجهت الصبي نصار بن سعدو، يقود البقرة عزيزة .فابتهجت، امتلأ قلبي سعادة لأني وفرت لها الأمان .. " كاكا حمه عاد... عاد ...عاد " صرخت في أعماقي ومضيت إلى بيت عمتي وشعار الملازم علي :
" العصفور لازم يشق الريح " .. يدفعني لمواصلة العمل .
فرغم ما حصل لي، يجب أن أستعيد نشاطي . استرجع شبابي فإذا بقيت خاملاً، سأفقد لياقتي وأغادر الدنيا قبل الأوان .
وبالعمل وحده يمكنني تحقيق ذلك ...
وصلت الدار .. قبل دخولي درت حوله . تفقدت حالة البناء أمعنت النظر في موقع الدكان، الذي شغل مساحة ضيقة من الواجهة الأمامية، لا تتجاوز ثلاثة أمتار ...
تطلعت من خلف الساتر المعدني، المشبك، إلى الرفوف شبه الفارغة، وإلى الحاجات القليلة المبعثرة، هنا وهناك . فتحققت من ظنوني، مما زادني عزماً على تنفيذ فكرتي .. وإفراغ جعبتي من الأحاديث رسمت في الهواء وخططت على الأرض . وفي دماغي حفرت أسساً وأقمت أعمدة، ونصبت جدراناً، ومددت سقوفاً .وحين ضج " المكان " ولم يبق محل خالي، طرقت الباب .
استقبلتني شذى، ابنة العشرين، الجميلة، الرشيقة . مهنئة مباركة بلا رياء . عيناها العسليتان، وخصلات شعرها الذهبي المتدلية على جبهتها ذكرتني بأيام الحب .
رقص قلبي لذكرياتي معها . رقص فرحاً كأنه معلق على جناحي طائر .!
كانت تحمل بيدها عصا رفيعة، طويلة . أثارت فضولي :
-لمن هذه ؟
سألتها فضحكت :
-لا تخف .. ليست لك ... وإنما لفأر قذر، في المطبخ ..
-الفأر لا يقتل بعصا!... تنفعك المقشة .... والمصيدة تنفعك أكثر ...
-وأين أجدها ؟
-رأيت واحدة في حظيرة المختار ... يمكنك استعارتها.... حاولت الدخول فباغتتني بسؤال قاتل :
-لماذا وجهك أصفر يا كاكاحمه ؟
ابتسمت مراوغاً وداعبتها، تهرباً من الإحراج :
-عندما أراك يصفر وجهي !
-صحيح، هذا ما يحدث للشيطان . فما أن يرى أحد الملائكة حتى يصفر وجهه ...
ضحكت لردها السريع وأعجبت بذكائها .
أدخلتني إلى الصالة . وهناك وجدت الحاج صالح متربعاً، على فراش صوفي سميك، يتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم .
سلّمت فحنى رأسه مرحباً . وأشار إليّ لأجلس، ففعلت، واعتصمت بالصمت حتى انتهى ...
كان الحاج في الخمسين، قصير القامة، هادئاً إلى درجة عجيبة قياساً إلى عمتي . لحيته البيضاء المدورة ذكرتني بما سمعته من مجيد، حول الرجل الذي انخرط باكياً في المسجد، حالما اعتلى الشيخ القارئ المنبر . سألوه : علام تبكي ولم يبدأ المجلس بعد ؟! ولم يتفوه الشيخ بكلمة ! فأجاب بعينين دامعتين : تذكرت سخلتي المتوفاة .. لحية الشيخ تشبه لحيتها !
-أهلاً بك يا كاكاحمه ؟
لم يكن لدي وقت أضيعه، لذلك بادرته قائلاً :
-جئتك من أجل الدكان ؟
دهش، فرك ذقنه وسأل ببرود :
-أي دكان ؟
ظننته يسخر فأجبته بحدة :
-دكانك يا زوج عمتي .
ابتسم باستخفاف وعاد يسأل:
-وما به ؟ ألديك اقتراح بشأنه ؟
قبل أن احتد لحظت الاهتمام في عينيه، فأوضحت :
-نعم، يجب توسيعه .
-توسيع المحل !! هل تمزح ؟
-لا .. سنضيف الجانب الأيسر من البيت إليه، لتوسيعه وتنشيط حركته التجارية .
حدجني بنظرة طويلة، وابتسم من جديد . بدا مدهوشاً وكأنه هجس " سخريتي "
جلبت شذى القهوة . عادت تحمل صينية معدنية، مستطيلة . عليها دلة صغيرة مع ثلاثة فناجين .
جلست قربي . صبت لنا في حين راح الحاج يتطلع صوبي، متمنياً تصديقي . ثم راح يحتسي قهوته ... وأخيراً استفسر كمن يجس النبض، ويتيقن:
-عنّ تتكلم يا بني ؟ ألا تعرف وضعنا ؟!
-أعرف .. جئتك مشاركاً . سأبني لك محلاً جديداً .. تكتظ رفوفه بالبضائع، بكل ما تحتاجه القرية ... سأشاركك بثلاثمائة دينار، وأنت بجهدك . وحتى لا نختلف فيما بعد .. سأخبرك بشرطي .. سآخذ ربع الربح ولك الباقي..
نظر إليّ بدهشة أكبر . واستفسر من جديد، وهو يحتسي بقايا قهوته، أو بالأحرى يشرقها شرقاً :
-أتتكلم بجد ؟
-ما تعودت المزاح يا حاج ... ربع الربح ...
-إنها مكرمة منك ... مكرمة كبيرة ‍!
-إذن أنت موافق ؟
-بالطبع .. بالطبع ...
تدخلت شذى .. فشرحت لها فكرتي فلم يعترضا .
وشاركت شذى في النقاش. أبدت ملاحظات هامة، وأجرينا تعديلات مهمة .. واتفقنا ..
-إذن أفرغ المحل اليوم، وغداً ...سنبدأ بحفر أساسه مع أساس المسجد ...
-لكن الأرض الشرقية تأخذ كل وقتك .. !
قالت شذى بتهكم واضح، فسارعت لتفنيد ما تريد بثه :
-العمل في المحل لايستغرق أكثر من يوم واحد . وأنت لا دخل لك في الموضوع ... فلا تتدخلي...
بهتت، وضحك الحاج صالح . فواصلت حديثي :
-لا تنسى موعدنا ... غداً ...الآن سأذهب إلى الملا ..
-على بركة اللّه .. صحبتك السلامة يا بني ... صحبتك السلامة تركته يحلم ولا يصدق .. لحقت بي شذى ...
أوقفتني عند الباب وهمست :
-أتراك جاداً أم أنك تسخر منا ؟ تريد الانتقام من أمي بشخص أبي !
آلمتني ظنونها .. دفعتها وأنا أردد :
-استغفر اللّه... استغفر اللّه .. لم أفكر بهذا أبداً ...
-إذن علام تفعل بنا كل هذا ؟ !
-لم أفعل إلاّ الخير ... وإذا كنت تقصدين زواجي من هدهد فلا علاقة لك به ... لا علاقة .. الأمر بيننا انتهى منذ أن رفضتني عمتي ..
-رفضتك !! أنت لم تطلبني بلسانك . وأمك لم تأت كخاطبة بقدر ما جاءت ساخرة مهددة ..تريد فرض شروطها .. ثم ... إنها لم تعاود طلبها ....!
شعرت بألم ... بآلام حادة ... ومع ذلك تحاملت وقلت :
-أبعد ما قالته عمتي ! أمك هي التي فرضت شرو ...
لم أنه كلامي . سكتّ فسكتت أيضاً ... وهطلت دموعي فجأة تأثراً، وألماً . نتيجة وخزة حادة في رأسي.
-ما بك يا كاكا حمه ؟!
-...
-ألم تشف من مرضك ؟
-سأشفى بإذن اللّه . .. سأشفى .
-لم لا تراجع الطبيب من جديد ؟ الإرهاق يرتسم بوضوح تحت عينيك ... سمعت بأنك منذ عدت تذبل كل يوم ...تذوي ..يصفر وجهك ويشحب !
لم أدعها تكمل . حاولت إبعادها عن الموضوع . فقلت ما انزلق على لساني في تلك اللحظة دونما وعي :
-ما رأيك فيمن يعاونك بصيد الفئران ؟
فهمت القصد فتهربت بذكاء :
-أتقصد أبي ! إنه لا يهتم بالفأر حتى لو دخل محله ... وأمي تخاف من رؤيته ...
-موسى، كلمني عنك ...
دهشت .. رفعت رأسها تستبين حقيقة ما سمعت . فاستطردت بكذبتي :
-طلب مني أن أصارحك بحبه . وأخذ رأيك قبل فتح الموضوع مع أبويك...
أحمرّ وجها خجلاً، فغطته بكفيها . ثم لم تلبث أن فرّت من أمامي.
هرعت إلى الداخل ... مهرولة تعلن فرحتها وموافقتها وعندئذ أدركت والألم يعتريني ثانية، حجم ورطتي !
تورطت دون قصد ! لذا لم أذهب إلى الملّا كما نويت سابقاً . توجب البحث عن موسى لإقناعه بالزواج من ابنة عمتي !
بحثت خلف التل بأمل رؤيته مع أغنامه فلم أر له اثراً ! وتوجهت إلى المقهى فلم أجده ! ولم يعد أمامي إلاّ بيت المخرف، فقصدته دون تردد .
فتحت لي بشيرة . قالت والدمع يترقرق في عينيها :
-لم يأت عيسى بعد .
لم آت من أجله .. أريد موسى .
صحت بها، فارتبكت . مسحت دموعها وتمتمت :
-مازال نائماً.
-أيقظيه .. قولي له أن كاكا حمه يريدك ..
لم تتطفل بشيرة فتسأل عما أريده من موسى ولم يدهشها إلحاحي على إيقاظه وكذلك لم أسألها عن سبب دموعها .
رفضت دعوتها بالدخول، وانتظرت تحت العريشة .
وما هي إلاّ ثوان حتى ضجت مسامعي بصراخ المخرف :
-ماذا يريد ؟ ماذا جاء يفعل ؟ ليدخل ... أريد رؤيته ... اعتقدت أن بشيرة أخبرته بمجيئ . لكن حنان جاءت لتخبرني برغبته، أقسمت بلسان أمها :
-جدي .. شم رائحتك ..أمي لم تفتح فمها .
دخلت مرغماً، فوجدته يتمدد على الأريكة .
ما إن رآني حتى استوى جالساً . خزرني بعينيه المتقدتين وخاطبني بمقت وكراهية :
-ألم تسمع المثل " لا تكثر من زيارة بيت أمك وأبوك حتى لا يكرهوك " ؟
-لم أت لأكل .. فنم ولا تثرثر ..
-ما الذي فعلته أمس بالبكر ؟
-أتريد أن أفعل لك مثله ؟ اقتلع فحولتك ؟ انفعل فتحدث بغيظ :
-قلبت القرية رأساً على عقب ! ماالذي جرى لعقلك ؟
لا حديث للناس إلاّ عنك !
-الناس ! ألاتيعرف أنهم أهل بلاء، لايكفون عن الثرثرة ! مثلك تماماً ! ماذا سمعت وأنت لم تغادر حظيرتك ؟!
-اجلس لأخبرك ...
-لا وقت لديّ .. جئت من أجل موسى ... سأنتظره في الخارج .
-أتراك زعلت !
-لا أحد يزعل من المخرف ... لا أحد ..
ازداد انفعالاً وصرخ :
-يامجنون .. جلدك يحكك ... أتهينني في بيتي !
لم أسمع بقية شتائمه . اندفعت خارجاً نحو الحديقة فلحقتني افتخار .
-ما به عريس الغفلة ؟
استكرهت الرد عليها . التفتّ صوبها فأدهشني رؤية الحزن يقطر من عينيها المكحلتين، الشبيهتين بعيني الخالة رباب !
-المخرف، أبو بولة ..
-عيب يا كاكاحمه .. لا تظهر الشماتة لأخيك قد يعافيه اللّه ويبتليك ..
نهرتني مقاطعة فخرست .. لم أشأ ردعها ... فمازلت حزيناً لحزنها .. صحيح أنني آلمتها، قسوت عليها . وما كان أمامي حل آخر . تسببت في أذيتها رغماً عني، ولصالحها . فأنا أحبها ولا أريد لها أن تشقى وتتعذب مثلما أشقى وأتعذب فسأرزح تحت أثقال من الهموم، قبل أن أمضي خفيفاً مثل الحلم .
-كيف هي أيامك يا حبيبي ؟
-رائعة ..
-أتلبي هداية رغباتك الجامحة ؟
-استحي يا افتخار ... عيب عليك، أن تكلميني هكذا عيب أن تتحدث فتاة مثلك بهذه الأمور ... ضحكت .. وأثقلت عليّ العيار أكثر :
-ما دمت مرتاحاً لبنت مصطفى ومادام لهداية مَجَاسّ . فعسى اللّه يظللك بالسعادة .. وألف مبروك...
بدا جلياً أن افتخار لم تزل تعيش قهر إحباطها القاصم، إثر رفضي الزواج منها . وخشية أن تستمر حالتها، وتتفاقم أزمتها بمرور الأيام، سألتها :
-أتقبلين بنصار زوجاً لك ؟
فوجئت بتساؤلي الغريب، بعرضي المثير المباغت .وكما فعلت شذى فعلت هي . رفعت رأسها تسبتين صحة ما سمعته .
ساد سكون حذر. تخللته أنفاس منتظمة، هادئة بدت في حيرة قتالة، في حالة يصعب عليها حسم الموقف برأي قاطع .
نحفت افتخار ! وأنا الذي اعتقدت أن المرأة تسمن ما دامت في بيتها .. وربما ستنحف أكثر بسببي ... لذا يجب أن تتزوج، يجب .
-نصار !!
-نعم ...نصار رجل طيب .. فكري جيداً يا افتخار . فعمرك ما عاد يسمح بالانتظار أكثر .. وإذا كان قد ذبح بنت القرج، فالذبح أقل ما تستحقه العاهر . أرجو أن توافقي يا افتخار...
احمر وجهها فغطته بكفيها، ثم فرت من أمامي .. ومن جديد أدركت حجم ورطتي .. تورطت وتوجب عليّ أيضاً أن أكلم نصار... ! أتحدث معه وأقنعه، ليتزوج من أخت صهري .. ليتاح لي التخلص من ورطتي الثانية !
بعد ترقب لأكثر من ربع ساعة، أطل موسى كالغراب .
بدا غاضباً وهو يسألني :
-ماذا تريد ؟ ما الذي جاء بك في هذا الوقت ؟
تمعنت في وجهه الطويل، في حاجبيه المتصلين . وأجبته :
-جئت أشكرك على حفلة أمس . أشكر مساهمتك الكبيرة مع يحيى ...
ابتسم بخبث . رازني بعينيه الماكرتين وقال :
-أتظنني غبياً ؟ أنت قادم لسبب آخر . قله ولا تؤخرني ..
-أتتزوج شذى بنت عمتي ؟
فتح عينيه مذهولاً وسخر :
-أمجنون أنت ؟ !
-لأني عرضت عليك المساعدة ؟!
-شذى كانت خطيبتك ! وأنت ...
لم أدعه يكمل . قاطعته بإشارة من يدي موضحاً .
-لم تكن خطيبتي أبداً ... وأنا متزوج الآن ...
-وأنا لا أريدها . لم أفكر بالزواج بالمرة ... يكفيني ما بي ...
-شذى فتاة كاملة ... لاينقصها شيء ..
-خذها أنت .. تزوجها على هداية ... الشرع أجاز الزواج بأربع ...
دمدم وشاء التهرب بقوله :
-أتدري أنك أنقذتنا من مصيبة كبرى .
لاح على وجهي عدم الفهم فاستأنف :
-أرسل أبي على محمد بن سلطان، ليبيع بيت أربيل لأحد أصدقاء السلماني ! دون عملنا ! ! وكاد كل شيء يتم لولاك ... أخذت أوراق البيع منهم فأجهضت ..
لم يعجبني كلامه ... قاطعته بحدة .
-اسمع يا موسى، يجب أن تتزوج شذى بنت عمتي .
استاء فصاح متنرفزاً :
-يجب !! أنت مجنون حقاً ... واللّه العظيم مجنون ... أحسست برجفة الخوف من فشل مهمتي . لم أقبل بالهزيمة . تملكتني روح التحدي فهددته :
-لا تدعني ألطمك على رأسك .. سأمهلك أسبوعاً .. فكر بالأمر ...
اتسم رد فعله بالفزع، فصمت
أمسكت كتفه وحذرته :
-أسبوعاً واحداً ... تذكر ذلك ...
حاول الإفلات من قبضتي، لكنه عجز عن التحرك .
حدق في وجهي بعجب، وتساءل بنبرة لاتخلو من الضيق :
-كاكاحمه !! ماذابك ؟!
أطلقته ومضيت لمقابلة نصار .
في الطريق، أدركت سوء تصرفي . شعرت بالخطأ الذي ارتكبته وأوقعت نفسي في المشاكل دون تبصر .
تحدثت بألم وخطواتي تتسع !
(( -ما كان عليّ التدخل في شؤون الآخرين . فلم أقحمت حالي في موضوع لا يخصني ؟! لم دسست أنفي في مشاكل الآخرين ؟ وإذا ما تحتم تدخلي فالواجب يقتضي التصرف بعقل وحكمه، كي لا أسلك سلوك الأطفال )) .
كالعادة، وجدت المقهى تكتظ بالزبائن العاطلين، من الفلاحين والعمال الباحثين عن عمل . يلعبون الدومينو والنرد أوالقمار . يتسامرون، يدخنون بشراهة ويحتسون الشاي ويثرثرون ...
رأيت حمودة ينفرد بطاولة في الوسط . فقصدته متعمداً سلّمت وجلست قربه، فارتعب .
-كيف الحال يا حضرة الملازم عبد الحميد القندي ؟
بادرته ساخراً فارتعشت أطرافه .
في بداية الستينيات جاء عبد الحميد إلى قريتنا مدعياً أنه ضابط فار، وإن عينه أصيبت في الحرب . ثم اكتشف السلماني كذبته وضمه إلى بطانته، وزوجه من امرأة قريبة لنا . سرعان ما تركته وتزوجت آخر، أخذها بعيداً عن القرية .
-منجلك ليس معك يا كاكاحمه !
لهجته الساخرة المفاجئة حرضتني على قطع لسانه :
-وجدت أن هذه أفضل وأسرع في حز رقبة ثور، كرقبتك . وضعت السكين على المنضدة، فاضطرب . نهض بسرعة وغادر المقهى دون كلام !
لم أبق وحدي سوى دقيقة . إذ قدم محمد بن سلطان حاملاً البشرى .
عرض عليّ بعد جلوسه، أرواق الأرض الشرقية مصدقة، مختومة .
-كل شيء تم بصورة قانونية ... سجلتها بالسجل العقاري فألف مبروك ...
حاولت أن أدفع له ثمن الطوابع والمصاريف، فرفض مدعياً ..
-أعطاني المختار أكثر من اللازم . قال إنه سيأخذها منك .
-أتتزوج شذى بنت عمتي ؟
استغرب من سؤالي المباغت فتبسم وقال :
-أنا متزوج يا كاكا حمه . وقبل أيام صرت أباً . رزقت ببنت جميلة ... سميتها جوهرة ...
-مبروك يا محمد، مبروك .
ولدقائق، راح يحدثني عن أوضاعه ومشاكله مما حفزني على ابداء اقتراحي :
-لم لا تتاجر بالبسط والسجاد ؟
فاجأته، صفن مفكراً ثم طلب توضيحاً . ولم أبخل :
-قبل الحرب، كانت قريتنا مشهورة بالنسيج وبحياكة البسط والسجاد . وما تزال النول وخشبات الحياكة تجثم في الكثير من بيوتنا . يمكنك إعادة الحياة لها، بقليل من الجهد .. ستستفيد كثيراً . ويمكنني أن أمدك بمائة دينار كدين أو مشاركة . .. أمي تغزل الصوف وتبيعه فتربح ما يسد عوزها، زوجة عمي هاجر بدأت تغزل .. والكثير من نسائنا مستعدات للعمل .. إنه مشروع مربح ... فكر بالأمر .. تحمس للمشروع ووعد بدراسته . ثم شرب شايه ومضى .
بعد ذهابه ناديت على نصار، ليجلس قربي وحين فعل بادرته :
-يا نصار، لماذا لا تعود إلى مزاولة مهنة البناء فتربح كثيراً ؟
أدهشه سؤالي فضحك ورد -ولم أتعب نفسي في عمل مرهق والمقهى تكفيني !
-إذن دعني أتسبب في اسعادك بعدما تسببت في سجنك .
-لا أفهم !
-ألا تريد الزواج ؟ ألا ترغب في الاستقرار ؟
-ومن لايرغب في ذلك يا كاكاحمه ؟! حياتي غدت جحيماً .. احتاج لامرأة تعينني ..
-ألم تفكر بواحدة معينة ؟
-مافائدة التفكير، وتأريخي أسود كالح !
-لا ذنب لك يا نصار فيما حصل، لا ذنب . إنها إرادة اللّه . ثق باللّه، لو كانت عندي أخت ثانية لزوجتك إياها ..
-ألف شكر لك أيها الحبيب .. أنت نعم الأخ والصديق ..
ولن أنسى معروفك أبداً ... خلصت رقبتي من براثن الجمولي الكلب، وهو فضل كبير لن ينسى ... دين في رقبتي ..
-لا تتكلم بهذا الموضوع ثانية ... أخبرتك بألا تذكره ...
-... .
-ما رأيك بشذى، بنت عمتي ؟
-لا .. يا كاكا حمه .. إنها صغيرة بالنسبة إليّ ... وعمتك صعبة ... لا تحتملها أعصابي ... خانقة القط ! أعوذ باللّه منها ...
-ما رأيك إذن بافتخار بنت المخرف ؟
-لن أجد أفضل منها ..لكن إخوتها ..
-سأقنعهم إذا وافقت ..
-أوافق ..أوافق ...
تركت المقهى . أبقيته في دوامة السعادة، يحلم ويحلم .
توجهت لمقابلة ملا عطا اللّه في المسجد .
وجدته سابحاً في التمتمة وبحر العبادة . ولأني لم أكن طهوراً، انتظرت في الخارج دون أن أجسر على الدخول.
انتبه عمي لوجودي بعد قليل . فناداني لأدخل، فأبيت .
كرر النداء ثم فهم وحده ! تحامل على ذاته وجاء مستفسراً فأخبرته :
-أريد الملا .. لي حديث معه ...
-حاضر ..
هتف بمحبه ومضى . وعلى الأثر قدم الملا ...
لا طفني دون مقدمات :
-لم تدخل المسجد لأنك لم تزل خائفاً من سقوط السقف . أليس كذلك ؟
تمعنت في لحيته الحمراء التي يحرص على صبغها " للبركة " .
تيمناً بالأوصياء -بحنة يزد المهربة من إيران . تأتيه أكياسها عن طريق المهربين مرة كل شهر، مع احتياجات الخالة أرباب من علب " الماكياج " .

-نعم . خوفي كبير يا حضرة الملا . لذا قررت أن أبدأ بالهدم ابتداءً من الغد ..
دلت دهشته، وحركة عينيه على أنه لم يصدق ما سمع فاستطردت لأثبت ركائزي في دماغه :
-سنهدم هذا البناء القديم . ثم نشرع في حفر الأساس ونبدأ بتشييد المسجد الكبير ...
صفن، يستوعب المعنى ويتدبر الأمر . وردد بعد ذلك:
-بورك إيمانك .. بورك ... لكن الأمر ليس سهلاً كما تتصور يا بني .. نحتاج لمال كثير وجهد كبير ...
-لن يكلفنا أكثر مما نستطيع .. والجهد موجود .... الرجال على أهبة الاستعداد لمعاونتنا .. ولا أعتقد أن أحد يرفض المساهمة في البناء تطوعاً أو تبرعاً بالمال .... أنت تحثهم بعد صلاة الظهر، وسأفعل ذلك في المقهى .. وللعلم .. قررت المساهمة بالمال ... أيضاً ...
لم يقتنع بفكرتي، أخذ يرواغني .
-كيف سنبنيه ؟ على أية صورة ؟ لابد لنا من مخطط.. رسم هندسي كي نسير عليه ...
-سنبنيه على غرار مسجد في الموصل . ورسم البناء في ذاكرتي . حفظته لكثرة ما رأيته ..
رحت أشرح له وأرسم على الأرض، فتابع مراوغته :
-لنؤجل ذلك كاكاحمه ..إلى وقت آخر ... فأربعينية جدتك أم المختار ستحل بعد أسبوع .. ويمكننا رسم مخططك على الورق، ليتوضح أكثر للبنائين .... اقتنعت . ولم أشأ إحراجه .
قلت وأنا أودعه :
-سأنتظر إشارتك يا حضرة الملا .. لا تتكاسل .. فأرواح المسلمين بيديك
-أتدري من كان عندي هنا .. قبل قليل ؟
أدركت محاولته التهرب من موضوع بناء المسجد، فلم أجب . تابع ضاحكاً .
-سعدو، جاء يشكو زوجته . تسلطها عليه واحتقارها له . أدعى بأنك شجعتها على الخروج عن طاعته . فأخذت تصرف المال بسخاء، وتطاول لسانها بصورة غريبة .
-لقد أنقذت بيتها من الخراب .
-أصحيح أنه أراد الزواج سراً ؟
-صحيح ...
-كيف عرفت ... ؟
-إنه أمر اللّه القدير ...
 

-12 -
بعد يومين من دخولي المطبخ، عرفت موقعي بالضبط. كما عرفت ما يتطلب مني عمله، وما يستوجب عليّ القيام به يومان فقط وطار عقلي ! يومان رأيت فيهما العجيب والغريب ! وشهدت خلالهما نجوم الظهر !
حتى ذلك الوقت لم أنفرد بامرأة -طوال حياتي -مثلما انفردت بإلهام .. ولم أضجر من امرأة مثلما ضجرت منها! كانت عيناها الغجريتان تترصدني على مر الوقت. تستطلعان كل حركة أو التفاته تصدر عني ! ونظراتها لم تنفك تلاحقني بشغف ودلع . تحمل نشوة عارمة وسرور لا حدود له . وتظل كالسهام مسددة إلى خاصرتي ..
وحتى تلك اللحظات ما كنت أعرف، أن الشيطان امرأة ! وأية امرأة ! كنت عاجزا عن استيعاب أي شيء من حركات إلهام وألاعيبها ! عاجزاً عن فهم نياتها ومقاصدها ! لكن ما إن سمعتها تقول : -إن أوتار الكمان تبقى صامتة حتى تلامسها أصابع رقيقة مدربة .
حتى فهمت، إنها لم تكن امرأة بل شيطان -وفطنت إلى حقيقة إنها لم تأت بي لأصبح طباخاً .. بل أرادتني أن أتفرج على نهديها وأشم رائحة صدرها -تمهيداً لعمل المنكر...!
يومان وجننت ! وقررت الرحيل مهما كلفني ذلك من ثمن .
كنت استيقظ في السابعة صباحاً . فتدعوني لإعداد مائدة الفطور للطفلين " ميسر العاقل وصباح المشاكسة )) أبدأ بقلي البيض وعمل كأس حليب، محلى بملعقتي عسل لكل منهما . ثم أشرع في تقطيع قالب الجبن وتحضير صحن. " المخلمة" لها . وتهيئة إبريق الشاي مع الحليب، وتسخين خبزها الخاص ..
وعندما أتم عملي تجلس مع طفليها، ليلتهموا كل شيء . بينما أظل جاثماً وحدي في المطبخ، حسب رغبتها ! لأنها " لا تحب أن تغدو فرجة لأحد . يتسلى بمراقبتها أثناء الأكل "
وبعدما تنتهي من وجبتها، تناديني لأجالسها . أحدثها في الوقت الذي يختفي ميسر وأخته في غرفتهما، يتسليان بألعابهما الكثيرة، المتنوعة ...
أجلس أمامها، أو قربها . فترهبني بحدقتيها الحجريتين، وهما تحدقان فيّ بنهم وشبق . تحفزانني، تحثانني وتنقلان إليّ ظمأ صاحبتهما، كظمأ أرض قاحلة ‍ وعطشها، كعطش صحراء! وجوعها، كجوع ذئبة مراوغة، شرسة ‍ تجذبني بصدرها المكشوف نصفه ‍ وبثديها المطلين من فتحة قميص النوم الشفاف، بتحد صارخ ‍ وبوجهها المبهرج الألوان ‍
وبساقيها البيضاويين المكتنزين، المنفرجين بوقاحة ‍ وبحديثها الجسور، الصريح ... ‍
تأخذني الرهبة إلى حد الجنون . صحيح أن كل ما تفعله كانت دلائل واضحة، تفصح حقيقة ما تريده وترغب . لكني ولا أدري لِمَ؟ أبسبب الخوف الذي كان يركبني ؟ أم لتصوري الخاطئ، بأن تفعله إلهام أمامي، هو تصرف بريء، عفوي غير مقصود ‍ إضافة إلى غبائي المنقطع النظير وقتذاك، وقلة إدراكي لحقائق الأمور، ولعدم خبرتي في أخلاق النساء ومكائدهن، ولعدم إجادتي الخوض ببحرهن العميق، وبسبب تربيتي القروية المحافظة .. أبعدتني عنها، ومنعتني من القيام بأي عمل قبيح .. منكر ...
وستبقى ليلة اليوم السادس خالدة في ذاكرتي . لأن أثر الصفعة التي تلقيتها، لم تزل ساخنة وتدوي في أذني .. تنبئني بأن " ليس الغباء غير مستحب فحسب، بل إن صاحبه لا يستحق أن يسمى إنساناً "
مثلما بقيت كلمات مجيد الموبخة هذه، محفورة في صدري . منذ العصر صخب البيت بأحاديث الضيوف وضحكاتهم .
وضجت الحديقة بمرح الأطفال ولعبهم ..
بقيت أراقبهم من خلال خصاص نافذة غرفتي . حيث أمرتني إلهام بالبقاء فيها ((لا أغادرها حتى تناديني )) ‍ ولم تفعل إلاّ بعد خروج الجميع ... مما أكد لي إنها "تخمرني " ولا تحب أن تراني عين أحدهم .. الأمر الذي أشعرني بالغضب ... لم احتمل، صارحتها بهواجسي فأنكرت .. واتهمتني بالشك .. والظن اللامعقول .
ولكي تثبت لي " صفاء سريرتها ونقاء نيتها، ولأجل مراضاتي دعتني لتناول العشاء معهم، ومن ثم للبقاء في الصالة وحدي، أتفرج على التلفزيون بعد نوم الطفلين ...
انتظرت بجزع حتى عادت بثوب شفاف صارخ . لم يكن يستر جسدها بقدر ما يبرز مفاتنها بشكل مثير، ويفضح عورتها !
خفت منها، ارتعشت وخجلت . أحسست بالعار والفزع ونظراتها تسوطني بضراوة لا هوادة فيها !
مازحتني وأحضرت بنفسها صحناً من الموالح المتنوعة، وسلة فواكه . ثم فتحت قنينة بيرة مثلجة . أجبرتني على تجرع كأس كامل منها،على الرغم من اشمئزازي من الشراب المر، الذي خدعتني بقولها " إنه شراب الصحة والعافية، وهو خلاصة عصير الشعير الطازج "
وبين الجد والمزاح قادتني إلى غرفتها . بحجة معاونتها في إسدال الستائر المستعصية، ونصب " الكلّة " بسبب كثرة الناموس .
أمرتني بأن أسبقها في الدخول لأضيء المصباح . وهناك أظهرت سوء نيتها وخباثة أصلها . وما تنطوي نفسها عليه من شرور .. فعلى حين غرة إنهالت على شفتي وخدي لثماً ولحساً ... !
ولما لم تبد مني مقاومة أو رفضاً، تشجعت فتعرت! نزعت كامل ملابسها ... قطعة .... بعد أخرى ! وألقت نفسها عليّ ! وراحت تغمر وجهي، عيني، شفتي، رقبتي بقبلاتها المحمومة !
آنذاك تذكرت افتخار، ونزواتنا معاً . حين كنا نذوب .. بعيداً عن العيون ...بناء على رغباتها وأوامراها ... كنت أتمدد على الأرض أو استلقي وتنسل هي .. تنام أو تستلقي، تسحق نهدها على كتفي وتروح تغمر وجهي بقبلاتها النارية .. تلك كانت افتخار ‍ ‍ وكنت أخذ منها شيئاً على الحساب ‍ لكن من تكون هذه ؟‍!
لقد وعدت افتخار بالزواج .... تواعدنا .... وتعاهدنا .. لذلك كنا نتجرأ فنسبق الزمان ... نستلف قبلة ... ولا شيء آخر ... اعتقدت أن الأمر سينتهي مع إلهام إلى هذا الحد .....
لكنها لم تتوقف عن طيشها وتهورها ... فجننت ... ثارت براكيني .. لعنت الشيطان .. وقادتني غريزة عجيبة، استقيظت بداخلي فجأة إلى الجنون ! وازداد جنوني حين راحت تطالبني، تلّح عليّ بأن أتعرى ! أفعل مثلها -فرفضت وجدتني أمام إغراءات قوية، وتحت ضغط شهوات عارمة . فهتفت داخلي :
" يجب أن أرفض الخنوع والاستسلام . فهذا تدريب وامتحان لإرادتي وملكاتي ... يجب أن أخرج من هذا المأزق بإرادة قوية ونفسية صلبة . أسيطر على نفسي وأحافظ على شرفي أمام الشهوة الحيوانية، الجامحة ...."
تذكرت نبي اللّه يوسف الصديق .... وتراءى لي الملا عطا اللّه وهو يشرح قصته مع " زليخا " زوجة عزيز مصر .. " أغرمت بجماله وعشقته . استقر عشقه في قلبها ...
كان البيت خالياً من أي مزاحم . والأجواء مهيأة، لتنفيذ خطة الشيطان .. طلبت منه ممارسة الحرام ...أغلقت الأبواب حتى لا يهرب منها .. ونادته .. تعال فأنا مستعدة لك .. قال " معاذ اللّه . إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ..."...."
كان صوت أنفاسي يعكر صفو المكان ... وتوسلاتها ترن في أذنّي ... إلحاحها يفت في كبدي ...
" آه .. آه ... يا إلهي .. يا لقساوة الحياة ! يالمرارة العذاب ..! " هكذا صرخت في أعماقي .. وهي تسحبني .. إلى السرير ...
ر فضت بإصرار فسحبتني بشدة ... دفعتني فوقه . فوق الفراش، ورمت نفسها وكادت تفلح ... تتغلب عليّ .. ويفلح الشيطان معها .. ويتغلب هوالآخر عليّ .. لكني أفقت . .ويوسف الصديق يتراءى أمامي ... دفعتها بقوة ... ونفرت منها ... وابتعدت عن السرير ...
بصقت على عريها .. على جسدها العاري ولعنتها ...
فجنت .. وراحت تهذي ...
لعنتها ثانية ولعنت الشيطان .. فجنت أكثر ..! ووثبت نحوي .. كنمرة جريحة ...
حاولت صدها فصفعتني بشدة ...!
صفعة لئيمة مفاجئة ..... )


 


- 13 -
اسيقظت من نومي، على يد هدهد، لحظت عجبها فهدأت راقبتها وهي تتلمسني باهتمام، وعلائم الدهشة تبدو على وجنتيها بوضوح كبير.
-ابن عمي، أنت تتغير حقاً ! هذه المرة لم أخطئ .. رشقتني بمخاوفها فسألتها :
-بماذا يا هدهد ؟
-من خلا ثلاثة أيام تحسست ذبولك، وتيقنت من ذلك الآن .. قل لي بصراحة ... سكتت لحظة ثم غمغمت في ذاتها بخجل:
-بت أخاف عليك من ... ؟
أدركت قصدها، فضحكت، فضحكت، قهقهت عالياً حتى امتلأت أحداقي بالدموع . بينما لفها الذهول واحمر وجهها حياءً :
-ما الذي يضحكك ! إنني متأكدة بأنك لست على ما يرام. يشعرني قلبي وأحاسيسي بذلك ! أأكون السبب ؟
-أنا بخير يا هدهد .. الأمر طبيعي جداً يا حبيبتي .. كان جسمي متورماً من لدغة الثعبان ... والآن، كل شيء يعود لحجمه الأصلي .
-الحمد للّه ..
تنهدت بارتياح . شرعت ترتدي ملابسها .
بعد خروجنا، لم أتوقف على الضحك،مما أثار فضول أمي، فاستفهمت ونحن على مائدة الفطور :
-ما بك أراك سعيداً اليوم!
لم أقدر على مصارحتها، كما ظنت هدهد .
اعتقدت أنني سأكشف السر، لذا توسلت والحياء يصبغ خديها بحمرة قانية :
-كاكا حمه !! أرجوك .
واجهتني أمي بوجهها المستغرب، تنشد معرفة ما يدور . فاضطررت إلى ممازحتها، لأبعاد شكوكها، وتجنب الخوض في حديث لاتستسيغه هدهد ... وقد يحرجها.
-زوجتي حامل يا خجة !
بهتت هدهد ثم قرقرت حنجرتها بضحكة مكتومة
وشع الفرح في عينيّ أمي .. هتفت من فرحتها :
-حامل !! صلوات على النبي المصطفى ...
-لا تصدقيه يا عمتي ... لا تصدقيه ... إنه يمزح .. سارعت هدهد للتكذيب . وفطنت أمي لبساطتها . ضحكت من نفسها وسخرت :
-صحيح لم يمض أسبوع بعد !
واردفت تجاملنا :
-ستحملين بإذن اللّه .. ستحملين يا هداية ..
فرحت هدهد وتمتمت شاكرة .
وبعد حين بوغتنا بها تخاطب أمي متوسلة :
-يا عمتي، انتهى دلال العرس . الأيام الثلاثة الأولى مرت بخير، والحمد اللّه . أنا فرحة حقاً ومسرورة، وسيزداد فرحي وسروري لوتتفضلين بإعطائي حق العمل، وتعريفي بواجباتي البيتية .
ابتهجت، كما ابتهجت أمي . أشارت إليّ خفية بعميق محبتها لهدهد . وتقديرها لهذا العرض الحلو .
لكنها أعلنت رفضها القاطع :
-ابق في غرفتك يا هداية ... أنت زوجة ابني، وسأضعك في عيني وقلبي
ابتسمت هدهد واحتجت :
-وأنت عمتي وأمي، وواجبي أن أخدمك .. ألف شكر لك يا عمتي ..ألف شكر.. أنت تعرفين أن أمي لم تدللني كما تفعلين الآن . وكنت أعمل كل شيء في بيتنا .. لذلك سأكمل مشواري هنا ... معك ... حتى لا أكون عالة ..تنبل .. كالبهيمة ..همها علفها . .. " أكل ومرعى بلا صنعة "
أعجبني كلامها . وضحكت أمي فرحة . التفتت تستشيرني بعينيها ؟ وحين لم تلحظ مني رد فعل، سارعت تأخذ رأيي
-ماذا تقول ؟ زوجتك يا كاكاحمه تريد أن تعمل في شهر عسلها !
(( قبل انتقال خجة من بيت أبيها إلى دار جدي القديم . كعروس لوكيل الآغا السلماني، المحترم سعد اللّه . لم يكن أحد من السكان يعتقد بأنه يضم بين جنباته أسرة خبيثة من الجن ...
كل شيء كان طبيعياً حتى وصلت العروس خجة، فثارت الزوابع وتأججت النيران . ففي ليلة الدخلة وعلى غير العادة، وبينما كانت الزغاريد تدوي في الأرجاء، والأغاني تصدح في الفضاء، ضج الدار بصراخ رهيب !
فأخرست الأفواه وخففت القلوب وعم الصمت للحظات .
ثم تراكض الجميع مذعورين إلى غرفة العروسين، حيث كانت تنتظرهم مفاجأة مدهشة .
صعقوا برؤية سعد اللّه العريس واقفاً كالصنم، بملابسه الداخلية . في حين تكورت خجة على نفسها، تحت الشرشف الأبيض، تهتز كسعفة في مهب الريح، باكية مولولة، تتوسل إلى القادمين ليبعدوا " الخنزير " عن وجهها، يخرجوه من الغرفة حالاً! وما أن استجابوا لطلبها وأخرجوا العريس المذهول، حتى هدأت واستكانت . وبدل أن تشرح لهم وتوضح سبب تصرفها الغريب، طالبتهم بالخروج أيضاً . وحين فعلوا أحكمت إغلاق باب غرفتها . ورفضت ليوم كامل إدخال أحد، خاصة العريس ! مما دفع أمها -بعد فشل محاولات إقناعها إلى التسلل من الشباك لفهم حقيقة ما يجري ... وتسلل بعدها أهل الدار ... وراحوا يستدرجون العروس لتحكي لهم عما رأته، وتخبرهم عن الدافع الرئيسي " لجنونها " . فادعت وهي بين الدهشة وعدم التصديق " إن سعد اللّه يتمثل لها -حين يقترب منها -كخنزير متوحش ! برأسه وجسده "
سخر منها بعضهم وكذبها البعض الآخر ... ولكي تقنعهم أقسمت أمام عيونهم المستغربة، بالقرآن على صحة ما تقول ...
وعندئذ قرقرت بطونهم من شدة الخوف،ولم يجدوا أبداً من استدعاء الأمام عبد اللّه -والد الملّا عطا الله -ليحل لهم هذا اللغز المحير، والمثير . وكان الرجل معروفاً بقدرته على فك طلاسم السحر وعمل الحجاب والتمائم، وتحضير الأوراح .
وجاء الإمام مصحوباً بالصلوات ونقرات الدفوف، وعزف الزرنايات .. وجلس مع خجة على انفراد لوقت طويل سمع نحيبها واستمع لقصتها . وأعلن دون تردد اقتناعه بها..فطمأنها وهدأ روعها .. وخرج بعد ذلك باشاً فرحاً، يعمل بين جوانحه الحل الحاسم . واجتمع بأهل العريس فقط . أطلعهم على مجريات الحادث .
قال لهم بعد تبصرّ وتفكر : " بالتأكيد، إن الجن وراء ما حصل . وأجزم أنهم غاضبون على العريس لسبب ما . ويجب معرفته بسرعة، وإجراء المصالحة ... ولأجل ذلك، ولفك عقدة المشكلة يجب إقامة وليمة غداء، فاخرة .. لهم "
فاجأهم بطلبه ... لكنهم لم يمانعوا .... وأجبرهم الخوف على سمعتهم الموافقة على كل ما حدده عبد اللّه من أصناف . ونفذوا ما أشار عليهم وطبخوا عدة أنواع من الطعام، وإن كانت غالية الثمن ... وبناء على طلبه وتوجيهاته وضعوها في السرداب، وصعدوا .. اختفوا في غرفهم كيلا يسمعوا " حديثه مع الجن " ‍ ومن خلال زجاج نوافذهم لاحظوه يشمر عن ساعديه وينزل وحده ليتفاهم مع " السادة الجن الكرام " وذلك بعد أن قرأ أدعية خاصة وتوكل على الرحمن ...‌‍!
بعد دقائق من نزوله تعالت صرخات حادة، أعقبتها أصوات مختلفة، مختلطة ببعضها، ثم صيحات غاضبة، مستهجنة .. وأخيراً ضحكات ماجنة .. فرحة .. ثم هدأ كل شيء هدوء الأموات !
وساد صمت القبور لأكثر من ساعة . لم تسكن القلوب خلالها عن الخفقان لحظة واحدة . وتوقعوا حدوث المكروه . وحين كاد اليأس يدب في أعماقهم تراءى لهم شبح عبد اللّه الإمام يخرج من السرادب ! رأوه ملطخ الوجه بألوان عديدة، وعلى شفتيه ابتسامة واسعة ! .. وأذهلهم أنه وقف وسط الدار ضاحكاً بشوشاً أسرعوا ناحيته يسألون ويستفسرون عما جرى له .. فقال لهم وهو يمسّد شاربيه ويتجشأ :
-اطمئنوا ..انتهى كل شيء بسبب فصاحتي وموهبتي، وبفضل اللّه القدير .. لقد صحت توقعاتي .. فالسادة الكرام كانوا وراء ذلك ... لكني أقنعتهم بعد جهد .. سعد اللّه اعتدى على أحدهم يوم أمس دون مبرر .. فغضبوا عليه، حولوه بعين زوجته فقط -على هيئة خنزير .. بشع ... استغرب الجميع، وكان العريس أشدهم استغراباً . أقسم أن ذلك لم يحدث أبداً . وإذا حدث حقاً فهو دون دراية، وليس مقصوداً .. أصر على كلامه ورفض حجج الإمام وطلبه الصفح والغفران .
وحين استجوبوه جبراً، طالبوه بأن يسترجع أحداث الأمس ويتذكر ما اقترفته يده .. وبعد جهد، اعترف مرغماً بأنه رفس " القط الأسود " الذي حاول التهام دجاجة صغيرة .... فاستبشر الجميع لأن عبد اللّه الإمام أصر على أن القط الأسود هو الجن ذاته ......!
وبعد أن قدم سعد اللّه العريس اعتذاره وأعلن ندمه قال له الإمام " -هيّا توكل على اللّه وادخل الآن على عروسك .
وقل بسم اللّه الرحمن الرحيم ... وأنتم لا تنسوا الحنة .. لطخوا باب الدار والغرفة وأطراف أصابعكم العشرة .. وانصاع العريس فرحاً واستجابت خجة . وكنت أنا ( كاكاحمه ) ثمرة اللقاء ... !
وبعد دخول سعد اللّه العريس على عروسه، وخروج عبد اللّه الإمام من الدار محاطاً بآيات التعظيم والثناء، ترافقه نداءات التكبير والصلوات، نزلت عمتي مليحة وجدي مع بعض الرجال إلى السرداب . فوجدوا الأكل الذي عملوه قد طار!
والصحون التي أنزلوها ممتلئة، خالية نظيفة ! آنذاك صدقوا بكل ما حدث وتحققوا من ادعاء أمي وآمنوا بمعجزات الإمام .. وبعد أن تأكدوا من أن الجن يسكن معهم في الغرف وينام معهم في الفرش، أخذوا يتصرفون برهبة وخشوع
وبمرور الأيام اختلفت أمي مع عمتي مليحة ... وتحركت غرائز الانتقام فأشاعت العمة " خجة كاذبة، كانت تحب شخصاً آخر ... فتذرعت بحجة واهية ... وعبد اللّه محتال خبيث كان مطلعاً على قصة حبها .. لذا هددها بالتشهير والفضيحة .. ودبر حيلة الجن ليبعد شكوكنا، وليلتهم الطعام الذي يحبه ... حيث وجد الفرصة المناسبة لسد شهيته المفتوحة دوماً، وليشبع من زادنا إلى حد التخمة ... " ولكي تثبت عمتي صحة ما تقول، وتؤكد مؤامرة خجة والإمام خنقت القط الأسود في صباح اليوم التالي، أمام أعين الجميع !
وتخوف الناس مما حدث وتوقعوا الشر . ولم يمض وقت طويل حتى اختفت عمتي الصغيرة بتول .... خربطوا بين الحادثتين .. وكانت فرصة خجة الذهبية . فلم تدعها تفوت . استغلتها لتنفث سمها وتشفي غليلها . فدارت على أغلب بيوت القرية، وهمست في آذان صاحباتها المقربات " بتول كانت على علاقة مع شخص آخر غير يوسف، وهربت معه " .. وأشاع آخرون بأن الحلاق حسن ذبح أخته بتول ودفنها بمساعدة أبي . وذلك لسوء سمعتها ! .. وعلى الفور اتهمت أمي بتسريب الإشاعة ... ولكي تستر مليحة على نفسها وحتى لا تنتشر الفضيحة، عادت لتشهر راية الاستسلام البيضاء أمام أمي .
وتعلن تأكيدها على وجود الجن ....! ))
-لتعمل يا أمي، لتعمل . أنت عملت في بيت جدي منذ اليوم الثالث ...
-كنت مضطرة .. مجبرة .. لكن من ذا الذي يجبر الحبيبة هداية ؟
-لا يا أمي، جلبت هدهد لتعاونك ... فلا تكسري خاطرها ستعلمينها الغزل .. ومنذ الغد سأوصى موسى بزيادة كمية الصوف التي يجلبها لك ... أريد لزوجتي أن تكون امرأة منتجة، لتغدو قدوة لكل نساء القرية ... أشرقت ملامح هدهد، تورد وجهها . فجذبت يدي اليمني وراحت تقبّلها بامتنان .
وأفادت بلهجة ظافرة وبمزيد من الغبطة .
-شكراً لك يا بن عمي .. شكراً .. أنا سعيدة جداً .
-كما ترغبان...
رضخت أمي بطيبة .. أعلنت موافقتها ..
تركتهما تتفقان على توزيع المهام، وخرجت لأبدأ العمل بتنظيف بئر المختار.






- 14 -
(( حتى التاسعة صباحاً بقيت ممدداً في فراشي . لم أبال بصياح الصغيرين وتوسلاتهما . ولم أمتثل أوامر إلهام . ولم أفتح لها الباب رغم طرقاتها الصاخبة، وضجيجها المفتعل .
وعندما عجزت عادت إلى الصالة، تسب وتشتم . وعندئذ قررت ترك البيت . فلملمت حاجاتي وارتديت ملابسي العسكرية . وانتظرت وصول السيارة، لأعود إلى معسكر الغزلاني ..
وحين جاء السائق في موعده المحدد، جالباً احتياجات البيت اليومية أسرعت وركبت إلى جواره .
-إلى أين ؟!
استفسرت إلهام بعجب، وهي تطل من باب الحديقة فلم أجب . حتى أني لم أرما في عينيها من غضب، إذ لم ألتفت إليها .
خفت أن تأمر السائق بإنزالي، أو تلفق تهمة تستر بها فضيحتها . لكنها بدت أعقل من ذلك . وسمعتها تخبر الجندي بصوت مرتجف ساخط :
-قل لسيدك العقيد، أن هذا المكلف هرب من الخدمة .
-لماذا ؟!! ماذا حدث ؟
سألني السائق والسيارة تبتعد بنا . فلم أرد .
وأعاد العريف مونرو السؤال ثانية، وبحدة . فلم أرد أيضاً . مما جننه واضطر إلى حجزي بعد وصولي مباشرة ولم يسمح لي بالاتصال بأحد ... وظل يتردد بين وقت لآخر، يستجوبني ويود معرفة سبب عودتي . لكني لم أتزحزح عن موقفي ولم أفتح فمي ... ترى بماذا أجيب ؟ هل أخبرهم بما حصل فأفقد رأسي .. وهاهو الصديق يوسف أمامي خير شاهد ونذير " قد قميصه من دبر فألقي به في السجن " !
فضلت الصمت حتى استدعاني العقيد رأفت بعد الظهر .
جاءني العريف إسماعيل مونرو فرحاً . وصاح شامتاً وهو يخرجني من غرفة الحجز
-أستعد، ستمثل أمام العقيد رأفت
قادني كالأسير فاشتعلت نيراني ... وكدت أتهور وأضربه لكني تجاهلته ورحت استرجع لحظات أمس وأشكر اللّه لأنه أنقذني من شر الشهوة، وسألته أن ينقذني من الشر القادم ...
-يجب أن تؤدي التحية للسيد العقيد ...
-حاضر ..
-هل تعرف ماذا تقول أم نسيت ؟!
يا إلهي كم كرهت العريف لحظتها ! تساءلت مدهوشاً وهو يقودني : لم يفعل كل هذا بي ؟ أهذا جزاء من حافظ على شرفه ؟! وشرف البيت الذي يخدمه ؟!
-يجب أن تؤديها الآن .. أمامي لأتأكد ...
استوقفي فجأة فزادت كراهيتي له . ورددته بلا مبالاة :
-لا داعي ..هيا امش ...
احتد وقال مستهزئاً :
-أعرف أنك غبي .. والمصيبة ستحط على رأسي .
أزحته جانباً .. فدهش ..حاول إمساكي فدفعته ومضيت قدماً .
طرقت باب العقيد ودخلت وحدي .
استقبلني كافر القلب بنظرة طويلة صارمة، متفحصة .. أديت التحية وقدمت أسمي ورتبتي ووحدتي . وانتصبت صنماً في الوسط، تماماً كما تقتضي الأعراف العسكرية .
من حسن الصدف وجدت لدى العقيد ضيفاً، برتبة نقيب طيار . زاغت عيناي ناحيته فالتقت بعينيه . لم أره في المعسكر من قبل ، فجذبني وجهه الباسم.
-أتدري ما عقوبة الفرار من الخدمة ؟
زعق العقيد فانتبهت قبل أن أسرح بعيداً .
-أنا لم أفر ...
-لم تفر !! وماذا تسمي تركك البيت ؟
-لم يعجبني العمل!
-لم يعجبك! وما الذي يعجبك ؟!
-أنا لم أعمل طباخاً من قبل ... ولا أريد .. لأني لا أجيد الطبخ .. رنّ جرس الهاتف مع انتهاء كلامي ..
رفع العقيد السماعة، أصغى بانتباه . وتحدث :
-هذا هو السبع الفار أمامي ... لا .. لم يقل شيئاً، سوى أنه لا يجيد الطبخ .. ولم يشتغل طباخاً ... أطمئني، سأشد أذنيه ..حلاقة موسى وسجن خمسة عشر يوماً ...
" لو نكحتها يا سيادة العقيد فبماذا كنت تعاقبني ؟"
صحت في أعماقي .
-بالتأكيد ..الذنب ذنب أمه ... لم تعلمه ..
قال العقيد لمحدثته وأغلق الخط ...
تطلع إليّ باستخفاف وهمّ بطردي وتسليمي لكلبه مونرو، الذي خمنته واقفاً قرب الباب يحدّ أسنانه، كي يفلح في تنفيذ أمر سيده ، لولا تدخل النقيب :
-اتركه لي سيدي العميد ... سامحه هذه المرة .. سآخذه أنا إلى البيت .. وسأتكفله ...
بأن العجب على محيا العقيد والرجاء في عينيّ النقيب الذي التفت صوبي وأكمل :
-لن تتعب عندي .. زوجتي لا تحب الأكل من يد غيرها ..
كدت أصرخ رافضاً .. وامتنع عن تحقيق رغبته .. وأعلن موافقتي على السجن وحلاقة الموسى .. مفضلاً إياهما على دفعي إلى أحضان الشيطان .... لكن وجه النقيب الضاحك أخرس لساني وملأ قلبي نشوة !
تطلعت إلى العقيد بانتظار موافقته .
-قد يتعبك ويتعب سناء .
خاطبه محذراً فانبرى النقيب مدافعاً:
-لا أعتقد ... كاكا حمه جندي ممتاز ..... أرجو منحه فرصة جديدة
-لنمنحه الفرصة .. فماذا يضر ؟
استسلم العقيد . وهددني :
-النقيب خالد، زوج أختي . سأعفيك هذه المرة من العقاب، من أجل خاطره ..وإياك تكرار فعلتك مع سناء ..إنها أختي الصغيرة ... المدلله .. إياك .. اذهب الآن، وحضرّ حالك .. سيأخذك غداً صباحاً ...
" يا إلهي !! ماذا فعلت بنفسي ؟ كلها بيوت ضباط فلم وافقت ؟ " كلمت حالي همساً ....
أديب التحية وخرجت .. فاستقبلني مونرو :
-ما العقوبة ؟
فح بوجهي كالثعبان . وحين لحظ احتقاري له، هزّ رأسه بصلف وحرك يده مهدداً . وأعاد سؤاله بكثير من الاعتداد بالنفس والاستهتار بي :
ساورني الانفعال ... وطلبت السجن ! اشتهيته في تلك اللحظة، لأتخلص من ورطتي الجديدة ..
-سأدفنك حياً لو نطقت كلمة أخرى ...
ذهل لجسارتي . اصفر وجهه إلى درجة المقت . وارتعش شاربه من شدة المفاجأة . فبالإضافة إلى أنه لم يتعود رد الجنود على تخرصاته، إذا لم يكن الانضباط العسكري يسمح بذلك، أبداً، فلم يكن يتوقع الإهانة مني بالذات . لذا فوجئ بردي الوقح وجسارتي فجفل وخرس .
تركته واتجهت إلى المهجع، حاملاً " يطغي " فلحق بي متوسلاً، وإن كان الغضب يفوح من حدقتيه :
-ماذا قال لك السيد العقيد ؟
-اسأله بنفسك ...
صحت في وجهه وتابعت سيري .. ولم يكف أو يتوقف عن الجري خلفي .. وعندئذ تذكرت الراحلة مارلين .. حبيبته ومعبودته ..فضحكت ..
توقفت ضاحكاً ...
-ما الذي يضحك ؟
لم يكن العريف مونرو مهتماً بكل أحداث العالم، السياسية والاجتماعية . لم يتابعها يوماً ويشغل فكره بها . وعلى حد تعبير مجيد " أبو الحق، عريفنا المبجل لايعرف نظام دولتنا .. أهو ملكية دستورية أم جمهورية ديمقراطية شعبية ؟" أخبار الفن، وبالأحرى أخبار الفنانات بالذات هي التي كانت . تشغل باله، وتثير اهتمامه .. أكثر من أي شيء آخر في الدنيا .. فهو يعرف مثلاً كل خفايا مارلين مونرو .. حياتها بالكامل لحظة بلحظة .. أسرارها وكل شيء عنها منذ ولادتها حتى وفاتها .. أصدقاء طفولتها، معارفها في حين لم يعرف إلى حد الآن اسم أمه الصحيح .. أهو زهرة أم زهور !
-ألم يعاقبك العقيد ؟ لا أصدق أنه تركك ..هكذا لوجه اللّه !
قال لي وهو يسايرني، فسألته وأنا أغص في الضحك :
-ماذا فعلت حتى يعاقبني ؟ تركت العمل في بيته لأني رفضت أن تكون خدمتي العسكرية طباخاً عند زوجته .
بحلق مذهولاً، لا يكاد يصدق ما يسمعه مني .. تمتم بذعر كلمات متداخلة غير مفهومة وعاد راجعاً من حيث أتى ...
استقبلني مجيد وبقية الجنود بترحاب . أخذوني بالأحضان، سألوني واستفسروا طوال ساعة .. ثم انفرد بي مجيد، وخمن سبب هروبي الذي أثار الجدل :
-بما أن حضرتكم " هابة لا بشر ولا دابة " فليس متسغرباً هذا الهروب ..
-ماذا تقصد ؟!
-أقصد أنك حمار أربيلي كبير ....
-لماذا ؟
-لأنك تركت النعيم وجئت لتريني وجهك النحس ..
-لا .. ليس نعيماً .... إنه مكان فاسد ....
-فاسد !! تعال ... تعال .. حدثني ...
حدثته بصراحة فجن . لطمني على جبهتي بشدة . دفعني إلى الوراء قائلاً :
-قلت لك حمار، وأزيد الآن أنت ثور يا كاكا حمه .. أكبر ثور على وجه البسيطة .. وإذا أردت الحق فأنت لست إلاّ " رغل " لا سخل ولا بغل ...
-ما هذا الكلام ؟ إذا كررته سأزعل منك ..
-تزعل !!
هتف ساخراً وأضاف وهو يضرب بكفيه على خديه
-أنا ألهث وراء طيف امرأة وأنت ترمي الثمرة الناضجة من بين شفتيك ! وتريدني أن أسكت ... !
لم أتفوه بشيء . وكأنه تذكر شيئاً، لطم جبهته حسرة وندماً وقال :
-إنه ذنبي .. نسيت أن أنبهك إلى حقيقة الوضع مسبقاً.. فاتني ذلك .. حدث الأمر بغتة ... لم يتح لي العريف اسماعيل فرصة الشرح والتوضيح .. لكني سأشرح لك الآن كل شيء كي لا تفوت الفرصة عليك ثانية ثق بأنني سأتفرغ لك، لأجعل النساء تحوم حولك حوم البرغش حول الشجرة ..
-عريف اسماعيل يقول : إنك ابن كلب ..
-لماذا الخطأ يا كاكاحمه ؟
-لأنك تسبني وتهينني ...
-لا يا كاكا حمه .. لا أقصد أنك تسرعت ..آخ لو كنت مكانك .. آخ وألف آخ .. تصور يا كاكاحمه، إن حظي السيء يرميني دائماً على بيوت الضباط الشرفاء، فكلما أردت التحرش أو حاولت التقدم، فالزوجة أو الأخت أو البنت .. بل حتى الخادمة .. تصدني وتهينني ! .. ويكن السجن بانتظاري .. ضوعفت مدة خدمتي بسبب سوء الحظ ورفضهن لحبي .. آه لو يختارني ابن الكلب الحقيقي اسماعيل مرة .. لو فعل لعدت ومعي مارلين مونرو .. بلحمها ودمها ...
بقينا نتناقش طوال النهار، بعد التدريب وأثناء الغداء، ونحن على الأسرة:
-لو كانت السيدة إلهام تجيد مثلك تربية الكواسر... ولها تخصصك في تدريبها لما حصل هذا الذي حصل...
-ما علاقة الكواسر بإلهام؟!
-أخطأت معك خطأ فادح... كان عليها تجويعك.... تجوعك لتكسر نفسيتك القذرة، تماماً كما يتطلب منك واجب التدريب تكسير نفسيه الطير الجارح، بتجويعه راح يحدثني ويحدثني، يوصيني ويوصيني... حتى جاء العريف إسماعيل ينفخ، يزبد ويرعد:
-لماذا لم تخبرني عن النقيب خالد.؟
-ومن أخبرك؟ يا أبا الحق...
-أنت وقح!
-وأنت...
-اسكت ياكاكاحمة... هذا عريفنا المحترم أبو الحق...
على الرأس والعين...
قاطعني مجيد محذراً، وأمسك يد العريف مراوغاً:
-اجلس يا أبا الحق... ألا تحب سماع أخبار جديدة عن زهور حسين؟
-لا...
-تحية كاريوكا؟
-لا ... لست مستعداً لسماع شيء...
صاح بغضب.. فزم مجيد شفتيه وقال بلهجة مخادعة:
-كما تريد يا عريفي ... أردت أن أفيدك...
فتر غضب العريف فجأة وهو يقول دون خجل
-إذا كان لديك مايخص فقيدة الفن، قله ولا تدعني ألعن الساعة التي عرفتك بها..
ضحك مجيد... ربت على كتف العريف، وأسهب في الشرح:
-اجلس.. اجلس ياعريفي... معلوماتي جديدة، مستقاة من أرشيف المخابرات الأمريكية..
-ومن أين حصلت عليها.؟
ند السؤال عن شفتيه بذهول، فاستطرد مجيد مخادعاً:
-من عميل للمخابرات السوفيتية، كان جاراً لصديق عم ابن خالتي المتوفاة..
ارتد العريف مأخوذاً، ولأنه لم يعتره يوماً أي شعور بالخجل، خاطب مجيد بلهفة، معلناً في الوقت ذاته الجلوس قربنا.
-الخلاصة... ماذا يقول التقرير؟
-إن فقيدة الشاشة، حبيبة الجماهير، كانت تقيم علاقة حميمة غير مشروعة...
انتفض العريف كمن نخز بحديدة، وصاح:
-اكمل.... أكمل.. لا تشنع بأعراض المسلمين ... حرام عليك ..
-إنها ليست من ديننا يا عريفي...!
-اكمل... اكمل... كنت تقول إنها صديقة...
-كانت تقيم علاقة "صداقة" مع الرئيس الأمريكي كنيدي، ومع شقيقه المدعي العام روبرت، الذي كان يفضي إليها بأسرار الدولة، وخوفاً من تسرب المعلومات إلى قوى اليسار التي وثقت الفنانة علاقتها بهم، بسبب زوجها السابق "آرثر ميلر" الكاتب المشهور...
-أكان زواجها شرعياً؟
أستفسر هلعاً وكأنها أخته أو خطيبته، فرد مجيد بهدوء:
-اللّه أعلم.. المهم أن cia الاستخبارات المركزية الأمريكية خططت للتخلص منها ونحجت... قتلتها...
امتعض العريف هز يده استخفافاً وزفر بحنق:
-أهذا هو كل شيء تعرفه؟ مسكين أنت!
تظاهر مجيد بالعجب، تساءل وهو يقف على قدميه:
-مسكين!! لِمَ يا عريفي؟
-استخبارات أمريكانية وعميل سوفياتي وعمة خالتك...وكلام فارغ ضيعت وقتي فيه! ظناً بأن لديك أشياء جديدة..
تصنع مجيد الدهشة العارمة واحتج:
-لا يا عريفي.. لا ... معلوماتي دقيقة.. ويجب أن تثق بي وتصدقني...
تهكم العريف، من جديد هز يده استخفافاً، وشرع في عرض معلوماته، يسردها بفخر، وعيناه ترصداني بحذر:
-لكنها قديمة... أنا أعرفها قبل عشر سنوات...
-مستحيل... إنها أسرار طازجة.. هل سمعت إنهم حقنوها بمادة مخدرة... قاتلة...؟
-سمعت.. سمعت.. حقنوها وادعوا انتحارها، لماعرف عنها من محاولات سابقة في الانتحار..
-قسماً بأني لن أخبرك بشيءآخر يخص فقيدة الفن... ملكة الإغراء.. فأنت تنكر فضلي دائماً.. وتدعي معرفتك بكل شيء.. أقول لك معلوماتي جديدة طازجة، فتعيدها عشر سنوات.
ضحكت فتنرفز العريف وسألني:
-لم تضحك؟
لم أعره أذناً صاغية وواصلت ضحكي، مما أغضبه:
-أتتظاهر بالبلاهة؟
-لا ياحضرة العريف... كاكاحمة لا يتظاهر.. هوأبله فعلاً..هو كذلك حقاً... لم يتغير منذ زلطته أمه...
غمز لي بعينيه كعادته ليضمن سكوتي، وليعزز ثقة العريف به: وكما في كل مرة سارع لاحتواء الموقف
-لماذا برأيك يا عريفي كانت معبودة القلوب تريد الانتحار؟
سأله بنبرة ساخرة مغلفة بالجد، فضرب الآخر الأرض بجزمته وصاح كطفل أحمق وإصبعه يشير إليّ:
-لن أجيب إلاّ إذا أخبرني هذا، لماذا كان يضحك؟
قبل أن أتفوه نغزني مجيد بقدمه وسألني:
-أكنت تضحك على عريفك "أبو الحق" ياكاكاحمة؟
انتظر "أبو الحق" جوابي... وساورتني الحيرة وأنا ألحظ حركة حاجبي مجيد السريعة، كأنه يشير عليّ حول أمر ما سبق واتفقنا عليه! حاولت أن أتذكر ماهوبالضبط، فلم أفلح... وعجبت حين سمعته يقول بعد حين:
-لابد أنك تذكرتملا عطا اللّه فأضحكتك قصته
-مابه...؟! مالذي يضحكك فيه؟
سألني العريف فأحرجني ... سكتّ... وسارع مجيد يصوغ كذبة، ويخترع حكاية طريفة، ليتجنب ردة فعل "أبو الحق":
-قبل أن تشرفنا يا حضرة العريف، كان كاكاحمة يحدثني عن الملا عطا اللّه... إمام المسجد...
- اسمع يامجيد الزفت... لاتحاول إبعادي عن الموضوع، فأنا أعرفك جيداً، أعرف ألاعيبك و...
-لا ياعريفي..لا.. لعن اللّه الشيطان الرجيم الذي يحرضك ضدي همس مجيد مقاطعاً محتجاً وأضاف موضحاً:
-كان ملاّ عطا الله مولعاً في الطيور، يربي النادر منها يقضي أغلب وقته معها، وبسبب اعتزازه بطير ملون نادر واهتمامه بتربيته وتدريبه، كان يتأخر عن صلاة الظهر... ويبقى المصلون بانتظاره... على أحر من الجمر... ذات يوم وأثناء انهماكه في تعليمه الطيران برز "شاهين"في السماء الرحبة، وانقض على الطائر الجميل واختطفه في غمضة عين! وأمام عيني الملاّ المذعورتين.
-وماذا فعل؟
استفسر العريف بلهفة وشوق، فمضى مجيد بحكايته:
-جن الملا عطا الله سحب بندقيته وجرى خلف الشاهين في شوارع القرية... بملابسه الداخلية.... وراح يطلق عليه نيرانه .... حتى أصابه...
-والطير؟!
عاد العريف يستفسر من جديد بلهفة وشوق كبيرين وبنبرة شقيه متخابثة أجابه مجيد:
-لا تخف ياعريفي.الملاّرام ماهر أصاب الشاهين فقط وسقط الطير من بين مخالبه سالماً دون أن يصاب بأذى.
-لقد فرح الملاّ بعودة طائره...
لم أستطع تكملة حديثي... قرقرت ضاحكاً فغضب العريف خصني بنظرة استياء، وألتف إلى مجيد موبخاً:
-وما علاقة هذا بذاك؟ واللّه أنت مسودن... نحن نتكلم عن الفن وأنت تتكلم عن ملاّ عبد العاطي!
-ملاّ عطا اللّه ياعريفي...
صححت له فتدخل مجيد يحثه:
-هيا يا عريفي... أجب عن سؤالي.... لماذا حاولت مارلين... العفو السيدة مارلين مونرو الانتحار، عدة مرات؟
أبدى العريف امتعاضاً وقال لمجيد:
-لنسمع نهاية الحكاية أولاً...
ثم استدار نحوي وسألني بغلاظة ليستر بها رغبته هي معرفة ماجرى:
-كيف عاد ملّك العاطي إلى البيت؟
وكأنه حدس عجزي عن الإجابة انطلق لسان مجيد قائلاً:
-عندما وجدنفسه شبه عار، فطن لغلطته وسوء فعلته، وأنه كان إمام المسجد ومحترماً استحى على نفسه وخجل من منظره، فاختبأ خلف أقرب شجرة، وأرسل صبياً ليجلب له الجبة والعمامة.
-هل استرحت يا عريفي؟
سألته فلم يجب ومازحه مجيد:
-يبدو أنك لا تعرف... فتتهرب...
زمّ شفتيه بأسى وغمغم بحزن:
-لأنها ولدت من زواج غير شرعي، تنقلت بين دور الأيتام، وفي أحدها تعرضت للاغتصاب البشع، وهي في الثامنة من عمرها، مما ولّد لديها حالة نفسية منهارة... وعندما تزوجت لأول مرة في السادسة عشرة لم يكتب لها النجاح.... لم توفق في حياتها الزوجية... اصطدمت بالفشل.
قالها بحرقة وأسف ثم أطلق تنهيدة اليأس وراح... فعلق مجيد:
-أبهذه النماذج سنهد الكون...؟ عريف غبي عاشق فنانة راحلة، وجندي أبله لا يجيد القنص!
 


- 15 -
كنا منهمكين في هدم سقف الدكان القديم، عندما جاء نصار، سلّم وعرض مساعدته، فشكرناه، وتوقعنا انصرافه، ليتخلص من الغبار المتطاير، إلا أنه لم يفعل! وقف طالت وقفته ثارت شكوكي وريبة عمتي، التي دفعتني نظراتها إلى سؤالة:
-ماذا وراءك يا نصار؟ أجئت تساعدنا في البناء.
ابتسم بخبث، حنى رأسه وهمس بحرج:
-أراك نسيتني يا كاكاحمة؟
-ظننته يمزح فزجرته أمام عمتي وزوجها وابنتها:
-كيف!
-وعدتني بخصوص...
قطع كلامه .... ففهمت في الحال مايقصد وفكرت بإبعاده عنهم حتى تلك اللحظة لم أنفذ شيئاً من وعودي، بل نسيتها تماماً! نسيت عهودي لشذى وافتخار ونصار... ولولا كلام نصار لماتذكرت.
-لا... لم أنس... هل ستذهب إلى مجلس الأربعين؟
أدرك قصدي فابتعد عن الحديث عما جاء من أجله وقال:
-إنه مختارنا يا كاكاحمة؟
-إذن انتظرني هناك... مع السلامة...
ذهب نصار فاقتربت شذى مني مستغربة..
-لِمَ طردته؟... ماذا بينكما؟... ماذا أراد منك؟
-لم أطرده، نصار رجل طيب... ولو كنت تصلحين لزوجتك له...
-إنه أكبر من أبي!
ردت بسرعة وأضافت بدهاء همساً:
-هل كلمك عني هو الآخر؟
فطنت لمكرها، وتذكرت ورطتي فاعتذرت:
-لم أر موسى بعد..
فنددت كذبتي بقولها الجسور والمباشر:
-عجيب! أيهما الكاذب أنت أو ابنة أختك حنان؟
جاءت إلى المحل عقب حديثك... قالت: إنك وعمها موسى تجلسان في الحديقة...!
أحرجتني وزاد حرجي حين نددت نظراتها الصارمة بتصرفاتي... وأمعنت في التنديد بي حين أكملت:
-لماذا سكت؟
ألقيت مابيدي، ونظفت ملابسي من التراب، وتذرعت:
-تعبت... سأذهب لأرتاح في البيت...
-ومجلس الفاتحة؟
-مازال أمامي في ساعة...
تركتها في حال لا تحسد عليها، من الخيبة وسوء الطالع، وتوجهت لمشاركة أمي ومساعدتها في تعليم هدهد، غزل الصوف بالمغزل اليدوي البسيط... ثم خرجت صوب الحديقة قضيت بقية الوقت مع أقفاص الدجاج، وراقبت أمي وهي تجمع البيض بفرح لا يوصف... رتبت زهوري... وجلست قرب هدهد على الحصيرة، انتظر حلول المغرب، ليتسنى لي الذهاب إلى المسجد... ليس من أجل العشاء-الذي ينتظره الأهالي بشغف-ولا من أجل حديث الملاّ فهو بالتأكيد سيدور عن الراحلة وسيرة ابنها المختار المبجل، وقصة حياتهما وتعداد مناقبها ومناقب ذويهما... كل ذلك لم يكن يهمني بشيء قدر اهتمامي بخاتمة المجلس، إذ تعود أن يبهرنا بمعجزات السماء، وفضائل الرسول المصطفى وآل بيته الكرام.
قبل الوقت المحدد لبدء المجلس، توافد الأهالي، تجمهروا أعداداً غفيرة خارج المسجد، بعدأن اكتظ الإيوان... بعد دقائق من وصولي، أحسست بالغثيان... كدت اختنق لم أحتمل البقاء... خرجت إلى الساحة، استنشق الهواء النقي... ولم يحتمل الملاّ أيضاً لكنه لم يستطع الخروج... حرارة الجو المزدحم والصخب الدائر وكبر السن، اجتمعت معاً وأثرت عليه... هاجمته دفعة واحدة فتهاوى....
فعلى غير توقع أخذ يرتجف، ارتعشت أطرافه واصطكت أسنانه... ثم تشنجت أعصابه فلوى عنقه ومد لسانه وكما ينزلق الماء على المرآة انهار الملاّ، سقط أرضاً فاقد الوعي!
وضج المسجد، اضطرب الحضور وهرع الأقرب منهم لنجدته تعاونوا على حمله إلى الخارج ومددوه في الساحة، وهو مابين الحياة والموت... وتكوّم الخلق حواليه يتصايحون هلعاً...!
واستغل عمي حسن الفرصة -بعد تأكده من إلغاء المجلس-فأخرج الرجال، ليتسنى له تنظيف المسجد وإغلاق الباب، والذهاب إلى بيت المختار لإكمال المشوار وتناول العشاء، حيث نصبت القدور هناك...
وفي خلال دقائق لم يبق أحد في المسجد، إذ تحمس الجميع لفكرة تناول العشاء في بيت المختار، بسبب الراحة الدفء.. تدافعوا تباعاً، وكانت تلك معجزة إلهية لن تنسى...
فبصورة مفاجئة حيّرت عقولنا، هوى سقف الإيوان، سقط كتلة واحدة دون مقدمات! فأحدث دوياً هائلاً صم الآذان، وتكومت كتل الحجارة الضخمة في الداخل محتلة مكان الأهالي! وتناثرت القطع الصغيرة في كل اتجاه، وتصاعد الغبار والتراب ليطرد الواقفين.. واندفع الناس كتيار متماوج وسادت الفوضى وعم الصخب..!
وسمعت صرخات استغاثات ورعب... ثم هدأ كل شيء....!
ومن بين ذارت الغبار المتطايرة، تراءت لي وأنا في محلي وجوه الرجال صامتة مذهولة لماحدث...!
وراحت العيون تدور في الأرجاء تمسح المكان، وتتفقد الوجوه، كل يبحث عن أبيه وإخوانه أو أبنائه... يلفها الذهول والرعب... وآثار الصدمة تنطبع على ملامحهم بوضوح...
قبل أن يداخلهم الأمان ويطمئنوا..
فبعد دقائق رهيبة من الذعر والترقب، من الصراخ والفزع، والصمت والخوف، تعالت صيحات الفرح والابتهاج....!
لقد سلم الجميع من موت محقق، لم يصب أحد بأذى، وذلك بلطف الله القدير...
-الحمد لله.... الحمد لله...
سمعت هتاف الملاّ الخافت، وهويفتح عينيه ويستعيد صوابه، ويسترد عافيته....
كنت مصعوقاً من شدة المفاجأة، وربما أكثر الجميع... لذا بقيت في مكاني دون حراك... لم أنفعل مثلهم أوأبتهج.
لقد صعقت... فالحلم الذي راودني ذات ليلة، تحقق الآن بحذافيره!
-حصل خير...حصل خير...
صدح صوت المختار.... وأيده الكثيرون... وهم مدهوشون لا يكادون يفهمون حقيقة ماحدث...
-نادوا لي كاكاحمة.... نادوا لي كاكاحمة...
ميزت صوت الملا المتوسل، وأنا أتفرج على معجزة السماء، فلعنته في سري.
جاءني أكثر من شخص ناقلاً لي رغبة الملاّ فرفضت مما اضطره إلى الزحف نحوي.
-أين أنت يا بني.. أين أنت ؟
نظرت إليه فوجدته خائراً، منهاراً، لم تبارحه بعد حالة فقدان الوعي إلا قليلاً.
-أرأيت ما فعله اللّه بي؟ أرأيت عظم ذنوبي يا كاكاحمة!
لم أستمع إليك... منذ شهر وأنت تلح عليّ!
فغر الرجال أفواههم عجباً واستطرد .... بندمه:
-منذ شهر، وأنت تلح بإعادة البناء وأنا أراوغ.... هذا جزاء ذنوبي.. معصيتي.... ليغفر اللّه لي.... ليغفر لي... لم أصدق حلمك يا بني... لم أصدق... ليغفر اللّه لي، ليغفر اللّه لي...


 


- 16 -
على مدى أسبوع كامل ودون انقطاع، وبهمة الرجال وتآزرهم أزيلت الكتل الحجرية المتساقطة، وأزيح التراب، وهدمت الأسوار والجدران، التي ظلت قائمة بعد الحادث، وما تبقى من البناء القديم... ثم شرع في حفر أساس المسجد الكبير... بعد أن تم وضع المخطط الجديد، المعدل عن الرسم الذي أحضرته.
فبناء على رغبة الملاّ وبموجب اقتراحاته، واقتراحات المختار وآخرين، أضيف إلى المخطط جناح خاص، وحذف منه محل الوضوء والمرافق...
وبعد ذلك تعاون الجميع على جلب الصخور والأحجار اللازمة، وإحضار أكياس الإسمنت والجص... وتهيئة كل مستلزمات البناء.
وانطلاقاً من قول اللّه القدير: "إنمايعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر"، الذي رفعه الملا، إنهالت التبرعات من كل حدب وصوب، كل البيوت ساهمت، وكل الرجال شاركوا ولو بشكل بسيط، باستثناء عثمان المخرف! وحده الذي رفض التبرع، وتذرع بألف عذر وعذر! ولأن الكل يعرف مزاجه الرديء المتقلب، وحرصه الشديد على ماله، لم يناقشه أحد.... خاصة وأن أولاده الثلاثة عوضوا عنه كثيراً، بالمال والجهد....
وأرسلت القرى المجاورة مساعدات مالية، أعانت كثيراً في إتمام البناء بعد عشرة أيام أخرى...
الجهود الكبيرة التي بذلها نصار -الذي تولى مهمة البناء الرئيسية-ولمساته الفنية، أضفت على المسجد جمالاً ودقة.
كما أضفت الاقتراحات والتعديلات التي أجريت على المخطط رونقاً واتساعاً، فخرج البناء رائعاً، مريحاً شامخاً بمئذنته الجديدة وإيوانه الكبير، ومساحته التي تخطت الأربع مائة متر...


وبعد صبغه وفرشه بما توفر من حصروبسط يدوية، تقرر إقامة حفل بسيط لافتتاحه.
فاقترحت على الملا:
-ليكن التدشين صباح الجمعة المباركة... كي نصلي صلاة الجمعة.
-بارك اللّه بك يا كاكاحمة... فلك الفضل الأكبر..
-الفضل للّه يا مولانا..
فرحت ورحت أدور في القرية أعلم الرجال والشباب، بضرورة الحضور، التواجد أثناء الصلاة، لغرض إشعار الملا بحبهم له، ومساندتهم لعمله الإنساني الكبير....
وجاءت الجمعة وتم الاحتفال، وأقيمت الصلاة، بحضور كل رجال القرية وشبابها.... ماعداي!
لم أحضر، لأني سهرت ليلة الخميس مع هدهد، حتى ساعة متأخرة.. وبقيت نائماً حتى الثالثة ظهراً.
وحين أفقت أخبرتني أمي ونحن نتناول الغداء:
-جاؤوا عليك أكثر من مرة! لكنني رفضت إيقاظك..
-خيراً فعلت..

 


- 17 -
للمرة الثانية نسيت وعودي تماماً! نسيت ماوعدت شذى وافتخار ونصار، به! وكاد النسيان يستمر... ولولا إلحاح نصار -دون غيره-لما تذكرت أبداً... فوجه شذى الذي ظل أمامي طوال أيام، لم يذكرني بشيء! لا أثناء العمل ولا في فترات الراحة.. لكن ماكان جاء نصار حتى أدركت مقدار ورطتي -وأسفت لأني لم أستطع بعد مساعدة هذا الطيب، فيماتبقى من حديد وحجر وإسمنت وحصى، ورمل، بنينا دكان الحاج صالح، بمساحته الجديدة التي تجاوزت الستة عشر متراً، وعندما تم نصب الرفوف الخشبية، جلبنا البضاعة التي ازدادت وتنوعت بزيادة مساهمتي مائة دينار وذلك بعد أن أعاد لي الملاّ ألف دينار، قال : إنها فاضت لديه بسبب كثرة التبرعات!
كنا منهمكين في العمل، أنا والحاج نفرغ الصناديق من محتوياتها، وتطوعت شذى وعمتي لمساعدتنا، في توزيعها وتنظيمها للعرض.
حين جاء نصار عارضاً مساعدته، وبعد أن شكرناه لم يتردد في الاقتراب مني، والقول بألم:
-مضى أكثر من أسبوعين على وعدك! ومازلت أنتظر...
آلمني كلامه بشدة فتذكرت افتخار. وعجبت لنسياني الوعد كل هذه المدة! مثلما نسيت وعدي لبنت عمتي، التي كانت عيناها تستفسران عنه بنهم، إلا أني لم أفهم سرها واكشف خفاياها إلاّ الآن...!
تطلعت إليّ العيون مستوضحة، ففزعت، ولم أجد بداً من إعطاء وعد جديد:
-جهز حالك هذا الأسبوع يا نصار....
-كلمة شرف..
-كلمة شرف..
-أرجو ألا تخيب ظني بك يا كاكاحمة.. أرجو
توسل إلي ومضى عائداً إلى مقهاه....
حاولت عمتي الاستفسار عن طبيعة الوعد، فتجاهلتها...
تغاضيت عن الرد وتابعت العمل بصمت، حين فوجئت بشذى تسألني في غفلة عن أمها:
-قل لي ماذا يريد نصار بالضبط؟
أحرجتني فصمتّ ارتسم الازدراء على جبينها، وزمجرت:
-أوعدته بالزواج مني؟
-أعوذ بالله... من يتزوج ابنة خانقة القط!
فغرت فاهها مدهوشة فتركتها.
استأذنت من الحاج ومضيت إلى بيت المخرف مباشرة.
صادفت يوسف في الطريق فاستوقفني:
-إلى أين؟
-أريد مقابلة افتخار.
امتعض، بان ذلك في عينيه،و.نضح على لسانه:
-افتخار!! ماذا تريد منها؟ أنت الآن متزوج...
-لايذهب عقلك بعيداً فتسيء الظن كالأثول....افتخار أختي...
أفهمته والغيظ يتملكني وسرت قبل أن أدعه يرد.
فسمعته يبربر عجباً:
-بالأمس محمد بن سلطان واليوم كاكاحمة! أمر غريب!
لم أفهم مالذي عناه، ولم أشغل فكري بتفسير مايقصده.
تابعت سيري حتى باب الحديقة، التقيت بأطفال بشيرة يلعبون تحت العريشة.
ناديت على أحدهم وطلبت منه مناداة عمته، فهرع كالأرنب فرحاً.... ولم تتأخر دقيقة:
-لم يأت عيسى بعد.
بادرتني بتهكم، فلم أبال.
وقعت نظراتي على عينيها، لاحظت الدمع المترقرق، وملامحها الحزينة فتألمت.. وزاد ألمي حين تذكرت أنني السبب..كان الأفول يبدو عليها بوضوح، إضافة إلى عدم الحماس للحياة، وشيء من الملل...
-أعرف ذلك.. جئت من أجلك يا افتخار...
حركت رأسها استهانة وقالت بهزء، ثم بخبث:
-من أجلي!! هل اشتقت لي فجئت تغازلني؟ ألم تشبعك هداية وتروي عروقك..!
-اخرسي...
-لِمَ جئت إذن؟
-نصار خطبك مني... فماذا تقولين؟
تبدلت ملامحها بسرعة البرق، سرت فيها البهجة وبرق الأمل في عينيها، وامتلأت أوردتها بالدماء.
لم تباغت بعرضي المثير، ولم يحمر وجهها خجلاً، ولم تفر من أمامي كمافعلت في المرة السابقة.. وكأنها كانت تعيش على أعصابها منذ أخبرتها بمشروع العمر، وإنها انتظرت على جمر طوال تأخري عنها....
-منك !! وما دخلك أنت؟
صاحت مستغربة فأخرستني، اعتقدت أنها بحاجة قصوى لتخلو إلى نفسها وتتحدث إليها -فالمدة السابقة لم تكفها كما يبدو-فإذا بها تباغتني كمن أدرك تسرعه وسوء تصرفه... وتخوفه من ضياع الفرصة المنتظرة، وحدست ماأصابني من ذهول وحيرة، أضافت بغنج ودلال..
-ليكلم أخوتي، لديّ أربعة أخوة ياكاكاحمة!
-سأكلمهم أنا... أردت معرفة رأيك فقط...
-ألم تعرفه حقاً حين كلمتني...! أم أن الغباء مازال يسيطر عليك!
ابتسمت مدارياً فواصلت جسارتها، لتضمن مستقبلها:
-ولمَ أنت.؟ ليكلمهم هو بالذات...
ضحكت فرحاً ووافقتها:
-كما تريدين... كما تريدين... فهذه هي الأصول..
استدرت لأذهب فتذكرت ما بربربه موسى، مما حفزني لسؤالها:
-ماذا أراد محمد منك بالأمس؟
-أتغار عليّ! كن مطمئناً إذن.. لم يأت لخطبتي.. بل جاء يحثني على إعادة العمل في النول! تماماً مثل ما أراد من كل نساء القرية، اللائي مر عليهن... ووعدنا بجلب الصوف، تجهيزنا بكل ما نحتاجه، وتعهد بشراء إنتاجنا... بالكامل..
سرني ماسمعته، إذ بدأ محمد بتنفيذ اقتراحي... وتوقعت له النجاح الباهر..
عدت لنصار وكلمته، ففرح بموافقتها، واقتنع بأقوالها، وترجاني مرافقته إلى دار المختار ومن ثم إلى دار الملاّ عطا الله، ليتوسّطا له...
استقبلنا المختار بترحاب، وأعلن استعداده التام لمساعدة نصار:
-خطوة مباركة يا نصار... خطوة مباركة... سأكلمهم حتماً... اتفقا مع حضرة الملاّ كي نذهب معاً... في أي وقت يرغب... ولم يمانع الملاّ، أبدى ترحيبه الحار، وقال:
-امهلوني وقتاً...يوماً... أو ثلاثة على أكثر تقدير... لن يرفضوا طلبك يا نصار... فأنت رجل طيب وابن حلال...
-أنا حاضر، مستعد لكل مايطلبون... ولن أقصر بشيء...
-هم ليسوا بحاجة إلى المال، أو لأي شيء مادي آخر، بقدر حاجتهم لمن يستر أختهم ويصون عرضها...
-وسأفعل يا حضرة الملاّ... سأفعل... أحلف بالمصحف الشريف... أحلف...
خرجنا من دار الملاّ فرحين:
قبل افتراقنا قال لي نصار ضاحكاً:
-البارحة، أخبرني حسان عرضاً، بأنه سيدع البكر ينتقم منك شر انتقام... قريباً... أقسم على ذلك فكن حذراً.
-حسان!! والله، سأخصيه هو الآخر.
-ومن قال لك،إنه ليس خصياً!
علق ساخراً وأردف بجد:
-لوكان رجلاً بحق مابقي عازباً...
لم يعجبني تدخله في الشؤون الخاصة، فأتممت تهديدي:
-إنه حر يانصار، ليفعل مايشاء... إذا رأيته اليوم فأخبره عن لساني، البكر سيكون ضحية للأرض الشرقية، بدمه وقرنيه سأسقي الأرض وأسمدها... وسأصنع أحذيتي وملابسي من جلده وفروه... بعد أن أهب اللحم لفقراء القرية...
قهقه نصار وقال:
-وسأخذ منك الرأس والأحشاء لكلبي... والشحوم لتزييت قناديلي... ستتنور المقهى بفضلك...
-ويبقى الذيل لحساء خجة...
أكدت له قبل انصرافي...
اتجهت إلى البيت... كنت مرهقاً وتمنيت النوم...
ألفيت بشيرة تبكي... استقبلتني بدموعها فطار النوم...
لم أسأل عما تفعله عندنا في هذا الوقت، وعلام هذا السخاء في ماء العيون الغزير... لم أسألها السبب، إذا خمنته دونما عناء... وماكان ذلك صعباً عليّ في أي يوم...
رحت أتابع بشغف حركة المغزل، وهو يدور برشاقة بين يدّي هدهد... مازحتها وشجعتها على الاستمرار... وإذا وقع بصري على الصغير سامر، قابعاً في حضن جدته يتطلع إلي بعينيه الثعلبيتين، حملته، داعبته ورفعت ملابسه لأرى...
-لاتبحث عن "الشوطة" غسلتها بالفوح كما نصحتني، فطارت...
أعلمتني أختي بدموعها، واستفهمت أمي بعينيها، فحدثتها عن نصيحتي لبشيرة... ثم أخبرتهن حول خطبة نصار لافتخار.
باركت أمي واستبشرت هدهد،’ وبدل أن تحذو بشيرة حدوها، إذ بها تجن!
لطمت على وجهها فجأة وناحت كبومة حزينة:
-هذا ماكان ينقصني! ماذا فعلت بي يا كاكاحمة؟! ماذا؟
ألا تعرف أن المصايب ستقع على رأسي! من ذا سيعتني بالمخرف بعدها؟ من؟!
تركتها تفرغ شحنات غضبها على صدر أمي... وذهبت إلى المطبخ، جهزت لنفسي كأساً من الشاي. ارتشفته على عجل، ودخلت غرفتي.
لحقت بي هدهد، أخبرتني وهي تجلس قربي:
-أختك، تشاجرت مع يحيى، وجاءت زعلانة.
-لاشأن لنا بهما... إنهما يتشاجران كل يوم منذ خمس عشرة سنة، لكنهما لم يفترقا يوماً...
على السرير ينتهي خصام يوم كامل..
-أقسمت إنها لن تعود إليه!
-سمعت قسمها للمرة الألف بعد المليون.. وهي صادقة، فلن تعود قبل حلول المغرب إلا برفقة يحيى.... تعوَّد أن يأتي عليها، ليصالحها بنفسه... لكن... إذا تأخر لسبب ما... فتجن... وحالما تسمع صوت الحاج صالح ينعي النهار، تهرول عائدة... لتشارك افتخار بمسح بول المخرف... وتصالح زوجها...‍‍! فلا تكترثي بقسمها....







- 18 -
(بعد يومين فقط من عودتي إلى المعسكر، وقبل أن يأتي النقيب خالد ليأخذني إلى بيته... جاءت الشرطة العسكرية واعتقلتني...
استدرجوني من ساحة التدريب إلى المهجع، تآمر العريف مونرو معهم.... استدعاني بإشارة من يده وقادني إلى حيث نصب لي الكمين... وبعيداً عن العيون...
من غير معرفة السبب، وبلا أي توضيح هاجموني، وكبلوني! وقادوني مخفوراً كأي مجرم شاذ! مما أثار عجب الجنود وسخطهم، وفي حين بقيت مذهولاً، صامتاً، لم يطق مجيد صبراً، صرخ في وجه أحدهم:
-ماذا فعل؟ مالذي يحدث؟!
-ارجع إلى ساحة التدريب وإلاّ...
أمره العريف مونرو بحدة، وأضاف يشبع فضول العيون المستطلعة:
-تم إلقاء القبض عليه بناء على طلب من وزارة العدل...
كان واضحاً، من خلال نظرته شماتته بي... وخمنت إنه افتعل هذه المسرحية انتقاماً مني... إذا لم يكن هناك مسوغاً لكل ما فعلوه... إلاّ إذا همس مونرو في آذانهم شيئاً محرضاً... أدخلوني إلى غرفة المحقق العسكري، الذي أمطرني بوابل من الأسئلة العامة، ثم شرع في استجوابي!
بدأ السؤال عن اسمي وعمري ومهنتي، بعدها انتقل لما أذهلني:
-ماذا تعرف عن هبة؟
-هبة!! من هي هذه ؟
سألته مصعوقاً وقد تبخرت من ذهني كافة المعلومات، التي يختزنها منذ أمد، فأجاب ببرود قاتل:
-هبة، زوجها نصار، صاحب المقهى...
صعقت صعقاً، فهتفت دون وعي:
-وما علاقتي أنا!!
ضحك الضابط الشاب، وكان برتبة ملازم اول قانوني.
قال وهو يشير عليّ بالجلوس أمامه، على كرسي جلدي:
-ماذا تعرف عنها؟
بدا المحقق واثقاً من نفسه، ومع ذلك سعيت إلى خداعه:
-هربت من القرية قبل سنتين...
ابتسم بعمق، نقر بإصبعه على سطح المكتب الخشبي الواسع:
وفاتحني ببساطة بعد أن تبادل النظر مع مساعديه الاثنين:
-قيل إنها ذبحت، وبالتأكيد أنت تعرف الذي ذبحها...
ابتسامته العميقة شجعتني على المضي في الخداع:
-ومن أين لي أن أعرف؟
تصورته سيكتفي بما سمع مني ولا يورطني في مشكلة أنا في غنى عنها... وإذا به يكشف أسراري، ويدفعني لكشف المزيد:
-قيل إنها ذبحت، وأنت الوحيد الذي شهد ذبحها... فحدثنا بكل شي... ولا تراوغ...
-كانت امرأة زانية...
-نصار، يدعي أنها هربت..
-ربما..
-ربما!!.. أتحاول التستر على القاتل؟
تغيرت لهجته، اختفت ابتسامته وهمس في أذن رئيس العرفاء الكاتب، الجالس على يمينه، بضع كلمات، وأكمل:
-لدينا أدلة كافية لإدانتك باعتبارك شاهداً رئيسياً، لكنك تخفي المعلومات عنا وتضلل العدالة...
صعقت من جديد فسألته:
-أية أدلة يا سيدي الملازم؟
-هبة ذبحت على يد نصار، وأنت رأيت ذلك بعينيك...
شهدت الحادثة وحدك... أليس هذا هو اعترافك؟
-أنا!! متى؟
-نحن الذين نسألك... ونريد أن تخبرنا الحقيقة وتجيب على أسئلتنا بصراحة ودون لبس....
-وإلاّ فسنضطر إلى إدخالك "دورة تقوية عضلات واسترجاع الذاكرة".
أرهبني تهديد الشخص الثالث، وكان أصلع يرتدي ملابس مدنية، وعلى عينيه نظارات طبية، فحدسته ضابط أمن... جلاد..قدم لأخذي إلى مديرية الأمن العامة، حيث سيسلخ جلدي... خفت كثيراً.... وتذكرت (إلهام) -أخبرتها بسري فباحت به... قلت لها أني رأيت نصاراً يذبح هبة... فما عاد الإنكار ممكناً، وهو لن يفيدني بشيء بالتأكيد، وليس أمامي سوى الإقرار والاعتراف:
-صحيح، تذكرت... شهدت الحادثة حقاً... رأيت كل شيء بعيّني هاتين... رأيت نصار وهو يهوي بخنجره عليها!
يغمده في أحشائها! كنت في طريقي إلى العين في حدود الواحدة ليلاً لأشرب، إذ أحسست بالعطش ولم أجد في البيت مايكفي لإروائي... في البدء سمعت صرخة فزع! فتنبهت...
التفتّ باحثاً... فلمحت هبة تندفع من بيتها مذعورة، باتجاه الساحة بملابس النوم! حاسرة، حافية... عرفت أنها تفر من خطر داهم فركزت بصري عليها، وعلى الفور ظهر نصار يتبعها حاملاً الخنجر! .... اختبأت خشية أن يراني....
ورحت أراقبه.... لحق بها وأمسكها وسط الساحة! حاوّلت الصراخ فكمم فمها بيده اليسرى وكتم صوتها، بينما راحت اليمنى تهوي بالخنجر على جسدها... طعنها أربع أو خمس طعنات! ولم يدعها تسقط... تلقاها بكتفه، أسندها وسحبها نحو البيت. وعيناه تجوسان المكان، تتلفتان يمنة ويسرة، وتتفحصان الطريق لتتأكدا من أن أحداً لم يره... وفي الصباح ادّعى نصار بأنها هربت... وشهد السلماني "بأنه ورجاله رأوها تهرب ... ترحل عن القرية حاملة حقيبة صغيرة"! ولأنها من "القرج" لم يشكك أحدنا بقصة نصار، سكت الجميع فسكتّ بدوري، اعتقاداً مني بهروبها.
صدقت بأنهاهربت فعلاً بعد رؤيتي لها.. اعتقدت بأن إصاباتها كانت جروحاً خفيفة، ليست قاتلة كما خيل إليّ... وأقنعت نفسي "إني لم أر جيداً في الظلام" وبمرور الأيام نسيت كل شيء... ولم أفتح فمي بكلمة حول الموضوع، حتى استجوبتني إلهام زوجة العقيد رأفت...
هكذا تحدثت أمام المحقق بصراحة، معترفاً بالحقيقة كاملة.... دونما خوف، ومن غير تعذيب وجلسات "استجواب ودورات تقوية الذاكرة"... وهكذا أعدت الاعتراف أمام المحكمة ... بعد أسبوعين....
فتحت التعذيب الذي لا يرحم، أقرّ نصار بجريمته. اعترف بصحة مارويته، وكذلك أجبر السلماني على الاعتراف بكذبته، ثم الشهادة بما رآه... فحكم عليه بسنتين سجن مع الأشغال الشاقة، بتهمة شهادة الزور، وتضليل العدالة، والتستر على جريمة قتل، لكنه بفضل الجمولي، بمكره وقدرته على قلب الحقائق، وبسطوة الدنانير ورهبتها استطاع الخروج من السجن بعد ستة أشهر فقط!
دفع السلماني أموالاً طائلة، لقاء حريته، بينما حكم على نصار بعشر سنوات، خفف إلى خمس لأسباب خاصة... وخرج بعد ثلاث سنوات، إثر مراحم كثيرة ..... شملته كلها....








- 19 -
بعد شهرين من زواجي، تزوج نصار، زفت افتخار إلى بيت جديد، كان ضمن شروط موسى، الذي أصر أن تسكن أخته في موضع بعيد، عن المكان الذي دفنت فيه هبة، بعد قتلها!
بعد جهد ووقت وافق موسى على زواج أخته، بينما لم يجد الأب، ولا يحيى ويوسف، مانعاً يحول دون الزواج، فأعلنوا موافقتهم دونما شروط، لم يبد سبباً، مقنعاً، وإن تحجج بأن الواجب يقتضي انتظار عيسى وأخذ رأيه... لكن المختار ألجمه وأجبره... مما حفزه لفرض شروطه....
تزوجت افتخار، وغدت بشيرة سيدة البيت دون منازع، إلا أنها لم تصبر، لم تصمد طويلاً، فشلت في الامتحان.
وحدث المتوقع بعد يومين فقط... وحملت حالها وجاءت شاكية متبرمة.
-سأموت لا أحتمل شغل البيت وحدي...
-وابنتك!! ألم تقولي إنها أصبحت عروسة فلِمَ لا تساعدك!
صحت بها وتدخلت أمي معاتبة.
-كلفيها بأشياء بسيطة... تدّرجي معها... هذه هداية أمامك خير مثال... إنها في المطبخ منذ الصباح... وعندما تنهي عملها هناك... ستأتي لمغزلها مباشرة..... لن تتركه حتى تهجع...
-المشكلة ليس في الطبخ والمطبخ... بل مع عمي عثمان.. لا يريد أن يقترب منه غيري... وأنا لا أطيق رائحته... لا أطيق.... اشمأزت أمي وسألتها:
-ألا يساعدك أحد أبنائه؟ زوجك!
-يوسف فقط..
أعلنت بشقاء وعادت تبكي بدموع التماسيح... وصمتت أمي... ورحت في دوامة الأفكار...
لم أنتبه لما راحت تقوله وكدت أغوص في الأعماق لولا فكرة طارئة قدحت في رأسي فجأة، فطرحتها:
-يوسف! لِمَ لا تزوجينه؟
استغربت بشيرة وردتني في الحال:
-أزوجه! ومادخلي أنا؟ لست أمه ولا أخته! الأب يريد الزواج! أمس قال لي: لو تقبل خجة بي، سأهبها كل أملاكي....
استاءت أمي، سبت المخرف، لعنت أجداده... ثم أبدت ترحيبها باقتراحي...
-اسمعي يا بشيرة... ماقاله أخوك هو عين العقل... زواج يوسف أو موسى هو الحل... امرأة في البيت تساعدك وتسليك...
-وأين أجد هذه المرأة يا أمي...؟
قالت بعد اقتناع فاقترحت من جديد، للتخلص من ورطني:
-مارأيك بشذى بنت عمتي؟
امتلأ وجه أختي بالبشاشة، لكن خجة اعترضت.
انتفضت كالملسوعة، وصاحت بي:
-لا... موسى أصغر منها... لا يجوز أبداً...
استغربنا هذا الرفض الصريح، واحتجت بشيرة:
-بستة أشهر... لا يهم يا أمي...
-لا... لايمكن، من تزوج امرأة أكبر منه يقصر عمره يا بشيرة...
-خرافة يا أمي... ماتقولينه خرافة، لايصدقها عقل...
أفهمتها بهدوء وصرخت بشيرة:
-لاتتدخلي ياخجة... لا تقطعي نصيب البنت... حرام عليك...
-أنا!!
-سنخطبها ليوسف.... مارأيك يابشيرة؟
صفنت بشيرة، أدخلت الفكرة في رأسها.... دوّرتها لتختمر، وسرعان ما أخرجتها طازجة، ناضجة... خرجت بنتيجة طيبة بعد تفكير، فأفتت:
-أتريد الحق... إنهما لائقان ببعض... يوسف وشذى...
-إذن توكلي على الله... ابذلي جهودك... علّها تنجح فتضربين أربعة عصافير بحجر...
-هل ينسى عمتك بتول؟
-يا أمي، الموتى لا يعودون...
-لا... بتول لم تمت... اختفت...
-اختفت، هربت، ماتت، أكلها الجن، اختطفها الجن.... كل ما تريدين قوله نعرفه... فاسكتي... احترمي شيبتك ولا تتدخلي... ودعي الأمر يمر بسلام....
خاطبتها بشيرة برجاء ممزوج بحدة، وغادرت البيت يلفها الأمل....







- 20 -
التقيت بسلطان وأنا في طريقي إلى الأرض الشرقية، كان عجولاً على غير عادته،يحث الخطى باتجاه بيت المخرف!
سلّم عليّ فلم أرد، مضى يتعثر بقدميه مما هيج فضولي، فلاحقته بنظراتي، أدهشني انفراده بالمخرف... لكني لم أهتم كثيراً... تابعت سيري وكلي تصميم على إنجاز ماتبقى، مضت فترة على تركي إياها... ولابد من مواصلة العمل...بعد أن ضيعت يومين في تنظيف بئر المختار...
مساحة أرضي التي تتجاوز الثلاثة آلاف متر مربع، أغرتني بتنظيفها من الأحجار والصخور المتراكمة، بعد حرق وانتزاع الأشواك والصبيّر، في المرة الأولى...
لم يكن الأمر سهلاً... لكن عزيمتي وإرادتي، وِإصراري دفعتني قدماً إلى العمل الجاد... وزادني عزيمة وإرادة وإصراراً مجيء هدهد لمعاونتي... باشرت بعد دقائق من وصولها... على الرغم من ممانعتي!
-لم تتعبين نفسك؟! عودي من حيث جئت... عودي...
-إنها أرضنا يا كاكاحمة؟ وتعبي فيها راحة لي، فلا تشعرني بالنقص... دعني أساعدك... بلا إهانات...
-ماقصدت إهانتك يا هدهد... أردت راحتك، ليثبت ابننا في بطنك..
-إذا لم يخرج قوياً فلا خير به... لا خير... لا أريد طفلاً يأتي بعد تسعة أشهر من الراحة والاسترخاء... لاأريد... فلن يفرح قلبي بالتأكيد...
وألهمني وجودها إلى جنبي قوة ونشاط، لم أعهدهما فيّ من قبل! وكانّ مثار الإعجاب ودافعاً كبيراً لتحريض الأهالي... خاصة الرجال، جاء حشد منهم... تدافعوا مبدين استعدادهم للعمل.
وتسابقوا في إظهار براعتهم في اقتلاع جذور الحشائش، وانتزاع الأحجار والحصى، والصخور النابتة، ومن ثم جمعها ورميها على الحدود المتاخمة لمزرعة السلماني، وأرض المختار... مكونين سوراً بارتفاع قدمين على طول الأرض وعرضها.
فاستغنيت بذلك عن أحجار بيت جدي القديم، كما خططت سابقاً...
كنت أتوقع الانتهاء من العمل بعد أسبوعين، إلاّ أن أيدي الرجال قلصت الزمن إلى ثلاث ساعات فقط..
-انتهينا! أمر لايصدق... فيكم البركة يا رجال... فيكم البركة... كثر اللّه أمثالكم.. وألف شكر لكم.. ألف شكر..
-ونحن، ألا شكر لنا يا كاكاحمة! حتى ولا كلمة واحدة!
فرحت شذى وهي تمسح جبهتها، فأسرعت بشيرة لاحتضانها.. أخذتها بين ذراعيها بمحبة وهمست قرب أذنها..
-أنا سأشكرك ... شكرك عندي مع بشرى خاصة... تعالي معي... تعالي...
سحبتها بعيداً عنا.. لحقت بهما هدهد، قبل أن تقودها أمي..
-أرضك هذه لا نفع منها يا كاكاحمة... لا نفع ولا جدوى من كل الجهود التي بذلناها...
صارحني يحيى وهو يتمدد قربي، عقب انصراف الرجال... عجبت فوبخته:
-أنادم أنت على مساعدتي يا يحيى؟!
-لا... لست نادماً.. ولكن منذ أخبرتني بأنها أصبحت لك، وأن السلماني تنازل عنها حتى..
-السلماني لم يتنازل ... أعاد لي حقي...
-أعاد حقك.. ماأن سمعت بذلك حتى أدركت أن الأمر لا يخلو من طرافة... فالأرض ميتة ولا حياة فيها.. لذا تنازل... أعادها السلماني بطيبة خاطر، وبثمن التراب... فهو ليس غبياً، يعرف أنها مرتفعة عن مجرى الماء...
أزعجني كلامه، منطقه الغريب. فأوضحت له:
-سأحفر بئراً.. وسأبدأ غداً.. سأسحب الماء بمضخة خاصة..
-والكهرباء من أين ستأخذه؟
-من المسجد... إنه أقرب مكان..
ضحك فازداد عجبي وانزعاجي... حاولت الاستفسار عما يضحكه، فواجهني بابتسامة ساخرة وقال:
-أنت تتحدث بلسان طفل، ليس إلاّ... وكأن كل شيء أمامك يسير وسهل...!!
-ولِمَ لا يكون ذلك! وإذا كنت طفلاً كما وصفتني، فأنت أكبر الأغنياء... رغل لا سخل ولا بغل...
-بدأت تتجاسر ! أتصفني بالرغل!
-لأنك لم تعرف بعد، أنني من أختار الأرض... أنا الذي اخترتها وإذا كلفك السلماني أو ابنه بالسعي لتحطيم إرادتي وإحباط عزيمتي.. فامض إليهما، اخبرهما أنني سأبدأ الحفر غداً... وستعينني هدهد على حمل التراب... ولأنك ساعدتني في المرتين السابقتين سأمنحك أجراً... فلا أريد منتك... ولا أريد رؤية وجهك ثانية... واعتبر ما بيننا من اتفاق لاغياً.. بعد أن نقضته أنت...
قهقه عالياً حتى سالت دموعه..
-أنت مجنون حقاً يا كاكاحمة! لم تتسرع في إصدار أحكامك! كنت أمزح معك... أمزح... ألا تميز الجد من الهزل؟ عقلك صغير أشبه بعقل طلي... منذ ساعتين وأنا أعمل معك... ألم تلاحظ ذلك...؟ قصدت أن لا جدوى من حفر البئر...فالتعب قد لايثمر عن نتيجة...
-لم أفهم!
-أنت من نظف بئر المختار، لا غيرك، فماذا وجدت؟ الماء قليل لا يكفي أرضنا... إلا اللّهم إذا اكثرته بدموعك ...
-وماذا تقترح يا زوج أختي؟
-علينا سحب الماء من الجدول، بمضخة جديدة.. ولو أن الماء وحده لن يكفي.. الأرض تحتاج لسماد كثير...
-لم يفتني ذلك... سأذهب غداً إلى المسلخ والوادي... سأجمع كل قرون البقر والأظلاف... وسنتولى أنا وسعدو تكسيرها وطحنها..
-سعدو!! إنه يود مص دمك!
-لايهمني مايشاع... سعدو خبير في طحن القرون...
وسأمنحه أجراً... ومادامت رقبته بيدي فلن يرفض لي طلباً..
-يالك من عفريت ياكاكاحمة.. عفريت بحق.. القرون أفضل الأسمدة الطبيعية... ولكنها تحتاج لجهد في تفتيها ... لم لا تجلب الدماء؟
-ومن قال إنني لن أجلبها... أوصيت يوسف عليها... وتعهد بجلب تنكّة دم من المسلخ كل يوم... ونصحني بزراعة الكروم....
-عال... نصيحة قيمة....
أخذ يسرد عليّ خبراته ويحدثني عن أفضل الطرق الزراعية،وعن أجود الأنواع من العنب، تلك التي تدر أرباحاً أكثر من غيرها...
-ماذا أراد سلطان من أبيك؟
بوغت بسؤالي المفاجئ، رفع حاجبيه وهتف مستغرباً:
-سلطان!
-لأني أعرف أن علاقته بك مباشرة، وهو لا يسلم إيراد السيارة إلاّ لك... فقد أثار شكي وهما يختليان تحت العريشة ... راقبتهما... بقيا ساعة كاملة!
-متى حدث ذلك؟
-اليوم... صباحاً؟
-اليوم ؟! لم يخبرني أحد!
-اسأل بشيرة ... تركتهما يتهامسان وجاءت لمعاونتي...
لاحت نذر الشؤم على جبينه... فصاح:
-ياساتر، أسترنا من المخرف.. لابد إنه يخطط لكسر رقابنا... نهض متنرفزاً... ونيران الغضب، والشك تلمع في حدقتيه.






- 21 -
(بعد عشرين يوماً من التحقيق والمحاكمة، برئت ساحتي وأطلق سراحي دون اعتذار، أوتعويض مادي... عدت إلى معسكر الغزلاني، فاستقبلني الجنود، الأصدقاء والمعارف، مباركين لي البراءة ومرحبين بعودتي، وأمطروني بوابل الأسئلة، ولم يتح لي مجيد فرصة الرد على كل استفساراتهم الغريبة.
جرني من وسطهم وأخذني بعيداً عن آذانهم، وطالبني بشرح وتفسير ماحصل، ولم أكن أملك شرحاً ولا تفسيراً ومع ذلك علق:
-إلهام هي السبب بالتأكيد، خافت أن تضيع من بين يديها وتتلقفك أحضان أخت زوجها، خافت أن تبوح للجديدة بكل شيء... سارعت فدبرت لك هذه المكيدة... لم تحسب أنهم سيفرجون عنك بهذه السرعة... والآن وبعد الذي حصل لن تتركك بسلام، باعتبارك عملة نادرة... وبما أن عقلك عقل خروف لا يشتغل كما يجب، فما عليك إلا تشغيل فحولتك... وهما.... -إلهام والجديدة-في مسيس الحاجة اليها... وعليّ تدريبك لوجه الله... لكن إياك أن تتكلم بشيء هنا أو في أي مكان آخر عن زوجة العقيد... وإلاّ سيدفنك حياً... ثق باللّه أن هذا القاتل لن يرحمك... فهذا إنسان كافر القلب... لا يعرف الرحمة... استغل وجودنا في الأردن فصفى كل الضباط غير المرغوب فيهم... بطرق فنية ... وهنا قتل العقيد حسام لأنه نافسه في أمرة المعسكر.... كل الضباط يعرفون ذلك لكنهم يتسترون.
-أنا لن أفتح فمي، لم أفتحه إلا لك... أنت موضع أسراري... قلت في خوف ورجاء ... فطمأنني:
-بالنسبة لي.. اعتبر أسرارك في بئر... فأنت لست صديقاً لي فحسب، بل أخاً، واللّه شاهد... ولا تدري كم تألمت لما جرى لك... لذا صممت أن أنتقم من ابن الكلب مونرو شر انتقام... من أجلك فقط...
-عريفي إسماعيل!! لماذا؟
-لماذا !! ألا تدري أنه حاقد كسيده العقيد‍! وأنه لن ينسى أحقاده بسرعة! أنت أهنته أمامي وأمام الجنود فحتم عليه "الواجب" أن يأخذ بثأره ... فكر بالانتقام منك وحين سنحت له الفرصة دبر لك مكيدة خبيثة، وكاد ينجح بها لولاي... أحبطتها بسرعة بفضل اللّه القدير...
-عن ماذا تتكلم يا مجيد؟
استفسرت بعجب فاستطرد:
-استغل مجيء مفرزة الشرطة العسكرية لاعتقالك، فانفرد بالضابط المسؤول وشوه سمعتك، أدعى أنك مصاب بمرض عقلي، ونصحه بمعاملتك، "بحذر" واقترح اتباع الحيلة والخداع ليتم القبض عليك بهدوء... وكاد يفلح لولاي... ألتقيت بأحد أفراد المفرزة عرضاً وكان صديقاً لي -فأخبرني بكل شيء...ولأني أعرف خباثة العريف "أبو الحق" ومكره، أفهمت صديقي بعدم صحة ماسمعه، أقسمت له برجاحة عقلك وكذبت ادعاء مونرو وفندت أقواله، وأقنعته بوجوب توضيح ذلك للضابط ... قبل أن يدفعك لمستشفى الأمراض العصبية ...
-المستشفى!! لكن لماذا؟
-أراد زجك في الشماعية، دار المجانين... هادفاً تحطيمك تماماً... فهو يعرف أن فيها رجالاً لا يعرفون الرحمة، قلوبهم قدت من صخر... يعتقدون برأي الغرب القديم، بأن مرضى الأعصاب لعنة سماوية تحل بصاحبها أو شيطان دخل في نفسه، فكان المرضى يوضعون في سجون مظلمة، وقد قيدت أيديهم وأرجلهم، ويعزلون عن العالم وعن أهلهم أيضاً...ويسلم أمرهم إلى ممرضين أشداء لا يعرفون إلاّ لغة الضرب والشتم والتعذيب....
-ياساتر!! أهكذا خطط ابن الكلب؟ واللّه...
-لا تقسم ... دع الأمر لي ... لن يقدر عليه غيري ...
بقيت في المعسكر يومين... منحت بعدها إجازة أسبوع فذهبت إلى مدينة أربيل ومنها أخذت سيارة أجرة أقلتني إلى القرية... وصلت بعد الظهر، وكنت متعباً... لكن حفاوة الاستقبال بددت تعبي وأنستني همومي... نسيت معسكر الغزلاني والعريف اسماعيل وجلسات التحقيق والمحاكمة... لكني دخت من كثرة الأسئلة فابتعدت عن الناس، باستثاء افتخار..
عدت إلى الموصل، وفي أول يوم، وبعد حصة التدريب، أحسست بالإعياء والإرهاق، لم أحتمل حرارة المهجع اللاهبة، وعرق الأجساد المتصبب، ورائحة الآباط المقززة، فهربت... رحت إلى رحاب السماء باحثاً عن رعشة هواء في الجو الخانق ...
كنت مرتاحاً، مستلقياً في الظل، أفكر بما حصل لنصار... وبالإهانة التي لحقت بالآغا، والتي أفرحت القرية بكاملها، عندما جاء العريف إسماعيل كالطاعون...
انتصب قربي واقفاً، لم أهتم به، ولم أبال، لكن حين طالت وقفته، التفتّ إليه:
ألقى عليّ نظرة ازدراء وأمر بجفاء:
-حضر حالك، ستذهب مع النقيب خالد...
-إلى أين؟
-إلى المشنقة... إلى ساحة الإعدام...
-ستسبقني إليها إن شاء الله..
-أنت محظوظ، لأنك ستهرب من بين يدي...
-وأنت أكثر حظاً يا إسماعيل، لأنهم أبعدوك عن "مجنون"-
-سنلتقي وستعرف من هوالعريف إسماعيل...
هددني بقبضتيه، فصحت وأنا أقف أمامه:
-ولِمَ نؤجل اللقاء؟ .. هيّا، سأكسر رأسك لتعرف من هو كاكاحمة... المجنون... ياكلب... يانذل يابن...
ارتد مذعوراً... تراجع خطوات... تطلع إلي بعجب وأنذر:
-لن أمررها عليك ... وسترى
-سأفقأ عينيك... أيها الخبيث... الكاذب...
-لم يتجاسر أحد عليّ طوال خدمتي في الجيش!
-لو احترمت نفسك معي... لاحترمتك... لكنك....

-كفى، كفى... هيّا حضّر حالك، وانتظر قرب البوابة... صاح مقاطعاً وابتعد مذهولاً....
انتظرت لمدة ساعة، ومجيد بجانبي، ينصحني ويرشدني، يسليني ويقوي عزيمتي، ويزيدني إصراراً، ولم أتخلص من ثرثرته حتى جاء العريف إسماعيل مرة ثانية فعجبت وزاد عجبي حين لمحته يشير خفية إلى مجيد ليقترب منه إلا أن هذا لم يفعل، فاضطر هو للاقتراب وتحفزت بدوري للرد عليه، ظناً مني بأنه سيتشاجر....
-لِمَ تتهرب مني يا مجيد؟!
أذهلنا بسؤاله ... فمازحه مجيد:
-أقسمت ألا أحدثك... ماذا تريد...؟
-جئت أسألك... أريد معرفة: من هو الرئيس كندي؟ أهو منا؟ سمعتك تقول: إنه كان على علاقة بـ...
قاطعته مجيد بهدوء: وهو يخصني بنظرة تحذيرية كيلا أتهور وأضحك:
-رح ياعريفي، إلى مكتبك وسآتي لأشرح لك عن علاقته بمارلين...
-بالسيدة مارلين مونرو...
صحح العريف وأضاف بحدة، وعيناه تراقباني:
-لايجوز يا مجيد، لفظ الأسماء، أسماء العظماء دون ألقاب.. لايجوز...
توقف لحظة، تنحنح كمن يستأذن ثم حسم أمره، ابتسم ولوى رقبته كالذليل، فتقاقم ذهولنا وكدت أسأله فسبقني مجيد:
-ماذا تريد ياعريفي ؟ يبدو أنك جئت لسبب آخر...
-أريد أن أطلب من كاكاحمة أن يجمع لي...
-فهمت يا عريفي ... فهمت...
أكمل مجيد حال تلجلج لسان العريف... والتفت إليّ مخاطباً بهزء واضح، دون أن يغير نظرته التحذيرية:
-كاكاحمة أيها العزيز، لا تنسى عريفنا المبجل، "أبو الحق" قلّب كل مايقع تحت يديك من مجلات في بيت النقيب... واقتطع منها الصفحات الفنية فقط... خاصة الملونة... و"الستربتيز" بالذات... وأجلبها عند عودتك، ليباركها "أبو الحق" ويمررها على...
-هز العريف رأسه شاكراً ومضى... فانفجرنا ضاحكين....
-عريفنا ليس مجنوناً فحسب بل خيرة المجانين...
راح مجيد يضحك وينكت، ولم أتخلص من ثرثرته، وقفشاته إلابعد مجيء سيارة الجيب.
مد السائق الشاب رأسه وصاح:
-اصعد يا كاكاحمة... يا محير عقول العباد...
ودعت مجيد وصعدت:
جلست في المقعد الخلفي... وبقينا لدقائق حتى جاءالنقيب الطيار خالد، جلس بجواري وبادرني بوداعة وإخاء:
-يا كاكاحمة، كيف الأحوال؟
-بخير، سيدي النقيب بخير...
-الحمدّ لله، الحمد لله...
-شكراً سيدي النقيب... شكراً...
-سمعت أنهم برؤوك.
-لا دخل لي في الحكاية... إلهام ورطتني...
-إلهام!! زوجة العقيد رأفت؟
-نعم، حدثتها ذات يوم عما حصل فأخبرت الشرطة...
-هل يعرف العقيد رأفت بذلك؟
-لا أدري...
سكت فسكتّ بدوري... حتى وصلنا البيت..
-تعال، أحك لي الحكاية من البداية...
صدح صوته وهو يقودني إلى غرفة الضيوف
غرفة صغيرة، مرتبة ونظيفة، احتلت المكتبة، واجهتها الأمامية، بينما وزعت الأرائك على مدارها، في سقفها، علقت ثريا بسيطة، وعلى نافذتها ستائر جميلة، طرزت عليها بالإبرة ورود ملونة وطيور مختلفة...
أجلسني ونادى على "سناء" لتسمح الحكاية معه، استقبلتني زوجته الشابة بأدب ملأ قلبي غبطة، أدهشتني حشمتها المتناهية، ووقارها وفي الحال شعرت بالطيبة تنبع من وجهها الخالي من المساحيق...
سلّمت عليها فردت مرحبة، أحسست بالأخوة تشدني إليها وبالحنان، وتطايرت خطط مجيد الجهنمية ووصاياه الشاذة من دماغي، أدركت في تلك اللحظة، أن مجيداً ليس مخطئاً فحسب، بل مجرماً حين مزج كل النسوة
-نسوة الضباط عندنا -في بوتقة واحدة...
وعلى الرغم من معرفتها بأني المراسل الجديد، أشعرتني أنني في بيتي، مما ملأني غبطة مذهلة...
حدثتهما بما وقع فدهشا، حديثي البريء لإلهام ومن ثم اعتقالي ومحاكمتي... وتمنيت أن أخبرهما بتلك المحاولات العقيمة التي قامت بها زوجة العقيد، لاستدراجي إلى جادة الرذيلة... وعمل المنكر... لكن لساني لم يطاوعني...!
قال مجيد: إياك أن تفتح فمك فالعقيد لن يرحمك...
إضافة إلى أن كتم أسرار الناس واجب كل شريف...
تخيلت أختي بشيرة أمامي، تحدثني بمحبة وتخبرني:
-غرفتك في الحديقة، وفرنا لك ماتحتاجه، وأي شيء ينقصك أخبرنا عنه...
واسترسلت حين رأتني أهز رأسي شاكراً وأجنح ‘إلى الصمت:
-لن تضجر عندنا أبداً... ولا تشغل بالك بالأكل... سيصلك يومياً دون أن تدخل المطبخ... مهمتك تنحصر في الاعتناء بمها أثناء غيابي... أنا أذهب إلى الثانوية في السابعة والنصف صباحاً وأعود في الواحدة والنصف... فأرجو الاهتمام بها في هذه الفترة... أنا لم أرتح لدور الحضانة... فلا عناية بها كما أريد ... وابنتي لم تتعافَ منذ أدخلتها، قبل أشهر...
امتلأت من الأعماق بنوع غريب من السعادة، فشكرت اللّه على نعمته... رحت أقارنها بإلهام فلم أجد شيئاً مشابهاً.
-سأضع الصغيرة في عينيّ... فاطمئنا...
-قل لي يا كاكاحمة ... وبصراحة... أسبق لك الخوض في هذه الشغلة ... شغلة تربية الأطفال؟
ضحك النقيب وهو ينهي كلامه...
ولاطفتني زوجته وهي تشهد ابتسامتي:
-لاتخجل ... أجب...
-عاونت أختي بشيرة في تربية أطفالها... ويشرفني معاونة أختي الثانية بابنتها...
-سلمت يا كاكاحمة... سلمت يا أخي...
هتفت بفرح كبير....







- 22 -
جاء المخرف إلى بيتنا بغتة، كنا نتناول الفطور حين سمعنا سعاله وهو يفتح الباب، يدفعها دفعاً... ويدلف دون استئذان، كمن يفر من شخص يلاحقه...
بدا مغتاظاً، مستاءً وهو في كامل هيئته، الأمر الذي أثارعجب أمي:
-منذ خمس سنوات لم ترتد ملابسك هذه! فما الذي جرى اليوم؟
لم يجب جلس بحذائه الجلدي وشرع يدمدم وحده..
-هل عاد عيسى؟
سألته فرد باقتضاب:
-لا...
عادت أمي لسؤاله والامتعاض يطفح على وجهها بسبب جلوسه مقابلها على الأرض:
-ولِمَ جئت؟
-جئت أبارك لكاكاحمة زواجه.
قرقرت أمي بضحكة طويلة، شامتة، واستخفت:
-أبعد شهرين يا مخرف!!
-لن أرد عليك الآن يا خجة، أنا جائع... لم أفطر بعد...
قال وعيناه ترمقان صحون الطعام بشهية.
-الأكل أمامك... مد يدك...
وبخته أمي فتشجع بسمل، رفع ردنه وبسط كفه... وبدأ يأكل بنهم..
-ألا تستحي على شيباتك؟
توقف عن الأكل لحظة مستوضحاً فأكملت أمي إهانتها:
-جئت تبارك بيد فاضية!
أحمر وجهه، زفر بشدة وصرح بأسى كاذب:
-أردت جلب هدية مناسبة تليق بكاكاحمة، قصدت دكان صالح..
-فوجدته مغلقاً، لم يفتح بعد...
قاطعته أمي ساخرة: وأضفت مستهزئاً:
-هذه حيلة قديمة يتذرع بها البخلاء..
تصنع الدهشة وصاح:
-ألا تصدقني!
-لا أحد يصدق كذبة واضحة.... كان عليك أن تنتظر الحاج ليفتح محله.. أو تطرق باب الدار.... تستحثه ليخرج... أحرجته أمي فتلعثم وعندئذ تدخلت هدهد بفطنة:
-عمي عثمان لن ينسانا ... سيجلب هدية زواجنا في مرة قادمة...
ضحكنا، أنا وأمي، فارتاح المخرف، وسألها:
-أيعجبك كلام خجة يا هداية؟
-مجيئك شرف لنا ياعمي... فأهلاً وسهلاً بك وشكراً..
-أنت ابنة حلال..
لم تسمح له أمي بتكملة حديثه، قاطعته من جديد:
-إذن ستجلب هديتك قريباً...
-سأجلبها يا خجة... إذا وافقتم...
كلامه الجاد الصريح، هيج أمي، رشقته بنظرة حادة وزجرته بغضب وهي تبلع ريقها:
-على ماذا؟
لحس شفتيه بلسانه، مسدّ جبهته وأجاب بلهجة الواثق من قدرته:
-جئتكم خاطباً.. أخطبك يا خجة من ابنك كاكاحمة..
انفجرت في عاصفة من الضحك، وامتعضت أمي بشدة .
انقلبت سحنتها غماً، ونهرته، بينما ظلت هدهد صامتة:
-هيّا امسح صحونك وعد إلى بيتك قبل أن تبول تحتك.
اعتراه الخجل وردها بانكسار:
-إنه مرض ياخجة، أمر اللّه القدير، فلا تسخري مني.
-آمنا باللّه، إذا كنت مريضاً فلم جئت؟! هيّا أكمل فطورك وامضِ من هنا...
-سأشفى قريباً بإذن الله... ذهب عيسى إلى بغداد ليسأل لي عن أفضل الحكماء:
-عندما تشفى إن شاء الله وتتعافى تماماً، أبحث عن واحدة تناسبك، تليق بمقامك أيها المخرف.
-وأنت يا خجة؟ أترفضين حقاً!
-عيب عليك يامخرف... زوّج أولادك أولاً ... عندك ثلاثة شباب يستحقون الزواج... فكر بهم...
-ألديك مال يكفيك للزواج؟
سألته أنا بعد إهانة أمي فانتفض غاضباً واعترف:
-أناأغنى من في القرية... أموالي ضعف أموال الآغا... أراضيّ المضمونة تدر ربحاً سنوياً كبيراً يكفي القرية كلها، وسياراتي الثلاث كنز لاينضب... ورصيدي في البنك خير من اللّه...
اصطدته بسهولة، وأهنته دون رحمة:
-ولِمَ لم تتبرع لبناء المسجد؟! أنت الوحيد الذي رفض المساهمة حتى بفلس واحد! أدعيت أمام الرجال الذين زاروك أنك لا تملك قوت يومك!
ارتعش من الحرج، واستشاط غضباً وحرجاً حين أكملت بهدوء وفطنة:
-قال اللّه في قرآنه المجيد: "إنما يعمر مساجد اللّه من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلاّ اللّه، وقال: "ومن يعظم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب"..
ارتبك من شدة الحرج، وزادت أمي ارتباكه بقولها:
-لم تستجب لأمر اللّه القدير، وتريد أن تتزوج أيها الكافر!
إن من لارحمة في قلبه لا يستحق الرحمة.. أتريد أن تميتني جوعاً!
لم يحتمل أكثر ... زعق في وجهها:
-وهل ماتت بشيرة؟ أسأليها، أيوجد في القرية من يأكل مثلنا؟
-لأنك دنيء النفس شره، يشتد اشتهاؤك للطعام بمرور الوقت، وحرصك على إحضار ماطاب لك ولذ!
-كفى.... كفى..
-لا تغضب يا عمي.. عمتي... تمزح معك.. تمزح..
تدخلت هدهد عندما سمعته يغمغم ويهمهم..
أشرت إلى أمي بالسكوت... ففعلت... لكنه لم يهدأ استمر بهذيانه حتى طرق الباب...
نهضت أمي لتفتح بسبب قربها من المدخل.. فرفع عينيه فلمحت فيهما حزناً دفيناً وخوفاً، وترقباً.. ولم يطل الأمر... فمجيء يحيى ويوسف المفاجئ أذهله، جمده في مكانه.
-أنت هنا! ونحن قلبنا القرية بحثاً عنك..
تنهد يوسف وزمجر يحيى بوجه أبيه المرعوب:
-ماذا أنت فاعل؟ أتريد استغفالنا ياسيد عثمان!
سكت المخرف... لم يقو على الكلام، فأردفت يحيى:
-أتتفق من وراء ظهورنا مع السلماني الكلب! أتظننا سذجاً لا نعرف ألا عيبك؟
-كذب... كذب... لم أتفق مع أحد...
دمدم مهتاجاً فأفحمه يوسف:
-لعلمك يا أبي، كنا الآن عنده... في البيت... لقناه درساً لن ينساه، وطردنا من كان بانتظار تشريفك، ليأخذك إلى أربيل لتوقيع العقد، لماذا تفعل هذا؟ أأنت بحاجة إلى مال؟
صمت المخرف مأخوذاً بجرأة ابنيه، فبربرت خجة مغتاظة:
-لم أفهم شيئاً!!
ابتسم يحيى وأوضح:
-أبونا المحترم يريد بيع بيت أربيل، دون إعلامنا...!
هذه هي المرة الثانية يا عمتي... التي يمكننا اللّه منه... في الأولى أفشل كاكاحمة العملية دون قصد حين أخذ أوراق البيع... واليوم نصار...
-كذب... كذب...
زعق بوجوههم وغادر البيت على عجل، دون أن يترك أثراً لبول، ولحق به الأخوان وهما في غاية الفرح...
-ربما دثر نفسه، أو وضع دثاراً... على قلاقيله... علقت أمي هازئة وهي تدقق في مكانه...
تحدثنا عن محاولة السلماني لاستدراج المخرف عن طريق سلطان ووساطته... واستنتجنا أن صفقة رابحة وراء ذلك، وهي التي أسالت لعاب المخرف ودفعته ليستعيد شبابه فيرتدي ملابس الحفلات ليمضي إلى أربيل...
بعد الفطور، أخذت هدهد إلى الأرض الشرقية، وبدأت العمل في البئر، بعد أن أكسبني بئر المختارخبرة كبيرة.
قبل يومين حددت المنطقة التي سأحفر بها، وأحضرت العدة اللازمة، فأس ومسحاة وقفة وحبل وإزميل...
رحت أحفر بهمة ونشاط، أملأ القفة بالتراب، فتنقلها هدهد إلى منطقة قريبة.. ترميها وتعود... وسرعان ماكبرت الحفرة ونزلت فيها... ولم تتوان هدهد لحظة.. كانت تسحب القفة بوساطة الحبل، بنشاط وحيوية ودونما ضجر....
وجاءت أمي لمساعدتنا، أخذت تتلهى بطحن ماجلبته أمس من القرون، تمهيداً لمجيء سعدو، الذي لم يمانع في العمل معي، حالما كلمه نصار، الذي حذرني منه "رأيته مع حسان"!
لم أستمر بعملي طويلاً، إذ أصابني الإرهاق وعاودني الصداع كما أن خشيتي على هدهد وعلى الجنين -الذي اعتقدت أنه بدأ ينمو في أحشائها-أجبرتني على التوقف طلباً للراحة.
تمددت بجوار أمي، ورحت أسترجع ماحصل لي، وما سيحصل.
كان الجو مشمساً، وثمة نسيم بارد عذب راح يلفح وجهي، أغمضت عيني وكدت أغفو.
سمعت صوت بشيرة تتساءل ضاحكة:
-ماذا قلتم لعمي ؟ ماذا؟
-لعنة اللّه عليك وعلى عمك المخرف... تعالي ساعديني... استقبلتها أمي باستياء وأمر، فقهقت بشيرة عالياً قبل أن تقول:
-هددني بالتجويع، إذا رفضتم طلبه.عرضه السخي بخطبتك يا خجة!
-خطبه إبليس إن شاء الله، أتدرين إنه خرج صباحاً قاصداً بيت الآغا ولم يكن في نيته المجيء إلى هنا.؟!
-أعرف ... أعرف، ظل يحيى يستجوبه طوال الليل حول سبب مجيء سلطان، فلم يحصل منه على مايفيد وفوجئنا صباحاً بنصار يخبرنا بأن عمي في بيت السلماني! تسلل من البيت دون علمنا... وحين شعر باكتشاف أمره فر هارباً إليكم... ليسوغ خروجه المبكر والسري...
في تلك الأثناء جاء من يخبرنا بوصول خالتي مريم إلى دار السلماني، فبعثت معه إليها رسالة شفوية مستعجلة:
-أيتها السافلة، إذا تخطت قدمك عتبة دارنا، سأدفنك حية... عودي إلى أحضان زوجك الكلب.. وأنذرت أمي وبشيرة:
-سأكسر رأس من تلتقي بها، لأي سبب من الأسباب .
(( شعرت وأنا في بيت النقيب خالد، بأني أعيش في بيتي، بيت أخوتي!
كانت غرفة واسعة ومريحة، سرير نحاسي عريض، وشراشف بيضاء ناصعة، مطرزة، وراديو صغير وتلفزيون شدني إليه شداً .
سررت بوجودي مع النقيب وزوجته، وسعدت. وسرّا بي أكثر وسعدا، وتعلقت الصغيرة مها ابنة الثالثة بي، إلى درجة عجيبة.
كنت أفطر وأتغذى وأتعشى معها كل يوم ماعدا الجمعة، إذ تصحو على يديّ، تستفيق من نومها في حدود التاسعة صباحاً، حيث يكون والدها في المعسكر، وأمها في الثانوية، أطعمها، أنظفها، وألاعبها، وأحكي لها الحكايات، تبقى معي حتى التاسعة ليلاً، تنام على كتفي فيضطر النقيب لأخذها برفق إلى السرير..
سناء المؤدبة الخلوقة، كانت امرأة بحق، تمتليء أعماقها بحب الناس فإضافة إلى مهنتها كمدرسة رياضيات ناجحة، فهي ست بيت نشيطة، لا تكل عن العمل أو تتعاجز.
وعلىالرغم من كثرة ضيوفها -من الأقارب والأحباب والطالبات- فبيتها يظل على الدوام نظيفاً مرتباً.
وعلى مر الوقت كان وجهها الذي لم يشهد الأصباغ، ضاحكاً مبتسماً، وبخاصة أمام زوارها، مما أثبت لي وأنا أقارنها بإلهام زوجة العقيد رأفت -طالبة الثانوية الفاشلة-بأن العربة الفارغة أكثر ضجيجاً، والسنبلة الممتلئة تنحني تواضعاً، وتبقى الخاوية منتصبة بزيف كاذب..
وكذلك كان النقيب خالد، خلوقاً ومؤدباً، لم أره قط منفعلاً أوغاضباً وظل مبتعداً عن الأهواء والأضواء : ولولا المناسبات والاجتماعات لما ترك البيت" بعد عودته في الثانية والنصف، أو أحياناً في الرابعة، ومنذ اليوم الأول عرفت أنه يتحاشى السهر والخروج مساءً، ويتجنب الاختلاط واستقبال الزوار!
فحال وصوله يأخذ حماماً وينهمك بعده في قراءة مايجلب من الصحف والمجلات الجديدة، التي يحرص على اقتنائها كل يوم... ثم يجلس لمتابعة برامج التلفزيون، قبل أن يتعشى في الثامنة، وينام في العاشرة...
كنت سعيداً معهماوفرحاً، واستمرت سعادتي وفرحي لسنة ونصف، ثم انتهى كل شيء في غمضة عين!
ففي يوم كالح وصبيحة لئيمة، انطفأت فجأة شعلة الحياة المتوهجة، ورحل النقيب خالد إلى السماء، ليلاقي خالقه!
تحطمت طائرته أثناء التدريب، ولم يسعف وقتئذ كما تقتضي التعليمات! مات فانتهى حلم سناء، وتكالبت الشجون فوق رأسها دفعة واحدة! فلم تمض ثلاثة أيام على المصاب الجلل حتى قدم أشقاء الراحل، يطالبون بحصتهم من "الغنيمة" ويدعون بما ليس لهم، وكأن الميت خروف وليس إنساناً!
ساوموها بنذالة يندى لها الجبين، بين إبقاء طفلتها معها وبين حصة زوجها، من ميراث أبيه،حصته من أملاك عديدة وثروة طائلة، ماكان الراحل يذكرها في حياته...
أرادوا تحويل حياتها إلى جحيم فهددوها لإجبارها على الموافقة والتنازل عن كامل حقوقها، وكادت تفعل لولاي...
وعيت اللعبة بكل أبعادها، فوقفت في وجوههم بشجاعة وجرأة وطردتهم حين جاؤوا لسرقة محتويات الدار مستغلين عدم وجودها، إذا انتقلت إلى دار والدها، لتلتزم العدة الشرعية.. تشاجرت معم وضربتهم... تغلبت عليهم رغم كثرتهم...
طول مدة تواجدها مع أهلها، بقيت أحرس البيت وحدي، أحافظ على محتوياته من شر أحقر خلق اللّه وأقذرهم ولأني عشت معهم على كفوف الراحة، أدركت أن الواجب يحتم عليّ الاستماتة في الدفاع عن البيت...
واستفدت من فرصة البقاء وحيداً، فجمعت المجلات القديمة، ورحت اقتطع الصفحات الفنية،وأقص صور الفنانين كهدية لعريفي إسماعيل مونرو المحترم... متناسياً كل ماعمله ضدي...
وبقيت أنتظر عودتي إلى المعسكر التي أصبحت أمراً مؤكداً، بعد رحيل النقيب...
وحين انتهت عدتها رجعت سناء إلى بيتها، مع أختها وابن أختها الصغيرة، عادت منهكة جزعة... تحمل في صدرها قلباً منكسراً، حزيناً...
-ماذا أفعل يا كاكاحمة؟ قلبي يتوجس شراً... من هؤلاء الأوغاد...
-قبل كل شيء أسرعي لتسجيل الدار باسم "مها" اليوم قبل الغد حتى لا تندمي...
-لماذا؟
-ألم تقولي إنهم أوغاد... قد يدبرون لك مكيدة..
فيتقوّلوا عليك مالا يصح... مايشين سمعتك.
-كيف ؟ أنت تذهلني...
-قد يقولون مثلاً: رأيناها مع رجل غريب... وبذلك يمنعون حضانتك لمها... ويطردونك من البيت...وعندئذ يتاح لهم بيعه بسهولة...
-غداً سأذهب إلى مديرية الطابو...
-الأمر ليس سهلاً... سنذهب أولاً إلى محام صديق زوج خالتي ... نستشيره...
-ولم لا أسجله باسمي؟!
-لا... سيثير ذلك شكوكهم، ويدخلونك في متاهات المحاكم بتهم التزوير والتلاعب بأوراق رسمية... سجليه باسم مها كي لا يحق لهم بيعه...
-أحسنت يا كاكاحمة... أحسنت... إنها فكرة رائعة...
-وسأذهب إلى المعسكر لمقابلة العقيد رأفت يجب أن يتحرك ويلجم الأوغاد... فكفاه سكوتاً...
-أتصدق أنني لم أره بعد الحادث، إلاّ مرة واحدة!
-أصدق..







- 23 -
فشلت محاولة البئر وخاب مسعاي:
فبعد خمسة عشر يوماً من العمل الجاد، وعشرة أمتار من الحفر صادفتني طبقة صخرية، صلدة!
أعلمتني رنة أول فأس على سطحها، باستحالة تفتيها، ولم تكتف، بل أسمعتني صرختها المدوية، حين لمحت إصراري على متابعة العمل، وعدم مبالاتي بها:
-لاتتعب يا كاكاحمة... كفى، فلا جدوى مماتفعله.
ورددت جدران البئر العاقر صدى الكلمات العشر وأعادتها أمي على مسامعي حالما هجست نيتي! ومن بعدها فعلت بشيرة، التي لم تأت لمساعدتي بل جاءت تشكو سوء حظها وتندب حالها، ولتعلن بدموعها الساخنة:
-إن خصامي مع يحيى هذه المرة هوالأخير.
لم أصدق، لم أقتنع، فكذبتها واضحة كشمس الظهيرة.
ولأني كنت منزعجاً بسبب البئر، تجادلت معها بغضب وأرجعتها إلى البيت حالما ارتفع صوت زوج عمتي، يؤذن للمغرب... لم استسلم للفشل فمازالت أعيش لذة العمل ونشوته.
لذة الروح وهي حالة من النورانية والانشراح في الصدر، فأعلنت تصميمي على مواصلة الحفر، حتى وإن اقتضى الأمر التسلل إلى ثكنة الجيش القريبة، لغرض الحصول على أصابع ديناميت، لتفجير الصخور المعترضة، وإزاحتها عن طريق الماء المخزون.
أعلنت ذلك للجميع وكدت أمضي قدماً لولا هدهد ... فعلى السرير، وإثر عجزي عن مجاراتها في الحب وخيبتي قالت مازحة :
-نضب بئرك يابن عمي، فلا تتعب نفسك.
هجست امتعاضي فأردفت بسرعة:
-كفاك تعباً وإرهاقاً لجسدك، وضياعاً لوقتك،اهتم بصحتك وليذهب البئر إلى الجحيم.
-الأرض بحاجة للماء ياهدهد!
-يمكننا جلب الماء من الجدول...
-ذلك أمر صعب... سيرهقنا...
-من أجل سعادتك، أقدم روحي رخيصة أمامك.. شكرتها، وقررت التوقف عن الحفر، وطمر الحفرة التي أرهقتنا، وإعادة التراب إليها....
ضاع جهدي المبذول طوال أسبوعين، وتطلبت عملية الردم ساعات نهار يوم كامل، أحسست في نهايته بارتجاف بسيط في جسمي، فأيقنت على الفور أنها علامات الانهيار، ثم استسلمت لنوبة الدوار المفاجئة... وأجبرت على الاستراحة ليومين متتاليين قبعت خلالهما في البيت، وعلى السرير بالذات ودونما حراك...إذ عاودني الصداع بشدة، وعاد ليعصف برأسي ثم حلت الحمى بجسدي كله، فاستلقيت على أساس أن النهاية حانت، ورحت أتلمس جسدي، تصورته نحيلاً هزيلاً لم يبق منه إلا الجلد والعظام... ووجهي شاحباً تعلوه، صفرة الموت...
ولأني رحت أهذي، توسلت أمي إلى الملاّ أن يأتي لزيارتي ليقرأ بعض السور القرآنية، ويكتب لي تميمة تقيني شروراً كثيرة، وتبعد الضرر عني وتجنبني عيون الحسد والحاسدين.
ولم يتأخر جاءني والألم يكاد يمزق الأحشاء، جلس قرب رأسي، لم تكن صحتي تسمح لي بفهم مايقوله ومتابعته... لكني سمعته يستعيذ ويبسمل، ويده على جبهتي، راح بعدها يؤذن ويقيم في أذني، ثم شرع يقرأ آية الكرسي، وفاتحة الكتاب وسوراً أخرى قصيرة.. مما أشعرني بشيء من النشوة..
ففتحت عينيّ لأشكره... فواجهني وجهه الباش وابتسامته العميقة:
ربت على كتفي بحنان وقال:
-ابشر يا كاكاحمة فالرسول (ص) يقول: إن المؤمن إذا حمّ حمّى واحدة تناثرت الذنوب عنه كورق الشجر.
فإن صار على فراشه فأنينه تسبيح وصياحه تهليل، وتقلبه على الفراش كمن يضرب بسيفه في سبيل الله وأن أقبل يعبد اللّه عز وجلّ بين أصحابه كان مغفوراً له، فطوبى له إن مات وويله إن عاد، والعافية أحبّ إلينا... ولا تنسى يا كاكاحمة: إن صراع ليلة يحطَّ كل خطيئة إلا الكبائر... وحمى ليلة كفارة سنة، ذلك لأن ألمها يبقى في الجسد سنة، لذا فإن سهر ليلة من مرض أفضل من عبادة سنة.
وتذكر يا بني إن المرض للمؤمن تطهر ورحمة وللكافر تعذيب ونقمة ولعنة...
كرر أقواله وأدعيته وذهب بعد ساعة ... وتبعته أمي فبقيت مع هدهد المرعوبة:
-ماذا بك يابن عمي؟
-عضلاتي مشدودة، متوترة، وأشعر بالإنهاك...
-أعطني ظهرك لأدوسك... سأفرك عضلاتك... أمرغها تمريغاً..
ضحكت على ألمي ولاطفتها:
-كم ظهراً داست يداك... حتى الآن ياهدهد؟
فطنت لسخريتي فركبهاالحياء وردت بمزاح:
-أنت الثاني يا بن عمي... الثاني...
سكتت لتجس نبضي وتسمع ردة فعلي، فالتزمت الصمت وكتمت ضحكة كادت تفلت من شفتي...
وحين دهمها اليأس من سماع جوابي أكملت والابتسامة تشرق في وجهها:
-أبي لم يكن يرتاح إلاّ ليديّ... كان يخشى من كفيّ أمي الغليظتين...
-وأنت ألا تحتاجين لمن يفرك عضلاتك يا هدهد؟
-لا تسخر ياكاكاحمة.. أنت تعرف أني بلا عضلات... ثم إن العمل معك نشط جسدي ... أزال خمولي، ومنحني قوة كبيرة....
بارك الله بك ومتعك بالصحة والعافية...
خاطبتها بفرح وسألتها بعد مشاهدتي صينية الأكل موضوعة على جنب:
-هل تناولت الفطور؟
تلعثمت، ترددت في الإجابة وقالت بعد حين:
-نفسي لا تطاوعني... منذ سمعتك تتلوى في الفراش عافت نفسي الطعام... كرهت الدنيا... إضافة إلى إحساسي بالغثيان... وبالدوار... عندما استيقظت صباحاً...
هدر حديثها في دماغي وأفرح قلبي، فتحركت يدفعني السرور:
-منذ متى؟.
-منذ يومين! لكني خجلت من مصارحة عمتي... لم أحب إزعاجها وهي مشغولة بك...
-هدهد!!
هتفت فرحاً واحتضنتها، فبوغتت:
-مالذي حدث!
لم أجبها، حلقت في السماء طرت مسروراً مخمناً وجود سبب لإحساس هدهد..
تحاملت على نفسي.. تركت السرير ومضيت أسأل أمي التي خرجت في وداع الملاّ، أسألها وأستجوبها: فتهلهل وجهها وهرعت إلى الغرفة، تفحص هدهد بعين خبيرة متمرسة، وأعلنت بعد دقائق وهي تطلق زغرودة:
-مبروك يا هداية... مبروك ... أنت حامل ... ألف مبروك لك يا كاكاحمة...
ارتعش جسدي، تملكني الحبور... وتطايرت الحمى... لم أتمالك زمام أمري... قبلّت رأس أمي وجبهتها وقبّلت هدهد، التي اعترتها النشوة والارتياح، وراحت تتمتم من فرط الحياء والبهجة...
صح اعتقادي كنت متأكداً من حملها، فأنا كاكاحمة!
لم أشأ البقاء في البيت والاستسلام للمرض.. كنت أعرف أن الرجل قد يتحطّم لكنه لن ينهزم... لذا خرجت أزف النبأ للسماء وأشكرها، للأشجار، للأرض... متناسياً مرضي وصداعي... طرت مبتهجاً ... ففي بطن هدهد جنين معجون من طين جسدينا...

قادتني قدماي إلى الأرض الشرقية... نمت وسطها، وراحت عيناي تحدقان في السماء الرحبة...
كل شيء بدا على غير ماتعودت! الشمس وهي تغيب والقمر وهو يبزغ، يتلألأ بشدة عجيبة، وتتوهج نجوم درب التبانة بصورة غريبة، لا مثيل لها، كأنها تنير لي الطريق، ترشدني وتحفزني على السير قدماً في مشاريعي فكرت في كل شيء.. في إلهام والعقيد، وفي سناء والنقيب، في مجيد والعريف.. ثم في الأرض.. وفي أفضل مايمكن أن نزرع وأسهل... ووجدت اقتراح يوسف بزراعة الكروم هو مايناسبني حقاً... وتركز تفكيري في عنب محلي على شكل عرائش... لأنه "مشروع، نافع، ناجح" يسهل تسويقه... كل مانحتاجه لمستلزمات العمل هو الحصول على جرار لقلب الأرض وحراثتها...
قررت أن أبدأ بشكل بسيط، حتى لا أضطر إلى الاقتراض... فمن يقترض اليوم يستجدي غداً... خططت وقست.
ونصبت ركائز العرائش وأعمدتها...
وقررت أيضاً حث يحيى ليجلب شتلات عنب "الخليلي" الأكثرحلاوة، و"الآشوري" الكبير الحجم... كنت مستغرقاً في أحلامي، حين سمعت صوت بشيرة تنادي من بعيد...
توقعت حدوث خصام جديد، فلعنتها في سري.. وتغاضيت عن ندائها المتكرر.
-ماذا بك؟ ألم تسمعني حقاً!
صاحت باستياء وهي تقف على رأسي:
-عودي من حيث جئت.. لست متفرغاً لك... هيّا، حلّي مشاكلك السخيفة مع زوجك... وفي بيتك ... هيّا... ولا علاقة لي بالموضوع ... أياً كان... هيّا ... عودي...
-أنا لم آت من أجل ذلك يا أخي المحترم!
-ولم جئت إذن؟
-عيسى؟
-مابه؟
-عاد قبل قليل...
لم أدعها تكمل... قفزت فرحاً، وهرعت للقائه..
في الطريق صادفت سعدو.
-كيف أحوالك يا كاكاحمة؟
-أحسن منك..
كنت على عجلة من أمري، ولم أرغب في إضاعة الوقت مع ذلك وحتى لا أنسى وتفوت عليّ الفرصة قلت له:
-اسمع يا سعدو... لا ظنّ أنك تستطيع خداعي بألاعيبك ...
-خير إن شاء الله... ماذا بدر مني؟
-هل سيزوجك حسان من ابنة أخ كهرمان؟
-أعوذ باللّه.. تلك كانت نزوة حطمت أطرافي..
-مالذي تخطط معه ضدي؟
-لاشيء وحق المعبود... لاشيء....
-إذن اعمل معي بشرف ولا تتهرب...
صحت به ومضيت نحو بيت المخرف.






- 24 -
بعد يوم واحد من عودة سناء إلى بيتها، مع أختها سهام، أبلغت بأمر الرجوع إلى المعسكر!
وجبت عودتي، فمهمتي انتهت بمقتل النقيب خالد وماعاد وجودي ذا نفع، وكدت أنفذ الأمر وأعود، لولا سهام تدخلت بسرعة وحزم وفلحت مساعيها.
استأذنت من أخيها رأفت، -الذي غدا عميداً-ورجته أن يؤجل عودتي أسبوعاً "بسبب حاجة سناء إليّ لإتمام بعض الأعمال" فوافق بشرط "عدم بقائي معهما في البيت...".
أسكنني في فندق قريب،بناء على نصيحة زوجته إلهام، التي توقعّنا إنها وراء شروطه... وحدسنا إنها وشوشت في أذنيه "إن بقاء رجل عازب مع امرأتين شابتين إحداهما أرملة، يثير الأقاويل ويجلب الشك".
ولقد صحت توقعاتنا بالكامل، إذا أخبرتني إلهام فيما بعد "إنها عملت كل ذلك من أجلي فقط".
عملنا المستحيل لوقف المآسي التي حلت بسناء، ونجحنا في درء الخطر عنها وعن ابنتها الحبيبة.
وساعدنا كثيراً تدخل العميد رأفت، لصالح أخته وقوفه إلى جانبها،وتهديده الصارم لإخوة المرحوم خالد "بالموت إذا لم يبتعدوا عن سناء..."!
في اليوم الخامس من رقادي في الفندق، التقيت بإلهام، حدث الأمر مصادفة قرب مدخل بيت المرحوم، وربما كانت المصادفة أحسن بألف مرة من الميعاد....
كنت قادماً لاستكمال المعاملة، وإنجاز مابدأناه مع المحامي في تسجيل البيت باسم الصغيرة مها، وكانت هي قادمة للزيارة.
في حدود الثامنة صباحاً توقفت السيارة العسكرية أمامي فواجهتني وجهاً لوجه... دهشت، فقدت رشدي وأعصابي، وجمدت في مكاني على الرصيف... وجثمت هي في مقعدها لثوان، نظرت إليّ بشيء من الاحتقار والغطرسة وتطلعت إليها بدهشة وإعجاب.
لم أرها منذ ضربتني، وهاهي أمامي أكثر فتوة وشباباً.
تذكرت ماحصل فأحرق العطش إلى الانتقام وأخذ الثأر حنجرتي، كدت اندفع نحوها، ألقنها درساً بما فعلته وتفعله بي، لكني بذلت جهداً كبيراً كيلا أفضح هياجي... نظرت إلى وجهها فطالعني وجه شابة في العشرين!
ولا أدري كيف نسيت وتناسيت كل أحقادي! وابتسمت لها، فابتسمت أقحوانة العشق في أعماقي.. فأيقظت روح الحماسة داخلي!
-أنت!!
همست بعجب وهي تقترب مني، إثر نزولها، فركبني الشيطان، لعب بعقلي، وبرز مجيد أمامي ضاحكاً... حاثاً مشجعاً:
"إنها فرصتك يا كاكاحمة فلا تضيعها بتهورك... إلهام مازالت تنتظرك... فأعلمها ولو من طرف خفي أنك أخطأت بحقها... وإن مافعلته آنذاك كنت مكرهاً عليه... مرغماً... والآن عقلت ونضجت..."!
ظل بصري مركزاً عليها... سمنت وازدادت جمالاً وروعة:
-كاكاحمة بنفسه، بلحمه ودمه ياإلهام..
-إلهام!!
همست باستغراب ودلع أضافت وعيناها ترصدانني بحذر:
-ماذا تفعل هنا؟ ألم تذهب إلى المعسكر؟
-مازال أمامي يومان...
-أتنام هنا؟
-أوامرك نقلتني إلى الفندق..
بوغتت، بلعت ريقها واستفسرت بمكر:
-ولِمَ جئتَ الآن؟
دفعني مجيد إلى الأمام، قرصني في خدي وهمس في أذني من جديد حاثاً مشجعاً... فتملكتني الشجاعة، وأيقنت عندئذ ضرورة الرضوخ أحياناً، الانحناء أمام "العواصف".. إذا كان عليّ أن أستسلم أخيراً، لأمر لم أكن مقتنعاً به... فتلبستني الجرأة واعترتني شجاعة لم أحس بها من قبل... شجاعة من نوع غريب...
اضطرمت النار في جوانحي .... حلقت صقوري في الفضاء تريد أخذ الثأر! هامت مجرحة تنوشها آلام الذكرى، وأثر الضربة، ويرن في آذانها دوي تلك الصفعة المفاجئة، ويدميها أن يمر الأمر دون عقاب...
-جئت من أجلك.. من أجلك فقط...
افترّ ثغرها عن ابتسامة رائعة، وهمهمت:
-من أجلي!!
-نعم ... لأخبرك بأني تعلمت الطبخ... أخذت فنونه كما تشتهين...
رمقتني بنظرة شيطانية حادة، مدهوشة، وزمت شفتيها كمن يختار أفضل الكلمات، لينطقها...
الإحساس الغريب الذي حملته عيناي، جعلها تتأكد من جديتي... فهتفت نظراتها بفرح "سنرى"...
ابتسمت ثانية وبعمق، ثم مالبثت أن دفعتني جانباً. فتحركت قليلاً موسعاً لها مجال المرور، فمس كتفي كتفها! مجرد احتكاك ملابس ...... النار شبت داخلي! فسرى دبيب الشهوة فيّ وارتعشت أطرافي لذة!
فتحت باب الحديقة بنفسها، بيد مرتعشة، ودخلت تقدمت خطوة، والتفتت، خصتني بنظرة معبرة ومضت هاربة!
استشعرت استعدادها لأعطائي فرصة ثانية.
فانتعش صدري بهجة،وانتظرت موعد الاختبار بلهفة وشوق.








- 25 -
عاد عيسى فألهب جوارحي، ألهبني وجوده في القرية، نيراناً حامية، وألهبته باقتراحي حماساً كبيراً.
-فكرتك رائعة يا كاكاحمة، رائعة، ولكنهم لن يسمحوا لنا...
-لا تيأس... لنحاول، فالحال تغيرت، ولا تظنني جاهلاً، بذلك، كنت أعرف أننا سنصطدم بالمعارضة... لذلك سعيت إلى إعادة بناء المسجد وتوسيعه ليكون البديل... به نبني الروح والعقل معاً...
-جيد.. الوقت مناسب جداً لفتح المدرسة، لكن أين سنفتحها إذا حصلنا على موافقتهم؟ أين؟! إنها ليست غرفة واحدة..
-سنبنيها على أرضي...
-أرضك غير صالحة لبناء مدرسة.. إنها مائلة ومرتفعة، الصعود إليها ينهك الصغار ..
-ماذا تقترح إذن؟ أين نفتحها؟
-لا أدري لم أفكر بهذا من قبل... أنت فاجأتني حقاً ثم أن الأمر ليس سهلاً فمديرية التربية لن توافق بسهولة.. والآغا سيمنعها بأسنانه.
-سأدفنه إذا أبدى رفضاً... المختار والملاّ معنا..
-المدرسة حراب مسمومة، لن يسمحوا لها باختراق أمعائهم... لن يهضموها أبداً.
-هناك ألف مدرسة ومدرسة في أربيل وحدها، فلماذا نحرم نحن؟!
ثق أنني سأبنيها مهماكلفني الأمر من مال وجهد سأبنيها حتى لو اقتضى الأمر قتالهم... سأبنيها على أشلائهم... بشرفي... سأبنيها كما بنيت المسجد... وستكون أنت مديرها...
-أهدأ يا كاكاحمة... الأمر لا يحل بالانفعال...
قال مهدئاً وهو يرمقني بعين العجب..
وأضاف بعد فترى صمت وترقب:
-صحيح، علينا استخدام إيوان المسجد مؤقتاً، منذ الغد سرني اقتراحه فهمست معلناً موافقتي...
-فكرة جيدة... مدهشة.. الملاّ لن يرفض..
كنا نجلس في المقهى .. ننفرد في طاولة بعيدة عن صخب الرجال وثرثرتهم... ونصار يراقبنا ويمدنا بأقداح الشاي بالليمون... فرحاً بشقيق زوجته الذي جاء يبارك ويهنئ الزواج الميمون
إنها مجرد فكرة.. ربمانعثر على مكان أفضل كي نحصل على إجازة التربية بفتحها... لتغدو نظامية..
-هيا نذهب إلى الملاّ لأخذ رأيه، واستشارته..
سحبت يده حين لحظت تردده، خرجنا من المقهى باتجاه المسجد، ولاحقنا نصار بعينيه المستغربتين لم نجد الملاّ هناك فقصدنا البيت.
فتحت لنا الخالة رباب الباب، وأدخلتنا إلى الصالة.. حيث كان الملاّ يرتل القرآن.
رحب بنا، وبعيسى بالذات، مثلما رحب بالفكرة وأبدى مساعدته:
-سأجبرالرجال على جلب أطفالهم..
-قانون التعليم الإلزامي يجبرهم على ذلك..
ضحك الملاّ من قول عيسى وقال:
-لايابني...لا... في قريتنا لانطبق قوانين الحكومة، وبخاصة هذا القانون...
احتد عيسى وأعلن احتجاجه بأدب:
-ياحضرة الملاّ... هذا القانون بالذات أحسن القوانين وهو أمضى سلاح بيدنا ضد الجهل والمرض..
بسط الملاّ كفيه بانزعاج وقال موضحاً:
-البريطانيون هم الذين سنوا قوانين المدارس عندنا وفتحوها في بلدنا لتضييع أقوات أطفالنا وضياعهم..
وتشتيت روابط الأسرة.. ولحمتها...
أراد عيسى الاعتراض فمنعه الملاّ وتابع:
-مبروك لك يا كاكاحمة.. انجب ولداً أو ازرع شجرة.. أدركت مايقصد فأكدت له:
-وسأفعل ... سأحرث الأرض وأزرعها...
-اهتم بصحتك يا بني... فهي أثمن مافي الوجود ... لا تدري ماذا حل بخجة وهداية، حين سقطت طريح الفراش؟
اللّه الشافي.... "إذا مرضت فهو يشفين...".
-أحسنت يا كاكاحمة ...أحسنت.
ردد بلسان ذرب، وسكت لحظات، قبل أن يسأل:
-ماذا ستزرع في أرضك...؟
-قررنا أنا ويحيى أن نزرع الأرض عنباً..
-عال ..والماء؟ سمعت بفشل مسعاك في البئر ...
-سنجلبه من الجدول...سأنزل غداً إلى المدينة لأشتري المضخة والأنابيب اللازمة...
-أنت مرهق ولا داعي لمزيد من الإرهاق...
-لا ياعيسى... يجب أن أنزل بنفسي... وستأتي أنت معي... لتشتري الأقلام والدفاتر وكل مايلزم للمدرسة...
رفع الملاّ رأسه ليسمع جيداً مايقوله عيسى:
-مديرية التربية ستتعهد بكل مستلزمات المدرسة.
تبسم الملاّ ارتياحاً وأوضحت:
-نحن نهيئ ماقد يمنع علينا... مالا توفره الوزارة...
-الآغا منير لن يسمح لك...
أفتى الملاّ بما ينضح به صدره فدهشت، صحت به:
-لن يسمح!! سأقطع ذراعه يا حضرة الملاّ وذراع من يسانده...
اصفر الملاّ وحتى لا يهان تبسم مرغماً، فاستمر لساني مردداً:
-أتظنني خائفاً من تهديداته الفارغة، قسماً أيها الملاّ...
وأرجو أن يصله كلامي الليلة... قسماً بأني سأحز رقبته بالكامل وبالمنجل ذاته، وإذا مابدر منه أي عمل ضدي.., إنني أراقبه بحذر مراقبة دقيقة...وأتوقع أن يقوم بعمله غدر... لكنه لن يلحق...لا وحق الرب...
ضحك عيسى ثم أخبرني بسر بينما التزم الملاّ الصمت التام:
-سمعت أنه أبلغ زوّاره بأن سكوته عنك لن يستمر وأنه كلف حمودة بمراقبتك على الدوام...
-بأي عين؟
استغرب الملاّ وعنفني:
-لا تسخر يا كاكاحمة الآغا غادر وحمودة لكلب ذليل... فخذ الأمر بمحمل الجد...
-أعرف ذلك... أنت لم تعرفني جيداً بعد... لذا فمازلت تتصورني غافلاً ولا مبالياً بمايفعله السلماني... يا ملاّ، لقد حززت رقبته بمنجلي وأخذت منه دين أبي، واسترجعت أرضي وخصيت ثورة، وتريد أن ينسى أويسكت عني...! لا ياملاّ، لا... لا يجوز ذلك... حتى اللّه لا يقبل... صحيح إنه لم يرسل شخصاً ثانياً ليفتش بيتي، لكنه قد يفعل
-وماذا أعددت له؟
سألني عيسى بجد فأجبته دون تردد:
-مفاجأة مذهلة... قنبلة حارقة... سأفجرها تحت مؤخرته، إذا فكر في اللعب بذيله... وهو يعرف ذلك، وصله تهديدي منذ زمان تكلمت بعصبية فلازمني الصداع،غطيت وجهي بكفيّ ثم رحت أمسدّ جبهتي، وأفرك صدغي... ففزع عيسى واستفسر بهلع وهو يكشف عن وجهي، يبعد يدي:
-ماذ بك؟
-مازلت مجهداً من جراء الحفر...
-أتحتاج لمساعدة...؟
-لا...
-إذن دعني آخذك إلى البيت لترتاح...
-لا... دعه هنا... تمدد يا كاكاحمة وارتاح...
اعترض الملاّ,... ولم يسمح عيسى لي بمزيد الكلام، قال:
-حسناً... كماتشاء يا ملاّ... سنتباحث في أمر المدرسة فيما بعد يا كاكاحمة...
تركني ومضى إلى دار نصار ليبارك لافتخار زواجها من "رجل شريف، مقتدر"، وأبقاني مع الملاّ الذي ابتلي بي...
انشغل مع الخالة رباب في تهيئة أسباب الراحة والهدوء ..حتى جاءت أمي بعد ساعة على غير توقع. جاءت فزعة، هلعة، خوفاً من حصول "شيء فظيع معي" لم تفصح عنه بلسانها لكن عينيها أوضحتا مخاوفها...
تهامست مع رباب، وتكلمت مع الملاّ فاعترى الشحوب وجهها وارتعبت، جلست بجواري وراحت تفرك جبهتي وأصابعي... وتقرأ قصار السور وتنفخ في الهواء...
لم أحتمل البقاء، شعرت بعظيم خوفها، فرأيت من الواجب ألا أزيد عذابها... تحاملت على نفسي وخرجت وحدي أبقيتهم حيارى... ألقيتهم في أتون الشك، ومضيت إلى الأرض الشرقية تمددت في وسطها وغفوت...
بعد دقائق جاءني نصار، بوجه باش ضاحك...
-مرحباً أيها الحبيب... مرحباً...
هتف محيياً كأنه لم يرني منذ أسبوع...!
جلس بقربي وشرع يسرد عليّ تفاصيل حياته الجديدة.
ويتحدث عن النعيم الذي يعيشه، بعد دخول افتحار بيته... الذي تحول إلى كتلة نشاط.
-منذ زواجنا وهي -إضافة إلى شغل البيت-باتت تشغل وقتها الزائد بحياكة البسط التي تجيدها، لصالح محمد بن سلطان، تعاونها حنان بنت بشيرة...، التي تولعت بالعمل مع عمتها...
سكت برهة ثم استطرد قائلاً:
-أتدري من كان في مقهاي قبل مجيئي...؟
أدرك عدم اهتمامي فتابع:
-سعدو... وحمودة الأعور وحسان... جاؤوا بعد ذهابك ... أنت وعيسى...
-وماذا في الأمر؟
-جلسوا يتهامسون... والتقطت أذناي اسمك... إنهم يتكلمون عنك..
-ليتكلموا يا نصار... وما المانع؟ القرية كلها تتحدث عني كما قال لي عيسى... لكن، وحق اللّه إذا بدرت من أحدهم نيّة سوء أو بادرة لؤم، أياً كانت... فسترى ما سأفعل... حاول نصار أن يشرح لي ويبدي وجهة نظره، فمنعته:
-أتتصور يا نصار، أنهم يخططون في المقهى لأمر هام! لماذا ولديهم أكثر من مكان!
-صحيح!! مالذي جرى لي...؟!
-إنهم يهدفون بث الرعب فقط، لتخويفنا ليس إلاّ...
-ومع ذلك، عليك بالحذر.. ولا تركب رأسك فتتورط، تورط نفسك بالدخول في بحر الصراع معهم...
قال ناصحاً فأزعجني... أفهمته:
-أتتصورني جباناً يا نصار؟! من يركب البحرلا يخشى من الغرق!
-لا يا كاكاحمة ... لا واللّه...
أقسم ... فاستفهمت منه:
-أجئت من أجل هذا الخبر؟
-لا... أردت إخبارك بأن عيسى سيذهب إلى أربيل غداً، في سبيل الحصول على إجازة المدرسة....
-أعرف...
لم يتح لي المجال لتكملة الحديث... سارع يقول:
-وسأذهب معه لشراء المضخة لك، والأنابيب المطلوبة...
فاعطني المواصفات والمال... أنت تعب... سأساعدك في الشراء وأمر على المحترم الجمولي... أبلغه تحياتك.. وحبك الشديد له...

مزح معي فأضحكني -تذكرت خالتي مريم، وأردت معرفة ما حصل لها في زيارتا الأخيرة.
-لم تخبرني عن خالتي مريم... هل ألتقيتها؟
-لا... فرت هاربة إثر إنذارك لها... حتى إنها لم تتناول الغداء مع الخانم كما تعودت! لم تبق في القرية سوى ساعة، بعد رفضي الذهاب لمقابلتها... مثلما أرادت... وكذلك فعل المختار والحاج صالح... حين أرسلت بطلبنا..
-سيأتيك الجمولي قريباً... فماذا أعددت له؟
-لاأملك إلاّ رداً واحداً... "سددت مابذمتي لك من ديون واسترجعت المستندات... منذ زمان..."







- 26 -
((كما توقعت تماماً، وبعد يومين فقط، قدمت صباحاً إلى الفندق سيارة الجيب العسكرية.
كنت في طريقي للخروج، عندما صعد الجندي السائق يسأل عني... جيء به إلى غرفتي ليخبرني:
-العميد رأفت أرسلني. كلفني بنقلك إلى البيت، حضّر حقيبتك... وجهز حالك...
وكنت حضرت حقيبتي وجهزت حالي منذ الفجر، وبقيت أنتظر رسول إلهام... التي حسبت شوقها قد بلغ الذروة... ولكي أزيدها شوقاً واشتياقاً، طلبت من السائق التوجه إلى المعسكر لتسليم حصة العريف، الذي كاد يطير فرحاً بالصور لكنه لم يسمح لي الاجتماع بمجيد، حتى ولا السلام عليه! وأمرني الالتحاق "بالعمل" فوراً.
لم أتأخر سوى ساعتين، كانت كافية لتأجيج نيران إلهام، ومثلما رسمت في خيالي استقبلتني.
-لم أستطع نسيانك لحظة، أحببتك يا كاكاحمة، أحببتك من أعماق روحي وقلبي... وكنت مستعدة لعمل أي شيء في سبيل استردادك... للانتقام منك ومن كل الذين يعارضون عودتك إلى أحضاني... فأنت أجمل شاب رأته عيناي... سحرتني بكتفيك العريضين،وبعينيك الزبرجديتين تعال ... تعال...
سحبتني... قادتني إلى الحمام، غسلتني بيديها، أطعمتني بشفتيها، وسحبتني إلى غرفتها... لا "لمعاونتها في إسدّال الستائر المستعصية"، بل لمشاركتها الفراش...
معها، وعلى السرير، اكتشفت أنني لست بحاجة للذهاب إلى "الحرب" لكي أعرف أسرارها وفنونها!
وأدركت أن الواجب يدعوني للاستسلام بدل استشهادي لذا سلمت نفسي أسيراً بين يديها في الساعة الأولى... ودفنت ذقني وفمي في طيات شعرها ونمت...
أحسست بالمتعة الخالصة ببقائي معها في الفراش..
وشعرت بحاجتي إليها أكثر من حاجتها هي، فتشبثت بأذيالها... بقدر تشبثها بي... وأكثر...
ستة أشهر عشتها في نعيم لا يوصف، في هناء لا حدود له، وبدل أن أعيش كمراسل وخادم، عشت كسيد مهاب... كزوج له كامل الحرية والحقوق... وكرب للبيت!
لم أكن أترك السرير إلاّ ليلة الخميس... حيث يأتي العميد رأفت فيحتل "ابن الحرام مكاني"!
السيد العميد الذي رفض واحتج على بقائي، مع سناء بوجود أختها! وافق على بقائي وحيداً مع زوجته! كان يقضي يوماً كاملاً مليئاً بالعراك، والصخب والنقاش والضرب! وبوجوده يسود جو التوتر والرعب، ويخيم البؤس والشقاء! ثم ينتهي كل شيء في عصر الجمعة.
ففي تمام الخامسة تأتي السيارة العسكرية، لترجع به إلى المعسكر حيث يقيم مرغماً!
حياتهما المشتركة كانت خدعة كبيرة، ورباطهما الزوجي الواهي لم يكن إلاّ أكذوبة، يغطيان بها عيوبهما، عن أعين الناس، وستاراً يحجب حقيقة مابينهما من خلاف، وتباين ومشاكل، وما يمارسانه من أخطاء فاحشة أمام الطفلين ... وينسيان أن مبيت العميد في المعسكر طوال الأيام الستة، يكفي وحده كشاهد على مايقال من سوء العلاقة بين الزوجين...
لم يفلحا في تغطية سقم حياتهما ومرارتها، بأي برقع، لحظته في عيون زوارها، رأيته بعينيّ وسمعته بأذنّي.
وشهدت خلال هذه المدة نزاعات دامية، وصلت مراراً إلى حد الضرب والإهانة والتهديد بالطلاق.... وبالقتل!
كنت اقبع في غرفتي عند مجيئه، استمع مذهولاً لما يحدث...أظل أتفرج على مالدي من مجلات.... أقتطع منها الصور الفاضحة وأخبار الفن والفنانات لصالح عريفي "أبوالحق" مونرو.... متحاشياً لقاء العميد أوالاصطدام به.
ولم أجسر على الدخول إلى البيت، أو تخطّي عتبة الصالة، أثناء وجوده... إذ تنحصر مهمتي آنذاك في البقاء داخل غرفتي أو في الحديقة صيفاً وشتاءً، وملاعبة طفليها الشقيين الثقيلين، النحسين المضجرين، اللذين تولعت بهما رغم مابينهما وبين مها -الملاك السماوي-من فروق...
لم أتدخل بين الزوجين، كي لا أعرض نفسي للشك والانتقام وابتعدت مرغماً عن مشاكلهما... وتصنعت البلاهة التامة أمامه، وتقمصت دور الساذج المسكين، الذي لا يثير الشك ولا يحسب له حساب.
أدركت عجرفته وعصبيته، ومدى بغضه لها، ومحاولته الجادة "لتدميرها نفسياً وجسدياً" مثلما أدركت مدى كراهيتها له... ومحاولتها لأخذ الثأر والانتقام منه بشخصي.. من خلال خيانتها لعهد الزوجية.... إذما يكاد يخرج حتى تحكم إغلاق الأبواب وتستدعيني إلى الصالة أو تقتحم غرفتي وتتنهد:
-اشتقت إليك... اشتقت!
-ألم تملأ صورة العميد عينيك؟
-لا... لاتقل هذا يا حبيبي ... لاتقل... فوجود رأفت هنا، لا يعني إلاّ الشقاء لروحي... إنني أجامله، أتحاشى الاحتكاك به خوفاً ورهبة...
-لماذا ينام في المعسكر؟
-.....
- إنه لأمر غريب!
-إنها قصة طويلة..
-أحب سماعها..
-لا... ليس الآن... عندما يحين وقتها سأقصها عليك الآن... تعال.... تعال...
لم يكن طفلاها يعيان ماتفعله... ولم يشعرا بقبح عملهما ولا بمجونها...
كانت تبقيهما في الصالة يتفرجان على أفلام الكارتون، بالفيديو، وتروح سابحة في لذاتها، تغوص في أحضاني وتغور، تنهل من عطائي وتستزيد طوال العصر.
وفي الليل، كان جنونها يظهر بشكل مثير للدهشة.... وتصر على نومي معها، حتى الصباح.
وفي تمام الساعة السابعة، تتسلل إلى غرفة الصغيرين و بعد أن يتركا السرير تطعمهما... ثم تبعثهما إلى روضة الأطفال بسيارة خاصة تأتي في الثامنة إلا عشر دقائق بالضبط.
وحين تتأكد من ابتعاد السيارة، تغلق الأبواب، تحكم سدها، وتعود لي على جناح السرعة.
إلهام كانت شبقة، ملتهبة كالنيران، ولم يكن أمامها إلاّ إحراق المزيد من الحطب لتبقى متأججة ...
وكنت جائعاً وغبياً، كـ "هابة أو رغل"...
ولم أكن أملك إلاّ الرضوخ... لمالكة قلبي!"






- 27 -
في حدود التاسعة وقبل دقائق من تحرك الباص، جاءني يحيى، مسرعاً، ليصحبني إلى أربيل، كما اتفقت مع نصار.
فاعتذرت، بسبب التعب، وأعطيته النقود وخولته شراء ماتحتاجه الأرض... ومايراه مفيداً...
أوصلته حتى باب الحديقة، حيث بوغتّ بتغيرالطقس، عماتميز به الليل، كان الهواء يحمل رذاذ الأمطار حيناً، ورطوبة الجو المنعش والنداوة حيناً آخر.
شعرت بالنشوة حقاً، وتساءلت متى هطل المطر؟ لم أحس به بالرغم من أني عدت في وقت متأخر.... وبقت أتقلب في فراشي لما بعد الفجر...
راقبت يحيى وهو يتجه إلى المقهى، وانتظرت خروجه مع نصار.... ولما طال انتظاري... أغلقت الباب ورحت إلى الأقفاص، أجمع البيض المتكاثر يوماً بعد يوم.
تمهيداً لأخذه إلى دكان زوج عمتي، لبيعه حسب اقتراح هدهد....
ماكدت أبداً حتى اقتحمت الخالة زهرة بيتنا، وبوجه باك وفم مولول، يتبعها ابنها راضي...
-سرقوا عزيزة يا كاكاحمة! سرقوها....!
-تسللوا إلى الحظيرة وكسروا الباب...
أكمل الصغير باستغراب:
-متى حدث هذا؟
سألتها أمي فزعة، فأجابت وعيناها تنظران إليّ بخبث:
-أمس ليلاً...
-هل يتهمونني أنا؟
-لا يا كاكاحمة... جئت أسألك فقط...
-حول...؟!
-كنت البارحة ساهراً في الأرض الشرقية... فربما شاهدت...
-لم أنصب من قبل سعدو ناطوراً على حظائر القرية... زوجك البخيل لم يضع كلباً للحراسة.
-قتلوا كلب نصار...
هتف الصغير بمرارة... فأثار دهشتي، لكني لم أبال، سألت زهرة باستياء:
-من ذا الذي رآني؟
-حسان ... قال لأبي...
نطق الصبي بعد تردد أمه، فتفاقمت دهشتي وصحت:
-حسان !! أكان يراقبني؟
تركت البيت ومضيت هادفاً تأديب حسان.
وجدت القرية مستنفرة وكأن يوم الحشر قرب! عجبت وسألت عمي حسن، الذي كان أول من صادفني وهو يتجه إلى محله:
-أهو هجوم من جيش الحكومة؟
-لا...
-إذن مالذي يجري؟!
-لم يجب بل أجابني نصار بعد دخولي المقهى:
-المختار أمر بتفتيش كل بيوت القرية....
-لماذا؟! ثم أنت... ألم تذهب مع يحيى وعيسى؟
هز رأسه بامتعاض ورد بحسرة:
-لم يذهبا... لم نذهب بعد... المختار ضرب سلطان... فزعل هذا ولزم بيته رافضاً العودة إلى السيارة...
-قل لي ماذا حدث؟!
-الجمولي بعث سلطان، كلفه بإخبارنا بضرورة النزول إلى أربيل، لمقابلته غداً... ويبدو أن أبا محمد المحترم نسي نفسه! أو فهم الأمر خطاً، فحاول إجبارنا على مرافقته ... قال لي كل ماطلبه الجمولي... نقل لي رغبة زوج خالتك فرفضت... ورفض الحاج صالح... فأسمعنا كلاماً سخيفاً، سكتنا عليه، لكن المختار لم يسكت...
دار رأسي... خفت أن يلازمني الصداع، فأسقط طريح الفراش، حاولت الرجوع إلى البيت والابتعاد عن المشاكل، لكن لساني فلت على غير توقع:
-ولِمَ لا يأخذ يحيى السيارة؟ لا تدعو سلطان يتحكم فيكم...
-صحيح ... إجازته مازالت صالحة... سنلقن هذا الكلب درساً...
لم أسمع بقية حديثه، تركته يبحث عن يحيى بين جموع المحتشدين قرب مقهاه، وعند بيت المختار، وفي وسط الساحة، ورحت إلى دكان زوج عمتي، أفرحني تطور الشغل وكثرة الأرباح واتساع ابتسامة "مليحة"!
وكأنها لم تخنق القط الأسود في شبابها!
لم أنتبه لما قالته بخصوص البضاعة، إذ لفتت شذى نظري، وهي تخرج من البيت حاملة مصيدة الفئران المكتظة بـ "زوجين" كبيرين!
-أرنا شطارتك يابن خالي، أقتلهما....
مدت يدها تروم تسليمي المصيدة فنهرتها:
-أعطها لأمك... إنها تجيدالقتل...
قرقرت ضاحكة واستهزأت:
- تخاف من فأرين صغيرين، وانت كاكاحمة!
تذكرت بشيرة وعهدها بأن تسعى لإقناع يوسف، بالزواج من ابنة عمتي الجميلة... وعجبت حين فطنت إلى أني لم أتابع الموضوع! ولم تكلمني بشيرة عنه منذ اتفاقنا...!
حدست فشلها، رفض يوسف التام.... وقررت مفاتحة عيسى.... تناسيت حسان وتأديبه... وانشغل فكري بها... تركتها تتحدث وذهبت إلى محل عمي، الذي حدثني عن مشاكل سعدو مع زوجته فضجرت، استأذنت منه وعدت إلى البيت، فوجدت افتخار بانتظاري.
سمنت حقاً وتوردت، ازدادت جمالاً وحلاوةً وأشرقت شمسها بمايبهر الأنظار... فثارت ثائرتي ولعنت العميد...
-جئت آخذ منك شتلات لأزرعها في حديقتي....
-ولِمَ مني بالذات؟
تحرشت بها فأحرجتها، ارتبكت ولم تجب، خصتني بنظرة متميزة، تعلمني أنها لا تجسر على مشاكسّتي أمام أمي، وتحت سمع هدهد المرهف، ولكن لسانها انطلق عندما انفردنا في الحديقة.
-ورودك وحدها التي تملأ روحي زهواًوغبطة!
-احذري يا افتخار، أنت الآن متزوجة، ونصار لا يعرف المزاح..
تبسمت ولكزتني بمرفقها قائلة:
-مبروك حمل هداية... فعلتها يابن سعد الله! وبأقصى سرعة....!
-حان دورك الآن.... أرينا شطارتك... وإياك أن تهملي نفسك أو تؤجلي الحمل فعمرك ماعاد يسمح.... اغتاظت بشدة وقاطعتني:
-عمرك!! عمرك!! أتظنني بعمر خجة؟ أبي سيذهب بعد أيام إلى بغداد، لغرض التداوي من أجل أن يتزوج أمك، لتلد له أبناء....
-المخرّف سيذهب إلى بغداد؟
-نعم، سيأخذه عيسى، قال أخي: إنه سأل عن مرض أبي هناك، فقيل له: الأمر بسيط وسيتعافى، ربما دون عملية جراحية...
راحت أصابعي تختار لها الشتلات، بينما طار عقلي إلى بغداد... واتتني فكرة، أخذ هدهد، أرتأيت عرضها على الأطباء بسرعة علّ اللّه يكتب لها الشفاء على أيديهم... بوجودي....
بعد انصراف افتخار عدت إلى غرفتي، بقيت في الفراش حتى المغرب، حين جاء من يخبرني بعودة نصار ويحيى من أربيل، ومعهما مضخة الديزل والأنابيب اللازمة، وفي حين فضل عيسى البقاء هناك، لمتابعة قضية المدرسة.
لم أستطع ترك فراشي، وتلبية دعوتهما بالحضور لمشاهدة المشتريات... تدثرت بالأغطية ونمت..
وفي صباح اليوم التالي تعاوّناعلى نصب المضخة، ومد الأنابيب، وبدأنا أنّا ويحيى وأمي وبعض الشباب
-الذين استأجرناهم-في العمل، واستأجرنا جراراً به حرثنا الأرض وبذرنا... وشتلنا... بعد يومين... إذ قررنا زرع ثلاثة أرباع الأرض كروماً، عالية المستوى، جيدة المردود، ونبقى الربع الباقي للخضروات الموسمية.
-هاتوا جثة كلب نصار... وادفنوه هنا... إنه أفضل سماد.
قلت للشباب ففعلوا، وعلق يحيىساخراً:
-رائع!! رائع جداً فبعد عشرة آلاف سنة، ستتحول عظامه إلى نفط... وبهذا ستضمن مستقبل أطفالك يا كاكاحمة...
نجحنا أنا ويحيى في إتمام عملنا على أكمل وجه، وفشل عيسى في مسعاه فشلاً ذريعاً، ففي ظهيرة اليوم الثالث، عاد خائباً، خالي الوفاض، ميتاً من الرعب، بعد أن كادت تعصف به الرياح العواتي:
-سبقونا وقدموا بلاغاً ضدنا، اتهمونا فيه، أننا نريد فتح المدرسة لأغراض حزبية، تضر الصالح العام، وتمسّ سيادة الدولة رفضوا الطلب وهددوني بتحويل القضية إلى دائرة الأمن...إذا عاودت إلحاحي...!
-أبهذه السرعة ؟ هل عرفتهم...؟
زم شفتيه بغضب، وكاد اليأس يفرخ في نفسه، يسلمه لحالة من الذهول، فاقترحت:
-هذا ما توقعناه، سنفتحها رغماً عن أنف السلماني وعصابته، سنشتري الكتب والدفاتر والأقلام... وسنفتح الصف الأول في المسجد,..... اذهب إلى الملاّ وحدد له أوقات الدراسة، واتفق معه حتى نبدأ قريباً.... رحب بفكرتي لكنه تردد وتخوف فدفعته دفعاً..
ذهب بعد توسلاتي لكنه أقبل بعد نصف ساعة، وهموم الدنيا على رأسه!
كان وجهه مربداً، مكفهراً، وقرأت الأزمة على جبينه قبل أن أسمعها من لسانه.
حاولت استنطاقه فسكت، وراح قلقه ينتقل إليّ رغم كلماته المطمئنة، وإصراره على أنه ليس في الجو مايعكر المزاج، لكني لم أصدقه...
ألححت عليه وأنا أنتحي به جانباً، بعيداً عن آذان يحيى وبقية الشباب فأخبرني:
-رفض الملاّ طلبنا... نكث بعهده لنا!
-لماذا؟
-يدعي بأنه سيفتح صفاً للصغار، لتعلم وحفظ القرآن!
-هذا رائع... ولكنه لن يتعارض مع المدرسة...
هز رأسه مؤكداً صحة ما أقوله، وتطلع إليّ بألم، كمن يعتذر عن فشله في مهمته.
-يبدو أن هناك من حرض الملاّ عطا اللّه ضدي...
-الملاّ! لا أصدق... سأذهب إليه لأعرف السبب...
أردت الذهاب فاعترضني، ربت على كتفي قائلاً:
-لا... لا تدعه، يفرض شروطه علينا... هذا المسخ من وعاظ السلاطين... ياويله مني وسواد ليله... ثق أنني لن أسكت... أنهم يهدفون لبث اليأس في قلوبنا ودب الرعب والخوف فيها، حتى يشعروننا بالضعف...
هددوني فخفت! ودهمني اليأس على الفور! بينما المنطق يقول: لا يأس مع الحياة... اليأس ممنوع... كل ما أطلبه منك يا كاكاحمة، ألا تنهار مثلي... وتستسلم ... فأنت أملنا وبك سننظم أنفسنا ونبدأ عملية الهجوم.
بدل أن نظل واقفين، بين دهش وهلع وغضب ومستنكر دون أن نفعل شيئاً...
-ماذا تقترح؟
-ولأن الهجوم أحسن وسيلة للدفاع عن الذات... علينا التفكير جيداً وابتكار أساليب مناسبة في التعبير عما نريد، لنحصل على كامل حقوقنا..
ادهشني كلامه ! لم أفهم مايريده بالضبط ... ولم يسمح لي مكبر الصوت بسؤاله، إذ جعجع أثناء حديثه، يعلن افتتاح دورة تعليم القرآن، ويزفّ البشرى لأهالي القرية، ويدعوهم لتسجيل أطفالهم...
-وحق اللّه سأبني المدرسة... لدينا مساحة كافية، قال بتصميم وسبابته تشير إلى البيوت الطينية الثلاثة... الواقعة خلف دارهم....
-وأبوك؟ أتراه يوافق ؟
-سأقنعه بحول اللّه...
-إياك أن تأتي على ذكر اسمي أمامه..
ضحك لتحذيري وقال:
-أتخاف أن يشترط : خجة مقابل المدرسة...؟
-سيجدها فرصته الذهبية... فيعرقل مسعانا. بعد افتراقنا وجدت نفسي مندفعاً إلى بيت الملاّ على الضد من نصيحة عيسى وتحذيره، والغضب يغلي في صدري طرقت الباب عدة مرات، وأخيراً فتحت رباب وهي تستر وجهها بنقاب....وبادرتني بنبرة كاذبة:
-الملاّ نائم....
فهمت ... ولم اشأ ازعاجه... تراجعت عن غضبي ...
لكني لم أدع الفرصة تفوتني... أعدت على مسامعها بعض ما سمعته أنا من عيسى.
-قولي لزوجك... هذا المسخ من وعاظ السلاطين....أنا لم آت للعتاب فهو لا يستحقه... الملاّ لا أخلاق له ولا يعرف شرف الكلمة... وعندما تقتضي مصلحته "أن يتواجد" في أي منطقة تراه متربعً هناك دون حياء...
بترت كلامي بسبب إحساسي بالتعب وعدت إلى البيت، تاركاً إياها واقفة تزم شفتيها في دهشة وحيرة.







- 28 -

لم يكن نجاحنا الكبير في الأرض دون ثمن، فبعد أن أثرنا العجب وأججنا الحقد والحسد حدثت المشاكل.
مرّ الأسبوع الأول على مباشرتنا العمل بسلام، وكذلك الثاني... لكن مع بداية الأسبوع الثالث، أحسست بالانهاك وشعرت بآلام حادة فاضطررت إلى ملازمة السرير دون حركة، متذرعاً بـ "خشيتي على هدهد الحامل، ووجوب البقاء بقربها".
وعلى مدار يومين متتاليين بقيت بعيداً عن الدنيا، ومشاغل القرية، ولم أعلم بما كان يدور، ولم يتطوع أحد لاخباري.
حتى هدهد التي ظلت إلى جواري كل الوقت، لم تفتح فمها بكلمة... ربما خوفاً عليّ... أو خوفاً من تهوري...
فبالإضافة إلى حيرة الجميع بسبب حادثة عزيزة، وانشغالهم في البحث عنها وعن سراقها -إذ مضت خمسة أيام على اختفائها ولم يظهر أي دليل يكشف هوية اللصوص، على الرغم من حرص المختار على إجراء التحقيق بنفسه، وجديته، ومتابعته المستمرة-فنصار لم يهدأ لحظة... لم يترك ثغرة إلا ودس أنفه فيها ليعرف سر مقتل كلبه... وظلت افتخار تحثه على عدم السكوت وتحرضه على المشاركة في التحقيق، لتبيان سبب الهجوم الفاشل على بيتها... فأزاح الهدوء الذي تميز به جانباً وعاد لشراسته وشقاوته... وبذلك لم يدع للمختار أية فرصة للراحة...
وفي خضم حيرة الرجال وبحثهم هطلت الأمطار بغزارة شديدة محدثة سيولاً جارفة، تهدمت من جرائها عدة بيوت، وتضررت المزارع القريبة من الجبل، المنخفضة منها بالذات، وساهمت في إخراج الأفاعي من أوكارها، لتهاجم المسالمين وتفزعهم، ولأنها كانت في سباتها السنوي لم يكن خطرها كبيراً... مما سهل القضاء عليها دون عناء،واستغل السلماني الوقت فمد أصابعه الخبيثة لتعبث في القرية.
سمعتهم يتهامسون سراً أمي وبشيرة وافتخار وعيسى ونصار، فثارت شكوكي، نهضت مرغماً وسألتهم عما يشغلهم فلم يجبني أحد‍‍! وحاولوا إعادتي إلى السرير فرفضت ... وفي تلك الأثناء جاء موسى، سمعت صوته فخرجت إلىالفناء الخلفي رأيته ملتفاً بعباءته، منفعلاً :
-ماذا بك؟
-إنه يبحث عن خروفيه...
سارعت أمي ترد، وأكمل عيسى كأنه حدس شكي في جواب خجة...
-جرفت السيول خرافة... استرجعناها كلها ماعادا الخروفين ... ضاعا دون أثر!
ثارت شكوكي، فتلعثمه وارتباكه لم يكونا نتيجة خسارة خروفين، بل لأمر آخر، أكبر وأهم بالتأكيد...
خرجت من البيت لأتحقق من ظنوني، رغم ممانعة الجميع!
فالتقاني المختار والحاج صالح وسط الساحة... كانا في وضع مرتبك، وحاولا أيضاً إرجاعي إلى البيت! إدخالي عنوة فرفضت:
-ماذا يحدث ؟ ليخبرني أحدكما عما جرى...
لحق بي عيسى وبشيرة فلم أسمع تمتمة الحاج...
وتنبهت لابن المخرف وهو يقول، هادفاً إبعادي عن شيء كبير وهام:
-رفض أبي منحنا الأرض، ولم يوافق على تهديم البيوت الطينية المتداعية لجعلها مدرسة... ثم تبين إنه باعها للسلماني سراً!
ضحكت، فأنبرت بشيرة توضح:
-لا تضحك... المصيبة...
اسكتها المختار بعصبية:
-عودي إلى بيتك هيّا...
والتفت نحوي ليبشرني:
-قبضنا على سارق بقرة سعدو..
-إنه أحد الرجال الذين أرسلهم السلماني....
-اسكتي يا بشيرة.. اسكتي..كاكاحمة مريض.. فدعي الأمور تجري بسلام...
صاح بها المختار مقاطعاً فنهرته:
-لا واللّه... لن أسكت يامختار... أيعتدون على زوجي وتريدني أسكت؟! سأهد الدنيا على رؤوسهم...
-ضربوا يحيى ؟! من هم؟
سألتها فأجابت بفزع:
-أدموا وجهه... قطع السلماني الماء عن الأرض، وخرب المضخة وأتلف الأنابيب..
-متى حدث هذا؟ متى؟
هتفت والنار تتأجج في صدري.. فأعلنت:
-أمس، تسلل رجاله ليلاً... مستغلين شعورنا بالأمان... ولولا كلب نصار الجديد لما كشفنا جريمتهم...
-استيقظنا على نباحه، فرأيناهم يفرون لحق بهم نصار وأمسك أحدهم... وأمام المختار اعترف وأقر...
-حمودة هو الذي دفعه لسرقة البقرة...
تدخل عيسى بعد افتخار فأذهلني دار رأسي، حدقت في وجه بشيرة ومضيت... إلى الأرض الشرقية فزاد ذهولّي واستعرت النيران داخلي أكثر شدة... كانت الأنابيب كتلاً مهشمة، تنتشر بشكل فوضوي، والمضخة محطمة... لم أحتمل المنظر، جننت .. غلى مرجلي... خمّنت كل ما حدث، وحزرت، لِمَ منعني الجميع من الخروج...
التقيت في الطريق بيوسف يمشي كالمجنون، وافتخار تهرول خلفه مذعورة، أوقفته لأفهم فصاح وذراعه تلوح بهرواة ..
-ضربوا أخي وأدموه...
صمت لثواني، واستطرد:
-راح يتفاهم معهم فضربوه...
اندفعت إلى دار السلماني، بقوة لا تقاوم وبلا سلاح لأصفي الحساب القديم من حسان ولأنتقم مما حصل أمس، ولحق بي يوسف ورجال آخرون..
خرج حمودة الأعور لاستقبالي، بوجه يتقد نيراناً، وببندقية انكليزية، سريعة الإطلاق، محشوة دائماً..
-قف ولا تتقدم..
زعق بي وشهر سلاحه لإرهابي..
عينه البيضاء ذكرتني بعين الصقر الذي اصطدته ذاتي يوم وحاولت تدريبه بتجويعه، فاقتطع لحمة من يدي... ولم يتركني إلا بعد أن اقتلعت له عيناً...
أسنان حمودة المزمجرة ذكرتني بالثعبان وهو يغرز نابه المسومة في ساقي، ولم يتركني إلاّ وأصابعي تغوص في لحمه الطري...
-قلت لك قف... قف....
نبح ثانية فلم آبه به وتابعت تقدمي،كأني لم أسمعه.
-خطوة واحدة وسأرديك قتيلاً..
-نبح ثالثة ورابعة وكدت أرضخ، أقف وأتراجع لولا "العميد رأفت" برز أمامي فجأة وهو يسقيني الكأس...! فازداد جنوني... وانفجر مرجلي من شدة الغيظ...
تقدمت فتراجع هو.. تخاذل.. فتقدمت أسرع... رأيته يتراجع خطوة... خطوتين... هو يصرخ، يهدد، ينبح:
-قلت لك قف.... سأقتلك... لا تدعني أقتلك... لا تقترب... احذر... سأحشرك في المقبرة....
-أعقل يا حمودة ... لا تركتب جريمة من أجل السلماني... دوى تحذير عمي حسن، وهدرت بعدها صرخة نصار في أذني وأنا أتقدم:
-سنمزقك إرباً إرباً يا حمودة، إن أطلقت...
لم يرتدع حمودة، وفي خطوة يائسة لإرهابي، دفعته حماقته لأن يرفع بندقيته ويطلق على السقف!
هرب الرجال وخيم الرعب من حصول مالا يحتمل... حتى حمودة أفزعته الإطلاقة أكثر من أي شخص آخر.. وبدل أن يدب الذعر في قلبي كما أعتقد وبدل أن أهرب... ازددت تصميماً وإصراراً...
وحين تراءى لي "العميد" ثانية، يضحك مني ويسخر، ماعدت أرى شيئاً ودون اعتبار للنتائج هجمت... وهجم نصار في الوقت ذاته..
استطعنا معاً وبحركتنا السريعة، السيطرة على حمودة، انتزعت البندقية من بين يديه، وبضربة واحدة ماحقة هشمت أخمصها الخشبي على ظهره، فجأر من شدة الألم كما جأر البكر حين خصيته.
اكتفيت بالضربة، وتركته ليوسف، وكان عند حسن الظن. إذ لقن الأعور درساً لن ينسى.. ومما زاد الأمر سوءاً عليه مجيء الأخوين موسى وعيسى حاملين سلاحهما!
فتعاون الثلاثة على نهش لحمه المر... فلم يصمد طويلاً... انهار كثور متعب...
لم يتدخل أحد لفك الاشتباك، أو لمساعدة حمودة إثر عودتهم...! وقفوا يتفرجون بإثارة وترقب على المسرحية... حتى الحاج صالح الرجل المؤمن، اكتفى بالتطلع، وكذلك فعل المختاروبقية الرجال...وكأن الأمر لا يعنيهم بالمرة... مما دل على الكراهية التي يضمرها الأهالي للسلماني ورجاله.
رأيت حمودة يتلوى بين أقدام الإخوة، يصرحّ متوسلاً يصيح متألماً، فرق قلبي وخشيت موته، أمرتهم بالتوقف والابتعاد عنه، ففعلوا....
تكوم أرضاً كجثة هامدة، تقدمت منه، قلبته بقدمي على قفاه، فحدجني بعينيه السالمة، يستعطفني فداخلني الأمان...
-عزيزة... أين عزيزة؟
صاحت الخالة زهرة وهي تدخل هلعة، فزعة.
فتصدي لها المختار، قائلاً:
-ستعود لكما اليوم... عرفنا مكانها... أرسلنا بعض الشباب مع سعدو لجلبها...
-وإذا لم تعد؟
-سندفع لك حقها كاملاً ... اذهبي الآن....
طردها فاستجابت مرغمة.... وعلى وجهها قناع الشك...
راقبتها وهي تبتعد ثم التفتّ إلى حمودة وخاطبته:
-اسمع... لا أريد أن أطيل عليك... فأنا أعرف نذالتك... وكفى مارأيناه منك... خذ حاجتك وارحل الآن...
سكتّ على شهادتك الزور، لكني لن أسكت الآن ...هيّا ارحل فمّا عادلك وجود بيننا....
بان العجب على وجوه الجميع واحتج عمي على الفور:
-إلى أين يذهب؟ سيموت إذا غادر القرية...
سخر عيسى وأفتى:
-صنف حمودة يموت من الجوع أو برصاص البلدية..
لم أبال بماسمعته ركزت بصري على حمودة وهددته:
-أمهلك ساعة واحدة، لتلم مايخصك... وإذا وجدتك بعدها ستندم... هيّا بدأ الوقت...
استبشر بقراري... استجمع قوته وندت عنه كلمة واحدة، وهو يزحف مبتعداً:
-حاضر..
ارتفعت بعض الأصوات مستنكرة رافضة، تطالب بتقديمه إلى المحاكمة،’ فلم أعلّق أو أناقش لاسيما وقد تصدى المختار لهم، موبخاً، وآمراً، بالتزام الصمت...
وافرحني تدخل عمي السريع، الذي حسم الأمر:
-حمودة هذا ليس إلاّ خادماً... ادخلوا حاسبوا سيده...
-ومن قال لك إننا سنتركه يا عمي حسن؟ سترى بأم عينيك...
رد يحيى كأنه يتحدث عن لساني:
تطلعت إليه وهو يقترب مني بوجهه المتورم..
حاول أخذ البندقية من يدي، فرأى أخمصها المكسور.
ولم يفت ذلك في عضده، اندفع مع أخوته إلى بيت السلماني... اقتحموا المضيف،وحين لم يجدوا أحداً ولجوا الصالة والشر يلمع في أحداقهم...
بقيت مع حشد الأهالي ننتظر ماتسفر عنه الدقائق...
سمعنا أصوات سقوط أشياء وتكسر حاجات وصراخ الخانم!
وماهي إلاّ دقائق حتى خرج يوسف ليعلن بأسى:
-هرب منير السلماني وابنه حسان...
وأضاف حين شهد دهشتنا:
-تسللا خفية من الباب الخلفي وهربا كالفئران...
-لم نسمع صوت محرك سيارتهّ !! فمتى هربا؟!
تساءل نصار وردّ آخر:
-أنا سمعت...
-لن يهرب طويلاً...
أكد يحيى وهو يخرج غاضباً، وتبعته الخانم بثوبها الشتوي المزركش، ويشعرها الأسود المتهدل.
رأيناها تطل من مدخل الباب العريض، حاسرة، حافية تصرخ بانفعال وغضب شديدين.
-عيب هذا الذي تفعلونه ... عيب...
إهانة بليغة وجهتها للجميع دون استثناء.
وبازدراء بالغ تحركت لردها فسارع يحيى يوبجها:
-ألا تعرفين غير كلمة العيب؟
-لأنها من أهل العيب...
أجبته بصوت عال فتنرفزت الخانم، وضحك الرجال:
-انتبه لنفسك يا كاكاحمة... واخجل من تصرفاتك ...
-زوجك كاد يقتلني... جئت لأتفاهم فغافلوني... ضربوني...
أخبرها يحيى فسخرت منه:
-ولِمَ يقتلك إذا لم تكن آذيته...؟
واستدارت صوب المختار لإهانته:
-وأنت ياعبد اللّه... يا مختارنا المحترم لِمَ تسكت ولم تتدخل؟
استاء المختار احتدَّ قائلاً:
-ياخانم، حاولت إنقاذ يحيى من بين أيدي المعتدين فمنعني الآغا...
-الكلب....
صحت معترضاً فتجاهلتني، واستمرت تهين المختار:
-السلماني أكبر من أن يفعل هذا يا عبد الله...
-لاكبير إلاّ الله يا خانم...
صدح صوت عيسى في آذاننا وانفجر المختار مؤنباً:
أتكذبينني!
-ومن أنت!
زعقت بوجهه باستهزاء فأخرسته. ولم أحتمل، اغتظت لجوابها وفكرت بتعريتها.. وضعها أمام الأمر الواقع:
-أتعرفين امرأة اسمها كهرمان؟
بوغتت الخانم، صفنت لثوان، تستعين بذاكرتها. ثم ردت بحماقة واقتضاب:
-لا.. ولِمَ تسأل؟!
-إنها امرأة فاسدة.. راقصة ملهى.. ومع ذلك تزوجها زوجك السلماني..
-كذب.. كذب.. يا حقير..
تجاسرت بالصراخ في وجهي فانفعلت. بصقت على وجهها وصحت:
-اخرسي.. لعة اللّه عليك، لماذا لم تتكلمي عندما زور زوجك وابتلع أرضنا؟
صعقت من شدة المفاجأة.. أذهلها تصرفي المستغرب وزاد ذهولها حين حاولت التقدم ناحيتها، لشد أذنيها منعني الرجال، ووقف المختار في طريقي.. وصارحها:
-كاكاحمه لم يكذب في حياته-ما يقوله صحيح-
تسللت إلى صوتها بحة غريبة وهي تغمغم:
-لا أصدق.
-حمودة ما زال في القرية.. يمكنك سؤاله لأنه كاتم أسراره، وابنك يعرف كل فضائح الآغا وعلى اطلاع تام عليها وربما كان شريكاً بها.
دهشت فارتفع صوتها ممزوجاً بنبرة أليمة:
-حسان!! سأفقأ عينيه إذا..
-وإذا رغبت في معرفة المزيد، يمكنني افادتك-إنني أعرف مكان البيت الذي اشتراه لها.. قبل ذلك.. ثقي أنني لن أسامحك. على جسارتك.. سأشد أذنيك وحق اللّه..
قلت لها ما بقلبي وانصرفت..
ولم تمص إلا ثوان حتى استعادت القرية نبضها. برد الجو كثيراً، وأمطرت السماء لعشرين ساعة متتالية، لم أبرح الفراش خلالها إلا دقائق.. هي أوقات ذهابي إلى الحمام. كنت آكل، أتناول طعامي وشرابي وأنا تحت الغطاء.. ولم أنتبه إلى توقف المطر إلاّ حين تناهى لأذني صياح الأطفال المفرح، وهم يلعبون كرة القدم في الساحة.
تحاملت على نفسي ونهضت. كان الوقت قبل الظهر. فتحت النافدة ورحت أتطلع إليهم بسرور كبير..
كانت هبة من ريح خفيفة تعبر، فتحرك الأشجار بينما يعتم الضباب الشفيف الطقس، ويمنع رؤية السماء، إلاّ من إشراقة بعيدة لشمس شباط.. تغيب خلف كتل من الغيوم المتدحرجة السريعة.
ولم يطل وقوفي، جاءني يحيي، أخذني إلى الأرض. وهناك أعلمني:
-الخانم تعهدت بتحمل كل الخسائر التي أحدثها رجال زوجها بنا، ودفع التعويضات المناسبة، ورجتني أن أقوم مقام ابنها حسان، في إدارة الوكالة مؤقتاً.. وكلفت سعدو الذي عاد ببقرته سالمة، برعاية الأبقار بمعاونه الخالة زهرة..
قبل الظهر، ونحن نتعاون على إعادة المياه إلى مجاريها السابقة، نزيل الأنابيب المحطمة، ونمد أخرى جديدة ونثبت الركائز. قالت هدهد بصورة مباغتة:
-اسمع صوت محرك سيارة!
توقفنا عن العمل. أصغينا، لنسمع جداً وتلفتنا نتفحص الطريق، فلم نر أو نسمع شيئاً!.
عادونا العمل ونحن نسخر منها، فإذا بها تضحك وتقول:
-ألم تسمعوا حقاً؟! الصوت واضح!
تبادلنا نظرات العجب وتنصتنا من جديد. فهمس يحيى بخجل:
-صحيح، هناك صوت سيارة قادمة.
سمعنا الصوت يأتي هادراً، من خلف التلال المحيطة بالقرية.
انتظرنا عدة دقائق فبانت سيارة الشرطة الخضراء.. وإذ خفقت قلوبنا رهبة لمنظرها، قدحت الفكرة برأسي مرة أخرى.. النفق!!.
هتف بي هاتف: أنسيت النفق يا كاكاحمة؟!
فأجبته بتأكيد: لا.. لم أنسه.. بل أجلته.. بقينا في أماكننا، لم نتزحزح. جلسنا ننتظر معرفة سبب مجىء المعاون مع أربعة عناصر من الشرطة..!
راقبنا السيارة وهي تتجه إلى دار المختار. وشاهدنا المعاون ينزل على عجل، ويلج كالفاتح.
أخذت قلوبنا تخفق بشدة، حين جاءنا الصبي راضي بن سعدو.
ليخبرنا:
-الشرطة جاءت من أجل يحيى ويوسف.
أبقانا في حيرة. وزادت حيرتنا حين استدعيا بعد قليل إلى بيت المختار. وهناك اعتقلا بناء على أمر من حاكم. تحقيق أربيل، استناداً على شكوى قدمها السلماني ضدهما.
صرخت بشيرة حين اقتادوا زوجها، كأنها فقدته إلى الأبد! مما حفز المخرف على إهانتها وإسكاتها.
-لم يشتك عليك السلماني! أليس هذا غريباً!
هكذا فاتحني أكثر من شخص، فلم أجب. إلاّ أني لم أتردد في إخبار الخانم. التي جاءتني معتذرة، طالبة العفو والسماح. بعد رفضي دعوتها لي بالحضور إلى بيتها.
قدمت صباحاً، دخلت بيتنا لأول مرة. وجلست تنتظر خروجي من الغرفة بصبر أيوب.
-لماذا لم يفعل يا كاكاحمه؟
-السلماني ليس غبياً. يخاف الفضيحة، ويخشى أن ينقلب السوء ضده.. يتوقع إذا اشتكى عليّ فسأقول كل شيء.. لذا فضل عدم زج آسمي..
-مثلاً..
استفسرت يلفها الاضطراب. كان خوفها مني واضحاً. وخوفها من سماع ما يرهبها أوضح..خوفها من انتقامي دفعها إلى الحضور مبكراً. حدست-وأمي تخبرني بمجيئها-إن يحيى وراء إقدامها الجرىء على الحضور.. ويبدو أنه نصحها بالإسراع في مصالحتي لتلافي الخطر الدائم.
-ألم أكن السبب في كشف جريمة قتل هبة. التي تستّر هو عليها..
-تستّر!! لماذا؟
-لأنها كانت عشيقته.. كانا يلتقيان سراً في دارك.. كل يوم.. وحين اكتشف نصار ذلك قتلها أمامي.. وساومه السلماني، ونجح في إقناعه بطمر الجثة حتى لا يتحمل وزر قتلها. وشهد زوراً برؤيتها تفر هاربة، مثلما شهد زوراً مع سعدو والجمولي على بيع وشراء الأرض الشرقية.
-عن أي شيء تتكلم؟
سألتني باستغراب فتابعت مدركاً عدم معرفتها بخفايا وأسرار زوجها، جهلها التام بكل ما دار ويدور.
-عن خيانته لك.. المحكمة كشفت زيف ما ادّعى.. فحكم عليه بسنتين سجن.. لكن شطارة محاميه زوج خالتي وسخاء يد حسان لمساعدة أبيه.. خفضا الحكم إلى ستة أشهر..
-أخبرني حسان: بأن سبب الاعتقال، عدم رضا الحكومة عنه.. لأنه رفض التعاون معها..!
قرأت في قسمات وجهها كآبة عميقة. أحسست وهي تتكلم كأنها تبكي، فلم أكتف:
-وماذا تريدين أن يخبرك عن أبيه؟ أنت لم تحضري المحاكمة.. فمن حقك ألا تعرفي..
-ومن هي كهرمان؟
-قلت لك إنها زوجته.. امرأة ساقطة، كانت تمتهن الرقص في ملهى النجوم بأربيل.. أوقعته بشباكها عن طريق الجمولي، وبمعرفته.. وحسان يعرف ذلك ويتستر.. سأعطيك عنوان البيت لتتأكدي بنفسك إذا رغبت..
-ولِمَ خبأت كل هذا عني؟ لماذا لم تخبرني من قبل؟ لماذا يا كاكاحمه؟
بحة الحزن في صوتها، آلمتني. فكررت عليها كلاماً كنت قلته لإلهام:
-كنت يا خانم، أسعى للمحافظة على ديمومة الفرح في عينيك..
 


- 30 -
((هذا الكلام ذاته قلته لإلهام، التي بوغتت بقرار إحالة العميد رأفت على التقاعد..
أخبرني السائق قبل أيام فأذهلني. وفضلت الصمت.
قال لي وهو يسلمني الحاجات اليومية:
-إنه اليوم الأخير يا كاكاحمه..
وإذ لحظ دهشتي استرسل موضحاً:
-أحيل العميد رأفت على التقاعد..
لم أسأله عن السبب. فهو بالتأكيد لا يعرف الإجابة. ولا علاقة له بالموضوع، لا من قريب أو بعيد.
صعقت عند سماع الخبر. ولم أشأ إخبار الهام بالنبأ حتى لا تصعق مثلي.
وتلك الليلة، اختلقت عذراً لأبتعد عن الخطر.. ونمت في غرفتي، خشية أن يباغتنا العميد ونحن عرايا على فراشه.
وفي الصباح اختلقت عذراً لعدم مجيء السائق. وكررت العذر في اليوم الثاني. وخرجت أتبضع بنفسي ما تحتاجه من سوق قريب.. وأنا أكثر حذراً في تصرفاتي معها..
كانت رهبتي من مجىء العميد على حين غفلة، أكبر مما تحتمله روحي المعذبة.. ورحت أتوقع دخوله بين لحظة وأخرى، لذلك حرصت على الابتعاد عنها، وبدأت في اتخاذ أقصى درجات الحذر. فوقعت بين نارين. نار الخوف والرهبة من دخول العميد المفاجىء، ونار الشهوة الطافحة لدى إلهام مثلما كان من المستحيل عليّ إسكات صوت الرغبة في أعماقي.. تعودت عليها وتلذذت معها.. ولا يمكن بتر صلتي بها.. بسهولة.. ودون تبيان السبب..
ولم يغب عن بالها ما آل إليه حالي.
كنا على مائدة الفطور حين خزرتني بعين ثاقبة. قالت بعدها بلهجة مزاح مبطن بالتأنيب:
-كأنما سهرة البارحة تمخضت عن مشكلة!
وحين صمتّ، ثار عجبها:
-ما بك! بتّ متردداً حتى في الحديث معي! لم تعد تنام معي حتى الصباح! تنفتل خارجاً قبل أن تنستر! تتسلل إلى غرفتك، وتحرص على البقاء بعيداً عن الصالة طوال النهار! قل لي ماذا حدث؟
استفسرت بتهكم واهتمام. فأجبتها بصراحة أخبرتها بما سمعته، فصعقت كما توقعتّ.
للحظات، ارتعش بدنها ثم جمدت في مكانها مذعورة. استغرقت في صمت محيّر..
فاجأتها بأمرغير متوقع. رفعت حاجبيها دهشة، ودار بؤبؤا عينيها رهبة:
-ولِمَ؟ ماذا حصل؟
نظرت إلى عينيّ بهلع مستنطقة إياهما، فقلت:
-لا أعرف.. أخبرني السائق قبل أيام..
-ولِمَ أخفيت الأمر عني؟ لِمَ؟
سألتني وهي تداري حزنها وتكتم غيظها. فأجبت:
-سعيت للمحافظة على ديمومة الفرح في عينيك..
برقت عيناها ارتياحاً وهمست بفرح:
-اتحبني إلى هذا الحد يا كاكاحمه؟
-وأكثر..
-يا حبيبي..
-لكن.. مع الأسف سينتهي كل شيء..
-ماذا تقصد؟
-سأعود إلى المعسكر حتماً..
قلت لها فجنت. أسودّت الدنيا في ناظريها، وهتفت بحرقة واختناق:
-مستحيل.. لن أدعهم يأخذونك مني.. لن أدعهم..
-ما عادت للعميد سلطة تخوله الحق بإبقائي في بيته. وما عاد باستطاعتنا أخذ الحرية..
لم تصدق ما تسمع.. اتسعت حدقتاها هلعاً وتساءلت:
-أيعود رأفت إلى هنا حقاً؟! أيبقى في البيت..؟ أمام عيني في الليل والنهار؟ لا.. لا.. لن أحتمل.. لن أحتمل.. سأنتحر.. سيجبرني على ذلك.. إذا لم يقتلني بيديه..
-ماذا تقولين؟
-هذا القاتل لن يدعني أهنأ.. لقد قتل العقيد حسام.. أخبرني بنفسه حين همّ بقتلي..
-بقتلك!!
-دس السم لي.. أراد قتلي.. وحين اكتشفت لعبته القذرة هددته بالفضيحة.. وجرى الاتفاق بينه وبين أبي.. على مبيته خارج البيت.. أخذوا منه تعهداً.. أبي وإخوتي..
أسبلت جفنيها بخشوع.. ثم أجهشت بالبكاء.. وتدريجياً اشتد بكاؤها.. فلم تقدر على أن تفصح أكثر..)).







-31-

أفسدت الخانم بجسارة وجرأة، خطة زوجها الخبيثة التي شاء بها تحطيمنا جميعاً. وأسقطت بفطنتها وسرعة تحركها حجته باتهام يحيى ويوسف، وبالاعتداء عليه ومحاولة قتله.
ففي صباح اليوم الثاني، قادت جمعاً من النسوة. وذهبت بهن إلى مديرية شرطة أربيل، بسيارة المخرّف الكبيرة.
((هناك أدلين بشهادتهنّ المغايرة لإدعاء السلماني. اتهمنته بأنه سبب المشاكل ومفتعلها، والمحرّض الوحيد على الفتن والاضطرابات التي حصلت في قريتنا.. وفندن تلفيقاته بخصوص الإدعاء بمسؤولية الأخوين الموقوفيين. وشهدن بحسن أخلاقهما وشهامتها!
ولم تكتف الخانم بتكذيب زوجها، والتأكيد على بطلان حججه كافة وعدم صحة أقواله.. بل ذكرت للمحقق سرقة بقرة سعدو بأمره، والاعتداء على يحيى بعد تحطيم مضخة الماء وإتلاف الأنابيب. لكنها لم تذكر قضية الأرض الشرقية، بيعها المزور.. وشراءها.. وبعد أن اتجهت بهنّ إلى دار "الكهرماني" وتأكدت من حقيقة ما سمعته منك، ثارت ثائرتها وهددت السلماني "إنه إذا لم يطلقها، ولم يسحب دعواه على الأخوين في خلال يومين، فستثير فضيحة ما بعدها فضيحة! وستتقدم شكوى ضده تتهمه بسرقة أموالها، والتلاعب بدفاتر حسابات الوكالة".. وتأزم الموقف وتعقدت المشكلة فاضطر الجمولي-محاميه الخاص-إلى التدخل. وأقنعها بإنهاء القضية على خير.. مثلما أقنعني بعد جهد بعدم إقامة دعوى ضد المعتدين على زوجي وعلى أملاكه، وعدم إثارة قضية الاستيلاء على أرض أبي الشرقية بالتزوير.
تصرف الخانم الحاذق، الحازم والسريع، أنهى المشكلة. وأعاد يحيى ويوسف إلى القرية معززين مكرمين. في حين لم يجسر السلماني على العودة. بقي بعيداً عن بيئته وأملاكه، مما سهل لمطلقته الخانم السيطرة عليها، ووضع يدها على كامل ثروته. على الرغم من مجىء حسان بعد أسبوع-إثر توسط المختار-يحمل توكيلاً عاماً بإدارتها. لم تأبه به وأصرت على عدم رؤيته.
حسان وسّط الملّد ليصالحه مع يحيى، بعد أن أقسم بأن لايد له في كل ما حصل، وإن دوره اقتصر على حماية والده وتهريبه. لكنه لم يفلح في ترضية أمه ومصالحها.. رفضت استقباله ومنعت دخوله البيت، وأجبرته على السكن في الجناح الخارجي وحيداً، ككلب أجرب.. وأقسمت إنها لن تغفر له ولن تكلمه طوال عمرها..)).
استمعت للقصة من بشيرة التي ما إن أنهت حديثها حتى باغتتها بسؤالي:
-أين صارت قضية شذى؟ هل وافق يوسف؟ دهشت، بانت الدهشة في عينيها، فزجرتني:
-ألم تكف عن هذا السؤال؟ أضجرتني به وحق اللّه. سألتني إياه عشر مرات!
-عشر مرات؟! أنا؟
-نعم.. أنت.. قلت لك إنه رفض.. رفض..
في تلك الأثناء جاءت افتخار. سلّمت، ونقلت لي رسالة نصار.
-أرسلني لأخبرك: بأن الجمولي في ديوان السلماني..
ويريد رؤيتك..
آنذاك فقط تذكرت "الملف الأحمر" هرعت إلى غرفتي ملهوفاً، قلبت الفراش فوجدته كما هو، في المكان ذاته، الذي وضعته فيه منذ أيام.
تصفحت أوراقه فأنتشيت. وساورني الخوف من فقدانه. فقررت حفظه في مكان أمين...
خرجت من الغرفة فسمعت افتخار تحدث بشيرة:
-جاء يحثني على العمل معه في المشغل.. فلماذا لا تعملين أنت معه؟
-أنا! لا وقت عندي لأحك به رأسي.
-أي مشغل؟
سألت افتخار فسخرت:
-أنت الذي شجعته على فتحه محمد يشكرك كثيراً. لأنك فتحت له باب رزق لن يغلق.
-اسمعي يا افتخار.. احفظي لي هذا الكيس.. في مكان لا يعرفه حتى نصار..
قلت لها وأنا أسلمها أوراق الجمولي.
فاستفسرت بعجب، وعيون أمي وبشيرة ترمقني بفضول:
-ما هذا؟
-أوراق هامة احتفظي لي بها لمدة أسبوع فقط..
تركتها في حيرة وخرجت:
اتجهت مباشرة إلى مضيف السلماني، فوجدت زوج خالتي يجلس على نار، وحده، فبادرته:
-ماذا تريد يا جمولي؟
-اجلس.. أريد أن أحدثك.
-هل أرسلك السلماني؟
-لا.. جئت أسألك عن الأوراق.
-الأوراق!! أيّة أوراق منها؟! إنها كثيرة!
-كلها، كل الأوراق التي أخذتها من الخزانة..
-أمجنون أنت! عم تتكلم؟
جاء نصار.. دخل متنرفزاً. وتدّخل باحتقار:
-هل أسمعك قصته العجيبة؟ الأستاذ المحامي حامد الجمولي.. زوج خالتك المحترم جاء يطالبني بدين وهمي.. يحاول ابتزازي!
ابتسم الجمولي بخبث واستهزاء وقال:
-يا نصار!! لا ينفعك النكران..
قهقه نصار مما أغاظ الجمولي. وتفاقم غيظه حين استفزه.
-أعندك ما يثبت قولك؟
زفر الجمولي بحرقة وأعلن:
-الصكوك سرقت!
قهقه نصار من جديد ثم سخر:
-سرقت! أم انتهى وقتها؟
صفن زوج خالتي يستوعب السخرية. فأكمل نصار:
-يا جمولي، أخذت حقك منذ أعوام.. فكفاك ابتزازاً لنا واستغلالنا.
-متى تشبع؟ اتق اللّه..
قلت له فزعق في وجهي بألم:
-كنت متأكداً بأنك السارق-قبل أن تصلني تهديداتك-فلم يدخل بيتي سواك.
-كنت عاقلاً، فاستوعبت رسالتي، فلو عاد رجالك لتفتيش بيتي لورطت نفسك.
-كيف سولت لك نفسك؟ كيف تجاسرت وسرقتها؟ سأمهلك خمسة أيام فقط لتعيدها.
-خمسة!! لماذا لا تجعلها ستة؟!
-أتسخر! يا لك من صلف! سأؤدبك وحق اللّه.. بعد اليوم الخامس سأتقدم بشكوى.. أتهمك بالسرقة.
أطلقت صفيراً وسألته باستخفاف:
-ما هو دليلك يا جمولي؟ وأين كنت طوال الشهور الماضية؟ ثم كيف سولت لك نفسك أنت سرقة أرضنا؟ كيف تجاسرت وزورت الوثائق وانتحلت بصمة أبي؟! لماذا وأنت زوج خالتي؟ اشتركت في جريمة قذرة لا يقدم عليها محام شريف أبداً..!
سكت مصعوقاً فتابعت:
-ثق بالله إنني سأتقدم بشكوى ليعاد التحقيق في كل قضايا الملف..
-ألم يعد لك السلماني أرضك؟ فماذا تريد بعد؟
-هل لاحظت نقصاً في دنانيرك المكدسة؟ هل سرق منها شيء؟ ما أخذت فلساً واحداً.. لأنني ما تعودت السرقة في حياتي.. وأنت تعرفني جيداً.. وأعترف أنني كنت غبياً.. لقد عدت إلى القرية سيراً على الأقدام.. لأن جيوبي كانت فارغة.. لم أكن أملك مالاً.. كنت غبياً فلم آخذ درهماً يكفيني.. لا تظنني أهتز لتهديك الفارغ.. أو أخاف منك.
اصفر وجهه بشكل مقيت. وبرزت عيناه وهو يستمع لبقية كلامي، متوقعاً أن أفجر قنبلتي في رأسه:

-إياك أن تلعب بذيلك.. سأسلم الملف الأحمر إلى الشرطة. ارتعش بدنه، انتفض متوسلاً:
-أعده لي.. إنها أسرار الناس!
-سأعيده بشرط.
ساومته فرد موافقاً:
-ما هو؟
-تجلب لنا موافقة على فتح مدرسة.
فوجىء، لم يصدق، أعتقد أنني أمزح. نظر إليّ بإمعان وقال:
-مدرسة!! ألا توجد مدرسة هنا؟
أدركت استسلامه فأوضحت له:
-لا.. السلماني أفشل كل محاولات فتحها..
نقر بإصبعه على فخذه وأعلن بعد ثوان:
-بسيطة.. أمهلني أسبوعاً.. ولكن أين ستفتحونها؟
-لا أدري! سندبر لها المكان المناسب، فيما بعد..
-ربما تأتي لجنة من مديرية التربية لدراسة أحوال القرية، معرفة عدد الأطفال الذين تجاوزا السادسة والاطلاع على موقع المدرسة المقترح.. ألا مكان جاهز في القرية..؟
-لا..
-ولم لا تفتحونها هنا..؟ مضيف السلماني واسع.. اقترح ببساطة فأدخل البهجة لقلبي. هتفت مؤيداً:
-إنه أفضل مكان.
-والآن.. أعطني الأوراق.. الملف..
-لا. يا زوج خالتي. لا..سيبقى مصاناً، في مكانه الأمين. حتى تنهي عملك..
-أعدك بشرفي..
-يقولون: شرف المحامي في محفظته..
سخر نصار فواصلت تهديدي:
-ليكن في علمك بأنني لست مغفلاً لأضعه في بيتي، مثلما تتصور.. كن عاقلاً.. فأي تهور سيقضي عليك..
سأسلمه إلى النائب العام دون تردد..
حدس جدية التهديد فلان، أظهر ليونته بقوله:
-دعنا نتفاهم يا كاكاحمه..
خفت من مراوغته.. وخداعه. قاطعته بحدة وحسم.
-انتهى التفاهم.. يا زوج خالتي.. نفذ شرطنا وعد إلينا ثانية.. مع السلامة..
انتفض غاضباً وخرج دون كلام.
-حسناً فعلت يا كاكاحمه.. أوقفته عند حده.. جاءني مهدداً فأخرسته، مثلما أخرسه المختار والحاج صالح..
-مكنني الله منه فقصمت ظهره.. آمنت بأن الخالق يمهل ولا يهمل.. آمنت..
أفضيت بما في صدري.. وخرجت.. بينما بقي نصار للتحدث مع الخانم بناء على رغبتها!
عدت إلى البيت فوجدت عمتي مليحة بانتظاري! استقبلتني أمي بوجه صارم. وراحت تسأل وتستفسر بإلحاح، عما تريده افتخار وعما جاء يفعله الجمولي في القرية! طمأنتها.. شرحت لها باختصار، وجلست أستمع لعمتي وهي تتحدث وتتحدث عن الجمولي "الحرامي"! الذي جاء يطالبهم بدين "لا أساس له"! وعن السلماني، الذي ظهر أنه متزوج من "ممرضة شابة"!.
ظلت تعيد وتصقل مما دعاني لسؤالها، وقد خمنت أن وراء قدومها أمراً آخر غير الذي حدثتنا عنه "الحرامي والممرضة"
-عمتي، هل تتكرمين بإعلامي-دون لف ودوران-عما جئت من أجله..
ارتبكت وتمتمت:
-أنا! لا.. لم أتِ إلاّ لرؤيتكم..
-قولي يا مليحة.. ولا تخجلي..
شجعتها أمي. وبقيت هدهد صامتة، منهمكة في مغزلها وصوفها، وإن ظلت تصغي بأذنين مرهفتين.
تلعثمت عمتي. نقلت عينيها في الأرجاء. وتحركت شفتاها لتنطق بكلمتين:
-المحل الجديد-ماذا به، المحل الجديد يا مليحة؟!
استحثتها أمي بكراهية، فتوثّبت. التفتت نحوي وقالت بصراحة. ربما نكاية بزوجة أخيها الراحل:
-عمك الحاج صالح يقول: لو يمنحنا كاكاحمه مبلغاً آخر، يسعفنا بمائة، مائتي دينار..
استاءت أمي. أكفهر وجهها لدرجة المقت فناكدت خانقة القط:
-طمعتم بمال اليتيم يا مليحة! لم لا تبيعين أساورك الذهبية؟
جفلت عمتي، ارتعشت، تلعثمت، ومن جديد نقلت عينيها في الأرجاء. ثم تمتمت:
-نحن نسعى لتوسيع المحل.. الحاج يريد..
سفهت أمي أقوال عمتي وعادت لمناكدتها:
-إنها أفعالك أنت.. ولا دخل للحاج بها..
امتعضت عمتي مليحة. حدجت أمي بنظرة استرحام ثم تطلعت إليّ بتوسل شعرت بالعطف تجاهها، فأمنتها:
-أمهليني أسبوعاً يا عمتي.. سأراجع حساباتي مع الحاج.. وسأدفع ما أقدر عليه، إن شاء الله.. وأرجو أن يجهر الحاج أوراق الشراكة، لتصديقها عند كاتب عدل أربيل..
شكرتني وخرجت مسرورة. وإن نغزها طلبي الأخير.. إذ قيدتها بحبال الحق والشرع.
شعشع "النفق" في مخيلتي حال خروجها! حاولت الذهاب إلى الأرض.. فأخبرتني أمي بهطول المطر..
أردت التأكيد بنفسي. نهضت فدهمني الوجع.. أحسست فجأة بصداع حاد.. تذكرت نذالة الجمولي حين طردني من بيته.. ودوّت "كلمات الطبيب" وهو يهمس بها للممرضة"، في أذني.. فجريت إلى سريري.. مذعوراً وكأن النهاية حانت..
ولكي أخفف من شدة الوجع، ومن كبر مصيبتي.. لم أجد سوى الدموع، بعيداً عن عينيّ وأذنيّ هدهد..
رحت أسترجع أيامي وذكرياتي الحلوة. وبدوت كألأبله، أو كمن أبهظه ثقل الواقع ففاء إلى ظلال الماضي، يستلف أرجها وأريجها..
وبعد مضي ساعة تقريباً، طرأ بعض التحسن على حالتي، وخف الصداع. وعاد النفق بوابة أحلامي.. لم أطق الصبر.. لم أحتمل البقاء "فالعصفور لازم يشق الريح" تماماً، كما قال الملازم علي، وهو يدربني في معسكر الغزلاني تخيلت الطريق الجديد وأنا منطرح على السرير: خططت في خيالي وانتظرت ساعات حتى توقفت المطر.. فخرجت سراً، لأتحقق من صحة رسومي ودقة مشاريعي..
صعدت التل الكبير. تطلعت مبهوراً إلى سفح الجبل حيث متعت بصري بأشجار الفاكهة واللوزيات، المنتشرة بكثرة.. أوراقها الخضراء المغسولة بماء السماء هيجت مشاعري وأنعشت قلبي. وازداد انتعاشي إثر نزولي الوادي.. المكتظ بالأشجار المتنوعة والخضار، المشهورة بطعمها اللذيذ نتيجة لارتوائها من العين.. عين صغيرة ماؤها عذب، صاف، شفاف، مثل البلّور.. رأيت صورتي على صفحته المضاءة بنور النهار.. كنا نأتي أنا وأحمد نلعب هنا ونلهو.. أو أنا وافتخار سراً لنتبادل الغرام..
قست المسافة، العمق.. قمت بالمهمة وحدي. ثم أعدّتها في اليوم الثاني مع هدهد، لأتأكد. ولأسعد زوجتي في الوقت نفسه
كل من رآني سخر في أعماقه. كل من استمع لشرحي استهزأ بعينيه إن لم يفه لسانه خوفاً..
صحيح أن الأمر لم يكن سهلاً.. لكنه ليس مستحيلاً.. يحتاج لجهد الرجال وعضلاتهم، تفانيهم وصبرهم.. ارادتهم الفذة.. ولو كنت قادراً على إنجازه وحدي، لما طلبت مساعدة أحد.. وما احتجت إلى مشورة أحد.. أياً كان..
صممت على إنجاز الطريق مهما كلفني ذلك من جهد.. سأنجزه ليكون ذكرى خالدة في مخيلة الأهالي، بعد رحيلي كذكرى المسجد والمدرسة، التي ستتحقق.. حتماً.. سيقولون "هذا طريق كاكاحمه" فأفرح حتى وأنا في قبري..
أعدت هدهد إلى البيت. واتجهت إلى بيت المختار. أسأله عما جرى بينه وبين الجمولي، ولأوضح له طبيعة المشروع وفائدته..
في الطريق تراءى لي أحمد. رأيته مسجّى بدمه.
فهتفت موبخاً مستنكراً، متألماً:
-لماذا يا أحمد؟. لماذا فعلت ذلك العمل المشين؟!
نكس رأسه حياء فلمحت على هامته "أكليل شوك"! (حلَ الضيوف عند المختار، كانوا شباباً من الأنصار عرف أحمد أحدهم، وكان مطلوباً لقوات الأمن. فتسلل يخبر السلماني الذي اتصل بجهاز اللاسلكي. فدوهم بيت المختار بعد ساعة. واعتقل الشباب الخمسة رغماً عنه. ورغم معارضته الشديدة وتوسلاته، أعدموا أمامنا رمياً بالرصاص. ولولا فطنته وسرعته بإخفاء سلاحهم، لأعدم معهم دون ريب.. ومع ذلك شوّهت الحادثة سمعته، وأزالت هيبته. وألبسته ثوب العار، وإن أقسم بالمصحف أمام الأهالي مرات ومرات، أن لاعلاقة له بالموضوع.. ولكي يثبت للناس صحة ما يدعيه، وليسترد شرفه الذي هو أغلى من المال والبنين، بصق في وجه السلماني وصفعه وسط الساحة.. وترصد لابنه الوحيد الهارب.. وذبحه بيديه ذبحاً.. من الوريد إلى الوريد..)
شرحت للمختار ما يدور في رأسي وبينت فائدته للقرية. فافترّ ثغره عن ابتسامة صفراء، وراوغ:
-إنها فكرة مدهشة، لكنها ليست سهلة كما تتصورها.
-وليست صعبة يا مختار. بهمّتك وهمّة الرجال يمكن إزالة الجبال وليس هذا التل الترابي..
-آمنا باللّه..
-لا تحبط عزيمتي ولا تزرع اليأس في قلوب الرجال بموقفك المتخاذل هذا..
أحس بالإهانة تطعنه فغير لهجته على الفور:
-أنا بكامل الاستعداد.. قل لي ما الذي يتوجّب عليّ فعله يا كاكاحمه؟ أنا مستعد لتنفيذ كل ما أقدر عليه.. وسأضع يدي في يدك بشرط..
-شرط!! ماذا تريد يا مختار؟
-أن تذهب غداً إلى أربيل لتعرض نفسك على طبيب.. باغتني بطلبه، فأرهبني.. وحتى لا أدخل في متاهة معه وأثير شكوكه أكثر، أبديت موافقتي دون تردد..
-أوافق.
-غداً ستذهب مع عيسى سيأخذ والده إلى المستشفى لعرضه على طبيب خاص..
-نريد "سيارة شغل" تساعدنا في هدم التل وحمل التراب إلى الوادي.
-إنه أمر سهل-أمهلني بضعة أيام..
-لا تقل: انتظروا الحكومة، لتكمل الطريق.. لن يأتي منها سوى الخراب والقتل..
طرحت وجهة نظري وودعته. أردت الخروج فأوقفني هازئاً:
-الجمولي، جاءني مطالباً بالدين، فطالبته بالصكوك.. قلت له: اجلبها في المرة القادمة لأدفع لك مستحقاتك ونخلص.. إن كنت تطلبني حقاً..
-لن ترى وجهه أبداً.. لكن وجهي لن يغيب عن عينيك هذا الأسبوع تركت بيت المختار. وتوجهت إلى موقع "النفق" في البدء عملت وحدي. رفضت مساعدة هدهد. التي جلبها عرفان مع مغزلها وصوفها. وعاد يلعب مع أقرانه في الساحة. لم أسمح لها بمعاونتي، أجلستها أمامي. أتملّى في محاسنها، وأتسلى بحديثها وهي تغزل بخفة ورشاقة.
كان عليَّ التمهيد لمجىء "الشفل" أصنع ممراً ليدخل حتى التل، كي يهده بمغارزه الحديدية الضخمة. ومن ثم يحمل ترابه إلى الوادي ليصنع منه ممراً عريضاً للسيارات..
على غير المألوف، وبصورة مفاجئة جاءت الخانم بحجة المشاركة. رحبت بها وشكرتها، وخمنت هروبها من جلسة الصلح بين حسان العائد نادماً، وبين أبناء المخرف برعاية المختار والملاّ..
-قبل أن أساعدك اشرح لي ما تنوي عمله..
انحنت عليّ لترى ما بيدي. فشممت رائحة طيبة. عُطر أنفاسها وشذى عطرها ملآتا روحي نشوة.. شممتها بعنف وأنا أرسم لها على الأرض قوساً كبيرة، يمثل الطريق الحالي الذي يؤدي إلى القرية. ثم رسمت خطاً مستقيماً قصيراً يصل بين طرفيه:
-بدل هذه الدورة الجبلية الطويلة، والمتعرجة، الشاقة والخطرة، سيكون هذا هو طريقنا الجديد بإذن الله.. بعد أن تدكه المداحل وتعبده المزافت..
-والله، إنها فكرة رائعة. لم تخطر على بال أحد، إكمال الطريق بأنفسنا.
-صحيح أنها ليست سهلة..
-لا.. لا تقل هذا يا بني.. التلال من تراب، يتفتت بضربة فأس.. والوادي ليس عميقاً.. يمكننا أن نملأه بأحذيتنا..
-لسنا مجبرين على ملئه بالكامل.. ما يهمنا هو الطريق..
-صحيح.. ما أسهل ذلك.. لنتوكل على اللّه..
قالت بإصرار. فباركت لها. وتمنيتها زوجة لعبد اللّه المختار.. تعينه في وحدته وتدفىء فراشه البارد..
شرعت معي تعمل بهمّة ونشاط، تكفيراً لذنبها بحقي طوال ساعتين.. وكان وجودها حافزاً قوياً للكثيرين.. إذ تدافعوا أفراداً وجماعات يساعدوننا..
بعد ذهابها طرت إلى عيسى، إثر معرفتي أنه لم يذهب إلى بيت الملاّ. مع إخوته..
أنهضته من نومه وشرحت له اقتراح الجمولي، وخلاصة الفكرة التي برقت في ذهني لتقسيم الديوان وبناء الصفوف.
-ماذا أراد الجمولي منك؟
سألني بعد انتهائنا من موضوع المدرسة. فأخبرته بوجود الملف الأحمر وتهديدي للجمولي. فحذرني بلهجة هادئة:
-زوج خالتك ليس ساذجاً.. قد يهاجم الدار بدورية أمن..
-لا تخف.. أنها في مكان آمن.. ليس بيتنا بالطبع، لقد جرب قبل الآن.
-لا تعطه الملف قبل تصويره.. أعطني الأوراق لأصورها غداً..
لنبق نسخة بيدنا وقت الحاجة.. كسلاح فعال ضده..
-أتذهب غداً إلى أربيل؟
-سأخذ أبي.. أتحب مرافقتنا..؟
-لا.. أرجو أن تسأل لي عن طبيب عيون جيد.. لأعرض هدهد..
-هدهد!! أحسنت يا كاكاحمه.. أحسنت..
-هذا دينار.. اشتر لي قنينة عطور أو أكثر..
-عطر نسائي بالتأكيد..
-طبعاً.. طبعاً..
-يالك من عفريت.. يا كاكاحمه.. بدأت تعرف أسرار النساء..





- 32 -
((ستر الله ولطف. وأنقذ برحمته وعطفه القرية من فاجعة كبرى، كادت تودي بحياة أربعين شخصاً..
انفجرت عجلة السيارة الكبيرة، الأمامية. أثناء عودتها فانحرقت عن مسارها. وبدل أن تهوي في الوادي اصطدمت بكتلة صخرية. حطمت واجهتها الزجاجية، وسمرتها في مكانها.. فحفظت أرواجاً بريئة من الضياع قبل أوانها..
لم يمت أحد. ولم تكن إصابات الركاب بليغة. ومع ذلك نقلوا جميعاً وعلى رأسهم المخرف، إلى مستشفى أربيل المركزي. بسيارة عسكرية، كانت تمر آنذاك..))
أخبرني عيسى بكل هذه التفاصيل. وهو يسلمني الملف والأوراق المستنسخة، وقنينة العطر.. ويعلمني بشأن طبيب العيون.. ويعود إلى أربيل ثانية للأطمئنان على أبيه.
ضجت القرية وعم الصخب، وتدافع الأهالي للنجدة بعد فوات الوقت.. إذ كان الجنود أسرع منهم بنقل الجرحى دون تلكؤ.. وبتكاتف الرجال تمّ سحب السيارة إلى الساحة، إبعادها عن الطريق الجبلي..
كنت واقفاً أتفرج عندما جاءني المختار:
-سأبذل كل جهدي في سبيل إتمام الطريق الجديد.. حسب اقتراحك يا كاكاحمه.. فكفى مصائب.. كفى ضحايا..
أفرحني موقفه.. وزاد فرحي بعد خطبة الجمعة، في اليوم التالي، إذ انبرى متحدثاً، كلماته المؤثرة أثارت الحمية بالرجال، فتوافدوا عقب الصلاة إلى موقع الطريق، يعلنون مساهمتهم، استعدادهم للعمل، كل بما يناسب عمره وصحته..
رأيت حسان بين الوافدين.. جاء على حياء، وربما رغماً عنه.. وبدا واضحاً أثناء عمله بجد، إنه يتحاشى التقرب مني خلال الساعات الأولى.. ثم بدأ يتقرب شيئاً فشيئاً ويحاول الاحتكاك بي، ليحادثني وينال كلمة إعجاب وإطراء، على تفانيه بالعمل..
كان العمل يجري ببطء متناه وبهمّة، حتى جاء الشفل في اليوم الثالث. فجرى بسرعة متواترة وإحكام.. وانقسم الرجال إلى حفارين وحمالين، ومعبدي طريق..
-إنها فكرة عظيمة يا كاكاحمه.. ما خطرت على بال أحد..
قال لي حسان. فجاملته قائلاً:
-بالسواعد الخيرة سينجز العمل على أكمل وجه، ويتحقق أملنا..
انتشى وازدان وجهه بابتسامة. وسكت كأنه يختار الكلمات المناسبة. عيناه أفصحتا تردده في مصارحتي بما يريد.. عجزه عن إخباري بما جاء من أجله. ولم أحتمل عذابه سألته:
-ماذا بك يا حسان؟ عقد لسانك كما أرى!
-نعم..نعم يا كاكاحمه.. فأنا خجل منك ولا أعرف كيف أبدأ! كيف أفتح الموضوع معك..
شعرت بمعاناته، حاولت التخفيف عنه. فمازحته.
-أنت لم تأت لتصالحني فحسب، بل لأصالحك مع الخانم فغرفاه مدهوشاً، وغمغم معترفاً:
-صحيح، واللّه صحيح..
ضحكت، فتشجع ليضيف:
-هذا ما سعيت له. أمي غاضبة عليّ! لا تكلمني ولا تريد أن تسمعني.. أقسمت ألا ترى وجهي! وحرمت دخولي إلى البيت!
-وأنت تعيش وحدك في جناح منفرد.. ككلب أجرب.
-تماماً.. آكل وأشرب وحدي.. أرجوك يا كاكاحمه أتوسل إليك.. كلمها، لتغفر لي وتصالحني.. سأتوب على يديك ويديها.. أنا مستعد لكل طلباتها.. سأنفذ ما تريد.
-اطمئن.. يا حسان.. سأكلمها بشرط..
-أوافق عليه قبل سماعه..
-المضيف.. الديوان الفارع..
-مابه؟
-نريده مدرسه للأطفال..
-مدرسة!!
-سنقسمه إلى ستة صفوف دراسية، وغرفتين إحداهما الادارة وأخرى للمعلمين.. وفلوس البناء عليّ..
-لا.. وحق الله.. لن أدعك تدفع فلساً واحداً.. سيكون البناء على حسابي.. هدية مني إلى القرية..
-بارك اللّه بك.. هذا ما توقعناه.. أنا وعيسى..
-عيسى..!!
-نعم.. قبل أيام أخذته إلى الديوان.. أطلعنا على مساحته قسناها ورسمنا المخطط.. منذ شهر ونحن نبحث عن مكان مناسب.. لم نجد أفضل من ديوانكم.. الذي ما عاد بذي نفع.. لكم..
-لو كنتم أخبرتموني..
-ألم يحن الوقت للتتزوج وتريح أمك؟
بوغت بمقاطعتي السريعة وسؤالي المفاجىء.. ولم أمهله يلتقط أنفاسه، أردفت موضحاً ومشجعاً:
-المرأة التي ستدخل بيتكم ستساعد الخانم، وتسعدك.
-أتزوج؟! أمر لم يخطر على بالي أبداً.. لم أفكر به..
خطرت شذى في ذهني. وجدت الشخص المناسب لها. فبشيرة لم تفعل شيئاً إلى حدّ الآن.. فشلت مساعيها مع يوسف.. ربما لم تكلمه بشأن شذى.. وربما لم يوافق فعلاً..
أحسست بصداع، وسرى خدر بسيط في ساقي وأنا أجيب:
-لم تفكر!! أتراك ناقصاً؟ يجب أن تتزوج لتبعد عنك الأقاويل وتقطع ألسنة السوء، ولتستقر.. انتشى أكثر.. ابتسامة الرضا التي ملأت وجهه، مسحت الخجل الذي كان يحس به. وشجعته على القول:
-أترى ذلك ضرورياً يا كاكاحمه؟
-بل واجباً.. لا تدرك قيمة الزواج إلاّ بعد أن تخوض غماره.. ستجد فيه اللذة والسعادة والصحة..
-أنت تشجعني..
-قل لي، ألديك واحدة تحت الإبط؟
-لا.. وحق الله.. لأني لم أفكر بالزواج قبل اليوم.. أتقترح عليّ واحدة.. شريفة وجميلة؟
كأنه أراد اختباري.. جس النبض.. ومعرفة السر في اقتراحي.. ومع ذلك قلت بلا مبالاة:
-قريتنا ملأى بالبنات.. ما رأيك بابنة عمتي؟
-شذى؟!
-إنها تناسبك.. عمرها مناسب وأخلاقها حسنة، ولا ينقصها الجمال..
عرضت عليه شذى.. وكلي أمل بأن أتخلص من ورطتها. وأخلصها هي من النحس الذي يلازمها..
من جديد، أحسست بالخدر يتجاوز ساقي، ويسري في عروقي. وشعرت بصداع مفاجىء. وضعت كفي على جبهتي.. فسمعته يسأل:
-أيقبل الحاج صالح؟
-إذا نو..يت فسأ..كلـ.. مه..
-مابك يا كاكاحمه..؟ وجهك أصفر!
-.....
غمزني الألم دفعة واحدة فعاود سؤاله.
-هل تشعر بشيء؟ أتحتاج لمساعدة؟
-اتركني وا..ذ..هب..
-مستحيل.. تعال.. سأخذك إلى البيت..
لم يكمل.. تهالكت.. سقطت فجأة.. تمددت على الأرض خائراً.. وسمعته يصيح بأعلى صوته قبل أن يغمى عليّ.
-يا رجال.. يا..





- 33 -
أخبرتني أمي حين أفقت من غيبوتي، بعد ساعتين:
-الرجال حملوك إلى هنا، إثر سقوطك المفاجىء..
كانت تجلس عند رأسي، على السرير فزعة مرعوبة. بيدها كمّادة. وجهها أصفر وعيناها هلعتان، وشفتاها تبسملان، تتمتمان بقصار السور.. بينما جثمت هدهد على الأرض، وهي أكثر فزعاً ورعباً، تمسّد يدي وتبكي.
فطنت لما أصابهما بسببي. فوجب إدخال الأمان إلى قلبيهما، وإزالة الفزع..
لاعبت ذقن هدهد بأصابعي وطمأنتها، وأنا أبتسم لأمي:
-حبيبتي هدهد.. أنا بخير.. بخير.. لا تشغلي بالك.
تحركت بغبطة، مررت راحة كفها على جبهتي.
وسألتني برقة وحنان:
-مم تشكو با بن عمي؟
-التعب.. أرهقت نفسي بالعمل..
زفرت أمي بحرقة وألم، قالت ويدها تضع الكمّادة:
-من ذا يستحق أن ترهق نفسك لأجله؟!
ابتسمت لها. رفعت الكمّادة عن جبهتي. وضعتها بيدها.. وأبديت اعتراضي:
-لا يا أمي.. لا.. كل شخص في القرية يستحق أكثر مما عملته لهم.. أتدرين يا أمي كم سينفعنا الطريق الجديد، إذا تم؟
تهكمت.. حركت يدها اليمنى باستهانة، وكشفت عما يجيش في صدرها:
-إذا تم!! ما إن سقطت متهالكاً من شدة التعب، حتى تفرق الجميع.. نقلوك إلى هنا وانصرفوا هم إلى بيوتهم..
آلمتني أمي بقولها. شعرت بنغزة في القلب. وحتى لا يسري الإحباط في دمي قلت لها:
-يا أمي، أنا لم أجبر أحداً.. جاؤوا متطوعين للعمل، من تلقاء ذاتهم..
-كفاك تهوراً.. اشغل نفسك في الأرض.
ازداد ألمي.. إلاّ أني لم أظهر أمامها بموقف الضعيف. سكت.. تركت السرير.. وتناولت ما أشبعني..
واستفسرت عن المصابين في باص المخرّف. فتمنت أمي:
-لو يخلصنا اللّه من المخرّف..
-حرام يا عمتي..! ادْعي له بالشفاء..
تدخلت هدهد بأدب.. وسارعت أمازح أمي:
-ربما يكون النصيب.. يا خجة..
ضحكت هدهد وامتعضت أمي.. ودمدمت.
خرجت على الرغم من ممانعتها، وتوسلات هدهد للبقاء.. توجهت إلى موقع العمل.. لم أجد أحداً! حتى الشفل لم يكون في موضعه! فتفاقم ألمي وغضبي..
وكدّت أتهور بذهابي إلى المختار وشتمه، بسبب تقاعسه، نكثه للوعد الذي قطعه لي.. إلاّ أن العم مصطفى، استسخف تصرفي. قال ناصحاً وهو يجرني إلى بيته، من الطريق:
-ما بك يا كاكاحمه؟! أولاً، حل المغرب وحان وقت الصلاة. ثم إن الرجال لا يعملون بأجر كي نبقيهم.. ولا تنسى مصيبة الباص والجرحى الذين في أربيل.. أفقدت الجميع صوابهم.. فواجب زيارتهم وتفقد احتياجاتهم أمور شغلت العقول.. أنست الناس حتى أنفسهم.. ولِمَ هذه العجلة؟ أتريد إنجاز النفق والطريق في يوم واحد..! إن موسم الشتاء سينتهي، وسيبدأ الربيع.. وأمامنا وقت طويل.. وسننتهي من الطريق حتماً قبل انقضاء الصيف.. نريده عملاً متقناً لا يتضعضع من الريح، ولا ينهد من ثقل السيارات ولا ينجرف مع السيول القادمة.
أدركت الخطأ، وسوء تقديري للأمور وعواقبها. فتراجعت عما نويته.. وفتر غضبي..

كنا وصلنا الباب، فحاول إدخالي لتناول العشاء، فرفضت. اعتذرت بسبب معرفتي لعسر الحال عندهم.
فكرت بهم وأنا أتجه إلى المقهى. ورأيت وجوب مساعدتهم. وتساءلت مع نفسي بدهشة:
"كيف نسيتهم كل هذه المدة؟! يجب أن أكلف هدهد باعطائهم مبلغاً يعينهم. وبدل أن أعطي لعمتي المزيد من المال. لأزيد كرشها ضخامة.. سألتفت إلى خالتي الطيبة أمينة، لتشبع خبزاً.."
توجهت إلى مقهى نصار فوجدته مغلقاً! وقصدت بيته الجديد. فألفيته يلعب الدومينو مع يحيى!
-الدنيا برد.. ولا أحد يأتي في المساء.. فكيف في الليل! شرح لي وانبرى يحيى يوضح موقفه بعد ترحيبهما:
-لا تظن بي الظنون يا كاكاحمه.. لم أزعل من أختك.. جئت مع افتخار من أربيل.. لتوي.. قلت: ارتاح دقائق وارجع إلى البيت..
-كيف حال عمي عثمان..؟
-بخير.. تركنا عيسى برفقته..
-وأنت! كيف حالك؟
تساءلت افتخار وهي تلج الصالة. بدت متعبة كأن الطريق ومصاب المخرّف تعاونا عليها:
-أخبرنا نصار بما حدث لك..
أضافت وهي تجلس أمامي فهونت عليها:
-تعب وإرهاق بسبب العمل.. زالا بعد الراحة والحمد لله..
-الحمد لله..
-الجمولي زار أبي في المستشفى البارحة.. وعيسى أوصاني، توصيتك بضرورة الاحتفاظ بالملف..
-أي ملف؟
سألتها فارتسمت الدهشة على جبينها.. وبادرني يحيى بعد فترة صمت:
-أوصى حسان على خمسين كيس إسمنت للمدرسة.
-وأنت، هي اشتريت ما يلزم الأرض من بذور؟
-لم يحن الوقت بعد.. وبالنسبة للعنب فالبذور لا تنفعنا بالتأكيد.. أوصيت على ألف شتلة وعود، من عنب الخليلي والآشوري وعنبنا الجيد.. وسأحصل عليها في وقتها.. وغداً بعد زيارة أبي سأشتري أنابيب إضافية..
-سأتي معك لأزور..
-لا.. لا يا كاكاحمه.. دع أبي بحاله.. لا يطيق رؤيتك دون أن ترافقك عمتي..
اعترض يحيى ساخراً.. فأبدلت دفة الحديث على الفور:
-ماذا فعلتم بالبيوت الثلاثة؟
فهم قصدي فزفر بألم:
-واللّه يشفى السيد عثمان.. تعهد حسان بإعادتها.. سنعطيه ثمنها ليعيد تسجيلها بإسمي..
-ولِمَ اشتراها السلماني؟ ألا تكفيه بيوته؟
استفسر نصار فأجابه:
-ليعلمها مخزناً للفواكه..!
دوّت كلماته في أذني، وظلت تدوي وأنا في الطريق إلى بيت عمتي، لمراجعة حساباتنا..
استقبلتني شذى بوجه باك، فسألتها:
-ما بك؟
-الفئران! سأجن.. كل يوم فأر أو أكثر..
-أهذا نصيبك يا بنت عمتي..!
امتعضت من ردي.. وزدتها امتعاضاً وأنا أدخل:
-هنيئاً لك.. عرسانك..
دخلت الصالة فوجدت عمتي منهمكة في الغزل! والحاج صالح يحتسي الشاي قرب السماور، الذي كان يئز أزيزاً..
-جئت متأخراً عن العشاء.. انتهينا للتو..
أعلمتني عمتي دون مقدمات.. لم أغضب ورددتها:
-إذا فاتك الزاد قل هنيئاً.. هنيئاً مريئاً يا عمتي..
-لا يقال للضيف هكذا.. يا مليحة..
وبخها الحاج فسوغت:
-ابن أخي ليس ضيفاً..
-لم آت لآكل يا عمتي..
-كل واحد يأخذ نصيبه..
نغزتني شذى وهي تدخل.. وأكملت ضاحكة:
-خيره بغيره..
أدركت ما وراء كلامها وقلت وحسان يخطر على بالي:
-الزهرة تولد أشواكاً يا شذى..
رشقتني بنظرة غاضبة وزمجرت:
-ماذا تقصد؟!
قهقه الحاج وصاحت عمتي فرحة:
-لا يقصد إلاّ الخير.. أنت أصيل يا بن أخي..
واستدارت نحو الحاج كأنها تستحثه على المشاركة بالحديث:
-أسمعت يا صالح؟
تابع الحاج قهقهته ثم سأل ابنته باستغراب:
-ألا تفهمين حقاً؟
هزت رأسها استهانة وزعقت بوجهي:
-المعنى!!
-واضح..
أجبتها باقتضاب.. وحتى لا أضيع الوقت سألت الحاج.
-هل حضرت أوراق الشراكة..؟
-إنها جاهزة.. متى ننزل لتصديقها..
-غداً إن شاء الله.. سنزور المخرّف ونصدقها.
-كما تحب..
كدت أنهض للمغادرة فإذا بعمتي تستوقفني، مستفسرة بخبث:
-ماذا ستفعل إذا خسرت تجارتنا؟
عجبت.. وقفت مدهوشاً.. تطلعت إلى المغزل وهو يدور في يدها.. وانتظر الجميع جوابي.. ولم أتردد:
-لا خسارة في التجارة.. اللهم إلا إذا كانت النية السيئة، نية الحرام مبيتة.. نية السرقة والنهب والاستغلال. وعلى فرض حدوث ذلك، فما الذي يمكن للحر أن يفعل؟
قلت بانفعال وغادرت البيت، دون أن أتناوزل قدح شاي! أو أفتح موضوع الحسابات التي جئت من أجلها! مردداً مع حالي وخبث عمتي يرن في أذنيّ:
-نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة، فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا..؟!






- 24 -
((في عصر اليوم الخامس، جاء العميد رأفت بزيّ مدني.. يحمل حقائبه..!
كنت في الحديقة ألاعب الطفلين، حين دق جرس الباب.
فتحت له بنفسي فرأيته.
صحّت توقعاتي وجاء على غير موعد.
تظاهرت بالبلاهة وأديت التحية العسكرية. حدجني بنظرة باردة، وأزاحني بقبضته ودخل..
هرولت صباح ناحيته مسرورة، مبتهجة، ولحق بها ميسر. فتلقاهما ببرود لا يليق بأب..!
بدا غاضباً، متوتراً، وهو يقودهما ويشير إليّ بنقل حاجاته.
حملتها وعدت إلى الحديقة، أحمد اللّه لأن حذري غلب ظنونه.. فضّلت البقاء في مكاني، ألوب في الأرجاء، بين الأشجار والأزهار.. دون أن أعرف ما الذي يتحتم عليّ فعله.. فهاهو يومي الأخير هنا.. ويجب أن أحسن التصرف ولا أثير شكوكه.. فربما يفرغ شحنات الغضب في رأسي.. بقيت ساعة ثم ما لبثت، دخلت غرفتي وأوصدت الباب.
بعد المغرب تصاعدت حدّة الكلام، وتعالى صراخ الزوجين وزعيقهما! وسمعت أصوات ضرب ومشادة، ثم هزّني نداء استغاثة من قبل الهام!
صدمت وساورتني مخاوف مزعجة، أرهبني صوتها الباكي، وحزّ في قلبي.. وطوال
دقائق ترددت في الاستجابة، وتلبية النداء. ثم اعتراني هاجس الرأفة والعطف، فلم أستطع السيطرة على أعصابي.. اندفعت لنجدتها دون مبالاة بشيء.. حتى بالعميد القاتل..!
ألفيت باب الصالة مغلقاً، والصخب يعم من ورائه. طرقته مرة بهدوء وبشدة مرات.. وحين لم أحصل على نتيجة قررت الدخول عنوة.. حاولت فتح الباب بدفعه بكتفي.. بكل ما آوتيت من قوة.. وكدت أكسره لولاه فتح وأطلّ برأسه، وبعينيه القادحتين!
نظر إليّ بذهول وفح في وجهي:
-ماذا تريد؟
وجدت الشجاعة لأنطق:
-سيدي العميد، ماذا يحدث عندكم؟
-لا شيء..
-أتحتاجون إلى مساعدة؟
-امش.. امش.. لا تتدخل..
جننت وكدت أقتحم الصالة، مسك كتفي بسرعة أبعدني وزعق آمراً:
-ابق في مكانك وإلاّ دفنتك..
أخرسني، فتراجعت مذعوراً بينما تواصل صراخ إلهام وبكاء الصغيرين.
خطوت إلى الوراء فارتشعت.. وندمت.. لخوفي.. لكن، وقبل أن يركبني الشيطان ويدفعني قدماً، حدثني عقلي بضرورة التروي والتحكم بأعصابي.. وعدم التهور.. فالعاطفة لن تنفع..
عدت إلى الحديقة، وظل الهاجس يلاحقني.. هاجس الرأفة، والعطف على الحبيبة، فمضيت إلى غرفتي..
لزمت السرير حتى الصباح، لم أنم تلك الليلة. سهرت مع ما جمعته لأبي الحق من صور ومجلات.. كنت خائفاً وجائعاً.. خائفاً على نفسي وعلى إلهام.. وجائعاً لأني لم أتناول ما يمسك الرمق.. وأنا الذي تعودت أكل وجبتين، والتهام كمية من الفواكة والحلويات، حسب رغبة الهام، لأكون عند حسن ظنها!
غفوت قليلاً لكني أفقت مذعوراً، وخيط من اللعاب يتدلى من فمي.. تحلب لعابي من شدة الجوع وامتلأت غيظاً.. وزاد جو الغرفة الكئيب من غيظي.. وتدريجياً بدأ السأم يدب في أوصالي.. وأضناني الجوع والجو الخانق.. وكدت أختنق وأنا أدفن رأسي في الوسادة محاولاً النوم، ونسيان معاناتي..

بعد الرابعة هدأ البيت واستكان.. ثم عاد الصخب يملأ أذنيّ.. وتخيلت أصوات صياح وبكاء.. وتنصتّ فلم أسمع أي شيء! انتظرت حتى العاشرة صباحاً.. وحين لم يرسل أحداً ما خلفي، فتحت باب الحديقة وتسللت خارجاً.
مضيت سريعاً أبحث عن أقرب بائع. تناولت عنده ما أشبعني.. وعدت لاهثاً أحمل خوفي ونهمي لمعرفة ما استجد. فألتقيت العميد خارجاً:
-أين كنت؟!
-فطرت ورجعت..
-خذ إلهام. أوصلها إلى أهلها وارجع إلى المعسكر.. خذ حاجاتك.. كلها..
راقبته وهو يبتعد. يركب سيارة أجرة ويمضي..
هرولت إلى الصالة فوجدت إلهام في أسوأ حال! كانت أعصابها متوترة، ووجهها متورماً، مدمى وعيناها الحلوتان حمراوين، دامعتين!
-ما الذي حدث؟
سألتها فردت باحتقار:
-كلب.. حقير.. انتقم منا.. طردوه من الجيش فأنزل حقارته برؤوسنا..
أشارت إلى باب غرفتها. تطلعت فثار استغرابي:
-ما هذه الحقائب؟ إلى أين ستذهبين؟
-طردنا الحقير.. ابن الحقير..
-ولِمَ توافقينه..! إنه بيتك أنت فلا تخرجي..
-كرهته.. لا أحب البقاء فيه أكثر مما بقيت.. حياتنا المشتركة لم تكن إلا فقاعة صابون.. فرقعت في أول ساعة..
-لماذا؟ ما الذي حدث؟
-دخل أمس فرآني أتكلم بالهاتف.. ادعى بأني لم أكترث بدخولهّ لم أحترمه..! لم أستقبله كما يجب، إذا لم أقطع حديثي عند مجيئه، وواصلت كنوع من التحدي! وجدها حجة.. فانهال عليَ ضرباً..
-لكن إلى أين.. ستذهبين؟
-سأعيش عند أبي مؤقتاً.. ستأخذني الآن إلى هناك لتعرف المكان.. فلابد أن نلتقي قريباً.. لابد..
-كيف؟
-لا أدري.. لكني سأتدبر الأمر.. وسأخبرك حتماً.. ستعرف العنوان وتأتي..
بكت فاحتضنتها:
-أتعرفين أنني لم أنمْ البارحة؟ ولو لم أدخل غرفتي لارتكبت جريمة..
مسحت دموعها وأخذت يدي بين كفيها..
-حسناً فعلت.. خفت عليك أكثر مما خفت على نفسي..
سمعت صوتك أمس وأنت تكلمه، فخفت أن تتدخل فيحدث ما لا يسر..
-أحببتك يا إلهام.. أحببتك..
-حبي لك أضعاف، أضعاف حبك لي.. فمعك شعرت بالمتعة والراحة والأمان.. أكثر بكثير مما شعرت بهامع هذا الحيوان.. ستة أشهر معك تعادل عشرة أعوام معه.. بل تعادل العمر كله..
بكت من جديد.. واسيتها وطلبت منها الهدوء.
-خروجك من البيت لا معنى له..
-أي بيت يا حبيبي؟! هذا بيت الحكومة، تابع لوزارة الدفاع.. وبالتأكيد سيخرجونه منه بعد شهر.. لا تتصورني غبية.. بيتنا الآخر ملكي أنا.. أجبرته على تسجيله باسمي حين زواجنا.. سأنتقل إليه قريباً سأدلك عليه حتماً.. انتظر إشارتي.. سآتي إلى المعسكر.. بسيارة أخي.. أو بل خضراء)).







- 25 -
شعرت بتغير معاملة الجميع لي، بعد حادثة النفق، خاصة عيسى! أخذ يتصرف بكثير من الحنان والعاطفة، والشفقة! فعلى الرغم من خروجه صفر اليدين من مسألة المدرسة، التي كان يأمل أن يكون مديرها، والتي انتهينا من بنائها حسب المخطط الذي جلبه الجمولي، من مديرية التربية مع موافقتها على فتح مدرسة ابتدائية في قريتنا، وقررت مباشرة عملها ابتداءً من بداية أيلول القادم، بملاك كامل من المعلمين.. لم يهتم، أو يتأثر.. بل أعلن كامل سروره.. وأبدى استعداده للمساعدة في كل جهد مبذول.. وظل الأمل يراوده بالتعيين فيها بالذات.. وصمم على الانتهاء من البناء في أقصر وقت، خشبة أن يتراجع "ابن السلماني" عن قرار تنازله عن المضيف..
وبمبادرة مشكورة منه، وبعد أن أقنعني بوجوب استغلال فرصة وجود "طبيب زائر"، لعرض هدهد عليه.. أخذها بمرافقة بشيرة إلى أربيل.. وعادوا يحملون البشرى العظيمة:
-بعد فحص دقيق استغرق ساعة كاملة أعلن الطبيب الروسي، إن مسألة هداية بسيطة للغاية، فهي لم تولد عمياء.. وضربة الجندي الحاقد على يافوخها لم تؤد إلى ضمور العصب البصري، وإن الألياف الدقيقة ما زالت سليمة.. وتحتاج إلى عملية جراحية في بغداد.. حدد موعدها في بداية الشهر القادم.. أي بعد عشرة أيام.. ولا تهتم يا كاكاحمه سأخذها مع عم مصطفى.. أعدك بذلك.. فكن مطمئناً.. إنها فرصة لا تعوض..
لم أصدق.. كدت أطير فرحاً أكثر من فرحة هدهد نفسها..
-ألا تؤثر العملية على الجنين؟
سألته فأوضح:
-أخبرته بشيرة بحمل هداية.. فضحك الطبيب وقال:
إنه سيخدرها موضعياً.. لأن البنج يضر بالجنين..
-ألا يمكن تأجيلها إلى موعد آخر..؟
-يمكن.. لقد خيرنا بين إجراء العملية بعد عشرة أيام.. أو بعد الولادة.. وعليه يجب أن تقرر أنت كي أتابع الأمر وأسافر إلى بغداد بعد يومين لمقابلة الطبيب لاعطائه موافقتنا وأخذ الموعد النهائي وتحديد وقت العملية..
أبقاني عيسى في حيرة وعاد إلى أربيل برفقة إخوانه لاخراج أبيهم، وهو آخر من بقي في المستشفى من المصابين.
عرض عليّ المختار وحسان والملا مساعداتهم المالية، وتعهد يوسف بتحمل مصاريف العلاج، مهما كانت.. يوسف الذي أوكلت إليه مهمة تصليح السيارة، أتيحت لي فرصة سؤاله عن أسباب رفضه الزواج من شذى، أجابني بهدوء:
-لقد أخبرت بشيرة حين عرضت الأمر عليّ، بأني لم أفكر بالزواج بعد رحيل بتول..
كانت فترة بناء المدرسة فرصة رائعة، لم أشأ إضاعتها. وحسب نصيحة نصار أجرت عمالاً لتهديم الجدران الداخلية لغرف ومرافق بيت جدي القديم. وبمشورته لم أبق سوى السقف، الذي دعمته بعوارض وأعمدة متينة.. وعندما انتهيت من تلحيظه وصبغه اتجهت إلى حسان.
-سمعت أنك تبحث عن مخزن..
-صحيح، ما عاد مبنى الوكالة يكفي..
-عندي ما تحتاج.. سأوجره لك بسعر معقول..
-يا ريت.. ستنقذنا من ورطة كبيرة وتخلصنا من مشكلة التخزين..
-إنه جاهز.. يمكنك الإطلاع عليه الآن.. بينما أكون عند الخانم.. جئت لمقابلتها حسب ما وعدتك..
-سأنتظرك عند الباب..
-تفرج على المخزن.. إنه بيت جدي القديم..
-لا.. لن أتحرك إلا بعد خروجك، كي يداخلني الأمان..
سلمته مفتاح المخزن وذهبت إلى مقابلة أمه الخانم.
استقبلتني المرأة بتهيب واستغراب. أصيبت بالهلع حال رؤيتها لي.. أدخلتني الصالة مضطرة وعيناها تتساءلان عما دفعني لهذه الزيارة وسببها..
أدركت ما يدور في مخيلتها فعذرتها، كونها تعيش وحيدة، وتخاف على سمعتها والناس لا يرحمون.. كما أن خشيتها من تنفيذ تهديدي القديم بضربها.. بدا واضحاً على جبينها..
لا أدري ما الذي حل بي! راحت عيناي تتطلعان بعجب، لمحتويات الصالة. أدهشني مخمل الستائر الجميلة المزركشة، وساتان الأرائك الفخمة، وأبهة الثريات الأربع وجمال السجادة ونقوشها البديعة.
-لن آخذ من وقتك الكثير.. اسمحي لي بكلمتين..
-ماذا أتريد يا كاكاحمه؟ زيارتك غريبة!
قالت بوقار.. فلاطفتها:
-أتخافين مني وأنا ابنك الثاني وأخوك!
انفرجت أساريرها، غير أنها بقيت على وقارها، كصبية في العشرين لا امرأة في الخمسين:
-حضورك في هذاالوقت يسبب لكلينا إشكالات، نحن في غنى عنها.. ولو جلبت هداية معك لكان أفضل لنا.
-إذن اطمئني.. حسان ينتظرني عند الباب..
استعادت عافيتها وعادت للسؤال:
-ماذا وراءك؟
-جئت كوسيط، فاعل خير. وأسأل اللّه أن يمكنني من مساعدتكما..
حاولت مقاطعتي فاسترسلت:
-حسان ابنك الوحيد.. وإذا أخطأ بحقك، فسبحان الذي لا يخطىء.. أنت أمه وهو نادم ويطلب منك السماح والعفو.. والعفو يا حضرة الخانم من شيم الكرام..
بكت الخانم فجأة! مما شجعني على الاستمرار:
-لقد نخره الندم.. ويريد منحه فرصة، ليبدأ من جديد.. يتعهد بعدم تكرار ما فعل.. ماذا تقولين؟
لم تجب.. انخرطت في البكاء الخافت! متخلية عن وقارها المعهود..
وكأنها شعرت بالحرج، شاءت التراجع، البقاء على وقارها والاحتفاظ بهيبتها، لكنها لم تستطع.. راحت تبكي بصمت.. فحدست أن ذلك، وسكوتها إحجامها عن الردّ القاسي هو رضى وموافقة.. فلم أتأخر لحظة، كوّرت يدي كبوق، وناديت من شدة فرحي على ابنها، الذي خمنته واقفاً يتنصت:
-حسان.. حسان..
على الفور انزاح الباب، واندفع الشاب كالريح إلى أحضان أمه.
أخذ يديها، قبّلهما. قبّل قدميها بمحبة وندم..
-أطلب عفوك يا أمي وأنشد رضاك.. رضاك فقط.
قال لها وهو يحتضنها بحنان بالغ.
-مكافأة لأمك يا حسان. أنت مطالب بجلب خادمة لها.
تنبهت الخانم، رفعت رأسها تستبين المقصود. واضطرت إلى إخفاء وجهها، لأن عينيها كانتا تغصان بالدموع.. لكن أذنيها راحتا تصغيان..
-زوجة مخلصة تسعدكما معاً..
استطردت موضحاً، فلم تحتمل كبح تشوقها لمعرفة مغزى كلامي، كفكفت دموعها، استفسرت وفي صوتها ما يزال يرن الوتر الخائف:
-على ماذا تلمح يا كاكاكمه؟
-حسان بحاجة إلى زوجة تكون أهلاً لثقتكما، وتنال رضاكما..
انتفضت الخانم، تساءلت بمكر وإبهامها الأيمن يمسّد حاجبيها:
-هل اتفقتما من وراء ظهري كما اتفقتما على المدرسة؟
-استغفر الله يا أمي.. استغفر اللّه..
لاحظت ارتباك الخانم، رغم أنها لم تقم بأية حركة تشي بذلك.. وتأكدت حين جاملتها:-الأمر يعود إليك يا خانم..
إذ ردت بفزع وإصرار:
-بالطبع.. يعود إليّ..
عندئذ أدركت أن الوقت لا يسمح بطرح اسم "شذى" بنت عمتي.. وأنه ما عاد لبقائي معنى..
استأذنت منهما وخرجت...في الطريق، التقيت المختار كان يحث الخطى باتجاه داره. أوقفته متسائلاً:
-أين الشفل يا مختار؟
-أولاً، الحمد لله على سلامتك يا كاكاحمه.. والشفل سيأتي الأسبوع القادم.. وستأتي بعده المداحل والمزافت..
-ألم يستطع البقاء أكثر؟
-استأجرناه ثلاثة أيام فقط..
-نحتاجه لثلاثة أخرى..
ابتسم، وقال دون أن يتكلف في حركاته أو في نبرة صوته:
-حاضر يا كاكاحمه.. على الرأس والعين.
أفرحني جوابه وعدت لسؤاله بقصد الاطمئنان:
-هل كلمت الخانم بشأن المدرسة؟
استغرب ورد:
-أخبرتها كما طلبت مني وقتها، ووافقت.. أعلمت عيسى بكل شيء.. لكن،.. لماذا تسألني..!
-جيد.. خفت أن يكون الأمر حصل دون علمها..
-أعوذ باللّه..
صمت لحظة وسأل بحيرة:
-من هو أزرق برلين يا كاكاحمه؟
وإذ لحظ دهشتي تابع موضحاً:
-حين نقلناك إلى البيت عقب سقوطك.. سمعتك تصرخ.. عليّ بأزرق برلين.. أزرق برلين..!
نغزني في القلب دون عمد. حاولت الابتعاد عن الموضوع.. فانحرفت بالحديث متعمداً:
-أرجوك يا مختار، لا تنسى مديد العون لأمي ولزوجتي. مساعدتهما بما تقدر عليه.
-أتزوجني خجة با كاكاحمه؟
باغتني بطلبه! دهشت. تلعثمت لهول المفاجأة.. فاستطرد بأدب ورزانة:
-اطلبها منك بالحلال با بني.. فكر بالموضوع وأخبرني..
-لا..لا..
صحت بعصبية ودونما شعور.
تركته يقف مشدوهاً وعيناه ذاهلتان لجرأتي، وابتعدت عجبت لتهوري، وتساءلت كيف خرجت الكلمات من فمي، دون إرادتي!
اتجهت إلى محل عمي حسن، فوجدته يدردش مع سعدو الذي أفزعه حضوري.
رحب بي عمي وبادرني إثر جلوسي، فيما انسل سعدو خارجاً..
-كدت أرهن جلدي قبل أن تنقذني أنت، فالمحل كما ترى. والحياة غدت صعبة..
-اسمع يا عمي.. اترك شغلتك هذه.. فما عادت تشبعك خبزاً.. وعليك أن تمتهم مهنة أخرى تدر ربحاً وفيراً.
-مثلاً؛ هاجر تريد أن تمتهن تطرير الشراشف!
-جيد.. سنوفر لها المكنة.. وإذا ما نجحت يمكنك الاستفادة من بيت خالتي مريم المهجور.. فالمكان الواسع.. وسأكلم محمد ليشد أزرك..
-كثر الله خيرك.. كثر الله خيرك..
-وأنت ماذا ستعمل.. يا بن أخي؟
-إضافة إلى عمل الأرض، شاركت الحاج صالح، وأجرت بيتنا لحسان. لم أكمل، جاءني عرفان:
-تعال يا كاكاحمه.. هداية عندنا.. وأمي تريدك..
-وأين أبوك؟
-في البيت، أرسلني إلى المقهى فلم أجدك.
-ماذا كان يفعل سعدو عندك؟
سألت عمي فجأة فرد باقتضاب:
-مسكين، أموره صعبة مع زهرة.
سكت ولم أكن بحاجة لمزيد وعدت بزيارته ليلاً والاتفاق معه، وودعته.
مضيت إلى دار عم مصطفى، يلاحقني عرفان ككلب صغير..
وجدت هدهد تتمدد قرب الخالة أمينة، المنهكمة في خياطة كيس صغير من الكتان.. بينما كان العم مصطفى يحلق ذقنه باهتمام، كأنه يستعد لمقابلة شخص هام:
-ما هذا يا أمي؟
سألها عرفان فردت بينما تهت في دوامة سهو:
-سيضع فيه أبوك نقوده..
لم أفهم.. ولم أشأ سؤالها عما تعنيه.. فأردفتْ تشرح لي:
-سينزل عمك غداً إلى المدينة، ليشتري لنا ثلاث بقرات. ولأن المدينة تغص بالسراق، فالاحتياط واجب..
-جيد.
قلت وأنا ساهٍ، فاستدركت:
-إنها فكرتي.. سيشده على بطنه بالحزام..
-حسناً تفعلين يا خالة أمينة.. حسناً تفعلين.
وأنت يا عمي، ضع في بالك أن البقرات تحتاج لعناية مركزة وجهد كبير.
-لهذا فكرنا بهداية.
أفصحت الأم عن نيتها، وغمرت وجهها تعابير رجاء.. تنبهت إلى المعنى فامتعضت. لم أشأ التسرع، أحببت التأكد.
-هدهد!!
سألتها فأردفت بابتسامة حزينة:
-أردنا أن نسألك معروفاً.
أحسست أن يأساً خفيفاً يهز كياني وانتظرت بقية حديثها لمعرفة ما تريده بالضبط:
-اسمح لها بأن تعيننا..

لم أدعها تكمل. وكأن مساً من الجنون أصابني، قلت بصوت يكاد يكون صراخاً:
-مستحيل.. لن أسمح لها بالتأكيد.. زوجتي حامل..
ألا تعرفان ذلك..؟
-إنها ابنتنا.. ومن حقنا عليها..
تدخل مصطفى ونهرته والعجب يلفني:
-يا حيف عليك.. وألف حيف..
-كلام غضبك!! هداية ليست فتاة عادية..
إنها خير من تجيد الحلب.. ولا ضرر عليها أبداً، أو خوف.
-لا.. يا عمي.. لا.. أمامها عملية قريبة.. ألم تخبركم بها؟
استخف على غير العادة. هز يديه وقال:
-علام.. مجرد كلام.. نحن بحاجتها..
لم أصدق.. لم أكن أنتظر من عم مصطفى ما سمعت، أفهمته بحدة وعيناي تراقبان أمينة وهي تلقي الكيس جانباً، بانفعال:
-انزعا هذه الفكرة من رأسيكما.. ابحثا عن شخص آخر..
عرفان خير من يقوم بالمهمة..
شهقت هدهد، وضعت كفها على فمها، مخافة أن أسمع تنهدها، وقامت أمها بحركة تنم عن الضجر. وشرعت ترفوا جورباً:
في حين قال مصطفى بخيبة أمل:
-يا كاكاحمه..
لم أستطع السيطرة على القلق، الذي يعتريني، فقاطعته متنرفزاً فاقداً صبري:
-كفى.. لا تستغلا طيبتي..
خفت أن يعتريني الغضب فأتهور، لذا فضلت مغادرة البيت دون كلام..
لحقت بي هدهد.. نادت عليّ فرجعت لأقودها.
-أتحبني إلى هذه الدرجة يا بن عمي؟
بدت فرحتها عارمة. تمعنت في وجهها. تغيرت ملامحها.. سمنت وتوردت لكن عينيها بقيتا مطفأتين!
صممت على الاتفاق مع عيسى.. ليتم بإجراء العملية بأسرع وقت.. قبل أن يأخذ اللّه أمانته!
-هل فعلت ما أمرتك به؟
-بالحرف.. أعطيت المبلغ لأبي.. قلت له: إنها الأموال التي جمعتها.. هدايا العرس.. وكاكاحمه منحني حرية التصرف بها..
-بارك الله بك..
قلت لها وحدثت نفسي..
"مجرد مبلغ بسيط أبدل مزاج مصطفى وزوجته!"
-إلى أين نحن ذاهبان؟ إلى أين تأخذني؟ ليس هذا طريق البيت!
تنبهت. أدركت فطنتها فاعتذرت لها. وعدت إلى الطريق الصحيح:
-اشتقت إلى عمتي.. تركتها قبل الظهر..!
-يا هدهد، غدوت سلوة أمي فلا تدعيها تلهو مع الدجاج.. بعد الآن..







- 26 -
((بعد ظهيرة اليوم الثاني والعشرين، من عودتي إلى المعسكر نوديت للخروج إلى البوابة!
كنت مستغرقاً في تأمل السماء، خارج المهجع. تعباً، مشدود الأعصاب، منهك العضلات، إثر حصة التدريب اليومية، القاسية، التي استحدثها لي العريف إسماعيل، بشكل خاص، ابتداءً منذ اليوم الأول! "تعويضاً على الأيام السابقة. وأمراً لابدمنه لاستعادة قواك ونشاطك بعد فترة الخمول التي عشتها في النعيم، أيها الجندي المكلف"
هكذا تذرع لكنه لم ينجح في إخفاء نيته العدوانية. ولا روح الانتقام التي تجلت في عينيه لحظة إخباره بنسياني إياه عند تركي بيت العميد.. لقد جمعت له المجلات الفنية والصفحات الملونة، وعشرات الصور، لكني نسيتها.. لم أجلبها بسبب سرعة الأحداث، والمصيبة التي وقعت.. ثار غضبه، وأعتقد بأني أسخر منه.. ثم هدأ حالماً استمع لقصة الطابع التي حدثته بها..
انتزعني النداء من تأملاتي، فذهلت وزاد أحد الجنود من ذهولي حين جاءني راكضاً وخيوط العرق تسيل على عنقه.. وقف أمامي متحضراً وهمس ساخراً:
-أمك يا كاكاحمه، جاءت عليك بسيارتها!
عقدت الدهشة لساني، وانتابني الهلع. أرعبتني نظرات الجنود، وبخاصة من حمل الخبر. وأرعبتني أكثر، سخرية مجيد الذي أنهضتي وقادني إلى الداخل، لاستبدل ملابسي وأستعد.
راح يثرثر، يحاول اكتشاف السر، الذي كتمته في صدري، ولم أبح به لأحد.. حتى له.. لكزني بمرفقي وسأل:
-قل لي: من هي هذه.؟ أهي سناء أم إلهام، أم واحدة أخرى؟
لم أجب فعاد يقول بلهجة ماكرة:
-أنت لم تحدثني عنها يا كاكاحمه؟ وأتمنى أن تكون حذراً فعندما ينقاد المرء لهذه الأمور فإنه ينتهي إلى الفضيحة والعار.. ويكون طمعاً للأنياب الحاقدة..
-ماذا تقصد يا مجيد؟
-أقصد كن حذراً تسلم..
سرنا بعض الطريق صامتين.
لم أشعر بسعادة حين خطرت إلهام على بالي! فمن يأتيني غيرها.. كنت أتوقع انتهاء العلاقة بيننا.. وتمنيت خلال الأسبوع الأخير.. ومن كل قلبي-إلا أراها ثانية، لشعور خفي ظل يراودني!
رانت على صدري كآبة غريبة! وسيطرت على نفسي هواجس عدة، مثلما أوغلت في عيني أحزان عميقة. كاد يطفىء شعاعهما الكليل بوطأتها الفادحة..
وتابع مجيد ثرثرته بقية الطريق:
-سألتها ماذا تريدين؟ قالت: الأخ كاكاحمه!
وكان يستمر بسخريته حتى لاحت لعينيّ سيارة الأوبل الخضراء.. فانتابني الهلع من جديد. عرفتها دونما عناء رغم إنها كانت تغطي رأسها، وتخفي وجهها.
-عد يا مجيد، ارجع إلى المهجع.
أمرته فصدح صوتي في الفضاء، دوى في أذنيه فاستفسر:
-ألا تدعني أتعرف..
-قلت لك.. ارجع، فارجع..
رحت أحث الخطى كأنني ماض في مهمة مستعجلة، مما أدهشه فردد في محبة:
-حاضر يا كاكاحمة.. حاضر.. لكني سأنتظرك بنفاد صبر.. انتظر أخبارك يا دون جوان الغزلاني.. إذا تأخرت يمكنك المبيت عندها.. لا تشغل بالك.. سأغطي على غيابك، فكن مطمئناً.. ولا تقلق من هذه الناحية..حظاً سعيداً ونكاحاً مباركاً.. سأتحمل خبث عريقي إكراماً لك..
-لا تخبره بشيء..
-أخبره! أتظن الخبر لم يصله بعد.. ونصف الجنود جواسيس لديه..؟ منذ عودتك وهو يطحن نفسه ويشحن عقله، ليجود عليه بطريقة انتقامية مبتكرة، والآن سيتفاقم طحنه علينا معاً.
-لماذا؟
-أخطأت قبل شهر حين أخبرته بأن "صوفيا لورين" أجمل من "مارلين مونرو" استاء مني وغضب.. وبت أخافه وأتوقع انتقامه مني.. ومنك أيضاً.. لاحظت تغير طباعه معك منذ أخبرته بقصة الطابع ولم تأت بالمجلة التي نشرتها.. اللّه السائر من حقده..
قال متنبئاً وانصرف بسرعة. توارى عن الأنظار. حدست وأنا أقترب من السيارة، أن هناك أكثر من ألفي عين تترصدني! فلم أبال..
فتحت لي الباب الأمامي فصعدّت، كانت تخفي عينيها بنظارة غامقة، وتغطي شعرها وجزءاً من استدارة وجهها، بربطة حريرية مزركشة، جميلة. وترتدي قميصاً أبيض مخططاً بمربعات حمراء، وتنورة سوداء، ترتفع قليلاً لتكشف عن ساقيها.
سلمت فردت بتهكم.
تطلعت إليّ لثوان وقالت بعتاب، والسيارة تنطلق:
-ما حسبتك قاسياً إلى هذه الدرجة؟!
قبل أن أتساءل عما جرى، كشفت عن رأسها نزعت الربطة، ألقتها وراء ظهرها.. ورفعت النظارة.. وضعتها أمامها، فبانت "إلهام الحبيبة" بوسامتها السمراء المحببة، وبعينها العاتبتين:
-عشرون يوماً مضت! عشرون يا كاكاحمه، ولم تمر عليّ! لم تسأل عني!
أبدت استغرابها وهي تفرك رموشها بظاهر أصابع يدها اليمنى. فلمحت أظافرها الطويلة تلمع من شدة الطلاء الأحمر، الفاقع.
عضت شفتيها، ابتسمت ابتسامة غامضة وهي تسأل:
-الخوف!! ممن؟
-خفت أن يراني العميد أو يسمع بي..
-يراك! أو يسمع بك! وما دخل هذا الحيوان بنا؟
سكتت لحظة، حركت يدها بتلوع وراحت تتأمل أظافرها. فخفق قلبي خوفاً، كدت أصرخ بها "انتبهي إلى الطريق" فسبقتني.. أعلنت بفرح:
-انفصلنا منذ أسبوع.. أرسل لي ورقة الطلاق.
-إذن أصبحت حرة.. ألف مبروك..
-لذا سأقودك.. سآخذك إلى بيتي..
-لماذا؟
-لأنك حبيبي.. وخلال مدة افتراقنا.. لم تعرف جفوني النوم.. وأنت ألم تفكر بي؟
أضحكني سؤالها. صارحتها:
-لم أنم لحظة واحدة. كنت خائفاً عليك، ومتألماً لما أصابك.
-أتحبني يا كاكاحمه إلى هذا الحد؟
-وأكثر..
هزت رأسها بحركة دلال وتأوهت:
-يا حبيبي!!
لم أنتبه إلى معالم الدرب بشكل واضح! ولا أدري إلى أين قادتني.. أخذتني! ولا أعرف أي طريق سلكت! ومن أي شارع مرت! انتهبت إلى وقوف السيارة أمام قصر بطابقين..
وفي حدود الرابعة كنا في غرفتها المعطرة.
جلست على حافة السرير، وراحت هي تغير ملابسها.. أثار العطر الفواح جواً من النشاط في جسدي. وزاد نشاطي حين قبلتني من جبيني، وأنفي.. وهمست في أذني بغنج:
-شوه النذل حياتي وامتص نضارتي.. ولولاك لهلكت.
أحسست بحرارة جسدها وسمعت دقات قلبها، حين ارتمت جنبي وأنا لم أزل بملابسي! بقيت بلا حراك ونحن على عرض السرير.
لم أنس أن لها جسداً يمور عافية ورغبة. لذا لم أدهش لنيرانها المتأججة.
وبعد ساعتين.. أحسست للمرة الأولى منذ تعارفنا، براحة أداء الواجب لامرأة مستضعفة!
وإذ لاح المغرب نهضنا لنأكل. مما أعدته بنفسها مسبقاً. سندويشات باللحم المفروم والبيض.
ونحن على المائدة رنّ جرس الهاتف.. لم تشأ رفع السماعة.. لكني أجبرتها على الرد.
بان لي وهي تجلس قرب منضدة الهاتف، دقة ملامحها وجمال وجهها.. ومكنني من رؤية حاجبيها الخيطيين، وابطيها الحليقين..
كان أخوها على الطرف الثاني، يسأل عن سيارته. فسألته بدورها عن طفليها. فأخبرها بأنهما يتفرجان علىالتلفزيون.. وأنهما لم يسألا عنها!
-كنت أشغل نفسي-أثناء غيابك عني-أقضي ساعات فراغي برؤية أفلام الفيديو.. وأنت؟
-كل وقتي قضيته مع مجيد، إنني أعتبره معلمي وأخي.
أكلنا وشبعنا وتحدثنا، ثم عدنا إلى الفراش.
كنت أشبه بالحصان الجامح ومع ذلك شعرت بالانهاك! أحسست وأصابعي تتحرك على ظهرها الأملس، الناعم، بالتعب والارهاق.. وخيل إلي أنني أشبه بحصان هرم، ركض مسافة شاسعة، دون توقف!
جففت عرقي وسترت جسدي وتمددت لأسترد عافيتي، واسترجع أنفاسي.. فسخرت مني!
رأيتها تسحب من الدرج القريب علبة سجائر، تستل منها واحدة، تدعكها بين راحتيها قبل أن تشعلها.
وراحت تتأمل لهب عود الثقاب.. ثم أمالت رأسها إلى الخلف، واستمرت بتأمل حلقات الدخان وهي تتصاعد برتابة وخفة..
راقبتها بتأن فأيقنت مدى معاناتها.. وارتأيت تركها تنفث همومها وترتاح.
نزلت من السرير فأخذت تضحك، تمازحني.. تسخر مني وعليّ..
رحت أتفرج على غرفتها الواسعة، التي احتوت إضافة إلى السرير العريض، خزانة بأربعة أبواب، وميز تواليت رص سطحه بأنواع كثيرة ومختلفة من قناني العطور، وعلب الماكياج والزينة، بأحجام متنوعة.. ومشجب ملابس مع دولابين صغيرين.
للمرة الثانية يثيرني العطر الفواح ويشدني، لكني أتجاهله وأمضي في جولتي.
تأملت فناء البيت من خلال خصاص النافذة المفتوحة قليلاً. فلم أر سوى أحجار وأخشاب مكدسة!
تجولت في الأرجاء، كان بيتاً جميلاً بست غرف وصالة رئيسية، احتوت على منضدة كبيرة وكراسي عديدة. وغطيت النوافذ بستائر ملونة، تدلت إلى الأرض، التي فُرش جزء منها بسجادة قديمة وبوفيه خشبية، ضمت رفوفها الأربعة أنواعاً من الزجاجيات والفرفوري، والخزف الصيني الجميل، وأصنافاً من الصحون والكؤوس والطاسات والأكواب، وتماثيل ملونة من الجبس.
عدت إلى الغرفة.. فوجدت إلهام تجلس محلولة الشعر، مكشوفة الصدر. تستند بمرفقيها إلى وسادة. وتركز بصرها على السقف.. ثم أخذت تراقبني بنظرة وديعة، وأنا أدخل متثائباً، أحمل همومي.
جلسنا نتحدث، ونسينا حساب الزمن! سرقنا الوقت بغباء! لم ننتبه إلا والساعة تعلن الثامنة! حل المساء دون مقدمات مما أرعبني. إذ لا يسمح لنا بدخول المعسكر بعد هذه الساعة، وإلا تعرضنا لسجن أسبوع!
أبديت خوفي لإلهام فضحكت وهي ممدة على سريرها.. وأكدت:
-مشكلة بسيطة.. لا تهتم.
وعندئذ تذكرت صديقي مجيد، وتعهده بالتستر على غيابي وداخلني الفرح. وزاد فرحي ثقة إلهام بنفسها.
انتهت إلى تبسيط الحل وهي تقرص أنفي:
-لا تخشى.. سأوصلك إلى بوابة المعسكر قبل السادسة صباحاً.. وضعت تأخرك في الاعتبار.. فلا تشغل بالك. هيّا.. أطفىء النور..
استمر الحال عشرة أيام بالتمام.
كانت تنتظرني عند البوابة في الثالثة ظهراً، وتعيدني صباحاً، فأتسلل بخفة وحذر إلى المهجع، قبل نصف ساعة تقريباً من أمر النهوض الصباحي. وبمساعدة مجيد، الذي بات مطلعاً بالكامل على مغامراتي. إذ شرحت له كل شيء بعد اليوم الأول.. ولحظتها انطلق في ضحكة مجلجلة وقال:
-أصبحت مهماً يا كاكاحمه، لذا وجبت مساعدتك وما دمت تقاتل الشيطان وتنتقم منه فأساندك وأحميك وأدافع عنك بأظافري وأسناني.. هذا اللئيم ورّط أبانا آدم فأخرجنا من الجنة.. وجعلنا نقابل عريفي "أبو الحق" خذ ثأرك ولا تبال..
-ما أخبار عريفك مونرو؟
-كلب ابن مليون كلب. بت أتحاشاه أتجنب شره.. فمثله لا أمان له.. أريد أن تنقضي الشهور الثلاثة المتبقية من خدمتي بخير ودون مشاكل.. ما عدت أطيق البقاء هنا.. ما عدت!
ظلت كلمات مجيد تدوي في أذنيّ.. حتى حل محلها سؤال إلهام. ونحن داخل السيارة في طريقنا إلى البيت.
-أتتزوجني يا كاكاحمه؟
بوغتّ بابتهجت:
-يا ريت.. لكن، ألسنا زوجين يا إلهام؟! ماذا ينقصنا؟
تفحصتني باهتمام جاد وردت حال توقفها المفاجىء:
-لا.. الفرق واضح وكبير.
ثم تلوت متأوهة، اعترفت وهي تغطي عينيها بيديها خجلاً:
-نحن زناه.. الرعب يتملكنا..
-صحيح.. كأننا نرتكب جريمة..
رفعت يديها وسخرت:
-كأننا!! أنت مضحك يا كاكاحمه.. وأنا أحبك من كل قلبي.. أريد أن أعيش معك طوال عمري في الحلال..
-أنا طوع أمرك يا إلهام..
-إنها فرصتنا.. وأخشى أن تضيع من بين أيدينا.. بالأمس جاءني خالي خاطباً.. يريد تزويجي لابنه الخبيث، المهندس رشدي.. قدم لي عرضاً لا مثيل له..
-يجب أن تعلمي بأني لا أملك شيئاً أقدمه لك..
سكتت تستوعب قولي. وقالت كمن عانت من أزمة عابرة:
-ماذا كنت تعمل قبل الخدمة الالزامية؟
خمنت ما دار في رأسها فدمدمت:
-فلاحاً مرة، وعاطلاً مرات.
-ألا تملك أرضاً، بيتاً؟
هززت رأسي نافياً. ثم أضفت:
-كانت.. غدر بنا الأغا وزوج خالتي.. والآن لا أملك شيئاً.. راتبي القليل أقدمه لأمي الأرملة..
استمعت إلهام إلى حديثي وهي حائرة. وتساءلت بعد لحظات من التفكير:
-ألاتجيد عملاً ما؟ مهنة تعتاش عليها؟
كان لصوتها نبرة حيرى ورجاء وانتظرت عيناها مني جواباً مفرحاً: لكني خيبت ظنها بجوابي المقتضب:
-لا..
ضغطت على دواسة البنزين. فاندفعت السيارة بسرعة:
-إنها مشكلة بالنسبة إليك.. أليس كذلك؟
-قلت لي: إنك تجيد تربية الكواسر..
استفسرت على حين غرة.. أحسست بالانتعاش.
فقلت:
-كانت هواية قديمة.. كقدم بطولاتي الرياضية..
-يمكن أن نستفيد من ذلك.. نفتح محلاً لبيع الطيور.. المحنطة..
تحمست لاقتراحها، فاقترحت بدوري..
-أو محلاً للزهور.
-أو محلاً واحداً لهما معاً.. كم بقي لك في الخدمة؟
-شهران.. ألديك حلاً لي.. مستعد أنا لأي عمل..
-لا تهتم. سندبر الأمر.. صحيح أنه ليس يسيراً لكن الموصل الحدباء لن تبخل علينا بحل..
فرحت جداَ وشعرت أن دماً حاراً، بدأ يجري في شراييني..
في تلك الليلة سهرنا حتى ساعة متأخرة-كنت مرهقاً إلى الحد الذي فكرت بأنه سيجعلني أنهار على السرير وأغفو في الحال، لكن رشدي استطاع رغم بعده أن يقض مضجعي.. خفت أن يؤثر بماله ومهنته على إلهام.. ثم غلبني النعاس مما تسبب في تأخري عن الوصول إلى المعسكر لأكثر من ساعتين.. ولأني لم أجد متسعاً من الوقت لأحلق ذقني، اعتبرت ذلك علامة شؤم.. وعندما نزلت من السيارة تولد لديّ انطباع بأن أمري افتضح. وبأن المشاكل بدأت..!
وحدست، وأنا أقترب من بوابة المعكسر، وبشكل مضطرب إن ثمة شيئاً كبيراً وخطيراً، سيحدث لي..!
لم أواجه صعوبة في الدخول من البوابة الرئيسية، ولا إلى المهجع. الصعوبة كمنت في كيفية التخلص من الورطة!
وجدت أخباراً سيئة بانتظاري. لم يتح لي الوقت الكافي لسماعها كاملة من أفواه الجنود.. أدركتها من نظراتهم.. وقرأتها في عيونهم.. إذ استدعيت إلى غرفة الضابط المناوب بعد دقائق من وصولي قادني "أبو الحق" شامتاً فرحاً.
-أين كنت؟
-شيء لا يهمك..
-ستقر بالحسنى وإلاّ سأجعلك تتكلم بطريقتي..
-إذا لمستني سأجعلك تندم طوال عمرك..
هددته فراح يرطن ويحاور نفسه بألفاظ مبهمة.. أدركت إنني واقع في ورطة كبيرة.. لم أعرف كيف أتخلص منها تمنيت أن يمر كل شيء بسلام، يسير دون عقبات.. وفكرت بمجيد.. علّه يجد لي الحل وينقذني..
-أين مجيد؟
-في جهنم الحمراء..
-لِمَ يا عريفي! مجيد يحبك..
-أحبته حيّة أم رأسين..
هتف ساخطاً وهو يدفعني دفعاً. أدركت فشلي في إيجاد الحل.. ورحت أتطلع إلى شاربي العريف وهو يسير بمحاذاتي.. كان وقع جزمته العسكرية المخصصة للتدريب، يسمع بوضوح. وصرير أسنانه بنبىء بجوعه.. توقعت الشر.. فخفت حقاً..
وعلى غير توقع، توقف.. ومد يده على صدري فأوقفني واستفهم بلطف لا يتناسب مع هيئته الغاضبة:
-أين قرأت؟ في أية مجلة، إن صورة الراحلة مارلين مونروا حملها أول طابع أمريكي، لوجه شخصية غير سياسية..!
-لا أدري..
أجبته باقتضاب فأغتاظ.. وكأنه أدرك إن لا طائل من محاولته، زمجر بوجهي كذئب جريح:
-أنت كلب مثل صاحبك.. لن تختلف عنه بشيء.. وحق السماوات..
ودفعني بقوة إلى الأمام..
وعندما وصلنا غرفة الضابط، وضع العريف يده على ظهري وفح:
-ادخل..
دخلت وأنا أرتعد فزعاً، خشية من الفضيحة.. وليس من العقاب..
حقق الضابط معي بشأن تغيبي الليلي، فأختلقت عذراً مقبولاً.. فأمر بسجني عشرة أيام مع حلق شعر رأسي "نمرة صفر".
في السجن كان مجيد الذي سبقني إلى الدخول ينتظرني بلهفة! وجدته يرقد منهكاً، بسرواله الخاكي وفانيلة قطنية لا لون لها، يضع منشفته على كتفه كأنه يتدثر بها. متكوماً في زاوية ضيقة على المصطبة الإسمنتية، بوجه أصفر شوهه الأرق وبذقن غير حليقة!
كانت الكآبة تبدو عليه بوضوح، جفونه متورمة وعيناه حمراوين لعدم النوم!
شممت رائحة النتانة والعفونة تنبعث من الزوايا! مع رائحة وخمة كثيفة، إضافة إلى الرطوبة الخانقة، فذعرت..!
فتح عينيه ليتأمل القادم. وحين تأكد، فتح ذراعيه بوهن واستقبلني بالأحضان وهو في مكانه:
-أهلاً بك أيها الحبيب.. أهلاً.. اعذرني لا أستطيع النهوض..
-ماذا بك؟
-جسمي متورم.. لا يتحرك بي أي عضو..
-ماذا حدث؟ ما الذي جاء بك إلى هنا..؟
أدركت ما ألم به إذا لم يكن قادراً على التركيز. ومع ذلك علق بمزاج رائق هو يفرك صلعتي ساخراً:
-بينما كنت أنت منهمكاً في تحسين النسل، كنت أتلقى خيزران اللئيم ابن اللئيم.. عريفي "أبو الحق".. لقد وشى بنا وعذبني بيديه!
سيطرت عليّ علائم الدهشة. فسألته:
-لماذا؟
-لماذا!! بسببك.. وشى بنا العريف النذل.. فقام الضابط بتفتيش ليلي مفاجىء.. داهموا المهجع بهجوم صاعق فكبسونا.. اكتشفوا غيابك.. برفع الوسائد التي كانت تنام محلك.. جروني من أذني جراً، لتستري على فضائحك أيها الكاكا الحموي..
قدرت الجهد الذي بذله في سبيل راحتي. فعبرت له عن عميق أسفي وندمي. فرفض بنكران ذات أن يحملني المسؤولية كاملة.
-القضية لا تتعلق بك بالذات.. استغل حادثتك للانتقام مني، لأني قلت له "صوفيا لورين" أجمل مع معبودتك.. أخطأت وما كان عليّ أن أفعل ذلك.. لأني أعرفه حق المعرفة.. ها هو ينتقم بتجويعي ولكني سأجتهد لأقهر الاحساس بالجوع.. وثق بالله بأني سأرد له الصاع صاعين.. حتى وأن تأخرت خدمتي سنة أخرى.. لن أسكت والله شاهد.. سأنتقم من هذا النكرة اسماعيل شر انتقام..
-ماذا ستفعل؟
-لن أتعب في التفكير.. لن أكرس وقتي في البحث عن طريقة.. ليس أمامي إلا حرق قلبه.. وسترى..
ظل يتحدث ويتحدث متدثراً بمنشفته.. وبعدها استكان في غيبوبة يرافقها أنين خافت..
عشرة أيام عشتها مع مجيد، كأحلى ما يمكن.. قصّ عليّ قصصاً لا تصدق! وحكى عدة حكايات، أحداث غريبة ومغامرات عجيبة لا مثيل لها! استمتعت بها وحلقت معها في الأعالي.. وانقضى الوقت سريعاً. فنسيتها بالمرة.. لكن مجيداً لم ينس شيئاً.. بقي الألم ينخر قلبه.. وظل جزعاً وهائج الأنفاس لم يهدأ لحظة.. وخفت عليه أكثر من خوفي على العريف مونرو..
-ولسوف ترى.. ما أفعله بأبي الحق..
قال لي ونحن نفترق، كل إلى مهجعه إذ فرقونا بعد إطلاق سراحنا.. وحرموا علينا الاجازات، ومنعونا من مغادرة المعسكر لمدة شهر..)).
 



- 27 -
((بعد الشهر، جاءني العريف إسماعيل، كنت متمدداً على فراشي في المهجع حين دخل بشكل مفاجىء في الساعة الثالثة ظهراً. ووقف قربي يزفر الغل..!
لم يكترث بدهشتي.. تكلم دون أن يبدل تعابير وجهه الظاهرة. طرح دون مقدمات همومه ليتخلص من "ثقل المهمة" الجاثمة على صدره.
-السيد العميد المتقاعد رأفت يطلبك. يريد رؤيتك غداً الجمعة في بيته..
-غداً..؟!
سألته باستغراب.. فأكد ذلك بحركة من رأسه وهو يتنفس بارتياح.
دهشت! اجتاحني طوفان من الهواجس والشكوك وسألته من جديد:
-ماذا يريد؟
هز منكبيه استهانة. أبدى علائم الضيق وقال باقتضاب وهو يكبح نبرة مندفعة في صوته:
-لا أعرف.
استدار ليخرج، إلا أنه تذكر شيئاً، فتباطأ، التفت ليذكرني وقد غيّر من نبرة صوته:
-سينتظرك في الخامسة مساءً.. لا تنس.. فالأمر هام..
لحظت ابتهاجه لهلعي! إذ بحثت عن مغزى عبارته الأخيرة وهو ينتصب أمامي، ثم وأنا أسمع وقع أقدامه مبتعداً لم أرتح لهذه الدعوة، احترت في أمرها. فكرت بجميع الاحتمالات. وعجزت عن تفسيرها.. وعندما أدركت بازدحام الأفكار التي لا يتسع لها عقلي، وخفت من عواقب ذلك.. لم أجد غير مجيد يساعدني.
أرسلت بطلبه لأخذ مشورته، والاستفادة من خبرته..
وتلك الليلة ركزت كل اهتمامي في الدعوة المفاجئة. دون أن أتمكن من السيطرة على شعور عابر بالانقباض. غلبني الارهاق وبقيت جالساً في عتمة المهجع، حتى ساعة متأخرة.
في العاشرة صباحاً قدم مجيد. حكيت له عن مخاوفي، فنصحني بعدم الذهاب:
-أنت ليست مجبراً على تلبية دعوة غريمك..
-كيف؟!
-ما هي صلتك به! ما عاد له الحق في استدعائك.. ثم هل أنت خائف..؟
-خائف..! ألم تقل إنه كافر القلب..
-وقاتل، يحمل الجحيم في دماغه..
-وماذا أفعل..؟
-سأتأكد من عريفك أولاً، عن سبب الدعوة.. هيّا بنا إليه..
-لن نجده الآن..نزل كالعادة إلى المدينة.. ليتسوح في السرجخانة والدواسة..
-صحيح.. اليوم جمعة..!
هتف باستسلام ثم أعلن بفرح:
-إنها فرصتي.. لم تتح لي غيرها منذ شهر..
-ماذا تقصد؟
لم ينتبه لسؤالي. ولم يأبه لتوسلاتي.. تركني ومضى حثيثاً إلى مجمع غرف العرفاء، وضبابط الصف. الواقع خلف ساحة التدريب.. بعيداً عن العيون.. فلحقت به مضطراً..
دار حول المكان، تفحص ما حواليه.. وحين اطمأن أخذ بيدي وقادني داخله بهدوء، لكي يبعد الشكوك عنا..
وبدل أن يدخلني من الباب، لنجتاز الممر ونقطع الرواق الطويل، حيث تقع في نهايته غرفة نوم العريف مونرو.. أجبرني مجيد على اعتلاء السور الحجري القصير ومن ثم عبور الحديقة..!
رحنا نقفز بخفة الأرانب ونهرول كالثعالب. فتحنا أقرب شباك، وتسللنا عبره كقردين!
وقفنا أمام باب الغرفة، وقبل ولوجها تلفت مجيد، ليتأكد من أن أحداً لم يره.. وحين داخله الأمان كسر القفل بمفك أخرجه من جيبه! ودخل على عجل، ودخلت بعده يلفني الذهول..
وتفاقم ذهولي.. فوجئت حقاً! وجدت نفسي داخل غرفة "بشركة سينمائية"! في متحف لصور "فقيدة الشاشة"! فلم أصدق.. ظننت وللحظات أني أحلم!
وقفت مستغرباً، مأخوذاً بما أرى.. فأمامي برزت "الفقيدة" بكل مراحل حياتها! بعشرت الصور الكبيرة الملونة، ومئات أخرى صغيرة، تغطي الجدران بشكل عجيب، غير متناسق..! بأوضاع مثيرة، مذهلة، ولقطات إثارة، جنونية، فاحشة!.
وقفت مستغرباً وراحت عيناي تتطلعان بذهول. في حين راح مجيد كالمجنون يمزق كل شيء. لم يتأخر لحظة منذ دخوله.. يصعد هنا ويقفز هناك ويتسلق، ينحني، ينتصب.. حتى لم تبق على كل الجدران الأربعة صورة واحدة صالحة!.
ولم يكتف، خلع باب الدولاب الخشبي، بعصبية. وأخرج رزمة من الصور الجنسية. وشرع يمزقها وينثر قصاصاتها على الأرض والسرير، وفوق الكرسي والمنضدة.
وحين انتهى تنفس الصعداء.. وخرج بسرعة كأن شيئاً لم يحدث!
-ماذا فعلت؟
زفر بغيظ وقال متحسراً:
-لم أشف غليلي بعد.. من ابن العاهر..
-أتظنه سيسكت؟-والله السائر!
قلت بخوف فرد بثقة وحماس:
-إلى الجحيم.. هو والذين خلفوه..
أخر كلمات سمعتها منه قبيل افترقنا.. عدت إلى المهجع.. حاولت أن أسيطر على أعصابي فلم أستطع! لم أعرف الهدوء لحظة! ولم أعرف إلى أين أذهب لأدفن نفسي وأبعد الشر والشكوك عني..
وبعد ساعتين اضطررت إلى مغادرة المعسكر، وتلبية طلب سيدي القديم..)).
 


- 28 -
((استقبلني العميد المتقاعد رأفت ببشاشة، وترحاب. لم أعهدهما منه! فانشرح صدري. واتسع انشراحي حين لمحت ابتسامة عريضة، ترتسم على شفتيه لأول مرة.. استبشرت وتقدمت بأمل سماع ما يفرح القلب..
أدخلني الصالة فشممت رائحة الهام! ميزت عطرها الفواح! ورأيت صورتها في السقف، على الجدران، وتراقص خيالها في كل مكان! وسمعت صوتها الداوي يرن في فضاء المكان، وضحكاتها الماجنة تتعالى هنا وهناك! قبل أن يخيم الصمت وتنتابني أحاسيس الحيرة، تملأ قلبي بشكل فظيع!
جلست حيث أشار.. تفصلنا منضدة دائرية صغيرة. نصبت عليها قنينة خمر، وبجوارها قنينة شراب أحمر، وكأس مملوء بالزقوم.. السائل المحرم.. وعلى جنب رأيت جواز سفر أخضر!
-أهلاً بالمقاتل الفذ.. أهلاً..
بادرني حال جلوسي..
شعرت بسخريته فلم أبال.. ظننته يمازحني دون قصد لئيم أو نية سوء. ولم أدرك حقيقة ما يعني، لاسيما وإن حالته تدل أنه قضى الليل ساهراً، مفكراً!
كان يجلس مباعداً ما بين ساقيه، بوجه عابس محمر! ولمعت عيناه ببريق عميق، حين تابع بشفتين مرتجفتين:
-أردت رؤيتك منذ فترة، فقيل لي بأمر المنع..
-أخبرني العريف إسماعيل بطلبك، فجئت حسب الموعد.
-أهلاً.. أهلاً.. بالبطل المغوار.. أهلاً بالمواطن الصالح.
تجلت نبرة السخرية في حديثه بوضوح، فعرقت.
-حسب علمي أنك لم تعاقب طوال خدمتك معي.
لم تسجن يوماً! فما الذي جرى لك.. مؤخراً!
آنذاك تبينت خباثته. ظهرت نيته السوداء وأنا أحدق في عينيه المصوبتين إليّ، بلؤم. كعيني الصقر الذي اقتطع لحمة من يدي واقتلعت له عيناً..
فطنت لشكوكه، فهلعت، جفلت، وماتت الكلمات على شفتي. فها هي نظراته تدق أجراس الخطر، تنذر بعاصفة.. فندمت على مجيئي.. وشعرت بالاختناق فككت أزرار عنقي الثلاثة، وفتحت أعلى قميصي ليفلت العرق المتصبب من صدري.. وراودتني فكرة الخروج..
انتظر ردي إلاّ إني التزمت الصمت مرغماً، فتابع دون حياء:
-كنت أتصورك ساذجاً مسكيناً، فإذا بك "أبو العناتر" شيطان ماكر!
هلعت أكثر، وركبني الحياء. وتصبب العرق في جبيني. شعرت بخجل وخوف. وخمنته يتقصد إذلالي، وليتوثق من معلوماته.. في الوقت ذاته..
حدثتني نظراته بأنه على إطلاع تام، ومعرفة جيدة بتفاصيل علاقتي مع إلهام، زوجته السابقة ومطلقته الحالية.
-ترى ما سر تغيرك السريع يا كاكاحمه؟
استفسر بخبث متزايد، وأضاف:
-أعتقد أن السبب يعود إلى المرأة. لابد أن شيطانة خبيثة دخلت حياتك، فسممت بدنك.. بلعنتها..
صمت، فانفجر ضاحكاً.. قهقه بصوت عال:
تجرع كأسه ورمقني بنظرة صارمة:
خفت أكثر.. وساورني الهلع من فكرة طرأت ببالي. مفادها، إنه يلوم نفسه.. فلقد وضع البنزين قرب النار.. لذلك أرسل بطلبي لينتقم.. فكرت ثانية بالخروج. لكني سخرت من نفسي وأبديت استعدادي للقيام بكل ما يلزم "مقاومة عنيفة ودفاع مستميت"
-يقولون إن امرأة شابة، مستهترة، تأتيك بسيارتها إلى المعسكر كل يوم! مساء كل يوم وتعيدك في الصباح! أليس كذلك يا كاكاحمه؟
تلعثمت، لم أحر جواباً. تطلعت إليه لأستشف من عينيه ما طمحت في معرفته..
تغصد العرق بغزارة فوق جبيني. وفاحت رائحة إلهام وانتشر عطرها، وتوزعت صورها بكثافة، امتلأت بها جدران الصالة، اختلطت مع صور مارلين مونرو!
-أتفضل كأساً من شراب الزبيب أم من البراندي المنعش، اللذيذ؟
سألني فجأة، بجد ومرح. فهمست:
-الزبيب..
-إذن خذ قدحاً نظيفاً من الصينية، وصب لي كأساً..
أشار إلي فتلفت، ظناً أن الصينية موضوعة جانباً، فانفجر ضاحكاً.. قهقه عالياً.. وهمهم:
-في المطبخ.. الصينية والأقداح في المطبخ.. يا كاكاحمه..
حاولت النهوض فاستوقفني:
-أملأ كأسي أولاً بشراب الزبيب.. وأجلب لك قدحاً نظيفاً..
ملأت كأسه وتحركت ببطء.. يلفني الذعر ويعتريني الخوف الأكبر منه..
دخلت المطبخ، فبرزت لي صورة إلهام، وهي تمازحني هنا.. وتقبلني هناك.. تنصحني بالخروج.. وتحذرني.! ثم برز وجه العريف بشاربيه وعينيه الكبيرتين.. تخيلته يدخل غرفته.. يباغت بالفاجعة.. فيجن!
بحثت عن قدح نظيف فلم أجد. اضطررت إلى غسل قدح زجاجي، وجدته في الحوض الملىء بالصحون.. غسلته جيداً، خشية أن يكون نجساً، شرب به العميد خمراً..
عدت إلى الصالة بعد أكثر من دقيقة..
رأيت العميد المتقاعد يخض قنينة شراب الزبيب خضاً! يرجها بسرعة، بحركات ملتوية، عنيفة..!
-هذا شراب أصلي.. مركز.. ركدت زبدته تحت، في القاع.. هات قدحك.. هات..
جلست، وأنا أرتعش.. وضعت قدحي فملأه لي حتى الحافة! لم أجد جواز السفر في مكانه! ولم أهتم لاختفائه!
-اشرب.. اشرب..
صاح وهو يرفع كأسه المملوء بشراب الزبيب..
شربت.. تجرعت جرعة فحثني على إكماله:
-اشرب.. اشرب..
وحين فعلت صبّ لي، ملأ كأسي ثانية وسألني:
-أتعرف السياقة يا كاكاحمه؟ سياقة سيارة؟
-لا..
تبدلت لهجته فجأة وقال بحزم وهو يتفحصني من تحت حاجبيه بانتباه:
-مع الأسف.. تصورتك تعرف.. أحتاج لسائق.. وحين قيل لي أنك ستسرح بعد أيام.. فكرت بك.. إني آسف.. تصورتك تنفعني.. هيّا اشرب كأسك.. وامضي..
رفع يده وطوح بها في الفضاء محذراً:
-هيّا.. لا أريد تأخيرك.. قد تعاقب بسببي..
مع السلامة..
بدا واضحاً أنه يطردني، وباحتقار! فعجبت. ومع العجب شعرت بثقل لساني واجتاحني لثوان خدر موجع، وغبش كاد يعمي بصري..!
نظرت إليه برموشي المتغضنة. فرأيته للحظة يحلق في فضاء الغرفة، وكذلك المنضدة التي تفصلنا، بمحتوياتها..!
أحسست بشوكة ألم في رأسي! وأردت التحرك فخانتني قواي! حاولت الاستراحة فمنعني بضراوة:
-أنا مرتبط بموعد هام.. هيّا اذهب بسرعة..
نهضت على ما بي من ألم، تحركت رغماً عني.. والعرق يغزوني..
مددت يدي لأصافحه فلم يعرني بالاً! تشاغل برفع كأسه!
-تبقى على خير سيدي العميد..
-أغلق الباب وراءك..
خاطبني بجفاء. فضج الكون في رأسي..
أحسست بالاختناق.. بالضجر من جو الصالة.. تحاملت على نفسي وهرولت باتجاه الباب..
وحين وجدت نفسي في الشارع تملكني الفرح.. لم أصدق أنني خرجت دون صعوبة.. تنفست الصعداء شعرت بالراحة التامة، ومضيت أتخبّط في الطريق خبط عشواء..!
وصخبت ضحكات العميد في أذني! رحت أسترجع ما حصل، أستذكر كل كلمة قالها لي.. كل كلمة سمعتها منه.
لم أصدق أن سبب دعوته المستغربة هو "حاجته لسائق" وسؤالي عما إذا كنت "أعرف السياقة أم لا" .
لم أصدق، فهو يعرف أني لا أجيدها! ثم من أين له السيارة؟! من أين؟ إنه يكذب.. وكذبته لم ولن تنطلي عليّ!
حدست أنه أرسل بطلبي لسبب آخر.. ربما ليفهمني بمعرفته أسرار علاقتي بإلهام.. زوجته السابقة، ومطلقته الحالية.. ولينذرني من انتقامه المتوقع.. وليحذرني..))






- 29 -
(( بعد ساعة كنت في المعسكر. رجعت دون إرادة مني، بأمل الراحة وإذا بالقيامة تلهبني بنيرانها المستعرة!
تلك الليلة، لم أنم لحظة واحدة.. ليس بسبب تأثري الكبير وحزني على مقتل صديقي مجيد. خنقاً بيديّ العريف إسماعيل، الهارب.. وليس بسبب الخوف من كلمات العميد المتقاعد رأفت.. بل بسبب شراب الزبيب.. وما دس لي فيه!
في البدء أحسست بخدر يسري في عروقي. وتنملت أطرافي دفعة واحدة! ثم شعرت بمغص حاد وآلام فظيعة، وبأن رأسي سينفجر من الألم..
وبدأت مرحلة الإنهيار. ترافقت أعراضي المعوية مع أعراض عصبية شديدة! إذ دارت الدنيا في رأسي ودهمني صداع.. وتوترت أعصابي..!
رحت أتخبط، أصرخ! يساورني الغثيان ويلح عليّ القيء فوراً! أتقيأ وأتقيأ حتى خيل إليّ أن أمعائي سيتندلق! وأصابني الاسهال، وأعتقدت أن مصاريني ستنفجر!.
وجفّ حلقي وبلعومي، وتيبست شفتاي! أخذت أبلع ريقي بصعوبة.. ونتيجة للظمأ الشديد الذي حل بي لم أكف عن شرب الماء البارد.. أشرب وأشرب لأطفىء ألسنة اللهب المتأججة في قلبي.. لكن دون فائدة!.
فبدل أن أرتوي، ويهدأ ما في داخلي، ازدادت آلامي وكثر صراخي! فازدحم الجنود عند رأسي، يبكون مجيد القتيل، ويتفرجون على حالي ويعجبون!.
جاءني الضابط المناوب.. يسأل عن حالي ويستفسر عن سبب ما بي.. ولم أقو على الإجابة.. جحظت عيناي أمامه، وتجمدت أعضائي بوجوده.. ثم اضطربت أنفاسي.. وفقدت الإحساس والشعور.. وغبت عن الوعي!.
نقلوني وأنا بين الحياة والموت. وحين فتحت عينيّ رحت أجول بهما الآفاق، فلا يصطدم بصري إلا بجدار غرفة الإنعاش في المستشفى العسكري..!
غسلوا معدتي، وأفرغوا محتوياتها.. ولشك قاتل راود الطبيب أجروا لي كشفاً سريعاً، بأشعة أكس للبطن.. فتأكد له بصورة تامة بأني سقيت بالثاليوم.. "لأنه مادة معتمة للأشعة"!.
ولم يتأخر الطبيب. شرع على الفور في المعالجة السريعة. "هادفاً المحافظة على الوظائف الحيوية، ولتسهيل إزالة السم القاتل من الأنسجة، بالمساعدة على إفرازه مع الإدرار والبراز".
وقبل كل شيء حقنوني "بأزرق بروسيان برلين" و"كلوريد البوتاسيوم". "لوقف التدهور الحاصل، وتلافي حدوث الامساك وشلل الأمعاء وسقوط الشعر، وجزر في غدة البنكرياس والغدد اللعابية، والتهاب المعدة والاثنا عشري، وفقدان السيطرة التامة، وبروز حركات لا شعورية وحالات من الكآبة والعصاب، وانخفاض ضغط الدم وعجز التنفس، وقبل أن يكون تلف الأعصاب حالة دائمة..".
ونصح الطبيب بحلق شعر رأسي قبل تساقطه. للحفاظ عليه، ولتسريع نموه مجدداً بصورة أكثر خصوبة، وأوفر ثماراً.
ولأن أزرق برلين يكون أقل تأثيراً في المرضى خاملي حركة الأمعاء، كنت أجبر على تناول أغذية خاصة، والقيام بتمارين حركية. كجزء من العلاج الطبيعي، الضروري لمنع انقباض العضلات وتسريع قوتها.. مثلما أجبر على تجرع "المانيتول" لمنع حدوث شلل الأمعاء.. وإضافة إلى التوعية الصحية لتقوية إرادتي، وزيادة ثقتي بالأطباء والإيمان بالشفاء على أيديهم، لم يتوقف الفحص السريري اليومي والمختبري، طوال أسبوعين..
كانت أظافري تفحص بدقة! ثم تؤخذ عينات من البول والدم "لفحص كمية اليوريا والشوارد، الأيونات والكرياتنين، وقياس التخثر ونسبة الثاليوم في الدم. والتأكد من وظائف الكبد بفحص الزلال والسكرين وخشياة وجود البروتين والدم في البول.. وكذلك كان يجري بصورة منتظمة، الفحص الدقيق بجهاز تخطيط القلب بالأمواج فوق الصوتية، وأشعة أكس للصدر، وقياس ضربات القلب وضغط الدم عند الوقوف والاضطجاع".
وتولى أخصائيون العناية بحالتي العصبية، بمساعدة مقياس "سعة النظر، وجهاز تخطيط العضلات الكهربائي، وفحص السمع..".
-مبروك أيها العزيز.. ألف مبروك.. شفيت بفضل اللّه القدير..
-وبجهودك العظيمة أيها الطبيب..
قلت للطبيب بفرح وامتنان فربت على كتفي وقال:
-قوتك... قوة عضلاتك وجسدك الفتي، ساعدتنا كثيراً.. هيّا حضر حالك.. ستخرج غداً..
-غداً!!
-نعم.. أخرتك ليومين.. كنت أريد أن أغسل دمك. لكن الفحوصات دلت على عدم وجود عجز كلوي.. فانتفت الحاجة للغسيل.. والحمد لله وحده.. قاتلك مجرم ذكي.. استعمل "الثاليوم" عديم اللون والطعم والرائحة.. وهو أحد المعادن السامة.. أملاحه تستخدم كأحد المكونات الفعالة للكيمياويات القاتلة للحشرات والقوارض "وملح الثاليوم سلفيت" قاتل للإنسان بجرعة 1 غرام-وبسبب تشابه جزئياته مع البوتاسيوم، يمكن أن يخترق غشاء الخلايا كبديل عنه. وبذا يعرقل عملية أكسدة الفسفور. وتتجمع أيوناته القاتلة في الأنسجة، التي تتواجد فيها كميات كبيرة من البوتاسيوم، مثل الأعصاب وعضلات القلب والأنسجة..
لم أفهم كلمة مما قال. فالسعادة بتحسن حالتي غمرتني. ودفعتني إلى أحضان أمي.
أشتقت لوجه أمي الصبوح، لحنانها، لرغيف خبز التنور الساخن من بين يديها، لرائحة الأرض الندية، لضياء الشمس في قريتي، وبهاء القمر ولوهج النجوم في ليلها وثراء السحب في نهارها. للركض في البراري أسرح مع خيوط المدى. أصعد التلال وأنزل الوادي..
صممت على الذهاب إلى القرية حال خروجي. وأنعشت الفكرة قلبي. فأمي وحدها القادرة على أن تعيد لروحي تألقها..
تحسنت حالتي بعض الشيء.. فأخرجوني بعد شهر كامل. وحين عدت إلى المعسكر وجدت أمامي، خبر هروب العميد المتقاعد رأفت إلى تركيا.. وخبر إحالة "أبو الحق" إلى مستشفى الشماعية في بغداد.. بعد إلقاء القبض عليه وثبوت جنونه! كما وجدت دفتر الخدمة العسكرية جاهزاً، وبه تسريحي من الجيش لانتهاء مدتي القانونية..
آلمني هروب العميد رأفت. لم أصدق الخبر.. وكأسد هائج جريح، قصدت داره لأستجوبه ولأنتقم منه.. فلم أجده..
سألت الجيران. فقال لي أحدهم:
-أخبرني أنه مسافر إلى الخليج، للعمل هناك!
ذهبت إلى إلهام لأحدثها، وأنقل لها ما جرى لي. "فربما تكون قلقة عليّ" وألوذ بها كآخر معقل كي تنقذني، وتجعل مني شيئاً ما.. فلم أجدها في البيت.. انتظرتها طويلاً دون جدوى.. ولم يكن أمامي إلاّ القرية.. بعد أن خاب آخر أمل لي، آخر رجاء.. وسوغت ذلك، بوجوب ابتعادي عن الموصل. وعن إلهام بالذات. فإلى متى سألقي أثقالي على كتفيها..
لا أدري لِمَ نسيت الأخت سناء؟! لم أفكر بها ولا بسهام أختها..!
عدت إلى القرية خائباً، عليلاً.
بقيت أسبوعاً كاملاً، لم يفارقني الصداع خلاله لحظة! كنت أشعر بغثيان. وشفتاي ترتجفان، وأحياناً أبصق دماً..!
حاولت إخفاء الأمر.. فلم أعلم أحداً بما حدث لي، لا بمحاولة العميد الخبيثة، ولا بدخولي المستشفى.. وكتمت السر في صدري..
لم يأت لزيارتي سوى المختار ونصار وعم مصطفى مع أسرته.. والحاج صالح وحده.. وأخيراً جاءت خالتي مريم.
قدمت إلى القرية، تتفقد بيتها المهجور، ولتأخذ دينها من هذا وذاك.. وعندما سمعت بمرضي زارتنا..
صعب عليها حالي، مريضاً وعاطلاً، مفلساً وعليلاً، وبناء على رغبتها وتعهدها بأخذي إلى عيادة طبيب، صديق لزوجها المحامي، ووعدها بإيجاد عمل مناسب أعتاش من ورائه، اضطررت إلى مرافقتها صوب أربيل، وبعد إلحاح أمي وتوسلاتها..
ولم تكن خالتي مريم شريفة لتحافظ على كلمتها ووعدها وأمينة على عهدها. أظهرت نذالتها وتخلت عني بعد يوم واحد فقط..!
وصلنا أربيل في الساعة الخامسة عصراً.. وحال دخولنا بيتها قابلني زوجها المحامي حامد الجمولي، بوجه غاضب! فأبعدتني فوراً عن عينيه، وأدخلتني غرفة صغيرة.. ومن خلف بابها سمعته يصرخ، يزعق، يضرب المنضدة بيده. يرغي ويزبد ويرفس الباب.. فذهلت.. وتساءلت مع نفسي ما الذي جرى؟!
كان صيحاته أسياخ نار في أحشائي.. وشعرت بالقرف والغثيان منه. وتمنيت لو غرزت أصابعي في عينيه.. كان واضحاً أنه يريد اخراجي.. يأمر خالتي بأخذي بعيداً عن عينيه بأية صورة كانت.. وسريعاً..
ولم تتأخر خالتي، عادت بعد قليل لتسحبني إلى المستشفى الجمهوري.. وتتركني هناك.. ولم أر وجهها ثانية!
لم تكن المستشفى الحكومية في مستوى المستشفى العسكري.. لا عناية خاصة، ولا أطباء أكفاء.. ولا تغذية جيدة أو رعاية.. لم أحتمل الجو الجديد المزعج.. ولم أطق وجه الممرضة الشابة، وانزعجت من معاملتها السيئة للمرضى.. فصحت بها وكدت أضربها. فراحت تشكوني إلى الطبيب.. الذي سرعان ما جاءني مهدئاً..
استمع إليّ دون أن تبدو عليه أمارات فقدان الصبر. وعندما انتهيت من "هلوستي" ربت على كتفي بمحبة، وحثني على مواجهة الصعاب بحكمة وعقل..! وبعد خروجه تحاملت على نفسي، للذهاب إلى الحمام. لكن قدميّ قادتني لإلقاء نظرة مختلسة على غرفة الطبيب، فرأيتهما معاً.. هو الممرضة.. اعترتني ارتعاشة ضئيلة مبعثها الاستياء وتجرأت.. اقتربت من باب الغرفة، فسمعته يحدثها:
-لا تتذمري منه.. فهذا إنسان مريض، محكوم عليه بالموت بعد ستة أشهر على أكثر تقدير.. أخذ جرعة كبيرة من سم قاتل.. ولا أمل في شفائه.. ولا يمكن أن يتعافى إلاّ بمعجزة إلهية.. وليس ذلك على اللّه ببعيد.. وكل شيء عن الرحمن جائز..
ارتعبت.. وأظلم الكون في عينيّ ورأيت كل ما أمامي من حاجات تطفو! فهرولت عائداً إلى غرفتي.. وهناك، تراءت لي أشباح مترنحة وتموجات سوداء عنيفة لا حدود لها.. ونجوم ملونة.
رميت جسدي على السرير مستسلماً لليأس الكامل. وحاول المرضى الثلاثة الذين يشاركوني المكان معرفة ما بي. فلم أفتح فمي بكلمة.. وكدت أموت من شدة الرعب ليس إلا..
وتدريجياً أيقنت بعدم جدوى ما أفعله.. فالموت حق ولابد أن أتقبل الأمر برحابة صدر، وأواجه الأيام بالصمود.
وأحسست بالتحسن عندما أطفئت الأنوار، وغرقت في أحلام اليقظة. وعلى الرغم من أن عدة همسات مخنوقة وضحكات متقطعة خرقت السكون المطبق عدة مرات، إلا أني توصلت إلى إغفاءة متعثرة..
ولثلاثة أيام بقيت ممدداً على السرير، دون حراك.. رافضاً تناول الدواء.. بقيت لعدم استطاعتي الخروج.. وانهمكت في رسم المشاريع ووضع الخطط.. أخطط لما يجب فعله قبل أن يجرفني تيار الموت.. أفكر بما أستطيع تقديمه لأمي وقريتي..
في فجر اليوم الرابع وجدت في نفسي القدرة على الحركة. فتركت المستشفى.. هربت.. إلى الموصل!
ذهبت إلى إلهام كملجأ أخير استقوي بدفئها وحنانها، على مغالبة ما بي. إلا أن أباها، الذي فتح لي الباب، طعنني بخنجر سام دون أن يدري.. فزادني مقتلاً:
قال بفرح:
-السيدة إلهام سافرت أمس إلى البصرة، مع ابن خالها المهندس رشدي، لقضاء شهر العسل..
سدت الأبواب في وجهي.. وما كان أمامي إلا العودة إلى القرية.. ووصلت أربيل ولم يكن في جيبي فلس واحد. لم يبق لديّ ما يكفي ليوصلني إلى أمي.. فارتأيت أن أقصد خالتي مريم لأستدين منها.
لم أفكر بحل آخر.. تحجر عقلي لحظتها ومضيت لأستدين منها درهمين لاغير!
لم أجد أحداً في بيت خالتي.. طرقت الباب مرات.. وحين لم أسمع رداً عبرت السور.. وكسرت النافدة المطلة على الصالة.. تماماً كما فعلت مع.. المرحوم مجيد..
تذكرت المجرم المجنون إسماعيل.. قارنته بالجمولي.. فوجدت تشابهاً كبيراً، دفعني لاقتحام غرفة زوج خالتي الخاصة.
خلعت باب دولابه بحثاً عن درهمين، فوقعت مفاتيحه بين يدي! مصادفة غريبة أفرحتني إلى درجة أنستني نفسي.. وحفزتني على الإقدام بما لم يخطر على بالي أبداً.. من قبل..!
استعنت بالمفاتيح على فتح خزانة الجمولي ومكتبته. وأخرجت الأوراق الهامة.. أخذت منها ما يفيد.. تلك التي تخص سعدو والسلماني، وصكوك ومستندات على المختار وأمي ونصار والحاج صالح فقط! ثم أخذت الملف الأحمر.. فقرأت به عقد قران السلماني.. عنوانه الجديد.. اسم زوجته وأسماء الشهود.. وأوراقاً عديدة ومستندات.. لم يتسن لي قراءتها أنذاك..)).



- 30 -
بعد الفجر بساعة، شعرت بأصابع خفية، ناعمة تلمس جبهتي الساخنة، بحنان وشفقة فتطفىء لهيبها. ولم تكتف، هزت كتفي برقة متناهية، فأيقظتني من رقدتي القصيرة.
في البدء تنبهت إلى صوت موسيقا عذبة، شجية. يسري مع هسيس الأغصان وزقزقة العصافير..!
فتحت عينيّ، فبهرني ضياء نور لامع! يشع في أرجاء الغرفة بشكل عجيب!
رفعت رأسي عن الوسادة، لأتبين سره، فتراءت لي هالة نورانية تحيط بملاك جميل يسبح في الفضاء! دهشت، وزادت دهشتي حين رأيته ينحني لي باحترام! انشددت إلى ملابسه البيضاء الناصعة. وانتبهت إلى ابتسامته الحلوة، وإلى شفتيه الرقيقتين وهما تهمسان بحزم:
-حانت النهاية يا كاكاحمه.. وآن أوان الرحيل..! انتظر مجيئه.. وإن تأخر أكثر من "المقرر"..
ولم أرتعب أو أهتز رهبة. تقبلت الأمر برضى وسرور. وأبديت كامل استعدادي لمرافقته. لكني ناشدته برجاء، منحي ساعة واحدة فقط. كي يتسنى لي أن أشرح لزوجتي، ما لي وما عليّ.. لتكون على بينة وإطلاع تام، ومعرفة بما يجب أن تفعله بعد رحيلي. فحياتي انتهت، وما عاد هناك من داع لإخفاء الحقيقة عنها.. وكما قال الطبيب "ما من بصيص أمل" فمرضي عضال شديد، يصعب شفاؤه.. وعليها تكملة المشوار..
حنى رأسه موافقاً. وأعلمني بلسان حلو خافت، قبل أن يختفي.
-تحققت أمانيك..
أحسست بالسعادة الخالصة، والراحة وأنا أستوي جالساً! فلقد تحققت أمنياتي حقاً.. انتهى الكابوس الذي عشته منذ سبعة أشهر.. تملكتني حالة عجيبة من الفرح والبهجة العارمة، والزهو.. إذ تخلصت من المأساة.. بعد أن عشتها معذباً..! عشت في جحيم حقيقي.. كنت أحسه في كل لحظة. لكني لم أقدر حجمه إلاّ الآن.. حين تحققت الأماني.. بشكل آخر.. وبرد جسدي..!
شعرت بأني أعبر ذرا الحزن الشاهقة. تلك التي كنت أصلها كل يوم مرات ومرات.. وأقيم فوقها مجبراً.. أبكي عندها بصمت.. أندب حظي.. وأتمنى أن يتبدل نحو الأحسن.. عبرتها الآن في ثوان دونما دموع..! الآن ما عدت أتمنى إلا أن أرقد بسلام. فالنشاط بدأ يدب في أوصالي والحيوية أخذت تسري في جسدي وزال الألم وتلاشت الأوجاع.. وتفتحت شهيتي بصورة غريبة.. وأنا الذي تمنيت طوال الأيام الماضية.. أن تتحسن صحتي ويخف الألم الذي يكاد يمزق الأحشاء.. وفي كل ليلة كنت أتمنى أن يطلع الصباح عليّ وقد زايلني الوجع تماماً واستعدت نشاطي.. لكن ذلك لم يحدث قط.. إذ لم يفارقني الألم وفقدت شهيتي إلى الطعام.. وأخذ جسمي يهزل من يوم إلى آخر.. وقواي تضعف ساعة بعد ساعة..
كانت هدهد بجانبي، تغط في نومها، وأمي ذهبت بعد الصلاة إلى بشيرة، التي أسقطت أمس جنيها وهي في الشهر الرابع..
تركت السرير.. فتحت النافدة. كانت شمس الصباح في بدايتها، وخيوطها الذهبية بدأت تلمع بخفوت وراح سرب حمام يأوي إلى الفناء. تاركاً أعشاشه ليلعب في باحة الحديقة، ويفتش عما تعودت أمي وضعه له..
فاحت رائحة الورد بشدة. وعبقت الغرفة بعطرها مختلطاً برائحة العطر، الذي اشتريته لهدهد.. فانتشيت..
تمددت على الأرض بمواجهة القبلة الشريفة. رحت أتلو الشهادتين.. وأسترجع ما حصل.. تذكرت كل شيء.. تداعت الصور القديمة أمام عيني جلية واضحة، وبدون رتوش، مرقت أمامي بسرعة عجيبة وكأنها تحدث تواً!
وفجأة انقطع الشريط.. وتفرق سرب الحمام.. حلق فزعاً.. وظهرت صورة أمي وبشيرة وهما ترقصان تتصدران مسيرة الفرح!.
منذ سبعة شهور وأنا أعيش في كابوس.. كابرت كثيراً.. وكتمت سري خلالها، حتى لا أؤذي أمي وأجرح قلبها.. لكن إرادة الله.. لا مفر منها.. كابرت وقاومت حتى لا يكون مرضي حديث الجاد والساخر.. وحتى لا أصبح مجالاً للشفقة، تشق على الناس رؤيتي معذباً..
أدركت الختام وعرفت مصيري.. فحمدت اللّه، فسأموت وأنا مرتاح.. أمنت مستقبل أمي وزوجتي.. وولدي القادم.. سيدر عليهم الدكان ربحاً دائماً إضافة إلى إيجار المخزن وإيراد الأرض ما يكفيهم طوال العمر..
هدهد.. حبيبتي.. ستفتح عينيها على الطريق الجديد.. سترى النور قريباً.. كما أكد لي عيسى الذي تعهد بمتابعة علاجها.. وسيسافر مع عم مصطفى إلى بغداد لأجل إجراء العملية بعد عشرة أيام فقط من ولادتها.. بعد أن تم تحديد الموعد قبل أسبوع.
هدهد ستراني بعينيها ممثلاً بولدي الصغير.. وستتذكرني.. سيشبهني بالتأكيد..
-ابن عمي..!! ما بك؟
همست هدهد بهلع وهي تنحني قربي.
خمنت إنها أفاقت على هذياني.. فحزنت.. هطلت دموعي.. أدركت حبي لها وقسوتي.. وقدرت معاناة تأنيب الضمير.. فتألمت عليها.. وندمت لأني لم أكاشفها.. وما دمت عاجزاً عن حمل سري إلى القبر.. فيجب مصارحتها بكل شيء.. وقبل انقضاء الوقت..
-تعالي يا هدهد.. تعالي.. اجلسي واسمعيني.. قريباً سترين النور..
-أنت نورعيني.
-أنا راحل عنك بعد قليل..انتهت حياتي..
-لا.. لا تقل هذا.. لاتقل..
-هدهد.. يا حبيبتي.. اغفري لي..
-علام!! لم أشهد منك إلاّ المحبة والود..
-شيئان أطلبهما منك قبل موتي.. ألا تبكي عليّ.. لا تذرفي دمعة واحدة.. ستؤذينني وأنا في قبري.. وستؤذين عينيك وأنا أريد لهما النور.
-بعدك لن أحتاج لنور.
-لا.. يا هدهد.. من أجل ولدي.. ولدنا القادم..اغفري لي.. وعديني ألا تبكي.. وأن تعتني بأمي..
-إنها أمي.. يا كاكاحمه.. أمي..
-لا تبكي.. لا أريد أن تبكي.. إنها مشيئة اللّه. لقد صدق الطبيب في تشخيص حالتي.. وتوقع نهايته.. لكن نبؤته في تحديد الوقت لم تكن مضبوطة.. قال للممرضة "لن يبقى أكثر من ستة أشهر".. وها أنا سرقت منه شهراً وأربعة أيام! نسي أنني كاكاحمه!.
دمشق
20-12-94



صدر المؤلف

1 ساعات القلق قصص دمشق 1991
2 الأيام العشرة رواية دمشق 1992
3 يوم من الذاكرة قصص عن اتحاد الكتاب العرب 1993
4 الفرقد مسرحية 1994
5 نفق بوزان رواية عن اتحاد الكتاب العرب 1995
6 وطن الأنفال رواية سويد 1997

سيصدر قريباً
1 ضياع تحت المطر رواية
2 العيد والجراد قصص



 





رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية

العصفور والريح : رواية/ فائق محمد حسين - دمشق اتحاد الكتاب العرب، 1998- 308؛ 24 سم.

1- 813.03 ح س ي 2- 813.009561 ح س ي ع.
3- العنوان 4 - حسين
ع -580/4/98 مكتبة الأسد





هـذا الـكتاب

دراسة نقدية تاريخية جادة ترصد تطور حركة النقد المسرحي في سورية.
من أبي خليل القباني حتى النكسة ترصدها في تؤدة وأناة وتعالجها بموضوعية وتعرض المؤثرات في النقد المسرحي من متغيرات الواقع والترجمات عن المسرح الغربي - بالدراسة والتحليل عارضة أشكال النقد في هذه المرحلة من نقد تاريخي - ونقد اجتماعي - وفني - واعتقادي ايديولوجي.

هـذا الـكتاب

رواية فيها حكاية حب وكفاح وخيانه في إطار علاقة زوجية بين بطل الرواية والبطلة العمياء هدهد بدأت بمشاعر الحب وانتهت بها وتحكي قصة تمسكه بالأرض التي انتزعت منه في حياة أبيه .