AshganMohamed
01-15-2020, 01:57 AM
الحج إلى واشنطن
المهدي عثمان
--------------------------------------------------------------------------------
تم إهداء هذه الرواية من طرف كاتبها لموقع أنفاس
ANFASSE.ORG
المهدي عثمان
التنظيم
( رواية )
الإهداء
* إلى شباب الثورات العربية.
* إلى أصدقائي بمدينة قصور الساف.
* إلى الصديق المنجي العايدي.
* إلى صديقتي الفلسطينية " عائشة ".
المشهد الأول
هذه اللوحة للخمر
"من ألف عام أكتب إليك رسائل أوجاعي، فتمزقها أو يمزقها وجه غرورك. كيف أحبك يا
حبيبي.. يا ربيع العمر والترحال.. يا قاتلي كلّ مرة ألف مرة.
من ألف عام أخضب كلّ رسائلي بعطر أحلامي وأمنياتي المرفْرفة في سماء شموخك.. بعطري الأنثوي
الذي تشتهي. كن ت أضمخ كلّ أشيائي الجميلة باسمك : شالي الحريري
( مثلا ).. فستاني.. قلم الشفاه.. و حتى رحيق الكلام..
ياه.. كل رسائلي سقطت في و مياهك المالحة، واختنقت بمائك عبير كلماتي. غير أني أرى الوقت
أحلى كلما كنت معي.. أرى الشوق أكبر كلما غبت، وأرى الألوان في أشد الأوقات قتامة.
صارت مساءاتي يا أخير زمانك في العشق وفي الوجع قنديل مخاض وعسر ولادة. أبحث عنك كمن
يمنح وجهه لزخات المطر، ولا أتعثّر إلا على مدارج حزني. و لمّا تعود من غيابك، أعود إليك وأنسى
الرحيل وأنسى الضجر.
ها أنك الآن ترحل دون بوصلة لعودة واضحة. لا مناديل تودع قواربك، ولا ُ قبلة تحتفي بقدومك بعد
الرحيل.
ها أنك الآن ترحل دون إذن من سيد عشقنا. أما أنا، فمن ألف عام أشد الرحيل ولم أرحل.. من ألف
عام أجدف في مكاني وأرسو في بحورك من جديد .
مع ذلك وأنا القارب دون شراع بدونك أشد الرحيل كأوراق خريف يذرفها الوقت. لكنني إن سقط ت،
أرفرف مرة أخرى ولا أنحني.
أنا إذن، أقف لأعشق من جديد، فلي الخيار و لك الخيار.."
كن ت ملقى كالسلحفاة على ظهري، أتلو رسالتها على وجعي المقرفص حذوي، كمن يعود مريضا لا
شفاء له. ُأغالب ثقتي أا من أرسلت هذا البوح إلى الصحيفة التي تعود ت أن أنشر على صفحاا
رسائل عشقي إليها .
كانت هواجس وخواطر في شكل رسائل من سجن لا قضبان له، وأدون أسفل النص: "شاعر مر من هنا".
أدرك جيدا أا كانت تتابع الرسائل بملء الشغف والرغبة الجارفة. و يقينا كانت تجمع الرسائل
لتحتفظ ا.. نعم أرى ذلك في التفاتتها ونظراا المشحونة بالهمس والأنوثة الصارخة .
لم تكن ككل اللواتي عشق ت.. كانت عصية ومتمنعة، تصد حتى رغبتي في الكلام إليها، وتكتفي
بالابتسامة. كان الحديث معها كمن يداعب قطّة تسكن دفء يديه، لتنتفض فجأة منشبة مخالبها في
كفه.
ما أقصر المسافة إليها وما أبعدها.. تقتلني المسافة حينا، وأخرى ذلك الماضي الذي يعلق في أهدابي
كدمع سيدة ممزوج بكحل جفوا.
وأنا في المسافة، كالملقى في بيداء لا بد من قطعها... كلما طالت المسافة، زاد الإصرار على قطعها... كلما
كانت قاسية، زاد الإصرار على كسر غرورها
...........
أغالب ثقتي، أا من أرسلت هذا البوح إلى تلك الصحيفة، مع أني من كتب بوحا على لساا وأرسله،
يحمل إمضاءها وشوقها الذي لم تبح به.
لماذا فعلت هذا ؟
لأني أحبك..
ليس ذه الطريقة.
وبأي الطرق تريدين ؟
... لا شيء.. دعني وشأني..
........
بملء الثقة بالنفس، والغرور أيضا قل ت:
ألست أنت من كتب الرسالة ؟
ردت بعنف لا مثيل له:
أعرف خزعبلات الشعراء ..
Vous êtes un acteur merveilleux
وانصرفت دون أن تلتفت إلى سمات وجهي، وقد تراوحت بين الضحك والبكاء.
لحظتها، قرر ت أن أكتب لها آخر رسالة عشق، لها أن تحتفظ ا، أو أن تلقيها في وجهي.
كمن يكتب رواية بفصل واحد، كن ت أرسم ملامح رسالتي في كراس بأكمله. أمزج فيه ألوان الفرح
والغبطة، بألوان التذمر والقتامة، كمن يحضر مزيجا لرسم لوحة.
كأنني "دافنتشي" أمزج ألوان"الموناليزا" .. كأنّ ما أكتبه،
أعسر من رسم "غربان القمح" لفان كوخ ، أو "صرخة" للفنان النرويجي إدفارد مونش.
هنا ذه المدينة المهزلة، أدخل تجربة عشق جديدة، بعد خمس سنوات قضيتها بالعاصمة، أتراوح بين
الدرس الأكاديمي والنقابة والفن وقصص الحب.. أعود إلى حيث بدأت رحلة الكتابة، بنصف الرغبة
الجامحة ونصف القلب المحترق. وما تبقّى،أزهر سنديانا بأحضان اللواتي عشق ت.
هنا أيضا، تلقى نفسك في مدينة تنحني فيها للرداءة والضجر المميت.. في مدينة أشبه بتمثال من
الشمع لا يتطور، بل ربما يتضاءل بفعل الاحتراق.
أن تقول "قصور الساف" يعني الضجر والروتين وأشياء أخرى، ربما لا تشبه غير الموت.
هنا لا جديد تحت الشمس.. القيء يلف أوتاره حول أعناقنا، وأنت تضطر للانخراط في الشاغل
اليومي، بوعي منك أو بدونه. إما أن تلتحق بطابور العمل اليومي، وإما أن تختار لك مكانا بإحدى
المقاهي، تعين الكسل على التدرب، وتمنح لجسدك مزيدا من القدرة على التكيف مع الكراسي، وطرق
الانطواء المختلفة، ووضع الأرجل والانحناءات والاتكاء.. حسب طبيعة الجلسة ومكاا، داخل المقهى
أو خارجه، وحسب طبيعة الطقس وحالة النادل النفسية ومزاجه.
والمقاهي هنا، مقسمة حسب الرتب الاجتماعية و المكانة السياسية... فللغرباء مقهاهم الخاص،
يعرضون فيها أجسادهم على الراغبين في الانتفاع بجهدهم. أما أعضاء الس البلدي فهم يغيرون
المقهى حسب طبيعة الأحداث والتحالفات والمصالح .. وقد يضطر البعض منهم إلى تغيير وجهته إلى
مقاهي المدن ااورة اتقاء القوادين، وخوفا من كشف التحالفات. وللمقاهي الأخرى روادها ومريدوها
بعضهم قار، والآخر يغير المكان حسب الأهواء والظروف.
وقد أودعت الرسالة/ الكراس إلى "حبيبتي" لتقرر مصير علاقة من طرف واحد ... بدأت
شوارع العاصمة تمْثل في الذاكرة وتحضر صورها ورائحة الرطوبة المنبعثة من الأسواق العتيقة:
ملل ت هذه الجدران.. هذه الأج السرطانية والوجوه المتكررة.. لقد تعود ت على عدم الاستقرار..
هذه أخطر الأشياء التي تقلقني .
الأخطر منها أن تستقر في مكان ينهشك كالسوس القبلي، لتلقى نفسك هيكلا يزين ركنا من أركان
هذه المدينة المهزلة.
يا صديقي.. كل المبدعين غادروها، فانتصروا لإبداعهم وكسبوا ذوام، فارين بجلودهم من الاحتراق.
... هذه مدينة لا يستطاب فيها العيش.
... نعم قد أشاركك الرأي.
هكذا دار الحوار بيني وبين "صديق قديم"، ونحن نحتسي قهوة المساء بمقهى" الأقواس"، وقد انضم
إلينا "النادل" قائلا:
آخرهم السيد الوزير السابق ... حتى مترله على شاطئ "سلقطة" فرط فيه بالبيع هروبا من
أهله ومن سكان هذه المدينة الفاجرة.
علّق ت مساندا رأيه:
الأدهى من ذلك، أن الذي كان لا يقسم إلا باسمه ويقتات من خيراته ومننه، هو من بات يشتري
قوارير الماء والقهوة لرجال الشرطة المكلفين بحراسته أثناء فترة الإقامة الجبرية.
وأنه حتى ببراءة السيد الوزير السابق كان يغادر المقهى الذي يلقاه فيه حتى لا تطاله الشبهات
وحتى لا يتهم بخيانته للوطن.
هذه بلادك يا صديقي.
كم تنكّرت ذاكرتنا الجماعية لشخصيات ومبدعين، أسهموا ويسهمون في بناء هذا الوطن .
"ما عندكشي مشكلة" نحن من صنع مفهوم تنكّر الذات.
وأنا أشعل سيجارة أخرى، وقف "زهير" قبالتنا:
ما شفْتهاش... ما ريتهاش... ما مشيتلْهاش...
هكذا بدا مرتعشا، مرددا نفس الكلمات والحركات... وهو يحرك رأسه في كلّ اتجاه ببطء شديد، كأنّ
على رأسه الطير، وأضاف:
أعطيني سيجارو...
مد له "محسن" سيجارة وأشعلها له، لينصرف مكملا نفس الحوار مع نفسه:
ما شفتهاش... ما ريتهاش... ما مشيتلهاش...
لحظتها مُثل بذهني "الخبز الحافي" و "البؤساء". بل ذهب في اعتقادي أنني صادف ت الشخص نفسه ب
"رخيوت" أو "حوف" ، أو ربما نقلت إليّ الصورة عبر قصائد مظفر النواب، وتذكر ت قوله:
أحد يعرف رخيوت و حوف
ما تلك من الأفلاك السيارة
و اُلمكتشفات
ولكن وطنا عربيا، مملكة للجوع
و للأوبئة الجلدية
و القيء وللثورة أيضا
شاهد ت الحامل تأكل مما يتقيأ طفل محموم
وتغذّي الطفل الآخر من نفس القيء الأسود
كن ت أسرد قصيدته بصوت جهوري مرتفع، يجعل من حولي يستمع بانتباه للقصيدة.
لو كان " لطفي " حاضرا، لأرجع وضعية هذا انون إلى النتائج الحتمية التي يفرزها النظام
الرأسمالي. وحتما سأدخل معه في جدل عقيم لن ينتهي. وسيبرهن لي، أنّ طبيعة النظام الرأسمالي
القائم على الربح واستغلال الطبقة الشغيلة أو طبقة البروليتاريا ( كما يحلو له أن يسميها ).. هو
الذي سيوصل العامل إلى هذه المرحلة، بسبب الاستغلال الفاحش وعدم الاستقرار النفْسي، بسبب غلاء
المعيشة واحتقار الذات الإنسانية، التي لا تعدو كوا وسيلة إنتاج، أو جسدا للإشهار.
و أنا في اتجاه بيتنا وقد ودع ت " الروح" و"محسن" كانت ذاكرتي تفتش في مقاهي العاصمة عن
الرفاق والأصدقاء... تمر إلى الحانات والشوارع، وتعود يائسة لترتمي في حانة " القرصان " بالمهدية،
على طاولة لأربعة أشخاص بركن منزو.
تضيق بي الدنيا، و تحاصرني الهزائم، فتنتصر الخمرة هناك بذات المكان الأبعد عن المصالح
والتروات... الأقْرب للنشوة و استحضار المؤلم والمخيف... الفجيعة و الألم... الجراح والهزائم...
نعم بالخمرة فقط، يمكن أنْ تخْرج من بوتقة الواقعي، إلى جهة صوب ا ُ لحلم، فتأتي إليك عشيقاتك
وحبيباتك ورفاقك، وتحضر السلطة أيضا والفن والشعر والتنكّر للوطن والدين.
كن ت وحيدا على طاولة منفردة، أمزج التعب بحبات العنب، وأضيف الجعة.
سحب ت قلمي وكنشا كثيرا ما يصحبني، وبدأ ت أشاغل شيطان الشعر ليحضر... فحضر النادل
ليغير منفضة السجائر، متسائلا:
هل أزيدك؟
دون أنْ يكمل، أشر ت له برأسي علامة الموافقة، مستعينا بالسبابة والوسطى، فأحضرهما دون أنْ أنتبه
إليه أو أنشغل عن الورقة، وهي تفْتح فخذيها للفكرة اُلمتمردة من الطرة إلى آخر نقطة في الطرف
المقابل. هذيان وعربدة وفوضى وأفكار أشبه بالأناجيل القديمة... لا هي بالشعر ولا بالخاطرة ولا
بالمقالة ولا شيء...
غير أنّ الفكرة تحْضر دون أنْ ترتب هندامها وتغسل وجهها الصباحي... تحْضر متثائبة، متمردة،
فتنفض رائحة نومها على الورقة، دون أنْ تكون لتلك الرائحة معنى... ربما كانت رائحة الخمر أشد
تأثيرا عليها، فترنحت المعاني وسكرت...
ووجدتني أكتب:
رب سامحهم و إنْ لم يسكروا
كيف يشتاق إلى خمْرة جنانك
من لا يعرف الخمر
و يشتاق صباياها
إنْ كان هنا ما عشق.
كأني ما كتب ت غير نص أحفظه للنواب... كأنّ ما حضر غير حانة بأحد شوارع العاصمة مع الشاعر
"عبد الوهاب"، وكان يردد هذا البيت نفْسه وهو ثمل، محتفلا بقدومي على طريقته... نفْس الخمرة...
نفس الأجواء الخانقة والبائسة واُلمتمارضة، مع اختلاف في المكان .
كان يسرد قصة تعرضه لحادث مرور أفقده ساقه، وأفقده نساء نزواته... هذا الشاعر اُلمتكالب على
اللذّة والنساء، كلما التقيته، التقي ت بأصناف من المومسات والساقطات والعاهرات... كأنّ الشعراء ما
بعثوا إلا ليتمموا المهمة الهادفة:
مهمة إنقاذ المومسات من الشرف، وإنقاذ الحانات من الإفلاس، وإنقاذ رجال الأمن من البطالة، وإنقاذ
قطط الشوارع والقوادين والبصاصين والبوليس السياسي... لذلك يجتمع كلّ هؤلاء، للتنكيل بالشعراء
أو الانتقام منهم.
إنّ المشهد الأكثر ألما، هو أنْ تبات وحيدا بلا أنثى تحضن عربدتك، وأنت راغب في زرع نزواتك في تربتها
المالحة لذلك أؤمن حد الكفر، بأنّ سيدة إذا باتت لوحدها، فتلك خطيئتنا نحن الرجال.
أنا و "عبد الوهاب" أعددنا المشهد جيدا، ولم يتبق إلا هي... خصصنا مساء كاملا للبحث عمن تحْتفي
بجنوننا، فلم نظفر بغير خيبتنا. وحتى التي وعدتنا بأنْ تلْتحق بنا آخر الليل، لم تأت.
وبتنا ثلاثتنا، أنا وهو وعلب الجعة، نلعن الشعراء والنساء ومربعات الرصيف والساسة والحكم
الجمهوري وخرائط التقْسيم العنصرية و... و...
في ليلة كهذه أزدا د إصرارا على الانتقام من أي سيدة تعترض طريقي، فأحولها إلى مومس أو حاقدة أو
مصابة بمرض فقْدان مناعة الكره.
في قبو على وجه الكراء أكْملنا ليلتنا بين الشعر والشعراء وسياسات العالم الثالث، محاطة أفكارنا
المترنحة بدواوين الشعر وكتب الفلسفة والصحف اليومية وقوارير الجعة.
....................................
حضرت كلّ هذه الأفكار، وأنا لا زل ت بحانة القرصان تتداول علي العلب الروحية، ويتداول على المكان
بحارة وطلبة وفقراء، يراوح بينهم نادل يقتات من سكرهم وسهوهم وما يتركون من مال تبقّى من
فقرهم. كأنك تحضر مشهدا يتكرر عند "حنا مينة" أو "محمد شكري".
كن ت كثيرا ما أتساءل عن الدوافع التي تجْعل البحارين أكثر رواد الحانات والمواخير. هل الفقْر ؟ أم
الجوع ؟ أم قساوة البحر وموجه ورطانته وحدته . بلْ ربما احتفاء بالحياة بعد خروج من بحر قد لا
يخْرج منه من دخله للمرة الأولى أو حتى للمرة الألف.
قطْعا للبحار دلالاا عند الشعوب ... بعضها تراها امتدادا لها أو تواصلا مع أجسادها وأرواحها
وثقافتها. وبعضها ترى البحار بوابات لهجوم الأوبئة والجيوش والقمع. فإلى أي الشعوب ينتمي هؤلاء
البحارة الذين أمامي ذه الحانة ؟ قطعا للصنف الثاني من الشعوب. وإلا ما غادروه خائفين كمن خرج
للتو من رمسه، فيحتفي بالخمرة و المومسات. ليدخل البحر ثانية كمن يستفز القَدر كرا و فرا.
هنا ذا المكان العتيق الأشبه بحانات أوروبا زمن محاكم التفتيش ... الدخان يحجب الوجوه
والتفاصيل و يضفي على الجدران المطلية بالجير لونا رماديا، كقلب سجين لا يعرف تهمته.
... ضجيج.. وصراخ وفوضى وقرع كؤوس على أنخاب هزائمنا الممتدة من البحر إلى البحر. كأنّ هؤلاء
يهربون من حروبنا المتكررة وخسائرنا المتكررة.
ُأنظرِ الطاولات، ترى عرق الخشب يخرج من مسام الأشجار الأولى، كأنه يتنفّس خارج طبيعته " فما
أدراك لماذا هذه اللوحة للخمر وتلك لصنع النعش وأخرى للإعلان ".
ذكّرني القول بحوار دار بيني وبين صديق يمني يتردد على تونس باستمرار:
أعلن إعلانا، الأمر وبه: أظهره وجاهر به. والإعلام هو إحداث المعرفة عند المخاطَب على وجه
الصدق.
هكذا كان صديقي "الناصر سالم" يفسر لي مفهوم الإعلام والإعلان ووسائلها، مستشهدا بوسائل
الإعلام العربية التي حادت عن دورها.
فهي لا تظهر ولا تجاهر ولا تحدث المعرفة، فهي إذن ليست وسائل إعلام.
علّقْ ت:
وماذا تسميها ؟
أجاب:
ليست إعلاما... بمعنى هي وسائل إعلاء مكانة الحكام والساسة وتقْزيم الحقيقة هي وسائل إعلاء و
وتأليه ا ُ لخطب والقرارات.
ولكنك متحصل على دكتوراه في الصحافة. أليست مفارقة ؟
عندما أكمل ت مرحلة الأستاذية، ُ كلّف ت بالإشراف على دورية تصدرها جامعة صنعاء. اكتشف ت خلالها
أنّ ما أقوم به ليس سوى رش المبيد على جثّة لإبعاد الذباب.
لهذا غادر ت صنعاء بلا عودة إلى ألمانيا .ولأنه ليس بالإمكان التوجه إلى برلين انطلاقا من اليمن، طالما
أنّ اليمن السعيد على قائمة الدول الراعية الإرهاب، وأنه محضنة لتفْريخ المتطرفين والإرهابيين ..
اتصل ت بأصدقاء يساريين يدرسون في روسيا ليساعدوني على الالتحاق بالجامعة وتمّ لي ذلك. وبعد
حصولي على الدكتوراه اتجه ت إلى ألمانيا واشتغل ت هناك.
و العائلة ؟
أكمل بسخرية من يدخل حربا خاسرة:
نحن ثمانية إخوة غادروا كلهم تراب اليمن السعيد في اتجاه الأراضي الأكثر سعادة. أحدنا في
أستراليا وآخر أقام بالولايات المتحدة والبقية يتراوحون بين بريطانيا وألمانيا وفرنسا.
( تنهد ) المهزلة يا صديقي، أنه لا يمكن لك أن تكتشف مفهوم "المواطنة" إلا خارج أرضك العربية...
صدق وأنا مقيم بألمانيا قرابة الست سنوات، تمّ إيقافي مرة واحدة من قبل رجل أمن، تصفّح أوراقي
وحياني لأنصرف.
أما وقد كن ت في وطني السعيد، فلا يمكن أن يمر اليوم دون أن يكشر رجل الأمن في وجهك، وربما يشكك
في وثائق الهوية، وقد يدعوك لاَصطحابه إلى مركز الأمن لإتمام الإجراءات.
( كأني أذكره بحادثة ربما لن ينساها ) ولعلّ ما حصل لك في تونس خير دليلي على ذلك؟
آه... في تونس المسألة مختلفة. تشعر أنّ أنفاسك تسجل في جهاز أمن الدولة أو البوليس السياسي ..
كل حركاتك وسكناتك.
ففي آخر مرة أوقف ت في المطار وتمّ التحقيق معي لمدة فاقت الأربع ساعات، اتضح للأعوان بعدها أنّ
خطأ ورطهم... كتشابه في الأسماء مثلا.
سكب كأسا من "الويسكي"، وكنا لا نزال نتسامر في غرفتي الضيقة المحْشوة بالكتب والصحف
وأشرطة الكاسات. أشعل سيجارة وأكمل:
أتدري يا رفيقي، أنني كلما دخل ت وطنا عربيا أشعر أنّ مكانتي أكبر مما كن ت أعتقد. خاصة وأنني
مطالب بتحديد مكاني وإقامتي ومن سأزورهم ومن سأقابلهم و ...
دون أن أنسى طبعا أنّ إجراءات دخولي قد تستغرق الساعات، بسبب وحيد كوني من اليمن السعيد.
هكذا كان يغرف من جرحه ويبسط الحكايا على طاولة الخشب التي أمامنا، والتي هي بالضرورة
للخمر وليست للإعلان.
كان يسرد لي بمرارة واقعا مؤلما ومأساويا عن المواطن اليمني، وخاصة في الجنوب الاشتراكي. وبسبب
إيديولوجية هذا الجنوب وككلّ جنوب عربي تمّت معاقبته لسنوات، وتواصل العقاب حتى مع تحقيق
الوحدة. لهذا فرخ الفقر ما يسميه الآخر "إرهابا" أو "تطرفا" ، ونسميه كذلك اقتداء بالآخر أو خوفا
منه.
فالآخر يخيط المفاهيم على قياسه، ويعرضها للاستهلاك الخارجي. أما نحن فنرحب بالمفاهيم ونعلّبها
وننمقها للاستهلاك الداخلي. وبين الداخل والخارج طرف يمارس الإرهاب الفكري، على طرف آخر
ويجبره على الاعتراف بمفهوم الإرهاب الذي سطّره.
تناول حقيبته الجلْدية الصغيرة، وسحب من طياا رواية "اُلمستنقع" لحنا مينة، وبسرعة أدركت
أصابعه الصفْحة التي أرادها قائلا:
لم يشدني كاتب عربي مثلما شدني هذا العظيم حنا مينة . وخاصة روايته هذه ... عندما أمر على
سطورها أجدني أعيش تلك الأحداث، داخل ذلك الحدث الروائي... إا أحداثي أنا ... واقعي...
حياتي... وربما أحداث كل مواطن عربي وواقعه وحياته، اسمع ماذا يقول:
"... نحن كنا تلك الدودة على الصخر. كنا دودا على صخر ليس على جوانبه أيما خضرة أو تراب.
كان الحي كلّه دودا يلوب في مستنقع صخري فيه كلّ الأوحال وكلّ الأقذار، وليس فيه أيما شيء يؤكل،
ولم يعد نصف أهل الحي يعملون، ووصلَ الأمر ببعضهم إلى بيع أثاث بيوم وأمتعتهم، وكانوا يفعلون
ذلك وهم ينتظرون الفرح، لكن الفرح كان بعيدا..."
( أعاد الكتاب لمكانه وأكمل )
ما رأيك ؟ أليس من حقّنا أنْ نفجر أنفسنا ضد من جعل وضعنا يأخذ ذلك الشكل ؟
قل ت بيني وبين نفسي:
من الغباء مقاومة الآخر بتلك الطرق الانتحارية .
كمن وجه مضخم الصوت إلى ساحة عمومية بالعاصمة، انتبه" الناصر " لتعليقي، كمن تنصت على
وشوشات القلب، وعلّق:
أنت إرهابي حتى وأنت يساري. حاول مثلا أنْ تشكك في المفاهيم... أو تمدح المقاومين والمناضلين
والانتحاريين ... أو شكك في المحارق النازية ..أو ...
( ولم يكمل كلامه كأن أحدا أشهر خنجرا في خاصرته )
كن ت أستوعب ما يسرد بنبرة يمنية عربية ما زالت تعلق في أهداب لغته المستعملة، رغم سنوات الغربة
والتغريب.
مع ذلك حاول ت أنْ أضيف شارحا أو متسائلا أو متداركا، لكنني لم أجد خيوط اللغة الأولى وانفرطت
الأحرف كحبات عقد مرجانيّ.
انتبه لارتباكي، وأكمل:
ماذا يسمى غزو دولة لإسقاط حكومتها واحتلال أرضها؟
إرهابا.
لا ...
ماذا إذن ؟
دفاعا عن النفس.
أمسك ت بناصية سخريته، وأيقن ت أنه يمارس نوعا من البلاهة المتعمدة.
وأكمل :
كلّ دفاع عن النفس ليس إرهابا.
إذن من يناضل يدافع عن النفس أيضا.
بالضبط، لذلك فكلاهما يملك شرعية سحق الآخر وإلغائه من التاريخ . إذن من يثبت التاريخ أنه
الأقوى، سينتصر.
للمرة الأولى أتعثّر على عتبات تفسير ذا لشكل البسيط والمعقّد، لذلك قبلته بمنطق من شعر
زيمته. ولولا ثقتي بصديقي وإيماني بمواقفه، لقلت أنه تفسير مشبوه.
مع ذلك تساءل ت:
لكن الأقوى لن يبقى دائما كذلك.
............................
لم يجب عن تعليقي، رغم أني وجهته له مباشرة وبصوت عال. واكتفى بإشعال سيجارة.
فهم ت إصراره على عدم الإجابة، ربما لأنّ ملاحظتي لا إجابة يملكها لها، أو ربما هي ملاحظة بلا
إجابة أصلا.
تناول ت شريطا غنائيا، وشغلت آلة التسجيل ليصدح الشيخ الضرير:
والنهاية يا خواجة
من في يوم كانت بداية ؟
البداية بر ضه لازم
بيِيجي يوم توصل اية
مهما زاد الرأسمال
الهلاك هو المآل
والتاريخ هو إلي قال
لعبة الموت في الحياة
يسحب الروح من الحناجر
لا زالت الأفكار تتواتر على صدغي، وأنا بنفس الحانة أناجي الخمرة وأحتفي بالسكارى إلى أنْ تناهى
إلى مسمعي آذان صلاة العصر. تذكّر ت لحظتها أنني وضع ت كأس الخمر على الطاولة احتراما لآذان
الفجر وأنا أجالس الناصر.
فيما لم ينتبه الشيخ الضرير، وأكمل:
توت توت
حاوي توت
خش اتفرج
هرج فوت
استحضر ت قصة العراقي " أبو مصعب ". نقلها لي صديق صحافيّ، كن ت قد تعرفْ ت إليه أثناء زيارتي
الأولى إلى مصر. وقد حكى لي كيف كان أبو مصعب يستمع باستمرار لأغاني الشيخ الضرير معتقدا أنه
إذا ما داهمت مترله القوات الغازية سيخلون سبيله، طالما أنه لا يستمع إلى القرآن أو إلى إحدى
الأشرطة المحرضة على الجهاد لتنظيم القاعدة أو حتى لحزب البعث اُلمنحلّ .
لكنه تمّ اعتقاله، وفهمت القوات العراقية اُلمصاحبة للقوات الأمريكية أنّ ما يقوم به ليس سوى خدعة
.
و بسجن أبو غريب لم يكن يعرف ولمدة ستة أشهر لماذا وكيف وأين سيحاكم ولا يتعقّل مكان وجوده، وكم
عدد الداخلين والخارجين وهوية رجال الأمن نساء ورجالا.
دخلت مجندة أمريكية وقادته إلى غرفة أخرى لا تختلف عن الأولى، تعبق برائحة البول
والرطوبة والقيء والدم المتجمد، كلون الرماد على الجدران، يشكل لوحات تجريدية تحيلك لتشكيلات
الفن الحديث.
بمجرد دخوله الغرفة، دفعته ليسقط أرضا وارتطم وجهه بحذاء مجندة أخرى. انحنت عليه لتفك
قيده، وأمرته بخلع ملابسه ففعل ... لكنه ...
فأشارت إلى ملابسه الداخلية، فارتبك وتجمدت أطرافه ... كالماسك بعشبة بأهداب جبل شاهق يتدلّى
يوشك أنْ يبتلعه السقوط، إلى ر ليغرق أو صخرة ليستحيل عهنا منفوشا.
ظلّ على صبره، ربما ينتظر أنْ ترفعه العشبة إلى أعلى ... ربما تستدرك اندة فتأمره بارتداء
ملابسه، لكنها وخزته بعصاها على إيره.
... ياااا الله ... قالها كمن ينادي"أح د ... أحدا"، تحت صخرة وما هي بالصخرة... تجْثم ككوكب
على أضلعه الباهتة.
تلعثم .. تمايل .. مد يده ليمسك تلك العشبة، أو يمسك العصى. لكنه أمسك وجعا في أضلعه وشرايينه
... وجعا في الذاكرة والأشجار و الأار والمسلات. .. وسقط مغشيا عليه.
تتالت البصقات على وجهه، وكادت إحدى اندات وهي تفك حزام بزا العسكرية أنْ تفتح
فخذيها لتتبول على وجهه. لكن البصاق الذي غطّى وجهه والركل بالأرجل والعصي كان كافيا ليمسك
وعيه.
أفاق، وكانت يداه مقيدتين أمامه، و لا شيء يستر عورته. أوقفته اندة وراحت تحرك إيره بعصاها،
وتمررها بين فخذيه و إليتيه بحركات جنسية لم يدرك معناها.
خرجت اندة الأخرى، ثمّ عادت تصطحب سجينة عراقية بلا ملابسها، تدفعها أمامها بسوط كمن
يقود دابة، ودفعتها بعنف أمامه مقيدة بحبل من عنقها كشاة تقاد إلى الذبح. وأجبراها على البقاء
منحنية كدابة ليعتليها السجين كثور تسبقه العصا والسوط
لم يكن ليتخيل أنْ يجد نفسه في وضعية كهذه. كان يتمناها وهو في عنفوان شبابه، لكن العصا
أفقدته شهوته والرغبة الجامحة، وأبى إيره أنْ يطاوعه.
فيما كان السوط يجبره، كانت اندة اتفها الجوال تصور المشهد المضحك اُلمبكي، و تغير زاوية
التصوير كلّ مرة للحصول على مشهد مغاير.
لم تبد السجينة أي مقاومة، بل رغبة ربما بفعل التعود أو ربما نجحت معها تجربة الانتباه الغريزي
عند "بافلوف".
كان أبو مصعب يسرد قصته لصديق صحافيّ يعمل مراسلا لصحيفة عربية بالعراق. وكان يمني
النفس أنْ يساعده الصحافيّ على فضح تلك الممارسات وتعريتها. غير أنّ الصحافيّ إيراد الحاج تمّ فصله
وإحالته على البطالة الإجبارية.
حكى لي صديقي الصحافيّ، أنّ دولته منعته من الالتحاق بأي مؤسسة إعلامية أخرى، حين تمّ
حجز جواز سفره. وأمام الضغوطات المتواصلة من المنظمات الحقوقية ألحقوه بالعمل في مؤسسة
تعليمية ليحتم بشؤون التوثيق.
وكن ت قد تعرفْ ت إلى الصحافيّ إيراد الحاج في زيارة إلى مصر إثْر دعوة وجهت لي من تنظيم ثقافيّ
يتبع حزب "كفاية".
صادفْته منذ اليوم الأول لدخولي المركز الثقافيّ، وتعارفْنا. لا أعرف ما الذي شدني إلى هذا الدمشقي،
ربما لأنه من دمشق الصامدة لا غير. وربما لأنه صحافيّ، رغْم أنني عرفْت الكثير من الصحافيين ومن
السوريين.
أذكر أنني لمّا أكمل ت قراءة قصيدتي الثانية في الأمسية الثقافية المخصصة للتضامن مع الشعب
الفلسطيني، ض من كرسيه واعترضني فاتحا ذراعيه كمن يستقبل عائدا من الحرب. وانزوينا في ركن
نناقش النصوص الشعرية والمواقف السياسية وجملة الأحداث الحاصلة في المنطقة العربية ودور
المثقف العضوي من جملة تلك الأحداث.
انتهى برنامج الملتقى و ترك لنا خيار تأثيث ذلك المساء.
بعضنا غادر في اتجاه الأسواق العتيقة للتسوق وشراء بعض التحف المصرية وصور "نفرتيتي" المصبوغة
على ورق البردي .وقد حكى لنا بعضهم كيف تمّ ريب تلك التحفة الرائعة واستحواذ ألمانيا عليها.
حتى أن "هتلر" خالها امرأة شرقية قابلة للمضاجعة.
أما أنا وإيراد فلازمنا الترل بقاعة الاستقبال يصحبنا شاعر مغربي، وانخرطنا في الحديث عن الفن
والسياسة وعلب الجعة.
أكملنا حديثنا عن الوضع الراهن، ومواقف الدول والحالة الأمنية في العراق ولبنان وفلسطين.
وفيما كان صديقنا المغربي " حسين " ينحني بالنقاش إلى جهة الشعر والفن والفلسفة، التفت إيراد
جهة ثلة من الخليجيين في ركن من قاعة الاستقبال تطوف عليهم بعض فتيات الهوى، وعلّق بسخرية
مريرة:
ما أقبح مثل هذا الواقع المتعفّن ... ( مشيرا بإصبعه ) أنظروا هؤلاء الخنازير ( مسك علبة الجعة،
ورفعها إلى مستوى وجهه ) تتحدثون عن المقاومة ؤلاء ؟
قولوا ... ؤلاء ؟؟
علّق صديقنا المغربي بسخرية، وهو يستأذن للمغادرة:
هؤلاء يجب أنْ يطبق عليهم قانون الجنس الآري عند صديقنا هتلر.
قل ت مواصلا ج سخريته:
وهل هؤلاء من الجنس الآري ؟ أم من اليهود الواجب ذبحهم ؟
أضاف وهو يغادر مترنحا دون أنْ يحمل كلامه أي شيء من المنطق:
البقاء للأقوى...
غادر صديقنا حسين، فيما بقي ت أنا مع إيراد نكمل ما بدأناه من حديث.
كان ناقما على ذلك المشهد الذي أمامنا إلى حد أنه شتم سيدة حاولت أنْ تقترب من مجلسنا باحثة عن
المتعة.
كن ت لا زل ت لا أعرف صديقي تمام المعرفة، ولا قدرة لي على توقّع ردات أفعاله ، ولذلك سألته بحذر
شديد:
ما بك ؟ لماذا كلّ هذا الهيجان ؟
لا شيء... لا شيء..
رد دوء حاول أنْ يتصنعه، وتراجع بظهره إلى الخلف مستريحا إلى ظهر الأريكة. سحب سيجارة
فرنسية، أشعلها، وانخرط في بكاء كان من الممكن أنْ يلفت انتباه الحضور، لو كانوا قريبين منا.
وأنا أسكب كأس الجعة في جعبتي الظمأى بفعل حرارة القاهرة، خمّن ت أنّ إيراد فقد حبيبته التي لا
مثيل لها على سطح هذا الكوكب... فللعشاق أوهامهم.
سألته:
ما بك إيراد ؟ هل خطرت ببالك حبيبتك ؟
( قاطعني مبتسما بسخرية، وهو يكفكف دمعه )
حبيبتي؟ أنا لا حبيبة لي.. منذ ذلك الحادث الملعون، طلّقت النساء والعشيقات.
لم أفهم... أي حدث ؟
لا داعي فالمسألة مؤلمة، ولا مك في شيء.
إذا كانت مؤلمة، فنحن تعودنا على الآلام والجراح. أما أا لا تخصني، فهذه مسألة أخرى.
شعر إيراد أنني تضايق ت، لأنني لم أكن محل ثقته. انتبه أكثر واقترب مني قليلا وأكمل:
صديقي.. لا أعرف ما الذي جمعني بك في هذا الوقت ؟ رغم أنني فقد ت الثقة في الصداقات التي
جمعتني برجال ومثقفين و سياسيين.. إلا أنني لا أعرف لماذا أقترب منك وشعر ت برغبة جارفة في
صداقتك.
هذه مسألة لا تخضع للمقاييس ..
( أكمل دون أنْ ينتبه لتعليقي ) شعوري أنك من بلد مختلف وبعيد، إضافة لمواقفك التي حملتها
قصائدك، و كلامك... هو ما جعلني أرتاح إليك وأعطيك سري.
هل المسألة خطيرة إلى هذا الحد ؟
ربما ليست ذات أهمية .. فأنا تعودت عليها، ولكنها مسالة مؤلمة وجارحة وحافرة في العمق .
عندما تخرج من حادث مرور وتكتشف أنك... أنك..
أنك ماذا ؟
أنك ... فقدت رجولتك... كيف يمكن أنْ تقبل على الحياة من جديد ؟أنت الآن مخصي... بلا رجولة
ولا فحولة ولا... أيطعم للحياة ؟؟؟
إنّ الجرح الذي بداخلي لا تكفي أدوية العالم لعلاجه... ( كررها متأوها ) مجروح يا صاحبي...
مجروح..
إيراد...
حاولت أنْ أجيب عن أسئلة لم يطرحها، أو أوضح مسائل ليست غامضة.. أنْ أتكلم في وقت لا الكلام له
كامل القدرة على التفسير والإيضاح، ولا الصمت بإمكانه أنْ يواسي صديقي المطعون في رجولته.
طال الصمت بنا، لا هو أضاف على جرحه شيئا، ولا أنا أضفت ما به أواسيه أو ادفعه للنسيان.
ظلّ يدخن بمرارة ويحتسي الجعة بشراهة المنتقم من رجولته، فيما بقيت أداعب علبة السجائر
والولاعة كاستعاضة عن الكلام.
هكذا أكملنا ليلتنا إلى أن ض مرهقا بفعل الجرح والجعة و البكاء. و دون أن يلتفت قال:
تصبح على خير.
تصبح على خير.
انتهت ليلتنا عند هذه القصة المؤلمة، بل لعلّ هذه القصة هي التي وطّدت علاقتي بإيراد. حتى أنني
فقدت السيطرة على مشاعري وأنا أودع القاهرة فبكي ت. شدني بعنف من كتفي وقال: لا تبك نحن
لا نلتقي في المكان، نحن نلْتقي في القضايا.
بآخر رسالة وجهها لي، ولم تكن تحمل اسمه على الظرف ككلّ رسائله السابقة، كتب:
"رفيقي.. كلّ هزيمة وأنت بخير.
اليوم وأنا أكتب لك هذه الرسالة، بصدد التحضير للتسلل إلى لبنان عبر الحدود في اتجاه الولايات
المتحدة....
سأراسلك من هناك.
إذا تأخرت رسالتي لأكثر من شهرين، أكون حينها ضيفا على أحد السجون العربية. هذا إذا لم أكن
ضيفا على غوانتانامو."
الإمضاء
صحفي مفصول
إيراد الحاج
قرأت الرسالة عدة مرات، علّي أعثر بين السطور على نص خفي، ففشلْ ت.
مزق ت الظرف علّي أعثر على نص ُ كتب على واجهته الداخلية، فلم أظفر بغير خيبتي. لذلك اقتنع ت
بالرسالة، وفسرا كما هي، متسائلا:
فهم ت هروبك إلى لبنان، لكن لماذا الولايات المتحدة ؟
ظل السؤال معلّقا بأهداب القتامة والغموض.
لماذا نشد رحيلنا دائما في اتجاه الشمال؟ هل الشمال هو شمس الحقيقة ؟ أم أنّ شمسنا كلّ أوطاننا ؟
ثمّ لماذا الهجرة أصلا ؟ هل هو الخوف ؟ أم الهروب؟
أم البحث عن زوايا أكثر دفئا؟
الغريب أنّ هجرتنا تضاعفت بعد أحداث 11 سبتمبر، في الوقت الذي كان من المفروض أنْ تتقلّص،
طالما أنّ الآخر بات يرفضنا صراحة.
تكهن ت أننا نحمل إليهم صك براءتنا ليوقّعوا عليه. كمن يقول:
ها أننا بينكم، فنحن براء من م الإرهاب.
اعتراف كهذا لم يصدح به المواطنون الفلسطينيون، على خلاف العرب قاطبة.
هؤلاء المنتشرون على سطح هذا الكوكب، لا يحتاجون إلى إثبات براءة، ولا إلى شهادة حسن سيرة
وسلوك، طالما أم شعب لا يستحق تلك الصفة. وأنّ طردهم واغتيالهم ومطاردم، تدخل ضمن
مفاهيم إثبات حق شعب الله المختار في الوجود والبقاء.
لم تكن وسائل الإعلام تظهر تلك الحقيقة الماثلة، رغم التبجح العربي بالدفاع عن قضيتهم. وهو ما
أثبته لي صديقي الناصر سالم بالقول أنّ وسائل الإعلام لا تظهر إلا ما يدعم مواقفها، ويخدم
الأطراف التي تمثّلها.
و قد تأكّد لي ذلك، وأنا ألتقي صدفة بفتاة فلسطينية تدرس في تونس.
حين كانت تستعد للمغادرة نحو قطاع غزة، أعلموها أنه لا يمكن الدخول إلى مصر إلا بطلب تأشيرة من
السفارة المصرية بتونس. وحتى الدخول عبر الأراضي الليبية لا يتم بالمثل إلا بتلك الوثيقة. وهذا
الإجراء خص به الفلسطينيون دون سواهم أثناء الحرب الدائرة رحاها بين إسرائيل وحزب الله.
انتظرت صديقتي"لينا" أسابيع للحصول على تأشيرة دخول التراب المصري. غير أا بقيت على
الحدود قرابة الشهر في انتظار فتح معبر رفح، بإذن من الحكومة الإسرائيلية اُلمنشغلة بحرا مع
الشيعة.
و إذا ب " لينا " تعود إلى تونس قبل انتهاء العطلة الدراسية بأيام، مخافة دخول غزة ومنعها من
المغادرة.
حكت "لينا" أنّ والدها الذي فر بجلده من الأردن إثر مجازر أيلول الأسود تمّت تصفيته في
لبنان "بقلعة الشقيف"، التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي وحركة فتح . وباعتبار انتمائه
لليسار العربي وقع اغتياله من قبل مجموعة من الفتحاويين المتطرفين، وقد دفن هناك.
وأنّ شقيقها الأكبر الذي ينتمي إلى ألوية صلاح الدين نفّذ عملية انتحارية في نقطة تفتيش
إسرائيلية، مما أدى إلى وفاته وقتل جنديين. فما كان من القوات اليهودية إلا أنْ عمدت إلى اعتقال
شقيقه "عزام"، ونسف مترلهم. وبعده بقيت أمها وأختها الكبرى تقيمان عند جدا.
وهذا المشهد المتكرر بين العائلات الفلسطينية لا يثير استغراب السائل . بل الاستثناء أنْ تصادف عائلة
فلسطينية كلّ أفرادها على قيد الحياة.
سألتها:
كيف يكون والدك يساريا، وشقيقك يمينيا ؟
كيف تجمعهما نفس العائلة ؟
أجابت وكأا كانت تنتظر مثل هذا السؤال:
وعمي "ياسر" ينتمي إلى حركة أمل الشيعية. وهو لا يزال إلى الآن في لبنان، و يشاع أنه انضم إلى
حزب الله الذي يتزعمه حسن نصر الله.
أما ابن عمي "نواف" وبعد حصوله على الجنسية العراقية فقد انظم إلى حزب البعث أثناء
دراسته في العراق، ورفض الخروج من بغداد أثناء الحرب الكويتية ولا حتى الحرب الحالية التي
تقودها الولايات المتحدة. ولا نعرف عنه شيئا، ويشاع أنه ينشط مع المقاومة العراقية.
سألتها، كمن يستجوب سجينا سياسيا:
وبقية العائلة ؟
ليس لي خالات .. وأخوالي كلهم أكلتهم الحرب و هم لا يزالون شبابا. خالي الوحيد الذي نجا، وقع
اغتياله منذ سنتين.
اغتالته القوات الإسرائيلية ؟
لا .... كُثر الحديث عن علاقاته المشبوهة بالكيان الصهيوني، وأنه يمده بمعلومات عن المناضلين.
و ما أفاض الكيل، هو القبض على شاب قبل أنْ ينفّذ عملية انتحارية في حافلة. فتم قتله، باعتباره
عميلا.
سأل ت مرتبكا، وأنا أتحسس علب السجائر:
بتلك السهولة ؟
طبعا لا ... تعرف أنّ التنظيمات الفلسطينية لها أتباعها وعيوا، ولا يمكن أنْ تنفّذ هذا الفعل دون
التأكّد منه.
وما موقفك من هذه التصفية ؟ و الحال أنّ خالك هو الضحية.
ابتسمت بتهكّم ومرارة:
ماذا لو قل ت لك أنّ الذي نفّذ فعل القتل هو ابنه، ( حاولت أنْ تمنع دموعها ) نعم ابنه. لقد قالها أمام
الجميع، دون حياء.
وهل هذا معقول؟ ابنه ؟
نعم ..(استدركت) هو لم يكن مكشوف الوجه أثناء عملية التصفية، لكن الذين حدقوا في عينيه
وكان ملثّما تأكّدوا أا عيونه.
(صمتت برهة)
كان خالي في المقهى يلعب الورق ذات مساء شتوي، حين دخل "حبيب" ابنه و ناداه باسمه .. حين رفع
رأسه والتفت، صوب في اتجاهه رصاصة أولى في الرأس و ثانية في الصدر، وببرود لا مثيل له أرجع
المسدس إلى جيبه وبقي يحدق في المغدور لحظات دون أن ينبس بكلمة.
وقد لاحظ الكثير من رواد المقهى دمعه ينهمر بصمت دون أن يبدي أي صوت، وغادر دوء.
و أكملت "لينا" تسرد لي حال المخيمات وأحيائها القصديرية وشبكات الصرف الصحي والأوبئة
وانعدام الخدمات الصحية، في فلسطين كما في لبنان والأردن.
"لينا" تلك السمراء الرائعة، التقيتها صدفة مع شاعر فلسطيني كان يقيم بتونس، ويشرف على صفحة
أدبية بصحيفة تونسية يومية.
عاد الشاعر إلى فلسطين، وتوقّفت الصحيفة عن الصدور كغيرها من الصحف التي تظهر وتختفي، ولا
تقدم شيئا.
واختفت "لينا" مع الشاعر ومع الصحيفة.
غير أنّ الصدفة عادت لتؤثث موعدا كما أثثته في البداية.
.................................................. ........
.................................................. ........
عدل ت أوتار الوعي، وأنا ما زل ت بحانة القرصان حتى آخر قارورة وآخر سيجارة بقيت في علبتي.
اشتدت القتامة بفعل الدخان والصراخ المتشابك، وقرع الكؤوس والقوارير. انتبه ت إلى حوار يدور
بقربي..
الأول:
ثلاثة آلاف دينار.. يمكن أنْ تسقط العقوبة إلى شهرين.
الثاني:
لا أصدق ...ابني محكوم بسنتين.
الأول:
ثمّة دولار .. يمكن أنْ يسقط حتى حكم الإعدام... أمامك أسبوع فقط.
الثاني:
وما هي الضمانات ؟
الأول:
هؤلاء الناس لا يقدمون الضمانات... ثمّ أم لا يستحقّون أموالك. فالواحد منهم يمكن أنْ يشتري
مدينتك بسكاا.
أخمد ت ما بقي من سيجارتي في المنفضة، وانتصب ت في اتجاه النادل أدفع له ثمن ما شرب ت، وقد تركت
الحوار متواصلا حول المبلغ المطلوب لإسقاط عقوبة جنائية.
لحظتها وأنا أدفع للنادل خطرت لي فكرة المغادرة إلى العاصمة... نعم إلى العاصمة، ليس الآن ولكن
غدا. غدا أكون هناك فقد اشتقت إلى الأصدقاء والرفاق والأكشاك و ج الدباغين حيث الكتب
القديمة وشارع الحبيب بورقيبة.
بإحدى المؤسسات الثقافية الجامعية، كنت داخل قاعة شاسعة للعرض، توشح جدراا
رسومات"ناجي العلي"، في معرض نظّمه الاتحاد العام لطلبة تونس .
توقّف ت عند لوحة تجسد عربيا أو أعرابيا متكرشا بذات العقال البدوي، رافعا سبابته اليمنى مهددا :
"لازم تعترفوا بإسرائيل .. وبعدين ترموا سلاحكم .. ثمّ إلى ربكم ترجعون"
بقي ت متسمرا أمام اللوحة أبشر حنظلة بأنّ الخطاب لا زال هو نفسه، وسيبقى. بل نحن اعترفْنا
بإسرائيل وألقينا سلاحنا، وإن كنا لا نملك سلاحا أصلا. ونحن في انتظار أنْ يحسن الله الخاتمة.
أيهما أفضل، نلقيه باختيارنا أم نجبر على إلقائه ؟ بالطبع الخيار الأول هو الأسلم والأصح .
وبينما كن ت أناجي اللوحة وأحاكيها أو أحكي لها، وإذا ب "لينا" تقترب مني وتدس جسدها بين
بوتقة الرؤية ولوحة ناجي العلي .
كأني أرى فلسطين رول هاربة من خارطة الطريق وأوسلو وشرم الشيخ ... كأني أرى فلسطين بشالها
المطرز "كفيروز" تنتصب بشموخ حذر.
صفعتني المفاجأة:
لينا ... ؟
نعم لينا ... أنا بلحمي ودمي .
لا أصدق ...
ولماذا لا تصدق ؟ هل تغير ت ؟
لا .. لا ... ولكن كلما غاب عني صديق فجأة، ينتابني إحساس أنني لن أراه ثانية.
دعك من الترهات.
سحبتني من ذراعي في اتجاه خارج القاعة، محاطا بالدهشة والفجائية، وأكملت:
هل نشرب قهوة في مكان جميل ؟
بالطبع.. بالطبع... من يرفض استضافة فلسطين إلى محرابه ؟
سرنا دوء، دون أنْ يكلّم أحدنا الآخر، حتى احتضنتنا مقهى باريس، في ركن أبعد عن مدخلها.
جلس ت دون أنْ أستنجد ببروتوكولات استضافة النساء. لم أسحب لها الكرسي لتجلس قبلي، ولم
أساعدها على نزع معطفها كعادة الأرستقراطيين، فقط اكتفي ت بالجلوس.
فيما تكفّلت بترتيب حقيبتها اليدوية على ركن من الطاولة... مددت معطفها الشتوي على ظهر الكرسي
ااور... واحتفظت بشالها الفلسطيني يلف جيدها كبحر يحتضن قمرا عند الغروب.
قالت :
أريد قهوة.
أشر ت للنادل بيدي فأسرع نحونا حاملا شكّه أننا عشيقان.
قل ت له:
قهوة وكأسا من البيرة.
أشار برأسه، وانصرف.
فيما تناولت "لينا" سيجارة أشعلتها، كن ت أرتب أفكاري لأعتذر عن البيرة... ربما ترى" لينا" أنّ طلبي
لا يحترم أصول اللياقة. غير أا أسعفتني بالقول:
كعادتك دائما ...
عاداتي لن تتغير.
إذن أنت لن تتغير.
( بفذلكة ) إذا كنت أنا الحقيقة، فلماذا أتغير؟
ومن قال لك أنّ الحقيقة لا تتغير؟
الحقيقة ثابتة، ولكن المواقف تتغير ...
وصل النادل ورتب القهوة وكأس البيرة، وانصرف . وصل وقد أنقذني من مهاترات لن تنتهي،
ولس ت مستعدا للخوض فيها وأنا في هذا اليوم الحزين.
بادرا، قبل أنْ تعود لنفْس الحوار:
دعك من الحقيقة والتغيرات والتحولات ..؟ نحن لا علاقة لنا بكل هذه المفاهيم أصلا. قولي لي، ما
هي أخبارك ؟ وأين أنت طوال هذه المدة ؟ كيف تخْتفين وتظهرين ذه الطريقة ؟
........
بقيت صامتة، لكنها تكشف عن ابتسامة ساخرة، وهي تحرك السكّر في فنجان قهوا.
سحبت حقيبتها اليدوية، وتناولت منها صورة مدتها إليّ.
كن ت لا زل ت قد تذوقْ ت الرشفة الأولى من كأسي .. أشعلْ ت سيجارتي وتناول ت الصورة من أناملها.
سألتها:
من هذه ؟
حاول أنْ تعرفها.
بطبيعة الحال لن أعرفها ... هذه بلباس انتحارية، ولا يخفى عليك أنْ لا علقة لنا كتونسيين ؤلاء.
تأمل ملامح وجهها.
قرب ت الصورة أكثر، ورح ت أفتش في كلّ الصور التي تحفظها الذاكرة.
كانت سيدة في الثلاثين من عمرها تقريبا أو يزيد بقليل، ترتدي لباسا أسود وخمارا يغطّي رأسها، وبين
يديها ورقة تتلوها أو تنشدها.. كانت تلف حول خصرها حزاما ناسفا، فهمت وفق كلّ التفاصيل أا
انتحارية .. نعم انتحارية تقرأ وصيتها، هكذا كما عودتنا الحركات الجهادية، وقد دار حوار بيني وبين
نفسي، هل هذه المرأة ستنفّّذ العملية بلباسها الفضفاض، أم بلباس آخر. وقد دخلت بوتقة التفكير
مشهد امرأة تنفّذ عملية انتحارية بلباس "بيكيني" على شاطئ مزدحم بالمصطافين من عرب وأجانب.
فجأة، توقّف ت عند الحدقات الملأى بالحزن والانكسار والقتامة. لكنني حين تأمل ت جيدا، رأي ت التحدي
ينب ت في تربة الحزن.
قل ت ل " لينا "، ولم أرفع بصري عن الصورة:
رأي ت هذه العيون ... نعم رأيتها .. أين .. أين ؟؟؟ لا أعرف أين .. أنا متأكد أنني رأيتها.
( وهي تشرب قهوا دوء ) حاول أنْ تعرف.. إنْ كنت متأكدا.
رفع ت بصري على "لينا"... تسمرت عيوني في ملامحها، وعد ت مسرعا ببصري إلى الصورة ... ثمّ
إلى عيوا..
وكأني اكتشفْ ت قانون الجاذبية مرة أخرى.وهمم ت بالكلام، لكن " لينا "سبقتني:
إا أختي .. ماجدة .
شعر ت أنني دخلْ ت في بوتقة من الفوضى والارتباك، ولم أفهم أي معنى لهذه الصورة.. هل هي
صورة عادية، أم .... وقل ت :
لينا .. وضحي لي المسألة ... لم أفهم .
( وهي تحاول دون جدوى منع دموعها من التدحرج إلى خدها البرتقاليّ )
أشعلت سيجارة بغضب حاولت أنْ تخفيه وقالت:
هل نغادر ؟
ما زلنا لم نتحدثْ بعد... ثمّ إلى أين ؟ أنا جئ ت إلى العاصمة في زيارة خاطفة، وسأعود إلى
مدينتي في نفس اليوم
أحتاجك الليلة.. أريدك بجانبي كامل هذا اليوم... أنا في حالة نفسية يرثى لها، وأحتاج صديقا
بجانبي.
لا يمكنني أن أبيت هذه الليلة وحيدة.
وهل تقطنين بمفْردك ؟
صديقتي الفلسطينية في تربص، وقد تغيب لمدة ثلاثة أيام.
كما تشائين .
لم يكن بإمكاني أنْ أرفض طلبها ... كن ت موقنا أنني لو رفض ت لانفجرت بالبكاء.. أو فقدت وعيها ..
ربما تقْدم على الانتحار.
كانت وهي تلْتمس بقائي معها، كنبتة عباد الشمس تلْتمس بزوغ الشمس.. كنورس يلتمس انفراج
الأشرعة للريح، ليكتمل المشهد.
هي كعادا دائما حساسة جدا وسريعة البكاء، ولا تتحمل أصغر المواقف المحرجة أو الاستفزازية، فما
بالك وهي تحكي عن أختها التي ووفق تخميني ستنفذ عملية انتحارية أو ربما أقدمت عليها.
في المرات القليلة التي جالستها فيها، يسهل علي أنْ أنتبه لرقتها وبساطتها وقدرا على أنْ تبسط
المواضيع الأكثر تعقيدا بلغة بسيطة جدا.
كنت دائما أتساءل في سري عن العلاقة التي تجمع بساطة منطقها بتعقيد قضيتها.
" لينا " لا تحتاج فلسفة التنوير ولا أدبيات الشعراء والفلاسفة ولا قرارات الأمم المتحدة وترهات
الجامعة العربية والرؤساء والزعماء... هي لا تحتج لأي من هؤلاء لتتحدث عن الإرهاب أو العدالة أو
الجوع الفلسطيني..
وتراها ت مع ذلك مقنعة بذلك الأسلوب البسيط ... غير أا إذا جرحت تصبح قادرة حتى على
استعمال كرسي المقهى لتؤدب الآخر أو توقفه عند حده.
وكن ت شاهدا على موقف مماثل في لقاء سابق معها يصحبنا رسام فلسطيني مقيم في تونس، حين حاول
طالب ينتمي لحركة فتح أنْ يدفعها لتغيير مقر سكناها والابتعاد عن صديقتها التي يشاع أا تنتمي
لحركة حماس.
وحين اشتد الحوار بينهما،ونحن نجلس على الكراسي الإسمنتية بالمركز الثقافي الجامعي حاولت أنْ
تضربه بمحفظة أحد الطلبة، لكنه تمكّن من أنء يمسك بيدها ويمنعها من إصابته، فتناولت كأس الشاي
الذي أمامي وألقته في وجهه بعنف لا مثيل له.
تدخل الطلبة لتهدئة الخواطر، فيما أمسك ت لينا وأبعدا عن المكان كي دأ قليلا.
طبيعتها المزاجية، تدفعها لأنْ تغضب بسرعة وعنف، ودأ بسرعة أيضا كموجة ساكنة آخر ليل
صيفي.
الفصل الثاني
من بغداد إلى دمشق
بعد تجربة السجن، تسلل أبو مصعب عبر الحدود إلى سورية. وانضم هناك إلى مجموعة جهادية
تقود المقاومة من دمشق.
وفي مقهى بمنطقة "المزة"، كان يجالس أبو وليد المصري منتبها إلى تحْليلاته ومواقفه من الوضع
الميداني في العراق، وجغرافية التحركات العسكرية وأولويات المرحلة وخطورا.
لا زال أبو وليد المصري ينبه:
سنترك بعقوبة وبغداد إلى مرحلة أخرى ... الآن سنوجه أسلحتنا إلى الشمال الكردي، حيث بدأت
تظهر بوادر سيطرة الأكراد على مدخرات البلاد . وهذا سيدعم مفهوم الفيدرالية.
طبعا تدرك أنّ هذا التقْسيم شيعي سني كردي، سيفتت الوطن ويجعله لقمة سائغة في فم المخططات
الصهيونية والأمريكية، إضافة إلى أنّ هذا التوجه، سيدخل البلاد في دوامة من العنف والحرب الأهلية
التي ستأتي على الأخضر واليابس.
ما المطلوب عمليا؟
بعض أصدقائنا الخلّص من قرية "شيخ الحديد" السورية التابعة لقضاء "عفرين"، سيصلون بعد
يومين، وهم الذين سيتكفّلون بإدخالك إلى العراق عبر الحدود.
لا تخف... الأوضاع مرتبة على أحسن ما يرام.
وبعد...؟
وبعد .. المهم الآن وقبل اجتيازك للحدود، عليك بالحيطة والانتباه. المنطقة تعج باُلمخبرين
والمخابرات السورية. وحتى أعين الحكومة العراقية التي ترصد تحركات المقاومة في دمشق، كما في
عدة عواصم عربية أخرى حيث تكثر الجالية العراقية ...
حاول ما استطعت أنْ لا تحْتك بأحد، حتى العراقيين الذين تصادفهم.. مفهوم ؟ هذا أمر.
( وزع بصره على الشارع بحذر )
وبعد دخولك للعراق، تلْتحق بمدينة الموصل شمالا. وهنا ينتهي دوري.
وبعد...؟
ماذا سأفعل في الموصل؟ بمن سأتصل؟
أنا ينتهي دوري هنا... الرفاق الذين سيقودونك إلى الحدود، سيفسرون لك المهمة، وسيمدونك ببقية
المعلومات عن رفاقنا هناك.
أكمل ما بقي من"يانسون" بكأسه، وهو يوزع بصره على المارة والجدران والسيارات، بارتباك لا
مثيل له.
وأكمل:
تدرك أنّ الوضع الآن أكثر خطورة من قبل. كلما تأخرنا يوما، ازدادت أقدام العدو ثباتا، وكثرت
الأعين والجواسيس، وأصبحنا أكثر عرضة لل ملاحقة والتصفية.
أعتقد يا أبا وليد، أنّ المقاومة ازدادت صلابة..
( قاطعني ) هذا صحيح... لكن الخلايا والتنظيمات تضاعفت عشرات المرات. حتى أصبح من غير
الممكن معرفتها وحصرها، فما بالك بانتماءاا وإيديولوجياا . حتى أنّ بعض التنظيمات أسستها
أطراف في الحكومة العراقية لاستقطاب المقاومين، بغرض استيعام وكشفهم، واَستعمالهم لأغراض
سياسية أو تصفية خصومهم.
أحذّرك مرة أخرى ... حاول ما استطعت التقيد بالأوامر والتوجهات، ولا تحاول الاجتهاد ... أنت
تعرف القاعدة : من يخطئ أول مرة، قد يكون أخطأ المرة الأخيرة.
بحول الله ستكون الأمور بخير.
علي بالانصراف ... وعليك بانتظار التعليمات.
وقف أبو الوليد، وقد مسح الشارع ببصره ... ثمّ انصرف، وقد ذاب في الطريق الممتد.
انتصب ت... و لس ت مطالبا بالانتباه، كوني لا أعرف الفرق بين المواطنين واُلمخبرين والجواسيس.
كد ت أقتنع أنْ لا أحد يعرفني هنا، غير أنّ تحذيرات أبي الوليد جعلتني أشك في كلّ النظرات والوجوه
والأشخاص.
كلّ سيارة تتوقّف أو تمر، أخالها تراقبني... كلّ من ينظر نحوي، أشك في نزاهته... كلّ من يمشي
خلفي، أتصور أنه يتبعني... حتى بت أخاف من ظلي...
دخلْ ت شقّتي اُلمجهزة بأثاث قديم متواضع، حضرها لي أبو وليد المصري. متسائلا بيني وبين
نفسي، عن أهمية "المزة" ولماذا هذا الحي تحديدا؟
شقّة بحي عتق تعبق برائحة التاريخ والرطوبة... حين دخلتها صفعتني رائحة التربة والطحلب
العالق بالسقف والجدران. حتى استحال اللون الأبيض إلى رمادي مزجته الرطوبة بالأخضر العاب
بالتاريخ.
ألْقي ت بجسدي اُلمنهك على سرير متهالك، يئن من وطأة الزمن والصدإ.
فيما لمحْ ت جهاز راديو ومجلّة "نيوزويك" بالغة العربية... شغلت الراديو على الإذاعة السورية، وهي
تبثّ اليل السياسيين والمثقّفين بالنصر الذي حقّقه حزب الله في الجنوب على الإسرائيليين.
وأثنوا على الدور السوري حكومة وشعبا في دعم المقاومة والوقوف مع الحقوق العربية وقضاياها.
بقي ت منتبها إلى جعجعام، حتى أطلّت مذيعة بصوا الأنثوي، مقْترحة على المستمعين الأحرار
أغنية للسيدة "فيروز":
بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
بتسألْ شوبني وشو اللي ما بني
بحبك يا لبنان يا وطني
كانت روحي تحلّق مع صوت سيدة الشرق، وعيوني تسرح في عناوين مجلة "النيوزويك"، حول العراق
والفياغرا والفياتنام.
المضحك، وأنا أستعد لرحلة في اهول، بين الحرب والتقتيل والتشريد... تراني أقرأ دراسة عن إنقاذ
الحيوانات بواسطة والفياغرا.
وللمرة الأولى، أنتبه إلى مسألة غاية في الخطورة والأهمية، وربما هي كذلك. وربما رغبتي في النقمة
واستحضار ما حصل لي في سجن أبو غريب مع اندات الأمريكيات، هو الذي دفعني للاعتقاد في ذلك.
بنفْس الدراسة عن والفياغرا، يقول كاتب أمريكي:
"إنّ نصف الرجال الأمريكيين، من فئة أعمار الأربعين إلى السبعين عاما، يعانون درجة ما من الضعف
الجنسي"
أولاد القحبة... كلّ هذا التدمير والخراب والفوضى في أوطاننا، لأم أقلّ قدرة جنسية منا..
اعتذر ت عن الموقف، مغيرا وجهي جهة إطار قرب النافذة يحتفظ بصورة قديمة لشخص عربي لم
أتعرفْه. لكنني خمّن ت أنه صاحب المترل أو ربما شخصية أدبية أو فنية...
فلو كانت شخصية سياسية، لعرفْتها على الفور، ولماذا لا أعرفها ؟ فشخصياتنا السياسية تعد على أصابع
اليد الواحدة ... كلّ دولنا حكمها حاكم أو إثنان منذ استقلالها . فيما لا يزال الراديو يذيع ترهات
حزب البعث، وإنجازات القائد الفذّ ... شعر ت بالجوع . فاتجه ت نحو المطبخ، وهو عبارة عن غرفة
ضيقة، تتوفّر على بعض الأواني المعلّقة والمرصوفة على الأرض .
وثلاجة ضخمة لا علاقة لها بالمكان.
هذا البيت العتيق الآيل للسقوط، ما كان يخطر ببالي أنّ أجد به ثلاجة أو أي نوع من الأثاث
الإلكترونيّ.
... فتحتها، فكانت محشوة بكل أنواع الغلال والفواكه والبيض. خمّن ت أا من ترتيب أبي الوليد.
كانت الساعة حينها، قد قاربت على الثامنة ليلا، وبدأ الظلام يمد أذرعه على المنطقة . فيما شرع النوم
يغازل أطرافي ويأخذني التعب إلى الخلود... تمدد ت على السرير منهكا ُأكمل قضم تفاحة لا زالت بين
أصابعي، ولا زال الراديو يتحدث عن الإنجازات... فكد ت أختنق من الكذب والنفاق. وكأنّ القناة
السورية هي نفسها العراقية أيام الحاكم المخلوع ..هي نفسها مع حكامنا العرب أجمعين.
غير ت الموجة في اتجاه القاهرة، فاعترضتني المذيعة بصوت مصري مائع، يخبر اُلمستمعين الكرام أنّ
موعدهم الليلة كالعادة مع كوكب الشرق في أغنية "إنت عمري".
يااااا ه .... كلّ حروبنا وهزائمنا كانت هذه السيدة شاهدة عليها، وساهمت بنفْسها في تعاستنا
وتخديرنا.
ياااا ه .... لا زل ت أذكر كيف كان الكثير من العراقيين يربطون هزيمة الجيوش العربية بكوكب
الشرق. وأا حينما كانت تغني، يغيب الناس والساسة والجنود عن وعيهم، فيما كانت القوات
الإسرائيلية تعمل فينا معاولها وفؤوسها .
حتى أنّ جنرالا في الجيش العراقي السابق، كان يقْسم بشرفه أنه لو كان مصريا لطالب بمحاكمة
السيدة أم كلثوم. ولو بقي هذا الجنرال حيا لعرف أنّ هزائمنا ما زالت متواصلة ودون أم كلثوم...
انتهت حروبنا، وبقيت كوكب الشرق.. انتهت حروبنا، وبقي حكامنا .. انتهت حروبنا، ونحن بخير...
لغّ السيد القابع في الإطار القديم اُلمعلّق جهة النافذة:
ومن قال لك إنّ حروبنا انتهت ؟
ارتعدت فرائسي، وانتفض ت كطائر الفينيق مجيبا:
أقصد الحروب القديمة ...بعض الحروب العربية مع أعدائنا اليهود.
( مزمجرا ) ليست هناك حروب قديمة... حروبكم جديدة ومتجددة.
كيف ستدخل محاربا إلى العراق، وأنت لا تعرف لمن ستوجه سلاحك، ومن هو عدوك ؟
سلاحي أوجهه للعدو.
( زمجر وصاح هائجا، ملوحا بعصاه يضرب ا على الجدار )
أي عدو ؟ وهل تعرف كم عدد أعدائك ؟ وهل أنت عدو غيرك أم عدو نفسك ؟
وشرع يضرب الحائط غاضبا ... ضربا متتاليا كطرق الباب.
صارت الطَّرقات متتالية وعنيفة، حتى اختفى وجهه وعصاه، وصر ت أسمع طرق الباب بوضوح ... باب
الشقّة.
انتفض ت كعقرب حركوا بيتها، وكن ت ممددا بملابسي... رفع ت بصري جهة الإطار فإذا الشيخ لا يزال
في مكانه، والراديو لا يزال يذيع أغنية "إنت عمري".
فكّر ت لحظتها في الخطر الداهم ... لا أحد يعرفني هنا.
إذن من الطارق ؟ البوليس السياسي ؟ الجواسيس ؟ أم...؟
فكّر ت في الهروب، لكن إلى أين ؟ ومن أين المفر؟
... الطرق لا يزال متواصلا...
هل يكون أحد رفاقنا من "شيخ الحديد"؟
لكن أبا الوليد قال إم سيأتون بعد يومين.
ما المسألة إذن ؟
من الطارق في هذا الوقت اُلمتأخر ؟
من الطارق ؟
قلتها بصوت مرتفع، ملء الارتباك والريبة والخوف.
.......
( لم يجب، وعاود الطرق بأكثر عنف )
( قرب ت حواسي أكثر للباب ) من الطارق ؟
( مس ) إيراد الحاج... الصحفي إيراد الحاج.
إيراد الحا...
آه... إيراد الحاج... حالا.
فتح ت الباب وقد أقصي ت الشك والريبة، دون أنْ أنتبه إلى كونه ربما ينتمي إلى المخابرات
السورية أو إحدى العيون المبثوثة في شوارع دمشق. فقد كان يعمل في العراق، ولعلّ ذلك يسهل تجنيده،
أو استقطابه. فالمال لوحده كفيل ببيع الذمم.
فتح ت الباب، فارتمى إيراد دون انتباه وأوصد الباب بسرعة وريبة ... رفع غطاءً كان يلف به وجهه،
وارتمى في عنقي مقبلا، كغريق صادف زورقا، وقال:
أعذرني على هذا الارتباك ... الأمور لم تكن مرتبة كما ينبغي ... في نفس الوقت كان من الضروري
أنْ ألتقيك. المسألة على غاية من الخطورة. أي تأخير قد يتسبب في كارثة.
هل ثمّة من يراقبك؟
لا ... لا تخف الأمور ستكون جيدة إذا أسرعنا في التحرك.
اتجه داخل الغرفة، وجلس على طرف السرير... فتح أزرار معطفه، كأنه يهرب من الاختناق، وأكمل:
أسكت صوت الراديو، واستمع إلى ما سأقول.
اتّجه ت نحو الراديو ُأخمد أنفاسه، وعلّقْ ت وأنا أتناول سيجارة لأشعلها:
جعلْتني أشعر بالخوف والارتباك .
لا بد أنْ تغادر هذا المكان فورا، وقبل الصباح.
( ابتسم ت بمرارة ) أغادر المكان؟
إلى أين ؟ كيف أغادر المكان ؟ تعليمات أبي الوليد ال ..
( وتراجع ت عن إتمام اسمه حيطة لا غير )
أبو الوليد المصري.. أليس كذلك ؟
وهو كذلك .. وكيف عرفْت؟
لا يهم .. الأهم من ذلك أنّ أبو الوليد وقع في أيدي القوات السورية، كذلك مجموعته في قرية " شيخ
الحديد " وسيقع إيقاف بقية اموعة.
لا بد من اُلمغادرة ...
( داهمني الغثيان، ودارت رأسي حتى خلْتها سقطت حذْو حذائي، وألقي ت بجسدي على حافة السرير
بجانب إيراد )
كيف يتم ذلك ؟ أبو الوليد كان معي منذ ساعات.. كيف يحدث كلّ هذا في وقت قصير ؟ وبمثل هذه
الغرابة ؟
كلّ أسئلتك ليست مهمة الآن..المهم أنْ نغادر هذا المكان. وفور وصولنا بر الأمان سنتحدث في كلّ
التفاصيل.
لكن...
دون لكن .. لم يعد بالإمكان أنْ نضيع الوقت أكثر.
بأسرع من إطلاقة رصاصة، جمع ت أغراضي في حقيبة صغيرة .. رتبتها على كتفي، وانتصب ت جاهزا
للمغادرة . فيما رتب إيراد وجهه، وخرجنا مسرعين دون أنْ نحكم غلق الباب.
وأنا أركب سيارة فلاحية في اتجاه الضاحية الجنوبية للعاصمة دمشق، كنت استرجع شريط وصول
إيراد الحاج إلى غرفتي .
كأنّ الوعي حضر اللحظة، بعد أنْ حاصرتني الغيبوبة حين وصل وفتح ت له الباب.
ما راعني حقّا أنني تعقّلْ ت اسمه بسرعة لم أعهدها أنا الإنسان المورط في النسيان ... في إتلاف الأسماء
والأشياء .
عرفْته في بغداد حين أجرى معي تحقيقا عن ظروف اعتقالي بسجن "أبو غريب". بعد أنْ رتبت
مجموعة من المقاومين اللقاء بسرية تامة. هذا بغرض كشف الممارسات الأمريكية بذاك الماخور الذي
يسمى سجنا .
وإنْ كان لقائي به لمْ يتجاوز الساعة سرد ت له فيها بقيء لا مثيل له ما حصل لي بين تلك الجدران
اُلمحاطة بالخنازير إلا أني لم أتوقّع أنْ ألتقيه ثانية لا في بغداد ولا في أي مكان آخر.
بعد سنوات من السجن و التعذيب.. تعذيب العراقيين لإخوام وذلّ الأمريكيين لأعدائهم، ألقي بي في
أطراف مدينة بغداد، بعد أن فقدت الوعي لمدة فاقت الساعة. وخوفا ربما من وفاتي في السجن بعد
تسرب صور بواسطة الهواتف المحمولة من داخل السجن، وخوفا من تضاعف الأصوات المنددة بالتعذيب
و الإهانة و المذلة.
لم تكف سنة كاملة من الاعتكاف في غرفتي ألملم جراحي المبعثرة.. لم تكف لتزيل و لو لحظة واحدة
من تلك المعاناة الأشبه بصدإ على واجهة مرآة قديمة.
وفي بيت أحد الحقوقيين الذين ذاقوا ذرعا بطغيان حكم صدام حسين، التقيت بإيراد الحاج، وسكب ت له
ما ترسب في جهة الروح المشروخة من آلام و جراح لم تندمل إلى الآن.
ولولا علمي أنّ الصحافيّ ليس عراقيا، لرفض ت الحوار، لأنّ مليشيات الأحزاب قادرة على على تصفية
الخصوم وكلّ من يشكّك في عملية الانتقال الديمقراطي في العراق.
إنه إيراد الصحفي السوري العامل بصحيفة البعث السورية..ها أنه يحضر الآن، نعم ميزته من كلّ
الشخوص المبعثرة في ذاكرتي المثقوبة.
فلماذا يحضر الآن ؟ وكيف استحضر ت اسمه وميزته من بين كلّ الأسماء والأشياء ؟ ولماذا هو الآن هنا
؟هل هو عراقي بجنسية سورية ؟ أم هو سوري بانتماء عربي ؟
جالت بخاطري ملايين الأسئلة الحيرى، ولم أجد تفْسيرا لها... لا إجابة... مع ذلك لم ألق أمامه
حيرتي في انتظار ما سينكشف لاحقا.
الفصل الثالث
دموع البرتقال الفلسطيني
بغرفتها الموشاة بأعلام فلسطين، وخرائط التقسيم وصور القسام وعبد الناصر ودرويش وجيفارا،
وبيان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان... بغرفتها تلك وكانت لا تزال بلباسها الرجاليّ، وشالها
الفلسطيني تتحرك مرتبكة.
قدمت لي قهوة، وهي تفك ضفيرا وتسحب الشال من جيدها لتلْقيه بإهمال على السرير، وهي تقول:
دقيقة لأغير ملابسي.
واَنصرفت....
تناولْ ت علبة السجائر.. أشعل ت واحدة، واَنتصب ت ماسكا فنجان القهوة في اتجاه المادة الأولى من
الإعلان اُلمعلّق:
"يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق ( .. )"
ضحك ت... ثمّ أخمد ت ضحكتي لأحولها إلى سخرية صامتة بيني وبين نفسي. لم أفهم" الكرامة
والحقوق" ولم أفهم "لكلّ فرد الحق في الحياة"... وسخر ت من الإعلان، بدءا بديباجته وصولا إلى آخر
مادة فيه، وارتمي ت على السرير .
دخلت "لينا" تسبقها سيجارا اُلمشتعلة، ولباسها اُلمغري يكشف كامل تفاصيل جسدها.
ارتمت بجانبي.. قرب ت إليها المنفضة قليلا، وتناولت فنجان قهوتي مطأطئة بصمت، فيما توشك
سيجارا أنْ تنفجر.
قل ت:
لماذا كلّ هذا الحزن؟ ما المشكلة؟ وما حكاية الصورة التي أريتني إياها في مقهى باريس؟
حكي ت لك قصة عائلتي في مناسبة فارطة؟
أذكر ذلك في مناسبة بعيدة.
.. وتعلم أنّ أختي القاطنة مع أمي في مترل جدتي، هي من تبقّى من العائلة. وطبعا أنا وشقيقي
النازل ضيفا على السجون الإسرائيلية.
أذكر ذلك أيضا... وبعد؟
ألم تفهم؟
في الحقيقة.. في الحقيقة، لم أفهم قصدك.
( ابتسمت بسخرية، وهي تدس أنف سيجارا في المنفضة )
أختي "ماجدة" انضمت إلى حركة الجهاد الإسلامي، ونفّذت عملية انتحارية في حي تجاري.
وكيف تفعل ذلك ؟ لماذا هذه الرغبة اُلمفرطة في الانتحار؟
وهل تسمي العمليات الجهادية انتحارا؟
بطبيعة الحال...( تدارك ت ) في حالات دون غيرها.
( بغضب ) وما هذه الحالات ؟
العمليات التي لا تقدم شيئا لحركة النضال الوطني والإنساني، أعتبرها انتحارا.
المؤسف أنّ العملية لمْ تسفر إلا عن جرح ثلاثة مواطنين إسرائيليين.
( وتداركت بمعنويات مرتفعة ) لكن النتائج المعنوية والسياسية، أكبر من ذلك بكثير.
أي نتائج ؟ ( قلتها بسخرية )
هل هي ما نتج عن اتفاقيات أوسلو ؟ أم شرم الشيخ ؟ أم خارطة الطريق ؟ أم تكرش القادة
الفلسطينيين، واستئثارهم بالثروة، على حساب المواطنين الأبرياء والعاطلين واُلمشردين ؟
هل هذه نتائج ؟
نحن لا يهمنا الأوغاد، ولا السياسيين... فقط، منا القضية و الإنسان الفلسطيني.
غطّت وجهها بكفّيها، وانخرطت في هستيريا من البكاء . فيما بقي ت جامدا، وقد خانتني الكلمات
واللغة والقواميس... لم أجد فاتحة للكلام، ولا بما أوشح هذا المشهد الدرامي.
لا أعتقد أنّ أي لغة بإمكاا تشخيص المشهد أو رصده، ولا أي شاعر ولا أي كاتب. فقط، ربما الصم ت
خير معبر عما أعيشه.
مدد ت ذراعي اليسرى لأحتضنها، فطاوعتني ودست رأسها في صدري.
كمن يحتضن الخارطة ويحتضن الشرق، كن ت أتحسس أصابعي مخافة أنْ تحْترق. فيما لا تزال" لينا "
تترك العنان لدمعها كي ينهمر، ويسقي تربة جسدي.
لن ينبت جسدي غير العرق .. لن يثْمر البرتقال الفلسطيني ولا رمانه.. ولن تخْرج من مسام الجلد
أيادي لحمل السلاح أو حمل الحجر..
هذا الجسد العربي اُلملقى حذوك، ليس شيئا آخر غير طينة "أفسق فيها الوعي سنينا" وبات كمركب
حطّمته رياح الهبوب...
إذن، انتفضي لوحدك أيتها النجمة، وأضيئي حيث ما شئت، واَتركيني ألوك هزائمي واَنكساراتي
وعجزي .. ما أعظم قدراتنا الجنسية، وما أرخص وعينا وهممنا.
أخيرا، حركت جسدها ودست أصابعها في وجهها تمْسح دمعها .. رفعت رأسها، فاستحال وجهها بريقا
من الدمع والتورد والخوف.
لا تفْصل شفاهنا عن بعضها، غير إطلالة فراشة هاربة من الضوء ... قربنا شوقنا أكثر، وذبنا في
ملكوت الرغبة، فيما كانت يدي تفك أزرار تباا.
غير أنّ ارتماء بصري على الخرائط المعلّقة على الحائط، جعلني أتراجع مرتبكا، في اتجاه سيجارتي
علّها تحميني من اللّحظة الساخنة..
سحبت "لينا" جسدها وضت في اتجاه أشرطة الكاسات، محاولة تغيير الجو الخانق، وهي تشغل آلة
التسجيل:
سأسمعك أغنية من التراث الفلسطيني.
كيف حصلت على صورة " ماجدة " ؟
( ردت باقْتضاب ) من الأنترنات.
( باستغراب ) من تونس دخلْت إلى تلك المواقع؟
بالطبع...
لا أصدق
ولماذا؟
هذه مواقع لا يمكن النفاذ إليها... إا مواقع إرهابية ..
دعك من الخزعبلات... لن يحصل لي أكثر مما حصل. المهم... انزع عنك غرورك قليلا، وادخل معي
للمطبخ لنجهز العشاء... يكْفينا بكاء وشهداء.
( قل ت متهكّما ) وهل تحسنين الطبخ ؟
جرب، وسترى... وتماديا في التنكيل بك، سأطبخ لك أكلة فلسطينية، كانت أختي ماجدة تعشقها إلى
حد الجنون.
انتصبت واقفا في اتجاه أشرطة الكاسات، أختار واحدة تساعد على الخروج من هذا الجو
التعيس.وتعمد ت سحب الشريط الذي وضعته "لينا"، لكنها لم تعلّق.
قل ت :
نختار الموسيقى أولا ثمّ ألتحق بك.
كانت أشياء كثيرة أمامي، غير أني فضلْ ت " سيلين ديون " للخروج من الجو العربي المليء بالأحزان
والنقمة.فصدحت تلك السويسرية الرائعة:
J’ai compris tout les mots, j’ai bien compris merci
Raisonnable et nouveau, c’est ainsi par ici
Que les choses ont changé que les fleurs ont fanné
Que le temps d’avant, c’était le temps d’avant
………..
Pour que tu m’aimes encore
بصوت أقرب لانسياب الضباب فوق "فينيس" أو "لندن" ... أو بانسياب، كدخول الشمس إلى بوتقة
مظلمة.
فيما كن ت أساعدها على غسل الأواني لتجهيز العشاء، كانت لينا قد دخلت في جو مختلف كما كانت فيه
من الحزن والخوف والريبة، وكأنّ أعاني "سيلين ديون" قد فتحت لها في الآفاق وفي المطلق نوافذ على
الأمل والمستقبل.
كانت تسرد لي قصة عائلتها بابتسامة، أنا الوحيد الذي يعرف ماذا تخفيه:
حين تمّت تصفية والدي في لبنان بقلعة الشقيف، كنت لا زل ت صغيرة جدا لا أفقه في السياسة
والأحزاب والثورة عدا عائلتي الصغيرة في مترلنا القديم بحي عربي نزح أكثر من نصف سكانه تحت
ديدات الصهاينة واعتداءات المستوطنين اليهود.
ذات عيد توجهت أنا وأمي ولأختي ماجدة إلى المقبرة حيث ندفن كل أهالنا وأقاربنا. وكانت الزيارة
للترحم على بعض الشهداء من العائلة الموسعة.
أذكر وأنا في عمر لا يتجاوز الثانية عشر ربيعا، سأل ت أمي عن قبر والدي.
صمتت أمي برهة قصيرة، وطأطأت وهي جالسة حذو قبر أحد الأقارب، وأحسس ت أا ترغب في البكاء،
لكن دموعها ما طاوعتها ربما من فرط ما ذرفت.
علم ت منها حينها أنّ والدي دفن في لبنان على أيدي أحد التنظيمات اليسارية في مدينة صيدا . ولا
أحد من عائلتي يعرف ضريحه غير رفيقه أبو الفتح الذي عاد إلى غزة بعد اتفاقية أوسلو وقد طلّق
العمل السياسي إلى الأبد.
تدخل ت حينها، وقد توقّف ت عن إكمال غسل الصحون:
كيف يمكن لمناضل أنْ يتوقّف فجأة عن النضال والعمل التنظيمي؟
( وضعت لينا السكين الذي بيدها على فخذها الأيمن ) قطعت رجله وأصيب في الأخرى التي فقدت
قدرا عل الحركة. وقد حكى لي أبو الفتح أنه أصيب في انفجار سيارة مفخخة كانت تستهدف أحد
القادة الفلسطينيين.
وهو الآن مقعد يتنقل على عجلات. هذا إضافة إلى أنّ اغلب رفاقه وقع تصفيتهم، وظلّ البقية
يرفضون دخول فلسطين ما دامت تحت الاحتلال.
( بقيت صامتة بعض الوقت وهي تعالج ورقات من البقدونس، وحين أكملتها التفتت إليّ مكملة كلامها )
ألم تكمل غسل الصحون ؟
بلى أكملتها.
إذن...
( قاطعتها وكأنني أقصدها بالكلام )
لا أفهم كيف تستقيم الحياة في ظلّ كل هذا البؤس وهذه الأحزان، ولا أفهم كيف...
( قاطعتني بدورها لتجيب عن تساؤلي أو ربما لتسخر مني ) أنا لم أخبرك عن مترلنا الذي فجروه بما
فيه، بعد أنْ سمحوا لنا بجهد جهيد أنْ نخرج ما خف وزنه في عشر دقائق فقط.
( وقد حاولت أنْ تمنع دمعة تدحرجت على خدها ) حاول أنْ تتخيل كيف يفقد الإنسان بته في رمشة
عين... يفقد المكان الذي ولد فيه والذي رتب فيه أشياءه وأحلامه وذكرياته مع الغرف والجدران
ودالية العنب والشبابيك وسطح المترل الذي يشرف على حقول الزيتون التي فعلت فيها الجرافات ما
فعلت وحولتها إلى أرض بور.
هكذا في لحظات تجبر على أنْ تقتلع ذاكرتك من مكاا عنوة. وكان لا بد في مساحة العشر دقائق أنْ
أنقذ صورة والدي والقائد ياسر عرفات...
( تساءل ت بدهشة ) ياسر عرفات ؟؟؟
نعم...
أنا أعرف أنك لا تنتمين لحركة فتح.
ولو... ياسر عرفات يبقى قائدا وزعيما رغم الأخطاء . وها قد ذهب ياسر عرفات، ورأى العالم أي
دور كان يلعبه حتى وهو تحت الحصار تطوقه المدفعية الإسرائيلية.
( صمتت برهة ) لذلك ترى أنّ كلّ الفصائل الفلسطينية تحترمه حتى وهي تختلف معه.
أكملْنا الليلة بين الفن والشعر والذكريات المؤلمة ... لمْ نتحدثْ مطلقا عن الفرح، غير ما صدحت به
الأغاني .
وحتى الأغاني التي كانت تؤنسنا،أغلبها لفنانين غالبوا الوقْت حتى كاد يغلبهم .
استمعنا إلى مرسال خليفة والشيخ الضرير وفيروز، وأحيانا "سيلين ديون" و
"جون ميشال جار"... كانت الليلة مزيجا من الأحزان والفوضى والبكاء، إلى آخر ساعات الليل. ولم
تغب "ماجدة" عن حديثنا، بل كانت كلّ الحديث.
حكت "لينا"، وكن ت ممددا فوق السرير على ظهري:
لم يكن أحد يتوقّع أنْ تقْدم "ماجدة" على تلك العملية... لا أحد صدقها ..
"ماجدة" أختي، تبدو مستهترة وفوضوية. ومنذ أنْ أكملت تعليمها واشتغلت ممرضة، لمْ تعد تم بغير
مظهرها وأناقتها، وكأا لا ترى الجرحى والموتى والكوارث التي تصلها يوميا إلى المستشفى.
يعني نقْصي فرضية الفقر من الأسباب اُلمؤدية إلى الإرهاب.
( بغضب ) أما زلت تقول إرهابا ؟
لينا ..هذا كلامهم.نحن نعرف ماذا تسمى هذه العمليات ... لا عليك أكملي.
الغريب أنّ أختي "ماجدة"، لمْ تلبس الخمار ولم تدمن الصلاة... فهي لا تصلّي أصلا. لهذا صدمتني
صورة "ماجدة" المنشورة على الأنترنات ..صورا وهي متحجبة.
إذن، نقْصي فرضية كون الانتماء الديني هو الذي يؤدي إلى القيام ذه العمليات.
وبعد .....
وبعد ....( قالتها بتأفف ونقْمة، ثمّ تمددت بجانبي ) اتضح أا انضمت إلى حركة الجهاد الإسلامي.
وبعد، نفّذت ماجدة العملية، وقد تركت وصيتها مسجلة، ونشرت على الأنترنات بموقع حركة الجهاد
الإسلامي.
وكالعادة.. هبت القوات الإسرائيلية لتفْتيش المترل وإخراج أمي وجدتي، ثمّ فجروه بما فيه.
لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأين استقرتا ؟
.... ( تجاهلت سؤالي ) ....
وطبعا، نددت السلطة الفلسطينية بالعملية وشجبتها، معتبرة إياها استهدافا للأبرياء العزل ولا ننسى
أنّ بقية الأنظمة س ..
لمْ أكمل كلامي .. ف "لينا" انخرطت في النوم دون استئذان.
المسكينة، بكت كثيرا هذه الليلة، وليس بوسع أحد غيرها أنْ يتحمل كلّ هذه الكوارث.
كانت منطوية بجانبي، تدس رأسها في كتفي كعصفورة تبحث عن الدفء... مسح ت على شعرها وخدها،
ثمّ دثّرا مستحضرا أغنية فيروز:
يالا تنام ريما يالا يجيها النوم
يالا تحب الصلا يالا تحب الصوم
يالا تجيها العوافي كلّ يوم بيوم
صباحا، كانت الساعة تشير إلى السابعة. و"لينا" ما زالت ممددة كنهر قبل الشروق. تسلّل ت خلسة
لأكتب لها ورقة، ضمنتها هاتفي الجوال وعنواني، وخرج ت.
كانت العاصمة ما زالت لم تدب الحياة فيها... وفي اتجاه نزل أفريكا بشارع بورقيبة، اعترضتني
سيدة يبدو من ملامحها أا مومس، أكملت مهمتها الهادفة هذا الصباح، أو أطردها أحدهم بعد أنْ نهل
من لحمها الغض.
رائحة الخمر ما زالت تعبق، رغم محاولة عطرها الصارخ أنْ يسترها ويستر رطانتها. قالت وهي تحاول
أنْ تستوقفني:
صباح الخير
صباح الخير
ودون أنْ أتوقّف أو أترك لها فرصة أنْ تضيف، واصل ت سيري غير مبال،مقارنا بين سيدة في
فلسطين تنفجر من أجل قضاياها، وأخرى في تونس تنفرج من أجل الدولار أو من أجل شهوا.
وحدثْ ولا حرج عن الطالبات ونساء الترل والأحياء الراقية والمومسات اُلمنتشرات في المقاهي
والفضاءات العمومية والطرقات أينما سرت.
اقْتني ت صحيفة تونسية وعلبة سجائر، ودخل ت مقهى"أفريكا".
عدد الرواد لا يزيد عن العشرة، والنادل يتنقّل بأناقة تسبقه ابتسامة ما عهدا عند نادل.
المكان يعطي انطباعا بالراحة والهدوء. وبعيدا عن أعين تعرفك أو تعرفها . لا أحد من أصدقائي أو
رفاقي يعرفني أرتاد هذا المكان، ولم أدخلْه إلا مرة واحدة مع صديق شاعر تعرفت عليه في زحمة
الحراك الثقافي التونسي الراكد كالمياه الآسنة.
فور جلوسي، وصل النادل مبتسما:
صباح الخير.
صباح الخير... "إكسبراس" من فضلك.
حاضر.
فتح ت الصحيفة على أخبار عهدا... ولا شيء تحت الشمس . لا أذكر أني قرأ ت خبرا مهما
بصحيفة تونسية، عدى أخبار الرياضة.
فيما سحب ت سيجارة لأشعلها، وصل النادل... رتب القهوة بأناقة وانصرف. فيما أكمل ت تصفّح الجريدة
مدججا بالنقمة والكره:
صفحة الغلاف تتصدرها صورة رئيس الجمهورية وثلاث صور اختيرت من مقابلات كرة القدم، وأخرى
صورة ُلمصاب فلسطيني من بيت حانون ( هكذا قالوا ).
فيما تحضر صورة صدام حسين أسفل الصفحة متبوعة بنبوءة منجم مغربي: "صدام سيموت مسموما
بأياد أمريكية".
وفهم ت أنْ لا شيء يستحق الاهتمام، في صحيفة كغيرها من الصحف الملأى بخزعبلات السياسيين
وانجازام التاريخية وصور كرة القدم وأخبار النجوم والمنجمين.
كن ت أردد دائما أنّ الخبر الصحيح الوحيد في صحافتنا التونسية، هو أخبار الموتى.
فتحت الصحيفة على افتتاحيتها بقلم رئيس التحرير، يمجد و يبارك و يدعو لفخامته بطول العمر
ولحرمه المصون، داعيا إياه إلى الترشح لانتخابات الرئاسية القادمة، دون أن ينسى التنديد "بالغربان
الناعقة" من الحقوقيين والنقابيين الذين لا يريدون الخير لهذا البلد.
شرع ت أتصفّح الورقات دون اهتمام، حتى أدرك ت خبرا عن الندوة الفكرية التي عقدها أحد الوزراء،
ملخصها "تونس توفقت لأنْ تساير جملة التغيرات الإقليمية والدولية"
عندها ألقيت الصحيفة جانبا، وقد مثلت أمامي مواقف الزعيم بورقيبة و ريادته في اتخاذ القرارات
الصائبة.
كيف اختار ذلك الزعيم أنْ يساند الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وكيف كان قادرا على التنبؤ
زيمة المحور.
تذكّر ت موقفه من الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، وكيف طالب العرب بقبول قرار التقسيم الذي
فرضته الأمم المتحدة، ورفضه العرب جميعا. ورغم الاامات المختلفة بالخيانة والازامية، إلا أنّ
التاريخ أثبت صحة مواقفه من الأحداث.
الغريب أنّ كلّ الرؤساء، يدعون الحكمة والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ودعم قضايا الشعوب
و..
تخيل ت طفلا منحه الخالق قدرة المعرفة والكلام منذ يومه الأول، وتمّ وضعه في قاعة ملأى بالشاشات
التي تبثّ قنوات عربية مختلفة.. طبعا سينتشي هذا الطفل، ويقف مهللا بجمال هذا العالم... إا
الجنة... سيعتقد لا محالة أنه ولد في الجنة على خلاف خلق الله جميعا.
كلّ الأمور على ما يرام: حكامنا وشعوبنا ولا شيء يقلق راحة هذا المواطن العربي عدى أنّ دولته لا
مشكلة لها.
أفقْ ت من حلم اليقظة على النادل يفتح جهاز التلفاز، على قناة الجزيرة القطرية، حيث ينقل
مراسلها من طهران آخر أخبار الجدل القائم بين إيران والغرب حول الملف النووي.
حين أكمل، اتصل معد البرنامج هاتفيا بمحلل سياسي عربي يدافع عن إيران، معتبرا إياها منقذ الأمة
من أعدائها. كان يدافع بحماس من يدافع عن أمه وهي تغتصب.
لحظتها جالت بخاطري فوضى من الأحداث والمواقف والتحاليل، لم أستطع ترتيبها:
مثلت الفتنة الكبرى والحسن والحسين وعلي وعائشة وعثمان وقتل الصحابة غدرا أو ردة...
حضرت حضارة الفرس وتاريخ الشيعة والشاه والحرب العراقية الإيرانية...
حضرت الأحياء والمدن الشيعية في العراق، وحضر حزب الله وحسن نصر الله والخميني..
حضرت "طنب الكبرى" و "طنب الصغرى" و "أبو موسى"...
حضر سليمان رشدي وفتوى الخميني بقتله...
تأمل ت ذلك المحلل الأنيق بربطة عنق أمريكية، وبدلة أنيقة من محلات باريس الفاخرة، مضافا
إليها لباقته وقدرته على اُلمناورة بلهجة عربية منمقة بكلمات إنجليزية ليكتمل مشهد المثقّف العضوي.
تأمل ت ... وكد ت أصفعه بمنفضة السجائر التي أمامي... غير أني تراجع ت، مشفقا عليه وعلى المستمعين
الكرام:
أحدهم بزي شيوعي اهترأ، ولفّه الصدأ، لا زال يلوك خطابات لينين وماركس وتروتسكي وبيانات
الحزب الشيوعي، ويحلف بماو ويعظّم فيدال كاسترو...
أحدهم بزي القوميين العسكرية، يزور قبر عبد الناصر أو يغرق في ترهات عصمت سيف الدولة أو
يتباهى بنظريات ميشال عفلق...
أحدهم بجبة عثمان، ولحية عمر عبد الرحمان، يخطب في الناس زورا وتانا، و يدافع عن تعدد النساء
وزواج المتعة، وينادي بالخلافة السادسة...ولا خلافة ولا هم يخلفون.
ومن تبقّى فشعارهم عاش الملك، مات الملك: مرة في خانة الأمريكيين الأحرار، وأخرى مع التطبيع
وضم دولة اليهود إلى الجامعة العربية، وطورا في حضيرة السلطة، يتمعشون من لحمها الغض، قبل أنْ
تسقط بموت الملك أو بالانقلاب عليه . لينقلبوا كما انقلبوا، وكأنّ شيئا لم يكن.
تذكّر ت أحدهم، لا أستحضره ربما أحد المعتوهين أو العاقلين، وهو يقول:
أنا أنتمي إلى "حزب الديك".
وما حزب الديك ؟
أنْ تأكل وتشرب وتتدرب على كره الوطن.
( أجب ت مستغربا ) وهل كره الوطن يستحق الدربة ؟
بالطبع... مثلما تتدرب على حب امرأة، تساعد نفسك وقلبك على أنْ تحبها أو تتقرب منها. بالمثل
تتدرب على كره الوطن... بمعنى، تساعد نفسك وقلبك على أنْ تكرهه وتبتعد عنه.
بصراحة لا أعرف أحدا يكره الوطن. قد يكره الساسة أو الوضع العام أو أي شيء... لكن الوطن
مقدس .
( ساخرا ) الوطن الذي أعنيه أنا ليس الوطن الذي فهمته.لذلك أنا أنتمي
"لحزب الديك" الذي له مفهوم خاص للوطن...
لم يترك ليَ النادل أنْ أستحضر بقية الحوار، حين اقترب من الطاولة يرفع فنجان بعد أنْ نفذت
قهوتي .
انتصب ت واقفا .. ناولْته ثمن المشروب، وانصرفْ ت دون أنْ أنتبه أنني نسي ت الجريدة سهوا أو متعمدا.
الفصل الرابع
سقوط النجمة
للمرة الأولى أض على الاستثناء .. للمرة الأولى أنا لس ت أنا، ولس ت تلك الفتاة التي تنعم بالبذخ
الرأسماليّ والرفاهية.
لمْ أجد السرير لينا كعادته، ولا وسادتي الحريرية، ولا الحاسوب الذي لا يفارق غرفتي، ولا ألمعلّقات
النحاسية والتحف التي يهدنيها أبي.
للمرة الأولى لا أفيق على صوت " فاطمة "... تبصبص قرب سريري، تنتظر أنْ أمنحها فطورها
الصباحي.
هكذا كن ت أسمي كلبتي "فاطمة"، كّما على العرب والمسلمين الوسخين. و"فاطمة" من فصيلة ألمانية
نادرة، كادت تنقرض عقب الحرب العالمية الثانية. جلبتها معي من "بلون" الألمانية، في إحدى زياراتي
لبعض أهلنا هناك.
للمرة الأولى لا أسمع صوت "نارمين" عبر الهاتف أو رسالتها التي أتلقّاها بالبريد الالكتروني.
للمرة الأولى أصطدم بالمكان مرتبكة، وأنا أض كمن يحمل حائط المبكى.. أو أحاول أنْ أض مقيدة
اليدين والساقين، ملقاة حذو أكياس أجهل كنهها وحمولتها.
أرى السقف يشبه لون علبة صفيح، يوشك أنْ يطبق على أنفاسي... يوشك أنْ يسقط . حتى أنني أحرك
جسدي بحذر لا مثيل له، منتبهة إلى منعرجاته ونتوءاته . علّ حركة عنيفة واحدة، تساعده على
السقوط، فيدهس جسدي.
بنفْس المكان، وأنا ملقاة كغيري من الأكياس تماما... لا شيء يساعدني على معرفة المكان. فالأكياس
موجودة في كلّ المدن والقرى، وبأي مكان في العالم. ولا شيء غير بعض الأدوات الفلاحية البدائية،
تذكّرني بالعرب في القرى الفلسطينية.
آه ... تذكّر ت ... ربما في قرية من ُ قرى البلد الذي وصلْ ت إليه منذ ما يزيد عن الشهرين. قل ت ربما...
وفي الحقيقة أنا مرهقة إلى درجة أنني لم أعد أتذكّر شيئا.
أحاول أنْ أحرك رأسي بعنف كي أنفض الذاكرة من طحلبها، علّي أستحضر شيئا أو أنتبه لسبب وجودي
ذا المكان اُلمقرف..في ذات الوقت أحاول أن لا ُأزعج السقف كي لا يسقط.
... أمسح المكان ببصري، علّي أعثر على ما به أتعرف على المكان.. جدران طينية تغلّفها الرطوبة
والعناكب وحشرات لا عهد لي ا.
وبسرعة استقر بصري على أعمدة خشبية تشد السقف كي لا يسقط. وبالكاد يتسع المكان لسيارة، لولا
هذه الأكياس المرصوفة خلفي.
وأنا أرى الأعمدة الخشبية، أتخيل فأرا يتسلّقها ويقضمها مبتسما أو ساخرا من جلستي أو من
قيودي... ينهش العمود ولا يخلّف فضلاته. إنه يلْتهم العمود وينتفخ... يقضم العمود وينتفخ، حتى
صار الفأر ختريرا.
أنا أستغرب كيف استطاع العمود الأخير أنْ يتحمل وزن فأر بحجم خترير . مع ذلك أكمل الفأر العمود
الأخير، حتى صار كبغل، أوشك أنْ ينفجر... والسقف أوشك أنْ يسقط...
أوشك أن ينفجر... أوشك أن يسقط ...
انكسر بصري إلى الأرض، وقلّص ت جسدي، فأنا ميتة لا محالة.
ُ فتح الباب، فصات صديدا ولم تدخل الشمس. ربما هو الليل أو ربما من فَتح الباب سد على الشمس
مداخلها.
دخل ثلاثة رجال ملثّمين، يرتدون أزياء شبه عسكرية. تقدم أحدهم تسبقه فوهة مدفعه الرشاش،
فيما بقي زملاؤه قرب خد الباب.ولا أعرف إنْ كان عددهم يفوق الثلاثة..من يدري ربما كان المستودع
محاصرا بمجموعة من الإرهابيين.
تقدم أحدهم بمشية ثابتة متوازنة، وعيناه تبرقان بحدة عيون الصقْر. جعلتني أخمّن أنه شاب لم
يتجاوز الأربعين.
سألني بصوت جهوري هز به أركان المستودع، حتى خلته يسقط:
هل تتكلّمين العربية ؟
لهجته العراقية جعلتني أحدد موقعي... نعم أنا الآن في العراق... في بغداد تحديدا، و متأكّدة أنني
دخلْ ت بغداد. نعم آخر صورة بقيت عالقة بذهني هو مروري بالجسر على سيارة سخرت من أجلي. أذكر
أنّ السيارة توقّفت بسبب عطب مفاجئ، وأذكر أنّ أحد المارة تقدم لمساعدتي... وأذكر...
أذكر ماذا ؟ لا شيء . فقط أذكر أنّ أحد المارة عرض علي مساعدته، ولا شيء بعد ذلك.
إذن لماذا أنا هنا ؟ هل لا زل ت في بغداد ؟ أم تمّ نقْلي إلى جهة غير معلومة ؟
ارتعدت فرائصي، وتجمد الدم في شراييني واستنجد ت بكلّ الكتب السماوية .
الآن فقط، فهم ت أنني بين أيدي الإرهابيين العراقيين. وكأنّ الإرهابي الذي أمامي مرر أذنه إلى جهة
الذاكرة، وتنصت على وشوشات أفكاري... كأنه استاء من كلمة "الإرهابيين"، فزمجر ثانية:
هل تتقنين العربية ؟
( أجب ت بارتباك ) yes نعم
شعر ت أنه اطمأنّ قليلا، لمّا رأيت نظراته ترتفع إلى مستوى السقف، ورد:
حسنا،أنت الآن في حماية المقاومة العراقية الباسلة .لا تخافي، لن نسيء إليك. فقط عليك بقراءة
هذه الورقة، وسنقوم بتسجيل ذلك وتمريره لوسائل الإعلام.
التفَت إلى أحد زملائه، وأشار بسبابته كأنه يطلب استدعاء أحد ما. ثمّ مد لي الورقة، وألقاها بإهمال
على ركبتي، ثمّ عمد إلى فك قيدي.
فتح زميله الباب ودخل أحدهم يحمل آلة كاميرا، ووجهها نحوي، وأشار إليّ كي أقْرأ الورقة بصوت
واضح ودون ارتباك.
لحظتها، كانت النبضات تتصاعد، وعيوني أحسستها تحاول الارتماء على التراب من شدة الخوف. مع
ذلك حضرت "نارمين" بعنف جسدها وشهوا. حاول ت إقصاءها من الذاكرة، لكنها تمسكت بالحضور رغم
الغياب.
كان شذوذها يدفعها لتقْييدي إلى السرير من معصمي وساقي، وتشهر سوطها في جسدي.. على إليتي
وخصري وفخذي... متمتعة بآلامي.
و "نارمين" كانت تصر في لحظات الشذوذ التي تجْمعنا، أنْ أجلدها حتى البكاء، و تصر على ذلك. حين
تمارس علي عنفها، كثيرا ما تدمي شفاهي وجسدي بأسناا وسوطها.
وما كان يدفعني لتحملها، هو ذلك الجسد الشهي الذي يميزها / لم أصادف امرأة بتلك الأنوثة
الصارخة... ذلك الجسد الممتلئ، وتلك الشفاه اُلمكتترة... كانت كلّ حبة في جسدها، تثير فيك وديانا من
الشهوة .
كانت كذلك دائما، حتى أفقدتني شوقي للرجال . منذ عرفتها، ومارس ت معها أو بالأحرى أجبرتني
شذوذ السحاقيات،رفض ت كلّ الرجال الذين أبدوا رغبة في معاشرتي . بالمثل كانت "نارمين" ترفض
الرجال وتكرههم، لذلك لا تعاشر إلا النساء.
......................................
صرخة الإرهابي أسقطت "نارمين" من ذاكرتي نحو الإقصاء . قال آمرا:
عند الإشارة، تبدئين في قراءة الورقة.
....
أرد ت أنْ أعلّق متسائلة، غير أنه أكمل بنفس النبرة الآمرة:
الأسئلة والتعاليق ممنوعة.
بارتعاش لمْ أستطع تداركه، أمسكْ ت الورقة من طرفيها، وتلو ت:
"إني أنجيلا موردخاي، العاملة بمنظمة الأمم المتحدة بالعراق منذ شهرين، أهيب بالحكومة الأمريكية
والحكومة الألمانية واتمع الدولي،لمساعدتي وإطلاق سراحي. في مدة لا تتجاوز اليومين . مع العلم
أنني في صحة جيدة وُأعامل معاملة حسنة"
بسرعة من فاجأه الحيض، اختطف الإرهابي الورقة من أناملي، وأعاد قيدي.
فيما انسحب المصور مهرولا، وتبعه الآخرون بارتباك لم أفهمه، إلا بسماع دوي انفجارات هزت المنطقة.
فاجأني الدوار، وحاصرني الخوف، كمن يقترب من حبل المشنقة . مخافة أنْ ينالني القصف الأمريكي،
أو يسقط أحد صواريخ الكاتيوشا على المكان خطأً .وما ضاعف خوفي، تسلل روائح الكبريت والفسفور
إلى المستودع، مع تصاعد عمليات القصف وإطلاق النار.
الرعب الذي يحاصرني، كان مع الارتباك والخوف والقيء الذي يفاجئني ... كان يخدرني. ربما بفعل
الدخان الذي استنشقته. مع ذلك كن ت أشعر بارتخاء لذيذ يتوزع في كامل شراييني.
ارتخاء يعيد "نارمين" إلى الذاكرة... تحضر وهي تلْعق بلساا شفتي وفخذي ودي، حتى تصل أسفل
سرتي، لتتسلّل لمسام الجلد نشوة ممزوجة باللذّة والانتشاء والسكْر. وأنا المقيدة، كلّ شيء يتحرك في
جسدي نبضة.. نبضة.
أما الآن، فلا شيء يتحرك فيّ، حتى النبض نفسه. حتى أني ُأوشك أنْ لا أسمعه... وغب ت ....
لا أذكر المدة التي غب ت فيها عن الوعي، ولا شيء هنا يحيلك للزمن الكرونولوجي. حتى الشمس، لا
تدخل هذا المستودع. ربما كان المكان قبوا أو غرفة تحت الأرض أو أنّ الشمس حجبتها الأدخنة والغبار
والحرائق عن كامل العراق.
وأنا أسحب خيوط الوعي شيئا فشيئا، تناهت إلى مسمعي وشوشات من الخارج، ربما أولئك الذين زاروني
منذ ساعة أو ساعات، أو ربما غيرهم من مجموعات إرهابية أخرى.
تتالت دقات قلبي، حتى كادت تسمع إلى الخارج . فكتم ت تنفّسي، حتى لا يتناهى إلى الإرهابيين.
أكمل أحدهم حديثا، لم أتبين أوله:
( .. ) وإذا لم يستجيبوا؟
لا أدري .. ربما نعطيهم مهلة أخرى.
وبعد ..؟
إنْ استجابوا.. وإلا...
وإلا ماذا ؟ القائد "نواف" ربما ينفّذ فيها حكم الإعدام.
أقسم بالله، لولا مصلحة المقاومة، لنفّذْ ت حكم الإعدام في " نوا ..."
تكهن ت أنّ رفيقه منعه من إكمال جملته، بوضع يده على فمه، كأنه ارتكب جرما.
و أكمل بعد أنْ منعه صديقه من نطق أسم "نواف":
من "نواف" هذا، حتى يكون قائدا علينا ؟ نحن أحرار العراق... نحن أبناء حزب البعث .. و هذا
الفلسطيني، ما الذي أتى به إلينا؟
( علّق دوء ) هذا ليس وقتا مناسبا للتشويش والحسابات ... العراق الآن يضج بالعرب و الشيعة
والأكراد الذين لا زالوا يتوافدون منذ وصول الاحتلال، وهم يشاركوننا النضال. و نحن نعلم أنّ "نواف"
موجود في العراق منذ حربنا مع الكويت.
هو الآن يا أبا ايد أكثر وطنية من بعض العراقيين. رجاء أبا ايد.. لنؤجل الحسابات.
يكفينا تأجيلا للحسابات.. وجود العرب في العراق، هو ما شوش علينا طرق العمل، واختلط الحابل
بالنابل: هذه كتائب محمد، وأخرى جيش المهدي، وتلك ميليشيا الصدر، ورابعة وخامسة وألف...
قل لي بربك من يقاوم من، ومن يدافع عن العراق، ومن يخدم الاحتلال ؟
أبا ايد، رجاءً... لا داعي لهذا الكلام. نحن متفقون على أنّ من يخون القضية يعدم، ولو كان
عراقيا. إذا ما دام نواف مخلصا كغيره من الشرفاء العراقيين، فهذا يشرف قضيتنا.
والحقيقة يا صديقي يعد نواف من طينة المناضلين الأحرار ... أعرف نواف منذ سنوات، حين التقيت به
على هامش الملتقى القومي العربي، وكان لا زال جاهلا بالوضع العراقي رغم أنه يدرس الفلسفة بجامعة
بغداد. مع ذلك كان قادرا على استيعاب وتحليل الراهن العربي والدولي، وله القدرة على أن يفسر
ويتنبأ بالنتائج. ومنذ أنْ غير جنسيته إلى العراقية صار عراقيا (حرك رأسه وابتسم بمكر ) لا تتصور
أن أجهزة حزب البعث يمكن أنْ تتركه دون رقابة، حتى وقد صار بجنسية عراقية.
بمثل هؤلاء سقطت بغداد .. وعن طريقهم وصلت المعلومات المخابراتية إلى الأمريكان والصهاينة (
شبك عشره على رأسه ) العراقي الحر لا يخون العراق ( وبنبرة اشد حزما) ثمّ أليس الأحرى ؤلاء أن
يدافعوا عن فلسطين ؟
هذا موضوع آخر ..
( تغيرت نبرة صوته بارتباك، وخوف ) انتبه أبا ايد، هناك تحليق طائرات.
كن ت مستمتعة بالحوار ومرتبكة، متمنية أنْ أكون خارج هذا القبو لأرى اُلمطلق والامتداد... لأرى
هذا العالم. قطعا إنه ليس بغداد.كن ت في بغداد لا أمر إلا من شوارع محددة، وحسب التعليمات.
إنّ مهنتي تفرض علي التقيد بالأوامر والأوقات بانضباط جماعي وآمن . إنّ وجود مقرنا بالمنطقة
الخضراء، يجعلنا في مأمن من أسلحة الإرهابيين، وتحت حماية القوات الأمريكية. ولولا ذلك العطب
المفاجئ للسيارة، لما كن ت هنا الآن.
.......
عادت بي الذاكرة إلى أول لقاء جمعني ب "نارمين"، حيث كان عطب السيارة بالمثل سببا في تغيير
حياتي الخاصة.
ففي زيارة لأحد أقاربي في برلين، تعطّلت السيارة ربما بفعل رداءة الطقس والثلوج المتهاطلة كان
الطقس أشد من قسوة الحرارة في بغداد.
تسمر ت خلف المقْود، محاولة إعادة تشغيل المحرك، دون جدوى... فكّر ت في استعمال الهاتف الجوال،
غير أني لا زل ت بعيدة عن مقر أقاربي، وبالمثل ابتعد ت عن مترلنا بحوالي ستين كلمترا.
نزلْ ت من السيارة، محاولة الاستنجاد بأي كان.. كن ت أشير إلى السيارات العابرة دون أنْ تعيرني أي
اهتمام.
حين همم ت بالرجوع إلى المقعد، أشارت لي سيارة بأضوائها، فأشر ت بيدي فتوقّفت.
فتح ت الباب طالبة المساعدة، فابتسمت مرحبة، وكأا تعرفني منذ سنوات.
حين استوي ت على كرسي سيارا، مثبتة حزام الأمان حولي، انتبه ت إلى سيدة غاية في الجمال
والأنوثة. وبلباس يكشف عن كامل فخذيها وديها، استغرب ت من قدرا على تحمل البرد بتلك
الملابس.
أرد ت أنْ أبرر:
تعطّلت السيارة دون سابق إعلام... لا أدري... هذه المرة الأولى التي تحصل معي.
هذا وارد في كلّ الأوقات... أنا "نارمين". وأنت ؟
أنا "أنجلا".
إلى أين مقصدك ؟
إلى برلين.
هذا طريقي ( متداركة ) سنعرج على مترلي بعد دقائق.. لا بد أنْ أحمل بعض الأغراض.. هل
تصحبيني ؟ خمس دقائق فقط، ثمّ نكمل طريقنا.
لا مانع .. لا مانع.
أرجو فقط أن لا أكون قد أزعجتك.
لا داعي للشكر، كلنا يتعرض لمثل هذه المواقف...
( صمتت قليلا ) ربع ساعة فقط، ونكون قد وصلنا.
بالفعل، ربع ساعة كانت كافية لتجدني في قاعة جلوس فاخرة ومتسعة. بيتها ينم عن بذخ صارخ ..
الكريستال والتحف النحاسية والفضية وقطع العاج والزرابي الفارسية .. كلها تصيبك بالذهول.
كن ت أمسح ببصري كلّ المعلّقات واللوحات والتحف، متسائلة:
هل هذا مترلك ؟
( وهي تتجه إلى إحدى الغرف ) بالطبع... ورثْته عن والدي. فأنا ابنته الوحيدة.
أمامك الويسكي، خذي ما شئت.
تناولْ ت قارورة الويسكي، أسكب منها دون أنْ أرفع بصري عن المعلّقات والزرابي والتحف التي تحيلك
إلى مترلة الطبقات الأرستقراطية بأوربا.
فاجأني صوت "نارمين" من الداخل:
أنجيلا... تعالي لحظة.
لا زل ت ممسكة بكأس الويسكي، متجهة إلى غرفتها ودخلْ ت بانتباه شديد، فخاطبتني بإلحاح:
أنجيلا.. أدخلي.
دخلْ ت غرفتها ذات الإنارة الحمراء الخافتة، كأنك بإحدى العلب الليلية، عدا كون الموسيقى هنا
خافتة. خمّن ت أا موسيقى "جون ميشال جار" أو "خوليو أجليسياس". ولم يكن في الغرفة ما يشي
بالغرابة، عدا صورة ضخمة لمادونا، وهي شبه عارية. وكانت "نارمين" ممسكة بفستان. قالت:
هل تساعديني؟
بالطبع.
لي صديقة أريد أنْ أهديها هذا الفستان، بمناسبة عيد ميلادها.
لكن... لكن كيف سأساعدك؟
جسدها يشبه جسدك تماما... هل تجربينه؟
بالطبع... لا مانع عندي.
وضع ت كأس"الويسكي" على طاولة صغيرة حذو السرير... تناولْ ت الفستان من بين أصابعها...
مددته على ظهر الأريكة، وشرع ت أفك أزرار سروالي وملابسي الأخرى.
حين تعري ت تماما إلا من ملابسي الداخلية، تقدمت مني "نارمين" وشرعت تمرر أصابعها على صدري و
شفاهي وفخذي، مستعينة بذهولي.. وكانت تدفعني رويدا، رويدا إلى السرير . حين أرد ت منعها،
فاجأتني قشعريرة ساخنة وارتباك شديد في نتوءات جسدي.. فطاوعتها. ولم أدر كيف اتجهت أصابعي
إلى أزرار ملابسها، واحتضننا السرير.
صباحا، أفقْ ت على صوت "نارمين" .. كانت عارية تماما. واحتج ت ربع ساعة لأستحضر ما حصل
البارحة.
...................
...................
دخل علي أحد الإرهابيين إلى المستودع، ليقْطع علي حبل الذاكرة، شاهرا رشاشه في وجهي .
وتبعه ثان، متجها إلى قيودي ففكّها، ثمّ غادر في صمت.
اقْترب الأول مني، ووخزني بسلاحه:
انهضي، علينا بالمغادرة.
لمْ يكن بوسعي أنْ أعلّق أو أتساءل، فما الذي يمكن أنْ تفْعله الشاة أمام جزارها؟
حين خرجنا من القبو، كانت سيارة شرطة تقف بالمكان. فغمرني فرح بالنصر والنجاة... همم ت
بالركض نحو السيارة، غير أنّ باا الذي ُ فتح، والإرهابي الذي نزل منها، إضافة إلى الإرهابيين الأربعة
الذين يحرسون المكان بمدافعهم ورشاشام... جعلني أغْتال فرحي. وبصعوبة منع ت قلْبي من إخماد
نبضه.
دفع ت إلى السيارة، قبل أنْ يدسوا أجسادهم بجانبي، وتكفّل أحدهم بإعادة قيدي. فيما قام الثاني
بوضع عصابة على عيني . وانطلقت السيارة دون قدرة لذاكرتي على تبصر الأمكنة و الطرقات
والمنعرجات.
الفصل الخامس
التنظيم
في غرفة ضيقة، بمنزل يقع بالضاحية الجنوبية لدمشق، وصل "أبو مصعب" باستعمال شاحنة نقل
بضائع... كان جالسا مع "إيراد الحاج" و "أمير التوم" و "ميلود عبد القادر".
قال إيراد الحاج، موجها كلامه إلى الجميع:
مرحبا بالإخوة ااهدين.
( لم يجبه أحد )
( بيده كان يشير إلينا تباعا لنتعرف على بعضنا ) أبو "مصعب العراقي"، مناضل وطني من العراق...
وهو أحد المناضلين الذين مروا بتجربة سجن أبو غريب.
ااهد "أمير التوم" من السودان .. تحديدا من "أم درمان" ( وكأنه يريد تأكيد صحة معلوماته، فوجه
كلامه إلى أمير )
أليس كذالك؟
أجاب "أمير التوم":
وهو كذلك.
ثمّ أكمل "إيراد الحاج" كلامه:
الأخ "أمير التوم"، حارب مع شيخ ااهدين أسامة بن لادن، في حربه ضد السوفيات.
ثمّ وجه يده جهة ميلود، وأكمل:
ميلود عبد القادر، مجاهد من "تبسة" الجزائرية. لمْ يخْرج من أفغانستان، إلا ليدخل دمشق في اتجاه
بغداد.
وقد أكمل إيراد كلامه... كان الجو مشحونا بالقتامة والتوتر. فيما كان "أبو مصعب" يتأمل ملامح "أمير
التوم" باستغراب.
كان كشيخ يقترب من السبعين أو أكثر... وربما بشرته السوداء الكالحة، زادت في عدد السنوات إلى
عمره المتجعد... ملامحه الهادئة، القريبة من ملامح عرب الجزيرة، زادته وقارا وهيبة، رغم
الشيخوخة.
كان مستغربا من قدرة هذا الشيخ على تحمل مشاق الحروب، ومخاطر حرب العصابات ... بل راوده شك
في قدرته على حمل بندقية الكلاشنكوف.
انتصب "ميلود عبد القادر" واقفا، قائلا:
ما هو الحلّ الآن ؟ إقامتنا في دمشق أشد خطرا من أي مكان آخر.
رد "أيراد الحاج"، وقد وقف بجانبه مربتا على كتفه:
المسألة تفوتنا ... أفهم هذه الخطورة، وأفهم صعوبة المرحلة. لكن علينا الانتظار، فالوضع متوتر
الآن. مع ذلك، نحن في مأمن بعض الشيء.
علّقْ ت أنا أبو مصعب و دون لباقة:
أي أمن هذا الذي تتحدث عنه ؟
نعم، نحن في مأمن... لمْ يسبق لأي منا أنْ دخل سوريا، ولمْ يسبق للمخابرات أنْ كشفت إحدى الخلايا
في دمشق أو أي مدينة أخرى. علينا ملازمة الحيطة، وعدم مغادرة المكان، في انتظار التعليمات .
(أرد ت أنْ أسأل عن مصير أبي الوليد، وعن مجموعته بقرية "شيخ الحديد"، لكنني أدرك ت الفرق بين
تنظيم سياسي نضاليّ، وتنظيم ديني جهادي... )
قطع "ميلود عبد القادر"علي حبال التفكير، وكأنه يوجه كلامه إلى خوفي:
لنثق بأنفسنا... وبعون الله ما دمنا ندافع عن أمة الإسلام، فإنّ الله سيهدينا إلى السبيل القويم.
قل ت محاولا إخفاء ارتباكي:
كلنا يعرف أنّ العواصم دائما، أشد خطرا وأكثرها رقابة.خاصة بالنسبة إلى التنظيمات السرية (
موجها كلامي إلى "أمير التوم" الذي لم يشاركنا الحوار ) أنا أسأل لماذا دمشق تحْديدا ؟ لماذا لمْ نغادر
صوب وجهة أخرى؟
كأنّ "أمير التوم" فهم استنجادي به ... أو ربما تفطّن لارتباكي المصبوغ على ملامحي، لهذا علّق ببرود
لا مثيل له، ودون أنْ يبرح مكانه أو يغير من جلْسته:
المسألة يا ابني، أبسط من ذلك بكثير...( حك جبهته بإصبعه، فتعثّر الإصبع على التجاعيد ) يبدو
أنك قليل الخبرة بالحركات الجهادية . صحيح أنك مررت بتجربة سجن أبو غريب، لكن هذا لا يكفي
لتكون مجاهدا.
دع خوفك بعيدا عنك... أطْرده من داخلك.. أشنقْه في الساحات العامة، مستنجدا بكتاب الله وسنة
رسول الله.
نحن يا بني، نخوض حرب ديانات منذ أرسل الله آدم إلى الأرض... لا تستمع إلى أحاديث الإعلام و
السياسيين والصحافة المأجورة. نحن الآن أمام خيارين، لا ثالث لهما. إما أنْ ينتصر الإسلام، أو تنتصر
المسيحية ( وبسخرية ) أقصد اليهود.
سحب نفسا عميقا، وقطّب جبهته مستعدا، وبسبابته التي تعينه على قول حازم:
بسم الله الرحمان الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى في كتابه العزيز
"ولَن ترضى ع نك اليهو د ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم ُ قلْ إنّ هدى الله هو ا ُ لهدى ولئن اتبعت أهواء هم
بعد الذي جاءَك من العلْم ما لك من الله من وليّ و لا نصير"
صدق الله العظيم.
ردد الحضور بعده:
صدق الله العظيم.
حاولْ ت أنْ أغير مجرى الحوار، كي ُأخفّف عني لغة الوعظ والإرشاد:
لكن المسيحية ليست اليهودية، إما ديانتان مخْتلفتان.
دعك من هذه الخزعبلات... المسيحية في خدمة اليهودية. ولا يجب أنْ تفْهم اليهودية كدين يهودي،
وإنما اليهودية باعتبارها العصا التي يلوح ا شرذمة من اليهود، لعنهم الله.
( انتصب واقفا، معولا على شيخوخته. وأكمل وهو يتنقّل ببطء في أرجاء الغرفة الضيقة )
سأحكي لك واقعة واحدة، لتعرف حجم الصعوبات التي مرت علي ( مستدركا ) هذه آخرها.
هي مصيبة من جملة المصائب التي يبتلينا الله ا، ليختبر صبرنا وإيماننا.
يكفي أنْ تعلم يا ابني، أنني أتنقّل وأجاهد في أفغانستان منذ 1982 . تعلّم ت أنواع القتال وكلّ حيل
الحروب، وتدرب ت على جميع الأسلحة... وخبر ت كلّ جبال أفغانستان والباكستان وإيران.
أنا يا ابني، جرب ت الجوع والعطش والوحدة والاعتقال، مرة على يدي السوفيات، وأخرى على يد
القبائل الأفغانية وثالثة على يد المخابرات العسكرية الباكستانية...
آخر مرة وأنا أحاول اجتياز الحدود مع مجموعة من الإخوان تمّ اعتقالي داخل الأراضي
الباكستانية. مع ذلك حمد ت الله ألف مرة، وكن ت سعيدا.
سألْته باستغراب:
كنت سعيدا... ؟
( مبتسما ) حمد ت الله أني ُأعتقل ت في باكستان .لأنّ إخواننا هناك كثْر، ويمكن أنْ أنجو بطريقة أو
بأخرى. ولو أنّ حكومة "مشرف" لا تتوانى عن خدمة الأمريكيين، لعنهم الله. لكن ....
أسعفه "ميلود عبد القادر"، وكأنه كان حاضرا:
لكن القوات الأمريكية هي التي اعتقلتك، أليس كذلك؟
سألْ ت ميلود:
وهل كنت مع الإخوان لحظتها؟
أكمل "أمير التوم"، دون أنْ ينتبه إلى تعليقي:
هذا طبيعي، لأنّ الحدود الباكستانية تحت رقابة القوات الأمريكية، ومخابراا التي لا تنام.
سألْته:
وبعد ...؟
أجاب:
أعادوني إلى أفغانستان، وتمّ احتجازي في حفرة محفورة في الأرض بعمق ثلاثة أمتار. وغطّوا الحفرة
بقوالب من الحديد يستحيل أنْ يحملها عشرة رجال.
كن ت أتصور أم سينقلونك إلى "غوانتانامو".
( بمرارة ) هذا ما كان سيحصل لاحقا. غير أنّ الله بقدرته، أرسل ااهدين لإنقاذي. كانت ثلاث
سيارات مفخخة، كافية لطرد الجبناء من الموقع، وتمّ إنقاذي.
كان يسرد القصة، ببساطة لا مثيل لها .. لمْ يكن متأثّرا أو منزعجا أو خائفا. خلْته يحكي قصة
من الخيال الشعبي. وكأنّ تفكيري لمْ يقْتنع أنّ هذه الواقعة أشد وقْعا من تجْربة بسجن أبو غريب.
كيف يمكن أنْ تكون تجْربة هذا الشيخ، بحجم معاناتي داخل ذلك الماخور، أقْتدي بأوامر المومسات
الأمريكيات، وبقوة السوط وركْل الأحذية العسكرية؟
كيف تتقبل واقعة يجبر فيها "الشيخ الضاوي" على أنْ ينكح ابنته ونساء أخريات بالقوة، وتحت البصاق
والركل والصفْع ... وهو الإمام الخطيب بأحد مساجد بغداد؟
باستحضار قصة "الشيخ الضاوي"، قرر ت أنْ أحكيها للإخوان علّهم يتعضون أو يدركون أنّ غيرهم من
المناضلين في أرجاء الأرض يعانون مثلهم أو أكثر منهم.
"الشيخ الضاوي" كان رجلا مخلصا لعلْمه، ولطلابه. وحتى في ظلّ حكومة صدام حسين، لمْ يد ع مرة في
خطبه للقائد بالنصر وطول العمر... بل كان مقْداما وثابتا، له من الوقار ما يجعله محترما و مهابا من
الجميع.
ولعلّ الحكومة العراقية لمْ تؤدبه زمنئذ، إلا لأنّ سلطته الروحية تتجاوز مدينة بغداد، إلى كل المدن
السنية، لم يكن معارضا قطّن ولكنه لم يهادن ولم يتمسح على عتبات حزب البعث.
علّق "ميلود عبد القادر":
لعن الله صدام حسين وأمثاله ..
وسأل "إيراد الحاج" بتهكّم، وكان يعد كأسا من اليانسون:
ومن أمثاله؟
أجاب ميلود ضاحكا:
لعنهم الله جميعا ... لا أستثني أحدا.
لمْ أستسغْ هذه التعاليق، رغم قناعتي بصحتها، وأكمل ت :
تمّ اعتقال "الشيخ الضاوي" بعد سقوط بغداد بشهرين. وأدخلوه إلى سجن أبو غريب باعتباره
إرهابيا.هذا لأنه لم يكف عن التحريض ضد الأمريكيين.
( فركْ ت جبهتي كي أستعين ا على التذكّر ) دخل عليه بعض الجنود، وعصبوا عينيه، ثمّ أدخلوا عليه
ابنته معصوبة العينين، وأجبروه على أنْ ينكحها. ففعل تحت قرع سياط ووخز العصي الملساء.
كان عاريا تماما، وكانت ابنته كذلك... لما فكّوا عصابته من على عينيه، كاد يفقد وعيه، وقد رأى ابنته
ورأى الجندي الأمريكي يصور المشهد اتفه الجوال.
استحضر الله وملائكته ورسله واليوم الآخر... استحضر الأنبياء جميعا، فحضروا... طغت غشاوة على
عينيه، وارتمى على الحائط يدك رأسه فيه، حتى سالت دماه، وسقط مغشيا عليه .
.....................
جلس "أمير التوم" إلى الأرض حاجبا وجهه بكفّيه، كأنه يحجب دموعه أو خوفه، مرددا :
أستغفر الله... أستغفر الله... اللهم لا رد لقضائك.. اللهم أهلك وشتت جمعهم.
فأجبنا جميعا :
آمين ... آمين يا رب العالمين.
أكْملْنا ليلتنا، نتسامر ونناقش قضايا المنطقة وأخبار ااهدين في أفغانستان وفلسطين والعراق.
وكن ت مع امتداد الحوار، أكْتشف جهلي بشؤون الجهاد وأخبار السياسة والمناضلين... لمْ أكن أعرف من
الوضع، غير الساحة العراقية الضيقة التي لا أخبرها جيدا.
لمْ أجارِ الجماعة في سعة ثقافتهم الدينية ولا السياسية.
فأنا لمْ أكن رجلا متصوفا، ولمْ تكن لي ميولات تنظيمية، سياسية أو دينية قبل سقوط بغداد.
كن ت مجرد موظف بسلْك الشرطة العراقية، أيام حكم البعث في العراق. أتقاضى مرتبا يكْفيني أنا
وزوجتي وابني " عاكف "، لنعيش دون خصاصة.
وعلى علاّت حزب البعث الكثيرة، لمْ يكن يخْطر ببالي أنْ أفكّر في شيء آخر غير العمل وقوت العائلة .
معولا على انضباطي وتفانيّ في العمل. فأنا من عائلة كردية استقرت ببغداد، وبنت علاقات اجتماعية
كثيرة. ولمْ تثْبت مخابرات حزب البعث، أننا عائلة منشقّة أو مرتدة أو لها مشاكل وانتماءات. لذلك
ساعدتني الوساطات على دخول سلك الشرطة. وكن ت واثقا أنّ أي خطإ قد يؤدي بي إلى السجن أو
الإعدام.
.... وسقطت بغداد ...
دخلت القوات الغازية، وحلّت أجهزة الأمن والجيش، وأصبح ت بين عشية وضحاها عاطلا و مشردا
و مهددا ... ولم تكن الفوضى السائدة إثْر سقوط بغداد، تسمح بالتحرك أو الشكوى أو اُلمطالبة.
لمن ؟ وبمن ؟ وكيف ؟ وأين ؟
أنت الآن في غابة، لا تعرف فيها عدوك ولا صديقك... لا تعرف الشيعي من السني من الكردي من
اليزيدي من العربي من الأفغانيّ من الأمريكي من ....
لا تعرف المناضل من المنافق من السمسار من العميل من...
أنت الآن لا تعرف الفرق بين الوجه والقفا.
وكانت ليلة القبض على صدام حسين، هي ليلة قصف القوات الأمريكية لحي الأعظمية ببغداد، حيث
أقطن. ودم بيتي مع كلّ بيوت الحي ااور... دمت حياتي كلّها..تحطّم الأمل في داخلي... فقد ت
زوجتي وابني الوحيد... فقد ت الإيمان والثقة والصبر...
وقد بان الخيط الأبيض من الأسود، ولم يتبعه آذان صلاة الصبح ككلّ صباح. فلربما صارت المساجد
عصفا مأكولا أو صار المشائخ و الأيمة جثثا تضيف للشوارع مشاهدها الدموية... كن ت ملْقى على
الأنقاض أنبش التراب بأظافري، علّي أعثر على أحدهما حيا...دون جدوى. وقد نسي ت أنني لمْ أشكر
الله على نجاتي بأعجوبة. وما الفائدة من نجاتي، وقد فقد ت عائلتي؟
بلْ ربما تمني ت، لو كن ت معهما لاسترح ت من العذاب. لمْ يكن بعدها بإمكاني أنْ أفكّر في الحلم...
أحلامي التي حقّقْتها، صادروها أو هدموها أو قصفوها أو... لا م الوسيلة ما دامت النتيجة واحدة.
...................
نصف الغرفة الباقية من المنزل، هيأا من جديد. مستعدا لإعادة تشكيل خارطتي، وبوصلتي
واتجاهاتي... لا بد من الحلْم... لا بد ...
من لا حلْم له، لا مستقبل له... لا هوية له... لا شمس له تشرق من أجله وتغيب...
إذن... سقطت بغداد... ُأحتلّ العراق...دم بيتي... ودمت بيوت كثيرة... فقد ت عائلتي...
وعائلات كثيرة شردت...
ماذا تبقّى؟
هلْ نبقى ننتظر الحكومة القادمة؟ هلْ نندس كالفئران في جحورنا مخافة القتل والاعتقال والتعذيب؟
هلْ نبقى كالقردة نرقص في الشوارع، ليضحك الجندي الأمريكي، ثمّ يطلق الرصاص على مؤخراتنا؟
ماذا تبقّى؟
........................
ونحن نعقد أول اجتماع سري، لتأسيس خلية سميناها "مجاهدي الأعظمية " بمنزل
"الشيخ الضاوي" بعد خروجه من سجن أبو غريب... والذي أشيع أنه فقد عقله بعد واقعة هذا السجن.
وصدق كلّ أهل بغداد هذه القصة.
...ونحن نعقد أول اجتماع، كنا نحلم بالنضال وطرد العدو ونصرة قضيتنا... فقط إذا توفّر السلاح.
أجاب "الشيخ الضاوي":
لا تشغلوا بالكم بموضوع السلاح ... لنا ما يكْفي لتسليح جيش بأكمله.
( وأكمل موجها كلامه "لحسين البنا" )
أنت بالذات عليك بالحذر أكثر... تثبت من المعلومات جيدا.. ولا تسرع في نقْلها إلينا، إذا كانت هناك أي
مجازفة.
أنت موظّف بالشرطة العراقية، وأي خطإ قد يوقعنا جميعا.
سألْ ت الشيخ:
متى نبدأ عملياتنا؟
أجاب بوقار:
عملياتنا ستكون قليلة . لكنها ثابتة ودقيقة.
حسين يعمل في جهاز الشرطة، وله كامل المعلومات والأخبار عن تنقّلات الأعوان و مواقعهم.
يعني... أننا سنتحرك وفْق المعلومات التي ستصلنا من حسين.
( أرد ت الكلام، لكنه قاطعني )
الأسلحة موجودة وجاهزة... والذخيرة كذلك .ندعو الله أنْ يوفّقنا و يسدد خطانا، ويحيى العراق.
( أجبنا جميعا )... آمين.
انفض اْلس، وخرجنا ُ فرادى بكامل الحذر والحيطة، في انتظار التعليمات.
كنا نجْتمع كلّ مرة دون أنْ نتخذ أي قرار لتنفيذ أي عملية ضد القوات الأمريكية أو العراقية .
نجْتمع، لنتأكّد من إخلاص اموعة وانضباطها . وكان "الشيخ الضاوي"، هو نفْسه من يعلمنا بموعد
الاجتماعات ومكاا.
يبدو وهو يتنقّل في الأزقّة والشوارع بلباسه الفضفاض الرثّ، وقبعته اُلمتكلّسة بالغبار والأوساخ، كمعتوه
لا يعيره أي عابر أي اهتمام، عدا الشفقة.بل لم يعد أحد يمنحها إياه... يسر كمتسول أو معتوه بين
بيته وعتبة مسجد فجره انتحاري شيعي ولم يبق منع غير واجهته المطلية بالسواد. لما تبصره يتنقل
حافي القدمين رثّ الثياب، لحيته كأا عش عناكب يعلوها غبار وبياض ليس بياض الوقار بالضرورة، و
لا يتردد أبدا على أن يتوسد عتبة مسجد أو حانوت أو رصيف. فحتى الأطفال لم يعد يعيرونه أي
اهتمام، فلكل مشاغله وهمومه. ولا سخرية من متسول، فالشعب كلّه يتسول المال أو الشرف أو الكرامة.
مع ذلك يكمل مهمته الهادفة ويواصل قيادته للمجموعة.
وفي كلّ مرة نجتمع كان "حسين البنا" حاضرا بيننا، يسرد علينا تموقع الشرطة العراقية، وتنقّلاا
ومواقعها.
كنا ثمانية،لا يجمع بيننا غير الوطنية، وحب العراق .إضافة إلى أننا من نفْس شارع الأعظمية، رغْم
أننا لم نكن نحمل نفْس التوجهات والقناعات والإيديولوجيات.
وكان "الشيخ الضاوي"، بنفْس لباسه الذي لا يغيره، حتى أثناء اجتماعاتنا.. كثيرا ما يكرر:
دعوا انتماءاتكم جانبا... أريد أنْ تضعوا العراق نصب أعينكم وفي قلوبكم.
ولمْ نكن ننتبه إلى أهمية هذه الجملة دائما، إلا متى اشتد الصراع بين الشيعة والسنة. حينها فقط،
فهمنا أنّ المقاومة لمْ تنتصر في حرا إلى الآن، بسبب هذا التشرذم.
مع ذلك كانت خليتنا ملتزمة بمبدإ "الدفاع عن العراق"، وترك الانتماءات جانبا. رغْم أنني كن ت موظّفا
بحزب البعث.. و"سركس" مسيحي له انتماء شيوعي مع "لقْمان صاحب" و "باقر الربيعي". فيما ينتمي
"سليمان عبد العزيز" و "جواد الشريف" إلى حزب البعث اُلمنحلّ.
أما "حسين البنا" فكان موظّفا، ولا يزال بسلْك الشرطة العراقية التي أسستها الحكومة العراقية اثْر
سقوط بغداد، وهو سني . عكس "عادل الطيب" من أصل شيعي. وهو أستاذ جامعي بكلية بغداد...
ونحرص على مناداته بالدكتور أثناء حديثنا، لما يتمتع به من قدرة على الخطاب والتواصل وتحليل
الأوضاع السياسية، بأساليب فلسفية مذْهلة. تجعلنا ننتبه إلى خطابه دون قدرة على مجاراته، بنفْس
نسقه الفلْسفي.
في اجتماعاتنا الأولى، كنا نلتقي لنتحاور ونرصد مواقف التيارات الحزبية والمذهبية والشوفينية
والمليشيات والفصائل و... لنمر على سياسات القادة، نشرح أقوال الحكيم، وتصريحات الصدر، وتعليقات
المالكي و علاوي وخليل زاد... وصولا إلى خطابات بوش ورايس ورامسفيلد وبشار الأسد وأحمدي نجاد
.....
لأعود إلى بيتي اُلمتربع على الرماد والركام، أراجع آخر الليل جملة النقاشات والمواقف والآراء... أعيد
صياغتها وتحْليلها، ثمّ أحتضن حلْما بتدمير آلية عسكرية أو زرع لغم لقافلة أمريكية أو توجيه صاروخ
لثكنة أو شاحنة أو كمشة من الجنود... مع أنني شديد التحفّظ من استهداف أفراد الشرطة العراقية.
وقد كن ت خلافا لبقية عناصر الخلية، رافضا استهداف المواطنين العراقيين في الشرطة أو غيرها. فيما
يعتبر البقية أنّ رجال الشرطة عملاء، ويخْدمون مصلحة الهيمنة الأمريكية.
وكان الدكتور "عادل الطيب"، يدافع عن موقفه بالقول:
إنّ هؤلاء لا يعملون تحْت إمرة حكومة عراقية شرعية. وطالما أنّ الحكومة غير شرعية باعتبارها
شرذمة من البيادق، و تحركها السياسة الأمريكية... فإنّ كلّ من يعمل معهم أو تحْت إمرم، فهو عميل
يستحق التصفية.
كان الدكتور مقْنعا وثابتا في كلّ مواقفه وتحليلاته، عدا هذه ... عدا استهداف المواطنين
العراقيين. ومع معارضتي له، إلا أنني لمْ أصرح بموقفي أمام كلّ أفراد التنظيم الذين اقْتنعوا بصحة
تبريره، مخافة أنْ ُأخون أو ُأطرد من تنظيم " مجاهدي الأعظمية".
كن ت أجتر كلّ هذه المواقف وتلك، وأنا أخلد للنوم، محتضنا مسدسي الذي ورثْته عن نظام صدام
حسين.
وفي ليلة من ليلي العراق الفحمية المظلمة، بدا الصف يتضاعف وبوتيرة اشد عنفا و وحشية. حتى
انتابني إحساس أا ليلة تشهد مخاض واقعة فاصلة.
وفي الليلة الفاصلة التي سبقت الإعلان عن اعتقال صدام حسين، كان القصف الأمريكي أشد وقْعا من
أي قصف حضاري آخر... لم ْدأ أصوات الصواريخ وأزيز الطائرات العسكرية والمروحيات... ليلة لا
تشبه كلّ ليالي بغداد، منذ احتلالها. ولمْ أجد سببا واحدا يجعلني أخلد للنوم.
شغلْ ت الراديو الصغير بجانبي، دون أنْ أشعل الفانوس النفْطي، وأرسل ت أصابعي تفتش عن علبة
السجائر... أسند ت ظهري إلى ظهر السرير، وأشعلْ ت سيجارة ل تعينني على التذكّر أو على النسيان.
و فجأة .............
صعقني الخبر، ورجتني الكلمات اُلمنبعثة من صوت أجش لقارئ الأخبار، وهو يتلو عناوين النشرة:
"الزرقاوي يلقى حتفه في قصف أمريكي على مخْبئه"
سحب ت نفسا عميقا من سيجارتي وأخمدا بداخلي.
وأنا أسحب جسدي من تحت الغطاء لأتربع فوق السرير، محاولا الانحناء أكثر إلى الراديو للتأكّد من
الخبر . وأكمل قارئ الأخبار:
"... وقد سبق للزرقاوي أنْ أسس مع "أبي محمد المقْدسي" جماعة بيعة الإمام بمدينة الزرقاء سنة
1995 ، و ُ قبض عليه من قبل المخابرات الأردنية ليودع السجن، محكوما عليه بخمسة عشر عاما. لكنه
استفاد من عفْو ملكي بعد أربعة سنوات، ليغادر الأردن في اتجاه أفغانستان فاختفت أخباره. مع ذلك
ُألْصقت به مة اغْتيال الدبلوماسي الأمريكي "لورنس نومي" سنة 2002 .
وقد ظهر الزرقاوي بعد ذلك في العراق كزعيم لتنظيم القاعدة، بعد أنْ بايعه أسامة بن لادن، إلى
حين قصف مكانه بعد عملية مخابراتية أمريكية أردنية ."
مدد ت يدي بتشنج وخوف لأكتم صوت جهاز الراديو، غير مستوعب للحدث ولا مصدق.
وفي الحقيقة لم أكن من مناصريه ولا من مناصري تنظيم القاعدة، مع ذلك كن ت متعاطفا معه، لأنه
ضد الأمريكيين... أنا مستعد للتحالف مع الشيطان، إنْ كان سيساعدني على تحْرير العراق.
ألْقي ت سيجارتي على مربعات الغرفة، ودستها بساقي دون أنْ أنتبه إلى الألم الذي ألْحقه
بقدمي...مدد ت يدي لأتناول سيجارة أخرى وأشعلها وأحاكيها:
هل المقاومة في طريقها إلى التصفية بمثل هذا الشكل؟
هلْ قَدرنا أنْ نموت، إما فقراء أو مضطهدين من حكوماتنا أو مهانين من الدول الطاغية؟
هل الاحتلال فعلا أرحم من طغيان صدام حسين ؟ أم أنّ هذا الأخير أرحم من الاحتلال الصليبي؟ ثمّ
من نقاوم؟ لمن نوجه أسلحتنا؟ من هو العدو؟ لماذا متى؟ كيف؟ أين ؟
كلّها أسئلة لا زالت تتخبط في أحشاء مخيلتي، دون أنْ تجد ترتيبا أو إجابة أو شرحا ... كن ت فقط
أطرح على مخيلتي أسئلة ليست قادرة على الإجابة عنها أو استيعاا.
................................
على غير العادة، ودون تحضير مسبق جاءني طرق على باب بيتي المكْشوف من جوانبه الأربعة.
كان طرقا خفيفا و منتظما، كقرع حبات الخرز و هي تسقط متتالية على الإسفلت.
وحينها حضرت حفْرة صدام حسين ومخبأ الزرقاوي والقوات الأمريكية والخونة والجواسيس وأبو
غريب و ...
لمْ أستوعب الطرق جيدا، لذلك كتم ت أنفاسي، وفتح ت نافذة التنصت على آخرها .. تتالت الطرقات،
فأجب ت بارتباك وخوف:
من ...؟
حمورابي..
عادت قطرات الدم لتتجمع في وجهي، وعادت إلى قلْبي دقّاته وعاد النبض... "حمورابي" .. إنه
الشيخ الضاوي .
"حمورابي"... الشفرة السرية لنقْل أخبارنا وإبلاغنا بمواعيد اجتماعات التنظيم وتوقيته. أجب ت:
حاضر... حاضر...
أشعلْ ت الفانوس، وتحسس ت مسدسي من تحت وسادتي، مخافة الخيانة. واتجه ت إلى الباب أفتحه،
بعد أنْ أزح ت قطعة الخشب التي كانت تعينه على الصمود.
دخل "الشيخ الضاوي" محملا بحذره وانتباهه، بعد أنْ أطلّ من الباب على الشارع، وقد دس جسمه في
فضاء الغرفة.
أوصد الباب، ودون أنْ يجلس، قال بحزن باد على ملامحه الراقصة على ضوء الفانوس:
هل سمعت آخر الأخبار؟
بالطبع ( وبِأسى ) أستشهد الزرقاوي. مع ذلك لس ت مصدقا الخبر .. ربما تكون مجرد دعاية
للاستهلاك السياسي.
لا يهم ... مهما كانت الأسباب، سنلْتقي بعد ساعة بنفْس المكان.
هناك أشياء طارئة ولا بد من مناقشة بعض المسائل ... واضح ؟
آه نسيت أن أقول لك أنّ عادل الطيب كان معي في البيت قبل دقائق، وقد دار نقاش بيننا وتعالت
أصواتنا، وكدنا أن نتعرى.
ما المشكلة؟
تعرف أنّ رجال الفلسفة ربما لهم مواقف معادية من الحركات الاسلامية.
تقصد اليسار؟
تماما .. قال لي بالحرف الواحد "الزرقاوي ككل الانتحاريين جميعا ينشدون جنة موهومة".
دعك من هذا يا شيخ، نحن لا نشك في وطنية عادل الطيب، رغم قساوة خطابه .. ليس هنا اال
للحديث حول الخلافات... علينا برص صفوفنا الآن، عد وسألتحق بك.
خرج متخفيا كشبح، فيما أوصد ت الباب دوء وحيطة.
...................
حضرت بذهني كلّ هذه الأحداث، وأنا لا زلْ ت ممددا على ظهري كخنفساء أثقلها ظهرها..لا زلْ ت ممددا
بنفْس الغرفة التي جمعتني"بميلود عبد القادر" و"أمير التوم" و "إيراد الحاج".
كان كلّ واحد منا، ملْقى في زاوية ينبش أوراق ماضيه، ويفتش في حاضره عن صور وأحداث يتزيا ا أو
يبسطها أمامه كنبراس ينير له الدرب أكثر.
لمْ تغمض جفوننا، ولمْ يعد لنا ما به نوشح سهرتنا... رغْم أنّ كلّ واحد منا له في جعبته ما يستهلك
أطنانا من الورق ووديانا من الحبر.غير أنّ محاسبة الذات، والحديث معها و محاورا وسؤالها
وتعريتها... كان ضروريا لكلّ واحد منا.
تتفرس في العيون والملامح، فلا ترى غير الحيرة والقلق... ترى النقْمة والقيء والكفْر بالواقع العربي
المتشظّي ... أقول "العربي"، ويقول ميلود وأمير : "الإسلامي " ... والنتيجة واحة.
فقط كان "أمير التوم" ثابتا ورصينا، ولا يحرك نظراته في المدى. فلا تبدو عليه الحيرة والقلق ...
ربما بسبب جرعات التجارب التي شرا أو مصاعب الجبال والأسلحة والمعارك التي خبرها.
بقينا على حالنا تلك، ثلاثة أيام ننام ونصحو على العمليات الجهادية وأخبار الإخوان والساسة
والوضع العراقي والأفغاني وحال الحكومات الكرتونية والبوليسية والعسكرية والكافرة والمستكْفرة...
ننام ونصحو.. دون أنْ نبرح أمكنتنا، عدا لقضاء حاجة بشرية أو للقيام للصلاة.
ولا أحد منا يسمح له بالخروج من المنزل غير إيراد الحاج .. يخْرج ليغيب ساعة أو أقلّ بكثير، ويعود
محملا بالخبز وبعض الخضار، وبصحف سورية ودولية، لمتابعة آخر الأخبار.وكنا حريصين على اقْتناء
جريدة "البعث" السورية، لرصد آخر الأخبار الداخلية.
في اليوم الرابع بعد صلاة الظهر، غادرنا إيراد الحاج كعادته، فيما بقينا جلوسا، نناقش تأثير
انتصار حزب الله على الكيان الصهيونيّ.
علّقْ ت على الحدث:
هذا انتصار للعرب لم يتحقق منذ زرع الكيان الصهيونيّ في المنطقة. ومن الضروري الافْتخار ذا
النصر ودعمه.
أجاب أمير التوم، برصانته المعهودة وبلهجة أقرب إلى المصرية:
هو انتصار لأمة الإسلام... انتصار لكتاب الله وسنة رسوله... هو بداية انتصار كلمة الله على
الأرض.
قاطعه ميلود عبد القادر بتشنج، حاول أنْ يخفيه:
عفْوك يا شيخ أمير... أنا أعارضك فيما ذهبت إليه... ما قامت به المقاومة اللبنانية، هو انتصار لا
يمكن أنْ ننسبه لا للعرب ولا للمسلمين...
قاطعه أمير التوم:
فهم ت مقصدك.. تقصد أنه انتصار للشيعة ؟
بالطبع... هو انتصار للهلال الشيعي... انتصار لإيران الفارسية..
طيب... لو خيروك بين أنْ تكون شيعيا أو يهوديا، ماذا تختار؟
( لم يجب )
لم تجب... مع ذلك أوضح لك التالي: لا بد في كلّ مرحلة جديدة من إستراتيجية جديدة... يعني
للحروب تكتيكها الخاص.
( طأطأ رأسه وأكمل )
كلنا يعلم أنّ الشيخ أسامة بن لادن، تعامل مع الأمريكيين للقضاء على اُلملحدين السوفيات ... وكان
وقتها تعامل حتمته المرحلة. لأنّ الخطر الشيوعي حينها أهم وأكبر من الخطر الأمريكي أو الأوروبي أو
المسيحي.
أما الآن وبعد دحر العدو السوفياتي عن أفغانستان غير التنظيم قواعد اللعبة، ووجه فوهة
بندقيته للأمريكان واليهود. لا يهم من يحارب، ألأهم أنْ يندحر العدو.
( موجها إليّ كلامه )
أليس كذلك يا أبا مصعب؟
أجب ت مساندا موقفه:
أوافقك الرأي... مع ذلك لمْ تنتبه الأحزاب والفصائل الفلسطينية لمثْل هذا الوقف. انخرطت في
صراعاا الداخلية، بين حماس ومنظّمة التحرير، واَستنزفت كامل قواها التي من المفْروض أنْ توظّف
ضد النازيين اليهود.
علّق ميلود، وكأنه يراجع موقفه بعض الشيء، وهو يمسح لحيته الطويلة:
ما يهم الآن، هو أنْ ينتبه الإخوان إلى خطورة المرحلة... أنْ ينتبهوا إلى المشاريع الأمريكية و
الصهيونية التي تمررها الحكومات العربية في المنطقة.
لهذا لا زلْ ت أحترم حكومة دمشق إلى الآن، رغْم كلّ شيء. فهي صامدة حتى هذه اللحظة، رغم
السقوطات المتتالية.
الصمود لا يكفي طالما انذ الشعب السوري يعاني الذلّ و الهوان.
طال الحوار بيننا حول حزب الله وفلسطين وسوريا ولبنان و.... ولمْ ننتبه إلى تأخر إيراد الحاج
لمدة فاقت الساعتين.
علّق "ميلود" حائرا:
أتمنى من الله عز وجلّ أنْ يكون المانع خيرا...إيراد تأخر كثيرا هذه المرة.
رد أمير التوم:
إنْ شاء الله يكون بخير ...
( أغمض عينيه، ورفع يديه إلى السماء داعيا )
اللهم أنصره واَحمه.. اللهم ألْق على أعينهم غشاوة واَجعلهم لا يبصرون.. اللهم بك نستجير، فأجِره..
آمين يا رب العالمين.
فرددنا بعده:
آمين يا رب العالمين.
وأطبق الصم ت المَشوب بالخوف والارتباك... لمْ نضف كلمة واحدة بعد "آمين". انطوى كلّ واحد إلى
داخله يفتش في جيوب ذاكرته عن معاني الخوف والشك والريبة.
وإنْ كان "أمير التوم"، لمْ تظهر على تجاعيد وجهه تلك الحيرة... كان يتمتم على الأرجح، بتلاوة
القرآن لما أبداه من خشوع وثبات.
ومثلت بذهني لحظة القبض علي بحي الأعظمية ببغداد، بنفْس غرفتي اُلمحاطة بالخراب و الركام.
لحظتها، لمْ يسعفْني الوقْ ت بسحب مسدسي، ولا حتى نفْض الدهشة عن مخيلتي. رغْم أني لمْ أكن
أغطّ في نوم عميق.
وكان الفنان الشيخ إمام، يلْقي ببحته المعهودة أدران الوجع العربي وقيئه:
شيد ُ قصورك ع المزارع
من كدنا وعرق أيدينا
والخَمارات جنب المَصانع
والسجن مطْرح الجنِينه
واطْلق كلاَبك في الشوارع
واقْفلْ زنازينك علينا
...........
لحظة واحدة، كانت كافية لخلْع باب الغرفة واحتلالها. دون أنْ تتمكّن أصابعي من الوصول إلى
مسدسي...
لحظة واحدة، كانت كافية لتوجه نحو صدغي عشر فوهات مدافع رشاشة. ولم أستطع التكهن بعدد
الفوهات خارج البيت الآيل للسقوط .
لحظتها لا زال الشيخ الضرير يصدح:
أحنا اتوجعنا واكْتفينا
وعرفْنا مين سبب جراحنا.
لمْ أستطع لحظتها تحت الإنارة الخافتة للفانوس أنْ أميز الأمريكي من العراقي. كيف لي أنْ أميز،
وأنا كالأرنب تحت الإنارة الساطعة ؟ كعصفور جريح تفْصله عن مخالب الصقْر دقّة قلْب واحدة.
تقدم أحدهم، و بلهجة عراقية واضحة وبذيئة:
تسمع الشيخ إمام أيها الكلب ؟ أليس الأجدر بك أنْ تستمع لأسامة بن لادن أو الزرقاوي أو السيد
قطب ؟
لمْ أحرك ساكنا، ولمْ أجبه عن كّمه. فكلّ الإجابات لن تكون مقْنعة . ولن تثني بقية الغيلان
الأمريكية والعراقية عن العبث بالغرفة، وتحْويلها إلى مزبلة... أساسا لا شيء ا غير الأثاث القديم
وملابسي، وصورة زوجتي "سها" وابني "عاكف"، وصورة وحيدة للقائد صدم حسين، التي لمْ أنتبه إلى
أنه خلع من السلطة، ولمْ أخلعه من الجدار.
أحد رجال الشرطة العراقية، فك الصورة بعنف من الجدار ،وألقاها على الجدار المقابل فتهشمت.
فيما أفرغ الثاني ثلاث رصاصات في الصورة، وكأنه يتمنى أنْ يفرغها في صدام مباشرة.
فتشوا الغرفة، فلم يعثروا على شيء، عدا مسدسي الذي يحمل رقما، يشير إلى الشرطة العراقية قبل
سقوط بغداد.
تسلّمه أحد رجال الشرطة ... قلّبه بإعجاب، ودسه في جيبه . فيما تكفّل البقية بتقْييدي ووضع
عصابة على عيني، وقادوني إلى اْهول... إلى أبو غريب.
وأنا في الطريق كن ت أسأل نفْسي، هل تهمتي ستكون الانتماء إلى حزب البعث المحضور أم تنظيم القاعدة
الإرهابي ؟ لا فرق، فالنتيجة واحدة.
............................
فيما لا زلْ ت أمرر شريط الذاكرة، دخل "إيراد الحاج" إلى المترل، مستعملا مفتاحه لفتح الباب
الخارجي.
كانت ملامحه تخفي خبرا ما... ولم تكن مشيته ثابتة كعادا... ألْقى الصحف على الأرض، وواصل
سيره نحْو المطبخ ليضع ما اقْتناه من خضر هناك.
قطعنا حبال أفكارنا وانتبهنا... والنظرات تبحث عن المشهد الذي يمكن أنْ تعلّق عليه حيرا.
حلّ "إيراد" بيننا... أشعل سيجارة كان الوحيد المسموح له بتدخينها ، فهي ن الموبقات كما يقول الشيخ
أمير التوم و بارتباك فاضح رغْم الابتسامة التي حاول أنْ يرسمها على وجهه وراح يقْطع مربعات
الغرفة بخطوات مرتبكة وحذرة ... تسمر فجأة .. سحب نفسا عميقا من سيجارته ... التفت إلينا
محدقا في كلّ واحد منا ونطَق:
وصلتنا آخر التعليمات.
رد الشيخ "أمير التوم ":
هذا سبب تأخرك، أليس كذلك ؟
وهو كذلك..
إذن، أين المهمة القادمة؟
...............
لماذا هذه الحيرة ؟ نحن سخرنا لخدمة الإسلام والمسلمين ... سننفّذ مهمتنا أينما كانت وكيفما كانت
... وسيسدد الله خطانا ويحمينا بعونه .
( سحب نفسا عميقا ) ونعم بالله ... المهمة القادمة باريس.
انتفض ت كطائر الفينيق من رماده، وتساءلْ ت:
ما لنا وباريس ؟ لماذا باريس ؟ لماذا أوربا ؟ نحن نحارب في العراق وفلسطين وأفغانستان ... ما الذي
يدفعنا إلى الذهاب لأوربا؟
رد "إيراد":
تلك أوامر القيادة أبا مصعب... تعرف أننا ننضوي تحت لواء تنظيم دوليّ، ولا بد من التقيد
بالأوامر... لذلك...
أراد أنْ يكمل حديثه، غير أنّ إشارة من"أمير التوم" بطرف عينه "لإيراد"، جعله يتوقّف عن الحديث.
وفهم ت أنّ حرجا ما سقط من السقْف على رؤوسهم... كأنني خرج ت عن التنظيم بسؤالي ذلك.
فهم ت لحظتها أنني لا بد أنْ أنفّذ الأوامر لا غير.. لا أقرر عوضا عن أحد، ولا حتى عوضا عن نفْسي...
لا أسمع ... لا أرى.. لا أتكلّم.
أنا إذن تلك الآلة التي تبرمج لتنفيذ مهمة وكفى. و لكنني لمْ أترك بسؤالي ذلك لإيراد إمكانية
إكمال حديثه عن دواعي الذهاب إلى باريس ؟ وماذا سنفْعل في باريس ؟ ولماذا في هذا التوقيت ؟
لماذا ذهب بي الظن، أنني سأحارب الجيش الفرنسي أو الشعب الفرنسي ؟ لماذا لا يكون خروجنا من دمشق
إلى باريس هربا أو إستراتيجية أو تكتيكا ما لا بد من إتقانه؟
مع ذلك استغرب ت، لماذا لم يسأل أي من "ميلود" أو"أمير" عن سبب خروجنا إلى باريس؟ لماذا ؟ هل
تراهما فهما الدور المنوط بعهدتنا، ولم أفهمه لقلّة خبرتي بالتنظيمات والجهاد؟
حاول ت إصلاح الخطإ، بأنْ كشر ت عن أسناني مبتسما، وألقي ت ملاحظتي دون أنْ أدرك عواقبها :
كم تمني ت لو كانت المهمة القادمة في تلّ أبيب.. هذه أمنيتي.
كن ت ولا زلْ ت أدعو الله أنْ يحققها لي.
لحظتها أدركْ ت أنّ الطُّعم الذي ألقيته، كان كافيا ليغفروا لي خطئي أو سوء فهمهم لي ...علّق الشيخ
"أمير التوم":
الحمد لله ... لمْ تخيب نظري فيك. خبرتي بالرجال في هذا العمر لا تسمح لي بأنْ أخطأ في
تقييمهم.
اسمعني يا ابني.. أقول لك يا ابني هذه المرة، لأنني مطالب أنْ أعمل خبرتي وشيخوختي كي تفهمني .
مهما كبرت، ستبقى شابا على الدوام، وسنبقى في حاجة إلى خبرتك.
لا يهم كلّ هذا المديح .. المهم يا ابني أنْ تعرف ماذا تريد من الدنيا الفانية ؟ ولماذا أنت في هذه الدنيا
؟ ولماذا أنت خليفة الله في الأرض؟
نحن يا ابني، سخرنا أنفسنا طمعا في الآخرة لا في أموال الدنيا... وأنت تعرف أنّ شيخنا أسامة بن
لادن، كان من أكبر أثرياء المسلمين . لكنه فضل أنْ يسخر ماله ذاك لخدمة الإسلام، ولخدمة الجهاد
ضد الكفار و الملحدين. ولو اختار غير ذلك، لأمكن له أنْ يعيش في بذخ لا حدود له... لكن الدنيا
كالجسر نبنيه لنعبر إلى بر الأمان.
أرد ت أنْ أبرر سوء الفهم:
يا شيخنا أنا...
( قاطعني ) لا داعي للتبرير... نحن سنعبر معا إلى أوربا. وإذا أرد ت الانسلاخ، فيمكنك أنْ تبقى في
دمشق.
( موجها كلامه لإيراد )
متى سنغادر ؟
رد "إيراد"، وهو لا يزال واقفا:
فجرا... الثالثة صباحا نتوجه إلى الحدود التركية، ومنها إلى اليونان بحرا... ومن أثينا سندخل
باريس عبر البر.
تدخل "ميلود عبد القادر"، موجها كلامه إلى إيراد:
وأنت...؟
رد " إيراد " بأسف ترقْرق في حدقتيه:
أنا سأبقى في دمشق .. هذه أوامر القيادة .. من الممكن أنْ أسهل التحاق بعض الإخوان بكم في الأيام أو
الأشهر القادمة.
وهل ثمة من سيلْتحق بنا؟
هذا وارد ... ثمّ أنني إذا غب ت عن دمشق، بعد انتهاء العطلة المرضية التي أتمتع ا، فإنّ ذلك سيثير
الكثير من الشكوك حولي، وقد تتحرك الكثير من المياه الراكدة.
المهم علينا الاستعداد من الآن، حتى نلتزم بالوقْت و بالتعليمات.
(طأطأ رأسه وصمت قليلا وأكمل)
سأبقى مع "أبي مصعب"، وربما هو من سيلتحق بكم، هذه فرضية قد لا تصح.
الفصل السادس
المثقف يحرق أصابعة
بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، كن ت ألازم اليسار، أمشي بخطوات بطيئة وغير واثقة ... أنفث
دخان سجائري في الأشجار التي فقدت بريقها . لم تعد الأشجار تحْتفي بالطيور الراقصة كلّ مساء،
ولا بالصحف اليومية وبائعي الورد والشعراء الذين يبحثون عن بطاقة بريدية لحبيبام أو وردة
لكسب ود مومس أو اقْتناء كتاب أو جريدة لإكمال مشهد البروتوكول الثقافيّ ...
لا شيء من ذلك...
أرى الشارع مكتظا... راقصا... فرحا... رغم المهمشين والشعراء والبوليس السياسي.
لا شيء من ذلك...
بات الشارع خاويا ووحيدا يشكو للطيور اُلمحلّقة فوق أرجائه، صنيعة الإنسان في تحويل الجَمال إلى
ُ قبح.
كن ت أرصد المارة دون الانتباه إلى ملامحهم، عدا ما تخلّفه أنثى من عطر كحوليّ بأنفي، أو ما يلقَى في
الأبصار من لحم غض يكاد يرتمي عليك ليفْترس نزوتك.
توقّفْ ت قليلا أمام مقْهى باريس... وصلتني رائحة الجعة واستحضر ت موعدا كن ت عقدته مع "
لطفي". الأكيد أنه ينتظرني الآن بمقهى "الرانديفو" ... هل أخلف موعدي؟ أم أكسر شهوتي؟
ماذا لو راوغْ ت الوقْت، فشرب ت بعض الكؤوس، وأسرع ت لملاقاة رفيقي ؟
عرج ت على المقْهى... انزوي ت وحدي في ركن دون أنْ أنسى وضع علبة السجائر على الطاولة.
أسرع النادل نحوي، ليغير منفضة السجائر، ويمسح الطاولة قال:
صباح الخير.. تفضل.
ثلاث بيرة من فضلك.
أشعل ت سيجارتي، ولم يتأخر النادل كثيرا ...سكب ت كأسي الأولى وسقي ت ا دمائي الظمأى، وعقْلي
الشارد. كانت وهي تزحف في شراييني، تثير تقززا حلوا في مسام الجلد ... فتنتابني قشعريرة خفيفة،
نفضت ما بداخلي من روتين الجسد المتهالك.
سحب ت كنشي من جيبي الداخلي، ومددته على الطاولة، علّي أخطّ بعض التجاعيد أو أضمخ وجه
أوراقه ببعض الحبر الفاتر.
سكب ت الكأس الثانية... سحب ت نفسا من سيجارتي بكلّ الغلّ الذي بداخلي، وتركْ ت لظهري فسحة
للاتكاء على ظهر الكرسي الخشبي الأشبه بالأريكة...
كان الإرهاق يأخذ مني فرحي ذا الصباح... أحاديث البارحة مع "لينا" وأختها
"ماجدة" والكلام عن فلسطين والعمليات الجهادية...كانت ليلة مرهقة. لمْ أبك... لكن بكاء "لينا" ، نقَلَ
مخيلتي القاصرة إلى الأحياء القصديرية والمخيمات والفقر الفلسطيني، وتكرش الساسة وأصحاب
الصفقات.
يقينا، لو خرج هذا الشعب من المصيدة اليهودية، سيكون أعظم شعب في التاريخ. شعب افتك بامتياز
شهائد الرحيل والترحال وجرب بلدانا عديدة، وتنقّل عربيا وأوروبيا وآسيويا ...
الفلسطيني يتقن عديد اللغات، وامتزجت حضارته بحضارات عديدة.
أشعل ت سيجارتي ثانية، محاولا نفْض هذا الغزو الفلسطيني لذاكرتي اُلمرهقة، فحضر درويش:
كم أنت حر أيها المنسي في المقْهى
لا أحد يرى أثر الكمنجة فيك
لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك
أو يدقّق في ضبابك إنْ نظرت
... إلى فتاة وانكسرت أمامها
بالفعل لا أحد يحملق في حضوري، غير...
وكأنه كان يفتش في داخلي... اقْترب مني دوء وثبات، ثمّ جلس ُ قبالتي:
هل أجلس ؟
( دون اهتمام ) تفضل.
لمْ أعره اهتماما، رغْم أنّ قولة سارتر حضرت بعنف، كمن يلقي زجاجة حارقة على حقل من
الورد:
"الآخر هو الجحيم".
لماذا اختار هذه الطاولة تحديدا؟ لماذا أنا؟
حملقْ ت في الورقة البيضاء بالكنش، وشرع ت أخطّ عليها أشياء كخطوط مائلة أو منحنية ... دوائر...
مربعات... سطورا... نقاطا... أحرك القلم على الورقة، دون انتباه أو إدراك بما أرسم أو أخطّ...
علّق الجالس قبالتي:
هل أنت كاتب ؟
لا
إذن أنت صحفي؟
لا
هل تقيم بالعاصمة؟
لا ... أقيم في جنوب الصومال.
ودون أنْ يمنح لعقْلي مهلة لهضم تعليقي الفج، رد بانضباط:
بطاقة التعريف.
( ضحكْ ت دون أنْ أفتح فمي ) لا أعتقد أني أملك بطاقة تعريف.
إذن، تفضل معي.
إلى أين ؟
سأعلمك لاحقا .
ومن سيادتكم ؟
بوليس...
.....
حملقْ ت فيه بعيون خاوية تتقد فيها قطرات الجعة القارصة، دون أنْ أبدو مستغربا من مشهد يتكرر
باستمرار.
فيما سحب محفظته الصغيرة، مثبتا أمام بوتقة إبصاري بطاقته المهنية، موشاة بنجمة ذهبية
ساطعة... خلتها لحظتها بستة ضلوع، فعزم ت على الاحتجاج لأتراجع وألقي له بطاقة هويتي على
الطاولة.
قلّب البطاقة بتمعن، مراوحا بصره بين صورتي اُلمثبتة على البطاقة ووجهي اُلمثبت فوق هيكلي. وقال
بتهكّم أو استغراب:
أنت إذن موظّف ؟
( بسخرية ) موظّف ؟ ما رأيك ؟
لحْيتك لا تليق بموظّف.. ذه الشكل ستكون عرضة للتتبعات . ( مد لي البطاقة، وض )
تحسس ت لحْيتي بأناملي، فحضرت "غوانتانامو" وعمر عبد الرحمان ... مع ذلك يتباهى الماركسي
بلحيته.
أي مفارقة هذه؟
قلب ت ورقة الكنش، وحاولْ ت أنْ أرسم وجه ماركس وبجانبه أسامة بن لادن.
حملقْ ت في لحية كلّ واحد منهم فلم أجد فرقا.
إذنْ، كيف يعرفون أنّ هذه اللحية لماركسي، والأخرى لإسلامي؟
ألقي ت القلم بإهمال على الطاولة، ومزقْ ت الورقة، لأكتب :
"لحية بن لادن هي لحية ماركس".
لحظتها، وأنا أكتب الجملة، فكّر ت أنْ تكون عنوان مقال، ربما أشرع في كتابته ونشره بإحدى الصحف
التونسية. وإنْ كان هذا المقال سيثير حفيظة "لطفي"، وسيتهمني بأنني تنازلْ ت عن أفكاري التقدمية أو
ربما....
حينها رنّ هاتفي الجوال:
ألو صباح الخير لطفي.
صباح الورد والياسمين ... ( قالها بتهكّم ) مواعيدك دوما دقيقة... الساعة العاشرة والنصف.
نصف ساعة تأخير لا تغير العالم .
بسرعة أنا في انتظارك .
لطفي ... رجاء لا تقطع علي خلوتي... أنا بمقهى باريس . حاول أنْ تأتي، وإلا لا تنتظرني.
( بدهاء كثيرا ما يغلّف كلامه ) إذن أنت مع إحدى الجميلات لا...أنا بصحبة البيرة .. حاول أنْ
تأتي.. أحتاجك.
نصف ساعة، أكون بجانبك.
أكمل ت المكالمة وأعد ت الجهاز إلى جيبي، وكانت السيجارة اُلمتكأة على حافة المنفضة قد خمدت
أنفاسها إلى الأبد .. دفعتها بسبابتي إلى قاع المنفضة، وأشعلْ ت أخرى.
أكملْ ت القارورة الثالثة، محاولا أنْ أمسك اللحظة الهاربة... أنْ ُأدون على هذه الأوراق نزقي وفوضاي.
هي اللحظة وحدها تخيط لنا أزرار أصابعنا... شروخ لغتنا الهاربة إلى النهر: إلى دجلة مثلا ...
الفرات... الليطاني... على علْمنا أننا "لا نسبح في نفْس النهر مرتين".
... نبح ُ ث عن لغة، ا نضمخ أوراقنا وهزائمنا وتصدع أجسادنا وعقولنا ..
قد لا نجد اللغة والكلمات، مع ذلك ننتشي باصطيادها في حلم اليقظة. لذلك نتركها للصدفة، علّها
تحْضر دون إذن... أو تدخل بيوتنا عنوة.
أنا الآن أبحث عن المعنى في كؤوس الجعة ومنفضة السجائر والبوليس السياسي والسمكات الميتة
قرب نافورة شارع حكومي.. أبحث عن المعنى في الوردة اُلمتثائبة على قارعة الطريق... في نجْمة تفتح
غوايتها للسكارى الساهرين، تحت فوانيس الشوارع..
المعنى، هذا الذي يهمس لي شاعر أنني لن أجده.
إذن لماذا البكاء يا صديقي ؟ لماذا نوشح جهدنا بمعاطف البحث عن لذّة زائلة، أو غائبة؟
إنني لا أرى ما يستوجب البحث والبكاء... على علْمي باحتراق أصابعنا اُلمعدة للإنارة، وسقوط
زقْزقاتنا صرعى في فخاخ الثعالب.
إنني لا أرى ما يستوجب البكاء أيها الشاعر... أيتها الرائعة "لينا"... أيها العظيم "إيراد الحاج " أيها
الرفيق
" لطفي " ... لا أرى ما يستوجب البكاء.
فرغْم احتراق حواف الجهات والخرائط المعدة سلفا للتعديل... أرى النار في موقعي، تأتي على كلّ شيء
... أراها ترقص كالأشباح النازلة من كواكب أخرى. تأتي على الزرع والحجر والبيوت والعباد
والأشجار..تأتي على الملوك والحكام والجيوش والدول والبحار... أراها إسفلتا يتقد غليانا، كأنه يوم
الحشر:
اللهم ابتدإ التخريب الآن
فإنّ خرابا بالحق
بناء بالحق
هكذا لغّ الشاعر بمقهاه تلك بدمشق.
وأما الآن، فأرى النمل يزحف إلى أفواه الموتى، بعد معارك الخبز والكرامة والحدود واللاجئين
والمخيمات والشرف و .. و ...
منا منِ يدفن خارج المعركة، ومنا من ين ب ت في أفْواهنا قصائد أو أغاني أو ينب ت قضبانا لشدنا لأعماق
الطين.
أنا الآن أحادث القلم الممدد على عجزه... هو الكلام المضمخ برائحة الخازوق... هو الكلام اُلمتسربل بما
يوشح قبور الصبية الطيبين، ماتوا اختناقا بروائح الفسفور الأمريكي والصهيونيّ.
هكذا يموتون، ونموت أحياء وغرباء على طاولات الخمر أو على أوراق الحبر أو على العجز...هنا أو
هناك ...
......................
وصل النادل إلى الطاولة، لرفْع القوارير الفارغة، قل ت:
اثْنتان من فضلك.
وشرعت أشاغل الورقة تكْملة لعنوان : "اللحية عند بن لادن وماركس"، وكتب ت:
"الصراصير مسالمة جدا... تضحك كثيرا مثْل جهلنا، لكنها تضحك بخوف أشبه بخوف لحْية من
العلْمانية.
الصراصير هنا، تجْتهد لبناء مسارح للنباح الحضاري، و سدودا تعين مجاري الصرف الصحي على إغراق
المدن الفاضلة.
بالطبع، لا مدن فاضلة الآن وغدا مع ذلك فهي تتوقّع ثورة الشعراء والفلاسفة واليساريين
والإسلاميين والحقوقيين... كأنْ يحرق شاعر أصابعه الكريستالية، إيذانا بالاعتصام، كما تحرق
المنظمات اُلمناهضة للعولمة إطارات السيارات في الشوارع العامة ... كأنْ يؤسس أحد الفلاسفة نظرية في
الإرهاب، على غرار فلْسفة القوة أو فلسفة الجسد أو فلسفة الوعي ... كأنْ يهدم يساري مصنعا لشركة
متعددة الجنسيات... كأنْ يفجر إسلامي نفْسه بحزام ناسف، أمام إحدى السفارات المحْشوة باُلمؤامرة...
تساءلْ ت : لماذا لمْ أسمع بانتحاري فجر نفْسه أمام أحد المواخير اُلمنتشرة على كامل أرضنا العربية،
الملأى بالفقْر والأوبئة والجهل ؟
كأنْ ............."
رتب النادل قوارير الجعة على الطاولة، وغير منفضة السجائر، فقطع علي حبل أفكاري.
دخل "لطفي" يسبقه بطنه الذي لمْ يتقلّص حتى بفعل الاعتقالات العديدة.
وقفْ ت لأسلّم عليه، مرحبا:
أهلا رفيقي .
أيها الشقي، كعادتك تخْلف مواعيدك...
( مقاطعا ) نحْتاج أشياء أخرى أهم من المواعيد... أما الانضباط، ففرطْ ت فيه لرجال الأمن...
المهم...
أين "سامي" ؟ لمْ أره معك ؟
له بعض الالتزامات مع فرقته المسرحية . ومع ذلك تحدثْ ت معه عن مشروعنا، وأبدى استعداد.
إذا، أنا وأنت و"سامي" و"كريمة" و "لزهر" و" مراد".
... يكْفي ... في انتظار أنْ نضع النقاط على الحروف. المطلوب الآن ... عمليا ماذا علينا فعله؟
وكأنه لمْ ينتبه إلى كلامي، وهو يشير للنادل كي يأتيه بالجعة، ثمّ علّق:
فكْرة "اتحاد كتاب بديل"، تستدعي كثيرا من الوقْت والجهد. مع ذلك نبدأ بإصدار البيانات في
الصحف أولا .
ولنبدأ بجريدة "الشعب".
.. ثمّ نستعد لإصدار مجموعة شعرية لكلّ الأعضاء . وتكون كلّ مجموعة مقدمة لها ببيان شعري...
وتكون النصوص مختارة بدقّة، و تعبر عن المرحلة.
نحْن يا رفيقي، نريد نصا مغايرا و مختلفا... تكفينا شعارام وتمسحهم بالعتبات، على غرار : "موت
الإيديولوجيا" و "الفن للفن" ...
( قاطعني ) لي فكرة أخرى ...
ما هي؟
كلّ نصوصنا التي ستنشر لاحقا، يجب أنْ توقّع باسم صاحبها، وتحْته "اتحاد كتاب الرفْض". وكلّما
انضافت عناصر جديدة، تلْتزم بذلك.
رائع.. فكرة جيدة.
( مازحا ) كلّما كنت قريبا من الخمر، تصير أكثر قدرة على التفْكير.
( وصل النادل، ورتب قوارير الجعة أمامنا )
... بالمثل علينا تناول النصوص ذات الفكر التقدمي بالتحليل والنقْد، والاشتغال عليها، على غرار
نصوص محمد إقبال ومعين بسيسو وعبد العزيز المقالح وسميح القاسم ومظفر النواب و...
... وممدوح عدوان وأمل دنقل والبياتي ... هذا مهم ...عادة ما نستشهد بكتاب وفلاسفة، لهم مواقف
انهزامية أو ينخرطون في لعبة البلاطات.. ونضيف مهاجمة هؤلاء وفضحهم.
( وأنا أسكب له كأسا من البيرة، أكملْ ت : )
أنا أعتقد أنّ اتحاد الكتاب التونسيين، صار كالرجل المريض ... يجمع أشباه الكتاب، وأشباه الشعراء
ليجملوا الصورة الثقافية، ونبدو ك مجتمع مدنيّ حقيقي.
( تناول حقيبته، وسحب بعض الأوراق، رتبها أمامه )
سأقْرأ لك آخر نصوصي..
هذا أفضل ... صدقْني "لطفي"، أحتاج أنْ أسمع بعض الشعر.لأخرج من هذه البوتقة المظلمة ... أشعر
باختناق لا مثيل له .. كأني الآن مسجى على صليب، وسط ساحة معدة لإعدامي.
حسنا ... حسنا، اسمع:
أنت أيها اُلمدرج
وأنت أيها الحزن الطوي ُ ل
مدر ُ ج الحزن الطويلْ
وآيات الله أطْولَ
والصرخات تزعج مريم
والأنبياء والخرافة
........
كان يقْرأ قصيدته من صفحاا العشر، كمن ينزف حبرا. يرفع يده ال يسرى أو يثْنيها... يمد أصابعه...
يلوح بإبهامه... يقْبض على الريح... يبسط كفّه ...
فيما كن ت أركّب صورا ووقائع ومشاهد على كلماته، كي يكْتمل النص.
رغْم أنه لمْ يكن قارئا جيدا لنصوصه... بل قادرا على حشوها بأصابع الديناميت و الإيديولوجيا
الفاضحة.
"لطفي" لا يحركه الشعر ... بل تحركه السياسة. بل يجعل شعره جسرا لأفكاره اُلمفخخة . وأنت
تستمع له، كأنك تقْرأ بيانا لحزب العمال المحضور... هكذا يبدو لي، وإنْ كن ت ُأخطئ أحيانا كثيرة في
حكمي.
قلْ ت له عديد المرات:
دعك من السياسة الخاطئة، واكْتب الشعر... مارس فعل الكتابة بعنف. إنّ تكوينك الفلْسفي يمنحك
نوافذ كثيرة و متعددة للقول.
يمكن أنْ تقول بالنص ما لا يمكن أنْ تقوله في البيانات والترهات.
ربما... مع ذلك فالنص لا يقْدر على تغيير العالم، إلا إذا اتكأ على السياسي ... هكذا يقول "قرامشي"
دعك من "قرامشي" ... بصدق، هلْ تعتقد أنّ الفكر اليساري له القدرة الآن على أنْ يفتك مكانه من
جديد ؟
بالطبع... جدلية التاريخ لا تسمح بالثبات والتوقّف.
الحقيقة أنّ الفكر اليساري لم يظهر أبدا، لأنّ دورة التاريخ لم تكْتمل.
( قل ت ساخرا ) وكيف تكتمل سيد لينين؟
يجب أنْ يدرك النظام الرأسمالي ذروة أزمته.
... هو أدرك ذروته، لكّنه لم يدرك الأزمة .بل تخلّص منها إلى العولمة.
ومن أدراك أنّ العولمة، ليست أحد وجوه الرأسمالية ؟
لا ... لأنّ العولمة هي مرحلة متقدمة على الرأسمالية ... هي عملية نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي
إلى دول الأطراف، بعد أنْ كانت ثابتة ومحصورة في دول المركز .وهذا ما كان ليحصل في أوج النظام
الرأسمالي المعروف. وأذكر أنّ الفيلسوف صادق جلال العظم في كتاب "ما العولمة ؟ "، يعرفها
كالتالي:
"هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي إلى هذا الحد أو ذاك إلى الأطراف بعد حصرها
طوال هذه المدة كليا في مجتمعات المركز و دوله"
..................
كان الحوار أطول من مجرد نقْله على صفحات الذاكرة الضيقة... كان أعمق من السرد والتحليل.
لليلة كاملة نخوض في هذا الحوار الذي يبدو عقيما.
... نعم كان عقيما، لأنّ مفهوم العولمة، لم تتضح معالمه إلى الآن، وإلا لما وجدت الدول المتخلّفة نفسها
تتخبط في هذه الفوضى .
وقد ذكّرني هذا الحوار بمفهوم "الإرهاب" الذي لم يتضح، ولم تسع أطراف دولية إلى توضيحه أو
تفْسيره.
لا زلْ ت أحلّق بخيالي فوق الأقْبية التي صنعناها من حوارنا ليلتها... إلى اللحظة التي توقّف فيها
"لطفي" عن قراءة النص، محملقا في بعض الكلمات غير الواضحة، محاولا أنْ يتهجاها، فانتبه ت.
أصلح الكلمة بقلمي اُلملقى على الطاولة، وأكمل:
...............
الهلع الهل ع
إنْ زحف الويل على م دني
أشعلْتها
وإنْ حاصر ال غزاة وطني ذات فجيعة
لا أرح ُ ل هربا
أكمل النص، وتذكّر سيجارته التي خمدت أنفاسها... فأشعل أخرى، ثمّ مر للكأس يسقي حلْقه،
وعلّق:
ما رأيك ؟
( بتأفّف ) لس ت في حالة تسمح لي بإبداء رأيي، ولس ت قادرا على مناقشة أي فكرة هذا الصباح...
يكفيني أنني استمعت .
( محاولا رفْع معنوياته ) ربما نناقشه في جلسة أخرى... فقط أريد أنْ أسألك عن عنوان النص.
العنوان: العنكبوت.
( مد لي النص )
اقرأه على مهل، وأعطني رأيك فيه... عندي نسخة أخرى منه.
طوي ت الأوراق وغمستها في جيبي، ثمّ أعد ت ظهري ليستريح على ظهر الكرسي .... فاصطدم بصري
بسيدة تجلس منفردة على الطاولة، تمسك بسيجارا بين أنامل كالعنبر، كأا تمسك عودا من الند...
وعلى حواف كأسها ُ طبعت شفاهها القرمزية .
نظرا الذابلة، أثارت في داخلي كثيرا من الغرائز الحيوانية، وحين أطلْ ت النظر ابتسمت وشرعت
تحرك سبابتها اليسرى على حافة الكأس بحركات جنسية فاضحة ...
ابتسم ت، فانتبه "لطفي" مديرا عنقه إلى الخلف، ففضح نزوتي قائلا:
تستحق الانتباه.
مغرية حقّا... لكن لا بيت أخلع فيه نزوتي.
وإذا ساعدتك؟
تكون رفيقي بحق
حسنا ... بيت الرفاق مفتوح: "نجيب" في السجن كما تعلم، و "الفاهم" عاد إلى قريته... لن يعود
قبل الخميس، المهم أسرع واستمتع بحياتك قبل وصول حركة النهضة إلى السلطة.
جيد ... حينها سأدخل متسللا إلى خليلتي بنقاب ( قلتها بمكر ممزوج بالفرح )
سأغيب نصف ساعة لأجلب علبة سجائر... في الأثناء تكون قد أوقعتها في شراكك أيها الإمبراطور (
وبمكر ) وادفع ثمن البيرة.
فيما ض " لطفي " ومعه حقيبته التي لا تفارقه...عدلْ ت جلْستي، وأشعلْ ت سيجارة موجها
انتباهي وعيوني إليها.
انتبهت، فأشر ت إليها بطرف العين ... تناولت كأسها وعلبة سجائرها الأمريكية، وقدمت نحوي...
انحنت علي وقالت:
هل أجلس؟
بالطبع... بالطبع، يسعدني ذلك.
جلست ُ قبالتي كزهرة عباد الشمس، يسبقها صدرها اُلمتشنج وشفاهها العطْشى، وهي تتكلّم كأنّ
مياها تنساب فجرا نحْو مصبها... محاولة أنْ ترفق كلّ جملة بضحكة فاضحة مغرية، تحرك فيّ كلّ
يمي. محاولة بين الحين والآخر إبعاد خصلة من شعرها تدحرجت فوق عينها اليسرى، بحركة رشيقة
تتبعها بحركة من رأسها، فتنتفض حبات صدرها، وتكاد تخْرج وتستريح على الطاولة.
لم تدرِ الساعة دورا كاملة، حتى كن ت وإياها في مترل الرفاق المحْشو في أزقّة المدينة العتيقة، وقد
غادرنا "لطفي".
بالغرفة الوحيدة الملأى بالكتب وأشرطة الكاسات والجوارب وعلب الجعة الفارغة ... كن ت أمر على
الأشياء : صورة "لجيفارا" وأخرى"لبوب مارلي" ومعلّقات لرابطة حقوق الإنسان ومنظمة العفْو الدولية
... صحف ومجلات ودوريات، ملقاة دون ترتيب على الأرض وبعضها على رفوف من خشب شدت بقضبان
طويلة.
... لا مكان هنا للأسرة... فقط حشايا ووسائد ممدودة وسطَ غرفة كسجن.
فيما كن ت أتصفّح بعض الكتب، وأقرأ بعض الكراسات... كانت " منية" قد خلعت سروالها " الدجيتر"
وسترا، مكتفية بلباس داخلي شفّاف يسترها إلى ما فوق الركبتين، كاشفا عن نصف صدرها العلْوي...
تمددت على الأرض، وأشعلت سيجارا بإغراء شديد.
دون أنْ ألتفت إليها وأنا أتصفّح مجلّة "أطروحات" سألتها:
منذ متى بدأت هذه التجربة؟
( ابتسمت بمرارة ) ولماذا تسأل؟
بالطبع لس ت عميلا سياسيا، ولس ت رجل أمن... مجرد سؤال، يمكنك أنْ لا تجيبي عنه.
( تنهدت ) لا أعرف بالضبط .. ما أتذكّره، هو أنّ زوجي تعرض إلى حادث مرور بسيارة مجهولة...
يشاع أا لرجل أمن.
( قاطعتها ) وهل أنت متزوجة؟
تقريبا... تزوج ت عاملا بسيطا .. ( نفثت دخان سيجارا في سقْف الغرفة ) مع ذلك، كن ت سعيدة
رغْم الفقر، وأنجب ت منه طفلا.
وبعد ...؟
... حادث المرور أفقد زوجي ساقه اليمنى، وقطعوا ساقه اليسرى بعد ستة أشهر إثر إصابتها
بالسكّري.
( حملقت في السقف كأا تستلهم منه ماضيها ) زارنا صديقه، واقترح علي أنْ أشتغل معه في دكان لبيع
الملابس الجاهزة.
وبعد ..؟
سألتها، متنبئا أنّ القصة مشوقة... ألقي ت الّة من يدي، وجلس ت على صندوق خشبي، بعد أنْ أشعلْ ت
سيجارتي وانتبه ت.
بعد أنْ رفعت تنهيدة كانت جاثمة على أنفاسها، أكملت:
كان لا بد من العمل، لأعيل زوجي وطفلي والغرفة اُلمتداعية التي نقْطنها على وجه الكراء، شهر واحد
فقط كان كافيا ليغدق علي صديق زوجي الهدايا والأموال، ثمّ أوقعني في شراكه. وصار يعاملني
كعشيقته، ثمّ أصبح يعرضني على أصدقائه ...
( قاطعتها ) بالطبع زوجك لا علْم له بالموضوع ؟
لا أعتقد ... كانت الأموال التي أقدمها له والملابس التي كن ت أرتديها و العطورات الفاخرة و .. و ..
لا يمكن أنْ تقْنعه أا من أجرتي التي لا تتجاوز المائة دينار.
المهم....
ُأطرد ت من العمل بتهمة السرقة، بعد أن عثر صاحبه على خليلة أخرى. وكان لا بد أنْ أكسب المال بأي
طريقة، ولو بالرجوع إلى الزبائن الذين كان يعرض عليهم جسدي... وهكذا إلى أنْ ُ قبض علي في مترل
أعد للزناء.
( تدحرجت دمعات إلى خدها، ولم تحاول منها )
لمّا خرج ت، كان زوجي قد توفّي وابني لا أعرف مكانه إلى الآن.
وها أنا الآن أطوف من بيت إلى بيت، ومن مقهى إلى مقهى، ومن سيارة إلى أخرى...
انتفض ت كمن تعثّر بقطّ أسود، متجها إلى الكتب اُلمرصفة بلا نظام، وشرع ت في تصفّحها : رأس
المال... مدن الملح ... شرق المتوسط... اللجنة... سارتر ... فوكو ... درويش... نيتشه ... سان جون
بيرس... صادق جلال العظم ...
انتصبت " منية "، واقتربت مني... طوقتني بيديها من خصري، وألقت رأسها على كتفي:
هل ستبقى تتصفّح الكتب ؟
الكتب أهم ...
وأنا... ؟
أنت...ارتدي ملابسك...
( سحب ت عشرة دنانير من محفظتي الصغيرة، ومددا لها بلطف )
لماذا تعاملني ذه الطريقة؟
لا تفْهميني خطأ... أنا في حالة نفْسية يرثى لها، وزادت قصتك في تكْديري. أنت لا تعنيك سعادتي أو
نشوتي... ما يهمك هو المال.مهنتك هي قح ...
أكمل لماذا صمت؟ نعم هي مهنتي... إذا لم تتوفّر لي مهنة أخرى. لا يهم إنْ تاجر ت بجسدي، إنه جسد
فان، فما حاجتي به ما دام بإمكاني أنْ ُأنفق منه أو بواسطته.
دعك من كلّ هذا ... خذي هذه الورقة، وغادري حالا.
وانشغلْ ت عنها بالمكتبة، إلى أنْ غادرت. ألقي ت ما بيدي على الحشايا، وقد أثارني كلامها عن الجسد،
فحضر النواب:
نخبك... نخبك سيدتي
لمْ يتلوث منك سوى اللحم الفاني
فالبعض يبيع اليابس والأخضر
و يدافع عن كلّ قضايا الكون
ويهرب من وجه قضيته
نخبك... نخبك...
أنت التي فهمت الجسد، ولم أفهمه.. للمرة الثانية أنفرد بسيدة ولا أسقي حقولها بمياهي الدافقة ...
للمرة الثانية لا يطاوعني جسدي أو ربما عقلي الذي يحضر فيفْسد الاحتفال.
كن ت مع أخرى ذات ربيع بمناسبة تظاهرة ثقافية، أحضن بتلات جسدها الناعمة، وهي ممددة بين
ذراعي... طفولتها تحاول أنْ تقاوم ثورة جسدها الغض، دون جدوى. انتصبت حبات الرمان تحت
أصابعي، وهي تزداد ارتخاء كلما مرر ت شفاهي على خدها أو عنقها أو... كد ت...
غير أني رفض ت أنْ أكون فاتح أرضها. علّي إذا ما فتح ت، أشرع ت كلّ الأبواب والشرفات على حدائقها
فتنتهك.
غير أا عكس هذه المومس، ما تلوث منها كان أكثر من اللحم الفاني . صارت كمضغة بدبر بغل، مباحة
للجميع.
هذه المومس كغيرها من مومسات عديدات، يقعن بفعل حبائل الفقر ... وما أشدها. أما التي
استحضرا فلا هي واعية بما تفْعله ولا الفقر هدها... فعرضت جسدها للبيع. هي أشبه بفراشة أينما
سطعت إنارة ارتمت لتحرقها.
حضرت " فاطمة " كأي امرأة يمكن أنْ تحضر دون إذن، فتجادلها أو تحادثها أو تمقتها أو تتمنى أن
تحتضنها أو تقتلها...
انتصب ت واقفا ... تناولْ ت ورقة بيضاء وكتب ت عليها:
"رفيقي لطفي ... أنا غادر ت العاصمة في اتجاه مدينتي، ومعي ديوان بابلو نيرودا ... أعيده لك في
زيارتي القادمة".
وضع ت الورقة على الصندوق الخشبي وحمل ت الكتاب، مخلّفا ورائي رائحة عطر نسائي ونزوتي .
الفصل السابع
مبادلة الرهينة
لا زالت سيارة الشرطة التي تقلّني إلى حي ُ ث لا أدري، تطْوي الأرض طيا.
كن ت أشعر بذلك من خلال صوت السيارة اُلمرتفع، وسهام الريح الوافدة إلى الداخل من نافذة لمْ توصد
تماما.
لم أستطع أنْ أحدد المدة الفاصلة بين ركوب السيارة وتوقّفها... رغْم أا مدة يمكن أنْ تتجاوز الساعة
بقليل.
توقّفْنا... وتمّ إنزالي برفْق كما اعتقد ت، ولم ُأبارح مكاني. حينها سمع ت أحد الذين رافقوني،
يقول كمن يوجه كلامه إلى من يبعد عنه عشرين مترا بحدسي فقط خمّن ت ذلك، رغْم العصابة التي
ما زالت تحْجب عني الإنارة، قال:
الأمانة عندنا الآن.
أجابه آخر من الجهة الأخرى:
وهذه أمانتكم بعون الله.
لمْ أفهم معنى الحوار تماما... فقط وخزني أحدهم من ظهري، قائلا:
تقدمي إلى الأمام.
تقدم ت بخطى بطيئة، محاولة تحسس الطريق بأصابعي التي أمدها أمامي ل تعينني على تلمس
اللاشيء، ودقات قلبي كبوصلة لا تشير إلى شيء... تدق كإيقاع طبل منتفخ بصوت الحرب.
لم أكن واعية، هل أنا أسير بمفْردي أم بصحبة أي كان، أو كن ت أقا د دون علمي إلى هاوية ما.
.... قرابة دقيقة أو أقلّ من المشي، أمسك بي أحدهم من كتفي وهو يقف أمامي، قائلا بصوت مختلف
لمْ أعهده كأنه صوت شيخ يحادثني أو يحادث نفسه:
جيد... جيد جدا.. ( ووجه كلامه إلى آخر لم أتبينه ) خذوها إلى الداخل بسرعة.
بعد ساعة قضيتها بغرفة أشبه بقاعة مسجد، مقيدة اليدين والساقين وقد فكّوا عن بصري
عصابتهم.. وصل شيخ عليه وقار ورهبة، مع أنّ عيونه تشع إباء وحدة. جلَس قبالتي على كرسي
خشبي، وقد مد سبحته ليحرك حباا دوء وخشوع... أو ربما كانت السبحة بيده ولم أنتبه .
عدل من جلْسته قليلا بعد ما يقارب الدقيقة من الصمت، دون أنْ يرفع عيونه نحوي، وقال:
أنت الآن في رعاية تنظيم القاعدة ببلاد الرافدين.
لمْ أشعر بخوف شبيه بخوف هذه اللحظة، ولا أتذكّر أنّ خوفي أسرع في شراييني كالنمل. ثمّ حفَر
تحت الجلد، ليصبغ على وجهي ارتباكا لا مثيل له.
كثيرا ما سمع ت عن تنظيم القاعدة والإرهاب و 11 سبتمبر و"أسامة بن لادن" و
"الظواهري"... وأذكر أنه في كلّ مرة تحضر هذه الأسماء، يحضر الخوف والفجيعة والرهبة وترتفع
درجات الحيطة في دول أوروبا وأمريكا إلى مستوى السقْف. فما بالك بامرأة وقعت الآن في شراكهم.
وبعد لحظات من الصمت، أكمل:
لن نعاملك كما عاملك حزب البعث البائد.وبعون الله ستكونين بخير ...أنت فقط رهينة للضغط على
أعداء الله.
حينها فقط فهم ت أنّ وجهتي حولت من تنظيم إلى تنظيم آخر بالمبادلة أو بعنوان صفقة ما.
وكيف سأعامل وأنا بين براثن تنظيم القاعدة ؟
ما الذي سيفْعله بي أبناء "الزرقاوي" وأحفاد "بن لادن"؟
كيف سأكون بخير ؟ وأنا لا أعرف مصيري، وما الذي سيحصل لي ؟ هل ُأعدم بحبال الإسلام الإرهابي ؟
أم ُأرمى بالرصاص وألقى إلى كلاب الشوارع؟
هل يذْبحني "الزرقاوي"، كما ذَبح تلك الرهينة الأمريكية أمام شاشات العالم ؟ أم ينهشون لحْمي الغض
المغري، كما تغتصب مومس، وقد وقعت بأيدي عصابة منظمة ؟
كأنه ألقى سبحته إلى بوتقة تفكيري لترصد خوفي وأسئلتي... أو أبصر خوفي في عيوني الحيرى،
وهي تمْسح المكان علّها تعثر على بصيص من أمل يخرجها من القفص اُلمحاط بالفخاخ.
قال دوء لا مثيل له:
قل ت لا تخافي، بعون الله لن يمسسك ضر.
ض إلى خزانة خشبية بلا أقفال، وتناول منها لباسا أسود ألقاه بجانبي، وأكمل:
عليك الآن أنْ تستري عورتك، لتكوني أختنا في الإسلام.
وعلى علمي باللغة العربية، إلا أنني لمْ أفهم ماذا يقصد بالعورة... لم ُأصادف هذا المصطلح من قبل
. فسأل ت بارتباك:
لم أفهم ....
( مبتسما ) ارتدي هذا اللباس العراقي، وغطّي رأسك... هذا كلّ شيء.
وقيدي ..؟
آه ... فهم ت... سأفك قيدك، وأتركك لخمس دقائق.
( أشر ت برأسي علامة اُلموافقة، ولم أعلّق ).....
تقدم مني وفك أسري، ثمّ غادر الغرفة ليعود وقد ارتدي ت ملابسي العراقية السوداء، ولم أسأله
وهو يعيد القيد إلى معصمي، إنْ كان لون اللباس دلالة الحزن، أم هو لباس تقْليدي متداول.
وقبل أنْ يغادر الغرفة، أشار بسبابته إلى كتاب كان ملقى على طاولة صغيرة، وقال لي:
بجانبك كتاب الله العزيز، يمكنك قراءته . أنت لست على طهارة، مع ذلك قراءة القرآن أفضل من
تركه.
لمْ أنتبه إلى كلامه، ولمْ أعر لكتاب القرآن انتباها... وتنفّس ت الصعداء عندما خرج، كأنّ حجارة
بحجم جبل كانت جاثمة على صدري.
اتكأ ت إلى الحائط، محاولة أنْ أغالب رغْبة جسدي في النوم. فالمكان لا أمان به، ولا يمكنني أنْ أثق
ؤلاء.
كلّما أخذني النوم قليلا، أرى سكاكينهم تمْتد إلى عنقي... أرى بنادقهم... أرى الأحزمة الناسفة
والسيارات اُلمفخخة... أرى محطات الميترو بلندن، تتناثر إربا... أرى الأبراج تتهاوى كنجمة
محترقة...
مر بذاكرتي لحظتها، حجم الفجيعة التي أصابت والدي وهو يتابع أحداث 11 سبتمبر... ظلّ ممسكا
بسيجارته والطائرات تصطدم الواحدة تلوى الأخرى، كأنك أمام مشهد سينمائي خادع ُأعد له جيدا.
فيما لا يزال اُلمحلّل السياسي يعلّق على الحدث، كان والدي منهارا على الأريكة دون حراك. غير أنه بعد
يوم واحد، صار متفائلا ومبتسما، كأنّ ما حدثَ البارحة كان مسرحية.
لمْ يعد مهتما و منشغلا بالحدث وبالعملية الإرهابية، عدا ما كان يلغّ به أمام مجموعة من الحقوقيين
اليهود، كلما اجتمع م في مترلنا... يناقشون آخر الأحداث ومواقف الدول الكبرى والدول العربية
وحتى بعض الخونة من اليهود.
وعلى خلاف والدي اُلمنشغل بالأنشطة السياسية والثقافية... كن ت لا أهتم بغير عملي بفرع منظّمة
الأمم المتحدة للإغاثة. لا أبدو سياسية، ولا أفهم كثيرا في الإيديولوجيا والأحزاب، عدا ما يتوفّر
للمواطن العادي.
أما والدي فهو العضو الناشط بحزب الخضر، ورئيس منظمة "ضد الفكر النازي" التي أسسها،
ويترأسها منذ سقوط جدار برلين. لا زال ينشط بحماس، كلما اشتد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو
كلما ض أحد الجامعيين أو المثقّفين ليشكّك في المحارق النازية.
ولا زلْ ت أذكر جيدا العمل الهام الذي قام به أثناء محاكمة "دافيد إيرفينج" في محكمة ألمانية قضت
بتغريمه عشرة آلاف مارك، بعد أنْ شكّك في حدوث جرائم ضد الإنسانية. وهو ما حصل مع الكاتب
"جارودي"، حيث كان والدي يتنقّل حتى إلى فرنسا والنمسا وانجلترا لحشد الأنصار اليهود ضد هؤلاء.
لمْ ْدأ الحركة في بيتنا، من استقبال الشخصيات السياسية والثقافية والدينية ... تناقش تأثير
هذا الحدث على العلاقات بين اليهود، ومدى النجاح الذي يمكن أنْ يتحقق لهذا الكاتب، خاصة إذا
استثمر العرب نظرياته.
كان والدي يدافع عن موقفه وعن منظّمة "ضد الفكر النازي"... أمام جمع من اليهود واُلمناهضين
لل مشكّكين في المحارق النازية.
وهو يلوح بجملة من الأوراق، هي عبارة عن بيانات ستوزع في الشوارع الألمانية..و تعلّق في الأماكن
العامة.
فيما سيتكفّل هو ومجموعة من الحقوقيين، بحشد الدعم الدولي للضغط على القضاء الألماني.
لمْ أعر اهتماما للمسألة، رغم تعاطفي مع اليهود ومع من لقي حتفه في المحارق النازية. كن ت أدخل
عليهم دون أنْ أنضم إلى حوارام، ودون أنْ يدعوني أحد منهم لمتابعة الحوار، رغم أني إطار بمنظّمة
دولية.
هذا عدا المرة التي أعدت فيها المنظّمة تقريرا لمناقشته، حول تراجع المحاصيل الزراعية في الأراضي
الفلسطينية. والتي ألمحت فيه اللجنة الرافعة للتقْرير إلى تأثير السياسة الإسرائيلية اللاإنسانية على
الوضع الاقتصادي.
ثار نقاش عنيف في أروقة المنظمة، حول مفهوم"اللاإنسانيّ"، و عرض التقرير للنقاش مرة أخرى قصد
تعديله.
أثناء ذلك، دخلْ ت على والدي في مكتبه بمترلنا، وكان منشغلا بقراءة كتاب
"بروتوكولات حكماء صهيون"، الذي كثيرا ما أشاهده يتصفّح أفكاره، وكأنه يستمد منه أحكاما إلهية.
غير أنه كثيرا ما يسرع إلى إخفائه بارتباك، كلما حلّ ضيف فجأة أو دون سابق إعلام... يطويه
بسرعة، ويدسه في درج مكتبه بخوف الختريرة على أطفالها.
دخلْ ت، فانتبه إليّ بشيء من الغرابة، وعلّق:
لا أراك تترددين كثيرا على مكتبي ... ما المسألة؟
ليس شيئا مهما... فقط أرد ت أنْ أستشيرك في مسألة، علّي أتحسس زوايا الموضوع.
ما نوع الاستشارة ؟
سياسية طبعا .
أعرف .. أعرف ... أقصد بماذا تتعلّق ؟
تتعلّق بتقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة للإغاثة، حول تأثير الحصار الإسرائيلي على الوضع
الفلاحي لدى العرب في "غزة".
( طوى الكتاب الذي أمامه، وخلع نظارته ) وماذا جاء في التقرير ؟
جاء فيه أنّ الحصار الإسرائيلي لا إنساني.
( رد بحدة ) هذا تقرير ملفّق ضد اليهود.الغرض منه منع اليهود من الدفاع عن أرضهم اُلمقدسة ضد
الإرهابيين العرب.
( خفّف من حدة كلامه ) وهل صادقوا على التقرير ؟
لا... يبدو أم سيناقشون مسألة "اللاإنسانيّ" هذه.
طيب... طيب ، هذا ما يجب أنْ يحصل.
على كلّ أعلميني بآخر الأحداث، حتى يمكننا التحرك.
أكمل كلامه، وعاد يرتب نظارته على أنفه الحاد. ثمّ فتح الكتاب الذي أمامه، على نفس الصفحة
التي كان توقّف عندها.
فهم ت منه أنّ الحوار قد انتهى.
هكذا كان والدي يتعامل مع الجميع بجفاء وبكلمات واضحة و مختصرة... حتى مع عائلتنا
الضيقة.
وأذكر أنّ آخر حوار دار بينه وبين أمي وهي على فراش الموت كان جافا وقاسيا لا ينم عن مسؤول
عن عائلة.
قالت له:
"هانز" قد لا أعيش بعد اليوم ؟
لا داعي لهذا الكلام... سأطلب لك الطبيب .
أنا لا أريد طبيبا، أريدك بجانبي في هذه اللحظات.
لا أستطيع... لي أشغال لا بد من إتمامها . سأغادر الآن، وستتكفّل "أنجيلا" باستدعاء الطبيب.
هانز ...
( وهو يغادر ) أتمنى لك الشفاء... لن أتأخر.
غادر مسرعا نحو أعماله وسياسته وأنشطته، تاركا أمي تصارع حشرجات الموت، لتلفظ أنفاسها بعد
دقائق.
كانت عائلتي رغم الجفاء العاطفي تعد عائلة محافظة، من أصول يهودية هاجرت إلى بريطانيا زمن
الحكْم النازي، وعادت إلى ألمانيا بداية الستينات، حي ُ ث تعرف أبي على ابنة صديق والده وتزوجها.
هي أمي التي ماتت، حين بلغ ت العقْد الثاني من عمري.
لذلك جاءت علاقتي الشاذة ب "نارمين"، سيفا مسلّطا على رقبتي. أخشى أنْ يصيبني، فتنهار علاقتي
بوالدي. فرغم تفتحه وتحرره إلا أنه الدفاعه عن السحاقيين واللواطيين.
ما كن ت أخشاه حصل فعلا، واستعملت "نارمين" شريط فيديو ضمنته صورا من علاقتي الشاذة معها
لتهددني. بأن تكشف علاقتي الشاذة لوسائل الإعلام فأفقد منصبي المحترم بمنظمة الأمم المتحدة.
وكان المقابل هو أنْ أعمل لصالح اُلمخابرات الإسرائيلية.
يا له من موقف، فلو كن ت امرأة عادية لهان الأمر، لكنني إطار سام بمنظّمة دولية. وأي تشويه لسمعتي،
قد يفقدني عملي.
فهم ت تبعا لذلك أنّ "نارمين" لم تقابلْني صدفة لمّا تعطّلت سيارتي تحت الأمطار. وحتى سيارتي تمّ
تعطيل محركها عمدا، لأقع بالتدرج في هذه اللعبة التي لمْ أفق منها، إلا وأنا محاصرة برغباتي
الجنسية التي لمْ تخْمد أبدا، وبسطْوة اُلمخابرات الإسرائيلية.
وما وقوعي في براثن اموعات الإرهابية في العراق، إلا بسبب مهمة ُ كلّفْ ت ا، وليس بسبب عملي في
المنظمة الدولية.
في اليوم الذي اختطفت فيه، كان اليوم قبل الأخير ُلمغادرتي التراب العراقي في اتجاه واشنطن
لحضور مؤتمر دوليّ. لذلك ُ كلّفْ ت بمقابلة أحد أعضاء المليشيات التابعة لوزير بالحكومة العراقية،
ليسلّمني وثائق أحملها إلى "نارمين" ومنها إلى عميل آخر باُلمخابرات الإسرائيلية . وبسبب تلك
الوثائق، ها أنا الآن في كماشة إرهابيين لا أعرف ما سيصنعون بمصيري.
فهل تتدخل إسرائيل لإنقاذي ؟ أم منظمة الأمم المتحدة ؟ وما أدراني أنّ منظمة الأمم المتحدة ستسعى
لفك أسري إذا علمت أني أشتغل عميلة لل مخابرات الإسرائيلية ؟
و والدي هلْ سيفْتخر بي أمام أصدقائه السياسيين، إذا علم أنني أعمل لصالح الشعب اليهودي؟ وفي
حقيقة الأمر، لم يكن ذلك الشريط الذي يصور علاقتي الشاذة بنارمين هو السبب الوحيد لانضمامي
للمخابرات الإسرائيلية .. فأنا كنت قادرة على العيش بأريحية وبترف لا مثيل له، بحكم الثروة الهائلة
التي اكتترها والدي في البنوك والبورصات وتجارة الذهب. وإنْ كنت حريصة كلّ الحرص على منصبي
بالمنظمة الأممية، إلا أنّ والدي أمكن له أنْ يزرع في داخلي حبا جارفا للشعب اليهودي وتعاطفا مع
قضيته العادلة في "أورشليم".
صر ت تبعا لذلك أتوفّر على قدر هائل من الكره والنقمة على العرب الوسخين والإرهابيين وعلى كل
مسلم أراه يسجد لربه، ذلك السجود الذي معناه الخنوع والخوف والتملّق. لذلك كلما أرى مسلما يقتل أو
يسج به في الزنازين والمعتقلات أردد بيني وبين نفسي أنّ العالم ارتاح من جرذ يمكن أنْ يصيب الإنسانية
بالوباء.
لا أدري... لا أدري..
كلّها أسئلة تنطّ في ذهني و تشوش علي محاولة ترتيب الأفكار.
أرد ت التخلّص من كلّ ذلك بمحاولة تصفّح كتام... كتاب القرآن الذي يتخذونه مرجعا لممارسة
الإرهاب، والتعدي على الأبرياء . فتح ت الكتاب لأقرأ أي شيء:
" أو لمْ يروا أنا خلقْنا ُ لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مال ُ كون * وذلّلْناها ُ لهم فمنها ر ُ كو بهم ومنها
يأ ُ كلون * و ُ لهم فيها منافع ومشارِب أَفَلا يش ُ ك رون * واتخ ُ ذوا من دون الله آلهة لعلّهم ينص رون * لا
يستطي عونَ نصرهم و هم ُ لهم جند محض رون * فلا يح زنك قو ُ لهم إنا نعلَ م ما يسرونَ وما يعلنون * أَو لمْ
ير الإنسان أنا خلقْناه من نطْفَة فإذا هم خصيم مبين * ..."
لمْ ُأكمل ما تبقّى من السورة، فقط لقشعريرة حلّت بجسدي...برهبة أحسستها وأنا أمر على إيقاع
ليس بالشعر ولا بالنثر. لمْ أصادف نصا عربيا ذا التأثير والترتيب، ثمّ أنّ شعر العرب لا يرتب ذا
الشكل على الورقة.
ما شدني فعلا، حديث القرآن عن النطفة التي هي السبب الأول لنشأة الجنين في رحم أمه.
كيف أمكن لهذا النص أنْ يدرك هذا المفهوم زمن رسولهم الأمي الجاهل ؟ كيف ؟....
اختلطت أشياء كثيرة في ذهني... هي مزيج من الرهبة والشوق والارتباك.
فتح ت الكتاب على صفحته الأولى، وشرع ت أقْرأ متهجية كلمات لمْ ُأصادفْها أو لم أستطع شرحها، أو
هي بسبب الخطّ العربي اُلمتشعب، لمْ أتبين أحرفها.
كلّما تقدم ت أكثر، ازدد ت حيرة وارتباكا...
سمع ت خطوات أحدهم، فألقي ت الكتاب جانبا وتظاهر ت بالنوم . دخل نفس الشيخ إلى الغرفة،
وأوصد باا من الداخل، متخذا نفس الكرسي الخشبي للجلوس، وقال:
أعرف أنك لست نائمة .. إقرئي القرآن، سيساعدك كثيرا.
شعر ت بأنّ العرق الذي يتصبب على جبيني، قد فضحني، ففتح ت عيوني قائلة له:
ماذا ستفْعلون بي؟
هلْ أنت جائعة ؟
لا يهم... سألْتك ماذا ستفْعلون بي ؟
سنقرر لاحقا.. لا ْتمي، إقرئي القرآن فقد تصبحين امرأة مسلمة . والله سبحانه وتعالى قد أكرم
المسلمات، وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات.
إذن لماذا تقتلون النساء، وتذبحون الرجال ؟
من قال لك ذلك ؟
كلّ الصحف والقنوات التلفزية، تعلن ذلك و تمرر صوركم وأخباركم.
( ابتسم ) هذا هراء... يحاولون تشويه سمعة الإسلام.
نحن يا ابنتي ندافع عن أرضنا... صحيح أنّ الوسائل أحيانا لا إنسانية. لكننا نحن من احتلّوا أرضهم،
واغْتصبوا نساءهم، وانتهكوا ح رمام ، و... و.... أليس كذلك؟
لا أعرف...
ض من مقعده ليغادر الغرفة، ثمّ عاد حاملا معه طبقا عليه بعض الخبز وحساء لمْ أتبين لونه
تماما، غير ما يب ين من خضار داخله.
وضع الطبق أمامي وانصرف، دون أنْ ينسى إغلاق الباب خلفه. وكانت الإضاءة التي تتقلّص شيئا فشيئا،
تشي أنه المساء أو بداية الليل. لذلك تكهن ت أنّ ما قدموه لي على هذا الطبق من خبز وحساء، إنما هو
العشاء.
رفع ت الإناء إلى أنفي أشم ما بداخله، فصفعتني رائحة حارة لم أتبينها... وتذوقته ..
أعدت الإناء إلى الأرض بتوتر وبصق ت ما علق بفمي من حساء لم أتبين أي صنف من الأطعمة
هو.فتش ت في كلّ الأطعمة الألمانية فلم أجد له مثيلا... أسلم ت رأسي إلى الحائط بتأفف، فوخزني
الجوع وتحركت أمعائي تعلن احتجاجها.
نظر ت إلى الإناء من جديد ثمّ إلى الخبز ولم أتمالك رغبتي في الأكل.. بالأحرى رغبتي في أنْ أبقى
على قيد الحياة.
الفصل الثامن
هذه اللوحة للتعذيب
بنفْس التوقيت تقريبا، كان "نواف" مجتمعا ب "أبي ايد" و"أبي الوليد"...
بذات القبو حي ُ ث كانت "أنجيلا" أسيرة هناك... الإضاءة فانوس زيتي شد للعمود الرافع ذلك السقف
القصديري، واموعة بلباس عسكري يحيطون بخريطة ممددة على الأرض، بجانب أسلحتهم اُلملقاة
حذْوهم.
في حين كان "نواف" يوضح للبقية المسالك والطرقات اُلممكنة التي ستستعمل لتنفيذ العملية ...
كان الهدوء يسود الشوارع، عدا أصوات طلقات نارية متقطّعة آتية من بعيد.
وضح "نواف"، واضعا سبابته على الخريطة:
بعد تفْجير الموقع الوهمي، ستهب رجال الشرطة إلى المكان. تكون حينها "أبو الوليد" في رأس الشارع،
قرب مكان التفجير، لتهاجمهم بالرصاص دون أنْ تعرض نفسك للخطر.
في حين سيكون "أبو ايد" و "تمّام" في الرأس الثاني للطريق، من حيث قدموا
( متداركا ) طبعا عند قدومهم لا تتركوا لهم أي إمكانية لكشفكم. فأنتم مطالبون بالاختباء إلى حين
سماع صوت الرصاص ... حينها تفاجئوم بالكاتيوشا. في نفس الوقت ودون تأخير تعودون إلى
موقع الانطلاق.
علّق "أبو الوليد"، موجها كلامه ل"نواف":
وهل ستبقى هنا؟
( بغضب حاول إخفاءه ) لا أحد سيبقى خارج المعركة ... كلنا سنكون في خدمة العراق.
( أعاد وضع إصبعه على الخريطة )
هنا بناية قبل اُلمنعرج ... البناية الحكومية التي دمرناها الشهر الفارط . أنا سأكون فوق سطحها ...
سأكون قناصا، لأمنع أيا منهم من الإفلات ( متداركا ) مع العلم أنني من سيفجر الموقع الوهمي ( أخرج
جهازا من جيبه ) وهذا جهاز التحكّم معي الآن.
من له ملاحظة ؟
علّق "أبو ايد"، وهو يرفع بقاذفة الكاتيوشا إلى كتفه:
يبدو أنّ الأمور واضحة.
رد "نواف"، وقد انتصب رافعا رشاشه إلى كتفه:
حسنا ... لنتوكّل على الله. ( مد يديه للدعاء ) اللهم انصرنا على اُلمعتدين، واحم العراق الغالي يا رب
العالمين.
ردد الجميع:
آمين ...
غطّوا رؤوسهم بأكياس سوداء لا تترك إلا الأفواه والعيون، وتناولوا أسلحتهم ... فيما تقدم " نواف
" ليفْتح الباب و يطلّ بحذر.
يترك نصف جسده خارج الباب، ويده اليمنى ممدودة إلى الداخل، وكأنه ينادي رفاقه الواحد تلو
الآخر، ليخرجوا وقد أمن لهم الطريق.
نصف ساعة، كانت كافية ليأخذ الجماعة مواقعهم... كان " نواف " قد سمح له موقعه من أعلى، بأنْ
يرى رفاقه قد أخذوا أماكنهم، وأنّ لحظة التنفيذ قد حانت.
ثبت رشاشه على كتفه ورفع يديه للدعاء يطلب النصر والتوفيق.
تناول جهاز التحكّم ... وجهه جهة الموقع الوهمي ... سحب نفسا عميقا، وضغط على الزر ليهتز المكان
وتتصاعد الأدخنة، مصحوبة بلهيب مد ألسنته من النوافذ والأبواب.
كانت قوة الانفجار، كفيلة بأنْ تخرج الحي من صمته. وأطلّت بعض الرؤوس من الأبواب أو من أسطح
المنازل، دون أنْ يظهر أحدهم يسير في الطريق.
الانفجار رغم قوته، كان عاديا و متكررا، وربما أغلب الذين سمعوه لم تصبهم رغْبة في التطفّل أو
الاستكشاف.
فيما هدأ صوت الانفجار، لا زالت النار متقدة تأكل الخشب والعجلات المطّاطية التي دسها "نواف"
وجماعته في البيت . فكان الدخان الأسود قد زاد من قتامة سماء الأعظمية.
ظلّ الصمت مخيما على الحي لدقائق عديدة، عدا ما ينبعث من أصوات خافتة، كطقْطقات صادرة من
الخشب اُلمحترق.
ظلّ "نواف" من موقعه المرتفع، كنسر يرصد تحركات فئران علّها تأكل ُ طعمه. لمْ تتجاوز الدقائق
الخمس، حتى هبت مركبات الجنود العراقيين صوب المكان، مدججة بأسلحتها، تسبقها إنارا الكاشفة.
تناول "نواف" رشاشه وجعل جعبته تتكئ على جدار متداعي أمامه، مصوبا بحذر نحو الشارع، حيث
تعبر سيارات الشرطة.
تتقدم السيارات ببطء وحذر، حتى بات لا يفْصلها عن موقع الانفجار مائة متر. حينها ارتمى "أبو
ايد" وسط الشارع، تاركا لرشاشه أنْ يبصق كلّ ما جعبته من رصاص دون رهبة ... ثابتا، لا شيء
يحركه عدا رشاشه اُلمتحفّز اُلملتصق بكتفه كذيل ثعبان مقطوع.
دبت الفوضى في الجنود العراقيين، واختلّت وجهات العربات.فيما ارتمى بعض الجنود من العربات،
ليواجهوا الرصاص القادم من رأس الشارع.غير أنّ "أبا الوليد" انسحب مسرعا، ليترك لرفاقه مهمة
إلقاء صواريخ الكاتيوشا ... كانت قذيفتان كافيتان لتسحقا المركبات ومن فيها. وانسحبا لتبقى وراءهما
النيران المشتعلة في العربات والأجساد اُلمتفحمة، تعين على إنارة الشارع اُلمظلم.
انسحبوا جميعهم عائدين إلى قاعدة انطلاقهم في ذلك المخزن المتداعي. من حيث انطلقوا في انتظار أن
يلتحق م نواف بعد أنْ يطمئن على موت كلّ أفراد الشرطة العراقية المدعومة بجنود أمريكيين،أو لعلّه
كان يترصد أي جندي لم يصب إصابة قاتلة، فيرديه قتيلا.
بقي "نواف" متسمرا في موقعه ثابتا، يرصد نتائج العملية التي لم تبق أحدا حيا. ابتسم كأفعى
أصابت هدفها. سحب رشاشه، وتراجع وهو يقفز على الجدران والسطوح، عائدا إلى موقعه من حيث
انطلق.
بعد العملية، قررت القوات الأمريكية أنْ تشن حملة على الحي بعد تضاعف العمليات خلال الشهر
الحالي ... كانت الطائرات قد أخذت موقعها في سماء الأعظمية، وشرعت العربات والدبابات والمدرعات
في اختراق أنسجة المدينة وشرايينها، تسبقها غارات وحشية على البيوت والمنازل لمْ يسبق لها مثيل.
كانت الطائرات تلْقي حممها دون هوادة ودون تدقيق ... لا أحد في الشوارع يحمل سلاحا، وحتى
البيوت التي تقْص ف كانت آهلة بالأمهات الثكلى والأطفال اليتامى والشيوخ والعجز.
الآليات الزاحفة على الحي لا تترك للذبابة الزرقاء متسعا للهروب. لذلك كلّما تقدمت الآليات، تطلّ
ُ فوهات البنادق والرشاشات من السطوح والنوافذ، لتقْتنص أحدهم. فترد المدافع لتهدم بيتا أو زنقة أو
بناية..
وفيما كان "نواف" ورفاقه يترصدون تقدم الجند، سبقته طائرة مروحية بقذيفة، هدمت المخزن
ومن فيه، وكان رفاقه حينها لا زالوا لم يستردوا أنفاسهم من العملية بعد. ولم يسلم غير "نواف" الذي
لا يزال يتنقّل من سطْح إلى سطح، ومن جدار إلى آخر... ليجد نفْسه في شارع جانبي، يقيه حصار
العناكب. غير أنّ حدسه أخطأ هذه المرة، لمّا وجد نفْسه وجها لوجه مع ثلّة من الجنود، سبقوه
بالرصاص ليصيبوه في فخذه.
كان الأسبق ليندس بين ركام بناية متهدمة، وأمكن له أن يتسلل بين الأنقاض ليخرج إلى شارع خلفي
ويندس في بيت مهجور.
ظلّ يتصبب عرقا وامتزجت الأتربة بالدماء حتى لم يعد يبين وجهه .. مزق قميصه ليجعل منه
عصابة على جرحه كي يكف التريف. وقد ظلّت يده على الجرح والأخرى تمسك بسلاحه متأهبا.
حضرت "لينا" المنفية في تونس و "ماجدة" التي استشهدت منذ أيام.. أبي الذي قضت عليه الخيانة
الفلسطينية في لبنان.. أخي الذي لم يستطيعوا جمع أشلائه من نقطة تفتيش فجرها .. أخي "عزام"
الذي ما زال معتقلا في السجون الإسرائيلية ...
هل ُ كتب علينا أن ندفع حياتنا كلّها من أجل قضية لا منا وحدنا؟
أمي التي لم أرها منذ عشر سنوات وألمسها وأعانقها وأبكي كطفل على ركبتيها .. نحن عائلة وزعنا
دماءنا على كل القضايا القومية...
ظلّ يترف رغم الضمادة التي وضعها على الجرح .. تصبب العرق أكثر فأكثر و سال مع الدماء
كرحيق... بدأ الدوار يلفه حتى فقَد وعيه وظل يمسك سلاحه ولم يسقط من يده.
بسجن أبو غريب لا يزال "نواف" معلّقا من يديه إلى السقْف، وقد جرد من ملابسه كاملة. جسده
بفعل التعذيب والبرد صار أزرق، حتى لم يعد يشعر أنّ جسده ذاك له.
ظلّ لأيام لا يعرف عددها، معلّقا كشاة معدة للسلْخ، حتى فَقَد الإحساس بجسده وأطرافه.
حين فكّوا قيده، اوى أرضا كأنّ السلاسل كانت تعمده و تساعده على الانتصاب... اوى كتمثال القائد
الفذّ ساعة احتلال بغداد . ولم يشعر أنّ جسده لامس الماء البارد الآسن على أرض الزنزانة.
انحنى أحد الجنود إلى رقبته وثبت ا سلسلة كشكيمة بغل، وظلّ يجره بمعية جندي آخر. فيما تكفّل
ثالث بتثْبيت هاتفه الجوال ُ قبالة بوتقة المشهد.
ظلا يسحبانه وهو يحاول جاهدا أنْ يستعمل قوائمه الأربع، كي لا تخْدش أرضية السجن جسده المنخور
أصلا . حاول ...حاول ... وحاول دون جدوى.
تمادى في سحبه، وتمادى الإسمنت في حفْر جسده . أطلّ بعض الجنود من خلْف الزنزانات وتقدموا
لإكمال مشهد من مشاهد "عذاب المسيح"... حاول أحدهم أنْ يدق عصاه في مؤخرته... حاول الآخر أنْ
يقف فوق جسده اُلممدد على الأرض، ليلْتقط له زميله صورة تاريخية لن تتكرر أو ربما ستتكرر كثيرا.
وثالث أطفأ سيجارته في إليته ...
ورابع ... وخامس...
تركوه لدقائق يلْع ق جراحه، ويمتص جسده من الأرض قسوا. فيما ابتعد الجنود وامسوا بكلام لمْ
يسمعه.
اقترب أحدهم ليساعده على الوقوف و قال بلهجة عراقية:
أنت فلسطيني، ماذا تفعل في العراق؟
أدرس
(ضحكوا بسخرية) تدرس؟؟ قال يدرس ... وهل تدرس مع تنظيم القاعدة؟ أم مع البعث.
أقسم أنني جئت للدراسة
(شده من شهره بعنف ودفع برأسه إلى الحائط، فسالت بعض الدماء من رأسه)
أقسم أنني سأفعل بك ما سأفعله بأمك القحبة لو كانت هنا ..
(كتم غيضه) كنت أدافع عن أرض العراق ... ألست عراقيا؟
(أمسكنه من خصيتيه وشد عليهما حتى تقيأ) سأريك ماذا يحصل لك في العراق.
ثم دفعه ليسقط على أرض الزنزانة من جديد، ثم أعادوا جره مرة أخرى إلى زنزانته، وأوثقوه إلى
الحائط بسلاسل تمْنع كلّ أطرافه من الحراك والعصيان. وفيما ظلّ بعضهم يلْتقط بعض الصور، غاب
أحد الجنود لبعض الوقْت ليحضر مقصا أشبه بالذي يستخدم في تشذيب الورد.
أعادوا تثْبيت هواتفهم الجوالة نحو المشهد المسيحي.. أمسك الجندي بقضيب
"نواف" وأعمل فيه المقص، لتسقط تلك القطعة من اللحم على الأرض ملطّخة بدماها.. دماء تحلّلت مع
الماء الآسن في قاع الزنزانة، حتى صارت الأرض دماء وغاب " نواف" عن وعيه. حضرت الأار جميعا
وآلام المسيح جميعها... حضر النخل والتراب والطين والخرائط وبغداد... حضر "عيسى" و"موسى"
و"جبريل"... كلّ الأنبياء والرسل والملائكة، يطلون من فوق الغرفة المفتوحة للسماء، وما هي بمفتوحة.
كانت سورة "يس " ترفْرف كملاك أبيض قرب الله، وتنثر أحرفها وحكمتها .. خيل للناظر أنّ سماء
بغداد انفطرت لتلقي حممها. وأنّ منسوب المياه ارتفع في دجلة والفرات خوفا أو تشنجا... وأنّ نخلات
البصرة انحنين قليلا ليخفين خجلا من الإنسان. .. خيل للناظر أنّ جبالا بسطت ووهادا رفعت ورمالا
نثرت ومياها نضبت، كأا شربت أو سرقت ....حضر النخل والتراب والطين ولم يحضر الخلاص.
ظلّ الجنود يتضاحكون و يعيدون التثبت من صور التقطوها في هواتفهم.
فيما تفطّن أحدهم إلى أنّ "نواف" قد فارق الحياة، ولا بد من التخلّص من جثّته.
ألقوا جثّته على أحد الأرصفة، غير بعيد عن جثّة أخرى وجدوها مشوهة أو مطعونة أو مقطوعة
الأطراف لعراقيين وأجانب. ولا فرق بين الجثّة والأخرى، عدا ما يجعل منها ورقة سياسية لتنظيم أو
حركة أو حزب.
المارة يعبرون إلى شؤوم بحذر وحيطة، محاولين ما استطاعوا أنْ يبتعدوا عن السيارات والدراجات
والحفر وحتى الجثث الملقاة على قارعة الطريق، مخافة لغم يدس هناك أو عبوة ناسفة .
فيما لا تزال الكلاب السائبة وقد تضاعف عددها تنهش الجثث وقد انتفخت وتحللت وضاعت
رائحتها في الأرجاء، تعين الذباب الأزرق على الرقص والطنين ، فاستحالت الشوارع مزابل من جثث
وقمامة ومياه آسنة، حتى يستحيل على الواحد العبور دون أن يغطّي أنفه بيده أو بطرف ردائه.
الفصل التاسع
ذبح الرهينة
ما زالت "أنجيلا" قابعة بين براثن مختطفيها، بنفْس الغرفة التي لا يفْصلها عن الخارج غير صوت
الرصاص اُلمتقطّع، وأزيز الطائرات اُلمحلّقة.
دخل ذات الشيخ بنفْس لباسه ووقاره، وسألها:
هل قرأت القرآن؟
أحاول ...
( قالتها وكأا تناور ... أو تحاول أن تفتك اعترافا أو غفرانا من ذلك الشيخ . قالتها لعلها تسلم من
شر قادم لا ريب فيه . علّ "قرآم هذا ينجيني" قالتها بينها وبين نفسها.
طيب ... طيب ...
غادرها لبعض الدقائق، ثمّ عاد مع مجموعة أخرى، مدججة بالصواريخ المحمولة والرشاشات...
كانت وجوههم ورؤوسهم معصوبة، إلا من العيون اُلمشعة ... اُلمثيرة للخوف.
تقدم اثنان منهما وجانباها، يوجهان أسلحتهما إلى صدغها. فيما تكفّل ثالث بتوجيه عين الكاميرا إليها،
وإلى الواقف خلفها يقْرأ ورقة بين يديه:
"بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نحن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، أتممنا بعون الله وحمده أسر الألمانية
أنجيلا موردخاي، العاملة بمنظمة الأمم المتحدة للإغاثة . ونحن نوجه النداء لسلطات الاحتلال
الأمريكية الغاشمة لإطلاق سراح السجينات العراقيات، في أجل أقصاه يومين. وإلا سننفّذ في أسيرتنا
شرع الله رميا بالرصاص."
حين أكمل القراءة، انسحبوا جميعا دون أنْ يتكلّم أحدهم ولو بالإشارة. فيما بقيت
"أنجيلا" مرتعدة كسعفة بفعل الريح. ثمّ وجهت سؤالها للشيخ الذي ما زال متسمرا، يحرك بأنامله
حبات سبحته:
هلْ سيقع إعدامي ؟
الله ورسوله أعلم ... نحن سننفّذ شرع الله.
وهل الله أَمر بإعدامي ؟
"وقاتلوهم حيثما وجدتموهم" صدق الله العظيم.
وما ذنبي ؟ أنا لا أحمل سلاحا، ولس ت أمريكية ولا ُأهدد أحدا ( واارت بالبكاء )
( وهو يغادر ) أنت وسيلة لا غير.
خرج الشيخ دون أنْ ينسى غلْق الغرفة من الخارج للمرة الأولى، وكأنه أحس بخوف ما، أو هو
الخوف من هروب الأسيرة التي قد يمنع هروا من تنفيذ شرع الله.
تخيلت أا واقفة وظهرها إلى حائط أو عمود، موثوقة اليدين والساقين، وقد غطّوا وجهها بكيس
أسود أو عصابة على بصرها، تمْنعها من أنْ ترى حتفها ... وأنّ مجموعة من اُلمسلّحين يقفون صفّا
واحدا، يوجهون فوهات رشاشام إلى جسدها. فيما يقف زعيمهم رافعا يده إلى أعلى، ل يعطي إشارة
إطلاق الرصاص فور إنزال يده إلى الأسفل. بمجرد أنْ يعطي إذنه لهم، حتى تنطلق الرصاصات
متتالية في اتجاه جسدها، لتفْتح فيه فوهات من الدم المتجمد بفعل الخوف... تخيلت أنّ دمها لن يخْرج
منها، إلا على شاكلة كريات جامدة كحبات مسبحة ذلك الشيخ.
وأنّ أحدهم ربما لكبت عربي يقْبع في أدغال اللاوعي سيوجه رشاشه لنهدها أو شفتها أو ... وأنه
سيكون سعيدا لو أصابت رصاصته هدفها . كأنه ينتقم من المرأة الفاجرة أو من الغرب اُلمتحرر.
حركت رأسها، لتنفض تلك الأفكار على الأرض، وخمّنت أنّ إعدامها سيكون ذبحا على طريقة ذلك
الأسير الأمريكي الذي ذبحوه على مرأى من شاشات العالم. وأا بجرة واحدة بذلك السكين، سيتأرجح
رأسها ويسقط على التراب معفَّرا.
تخيلت حبلا يلف على عنقها في ساحة عامة، وهي تقف على كرسي أو سطل أو صندوق ... يسحب
من تحْت أقْدامها، فيتمطّط جسدها إلى الأسفل دون أنْ تلمس ساقاها التراب، ودون أنْ تستطيع أنْ تفك
الحبل عن عنقها ... فتبقى جثة هامدة بعد أنْ نزف جسدها بولا لاإراديا.
يشاع أنّ المشنوق يتبول دون أنْ تكون له القدرة على كبح بوله... كذا كانت تمرر شريطا من الصور
اُلمختلفة، ولا تدري أي الطرق ستنفّذ فيها.
مرت الدقائق والساعات، كأنّ الكرة الأرضية ضاعفت سرعة دوراا، على أنّ الوضع في العراق
خمّنت أنه لا يساعد عقارب الساعة على الدوران الطبيعي، بفعل الأدخنة والحرائق والقتامة
والدماء ...
وهي تقاد من غرفتها إلى غرفة أخرى أشبه بالسجن، تكفّل أحدهم بوضع عصابة على عينيها، وهي
جالسة على ركبتيها.
وتكرر مشهد آلة التصوير ... غير أنه بعد أنْ أغْمضوا عينيها لمْ تعد ترى شيئا، عدا آلة حادة كانت
توضع على رقبتها، دون أنْ تسمع صوتا أو تحس بحركة سوى بعض الرصاصات المتقطّعة الآتية من
الخارج.
سمعت أحدهم يقول لها، أو يأمرها:
قولي أشهد لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
( لم تعلّق ولم تنتبه إلى كلامه، وكأا اعتقدت أنّ الكلام لم يوجه إليها )
حينها وخزها أحدهم، وكان الواقف خلفها، وهو اُلممسك بالسكين قائلا:
قولي أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
فهمت "أنجيلا" لحظتها أنّ الكلام يخصها، وأا المعنية بفعل القول.. قول كأنه فاتحة لإعدامها أو
مفتاح لدخول غرفة الموت.
حضر في ذهنها والدها و"نارمين" والإرهاب وتنظيم القاعدة .. تخيلت لحظتها أنّ الواقف خلْفها هو
الشيخ "أسامة بن لادن" أو "الزرقاوي" نفسه الذي نفّذ فعل الذبح في ذلك الأسير الأمريكي... حضر
الرصاص والرماد والقصف و صور العراقيين في سجن أبو غريب على شاشات وسائل الإعلام...
قالت بارتباك وغصة:
لن أعترف بدين الذبح والإرهاب.
( .... )
تأهب الواقف خلْفها بغضب لا مثيل له... سحب نفسا عميقا... بسمل وحوقَلَ، ثمّ ثبت أصابعه عل
السكّين، فيما ثبت يده على رأس "أنجيلا". وبجرة واحدة، لم يفْصل رأسها عن جسدها، ولكن الدماء
انفجرت لتسقي جسدها، وتسقي أرض الغرفة. دم حار، ترى البخار يصعد منه إلى سقف الغرفة،
ليرسم وجوه الأنبياء جميعا.
حين سحب سكينه، سحب الآخر آلة التصوير من المشهد، فسقطت "أنجيلا" أرضا. وكانت أصابعها
الموثوقة لا زالت تتحرك وتستغيث، ولا من مجيب.
لحظتها كانت القدس تتذرع لخالقها، ويمر طيف المسيح حاملا صبره ... تتعالى أصوات الأنبياء جميعا
وتنتفض الأرواح خائفة مرتبكة.
..............................
..............................
صباحا عثرت الشرطة العراقية على جثّة "أنجيلا" ملقاة في أحد الشوارع، وبثّت قناة الجزيرة
القطرية تسجيلا للمذْبحة.
الفصل العاشر
للأضحية معناها الحقيقي
بتلك المدينة الساحلية... لا شيء يشي بأا تنتمي إلى الساحل التونسي عدا موقعها على
الخرائط.
بنفْس مقهى "الأقواس" بمدينتي البائسة، كن ت بزاوية كالمحاصر بجيوش من النمل الأحمر... أترشف
قهوتي الصباحية. وأمامي جريدة لحزب تونسي معارض تسرد على صفحاا القليلة بعض الأخبار
الممنوعة عن البوح:
"اليوم العالمي لحقوق الإنسان في ظلّ المنع واُلمحاصرة"
"حرب قائمات تسبق مؤتمرات اتحاد الشغل"
"مع قناة الجزيرة، نواب خائفون واتصالات مقْطوعة"
.................
الصفحات على قلّتها، تسحبك إلى عمق البركة، و تحيلك لمشاهد لم تألفْها العين ولا الذاكرة.
أحدهم حذّرني من صحيفة معارضة، وآخر لا يعرف غير اسم الحزب الحاكم، وثالث يسأل إنْ كانت
الأكشاك تبيع مثل تلك الممنوعات.. ورابع..وخامس...
ولا شيء غير الرغْبة في إحراق الخرائط وتعطيل البوصلات . كأني اللحظة أمام "جاك داريدا" وهو
يقول:
"هذا عجزي، هذه الذاكرة اُلمعاقة، إنه موضوعنا هنا عن شكواي، إنه اعتراضي..."
وأنت تقْرأ و تشاهد و تحلل ... إنما أنت تحاول أنْ تفْهم الجسد. حتى وأنت تمر على مفاهيم حقوق
الإنسان والحروب والإعلام والخرائط والجغرافيا والتاريخ...
"هذا الجسد الذي اختفى وراء النص والذي أصبح محلّ قراءات وتأويلات" كما يقول
"شوقي الزين".
ولا ننسى أطروحات "فوكو" عن الجسد والجنس والسلطة والجنون.
....لا ُأبدي اهتماما بأي فكْر أو إيديولوجيا وأنا ذا المقهى، عدا ما يدور من نقاشات حول حروب
العراق وفلسطين وتنظيم القاعدة.مع ذلك أحاول أنْ أخرج دائما بالحوار من طاولة التشريح الفقْهية،
حتى لا أتهم بالانتماء إلى التنظيمات السلفية.
لا مني كلّ هذه المسائل رغْم أنّ مثل تلك الحوارات تحرجني لما يشوا من نقاش بيزنطي، وتعصب
يتبناه البعض و يدافع عنه.
لذلك كثيرا ما أنغمس في لعب الورق لساعات، هروبا من الفكر الرجعي أو خطاب الخصيان .
أنت إذنْ، إما في مستنقع الفكر الغيبي، أو في خندق الهلْوسات المائعة، تجْتر معها خزعبلات النتائج
الرياضية وحياة الفنانين والمائعين والخصيان و آخر تقْليعات الأغاني الغربية والشرقية الهابطة.
النادل يوزع على الحرفاء شيئا من ال ُ فكاهة، كلما شاكسه أحدهم أو طلب منه كأسا من الماء، يعتقد
أنه الملك هنا ذه المقْهى... يوزع الطلبات حسب رغْبته، ولمن يريد.
وقد تطْلب منه قهوة أو كأسا من الشاي، فيرفض أو يطلب منك مغادرة المقهى، بفذْلكة اعتادها منه
الجميع.
حين همم ت باُلمغادرة، رنّ هاتفي الجوال، فجاء صوت حبيبتي مسبوقا بضحكتها العسلية.
لس ت بخير هذا الصباح، مع ذلك لا بد أنّ أبتسم لأمرر لها ارتياحا ما:
صباح الخير ( قالت )
صباح الحب ... صباح الياسمين حبيبتي.
أين أنت الآن؟
بالمقهى كالعادة... أمامي صحيفة وقهوتي ككلّ صباح.
كلما أطلبك أجدك بالمقهى ...
لا يهم ... هلْ هناك جديد؟
لا شيء، أرد ت أنْ أسمع صوتك.
أحبك ...
وأنا أيضا عزيزي... على كلّ أرد ت الاطمئنان عليك فقط . سأطْلبك ليلا كالعادة .
إذن إلى اللقاء عزيزتي.
إلى اللقاء.
غادر ت المقْهى في اتجاه البيت. وجد ت رسالة وصلتني صباحا، دون أنْ أتعرف صاحبها. فتح ت
الظرف بلهفة وقرأ ت:
"بسم الله الرحمان الرحيم
لن أقول رفيقي هذه المرة ... أقول أخي في الإسلام . متمنيا من الله سبحانه وتعالى، أنْ يهديك إلى
طريقه المستقيم / إلى الإسلام.
وبعد:
بعون الله وبفضله نوشك أنْ نحقّق شرع الله في أرضه. ستسمع قريبا ما يحقّقه الإسلام على أرض
العدو.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
لمْ أتحقّق من الرسالة جيدا، وكد ت أشكّك في مصدرها، غير أنّ خطّه كان هو. مع ذلك هذه المرة لمْ
أفكّر في الرد على رسالته. ربما خمّن ت أنه غير مقر إقامته أو هاجر ائيا. مع أنّ الرسالة ووفْقا
لطابع بريدها كانت قادمة من دمشق.
لمْ أتفاجأ حتما بحدة خطابه ورغْبته في الانتقام من الخونة والجواسيس ...إنما ما فاجأني هو
الخطاب الفقْهي الذي ضمخ به رسالته، وحولها إلى خطبة جمعة.
كأني أقرأ بيانا لتنظيم القاعدة قبل أو بعد هجوم على إحدى المصالح الغربية.
أقْرأ الرسالة، وأعيد ترتيب أفْكاري فتحضر رسائله السابقة مشعة بالنقْمة والثورة والتمرد على
السلفي والفقْهي والديني... كان يساريا لا تفارق خطاباته الأفكار الماركسية والمفاهيم الطبقية وجدلية
التاريخ و... لذلك كن ت ألْتقي معه في فكْره وهمومه، كلّما تجادلْنا على الورق حول التوزيع العادل
للثّروات وهموم البروليتاريا والرأسمالية البغيضة والعولمة والمبادئ الحقوقية والإنسانية ...
أما الآن ......
ما الذي يجمعني بك يا صديقي ؟ وكيف يكون اليساري يمينيا ؟
بأي المفاتيح فتحت الأبواب لتدخل عالمهم ؟ هل انتصر"بن لادن" على"ماركس" ؟ أم انتصر الجهاد على
الثورة ؟ هل انتصر الحزام الناسف على المسيرات والإعتصامات والإضرابات والعصيان المدنيّ؟ أم هي
البندقية أيا كان حاملها؟
هل ؟ وماذا ؟ وكيف ؟ وأين ؟
.........................
طوي ت الرسالة وأودعتها درج مكتبي، واستلْقي ت على ظهري مسلّما نفْسي للكسل اليومي...مرر ت بجهاز
التحكّم إلى الجزيرة القطرية، وهي تعلن إمضاء "نوري المالكي" رئيس الوزراء العراقي على قرار إعدام
"صدام حسين".
ابتسم ت ب سخرية المنتصر، متهكّما على الحكام أجمعين. سدد الله خطاهم وحماهم وأرشدهم إلى
الطريق السوي. تلك اية الطاغية أيها البطل المقْدام. وأنت أيها البطل القادم على دبابة أمريكية،
ستحص د نتائج غبائك، وستعرف أنّ الطغيان نبتة نبتت في صحرائنا العربية. كلّما قطفْت واحدة، نبتت
مكاا نبتة أخرى ... وهكذا إلى أنْ يرث الله الأرض وما عليها .
صباح عيد الأضحى، والكلّ منشغل بما ترك إبراهيم لنا عوض ابنه... قيل نحن شعب لا يأكل
حتى يجوع. وقيل إذا أكلْنا فلا نشبع. و يشاع نحن شعب كلّما أكل جاع. وإذا جاع استكان، على خلاف
شعوب الأرض جميعا، إذا جاعت انتقمت.
تعبق الشوارع والأزقّة والأحياء، برائحة المشوي. حتى استحالت السماء خرفانا طائرة، تكْفي شعوب
الأرض قاطبة.
رغْم الأعياد العديدة التي نحتفل ا، إلا أا لا تمثّل عندي الفرح مطلقا. وخاصة هذا العيد الذي
أطلّ متثاقلا ومشحونا بالسواد والقتامة، على أنه يوم جميل وهادئ.
لمْ أتبين هذه المشاعر اُلمتضاربة، ولمْ أستطع تفْكيك أيقوناا . فقط حضرت هذا الصباح رسالة
"إيراد" وبغداد وأبو غريب وفلسطين و"لينا" و "ماجدة" و "أبو مصعب"... والخلايا النائمة للتنظيمات
الإسلامية.
تمام الثامنة، كانت القنوات التلفزية تمرر الفاجعة، ب صور زلت على صدغي كإسفلْت ساخن أحرق
شراييني.
كانت كلّ القنوات التلفزية، تمرر لحظة إعدام صدام حسين . بعض اُلملثّمين، قارب عددهم الخمسة أو
ربما أكثر بقليل، يحيطون به في مكان داخلي، خمّن ت أنه ُأعد له خصيصا.
دار حوار بينه وبين أحدهم، ربما حول عصابة كانوا يريدون لفّها على عيونه، لئلا يبصر حتفه. مع
ذلك كان الرفْض يصدح من عينيه وجبهته.
لفّوا الحبل على عنقه، وأشاروا له ليتقدم حي ُ ث الهوة التي سيتدلّى فيها حتى الموت.
إم يضحون به فعلا، بمثْل ما أراد أنْ يضحي إبراهيم بابنه. كأنّ الشعب العراقي، يقول أننا نعيد
للأضحية معناها وحقيقتها.
جاءني صوت شيعي يزعم أنّ إبراهيم ذبح ابنه فعلا، ولمْ يرسل له الله كبشا بديلا. ولكن الناس
والتابعين، تخيلوه كي لا يذْبحوا أبناءهم. لذلك نحن نصحح تاريخ الديانات، ونعيد الحقيقة إلى
نصاا.
قل ت له بصوت خفي لئلا يكْتشفوني:
أ ُ كلّ الشعوب ستضحي بحكّامها؟
افعلوا ما تؤمرون به...اليوم صدام، وغدا "علاّم" وبعده "السابع" وإثره "الفاتح" ... هكذا فقط
ستنفّذون شرع الله.
أيها الوغْد وأمريكا..
لا دخل لها في شؤوننا ... فهل هي من أتت بالحجاج ؟ وهل ذبحت "عثمان" وقتلت
"الحسن" و "الحسين" وأشعلت الفتنة الكبرى.... ؟ بالطبع لا.
فلماذا الآن نحملها أوزارنا؟
............................
قرأ ت على الشاشة: مقْتدى... مقْتدى... مقْتدى
وقرأ ت : "هاذي المرجلة"
وقرأ ت: أشهد أنّ لا إله إلا الله
وقرأ ت كلاما لمْ يكتب . والبقية تأتي .......
كأني الآن أقرأ "أنشودة المطر" للسياب أو قصيدة "البراءة" لمظفّر النواب.
مر المشهد اُلمتكرر عبر بوتقة الإبحار إلى الذاكرة .. قلّبته على وجوهه، ولم تحلّل مضامينه ولا
فكّت طلاسمه، فألْقته إلى الخارج. غير أنّ المشهد عاد فارضا حبال سطْوته، وشنق الحدث في ذاكرتي
بذات الحبل اُلمعلّق في سقْف الشاشة من الداخل.
أسرعت دمائي حارة في شراييني، تمر بالقلب فتبرد وتتكلّس ... فأشعر أنّ القلب سينفطر.اغتال القلب
نبضه، فبردت أطرافي . وبت أشعر أنّ دمائي صارت حارة، تغلي كآنية بالأناجيل والكتب والشرائع
ففاض الحبر... هي الأار تتقد بما ألقى المغول من الكتب لتمر الجيوش.
أهذا عيد ؟ أهذي المخازي هي الأعياد تسعدنا، ونحتفل؟
يااااا كم نحتفل؟
لا زل ت أمام جثمانه أتقبل التعازي من الغيورين والمغمورين والجهلة والخونة والجواسيس والشيعة
والأكراد وآل سعود وآل نبهان وآل سحنون وآل البيت جميعا ...لم يتخلّف إلا قادتنا وساستنا وحكامنا
وولاتنا وملوكنا.... لم يتخلّف إلا هم.
حتى ضحايا "الأنفال" حضروا ضاحكين. وحضر ضحايا "الدجيل" وشعب الكويت، نكاية في البطل
الغبي أو نكاية في الأبطال القادمين.
كان اليوم أشبه بمحرقة ُأعدت لليهود، ولكنها ليست لستة ملايين كما يزعمون. كانت محرقة
أعدت لي وحدي.
وبعد قرن أو أقلّ بقليل، يصبح حرقي قضية قومية، و يدان كلّ من يشكك في مصداقيتها. وكلّ من يتهكّم
يعد معاديا للسامية و مدانا بتهمة الإرهاب.
كان اليوم رماديا كأعيادنا قاطبة .. كتاريخنا... كحكامنا... كسجوننا...من فلسطين إلى الصومال إلى
اليمن السعيد ... لشيوخ النفط، لحكام الوحدة والتجديد والتغيير والثورة والنهضة...ولا شيء غير
إعلامنا العابق بالتملّق والسطحية وعرض لحمنا البض الراقص على نغمات "الديسكو" و"الراي"
و"الهيب هوب" ...
وأنت تسمع ملخص الأحداث الوطنية والعربية في وسائل الإعلام، ينخرك القيء وتنخرك الحمى، من
أوطان لا تحتفل بغير نشرات الرياضة وأخبار الزعماء: قال الملك... عاش الملك ...غير الملك ... قرر
الرئيس ... أما أنا وأنت و هم، ففي مستنقع يقْبعون.
أكمل ت يومي أتابع تناحر الفصائل الفلسطينية حول السلطة، بين حركة "فتح" المدعومة من
حكوماتنا، و"حماس" المتهمة بالإرهاب.
كيف الخروج من هذا الإسفلت الهاجم؟
إما الخمرة أو المرأة أو الكتابة ...
وأما الكتابة، فلا شيء في جعبتي الآن أضمخ به أوراقي . ولا شيء بالمثل يستحق أنْ تكتب له أو عنه.
وإن كتبت... ما الذي ستغيره أيها البطل ؟ لا شيء...
إذن فالمرأة خياري الثاني...
رفع ت هاتفي الجوال، وبحثْ ت بين أرقامه عن إحدى مومساتي الجميلات... فتوقّف إصبعي على رقم
"ليلى".
ألو "ليلى"
مساء الخير çava
çava bien
ما الذي دعاك إليّ؟
أريد ليلة معك تخرجني من هذا الإسفلت ... أنا في حالة نفسية يرثى لها.
بدون مقدمات؟
بدون مقدمات.
( بدلال ) حاضر سيدي ...
لم تدم المكالمة أكثر من دقيقتين، وأسرع ت إلى أول سيارة أجرة تقلّني نحو المنطقة السياحية،
حيث اتفقنا على الترل الذي سنترل فيه.
حين وصل ت، كانت جالسة ببهو النزل تترشف كأسا من "الويسكي"... جلس ت إليها، وطلب ت مثل ما
طلبت وسألتها:
لم تترددي هذه المرة كعادتك.
ببساطة لأنّ زوجي في باريس منذ أسبوع.
في باريس ؟ وماذا يفعل في باريس ؟
أخته ستعود إلى تونس في عطلة ... سيتكفّل بمساعدا، باعتبار أنّ زوجها لن يأتي معها... المهم ما
هي أحوالك ؟
دعك من أحوالي الآن ... هيا نحجز غرفتين، وسنكمل حديثنا هناك.
أنا حجز ت الغرفة رقم 5001 ...
( ضت بعد أنْ أكملت كأسها )
أحجز غرفتك، ثمّ التحق بي .
بعد أقلّ من عشر دقائق، كنا بذات الغرفة 5001 . تمدد ت على السرير بملابسي، والسيجارة لا
زالت متقدة. فيما خلعت "ليلى" معطفها وتمددت بجانبي، وقد أسندت رأسها إلى صدري.
ألقي ت السيجارة بإهمال على الأرض واحتضنتها، محاولا أنْ أنفض من ذاكرتي أحداث العالم كلّه. مرر ت
شفاهي على خديها ورقبتها، فأحس ت بحبات الرمان تنتفض تحت أصابعي، وتضاعفت حرارة جسدها
حتى ذابت كقطعة سكّر في كأس من الماء.
ولم أنتبه إلى أصابعي وهي تفك أزرار ملابسها، وتنزلق بين تضاريس جسدها. دون أن تبدي "ليلى"
حراكا، عدا ما ينتفض من جسدها بحكم الغريزة.
كن ت كانون أمر بأناملي وشفاهي على كلّ حبة من جسدها، حتى انتفضت وديان الرغبة وامتزجت
بالآهات.
قالت وقد أكملْ ت مهمتي الهادفة، ونزلّ ت من فوق صهوا الجامحة:
لم أشعر يوما أنني متزوجة، إلا لمّا أكون بحضنك. أما زوجي، فهو بارد كالثلج، كأنه يفْرغ نزوته بقبضة
يده.
ابتسم ت ابتسامة ساخرة، وطبطب ت على إليتها، قائلا:
استحمي الآن قبل أنْ ننزل للعشاء.
ضت عارية، كملاك رسم سرياليا، في اتجاه الحمام . حتى وصلني صوت الماء المنسدل بشهوة على
تفاصيل جسدها.وقد حضرت بذهني قولة غالي شكري: "الجنس علاقة عرضية لقتل الوقت".
"ليلى" زوجة إطار حكومي، يعمل بمدينة مجاورة لمدينتي. وقد قدما من مدينة بالجنوب التونسي .
وزوجها هذا ابن ثري وفّر له والده من المال أكثر مما توفّره له الوظيفة بعشرات المرات، تربطه رابطة
وثيقة بالعائلة المالكة، وله شؤون يديرها معهم.
وأذكر أا حضرت في إحدى الأمسيات الشعرية، وكن ت محملا بمجموعة من الدواوين لبيعها، وبالطبع
لم أبع منها غير خمس نسخ.
لم أكن أعرفها سابقا حين تقدمت مني واقْترحت أنْ تساعدني على بيع ما تبقّى من الدواوين...
فوافقْ ت.
سلّمتها كلّ النسخ، مصحوبة بنسخة مهداة بخطّ يدي، ورقم هاتفي الجوال. واكتشفْ ت لاحقا أنّ
النسخ اشترتها لنفْسها، وبقيت تماطلني وتجد الحجج لمقابلتي، فتسلّمني ثمن نسختين أو أكثر. حتى
اتفقت معي على لقاء في أحد الترل، فقابلْتها.
قالت وهي لا تزال واقفة:
هل تساعدني على إنزال حقيبتي من الغرفة؟
بالطبع.
... ومعي في الحقيبة ثمن بقية النسخ من كتابك.
حين اصطحبتها إلى غرفتها، أغْلقت الغرفة من الداخل، وراودتني على جسدها، فاستسلم ت لإغرائها
دون أي مقاومة.
ومنذ تلك اللحظة، صارت لقاءاتنا متكررة. غير أنني لا أحتاجها إلا متى أطبقت السماء على أنفاسي،
وضاقت الأرجاء بأوجاعي، وحاصرتني المتاهة حتى صر ت المتاهة فهي من دون نسائي، لا تفْقه شيئا،
عدا بسط رغْبتها على السرير. وهي لا تطلب مالا، ولا تجادلك في الثقافة ولا في السياسة ولا في الفن
ولا حتى في الملابس والموضة. إا فقط تشتهيني، فأشتهيها بمتعة لا مثيل لها. وحين تحتاجني تجدني،
وأحتاجها فأجدها... نعم علاقة عرضية ولكنها نفعية تجعلني أتلذذ بالانتقام من زوجها وهي معي..
كأن اللذّة نقمة وليست جنسا. إا النقمة من زوجها الذي يدوس الفقراء بحذائه مع الجشعين
والمتنفّذين. خرجت من الحمام أكثر إغراء، تلف جسدها بفوطة بين أعلى النهد وأعلى الفخذين...
وشعرها الفحمي، ينسدل بسلاسة على ظهرها.
اتجهت إلى المرآة، وقد سحبت علبة التجميل من حقيبتها اليدوية، وبدأت بالشفاه ترتب عليها لونا
قرمزيا مشعا زاد في إثارتي.
ض ت من السرير، واتجه ت إليها...وقفْ ت خلْفها ومدد ت أصابعي لأفك الفوطة. فيما ارتمت شفاهي على
رقبتها المرمرية، فلم تمانع. غير أا شدت على الفوطة، كي لا أنزعها . وقالت:
ليس الآن ...أخاف عليك أنْ تموت. ننزل للعشاء أولا.
ولماذا أموت ؟ هلْ عندك شك في قدراتي؟
لا ... ولكن اجمع قواك إلى آخر الليل.
بعد العشاء، أكملْنا الليل في العلْبة الليلية التابعة للترل، نرقص بجنون على نغمات كلّ الأغاني،
ونمْزج رغبة الجسد في التحرر بالجعة.
كن ت أشرب بطريقة لم أعهدها... كي أطرد من ذاكرتي أفكارا مكدسة كأشلاء الموتى: بغداد على بيروت
على حيفا على الجوع على الرفاق الذين خانوا على...
كلّما سكب ت في فوهتي كأسا، سقطت فكرة أو حادثة... هكذا حتى الصباح.
صباحا، أفقْ ت على أصابع الشمس تخْترق البلّور، وتدخل للغرفة. كانت الساعة العاشرة ... لمْلم ت
أفكاري، فلم أجد "ليلى" . فقط تركت شفاهها عالقة على مرآة الغرفة، بلون قرمزي.
الفصل الحادي عشر
فريضة السعي
أبو مصعب ما زال واقفا بالقاعة الكبرى لمطار باريس كغيره من المسافرين، ماسكا بجواز سفره...
تاركا لحقيبته مسافة من الراحة، كي تقرفص على الأرض.
يحاول ما استطاع إخفاء دهشته وخوفه من مجهول لا يمكن توقّعه. كان جواز سفره مثبتا وية
أخرى، إلا أنه لم يتساءل عن سر تغيير اسمه و ُ كنيته، فهو ليس معلوما عند الأجهزة الرسمية، ولا عند
البوليس الدوليّ، ولم يقم بفعل يمكن أنْ يتهم من أجله.
مع ذلك لا يهم .....
ما يعنينه الآن، هو المغادرة إلى الولايات المتحدة، حيث سبقه "أمير التوم" و"ميلود عبد القادر".
و يبدو أنّ بقاءه هنا، ومنعه من السفر معهم ربما يعود إلى خوفهم منه. أو ربما كانوا يتوقّعون أنْ
ينسلخ عنهم، ويبقى هنا في "باريس". فهو كثيرا ما أبدى تخوفا و معارضة لكثير من المسائل التي
ناقشوها. منها تردده في القيام بعمل استشهادي في الولايات المتحدة، تحديدا تفْجير تمثال الحرية.
لماذا تمثال الحرية ؟ لماذا الولايات المتحدة ؟ قالوا أنّ أمريكا هي الشيطان الأكبر، وهي التي احتلّت
بيوتنا وحرضت ولا تزال اليهود على التحرش بنا واحتلال أراضينا. وهي التي نصبت حكوماتنا
الكرتونية، وهي التي .....
أما تمثال الحرية، فهو الرمز الفخري لمبادئهم وقيمهم التي كثيرا ما ينهقون ا، ويعلّقوا على
جباههم ودبابام وطائرام وأسلحتهم... و هم يصدقون.
"الحرية" .... ما معنى الحرية ؟ وماذا تعني؟ ولماذا أمريكا تحديدا لها مثل هذا الرمز الضخم للحرية؟
هل لأا ممثلتها الوحيدة ؟ هل هي التي تصنع الحرية وتصدرها؟
ما جعلني أقرر المشاركة في هذا العمل النضاليّ، هو رفْضي لأنْ يموت الأبرياء. تمثال مهما كان حجمه
وقيمته، لا يعني شيئا أمام موت بريء واحد ولو كان يهوديا.
لذلك، كن ت ضد تفْجير أبراج نيويورك، وموت المئات فيه. مع ذلك لمْ أصرح بذلك لأحد من الإخوة،
حتى لا ُأتهم بالردة والخيانة والكفر.
"أما الآن، فتفْجير تمثال الحرية... مهم جدا أنْ تفجر الرموز. هذا أهم وسأكون أول الفاعلين." علّق
مس.
أنا ما يهمني في المسألة أن أنتقم لوطني و عائلتي و شرفي.
لس ت اسلاميا و لا استشهاديا و لا مناضلا... فقط أحمل جواز النقمة في جيوبي وشحنة من الغيظ
لأنفّذ حكمي في من شرد أهلي .. حكمي أنا وحدي. لا حكم الله و لا حكم الخليفة.
لهذا انخرطت في هذا التنظيم ... أقول وصل ت إليه صدفة، وسأتشبث به حتى أحقق انتقامي.
ولو كان التنظيم يساريا لفعلت نفس الشيء، ولو كان بعثيا.. ماجوسيا.. يمينيا.. قوميا.. شوفينيا.. نعم
لفعل ت نفس الشيء.
أنا باختصار ضد عدوي مع أي عدو آخر، ولأنني أحترم الإنسان، حتى وهو برتبة حيوان، فإني سأنفّذ
حكمي في رمزهم الذي يتباهون به، والذي يعتبرونه رمزهم و كنيتهم و "هويتهم".. إم الحرية بكل
دلالاا، لذلك تمنحهم تلك الصفة أن يفتكّوها من الآخر.
دخلَ صوت دون إذن إلى بوتقة السمع، يشير إلى انطلاق الرحلة نحو"واشنطن" بعد عشر دقائق.
انحني ت لأتناول الحقيبة، فيما ازدادت دقّات القلب في الهيجان. وتقدم ت بخطوات وئيدة، نحو الممر
اُلمخصص لختم الوثائق.
كلما تقدم ت خطْوة ازدد ت خوفا ورهبة، وتضاعفت سرعة الدم الساخن في شراييني.
ُأصمد... ُأصمد... فالخوف قد يفْضحك ويورطك.
ُأصمد... ُأصمد... إنْ كشفوك ستكون ايتك واية البقية.
مدد ت جواز السفر وتذكرة الطائرة، وأبعد ت بوتقة الإبصار حتى لا تكْشفني عيوني. وبطرف العين
رأي ت الآنسة القابعة خلْف المكتب، تحملق فيّ فزد ت ارتباكا أخفيته قدر ما أستطيع.
انتصبت الآنسة واقفة، وتراجعت إلى الخلف...
تجمدت كلّ دمائي، وتوقّف القلب عن الخفقان وأحسس ت بصداع ألمّ برأسي، وفكّر ت في الهروب.
الْتفت خلْفي، فإذا بعشرات من الأشخاص يقفون في تراص داخل نفْس الممر. وأما الهروب إلى الأمام
أشبه بالارتماء في هوة.
لا مكان للتراجع، فما بالك بالهروب، والأمن يحاصر المطار ويتوزع داخله... شرع ت في قراءة
سورة"يسِ".
سحبت الآنسة بعض الأوراق من خزانة وراءها، وعادت لتجلس في مكاا... كتبت وختمت، ثمّ
ناولتني جوازي وأشارت براحة كفّها للمسافر اُلموالي. حينها سحب ت نفَسا عميقا ... بسملْ ت وحمدلْ ت
وقرأ ت أعوذ برب الفلق، وأكملْ ت طريقي بنفْس الممر، في اتجاه الطائرة بعد أنْ تسلّم ت حقيبتي من
الجهة الأخرى.
جلس ت في المكان اُلمخصص لي داخل الطائرة، أعد الثواني والدقائق في انتظار الإقلاع.فأنا لن أطمئن ما
دامت الطائرة لم تحلق في السماء.
و بمجرد أنْ أقْلعت، خلد ت لنوم لا شبيه له... لم أنمْ منذ سنوات نوما هادئا و مطمئنا. فالطائرة أكثر
الأماكن أمانا بالنسبة إلى مثْلي.
لا تنتظر أنْ يدخل عليك أحدهم ليعتقلك، أو يقْتحم عليك البوليس أو الجيش مخْدعك، لمّا تكون في أي
مترل أو بيت على الأرض.
أما هنا، فحتى الزلازل لا تطالك .....
لمْ أفق من ُ ذ ربطْ ت حولي حزام الأمان إلا لمّا تكرر الصوت الذي افتتحنا به الرحلة:
.Fasten your seat belts
ثم بالفرنسية
. Attachez vos ceintures
فركْ ت عيوني، غير مصدق أنني في مأمن إلى الآن، حتى وأنا على متن طائرة معلّقة في السماء، كأنّ النوم
علّمني ما لمْ أكن أعلم ... كأنّ النوم كان محرابا لترول وحيِ لم أتذكّره كاملا .
كأنّ النوم ذكّرني أنني مهدد بالموت و القتل والاعتقال، طالما أنني لس ت إلا عربيا.
وماذا يعني أنك على متن طائرة ؟ ألا يمنع الأوغاد من ال وصول إليك ؟ ألا يمنعهم الدهاء وخبرم
بالتفْتيش من العثور عليك ؟ ومن قال أنهم لمْ يدسوا لك أحد الجواسيس أو الخَونة مع الركّاب داخل
الطائرة ؟
دارت بخلدي الهواجس، حتى أني بت ألْتف ت يمنة و يسرة وإلى الخلْف، محاولا التعرف على وجوه
عربية داخل الطائرة.
حطّت الطائرة بأمان على أرض المطار، ونزلْ ت السلّم محاولا أنْ ُأخفي خوفا يترقْرق في عيني، ورعشة
كلّما تقدم ت إلى مصلحة الجوازات تضاعفت.
عبر ت المطار بأمان رغْم نظرة الشك والريبة التي لاحظْتها في عيون اُلموظّفين، وهم يكْملون إجراءات
الدخول للأراضي الأمريكية.
لا زلْ ت بنفْس الممرّ في طريقي إلى الخارج، محملقا في عيون كلّ الذين تمر م بوتقة الإبصار، علّي
أتعرف على أحد الإخوان الذين سبقوني إلى هنا.
ماذا لو لمْ يسبقْني أحد منهم ؟ إلى أين سأتوجه ؟ ماذا سأفْعل ؟ لا مال ... لا علاقات... ولا برنامج
سطّرته مسبقا لتفادي هذا المأزق...
حاولْ ت ما استطع ت أنْ أمسح وجوه كلّ الواقفين والجالسين والعابرين... دون جدوى. توقّفْ ت قليلا، علّي
ألْف ت انتباه أحدهم بتوقّفي ذاك. غير أنّ محاولتي لمْ تثمر غير مزيد من القلق.
أكْملْ ت سيري، كمن يمشي على حبل معلّق فوق هاوية... حتى وجد ت نفْسي خارج الباب الرئيسي،
مصطدما بآلاف السيارات الواقفة واُلمتوقّفة...بضائع ترفع، وبضائع تشحن وأخرى يدفعوا أو
يرفعوا إلى السيارات أو الشاحنات... مندهشا في ذات الوقْت من سيارات التاكسي الفارهة، الشبيهة
بسيارات كبار الشخصيات عندنا في العراق.
أذْكر أنّ سيارة رأي ت شبيها لها في العاصمة "بغداد" في ذكْرى أحد أعياد الثورة. وقال أحد اُلمرافقين لي
وكان من كوادر حزب البعث أنّ راكبها هو من عائلة قائد الحرس الثوري العراقي . يااااه ما أشبه
اليوم بالبارحة ... تحول ت من مواطن عراقي حر، إلى مواطن احتلّوا أرضه، ومنها إلى مواطن يدخل
أراضي الدولة التي احتلّت وطنه، ولماذا ؟
بدعوى الانتقام...
لا م الوسيلة والطريقة والطرق ... المهم النتائج والغايات.
أفهم دواعي "أمير التوم" و "ميلود عبد القادر" وبقية الإخوان الذين يعتنقون إيديولوجية تنظيم
القاعدة، لكنني لا أتبناها وإنما أنضوي تحْتها، طالما أنّ أهدافها تصب في ما أسعى إلى تحْقيقه.
لا زالت عيناي تمْسح ناطحات السحاب والشرفات والسيارات الفارهة والنساء العاريات والشوارع
الزاخرة بالحركة والنظام.
لمْ أجد ما به أشبه أي معلم من هذه المعالم، مع نظير في العراق وسوريا، وحتى "باريس " التي مكث ت فيها
أسبوعين لمْ ترتقِ شوارعها ونظامها إلى مستوى العاصمة الأمريكية.
أنخْ ت حقيبتي على الأرض، وبقي ت واقفا أحملق في المارة والسيارات ... أشعلْ ت سيجارة لمْ يكن مسموحا
لي أنْ أشعلها داخل المطار.
حين نفث ت دخاا بعد النفس الأول، اقْترب مني أحدهم ولمْ تكن ملامحه شرقية.. مع ذلك كلّمني
بلغة عربية أشبه باللهجة المصرية:
السلام عليكم.
( بانتباه وحذَر ) وعليكم السلام.
أبو مصعب... أليس كذلك ؟
( حملقْ ت فيه وكد ت أنْ أنكر اسمي الذي لم يكتب على جواز السفر )
نعم ... أنا ...هل ؟ من أنت ؟ هلْ ؟
( ابتسم )
انحنى على الحقيبة يرفعها، وكد ت أمنعه.غير أنه أردف ابتسامته بكلمة السر اُلمتفَق عليها، قائلا:
التمثال... التمثال، أليس كذلك؟
حينها ابتسم ت بغبطة حاولْ ت إخفاءها، وارتمي ت عليه لأحضنه بفرحة من مدوا له حبلا، وهو
داخل هوة عميقة.
وسألْته:
الإخوان بخير؟
ارتبك، وهو يفتش ببصره عمن يمكن أنْ يكون يراقبنا. ووضع يده على فمي، محاولا إخماد صوتي،
وقال:
لا تتكلّم مطلقا ... علينا بمغادرة المكان.
عبرنا الشارع إلى الضفّة الأخرى، حي ُ ث تربض سيارة خفيفة، سارت بنا إلى مكان في حي صغير
خارج أحواز العاصمة.
المترل على صغر مساحته، أجمل بكثير من واجهته الخارجية.
تتوسطه غرفة جلوس بأرائكها و إكسسواراا، كأنه ُأثّثَ لاستقبال عروس. دخلْ ت على الجماعة،
فاستقبلوني بالأحضان . فيما لاحظْ ت بعض القوارير والأكياس مبعثرة عل زربية تتوسط قاعة
الجلوس... فهم ت أنها اُلمخصصة لتنفيذ الخطّة.
كان "ميلود عبد القادر" و "أمير التوم" يعالجان تلْك المواد والقوارير، دوء لا مثيل له. فيما كان
ثلاثة شبان لمْ أتعرفْهم، يتابعون اُلمشاهدة و المساعدة.
حين انضممت إلى الإخوان، قدمني "أمير التوم" لهم، بعد أن انتبه لملامحي قائلا ، مقدما لي الجماعة:
هذا الأخ "أبو بكّر الشوكاني" من السعودية... و هذا الأخ "سمير خطّاب" من مصر... و هذا الأخ
"صالح العريض" من تونس... وكلّهم شباب جاؤوا لنصرة الإسلام والانتقام من الكفرة.
قل ت دون أنْ أحدد مشاعري:
الحمد لله.
فهم ت بعدها في الجلسات اُلمتتالية، أنّ الإخوة الثلاثة وأنا رابعهم، سنتولّى تنفيذ العملية، ضد
تمْثال الحرية الرابض على أنفاس البشرية منذ قرون.
هذا الحجر البارد منه وعبره، تمر الوصاية والاحتلال وقمع الشعوب وإسقاط الحكومات ...ودائما
تحت يافطة الحرية وحقوق الإنسان. فيما لم تشفع للإنسانية دساتيرها الوضعية والسماوية
والتشريعات الحقوقية، كي تحقّق أمنها وسلْمها.
لا بد إذن من ضرب كلّ رموز الطغيان والفجور والقمع... التي أقْنعونا أا تمثّل قيما ما. تماما ككلّ
التماثيل اُلمنتصبة في شوارع العالم قاطبة، وشوارع الدول العربية التي تكرس حكم الفرد وتأليه
الحاكم. حتى يأتي آخر فيقْلع ما سبق، ويغرس تماثيل أخرى.
كان تمثال الحرية "الإله الأكبر" أو رب الآلهة جميعا. وأنّ التماثيل الأخرى المنتصبة في ساحات
عواصمنا ليست إلا آلهة صغيرة تأتمر بأوامر الإله الأكبر.
و رأيت فيما يرى النائم أنّ الإله الأكبر كلما أسدل الليل ستاره على العواصم ينفض تكلّسه، ويترل من
منصته تلك في اتجاه العواصم العربية ليتفقّد الآلهة الصغيرة التي تبقى ثابتة دون حراك. فيهددها
ويأمرها ويلقّنها بالسوط حينا وبالصراخ و بالوشوشات وبالركل وبالصفع... وأنه الرحيم و العظيم و
القادر والنافع والضار... وبرحمته يطبطب على خد هذا الإله الصغير أو يربت على كتف ذاك أو يمسح
على شعر الآخر... و هكذا إلى أن يكمل جولته في كلّ العواصم، ليعود إلى منصته الرخامية الباردة
مطمئنا لتطبيق الآلهة الصغيرة أناجيله و صحفه.
الليلة الفاصلة بين 31 ديسمبر و 01 جانفي، هي الليلة الحاسمة ... ليلة التنفيذ... ليلة الشهادة ...
ليلة الانتقام... لي وللإخوان ولزوجتي وعائلتي وأمتي و شعوب العالم الإسلامي قاطبة.
منتصف النهار تماما، كانوا يجلسون جميعا في قاعة الجلوس يتلقّون آخر التعليمات.
مرر "أمير التوم" أصابعه على لحيته الكثيفة التي جعلت "أبا مصعب العراقي" يستغرب من السماح له
بدخول التراب الأمريكي، وهي توشي وجهه النحيف ... قال:
بسم الله الرحمان الرحيم... سننفّذ على بركة الله شرع الله. وقد نذر الإخوان "أبو بكر" و "سمير"
و "صالح" أنفسهم للشهادة.
( مشيرا إلى أحزمة ناسفة، ملقاة على الزربية المفروشة تحت أقدامنا )
هذه هي أدواتكم ... حافظوا على هدوئكم ولا ترتبكوا واذْكروا الله كثيرا. أذكّركم أنّ من يخطئ أول
مرة، يكون قد أخطأ للمرة الأخيرة.
( وجه كلامه "لأبي مصعب" )
أما أنت، فسيكون سلاحك السيارة اُلمفخخة... ما عليك إلا أنْ توقفها في ساحة التمثال على بعد عشرة
أمتار وتنزل منها قبل الوقْت المحدد بثلاث دقائق... ثلاث دقائق كافية بأنْ تكون بعيدا عن مكان
الانفجار.
سأل "أبو مصعب" مستفْسرا:
وما هو الوقْت اُلمحدد ؟
التنفيذ سيكون منتصف الليل تماما ... وما عليك إلا مغادرة السيارة قبل ذلك بثلاث دقائق.
مع ذلك أقول، ستكون السيارة رابضة على بعد ألف متر من الهدف...قبل عشر دقائق تتحرك بالسيارة
إلى المكان . توقف محركها، وتنزل دوء تام كأنّ شيئا لم يكن.
( موجها كلامه للجميع )
لا تخافوا، كلّ الأمور مدروسة بدقّة، حتى السيارة التي سننفّذ ا العملية، هي عبارة عن تاكسي، لا
تلْف ت الانتباه.
أكمل "أمير التوم" حديثه، ثمّ أسند ظهره إلى الأريكة بقلق أخفاه عن الحضور، قائلا :
من له ملاحظة أو سؤال ؟
علّق "ميلود عبد القادر":
لا بد من التأكيد أنّ التنفيذ بعون الله، يكون في نفْس التوقيت... "أبو مصعب" تحت التمثال. و
الإخوان "أبو بكر" و " سمير" و "صالح" في الساحة العامة حي ُ ث تقام الاحتفالات بمولد المسيح.
( متداركا )
نسي ت أنْ أقول أنّ الأخ "سليمان" الذي استقْبلكم في المطار، هو الذي سينقلكم تباعا إلى الأهداف
اُلمحددة.
( سحب حقيبة يدوية وتناول منها أربع ساعات يدوية، وزعها على"أبي مصعب" و "أبي بكر" و "سمير"
و"صالح" وعلّق )
دقّقوا التوقيت جيدا... ضبطوا عقارب ساعاتكم على نفس الدقائق. نسبة الخطإ لا يمكن أنْ تتجاوز
الثانيتين.
ثبت الإخوان ساعام في معاصمهم ووقفوا مستعدين. فيما تدخل "أمير التوم":
نرجو من الله العزيز القدير أن يثبت خطاكم ويحميكم ويتقبل أعمالكم. والآن استريحوا لمدة
ساعتين، قبل أنْ نسجل رسائلكم على أمة الإسلام، ل نوزعها بعد أنْ ينصركم الله.
دخل أربعتهم ليناموا، أو ربما ليتهيأوا للحظة الحسم.
فيما تفرغ بعضهم لتلاوة القرآن.
ساعة واحدة، كانت كافية ليخلد الجمع للنوم. فيما لا يزال الشيخان في قاعة الجلوس يوزعان الكلام
ويدرسان الخطط اللاحقة. ليس مهما الهدف، بقدر ما م النتيجة الصاعقة على نفوس الكفرة و
الأعداء و الشياطين وعلى عقولهم...
إذن، هل يكون الهدف القادم "باريس"؟ أم "لندن"؟ مدريد؟ برلين؟ أم ربما إحدى العواصم العربية ؟ من
يدري، فالأحداث القادمة ستحدد الهدف القادم.
مع أنّ " أمير التوم " يفضل الأنظمة العربية وعواصمها. فهي الأقْرب والأخطر من جيوش تغزو شعوبا
من الخارج. فالغزو قابع فينا، كذا القمع والإرهاب وإفقار الشعوب والخروج عن الملّة والدين.
ما زالا يتجادلان بمرجعيات الشيخ "أسامة بن لادن" وأحداث العراق وفلسطين وأفغانستان ...كأما من
سيغير الخارطة والحكومات والأنظمة.
فجأة، ُ طرِق البا ب ثلاثا... طرقات خفيفة متتالية.
رد "ميلود" دون أنْ تظْهر عليه علامات الارتباك والريبة. فهي طرقات "سليمان":
من...؟
التمثال.
لحظة... سأفْتح.
اتجه "ميلود" نحو الباب ليفْتحه... مد يده للقفْل أداره وسحب الباب، فاصطدمت زاوية رؤيته
"بسليمان" محاطا بعناصر ملثمة، من القوات الخاصة الأمريكية، مدججة بأسلحة آلية كافية لدك
الآلاف في لحْظة واحدة... ارتموا إلى الداخل مسرعين، وتولّت فرقة منهم شلّ حركة "أمير التوم" و
"ميلود عبد القادر".
لم تمض ثوان قليلة، حتى أخرجوا "أبا بكر الشوكاني" و "سمير خطاب" و"صالح العريض"، مثْقلين
بالقيود وقادوهم جميعا إلى جهة غير معلومة.
المشهدالأخير
الرسالة الأخيرة
ليلة السنة الإدارية الجديدة، كن ت ممددا على سريري مثبتا بصري على الشاشة الصغيرة، و مثبتا
سبابتي على جهاز التحكّم مغيرا وجهة اُلمشاهدة من قناة إلى أخرى، أتابع احتفالات الشعوب بأعيادها.
واحتفالات شعوبنا بأعياد الآخرين.
كان البذَ خ والفوضى واُلمجون والطرب و .. سيد الأشياء ليلتها.
الصور تنقلك من "باريس" إلى "لندن" إلى "بون" إلى"روما" إلى "أثينا" إلى ... وقنوات إخبارية تنقلك
إلى"غزة" أو "بغداد" أو "الأعظمية"... حيث الموتى و الإنفجارات والاغتيالات والرصاص... الموت هنا
سيد الأشياء.
أحدهم يبني حياته بالفرح، وآخر بالحزن والموت يؤسس لحياة قادمة... أي مفارقة ؟؟؟
فجأة، نقلت إحدى القنوات الإخبارية خبر الكشف عن مجموعة لتنظيم القاعدة، حاولت أنْ تنفّذ عملا
إرهابيا داخل الأراضي الأمريكية. ومررت نفْس القناة تمثال الحرية وهو شامخ مبتسم ساخر، كأنّ على
رأسه الطير... أقدامه هناك، ويده الممدودة إلى أعلى تطال سماءنا.
لحظتها فقط، حضرت رسالة "إيراد الحاج"، فسحبتها من كوم أوراقي لأقرأها من جديد:
"بسم الله الرحمان الرحيم
لن أقول رفيقي هذه المرة ... أقول أخي في الإسلام. متمنيا من الله سبحانه وتعالى، أنْ يهديك إلى
طريقه المستقيم / إلى الإسلام.
و بعد: بعون الله وبفضله نوشك أنْ نحقّق شرع الله في أرضه. ستسمع قريبا ما يحقّقه الإسلام على
أرض العدو.
أنا لم أستطع مبارحة سوريا لأحج مع الإخوان إلى نيويورك، ولكنهم حتما بعون الله سيحققون ما يحلم
به و يبغيه كل مسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
توقّفْ ت عند "أخي في الإسلام" و "نحقّق شرع الله في أرضه" و "أرض العدو"....
أيكون هذا الخبر هو ما حكته الرسالة؟
ارتبكت مخيلتي، وتماهى تفْكيري مع الفوضى والارتباك ... لم يعد بإمكاني أنْ أفكّر في شيء عدا
اللا مفكّر فيه.
إذن، ماذا تبقّى ؟
سحبت سيجارتي أشعلها، وترك ت عود الثقاب يتقد كأنه النار المثبتة في المشعل أعلى تمثال الحرية...
كانت النار براقة وحادة في حمرا وغضبها.
مددت الرسالة بيدي الأخرى، وتركتها تستمتع بلهيب الغضب، حتى سقطت رمادا على الأرض. كدت أرى
تماثيل عديدة تسقط، فيما لا يزال تمثال الحرية ينتصب ساخرا، شاهرا مشعله كمدفع في وجوهنا.
قصور الساف
ربيع 2010
صدر للكاتب:
* "عودة الشعراء " ( مسرحية ) دار الإتحاف للنشر/ سليانة أفريل 2002
* " ذاكرة الألوان " ( رواية ) دار سيبويه للنشر/ المنستير 2006
*عاطل عن العشق ( مجموعة شعرية) دار إنانا للنشر ديسمبر 2010
* وصية الوردة ( ديوان شعري صوتي CD ) الشركة التونسية للف والطباعة سبتمبر 2010 .
* سلسلة جدل الآن: عن قضايا الديمقراطية و المثقف (كتاب جماعي) دار البراق سوريا 2002
* " الهوية من منظور مختلف ": (كتاب جماعي/ سلسلة الفكرية ) دار صامد للنشر /صفاقس أفريل 2009
* " ديوان الثورة ": أنطولوجيا شعر الثورة التونسية من إعداد محمد البدوي، دار المسار للنشر والتوزيع / تونس 2011
المهدي عثمان
--------------------------------------------------------------------------------
تم إهداء هذه الرواية من طرف كاتبها لموقع أنفاس
ANFASSE.ORG
المهدي عثمان
التنظيم
( رواية )
الإهداء
* إلى شباب الثورات العربية.
* إلى أصدقائي بمدينة قصور الساف.
* إلى الصديق المنجي العايدي.
* إلى صديقتي الفلسطينية " عائشة ".
المشهد الأول
هذه اللوحة للخمر
"من ألف عام أكتب إليك رسائل أوجاعي، فتمزقها أو يمزقها وجه غرورك. كيف أحبك يا
حبيبي.. يا ربيع العمر والترحال.. يا قاتلي كلّ مرة ألف مرة.
من ألف عام أخضب كلّ رسائلي بعطر أحلامي وأمنياتي المرفْرفة في سماء شموخك.. بعطري الأنثوي
الذي تشتهي. كن ت أضمخ كلّ أشيائي الجميلة باسمك : شالي الحريري
( مثلا ).. فستاني.. قلم الشفاه.. و حتى رحيق الكلام..
ياه.. كل رسائلي سقطت في و مياهك المالحة، واختنقت بمائك عبير كلماتي. غير أني أرى الوقت
أحلى كلما كنت معي.. أرى الشوق أكبر كلما غبت، وأرى الألوان في أشد الأوقات قتامة.
صارت مساءاتي يا أخير زمانك في العشق وفي الوجع قنديل مخاض وعسر ولادة. أبحث عنك كمن
يمنح وجهه لزخات المطر، ولا أتعثّر إلا على مدارج حزني. و لمّا تعود من غيابك، أعود إليك وأنسى
الرحيل وأنسى الضجر.
ها أنك الآن ترحل دون بوصلة لعودة واضحة. لا مناديل تودع قواربك، ولا ُ قبلة تحتفي بقدومك بعد
الرحيل.
ها أنك الآن ترحل دون إذن من سيد عشقنا. أما أنا، فمن ألف عام أشد الرحيل ولم أرحل.. من ألف
عام أجدف في مكاني وأرسو في بحورك من جديد .
مع ذلك وأنا القارب دون شراع بدونك أشد الرحيل كأوراق خريف يذرفها الوقت. لكنني إن سقط ت،
أرفرف مرة أخرى ولا أنحني.
أنا إذن، أقف لأعشق من جديد، فلي الخيار و لك الخيار.."
كن ت ملقى كالسلحفاة على ظهري، أتلو رسالتها على وجعي المقرفص حذوي، كمن يعود مريضا لا
شفاء له. ُأغالب ثقتي أا من أرسلت هذا البوح إلى الصحيفة التي تعود ت أن أنشر على صفحاا
رسائل عشقي إليها .
كانت هواجس وخواطر في شكل رسائل من سجن لا قضبان له، وأدون أسفل النص: "شاعر مر من هنا".
أدرك جيدا أا كانت تتابع الرسائل بملء الشغف والرغبة الجارفة. و يقينا كانت تجمع الرسائل
لتحتفظ ا.. نعم أرى ذلك في التفاتتها ونظراا المشحونة بالهمس والأنوثة الصارخة .
لم تكن ككل اللواتي عشق ت.. كانت عصية ومتمنعة، تصد حتى رغبتي في الكلام إليها، وتكتفي
بالابتسامة. كان الحديث معها كمن يداعب قطّة تسكن دفء يديه، لتنتفض فجأة منشبة مخالبها في
كفه.
ما أقصر المسافة إليها وما أبعدها.. تقتلني المسافة حينا، وأخرى ذلك الماضي الذي يعلق في أهدابي
كدمع سيدة ممزوج بكحل جفوا.
وأنا في المسافة، كالملقى في بيداء لا بد من قطعها... كلما طالت المسافة، زاد الإصرار على قطعها... كلما
كانت قاسية، زاد الإصرار على كسر غرورها
...........
أغالب ثقتي، أا من أرسلت هذا البوح إلى تلك الصحيفة، مع أني من كتب بوحا على لساا وأرسله،
يحمل إمضاءها وشوقها الذي لم تبح به.
لماذا فعلت هذا ؟
لأني أحبك..
ليس ذه الطريقة.
وبأي الطرق تريدين ؟
... لا شيء.. دعني وشأني..
........
بملء الثقة بالنفس، والغرور أيضا قل ت:
ألست أنت من كتب الرسالة ؟
ردت بعنف لا مثيل له:
أعرف خزعبلات الشعراء ..
Vous êtes un acteur merveilleux
وانصرفت دون أن تلتفت إلى سمات وجهي، وقد تراوحت بين الضحك والبكاء.
لحظتها، قرر ت أن أكتب لها آخر رسالة عشق، لها أن تحتفظ ا، أو أن تلقيها في وجهي.
كمن يكتب رواية بفصل واحد، كن ت أرسم ملامح رسالتي في كراس بأكمله. أمزج فيه ألوان الفرح
والغبطة، بألوان التذمر والقتامة، كمن يحضر مزيجا لرسم لوحة.
كأنني "دافنتشي" أمزج ألوان"الموناليزا" .. كأنّ ما أكتبه،
أعسر من رسم "غربان القمح" لفان كوخ ، أو "صرخة" للفنان النرويجي إدفارد مونش.
هنا ذه المدينة المهزلة، أدخل تجربة عشق جديدة، بعد خمس سنوات قضيتها بالعاصمة، أتراوح بين
الدرس الأكاديمي والنقابة والفن وقصص الحب.. أعود إلى حيث بدأت رحلة الكتابة، بنصف الرغبة
الجامحة ونصف القلب المحترق. وما تبقّى،أزهر سنديانا بأحضان اللواتي عشق ت.
هنا أيضا، تلقى نفسك في مدينة تنحني فيها للرداءة والضجر المميت.. في مدينة أشبه بتمثال من
الشمع لا يتطور، بل ربما يتضاءل بفعل الاحتراق.
أن تقول "قصور الساف" يعني الضجر والروتين وأشياء أخرى، ربما لا تشبه غير الموت.
هنا لا جديد تحت الشمس.. القيء يلف أوتاره حول أعناقنا، وأنت تضطر للانخراط في الشاغل
اليومي، بوعي منك أو بدونه. إما أن تلتحق بطابور العمل اليومي، وإما أن تختار لك مكانا بإحدى
المقاهي، تعين الكسل على التدرب، وتمنح لجسدك مزيدا من القدرة على التكيف مع الكراسي، وطرق
الانطواء المختلفة، ووضع الأرجل والانحناءات والاتكاء.. حسب طبيعة الجلسة ومكاا، داخل المقهى
أو خارجه، وحسب طبيعة الطقس وحالة النادل النفسية ومزاجه.
والمقاهي هنا، مقسمة حسب الرتب الاجتماعية و المكانة السياسية... فللغرباء مقهاهم الخاص،
يعرضون فيها أجسادهم على الراغبين في الانتفاع بجهدهم. أما أعضاء الس البلدي فهم يغيرون
المقهى حسب طبيعة الأحداث والتحالفات والمصالح .. وقد يضطر البعض منهم إلى تغيير وجهته إلى
مقاهي المدن ااورة اتقاء القوادين، وخوفا من كشف التحالفات. وللمقاهي الأخرى روادها ومريدوها
بعضهم قار، والآخر يغير المكان حسب الأهواء والظروف.
وقد أودعت الرسالة/ الكراس إلى "حبيبتي" لتقرر مصير علاقة من طرف واحد ... بدأت
شوارع العاصمة تمْثل في الذاكرة وتحضر صورها ورائحة الرطوبة المنبعثة من الأسواق العتيقة:
ملل ت هذه الجدران.. هذه الأج السرطانية والوجوه المتكررة.. لقد تعود ت على عدم الاستقرار..
هذه أخطر الأشياء التي تقلقني .
الأخطر منها أن تستقر في مكان ينهشك كالسوس القبلي، لتلقى نفسك هيكلا يزين ركنا من أركان
هذه المدينة المهزلة.
يا صديقي.. كل المبدعين غادروها، فانتصروا لإبداعهم وكسبوا ذوام، فارين بجلودهم من الاحتراق.
... هذه مدينة لا يستطاب فيها العيش.
... نعم قد أشاركك الرأي.
هكذا دار الحوار بيني وبين "صديق قديم"، ونحن نحتسي قهوة المساء بمقهى" الأقواس"، وقد انضم
إلينا "النادل" قائلا:
آخرهم السيد الوزير السابق ... حتى مترله على شاطئ "سلقطة" فرط فيه بالبيع هروبا من
أهله ومن سكان هذه المدينة الفاجرة.
علّق ت مساندا رأيه:
الأدهى من ذلك، أن الذي كان لا يقسم إلا باسمه ويقتات من خيراته ومننه، هو من بات يشتري
قوارير الماء والقهوة لرجال الشرطة المكلفين بحراسته أثناء فترة الإقامة الجبرية.
وأنه حتى ببراءة السيد الوزير السابق كان يغادر المقهى الذي يلقاه فيه حتى لا تطاله الشبهات
وحتى لا يتهم بخيانته للوطن.
هذه بلادك يا صديقي.
كم تنكّرت ذاكرتنا الجماعية لشخصيات ومبدعين، أسهموا ويسهمون في بناء هذا الوطن .
"ما عندكشي مشكلة" نحن من صنع مفهوم تنكّر الذات.
وأنا أشعل سيجارة أخرى، وقف "زهير" قبالتنا:
ما شفْتهاش... ما ريتهاش... ما مشيتلْهاش...
هكذا بدا مرتعشا، مرددا نفس الكلمات والحركات... وهو يحرك رأسه في كلّ اتجاه ببطء شديد، كأنّ
على رأسه الطير، وأضاف:
أعطيني سيجارو...
مد له "محسن" سيجارة وأشعلها له، لينصرف مكملا نفس الحوار مع نفسه:
ما شفتهاش... ما ريتهاش... ما مشيتلهاش...
لحظتها مُثل بذهني "الخبز الحافي" و "البؤساء". بل ذهب في اعتقادي أنني صادف ت الشخص نفسه ب
"رخيوت" أو "حوف" ، أو ربما نقلت إليّ الصورة عبر قصائد مظفر النواب، وتذكر ت قوله:
أحد يعرف رخيوت و حوف
ما تلك من الأفلاك السيارة
و اُلمكتشفات
ولكن وطنا عربيا، مملكة للجوع
و للأوبئة الجلدية
و القيء وللثورة أيضا
شاهد ت الحامل تأكل مما يتقيأ طفل محموم
وتغذّي الطفل الآخر من نفس القيء الأسود
كن ت أسرد قصيدته بصوت جهوري مرتفع، يجعل من حولي يستمع بانتباه للقصيدة.
لو كان " لطفي " حاضرا، لأرجع وضعية هذا انون إلى النتائج الحتمية التي يفرزها النظام
الرأسمالي. وحتما سأدخل معه في جدل عقيم لن ينتهي. وسيبرهن لي، أنّ طبيعة النظام الرأسمالي
القائم على الربح واستغلال الطبقة الشغيلة أو طبقة البروليتاريا ( كما يحلو له أن يسميها ).. هو
الذي سيوصل العامل إلى هذه المرحلة، بسبب الاستغلال الفاحش وعدم الاستقرار النفْسي، بسبب غلاء
المعيشة واحتقار الذات الإنسانية، التي لا تعدو كوا وسيلة إنتاج، أو جسدا للإشهار.
و أنا في اتجاه بيتنا وقد ودع ت " الروح" و"محسن" كانت ذاكرتي تفتش في مقاهي العاصمة عن
الرفاق والأصدقاء... تمر إلى الحانات والشوارع، وتعود يائسة لترتمي في حانة " القرصان " بالمهدية،
على طاولة لأربعة أشخاص بركن منزو.
تضيق بي الدنيا، و تحاصرني الهزائم، فتنتصر الخمرة هناك بذات المكان الأبعد عن المصالح
والتروات... الأقْرب للنشوة و استحضار المؤلم والمخيف... الفجيعة و الألم... الجراح والهزائم...
نعم بالخمرة فقط، يمكن أنْ تخْرج من بوتقة الواقعي، إلى جهة صوب ا ُ لحلم، فتأتي إليك عشيقاتك
وحبيباتك ورفاقك، وتحضر السلطة أيضا والفن والشعر والتنكّر للوطن والدين.
كن ت وحيدا على طاولة منفردة، أمزج التعب بحبات العنب، وأضيف الجعة.
سحب ت قلمي وكنشا كثيرا ما يصحبني، وبدأ ت أشاغل شيطان الشعر ليحضر... فحضر النادل
ليغير منفضة السجائر، متسائلا:
هل أزيدك؟
دون أنْ يكمل، أشر ت له برأسي علامة الموافقة، مستعينا بالسبابة والوسطى، فأحضرهما دون أنْ أنتبه
إليه أو أنشغل عن الورقة، وهي تفْتح فخذيها للفكرة اُلمتمردة من الطرة إلى آخر نقطة في الطرف
المقابل. هذيان وعربدة وفوضى وأفكار أشبه بالأناجيل القديمة... لا هي بالشعر ولا بالخاطرة ولا
بالمقالة ولا شيء...
غير أنّ الفكرة تحْضر دون أنْ ترتب هندامها وتغسل وجهها الصباحي... تحْضر متثائبة، متمردة،
فتنفض رائحة نومها على الورقة، دون أنْ تكون لتلك الرائحة معنى... ربما كانت رائحة الخمر أشد
تأثيرا عليها، فترنحت المعاني وسكرت...
ووجدتني أكتب:
رب سامحهم و إنْ لم يسكروا
كيف يشتاق إلى خمْرة جنانك
من لا يعرف الخمر
و يشتاق صباياها
إنْ كان هنا ما عشق.
كأني ما كتب ت غير نص أحفظه للنواب... كأنّ ما حضر غير حانة بأحد شوارع العاصمة مع الشاعر
"عبد الوهاب"، وكان يردد هذا البيت نفْسه وهو ثمل، محتفلا بقدومي على طريقته... نفْس الخمرة...
نفس الأجواء الخانقة والبائسة واُلمتمارضة، مع اختلاف في المكان .
كان يسرد قصة تعرضه لحادث مرور أفقده ساقه، وأفقده نساء نزواته... هذا الشاعر اُلمتكالب على
اللذّة والنساء، كلما التقيته، التقي ت بأصناف من المومسات والساقطات والعاهرات... كأنّ الشعراء ما
بعثوا إلا ليتمموا المهمة الهادفة:
مهمة إنقاذ المومسات من الشرف، وإنقاذ الحانات من الإفلاس، وإنقاذ رجال الأمن من البطالة، وإنقاذ
قطط الشوارع والقوادين والبصاصين والبوليس السياسي... لذلك يجتمع كلّ هؤلاء، للتنكيل بالشعراء
أو الانتقام منهم.
إنّ المشهد الأكثر ألما، هو أنْ تبات وحيدا بلا أنثى تحضن عربدتك، وأنت راغب في زرع نزواتك في تربتها
المالحة لذلك أؤمن حد الكفر، بأنّ سيدة إذا باتت لوحدها، فتلك خطيئتنا نحن الرجال.
أنا و "عبد الوهاب" أعددنا المشهد جيدا، ولم يتبق إلا هي... خصصنا مساء كاملا للبحث عمن تحْتفي
بجنوننا، فلم نظفر بغير خيبتنا. وحتى التي وعدتنا بأنْ تلْتحق بنا آخر الليل، لم تأت.
وبتنا ثلاثتنا، أنا وهو وعلب الجعة، نلعن الشعراء والنساء ومربعات الرصيف والساسة والحكم
الجمهوري وخرائط التقْسيم العنصرية و... و...
في ليلة كهذه أزدا د إصرارا على الانتقام من أي سيدة تعترض طريقي، فأحولها إلى مومس أو حاقدة أو
مصابة بمرض فقْدان مناعة الكره.
في قبو على وجه الكراء أكْملنا ليلتنا بين الشعر والشعراء وسياسات العالم الثالث، محاطة أفكارنا
المترنحة بدواوين الشعر وكتب الفلسفة والصحف اليومية وقوارير الجعة.
....................................
حضرت كلّ هذه الأفكار، وأنا لا زل ت بحانة القرصان تتداول علي العلب الروحية، ويتداول على المكان
بحارة وطلبة وفقراء، يراوح بينهم نادل يقتات من سكرهم وسهوهم وما يتركون من مال تبقّى من
فقرهم. كأنك تحضر مشهدا يتكرر عند "حنا مينة" أو "محمد شكري".
كن ت كثيرا ما أتساءل عن الدوافع التي تجْعل البحارين أكثر رواد الحانات والمواخير. هل الفقْر ؟ أم
الجوع ؟ أم قساوة البحر وموجه ورطانته وحدته . بلْ ربما احتفاء بالحياة بعد خروج من بحر قد لا
يخْرج منه من دخله للمرة الأولى أو حتى للمرة الألف.
قطْعا للبحار دلالاا عند الشعوب ... بعضها تراها امتدادا لها أو تواصلا مع أجسادها وأرواحها
وثقافتها. وبعضها ترى البحار بوابات لهجوم الأوبئة والجيوش والقمع. فإلى أي الشعوب ينتمي هؤلاء
البحارة الذين أمامي ذه الحانة ؟ قطعا للصنف الثاني من الشعوب. وإلا ما غادروه خائفين كمن خرج
للتو من رمسه، فيحتفي بالخمرة و المومسات. ليدخل البحر ثانية كمن يستفز القَدر كرا و فرا.
هنا ذا المكان العتيق الأشبه بحانات أوروبا زمن محاكم التفتيش ... الدخان يحجب الوجوه
والتفاصيل و يضفي على الجدران المطلية بالجير لونا رماديا، كقلب سجين لا يعرف تهمته.
... ضجيج.. وصراخ وفوضى وقرع كؤوس على أنخاب هزائمنا الممتدة من البحر إلى البحر. كأنّ هؤلاء
يهربون من حروبنا المتكررة وخسائرنا المتكررة.
ُأنظرِ الطاولات، ترى عرق الخشب يخرج من مسام الأشجار الأولى، كأنه يتنفّس خارج طبيعته " فما
أدراك لماذا هذه اللوحة للخمر وتلك لصنع النعش وأخرى للإعلان ".
ذكّرني القول بحوار دار بيني وبين صديق يمني يتردد على تونس باستمرار:
أعلن إعلانا، الأمر وبه: أظهره وجاهر به. والإعلام هو إحداث المعرفة عند المخاطَب على وجه
الصدق.
هكذا كان صديقي "الناصر سالم" يفسر لي مفهوم الإعلام والإعلان ووسائلها، مستشهدا بوسائل
الإعلام العربية التي حادت عن دورها.
فهي لا تظهر ولا تجاهر ولا تحدث المعرفة، فهي إذن ليست وسائل إعلام.
علّقْ ت:
وماذا تسميها ؟
أجاب:
ليست إعلاما... بمعنى هي وسائل إعلاء مكانة الحكام والساسة وتقْزيم الحقيقة هي وسائل إعلاء و
وتأليه ا ُ لخطب والقرارات.
ولكنك متحصل على دكتوراه في الصحافة. أليست مفارقة ؟
عندما أكمل ت مرحلة الأستاذية، ُ كلّف ت بالإشراف على دورية تصدرها جامعة صنعاء. اكتشف ت خلالها
أنّ ما أقوم به ليس سوى رش المبيد على جثّة لإبعاد الذباب.
لهذا غادر ت صنعاء بلا عودة إلى ألمانيا .ولأنه ليس بالإمكان التوجه إلى برلين انطلاقا من اليمن، طالما
أنّ اليمن السعيد على قائمة الدول الراعية الإرهاب، وأنه محضنة لتفْريخ المتطرفين والإرهابيين ..
اتصل ت بأصدقاء يساريين يدرسون في روسيا ليساعدوني على الالتحاق بالجامعة وتمّ لي ذلك. وبعد
حصولي على الدكتوراه اتجه ت إلى ألمانيا واشتغل ت هناك.
و العائلة ؟
أكمل بسخرية من يدخل حربا خاسرة:
نحن ثمانية إخوة غادروا كلهم تراب اليمن السعيد في اتجاه الأراضي الأكثر سعادة. أحدنا في
أستراليا وآخر أقام بالولايات المتحدة والبقية يتراوحون بين بريطانيا وألمانيا وفرنسا.
( تنهد ) المهزلة يا صديقي، أنه لا يمكن لك أن تكتشف مفهوم "المواطنة" إلا خارج أرضك العربية...
صدق وأنا مقيم بألمانيا قرابة الست سنوات، تمّ إيقافي مرة واحدة من قبل رجل أمن، تصفّح أوراقي
وحياني لأنصرف.
أما وقد كن ت في وطني السعيد، فلا يمكن أن يمر اليوم دون أن يكشر رجل الأمن في وجهك، وربما يشكك
في وثائق الهوية، وقد يدعوك لاَصطحابه إلى مركز الأمن لإتمام الإجراءات.
( كأني أذكره بحادثة ربما لن ينساها ) ولعلّ ما حصل لك في تونس خير دليلي على ذلك؟
آه... في تونس المسألة مختلفة. تشعر أنّ أنفاسك تسجل في جهاز أمن الدولة أو البوليس السياسي ..
كل حركاتك وسكناتك.
ففي آخر مرة أوقف ت في المطار وتمّ التحقيق معي لمدة فاقت الأربع ساعات، اتضح للأعوان بعدها أنّ
خطأ ورطهم... كتشابه في الأسماء مثلا.
سكب كأسا من "الويسكي"، وكنا لا نزال نتسامر في غرفتي الضيقة المحْشوة بالكتب والصحف
وأشرطة الكاسات. أشعل سيجارة وأكمل:
أتدري يا رفيقي، أنني كلما دخل ت وطنا عربيا أشعر أنّ مكانتي أكبر مما كن ت أعتقد. خاصة وأنني
مطالب بتحديد مكاني وإقامتي ومن سأزورهم ومن سأقابلهم و ...
دون أن أنسى طبعا أنّ إجراءات دخولي قد تستغرق الساعات، بسبب وحيد كوني من اليمن السعيد.
هكذا كان يغرف من جرحه ويبسط الحكايا على طاولة الخشب التي أمامنا، والتي هي بالضرورة
للخمر وليست للإعلان.
كان يسرد لي بمرارة واقعا مؤلما ومأساويا عن المواطن اليمني، وخاصة في الجنوب الاشتراكي. وبسبب
إيديولوجية هذا الجنوب وككلّ جنوب عربي تمّت معاقبته لسنوات، وتواصل العقاب حتى مع تحقيق
الوحدة. لهذا فرخ الفقر ما يسميه الآخر "إرهابا" أو "تطرفا" ، ونسميه كذلك اقتداء بالآخر أو خوفا
منه.
فالآخر يخيط المفاهيم على قياسه، ويعرضها للاستهلاك الخارجي. أما نحن فنرحب بالمفاهيم ونعلّبها
وننمقها للاستهلاك الداخلي. وبين الداخل والخارج طرف يمارس الإرهاب الفكري، على طرف آخر
ويجبره على الاعتراف بمفهوم الإرهاب الذي سطّره.
تناول حقيبته الجلْدية الصغيرة، وسحب من طياا رواية "اُلمستنقع" لحنا مينة، وبسرعة أدركت
أصابعه الصفْحة التي أرادها قائلا:
لم يشدني كاتب عربي مثلما شدني هذا العظيم حنا مينة . وخاصة روايته هذه ... عندما أمر على
سطورها أجدني أعيش تلك الأحداث، داخل ذلك الحدث الروائي... إا أحداثي أنا ... واقعي...
حياتي... وربما أحداث كل مواطن عربي وواقعه وحياته، اسمع ماذا يقول:
"... نحن كنا تلك الدودة على الصخر. كنا دودا على صخر ليس على جوانبه أيما خضرة أو تراب.
كان الحي كلّه دودا يلوب في مستنقع صخري فيه كلّ الأوحال وكلّ الأقذار، وليس فيه أيما شيء يؤكل،
ولم يعد نصف أهل الحي يعملون، ووصلَ الأمر ببعضهم إلى بيع أثاث بيوم وأمتعتهم، وكانوا يفعلون
ذلك وهم ينتظرون الفرح، لكن الفرح كان بعيدا..."
( أعاد الكتاب لمكانه وأكمل )
ما رأيك ؟ أليس من حقّنا أنْ نفجر أنفسنا ضد من جعل وضعنا يأخذ ذلك الشكل ؟
قل ت بيني وبين نفسي:
من الغباء مقاومة الآخر بتلك الطرق الانتحارية .
كمن وجه مضخم الصوت إلى ساحة عمومية بالعاصمة، انتبه" الناصر " لتعليقي، كمن تنصت على
وشوشات القلب، وعلّق:
أنت إرهابي حتى وأنت يساري. حاول مثلا أنْ تشكك في المفاهيم... أو تمدح المقاومين والمناضلين
والانتحاريين ... أو شكك في المحارق النازية ..أو ...
( ولم يكمل كلامه كأن أحدا أشهر خنجرا في خاصرته )
كن ت أستوعب ما يسرد بنبرة يمنية عربية ما زالت تعلق في أهداب لغته المستعملة، رغم سنوات الغربة
والتغريب.
مع ذلك حاول ت أنْ أضيف شارحا أو متسائلا أو متداركا، لكنني لم أجد خيوط اللغة الأولى وانفرطت
الأحرف كحبات عقد مرجانيّ.
انتبه لارتباكي، وأكمل:
ماذا يسمى غزو دولة لإسقاط حكومتها واحتلال أرضها؟
إرهابا.
لا ...
ماذا إذن ؟
دفاعا عن النفس.
أمسك ت بناصية سخريته، وأيقن ت أنه يمارس نوعا من البلاهة المتعمدة.
وأكمل :
كلّ دفاع عن النفس ليس إرهابا.
إذن من يناضل يدافع عن النفس أيضا.
بالضبط، لذلك فكلاهما يملك شرعية سحق الآخر وإلغائه من التاريخ . إذن من يثبت التاريخ أنه
الأقوى، سينتصر.
للمرة الأولى أتعثّر على عتبات تفسير ذا لشكل البسيط والمعقّد، لذلك قبلته بمنطق من شعر
زيمته. ولولا ثقتي بصديقي وإيماني بمواقفه، لقلت أنه تفسير مشبوه.
مع ذلك تساءل ت:
لكن الأقوى لن يبقى دائما كذلك.
............................
لم يجب عن تعليقي، رغم أني وجهته له مباشرة وبصوت عال. واكتفى بإشعال سيجارة.
فهم ت إصراره على عدم الإجابة، ربما لأنّ ملاحظتي لا إجابة يملكها لها، أو ربما هي ملاحظة بلا
إجابة أصلا.
تناول ت شريطا غنائيا، وشغلت آلة التسجيل ليصدح الشيخ الضرير:
والنهاية يا خواجة
من في يوم كانت بداية ؟
البداية بر ضه لازم
بيِيجي يوم توصل اية
مهما زاد الرأسمال
الهلاك هو المآل
والتاريخ هو إلي قال
لعبة الموت في الحياة
يسحب الروح من الحناجر
لا زالت الأفكار تتواتر على صدغي، وأنا بنفس الحانة أناجي الخمرة وأحتفي بالسكارى إلى أنْ تناهى
إلى مسمعي آذان صلاة العصر. تذكّر ت لحظتها أنني وضع ت كأس الخمر على الطاولة احتراما لآذان
الفجر وأنا أجالس الناصر.
فيما لم ينتبه الشيخ الضرير، وأكمل:
توت توت
حاوي توت
خش اتفرج
هرج فوت
استحضر ت قصة العراقي " أبو مصعب ". نقلها لي صديق صحافيّ، كن ت قد تعرفْ ت إليه أثناء زيارتي
الأولى إلى مصر. وقد حكى لي كيف كان أبو مصعب يستمع باستمرار لأغاني الشيخ الضرير معتقدا أنه
إذا ما داهمت مترله القوات الغازية سيخلون سبيله، طالما أنه لا يستمع إلى القرآن أو إلى إحدى
الأشرطة المحرضة على الجهاد لتنظيم القاعدة أو حتى لحزب البعث اُلمنحلّ .
لكنه تمّ اعتقاله، وفهمت القوات العراقية اُلمصاحبة للقوات الأمريكية أنّ ما يقوم به ليس سوى خدعة
.
و بسجن أبو غريب لم يكن يعرف ولمدة ستة أشهر لماذا وكيف وأين سيحاكم ولا يتعقّل مكان وجوده، وكم
عدد الداخلين والخارجين وهوية رجال الأمن نساء ورجالا.
دخلت مجندة أمريكية وقادته إلى غرفة أخرى لا تختلف عن الأولى، تعبق برائحة البول
والرطوبة والقيء والدم المتجمد، كلون الرماد على الجدران، يشكل لوحات تجريدية تحيلك لتشكيلات
الفن الحديث.
بمجرد دخوله الغرفة، دفعته ليسقط أرضا وارتطم وجهه بحذاء مجندة أخرى. انحنت عليه لتفك
قيده، وأمرته بخلع ملابسه ففعل ... لكنه ...
فأشارت إلى ملابسه الداخلية، فارتبك وتجمدت أطرافه ... كالماسك بعشبة بأهداب جبل شاهق يتدلّى
يوشك أنْ يبتلعه السقوط، إلى ر ليغرق أو صخرة ليستحيل عهنا منفوشا.
ظلّ على صبره، ربما ينتظر أنْ ترفعه العشبة إلى أعلى ... ربما تستدرك اندة فتأمره بارتداء
ملابسه، لكنها وخزته بعصاها على إيره.
... ياااا الله ... قالها كمن ينادي"أح د ... أحدا"، تحت صخرة وما هي بالصخرة... تجْثم ككوكب
على أضلعه الباهتة.
تلعثم .. تمايل .. مد يده ليمسك تلك العشبة، أو يمسك العصى. لكنه أمسك وجعا في أضلعه وشرايينه
... وجعا في الذاكرة والأشجار و الأار والمسلات. .. وسقط مغشيا عليه.
تتالت البصقات على وجهه، وكادت إحدى اندات وهي تفك حزام بزا العسكرية أنْ تفتح
فخذيها لتتبول على وجهه. لكن البصاق الذي غطّى وجهه والركل بالأرجل والعصي كان كافيا ليمسك
وعيه.
أفاق، وكانت يداه مقيدتين أمامه، و لا شيء يستر عورته. أوقفته اندة وراحت تحرك إيره بعصاها،
وتمررها بين فخذيه و إليتيه بحركات جنسية لم يدرك معناها.
خرجت اندة الأخرى، ثمّ عادت تصطحب سجينة عراقية بلا ملابسها، تدفعها أمامها بسوط كمن
يقود دابة، ودفعتها بعنف أمامه مقيدة بحبل من عنقها كشاة تقاد إلى الذبح. وأجبراها على البقاء
منحنية كدابة ليعتليها السجين كثور تسبقه العصا والسوط
لم يكن ليتخيل أنْ يجد نفسه في وضعية كهذه. كان يتمناها وهو في عنفوان شبابه، لكن العصا
أفقدته شهوته والرغبة الجامحة، وأبى إيره أنْ يطاوعه.
فيما كان السوط يجبره، كانت اندة اتفها الجوال تصور المشهد المضحك اُلمبكي، و تغير زاوية
التصوير كلّ مرة للحصول على مشهد مغاير.
لم تبد السجينة أي مقاومة، بل رغبة ربما بفعل التعود أو ربما نجحت معها تجربة الانتباه الغريزي
عند "بافلوف".
كان أبو مصعب يسرد قصته لصديق صحافيّ يعمل مراسلا لصحيفة عربية بالعراق. وكان يمني
النفس أنْ يساعده الصحافيّ على فضح تلك الممارسات وتعريتها. غير أنّ الصحافيّ إيراد الحاج تمّ فصله
وإحالته على البطالة الإجبارية.
حكى لي صديقي الصحافيّ، أنّ دولته منعته من الالتحاق بأي مؤسسة إعلامية أخرى، حين تمّ
حجز جواز سفره. وأمام الضغوطات المتواصلة من المنظمات الحقوقية ألحقوه بالعمل في مؤسسة
تعليمية ليحتم بشؤون التوثيق.
وكن ت قد تعرفْ ت إلى الصحافيّ إيراد الحاج في زيارة إلى مصر إثْر دعوة وجهت لي من تنظيم ثقافيّ
يتبع حزب "كفاية".
صادفْته منذ اليوم الأول لدخولي المركز الثقافيّ، وتعارفْنا. لا أعرف ما الذي شدني إلى هذا الدمشقي،
ربما لأنه من دمشق الصامدة لا غير. وربما لأنه صحافيّ، رغْم أنني عرفْت الكثير من الصحافيين ومن
السوريين.
أذكر أنني لمّا أكمل ت قراءة قصيدتي الثانية في الأمسية الثقافية المخصصة للتضامن مع الشعب
الفلسطيني، ض من كرسيه واعترضني فاتحا ذراعيه كمن يستقبل عائدا من الحرب. وانزوينا في ركن
نناقش النصوص الشعرية والمواقف السياسية وجملة الأحداث الحاصلة في المنطقة العربية ودور
المثقف العضوي من جملة تلك الأحداث.
انتهى برنامج الملتقى و ترك لنا خيار تأثيث ذلك المساء.
بعضنا غادر في اتجاه الأسواق العتيقة للتسوق وشراء بعض التحف المصرية وصور "نفرتيتي" المصبوغة
على ورق البردي .وقد حكى لنا بعضهم كيف تمّ ريب تلك التحفة الرائعة واستحواذ ألمانيا عليها.
حتى أن "هتلر" خالها امرأة شرقية قابلة للمضاجعة.
أما أنا وإيراد فلازمنا الترل بقاعة الاستقبال يصحبنا شاعر مغربي، وانخرطنا في الحديث عن الفن
والسياسة وعلب الجعة.
أكملنا حديثنا عن الوضع الراهن، ومواقف الدول والحالة الأمنية في العراق ولبنان وفلسطين.
وفيما كان صديقنا المغربي " حسين " ينحني بالنقاش إلى جهة الشعر والفن والفلسفة، التفت إيراد
جهة ثلة من الخليجيين في ركن من قاعة الاستقبال تطوف عليهم بعض فتيات الهوى، وعلّق بسخرية
مريرة:
ما أقبح مثل هذا الواقع المتعفّن ... ( مشيرا بإصبعه ) أنظروا هؤلاء الخنازير ( مسك علبة الجعة،
ورفعها إلى مستوى وجهه ) تتحدثون عن المقاومة ؤلاء ؟
قولوا ... ؤلاء ؟؟
علّق صديقنا المغربي بسخرية، وهو يستأذن للمغادرة:
هؤلاء يجب أنْ يطبق عليهم قانون الجنس الآري عند صديقنا هتلر.
قل ت مواصلا ج سخريته:
وهل هؤلاء من الجنس الآري ؟ أم من اليهود الواجب ذبحهم ؟
أضاف وهو يغادر مترنحا دون أنْ يحمل كلامه أي شيء من المنطق:
البقاء للأقوى...
غادر صديقنا حسين، فيما بقي ت أنا مع إيراد نكمل ما بدأناه من حديث.
كان ناقما على ذلك المشهد الذي أمامنا إلى حد أنه شتم سيدة حاولت أنْ تقترب من مجلسنا باحثة عن
المتعة.
كن ت لا زل ت لا أعرف صديقي تمام المعرفة، ولا قدرة لي على توقّع ردات أفعاله ، ولذلك سألته بحذر
شديد:
ما بك ؟ لماذا كلّ هذا الهيجان ؟
لا شيء... لا شيء..
رد دوء حاول أنْ يتصنعه، وتراجع بظهره إلى الخلف مستريحا إلى ظهر الأريكة. سحب سيجارة
فرنسية، أشعلها، وانخرط في بكاء كان من الممكن أنْ يلفت انتباه الحضور، لو كانوا قريبين منا.
وأنا أسكب كأس الجعة في جعبتي الظمأى بفعل حرارة القاهرة، خمّن ت أنّ إيراد فقد حبيبته التي لا
مثيل لها على سطح هذا الكوكب... فللعشاق أوهامهم.
سألته:
ما بك إيراد ؟ هل خطرت ببالك حبيبتك ؟
( قاطعني مبتسما بسخرية، وهو يكفكف دمعه )
حبيبتي؟ أنا لا حبيبة لي.. منذ ذلك الحادث الملعون، طلّقت النساء والعشيقات.
لم أفهم... أي حدث ؟
لا داعي فالمسألة مؤلمة، ولا مك في شيء.
إذا كانت مؤلمة، فنحن تعودنا على الآلام والجراح. أما أا لا تخصني، فهذه مسألة أخرى.
شعر إيراد أنني تضايق ت، لأنني لم أكن محل ثقته. انتبه أكثر واقترب مني قليلا وأكمل:
صديقي.. لا أعرف ما الذي جمعني بك في هذا الوقت ؟ رغم أنني فقد ت الثقة في الصداقات التي
جمعتني برجال ومثقفين و سياسيين.. إلا أنني لا أعرف لماذا أقترب منك وشعر ت برغبة جارفة في
صداقتك.
هذه مسألة لا تخضع للمقاييس ..
( أكمل دون أنْ ينتبه لتعليقي ) شعوري أنك من بلد مختلف وبعيد، إضافة لمواقفك التي حملتها
قصائدك، و كلامك... هو ما جعلني أرتاح إليك وأعطيك سري.
هل المسألة خطيرة إلى هذا الحد ؟
ربما ليست ذات أهمية .. فأنا تعودت عليها، ولكنها مسالة مؤلمة وجارحة وحافرة في العمق .
عندما تخرج من حادث مرور وتكتشف أنك... أنك..
أنك ماذا ؟
أنك ... فقدت رجولتك... كيف يمكن أنْ تقبل على الحياة من جديد ؟أنت الآن مخصي... بلا رجولة
ولا فحولة ولا... أيطعم للحياة ؟؟؟
إنّ الجرح الذي بداخلي لا تكفي أدوية العالم لعلاجه... ( كررها متأوها ) مجروح يا صاحبي...
مجروح..
إيراد...
حاولت أنْ أجيب عن أسئلة لم يطرحها، أو أوضح مسائل ليست غامضة.. أنْ أتكلم في وقت لا الكلام له
كامل القدرة على التفسير والإيضاح، ولا الصمت بإمكانه أنْ يواسي صديقي المطعون في رجولته.
طال الصمت بنا، لا هو أضاف على جرحه شيئا، ولا أنا أضفت ما به أواسيه أو ادفعه للنسيان.
ظلّ يدخن بمرارة ويحتسي الجعة بشراهة المنتقم من رجولته، فيما بقيت أداعب علبة السجائر
والولاعة كاستعاضة عن الكلام.
هكذا أكملنا ليلتنا إلى أن ض مرهقا بفعل الجرح والجعة و البكاء. و دون أن يلتفت قال:
تصبح على خير.
تصبح على خير.
انتهت ليلتنا عند هذه القصة المؤلمة، بل لعلّ هذه القصة هي التي وطّدت علاقتي بإيراد. حتى أنني
فقدت السيطرة على مشاعري وأنا أودع القاهرة فبكي ت. شدني بعنف من كتفي وقال: لا تبك نحن
لا نلتقي في المكان، نحن نلْتقي في القضايا.
بآخر رسالة وجهها لي، ولم تكن تحمل اسمه على الظرف ككلّ رسائله السابقة، كتب:
"رفيقي.. كلّ هزيمة وأنت بخير.
اليوم وأنا أكتب لك هذه الرسالة، بصدد التحضير للتسلل إلى لبنان عبر الحدود في اتجاه الولايات
المتحدة....
سأراسلك من هناك.
إذا تأخرت رسالتي لأكثر من شهرين، أكون حينها ضيفا على أحد السجون العربية. هذا إذا لم أكن
ضيفا على غوانتانامو."
الإمضاء
صحفي مفصول
إيراد الحاج
قرأت الرسالة عدة مرات، علّي أعثر بين السطور على نص خفي، ففشلْ ت.
مزق ت الظرف علّي أعثر على نص ُ كتب على واجهته الداخلية، فلم أظفر بغير خيبتي. لذلك اقتنع ت
بالرسالة، وفسرا كما هي، متسائلا:
فهم ت هروبك إلى لبنان، لكن لماذا الولايات المتحدة ؟
ظل السؤال معلّقا بأهداب القتامة والغموض.
لماذا نشد رحيلنا دائما في اتجاه الشمال؟ هل الشمال هو شمس الحقيقة ؟ أم أنّ شمسنا كلّ أوطاننا ؟
ثمّ لماذا الهجرة أصلا ؟ هل هو الخوف ؟ أم الهروب؟
أم البحث عن زوايا أكثر دفئا؟
الغريب أنّ هجرتنا تضاعفت بعد أحداث 11 سبتمبر، في الوقت الذي كان من المفروض أنْ تتقلّص،
طالما أنّ الآخر بات يرفضنا صراحة.
تكهن ت أننا نحمل إليهم صك براءتنا ليوقّعوا عليه. كمن يقول:
ها أننا بينكم، فنحن براء من م الإرهاب.
اعتراف كهذا لم يصدح به المواطنون الفلسطينيون، على خلاف العرب قاطبة.
هؤلاء المنتشرون على سطح هذا الكوكب، لا يحتاجون إلى إثبات براءة، ولا إلى شهادة حسن سيرة
وسلوك، طالما أم شعب لا يستحق تلك الصفة. وأنّ طردهم واغتيالهم ومطاردم، تدخل ضمن
مفاهيم إثبات حق شعب الله المختار في الوجود والبقاء.
لم تكن وسائل الإعلام تظهر تلك الحقيقة الماثلة، رغم التبجح العربي بالدفاع عن قضيتهم. وهو ما
أثبته لي صديقي الناصر سالم بالقول أنّ وسائل الإعلام لا تظهر إلا ما يدعم مواقفها، ويخدم
الأطراف التي تمثّلها.
و قد تأكّد لي ذلك، وأنا ألتقي صدفة بفتاة فلسطينية تدرس في تونس.
حين كانت تستعد للمغادرة نحو قطاع غزة، أعلموها أنه لا يمكن الدخول إلى مصر إلا بطلب تأشيرة من
السفارة المصرية بتونس. وحتى الدخول عبر الأراضي الليبية لا يتم بالمثل إلا بتلك الوثيقة. وهذا
الإجراء خص به الفلسطينيون دون سواهم أثناء الحرب الدائرة رحاها بين إسرائيل وحزب الله.
انتظرت صديقتي"لينا" أسابيع للحصول على تأشيرة دخول التراب المصري. غير أا بقيت على
الحدود قرابة الشهر في انتظار فتح معبر رفح، بإذن من الحكومة الإسرائيلية اُلمنشغلة بحرا مع
الشيعة.
و إذا ب " لينا " تعود إلى تونس قبل انتهاء العطلة الدراسية بأيام، مخافة دخول غزة ومنعها من
المغادرة.
حكت "لينا" أنّ والدها الذي فر بجلده من الأردن إثر مجازر أيلول الأسود تمّت تصفيته في
لبنان "بقلعة الشقيف"، التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي وحركة فتح . وباعتبار انتمائه
لليسار العربي وقع اغتياله من قبل مجموعة من الفتحاويين المتطرفين، وقد دفن هناك.
وأنّ شقيقها الأكبر الذي ينتمي إلى ألوية صلاح الدين نفّذ عملية انتحارية في نقطة تفتيش
إسرائيلية، مما أدى إلى وفاته وقتل جنديين. فما كان من القوات اليهودية إلا أنْ عمدت إلى اعتقال
شقيقه "عزام"، ونسف مترلهم. وبعده بقيت أمها وأختها الكبرى تقيمان عند جدا.
وهذا المشهد المتكرر بين العائلات الفلسطينية لا يثير استغراب السائل . بل الاستثناء أنْ تصادف عائلة
فلسطينية كلّ أفرادها على قيد الحياة.
سألتها:
كيف يكون والدك يساريا، وشقيقك يمينيا ؟
كيف تجمعهما نفس العائلة ؟
أجابت وكأا كانت تنتظر مثل هذا السؤال:
وعمي "ياسر" ينتمي إلى حركة أمل الشيعية. وهو لا يزال إلى الآن في لبنان، و يشاع أنه انضم إلى
حزب الله الذي يتزعمه حسن نصر الله.
أما ابن عمي "نواف" وبعد حصوله على الجنسية العراقية فقد انظم إلى حزب البعث أثناء
دراسته في العراق، ورفض الخروج من بغداد أثناء الحرب الكويتية ولا حتى الحرب الحالية التي
تقودها الولايات المتحدة. ولا نعرف عنه شيئا، ويشاع أنه ينشط مع المقاومة العراقية.
سألتها، كمن يستجوب سجينا سياسيا:
وبقية العائلة ؟
ليس لي خالات .. وأخوالي كلهم أكلتهم الحرب و هم لا يزالون شبابا. خالي الوحيد الذي نجا، وقع
اغتياله منذ سنتين.
اغتالته القوات الإسرائيلية ؟
لا .... كُثر الحديث عن علاقاته المشبوهة بالكيان الصهيوني، وأنه يمده بمعلومات عن المناضلين.
و ما أفاض الكيل، هو القبض على شاب قبل أنْ ينفّذ عملية انتحارية في حافلة. فتم قتله، باعتباره
عميلا.
سأل ت مرتبكا، وأنا أتحسس علب السجائر:
بتلك السهولة ؟
طبعا لا ... تعرف أنّ التنظيمات الفلسطينية لها أتباعها وعيوا، ولا يمكن أنْ تنفّذ هذا الفعل دون
التأكّد منه.
وما موقفك من هذه التصفية ؟ و الحال أنّ خالك هو الضحية.
ابتسمت بتهكّم ومرارة:
ماذا لو قل ت لك أنّ الذي نفّذ فعل القتل هو ابنه، ( حاولت أنْ تمنع دموعها ) نعم ابنه. لقد قالها أمام
الجميع، دون حياء.
وهل هذا معقول؟ ابنه ؟
نعم ..(استدركت) هو لم يكن مكشوف الوجه أثناء عملية التصفية، لكن الذين حدقوا في عينيه
وكان ملثّما تأكّدوا أا عيونه.
(صمتت برهة)
كان خالي في المقهى يلعب الورق ذات مساء شتوي، حين دخل "حبيب" ابنه و ناداه باسمه .. حين رفع
رأسه والتفت، صوب في اتجاهه رصاصة أولى في الرأس و ثانية في الصدر، وببرود لا مثيل له أرجع
المسدس إلى جيبه وبقي يحدق في المغدور لحظات دون أن ينبس بكلمة.
وقد لاحظ الكثير من رواد المقهى دمعه ينهمر بصمت دون أن يبدي أي صوت، وغادر دوء.
و أكملت "لينا" تسرد لي حال المخيمات وأحيائها القصديرية وشبكات الصرف الصحي والأوبئة
وانعدام الخدمات الصحية، في فلسطين كما في لبنان والأردن.
"لينا" تلك السمراء الرائعة، التقيتها صدفة مع شاعر فلسطيني كان يقيم بتونس، ويشرف على صفحة
أدبية بصحيفة تونسية يومية.
عاد الشاعر إلى فلسطين، وتوقّفت الصحيفة عن الصدور كغيرها من الصحف التي تظهر وتختفي، ولا
تقدم شيئا.
واختفت "لينا" مع الشاعر ومع الصحيفة.
غير أنّ الصدفة عادت لتؤثث موعدا كما أثثته في البداية.
.................................................. ........
.................................................. ........
عدل ت أوتار الوعي، وأنا ما زل ت بحانة القرصان حتى آخر قارورة وآخر سيجارة بقيت في علبتي.
اشتدت القتامة بفعل الدخان والصراخ المتشابك، وقرع الكؤوس والقوارير. انتبه ت إلى حوار يدور
بقربي..
الأول:
ثلاثة آلاف دينار.. يمكن أنْ تسقط العقوبة إلى شهرين.
الثاني:
لا أصدق ...ابني محكوم بسنتين.
الأول:
ثمّة دولار .. يمكن أنْ يسقط حتى حكم الإعدام... أمامك أسبوع فقط.
الثاني:
وما هي الضمانات ؟
الأول:
هؤلاء الناس لا يقدمون الضمانات... ثمّ أم لا يستحقّون أموالك. فالواحد منهم يمكن أنْ يشتري
مدينتك بسكاا.
أخمد ت ما بقي من سيجارتي في المنفضة، وانتصب ت في اتجاه النادل أدفع له ثمن ما شرب ت، وقد تركت
الحوار متواصلا حول المبلغ المطلوب لإسقاط عقوبة جنائية.
لحظتها وأنا أدفع للنادل خطرت لي فكرة المغادرة إلى العاصمة... نعم إلى العاصمة، ليس الآن ولكن
غدا. غدا أكون هناك فقد اشتقت إلى الأصدقاء والرفاق والأكشاك و ج الدباغين حيث الكتب
القديمة وشارع الحبيب بورقيبة.
بإحدى المؤسسات الثقافية الجامعية، كنت داخل قاعة شاسعة للعرض، توشح جدراا
رسومات"ناجي العلي"، في معرض نظّمه الاتحاد العام لطلبة تونس .
توقّف ت عند لوحة تجسد عربيا أو أعرابيا متكرشا بذات العقال البدوي، رافعا سبابته اليمنى مهددا :
"لازم تعترفوا بإسرائيل .. وبعدين ترموا سلاحكم .. ثمّ إلى ربكم ترجعون"
بقي ت متسمرا أمام اللوحة أبشر حنظلة بأنّ الخطاب لا زال هو نفسه، وسيبقى. بل نحن اعترفْنا
بإسرائيل وألقينا سلاحنا، وإن كنا لا نملك سلاحا أصلا. ونحن في انتظار أنْ يحسن الله الخاتمة.
أيهما أفضل، نلقيه باختيارنا أم نجبر على إلقائه ؟ بالطبع الخيار الأول هو الأسلم والأصح .
وبينما كن ت أناجي اللوحة وأحاكيها أو أحكي لها، وإذا ب "لينا" تقترب مني وتدس جسدها بين
بوتقة الرؤية ولوحة ناجي العلي .
كأني أرى فلسطين رول هاربة من خارطة الطريق وأوسلو وشرم الشيخ ... كأني أرى فلسطين بشالها
المطرز "كفيروز" تنتصب بشموخ حذر.
صفعتني المفاجأة:
لينا ... ؟
نعم لينا ... أنا بلحمي ودمي .
لا أصدق ...
ولماذا لا تصدق ؟ هل تغير ت ؟
لا .. لا ... ولكن كلما غاب عني صديق فجأة، ينتابني إحساس أنني لن أراه ثانية.
دعك من الترهات.
سحبتني من ذراعي في اتجاه خارج القاعة، محاطا بالدهشة والفجائية، وأكملت:
هل نشرب قهوة في مكان جميل ؟
بالطبع.. بالطبع... من يرفض استضافة فلسطين إلى محرابه ؟
سرنا دوء، دون أنْ يكلّم أحدنا الآخر، حتى احتضنتنا مقهى باريس، في ركن أبعد عن مدخلها.
جلس ت دون أنْ أستنجد ببروتوكولات استضافة النساء. لم أسحب لها الكرسي لتجلس قبلي، ولم
أساعدها على نزع معطفها كعادة الأرستقراطيين، فقط اكتفي ت بالجلوس.
فيما تكفّلت بترتيب حقيبتها اليدوية على ركن من الطاولة... مددت معطفها الشتوي على ظهر الكرسي
ااور... واحتفظت بشالها الفلسطيني يلف جيدها كبحر يحتضن قمرا عند الغروب.
قالت :
أريد قهوة.
أشر ت للنادل بيدي فأسرع نحونا حاملا شكّه أننا عشيقان.
قل ت له:
قهوة وكأسا من البيرة.
أشار برأسه، وانصرف.
فيما تناولت "لينا" سيجارة أشعلتها، كن ت أرتب أفكاري لأعتذر عن البيرة... ربما ترى" لينا" أنّ طلبي
لا يحترم أصول اللياقة. غير أا أسعفتني بالقول:
كعادتك دائما ...
عاداتي لن تتغير.
إذن أنت لن تتغير.
( بفذلكة ) إذا كنت أنا الحقيقة، فلماذا أتغير؟
ومن قال لك أنّ الحقيقة لا تتغير؟
الحقيقة ثابتة، ولكن المواقف تتغير ...
وصل النادل ورتب القهوة وكأس البيرة، وانصرف . وصل وقد أنقذني من مهاترات لن تنتهي،
ولس ت مستعدا للخوض فيها وأنا في هذا اليوم الحزين.
بادرا، قبل أنْ تعود لنفْس الحوار:
دعك من الحقيقة والتغيرات والتحولات ..؟ نحن لا علاقة لنا بكل هذه المفاهيم أصلا. قولي لي، ما
هي أخبارك ؟ وأين أنت طوال هذه المدة ؟ كيف تخْتفين وتظهرين ذه الطريقة ؟
........
بقيت صامتة، لكنها تكشف عن ابتسامة ساخرة، وهي تحرك السكّر في فنجان قهوا.
سحبت حقيبتها اليدوية، وتناولت منها صورة مدتها إليّ.
كن ت لا زل ت قد تذوقْ ت الرشفة الأولى من كأسي .. أشعلْ ت سيجارتي وتناول ت الصورة من أناملها.
سألتها:
من هذه ؟
حاول أنْ تعرفها.
بطبيعة الحال لن أعرفها ... هذه بلباس انتحارية، ولا يخفى عليك أنْ لا علقة لنا كتونسيين ؤلاء.
تأمل ملامح وجهها.
قرب ت الصورة أكثر، ورح ت أفتش في كلّ الصور التي تحفظها الذاكرة.
كانت سيدة في الثلاثين من عمرها تقريبا أو يزيد بقليل، ترتدي لباسا أسود وخمارا يغطّي رأسها، وبين
يديها ورقة تتلوها أو تنشدها.. كانت تلف حول خصرها حزاما ناسفا، فهمت وفق كلّ التفاصيل أا
انتحارية .. نعم انتحارية تقرأ وصيتها، هكذا كما عودتنا الحركات الجهادية، وقد دار حوار بيني وبين
نفسي، هل هذه المرأة ستنفّّذ العملية بلباسها الفضفاض، أم بلباس آخر. وقد دخلت بوتقة التفكير
مشهد امرأة تنفّذ عملية انتحارية بلباس "بيكيني" على شاطئ مزدحم بالمصطافين من عرب وأجانب.
فجأة، توقّف ت عند الحدقات الملأى بالحزن والانكسار والقتامة. لكنني حين تأمل ت جيدا، رأي ت التحدي
ينب ت في تربة الحزن.
قل ت ل " لينا "، ولم أرفع بصري عن الصورة:
رأي ت هذه العيون ... نعم رأيتها .. أين .. أين ؟؟؟ لا أعرف أين .. أنا متأكد أنني رأيتها.
( وهي تشرب قهوا دوء ) حاول أنْ تعرف.. إنْ كنت متأكدا.
رفع ت بصري على "لينا"... تسمرت عيوني في ملامحها، وعد ت مسرعا ببصري إلى الصورة ... ثمّ
إلى عيوا..
وكأني اكتشفْ ت قانون الجاذبية مرة أخرى.وهمم ت بالكلام، لكن " لينا "سبقتني:
إا أختي .. ماجدة .
شعر ت أنني دخلْ ت في بوتقة من الفوضى والارتباك، ولم أفهم أي معنى لهذه الصورة.. هل هي
صورة عادية، أم .... وقل ت :
لينا .. وضحي لي المسألة ... لم أفهم .
( وهي تحاول دون جدوى منع دموعها من التدحرج إلى خدها البرتقاليّ )
أشعلت سيجارة بغضب حاولت أنْ تخفيه وقالت:
هل نغادر ؟
ما زلنا لم نتحدثْ بعد... ثمّ إلى أين ؟ أنا جئ ت إلى العاصمة في زيارة خاطفة، وسأعود إلى
مدينتي في نفس اليوم
أحتاجك الليلة.. أريدك بجانبي كامل هذا اليوم... أنا في حالة نفسية يرثى لها، وأحتاج صديقا
بجانبي.
لا يمكنني أن أبيت هذه الليلة وحيدة.
وهل تقطنين بمفْردك ؟
صديقتي الفلسطينية في تربص، وقد تغيب لمدة ثلاثة أيام.
كما تشائين .
لم يكن بإمكاني أنْ أرفض طلبها ... كن ت موقنا أنني لو رفض ت لانفجرت بالبكاء.. أو فقدت وعيها ..
ربما تقْدم على الانتحار.
كانت وهي تلْتمس بقائي معها، كنبتة عباد الشمس تلْتمس بزوغ الشمس.. كنورس يلتمس انفراج
الأشرعة للريح، ليكتمل المشهد.
هي كعادا دائما حساسة جدا وسريعة البكاء، ولا تتحمل أصغر المواقف المحرجة أو الاستفزازية، فما
بالك وهي تحكي عن أختها التي ووفق تخميني ستنفذ عملية انتحارية أو ربما أقدمت عليها.
في المرات القليلة التي جالستها فيها، يسهل علي أنْ أنتبه لرقتها وبساطتها وقدرا على أنْ تبسط
المواضيع الأكثر تعقيدا بلغة بسيطة جدا.
كنت دائما أتساءل في سري عن العلاقة التي تجمع بساطة منطقها بتعقيد قضيتها.
" لينا " لا تحتاج فلسفة التنوير ولا أدبيات الشعراء والفلاسفة ولا قرارات الأمم المتحدة وترهات
الجامعة العربية والرؤساء والزعماء... هي لا تحتج لأي من هؤلاء لتتحدث عن الإرهاب أو العدالة أو
الجوع الفلسطيني..
وتراها ت مع ذلك مقنعة بذلك الأسلوب البسيط ... غير أا إذا جرحت تصبح قادرة حتى على
استعمال كرسي المقهى لتؤدب الآخر أو توقفه عند حده.
وكن ت شاهدا على موقف مماثل في لقاء سابق معها يصحبنا رسام فلسطيني مقيم في تونس، حين حاول
طالب ينتمي لحركة فتح أنْ يدفعها لتغيير مقر سكناها والابتعاد عن صديقتها التي يشاع أا تنتمي
لحركة حماس.
وحين اشتد الحوار بينهما،ونحن نجلس على الكراسي الإسمنتية بالمركز الثقافي الجامعي حاولت أنْ
تضربه بمحفظة أحد الطلبة، لكنه تمكّن من أنء يمسك بيدها ويمنعها من إصابته، فتناولت كأس الشاي
الذي أمامي وألقته في وجهه بعنف لا مثيل له.
تدخل الطلبة لتهدئة الخواطر، فيما أمسك ت لينا وأبعدا عن المكان كي دأ قليلا.
طبيعتها المزاجية، تدفعها لأنْ تغضب بسرعة وعنف، ودأ بسرعة أيضا كموجة ساكنة آخر ليل
صيفي.
الفصل الثاني
من بغداد إلى دمشق
بعد تجربة السجن، تسلل أبو مصعب عبر الحدود إلى سورية. وانضم هناك إلى مجموعة جهادية
تقود المقاومة من دمشق.
وفي مقهى بمنطقة "المزة"، كان يجالس أبو وليد المصري منتبها إلى تحْليلاته ومواقفه من الوضع
الميداني في العراق، وجغرافية التحركات العسكرية وأولويات المرحلة وخطورا.
لا زال أبو وليد المصري ينبه:
سنترك بعقوبة وبغداد إلى مرحلة أخرى ... الآن سنوجه أسلحتنا إلى الشمال الكردي، حيث بدأت
تظهر بوادر سيطرة الأكراد على مدخرات البلاد . وهذا سيدعم مفهوم الفيدرالية.
طبعا تدرك أنّ هذا التقْسيم شيعي سني كردي، سيفتت الوطن ويجعله لقمة سائغة في فم المخططات
الصهيونية والأمريكية، إضافة إلى أنّ هذا التوجه، سيدخل البلاد في دوامة من العنف والحرب الأهلية
التي ستأتي على الأخضر واليابس.
ما المطلوب عمليا؟
بعض أصدقائنا الخلّص من قرية "شيخ الحديد" السورية التابعة لقضاء "عفرين"، سيصلون بعد
يومين، وهم الذين سيتكفّلون بإدخالك إلى العراق عبر الحدود.
لا تخف... الأوضاع مرتبة على أحسن ما يرام.
وبعد...؟
وبعد .. المهم الآن وقبل اجتيازك للحدود، عليك بالحيطة والانتباه. المنطقة تعج باُلمخبرين
والمخابرات السورية. وحتى أعين الحكومة العراقية التي ترصد تحركات المقاومة في دمشق، كما في
عدة عواصم عربية أخرى حيث تكثر الجالية العراقية ...
حاول ما استطعت أنْ لا تحْتك بأحد، حتى العراقيين الذين تصادفهم.. مفهوم ؟ هذا أمر.
( وزع بصره على الشارع بحذر )
وبعد دخولك للعراق، تلْتحق بمدينة الموصل شمالا. وهنا ينتهي دوري.
وبعد...؟
ماذا سأفعل في الموصل؟ بمن سأتصل؟
أنا ينتهي دوري هنا... الرفاق الذين سيقودونك إلى الحدود، سيفسرون لك المهمة، وسيمدونك ببقية
المعلومات عن رفاقنا هناك.
أكمل ما بقي من"يانسون" بكأسه، وهو يوزع بصره على المارة والجدران والسيارات، بارتباك لا
مثيل له.
وأكمل:
تدرك أنّ الوضع الآن أكثر خطورة من قبل. كلما تأخرنا يوما، ازدادت أقدام العدو ثباتا، وكثرت
الأعين والجواسيس، وأصبحنا أكثر عرضة لل ملاحقة والتصفية.
أعتقد يا أبا وليد، أنّ المقاومة ازدادت صلابة..
( قاطعني ) هذا صحيح... لكن الخلايا والتنظيمات تضاعفت عشرات المرات. حتى أصبح من غير
الممكن معرفتها وحصرها، فما بالك بانتماءاا وإيديولوجياا . حتى أنّ بعض التنظيمات أسستها
أطراف في الحكومة العراقية لاستقطاب المقاومين، بغرض استيعام وكشفهم، واَستعمالهم لأغراض
سياسية أو تصفية خصومهم.
أحذّرك مرة أخرى ... حاول ما استطعت التقيد بالأوامر والتوجهات، ولا تحاول الاجتهاد ... أنت
تعرف القاعدة : من يخطئ أول مرة، قد يكون أخطأ المرة الأخيرة.
بحول الله ستكون الأمور بخير.
علي بالانصراف ... وعليك بانتظار التعليمات.
وقف أبو الوليد، وقد مسح الشارع ببصره ... ثمّ انصرف، وقد ذاب في الطريق الممتد.
انتصب ت... و لس ت مطالبا بالانتباه، كوني لا أعرف الفرق بين المواطنين واُلمخبرين والجواسيس.
كد ت أقتنع أنْ لا أحد يعرفني هنا، غير أنّ تحذيرات أبي الوليد جعلتني أشك في كلّ النظرات والوجوه
والأشخاص.
كلّ سيارة تتوقّف أو تمر، أخالها تراقبني... كلّ من ينظر نحوي، أشك في نزاهته... كلّ من يمشي
خلفي، أتصور أنه يتبعني... حتى بت أخاف من ظلي...
دخلْ ت شقّتي اُلمجهزة بأثاث قديم متواضع، حضرها لي أبو وليد المصري. متسائلا بيني وبين
نفسي، عن أهمية "المزة" ولماذا هذا الحي تحديدا؟
شقّة بحي عتق تعبق برائحة التاريخ والرطوبة... حين دخلتها صفعتني رائحة التربة والطحلب
العالق بالسقف والجدران. حتى استحال اللون الأبيض إلى رمادي مزجته الرطوبة بالأخضر العاب
بالتاريخ.
ألْقي ت بجسدي اُلمنهك على سرير متهالك، يئن من وطأة الزمن والصدإ.
فيما لمحْ ت جهاز راديو ومجلّة "نيوزويك" بالغة العربية... شغلت الراديو على الإذاعة السورية، وهي
تبثّ اليل السياسيين والمثقّفين بالنصر الذي حقّقه حزب الله في الجنوب على الإسرائيليين.
وأثنوا على الدور السوري حكومة وشعبا في دعم المقاومة والوقوف مع الحقوق العربية وقضاياها.
بقي ت منتبها إلى جعجعام، حتى أطلّت مذيعة بصوا الأنثوي، مقْترحة على المستمعين الأحرار
أغنية للسيدة "فيروز":
بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
بتسألْ شوبني وشو اللي ما بني
بحبك يا لبنان يا وطني
كانت روحي تحلّق مع صوت سيدة الشرق، وعيوني تسرح في عناوين مجلة "النيوزويك"، حول العراق
والفياغرا والفياتنام.
المضحك، وأنا أستعد لرحلة في اهول، بين الحرب والتقتيل والتشريد... تراني أقرأ دراسة عن إنقاذ
الحيوانات بواسطة والفياغرا.
وللمرة الأولى، أنتبه إلى مسألة غاية في الخطورة والأهمية، وربما هي كذلك. وربما رغبتي في النقمة
واستحضار ما حصل لي في سجن أبو غريب مع اندات الأمريكيات، هو الذي دفعني للاعتقاد في ذلك.
بنفْس الدراسة عن والفياغرا، يقول كاتب أمريكي:
"إنّ نصف الرجال الأمريكيين، من فئة أعمار الأربعين إلى السبعين عاما، يعانون درجة ما من الضعف
الجنسي"
أولاد القحبة... كلّ هذا التدمير والخراب والفوضى في أوطاننا، لأم أقلّ قدرة جنسية منا..
اعتذر ت عن الموقف، مغيرا وجهي جهة إطار قرب النافذة يحتفظ بصورة قديمة لشخص عربي لم
أتعرفْه. لكنني خمّن ت أنه صاحب المترل أو ربما شخصية أدبية أو فنية...
فلو كانت شخصية سياسية، لعرفْتها على الفور، ولماذا لا أعرفها ؟ فشخصياتنا السياسية تعد على أصابع
اليد الواحدة ... كلّ دولنا حكمها حاكم أو إثنان منذ استقلالها . فيما لا يزال الراديو يذيع ترهات
حزب البعث، وإنجازات القائد الفذّ ... شعر ت بالجوع . فاتجه ت نحو المطبخ، وهو عبارة عن غرفة
ضيقة، تتوفّر على بعض الأواني المعلّقة والمرصوفة على الأرض .
وثلاجة ضخمة لا علاقة لها بالمكان.
هذا البيت العتيق الآيل للسقوط، ما كان يخطر ببالي أنّ أجد به ثلاجة أو أي نوع من الأثاث
الإلكترونيّ.
... فتحتها، فكانت محشوة بكل أنواع الغلال والفواكه والبيض. خمّن ت أا من ترتيب أبي الوليد.
كانت الساعة حينها، قد قاربت على الثامنة ليلا، وبدأ الظلام يمد أذرعه على المنطقة . فيما شرع النوم
يغازل أطرافي ويأخذني التعب إلى الخلود... تمدد ت على السرير منهكا ُأكمل قضم تفاحة لا زالت بين
أصابعي، ولا زال الراديو يتحدث عن الإنجازات... فكد ت أختنق من الكذب والنفاق. وكأنّ القناة
السورية هي نفسها العراقية أيام الحاكم المخلوع ..هي نفسها مع حكامنا العرب أجمعين.
غير ت الموجة في اتجاه القاهرة، فاعترضتني المذيعة بصوت مصري مائع، يخبر اُلمستمعين الكرام أنّ
موعدهم الليلة كالعادة مع كوكب الشرق في أغنية "إنت عمري".
يااااا ه .... كلّ حروبنا وهزائمنا كانت هذه السيدة شاهدة عليها، وساهمت بنفْسها في تعاستنا
وتخديرنا.
ياااا ه .... لا زل ت أذكر كيف كان الكثير من العراقيين يربطون هزيمة الجيوش العربية بكوكب
الشرق. وأا حينما كانت تغني، يغيب الناس والساسة والجنود عن وعيهم، فيما كانت القوات
الإسرائيلية تعمل فينا معاولها وفؤوسها .
حتى أنّ جنرالا في الجيش العراقي السابق، كان يقْسم بشرفه أنه لو كان مصريا لطالب بمحاكمة
السيدة أم كلثوم. ولو بقي هذا الجنرال حيا لعرف أنّ هزائمنا ما زالت متواصلة ودون أم كلثوم...
انتهت حروبنا، وبقيت كوكب الشرق.. انتهت حروبنا، وبقي حكامنا .. انتهت حروبنا، ونحن بخير...
لغّ السيد القابع في الإطار القديم اُلمعلّق جهة النافذة:
ومن قال لك إنّ حروبنا انتهت ؟
ارتعدت فرائسي، وانتفض ت كطائر الفينيق مجيبا:
أقصد الحروب القديمة ...بعض الحروب العربية مع أعدائنا اليهود.
( مزمجرا ) ليست هناك حروب قديمة... حروبكم جديدة ومتجددة.
كيف ستدخل محاربا إلى العراق، وأنت لا تعرف لمن ستوجه سلاحك، ومن هو عدوك ؟
سلاحي أوجهه للعدو.
( زمجر وصاح هائجا، ملوحا بعصاه يضرب ا على الجدار )
أي عدو ؟ وهل تعرف كم عدد أعدائك ؟ وهل أنت عدو غيرك أم عدو نفسك ؟
وشرع يضرب الحائط غاضبا ... ضربا متتاليا كطرق الباب.
صارت الطَّرقات متتالية وعنيفة، حتى اختفى وجهه وعصاه، وصر ت أسمع طرق الباب بوضوح ... باب
الشقّة.
انتفض ت كعقرب حركوا بيتها، وكن ت ممددا بملابسي... رفع ت بصري جهة الإطار فإذا الشيخ لا يزال
في مكانه، والراديو لا يزال يذيع أغنية "إنت عمري".
فكّر ت لحظتها في الخطر الداهم ... لا أحد يعرفني هنا.
إذن من الطارق ؟ البوليس السياسي ؟ الجواسيس ؟ أم...؟
فكّر ت في الهروب، لكن إلى أين ؟ ومن أين المفر؟
... الطرق لا يزال متواصلا...
هل يكون أحد رفاقنا من "شيخ الحديد"؟
لكن أبا الوليد قال إم سيأتون بعد يومين.
ما المسألة إذن ؟
من الطارق في هذا الوقت اُلمتأخر ؟
من الطارق ؟
قلتها بصوت مرتفع، ملء الارتباك والريبة والخوف.
.......
( لم يجب، وعاود الطرق بأكثر عنف )
( قرب ت حواسي أكثر للباب ) من الطارق ؟
( مس ) إيراد الحاج... الصحفي إيراد الحاج.
إيراد الحا...
آه... إيراد الحاج... حالا.
فتح ت الباب وقد أقصي ت الشك والريبة، دون أنْ أنتبه إلى كونه ربما ينتمي إلى المخابرات
السورية أو إحدى العيون المبثوثة في شوارع دمشق. فقد كان يعمل في العراق، ولعلّ ذلك يسهل تجنيده،
أو استقطابه. فالمال لوحده كفيل ببيع الذمم.
فتح ت الباب، فارتمى إيراد دون انتباه وأوصد الباب بسرعة وريبة ... رفع غطاءً كان يلف به وجهه،
وارتمى في عنقي مقبلا، كغريق صادف زورقا، وقال:
أعذرني على هذا الارتباك ... الأمور لم تكن مرتبة كما ينبغي ... في نفس الوقت كان من الضروري
أنْ ألتقيك. المسألة على غاية من الخطورة. أي تأخير قد يتسبب في كارثة.
هل ثمّة من يراقبك؟
لا ... لا تخف الأمور ستكون جيدة إذا أسرعنا في التحرك.
اتجه داخل الغرفة، وجلس على طرف السرير... فتح أزرار معطفه، كأنه يهرب من الاختناق، وأكمل:
أسكت صوت الراديو، واستمع إلى ما سأقول.
اتّجه ت نحو الراديو ُأخمد أنفاسه، وعلّقْ ت وأنا أتناول سيجارة لأشعلها:
جعلْتني أشعر بالخوف والارتباك .
لا بد أنْ تغادر هذا المكان فورا، وقبل الصباح.
( ابتسم ت بمرارة ) أغادر المكان؟
إلى أين ؟ كيف أغادر المكان ؟ تعليمات أبي الوليد ال ..
( وتراجع ت عن إتمام اسمه حيطة لا غير )
أبو الوليد المصري.. أليس كذلك ؟
وهو كذلك .. وكيف عرفْت؟
لا يهم .. الأهم من ذلك أنّ أبو الوليد وقع في أيدي القوات السورية، كذلك مجموعته في قرية " شيخ
الحديد " وسيقع إيقاف بقية اموعة.
لا بد من اُلمغادرة ...
( داهمني الغثيان، ودارت رأسي حتى خلْتها سقطت حذْو حذائي، وألقي ت بجسدي على حافة السرير
بجانب إيراد )
كيف يتم ذلك ؟ أبو الوليد كان معي منذ ساعات.. كيف يحدث كلّ هذا في وقت قصير ؟ وبمثل هذه
الغرابة ؟
كلّ أسئلتك ليست مهمة الآن..المهم أنْ نغادر هذا المكان. وفور وصولنا بر الأمان سنتحدث في كلّ
التفاصيل.
لكن...
دون لكن .. لم يعد بالإمكان أنْ نضيع الوقت أكثر.
بأسرع من إطلاقة رصاصة، جمع ت أغراضي في حقيبة صغيرة .. رتبتها على كتفي، وانتصب ت جاهزا
للمغادرة . فيما رتب إيراد وجهه، وخرجنا مسرعين دون أنْ نحكم غلق الباب.
وأنا أركب سيارة فلاحية في اتجاه الضاحية الجنوبية للعاصمة دمشق، كنت استرجع شريط وصول
إيراد الحاج إلى غرفتي .
كأنّ الوعي حضر اللحظة، بعد أنْ حاصرتني الغيبوبة حين وصل وفتح ت له الباب.
ما راعني حقّا أنني تعقّلْ ت اسمه بسرعة لم أعهدها أنا الإنسان المورط في النسيان ... في إتلاف الأسماء
والأشياء .
عرفْته في بغداد حين أجرى معي تحقيقا عن ظروف اعتقالي بسجن "أبو غريب". بعد أنْ رتبت
مجموعة من المقاومين اللقاء بسرية تامة. هذا بغرض كشف الممارسات الأمريكية بذاك الماخور الذي
يسمى سجنا .
وإنْ كان لقائي به لمْ يتجاوز الساعة سرد ت له فيها بقيء لا مثيل له ما حصل لي بين تلك الجدران
اُلمحاطة بالخنازير إلا أني لم أتوقّع أنْ ألتقيه ثانية لا في بغداد ولا في أي مكان آخر.
بعد سنوات من السجن و التعذيب.. تعذيب العراقيين لإخوام وذلّ الأمريكيين لأعدائهم، ألقي بي في
أطراف مدينة بغداد، بعد أن فقدت الوعي لمدة فاقت الساعة. وخوفا ربما من وفاتي في السجن بعد
تسرب صور بواسطة الهواتف المحمولة من داخل السجن، وخوفا من تضاعف الأصوات المنددة بالتعذيب
و الإهانة و المذلة.
لم تكف سنة كاملة من الاعتكاف في غرفتي ألملم جراحي المبعثرة.. لم تكف لتزيل و لو لحظة واحدة
من تلك المعاناة الأشبه بصدإ على واجهة مرآة قديمة.
وفي بيت أحد الحقوقيين الذين ذاقوا ذرعا بطغيان حكم صدام حسين، التقيت بإيراد الحاج، وسكب ت له
ما ترسب في جهة الروح المشروخة من آلام و جراح لم تندمل إلى الآن.
ولولا علمي أنّ الصحافيّ ليس عراقيا، لرفض ت الحوار، لأنّ مليشيات الأحزاب قادرة على على تصفية
الخصوم وكلّ من يشكّك في عملية الانتقال الديمقراطي في العراق.
إنه إيراد الصحفي السوري العامل بصحيفة البعث السورية..ها أنه يحضر الآن، نعم ميزته من كلّ
الشخوص المبعثرة في ذاكرتي المثقوبة.
فلماذا يحضر الآن ؟ وكيف استحضر ت اسمه وميزته من بين كلّ الأسماء والأشياء ؟ ولماذا هو الآن هنا
؟هل هو عراقي بجنسية سورية ؟ أم هو سوري بانتماء عربي ؟
جالت بخاطري ملايين الأسئلة الحيرى، ولم أجد تفْسيرا لها... لا إجابة... مع ذلك لم ألق أمامه
حيرتي في انتظار ما سينكشف لاحقا.
الفصل الثالث
دموع البرتقال الفلسطيني
بغرفتها الموشاة بأعلام فلسطين، وخرائط التقسيم وصور القسام وعبد الناصر ودرويش وجيفارا،
وبيان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان... بغرفتها تلك وكانت لا تزال بلباسها الرجاليّ، وشالها
الفلسطيني تتحرك مرتبكة.
قدمت لي قهوة، وهي تفك ضفيرا وتسحب الشال من جيدها لتلْقيه بإهمال على السرير، وهي تقول:
دقيقة لأغير ملابسي.
واَنصرفت....
تناولْ ت علبة السجائر.. أشعل ت واحدة، واَنتصب ت ماسكا فنجان القهوة في اتجاه المادة الأولى من
الإعلان اُلمعلّق:
"يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق ( .. )"
ضحك ت... ثمّ أخمد ت ضحكتي لأحولها إلى سخرية صامتة بيني وبين نفسي. لم أفهم" الكرامة
والحقوق" ولم أفهم "لكلّ فرد الحق في الحياة"... وسخر ت من الإعلان، بدءا بديباجته وصولا إلى آخر
مادة فيه، وارتمي ت على السرير .
دخلت "لينا" تسبقها سيجارا اُلمشتعلة، ولباسها اُلمغري يكشف كامل تفاصيل جسدها.
ارتمت بجانبي.. قرب ت إليها المنفضة قليلا، وتناولت فنجان قهوتي مطأطئة بصمت، فيما توشك
سيجارا أنْ تنفجر.
قل ت:
لماذا كلّ هذا الحزن؟ ما المشكلة؟ وما حكاية الصورة التي أريتني إياها في مقهى باريس؟
حكي ت لك قصة عائلتي في مناسبة فارطة؟
أذكر ذلك في مناسبة بعيدة.
.. وتعلم أنّ أختي القاطنة مع أمي في مترل جدتي، هي من تبقّى من العائلة. وطبعا أنا وشقيقي
النازل ضيفا على السجون الإسرائيلية.
أذكر ذلك أيضا... وبعد؟
ألم تفهم؟
في الحقيقة.. في الحقيقة، لم أفهم قصدك.
( ابتسمت بسخرية، وهي تدس أنف سيجارا في المنفضة )
أختي "ماجدة" انضمت إلى حركة الجهاد الإسلامي، ونفّذت عملية انتحارية في حي تجاري.
وكيف تفعل ذلك ؟ لماذا هذه الرغبة اُلمفرطة في الانتحار؟
وهل تسمي العمليات الجهادية انتحارا؟
بطبيعة الحال...( تدارك ت ) في حالات دون غيرها.
( بغضب ) وما هذه الحالات ؟
العمليات التي لا تقدم شيئا لحركة النضال الوطني والإنساني، أعتبرها انتحارا.
المؤسف أنّ العملية لمْ تسفر إلا عن جرح ثلاثة مواطنين إسرائيليين.
( وتداركت بمعنويات مرتفعة ) لكن النتائج المعنوية والسياسية، أكبر من ذلك بكثير.
أي نتائج ؟ ( قلتها بسخرية )
هل هي ما نتج عن اتفاقيات أوسلو ؟ أم شرم الشيخ ؟ أم خارطة الطريق ؟ أم تكرش القادة
الفلسطينيين، واستئثارهم بالثروة، على حساب المواطنين الأبرياء والعاطلين واُلمشردين ؟
هل هذه نتائج ؟
نحن لا يهمنا الأوغاد، ولا السياسيين... فقط، منا القضية و الإنسان الفلسطيني.
غطّت وجهها بكفّيها، وانخرطت في هستيريا من البكاء . فيما بقي ت جامدا، وقد خانتني الكلمات
واللغة والقواميس... لم أجد فاتحة للكلام، ولا بما أوشح هذا المشهد الدرامي.
لا أعتقد أنّ أي لغة بإمكاا تشخيص المشهد أو رصده، ولا أي شاعر ولا أي كاتب. فقط، ربما الصم ت
خير معبر عما أعيشه.
مدد ت ذراعي اليسرى لأحتضنها، فطاوعتني ودست رأسها في صدري.
كمن يحتضن الخارطة ويحتضن الشرق، كن ت أتحسس أصابعي مخافة أنْ تحْترق. فيما لا تزال" لينا "
تترك العنان لدمعها كي ينهمر، ويسقي تربة جسدي.
لن ينبت جسدي غير العرق .. لن يثْمر البرتقال الفلسطيني ولا رمانه.. ولن تخْرج من مسام الجلد
أيادي لحمل السلاح أو حمل الحجر..
هذا الجسد العربي اُلملقى حذوك، ليس شيئا آخر غير طينة "أفسق فيها الوعي سنينا" وبات كمركب
حطّمته رياح الهبوب...
إذن، انتفضي لوحدك أيتها النجمة، وأضيئي حيث ما شئت، واَتركيني ألوك هزائمي واَنكساراتي
وعجزي .. ما أعظم قدراتنا الجنسية، وما أرخص وعينا وهممنا.
أخيرا، حركت جسدها ودست أصابعها في وجهها تمْسح دمعها .. رفعت رأسها، فاستحال وجهها بريقا
من الدمع والتورد والخوف.
لا تفْصل شفاهنا عن بعضها، غير إطلالة فراشة هاربة من الضوء ... قربنا شوقنا أكثر، وذبنا في
ملكوت الرغبة، فيما كانت يدي تفك أزرار تباا.
غير أنّ ارتماء بصري على الخرائط المعلّقة على الحائط، جعلني أتراجع مرتبكا، في اتجاه سيجارتي
علّها تحميني من اللّحظة الساخنة..
سحبت "لينا" جسدها وضت في اتجاه أشرطة الكاسات، محاولة تغيير الجو الخانق، وهي تشغل آلة
التسجيل:
سأسمعك أغنية من التراث الفلسطيني.
كيف حصلت على صورة " ماجدة " ؟
( ردت باقْتضاب ) من الأنترنات.
( باستغراب ) من تونس دخلْت إلى تلك المواقع؟
بالطبع...
لا أصدق
ولماذا؟
هذه مواقع لا يمكن النفاذ إليها... إا مواقع إرهابية ..
دعك من الخزعبلات... لن يحصل لي أكثر مما حصل. المهم... انزع عنك غرورك قليلا، وادخل معي
للمطبخ لنجهز العشاء... يكْفينا بكاء وشهداء.
( قل ت متهكّما ) وهل تحسنين الطبخ ؟
جرب، وسترى... وتماديا في التنكيل بك، سأطبخ لك أكلة فلسطينية، كانت أختي ماجدة تعشقها إلى
حد الجنون.
انتصبت واقفا في اتجاه أشرطة الكاسات، أختار واحدة تساعد على الخروج من هذا الجو
التعيس.وتعمد ت سحب الشريط الذي وضعته "لينا"، لكنها لم تعلّق.
قل ت :
نختار الموسيقى أولا ثمّ ألتحق بك.
كانت أشياء كثيرة أمامي، غير أني فضلْ ت " سيلين ديون " للخروج من الجو العربي المليء بالأحزان
والنقمة.فصدحت تلك السويسرية الرائعة:
J’ai compris tout les mots, j’ai bien compris merci
Raisonnable et nouveau, c’est ainsi par ici
Que les choses ont changé que les fleurs ont fanné
Que le temps d’avant, c’était le temps d’avant
………..
Pour que tu m’aimes encore
بصوت أقرب لانسياب الضباب فوق "فينيس" أو "لندن" ... أو بانسياب، كدخول الشمس إلى بوتقة
مظلمة.
فيما كن ت أساعدها على غسل الأواني لتجهيز العشاء، كانت لينا قد دخلت في جو مختلف كما كانت فيه
من الحزن والخوف والريبة، وكأنّ أعاني "سيلين ديون" قد فتحت لها في الآفاق وفي المطلق نوافذ على
الأمل والمستقبل.
كانت تسرد لي قصة عائلتها بابتسامة، أنا الوحيد الذي يعرف ماذا تخفيه:
حين تمّت تصفية والدي في لبنان بقلعة الشقيف، كنت لا زل ت صغيرة جدا لا أفقه في السياسة
والأحزاب والثورة عدا عائلتي الصغيرة في مترلنا القديم بحي عربي نزح أكثر من نصف سكانه تحت
ديدات الصهاينة واعتداءات المستوطنين اليهود.
ذات عيد توجهت أنا وأمي ولأختي ماجدة إلى المقبرة حيث ندفن كل أهالنا وأقاربنا. وكانت الزيارة
للترحم على بعض الشهداء من العائلة الموسعة.
أذكر وأنا في عمر لا يتجاوز الثانية عشر ربيعا، سأل ت أمي عن قبر والدي.
صمتت أمي برهة قصيرة، وطأطأت وهي جالسة حذو قبر أحد الأقارب، وأحسس ت أا ترغب في البكاء،
لكن دموعها ما طاوعتها ربما من فرط ما ذرفت.
علم ت منها حينها أنّ والدي دفن في لبنان على أيدي أحد التنظيمات اليسارية في مدينة صيدا . ولا
أحد من عائلتي يعرف ضريحه غير رفيقه أبو الفتح الذي عاد إلى غزة بعد اتفاقية أوسلو وقد طلّق
العمل السياسي إلى الأبد.
تدخل ت حينها، وقد توقّف ت عن إكمال غسل الصحون:
كيف يمكن لمناضل أنْ يتوقّف فجأة عن النضال والعمل التنظيمي؟
( وضعت لينا السكين الذي بيدها على فخذها الأيمن ) قطعت رجله وأصيب في الأخرى التي فقدت
قدرا عل الحركة. وقد حكى لي أبو الفتح أنه أصيب في انفجار سيارة مفخخة كانت تستهدف أحد
القادة الفلسطينيين.
وهو الآن مقعد يتنقل على عجلات. هذا إضافة إلى أنّ اغلب رفاقه وقع تصفيتهم، وظلّ البقية
يرفضون دخول فلسطين ما دامت تحت الاحتلال.
( بقيت صامتة بعض الوقت وهي تعالج ورقات من البقدونس، وحين أكملتها التفتت إليّ مكملة كلامها )
ألم تكمل غسل الصحون ؟
بلى أكملتها.
إذن...
( قاطعتها وكأنني أقصدها بالكلام )
لا أفهم كيف تستقيم الحياة في ظلّ كل هذا البؤس وهذه الأحزان، ولا أفهم كيف...
( قاطعتني بدورها لتجيب عن تساؤلي أو ربما لتسخر مني ) أنا لم أخبرك عن مترلنا الذي فجروه بما
فيه، بعد أنْ سمحوا لنا بجهد جهيد أنْ نخرج ما خف وزنه في عشر دقائق فقط.
( وقد حاولت أنْ تمنع دمعة تدحرجت على خدها ) حاول أنْ تتخيل كيف يفقد الإنسان بته في رمشة
عين... يفقد المكان الذي ولد فيه والذي رتب فيه أشياءه وأحلامه وذكرياته مع الغرف والجدران
ودالية العنب والشبابيك وسطح المترل الذي يشرف على حقول الزيتون التي فعلت فيها الجرافات ما
فعلت وحولتها إلى أرض بور.
هكذا في لحظات تجبر على أنْ تقتلع ذاكرتك من مكاا عنوة. وكان لا بد في مساحة العشر دقائق أنْ
أنقذ صورة والدي والقائد ياسر عرفات...
( تساءل ت بدهشة ) ياسر عرفات ؟؟؟
نعم...
أنا أعرف أنك لا تنتمين لحركة فتح.
ولو... ياسر عرفات يبقى قائدا وزعيما رغم الأخطاء . وها قد ذهب ياسر عرفات، ورأى العالم أي
دور كان يلعبه حتى وهو تحت الحصار تطوقه المدفعية الإسرائيلية.
( صمتت برهة ) لذلك ترى أنّ كلّ الفصائل الفلسطينية تحترمه حتى وهي تختلف معه.
أكملْنا الليلة بين الفن والشعر والذكريات المؤلمة ... لمْ نتحدثْ مطلقا عن الفرح، غير ما صدحت به
الأغاني .
وحتى الأغاني التي كانت تؤنسنا،أغلبها لفنانين غالبوا الوقْت حتى كاد يغلبهم .
استمعنا إلى مرسال خليفة والشيخ الضرير وفيروز، وأحيانا "سيلين ديون" و
"جون ميشال جار"... كانت الليلة مزيجا من الأحزان والفوضى والبكاء، إلى آخر ساعات الليل. ولم
تغب "ماجدة" عن حديثنا، بل كانت كلّ الحديث.
حكت "لينا"، وكن ت ممددا فوق السرير على ظهري:
لم يكن أحد يتوقّع أنْ تقْدم "ماجدة" على تلك العملية... لا أحد صدقها ..
"ماجدة" أختي، تبدو مستهترة وفوضوية. ومنذ أنْ أكملت تعليمها واشتغلت ممرضة، لمْ تعد تم بغير
مظهرها وأناقتها، وكأا لا ترى الجرحى والموتى والكوارث التي تصلها يوميا إلى المستشفى.
يعني نقْصي فرضية الفقر من الأسباب اُلمؤدية إلى الإرهاب.
( بغضب ) أما زلت تقول إرهابا ؟
لينا ..هذا كلامهم.نحن نعرف ماذا تسمى هذه العمليات ... لا عليك أكملي.
الغريب أنّ أختي "ماجدة"، لمْ تلبس الخمار ولم تدمن الصلاة... فهي لا تصلّي أصلا. لهذا صدمتني
صورة "ماجدة" المنشورة على الأنترنات ..صورا وهي متحجبة.
إذن، نقْصي فرضية كون الانتماء الديني هو الذي يؤدي إلى القيام ذه العمليات.
وبعد .....
وبعد ....( قالتها بتأفف ونقْمة، ثمّ تمددت بجانبي ) اتضح أا انضمت إلى حركة الجهاد الإسلامي.
وبعد، نفّذت ماجدة العملية، وقد تركت وصيتها مسجلة، ونشرت على الأنترنات بموقع حركة الجهاد
الإسلامي.
وكالعادة.. هبت القوات الإسرائيلية لتفْتيش المترل وإخراج أمي وجدتي، ثمّ فجروه بما فيه.
لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأين استقرتا ؟
.... ( تجاهلت سؤالي ) ....
وطبعا، نددت السلطة الفلسطينية بالعملية وشجبتها، معتبرة إياها استهدافا للأبرياء العزل ولا ننسى
أنّ بقية الأنظمة س ..
لمْ أكمل كلامي .. ف "لينا" انخرطت في النوم دون استئذان.
المسكينة، بكت كثيرا هذه الليلة، وليس بوسع أحد غيرها أنْ يتحمل كلّ هذه الكوارث.
كانت منطوية بجانبي، تدس رأسها في كتفي كعصفورة تبحث عن الدفء... مسح ت على شعرها وخدها،
ثمّ دثّرا مستحضرا أغنية فيروز:
يالا تنام ريما يالا يجيها النوم
يالا تحب الصلا يالا تحب الصوم
يالا تجيها العوافي كلّ يوم بيوم
صباحا، كانت الساعة تشير إلى السابعة. و"لينا" ما زالت ممددة كنهر قبل الشروق. تسلّل ت خلسة
لأكتب لها ورقة، ضمنتها هاتفي الجوال وعنواني، وخرج ت.
كانت العاصمة ما زالت لم تدب الحياة فيها... وفي اتجاه نزل أفريكا بشارع بورقيبة، اعترضتني
سيدة يبدو من ملامحها أا مومس، أكملت مهمتها الهادفة هذا الصباح، أو أطردها أحدهم بعد أنْ نهل
من لحمها الغض.
رائحة الخمر ما زالت تعبق، رغم محاولة عطرها الصارخ أنْ يسترها ويستر رطانتها. قالت وهي تحاول
أنْ تستوقفني:
صباح الخير
صباح الخير
ودون أنْ أتوقّف أو أترك لها فرصة أنْ تضيف، واصل ت سيري غير مبال،مقارنا بين سيدة في
فلسطين تنفجر من أجل قضاياها، وأخرى في تونس تنفرج من أجل الدولار أو من أجل شهوا.
وحدثْ ولا حرج عن الطالبات ونساء الترل والأحياء الراقية والمومسات اُلمنتشرات في المقاهي
والفضاءات العمومية والطرقات أينما سرت.
اقْتني ت صحيفة تونسية وعلبة سجائر، ودخل ت مقهى"أفريكا".
عدد الرواد لا يزيد عن العشرة، والنادل يتنقّل بأناقة تسبقه ابتسامة ما عهدا عند نادل.
المكان يعطي انطباعا بالراحة والهدوء. وبعيدا عن أعين تعرفك أو تعرفها . لا أحد من أصدقائي أو
رفاقي يعرفني أرتاد هذا المكان، ولم أدخلْه إلا مرة واحدة مع صديق شاعر تعرفت عليه في زحمة
الحراك الثقافي التونسي الراكد كالمياه الآسنة.
فور جلوسي، وصل النادل مبتسما:
صباح الخير.
صباح الخير... "إكسبراس" من فضلك.
حاضر.
فتح ت الصحيفة على أخبار عهدا... ولا شيء تحت الشمس . لا أذكر أني قرأ ت خبرا مهما
بصحيفة تونسية، عدى أخبار الرياضة.
فيما سحب ت سيجارة لأشعلها، وصل النادل... رتب القهوة بأناقة وانصرف. فيما أكمل ت تصفّح الجريدة
مدججا بالنقمة والكره:
صفحة الغلاف تتصدرها صورة رئيس الجمهورية وثلاث صور اختيرت من مقابلات كرة القدم، وأخرى
صورة ُلمصاب فلسطيني من بيت حانون ( هكذا قالوا ).
فيما تحضر صورة صدام حسين أسفل الصفحة متبوعة بنبوءة منجم مغربي: "صدام سيموت مسموما
بأياد أمريكية".
وفهم ت أنْ لا شيء يستحق الاهتمام، في صحيفة كغيرها من الصحف الملأى بخزعبلات السياسيين
وانجازام التاريخية وصور كرة القدم وأخبار النجوم والمنجمين.
كن ت أردد دائما أنّ الخبر الصحيح الوحيد في صحافتنا التونسية، هو أخبار الموتى.
فتحت الصحيفة على افتتاحيتها بقلم رئيس التحرير، يمجد و يبارك و يدعو لفخامته بطول العمر
ولحرمه المصون، داعيا إياه إلى الترشح لانتخابات الرئاسية القادمة، دون أن ينسى التنديد "بالغربان
الناعقة" من الحقوقيين والنقابيين الذين لا يريدون الخير لهذا البلد.
شرع ت أتصفّح الورقات دون اهتمام، حتى أدرك ت خبرا عن الندوة الفكرية التي عقدها أحد الوزراء،
ملخصها "تونس توفقت لأنْ تساير جملة التغيرات الإقليمية والدولية"
عندها ألقيت الصحيفة جانبا، وقد مثلت أمامي مواقف الزعيم بورقيبة و ريادته في اتخاذ القرارات
الصائبة.
كيف اختار ذلك الزعيم أنْ يساند الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وكيف كان قادرا على التنبؤ
زيمة المحور.
تذكّر ت موقفه من الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، وكيف طالب العرب بقبول قرار التقسيم الذي
فرضته الأمم المتحدة، ورفضه العرب جميعا. ورغم الاامات المختلفة بالخيانة والازامية، إلا أنّ
التاريخ أثبت صحة مواقفه من الأحداث.
الغريب أنّ كلّ الرؤساء، يدعون الحكمة والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ودعم قضايا الشعوب
و..
تخيل ت طفلا منحه الخالق قدرة المعرفة والكلام منذ يومه الأول، وتمّ وضعه في قاعة ملأى بالشاشات
التي تبثّ قنوات عربية مختلفة.. طبعا سينتشي هذا الطفل، ويقف مهللا بجمال هذا العالم... إا
الجنة... سيعتقد لا محالة أنه ولد في الجنة على خلاف خلق الله جميعا.
كلّ الأمور على ما يرام: حكامنا وشعوبنا ولا شيء يقلق راحة هذا المواطن العربي عدى أنّ دولته لا
مشكلة لها.
أفقْ ت من حلم اليقظة على النادل يفتح جهاز التلفاز، على قناة الجزيرة القطرية، حيث ينقل
مراسلها من طهران آخر أخبار الجدل القائم بين إيران والغرب حول الملف النووي.
حين أكمل، اتصل معد البرنامج هاتفيا بمحلل سياسي عربي يدافع عن إيران، معتبرا إياها منقذ الأمة
من أعدائها. كان يدافع بحماس من يدافع عن أمه وهي تغتصب.
لحظتها جالت بخاطري فوضى من الأحداث والمواقف والتحاليل، لم أستطع ترتيبها:
مثلت الفتنة الكبرى والحسن والحسين وعلي وعائشة وعثمان وقتل الصحابة غدرا أو ردة...
حضرت حضارة الفرس وتاريخ الشيعة والشاه والحرب العراقية الإيرانية...
حضرت الأحياء والمدن الشيعية في العراق، وحضر حزب الله وحسن نصر الله والخميني..
حضرت "طنب الكبرى" و "طنب الصغرى" و "أبو موسى"...
حضر سليمان رشدي وفتوى الخميني بقتله...
تأمل ت ذلك المحلل الأنيق بربطة عنق أمريكية، وبدلة أنيقة من محلات باريس الفاخرة، مضافا
إليها لباقته وقدرته على اُلمناورة بلهجة عربية منمقة بكلمات إنجليزية ليكتمل مشهد المثقّف العضوي.
تأمل ت ... وكد ت أصفعه بمنفضة السجائر التي أمامي... غير أني تراجع ت، مشفقا عليه وعلى المستمعين
الكرام:
أحدهم بزي شيوعي اهترأ، ولفّه الصدأ، لا زال يلوك خطابات لينين وماركس وتروتسكي وبيانات
الحزب الشيوعي، ويحلف بماو ويعظّم فيدال كاسترو...
أحدهم بزي القوميين العسكرية، يزور قبر عبد الناصر أو يغرق في ترهات عصمت سيف الدولة أو
يتباهى بنظريات ميشال عفلق...
أحدهم بجبة عثمان، ولحية عمر عبد الرحمان، يخطب في الناس زورا وتانا، و يدافع عن تعدد النساء
وزواج المتعة، وينادي بالخلافة السادسة...ولا خلافة ولا هم يخلفون.
ومن تبقّى فشعارهم عاش الملك، مات الملك: مرة في خانة الأمريكيين الأحرار، وأخرى مع التطبيع
وضم دولة اليهود إلى الجامعة العربية، وطورا في حضيرة السلطة، يتمعشون من لحمها الغض، قبل أنْ
تسقط بموت الملك أو بالانقلاب عليه . لينقلبوا كما انقلبوا، وكأنّ شيئا لم يكن.
تذكّر ت أحدهم، لا أستحضره ربما أحد المعتوهين أو العاقلين، وهو يقول:
أنا أنتمي إلى "حزب الديك".
وما حزب الديك ؟
أنْ تأكل وتشرب وتتدرب على كره الوطن.
( أجب ت مستغربا ) وهل كره الوطن يستحق الدربة ؟
بالطبع... مثلما تتدرب على حب امرأة، تساعد نفسك وقلبك على أنْ تحبها أو تتقرب منها. بالمثل
تتدرب على كره الوطن... بمعنى، تساعد نفسك وقلبك على أنْ تكرهه وتبتعد عنه.
بصراحة لا أعرف أحدا يكره الوطن. قد يكره الساسة أو الوضع العام أو أي شيء... لكن الوطن
مقدس .
( ساخرا ) الوطن الذي أعنيه أنا ليس الوطن الذي فهمته.لذلك أنا أنتمي
"لحزب الديك" الذي له مفهوم خاص للوطن...
لم يترك ليَ النادل أنْ أستحضر بقية الحوار، حين اقترب من الطاولة يرفع فنجان بعد أنْ نفذت
قهوتي .
انتصب ت واقفا .. ناولْته ثمن المشروب، وانصرفْ ت دون أنْ أنتبه أنني نسي ت الجريدة سهوا أو متعمدا.
الفصل الرابع
سقوط النجمة
للمرة الأولى أض على الاستثناء .. للمرة الأولى أنا لس ت أنا، ولس ت تلك الفتاة التي تنعم بالبذخ
الرأسماليّ والرفاهية.
لمْ أجد السرير لينا كعادته، ولا وسادتي الحريرية، ولا الحاسوب الذي لا يفارق غرفتي، ولا ألمعلّقات
النحاسية والتحف التي يهدنيها أبي.
للمرة الأولى لا أفيق على صوت " فاطمة "... تبصبص قرب سريري، تنتظر أنْ أمنحها فطورها
الصباحي.
هكذا كن ت أسمي كلبتي "فاطمة"، كّما على العرب والمسلمين الوسخين. و"فاطمة" من فصيلة ألمانية
نادرة، كادت تنقرض عقب الحرب العالمية الثانية. جلبتها معي من "بلون" الألمانية، في إحدى زياراتي
لبعض أهلنا هناك.
للمرة الأولى لا أسمع صوت "نارمين" عبر الهاتف أو رسالتها التي أتلقّاها بالبريد الالكتروني.
للمرة الأولى أصطدم بالمكان مرتبكة، وأنا أض كمن يحمل حائط المبكى.. أو أحاول أنْ أض مقيدة
اليدين والساقين، ملقاة حذو أكياس أجهل كنهها وحمولتها.
أرى السقف يشبه لون علبة صفيح، يوشك أنْ يطبق على أنفاسي... يوشك أنْ يسقط . حتى أنني أحرك
جسدي بحذر لا مثيل له، منتبهة إلى منعرجاته ونتوءاته . علّ حركة عنيفة واحدة، تساعده على
السقوط، فيدهس جسدي.
بنفْس المكان، وأنا ملقاة كغيري من الأكياس تماما... لا شيء يساعدني على معرفة المكان. فالأكياس
موجودة في كلّ المدن والقرى، وبأي مكان في العالم. ولا شيء غير بعض الأدوات الفلاحية البدائية،
تذكّرني بالعرب في القرى الفلسطينية.
آه ... تذكّر ت ... ربما في قرية من ُ قرى البلد الذي وصلْ ت إليه منذ ما يزيد عن الشهرين. قل ت ربما...
وفي الحقيقة أنا مرهقة إلى درجة أنني لم أعد أتذكّر شيئا.
أحاول أنْ أحرك رأسي بعنف كي أنفض الذاكرة من طحلبها، علّي أستحضر شيئا أو أنتبه لسبب وجودي
ذا المكان اُلمقرف..في ذات الوقت أحاول أن لا ُأزعج السقف كي لا يسقط.
... أمسح المكان ببصري، علّي أعثر على ما به أتعرف على المكان.. جدران طينية تغلّفها الرطوبة
والعناكب وحشرات لا عهد لي ا.
وبسرعة استقر بصري على أعمدة خشبية تشد السقف كي لا يسقط. وبالكاد يتسع المكان لسيارة، لولا
هذه الأكياس المرصوفة خلفي.
وأنا أرى الأعمدة الخشبية، أتخيل فأرا يتسلّقها ويقضمها مبتسما أو ساخرا من جلستي أو من
قيودي... ينهش العمود ولا يخلّف فضلاته. إنه يلْتهم العمود وينتفخ... يقضم العمود وينتفخ، حتى
صار الفأر ختريرا.
أنا أستغرب كيف استطاع العمود الأخير أنْ يتحمل وزن فأر بحجم خترير . مع ذلك أكمل الفأر العمود
الأخير، حتى صار كبغل، أوشك أنْ ينفجر... والسقف أوشك أنْ يسقط...
أوشك أن ينفجر... أوشك أن يسقط ...
انكسر بصري إلى الأرض، وقلّص ت جسدي، فأنا ميتة لا محالة.
ُ فتح الباب، فصات صديدا ولم تدخل الشمس. ربما هو الليل أو ربما من فَتح الباب سد على الشمس
مداخلها.
دخل ثلاثة رجال ملثّمين، يرتدون أزياء شبه عسكرية. تقدم أحدهم تسبقه فوهة مدفعه الرشاش،
فيما بقي زملاؤه قرب خد الباب.ولا أعرف إنْ كان عددهم يفوق الثلاثة..من يدري ربما كان المستودع
محاصرا بمجموعة من الإرهابيين.
تقدم أحدهم بمشية ثابتة متوازنة، وعيناه تبرقان بحدة عيون الصقْر. جعلتني أخمّن أنه شاب لم
يتجاوز الأربعين.
سألني بصوت جهوري هز به أركان المستودع، حتى خلته يسقط:
هل تتكلّمين العربية ؟
لهجته العراقية جعلتني أحدد موقعي... نعم أنا الآن في العراق... في بغداد تحديدا، و متأكّدة أنني
دخلْ ت بغداد. نعم آخر صورة بقيت عالقة بذهني هو مروري بالجسر على سيارة سخرت من أجلي. أذكر
أنّ السيارة توقّفت بسبب عطب مفاجئ، وأذكر أنّ أحد المارة تقدم لمساعدتي... وأذكر...
أذكر ماذا ؟ لا شيء . فقط أذكر أنّ أحد المارة عرض علي مساعدته، ولا شيء بعد ذلك.
إذن لماذا أنا هنا ؟ هل لا زل ت في بغداد ؟ أم تمّ نقْلي إلى جهة غير معلومة ؟
ارتعدت فرائصي، وتجمد الدم في شراييني واستنجد ت بكلّ الكتب السماوية .
الآن فقط، فهم ت أنني بين أيدي الإرهابيين العراقيين. وكأنّ الإرهابي الذي أمامي مرر أذنه إلى جهة
الذاكرة، وتنصت على وشوشات أفكاري... كأنه استاء من كلمة "الإرهابيين"، فزمجر ثانية:
هل تتقنين العربية ؟
( أجب ت بارتباك ) yes نعم
شعر ت أنه اطمأنّ قليلا، لمّا رأيت نظراته ترتفع إلى مستوى السقف، ورد:
حسنا،أنت الآن في حماية المقاومة العراقية الباسلة .لا تخافي، لن نسيء إليك. فقط عليك بقراءة
هذه الورقة، وسنقوم بتسجيل ذلك وتمريره لوسائل الإعلام.
التفَت إلى أحد زملائه، وأشار بسبابته كأنه يطلب استدعاء أحد ما. ثمّ مد لي الورقة، وألقاها بإهمال
على ركبتي، ثمّ عمد إلى فك قيدي.
فتح زميله الباب ودخل أحدهم يحمل آلة كاميرا، ووجهها نحوي، وأشار إليّ كي أقْرأ الورقة بصوت
واضح ودون ارتباك.
لحظتها، كانت النبضات تتصاعد، وعيوني أحسستها تحاول الارتماء على التراب من شدة الخوف. مع
ذلك حضرت "نارمين" بعنف جسدها وشهوا. حاول ت إقصاءها من الذاكرة، لكنها تمسكت بالحضور رغم
الغياب.
كان شذوذها يدفعها لتقْييدي إلى السرير من معصمي وساقي، وتشهر سوطها في جسدي.. على إليتي
وخصري وفخذي... متمتعة بآلامي.
و "نارمين" كانت تصر في لحظات الشذوذ التي تجْمعنا، أنْ أجلدها حتى البكاء، و تصر على ذلك. حين
تمارس علي عنفها، كثيرا ما تدمي شفاهي وجسدي بأسناا وسوطها.
وما كان يدفعني لتحملها، هو ذلك الجسد الشهي الذي يميزها / لم أصادف امرأة بتلك الأنوثة
الصارخة... ذلك الجسد الممتلئ، وتلك الشفاه اُلمكتترة... كانت كلّ حبة في جسدها، تثير فيك وديانا من
الشهوة .
كانت كذلك دائما، حتى أفقدتني شوقي للرجال . منذ عرفتها، ومارس ت معها أو بالأحرى أجبرتني
شذوذ السحاقيات،رفض ت كلّ الرجال الذين أبدوا رغبة في معاشرتي . بالمثل كانت "نارمين" ترفض
الرجال وتكرههم، لذلك لا تعاشر إلا النساء.
......................................
صرخة الإرهابي أسقطت "نارمين" من ذاكرتي نحو الإقصاء . قال آمرا:
عند الإشارة، تبدئين في قراءة الورقة.
....
أرد ت أنْ أعلّق متسائلة، غير أنه أكمل بنفس النبرة الآمرة:
الأسئلة والتعاليق ممنوعة.
بارتعاش لمْ أستطع تداركه، أمسكْ ت الورقة من طرفيها، وتلو ت:
"إني أنجيلا موردخاي، العاملة بمنظمة الأمم المتحدة بالعراق منذ شهرين، أهيب بالحكومة الأمريكية
والحكومة الألمانية واتمع الدولي،لمساعدتي وإطلاق سراحي. في مدة لا تتجاوز اليومين . مع العلم
أنني في صحة جيدة وُأعامل معاملة حسنة"
بسرعة من فاجأه الحيض، اختطف الإرهابي الورقة من أناملي، وأعاد قيدي.
فيما انسحب المصور مهرولا، وتبعه الآخرون بارتباك لم أفهمه، إلا بسماع دوي انفجارات هزت المنطقة.
فاجأني الدوار، وحاصرني الخوف، كمن يقترب من حبل المشنقة . مخافة أنْ ينالني القصف الأمريكي،
أو يسقط أحد صواريخ الكاتيوشا على المكان خطأً .وما ضاعف خوفي، تسلل روائح الكبريت والفسفور
إلى المستودع، مع تصاعد عمليات القصف وإطلاق النار.
الرعب الذي يحاصرني، كان مع الارتباك والخوف والقيء الذي يفاجئني ... كان يخدرني. ربما بفعل
الدخان الذي استنشقته. مع ذلك كن ت أشعر بارتخاء لذيذ يتوزع في كامل شراييني.
ارتخاء يعيد "نارمين" إلى الذاكرة... تحضر وهي تلْعق بلساا شفتي وفخذي ودي، حتى تصل أسفل
سرتي، لتتسلّل لمسام الجلد نشوة ممزوجة باللذّة والانتشاء والسكْر. وأنا المقيدة، كلّ شيء يتحرك في
جسدي نبضة.. نبضة.
أما الآن، فلا شيء يتحرك فيّ، حتى النبض نفسه. حتى أني ُأوشك أنْ لا أسمعه... وغب ت ....
لا أذكر المدة التي غب ت فيها عن الوعي، ولا شيء هنا يحيلك للزمن الكرونولوجي. حتى الشمس، لا
تدخل هذا المستودع. ربما كان المكان قبوا أو غرفة تحت الأرض أو أنّ الشمس حجبتها الأدخنة والغبار
والحرائق عن كامل العراق.
وأنا أسحب خيوط الوعي شيئا فشيئا، تناهت إلى مسمعي وشوشات من الخارج، ربما أولئك الذين زاروني
منذ ساعة أو ساعات، أو ربما غيرهم من مجموعات إرهابية أخرى.
تتالت دقات قلبي، حتى كادت تسمع إلى الخارج . فكتم ت تنفّسي، حتى لا يتناهى إلى الإرهابيين.
أكمل أحدهم حديثا، لم أتبين أوله:
( .. ) وإذا لم يستجيبوا؟
لا أدري .. ربما نعطيهم مهلة أخرى.
وبعد ..؟
إنْ استجابوا.. وإلا...
وإلا ماذا ؟ القائد "نواف" ربما ينفّذ فيها حكم الإعدام.
أقسم بالله، لولا مصلحة المقاومة، لنفّذْ ت حكم الإعدام في " نوا ..."
تكهن ت أنّ رفيقه منعه من إكمال جملته، بوضع يده على فمه، كأنه ارتكب جرما.
و أكمل بعد أنْ منعه صديقه من نطق أسم "نواف":
من "نواف" هذا، حتى يكون قائدا علينا ؟ نحن أحرار العراق... نحن أبناء حزب البعث .. و هذا
الفلسطيني، ما الذي أتى به إلينا؟
( علّق دوء ) هذا ليس وقتا مناسبا للتشويش والحسابات ... العراق الآن يضج بالعرب و الشيعة
والأكراد الذين لا زالوا يتوافدون منذ وصول الاحتلال، وهم يشاركوننا النضال. و نحن نعلم أنّ "نواف"
موجود في العراق منذ حربنا مع الكويت.
هو الآن يا أبا ايد أكثر وطنية من بعض العراقيين. رجاء أبا ايد.. لنؤجل الحسابات.
يكفينا تأجيلا للحسابات.. وجود العرب في العراق، هو ما شوش علينا طرق العمل، واختلط الحابل
بالنابل: هذه كتائب محمد، وأخرى جيش المهدي، وتلك ميليشيا الصدر، ورابعة وخامسة وألف...
قل لي بربك من يقاوم من، ومن يدافع عن العراق، ومن يخدم الاحتلال ؟
أبا ايد، رجاءً... لا داعي لهذا الكلام. نحن متفقون على أنّ من يخون القضية يعدم، ولو كان
عراقيا. إذا ما دام نواف مخلصا كغيره من الشرفاء العراقيين، فهذا يشرف قضيتنا.
والحقيقة يا صديقي يعد نواف من طينة المناضلين الأحرار ... أعرف نواف منذ سنوات، حين التقيت به
على هامش الملتقى القومي العربي، وكان لا زال جاهلا بالوضع العراقي رغم أنه يدرس الفلسفة بجامعة
بغداد. مع ذلك كان قادرا على استيعاب وتحليل الراهن العربي والدولي، وله القدرة على أن يفسر
ويتنبأ بالنتائج. ومنذ أنْ غير جنسيته إلى العراقية صار عراقيا (حرك رأسه وابتسم بمكر ) لا تتصور
أن أجهزة حزب البعث يمكن أنْ تتركه دون رقابة، حتى وقد صار بجنسية عراقية.
بمثل هؤلاء سقطت بغداد .. وعن طريقهم وصلت المعلومات المخابراتية إلى الأمريكان والصهاينة (
شبك عشره على رأسه ) العراقي الحر لا يخون العراق ( وبنبرة اشد حزما) ثمّ أليس الأحرى ؤلاء أن
يدافعوا عن فلسطين ؟
هذا موضوع آخر ..
( تغيرت نبرة صوته بارتباك، وخوف ) انتبه أبا ايد، هناك تحليق طائرات.
كن ت مستمتعة بالحوار ومرتبكة، متمنية أنْ أكون خارج هذا القبو لأرى اُلمطلق والامتداد... لأرى
هذا العالم. قطعا إنه ليس بغداد.كن ت في بغداد لا أمر إلا من شوارع محددة، وحسب التعليمات.
إنّ مهنتي تفرض علي التقيد بالأوامر والأوقات بانضباط جماعي وآمن . إنّ وجود مقرنا بالمنطقة
الخضراء، يجعلنا في مأمن من أسلحة الإرهابيين، وتحت حماية القوات الأمريكية. ولولا ذلك العطب
المفاجئ للسيارة، لما كن ت هنا الآن.
.......
عادت بي الذاكرة إلى أول لقاء جمعني ب "نارمين"، حيث كان عطب السيارة بالمثل سببا في تغيير
حياتي الخاصة.
ففي زيارة لأحد أقاربي في برلين، تعطّلت السيارة ربما بفعل رداءة الطقس والثلوج المتهاطلة كان
الطقس أشد من قسوة الحرارة في بغداد.
تسمر ت خلف المقْود، محاولة إعادة تشغيل المحرك، دون جدوى... فكّر ت في استعمال الهاتف الجوال،
غير أني لا زل ت بعيدة عن مقر أقاربي، وبالمثل ابتعد ت عن مترلنا بحوالي ستين كلمترا.
نزلْ ت من السيارة، محاولة الاستنجاد بأي كان.. كن ت أشير إلى السيارات العابرة دون أنْ تعيرني أي
اهتمام.
حين همم ت بالرجوع إلى المقعد، أشارت لي سيارة بأضوائها، فأشر ت بيدي فتوقّفت.
فتح ت الباب طالبة المساعدة، فابتسمت مرحبة، وكأا تعرفني منذ سنوات.
حين استوي ت على كرسي سيارا، مثبتة حزام الأمان حولي، انتبه ت إلى سيدة غاية في الجمال
والأنوثة. وبلباس يكشف عن كامل فخذيها وديها، استغرب ت من قدرا على تحمل البرد بتلك
الملابس.
أرد ت أنْ أبرر:
تعطّلت السيارة دون سابق إعلام... لا أدري... هذه المرة الأولى التي تحصل معي.
هذا وارد في كلّ الأوقات... أنا "نارمين". وأنت ؟
أنا "أنجلا".
إلى أين مقصدك ؟
إلى برلين.
هذا طريقي ( متداركة ) سنعرج على مترلي بعد دقائق.. لا بد أنْ أحمل بعض الأغراض.. هل
تصحبيني ؟ خمس دقائق فقط، ثمّ نكمل طريقنا.
لا مانع .. لا مانع.
أرجو فقط أن لا أكون قد أزعجتك.
لا داعي للشكر، كلنا يتعرض لمثل هذه المواقف...
( صمتت قليلا ) ربع ساعة فقط، ونكون قد وصلنا.
بالفعل، ربع ساعة كانت كافية لتجدني في قاعة جلوس فاخرة ومتسعة. بيتها ينم عن بذخ صارخ ..
الكريستال والتحف النحاسية والفضية وقطع العاج والزرابي الفارسية .. كلها تصيبك بالذهول.
كن ت أمسح ببصري كلّ المعلّقات واللوحات والتحف، متسائلة:
هل هذا مترلك ؟
( وهي تتجه إلى إحدى الغرف ) بالطبع... ورثْته عن والدي. فأنا ابنته الوحيدة.
أمامك الويسكي، خذي ما شئت.
تناولْ ت قارورة الويسكي، أسكب منها دون أنْ أرفع بصري عن المعلّقات والزرابي والتحف التي تحيلك
إلى مترلة الطبقات الأرستقراطية بأوربا.
فاجأني صوت "نارمين" من الداخل:
أنجيلا... تعالي لحظة.
لا زل ت ممسكة بكأس الويسكي، متجهة إلى غرفتها ودخلْ ت بانتباه شديد، فخاطبتني بإلحاح:
أنجيلا.. أدخلي.
دخلْ ت غرفتها ذات الإنارة الحمراء الخافتة، كأنك بإحدى العلب الليلية، عدا كون الموسيقى هنا
خافتة. خمّن ت أا موسيقى "جون ميشال جار" أو "خوليو أجليسياس". ولم يكن في الغرفة ما يشي
بالغرابة، عدا صورة ضخمة لمادونا، وهي شبه عارية. وكانت "نارمين" ممسكة بفستان. قالت:
هل تساعديني؟
بالطبع.
لي صديقة أريد أنْ أهديها هذا الفستان، بمناسبة عيد ميلادها.
لكن... لكن كيف سأساعدك؟
جسدها يشبه جسدك تماما... هل تجربينه؟
بالطبع... لا مانع عندي.
وضع ت كأس"الويسكي" على طاولة صغيرة حذو السرير... تناولْ ت الفستان من بين أصابعها...
مددته على ظهر الأريكة، وشرع ت أفك أزرار سروالي وملابسي الأخرى.
حين تعري ت تماما إلا من ملابسي الداخلية، تقدمت مني "نارمين" وشرعت تمرر أصابعها على صدري و
شفاهي وفخذي، مستعينة بذهولي.. وكانت تدفعني رويدا، رويدا إلى السرير . حين أرد ت منعها،
فاجأتني قشعريرة ساخنة وارتباك شديد في نتوءات جسدي.. فطاوعتها. ولم أدر كيف اتجهت أصابعي
إلى أزرار ملابسها، واحتضننا السرير.
صباحا، أفقْ ت على صوت "نارمين" .. كانت عارية تماما. واحتج ت ربع ساعة لأستحضر ما حصل
البارحة.
...................
...................
دخل علي أحد الإرهابيين إلى المستودع، ليقْطع علي حبل الذاكرة، شاهرا رشاشه في وجهي .
وتبعه ثان، متجها إلى قيودي ففكّها، ثمّ غادر في صمت.
اقْترب الأول مني، ووخزني بسلاحه:
انهضي، علينا بالمغادرة.
لمْ يكن بوسعي أنْ أعلّق أو أتساءل، فما الذي يمكن أنْ تفْعله الشاة أمام جزارها؟
حين خرجنا من القبو، كانت سيارة شرطة تقف بالمكان. فغمرني فرح بالنصر والنجاة... همم ت
بالركض نحو السيارة، غير أنّ باا الذي ُ فتح، والإرهابي الذي نزل منها، إضافة إلى الإرهابيين الأربعة
الذين يحرسون المكان بمدافعهم ورشاشام... جعلني أغْتال فرحي. وبصعوبة منع ت قلْبي من إخماد
نبضه.
دفع ت إلى السيارة، قبل أنْ يدسوا أجسادهم بجانبي، وتكفّل أحدهم بإعادة قيدي. فيما قام الثاني
بوضع عصابة على عيني . وانطلقت السيارة دون قدرة لذاكرتي على تبصر الأمكنة و الطرقات
والمنعرجات.
الفصل الخامس
التنظيم
في غرفة ضيقة، بمنزل يقع بالضاحية الجنوبية لدمشق، وصل "أبو مصعب" باستعمال شاحنة نقل
بضائع... كان جالسا مع "إيراد الحاج" و "أمير التوم" و "ميلود عبد القادر".
قال إيراد الحاج، موجها كلامه إلى الجميع:
مرحبا بالإخوة ااهدين.
( لم يجبه أحد )
( بيده كان يشير إلينا تباعا لنتعرف على بعضنا ) أبو "مصعب العراقي"، مناضل وطني من العراق...
وهو أحد المناضلين الذين مروا بتجربة سجن أبو غريب.
ااهد "أمير التوم" من السودان .. تحديدا من "أم درمان" ( وكأنه يريد تأكيد صحة معلوماته، فوجه
كلامه إلى أمير )
أليس كذالك؟
أجاب "أمير التوم":
وهو كذلك.
ثمّ أكمل "إيراد الحاج" كلامه:
الأخ "أمير التوم"، حارب مع شيخ ااهدين أسامة بن لادن، في حربه ضد السوفيات.
ثمّ وجه يده جهة ميلود، وأكمل:
ميلود عبد القادر، مجاهد من "تبسة" الجزائرية. لمْ يخْرج من أفغانستان، إلا ليدخل دمشق في اتجاه
بغداد.
وقد أكمل إيراد كلامه... كان الجو مشحونا بالقتامة والتوتر. فيما كان "أبو مصعب" يتأمل ملامح "أمير
التوم" باستغراب.
كان كشيخ يقترب من السبعين أو أكثر... وربما بشرته السوداء الكالحة، زادت في عدد السنوات إلى
عمره المتجعد... ملامحه الهادئة، القريبة من ملامح عرب الجزيرة، زادته وقارا وهيبة، رغم
الشيخوخة.
كان مستغربا من قدرة هذا الشيخ على تحمل مشاق الحروب، ومخاطر حرب العصابات ... بل راوده شك
في قدرته على حمل بندقية الكلاشنكوف.
انتصب "ميلود عبد القادر" واقفا، قائلا:
ما هو الحلّ الآن ؟ إقامتنا في دمشق أشد خطرا من أي مكان آخر.
رد "أيراد الحاج"، وقد وقف بجانبه مربتا على كتفه:
المسألة تفوتنا ... أفهم هذه الخطورة، وأفهم صعوبة المرحلة. لكن علينا الانتظار، فالوضع متوتر
الآن. مع ذلك، نحن في مأمن بعض الشيء.
علّقْ ت أنا أبو مصعب و دون لباقة:
أي أمن هذا الذي تتحدث عنه ؟
نعم، نحن في مأمن... لمْ يسبق لأي منا أنْ دخل سوريا، ولمْ يسبق للمخابرات أنْ كشفت إحدى الخلايا
في دمشق أو أي مدينة أخرى. علينا ملازمة الحيطة، وعدم مغادرة المكان، في انتظار التعليمات .
(أرد ت أنْ أسأل عن مصير أبي الوليد، وعن مجموعته بقرية "شيخ الحديد"، لكنني أدرك ت الفرق بين
تنظيم سياسي نضاليّ، وتنظيم ديني جهادي... )
قطع "ميلود عبد القادر"علي حبال التفكير، وكأنه يوجه كلامه إلى خوفي:
لنثق بأنفسنا... وبعون الله ما دمنا ندافع عن أمة الإسلام، فإنّ الله سيهدينا إلى السبيل القويم.
قل ت محاولا إخفاء ارتباكي:
كلنا يعرف أنّ العواصم دائما، أشد خطرا وأكثرها رقابة.خاصة بالنسبة إلى التنظيمات السرية (
موجها كلامي إلى "أمير التوم" الذي لم يشاركنا الحوار ) أنا أسأل لماذا دمشق تحْديدا ؟ لماذا لمْ نغادر
صوب وجهة أخرى؟
كأنّ "أمير التوم" فهم استنجادي به ... أو ربما تفطّن لارتباكي المصبوغ على ملامحي، لهذا علّق ببرود
لا مثيل له، ودون أنْ يبرح مكانه أو يغير من جلْسته:
المسألة يا ابني، أبسط من ذلك بكثير...( حك جبهته بإصبعه، فتعثّر الإصبع على التجاعيد ) يبدو
أنك قليل الخبرة بالحركات الجهادية . صحيح أنك مررت بتجربة سجن أبو غريب، لكن هذا لا يكفي
لتكون مجاهدا.
دع خوفك بعيدا عنك... أطْرده من داخلك.. أشنقْه في الساحات العامة، مستنجدا بكتاب الله وسنة
رسول الله.
نحن يا بني، نخوض حرب ديانات منذ أرسل الله آدم إلى الأرض... لا تستمع إلى أحاديث الإعلام و
السياسيين والصحافة المأجورة. نحن الآن أمام خيارين، لا ثالث لهما. إما أنْ ينتصر الإسلام، أو تنتصر
المسيحية ( وبسخرية ) أقصد اليهود.
سحب نفسا عميقا، وقطّب جبهته مستعدا، وبسبابته التي تعينه على قول حازم:
بسم الله الرحمان الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى في كتابه العزيز
"ولَن ترضى ع نك اليهو د ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم ُ قلْ إنّ هدى الله هو ا ُ لهدى ولئن اتبعت أهواء هم
بعد الذي جاءَك من العلْم ما لك من الله من وليّ و لا نصير"
صدق الله العظيم.
ردد الحضور بعده:
صدق الله العظيم.
حاولْ ت أنْ أغير مجرى الحوار، كي ُأخفّف عني لغة الوعظ والإرشاد:
لكن المسيحية ليست اليهودية، إما ديانتان مخْتلفتان.
دعك من هذه الخزعبلات... المسيحية في خدمة اليهودية. ولا يجب أنْ تفْهم اليهودية كدين يهودي،
وإنما اليهودية باعتبارها العصا التي يلوح ا شرذمة من اليهود، لعنهم الله.
( انتصب واقفا، معولا على شيخوخته. وأكمل وهو يتنقّل ببطء في أرجاء الغرفة الضيقة )
سأحكي لك واقعة واحدة، لتعرف حجم الصعوبات التي مرت علي ( مستدركا ) هذه آخرها.
هي مصيبة من جملة المصائب التي يبتلينا الله ا، ليختبر صبرنا وإيماننا.
يكفي أنْ تعلم يا ابني، أنني أتنقّل وأجاهد في أفغانستان منذ 1982 . تعلّم ت أنواع القتال وكلّ حيل
الحروب، وتدرب ت على جميع الأسلحة... وخبر ت كلّ جبال أفغانستان والباكستان وإيران.
أنا يا ابني، جرب ت الجوع والعطش والوحدة والاعتقال، مرة على يدي السوفيات، وأخرى على يد
القبائل الأفغانية وثالثة على يد المخابرات العسكرية الباكستانية...
آخر مرة وأنا أحاول اجتياز الحدود مع مجموعة من الإخوان تمّ اعتقالي داخل الأراضي
الباكستانية. مع ذلك حمد ت الله ألف مرة، وكن ت سعيدا.
سألْته باستغراب:
كنت سعيدا... ؟
( مبتسما ) حمد ت الله أني ُأعتقل ت في باكستان .لأنّ إخواننا هناك كثْر، ويمكن أنْ أنجو بطريقة أو
بأخرى. ولو أنّ حكومة "مشرف" لا تتوانى عن خدمة الأمريكيين، لعنهم الله. لكن ....
أسعفه "ميلود عبد القادر"، وكأنه كان حاضرا:
لكن القوات الأمريكية هي التي اعتقلتك، أليس كذلك؟
سألْ ت ميلود:
وهل كنت مع الإخوان لحظتها؟
أكمل "أمير التوم"، دون أنْ ينتبه إلى تعليقي:
هذا طبيعي، لأنّ الحدود الباكستانية تحت رقابة القوات الأمريكية، ومخابراا التي لا تنام.
سألْته:
وبعد ...؟
أجاب:
أعادوني إلى أفغانستان، وتمّ احتجازي في حفرة محفورة في الأرض بعمق ثلاثة أمتار. وغطّوا الحفرة
بقوالب من الحديد يستحيل أنْ يحملها عشرة رجال.
كن ت أتصور أم سينقلونك إلى "غوانتانامو".
( بمرارة ) هذا ما كان سيحصل لاحقا. غير أنّ الله بقدرته، أرسل ااهدين لإنقاذي. كانت ثلاث
سيارات مفخخة، كافية لطرد الجبناء من الموقع، وتمّ إنقاذي.
كان يسرد القصة، ببساطة لا مثيل لها .. لمْ يكن متأثّرا أو منزعجا أو خائفا. خلْته يحكي قصة
من الخيال الشعبي. وكأنّ تفكيري لمْ يقْتنع أنّ هذه الواقعة أشد وقْعا من تجْربة بسجن أبو غريب.
كيف يمكن أنْ تكون تجْربة هذا الشيخ، بحجم معاناتي داخل ذلك الماخور، أقْتدي بأوامر المومسات
الأمريكيات، وبقوة السوط وركْل الأحذية العسكرية؟
كيف تتقبل واقعة يجبر فيها "الشيخ الضاوي" على أنْ ينكح ابنته ونساء أخريات بالقوة، وتحت البصاق
والركل والصفْع ... وهو الإمام الخطيب بأحد مساجد بغداد؟
باستحضار قصة "الشيخ الضاوي"، قرر ت أنْ أحكيها للإخوان علّهم يتعضون أو يدركون أنّ غيرهم من
المناضلين في أرجاء الأرض يعانون مثلهم أو أكثر منهم.
"الشيخ الضاوي" كان رجلا مخلصا لعلْمه، ولطلابه. وحتى في ظلّ حكومة صدام حسين، لمْ يد ع مرة في
خطبه للقائد بالنصر وطول العمر... بل كان مقْداما وثابتا، له من الوقار ما يجعله محترما و مهابا من
الجميع.
ولعلّ الحكومة العراقية لمْ تؤدبه زمنئذ، إلا لأنّ سلطته الروحية تتجاوز مدينة بغداد، إلى كل المدن
السنية، لم يكن معارضا قطّن ولكنه لم يهادن ولم يتمسح على عتبات حزب البعث.
علّق "ميلود عبد القادر":
لعن الله صدام حسين وأمثاله ..
وسأل "إيراد الحاج" بتهكّم، وكان يعد كأسا من اليانسون:
ومن أمثاله؟
أجاب ميلود ضاحكا:
لعنهم الله جميعا ... لا أستثني أحدا.
لمْ أستسغْ هذه التعاليق، رغم قناعتي بصحتها، وأكمل ت :
تمّ اعتقال "الشيخ الضاوي" بعد سقوط بغداد بشهرين. وأدخلوه إلى سجن أبو غريب باعتباره
إرهابيا.هذا لأنه لم يكف عن التحريض ضد الأمريكيين.
( فركْ ت جبهتي كي أستعين ا على التذكّر ) دخل عليه بعض الجنود، وعصبوا عينيه، ثمّ أدخلوا عليه
ابنته معصوبة العينين، وأجبروه على أنْ ينكحها. ففعل تحت قرع سياط ووخز العصي الملساء.
كان عاريا تماما، وكانت ابنته كذلك... لما فكّوا عصابته من على عينيه، كاد يفقد وعيه، وقد رأى ابنته
ورأى الجندي الأمريكي يصور المشهد اتفه الجوال.
استحضر الله وملائكته ورسله واليوم الآخر... استحضر الأنبياء جميعا، فحضروا... طغت غشاوة على
عينيه، وارتمى على الحائط يدك رأسه فيه، حتى سالت دماه، وسقط مغشيا عليه .
.....................
جلس "أمير التوم" إلى الأرض حاجبا وجهه بكفّيه، كأنه يحجب دموعه أو خوفه، مرددا :
أستغفر الله... أستغفر الله... اللهم لا رد لقضائك.. اللهم أهلك وشتت جمعهم.
فأجبنا جميعا :
آمين ... آمين يا رب العالمين.
أكْملْنا ليلتنا، نتسامر ونناقش قضايا المنطقة وأخبار ااهدين في أفغانستان وفلسطين والعراق.
وكن ت مع امتداد الحوار، أكْتشف جهلي بشؤون الجهاد وأخبار السياسة والمناضلين... لمْ أكن أعرف من
الوضع، غير الساحة العراقية الضيقة التي لا أخبرها جيدا.
لمْ أجارِ الجماعة في سعة ثقافتهم الدينية ولا السياسية.
فأنا لمْ أكن رجلا متصوفا، ولمْ تكن لي ميولات تنظيمية، سياسية أو دينية قبل سقوط بغداد.
كن ت مجرد موظف بسلْك الشرطة العراقية، أيام حكم البعث في العراق. أتقاضى مرتبا يكْفيني أنا
وزوجتي وابني " عاكف "، لنعيش دون خصاصة.
وعلى علاّت حزب البعث الكثيرة، لمْ يكن يخْطر ببالي أنْ أفكّر في شيء آخر غير العمل وقوت العائلة .
معولا على انضباطي وتفانيّ في العمل. فأنا من عائلة كردية استقرت ببغداد، وبنت علاقات اجتماعية
كثيرة. ولمْ تثْبت مخابرات حزب البعث، أننا عائلة منشقّة أو مرتدة أو لها مشاكل وانتماءات. لذلك
ساعدتني الوساطات على دخول سلك الشرطة. وكن ت واثقا أنّ أي خطإ قد يؤدي بي إلى السجن أو
الإعدام.
.... وسقطت بغداد ...
دخلت القوات الغازية، وحلّت أجهزة الأمن والجيش، وأصبح ت بين عشية وضحاها عاطلا و مشردا
و مهددا ... ولم تكن الفوضى السائدة إثْر سقوط بغداد، تسمح بالتحرك أو الشكوى أو اُلمطالبة.
لمن ؟ وبمن ؟ وكيف ؟ وأين ؟
أنت الآن في غابة، لا تعرف فيها عدوك ولا صديقك... لا تعرف الشيعي من السني من الكردي من
اليزيدي من العربي من الأفغانيّ من الأمريكي من ....
لا تعرف المناضل من المنافق من السمسار من العميل من...
أنت الآن لا تعرف الفرق بين الوجه والقفا.
وكانت ليلة القبض على صدام حسين، هي ليلة قصف القوات الأمريكية لحي الأعظمية ببغداد، حيث
أقطن. ودم بيتي مع كلّ بيوت الحي ااور... دمت حياتي كلّها..تحطّم الأمل في داخلي... فقد ت
زوجتي وابني الوحيد... فقد ت الإيمان والثقة والصبر...
وقد بان الخيط الأبيض من الأسود، ولم يتبعه آذان صلاة الصبح ككلّ صباح. فلربما صارت المساجد
عصفا مأكولا أو صار المشائخ و الأيمة جثثا تضيف للشوارع مشاهدها الدموية... كن ت ملْقى على
الأنقاض أنبش التراب بأظافري، علّي أعثر على أحدهما حيا...دون جدوى. وقد نسي ت أنني لمْ أشكر
الله على نجاتي بأعجوبة. وما الفائدة من نجاتي، وقد فقد ت عائلتي؟
بلْ ربما تمني ت، لو كن ت معهما لاسترح ت من العذاب. لمْ يكن بعدها بإمكاني أنْ أفكّر في الحلم...
أحلامي التي حقّقْتها، صادروها أو هدموها أو قصفوها أو... لا م الوسيلة ما دامت النتيجة واحدة.
...................
نصف الغرفة الباقية من المنزل، هيأا من جديد. مستعدا لإعادة تشكيل خارطتي، وبوصلتي
واتجاهاتي... لا بد من الحلْم... لا بد ...
من لا حلْم له، لا مستقبل له... لا هوية له... لا شمس له تشرق من أجله وتغيب...
إذن... سقطت بغداد... ُأحتلّ العراق...دم بيتي... ودمت بيوت كثيرة... فقد ت عائلتي...
وعائلات كثيرة شردت...
ماذا تبقّى؟
هلْ نبقى ننتظر الحكومة القادمة؟ هلْ نندس كالفئران في جحورنا مخافة القتل والاعتقال والتعذيب؟
هلْ نبقى كالقردة نرقص في الشوارع، ليضحك الجندي الأمريكي، ثمّ يطلق الرصاص على مؤخراتنا؟
ماذا تبقّى؟
........................
ونحن نعقد أول اجتماع سري، لتأسيس خلية سميناها "مجاهدي الأعظمية " بمنزل
"الشيخ الضاوي" بعد خروجه من سجن أبو غريب... والذي أشيع أنه فقد عقله بعد واقعة هذا السجن.
وصدق كلّ أهل بغداد هذه القصة.
...ونحن نعقد أول اجتماع، كنا نحلم بالنضال وطرد العدو ونصرة قضيتنا... فقط إذا توفّر السلاح.
أجاب "الشيخ الضاوي":
لا تشغلوا بالكم بموضوع السلاح ... لنا ما يكْفي لتسليح جيش بأكمله.
( وأكمل موجها كلامه "لحسين البنا" )
أنت بالذات عليك بالحذر أكثر... تثبت من المعلومات جيدا.. ولا تسرع في نقْلها إلينا، إذا كانت هناك أي
مجازفة.
أنت موظّف بالشرطة العراقية، وأي خطإ قد يوقعنا جميعا.
سألْ ت الشيخ:
متى نبدأ عملياتنا؟
أجاب بوقار:
عملياتنا ستكون قليلة . لكنها ثابتة ودقيقة.
حسين يعمل في جهاز الشرطة، وله كامل المعلومات والأخبار عن تنقّلات الأعوان و مواقعهم.
يعني... أننا سنتحرك وفْق المعلومات التي ستصلنا من حسين.
( أرد ت الكلام، لكنه قاطعني )
الأسلحة موجودة وجاهزة... والذخيرة كذلك .ندعو الله أنْ يوفّقنا و يسدد خطانا، ويحيى العراق.
( أجبنا جميعا )... آمين.
انفض اْلس، وخرجنا ُ فرادى بكامل الحذر والحيطة، في انتظار التعليمات.
كنا نجْتمع كلّ مرة دون أنْ نتخذ أي قرار لتنفيذ أي عملية ضد القوات الأمريكية أو العراقية .
نجْتمع، لنتأكّد من إخلاص اموعة وانضباطها . وكان "الشيخ الضاوي"، هو نفْسه من يعلمنا بموعد
الاجتماعات ومكاا.
يبدو وهو يتنقّل في الأزقّة والشوارع بلباسه الفضفاض الرثّ، وقبعته اُلمتكلّسة بالغبار والأوساخ، كمعتوه
لا يعيره أي عابر أي اهتمام، عدا الشفقة.بل لم يعد أحد يمنحها إياه... يسر كمتسول أو معتوه بين
بيته وعتبة مسجد فجره انتحاري شيعي ولم يبق منع غير واجهته المطلية بالسواد. لما تبصره يتنقل
حافي القدمين رثّ الثياب، لحيته كأا عش عناكب يعلوها غبار وبياض ليس بياض الوقار بالضرورة، و
لا يتردد أبدا على أن يتوسد عتبة مسجد أو حانوت أو رصيف. فحتى الأطفال لم يعد يعيرونه أي
اهتمام، فلكل مشاغله وهمومه. ولا سخرية من متسول، فالشعب كلّه يتسول المال أو الشرف أو الكرامة.
مع ذلك يكمل مهمته الهادفة ويواصل قيادته للمجموعة.
وفي كلّ مرة نجتمع كان "حسين البنا" حاضرا بيننا، يسرد علينا تموقع الشرطة العراقية، وتنقّلاا
ومواقعها.
كنا ثمانية،لا يجمع بيننا غير الوطنية، وحب العراق .إضافة إلى أننا من نفْس شارع الأعظمية، رغْم
أننا لم نكن نحمل نفْس التوجهات والقناعات والإيديولوجيات.
وكان "الشيخ الضاوي"، بنفْس لباسه الذي لا يغيره، حتى أثناء اجتماعاتنا.. كثيرا ما يكرر:
دعوا انتماءاتكم جانبا... أريد أنْ تضعوا العراق نصب أعينكم وفي قلوبكم.
ولمْ نكن ننتبه إلى أهمية هذه الجملة دائما، إلا متى اشتد الصراع بين الشيعة والسنة. حينها فقط،
فهمنا أنّ المقاومة لمْ تنتصر في حرا إلى الآن، بسبب هذا التشرذم.
مع ذلك كانت خليتنا ملتزمة بمبدإ "الدفاع عن العراق"، وترك الانتماءات جانبا. رغْم أنني كن ت موظّفا
بحزب البعث.. و"سركس" مسيحي له انتماء شيوعي مع "لقْمان صاحب" و "باقر الربيعي". فيما ينتمي
"سليمان عبد العزيز" و "جواد الشريف" إلى حزب البعث اُلمنحلّ.
أما "حسين البنا" فكان موظّفا، ولا يزال بسلْك الشرطة العراقية التي أسستها الحكومة العراقية اثْر
سقوط بغداد، وهو سني . عكس "عادل الطيب" من أصل شيعي. وهو أستاذ جامعي بكلية بغداد...
ونحرص على مناداته بالدكتور أثناء حديثنا، لما يتمتع به من قدرة على الخطاب والتواصل وتحليل
الأوضاع السياسية، بأساليب فلسفية مذْهلة. تجعلنا ننتبه إلى خطابه دون قدرة على مجاراته، بنفْس
نسقه الفلْسفي.
في اجتماعاتنا الأولى، كنا نلتقي لنتحاور ونرصد مواقف التيارات الحزبية والمذهبية والشوفينية
والمليشيات والفصائل و... لنمر على سياسات القادة، نشرح أقوال الحكيم، وتصريحات الصدر، وتعليقات
المالكي و علاوي وخليل زاد... وصولا إلى خطابات بوش ورايس ورامسفيلد وبشار الأسد وأحمدي نجاد
.....
لأعود إلى بيتي اُلمتربع على الرماد والركام، أراجع آخر الليل جملة النقاشات والمواقف والآراء... أعيد
صياغتها وتحْليلها، ثمّ أحتضن حلْما بتدمير آلية عسكرية أو زرع لغم لقافلة أمريكية أو توجيه صاروخ
لثكنة أو شاحنة أو كمشة من الجنود... مع أنني شديد التحفّظ من استهداف أفراد الشرطة العراقية.
وقد كن ت خلافا لبقية عناصر الخلية، رافضا استهداف المواطنين العراقيين في الشرطة أو غيرها. فيما
يعتبر البقية أنّ رجال الشرطة عملاء، ويخْدمون مصلحة الهيمنة الأمريكية.
وكان الدكتور "عادل الطيب"، يدافع عن موقفه بالقول:
إنّ هؤلاء لا يعملون تحْت إمرة حكومة عراقية شرعية. وطالما أنّ الحكومة غير شرعية باعتبارها
شرذمة من البيادق، و تحركها السياسة الأمريكية... فإنّ كلّ من يعمل معهم أو تحْت إمرم، فهو عميل
يستحق التصفية.
كان الدكتور مقْنعا وثابتا في كلّ مواقفه وتحليلاته، عدا هذه ... عدا استهداف المواطنين
العراقيين. ومع معارضتي له، إلا أنني لمْ أصرح بموقفي أمام كلّ أفراد التنظيم الذين اقْتنعوا بصحة
تبريره، مخافة أنْ ُأخون أو ُأطرد من تنظيم " مجاهدي الأعظمية".
كن ت أجتر كلّ هذه المواقف وتلك، وأنا أخلد للنوم، محتضنا مسدسي الذي ورثْته عن نظام صدام
حسين.
وفي ليلة من ليلي العراق الفحمية المظلمة، بدا الصف يتضاعف وبوتيرة اشد عنفا و وحشية. حتى
انتابني إحساس أا ليلة تشهد مخاض واقعة فاصلة.
وفي الليلة الفاصلة التي سبقت الإعلان عن اعتقال صدام حسين، كان القصف الأمريكي أشد وقْعا من
أي قصف حضاري آخر... لم ْدأ أصوات الصواريخ وأزيز الطائرات العسكرية والمروحيات... ليلة لا
تشبه كلّ ليالي بغداد، منذ احتلالها. ولمْ أجد سببا واحدا يجعلني أخلد للنوم.
شغلْ ت الراديو الصغير بجانبي، دون أنْ أشعل الفانوس النفْطي، وأرسل ت أصابعي تفتش عن علبة
السجائر... أسند ت ظهري إلى ظهر السرير، وأشعلْ ت سيجارة ل تعينني على التذكّر أو على النسيان.
و فجأة .............
صعقني الخبر، ورجتني الكلمات اُلمنبعثة من صوت أجش لقارئ الأخبار، وهو يتلو عناوين النشرة:
"الزرقاوي يلقى حتفه في قصف أمريكي على مخْبئه"
سحب ت نفسا عميقا من سيجارتي وأخمدا بداخلي.
وأنا أسحب جسدي من تحت الغطاء لأتربع فوق السرير، محاولا الانحناء أكثر إلى الراديو للتأكّد من
الخبر . وأكمل قارئ الأخبار:
"... وقد سبق للزرقاوي أنْ أسس مع "أبي محمد المقْدسي" جماعة بيعة الإمام بمدينة الزرقاء سنة
1995 ، و ُ قبض عليه من قبل المخابرات الأردنية ليودع السجن، محكوما عليه بخمسة عشر عاما. لكنه
استفاد من عفْو ملكي بعد أربعة سنوات، ليغادر الأردن في اتجاه أفغانستان فاختفت أخباره. مع ذلك
ُألْصقت به مة اغْتيال الدبلوماسي الأمريكي "لورنس نومي" سنة 2002 .
وقد ظهر الزرقاوي بعد ذلك في العراق كزعيم لتنظيم القاعدة، بعد أنْ بايعه أسامة بن لادن، إلى
حين قصف مكانه بعد عملية مخابراتية أمريكية أردنية ."
مدد ت يدي بتشنج وخوف لأكتم صوت جهاز الراديو، غير مستوعب للحدث ولا مصدق.
وفي الحقيقة لم أكن من مناصريه ولا من مناصري تنظيم القاعدة، مع ذلك كن ت متعاطفا معه، لأنه
ضد الأمريكيين... أنا مستعد للتحالف مع الشيطان، إنْ كان سيساعدني على تحْرير العراق.
ألْقي ت سيجارتي على مربعات الغرفة، ودستها بساقي دون أنْ أنتبه إلى الألم الذي ألْحقه
بقدمي...مدد ت يدي لأتناول سيجارة أخرى وأشعلها وأحاكيها:
هل المقاومة في طريقها إلى التصفية بمثل هذا الشكل؟
هلْ قَدرنا أنْ نموت، إما فقراء أو مضطهدين من حكوماتنا أو مهانين من الدول الطاغية؟
هل الاحتلال فعلا أرحم من طغيان صدام حسين ؟ أم أنّ هذا الأخير أرحم من الاحتلال الصليبي؟ ثمّ
من نقاوم؟ لمن نوجه أسلحتنا؟ من هو العدو؟ لماذا متى؟ كيف؟ أين ؟
كلّها أسئلة لا زالت تتخبط في أحشاء مخيلتي، دون أنْ تجد ترتيبا أو إجابة أو شرحا ... كن ت فقط
أطرح على مخيلتي أسئلة ليست قادرة على الإجابة عنها أو استيعاا.
................................
على غير العادة، ودون تحضير مسبق جاءني طرق على باب بيتي المكْشوف من جوانبه الأربعة.
كان طرقا خفيفا و منتظما، كقرع حبات الخرز و هي تسقط متتالية على الإسفلت.
وحينها حضرت حفْرة صدام حسين ومخبأ الزرقاوي والقوات الأمريكية والخونة والجواسيس وأبو
غريب و ...
لمْ أستوعب الطرق جيدا، لذلك كتم ت أنفاسي، وفتح ت نافذة التنصت على آخرها .. تتالت الطرقات،
فأجب ت بارتباك وخوف:
من ...؟
حمورابي..
عادت قطرات الدم لتتجمع في وجهي، وعادت إلى قلْبي دقّاته وعاد النبض... "حمورابي" .. إنه
الشيخ الضاوي .
"حمورابي"... الشفرة السرية لنقْل أخبارنا وإبلاغنا بمواعيد اجتماعات التنظيم وتوقيته. أجب ت:
حاضر... حاضر...
أشعلْ ت الفانوس، وتحسس ت مسدسي من تحت وسادتي، مخافة الخيانة. واتجه ت إلى الباب أفتحه،
بعد أنْ أزح ت قطعة الخشب التي كانت تعينه على الصمود.
دخل "الشيخ الضاوي" محملا بحذره وانتباهه، بعد أنْ أطلّ من الباب على الشارع، وقد دس جسمه في
فضاء الغرفة.
أوصد الباب، ودون أنْ يجلس، قال بحزن باد على ملامحه الراقصة على ضوء الفانوس:
هل سمعت آخر الأخبار؟
بالطبع ( وبِأسى ) أستشهد الزرقاوي. مع ذلك لس ت مصدقا الخبر .. ربما تكون مجرد دعاية
للاستهلاك السياسي.
لا يهم ... مهما كانت الأسباب، سنلْتقي بعد ساعة بنفْس المكان.
هناك أشياء طارئة ولا بد من مناقشة بعض المسائل ... واضح ؟
آه نسيت أن أقول لك أنّ عادل الطيب كان معي في البيت قبل دقائق، وقد دار نقاش بيننا وتعالت
أصواتنا، وكدنا أن نتعرى.
ما المشكلة؟
تعرف أنّ رجال الفلسفة ربما لهم مواقف معادية من الحركات الاسلامية.
تقصد اليسار؟
تماما .. قال لي بالحرف الواحد "الزرقاوي ككل الانتحاريين جميعا ينشدون جنة موهومة".
دعك من هذا يا شيخ، نحن لا نشك في وطنية عادل الطيب، رغم قساوة خطابه .. ليس هنا اال
للحديث حول الخلافات... علينا برص صفوفنا الآن، عد وسألتحق بك.
خرج متخفيا كشبح، فيما أوصد ت الباب دوء وحيطة.
...................
حضرت بذهني كلّ هذه الأحداث، وأنا لا زلْ ت ممددا على ظهري كخنفساء أثقلها ظهرها..لا زلْ ت ممددا
بنفْس الغرفة التي جمعتني"بميلود عبد القادر" و"أمير التوم" و "إيراد الحاج".
كان كلّ واحد منا، ملْقى في زاوية ينبش أوراق ماضيه، ويفتش في حاضره عن صور وأحداث يتزيا ا أو
يبسطها أمامه كنبراس ينير له الدرب أكثر.
لمْ تغمض جفوننا، ولمْ يعد لنا ما به نوشح سهرتنا... رغْم أنّ كلّ واحد منا له في جعبته ما يستهلك
أطنانا من الورق ووديانا من الحبر.غير أنّ محاسبة الذات، والحديث معها و محاورا وسؤالها
وتعريتها... كان ضروريا لكلّ واحد منا.
تتفرس في العيون والملامح، فلا ترى غير الحيرة والقلق... ترى النقْمة والقيء والكفْر بالواقع العربي
المتشظّي ... أقول "العربي"، ويقول ميلود وأمير : "الإسلامي " ... والنتيجة واحة.
فقط كان "أمير التوم" ثابتا ورصينا، ولا يحرك نظراته في المدى. فلا تبدو عليه الحيرة والقلق ...
ربما بسبب جرعات التجارب التي شرا أو مصاعب الجبال والأسلحة والمعارك التي خبرها.
بقينا على حالنا تلك، ثلاثة أيام ننام ونصحو على العمليات الجهادية وأخبار الإخوان والساسة
والوضع العراقي والأفغاني وحال الحكومات الكرتونية والبوليسية والعسكرية والكافرة والمستكْفرة...
ننام ونصحو.. دون أنْ نبرح أمكنتنا، عدا لقضاء حاجة بشرية أو للقيام للصلاة.
ولا أحد منا يسمح له بالخروج من المنزل غير إيراد الحاج .. يخْرج ليغيب ساعة أو أقلّ بكثير، ويعود
محملا بالخبز وبعض الخضار، وبصحف سورية ودولية، لمتابعة آخر الأخبار.وكنا حريصين على اقْتناء
جريدة "البعث" السورية، لرصد آخر الأخبار الداخلية.
في اليوم الرابع بعد صلاة الظهر، غادرنا إيراد الحاج كعادته، فيما بقينا جلوسا، نناقش تأثير
انتصار حزب الله على الكيان الصهيونيّ.
علّقْ ت على الحدث:
هذا انتصار للعرب لم يتحقق منذ زرع الكيان الصهيونيّ في المنطقة. ومن الضروري الافْتخار ذا
النصر ودعمه.
أجاب أمير التوم، برصانته المعهودة وبلهجة أقرب إلى المصرية:
هو انتصار لأمة الإسلام... انتصار لكتاب الله وسنة رسوله... هو بداية انتصار كلمة الله على
الأرض.
قاطعه ميلود عبد القادر بتشنج، حاول أنْ يخفيه:
عفْوك يا شيخ أمير... أنا أعارضك فيما ذهبت إليه... ما قامت به المقاومة اللبنانية، هو انتصار لا
يمكن أنْ ننسبه لا للعرب ولا للمسلمين...
قاطعه أمير التوم:
فهم ت مقصدك.. تقصد أنه انتصار للشيعة ؟
بالطبع... هو انتصار للهلال الشيعي... انتصار لإيران الفارسية..
طيب... لو خيروك بين أنْ تكون شيعيا أو يهوديا، ماذا تختار؟
( لم يجب )
لم تجب... مع ذلك أوضح لك التالي: لا بد في كلّ مرحلة جديدة من إستراتيجية جديدة... يعني
للحروب تكتيكها الخاص.
( طأطأ رأسه وأكمل )
كلنا يعلم أنّ الشيخ أسامة بن لادن، تعامل مع الأمريكيين للقضاء على اُلملحدين السوفيات ... وكان
وقتها تعامل حتمته المرحلة. لأنّ الخطر الشيوعي حينها أهم وأكبر من الخطر الأمريكي أو الأوروبي أو
المسيحي.
أما الآن وبعد دحر العدو السوفياتي عن أفغانستان غير التنظيم قواعد اللعبة، ووجه فوهة
بندقيته للأمريكان واليهود. لا يهم من يحارب، ألأهم أنْ يندحر العدو.
( موجها إليّ كلامه )
أليس كذلك يا أبا مصعب؟
أجب ت مساندا موقفه:
أوافقك الرأي... مع ذلك لمْ تنتبه الأحزاب والفصائل الفلسطينية لمثْل هذا الوقف. انخرطت في
صراعاا الداخلية، بين حماس ومنظّمة التحرير، واَستنزفت كامل قواها التي من المفْروض أنْ توظّف
ضد النازيين اليهود.
علّق ميلود، وكأنه يراجع موقفه بعض الشيء، وهو يمسح لحيته الطويلة:
ما يهم الآن، هو أنْ ينتبه الإخوان إلى خطورة المرحلة... أنْ ينتبهوا إلى المشاريع الأمريكية و
الصهيونية التي تمررها الحكومات العربية في المنطقة.
لهذا لا زلْ ت أحترم حكومة دمشق إلى الآن، رغْم كلّ شيء. فهي صامدة حتى هذه اللحظة، رغم
السقوطات المتتالية.
الصمود لا يكفي طالما انذ الشعب السوري يعاني الذلّ و الهوان.
طال الحوار بيننا حول حزب الله وفلسطين وسوريا ولبنان و.... ولمْ ننتبه إلى تأخر إيراد الحاج
لمدة فاقت الساعتين.
علّق "ميلود" حائرا:
أتمنى من الله عز وجلّ أنْ يكون المانع خيرا...إيراد تأخر كثيرا هذه المرة.
رد أمير التوم:
إنْ شاء الله يكون بخير ...
( أغمض عينيه، ورفع يديه إلى السماء داعيا )
اللهم أنصره واَحمه.. اللهم ألْق على أعينهم غشاوة واَجعلهم لا يبصرون.. اللهم بك نستجير، فأجِره..
آمين يا رب العالمين.
فرددنا بعده:
آمين يا رب العالمين.
وأطبق الصم ت المَشوب بالخوف والارتباك... لمْ نضف كلمة واحدة بعد "آمين". انطوى كلّ واحد إلى
داخله يفتش في جيوب ذاكرته عن معاني الخوف والشك والريبة.
وإنْ كان "أمير التوم"، لمْ تظهر على تجاعيد وجهه تلك الحيرة... كان يتمتم على الأرجح، بتلاوة
القرآن لما أبداه من خشوع وثبات.
ومثلت بذهني لحظة القبض علي بحي الأعظمية ببغداد، بنفْس غرفتي اُلمحاطة بالخراب و الركام.
لحظتها، لمْ يسعفْني الوقْ ت بسحب مسدسي، ولا حتى نفْض الدهشة عن مخيلتي. رغْم أني لمْ أكن
أغطّ في نوم عميق.
وكان الفنان الشيخ إمام، يلْقي ببحته المعهودة أدران الوجع العربي وقيئه:
شيد ُ قصورك ع المزارع
من كدنا وعرق أيدينا
والخَمارات جنب المَصانع
والسجن مطْرح الجنِينه
واطْلق كلاَبك في الشوارع
واقْفلْ زنازينك علينا
...........
لحظة واحدة، كانت كافية لخلْع باب الغرفة واحتلالها. دون أنْ تتمكّن أصابعي من الوصول إلى
مسدسي...
لحظة واحدة، كانت كافية لتوجه نحو صدغي عشر فوهات مدافع رشاشة. ولم أستطع التكهن بعدد
الفوهات خارج البيت الآيل للسقوط .
لحظتها لا زال الشيخ الضرير يصدح:
أحنا اتوجعنا واكْتفينا
وعرفْنا مين سبب جراحنا.
لمْ أستطع لحظتها تحت الإنارة الخافتة للفانوس أنْ أميز الأمريكي من العراقي. كيف لي أنْ أميز،
وأنا كالأرنب تحت الإنارة الساطعة ؟ كعصفور جريح تفْصله عن مخالب الصقْر دقّة قلْب واحدة.
تقدم أحدهم، و بلهجة عراقية واضحة وبذيئة:
تسمع الشيخ إمام أيها الكلب ؟ أليس الأجدر بك أنْ تستمع لأسامة بن لادن أو الزرقاوي أو السيد
قطب ؟
لمْ أحرك ساكنا، ولمْ أجبه عن كّمه. فكلّ الإجابات لن تكون مقْنعة . ولن تثني بقية الغيلان
الأمريكية والعراقية عن العبث بالغرفة، وتحْويلها إلى مزبلة... أساسا لا شيء ا غير الأثاث القديم
وملابسي، وصورة زوجتي "سها" وابني "عاكف"، وصورة وحيدة للقائد صدم حسين، التي لمْ أنتبه إلى
أنه خلع من السلطة، ولمْ أخلعه من الجدار.
أحد رجال الشرطة العراقية، فك الصورة بعنف من الجدار ،وألقاها على الجدار المقابل فتهشمت.
فيما أفرغ الثاني ثلاث رصاصات في الصورة، وكأنه يتمنى أنْ يفرغها في صدام مباشرة.
فتشوا الغرفة، فلم يعثروا على شيء، عدا مسدسي الذي يحمل رقما، يشير إلى الشرطة العراقية قبل
سقوط بغداد.
تسلّمه أحد رجال الشرطة ... قلّبه بإعجاب، ودسه في جيبه . فيما تكفّل البقية بتقْييدي ووضع
عصابة على عيني، وقادوني إلى اْهول... إلى أبو غريب.
وأنا في الطريق كن ت أسأل نفْسي، هل تهمتي ستكون الانتماء إلى حزب البعث المحضور أم تنظيم القاعدة
الإرهابي ؟ لا فرق، فالنتيجة واحدة.
............................
فيما لا زلْ ت أمرر شريط الذاكرة، دخل "إيراد الحاج" إلى المترل، مستعملا مفتاحه لفتح الباب
الخارجي.
كانت ملامحه تخفي خبرا ما... ولم تكن مشيته ثابتة كعادا... ألْقى الصحف على الأرض، وواصل
سيره نحْو المطبخ ليضع ما اقْتناه من خضر هناك.
قطعنا حبال أفكارنا وانتبهنا... والنظرات تبحث عن المشهد الذي يمكن أنْ تعلّق عليه حيرا.
حلّ "إيراد" بيننا... أشعل سيجارة كان الوحيد المسموح له بتدخينها ، فهي ن الموبقات كما يقول الشيخ
أمير التوم و بارتباك فاضح رغْم الابتسامة التي حاول أنْ يرسمها على وجهه وراح يقْطع مربعات
الغرفة بخطوات مرتبكة وحذرة ... تسمر فجأة .. سحب نفسا عميقا من سيجارته ... التفت إلينا
محدقا في كلّ واحد منا ونطَق:
وصلتنا آخر التعليمات.
رد الشيخ "أمير التوم ":
هذا سبب تأخرك، أليس كذلك ؟
وهو كذلك..
إذن، أين المهمة القادمة؟
...............
لماذا هذه الحيرة ؟ نحن سخرنا لخدمة الإسلام والمسلمين ... سننفّذ مهمتنا أينما كانت وكيفما كانت
... وسيسدد الله خطانا ويحمينا بعونه .
( سحب نفسا عميقا ) ونعم بالله ... المهمة القادمة باريس.
انتفض ت كطائر الفينيق من رماده، وتساءلْ ت:
ما لنا وباريس ؟ لماذا باريس ؟ لماذا أوربا ؟ نحن نحارب في العراق وفلسطين وأفغانستان ... ما الذي
يدفعنا إلى الذهاب لأوربا؟
رد "إيراد":
تلك أوامر القيادة أبا مصعب... تعرف أننا ننضوي تحت لواء تنظيم دوليّ، ولا بد من التقيد
بالأوامر... لذلك...
أراد أنْ يكمل حديثه، غير أنّ إشارة من"أمير التوم" بطرف عينه "لإيراد"، جعله يتوقّف عن الحديث.
وفهم ت أنّ حرجا ما سقط من السقْف على رؤوسهم... كأنني خرج ت عن التنظيم بسؤالي ذلك.
فهم ت لحظتها أنني لا بد أنْ أنفّذ الأوامر لا غير.. لا أقرر عوضا عن أحد، ولا حتى عوضا عن نفْسي...
لا أسمع ... لا أرى.. لا أتكلّم.
أنا إذن تلك الآلة التي تبرمج لتنفيذ مهمة وكفى. و لكنني لمْ أترك بسؤالي ذلك لإيراد إمكانية
إكمال حديثه عن دواعي الذهاب إلى باريس ؟ وماذا سنفْعل في باريس ؟ ولماذا في هذا التوقيت ؟
لماذا ذهب بي الظن، أنني سأحارب الجيش الفرنسي أو الشعب الفرنسي ؟ لماذا لا يكون خروجنا من دمشق
إلى باريس هربا أو إستراتيجية أو تكتيكا ما لا بد من إتقانه؟
مع ذلك استغرب ت، لماذا لم يسأل أي من "ميلود" أو"أمير" عن سبب خروجنا إلى باريس؟ لماذا ؟ هل
تراهما فهما الدور المنوط بعهدتنا، ولم أفهمه لقلّة خبرتي بالتنظيمات والجهاد؟
حاول ت إصلاح الخطإ، بأنْ كشر ت عن أسناني مبتسما، وألقي ت ملاحظتي دون أنْ أدرك عواقبها :
كم تمني ت لو كانت المهمة القادمة في تلّ أبيب.. هذه أمنيتي.
كن ت ولا زلْ ت أدعو الله أنْ يحققها لي.
لحظتها أدركْ ت أنّ الطُّعم الذي ألقيته، كان كافيا ليغفروا لي خطئي أو سوء فهمهم لي ...علّق الشيخ
"أمير التوم":
الحمد لله ... لمْ تخيب نظري فيك. خبرتي بالرجال في هذا العمر لا تسمح لي بأنْ أخطأ في
تقييمهم.
اسمعني يا ابني.. أقول لك يا ابني هذه المرة، لأنني مطالب أنْ أعمل خبرتي وشيخوختي كي تفهمني .
مهما كبرت، ستبقى شابا على الدوام، وسنبقى في حاجة إلى خبرتك.
لا يهم كلّ هذا المديح .. المهم يا ابني أنْ تعرف ماذا تريد من الدنيا الفانية ؟ ولماذا أنت في هذه الدنيا
؟ ولماذا أنت خليفة الله في الأرض؟
نحن يا ابني، سخرنا أنفسنا طمعا في الآخرة لا في أموال الدنيا... وأنت تعرف أنّ شيخنا أسامة بن
لادن، كان من أكبر أثرياء المسلمين . لكنه فضل أنْ يسخر ماله ذاك لخدمة الإسلام، ولخدمة الجهاد
ضد الكفار و الملحدين. ولو اختار غير ذلك، لأمكن له أنْ يعيش في بذخ لا حدود له... لكن الدنيا
كالجسر نبنيه لنعبر إلى بر الأمان.
أرد ت أنْ أبرر سوء الفهم:
يا شيخنا أنا...
( قاطعني ) لا داعي للتبرير... نحن سنعبر معا إلى أوربا. وإذا أرد ت الانسلاخ، فيمكنك أنْ تبقى في
دمشق.
( موجها كلامه لإيراد )
متى سنغادر ؟
رد "إيراد"، وهو لا يزال واقفا:
فجرا... الثالثة صباحا نتوجه إلى الحدود التركية، ومنها إلى اليونان بحرا... ومن أثينا سندخل
باريس عبر البر.
تدخل "ميلود عبد القادر"، موجها كلامه إلى إيراد:
وأنت...؟
رد " إيراد " بأسف ترقْرق في حدقتيه:
أنا سأبقى في دمشق .. هذه أوامر القيادة .. من الممكن أنْ أسهل التحاق بعض الإخوان بكم في الأيام أو
الأشهر القادمة.
وهل ثمة من سيلْتحق بنا؟
هذا وارد ... ثمّ أنني إذا غب ت عن دمشق، بعد انتهاء العطلة المرضية التي أتمتع ا، فإنّ ذلك سيثير
الكثير من الشكوك حولي، وقد تتحرك الكثير من المياه الراكدة.
المهم علينا الاستعداد من الآن، حتى نلتزم بالوقْت و بالتعليمات.
(طأطأ رأسه وصمت قليلا وأكمل)
سأبقى مع "أبي مصعب"، وربما هو من سيلتحق بكم، هذه فرضية قد لا تصح.
الفصل السادس
المثقف يحرق أصابعة
بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، كن ت ألازم اليسار، أمشي بخطوات بطيئة وغير واثقة ... أنفث
دخان سجائري في الأشجار التي فقدت بريقها . لم تعد الأشجار تحْتفي بالطيور الراقصة كلّ مساء،
ولا بالصحف اليومية وبائعي الورد والشعراء الذين يبحثون عن بطاقة بريدية لحبيبام أو وردة
لكسب ود مومس أو اقْتناء كتاب أو جريدة لإكمال مشهد البروتوكول الثقافيّ ...
لا شيء من ذلك...
أرى الشارع مكتظا... راقصا... فرحا... رغم المهمشين والشعراء والبوليس السياسي.
لا شيء من ذلك...
بات الشارع خاويا ووحيدا يشكو للطيور اُلمحلّقة فوق أرجائه، صنيعة الإنسان في تحويل الجَمال إلى
ُ قبح.
كن ت أرصد المارة دون الانتباه إلى ملامحهم، عدا ما تخلّفه أنثى من عطر كحوليّ بأنفي، أو ما يلقَى في
الأبصار من لحم غض يكاد يرتمي عليك ليفْترس نزوتك.
توقّفْ ت قليلا أمام مقْهى باريس... وصلتني رائحة الجعة واستحضر ت موعدا كن ت عقدته مع "
لطفي". الأكيد أنه ينتظرني الآن بمقهى "الرانديفو" ... هل أخلف موعدي؟ أم أكسر شهوتي؟
ماذا لو راوغْ ت الوقْت، فشرب ت بعض الكؤوس، وأسرع ت لملاقاة رفيقي ؟
عرج ت على المقْهى... انزوي ت وحدي في ركن دون أنْ أنسى وضع علبة السجائر على الطاولة.
أسرع النادل نحوي، ليغير منفضة السجائر، ويمسح الطاولة قال:
صباح الخير.. تفضل.
ثلاث بيرة من فضلك.
أشعل ت سيجارتي، ولم يتأخر النادل كثيرا ...سكب ت كأسي الأولى وسقي ت ا دمائي الظمأى، وعقْلي
الشارد. كانت وهي تزحف في شراييني، تثير تقززا حلوا في مسام الجلد ... فتنتابني قشعريرة خفيفة،
نفضت ما بداخلي من روتين الجسد المتهالك.
سحب ت كنشي من جيبي الداخلي، ومددته على الطاولة، علّي أخطّ بعض التجاعيد أو أضمخ وجه
أوراقه ببعض الحبر الفاتر.
سكب ت الكأس الثانية... سحب ت نفسا من سيجارتي بكلّ الغلّ الذي بداخلي، وتركْ ت لظهري فسحة
للاتكاء على ظهر الكرسي الخشبي الأشبه بالأريكة...
كان الإرهاق يأخذ مني فرحي ذا الصباح... أحاديث البارحة مع "لينا" وأختها
"ماجدة" والكلام عن فلسطين والعمليات الجهادية...كانت ليلة مرهقة. لمْ أبك... لكن بكاء "لينا" ، نقَلَ
مخيلتي القاصرة إلى الأحياء القصديرية والمخيمات والفقر الفلسطيني، وتكرش الساسة وأصحاب
الصفقات.
يقينا، لو خرج هذا الشعب من المصيدة اليهودية، سيكون أعظم شعب في التاريخ. شعب افتك بامتياز
شهائد الرحيل والترحال وجرب بلدانا عديدة، وتنقّل عربيا وأوروبيا وآسيويا ...
الفلسطيني يتقن عديد اللغات، وامتزجت حضارته بحضارات عديدة.
أشعل ت سيجارتي ثانية، محاولا نفْض هذا الغزو الفلسطيني لذاكرتي اُلمرهقة، فحضر درويش:
كم أنت حر أيها المنسي في المقْهى
لا أحد يرى أثر الكمنجة فيك
لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك
أو يدقّق في ضبابك إنْ نظرت
... إلى فتاة وانكسرت أمامها
بالفعل لا أحد يحملق في حضوري، غير...
وكأنه كان يفتش في داخلي... اقْترب مني دوء وثبات، ثمّ جلس ُ قبالتي:
هل أجلس ؟
( دون اهتمام ) تفضل.
لمْ أعره اهتماما، رغْم أنّ قولة سارتر حضرت بعنف، كمن يلقي زجاجة حارقة على حقل من
الورد:
"الآخر هو الجحيم".
لماذا اختار هذه الطاولة تحديدا؟ لماذا أنا؟
حملقْ ت في الورقة البيضاء بالكنش، وشرع ت أخطّ عليها أشياء كخطوط مائلة أو منحنية ... دوائر...
مربعات... سطورا... نقاطا... أحرك القلم على الورقة، دون انتباه أو إدراك بما أرسم أو أخطّ...
علّق الجالس قبالتي:
هل أنت كاتب ؟
لا
إذن أنت صحفي؟
لا
هل تقيم بالعاصمة؟
لا ... أقيم في جنوب الصومال.
ودون أنْ يمنح لعقْلي مهلة لهضم تعليقي الفج، رد بانضباط:
بطاقة التعريف.
( ضحكْ ت دون أنْ أفتح فمي ) لا أعتقد أني أملك بطاقة تعريف.
إذن، تفضل معي.
إلى أين ؟
سأعلمك لاحقا .
ومن سيادتكم ؟
بوليس...
.....
حملقْ ت فيه بعيون خاوية تتقد فيها قطرات الجعة القارصة، دون أنْ أبدو مستغربا من مشهد يتكرر
باستمرار.
فيما سحب محفظته الصغيرة، مثبتا أمام بوتقة إبصاري بطاقته المهنية، موشاة بنجمة ذهبية
ساطعة... خلتها لحظتها بستة ضلوع، فعزم ت على الاحتجاج لأتراجع وألقي له بطاقة هويتي على
الطاولة.
قلّب البطاقة بتمعن، مراوحا بصره بين صورتي اُلمثبتة على البطاقة ووجهي اُلمثبت فوق هيكلي. وقال
بتهكّم أو استغراب:
أنت إذن موظّف ؟
( بسخرية ) موظّف ؟ ما رأيك ؟
لحْيتك لا تليق بموظّف.. ذه الشكل ستكون عرضة للتتبعات . ( مد لي البطاقة، وض )
تحسس ت لحْيتي بأناملي، فحضرت "غوانتانامو" وعمر عبد الرحمان ... مع ذلك يتباهى الماركسي
بلحيته.
أي مفارقة هذه؟
قلب ت ورقة الكنش، وحاولْ ت أنْ أرسم وجه ماركس وبجانبه أسامة بن لادن.
حملقْ ت في لحية كلّ واحد منهم فلم أجد فرقا.
إذنْ، كيف يعرفون أنّ هذه اللحية لماركسي، والأخرى لإسلامي؟
ألقي ت القلم بإهمال على الطاولة، ومزقْ ت الورقة، لأكتب :
"لحية بن لادن هي لحية ماركس".
لحظتها، وأنا أكتب الجملة، فكّر ت أنْ تكون عنوان مقال، ربما أشرع في كتابته ونشره بإحدى الصحف
التونسية. وإنْ كان هذا المقال سيثير حفيظة "لطفي"، وسيتهمني بأنني تنازلْ ت عن أفكاري التقدمية أو
ربما....
حينها رنّ هاتفي الجوال:
ألو صباح الخير لطفي.
صباح الورد والياسمين ... ( قالها بتهكّم ) مواعيدك دوما دقيقة... الساعة العاشرة والنصف.
نصف ساعة تأخير لا تغير العالم .
بسرعة أنا في انتظارك .
لطفي ... رجاء لا تقطع علي خلوتي... أنا بمقهى باريس . حاول أنْ تأتي، وإلا لا تنتظرني.
( بدهاء كثيرا ما يغلّف كلامه ) إذن أنت مع إحدى الجميلات لا...أنا بصحبة البيرة .. حاول أنْ
تأتي.. أحتاجك.
نصف ساعة، أكون بجانبك.
أكمل ت المكالمة وأعد ت الجهاز إلى جيبي، وكانت السيجارة اُلمتكأة على حافة المنفضة قد خمدت
أنفاسها إلى الأبد .. دفعتها بسبابتي إلى قاع المنفضة، وأشعلْ ت أخرى.
أكملْ ت القارورة الثالثة، محاولا أنْ أمسك اللحظة الهاربة... أنْ ُأدون على هذه الأوراق نزقي وفوضاي.
هي اللحظة وحدها تخيط لنا أزرار أصابعنا... شروخ لغتنا الهاربة إلى النهر: إلى دجلة مثلا ...
الفرات... الليطاني... على علْمنا أننا "لا نسبح في نفْس النهر مرتين".
... نبح ُ ث عن لغة، ا نضمخ أوراقنا وهزائمنا وتصدع أجسادنا وعقولنا ..
قد لا نجد اللغة والكلمات، مع ذلك ننتشي باصطيادها في حلم اليقظة. لذلك نتركها للصدفة، علّها
تحْضر دون إذن... أو تدخل بيوتنا عنوة.
أنا الآن أبحث عن المعنى في كؤوس الجعة ومنفضة السجائر والبوليس السياسي والسمكات الميتة
قرب نافورة شارع حكومي.. أبحث عن المعنى في الوردة اُلمتثائبة على قارعة الطريق... في نجْمة تفتح
غوايتها للسكارى الساهرين، تحت فوانيس الشوارع..
المعنى، هذا الذي يهمس لي شاعر أنني لن أجده.
إذن لماذا البكاء يا صديقي ؟ لماذا نوشح جهدنا بمعاطف البحث عن لذّة زائلة، أو غائبة؟
إنني لا أرى ما يستوجب البحث والبكاء... على علْمي باحتراق أصابعنا اُلمعدة للإنارة، وسقوط
زقْزقاتنا صرعى في فخاخ الثعالب.
إنني لا أرى ما يستوجب البكاء أيها الشاعر... أيتها الرائعة "لينا"... أيها العظيم "إيراد الحاج " أيها
الرفيق
" لطفي " ... لا أرى ما يستوجب البكاء.
فرغْم احتراق حواف الجهات والخرائط المعدة سلفا للتعديل... أرى النار في موقعي، تأتي على كلّ شيء
... أراها ترقص كالأشباح النازلة من كواكب أخرى. تأتي على الزرع والحجر والبيوت والعباد
والأشجار..تأتي على الملوك والحكام والجيوش والدول والبحار... أراها إسفلتا يتقد غليانا، كأنه يوم
الحشر:
اللهم ابتدإ التخريب الآن
فإنّ خرابا بالحق
بناء بالحق
هكذا لغّ الشاعر بمقهاه تلك بدمشق.
وأما الآن، فأرى النمل يزحف إلى أفواه الموتى، بعد معارك الخبز والكرامة والحدود واللاجئين
والمخيمات والشرف و .. و ...
منا منِ يدفن خارج المعركة، ومنا من ين ب ت في أفْواهنا قصائد أو أغاني أو ينب ت قضبانا لشدنا لأعماق
الطين.
أنا الآن أحادث القلم الممدد على عجزه... هو الكلام المضمخ برائحة الخازوق... هو الكلام اُلمتسربل بما
يوشح قبور الصبية الطيبين، ماتوا اختناقا بروائح الفسفور الأمريكي والصهيونيّ.
هكذا يموتون، ونموت أحياء وغرباء على طاولات الخمر أو على أوراق الحبر أو على العجز...هنا أو
هناك ...
......................
وصل النادل إلى الطاولة، لرفْع القوارير الفارغة، قل ت:
اثْنتان من فضلك.
وشرعت أشاغل الورقة تكْملة لعنوان : "اللحية عند بن لادن وماركس"، وكتب ت:
"الصراصير مسالمة جدا... تضحك كثيرا مثْل جهلنا، لكنها تضحك بخوف أشبه بخوف لحْية من
العلْمانية.
الصراصير هنا، تجْتهد لبناء مسارح للنباح الحضاري، و سدودا تعين مجاري الصرف الصحي على إغراق
المدن الفاضلة.
بالطبع، لا مدن فاضلة الآن وغدا مع ذلك فهي تتوقّع ثورة الشعراء والفلاسفة واليساريين
والإسلاميين والحقوقيين... كأنْ يحرق شاعر أصابعه الكريستالية، إيذانا بالاعتصام، كما تحرق
المنظمات اُلمناهضة للعولمة إطارات السيارات في الشوارع العامة ... كأنْ يؤسس أحد الفلاسفة نظرية في
الإرهاب، على غرار فلْسفة القوة أو فلسفة الجسد أو فلسفة الوعي ... كأنْ يهدم يساري مصنعا لشركة
متعددة الجنسيات... كأنْ يفجر إسلامي نفْسه بحزام ناسف، أمام إحدى السفارات المحْشوة باُلمؤامرة...
تساءلْ ت : لماذا لمْ أسمع بانتحاري فجر نفْسه أمام أحد المواخير اُلمنتشرة على كامل أرضنا العربية،
الملأى بالفقْر والأوبئة والجهل ؟
كأنْ ............."
رتب النادل قوارير الجعة على الطاولة، وغير منفضة السجائر، فقطع علي حبل أفكاري.
دخل "لطفي" يسبقه بطنه الذي لمْ يتقلّص حتى بفعل الاعتقالات العديدة.
وقفْ ت لأسلّم عليه، مرحبا:
أهلا رفيقي .
أيها الشقي، كعادتك تخْلف مواعيدك...
( مقاطعا ) نحْتاج أشياء أخرى أهم من المواعيد... أما الانضباط، ففرطْ ت فيه لرجال الأمن...
المهم...
أين "سامي" ؟ لمْ أره معك ؟
له بعض الالتزامات مع فرقته المسرحية . ومع ذلك تحدثْ ت معه عن مشروعنا، وأبدى استعداد.
إذا، أنا وأنت و"سامي" و"كريمة" و "لزهر" و" مراد".
... يكْفي ... في انتظار أنْ نضع النقاط على الحروف. المطلوب الآن ... عمليا ماذا علينا فعله؟
وكأنه لمْ ينتبه إلى كلامي، وهو يشير للنادل كي يأتيه بالجعة، ثمّ علّق:
فكْرة "اتحاد كتاب بديل"، تستدعي كثيرا من الوقْت والجهد. مع ذلك نبدأ بإصدار البيانات في
الصحف أولا .
ولنبدأ بجريدة "الشعب".
.. ثمّ نستعد لإصدار مجموعة شعرية لكلّ الأعضاء . وتكون كلّ مجموعة مقدمة لها ببيان شعري...
وتكون النصوص مختارة بدقّة، و تعبر عن المرحلة.
نحْن يا رفيقي، نريد نصا مغايرا و مختلفا... تكفينا شعارام وتمسحهم بالعتبات، على غرار : "موت
الإيديولوجيا" و "الفن للفن" ...
( قاطعني ) لي فكرة أخرى ...
ما هي؟
كلّ نصوصنا التي ستنشر لاحقا، يجب أنْ توقّع باسم صاحبها، وتحْته "اتحاد كتاب الرفْض". وكلّما
انضافت عناصر جديدة، تلْتزم بذلك.
رائع.. فكرة جيدة.
( مازحا ) كلّما كنت قريبا من الخمر، تصير أكثر قدرة على التفْكير.
( وصل النادل، ورتب قوارير الجعة أمامنا )
... بالمثل علينا تناول النصوص ذات الفكر التقدمي بالتحليل والنقْد، والاشتغال عليها، على غرار
نصوص محمد إقبال ومعين بسيسو وعبد العزيز المقالح وسميح القاسم ومظفر النواب و...
... وممدوح عدوان وأمل دنقل والبياتي ... هذا مهم ...عادة ما نستشهد بكتاب وفلاسفة، لهم مواقف
انهزامية أو ينخرطون في لعبة البلاطات.. ونضيف مهاجمة هؤلاء وفضحهم.
( وأنا أسكب له كأسا من البيرة، أكملْ ت : )
أنا أعتقد أنّ اتحاد الكتاب التونسيين، صار كالرجل المريض ... يجمع أشباه الكتاب، وأشباه الشعراء
ليجملوا الصورة الثقافية، ونبدو ك مجتمع مدنيّ حقيقي.
( تناول حقيبته، وسحب بعض الأوراق، رتبها أمامه )
سأقْرأ لك آخر نصوصي..
هذا أفضل ... صدقْني "لطفي"، أحتاج أنْ أسمع بعض الشعر.لأخرج من هذه البوتقة المظلمة ... أشعر
باختناق لا مثيل له .. كأني الآن مسجى على صليب، وسط ساحة معدة لإعدامي.
حسنا ... حسنا، اسمع:
أنت أيها اُلمدرج
وأنت أيها الحزن الطوي ُ ل
مدر ُ ج الحزن الطويلْ
وآيات الله أطْولَ
والصرخات تزعج مريم
والأنبياء والخرافة
........
كان يقْرأ قصيدته من صفحاا العشر، كمن ينزف حبرا. يرفع يده ال يسرى أو يثْنيها... يمد أصابعه...
يلوح بإبهامه... يقْبض على الريح... يبسط كفّه ...
فيما كن ت أركّب صورا ووقائع ومشاهد على كلماته، كي يكْتمل النص.
رغْم أنه لمْ يكن قارئا جيدا لنصوصه... بل قادرا على حشوها بأصابع الديناميت و الإيديولوجيا
الفاضحة.
"لطفي" لا يحركه الشعر ... بل تحركه السياسة. بل يجعل شعره جسرا لأفكاره اُلمفخخة . وأنت
تستمع له، كأنك تقْرأ بيانا لحزب العمال المحضور... هكذا يبدو لي، وإنْ كن ت ُأخطئ أحيانا كثيرة في
حكمي.
قلْ ت له عديد المرات:
دعك من السياسة الخاطئة، واكْتب الشعر... مارس فعل الكتابة بعنف. إنّ تكوينك الفلْسفي يمنحك
نوافذ كثيرة و متعددة للقول.
يمكن أنْ تقول بالنص ما لا يمكن أنْ تقوله في البيانات والترهات.
ربما... مع ذلك فالنص لا يقْدر على تغيير العالم، إلا إذا اتكأ على السياسي ... هكذا يقول "قرامشي"
دعك من "قرامشي" ... بصدق، هلْ تعتقد أنّ الفكر اليساري له القدرة الآن على أنْ يفتك مكانه من
جديد ؟
بالطبع... جدلية التاريخ لا تسمح بالثبات والتوقّف.
الحقيقة أنّ الفكر اليساري لم يظهر أبدا، لأنّ دورة التاريخ لم تكْتمل.
( قل ت ساخرا ) وكيف تكتمل سيد لينين؟
يجب أنْ يدرك النظام الرأسمالي ذروة أزمته.
... هو أدرك ذروته، لكّنه لم يدرك الأزمة .بل تخلّص منها إلى العولمة.
ومن أدراك أنّ العولمة، ليست أحد وجوه الرأسمالية ؟
لا ... لأنّ العولمة هي مرحلة متقدمة على الرأسمالية ... هي عملية نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي
إلى دول الأطراف، بعد أنْ كانت ثابتة ومحصورة في دول المركز .وهذا ما كان ليحصل في أوج النظام
الرأسمالي المعروف. وأذكر أنّ الفيلسوف صادق جلال العظم في كتاب "ما العولمة ؟ "، يعرفها
كالتالي:
"هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي إلى هذا الحد أو ذاك إلى الأطراف بعد حصرها
طوال هذه المدة كليا في مجتمعات المركز و دوله"
..................
كان الحوار أطول من مجرد نقْله على صفحات الذاكرة الضيقة... كان أعمق من السرد والتحليل.
لليلة كاملة نخوض في هذا الحوار الذي يبدو عقيما.
... نعم كان عقيما، لأنّ مفهوم العولمة، لم تتضح معالمه إلى الآن، وإلا لما وجدت الدول المتخلّفة نفسها
تتخبط في هذه الفوضى .
وقد ذكّرني هذا الحوار بمفهوم "الإرهاب" الذي لم يتضح، ولم تسع أطراف دولية إلى توضيحه أو
تفْسيره.
لا زلْ ت أحلّق بخيالي فوق الأقْبية التي صنعناها من حوارنا ليلتها... إلى اللحظة التي توقّف فيها
"لطفي" عن قراءة النص، محملقا في بعض الكلمات غير الواضحة، محاولا أنْ يتهجاها، فانتبه ت.
أصلح الكلمة بقلمي اُلملقى على الطاولة، وأكمل:
...............
الهلع الهل ع
إنْ زحف الويل على م دني
أشعلْتها
وإنْ حاصر ال غزاة وطني ذات فجيعة
لا أرح ُ ل هربا
أكمل النص، وتذكّر سيجارته التي خمدت أنفاسها... فأشعل أخرى، ثمّ مر للكأس يسقي حلْقه،
وعلّق:
ما رأيك ؟
( بتأفّف ) لس ت في حالة تسمح لي بإبداء رأيي، ولس ت قادرا على مناقشة أي فكرة هذا الصباح...
يكفيني أنني استمعت .
( محاولا رفْع معنوياته ) ربما نناقشه في جلسة أخرى... فقط أريد أنْ أسألك عن عنوان النص.
العنوان: العنكبوت.
( مد لي النص )
اقرأه على مهل، وأعطني رأيك فيه... عندي نسخة أخرى منه.
طوي ت الأوراق وغمستها في جيبي، ثمّ أعد ت ظهري ليستريح على ظهر الكرسي .... فاصطدم بصري
بسيدة تجلس منفردة على الطاولة، تمسك بسيجارا بين أنامل كالعنبر، كأا تمسك عودا من الند...
وعلى حواف كأسها ُ طبعت شفاهها القرمزية .
نظرا الذابلة، أثارت في داخلي كثيرا من الغرائز الحيوانية، وحين أطلْ ت النظر ابتسمت وشرعت
تحرك سبابتها اليسرى على حافة الكأس بحركات جنسية فاضحة ...
ابتسم ت، فانتبه "لطفي" مديرا عنقه إلى الخلف، ففضح نزوتي قائلا:
تستحق الانتباه.
مغرية حقّا... لكن لا بيت أخلع فيه نزوتي.
وإذا ساعدتك؟
تكون رفيقي بحق
حسنا ... بيت الرفاق مفتوح: "نجيب" في السجن كما تعلم، و "الفاهم" عاد إلى قريته... لن يعود
قبل الخميس، المهم أسرع واستمتع بحياتك قبل وصول حركة النهضة إلى السلطة.
جيد ... حينها سأدخل متسللا إلى خليلتي بنقاب ( قلتها بمكر ممزوج بالفرح )
سأغيب نصف ساعة لأجلب علبة سجائر... في الأثناء تكون قد أوقعتها في شراكك أيها الإمبراطور (
وبمكر ) وادفع ثمن البيرة.
فيما ض " لطفي " ومعه حقيبته التي لا تفارقه...عدلْ ت جلْستي، وأشعلْ ت سيجارة موجها
انتباهي وعيوني إليها.
انتبهت، فأشر ت إليها بطرف العين ... تناولت كأسها وعلبة سجائرها الأمريكية، وقدمت نحوي...
انحنت علي وقالت:
هل أجلس؟
بالطبع... بالطبع، يسعدني ذلك.
جلست ُ قبالتي كزهرة عباد الشمس، يسبقها صدرها اُلمتشنج وشفاهها العطْشى، وهي تتكلّم كأنّ
مياها تنساب فجرا نحْو مصبها... محاولة أنْ ترفق كلّ جملة بضحكة فاضحة مغرية، تحرك فيّ كلّ
يمي. محاولة بين الحين والآخر إبعاد خصلة من شعرها تدحرجت فوق عينها اليسرى، بحركة رشيقة
تتبعها بحركة من رأسها، فتنتفض حبات صدرها، وتكاد تخْرج وتستريح على الطاولة.
لم تدرِ الساعة دورا كاملة، حتى كن ت وإياها في مترل الرفاق المحْشو في أزقّة المدينة العتيقة، وقد
غادرنا "لطفي".
بالغرفة الوحيدة الملأى بالكتب وأشرطة الكاسات والجوارب وعلب الجعة الفارغة ... كن ت أمر على
الأشياء : صورة "لجيفارا" وأخرى"لبوب مارلي" ومعلّقات لرابطة حقوق الإنسان ومنظمة العفْو الدولية
... صحف ومجلات ودوريات، ملقاة دون ترتيب على الأرض وبعضها على رفوف من خشب شدت بقضبان
طويلة.
... لا مكان هنا للأسرة... فقط حشايا ووسائد ممدودة وسطَ غرفة كسجن.
فيما كن ت أتصفّح بعض الكتب، وأقرأ بعض الكراسات... كانت " منية" قد خلعت سروالها " الدجيتر"
وسترا، مكتفية بلباس داخلي شفّاف يسترها إلى ما فوق الركبتين، كاشفا عن نصف صدرها العلْوي...
تمددت على الأرض، وأشعلت سيجارا بإغراء شديد.
دون أنْ ألتفت إليها وأنا أتصفّح مجلّة "أطروحات" سألتها:
منذ متى بدأت هذه التجربة؟
( ابتسمت بمرارة ) ولماذا تسأل؟
بالطبع لس ت عميلا سياسيا، ولس ت رجل أمن... مجرد سؤال، يمكنك أنْ لا تجيبي عنه.
( تنهدت ) لا أعرف بالضبط .. ما أتذكّره، هو أنّ زوجي تعرض إلى حادث مرور بسيارة مجهولة...
يشاع أا لرجل أمن.
( قاطعتها ) وهل أنت متزوجة؟
تقريبا... تزوج ت عاملا بسيطا .. ( نفثت دخان سيجارا في سقْف الغرفة ) مع ذلك، كن ت سعيدة
رغْم الفقر، وأنجب ت منه طفلا.
وبعد ...؟
... حادث المرور أفقد زوجي ساقه اليمنى، وقطعوا ساقه اليسرى بعد ستة أشهر إثر إصابتها
بالسكّري.
( حملقت في السقف كأا تستلهم منه ماضيها ) زارنا صديقه، واقترح علي أنْ أشتغل معه في دكان لبيع
الملابس الجاهزة.
وبعد ..؟
سألتها، متنبئا أنّ القصة مشوقة... ألقي ت الّة من يدي، وجلس ت على صندوق خشبي، بعد أنْ أشعلْ ت
سيجارتي وانتبه ت.
بعد أنْ رفعت تنهيدة كانت جاثمة على أنفاسها، أكملت:
كان لا بد من العمل، لأعيل زوجي وطفلي والغرفة اُلمتداعية التي نقْطنها على وجه الكراء، شهر واحد
فقط كان كافيا ليغدق علي صديق زوجي الهدايا والأموال، ثمّ أوقعني في شراكه. وصار يعاملني
كعشيقته، ثمّ أصبح يعرضني على أصدقائه ...
( قاطعتها ) بالطبع زوجك لا علْم له بالموضوع ؟
لا أعتقد ... كانت الأموال التي أقدمها له والملابس التي كن ت أرتديها و العطورات الفاخرة و .. و ..
لا يمكن أنْ تقْنعه أا من أجرتي التي لا تتجاوز المائة دينار.
المهم....
ُأطرد ت من العمل بتهمة السرقة، بعد أن عثر صاحبه على خليلة أخرى. وكان لا بد أنْ أكسب المال بأي
طريقة، ولو بالرجوع إلى الزبائن الذين كان يعرض عليهم جسدي... وهكذا إلى أنْ ُ قبض علي في مترل
أعد للزناء.
( تدحرجت دمعات إلى خدها، ولم تحاول منها )
لمّا خرج ت، كان زوجي قد توفّي وابني لا أعرف مكانه إلى الآن.
وها أنا الآن أطوف من بيت إلى بيت، ومن مقهى إلى مقهى، ومن سيارة إلى أخرى...
انتفض ت كمن تعثّر بقطّ أسود، متجها إلى الكتب اُلمرصفة بلا نظام، وشرع ت في تصفّحها : رأس
المال... مدن الملح ... شرق المتوسط... اللجنة... سارتر ... فوكو ... درويش... نيتشه ... سان جون
بيرس... صادق جلال العظم ...
انتصبت " منية "، واقتربت مني... طوقتني بيديها من خصري، وألقت رأسها على كتفي:
هل ستبقى تتصفّح الكتب ؟
الكتب أهم ...
وأنا... ؟
أنت...ارتدي ملابسك...
( سحب ت عشرة دنانير من محفظتي الصغيرة، ومددا لها بلطف )
لماذا تعاملني ذه الطريقة؟
لا تفْهميني خطأ... أنا في حالة نفْسية يرثى لها، وزادت قصتك في تكْديري. أنت لا تعنيك سعادتي أو
نشوتي... ما يهمك هو المال.مهنتك هي قح ...
أكمل لماذا صمت؟ نعم هي مهنتي... إذا لم تتوفّر لي مهنة أخرى. لا يهم إنْ تاجر ت بجسدي، إنه جسد
فان، فما حاجتي به ما دام بإمكاني أنْ ُأنفق منه أو بواسطته.
دعك من كلّ هذا ... خذي هذه الورقة، وغادري حالا.
وانشغلْ ت عنها بالمكتبة، إلى أنْ غادرت. ألقي ت ما بيدي على الحشايا، وقد أثارني كلامها عن الجسد،
فحضر النواب:
نخبك... نخبك سيدتي
لمْ يتلوث منك سوى اللحم الفاني
فالبعض يبيع اليابس والأخضر
و يدافع عن كلّ قضايا الكون
ويهرب من وجه قضيته
نخبك... نخبك...
أنت التي فهمت الجسد، ولم أفهمه.. للمرة الثانية أنفرد بسيدة ولا أسقي حقولها بمياهي الدافقة ...
للمرة الثانية لا يطاوعني جسدي أو ربما عقلي الذي يحضر فيفْسد الاحتفال.
كن ت مع أخرى ذات ربيع بمناسبة تظاهرة ثقافية، أحضن بتلات جسدها الناعمة، وهي ممددة بين
ذراعي... طفولتها تحاول أنْ تقاوم ثورة جسدها الغض، دون جدوى. انتصبت حبات الرمان تحت
أصابعي، وهي تزداد ارتخاء كلما مرر ت شفاهي على خدها أو عنقها أو... كد ت...
غير أني رفض ت أنْ أكون فاتح أرضها. علّي إذا ما فتح ت، أشرع ت كلّ الأبواب والشرفات على حدائقها
فتنتهك.
غير أا عكس هذه المومس، ما تلوث منها كان أكثر من اللحم الفاني . صارت كمضغة بدبر بغل، مباحة
للجميع.
هذه المومس كغيرها من مومسات عديدات، يقعن بفعل حبائل الفقر ... وما أشدها. أما التي
استحضرا فلا هي واعية بما تفْعله ولا الفقر هدها... فعرضت جسدها للبيع. هي أشبه بفراشة أينما
سطعت إنارة ارتمت لتحرقها.
حضرت " فاطمة " كأي امرأة يمكن أنْ تحضر دون إذن، فتجادلها أو تحادثها أو تمقتها أو تتمنى أن
تحتضنها أو تقتلها...
انتصب ت واقفا ... تناولْ ت ورقة بيضاء وكتب ت عليها:
"رفيقي لطفي ... أنا غادر ت العاصمة في اتجاه مدينتي، ومعي ديوان بابلو نيرودا ... أعيده لك في
زيارتي القادمة".
وضع ت الورقة على الصندوق الخشبي وحمل ت الكتاب، مخلّفا ورائي رائحة عطر نسائي ونزوتي .
الفصل السابع
مبادلة الرهينة
لا زالت سيارة الشرطة التي تقلّني إلى حي ُ ث لا أدري، تطْوي الأرض طيا.
كن ت أشعر بذلك من خلال صوت السيارة اُلمرتفع، وسهام الريح الوافدة إلى الداخل من نافذة لمْ توصد
تماما.
لم أستطع أنْ أحدد المدة الفاصلة بين ركوب السيارة وتوقّفها... رغْم أا مدة يمكن أنْ تتجاوز الساعة
بقليل.
توقّفْنا... وتمّ إنزالي برفْق كما اعتقد ت، ولم ُأبارح مكاني. حينها سمع ت أحد الذين رافقوني،
يقول كمن يوجه كلامه إلى من يبعد عنه عشرين مترا بحدسي فقط خمّن ت ذلك، رغْم العصابة التي
ما زالت تحْجب عني الإنارة، قال:
الأمانة عندنا الآن.
أجابه آخر من الجهة الأخرى:
وهذه أمانتكم بعون الله.
لمْ أفهم معنى الحوار تماما... فقط وخزني أحدهم من ظهري، قائلا:
تقدمي إلى الأمام.
تقدم ت بخطى بطيئة، محاولة تحسس الطريق بأصابعي التي أمدها أمامي ل تعينني على تلمس
اللاشيء، ودقات قلبي كبوصلة لا تشير إلى شيء... تدق كإيقاع طبل منتفخ بصوت الحرب.
لم أكن واعية، هل أنا أسير بمفْردي أم بصحبة أي كان، أو كن ت أقا د دون علمي إلى هاوية ما.
.... قرابة دقيقة أو أقلّ من المشي، أمسك بي أحدهم من كتفي وهو يقف أمامي، قائلا بصوت مختلف
لمْ أعهده كأنه صوت شيخ يحادثني أو يحادث نفسه:
جيد... جيد جدا.. ( ووجه كلامه إلى آخر لم أتبينه ) خذوها إلى الداخل بسرعة.
بعد ساعة قضيتها بغرفة أشبه بقاعة مسجد، مقيدة اليدين والساقين وقد فكّوا عن بصري
عصابتهم.. وصل شيخ عليه وقار ورهبة، مع أنّ عيونه تشع إباء وحدة. جلَس قبالتي على كرسي
خشبي، وقد مد سبحته ليحرك حباا دوء وخشوع... أو ربما كانت السبحة بيده ولم أنتبه .
عدل من جلْسته قليلا بعد ما يقارب الدقيقة من الصمت، دون أنْ يرفع عيونه نحوي، وقال:
أنت الآن في رعاية تنظيم القاعدة ببلاد الرافدين.
لمْ أشعر بخوف شبيه بخوف هذه اللحظة، ولا أتذكّر أنّ خوفي أسرع في شراييني كالنمل. ثمّ حفَر
تحت الجلد، ليصبغ على وجهي ارتباكا لا مثيل له.
كثيرا ما سمع ت عن تنظيم القاعدة والإرهاب و 11 سبتمبر و"أسامة بن لادن" و
"الظواهري"... وأذكر أنه في كلّ مرة تحضر هذه الأسماء، يحضر الخوف والفجيعة والرهبة وترتفع
درجات الحيطة في دول أوروبا وأمريكا إلى مستوى السقْف. فما بالك بامرأة وقعت الآن في شراكهم.
وبعد لحظات من الصمت، أكمل:
لن نعاملك كما عاملك حزب البعث البائد.وبعون الله ستكونين بخير ...أنت فقط رهينة للضغط على
أعداء الله.
حينها فقط فهم ت أنّ وجهتي حولت من تنظيم إلى تنظيم آخر بالمبادلة أو بعنوان صفقة ما.
وكيف سأعامل وأنا بين براثن تنظيم القاعدة ؟
ما الذي سيفْعله بي أبناء "الزرقاوي" وأحفاد "بن لادن"؟
كيف سأكون بخير ؟ وأنا لا أعرف مصيري، وما الذي سيحصل لي ؟ هل ُأعدم بحبال الإسلام الإرهابي ؟
أم ُأرمى بالرصاص وألقى إلى كلاب الشوارع؟
هل يذْبحني "الزرقاوي"، كما ذَبح تلك الرهينة الأمريكية أمام شاشات العالم ؟ أم ينهشون لحْمي الغض
المغري، كما تغتصب مومس، وقد وقعت بأيدي عصابة منظمة ؟
كأنه ألقى سبحته إلى بوتقة تفكيري لترصد خوفي وأسئلتي... أو أبصر خوفي في عيوني الحيرى،
وهي تمْسح المكان علّها تعثر على بصيص من أمل يخرجها من القفص اُلمحاط بالفخاخ.
قال دوء لا مثيل له:
قل ت لا تخافي، بعون الله لن يمسسك ضر.
ض إلى خزانة خشبية بلا أقفال، وتناول منها لباسا أسود ألقاه بجانبي، وأكمل:
عليك الآن أنْ تستري عورتك، لتكوني أختنا في الإسلام.
وعلى علمي باللغة العربية، إلا أنني لمْ أفهم ماذا يقصد بالعورة... لم ُأصادف هذا المصطلح من قبل
. فسأل ت بارتباك:
لم أفهم ....
( مبتسما ) ارتدي هذا اللباس العراقي، وغطّي رأسك... هذا كلّ شيء.
وقيدي ..؟
آه ... فهم ت... سأفك قيدك، وأتركك لخمس دقائق.
( أشر ت برأسي علامة اُلموافقة، ولم أعلّق ).....
تقدم مني وفك أسري، ثمّ غادر الغرفة ليعود وقد ارتدي ت ملابسي العراقية السوداء، ولم أسأله
وهو يعيد القيد إلى معصمي، إنْ كان لون اللباس دلالة الحزن، أم هو لباس تقْليدي متداول.
وقبل أنْ يغادر الغرفة، أشار بسبابته إلى كتاب كان ملقى على طاولة صغيرة، وقال لي:
بجانبك كتاب الله العزيز، يمكنك قراءته . أنت لست على طهارة، مع ذلك قراءة القرآن أفضل من
تركه.
لمْ أنتبه إلى كلامه، ولمْ أعر لكتاب القرآن انتباها... وتنفّس ت الصعداء عندما خرج، كأنّ حجارة
بحجم جبل كانت جاثمة على صدري.
اتكأ ت إلى الحائط، محاولة أنْ أغالب رغْبة جسدي في النوم. فالمكان لا أمان به، ولا يمكنني أنْ أثق
ؤلاء.
كلّما أخذني النوم قليلا، أرى سكاكينهم تمْتد إلى عنقي... أرى بنادقهم... أرى الأحزمة الناسفة
والسيارات اُلمفخخة... أرى محطات الميترو بلندن، تتناثر إربا... أرى الأبراج تتهاوى كنجمة
محترقة...
مر بذاكرتي لحظتها، حجم الفجيعة التي أصابت والدي وهو يتابع أحداث 11 سبتمبر... ظلّ ممسكا
بسيجارته والطائرات تصطدم الواحدة تلوى الأخرى، كأنك أمام مشهد سينمائي خادع ُأعد له جيدا.
فيما لا يزال اُلمحلّل السياسي يعلّق على الحدث، كان والدي منهارا على الأريكة دون حراك. غير أنه بعد
يوم واحد، صار متفائلا ومبتسما، كأنّ ما حدثَ البارحة كان مسرحية.
لمْ يعد مهتما و منشغلا بالحدث وبالعملية الإرهابية، عدا ما كان يلغّ به أمام مجموعة من الحقوقيين
اليهود، كلما اجتمع م في مترلنا... يناقشون آخر الأحداث ومواقف الدول الكبرى والدول العربية
وحتى بعض الخونة من اليهود.
وعلى خلاف والدي اُلمنشغل بالأنشطة السياسية والثقافية... كن ت لا أهتم بغير عملي بفرع منظّمة
الأمم المتحدة للإغاثة. لا أبدو سياسية، ولا أفهم كثيرا في الإيديولوجيا والأحزاب، عدا ما يتوفّر
للمواطن العادي.
أما والدي فهو العضو الناشط بحزب الخضر، ورئيس منظمة "ضد الفكر النازي" التي أسسها،
ويترأسها منذ سقوط جدار برلين. لا زال ينشط بحماس، كلما اشتد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو
كلما ض أحد الجامعيين أو المثقّفين ليشكّك في المحارق النازية.
ولا زلْ ت أذكر جيدا العمل الهام الذي قام به أثناء محاكمة "دافيد إيرفينج" في محكمة ألمانية قضت
بتغريمه عشرة آلاف مارك، بعد أنْ شكّك في حدوث جرائم ضد الإنسانية. وهو ما حصل مع الكاتب
"جارودي"، حيث كان والدي يتنقّل حتى إلى فرنسا والنمسا وانجلترا لحشد الأنصار اليهود ضد هؤلاء.
لمْ ْدأ الحركة في بيتنا، من استقبال الشخصيات السياسية والثقافية والدينية ... تناقش تأثير
هذا الحدث على العلاقات بين اليهود، ومدى النجاح الذي يمكن أنْ يتحقق لهذا الكاتب، خاصة إذا
استثمر العرب نظرياته.
كان والدي يدافع عن موقفه وعن منظّمة "ضد الفكر النازي"... أمام جمع من اليهود واُلمناهضين
لل مشكّكين في المحارق النازية.
وهو يلوح بجملة من الأوراق، هي عبارة عن بيانات ستوزع في الشوارع الألمانية..و تعلّق في الأماكن
العامة.
فيما سيتكفّل هو ومجموعة من الحقوقيين، بحشد الدعم الدولي للضغط على القضاء الألماني.
لمْ أعر اهتماما للمسألة، رغم تعاطفي مع اليهود ومع من لقي حتفه في المحارق النازية. كن ت أدخل
عليهم دون أنْ أنضم إلى حوارام، ودون أنْ يدعوني أحد منهم لمتابعة الحوار، رغم أني إطار بمنظّمة
دولية.
هذا عدا المرة التي أعدت فيها المنظّمة تقريرا لمناقشته، حول تراجع المحاصيل الزراعية في الأراضي
الفلسطينية. والتي ألمحت فيه اللجنة الرافعة للتقْرير إلى تأثير السياسة الإسرائيلية اللاإنسانية على
الوضع الاقتصادي.
ثار نقاش عنيف في أروقة المنظمة، حول مفهوم"اللاإنسانيّ"، و عرض التقرير للنقاش مرة أخرى قصد
تعديله.
أثناء ذلك، دخلْ ت على والدي في مكتبه بمترلنا، وكان منشغلا بقراءة كتاب
"بروتوكولات حكماء صهيون"، الذي كثيرا ما أشاهده يتصفّح أفكاره، وكأنه يستمد منه أحكاما إلهية.
غير أنه كثيرا ما يسرع إلى إخفائه بارتباك، كلما حلّ ضيف فجأة أو دون سابق إعلام... يطويه
بسرعة، ويدسه في درج مكتبه بخوف الختريرة على أطفالها.
دخلْ ت، فانتبه إليّ بشيء من الغرابة، وعلّق:
لا أراك تترددين كثيرا على مكتبي ... ما المسألة؟
ليس شيئا مهما... فقط أرد ت أنْ أستشيرك في مسألة، علّي أتحسس زوايا الموضوع.
ما نوع الاستشارة ؟
سياسية طبعا .
أعرف .. أعرف ... أقصد بماذا تتعلّق ؟
تتعلّق بتقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة للإغاثة، حول تأثير الحصار الإسرائيلي على الوضع
الفلاحي لدى العرب في "غزة".
( طوى الكتاب الذي أمامه، وخلع نظارته ) وماذا جاء في التقرير ؟
جاء فيه أنّ الحصار الإسرائيلي لا إنساني.
( رد بحدة ) هذا تقرير ملفّق ضد اليهود.الغرض منه منع اليهود من الدفاع عن أرضهم اُلمقدسة ضد
الإرهابيين العرب.
( خفّف من حدة كلامه ) وهل صادقوا على التقرير ؟
لا... يبدو أم سيناقشون مسألة "اللاإنسانيّ" هذه.
طيب... طيب ، هذا ما يجب أنْ يحصل.
على كلّ أعلميني بآخر الأحداث، حتى يمكننا التحرك.
أكمل كلامه، وعاد يرتب نظارته على أنفه الحاد. ثمّ فتح الكتاب الذي أمامه، على نفس الصفحة
التي كان توقّف عندها.
فهم ت منه أنّ الحوار قد انتهى.
هكذا كان والدي يتعامل مع الجميع بجفاء وبكلمات واضحة و مختصرة... حتى مع عائلتنا
الضيقة.
وأذكر أنّ آخر حوار دار بينه وبين أمي وهي على فراش الموت كان جافا وقاسيا لا ينم عن مسؤول
عن عائلة.
قالت له:
"هانز" قد لا أعيش بعد اليوم ؟
لا داعي لهذا الكلام... سأطلب لك الطبيب .
أنا لا أريد طبيبا، أريدك بجانبي في هذه اللحظات.
لا أستطيع... لي أشغال لا بد من إتمامها . سأغادر الآن، وستتكفّل "أنجيلا" باستدعاء الطبيب.
هانز ...
( وهو يغادر ) أتمنى لك الشفاء... لن أتأخر.
غادر مسرعا نحو أعماله وسياسته وأنشطته، تاركا أمي تصارع حشرجات الموت، لتلفظ أنفاسها بعد
دقائق.
كانت عائلتي رغم الجفاء العاطفي تعد عائلة محافظة، من أصول يهودية هاجرت إلى بريطانيا زمن
الحكْم النازي، وعادت إلى ألمانيا بداية الستينات، حي ُ ث تعرف أبي على ابنة صديق والده وتزوجها.
هي أمي التي ماتت، حين بلغ ت العقْد الثاني من عمري.
لذلك جاءت علاقتي الشاذة ب "نارمين"، سيفا مسلّطا على رقبتي. أخشى أنْ يصيبني، فتنهار علاقتي
بوالدي. فرغم تفتحه وتحرره إلا أنه الدفاعه عن السحاقيين واللواطيين.
ما كن ت أخشاه حصل فعلا، واستعملت "نارمين" شريط فيديو ضمنته صورا من علاقتي الشاذة معها
لتهددني. بأن تكشف علاقتي الشاذة لوسائل الإعلام فأفقد منصبي المحترم بمنظمة الأمم المتحدة.
وكان المقابل هو أنْ أعمل لصالح اُلمخابرات الإسرائيلية.
يا له من موقف، فلو كن ت امرأة عادية لهان الأمر، لكنني إطار سام بمنظّمة دولية. وأي تشويه لسمعتي،
قد يفقدني عملي.
فهم ت تبعا لذلك أنّ "نارمين" لم تقابلْني صدفة لمّا تعطّلت سيارتي تحت الأمطار. وحتى سيارتي تمّ
تعطيل محركها عمدا، لأقع بالتدرج في هذه اللعبة التي لمْ أفق منها، إلا وأنا محاصرة برغباتي
الجنسية التي لمْ تخْمد أبدا، وبسطْوة اُلمخابرات الإسرائيلية.
وما وقوعي في براثن اموعات الإرهابية في العراق، إلا بسبب مهمة ُ كلّفْ ت ا، وليس بسبب عملي في
المنظمة الدولية.
في اليوم الذي اختطفت فيه، كان اليوم قبل الأخير ُلمغادرتي التراب العراقي في اتجاه واشنطن
لحضور مؤتمر دوليّ. لذلك ُ كلّفْ ت بمقابلة أحد أعضاء المليشيات التابعة لوزير بالحكومة العراقية،
ليسلّمني وثائق أحملها إلى "نارمين" ومنها إلى عميل آخر باُلمخابرات الإسرائيلية . وبسبب تلك
الوثائق، ها أنا الآن في كماشة إرهابيين لا أعرف ما سيصنعون بمصيري.
فهل تتدخل إسرائيل لإنقاذي ؟ أم منظمة الأمم المتحدة ؟ وما أدراني أنّ منظمة الأمم المتحدة ستسعى
لفك أسري إذا علمت أني أشتغل عميلة لل مخابرات الإسرائيلية ؟
و والدي هلْ سيفْتخر بي أمام أصدقائه السياسيين، إذا علم أنني أعمل لصالح الشعب اليهودي؟ وفي
حقيقة الأمر، لم يكن ذلك الشريط الذي يصور علاقتي الشاذة بنارمين هو السبب الوحيد لانضمامي
للمخابرات الإسرائيلية .. فأنا كنت قادرة على العيش بأريحية وبترف لا مثيل له، بحكم الثروة الهائلة
التي اكتترها والدي في البنوك والبورصات وتجارة الذهب. وإنْ كنت حريصة كلّ الحرص على منصبي
بالمنظمة الأممية، إلا أنّ والدي أمكن له أنْ يزرع في داخلي حبا جارفا للشعب اليهودي وتعاطفا مع
قضيته العادلة في "أورشليم".
صر ت تبعا لذلك أتوفّر على قدر هائل من الكره والنقمة على العرب الوسخين والإرهابيين وعلى كل
مسلم أراه يسجد لربه، ذلك السجود الذي معناه الخنوع والخوف والتملّق. لذلك كلما أرى مسلما يقتل أو
يسج به في الزنازين والمعتقلات أردد بيني وبين نفسي أنّ العالم ارتاح من جرذ يمكن أنْ يصيب الإنسانية
بالوباء.
لا أدري... لا أدري..
كلّها أسئلة تنطّ في ذهني و تشوش علي محاولة ترتيب الأفكار.
أرد ت التخلّص من كلّ ذلك بمحاولة تصفّح كتام... كتاب القرآن الذي يتخذونه مرجعا لممارسة
الإرهاب، والتعدي على الأبرياء . فتح ت الكتاب لأقرأ أي شيء:
" أو لمْ يروا أنا خلقْنا ُ لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مال ُ كون * وذلّلْناها ُ لهم فمنها ر ُ كو بهم ومنها
يأ ُ كلون * و ُ لهم فيها منافع ومشارِب أَفَلا يش ُ ك رون * واتخ ُ ذوا من دون الله آلهة لعلّهم ينص رون * لا
يستطي عونَ نصرهم و هم ُ لهم جند محض رون * فلا يح زنك قو ُ لهم إنا نعلَ م ما يسرونَ وما يعلنون * أَو لمْ
ير الإنسان أنا خلقْناه من نطْفَة فإذا هم خصيم مبين * ..."
لمْ ُأكمل ما تبقّى من السورة، فقط لقشعريرة حلّت بجسدي...برهبة أحسستها وأنا أمر على إيقاع
ليس بالشعر ولا بالنثر. لمْ أصادف نصا عربيا ذا التأثير والترتيب، ثمّ أنّ شعر العرب لا يرتب ذا
الشكل على الورقة.
ما شدني فعلا، حديث القرآن عن النطفة التي هي السبب الأول لنشأة الجنين في رحم أمه.
كيف أمكن لهذا النص أنْ يدرك هذا المفهوم زمن رسولهم الأمي الجاهل ؟ كيف ؟....
اختلطت أشياء كثيرة في ذهني... هي مزيج من الرهبة والشوق والارتباك.
فتح ت الكتاب على صفحته الأولى، وشرع ت أقْرأ متهجية كلمات لمْ ُأصادفْها أو لم أستطع شرحها، أو
هي بسبب الخطّ العربي اُلمتشعب، لمْ أتبين أحرفها.
كلّما تقدم ت أكثر، ازدد ت حيرة وارتباكا...
سمع ت خطوات أحدهم، فألقي ت الكتاب جانبا وتظاهر ت بالنوم . دخل نفس الشيخ إلى الغرفة،
وأوصد باا من الداخل، متخذا نفس الكرسي الخشبي للجلوس، وقال:
أعرف أنك لست نائمة .. إقرئي القرآن، سيساعدك كثيرا.
شعر ت بأنّ العرق الذي يتصبب على جبيني، قد فضحني، ففتح ت عيوني قائلة له:
ماذا ستفْعلون بي؟
هلْ أنت جائعة ؟
لا يهم... سألْتك ماذا ستفْعلون بي ؟
سنقرر لاحقا.. لا ْتمي، إقرئي القرآن فقد تصبحين امرأة مسلمة . والله سبحانه وتعالى قد أكرم
المسلمات، وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات.
إذن لماذا تقتلون النساء، وتذبحون الرجال ؟
من قال لك ذلك ؟
كلّ الصحف والقنوات التلفزية، تعلن ذلك و تمرر صوركم وأخباركم.
( ابتسم ) هذا هراء... يحاولون تشويه سمعة الإسلام.
نحن يا ابنتي ندافع عن أرضنا... صحيح أنّ الوسائل أحيانا لا إنسانية. لكننا نحن من احتلّوا أرضهم،
واغْتصبوا نساءهم، وانتهكوا ح رمام ، و... و.... أليس كذلك؟
لا أعرف...
ض من مقعده ليغادر الغرفة، ثمّ عاد حاملا معه طبقا عليه بعض الخبز وحساء لمْ أتبين لونه
تماما، غير ما يب ين من خضار داخله.
وضع الطبق أمامي وانصرف، دون أنْ ينسى إغلاق الباب خلفه. وكانت الإضاءة التي تتقلّص شيئا فشيئا،
تشي أنه المساء أو بداية الليل. لذلك تكهن ت أنّ ما قدموه لي على هذا الطبق من خبز وحساء، إنما هو
العشاء.
رفع ت الإناء إلى أنفي أشم ما بداخله، فصفعتني رائحة حارة لم أتبينها... وتذوقته ..
أعدت الإناء إلى الأرض بتوتر وبصق ت ما علق بفمي من حساء لم أتبين أي صنف من الأطعمة
هو.فتش ت في كلّ الأطعمة الألمانية فلم أجد له مثيلا... أسلم ت رأسي إلى الحائط بتأفف، فوخزني
الجوع وتحركت أمعائي تعلن احتجاجها.
نظر ت إلى الإناء من جديد ثمّ إلى الخبز ولم أتمالك رغبتي في الأكل.. بالأحرى رغبتي في أنْ أبقى
على قيد الحياة.
الفصل الثامن
هذه اللوحة للتعذيب
بنفْس التوقيت تقريبا، كان "نواف" مجتمعا ب "أبي ايد" و"أبي الوليد"...
بذات القبو حي ُ ث كانت "أنجيلا" أسيرة هناك... الإضاءة فانوس زيتي شد للعمود الرافع ذلك السقف
القصديري، واموعة بلباس عسكري يحيطون بخريطة ممددة على الأرض، بجانب أسلحتهم اُلملقاة
حذْوهم.
في حين كان "نواف" يوضح للبقية المسالك والطرقات اُلممكنة التي ستستعمل لتنفيذ العملية ...
كان الهدوء يسود الشوارع، عدا أصوات طلقات نارية متقطّعة آتية من بعيد.
وضح "نواف"، واضعا سبابته على الخريطة:
بعد تفْجير الموقع الوهمي، ستهب رجال الشرطة إلى المكان. تكون حينها "أبو الوليد" في رأس الشارع،
قرب مكان التفجير، لتهاجمهم بالرصاص دون أنْ تعرض نفسك للخطر.
في حين سيكون "أبو ايد" و "تمّام" في الرأس الثاني للطريق، من حيث قدموا
( متداركا ) طبعا عند قدومهم لا تتركوا لهم أي إمكانية لكشفكم. فأنتم مطالبون بالاختباء إلى حين
سماع صوت الرصاص ... حينها تفاجئوم بالكاتيوشا. في نفس الوقت ودون تأخير تعودون إلى
موقع الانطلاق.
علّق "أبو الوليد"، موجها كلامه ل"نواف":
وهل ستبقى هنا؟
( بغضب حاول إخفاءه ) لا أحد سيبقى خارج المعركة ... كلنا سنكون في خدمة العراق.
( أعاد وضع إصبعه على الخريطة )
هنا بناية قبل اُلمنعرج ... البناية الحكومية التي دمرناها الشهر الفارط . أنا سأكون فوق سطحها ...
سأكون قناصا، لأمنع أيا منهم من الإفلات ( متداركا ) مع العلم أنني من سيفجر الموقع الوهمي ( أخرج
جهازا من جيبه ) وهذا جهاز التحكّم معي الآن.
من له ملاحظة ؟
علّق "أبو ايد"، وهو يرفع بقاذفة الكاتيوشا إلى كتفه:
يبدو أنّ الأمور واضحة.
رد "نواف"، وقد انتصب رافعا رشاشه إلى كتفه:
حسنا ... لنتوكّل على الله. ( مد يديه للدعاء ) اللهم انصرنا على اُلمعتدين، واحم العراق الغالي يا رب
العالمين.
ردد الجميع:
آمين ...
غطّوا رؤوسهم بأكياس سوداء لا تترك إلا الأفواه والعيون، وتناولوا أسلحتهم ... فيما تقدم " نواف
" ليفْتح الباب و يطلّ بحذر.
يترك نصف جسده خارج الباب، ويده اليمنى ممدودة إلى الداخل، وكأنه ينادي رفاقه الواحد تلو
الآخر، ليخرجوا وقد أمن لهم الطريق.
نصف ساعة، كانت كافية ليأخذ الجماعة مواقعهم... كان " نواف " قد سمح له موقعه من أعلى، بأنْ
يرى رفاقه قد أخذوا أماكنهم، وأنّ لحظة التنفيذ قد حانت.
ثبت رشاشه على كتفه ورفع يديه للدعاء يطلب النصر والتوفيق.
تناول جهاز التحكّم ... وجهه جهة الموقع الوهمي ... سحب نفسا عميقا، وضغط على الزر ليهتز المكان
وتتصاعد الأدخنة، مصحوبة بلهيب مد ألسنته من النوافذ والأبواب.
كانت قوة الانفجار، كفيلة بأنْ تخرج الحي من صمته. وأطلّت بعض الرؤوس من الأبواب أو من أسطح
المنازل، دون أنْ يظهر أحدهم يسير في الطريق.
الانفجار رغم قوته، كان عاديا و متكررا، وربما أغلب الذين سمعوه لم تصبهم رغْبة في التطفّل أو
الاستكشاف.
فيما هدأ صوت الانفجار، لا زالت النار متقدة تأكل الخشب والعجلات المطّاطية التي دسها "نواف"
وجماعته في البيت . فكان الدخان الأسود قد زاد من قتامة سماء الأعظمية.
ظلّ الصمت مخيما على الحي لدقائق عديدة، عدا ما ينبعث من أصوات خافتة، كطقْطقات صادرة من
الخشب اُلمحترق.
ظلّ "نواف" من موقعه المرتفع، كنسر يرصد تحركات فئران علّها تأكل ُ طعمه. لمْ تتجاوز الدقائق
الخمس، حتى هبت مركبات الجنود العراقيين صوب المكان، مدججة بأسلحتها، تسبقها إنارا الكاشفة.
تناول "نواف" رشاشه وجعل جعبته تتكئ على جدار متداعي أمامه، مصوبا بحذر نحو الشارع، حيث
تعبر سيارات الشرطة.
تتقدم السيارات ببطء وحذر، حتى بات لا يفْصلها عن موقع الانفجار مائة متر. حينها ارتمى "أبو
ايد" وسط الشارع، تاركا لرشاشه أنْ يبصق كلّ ما جعبته من رصاص دون رهبة ... ثابتا، لا شيء
يحركه عدا رشاشه اُلمتحفّز اُلملتصق بكتفه كذيل ثعبان مقطوع.
دبت الفوضى في الجنود العراقيين، واختلّت وجهات العربات.فيما ارتمى بعض الجنود من العربات،
ليواجهوا الرصاص القادم من رأس الشارع.غير أنّ "أبا الوليد" انسحب مسرعا، ليترك لرفاقه مهمة
إلقاء صواريخ الكاتيوشا ... كانت قذيفتان كافيتان لتسحقا المركبات ومن فيها. وانسحبا لتبقى وراءهما
النيران المشتعلة في العربات والأجساد اُلمتفحمة، تعين على إنارة الشارع اُلمظلم.
انسحبوا جميعهم عائدين إلى قاعدة انطلاقهم في ذلك المخزن المتداعي. من حيث انطلقوا في انتظار أن
يلتحق م نواف بعد أنْ يطمئن على موت كلّ أفراد الشرطة العراقية المدعومة بجنود أمريكيين،أو لعلّه
كان يترصد أي جندي لم يصب إصابة قاتلة، فيرديه قتيلا.
بقي "نواف" متسمرا في موقعه ثابتا، يرصد نتائج العملية التي لم تبق أحدا حيا. ابتسم كأفعى
أصابت هدفها. سحب رشاشه، وتراجع وهو يقفز على الجدران والسطوح، عائدا إلى موقعه من حيث
انطلق.
بعد العملية، قررت القوات الأمريكية أنْ تشن حملة على الحي بعد تضاعف العمليات خلال الشهر
الحالي ... كانت الطائرات قد أخذت موقعها في سماء الأعظمية، وشرعت العربات والدبابات والمدرعات
في اختراق أنسجة المدينة وشرايينها، تسبقها غارات وحشية على البيوت والمنازل لمْ يسبق لها مثيل.
كانت الطائرات تلْقي حممها دون هوادة ودون تدقيق ... لا أحد في الشوارع يحمل سلاحا، وحتى
البيوت التي تقْص ف كانت آهلة بالأمهات الثكلى والأطفال اليتامى والشيوخ والعجز.
الآليات الزاحفة على الحي لا تترك للذبابة الزرقاء متسعا للهروب. لذلك كلّما تقدمت الآليات، تطلّ
ُ فوهات البنادق والرشاشات من السطوح والنوافذ، لتقْتنص أحدهم. فترد المدافع لتهدم بيتا أو زنقة أو
بناية..
وفيما كان "نواف" ورفاقه يترصدون تقدم الجند، سبقته طائرة مروحية بقذيفة، هدمت المخزن
ومن فيه، وكان رفاقه حينها لا زالوا لم يستردوا أنفاسهم من العملية بعد. ولم يسلم غير "نواف" الذي
لا يزال يتنقّل من سطْح إلى سطح، ومن جدار إلى آخر... ليجد نفْسه في شارع جانبي، يقيه حصار
العناكب. غير أنّ حدسه أخطأ هذه المرة، لمّا وجد نفْسه وجها لوجه مع ثلّة من الجنود، سبقوه
بالرصاص ليصيبوه في فخذه.
كان الأسبق ليندس بين ركام بناية متهدمة، وأمكن له أن يتسلل بين الأنقاض ليخرج إلى شارع خلفي
ويندس في بيت مهجور.
ظلّ يتصبب عرقا وامتزجت الأتربة بالدماء حتى لم يعد يبين وجهه .. مزق قميصه ليجعل منه
عصابة على جرحه كي يكف التريف. وقد ظلّت يده على الجرح والأخرى تمسك بسلاحه متأهبا.
حضرت "لينا" المنفية في تونس و "ماجدة" التي استشهدت منذ أيام.. أبي الذي قضت عليه الخيانة
الفلسطينية في لبنان.. أخي الذي لم يستطيعوا جمع أشلائه من نقطة تفتيش فجرها .. أخي "عزام"
الذي ما زال معتقلا في السجون الإسرائيلية ...
هل ُ كتب علينا أن ندفع حياتنا كلّها من أجل قضية لا منا وحدنا؟
أمي التي لم أرها منذ عشر سنوات وألمسها وأعانقها وأبكي كطفل على ركبتيها .. نحن عائلة وزعنا
دماءنا على كل القضايا القومية...
ظلّ يترف رغم الضمادة التي وضعها على الجرح .. تصبب العرق أكثر فأكثر و سال مع الدماء
كرحيق... بدأ الدوار يلفه حتى فقَد وعيه وظل يمسك سلاحه ولم يسقط من يده.
بسجن أبو غريب لا يزال "نواف" معلّقا من يديه إلى السقْف، وقد جرد من ملابسه كاملة. جسده
بفعل التعذيب والبرد صار أزرق، حتى لم يعد يشعر أنّ جسده ذاك له.
ظلّ لأيام لا يعرف عددها، معلّقا كشاة معدة للسلْخ، حتى فَقَد الإحساس بجسده وأطرافه.
حين فكّوا قيده، اوى أرضا كأنّ السلاسل كانت تعمده و تساعده على الانتصاب... اوى كتمثال القائد
الفذّ ساعة احتلال بغداد . ولم يشعر أنّ جسده لامس الماء البارد الآسن على أرض الزنزانة.
انحنى أحد الجنود إلى رقبته وثبت ا سلسلة كشكيمة بغل، وظلّ يجره بمعية جندي آخر. فيما تكفّل
ثالث بتثْبيت هاتفه الجوال ُ قبالة بوتقة المشهد.
ظلا يسحبانه وهو يحاول جاهدا أنْ يستعمل قوائمه الأربع، كي لا تخْدش أرضية السجن جسده المنخور
أصلا . حاول ...حاول ... وحاول دون جدوى.
تمادى في سحبه، وتمادى الإسمنت في حفْر جسده . أطلّ بعض الجنود من خلْف الزنزانات وتقدموا
لإكمال مشهد من مشاهد "عذاب المسيح"... حاول أحدهم أنْ يدق عصاه في مؤخرته... حاول الآخر أنْ
يقف فوق جسده اُلممدد على الأرض، ليلْتقط له زميله صورة تاريخية لن تتكرر أو ربما ستتكرر كثيرا.
وثالث أطفأ سيجارته في إليته ...
ورابع ... وخامس...
تركوه لدقائق يلْع ق جراحه، ويمتص جسده من الأرض قسوا. فيما ابتعد الجنود وامسوا بكلام لمْ
يسمعه.
اقترب أحدهم ليساعده على الوقوف و قال بلهجة عراقية:
أنت فلسطيني، ماذا تفعل في العراق؟
أدرس
(ضحكوا بسخرية) تدرس؟؟ قال يدرس ... وهل تدرس مع تنظيم القاعدة؟ أم مع البعث.
أقسم أنني جئت للدراسة
(شده من شهره بعنف ودفع برأسه إلى الحائط، فسالت بعض الدماء من رأسه)
أقسم أنني سأفعل بك ما سأفعله بأمك القحبة لو كانت هنا ..
(كتم غيضه) كنت أدافع عن أرض العراق ... ألست عراقيا؟
(أمسكنه من خصيتيه وشد عليهما حتى تقيأ) سأريك ماذا يحصل لك في العراق.
ثم دفعه ليسقط على أرض الزنزانة من جديد، ثم أعادوا جره مرة أخرى إلى زنزانته، وأوثقوه إلى
الحائط بسلاسل تمْنع كلّ أطرافه من الحراك والعصيان. وفيما ظلّ بعضهم يلْتقط بعض الصور، غاب
أحد الجنود لبعض الوقْت ليحضر مقصا أشبه بالذي يستخدم في تشذيب الورد.
أعادوا تثْبيت هواتفهم الجوالة نحو المشهد المسيحي.. أمسك الجندي بقضيب
"نواف" وأعمل فيه المقص، لتسقط تلك القطعة من اللحم على الأرض ملطّخة بدماها.. دماء تحلّلت مع
الماء الآسن في قاع الزنزانة، حتى صارت الأرض دماء وغاب " نواف" عن وعيه. حضرت الأار جميعا
وآلام المسيح جميعها... حضر النخل والتراب والطين والخرائط وبغداد... حضر "عيسى" و"موسى"
و"جبريل"... كلّ الأنبياء والرسل والملائكة، يطلون من فوق الغرفة المفتوحة للسماء، وما هي بمفتوحة.
كانت سورة "يس " ترفْرف كملاك أبيض قرب الله، وتنثر أحرفها وحكمتها .. خيل للناظر أنّ سماء
بغداد انفطرت لتلقي حممها. وأنّ منسوب المياه ارتفع في دجلة والفرات خوفا أو تشنجا... وأنّ نخلات
البصرة انحنين قليلا ليخفين خجلا من الإنسان. .. خيل للناظر أنّ جبالا بسطت ووهادا رفعت ورمالا
نثرت ومياها نضبت، كأا شربت أو سرقت ....حضر النخل والتراب والطين ولم يحضر الخلاص.
ظلّ الجنود يتضاحكون و يعيدون التثبت من صور التقطوها في هواتفهم.
فيما تفطّن أحدهم إلى أنّ "نواف" قد فارق الحياة، ولا بد من التخلّص من جثّته.
ألقوا جثّته على أحد الأرصفة، غير بعيد عن جثّة أخرى وجدوها مشوهة أو مطعونة أو مقطوعة
الأطراف لعراقيين وأجانب. ولا فرق بين الجثّة والأخرى، عدا ما يجعل منها ورقة سياسية لتنظيم أو
حركة أو حزب.
المارة يعبرون إلى شؤوم بحذر وحيطة، محاولين ما استطاعوا أنْ يبتعدوا عن السيارات والدراجات
والحفر وحتى الجثث الملقاة على قارعة الطريق، مخافة لغم يدس هناك أو عبوة ناسفة .
فيما لا تزال الكلاب السائبة وقد تضاعف عددها تنهش الجثث وقد انتفخت وتحللت وضاعت
رائحتها في الأرجاء، تعين الذباب الأزرق على الرقص والطنين ، فاستحالت الشوارع مزابل من جثث
وقمامة ومياه آسنة، حتى يستحيل على الواحد العبور دون أن يغطّي أنفه بيده أو بطرف ردائه.
الفصل التاسع
ذبح الرهينة
ما زالت "أنجيلا" قابعة بين براثن مختطفيها، بنفْس الغرفة التي لا يفْصلها عن الخارج غير صوت
الرصاص اُلمتقطّع، وأزيز الطائرات اُلمحلّقة.
دخل ذات الشيخ بنفْس لباسه ووقاره، وسألها:
هل قرأت القرآن؟
أحاول ...
( قالتها وكأا تناور ... أو تحاول أن تفتك اعترافا أو غفرانا من ذلك الشيخ . قالتها لعلها تسلم من
شر قادم لا ريب فيه . علّ "قرآم هذا ينجيني" قالتها بينها وبين نفسها.
طيب ... طيب ...
غادرها لبعض الدقائق، ثمّ عاد مع مجموعة أخرى، مدججة بالصواريخ المحمولة والرشاشات...
كانت وجوههم ورؤوسهم معصوبة، إلا من العيون اُلمشعة ... اُلمثيرة للخوف.
تقدم اثنان منهما وجانباها، يوجهان أسلحتهما إلى صدغها. فيما تكفّل ثالث بتوجيه عين الكاميرا إليها،
وإلى الواقف خلفها يقْرأ ورقة بين يديه:
"بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نحن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، أتممنا بعون الله وحمده أسر الألمانية
أنجيلا موردخاي، العاملة بمنظمة الأمم المتحدة للإغاثة . ونحن نوجه النداء لسلطات الاحتلال
الأمريكية الغاشمة لإطلاق سراح السجينات العراقيات، في أجل أقصاه يومين. وإلا سننفّذ في أسيرتنا
شرع الله رميا بالرصاص."
حين أكمل القراءة، انسحبوا جميعا دون أنْ يتكلّم أحدهم ولو بالإشارة. فيما بقيت
"أنجيلا" مرتعدة كسعفة بفعل الريح. ثمّ وجهت سؤالها للشيخ الذي ما زال متسمرا، يحرك بأنامله
حبات سبحته:
هلْ سيقع إعدامي ؟
الله ورسوله أعلم ... نحن سننفّذ شرع الله.
وهل الله أَمر بإعدامي ؟
"وقاتلوهم حيثما وجدتموهم" صدق الله العظيم.
وما ذنبي ؟ أنا لا أحمل سلاحا، ولس ت أمريكية ولا ُأهدد أحدا ( واارت بالبكاء )
( وهو يغادر ) أنت وسيلة لا غير.
خرج الشيخ دون أنْ ينسى غلْق الغرفة من الخارج للمرة الأولى، وكأنه أحس بخوف ما، أو هو
الخوف من هروب الأسيرة التي قد يمنع هروا من تنفيذ شرع الله.
تخيلت أا واقفة وظهرها إلى حائط أو عمود، موثوقة اليدين والساقين، وقد غطّوا وجهها بكيس
أسود أو عصابة على بصرها، تمْنعها من أنْ ترى حتفها ... وأنّ مجموعة من اُلمسلّحين يقفون صفّا
واحدا، يوجهون فوهات رشاشام إلى جسدها. فيما يقف زعيمهم رافعا يده إلى أعلى، ل يعطي إشارة
إطلاق الرصاص فور إنزال يده إلى الأسفل. بمجرد أنْ يعطي إذنه لهم، حتى تنطلق الرصاصات
متتالية في اتجاه جسدها، لتفْتح فيه فوهات من الدم المتجمد بفعل الخوف... تخيلت أنّ دمها لن يخْرج
منها، إلا على شاكلة كريات جامدة كحبات مسبحة ذلك الشيخ.
وأنّ أحدهم ربما لكبت عربي يقْبع في أدغال اللاوعي سيوجه رشاشه لنهدها أو شفتها أو ... وأنه
سيكون سعيدا لو أصابت رصاصته هدفها . كأنه ينتقم من المرأة الفاجرة أو من الغرب اُلمتحرر.
حركت رأسها، لتنفض تلك الأفكار على الأرض، وخمّنت أنّ إعدامها سيكون ذبحا على طريقة ذلك
الأسير الأمريكي الذي ذبحوه على مرأى من شاشات العالم. وأا بجرة واحدة بذلك السكين، سيتأرجح
رأسها ويسقط على التراب معفَّرا.
تخيلت حبلا يلف على عنقها في ساحة عامة، وهي تقف على كرسي أو سطل أو صندوق ... يسحب
من تحْت أقْدامها، فيتمطّط جسدها إلى الأسفل دون أنْ تلمس ساقاها التراب، ودون أنْ تستطيع أنْ تفك
الحبل عن عنقها ... فتبقى جثة هامدة بعد أنْ نزف جسدها بولا لاإراديا.
يشاع أنّ المشنوق يتبول دون أنْ تكون له القدرة على كبح بوله... كذا كانت تمرر شريطا من الصور
اُلمختلفة، ولا تدري أي الطرق ستنفّذ فيها.
مرت الدقائق والساعات، كأنّ الكرة الأرضية ضاعفت سرعة دوراا، على أنّ الوضع في العراق
خمّنت أنه لا يساعد عقارب الساعة على الدوران الطبيعي، بفعل الأدخنة والحرائق والقتامة
والدماء ...
وهي تقاد من غرفتها إلى غرفة أخرى أشبه بالسجن، تكفّل أحدهم بوضع عصابة على عينيها، وهي
جالسة على ركبتيها.
وتكرر مشهد آلة التصوير ... غير أنه بعد أنْ أغْمضوا عينيها لمْ تعد ترى شيئا، عدا آلة حادة كانت
توضع على رقبتها، دون أنْ تسمع صوتا أو تحس بحركة سوى بعض الرصاصات المتقطّعة الآتية من
الخارج.
سمعت أحدهم يقول لها، أو يأمرها:
قولي أشهد لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
( لم تعلّق ولم تنتبه إلى كلامه، وكأا اعتقدت أنّ الكلام لم يوجه إليها )
حينها وخزها أحدهم، وكان الواقف خلفها، وهو اُلممسك بالسكين قائلا:
قولي أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
فهمت "أنجيلا" لحظتها أنّ الكلام يخصها، وأا المعنية بفعل القول.. قول كأنه فاتحة لإعدامها أو
مفتاح لدخول غرفة الموت.
حضر في ذهنها والدها و"نارمين" والإرهاب وتنظيم القاعدة .. تخيلت لحظتها أنّ الواقف خلْفها هو
الشيخ "أسامة بن لادن" أو "الزرقاوي" نفسه الذي نفّذ فعل الذبح في ذلك الأسير الأمريكي... حضر
الرصاص والرماد والقصف و صور العراقيين في سجن أبو غريب على شاشات وسائل الإعلام...
قالت بارتباك وغصة:
لن أعترف بدين الذبح والإرهاب.
( .... )
تأهب الواقف خلْفها بغضب لا مثيل له... سحب نفسا عميقا... بسمل وحوقَلَ، ثمّ ثبت أصابعه عل
السكّين، فيما ثبت يده على رأس "أنجيلا". وبجرة واحدة، لم يفْصل رأسها عن جسدها، ولكن الدماء
انفجرت لتسقي جسدها، وتسقي أرض الغرفة. دم حار، ترى البخار يصعد منه إلى سقف الغرفة،
ليرسم وجوه الأنبياء جميعا.
حين سحب سكينه، سحب الآخر آلة التصوير من المشهد، فسقطت "أنجيلا" أرضا. وكانت أصابعها
الموثوقة لا زالت تتحرك وتستغيث، ولا من مجيب.
لحظتها كانت القدس تتذرع لخالقها، ويمر طيف المسيح حاملا صبره ... تتعالى أصوات الأنبياء جميعا
وتنتفض الأرواح خائفة مرتبكة.
..............................
..............................
صباحا عثرت الشرطة العراقية على جثّة "أنجيلا" ملقاة في أحد الشوارع، وبثّت قناة الجزيرة
القطرية تسجيلا للمذْبحة.
الفصل العاشر
للأضحية معناها الحقيقي
بتلك المدينة الساحلية... لا شيء يشي بأا تنتمي إلى الساحل التونسي عدا موقعها على
الخرائط.
بنفْس مقهى "الأقواس" بمدينتي البائسة، كن ت بزاوية كالمحاصر بجيوش من النمل الأحمر... أترشف
قهوتي الصباحية. وأمامي جريدة لحزب تونسي معارض تسرد على صفحاا القليلة بعض الأخبار
الممنوعة عن البوح:
"اليوم العالمي لحقوق الإنسان في ظلّ المنع واُلمحاصرة"
"حرب قائمات تسبق مؤتمرات اتحاد الشغل"
"مع قناة الجزيرة، نواب خائفون واتصالات مقْطوعة"
.................
الصفحات على قلّتها، تسحبك إلى عمق البركة، و تحيلك لمشاهد لم تألفْها العين ولا الذاكرة.
أحدهم حذّرني من صحيفة معارضة، وآخر لا يعرف غير اسم الحزب الحاكم، وثالث يسأل إنْ كانت
الأكشاك تبيع مثل تلك الممنوعات.. ورابع..وخامس...
ولا شيء غير الرغْبة في إحراق الخرائط وتعطيل البوصلات . كأني اللحظة أمام "جاك داريدا" وهو
يقول:
"هذا عجزي، هذه الذاكرة اُلمعاقة، إنه موضوعنا هنا عن شكواي، إنه اعتراضي..."
وأنت تقْرأ و تشاهد و تحلل ... إنما أنت تحاول أنْ تفْهم الجسد. حتى وأنت تمر على مفاهيم حقوق
الإنسان والحروب والإعلام والخرائط والجغرافيا والتاريخ...
"هذا الجسد الذي اختفى وراء النص والذي أصبح محلّ قراءات وتأويلات" كما يقول
"شوقي الزين".
ولا ننسى أطروحات "فوكو" عن الجسد والجنس والسلطة والجنون.
....لا ُأبدي اهتماما بأي فكْر أو إيديولوجيا وأنا ذا المقهى، عدا ما يدور من نقاشات حول حروب
العراق وفلسطين وتنظيم القاعدة.مع ذلك أحاول أنْ أخرج دائما بالحوار من طاولة التشريح الفقْهية،
حتى لا أتهم بالانتماء إلى التنظيمات السلفية.
لا مني كلّ هذه المسائل رغْم أنّ مثل تلك الحوارات تحرجني لما يشوا من نقاش بيزنطي، وتعصب
يتبناه البعض و يدافع عنه.
لذلك كثيرا ما أنغمس في لعب الورق لساعات، هروبا من الفكر الرجعي أو خطاب الخصيان .
أنت إذنْ، إما في مستنقع الفكر الغيبي، أو في خندق الهلْوسات المائعة، تجْتر معها خزعبلات النتائج
الرياضية وحياة الفنانين والمائعين والخصيان و آخر تقْليعات الأغاني الغربية والشرقية الهابطة.
النادل يوزع على الحرفاء شيئا من ال ُ فكاهة، كلما شاكسه أحدهم أو طلب منه كأسا من الماء، يعتقد
أنه الملك هنا ذه المقْهى... يوزع الطلبات حسب رغْبته، ولمن يريد.
وقد تطْلب منه قهوة أو كأسا من الشاي، فيرفض أو يطلب منك مغادرة المقهى، بفذْلكة اعتادها منه
الجميع.
حين همم ت باُلمغادرة، رنّ هاتفي الجوال، فجاء صوت حبيبتي مسبوقا بضحكتها العسلية.
لس ت بخير هذا الصباح، مع ذلك لا بد أنّ أبتسم لأمرر لها ارتياحا ما:
صباح الخير ( قالت )
صباح الحب ... صباح الياسمين حبيبتي.
أين أنت الآن؟
بالمقهى كالعادة... أمامي صحيفة وقهوتي ككلّ صباح.
كلما أطلبك أجدك بالمقهى ...
لا يهم ... هلْ هناك جديد؟
لا شيء، أرد ت أنْ أسمع صوتك.
أحبك ...
وأنا أيضا عزيزي... على كلّ أرد ت الاطمئنان عليك فقط . سأطْلبك ليلا كالعادة .
إذن إلى اللقاء عزيزتي.
إلى اللقاء.
غادر ت المقْهى في اتجاه البيت. وجد ت رسالة وصلتني صباحا، دون أنْ أتعرف صاحبها. فتح ت
الظرف بلهفة وقرأ ت:
"بسم الله الرحمان الرحيم
لن أقول رفيقي هذه المرة ... أقول أخي في الإسلام . متمنيا من الله سبحانه وتعالى، أنْ يهديك إلى
طريقه المستقيم / إلى الإسلام.
وبعد:
بعون الله وبفضله نوشك أنْ نحقّق شرع الله في أرضه. ستسمع قريبا ما يحقّقه الإسلام على أرض
العدو.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
لمْ أتحقّق من الرسالة جيدا، وكد ت أشكّك في مصدرها، غير أنّ خطّه كان هو. مع ذلك هذه المرة لمْ
أفكّر في الرد على رسالته. ربما خمّن ت أنه غير مقر إقامته أو هاجر ائيا. مع أنّ الرسالة ووفْقا
لطابع بريدها كانت قادمة من دمشق.
لمْ أتفاجأ حتما بحدة خطابه ورغْبته في الانتقام من الخونة والجواسيس ...إنما ما فاجأني هو
الخطاب الفقْهي الذي ضمخ به رسالته، وحولها إلى خطبة جمعة.
كأني أقرأ بيانا لتنظيم القاعدة قبل أو بعد هجوم على إحدى المصالح الغربية.
أقْرأ الرسالة، وأعيد ترتيب أفْكاري فتحضر رسائله السابقة مشعة بالنقْمة والثورة والتمرد على
السلفي والفقْهي والديني... كان يساريا لا تفارق خطاباته الأفكار الماركسية والمفاهيم الطبقية وجدلية
التاريخ و... لذلك كن ت ألْتقي معه في فكْره وهمومه، كلّما تجادلْنا على الورق حول التوزيع العادل
للثّروات وهموم البروليتاريا والرأسمالية البغيضة والعولمة والمبادئ الحقوقية والإنسانية ...
أما الآن ......
ما الذي يجمعني بك يا صديقي ؟ وكيف يكون اليساري يمينيا ؟
بأي المفاتيح فتحت الأبواب لتدخل عالمهم ؟ هل انتصر"بن لادن" على"ماركس" ؟ أم انتصر الجهاد على
الثورة ؟ هل انتصر الحزام الناسف على المسيرات والإعتصامات والإضرابات والعصيان المدنيّ؟ أم هي
البندقية أيا كان حاملها؟
هل ؟ وماذا ؟ وكيف ؟ وأين ؟
.........................
طوي ت الرسالة وأودعتها درج مكتبي، واستلْقي ت على ظهري مسلّما نفْسي للكسل اليومي...مرر ت بجهاز
التحكّم إلى الجزيرة القطرية، وهي تعلن إمضاء "نوري المالكي" رئيس الوزراء العراقي على قرار إعدام
"صدام حسين".
ابتسم ت ب سخرية المنتصر، متهكّما على الحكام أجمعين. سدد الله خطاهم وحماهم وأرشدهم إلى
الطريق السوي. تلك اية الطاغية أيها البطل المقْدام. وأنت أيها البطل القادم على دبابة أمريكية،
ستحص د نتائج غبائك، وستعرف أنّ الطغيان نبتة نبتت في صحرائنا العربية. كلّما قطفْت واحدة، نبتت
مكاا نبتة أخرى ... وهكذا إلى أنْ يرث الله الأرض وما عليها .
صباح عيد الأضحى، والكلّ منشغل بما ترك إبراهيم لنا عوض ابنه... قيل نحن شعب لا يأكل
حتى يجوع. وقيل إذا أكلْنا فلا نشبع. و يشاع نحن شعب كلّما أكل جاع. وإذا جاع استكان، على خلاف
شعوب الأرض جميعا، إذا جاعت انتقمت.
تعبق الشوارع والأزقّة والأحياء، برائحة المشوي. حتى استحالت السماء خرفانا طائرة، تكْفي شعوب
الأرض قاطبة.
رغْم الأعياد العديدة التي نحتفل ا، إلا أا لا تمثّل عندي الفرح مطلقا. وخاصة هذا العيد الذي
أطلّ متثاقلا ومشحونا بالسواد والقتامة، على أنه يوم جميل وهادئ.
لمْ أتبين هذه المشاعر اُلمتضاربة، ولمْ أستطع تفْكيك أيقوناا . فقط حضرت هذا الصباح رسالة
"إيراد" وبغداد وأبو غريب وفلسطين و"لينا" و "ماجدة" و "أبو مصعب"... والخلايا النائمة للتنظيمات
الإسلامية.
تمام الثامنة، كانت القنوات التلفزية تمرر الفاجعة، ب صور زلت على صدغي كإسفلْت ساخن أحرق
شراييني.
كانت كلّ القنوات التلفزية، تمرر لحظة إعدام صدام حسين . بعض اُلملثّمين، قارب عددهم الخمسة أو
ربما أكثر بقليل، يحيطون به في مكان داخلي، خمّن ت أنه ُأعد له خصيصا.
دار حوار بينه وبين أحدهم، ربما حول عصابة كانوا يريدون لفّها على عيونه، لئلا يبصر حتفه. مع
ذلك كان الرفْض يصدح من عينيه وجبهته.
لفّوا الحبل على عنقه، وأشاروا له ليتقدم حي ُ ث الهوة التي سيتدلّى فيها حتى الموت.
إم يضحون به فعلا، بمثْل ما أراد أنْ يضحي إبراهيم بابنه. كأنّ الشعب العراقي، يقول أننا نعيد
للأضحية معناها وحقيقتها.
جاءني صوت شيعي يزعم أنّ إبراهيم ذبح ابنه فعلا، ولمْ يرسل له الله كبشا بديلا. ولكن الناس
والتابعين، تخيلوه كي لا يذْبحوا أبناءهم. لذلك نحن نصحح تاريخ الديانات، ونعيد الحقيقة إلى
نصاا.
قل ت له بصوت خفي لئلا يكْتشفوني:
أ ُ كلّ الشعوب ستضحي بحكّامها؟
افعلوا ما تؤمرون به...اليوم صدام، وغدا "علاّم" وبعده "السابع" وإثره "الفاتح" ... هكذا فقط
ستنفّذون شرع الله.
أيها الوغْد وأمريكا..
لا دخل لها في شؤوننا ... فهل هي من أتت بالحجاج ؟ وهل ذبحت "عثمان" وقتلت
"الحسن" و "الحسين" وأشعلت الفتنة الكبرى.... ؟ بالطبع لا.
فلماذا الآن نحملها أوزارنا؟
............................
قرأ ت على الشاشة: مقْتدى... مقْتدى... مقْتدى
وقرأ ت : "هاذي المرجلة"
وقرأ ت: أشهد أنّ لا إله إلا الله
وقرأ ت كلاما لمْ يكتب . والبقية تأتي .......
كأني الآن أقرأ "أنشودة المطر" للسياب أو قصيدة "البراءة" لمظفّر النواب.
مر المشهد اُلمتكرر عبر بوتقة الإبحار إلى الذاكرة .. قلّبته على وجوهه، ولم تحلّل مضامينه ولا
فكّت طلاسمه، فألْقته إلى الخارج. غير أنّ المشهد عاد فارضا حبال سطْوته، وشنق الحدث في ذاكرتي
بذات الحبل اُلمعلّق في سقْف الشاشة من الداخل.
أسرعت دمائي حارة في شراييني، تمر بالقلب فتبرد وتتكلّس ... فأشعر أنّ القلب سينفطر.اغتال القلب
نبضه، فبردت أطرافي . وبت أشعر أنّ دمائي صارت حارة، تغلي كآنية بالأناجيل والكتب والشرائع
ففاض الحبر... هي الأار تتقد بما ألقى المغول من الكتب لتمر الجيوش.
أهذا عيد ؟ أهذي المخازي هي الأعياد تسعدنا، ونحتفل؟
يااااا كم نحتفل؟
لا زل ت أمام جثمانه أتقبل التعازي من الغيورين والمغمورين والجهلة والخونة والجواسيس والشيعة
والأكراد وآل سعود وآل نبهان وآل سحنون وآل البيت جميعا ...لم يتخلّف إلا قادتنا وساستنا وحكامنا
وولاتنا وملوكنا.... لم يتخلّف إلا هم.
حتى ضحايا "الأنفال" حضروا ضاحكين. وحضر ضحايا "الدجيل" وشعب الكويت، نكاية في البطل
الغبي أو نكاية في الأبطال القادمين.
كان اليوم أشبه بمحرقة ُأعدت لليهود، ولكنها ليست لستة ملايين كما يزعمون. كانت محرقة
أعدت لي وحدي.
وبعد قرن أو أقلّ بقليل، يصبح حرقي قضية قومية، و يدان كلّ من يشكك في مصداقيتها. وكلّ من يتهكّم
يعد معاديا للسامية و مدانا بتهمة الإرهاب.
كان اليوم رماديا كأعيادنا قاطبة .. كتاريخنا... كحكامنا... كسجوننا...من فلسطين إلى الصومال إلى
اليمن السعيد ... لشيوخ النفط، لحكام الوحدة والتجديد والتغيير والثورة والنهضة...ولا شيء غير
إعلامنا العابق بالتملّق والسطحية وعرض لحمنا البض الراقص على نغمات "الديسكو" و"الراي"
و"الهيب هوب" ...
وأنت تسمع ملخص الأحداث الوطنية والعربية في وسائل الإعلام، ينخرك القيء وتنخرك الحمى، من
أوطان لا تحتفل بغير نشرات الرياضة وأخبار الزعماء: قال الملك... عاش الملك ...غير الملك ... قرر
الرئيس ... أما أنا وأنت و هم، ففي مستنقع يقْبعون.
أكمل ت يومي أتابع تناحر الفصائل الفلسطينية حول السلطة، بين حركة "فتح" المدعومة من
حكوماتنا، و"حماس" المتهمة بالإرهاب.
كيف الخروج من هذا الإسفلت الهاجم؟
إما الخمرة أو المرأة أو الكتابة ...
وأما الكتابة، فلا شيء في جعبتي الآن أضمخ به أوراقي . ولا شيء بالمثل يستحق أنْ تكتب له أو عنه.
وإن كتبت... ما الذي ستغيره أيها البطل ؟ لا شيء...
إذن فالمرأة خياري الثاني...
رفع ت هاتفي الجوال، وبحثْ ت بين أرقامه عن إحدى مومساتي الجميلات... فتوقّف إصبعي على رقم
"ليلى".
ألو "ليلى"
مساء الخير çava
çava bien
ما الذي دعاك إليّ؟
أريد ليلة معك تخرجني من هذا الإسفلت ... أنا في حالة نفسية يرثى لها.
بدون مقدمات؟
بدون مقدمات.
( بدلال ) حاضر سيدي ...
لم تدم المكالمة أكثر من دقيقتين، وأسرع ت إلى أول سيارة أجرة تقلّني نحو المنطقة السياحية،
حيث اتفقنا على الترل الذي سنترل فيه.
حين وصل ت، كانت جالسة ببهو النزل تترشف كأسا من "الويسكي"... جلس ت إليها، وطلب ت مثل ما
طلبت وسألتها:
لم تترددي هذه المرة كعادتك.
ببساطة لأنّ زوجي في باريس منذ أسبوع.
في باريس ؟ وماذا يفعل في باريس ؟
أخته ستعود إلى تونس في عطلة ... سيتكفّل بمساعدا، باعتبار أنّ زوجها لن يأتي معها... المهم ما
هي أحوالك ؟
دعك من أحوالي الآن ... هيا نحجز غرفتين، وسنكمل حديثنا هناك.
أنا حجز ت الغرفة رقم 5001 ...
( ضت بعد أنْ أكملت كأسها )
أحجز غرفتك، ثمّ التحق بي .
بعد أقلّ من عشر دقائق، كنا بذات الغرفة 5001 . تمدد ت على السرير بملابسي، والسيجارة لا
زالت متقدة. فيما خلعت "ليلى" معطفها وتمددت بجانبي، وقد أسندت رأسها إلى صدري.
ألقي ت السيجارة بإهمال على الأرض واحتضنتها، محاولا أنْ أنفض من ذاكرتي أحداث العالم كلّه. مرر ت
شفاهي على خديها ورقبتها، فأحس ت بحبات الرمان تنتفض تحت أصابعي، وتضاعفت حرارة جسدها
حتى ذابت كقطعة سكّر في كأس من الماء.
ولم أنتبه إلى أصابعي وهي تفك أزرار ملابسها، وتنزلق بين تضاريس جسدها. دون أن تبدي "ليلى"
حراكا، عدا ما ينتفض من جسدها بحكم الغريزة.
كن ت كانون أمر بأناملي وشفاهي على كلّ حبة من جسدها، حتى انتفضت وديان الرغبة وامتزجت
بالآهات.
قالت وقد أكملْ ت مهمتي الهادفة، ونزلّ ت من فوق صهوا الجامحة:
لم أشعر يوما أنني متزوجة، إلا لمّا أكون بحضنك. أما زوجي، فهو بارد كالثلج، كأنه يفْرغ نزوته بقبضة
يده.
ابتسم ت ابتسامة ساخرة، وطبطب ت على إليتها، قائلا:
استحمي الآن قبل أنْ ننزل للعشاء.
ضت عارية، كملاك رسم سرياليا، في اتجاه الحمام . حتى وصلني صوت الماء المنسدل بشهوة على
تفاصيل جسدها.وقد حضرت بذهني قولة غالي شكري: "الجنس علاقة عرضية لقتل الوقت".
"ليلى" زوجة إطار حكومي، يعمل بمدينة مجاورة لمدينتي. وقد قدما من مدينة بالجنوب التونسي .
وزوجها هذا ابن ثري وفّر له والده من المال أكثر مما توفّره له الوظيفة بعشرات المرات، تربطه رابطة
وثيقة بالعائلة المالكة، وله شؤون يديرها معهم.
وأذكر أا حضرت في إحدى الأمسيات الشعرية، وكن ت محملا بمجموعة من الدواوين لبيعها، وبالطبع
لم أبع منها غير خمس نسخ.
لم أكن أعرفها سابقا حين تقدمت مني واقْترحت أنْ تساعدني على بيع ما تبقّى من الدواوين...
فوافقْ ت.
سلّمتها كلّ النسخ، مصحوبة بنسخة مهداة بخطّ يدي، ورقم هاتفي الجوال. واكتشفْ ت لاحقا أنّ
النسخ اشترتها لنفْسها، وبقيت تماطلني وتجد الحجج لمقابلتي، فتسلّمني ثمن نسختين أو أكثر. حتى
اتفقت معي على لقاء في أحد الترل، فقابلْتها.
قالت وهي لا تزال واقفة:
هل تساعدني على إنزال حقيبتي من الغرفة؟
بالطبع.
... ومعي في الحقيبة ثمن بقية النسخ من كتابك.
حين اصطحبتها إلى غرفتها، أغْلقت الغرفة من الداخل، وراودتني على جسدها، فاستسلم ت لإغرائها
دون أي مقاومة.
ومنذ تلك اللحظة، صارت لقاءاتنا متكررة. غير أنني لا أحتاجها إلا متى أطبقت السماء على أنفاسي،
وضاقت الأرجاء بأوجاعي، وحاصرتني المتاهة حتى صر ت المتاهة فهي من دون نسائي، لا تفْقه شيئا،
عدا بسط رغْبتها على السرير. وهي لا تطلب مالا، ولا تجادلك في الثقافة ولا في السياسة ولا في الفن
ولا حتى في الملابس والموضة. إا فقط تشتهيني، فأشتهيها بمتعة لا مثيل لها. وحين تحتاجني تجدني،
وأحتاجها فأجدها... نعم علاقة عرضية ولكنها نفعية تجعلني أتلذذ بالانتقام من زوجها وهي معي..
كأن اللذّة نقمة وليست جنسا. إا النقمة من زوجها الذي يدوس الفقراء بحذائه مع الجشعين
والمتنفّذين. خرجت من الحمام أكثر إغراء، تلف جسدها بفوطة بين أعلى النهد وأعلى الفخذين...
وشعرها الفحمي، ينسدل بسلاسة على ظهرها.
اتجهت إلى المرآة، وقد سحبت علبة التجميل من حقيبتها اليدوية، وبدأت بالشفاه ترتب عليها لونا
قرمزيا مشعا زاد في إثارتي.
ض ت من السرير، واتجه ت إليها...وقفْ ت خلْفها ومدد ت أصابعي لأفك الفوطة. فيما ارتمت شفاهي على
رقبتها المرمرية، فلم تمانع. غير أا شدت على الفوطة، كي لا أنزعها . وقالت:
ليس الآن ...أخاف عليك أنْ تموت. ننزل للعشاء أولا.
ولماذا أموت ؟ هلْ عندك شك في قدراتي؟
لا ... ولكن اجمع قواك إلى آخر الليل.
بعد العشاء، أكملْنا الليل في العلْبة الليلية التابعة للترل، نرقص بجنون على نغمات كلّ الأغاني،
ونمْزج رغبة الجسد في التحرر بالجعة.
كن ت أشرب بطريقة لم أعهدها... كي أطرد من ذاكرتي أفكارا مكدسة كأشلاء الموتى: بغداد على بيروت
على حيفا على الجوع على الرفاق الذين خانوا على...
كلّما سكب ت في فوهتي كأسا، سقطت فكرة أو حادثة... هكذا حتى الصباح.
صباحا، أفقْ ت على أصابع الشمس تخْترق البلّور، وتدخل للغرفة. كانت الساعة العاشرة ... لمْلم ت
أفكاري، فلم أجد "ليلى" . فقط تركت شفاهها عالقة على مرآة الغرفة، بلون قرمزي.
الفصل الحادي عشر
فريضة السعي
أبو مصعب ما زال واقفا بالقاعة الكبرى لمطار باريس كغيره من المسافرين، ماسكا بجواز سفره...
تاركا لحقيبته مسافة من الراحة، كي تقرفص على الأرض.
يحاول ما استطاع إخفاء دهشته وخوفه من مجهول لا يمكن توقّعه. كان جواز سفره مثبتا وية
أخرى، إلا أنه لم يتساءل عن سر تغيير اسمه و ُ كنيته، فهو ليس معلوما عند الأجهزة الرسمية، ولا عند
البوليس الدوليّ، ولم يقم بفعل يمكن أنْ يتهم من أجله.
مع ذلك لا يهم .....
ما يعنينه الآن، هو المغادرة إلى الولايات المتحدة، حيث سبقه "أمير التوم" و"ميلود عبد القادر".
و يبدو أنّ بقاءه هنا، ومنعه من السفر معهم ربما يعود إلى خوفهم منه. أو ربما كانوا يتوقّعون أنْ
ينسلخ عنهم، ويبقى هنا في "باريس". فهو كثيرا ما أبدى تخوفا و معارضة لكثير من المسائل التي
ناقشوها. منها تردده في القيام بعمل استشهادي في الولايات المتحدة، تحديدا تفْجير تمثال الحرية.
لماذا تمثال الحرية ؟ لماذا الولايات المتحدة ؟ قالوا أنّ أمريكا هي الشيطان الأكبر، وهي التي احتلّت
بيوتنا وحرضت ولا تزال اليهود على التحرش بنا واحتلال أراضينا. وهي التي نصبت حكوماتنا
الكرتونية، وهي التي .....
أما تمثال الحرية، فهو الرمز الفخري لمبادئهم وقيمهم التي كثيرا ما ينهقون ا، ويعلّقوا على
جباههم ودبابام وطائرام وأسلحتهم... و هم يصدقون.
"الحرية" .... ما معنى الحرية ؟ وماذا تعني؟ ولماذا أمريكا تحديدا لها مثل هذا الرمز الضخم للحرية؟
هل لأا ممثلتها الوحيدة ؟ هل هي التي تصنع الحرية وتصدرها؟
ما جعلني أقرر المشاركة في هذا العمل النضاليّ، هو رفْضي لأنْ يموت الأبرياء. تمثال مهما كان حجمه
وقيمته، لا يعني شيئا أمام موت بريء واحد ولو كان يهوديا.
لذلك، كن ت ضد تفْجير أبراج نيويورك، وموت المئات فيه. مع ذلك لمْ أصرح بذلك لأحد من الإخوة،
حتى لا ُأتهم بالردة والخيانة والكفر.
"أما الآن، فتفْجير تمثال الحرية... مهم جدا أنْ تفجر الرموز. هذا أهم وسأكون أول الفاعلين." علّق
مس.
أنا ما يهمني في المسألة أن أنتقم لوطني و عائلتي و شرفي.
لس ت اسلاميا و لا استشهاديا و لا مناضلا... فقط أحمل جواز النقمة في جيوبي وشحنة من الغيظ
لأنفّذ حكمي في من شرد أهلي .. حكمي أنا وحدي. لا حكم الله و لا حكم الخليفة.
لهذا انخرطت في هذا التنظيم ... أقول وصل ت إليه صدفة، وسأتشبث به حتى أحقق انتقامي.
ولو كان التنظيم يساريا لفعلت نفس الشيء، ولو كان بعثيا.. ماجوسيا.. يمينيا.. قوميا.. شوفينيا.. نعم
لفعل ت نفس الشيء.
أنا باختصار ضد عدوي مع أي عدو آخر، ولأنني أحترم الإنسان، حتى وهو برتبة حيوان، فإني سأنفّذ
حكمي في رمزهم الذي يتباهون به، والذي يعتبرونه رمزهم و كنيتهم و "هويتهم".. إم الحرية بكل
دلالاا، لذلك تمنحهم تلك الصفة أن يفتكّوها من الآخر.
دخلَ صوت دون إذن إلى بوتقة السمع، يشير إلى انطلاق الرحلة نحو"واشنطن" بعد عشر دقائق.
انحني ت لأتناول الحقيبة، فيما ازدادت دقّات القلب في الهيجان. وتقدم ت بخطوات وئيدة، نحو الممر
اُلمخصص لختم الوثائق.
كلما تقدم ت خطْوة ازدد ت خوفا ورهبة، وتضاعفت سرعة الدم الساخن في شراييني.
ُأصمد... ُأصمد... فالخوف قد يفْضحك ويورطك.
ُأصمد... ُأصمد... إنْ كشفوك ستكون ايتك واية البقية.
مدد ت جواز السفر وتذكرة الطائرة، وأبعد ت بوتقة الإبصار حتى لا تكْشفني عيوني. وبطرف العين
رأي ت الآنسة القابعة خلْف المكتب، تحملق فيّ فزد ت ارتباكا أخفيته قدر ما أستطيع.
انتصبت الآنسة واقفة، وتراجعت إلى الخلف...
تجمدت كلّ دمائي، وتوقّف القلب عن الخفقان وأحسس ت بصداع ألمّ برأسي، وفكّر ت في الهروب.
الْتفت خلْفي، فإذا بعشرات من الأشخاص يقفون في تراص داخل نفْس الممر. وأما الهروب إلى الأمام
أشبه بالارتماء في هوة.
لا مكان للتراجع، فما بالك بالهروب، والأمن يحاصر المطار ويتوزع داخله... شرع ت في قراءة
سورة"يسِ".
سحبت الآنسة بعض الأوراق من خزانة وراءها، وعادت لتجلس في مكاا... كتبت وختمت، ثمّ
ناولتني جوازي وأشارت براحة كفّها للمسافر اُلموالي. حينها سحب ت نفَسا عميقا ... بسملْ ت وحمدلْ ت
وقرأ ت أعوذ برب الفلق، وأكملْ ت طريقي بنفْس الممر، في اتجاه الطائرة بعد أنْ تسلّم ت حقيبتي من
الجهة الأخرى.
جلس ت في المكان اُلمخصص لي داخل الطائرة، أعد الثواني والدقائق في انتظار الإقلاع.فأنا لن أطمئن ما
دامت الطائرة لم تحلق في السماء.
و بمجرد أنْ أقْلعت، خلد ت لنوم لا شبيه له... لم أنمْ منذ سنوات نوما هادئا و مطمئنا. فالطائرة أكثر
الأماكن أمانا بالنسبة إلى مثْلي.
لا تنتظر أنْ يدخل عليك أحدهم ليعتقلك، أو يقْتحم عليك البوليس أو الجيش مخْدعك، لمّا تكون في أي
مترل أو بيت على الأرض.
أما هنا، فحتى الزلازل لا تطالك .....
لمْ أفق من ُ ذ ربطْ ت حولي حزام الأمان إلا لمّا تكرر الصوت الذي افتتحنا به الرحلة:
.Fasten your seat belts
ثم بالفرنسية
. Attachez vos ceintures
فركْ ت عيوني، غير مصدق أنني في مأمن إلى الآن، حتى وأنا على متن طائرة معلّقة في السماء، كأنّ النوم
علّمني ما لمْ أكن أعلم ... كأنّ النوم كان محرابا لترول وحيِ لم أتذكّره كاملا .
كأنّ النوم ذكّرني أنني مهدد بالموت و القتل والاعتقال، طالما أنني لس ت إلا عربيا.
وماذا يعني أنك على متن طائرة ؟ ألا يمنع الأوغاد من ال وصول إليك ؟ ألا يمنعهم الدهاء وخبرم
بالتفْتيش من العثور عليك ؟ ومن قال أنهم لمْ يدسوا لك أحد الجواسيس أو الخَونة مع الركّاب داخل
الطائرة ؟
دارت بخلدي الهواجس، حتى أني بت ألْتف ت يمنة و يسرة وإلى الخلْف، محاولا التعرف على وجوه
عربية داخل الطائرة.
حطّت الطائرة بأمان على أرض المطار، ونزلْ ت السلّم محاولا أنْ ُأخفي خوفا يترقْرق في عيني، ورعشة
كلّما تقدم ت إلى مصلحة الجوازات تضاعفت.
عبر ت المطار بأمان رغْم نظرة الشك والريبة التي لاحظْتها في عيون اُلموظّفين، وهم يكْملون إجراءات
الدخول للأراضي الأمريكية.
لا زلْ ت بنفْس الممرّ في طريقي إلى الخارج، محملقا في عيون كلّ الذين تمر م بوتقة الإبصار، علّي
أتعرف على أحد الإخوان الذين سبقوني إلى هنا.
ماذا لو لمْ يسبقْني أحد منهم ؟ إلى أين سأتوجه ؟ ماذا سأفْعل ؟ لا مال ... لا علاقات... ولا برنامج
سطّرته مسبقا لتفادي هذا المأزق...
حاولْ ت ما استطع ت أنْ أمسح وجوه كلّ الواقفين والجالسين والعابرين... دون جدوى. توقّفْ ت قليلا، علّي
ألْف ت انتباه أحدهم بتوقّفي ذاك. غير أنّ محاولتي لمْ تثمر غير مزيد من القلق.
أكْملْ ت سيري، كمن يمشي على حبل معلّق فوق هاوية... حتى وجد ت نفْسي خارج الباب الرئيسي،
مصطدما بآلاف السيارات الواقفة واُلمتوقّفة...بضائع ترفع، وبضائع تشحن وأخرى يدفعوا أو
يرفعوا إلى السيارات أو الشاحنات... مندهشا في ذات الوقْت من سيارات التاكسي الفارهة، الشبيهة
بسيارات كبار الشخصيات عندنا في العراق.
أذْكر أنّ سيارة رأي ت شبيها لها في العاصمة "بغداد" في ذكْرى أحد أعياد الثورة. وقال أحد اُلمرافقين لي
وكان من كوادر حزب البعث أنّ راكبها هو من عائلة قائد الحرس الثوري العراقي . يااااه ما أشبه
اليوم بالبارحة ... تحول ت من مواطن عراقي حر، إلى مواطن احتلّوا أرضه، ومنها إلى مواطن يدخل
أراضي الدولة التي احتلّت وطنه، ولماذا ؟
بدعوى الانتقام...
لا م الوسيلة والطريقة والطرق ... المهم النتائج والغايات.
أفهم دواعي "أمير التوم" و "ميلود عبد القادر" وبقية الإخوان الذين يعتنقون إيديولوجية تنظيم
القاعدة، لكنني لا أتبناها وإنما أنضوي تحْتها، طالما أنّ أهدافها تصب في ما أسعى إلى تحْقيقه.
لا زالت عيناي تمْسح ناطحات السحاب والشرفات والسيارات الفارهة والنساء العاريات والشوارع
الزاخرة بالحركة والنظام.
لمْ أجد ما به أشبه أي معلم من هذه المعالم، مع نظير في العراق وسوريا، وحتى "باريس " التي مكث ت فيها
أسبوعين لمْ ترتقِ شوارعها ونظامها إلى مستوى العاصمة الأمريكية.
أنخْ ت حقيبتي على الأرض، وبقي ت واقفا أحملق في المارة والسيارات ... أشعلْ ت سيجارة لمْ يكن مسموحا
لي أنْ أشعلها داخل المطار.
حين نفث ت دخاا بعد النفس الأول، اقْترب مني أحدهم ولمْ تكن ملامحه شرقية.. مع ذلك كلّمني
بلغة عربية أشبه باللهجة المصرية:
السلام عليكم.
( بانتباه وحذَر ) وعليكم السلام.
أبو مصعب... أليس كذلك ؟
( حملقْ ت فيه وكد ت أنْ أنكر اسمي الذي لم يكتب على جواز السفر )
نعم ... أنا ...هل ؟ من أنت ؟ هلْ ؟
( ابتسم )
انحنى على الحقيبة يرفعها، وكد ت أمنعه.غير أنه أردف ابتسامته بكلمة السر اُلمتفَق عليها، قائلا:
التمثال... التمثال، أليس كذلك؟
حينها ابتسم ت بغبطة حاولْ ت إخفاءها، وارتمي ت عليه لأحضنه بفرحة من مدوا له حبلا، وهو
داخل هوة عميقة.
وسألْته:
الإخوان بخير؟
ارتبك، وهو يفتش ببصره عمن يمكن أنْ يكون يراقبنا. ووضع يده على فمي، محاولا إخماد صوتي،
وقال:
لا تتكلّم مطلقا ... علينا بمغادرة المكان.
عبرنا الشارع إلى الضفّة الأخرى، حي ُ ث تربض سيارة خفيفة، سارت بنا إلى مكان في حي صغير
خارج أحواز العاصمة.
المترل على صغر مساحته، أجمل بكثير من واجهته الخارجية.
تتوسطه غرفة جلوس بأرائكها و إكسسواراا، كأنه ُأثّثَ لاستقبال عروس. دخلْ ت على الجماعة،
فاستقبلوني بالأحضان . فيما لاحظْ ت بعض القوارير والأكياس مبعثرة عل زربية تتوسط قاعة
الجلوس... فهم ت أنها اُلمخصصة لتنفيذ الخطّة.
كان "ميلود عبد القادر" و "أمير التوم" يعالجان تلْك المواد والقوارير، دوء لا مثيل له. فيما كان
ثلاثة شبان لمْ أتعرفْهم، يتابعون اُلمشاهدة و المساعدة.
حين انضممت إلى الإخوان، قدمني "أمير التوم" لهم، بعد أن انتبه لملامحي قائلا ، مقدما لي الجماعة:
هذا الأخ "أبو بكّر الشوكاني" من السعودية... و هذا الأخ "سمير خطّاب" من مصر... و هذا الأخ
"صالح العريض" من تونس... وكلّهم شباب جاؤوا لنصرة الإسلام والانتقام من الكفرة.
قل ت دون أنْ أحدد مشاعري:
الحمد لله.
فهم ت بعدها في الجلسات اُلمتتالية، أنّ الإخوة الثلاثة وأنا رابعهم، سنتولّى تنفيذ العملية، ضد
تمْثال الحرية الرابض على أنفاس البشرية منذ قرون.
هذا الحجر البارد منه وعبره، تمر الوصاية والاحتلال وقمع الشعوب وإسقاط الحكومات ...ودائما
تحت يافطة الحرية وحقوق الإنسان. فيما لم تشفع للإنسانية دساتيرها الوضعية والسماوية
والتشريعات الحقوقية، كي تحقّق أمنها وسلْمها.
لا بد إذن من ضرب كلّ رموز الطغيان والفجور والقمع... التي أقْنعونا أا تمثّل قيما ما. تماما ككلّ
التماثيل اُلمنتصبة في شوارع العالم قاطبة، وشوارع الدول العربية التي تكرس حكم الفرد وتأليه
الحاكم. حتى يأتي آخر فيقْلع ما سبق، ويغرس تماثيل أخرى.
كان تمثال الحرية "الإله الأكبر" أو رب الآلهة جميعا. وأنّ التماثيل الأخرى المنتصبة في ساحات
عواصمنا ليست إلا آلهة صغيرة تأتمر بأوامر الإله الأكبر.
و رأيت فيما يرى النائم أنّ الإله الأكبر كلما أسدل الليل ستاره على العواصم ينفض تكلّسه، ويترل من
منصته تلك في اتجاه العواصم العربية ليتفقّد الآلهة الصغيرة التي تبقى ثابتة دون حراك. فيهددها
ويأمرها ويلقّنها بالسوط حينا وبالصراخ و بالوشوشات وبالركل وبالصفع... وأنه الرحيم و العظيم و
القادر والنافع والضار... وبرحمته يطبطب على خد هذا الإله الصغير أو يربت على كتف ذاك أو يمسح
على شعر الآخر... و هكذا إلى أن يكمل جولته في كلّ العواصم، ليعود إلى منصته الرخامية الباردة
مطمئنا لتطبيق الآلهة الصغيرة أناجيله و صحفه.
الليلة الفاصلة بين 31 ديسمبر و 01 جانفي، هي الليلة الحاسمة ... ليلة التنفيذ... ليلة الشهادة ...
ليلة الانتقام... لي وللإخوان ولزوجتي وعائلتي وأمتي و شعوب العالم الإسلامي قاطبة.
منتصف النهار تماما، كانوا يجلسون جميعا في قاعة الجلوس يتلقّون آخر التعليمات.
مرر "أمير التوم" أصابعه على لحيته الكثيفة التي جعلت "أبا مصعب العراقي" يستغرب من السماح له
بدخول التراب الأمريكي، وهي توشي وجهه النحيف ... قال:
بسم الله الرحمان الرحيم... سننفّذ على بركة الله شرع الله. وقد نذر الإخوان "أبو بكر" و "سمير"
و "صالح" أنفسهم للشهادة.
( مشيرا إلى أحزمة ناسفة، ملقاة على الزربية المفروشة تحت أقدامنا )
هذه هي أدواتكم ... حافظوا على هدوئكم ولا ترتبكوا واذْكروا الله كثيرا. أذكّركم أنّ من يخطئ أول
مرة، يكون قد أخطأ للمرة الأخيرة.
( وجه كلامه "لأبي مصعب" )
أما أنت، فسيكون سلاحك السيارة اُلمفخخة... ما عليك إلا أنْ توقفها في ساحة التمثال على بعد عشرة
أمتار وتنزل منها قبل الوقْت المحدد بثلاث دقائق... ثلاث دقائق كافية بأنْ تكون بعيدا عن مكان
الانفجار.
سأل "أبو مصعب" مستفْسرا:
وما هو الوقْت اُلمحدد ؟
التنفيذ سيكون منتصف الليل تماما ... وما عليك إلا مغادرة السيارة قبل ذلك بثلاث دقائق.
مع ذلك أقول، ستكون السيارة رابضة على بعد ألف متر من الهدف...قبل عشر دقائق تتحرك بالسيارة
إلى المكان . توقف محركها، وتنزل دوء تام كأنّ شيئا لم يكن.
( موجها كلامه للجميع )
لا تخافوا، كلّ الأمور مدروسة بدقّة، حتى السيارة التي سننفّذ ا العملية، هي عبارة عن تاكسي، لا
تلْف ت الانتباه.
أكمل "أمير التوم" حديثه، ثمّ أسند ظهره إلى الأريكة بقلق أخفاه عن الحضور، قائلا :
من له ملاحظة أو سؤال ؟
علّق "ميلود عبد القادر":
لا بد من التأكيد أنّ التنفيذ بعون الله، يكون في نفْس التوقيت... "أبو مصعب" تحت التمثال. و
الإخوان "أبو بكر" و " سمير" و "صالح" في الساحة العامة حي ُ ث تقام الاحتفالات بمولد المسيح.
( متداركا )
نسي ت أنْ أقول أنّ الأخ "سليمان" الذي استقْبلكم في المطار، هو الذي سينقلكم تباعا إلى الأهداف
اُلمحددة.
( سحب حقيبة يدوية وتناول منها أربع ساعات يدوية، وزعها على"أبي مصعب" و "أبي بكر" و "سمير"
و"صالح" وعلّق )
دقّقوا التوقيت جيدا... ضبطوا عقارب ساعاتكم على نفس الدقائق. نسبة الخطإ لا يمكن أنْ تتجاوز
الثانيتين.
ثبت الإخوان ساعام في معاصمهم ووقفوا مستعدين. فيما تدخل "أمير التوم":
نرجو من الله العزيز القدير أن يثبت خطاكم ويحميكم ويتقبل أعمالكم. والآن استريحوا لمدة
ساعتين، قبل أنْ نسجل رسائلكم على أمة الإسلام، ل نوزعها بعد أنْ ينصركم الله.
دخل أربعتهم ليناموا، أو ربما ليتهيأوا للحظة الحسم.
فيما تفرغ بعضهم لتلاوة القرآن.
ساعة واحدة، كانت كافية ليخلد الجمع للنوم. فيما لا يزال الشيخان في قاعة الجلوس يوزعان الكلام
ويدرسان الخطط اللاحقة. ليس مهما الهدف، بقدر ما م النتيجة الصاعقة على نفوس الكفرة و
الأعداء و الشياطين وعلى عقولهم...
إذن، هل يكون الهدف القادم "باريس"؟ أم "لندن"؟ مدريد؟ برلين؟ أم ربما إحدى العواصم العربية ؟ من
يدري، فالأحداث القادمة ستحدد الهدف القادم.
مع أنّ " أمير التوم " يفضل الأنظمة العربية وعواصمها. فهي الأقْرب والأخطر من جيوش تغزو شعوبا
من الخارج. فالغزو قابع فينا، كذا القمع والإرهاب وإفقار الشعوب والخروج عن الملّة والدين.
ما زالا يتجادلان بمرجعيات الشيخ "أسامة بن لادن" وأحداث العراق وفلسطين وأفغانستان ...كأما من
سيغير الخارطة والحكومات والأنظمة.
فجأة، ُ طرِق البا ب ثلاثا... طرقات خفيفة متتالية.
رد "ميلود" دون أنْ تظْهر عليه علامات الارتباك والريبة. فهي طرقات "سليمان":
من...؟
التمثال.
لحظة... سأفْتح.
اتجه "ميلود" نحو الباب ليفْتحه... مد يده للقفْل أداره وسحب الباب، فاصطدمت زاوية رؤيته
"بسليمان" محاطا بعناصر ملثمة، من القوات الخاصة الأمريكية، مدججة بأسلحة آلية كافية لدك
الآلاف في لحْظة واحدة... ارتموا إلى الداخل مسرعين، وتولّت فرقة منهم شلّ حركة "أمير التوم" و
"ميلود عبد القادر".
لم تمض ثوان قليلة، حتى أخرجوا "أبا بكر الشوكاني" و "سمير خطاب" و"صالح العريض"، مثْقلين
بالقيود وقادوهم جميعا إلى جهة غير معلومة.
المشهدالأخير
الرسالة الأخيرة
ليلة السنة الإدارية الجديدة، كن ت ممددا على سريري مثبتا بصري على الشاشة الصغيرة، و مثبتا
سبابتي على جهاز التحكّم مغيرا وجهة اُلمشاهدة من قناة إلى أخرى، أتابع احتفالات الشعوب بأعيادها.
واحتفالات شعوبنا بأعياد الآخرين.
كان البذَ خ والفوضى واُلمجون والطرب و .. سيد الأشياء ليلتها.
الصور تنقلك من "باريس" إلى "لندن" إلى "بون" إلى"روما" إلى "أثينا" إلى ... وقنوات إخبارية تنقلك
إلى"غزة" أو "بغداد" أو "الأعظمية"... حيث الموتى و الإنفجارات والاغتيالات والرصاص... الموت هنا
سيد الأشياء.
أحدهم يبني حياته بالفرح، وآخر بالحزن والموت يؤسس لحياة قادمة... أي مفارقة ؟؟؟
فجأة، نقلت إحدى القنوات الإخبارية خبر الكشف عن مجموعة لتنظيم القاعدة، حاولت أنْ تنفّذ عملا
إرهابيا داخل الأراضي الأمريكية. ومررت نفْس القناة تمثال الحرية وهو شامخ مبتسم ساخر، كأنّ على
رأسه الطير... أقدامه هناك، ويده الممدودة إلى أعلى تطال سماءنا.
لحظتها فقط، حضرت رسالة "إيراد الحاج"، فسحبتها من كوم أوراقي لأقرأها من جديد:
"بسم الله الرحمان الرحيم
لن أقول رفيقي هذه المرة ... أقول أخي في الإسلام. متمنيا من الله سبحانه وتعالى، أنْ يهديك إلى
طريقه المستقيم / إلى الإسلام.
و بعد: بعون الله وبفضله نوشك أنْ نحقّق شرع الله في أرضه. ستسمع قريبا ما يحقّقه الإسلام على
أرض العدو.
أنا لم أستطع مبارحة سوريا لأحج مع الإخوان إلى نيويورك، ولكنهم حتما بعون الله سيحققون ما يحلم
به و يبغيه كل مسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
توقّفْ ت عند "أخي في الإسلام" و "نحقّق شرع الله في أرضه" و "أرض العدو"....
أيكون هذا الخبر هو ما حكته الرسالة؟
ارتبكت مخيلتي، وتماهى تفْكيري مع الفوضى والارتباك ... لم يعد بإمكاني أنْ أفكّر في شيء عدا
اللا مفكّر فيه.
إذن، ماذا تبقّى ؟
سحبت سيجارتي أشعلها، وترك ت عود الثقاب يتقد كأنه النار المثبتة في المشعل أعلى تمثال الحرية...
كانت النار براقة وحادة في حمرا وغضبها.
مددت الرسالة بيدي الأخرى، وتركتها تستمتع بلهيب الغضب، حتى سقطت رمادا على الأرض. كدت أرى
تماثيل عديدة تسقط، فيما لا يزال تمثال الحرية ينتصب ساخرا، شاهرا مشعله كمدفع في وجوهنا.
قصور الساف
ربيع 2010
صدر للكاتب:
* "عودة الشعراء " ( مسرحية ) دار الإتحاف للنشر/ سليانة أفريل 2002
* " ذاكرة الألوان " ( رواية ) دار سيبويه للنشر/ المنستير 2006
*عاطل عن العشق ( مجموعة شعرية) دار إنانا للنشر ديسمبر 2010
* وصية الوردة ( ديوان شعري صوتي CD ) الشركة التونسية للف والطباعة سبتمبر 2010 .
* سلسلة جدل الآن: عن قضايا الديمقراطية و المثقف (كتاب جماعي) دار البراق سوريا 2002
* " الهوية من منظور مختلف ": (كتاب جماعي/ سلسلة الفكرية ) دار صامد للنشر /صفاقس أفريل 2009
* " ديوان الثورة ": أنطولوجيا شعر الثورة التونسية من إعداد محمد البدوي، دار المسار للنشر والتوزيع / تونس 2011