المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحج إلى واشنطن


AshganMohamed
01-15-2020, 01:57 AM
الحج إلى واشنطن
المهدي عثمان

--------------------------------------------------------------------------------

تم إهداء هذه الرواية من طرف كاتبها لموقع أنفاس
ANFASSE.ORG
المهدي عثمان
التنظيم
( رواية )
الإهداء
* إلى شباب الثورات العربية.
* إلى أصدقائي بمدينة قصور الساف.
* إلى الصديق المنجي العايدي.
* إلى صديقتي الفلسطينية " عائشة ".
المشهد الأول
هذه اللوحة للخمر
"من ألف عام أكتب إليك رسائل أوجاعي، فتمزقها أو يمزقها وجه غرورك. كيف أحبك يا
حبيبي.. يا ربيع العمر والترحال.. يا قاتلي كلّ مرة ألف مرة.
من ألف عام أخضب كلّ رسائلي بعطر أحلامي وأمنياتي المرفْرفة في سماء شموخك.. بعطري الأنثوي
الذي تشتهي. كن  ت أضمخ كلّ أشيائي الجميلة باسمك : شالي الحريري
( مثلا ).. فستاني.. قلم الشفاه.. و حتى رحيق الكلام..
ياه.. كل رسائلي سقطت في و مياهك المالحة، واختنقت بمائك عبير كلماتي. غير أني أرى الوقت
أحلى كلما كنت معي.. أرى الشوق أكبر كلما غبت، وأرى الألوان في أشد الأوقات قتامة.
صارت مساءاتي يا أخير زمانك في العشق وفي الوجع قنديل مخاض وعسر ولادة. أبحث عنك كمن
يمنح وجهه لزخات المطر، ولا أتعثّر إلا على مدارج حزني. و لمّا تعود من غيابك، أعود إليك وأنسى
الرحيل وأنسى الضجر.
ها أنك الآن ترحل دون بوصلة لعودة واضحة. لا مناديل تودع قواربك، ولا ُ قبلة تحتفي بقدومك بعد
الرحيل.
ها أنك الآن ترحل دون إذن من سيد عشقنا. أما أنا، فمن ألف عام أشد الرحيل ولم أرحل.. من ألف
عام أجدف في مكاني وأرسو في بحورك من جديد .
مع ذلك وأنا القارب دون شراع بدونك أشد الرحيل كأوراق خريف يذرفها الوقت. لكنني إن سقط  ت،
أرفرف مرة أخرى ولا أنحني.
أنا إذن، أقف لأعشق من جديد، فلي الخيار و لك الخيار.."
كن  ت  ملقى كالسلحفاة على ظهري، أتلو رسالتها على وجعي المقرفص حذوي، كمن يعود مريضا لا
شفاء له. ُأغالب ثقتي أا من أرسلت هذا البوح إلى الصحيفة التي تعود  ت أن أنشر على صفحاا
رسائل عشقي إليها .
كانت هواجس وخواطر في شكل رسائل من سجن لا قضبان له، وأدون أسفل النص: "شاعر مر من هنا".
أدرك جيدا أا كانت تتابع الرسائل بملء الشغف والرغبة الجارفة. و يقينا كانت تجمع الرسائل
لتحتفظ ا.. نعم أرى ذلك في التفاتتها ونظراا المشحونة بالهمس والأنوثة الصارخة .
لم تكن ككل اللواتي عشق  ت.. كانت عصية ومتمنعة، تصد حتى رغبتي في الكلام إليها، وتكتفي
بالابتسامة. كان الحديث معها كمن يداعب قطّة تسكن دفء يديه، لتنتفض فجأة  منشبة مخالبها في
كفه.
ما أقصر المسافة إليها وما أبعدها.. تقتلني المسافة حينا، وأخرى ذلك الماضي الذي يعلق في أهدابي
كدمع سيدة ممزوج بكحل جفوا.
وأنا في المسافة، كالملقى في بيداء لا بد من قطعها... كلما طالت المسافة، زاد الإصرار على قطعها... كلما
كانت قاسية، زاد الإصرار على كسر غرورها
...........
أغالب ثقتي، أا من أرسلت هذا البوح إلى تلك الصحيفة، مع أني من كتب بوحا على لساا وأرسله،
يحمل إمضاءها وشوقها الذي لم تبح به.
لماذا فعلت هذا ؟
لأني أحبك..
ليس ذه الطريقة.
وبأي الطرق تريدين ؟
... لا شيء.. دعني وشأني..
........
بملء الثقة بالنفس، والغرور أيضا قل  ت:
ألست أنت من كتب الرسالة ؟
ردت بعنف لا مثيل له:
أعرف خزعبلات الشعراء ..
Vous êtes un acteur merveilleux
وانصرفت دون أن تلتفت إلى سمات وجهي، وقد تراوحت بين الضحك والبكاء.
لحظتها، قرر  ت أن أكتب لها آخر رسالة عشق، لها أن تحتفظ ا، أو أن  تلقيها في وجهي.
كمن يكتب رواية بفصل واحد، كن  ت أرسم ملامح رسالتي في كراس بأكمله. أمزج فيه ألوان الفرح
والغبطة، بألوان التذمر والقتامة، كمن يحضر مزيجا لرسم لوحة.
كأنني "دافنتشي" أمزج ألوان"الموناليزا" .. كأنّ ما أكتبه،
أعسر من رسم "غربان القمح" لفان كوخ ، أو "صرخة" للفنان النرويجي إدفارد مونش.
هنا ذه المدينة المهزلة، أدخل تجربة عشق جديدة، بعد خمس سنوات قضيتها بالعاصمة، أتراوح بين
الدرس الأكاديمي والنقابة والفن وقصص الحب.. أعود إلى حيث بدأت رحلة الكتابة، بنصف الرغبة
الجامحة ونصف القلب المحترق. وما تبقّى،أزهر سنديانا بأحضان اللواتي عشق  ت.
هنا أيضا، تلقى نفسك في مدينة تنحني فيها للرداءة والضجر المميت.. في مدينة أشبه بتمثال من
الشمع لا يتطور، بل ربما يتضاءل بفعل الاحتراق.
أن تقول "قصور الساف" يعني الضجر والروتين وأشياء أخرى، ربما لا تشبه غير الموت.
هنا لا جديد تحت الشمس.. القيء يلف أوتاره حول أعناقنا، وأنت تضطر للانخراط في الشاغل
اليومي، بوعي منك أو بدونه. إما أن تلتحق بطابور العمل اليومي، وإما أن تختار لك مكانا بإحدى
المقاهي، تعين الكسل على التدرب، وتمنح لجسدك مزيدا من القدرة على التكيف مع الكراسي، وطرق
الانطواء المختلفة، ووضع الأرجل والانحناءات والاتكاء.. حسب طبيعة الجلسة ومكاا، داخل المقهى
أو خارجه، وحسب طبيعة الطقس وحالة النادل النفسية ومزاجه.
والمقاهي هنا، مقسمة حسب الرتب الاجتماعية و المكانة السياسية... فللغرباء مقهاهم الخاص،
يعرضون فيها أجسادهم على الراغبين في الانتفاع بجهدهم. أما أعضاء الس البلدي فهم يغيرون
المقهى حسب طبيعة الأحداث والتحالفات والمصالح .. وقد يضطر البعض منهم إلى تغيير وجهته إلى
مقاهي المدن ااورة اتقاء القوادين، وخوفا من كشف التحالفات. وللمقاهي الأخرى روادها ومريدوها
بعضهم قار، والآخر يغير المكان حسب الأهواء والظروف.
وقد أودعت الرسالة/ الكراس إلى "حبيبتي" لتقرر مصير علاقة من طرف واحد ... بدأت
شوارع العاصمة تمْثل في الذاكرة وتحضر صورها ورائحة الرطوبة المنبعثة من الأسواق العتيقة:
ملل  ت هذه الجدران.. هذه الأج السرطانية والوجوه المتكررة.. لقد تعود  ت على عدم الاستقرار..
هذه أخطر الأشياء التي تقلقني .
الأخطر منها أن تستقر في مكان ينهشك كالسوس القبلي، لتلقى نفسك هيكلا يزين ركنا من أركان
هذه المدينة المهزلة.
يا صديقي.. كل المبدعين غادروها، فانتصروا لإبداعهم وكسبوا ذوام، فارين بجلودهم من الاحتراق.
... هذه مدينة لا  يستطاب فيها العيش.
... نعم قد أشاركك الرأي.
هكذا دار الحوار بيني وبين "صديق قديم"، ونحن نحتسي قهوة المساء بمقهى" الأقواس"، وقد انضم
إلينا "النادل" قائلا:
آخرهم السيد الوزير السابق ... حتى مترله على شاطئ "سلقطة" فرط فيه بالبيع هروبا من
أهله ومن سكان هذه المدينة الفاجرة.
علّق  ت مساندا رأيه:
الأدهى من ذلك، أن الذي كان لا يقسم إلا باسمه ويقتات من خيراته ومننه، هو من بات يشتري
قوارير الماء والقهوة لرجال الشرطة المكلفين بحراسته أثناء فترة الإقامة الجبرية.
وأنه حتى ببراءة السيد الوزير السابق كان يغادر المقهى الذي يلقاه فيه حتى لا تطاله الشبهات
وحتى لا يتهم بخيانته للوطن.
هذه بلادك يا صديقي.
كم تنكّرت ذاكرتنا الجماعية لشخصيات ومبدعين، أسهموا ويسهمون في بناء هذا الوطن .
"ما عندكشي مشكلة" نحن من صنع مفهوم تنكّر الذات.
وأنا أشعل سيجارة أخرى، وقف "زهير" قبالتنا:
ما شفْتهاش... ما ريتهاش... ما مشيتلْهاش...
هكذا بدا  مرتعشا،  مرددا نفس الكلمات والحركات... وهو يحرك رأسه في كلّ اتجاه ببطء شديد، كأنّ
على رأسه الطير، وأضاف:
أعطيني سيجارو...
مد له "محسن" سيجارة وأشعلها له، لينصرف  مكملا نفس الحوار مع نفسه:
ما شفتهاش... ما ريتهاش... ما مشيتلهاش...
لحظتها مُثل بذهني "الخبز الحافي" و "البؤساء". بل ذهب في اعتقادي أنني صادف  ت الشخص نفسه ب
"رخيوت" أو "حوف" ، أو ربما نقلت إليّ الصورة عبر قصائد مظفر النواب، وتذكر  ت قوله:
أحد يعرف رخيوت و حوف
ما تلك من الأفلاك السيارة
و اُلمكتشفات
ولكن وطنا عربيا، مملكة للجوع
و للأوبئة الجلدية
و القيء وللثورة أيضا
شاهد  ت الحامل تأكل مما يتقيأ طفل محموم
وتغذّي الطفل الآخر من نفس القيء الأسود
كن  ت أسرد قصيدته بصوت جهوري مرتفع، يجعل من حولي يستمع بانتباه للقصيدة.
لو كان " لطفي " حاضرا، لأرجع وضعية هذا انون إلى النتائج الحتمية التي  يفرزها النظام
الرأسمالي. وحتما سأدخل معه في جدل عقيم لن ينتهي. وسيبرهن لي، أنّ طبيعة النظام الرأسمالي
القائم على الربح واستغلال الطبقة الشغيلة أو طبقة البروليتاريا ( كما يحلو له أن يسميها ).. هو
الذي سيوصل العامل إلى هذه المرحلة، بسبب الاستغلال الفاحش وعدم الاستقرار النفْسي، بسبب غلاء
المعيشة واحتقار الذات الإنسانية، التي لا تعدو كوا وسيلة إنتاج، أو جسدا للإشهار.
و أنا في اتجاه بيتنا وقد ودع  ت " الروح" و"محسن" كانت ذاكرتي تفتش في مقاهي العاصمة عن
الرفاق والأصدقاء... تمر إلى الحانات والشوارع، وتعود يائسة لترتمي في حانة " القرصان " بالمهدية،
على طاولة لأربعة أشخاص بركن منزو.
تضيق بي الدنيا، و  تحاصرني الهزائم، فتنتصر الخمرة هناك بذات المكان الأبعد عن المصالح
والتروات... الأقْرب للنشوة و استحضار المؤلم والمخيف... الفجيعة و الألم... الجراح والهزائم...
نعم بالخمرة فقط، يمكن أنْ تخْرج من بوتقة الواقعي، إلى جهة صوب ا ُ لحلم، فتأتي إليك عشيقاتك
وحبيباتك ورفاقك، وتحضر السلطة أيضا والفن والشعر والتنكّر للوطن والدين.
كن  ت وحيدا على طاولة  منفردة، أمزج التعب بحبات العنب، وأضيف الجعة.
سحب  ت قلمي وكنشا كثيرا ما يصحبني، وبدأ  ت أشاغل شيطان الشعر ليحضر... فحضر النادل
ليغير منفضة السجائر، متسائلا:
هل أزيدك؟
دون أنْ  يكمل، أشر  ت له برأسي علامة الموافقة، مستعينا بالسبابة والوسطى، فأحضرهما دون أنْ أنتبه
إليه أو أنشغل عن الورقة، وهي تفْتح فخذيها للفكرة اُلمتمردة من الطرة إلى آخر نقطة في الطرف
المقابل. هذيان وعربدة وفوضى وأفكار أشبه بالأناجيل القديمة... لا هي بالشعر ولا بالخاطرة ولا
بالمقالة ولا شيء...
غير أنّ الفكرة تحْضر دون أنْ  ترتب هندامها وتغسل وجهها الصباحي... تحْضر  متثائبة، متمردة،
فتنفض رائحة نومها على الورقة، دون أنْ تكون لتلك الرائحة معنى... ربما كانت رائحة الخمر أشد
تأثيرا عليها، فترنحت المعاني وسكرت...
ووجدتني أكتب:
رب سامحهم و إنْ لم يسكروا
كيف يشتاق إلى خمْرة جنانك
من لا يعرف الخمر
و يشتاق صباياها
إنْ كان هنا ما عشق.
كأني ما كتب  ت غير نص أحفظه للنواب... كأنّ ما حضر غير حانة بأحد شوارع العاصمة مع الشاعر
"عبد الوهاب"، وكان يردد هذا البيت نفْسه وهو ثمل،  محتفلا بقدومي على طريقته... نفْس الخمرة...
نفس الأجواء الخانقة والبائسة واُلمتمارضة، مع اختلاف في المكان .
كان يسرد قصة تعرضه لحادث مرور أفقده ساقه، وأفقده نساء نزواته... هذا الشاعر اُلمتكالب على
اللذّة والنساء، كلما التقيته، التقي  ت بأصناف من المومسات والساقطات والعاهرات... كأنّ الشعراء ما
 بعثوا إلا ليتمموا المهمة الهادفة:
مهمة إنقاذ المومسات من الشرف، وإنقاذ الحانات من الإفلاس، وإنقاذ رجال الأمن من البطالة، وإنقاذ
قطط الشوارع والقوادين والبصاصين والبوليس السياسي... لذلك يجتمع كلّ هؤلاء، للتنكيل بالشعراء
أو الانتقام منهم.
إنّ المشهد الأكثر ألما، هو أنْ تبات وحيدا بلا أنثى تحضن عربدتك، وأنت راغب في زرع نزواتك في تربتها
المالحة لذلك أؤمن حد الكفر، بأنّ سيدة إذا باتت لوحدها، فتلك خطيئتنا نحن الرجال.
أنا و "عبد الوهاب" أعددنا المشهد جيدا، ولم يتبق إلا هي... خصصنا مساء كاملا للبحث عمن تحْتفي
بجنوننا، فلم نظفر بغير خيبتنا. وحتى التي وعدتنا بأنْ تلْتحق بنا آخر الليل، لم تأت.
وبتنا ثلاثتنا، أنا وهو وعلب الجعة، نلعن الشعراء والنساء ومربعات الرصيف والساسة والحكم
الجمهوري وخرائط التقْسيم العنصرية و... و...
في ليلة كهذه أزدا  د إصرارا على الانتقام من أي سيدة تعترض طريقي، فأحولها إلى مومس أو حاقدة أو
 مصابة بمرض فقْدان مناعة الكره.
في قبو على وجه الكراء أكْملنا ليلتنا بين الشعر والشعراء وسياسات العالم الثالث،  محاطة أفكارنا
المترنحة بدواوين الشعر وكتب الفلسفة والصحف اليومية وقوارير الجعة.
....................................
حضرت كلّ هذه الأفكار، وأنا لا زل  ت بحانة القرصان تتداول علي العلب الروحية، ويتداول على المكان
بحارة وطلبة وفقراء، يراوح بينهم نادل يقتات من  سكرهم وسهوهم وما يتركون من مال تبقّى من
فقرهم. كأنك تحضر مشهدا يتكرر عند "حنا مينة" أو "محمد شكري".
كن  ت كثيرا ما أتساءل عن الدوافع التي تجْعل البحارين أكثر رواد الحانات والمواخير. هل الفقْر ؟ أم
الجوع ؟ أم قساوة البحر وموجه ورطانته وحدته . بلْ ربما احتفاء بالحياة بعد خروج من بحر قد لا
يخْرج منه من دخله للمرة الأولى أو حتى للمرة الألف.
قطْعا للبحار دلالاا عند الشعوب ... بعضها تراها امتدادا لها أو تواصلا مع أجسادها وأرواحها
وثقافتها. وبعضها ترى البحار بوابات لهجوم الأوبئة والجيوش والقمع. فإلى أي الشعوب ينتمي هؤلاء
البحارة الذين أمامي ذه الحانة ؟ قطعا للصنف الثاني من الشعوب. وإلا ما غادروه خائفين كمن خرج
للتو من رمسه، فيحتفي بالخمرة و المومسات. ليدخل البحر ثانية كمن يستفز القَدر كرا و فرا.
هنا ذا المكان العتيق الأشبه بحانات أوروبا زمن محاكم التفتيش ... الدخان يحجب الوجوه
والتفاصيل و  يضفي على الجدران المطلية بالجير لونا رماديا، كقلب سجين لا يعرف  تهمته.
... ضجيج.. وصراخ وفوضى وقرع كؤوس على أنخاب هزائمنا الممتدة من البحر إلى البحر. كأنّ هؤلاء
يهربون من حروبنا المتكررة وخسائرنا المتكررة.
ُأنظرِ الطاولات، ترى عرق الخشب يخرج من مسام الأشجار الأولى، كأنه يتنفّس خارج طبيعته " فما
أدراك لماذا هذه اللوحة للخمر وتلك لصنع النعش وأخرى للإعلان ".
ذكّرني القول بحوار دار بيني وبين صديق يمني يتردد على تونس باستمرار:
أعلن إعلانا، الأمر وبه: أظهره وجاهر به. والإعلام هو إحداث المعرفة عند المخاطَب على وجه
الصدق.
هكذا كان صديقي "الناصر سالم" يفسر لي مفهوم الإعلام والإعلان ووسائلها، مستشهدا بوسائل
الإعلام العربية التي حادت عن دورها.
فهي لا  تظهر ولا  تجاهر ولا  تحدث المعرفة، فهي إذن ليست وسائل إعلام.
علّقْ  ت:
وماذا  تسميها ؟
أجاب:
ليست إعلاما... بمعنى هي وسائل إعلاء مكانة الحكام والساسة وتقْزيم الحقيقة هي وسائل إعلاء و
وتأليه ا ُ لخطب والقرارات.
ولكنك  متحصل على دكتوراه في الصحافة. أليست مفارقة ؟
عندما أكمل  ت مرحلة الأستاذية، ُ كلّف  ت بالإشراف على دورية  تصدرها جامعة صنعاء. اكتشف  ت خلالها
أنّ ما أقوم به ليس سوى رش المبيد على جثّة لإبعاد الذباب.
لهذا غادر  ت صنعاء بلا عودة إلى ألمانيا .ولأنه ليس بالإمكان التوجه إلى برلين انطلاقا من اليمن، طالما
أنّ اليمن السعيد على قائمة الدول الراعية الإرهاب، وأنه محضنة لتفْريخ المتطرفين والإرهابيين ..
اتصل  ت بأصدقاء يساريين يدرسون في روسيا ليساعدوني على الالتحاق بالجامعة وتمّ لي ذلك. وبعد
حصولي على الدكتوراه اتجه  ت إلى ألمانيا واشتغل  ت هناك.
و العائلة ؟
أكمل بسخرية من يدخل حربا خاسرة:
نحن ثمانية إخوة غادروا كلهم تراب اليمن السعيد في اتجاه الأراضي الأكثر سعادة. أحدنا في
أستراليا وآخر أقام بالولايات المتحدة والبقية يتراوحون بين بريطانيا وألمانيا وفرنسا.
( تنهد ) المهزلة يا صديقي، أنه لا يمكن لك أن تكتشف مفهوم "المواطنة" إلا خارج أرضك العربية...
صدق وأنا مقيم بألمانيا قرابة الست سنوات، تمّ إيقافي مرة واحدة من قبل رجل أمن، تصفّح أوراقي
وحياني لأنصرف.
أما وقد كن  ت في وطني السعيد، فلا يمكن أن يمر اليوم دون أن يكشر رجل الأمن في وجهك، وربما يشكك
في وثائق الهوية، وقد يدعوك لاَصطحابه إلى مركز الأمن لإتمام الإجراءات.
( كأني أذكره بحادثة ربما لن ينساها ) ولعلّ ما حصل لك في تونس خير دليلي على ذلك؟
آه... في تونس المسألة مختلفة. تشعر أنّ أنفاسك تسجل في جهاز أمن الدولة أو البوليس السياسي ..
كل حركاتك وسكناتك.
ففي آخر مرة أوقف  ت في المطار وتمّ التحقيق معي لمدة فاقت الأربع ساعات، اتضح للأعوان بعدها أنّ
خطأ ورطهم... كتشابه في الأسماء مثلا.
سكب كأسا من "الويسكي"، وكنا لا نزال نتسامر في غرفتي الضيقة المحْشوة بالكتب والصحف
وأشرطة الكاسات. أشعل سيجارة وأكمل:
أتدري يا رفيقي، أنني كلما دخل  ت وطنا عربيا أشعر أنّ مكانتي أكبر مما كن  ت أعتقد. خاصة وأنني
مطالب بتحديد مكاني وإقامتي ومن سأزورهم ومن سأقابلهم و ...
دون أن أنسى طبعا أنّ إجراءات دخولي قد تستغرق الساعات، بسبب وحيد كوني من اليمن السعيد.
هكذا كان يغرف من جرحه ويبسط الحكايا على طاولة الخشب التي أمامنا، والتي هي بالضرورة
للخمر وليست للإعلان.
كان يسرد لي بمرارة واقعا مؤلما ومأساويا عن المواطن اليمني، وخاصة في الجنوب الاشتراكي. وبسبب
إيديولوجية هذا الجنوب وككلّ جنوب عربي تمّت معاقبته لسنوات، وتواصل العقاب حتى مع تحقيق
الوحدة. لهذا فرخ الفقر ما يسميه الآخر "إرهابا" أو "تطرفا" ، ونسميه كذلك اقتداء بالآخر أو خوفا
منه.
فالآخر يخيط المفاهيم على قياسه، ويعرضها للاستهلاك الخارجي. أما نحن فنرحب بالمفاهيم ونعلّبها
وننمقها للاستهلاك الداخلي. وبين الداخل والخارج طرف يمارس الإرهاب الفكري، على طرف آخر
ويجبره على الاعتراف بمفهوم الإرهاب الذي سطّره.
تناول حقيبته الجلْدية الصغيرة، وسحب من طياا رواية "اُلمستنقع" لحنا مينة، وبسرعة أدركت
أصابعه الصفْحة التي أرادها قائلا:
لم يشدني كاتب عربي مثلما شدني هذا العظيم حنا مينة . وخاصة روايته هذه ... عندما أمر على
سطورها أجدني أعيش تلك الأحداث، داخل ذلك الحدث الروائي... إا أحداثي أنا ... واقعي...
حياتي... وربما أحداث كل مواطن عربي وواقعه وحياته، اسمع ماذا يقول:
"... نحن كنا تلك الدودة على الصخر. كنا  دودا على صخر ليس على جوانبه أيما خضرة أو تراب.
كان الحي كلّه دودا يلوب في مستنقع صخري فيه كلّ الأوحال وكلّ الأقذار، وليس فيه أيما شيء يؤكل،
ولم يعد نصف أهل الحي يعملون، ووصلَ الأمر ببعضهم إلى بيع أثاث بيوم وأمتعتهم، وكانوا يفعلون
ذلك وهم ينتظرون الفرح، لكن الفرح كان بعيدا..."
( أعاد الكتاب لمكانه وأكمل )
ما رأيك ؟ أليس من حقّنا أنْ نفجر أنفسنا ضد من جعل وضعنا يأخذ ذلك الشكل ؟
قل  ت بيني وبين نفسي:
من الغباء مقاومة الآخر بتلك الطرق الانتحارية .
كمن وجه مضخم الصوت إلى ساحة عمومية بالعاصمة، انتبه" الناصر " لتعليقي، كمن تنصت على
وشوشات القلب، وعلّق:
أنت إرهابي حتى وأنت يساري. حاول مثلا أنْ  تشكك في المفاهيم... أو تمدح المقاومين والمناضلين
والانتحاريين ... أو شكك في المحارق النازية ..أو ...
( ولم يكمل كلامه كأن أحدا أشهر خنجرا في خاصرته )
كن  ت أستوعب ما يسرد بنبرة يمنية عربية ما زالت تعلق في أهداب لغته المستعملة، رغم سنوات الغربة
والتغريب.
مع ذلك حاول  ت أنْ أضيف شارحا أو متسائلا أو متداركا، لكنني لم أجد خيوط اللغة الأولى وانفرطت
الأحرف كحبات عقد مرجانيّ.
انتبه لارتباكي، وأكمل:
ماذا يسمى غزو دولة لإسقاط حكومتها واحتلال أرضها؟
إرهابا.
لا ...
ماذا إذن ؟
دفاعا عن النفس.
أمسك  ت بناصية سخريته، وأيقن  ت أنه يمارس نوعا من البلاهة المتعمدة.
وأكمل :
كلّ دفاع عن النفس ليس إرهابا.
إذن من  يناضل يدافع عن النفس أيضا.
بالضبط، لذلك فكلاهما يملك شرعية سحق الآخر وإلغائه من التاريخ . إذن من يثبت التاريخ أنه
الأقوى، سينتصر.
للمرة الأولى أتعثّر على عتبات تفسير ذا لشكل البسيط والمعقّد، لذلك قبلته بمنطق من شعر
زيمته. ولولا ثقتي بصديقي وإيماني بمواقفه، لقلت أنه تفسير مشبوه.
مع ذلك تساءل  ت:
لكن الأقوى لن يبقى دائما كذلك.
............................
لم  يجب عن تعليقي، رغم أني وجهته له مباشرة وبصوت عال. واكتفى بإشعال سيجارة.
فهم  ت إصراره على عدم الإجابة، ربما لأنّ ملاحظتي لا إجابة يملكها لها، أو ربما هي ملاحظة بلا
إجابة أصلا.
تناول  ت شريطا غنائيا، وشغلت آلة التسجيل ليصدح الشيخ الضرير:
والنهاية يا خواجة
من في يوم كانت بداية ؟
البداية بر  ضه لازم
بيِيجي يوم توصل اية
مهما زاد الرأسمال
الهلاك هو المآل
والتاريخ هو إلي قال
لعبة الموت في الحياة
يسحب الروح من الحناجر
لا زالت الأفكار تتواتر على صدغي، وأنا بنفس الحانة أناجي الخمرة وأحتفي بالسكارى إلى أنْ تناهى
إلى مسمعي آذان صلاة العصر. تذكّر  ت لحظتها أنني وضع  ت كأس الخمر على الطاولة احتراما لآذان
الفجر وأنا أجالس الناصر.
فيما لم ينتبه الشيخ الضرير، وأكمل:
توت توت
حاوي توت
 خش اتفرج
هرج فوت
استحضر  ت قصة العراقي " أبو مصعب ". نقلها لي صديق صحافيّ، كن  ت قد تعرفْ  ت إليه أثناء زيارتي
الأولى إلى مصر. وقد حكى لي كيف كان أبو مصعب يستمع باستمرار لأغاني الشيخ الضرير  معتقدا أنه
إذا ما داهمت مترله القوات الغازية سيخلون سبيله، طالما أنه لا يستمع إلى القرآن أو إلى إحدى
الأشرطة المحرضة على الجهاد لتنظيم القاعدة أو حتى لحزب البعث اُلمنحلّ .
لكنه تمّ اعتقاله، وفهمت القوات العراقية اُلمصاحبة للقوات الأمريكية أنّ ما يقوم به ليس سوى خدعة
.
و بسجن أبو غريب لم يكن يعرف ولمدة ستة أشهر لماذا وكيف وأين سيحاكم ولا يتعقّل مكان وجوده، وكم
عدد الداخلين والخارجين وهوية رجال الأمن نساء ورجالا.
دخلت مجندة أمريكية وقادته إلى غرفة أخرى لا تختلف عن الأولى، تعبق برائحة البول
والرطوبة والقيء والدم المتجمد، كلون الرماد على الجدران، يشكل لوحات تجريدية تحيلك لتشكيلات
الفن الحديث.
بمجرد دخوله الغرفة، دفعته ليسقط أرضا وارتطم وجهه بحذاء مجندة أخرى. انحنت عليه لتفك
قيده، وأمرته بخلع ملابسه ففعل ... لكنه ...
فأشارت إلى ملابسه الداخلية، فارتبك وتجمدت أطرافه ... كالماسك بعشبة بأهداب جبل شاهق يتدلّى
يوشك أنْ يبتلعه السقوط، إلى ر ليغرق أو صخرة ليستحيل عهنا منفوشا.
ظلّ على صبره، ربما ينتظر أنْ ترفعه العشبة إلى أعلى ... ربما تستدرك اندة فتأمره بارتداء
ملابسه، لكنها وخزته بعصاها على إيره.
... ياااا الله ... قالها كمن ينادي"أح  د ... أحدا"، تحت صخرة وما هي بالصخرة... تجْثم ككوكب
على أضلعه الباهتة.
تلعثم .. تمايل .. مد يده ليمسك تلك العشبة، أو يمسك العصى. لكنه أمسك وجعا في أضلعه وشرايينه
... وجعا في الذاكرة والأشجار و الأار والمسلات. .. وسقط مغشيا عليه.
تتالت البصقات على وجهه، وكادت إحدى اندات وهي تفك حزام بزا العسكرية أنْ تفتح
فخذيها لتتبول على وجهه. لكن البصاق الذي غطّى وجهه والركل بالأرجل والعصي كان كافيا ليمسك
وعيه.
أفاق، وكانت يداه مقيدتين أمامه، و لا شيء يستر عورته. أوقفته اندة وراحت  تحرك إيره بعصاها،
وتمررها بين فخذيه و إليتيه بحركات جنسية لم يدرك معناها.
خرجت اندة الأخرى، ثمّ عادت تصطحب سجينة عراقية بلا ملابسها، تدفعها أمامها بسوط كمن
يقود دابة، ودفعتها بعنف أمامه مقيدة بحبل من عنقها كشاة  تقاد إلى الذبح. وأجبراها على البقاء
 منحنية كدابة ليعتليها السجين كثور تسبقه العصا والسوط
لم يكن ليتخيل أنْ يجد نفسه في وضعية كهذه. كان يتمناها وهو في عنفوان شبابه، لكن العصا
أفقدته شهوته والرغبة الجامحة، وأبى إيره أنْ يطاوعه.
فيما كان السوط يجبره، كانت اندة اتفها الجوال تصور المشهد المضحك اُلمبكي، و  تغير زاوية
التصوير كلّ مرة للحصول على مشهد  مغاير.
لم  تبد السجينة أي مقاومة، بل رغبة ربما بفعل التعود أو ربما نجحت معها تجربة الانتباه الغريزي
عند "بافلوف".
كان أبو مصعب يسرد قصته لصديق صحافيّ يعمل مراسلا لصحيفة عربية بالعراق. وكان  يمني
النفس أنْ يساعده الصحافيّ على فضح تلك الممارسات وتعريتها. غير أنّ الصحافيّ إيراد الحاج تمّ فصله
وإحالته على البطالة الإجبارية.
حكى لي صديقي الصحافيّ، أنّ دولته منعته من الالتحاق بأي مؤسسة إعلامية أخرى، حين تمّ
حجز جواز سفره. وأمام الضغوطات المتواصلة من المنظمات الحقوقية ألحقوه بالعمل في مؤسسة
تعليمية ليحتم بشؤون التوثيق.
وكن  ت قد تعرفْ  ت إلى الصحافيّ إيراد الحاج في زيارة إلى مصر إثْر دعوة  وجهت لي من تنظيم ثقافيّ
يتبع حزب "كفاية".
صادفْته منذ اليوم الأول لدخولي المركز الثقافيّ، وتعارفْنا. لا أعرف ما الذي شدني إلى هذا الدمشقي،
ربما لأنه من دمشق الصامدة لا غير. وربما لأنه صحافيّ، رغْم أنني عرفْت الكثير من الصحافيين ومن
السوريين.
أذكر أنني لمّا أكمل  ت قراءة قصيدتي الثانية في الأمسية الثقافية المخصصة للتضامن مع الشعب
الفلسطيني، ض من كرسيه واعترضني فاتحا ذراعيه كمن يستقبل عائدا من الحرب. وانزوينا في ركن
نناقش النصوص الشعرية والمواقف السياسية وجملة الأحداث الحاصلة في المنطقة العربية ودور
المثقف العضوي من جملة تلك الأحداث.
انتهى برنامج الملتقى و  ترك لنا خيار تأثيث ذلك المساء.
بعضنا غادر في اتجاه الأسواق العتيقة للتسوق وشراء بعض التحف المصرية وصور "نفرتيتي" المصبوغة
على ورق البردي .وقد حكى لنا بعضهم كيف تمّ ريب تلك التحفة الرائعة واستحواذ ألمانيا عليها.
حتى أن "هتلر" خالها امرأة شرقية قابلة للمضاجعة.
أما أنا وإيراد فلازمنا الترل بقاعة الاستقبال يصحبنا شاعر مغربي، وانخرطنا في الحديث عن الفن
والسياسة وعلب الجعة.
أكملنا حديثنا عن الوضع الراهن، ومواقف الدول والحالة الأمنية في العراق ولبنان وفلسطين.
وفيما كان صديقنا المغربي " حسين " ينحني بالنقاش إلى جهة الشعر والفن والفلسفة، التفت إيراد
جهة ثلة من الخليجيين في ركن من قاعة الاستقبال تطوف عليهم بعض فتيات الهوى، وعلّق بسخرية
مريرة:
ما أقبح مثل هذا الواقع المتعفّن ... ( مشيرا بإصبعه ) أنظروا هؤلاء الخنازير ( مسك علبة الجعة،
ورفعها إلى مستوى وجهه ) تتحدثون عن المقاومة ؤلاء ؟
قولوا ... ؤلاء ؟؟
علّق صديقنا المغربي بسخرية، وهو يستأذن للمغادرة:
هؤلاء يجب أنْ يطبق عليهم قانون الجنس الآري عند صديقنا هتلر.
قل  ت مواصلا ج سخريته:
وهل هؤلاء من الجنس الآري ؟ أم من اليهود الواجب ذبحهم ؟
أضاف وهو يغادر مترنحا دون أنْ يحمل كلامه أي شيء من المنطق:
البقاء للأقوى...
غادر صديقنا حسين، فيما بقي  ت أنا مع إيراد نكمل ما بدأناه من حديث.
كان ناقما على ذلك المشهد الذي أمامنا إلى حد أنه شتم سيدة حاولت أنْ تقترب من مجلسنا باحثة عن
المتعة.
كن  ت لا زل  ت لا أعرف صديقي تمام المعرفة، ولا قدرة لي على توقّع ردات أفعاله ، ولذلك سألته بحذر
شديد:
ما بك ؟ لماذا كلّ هذا الهيجان ؟
لا شيء... لا شيء..
رد دوء حاول أنْ يتصنعه، وتراجع بظهره إلى الخلف مستريحا إلى ظهر الأريكة. سحب سيجارة
فرنسية، أشعلها، وانخرط في بكاء كان من الممكن أنْ يلفت انتباه الحضور، لو كانوا قريبين منا.
وأنا أسكب كأس الجعة في جعبتي الظمأى بفعل حرارة القاهرة، خمّن  ت أنّ إيراد فقد حبيبته التي لا
مثيل لها على سطح هذا الكوكب... فللعشاق أوهامهم.
سألته:
ما بك إيراد ؟ هل خطرت ببالك حبيبتك ؟
( قاطعني مبتسما بسخرية، وهو يكفكف دمعه )
حبيبتي؟ أنا لا حبيبة لي.. منذ ذلك الحادث الملعون، طلّقت النساء والعشيقات.
لم أفهم... أي حدث ؟
لا داعي فالمسألة مؤلمة، ولا مك في شيء.
إذا كانت مؤلمة، فنحن تعودنا على الآلام والجراح. أما أا لا تخصني، فهذه مسألة أخرى.
شعر إيراد أنني تضايق  ت، لأنني لم أكن محل ثقته. انتبه أكثر واقترب مني قليلا وأكمل:
صديقي.. لا أعرف ما الذي جمعني بك في هذا الوقت ؟ رغم أنني فقد  ت الثقة في الصداقات التي
جمعتني برجال ومثقفين و سياسيين.. إلا أنني لا أعرف لماذا أقترب منك وشعر  ت برغبة جارفة في
صداقتك.
هذه مسألة لا تخضع للمقاييس ..
( أكمل دون أنْ ينتبه لتعليقي ) شعوري أنك من بلد مختلف وبعيد، إضافة لمواقفك التي حملتها
قصائدك، و كلامك... هو ما جعلني أرتاح إليك وأعطيك سري.
هل المسألة خطيرة إلى هذا الحد ؟
ربما ليست ذات أهمية .. فأنا تعودت عليها، ولكنها مسالة مؤلمة وجارحة وحافرة في العمق .
عندما تخرج من حادث مرور وتكتشف أنك... أنك..
أنك ماذا ؟
أنك ... فقدت رجولتك... كيف يمكن أنْ  تقبل على الحياة من جديد ؟أنت الآن مخصي... بلا رجولة
ولا فحولة ولا... أيطعم للحياة ؟؟؟
إنّ الجرح الذي بداخلي لا تكفي أدوية العالم لعلاجه... ( كررها متأوها ) مجروح يا صاحبي...
مجروح..
إيراد...
حاولت أنْ أجيب عن أسئلة لم يطرحها، أو أوضح مسائل ليست غامضة.. أنْ أتكلم في وقت لا الكلام له
كامل القدرة على التفسير والإيضاح، ولا الصمت بإمكانه أنْ يواسي صديقي المطعون في رجولته.
طال الصمت بنا، لا هو أضاف على جرحه شيئا، ولا أنا أضفت ما به أواسيه أو ادفعه للنسيان.
ظلّ يدخن بمرارة ويحتسي الجعة بشراهة المنتقم من رجولته، فيما بقيت أداعب علبة السجائر
والولاعة كاستعاضة عن الكلام.
هكذا أكملنا ليلتنا إلى أن ض مرهقا بفعل الجرح والجعة و البكاء. و دون أن يلتفت قال:
تصبح على خير.
تصبح على خير.
انتهت ليلتنا عند هذه القصة المؤلمة، بل لعلّ هذه القصة هي التي وطّدت علاقتي بإيراد. حتى أنني
فقدت السيطرة على مشاعري وأنا أودع القاهرة فبكي  ت. شدني بعنف من كتفي وقال: لا تبك نحن
لا نلتقي في المكان، نحن نلْتقي في القضايا.
بآخر رسالة وجهها لي، ولم تكن تحمل اسمه على الظرف ككلّ رسائله السابقة، كتب:
"رفيقي.. كلّ هزيمة وأنت بخير.
اليوم وأنا أكتب لك هذه الرسالة، بصدد التحضير للتسلل إلى لبنان عبر الحدود في اتجاه الولايات
المتحدة....
سأراسلك من هناك.
إذا تأخرت رسالتي لأكثر من شهرين، أكون حينها ضيفا على أحد السجون العربية. هذا إذا لم أكن
ضيفا على غوانتانامو."
الإمضاء
صحفي مفصول
إيراد الحاج
قرأت الرسالة عدة مرات، علّي أعثر بين السطور على نص خفي، ففشلْ  ت.
مزق  ت الظرف علّي أعثر على نص ُ كتب على واجهته الداخلية، فلم أظفر بغير خيبتي. لذلك اقتنع  ت
بالرسالة، وفسرا كما هي، متسائلا:
فهم  ت هروبك إلى لبنان، لكن لماذا الولايات المتحدة ؟
ظل السؤال  معلّقا بأهداب القتامة والغموض.
لماذا نشد رحيلنا دائما في اتجاه الشمال؟ هل الشمال هو شمس الحقيقة ؟ أم أنّ شمسنا كلّ أوطاننا ؟
ثمّ لماذا الهجرة أصلا ؟ هل هو الخوف ؟ أم الهروب؟
أم البحث عن زوايا أكثر دفئا؟
الغريب أنّ هجرتنا تضاعفت بعد أحداث 11 سبتمبر، في الوقت الذي كان من المفروض أنْ تتقلّص،
طالما أنّ الآخر بات يرفضنا صراحة.
تكهن  ت أننا نحمل إليهم صك براءتنا ليوقّعوا عليه. كمن يقول:
ها أننا بينكم، فنحن براء من م الإرهاب.
اعتراف كهذا لم يصدح به المواطنون الفلسطينيون، على خلاف العرب قاطبة.
هؤلاء المنتشرون على سطح هذا الكوكب، لا يحتاجون إلى إثبات براءة، ولا إلى شهادة حسن سيرة
وسلوك، طالما أم شعب لا يستحق تلك الصفة. وأنّ طردهم واغتيالهم ومطاردم، تدخل ضمن
مفاهيم إثبات حق شعب الله المختار في الوجود والبقاء.
لم تكن وسائل الإعلام  تظهر تلك الحقيقة الماثلة، رغم التبجح العربي بالدفاع عن قضيتهم. وهو ما
أثبته لي صديقي الناصر سالم بالقول أنّ وسائل الإعلام لا  تظهر إلا ما يدعم مواقفها، ويخدم
الأطراف التي  تمثّلها.
و قد تأكّد لي ذلك، وأنا ألتقي صدفة بفتاة فلسطينية تدرس في تونس.
حين كانت تستعد للمغادرة نحو قطاع غزة، أعلموها أنه لا يمكن الدخول إلى مصر إلا بطلب تأشيرة من
السفارة المصرية بتونس. وحتى الدخول عبر الأراضي الليبية لا يتم بالمثل إلا بتلك الوثيقة. وهذا
الإجراء  خص به الفلسطينيون دون سواهم أثناء الحرب الدائرة رحاها بين إسرائيل وحزب الله.
انتظرت صديقتي"لينا" أسابيع للحصول على تأشيرة دخول التراب المصري. غير أا بقيت على
الحدود قرابة الشهر في انتظار فتح معبر رفح، بإذن من الحكومة الإسرائيلية اُلمنشغلة بحرا مع
الشيعة.
و إذا ب " لينا " تعود إلى تونس قبل انتهاء العطلة الدراسية بأيام، مخافة دخول غزة ومنعها من
المغادرة.
حكت "لينا" أنّ والدها الذي فر بجلده من الأردن إثر مجازر أيلول الأسود تمّت تصفيته في
لبنان "بقلعة الشقيف"، التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي وحركة فتح . وباعتبار انتمائه
لليسار العربي وقع اغتياله من قبل مجموعة من الفتحاويين المتطرفين، وقد  دفن هناك.
وأنّ شقيقها الأكبر الذي ينتمي إلى ألوية صلاح الدين نفّذ عملية انتحارية في نقطة تفتيش
إسرائيلية، مما أدى إلى وفاته وقتل جنديين. فما كان من القوات اليهودية إلا أنْ عمدت إلى اعتقال
شقيقه "عزام"، ونسف مترلهم. وبعده بقيت أمها وأختها الكبرى  تقيمان عند جدا.
وهذا المشهد المتكرر بين العائلات الفلسطينية لا  يثير استغراب السائل . بل الاستثناء أنْ  تصادف عائلة
فلسطينية كلّ أفرادها على قيد الحياة.
سألتها:
كيف يكون والدك يساريا، وشقيقك يمينيا ؟
كيف تجمعهما نفس العائلة ؟
أجابت وكأا كانت تنتظر مثل هذا السؤال:
وعمي "ياسر" ينتمي إلى حركة أمل الشيعية. وهو لا يزال إلى الآن في لبنان، و  يشاع أنه انضم إلى
حزب الله الذي يتزعمه حسن نصر الله.
أما ابن عمي "نواف" وبعد حصوله على الجنسية العراقية فقد انظم إلى حزب البعث أثناء
دراسته في العراق، ورفض الخروج من بغداد أثناء الحرب الكويتية ولا حتى الحرب الحالية التي
تقودها الولايات المتحدة. ولا نعرف عنه شيئا، ويشاع أنه ينشط مع المقاومة العراقية.
سألتها، كمن يستجوب سجينا سياسيا:
وبقية العائلة ؟
ليس لي خالات .. وأخوالي كلهم أكلتهم الحرب و هم لا يزالون شبابا. خالي الوحيد الذي نجا، وقع
اغتياله منذ سنتين.
اغتالته القوات الإسرائيلية ؟
لا .... كُثر الحديث عن علاقاته المشبوهة بالكيان الصهيوني، وأنه يمده بمعلومات عن المناضلين.
و ما أفاض الكيل، هو القبض على شاب قبل أنْ  ينفّذ عملية انتحارية في حافلة. فتم قتله، باعتباره
عميلا.
سأل  ت  مرتبكا، وأنا أتحسس علب السجائر:
بتلك السهولة ؟
طبعا لا ... تعرف أنّ التنظيمات الفلسطينية لها أتباعها وعيوا، ولا  يمكن أنْ  تنفّذ هذا الفعل دون
التأكّد منه.
وما موقفك من هذه التصفية ؟ و الحال أنّ خالك هو الضحية.
ابتسمت بتهكّم ومرارة:
ماذا لو قل  ت لك أنّ الذي نفّذ فعل القتل هو ابنه، ( حاولت أنْ تمنع دموعها ) نعم ابنه. لقد قالها أمام
الجميع، دون حياء.
وهل هذا معقول؟ ابنه ؟
نعم ..(استدركت) هو لم يكن مكشوف الوجه أثناء عملية التصفية، لكن الذين حدقوا في عينيه
وكان ملثّما تأكّدوا أا عيونه.
(صمتت برهة)
كان خالي في المقهى يلعب الورق ذات مساء شتوي، حين دخل "حبيب" ابنه و ناداه باسمه .. حين رفع
رأسه والتفت، صوب في اتجاهه رصاصة أولى في الرأس و ثانية في الصدر، وببرود لا مثيل له أرجع
المسدس إلى جيبه وبقي يحدق في المغدور لحظات دون أن ينبس بكلمة.
وقد لاحظ الكثير من رواد المقهى دمعه ينهمر بصمت دون أن يبدي أي صوت، وغادر دوء.
و أكملت "لينا" تسرد لي حال المخيمات وأحيائها القصديرية وشبكات الصرف الصحي والأوبئة
وانعدام الخدمات الصحية، في فلسطين كما في لبنان والأردن.
"لينا" تلك السمراء الرائعة، التقيتها صدفة مع شاعر فلسطيني كان  يقيم بتونس، ويشرف على صفحة
أدبية بصحيفة تونسية يومية.
عاد الشاعر إلى فلسطين، وتوقّفت الصحيفة عن الصدور كغيرها من الصحف التي تظهر وتختفي، ولا
تقدم شيئا.
واختفت "لينا" مع الشاعر ومع الصحيفة.
غير أنّ الصدفة عادت لتؤثث موعدا كما أثثته في البداية.
.................................................. ........
.................................................. ........
عدل  ت أوتار الوعي، وأنا ما زل  ت بحانة القرصان حتى آخر قارورة وآخر سيجارة بقيت في علبتي.
اشتدت القتامة بفعل الدخان والصراخ المتشابك، وقرع الكؤوس والقوارير. انتبه  ت إلى حوار يدور
بقربي..
الأول:
ثلاثة آلاف دينار..  يمكن أنْ  تسقط العقوبة إلى شهرين.
الثاني:
لا أصدق ...ابني محكوم بسنتين.
الأول:
ثمّة دولار ..  يمكن أنْ يسقط حتى حكم الإعدام... أمامك أسبوع فقط.
الثاني:
وما هي الضمانات ؟
الأول:
هؤلاء الناس لا يقدمون الضمانات... ثمّ أم لا يستحقّون أموالك. فالواحد منهم يمكن أنْ يشتري
مدينتك بسكاا.
أخمد  ت ما بقي من سيجارتي في المنفضة، وانتصب  ت في اتجاه النادل أدفع له ثمن ما شرب  ت، وقد تركت
الحوار متواصلا حول المبلغ المطلوب لإسقاط عقوبة جنائية.
لحظتها وأنا أدفع للنادل خطرت لي فكرة المغادرة إلى العاصمة... نعم إلى العاصمة، ليس الآن ولكن
غدا. غدا أكون هناك فقد اشتقت إلى الأصدقاء والرفاق والأكشاك و ج الدباغين حيث الكتب
القديمة وشارع الحبيب بورقيبة.
بإحدى المؤسسات الثقافية الجامعية، كنت داخل قاعة شاسعة للعرض،  توشح جدراا
رسومات"ناجي العلي"، في معرض نظّمه الاتحاد العام لطلبة تونس .
توقّف  ت عند لوحة  تجسد عربيا أو أعرابيا  متكرشا بذات العقال البدوي، رافعا سبابته اليمنى  مهددا :
"لازم تعترفوا بإسرائيل .. وبعدين ترموا سلاحكم .. ثمّ إلى ربكم  ترجعون"
بقي  ت  متسمرا أمام اللوحة أبشر حنظلة بأنّ الخطاب لا زال هو نفسه، وسيبقى. بل نحن اعترفْنا
بإسرائيل وألقينا سلاحنا، وإن كنا لا نملك سلاحا أصلا. ونحن في انتظار أنْ  يحسن الله الخاتمة.
أيهما أفضل، نلقيه باختيارنا أم نجبر على إلقائه ؟ بالطبع الخيار الأول هو الأسلم والأصح .
وبينما كن  ت أناجي اللوحة وأحاكيها أو أحكي لها، وإذا ب "لينا" تقترب مني وتدس جسدها بين
بوتقة الرؤية ولوحة ناجي العلي .
كأني أرى فلسطين رول هاربة من خارطة الطريق وأوسلو وشرم الشيخ ... كأني أرى فلسطين بشالها
المطرز "كفيروز" تنتصب بشموخ حذر.
صفعتني المفاجأة:
لينا ... ؟
نعم لينا ... أنا بلحمي ودمي .
لا أصدق ...
ولماذا لا تصدق ؟ هل تغير  ت ؟
لا .. لا ... ولكن كلما غاب عني صديق فجأة، ينتابني إحساس أنني لن أراه ثانية.
دعك من الترهات.
سحبتني من ذراعي في اتجاه خارج القاعة،  محاطا بالدهشة والفجائية، وأكملت:
هل نشرب قهوة في مكان جميل ؟
بالطبع.. بالطبع... من يرفض استضافة فلسطين إلى محرابه ؟
سرنا دوء، دون أنْ يكلّم أحدنا الآخر، حتى احتضنتنا مقهى باريس، في ركن أبعد عن مدخلها.
جلس  ت دون أنْ أستنجد ببروتوكولات استضافة النساء. لم أسحب لها الكرسي لتجلس قبلي، ولم
أساعدها على نزع معطفها كعادة الأرستقراطيين، فقط اكتفي  ت بالجلوس.
فيما تكفّلت بترتيب حقيبتها اليدوية على ركن من الطاولة... مددت معطفها الشتوي على ظهر الكرسي
ااور... واحتفظت بشالها الفلسطيني يلف جيدها كبحر يحتضن قمرا عند الغروب.
قالت :
أريد قهوة.
أشر  ت للنادل بيدي فأسرع نحونا حاملا شكّه أننا عشيقان.
قل  ت له:
قهوة وكأسا من البيرة.
أشار برأسه، وانصرف.
فيما تناولت "لينا" سيجارة أشعلتها، كن  ت أرتب أفكاري لأعتذر عن البيرة... ربما ترى" لينا" أنّ طلبي
لا يحترم أصول اللياقة. غير أا أسعفتني بالقول:
كعادتك دائما ...
عاداتي لن تتغير.
إذن أنت لن تتغير.
( بفذلكة ) إذا كنت أنا الحقيقة، فلماذا أتغير؟
ومن قال لك أنّ الحقيقة لا تتغير؟
الحقيقة ثابتة، ولكن المواقف تتغير ...
وصل النادل ورتب القهوة وكأس البيرة، وانصرف . وصل وقد أنقذني من مهاترات لن تنتهي،
ولس  ت مستعدا للخوض فيها وأنا في هذا اليوم الحزين.
بادرا، قبل أنْ تعود لنفْس الحوار:
دعك من الحقيقة والتغيرات والتحولات ..؟ نحن لا علاقة لنا بكل هذه المفاهيم أصلا. قولي لي، ما
هي أخبارك ؟ وأين أنت طوال هذه المدة ؟ كيف تخْتفين وتظهرين ذه الطريقة ؟
........
بقيت صامتة، لكنها تكشف عن ابتسامة ساخرة، وهي تحرك السكّر في فنجان قهوا.
سحبت حقيبتها اليدوية، وتناولت منها صورة مدتها إليّ.
كن  ت لا زل  ت قد تذوقْ  ت الرشفة الأولى من كأسي .. أشعلْ  ت سيجارتي وتناول  ت الصورة من أناملها.
سألتها:
من هذه ؟
حاول أنْ تعرفها.
بطبيعة الحال لن أعرفها ... هذه بلباس انتحارية، ولا يخفى عليك أنْ لا علقة لنا كتونسيين ؤلاء.
تأمل ملامح وجهها.
قرب  ت الصورة أكثر، ورح  ت أفتش في كلّ الصور التي تحفظها الذاكرة.
كانت سيدة في الثلاثين من عمرها تقريبا أو يزيد بقليل، ترتدي لباسا أسود وخمارا يغطّي رأسها، وبين
يديها ورقة تتلوها أو تنشدها.. كانت تلف حول خصرها حزاما ناسفا، فهمت وفق كلّ التفاصيل أا
انتحارية .. نعم انتحارية تقرأ وصيتها، هكذا كما عودتنا الحركات الجهادية، وقد دار حوار بيني وبين
نفسي، هل هذه المرأة ستنفّّذ العملية بلباسها الفضفاض، أم بلباس آخر. وقد دخلت بوتقة التفكير
مشهد امرأة تنفّذ عملية انتحارية بلباس "بيكيني" على شاطئ مزدحم بالمصطافين من عرب وأجانب.
فجأة، توقّف  ت عند الحدقات الملأى بالحزن والانكسار والقتامة. لكنني حين تأمل  ت جيدا، رأي  ت التحدي
ينب  ت في تربة الحزن.
قل  ت ل " لينا "، ولم أرفع بصري عن الصورة:
رأي  ت هذه العيون ... نعم رأيتها .. أين .. أين ؟؟؟ لا أعرف أين .. أنا متأكد أنني رأيتها.
( وهي تشرب قهوا دوء ) حاول أنْ تعرف.. إنْ كنت متأكدا.
رفع  ت بصري على "لينا"... تسمرت عيوني في ملامحها، وعد  ت مسرعا ببصري إلى الصورة ... ثمّ
إلى عيوا..
وكأني اكتشفْ  ت قانون الجاذبية مرة أخرى.وهمم  ت بالكلام، لكن " لينا "سبقتني:
إا أختي .. ماجدة .
شعر  ت أنني دخلْ  ت في بوتقة من الفوضى والارتباك، ولم أفهم أي معنى لهذه الصورة.. هل هي
صورة عادية، أم .... وقل  ت :
لينا .. وضحي لي المسألة ... لم أفهم .
( وهي تحاول دون جدوى منع دموعها من التدحرج إلى خدها البرتقاليّ )
أشعلت سيجارة بغضب حاولت أنْ  تخفيه وقالت:
هل نغادر ؟
ما زلنا لم نتحدثْ بعد... ثمّ إلى أين ؟ أنا جئ  ت إلى العاصمة في زيارة خاطفة، وسأعود إلى
مدينتي في نفس اليوم
أحتاجك الليلة.. أريدك بجانبي كامل هذا اليوم... أنا في حالة نفسية  يرثى لها، وأحتاج صديقا
بجانبي.
لا يمكنني أن أبيت هذه الليلة وحيدة.
وهل تقطنين بمفْردك ؟
صديقتي الفلسطينية في تربص، وقد تغيب لمدة ثلاثة أيام.
كما تشائين .
لم يكن بإمكاني أنْ أرفض طلبها ... كن  ت  موقنا أنني لو رفض  ت لانفجرت بالبكاء.. أو فقدت وعيها ..
ربما  تقْدم على الانتحار.
كانت وهي تلْتمس بقائي معها، كنبتة عباد الشمس تلْتمس بزوغ الشمس.. كنورس يلتمس انفراج
الأشرعة للريح، ليكتمل المشهد.
هي كعادا دائما حساسة جدا وسريعة البكاء، ولا تتحمل أصغر المواقف المحرجة أو الاستفزازية، فما
بالك وهي تحكي عن أختها التي ووفق تخميني ستنفذ عملية انتحارية أو ربما أقدمت عليها.
في المرات القليلة التي جالستها فيها، يسهل علي أنْ أنتبه لرقتها وبساطتها وقدرا على أنْ تبسط
المواضيع الأكثر تعقيدا بلغة بسيطة جدا.
كنت دائما أتساءل في سري عن العلاقة التي تجمع بساطة منطقها بتعقيد قضيتها.
" لينا " لا تحتاج فلسفة التنوير ولا أدبيات الشعراء والفلاسفة ولا قرارات الأمم المتحدة وترهات
الجامعة العربية والرؤساء والزعماء... هي لا تحتج لأي من هؤلاء لتتحدث عن الإرهاب أو العدالة أو
الجوع الفلسطيني..
وتراها ت مع ذلك  مقنعة بذلك الأسلوب البسيط ... غير أا إذا  جرحت تصبح قادرة حتى على
استعمال كرسي المقهى لتؤدب الآخر أو توقفه عند حده.
وكن  ت شاهدا على موقف مماثل في لقاء سابق معها يصحبنا رسام فلسطيني مقيم في تونس، حين حاول
طالب ينتمي لحركة فتح أنْ يدفعها لتغيير مقر سكناها والابتعاد عن صديقتها التي  يشاع أا تنتمي
لحركة حماس.
وحين اشتد الحوار بينهما،ونحن نجلس على الكراسي الإسمنتية بالمركز الثقافي الجامعي حاولت أنْ
تضربه بمحفظة أحد الطلبة، لكنه تمكّن من أنء يمسك بيدها ويمنعها من إصابته، فتناولت كأس الشاي
الذي أمامي وألقته في وجهه بعنف لا مثيل له.
تدخل الطلبة لتهدئة الخواطر، فيما أمسك  ت لينا وأبعدا عن المكان كي دأ قليلا.
طبيعتها المزاجية، تدفعها لأنْ تغضب بسرعة وعنف، ودأ بسرعة أيضا كموجة ساكنة آخر ليل
صيفي.
الفصل الثاني
من بغداد إلى دمشق
بعد تجربة السجن، تسلل أبو مصعب عبر الحدود إلى سورية. وانضم هناك إلى مجموعة جهادية
تقود المقاومة من دمشق.
وفي مقهى بمنطقة "المزة"، كان  يجالس أبو وليد المصري  منتبها إلى تحْليلاته ومواقفه من الوضع
الميداني في العراق، وجغرافية التحركات العسكرية وأولويات المرحلة وخطورا.
لا زال أبو وليد المصري ينبه:
سنترك بعقوبة وبغداد إلى مرحلة أخرى ... الآن سنوجه أسلحتنا إلى الشمال الكردي، حيث بدأت
تظهر بوادر سيطرة الأكراد على مدخرات البلاد . وهذا سيدعم مفهوم الفيدرالية.
طبعا  تدرك أنّ هذا التقْسيم شيعي سني كردي، سيفتت الوطن ويجعله لقمة سائغة في فم المخططات
الصهيونية والأمريكية، إضافة إلى أنّ هذا التوجه، سيدخل البلاد في دوامة من العنف والحرب الأهلية
التي ستأتي على الأخضر واليابس.
ما المطلوب عمليا؟
بعض أصدقائنا الخلّص من قرية "شيخ الحديد" السورية التابعة لقضاء "عفرين"، سيصلون بعد
يومين، وهم الذين سيتكفّلون بإدخالك إلى العراق عبر الحدود.
لا تخف... الأوضاع مرتبة على أحسن ما يرام.
وبعد...؟
وبعد .. المهم الآن وقبل اجتيازك للحدود، عليك بالحيطة والانتباه. المنطقة تعج باُلمخبرين
والمخابرات السورية. وحتى أعين الحكومة العراقية التي ترصد تحركات المقاومة في دمشق، كما في
عدة عواصم عربية أخرى حيث تكثر الجالية العراقية ...
حاول ما استطعت أنْ لا تحْتك بأحد، حتى العراقيين الذين  تصادفهم.. مفهوم ؟ هذا أمر.
( وزع بصره على الشارع بحذر )
وبعد دخولك للعراق، تلْتحق بمدينة الموصل شمالا. وهنا ينتهي دوري.
وبعد...؟
ماذا سأفعل في الموصل؟ بمن سأتصل؟
أنا ينتهي دوري هنا... الرفاق الذين سيقودونك إلى الحدود، سيفسرون لك المهمة، وسيمدونك ببقية
المعلومات عن رفاقنا هناك.
أكمل ما بقي من"يانسون" بكأسه، وهو يوزع بصره على المارة والجدران والسيارات، بارتباك لا
مثيل له.
وأكمل:
 تدرك أنّ الوضع الآن أكثر خطورة من قبل. كلما تأخرنا يوما، ازدادت أقدام العدو ثباتا، وكثرت
الأعين والجواسيس، وأصبحنا أكثر  عرضة لل  ملاحقة والتصفية.
أعتقد يا أبا وليد، أنّ المقاومة ازدادت صلابة..
( قاطعني ) هذا صحيح... لكن الخلايا والتنظيمات تضاعفت عشرات المرات. حتى أصبح من غير
الممكن معرفتها وحصرها، فما بالك بانتماءاا وإيديولوجياا . حتى أنّ بعض التنظيمات أسستها
أطراف في الحكومة العراقية لاستقطاب المقاومين، بغرض استيعام وكشفهم، واَستعمالهم لأغراض
سياسية أو تصفية خصومهم.
أحذّرك مرة أخرى ... حاول ما استطعت التقيد بالأوامر والتوجهات، ولا تحاول الاجتهاد ... أنت
تعرف القاعدة : من يخطئ أول مرة، قد يكون أخطأ المرة الأخيرة.
بحول الله ستكون الأمور بخير.
علي بالانصراف ... وعليك بانتظار التعليمات.
وقف أبو الوليد، وقد مسح الشارع ببصره ... ثمّ انصرف، وقد ذاب في الطريق الممتد.
انتصب  ت... و لس  ت  مطالبا بالانتباه، كوني لا أعرف الفرق بين المواطنين واُلمخبرين والجواسيس.
كد  ت أقتنع أنْ لا أحد يعرفني هنا، غير أنّ تحذيرات أبي الوليد جعلتني أشك في كلّ النظرات والوجوه
والأشخاص.
كلّ سيارة تتوقّف أو تمر، أخالها  تراقبني... كلّ من ينظر نحوي، أشك في نزاهته... كلّ من يمشي
خلفي، أتصور أنه يتبعني... حتى بت أخاف من ظلي...
دخلْ  ت شقّتي اُلمجهزة بأثاث قديم متواضع، حضرها لي أبو وليد المصري.  متسائلا بيني وبين
نفسي، عن أهمية "المزة" ولماذا هذا الحي تحديدا؟
شقّة بحي عتق تعبق برائحة التاريخ والرطوبة... حين دخلتها صفعتني رائحة التربة والطحلب
العالق بالسقف والجدران. حتى استحال اللون الأبيض إلى رمادي مزجته الرطوبة بالأخضر العاب
بالتاريخ.
ألْقي  ت بجسدي اُلمنهك على سرير  متهالك، يئن من وطأة الزمن والصدإ.
فيما لمحْ  ت جهاز راديو ومجلّة "نيوزويك" بالغة العربية... شغلت الراديو على الإذاعة السورية، وهي
تبثّ اليل السياسيين والمثقّفين بالنصر الذي حقّقه حزب الله في الجنوب على الإسرائيليين.
وأثنوا على الدور السوري حكومة وشعبا في دعم المقاومة والوقوف مع الحقوق العربية وقضاياها.
بقي  ت  منتبها إلى جعجعام، حتى أطلّت مذيعة بصوا الأنثوي،  مقْترحة على المستمعين الأحرار
أغنية للسيدة "فيروز":
بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
بتسألْ شوبني وشو اللي ما بني
بحبك يا لبنان يا وطني
كانت روحي  تحلّق مع صوت سيدة الشرق، وعيوني تسرح في عناوين مجلة "النيوزويك"، حول العراق
والفياغرا والفياتنام.
المضحك، وأنا أستعد لرحلة في اهول، بين الحرب والتقتيل والتشريد... تراني أقرأ دراسة عن إنقاذ
الحيوانات بواسطة والفياغرا.
وللمرة الأولى، أنتبه إلى مسألة غاية في الخطورة والأهمية، وربما هي كذلك. وربما رغبتي في النقمة
واستحضار ما حصل لي في سجن أبو غريب مع اندات الأمريكيات، هو الذي دفعني للاعتقاد في ذلك.
بنفْس الدراسة عن والفياغرا، يقول كاتب أمريكي:
"إنّ نصف الرجال الأمريكيين، من فئة أعمار الأربعين إلى السبعين عاما،  يعانون درجة ما من الضعف
الجنسي"
أولاد القحبة... كلّ هذا التدمير والخراب والفوضى في أوطاننا، لأم أقلّ قدرة جنسية منا..
اعتذر  ت عن الموقف،  مغيرا وجهي جهة إطار قرب النافذة يحتفظ بصورة قديمة لشخص عربي لم
أتعرفْه. لكنني خمّن  ت أنه صاحب المترل أو ربما شخصية أدبية أو فنية...
فلو كانت شخصية سياسية، لعرفْتها على الفور، ولماذا لا أعرفها ؟ فشخصياتنا السياسية  تعد على أصابع
اليد الواحدة ... كلّ دولنا حكمها حاكم أو إثنان منذ استقلالها . فيما لا يزال الراديو  يذيع ترهات
حزب البعث، وإنجازات القائد الفذّ ... شعر  ت بالجوع . فاتجه  ت نحو المطبخ، وهو عبارة عن غرفة
ضيقة، تتوفّر على بعض الأواني المعلّقة والمرصوفة على الأرض .
وثلاجة ضخمة لا علاقة لها بالمكان.
هذا البيت العتيق الآيل للسقوط، ما كان يخطر ببالي أنّ أجد به ثلاجة أو أي نوع من الأثاث
الإلكترونيّ.
... فتحتها، فكانت محشوة بكل أنواع الغلال والفواكه والبيض. خمّن  ت أا من ترتيب أبي الوليد.
كانت الساعة حينها، قد قاربت على الثامنة ليلا، وبدأ الظلام يمد أذرعه على المنطقة . فيما شرع النوم
 يغازل أطرافي ويأخذني التعب إلى الخلود... تمدد  ت على السرير  منهكا ُأكمل قضم تفاحة لا زالت بين
أصابعي، ولا زال الراديو يتحدث عن الإنجازات... فكد  ت أختنق من الكذب والنفاق. وكأنّ القناة
السورية هي نفسها العراقية أيام الحاكم المخلوع ..هي نفسها مع حكامنا العرب أجمعين.
غير  ت الموجة في اتجاه القاهرة، فاعترضتني المذيعة بصوت مصري مائع،  يخبر اُلمستمعين الكرام أنّ
موعدهم الليلة كالعادة مع كوكب الشرق في أغنية "إنت عمري".
يااااا ه .... كلّ حروبنا وهزائمنا كانت هذه السيدة شاهدة عليها، وساهمت بنفْسها في تعاستنا
وتخديرنا.
ياااا ه .... لا زل  ت أذكر كيف كان الكثير من العراقيين يربطون هزيمة الجيوش العربية بكوكب
الشرق. وأا حينما كانت تغني، يغيب الناس والساسة والجنود عن وعيهم، فيما كانت القوات
الإسرائيلية  تعمل فينا معاولها وفؤوسها .
حتى أنّ جنرالا في الجيش العراقي السابق، كان  يقْسم بشرفه أنه لو كان مصريا لطالب بمحاكمة
السيدة أم كلثوم. ولو بقي هذا الجنرال حيا لعرف أنّ هزائمنا ما زالت متواصلة ودون أم كلثوم...
انتهت حروبنا، وبقيت كوكب الشرق.. انتهت حروبنا، وبقي حكامنا .. انتهت حروبنا، ونحن بخير...
لغّ السيد القابع في الإطار القديم اُلمعلّق جهة النافذة:
ومن قال لك إنّ حروبنا انتهت ؟
ارتعدت فرائسي، وانتفض  ت كطائر الفينيق  مجيبا:
أقصد الحروب القديمة ...بعض الحروب العربية مع أعدائنا اليهود.
( مزمجرا ) ليست هناك حروب قديمة... حروبكم جديدة ومتجددة.
كيف ستدخل محاربا إلى العراق، وأنت لا تعرف لمن ستوجه سلاحك، ومن هو عدوك ؟
سلاحي أوجهه للعدو.
( زمجر وصاح هائجا،  ملوحا بعصاه يضرب ا على الجدار )
أي عدو ؟ وهل تعرف كم عدد أعدائك ؟ وهل أنت عدو غيرك أم عدو نفسك ؟
وشرع يضرب الحائط غاضبا ... ضربا متتاليا كطرق الباب.
صارت الطَّرقات متتالية وعنيفة، حتى اختفى وجهه وعصاه، وصر  ت أسمع طرق الباب بوضوح ... باب
الشقّة.
انتفض  ت كعقرب حركوا بيتها، وكن  ت ممددا بملابسي... رفع  ت بصري جهة الإطار فإذا الشيخ لا يزال
في مكانه، والراديو لا يزال  يذيع أغنية "إنت عمري".
فكّر  ت لحظتها في الخطر الداهم ... لا أحد يعرفني هنا.
إذن من الطارق ؟ البوليس السياسي ؟ الجواسيس ؟ أم...؟
فكّر  ت في الهروب، لكن إلى أين ؟ ومن أين المفر؟
... الطرق لا يزال متواصلا...
هل يكون أحد رفاقنا من "شيخ الحديد"؟
لكن أبا الوليد قال إم سيأتون بعد يومين.
ما المسألة إذن ؟
من الطارق في هذا الوقت اُلمتأخر ؟
من الطارق ؟
قلتها بصوت  مرتفع، ملء الارتباك والريبة والخوف.
.......
( لم  يجب، وعاود الطرق بأكثر عنف )
( قرب  ت حواسي أكثر للباب ) من الطارق ؟
( مس ) إيراد الحاج... الصحفي إيراد الحاج.
إيراد الحا...
آه... إيراد الحاج... حالا.
فتح  ت الباب وقد أقصي  ت الشك والريبة، دون أنْ أنتبه إلى كونه ربما ينتمي إلى المخابرات
السورية أو إحدى العيون المبثوثة في شوارع دمشق. فقد كان يعمل في العراق، ولعلّ ذلك  يسهل تجنيده،
أو استقطابه. فالمال لوحده كفيل ببيع الذمم.
فتح  ت الباب، فارتمى إيراد دون انتباه وأوصد الباب بسرعة وريبة ... رفع غطاءً كان يلف به وجهه،
وارتمى في عنقي  مقبلا، كغريق صادف زورقا، وقال:
أعذرني على هذا الارتباك ... الأمور لم تكن  مرتبة كما ينبغي ... في نفس الوقت كان من الضروري
أنْ ألتقيك. المسألة على غاية من الخطورة. أي تأخير قد يتسبب في كارثة.
هل ثمّة من  يراقبك؟
لا ... لا تخف الأمور ستكون جيدة إذا أسرعنا في التحرك.
اتجه داخل الغرفة، وجلس على طرف السرير... فتح أزرار معطفه، كأنه يهرب من الاختناق، وأكمل:
أسكت صوت الراديو، واستمع إلى ما سأقول.
اتّجه  ت نحو الراديو ُأخمد أنفاسه، وعلّقْ  ت وأنا أتناول سيجارة لأشعلها:
جعلْتني أشعر بالخوف والارتباك .
لا بد أنْ  تغادر هذا المكان فورا، وقبل الصباح.
( ابتسم  ت بمرارة ) أغادر المكان؟
إلى أين ؟ كيف أغادر المكان ؟ تعليمات أبي الوليد ال ..
( وتراجع  ت عن إتمام اسمه حيطة لا غير )
أبو الوليد المصري.. أليس كذلك ؟
وهو كذلك .. وكيف عرفْت؟
لا يهم .. الأهم من ذلك أنّ أبو الوليد وقع في أيدي القوات السورية، كذلك مجموعته في قرية " شيخ
الحديد " وسيقع إيقاف بقية اموعة.
لا بد من اُلمغادرة ...
( داهمني الغثيان، ودارت رأسي حتى خلْتها سقطت حذْو حذائي، وألقي  ت بجسدي على حافة السرير
بجانب إيراد )
كيف يتم ذلك ؟ أبو الوليد كان معي منذ ساعات.. كيف يحدث كلّ هذا في وقت قصير ؟ وبمثل هذه
الغرابة ؟
كلّ أسئلتك ليست مهمة الآن..المهم أنْ نغادر هذا المكان. وفور وصولنا بر الأمان سنتحدث في كلّ
التفاصيل.
لكن...
دون لكن .. لم يعد بالإمكان أنْ نضيع الوقت أكثر.
بأسرع من إطلاقة رصاصة، جمع  ت أغراضي في حقيبة صغيرة .. رتبتها على كتفي، وانتصب  ت جاهزا
للمغادرة . فيما رتب إيراد وجهه، وخرجنا  مسرعين دون أنْ نحكم غلق الباب.
وأنا أركب سيارة فلاحية في اتجاه الضاحية الجنوبية للعاصمة دمشق، كنت استرجع شريط وصول
إيراد الحاج إلى غرفتي .
كأنّ الوعي حضر اللحظة، بعد أنْ حاصرتني الغيبوبة حين وصل وفتح  ت له الباب.
ما راعني حقّا أنني تعقّلْ  ت اسمه بسرعة لم أعهدها أنا الإنسان المورط في النسيان ... في إتلاف الأسماء
والأشياء .
عرفْته في بغداد حين أجرى معي تحقيقا عن ظروف اعتقالي بسجن "أبو غريب". بعد أنْ رتبت
مجموعة من المقاومين اللقاء بسرية تامة. هذا بغرض كشف الممارسات الأمريكية بذاك الماخور الذي
يسمى سجنا .
وإنْ كان لقائي به لمْ يتجاوز الساعة سرد  ت له فيها بقيء لا مثيل له ما حصل لي بين تلك الجدران
اُلمحاطة بالخنازير إلا أني لم أتوقّع أنْ ألتقيه ثانية لا في بغداد ولا في أي مكان آخر.
بعد سنوات من السجن و التعذيب.. تعذيب العراقيين لإخوام وذلّ الأمريكيين لأعدائهم، ألقي بي في
أطراف مدينة بغداد، بعد أن فقدت الوعي لمدة فاقت الساعة. وخوفا ربما من وفاتي في السجن بعد
تسرب صور بواسطة الهواتف المحمولة من داخل السجن، وخوفا من تضاعف الأصوات المنددة بالتعذيب
و الإهانة و المذلة.
لم تكف سنة كاملة من الاعتكاف في غرفتي ألملم جراحي المبعثرة.. لم تكف لتزيل و لو لحظة واحدة
من تلك المعاناة الأشبه بصدإ على واجهة مرآة قديمة.
وفي بيت أحد الحقوقيين الذين ذاقوا ذرعا بطغيان حكم صدام حسين، التقيت بإيراد الحاج، وسكب  ت له
ما ترسب في جهة الروح المشروخة من آلام و جراح لم تندمل إلى الآن.
ولولا علمي أنّ الصحافيّ ليس عراقيا، لرفض  ت الحوار، لأنّ مليشيات الأحزاب قادرة على على تصفية
الخصوم وكلّ من يشكّك في عملية الانتقال الديمقراطي في العراق.
إنه إيراد الصحفي السوري العامل بصحيفة البعث السورية..ها أنه يحضر الآن، نعم ميزته من كلّ
الشخوص المبعثرة في ذاكرتي المثقوبة.
فلماذا يحضر الآن ؟ وكيف استحضر  ت اسمه وميزته من بين كلّ الأسماء والأشياء ؟ ولماذا هو الآن هنا
؟هل هو عراقي بجنسية سورية ؟ أم هو سوري بانتماء عربي ؟
جالت بخاطري ملايين الأسئلة الحيرى، ولم أجد تفْسيرا لها... لا إجابة... مع ذلك لم ألق أمامه
حيرتي في انتظار ما سينكشف لاحقا.
الفصل الثالث
دموع البرتقال الفلسطيني
بغرفتها الموشاة بأعلام فلسطين، وخرائط التقسيم وصور القسام وعبد الناصر ودرويش وجيفارا،
وبيان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان... بغرفتها تلك وكانت لا تزال بلباسها الرجاليّ، وشالها
الفلسطيني تتحرك  مرتبكة.
قدمت لي قهوة، وهي تفك ضفيرا وتسحب الشال من جيدها لتلْقيه بإهمال على السرير، وهي تقول:
دقيقة لأغير ملابسي.
واَنصرفت....
تناولْ  ت علبة السجائر.. أشعل  ت واحدة، واَنتصب  ت ماسكا فنجان القهوة في اتجاه المادة الأولى من
الإعلان اُلمعلّق:
"يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق ( .. )"
ضحك  ت... ثمّ أخمد  ت ضحكتي لأحولها إلى سخرية صامتة بيني وبين نفسي. لم أفهم" الكرامة
والحقوق" ولم أفهم "لكلّ فرد الحق في الحياة"... وسخر  ت من الإعلان، بدءا بديباجته وصولا إلى آخر
مادة فيه، وارتمي  ت على السرير .
دخلت "لينا" تسبقها سيجارا اُلمشتعلة، ولباسها اُلمغري يكشف كامل تفاصيل جسدها.
ارتمت بجانبي.. قرب  ت إليها المنفضة قليلا، وتناولت فنجان قهوتي مطأطئة بصمت، فيما توشك
سيجارا أنْ تنفجر.
قل  ت:
لماذا كلّ هذا الحزن؟ ما المشكلة؟ وما حكاية الصورة التي أريتني إياها في مقهى باريس؟
حكي  ت لك قصة عائلتي في مناسبة فارطة؟
أذكر ذلك في مناسبة بعيدة.
.. وتعلم أنّ أختي القاطنة مع أمي في مترل جدتي، هي من تبقّى من العائلة. وطبعا أنا وشقيقي
النازل ضيفا على السجون الإسرائيلية.
أذكر ذلك أيضا... وبعد؟
ألم تفهم؟
في الحقيقة.. في الحقيقة، لم أفهم قصدك.
( ابتسمت بسخرية، وهي تدس أنف سيجارا في المنفضة )
أختي "ماجدة" انضمت إلى حركة الجهاد الإسلامي، ونفّذت عملية انتحارية في حي تجاري.
وكيف تفعل ذلك ؟ لماذا هذه الرغبة اُلمفرطة في الانتحار؟
وهل  تسمي العمليات الجهادية انتحارا؟
بطبيعة الحال...( تدارك  ت ) في حالات دون غيرها.
( بغضب ) وما هذه الحالات ؟
العمليات التي لا  تقدم شيئا لحركة النضال الوطني والإنساني، أعتبرها انتحارا.
المؤسف أنّ العملية لمْ  تسفر إلا عن جرح ثلاثة مواطنين إسرائيليين.
( وتداركت بمعنويات  مرتفعة ) لكن النتائج المعنوية والسياسية، أكبر من ذلك بكثير.
أي نتائج ؟ ( قلتها بسخرية )
هل هي ما نتج عن اتفاقيات أوسلو ؟ أم شرم الشيخ ؟ أم خارطة الطريق ؟ أم تكرش القادة
الفلسطينيين، واستئثارهم بالثروة، على حساب المواطنين الأبرياء والعاطلين واُلمشردين ؟
هل هذه نتائج ؟
نحن لا يهمنا الأوغاد، ولا السياسيين... فقط، منا القضية و الإنسان الفلسطيني.
غطّت وجهها بكفّيها، وانخرطت في هستيريا من البكاء . فيما بقي  ت جامدا، وقد خانتني الكلمات
واللغة والقواميس... لم أجد فاتحة للكلام، ولا بما أوشح هذا المشهد الدرامي.
لا أعتقد أنّ أي لغة بإمكاا تشخيص المشهد أو رصده، ولا أي شاعر ولا أي كاتب. فقط، ربما الصم  ت
خير  معبر عما أعيشه.
مدد  ت ذراعي اليسرى لأحتضنها، فطاوعتني ودست رأسها في صدري.
كمن يحتضن الخارطة ويحتضن الشرق، كن  ت أتحسس أصابعي مخافة أنْ تحْترق. فيما لا تزال" لينا "
تترك العنان لدمعها كي ينهمر، ويسقي  تربة جسدي.
لن  ينبت جسدي غير العرق .. لن  يثْمر البرتقال الفلسطيني ولا رمانه.. ولن تخْرج من مسام الجلد
أيادي لحمل السلاح أو حمل الحجر..
هذا الجسد العربي اُلملقى حذوك، ليس شيئا آخر غير طينة "أفسق فيها الوعي سنينا" وبات كمركب
حطّمته رياح الهبوب...
إذن، انتفضي لوحدك أيتها النجمة، وأضيئي حيث ما شئت، واَتركيني ألوك هزائمي واَنكساراتي
وعجزي .. ما أعظم قدراتنا الجنسية، وما أرخص وعينا وهممنا.
أخيرا، حركت جسدها ودست أصابعها في وجهها تمْسح دمعها .. رفعت رأسها، فاستحال وجهها بريقا
من الدمع والتورد والخوف.
لا تفْصل شفاهنا عن بعضها، غير إطلالة فراشة هاربة من الضوء ... قربنا شوقنا أكثر، وذبنا في
ملكوت الرغبة، فيما كانت يدي تفك أزرار تباا.
غير أنّ ارتماء بصري على الخرائط المعلّقة على الحائط، جعلني أتراجع  مرتبكا، في اتجاه سيجارتي
علّها تحميني من اللّحظة الساخنة..
سحبت "لينا" جسدها وضت في اتجاه أشرطة الكاسات،  محاولة تغيير الجو الخانق، وهي تشغل آلة
التسجيل:
سأسمعك أغنية من التراث الفلسطيني.
كيف حصلت على صورة " ماجدة " ؟
( ردت باقْتضاب ) من الأنترنات.
( باستغراب ) من تونس دخلْت إلى تلك المواقع؟
بالطبع...
لا أصدق
ولماذا؟
هذه مواقع لا  يمكن النفاذ إليها... إا مواقع إرهابية ..
دعك من الخزعبلات... لن يحصل لي أكثر مما حصل. المهم... انزع عنك غرورك قليلا، وادخل معي
للمطبخ لنجهز العشاء... يكْفينا بكاء وشهداء.
( قل  ت  متهكّما ) وهل  تحسنين الطبخ ؟
جرب، وسترى... وتماديا في التنكيل بك، سأطبخ لك أكلة فلسطينية، كانت أختي ماجدة تعشقها إلى
حد الجنون.
انتصبت واقفا في اتجاه أشرطة الكاسات، أختار واحدة تساعد على الخروج من هذا الجو
التعيس.وتعمد  ت سحب الشريط الذي وضعته "لينا"، لكنها لم  تعلّق.
قل  ت :
نختار الموسيقى أولا ثمّ ألتحق بك.
كانت أشياء كثيرة أمامي، غير أني فضلْ  ت " سيلين ديون " للخروج من الجو العربي المليء بالأحزان
والنقمة.فصدحت تلك السويسرية الرائعة:
J’ai compris tout les mots, j’ai bien compris merci
Raisonnable et nouveau, c’est ainsi par ici
Que les choses ont changé que les fleurs ont fanné
Que le temps d’avant, c’était le temps d’avant
………..
Pour que tu m’aimes encore
بصوت أقرب لانسياب الضباب فوق "فينيس" أو "لندن" ... أو بانسياب، كدخول الشمس إلى بوتقة
 مظلمة.
فيما كن  ت أساعدها على غسل الأواني لتجهيز العشاء، كانت لينا قد دخلت في جو مختلف كما كانت فيه
من الحزن والخوف والريبة، وكأنّ أعاني "سيلين ديون" قد فتحت لها في الآفاق وفي المطلق نوافذ على
الأمل والمستقبل.
كانت تسرد لي قصة عائلتها بابتسامة، أنا الوحيد الذي يعرف ماذا تخفيه:
حين تمّت تصفية والدي في لبنان بقلعة الشقيف، كنت لا زل  ت صغيرة جدا لا أفقه في السياسة
والأحزاب والثورة عدا عائلتي الصغيرة في مترلنا القديم بحي عربي نزح أكثر من نصف سكانه تحت
ديدات الصهاينة واعتداءات المستوطنين اليهود.
ذات عيد توجهت أنا وأمي ولأختي ماجدة إلى المقبرة حيث ندفن كل أهالنا وأقاربنا. وكانت الزيارة
للترحم على بعض الشهداء من العائلة الموسعة.
أذكر وأنا في عمر لا يتجاوز الثانية عشر ربيعا، سأل  ت أمي عن قبر والدي.
صمتت أمي برهة قصيرة، وطأطأت وهي جالسة حذو قبر أحد الأقارب، وأحسس  ت أا ترغب في البكاء،
لكن دموعها ما طاوعتها ربما من فرط ما ذرفت.
علم  ت منها حينها أنّ والدي  دفن في لبنان على أيدي أحد التنظيمات اليسارية في مدينة صيدا . ولا
أحد من عائلتي يعرف ضريحه غير رفيقه أبو الفتح الذي عاد إلى غزة بعد اتفاقية أوسلو وقد طلّق
العمل السياسي إلى الأبد.
تدخل  ت حينها، وقد توقّف  ت عن إكمال غسل الصحون:
كيف يمكن لمناضل أنْ يتوقّف فجأة عن النضال والعمل التنظيمي؟
( وضعت لينا السكين الذي بيدها على فخذها الأيمن ) قطعت رجله وأصيب في الأخرى التي فقدت
قدرا عل الحركة. وقد حكى لي أبو الفتح أنه أصيب في انفجار سيارة مفخخة كانت تستهدف أحد
القادة الفلسطينيين.
وهو الآن  مقعد يتنقل على عجلات. هذا إضافة إلى أنّ اغلب رفاقه وقع تصفيتهم، وظلّ البقية
يرفضون دخول فلسطين ما دامت تحت الاحتلال.
( بقيت صامتة بعض الوقت وهي تعالج ورقات من البقدونس، وحين أكملتها التفتت إليّ مكملة كلامها )
ألم تكمل غسل الصحون ؟
بلى أكملتها.
إذن...
( قاطعتها وكأنني أقصدها بالكلام )
لا أفهم كيف تستقيم الحياة في ظلّ كل هذا البؤس وهذه الأحزان، ولا أفهم كيف...
( قاطعتني بدورها لتجيب عن تساؤلي أو ربما لتسخر مني ) أنا لم أخبرك عن مترلنا الذي فجروه بما
فيه، بعد أنْ سمحوا لنا بجهد جهيد أنْ نخرج ما خف وزنه في عشر دقائق فقط.
( وقد حاولت أنْ تمنع دمعة تدحرجت على خدها ) حاول أنْ تتخيل كيف يفقد الإنسان بته في رمشة
عين... يفقد المكان الذي ولد فيه والذي رتب فيه أشياءه وأحلامه وذكرياته مع الغرف والجدران
ودالية العنب والشبابيك وسطح المترل الذي يشرف على حقول الزيتون التي فعلت فيها الجرافات ما
فعلت وحولتها إلى أرض بور.
هكذا في لحظات  تجبر على أنْ تقتلع ذاكرتك من مكاا عنوة. وكان لا بد في مساحة العشر دقائق أنْ
أنقذ صورة والدي والقائد ياسر عرفات...
( تساءل  ت بدهشة ) ياسر عرفات ؟؟؟
نعم...
أنا أعرف أنك لا تنتمين لحركة فتح.
ولو... ياسر عرفات يبقى قائدا وزعيما رغم الأخطاء . وها قد ذهب ياسر عرفات، ورأى العالم أي
دور كان يلعبه حتى وهو تحت الحصار تطوقه المدفعية الإسرائيلية.
( صمتت برهة ) لذلك ترى أنّ كلّ الفصائل الفلسطينية تحترمه حتى وهي تختلف معه.
أكملْنا الليلة بين الفن والشعر والذكريات المؤلمة ... لمْ نتحدثْ  مطلقا عن الفرح، غير ما صدحت به
الأغاني .
وحتى الأغاني التي كانت  تؤنسنا،أغلبها لفنانين غالبوا الوقْت حتى كاد يغلبهم .
استمعنا إلى مرسال خليفة والشيخ الضرير وفيروز، وأحيانا "سيلين ديون" و
"جون ميشال جار"... كانت الليلة مزيجا من الأحزان والفوضى والبكاء، إلى آخر ساعات الليل. ولم
تغب "ماجدة" عن حديثنا، بل كانت كلّ الحديث.
حكت "لينا"، وكن  ت ممددا فوق السرير على ظهري:
لم يكن أحد يتوقّع أنْ  تقْدم "ماجدة" على تلك العملية... لا أحد صدقها ..
"ماجدة" أختي، تبدو  مستهترة وفوضوية. ومنذ أنْ أكملت تعليمها واشتغلت  ممرضة، لمْ تعد تم بغير
مظهرها وأناقتها، وكأا لا ترى الجرحى والموتى والكوارث التي تصلها يوميا إلى المستشفى.
يعني نقْصي فرضية الفقر من الأسباب اُلمؤدية إلى الإرهاب.
( بغضب ) أما زلت تقول إرهابا ؟
لينا ..هذا كلامهم.نحن نعرف ماذا  تسمى هذه العمليات ... لا عليك أكملي.
الغريب أنّ أختي "ماجدة"، لمْ تلبس الخمار ولم  تدمن الصلاة... فهي لا  تصلّي أصلا. لهذا صدمتني
صورة "ماجدة" المنشورة على الأنترنات ..صورا وهي متحجبة.
إذن، نقْصي فرضية كون الانتماء الديني هو الذي يؤدي إلى القيام ذه العمليات.
وبعد .....
وبعد ....( قالتها بتأفف ونقْمة، ثمّ تمددت بجانبي ) اتضح أا انضمت إلى حركة الجهاد الإسلامي.
وبعد، نفّذت ماجدة العملية، وقد تركت وصيتها  مسجلة، ونشرت على الأنترنات بموقع حركة الجهاد
الإسلامي.
وكالعادة.. هبت القوات الإسرائيلية لتفْتيش المترل وإخراج أمي وجدتي، ثمّ فجروه بما فيه.
لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأين استقرتا ؟
.... ( تجاهلت سؤالي ) ....
وطبعا، نددت السلطة الفلسطينية بالعملية وشجبتها، معتبرة إياها استهدافا للأبرياء العزل ولا ننسى
أنّ بقية الأنظمة س ..
لمْ أكمل كلامي .. ف "لينا" انخرطت في النوم دون استئذان.
المسكينة، بكت كثيرا هذه الليلة، وليس بوسع أحد غيرها أنْ يتحمل كلّ هذه الكوارث.
كانت  منطوية بجانبي، تدس رأسها في كتفي كعصفورة تبحث عن الدفء... مسح  ت على شعرها وخدها،
ثمّ دثّرا  مستحضرا أغنية فيروز:
يالا تنام ريما يالا يجيها النوم
يالا تحب الصلا يالا تحب الصوم
يالا تجيها العوافي كلّ يوم بيوم
صباحا، كانت الساعة  تشير إلى السابعة. و"لينا" ما زالت ممددة كنهر قبل الشروق. تسلّل  ت خلسة
لأكتب لها ورقة، ضمنتها هاتفي الجوال وعنواني، وخرج  ت.
كانت العاصمة ما زالت لم تدب الحياة فيها... وفي اتجاه نزل أفريكا بشارع بورقيبة، اعترضتني
سيدة يبدو من ملامحها أا مومس، أكملت  مهمتها الهادفة هذا الصباح، أو أطردها أحدهم بعد أنْ نهل
من لحمها الغض.
رائحة الخمر ما زالت تعبق، رغم محاولة عطرها الصارخ أنْ يسترها ويستر رطانتها. قالت وهي تحاول
أنْ تستوقفني:
صباح الخير
صباح الخير
ودون أنْ أتوقّف أو أترك لها فرصة أنْ تضيف، واصل  ت سيري غير  مبال،مقارنا بين سيدة في
فلسطين تنفجر من أجل قضاياها، وأخرى في تونس تنفرج من أجل الدولار أو من أجل شهوا.
وحدثْ ولا حرج عن الطالبات ونساء الترل والأحياء الراقية والمومسات اُلمنتشرات في المقاهي
والفضاءات العمومية والطرقات أينما سرت.
اقْتني  ت صحيفة تونسية وعلبة سجائر، ودخل  ت مقهى"أفريكا".
عدد الرواد لا يزيد عن العشرة، والنادل يتنقّل بأناقة تسبقه ابتسامة ما عهدا عند نادل.
المكان  يعطي انطباعا بالراحة والهدوء. وبعيدا عن أعين تعرفك أو تعرفها . لا أحد من أصدقائي أو
رفاقي يعرفني أرتاد هذا المكان، ولم أدخلْه إلا مرة واحدة مع صديق شاعر تعرفت عليه في زحمة
الحراك الثقافي التونسي الراكد كالمياه الآسنة.
فور جلوسي، وصل النادل  مبتسما:
صباح الخير.
صباح الخير... "إكسبراس" من فضلك.
حاضر.
فتح  ت الصحيفة على أخبار عهدا... ولا شيء تحت الشمس . لا أذكر أني قرأ  ت خبرا  مهما
بصحيفة تونسية، عدى أخبار الرياضة.
فيما سحب  ت سيجارة لأشعلها، وصل النادل... رتب القهوة بأناقة وانصرف. فيما أكمل  ت تصفّح الجريدة
 مدججا بالنقمة والكره:
صفحة الغلاف تتصدرها صورة رئيس الجمهورية وثلاث صور اختيرت من مقابلات كرة القدم، وأخرى
صورة ُلمصاب فلسطيني من بيت حانون ( هكذا قالوا ).
فيما تحضر صورة صدام حسين أسفل الصفحة متبوعة بنبوءة  منجم مغربي: "صدام سيموت مسموما
بأياد أمريكية".
وفهم  ت أنْ لا شيء يستحق الاهتمام، في صحيفة كغيرها من الصحف الملأى بخزعبلات السياسيين
وانجازام التاريخية وصور كرة القدم وأخبار النجوم والمنجمين.
كن  ت أردد دائما أنّ الخبر الصحيح الوحيد في صحافتنا التونسية، هو أخبار الموتى.
فتحت الصحيفة على افتتاحيتها بقلم رئيس التحرير، يمجد و يبارك و يدعو لفخامته بطول العمر
ولحرمه المصون، داعيا إياه إلى الترشح لانتخابات الرئاسية القادمة، دون أن ينسى التنديد "بالغربان
الناعقة" من الحقوقيين والنقابيين الذين لا يريدون الخير لهذا البلد.
شرع  ت أتصفّح الورقات دون اهتمام، حتى أدرك  ت خبرا عن الندوة الفكرية التي عقدها أحد الوزراء،
ملخصها "تونس توفقت لأنْ  تساير جملة التغيرات الإقليمية والدولية"
عندها ألقيت الصحيفة جانبا، وقد مثلت أمامي مواقف الزعيم بورقيبة و ريادته في اتخاذ القرارات
الصائبة.
كيف اختار ذلك الزعيم أنْ يساند الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وكيف كان قادرا على التنبؤ
زيمة المحور.
تذكّر  ت موقفه من الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، وكيف طالب العرب بقبول قرار التقسيم الذي
فرضته الأمم المتحدة، ورفضه العرب جميعا. ورغم الاامات المختلفة بالخيانة والازامية، إلا أنّ
التاريخ أثبت صحة مواقفه من الأحداث.
الغريب أنّ كلّ الرؤساء، يدعون الحكمة والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ودعم قضايا الشعوب
و..
تخيل  ت طفلا منحه الخالق قدرة المعرفة والكلام منذ يومه الأول، وتمّ وضعه في قاعة ملأى بالشاشات
التي تبثّ قنوات عربية  مختلفة.. طبعا سينتشي هذا الطفل، ويقف مهللا بجمال هذا العالم... إا
الجنة... سيعتقد لا محالة أنه  ولد في الجنة على خلاف خلق الله جميعا.
كلّ الأمور على ما  يرام: حكامنا وشعوبنا ولا شيء  يقلق راحة هذا المواطن العربي عدى أنّ دولته لا
مشكلة لها.
أفقْ  ت من حلم اليقظة على النادل يفتح جهاز التلفاز، على قناة الجزيرة القطرية، حيث ينقل
مراسلها من طهران آخر أخبار الجدل القائم بين إيران والغرب حول الملف النووي.
حين أكمل، اتصل معد البرنامج هاتفيا بمحلل سياسي عربي  يدافع عن إيران،  معتبرا إياها  منقذ الأمة
من أعدائها. كان يدافع بحماس من  يدافع عن أمه وهي  تغتصب.
لحظتها جالت بخاطري فوضى من الأحداث والمواقف والتحاليل، لم أستطع ترتيبها:
مثلت الفتنة الكبرى والحسن والحسين وعلي وعائشة وعثمان وقتل الصحابة غدرا أو ردة...
حضرت حضارة الفرس وتاريخ الشيعة والشاه والحرب العراقية الإيرانية...
حضرت الأحياء والمدن الشيعية في العراق، وحضر حزب الله وحسن نصر الله والخميني..
حضرت "طنب الكبرى" و "طنب الصغرى" و "أبو موسى"...
حضر سليمان رشدي وفتوى الخميني بقتله...
تأمل  ت ذلك المحلل الأنيق بربطة عنق أمريكية، وبدلة أنيقة من محلات باريس الفاخرة،  مضافا
إليها لباقته وقدرته على اُلمناورة بلهجة عربية منمقة بكلمات إنجليزية ليكتمل مشهد المثقّف العضوي.
تأمل  ت ... وكد  ت أصفعه بمنفضة السجائر التي أمامي... غير أني تراجع  ت،  مشفقا عليه وعلى المستمعين
الكرام:
أحدهم بزي شيوعي اهترأ، ولفّه الصدأ، لا زال يلوك خطابات لينين وماركس وتروتسكي وبيانات
الحزب الشيوعي، ويحلف بماو ويعظّم فيدال كاسترو...
أحدهم بزي القوميين العسكرية، يزور قبر عبد الناصر أو يغرق في ترهات عصمت سيف الدولة أو
يتباهى بنظريات ميشال عفلق...
أحدهم بجبة عثمان، ولحية عمر عبد الرحمان، يخطب في الناس زورا وتانا، و  يدافع عن تعدد النساء
وزواج المتعة، وينادي بالخلافة السادسة...ولا خلافة ولا هم يخلفون.
ومن تبقّى فشعارهم عاش الملك، مات الملك: مرة في خانة الأمريكيين الأحرار، وأخرى مع التطبيع
وضم دولة اليهود إلى الجامعة العربية، وطورا في حضيرة السلطة، يتمعشون من لحمها الغض، قبل أنْ
تسقط بموت الملك أو بالانقلاب عليه . لينقلبوا كما انقلبوا، وكأنّ شيئا لم يكن.
تذكّر  ت أحدهم، لا أستحضره ربما أحد المعتوهين أو العاقلين، وهو يقول:
أنا أنتمي إلى "حزب الديك".
وما حزب الديك ؟
أنْ تأكل وتشرب وتتدرب على كره الوطن.
( أجب  ت  مستغربا ) وهل كره الوطن يستحق الدربة ؟
بالطبع... مثلما تتدرب على حب امرأة، تساعد نفسك وقلبك على أنْ تحبها أو تتقرب منها. بالمثل
تتدرب على كره الوطن... بمعنى، تساعد نفسك وقلبك على أنْ تكرهه وتبتعد عنه.
بصراحة لا أعرف أحدا يكره الوطن. قد يكره الساسة أو الوضع العام أو أي شيء... لكن الوطن
مقدس .
( ساخرا ) الوطن الذي أعنيه أنا ليس الوطن الذي فهمته.لذلك أنا أنتمي
"لحزب الديك" الذي له مفهوم خاص للوطن...
لم يترك ليَ النادل أنْ أستحضر بقية الحوار، حين اقترب من الطاولة يرفع فنجان بعد أنْ نفذت
قهوتي .
انتصب  ت واقفا .. ناولْته ثمن المشروب، وانصرفْ  ت دون أنْ أنتبه أنني نسي  ت الجريدة سهوا أو  متعمدا.
الفصل الرابع
سقوط النجمة
للمرة الأولى أض على الاستثناء .. للمرة الأولى أنا لس  ت أنا، ولس  ت تلك الفتاة التي تنعم بالبذخ
الرأسماليّ والرفاهية.
لمْ أجد السرير لينا كعادته، ولا وسادتي الحريرية، ولا الحاسوب الذي لا يفارق غرفتي، ولا ألمعلّقات
النحاسية والتحف التي يهدنيها أبي.
للمرة الأولى لا أفيق على صوت " فاطمة "... تبصبص قرب سريري، تنتظر أنْ أمنحها فطورها
الصباحي.
هكذا كن  ت أسمي كلبتي "فاطمة"، كّما على العرب والمسلمين الوسخين. و"فاطمة" من فصيلة ألمانية
نادرة، كادت تنقرض عقب الحرب العالمية الثانية. جلبتها معي من "بلون" الألمانية، في إحدى زياراتي
لبعض أهلنا هناك.
للمرة الأولى لا أسمع صوت "نارمين" عبر الهاتف أو رسالتها التي أتلقّاها بالبريد الالكتروني.
للمرة الأولى أصطدم بالمكان  مرتبكة، وأنا أض كمن يحمل حائط المبكى.. أو أحاول أنْ أض مقيدة
اليدين والساقين،  ملقاة حذو أكياس أجهل كنهها وحمولتها.
أرى السقف  يشبه لون علبة صفيح، يوشك أنْ  يطبق على أنفاسي... يوشك أنْ يسقط . حتى أنني أحرك
جسدي بحذر لا مثيل له،  منتبهة إلى منعرجاته ونتوءاته . علّ حركة عنيفة واحدة،  تساعده على
السقوط، فيدهس جسدي.
بنفْس المكان، وأنا  ملقاة كغيري من الأكياس تماما... لا شيء يساعدني على معرفة المكان. فالأكياس
موجودة في كلّ المدن والقرى، وبأي مكان في العالم. ولا شيء غير بعض الأدوات الفلاحية البدائية،
 تذكّرني بالعرب في القرى الفلسطينية.
آه ... تذكّر  ت ... ربما في قرية من ُ قرى البلد الذي وصلْ  ت إليه منذ ما يزيد عن الشهرين. قل  ت ربما...
وفي الحقيقة أنا  مرهقة إلى درجة أنني لم أعد أتذكّر شيئا.
أحاول أنْ أحرك رأسي بعنف كي أنفض الذاكرة من طحلبها، علّي أستحضر شيئا أو أنتبه لسبب وجودي
ذا المكان اُلمقرف..في ذات الوقت أحاول أن لا ُأزعج السقف كي لا يسقط.
... أمسح المكان ببصري، علّي أعثر على ما به أتعرف على المكان.. جدران طينية  تغلّفها الرطوبة
والعناكب وحشرات لا عهد لي ا.
وبسرعة استقر بصري على أعمدة خشبية تشد السقف كي لا يسقط. وبالكاد يتسع المكان لسيارة، لولا
هذه الأكياس المرصوفة خلفي.
وأنا أرى الأعمدة الخشبية، أتخيل فأرا يتسلّقها ويقضمها  مبتسما أو ساخرا من جلستي أو من
قيودي... ينهش العمود ولا  يخلّف فضلاته. إنه يلْتهم العمود وينتفخ... يقضم العمود وينتفخ، حتى
صار الفأر ختريرا.
أنا أستغرب كيف استطاع العمود الأخير أنْ يتحمل وزن فأر بحجم خترير . مع ذلك أكمل الفأر العمود
الأخير، حتى صار كبغل، أوشك أنْ ينفجر... والسقف أوشك أنْ يسقط...
أوشك أن ينفجر... أوشك أن يسقط ...
انكسر بصري إلى الأرض، وقلّص  ت جسدي، فأنا ميتة لا محالة.
ُ فتح الباب، فصات صديدا ولم تدخل الشمس. ربما هو الليل أو ربما من فَتح الباب سد على الشمس
مداخلها.
دخل ثلاثة رجال  ملثّمين، يرتدون أزياء شبه عسكرية. تقدم أحدهم تسبقه فوهة مدفعه الرشاش،
فيما بقي زملاؤه قرب خد الباب.ولا أعرف إنْ كان عددهم يفوق الثلاثة..من يدري ربما كان المستودع
 محاصرا بمجموعة من الإرهابيين.
تقدم أحدهم بمشية ثابتة متوازنة، وعيناه تبرقان بحدة عيون الصقْر. جعلتني أخمّن أنه شاب لم
يتجاوز الأربعين.
سألني بصوت جهوري هز به أركان المستودع، حتى خلته يسقط:
هل تتكلّمين العربية ؟
لهجته العراقية جعلتني أحدد موقعي... نعم أنا الآن في العراق... في بغداد تحديدا، و  متأكّدة أنني
دخلْ  ت بغداد. نعم آخر صورة بقيت عالقة بذهني هو  مروري بالجسر على سيارة  سخرت من أجلي. أذكر
أنّ السيارة توقّفت بسبب عطب مفاجئ، وأذكر أنّ أحد المارة تقدم لمساعدتي... وأذكر...
أذكر ماذا ؟ لا شيء . فقط أذكر أنّ أحد المارة عرض علي  مساعدته، ولا شيء بعد ذلك.
إذن لماذا أنا هنا ؟ هل لا زل  ت في بغداد ؟ أم تمّ نقْلي إلى جهة غير معلومة ؟
ارتعدت فرائصي، وتجمد الدم في شراييني واستنجد  ت بكلّ الكتب السماوية .
الآن فقط، فهم  ت أنني بين أيدي الإرهابيين العراقيين. وكأنّ الإرهابي الذي أمامي مرر أذنه إلى جهة
الذاكرة، وتنصت على وشوشات أفكاري... كأنه استاء من كلمة "الإرهابيين"، فزمجر ثانية:
هل تتقنين العربية ؟
( أجب  ت بارتباك ) yes نعم
شعر  ت أنه اطمأنّ قليلا، لمّا رأيت نظراته ترتفع إلى مستوى السقف، ورد:
حسنا،أنت الآن في حماية المقاومة العراقية الباسلة .لا تخافي، لن نسيء إليك. فقط عليك بقراءة
هذه الورقة، وسنقوم بتسجيل ذلك وتمريره لوسائل الإعلام.
التفَت إلى أحد زملائه، وأشار بسبابته كأنه يطلب استدعاء أحد ما. ثمّ مد لي الورقة، وألقاها بإهمال
على ركبتي، ثمّ عمد إلى فك قيدي.
فتح زميله الباب ودخل أحدهم يحمل آلة كاميرا، ووجهها نحوي، وأشار إليّ كي أقْرأ الورقة بصوت
واضح ودون ارتباك.
لحظتها، كانت النبضات تتصاعد، وعيوني أحسستها  تحاول الارتماء على التراب من شدة الخوف. مع
ذلك حضرت "نارمين" بعنف جسدها وشهوا. حاول  ت إقصاءها من الذاكرة، لكنها تمسكت بالحضور رغم
الغياب.
كان شذوذها يدفعها لتقْييدي إلى السرير من معصمي وساقي، وتشهر سوطها في جسدي.. على إليتي
وخصري وفخذي...  متمتعة بآلامي.
و "نارمين" كانت  تصر في لحظات الشذوذ التي تجْمعنا، أنْ أجلدها حتى البكاء، و  تصر على ذلك. حين
 تمارس علي عنفها، كثيرا ما  تدمي شفاهي وجسدي بأسناا وسوطها.
وما كان يدفعني لتحملها، هو ذلك الجسد الشهي الذي  يميزها / لم أصادف امرأة بتلك الأنوثة
الصارخة... ذلك الجسد الممتلئ، وتلك الشفاه اُلمكتترة... كانت كلّ حبة في جسدها،  تثير فيك وديانا من
الشهوة .
كانت كذلك دائما، حتى أفقدتني شوقي للرجال . منذ عرفتها، ومارس  ت معها أو بالأحرى أجبرتني
شذوذ السحاقيات،رفض  ت كلّ الرجال الذين أبدوا رغبة في  معاشرتي . بالمثل كانت "نارمين" ترفض
الرجال وتكرههم، لذلك لا  تعاشر إلا النساء.
......................................
صرخة الإرهابي أسقطت "نارمين" من ذاكرتي نحو الإقصاء . قال آمرا:
عند الإشارة، تبدئين في قراءة الورقة.
....
أرد  ت أنْ أعلّق  متسائلة، غير أنه أكمل بنفس النبرة الآمرة:
الأسئلة والتعاليق ممنوعة.
بارتعاش لمْ أستطع تداركه، أمسكْ  ت الورقة من طرفيها، وتلو  ت:
"إني أنجيلا موردخاي، العاملة بمنظمة الأمم المتحدة بالعراق منذ شهرين، أهيب بالحكومة الأمريكية
والحكومة الألمانية واتمع الدولي،لمساعدتي وإطلاق سراحي. في مدة لا تتجاوز اليومين . مع العلم
أنني في صحة جيدة وُأعامل معاملة حسنة"
بسرعة من فاجأه الحيض، اختطف الإرهابي الورقة من أناملي، وأعاد قيدي.
فيما انسحب المصور مهرولا، وتبعه الآخرون بارتباك لم أفهمه، إلا بسماع دوي انفجارات هزت المنطقة.
فاجأني الدوار، وحاصرني الخوف، كمن يقترب من حبل المشنقة . مخافة أنْ ينالني القصف الأمريكي،
أو يسقط أحد صواريخ الكاتيوشا على المكان خطأً .وما ضاعف خوفي، تسلل روائح الكبريت والفسفور
إلى المستودع، مع تصاعد عمليات القصف وإطلاق النار.
الرعب الذي يحاصرني، كان مع الارتباك والخوف والقيء الذي يفاجئني ... كان  يخدرني. ربما بفعل
الدخان الذي استنشقته. مع ذلك كن  ت أشعر بارتخاء لذيذ يتوزع في كامل شراييني.
ارتخاء يعيد "نارمين" إلى الذاكرة... تحضر وهي تلْعق بلساا شفتي وفخذي ودي، حتى تصل أسفل
سرتي، لتتسلّل لمسام الجلد نشوة ممزوجة باللذّة والانتشاء والسكْر. وأنا المقيدة، كلّ شيء يتحرك في
جسدي نبضة.. نبضة.
أما الآن، فلا شيء يتحرك فيّ، حتى النبض نفسه. حتى أني ُأوشك أنْ لا أسمعه... وغب  ت ....
لا أذكر المدة التي غب  ت فيها عن الوعي، ولا شيء هنا  يحيلك للزمن الكرونولوجي. حتى الشمس، لا
تدخل هذا المستودع. ربما كان المكان قبوا أو غرفة تحت الأرض أو أنّ الشمس حجبتها الأدخنة والغبار
والحرائق عن كامل العراق.
وأنا أسحب خيوط الوعي شيئا فشيئا، تناهت إلى مسمعي وشوشات من الخارج، ربما أولئك الذين زاروني
منذ ساعة أو ساعات، أو ربما غيرهم من مجموعات إرهابية أخرى.
تتالت دقات قلبي، حتى كادت  تسمع إلى الخارج . فكتم  ت تنفّسي، حتى لا يتناهى إلى الإرهابيين.
أكمل أحدهم حديثا، لم أتبين أوله:
( .. ) وإذا لم يستجيبوا؟
لا أدري .. ربما نعطيهم مهلة أخرى.
وبعد ..؟
إنْ استجابوا.. وإلا...
وإلا ماذا ؟ القائد "نواف" ربما ينفّذ فيها حكم الإعدام.
أقسم بالله، لولا مصلحة المقاومة، لنفّذْ  ت حكم الإعدام في " نوا ..."
تكهن  ت أنّ رفيقه منعه من إكمال جملته، بوضع يده على فمه، كأنه ارتكب  جرما.
و أكمل بعد أنْ منعه صديقه من نطق أسم "نواف":
من "نواف" هذا، حتى يكون قائدا علينا ؟ نحن أحرار العراق... نحن أبناء حزب البعث .. و هذا
الفلسطيني، ما الذي أتى به إلينا؟
( علّق دوء ) هذا ليس وقتا مناسبا للتشويش والحسابات ... العراق الآن يضج بالعرب و الشيعة
والأكراد الذين لا زالوا يتوافدون منذ وصول الاحتلال، وهم يشاركوننا النضال. و نحن نعلم أنّ "نواف"
موجود في العراق منذ حربنا مع الكويت.
هو الآن يا أبا ايد أكثر وطنية من بعض العراقيين. رجاء أبا ايد.. لنؤجل الحسابات.
يكفينا تأجيلا للحسابات.. وجود العرب في العراق، هو ما شوش علينا طرق العمل، واختلط الحابل
بالنابل: هذه كتائب محمد، وأخرى جيش المهدي، وتلك ميليشيا الصدر، ورابعة وخامسة وألف...
قل لي بربك من  يقاوم من، ومن يدافع عن العراق، ومن يخدم الاحتلال ؟
أبا ايد، رجاءً... لا داعي لهذا الكلام. نحن  متفقون على أنّ من يخون القضية  يعدم، ولو كان
عراقيا. إذا ما دام نواف  مخلصا كغيره من الشرفاء العراقيين، فهذا يشرف قضيتنا.
والحقيقة يا صديقي يعد نواف من طينة المناضلين الأحرار ... أعرف نواف منذ سنوات، حين التقيت به
على هامش الملتقى القومي العربي، وكان لا زال جاهلا بالوضع العراقي رغم أنه يدرس الفلسفة بجامعة
بغداد. مع ذلك كان قادرا على استيعاب وتحليل الراهن العربي والدولي، وله القدرة على أن يفسر
ويتنبأ بالنتائج. ومنذ أنْ غير جنسيته إلى العراقية صار عراقيا (حرك رأسه وابتسم بمكر ) لا تتصور
أن أجهزة حزب البعث يمكن أنْ تتركه دون رقابة، حتى وقد صار بجنسية عراقية.
بمثل هؤلاء سقطت بغداد .. وعن طريقهم وصلت المعلومات المخابراتية إلى الأمريكان والصهاينة (
شبك عشره على رأسه ) العراقي الحر لا يخون العراق ( وبنبرة اشد حزما) ثمّ أليس الأحرى ؤلاء أن
يدافعوا عن فلسطين ؟
هذا موضوع آخر ..
( تغيرت نبرة صوته بارتباك، وخوف ) انتبه أبا ايد، هناك تحليق طائرات.
كن  ت  مستمتعة بالحوار ومرتبكة، متمنية أنْ أكون خارج هذا القبو لأرى اُلمطلق والامتداد... لأرى
هذا العالم. قطعا إنه ليس بغداد.كن  ت في بغداد لا أمر إلا من شوارع محددة، وحسب التعليمات.
إنّ مهنتي تفرض علي التقيد بالأوامر والأوقات بانضباط جماعي وآمن . إنّ وجود مقرنا بالمنطقة
الخضراء، يجعلنا في مأمن من أسلحة الإرهابيين، وتحت حماية القوات الأمريكية. ولولا ذلك العطب
المفاجئ للسيارة، لما كن  ت هنا الآن.
.......
عادت بي الذاكرة إلى أول لقاء جمعني ب "نارمين"، حيث كان عطب السيارة بالمثل سببا في تغيير
حياتي الخاصة.
ففي زيارة لأحد أقاربي في برلين، تعطّلت السيارة ربما بفعل رداءة الطقس والثلوج المتهاطلة كان
الطقس أشد من قسوة الحرارة في بغداد.
تسمر  ت خلف المقْود،  محاولة إعادة تشغيل المحرك، دون جدوى... فكّر  ت في استعمال الهاتف الجوال،
غير أني لا زل  ت بعيدة عن مقر أقاربي، وبالمثل ابتعد  ت عن مترلنا بحوالي ستين كلمترا.
نزلْ  ت من السيارة، محاولة الاستنجاد بأي كان.. كن  ت أشير إلى السيارات العابرة دون أنْ تعيرني أي
اهتمام.
حين همم  ت بالرجوع إلى المقعد، أشارت لي سيارة بأضوائها، فأشر  ت بيدي فتوقّفت.
فتح  ت الباب طالبة المساعدة، فابتسمت  مرحبة، وكأا تعرفني منذ سنوات.
حين استوي  ت على كرسي سيارا، مثبتة حزام الأمان حولي، انتبه  ت إلى سيدة غاية في الجمال
والأنوثة. وبلباس يكشف عن كامل فخذيها وديها، استغرب  ت من قدرا على تحمل البرد بتلك
الملابس.
أرد  ت أنْ أبرر:
تعطّلت السيارة دون سابق إعلام... لا أدري... هذه المرة الأولى التي تحصل معي.
هذا وارد في كلّ الأوقات... أنا "نارمين". وأنت ؟
أنا "أنجلا".
إلى أين مقصدك ؟
إلى برلين.
هذا طريقي (  متداركة ) سنعرج على مترلي بعد دقائق.. لا بد أنْ أحمل بعض الأغراض.. هل
تصحبيني ؟ خمس دقائق فقط، ثمّ نكمل طريقنا.
لا مانع .. لا مانع.
أرجو فقط أن لا أكون قد أزعجتك.
لا داعي للشكر، كلنا يتعرض لمثل هذه المواقف...
( صمتت قليلا ) ربع ساعة فقط، ونكون قد وصلنا.
بالفعل، ربع ساعة كانت كافية لتجدني في قاعة جلوس فاخرة ومتسعة. بيتها ينم عن بذخ صارخ ..
الكريستال والتحف النحاسية والفضية وقطع العاج والزرابي الفارسية .. كلها  تصيبك بالذهول.
كن  ت أمسح ببصري كلّ المعلّقات واللوحات والتحف، متسائلة:
هل هذا مترلك ؟
( وهي تتجه إلى إحدى الغرف ) بالطبع... ورثْته عن والدي. فأنا ابنته الوحيدة.
أمامك الويسكي، خذي ما شئت.
تناولْ  ت قارورة الويسكي، أسكب منها دون أنْ أرفع بصري عن المعلّقات والزرابي والتحف التي  تحيلك
إلى مترلة الطبقات الأرستقراطية بأوربا.
فاجأني صوت "نارمين" من الداخل:
أنجيلا... تعالي لحظة.
لا زل  ت  ممسكة بكأس الويسكي،  متجهة إلى غرفتها ودخلْ  ت بانتباه شديد، فخاطبتني بإلحاح:
أنجيلا.. أدخلي.
دخلْ  ت غرفتها ذات الإنارة الحمراء الخافتة، كأنك بإحدى العلب الليلية، عدا كون الموسيقى هنا
خافتة. خمّن  ت أا موسيقى "جون ميشال جار" أو "خوليو أجليسياس". ولم يكن في الغرفة ما يشي
بالغرابة، عدا صورة ضخمة لمادونا، وهي شبه عارية. وكانت "نارمين" ممسكة بفستان. قالت:
هل  تساعديني؟
بالطبع.
لي صديقة أريد أنْ أهديها هذا الفستان، بمناسبة عيد ميلادها.
لكن... لكن كيف سأساعدك؟
جسدها يشبه جسدك تماما... هل  تجربينه؟
بالطبع... لا مانع عندي.
وضع  ت كأس"الويسكي" على طاولة صغيرة حذو السرير... تناولْ  ت الفستان من بين أصابعها...
مددته على ظهر الأريكة، وشرع  ت أفك أزرار سروالي وملابسي الأخرى.
حين تعري  ت تماما إلا من ملابسي الداخلية، تقدمت مني "نارمين" وشرعت تمرر أصابعها على صدري و
شفاهي وفخذي،  مستعينة بذهولي.. وكانت تدفعني رويدا، رويدا إلى السرير . حين أرد  ت منعها،
فاجأتني قشعريرة ساخنة وارتباك شديد في نتوءات جسدي.. فطاوعتها. ولم أدر كيف اتجهت أصابعي
إلى أزرار ملابسها، واحتضننا السرير.
صباحا، أفقْ  ت على صوت "نارمين" .. كانت عارية تماما. واحتج  ت ربع ساعة لأستحضر ما حصل
البارحة.
...................
...................
دخل علي أحد الإرهابيين إلى المستودع، ليقْطع علي حبل الذاكرة، شاهرا رشاشه في وجهي .
وتبعه ثان،  متجها إلى قيودي ففكّها، ثمّ غادر في صمت.
اقْترب الأول مني، ووخزني بسلاحه:
انهضي، علينا بالمغادرة.
لمْ يكن بوسعي أنْ أعلّق أو أتساءل، فما الذي  يمكن أنْ تفْعله الشاة أمام جزارها؟
حين خرجنا من القبو، كانت سيارة شرطة تقف بالمكان. فغمرني فرح بالنصر والنجاة... همم  ت
بالركض نحو السيارة، غير أنّ باا الذي ُ فتح، والإرهابي الذي نزل منها، إضافة إلى الإرهابيين الأربعة
الذين يحرسون المكان بمدافعهم ورشاشام... جعلني أغْتال فرحي. وبصعوبة منع  ت قلْبي من إخماد
نبضه.
 دفع  ت إلى السيارة، قبل أنْ يدسوا أجسادهم بجانبي، وتكفّل أحدهم بإعادة قيدي. فيما قام الثاني
بوضع عصابة على عيني . وانطلقت السيارة دون قدرة لذاكرتي على تبصر الأمكنة و الطرقات
والمنعرجات.
الفصل الخامس
التنظيم
في غرفة ضيقة، بمنزل يقع بالضاحية الجنوبية لدمشق، وصل "أبو مصعب" باستعمال شاحنة نقل
بضائع... كان جالسا مع "إيراد الحاج" و "أمير التوم" و "ميلود عبد القادر".
قال إيراد الحاج،  موجها كلامه إلى الجميع:
مرحبا بالإخوة ااهدين.
( لم يجبه أحد )
( بيده كان يشير إلينا تباعا لنتعرف على بعضنا ) أبو "مصعب العراقي"، مناضل وطني من العراق...
وهو أحد المناضلين الذين مروا بتجربة سجن أبو غريب.
ااهد "أمير التوم" من السودان .. تحديدا من "أم درمان" ( وكأنه يريد تأكيد صحة معلوماته، فوجه
كلامه إلى أمير )
أليس كذالك؟
أجاب "أمير التوم":
وهو كذلك.
ثمّ أكمل "إيراد الحاج" كلامه:
الأخ "أمير التوم"، حارب مع شيخ ااهدين أسامة بن لادن، في حربه ضد السوفيات.
ثمّ وجه يده جهة ميلود، وأكمل:
ميلود عبد القادر،  مجاهد من "تبسة" الجزائرية. لمْ يخْرج من أفغانستان، إلا ليدخل دمشق في اتجاه
بغداد.
وقد أكمل إيراد كلامه... كان الجو مشحونا بالقتامة والتوتر. فيما كان "أبو مصعب" يتأمل ملامح "أمير
التوم" باستغراب.
كان كشيخ يقترب من السبعين أو أكثر... وربما بشرته السوداء الكالحة، زادت في عدد السنوات إلى
عمره المتجعد... ملامحه الهادئة، القريبة من ملامح عرب الجزيرة، زادته وقارا وهيبة، رغم
الشيخوخة.
كان مستغربا من قدرة هذا الشيخ على تحمل مشاق الحروب، ومخاطر حرب العصابات ... بل راوده شك
في قدرته على حمل بندقية الكلاشنكوف.
انتصب "ميلود عبد القادر" واقفا، قائلا:
ما هو الحلّ الآن ؟ إقامتنا في دمشق أشد خطرا من أي مكان آخر.
رد "أيراد الحاج"، وقد وقف بجانبه  مربتا على كتفه:
المسألة تفوتنا ... أفهم هذه الخطورة، وأفهم صعوبة المرحلة. لكن علينا الانتظار، فالوضع متوتر
الآن. مع ذلك، نحن في مأمن بعض الشيء.
علّقْ  ت أنا أبو مصعب و دون لباقة:
أي أمن هذا الذي تتحدث عنه ؟
نعم، نحن في مأمن... لمْ يسبق لأي منا أنْ دخل سوريا، ولمْ يسبق للمخابرات أنْ كشفت إحدى الخلايا
في دمشق أو أي مدينة أخرى. علينا ملازمة الحيطة، وعدم مغادرة المكان، في انتظار التعليمات .
(أرد  ت أنْ أسأل عن مصير أبي الوليد، وعن مجموعته بقرية "شيخ الحديد"، لكنني أدرك  ت الفرق بين
تنظيم سياسي نضاليّ، وتنظيم ديني جهادي... )
قطع "ميلود عبد القادر"علي حبال التفكير، وكأنه يوجه كلامه إلى خوفي:
لنثق بأنفسنا... وبعون الله ما دمنا ندافع عن أمة الإسلام، فإنّ الله سيهدينا إلى السبيل القويم.
قل  ت محاولا إخفاء ارتباكي:
كلنا يعرف أنّ العواصم دائما، أشد خطرا وأكثرها رقابة.خاصة بالنسبة إلى التنظيمات السرية (
موجها كلامي إلى "أمير التوم" الذي لم يشاركنا الحوار ) أنا أسأل لماذا دمشق تحْديدا ؟ لماذا لمْ نغادر
صوب وجهة أخرى؟
كأنّ "أمير التوم" فهم استنجادي به ... أو ربما تفطّن لارتباكي المصبوغ على ملامحي، لهذا علّق ببرود
لا مثيل له، ودون أنْ يبرح مكانه أو يغير من جلْسته:
المسألة يا ابني، أبسط من ذلك بكثير...( حك جبهته بإصبعه، فتعثّر الإصبع على التجاعيد ) يبدو
أنك قليل الخبرة بالحركات الجهادية . صحيح أنك مررت بتجربة سجن أبو غريب، لكن هذا لا يكفي
لتكون مجاهدا.
دع خوفك بعيدا عنك... أطْرده من داخلك.. أشنقْه في الساحات العامة،  مستنجدا بكتاب الله وسنة
رسول الله.
نحن يا بني، نخوض حرب ديانات منذ أرسل الله آدم إلى الأرض... لا تستمع إلى أحاديث الإعلام و
السياسيين والصحافة المأجورة. نحن الآن أمام خيارين، لا ثالث لهما. إما أنْ ينتصر الإسلام، أو تنتصر
المسيحية ( وبسخرية ) أقصد اليهود.
سحب نفسا عميقا، وقطّب جبهته مستعدا، وبسبابته التي تعينه على قول حازم:
بسم الله الرحمان الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى في كتابه العزيز
"ولَن ترضى ع  نك اليهو  د ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم ُ قلْ إنّ  هدى الله هو ا ُ لهدى ولئن اتبعت أهواء  هم
بعد الذي جاءَك من العلْم ما لك من الله من وليّ و لا نصير"
صدق الله العظيم.
ردد الحضور بعده:
صدق الله العظيم.
حاولْ  ت أنْ أغير مجرى الحوار، كي ُأخفّف عني لغة الوعظ والإرشاد:
لكن المسيحية ليست اليهودية، إما ديانتان مخْتلفتان.
دعك من هذه الخزعبلات... المسيحية في خدمة اليهودية. ولا يجب أنْ تفْهم اليهودية كدين يهودي،
وإنما اليهودية باعتبارها العصا التي يلوح ا شرذمة من اليهود، لعنهم الله.
( انتصب واقفا،  معولا على شيخوخته. وأكمل وهو يتنقّل ببطء في أرجاء الغرفة الضيقة )
سأحكي لك واقعة واحدة، لتعرف حجم الصعوبات التي مرت علي (  مستدركا ) هذه آخرها.
هي  مصيبة من جملة المصائب التي يبتلينا الله ا، ليختبر صبرنا وإيماننا.
يكفي أنْ تعلم يا ابني، أنني أتنقّل وأجاهد في أفغانستان منذ 1982 . تعلّم  ت أنواع القتال وكلّ حيل
الحروب، وتدرب  ت على جميع الأسلحة... وخبر  ت كلّ جبال أفغانستان والباكستان وإيران.
أنا يا ابني، جرب  ت الجوع والعطش والوحدة والاعتقال، مرة على يدي السوفيات، وأخرى على يد
القبائل الأفغانية وثالثة على يد المخابرات العسكرية الباكستانية...
آخر مرة وأنا أحاول اجتياز الحدود مع مجموعة من الإخوان تمّ اعتقالي داخل الأراضي
الباكستانية. مع ذلك حمد  ت الله ألف مرة، وكن  ت سعيدا.
سألْته باستغراب:
كنت سعيدا... ؟
( مبتسما ) حمد  ت الله أني ُأعتقل  ت في باكستان .لأنّ إخواننا هناك كثْر، ويمكن أنْ أنجو بطريقة أو
بأخرى. ولو أنّ حكومة "مشرف" لا تتوانى عن خدمة الأمريكيين، لعنهم الله. لكن ....
أسعفه "ميلود عبد القادر"، وكأنه كان حاضرا:
لكن القوات الأمريكية هي التي اعتقلتك، أليس كذلك؟
سألْ  ت ميلود:
وهل كنت مع الإخوان لحظتها؟
أكمل "أمير التوم"، دون أنْ ينتبه إلى تعليقي:
هذا طبيعي، لأنّ الحدود الباكستانية تحت رقابة القوات الأمريكية، ومخابراا التي لا تنام.
سألْته:
وبعد ...؟
أجاب:
أعادوني إلى أفغانستان، وتمّ احتجازي في حفرة محفورة في الأرض بعمق ثلاثة أمتار. وغطّوا الحفرة
بقوالب من الحديد يستحيل أنْ يحملها عشرة رجال.
كن  ت أتصور أم سينقلونك إلى "غوانتانامو".
( بمرارة ) هذا ما كان سيحصل لاحقا. غير أنّ الله بقدرته، أرسل ااهدين لإنقاذي. كانت ثلاث
سيارات مفخخة، كافية لطرد الجبناء من الموقع، وتمّ إنقاذي.
كان يسرد القصة، ببساطة لا مثيل لها .. لمْ يكن  متأثّرا أو  منزعجا أو خائفا. خلْته يحكي قصة
من الخيال الشعبي. وكأنّ تفكيري لمْ يقْتنع أنّ هذه الواقعة أشد وقْعا من تجْربة بسجن أبو غريب.
كيف يمكن أنْ تكون تجْربة هذا الشيخ، بحجم  معاناتي داخل ذلك الماخور، أقْتدي بأوامر المومسات
الأمريكيات، وبقوة السوط وركْل الأحذية العسكرية؟
كيف تتقبل واقعة  يجبر فيها "الشيخ الضاوي" على أنْ ينكح ابنته ونساء أخريات بالقوة، وتحت البصاق
والركل والصفْع ... وهو الإمام الخطيب بأحد مساجد بغداد؟
باستحضار قصة "الشيخ الضاوي"، قرر  ت أنْ أحكيها للإخوان علّهم يتعضون أو  يدركون أنّ غيرهم من
المناضلين في أرجاء الأرض  يعانون مثلهم أو أكثر منهم.
"الشيخ الضاوي" كان رجلا  مخلصا لعلْمه، ولطلابه. وحتى في ظلّ حكومة صدام حسين، لمْ يد  ع مرة في
 خطبه للقائد بالنصر وطول العمر... بل كان مقْداما وثابتا، له من الوقار ما يجعله  محترما و  مهابا من
الجميع.
ولعلّ الحكومة العراقية لمْ تؤدبه زمنئذ، إلا لأنّ سلطته الروحية تتجاوز مدينة بغداد، إلى كل المدن
السنية، لم يكن معارضا قطّن ولكنه لم يهادن ولم يتمسح على عتبات حزب البعث.
علّق "ميلود عبد القادر":
لعن الله صدام حسين وأمثاله ..
وسأل "إيراد الحاج" بتهكّم، وكان  يعد كأسا من اليانسون:
ومن أمثاله؟
أجاب ميلود ضاحكا:
لعنهم الله جميعا ... لا أستثني أحدا.
لمْ أستسغْ هذه التعاليق، رغم قناعتي بصحتها، وأكمل  ت :
تمّ اعتقال "الشيخ الضاوي" بعد سقوط بغداد بشهرين. وأدخلوه إلى سجن أبو غريب باعتباره
إرهابيا.هذا لأنه لم يكف عن التحريض ضد الأمريكيين.
( فركْ  ت جبهتي كي أستعين ا على التذكّر ) دخل عليه بعض الجنود، وعصبوا عينيه، ثمّ أدخلوا عليه
ابنته معصوبة العينين، وأجبروه على أنْ ينكحها. ففعل تحت قرع سياط ووخز العصي الملساء.
كان عاريا تماما، وكانت ابنته كذلك... لما فكّوا عصابته من على عينيه، كاد يفقد وعيه، وقد رأى ابنته
ورأى الجندي الأمريكي يصور المشهد اتفه الجوال.
استحضر الله وملائكته ورسله واليوم الآخر... استحضر الأنبياء جميعا، فحضروا... طغت غشاوة على
عينيه، وارتمى على الحائط يدك رأسه فيه، حتى سالت دماه، وسقط مغشيا عليه .
.....................
جلس "أمير التوم" إلى الأرض حاجبا وجهه بكفّيه، كأنه يحجب دموعه أو خوفه، مرددا :
أستغفر الله... أستغفر الله... اللهم لا رد لقضائك.. اللهم أهلك وشتت جمعهم.
فأجبنا جميعا :
آمين ... آمين يا رب العالمين.
أكْملْنا ليلتنا، نتسامر ونناقش قضايا المنطقة وأخبار ااهدين في أفغانستان وفلسطين والعراق.
وكن  ت مع امتداد الحوار، أكْتشف جهلي بشؤون الجهاد وأخبار السياسة والمناضلين... لمْ أكن أعرف من
الوضع، غير الساحة العراقية الضيقة التي لا أخبرها جيدا.
لمْ أجارِ الجماعة في سعة ثقافتهم الدينية ولا السياسية.
فأنا لمْ أكن رجلا متصوفا، ولمْ تكن لي ميولات تنظيمية، سياسية أو دينية قبل سقوط بغداد.
كن  ت مجرد موظف بسلْك الشرطة العراقية، أيام حكم البعث في العراق. أتقاضى مرتبا يكْفيني أنا
وزوجتي وابني " عاكف "، لنعيش دون خصاصة.
وعلى علاّت حزب البعث الكثيرة، لمْ يكن يخْطر ببالي أنْ أفكّر في شيء آخر غير العمل وقوت العائلة .
 معولا على انضباطي وتفانيّ في العمل. فأنا من عائلة كردية استقرت ببغداد، وبنت علاقات اجتماعية
كثيرة. ولمْ  تثْبت مخابرات حزب البعث، أننا عائلة منشقّة أو مرتدة أو لها مشاكل وانتماءات. لذلك
ساعدتني الوساطات على دخول سلك الشرطة. وكن  ت واثقا أنّ أي خطإ قد يؤدي بي إلى السجن أو
الإعدام.
.... وسقطت بغداد ...
دخلت القوات الغازية، وحلّت أجهزة الأمن والجيش، وأصبح  ت بين عشية وضحاها عاطلا و  مشردا
و  مهددا ... ولم تكن الفوضى السائدة إثْر سقوط بغداد، تسمح بالتحرك أو الشكوى أو اُلمطالبة.
لمن ؟ وبمن ؟ وكيف ؟ وأين ؟
أنت الآن في غابة، لا تعرف فيها عدوك ولا صديقك... لا تعرف الشيعي من السني من الكردي من
اليزيدي من العربي من الأفغانيّ من الأمريكي من ....
لا تعرف المناضل من المنافق من السمسار من العميل من...
أنت الآن لا تعرف الفرق بين الوجه والقفا.
وكانت ليلة القبض على صدام حسين، هي ليلة قصف القوات الأمريكية لحي الأعظمية ببغداد، حيث
أقطن. ودم بيتي مع كلّ بيوت الحي ااور... دمت حياتي كلّها..تحطّم الأمل في داخلي... فقد  ت
زوجتي وابني الوحيد... فقد  ت الإيمان والثقة والصبر...
وقد بان الخيط الأبيض من الأسود، ولم يتبعه آذان صلاة الصبح ككلّ صباح. فلربما صارت المساجد
عصفا مأكولا أو صار المشائخ و الأيمة جثثا  تضيف للشوارع مشاهدها الدموية... كن  ت  ملْقى على
الأنقاض أنبش التراب بأظافري، علّي أعثر على أحدهما حيا...دون جدوى. وقد نسي  ت أنني لمْ أشكر
الله على نجاتي بأعجوبة. وما الفائدة من نجاتي، وقد فقد  ت عائلتي؟
بلْ ربما تمني  ت، لو كن  ت معهما لاسترح  ت من العذاب. لمْ يكن بعدها بإمكاني أنْ أفكّر في الحلم...
أحلامي التي حقّقْتها، صادروها أو هدموها أو قصفوها أو... لا م الوسيلة ما دامت النتيجة واحدة.
...................
نصف الغرفة الباقية من المنزل، هيأا من جديد.  مستعدا لإعادة تشكيل خارطتي، وبوصلتي
واتجاهاتي... لا بد من الحلْم... لا بد ...
من لا  حلْم له، لا  مستقبل له... لا هوية له... لا شمس له  تشرق من أجله وتغيب...
إذن... سقطت بغداد... ُأحتلّ العراق...دم بيتي... ودمت بيوت كثيرة... فقد  ت عائلتي...
وعائلات كثيرة  شردت...
ماذا تبقّى؟
هلْ نبقى ننتظر الحكومة القادمة؟ هلْ نندس كالفئران في جحورنا مخافة القتل والاعتقال والتعذيب؟
هلْ نبقى كالقردة نرقص في الشوارع، ليضحك الجندي الأمريكي، ثمّ  يطلق الرصاص على مؤخراتنا؟
ماذا تبقّى؟
........................
ونحن نعقد أول اجتماع سري، لتأسيس خلية سميناها "مجاهدي الأعظمية " بمنزل
"الشيخ الضاوي" بعد خروجه من سجن أبو غريب... والذي أشيع أنه فقد عقله بعد واقعة هذا السجن.
وصدق كلّ أهل بغداد هذه القصة.
...ونحن نعقد أول اجتماع، كنا نحلم بالنضال وطرد العدو ونصرة قضيتنا... فقط إذا توفّر السلاح.
أجاب "الشيخ الضاوي":
لا تشغلوا بالكم بموضوع السلاح ... لنا ما يكْفي لتسليح جيش بأكمله.
( وأكمل موجها كلامه "لحسين البنا" )
أنت بالذات عليك بالحذر أكثر... تثبت من المعلومات جيدا.. ولا  تسرع في نقْلها إلينا، إذا كانت هناك أي
مجازفة.
أنت موظّف بالشرطة العراقية، وأي خطإ قد يوقعنا جميعا.
سألْ  ت الشيخ:
متى نبدأ عملياتنا؟
أجاب بوقار:
عملياتنا ستكون قليلة . لكنها ثابتة ودقيقة.
حسين يعمل في جهاز الشرطة، وله كامل المعلومات والأخبار عن تنقّلات الأعوان و مواقعهم.
يعني... أننا سنتحرك وفْق المعلومات التي ستصلنا من حسين.
( أرد  ت الكلام، لكنه قاطعني )
الأسلحة موجودة وجاهزة... والذخيرة كذلك .ندعو الله أنْ  يوفّقنا و  يسدد  خطانا، ويحيى العراق.
( أجبنا جميعا )... آمين.
انفض اْلس، وخرجنا ُ فرادى بكامل الحذر والحيطة، في انتظار التعليمات.
كنا نجْتمع كلّ مرة دون أنْ نتخذ أي قرار لتنفيذ أي عملية ضد القوات الأمريكية أو العراقية .
نجْتمع، لنتأكّد من إخلاص اموعة وانضباطها . وكان "الشيخ الضاوي"، هو نفْسه من  يعلمنا بموعد
الاجتماعات ومكاا.
يبدو وهو يتنقّل في الأزقّة والشوارع بلباسه الفضفاض الرثّ، وقبعته اُلمتكلّسة بالغبار والأوساخ، كمعتوه
لا  يعيره أي عابر أي اهتمام، عدا الشفقة.بل لم يعد أحد يمنحها إياه... يسر كمتسول أو معتوه بين
بيته وعتبة مسجد فجره انتحاري شيعي ولم يبق منع غير واجهته المطلية بالسواد. لما تبصره يتنقل
حافي القدمين رثّ الثياب، لحيته كأا عش عناكب يعلوها غبار وبياض ليس بياض الوقار بالضرورة، و
لا يتردد أبدا على أن يتوسد عتبة مسجد أو حانوت أو رصيف. فحتى الأطفال لم يعد يعيرونه أي
اهتمام، فلكل مشاغله وهمومه. ولا سخرية من متسول، فالشعب كلّه يتسول المال أو الشرف أو الكرامة.
مع ذلك يكمل مهمته الهادفة ويواصل قيادته للمجموعة.
وفي كلّ مرة نجتمع كان "حسين البنا" حاضرا بيننا، يسرد علينا تموقع الشرطة العراقية، وتنقّلاا
ومواقعها.
كنا ثمانية،لا يجمع بيننا غير الوطنية، وحب العراق .إضافة إلى أننا من نفْس شارع الأعظمية، رغْم
أننا لم نكن نحمل نفْس التوجهات والقناعات والإيديولوجيات.
وكان "الشيخ الضاوي"، بنفْس لباسه الذي لا يغيره، حتى أثناء اجتماعاتنا.. كثيرا ما  يكرر:
دعوا انتماءاتكم جانبا... أريد أنْ تضعوا العراق نصب أعينكم وفي قلوبكم.
ولمْ نكن ننتبه إلى أهمية هذه الجملة دائما، إلا متى اشتد الصراع بين الشيعة والسنة. حينها فقط،
فهمنا أنّ المقاومة لمْ تنتصر في حرا إلى الآن، بسبب هذا التشرذم.
مع ذلك كانت خليتنا  ملتزمة بمبدإ "الدفاع عن العراق"، وترك الانتماءات جانبا. رغْم أنني كن  ت موظّفا
بحزب البعث.. و"سركس" مسيحي له انتماء شيوعي مع "لقْمان صاحب" و "باقر الربيعي". فيما ينتمي
"سليمان عبد العزيز" و "جواد الشريف" إلى حزب البعث اُلمنحلّ.
أما "حسين البنا" فكان موظّفا، ولا يزال بسلْك الشرطة العراقية التي أسستها الحكومة العراقية اثْر
سقوط بغداد، وهو سني . عكس "عادل الطيب" من أصل شيعي. وهو أستاذ جامعي بكلية بغداد...
ونحرص على مناداته بالدكتور أثناء حديثنا، لما يتمتع به من قدرة على الخطاب والتواصل وتحليل
الأوضاع السياسية، بأساليب فلسفية  مذْهلة. تجعلنا ننتبه إلى خطابه دون قدرة على مجاراته، بنفْس
نسقه الفلْسفي.
في اجتماعاتنا الأولى، كنا نلتقي لنتحاور ونرصد مواقف التيارات الحزبية والمذهبية والشوفينية
والمليشيات والفصائل و... لنمر على سياسات القادة، نشرح أقوال الحكيم، وتصريحات الصدر، وتعليقات
المالكي و علاوي وخليل زاد... وصولا إلى خطابات بوش ورايس ورامسفيلد وبشار الأسد وأحمدي نجاد
.....
لأعود إلى بيتي اُلمتربع على الرماد والركام، أراجع آخر الليل جملة النقاشات والمواقف والآراء... أعيد
صياغتها وتحْليلها، ثمّ أحتضن  حلْما بتدمير آلية عسكرية أو زرع لغم لقافلة أمريكية أو توجيه صاروخ
لثكنة أو شاحنة أو كمشة من الجنود... مع أنني شديد التحفّظ من استهداف أفراد الشرطة العراقية.
وقد كن  ت خلافا لبقية عناصر الخلية، رافضا استهداف المواطنين العراقيين في الشرطة أو غيرها. فيما
يعتبر البقية أنّ رجال الشرطة عملاء، ويخْدمون مصلحة الهيمنة الأمريكية.
وكان الدكتور "عادل الطيب"،  يدافع عن موقفه بالقول:
إنّ هؤلاء لا يعملون تحْت إمرة حكومة عراقية شرعية. وطالما أنّ الحكومة غير شرعية باعتبارها
شرذمة من البيادق، و  تحركها السياسة الأمريكية... فإنّ كلّ من يعمل معهم أو تحْت إمرم، فهو عميل
يستحق التصفية.
كان الدكتور  مقْنعا وثابتا في كلّ مواقفه وتحليلاته، عدا هذه ... عدا استهداف المواطنين
العراقيين. ومع  معارضتي له، إلا أنني لمْ أصرح بموقفي أمام كلّ أفراد التنظيم الذين اقْتنعوا بصحة
تبريره، مخافة أنْ ُأخون أو ُأطرد من تنظيم "  مجاهدي الأعظمية".
كن  ت أجتر كلّ هذه المواقف وتلك، وأنا أخلد للنوم،  محتضنا مسدسي الذي ورثْته عن نظام صدام
حسين.
وفي ليلة من ليلي العراق الفحمية المظلمة، بدا الصف يتضاعف وبوتيرة اشد عنفا و وحشية. حتى
انتابني إحساس أا ليلة تشهد مخاض واقعة فاصلة.
وفي الليلة الفاصلة التي سبقت الإعلان عن اعتقال صدام حسين، كان القصف الأمريكي أشد وقْعا من
أي قصف حضاري آخر... لم ْدأ أصوات الصواريخ وأزيز الطائرات العسكرية والمروحيات... ليلة لا
 تشبه كلّ ليالي بغداد، منذ احتلالها. ولمْ أجد سببا واحدا يجعلني أخلد للنوم.
شغلْ  ت الراديو الصغير بجانبي، دون أنْ أشعل الفانوس النفْطي، وأرسل  ت أصابعي  تفتش عن علبة
السجائر... أسند  ت ظهري إلى ظهر السرير، وأشعلْ  ت سيجارة ل تعينني على التذكّر أو على النسيان.
و فجأة .............
صعقني الخبر، ورجتني الكلمات اُلمنبعثة من صوت أجش لقارئ الأخبار، وهو يتلو عناوين النشرة:
"الزرقاوي يلقى حتفه في قصف أمريكي على مخْبئه"
سحب  ت نفسا عميقا من سيجارتي وأخمدا بداخلي.
وأنا أسحب جسدي من تحت الغطاء لأتربع فوق السرير،  محاولا الانحناء أكثر إلى الراديو للتأكّد من
الخبر . وأكمل قارئ الأخبار:
"... وقد سبق للزرقاوي أنْ أسس مع "أبي محمد المقْدسي" جماعة بيعة الإمام بمدينة الزرقاء سنة
1995 ، و ُ قبض عليه من قبل المخابرات الأردنية ليودع السجن، محكوما عليه بخمسة عشر عاما. لكنه
استفاد من عفْو ملكي بعد أربعة سنوات، ليغادر الأردن في اتجاه أفغانستان فاختفت أخباره. مع ذلك
ُألْصقت به مة اغْتيال الدبلوماسي الأمريكي "لورنس نومي" سنة 2002 .
وقد ظهر الزرقاوي بعد ذلك في العراق كزعيم لتنظيم القاعدة، بعد أنْ بايعه أسامة بن لادن، إلى
حين قصف مكانه بعد عملية مخابراتية أمريكية أردنية ."
مدد  ت يدي بتشنج وخوف لأكتم صوت جهاز الراديو، غير  مستوعب للحدث ولا  مصدق.
وفي الحقيقة لم أكن من  مناصريه ولا من  مناصري تنظيم القاعدة، مع ذلك كن  ت  متعاطفا معه، لأنه
ضد الأمريكيين... أنا  مستعد للتحالف مع الشيطان، إنْ كان سيساعدني على تحْرير العراق.
ألْقي  ت سيجارتي على مربعات الغرفة، ودستها بساقي دون أنْ أنتبه إلى الألم الذي ألْحقه
بقدمي...مدد  ت يدي لأتناول سيجارة أخرى وأشعلها وأحاكيها:
هل المقاومة في طريقها إلى التصفية بمثل هذا الشكل؟
هلْ قَدرنا أنْ نموت، إما فقراء أو  مضطهدين من حكوماتنا أو  مهانين من الدول الطاغية؟
هل الاحتلال فعلا أرحم من طغيان صدام حسين ؟ أم أنّ هذا الأخير أرحم من الاحتلال الصليبي؟ ثمّ
من نقاوم؟ لمن نوجه أسلحتنا؟ من هو العدو؟ لماذا متى؟ كيف؟ أين ؟
كلّها أسئلة لا زالت تتخبط في أحشاء مخيلتي، دون أنْ تجد ترتيبا أو إجابة أو شرحا ... كن  ت فقط
أطرح على  مخيلتي أسئلة ليست قادرة على الإجابة عنها أو استيعاا.
................................
على غير العادة، ودون تحضير  مسبق جاءني طرق على باب بيتي المكْشوف من جوانبه الأربعة.
كان طرقا خفيفا و  منتظما، كقرع حبات الخرز و هي تسقط متتالية على الإسفلت.
وحينها حضرت  حفْرة صدام حسين ومخبأ الزرقاوي والقوات الأمريكية والخونة والجواسيس وأبو
غريب و ...
لمْ أستوعب الطرق جيدا، لذلك كتم  ت أنفاسي، وفتح  ت نافذة التنصت على آخرها .. تتالت الطرقات،
فأجب  ت بارتباك وخوف:
من ...؟
حمورابي..
عادت قطرات الدم لتتجمع في وجهي، وعادت إلى قلْبي دقّاته وعاد النبض... "حمورابي" .. إنه
الشيخ الضاوي .
"حمورابي"... الشفرة السرية لنقْل أخبارنا وإبلاغنا بمواعيد اجتماعات التنظيم وتوقيته. أجب  ت:
حاضر... حاضر...
أشعلْ  ت الفانوس، وتحسس  ت مسدسي من تحت وسادتي، مخافة الخيانة. واتجه  ت إلى الباب أفتحه،
بعد أنْ أزح  ت قطعة الخشب التي كانت  تعينه على الصمود.
دخل "الشيخ الضاوي" محملا بحذره وانتباهه، بعد أنْ أطلّ من الباب على الشارع، وقد دس جسمه في
فضاء الغرفة.
أوصد الباب، ودون أنْ يجلس، قال بحزن باد على ملامحه الراقصة على ضوء الفانوس:
هل سمعت آخر الأخبار؟
بالطبع ( وبِأسى ) أستشهد الزرقاوي. مع ذلك لس  ت مصدقا الخبر .. ربما تكون مجرد دعاية
للاستهلاك السياسي.
لا يهم ... مهما كانت الأسباب، سنلْتقي بعد ساعة بنفْس المكان.
هناك أشياء طارئة ولا بد من مناقشة بعض المسائل ... واضح ؟
آه نسيت أن أقول لك أنّ عادل الطيب كان معي في البيت قبل دقائق، وقد دار نقاش بيننا وتعالت
أصواتنا، وكدنا أن نتعرى.
ما المشكلة؟
تعرف أنّ رجال الفلسفة ربما لهم مواقف معادية من الحركات الاسلامية.
تقصد اليسار؟
تماما .. قال لي بالحرف الواحد "الزرقاوي ككل الانتحاريين جميعا ينشدون جنة موهومة".
دعك من هذا يا شيخ، نحن لا نشك في وطنية عادل الطيب، رغم قساوة خطابه .. ليس هنا اال
للحديث حول الخلافات... علينا برص صفوفنا الآن، عد وسألتحق بك.
خرج متخفيا كشبح، فيما أوصد  ت الباب دوء وحيطة.
...................
حضرت بذهني كلّ هذه الأحداث، وأنا لا زلْ  ت ممددا على ظهري كخنفساء أثقلها ظهرها..لا زلْ  ت ممددا
بنفْس الغرفة التي جمعتني"بميلود عبد القادر" و"أمير التوم" و "إيراد الحاج".
كان كلّ واحد منا،  ملْقى في زاوية ينبش أوراق ماضيه، ويفتش في حاضره عن صور وأحداث يتزيا ا أو
يبسطها أمامه كنبراس  ينير له الدرب أكثر.
لمْ  تغمض جفوننا، ولمْ يعد لنا ما به نوشح سهرتنا... رغْم أنّ كلّ واحد منا له في جعبته ما يستهلك
أطنانا من الورق ووديانا من الحبر.غير أنّ محاسبة الذات، والحديث معها و  محاورا وسؤالها
وتعريتها... كان ضروريا لكلّ واحد منا.
تتفرس في العيون والملامح، فلا ترى غير الحيرة والقلق... ترى النقْمة والقيء والكفْر بالواقع العربي
المتشظّي ... أقول "العربي"، ويقول ميلود وأمير : "الإسلامي " ... والنتيجة واحة.
فقط كان "أمير التوم" ثابتا ورصينا، ولا يحرك نظراته في المدى. فلا تبدو عليه الحيرة والقلق ...
ربما بسبب جرعات التجارب التي شرا أو مصاعب الجبال والأسلحة والمعارك التي خبرها.
بقينا على حالنا تلك، ثلاثة أيام ننام ونصحو على العمليات الجهادية وأخبار الإخوان والساسة
والوضع العراقي والأفغاني وحال الحكومات الكرتونية والبوليسية والعسكرية والكافرة والمستكْفرة...
ننام ونصحو.. دون أنْ نبرح أمكنتنا، عدا لقضاء حاجة بشرية أو للقيام للصلاة.
ولا أحد منا  يسمح له بالخروج من المنزل غير إيراد الحاج .. يخْرج ليغيب ساعة أو أقلّ بكثير، ويعود
 محملا بالخبز وبعض الخضار، وبصحف سورية ودولية، لمتابعة آخر الأخبار.وكنا حريصين على اقْتناء
جريدة "البعث" السورية، لرصد آخر الأخبار الداخلية.
في اليوم الرابع بعد صلاة الظهر، غادرنا إيراد الحاج كعادته، فيما بقينا جلوسا، نناقش تأثير
انتصار حزب الله على الكيان الصهيونيّ.
علّقْ  ت على الحدث:
هذا انتصار للعرب لم يتحقق منذ زرع الكيان الصهيونيّ في المنطقة. ومن الضروري الافْتخار ذا
النصر ودعمه.
أجاب أمير التوم، برصانته المعهودة وبلهجة أقرب إلى المصرية:
هو انتصار لأمة الإسلام... انتصار لكتاب الله وسنة رسوله... هو بداية انتصار كلمة الله على
الأرض.
قاطعه ميلود عبد القادر بتشنج، حاول أنْ  يخفيه:
عفْوك يا شيخ أمير... أنا أعارضك فيما ذهبت إليه... ما قامت به المقاومة اللبنانية، هو انتصار لا
يمكن أنْ ننسبه لا للعرب ولا للمسلمين...
قاطعه أمير التوم:
فهم  ت مقصدك.. تقصد أنه انتصار للشيعة ؟
بالطبع... هو انتصار للهلال الشيعي... انتصار لإيران الفارسية..
طيب... لو خيروك بين أنْ تكون شيعيا أو يهوديا، ماذا تختار؟
( لم  يجب )
لم  تجب... مع ذلك أوضح لك التالي: لا بد في كلّ مرحلة جديدة من إستراتيجية جديدة... يعني
للحروب تكتيكها الخاص.
( طأطأ رأسه وأكمل )
كلنا يعلم أنّ الشيخ أسامة بن لادن، تعامل مع الأمريكيين للقضاء على اُلملحدين السوفيات ... وكان
وقتها تعامل حتمته المرحلة. لأنّ الخطر الشيوعي حينها أهم وأكبر من الخطر الأمريكي أو الأوروبي أو
المسيحي.
أما الآن وبعد دحر العدو السوفياتي عن أفغانستان غير التنظيم قواعد اللعبة، ووجه فوهة
بندقيته للأمريكان واليهود. لا يهم من  يحارب، ألأهم أنْ يندحر العدو.
(  موجها إليّ كلامه )
أليس كذلك يا أبا مصعب؟
أجب  ت  مساندا موقفه:
أوافقك الرأي... مع ذلك لمْ تنتبه الأحزاب والفصائل الفلسطينية لمثْل هذا الوقف. انخرطت في
صراعاا الداخلية، بين حماس ومنظّمة التحرير، واَستنزفت كامل قواها التي من المفْروض أنْ  توظّف
ضد النازيين اليهود.
علّق ميلود، وكأنه  يراجع موقفه بعض الشيء، وهو يمسح لحيته الطويلة:
ما يهم الآن، هو أنْ ينتبه الإخوان إلى خطورة المرحلة... أنْ ينتبهوا إلى المشاريع الأمريكية و
الصهيونية التي  تمررها الحكومات العربية في المنطقة.
لهذا لا زلْ  ت أحترم حكومة دمشق إلى الآن، رغْم كلّ شيء. فهي صامدة حتى هذه اللحظة، رغم
السقوطات المتتالية.
الصمود لا يكفي طالما انذ الشعب السوري يعاني الذلّ و الهوان.
طال الحوار بيننا حول حزب الله وفلسطين وسوريا ولبنان و.... ولمْ ننتبه إلى تأخر إيراد الحاج
لمدة فاقت الساعتين.
علّق "ميلود" حائرا:
أتمنى من الله عز وجلّ أنْ يكون المانع خيرا...إيراد تأخر كثيرا هذه المرة.
رد أمير التوم:
إنْ شاء الله يكون بخير ...
( أغمض عينيه، ورفع يديه إلى السماء داعيا )
اللهم أنصره واَحمه.. اللهم ألْق على أعينهم غشاوة واَجعلهم لا  يبصرون.. اللهم بك نستجير، فأجِره..
آمين يا رب العالمين.
فرددنا بعده:
آمين يا رب العالمين.
وأطبق الصم  ت المَشوب بالخوف والارتباك... لمْ نضف كلمة واحدة بعد "آمين". انطوى كلّ واحد إلى
داخله  يفتش في جيوب ذاكرته عن معاني الخوف والشك والريبة.
وإنْ كان "أمير التوم"، لمْ تظهر على تجاعيد وجهه تلك الحيرة... كان يتمتم على الأرجح، بتلاوة
القرآن لما أبداه من خشوع وثبات.
ومثلت بذهني لحظة القبض علي بحي الأعظمية ببغداد، بنفْس غرفتي اُلمحاطة بالخراب و الركام.
لحظتها، لمْ  يسعفْني الوقْ  ت بسحب  مسدسي، ولا حتى نفْض الدهشة عن  مخيلتي. رغْم أني لمْ أكن
أغطّ في نوم عميق.
وكان الفنان الشيخ إمام،  يلْقي ببحته المعهودة أدران الوجع العربي وقيئه:
شيد ُ قصورك ع المزارع
من كدنا وعرق أيدينا
والخَمارات جنب المَصانع
والسجن مطْرح الجنِينه
واطْلق كلاَبك في الشوارع
واقْفلْ زنازينك علينا
...........
لحظة واحدة، كانت كافية لخلْع باب الغرفة واحتلالها. دون أنْ تتمكّن أصابعي من الوصول إلى
 مسدسي...
لحظة واحدة، كانت كافية لتوجه نحو صدغي عشر فوهات مدافع رشاشة. ولم أستطع التكهن بعدد
الفوهات خارج البيت الآيل للسقوط .
لحظتها لا زال الشيخ الضرير يصدح:
أحنا اتوجعنا واكْتفينا
وعرفْنا مين سبب جراحنا.
لمْ أستطع لحظتها تحت الإنارة الخافتة للفانوس أنْ أميز الأمريكي من العراقي. كيف لي أنْ أميز،
وأنا كالأرنب تحت الإنارة الساطعة ؟ كعصفور جريح تفْصله عن مخالب الصقْر دقّة قلْب واحدة.
تقدم أحدهم، و بلهجة عراقية واضحة وبذيئة:
تسمع الشيخ إمام أيها الكلب ؟ أليس الأجدر بك أنْ تستمع لأسامة بن لادن أو الزرقاوي أو السيد
قطب ؟
لمْ أحرك ساكنا، ولمْ أجبه عن كّمه. فكلّ الإجابات لن تكون  مقْنعة . ولن  تثني بقية الغيلان
الأمريكية والعراقية عن العبث بالغرفة، وتحْويلها إلى مزبلة... أساسا لا شيء ا غير الأثاث القديم
وملابسي، وصورة زوجتي "سها" وابني "عاكف"، وصورة وحيدة للقائد صدم حسين، التي لمْ أنتبه إلى
أنه  خلع من السلطة، ولمْ أخلعه من الجدار.
أحد رجال الشرطة العراقية، فك الصورة بعنف من الجدار ،وألقاها على الجدار المقابل فتهشمت.
فيما أفرغ الثاني ثلاث رصاصات في الصورة، وكأنه يتمنى أنْ  يفرغها في صدام مباشرة.
فتشوا الغرفة، فلم يعثروا على شيء، عدا مسدسي الذي يحمل رقما،  يشير إلى الشرطة العراقية قبل
سقوط بغداد.
تسلّمه أحد رجال الشرطة ... قلّبه بإعجاب، ودسه في جيبه . فيما تكفّل البقية بتقْييدي ووضع
عصابة على عيني، وقادوني إلى اْهول... إلى أبو غريب.
وأنا في الطريق كن  ت أسأل نفْسي، هل  تهمتي ستكون الانتماء إلى حزب البعث المحضور أم تنظيم القاعدة
الإرهابي ؟ لا فرق، فالنتيجة واحدة.
............................
فيما لا زلْ  ت أمرر شريط الذاكرة، دخل "إيراد الحاج" إلى المترل،  مستعملا مفتاحه لفتح الباب
الخارجي.
كانت ملامحه  تخفي خبرا ما... ولم تكن مشيته ثابتة كعادا... ألْقى الصحف على الأرض، وواصل
سيره نحْو المطبخ ليضع ما اقْتناه من  خضر هناك.
قطعنا حبال أفكارنا وانتبهنا... والنظرات تبحث عن المشهد الذي يمكن أنْ  تعلّق عليه حيرا.
حلّ "إيراد" بيننا... أشعل سيجارة كان الوحيد المسموح له بتدخينها ، فهي ن الموبقات كما يقول الشيخ
أمير التوم و بارتباك فاضح رغْم الابتسامة التي حاول أنْ يرسمها على وجهه وراح يقْطع  مربعات
الغرفة بخطوات  مرتبكة وحذرة ... تسمر فجأة .. سحب نفسا عميقا من سيجارته ... التفت إلينا
 محدقا في كلّ واحد منا ونطَق:
وصلتنا آخر التعليمات.
رد الشيخ "أمير التوم ":
هذا سبب تأخرك، أليس كذلك ؟
وهو كذلك..
إذن، أين المهمة القادمة؟
...............
لماذا هذه الحيرة ؟ نحن سخرنا لخدمة الإسلام والمسلمين ... سننفّذ مهمتنا أينما كانت وكيفما كانت
... وسيسدد الله  خطانا ويحمينا بعونه .
( سحب نفسا عميقا ) ونعم بالله ... المهمة القادمة باريس.
انتفض  ت كطائر الفينيق من رماده، وتساءلْ  ت:
ما لنا وباريس ؟ لماذا باريس ؟ لماذا أوربا ؟ نحن نحارب في العراق وفلسطين وأفغانستان ... ما الذي
يدفعنا إلى الذهاب لأوربا؟
رد "إيراد":
تلك أوامر القيادة أبا مصعب... تعرف أننا ننضوي تحت لواء تنظيم دوليّ، ولا بد من التقيد
بالأوامر... لذلك...
أراد أنْ  يكمل حديثه، غير أنّ إشارة من"أمير التوم" بطرف عينه "لإيراد"، جعله يتوقّف عن الحديث.
وفهم  ت أنّ حرجا ما سقط من السقْف على رؤوسهم... كأنني خرج  ت عن التنظيم بسؤالي ذلك.
فهم  ت لحظتها أنني لا بد أنْ أنفّذ الأوامر لا غير.. لا أقرر عوضا عن أحد، ولا حتى عوضا عن نفْسي...
لا أسمع ... لا أرى.. لا أتكلّم.
أنا إذن تلك الآلة التي تبرمج لتنفيذ مهمة وكفى. و لكنني لمْ أترك بسؤالي ذلك لإيراد إمكانية
إكمال حديثه عن دواعي الذهاب إلى باريس ؟ وماذا سنفْعل في باريس ؟ ولماذا في هذا التوقيت ؟
لماذا ذهب بي الظن، أنني سأحارب الجيش الفرنسي أو الشعب الفرنسي ؟ لماذا لا يكون خروجنا من دمشق
إلى باريس هربا أو إستراتيجية أو تكتيكا ما لا بد من إتقانه؟
مع ذلك استغرب  ت، لماذا لم يسأل أي من "ميلود" أو"أمير" عن سبب خروجنا إلى باريس؟ لماذا ؟ هل
تراهما فهما الدور المنوط بعهدتنا، ولم أفهمه لقلّة خبرتي بالتنظيمات والجهاد؟
حاول  ت إصلاح الخطإ، بأنْ كشر  ت عن أسناني  مبتسما، وألقي  ت ملاحظتي دون أنْ أدرك عواقبها :
كم تمني  ت لو كانت المهمة القادمة في تلّ أبيب.. هذه أمنيتي.
كن  ت ولا زلْ  ت أدعو الله أنْ يحققها لي.
لحظتها أدركْ  ت أنّ الطُّعم الذي ألقيته، كان كافيا ليغفروا لي خطئي أو سوء فهمهم لي ...علّق الشيخ
"أمير التوم":
الحمد لله ... لمْ  تخيب نظري فيك. خبرتي بالرجال في هذا العمر لا تسمح لي بأنْ أخطأ في
تقييمهم.
اسمعني يا ابني.. أقول لك يا ابني هذه المرة، لأنني مطالب أنْ أعمل خبرتي وشيخوختي كي تفهمني .
مهما كبرت، ستبقى شابا على الدوام، وسنبقى في حاجة إلى خبرتك.
لا يهم كلّ هذا المديح .. المهم يا ابني أنْ تعرف ماذا  تريد من الدنيا الفانية ؟ ولماذا أنت في هذه الدنيا
؟ ولماذا أنت خليفة الله في الأرض؟
نحن يا ابني، سخرنا أنفسنا طمعا في الآخرة لا في أموال الدنيا... وأنت تعرف أنّ شيخنا أسامة بن
لادن، كان من أكبر أثرياء المسلمين . لكنه فضل أنْ يسخر ماله ذاك لخدمة الإسلام، ولخدمة الجهاد
ضد الكفار و الملحدين. ولو اختار غير ذلك، لأمكن له أنْ يعيش في بذخ لا حدود له... لكن الدنيا
كالجسر نبنيه لنعبر إلى بر الأمان.
أرد  ت أنْ أبرر سوء الفهم:
يا شيخنا أنا...
( قاطعني ) لا داعي للتبرير... نحن سنعبر معا إلى أوربا. وإذا أرد  ت الانسلاخ، فيمكنك أنْ تبقى في
دمشق.
( موجها كلامه لإيراد )
متى سنغادر ؟
رد "إيراد"، وهو لا يزال واقفا:
فجرا... الثالثة صباحا نتوجه إلى الحدود التركية، ومنها إلى اليونان بحرا... ومن أثينا سندخل
باريس عبر البر.
تدخل "ميلود عبد القادر"،  موجها كلامه إلى إيراد:
وأنت...؟
رد " إيراد " بأسف ترقْرق في حدقتيه:
أنا سأبقى في دمشق .. هذه أوامر القيادة .. من الممكن أنْ أسهل التحاق بعض الإخوان بكم في الأيام أو
الأشهر القادمة.
وهل ثمة من سيلْتحق بنا؟
هذا وارد ... ثمّ أنني إذا غب  ت عن دمشق، بعد انتهاء العطلة المرضية التي أتمتع ا، فإنّ ذلك سيثير
الكثير من الشكوك حولي، وقد تتحرك الكثير من المياه الراكدة.
المهم علينا الاستعداد من الآن، حتى نلتزم بالوقْت و بالتعليمات.
(طأطأ رأسه وصمت قليلا وأكمل)
سأبقى مع "أبي مصعب"، وربما هو من سيلتحق بكم، هذه فرضية قد لا تصح.
الفصل السادس
المثقف يحرق أصابعة
بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، كن  ت ألازم اليسار، أمشي بخطوات بطيئة وغير واثقة ... أنفث
دخان سجائري في الأشجار التي فقدت بريقها . لم تعد الأشجار تحْتفي بالطيور الراقصة كلّ مساء،
ولا بالصحف اليومية وبائعي الورد والشعراء الذين يبحثون عن بطاقة بريدية لحبيبام أو وردة
لكسب ود مومس أو اقْتناء كتاب أو جريدة لإكمال مشهد البروتوكول الثقافيّ ...
لا شيء من ذلك...
أرى الشارع مكتظا... راقصا... فرحا... رغم المهمشين والشعراء والبوليس السياسي.
لا شيء من ذلك...
بات الشارع خاويا ووحيدا يشكو للطيور اُلمحلّقة فوق أرجائه، صنيعة الإنسان في تحويل الجَمال إلى
ُ قبح.
كن  ت أرصد المارة دون الانتباه إلى ملامحهم، عدا ما  تخلّفه أنثى من عطر كحوليّ بأنفي، أو ما  يلقَى في
الأبصار من لحم غض يكاد يرتمي عليك ليفْترس نزوتك.
توقّفْ  ت قليلا أمام مقْهى باريس... وصلتني رائحة الجعة واستحضر  ت موعدا كن  ت عقدته مع "
لطفي". الأكيد أنه ينتظرني الآن بمقهى "الرانديفو" ... هل أخلف موعدي؟ أم أكسر شهوتي؟
ماذا لو راوغْ  ت الوقْت، فشرب  ت بعض الكؤوس، وأسرع  ت لملاقاة رفيقي ؟
عرج  ت على المقْهى... انزوي  ت وحدي في ركن دون أنْ أنسى وضع علبة السجائر على الطاولة.
أسرع النادل نحوي، ليغير منفضة السجائر، ويمسح الطاولة قال:
صباح الخير.. تفضل.
ثلاث بيرة من فضلك.
أشعل  ت سيجارتي، ولم يتأخر النادل كثيرا ...سكب  ت كأسي الأولى وسقي  ت ا دمائي الظمأى، وعقْلي
الشارد. كانت وهي تزحف في شراييني،  تثير تقززا حلوا في مسام الجلد ... فتنتابني قشعريرة خفيفة،
نفضت ما بداخلي من روتين الجسد المتهالك.
سحب  ت كنشي من جيبي الداخلي، ومددته على الطاولة، علّي أخطّ بعض التجاعيد أو أضمخ وجه
أوراقه ببعض الحبر الفاتر.
سكب  ت الكأس الثانية... سحب  ت نفسا من سيجارتي بكلّ الغلّ الذي بداخلي، وتركْ  ت لظهري فسحة
للاتكاء على ظهر الكرسي الخشبي الأشبه بالأريكة...
كان الإرهاق يأخذ مني فرحي ذا الصباح... أحاديث البارحة مع "لينا" وأختها
"ماجدة" والكلام عن فلسطين والعمليات الجهادية...كانت ليلة مرهقة. لمْ أبك... لكن بكاء "لينا" ، نقَلَ
 مخيلتي القاصرة إلى الأحياء القصديرية والمخيمات والفقر الفلسطيني، وتكرش الساسة وأصحاب
الصفقات.
يقينا، لو خرج هذا الشعب من المصيدة اليهودية، سيكون أعظم شعب في التاريخ. شعب افتك بامتياز
شهائد الرحيل والترحال وجرب بلدانا عديدة، وتنقّل عربيا وأوروبيا وآسيويا ...
الفلسطيني يتقن عديد اللغات، وامتزجت حضارته بحضارات عديدة.
أشعل  ت سيجارتي ثانية،  محاولا نفْض هذا الغزو الفلسطيني لذاكرتي اُلمرهقة، فحضر درويش:
كم أنت حر أيها المنسي في المقْهى
لا أحد يرى أثر الكمنجة فيك
لا أحد  يحملق في  حضورك أو غيابك
أو  يدقّق في ضبابك إنْ نظرت
... إلى فتاة وانكسرت أمامها
بالفعل لا أحد  يحملق في حضوري، غير...
وكأنه كان  يفتش في داخلي... اقْترب مني دوء وثبات، ثمّ جلس ُ قبالتي:
هل أجلس ؟
( دون اهتمام ) تفضل.
لمْ أعره اهتماما، رغْم أنّ قولة سارتر حضرت بعنف، كمن  يلقي زجاجة حارقة على حقل من
الورد:
"الآخر هو الجحيم".
لماذا اختار هذه الطاولة تحديدا؟ لماذا أنا؟
حملقْ  ت في الورقة البيضاء بالكنش، وشرع  ت أخطّ عليها أشياء كخطوط مائلة أو  منحنية ... دوائر...
مربعات... سطورا... نقاطا... أحرك القلم على الورقة، دون انتباه أو إدراك بما أرسم أو أخطّ...
علّق الجالس قبالتي:
هل أنت كاتب ؟
لا
إذن أنت صحفي؟
لا
هل  تقيم بالعاصمة؟
لا ... أقيم في جنوب الصومال.
ودون أنْ يمنح لعقْلي  مهلة لهضم تعليقي الفج، رد بانضباط:
بطاقة التعريف.
( ضحكْ  ت دون أنْ أفتح فمي ) لا أعتقد أني أملك بطاقة تعريف.
إذن، تفضل معي.
إلى أين ؟
سأعلمك لاحقا .
ومن سيادتكم ؟
بوليس...
.....
حملقْ  ت فيه بعيون خاوية تتقد فيها قطرات الجعة القارصة، دون أنْ أبدو مستغربا من مشهد يتكرر
باستمرار.
فيما سحب محفظته الصغيرة،  مثبتا أمام بوتقة إبصاري بطاقته المهنية، موشاة بنجمة ذهبية
ساطعة... خلتها لحظتها بستة ضلوع، فعزم  ت على الاحتجاج لأتراجع وألقي له بطاقة هويتي على
الطاولة.
قلّب البطاقة بتمعن،  مراوحا بصره بين صورتي اُلمثبتة على البطاقة ووجهي اُلمثبت فوق هيكلي. وقال
بتهكّم أو استغراب:
أنت إذن موظّف ؟
( بسخرية ) موظّف ؟ ما رأيك ؟
لحْيتك لا تليق بموظّف.. ذه الشكل ستكون  عرضة للتتبعات . ( مد لي البطاقة، وض )
تحسس  ت لحْيتي بأناملي، فحضرت "غوانتانامو" وعمر عبد الرحمان ... مع ذلك يتباهى الماركسي
بلحيته.
أي  مفارقة هذه؟
قلب  ت ورقة الكنش، وحاولْ  ت أنْ أرسم وجه ماركس وبجانبه أسامة بن لادن.
حملقْ  ت في لحية كلّ واحد منهم فلم أجد فرقا.
إذنْ، كيف يعرفون أنّ هذه اللحية لماركسي، والأخرى لإسلامي؟
ألقي  ت القلم بإهمال على الطاولة، ومزقْ  ت الورقة، لأكتب :
"لحية بن لادن هي لحية ماركس".
لحظتها، وأنا أكتب الجملة، فكّر  ت أنْ تكون عنوان مقال، ربما أشرع في كتابته ونشره بإحدى الصحف
التونسية. وإنْ كان هذا المقال سيثير حفيظة "لطفي"، وسيتهمني بأنني تنازلْ  ت عن أفكاري التقدمية أو
ربما....
حينها رنّ هاتفي الجوال:
ألو صباح الخير لطفي.
صباح الورد والياسمين ... ( قالها بتهكّم ) مواعيدك دوما دقيقة... الساعة العاشرة والنصف.
نصف ساعة تأخير لا تغير العالم .
بسرعة أنا في انتظارك .
لطفي ... رجاء لا تقطع علي خلوتي... أنا بمقهى باريس . حاول أنْ تأتي، وإلا لا تنتظرني.
( بدهاء كثيرا ما يغلّف كلامه ) إذن أنت مع إحدى الجميلات لا...أنا بصحبة البيرة .. حاول أنْ
تأتي.. أحتاجك.
نصف ساعة، أكون بجانبك.
أكمل  ت المكالمة وأعد  ت الجهاز إلى جيبي، وكانت السيجارة اُلمتكأة على حافة المنفضة قد خمدت
أنفاسها إلى الأبد .. دفعتها بسبابتي إلى قاع المنفضة، وأشعلْ  ت أخرى.
أكملْ  ت القارورة الثالثة،  محاولا أنْ أمسك اللحظة الهاربة... أنْ ُأدون على هذه الأوراق نزقي وفوضاي.
هي اللحظة وحدها تخيط لنا أزرار أصابعنا... شروخ لغتنا الهاربة إلى النهر: إلى دجلة مثلا ...
الفرات... الليطاني... على علْمنا أننا "لا نسبح في نفْس النهر مرتين".
... نبح ُ ث عن لغة، ا نضمخ أوراقنا وهزائمنا وتصدع أجسادنا وعقولنا ..
قد لا نجد اللغة والكلمات، مع ذلك ننتشي باصطيادها في حلم اليقظة. لذلك نتركها للصدفة، علّها
تحْضر دون إذن... أو تدخل بيوتنا عنوة.
أنا الآن أبحث عن المعنى في كؤوس الجعة ومنفضة السجائر والبوليس السياسي والسمكات الميتة
قرب نافورة شارع حكومي.. أبحث عن المعنى في الوردة اُلمتثائبة على قارعة الطريق... في نجْمة  تفتح
غوايتها للسكارى الساهرين، تحت فوانيس الشوارع..
المعنى، هذا الذي يهمس لي شاعر أنني لن أجده.
إذن لماذا البكاء يا صديقي ؟ لماذا نوشح جهدنا بمعاطف البحث عن لذّة زائلة، أو غائبة؟
إنني لا أرى ما يستوجب البحث والبكاء... على علْمي باحتراق أصابعنا اُلمعدة للإنارة، وسقوط
زقْزقاتنا صرعى في فخاخ الثعالب.
إنني لا أرى ما يستوجب البكاء أيها الشاعر... أيتها الرائعة "لينا"... أيها العظيم "إيراد الحاج " أيها
الرفيق
" لطفي " ... لا أرى ما يستوجب البكاء.
فرغْم احتراق حواف الجهات والخرائط المعدة سلفا للتعديل... أرى النار في موقعي، تأتي على كلّ شيء
... أراها ترقص كالأشباح النازلة من كواكب أخرى. تأتي على الزرع والحجر والبيوت والعباد
والأشجار..تأتي على الملوك والحكام والجيوش والدول والبحار... أراها إسفلتا يتقد غليانا، كأنه يوم
الحشر:
اللهم ابتدإ التخريب الآن
فإنّ خرابا بالحق
بناء بالحق
هكذا لغّ الشاعر بمقهاه تلك بدمشق.
وأما الآن، فأرى النمل يزحف إلى أفواه الموتى، بعد معارك الخبز والكرامة والحدود واللاجئين
والمخيمات والشرف و .. و ...
منا منِ  يدفن خارج المعركة، ومنا من ين  ب  ت في أفْواهنا قصائد أو أغاني أو ينب  ت قضبانا لشدنا لأعماق
الطين.
أنا الآن أحادث القلم الممدد على عجزه... هو الكلام المضمخ برائحة الخازوق... هو الكلام اُلمتسربل بما
 يوشح قبور الصبية الطيبين، ماتوا اختناقا بروائح الفسفور الأمريكي والصهيونيّ.
هكذا يموتون، ونموت أحياء وغرباء على طاولات الخمر أو على أوراق الحبر أو على العجز...هنا أو
هناك ...
......................
وصل النادل إلى الطاولة، لرفْع القوارير الفارغة، قل  ت:
اثْنتان من فضلك.
وشرعت أشاغل الورقة تكْملة لعنوان : "اللحية عند بن لادن وماركس"، وكتب  ت:
"الصراصير مسالمة جدا... تضحك كثيرا مثْل جهلنا، لكنها تضحك بخوف أشبه بخوف لحْية من
العلْمانية.
الصراصير هنا، تجْتهد لبناء مسارح للنباح الحضاري، و  سدودا  تعين مجاري الصرف الصحي على إغراق
المدن الفاضلة.
بالطبع، لا مدن فاضلة الآن وغدا مع ذلك فهي تتوقّع ثورة الشعراء والفلاسفة واليساريين
والإسلاميين والحقوقيين... كأنْ يحرق شاعر أصابعه الكريستالية، إيذانا بالاعتصام، كما تحرق
المنظمات اُلمناهضة للعولمة إطارات السيارات في الشوارع العامة ... كأنْ يؤسس أحد الفلاسفة نظرية في
الإرهاب، على غرار فلْسفة القوة أو فلسفة الجسد أو فلسفة الوعي ... كأنْ يهدم يساري مصنعا لشركة
متعددة الجنسيات... كأنْ  يفجر إسلامي نفْسه بحزام ناسف، أمام إحدى السفارات المحْشوة باُلمؤامرة...
تساءلْ  ت : لماذا لمْ أسمع بانتحاري فجر نفْسه أمام أحد المواخير اُلمنتشرة على كامل أرضنا العربية،
الملأى بالفقْر والأوبئة والجهل ؟
كأنْ ............."
رتب النادل قوارير الجعة على الطاولة، وغير منفضة السجائر، فقطع علي حبل أفكاري.
دخل "لطفي" يسبقه بطنه الذي لمْ يتقلّص حتى بفعل الاعتقالات العديدة.
وقفْ  ت لأسلّم عليه،  مرحبا:
أهلا رفيقي .
أيها الشقي، كعادتك تخْلف مواعيدك...
(  مقاطعا ) نحْتاج أشياء أخرى أهم من المواعيد... أما الانضباط، ففرطْ  ت فيه لرجال الأمن...
المهم...
أين "سامي" ؟ لمْ أره معك ؟
له بعض الالتزامات مع فرقته المسرحية . ومع ذلك تحدثْ  ت معه عن مشروعنا، وأبدى استعداد.
إذا، أنا وأنت و"سامي" و"كريمة" و "لزهر" و"  مراد".
... يكْفي ... في انتظار أنْ نضع النقاط على الحروف. المطلوب الآن ... عمليا ماذا علينا فعله؟
وكأنه لمْ ينتبه إلى كلامي، وهو  يشير للنادل كي يأتيه بالجعة، ثمّ علّق:
فكْرة "اتحاد كتاب بديل"، تستدعي كثيرا من الوقْت والجهد. مع ذلك نبدأ بإصدار البيانات في
الصحف أولا .
ولنبدأ بجريدة "الشعب".
.. ثمّ نستعد لإصدار مجموعة شعرية لكلّ الأعضاء . وتكون كلّ مجموعة  مقدمة لها ببيان شعري...
وتكون النصوص  مختارة بدقّة، و  تعبر عن المرحلة.
نحْن يا رفيقي، نريد نصا  مغايرا و  مختلفا... تكفينا شعارام وتمسحهم بالعتبات، على غرار : "موت
الإيديولوجيا" و "الفن للفن" ...
( قاطعني ) لي فكرة أخرى ...
ما هي؟
كلّ نصوصنا التي ستنشر لاحقا، يجب أنْ  توقّع باسم صاحبها، وتحْته "اتحاد كتاب الرفْض". وكلّما
انضافت عناصر جديدة، تلْتزم بذلك.
رائع.. فكرة جيدة.
( مازحا ) كلّما كنت قريبا من الخمر، تصير أكثر قدرة على التفْكير.
( وصل النادل، ورتب قوارير الجعة أمامنا )
... بالمثل علينا تناول النصوص ذات الفكر التقدمي بالتحليل والنقْد، والاشتغال عليها، على غرار
نصوص محمد إقبال ومعين بسيسو وعبد العزيز المقالح وسميح القاسم ومظفر النواب و...
... وممدوح عدوان وأمل دنقل والبياتي ... هذا مهم ...عادة ما نستشهد بكتاب وفلاسفة، لهم مواقف
انهزامية أو ينخرطون في لعبة البلاطات.. ونضيف مهاجمة هؤلاء وفضحهم.
( وأنا أسكب له كأسا من البيرة، أكملْ  ت : )
أنا أعتقد أنّ اتحاد الكتاب التونسيين، صار كالرجل المريض ... يجمع أشباه الكتاب، وأشباه الشعراء
ليجملوا الصورة الثقافية، ونبدو ك  مجتمع مدنيّ حقيقي.
( تناول حقيبته، وسحب بعض الأوراق، رتبها أمامه )
سأقْرأ لك آخر نصوصي..
هذا أفضل ... صدقْني "لطفي"، أحتاج أنْ أسمع بعض الشعر.لأخرج من هذه البوتقة المظلمة ... أشعر
باختناق لا مثيل له .. كأني الآن  مسجى على صليب، وسط ساحة  معدة لإعدامي.
حسنا ... حسنا، اسمع:
أنت أيها اُلمدرج
وأنت أيها الحزن الطوي ُ ل
مدر ُ ج الحزن الطويلْ
وآيات الله أطْولَ
والصرخات  تزعج مريم
والأنبياء والخرافة
........
كان يقْرأ قصيدته من صفحاا العشر، كمن ينزف حبرا. يرفع يده ال يسرى أو يثْنيها... يمد أصابعه...
 يلوح بإبهامه... يقْبض على الريح... يبسط كفّه ...
فيما كن  ت أركّب صورا ووقائع ومشاهد على كلماته، كي يكْتمل النص.
رغْم أنه لمْ يكن قارئا جيدا لنصوصه... بل قادرا على حشوها بأصابع الديناميت و الإيديولوجيا
الفاضحة.
"لطفي" لا  يحركه الشعر ... بل  تحركه السياسة. بل يجعل شعره جسرا لأفكاره اُلمفخخة . وأنت
تستمع له، كأنك تقْرأ بيانا لحزب العمال المحضور... هكذا يبدو لي، وإنْ كن  ت ُأخطئ أحيانا كثيرة في
حكمي.
قلْ  ت له عديد المرات:
دعك من السياسة الخاطئة، واكْتب الشعر... مارس فعل الكتابة بعنف. إنّ تكوينك الفلْسفي يمنحك
نوافذ كثيرة و  متعددة للقول.
يمكن أنْ تقول بالنص ما لا  يمكن أنْ تقوله في البيانات والترهات.
ربما... مع ذلك فالنص لا يقْدر على تغيير العالم، إلا إذا اتكأ على السياسي ... هكذا يقول "قرامشي"
دعك من "قرامشي" ... بصدق، هلْ تعتقد أنّ الفكر اليساري له القدرة الآن على أنْ يفتك مكانه من
جديد ؟
بالطبع... جدلية التاريخ لا تسمح بالثبات والتوقّف.
الحقيقة أنّ الفكر اليساري لم يظهر أبدا، لأنّ دورة التاريخ لم تكْتمل.
( قل  ت ساخرا ) وكيف تكتمل سيد لينين؟
يجب أنْ  يدرك النظام الرأسمالي ذروة أزمته.
... هو أدرك ذروته، لكّنه لم  يدرك الأزمة .بل تخلّص منها إلى العولمة.
ومن أدراك أنّ العولمة، ليست أحد وجوه الرأسمالية ؟
لا ... لأنّ العولمة هي مرحلة  متقدمة على الرأسمالية ... هي عملية نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي
إلى دول الأطراف، بعد أنْ كانت ثابتة ومحصورة في دول المركز .وهذا ما كان ليحصل في أوج النظام
الرأسمالي المعروف. وأذكر أنّ الفيلسوف صادق جلال العظم في كتاب "ما العولمة ؟ "، يعرفها
كالتالي:
"هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي إلى هذا الحد أو ذاك إلى الأطراف بعد حصرها
طوال هذه المدة كليا في مجتمعات المركز و  دوله"
..................
كان الحوار أطول من مجرد نقْله على صفحات الذاكرة الضيقة... كان أعمق من السرد والتحليل.
لليلة كاملة نخوض في هذا الحوار الذي يبدو عقيما.
... نعم كان عقيما، لأنّ مفهوم العولمة، لم تتضح معالمه إلى الآن، وإلا لما وجدت الدول المتخلّفة نفسها
تتخبط في هذه الفوضى .
وقد ذكّرني هذا الحوار بمفهوم "الإرهاب" الذي لم يتضح، ولم تسع أطراف دولية إلى توضيحه أو
تفْسيره.
لا زلْ  ت أحلّق بخيالي فوق الأقْبية التي صنعناها من حوارنا ليلتها... إلى اللحظة التي توقّف فيها
"لطفي" عن قراءة النص،  محملقا في بعض الكلمات غير الواضحة،  محاولا أنْ يتهجاها، فانتبه  ت.
أصلح الكلمة بقلمي اُلملقى على الطاولة، وأكمل:
...............
الهلع الهل  ع
إنْ زحف الويل على  م  دني
أشعلْتها
وإنْ حاصر ال  غزاة وطني ذات فجيعة
لا أرح ُ ل هربا
أكمل النص، وتذكّر سيجارته التي خمدت أنفاسها... فأشعل أخرى، ثمّ مر للكأس يسقي حلْقه،
وعلّق:
ما رأيك ؟
( بتأفّف ) لس  ت في حالة تسمح لي بإبداء رأيي، ولس  ت قادرا على  مناقشة أي فكرة هذا الصباح...
يكفيني أنني استمعت .
(  محاولا رفْع معنوياته ) ربما نناقشه في جلسة أخرى... فقط أريد أنْ أسألك عن عنوان النص.
العنوان: العنكبوت.
( مد لي النص )
اقرأه على مهل، وأعطني رأيك فيه... عندي نسخة أخرى منه.
طوي  ت الأوراق وغمستها في جيبي، ثمّ أعد  ت ظهري ليستريح على ظهر الكرسي .... فاصطدم بصري
بسيدة تجلس منفردة على الطاولة،  تمسك بسيجارا بين أنامل كالعنبر، كأا  تمسك عودا من الند...
وعلى حواف كأسها ُ طبعت شفاهها القرمزية .
نظرا الذابلة، أثارت في داخلي كثيرا من الغرائز الحيوانية، وحين أطلْ  ت النظر ابتسمت وشرعت
 تحرك سبابتها اليسرى على حافة الكأس بحركات جنسية فاضحة ...
ابتسم  ت، فانتبه "لطفي"  مديرا  عنقه إلى الخلف، ففضح نزوتي قائلا:
تستحق الانتباه.
 مغرية حقّا... لكن لا بيت أخلع فيه نزوتي.
وإذا ساعدتك؟
تكون رفيقي بحق
حسنا ... بيت الرفاق مفتوح: "نجيب" في السجن كما تعلم، و "الفاهم" عاد إلى قريته... لن يعود
قبل الخميس، المهم أسرع واستمتع بحياتك قبل وصول حركة النهضة إلى السلطة.
جيد ... حينها سأدخل متسللا إلى خليلتي بنقاب ( قلتها بمكر ممزوج بالفرح )
سأغيب نصف ساعة لأجلب علبة سجائر... في الأثناء تكون قد أوقعتها في شراكك أيها الإمبراطور (
وبمكر ) وادفع ثمن البيرة.
فيما ض " لطفي " ومعه حقيبته التي لا  تفارقه...عدلْ  ت جلْستي، وأشعلْ  ت سيجارة  موجها
انتباهي وعيوني إليها.
انتبهت، فأشر  ت إليها بطرف العين ... تناولت كأسها وعلبة سجائرها الأمريكية، وقدمت نحوي...
انحنت علي وقالت:
هل أجلس؟
بالطبع... بالطبع،  يسعدني ذلك.
جلست ُ قبالتي كزهرة عباد الشمس، يسبقها صدرها اُلمتشنج وشفاهها العطْشى، وهي تتكلّم كأنّ
مياها تنساب فجرا نحْو مصبها...  محاولة أنْ  ترفق كلّ جملة بضحكة فاضحة  مغرية،  تحرك فيّ كلّ
يمي.  محاولة بين الحين والآخر إبعاد خصلة من شعرها تدحرجت فوق عينها اليسرى، بحركة رشيقة
تتبعها بحركة من رأسها، فتنتفض حبات صدرها، وتكاد تخْرج وتستريح على الطاولة.
لم تدرِ الساعة دورا كاملة، حتى كن  ت وإياها في مترل الرفاق المحْشو في أزقّة المدينة العتيقة، وقد
غادرنا "لطفي".
بالغرفة الوحيدة الملأى بالكتب وأشرطة الكاسات والجوارب وعلب الجعة الفارغة ... كن  ت أمر على
الأشياء : صورة "لجيفارا" وأخرى"لبوب مارلي" ومعلّقات لرابطة حقوق الإنسان ومنظمة العفْو الدولية
... صحف ومجلات ودوريات، ملقاة دون ترتيب على الأرض وبعضها على رفوف من خشب  شدت بقضبان
طويلة.
... لا مكان هنا للأسرة... فقط حشايا ووسائد ممدودة وسطَ غرفة كسجن.
فيما كن  ت أتصفّح بعض الكتب، وأقرأ بعض الكراسات... كانت "  منية" قد خلعت سروالها " الدجيتر"
وسترا،  مكتفية بلباس داخلي شفّاف يسترها إلى ما فوق الركبتين، كاشفا عن نصف صدرها العلْوي...
تمددت على الأرض، وأشعلت سيجارا بإغراء شديد.
دون أنْ ألتفت إليها وأنا أتصفّح مجلّة "أطروحات" سألتها:
منذ متى بدأت هذه التجربة؟
( ابتسمت بمرارة ) ولماذا تسأل؟
بالطبع لس  ت عميلا سياسيا، ولس  ت رجل أمن...  مجرد سؤال،  يمكنك أنْ لا  تجيبي عنه.
( تنهدت ) لا أعرف بالضبط .. ما أتذكّره، هو أنّ زوجي تعرض إلى حادث  مرور بسيارة مجهولة...
 يشاع أا لرجل أمن.
( قاطعتها ) وهل أنت متزوجة؟
تقريبا... تزوج  ت عاملا بسيطا .. ( نفثت دخان سيجارا في سقْف الغرفة ) مع ذلك، كن  ت سعيدة
رغْم الفقر، وأنجب  ت منه طفلا.
وبعد ...؟
... حادث المرور أفقد زوجي ساقه اليمنى، وقطعوا ساقه اليسرى بعد ستة أشهر إثر إصابتها
بالسكّري.
( حملقت في السقف كأا تستلهم منه ماضيها ) زارنا صديقه، واقترح علي أنْ أشتغل معه في دكان لبيع
الملابس الجاهزة.
وبعد ..؟
سألتها،  متنبئا أنّ القصة  مشوقة... ألقي  ت الّة من يدي، وجلس  ت على صندوق خشبي، بعد أنْ أشعلْ  ت
سيجارتي وانتبه  ت.
بعد أنْ رفعت تنهيدة كانت جاثمة على أنفاسها، أكملت:
كان لا بد من العمل، لأعيل زوجي وطفلي والغرفة اُلمتداعية التي نقْطنها على وجه الكراء، شهر واحد
فقط كان كافيا ليغدق علي صديق زوجي الهدايا والأموال، ثمّ أوقعني في شراكه. وصار  يعاملني
كعشيقته، ثمّ أصبح يعرضني على أصدقائه ...
( قاطعتها ) بالطبع زوجك لا علْم له بالموضوع ؟
لا أعتقد ... كانت الأموال التي أقدمها له والملابس التي كن  ت أرتديها و العطورات الفاخرة و .. و ..
لا  يمكن أنْ تقْنعه أا من أجرتي التي لا تتجاوز المائة دينار.
المهم....
ُأطرد  ت من العمل بتهمة السرقة، بعد أن عثر صاحبه على خليلة أخرى. وكان لا بد أنْ أكسب المال بأي
طريقة، ولو بالرجوع إلى الزبائن الذين كان  يعرض عليهم جسدي... وهكذا إلى أنْ ُ قبض علي في مترل
أعد للزناء.
( تدحرجت دمعات إلى خدها، ولم تحاول منها )
لمّا خرج  ت، كان زوجي قد  توفّي وابني لا أعرف مكانه إلى الآن.
وها أنا الآن أطوف من بيت إلى بيت، ومن مقهى إلى مقهى، ومن سيارة إلى أخرى...
انتفض  ت كمن تعثّر بقطّ أسود،  متجها إلى الكتب اُلمرصفة بلا نظام، وشرع  ت في تصفّحها : رأس
المال... مدن الملح ... شرق المتوسط... اللجنة... سارتر ... فوكو ... درويش... نيتشه ... سان جون
بيرس... صادق جلال العظم ...
انتصبت "  منية "، واقتربت مني... طوقتني بيديها من خصري، وألقت رأسها على كتفي:
هل ستبقى تتصفّح الكتب ؟
الكتب أهم ...
وأنا... ؟
أنت...ارتدي ملابسك...
( سحب  ت عشرة دنانير من محفظتي الصغيرة، ومددا لها بلطف )
لماذا  تعاملني ذه الطريقة؟
لا تفْهميني خطأ... أنا في حالة نفْسية  يرثى لها، وزادت قصتك في تكْديري. أنت لا تعنيك سعادتي أو
نشوتي... ما يهمك هو المال.مهنتك هي قح ...
أكمل لماذا صمت؟ نعم هي مهنتي... إذا لم تتوفّر لي مهنة أخرى. لا يهم إنْ تاجر  ت بجسدي، إنه جسد
فان، فما حاجتي به ما دام بإمكاني أنْ ُأنفق منه أو بواسطته.
دعك من كلّ هذا ... خذي هذه الورقة، وغادري حالا.
وانشغلْ  ت عنها بالمكتبة، إلى أنْ غادرت. ألقي  ت ما بيدي على الحشايا، وقد أثارني كلامها عن الجسد،
فحضر النواب:
نخبك... نخبك سيدتي
لمْ يتلوث منك سوى اللحم الفاني
فالبعض يبيع اليابس والأخضر
و  يدافع عن كلّ قضايا الكون
ويهرب من وجه قضيته
نخبك... نخبك...
أنت التي فهمت الجسد، ولم أفهمه.. للمرة الثانية أنفرد بسيدة ولا أسقي حقولها بمياهي الدافقة ...
للمرة الثانية لا  يطاوعني جسدي أو ربما عقلي الذي يحضر فيفْسد الاحتفال.
كن  ت مع أخرى ذات ربيع بمناسبة تظاهرة ثقافية، أحضن بتلات جسدها الناعمة، وهي ممددة بين
ذراعي... طفولتها  تحاول أنْ  تقاوم ثورة جسدها الغض، دون جدوى. انتصبت حبات الرمان تحت
أصابعي، وهي تزداد ارتخاء كلما مرر  ت شفاهي على خدها أو عنقها أو... كد  ت...
غير أني رفض  ت أنْ أكون فاتح أرضها. علّي إذا ما فتح  ت، أشرع  ت كلّ الأبواب والشرفات على حدائقها
فتنتهك.
غير أا عكس هذه المومس، ما تلوث منها كان أكثر من اللحم الفاني . صارت كمضغة بدبر بغل،  مباحة
للجميع.
هذه المومس كغيرها من مومسات عديدات، يقعن بفعل حبائل الفقر ... وما أشدها. أما التي
استحضرا فلا هي واعية بما تفْعله ولا الفقر هدها... فعرضت جسدها للبيع. هي أشبه بفراشة أينما
سطعت إنارة ارتمت لتحرقها.
حضرت " فاطمة " كأي امرأة يمكن أنْ تحضر دون إذن، فتجادلها أو تحادثها أو تمقتها أو تتمنى أن
تحتضنها أو تقتلها...
انتصب  ت واقفا ... تناولْ  ت ورقة بيضاء وكتب  ت عليها:
"رفيقي لطفي ... أنا غادر  ت العاصمة في اتجاه مدينتي، ومعي ديوان بابلو نيرودا ... أعيده لك في
زيارتي القادمة".
وضع  ت الورقة على الصندوق الخشبي وحمل  ت الكتاب،  مخلّفا ورائي رائحة عطر نسائي ونزوتي .
الفصل السابع
مبادلة الرهينة
لا زالت سيارة الشرطة التي  تقلّني إلى حي ُ ث لا أدري، تطْوي الأرض طيا.
كن  ت أشعر بذلك من خلال صوت السيارة اُلمرتفع، وسهام الريح الوافدة إلى الداخل من نافذة لمْ  توصد
تماما.
لم أستطع أنْ أحدد المدة الفاصلة بين ركوب السيارة وتوقّفها... رغْم أا مدة  يمكن أنْ تتجاوز الساعة
بقليل.
توقّفْنا... وتمّ إنزالي برفْق كما اعتقد  ت، ولم ُأبارح مكاني. حينها سمع  ت أحد الذين رافقوني،
يقول كمن يوجه كلامه إلى من يبعد عنه عشرين مترا بحدسي فقط خمّن  ت ذلك، رغْم العصابة التي
ما زالت تحْجب عني الإنارة، قال:
الأمانة عندنا الآن.
أجابه آخر من الجهة الأخرى:
وهذه أمانتكم بعون الله.
لمْ أفهم معنى الحوار تماما... فقط وخزني أحدهم من ظهري، قائلا:
تقدمي إلى الأمام.
تقدم  ت بخطى بطيئة، محاولة تحسس الطريق بأصابعي التي أمدها أمامي ل تعينني على تلمس
اللاشيء، ودقات قلبي كبوصلة لا تشير إلى شيء... تدق كإيقاع طبل منتفخ بصوت الحرب.
لم أكن واعية، هل أنا أسير بمفْردي أم بصحبة أي كان، أو كن  ت أقا  د دون علمي إلى هاوية ما.
.... قرابة دقيقة أو أقلّ من المشي، أمسك بي أحدهم من كتفي وهو يقف أمامي، قائلا بصوت  مختلف
لمْ أعهده كأنه صوت شيخ  يحادثني أو  يحادث نفسه:
جيد... جيد جدا.. ( ووجه كلامه إلى آخر لم أتبينه ) خذوها إلى الداخل بسرعة.
بعد ساعة قضيتها بغرفة أشبه بقاعة مسجد،  مقيدة اليدين والساقين وقد فكّوا عن بصري
عصابتهم.. وصل شيخ عليه وقار ورهبة، مع أنّ عيونه تشع إباء وحدة. جلَس قبالتي على كرسي
خشبي، وقد مد سبحته ليحرك حباا دوء وخشوع... أو ربما كانت السبحة بيده ولم أنتبه .
عدل من جلْسته قليلا بعد ما  يقارب الدقيقة من الصمت، دون أنْ يرفع عيونه نحوي، وقال:
أنت الآن في رعاية تنظيم القاعدة ببلاد الرافدين.
لمْ أشعر بخوف شبيه بخوف هذه اللحظة، ولا أتذكّر أنّ خوفي أسرع في شراييني كالنمل. ثمّ حفَر
تحت الجلد، ليصبغ على وجهي ارتباكا لا مثيل له.
كثيرا ما سمع  ت عن تنظيم القاعدة والإرهاب و 11 سبتمبر و"أسامة بن لادن" و
"الظواهري"... وأذكر أنه في كلّ مرة تحضر هذه الأسماء، يحضر الخوف والفجيعة والرهبة وترتفع
درجات الحيطة في دول أوروبا وأمريكا إلى مستوى السقْف. فما بالك بامرأة وقعت الآن في شراكهم.
وبعد لحظات من الصمت، أكمل:
لن نعاملك كما عاملك حزب البعث البائد.وبعون الله ستكونين بخير ...أنت فقط رهينة للضغط على
أعداء الله.
حينها فقط فهم  ت أنّ وجهتي  حولت من تنظيم إلى تنظيم آخر بالمبادلة أو بعنوان صفقة ما.
وكيف سأعامل وأنا بين براثن تنظيم القاعدة ؟
ما الذي سيفْعله بي أبناء "الزرقاوي" وأحفاد "بن لادن"؟
كيف سأكون بخير ؟ وأنا لا أعرف مصيري، وما الذي سيحصل لي ؟ هل ُأعدم بحبال الإسلام الإرهابي ؟
أم ُأرمى بالرصاص وألقى إلى كلاب الشوارع؟
هل يذْبحني "الزرقاوي"، كما ذَبح تلك الرهينة الأمريكية أمام شاشات العالم ؟ أم ينهشون لحْمي الغض
المغري، كما  تغتصب مومس، وقد وقعت بأيدي عصابة منظمة ؟
كأنه ألقى سبحته إلى بوتقة تفكيري لترصد خوفي وأسئلتي... أو أبصر خوفي في عيوني الحيرى،
وهي تمْسح المكان علّها تعثر على بصيص من أمل  يخرجها من القفص اُلمحاط بالفخاخ.
قال دوء لا مثيل له:
قل  ت لا تخافي، بعون الله لن يمسسك ضر.
ض إلى خزانة خشبية بلا أقفال، وتناول منها لباسا أسود ألقاه بجانبي، وأكمل:
عليك الآن أنْ تستري عورتك، لتكوني أختنا في الإسلام.
وعلى علمي باللغة العربية، إلا أنني لمْ أفهم ماذا يقصد بالعورة... لم ُأصادف هذا المصطلح من قبل
. فسأل  ت بارتباك:
لم أفهم ....
( مبتسما ) ارتدي هذا اللباس العراقي، وغطّي رأسك... هذا كلّ شيء.
وقيدي ..؟
آه ... فهم  ت... سأفك قيدك، وأتركك لخمس دقائق.
( أشر  ت برأسي علامة اُلموافقة، ولم أعلّق ).....
تقدم مني وفك أسري، ثمّ غادر الغرفة ليعود وقد ارتدي  ت ملابسي العراقية السوداء، ولم أسأله
وهو  يعيد القيد إلى معصمي، إنْ كان لون اللباس دلالة الحزن، أم هو لباس تقْليدي  متداول.
وقبل أنْ  يغادر الغرفة، أشار بسبابته إلى كتاب كان  ملقى على طاولة صغيرة، وقال لي:
بجانبك كتاب الله العزيز،  يمكنك قراءته . أنت لست على طهارة، مع ذلك قراءة القرآن أفضل من
تركه.
لمْ أنتبه إلى كلامه، ولمْ أعر لكتاب القرآن انتباها... وتنفّس  ت الصعداء عندما خرج، كأنّ حجارة
بحجم جبل كانت جاثمة على صدري.
اتكأ  ت إلى الحائط،  محاولة أنْ أغالب رغْبة جسدي في النوم. فالمكان لا أمان به، ولا يمكنني أنْ أثق
ؤلاء.
كلّما أخذني النوم قليلا، أرى سكاكينهم تمْتد إلى عنقي... أرى بنادقهم... أرى الأحزمة الناسفة
والسيارات اُلمفخخة... أرى محطات الميترو بلندن، تتناثر إربا... أرى الأبراج تتهاوى كنجمة
 محترقة...
مر بذاكرتي لحظتها، حجم الفجيعة التي أصابت والدي وهو  يتابع أحداث 11 سبتمبر... ظلّ ممسكا
بسيجارته والطائرات تصطدم الواحدة تلوى الأخرى، كأنك أمام مشهد سينمائي خادع ُأعد له جيدا.
فيما لا يزال اُلمحلّل السياسي  يعلّق على الحدث، كان والدي  منهارا على الأريكة دون حراك. غير أنه بعد
يوم واحد، صار  متفائلا ومبتسما، كأنّ ما حدثَ البارحة كان مسرحية.
لمْ يعد  مهتما و  منشغلا بالحدث وبالعملية الإرهابية، عدا ما كان يلغّ به أمام مجموعة من الحقوقيين
اليهود، كلما اجتمع م في مترلنا...  يناقشون آخر الأحداث ومواقف الدول الكبرى والدول العربية
وحتى بعض الخونة من اليهود.
وعلى خلاف والدي اُلمنشغل بالأنشطة السياسية والثقافية... كن  ت لا أهتم بغير عملي بفرع منظّمة
الأمم المتحدة للإغاثة. لا أبدو سياسية، ولا أفهم كثيرا في الإيديولوجيا والأحزاب، عدا ما يتوفّر
للمواطن العادي.
أما والدي فهو العضو الناشط بحزب الخضر، ورئيس منظمة "ضد الفكر النازي" التي أسسها،
ويترأسها منذ سقوط جدار برلين. لا زال ينشط بحماس، كلما اشتد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو
كلما ض أحد الجامعيين أو المثقّفين ليشكّك في المحارق النازية.
ولا زلْ  ت أذكر جيدا العمل الهام الذي قام به أثناء محاكمة "دافيد إيرفينج" في محكمة ألمانية قضت
بتغريمه عشرة آلاف مارك، بعد أنْ شكّك في حدوث جرائم ضد الإنسانية. وهو ما حصل مع الكاتب
"جارودي"، حيث كان والدي يتنقّل حتى إلى فرنسا والنمسا وانجلترا لحشد الأنصار اليهود ضد هؤلاء.
لمْ ْدأ الحركة في بيتنا، من استقبال الشخصيات السياسية والثقافية والدينية ... تناقش تأثير
هذا الحدث على العلاقات بين اليهود، ومدى النجاح الذي  يمكن أنْ يتحقق لهذا الكاتب، خاصة إذا
استثمر العرب نظرياته.
كان والدي يدافع عن موقفه وعن منظّمة "ضد الفكر النازي"... أمام جمع من اليهود واُلمناهضين
لل  مشكّكين في المحارق النازية.
وهو  يلوح بجملة من الأوراق، هي عبارة عن بيانات ستوزع في الشوارع الألمانية..و  تعلّق في الأماكن
العامة.
فيما سيتكفّل هو ومجموعة من الحقوقيين، بحشد الدعم الدولي للضغط على القضاء الألماني.
لمْ أعر اهتماما للمسألة، رغم تعاطفي مع اليهود ومع من لقي حتفه في المحارق النازية. كن  ت أدخل
عليهم دون أنْ أنضم إلى حوارام، ودون أنْ يدعوني أحد منهم لمتابعة الحوار، رغم أني إطار بمنظّمة
دولية.
هذا عدا المرة التي أعدت فيها المنظّمة تقريرا لمناقشته، حول تراجع المحاصيل الزراعية في الأراضي
الفلسطينية. والتي ألمحت فيه اللجنة الرافعة للتقْرير إلى تأثير السياسة الإسرائيلية اللاإنسانية على
الوضع الاقتصادي.
ثار نقاش عنيف في أروقة المنظمة، حول مفهوم"اللاإنسانيّ"، و  عرض التقرير للنقاش مرة أخرى قصد
تعديله.
أثناء ذلك، دخلْ  ت على والدي في مكتبه بمترلنا، وكان  منشغلا بقراءة كتاب
"بروتوكولات حكماء صهيون"، الذي كثيرا ما أشاهده يتصفّح أفكاره، وكأنه يستمد منه أحكاما إلهية.
غير أنه كثيرا ما  يسرع إلى إخفائه بارتباك، كلما حلّ ضيف فجأة أو دون سابق إعلام... يطويه
بسرعة، ويدسه في درج مكتبه بخوف الختريرة على أطفالها.
دخلْ  ت، فانتبه إليّ بشيء من الغرابة، وعلّق:
لا أراك تترددين كثيرا على مكتبي ... ما المسألة؟
ليس شيئا  مهما... فقط أرد  ت أنْ أستشيرك في مسألة، علّي أتحسس زوايا الموضوع.
ما نوع الاستشارة ؟
سياسية طبعا .
أعرف .. أعرف ... أقصد بماذا تتعلّق ؟
تتعلّق بتقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة للإغاثة، حول تأثير الحصار الإسرائيلي على الوضع
الفلاحي لدى العرب في "غزة".
( طوى الكتاب الذي أمامه، وخلع نظارته ) وماذا جاء في التقرير ؟
جاء فيه أنّ الحصار الإسرائيلي لا إنساني.
( رد بحدة ) هذا تقرير  ملفّق ضد اليهود.الغرض منه منع اليهود من الدفاع عن أرضهم اُلمقدسة ضد
الإرهابيين العرب.
( خفّف من حدة كلامه ) وهل صادقوا على التقرير ؟
لا... يبدو أم سيناقشون مسألة "اللاإنسانيّ" هذه.
طيب... طيب ، هذا ما يجب أنْ يحصل.
على كلّ أعلميني بآخر الأحداث، حتى  يمكننا التحرك.
أكمل كلامه، وعاد  يرتب نظارته على أنفه الحاد. ثمّ فتح الكتاب الذي أمامه، على نفس الصفحة
التي كان توقّف عندها.
فهم  ت منه أنّ الحوار قد انتهى.
هكذا كان والدي يتعامل مع الجميع بجفاء وبكلمات واضحة و  مختصرة... حتى مع عائلتنا
الضيقة.
وأذكر أنّ آخر حوار دار بينه وبين أمي وهي على فراش الموت كان جافا وقاسيا لا ينم عن مسؤول
عن عائلة.
قالت له:
"هانز" قد لا أعيش بعد اليوم ؟
لا داعي لهذا الكلام... سأطلب لك الطبيب .
أنا لا أريد طبيبا، أريدك بجانبي في هذه اللحظات.
لا أستطيع... لي أشغال لا بد من إتمامها . سأغادر الآن، وستتكفّل "أنجيلا" باستدعاء الطبيب.
هانز ...
( وهو  يغادر ) أتمنى لك الشفاء... لن أتأخر.
غادر  مسرعا نحو أعماله وسياسته وأنشطته، تاركا أمي تصارع حشرجات الموت، لتلفظ أنفاسها بعد
دقائق.
كانت عائلتي رغم الجفاء العاطفي  تعد عائلة  محافظة، من أصول يهودية هاجرت إلى بريطانيا زمن
الحكْم النازي، وعادت إلى ألمانيا بداية الستينات، حي ُ ث تعرف أبي على ابنة صديق والده وتزوجها.
هي أمي التي ماتت، حين بلغ  ت العقْد الثاني من  عمري.
لذلك جاءت علاقتي الشاذة ب "نارمين"، سيفا  مسلّطا على رقبتي. أخشى أنْ  يصيبني، فتنهار علاقتي
بوالدي. فرغم تفتحه وتحرره إلا أنه الدفاعه عن السحاقيين واللواطيين.
ما كن  ت أخشاه حصل فعلا، واستعملت "نارمين" شريط فيديو ضمنته صورا من علاقتي الشاذة معها
لتهددني. بأن تكشف علاقتي الشاذة لوسائل الإعلام فأفقد منصبي المحترم بمنظمة الأمم المتحدة.
وكان المقابل هو أنْ أعمل لصالح اُلمخابرات الإسرائيلية.
يا له من موقف، فلو كن  ت امرأة عادية لهان الأمر، لكنني إطار سام بمنظّمة دولية. وأي تشويه لسمعتي،
قد  يفقدني عملي.
فهم  ت تبعا لذلك أنّ "نارمين" لم  تقابلْني  صدفة لمّا تعطّلت سيارتي تحت الأمطار. وحتى سيارتي تمّ
تعطيل  محركها عمدا، لأقع بالتدرج في هذه اللعبة التي لمْ أفق منها، إلا وأنا  محاصرة برغباتي
الجنسية التي لمْ تخْمد أبدا، وبسطْوة اُلمخابرات الإسرائيلية.
وما  وقوعي في براثن اموعات الإرهابية في العراق، إلا بسبب  مهمة ُ كلّفْ  ت ا، وليس بسبب عملي في
المنظمة الدولية.
في اليوم الذي اختطفت فيه، كان اليوم قبل الأخير ُلمغادرتي التراب العراقي في اتجاه واشنطن
لحضور مؤتمر دوليّ. لذلك ُ كلّفْ  ت  بمقابلة أحد أعضاء المليشيات التابعة لوزير بالحكومة العراقية،
ليسلّمني وثائق أحملها إلى "نارمين" ومنها إلى عميل آخر باُلمخابرات الإسرائيلية . وبسبب تلك
الوثائق، ها أنا الآن في كماشة إرهابيين لا أعرف ما سيصنعون بمصيري.
فهل تتدخل إسرائيل لإنقاذي ؟ أم منظمة الأمم المتحدة ؟ وما أدراني أنّ منظمة الأمم المتحدة ستسعى
لفك أسري إذا علمت أني أشتغل عميلة لل  مخابرات الإسرائيلية ؟
و والدي هلْ سيفْتخر بي أمام أصدقائه السياسيين، إذا علم أنني أعمل لصالح الشعب اليهودي؟ وفي
حقيقة الأمر، لم يكن ذلك الشريط الذي يصور علاقتي الشاذة بنارمين هو السبب الوحيد لانضمامي
للمخابرات الإسرائيلية .. فأنا كنت قادرة على العيش بأريحية وبترف لا مثيل له، بحكم الثروة الهائلة
التي اكتترها والدي في البنوك والبورصات وتجارة الذهب. وإنْ كنت حريصة كلّ الحرص على منصبي
بالمنظمة الأممية، إلا أنّ والدي أمكن له أنْ يزرع في داخلي حبا جارفا للشعب اليهودي وتعاطفا مع
قضيته العادلة في "أورشليم".
صر  ت تبعا لذلك أتوفّر على قدر هائل من الكره والنقمة على العرب الوسخين والإرهابيين وعلى كل
مسلم أراه يسجد لربه، ذلك السجود الذي معناه الخنوع والخوف والتملّق. لذلك كلما أرى مسلما  يقتل أو
يسج به في الزنازين والمعتقلات أردد بيني وبين نفسي أنّ العالم ارتاح من جرذ يمكن أنْ يصيب الإنسانية
بالوباء.
لا أدري... لا أدري..
كلّها أسئلة تنطّ في ذهني و  تشوش علي  محاولة ترتيب الأفكار.
أرد  ت التخلّص من كلّ ذلك بمحاولة تصفّح كتام... كتاب القرآن الذي يتخذونه مرجعا لممارسة
الإرهاب، والتعدي على الأبرياء . فتح  ت الكتاب لأقرأ أي شيء:
" أو لمْ يروا أنا خلقْنا ُ لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مال ُ كون * وذلّلْناها ُ لهم فمنها ر ُ كو  بهم ومنها
يأ ُ كلون * و ُ لهم فيها منافع ومشارِب أَفَلا يش ُ ك  رون * واتخ ُ ذوا من  دون الله آلهة لعلّهم  ينص  رون * لا
يستطي  عونَ نصرهم و  هم ُ لهم  جند محض  رون * فلا يح  زنك قو ُ لهم إنا نعلَ  م ما يسرونَ وما  يعلنون * أَو لمْ
ير الإنسان أنا خلقْناه من نطْفَة فإذا  هم خصيم  مبين * ..."
لمْ ُأكمل ما تبقّى من السورة، فقط لقشعريرة حلّت بجسدي...برهبة أحسستها وأنا أمر على إيقاع
ليس بالشعر ولا بالنثر. لمْ أصادف نصا عربيا ذا التأثير والترتيب، ثمّ أنّ شعر العرب لا  يرتب ذا
الشكل على الورقة.
ما شدني فعلا، حديث القرآن عن النطفة التي هي السبب الأول لنشأة الجنين في رحم أمه.
كيف أمكن لهذا النص أنْ  يدرك هذا المفهوم زمن رسولهم الأمي الجاهل ؟ كيف ؟....
اختلطت أشياء كثيرة في ذهني... هي مزيج من الرهبة والشوق والارتباك.
فتح  ت الكتاب على صفحته الأولى، وشرع  ت أقْرأ  متهجية كلمات لمْ ُأصادفْها أو لم أستطع شرحها، أو
هي بسبب الخطّ العربي اُلمتشعب، لمْ أتبين أحرفها.
كلّما تقدم  ت أكثر، ازدد  ت حيرة وارتباكا...
سمع  ت خطوات أحدهم، فألقي  ت الكتاب جانبا وتظاهر  ت بالنوم . دخل نفس الشيخ إلى الغرفة،
وأوصد باا من الداخل،  متخذا نفس الكرسي الخشبي للجلوس، وقال:
أعرف أنك لست نائمة .. إقرئي القرآن، سيساعدك كثيرا.
شعر  ت بأنّ العرق الذي يتصبب على جبيني، قد فضحني، ففتح  ت عيوني قائلة له:
ماذا ستفْعلون بي؟
هلْ أنت جائعة ؟
لا يهم... سألْتك ماذا ستفْعلون بي ؟
سنقرر لاحقا.. لا ْتمي، إقرئي القرآن فقد  تصبحين امرأة  مسلمة . والله سبحانه وتعالى قد أكرم
المسلمات، وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات.
إذن لماذا تقتلون النساء، وتذبحون الرجال ؟
من قال لك ذلك ؟
كلّ الصحف والقنوات التلفزية،  تعلن ذلك و  تمرر  صوركم وأخباركم.
( ابتسم ) هذا  هراء...  يحاولون تشويه  سمعة الإسلام.
نحن يا ابنتي ندافع عن أرضنا... صحيح أنّ الوسائل أحيانا لا إنسانية. لكننا نحن من احتلّوا أرضهم،
واغْتصبوا نساءهم، وانتهكوا  ح  رمام ، و... و.... أليس كذلك؟
لا أعرف...
ض من مقعده ليغادر الغرفة، ثمّ عاد حاملا معه طبقا عليه بعض الخبز وحساء لمْ أتبين لونه
تماما، غير ما يب  ين من خضار داخله.
وضع الطبق أمامي وانصرف، دون أنْ ينسى إغلاق الباب خلفه. وكانت الإضاءة التي تتقلّص شيئا فشيئا،
تشي أنه المساء أو بداية الليل. لذلك تكهن  ت أنّ ما قدموه لي على هذا الطبق من خبز وحساء، إنما هو
العشاء.
رفع  ت الإناء إلى أنفي أشم ما بداخله، فصفعتني رائحة حارة لم أتبينها... وتذوقته ..
أعدت الإناء إلى الأرض بتوتر وبصق  ت ما علق بفمي من حساء لم أتبين أي صنف من الأطعمة
هو.فتش  ت في كلّ الأطعمة الألمانية فلم أجد له مثيلا... أسلم  ت رأسي إلى الحائط بتأفف، فوخزني
الجوع وتحركت أمعائي تعلن احتجاجها.
نظر  ت إلى الإناء من جديد ثمّ إلى الخبز ولم أتمالك رغبتي في الأكل.. بالأحرى رغبتي في أنْ أبقى
على قيد الحياة.
الفصل الثامن
هذه اللوحة للتعذيب
بنفْس التوقيت تقريبا، كان "نواف"  مجتمعا ب "أبي ايد" و"أبي الوليد"...
بذات القبو حي ُ ث كانت "أنجيلا" أسيرة هناك... الإضاءة فانوس زيتي  شد للعمود الرافع ذلك السقف
القصديري، واموعة بلباس عسكري  يحيطون بخريطة  ممددة على الأرض، بجانب أسلحتهم اُلملقاة
حذْوهم.
في حين كان "نواف"  يوضح للبقية المسالك والطرقات اُلممكنة التي ستستعمل لتنفيذ العملية ...
كان الهدوء يسود الشوارع، عدا أصوات طلقات نارية  متقطّعة آتية من بعيد.
وضح "نواف"، واضعا سبابته على الخريطة:
بعد تفْجير الموقع الوهمي، ستهب رجال الشرطة إلى المكان. تكون حينها "أبو الوليد" في رأس الشارع،
قرب مكان التفجير، لتهاجمهم بالرصاص دون أنْ  تعرض نفسك للخطر.
في حين سيكون "أبو ايد" و "تمّام" في الرأس الثاني للطريق، من حيث قدموا
(  متداركا ) طبعا عند قدومهم لا تتركوا لهم أي إمكانية لكشفكم. فأنتم  مطالبون بالاختباء إلى حين
سماع صوت الرصاص ... حينها  تفاجئوم بالكاتيوشا. في نفس الوقت ودون تأخير تعودون إلى
موقع الانطلاق.
علّق "أبو الوليد"،  موجها كلامه ل"نواف":
وهل ستبقى هنا؟
( بغضب حاول إخفاءه ) لا أحد سيبقى خارج المعركة ... كلنا سنكون في خدمة العراق.
( أعاد وضع إصبعه على الخريطة )
هنا بناية قبل اُلمنعرج ... البناية الحكومية التي دمرناها الشهر الفارط . أنا سأكون فوق سطحها ...
سأكون قناصا، لأمنع أيا منهم من الإفلات ( متداركا ) مع العلم أنني من سيفجر الموقع الوهمي ( أخرج
جهازا من جيبه ) وهذا جهاز التحكّم معي الآن.
من له ملاحظة ؟
علّق "أبو ايد"، وهو يرفع بقاذفة الكاتيوشا إلى كتفه:
يبدو أنّ الأمور واضحة.
رد "نواف"، وقد انتصب رافعا رشاشه إلى كتفه:
حسنا ... لنتوكّل على الله. ( مد يديه للدعاء ) اللهم انصرنا على اُلمعتدين، واحم العراق الغالي يا رب
العالمين.
ردد الجميع:
آمين ...
غطّوا رؤوسهم بأكياس سوداء لا تترك إلا الأفواه والعيون، وتناولوا أسلحتهم ... فيما تقدم " نواف
" ليفْتح الباب و  يطلّ بحذر.
يترك نصف جسده خارج الباب، ويده اليمنى ممدودة إلى الداخل، وكأنه ينادي رفاقه الواحد تلو
الآخر، ليخرجوا وقد أمن لهم الطريق.
نصف ساعة، كانت كافية ليأخذ الجماعة مواقعهم... كان " نواف " قد سمح له موقعه من أعلى، بأنْ
يرى رفاقه قد أخذوا أماكنهم، وأنّ لحظة التنفيذ قد حانت.
ثبت رشاشه على كتفه ورفع يديه للدعاء يطلب النصر والتوفيق.
تناول جهاز التحكّم ... وجهه جهة الموقع الوهمي ... سحب نفسا عميقا، وضغط على الزر ليهتز المكان
وتتصاعد الأدخنة، مصحوبة بلهيب مد ألسنته من النوافذ والأبواب.
كانت قوة الانفجار، كفيلة بأنْ  تخرج الحي من صمته. وأطلّت بعض الرؤوس من الأبواب أو من أسطح
المنازل، دون أنْ يظهر أحدهم يسير في الطريق.
الانفجار رغم قوته، كان عاديا و  متكررا، وربما أغلب الذين سمعوه لم  تصبهم رغْبة في التطفّل أو
الاستكشاف.
فيما هدأ صوت الانفجار، لا زالت النار متقدة تأكل الخشب والعجلات المطّاطية التي دسها "نواف"
وجماعته في البيت . فكان الدخان الأسود قد زاد من قتامة سماء الأعظمية.
ظلّ الصمت  مخيما على الحي لدقائق عديدة، عدا ما ينبعث من أصوات خافتة، كطقْطقات صادرة من
الخشب اُلمحترق.
ظلّ "نواف" من موقعه المرتفع، كنسر يرصد تحركات فئران علّها تأكل ُ طعمه. لمْ تتجاوز الدقائق
الخمس، حتى هبت مركبات الجنود العراقيين صوب المكان،  مدججة بأسلحتها، تسبقها إنارا الكاشفة.
تناول "نواف" رشاشه وجعل جعبته تتكئ على جدار  متداعي أمامه،  مصوبا بحذر نحو الشارع، حيث
تعبر سيارات الشرطة.
تتقدم السيارات ببطء وحذر، حتى بات لا يفْصلها عن موقع الانفجار مائة متر. حينها ارتمى "أبو
ايد" وسط الشارع، تاركا لرشاشه أنْ يبصق كلّ ما جعبته من رصاص دون رهبة ... ثابتا، لا شيء
 يحركه عدا رشاشه اُلمتحفّز اُلملتصق بكتفه كذيل ثعبان مقطوع.
دبت الفوضى في الجنود العراقيين، واختلّت وجهات العربات.فيما ارتمى بعض الجنود من العربات،
ليواجهوا الرصاص القادم من رأس الشارع.غير أنّ "أبا الوليد" انسحب  مسرعا، ليترك لرفاقه مهمة
إلقاء صواريخ الكاتيوشا ... كانت قذيفتان كافيتان لتسحقا المركبات ومن فيها. وانسحبا لتبقى وراءهما
النيران المشتعلة في العربات والأجساد اُلمتفحمة،  تعين على إنارة الشارع اُلمظلم.
انسحبوا جميعهم عائدين إلى قاعدة انطلاقهم في ذلك المخزن المتداعي. من حيث انطلقوا في انتظار أن
يلتحق م نواف بعد أنْ يطمئن على موت كلّ أفراد الشرطة العراقية المدعومة بجنود أمريكيين،أو لعلّه
كان يترصد أي جندي لم  يصب إصابة قاتلة، فيرديه قتيلا.
بقي "نواف"  متسمرا في موقعه ثابتا، يرصد نتائج العملية التي لم  تبق أحدا حيا. ابتسم كأفعى
أصابت هدفها. سحب رشاشه، وتراجع وهو يقفز على الجدران والسطوح، عائدا إلى موقعه من حيث
انطلق.
بعد العملية، قررت القوات الأمريكية أنْ تشن حملة على الحي بعد تضاعف العمليات خلال الشهر
الحالي ... كانت الطائرات قد أخذت موقعها في سماء الأعظمية، وشرعت العربات والدبابات والمدرعات
في اختراق أنسجة المدينة وشرايينها، تسبقها غارات وحشية على البيوت والمنازل لمْ يسبق لها مثيل.
كانت الطائرات  تلْقي حممها دون هوادة ودون تدقيق ... لا أحد في الشوارع يحمل سلاحا، وحتى
البيوت التي  تقْص  ف كانت آهلة بالأمهات الثكلى والأطفال اليتامى والشيوخ والعجز.
الآليات الزاحفة على الحي لا تترك للذبابة الزرقاء  متسعا للهروب. لذلك كلّما تقدمت الآليات،  تطلّ
ُ فوهات البنادق والرشاشات من السطوح والنوافذ، لتقْتنص أحدهم. فترد المدافع لتهدم بيتا أو زنقة أو
بناية..
وفيما كان "نواف" ورفاقه يترصدون تقدم الجند، سبقته طائرة مروحية بقذيفة، هدمت المخزن
ومن فيه، وكان رفاقه حينها لا زالوا لم يستردوا أنفاسهم من العملية بعد. ولم يسلم غير "نواف" الذي
لا يزال يتنقّل من سطْح إلى سطح، ومن جدار إلى آخر... ليجد نفْسه في شارع جانبي، يقيه حصار
العناكب. غير أنّ حدسه أخطأ هذه المرة، لمّا وجد نفْسه وجها لوجه مع ثلّة من الجنود، سبقوه
بالرصاص ليصيبوه في فخذه.
كان الأسبق ليندس بين ركام بناية متهدمة، وأمكن له أن يتسلل بين الأنقاض ليخرج إلى شارع خلفي
ويندس في بيت مهجور.
ظلّ يتصبب عرقا وامتزجت الأتربة بالدماء حتى لم يعد يبين وجهه .. مزق قميصه ليجعل منه
عصابة على جرحه كي يكف التريف. وقد ظلّت يده على الجرح والأخرى تمسك بسلاحه متأهبا.
حضرت "لينا" المنفية في تونس و "ماجدة" التي استشهدت منذ أيام.. أبي الذي قضت عليه الخيانة
الفلسطينية في لبنان.. أخي الذي لم يستطيعوا جمع أشلائه من نقطة تفتيش فجرها .. أخي "عزام"
الذي ما زال معتقلا في السجون الإسرائيلية ...
هل ُ كتب علينا أن ندفع حياتنا كلّها من أجل قضية لا منا وحدنا؟
أمي التي لم أرها منذ عشر سنوات وألمسها وأعانقها وأبكي كطفل على ركبتيها .. نحن عائلة وزعنا
دماءنا على كل القضايا القومية...
ظلّ يترف رغم الضمادة التي وضعها على الجرح .. تصبب العرق أكثر فأكثر و سال مع الدماء
كرحيق... بدأ الدوار يلفه حتى فقَد وعيه وظل يمسك سلاحه ولم يسقط من يده.
بسجن أبو غريب لا يزال "نواف"  معلّقا من يديه إلى السقْف، وقد  جرد من ملابسه كاملة. جسده
بفعل التعذيب والبرد صار أزرق، حتى لم يعد يشعر أنّ جسده ذاك له.
ظلّ لأيام لا يعرف عددها،  معلّقا كشاة  معدة للسلْخ، حتى فَقَد الإحساس بجسده وأطرافه.
حين فكّوا قيده، اوى أرضا كأنّ السلاسل كانت  تعمده و  تساعده على الانتصاب... اوى كتمثال القائد
الفذّ ساعة احتلال بغداد . ولم يشعر أنّ جسده لامس الماء البارد الآسن على أرض الزنزانة.
انحنى أحد الجنود إلى رقبته وثبت ا سلسلة كشكيمة بغل، وظلّ يجره بمعية جندي آخر. فيما تكفّل
ثالث بتثْبيت هاتفه الجوال ُ قبالة بوتقة المشهد.
ظلا يسحبانه وهو  يحاول جاهدا أنْ يستعمل قوائمه الأربع، كي لا تخْدش أرضية السجن جسده المنخور
أصلا . حاول ...حاول ... وحاول دون جدوى.
تمادى في سحبه، وتمادى الإسمنت في حفْر جسده . أطلّ بعض الجنود من خلْف الزنزانات وتقدموا
لإكمال مشهد من مشاهد "عذاب المسيح"... حاول أحدهم أنْ يدق عصاه في مؤخرته... حاول الآخر أنْ
يقف فوق جسده اُلممدد على الأرض، ليلْتقط له زميله صورة تاريخية لن تتكرر أو ربما ستتكرر كثيرا.
وثالث أطفأ سيجارته في إليته ...
ورابع ... وخامس...
تركوه لدقائق يلْع  ق جراحه، ويمتص جسده من الأرض قسوا. فيما ابتعد الجنود وامسوا بكلام لمْ
يسمعه.
اقترب أحدهم ليساعده على الوقوف و قال بلهجة عراقية:
أنت فلسطيني، ماذا تفعل في العراق؟
أدرس
(ضحكوا بسخرية) تدرس؟؟ قال يدرس ... وهل تدرس مع تنظيم القاعدة؟ أم مع البعث.
أقسم أنني جئت للدراسة
(شده من شهره بعنف ودفع برأسه إلى الحائط، فسالت بعض الدماء من رأسه)
أقسم أنني سأفعل بك ما سأفعله بأمك القحبة لو كانت هنا ..
(كتم غيضه) كنت أدافع عن أرض العراق ... ألست عراقيا؟
(أمسكنه من خصيتيه وشد عليهما حتى تقيأ) سأريك ماذا يحصل لك في العراق.
ثم دفعه ليسقط على أرض الزنزانة من جديد، ثم أعادوا جره مرة أخرى إلى زنزانته، وأوثقوه إلى
الحائط بسلاسل تمْنع كلّ أطرافه من الحراك والعصيان. وفيما ظلّ بعضهم يلْتقط بعض الصور، غاب
أحد الجنود لبعض الوقْت ليحضر مقصا أشبه بالذي  يستخدم في تشذيب الورد.
أعادوا تثْبيت هواتفهم الجوالة نحو المشهد المسيحي.. أمسك الجندي بقضيب
"نواف" وأعمل فيه المقص، لتسقط تلك القطعة من اللحم على الأرض  ملطّخة بدماها.. دماء تحلّلت مع
الماء الآسن في قاع الزنزانة، حتى صارت الأرض دماء وغاب " نواف" عن وعيه. حضرت الأار جميعا
وآلام المسيح جميعها... حضر النخل والتراب والطين والخرائط وبغداد... حضر "عيسى" و"موسى"
و"جبريل"... كلّ الأنبياء والرسل والملائكة، يطلون من فوق الغرفة المفتوحة للسماء، وما هي بمفتوحة.
كانت سورة "يس " ترفْرف كملاك أبيض قرب الله، وتنثر أحرفها وحكمتها ..  خيل للناظر أنّ سماء
بغداد انفطرت لتلقي حممها. وأنّ منسوب المياه ارتفع في دجلة والفرات خوفا أو تشنجا... وأنّ نخلات
البصرة انحنين قليلا ليخفين خجلا من الإنسان. ..  خيل للناظر أنّ جبالا  بسطت ووهادا رفعت ورمالا
نثرت ومياها نضبت، كأا  شربت أو  سرقت ....حضر النخل والتراب والطين ولم يحضر الخلاص.
ظلّ الجنود يتضاحكون و  يعيدون التثبت من  صور التقطوها في هواتفهم.
فيما تفطّن أحدهم إلى أنّ "نواف" قد فارق الحياة، ولا بد من التخلّص من جثّته.
ألقوا جثّته على أحد الأرصفة، غير بعيد عن جثّة أخرى وجدوها  مشوهة أو مطعونة أو مقطوعة
الأطراف لعراقيين وأجانب. ولا فرق بين الجثّة والأخرى، عدا ما يجعل منها ورقة سياسية لتنظيم أو
حركة أو حزب.
المارة يعبرون إلى شؤوم بحذر وحيطة، محاولين ما استطاعوا أنْ يبتعدوا عن السيارات والدراجات
والحفر وحتى الجثث الملقاة على قارعة الطريق، مخافة لغم يدس هناك أو عبوة ناسفة .
فيما لا تزال الكلاب السائبة وقد تضاعف عددها تنهش الجثث وقد انتفخت وتحللت وضاعت
رائحتها في الأرجاء،  تعين الذباب الأزرق على الرقص والطنين ، فاستحالت الشوارع مزابل من جثث
وقمامة ومياه آسنة، حتى يستحيل على الواحد العبور دون أن يغطّي أنفه بيده أو بطرف ردائه.
الفصل التاسع
ذبح الرهينة
ما زالت "أنجيلا" قابعة بين براثن  مختطفيها، بنفْس الغرفة التي لا يفْصلها عن الخارج غير صوت
الرصاص اُلمتقطّع، وأزيز الطائرات اُلمحلّقة.
دخل ذات الشيخ بنفْس لباسه ووقاره، وسألها:
هل قرأت القرآن؟
أحاول ...
( قالتها وكأا تناور ... أو تحاول أن تفتك اعترافا أو غفرانا من ذلك الشيخ . قالتها لعلها تسلم من
شر قادم لا ريب فيه . علّ "قرآم هذا ينجيني" قالتها بينها وبين نفسها.
طيب ... طيب ...
غادرها لبعض الدقائق، ثمّ عاد مع مجموعة أخرى،  مدججة بالصواريخ المحمولة والرشاشات...
كانت وجوههم ورؤوسهم معصوبة، إلا من العيون اُلمشعة ... اُلمثيرة للخوف.
تقدم اثنان منهما وجانباها، يوجهان أسلحتهما إلى صدغها. فيما تكفّل ثالث بتوجيه عين الكاميرا إليها،
وإلى الواقف خلفها يقْرأ ورقة بين يديه:
"بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نحن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، أتممنا بعون الله وحمده أسر الألمانية
أنجيلا موردخاي، العاملة بمنظمة الأمم المتحدة للإغاثة . ونحن نوجه النداء لسلطات الاحتلال
الأمريكية الغاشمة لإطلاق سراح السجينات العراقيات، في أجل أقصاه يومين. وإلا سننفّذ في أسيرتنا
شرع الله رميا بالرصاص."
حين أكمل القراءة، انسحبوا جميعا دون أنْ يتكلّم أحدهم ولو بالإشارة. فيما بقيت
"أنجيلا"  مرتعدة كسعفة بفعل الريح. ثمّ وجهت سؤالها للشيخ الذي ما زال  متسمرا،  يحرك بأنامله
حبات سبحته:
هلْ سيقع إعدامي ؟
الله ورسوله أعلم ... نحن سننفّذ شرع الله.
وهل الله أَمر بإعدامي ؟
"وقاتلوهم حيثما وجدتموهم" صدق الله العظيم.
وما ذنبي ؟ أنا لا أحمل سلاحا، ولس  ت أمريكية ولا ُأهدد أحدا ( واارت بالبكاء )
( وهو يغادر ) أنت وسيلة لا غير.
خرج الشيخ دون أنْ ينسى غلْق الغرفة من الخارج للمرة الأولى، وكأنه أحس بخوف ما، أو هو
الخوف من هروب الأسيرة التي قد يمنع هروا من تنفيذ شرع الله.
تخيلت أا واقفة وظهرها إلى حائط أو عمود، موثوقة اليدين والساقين، وقد غطّوا وجهها بكيس
أسود أو عصابة على بصرها، تمْنعها من أنْ ترى حتفها ... وأنّ مجموعة من اُلمسلّحين يقفون صفّا
واحدا،  يوجهون فوهات رشاشام إلى جسدها. فيما يقف زعيمهم رافعا يده إلى أعلى، ل يعطي إشارة
إطلاق الرصاص فور إنزال يده إلى الأسفل. بمجرد أنْ  يعطي إذنه لهم، حتى تنطلق الرصاصات
متتالية في اتجاه جسدها، لتفْتح فيه فوهات من الدم المتجمد بفعل الخوف... تخيلت أنّ دمها لن يخْرج
منها، إلا على شاكلة كريات جامدة كحبات مسبحة ذلك الشيخ.
وأنّ أحدهم ربما لكبت عربي يقْبع في أدغال اللاوعي سيوجه رشاشه لنهدها أو شفتها أو ... وأنه
سيكون سعيدا لو أصابت رصاصته هدفها . كأنه ينتقم من المرأة الفاجرة أو من الغرب اُلمتحرر.
حركت رأسها، لتنفض تلك الأفكار على الأرض، وخمّنت أنّ إعدامها سيكون ذبحا على طريقة ذلك
الأسير الأمريكي الذي ذبحوه على مرأى من شاشات العالم. وأا بجرة واحدة بذلك السكين، سيتأرجح
رأسها ويسقط على التراب  معفَّرا.
تخيلت حبلا  يلف على  عنقها في ساحة عامة، وهي تقف على كرسي أو سطل أو صندوق ...  يسحب
من تحْت أقْدامها، فيتمطّط جسدها إلى الأسفل دون أنْ تلمس ساقاها التراب، ودون أنْ تستطيع أنْ تفك
الحبل عن  عنقها ... فتبقى جثة هامدة بعد أنْ نزف جسدها بولا لاإراديا.
 يشاع أنّ المشنوق يتبول دون أنْ تكون له القدرة على كبح بوله... كذا كانت  تمرر شريطا من الصور
اُلمختلفة، ولا تدري أي الطرق ستنفّذ فيها.
مرت الدقائق والساعات، كأنّ الكرة الأرضية ضاعفت  سرعة دوراا، على أنّ الوضع في العراق
خمّنت أنه لا  يساعد عقارب الساعة على الدوران الطبيعي، بفعل الأدخنة والحرائق والقتامة
والدماء ...
وهي  تقاد من غرفتها إلى غرفة أخرى أشبه بالسجن، تكفّل أحدهم بوضع عصابة على عينيها، وهي
جالسة على ركبتيها.
وتكرر مشهد آلة التصوير ... غير أنه بعد أنْ أغْمضوا عينيها لمْ تعد ترى شيئا، عدا آلة حادة كانت
 توضع على رقبتها، دون أنْ تسمع صوتا أو تحس بحركة سوى بعض الرصاصات المتقطّعة الآتية من
الخارج.
سمعت أحدهم يقول لها، أو يأمرها:
قولي أشهد لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
( لم  تعلّق ولم تنتبه إلى كلامه، وكأا اعتقدت أنّ الكلام لم  يوجه إليها )
حينها وخزها أحدهم، وكان الواقف خلفها، وهو اُلممسك بالسكين قائلا:
قولي أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
فهمت "أنجيلا" لحظتها أنّ الكلام يخصها، وأا المعنية بفعل القول.. قول كأنه فاتحة لإعدامها أو
مفتاح لدخول غرفة الموت.
حضر في ذهنها والدها و"نارمين" والإرهاب وتنظيم القاعدة .. تخيلت لحظتها أنّ الواقف خلْفها هو
الشيخ "أسامة بن لادن" أو "الزرقاوي" نفسه الذي نفّذ فعل الذبح في ذلك الأسير الأمريكي... حضر
الرصاص والرماد والقصف و  صور العراقيين في سجن أبو غريب على شاشات وسائل الإعلام...
قالت بارتباك وغصة:
لن أعترف بدين الذبح والإرهاب.
( .... )
تأهب الواقف خلْفها بغضب لا مثيل له... سحب نفسا عميقا... بسمل وحوقَلَ، ثمّ ثبت أصابعه عل
السكّين، فيما ثبت يده على رأس "أنجيلا". وبجرة واحدة، لم يفْصل رأسها عن جسدها، ولكن الدماء
انفجرت لتسقي جسدها، وتسقي أرض الغرفة. دم حار، ترى البخار يصعد منه إلى سقف الغرفة،
ليرسم وجوه الأنبياء جميعا.
حين سحب سكينه، سحب الآخر آلة التصوير من المشهد، فسقطت "أنجيلا" أرضا. وكانت أصابعها
الموثوقة لا زالت تتحرك وتستغيث، ولا من  مجيب.
لحظتها كانت القدس تتذرع لخالقها، ويمر طيف المسيح حاملا صبره ... تتعالى أصوات الأنبياء جميعا
وتنتفض الأرواح خائفة  مرتبكة.
..............................
..............................
صباحا عثرت الشرطة العراقية على جثّة "أنجيلا" ملقاة في أحد الشوارع، وبثّت قناة الجزيرة
القطرية تسجيلا للمذْبحة.
الفصل العاشر
للأضحية معناها الحقيقي
بتلك المدينة الساحلية... لا شيء يشي بأا تنتمي إلى الساحل التونسي عدا موقعها على
الخرائط.
بنفْس مقهى "الأقواس" بمدينتي البائسة، كن  ت بزاوية كالمحاصر بجيوش من النمل الأحمر... أترشف
قهوتي الصباحية. وأمامي جريدة لحزب تونسي معارض تسرد على صفحاا القليلة بعض الأخبار
الممنوعة عن البوح:
"اليوم العالمي لحقوق الإنسان في ظلّ المنع واُلمحاصرة"
"حرب قائمات تسبق مؤتمرات اتحاد الشغل"
"مع قناة الجزيرة، نواب خائفون واتصالات مقْطوعة"
.................
الصفحات على قلّتها، تسحبك إلى عمق البركة، و  تحيلك لمشاهد لم تألفْها العين ولا الذاكرة.
أحدهم حذّرني من صحيفة معارضة، وآخر لا يعرف غير اسم الحزب الحاكم، وثالث يسأل إنْ كانت
الأكشاك تبيع مثل تلك الممنوعات.. ورابع..وخامس...
ولا شيء غير الرغْبة في إحراق الخرائط وتعطيل البوصلات . كأني اللحظة أمام "جاك داريدا" وهو
يقول:
"هذا عجزي، هذه الذاكرة اُلمعاقة، إنه موضوعنا هنا عن شكواي، إنه اعتراضي..."
وأنت تقْرأ و  تشاهد و  تحلل ... إنما أنت  تحاول أنْ تفْهم الجسد. حتى وأنت تمر على مفاهيم حقوق
الإنسان والحروب والإعلام والخرائط والجغرافيا والتاريخ...
"هذا الجسد الذي اختفى وراء النص والذي أصبح محلّ قراءات وتأويلات" كما يقول
"شوقي الزين".
ولا ننسى أطروحات "فوكو" عن الجسد والجنس والسلطة والجنون.
....لا ُأبدي اهتماما بأي فكْر أو إيديولوجيا وأنا ذا المقهى، عدا ما يدور من نقاشات حول حروب
العراق وفلسطين وتنظيم القاعدة.مع ذلك أحاول أنْ أخرج دائما بالحوار من طاولة التشريح الفقْهية،
حتى لا أتهم بالانتماء إلى التنظيمات السلفية.
لا مني كلّ هذه المسائل رغْم أنّ مثل تلك الحوارات  تحرجني لما يشوا من نقاش بيزنطي، وتعصب
يتبناه البعض و  يدافع عنه.
لذلك كثيرا ما أنغمس في لعب الورق لساعات، هروبا من الفكر الرجعي أو خطاب الخصيان .
أنت إذنْ، إما في  مستنقع الفكر الغيبي، أو في خندق الهلْوسات المائعة، تجْتر معها  خزعبلات النتائج
الرياضية وحياة الفنانين والمائعين والخصيان و آخر تقْليعات الأغاني الغربية والشرقية الهابطة.
النادل  يوزع على الحرفاء شيئا من ال ُ فكاهة، كلما شاكسه أحدهم أو طلب منه كأسا من الماء، يعتقد
أنه الملك هنا ذه المقْهى...  يوزع الطلبات حسب رغْبته، ولمن  يريد.
وقد تطْلب منه قهوة أو كأسا من الشاي، فيرفض أو يطلب منك  مغادرة المقهى، بفذْلكة اعتادها منه
الجميع.
حين همم  ت باُلمغادرة، رنّ هاتفي الجوال، فجاء صوت حبيبتي مسبوقا بضحكتها العسلية.
لس  ت بخير هذا الصباح، مع ذلك لا بد أنّ أبتسم لأمرر لها ارتياحا ما:
صباح الخير ( قالت )
صباح الحب ... صباح الياسمين حبيبتي.
أين أنت الآن؟
بالمقهى كالعادة... أمامي صحيفة وقهوتي ككلّ صباح.
كلما أطلبك أجدك بالمقهى ...
لا يهم ... هلْ هناك جديد؟
لا شيء، أرد  ت أنْ أسمع صوتك.
أحبك ...
وأنا أيضا عزيزي... على كلّ أرد  ت الاطمئنان عليك فقط . سأطْلبك ليلا كالعادة .
إذن إلى اللقاء عزيزتي.
إلى اللقاء.
غادر  ت المقْهى في اتجاه البيت. وجد  ت رسالة وصلتني صباحا، دون أنْ أتعرف صاحبها. فتح  ت
الظرف بلهفة وقرأ  ت:
"بسم الله الرحمان الرحيم
لن أقول رفيقي هذه المرة ... أقول أخي في الإسلام .  متمنيا من الله سبحانه وتعالى، أنْ يهديك إلى
طريقه المستقيم / إلى الإسلام.
وبعد:
بعون الله وبفضله نوشك أنْ نحقّق شرع الله في أرضه. ستسمع قريبا ما  يحقّقه الإسلام على أرض
العدو.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
لمْ أتحقّق من الرسالة جيدا، وكد  ت أشكّك في مصدرها، غير أنّ خطّه كان هو. مع ذلك هذه المرة لمْ
أفكّر في الرد على رسالته. ربما خمّن  ت أنه غير مقر إقامته أو هاجر ائيا. مع أنّ الرسالة ووفْقا
لطابع بريدها كانت قادمة من دمشق.
لمْ أتفاجأ حتما بحدة خطابه ورغْبته في الانتقام من الخونة والجواسيس ...إنما ما فاجأني هو
الخطاب الفقْهي الذي ضمخ به رسالته، وحولها إلى خطبة جمعة.
كأني أقرأ بيانا لتنظيم القاعدة قبل أو بعد هجوم على إحدى المصالح الغربية.
أقْرأ الرسالة، وأعيد ترتيب أفْكاري فتحضر رسائله السابقة  مشعة بالنقْمة والثورة والتمرد على
السلفي والفقْهي والديني... كان يساريا لا تفارق خطاباته الأفكار الماركسية والمفاهيم الطبقية وجدلية
التاريخ و... لذلك كن  ت ألْتقي معه في فكْره وهمومه، كلّما تجادلْنا على الورق حول التوزيع العادل
للثّروات وهموم البروليتاريا والرأسمالية البغيضة والعولمة والمبادئ الحقوقية والإنسانية ...
أما الآن ......
ما الذي يجمعني بك يا صديقي ؟ وكيف يكون اليساري يمينيا ؟
بأي المفاتيح فتحت الأبواب لتدخل عالمهم ؟ هل انتصر"بن لادن" على"ماركس" ؟ أم انتصر الجهاد على
الثورة ؟ هل انتصر الحزام الناسف على المسيرات والإعتصامات والإضرابات والعصيان المدنيّ؟ أم هي
البندقية أيا كان حاملها؟
هل ؟ وماذا ؟ وكيف ؟ وأين ؟
.........................
طوي  ت الرسالة وأودعتها  درج مكتبي، واستلْقي  ت على ظهري  مسلّما نفْسي للكسل اليومي...مرر  ت بجهاز
التحكّم إلى الجزيرة القطرية، وهي  تعلن إمضاء "نوري المالكي" رئيس الوزراء العراقي على قرار إعدام
"صدام حسين".
ابتسم  ت ب  سخرية المنتصر،  متهكّما على الحكام أجمعين. سدد الله  خطاهم وحماهم وأرشدهم إلى
الطريق السوي. تلك اية الطاغية أيها البطل المقْدام. وأنت أيها البطل القادم على دبابة أمريكية،
ستحص  د نتائج غبائك، وستعرف أنّ الطغيان نبتة نبتت في صحرائنا العربية. كلّما قطفْت واحدة، نبتت
مكاا نبتة أخرى ... وهكذا إلى أنْ يرث الله الأرض وما عليها .
صباح عيد الأضحى، والكلّ منشغل بما ترك إبراهيم لنا عوض ابنه... قيل نحن شعب لا يأكل
حتى يجوع. وقيل إذا أكلْنا فلا نشبع. و  يشاع نحن شعب كلّما أكل جاع. وإذا جاع استكان، على خلاف
شعوب الأرض جميعا، إذا جاعت انتقمت.
تعبق الشوارع والأزقّة والأحياء، برائحة المشوي. حتى استحالت السماء خرفانا طائرة، تكْفي شعوب
الأرض قاطبة.
رغْم الأعياد العديدة التي نحتفل ا، إلا أا لا  تمثّل عندي الفرح  مطلقا. وخاصة هذا العيد الذي
أطلّ  متثاقلا ومشحونا بالسواد والقتامة، على أنه يوم جميل وهادئ.
لمْ أتبين هذه المشاعر اُلمتضاربة، ولمْ أستطع تفْكيك أيقوناا . فقط حضرت هذا الصباح رسالة
"إيراد" وبغداد وأبو غريب وفلسطين و"لينا" و "ماجدة" و "أبو مصعب"... والخلايا النائمة للتنظيمات
الإسلامية.
تمام الثامنة، كانت القنوات التلفزية  تمرر الفاجعة، ب  صور زلت على صدغي كإسفلْت ساخن أحرق
شراييني.
كانت كلّ القنوات التلفزية،  تمرر لحظة إعدام صدام حسين . بعض اُلملثّمين، قارب عددهم الخمسة أو
ربما أكثر بقليل،  يحيطون به في مكان داخلي، خمّن  ت أنه ُأعد له خصيصا.
دار حوار بينه وبين أحدهم، ربما حول عصابة كانوا يريدون لفّها على عيونه، لئلا  يبصر حتفه. مع
ذلك كان الرفْض يصدح من عينيه وجبهته.
لفّوا الحبل على  عنقه، وأشاروا له ليتقدم حي ُ ث الهوة التي سيتدلّى فيها حتى الموت.
إم  يضحون به فعلا، بمثْل ما أراد أنْ  يضحي إبراهيم بابنه. كأنّ الشعب العراقي، يقول أننا نعيد
للأضحية معناها وحقيقتها.
جاءني صوت شيعي يزعم أنّ إبراهيم ذبح ابنه فعلا، ولمْ  يرسل له الله كبشا بديلا. ولكن الناس
والتابعين، تخيلوه كي لا يذْبحوا أبناءهم. لذلك نحن نصحح تاريخ الديانات، ونعيد الحقيقة إلى
نصاا.
قل  ت له بصوت خفي لئلا يكْتشفوني:
أ ُ كلّ الشعوب ستضحي بحكّامها؟
افعلوا ما  تؤمرون به...اليوم صدام، وغدا "علاّم" وبعده "السابع" وإثره "الفاتح" ... هكذا فقط
ستنفّذون شرع الله.
أيها الوغْد وأمريكا..
لا دخل لها في شؤوننا ... فهل هي من أتت بالحجاج ؟ وهل ذبحت "عثمان" وقتلت
"الحسن" و "الحسين" وأشعلت الفتنة الكبرى.... ؟ بالطبع لا.
فلماذا الآن نحملها أوزارنا؟
............................
قرأ  ت على الشاشة:  مقْتدى...  مقْتدى...  مقْتدى
وقرأ  ت : "هاذي المرجلة"
وقرأ  ت: أشهد أنّ لا إله إلا الله
وقرأ  ت كلاما لمْ  يكتب . والبقية تأتي .......
كأني الآن أقرأ "أنشودة المطر" للسياب أو قصيدة "البراءة" لمظفّر النواب.
مر المشهد اُلمتكرر عبر بوتقة الإبحار إلى الذاكرة .. قلّبته على  وجوهه، ولم  تحلّل مضامينه ولا
فكّت طلاسمه، فألْقته إلى الخارج. غير أنّ المشهد عاد فارضا حبال سطْوته، وشنق الحدث في ذاكرتي
بذات الحبل اُلمعلّق في سقْف الشاشة من الداخل.
أسرعت دمائي حارة في شراييني، تمر بالقلب فتبرد وتتكلّس ... فأشعر أنّ القلب سينفطر.اغتال القلب
نبضه، فبردت أطرافي . وبت أشعر أنّ دمائي صارت حارة، تغلي كآنية بالأناجيل والكتب والشرائع
ففاض الحبر... هي الأار تتقد بما ألقى المغول من الكتب لتمر الجيوش.
أهذا عيد ؟ أهذي المخازي هي الأعياد  تسعدنا، ونحتفل؟
يااااا كم نحتفل؟
لا زل  ت أمام جثمانه أتقبل التعازي من الغيورين والمغمورين والجهلة والخونة والجواسيس والشيعة
والأكراد وآل سعود وآل نبهان وآل سحنون وآل البيت جميعا ...لم يتخلّف إلا قادتنا وساستنا وحكامنا
وولاتنا وملوكنا.... لم يتخلّف إلا هم.
حتى ضحايا "الأنفال" حضروا ضاحكين. وحضر ضحايا "الدجيل" وشعب الكويت، نكاية في البطل
الغبي أو نكاية في الأبطال القادمين.
كان اليوم أشبه بمحرقة ُأعدت لليهود، ولكنها ليست لستة ملايين كما يزعمون. كانت محرقة
أعدت لي وحدي.
وبعد قرن أو أقلّ بقليل، يصبح حرقي قضية قومية، و  يدان كلّ من يشكك في مصداقيتها. وكلّ من يتهكّم
يعد معاديا للسامية و  مدانا بتهمة الإرهاب.
كان اليوم رماديا كأعيادنا قاطبة .. كتاريخنا... كحكامنا... كسجوننا...من فلسطين إلى الصومال إلى
اليمن السعيد ... لشيوخ النفط، لحكام الوحدة والتجديد والتغيير والثورة والنهضة...ولا شيء غير
إعلامنا العابق بالتملّق والسطحية وعرض لحمنا البض الراقص على نغمات "الديسكو" و"الراي"
و"الهيب هوب" ...
وأنت تسمع  ملخص الأحداث الوطنية والعربية في وسائل الإعلام، ينخرك القيء وتنخرك الحمى، من
أوطان لا تحتفل بغير نشرات الرياضة وأخبار الزعماء: قال الملك... عاش الملك ...غير الملك ... قرر
الرئيس ... أما أنا وأنت و  هم، ففي  مستنقع يقْبعون.
أكمل  ت يومي أتابع تناحر الفصائل الفلسطينية حول السلطة، بين حركة "فتح" المدعومة من
حكوماتنا، و"حماس" المتهمة بالإرهاب.
كيف الخروج من هذا الإسفلت الهاجم؟
إما الخمرة أو المرأة أو الكتابة ...
وأما الكتابة، فلا شيء في جعبتي الآن أضمخ به أوراقي . ولا شيء بالمثل يستحق أنْ تكتب له أو عنه.
وإن كتبت... ما الذي ستغيره أيها البطل ؟ لا شيء...
إذن فالمرأة خياري الثاني...
رفع  ت هاتفي الجوال، وبحثْ  ت بين أرقامه عن إحدى مومساتي الجميلات... فتوقّف إصبعي على رقم
"ليلى".
ألو "ليلى"
مساء الخير çava
çava bien
ما الذي دعاك إليّ؟
أريد ليلة معك  تخرجني من هذا الإسفلت ... أنا في حالة نفسية  يرثى لها.
بدون  مقدمات؟
بدون  مقدمات.
( بدلال ) حاضر سيدي ...
لم تدم المكالمة أكثر من دقيقتين، وأسرع  ت إلى أول سيارة أجرة  تقلّني نحو المنطقة السياحية،
حيث اتفقنا على الترل الذي سنترل فيه.
حين وصل  ت، كانت جالسة ببهو النزل تترشف كأسا من "الويسكي"... جلس  ت إليها، وطلب  ت مثل ما
طلبت وسألتها:
لم تترددي هذه المرة كعادتك.
ببساطة لأنّ زوجي في باريس منذ أسبوع.
في باريس ؟ وماذا يفعل في باريس ؟
أخته ستعود إلى تونس في عطلة ... سيتكفّل بمساعدا، باعتبار أنّ زوجها لن يأتي معها... المهم ما
هي أحوالك ؟
دعك من أحوالي الآن ... هيا نحجز غرفتين، وسنكمل حديثنا هناك.
أنا حجز  ت الغرفة رقم 5001 ...
( ضت بعد أنْ أكملت كأسها )
أحجز غرفتك، ثمّ التحق بي .
بعد أقلّ من عشر دقائق، كنا بذات الغرفة 5001 . تمدد  ت على السرير بملابسي، والسيجارة لا
زالت متقدة. فيما خلعت "ليلى" معطفها وتمددت بجانبي، وقد أسندت رأسها إلى صدري.
ألقي  ت السيجارة بإهمال على الأرض واحتضنتها، محاولا أنْ أنفض من ذاكرتي أحداث العالم كلّه. مرر  ت
شفاهي على خديها ورقبتها، فأحس  ت بحبات الرمان تنتفض تحت أصابعي، وتضاعفت حرارة جسدها
حتى ذابت كقطعة سكّر في كأس من الماء.
ولم أنتبه إلى أصابعي وهي تفك أزرار ملابسها، وتنزلق بين تضاريس جسدها. دون أن  تبدي "ليلى"
حراكا، عدا ما ينتفض من جسدها بحكم الغريزة.
كن  ت كانون أمر بأناملي وشفاهي على كلّ حبة من جسدها، حتى انتفضت وديان الرغبة وامتزجت
بالآهات.
قالت وقد أكملْ  ت مهمتي الهادفة، ونزلّ  ت من فوق صهوا الجامحة:
لم أشعر يوما أنني متزوجة، إلا لمّا أكون بحضنك. أما زوجي، فهو بارد كالثلج، كأنه  يفْرغ نزوته بقبضة
يده.
ابتسم  ت ابتسامة ساخرة، وطبطب  ت على إليتها، قائلا:
استحمي الآن قبل أنْ ننزل للعشاء.
ضت عارية، كملاك رسم سرياليا، في اتجاه الحمام . حتى وصلني صوت الماء المنسدل بشهوة على
تفاصيل جسدها.وقد حضرت بذهني قولة غالي شكري: "الجنس علاقة عرضية لقتل الوقت".
"ليلى" زوجة إطار حكومي، يعمل بمدينة مجاورة لمدينتي. وقد قدما من مدينة بالجنوب التونسي .
وزوجها هذا ابن ثري وفّر له والده من المال أكثر مما  توفّره له الوظيفة بعشرات المرات، تربطه رابطة
وثيقة بالعائلة المالكة، وله شؤون يديرها معهم.
وأذكر أا حضرت في إحدى الأمسيات الشعرية، وكن  ت  محملا بمجموعة من الدواوين لبيعها، وبالطبع
لم أبع منها غير خمس نسخ.
لم أكن أعرفها سابقا حين تقدمت مني واقْترحت أنْ  تساعدني على بيع ما تبقّى من الدواوين...
فوافقْ  ت.
سلّمتها كلّ النسخ، مصحوبة بنسخة  مهداة بخطّ يدي، ورقم هاتفي الجوال. واكتشفْ  ت لاحقا أنّ
النسخ اشترتها لنفْسها، وبقيت  تماطلني وتجد الحجج لمقابلتي، فتسلّمني ثمن نسختين أو أكثر. حتى
اتفقت معي على لقاء في أحد الترل، فقابلْتها.
قالت وهي لا تزال واقفة:
هل  تساعدني على إنزال حقيبتي من الغرفة؟
بالطبع.
... ومعي في الحقيبة ثمن بقية النسخ من كتابك.
حين اصطحبتها إلى غرفتها، أغْلقت الغرفة من الداخل، وراودتني على جسدها، فاستسلم  ت لإغرائها
دون أي  مقاومة.
ومنذ تلك اللحظة، صارت لقاءاتنا  متكررة. غير أنني لا أحتاجها إلا متى أطبقت السماء على أنفاسي،
وضاقت الأرجاء بأوجاعي، وحاصرتني المتاهة حتى صر  ت المتاهة فهي من دون نسائي، لا تفْقه شيئا،
عدا بسط رغْبتها على السرير. وهي لا تطلب مالا، ولا  تجادلك في الثقافة ولا في السياسة ولا في الفن
ولا حتى في الملابس والموضة. إا فقط تشتهيني، فأشتهيها  بمتعة لا مثيل لها. وحين تحتاجني تجدني،
وأحتاجها فأجدها... نعم علاقة عرضية ولكنها نفعية تجعلني أتلذذ بالانتقام من زوجها وهي معي..
كأن اللذّة نقمة وليست جنسا. إا النقمة من زوجها الذي يدوس الفقراء بحذائه مع الجشعين
والمتنفّذين. خرجت من الحمام أكثر إغراء، تلف جسدها بفوطة بين أعلى النهد وأعلى الفخذين...
وشعرها الفحمي، ينسدل بسلاسة على ظهرها.
اتجهت إلى المرآة، وقد سحبت علبة التجميل من حقيبتها اليدوية، وبدأت بالشفاه  ترتب عليها لونا
قرمزيا  مشعا زاد في إثارتي.
ض  ت من السرير، واتجه  ت إليها...وقفْ  ت خلْفها ومدد  ت أصابعي لأفك الفوطة. فيما ارتمت شفاهي على
رقبتها المرمرية، فلم  تمانع. غير أا شدت على الفوطة، كي لا أنزعها . وقالت:
ليس الآن ...أخاف عليك أنْ تموت. ننزل للعشاء أولا.
ولماذا أموت ؟ هلْ عندك شك في قدراتي؟
لا ... ولكن اجمع قواك إلى آخر الليل.
بعد العشاء، أكملْنا الليل في العلْبة الليلية التابعة للترل، نرقص بجنون على نغمات كلّ الأغاني،
ونمْزج رغبة الجسد في التحرر بالجعة.
كن  ت أشرب بطريقة لم أعهدها... كي أطرد من ذاكرتي أفكارا  مكدسة كأشلاء الموتى: بغداد على بيروت
على حيفا على الجوع على الرفاق الذين خانوا على...
كلّما سكب  ت في فوهتي كأسا، سقطت فكرة أو حادثة... هكذا حتى الصباح.
صباحا، أفقْ  ت على أصابع الشمس تخْترق البلّور، وتدخل للغرفة. كانت الساعة العاشرة ... لمْلم  ت
أفكاري، فلم أجد "ليلى" . فقط تركت شفاهها عالقة على مرآة الغرفة، بلون قرمزي.
الفصل الحادي عشر
فريضة السعي
أبو مصعب ما زال واقفا بالقاعة الكبرى لمطار باريس كغيره من المسافرين، ماسكا بجواز سفره...
تاركا لحقيبته مسافة من الراحة، كي  تقرفص على الأرض.
يحاول ما استطاع إخفاء دهشته وخوفه من مجهول لا  يمكن توقّعه. كان جواز سفره  مثبتا وية
أخرى، إلا أنه لم يتساءل عن سر تغيير اسمه و ُ كنيته، فهو ليس معلوما عند الأجهزة الرسمية، ولا عند
البوليس الدوليّ، ولم يقم بفعل  يمكن أنْ يتهم من أجله.
مع ذلك لا يهم .....
ما يعنينه الآن، هو المغادرة إلى الولايات المتحدة، حيث سبقه "أمير التوم" و"ميلود عبد القادر".
و يبدو أنّ بقاءه هنا، ومنعه من السفر معهم ربما يعود إلى خوفهم منه. أو ربما كانوا يتوقّعون أنْ
ينسلخ عنهم، ويبقى هنا في "باريس". فهو كثيرا ما أبدى تخوفا و  معارضة لكثير من المسائل التي
ناقشوها. منها تردده في القيام بعمل استشهادي في الولايات المتحدة، تحديدا تفْجير تمثال الحرية.
لماذا تمثال الحرية ؟ لماذا الولايات المتحدة ؟ قالوا أنّ أمريكا هي الشيطان الأكبر، وهي التي احتلّت
بيوتنا وحرضت ولا تزال اليهود على التحرش بنا واحتلال أراضينا. وهي التي نصبت حكوماتنا
الكرتونية، وهي التي .....
أما تمثال الحرية، فهو الرمز الفخري لمبادئهم وقيمهم التي كثيرا ما ينهقون ا، ويعلّقوا على
جباههم ودبابام وطائرام وأسلحتهم... و هم يصدقون.
"الحرية" .... ما معنى الحرية ؟ وماذا تعني؟ ولماذا أمريكا تحديدا لها مثل هذا الرمز الضخم للحرية؟
هل لأا  ممثلتها الوحيدة ؟ هل هي التي تصنع الحرية وتصدرها؟
ما جعلني أقرر المشاركة في هذا العمل النضاليّ، هو رفْضي لأنْ يموت الأبرياء. تمثال مهما كان حجمه
وقيمته، لا يعني شيئا أمام موت بريء واحد ولو كان يهوديا.
لذلك، كن  ت ضد تفْجير أبراج نيويورك، وموت المئات فيه. مع ذلك لمْ أصرح بذلك لأحد من الإخوة،
حتى لا ُأتهم بالردة والخيانة والكفر.
"أما الآن، فتفْجير تمثال الحرية... مهم جدا أنْ  تفجر الرموز. هذا أهم وسأكون أول الفاعلين." علّق
مس.
أنا ما يهمني في المسألة أن أنتقم لوطني و عائلتي و شرفي.
لس  ت اسلاميا و لا استشهاديا و لا مناضلا... فقط أحمل جواز النقمة في جيوبي وشحنة من الغيظ
لأنفّذ حكمي في من شرد أهلي .. حكمي أنا وحدي. لا حكم الله و لا حكم الخليفة.
لهذا انخرطت في هذا التنظيم ... أقول وصل  ت إليه صدفة، وسأتشبث به حتى أحقق انتقامي.
ولو كان التنظيم يساريا لفعلت نفس الشيء، ولو كان بعثيا.. ماجوسيا.. يمينيا.. قوميا.. شوفينيا.. نعم
لفعل  ت نفس الشيء.
أنا باختصار ضد عدوي مع أي عدو آخر، ولأنني أحترم الإنسان، حتى وهو برتبة حيوان، فإني سأنفّذ
حكمي في رمزهم الذي يتباهون به، والذي يعتبرونه رمزهم و كنيتهم و "هويتهم".. إم الحرية بكل
دلالاا، لذلك تمنحهم تلك الصفة أن يفتكّوها من الآخر.
دخلَ صوت دون إذن إلى بوتقة السمع،  يشير إلى انطلاق الرحلة نحو"واشنطن" بعد عشر دقائق.
انحني  ت لأتناول الحقيبة، فيما ازدادت دقّات القلب في الهيجان. وتقدم  ت بخطوات وئيدة، نحو الممر
اُلمخصص لختم الوثائق.
كلما تقدم  ت خطْوة ازدد  ت خوفا ورهبة، وتضاعفت سرعة الدم الساخن في شراييني.
ُأصمد... ُأصمد... فالخوف قد يفْضحك ويورطك.
ُأصمد... ُأصمد... إنْ كشفوك ستكون ايتك واية البقية.
مدد  ت جواز السفر وتذكرة الطائرة، وأبعد  ت بوتقة الإبصار حتى لا تكْشفني عيوني. وبطرف العين
رأي  ت الآنسة القابعة خلْف المكتب،  تحملق فيّ فزد  ت ارتباكا أخفيته قدر ما أستطيع.
انتصبت الآنسة واقفة، وتراجعت إلى الخلف...
تجمدت كلّ دمائي، وتوقّف القلب عن الخفقان وأحسس  ت بصداع ألمّ برأسي، وفكّر  ت في الهروب.
الْتفت خلْفي، فإذا بعشرات من الأشخاص يقفون في تراص داخل نفْس الممر. وأما الهروب إلى الأمام
أشبه بالارتماء في هوة.
لا مكان للتراجع، فما بالك بالهروب، والأمن  يحاصر المطار ويتوزع داخله... شرع  ت في قراءة
سورة"يسِ".
سحبت الآنسة بعض الأوراق من خزانة وراءها، وعادت لتجلس في مكاا... كتبت وختمت، ثمّ
ناولتني جوازي وأشارت براحة كفّها للمسافر اُلموالي. حينها سحب  ت نفَسا عميقا ... بسملْ  ت وحمدلْ  ت
وقرأ  ت أعوذ برب الفلق، وأكملْ  ت طريقي بنفْس الممر، في اتجاه الطائرة بعد أنْ تسلّم  ت حقيبتي من
الجهة الأخرى.
جلس  ت في المكان اُلمخصص لي داخل الطائرة، أعد الثواني والدقائق في انتظار الإقلاع.فأنا لن أطمئن ما
دامت الطائرة لم تحلق في السماء.
و بمجرد أنْ أقْلعت، خلد  ت لنوم لا شبيه له... لم أنمْ منذ سنوات نوما هادئا و  مطمئنا. فالطائرة أكثر
الأماكن أمانا بالنسبة إلى مثْلي.
لا تنتظر أنْ يدخل عليك أحدهم ليعتقلك، أو يقْتحم عليك البوليس أو الجيش مخْدعك، لمّا تكون في أي
مترل أو بيت على الأرض.
أما هنا، فحتى الزلازل لا تطالك .....
لمْ أفق من ُ ذ ربطْ  ت حولي حزام الأمان إلا لمّا تكرر الصوت الذي افتتحنا به الرحلة:
.Fasten your seat belts
ثم بالفرنسية
. Attachez vos ceintures
فركْ  ت عيوني، غير  مصدق أنني في مأمن إلى الآن، حتى وأنا على متن طائرة  معلّقة في السماء، كأنّ النوم
علّمني ما لمْ أكن أعلم ... كأنّ النوم كان محرابا لترول وحيِ لم أتذكّره كاملا .
كأنّ النوم ذكّرني أنني  مهدد بالموت و القتل والاعتقال، طالما أنني لس  ت إلا عربيا.
وماذا يعني أنك على متن طائرة ؟ ألا يمنع الأوغاد من ال  وصول إليك ؟ ألا يمنعهم الدهاء وخبرم
بالتفْتيش من العثور عليك ؟ ومن قال أنهم لمْ يدسوا لك أحد الجواسيس أو الخَونة مع الركّاب داخل
الطائرة ؟
دارت بخلدي الهواجس، حتى أني بت ألْتف  ت  يمنة و  يسرة وإلى الخلْف،  محاولا التعرف على  وجوه
عربية داخل الطائرة.
حطّت الطائرة بأمان على أرض المطار، ونزلْ  ت السلّم  محاولا أنْ ُأخفي خوفا يترقْرق في عيني، ورعشة
كلّما تقدم  ت إلى مصلحة الجوازات تضاعفت.
عبر  ت المطار بأمان رغْم نظرة الشك والريبة التي لاحظْتها في عيون اُلموظّفين، وهم  يكْملون إجراءات
الدخول للأراضي الأمريكية.
لا زلْ  ت بنفْس الممرّ في طريقي إلى الخارج،  محملقا في عيون كلّ الذين تمر م بوتقة الإبصار، علّي
أتعرف على أحد الإخوان الذين سبقوني إلى هنا.
ماذا لو لمْ يسبقْني أحد منهم ؟ إلى أين سأتوجه ؟ ماذا سأفْعل ؟ لا مال ... لا علاقات... ولا برنامج
سطّرته  مسبقا لتفادي هذا المأزق...
حاولْ  ت ما استطع  ت أنْ أمسح وجوه كلّ الواقفين والجالسين والعابرين... دون جدوى. توقّفْ  ت قليلا، علّي
ألْف  ت انتباه أحدهم بتوقّفي ذاك. غير أنّ  محاولتي لمْ  تثمر غير مزيد من القلق.
أكْملْ  ت سيري، كمن يمشي على حبل  معلّق فوق هاوية... حتى وجد  ت نفْسي خارج الباب الرئيسي،
 مصطدما بآلاف السيارات الواقفة واُلمتوقّفة...بضائع  ترفع، وبضائع  تشحن وأخرى يدفعوا أو
يرفعوا إلى السيارات أو الشاحنات...  مندهشا في ذات الوقْت من سيارات التاكسي الفارهة، الشبيهة
بسيارات كبار الشخصيات عندنا في العراق.
أذْكر أنّ سيارة رأي  ت شبيها لها في العاصمة "بغداد" في ذكْرى أحد أعياد الثورة. وقال أحد اُلمرافقين لي
وكان من كوادر حزب البعث أنّ راكبها هو من عائلة قائد الحرس الثوري العراقي . يااااه ما أشبه
اليوم بالبارحة ... تحول  ت من مواطن عراقي حر، إلى مواطن احتلّوا أرضه، ومنها إلى مواطن يدخل
أراضي الدولة التي احتلّت وطنه، ولماذا ؟
بدعوى الانتقام...
لا م الوسيلة والطريقة والطرق ... المهم النتائج والغايات.
أفهم دواعي "أمير التوم" و "ميلود عبد القادر" وبقية الإخوان الذين يعتنقون إيديولوجية تنظيم
القاعدة، لكنني لا أتبناها وإنما أنضوي تحْتها، طالما أنّ أهدافها تصب في ما أسعى إلى تحْقيقه.
لا زالت عيناي تمْسح ناطحات السحاب والشرفات والسيارات الفارهة والنساء العاريات والشوارع
الزاخرة بالحركة والنظام.
لمْ أجد ما به أشبه أي معلم من هذه المعالم، مع نظير في العراق وسوريا، وحتى "باريس " التي مكث  ت فيها
أسبوعين لمْ ترتقِ شوارعها ونظامها إلى مستوى العاصمة الأمريكية.
أنخْ  ت حقيبتي على الأرض، وبقي  ت واقفا أحملق في المارة والسيارات ... أشعلْ  ت سيجارة لمْ يكن مسموحا
لي أنْ أشعلها داخل المطار.
حين نفث  ت دخاا بعد النفس الأول، اقْترب مني أحدهم ولمْ تكن ملامحه شرقية.. مع ذلك كلّمني
بلغة عربية أشبه باللهجة المصرية:
السلام عليكم.
( بانتباه وحذَر ) وعليكم السلام.
أبو مصعب... أليس كذلك ؟
( حملقْ  ت فيه وكد  ت أنْ أنكر اسمي الذي لم يكتب على جواز السفر )
نعم ... أنا ...هل ؟ من أنت ؟ هلْ ؟
( ابتسم )
انحنى على الحقيبة يرفعها، وكد  ت أمنعه.غير أنه أردف ابتسامته بكلمة السر اُلمتفَق عليها، قائلا:
التمثال... التمثال، أليس كذلك؟
حينها ابتسم  ت بغبطة حاولْ  ت إخفاءها، وارتمي  ت عليه لأحضنه بفرحة من مدوا له حبلا، وهو
داخل هوة عميقة.
وسألْته:
الإخوان بخير؟
ارتبك، وهو  يفتش ببصره عمن  يمكن أنْ يكون  يراقبنا. ووضع يده على فمي،  محاولا إخماد صوتي،
وقال:
لا تتكلّم  مطلقا ... علينا  بمغادرة المكان.
عبرنا الشارع إلى الضفّة الأخرى، حي ُ ث تربض سيارة خفيفة، سارت بنا إلى مكان في حي صغير
خارج أحواز العاصمة.
المترل على صغر مساحته، أجمل بكثير من واجهته الخارجية.
تتوسطه غرفة جلوس بأرائكها و إكسسواراا، كأنه ُأثّثَ لاستقبال عروس. دخلْ  ت على الجماعة،
فاستقبلوني بالأحضان . فيما لاحظْ  ت بعض القوارير والأكياس  مبعثرة عل زربية تتوسط قاعة
الجلوس... فهم  ت أنها اُلمخصصة لتنفيذ الخطّة.
كان "ميلود عبد القادر" و "أمير التوم"  يعالجان تلْك المواد والقوارير، دوء لا مثيل له. فيما كان
ثلاثة شبان لمْ أتعرفْهم،  يتابعون اُلمشاهدة و المساعدة.
حين انضممت إلى الإخوان، قدمني "أمير التوم" لهم، بعد أن انتبه لملامحي قائلا ،  مقدما لي الجماعة:
هذا الأخ "أبو بكّر الشوكاني" من السعودية... و هذا الأخ "سمير خطّاب" من مصر... و هذا الأخ
"صالح العريض" من تونس... وكلّهم شباب جاؤوا لنصرة الإسلام والانتقام من الكفرة.
قل  ت دون أنْ أحدد مشاعري:
الحمد لله.
فهم  ت بعدها في الجلسات اُلمتتالية، أنّ الإخوة الثلاثة وأنا رابعهم، سنتولّى تنفيذ العملية، ضد
تمْثال الحرية الرابض على أنفاس البشرية منذ قرون.
هذا الحجر البارد منه وعبره، تمر الوصاية والاحتلال وقمع الشعوب وإسقاط الحكومات ...ودائما
تحت يافطة الحرية وحقوق الإنسان. فيما لم تشفع للإنسانية دساتيرها الوضعية والسماوية
والتشريعات الحقوقية، كي  تحقّق أمنها وسلْمها.
لا بد إذن من ضرب كلّ رموز الطغيان والفجور والقمع... التي أقْنعونا أا تمثّل قيما ما. تماما ككلّ
التماثيل اُلمنتصبة في شوارع العالم قاطبة، وشوارع الدول العربية التي  تكرس  حكم الفرد وتأليه
الحاكم. حتى يأتي آخر فيقْلع ما سبق، ويغرس تماثيل أخرى.
كان تمثال الحرية "الإله الأكبر" أو رب الآلهة جميعا. وأنّ التماثيل الأخرى المنتصبة في ساحات
عواصمنا ليست إلا آلهة صغيرة تأتمر بأوامر الإله الأكبر.
و رأيت فيما يرى النائم أنّ الإله الأكبر كلما أسدل الليل ستاره على العواصم ينفض تكلّسه، ويترل من
منصته تلك في اتجاه العواصم العربية ليتفقّد الآلهة الصغيرة التي تبقى ثابتة دون حراك. فيهددها
ويأمرها ويلقّنها بالسوط حينا وبالصراخ و بالوشوشات وبالركل وبالصفع... وأنه الرحيم و العظيم و
القادر والنافع والضار... وبرحمته  يطبطب على خد هذا الإله الصغير أو يربت على كتف ذاك أو يمسح
على شعر الآخر... و هكذا إلى أن يكمل جولته في كلّ العواصم، ليعود إلى منصته الرخامية الباردة
مطمئنا لتطبيق الآلهة الصغيرة أناجيله و صحفه.
الليلة الفاصلة بين 31 ديسمبر و 01 جانفي، هي الليلة الحاسمة ... ليلة التنفيذ... ليلة الشهادة ...
ليلة الانتقام... لي وللإخوان ولزوجتي وعائلتي وأمتي و شعوب العالم الإسلامي قاطبة.
 منتصف النهار تماما، كانوا يجلسون جميعا في قاعة الجلوس يتلقّون آخر التعليمات.
مرر "أمير التوم" أصابعه على لحيته الكثيفة التي جعلت "أبا مصعب العراقي" يستغرب من السماح له
بدخول التراب الأمريكي، وهي  توشي وجهه النحيف ... قال:
بسم الله الرحمان الرحيم... سننفّذ على بركة الله شرع الله. وقد نذر الإخوان "أبو بكر" و "سمير"
و "صالح" أنفسهم للشهادة.
(  مشيرا إلى أحزمة ناسفة،  ملقاة على الزربية المفروشة تحت أقدامنا )
هذه هي أدواتكم ... حافظوا على هدوئكم ولا ترتبكوا واذْكروا الله كثيرا. أذكّركم أنّ من  يخطئ أول
مرة، يكون قد أخطأ للمرة الأخيرة.
( وجه كلامه "لأبي مصعب" )
أما أنت، فسيكون سلاحك السيارة اُلمفخخة... ما عليك إلا أنْ توقفها في ساحة التمثال على  بعد عشرة
أمتار وتنزل منها قبل الوقْت المحدد بثلاث دقائق... ثلاث دقائق كافية بأنْ تكون بعيدا عن مكان
الانفجار.
سأل "أبو مصعب" مستفْسرا:
وما هو الوقْت اُلمحدد ؟
التنفيذ سيكون منتصف الليل تماما ... وما عليك إلا  مغادرة السيارة قبل ذلك بثلاث دقائق.
مع ذلك أقول، ستكون السيارة رابضة على  بعد ألف متر من الهدف...قبل عشر دقائق تتحرك بالسيارة
إلى المكان . توقف  محركها، وتنزل دوء تام كأنّ شيئا لم يكن.
( موجها كلامه للجميع )
لا تخافوا، كلّ الأمور مدروسة بدقّة، حتى السيارة التي سننفّذ ا العملية، هي عبارة عن تاكسي، لا
تلْف  ت الانتباه.
أكمل "أمير التوم" حديثه، ثمّ أسند ظهره إلى الأريكة بقلق أخفاه عن الحضور، قائلا :
من له ملاحظة أو سؤال ؟
علّق "ميلود عبد القادر":
لا بد من التأكيد أنّ التنفيذ بعون الله، يكون في نفْس التوقيت... "أبو مصعب" تحت التمثال. و
الإخوان "أبو بكر" و " سمير" و "صالح" في الساحة العامة حي ُ ث  تقام الاحتفالات بمولد المسيح.
(  متداركا )
نسي  ت أنْ أقول أنّ الأخ "سليمان" الذي استقْبلكم في المطار، هو الذي سينقلكم تباعا إلى الأهداف
اُلمحددة.
( سحب حقيبة يدوية وتناول منها أربع ساعات يدوية، وزعها على"أبي مصعب" و "أبي بكر" و "سمير"
و"صالح" وعلّق )
دقّقوا التوقيت جيدا... ضبطوا عقارب ساعاتكم على نفس الدقائق. نسبة الخطإ لا  يمكن أنْ تتجاوز
الثانيتين.
ثبت الإخوان ساعام في معاصمهم ووقفوا مستعدين. فيما تدخل "أمير التوم":
نرجو من الله العزيز القدير أن  يثبت  خطاكم ويحميكم ويتقبل أعمالكم. والآن استريحوا لمدة
ساعتين، قبل أنْ نسجل رسائلكم على أمة الإسلام، ل نوزعها بعد أنْ ينصركم الله.
دخل أربعتهم ليناموا، أو ربما ليتهيأوا للحظة الحسم.
فيما تفرغ بعضهم لتلاوة القرآن.
ساعة واحدة، كانت كافية ليخلد الجمع للنوم. فيما لا يزال الشيخان في قاعة الجلوس يوزعان الكلام
ويدرسان الخطط اللاحقة. ليس مهما الهدف، بقدر ما م النتيجة الصاعقة على نفوس الكفرة و
الأعداء و الشياطين وعلى عقولهم...
إذن، هل يكون الهدف القادم "باريس"؟ أم "لندن"؟ مدريد؟ برلين؟ أم ربما إحدى العواصم العربية ؟ من
يدري، فالأحداث القادمة ستحدد الهدف القادم.
مع أنّ " أمير التوم " يفضل الأنظمة العربية وعواصمها. فهي الأقْرب والأخطر من جيوش تغزو شعوبا
من الخارج. فالغزو قابع فينا، كذا القمع والإرهاب وإفقار الشعوب والخروج عن الملّة والدين.
ما زالا يتجادلان بمرجعيات الشيخ "أسامة بن لادن" وأحداث العراق وفلسطين وأفغانستان ...كأما من
سيغير الخارطة والحكومات والأنظمة.
فجأة، ُ طرِق البا  ب ثلاثا... طرقات خفيفة متتالية.
رد "ميلود" دون أنْ تظْهر عليه علامات الارتباك والريبة. فهي طرقات "سليمان":
من...؟
التمثال.
لحظة... سأفْتح.
اتجه "ميلود" نحو الباب ليفْتحه... مد يده للقفْل أداره وسحب الباب، فاصطدمت زاوية رؤيته
"بسليمان"  محاطا بعناصر ملثمة، من القوات الخاصة الأمريكية،  مدججة بأسلحة آلية كافية لدك
الآلاف في لحْظة واحدة... ارتموا إلى الداخل  مسرعين، وتولّت فرقة منهم شلّ حركة "أمير التوم" و
"ميلود عبد القادر".
لم تمض ثوان قليلة، حتى أخرجوا "أبا بكر الشوكاني" و "سمير خطاب" و"صالح العريض"،  مثْقلين
بالقيود وقادوهم جميعا إلى جهة غير معلومة.
المشهدالأخير
الرسالة الأخيرة
ليلة السنة الإدارية الجديدة، كن  ت ممددا على سريري مثبتا بصري على الشاشة الصغيرة، و  مثبتا
سبابتي على جهاز التحكّم  مغيرا وجهة اُلمشاهدة من قناة إلى أخرى، أتابع احتفالات الشعوب بأعيادها.
واحتفالات شعوبنا بأعياد الآخرين.
كان البذَ  خ والفوضى واُلمجون والطرب و .. سيد الأشياء ليلتها.
الصور تنقلك من "باريس" إلى "لندن" إلى "بون" إلى"روما" إلى "أثينا" إلى ... وقنوات إخبارية تنقلك
إلى"غزة" أو "بغداد" أو "الأعظمية"... حيث الموتى و الإنفجارات والاغتيالات والرصاص... الموت هنا
سيد الأشياء.
أحدهم يبني حياته بالفرح، وآخر بالحزن والموت يؤسس لحياة قادمة... أي  مفارقة ؟؟؟
فجأة، نقلت إحدى القنوات الإخبارية خبر الكشف عن مجموعة لتنظيم القاعدة، حاولت أنْ  تنفّذ عملا
إرهابيا داخل الأراضي الأمريكية. ومررت نفْس القناة تمثال الحرية وهو شامخ مبتسم ساخر، كأنّ على
رأسه الطير... أقدامه هناك، ويده الممدودة إلى أعلى تطال سماءنا.
لحظتها فقط، حضرت رسالة "إيراد الحاج"، فسحبتها من كوم أوراقي لأقرأها من جديد:
"بسم الله الرحمان الرحيم
لن أقول رفيقي هذه المرة ... أقول أخي في الإسلام.  متمنيا من الله سبحانه وتعالى، أنْ يهديك إلى
طريقه المستقيم / إلى الإسلام.
و بعد: بعون الله وبفضله نوشك أنْ نحقّق شرع الله في أرضه. ستسمع قريبا ما  يحقّقه الإسلام على
أرض العدو.
أنا لم أستطع مبارحة سوريا لأحج مع الإخوان إلى نيويورك، ولكنهم حتما بعون الله سيحققون ما يحلم
به و يبغيه كل مسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
توقّفْ  ت عند "أخي في الإسلام" و "نحقّق شرع الله في أرضه" و "أرض العدو"....
أيكون هذا الخبر هو ما حكته الرسالة؟
ارتبكت  مخيلتي، وتماهى تفْكيري مع الفوضى والارتباك ... لم يعد بإمكاني أنْ أفكّر في شيء عدا
اللا  مفكّر فيه.
إذن، ماذا تبقّى ؟
سحبت سيجارتي أشعلها، وترك  ت عود الثقاب يتقد كأنه النار المثبتة في المشعل أعلى تمثال الحرية...
كانت النار براقة وحادة في حمرا وغضبها.
مددت الرسالة بيدي الأخرى، وتركتها تستمتع بلهيب الغضب، حتى سقطت رمادا على الأرض. كدت أرى
تماثيل عديدة تسقط، فيما لا يزال تمثال الحرية ينتصب ساخرا، شاهرا مشعله كمدفع في وجوهنا.
قصور الساف
ربيع 2010
صدر للكاتب:
* "عودة الشعراء " ( مسرحية ) دار الإتحاف للنشر/ سليانة أفريل 2002
* " ذاكرة الألوان " ( رواية ) دار سيبويه للنشر/ المنستير 2006
*عاطل عن العشق ( مجموعة شعرية) دار إنانا للنشر ديسمبر 2010
* وصية الوردة ( ديوان شعري صوتي CD ) الشركة التونسية للف والطباعة سبتمبر 2010 .
* سلسلة جدل الآن: عن قضايا الديمقراطية و المثقف (كتاب جماعي) دار البراق سوريا 2002
* " الهوية من منظور مختلف ": (كتاب جماعي/ سلسلة الفكرية ) دار صامد للنشر /صفاقس أفريل 2009
* " ديوان الثورة ": أنطولوجيا شعر الثورة التونسية من إعداد محمد البدوي، دار المسار للنشر والتوزيع / تونس 2011