المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وقائع ليلة السحر


AshganMohamed
01-15-2020, 01:32 AM
رواية

تيسير نظمي
2004
وقائع ليلة السحر
1- في وادي رم
المكان
وادي رم غارق بجباله ورماله الصحراوية الناعمة بالظلام الحالك ، والسماء احتفالية بملايين النجوم ، بعضها قريب جداً من لمح البصر، والآخر صغير جداً يسعى منذ ملايين السنين سابحاً في الفضاء يغذ الخطى نحونا ، في حين أن نجوماً أخرى غطست واختفت عن كل الإمكانيات العلمية غير القادرة على تحديد أماكن غطسها الفضائية بحواسيب السنين الضوئية، مما يدلل أن الكون ليس له آخر، هنالك مئات النجوم التي تركت لنا ضوءها ونراها رغم أنها حسب ممكنات اللغة البشرية يقال عنها أنها (ماتت) وبالمقابل فإن مئات أخرى من النجوم أرسلت ضوءها لنا قبل أن تصل إلينا سابحة بسرعة عجيبة في الفضاء نحونا، وهكذا يصعب في لغتنا تحديد النجوم( الميتة) من النجوم التي (تولد) في الكون الذي ، حسب النظريات العلمية ، يزداد اتساعاً ، كل رمشة عين.
الحدث
كائن فضائي غريب عجيب يهبط خلسة ، بخفة متناهية في وادي رم قبالة المرتفع الجبلي الذي وضعت على صخوره آلات موسيقية ضمن احتفاليات مهرجان جرش الـ23 لصيف عام 2004 بعد الميلاد ، في العتمة الحالكة وفي السكون الصامت كالموت اختفى الكائن الفضائي تماماً فلم يعد ممكناً تحديد مكانه إن كان بين شقوق وأخاديد المرتفعات الصخرية المنحوتة كالألواح السومرية أو المتشكلة كألواح موسى وكتابات التوراة ومخطوطات البحر الميت أو في الرمل الناعم الذي ورثه وادي رم من المحيطات والبحار القديمة التي جفت قبل أن يجف النفط بملايين السنين.
الركاب
1- مسئولة الرحلة المكلفة من قبل إدارة مهرجان جرش السيدة - شقيقة الفنانة التشكيلية التي كانت في تلك الفترة تقيم معرضاً لإنتاجها الفني في المركز الثقافي الملكي ووالدة الفنان العازف الموسيقي المسؤول عن فرقة وادي رم الموسيقية-.
2- صحفية من أمانة عمان تنشر في (الرأي) الأردنية و (القدس العربي)
3- ثلاث شاعرات أجنبيات الأولى من رومانيا والثانية من ايرلندا والثالثة من أسبانيا وأسماؤهن على التوالي: روديكا – شيند –جوزيفا.
4- شعراء عرب وصحفيات عربيات من لبنان وسوريا ومصر والأردن ، يذكر من المشهورين منهم أحمد الشهاوي الذي يعمل في جريدة الأهرام المصرية وخفيفة الظل هيام الحموي التي عملت لإذاعة مونت كارلو، ومنذر مصري شقيق القصيدة مرام المصري التي لم تحضر ذلك المهرجان وأمجد ناصر مدير تحرير(القدس العربي) وآخرون من(الرأي) سابقاً ومن(الدستور) و(العرب اليوم) الصحف الأردنية المعروفة حتى تاريخه.
5- سائق الباص وشخص لم تتحدد صفته تماماً لا الإدارية ولا الوظيفية ولا الفنية لكنه ظل طوال الرحلة من عمان لوادي رم يجلس بجانب الشاعرة والمترجمة والباحثة روديكا أستاذة الأدب العربي في جامعة بوخارست ولها ملامح عربية أو يونانية لا تحيلك إلى شمال ووسط أوروبا على الإطلاق مثل شيند الشاعرة الأيرلندية التي لا تجيد اللغة العربية والسريعة الاندهاش بالمكان والزمان.
الوقائع الممكنة والمرفقات
توقف الباص السياحي المكيف عند غروب الشمس في نقطة استراحة على مدخل وادي رم وترجل منه الركاب لقضاء حاجاتهم قبل أن تنقلهم الجيبات – حوالي ثمانية – على ظهروها المكشوفة لسماء لم تتضح نجومها بعد ولجبال صخرية تقف في العراء الرملي الصحراوي لم تتكشف منحوتات الزمان على صخورها للمشاهدين بعد . الشاعرات الأجنبيات الثلاث والشخص أقلهم بيك أب واحد يمخر الرمال ويثير الغبار من حوله كبقية الوانيتات – جمع بيك أب أو جيب- التي تراكضت في عجاج واحد نحو المكان المحدد والخيمة المنصوبة لاستقبال أفراد الرحلة في أسفل الجبل المعد خصيصاً لملأ الصدى بالموسيقى والأحاديث الشاعرية الهامسة. شيند هتفت لدى مشاهدتها لأول جمل في حياتها بفرح طفولي: Baby camel ، مما أضحك الشخص، أما جوزيفا الأسبانية ذات الملامح التي تذكرك بمن تبقى من العرب في الأندلس فبقيت صامتة ولكن بعيون يقظة مفتوحة على المشهد مستقبلة بين الحين والآخر حديث روديكا معها باللغة الفرنسية أو حديث شيند المنشغلة بدهشتها الدائمة. جوزيفا وجدت ما يعوضها عن التحدث بالإنجليزية أو العربية في كاميرا صغيرة شرعت تلتقط بها الصور للمكان وزملاء الرحلة. روديكا والشخص يتبادلان عبء العناية بالمياه المعلبة بالبلاستيك ولا يكفان عن الضحك لأسباب مجهولة تثير فضول من لا يضحك أو مشاعر من ليس لديه القدرة على الضحك أو الإضحاك.
العشاء ما قبل الموسيقى
ترجل الجميع من الجيبات- العربات الصغيرة- متجهين بأمتعتهم نحو الخيمة – بيت الشعر – تشغل جلبتهم وفضول بعضهم للمكان هدأة الصمت الذي أضاءته قناديل غازية ورائحة الشواء على الفحم وطاولة متواضعة لتناول المقبلات. انشغل الجميع بتناول طعام العشاء وتبادل المشورة والصحون واستقبال النداءات في هدأة ليل استثنائي. البعض شرع يخرج من الخيمة متسلقاً مرتفعاً رملياً يسلبك حذاءك إن لم يكن مكيناً ومعداً للرحلات من فرط نعومته التي تنغرس بها الأقدام وتسلبك بعض خطواتك للأمام فتتعثر في رمل ناعم لا مكان فيه لكائن فضائي لا تلحظه العين. النداءات بدأت تتعالى على أسماء متباينة اللهجات واللغات واللكنات كي لا يفقد أحدهم الآخر. هكذا كنت ستسمع:
- شيند أين أنت؟
- روديكا هل لديك ماء؟
- هل شربت بيبسي؟
- أشباح من تلك التي اختفت؟
- أرجوك لا تزعجنا بضوء الموبايل ؟
- هل من أحد لم يأكل بعد؟
وفجأة بدأ رذاذ الموسيقى يتساقط خفيفاً مع صوت يشبه الأنين الغامض لسحر خليفة قادماً من أزمنة سحيقة موغلة في القدم. بدأ يصحو المكان في أوقات يفترض فيها أن يكون نائماً في سابع نومة، وبعمق التاريخ ظل سؤال شيند للشخص دون إجابة عندما زل لسانه قبل قدميه في الرمال متذكراً سيزيف مع كل إطلالة جبل صخري . وما كانت روديكا في حاجة لأن تسأل عن بروميثيوس حيث كانت تتبادل مع الشخص نفس القداحة ، ومع إشعال كل سيجارة في عراء النسيان ربما كانت جوزفينا فقط بحكم أنها لم تتكلم بعد ولم تلتقط ما يكفي من الصور بعد ولم تلق بأشعارها في مركز الحسين الثقافي بعد، بحاجة لتفهم السيد بلوم أو التحليق عالياً في فضاء ستيفن ديدالوس مستدلة بين الحضور على دون كيشوت أو مستفسرة من شيند عن دبلن أو عن تاريخ فقدان سانشوبانثا الطيب إن هو دفن في قرطبة أم غرناطة أم في مكان آخر من الجزر اليونانية أم أن رذاذ وزخات الموسيقى تناهت إلى مسامع السيدة مور في كهوف مارابار الهندية فخرجت عن صمتها الأبدي لتقول كلمتها الأخيرة للسيد لورانس العرب ، لكننا لم نعلم عن كل ذلك شيئاً برغم استمرارية صدور الصحف الأردنية بل والتي زادت جريدة جديدة خامسة ويومية بعد أيام قليلة من تلك الرحلة. أما ما يدعى بالفضائيات فقد كانت منشغلة تماماً بالأرواح التي تزهق في العراق وفي فلسطين وفي أماكن أخرى على سطح هذا الكوكب الصغير.
وبرغم افتتاح الشاعر محمود درويش لمهرجان الشعر ذلك العام ذلك الصيف وانشغال اليونان الحديثة بالاستعداد للأولمبياد ففي تلك الليلة ما قبل إغلاق الحكومة العراقية لمكتب قناة الجزيرة في بغداد وتصريحات رامسفيلد ، تضاربت الأنباء واختلفت الأقاويل عن اللحظات الحرجة التي كادت فيها إسرائيل أن تستخدم أولى قنابلها النووية لولا لحظات من ضبط النفس خشية أن تكون الصين على علم هادئ صبور ويقظ بصحوة فينجانز أو بوصول الكائن الفضائي الذي تم اختطافه منذ حضارة السومريين أو بالكائن الفضائي المتخفي منذ زيارة سيدنا إبراهيم لبيت نينورتا قبل أن تصبح أورشليم أوالقدس وقبل ظهور أول آلهة الكنعانيين ورفرفة أشرعة الفينيقيين باتجاه المدينة التي منحت فيما بعد اسم أثينا القديمة من مفردة بابلية، أي للتوضيح فقط ما قبل تسمية إحدى مناطق عمان بطبربور، وبكل تأكيد ما قبل الزلزال الذي أصاب المنطقة في أواخر العشرينيات من القرن الماضي وما قبل الجرف القاري الذي خسف منطقة البحر الميت وما قبل تسرب مخطوطاته لخزانة إسرائيل السرية أواسط القرن العشرين. في تلك اللحظات الحرجة ما بين الفضاء الكوني غير المحدد والمكالمة الهاتفية الخلوية التي التقطها الكائن الفضائي بين مسئولة الرحلة ومدير المهرجان كادت تقع الكارثة باصطدام كوكب مجهول بكوكب الأرض لولا تدخل آخر من تبقى من حضارة المايا في الأمر حرصاً على ما تبقى من حضارة كريت. ولولا أن المعلومات حتى تلك اللحظة لم تكن واضحة تماماً للسي آي إيه لحدث لوادي رم والأغوار الجنوبية والعقبة ما حدث لهايروشيما وناغازاكي وأفغانستان والعراق، فما الذي حدث تقريباً أثناء عزف فرقة رم لموسيقاها ؟ هذا ما تضاربت حوله الأقوال.
الرواية الثالثة
توجهنا بالسؤال للصحفي الأردني المقيم في لندن عن مجريات الأمور في تلك الليلة فقال أن كل شيء كان اعتيادياً وأن الأمسية الشعرية التي كان مقرراً لها أن تنعقد في مساء ذلك اليوم تم تأجيلها لحين التأكد من توقيت "عودتنا" من رحلة وادي رم إلى عمان حيث كان على جدول تلك الرحلة أيضاً أن نزور البتراء في طريق "عودتنا" من الليلة التي نباتها في وادي رم فتم تأجيل الأمسية الشعرية التي كان يفترض أن تلقي فيها روديكا قصائدها لليوم التالي لأننا وصلنا متعبين إلى عمان في وقت يتجاوز الرابعة مساءاً بتوقيت الأردن وأوضح قائلاً:
أيضاً كان لدى روديكا الرغبة في إلقاء قصائدها في بيت الشعر الأردني لعلاقته بالمكان في إحدى قصائدها وتم تحقيق ذلك لها خلافاً للمكان الآخر الذي تنعقد فيه باقي الأماسي في مركز الحسين في أمانة عمان.
الرواية رقم 22
أحمد الشهاوي – من مصر – أكد من جانبه الرواية الأردنية السابقة وأضاف أن مغادرة روديكا للقاهرة ، بعد الرحلة و بعد إلقاء قصائدها، كانت وفق التزامات مسبقة بعمل يخصها قبل عودتها من عمان إلى بوخارست . وعن تلك الليلة قال:
الغالبية سهرت حتى الساعات الأولى من الفجر لكن الشخص ربما كان آخر من لم يستطع الإغفاء تلك الليلة حيث سألته إحدى الصحفيات اللبنانيات إن كان سيحضر حفلة نانسي عجرم هذه السنة أم لا وكانت إجابته لطيفة عندما أدرك أن عينها جافاها النوم وأن سؤالها لمجرد قطع المسافة ما بين السهاد والإغفاءة ومن المحتمل أن تكون قد غفت السائلة قبل أن يدرك الشخص النوم.
الرواية رقم 25
هيام الحموي ضحكت وضحكت من احتمال ظهور الكائن الفضائي تلك الليلة ولو للحظات او ثوان كانت فيها منشغلة التفكير بنكتة جديدة تبادلتها مع الشخص الذي كان منتبهاً لرياضتها الصباحية بالتمشي أمام الخيمة حيث أن الشخص نهض أيضاً من الاستلقاء في مكان يمكنه من حراسة أفراد الرحلة النائمين أو النص نص أو الغافيين أو الحالمين فألقى عليها تحية الصباح والتقطت له صورة وهو جالس على حجر مثلما التقط لها بكاميرتها بعض الصور ومن خلفها بدت جبال رم في هدأة الصباح الباكر قبل أن تظهر الشمس الحارقة وبعد أن اختفت كل النجوم ووضحت السماء الزرقاء.
الرواية رقم 13
صحفية رفضت ذكر اسمها قالت سمعت مدام (...) رفضت تحديد الاسم أيضاً تعتذر من الشخص وهو منكسر تماماً وربما حزين جداً ولا أدري لماذا . ولم يعتذر الشخص أبداً عن أي شيء فقد سمع الاعتذار منها وظل صامتاً وربما كان منصتاً للموسيقى وربما لم يكن، لأنني لمحته ،قبل أن تأتيه بمكالمة من هاتفها الخلوي لتسمعه الشخص الآخر على الخط ، يرقص صامتاً ووحيداً مثل شبح في الظلام رقصة غرائبية كأنه كان يحاول الصعود ثانية للسماء قبل أن يلقى به على الرمال سابحاً في صمتها.
الرواية رقم 18
شاعرة رفضت ذكر اسمها أيضاً أكدت الرواية رقم 13 وأضافت: المدام هددت على مسمعي بالاتصال بمن يأتون ليعيدوه إلى عمان وقد اتصلت فعلاً بمدير المهرجان تبلغه أنه يقوم بإزعاج المشاركين المدعويين وهذا ما لم يحدث فقد كنت على مقربة منه وكل ما بدر منه أنه ربما تفاعل مع الموسيقى بطريقته الخاصة فلاذ بمساحة صغيرة من الرمل ليرقص صامتاً ويلف كما تلف الكرة الأرضية لكنه بكل تأكيد كان على مقربة من نجوم السماء الواطئة وخلف المدام بأمتار بمساحة القبو الذي كان يسكنه وطمرته الوحول ولو لم تلتفت المدام خلفها لما لحظته أبداً حيث كانت منشغلة بمتابعة الموسيقى في الجبل قبالتها ربما بعينيها أكثر منه بأذنيها وعموماً ليس من اللائق أن أعلق بشيء على ما حدث فأنا ضيفة على المهرجان وعلى البلد ولكن مثل هذا التصرف نادراً ما يحدث في بلادنا لأن الشخص لم يأت بما يستدعي التهديد والوعيد ولا تلقيه مكالمات التهديد الناعم ولا ما يستحق الاعتذار وأظن أن المهرجان بدأ افتتاحه بقصيدة "لا تعتذر عما فعلت" فهل يعتذر الرجل في بلادكم عن الرقص؟
الرواية رقم 15
صحفية لبنانية تتحفظ على ذكر اسمها حالياً وخاصة خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين قالت بانفعال: لم أدرك مغزى ما حصل تلك الليلة في تلك اللحظات الحرجة إلا عندما قرأت كتاباً في تفسير الأحلام وآخر في تناسخ الأرواح وبت الآن مقتنعة أن روح أنطوني كوين حلّت في ذلك الشخص في تلك الليلة في تلك الساعة لهنيهات معدودة ثم عادت للسماء وعندما شاهدت أفلام أنطوني كوين أصابتني الحيرة مما أدركته فجأة بعد فوات الأوان فقد تهيأ لي أيضاً أنها ربما لم تكن روح أنطوني كوين تلك التي حلّت بجسد الشخص ليلتذاك وإنما روح عمر المختار أو روح زوربا اليوناني لا أدري فأنا لست مدعية ثقافة وسينما وقراءة كتب، بحكم السن ربما.. لكن قولوا لي لماذا كل هذه التساؤلات فقد قضينا في بلدكم أوقاتاً جميلة نتمنى أن تتكرر؟ فقلنا لها أن الأمر بات أخطر ما تظن وأن بعض الفضائيات التي وصلتها بعض التقارير الإخبارية طلب منها عدم بثها الآن لحين تسوية بعض الأمور وتعديل بعض الفقرات وشطب فقرات أخرى.
رواية رقم 2
أجهزة رصد الزلزال سجلت تلك الليلة ترددات غير عادية أمكن حصرها فيما بعد بين مفاعل ديمونا وإيران شرقاً ومنطقة جبال عسير جنوباً ومنطقة المكتشفات الأثرية في لبنان شمالاً أما هواة علم الفلك فقد لاحظوا هم أيضاً تحركات غير اعتيادية بين النجوم تقول عرافة عنها أن لها علاقة بسيرة حياة العراقي سمير نقاش الذي توفي في بتيح تكفا ذلك الشهر وتشرح أن روحه الطاهرة أربكت ما هو متفق عليه من مسافات بين بعض الكواكب نتيجة لسيرة حياته التي خلت من أية زيارة لوادي رم أو جبال عسير أو البتراء أو حتى تل العمارنة وبعض الكهوف المحاذية للبحر الميت.
وتقول تلك العرافة أن بعض الأرواح التي تتآلف دون أن تلتقي على هذا الكوكب تحاول إحداها أن تقول كلمتها الأخيرة قبل الحلول لروح أخرى تكاد أن تزهق، وأن التشابه ما بينها في العذابات يملي عليها الوفاء كل لما شابهه من الأرواح حتى لا تبقى كل واحدة معزولة عن الأخرى قلقة وحائرة للأبد دون أن تخلد خلودها النهائي في السكينة والظل، الأمر الذي- حسب العرافة – قد يتسبب ببعض الكوارث عندما تتدخل بعض الأرواح الشيطانية في الأمر، وتقول العرافة عن الكائن الفضائي الذي قيل أنه هبط في عتمة وظلام مرتفعات الوادي الصحراوي وصعب تحديد موقعه وكيف هبط ومتى ارتفع أنه ليس بالضرورة أن يكون فضائياً، أو من خارج هذا الكوكب فتكفي أحياناً الاستنارة بعد طول عذاب لإقامة الاتصال الروحي حتى بين الميت والحي والحي والميت، ولم تستبعد العرافة أن محاولة روحية وقعت تلك الليلة بين بحرين كالبحر الأحمر والبحر الميت، فقد عانى البحر الميت من العطش الأزلي والتوق للحياة البحرية خاصة وأنه لا تفصله سوى مسافة بسيطة عن الآخر الذي تزهو به أسماك وكائنات بحرية ملونة كما أن البحر الأحمر متحفز دوماً بحكم ذاكرته السحيقة لمد يد العون لجاره الميت كقدر من أقدار الطبيعة والهزات الأرضية القديمة والأجراف القارية، وتناوب الأزمنة والعصور وتقول العرافة التي امتلكت معرفة غير قليلة بالأساطير أن لبحيرة طبريا إله ذكر اسمه طبر يربض منذ زمن فوق منطقة بور، لكنها تشك بمدى معرفة الأردنيين لتلك الأسطورة وأن التسمية لإحدى مناطق عمان باسم حمل التشابه كان تسمية عفوية لا تدرك الأبعاد والدلالات الكامنة في تلك التسمية لأن طبر لا يستبدل بحيرة جميلة ساحرة بأرض بور على نحو عكس تلك العلاقة القائمة بين عشتار وتموز منذ الأزل.
كما أن روح سمير نقاش لا تهيم فوق من ينكرها وينكر عليها الذات في الحياة وفي الممات، فإذا كان هنالك من بين رواد الرحلة إلى رم من يتوق أو حتى من كان يتوق أو تروم روحه لروح أخرى في بتيح تكفا أو العكس فإن هذا – حسب العرافة – يفسر كثيراً مجريات ما قيل من مختلف الروايات عن سحرية تلك الليلة التي لا تشبه أية ليلة من ليالي الحياة لفرد أو لفردين، لعاشق أو لعاشقين، للسارق والمسروق، العاشق والمعشوق، بغض النظر إن كان نجماً أو سماءً أو كوكباً أو جبلاً، فالمهم أن لحظة الهيام ابتدأت سواء بالموسيقى أم بنبض القلوب أو حتى بالعلاقة بين النجوم في السماء أو ما بين الإنسان ونقوش الجبال بفعل الطبيعة والزمان، وليس غريباً أن قلباً عاشقاً اختطف جبلاً تلك الليلة للحظة أو لحظتين ثم أعاده إلى مكانه دون أن يقلق الآخرين، فلحظات الهيام تجعلك تسرق الكون وليس جزيرة كريت أو رقصة زورباوية فلسطينية فوق رمال الصحراء وحسب، فماذا لو سرق الشخص إسرائيل من ذاتها تلك الليلة ليقول لسمير نقاش وداعاً أيها العراقي النبيل دون أن يحتفظ بحيفا ويافا لنفسه حيث أن جيوبه لا تتسع لموبايل مغلق، ماذا لو....
رواية الشخص
عزيزتي روديكا,,
أنت الوحيدة تلك الليلة التي أبدت تفهماً عميقاً لما بدر مني، فما زلت أسمعك حتى اليوم من كوكبي الوحيد النائي تقولين: (أنت لم تفعل شيئاً خطأ يستدعي استفزاز مدام ربيحة أن تشكوك لجريس) كان هذا يكفيني فقد كنا نتهامس بحب كما لو كنت طفلاً قبل ثوانٍ من نهوضي أو بالأحرى من نهوض زوربا بداخلي كي أرقص رغم غياب ثوديوراكس وغياب أية موسيقى يونانية، لم أتصور أن تهديداً جدياً سيقع لي لمجرد أنني استبقت الموعد المحدد لي سنوياً في أيام عمان المسرحية كي أكون ما أستطيع وما يتاح لي أن أستطيع فعله لخمس أو عشرة دقائق في السنة منذ أن وطأت قدمي ليالي عمان المسرحية وقد لا تعرفين روديكا أنني منذ اثنتي عشرة سنة في الأردن لم أستطع إيجاد عمل مناسب لي ولا إيجاد مساحة في أية جريدة أردنية أو مجلة تدعى ثقافية . في الرحلة وجدتك أنت تحملين أيضاً في سيرة حياتك من رومانيا حتى مصر ومروراً بالأردن بعض الهموم المشتركة التي لا نملك سوى أن نبصرها ونتأملها اليوم بكثير من التعاطف والصبر والأمل، وحتى لا أكون ثقيل الظل في طرح معاناة خاصة أقول لك أن التهديد الذي وقع وجعلني منكسراً أفادني كثيراً اليوم وفي تلك اللحظة أيضاً التي تبدو لي اليوم مثل سهم أو برق انطلق من أواخر تموز 2004 إلى ليالي صيف سيلة الظهر عام 1965 عندما كان عمري 13 سنة منقوصة منها بالطبع 3 سنوات نفقت في الكويت التي يتعذر فيها رؤية نجوم الليل البهي المزدان بلآلئ الكون كما كنت أشهده كل ليلة صيف وخاصة قبل وصول الكهرباء الإسرائيلية لسيلة الظهر، فما أن هددت السيدة (العمّانية) وجودي بينكم حتى استلقيت على ظهري ورحلت صامتاً بين النجوم مستأنفاً عمري ابتداءً من 13 سنة- تماماً يتشابه الرقم مع السنوات التي عاشها سمير نقاش في الحي اليهودي في بغداد ، قبل أن يغادرها عام 1951 وقبل أن أولد إلى إسرائيل.
أعزيك به روديكا لأنني لا أجد في الأردن وفلسطين وإسرائيل من يمكنني أن أعزي به نفسي وسمير نقاش غيرك، وفي تلك اللحظات التي كنت فيها صامتاً وبعيداً عنك وأكثر قرباً بالطبع من بوخارست في الشمال أستطيع أن أقول لك أنني تذكرت حياتي وعيشي ومماتي في لحظات تأمل فصلتني ظاهرياً عنك لا أدري كم من السنين الضوئية وربما كنته ذلك الكائن الفضائي الذي يتحدثون اليوم عنه دون أن أدري إلا أنني عندما ناولتني مدام ربيحة هاتفها النقال قائلة: (معك جريس على الخط) كنت نصف من أكون أو أقل قليلاً عائداً من سمائي أنا لصوت جريس سماوي الذي خاطبني بكل اللطف الممكن، لتجنب أية شكوى خلال سير أعمال وفعاليات المهرجان ، وبحسه العفوي أدرك مدير المهرجان أن هكذا شخص منكسر الصوت هادئ أكثر مما يجب لا يمكن أن يشكل تهديداً للأمن الوطني الأردني لا في شماله ولا في جنوبه وأن المدام تسرعت في التهديد والوعيد والاتصال والاعتذار أيضاً لدرجة بات فيها الأمر فاقعاً ومكشوفاً لاستجداء مقالة مديح ، من رهط الصحافيات أو الصحفيين ، في موسيقى وفرقة فلذات أكبادنا، وللعلم يا روديكا فقد عرفت الممكنات الإبداعية لكثير من الأردنيين في مختلف أشكال الفن ومنها التشكيلية والموسيقية حتى لا نقول بكل صلف الروائية والقصصية، عموماً لن أزيد همومك هماً آخر فأنت متورطة تماماً في أدبنا العربي ولغتنا كذلك، لكنني اليوم مطلوب مني أن أوضح أن تلك الليلة كانت أشبه بالسحر بالنسبة لي وإن كانت عادية ومكررة وذات شهية شوائية للغير، وحقاً ما أفتقده اليوم منها هو أنت والطعام فقط ونكات هيام حموي الظريفة لأنني ما زلت(وهذا سر) أحتفظ بالسماء والنجوم وجبال رم والرمل الذي استلقيت عليه لنفسي.

ترجمة عربية لجانب من الرسائل المتبادلة بين الشخص والشاعرة الأيرلندية


عزيزتي شيند:
أريد أن أسألك أنت بالذات، عن الكائن الفضائي الجاري البحث عنه بسرية تامة هذه الأيام في ربوع الشرق الأوسط الصغير، وأن أحظى بأية انطباعات أو شهادات منك حول هذا الموضوع، الذي أود طمأنتك أنه سيظل يحتفظ بالقدر الذي ترتأيه أنت من السرية والكتمان، سواء في جوانبه الفنية والثقافية التي تعتبر حقاً من حقوق ملكيتك الفكرية لمشروع قصيدة أو ديوان شعر أو لمشاريع أعمال أدبية أخرى كالقصة والرواية والمسرح أو في جوانبه الأمنية التي تتعلق بكونك سيدة متزوجة ومستقرة – كما أتصور- في وطنك الأم أيرلندا. ما قرأته لك من قصائد في طريقنا إلى وادي رم أو في طريقنا لزيارة مدينة السلط ما زال ماثلاً في الذهن ويبعث على تعميق علاقة الصداقة بيننا ذلك أنه شعر حقيقي تعرفين جيداً طريقة استقبالي له وأنت واقفة ببراءة على منصة القراءة في مركز الحسين بعد عودتنا من البتراء بأيام، كذلك الأمر بالنسبة لجوزيفا التي قرأت أشعارها بلثغة لسان تميزها بعد مغادرتك بيومين تقريباً. أكتب لك هذه الرسالة بعد عودتي مباشرة من مؤتمر صحفي للناطق الرسمي باسم الحكومة أسمى خضر حيث دار جل المؤتمر حول أسباب انقطاع الكهرباء عن الأردن كاملاً زهاء ساعتين مساء يوم الثلاثاء وقد كنت نائماً على أية حال ما بين الساعة السابعة والساعة التاسعة ولم أشهد ذلك الحدث الذي رأيت بعض الصور له في صحف اليوم، لكنني أحاول استرجاع حلم غامض وجميل وشاسع ومليء بالأحداث دارت رحاه خلال نومي العميق مساء يوم الثلاثاء وإلا لكنت قد انشغلت كغيري في ما لست بحاجة إليه، وحتى تكوني على بينة من الحلم أحب أن أذكرك بفارق التوقيت من ناحية وبروايات جيمس جويس ومارسيل بروست وفوكنر إن لم أذكرك بما لا أظن على دراية به- لا أعرف إن وردت قصة أهل الكهف في الكتاب المقدس لديكم أم لا- بأنني عندما استيقظت كانت الكهرباء في المنزل ما تزال مطفأة ذلك أنني استلقيت للاستراحة قبل مغيب الشمس وعندما استيقظت أشعلت الكهرباء فاستجابت بشكل طبيعي وأنارت موجودات المنزل كما أنني خرجت لشراء علبة سجائر بنفس الأوراق النقدية والعملة المعدنية التي كنت استخدمها قبل النوم، وهذا ما لم يحدث مع أهل الكهف في تلك الأزمنة الغابرة، وحتى لو حدث معي بعد النوم وانقطاع الكهرباء عن الأردن جميعه فإنني لن أتضرر بسبب أنه ليس لدي سوى خمسة دنانير من اصل عشرة دولارات أصرت روديكا أن آخذها مقابل ثلاثة دنانير وثمانمائة فلس دفعتها عنها عند مغادرتها للفندق وهو كامل ما على غرفتها من حساب عند المغادرة.
***
عزيزي السيد بلوم:
إن سمحت لي بأن أناديك هكذا، أود أن أشكرك على رسالتك رغم أنها تأخرت بعض الشيء ولو لم تكن أنت الذي يسألني عن الكائن الفضائي لقلت لك، أنت.. أنت، كم هو مؤلم الزمن وفوارق الزمن وفارق التوقيت فكيف إذا كان بين تلك الإطلالة من على ذلك الارتفاع بين مرتفعات السلط والبحر الميت وما ترويه الكتب من جهة وما بين مرتفعات جبال مطلة على عاصمة كاليفورنيا تلك السكرامنتو التي لم أزر! إن الأمر يمكن تفهمه كثيراً يا سيد بلوم عندما يكون بين دبلن و.. القدس أو أورشليم أو وادي رم، إنني أحسست مع سطور رسالتك أن الجمل الصغير الذي كان عمره بضعة أيام أو أشهر أصبح اليوم كهلاً مثل جبال رم ولا يستدعي الفرح الطفولي الذي أدهشني عندما رأيته لأول مرة في حياتي. بودي كي أظل أكتب الشعر أن لا أفهم تماماً بلادكم، أو على الأقل أن لا أكون بذكاء روديكا أو بعميق فهمك لأنني سوف لن أصبح قادرة على العيش حينذاك حياة طبيعية، إنكم في بلادكم الجميلة تعيشون باستمرار حياة استثنائية سواء كان هنالك حقاً كائن فضائي بينكم أم لم يكن وبوجود آلهة أم بدون الحاجة إليها فإن حياتكم كما أتصور قاسية ومدهشة على نحو عجيب، لن أقوم مقام الباحثين والمستشرقين هنا لأن دوري حتى الآن منحصر بالشعر، أو هكذا أرى، رغم أنني قرأت جويس فإن لم يكن الكائن الفضائي حقيقة فلماذا لا تكنه يا سيد بلوم، عموماً لست أظن أن أحداً من أبطال جويس لو حلق في السماء سيهبط بالضرورة في إسرائيل، وكذلك أنت، فالأساطير والأشواق والأحلام التي نحلم تتغير باستمرار وحتى عندما تصل إلى فلسطين فإنك سرعان ما سوف تكتشف أنها ليست تماماً تلك الفلسطين التي حلمت وعشت ورأيت.
سيد بلوم.. هل أنت مشتاق إلى دبلن؟ بالنسبة لي أنا مشتاقة الآن لرؤية وادي رم حيث كائن الفضاء.
Is it a baby space creature?
By the way, you did not tell anything about your dream?
Tell I hear from you
My best wishes

من رسالة الشخص إلى الشاعر الفرنسي الشاب ديفيد دوموتير

عزيزي ديفيد:
أنت لم تسرق الوقت كما وعدتني وكما ينص عليه ميثاق الشرف لنا جميعاً معشر اللصوص الصعاليك، ولكنك أنت وجان جينيه من قبلك ورطتموني أنا بما تشتهون فعله في بلادكم ، سوف أستثني رامبو هنا من ملكيتكم الجماعية لفرنسا لأنه أمضى بقية حياته في عدن والحبشة ولم يعد فرنسياً منذ انهيار الكومونة، سوف أستثني نفسي أيضاً من ملكية أي شيء قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنني أحتاج مشورتك في أمر هام بات يتوجب عليّ درءاً لأية تهمة متوقعة لي هنا في الأردن أو حيث أكتب لك ، والأمر متعلق بكائن فضائي يقال أنه هبط بين شقوق الجبال التي شاهدناها في وادي رم وربما انتحل شخصك أو شخص شخصٍ آخر، لا أحد يعرف ، فإن كنته أعرب لي وسأحفظ السر، وأقوم بطمأنة الأجهزة المعنية أن كائناً مثلك لن يكون مؤذياً وضاراً للبشرية والحضارة، بل ربما أسهم في وقف نزيف الدم والقتل المستمر هذه الأيام في النجف حيث ارتفع عدد القتلى اليوم إلى 320 قتيلاً حسب القنوات الفضائية.
كما علمنا من الجرائد عن (مصالحة هاتفية بين ياسر عرفات ومحمد دحلان) لن تقدم أو تؤخر حسب اعتقادي وتجربتي على كوني طائر منقرض حللت هنا بعد أن كنت أطير مرة واحدة في السنة بالأجنحة التي تنمو وأرعاها طوال أيام السنة كي أتمكن من التحليق باتجاهات سماوية نحو أعشاش أوروبية جميلة بدءاً من أستنبول وليس انتهاءً ببراغ وروما وريميني وفلورنسا وجبال الألب، لقد أرسلت برسائل في نفس الموضوع لكل من روديكا وشيند في بوخارست ودبلن وفاتني أن أحدثهم عن الحلم الذي ربما استغرق ساعتين ليقلصه الكائن الفضائي الذي ظهر لنا فجأة ليقطع الكهرباء الناجمة عن إمدادات مصر لنا بالغاز وهي التي تمده أيضاً إلى إسرائيل بأسعار تفضيلية منذ اتفاقات كامب ديفيد، كما تعلم لا يستغرق أي حلم ثواني أو ربما أكثر من دقيقة أو دقائق معدودة لكن إحساسنا به هو الذي يمنحه هذا الطول خاصة إذا تحول في النهاية إلى كابوس فإذا تمكنت يوماً أن أقصص عليك رؤية فأنني هنا أمام مهمة شاقة إن حاولت أن أقص عليك حلماً ومع ذلك سأحاول باختصار.
كنت أحلق وأطير وأجنح نحو سواحل الإدرياتيكي بالقرب من تريستا ولم أفطن رغم كل تلك الإمكانيات سواء لبرج بيزا المائل أو لبرج إيفل الهائل فأنا ممنوع من الحلم بأي منها منذ الحادي عشر من سبتمبر ولا حتى أفكر ببرج الحوت أو الميزان، يعزيني في ذلك أن الحوت ليس لديه أجنحة وأن الميزان لا أراه سوى على بطاقات وأوراق المحامين، أتذكر أنني خلقت طيراً في الأساس ولسبب مجهول لا أذكر كيف تمت منتجته وعدم ذكره وإذا بي أجدني على أربع أي بلغة شيند Baby sheep وليس Baby ship وهكذا وجدت اليابسة والصحراء مستقراً، فعشت في الكويت على فترات متقطعة نحو ربع قرن متصل وأربع سنوات فرط فلم أبلغ السن القانونية التي تشترطها إسرائيل قانونياً كفترة زمنية كافية بمرورها 20-25-30 للإفراج عن بعض الوثائق السرية المتعلقة بالدولة، وكما تعلم فإن هذا القانون غير موجود أساساً لدى الدول العربية وعلى رأسها الأردن كي نعرف إن كانت ثمة محادثات ووثائق سرية ما تزال وستظل كما العروش المخلدة طي الكتمان والسرية أم لا، ولدرجة بت فيها خائفاً على نفسي بظهور كائن فضائي وإنما على الأرض وتحديداً في وادي رم.
فإذا صح هذا الكلام وما يتردد في الأروقة والدهاليز فإن أي فعل يقوم به الكائن الفضائي ذاك سوف أدفع ثمنه غالياً كأن يقوم مثلاً بسرقة نص اللقاء الذي أجرته غولدامائير مع زعيم دولة جارة بتاريخ 17/11/1947 أي قبل صدور قرار التقسيم 181 باثني عشر يوماً أو محادثات وزير الخارجية البريطاني مع رئيس الوزراء الأردني في شباط من العام الذي تلاه وكأن يقوم ذلك الكائن الفضائي بسرقة مخطوطات البحر الميت فيعيدها إلى المتحف الأردني في عمان أو في القدس التي تزهق الأرواح من أجل أن تكون هي لا غير العاصمة، إن الكائن الفضائي في بلادنا ما عاد يشكل أمراً جللاً سوى عليّ أو لنقل على أمثالنا.
فمن يكترث له بكونه أكثر من موضوع شيق ومسلي ومثير للفضول، لذلك أو بعض ذلك أرجو منك أن ترسل لي رسالة تتضمن اجتهادك في الموضوع وما هو متوفر لديكم في فرنسا من معلومات . حيث سيلها لا أساس له من الصحة أو المصداقية هنا ، ناهيك عن التعداد السكاني الذي لا نعرف إن كان سوف يشمل الكائن الفضائي الذي يجري البحث عنه أم لا، وإذا كان قد غادر مؤقتاً وسيعود أم لا وإذا كان سيظل بمفرده أم لا ؟
عواء الذئب
كنت على وشك أن أغفو قليلاً بعد أن يئست عن فهم ما تحولت إليه بفعل السحر والكائن الفضائي في ليلة فضائية لولا وغوشة جهاد ، فقد اكتشفت أنني مع شيند أكاد أن أصبح السيد بلوم أو ستيفن ديدالوس ومع روديكا تروتسكي وأحياناً مايكوفسكي ومع جوزيفا دون كيشوت ، فمن أكون بعد هذه الدراما التي غاب فيها ديفيد مبهج اللصوص وفدائي الصعاليك ؟ قلت أنام كي أرى من أكون عندما أصحو، لكن حواء التي تذرعت بوغوشة جهاد جعلت لقصيدة نثره موسيقى لبنانية حينما ادعت أنها غير قادرة على النوم وما هي إلا بضع حوارات كمقدمة حتى سألته عني إن كنت نائماً أم يقظاً أعاني من السهاد.
يوريكا.. يوريكا.. إذن أنا التي تسأل عنه الصحفية اللبنانية فقط ، أو التي سألت عنه نانسي عجرم العام المنصرم فلفت إليه الانتباه بعد 11 عاماً من النبذ في الأردن لأصبح وجهاً مقبولاً لحضور المهرجان، تيقظت حواسي عندما سمعت اسمي في سهاد صوتها دون أن أنتبه في عتمة الخيمة الصحراوية إلى أنها في سن ابنتي الكبرى التي لن تجد لويس آراغونها أو تسترد اسمها في معتقلات الزرقاء، قلت نعم، من ينادي، فسالت: هل ستحضر حفلة نانسي هذه السنة ؟ إذن لست أنا السيد بلوم أو ستيفن ديدالوس ولا تروتسكي ولا دون كيشوت أو لويس آراغون أنا الذي سيحضر حفلة نانسي عجرم فقط ، لذلك سرتني فكرة أن أجدني في شبق ليلي مثل شاب في مقتبل العمر يذكرنه النساء قبل النوم وينسينه تماما عند الفجر.
وهكذا طار من عيني النوم فنامت هي بعد ساعة من الدردشة والضحك والنكات الخافتة وبقيت أنا ساهراً أستمع إلى شخير بعض المشاهير الذين لن يصدق قارئ الصحف أن بإمكانهم إنتاج غير الشعر وقصائد النثر وطباعة الكتب الأنيقة وقد جعل التوافق الزمني اثنين من الشاخرين يتحالفان عندما يشخر الذي في جهة رأسي يرد عليه النائم في الجهة المقابلة بشخرة مثلها، وهكذا جعلت الأمر مسلياً لي أيضاً بأن أفكر بتحديد هوية لكل شخرة فوجدت أن الأمر صعب للغاية أن تتكهن إن كان الشاخر شاخراً أم شاخرة حيث أن لجان ومؤسسات حقوق المرأة في العالم أجمع غافلون عن هذه النقطة التي هي في مصلحتهم فإذا كان الصحو يفرق بين الرجل والأنثى فإن الشخير لا يفرق رغم أنه منذ الأزل بدون نقابة أو هيئة تدافع عنه وتحميه، فجأة سمعت عواء الذئب أو تهيأ لي ذلك وفجأة وجدته قبالتي بعيون محمرة وقد وصل بعد انتهاء جميع وجبات العشاء فاتفقنا بعد مفاوضات شاقة على أن يأتي في اليوم التالي ليلاً ليجد وجبته التي حددتها مشيراً إلى جهاد حيث غطس في النوم إلى جهاد بأنه هو وجبة الذئب عوضاً عن الاختيار العشوائي ووافق الذئب على مضض لبسالة أبديتها ولا بسالة دون كيشوت وللتكافؤ القائم بين عوائين، وقد كنت محقاً في اختياري فقد استيقظ الجميع ما بين السادسة والنصف والسابعة والنصف إلا جهاد فلم يستيقظ إلا بعد أن لطعته الشمس وجعلت من بقايا نعاسه نوماً منثوراً، ولم يكن لدي ما أقدمه للأصحاب والزملاء في تلك الطلعة البهية لإنارة الجبال من حولنا سوى نكتة الذئب الذي جاء ليأكل أحدهم فاقترحت عليه جهاد على سبيل المناورة الأمر الذي اضطرني الإتيان بفعل غير أخلاقي مع الذئب الذي احتمل الجوع ووثق بي، ومعللاً هذه المناورة السياسية بأنها انتصار في التفاوض تاركاً الذئب أن يتدبر أمره في هذا العراء المفتوح للأعداء والنسيان.
لذلك راقتني فكرة وجود كائن فضائي كي يحمل معه ذئباً عندما يعود إلى كوكبه البعيد بدلاً من الطير ما دام الطير في النهاية سيتحول عندما يحط على اليابسة إلى حيوان شرس، وهذا عندما تذكرت كيف كانت الحضارات الأولى طيوراً سابحة في السماء لا تأكل بعضها بعضاً وبمجرد أن فقدت أجنحتها وصارت تدب على الأرض بدأت المعارك الطاحنة بينها على الكلأ والعشب والماء والنفط.
رسالة من مجهول عبر الانترنت وصلت للبريد الإلكتروني لمعظم الركاب

سعدنا بدعوتنا للمهرجان، سعدنا بالرحلة وسعدنا بالروح الشرقية التي نود أن تكتمل لأننا في كوكبنا البعيد أنجزنا منذ آلاف السنين كل أمنيات كوكبكم، السلام والرخاء وحرية التنقل بين الكواكب. ورغم أن الرحلة مغامرة بالنسبة لنا إلا أننا بحسب ما لدينا من معلومات عن منطقتكم قد جئنا لزيارة أحد أسلافنا المغامرين الذي رحل إلى كوكبكم منذ نحو 12 ألف سنة في حساباتكم الزمنية وقد تدهشوا إذا قلنا لكم أن هذه الفترة الزمنية في كوكبنا تعد معدل الأعمار لدينا أي متوسط السن للمرأة والرجل وصنف ثالث لدينا لا هو بالخنثى ولا هو بالسحاقية أو الشواذ وإنما هو جنس يولد هكذا ولديه حرية أن لا ينشغل بالإنجاب والتوالد حيث يتكاثر إلكترونياً عن طريق مؤسسات الكوكب الواحد، وله حرية الاختيار كما هي لنا في الانتقال إلى الكوكب الذي يريده ما عدا كوكبكم أنتم حيث أنه صغير في العمر ولن يعمر طويلاً ضمن حساباتنا ولهذا فنحن في أشد الحزن لمصيركم المقبل قبل أن تبلغوا سن الرشد والمعرفة، لذلك فقد جئنا لإنقاذ شخص بينكم لاستنساخه ولم نعثر بعد على أنثاه الممكن أن تطيل عمره كي نتمكن من إصلاح العطب البشري فيه قبل أن يموت وتستنفذ قواه الروحية المحدودة، فقد تعرض لهزات قلبية من أنثاه لزيادة في هورموناتها الذكرية ولاضطهاد سياسي واجتماعي واقتصادي أنتم شركاء فيه.
نبلغكم أن أحد أسلافنا عرف جيناته الوراثية عن طريق إشعاعات إضافية في عيني جده الأول في اليمن وقد تابع تسليط نفس الإشعاع من نجومنا البعيدة على كل أفراد أسرته وسلالاتها المنتشرة في ما يسمى بالخليل في لغتكم قبل انتقال جزء منها إلى قرية جبلية وقد انقطع الاتصال به منذ ليلة 9 يونيو 1967 إلى أن تمكنا من رصده في ما يسمى لديكم في وادي رم، وهو نفس المكان الذي أضاع فيه الكائن الفضائي الأول أبانا كما يسمى في لغتكم روحه ليضيع جسده المتشكل على شكل نسور حجرية زينت البتراء ثم فقدت رؤوسها نتيجة إطلاق رصاص من البدو الرحل ، الذين حاولوا سرقة خزنة الفرعون في البتراء ، على تلك الصقور التي هي جسده الذي جاء به إليكم من كوكبنا، ونقول لكم أن روح سلفنا الأول الذي جاء ابنه لزيارة ضريحه تتشكل من الجبال التي تسمونها وادي رم وعلى جزء واحد فقط من روحه تم عزف الموسيقى وهذا أمر يقلقه فعليكم استحضار فرقة لكل جبل وعلى هذه الفرق أن تعزف اللحن المتكامل كي تشفى الروح ونستعيده لأبنائه.
وتحسباً من جهل كوكبكم فقد أشغلناكم بتوزيع إسرائيل لحبوب مضادة للإشعاع النووي حيث أن إشعاعاتنا ليست ضارة كما عطلنا الطاقة الكهربائية عن بلادكم لأول مرة كي نتمكن من استنساخ عقله وذكرياته المسجلة على دماغه وزودناه عوضاً عن ذلك برؤيا الحلم التي يصعب عليه خلال سنوات من حساباتكم استعادتها إلا على دفعات.
ولذلك نحذركم أن كائننا الفضائي أصبح اليوم بينكم وأن عدالة كوكبنا لكم بالمرصاد إن مارستم الأفعال المشينة بحقه ، فأسرته دمرتموها منذ 12 ثانية – عفواً نقصد 12 سنة من زمنكم في حين شهدناكم من خلال نبضات قلبه وعينيه ، تصطحبون أحبتكم وزوجاتكم ومعارفكم للرحلة إلى وادي رم ولا تسمحون لكائننا نحن بمجرد دعوة ابنته أو ابنه أو من يتوق إليهم ، إن صغائر حضارتكم لو انتقلت كعدوى لكوكبنا لأحلنا كل كرتكم الأرضية تلك إلى كرة قدم في فضائنا محرومة من اللاعبين وبالتالي من المعنى، تماماً مثل بعض أشعاركم التي لا معنى لها ولا مبرر أخلاقياً لكتابتها.

من حوار دار على شبكة الانترنت بين ثلاثة من أعضاء الرحلة:
Z: R did you send me any message one hour ago?
R: No, I’d like to ask you the same question what about you j.
J: At all, the same like you both
Z: But it sounds as one of u sharing some parts of my memories, I remember the same tone, the same star that contemplated someday.
R: I felt also that I am involved in a way or another did you J?
J: Ya Ya it seems a baby space female who wrote it?
Z: It doesn't, for me it sounds a dead camel but with soul of patience still wandering in the air.
R: Let me, or let us read it again then discuss the matter later.
J: Why not.
Z: Then we exchange every contribution.
R: Bye Z. Bye J.
Z: Bye R. Bye J.
J: Ok .Bye u 2.


An extract:---------------------------------------------------------------------------
"بلادكم يجوع الحرُّ فيها وتمحي في دياركم العقولُ
إذا ما طاف عقلي في رباها تحيَّرَ.. هل سيسكتُ أم يقولُ"
--
-عادل محمود-

------------------------------------------------------------------------------------------
خبر صغير عن سرقة جبال وادي رم

كاد خبر صغير أن ينشر في إحدى الصحف ، لولا حذفه من قبل رئيس التحرير لأسباب سياحية ، أن يفقد بعض الروايات الأردنية مصداقيتها حول انقطاع الكهرباء وسقوط الأردن كاملاً في العتمة والديجور في أغسطس صيف عام 2004 عند نهاية مهرجان جرش وقبل بداية مهرجان الفحيص تحت شعار (الأردن تاريخ وحضارة) ويقول نص الخبر:
( أفاد بعض السواح الأجانب الذين تاهوا عبر الصحراء الأردنية الجنوبية خلال محاولتهم زيارة وادي رم أن الطريق الذي سلكوه باتجاه جبال الوادي كان صحيحاً سواء على الخارطة التي كانت بحوزتهم من بلدانهم الأصلية أو بمرافقة الأدلاء والسواق الأردنيين الذين يمارسون هذه المهنة منذ سنوات، لكنهم فوجئوا بعدم وجود الجبال في الساعة التي تصادف بها انقطاع التيار الكهربائي، الذين لم يشعروا به إلا بعد قراءتهم الصحف فجر اليوم التالي، وأوضحوا أنهم سلكوا نفس الطريق وقطعوا نفس المسافة في اليوم التالي وشاهدوا الجبال ووادي رم لأول مرة في حياتهم ولا يستطيعون بالتالي تفسير ما حدث حتى الآن) إلى ذلك كانت بعض المراكز الأمنية قد تلقت العديد من المكالمات حول اختفاء أشخاص في العتمة وإحداها حول سرقة جبال وادي رم وآخر حول ضياع سياح أجانب في الصحراء تائهين عن الوجهة الصحيحة للجبال والوادي، ولم يعلق أي مصدر مسؤول حول هذه الظاهرة باستثناء كبير مهندسي شركة الكهرباء الأردنية الذي نفى أن يكون للأمر أبعاداً سياسية مع مصر التي تصدر الغاز الطبيعي للأردن والمسؤولة عن الإمدادات الكهربائية لمحطات التوليد الرئيسية في العقبة، وقالت الناطق الرسمي أسمى خضر المكلفة بأعمال وزير الثقافة الذي أسقطت حقيبته الوزارية وحقيبة الإعلام من حكومة فيصل الفايز متفقة ومتناغمة مع رد وإيضاح شركة الكهرباء أن الأمر ناجم عن عطل فني. هذا ولم يسألها الصحفيون حول واقعة التيه والضياع للسواح الأجانب ولا حول ادعائهم أن وادي رم كان مختفياً تلك الليلة أو في حدود تلك الساعات. ومرد ذلك أن لا أحد من مندوبي الصحف والفضائيات ووسائل الإعلام كان على علم بالواقعة، كل ذلك، وبوجود الشخص الذي كان حاضراً للمؤتمر الصحفي وتقدم ببعض التعليقات حول الحكومة التي أسماها( حكومة التطمينات) في ( زمن الأنابيب الغازية والتعليمية والنفطية والمائية والمعلوماتية المغلقة أو المعطلة أو المسدودة أو التي تتسرب منها امتحانات التوجيهي)، كل ذلك يدعونا لتصديق حكاية الكائن الفضائي الذي بدأ يتحرك هنا وهناك ليظهر في مكان ويختفي من مكان وبناء على حركته تلك فإن تطورات وربما كوارث قد تقع في أنحاء متفرقة من العالم، أما سبب اختياره للأردن تحديداً فهذا ما لا نستطيع أن نجزم به أو نجتهد، وقد يكون لاختياره هذا ما يعزز ما يشاع في الأوساط الإقليمية والصالونات السياسية والمتنافسين على السلطة سواء في الأردن أو في فلسطين أو في إسرائيل وأمريكا والعراق، ويبقى السؤال: لعبة من هذه المرة حكاية الكائن الفضائي؟ وهل هي إعلامية سياسية أم لمجرد إلهاء الرأي العام عما يجري في فلسطين والعراق من تطورات؟ أسئلة مفتوحة للإجابة وكل يفسر بحسب قدرته على الفهم والإقناع، على صعيد آخر لم تستبعد بعض المصادر الدينية أن نكون في العقود أو السنين أو الشهور الأخيرة من القيامة ونهاية الكون أو الحياة على الأرض.
وقالت مصادر دينية أخرى أن من يظن أن عصر المعجزات السماوية قد ولى بدون رجعة هم الكفار والملحدين الذين لا يتقون الله وإلى جهنم مصيرهم وبئس المصير.
حوار داخلي
سألني المحقق في نفس مركز الأمن الذي أخذ مني بطاقة الأحوال وتركني في أسوء حال:
* لماذا لا تحمل بطاقتك؟
قلت: كلما استخرجت بطاقة لا تستدلون عليّ سوى من أرقامها فتأخذون الأرقام والبطاقة والشكوى وحاجيات جيوبي الصغيرة وترسلون بي مخفوراً لمحافظة الزرقاء التي هي الأخرى تتعرف عليّ كل مرة وتنساني عند أتفه شكوى كل مرة.
قال:
* لا تتفلسف... أين بطاقتك؟
قلت: استلمها مني هنا في هذا المركز شباب البحث الجنائي.
قال:
* لماذا؟
كنت مطلوباً لمحافظة الزرقاء.
* لماذا؟
ادعت طليقتي أنني أهددها عبر رسائل إلكترونية من الهاتف الخلوي.
* كذاب.
هذا ما حصل، وفي محافظة الزرقاء سألوها أين أقيم فقالت لهم أنني في عمان ولا تعرف منزلي.
* كذاب.
وعندما قابلت مسؤولاً أكبر من المحافظة بعد ثلاثة أيام من توقيفي، طلبت منهم تحديد رقم الهاتف وإبراز رسالة التهديد الصادرة منه لهاتفها فانتبهوا أن الشكوى خالية من أي رقم هاتف سوى رقم هاتف المشتكية، تم لفلفة القصور والتقصير وعدم نباهة مستقبل ومحرر الشكوى وطلب الجلب الذي كان بإمكانه الاستفسار فقط عن رقم هاتفي أو رقم هاتف مرسل الرسالة إن كان ثمة رسالة تهديد ويتأكد عبر مكالمة هاتفية أو يستفسر إن كنت حقاً أنا صاحب الرقم أم لا وهذا ما لم يحدث.
* وأين بطاقة الأحوال الآن؟
لديكم.
* هل أنا كذاب، أنا أسألك أينها؟
لدى من استلمها ولم يعدهالي رغم مراجعاتي بعد إطلاق سراحي.
* لماذا لم تستخرج بدل فاقد؟
كيف أدعي أنني فاقدها وهي لديكم؟
* قل أنك أضعتها واستخرج واحدة أخرى بدل فاقد.
أنا لا أستطيع الكذب.
* هل أنا الكذاب إذن؟
لا أعرف.
(يكتفى هنا بهذه اللقطة فقط من حوار يتذكره الشخص وهو متردد إن كان سيتقدم بطلب بطاقة أحوال أو فقدانها للمرة الثالثة أو الرابعة، لا يتذكر).
مونولوغ
ماذا لو قبضوا عليك الآن بتهمة اختطاف وادي رم أو تعطيل الكهرباء عن البلد أو تسريب أسئلة التوجيهي رغم أنك لم تدرس سوى صف خامس وسابع وثامن.
ماذا لو قالوا لك أنك الكائن الفضائي أو لو تم طلب بطاقة أحوالك ؟ هل تكفي مجلدات مارسيل بروست وجيمس جويس وأشعار آراغون للتعريف بك ؟

الطريــــــــــــــق

عمان-27 أكتوبر(تشرين أول)2001
I
الغيوم الرمادية الداكنة، التي رآها من خلال كوة الزنزانة المغادرة للسجن في طريقها الطويل للعاصمة سرعان ما اكفهرت وتناثرت إلى فتات باهت لا ينذر بشيء غير صفاء الصقيع .نسمات باردة تذكره بليال دافئة مثل الليلة الماضية التي أرقه فيها وعد الإفراج ، بعد انقضاء سنوات الحكم.ظل يغذ الخطى بعكس ريح باردة تصفع وجهه بلا تؤدة أو هوادة وبلا رفق أو مبالاة بتحقق الحلم الذي عاش وصبر واحتمل لأجله ما انقضى من شبابه. كان في مشيته يسابق ما يدور في ذهنه من هواجس وتساؤلات لا تنجلي إلا بملاقاته من انقطعوا تماماً عن زيارته في السنوات الأخيرة دون سبب مقنع سوى مصاعب العمل ومشقات الحياة في الأردن.
سأله الضابط عندما قرأ اسمه كاملاً واسم أمه في قائمة أسماء المفرج عنهم:
"أين تسكن؟" فتردد متلعثماً قبل أن يجيب: "في سيارتي." ضحك بعض السجناء من غرابة الجواب رغم جدية النغمة التي لا تحتمل الهزل في حين ظل البعض صامتاً منتظراً رد فعل الضابط الذي لم ترقه الإجابة.قال الضابط بنرفزة واضحة: هل أمازحك يا … ثم كرر سؤاله: "أين تسكن ؟ " ليتلقى الإجابة ذاتها : "في السيارة ولست مازحاً. " ثم شرح له أنه قبل أن يسجن كان بلا مأوى وينام في سيارته الخاصة الأمر الذي جعل الضابط يسأله بذكاء عن مكان ترخيص السيارة ليحوله بالتالي لشرطة محافظة العاصمة.قال أحد السجناء ممتدحاً الضابط الذي قبل الإجابة على مضض:" أغرش فلم يسألك إن كانت السيارة مرخصة أم لا." أما هو فلم يكن متأكداً من أي شيء على الإطلاق بعد انقطاع أخبارهم عنه , لا من السيارة ولا من الأخوة ولا الأخوات ولا الأصدقاء ولا الرفاق ولا الأولاد إلا من كون أمريكا تقصف أفغانستان وطالبان والإنسان والحيوان والحنظل والريحان . أما أمه التي شاهدها للمرة الأخيرة على شبك الزيارة فقد كانت تبكي وربما ما زالت حتى الآن. برد على تشرين ، قمر على نيسان ، ورد على أيار ، حزن على الأنهار ، وحزيران في ذاكرته لم يبرح حزيران لكن عمان كم كبرت عمان وتمادت وتفاقمت وتجملت وتهادت وتناهت حتى تاهت عن نفسها فلم تعد تعرفك الآن أو تعرف نفسها إن كانت في ذات المكان أم أنها انزاحت أو تهاوت في النسيان. فها هي ممتدة أمامك وراءك من خلفك فوق كتفيك وفي نحول ساعديك تنخر في جوعك وتطحن ضلوعك فقط لأنها عمان، فيها يداس الإنسان أو يهان ، وفيها على مهل تذوقت الهوان. فعم تفتش بين البيوت وفي الشوارع؟ عم تبحث يا فتى الأوديسة المكسور؟ عن برتقال في القشور , عن دخان في القصور ,عن عطر الياسمين المكبل بالبخور , عن لقمة عيش وتنور ؟ وهي العمياء بالإدعاء من العقبة حتى الرمثاء من الثغاء تخور تخور تخور ، من تلوث مياه الشرب بالأوساخ لا تثور ، من الأقبية العميقة لا تغني أو ترى النور … عمان لن تقول لك اليوم سوى كلمة أو كلمتين، لأنها ماتت مرتين ،لم تعد لمقتلها تثور. إذهب بعيداً عني فليس لدي من مقومات السياحة سوى السلام والكلام والسبايا والخمور وما تكونت لأجلك في حبور.. فغور أينما شئت أنت غور.. غور.. غور كي تمور شوارعي بالسواح وبالدولار أستباح من التاسعة ليلاً حتى الصباح. ومن التاسعة صباحاً من يوم حريته الأول حتى مساءه الأخيرلم يهتد لعنوان أو ساكن أو مقيم أو بعيد أو قريب أو صديق. وكلما شارف المساء تتناءى الأسماء والشوارع تضيق. وحده الخواء في عمان العراء والصديق والبرد الرفبق. كلما داهمه الليل يحلم بالحريق مشتعلاً بالدفء لمرآه ومثواه السجن أو الطريق.
في اليوم التالي قيل له أن أمه ماتت وأن أخوته باعوا البيت وأن مطلقته سافرت وأن سيارته سرقت
وأن غرفته أخليت وأن الطريق إلى الوطن مزدحم بالشهداء والأعباء لكن أحداً لم يقل أن سنيه هباء
أو أن تحولات الجوع قادت إلى مما قادت إليه إلى انتفاضة أحياناً وفي أحيان أخرى إلى بغاء.
وفي اليوم التالي في الليلة الثانية من بقائه يقظاً مغموراً بطعم الحرية والشتاء القارس كان أن وجد نفسه أمام ذات الباب يهم بالدخول ويفتش عن تهمة مناسبة.

II

لا , لم تبك عتبة الباب لما رأتني فقد كانت مهانة وبليدة مثل عاهر بشعة احترفت منذ زمن ومضطرة للقبول بأرخص الأسعار. عتبة لباب يخجل من بقائه باباً ، لم يعد يميز بين الأنذال والأحباب ومع ذلك مايزال يسمى باباً. وله قفل جاهز الإستدارة لأي مفتاح يدخل فيه. بماذا يدق هذا الباب ؟
بالنقر الخفيف مثلاً أم بالقبضات ؟ بالركل مثلاً أم بأجراس الكنائس ؟ ليفسح عن شرطي مثلاً أو عن سائس؟ هذا الباب الذي لا ينتظر أحداً كم هو بائس . هذا الرجل الذي يفتش عن جرس بقربه ليضغطه أو عن اسم ليقرأه كم هو يائس. كم هو يائس. غادرته كما يغادر الغرباء بيوتاً آوتهم ثقلاء عليها بفعل العادات والتقاليد وعلاقات القرابة من بعيد لبعيد فما في الجيب قرشاً واحداً لنبتدء النشيد ولا خبراً يسر كي نصافح العيد ، عيد بأية حال عدت إلينا يا عيد ؟ في الطريق مضيت كي يلتهمني الطريق وأسلمت خطوات عمري لطريق عله يعرفني أو يعرف نفسه الطريق ، بأنه لا حول له ولا قوة وسيظل ليس أكثر من طريق. أتوه عنه فيه ولا يعرفني الطريق. فكم باباً في ليل عمان تشهاه نعاسي أو رنوت إليه بإحساسي أن دالية التعب ثقلت بعناقيد غربتها ودنت من باب نكبتها والأسماء أذكرها لكن أناسها ليسوا بناسي.آه يا قلبي الجلد من لحم ودم لم تزل والزمن نحاسي. من لحم ودم وياقوت لم تزل تدق في تابوت وهذه المنازل كأنها بيوت وما هي بالبيوت وتدق تدق فلا أنت حي ولا أنت تموت لكأنما الناس مصنوعة من سكوت ومن صخر مصنوعة قلوبها والفلل من بسكوت .
حوار داخلي للزرقاء
قالت شيند متسائلة:
* ما الذي ذكرك بسيزيف ؟
وظل تساؤلها بدون إجابة، إذ ليس من اللائق إفساد رحلتها لوادي رم أو إفساد حقها بالدهشة ولدى الأيرلنديين أيضاً ما يغنيهم عن حمل الهم الفلسطيني، فقد تعددت المصائب والهم واحد، أما الآن فأستطيع التوضيح أن الآلهة الذين يعاقبون كل سيزيف فلسطيني ليسوا فوق سماء اليونان ولا بروميثيوس تنقر عينيه الصقور تحت سماء الرومان، إنه هناك في منطقة معتمة تحت سماء العرب، ما زال يحمل شعلته بنفسه ويحمل صخرته بين يديه، ولأن ما تراه عيون شيند الزرقاوين غير ما تراه عيني جوزيفا العسليتين ، يغدو السيد بلوم والسيد دون كيخوته أو ربما لوركا شخصاً واحداً ملتبساً في الهوية وفي المشاعر ولكنه ابن زمنه الخاص وامتداد ثقافاته. ولو لم يكن السيد بلوم من صنع خيال جيمس جويس ومن صنع زمنه وتجربته لما ظل صامتاً عندما أنكر عليه اليهود يهوديته ، بل ربما قال لـ ابن غوريون نفسه(شكراً لتفهمك.. لكنني لا أرغب العيش أيضاً في إسرائيل) على أمل أن يستعيد بلوم جناحيه أو أجنحته بعد، أو ليس هذا ما هو حاصل اليوم؟ عندما ينكر / تنكر عليك الفلسطيني / الفلسطينية فلسطينيتك قبل أن يتنكر لها الأخوة العرب من الكويت حتى فاس ومؤتمر فاس؟ بالمقابل هذا أيضاً ما حصل لسمير نقاش وأقرانه من اليهود في إسرائيل نفسها فقد أنكروا عليه طفولته ولغته، لذلك لا يبدو الأمر مستهجناً عندما ينكر أي مركز أمن عربي عليك إنسانيتك، انظري يا شيند مجدداً لهذا المشهد: فقد كنت محترماً جداً وأنا أتحدث إليك بلغتك الإنجليزية سواء في وادي رم أم في مركز الحسين مستحسناً إلقائك بلغتك قبل سماع الترجمة أو مستاءً من إخفاقات وهنّات الترجمة في بعض المواقع.
هل لك أن تتصوري كيف اقتربت مني سيدتان ترغبان في التعرف على الشخص القادم من باريس أو لندن أو دبلن ! كان الموقف محرجاً وأنا أزيد تأكيد الحقيقة وهن غير مصدقات لما أقول، إنني أعيش في عمان ولست زائراً أو طائراً ولي رقم وطني وبطاقات رسمية ووثائق مفقودة، فهل ثمة فرق إذن بين أدلاء السياحة في جنوب الأردن وبين عشاق السياحة في عمان في إنكار وجود الشخص عندما يتحدث اللغة العربية؟ أشاح بدو الأردن بعد التحديث عني الوجوه مفتونين بكل ما هو غير عربي.
واستنكرت برجوازيات عمان أو استكثرت عليّ أن أمتلك ثقافة رفيعة ومعارف شقيت العمر وأشقيت غيري في تكوينها، أليس للغرب وللاستعمار وللاستشراق دخل في ذلك، دون أن أغفل بالطبع العوامل الذاتية لأمم مهزومة ومقهورة وشعوب مستلبة لا تعرف عند تمكنها من الآخر الشقيق غير الاستبداد أو النكران والجحود، فإن كنت في شك من هذا أنت وجوزيفا تحديداً فما عليكما إلا أن تسألان روديكا أو ديفيد ديمترييه الفرنسي الذي شرع يتعلم العربية ليتورط أكثر فأكثر في هذه الرمال المتحركة.
فالزرقاء – المدينة – بمن فيها، تحرمني من ابنتي الكبرى منذ أكثر من عشرة سنوات وقدمت إسهامها الفظيع بتحطيم أسرة تحت يافطة القانون والمحاماة والمقاضاة وحقوق المرأة وحقوق الطفل ومؤسسات المجتمع المدني ودار حضانة الطفل وكأننا جئنا من الكويت متخلفين أو ذئاب مفترسة تريد مدينة ناشئة- كانت صحراء مخصصة لمعسكرات الجيش منذ أقل من نصف قرن – أن تعلمنا أصول الحضارة والتمدن ولم نأت إليها بكامل أتعاب شقائنا من الكويت وبكامل خبراتنا العلمية والعملية والمصرفية كذلك.
فمن الذي دفع بنا إلى أتون العذاب والتشرد والاستعباد وقد كان لنا سماء وأشجار وجبال وبيوت وبحر وطيور وهواء وبيادر للأعراس وللرقص والدبكات، وقد كان لنا مدينة مثل أريحا عمرها عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، أي بلاد هذه التي تنكرنا في البلاد وأي بلاد تلك التي تخرجنا من البلاد، لو كنت أكتب الآن باللغة الروسية لتحول الأمر إلى نكتة سوداء، إن الذين يصنعون لنا المشكلة والمأساة بأيديهم يستكثرون علينا أن نشير إليهم بأسس الداء، ويستكثرون علينا أننا ما نزال موجودين ونتحدث لغات أجنبية ونرقص رغم أننا لا نملك شيئاً سوى قدرتنا على الفرح وبسالتنا في الحياة. ليس كل البدو بدواً ولا كل من تظاهر بالتمدن متحضراً ،بالطبع، إنها الغابة دون أشجارها، يحس البعض منا فيها أنه قد يتحول إلى خروف، لذلك كم احترم مشاعرك النبيلة عندما إقشعر بدنك من رؤية رأس الخروف بفمه المفتوح ولسانه المدلوق فوق منسف من استضافونا في السلط، فاغفري لي ولروديكا أننا من الجوع أكلناه بنهم رأس الخروف، استجابة للكرم العربي من ناحية واستجابة لعدم إمكانية أن يتحول أحدنا إلى خروف أو نعجة.
أما في الثقافة وممارسة سلطة المعرفة التي هي كل ما نملك فإننا نفترس افتراساً حتى ديناصورات وتماسيح الجهل والتخلف، هل دعوتك أو دعوت غيرك للرقص بعد؟ ليتني أدعو ابنتي إلزا أولاً، إن حرماناً مثل هذا جعلني صيف عام 1996 ذات ليلة أراقص مدينة اللاذقية كلها في مطعم لفندق ساحلي فخم، البحر من أمامي والمدينة كلها بأحضاني ولم أحس لحظة أنني في جزيرة كريت اليونانية، أو في حيفا أو يافا بل في قلب العالم الذي ينكرني بعد انتهاء الرقص.
سألني رئيس تحرير جريدة الثورة السورية صيفذاك :
* من أي بلد أنت؟
فأجبته:
وهل تُسأَلُ البلدُ إن كنتُ أنا البلد.
فكيف لي أن لا أتذكر سيزيف ومن حولك حولك يا أيرلندا، ولا تقلقي فلم أفكر بعد بقصف مدن أو عواصم منهارة ولا برفعها إلى قمة الجبل، ذلك أنني عندما أنظر إلى كوكب الأرض من فضائي السحيق لا أرى من الشرق الأوسط سوى بقع من النفط وقليلاً من المراعي رأيت ذلك في بعض حلم ورأيت يديك الصغيرتين.
من تقرير خبير في الثقافات الشرقية – ترجمت بصعوبة
بناء على ما تقدم لي من معلومات، ولست خبيراً بالطبع بالفضاء أو الفضائيات، أترك هذا الأمر لإجتهاداتكم مع أنني لا أنصح به، ونزولاً عند رغبة زميلة لي في الثقافة العربية، فإن التكوين الداخلي الثقافي والمعرفي للموضوع مدار اهتمامكم، يجعله ، كائناً من كان، أقرب ما يكون إلى محيي الدين ابن عربي، الذي أترك أمره للزميلة مترجمته من العربية، وكذلك لما جاء في رواية "حي بن يقظان" لابن طفيل و " مشكاة الأنوار" للإمام الغزالي وأرجو أن تجدوا لي عذراً في عدم الجزم بذكر بعض ما قرأته عن الحلاج الذي لم أدرسه حتى الآن دراسة وافية ومن الطبيعي حينما أذكر لكم ابن عربي أن أتجاوز سبينوزا Spinoza إلا إذا كنتم – وهذا راجع لكم – جداً مفتونين بكل اسم أجنبي حتى الآن على من في تاريخكم الذي تجهلونه شر جهالة.
تقول زميلة لي مهتمة بابن عربي: أنه شخص " يستحق بالذات وقفة أمام أعماله من ناحية قابليتها لتفاعل القارئ .. مع نظامه الفكري وأبعاد تأملاته الدينية والفلسفية" وأن "التجاوز الفكري بين سبينوزا وابن عربي بفضل الأخير على الأول طبعاً، هو أنموذج لفضاء سامي منفتح نحو الآخر ونحو أسمى التساؤلات الكامنة في ضمير الكائن الإنساني مهما كانت ديانته".. مع المعذرة على هذا الإسهاب حيث أنني عاكف على مراجعتي لترجمتي للقرآن الكريم إلى لغتنا الأم، أعيد إليكم بعض المرفقات*
•بعض المرفقات:
الران*
الطفل النائم تحت النافذة،فوق ران صخري،عام1957 لربما،ما كان يعرف آنذاك أنه نائم فوق قبر مقلوب.فقط كل ما يعرفه أنه نام باكياً في عراء سيلة الظهر، فوقه علية الجد والجدة.ووراء ظهره عقد الأم اليتيمة الطريدة من الحارة الغربية للحارة الشرقية.والعقد خالٍ من الأم ولا أحد.وزوجها يعمل في الكويت منذ31/3/1953 تاركاً الأمر لوالده النائم في العلية والذي يفيق باكراً لأداء الصلاة أو للسفر إلى نابلس كي يصرف الشيك المرسل له من الإبن البكر لدى كرسوع.الطفل النائم لأبٍ غير موجود ولأمٍ قابعة في البكاء هي أيضاً في زقاق داهود في الحارة الشرقية، ما كان يعرف أنه ينام على قبرٍ مقلوب في بيت الجد في الحارة الغربية من سيلة الظهر في باحة الدار المطلة على قرية العطارة والسهل والنبي لاويين وحاووز الحارة الغربية وبيت المختار والحواكير والوادي الذي يسمعه يمخر سيول السماء في الشتاء في رمضان.الطفل بكى عندما طلب من الجد شراء جزمة باتا شديدة ولامعة السواد له أسوة بجزمتي عميه الأكبر والأصغر اللذان رآهما يلبسان مثل هذا الشيء البهي المنظر في أقدامهم السائرة نحو المدرسة في أعلى العالم. الجد قال أنه صغير لا يذهب للمدرسة مثل أعمامه وبالتالي لا لزوم للجزمة السوداء في قدميه الحافيتين في صقيع الشتاء رغم أن الأم اليهودية قالت أن للإبن حق في مال أبيه وبذلك طردت من جنة الجد الذي تربي زوجته زغاليل الحمام.الطفل النائم ما كان يستطيع الانتباه لهديل الحمام لكثرة بكاء الأم في الليل الحزين وكثرة تعديدها كأنما يعيش معها في مأتم دائم النواح والعويل وهي التي طلبت منه أن يلحق بالجد الذاهب للجامع ويطلب منه أن يشتري له جزمة . لم تحدد الأم اليهودية إن كانت تلك الجزمة باتا أو عصفوركو.كما لم يكن الطفل النائم يعرف الجزم وماركاتها الشهيرة آنذاك.فكل ما يعرفه أن أهل الدار من أعمام وعمات وأبناء عمات هانئين متنعمين بوصول شيكات الدينار الأردني من الكويت في الخمسينيات من أبيه الذي لم يره بعد ، يقولون له نم على الران ياابنها… فيطرد هو الآخر من أمام موقد النار في العقد السفلي الثاني في حين يكون الحطب والنتش الموقد في كوانين النار من شقاء يدي الأم ابنة زقاق داهود التي كانت تسرح من الصباح الباكر لقلع النتش ولم الحطب لتبيعه وتشتري له بيضة وأحياناً علبة سردين.لا لم يكن الطفل النائم يعرف معنى الران سوى أنه ران تستخدمه العمات في الجلوس عليه أمام عقد ونافذة الزوجة الثانية لأخيهن الذي بدأ حياته العملية بعد اتمامه للصف الخامس في القرية المجاورة برقة ليذهب ابن الثالثة عشرة إلى حيفا للعمل والإنفاق على أبيه وأخواته.الطفل النائم على الران نائم فقط بعد انكساره في أسرة لشدما يتوق للإنتماء اليها. أجل ،كان يهرب من عويل الأم تجاه عطر الجدة الذي لم يكن يعرف آنذاك أنه يدعى بتراء ويشتريه الجد لزوجته من مدينة نابلس.بل كان يتسلل للعقد الأرضي المجاور كي يحظى برمعة سكرٍ من الجدة أو بقرص من اللبنة التي يراها في العقد الآخر مغمورة بزيت الزيتون الأخضر ومعبأة في مرتبانات.وقد اعترف الطفل أنه كان لا يحب الرز بالبندورة والبصل الذي كانت تسلقه الأم فلا يأكل منه لأن مذاق البصل المشوي في موقد النار تحت قدر العدس باللحمة والبطاطا المشوية بنار الشتاء الدافئة أشهى والجد جالس إلى شيشته (الأرجيلة) وجواره قطة تهمّر أحيناً إذا أخّل أحد برخائها أو قلقل دفئها على الجاعد. وها هم المنيب وأحمد وشوكت أبناء عمته الكبرى يتداولون شؤون دروسهم مع أخوالهم في بيت جدهم دون الحاجة للحاق حفاة بجدهم حيث أن والدهم يعمل في تصدير البطيخ الناصع الإخضرار والأحمر حتماً إلى الكويت وهم يقيمون في علية فارعة الرخاء في زقاق دار أبو علي من الحارة الغربية وزد على ذلك كله أنهم وعوائل أخرى تزودوا بكرت المؤن دون أن يكونوا لاجئين.الطفل النائم لا يعرف كل هذا لكنه استجاب ذات زمهرير صقيع شتاء لطلبهم جميعاً منه أن يذهب لجلب حليب اللاجئين من أعالي البلد قرب المدرسة فهبّ من فوره متحمساً لخدمتهم وجلب الحليب إليهم وهو أصغرهم آنذاك دون أن يحسب للجليد المتشكل في الطرقات من ليلة البارحة حساب.الطفل النائم الآن لا يذكر كيف عثرت عليه جدته لأمه حافياً متجمداً متوقفاً عن المسير فوق الجليد تماماً في نزلة حاووز الحارة الشرقية تحت النبي سيلان قرب التينة الموازيّة التي كانت تنزّ بقطرات الثلج باكية لمرآه وتنكتي الحليب في يديه المسدلتين تحزّان بأسلاكهما أصابع يديه اليافعتين.بكت الجدة الحنون لمّا رأتني وبكتني وشتمت أباً نذلاً وما فارقتني.إلى عقد الأيتام أخذتني ومن جزمٍ قديمةٍ قصت لي فردتين مختلفتين وألبستني.من حليب الغير لم تأخذ ومن حليب الغير ما يوماً أرضعتني.بهجة كبرياء ظلت تكفكف دمع يتماها وما باليد غير الشقاء والتمني.لا لا لايذكر الطفل شيئاً من هذا وهو نائم بقدر ما يحسه.وهو الآن يحس كم قاسي هذا الران المقدود من الصخر على عظام بدنه قبل أن تعترف جدته لأبيه أن الران مثله مثل إثنا عشر راناً عثروا عليهن في المغارة عندما اشتروا الأرض تمهيداً لبناء العقدين والعلية.وأنهم تخلصوا منها جميعاً باستثناء رانٍ واحد أفرغوه من عظام ميته ثم وضعوه مقلوباً على قفاه تحت شباك العقد المخصص لزواج ابنها البكر الأول.لا لم يعرف الطفل كل هذا التاريخ لهذه الأرض لذاك التابوت الصخري المكبوب ميته الحامل لطفل محروم من طفولته ولا أحد.
حتى الأموات استسلموا لغيابهم والبعض منهم استسلموا لموتهم وآخرون ذهبوا كبباً وترحالا.الطفل النائم ليس مهماً اليوم أين، فقد تجده أمام جريدة الحدث في شبرة بطيخٍ
يمتلكها أحد جيران والدته في حي الزواهرة من بني حسن المنصوبة أمام مجمع عكاوي وبداد على أوتوستراد الجامعة قبل الدوريات وقبل الشقة التي تقيم بها عمة أخرى من عماته في أحد مرتفعات صويلح وقد نالت بحمد الله ورعايته الجنسية الأمريكية مثل أبنائها وشقيقتها وأبناء شقيقتها.وبعد شارع وصفي التل (الجاردنز) في عمان حيث يشيد أحد أمريكيو سيلة الظهر مسكناً أو مجمعاً تجارياً عقارياً أو سكنياً دون أن يتذكر هو الآخر أن الفتى الذي كان قبل الثامن من أيار1936 يطعمه من برتقال حيفا لم يزل مدفوناً في الكويت ولم يلق بعظامه أحد في العراء وإن ألقي بأبنائه وبناته في عراء الزرقاء بفضل صفقات البيع والشراء وقرارات المحاكم والغزية التي تريد تحرير كامل التراب الفلسطيني من الزرقاء حتى عمان والكويت في حين شرّدت رفيقها الشيوعي وأودعته المصحات. هو الران وما اختلف الأمر بعد. ولم يزل الطفل نائماً رغم الحروب كلها والخطوب والرحيل والترحال والمحاكم والمخافر والنزال.ينتظر صاحبه أن يلملم عظامه ويعود فقد أدرك أن الران بيته الأخير الذي حرم منه مرتين.فلم يزل الراحل راحلاً وإن سمعت أجراس الجمال
المثقلة بالمسير.ولم يزل الميت ميتاً وقد أضناه في الصحراء المسير.ولم يزل النائم نائماً والليل عسير.فعلام يوقظ من موطنه الكبير مثل طفل صغيرٍ هذا الرائي الكبير وقد رأى ما رأى
في سماء كل من تحتها صغير.
______________________________________________
· ثلاث صفحات أخرى من رواية "الطريق" قيد الكتابة في ورق .
IV
هل تعرف الطريق إلى الله ؟

سؤال لم يسألني أحد إليه.لكن الطرقات التي في التيه أخذتني إليها من تيه إلى تيه لم تفض إلى غير غيمٍ وغير شمسٍ وغير النجوم فآمنت الطرقات وسبّحت وأنا لم اتوقف عن المسير.
ليس لأنني من سلالة أنبياء أسير ولكن البيت بعيد هو الذي أرى.والبيت بعيد ذاك الذي لم تشق يد لأحدٍ كان في بنائه فلم أرزق بعد بامرأةٍ لا خصبٍ ولا عاقر ليرزقها المعطي برجلٍ لا هو نبي ولا كافر.البيت والمرأة يفترقان عند منعطفات البنوك من غزة حتى تبوك.
ومن الرصيفة حتى مجمع البنوك الذي يشيد ثم يحجز في عمان على الفلل والبيوت والمباني الفارغة أو المفرغة ولا يكف عن الصرف والتصريف والشطب والفتح والتنظيف.وبعد أن
كنت عبداً من عباده المخلصين في سجن بيرين أرفل في ثياب القمل والصيبان من الفحيص إلى حسبان مروراً بالزرقاء وعمان أردت وقد هداني الله وأرخى الحزب عني قبضته النسوية الستالبنية تاركاً الأمر جل الأمر لحكومة لا تتسامح أو تغفر أن أشرع بالسير على دروب الخير ففقدت أول مافقدت حذائي على باب مسجدٍ في يوم جمعة فضيل جلّ ما كنت أتمناه وخطواتي تحمل من الدنيا إليه نعاسي بعد ليلٍ آخر من التيه والسهر أن أصلّي وأنام فيه لكن الأنام من حولي كثر والعياذ بالله أمطروني بوابلٍ من العظات وكأنني المسؤول عن شروط البنك الدولي فسألت نفسي بنفسي: أين الطريق؟ لأجده ملء نفسي بعد أن تقطّعت أنفاسي صاعداً الطريق إلى الجبيهة كي أزور الصديق أو من كان الرفيق فلا أعثر بعد طول المشوار وقصقصتي من الحزب بمنشار لا على الصديق الصديق ولا على الرفيق ومنزله فارغ يليق بنومي في حديقته المزدانة بما تدلّى من ثمر .كيف لا وقد هداه الله الذي لا يهدي سواه إلى عمل إثر عملٍ بعد أن نال المغفرة على معصية لم يرتكبها أو حتى يفكر بها وتجنب أول ما تجنب خريجي السجون من أمثالي أنا وشاكلتي وكل من لا يبالي.قلت وقد أقفلت تائهاً تلكم شقة الكاتب منصور وتلكم شقة أخرى للصحفي المنصور وذلك ديوان أهالي لأجدني في مرتفعات الجبيهة لحالي لا أنا بالمؤمن ولا المنتصر ولا بالسجين ولا بالحر الطليق من قبضة الحزب الداعم للرفيقة المناضلة ولا من قبضة المحافظة التي سرعان ما ترى في سيري على الطريق ظروفاً تجلب الشبهة فتعيدني إما للفحيص كي يدلني الأطباء على الطريق أو إلى السجن حيث لم يعد أحد يدلني على كافة متتطلباته أو من يجرؤ على الهمس بالسؤال عن الطريق إلى الله من عباده الطيبين المخلصين لله وحده وأرزاق لا يرون مثيلاً لها خارج السجن الأصغر؟ فكلما إتسعت الرؤيا ضاقت الزنزانة واختفت بقدرة سحرية أية سجادة حيث الأرض طاهرة ونظيفة نظافة متهمٍ يكشطها ويغسلها ويدعكها لتصبح بنظافته من التهمة الموقوف على ذمتها.هل من مزيدٍ يقول السجن والمهاجع المكتظة لمن لا يعرفون الطريق إلى الله؟ فهنالك يعرفون أنه الأحد وأنه كل سبت وأنه الجمعة والجامع وأنه الاثنين السجين وسجانه وأنه الأربع آتي إن ليس من زوجتي فمن حماتي أو بناتي وأنه الخميس كما الأصابع في قبضة خذلها الزمان وتخلى عنها الخلان من نجدٍ حتى عدنان وغسان وقحطان.لكن أينه خارج السجن وأيينهم أهل عمان العمّانيون من نعاس الآلهة في عروقي حتى أثينا القديمة؟ هاهم ينامون في بيوتهم مثل قطة جدي أو حمارته لا فرق المصطفة تحت عرائش الدوالي في مصفات أواصطبلات الغواني لا يعرفونك يا فتى بل لا يريدون معرفتك وقد تربوا على
كراهية اليهود والبدو والزنوج والفلاحين من روسيا القيصرية حتى كاليفورنيا الاسبانية
فهل تظن أنك ستتعرف إلى إلهك في بيوتهم أو طرقاتهم أو أن توصلك سياراتهم لغير عبدون أو الصويفية ؟ لا ..لن تعرفه جيداً إن لم تنظر فيك ، في الران، في السماء التي تراك، في الشمس التي ستلهب ثراك ، في النجوم السائرة نحوك لعلها تتتبع خطاك، في الضوء الذي لم تره بعد وما رآك.
V
VI
بيت الذبابة


لا بوازع اخلاقي و لا برفق أدعيه ابقيت على حياة ذبابة صغيرة اكتشفت وجودها المؤنس على مقربة من وحدتي اللامتناهية. لم يكن الجو يوم ذاك قائظا إلى الحد الذي يستفز الذباب و لا كانت ثيابي متسخة. لم يكن ما حولي يبرر لأية ذبابة أن تتحرك فوق أجواء صمتي النحاسية. بل كنت ساهما، كعادتي، اتلمس بعيني عالمي في عزلة تنزلق على جدرانها انثى العنكبوت و لا يألفها ذكر العنكبوت. في عزلتي، لا اسمح ، كعادتي، بأي تزاوج يخل بالسلام و السكينة التي أحصل عليها بشق الأنفس وسط عالم متسارع في أجواء تشهد سقوط عشرات الذكور من العناكب كي تستمر إناثها حفاظا على ناموس الكون و إستمرارية الأنواع، سواء كانت هذه الأنواع نحلا أم ذبابا أم عناكب. فقد دربت نفسي منذ الصغر أن أكون مطلق الأنانية عندما يحين وقتي الذي التحم فيه بصمتي واسمع به دقات قلبي و ليس دقات ساعة بليدة من الوقت. هكذا أنا الأصلي، قطعة من السكون المظلل بظلام شفاف تتماوج في عيني ألوان من الأسى والخسارات الممتزجة بالسماوي و أحيانا اللازوردي أو الكحلي الغامض الذي نادرا ما يزورني أو يهمس في خيالي بغير المتوقع و المعقول و الممكن. و لأن الأمر كذلك، فقد أبقيت في عام ،،1977 في التاسع من آذار على حركة ذبابة صغيرة وحيدة، أشفقت جدا على عينيها الحزينتين اللتين رأيت فيهما بقدراتي الذهنية المجهرية انهما تنتميان لمسحة حزن ظليل حدد لي سماتي النفسية و الإنسانية منذ الخليقة بأكثر مما حدده لي حمض الـDNA اللعين. هي غير ضارة و غير مزعجة ،لا طنين لها يعلو أكثر من طنين الصمت و آلام البشرية التي لا يسكنها غير الموت القديم العتيق الأصيل الواقعي الصلب الجيولوجي المتراكم الطبقات من الأجيال والشعوب إناثها بذكورها صغارها و شيوخها المسنين. هكذا تهاتفت النفس مع النفس نافية فكرة استخدام وابل من الكيماويات و المبيدات المخترعة في مصانع الموت ضد ذبابة صغيرة لا حول لها و لا قوة. و هكذا راق لها رغم صغر السن أن تتغذى على الطمأنينة الثقيلة و الهواء الثقيل الذي أكاد اتنفسه بشق الأنفس نتيجة لإصابتي المزمنة بانخفاض الضغط و نقص الأملاح و هبوط الروح التي أجدها احيانا بين قدمي كعثرة من العثرات التي لا تنتهي أو تزول من دربي. روحي اعرفها منذ أمد بعيد، كرة قدم معدنية غير قابلة للطيران أو التدحرج فوق سطح عالم دبق يأسرها في صدري كمعيق لإستنشاق الهواء الطلق العليل المليء بأوكسجين الحياة الدافق. و هكذا فكرت بمسؤولية عالية أنني قد أتحمل مسؤولية انجذاب تلك الذبابة الصغيرة إلى روحي الكسلى عن الحياة. فلست بغباء ذكر العنكبوت كي اقبل دون حكمة أو تعقل على الحياة كي أرشف منها رشفة الموت اللعينة. منذ الصغر كنت أتجنب الأنثى. أراقبها عن بعد إذا كانت جميلة. أشاركها الأسى إن لم تكن جميلة و أستبقي لحظة عينيها بخيالي و بسمتها أو صوتها لمسراتي الخاصة دون ان أقترب و أخوض فيها و في غموضها أو إنقلاباتها المسكونة بمفاجآت الملل أو الروتين أو الغدر كما لو كانت بمثل ما يقال عن مثلث برمودا. فكيف لي أن أقترب إذا ما كنت عارفا بأسرار أنثى العنكبوت التي يقتل ذكرها بعد ليلة الدخلة فتواصل العيش دونه و دون فحولته الغبية. و ما دامت ذبابة فلم أكترث في الرابع عشر من نيسان إن كانت تلك الصغيرة من ذكر الذباب أم من أنثاه، فقلما خطر ببالي تفحص الذباب أو التفرقة حسب الجنس أو اللون فقد أدركت أنها صغيرة و غير مؤذية و هادئة بل ووديعة لا طنين لها يعلو على طنين الروح الثكلى أو الزمن النائم أو السكون المنصوب فوق روحي مثل خيمة في لهيب صحراء الربع الخالي. و هكذا آنست فيها مؤنسا لعالمي الذي اتسع للضواري و الوحوش فكيف لا يتسع لذبابة! وما أن عدت من يوم عملي الشاق حتى وجدتها قد غيرت مكانها فإذا بها فوق مكتبي. أزحت لها الكتب كي لا أغفل فأغلق عليها سهوا كتابا فتموت. و منحتها مساحة معقولة من المكتب. وفي اليوم التالي عدت إلى المكان ذاته لأجدها فوق كرسي المكتب، و لم أرد ازعاجها، فأنتظرت حتى ملت الجلوس فوق كرسي المكتب و أخذت تتمشى على مسنده ثم قفزت إلى كتاب رأس المال لكارل ماركس و بالقرب من اسمه المكتوب على الغلاف جلست دون حراك. فخشيت عليها من هذا الموقع الخطير و على ذكراه هو أيضا. لذلك مددت يدي برفق نحوها فإذا بها تجلس فوق سبابتي التي أكتب بها. و بقيت ديمقراطيا معها لا أريد إرغامها على ما لا تريده أو تراه مناسبا عقب تدخلي في موقعها على الكتاب لأسباب أيديولوجية. لذلك ألغيت مشروع كتابة رواية أو قصة حرصا على حسن سلوكياتي و ممارستي مع ذبابة صغيرة لا حول لها ولا قوة، لا حزب لها و لا تنظيم، لا عائلة لها و لا مصدر رزق. بل أنها ربما تعاني عند غيابي عن المنزل من مشاهد الموت المرعبة المتمثلة بعبوات الـDDT والغازات السامة التي جعلتها الحضارة في متناول أيدينا لإبادة الصراصير و البعوض و الذباب و الصمت و الأوكسجين و الحزن و أشياء جميلة لا حصر لها. لكنني في الشهور التالية بدأت ألاحظ ما طرأ عليها من تغيرات، فقد غدت كبيرة و أصبح لها طنين و شرعت تتجول بزهو في المنزل و دون حياء. فقلت لنفسي: أو ليس هذا حقها في النمو و التطور و الفرح والحبور؟ لكن هذا الاعتقاد سرعان ما طرأ عليه ما يزلزله من أساسه المكين. فقد عدت ذات يوم و تحديدا في صيف عام 1982 لأجدها بحجم عصفور يجلس دون وجل على مكتبي و تأكل السكر و تشرب الشاي و بعض الكعك الذي لم يرق لي أن أذوقه بعد ممارستي لعبث الشراء. وكأنما كنت على موعد مع هذه الطفرة، فالعالم اصبح يستخدم كل مخترعاته دون حكمة أو تعقل في كل شيء ، فلماذا لا تكون هنالك طفرة في نمو الذباب أو على الأقل في نمو ذبابة واحدة فقط تعاني مثلي من العزلة و الصمت و الضياع و الحزن ؟ غير أن كل معتقداتي و عقلانيتي وواقعيتي اهتزت اليوم عندما عدت إلى المنزل لأجدها ذبابة بحجم الذئب و بأنيابه و بتكشيرة لبؤة تجلس في مكاني و تقول: من سمح لك بالدخول؟
VII
القبو

لا في الليل ولا في النهار أستطيع خلع ما أريد وارتداء ما أشتهي.لا في الحدائق العامة ولا في النظارات أستطيع أن أبوح بالنداء البعيد أو أرى النجم الوحيد الذي خاطبني ذات مرة ثم اختفى أو أنا. حرارة الشمس اللاهبة تخفيه ولست بقادر على استرجاع بصيرتي التى بها أرى أعماق القبو وسطح الران المدبب بإزميل الحجار الذي نحته أو نقشه ثم أسلم نفسه بسهولة للموت ليصل بعد آلاف السنين الران لي كفراش أو مخدة . ران على الإسفلت ران في الفندق الشعبي الرث ران في الماضي السحيق ران على ران فوق ران أيامي الصخرية الصلدة بلا قلب أو أمل . لكن القبو وحده الذي أغور به فألوذ بصمت وعبادة الموتى وأقرأ به آيات العهود القديمة أو به أغفو على فراشي المقدس.لا يتسع القبو العميق لأحد غيري عندما أكون هارباً من الزرقاء ومن عمان حالماً بإربد الشمال بسرية تامة. وكي أصل إلى القبو لا بد وأن أقفل باب غرفتي الوحيدة عليّ بعد أن أكون مطمئناً لعدم مباغتة المؤجر لي بالطرق على المداخل بقبضات الحكومة طالباً لأجرة الشهر الذي لم يأت بعد والأيام التي لم تطل بعد لم يتأكد هو نفسه منها بعد. في طريقي إلى القاع الحزين أنزل بقلبي درجات طويلة في أخاديد الحزن الجاف مروراً بطبقات القوميين العرب والماركسيين القدامى الذين لم يعد أمري يهمهم ومروراً بردهات الديمقراطيين الانتهازيين نازلاً مدارج الحزن المعتق إلى أسفل ثم أسفل محملاً بما تنيخ به الجمال من أكياس وخيش الهم اليومي وزوادتي من دموع أحرص ألا يراها أحد غير المخدة الرطبة المتسخة بالذكريات الوفية التي لا تغادر حتى للشمس أو الهواء والباقية الوحيدة في انتظاري كل مساء حزين مملح بما تبقى لي من إنسانيتي المدهوسة في شوارع الأردن منذ التأسيس حتى التفليس.أنزل درجات محطمة مروراً بجدران عفنة ترابط بعتمتها الأفاعي والخفافيش الميتة وصراصير وسحالي أوت إلى بيوتها الحقيقية بعد أن كانت تصول وتجول في فنادق الخمسة نجوم ببدلات رسمية ووراء مايكروفونات الندوات الثقافية وفي الجامعات والمنتديات والمحاضرات والسفارات ولكنها في العتمة تعود إلى حقيقتها فتأوي في أعالي الجدران التي أمر بها نازلاً عتمة كينونتي ومآلي كي أهجع في آخر العتبات المفضية إلى عتمة روحي هناك تحت في الأسفل عميقاً أبعد من قبري البشري بكثير أظل أنزل وقلبي يهبط مثقلاً بالأيام والسنين جاراً أذيال خيبات وهزائم وخسائر يومية أكبر من الممتلكات والجراح الأكيدة. تستغرقني الرحلة اليومية المقدسة كل الوقت الذي أخلع به أقنعة الآخرين المستحكمة على وجوههم وابتساماتهم الصفراء الزائفة وأظل انزل ثم أنزل متخففاً من بضع هموم ومن بضع شجون تلازمني إلى أن أصل موقع صلاتي أخلع كل شيء عن كاهلي ومكدوداً أرتدي يهوديتي الموسمية ,ارتمي وأنام. كقتيل أنام. شهيداً أم شاهداً أنام .دون حاجة ما لمثولي في محكمة الأبرياء والضحايا أنام. هكذا و ..
لا أحلم كما يحلم بقية اليهود بدولة آمنة أو بثروات البحر لا لا أفعل ذلك بل لا أحلم سهواً أو على حين غرة بما يشبه هذه الأحلام والكوابيس. لا أفكر كبقية المسلمين بالجنة ولا كبقية المسيحيين بالنبيذ وبالخلاص لا لا أحلم حتى بأحلام الصبى أنني طير وأطير وأطير لأظل أطير فوق البساتين والأنهار والبحار وعندما أصل مستنقع التماسيح الجائعة أفقد فجأة قدرتي على الطيران وأهبط أهبط وأظل أهبط فاقداً صوتي. لأنني فقدت حقاً صوتي منذ أن هبطت بي الطائرة مستنقع الأحكام العرفية وسط أفاعي المحامين وسحالي الأمن
وتماسيح الإفلاس وصراصير الوشاة خفافيش البطالة. لا لم أدع حتى تحرير فلسطين من النهر للبحر أو نصفها أو ربعها أو حتى قرية فيها تخصني لأنني ذقت الأمرين من أفاعي التنافس والتلامس والتحافز الوطني لدرجة بت بها لا أعرف وجهي. ولا أسف ولا نجوى وقد أضاع الناس كثير من الناس وجوههم في زمني. لذلك أنام بكل هدوء وبلا أحلام أنام مرتدياً ثياب الزهد والتأمل أنام لعلي أصحو على كوب ماء وملح وكسرة خبز. وهذا ما لم يتوفر لي بتاريخ 4/12/2001 عندما داهمنا المطر ثم انهار السور الواقي لتنداح السيول الموحلة كي تعمدني بتراب الوطن وأعشابه وسيوله ووديانه. فاض الأردن عليّ بكل ما حمل وما قذف في حاويات الأرض البور من أحقاد نبيلة. ونجوت لأنني كنت في الطابق تحت الألف من الطابق الأرضي لبناية الحزن الفقير على مقربة من المقاولين وشارع العشيرة ودكان الصدقات الرسمية.
وهكذا سدوا منافذ القبو على القبو في القبر الذي غمره الطوفان لأحيا بلا رداء أرتديه أو ران أرتأيه أو ولد أفتديه. لا قبو لي لا حق لا وجه لا خبز لا ماء. فقط سماء ليست هي السماء التي أعرف. لا طريق ولا حريق لا رفيق لا صديق والدرب يضيق ومقرف كلما اتسعت الهوة يضيق الحبل من كل الجهات يضيق. ووحدي أدافع عن هواء ليس لي لا أهل ولا بلد. والأرض حبلى لكنها بور لا ولد ولا تلد. ومازلت في عمهان لا خيل ولا عشب ولكنني وتد وتد وتد للبيوت الخاويات على أصحابها زبد. تجرف الدنيا رؤاي لكن العيون بها رمد.ما هذه ببلدان إن لم تكن أنت بها المارد والإنسان والبلد. أحد أحد. يوم ولدت كان يوم أحد. وأموت وأحيا في لحد. وعمان العراء وعمان لا أحد. أحفر قبوي في خطاي وأمشي لا أحد أمامي وأمشي . وأظل أمشي إلى أمام عيني لا تغمض رمشي بإرادة الأحرار أضيء بقلبي الدرب وأمشي.
VIII
النمور في اليوم الـ23 تشرب ماء العدس


داخل المشهد، تبدو التفاصيل ذات أهمية. خارج المشهد تبدو الرؤية ذات أهمية. و ما بين خصوصية التفاصيل و عموم المشهد تتجلى رؤية الحقيقة. 23 يوماً كافية حد الضجر للإمساك بالانتهازي متلبساً. و بالمخبر ساهما و بالمدعي متهاويا على الغنيمة. 23 يوما كانت تحتاج لكتاب أرسطو the poetics ليقصقص حسب نسب الطول و القصر اللازمة ما فاض عن حاجة الموضوع من خارجه. و كانت اكثر من كافية لسيدة تجيد فن الطبخ و تقتصد في الكلام لتشير على كل ذي بصيرة أن الطبخة تفسد كلما أكثرنا من طباخيها.
و حلو هذا الملح، مالح هذا السكر، و بعض الأمعاء خاوية بلا طائل أو مبرر غير هذا الصدق الأهبل أو "المسكين!" . أما وقد : " قضي الأمر . مسرح غادرته في ختام المشهد الأبصار" فقد اصبح للكتابة الآن من خارج المشهد ما يبررها كي نحاول الاقتراب من بيت شعر لسميح القاسم في القصيدة يقول فيه:" حائر انت. هل أجدت أداء أم تخلت عن دورك الأدوار؟" . هو ذا واقع 23 يوما بدأت بـ" لم تمثل. كنت الجماهير فردا، و استعار الممثل النظار". و في الطريق إلى المشهد كان بصحبتي من الشباب اثنان اقول لهما مستدركا خيبة النهايات و إنكساراتها ان الاضرابات كالثورات يفكر لها دهاة و ينفذها الشجعان و يقطف ثمارها انتهازيون. راقت لهم الفكرة التي سيتذكرونها خلال اقل من شهور. فالشجاعة ضرورة الجائع لرغيف خبز و المتحرق لسيجارة. فما زاد من الضرورة أتلفها و جعل الرغيف منقوعا و عائما بماء دالع. و عندما يأتي إلى عرين الشجعان قادم و في جيبه وصفة النهايات، لا بأس من أن يلعب دور الممثل لشجاعة تخطف من غيره الأضواء.
و مع أن استفزاز النمور في يومها الحادي عشر أمر غير محبذ إلا أن من بيده مفاتيح الكهوف و الهواتف و الفاكسات و الأختام على شكل مقر محروس من الداخل والخارج يجعل الاسود الجريحة تغني لمحمود درويش: حذار حذار من جوعي ومن غضبي، بعد ان اصبح لحم المغتصب لهوية روحك لحما ملتبسا غير قابل لا للأكل و لا للنزف. فلا بأس إذن أن تعود بسرية تامة لسميح القاسم المحارب لتنشد معه: " لم تمثل. نزفت روحك حرفا تلو حرف. و في العروق أوار. فانسدال الغيوم بات يقينا، فسل الشك هل همت امطار؟" النمور في يومها السادس عشر كانت و ما تزال تأوي إلى الصمت و في عداد أيامها غير الرسمية قبل أن يستلمها المروضون، تحاول ما امكنها ان تفلت من التفاصيل اليومية الداعية في نهاية المطاف للاستسلام لأية وظيفة بأية شروط و بأية وعود و قد باتت تتربص بها نمور زكريا تامر في يومها العاشر حين صار القفص مدينة/ دولة و صار النمر مواطنا صالحا.
كانت النمور القليلة، و أنا ابصر تفاصيلها، قد شرعت تنفصل عن دلالاتها و عن معناها. و كان معناها آخذ في الابتعاد عن جدواها. و كان جدواها ليس اكثر من ماء وملح.أو من ماء محلى بما انفصل عن الفاكهة من عصير لا يحيلك الى الشجرة إن تيقظت حواسك على المجريات بين الغرف أو على الشجرة خارجها،حيث لم تعد دلالة الجزء متصلة بالكل. هذه شجرة إن أردت و لكنها معتقلة في باحة المبنى و ليست غابة. بينما غابة فتاكة من الأسماء على الورق تتكاثر و تتناسل و لا تقطر ثمن علبة سجائر في احسن الأحوال.
عم تبحث يا فتى الأوديسة المكسور؟ كان لابد من درويش و قد تركنا سميح القاسم لشعب يحميه و نحن كأجمل الرجال الغرقى في تفاصيل المكان. و كان لابد من قصيدة سميح القاسم " الممثل" كي نحذر و نحاذر عندما يعلمنا نحن التلاميذ:" لا تمثل. تحت المنصة لغم، فوق المنصة لغم، و فيك انفجار". و كنا ثلاثة قد أدركنا بواقعية مبتذلة يا احمد دحبور أننا نجتاز صبرا عناوين خلافات مضت كي نعلو، رغم أن "العالي يصلب دائما" حاضر في التفاصيل كقصيدة و كفراشة. ماذا نقول للناس و قد انتقانا المكان ليجعلنا 1+1= مفردا بصيغة الجمع ؟ و غريبا تاهت عن خطواته الطريق! ما تلك الإشارة؟ تساءلت: هل هي أوامر من مراتب حزبية اعلى ؟ اهو الإرهاق بلغ من الشباب مبلغه فلم يعد الواحد منهم يفرق بين نهاية و نهاية! هل يرجو المثقف السلطة كي تحتويه؟ هل أصبحت الأحزاب أقل فاعلية من جمعية خيرية من أهدافها البر والتقوى؟ ولأكثر من مرة كانت التحذيرات تشير: أنت أيها الإقليمي( المقصود الفلسطيني!) إما أن تبقى ضيفا مؤازرا و إما أن....(المقصود استدعاء الجهات المختصة). و أخيرا: اخرج .... إلى.... غادر إلى بيتك .. حتى رؤيتك في الشارع العام باتت استفزازية في منتصف الليل! و روموك في بئر و قالوا لا تسلم ! قال لهم ببرود اعصاب و هو في الشارع: لو كان لي بيت مثلكم لما اضربت، بل لكتبت أو ابدعت. يقول سميح القاسم:" لم تمثل. صغت الحياة فلا كتاب نص و المخرجون إبتكار". و هكذا يخرج الحائر من المشهد ليراه و يعود صديقا لسميح إذ يقول:" كنت من كنت في الجحيم رسولا، ضاع، لا هجرة و لا انصار" فما أشهى الآن شوربة العدس بعد 18 يوما من الإضراب عن الطعام. " كنت من كنت. الف دور و دور و النهايات خيبة و إنكسار. و لم تمثل، انطقت قلبا جميلا فتح الورد فيه و الجلنار".
IX
•
من تقرير خبير الفضاء المختص بالصخور

أما وأنتم تتحدثون عن كائن، فهذا ليس من اختصاصي، فأنتم لم تتحدثوا عن صحن طائر مثلاً ولا عن صورة صدام حسين على سطح القمر هذه المرة، إنما عن شخص، أو كائن فضائي كان أم غير فضائي، لكن تجدر الإشارة علمياً هنا، هو أننا على هذا الكوكب لسنا جميعاً مركزاً للكون الفلكي ولذلك لسنا أذكى مخلوقات في هذا الكون وبكل تأكيد هنالك مخلوقات فضائية أكثر ذكاءً منا، وهذا الاعتقاد له ما يعززه عندما انطلق سرب من القاذفات الأمريكية متجهاً لجمع حطام طبق طائر قرب الحدود مع المكسيك، وأظن أن هذا وقع يوم 6 أغسطس عام 1969. ولعلنا، إذا ما نحينا جانباً الأسرار العسكرية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق والصين حتى يومنا هذا، نستدل من واقعة أخرى على مصداقية ما نقول، فلا أحد يعترض اليوم على صخرة صغيرة بحجم حبة البطاطا جاءتنا من المريخ ويقدر عمرها بـ 13 ألف عام، أي أقدم من أقدم مدينة في كوكبنا بألف عام، وتلك الصخرة – لم تأت بالطبع من جبل المريخ في عمان، وإلا لتمت نسبتها للانتفاضة الفلسطينية أو ثورة الحجارة – دفنت في الثلج القطبي نحو 13 ألف عام وتبين عام 1996 أنها تحتوي على أحافير من البكتيريا الأمر الذي يدفع ببعض العلماء إلى الاعتقاد أن المريخ الذي شارف على الموت ككوكب ومجاله المغناطيسي آخذ بالاضمحلال والضعف التدريجي هو الأكثر شبهاً بالأرض . ويعتقد أن حياة ما كانت تسود عليه قبيل ملايين السنين، فقد أثبتت فحوص الكربون أن أقدم صخرة وصلت لكوكب الأرض من الفضاء الخارجي كانت منذ ملياري عام، وأنتم لا تتحدثون هنا عن صخرة من جبل ولا عن حجر بل عن كائن حي، يا للعجب!

بين الماء والتفاح

ما بين البيادر في الحارة الغربية وما بين(الحرحوج) ثمة مسافة لنبض قلب الفتى تبدو اليوم خافتة باهتة بعد مرور 46 سنة عليها. المسافة بين الماء والتفاح لمن ملأن جرارهن في الخمسينيات من القرن الماضي من حاووز الحارة الغربية(الذي كنت أشاهده بمن فيه من الصبايا والنساء من ساحة الدار المطلة على الوادي والسهول وشمس الغروب والجبال البعيدة التي تخفي وراءها البحر الأبيض المتوسط والأندلس) وممن بيوتهن بين أشجار الزيتون والتين والمشمش والتفاح في الحرحوج ، حين يكن في طريق عودتهن محملات بجرار الماء لا بد أن يمررن بالبيادر، ساحة الأعراس الليلية والدبكات وساحة التعديد والنواح وتوديع الموتى الذين لا بد أن تمر جنازاتهم بعد الصلاة عليها في الجامع بطرف البيادر متجهة لسفح الجبل حيث المقبرة، كن يمررن من خلف بيتنا تجاه(الحرحوج) يحملن الماء للتفاح، عندما لم تكن هنالك أمريكا في ذهن الفتى وإنما كانت (الزعرورة) تلك اللافتة للنظر لأنها فقط قصيرة القامة ومدهشة. ظل ابن السادسة من عائلتها – نسبة لآل أبو علي الذين يقطنون الحرحوج مع آل غانم- يناديها بالزعرورة قبل أن يسمع أغنية فيروز دون أن يدرك أي سحر في مشيتها تلك سر قلبه الصغير، ودون أن يدرك ما للطفها ومودتها له من معنى الحب لطفل مثله، كانت تداعبه بسرور لابتكاره التسمية لها بـ(الزعرورة) فهل كانت قد سمعت عام 1957 مثلاً أغنية فيروز (هيك مشي الزعرورة يا يمة هيك)..؟ وبنفس المشية ونفس الملامح ونفس القامة كانت شاعرة من أسبانيا تقطع المسافة ظهر 26 تموز بين الباص المكيف وموقع البتراء الأثري. إنها زعرورة الأندلس دون جرار ماء وقد توارى (الحرحوج) في الذاكرة.
كان ممكناً لأية لغة يا صديقتي أن تفسد المشهد، فأنت هي، لكنها ليست أنتِ، فأنتِ أنتِ ولا تزالين مثلما كان مشهد جزيرة ما من الطائرة يستدعي ملامح شخص كما رأته شاعرة من أيرلندا. فإن لم تكن مهمة الشعراء تصغير العالم إلى حارة أو بيدر، فمن سيقوم في هذا الكون الشاسع بالمهمة؟ بالطبع أدركت ما لحدس المثقف من معنى بعد أن قرأت في مقابلة مع شاعرتنا تلك كيف تفهم المعنى والدلالة في وجود لوركا ابن بلدكم في نيويورك عند انهيار وول ستريت وانتحار الخاسرين في البورصة.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة، عبارتنا جميعاً التي صاغها بتفنن الشاعر محمود درويش .لكن دعينا استرسل في الذكريات وليس الحلم، لأروي لكما وللقارئ ولصديقتنا الثالثة في بوخارست، كم من الجِمال الكهلة كانت تمر محملة بسنابل القمح تارةً أو بالحمص الأخضر أو بالسمسم من خلف بيتنا وإن تلك الجِمال هي حقيقة أسلاف لمئات الـ (Baby Camels) التي توزعت في الشتات وتكّهلت ولم تعد تثير الدهشة وبراءة المحبة الأولى التي يمنحها كل قلب سليم معافى للأطفال والقطط الصغيرة والصيصان.
فاتني أيضاً أن أقول لكم أنه كان في بيتنا صيصان وحمام وزغاليل وقطة وديك حبش مزهو بذكورته وكهف (مغارة) خلفية في سفح الجبل الذي يرقد فيه موتانا بين ورود الطبيعة وأعشاب الربيع وكأنهم لم يموتوا بعد لكنهم يستريحون قريباً من مدى البصر في بيوت حجرية تدلل على أسمائهم وتاريخ انقطاعهم عن الحركة في شوارع وأزقة تلك القرية التي لا أدرِ كيف رأيت مثيلاً لها في لقطة لوحة لجزيرة سانتوريني اليونانية دون أن أحس بفرق بين مشهد (الجامع)، ومشهد الكنيسة في اللوحة التي كنت أعلقها بعد أول زيارة لليونان في منزلي في الكويت كأنني استعيد ماضي الأسلاف منذ كريت حتى لحظة الهيام بقرية الطفولة غير المستعادة. لا علاقة هنا كبيرة بين(الحرحوج) ورواية Paradise Lost إنما ما أذكره من كلمة Paradise أنها كانت تعني الحديقة فقط ما قبل ظهور الديانة المسيحية وأنها باللغة التركية تعني (البهجة) وأن الأخيرة باللغة العربية تعني مسرة القلب قبل مسرات العين، وهكذا علينا ،حيث لنا علاقة حميمة بالأدب والفكر والإنسان، أن نلتفت لبهجة القلوب في الكلمة المنطوقة أو المكتوبة. أتذكر هنا لماذا شرعت صديقتنا الرومانية تكتب الشعر باللغة العربية رغم تشويش علي أحمد سعيد(أدونيس) على بكارة إحساسها بالمفردة العربية الطازجة، إن مفردات لغتنا بالنسبة لها ما تزال تلك المفردات الجديدة المدهشة سواء لدى جبران خليل جبران أو لدى محيي الدين بن عربي والمتصوفة، ولم تحمل بعد بالنسبة لها ترهلات وانزياحات وابتذال الدلالة، أي ما طرأ على الحياة لدى العرب خلال القرن الماضي من تشوهات جعلت بعض من كانت أسماؤهم تشير لعلي ابن أبي طالب مثلاً يضيقون ذرعاً بالدلالة دونما سبب سوى فتنة مطلقة إما بماضٍ أسطوري أو خرافي أو بمستقبل عالمي يضعهم في مصاف سان جون بيرس مثلاً، ولأن الزعرورة الأولى والزعرورة الثانية نادينني بنفس الاسم فلست مضطراً لتغيير اسمي. للأسف طرأت تغييرات مأساوية على اسم ابنتي منذ 12 سنة، فبعد أن عاشت 14 عاماً بإسم (الزا) توجب عليها بقرار لا خيار لها فيه أن تعيش في مدينة الزرقاء – الأردنية- باسم فاطمة، ومع ذلك ما زلت ، لو أستطيع ، أناديها باسمها الأول دون أن يشكل لي اسمها الثاني أية حساسية أو ضغينة، فالحرية بمعناها الوجودي – لربما- أحسستها أول مرة عندما ركض بي شابان أكبر سناً مني إلى الحرحوج وكل منهما أمسك بذراع من ذراعيّ مرتفعين بي عن سطح الأرض لكأنني منذ عام 1956 كنت مرشحاً للطيران قبل أن أستعيد أجنحتي التي ولدت بها منقوصة من وجودي البشري.
بالطبع استعضنا نحن البشر عن ذلك بالأحلام، فمن منا لم يحلم في سنينه الأولى بأنه طائر في السماء! غير أن الفخاخ دائماً كانت منصوبة لنا وما تزال، لست متأثراً بقراءتي لجيمس جويس هنا على الإطلاق، ولكن كوابيسي الأولى هي التي جعلتني أتذكر أنني كلما حلمت أنني أطير فقدت قدرتي على الطيران فوق غابة وحوش أو أفاعي وليس فوق حديقة أو بحر، وكلما هبطت من علو شاهق لا أهبط إلا فوق مستنقع للتماسيح أو الضفادع. وما الرغبة التي تنتابني بالموت سوى محاولة يائسة للتحليق، أي تحليق الروح بغير رجعة، وهذا يعني الرغبة الأصيلة لدى البشر بالتحرر من أثقال وأعباء الجاذبية. بالطبع لدي تحفظات على ذلك كي أستثني جاذبية المرأة للرجل أو العكس والعلاقة بين الماء والتفاح وما إلى ذلك، لكن الحلم، كما أظن، أقوى لدينا دائماً من الواقع.
شعراء في بيت الإفتاء
كل من اعتبره المهرجان شاعراً أجنبياً دخل بيت أبي سفيان آمناً سواء كان بيتاً للشعر أم بيتا من الشعر أردنياً كان أم توأمه والمتوكل . وكل من أصبحوا شعراء وكتاب على نفقة الشعب الفلسطيني وقضيته، التي تصرف لهم رواتب تقاعدية حيث يتقاعدون ويكتبون أو يستكتبون من القاهرة حتى باريس ولندن ولا دخل هنا لبن باديس بهم ولا بما يأتون، فهم في غيهم ماضون وعن مستقبل شعبهم غافلون. أما هؤلاء والعرب الآخرون فإنهم يتحملون مسؤولية أخلاقية في النهج الذي ينهجون وتحولهم إلى مديري علاقات عامة لتأثيث بيت المهرجان المقبل واستبعاد أية كائنات فضائية. وبادئ ذي بدء عدم إعطاء الفرصة لأي طبق طائر بالهبوط في الفندق أو في كشف أسماء المزمع اصطحابهم في الرحلات السياحية بعد أن تكشف أن الكائن الفضائي ورد اسمه في كشف الرحلة كمحاولة للتدجين أولية فما كان منه إلا أن ركب رأسه قبل أن يركب الحافلة وظل محتفظاً بطبقه مثل جبالية نابلس ملحاح مصرار لا يرعوي من أن له حقاً من الصحن في متابعة الشأن الثقافي جنباً إلى جنب مع حق أي إسكافي في العيش الكريم فوق الأديم ولو مدة محدودة من السنة لا تتجاوز الأسبوع أو الاثنين لأن الحياة كما هي المناسبات( قرضة و دين) فما أن انفض المهرجان حتى عاد إلى ذكراه مع جان* ويقال أن اللجان أفتت أنه لا يصلح لهذا المكان لا كمحتوى ولا كعنوان فقد أحرجنا وكان الذي كان. وقد علم أن الشعراء والمثقفين العرب هزوا رؤوسهم موافقين على تلك الفتوى.

•إشارة للشاعر العراقي جان دمّو
صيف أن أمطرت مهرجانات ومؤتمرات
بذهول حقيقي كانت شيند تستمع لشروحاتي.
هو ذاك جزء بسيط من البحر الميت أكثر بقعة منخفضة عن سطح البحر في الكرة الأرضية، أما تلك الجبال البعيدة فإنها ما يسمى بالضفة الغربية – فلسطين- لكنها حالياً إسرائيل، إنها الأرض المقدسة، وفجأة تدخل طرف ثالث من إدارة مهرجان جرش نافياً أن يكون ذلك البحر الميت بكل ثقة وتأكيد ثم طالباً منا التوجه للباص الذي لم يمض على توقفه عند مرتفعات السلط المطلة على الجهة الغربية من البلاد خمس دقائق، شيند احتجت بدهشة الشعراء الحقيقيين قائلة أنها لا تريد مغادرة المكان وكانت عيناها تذهبان للبعيد البعيد في القصيدة، إنها لحظة الشعر، أعلم، وسرعان ما تذكرت موقفاً مشابهاً مع رامبو الفرنسي فأدركت خطورة الموقف، دعوتها فوراً لتلبية الأمر كي لا ينطلق الباص وأصبح مسؤولاً عن تخريب الرحلة وربما جدول أعمال المهرجان، قلت لها: هيا، لا تعملي لنا الآن رامبو هذا الزمان، فالأمر لا يحتمل اكتمال القصيدة الآن لأنها أصبحت منجزاً ما دمتِ قد عشت اللحظة، ولنعتبرها ضمن المؤجل مما سوف تكتبين. ركبنا الباص سمعاً وطاعة ولا أعرف حتى اليوم كيف سوف تعبر شاعرة من دبلن عن هذا الموقف شعراً أم نثراً، لكنه بالنسبة لي موقف لا أحسد عليه، فما وراء الجبال تلك التي رأيت جنتي المفقودة ومسقط رأسي وسنوات الطفولة وأرواح الشهداء والقتلى ونقطة الضعف الكامنة بي كلما سمعت فيروز تغني لمن هم هناك(يا جبل اللي بعيد... خلفك حبايبنا).
ملاحظة.... للشاعرة شيند ديوان شعر بعنوان( بين هنا وهناك) وعندما أتأمل الموقف اليوم أراه أن شيند تملكتها الدهشة وما في ثقافتها عن المكان لكنه ليس المكان الحاسم في أسئلتها عن الذات والوجود مثلما هو بالنسبة لي كأنه أحد أسئلة الوجود التراجيدية أو سؤال هاملت عن الذات، تكون أو لا تكون تلك هي المسألة.
وقد استحال هذا السؤال منذ حزيران 1967 حتى اليوم إلى أحد الأسئلة الوجودية بين الهنا والهناك ولا أعلم حتى اليوم من رفض طلبي وتوسلي للعودة إلى القرية التي أعرف والجبل الذي أعرف، أهو السلطة الفلسطينية أم سلطان الاحتلال، وكلاهما لا مصلحة له في وجود أمثالي فقد طلب مني الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور- عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين – أن أصمت لمدة ثلاثة شهور على الأقل إن هو تدبر أمر دخولي حيث أن شعبنا في الداخل لا يعرفنا تمام المعرفة وقد ينتهي بي الأمر لأي سوء تفاهم في سجن أريحا، وبالتالي لا أكون قد فعلت شيئاً في حياتي سوى استبدال السجون من معتقل إلى معتقل، ومن زنزانة عربية إلى زنزانة فلسطينية أو إسرائيلية ومن إضراب عن الطعام إلى إضراب آخر عن الطعام في أحسن الأحوال، ولعل شيند لا تعلم أنني مثلها أتعرف كما الزائرين والعرب الضيوف والأجانب على الأردن والذين لولاهم لما وجدت مكاناً لي في هذه الرحلات والجولات غير المخصصة للمواطنين المغتربين .ولمدير المهرجان – بالطبع- كل الشكر، ولأهالي السلط كل المحبة والعرفان من العقبة حتى عمان، وكذلك لبنان وأهل لبنان من الزرقاء حتى جبل لبنان، ومن عالية وسوق الغرب حتى بلودان، فماذا بوسعي أن أقول غير ترديد أغنية فيروز عن(تراب الجنوب) وبرفقتي الشاعر شوقي بزيع هذه المرة ومنذر المصري و(آمال شاقة) كل مرة؟
ملاحظة: كان منذر مصري أول من بادر لإرسال رسالة إلكترونية لي بعد انفضاض المهرجان في صيف أمطرت به مهرجانات على الأردن وتحديداً على عمان والفحيص ثم على الخالدية شعراً نبطياً وعلى بقاع شمال الأردن ومجمع النقابات كلاماً وكلمات، لكن عزوفي عن متابعة بقية المهرجانات كان له ما يبرره صيف عام2004 فقد أمطرت قنابل ورصاص على النجف في العراق آنذاك ولم يعد لدى الإنسان المقموع والمحاصر أي مساحة للفرح والابتهاج في ظل إضراب المساجين الفلسطينيين والأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي عن الطعام، الأمر الذي حملني على الصبر أنا الآخر وتأجيل إعلان إضرابي عن الطعام قبل أن يطردني صاحب المنزل الذي أستأجره مثلما فعلت وزارة التربية والتعليم من قبله في أيار من نفس السنة وفي حزيران عام 1999، رغم كل الجهود المخلصة في أن أكون معلماً ممتازاً لطلبة فقراء أو متوسطي الدخل وأحبهم.
وفي ذلك الصيف أيضاً بدأت سلسلة من المؤتمرات بدءاً من مؤتمر( مستقبل الثقافة والفنون في الأردن) إلى مؤتمر (الفقر والبطالة في الأردن) ومروراً بالمؤتمر الصحفي الذي كان ينعقد كل يوم اثنين للناطق الرسمي باسم الحكومة، فكنت على أية حال أواظب على حضور بعضها بصفتي متطوع وبلا عمل أو دخل وأنفق واستدين على أمل قرار يصدر من المحكمة يلزم أمانة عمان بتعويضي عن غرق منزلي السابق في الجاردنز بوحول الشتاء على ارتفاع 175سم ليلة 4/12/2001م

IX
البحر لا ينام في غرفته أحياناً

يهدر البحر أحياناً لأنه يضيق ذرعاً بمتأملٍ على الشاطئ أغراه انحساره ولم يحرك ساكناً وكأن البحر خُلق للرسم والتأملات والأحبة في ضوء القمر. ويهدر البحر أحياناً ليحمي كائناته وقد نأى عنها ما يكفي معرضاً إياها للخطر والمتسكعين والفضوليين غير الآبهين بأن بعض الكائنات لا تعيش طويلاً خارج مياهها.
ويعوي البحر أحياناً نواحاً على سمكة جريحة. يتقدم البحر هائجاً أحياناً انتقاماً من تشفي السواح من تراجعه وتقهقره إلى الخلف لأنهم لا يغامرون من وهنهم بمواجهته بسواعدهم وأجسادهم. لكن البحر في عمان ثائر لاعتقاله سنتين متصلتين داخل الحب أحياناً وداخل القبو أحياناً أخرى أو داخل الوظيفة أو داخل الكومبيوتر أو في علاقة تنز أوهاماً بالتحاقها بمشاريع خدمة الحاشية وإجادة العولمة. والجوع في كل الأحوال كافر بالبلاط والوهم والحاشية والشاطئ وبالبحر أيضاً. ماذا يفعل البحر وهو يفترس الشاطئ ويبري الصخر ويجلد الزمن؟
الأرجح أنه ينظفه من ليلة الأمس أو ما تسبب به الانحسار الأخير.البحر الغاضب أيضاً يكنس الجرائد والمجلات والبيانات والورق فقط لأن الخارطة لا تذكره بقدر تغنيها ببحر ميت تزدان به ويأتي لمرآه القاصي والداني من سواح العالم للتفرج عليه وهو ميت ولركوبه وهو ميت وللاستلقاء عليه وهو ميت وقلما يغوص أحدُْ عموماً في بحر ميت، فلماذا تريد الفتاة بحراً ميتاً؟ ولماذا تريد أجهزة الأمن والسيطرة بحراً لا يهدر ولا يتقدم ولا يغضب ولا يستنكف ولا يتمرد ولا يثور على أغلاله؟ وفقط تريد مراقبته وهو يدخل في غرفته كزنزانة مفردة وحيدة دون ضوء أو ماء أو كهرباء ودون نوافذ ويُحكم إغلاقها عليه بعد دفعه للأجرة الشهرية في بداية كل شهر. وتريد منه كذلك أن يظهر للعيان كأن يذهب إلى الوظيفة ليوقع توقيعي الحضور والانصراف ويطلعهم كذلك على كل أفكاره وخلجات قلبه أثناء عزلته في القبو. يا إلهي. هل يعتقلون البحر في عمان هكذا ؟وإذا كان الأمر كذلك في عمان فما بال البحر الأبيض المتوسط هائج وبحر يافا متمرد وبحر حيفا ممتد حتى الكر مل وبحر غزة ضائع في مخيماتها وبين الجرافات يعلو هديره هديرها وبحر القدس يفتش بين الصخور عن بقايا مسلمين ومعابد وكهنة تائهين انصرفوا عنها لاستكمال كتابة مخطوطاتهم داخل كهوف قديمة في قمم جبال تطل على بحر مات ومات آلاف المرات ولم يشبع لا موتاً ولا سائحين .للبحر بحر يؤويه من العسس والمخبرين والانتهازيين ، وللسمكة ما ترى . وللعاشق ما يعشق وللميت صمت الصخور القديمة تحت شمس لاهبة .
للبحر أيضا ما يريده في سكناته وتقلباته واندفاعاته . إرادة البحر فوق كل الحيتان وأسماك القرش والغواصات النووية ولوث المدن وأوساخ العواصم ، لا تعلوه سوى نوارس الحياة السابحة في فضاء الحرية والباحثة عن الحياة في الحياة ذاتها.
هكذا بموازاة قمم الجبال العالية وإرادة الشعوب التي لا تقهر هكذا أطول عمراً من المشاريع الاستعمارية التي سرعان ما تتدحدل بضربة حجر . الأبله الوحيد الأصم في كل ما يجري هو برج إيفل العاجز عن رؤية الجزائر رغم عنفوانه وشهرته وطوله الفارع . الحديد الوحيد الذي لا يستفاد منه في أيدي العمال ، والحديد الوحيد الذي لم يرغم العمال على صنع قاصفة ميراج منه للمشاركة في نهب النفط ودغدغة بلاد الشفط وإسباغ الوعود الوردية للراغبين في اللهط على فتات موائد المعونات الأجنبية بحلة وكوفية عربية مزدانة بدق المهابيش ووعود الخلاص من الخرابيش للفتاة الأمريكية . أي رباط مقدس يا ترى سيوفق البحر والشاطئ في الحياة الزوجية. شاطئ يداس بمن فيه ومتسخ كماضيه وبحر غاضب على من فيه؟
X
أزمة الكائن في التكوين
عندما نتحدث أو نكتب في موضوع ما، فهذا يعني أن نصمت عن موضوع آخر، وأحياناً نضطر للصمت عن الاثنين معاً صمتاً مطبقاً الأمر الذي كان شديد ما يزعج ناجي العلي، ذات مرة نهرني بشدة وكان متوجهاً لجريدة القبس مع محمد الأسعد، مالك صائم! وبقيت فعلاً صامتاً تاركاً الصديق محمد يتكلم أو يكتب نيابة عني فيكون والحالة هذه مسؤولاً عما يكتب وعما يفعل إلى يوم الدين – كما يقولون عادة-. بكل أمانة، هنالك مواضيع ليس من حق الكاتب أن يخوض بها بصراحة وصدق، فالصمت أفضل خاصة إذا كان الكاتب أباً أو بمثابة الأب أو الأخ الأكبر لغيره خشية أن يتحطم المثال - على حد زعم مسؤول الساحة -، ساحة الكويت- للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين آنذاك في أواسط السبعينيات، وهنالك مواضيع مضطر أن يصمت عنها الفنان الملتزم أيضاً، خاصة عندما يكون متورطاً في قضية كبرى. هذا الاعتراف لا يقلل من شأن أحد لكنه ضرورة ليس من الجائز أخلاقياً تجاوزها، فماذا لو قلنا في أسئلة الحرية أن ثمة استلاب قائم لي منذ لحظات التكوين الأولى إنني أحمل اسم أخي الأكبر الذي ولد ميتاً؟ هذه حقيقة أزلية بالنسبة لي، خاصة عندما وعيتها فيما بعد. لسبب غامض جاء الابن البكر لوالدتي ميتاً تماماً، منسحباً تماماً وربما محتجاً تماماً ورافضاً تماماً مما أدخل الحسرة والحزن في قلب أمه وبالتالي أمي أنا أيضاً وإذا صحّت النظريات العلمية عن التكوين فإنني بدأت أتشكل في أجواء جنائزية جعلتني فيما بعد قريب القلب واليد واللسان من جنوب شرق تركيا ومن الموسيقى والتراتيل الحزينة أكثر مني قريباً من الفرح، توالت الخسارات ومتتاليات الفقدان في كل شيء وصولاً للنصف قرن الذي عشته واليوم دعوني افترض التالي:
هل حرمت روح أخي الأكبر لسبب غامض آنذاك من الصعود للسماء وظلت تحلق حول الدار إلى أن حلّت في جسدي؟ هذا السؤال يفيد إسرائيل بكل تأكيد لأغدو من باحث عن مساحة وطن إلى باحث عن روحي، وهو افتراض يفيد ويعزز وجهة نظر جان بول سارتر وعموم الوجوديين ويجعلني أقرب إلى أدونيس الذي احترمه فكرياً ولا أهضمه شعرياً فأنا رغم ملاحظاتي الدقيقة الرائية لمحمود درويش الشاعر إلا أنني أحب شعره واعتز به كشخص، مأساة أن يستشري فيك الناقد والساخر معاً، هي حقيقة ممتعة في ظلال الكرمل وتأملات إيميل حبيبي ولكنها حقيقة لا تبعث على البهجة وتفقد صاحبها متعة الخلق الإبداعي والدهشة، قليل ما اندهش ولذلك لا أعرف كيف تمكنت من كتابة عشرات القصص والنصوص وأحياناً الشعر، هل كل ذلك كان من أجل إحكام الصمت على موضوعات أخرى كالحب والكراهية كالرؤى ومعايشة التزوير السياسي والأيديولوجي؟ ربما، فلست ملزماً اليوم أيضاً بأداء دور الناقد أيضاً لنفسي في ظل انتهازية أو كسل النقاد والدارسين ولكنني افترض استمراري في الكتابة ، رواية، شعراً ، مقالات، هواجس أو قصص ونصوص إبداعية، نقد إن شئتم وأي شيء كمعادل موضوعي للصمت الذي أحتاج المزيد منه كي أصل الفضاء، أجل الفضاء الذي يؤنسني ويجعلني أحس عميقاً سعة الكون وأتجاوز كثيراً تفاهات هذا الكوكب وعراك من عليه. ليس تصوفاً كاملاً ، بالطبع، فلم يعد لأولئك مكانة اليوم أو مكاناً على هذه الأرض إلا إذا كانوا أغنياء وأذكياء أصحاب ضمائر حية ليصبح التصوف بالنسبة لهم ترفاً أكثر منه ضرورة، بالمناسبة قرأت( ضرورة الفن) لأرنست فيشر الذي قلما أتذكره هذه الأيام، إذ يبدو أنني أصبحت في الأردن مطالباً بحل لغز ضرورة الوجود أو عدم ضرورته، ومن هنا تنبع آبار السخرية التي أحاول الحد منها لأنها تغدو مؤذية أحياناً وفتاكة أكثر مما يتصورها الكاتب الفاتك وغيره من الكتّاب قاعراً كان أو مقعوراً أم بين بين، لست هؤلاء ولا أولئك، ففي هذه البلاد قاطبة من الصعب أن تتبلور بوضوح وفي هذه اللغة ما عاد بإمكاني أن أشتم أصلاً حيث الشتائم أصبحت أيضاً مبتذلة وفقدت وظيفة معناها وأصبحت كالسياسة هراء في هراء. في الماضي كان الكتّاب في عصر بيدبا يلجأون للترميز والآن للانترنت، وكلا الملاذين بالنسبة لي غير مجد. إنه النجم البعيد الذي لن أشهد ولن أبصر ولن أستمر حتى دخوله مجرتنا ذلك الذي يشغلني ككائن فضائي وليس القضية الفلسطينية أو القضية العراقية ولا الأردن أولاً ما يشغلني، يشغلني صمتي كثيراً وما أنا محروم أبدي منه، الأجنحة، وإن كان في مصير إيكاروس بعض عزاء، وما لم نستطع البوح به وقوله وإن كان عزائي في جزء منه صمت لويس آراغون بعد رحيل إلزاه. ولي عزاء أيضاً في صمت يزهار سميلانسكي بعد أن تفاقمت المأساة. ثمة عزاء إذن لأي كائن فضائي إن كنته على هذا الكوكب، رغم أن لا جديد فيه بعد أن تفاقمت أمريكا وانتشرت في كل مكان كداعية للديمقراطية حيناً وكداعية لحقوق الإنسان والحرية التي ليس لها(جنحان) ورغم إبصارها ونسيانها لتغلب الحيوان على أخيه الحيوان والإنسان وامتلاء بحارها بأسماك القرش والحيتان.
ومع ذلك أقرأ أحياناً في سفر التكوين فلا أجد مثيلاً لمعضلتي، يا للعجب، للسائل والمسؤول ومن وهب، لعلي أريد إذن مزيداً من الوقت وبكل تأكيد المزيد من الحياة كي لا أتكاسل عن المساهمة في حل الأزمة، وتفهم أبي لهب.

بالامس سأكون ما كنت سوف أكون


في كل ليلة يتمدد جسد أمامي كجثة هائلة من الحزن النبيل. ولا أحد ينتبه إلى تضاريسه الممتدة من المغرب إلى الخليج الدافئ الرطب. ولولا ان الشمس تشرق لتعفن هذا الجسد و لانبعثت منه روائح لنباتات و اعشاب منقرضة. لا اوقظه عندما ينام منطرحا أمام عيني فهو على الأقل لم يطلب مني ذلك، و لم يشر علي بأية فكرة أو ايحاء من هذا القبيل. لعلي ألفت هذا المشهد و اعتدت على الصمت و التأمل و عدم التدخل، خاصة عندما أكون نزيلا لفندق شعبي غير مأهول في الزرقاء التي تسمي نفسها مدينة. و بالتحديد عندما يثقل كاهلي شاب الفندق الفتي و الكسول بسؤاله عن أجرة المبيت. و في مثل تلك اللحظات يكاد هذا الجسد الخرافي ان يتململ و ليته يفعل . و يكاد يتثاءب لكنه لا يفعل. انه حزن ثقيل فقط. حزن اكبر من ان تحتويه عين. لكنني موقن و ما اعمق يقيني بأنه نبيل. لا يريك ملامح وجهه كي لا تعتاد عليه فتمل رؤيته او يضجرك حضوره البهي. لكأن آلهة الإغريق اختبات فيه قبل وفاتها بلحظات و لكأن سيزيف ما يزال يحتضر فيه. فقد اختفى بروميثيوس و شعلته في هذا الليل. أو لعلي لا أدرك أن برميثيوس ما يزال يتعذب على سفح جبل تطوقه الأسلحة النووية و الجرثومية و الكيماوية و قد كتب لمناقير الطيور الجارحة ان تزداد صلابة و قساوة في توالدها المستمر كي تورث مهمتها الإلهية . هل قيل انها مناقير الصقور أم النسور؟ لا أدري، فلا جدوى من ان أدري فثمة لا فرق لبرومييثوس الآن بعد مرور السنوات دون ان ينبري أحد للتدخل في ما آلت اليه اقداره" سارق الشعلة" هل قيل: سارق؟ لا بأس ، فتلك رواية التاريخ و قلما يعترض تواترها احد في زمن يتناسل و يكف فيه الأنبياء عن الظهور العلني . هكذا أمضى الليل في الزرقاء في الفندق في الأردن في الشرق الأوسط في ما أصبح يخصني من أدوية الآم الصدر و القلب و تصلب الشرايين و التوق لأن لو لم أكن بحاجة للتدخين و النقود و النوم جنبا إلى جنب مع جثة الحزن النبيل. ماذا يخبئ هذا الجسد الهائل؟ و ماذا لو استيقظ فجأة منتصبا لتتساقط الطائرات على كتفيه مثلما يتساقط الذباب! إنها إحتمالات النائم الجميل في بلاد كل ما فيها جميل لولا تزاحم البشر مع الذئاب و إندهاس الحمام في لجة الفوضى و اندغام الهديل بالعويل. انها احتمالات لا ترقى إليها عبقرية المتخيل لاجمل الرجال الغرقى. لعلها احتمالات و كفى أو لعلها وهم بالي الجذور كي ينقرض الشجر الضخم و لا ينتمي الحزن لهذا الكون. هذا الكون الشاسع الكبير المتسع المسافر الثابت البهي المتعادل المعتدل المتوازن المتسق الحكيم، إنني الكائن البسيط الصغير غير المرئي في حضرة هذا الجسد. ليل جثة الحزن البهيم. إنه حزن عميق و كفى. حزن كائن و مجرد و متكامل . حزن لا يشبهه من هذه المخلوقات شيئ لله وحده الكائن في صيرورته و تحوله و إتساع رؤاه. من عظام البسطاء أمثالي تتكون الصخرة و الكلس و الحجر. هل يتدفق الماء في خرير يشبه ما قبل البدء؟ و هل سأقوم بعمل ذي جدوى لاكسب فرصة تسديد أجرة الفندق و ما يطمح إليه فتى الفندق الكسول؟ سأفكر في كل هذا غدا و بطفل يناديني : بابا، و بعيني ديما، ابنتي، الغرقتا بدمع الحزن المبكر.
حزن ديما النبيل. فقد شاهدتني بصمت و فهمتني بصمت كما الزا دون ان تقول أي منهما:" بابا". أشهد الآن انني رأيت ذلك و ليس في الأمر أي تصعيد للخيال. ابنتاي تعيشان، تنامان، تصحوان ، على مسافة أمتار من فندق أقيم به و في الزرقاء. فلماذا حدد مركز البوليس ساعتين كل خميس لمشاهدتهما؟لا أدري. لعلهم اتفقوا مع من تولدوا منها على : " فراش الزوجية الصحيح" ان يتم تعييني حارسا لهذه الجثة الطريحة المتضاخمة و المترهلة من آثار حزن عربي غير نبيل. و هل هناك أحزان غير نبيلة؟ الحزن هو الحزن . الوعي هو الوعي. و ما أراه في وحدتي ناصع مثل شمس واضحة لكل ذي بصر و دافئة لكل ذي بصيرة. اما رؤاي فجرداء عارية مثل هذه الصحراء التي لا تكف عن الإمتداد . صحراء في الجبل صحراء في الوديان في القلوب و في نفوس البشر. و جفاف يا ديما لولا دمعة عينيك، صحراء في حي رمزي في المركز في المحكمة الشرعية الجنوبية في بيوت الأصدقاء في الشارع المؤدي إلى مادبا في عمان في كل ما هو ليس بحرا، وليس نهرا ، وليس فضاء، وليس سماء و ليس غيما، وليس أنا . غدا سأرى لأكون. فإما ان أكونه هذا أو لا أكون .بابا..بابا.... سأناديكم في الضباب المخيم على مادبا و ذيبان و لب و مليح و العريش و الجرينة و الجبل . أين الجبل في هذا لضباب الشتائي القارس؟ في لجة الضباب الكثيف؟ و أين أنتم و أين النقود و أين التاريخ؟ خذواالتاريخ كله و ادعاء إمتلاك الحقيقة و اقتسموا حصتكم و امكم. فلن أنسى ما رأيت أو ماأرى. ليكون نجما و يكون قمرا و يكون ليلا و يكون نهارا، ليكون بعدا ليكون فقرا فيكون حزنا، غدا، سأكون أو لا....
و غدا سأختفي في الضباب الكثيف المتراحل الندي البارد الهارب إلى لا مكان. غدا سأكون الأدرياتيكي غارقا في الكحلي لعلي اجدني في تريستا بعد أن مللت من إنتظار ضباب سيلة الظهر و تين سيلةالظهر و ان ينمو عرق اخضر في قرميتي الرومية الرومية من زيتون عريق أمام منزل لم أسكنه بقدر ما سكنني نحو ثلاثين عاما. غزة للرمل و النقود. في غزة فقر و مخيمات و نقود و لا يكون بحر . و في سيلتي انا جبل وسماء و زيتون و أسماء و يكون غول. وفي الزرقاء أمن و أستقرار و محاكم فتكون نقود و تكون مدينة ويكون هاتف تغلقه ابنتي الكبيرة و ابنتي الصغيرة و الأبن الوحيد في وجهي بناء على تعليمات صارمة فأكون حزنا و أكون جسدا و أكون دخانا و يكون الحزن الكوني يلف العالم بالدفء و يتركني وحيدا في العراء والصقيع. بالامس سأكون ما كنت سوف أكون . تحترق ببطء.
XI
نحت على الحوّر
مزدحم كقطار ، والوجهة غير محددة منذ اضطررت للنزول أول مرة دون الاقتناع بأسباب النزول. لكن رغبة في التواضع أمام ما كان يسمى آنذاك بالإجماع الفصائلي الوطني، حسناً ، دعونا نعود لسكة الحديد أيام الأتراك أو أيام الانتداب فليس ثمة فرق كبير يذكر. حسنة شعبنا أنه لم يندفع للتخندق مع لورانس العرب- حسب الدارج من التسميات- في وادي رم أم في غير وادي رم، وهذا ليس معناه على الإطلاق أن يتخندق في صفوف نازية هتلر، فرفض خيار لا يعني الخيار المضاد كما هو معهود في العقلية السياسية الموروثة، إما الكفر أو الإيمان، لا.. حسنة شعبنا أنه لم يهاجم سكة الحديد ويحطمها،لذلك لم يكن بكبير الحاجة للينين، بل أبقاها ولذلك كانت موجودة منذ الطفولة وبدء الابتعاد عن البيت باتجاه قرية العطارة وتجارب النحت على الحِوَّار الأولى، لكن وجودها اقتضى الإحالة لما هو غير موجود والذي ظل غير موجود حتى في ظلال الاحتلال إذ لم يفكر الإسرائيليون أيضاً بتسيير قطار ما عليها، وهكذا نشأت الفكرة من واقع أصيل، غير أن القطار الأول الذي رحل بي مسافات شاسعة كان ثقافياً قبل أن يفكر المجلس الثقافي البريطاني في نهايات القرن الماضي بتسيير قطار ثقافي للكتاب يجمع كتّاباً بريطانيين مع أقرانهم من الكتاب الصينيين في الصين نفسها، وقد شاركت الشاعرة الأيرلندية في ذلك القطار، كان قطاراً ثقافياً ابتدأ بالقراءة وعربات الكتب بدءاً بما توفر لي في مكتبة مدرسة سيلة الظهر الثانوية في العامين 66-67 وخاصة حول الفن التشكيلي ومدارس الفن الحديث وليس انتهاء بما توفر لي في مكتبة حولي العامة في الكويت في أعقاب 19/6/67 مباشرة تاريخ عودتي الأخيرة للكويت، كان القطار سريعاً جداً بحيث يطوف بك في أحداث ووقائع ما سمي بثورة 23 يوليو 1952 في رواية (رد قلبي) الرواية الأولى التي قرأتها في حياتي ولينطلق بي ذات القطار نحو( خان الخليلي) و(زقاق المدق) وجميع ما كتبه نجيب محفوظ حتى عام 1969 تقريباً وإذا بي خلال سنوات التشكل الثقافي والوجداني في أحد القطارات الموصلة إلى عوالم جون شتاينبك مسافر دائم في قطار وعربات الرواية، فرنسا، أسبانيا، روسيا، رغم أن ا لعمل الفدائي الفلسطيني آنذاك كان مستعراً في الأردن ، لكن ظهور (أدب المقاومة) وشعراء المقاومة جعلني أترجل من عربات القطار الأوروبي لأمشي على سكة الحديد الأولى بدءاً بروايات وقصص غسان كنفاني وليس انتهاء بالريل العراقي، لكن مع بدر شاكر السياب تحديداً قبل مظفر النواب. كانت وتيرة العمل الطلابي الفلسطيني آنذاك تدين كل من يشغل نفسه بقراءة جان بول سارتر وكولن ويلسون، وضد كل من يركب وسيلة نقل أوروبية أو قطار الاستعمار. وما وقع هو الانشداد الدائم لغير وجهة الثقافة العالمية التي تنشد، فالعمل السياسي الفصائلي لا ينظر بكثير احترام للمثقف والفنان إلا بمقدار ما يكون له من وضع تنظيمي آنذاك، ولم يكن بمقدوري آنذاك أن أصبح فتحاوياً أو أخاً مسلماً لكن اليسار بعامة حتى ذلك التاريخ كان غامضاً ولم يصلني إلا عبر القراءة الروائية.
اهتديت حقاً إليه من خلال نهاية الثلاثية ونهاية رواية (بداية ونهاية) وهذا ما سوف يسبب لي إشكالات فيما بعد مع المحسوبين على الجبهة الشعبية وعلى الحزب الشيوعي الفلسطيني فيما بعد، أي مع من لم يركبوا سوى قطارات حقيقية يربض في كل منها ستالين تارة على شكل رجل وأخرى في مظهر امرأة . وللأسف لم اكتشف تروتسكي إلا بعد فوات الأوان، أي في بداية الثمانينيات حينما كان الاتحاد السوفيتي يحتضر ولا تفصله عن الرواية التي وقفت ضدها – لأسباب أيديولوجية – سوى أربع سنوات وزد على ذلك قليلاً كي نصل إلى البريسترويكا التي جاء بها غورباتشوف ليكون آخر زعماء العملاق الآخر في الشرق. كان للدكتور رجاء الدريني موقفاً آخر من رواية جورج أورويل(العالم سنة 1984) ولكنه كان متفهماً للنزعة الوطنية التي كان يحملها أبناء جيلنا. كنا على درجة من التطرف بحيث نضع أساتذتنا موضع الشبهات بالنظر لما يقررونه علينا من كتب وروايات وأشعار ضمن منهج الأدب الإنجليزي في جامعة الكويت. في بعض تلك المواقف كنت على صواب وفي بعضها الآخر لم أكن، بحكم أنني لم أكن مطلعاً على أفكار تروتسكي آنذاك لأن العمل السياسي اليومي كان شغلنا الشاغل. ولو عدت إلى عربات قطاري بدلاً من تلك التجربة التي لم تخلف لدي سوى الإحباط على كل الصعد لكان هذا أفضل، وما كان بوسعي أن أفعله. الكارثة أن تلك التجربة أي النزول من قطارك الخاص إلى قطارات وعربات الآخرين السائرة في وجهات ما كنت لتختارها كفرد بل أن الالتزام بالجموع وبالمركزية الديمقراطية آنذاك، حرف الوجهة الصحيحة لي عن الكتابة الإبداعية التي كنت أطمح إليها، وجعلني أختار بعض أسوء ما لدي من قصص وأن أضحي بقصص جميلة أحبها اليوم أكثر من كتبي المنشورة وفي نفس الوقت أفتقدها ولا أستطيع الانشغال بالتفتيش عنها لجمعها في كتاب مثلاً أو إعادة قراءتها، وأشك أن أحداً سوف يفكر في ذلك ما لم نأتِ بأعمال إبداعية كبيرة تجبر الدارس والناقد أو الباحث عن موضوع لدراسته في الماجستير أو الدكتوراه أن يتعب حقاً في سبيل ذلك. باختصار تعرضنا لتشويه مجاني في تجاربنا وفي طرق التعبير عنها مثلما تعرضنا للقمع،و الأدهى من ذلك أن بعضنا لم يساعد أو يسعف بعضنا ليس على الصعيد الإبداعي والثقافي والصحفي وحسب بل على الصعيد الإنساني والأخلاقي.
فمن كانوا شيوعيين بزوجات غير فلسطينيات وتحديداً من الدول الاشتراكية سرعان ما التحقوا ببلدان الزوجات بعد أن أسهموا في تغيير برنامج الحزب وبرسكوه دون مبرر بعد أن كانوا قد ستلنوه. نقلات أوصلت بعضهم أن أخونوه أيضاً فأية كارثة شخصية حلت بنا وأية كارثة وطنية كذلك. سوف تقودني كل هذه الإرهاصات إلى متتالياتها المؤلمة التي لم تدفع ثمناً غالياً لها سوى إلزا، فالرفاق والرفيقات ما عادوا كذلك، والقطار الذي كان يخصني مضى منذ زمن ولم يكن في محطته منتظراً لجنابي أن أتخلص من هبلي وخديعتي أو الفخ الذي وقعت به وما زال كاتماً على أنفاسي رغم أن الكثيرين علنا وجهاراً غادروه، وهكذا لم تعد إلزا هي إلزا ولم يعد هنالك أحد غير هذا المدى الشاسع الذي تمنحني إياه السخرية وليدة الحزن والأسى الهائل الذي مررت به، وإذ بي أرى صورة مرعبة للناقد غير المتسامح الذي نمى وشب بداخلي ليكيل الصاع صاعين لصبية شارع الثقافة الأردني وكل نتاجات التخلف وأحياناً أشفق عليهم لكنني عندما أدرك كم هم منصاعون لكهنتهم وعشاقا لجلاديهم ومتهافتين نحو أحلامهم الشخصية أقول حسناً أفعل بتدمير بنيانهم الهش الذي لا يمكن أن ينمو نمواً إنسانياً طبيعياً ما داموا مفرغين من الموهبة، أي موهبة أن يكونوا بشراً عاديين وبسيطين. وكل ما ظهروا لي بأقنعة الثقافة أفعل تماماً معهم ما قام به أول ناقد في التاريخ في فيلم( تاريخ العالم) في جزئه الأول لأنهم وبتحريض ممن هربوا قاموا بمهمة التصفية المعنوية لكاتب واضطهدوه بحجة واهية كونه قادم من الكويت.
ولو صدقوا في ذلك لكنت معهم، لكن عدائيتهم المجانية لشخصي بالذات تضمر كم كانوا متلهفين على دخول الكويت والعمل في صحافتها خاصة إبان الأحكام العرفية في الأردن وحرمانهم من الكتب والتفكير والقراءة آنذاك وكل ما هو حرية نسبية. كانوا جوعى لكل ذلك ويعتقدون أن بإمكانهم أن يكونوا نجوم عصرهم لو توفرت لهم الفرص التي توفرت لجيل من الكتاب والمبدعين الذين عاشوا في الكويت أو في داخل إسرائيل. إن الخطورة هي أنهم يضمرون ذلك ولذلك لم أصدقهم في ادعائهم الوطني تجاه نظام صدام حسين ولا بادعائهم تجاه العراق، إنهم أكثر هشاشة من أن يكونوا ما يدعون. بعضهم تدفق اندلاقاً على جرائد رأس المال بدءاً بالطباعين العرب ومشروع الجريدة وانتهاء بالطباعين غير العرب يركضون لا حمداً ولا شكوراً نحو التماعات النفط ثم يشتمون النفط و يضطهدون القادمين من دول النفط.
حسناً، أنا فخور في الأردن فقط أنني عشت في دولة نفط وليس في مجتمع الشفط واللهط، أما مكابداتنا ومعاناتنا وشقاء الإحساس بأنك مواطن من الدرجة العاشرة في بلد ما، فهذا ما لم يخبروه جيداً . أواه.. أيها القطار الأول... مضيت بعيداً بعيداً.
لذلك ولبعض ذلك استوجب التحليق وليس لدي اليوم مانع أبداً من مواجهة تهمة الكائن الفضائي لأنني فعلاً أرى الواقع عن بعد تماماً كما هي تقنية نجيب محفوظ بعد فراغه من(الثلاثية) كي نرى الناس بأحجامها الطبيعية وبالتالي لا نبخس الأقزام صفاتهم لأنهم لن يصدقوننا لو قلنا أن لهم قامات طويلة، وشامخة، فقد يتصادف أن يكون أحدهم ذكياً ويعتبر ذلك من قبيل السخرية وبالتالي يقع المحظور. أعرف أن ذلك قد يجافي حقائق إنسانية نبيلة لدى هنريك ابسن، ولكن من قال لك أن هكذا مندلقين وهشين ومدعين سيكون لهم علاقة بهنريك ابسن حتى بعد أن يقرؤه، إنهم لا يقرؤون وإن قرأوا لا يفهمون وإن فهموا لا يستوعبون ويتمثلون ما قرأوه، وإلا لما اضطررت لمثل هذه الكتابة دفاعاً عن الذات فقط في بلد يشكل فيه التهديد لحياتك مدعو الثقافة الذين لم يرتدوا زيهم الرسمي ولو لمرة واحدة.

لحظة افتضاح القمر S1 2004 /S وأخيه

ها أنا أتذكر لحظة من صيف عام 1986، صيف التكوين لابني البكر غسان، في دعوة عشاء ضمتني بعد ترجمتي لرواية فواز تركي بمدير تحرير مجلة الكرمل المبدع سليم بركات في منزله في نيقوسيا والكاتب محمود الريماوي قبل التحاق عائلتينا بنا بأيام، فأثناء الحديث والشواء في فضاء مفتوح، وقد كان الحديث يدور حول سعدي يوسف وجبرا إبراهيم جبرا واحتلال المواقع وربما كان جندي تركي على الجانب الآخر يلاحظنا. ما أن التفت إلى السماء حتى سقط نيزك على قلبي، فلم أخف ما وقع لي عن الاثنين.
وحتى اليوم لم يأن أوان كتابة قصة أو قصيدة أو رواية في الموضوع، ربما نسيت لأن شباط أوآذار من العام التالي كان قادماً لا محالة، ولم أكن متأكداً من قدوم غسان الذي كان فيما بعد مفاجأة سارة حيث جاء في نيسان ليجدد السؤال، لربما، أو يرثه عني كما ورثت أسئلة الآخرين كقدر محتم من أقدار كينونتي. وفي الفترة ما بين 17 تموز حتى 24 أغسطس سنة2004 بعد الميلاد تم رصد ذروتين للزخة الشهابية المعروفة بشهب البرشاويات وقال الراصد الفلكي أن ليلتي الخميس والجمعة رصد ما معدله 125 شهاباً في الساعة في مخيم فلكي في منطقة الأزرق شارك فيه نحو سبعين من هواة الرصد في لبنان وسوريا والأردن حيث تم تعريف المشاركين بأهم مجموعات ونجوم وكواكب السماء الظاهرة في ذلك الوقت من أجل إعداد التقارير وإرسالها لمنظمة الشهب الدولية والجهات المختصة وقد سرني هذا الخبر لأنه أبقى على الشهب والنيازك التي غزت قلبي طي الكتمان.(.............................)
فلست عضواً من أعضاء تلك الرحلة أو المخيم أو الجمعية الفلكية ولست عضواً في رابطة الكتاب الأردنيين ولا في نقابة الصحفيين ولا في منظمة الشهب العالمية، لكن كيف للفرحة أن تكتمل لأمثالي ببقاء الأسرار أسراري، فلم تمض أيام قليلة حتى اكتشفوا مخبأي المفضل الذي ألوذ به كلما لحظت ظهور الفك المفترس في الزرقاء التي لا تبعد مسافة كبيرة عن منطقة الأزرق الصحراوية شمال شرق الأردن، فقد تم رصد قمرين جديدين أحدهما قمري الخاص حول كوكب زحل، فلم يكفهم أنهم فضحوا 31 قمراً قبل اكتشافاتهم العلمية ليعثروا على قمري وملاذي الأخير وما جاوره، ولم يكن أخاه مطمعاً بالنسبة لي حيث كنت أخفيه أيضاً كملاذ لصديق أو صديقة محتملين، وللأسف نسيت أن أخبر الصديق جان دمو قبل مغادرته إلى أستراليا بهذا السر لأنه لم يتح لي مجالاً لذلك لسرعة رحيله ولعله على أية حال وجد ملاذاً أفضل في سماء أستراليا، قالت إدارة الطيران والفضاء الأمريكية في بيان لها أن القمرين قد يكونان أصغر الأجرام التي تمت رؤيتها حول زحل وأوضحت أنهما يبعدان 3 -4 كم تقريباً ويقعان بين مداري قمرين آخرين لزحل هما ميماس وإنكلادوس، وقد أعطيا أسماء رقمية. واليوم وبعد أن أسقط في يدي لا أدري كيف ستكون نتيجة الأربع سنوات القادمة من رحلة المسبار كاسيني إذا ما استمر يطارد أمثالي في الفضاء في حين يطاردني الفك المفترس على الأرض.
ملاحظة: المسبار كاسيني مشروع فضائي دولي تشارك به 17 دولة ليس من ضمنها دولة فلسطين وقد مضى على انطلاق رحلته في الفضاء 3 سنوات وبقي من الرحلة التي تستغرق 7 سنوات أربع سنوات فقط، وخلال ذلك وأكثر، أي خلال عشر سنوات لم يتغير شيء في خطابات الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي وعد بالإصلاح ظهيرة يوم 18 أغسطس من سنة الفلوجة والنجف، وفي ذلك الصيف كانت رؤية النجوم متعذرة تحت سماء العراق من هول القذائف واشتباك الأرواح التي تؤاخيها أرواح أخرى في سماء غزة ألدوس هكسلي.
ختيار السيرفيس
ذات ظهيرة قائظة من صيف عام 1992 صيف المتاهة الأولى قيل لي بعد مشقة السؤال أن عليّ أن أحشر نفسي في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة البيضاء التي تسمى في الأردن سيرفيس، زججت بنفسي قرب عجوز مراعياً سنه ووضعه في منتصف المقعد الخلفي وقد جنبته مشقة ارتطام حقيبتي السامسونيات بالفراغ الذي يخصه وخاصة عندما يمد يده اليمنى في جيبه لدفع الأجرة.
كنت أتصبب عرقاً لحظة مبادرته لي بسؤال مفاجئ:
* هل أنت من الضفة؟
* لا أنا من المريخ!
* أنا ساكن هناك
التفت إلى ملامحه غير مصدق أن رجلاً في سنه في مثل هذا الوقت في مثل هذه الزحمة قادر على المزاح، فسألته على سبيل مشاركته مزاحه الرائق.
* ساكن في المريخ، بيت ملك أم استئجار؟
* بل ملك.. هل أنت ساكن هناك بالإيجار؟
كنت قد استأجرت منزلاً في الزرقاء الجديدة لمدة سنتين قبل أن أتعرف على البلد وعلى الطرقات وعلى عمان التي كنت لا أزال أجهل مناطقها ومسميات أحيائها، فقلت :
* لا … بل إيجار.
ثم بقيت صامتاً غير مصدق هذه السوريالية حتى لو كان بطلها سلفادور دالي نفسه، فقال:
* لماذا لا تشتري بيتاً في المريخ؟
ونظر إلى هيئتي والحقيبة محدقاً بأن قادماً من الكويت سيكون بكل تأكيد قادراً على شراء بيت فوق سطح القمر وليس في المريخ وحسب، لم أكن آنذاك أعرف أن ثمة منطقة سكنية يتكاثر بها الفلسطينيون الأردنيون تدعى (جبل المريخ) ولو كنت أعلم لاخترت موقعي الأنسب فيه قبل أن يأتي الفك المفترس على كل مدخراتي ومكافأة نهاية الخدمة في الكويت. لكن عزائي اليوم أنني وقد زرت جبال وادي رم فإنني أدركت أن إمكانية التحليق والعودة للفضاء غير ممكنة من أي جبل من جبال عمان السبعة، ولذلك لم يعد ثمة فرق أن تسكن في صحراء الزرقاء أو الأزرق أو الجبل الأبيض- وليس حقيقة بأبيض- أو الجبل الأخضر وما هو حقيقة بأخضر أو بجبل الزهور حيث عملت فيما بعد معلماً لصف خامس وغير طلابي لم أر أي زهور، وأتساءل اليوم: هل كان هذا العجوز كائناً فضائياً أيضاً مثلي لكن الظروف لم تتح والتوقيت أيضاً التعارف وتبادل العناوين ومواعيد الإقلاع والعودة ؟

الإسم الأول له ... الإسم الثاني له

( لا إله إلا هو ) قال سائق التكسي متذمرًا : ( من وين أجيب لك فكة خمسة دنانير؟). ظل صامتا و تساءل بينه وبين نفسه إذا كان إمتلاك خمسة دنانير شقفة واحدة في يوم قائظ قد يشكل خيانة طبقية. أردف السائق: ( لماذا لم تقل لي أنه ليس لديك فكة؟) إرتبك بهذا السؤال و تحسس بينه و بين نفسه إحساسا ما، بإثم ما، قد يكون إرتكبه سهوا، ثم ألقى على المكان نظرة فاحصة أخيرة من حوله مواجها سؤال السائق بسؤال أخير:( عموما، هل هذا هو العنوان؟) فعاجله السائق: ( نعم . بالضبط هو نفس العنوان وهنا ممنوع الوقوف ) و لئلا تقع كارثة ما بسببه، قال: ( يعطيك العافية). و حالما ارتسمت على ملامحه إبتسامة الطمأنينة، إبتسم السائق بدوره إبتسامته المظفرة شاكرا بملامح كلها تأكيد على إنتصاره اليومي و إنطلق بسيارته مغادرا المكان . أما هو فتوجه نحو السوبرماركت مطمئنا بعد بحث إستغرق منه سنة كاملة عن عنوان محمود أبوالليل، صديق الأوقات العصيبة. فقرأ أسم السوبرماركت من جديد في قصاصة الورق التي بيده و قد اغرورقت بعرق الظهيرة في يوم صيفي قائظ، ثم سار متمهلا في الفتحة المواجهة و شرع يعد المباني حتى وصل لسادس بناية. تفرس في المدخل جيدا متذكرا ذات الأوصاف و من باب الحيطة والحذر شرع يعد الأدوار، فلما تأكد من حسن إهتدائه للعنوان صعد درجات المدخل مطمئنا ايضا لوجود السيارات في مصف البناية مما يوحي ان الوقت مناسب للإستفسار بعد عودة الناس من أعمالهم. أما كون الوقت هو وقت غداء فهذا ما لم يخطر بباله على الإطلاق. فالمهم انه اخيرا اهتدى للعنوان، و هذا هو الدور الرابع، و هذا هو باب الشقة المواجهة للمصعد مباشرة. ثم أن كل دور يحتوي على شقتين اثنتين ولا مجال للخطأ. إلتقط انفاسه و كتم انفعالا بالغبطة و الفرح إستعدادا لسماع صوت صديقه. ثم تشكك لبرهة في إحتمال عدم عودة صديقه من الخارج فاطمأن ، على الأقل، لزوجة الصديق، أم غسان، التي ستنقل خبر إهتدائه لزوجها الصديق، ليصار الى تحديد موعد آخر للقاء، قبل أن يضغط الجرس فوجئ بالإسم المكتوب على لافتة باب الشقة، الإسم الأول له لكن الإسم الثاني لعائلة معروفة و معرفة بأل التعريف. فكر، و هل يعقل أن يكتب إسمه الحركي على باب شقة في عبدون؟ هل يضغط بإصبعه؟ لكن اذا تبين أن العنوان خطأ فإن التسكع في هكذا أحياء لتهمة أكيدة لأمثاله . نظر للافتة الشقة المجاورة. الإسم الأول له و الإسم الثاني لعائلة معروفة. أي التباس يدور في هذا الدور. عاد الى المصعد. ضغط على زر الدور الثالث فهبط دورا واحدا للأسفل. فأستنتج أنه حقا كان في الدور الرابع. جال ببصره على لافتة الشقة المواجهة تماما للمصعد في الدور الثالث. الإسم الأول له و الإسم الثاني لعائلة معروفة. نظر الى الشقة المجاورة. الإسم الأول له و الإسم الثاني لعائلة معروفة ( سود الله وجهك يا ابا الليل . أية أسماء تجاورها ! و أي التباس ملعون يدور في هذا المبنى الفاخر ؟) عاد الى المصعد مترددا ثم تركه و هرول نازلا الدرج للدور الثاني. ليس ثمة فرق ايضا بين الدور الثالث والثاني. الشقة المواجهة للمصعد مباشرة، الإسم الأول له والإسم الثاني لعائلة معروفة . الشقة المجاورة ايضا و هدوء تام يلف الأدوار والمبنى كله. خطرت بباله فجأة عبارة محمود درويش ( عم تبحث يا فتى الأوديسة المكسور؟) عن إسم تغيره؟ لكن إسم أبا الليل إسم جميل لرفيق و صديق فهل يعقل أن يكون هو الآخر، ايضا ، قد غير اسمه ؟ لم يبق إلا الدور الأول. و لا جديد . الإسم الأول له والإسم الثاني لعائلة معروفة. عاد الى المصعد بخطوات حاسمة غير قابلة للتردد هذه المرة و ضغط بقوة على زر الدور الرابع ثم بلطف على زر الشقة المواجهة- وجها لوجه- و سمع رنة بيانو الجرس بنفسه ثم سمع بنفسه صوت صديقه الذي لا يخفى عليه يطلب من زوجته او من ابنته او من خادمته أن:( شوفي من بالباب في هذه الساعة) فانشق الباب عن ام غسان ذاتها. الملامح المتجهمة لسيدة البيت جعلته في موقع المستفسر بعد أن مضت عشرة سنوات طوال دون أن يشاهد أحدهما الآخر. و من المحتمل جدا أنه هو الذي تغيرت ملامحه في هذا الصيف الحارق. قال مبتسما:( هل هذا منزل صديقنا ابو الليل؟) و باستنكار متلعثم قالت : ( لا نعرف شخصا بهذا الإسم) . جاءه صوت صديقه من الداخل مستفسرا من امرأته: ( من بالباب؟) فردت: ( واحد بيسأل عن ابو الليل) فأستدرك هو مصححا: ( عفوا .. لست واحدا ... أنا أبو غضب ) فلمح في عينيها نظرة ود منكسر: ( ابو غضب!) فجاءهما الصوت من الداخل صامتا مظلما حالكا أن ثمة خطأ في العنوان. و بخطوة حاسمة أخيرة صعد الدرج الى الدور الخامس، رغم عدم و جود دور خامس، ليقطع الشك باليقين عندما وجد نفسه على سطح البناية ينظر للسماء مرفوع الهامة ليتأكد أن لا ليل في هذا الحي في هذه المنطقة في هذه المدينة في هذا البلد في هذا الكون. الإسم الأول له... الإسم الثاني له... الإسم الأول والأخير: أبو غضب.

XII
سيزيف عند قمة الجبل
كنت كلما حققت نجاحاً أجدني وحيداً وأكثر عزلة من ذي قبل. أذكر صيف عام 1962 كيف سمعت بذهول معزوز الأكبر مني سناً والذي ينتمي لعائلة والدتي في الحارة الشرقية من سيلة الظهر وهو يركض نازلاً الشارع يلهث منفعلاً ومن ورائه مقام النبي سيلان والتينة الموازية من جهة المقبرة على يساره وصارخاً يقول: الأول... الأول، قبل أن يفكر الشاعر محمود درويش بتلك العبارة بسنوات، الأول.. الأول، فأصبت بالذعر كونه كان يخاطب والدتي ولا يوضح المقصود بعبارته تلك، الأول.. الأول، وكنت آنذاك قد أنهيت الصف الثالث الابتدائي مع عَوْعَوْ وصَوْصَوْ وخيزرانة الأستاذ حمزة المرعبة وهي السنة الأولى التي أدرسها في القرية بعد عودتنا بسنة واحدة من الكويت التي عدت إليها أيضاً خريف تلك السنة لأتعلم السباحة والجمباز مدة سنتين وأصادق الكلب والبحر في منزل استثنائي عشنا به منعزلاً على شاطئ البحر قرب قصر الشعب. كان معزوز يقصد أنني فزت بالترتيب الأول على أبناء فصلي إن لم يكن على المدرسة آنذاك من حيث مجموع العلامات. هكذا كانت النهايات مفرحة في لحظتها الأولى وموحية بالفراغ وسؤال، وماذا بعد، فيما بعد. شعور بعدم الرضا يتكرر معي فيما بعد وخاصة في لحظة فوزي بالمرتبة الأولى في مسابقة القصة القصيرة في جامعة الكويت حيث ندمت آنذاك عندما اشتركت فيها دون أن أعلم أن الدكتور محمد حسن عبد الله والأستاذ حسن يعقوب العلي من لجنة التحكيم، ودون أن أعلم أنه كان في نية الصديقة فاطمة الناهض الاشتراك بها إلا بعد انسحابها منها. تركتني الصديقة وحيداً ، لذلك أحسست بالإهانة جراء نيلي الجائزة مرتين في الكويت .سوف يتكرر هذا الشعور بالغربة في منتصف السبعينيات عندما تساءلت ذات مرة ، ماذا بوسعنا أن نفعل ونحس بعد تحرير فلسطين؟ و"ماذا بعد؟" سؤال من الجدير أن غيري يطرحه على نفسه من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين الذين يكبرونني سناً وشهرةً ومالاً ومكتسبات لكنني تأبطت سؤالي الأول وأسئلتي الوجودية مبكراً وكرهت الفوز والتميز الذي يجعلني وحيداً وأكثر عزلة من ذي قبل وأحياناً أكون مدركاً أنني كي لا يتكرر معي هذا الشعور الأمريكي مائة بالمائة أنجز فشلي عن سابق إصرار وترصد ما لم يكن هنالك ثمة غوغائي أهوج ويصر على التحدي فأنبري لتحجيمه قليلاً كي يدرك- أو لعله يدرك- ما هو جميل فيه مثل لوحة تراها وأنت ترسم تحتاج لخبطة لون أو لمرور الفرشاة هناك أو لتعديل في مساحة ما آخذة بالاستشراء على حساب مساحات أخرى جميلة سوف أفهم ذلك فيما بعد في دراستي الجامعية وقراءتنا لرواية فرجينيا وولف (إلى الفنار) ومن سيرة حياة الكاتبة وشقيقة الكاتبة الرسامة عام 1973، لذلك أحياناً أفكر لماذا لا يخالج هذا الشعور القادة والزعماء العرب؟ لماذا لا يتساءلون وماذا بعد؟ بل لماذا لا يفكرون بأولئك الذين يحملون صخورهم على ظهورهم في أبشع مشهد عند قدمي كل جبل في الأسفل وفي البدايات الأولى دون أي حلم أو أمل بأن يصل الواحد منهم بعد قرن كامل إلى عتبة الجبل الأولى؟ هذا السؤال راودني وأنا أغادر جريدة الأسواق الأردنية خريف عام 1993 لأركب باص البقعة لأول مرة في حياتي ولكي أشاهد هذا المخيم الذي طالما قرأت اسمه في رسومات ناجي العلي ولم أتجول آنذاك في شوارعه وأزقته وبين ناسه بعد، وهو نفس الشعور الذي دفع بي لتمزيق طلب الوظيفة في إحدى مدارس الصويفية الخاصة والحديثة رغم أنني كنت بحاجة لعمل لسنوات عدة خلت في الأردن، ففضلت العمل في مدرسة حكومية في بلدة مليح جنوبي مأدبا على أن أعمل في المدارس الخاصة التي لسبب أو لآخر قد أجدني فيها مضطهداً برأس المال لكنني أيضاً ندمت على ذلك عندما وجدت أن الدولة والتخلف بإمكانهما أيضاً اضطهادك وعدم فهمك واليوم لست على قمة جبل أقف مثل سيزيف الذي أوصل الصخرة وانتهت عذاباته بعد طول شقاء، وإنما مثل طائر أو مثل إيكاروس موشك على الإقلاع النهائي نحو الشمس وهو يعرف أنه في قبل الهاوية بخطوة وفي اللحظة الأخيرة ما قبل وقوع الكارثة، وما فعل الكتابة هنا سوى مقبلات الانتظار، الانتظار ليس عن كسل في الإرادة ولكنه الانتظار الناجم عن الوقوع في فخ المكان وفخ الزمان والزنزانة الطوعية التي يشيدونها لك فوق أعلى قمة جبل كي يزداد إحساسك بعجزك البشري، وحتى يصبح سيزيف الذي كنته مطلبك النهائي كي لا تصل وحدك مرة أخرى وإنما مع الجموع التي سوف تهتف باسمك لتقتلك، والتي سوف تجعلك قائداً أحياناً لتنهيك وتعزلك ولهذا السبب فقط أجدني أحياناً أتأمل حياة الرئيس الفلسطيني في ذلك الزمان ياسر عرفات وأتساءل لماذا لم يوهب موهبة ناجي العلي أو غسان كنفاني أو راشد حسين أو إيميل حبيبي ليظل في ضمير الأجيال القادمة؟ وهل هو سعيد حقاً؟ بل هل بمقدوره أن يكتشف كم هو أعزل ووحيد في هذا السن؟ ثمة مرض يصيب البشر ما يزال الطب يقف عاجزاً عن مجرد تشخيصه، وماذا بعد؟ الأفضل أن يبقى سيزيف هناك ولكن حاملاً الشعلة أيضاً فلا يترك بروميثيوس وحيداً وأعزلاً، لقد مات إيكاروس غرقاً في المحيطات كما لو كان (أجمل الرجال الغرقى) عندما أقلع للشمس فلم يصل ، كان يتوجب عليه إذن أن يصمد كما الصخور التي يقف عليها.

أيام المستنقع

أيام المستنقع، وكان الجو حاراً يسلق كرتوناً كاملاً من البيض دون أن يقليه قلياً إن سقط فجأة بين يديك على مقدمة السيارة ولم تكن جاهزاً لكشط ديناراً من النقود بالسرعة الممكنة، لم يكن أمامك أي وقت ولا وراءك ولا بين بين سوى أن تحسم أمرك وتقرر، إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أنت وهي، فإن كنت جملاً على الاحتمال فلن تكون هي غير أنثى الجمل وإن كنت اسداً في الميدان، رغم استحالة ذلك في صحراء مكشوفة، تكون هي لبؤة ذلك الزمان وإن كنت وعلاً –وهذا أيضاً – كانت غزالة، أيام المستنقع، وكان الجو رطباً تنزع النظارات فيه فوراً عندما تنعدم الرؤية فجأة إن انتقلت من التكييف لجحيم أبدي خارج زجاج نافذة السيارة، ما كان ممكناً في تلك الأيام انتظار قارئة الفنجان أو البصارة، فحزمت الأمر تماماً والبنت أيضاً كانت على قدرمن الشطارة ، قالت لك أن التنظيم يرى موقفك غير واضح والدنيا ربيع فكيف ستكون واضحاً فيما بعد في أيلول المقبل وأواخر أغسطس المدبر؟ أيام المستنقع، وكان الجو خماسينياً ورياح الغبار والرمل المعزوق في البصر وفي البصيرة، ما كانت الرياح التي تذروك أينما وليت وجهك تترك لكَ أي خيار بين المصطبة والحصيرة، فاخترت ودون أن تنزع النظارة أو تفكر ملياً بالشُّطار وبالشطارة ولا بتحويل العملات ولا التجارة، أيام المستنقع، تلك أيام الشاطرين والشطار والشطارة، ربما كانت هي الدار ولم تتفكر بعد بما هو آتٍ ولا بالدمار، إنما هو الغبرة وهو الغبار وأنت بريء كأنما للتو خارج من الغار، ومن التأملات وصفاء الروح المتجذرة بالحزن والممتدة نحو كل الصروح، من الرومانسية الأسبانية وكتب الفروسية ورواية (الفنار)، قررت ما قررت واخترت ما قررت وكتبت وسرت في الطرقات وسَيَّرتَ كل ما هو ممكن ضدك وكل ما هو – عما قليل- سيصبح ندك، أيام المستنقع، مضيت ولم تسمع، رغم أن الأحبة قالوا: ( إن رحت هيهات أن ترجع) أيام المستنقع، تزوجتها زواجاً ما منه بدٌ، ولا منه حَدٌ، أيام المستنقع، هيهات أن ترجع، سمكة كانت،ولها عين السمكة.
انتشلتها فرحاً وأغدقت الماء، سمكة خشيت عليها من شهقة الهواء، منحتها الحب والبحر والسماء.
عزيزتي السمكة... إياك والفك المفترس، إن أنت غبتِ عن ناظري في هذا اليم، وعليك احتمالي واحتمالك من هذا الغم، فالهم يقتلني الهم، وعدٌ واتفاق وفرحة؟ أجل.. اتفقنا إذن، وحالاً سريعاً الدبكة والزفة والطرحة، وعندما تلدين يا عزيزتي من أقصى الأرض سنأتيك بالقرفة والقزحة.
لا.. لا تقلقين هكذا، فليس في الأمر أية مزحة، أيام المستنقع، تلك.. آهٍ من أيام المستنقع، فلا غيمة في سماء ولا مزاريب تشقع، أيام..أيام.. أيام المستنقع.
وإذ كنت خارجاً لتوي من بيت الذبابة، التقطني الشرطي الواقف وأسلمني وأنا خائف لشرطي آخر في الدبابة، فامتثلت لأنني غادرت منذ سنة تقريباً المستنقع، والفك المفترس، وكل ما هو في غزو البلدان من غدر الخلان وكل ما هو ذلٍ وكل ما هو هوان، مفتشاً عن الأمان مهما تباهظت الأثمان وأياً كانت تحولات المكان الجديد والزمان، فقد قررت أيضاً إن لم ألق وظيفة أن أفتح أيضاً دكاناً وتباً للخلان.
(ادخل) فدخلت، وإذا بثلة من الضباط على أهبة الاستعداد وقوفاً لتوجيه السؤال:
- هل تعرف لماذا جئنا بك إلى هنا؟
قلت:
- لا
وقلتها واثقاً ملء الفلاة.
- وهل تعرف المشتكي أو المشتكية؟
قلت أيضاً بكل ثقة، رغم وجود بعض الخلافات العائلية:
- أكيد ...لا
فتمختر الضابط المسؤول، وراح بين مرؤوسيه يتمشى، حتى قبل أن أتغدى أو أتعشى وشرع في الممر الطويل يصول ثم يجول قبل أن يقول:
- إذن تفضل معاي.
فتفضلت لا أدري إلى أين، فأدار مفتاح بابٍ حديدي وقال:
- انزع حزامك وأعطني ربطة عنقك وفتش بنفسك هندامك، وأعطني ولاعتك وعلبة السجائر وودع أحبابك وكل خلانك، فنحن هنا لن نقول لك أن لسانك هو حصانك، وعليك بنفسك أن تفكر من هون لبكره من صانك ومن خانك، هيا أمامي فلا تظن أنني سأمشي طول الطريق قدامك.
وهكذا تعرفت لأول مرة في حياتي على المكان الخانق الذي يسمونه النظارة، وخلعت مما خلعت الخاتم والساعة والنظارة، كأنما كنا في ساحة حرب والكل متوقع، بعد ثوان، بعد ساعة، بعد أيام، سَتُشَنَّ الغارة.
لم أقل لنفسي إرضاء لنفسي من هو الشاكي في تلك الساعة من الليل؟ وحيث لا ماء ولا طعام ولا خيل، ولم أسألها نفسي الطاهرة عن المشتكي أو الشاكي وعن المتصل وعن الحاكي فكل البلاد إن لم تكن زرقاء فهي خاكي، وهكذا من ثقب باب نافذة الزنزانة بت أرقب صبيحة اليوم التالي الرائح من مركز البوليس والجايي، إلى أن أبصرت جلبة وضجة وطرقعة بساطير وهمهمة وهمير والكل منضبط في الخارج وفي الداخل الكل أسير.
فقلت ثمة أمر جلل وثمة ما هو خطير، فلربما القادم مسؤولاً أعلى ولربما سفير، إلى أن دار بالباب المفتاح دون أن ينادي المنادي علي عبد الرحمن أو قاسم أو حسن أو عبد الفتاح و(يا حمير)، أشار العريف بطرف إصبعه عليّ والباب أزاح فبلغت ما بلغت أنا من ارتياح.
أغلق الباب من ورائي على من فيه وبالقيد الذي بين يديه ربط راحتي يديّ بكلتا يديه وورائي راح يدفعني للمسير.
دخلت فوجدت كل الضباط على شكل دائرة تحيط بكائن خطير وقد ابتعدوا قليلاً..قليلاً وبحذر عن تمساح تحدق عيناه المفترستان بي، ولكن دون مستنقع أو ماء، تمساح حقيقي يتضور جوعاً ومن وراء المكتب سألني:
* اسمك وعمرك؟
نظرت حولي فإذا بي أعرف عيني التمساح، وأصابتني الصدمة والذهول، أين أنا، ومن أنا، ومن هم، ومن أين عرفت بقلبي ينزف عيني التمساح فقط وأين السمكة التي أعرف؟
* قلت.. اسمك وعمرك وعملك؟
حدقت هذه المرة في عيني السائل، وكلي شك إن كان يخاطبني أنا أم يخاطب التمساح.
* أنا؟
* وإلا أنا؟
* أنا.
ونظرت هذه المرة للتمساح، أو للفك المفترس، معقول؟
نفس عيني السمكة بعد أن جف من زمن الماء والرطوبة والهواء، لم يعد هنالك مستنقع، وكررت أكاد أجن:
* أنا.... أنا....أنا؟
فقالت التمساح بكل هدوء ومن حولها الدولة:
•نعم أنت.
إنتظار في التراس في هواء غير طلق

قالت جوزفبنا وقد ارتدت الفستان الأحمر بعد أن إستراحت من وعكة الرحلة والغبار والعرق، وبعد أن قبلتني على الخدين وتردد صوت في ذهني ( شو هالجسارة) :
- ماذا تفعل في الفندق ؟ ألم تذهب للبيت؟
ثم التفتت لما أكتب فشلفت الورقة عن الطاولة في تراس هواء طلق مطل على فضاء عمان ، من برج الأبراج فالعبدلي فقصر العدل لمستشفى الأردن فأدركت أنني قررت أن أصبح شاعراً من شكل توزيع الكلمات بلغة لا تعرفها.
ثم جاءت روديكا لتقرأ :
ثلاث قصائد عن الوقت والمرأة والطريق

1- وقت لاستحمام الديناصورات
الشعر غيمة الكلمات..إنْ هو في السماء جميلٌ
يرسلُ النسمات، وإنْ هو في السماءِ عليلٌ
أرسلَ النغمات
فإن لم يتساقط في المدى
ظل صامتاً أبيضَ اللفتات
وإن رذَّ على الأرضِ عطشى
كان كالهمسات يبلل الأعشاب والنبتات
فإن زخَّ أكثرَ للفتيات
تراكض الأطفال كالأمنيات
لكنه عندما يُرعدُ باللّكمات
يُخزنه تجارُ الماءِ
تُحاصرهُ الدولةُ
وتستحم به الديناصورات
ليُعلَّب ويُصَّدر ويُباع ويُوزع بالكوبونات
ليت الشعر ظل بخاراً في غيمة الكلمات
ليظل واعداً عند انبثاقهِ
بما تبقى من بكارةِ أمنيات
ووعود الأرض العطشى بالخلاص
ووعود الفرحة بالوردات
فالشعر ليس غابة أوراق ولا تبادل عملات
ولا هو جاهزٌ في صالةٍ.. ولا هو في فندق للثرثرات
الشعرُ هاربٌ من البشر
إيحاؤه أقوى من استحيائه
والشعرُ غامضٌ لا يُسببُ الضجر
والشعرُ هو الشعور
في زماننا المسعور
لكنه يباع بأخضر الورقات
ما عاد له طعمٌ ولا يَزْخرُ بالتشوبيات
ولا به موسيقى
ولا رقصة الدبكات
إنه كلامٌ منثورٌ منثورٌ
لم يعد يصلح إلا للمهرجانات.
2- وحشة الطريق
كان عليّ أن أنساكِ تماماً
كي ألتفت إلى حياتي
فلا أنتِ قاتلتي ولا أنت مماتي
فهل أرى كل أيامنا ظلاماً؟
كان عليّ أن أنساك كما ينسى النهار رحمَ الليل
ولا قهوةٌ أمامي ولا حولي خيل
فأنا لا أصدق أن الشعر كلاماً
فهل أنساك اليوم تماماً؟
كل شيء قابل للتصديق
وكل الراحلين رحلوا دون رفيق
ووحده الطريق
هو أحياناً يَعدُ خطواتي
وهو الماضي وهو الآتي
ووحده الطريق
يشهد المكبوت من صرخاتي
ووحده
فلا هو النهاية ولا هو البداية
ولا هو ظلامٌ تماماً
ولا هو أيضاً ختاماً
ولا هو الظلُ ولا الحريق
إنه مجرد طريق
لا يصل بداياتنا مع نهاياتنا
ولكنه يظل الطريق
كلانا فيه إليه وماضون
لا نعرف أين وإلى أين
إننا فقط ماضون
ليظل وحده الطريق.
3-امرأة الكلام
هي امرأة
للظلال تبقى
جسد ممشوق بقوة
والأنوثة طلاء ربما
وربما رغوة
لأشك أن في التمرد قوة
وأشك في صدق الادعاء
هي امرأة في السجلات وفي الحياة وفي الممات

لكنها كما أرى غادرت أنوثتها
وتركت لي الظلال
هي امرأة لكنها كلما اقتربتُ منها إستعدتَّ للنزال
وحوارنا في الحب هنيهة يبدأ، لتشرع في القتال
هي امرأة لكنها لم تبصر بعض الرجال
سأنتظر
فكل زمن الكذب يبدأ هكذا،
وكل ادعاء
في الليل تخلع زينتها
في الليل تبلغ ذروتها
في الليل لا مكان لظل أو سماء
في الليل لن تهمها الأسماء
في الليل ينمو على جسدها ريش حمام
وتنحل روائح الياسمين ، تنام
وتبقى السماء
إنه الليل الذي أملك، ونفس الليل الذي تملك
وكل المسافات كلام.

وقد غرق البصر باللون الأسود ترتديه روديكا وباللون الأحمر ترتديه غرناطة :
-طلبت لك بيرة باردة جداً ، هل تغديت ؟

XII
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْْبون جور يا عمان 2002 بونجور

منذ أن وصلت نقودالتعويضات، حلت السكينة على حياتي و انفرجت بعض الأبواب المغلقة و أوصدت أخرى كانت مواربة. لم أعد أجهد العقل في تأمل ما لا طائل من تأمله و سبرأغواره فأعتكفت مطمئنا إلى ما أسماه بعض الأصدقاء " القبو"، و يقصدون به الغرفة الأرضية المستقطعة لي من صالة في شقة أرضية بجدار من الطابوق العاري الماثل دائما أمامي و الذي إخترع المؤجر به نافذة لا تطل سوى على الصالة و لا أستخدمهابالطبع للتهوية لأن الصالة بدون نوافذ أصلا و كان المؤجر يقصد من إختراعها مراقبتي ظنا منه أنني سأتركها بزجاجها الشفاف على حالها و أنني لن أغلف زجاجها الداخلي بورق يجلد به التلاميذ كتبهم المدرسية. و لم أتدخل منذ البدء في اختراعاته لأني قبلت بذلك" القبو" مسكنا و مأوى رغم ضيقه و رغم أنه لايتسع لمكتب و صوفا مفردة للنوم و للجلوس و طاولة عليها الحاسوب الجديد الذي اقتنيته و من خلاله شرعت أطل على الدنيا بلا حدود أو عوائق سوى الفيروسات التي تربك خبرتي المتواضعة في صيانة القرص الصلب أو الحاسوب ممايتكاثر به من فيروسات و ملفات مضروبة. كنت رغم كل ذلك قانعا لا أتذمر حتى من سيل الرسائل الإعلانية التي تنهال على بريدي الإلكتروني كالنمل من شركات تتوالد كل يوم و تغريك بالشراء و الإقتناء و الدفع و تسجيل رقم بطاقتك الإئتمانية و ما الى ذلك من مقتضيات الحياة المعاصرة. من ذلك " القبو" عقدت صداقات من مختلف أرجاء الكرة الأرضية على إختلاف التواقيت فتحول ليلي إلى ما يشبه النهار في" ساكرامنتو" و نهاري إلى نوم عميق بفضل إنزواء" القبو" عن العالم من حولي و بفضل البطالة عن العمل التي تواصلت تسع سنين و ليس سبعا عجاف .والتي خلالها تطلقت أم الأولاد و إنزوت هي الأخرى بأولادها بعد طول متاعب في المحاكم استغرقتني السنين التسع أيضا قبل |أن أصل إلى " القبو". جميل هذا" القبو" حتى بدون أوكسجين فقد أنقذني و عقلي من المتاهات. و جعلني لا أزور الزرقاء حيث تقطن أم الأولاد المتحفزة دوما لإدخالي السجن بدعوى التهديد تارة و أخرى بدعوى محاولة الإغتيال . و إذا قيض لي يوما أن أكشف سرا فلسوف أقول أمام الكاميرات و الأضواء أن أجمل شهور عمري قضيتها في عزلتي في هذا القبو ذي الموقع الإيحائي الفاخر، ذلك أنه يقع خلف مطعم للحمص والفلافل و الفول و مشتقاتهما في حي " الجاردنز" الذي يعد حي رأس المال و الشركات و الأثرياء في عمان.و لربما أسهم هذا الإيحاء بتعزيز صداقات لي مع نساء كاليفورنيا و أخريات من موسكو ظنا منهن أن منزلي و الحال هذا يطل من شرفاته الواسعة على مشاهد الغروب و الحدائق الغناء و له قرميد أحمر و حديقة مزدانة بالورود و شجيرات الفاكهة ، بل و لربما ظنت تلك التي تملك شركة زراعية في كاليفورنيا و فيلا جبلية مزودة بحوض للسباحة أن لدي أنا كذلك حوضا للسباحة في منزلي و ليس كوما من أحذية الطبقة العاملة من أخوتنا المصريين الذين يستاجرون الغرفة الأولى من الشقة و لا تعرف كم يكون عددهم كل ليلة في حين يستأجر الغرفة الأخرى عراقيون تكاد تسمع وحوحاتهم في الشتاء القارس ذلك أن نافذة غرفتهم بالنسبة لهم نقمة و ليست نعمة مشتهاة تجلب لهم البرد و مكشوفة لبناية العائلات المجاورة فلا ينتفعون منها لا ليلا ولا نهارا. ولإنني غير مزود بكاميرا لحاسوبي فكل ذلك ساعد ان أنتبه في إخفاء الحقائق الخارجية عن صداقات عبر ال"التشات" جل إرتكازها مبني على ثقافتي و معرفتي باللغات، الانجليزية و التركية و قليل جدا من الروسية و الايطالية و شيئ مقبول من الفرنسية و إلمام بجغرافية العالم و فروق الحضارات و الأوقات و لكن ايضا مع معرفة أكيدة بمتطلبات النفس البشرية و إنسانية الإنسان بغض النظر عن الجاه و المال و المظهر . فقد كنت دمثا مقبولا و محببا على مواقع الدردشة.
و أسهم هذا في تعزية عزلتي و وحدتي و لكنه أيضا اسهم في نضوب التعويضات التي لا أدري كيف وجدتني منساقا عن طيب خاطر لصرفها كفواتير هاتف و إشتراك انترنت و نفقات على إستئجار سيارة سياحية في الضرورات، " القبو" جميل فقد كان لا يتسع لزيارة شخصين لي، بل لا يتسع لزيارة صديقة واحدة أو صديق لا يكاد الواحد منهم أن يكمل كأس النسكافيه بالحليب حتى يستأذن منصرفا دون أن يكرر الزيارة إلا إذا استدعته الضرورة كالسؤال عن موقف ثقافي أو سياسي أو الإستفسار عن سبل عمل بحث حول إدوارد سعيد و مؤلفاته أو عن كتاب" أسرار مكشوفة " لإسرائيل شاحاك و ما إلى ذلك مما يشغل القارئ الحصيف و المفكر المنتبه لشجون الفكر و تقلبات الكتاب و مصالح الصحفيين و عذابات الفلسطينين و تشرد العراقيين و سوء أحوال المصريين. لكنني أعترف أن المؤجر كان يظنني ثريا بخيلا، و هو صاحب البناية و يعمل بوظيفة دائمة في مقسم رئاسة مجلس الوزراء . تتغير الحكومات و لا يتغير و يرحل الوزراء و لا يرحل . و ذات مرة أراد الأجرة الشهرية لشهور مقبلة فلما رفضت تسديد إيجار شهور لم تأت بعد طلب مني بغضب و إزدراء أن أرحل. فأقسمت أمام الجيران أنني لست براحل قبل أن ترحل الحكومة، و قد رحلت الحكومة و أنا بقيت في قبوي حتى دون عقد إيجار ذلك أنني كنت منتبها هذه المرة لأهمية تسديد الإيجار من خلال شيك بنكي لئلا ينكر عليك ذلك الرجل أنك تسدد له حقوقه بإستثناء تلصصه عليك من خلال نافذة إصطناعية يعتبرها حقا من حقوقه كما هي أوامر الزجر و النهر لإخواننا المصريين الذين يعملون ربما بدون تصاريح عمل و بالتالي فهم يخشون موقع الرجل في" الرئاسة " و يرحلون إذا طلب منهم الرحيل. ذلك الرجل لم يكن محتملا في البدء قب أن يفهمه شقيقه المتقاعد في الأمن العام أن " الصحفي" يقصدني بالطبع-( دون أن أكون عضوا في النقابة أو بعمل صحفي-) محق في إدراك ما له و ماعليه في القانون من حقوقه ، و لذلك حاول ماأمكنه أن يسعفه عقله أن يتجنبني لكنه كان دائم الدخول للشقة للتحدث في شؤون المستأجرين الآخرين الذين يكتفون بالصمت ازاء كل توجيهاته و طلباته و معالم شخصه و مقترحاته التي تتعلق دائما بزيادة الإيجار و مصاريف المياه و الكهرباء و ما إلى ذلك . وكل ذلك بدا لي محتملا و اعتدت عليه بفضل سنوات السجن التي جعلتني أتفهم ظروف نشأة الأردن و تكوينه و بنيته. و لو لم تكن الأردن لمالك العقار لكانت من ممتلكاته آبار نفط جزيرة العرب بحكم أصوله العشائرية. و مثل هذا الوضع أيضا كنت معتادا عليه بحكم ظروف النشأة و التعليم و العمل في الدول النفطية. أما وكون الأردن ليس بدولة نفطية فقد عقد الأمور من البداية لكنني تفهمت فيما بعد– وإن متأخرا- مقولة احد إخوتنا العائدين من الكويت إذ قال:"جئنا من بلد النفط إلى بلد الشفط" و لكم تحسرت طوال اكثر من 48 ساعة على الكلمة الأخيرة " الشفط" عندما غرق القبو في الشتاء و دخلته السيول فجأة جارفة مدمرة لكل ما فيه ووصلت خلال نصف دقيقة إلى إرتفاع 170 سنتيمترا و لم تأت أي سيارة من أمانة عمان الكبرى لشفط الوحول و المجاري و مياه شتاء عمان (عاصمة للثقافة العربية!) إلا بعد أن تلف كل شيئ. وداعا ياقبو. فمن أين لي بقبو مثلك. ففيك كنت بالفكر أحيا و بالمال أهلك. اعتدت فيك أحزاني و أوجاعي و خبأت فيك أسراري ووثائقي و أحبابي. وداعا يا قبو، فالمؤجر هو المسيطر وقد ذهب خلال غزو شارون للضفة و غزة إلى محافظة العاصمة و استخرج إذنا عرفيا بإخلاء الأثاث و المكتب و الحطام و الليل و الديجور، بحجة أن المنزل مهجور . بونجور يا عمان بونجور.
XIII
الشمس لها قاطفاً


في تلك الأيام، ياابنتي، أو دعيني احدد فأقول: تلك الليلة سدت في وجهي الأبواب، و تقدم الليل، الا أيها لليل الطويل ألا انجلي بصبح و ما الإصباح منك بأمثل، فلذت بالشاب المصري الذي يبيع القهوة أمام جريدة الدستور( تشبه المازوت أكثر منها شبهاً بالقهوة) لعمال المطابع و التوزيع و السهيرة من رجال دوريات الأمن في ليل عمان الضيق.الشاب يريد الإنصراف من عمله لسبب ما فوجدت نفسي أركب السيارة التي أقلته لحي الرشيد خلف الجامعة الأردنية. و لحسابات أمنية في ذهني طلبت من السائق أن ينزلني قبل أن تقترب سيارته من منزل أحد الأصدقاء القدامى( من أيام الكويت) و نزلت ممّنياً النفس بوعود أن يعثر عليّ الصديق أو أحد أبناءه أو بناته في الشارع فيقول: " تفضل بابا موجود في الدار" أو مايشبه ذلك، لكنني وجدت نفسي غريباً عن ذلك الحي المكفهر الذي أخنس كل مافيه في فللهم و شققهم و بناياتهم محكمة الإغلاق، بعضها مزود بأجهزة إنذار مثلما هي معظم سياراتهم تعوي إن أنت مررت مجرد مرور بمحاذاتها. في تلك الساعات ياابنتي لم أكن أقصد جهة محددة و لا حتى منزل الصديق الذي تعرفين منذ كنت صغيرة في الكويت بناته( كانوا يزوروننا و نزورهم) فكل ماكنت أريده تلك الليلة هو أن أظل ماشياً حتى إن داهمتني دورية من دوريات تهمة:" ظروف تجلب الشبهة" أدعي أنني جئت لزيارة ذلك الصديق فلم أهتد لمنزله! فإن لم تداهمني تلك الدورية أو السؤال أكون واصلت رحلتي المعتادة في قضاء الليل (لا أملك أجرة دينار واحد للمبيت في فندق الفاروق وسط البلد) هكذ مضيت أجوب الطرقات وحيداً سوى من مظهر لا يعكس داخلي أو نبضات قلبي . فتقمصت مشية الواثق المطمئن، خاصة كلما أحس بضوء سيارة من أمامي أو قادم من ورائي، التيه من أمامكم و التيه من خلفكم و أرض الله واسعة رغم أن البيوت ضاقت و الشوارع مأسورة تنتهي حيث يراد لها أن تنتهي، تعبت، وهنت، الحذاء في قدمي ضيق ضيق لدرجة بت فيها أشتهي خلعه و المشي حافياً في تلك الأحياء التي إستوردت بدراهم النفط سكينتها و إشترت بغربة عمرها اسمنتاً و أرضاً و حجراً و قالت: إننا هاهنا لقاعدون فاذهب يا تيسير أنت و ربك فقاتلا و ناضلا كيفما شئتم و إعتقدا بمن شئتم إننا هاهنا لمعمرون. يالله ، كم بحثت عنك تلك الليلة ، كم الهمتني الصبر عندما غامرت من الأرهاق و العطش و الجوع بالجلوس على عتبة بناية سكنية كنت واثقاً من نوم كل ما فيها و كنت أرتعد خوفاً كلما أحسست أن أحد السكان استيقظ و أشعل ضوء الحمام، كنت اناديك أيها الرب و أقول: اجعله لا يلتفت لمدخل البناية، إجعلها لا تفتح النافذة كي لا تدير إن فعلت أقراص الهاتف وتستدعي الشرطة، ألا يا نوم كن برداً و دفئاً و سلاماً على عمان حتى الفجر ، حتى يصدح آذان الفجر، كي أنهض مدعياً أنني من السكان في طريقهم لأداء الصلاة أو من السكان القادمين من أداء الصلاة في المسجد إلى بيوتهم آمنين ، رغم أنني لم أكن متأكداً أن دعواتي تصل لمسمع سماوات سبع طباقاً ، رغم أنني كنت متأكداً من سماكة كل سماء وراءها سماء أكثر صلابة من سابقتها ، أن تلك الليلة ليست من ليل تنشق فيها السماء لتستجاب فيها الدعوات ، إلاأنني كنت منشغل الذهن أن ثمة آلهة من آلهة أورشليم أو من آلهة اليونان أو من آلهة الكنعانيين أو من آلهة اليبوسيين ما تزال مستيقظة لتشهد أن عبداً واحداً على الأقل من عباد الرحمن ما يزال يدب على الأرض مازال ماضيا في الطريق إلى الله دون أن يعرج على مسجد أو كنس أوكنيسة أو بيت ، ذلك أن كل ما ذكرت لا يعدو كونه دور عبادة من أملاك الدولة تفتح في مواعيد و تغلق حتما في مواعيد محددة لا يمكن لأمثالي أن يضطجعوا الليل فيها لا بدعوى الزهد و الإيمان و لا بدعوى التيه و لا بدعوى التصوف و معرفة الواحد الأحد. نعم ياابنتي ، لم أكن في تلك الليلة سوى واحداً واحداً واحداً في كل خطوة أخطوها نحو الفجر بقيت أمشي و أمشي حتى وصلت عند نزلة دوريات صويلح حيث مددت يدي تسبقني إلى الشمس روحي لا لأقطفها كما تقطفين الثمار الناضجة بل لأمتلكها في ذلك اليوم لترتفع هامتي و يزول من عيني النعاس من قلبي الخوف من ليل الغرباء من عتمة عمان المزدانة بأنوار الكهرباء التي كرهتها لأنها أضواء تكشف أمثالنا في ذلك الليل . فالضباع و الكلاب و الذئاب أكثر رحمة و رأفة لوأطفأتها أمانة عمان أضواء شوارعها تلك العمّان من عمان نفسها و سكانها و كل من فيهاً. أجل، أحسست أنني ذهبت تلك الليلة للشمس ، أيقظتها من سباتها ، قلت لها: هيا.. عجّلي ، بل و نهرت عليها مثل دابة بكماء فأشرقت قبل أوانها ، و مع هذاالأحساس الغامض ، الشخصي جداً ، رحت أجوب شوارعها مثل فارس ركب مهرة عمان ليلة كاملة بإتجاه الشمس و ترجل عنها لشوارعها التي أضاءها هذه المرة بنفسه بعد أن سهر عليها بنفسه في حين كانت آلهة الإغريق و الكنعانيين اليبوسيين تغط في تراب الأرض في توابيتها تمهيداً لدفنها مرة أخرى . و مشيت في الساعة السابعة و النصف نهاراً طلعة صويلح بكل التحدي الذي يحس به كل شخص يتملكه إحساس بأنه انتصر على الليل و تفادى حراسه و إخترق الطريق و النعاس و المساجد و الكنائس و الكنس باتجاه الشمس و جاء بها إلى الكون لأول مرة ، صاعداً من دوار صويلح قرب مركز الأمن نحو طلعة الدوريات ومن ثم نحو مجمع عكاوي و بداد الذي كانت توجد به جريدة من اسبوعيات الصحفيين المتدربين بالأسبوعيات أوالشهريات أواليوميات لا فرق كما لو كنت أحد آلهة كريت يعبر الشارع أوالبحر لا فرق نحو جزيرة سانتوريني، تلك الشمس التي جئت لكم بها بمفردي و من عزلتي و من وحدتي ليس لأخفيها في جيبي مثل مفاتيح فيلا أو شقة أو سيارة أو مثل محفظة أو بطاقة بنك أو أحوال مدنية، لا ، ، هذه هي الشمس خذوها فإنني أعرف أنكم عميان لن تروها حتى لو كتب لكم الخلود و تجاوزتم الموت أما أنا فلا أريد شيئاً من ذلك النهار سوى إحساسي بالزهو و الإمتلاء . فما أجمل أن تعيش ذلك الإحساس ، ما أروع أن تمتلك تلك الرؤية ، ما أبهى أن تخلق شمساً من تراب و عتمة ثم ترحل عما خلقت ، أو يرحل عنك ما صنعته عذابات روؤس أصابع قدميك، ما شهدته بأم عينيك، حينذاك فقط تعرف أن من جاء بالشمس مرة سوف يأتي إن هو شاء و وقتما يشاء باللهب الحارق مئة مرة أو لنقل على الأقل سوف يمتلك شهوة الإبادة و تسوية التلال و الجبال بالأرض و لو لمرة فيجعل منها سهولاً و ودياناً و أخاديد. و من قال لك ياأبنتي أنني سأنسى، أو أنني يوما ما سأحب مدينة من المدن التي ترفضني، إن عمان أخذت شمسي و ما تزال تنكرني، لا لشيئ سوى لأنها مدينة عمياء أبصرها كل يوم و لا يمكن لها أن تراني لمرة واحدة . كم من المدن لو أتيح لها أن تبصر ما في أعين الغرباء التائهين من ديناميت الحرمان الشامل لتحطمت من أجل أن تعيد بناء نفسها وفق رؤية جمالية تستمدها مما في أعين الغرباء من حنين إلى وطن .

أجل … هل سمعتك تسألين لماذا لم يحتلها الأميركان أو اليهود ؟
لو قدّر لي أن أجيب تلك الليلة عن السؤال لقلت لك ياابنتي لأنها ملأى بهم فماذا يزيدونها على من فيها ؟
لو سألتني: هل خطاك نحو الغرب كانت تجاه فلسطين أم إسرائيل ؟ لقلت لك : لا فرق.
ثم من تكون عمان سوى مدينة بلا قلب :
- عمياء وملأى أميركان ويهود ؟
- بل تأكل أكتافها وبناتها وأبناءها .
- ماذا تقصد بأكتافها أولاً ؟
- مخيمات اللاجئين من الفلسطينيين أو العراقيين.
- وبناتها ثانياًا؟
الملاهي الليلية إن شئت أو العمال الذين شيدوها
• كم تحبها إلزا !
نظر إلى يساره فشاهد الفندق الذي تغبر اسمه أيضاً
• تتذكر أيضاً ؟
• بل التاريخ هذه المرة
V
عمان..نخبة الدهر في عجائب البر والبحر


كانت عمان من جملة المدن الواقعة ضمن : "جند فلسطين- محافظة فلسطين" التي كانت عاصمتها الرملة .وفي كتابه "المسالك والممالك" قال عنها عبيدالله بن أحمد بن خرداذبه
،المتوفى عام 893م في الصفحة 77 أن : " كورة عمان من أعمال دمشق" . أما المقدسي المتوفى عام 990م فقد قال عنها في (أحسن التقاسيم ) ص 175 أنها:- "رخيصة الأسعار ، كثيرة الفواكه ، غير أن أهلها جهال. وإليها الطرق صعبة…ولها جامع ظريف بطرف السوق مفسفس الصحن" .وفي معجمه "معجم ما استعجم" يقول مؤلفه المتوفى عام 1094 م أن "عمان على وزن فعلان.قرية من أعمال دمشق" وذكرها صاحب معجم البلدان المتوفى عام 1229 م في الصفحات (4-151-152) بقوله أنها :"بلد في طرف الشام وكان قصبة أرض البلقاء" . كما ذكرها شيخ الربوة المتوفى عام 1327م في الصفحة 213 من مؤلفه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر" بأنها : "لم تبق إلا دمنتها وعملها" والدمنة: آثار الدار.وفي كتابه "تقويم البلدان" ص247 يؤكد أبو الفداء المتوفى عام 1331م أنها "بلدة أولية.خراب من قبل الإسلام…يمر تحتها نهر الزرقاء…وهي من البلقاء وبها آثار عظيمة" .أما المقريزي فيقول في (السلوك) في الجزء الثالث ص30 أنه في سنة 757هجري نقل إليها الأمير صرغتمش الولاية والقضاء من حسبان وعاد إليها عمرانها وجعلت أم تلك البلاد. وفي حزيران من عام 1812م نزل خرائب عمان الرحالة بيركهارت السويسري المولد الذي قال في وصفها أن بها مدرج رائع "يعتبر أكبر ما شاهدته في سوريا…إن خرائب عمان مبنية من الحجر الكلسي المتوسط الصلابة ، باستثناء بضعة جدران من الحجر الصواني .. ولهذا فإن هذه الخرائب لم تقاوم عوامل الزمن كخرائب جرش…" ويضيف بيركهارت :- " وأنا أنصح من يريد زيارة المكان زيارة علمية أن تصحبه قوة مسلحة من الرجال حتى تكون دراسته وافية عن هذه الخرائب المهجورة" ص 86-87-88 .
ويصف عبد الكريم غرايبة عمان في القرن التاسع عشر في كتابه " سوريا في القرن التاسع عشر"1840-1876 م القاهرة 1960-1962 بقوله: " ولم تكن عمان مسكونة في ذلك الوقت بل بقيت مجرد ماء يرده العربان إلى أن استقر فيها الشراكسة بعد عام 1878م و عمروها كما عمروا جرش والزرقاء ووادي السير".
و في عام 1900 م نزلت " فرنسيس املي نيوتن" عمان ووصفتها بكتابها"خمسون عاما في فلسطين" ص 34 بقولها: " و ما كانت عمان إذ جئناها، في سنة 1900 م إلا خربة شرقية قذرة مذرة، بشارع واحد بمخازنه وحوانيته شراكسة ، حذقوا صناعة المنيا، حفراٌ في الفضة واشتهروا بالبأس وشدة المراس. وكانت هجرتهم إلى هذه البقعة ليعمروها، إرادة سنية عنت للسلطان عبد الحميد، وقد أرادهم أن يكونوا ليقفوا في وجه البدو الرحل فيسلم الحضر.
نصبت خيامنا في مهد لدى المسرح المدرج، الماثل بجلال القدم، وعلى ذلك المهد شيد فيما بعد فندق عمان باسمها الأسبق".
وفي أوائل هذا القرن نزل خير الدين الزركلي عمان في عام 1921م فذكرها في مؤلفه (عامان في عمان) ص6 بقوله:- ( لم تكن عمان في ذلك الحين- جمادى الثانية 1339هجري شباط 1921م_ أكثر من قرية، قليلة السكان، ضئيلة المباني، مظلمة السبل لا يصل بينها و بين تاريخ مجدها إلا ما شخص من آثارها. ولا يدل على إمكان الحياة فيها غير توسطها بين قبائل بني صخر و بني حسن وعباد والعدوان، يردون عليها بين الفترة والفترة فيبيعون فيها بعض ما تنتجه ماشيتهم و يبتاعون منها ما يكتسون، فللتجارة فيها شبه سوق، ولولا ذلك لأنفرد بسكناها جماعات من الشراكسة نزحوا إليها حوالي سنة 1290 للهجرة، كما انفردوا بكثير مما حولها من قرى و مزارع، هم أصحابها اليوم غير منازعين. ولكن ابتغاء الربح و طلب الكسب هما اللذان حملا إلى عمان تجاراٌ من دمشق و نابلس افتتحوا فيها حوانيت صغيرة فقصدها أهل الخيام والأكواخ من البداة الضاربين حولها والمقيمين في ما جاورها من القرى، وأصبحت ولها شيء من الشأن".
وبعد سنتين من زيارة الزركلي لعمان، زارها في عام 1923م الرحالة الأوروبي المسلم" محمد أسد" فوصفها في ص145- 146 من كتابه " الطريق إلى مكة" بما يأتي:" تعرفت في القدس إلى الأمير عبد الله، أمير شرقي الأردن، الذي دعاني إلى أن ازور بلاده.وهناك رأيت لأول مرة، بلاداٌ بدوية حقيقية. كانت عمان- العاصمة- المبنية على أطلال فيلادلفيا، مستعمرة بتوليمايوس فيلادلفيوس اليونانية- في ذلك الوقت مدينة مغمورة لا يتجاوز عدد سكانها ستة آلاف نسمة. كانت شوارعها مليئة بالبدو، بدو السهول المنبسطة، الحقيقيين اللذين نادرا ما كان يراهم المرء في فلسطين على حقيقتهم: محاربين أحرارا و مربي ابل. وكانت الجياد المدهشة ترمح في الشوارع، كما كان كل رجل مسلحا يحمل خنجرا في حزامه و بندقية على ظهره. و كانت عربات الثيران الجركسية ( ذلك أن المدينة كان يسكنها أصلاٌ الجراكسة اللذين هاجروا إليها بعد أن غزا الروس وطنهم في القرن التاسع عشر) تتهادى متثاقلة عبر السوق التي كان يسودها، رغم صغرها، لغط وهرج جديران بمدينة أكبر جداٌ من عمان.
وإذا لم يكن في المدينة ابنية مناسبة، فقد كان الأمير عبد الله يعيش في تلك الأيام في مخيم على رابية تشرف على عمان. وكانت خيمته أكبر نوعا من سائر الخيام، و مؤلفة من عدة غرف تفصل بينها قواطع من القماش وتتميز بالبساطة المتناهية".
وفي عام 1932 م زارها "لانكستر هاردنج" الذي اصبح فيما بعد مديرا لدائرة الآثار الأردنية فقال في كتابه "آثار الأردن" تعريب سليمان موسى ، ص53-54 :
" عندما زرت عمان للمرة الأولى في عام 1932 م لم تكن أكثر من قرية كبيرة، لأن السلط كانت أكبر بلدة في شرقي الأردن خلال العهد التركي ، ولم تكن عمان سوى قرية صغيرة أخرى من قرى الشركس … وفي عام 1932 م كانت بيوت الشراكسة ما تزال ماثلة ، منها المسقوف بالقرميد الأحمر ومنها ذو السقوف العادية، وكان أكثر بيوت البلدة في الأودية، ولكن اتجاه المباني الجديدة، قد بدأ زحفه نحو قمم التلال المحيطة ، وكانت الشوارع ضيقة و أكثرها غير معبد، وأما مكتب رئيس الوزراء فقد كان في بناء صغير بجانب السيل، كما كان ديوان الأمير عبدالله في منزل مجاور لفندق فيلادلفيا الذي بنى قبل ذلك بفترة وجيزة. أما الأسواق والدكاكين فقد كانت ما تزال على نسق مثيلاتها في أية بلدة شرقية على أطراف الصحراء. وكانت الطريق الوحيدة إلى الجنوب تقطع السيل قريبا من الجسر الروماني. وفي ذلك كانت بقايا آثار رومانية و بيزنطية ما تزال ماثلة في أماكن كثيرة من البلدة. وكانت دائرة الآثار في بيت مؤلف من خمس غرف قريبا من المدرج، ثم اصبح لفترة قصيرة مقر القيادة العامة للجيش العربي.
ثم يصف المستر هاردنج عمان أبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945) فيقول: " لقد جلبت الحرب رخاء عظيماً للبلدة وبدأت مناطق السكن تنتشر وتتسع فوق التلال. وعندما أقبلت الحرب على نهايتها أصبح اتساع العمران من السرعة بحيث إنني صرت أخطئ في التعرف على الطرق في الأحياء الجديدة التي لم أكن أزورها باستمرار. على أن البلدة عرفت أعظم فترات الأتساع بعد تدفق النازحين إليها من فلسطين عامي 1948و 1949 ، حينما أخذ أصحاب الأعمال منهم يبنون بيوتا لأنفسهم. وعمان اليوم(1956) مدينة كبيرة مزدهرة رغم أن فن العمار والهندسة في منازلها وأحيائها ليس على ما يرام ، إلا أن الحجر الأبيض الذي يستعمله أكثر السكان في بناء منازلهم يضفي عليها روعة و جمالاً، ويخفي ما قد يكون فيها من نشاز. و ما يزال إلى جانب من السوق المخصص لحاجيات البدو والفلاحين قائما، ولكنك تجد في السوق التجاري الرئيسي بضائع معروضة للبيع من جميع أنحاء العالم. وتبلغ مساحة المدينة الحديثة ستة أضعاف مساحتها في عهد الرومان و البيزنطيين عندما بلغت أوج ازدهارها القديم" .. أما مؤلف رواية "الطريـد"
فقد تاه فيها سنوات عمره الباقيات وقيل فيه ما قيل بأنه عبد العزة فيها واللات بين عامي 1992-2002 م وقد نزل في أول ما نزل قرب سيلٍ جف فيه الماء في الزرقاء بحيٍّ عرف آنذاك بحي الزواهرة الذي كان يقطنه أغلبية من بني حسن ولم يعرف من عمان في سنيه الأولى غير مستشفى الطب النفسي والأمراض العقلية الكائن في الفحيص حيث أجريت له الفحوصات الطبية قبل تأهيله للتشرد في "عمان الكبرى" وأعادوا فحصه عدة مرات كما كانت تفحص البضائع الواردة من فلسطين قبل قيام دولة اسرائيل. فأقسم ألا يكتب عنها شيئاً غير ما كتبته هي عن نفسها فيه. وعاش فيها في قبوٍ بلا نوافذ انفرادياً لم تره الشمس مطلقاً ولا رأته أمانتها قبيل إعلانها عاصمة للثقافة العربية بستة وعشرين شهراً مدفوعة الأجر .وفي العاشرة من مساء الرابع من كانون الأول عام 2001 جرفت السيول في عمان مسكنه ودمرت كافة محتوياته دون أن تترك له متنفساً لفعلٍ أو قول. وكتبت له عمان أن يبقى الطريد من كل مسكنٍ أو سكينة. ولم تتركه يروي ما عاش فقد أرادت أن تروي هي الرواية من طقطق حتى السلام وما كتب حتى هذه اللحظات مشهد الختام.
• كأساً آخر ؟ وتناولت من بين الأوراق نصاً

شعرها طويل حتى الفجر

تختبئ من الشتاء القارس تحت حرام ، و من الضوء تختبئ و من الأهل حولها و من أحاسيس الدلال ، و كل ما بين حرام الشتاء و الجدار سلك هاتف لا تلحظه عين. تهمس بما لا تكاد تسمعه اذن و لا يهفو به لسان. تدرك أنه على السماعة الأخرى أعزل ووحيد. رقيق و حديد. يائس و عنيد. يستمع لها و يتخيل. يسألها عن المكان و هو غارق بالموسيقى أحيانا بحيث لا تصله تنهداتها. لاهث بقوة الصعود و صاعدا بخيلاء النشوة المتفتقة المرتخية العضلات ، المنداحة في جسد الطراوة ، اللدنة بالمشتهى ، المتهدل الشعر، الملولو الخصلات ، المبعثر ما بين الآه و اللثمة و اليد الممسدة لنفور نهد و آه ، فانشداد أخف لعضة تشتدد بصرخة و أوه حتى الإندياح الحارق العذب المعسل ، الإرتياح المباح ، الجاذب آخر اللذة فالمهدودل المترنح فالقبلة اللاقطة الشفاه ، المتدلاة بنعاس الرضى و الطمأنينة ، ناعسة العينين بحلم يطوف بهما السحاب و شعرها لما يزل مسترخيا ينام على مخدة أطرى من ساعده الملتف حول خصر نحيف لفظ ارتعاشاته و استكان. قالت له: ( انت كالبحر حنون في هدأته مجنون في غضبته ، موجك عال يرفعني لغيم و يبعثرني في سماء الوهم ، أضيع..... من أنا؟ ) و هو الآن هادئ مسترخي يدخن سيجارته وحيدا كالصقيع ، اليف و سميع ، يخفف من الذكرى و يختصر الرحلة الطائفة في عينيه. يريدها أن تمنحه صعودا ما من نزول بعده و ما من وراء فوقه و ما من هبوط. و شعرها الغجري يسد الفضاء حوله و من تحته كريش النعام يدثره و يؤاخيه تتحدث في اذنه هامسة كي لا يتطاير الشذى من عطر الكلام و ياسمين السلام. لهذا او بعض هذا تختبئ . و رغم المسافات هو منصت كما لم ينصت من قبل و مدرك كما لم يدرك من قبل أنه سيودع الدنيا مغمورا بمشهد غجري لغريب مدفون بشعر امرأة من غذب او لهب. شعر ترسله مع صوتها الخافت على الهاتف بدفء انفاسها الحرى. دفء. الفة. حلم. لمسة. همسة. رغبة. خيال كل ما تمنحه خيال. تساعده نهدة كي يكون. نبضة كي يحيا. لمسة من تحت الحرام ليكاد يكون قريبا فيقبل خفيفا اذنها اليسرى عند الرقبة الشفافة، ( والآن خذي يدي، يداي) فيلامس يدين من عاج و مرمر. ( لي ما تمنحه شفتاك و التدلي) فقد شاهد من قبل و ما قطف عناقيد العنب و الدوالي و عناقيد العنب و الليالي تتدلى عليه دون ان تتملكه الرغبة ان يذوب نضوج العنب و التين و الرمان في شفتيه.( شفتك السفلى حبة تين ناضجة مدلاة بالعسل طرية متهدلة بما اريد و ما لا أريد. خيال انت كما الحلم، و أشتهي مصمصة التين وقتا من الحرمان يطول ) تنهيدة اخرى و يرتوي من ندى تكثف فوق فاكهة ناضجة حد التشقق. ( لولا احتباس الدبابير في خيالي و نأي النحل عن بستانك الطري لما استطعت تخيل شفتك السفلى كامتلاك واحد أحد بالرغبة. رغبة تخصني لأول مرة . و ساقان يعنياني لأول مرة. و عينان ملحهما حزن ظليل، يهب علي من شذى شعرك الغامض و من فوقهما لأغيّر بك الدنيا ، وانا و انت ، بعيدان متحدان، غريبان يمنحان الأمكنة جدواها و معناها. (كيف انت الآن ؟ دافئة و طرية و مشتهاه ! )..( و انت ؟ )..( خارج الدنيا والدولة و المجتمع في غرفة وحيدة .. البرد يكاد يفتك بي لولا صوتك الدافء لي خافتا بالمأمول و المرتجى و يعيد الى جسمي ما افتقده في العقود الماضية من حرارة و ألق . طمأنينة انت اريد ان يدفنني شعرك الطويل تحت لهيب نهديك و نبع شفتيك كيما اعود الى البدء ليس من ام او وطن، بل مما اعشق وما ارضع و مما اريد و مما المس و مما أعض من الدنيا بخفة اسناني فوق ينابيع اللذة من حلمة الدنيا مانحة الضوء والعسل..)..( كمان، كمان، و انا كمان..) ..( قمري صدرك المانح المعطي المتفجر المشع الدافئ الطري الصلب المتهدل المتكون ما بين القرصة والعضة العصي الناهض المتجدد الصاخب لا وقت لشفتاي تنفصلان عني باتجاه صرة الكون و البطن الممشوقة الملتفة بانشداد عذري لم تمسسه يدان.. خذي يداي الآن .. بدء التكوين انت انا ايادينا تصنعان لنا مما نلمس و مما لا نلمس من احلامنا ) تنهيدة اخرى و همود. اما هو فمشتعل لا يرتضي انسحابا دون قمة الجبل و لا يرتضي همودا يكسره فيقدم ممسكا بخصرها ناثرا شعرها عليه في الليل الطويل الطويل عليه كي تحمل به و تلد الفجر.لأن هذه الدنيا خرقاء كان لا بد لي ان ابحث عن سماء و كان لي ان ابحث عن اسماء. ماذا اقول الآن و ذاكرة العطش مقفرة والعمر حبات رمل في صحراء ياقطرة من ندى و غيمة من ماء ضاع العمر دونك هباء . ثم تقول له :(سأهبك في كل ليلة من جدائل شعري حكاية، في كل لية سر و في كل سر حكاية يا.. يا.. يا.. و ينهمر الجنون علينا من سماء لن تراها فلست جيم الجنون انا و انما هو الله يعطيك ما حرمك منه و يعيد هدمك كي يحييك بي. سأمنحك ارتفاعا بلا سقف تراه و انا صمتك و انا قمرك الترنو اليه و انا مساحتك الى الدنيا و انا افقك الباقي و انت البلد و انا ما يهفهف حولك من نسيم و بساتين و رياحين فأضئني كي اجبل من عذاباتك الماضية صبية او صبي له ما ضاع من عينيك و سماؤه ترنو و تحن اليك صاعدا بي للذائذ روحي متعتي انت احتراقي، فلا تعش ابد الدهر حزينا كعراقي . مثل بابل. تحتشد فيك و لا يجفف دمع عينيها سوى ما يقطر من الدنيا عليها) عليها اقبل فأحرث ما تيبس من ارضها الطرية لتهبك العشب و الثمر و عليها لترى الله فيك مرخية لعينيك ذراعيها و ناهضة اليك بنهديها .. أأنا الدنيا ام صرة الكون تحدق في السهو بها عيناك و انت العمر الحائر ما بين الهنا و الهناك فاستقر بوتدك و أحرث لعل الكائنات الصغيرة من ملايين الأحياء ينتقي الله واحدا واحدة منها ترنو اليك ترنو اليها في بدء التكون من جديد ، فلا حديد يقيد ساعديك الان عن خصرها و لا مطرقة تنهال على افكارك الحرة او لديها فأن يكفيك ما ضاع من العمر لن يكفيك أو يوفيك حق الحياة على الموت أن ينهيك من جديد الى لوعة اللذة البعيدة تأتيك بحرقة ما تراكم فيك و ما توالد. أعضك باشتهاء الينابيع المطمورة، و باشتهاء المدفون من الرغبات في ما لا تستطيع الكلام او الصراخ بكلمة الإنسان الأول في الغابة يا ندائي الأول يا بحار. انا التموج لا تتوقف اشرعتك دون امتطاءالموجة تلو الموجة فادخل بعيدا عميقا لأقل انك انتهيت و اصبحنا واحدا كائنا ملتحما بالصرخات العذبات المؤلفات المتناديات الرطبات الغائرات الناسيات الذاهبات الرائحات كي نرتمي في سفوح التعب، دونما اقنعة و دونما ذهب، دونما ممالك دونما مهالك دونما جفاف دونما وتب....لكننا من عرق مالح في الفم و من اله واحد في القبل و من سماء صافية في العينين و من اصابع اليدين و حليب النهدين و ارتخاء العضلات من القبل تتلوها قبل. لا بعد لا وراء لا بطن لا ظهر لا باطن لا خارج لا ، لا، خذني مرة اخرى الموت لا يكفي في اثنتين ، خذني بين النهدين بالساعدين ياالهي كم حياتي غرقى. و عمري يابس، فحررني من وعودي ودين كي يرتاح ، مما نذرته و مااوفى غيرك بالدين . لي انت ما اريد من وحوش الغابة و لي انت ما يأكل الجائع من ثمر ، كل الآن من ملكوت الغابة اما انا فسوف آكلك بعدما ابذرك في سفوحي و انهيك باشتهاء تماما و دونما ملل سأواصل اللمسة والنجوى و الحب والسلوى و الأصابع واللون ، الأصابع، لترتعش كل شعرة في جسدي هاتفة باسمك، ياالله ياالله ، نطير عن الأرض قليلا دون كلام تارة نصحو و تارة ننام و تارة ريش شعري يهفهف بالكلام و تارة وجهك في الغمام ن والسلام لا نقله، نحسه هابطا علينا في الوئام و بياض اللون في الحمام هديل ما بيننا ياابن الغمزة في العين الكلام. دعني على ذراعيك انام و لا تفقني و لا تفق ، نم انام لتغمرنا الموسيقى . وعدوك بالجنة ، تخاطفوها ، سارح في الجبال الجرداء ، لئام ، و عدوك وغدروك اخذوك رموك و ابوك يبصر ما لإبنه من دروب تتوه عنها المسرات ، دون بيت ، ينهكها العذاب ، اذ تغادرها تمضي اليك ، بلا باب لنعاسك يفتح، ولا غياب في وداعك ينبح و لا طير على كتفك يصدح . يا عصفوري المقتول علام الصمت و اذ تقول تغرق العين بالدمع النبيل اذ يحد السيف على عنق القتيل و يجلخ الصيف الهديل فلا انت قاتل و لا انت قتيل ما همني مما يقال ما همني مما يقيل في هذه الأرض ما همني ثغاء و لا عويل ما همني الاماأثقلك الله بأعبائه و ماناء به الجمل العليل أثقلك الله بالدنيا و ما عليها و بما لا تملك الا القليل ما همني ان امضي اليك ان اعود دونك تاركتك لما تكره و لا تنزح ما همني ان النهى عنك منكر وان المنكر فيك خليل ما همني الدنيا دونك الا صلاة ما همني همني همني سيل من الجبال عابر اخاديدي سيل سلسبيل لما جف من ودياني انت من الله انهداني بعد جفاف عقوق ودياني عاقر في الزمن العقيم ، فكنتك فيما لا يتفجر في دمك بركاني و كنتني فيما يتفجر من نبع في صخور ودياني بالعين و اليدين تمنحان ما ليس كائنا في كياني فأقمني فوقك صرحا او غيمة او سماء . لك ما تمنح من اسماء . لك ما تشاء او لا تشاء . لو لم تكن ما كنت ما كنا . لو لم نكن ماكانت الدنيا . يا ..يا .. نامات. شمس على الدنيا وانت .

كتب النص السابق في أعقاب مكالمة هاتفية استغرقت تسع ساعات متواصلة مابين التاسعة مساء والسادسة صباحاً عام1998

•إذاً !
•مكالمة شفوية ليس إلا
•
أيها السيد تقدم
عاد إلى ما كان مهجعه، من السيرك عاد، فوجده خاوياً على عظام وهياكل وجماجم أسلافه. توغلت به الوحشة فالبيت علته طبقة من الغبار والأتربة وانقطعت عنه إمدادات الماء والهواء. الهاتف جاثم منذ سنين مثل بقرة هامدة .تراكمت على الباب أوراق لمطالبات مالية وقضائية وفواتير الكهرباء والماء والهاتف التي لم يستطع الإيفاء بتسديدها بعد أن فصل من الوظيفة.
لم يوفر له السيرك في الأسابيع الثلاثة الأخيرة غير الطعام وإن على مضض. فقد جاء المشاركون بما ملكوا وانفضوا بما غنموا . أما المروضون فقد انفضوا بصمت عن المهرجان وانسلوا يغمرهم شعور خفي بنجاحهم في لعبة التهدئة للنمر الجائع.
قال له أحد إداريي السيرك: على هذا النحو بإمكانك أن تحضر المهرجان كل عام، دون أن ينتبه القائل أن الدعوة عامة في لعبة الكلمات وأن الدخول ليس مجانياً لحفلات الأعراس ونجوم الطرب والمشاهير وأن النمر أساساً غير مهتم بالغناء والمشاهير لأنه نمر أطرش أحياناً ولا يسمع سوى استغاثات بني جنسه في الغابة أو في الأقفاص.
نمر ثقافي يتضور جوعاً لأولئك الذين أجهزوا على عالمه بأقلامهم وسواطيرهم وتذاكر سفرهم والكتب الأنيقة التي كانت شجراً يمنحه الأوكسجين الكافي. هكذا انشغل النمر بالطعام طيلة ثمانية عشر يوماً صاماً أذنيه عما يسمع عاشقاً لما يفكر أو لما يرى أو يتخيل.
كانت مجرد لعبة بالنسبة له مسلية تدمغ الوقت بالموسيقى أحياناً وبالخيالات في كثير من الأحيان. فقد جيء إلى السيرك بمن يمكنهم التعايش معه من النمور القابلة للتدجين، بل ببعض النمور الحقيقية كي يستشعر الألفة والتقارب بحيث بات يعول عليه أن يكون صالحاً للاستخدام في السنة القادمة في المهرجان المقبل في اللعبة ذاتها أو هكذا خيل إليه. والآن ، هاهنا بين عظام أسلافه حيث عاد يتضور جوعاً والأبواب مغلقة تضيء عزلته لأول مرة حين يكتشف أنه منذ سنوات ثلاث لم يكن سوى في القفص الذي سمي بيتاً وأنه لم يكن طوال السنين الماضية سوى سجين مطلوب منه الإيفاء للدولة وللقانون ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص بأجور نفقات سجنه الأبدي مقابل لا شيء.
النمر المتضور جوعاً بماذا يفتك الآن، بعد دقائق، بعد ثوان ربما؟ خرج من القفص إذن للسيرك تحت وهم أنه يغادر منزله فاطمأن مدير السيرك ولجنة المهرجان إلى أنه سيعود باختياره إلى القفص. يا لها من حديقة حيوان نموذجية تلك التي لا يتدخل بها الأمن وتتجول بها النمور الجائعة وهي تعرف مساراتها بعد طول تدريب ومسايسة ! إنها الديمقراطية فعلاً أن يكون الجوع الحقيقي فيها مجرد وجهة نظر وأن تكون وجهة النظر فيها وجبة طعام وبضع كوبونات قهوة وشاي. إنها السياحة حقاً أن يرى زوار الحديقة في الصيف أسوداً ونموراً وفهوداً قد أصبحت أليفة وداجنة تستمع للشعر والموسيقى والغناء وتعرب عن مشكلاتها وراء الميكروفونات.
يغادر السواح مادحين حسن الضيافة والكياسة ولسوف يتحدثون طبعاً أن الحدائق آمنة ومستقرة وقابلة للاستثمار المحلي والأجنبي. سوف تهل الأرزاق إذن والدولارات لأننا حولنا المواطن إلى كائنات أليفة كالقطط والكلاب الضالة بالفن والثقافة والموسيقى.
لن تحدث مظاهرات من أي نوع في المستقبل بعد أن تم التعرف على الداء. على المواطن أن يشبع شعراً ونثراً وموسيقى وغناء لينام.. أما إذا كان طفلاً فلينتظر مهرجان الطفل وبرلمان الطفل وإذا كانت امرأة عليها انتظار يوم المرأة العالمي، المهرجانات ومن ثم المهرجانات والندوات والمحاضرات بل والمؤتمرات في الصالات والفنادق والحارات، إنه السيرك في هذه اللحظة. آه لو يدق صاحب الملك باب القفص ليدرك لأول مرة في حياته أن النمر الجائع في عمان لم يعد يرى أمامه سواه، وهو بين عظام أسلافه وجماجمهم لم يعد يغني أو يقول سوى عبارة واحدة: " لا تمثل" : لن أمثل بعد اليوم، حذار حذار من جوعي ومن غضبي، لأنني إذا ما مت آكل لحم مغتصبي، أيها السيد تقدم.. تقدم إن مفتاح السجن اليوم بيدي لا بيد غيري، هيا تقدم أنت شخصياً، من هذه الأقفال.
الرواية رقم 23
أجل، شاهدته، لكنني لا أجزم الآن هل كان حلماً أم حقيقة، حال سقوطه من الفضاء ارتطم رأسه، وانفجر دون أن تسيل منه دماء أو يتناثر الدماغ، كان الرأس محشواً بأشرطة لكاميرات الفضائيات. كل ما استطعت مشاهدته نشرات أخبار وبرامج سياسية. ومع كل ديسك يتبعثر من رأسه كانت تخرج منه مذيعات تلفزيونيات مترهلات بشعر خفيف وقد بلغن من السن عتياً . جيوبهن محشوة بالدولارات ويخرج أحياناً مذيعون ومقدمو برامج ببدلات رسمية غير مكوية . جميعهم بنطلوناتهم مجعلقة ورخوة عند الوسط وبدون أحزمة. شاهدت ستالين غاضباً متجهماً ولمحت تروتسكي يضحك ويقهقه عالياً بصحبة جيمس جويس على ما أظن، ثم فجأة اختفى الكائن ولم أعثر على شيء في رمال الصحراء. هنا راودني الشك أنني كنت أحلم حلماً سوريالياً، لكنني بدل أن أتذكر سلفادور دالي بدأت أسمع غناء عراقياً. فجأة تصاعد الصوت كأنه يأتي من كواكب بعيدة تقترب ، وكأن السماعات التي تبث الصوت أعلى قوة وهديراً بالتشوبي من طائرات الـ B52 .وإذا بالجبال تلتئم ، ترقص بقوة فوق الرمال رقصة التشوبية. هنا لمحت فعلاً ملامح الكائن .عاد رأسه كما كان آدمياً ووسط الجبال لتي ترقص كان يرقص بقوة جاعلاً حركة اليدين والجسد لمقاتل متمسك بصلادة فولاذية بسلاحه الرشاش. كان يزخ رشات متتالية مصوباً مضاداته بزاوية حادة فوق رؤوس الجبال كي لا يصيب أحدها بطريق الخطأ. كان يرى ما لا أرى ويناجي ما لا اعلم في عنفوان الرقص الزورباوي كما لو كان فعلاً أحد آلهة الإغريق. أظنني شاهدت فتاة ترتدي اللون الأحمر وتصوب كاميرتها الصغيرة نحوه بتأنٍ كأنها كانت تعلم أن ثمة ثقة سرية متبادلة بينهما أن يظل يرقص حتى تضبط عدسة كاميرتها على الحركة التي تشتهي. لذلك حالما التمع الفلاش اختفى الكائن فوراً ولم يعد له أثر في الحلبة وما أن أحكمت هي بدورها أزرار كاميرتها منعاً لأي خلل محتمل حتى طارت هي الأخرى مثل حمامة واختفت ما وراء الجبال.
أصبح الصوت والموسيقى ابعد قليلاً من المكان ثم لم أعد أسمع بعد رحيل الصوت سوى الصدى يتباعد يتباعد ويختفي رويداً رويداً مسافراً نحو العراق. تلفت حولي فلم أشاهد أحداً. كانت جبال رم مخلدة في الصمت من حولي والخيمة خاوية ولا هسيس أحد.
ثمة غبار خفيف يتلاشى في الأفق على مرمى البصر. ليس ثمة دليل واحد يشير إلى قادمين جدد. السكون يلف الجبال مجدداً ، تغرق وتغرق في العتمة إلى أن اختفت أيضاً الجبال نفسها لتذكرني بنفس المشهد الليلي الذي رأيته خلال حرائق آبار نفط الكويت جميعها وانطفاء الكهرباء الذي رافق خروج القوات العراقية بعد الحرب حين كنت إذا مددت يدك أمامك لا تراها ولا ترى من هم حولك ولا تسمع في السكون الصحراوي غير هدير جهنم . لم أميز آنذاك أن الهدير الذي كنت أسمع لم يكن سوى صوت النار الغاضب.
شعرها طويل حتى بابل
ألم تقل لي ذات يوم أن شعري طويل حتى الفجر؟ فانظر هناك ماذا ترى على البعد هناك هناك وسط هذا الليل الناعس؟
أليس تلك هي الكرة الأرضية على طرف من أطرافها قليل من الشمس وبعض مناطقها مثل حبات المويعم، الخرز الصغير الصغير قبل ساعات كنا هناك كدت أنت أن تنساني وتنسى تلك الليلة لولا صبري وعملي الدؤوب كي أحرسك بالصمت والانتظار حتى تأووب لم تكن لتعرف الطريق كنت أنا متأكدة من ضياعك وأعرف عاداتك وأطباعك وظل شعري يطول ويطول كل تلك السنوات.
كان حولك في الليل ولكنك لا تراه وكان فوقك في السماء ولا تراه، وكان يهفهف حولك النسمات ولا تبلغه وكان يتلولو أحياناً مثلما تحبه وكان يغتسل بنور كلماتك وأقلامك ويختبئ في كتابك ومع ذلك ما زار يوماً ذكرياتك أو خطر ببالك يوم نمت متعباً واستغرقت الكهرباء في الانقطاع كنت كلي التياع أن آتيك لأخذك معي تسللت في عتمة دارك ولم يحس بخطواتي جيرانك طرت بك وأنت تتململ من روعة الحلم وتتنهد بين يدي حملت رؤاك وعلى صدري رأسك يتوسد لم تكن ثقيلاً في الطيران رفرف قلبك لحظة مرآي فابتسمت وكنت لم تزل نائماً بين الصحوة والحلم حتى هبطنا سوياً هنا غير بعيدين عن نجوم السماء من حولنا وغير بعيدين عن القمر لم يعد في هذا المكان أحد من البشر ولا ذهنك أصبح مشغولاً بالسفر ها نحن هنا لا أحد حولنا أو بيننا إلا الشجر لن نعود إلى هناك فأنظر كم أنت خفيف الآن وكم أنا خفيفة كم أنت نظيف من الجاذبية وكم أنا لطيفة أما زلت جائعاً للتين العسل الطري الحنون الناعم الدافئ الهادئ في هذه الصحراء الناعمة الطرية؟ قل لي الآن بماذا تفكر هل تفكركما السابق بالأرض وتماسيح الأرض وحيتان البحر والفك المفترس أم في نشرات الأخبار وهاتيك الديار وقد كان عمرك على الأرض كما يباب اليوت من حطام إلى دمار؟ تحدث يا حبيب فأنا لم أسمع صوتك منذ حرب طروادة تكلم .. تكلم ولا تجعلني أحس الآن أنني لم أفعل شيئاً لحياتنا كل تلك السنين؟ تكلم ألا تريد أن تتكلم أو تغني أو ترقص مثل ذي قبل هل تسمعني؟

عندما هدأ القصف قليلاً استطاع سماع صوت غناء خافت لسعدون جابر.
جميلة.. جميلة
جميلة.. جميلة.. جميلة (ترديد جماعي)
(ثم صوت سعدون جابر عن بعد):
جميلة ولابسة عالشعر طاقة
سبت عقلي، ما خلت لي طاقة
لا تقبل لا... لا تقبل صداقة
والشكوى لله حلال الشكاوي
والشكوى لله حلال الشكاوي
(ثم ترديد جماعي)
جميلة .. جميلة
جميلة .. جميلة.. جميلة..
(وفي ثنيات الشوبي انطلقت زغاريد وقذائف وسمع صوت رشاشات وهدير طائرات ومع ذلك ظل من مكانه يسمع إيقاع الأغنية)..
جميلة ولابسة فستان الأسود
جميلة وحاطة الحمرا على الخد
نادت باسمي قالت لي.. ( لم يسمع الكلمة الأخيرة تماماً مع رصاصة أَزَّتْ بالقرب من أذنه)
والقلب اللي حابها مكلوم وهاوي
جميلة وحاطة الأخضر على العين
جميلة وتتمشى هين وهين
بين الحلوات تتمشى كلش زين
ما تدري بنارها تحرق... ( ولم يعد يسمع بقية اللحن)
سيدة الكون
كنت لا أزال أتأمل الكرة الأرضية بين النجوم والكواكب الأخرى من موقعي العصي الذي أخذتني إليه، أسلمتني كاميرا صغيرة لها قدرة السحر وسرعة الضوء في تكبير المشاهد التي أريدها لدرجة شاهدت فيها رجلاً وامرأة يقتاتان من القمامة في أحد أزقة نيويورك وشاهدت في البناية المقابلة في الدور رقم 82 في الشقة رقم 4140 أفعالاً فاضحة لا تتسم بأي صفة إنسانية أو حب بشري ولم يخطر ببالي بعد تلك المشاهد المقززة أن أسلط عيار الكاميرا السحرية على النجف والسجون الإسرائيلية والعربية على حد سواء ولا على قصور الزعماء العرب أو البيت الأبيض وإن كنت اختلست النظر نحو شارع النزهة – دخلة مطعم الزيتونة- وشاهدت ابنتي الصغرى تصطحب ابن الجيران الصغير نحو البقالة المجاورة ولم أشاهد بالطبع إلزا فقد كانت تغلق باب الغرفة على نفسها وتقرأ القرآن،كالعادة، وفجأة أعتمت الكاميرا تماماً بعد أن أضاءت بحدة ضوءاً كاد يفقدني البصر لشدته فظننت أن الكاميرا أصابها عطب، ولكن هذا الاحتمال كان بعيداً أيضاً ولا يتناسب مع خبرة سيدة الكون الفضائية التي كل شيء يعمل لديها يعمل بالطاقة النووية المذهلة ومعجزات لم تخطر ببال كل القادمين من كواكب أخرى فإذا بها قد أصابها الهلع قادمة تسبح في الفضاء بتهور من لدى جيران كوكبنا في الكوكب المجاور وكادت أن تصطدم لقوة اندفاعها وخفة وزنها، قالت:
*غضب الرب، غضب الرب
ولم أعد أر شيئاً لكنني كنت أسمعها تبكي لأول مرة وسألتني متحكمة بمقدرتي على الرؤية:
* هل رأيت؟
قلت مستغرباً:
- ماذا؟
فسألتني:
* ماذا كنت تفعل قبل لحظات؟
قلت:
- كنت أنظر لكوكب الأرض من خلال الكاميرا؟
قالت:
* وماذا رأيت؟
قلت:
- فجأة أعتمت الكاميرا بعد إضاءة شديدة مفاجئة.
* حسناً..حسناً
- هل سأبقى مغمض العينين؟
* أجل يا عزيزي
- لماذا بكيت؟
* سأقول لك فيما بعد
- هل سمعتك تقولين أن الرب غاضب؟
* أجل وانتهى كل شيء
- هل فعلنا شيئاً يبعث على غضب الرب؟
* لست أنت، لست أنا، لسنا نحن
- إذن !
* لن تحتمل الصدمة إذا قلت لك، استرح ونم قليلاً
- أشعلي بصري أو بصيرتي من فضلك وخذي كاميرتك هذه عني فقد شاهدت بها ما يبعث على الضجر والقرف والحزن في آن واحد.
* أجل... أجل... ما عادت تلزمك بعد اليوم.
- ماذا تقصدين؟
* لا شيء
- لم أتلفها..وإنما استرقت النظر نحو منزل الأبناء.
وفجأة انهالت بالبكاء، فلم يعد بمقدوري أن أتكلم أنا أيضاً، فقد كنت أحرص على مشاعرها المرهفة وأدرك أن البكاء يجعلها تتخلص من همومها وهموم الكائنات البعيدة التي تزورهم بين لحظة وأخرى وأولئك الذين يوصونها خيراً بي ولا يستطيعون المجيء لكوكبنا ولا الوصول لكوكب الأرض أيضاً وبعد أن استراحت قليلاً واستردت أنفاسها حيث تناولت بعض الأقراص المسكنة التي توقف الحزن، قالت بشجاعة :
* خذ هذه الحبة أنت أيضاً قبل أن أعيد لك عينيك.
فتناولتها وإذا بي أسترد البصر فوراً، فسألتها:
- هل لا يزال الرب غاضباً ؟ وممن؟
* لا .. فقد انتهى كل شيء
- ما الذي انتهى؟
* فقط خسرنا كوكباً واحداً من هذا الكون الشاسع إنه الكوكب الذي لم يرض الرب وقد منحه الفرصة الكافية أن يصلح فلماً لم يعد ممكناً صلاحه ومن عليه، اصطدم لا أدري أم ضاع وطار في الكون فاقداً غلافه الجوي وجاذبيته وربما أصبح أشلاء في المجرة أو بلعته الشمس.
ولم أعد أراها أو أرى مكان اختفائها بعد تلك الكلمات . عدت أتأمل الكواكب والنجوم في مجرتنا وإذا بي لا أرى كوكب الأرض في مكانه، كانت المساحة التي يشغلها معتمة تماماً في الفضاء الذي أراه مع أن القمر كان واضحاً ومضاءً ومع أن الشمس تضيء كواكب أخرى. لكن لا العتمة ولا الضوء كانا واضحين على كوكب الأرض مثلما عهدته، لم أستوعب علمياً هذه الظاهرة وعليّ فعلاً أن أنتظر عودتها لعلها إما أن تشرح لي ماذا يجري في هذا الكون، سيدة الكون، أو أن تعطيني كاميرتها العجيبة لأدقق في مجريات الأمور لعلي أفهم، تأخرت كثيراً سيدة الكون، لكن الكون في وجودها كان جميلاً وندياً كان الكون والريح تملأ رئتي لأول مرة كأنني عدت صبياً يافعاً وكأنني للتو أبتدئ الحياة، وفجأة اشتقتها جداً سيدة الكون ورغبتها جداً وعزوت انبثاق الحياة في جسدي وتدفقها بالنور والحب والسلام لتلك الحبة التي ما أن انتشر مذاقها في عقلي وشراييني حتى أحسست بالهدوء والعزلة والرغبة، أينها ؟ بدأت أتلفت حولي في الظلال الخافتة للوادي ولا أجد في المكان أحداً سوى ضوء القمر والسماء المنخفضة النجوم.

المزرعة في الأعالي

العجل و القر و الحمار

كان وحيداً عندما دخلنا إليه. عمره لم يتجاوز الأسبوعين وواقف رغم هزالة جسده. قدم له عمي الذي تجاوز الستين من عمره إناء الحليب الاصطناعي المعد حسب المكاييل و الأوزان ووصفة الشركة الفرنسية المنتجة، فمد رأسه ليرشف ثم ابتعد غير راغب في مذاقه رغم الجوع . عللت من جانبي هذا التصرف بأنه أمر طبيعي أن لا يستساغ الحليب الاصطناعي من عجل صغير حديث الولادة عندما يقارن بحليب الأم.لكن هذا الأمر من وجهة نظر عمي يغدو مكلفاً إن هو أصر على رفض تناول الحليب الاصطناعي و أعتمد كلية على حليب أمه. و بحسبة بسيطة كان قد شرح لي عمي و هو يعد حليب البودرة ، أن تكلفة ما يشربه العجل الوليد من حليب مرضعته يبلغ نحو الخمسة دنانير يومياً و أنه لو شرب نصف هذه الكمية من حليب البودرة الاصطناعي بنصف دينار سوف يوفر في الوجبة الواحدة نحو دينارين وضعف هذا الرقم إن تخلى كلية عن حليب الأم. العجل الصغير بدا للوهلة الأولى متمرداً و ليس في وارد حسابات عمي على الإطلاق. و هكذا ظل في الجولة الأولى رافضاً تناول الحليب الفاتر المعد له خصيصاً، بل أنه عندما تم إكراهه بالضغط على رأسه ليغرق فمه بإناء الحليب إندفع بقدمه المتسخة ليضعها في الإناء مما جعل وجبته تمتلئ بالتراب و روث الأرض. و هكذا توقف العم عن الود و الإكراه معاً تاركاً له الإناء بحالته تلك حتى يجوع تماماً و يضطر في عزلته للتعود على الحليب الموجود أمامه. تأملت جسده و قد شف عن عظم ناتئ عند ظهره القريب من ذيله و مؤخرته و عن خواء معدته التي بدت فارغة لا يغطيها سوى الجلد المرقط باللونين الأسود و الأبيض. ثم غادرناه لتفحص بقية أركان المزرعة و موجوداتها بعد أن وصلنا متأخرين نحو ساعتين عن الموعد اليومي المقرر الذي يصل به عمي لتفقد و رعاية مقتنيات مزرعته من حيوانات وطيور. نهيق الحمار الذي انطلق عند مشاهدته لنا بدا حزيناً أكثر مما يجب، فقد سمعت الكثير من نهيق الحمير في حياتي المبكرة عندما كان عمري لا يتجاوز الخامسة عشرة، أي عام 1967، لكن مثل هذا النهيق لم أسمع، فقد كان عذاباً و قهراً و يأساً ذلك النهيق. و تبين لي بعد ذلك أن الحمار كان مربوطاً ليس أكثر من بضعة أمتار تفصله عن بانيو الحمام الممتلئ بماء متسخ إلى حيث اقترب الحمار و ابنه القر الصغير ليشربا سوياً بعد قضاء ظهيرة يوم حار ضمن موجة الحر التي اجتاحت الأردن أواخر أيلول عام 2004. وحينما وصل الحمار لبانيو الماء مد رأسه فورا و راح يغب غباً متصلاً للماء دون أن يرفع رأسه أو يحدث أي صوت يدل على أنه يشرب ، فقد كان عطشاً بشكل لا يصدق و على مدى دقائق متصلة ظل يشرب و يشرب و يشرب كأنه في غيبوبة و كأنه آخر الماء في الكون ذلك الذي يشربه منذ بدء الخليقة حتى اضمحلال كوكب المريخ و جفاف الماء الذي كان عليه قبل ملايين السنين. رحت أتأمل الوضع بينما القر الطليق غير عابئ بالمشهد لأنه لم يكن مربوطاً و قد كان حراً قبل أن يفك إسار والده المسكين أو والدته و مع ذلك لم يفعل شيئا لأبيه أو أمه في محنته تلك فلا نهق و لا شاركها في العويل، على عكس العجل الحصيف الذي تصرف و كأنه يحس بمؤامرة عزله عن أمه و بعده عنها و هي تملأ له درتها بالحليب و لكنها أيضاً كانت مربوطة و مغلق عليها حتى بوجود جدة العجل الهولندية الضخمة التي أنجبت أماً للعجل قبل أن يولد بزمن طويل.
بسالة كلب

للمرة الثالثة ، رغم تجوالي في المزرعة بصحبة العم صاحبها اليومي، ينبح الكلب أو الكلبة ببسالة منقطعة النظير كاد مع قوة اندفاعه / اندفاعها أن يبتر الجنزير المربوط به مع ان الجنزير يليق لقوته ومتانته بربط ذئب و ليس ربط كلبة هزيلة قليلة الحجم ناحلة الجسد و أشاهدها لأول مرة مثل بقية الحيوانات التي أشاهدها للمرة الأولى في المزرعة بعد انقطاعي عن التردد عليها و على العم و أبناء العم زهاء سبع سنوات متصلة كنت عاكفاً فيها على تربية العزلة، عزلتي، و ريش المأساة ، مأساتي ، وتنمية الديون ، ديوني، في قلب حي فاخر في عمان الغربية قريبا من مكان عملي الذي أزهقت فيه و حوصرت حتى حققت للوزارة أمنياتها الطيبة بتقديم استقالتي التي قبلت فوراً حتى قبل أن ينهي طلابي أسبوعهم المدرسي الأخير من العام الدراسي و قبل أن أتمكن من وضع الامتحان النهائي لهم. و هكذا مضت ستة شهور على عدم سماعي لأي نوع من أنواع النباح أو النهيق أو رعاية العجول الصغيرة و الكبيرة.
و رغم نسياني للطريقة التي عالج بها مدير المدرسة الموقف بل و نسياني لمدير المدرسة نفسه خلال الشهور الماضية من العطالة عن العمل ، إلا أنني لا أدري كيف تذكرته أمام بسالة نباح ذلك الكلب الصغير، تذكرت تماماً كيف حمل ورقة الاستقالة ، أو قصاصة الورق التي كتبتها على عجل و بالقلم الأحمر المتوفر لدي آنذاك ببضع كلمات عجولةا: أنا فلان الفلاني أتقدم باستقالتي و سأوافيكم بالأسباب الداعية لذلك فيما بعد، و بعد توقيعي عليها ركض المدير يحملها مغادرا المدرسة إلى مديرية عمان الأولى زافاً البشرى لمدير التعليم و كأنه أنجز المهمة الموكلة اليه بتحرير القدس عندما أدار مفتاح سيارته و انطلق لا يلوي على شيء سوى أنه وصل إلى تحقيق الهدف المرجو من عمله التربوي ذلك المدير الذي شارف على تقاضيه لراتبه التقاعدي. لكن نباح الكلب هذه المرة لم يصل إلى نتيجة مع عمي الذي تجاهله على أمل أن يدرك أن النباح لمرة واحدة يكفي لإشعار القاصي والداني أن ثمة غريب في المزرعة و تكرار النباح على ذلك النحو يغدو أمراً مبتذلاً من الكلب الذي ليس بحاجة لإثبات كلبنته و وفاءه أكثر مما يجب ليحصل على قطعة لحم لدجاجة ميتة من الدجاج الذي يربى بقصد الحصول منه على البيض في بركسات الدجاج البياض المجاورة .
الحالب و المحلوب و الجالب و المجلوب

انتقلنا إلى غرفة واسعة بباب حديدي واسع لأشاهد لأول مرة ثلاثة أبقار عملاقة بأحجام ضخمة متقاربة جداً اثنتان تتشابهان باللون المرقط بالأسود و الأبيض وواحدة لم يتخلل لونها الأسود أية بقعة بيضاء تميزها عن الليل في الخارج ، الليل المرتفع على جبل مرتفع ببضع نجوم قليلة في السماء و بقمر مائل ناحية الهدوء المخيم على المزرعة في منطقة مقفرة لا تسمع بها سوى نباح الكلب عند أسفل المزرعة من ناحية الباب الحديدي الذي لا بد من فتحه لدخول الوانيت – البيك أب- القادم من جنوب عمان باتجاه مدينة مأدبا و الذي قبل بلوغه منتصف المسافة من عمان إلى مأدبا يتسلق طريقاً متعرجاً صاعداً بك نحو قرية عجرمية يتجاوزها نحو سفح الجبل حيث تقع مزرعة العم القادم سنة 1991 من الكويت بعد انتهاء حرب عاصفة الصحراء بأشهر قليلة أو أسابيع. ضغط العم على الزر الكهربائي لآلة صغيرة بماتور يتفرع عنها بربيش شفاف ينتهي طرفه بنحو خمسة شفاطات تثبت بدرة- أثداء- كل بقرة يراد حلبها بطريقة ميكانيكية تعتمد شفط ما تجمع من حليب طيلة النهار في ضرع البقرة التي تكون مربوطة الرقبة بحيث لا يكون بإمكانها الاحتجاج أو التمرد أو حتى أن تحك رأسها بالمقبض الحديدي الذي يحرك تلك الآلة على عجلات تتقدم على مسافة متر من الضرع المتدلي بما يثقله من حليب بقر هولندي عملاق يشبه كثيراً بعض العائدين من الكويت عام 1991 بما تجمع في ضروعهم من أموال طيلة ثلاثين أو أربعين عاما قضوها في مراعي النفط المدرارة للبعض و الشحيحة الجافة للغالبية ليصار إلى حلب الجميع دون هوادة أو تفرقة خلال السنين الأولى من عودتهم إلى الأردن بأنابيب لها صفتها القانونية و المؤسساتية من ضرائب و جمارك و تقاضي و نزاعات و محاكم و ضرائب دخل و مبيعات ومسقفات و بلدية و تلفزيون و كل ما تبتكره الدولة من أساليب لجمع و شفط الأحاليب مثل ضريبة المعارف و ضريبة الريف و ضريبة النفايات متعددة الغايات و كل ذلك دون أن يوجد العلف لآلاف الأبقار التي كانت سارحة في الصحراء و دول الخليج و دون أن توجد الوظائف و الكل يعيش من الكل و الكل خائف . فالعم مثلاً الذي يقوم الآن إبنه بالحلب الصناعي للبقرة الوالدة حديثاً البعيدة عن مولودها المحجوز في الغرفة الثانية بعيداً عن أمه و جدته و خالته السوداء خسر في أول سني عودته للأردن أكثر من خمسة و أربعين ألف دينار في مشروع لصنع الحلويات في مرج الحمام أظنه عند التأسيس أسماه الأصابع الذهبية ليبيعه مضطراً لمن لم يستطع تسديد ثمنه كاملاً بعد الدفعة الأولى من المواطنين الذين رعتهم الدولة دون أن يضطروا لمغادرة الأردن لا سمح الله لجلب الغنم و المغانم من الخارج و الحلب في خزينة الدولة التي لا تمتلئ بفعل بركات البنك الدولي و البنك الغير دولي.
تابعت عملية الحلب البائسة للبقرة الأم التي أنجبت العجلة، العجلة التي سرعان ما تحولت إلى بقرة بحجم أمها و من ثم تحولت البقرة الأساسية إلى جدة بفعل النمو المتسارع و العلف المستورد و بعض حشائش الجبل الصخري التي يتغذى عليها الآباء و الأبناء سواء من الحيوانات غير الناطقة أو الحيوانات الناطقة و حاولت تناسي ما هو مخزون في ذاكرتي الثقافية القادمة من الكويت من تداعيات العقل الواعي و العقل غير الواعي لما يستدعيه وجود البقر الهولندي، الحليب، في الذهن من قراءات أو ذكريات، كالبقرة في أدب جيمس جويس أو في أمريكا اللاتينية و تحديدا في المكسيك و الثورة الخضراء و ما انتهت إليه بعد أيام كارديناس و مزارع البقر التي أنشأها رعاة البقر في مستعمرات البقر و ما انتهى إليه المواطن الأصلي في تلك البلدان من فقر و هزال حيث أصبحت البقرة الواحدة تعيش على ما كان يقتات عليه 12 فردا من السكان الأصليين من الفاصولياء قوت و بروتين الفقراء و خبزهم في دول أمريكا اللاتينية و لا ألحت الذاكرة أيضا على بعض قصائد بابلو نيرودا التي يرى فيها الورد الأحمر الذي سينبت من راحتي تلك النحيلة التي تلم لطع البقر بيديها لتعيش و لكنني كنت قد استدعيت تذكر مقالة لي كتبتها قبل خمس سنوات بعنوان " لسنا أبقارا لكم" و حققت التفافاً جماهيريا حولها لكل من قرأها و أحس بأنها تعبر عن وجعه، خاصة من سكان أربد. يومذاك قلت أن البقر الهولندي وصل بحضارة أوروبا كي تحصل منه على أفضل الحليب و أفضل كميات بأسرع الأوقات أن يعزفوا له موسيقى لزيادة إنتاجيتة ، أما الأبقار العائدة من الخليج فلا تجد من يحس معها أن ضرعها جف منذ السنوات الأولى لعودتها و مع ذلك ما يزال يجري الضغط و الحلب الآلي و الطبيعي لضروعها الجافة الأمر الذي يؤلمها دون طائل و دون أن تحصل مؤسسات الحكومة و الدولة على الحليب الذي حصلت عليه في السنوات الأولى من عودة الأثداء مثقلة بالدولار و الدينار. يومذاك تساءلت: هل نسي الرعيان في بلادنا العربية حتى كيف كانوا على الأقل ، يجيدون الحلب ، في الماضي القريب ، بدلا من أن يطوروه كما طور الهولنديون طريقة الحلب بالموسيقى؟ و هل لنزلاء السجون و معسكرات البطالة من العائدين من الكويت غير نقود التعويضات لمعالجة ضروعهم المشققة من كثرة الضغط بقصد الحلب بلا طائل؟ و أسئلة أخرى و غيرها تتوارد للذهن سرعان ما أطردها عن خاطري متذكرا العجل الوليد في الحجرة المجاورة الذي أعلن تمرده منذ الأسبوع الأول لميلاده بأن يضرب عن الطعام طالما هو بعيد عن أمه و جدته و خالته و طالما هو غير منتفع من حليب الأم بالقدر الذي يجعل منه مواطنا صاحاً لخدمة شعار الأردن أولاً.
فجأة تساءلت بعد أن شعرت أن الغلبة للإناث في المزرعة، من يكون إذن الأب الفعلي للعجل المتمرد اليوم و الذي سوف يخنع في الغد؟
قلت لعمي : أين الثور إذن في عملية التوالد تلك التي تمت خلال السنوات السابقة من شح زياراتي لكم؟
فابتسم قائلا: أن لا ثور في هذه المزرعة غير الطبيب الذي يأتي بإبرة التلقيح الاصطناعي للبقرة المراد أن تحمل لتلد لنا عجلاً أو عجلة . و بالتالي فإن الآباء مجهولي الهوية هنا رغم معرفتنا للأمهات و الثكالى. فنحن قال العم: نجلب الدكتور فيغزها إبرة و غير مضطرين لجلب الثور. فالثور لا يحلب الثور، و هنا تساءلت: " لماذا لا تفهم الحكومات الأردنية المتعاقبة هذه الحقيقة العلمية البسيطة، في حالتي و حالة كثير من الناس من ذات الفصيلة؟"
و بالتالي تصر محافظتي الزرقاء و العاصمة على إصدار مذكرات الجلب دون طائل سوى إضاعة وقت الجالب والمجلوب في عملية عبثية بين الحالب و المحلوب!
الصعود إلى أعلى

بعد الانتهاء من سقاية الحمارة التي كنت أظنها حماراً و قرها أو قرتها الصغيرة و بعد الانتهاء من حلب ثلاث بقرات ضخام حصلت كل واحدة منها على مكافأة الخروج إلى الحظيرة المكشوفة في الهواء الطلق وشرب الماء وجها لوجه مع الحمارة التي كانت لا تزال مستغرقة بالشرب و إطفاء الظمأ وبعد أن أدت الكلبة مهمتها و زيادة بالنباح الباسل على شخصي، و هذه أيضاً كنت أظنها كلباً ذكراً فإذا بها كما كان يخاطبها عمي كلبة صغيرة و حقيرة جداً، بعد كل ذلك صعدت أنا و عمي ، المرتفع ، تاركين الأبقار في بيتها و الحمارة و ابنها أو ابنتها في بيتهما و العجل المتمرد أصغر الكائنات في المزرعة أيضاً في بيته و عزلته الانفرادية صاعدين نحن أيضاً إلى بيتنا، إلى الفيلا ذات الشرفة الواسعة المطلة على إضاءات و أنوار القدس البعيدة التي كانت تتلألأ في مرمى البصر مثلما كانت تتلألأ أنوار حيفا و يافا و ربما عكا أيضاً أمام ناظرينا من باحة منزلنا الواسعة في سيلة الظهر خلال ليالي الصيف ما قبل حزيران 1967 الذي غادرنا من بعده إلى الكويت. أحسست مع الصعود بلهاث العم رغم أنه منقطع عن التدخين منذ سنوات و بالطبع بلهاث مدخن مثلي يحرق ثلاث علب سجائر رديئة في اليوم. كان كلانا يصعد مستغرقاً بالصمت و كلانا له عالمه و طريقة تفكيره، بحكم فارق السن، حيث أن أعمامي الاثنين يكبرانني بعشر سنوات بيني وبين العم الأكبر في حين أن العم الأصغر يكبرني بسنوات ست فقط و قد بقي في البلاد بعد هزيمة عام 1967م و لا يغادر السيلة إلا لماماً أو للزيارة و هو يقطن منذاك في المنزل الذي شيدته بأموال أرسل لي بها الوالد – طيب الله ثراه في ثرى الكويت- من عمله و شقائه في ذلك البلد منذ أن وصله بتاريخ 31/3/1953 حتى وفاته بمرض السرطان في أيار 1989 قبل عيد ميلاده المفترض بنحو أسبوع فقط. و قد أنجب العم الأصغر صبياناً و بناتاً يصعب تعدادهم فملأوا بيتنا هناك حيوية و حياة و ضجيجاً جعل الناس ينسون أن ثمة غياب أو غائبين عما صنعته أيديهم أولئك الغائبين! و لا زلت أذكر أن الوالد – رحمه الله- لم ير بأم عينيه ذلك المنزل على الإطلاق إلا من الصور التي أرسلت بها إليه وكان عمري آنذاك لا يتجاوز الخامسة عشرة. و قبل أن نصل لفيلا العم مررنا بكلب أسود تريث و لم يقم بالنباح عليّ فلما حاولت أن أشكره على حسن ظنه بي نبح هو الآخر عليّ كأنما أراد أن ينفي أية علاقة بيني و بينه باعتباري محسوب قلباً و قالباً على اليسار فكرياً و سياسياً و باعتبار عمي محسوب على أصحاب رأس المال المتوسط و شكرته أيضاً الكلب على ذلك النباح الذي يحفظ له موقعه و منزله بعكسي أنا الذي لم يحتفظ لنفسه يوماً لا بموقع في العائلة و لا بموقع في الحزب و لا بموقع وظيفي و لا بموقع أسري بعد أن تطلقت أم الأولاد و انكفأت بأولادها و نفقتهم في زاروبة من زواريب الزرقاء الحارة في الصيف كأنها امتداد للحرارة اللاهبة في الكويت و أقطار الخليج و البصرة و بغداد . و مع أنني من الناحية العملية عملت في الكويت ربما أكثر من ثلاثة أعمال في اليوم، في التدريس صباحاً و الصحافة مساء و السياسة و الحياة الزوجية في الليل مثل ثور لا يكف عن الحرث في أي مكان تطأه أقدامه، إلا أنني لاحظت أن ثمة وجه للشبه في أمور كثيرة و أن ثمة وجه للاختلاف أيضاً في ما يجمع إناث الحيوانات في المزرعة و ما يفرقها عن الذكور. كنت أحس بالتعاطف التام مع كل من يمنحنا الحليب و اللحم في وقت يحرم نفسه منها و يحرم أبناءه. أما أن تحرم البقرات الثلاث الضخام من الثور الذكر مدى الحياة فهذا ما لم أستوعبه بعد مثلما لم أستوعب حرمان العجل الوليد من ثدي أمه. فالمسألة ليست غذاء و حسب و ليست إبرة تخصيب و حسب، إذ لابد من وجود الثور بشكل من الأشكال. كي توجد العلاقة الطبيعية بين الكائنات. تماماً مثل تلك العلاقة الطبيعية بين القر و أمه الحمارة رغم عدم وجود والده الحمار. لكن ما دام حماراً فهل كنت تتوقع أن يقوم بمسؤولياته أمام ظمأ زوجته وفلذة كبده؟ و قبل أن نصل لشرفة الفيلا الجبلية في أعلى المزرعة مررنا ببيت الذكورة حيث حشرت ديوك الحبش و ديوك الدجاج في قفص واحد محاط بالشباك منعاً لمهاجمة الواويات و بنات |آوى لهن إن استطاع أحدهم النفاذ من الشبك المحيط بعدة دونمات تشكل المزرعة بشجرها و كائناتها تلك التي اشتراها العم صخورا وفلحها بقوة رأس المال و استصلحها بساتين و أشجار عنب و تين و أغراس زيتون ليوجد بقوة و بأس الشقاء على أرض الواقع شبيهاً للأرض التي فلحها و اعتنى بها جدي تساعده أموال أبي ثم افتقدناها جميعاً اليوم باستثناء عمي الأصغر و عمي الأزعر أيضاً الذي لا يولي بحكم النشأة و السن الفلاحة و الزراعة اهتماماً كافياً ناهيك عن عراقيل الإحتلال الإسرائيلي للبلاد.
فالحقيقة اليوم أن الحيوانات رغم اختلاف أنواعها قد يوحدها وطن في حين أننا نحن البشر يفرقنا الوطن في بقاع وأصقاع الأرض فها نحن القسم المتواجد في عمان لا نزور بعضنا البعض إلا في المناسبات فما بالك بالقسم الموجود في الولايات المتحدة أو غير المتحدة ! لي أقارب مثلاً في المفرق وإربد والزرقاء لم أرهم منذ 12 سنة ، أي منذ هبطت بي الطائرة القادمة من الكويت في 14 تموز 1992 أما الأقارب في السيلة فلم أرهم منذ حزيران 1967 وأقارب في أستراليا وفرنسا وبريطانيا وأميركا وكل هؤلاء تكاثروا وتوالدوا وحلبو وانحلبوا بالطبع لكن ضرعهم لم يجف ويتشقق بفعل الضغوطات مثلي أو يحاصروا مثل تروتسكي في منفاه .
صمت الكلب الأسود عن النباح سريعاً حالما تجاوزناه مما ترك لدي انطباعاً بأن علاقته فاترة مع العم هذه الأيام فقد اكتفى بأداء واجبه ليس أكثر على عكس الكلبة تحت التى ما تزال تنبح بلا طائل ولا تجد حتى من يلقمها بحجر .
العشاء والأخبار

بعد أن أثنيت على ترك العم للتدخين مؤنباً نفسي على عدم الإمتثال لطبيب القلب الذي نصحني باعتباري أصغر المصابين بأمراض القلب في عمان ، بعدم التدخين نهائياً، عندما كان بإمكاني مراجعته ودفع رسوم وأجور الكشفية وكان ذلك في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو مباشرة حين تعرضت في الأربعين من عمري لأول جلطة وانسداد في الشرايين ، دخل العم إلى المطبخ لتسخين بقايا طعام ثم جاء محمود ، ابن العم ، ليعاونه في إعداد العشاء لنا الثلاثة وكانت نشرة أخبار الفضائية تبث الأخبار عن القتلى والشهداء في كل من غزة والعراق وتصريحات المسئولين الفلسطينيين المعروفة مسبقاً بالنسبة لي وليس من جديد فيها يماثل القطط الشيرازية البيضاء التي تصول وتجول من حولي جائعة ومطالبة بحصتها من الطعام قبل أن تفرش المائدة لطعامنا نحن. لاحظ العم تجوالها المحموم فأخرج لها طعامها من المرتديلا التي تشبه ما أتناوله عادة في شقة عزوبيتي المتأخرة التي بدأت قبل نحو 13 سنة . تجمعت القطط حول مائدتها وقد ذكرتني بقطة جدي المدللة التي كانت تجلس على الجاعد قرب كانون النار في بيتنا الأول في الحارة الغربية من سيلة الظهر شتاء عام 1958 قبل تسعة شهور من مغادرتي الأولى للنار الأولى إلى صيف عام 1959 في الكويت في المرقاب .أيامذاك كانت رائحة شواء البطاطا والبصل الطري وما ينبعث من القدر على نار الشتاء في الموقد تدعو ابن السادسة من عمره للزهو حين يدرك أن دفء العناية الرحيمة إنما ينبعث من كفاح الإبن البكر للحاج عبدالسلام الذي بدأ حياته العملية في حيفا عندما كان في الثالثة عشرة من عمره جالباً لخواته الصغار قبل أن يولد له أخوة ذكوراً الكثير من برتقال بيارات حيفا الثلاثينيات وقد عمل مترجماً في سن مبكرة ورساماً رسم صورة للملك طلال قبل أن يغادر للكويت ربما لا تزال باقية على واجهة علية دار القفاف من آل موسى على الشارع العام الذي يصل مدينة جنين بمدينة نابلس حيث دأب الجد على صرف الشيكات التي تصله من الابن البكر في الكويت لدى محل كرسوع للصرافة بالدينار الأردني قبل أن يصبح للكويت دينارها واستقلالها بسنوات عندما كانت لا تزال تتداول الروبية الهندية ايامذاك. لذلك صار للجد أملاك فوق سفح الجبل الممتد من أعالي جبل القبيبات حتى الجبال الفاصلة بين برقة والسيلة حيث شيد الاسرائيليون مستعمرة لهم هناك . كانت تلك القطعة من الأرض الحمراء الخصبة مؤلفة من نحو عشرين دونماً ومشجرة بالسرو والزيتون والكرز والجرنق واللوز والعنب والتفاح ، حيث كان العم الذي يعد العشاء الآن يربي العصافير بعد اصطيادها مؤثراً هوايته تلك على الذهاب للمدرسة ومؤثراً الرسم بالألوان المائية على القراءة التي بات ابن أخيه الأكبر ، البكر ، منكباً عليها كملاذ ومهرب ومصير منذ عام 1965 حتى يومنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله !
أثنيت أيضاً على الطعام وأنا أتبادل مع العم أخبار شجرة عائلة الجد _ طيب الله ثراه في ثرى وورود وحنون سيلة الظهر _ وكانت مبادرات الأسئلة نابعة مني وكأنني أنا المقصر فقط بالمحافظة على صلات القربى والقرابة في عائلتنا متجنباً بالطبع التطرق إلى المسائل الخلافية والعويصة بين الأخوة والأعمام وأولاد العمومة حرصاً على ماتبقى لنا من بعض مشاعر الوحدة الوطنية والعائلية ، مثل مسألة اقتسام الإرث الموجود حالياً في حوزة الاحتلال أياً كانت تسميته ذلك الاحتلال ومسماه والتي أثيرت من قبل العم وأخوتي وأخواتي بعد اتفاقات أوسلو ووادي عربة وخروجي من السجن لئلا أصاب بالجلطة الثالثة ويفقدوا بالتالي توقيع أحد الرموز الوطنية من القسمة بعد أن فقدوا الوالد الذي توفاه الله قبل والدته ، جدتي ، رحمها الله في ثرى سحاب خاصة بعد أن لحقت بها قبل سنوات قليلة والدتي أنا أيضاً رحمها الله بواسع رحمته في مقبرة الهاشمية ليس بعيداً عن رحمة حماتها. وبعد الأحاديث الودية غير الخلافية أخلدنا للنوم كما أخلدت الكلاب والقطط والأبقار والأوز والبط والدجاج والحمارة والقر وربما العجل الصغير المتمرد ، رغم أن أصوات الصيصان في بركسات الدجاج كانت ما تزال تسمع باعتبارها ديوك أو دجاج المستقبل أو على الأقل بيض الغد الآتي لاريب .
وما الإصباح منك بأمثل

خوسيفا ... خوسيفا ... أنا الثور يا خوسيفا ، أين ردائك الأحمر في هذا الليل الليل ؟ وأنا الثور المجهول يا خوسيفا فلماذا تتمتعون بطعني في الحلبة في غرناطة في الأندلس في ساحات العبث والتسلية والوغى في هذا الليل والأبقار نيام ، إحذري العجل القادم إذن يا جوزيفا فلم أنس ليلة رم بعد ولا نجوم سمائها الواطئة عندما كان الله قريباً منا الله هناك أما هنا فنحن القريبون منه ولا أحد في هذا المكان المرتفع عن البحر وعن اليابسة وعن الشارع وعن الكلاب وعن القدس وعن القمر المائل عن كل شيء ولا أحد أو نجوم ، في هذا الليل الموجوم كدت أصرخ وأنا أرى الستائر خضراء السجادة خضراء الثلاجة خضراء ولا شيء أحمر سوى بلوزتك في إسبانيا الآن والدم المراق من غزة حتى العراق. وتوغل الليل توغل وتغول الزمان تغول فلا حارس مصري اليوم على باب المزرعة ليتفول ولا تعليمات تصدر له بأن يغلق الباب الحديدي ولا يفتحه إن جاءت اللادا الحمراء أو صاحبها تقول . الصمت والديجور كأننا على مقربة أمتار من الله قبور بعد أن أطلق الأنباط على الأنباط النار ومن رؤوسها بالرصاص قزعت النسور من أعالي واجهة البتراء في الصحراء الدهور. فالزعرورة ماتت والحب الأول هنا دفنته بكلتا يدي وإلى هنا يحج المحتاجون وكل من عليه دين . كان العم قد أدى مثل رحمة جدي صلاة العشاء وكنت بالخبز الناشف قد جردت بقايا الحساء وتذوقت طعم بقايا التين في القطين من الثلاجة والعنب الذي أوشك أن يصبح زبيباً دون أثلاجه وكلي هموم على العجل الصغير خلف مزلاجه. لم يسألني أحد عن السنوات العجاف ولا عن من كان شجاعاً أبد الدهر ولا عن من خاف ، حتى اللحاف الأول الذي بالحرام أستبدل تذكرته في عقد بيتنا الأول اللحاف يغطي أماً وقرها يغطي نحاف ولم يكن من الصوف ليدفئنا أيامذاك اللحاف. لا لم تسمعني جوزفينا حتى الآن ولا سمعت بندائي روديكا أو شنيد الللواتي غادرن الأردن والمهرجان والصولجان مبكرات فلم يشاهدن بعد بنات العمومة مكبرات.
عواء في ليل طويل

قلت لعمي الذي نهض باكراً ، كما دأب جدي ، لأداء صلاة الفجر وتفقد المزرعة ، كما لو كانت الخلوة ، حيث شكلت لي صلاته إحراجاً كوني بلغت من السن عتياً وأنا لا أصلي :
- كم من الوقت نحتاج للإنتهاء من الأعمال الصباحية في المزرعة ؟
فأجابني دون تردد : " ساعة أو بضع ساعة ريثما نحلب الأبقار وكي لا يجف الحليب أو يتلف "
كانت سجائري قد نفدت مما جعل الحياة أو البقاء للعزلة الإنفرادية في تلك المزرعة ولو لليلة إضافية مستحيلاً ، خاصة وأن نقودي أيضاً قد نفدت ولم يعد لدي مشحوناً سوى بطاقة الموبايل و الهاتف النقال نفسه الذي حتى وإن اتصلت بأحد من معارفك طالباً النجدة أو المعونة أو الرأفة أو الصدقة أو الزكاة أو طرح السلام أو تحية الصباح لما رد أحد عليك وفي أحسن الأحوال تسجل استغاثتك تلك " مسنك كول "
وهكذا بدأت في هدأة الصباح رغم حاجتي الماسة للنوم ، النوم الطويل الذي يليق بالمرتفعات العالية القريبة جداً من السماء أو التي هي فعلاً على العتبات الأولى من السماء كما لو كانت أعلى من التيبت فوق جبال هيملايا بل وأقرب ، بدأت أتصفح كتابي بيميني ذلك الكتاب الذي قد يطبع أو قد لا يطبع ، فلم أجد منه غير بقايا سطور لا معنى لها فحمدت الله أنه لم يكن الكتاب أو أي كتاب مقدس ، ولا هو أيضاً والشهادة لله بذلك الكتاب المدنس. قلبت صفحاتي فوجدتها لم تزل صافية كأيامي وبيضاء ناصعة كروحي ولكنني يا للأسف لم أكن كما كنت قبل سنوات عندما كنت عقب خروجي من السجن قد لجأت لذات المكان وكنت أيامذاك صيف 1995 أعوي وأعوي مع الذئاب في البرية وأتمرد وأحتج وأقول ما حان اقتسام الإرث بعد و ما حان اقتسام الأوطان بعد و ما حان نهش البعض للبعض على رقعة وطن و ما حان ما حان البعد عن عمان لأي مكان وأعوي للأيام القادمة من الزمان إلى الزمان علها تفر اليمامات و تفر الغزلان لبر أمان . كنت أصارع الموج تلو الموج و أغوص أحياناً لأظهر من جديد كأنني كان كان العوام. كنت أختفي من الأردن لأظهر في دمشق وأختفي من دمشق التي تأسر دمشق لأظهر في اللاذقية التي إذا ضقت منها أذهب للساحل يوحدني البحر أمامي بالكرمل جيراني وإذا أزف الليل أرقص وبحضني الجنون والجنون راقصاً لا يراقص أقل من مدينة أو بحر.
والبحر ذاته البحر إن كان في جزر أو غير راغب في الرقص أهجره منسحباً لغير بحر. وهكذا وجدتني أيام اللادا الحمراء لا أنهب غير المسافات بين المدن صيف عام 1996 داخلاً أم راجعاً الأردن وقد تناهى إلي الخبر أن في الكرك جوع وأن خبز الفقراء في رجوع وأن الاعتقالات لرفاق ورفاق قد دبت على حين غرة والروح تأبى الخنوع. لم أكن عجلاً يتيماً حين كان ثمة حزب وما كنت تائها حين كان ثمة درب. إلى الدوحة إذن وللراية أو وطن ، للشرق للشرق وقد بلغت المحن. وعلى شاطئ دوحة قطر ، بنفس رطوبة أجواء الكويت والبحر كان الملاذ وكان السفر ، كأنه القدر . ولم أكمل اليوم السابع حتى وجدتني يا عم عائداً لعمان فلا مفر. وها أنا كأنني ما علّمت أو درّست ولا كتبت أو إنكتبت بالوحل والطين على عجين خبز الوطن.
فاقداً كل شيء كقدرتي على العواء أو الثغاء أو النهيق أو النباح على كل ما هو مستباح . فكرت فعلاً بالنباح لأجد حنجرتي تخونني. فكرت بالعواء الطويل الطويل لكنك أيقظتني. فكرت فعلاً بالهديل لكن روحي لم تطعني وحتى لو فعلت فهل تكون قد صدّقتني. ما للمزرعة صمت وسكوت ؟ هل نامت الكائنات عند الفجر وتركنني ؟ ووحدي لا تطاوعني نفسي وحدي . وعندما جهز العم للمغادرة حيث تعالى صوت محرك السيارة ، كانت السماء زرقاء وليل. كانت المزرعة صمت وخيل. وخيلت نفسي مع كل كائناتها نكاكي ونعوي وننهق قبل أن نزهق ، نشنق أو نشهق، ونخور أو نثور وتنبعث أصواتنا جميعًا في عزف سيمفوني قادم، لليل مطبق قادم .

عن المؤلف

* نشر أول قصة قصيرة له صيف 1972في جريدة الرسالة الكويتية " شجرة شوك" وقد رأس القسم الثقافي فيها وعمره لا يتجاوز العشرين عاماً بعد إغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني. أثارت ثاني قصة له تنشر في مجلة جامعة الكويت معركة نقدية وسياسية أشعل شرارتها د. عرسان الراميني ورد عليه الكاتب د. أحمد الطحان والكاتبة فاطمة الناهض ومنذاك لفت إليه الأنظار وأساتذته في الجامعة مثل: د. علي الراعي و د. طه محمود طه و د. سليمان الشطي، والكاتب إسماعيل فهد اسماعيل الذي إعتبره من جيل الريادة الثاني في القصة بعد جيل غسان كنفاني في حين كتب الكاتب محمود الريماوي في الوطن الكويتية عن " الآفاق الجديدة " التي فتحها تيسير نظمي للقصة الفلسطينية متناولاً أول كتاب يصدر للكاتب " البحث عن مساحة " بالنقد والتحليل. وكتب الكاتب وليد أبو بكر أيضاً عن تيسير نظمي يقول : " أنه أحد الكتاب المهمين على المستوى العربي والذين لم يحظوا بشهرة يستحقونها هو و الكاتب سلمان ناطور لأسباب سياسية " أما الكاتب د. محمد عبد القادر فقد منعت مجلة "كتابات " البحرانية من دخول بعض الأقطار العربية لنشرها مقالته النقدية التحليلية حول كتاب " البحث عن مساحة". هذا وقد استثنى الكاتب بقسوة وصرامة قصصه التي حصدت الجوائز الأولى أو التي أثارت المعارك النقدية من كتبه، مثل " غيوم في السماء" أو " الداخل والخارج" التي رسم لها الشهيد ناجي العلي لوحة خاصة مذهلة نشرت معها في مجلة الجامعة التي كان يتولى إخراجها. وبعد ثلاث سنوات من صدور الكتب الثلاث الأولى في كتاب واحد أقدمت دار نشر " المشرق والمغرب العربي" على نشر الكتاب الرابع " الدهس" 1982 كباكورة إنتاجها فأصدرته وأغلقت تماماً بعد أن ووجه الكتاب بقدر من التعتيم خلال اشتعال الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها. لم يعدم تيسير نظمي الحيلة فترة إيقافه عن العمل في "الوطن" بعد صدور كتابه الرابع ، فقد ترجم رواية الكاتب الأسترالي من أصل فلسطيني فواز تركي إلى العربية ولم تنشر مجلة "الكرمل" الفلسطينية سوى فصل صغير من ترجمة تيسير نظمي الذي سبق أيضاً أن ترجم مذكرات موشيه شارت حال الإفراج عنها عام 1980 والتي نشرتها جريدة السياسةالكويتية. انكفأ الكاتب ودخل في عزلة كان مع محمد الأسعد و خيري منصور و محمد عبدالقادر من أوائل الداعين إليها واستنفذت الحياة العائلية ومهنة التعليم جل طاقاته ولم يفكر بجمع نتاجه الفكري والإبداعي في كتب نحو 22 عاماً، منها 12 عاماً في الأردن.
* نشرت له كبريات المجلات الأدبية والفكرية العربية العديد من القصص والمقالات مثل:"البيان" الكويتية و "الآداب" البيروتية و"الطليعة الأدبية "العراقية و"كتابات" البحرانية و"الكرمل" الفلسطينية و"الآداب" في الناصرة ومجلة"عمان" ومجلة "أفكار" في الأردن. ومجلة " ديوان العرب" وجريدة "القدس العربي" و"الزمان" و"الحقائق" اللندنيات ومواقع: " دنيا الوطن" و" فلسطين" و " إيلاف" و " العرب أون لاين" والعديد من المواقع الإلكترونية مثل " المبادرة" الفلسطيني و " أمين" الأردني و" ألف ياء" العراقيو "حركة إبداع" و"العربي الحر" و"جهة الشعر" البحراني و"ميدوزا" المغربي و"الطاهر وطار" الجزائري و"مواطن" السوري– أكثر من 30 موقعاً -
* كتب على الإنترنت مسرحية متعددة اللغات "الغرفة 50 للدردشة" Chat Room 50 (multilingual) نشرت على موقعه الشخصي Originality Movement
* تستضيف العديد من مواقع الانترنت مقالاته الفكرية والنقدية حالياً.
* أسس حركة إبداع للثقافة والإعلام والمتابعة النقدية محلياً وعربياً ودولياً.
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا
E-mail: عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا

الحلة الاجتماعية: له ابنتان وولد ( إلزا 1978 غسان 1987 ديما 1988 مواليد الكويت جميعاً)
الخبرات العملية:الصحافة:
- جريدة القبس: 75-1976/محررا ومترجما
- جريدة الوطن:77 -1983/كاتبا ومحررا ومترجما
91-1992/ رئيسا لقسم فكر وفن وعضوا في سكرتارية التحرير
- جريدة الأسواق اليومية الأردنية:1993/كاتبا ومحررا- مدة شهرين ونصف فقط-
- جريدة الأهالي الأردنية: 1995مديراً للتحرير/جريدة الحدث الأردنية: مديراً للتحرير
- جريدة القدس العربي اللندنية :96-1997/كاتبا
- جريدة العرب اليوم + جريدة المسائية + جريدة الرأي الأردنيات : 98-1999/كاتبا
- جريدة السياسة +جريدة الهدف +جريدة آراب تايمز الكويتيات (مكتب عمان) 99-2000/ مديراً للتحرير
- جريدة الزمان اللندنية:99-2004/كاتبا

الإعلام و الأنشطة الثقافية:

*أعد وقدم عدة أحاديث أدبية للإذاعة الكويتية وشارك في العديد من الأمسيات القصصية والندوات والمحاضرات الفكرية في الكويت والأردن.
*كتب العمود اليومي و الأسبوعي للعديد من الصحف والمجلات الكويتية والعربية منذ عام 1972 مثل:اليقظة وصوت الخليج والطليعة الكويتيات والأهالي والحدث والمسائية الأردنيات والقدس العربي والزمان اللندنيات ويساهم عادة بكتابة المقالة النقدية الأساسية للنشرات المرافقة للمهرجانات المسرحية العربية و الدولية باللغتين العربية و الإنجليزية. كذلك من أبرز المشاركين في الندوات النقدية المصاحبة للمهرجانات المسرحية العربية والدولية.
*عضو الاتحاد العام للكتاب و الصحفيين الفلسطينيين وعضو المؤتمر التوحيدي المنتخب المنعقد في الجزائر عام 1987
•له حالياً كتب قيد الطبع: 1- رواية " وقائع ليلة السحر " الجزء الثاني
•2- المثقفون العرب من الإنقطاع التاريخي إلى الإنهيار االتاريخي
•3-- نحو خطاب ثقافي فلسطيني مغاير 4- المؤرخون الجدد وإعادة تأهيل الصهيونية
•5- الثقافة العربية ومقاومة التطبيع الثقافي
تلفاكس:51636129626+ نقال:- 795646904 962+ بريد إلكتروني:E-Mail: tayseernazmi @yahoo.com