المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : The Judas kiss


AshganMohamed
01-13-2020, 09:14 PM
~*~*~ البَحث عن وهم ~*~*~
العنوان الاصلي لهذه الرواية بالانكليزية
~*~*~The Judas kiss ~*~*~
- سالي ونتوورث -


الملخص:
السجن للرجال يقول المثل ... وليس للنساء . فالمرأة اذا دخلت السجن تعطلت حياتها . بات عمرها جحيماً لا يطاق .
وكيف ان كانت بريئة ، وشابة ، وجميلة ، وكيف ان كان الذي أدخلها السجن هو عينه الرجل الذي يحبها والذي اعتقدت ان الحياة بدونه سجن وسراب .
قاست لين الامرّين بسبب بيرت . كان حبها الأول وكانت مستعده لكل شيء في أي لحظة من أجله ولذا باتت مستعدة لكل شيء كي تسحقه كما سحقها ، وكي تعذبه كما رمى بها في قعر سلة المجتمع .
ومن أجل الوصول الى مبتغاها غّيرت وجهها واسمها ونصبت له مكيدة أطاحت بنصف عقله . غير ان الوقت كان لها بالمرصاد وما اكتشفته في نهاية الطريق ليس تماماً كما توقعت في بدايتها .



البَحث عن وهم
العنوان الاصلي لهذه الرواية بالانكليزية
The Judas kiss

سالي ونتوورث


البحث عن وهم
السجن للرجال يقول المثل ... وليس للنساء . فالمرأة اذا دخلت السجن تعطلت حياتها . بات عمرها جحيماً لا يطاق .
وكيف ان كانت بريئة ، وشابة ، وجميلة ، وكيف ان كان الذي أدخلها السجن هو عينه الرجل الذي يحبها والذي اعتقدت ان الحياة بدونه سجن وسراب .
قاست لين الامرّين بسبب بيرت . كان حبها الأول وكانت مستعدة لكل شيء في أي لحظة من أجله ولذا باتت مستعدة لكل شيء كي تسحقه كما سحقها ، وكي تعذبه كما رمى بها في قعر سلة المجتمع .
ومن أجل الوصول الى مبتغاها غّيرت وجهها واسمها ونصبت له مكيدة أطاحت بنصف عقله . غير ان الوقت كان لها بالمرصاد وما اكتشفته في نهاية الطريق ليس تماماً كما توقعت في بدايتها .






1-المصيدة




غاب الشاب والفتاة في هيام طويل واقفين في ظل شجرة نخيل على ذلك الشاطئ الفضي الغارق بنور القمر ، ولم يكف صوت الامواج المتكسرة على اقدام الرمال لايقاظهما ، فالعالم بالنسبة اليهما تقلص ليصبح بحجم الحالة الدافئة التي تجمعهما واللحظة المجنونة التي يعيشان .
وأخيراً افاقا من حلمهما على صيحات ضاحكة لمجموعة من الفتيات جلسن في حلقة على الرمال ينشدن اغنيات صاخبة مصحوبة بالتصفيق والقهقهات .
نظر الشاب الى فتاته المغمضة العينين والتي تحاول التقاط أنفاسها بعد تلك اللحظات العاصفة . وقال مازحاً :
-هل غفوت ؟
ابتسمت ، ثم فتحت عينيها اللامعتين وأجابت بصوت ملؤه السعادة :
-لا ، وليس في نيتي ان أنام الليلة !
-حتى ولو كنت بطل أحلامك ؟
زادت الفتاة قرباً من حبيبها وقالت هامسة :
-وما حاجتي للاحلام وانت هنا الى جانبي يا بيرت ؟
لم يقو الرجل على مقاومة الاغراء فشدها اليه لكنه مالبث ان امسك بكتفيها ودفعها عنه بشيء من العنف قائلاً بصوت تخنقه الرغبة :
-آه لو تدركين ماتفعلينه بي يا لين !
ضحكت عينا لين بخبث وحاولت الاقتراب منه ثانية لكنه صدها ، فسألت باستغراب :
-لماذا تبتعد عني ؟
ابتسم بيرت مدركاً ابعاد لعبتها وداعب شعرها الاسود المتروك على سجيته مرتاحاً من عناء التسريحات المتعبة ، ثم قال :
-انت تثيرين جنوني ، واذا لم تتعقلي لاعتبرت نفسي غير مسؤول عن نتائج اغوائك .
اطرقت لين وعلقت بخجل :
-وما أدراك أني لن أكون مسرورة بهذه النتائج ؟
رفعت عينيها نحوه لترى ردة فعله فما كان منه الا ان ضمها الى صدره من جديد قبل ان يضحك عالياً لطرافة طريقة اعرابها عن مشاعرها ، ثم قال بجدية :
-أمامنا متسع من الوقت لنعمق علاقتنا ، فنحن لم نتعرف الى بعضنا الا منذ اسابيع قليلة . كما انك ما زلت صغيرة ...
قاطعته لين بحدة :
-لا اظن ان فتاة قاربت العشرين تعتبر صغيرة على ...
احمرّت وجنتاها وتابعت بتلعثم :
-الكثيرات غيري في الشركة ...
تولى بيرت مهمة اكمال الجملة :
-يقفزن الى اول فرصة اليس كذلك ؟ أعلم ان بعض مضيفات الطيران لا يحترمن سمو العلاقة بين الرجل والمرأة . ولربما كانت ظروف هذه المهنة المتحررة تملي عليهن ذلك . والامر لا يقتصر على المضيفات فلابدّ انك تلاحظين كيف تحوم الفتيات حول الرجال من افراد طواقم الطائرات في الفنادق حيث ننزل ، وقد يكون السبب في الاقبال النسائي على الطيارين ، البزة الوقورة التي يرتدونها وخبرتهم المفترضة في المغازلة نتيجة تجوالهم في مختلف اصقاع العالم وتعرفهم الى كل انواع نسائه .
هنا سألت لين بقسوة :
-اتلمح الى انك لم تستغلّ الفرص المتاحة أمامك ؟
-لم أقل ذلك ، فأنا رجل يحب الجمال كسائر الرجال . لكني لم آخذ أياً من اولئك الفتيات على محمل الجد ، ولم تكن علاقتي باحداهن اكثر من طريقة ممتعة لتمضية الوقت . كما اني لست مستعداً للخروج على القواعد من اجلهن .
-القواعد ؟
-يالغباء حبيبتي الصغيرة ! القاعدة تقول ان لا تغرم أبداً بمضيفة خاصة وان مامن امرأة تستحق ان يفقد الرجل حريته من اجلها . غير ان هذه القاعدة تستبعد متى وقعت يداي على الفتاة المناسبة . فتاة تملك براءة فائقة في وجهها وحناناً دافقاً في عينيها ، وتعجز كذلك عن اخفاء مشاعرها وكبح جماح عواطفها الجياشة ...
تأملت لين ملامحه الوسيمة بدهشة كبيرة وسألت :
- أتعنيني بكلامك ؟
أجاب بيرت والابتسامة تعلو ثغره :
-بالطبع ياحلوتي .
امسك وجهها الناعم بيديه القويتين وأضاف :

- علينا ان نسيطر على اعصابنا ولا نستجعل الأمور حتى لا نفسد العلاقة الرائعة التي بدأنا ببنائها . والوقت ، كما قلت ، مديد أمامنا لنقطف من حلاوة الحياة .
ازاحت يديه عن وجنتيها ووافقت على مضض :
- ليكن ماتريد مع العلم ان الامر لن يكون سهلاً اذا تابعت معاملتي بهذه الطريقة .
لف بيرت خصرها بذراعه وعلق مازحاً :
- لا تنسي ان دورك في العملية لم يقل أهمية عن دوري !
- لا ادري ، لم اعد اذكر تفاصيل ما حدث ...
ضحك الشاب من جديد مستغلاً الفرصة :
- افهم من ذلك انه من واجبي انعاش ذاكرتك ... لنعد فوراً الى الفندق ، اذ علينا النهوض باكراً في الغد لنستعد لرحلة العودة الى لندن .
اسندت لين رأسها على كتفه تاركة له أمر قيادتها من الشاطئ عبر الحدائق الخضراء الى الفندق .
كان حوض السباحة مضاء يلهو فيه بعض هواة السباحة في الليل والمقهى الصغير المقام قربه على وشك الاقفال يوزع مابقي لديه من مرطبات على آخر الزبائن . والرواد ليسوا ، في أي حال ، كثراً في هذا الوقت من السنة لأنها نهاية الموسم السياحي في ميامي عاصمة ولاية فلوريدا الامريكية . ولكن هذا لا يعني ان الطقس لم يعد حاراً فالحرارة تبلغ خمساً وعشرين درجة مئوية في الليل ، مما دفع لين الى ارتداء ثوب رقيق وبيرت الى الاكتفاء بقميص قطني أبيض وسروال صيفي مريح .
مشى الثنائي الشاب حول حوض السباحة حيث اصطفت الكراسي العريضة المخصصة لهواة التمدد تحت الشمس المحرقة لاكتساب السمرة الجذابة . واكملا طريقهما الى حوض ثان حيث اقيمت شلالات صناعية توحي للسابح انه مرتمٍ بين احضان الطبيعة العذراء . والى جانب الحوض متجر لبيع المصوغات ومطعم متخصص بأطايب البحر المتنوعة . لكن الاثنين مقفلان في هذه الساعة تاركين الساحة لخرير الماء المصب من الشلالات . اقترب الشابان من الفندق حيث انبعث صوت المغنية الدافئ من النادي الليلي الذي يحتل الطبقة الاولى . بيد ان لين تكره اجواء هذه الامكنة المصطنعة والبعيدة عن الصدق والشاعرية اللذين غلفا ما دار بينهما وبين بيرت منذ قليل على ذلك الشاطئ الفسيح الساحر . لقد حصل كل شيء بسرعة فائقة لم تمكن لين من ادراك ماهية مايربطها بهذا الشاب وما اذا كانت هذه العلاقة ستتوج بالسعادة ، ام ان جل مافي الامر حلم جميل ووجودها مع بيرت على شاطئ ميامي ضرب من الخيال .
وعادت الذاكرة بلين الى الوراء اشهراً قليلة حيث واجهت صعوبة في تليين معارضة ذويها لما فاتحتهم بموضوع تقديمها طلباً للتوظف في الشركة العالمية للملاحة الجوية . وخضعت لامتحان شفوي صعب وآخر خطي قبل ان تتلقى رسالة من الشركة تعلمها بالنجاح وتدعوها لبدء فترة التدريب في معهد خاص امضت فيه بضعة أسابيع مع شابات وشبان اختاروا المهنة نفسها . وهناك تعلمت الكثير ، فوظيفة مضيفة الطيران هامة وصعبة تحتاج الى الجرأة والذكاء والصبر . بعد ذلك قامت بأولى رحلاتها على الخطوط القريبة من لندن والعواصم الاوروبية الاخرى ، لكن قيام الشركة بفتح خطوط جديدة عبر المحيط الاطلسي الى الولايات المتحدة جعل لين تنتقل الى خط لندن-ميامي . واعتبرت الفتاة نفسها محظوظة بذلك لأن جميع المضيفين والمضيفات يتمون العمل على هذا الخط الذي يتيح لهم كل مرة تمضية يومين أو ثلاثة في شمس ميامي الدافئة .
بيرت بدوره كان يعمل على الخط عينه وقد تعرفت لين اليه عندما اصطحبتها المضيفة الاولى الى قسم الطيارين في مطار هيثرو وهو المطار الرئيسي في انكلترا . فقابلت الطيار ومهندس الطيران ومساهد الطيار الذي لم يكن سوى بيرت . وصعقت الفتاة لما شاهدته بقامته الفارعة وعضلاته البارزة ، وبعينيه شديدة الزرقة . صافحها بهدوء مبتسماً فلم تدر لين ماتقول وأبقت يدها في يده مشدوهة لأنها لم تشاهد فتى بوسامته من قبل ، وبخاصة ذلك التناقض الملفت بين سمرته الداكنة وزرقة عينيه . ولم تستطع الفتاة تدارك احمرار وجنتيها الامر الذي أثار دهشة بيرت فسارعت الى سحب يدها وحيت الرجال الثلاثة من جديد ثم انسحبت تحت انظارهم الساخرة .
لم يكن ارتاك لين أمام بيرت غير ذي نفع ا ذ بادلها الاهتمام ودعاها بغد أيام قليلة الى الخروج للعشاء ، فلم تكد تصدق حظها لأن فتيات الشركة كن يحمن حوله بكثافة وهو متعجرف لا يمنحهن نظرة . وخشيت لين الا تفي بالمطلوب نظراً لعدم خبرتها مع الشبان وان يشعر بيرت معها بالملل فيهملها ، لكنه ظهر صبوراً ومتفهماً فاخذ يساعدها على التأقلم معه فارتاحت اليه تدريجياً حتى وجدت شخصيتها من جديد واستعادت ثقتها بنفسها . وعلى الرغم من انسجامها مع بيرت لم تدرك الفتاة سبب


اهتمامه بها فهي ، وان كانت ممشوقة القوام جميلة العينين ، ليست على ذلك القدر من الفتنة والروعة حتى توقع رجلا وسيماً مثله . ولطالما تذمرت لين من انفها الرفيع والطويل نسبياً ، غير ان بيرت كان يحب تمرير اصبعه عليه ويؤكد لها دوماً انه يعطيها مسحة ارستقراطية متعالية .
مضى شهران على اول لقاء لها ببيرت . شهران تعتبرهما لين اجمل ايام حياتها على الاطلاق . فقد ايقظ لشاب في اعماقها جانباً كان مطموساً ، وأثار فيها حب الحياة فاتحاً أمامها درب السعادة والهناء .
غريب كيف يغير الحب مسار عيش الانسان رأساً على عقب ، فبعد ان كانت الحياة في نظر لين مشروعاً باهتاً فاشلاً هاهي الآن تتلذذ بكل لحظة تمضيها مع بيرت وتتشوق في كل لحظة تمضيها بدونه للقائه من جديد . ولم تأبه لين لملاحظات زميلاتها المضيفات اللواتي يدعونها للتروي والتعقل ، بل انغمست في حب مساعد الطيار الذي أدار رأسها وسلب عقلها . أما بيرت فلم ينجرّ أكثر من ذلك مكتفياً بعناقها مقاوماً الاغراءات واستعداد فتاته لمنحه كل مايشاء ، ولا شك انه يجد صعوبة في كل مرة يكون في موقف عاطفي مع لين لضبط اعصابه وعدم الانسياق وراء الغرائز . ولين لا تخبئ خيبتها من ذلك لأنها تريد الوصول بهذا الحب الى القمة ، لكنها مرغمة على الصبر قانعة بما لديها حتى تترسخ العلاقة أكثر .
قبل ان يدخلا الفندق تبادلا نظرة اخيرة . وفي المدخل الفسيح مشيا ببطء يتفرجان على واجهات المتاجر المتنوعة التي تسهل للنزلاء امر الحصول على مبتغاهم من ملابس واحذية وآلات تصوير والعاب ... نظر بيرت الى محل الالعاب فتوقف فجأة وقال :
- انتظري هنا ، سأعود سريعاً .
اطاعت لين امره واخذت تحدق في الالعاب المتنوعة الحديثة التي تعمل كهربائياً والكترونياً ، والتي تضفي بجمالها والوانها الزاهية جواً فرحاً على المكان . بعد قليل خرج بيرت حاملاً دباً أبيض كبيراً ذا اذنين سوداوين وعينين معبرتين كأنه مخلوق حيّ لا مجرد دمية من الفرو . اعجبت لين كثيراً بالدبّ وضمته الى صدرها فقال بيرت ضاحكاً :
- جلبت لك هذه اللعبة حتى تداعبيها في سريرك بغياب الأصيل .
وبما ان الفتاة لا تخلو من الدهاء علقت :
- لربما وجدت مع دبي الوسيم ان لاحاجة لي الى الأصيل .
عندها نزع بيرت الدمية الكبيرة من يدها مهدداً :
- سأعيده اذاً الى حيث اتى !
- لا ارجوك ! انت تعلم ان لابديل عنك ياحبيبي !
- كانت هذه المرة الأولى له فيها " حبيبي " . لم يعلق بيرت عن ذلك بل زادت نظراته حناناً وعذوبة ، فأمسك بيدها واتجها الى المصعد . وعلى باب غرفتها طبع على جبينها قبلة رعائية ونبهها الى وجوب النهوض باكراً . في اليوم التالي لم يلتقيا الا في مطار ميامي في القاعة المخصصة لافراد طواقم الطائرات . وابدى جميع الزملاء والزميلات اعجابهم بالدب الابيض الكبير الذي تأبطته لين بدون ان ينسوا اطلاق التعليقات والنكات الساخرة . فقائد الطائرة نّبهها الى وجوب دفع تعرفة شحن اللعبة الضخمة ، والمضيفة الأولى ابدت تخوفاً من عدم قدرة الطائرة على حمل الحيوان الثقيل . تقبلت لين هذه السهام بروح مرحة ونظرت الى بيرت الذي تقدم منها مبتسماً لكنه تعثر بقدم احدى المضيفات وخلال المعمعة سقطت حقيبة يد لين وتبعثرت اغراضها على الأرض فانهمك بيرت وبعض المتطوعين من الزملاء والزميلات باعادة كل شيء الى الحقيبة : لوازم الزينة ، المحفظة ، جواز السفر ...
اخيراً نهض بيرت وناولها الحقيبة قائلاً بتعجب :
- لم أرَ في حياتي فتاة تحمل كل هذه الاغراض في حقيبة يد! ولكنه مالبث ان ابتسم جاعلاً قلب لين يخفق بشدة من الحب الممزوج بالفاخرة والمباهاة بالحبيب الوسيم أمام الزميلات الحاسدات .
مرت رحلة العودة الى لندن بدون أحداث تذكر ، كالعادة انهمكت لين وزميلاتها بتلبية طلبات المسافرين التي لاتنتهي . ولم يسعها اخذ قسط من الراحة الا حين عرض الفيلم السينمائي الذي استغرق ساعتين . أخيراً توقفت عجلات الطائرة عن الدوران ونزل الركاب ، فعملت مع لين زميلاتها على تفتيش الطائرة للتأكد من ان احداً لم يترك فيها شيئاً . وبعدها توجه افراد الطاقم الى مبنى المطار للمرور على سلطات الجمرك في عملية تفتيشية روتينية . وكادت لين توقع حقيبتها من جديد وهي تحاول اخراج جواز سفرها منها ودميتها الكبيرة تحجب عنها الرؤية ، فتبرع بيرت بالمساعدة قائلا :
- اعطني الحقيبة لأخرج جوازك .
توقف الشاب قليلاً فيما تابعت لين سيرها في رواق المطار الطويل متجهة نحو مكتب الجمرك . وبعد ان وجد بيرت الجواز لحق بها وناولها اياه بينما هي تتثاءب من النعاس والتعب

- لاشك أنك تلعنين من أوهمك بأن السفر مهنة ممتعة .
- انها مهنة ممتعة لك يابيرت لأنك تسافر جالساً ، بينما أنا أجوب الطائرة مئة مرة .
بيد ان التعب كله يزول بهيمنة حب واحدة مع بيرت الذي يكنّ قلبها له عاطفة لا توصف .
وصل الجميع الى مكتب الجمرك حيث وجدوا ازدحاماً فعلق احد المضيفين:
- يبدو انهم يقومون باحدى غاراتهم التفتيشية ، وهذا يعني انهم سيؤخروننا كثيراً ببحثهم الدقيق .
ولكن مالعمل سوى الخضوع لأوامر السلطة التي لارجوع عنها وبخاصة في القضايا المتعلقة بادخال الممنوعات الى البلاد . اما لين فكانت هذه المرة الاولى التي تخضع فيها لمثل هذا التدبير ، فسلمت حقيبتها ودخلت مع احدى مأمورات الجمرك الى غرفة جانبية للتفتيش الجسدي . وسرت الفتاة كثيراً لما انتهى هذا التفتيش المزعج فارتدت ملابسها لتوافي بيرت معه على برنامج السهرة ، لكنها ابقيت في الغرفة فترة طويلة قبل ان تعود المأمورة ومعها احد الضباط الذي حمل جوازها وقال :
- أنت الآنسة لينيت ماكسويل ؟
- نعم .
- هلاّ رافقتني يا آنسة الى مكتبي لبضع لحظات ؟
نهضت الفتاة الحائرة من مقعدها يمسك بذراعيها المأمورة والضابط واصطحابها الى مكتب واسع في وسطه طاولة سوداء كبيرة .
وعلى هذه الطاولة شاهدت محتويات حقيبة يدها مبعثرة ورجال الجمرك يفتشونها بدقة ... حتى احمر الشفاه ومعجون الاسنان لم يسلما من شكوكهم . ولم يسع لين ان تقول شيئاً لأنها لم تفهم شيئاً ، لكنها صعقت ازاء المشهد التالي . فقد تناول احدهم دبها الكبير واخرج من جبينه سكيناً . عندها صاحت الفتاة بشدة محاولة الاندفاع نحوه لايقافه فاشتدت القبضتان على ذراعيها . ولم يعد لديها سوى التوسل :
- ارجوك لا تفعل ذلك !
لم يجدِ ذلك نفعاً اذ تابع الرجل عمله فبقر بطن الدب ممزقاً الفرو من اعلى الى اسفل باحثاً في داخله عما تجهله لين تماماً .
التفتت الفتاة غاضبة الى الضابط الممسك بذراعها وصرخت :
- كيف تجرؤ على ذلك ؟
اجابها الرجل بثقة :
- تأكدي ياآنسة اننا نملك صلاحية تفتيش أي شيء يدخل الى هذه البلاد اذا كان هناك ما يدعو الى ذلك .
- لا شيء يدعو الى تمزيق دميتي فهي هدية تلقيتها البارحة .
اشار الرجل بيده الى الاغراض الموضوعة على الطاولة سائلاً :
- اهذه حقيبتك يا آنسة ماكسويل ؟
- نعم .
- وهذه الاغراض ؟
حدقت لين في الوجوه الجدية القاتمة المحيطة بها و أجابت :
- اذا كانت الاغراض خرجت من حقيبتي فهي لي . لكن هل استطيع ان افهم لماذا فعلتم ذلك ؟
تقدم الضابط من الطاولة وبلمقط صغير التقط علبة مسحوق بودرة افرغ محتواها في علبة ثانية بيضاء ، ثم سأل :
- اهذه لك ؟
- نعم اظن ذلك ، ( امعنت لين النظر في العلبة واستدركت ) لا ، يبدو انها ليست علبتي فالتي ابتعتها في ميامي من نوع آخر على ما اعتقد.
زادت الفتاة حيرة وارتباكاً فحاولت الاستفهام :
- اتسمح ياسيدي بأن تفهمني ماذا يحصل ؟
وضع الضابط العلبة مكانها وقال ببرود :
- لقد وجدنا في علبتك هذه كمية من الهيروين ، لذا يغدو من واجبي الآن تسليمك الى الشرطة التي ستوجه اليك تهمة تهريب المخدرات وادخالها الى البلاد .
وعلى الفور شحب وجه لين من هول الصدمة والخوف فصاحت :
- لا ! لا! لم أفعل شيئاً من هذا !
وزادها الضابط بتهكمه خوفاً وسخطاً ، اذ قال :
- لا حاجة للخوف مادمت بريئة يا آنسة ماكسويل . فالحقيقة ستنجلي بعد ان تقنعي رجال الشرطة بأن علبة بودرة تحتوي على كمية من الهيروين الصافي دخلت حقيبتك بدون علمك .
احست لين انها ستنهار لا محالة ، فجلست على كرسيها صامتة تحدق بعنين غائبتين في الرجال يفتشون بقية الاغراض علهم يجدون مواد جرمية اخرى.
ومكثت سجينة الغرفة مدة طويلة حتى وصل اخيراً مفتش من الشرطة وابلغها انه سيوقفها ويصطحبها الى المخفر . وخلال كل هذا الوقت كانت الفتاة شبه ضائعة كأنها فقدت حواسها وادراكها ، حتى انها لم تسمع

بوضوح ما قاله مفتش الشرطة الى المخفر محاطة بشرطيتين ، ومروا عبر البهو الكبير حيث مكاتب مختلف شركات الطيران .
وكانت قد وصلت للتوّ طائرة للخطوط الجوية السويسرية فمرّ ركابها وطاقمها على الجمرك بدون ان يخضعوا لأي تفتيش . واخذ الركاب ينظرون بفضول الى لين التي اشاحت نظراتها ارتباكاً وخجلا. وفجأة لمحت بيرت المتكئ الى جدار ، السيكارة في فمه والقلق على وجهه .
ولما رآها ورأى من يصطحبها ادرك ما حدث . ولم تتمالك الفتاة نفسها فافلتت من المرأتين وارتمت في احضانه مرتجفة . وعلى الفور اسرع المفتش ليمسك بها لكن بيرت لم يدعها تفلت من يديه .
انفجرت لين عندها باكية :
- زعموا اني نقلت مخدراً في حقيبتي ! قل لهم يا بيرت اني بريئة من هذه الفعلة !
وهنا تدخل المفتش بحدة :
- دعها ياسيد ! الآنسة ماكسويل قيد التوقيف .
لم يذعن بيرت لأمره بل أحكم ذراعيه حول فتاته التي شعرت بشيء من الارتياح لوجود شخص قوي الى جانبها ، شخص يحميها ويشد من ازرها في هذه المحنة الرهيبة .
أخيراً وجد بيرت شيئاً يقوله :
- سأرافق الآنسة الى حيث تأخذونها .
تفحصه المفتش عرضاً وطولاً بنظراته القاسيه سائلاً بحدة هدفها افهام بيرت من صاحب الأمر هنا :
- ومن تكون بالنسبة اليها ؟
- ادعى بيرت داين واعمل في الطائرة التي تسافر فيها الآنسة ماكسويل .
فكر المفتش قليلاً ثم قال :
- حسناً نحن ذاهبون الى مخفر الشرطة ، فأهلاً بك اذا احببت المجيء.
ركب الجميع سيارة الشرطة وسمِحَ للين بالجلوس في المقعد الخلفي الى جانب بيرت . طوقها حبيبها بذراعه في حين انهمك بالاخرى بمسح الدموع المنهمرة غزيرة على وجنتيها . حاولت الفتاة ان تبتسم ولكنها لم تقوَ على ذلك فاغرقت وجهها في صدره ، فقبل رأسها واخذ يداعب شعرها بحنان . وشعرت لين انها ماتزال وحبيبها على شاطئ ميامي يتبادلان الكلام الحلو ولالعناق البريء ... ولكن ياللأسف فها قد وصلت السيارة الى مركز الشرطة حيث خضعت لين لتحقيق جديد بمعزل عن بيرت الذي جلس يعاني قسوة الانتظار والقلق . وجه المحقق الى الفتاة التهمة بصورة رسمية ، وتم اخذ بصماتها ، ثم انهال عليها سيل من الاسئلة : من زودها بالمخدرات ؟ لمن كانت ستسلمها ؟ كم من المال نالت لقاء ذلك ؟ اسئلة ، اسئلة لا تنتهي ولين تكرر أقوالها السابقة بأنها لاتعرف من دس علبة مسحوق البودرة في حقيبتها وان لاعلاقة لها من قريب او بعيد بتهريب الهيروين . أخيراً تم تدوين افادتها وسمح لها برؤية بيرت الذي ضمها اليه وقال مطمئناً :
- لا تقلقي يا عزيزتي . فأنا وانت عالمان انك بريئة . سأوكل محامياً بارعاً يدافع عنك ويخرجك من هذا المأزق بسرعة البرق . ولابد ان تظهر الحقيقة ويلقى القبض على الفاعل الحقيقي .
- اتعتقد ان احداً ما دس المخدر في حقيبتي ليوقعني في هذه الورطة ؟
هز رأسه نافياً :
- لا اعتقد انك كنت المقصودة ، بل اعتقد ان رجال الجمرك تلقوا معلومات ما عن عملية تهريب فاخضعوا الجميع لهذا التفتيش الدقيق . ولابد ان الفاعل شعر بالخطر فتخلص من المخدر بوضعه في حقيبتك .
علقت لين بمرارة :
- وشاء حظي التاعس ان اكون الضحية .
ابتسم بيرت وداعب وجنتها محاولاً التخفيف عنها ، ثم قال :
- لربما وقع اختيار المجرم عليك لأن وجهك هو الاكثر براءة .
خطرت للفتاة فكرة هامة :
- ولكن كيف كان ينوي المهرب استرداد الهيروين من حقيبتي بعد مروري على الجمرك ؟
هز بيرت كتفيه مجيباً :
- باختلاق عذر ما وبخاصة اذا كان المعني فتاة ، كأن تقول انها اخطأت ووضعت علبتها في حقيبتك في فندق ميامي .
- اتعتقد ان الفاعل فتاة ؟
- من يعلم يالين ! فأي انسان قد يقع في التجربة ويرتكب اعمالاً حمقاء سعياً وراء المال . وأنا لا استبعد ان يكون الفاعل احد الركاب لان الجميع عرضه للتفتيش .
عندها نظرت لين الى البعيد بيأس وتساءلت :
- كيف لنا اذاً اكتشاف الفاعل الحقيقي ؟
امسك الشاب بكتفيها وطمأنها :

مادامت العلبة لا تخصك فبصماتك لن تكون عليها بل بصمات المهرب المجرم وهذه القرينة ستثبت براءتك .
ولأول مرة منذ حصول الحادثة أحست لين بارتياح حقيقي واستطاعت الابتسام اذ رأت يارقة امل تلوح في ديجور هذا النفق الرهيب ، فصاحت :
- آه ! ارجو ان يكون كلامك صحيحاً !
وهنا استدرك بيرت بواقعية :
- لا تتوقعي المعجزات فالأمر سيتطلب بعض الوقت . ولاشك ان المجرم سيحاول الابتعاد عن مسرح الجريمة قدر المستطاع ، والطريقة الفضلى لذلك السفر الى خارج البلاد .
وما ان رأى بيرت الخوف يعود الى عينيها حتى أضاف :
- اجزم لك يالين اننا سنصل الى الحقيقة مهما طال الوقت . اتؤمنين بما اقول ام لا ؟
من عينيه الواثقتين استمدت كل الشجاعة التي تحتاج واكدت :
- اؤمن بكلامك مادمت الى جانبي .
داعبها موجهاً لكمة خفيفة الى وجنتها وقال :
- اني اضع هذه العضلات بتصرفك لنقاتل معاً يا آنستي .
- - هل سأبقى كثيراً هنا ؟ فأنا اخاف هذا المكان يابيرت .
- ستبقين الوقت اللازم حتى اوكل المحامي ونؤمن دفع مبلغ الكفالة ، فهم لن يمنحوك اخلاء سبيل الا مقابل كفالة مالية ، والآن عليك اعطائي عنوان ذويك لاتصل بهم واطلعهم على ما حصل ، اذ لايجوز اخفاء الامر عنهم.
- كتبت لين عنوان منزلها على ورقه صغيرة وسمعت بليرت يقول بهدوء:
- ادرك انك تملكين الشجاعه الكافية لتمضية الليلة هنا ، وغدا تمثلين امام قاضي التحقيق الذي سيعين الكفالة المطلوبه لاطلاقك.
اغرورقت عيناها بالدموع شاكيه:
- لا ! لا اسطتيع البقاء في زنزانه كالمجرمين!
امسك بيرت بيدها مشجعا:
- اين فتاتي المقدامه الجسور؟ الا تستطيعين الصبر ليلة واحده؟
داعب وجهها بيده القويه وقبلها باندفاع وشوق فاحست ببساط الحب يحملها على رياح الاحلام بعيدا عن الواقع القاتم الذي اوقعها فيه حظ عاثر.
- سأذهب الان لاتدبر محاميا واعود بأسرع مايمكن.
بذلت لين قصارى جهدها لتجد شيئا من البسالة والقدرة على مواجهة المواقف ، فقالت:
- حسنا، انا بانتظارك.
افتر ثغر بيرت عن ابتسامه عريضة وشدها اليه بعنف:
- انت فتاتي، ولن اسمح بحصول اي شيء يؤذيك.
بعد ذلك خرج من الغرفه تاركا لين وحدها حتى جاء شرطي واصطحبها الى زنزانه، حيث سمعت صليل المفتاح الثقيل يدور في القفل وراءها.
لم تمس الفتاه شيئا من الطعام الذي احضر لها بل اخذت تجوب الغرفه طولا وعرضا حتى جاء بيرت بعد ساعتين وبرفقته احد المحامين.
واعادت الفتاة المتهمة زورا وبهتانا سرد قصتها على المحامي بدون ان تستطيع اضافة شيء الى ما اخبرته لرجال الشرطة. ولفهمها رجل القانون انه لا يستطيع اخراجها من السجن الان، بل عليها الانتظار حتى الغد عندما تمثل امام قاضي التحقيق الذي يعين الكفالة. تقبلت لين ذلك لان البكاء والصراخ لا يجديان نفعا مع حكم القانون الذي لا يلتفت بصرامته الى رقه المشاعر الانسانيه، وهو في ذلك على حق لانه لا يستطيع الاحاطه بكل متطلبات الافراد التي لا تحصى والتي لا تستطيع قاعدة قانونيه ارضاءها جميعا مهما بدت كاملة.
بعد ذلك شرح بيرت للمحامي وجهة نظره في ما يتعلق بالبصمات على العلبه، وسأل هذا الاخير موكلته عما اذا كانت تشك باحد فأجابت نافيه:
- لا اشك بأحد معين اذ لم ار احد في وضع يمكن اعتباره مشبوها.
نظر المحامي اليها من خلف نظارتيه السميكتين بشيء من التعاطف وقال:
- لا شك في انك تحت تأثير الصدمة الان يا انسة ماكسويل. ومع ذلك اريدك ان تفكري الليلة بهدوء وتعيدي في ذهنك شريط احداث هذه الرحلة، فلعلك تجدين مايفيدنا.
وقف الرجل مودعا فنهضت لين بدورها وقالت:
- شكرا على مجيئك يا استاذ.
- هذا واجبي يا انسة.
في هذه اللحظة دخل مفتش الشرطة الذي اصطحب لين من المطار الى المخفر وقال بسخريه:
- ظننت انكم تودون الاطلاع على نتائج اختبار رفع البصمات الذي اجراه رجال الادلة الجنائية على العلبة. يبدو ان بصمات الانسة


ماكسويل مطابقه لبعض البصمات الموجوده عليها، وهذا يعني انها امسكت حتما بالعلبة قبل مرورها على رجال الجمرك.
لم تصدق لين ما سمعته اذنها واخذت تحدق ببيرت المصعوق بدوره قبل ان تحس بدوار شديد وتسقط على الارض مغميا عليها.
امضت الفتاة المظلومة اسوا ليلة في حياتها ممدة على ذلك السرير الضيق في الزنزانه الموحشه، حيث يتسرب نور خفيف يسمح للحارس بالرؤية عندما يجيء كل ساعه لتفقد الموقوفين. حاولت لين جاهده ان تعمل بنصيحة محاميها واعادة احياء صور ماحصل، غير ان واقع الحاضر المؤلم ابعد عن ذهنها ما حصل وشوش افكارها مانعا اياها من التذكر بدقه. ولم تجد بعد فشلها سوى اغراق وجهها في الوساده والبكاء بصمت لئلا يسمعها احد.
في الصباح وصل والدها ووقع المأساة باد على وجهه واخذ يوجه الاوامر الى مفتش الشرطة مهددا اياه باوخم العواقب اذا لم يوضح له ماحصل. وهذا ليس مستغربا من والد لين لانه ضابط سابق في الجيش ومعتاد على التحدث بهذه النبرة حتى مع افراد عائلته. لكن رجال الشرطة يعرفون كيف يعالجون مثل هذه المواقف فاقنعوه بالذهاب الى المحكمة حيث سبقه بيرت والمحامي.
لم يطل الاستجواب امام قاضي التحقيق اكثر من بضع دقائق، طلب بعدها المحامي اخلاء سبيل موكلته لقاء كفالة فوافق القاضي على طلبه لان سجل لين نظيف. وخرجت لين على الفور من المحكمة ممسكه بذراع بيرت لتتمتع بنور الشمس من جديد. غير ان اخلاء السبيل لايعني الحريه التامة فالمتهم لا يستطيع مغادرة البلاد وتظل تحركاته خاضعة لمراقبه الشرطة. كما ان الشركة علقت عقد الاستخدام القائم بينها وبين الين بانتظار ظهور نتائج التحقيق.
فاضحت الفتاة بلا عمل يشغلها عن التفكير بمشكلتها ، وما ازاد الطين بلة نشر الخبر في الصحف وتوتر الوضع العائلي بين لين وامها التي اضطرت الى اللجوء الى طبيب ليعطيها مسكنات تساعادها على مواجهة الازمة, واقترح الوالد الذهاب الابنة للمكوث عند عمتها ماري في يوركشاير الامر الذي يعني ابتعادها عن لندن وبيرت. وهذا الاخير لم يستطيع اقناع الشركة بنقله من خط ميامي الى الخطوط الاوربية ليتمكن من البقاء الى جانب فتاته اكثر. كما ان المسؤولين في العمل اظهروا له عدم رضاهم عن علاقته بلين التي لوثت برأيهم سمعة المؤسسة ومرغت اسمها في الوحل. وبيرت لم يأبه بالطبع لهذه الاراء الجائرة بل عمل مافي وسعه في الوحل. وبيرت لم يأبه بالطبع لهذه الاراء الجائرة بل عمل مافي وسعه لاخراج لين من ورطتها، فطلب من رجال الشرطة اخذ بصمات جميع الذين الذين كانوا على الطائرة لكنه ووجه بالرفض لان لين ضبطت برأيهم بالجرم المشهود والادلة بحقها كافية فلا حاجة للتوسع في التحقيق. فلم يعد بوسع بيرت سوى دعم لين معنويا وتشجيعها بعد ان اقفلت في وجهه كل السبل.
اقترب موعد المحاكمة فتوجهت الفتاة الى لندن لمقابلة محام جديد نصحها به المحامي الاول، ذلك ان المحامين في انكلترا فئتان/ فئة تستطيع المداعاه امام المحاكم الدنيا وفئة تداعي امام المحاكم العليا.
لذا اضطرت المتهمة الى اعادة اخبار المحامي الثاني بكل التفاصيل بخاصة وان الرجل شدد على معرفة كل ماحدث حتى ماقد يبدو للوهلة الاولى تافها.
جلست لين في مكتبة تجيب على الاسئلة.
- اين وضعت حقيبتك يا انسة عندما صعدت الى الطائرة؟
- هناك فسحة في الطائرة مخصصة لحقائب افراد الطاقم.
- افهم من ذلك ان ايا من زملائك كان يستطيع دس علبة المخدر في حقيبتك اثناء الرحلة؟
اجابت لين:
- بالطبع . ولكن لماذا يقدم المهرب على ذلك خلال الرحلة ما دام لا يعلم بأنه سيتعرض لتفتيش دقيق؟ فنحن لم نشعر بشيء غير اعتيادي الا عند وصولنا الى داخل مطار لندن.
- هذا صحيح . حاولي ان تتذكري ماحدث تماما عند هبوط الطائرة، هل غادر جميع افراد الطاقم الطائرة معا؟
- نعم فقد قطعنا المسافه بين المدرج والمبنى مشيا في مجموعه واحده.
- الى جانب من كنت تسيرين يا انستي؟
- الى جانب بيرت داين.
- لا احد غيره؟
فكرت لين ثم اجابت:
- نزلت سلم الطائرة مع زميلتين وكان بيرت بانتظاري في اسفله فتركت زميلتي ويرت وياه.
- اكانت حقيبتك معك طوال ذلك الوقت؟
- نعم.
- اكنت تحملين شيئا اخر؟
- كنت احمل دمية كبيرة احضرتها من ميامي.
- اتصور ان حقيبتك تعلق بالكتف، اليس كذلك يا انسة؟ فهل كان باستطاعة احد ان يدس فيها العلبة خلال سيرك من الطائرة الى مبنى المطار لانشغالك بحمل الدمية الكبيرة؟
صمتت لين قليلا تفكر واجابت:
-لا اعتقد، لانها كانت مقفلة ولم افتحها الا عندما...
تجمد الدم في عروقها اذ عاودتها ذكرى ماحصل ولم تكمل الكلام فسأل المحامي بالحاح:
- يبدو انك تذكرت شيئا مهما، فما هو؟
لم تنبس الفتاة ببنت شفه بل اخذت تستعرض الصور في مخيلتها بهلع، وتذكرت كيف حاولت اخراج جواز السفر من الحقيبة ولم تفلح فعرض عليها بيرت المساعده. وتخلف عنها للحظات بعد ان اخذ منها الحقيبة قبل ان يلحق بها ويناولها الجواز ثم يعيد تعليق الحقيبة في كتفها... الامر واضح للغاية: بيرت هو من وضع المخدر في الحقيبة، اذ لا احد غيره كان يملك الفرصة لفعل ذلك!


2 _ الحكم القاطع:



سرعان ما استبعدت لين هذه الفكرة وقالت لمحاميها:
- لا ، لا أهمية لذلك.

لم يقنع وجهها الشاحب فضول رجل القانون الخبير، فأصر على السؤال:
- اواثقه انت مما تقولين يا انسه ماكسويل؟لاتنسى انك مهتمه بجريمة كبيرة تتشدد السلطة في معاقبتها نظرا لانعكاستها الخطيرة على الصعيدين الفردي والاجتماعي . ولا اخفي عليك سرا اذا قلت انك ستدخلين السجن لمدة طويلة اذا وجدتك المحكمة مذنبة. لذا عليك مصارحتي واطلاعي على اي شيء قد يساعدني لاثبات براءتك اتعين ما اقول؟
صمتت لين لبرهة طويلة وظلت تحدق في الفراغ قبل ان تجيب هامسة:
- فهمت.
- هناك شيء تخفينه عني اذا؟
- حستا.
واخذ الرجل يشرح لها ما ستواجهه خلال المحاكمة وماعليها ان تقول ، وهي شاردة تكاد لاتسمعه، فالشكوك والوساس تمزقها وتشعل في نفسها صراعا مستعرا بين نداء القلب وحكم العقل.
بعد مقابلة المحامي عادت الى فندقها حيث تمددت على سرير الغرفة تحدق في السقف الرمادي كلون ايامها. اول ما بدر لها كان رفض فكرة قيام بيرت بوضع الهيروين في الحقيبة، لان هذا يعني انه لم يشعر تجاهها بالحب قط بل اراد استغلال هذه العلاقة الزائفه لتحقيق ماربه. زاخذت تتذكر كيف كان ينتظرها عند نهاية كل رحلة ليمرا على رجال الجمرك سويا، وهي كانت تسر بذلك وتعتبره نوعا من التكريم والاحترام. ولكن الوقت الان ليس وقت الانصراف الى الذكريات الحلوه، بل عليها التركيز للوصول الى الحقيقه.
زضعت يدها على جبينها واعلمت فكرها جيدا. هل سنحت الفرصة في ذلك اليوم المشؤوم لاحد غير بيرت لمس الحقيبة بعد هبوط الطائرة؟ تنهدت يائسة لان الجواب ليس مرضيا ولا يبعد الشك عن مساعد الطيارالذي وقعت في غرامه منذ النظرة الاولى . وفجأة جلست في السرير فرحة اذ خطرت لها فكرة جديدة: اذا كان بيرت هو الذي دس علبة المخدر قبل التفتيش مباشرة لايمكن ان تكون لين قد مست العلبة وتركت بصماتها عليها، ممايعني ان العلبة وضعت قبل ذلك ولكن هذا الاحتمال انها فجأة اذ تذكرت الفتاة انها لما حاولت اعادة جواز السفر الى الحقيبة بعد حاجز الجمرك وقبل التفتيش الجسدي اضطرت الى ازاحة شيء بيدها... شيء ذو شكل دائري كالعلبة المعنية تماما، فدفنت وجهها في الوسادة واخذت تبكي بمرارة كما لم تفعل من قبل.
كيف لها ان تسلم بان بيرت هو الفاعل وحبها له يكاد يقترب من جنون عاشقي الاساطير؟ ايعقل ان يقوم اعز شخص على قلبها بهذه التمثيلة ويخدعها بهذا الشكل المضحك المبكي؟ قبعت الفتاة في غرفة الفندق وحيدة ساعات وساعات تفكر في حل للعقدة ولم تجد سوى مواجهة بيرت بالامر لان الكتمان لا يجدي. والرجل الان في ميامي ولن يعود قبل يومين. ففكرت بمكالمته هاتفيا لكنها عدلت عن ذلك لانها تريد ان ترى وجهه وردة فعله عند مفاتحته بالموضوع.
وهكذا امضت لين اطول واقسى يومين في حياتها متلظية بنار الحيرة والقلق تجوب شوارع لندن على غير هدى، تتفرج على واجهات المحلاتـ تزور المتاحف والمعارض الفنية... تنسى احيانا ان تاكل حتى وهن منها كل مأخذ فغارت عيناها وفقد محياها قسطا كبيرا من حيويته وتوهج شبابه. واخيرا حل يوم موعد عودة بيرت فخفت لين الى المطار لاستقباله. وهناك اعلن عن تأخير في موعد وصول الطائرة، فأمضت لين الساعه الاضافية تمشي في قاعة الاستقبال وتتفرج على وجوه الناس. بعد ذلك شاهدت رأسه يعلو رؤوس سائر افراد الطاقم، ويتلفت يمينا ويسارا باحثا عنها حتى لمحها فابتسم بحرارة. خفق قلب لين لهذه الابتسامه التي ردتها الى العالم البديع الذي كانت تعيشه الى ان انهار بسبب شر احدهم وطمعها بالمال..... وهذا "الاحد" قد يكون بيرت نفسه! اقتربت منه واعصابها مشدودة فايقن ان شيئا مايشغل بالها وسالها على الفور:
- ما الامر؟
لم تستطع لين ان تنظر الى وجهه فاطرقت وقالت:
- أريد ان اتحدث اليك في مكان هادئ .
- لنذهب الى بيتي اذن .
- لا بل الى الفندق .
- كما تريدين .

امسك بذراعها وتجوها الى موقف سيارات العاملين في المطار حيث استقلا سيارة بيرت الايطالية السريعة . وخلال الطريق ظلا صامتين ، لين لانها تحضر ماستقوله لاحقاً وبيرت لانه لايريد زيادة اضطرابها وقلقها .
في غرفة الفندق وقفت الفتاة قرب النافذه تستجمع قواها وشجاعتها لتبدأ الحديث . وبعد وقت طويل التفتت اليه لتجده يحدق فيها باستغراب .
- اجد نفيب مرغمة على استيضاحك بعض المسائل يا بيرت .
- وأنا كذلك لدي سؤال هام .
فوجئت الفتاة بنبرته الجازمة فسكتت بانتظار ماسيقول . اقترب منها واضعاً يديه على كتفيها رامقاً اياها بنظرات حادة ، وأخيراً سألها :
- هل اشتقت الي ؟
- بالطبع .
- ما رأيك اذاً بترحيب خاص ؟
اسقط يديه وضمها اليه فشلت حركتها كمن تعرض لتنويم مغناطيسي . شاءت المقاومة لكن لين اغمضت عينيها دون الخضوع أو الرفض .
وفجأة عاودتها ذكريات ميامي ولحظاتها الحلوة فاجتاحتها عاطفة جارفة حتى كاد الرجل يفقد عقله .
- انت تفعلين ذلك عمداً .
- افعل ماذا ؟
- تنقضين اتفاقنا على الانتظار باثارة جنوني .
حزنت عينا لين وسألته بأسى :
- اتنتظر حتى خروجي من السجن ؟
ثارت ثائرة الرجل فأمرها بقسوة :
- لا تكرري مثل هذا الكلام بعد الآن ، فانت لن تدخلي السجن !
وبعد تردد وجهت اليه سؤالا طالما قض مضجعها :
- هل تحبني ؟
رأت الفتاة يجتاح عينيه اذا اجاب مبتسماً :
- الجواب هو نعم ، احبك كثيراً .
اغمضت عينيها وتابعت :
- اتحبني الى درجة دخول السجن بدلا مني ؟
- كفي عن ذكر هذه الكلمة .
- ارجوك ، أجب على سؤالي .
قال بيرت بحدة :
- أنا مستعد لفعل أي شيء يبعد عنك هذه الكأس المرة .
لملمت لين مابقي لديها من شجاعة وحزم وأضافت :
- لماذا وضعت المخدر في حقيبتي اذاً مادمت عالماً بانهم سيلقون القبض عليّ ؟
بدا بيرت لأول وهلة كأنه لم يستوعب شيئاً مما قالته . فهز رأسه مدهوشاً وتمتم :
- ماذا قلت ؟
- أظن انك سمعتني بوضوح .
نظر اليها بذهول وقال :
- لا أصدق ماسمعته اذناي . الى ماذا ترمين ؟.
أجابت الفتاة متنهدة :
- لقد تذكرت كل شيء فلاحاجة للانكار .
- انكار ماذا ؟
جلست لين فحذا حذوها والتقت نظراتهما لبرهة قبل ان تكون الفتاة البادئة الى الكلام .
- اذكر الآن تماماً كيف مشينا معاً من الطائرة الى مبنى المطار ، وكيف كنت احمل الدب الذي اهديتني اياه فلم استطع العثور على جواز سفري في الحقيبة . عندها توطعت لتجد الجواز فتخلفت لبضع لحظات تبحث عنه حتى لحقت بي وناولتني اياه بعد ان اعدت تعليق الحقيبة في كتفي ( واضافت لين بما يشبه الهذيان ) انت الوحيد الذي كان يستطيع دس المخدر في حقيبتي بعد هبوط الطائرة .
امسك بيرت بيدها وأكد :
- صحيح اني اخذت الحقيبة منك ولكن كيف تشكين اني واضع المخدر فيها؟ أيعقل ان افعل ذلك واوقعك في هذه الورطة ؟ ( احكم قبضته على يدها وعيناه الزرقاوان تقدحان شرراً ، ثم تابع ) الم اعترف لك منذ لحظات بالحب . انت الفتاة الوحيدة التي سمعت مني هذه الكلمة ! فكيف استطيع تسبيب اللم والعذاب للفتاة التي ملكت قلبي ؟ كيف يمكنني ان اكون جلادها ؟
تسمرت عينا لين في عينيه وهي بين اقدام واحجام . تريد تصديقه ومنحه ثقتها الكاملة ، في حين يناديها صوت العقل ويحذرها من الانزلاق وراء العواطف . وبعناد اعادت ماقالته سابقاً :
- درست الاحتمالات كافة ولم اجد سواك فاعلا ( وضعت رأسها بين يديها واردفت ) أودّ ان اعرف ما اذا كان الامر بيننا مجرد لعبة اوقعتني فيها ليتسنى لك تهريب المخدرات
لم يسع بيرت سماع المزيد فهب واقفاً وارغمها على الوقوف والسخط ينضح من نظراته ، وصاح في وجهها :
- كفى ! قلت لك ان لا علاقة لي الهيروين ! اقسم بالله انها الحقيقة !
خشيت الفتاة النظر الى وجهه لئلا تضعف عزيمتها ويغلب عليها صوت قلبها الدامي . فحررت يديها وقالت ببرود :
- لا اصدقك .
انسحبت آخر قطرة دم من وجه بيرت الساخط وسألها بغضب :
- الا تثقين بي مقدار ذرة ؟ الا تأبهين بمشاعري حتى ولو كنت كاذباً بنظرك ؟
- أنت مخطئ تماماً ، فمشاعرك تهمني كثيراً لأني احبك حباً عميقاً يجعلني اقدم على المستحيل من اجلك .. يجعلني اغفر لك اي اساءة ... حبذا لو جئتني شارحاً الوضع قبل ان تدس المخدر في الحقيبة ، لكنت تفهمتك وقدرت دوافعك وظللت وفية لحبي . اما ان تفعل ذلك خلسة وتزعم انك من الفعلة براء ، ثم تمعن في التمثيل متظاهراً البحث عن الفاعل الآثم .. فهذه طعنة في الصميم لا يسعني تحملها او غفرانها .
- ازاء ذلك قال بيرت والأسى يعصر قلبه :
- لم اقل لك سوى الحقيقة يالين واثبات ذلك ليس بالأمر العسير . فلو كنت من وضع العلبة اللعينة في حقيبتك لتركت بصماتي عليها ، هيا بنا الى مخفر الشرطة للتثبت من ذلك .
لم يلق هذا الاقتراح صدى طيباً لدى لين فهزت رأسها قائلة :
- اتعتقد ان الفكرة لم تخطر لي ؟ لكن اقتراحك غير مجدٍ لأن اي جاهل يستطيع الامساك بالعلبة بمنديل حتى لا يترك عليها بصماته .
- لا شيء يستطيع اقناعك ببراءتي اذاً ؟
لا تعلم لين من اين جاءتها هذه الوجة العارمة من الغضب فصرخت بأعلى صوتها :
- لماذا لا تستسلم وتخبرني بالحقيقة كاملة ؟ لماذا تمعن في الانكار...
لم يقل بيرت عنها سخطاً فأمسك بها مرغماً اياها على النظر اليه مقاطعاً :
- بدأت اشك في انك تقومين بالتمثيل بدورك .
- ماذا تعني ؟
- كوننا الوحيدين اللذين لمسا الحقيبة بعد ان حطت الطائرة ، وكوني اعلم اني لم اضع الهيروين فيها ، يؤدي بي المنطق الى الاشتباه بك .
كادت لين تصاب بالجنون فصاحت :
- لم افهم !
- يخيل اليّ ان كل التهم التي تحاولين الصاقها بي يجب ان ترتد عليك . لابد انك تحاولين اخفاء شيء اقترفته يداك . بدأت اشعر اني كنت ضحية خدعة محكمة ، لقد خدعتني وخدعت الجميع بوجهك البريء وعفويتك الطاغية . ابتسامة واحدة منك كانت تكفي ليدعك رجال الجمرك تمرين بدون تفتيش . وبالفعل فأنت لم تتعرضي للتفتيش ابداً قبل تلقيهم هذه الاخبارية . لماذا فعلت ذلك يالين ؟ أمن اجل المال ام من أجل تأمين حاجتك من المخدر ؟ ولم لا ، فقد تكونين مدمنة . هاتي ذراعك لأرى اثار حقن المخدرات فيها .
وبقوة امسك بذراعها وبدأ يرفع كم فستانها فاعترضت بصوت عال :
- دعني وشأني !
قاومته بعنف حتى سقطت على السرير لكنه تمكن من رفع كميها وتفحص ذراعيها فوجدهما خاليتين من اي اثر للحقن ، فقال :
- بما انك غير مدمنة فهذا يعني قيامك بالتهريب طمعاً بالمال !
قفزت الفتاة من السرير وصفعته بقوة على وجهه صائحة :
- ايها القذر الحقير !
ظل بيرت جامداً كالصخر بالرغم من قوة الصفعة وعيناه متجمدتان كالجليد ، الامر الذي جعل لين في حيرة من اكمرها فانفجرت :
- انت مجنون اذا كنت تظنني سأدخل السجن من اجلك ! لقد استغليتني كفاية حتى الآن ! اوقعتني في الشرك منذ البداية حتى تستغلني !
أخفضت صوتها قليلاً وتابعت :
- كان قلبي يدعوني الى التضحية من اجلك ، انا الآن وقد كشفت عن انيابك فلن ادعك تنال مني وتفلت من العقاب !
ضحكت بفتور قبل ان تضيف :
- يا الهي كم كنت عمياء ! كم كنت ساذجة عندما وقعت في غرامك المدبر هذا ، وهو جزء من خطتك لتهريب المخدرات ! لابدّ انك ضحكت كثيراً لحماقتي ولسهولة انقيادي .
لم تستطع الفتاة قول المزيد فأشاحت بنظراتها واخذت ترتجف كالورقة في مهب الريح .
وبعد صمت ثقيل سألها بيرت بواقعية :
- وهل ستخبرين الشرطة بالأمر ؟
أجابت دون ان تلتفت اليه :
- نعم
- لا اعلم حتى الآن ما اذا كنت صادقة في ماتقولينه يالين ، ام ان القضية كلها مجرد تمثيل بتمثيل . وهذا لم يعد مهماً في أي حال ، فاذا كنت صادقة تكونين قد حطمت حباً اقدسه واعتبره اهم شيء في حياتي ، أما اذا كنت كاذبة ... ( هز بيرت كتفيه واكمل ) حماقتك انقذتني لأني كنت قد قررت مع اقتراب موعد المحاكمة وعجزنا عن الحصول على دليل لتبرئتك ان اقدم اعترافاً كاذباً بأني دسست المخدر في حقيبتك . كنت على استعداد لحلفان يمين كاذبة حتى انقذك من القضبان ، ولكنك استقبلتني بهذه الاتهامات الباطلة قبل ان يتسنى لي اطلاعك على نيتي .
بحثت لين بنظراتها الحائرة عن عينيه لتجد فيهما الحقيقة وارادت الكلام لكنه سبقها الى ذلك :
- يالسخرية القدر ! لو انتظرت بضع دقائق لكنت عرضت عليك خطتي لانقاذك من جريمتك ! يالي من عاشق ولهان احمق يضحي بحريته وسمعته من أجل فتاة استغلالية انتهازية ! اشكر الله على اظهاره حقيقتك قبل اقدامي على تلك الخطوة البلهاء التي كانت ستؤدي بي الى السجن في حين تبقين طليقة لتتابعي نشاطك الاجرامي الحقير .
تحول وجه لين الى قناع من الازدراء والحقد فقالت والسم يقطر من كلماتها:
- لم ارَ في حياتي كلها كاذباً بهذه الوقاحة ! أوتجرؤ بعد كل مافعلت على مواصلة اكاذبيك وأباطيلك ؟ اغرب عن وجهي ولاتدعني اراك الا في المحكمة حيث تقتص منك العدالة بعقوبة صارمة تناسب عملك الآثم !
اقترب بيرت منها والشرر يتطاير من عينيه فخشيت ان يضربها .
لكنه مالبث ان ادار ظهره وخرج من الغرفة مقفلاً الباب وراءه بعنف .
بعد ليلة من السهاد توجهت لين الى مرك
ز الشرطة وعيناها متورمتان من البكاء على اطلال حب وسعادة تحطم صرحهما عند اول هزة . وهناك استمع المفتش المكلف بقضيتها الى قصتها بدون ان ينبس ببنت شفة مكتفياً بين الحين والآخر بهز رأسه . تكلمت الفتاة ببطء وتفصيل متمنية لو انها تملك خياراً اخر تبرئ به نفسها وساحة الرجل الذي احبت .
بعد انتهائها طرح عليها المفتش سؤالين قال بعدهما :
- قصتك ليست جديدة ياآنسة ماكسويل ، فقد مر بي السيد بيرت داين بعد ظهر امس وابلغني انك قد تأتين الي لاتهامه بجريمة التهريب . وهو اعترف بانه لمس الحقيبة وان يكن قد نسي ذلك لو لم تذكريه به . كما اصر على انه لم يدس الهيروين في حقيبتك ولم يرَ هذه العلبة فيها ولم يشاهد كذلك الفاعل الحقيقي يقوم بعمله . وبناء على طلبه قمنا بمقارنة بصماته بتلك الموجودة على العلبة فجاءت النتيجة سلبية اذ لم تطابق بصماته أياً من تلك التي على العلبة . ( نظر المفتش اليها واضاف ) بالنسبة الينا لاشيء يشير الى تورط السيد داين في هذه العملية ، لذا لن نقوم بتوجيه اي تهمة اليه .
لم تدم المحاكمة اكثر من يومين . ولم يحضرها والدا لين بل عمتها ماري التي جاءت خصيصاً من يوركشير للوقوف الى جانب الفتاة المسكينة . وجلست المرأة حيث تستطيع لين رؤيتها بقسماتها الهادئة وقبعتها المزينة بالريش . تفحصت المتهمة القاعة فلم تتعرف الى اي من الحاضرين سوى عمتها ومحاميها . وعندما وقفت في قفص الاتهام حسبت نفسها ظاهرة غريبة معروضة في السيرك يتفرج عليها الفضوليون .
استدعت النيابة العامة عدداً من الشهود بمن فيها رجال الضابطة الجمركية ، خبير في المخدرات ، ومفتش الشرطة . بعد ذلك جاء دور الدفاع فرافع محاميها باذلاً اقصى جهوده بالرغم من قلة الحجج والبراهين التي تقنع المحكمة ببراءة موكلته . فاستدعى مديرة المدرسة التي تعلمت فيها لين وبعض الجيران الذين عرفوها منذ الصغر .
وهذا الامر الاخير لم يرق لوالدتها التي اعتبرت ان عليهم مغادرة الحي والسكن في مكان آخر لأن لين لوثت سمعة العائلة وافقدتها احترامها . ولما علمت المتهمة بذلك طلبت من محاميها التوقف عن طلب شهود من محيطها والاستعاظة عن ذلك باستدعاء بعض زميلاتها المضيفات . وهؤلاء الاخيرات لم يفدنها بشيء اذ حاولن الانتهاء من الموضوع والخروج من المحكمة بأسرع مايمكن ، كما انكرن جميعهن رؤية احد يضع المخدر في لحقيبة وأكدن ان تصرف لين خلال الرحلة كان طبيعياً لايثير الشبهات .
والشاهد التالي من شهود الدفاع كان بيرت الذي ما ان دخل قاعة المحكمة حتى احست لين بنبضات قلبها تسرع وبيديها ترتجفان . وجه اليه المحامي اسئلة كثيرة ، ودقيقة محاولاً الايقاع به لاثبات تورطه ، لكنه فشل في ذلك اذ اجاب الشاب على الاسئلة بثقة ووضوح . وقال بيرت انه صرح امام رجال الشرطة بأنه لم يمس الحقيبة بعد هبوط الطائرة وهو الآن يتراجع عن هذا القول بعد ان اعادت لين الى ذاكرته كيف اخذ الحقيبة منها ليخرج


جواز السفر . غير انه اكد عدم احتفاظه بها سوى ثوان قليلة ارجعها بعدها الى صاحبتها . واعاد بيرت انكار اي علاقة له بتهريب المخدرات ونفيه رؤية العلبة في الحقيبة عندما اخرج الجواز . واستمر الاستجواب مدة طويلة ولم يرتبك بيرت اثناءها برغم قصد المحامي احراجه ، وكان لابد لهذا الأخير من لنهاء اسئلته وترك الشاهد يذهب في سبيله .
واخيراً مثل ، كشاهد ، ممثل عن شركة الملاحة الجوية جاء يؤكد ان سلوك لين طيلة مدة عملها كان سلوكاً مثالياً ينم عن النزاهة والاخلاق ، وانه لم يبدر منها يوماً اي تصرف يدل على تورطها في عمليات تهريب او ماشابه.
وقبل انتهاء دور الدفاع ادلت المتهمة بافاة قصيرة اصرت فيها على نفي التهمة جملة وتفصيلاً .
رفعت الجلسة عند الظهر للغداء فتوجهت العمة ماري ولين الى مطعم قريب وقعدت لين صامتة لاتمس طبقها ، في حين انصرفت العمة الشجاعة الى التحدث عن اشياء مختلفة كأعمال الزراعة وتربية الواجن التي تقوم بها في القرية . واذا بلين تبدأ بالارتجاف بعدما خانتها اعصابها فامسكت العمة ماري بيدها وشجعتها على مواجهة المشكلة كما فعلت هي في شبابها فقدت خطيبها في الحرب العالمية الثانية ، ثم خطف الموت منها زوجها وطفلها الوحيد في حادث سيارة .
حاولت لين الابتسام والدموع تتجمع في عينيها ، وقالت شاكرة :
- لا أدري ماذا كنت افعل بدونك في ه9ذه اللحظات ؟
- لاتقولي ذلك يا ابنتي فالشجاعة والقوة ملكتان تنبعان من داخل النفس البشرية . وانا على يقين انك قادرة على مواجهة الموقف بكرامة وبأس مهما كان قرار المحكمة . وتذكري اني دوماً الى جانبك لأنني مؤمنة ببراءتك ، سأطلب لك شراباً منعشاً يساعدك على تخطي امتحان بعد الظهر العسير .
بعد استئناف الجلسة اعيدت تلاوة قرار الاتهام ، وملخص الوقائع ومطالعة النيابة العامة . ثم بدأ القاضي الرئيسي بقراءة حيثيات الحكم مشدداً على اهمية جرائم المخدرات وخطورتها من الناحية الاجتماعية ، ومبرزاً ضرورة المعاقبة عليها بحزم لمنع تفشيها ولردع مرتكبيها عن الامعان في غيهم . وأشار الى جهود لاترتكز الى دليل قاطع اة الى اية قرينة براءة في حين ان كل الوقائع تدعو الى تجريم لين ماكسويل . وفي النهاية دعا القاضي هيئة المحلفين الى الانسحاب للمذاكرة واصدار الحكم بالبراءة او بثبوت التهمة . ولم يفاجأ احد عندما اعاد اعضاء هيئة المحلفين بعد عشرين دقيقة واعلنوا تجريم لين بقرار اجماعي .
وهنا نظر القاضي الى الفتاة وقال بنبرة خطابية :
- لين ماكسويل ، لقد ثبتت ادانتك بجرم حيازة المخدرات ونقلها بغية تهريبها الى البلاد . وبما ان هذا الجرم خطير ونظراً لرفضك التعاون مع قوى السلطة لكشف المحرضين والشركاء قررت هذه المحكمة ان تنزل بك عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات .
طرقت هذه الكلمات اذني لين كأجراس تقرع في داخلها واخذت تجيل نظرها في القاعة علها تجد بيرت لتريه الحقد والاحتقار اللذين تشعر بهما نحوه ، لكنه لم ينتظر نهاية الجلسة لسماع الحكم . وسرعان ما امسكتها شرطية بيدها واقتداتها الى خارج المحكمنة فالسجن

3-لين الجديدة




ثلاث سنوات مدة طويلة تتغير فيها شخصية المرء جذرياً ، وبخاصة اذا دخل عالماً غريباً اكره فيه على اتباع نظام معين ومعاشرة اشخاص ماكان يحلم بلقائهم .
امضت لين اسابيعها الاولى في سجن النساء وهي شبه ضائعة وفي حالة من اللامبالاة ، تنفذ ماتؤمر به ، تنام ، تغتسل ، بالكاد تأكل حتى تسد رمقها ، لاتكترث لزميلاتها وكأنهن غير موجودات . حضر والدها مرة لزيارتها وجلس لايجد موضوعاً للتحدث ناظراً الى ساعته مرات عدة حتى يمضي الوقت ويرحل الى بيته بعد ايفاء قسطه للعلى ... اما والدتها فلم تتحمل فكرة المجيء الى السجن كما قال الوالد . وطلبت لين من ابيها عدم المجيء اليها مرة ثانية فحاول ادعاء الاعتراض أولاً لكنه اذعن ازاء اصرارها . ولاحظت الفتاة السجينة علامات الارتياح على وجهه لتخلصه من واجب الحظور الى هذا المكان المشين . وودعها واعداً بالكتابة . وبالفعل تلقت منه رسائل كثيرة خلال الاشهر الاولى ، ثم اخذت تشح حتى كادت تنضب . والفتاة لم تعد تهتم لذويها فهي تعتبر نفسها بدون عائلة ، اذ لايمكن ان تعود للعيش في بيتها بعد خروجها من السجن لئلا تعكر صفو حياة والديها وطيف جريمتها يحوم في المنزل ، سواء آمنا ببراءتها ام لم يؤمنا .
اما العمة ماري فكانت تأتي من يوركشير لرؤية لين مرة كل شهر حاملة معها نفحة من الشجاعة وباذلة المستحيل لشد ازر الفتاة المعذبة . كانت تجلس واياها لتحدثها عن مجريات حياتها اليومية في الريف .
ومر شهر لم تأت فيه العمة ماري فقلقت لين عليها . وكان قلقها في محله اذ وصلتها رسالة من محامي العمة يبلغها فيها ان المرأة مصابة بمرض خطير وان حالتها ساءت بسبب عدم التزامها أوامر الاطباء بالخلود الى الراحة واصرارها على السفر من يوركشير الى لندن لرؤية لين . وبعد أسبوع من ذلك وصلتها رسالة ثانية تنبئها بوفاة العمة ماري .
قدمت لين طلباً الى آمرة السجن بالسماح لها بحضور مراسم الدفن لكنها رفضت ذلك ، الامر الذي زاد من حزن الفتاة التي فقدت بموت عمتها نصيراً ومرشداً ، ووسعت دائرة كرهها للاشخاص المحيطين بها . وزادها اسى شعورها بالذنب اذ لولا اضطرارها للتنقل بين يوركشير ولندن لكانت العمة ماري على قيد الحياة في هذه اللحظات . ومازاد الطين بلة ان الفقيدة اورثت لين كل أموالها فاحست هذه الأخيرة انها لم تكتفِ بتعجيل موت عمتها بل وكأنها فعلت ذلك عمداً لترث أموالها .
ومع مرور الوقت اصبحت صورة بيت في ذهنها هاجساً يلاحقها مهما فعلت ، يوقظها كابوسه من نومها ، تبتلعه مع طعامها وترتديه مع ملابسها ... وصار هدفها محدداً بوضوح : الانتقام من بيرت الذي كان السبب في تعاستها ووجودها في هذا المكان المقيت . واخذت تعمل على بلورة خطة ناجحة للنيل منه وزجه في السجن . وخشيت ان يكون نال درساً من سجنها وابتعد عن التهريب ، لكنها استبعدت هذه الفكرة اذ لابد ان يستبد به الطمع من جديد ويعود الى تهريب المخدرات ، وعندما ستخرج من السجن ستكون له بالمرصاد للايقاع به ولربما لدس مخدر في شيء يخصه والابلاغ عنه للشرطة فيقع في الورطة نفسها التي اوقع لين فيها ! تلذذت الفتاة بهذه الفكرة كثيراً واخذت تعمل عقلها جاهدة للوصول الى وسيلة ناجعة تحقق هدفها .
خطر لها ان تستخدم شخصاً تكلفه بالتقرب من بيرت لمراقبة تحركاته واقتناص الفرصة السانحة للابلاغ عنه عند قيامه بالتهريب او بعد دس المخدر له . بيد ان هذه الفكرة لم ترق لها لسببين :
الاول هو صعوبة ثقتها بالشخص المأجور الذي سيقوم بالمهمة الدقيقة لانه قد يتسبب بافتضاح امرها ، والسبب الثاني هو ان الانتقام لن يكون شافياً وكاملاً اذا نفذه غيرها وهي داخل السجن لاترى وجه بيرت يتعذب . ويبقى الشيء الاهم وهو ضرورة علم بيرت بأن المكيدة من اخراج لين والا فقد الثأر نكهته . لكن كيف تقترب اففتاة من حبيبها السابق بدون ان تثير شكوكه ومخاوفه اذ لابد له ان يرى الحقد والكراهية في عينيها ويعلم بالتالي انها تضمر له شراً فيأخذ حذره . ولن ينفع لازالة مخاوفه ادعاؤها الغفران والسماح واستعدادها لاحياء الماضي البديع . وهكذا يغدو استخدام شخص ما امراً حتمياً .
بعد رسوخ فكرة الانتقام بدأت الفتاة السجينة تتعرف الى مجتمعها الجديد شيئاً فشيئاً . وخرجت من تقوقعها لتخالط بقية السجينات لعلها تجد بينهن واحدة تناسب لتنفيذ المهمة ، او واحدة تساعدها على ايجاد من هو مؤهل لذلك رجلا كان ام امرأة . وقامت كذلك بتحريات دقيقة لتتصل بأخطر المجرمات اللواتي يستطعن تأمين كمية من الهيروين في حال احتاجت اليها لتوريط بيرت . وبالطبعكان على لين التصرف بحذر وعدم اظهار فضول او الحاح كبيرين لكسب ثقة "زميلاتها" السجينات المتصلات بعصابات كبيرة وخطيرة
تمكنت من التقرب من سجينة باهرة الجمال تدعى ناديا كليرمونت . كانت ناديا تعمل فتاة غلاف الى ان ضبطت تبيع مجوهرات سرقها حبيبها فدخلت السجن . ورأت لين ان ناديا هذه قد تكون ملائمة لتأخذ المهمة على عاتقها بخاصة وانها على اتصال بمعظم ارباب عالم الجريمة في لندن . ومع الوقت اكتشفت لين ان صديقتها تتمتع الى جانب جمالها بقدر لا بأس به من الغباء مما يجعلها لا تصلح لتحقيق اهدافها .
في أحد الأيام جلست السجينتان تتبادلان اطراف الحديث ، واخرجت ناديا صوراً فوتوغرافية تظهر فيها وهي تعرض الازياء وفي بعضها تعرض مفاتنها بما تيسر من ملابس لاتستر الشيء الكثير .
ابدت لين اعجابها بمواهب زميلتها وهي تتفرج على الصور ، فاذا بها تلمح صورة سقطت على الارض فالتقطتها ونظرت الى صاحبتها لترى صبية ذات شعر متجعد وانف طويل تعلوه نظارتان سميكتان في حين ان ملابسها العادية لاتمت بصلة الى تلك الانيقة والفخمة التي تعرضها ناديا.
اعادت لين الصورة الى صديقتها سائلة :
- أهي نسيبة لك ؟
ضحكت ناديا وأجابت :
-نوعاً ما . هذه الفتاة كانت تدعى مورين هيغبنز .
-كانت ؟ أهي متوفاة ؟
كادت ناديا تختنق من الضحك اذ قالت :
-باستطاعتنا اعتبارها كذلك ( نظرت الى الصورة من جديد وكأنها تستعيد ذكريات غابرة وتابعت ) الفتاة التي في الصورة هي انا : ناديا كليرمونت .
تفرست لين بالصورة جيداً قبل ان تقول :
-لاشك انك تهذين ! كيف يعقل ان تكوني هذه الفتاة البشعة ؟
-بمقدور أي كان ان يجعل من نفسه جميلاً بفضل العلم المتطور ...
اسندت ناديا ظهرها الى الجدار وبدأت بسرد القصة :
-عندما كنت في الثامنة عشرة تعرفت الى رجل حاول اقناعي بانه سيجعل مني نجمة سنمائية . ظننته يسخر مني أول الامر لينال مأربه فقط ، اذ كيف يحول فتاة قبيحة مثلي الى بريجيت باردو! غير انه اصر على موقفه واصطحبني الى جراح في التجميل كان يملك عيادة في شارع هارلي اقفلتها السلطة بعد افتضاح امره ، اذ انه اجرى عدة عمليات لتغيير وجوه اشقياء شهيرين كي يفلتوا من قبضة العدالة .
المهم ان هذا الطبيب الماهر قصر انفي واجرى عملاً دقيقاً جداً لتغيير فتحة العينين واصلاح شكل الذقن . ثم اصطحبني رجلي الى طبيب اسنان اصلح اسناني البشعة وجعلها كصف من حبيبات الؤلؤ . اما المرحلة الأخيرة من عملية اعادة التأهيل فكانت تمضية أسابيع في مصح خاص حيث اتبعت حمية لانقاص وزني بضعة كيلوغرامات وحيث وضعت لي عدستان لاصقتان بدل نظارتي المرعبتين . وها انذا ناديا كليرمونت بعدما دفنت المسكينة مورين هيغينز .
علقت لين وهي لا تكاد تصدق :
-عمل رائع ! لااحد يشك ان مورين هذه هي نفسها انت !
وخطرت لها فكرة جهنمية جعلت وجهها يشرق وعيناها تشعان ،فاستفهمت:
-كم تبلغ كلفة هذا التبديل الكبير ؟
-لااعلم بالضبط كم دفع رجلي غير انني اعتقد ان المسألة تتطلب بضعة آلاف ، مع العلم انني سددت كل ماعلي بطريقتي الخاصة .
-وهل انت على علم اذا كان هذا الجراح مازال يجري عمليات تغيير الوجوه ؟
نظرت ناديا اليها باستغراب واجابت :
-نعم ، اظن ذلك . ولكن لماذا تسألين ؟
-اريد اجراء عملية لوجهي حتى يصبح جميلاً .
-لا ارى ان وجهك بحاجة لعملية يا لين ، فانت جميلة لا قبيحة كمورين .
-اريد ان ابدأ حياة جديدة عند خروجي من السجن بدون ان يتعرف الي احد.
وافقت ناديا قائلة :
-افهم ذلك ياعزيزتي (ترددت قبل ان تضيف ) عليك ان تدركي ان الجمال ليس مصدراً للسعادة . صحيح انه يؤمن المال والعمل واهتمام الرجال ، لكنه مايلبث ان ينقلب مصدر شقاء عندما تنكشف نوايا الرجال الحقيقة وعندما تصادفين رجلاً تعميه الغيرة اذا داعب النسيم شعرك ، ولاننسى كره النساء للمرأة الجميلة لأنها تنافسهن على اقتسام الغنيمة . خذي العبرة مني وانظري اين انتهى بي المطاف لأني منحت ثقتي لرجل احببته ( هزت ناديا كتفيهلا وأردفت ) لربما توجهت الى ذلك الطبيب بعد خروجي من هنا ليغير وجهي من جديد .
-اتزمعين على ان تعودي مورين هيغينز ؟
تناولت ناديا الصورة ورفعت حاجبيها قائلة بمرح

-لن اصل الى هذا الحد بالطبع ... لو كنت املك وجهاً كوجهك لما فكرت يوماً بتغييره .
للين دوافعها ولهذا جزمت :
-أنا اعني ما اقول وانا مصممة عليه .
لم يسمع ناديا سوى الموافقة ازاء هذا الاصرار :
-حسناً ، سأطلعك على كيفية الوصول الى هذا الطبيب عندما يحين موعد خروجك .
مرت الشهور ببطء ولين لا يشغلها سوى المضي قدماً في بلورة خطة انتقامها واخراجها بشكل كامل لا يفسح في المجال لأي زلة .
وتنفيذاً لذلك واظبت باهتمام كلي على جميع دروس اللغات الاجنبية المتوافرة في السجن ، لابل انها اخذت دروساً اضافية على يد سجينة فرنسية لقاء مبلغ من المال . ولين كانت على اي حال ممتازة في اللغات الأجنبية أيام الدراسة ، وهذا ما سهل لها الحصول على وظيفة مضيفة في الشركة العالمية للملاحة الجوية . اما الآن فهي تنوي تسخير هذه الموهبة لسحق بيرت .
اثناء فترة العقوبة قابلت لين مراراً مصلحين اجتماعيين تنتدبهم الدولة للعمل على تأهيل السجناء وتحضيرهم لدخول المجتمع كعناصر فاعلة و صالحة . وقد نصحها هؤلاء بعد الاختلاط بالسجينات الوسخة الملطخة بجرائم خطيرة ، سوى انهم وجدوا انفسهم يجهدون على غير طائل كون لين تجلس امامهم خلال المقابلات بوجه جامد كالصخر وتكتفي بالاجابات المقتضبة على اسئلتهم . وهكذا تابعت اتصالاتها بسجينات عالم العاصابات لتزيد من اطلاعها على خفايا وخبايا فلك الجريمة في لندن وتسخر معلوماتها الجديدة في الارتداد على بيرت واحراقه كما حرق ثلاث سنوات من عمرها . وكان من عدم تجاوب لين مع جهود ومحاولات المصلحين الاجتماعيين سبباً في ابقائها في السجن نفسه ، فالسجينات اللواتي يظهرن تحسناً في السلوك يتم نقلهن الى سجون اخرى تتوافر فيها وسائل الراحة واللهو . ولم تهتم لين لذلك باعتبارها تفضل البقاء مع اناس يساعدونها على تحقيق مقصدها .
في اليوم الذي سبق اطلاق سراحها توجهت لين لمقابلة آمرة السجن . وهناك في المكتب الموحش استمعت الى محاضرة طنانة في الاخلاق وتلقت سيلا مدراراً من النصائح . واكثر ماشددت آمرة السجن كان على وجوب فتح صفحة جديدة بعد انتهاء مدة العقوبة وتجنب الانزلاق في متاهات الجريمة بعد الآن لأن العدالة لا ترحم المجرم في حالة التكرار . وافقت لين في داخلها على وجوب فتح صفحة جديدة خصوصاً وأنها ستفتح هذه الصفحة للاقتصاص من بيرت ، وغرقت في افكارها وخطط الانتقام حتى أنها لم تدرك ان المرأة انهت مواعظها الا بعد ان نادتها عدة مرات .
تنهدت آمرة السجن وقالت :
-أرى انك لم تستوعبي شيئاً مماقلت . وأنا حقاً آسفة لمغادرتك هذا المكان لأنك لست مؤهلة لخوض غمار الحياة الصالحة بعد . كما أني لن افاجأ بعودتك القريبة الينا اذ ان موقفك العنيد طوال ثلاث سنوات ينبئني بانك تحضرين للقيام بعمل احمق جديد . لقد قمت بواجبي وحاولت نهيك وارشادك الى الطريق القويم ... حسناً يا ماكسويل ، بامكانك الانصراف.
لم تنبئ لين ذويها بموعد خروجها من السجن . وحين خرجت الى الحرية في ذلك الصباح البارد فوجئت بناديا كليرمونت التي أطلق سراحها قبل شهور تنتظرها في سيارة تاكسي .
حيتها ناديا بابتسامة عريضة :
-أهلاً وسهلاً بك الى مايسمى المدينة يا ابنة المجتمع المنبوذة !
-ألم تحضري لي حفل استقبال ؟
-ياليتنا نقيم حفلاً يكون شعاره : لا للرجال الذئاب .
تعانقت الفتاتان طويلاً وكادت الدموع تطفر من عيني لين لانها وجدت في ناديا اخلاصاً وحناناً فقدتهما من زمان .
-اشكرك يا ناديا على هذه اللفتة الحلوة .
توجهتا الى شقة ناديا حيث خلدت لين الى حمام ساخن في حين انهمكت الأولى بتحضير طعام الفطور . وبعد تناول الطعام قالت ناديا والسيكارة في يدها :
-كيف تنوين تمضية يومك الأول ؟ اتحبين الخروج للتسوق وشراء ثياب جديدة ام تؤثرين البقاء وحيدة للتأمل ؟ أنا شخصياً امضيت يومي الاول انصت الى السكون ، فاذا رغبت بذلك سأخرج لئلا ازعجك .
-لا ياعزيزتي ، اود العمل بسرعة لمقابلة ذلك الجراح .
-اما زلت مزمعة على اجراء العملية ؟ ترويّ قليلا فربما غيرت رأيك بعد بضعة أسابيع خارج القضبان .
علقت لين على ذلك باختصار :
-لم ولن أغير رأيي . هل رأيت الطبيب ؟
-نعم رأيته ، وهو مستعد لاجراء العملية ساعة تشائين بشرط ان تدفعي نصف المبلغ مقدماً .

موافقة لكنني احتاج ليومين فقط كي انجز بعض الاعمال . ماهو عنوانه؟
أجابت ناديا :
-انه يملك عيادة في كنت . سأتصل به وأبلغه بقدومك في الاسبوع المقبل.
-أريد منك ان تساعديني في الحصول على جواز سفر ورخصة سوق جديدين بعد انتهاء العملية .
اعترضت ناديا قائلة :
-وماحاجتك اليهما ؟ بامكانك وضع صورة وجهك الجديد على الجواز القديم .
-لا فأنا أنوي الحصول على اسم جديد بالاضافة الى الوجه الجديد .
-ولماذا يا لين ؟
-لأسباب وجيهة جداً تدفعني كذلك لاستخدام تحرٍ خاص او اي شخص يجيد جلب المعلومات وابفاء فمه مقفلاً . اتعرفين شخصاً يملك هذه المواصفات ؟
يبدو ان جعبة ناديا لا تفرغ اذ اجابت :
-ليس اسهل من العثور على الشخص المطلوب . وأرجو ان تكوني مدركة لما تفعلين لأني لم افهم شيئاً من الغازك .
-لاتقلقي ياعزيزتي فقد حضرت لكل خطوة اقوم بها تحضيراً كافياً وافياً.
بعد ليلة عند ناديا استقلت لين القطار في الصباح التالي الى منزل دويها . وصلت ورأت والدها في الحديقة يشذب الشجيرات والغليون في فمه ، مردداً لحناً وكأن السعادة ملك يديه . وقف لين تراقبه بصمت حتى رفع رأسه ولمحها . لم يتعرف اليها بادئ الامر لكنه مالبث ان ابتسم وفتح ذراعيه مرحباً.
-لين! طفلتي العزيزة!
احست الفتاة بحاجة الى الارتماء في احضان ابيها لتيستعيد نتفاً من هناء الطفولة ، غير ان ذكرى السنوات الفارغة الباردة التي امضتها في السجن اجتاحتها واطفأت هذا الاحساس ، فقالت ببرود:
-مرحباًَ ياوالدي ، كيف حالك ؟
فوجيء الرجل بنبرتها واختفت الابتسامة عن ثغره ، فمد يده مصافحاً كأنه يستقبل ضيفاً عادياً ورافقها الى داخل المنزل وقال للوالدة الجالسة الى المكتب تخط رسالة في غرفة الجلوس :
-انظري من اتانا يا الزابيت .
استدارت الوالدة ، وعندما شاهدت ابنتها تحولت الابتسامة على وجهها الى مزيج من الصدمة والغضب والخوف . راقبت الفتاة تراقص المشاعر وتواليها على وجه امها التي نزعت لين من حباتها واعتبرتها غير موجودة ودفنتها في طيات النسيان منذ يوم الحادثة .
وواضح الآن انها لم تحسب حساباً لاحتمال عودتها بعد مرور ثلاث سنوات كطيف مزعج وكشبح فتاة ماتت في قلب أمها . ازاء ذلك قالت لين في نفسها ان هذا المكان لم يعد بيتها وبيرت هو السؤول عن ذلك بالاضافة الى سلب ثلاث سنوات من عمرها .
بذل الوالدان جهدهما ليظهرا الترحيب بابنتهما . جلبا لها القهوة وبعض الحلوى وجلسا يحدثانها بحذر لتجنب الخوض في ما حدث .
وشعرت لين ان والديها منزعجان من وجودها ولا يعلمان كيف يبلغانها انها لن تستطيع المكوث معهما من جديد . تركتهما الفتاة يتحرقان بعض الوقت وكأنها تريد الانتقام لأنهما لم يمدا لها يد العون في مصيبتها . وفجأة غمرها شعور بالشفقة تجاه المخلوقين المسكينين اللذين تعرضت حياتهما لهزة عنيفة . فلماذا تعود الآن لتفسد عليهما هناءهما بعدما نسيا ان لهما ابنة اسمها لين دخلت السجن بتهمة تهريب المخدرات ؟
وحتى تنهي المعاناة ابلغت لين والديها انها قررت الهجرة والعيش في الخارج ، وانها ستبلغهما بعنوانها عندما تستقر . وكان لهذا القول مفعول سحري على وجه الوالدين فغمرهما الارتياح حتى كادا يطيران من الفرح . وبعد قليل غادرت لين ماكان لها منزلاً دون ان تلتفت الى الوراء وهي تعلم انها لن ترجع الى هذا المكان بعد الآن .
في الصباح التالي توجهت بالقطار الى يوركشير لرؤية محامي عمتها المتوفاة ماري . وهناك وقعت عدة اوراق وتسلمت مجوهرات العمة النفسية وبعض قطع الاثاث الاثرية الموجودة في البيت الي اوعزت لين ببيعه مع معظم موجوداته . وبسرعة عادت الى لندن بعد ان انهت المعاملات المتعلقة بالتركة لتكمل هناك مخططها الذي لن يرحم مسبب شقائها .
بعد شهر ونصف قصدت لين شقة ناديا . قرعت الجرس ولما فتحت صديقتها بادرتها الى القول :
-الآنسة كليرمونت ؟
امتلأت عينا الزرقاوان فضولاً وسألت :
-نعم ماذا تريدين ؟


أنا اعمل مصلحة اجتماعية بالتنسيق مع ادارة السجون المركزية ، وجئت اليك ...
قاطعتها ناديا بحدة :
-بامكانك الانصراف لأني غير مستعدة ... ( توقفت فجأة عن الكلام عندما رأت لين تنفجر ضاحكة ، فاستوضحت ) من أنت ؟ وماذا تريدين؟
- انا لين ياناديا . آسفة على الازعاج لكني اردت التأكد من ان اقرب المقربين الي لم يستطيع التعرف الى وجهي .
- يا الهي ! ماذا فعل الجراح بك ؟ حتى امك لن تعرفك اذا رأتك .
افسحت ناديا لصديقتها حتى تدخل وتابعت :
-أرى ان الأمر لم يقتصر على انفك فهناك شيء آخر تبدل في وجهك .
-صحيح فقد صغر لي ذقني وشد جلد الصدغين لتبدو العينان اكبر . بعد الجراحة قصدت اختصاصياً في التجميل جعل حاجبي رفيعين وصبغ شعري اشقر .
-عيناك ايضاً مختلفتان .
-وضعت عدستين رماديتين وغيرت لون رموشي . المهم الآن ، ما رأيك ؟
تفحصتها ناديا بتمعن واصدرت حكمها :
-من الأكيد اانك لم تنفقي مالك هدراً يا لين . فبهذه الضفائر الذهبية وهذا الوجه الفاتن ومع حسن اختيار الملابس ، انت بلا شك جميلة وعلى اهبة الاستعداد لادارة رؤوس الذكور.
حدقت لين في المرآة وسألت بجدية :
-اتقولين الحقية ام انها مجرد مجاملة ؟ ارجو ان تصارحيني فالمسألة حساسة للغاية .
-ثقي اني لست اجاملك . انت جميلة حقاً بالرغم من البرود البادي في عينيك وقسماتك .
-تصوري اني لا اصدق نفسي عندما انظر الى المرآة . وكم من مرة مررت قرب متجر وحسدت الفتاة المنعكسة صورتها في الزجاج على جمالها لانتبه ان الفتاة ما هي الا انا ، فأقف وأطيل التفرج على قوامي حتى يخالني المارة مصابة بمسّ او اقله بعقدة النرجسية !
دخلت الفتاتان الى غرفة الجلوس لاحتساء بعض القهوة والدردشة .
سألت ناديا :
اي اسم ستختارين ؟
-فكرت ملياً بهذا الموضوع وقررت اختيار اسم قريب من لينيت حتى تعتاد اذني عليه ، وهكذا انتقيت اسم نيتا .
وهكذا لن يشك بيرت بأن نيتا هو تصغير للينيت وهو في اي حال لم يكن يناديها الا لين من غير ان يعلم اسمها الكامل ، ولعله ظن لين تصغيراً لليندا كما يفعل معظم عارفيها . وليس في ذلك ما يفاجئ لأن لين لم تكن تستعمل اسم لينيت الاّ في اتمام المعاملات الرسمية وما شاكلها .
-نيتا ماذا ؟
-لم اختر شهرة بعد ، فهل لديك اقتراح يا آنسة كلير مونت ؟
فكرت ناديا قليلاً ثم قالت :
-ما رأيك بشهرة بسيطة كبايج أو مورغان ؟ ( تناولت جريدة تصفحتها بسرعة ووجدت فيها اسماً مناسباً فاقترحت ) عثرت على شهرة ملائمة في الجريدة : نيتا لويس . أليس وقعه جيداً ؟
رددت لين الاسم مرتين او ثلاثاً قبل ان توافق:
-انه يعجبني . من الآن فصاعداً صرت ادعى نيتـا لويس .
-هذا يعني وجوب تدبر جواز السفر المزور .
-حتماً لقد احضرت معي المال اللازم والصور الشمسية والباقي عليك على أمل الا يطول انتظاري .
تناولت ناديا المال والصور من لين وأكدت :
-سيحتاج الأمر الى اسبوع .
- لا بأس .
مكثت الاثنتان تثرثران وقتاً طويلاً الى ان حان وقت انصراف لين الى فندقها بعد التواعد على اللقاء بعد يومين في الاسواق وشراء بعض الملابس . من الفندق توجهت لين الى احد مخازن لندن الشهيرة التي تحوي على كل ما يمكن ان يطلبه المرء . وهناك ابتاعت شعراً مستعاراً شبيهاً بشعرها السابق عندما كانت لينيت ماكسويل . ثم عادت الى غرفتها لتضع الشعر وتنزع العستين عن عينيها ذلك لأنها نوت مقابلة التحري الخاص الذي استخدمته قبل دخولها العيادة للاستقصاء عن بيرت . ولا فائدة من اطلاع التحري خلال ستة اسيابيع من المراقبة ان الرجل امضى ليلتين مع فتاتين مختلفتين يظهر ان علاقته بهما لا تتعدى اطار المغامرة العابرة .
في التقرير كذلك عنوان بيرت في لندن ، وهو نفسه الذي تعرفه لين ، واسم الفندق الذي ينزل فيه افراد طاقم الشركة لقربه من المطار . ولم تجد صعوبة في ايجاد غرفة مريحة مع حمام مستقل في الطابق الحادي


عشر . ولما كان امامها عشرة ايام قبل وصول بيرت حسب الجدول المعطى من التحري الخاص شرعت بالبحث عن عمل . وزارت لهذه الغاية عدة مكاتب استخدام وقابلت عدداً من الاشخاثص دون ان تحظى بمطلوبها . وأخيراً ابتسم لها الحظ وتعاقدت مع مدرسة معظم تلامذتها اولاد رجال اعمال بريطانيين وأمريكيين يعملون في سنغافورة . وبموجب العقد كان على لين تدريس الفرنسية ( التي اتقنتها في السجن ) لأربع فترات في الاسبوع بالاضافة الى الحلول مكان اي من افراد الهيئة التعليمية في حال الغياب . وجدت الفتاة هذه الوضيفة مبتغاها ومبرراً لبقائها في البلاد مع احتفاظها بأوقات فراغ كثيرة ، والأحسن من ذلك وقوع المدرسة في مكان غير بعيد عن الفندق مما يجعل مكوثها فيه شيئاً طبيعياً لايثير الشكوك . والحقيقة ان لين فوجئت بسهولة الحصول على عمل في بلاد اجنبية ، الامر الذي خشيت صعوبته عندما وضعت خططها ، ولاشك ان جمالها المكتسب بواسطة الجراحة والتجميل لعب دوره ايضاً . كيف لا وكل مدير شركة يأمل بالحصول على سكرتيرة جميلة تجلب له الزبائن ويتمتع بمغازلتها اذا استطاع !
الانتقال من مرحلة الى مرحلة كما فعلت لين ليس بالأمر اليسير بخاصة وان هذا الانتقال كان جوهرياً للغاية . فلابد ان تجد الفتاة صعوبة بأن تصبح جميلة ومحط الانظار بعد ان كانت عادية جداً .
صحيح انها عاشرت بعض الفتيان خلال فترة المراهقة ، غير ان الامر لم يتعد اطار التسلية والبحث عن المغامرة والاثارة ، فلم يبح لها احدهم بحبه ولم يعبر عن ولهه بقصيدة او بباقة زهر عطرة ... حتى بيرت الذي زعم انه مغرم بها ما عاملها يوماً كشيء ثمين يخاف عليه من التخدش ويحرص عليه كما يجب ان يحرص العاشق على حبه .
وسبب ذلك بات معلوماً بعد ان اكتشفت لين خداعه ووقعت في شرك الهيروين الذي كلفها سنوات في السجن مرمية على هامش الحياة ملفوظة من المجتمع الظالم الذي لا يرحم . اما الآن فشتّان بين ماكان وماصار ، لأن عيون الرجال اصبحت ترمقها بنهم كاد ينطق بالاعجاب دون الحاجة الى لسان ، والجميع يحاول التقرب منها وكسب ودها ، من مدير مكتب السفريات في لندن حيث ابتاعت تذكرة السفر الى الشاب الذي جاورها في الظائرة ... الى كل الرجال الاوروبيين والامريكيين الذين قابلتهم في سنغافورة حتى الآن ، ومن الطبيعبي ان الفتاة شعرت بالحرج والارتباك امام الرجال كونها ابتعدت عن مخالطة الناس مدة طويلة ، وشيئاً فشيئاً تعلمت كيف تعاملهم فاصبحت تظهر تجاه الرجال خصوصاً برودة اعصاب وتحفظاً شديداً في الأمر الذي يجعلهم غالباً يكفون عن ملاحقتها .
امضت لين ثلاثة أيام في عملها الجديد قبل ان يحل الموعد المحدد لوصول طائرة بيرت . ومع اقتراب ساعة الصفر زاد توتر الفتاة مع انها لا تنوي الاقتراب من الرجل الآن ، فمخططها مرسوم بدقة ويحتاج الى نفس طويل لينضج ويصبح بالامكان جني الثمار . لذا كان عليها اولا التعرف بالعين الى المضيفات وجعلهن يرونها ، ولا ضير من تبادل بسمات التحية معهن ، والهدف من ذلك ظهورها بمظهر النزيلة الدائمة في الفندق حتى تعتاد الفتيات على رؤيتها فيتعرفن اليها تلقائياً بعد وقت قصير فتأتي المبادرة منهن بشكل طبيعيب لا يثير الانتباه .
في اليوم المحدد تاهت لي في شوارع سنغافورة الزدحمة وهي في طريق العودة من المدرسة الى الفندق . ولم تفلح في ازالة جبل الخوف الضاغط على صدرها وهي على أهبة الشروع في رحلة الثأر المرتقبة .
فهل تستطيع ضبط اعصابها عند مشاهدة بيرت ومتابعة تمثيل الدور باجادة وبراعة ؟ الن تنهار بفعل كرهها وحقدها وتصرح له بكل شيء؟ رهان كبير لا مفر من خوضه ... جعلتها الفكرة الأخيرة تحث الخطى حتى تصل قبل افراد الطاقم وترى المضيفات وهن في ثياب العمل حتى تستطيع تمييزهن ، وبالفعل نجحت في الوصول في اللحظة الاخيرة اذ كان احد باصات المطار يتوقف امام باحة الفندق .
شحذت لين كل شجاعتها ودخلت ردهة الاستقبال حيث طلبت مفتاحها الذي اصبح معروفاً من الموظف عن ظهر قلب .
قال الشاب وهو يناولها المفتاح :
-هناك رسالة لك يا آنسة لويس .
ابتسمت لما رأت خط ناديا الذي تستطيع تمييز رداءته بسهولة فائقة .
ناديا هذه اثبتت انها اوفى انسانة تعرفت اليها لين في حياتها . فهي حاولت ثنيها عن ارتكاب اي عمل متهور ، ولكن أمام اصرار لين مدت لها يد العون وأمنت لها الحصول على جواز السفر الزور برغم خطر العودة الى السجن .
وفجأة سمعت صوتاً مألوفاً فيه الكثير من السلطة يتحدث الى موظف الاستقبال ، فلم تتجرأ على النظر الى صاحبه بل ادارت وجهها وتوجهت للجلوس على احدى الكنبات . فتحت الرسالة ، متظاهرة بقراءة محتواها باهتمام ، واخذت تراقب المضيفات بثيابهن الكحلية والمختلفة عن تلك المعتمدة أيام عملها في الشركة
بذلت لين المستطاع لتبقي عينيها على المضيفات غير انها لم تقوَ على عدم النظر ناحية بيرت المنهمك بتعبئة الاوراق على المكتب . وفجأة التفت ليتحدث الى مساعده فرأت جانباً من وجهه وعادت بسرعة الى رسالتها ودقات قلبها المتسارعة تكاد تسمع حتى البعيد . كانت تلك اللمحة كافية لتلحظ ان شيئاً ما في ملامحه يختلف دون ان تستطيع تحديده ، لذا صارعليها ان تتفحصه عن قرب لتكتشف ماهو .
بعد ان استلم افراد الطاقم مفاتيح الغرف اتجهوا بحقائبهم الى المصاعد ، في حين تفرست لين بالمضيفات الست حتى تتأكد من انها الفت وجههن تماماً . ولاحظت الفتاة ان عين أحد المضيفين وقعت عليها ورمقتها بنظرة اعجاب ، فلم تبدِ اهتماماً وركزت على رسالة ناديا لأنها لا تنوي مطلقاً ايقاع أحد غير بيرت في شباكها القاتلة .
صعد الجميع في مصعد واحد كبير توقف اولا في الطبقة السابعة ثم في الطبقة الثانية عشرة ، وهذا يعني ان الطيار ومساعده ومهندس الطيران ينزلون في الطبقة السابعة تاركين للافراد الباقين الطبقة العليا .
جلست لين بعد انصرافهم تلملم شتات اعصابها بصدمة مشاهدة بيرت بعد طول غياب ، وتمنت في تلك اللحظات لو أنها استخدمت تحرياً خاصاً لهذه المهمة الشاقة ، بيد انها استطاعت الى حد ما اجتياز الامتحان الأول دون ارتكاب حماقة وان يكن قلبها ما زال بحاجة الى بعض الوقت ليعود الى نبضه الطبيعي . والله وحده يعلم ما اعتمل في نفسها لدى رؤية الرجل : الحقد ، الألم ، الذكريات الحالمة ... كل هذه المشاعر تلاطمت كالامواج في داخلها وافقدتها صفاء الذهن ونقاء البصيرة .
نهضت لين وساقاها ترتجفان ، ومشت نحو المصعد ممسكة بالرسالة التي لولاها لما استطاعت تجاوز التجربة الصعبة ، وكأن عون ناديا مايزال يؤتي مفعوله هنا على بعد آلاف الاميال من لندن ... في غرفتها كان السرير ملاذاً فاغمضت عينيها وغطت في نوم عميق .
لم تشاهد لين أياً من افراد الطاقم الا بعد ظهر اليوم التالي . فهي عادت من المدرسة لتتناول طعام الغذاء في مطعم الفندق حيث جلست مضيفتان الى مائدة قريبة منها . وتدبرت لين الامر حتى تنهي الطعام معهما فوقفت وراءهما تماماً في الصف لدفع الحساب ، وبذكاء اوقعت الفاتورة قرب ساق احداهما فالتطقتها قائلة :
-عفواً .
ابتسمت الفتاة وسألتها :
-هل انت بريطانية ؟
بادلتها لين الابتسامة واجابت :
-نعم كيف عرفت ذلك ؟
ضحكت المضيفة وأوضحت :
-في عملنا نعتاد على معرفة جنسيات الناس من لهجاتهم أو من ملامحهم.
سددت لين ماعليه ثمناً للطعام في حين مشت المضيفتان صوب المصاعد . ولما خرجت من المطعم كانت الفتاتان بانتظار المصعد ، ترددت لين قليلاً قبل ان تقرر عدم الالحاح وذهبت الى مكتبة الفندق لشراء بعض المجلات المسلية .
في اليوم التالي تدبرت الأمر لتتواجد في المصعد مع مضيفة أخرى ، كما تبادلت التحية مع المضيفتين السابقتين مسرورة بسير الخطة كما رسمتها . في المساء جلست في البهو تتصفح مجلة حين شاهدت جميع افراد الطاقم بثياب السهرة الانيقة يهمون بالخروج معاً. واتيح لها ان تراقب بيرت اكثر بدون ان تنجح في اكتشاف ما بدا لها مختلفاً فيه .
وضع الرجل ذراعه حوا خصر احدى المضيفات وثغره مفتر عن اسنان لؤلؤية تساعدها النظرة الحنونة على سحر الفتاة كما حصل للين تماماً في ذلك العهد الخلي. أثار ذلك في نفسها حنيناً وشوقاً الى الحب الدافيء وحسدت المضيفة على ماتنعم به اذا كان ذلك حقيقة ، ولكنها مالبثت ان احست بالخوف يتسلل الى اعماقها ... خوف على الفتاة المسكينة من ان يكون بيرت اوقعها في الشرك ليستعملها اداة لاخفاء المخدرات كلما رأى الخطر يدنو منه . وزادها ذلك تصميماً على انهاء الخطة رحمة بهذه الفتاة وبغيرها .
عاد افراد الطاقم الى لندن في الصباح التالي فاستطاعت لين العودة الى نفسها لتقيم جردة حساب بما فعلت حتى الآن ، وتقرر الخطوات المناسبة للرحلة المقبلة على امل ان يتألف الطاقم من الاشخاص انفسهم وبخاصة الفتاتان التي استطاعت استرعاء انتباههما والتحدث اليهما . وبانتظار مجيء بيرت وصحبه ثبتت قدميها في وظيفتها كمدرسة ، وامضت اوقات فراغها في المدينة المزدحمة كخلية نحل ، وفي الحديقة القريبة من الفندق حيث اعتادت على الجلوس للتمتع بالهواء النقي والشمس الساطعة ، متعلمة من العصافير الفرحة ان الحرية كنز لا يقدر بثمن .
في الموعد المحدد جلست فتاتنا في البهو تراقب افراد الطاقم يدخلون الفندق ، وسرت لما رأت ان احداً لم يتغير وان طريقة تحدثهم مع

بعضهم تدل على انهم اعتادوا السفر معاً واصبحوا اصدقاء . يبقى انها تأمل ان يكونوا ودودين ويقبلوا صداقة فتاة جديدة من خارج الشلة . ولم يخب أمل لين ففي العشية نفسها التقت بالمضيفة التي تحدثت اليها في المطعم واتفقتا على تناول العشاء الى طاولة واحدة . بدا ان جولي كونورز ، وهو اسم المضيفة ، فتاة مرحة تحب الناس اذ سرعان ما انسجمت مع جليستها في حديث طويل متنوع المواضيع . سألتها لين :
-كم مضى كليك في هذه المهنة ؟
-سنة ونصف .
جواب اعجب لين لانها تفضل ان تكون الفتاة التي ستستعملها للوصول الى بيرت حديثة العهد في الشركة لم تسمع بما حصل للمضيفة لين ماكسويل .
لم تخبر لين ، التي قدمت نفسها تحت اسم نيتا لويس ، جوليا بالشيء الكثير عن حياتها . فاكتفت بالقول انها لم تكن تملك مالا كثيراً فاضطرت للسفر حتى تجد وظيفة لائقة تمكنها من بناء مستقبل ناجح ، وافهمت المضيفة انها انها تمارس مهنة التعليم منذ زمن طويل قبل مجيئها الى سنغافورة .
-اتعملين دوماً في هذا الخط يا جوليا ؟
-معظم الاحيان ، فافراد الطاقم لطفاء أحب العمل معهم والبلاد جميلة تستحق الزيارة .
وأخيراً طرقت لين بيت القصيد :
-افهم من كلامك ان الطيار ليس من النوع العابس ؟
-بيرت شخص رائع ، فهو جدي وقت الطيران ومرح كثيراً عندما نخرج سوياً.
-بالطبع هو مغرم باحدى المضيفات .
-انت مخطئة يا نيتا ، فمن مبادئ بيرت الا يقيم علاقة مع فتيات الشركة.
هزت جوليا كتفيها وأضافت :
-ليس سبب ذلك انه متزوج او مغرم بل يفضل معاشرة النساء البعيدات عن جو العمل ، وثقي انه لا يجد صعوبة في العثور عليهن .
نظرت لين الى المضيفة وعلقت :
-طياركم زير نساء إذن !
ضحكت جوليا ثائلة :
-لن تستغربي عند رؤيته ، فهو شاب في الثلاثة والثلاثين ، طويل القامة ، اسمر البشرة ، أزرق العنين . باختصار وسامته تجعله فارس احلام كل فتاة ، ولا اخالك الا واحدة منهن .
-لا ، لقد منحت نفسي فترة للراحة والتأمل بعيداً عن عالم الرجال ، ولم يثنيني عن عزمي بيرت هذا أو غيره .
تحول الحديث بعدئذ الى مناقشة مواضيع الازياء والسينما حتى بدأت جوليا بالتثاؤب من تعب الرحلة الطويلة .
-قررنا الذهاب غداً بالباص الى وسط المدينة للتسوق ، فما رأيك في مرافقتنا ؟
وافقت لين على الاقتراح بسرور :
-يسعدني ذلك .
اتفقت الفتاتان على اللقاء في الثانية من بعد ظهر اليوم التالي قبل ان تصعد كل منهما الى غرفتها . ارتاحت لين للتقدم الذي حققته خطتها حتى الآن على أمل ان تصل الى الغاية المشودة .
وافت لين المضيفات الأربع في الموعد المحدد وقدمتها جوليا الى رفيقاتها الثلاث كالمدرسة نيتا لويس . في السوق الكبير الزاخر بالحلات التجارية على انواعها امضت الفتيات ساعات ممتعة في التفرج على الواجهات بحثاً عما يناسب الذوق والجيب . بعد ذلك جلسن يحتسين الشاي الانكليزي الاصيل في فندق رافلز ذي الاجواء البريطانية .
حاولت لين خلال هذا الوقت التصرف بشكل طبيعي لئلا تقودها زلة لسان الى مأزق يهدم مابنته بدقة وصعوبة . وكان عليها بشكل خاص الا تفضح اي شيء يتعلق بماضيها ، وهذا الأمر من الصعوبة بمكان كونها مضيفة سابقة تجالس أربع مضيفات تستهلك مشاكل الطيران والمسافرين معظم احاديثهن . فكيف لها ان تدعي الجهل في هذا الميدان الذي غابت عنه طويلا لتجد نفسها غارقة فيه من جديد وكأن السنوات الثلاث لم تكن ... لحسن الحظ صدف ان للفتيات اهتمامات مشتركة الامر الذي اتاح للين تغيير موضوع الطيران لأن الخوض فيه بالنسبة اليها حقل الغام . وهكذا جاءت نزهة السوق هذه نجاحاً جديداً وخطوة اساسية على درب الوصول الى بيرت داين ، فأي مهلومات عن الاشخاص المحيطين به قد تكون مفيدة في هذا المجال . علمت مثلا ان اثنتين من المضيفات على علاقة مع طيارين من شركة أخرى ولا تخرجان مع سائر افراد الطاقم الا في مناسبات خاصة جداً . لذا صار بوسع لين اسقاطهما من حسابها لأنهما لن تفيداها بشيء . كما اطلعت

على المسار الكامل للرحلة ، فبعد ثلاثة أيام في سنغافورة يستقل الطاقم الطائرة الى جاكرتا عاصمة اندونيسيا ، ومنها الى بالي حيث يبيتون ليلتهم قبل ان يعودوا الى سنغافورة لاثنين وسبعين ساعة جديدة تسبق رحلة الاياب الى لندن .
انحشرت الفتيات في سيارة تاكسي عادت بهن الى الفندق . وفي البهو علا صخبهن وهن يتقاسمن العلب المشتنراة من السوق حين اقترب منهن رجلان . رفعت لين عينيها لترى نفسها وجهاً لوجه مع بيرت راين فتهربت من نظراته متحدثة الى جوليا .
تكلم الشاب الثاني الذي لم يكن سوى احد افراد الطاقم :
-بالله عليكن ! ماذا تفعلن بكل هذه الملابس ؟ لابد ان لديكن متاجر في انكلترا لتستوعب كل ماتشترونه هنا .
تولت جوليا الدفاع عن رفيقاتها :
-لاتقلق فنحن نعي مانفعل .
مشت جوليا نحو المصعد وتبعتها لين التي حاولت التركيز على الثياب المشتراة هرباً من بيرت لكن الفتاتين توقفتا حيءن قال بيرت لجوليا :
-يبدو انك وجدنت صديقة جديدة .
استدارت المضيفة وقالت معتذرة :
-نسيت ان اعرفكما بنيتا لويس . نيتا ، هذا طيارنا بيرت داين ومهندس الطيران جون ريز .
وجدت لين نفسها أمام عيني بيرت الفضوليتين ترمقانها بنظرات الاعجاب والتفحص ، فابتسمت له ولرفيقه الأكبر سناً بسرعة وقالت :
-تشرفت بمعرفتكما .
لمحت الفتاة من الفاجأة في عيني بيرت الذي مالبث ان تقدم منها مقترحاً:
-اسمحي لي بمساعدتك في حمل كل هذه الاغراض .
رفضت الفتاة عرضه بتهذيب :
-شكراً ، استطيع تدبر الامر وحدي .
ومن جديد مرت الدهشة في عيني الرجل الذي سأل :
-أظن لاني رأيتك قبل الآن . في أي شركة طيران تعملين ؟
-أنا لست مضيفة يا سيد داين بل أقطن هنا في سنغافورة .
وصل المصعد فدخله الجميع وقالت جوليا :
-ماهي مشاريعك المسائية يا نيتا ؟ نحن سنسهر في النادي الليلي التابع للفندق ونرحب بوجودك معنا .
وافقت لين بعد تردد مزعوم :
-لايسعني الا الموافقة على اقتراحك .
بلغ المصعد الطبقة السابعة فتوجه بيرت وجون الى غرفتيهما بعد كلمات الوداع التقليدية بعد ان اكد بيرت :
-سوف نراك في المساء اذن يا آنسة لويس .
وما ان اغق الباب حتى انفجرت المضيفات الاربع ضاحكات .
وقالت جوليا :
-لم يستطع بيرت إخفاء اعجابه هذه المرة، لقد استطعت ببرودك اثارة اهتمامه يا نيتا .
اعترضت لين متظاهرة بأن كرامتها مست :
-من أين تأتين بهذه الافكار ؟
-كنت واثقة من ان بيرت سيحاول شيئاً ما عندما يشاهدك ويتعرف اليك.
-جوليا ! سبق وبلغتك اني اقفلت قلبي حتى اشعار آخر.
على هذا علقت احدى الفتيات :
-كلامك نظري بحت لأنني لا اتصور امرأة في العالم تقوى على صد بيرت اذا عقد العزم على غزو قلبها .
تولت جوليا التعقيب على قول زميلتها :
-فلنأمل ان تستطيع نيتا تحطيم غرور طيارنا وخرق جدار تعجرفه .
وفيما همت لين بالخروج من المصعد لتتوجه الى غرفتها سمعت احداهن تقول :
-لا أظن ان املك هذا يا جوليا قابل للتحقيق .
صرفت لين وقتاً طويلا في انتقاء الملابس المناسبة للسهرة مع بيرت وصحبه ، كما استعملت احسن ادوات الزينة للتبرج ، وهو فن تعلمت اصوله على يد ناديا كليرمونت . وأخيراً وقفت تنظر الى نفسها في المرآة حيث انعكست صورة ثوبها الأخضر الناعم ذي القبة المفتوحة العريضة حتى الصدر . اعجبت لين بمظهرها الرفيع الذي زاده ارستقراطية الشعر المرفوع عن الجبين الناصع .
لم تنزل لين الا بعد نصف ساعة من الموعد المضروب وذلك لأن التأخر دليل أهمية ولجعل بيرت يتحرق للقائها . دخلت النادي الليلي وشعرها الذهبي يلمع كهالة سحرية تحت الاضواء المتلألئة المتراقصة على الجدران وعلى أرض باحة الرقص . أومأت لها جوليا بيدها فاتجهت نحو الطاولة حيث جلس معظم افراد طاقم الطائرة . وما ان


بلغتهم حتى نهض الرجال الخمسة لتحيتها واشار بيرت الى كرسي لتجلس الى جانبه . بعد تعريف لين الى مياعد الطيار والمضيفين الآخرين قال بيرت :
-ارجو ان تستمتعي بوقتك معنا .
بعد ذلك غرقت لين في حديث طويل مع الفتاة الجالسة الى جانبها حتى كادت تنسى بيرت لا بل ادارت له ظهرها . وانتظر الرجل الفرصة المناسبة لاسترعاء انتباهها وبدء محادثة معها .
-قيل لي انك تعلمين مدرسة هنا .
-هذا صحيح يا سيد داين فأنا ادرس الفرنسية .
-كم مضى عليك في هذه البلاد ؟
-بضعة اسابيع فقط .
كلما تكلمت لين كانت تلاحظ ان امراً يحير بيرت وكأنه يعرف هذا الصوت . في هذا الوقت بدأت الفرقة بعزف موسيقى ناعمة فوضع الرجل يده على يدها مقترحاً:
-اتسمحين لي بهذه الرقصة ؟
احست لين بالحقد يملأ قلبها عندما لامسها بيرت واستطاعت الرفض بهدوء :
-لنرجئ ذلك الآن .
وانشغلت بالتحدث الى جوليا تاركة الرجل خائباً . وشيئاً فشيئاً بدأ الجالسون ينهضون الى الحلبة فخشيت لين ان ينهض الجميع وتبقى وحيدة مع غريمها ، غير ان هذا لم يحصل لحس الحظ.
لبت لين دعوة للرقص مع احد المضيفين ، وكان وسيماً لطيفاً لكنها رفضت بحزم دعوة للخروج معه مساء اليوم التالي . وعندما انتهت الرقصة وعادا الى المائدة قال المضيف لبيرت :
-ها أنا اعيدها اليك يا كابتن .
علت الحمرة وجنتي لين وشعرت بارتباك لم يخرجها منه سوى تدخل جوليا المتفهمة وفتحها موضوع حديث جديداً.
راقصت لين الرجال الاربعة باستثناء بيرت الذي كرر الدعوة فلم تستطع رفضها تهذيباً بخاصة وان الامر سهل نسبياً كون الرقصة سريعة الايقاع لا تضطرها الى الالتصاق به . انتهت الموسيقى فتنفست لين الصعداء . واستعدت للعودة الى مكانها لكن بيرت شدها اليه لرقصة بطيئة ناعمة هذه المرة . تجمدت الفتاة بين ذراعيه فتولى قيادة الرقص واضعاً يداً في يدها والاخرى حول خصرها، فأحست انها ستصاب بالاغماء وهي تدفع الذكريات في مخيلتها ، وراحت ترتجف وترتعش حتى انها لم تسمع ما قاله بيرت فاستوضحت :
-آسفة يا سيد داين . لم اسمع ما قلت .
علق الرجل ساخراً :
-لماذا تتصرفين معي بشيء من التحفظ يا آنسة لويس ؟
-رأيت انه من التهذيب واللياقة عدم مناداتك باسمك منذ اللقاء الاول .
ازاء عبوسه اضافت :
-يبدو انك لا توافق على رأيي .
تردد بيرت طويلا ثم قال :
-هناك شيء يثير الحيرة في نفسي فانا واثق من اني سمعت صوتك قبل الآن

4-هل فشلت الخطة ؟



تجمد الدم في عروق لين فهي حسبت حساب كل شيء الا صوتها ، طلبت من ربها ان يساعدها ولا يدع بيرت يتعرف اليها من خلاله . ما العمل الآن اذ لاسبيل الى تبديل الصوت ؟ وبيأس حاولت ان تسأل بنبرة طبيعية :
-أليست هذه طريقة لتقول انك رأيتني قبل الآن ؟ لكنك طرحت علي هذا السؤال واجبتك بالنفي .
رمقها الرجل بنظرة قاسية وقال :
-لا أعلم لماذا تعاملينني بهذه الطريقة !
بنبرة خافتة اوضحت الفتاة :
-سمعتك هي السبب يا كابتن داين ، فانا اخشى الاقتراب من الذئاب .
-اتخافين على نفسك من الالتهام ؟
-ما رأيك بالعودة الى بقية الجالسين ؟
عاد الاثنان الى الطاولة ونظرات الجميع منصبة عليهما بفضول .
ازاء ذلك بذلت لين المستطاع لتخفي مشاعرها وتتابع السهرة بهدوء اما بيرت فجلس يشعل السيكارة تلو الأخرى .
لم تنته السهرة الا حوالي الواحدة فجراً ، وعادت لين الى غرفتها منهوكة القوى فارتمت على سريرها وغفت قبل ان يتاح لها خلع كل ملابسها .
لم تفق الفتاة باكراً في الصباح التالي لأنه يوم عطلة ، ولولا رنين الهاتف لاستمرت مستلقية في فراشها حتى الظهر . هبت من سريرها مذعورة لتذكرها أيام السجن حيث كان الجرس جزءاً اساسياً من الحياة اليومية . التقطت السماعة وقالت :
-نعم .
على الخط الآخر كان صوت بيرت :
-انا الذئب الكاسر .
-آه ، هذا انت .
-ما رأيك بتمضية يوم كامل معي على متن زورق شراعي صغير ؟
أجابت الفتاة باختصار :
-رأيي مخالف لرأيك .
تابع بيرت باصرار :
-فلننضم اذن الى بقية افراد الطاقم لممارسة كرة المضرب والسباحة في النادي الرياضي .
فكرت لين في الأمر وسألت :
-هل سيكون الجميع هناك ؟
-نعم .
-سأفكر في الامر .
قال بيرت ضاحكاً :
-يالك من فتاة ماكرة ! رقم غرفة جوليا 1229 ، لتصلي بها واسأليها . سأكون في البهو بعد حوالي الساعة .
اتصلت لين بجوليا التي قالت بمرح :
-لقد تلقينا امراً من بيرت بوجوب بعب كرة المضرب اليوم . ماذا فعلت به يا نيتا فهو لا يتصرف هكذا عادة ويقترح برامج للتسلية ؟ لابد انه فهم تحديك وماض في اللعبة .
-لكني لم اظهر تجاهه اي تحدٍ.
-الا تعتبرين رفضك مراقصته تحدياً ؟ وكذلك عودتك من الحلبة في منتصف الرقصة . بيرت داين لم يلقَ هكذا معاملة من اي فتاة غيرك ، لذا ستكون المواجهة بينكما عنيفة .
لحظت لين نبرة هازئة في كلام جوليا وكأن هذه الأخيرة خبرت طباع بيرت عن كثب في مغامرة عاطفية فاشلة ، لذلك اكدت لها مرة جديدة :
-صدقيني اني مصممة على عدم التورط مع بيرت أو مع غيره .
-ألن تأتي معنا الى النادي اذن؟
-سآتي لأني لا استسيغ الوحدة في هذا المكان .
كانوا ثمانية توجهوا بسيارتي اجرة الى النادي ، وحرصت لين على الا تصعد في السيارة نفسها مع بيرت . لما وصلوا وجدت لين ان كرم الرجل لم يقتصر على استئجار ملعب كرة المضرب بل جاوزه الى حد استئجار غرفة لابدال الملابس والاستحمام .
وخلال اللعب استعملت لين المهارات التي اكتسبتها ايام المدرسة وان يكن ذلك لم يمنع خسارتها في مبارة الزوجي المختلط التي لعبتها مع أحد المضيفين ضد جوليا وجون ريز . بعد ذلك جلست في ظل احدى شجرات النخيل تشاهد بيرت يلعب بمهارة وقوة وكأنه لم يفقد شيئاً من لياقته في السنوات الثلاث المنصرمة . وكيف يفقدها وهو يتمرن باستمرار ويعيش حيلة مريحة حلوة ؟ اما الري الجديد في حياته فسمعته


كزير نساء يتنقل من واحدة الى اخرى ، وهي لم تعهده كذلك من قبل بل على العكس كان معروفاً بصرامته وجديته .
أنهى بيرت مباراته فالتقط منشفة يمسح بها عرقه وتوجه الى بقية الجالسين وامام عيني لين شرب ماءاً بارداً وحبيبات العرق تلمع على جبينه وذراعيه القويتين وصدره العريض . لمح الشاب الفتاة تنظر اليه فابتسم بدهاء وكأنه يعلم مافي نفسها . اجفلت لين من نظرته وادركت فجأة ان ماوجدته مختلفاً فيه هو هذه النظرة النتهكمية . صفة لم يكن يملكها من قبل أو لم ترها لين لأن الحب اعمى بصيرتها ، أما الآن فالكره صار يريها اشياء جديدة ويفتح عينيها على نواقص خفية .
تمدد بيرت على العشب بجانبها وسأل :
-اترغبين بلعب مباراة اخرى ؟
أومأت الفتاة بالنفي :
-مباراة واحدة تكفي في هذا الحر لقاتل .
-اذ كنت تبحثين عن الطراوة فنزهة معي في حدائق النادي هي الجواب.
-لا شكراً ، انا مرتاحة هنا .
بثقة وعزم اكد بيرت :
-يوماً ما ستتحول "لاؤك" الى نعم .
-أشك في ذلك .
لم يعلق بيرت على ذلك قولا بل فعلا ، فامسك بيدها واخذ يداعب اناملها الطرية ، وحين حاولت الافلات من قبضته رفع يدها الى فمه وقبلها بنعومة ثم قال :
-لا تحاولي تجاهلي يا نيتا ، فكلانا يعلم ان الاعجاب بيننا متبادل .
رمقته بنظرة حائرة فلم يستطع تمالك نفسه من الضحك متمتعاً بسيطرته عليها وامساكه بزمام التلاعب بمشاعرها .
ارتدى الجميع ملابس السباحة للانتعاش بمياه الحوض . وكانت لين الوحيدة بين الفتيات التي ارتدت لباس بحر محتشماً جداً ، كما كانت الوحيدة التي رفضت السباحة خوفاً من وقوع العدستين اللاصقتين من عينيها . فتمددت قرب الحوض تحت الشمس اللاهبة تزيد بشرتها سمرة ذهبية .
وماهي الا دقائق حتى خرج بيرت من الماء تسقط عليها حتى نظرت اليه وعلامات الانزعاج التي تعلو وجهها جعلته يضحك .
-لماذا لا تسبحين قليلا بدل النوم على حافة الحوض يا حلوتي ؟
لم تجد الفتاة جواباً سوى تلفيق اكذوبة :
-لأنني لا أجيد السباحة .
-سأهععلمك أصولها في دقائق .
رفعت لين حاجبيها علامة الرفض .
-الا تثقين بي البتة ؟
-أحسنت .
-انت مخطئة بحقي يا نيتا ، فمعي ستشعرين بالامان والاطمئنان .
علمت لين من نعومة نبرته انه لا يعني السباحة بل شيئاً مغايراً تماماً. وبعد ثوان قالت وكأنها لم تفهم قصده :
-لا أود ازعاجك بتعليمي السباحة .
-لا ازعاج مطلقاً فأنا واثق من انك تلميذة ذكية ومتجاوبة .
-دروسك لن تنفع مادمت ستقطعها بسبب رحلاتك .
ليس بيرت من النوع الذي يستسلم بسهولة فهو يجد لكل حجة رداً:
-اذا كنت لا تقدرين على انتظاري فباستطاعتك تكرار ما القنك اياه خلال وجودي هنا ، وهكذا تجدين مايشغلك اثناء غيابي .
-قلت لك اني لا اجيد السباحة ولا ابغي تعلمها .
إثر ذلك دارت وجهها الى ناحية اخرى فتركها الرجل وعاد الى المياه .
لم يسمع بيرت غير كلمة "لا" من لين جواباً على دعواته المختلفة فهي رفضت دعوة العشاء في المساء نفسه ، ودعوة الى نزهة صباحية في حدائق مدينة بازير بانجانغ ، كما ردت بشكل قاطع اقتراحاً بالسفر الى جزيرة بالي لتمضية يومين مع افراد الطاقم والعودة الى سنغافورة .
رافقت لين جوليا والباقين الى المطار وهي تتساءل متى سيتاح لها وضع الهيروين في حقيبة بيرت . وهذا الامر لن يحصل بسرعة بالطبع ، فهي خطوة خطيرة تحتاج الى الكثير من الدقة والعناية .
وماذهابها الى المطار سوى جزء من التحضير للضربة الكبرى .
تمنت لين للجميع سفرة ممتعة تحت انظار بيرت الغاضبة والتي لا صعوبة في ادراك مغزاها كونه لم يتوصل معها الى شيء مرض حتى الآن . وكان توجهها الى المطار فرصة للتعرف على المضيف الأول طوني ترانت الذي لم تره من قبل لارتباطاته الكثيرة ، وألفته شاباً وسيماً مرحاً لا يكف عن ممازحة زملائه واضفاء البهجة على جو العمل .
عادت لين الى الفندق حيث استلمت باقة كبيرة من الازهار علمت من ارسلها دونما حاجة لقراءة البطاقة . فهي محاولة جديدة من بيرت لكسب ودها ، ولين لا تمانع في ذلك لأن التقرب منه هدف مجيئها الى هذه البلاد ، لكنها لم تقرر بعد متى توهمه بأنها وقعت في هيامه . فهذا الامر


يتطلب اخراجاً ناجحاً حتى يصل بيرت معها الى نقطة اللاعودة . ثم تسهل معرفة نشاطاته ، فإذا كان يمارس التهريب ابلغت عنه ، واذغ انقطع عن ذلك دست له مايكفي لجعله يمضي " اجازة " طويلة في السجن .
والخطة التي رسمتها في لندن تقضي بمماشاة طباع بيرت أي التروي في بناء العلاقات العاطفية وعدم الانسياق وراء الغرائز ، وهو مبدأ لطالما شدد عليه عندما كانت الاحوال بينهما على خير مايرام ، غير انه صار الآن مختلفاً فهو يصر ويلح ويستعجل الامور ليحقق مبتغاه ، لذا اصبحت لين خائفة من انها ستخسره وتجعله ينفر منها اذا استمرت في صده ورفض اغراءاته . ومن جهة اخرى فهي ليست على استعداد للاستجابة لمطالبه ، فاذا قبلت بمجرد الخروج معه سيجر ذلك التنازل تلو الاخر حتى ينتهي بها الأمر في احضانه ، وهي معاناة أين منها عذابها في السجن . فلين لا تتصور نفسها مستسلمة لهذا الرجل الذي تكن له حقداً لا يوصف ، وآثاراصابعه لما لامست يدها وبصمات شفتيه لما حرقت اناملها ماتزال تثير في نفسها السخط حتى الآن ، فكيف تمنحه كل شيء ؟ لا! هذا التصور رابع المستحيلات ... فالافضل الآن ابقاء الامور على ماهي وانتظار خطوات بيرت . وما ارسال الزهور بعد الخيبة سوى دليل قوي على انه لم يستسلم بعد وينوي الاستمرار في ملاحقتها ، وهي مستعدة لذلك معتمدة على حدسها مرشداً يدلها على الطريق الواجب سلوكه .
تلقت لين زهوراً جديدة في اليوم التالي وكأن بيرت يريد اشعارها بأنه ليس غائباً ورعايته لها مستمرة . وفي المساء اتصل بها هاتفياً فور وصوله الى مطار سنغافورة عائداً من بالي ، ورفضت لين دعوة لتناول العشاء في احد المطاعم الفخمة لارتباطها بموعد آخر .
وهي بالفعل مدعوة الى حفل صغير في منزل احد منزل احد زملائها المدرسين ، غير انها لم تقل ذلك لبيرت حتى يظنها خارجة مع احد الشبان المعجبين .
لا شك في ان بيرت رجل عنيد جداً ، فلما عادت لين من سهرتها ووجدته ينتظرها في بهو الفندق .
-مساء الخير يا نيتا . هلمي نشرب شيئاً قبل النوم .
ازاء ترددها اضاف متهكماً :
-لا تخافي فهناك الكثيرون في المطعم ولن استطيع افتراسك بوجودهم .
-حسناً.
وضع بيرت يده في يدها وتوجها الى طاولة شاغرة حيث طلب كوبين من عصير البرتقال بعد ان اشعل سيكارته التي لا تفارقه .
-هل كانت سهرتك ممتعة ؟
اجابت لين بكل لياقة :
-نعم ، شكراً.
بدا الانزعاج واضحاً على بيرت من هذا الجدار الجليدي الذي تحيط لين به نفسها . فهو لم يتمكن حتى الآن من اختراقه والنفاذ الى قلبها . ومع ذلك ظل يحادثها مستعملاً كل قدرته الترغيبية لجذبها وضمها الى قافلة انجازاته . جلست لين حيال ذلك كمتفرج يشاهد مسرحية لا تعنيه الا عند الحاجة . فتضخك عند اللزوم وتبتسم حيث تدعو الحاجة ... اقترح بيرت الخروج للتنزه في الحدائق بعد ان افرغا كوبيهما ، وقرات لين بريق النصر يلوح في ناظريه عندما وافقت على الفكرة .
وقف الشاب والفتاة في باحة واسعة على طرف الحديقة ونظرا الى الاضواء المتلألئة في المرفأ حيث ارتفعت صواري السفن الضخمة وحيث مضت انوار عربات التلفريك المتنقلة في الهواء بين جبل فابر وجزيرة سنتوزا .
-هل جربت الصعود في التلفريك ؟
أجابت لين :
-لا ولكنني انوي ذلك قريلاً برفقة جوليا والفتيات .
-ولماذا لا تذهبين معي ؟
طوق خصرها بذراعه فالتفتت اليه لتواجهه ثم اضاف وعيناه تشعان رغبة وحرارة :
-انت جميلة يا نيتا ، انت رائعة الجمال . لكن تصرفك الغامض يثير جنوني . لا تفعلي ذلك بعد الآن ، لا تحاولي اغاظتي . وأنا واثق من أننا سنمضي اوقاتاً ممتعة معاً.
ارتعدت من الذكرى التي حركت الجرح العميق في نفسها . بيد ان بيرت فهم الارتجاف على طريقته فمضى في اللعبة ولم يتوقف الا عندما لاحظ عدم تجاوبها وكأنه يضم بين يديه تمثالاا من الشمع .
رفعت الفتاة رأسها وقالت بصوت جليدي :
-انت مخطئ يا بيرت . أنا لا احاول اغاظتك لمجرد اللعب والتسلية . لقد رفضتك ولا رجوع عن رفضي ، فانا لن ادخل حياتك ابداً! اتظن ان بزتك الانيقة ووسامتك تكفيان لجعلي استسلم لاغوائك ؟ لا يا عزيزي لن


تنجح في ضمي الى قائمة ضحاياك فأنا املك من الصلابة مايقاوم الاعصار !
تحررت من عناقه وقفلت عائدة الى الفندق تاركة اياه يحدق فيها مشدوهاً لايدري مايقول أو يفعل .
امضت لين الصباح في غرفتها ولم تخرج الا بعد الظهر الى السوق برفقة جوليا . وهناك سألتها المضيفة :
-ماذا حصل بينك وبين بيرت في الأمس ؟ فهو بدا في مزاج معكر اليوم ولم يوفر احداً من سخطه متهماً ايانا بطعنه في الظهر وتشويه سمعته امام الناس .
-كل ما حصل اني افهمته موقفي وعدم اكتراثي له .
لم ترض جوليا بهذا التفسير المقتضب فاضطرت لين الى اعطائها كل التفاصيل .
-آسفة اني كنت سبب الشجاربينكم وبينه يا جوليا .
-لا حاجة للأسف فأنا اتمتع كثيراً بما يجري واتحرق الآن لمعرفة ماسيفعله بيرت بعد الصدمة التي اصابته للمرة الاولى في حياته .
شاطرتها لين هذا الشعور بدون ان تفصح عنه لكنها لم ترَ لبيرت وجهاً في ذلك المساء ولا في اليوم الذي تلا فخشيت ان يكون قد افلت من يديها لأنها تمادت في صده ، وفي اليوم الثالث والأخير قبل العودة الى لندن التقى الجميع مرة جديدة في النادي للعب كرة المضرب ، اكتفى بيرت بتحيتها دون ان يحاول التحدث اليها في حين تصرف الآخرون بشكل طبيعي . غير ان الجو كان محوناً والتوتر يسود تصرفات الجميع .
اتى وقت السباحة فجلست لين كالعادة على حافة الحوض الى ان غلبها الحر فدخلت الغرفة للاستحمام بمياه باردة ترطب بها جسمها .
وما ان انتهت من ذلك وهي لم ترتدِ بعد ثيابها ، حتى سمعت باب الغرفة يفتح فسترت نفسها بمنشفة تحسباً متوقعة دخول جوليا .
التفتت لتجد بيرت واقفاً في وسط الغرفة ونقاط الماء تسقط من جسمه العريض المفتول العضلات . وعلى الفور صاحت لين وهي تشد المنشفة اكثر :
-الم تتعلم طرق الابواب قبل دخولها ؟
-اعتذر جئت لآخذ منشفة جوليا .
صفق الباب وراءه مجيلا نظره في الغرفة وسأل :
-اين منشفتها ؟
-تلك الزرقاء الموضوعة على الطاولة ، خذها واخرج من هنا!
-لن اخرج قبل ان انهي ماجئت من اجله .
اقترب منها والغضب يتطاير من عينيه شرراً فادارت لين ظهرها وقلبها يقرع كالطبل من هول اللحظات الآتية .
-نيتا .
شعرت لين بلهاثه يلفح شعرها وحرارة جسمه تقترب منها الى ان وضع يديه على كتفيها فصاحت :
-لا!
وكانت صيحة في وادٍ اذ اكمل بيرت قائلاً:
-حبيبتي نيتا! لو تعلمين مقدار رغبتي وشغفي بك!
تابعت الفتاة المقاومة عبثاً فهمس بصوت متهدج :
-لا تزعمي المقاومة فانت تبادلينني الشعور عينه .
-دعني وشأني !
قال لين ذلك برعب وحقد ظاهرين توجتهما بصفعة قوية على خده آلمت يدها . تراجع بيرت قليلا فافلتت منه وصاحت بصوت يقرب من الهستيريا :
-أغرب عن وجهي ايها الوقح !
كلمات اثارت في الرجل الجروح سخطاً ممزوجاً بالذهول ، ولما حاول الكلام سبقته لين :
-الرجال كلهم سواسية لا يفكرون الا في نيل مآربهم الحقيرة !
-فهمت عقدتك الآن يا آنسة ! لا شك انك خضت مغامرة عاطفية فاشلة وتخافين من اعادة الكرة . لكنني على اقتناع ان النساء يشاطرن في ايامنا الرجال في البحث عن المآرب التي تلمحين اليها ...
قاطعته الفتاة بحدة :
-تكهناتك خاطئة فأنا لم اخض اي مغامرة فاشلة !
علق بيرت على ذلك بسخرية من الازدراء :
-حسناً ، فلنسمها علاقة حب عميقة .
-لا تختلق اوهاماً تغطي بها فشلك معي !
دفع الغضب بيرت الى القول :
-لماذا قلت لجوليا انك لن ترتبطي بأي رجل الآن ؟ التفسير المنطقي الوحيد لذلك هو مرورك بتجربة مخيبة .
حدقت لين فيه وفكرها يعمل على ايجاد رد فعل مقنع ، فاعطته جواباً فيه جزء من الحقيقة :

-موقفي نابع من عقلية الرجال الذين يسعون الى الايقاع بالانثى المسكينة لجرها الى اقرب سرير ثم رميها في سلة المهملات . امثالك لا يهتمون بالمبادئ والمثل العليا ، ولا يؤمنون بالحب السامي الذي يعرف انتظار لحظة التتويج .
توقفت عن الكلام متنهدة ثم اضافت بمرارة :
-لا فائدة من كل ذلك ، ارجوك اخرج من هنا .
-ماذا تعنين بكلامك هذا ؟
-لا شيء ! اخرج من الغرفة لأستطيع ارتداء ملابسي .
دنا بيرت منها ووضع يده على ذقنها ليرغمها على مواجهته .
-فهمت من كلامك انك ... انك مازلت عذراء!
لم تقوَ لين على الاجابة بل صرخت بصوت متهدج والدموع تترقرق في عينيها .
-اخرج من هنا !
تركها بيرت قبل ان يلتقط منشفة جوليا ويخرج مغلقاً الباب وراءه بصفقة كادت تحطمه .
اسندت لين ظهرها الى الجدار البارد مغمضة عينيها وافكارها في حالة بلبة تامة . هل هدمت بصفعة كل ماشيدته حتى الآن ؟ هل ذهب تعبها ادراج الرياح ؟ لكنها لم تستطع تحمل رؤيته يلامسها ، لم تقوَ على ترك يديه تعبثان بها وتغتالان براءتها ... كان لابد من ايقافه عند حد وان يكن الثمن فشل خطة الثأر .
ارتدت ثيابها وصففت شعرها ثم خرجت من الغرفة بعد تردد طويل خوفاً من مواجهة الآخرين الذين قد يكونون سمعوا ما دار في الداخل ، واذا لم يسمعوا سيحسبون ان الأمور سارت حسنة بينهما وان الرجل وصل اخيراً الى غايته .
شعرت الفتاة وهي في طريقها الى كرسيها قرب الحوض انها تمشي بين جدران السجن الحزينة لترمى وراء القضبان من جديد . ويالشدة فرحها عندما رأت ان بيرت والرجال الآخرين ليسوا هناك بل توجهوا الى المقهى لتناول المرطبات . جلست مع الفتيات وسرعان ما سألتها جوليا ؟
-لماذا تشاجرتما ؟
-أكان صياحنا مسموعاً؟
-صراخك ملأ النادي كله .
-لا شك انك ارسلته ليحضر منشفتك عمداً يا جوليا .
-هذا صحيح اردت تحريك اللعبة الجامدة لأننا راحلون غداً.
-وقد نجحت تماماً في ذلك .
سألت احدى الفتيات :
-ماذا حصل بالضبط ؟
-لا ضرورة للولوج في التفاصيل اذ يكفي القول ان احداً لن يرى بيرت بعد اليوم يجرؤ على التحدث الي .
وبالفعل لما عاد الرجال كان بيرت متجهماً بالكاد يرد على سؤال ، واستعجل الجميع للعودة الى الفندق حيث اختفى في غرفته ولم يشارك في السهرة التي دعا اليها جون ريز صحبه في النادي الليلي .
ظل بيرت على هذا المزاج عندما ودعت لين اصدقاءها العائدين الى لندن ظهر اليوم التالي ، واثرت عدم التوجه معهم الى المطار تفادياً للاحراج .
وصل الباص فقالت جوليا :
-نراك بخير بعد عشرةة ايام يا نيتا .
بادلها الجميع تحيات الوداع باستثناء بيرت الذي اكتفى برمقها بنظرة غامضة من نافذة الباص الذي مالبث ان غاب عن انظارها في طريقه الى المطار .

5- لعبة الاستدراج



عاشت لين عشرة أيام مع قلق الانتظار .
ذبلت الزهور مع حرارة سنغافورة ، ولم ينل بيرت الاشارة التي يريد ليرسل غيرها . ومع ذبول الازهار خافت لين على ذبول جهودها وضياع آمالها سدى .
في اليوم العاشر لم تستطع الفتاة التواجد في الفندق اذ كان عليها الحلوال محل احدى المدرسات الغائبات لكل فترة بعد الظهر . وعندما عادت الى الفندق في المساء فكرت بالاتصال بغرفة جوليا ، لكنها فضلت تأجيل ذلك فاستحمت وارتدت ثيابها استعداداً للنزول . وما ان همت بالخروج حتى سمعت طرقاً ، ففتحت الباب لتجد بيرت واقفاً ببزة العمل السوداء ، فحاولت اقفاله لكنه منعها ودخل عنوة قائلاً:
-أود التحدث اليك .
حدقت الفتاة فيه والخوف يملأ قلبها من قساوة ملامحه كأنه اكتشف الحقيقة وجاء ليصفي حساباته . حاولت الكلام عبثاً فاكتفت بالنظر اليه وهو يمشي في الغرفة صامتاً تخونه العبارات ، فالاثنان في موقف حرج وان يكن لكل منهما أسبابه .
التفت ناحيتها وطرق بنظراته كل ذرة من جسمها فارتبكت من هذا الامتحان وسألت بصوت تخنقه البحة :
-ماذا تريد؟
-ستشاركينني العشاء الليلة .
على الفور غمرها شعور بالارتياح فادارت وجهها لئلا يلاحظ ذلك ، وبالفعل اعتقد بيرت رد فعلها دليل غضب فقال :
-لا وجوب للخوف لأني لن أحاول معك شيئاً بعد الآن .
مارست لين الكثير من ضبط الاعصاب لتستطيع مواجهته بوجه هادئ :
-لم افهم قصدك يا سيد داين .
-اعدك بالتصرف تصرفاً لائقاً.
اعملت الفتاة ذكاءها لتفهم موقفه الجديد وتعمل على تحويله لصالح خطتها فسألت :
-ما سر هذا الانقلاب ؟
بدت علامات نفاد الصبر على بيرت فأجاب :
-لا ضرورة لمناقشة ذلك الآن . كل مافي الامر ان فترة غيابي عنك كانت قاسية وادركت انني ارغب برؤيتك . وها أنا الآن امامك ومستعد لتنفيذ شروطك .
-لا أذكر اني وضعت شروطاً معينة .
-لم تضعيها صراحة ، لكني فهمتها من خلال تصرفاتك ومواقفك .
اطرقت لين التفكير بالأمر ثم توجهت الى المرآة والتقطت فرشاة الشعر محاولة اظهار عدم الاكتراث ، لكنها مالبثت ان توجهت اليه سائلة :
-كيف يمكنني ان اثق بك ؟
-لقد وعدتك ووعد الحر دين .
وأضاف لما رأى انها غير مقتنعة تماماً:
-اذا لم تكفك الكلمة يبقى عليك اختباري لتلمسي مدى مصداقيتي.
اهانته لين بصمتها فالصمت ىيكون احياناً جارحاً اكثر من الكلمة ، وأخيراً عبرت الفتاة عن التأرجح الذي تتخبط به فقالت :
-دعني أفكر بالأمر جيداً .
اقترب منها وامسك بكتفيها قائلا :
-لن اسمح بالتردد مطلقاً . عليك ان تأخذي موقفاً واضحاً في هذه اللحظة . هل تريدين الخروج معي الليلة أم لا ؟
علمت لين ان الاجابة على هذا السؤال تتعدى اطار جلسة عشاء ، ففي الامر قبول ببيرت أو رفضه . وهي لا تملك سوى خيار وحيد فان خيبته خسرته الى الابد وان قبلت دعوته علقت في شباكه وعلقته في شباك مخططها .
رفعت عينيها الة وجهه الجامد وأجابت بنبرة مرتجفة :
-حسناً ، سألبي دعوتك .
حرر كتفيها راضياً مسروراً بخضوعها ولو لمرة ، عالماً انها الخطوة الاولى على طريق غزو قلبها الحصين المقفل .
-سأمر لاصطحابك في السابعة اذن . ارتدي ثياباً أنيقة لأني تواق الى الجمال يا آنستي الحلوة .
تركها بيرت في حيرة من امرها فهي لم تتوقع منه كل هذا العناد ، ولم تكن تعلم ان مواجهته صعبة وقاسية . لقد قطعت شوطاً كبيراً في خطتها ولم يعد بوسعها التراجع . لم تتراجع الآن ؟ ألم يسر كل شيء حسب مرادها ؟ بلى ، ولكنها خائفة من المجهول لأنها على عتلبة مرحلة خطيرة عسى الله يوفقها في اجتيازها بسلام .


انتقت ثوباً لسود طويلا ، واعادت تصفيف شعرها وتزيين وجهها بما يناسب السهرة . انتظرت مجيئه بعصبية كمراهقة تخرج مع شاب للمرة الاولى . في السابعة الا عشر دقائق رن جرس الهاتف وكانت جوليا .
-كيف حالك يا نيتا ؟
-بشوق اليك يا عزيزتي .
-ما رأيك بتمضية السهرة معنا في النادي الليلي ؟
-كنت أود ذلك غير اني مرتبطة بموعد سايق .
-سنسهر في العد اذن .
-لا استطيع الجزم منذ الآن ، سنتفق على الامر غداً.
-يبدو انك خارجة مع شخص مهم الليلة يا نيتا .
-أصبت .
انهت لين المحادثة حضر بيرت ولم تفتح لين الباب الا بعد جعله ينتظر دقيقتين لتظهر قلة اهتمامها بالموضوع . اطل الرجل بقامته المديدة مرتدياً بزة سوداء وقميصاً ابيض يتناقض لونه مع بشرته الشديدة السمرة . لم يلق بيرت عبارات التحية التقليدية بل اكتفى بالنظر اليها قائلا :
-تبدين جميلة جداً الليلة .
وبنبرة من يؤدي واجباً قالت لين :
-شكراً.
-هل أنت جاهزة ؟
-نعم .
في المصعد وضع يده في يدها ولما خرجا منه الى بهو الفندق استرعيا انتباه عيون كثيرة ، فهما ثنائي رائع وان من حيث تلاؤم الشكل فحسب ، لان الطباع مختلفة تمام الاختلاف . نظرت لين في احدى المرايا الكبيرة المعلقة على الجدران فاعجبت فعلا بشراكتها مع بيرت الذي اعطته الطبيعة وسامة لم تنلها هي الا بتدخل يد الانسان .
فاجأها بيرت باصطحابها الى حفلة موسيقية كبيرة قدمتها فرقة سنغافورة السمفونية التي عزفت مقطوعات بديعة لأشهر الموسيقيين كبيتهوفن وباخ وشوبان .لكن لين المعجبة بالموسيقى الكلاسيكية ل تتمتع بالاداء كثيراً لان فكرها كان شارداً في امور اخرى بعيدة كل البعد عن طهارة الفن وعذوبة الالحان . وبيرت بدوره بدا متشنجاً وصاباً اهتمامه على لين اكثر منه على العازفين .
بعد الحفلة الموسيقية توجها الى مطعم في شارع البرت وهو معروف بتقديم الطعام الجيد والشهي . وهنا ايضاً لم تستطع الفتاة الانسجام وبالكاد مست الطعام الكثير والمتنوع الذي وضع امامها .
وخلال العشاء حدثها بيرت عن البلدان التي زارها بسبب عمله وكان من الطبيعي ان يذكر ميامي التي للين فيها ومعها الف ذكرى وذكرى .
حان وقت العودة الى الفندق فاستدعى بيرت سيارة تاكسي . وفي الطريق لما حاول ملامستها جفلت ، فقال مطمئناً:
-بالله عليك هدئي من روعك ، فأنا لن امسك بأذى .
-آسفة .
امسك بيدها فافلحت في السيطرة على انفعالاتها وتركته يأسر اناملها بقبضته القوية .
في الفندق أوصلها الى عرفتها وفتح لها الباب سائلا:
-انلتقي غداً؟
-لدي عمل في الغد .
-اتعملين كل النهار؟
-قبل الظهر فقط .
-اعطني عنوان المدرسة لأمربك ونذهب لتمضية بقية النهار معاً.
-لا ضرورة لذلك فسآتي الى هنا لاستحم وابدل ملابسي .
-كما تشائين . اتصلي بي فور وصولك من المدرسة ، ورقم غرفتي هو 615.
-سأفعل ، والآن تصبح على خير .
خشيت لين من لحظة الفراق هذه ، اتدعه يعانقها ؟ ام تدخل الغرفة فوراً؟ وفوجئت به يبتسم للمرة الاولى ويأمر :
-قولي تصبح على خير يا بيرت .
رددت الجملة كما امرها والحمرة تعلو وجنتيها فربت على كتفها مداعباً قبل ان يدير ظهره ويبتعد فيالرواق . ولما غاب عن نظرها مررت لين يدها على الموضع الذي مسته اصابعه وكأنه طبع بصماته على كتفها كما فعل طبعها على حياتها .
في اليوم التالي كان اسجامهما اكبر اذ تغلبت لين على عصبيتها وعادت الى بيرت ثقته بنفسه . قصداً شارعاً في وسط المدينة كان سوقاً قديمة وتم تحويله الى منطقة مأكولات عالمية ، فانتشرت على جانبيه عشرات المحلات الصغيرة التي تقدم أطعمة صينية وهندية ومحلية بالاضافة الى الماكولات الاوروبية للذي يخاف على صحته من البهارات الحامية

ووجدت لين متعة في هذا المكان المكتظ بألوان مختلفة من الناس كما تلذذت بالطعام الصيني والهندي.
بعد ذلك مشيا في الحي الصيني الشعبي الكبير ذي الابنية الكبيرة المتلاصقة والتي تحوي عدداً لا يحصى من السكان ، تدل عليهم الملابس المغسولة والموضوعة على الشرفات مما يجعل المشاة بحاجة الى مظلات تقيهم هذا " المطر" المفاجئ المتساقط من الثياب .
اعجبت لين بهذا الحي وهذا المجتمع العجيب الغريب المليء بأسرار اهل الشرق الاقصى . وهي ما كانت لتجرؤ ان تخطو خطوة واحدة في هذا المكان لولا وجود بيرت معها يحميها من محاولة نشل او من احتيال تاجر يريد ان يبيعها قطعة معدنية لا قيمة لها على انها من تحف امبراطورية الصين القديمة ! استقلا السيارة من الحي الصيني الى احد المتاحف حيث جالا متأملين التحف والآثار العائدة الى اقدم الازمنة . وليس كالشرق الاقصى منطقة عريقة في التاريخ يجد المتذوق فيها مايمتع عينه ويرضي فضوله العلمي في التعرف على حضارات الاسلاف التي مهدت للتطور الذي نحن فيه اليوم . لما خرجا من المتحف كان العطش قد اخذ منهما كل ما أخذ فقصدا مقهى قريباً لتناول عصير البرتقال المثلج المنعش . وبيرت ، في كل هذه المراحل ، لم يكف عن الكلام موزعاً عليها ابتسامته بسخاء . تصرف معها بشكل طبيعي مختلف تماماً عما بدر منه منذ أيام قليلة عندما حاول اغواءهامعتبراً نفسه زير نساء وساحر الفتيات . وهذا ما سهل امر التعاطي معه على لين التي فوجئت بقدرتها على ممارسة لعبة الانسجام مع الرجل الذي تكره ، بيد انها حافضت على شيء من التحفظ لئلا تقطع خط العودة وبخاصة عندما تلمح في عينيه بريقاً يشبه ذلك الذي لاح كلما حاول مسها . فيفهم بيرت من جمودها انه زلّ فيصلح الخطأ على الفور ويعود الى الاحاديث البريئة المرحة .
اصرت لين على تمضية صباح اليوم التالي مع جوليا ومضيفتين أخريين على ان تخصص فترة بعض الظهر لبيرت . وحاولت الفتيات الثلاث معرفة الشاب الذي تخرج معه ، لكن لين ابقت هويته سراً واوحت لرفيقاتها انه احد العاملين معها في المدرسة . قالت لها جوليا :
-اتعلمين يا نيتا اننا لم نرَ بيرت منذ وصولنا الى سنغافورة ، لابد انه وجد امرأة جديدة وكف عن ملاحقتك .
ابتسمت لين متسائلة عما يمكن ان تكون تعليقات الفتيات في حال اكتشفن حقيقة الامر ووجدن ان اللعبة مشت كما توقعن . فجوليا راهنت منذ البدء على قدرة لين أو نيتا على للايقاع ببيرت المتغطرس .
استأجر بيرت سيارة مكشوفة جابا فيها الحدائق اليابانية في تورنغ . حدائق بديعة مليئة بالاشجار والازهار المتنوعة ، وغنية بسواقي المياه تعلوها جسور صغيرة حمراء تبدو من بعيد كأنها معلقة في الهواء . وفيما الشابان يسيران في الحدائق بعد ترك السيارة في الموقف ، بدأت السماء تتلبد بالغيوم الرمادية المنذرة بهطول المطر . فاختفت الشمس وراء النقاب الداكن الكثيف مما اضفى على المكان جواً يذكر بمناخ انكلترا البارد الحزين . اقترح بيرت اللجوء الى مقعد يغطيه سقف صغير . وما ان بلغاه حتى بدأ المطر يتساقط بغزارة والريح الباردة تعصف بقوة ، وراح البرد يشتد والرعود تقصف مدوية والبرق يشق بانواره الباهرة صفحة السماء . كم غريب طقس هذه البلاد اذ تحول من طقس مشمس حار الى ممطر عاصف وبارد في دقائق معدودة .
اخذت لين ترتجف من البرد فخلع بيرت سترته الصيفية ووضعها على كتفيها بدون ان ينسى ابقاء يده هناك . وخشيت الفتاة ان يكون عمله هذا ايذاناً بمحاولة جديدة لكنه اكتفى بذلك فارتاحت الى الدفء واسندت رأسها على كتفه .
مكث الاثنان نصف ساعة يتفرجان بصمت على ثورة الطبيعية المفاجئة . وكما بدأت العاصفة كذلك انتهت ، اذ سرعان ما هدأت الريح وانقشعت الغيوم واطلت الشمس مشرقة من جديد تجفف الارض والاشجار والازهار المغسولة بمياه المطر . وفاحت رائحة التراب الرطب عطراً ناعماً طبيعياً لا يضاهيه أي عطر يصنعه الانسان .
غادر الشابان الحدائق اليابانية الى جنائن اخرى تقع في منطقة تدعى مانداي . وذهلت لين لكثافة الزهور نوعاً وعدداً ، وشذاها الفواح يملأ المكان بألف عطر زوعطر حتى ليخال المتنزه انه يسبح في عالم من الخيال على بساط اخضر سحري ومزركش بأبهى الالوان وزهاها . قطف بيرت زهرة جميلة وعلقها على صدر لين مبتسماً فرحاً وكأن الدنيا كلها ملك يديه في هذه اللحظات .
بعد ان اشبعا توقهما الى الروعة والجمال توجها من الحدائق الفسيحة لتناول العشاء في مطعم صغير متخصص بالمأكولات البحرية يقع قرب الشاطئ . ومن المطعم ذي الطعام الشهي الى مركز التلفريك حيث صعدا في مركبة سارت بهما معلقة على حبل يعلو المياه ستين متراً .


كان المنظر رائعاً من هناك ففي الأفق تجمعت غيوم صبغتها الشمس الأخيرة المودعة بحمرة قرمزية رائعة راسمة لوحة تعجز يد أعظم فنان عن الاتيان بمثلها . اطلقت لين تنهيدة وقالت :
-يالروعة هذا المشهد .
علق بيرت :
-شاهدت الكثير من مشاهد غروب الشمس خلال تجوالي في بقاع العالم ولا أشك في ان هذا احلاها .
وصلت بهما العربة الى جزيرة سنتوزا حيث جالا لبعض الوقت يتعرفان الى معالمها حتى غابت الشمس تماماً واسدل الظلام ستاره على الدنيا . عندها استقلا المركبة من جديد ليشاهدا اضواء سنغافورة وقد تحول ليلها الى نهار ، وليتمتعا بنور القمر الكامل السابح في عتم الليل كحلم جميل وبنسيم البحر المنعش الذي يدغدغ المشاعر فبطلق العنان لرحلات الخيال .
نظرت لين الى بيرت وقالت :
-أحس وكأنني في حلم لا في حقيقة .
امسك بيدها وعيناه تبحثان عن عينيها لتخبراهما قصة جميلة ، وبيده الاخرى اخذ يداعب وجنتها المخملية ، ثم طمأنها عندما رأى بداية الانزعاج على وجهها :
-انه وداع فحسب فأنا عائد غداً الى لندن ، ولا اريد ان اودعك أمام الجميع في الفندق . لذلك لا تعتبري عملي محاولة كسابقتها .
ظل يداعبها بحنان وعيناه مسمرتان على وجهها ليطبع كل التفاصيل في مخيلته حتى تبقى معه في الأيام العشرة المقبلة . وفجأة عانقها بحرارة وعاطفة تختلفان تماماً عن الوحشية والانانية اللتين ظهرتا منه سابقاً وهمس :
-نيتا ! جمالك سحرني .
ابعدت لين رأسها عنه واسندته الى نافذة العربة ، وراحت تنظر اليه ودقات قلبها تتسارع كأنها في سباق مع مايحصل ولدهشتها لم يحاول بيرت الاقتراب منها مجدداً بل اشعل سيكارة وقال :
-ستخرجين معي في المرة المقبلة ، اليس كذلك؟
كان في نبرته امر لاسؤال لأنه ليس مستعداً البتة للتراجع الآن والتخلي عن لين التي لم تخيبه هذه المرة اذ قالت :
-نعم .
تخلى الاثنان عن الكلام حتى وصولهما الى الفندق واكتفى بيرت بايصالها الى غرفتها منسحباً بعد تحية قصيرة .
اتصل بها بعد يومين من لندن وحدثها قليلاً عن رحلة الاياب ، ثم سأل :
-الا تأخذون اجازة في مدرستكم هذه ؟
-بالطبع فنحن نأخذ ثلاثة اسابيع بين فصلي الشتاء والربيع ، وهي تبدأ يوم الجمعة .
-وماهي مشاريعك .
-لا شيء حتى الآن . لقد تلقيت دعوة من احدى زميلاتي لتمضية الاجازة بصحبتها في الريف ولكني لم اعطها جواباً بعد .
انهى بيرت المكالمة واستمر يتصل بها كل ليلة ليتأكد من انها لا تخرج مع احد غيره ، ولين لا ترفض ذلك مادام اتصاله دليلا على اهتمامه . وفي احدى الليالي لم يرن جرس الهاتف فخشيت الفتاة ان يكون قد عدل عن مصادقتها وغرقت في الوساوس من جديد .
مكثت لين في المدرسة يوم الجمعة حتى وقت متأخر لانجاز بعض الاعمال الادارية الملحة قبل البدء بالاجازة . وعادت الى الفندق في المساء متعبة تتوق الى حمام بارد ينعشها ويريح اعصابها . اخذت مفتاح غرفتها ودخلت المصعد لتجد بيرت وقد سبقها اليه .
قالت والمفاجأة تغمرها :
-انت ! مالذي جاء بك اليوم وموعد وصولك بعد خمسة ايام؟
-هذا صحيح ولكني تدبرت الأمر حتى ابقى في هذه البلاد ثلاثة اسابيع.
استطاع بيرت اذن الحصول على اجازة ليمضي وقتاً طويلا مع لين ، فترة ادركت الفتاة حساسيتها وجوهريتها لأن نجاح خطتها سيكون رهناً بتعاملها مع بيرت فيها .
رافقها الرجل الى غرفتها وما ان دخلاها حتى عانقها بلهفة الشوق والحنين كون الايام الخمسة التي ابتعد فيها عن لين دهراً بالنسبة اليه.
أخيراً انهى مهمته وفسر:
-كنت بحاجة مايسة الى ذلك .
رمقته لين بنظرة قاسية زاعمة الغضب والكنهما مالبثا ان غرقا في ضحكة طويلة .
دفعها بيرت برفق الى الحمام قائلا:
-هيا الى الاغتسال وتبديل الثياب يا عزيزتي ، لأننا سنخرج الليلة للاحتفال .
اقفلت لين باب الحمام وراءها وسألت

وبماذا سنحتفل؟
-بالاسابيع الثلاثة التي سنمضيها معاً . ايمكنني استعمال هاتفك؟
-بالطبع.
لما انهت لين حمامها خرج بيرت الى الشرفة ليفسح لها المجال لارتداء ثيابها ، وعندما انتهت من ذلك وانشغلت بتصفيف شعرها دعته الى الدخول . انجزت الفتاة استعدادها فقال بيرت متأملا حسنها :
-لابد انك اصبحت معتادة على اعجاب الناس بجمالك الباهر .
هزت لين رأسها ببطء وعلقت :
-لست معتادة على ذلك ولا يهمني ان يعجب الناس بجمالي . فالجمال الحقيقي ليس في المظهر بل في الجوهر .
تأملها بيرت قليلا ووافق :
-قولك صحيح وخاصة وانك مؤمنة به .
-وما ادرك ؟
-انت متميزة عن سائر الفتيات اللواتي لا يكترثن سوى للثياب الفاخرة والمظاهر المادية . أي فتاة تبذل الغالي والنفيس لتحصل على وجه مثل وجهك ، وانت لايهمك الجمال .
جفلت لين من كلمة "حصل" هذه واقترحت بسرعة :
-لننطلق.
كان بيرت في مزاج طيب ومرح تلك الليلة ولم تجد لين صعوبة في مماشاته . تناولا طعام العشاء في احد الفنادق ورقصا في ناديه الليلي حتى ساعة متأخرة . وعندما حان وقت الذهاب الى النوم عاملها بحرارة الفتها الفتاة في الايام التالية التي امضياها بالتجوال والتنزه في سنغافورة لاكتشاف اهم معالمها او في التمدد تحت اشعة الشمس على حافة حوض السباحة في الفندق.
سمحت لين ببعض التجاوزات الطوعية لأنها صارت في وضع لا يسمح لها بالتصلب فمقابل التنازل الذي قدمه لها عليها تفهم مشاعره ومنحه القليل . وهي تعلم في قرارة نفسها ان بيرت يأمل في اكمال الرحلة "الرحلة" حتى آخرها عندما يحين الوقت المناسب ، وماالتساهل الحالي سوى مناورة ذكية حتى يراها متقبلة لكل شيء فيضرب ضربته القاضية .. لذلك عليها اجادة التمثيل والصمود حتى تنتهي الاسابيع الثلاثة ويعود بيرت الى لندن قبل تحقيق هدفه .
وفكرت الفتاة غي دس المخدر في حقيبة يده قبيل موعد سفره ، بيد انها ارتأت تأجيل ذلك حتى يكون في رحلة عمل يقود الطائرة لا مجرد راكب عادي كغيره ، كما انها ستجد صعوبة في الحصول على المخدرات وبيرت معها يلاحقها كظلها .
اما بعد ان تصبح وحيدة فستعثر على الهيروين بسهولة فائقة كون سنغافورة احد اهم مراكز تهريب المخدرات وتعاطيها في العالم .
وقد نجحت لين بمساعدة زميلة سبقة في السجن ، في التعرف الى من يؤمن لها الكمية المطلوبة خلال ساعات ، كما انها وجدت علبة بودرة مماثلة تماماً لتلك التي وضعت في حقيبتها حتى يدرك بيرت من نصب له الشرك واوقعه في الحفرة نفسها . وبالتالي تغدو مهمتها الآن الابقاء على العلاقة معه وتحاشي التوغل فيها الى حيث يريد حتى يحين موعد وصوله المقبل مع افراد الطاقم فتنفذ الفصل الأخير وتسدل الستار على مسرحية الثأر المرتقبة .
لحسن الحظ لم يتخط بيرت حدوده معها لأنها لم تكن تبدي تجاهه اي تجاوب بل تنفذ واجبها مجرداً من الشعور ، فيظهر الغضب والخيبة على الشاب ويعرض عن اكمال المحاولة عله يفلح في المرة المقبلة .
وكان من الصعب على لين الخروج من هذه المواقف ، فان امعنت في التصلب ظنها الرجل باردة لا احساس فيها وان استجابت انزلقت في مجاهل تجزع لمجرد التفكير بها .
مرة كانا مستلقيين قرب حوض النادي الرياضي عندما سألها :
-لماذا لا تنزلين الى الماء ؟ اطمئني فلن ادعك تغرقين .
-أنا لا اهابك بل اهاب الماء . انها عقدة خوف ترافقني منذ الصغر عندما دفعني احدهم الى حوض عميق فكدت اغرق . ومن يومها لم اعد اقترب من الماء او تراودني فكرة السباحة .
سرت لين بسرعة بديهتها واجادة تلفيق الاكاذيب واختلاق القصص بهذه السهولة لعلها في مابعد تجد مستقبلاً باهراً في التأليف والأدب أو في التمثيل ...
أثار تفسيرها في نفس بيرت فضولا فقال :
-اخبرتك أشياء كثيرة عن حياتي بينما لا زلت أجهل ماضيك تماماً . فهلا عرفتني بنفسك يا آنسة نيتا لويس.
ابتسمت لين بنعومة وهي تحاول ايجاد الكلام المناسب:
-لا شيء مثيراً في ماضي بالمقارنة ...
قاطعها بيرت آمراً:
-اصر على معرفة ماضيك .
وبحذر استوضحته :


-ماذا تريد ان تعرف؟
-كل التفاصيل مذ ابصرت النور حتى هذه اللحظة .
عجبت الفتاة لهذا الاصرار فهزت كتفيها وبدأت بسرد القصة :
-فليكن ماتريد . عمري اثنان وعشرون عاماً . ولدت في مقاطعة باكنغهام شاير وعشت لفترة وجيزة في كنف والدي اللذين ماتا في حادث سيارة ولم ابلغ الرابعة بعد . انتقلت للعيش في منزل عمتي التي منحتني رعاية كبيرة وادخلتني مدرسة محترمة انهيت فيها مراحل الدراسة من الابتدائية الى الثانوية .
بالطبع كانت قصة وفاة الوالدين والعيش مع العمة من نسج الخيال في حين ان ماقالته عن مسقط رأسها ومدرستها صحيح .
تابعت لين :
-بعد المدرسة انتقلت الى معهد خاص لدراسة الفرنسية حيث نلت شهادة تخصص في هذه اللغة ، وعدت لادرسها في مدرستي القديمة .
-افهم من كلامك ان معظم حياتك كانت ملكاً للمدارس على اختلافها .
-اعتدت على تلك الاجواء الهادئة البعيدة عن صخب العالم ومهالك الخطيئة .
رفع بيلات حاجبيه مستغرباً هذا الوعظ سائلا:
-وما الذي اتى بك الى سنغافورة ؟
عادت لين هنا الى شيء من الحقيقة اذ اجابت :
-توفيت عمتي تاركة لي بعض المال ، فوجدت الوحدة صعبة في الريف . لذلك توجهت الى لندن ولم أوفق ، وقرأت في احدى الصحف اعلاناً عن الوظيفة هنا فتقدمت اليها وهكذا كان .
-لماذا لم توفقي في لندن ؟
لم تجب لين بل ادارت وجهها . فأضاف :
-أكان السبب رجلا؟
-الرجال بشكل عام هم السبب . لقد دخلت معهداً يعلم فنون التزيين الرجالي ، بيد اني وجدت نفسي فاشلة في هذا الحقل اذ رأيتني عاجزة عن التعامل مع جنسكم فغادرت العمل ، او بالاحرى فررت منه.
-قصتك توضح بعض الأمور .
هذا ما أملته لين من قصتها . وتبين لها ان ماسردته لبيرت عن جهلها عالم الرجال لتمضيتها فترة الطفولة والمراهقة منطوية على ذاتها ساهم في جعله يعاملها برفق وتحفظ .
بعد أيام اقترح بيرت السفر الى بينانغ لما تبقى من الاجازة فادعت لين انها تجهل المكان :
-انها منطقة رائعة في شمال البلاد على حدود تايلاند . بينانغ جزيرة حالمة ينعم فيها المرء بالهدوء والطمأنينة بعيداً عن ضجيج المدينة وبهرجها الزائف .
-مابك تحولت شاعراً بين ليلة وضحاها ؟
-اجيبي على اقتراحي ولا تحاولي تغيير الموضوع .
تابعت لين اسئلتها فيما هما يتنزهان في احدى الحدائق الكبيرة ، فاستفهمت :
-وماهدفك من الذهاب الى بينانغ؟
-اريد تعريفك على جزء آخر من البلاد والمكوث معك في مكان هادئ وشاعري .
قطفت لين وردة عطرة ورددت :
-المكوث معي ؟
-لا تعودي الى المعزوفة عينها .
-اتساءل لماذا اخترت الذهاب في هذا الوقت بالذات .
-ماذا تعنين ؟
-اعني ان طائرة لندن ستصل برفاقك غداً.
حسناً اعترف بأني ابغى تجنب مقابلتهم لانهم لا يعلمون بوجودي هنا .
علت نبرة لين وهي تقول غاضبة :
-فهمت . اتخجل من ان يروك معي؟
ادارت ظهرها وابتعدت عنه فناداها ولحق بها :
-نيتا ! لا تسيئي فهمي .
ضمها اليه بعنف حتى كاد يسحق عظامها واردف :
-اريد الابتعاد عنهم لئلا يفسدوا هنائي ، فأنا لا أنوي اضاعة وقتي مع احد غيرك ، كما نحن بغنى عن ملاحظات جوليا وتعليقاتها الجارحة .
كيف تتصرف لين ازاء الوضع الجديد وعلاقتها مع بيلات اصبحت تسير على خطين متوازيين : خط مخططها الانتقامي وخط نظرتها اليه بعيداً عن المخطط ، وهي نظرة بدأت تتبلور رويداً رويداً.
هل توافق على الذهاب الى بينانغ ؟ وهل يحافظ بيرت على وعده وعدم الاقتراب منها؟
اعتبر الرجل صمتها عدم ثقة فقال :


-يجدر بك ان تضعيثقتك في بعد ان خبرتني في الأيام الأخيرة . الا يكفيك الامتحان الذي اجتزته ؟
تخاطبت عيونهما لمدة وجيزة قبل ان تنطق لين :
-سنذهب الى بينانغ .
ابتسم بيرت ابتسامة عريضة قائلا:
-احسنت يا فتاتي .
لم يخطئ بيرت بشأن بينانغ ، فهي جزيرة رائعة تنتشر فيها الدساكر والقرى بين المروج الخضراء حتى ليخال الناظر اليها انه يعيش أيام الماضي المليء بالخير والبركة . وعلى اقدام المروج تمتد الشواطئ الذهبية العذراء حيث يحلو للمتأمل التأمل ويطيب للمتنزه التنزه .
تناول الشابان طعام العشاء في ليلتهما الاولى في قلعة اثرية قديمة تحولت مطعماً راقياً يشرف على الشاطئ المزروع بأشجار النخيل الباسقة . ومن المطعم استقلا مصعداً الى تلة عالية . أفيم عليها سوق للأثريات .
احست لين بالوقت يمر بطيئاً في هذا المكان الجميل وتمتعت بكل لحظة امضتها فيه . وكم تمشت وبيرت على الشاطئ يراقبان الصيادين يلقون شباكهم ويخرجونها ملأى بعطايا البحر المتنوعة ، وكم تأملا طيور النورس تحوم بحثاًعن سمكة تقتات بها .
مرة استوقفتهما عرافة عجوز قرأت كف بيرت ثم كف لين وقالت لها:
-مستقبلك سيكون باهراً يا ابنتي ولكنك ستمرين بمتاعب جمة قبل الحصول على مبتغاك . سوف تعرف حياتك انقلاباً كبيراً وتضطرين الى السفر بعيداً.
ضحكت لين وعلقت :
-الجزء الاخير قد تم فعلا.
سدد بيرت ماعليه للعجوز وتوجها من قلب الجزيرة حيث السوق التجاري الى قلعة قديمة تدعى قلعة كورنواليس تطيب فيها مشاهدة غروب الشمس قرصاً ذهبياً يذوب في البحر عند الافق . ضمها بيرت اليه وهمس :
-ما رأيك بتحقيق قول العرافة ؟
-ماذا تعني ؟
-ألم تتحدث العجوز عن انقلاب كبير في حياتك ؟ وليس أجمل من ان يكون الانقلاب زواجك مني .
تسمرت لين وكأن الموت دهمها ، ثم رددت :
-الزواج؟
أجاب بيرت والابتسامة تعلو شفتيه :
-نعم ، الزواج . لست صماء على ماعتقد .
- هذا مستحيل ! انت من النوع الذي لا ...
انقطعت عن اكمال جملتها لما رأت الغضب يزحف اليه وينفجر :
-أي نوع هذا ؟ ومن أين لك ان تصنفي الناس انواع وفئات ؟ اتظنين اني ارضى الى الابد بهذه العلاقة العذرية ؟
-ارجوك لاتغضب . أنا آسفة لتفوهي بهذه الحماقات ، لكنك فاجأتني بالعرض لأنني لم اكن اعتبرك من محبذي الزواج .
-الم تفكري بالزواج طيلة هذه المدة ؟
أضاف بعد ان أومأت بالنفي :
-الى اين تودين الوصول بعلاقتك بي اذاً؟
- لم يعد الزواج امراً دارجاً هذه الأيام وصرنا نشاهد الكثيرين يعيشون تحت سقف واحد بدون زواج رسمي . حسبتك تريد هذا النوع من العلاقة حتى تجد من يستقبلك كلما اتيت الى سنغافورة .
حدق بيرت فيها مذهولا وقال :
-يا الهي ! واذا حدث ان نقلتني الشركة الى خط آخر ، ماذا يحصل عندها ؟
-ينتهي الامر وتشرع بالبحث عن واحدة اخرى في البلاد التي تحط رحالك فيها .
لم ينبس بيرت بكلمة بل ضحك بمرارة واخذ ينظر الى الافق ، الى نسمة تزيل عنه ضيق الخيبة . فجأة التفت اليها وقال :
-أنا الملام على موقفك هذا لأني لم اشرح لك كل شيء منذ البداية ...
امسك بيدها باحثاً عن الكلمات المناسبة وتابع :
-لم أكن اتصور اني سأحب من جديد أو أني سأتزوج يوماً . صرت أرى المرأة هدفاً مادياً بحتاً في متناول يدي . ولكنك دخلت حياتي كالعاصفة وجعلتني ادرك ان العالم مازال يتسع للاعاجيب . جعلتني أؤمن ان الحب الصادق ما زال موجودا، وان المرء يستطيع اتخاذ زوجة تحبه وترعاه وتبني واياه عائلة سعيدة.
داعب وجهها مضيفا:
- لا ادري متى وقعت في غرامك بالضبط وكأن الوقت تعطل حتى لا خالني اعرفك واحبك منذ زمن بعيد. انا احبك يا نيتا واقسم لك بأني لن اعير امرأة غيرك نظرة واحدة ما دمت بجانبي

- هربت لين من نظراته ووقعت في مأزق جديد لم تجد لتأجيل استحقاقاته سوى طرح سؤال:
- لم تكن تتصور انك ستحب من جديد؟ اتعني انك احببت من قبل؟
- نعم وقد انتهى الامر الى خاتمة غير سعيدة
- لماذا؟
- لانني منحتها حبي وثقتي في حين انها لم تبادلني الحب الصادق ولم تمنحني ذرة من ثقتها.
- اكنت تنوي الزواج منها؟
- بالطبع. ولهذا وجدت المرأة بعد خيبتي فارغة لا تستحق الاهتماك. كان الجرح عميقا في نفسي بعد ان خذلتني فتاتي وايقنت اني لن اجد سواها تملأ حياتي حتى اتاني القدر بك منتقذا لم اعد قادرا على خسارة الحب ثانية يا نيتا فالصدمة الاولى تكفيني . وانا مصمم على الزواج من اروع انسانه عرفتها في حياتي.
مشت لين خطوات على باحة القلعه وهي تحاول التفكير منطقيا ولكنها فشلت في استغلال الموقف لصالح خطتها. لماذا التردد والارتباك وهي كانت تعلم بوضوح غايتها من اقامة علاقة مع بيرت؟ واخيرا قالت:
- لا يمكنني الاجابة الان يابيرت لأني لا اعرفك حق المعرفه. صحيح اننا امضينا الايام الاخيرة معا، غير ان ثلاثة اسابيع لاتكفي للجزم على حياة بكاملها.
اقترب بيرت منها فاستوقفته محذرة:
- لاتحاول نيل جواب الان كما فعلت سابقا، فالامر اخطر واعمق مما تتصور . لا تستعجلني والا رددتك خائبا. امنحني بعض الوقت لافكر في المسألة مليا.
رفع بيرت يديه علامة الاستسلام وعلق:
- فليكن ما تشائين يا حبيبتي الموتورة! لن ارغمك على اعطاء اجوبة سريعه، غير انني لن اكف عن محاولة اقناعك.
دنا منها هامسا:
- ليتك تقولين نعم منذ الان وتنهين عذابي.
عاد الشابان من الجزيرة في اليوم التالي ولم يتسن لهما سوى تناول غذاء سريع في المطار قبل عودة بيرت الى انكلترا. ودعها معانقا دون كلام لانه قال كل مالديه البارحة، فترك لعينيه مهمة افهامها كم هو عظيم حبه وكم هي عميقه عاطفته.
انتظرت لين اقلاع الطائرة واختفاءها بين طيات السماء حتى عادت الى الفندق . استلقت على سريرها وعلقها يعيد خلط الاوراق واقامة جرده حساب بما لها وما عليها. كان غياب بيرت عاملا مساعدا للتفكير بهدوء ورويه. لقد اعطاها سلاحا لم تكن تحلم بالوصول اليه عندما اعترف لها بحبه، وصار فريسة سهلة ولقمة سائغه تبطش به متى شاءت.
وينبغي ان تأتي عملية البطش موجعه قدر الامكان لتروي غليلها وتفهم بيرت ان عمله لم يمر دون عقاب، عقاب قاس جدا. ولا شك في ان الانتقام سيكون له وقع شديد بعد وقوعه في غرامها حتى اذنيه.
خرجت لين لتناول العشاء في احد المطاعم وجلست الى طاولة بقرب مجموعه من الشيوخ جلسوا يتحدثون عن ذكرياتهم في معتقل شانغي الذي اسر فيه اليابانيون جميع الاوربيين الموجودين في سغافورة ابان الحرب العالمية الثانية. وروى احدهم كيف نجا من الموت عندما كان في لندن وسقطت بقربه قنبلة اثناء القصف الجوي الالماني للمدينة. واعاد الحديث عن القنابل الى ذاكرة لين كتابا قرأته عن رجل قتلت عروسه بانفجار قنبله في ليلة زفافهما، فأتتها فكرة جديدة تنفذ بها انتقامها بغى عن الهروين وتخلف في قلب بيرت خنجرا يعمل في قلبه تمزيقا طيلة حياته.
وهكذا سددت حسابها المتوجب للفندق بعدما استأجرت شقه قريبة من المدرسة وتركت عنوانها بعد ان شددت ظاهريا على عامل الاستقبال لئلا يعطيه لأحد، وهي تعلم ان قليلا من المال يكفي ليفك الرجل عقدة لسانه ويصرح بالعنوان. وبهذه الطريقه تمتحن مصداقية حب بيرت الذي سيبحث عنها ويجدها لو اراد.
لم تعد لين الى شقتها باكرا في اليوم المقرر لعودة بيرت فذهبت الى السوق ومنه الى السينما لمشاهد احد الافلام الرومانسية. وصحت توقعاتها اذ لما عادت الى البنايه التي تقطن فيها وجدت المصعد متوقفا على الطبقة الرابعه حيث شقتها، وهناك وجدت بيرت في بزة العمل متكئا على الجدار من التعب. رسمت لين على وجهها امارات الخوف والذهول وحاولت العودة الى المصعد لكن بيرت امسك بها بشدة آمرا:
- اعطني المفتاح.
وكا لحمل الوديع نفذت لين الامر،ففتح بيرت باب الشقه ودفعها الى الداخل ثم اقفله وانفجر غاضبا:
- لماذا غادرت الفندق؟ جن جنوني عندما اتصلت منذ خمسة ايام وابلغوني انك تركت الغرفه.


وضعت لين الاكياس التي تحملها على طاولة صغيرة وسألت:
- كيف عثرت علي؟
- رشوت عامل الاستقبال بعد ان هددته بأوخم العواقب اذا استمر بالكتمان فاذعن واعطاني العنوان.
اظهرت لين ما امكنها من عدم اكتراث فبدأت باخراج ما اشترته من الاكياس غير ان بيرت الثائر لم يكن ليحتمل ذلك فصاح بها:
- لقد سألتك عن سبب مغادرتك الفندق!
تعمدت لين فضح كذبها فقالت:
- غادرته لان البدال مرتفع للغاية.
دفعها الى الجدار قائلا بنبرة مزمجرة:
- لا تكذبي! انما حاولت التهرب مني، اليس كذلك؟
صمت لين اذنيها واجابت:
- اصبت . لقد هربت لأني لا اريد الزواج منك ولا اريد رؤيتك بعد الان!
خبت ثورته فجأة وقال بصوت خافت:
- اهكذا تديرين ظهرك وتمشين دون كلمة وداع؟ الا تأبهين بمشاعري بعد الذي قلته لك في المره السابقه؟
سدد بيرت لطمة الى الجدار قرب رأسها فوثيت جانبا خوفا من ان تكون الثانية من نصيبها. واستعملت قدرتها التمثيلية لتجعل صوتها يرتجف وتقول:
- حاول تفهم عملي يا بيرت . اردت ان اقطع العلاقة بهدوء حتى لا اعقد الامور على كلينا. ظننت ان الانسحاب المفاجئ هو افضل السبل لذلك.
اطرقت لين تحدق في ارض الغرفه بانتظار خطوته التالية التي لم تتأخر،اذ دنا منها ووضع يديه المرتجفتين على كتفيها سائلا:
- لماذا لا تتزوجين مني؟
- لسبب جوهري.
- الانك لا تحبينني؟
اجابت باقتضاب وجزم
- ارفض الزواج منك ، لا اكثر ولا اقل .
ادرك بيرت ان الامل ما زال موجودا كونها لم تنكر انها تحبه فاقترح:
- لماذا لا نجلس ونبحث المسألة بهدوء؟
- لا مجال لأي بحث. ارحل عني ولا تدعني اراك بعد الان ماشاها بيرت محاولا كسب الوقت اذ قال:
- سأرحل ولكن بعد ان تقدمي لي فنجان شاي على الاقل. الا تقضي بذلك اصول اللياقه؟
- اسفه لم انتبه لأصول اللياقه.
- اذا كنت جائعه حضري عشاءك ولاتدعي وجودي يؤخرك.
حملت لين الاكياس الى المطبخ ثم عادت وسألته:
- كم مضى عليك في انتظاري؟
- ثلاث ساعات
- لابد انك تشعر بالجوع اذن. هل تتناول الطعام معي؟
اجاب بيرت محاولا اخفاء فرحه لكسب هذه الجولة:
- ولم لا؟
خلال السهرة تابعت لين تمثيل دور الرافضة باجادة فحاولت صرفه باكرا بميوعه ليبقى،وابدت مقاومة ضعيفه لاقتراحه البقاء صديقين "فاقتنعت"بذلك
غادر بيرت الشقه في حوالي منتصف الليل بعد ان اطمأن الى احرازه تقدما ما ، ولين مسرورة بهذه المناورة الاستدراجيه الجديدة التي ستجعله يسعى اليها بعنف اكبر. وهي ستتابع الخروج معه كصديقين وترفض عروض الزواج حتى تجد ان الوقت قد حان لقطاف ثمرة الثأر.
بعد اسبوع ، اي بعد عودة بيرت من بالي، اصطحبها الى فندق الهيلتون لتناول العشاء. بعد فراغها من تناول الطعام قامت لين لتغسل يديها، ولدى عودتها الى المائدة اصطدمت بمجموعه من رجال الاعمال الذين يمضون معظم اوقاتهم في دول الشرق الاقصى فيشتاقون الى الشقراوات مثيلاتها. قال احدهم:
- يالهذا الجمال الاخاذ!
وتابع آخر:
- واخيرا وجدنا شقراء وسط سمراوات هذه البلاد. انها جوهرة تشع في الظلام.
وقف ثالث واقترح مبتسما:
- لماذا لا تنضمين الى مائدتنا ياحلوتي فنقدم لك العشاء مقابل خدماتك الممتعة؟
حاولت لين المرور لكنهم صدوا طريقها وطوق احدهم خصرها قائلا:


- نحن لا نعرف احد في سنغافورة ونبحث عن فتاة جميلة مثلك. دعيني اشرح لك.....
وهنا وصل بيرت فقاطعه بحده:
- لماذا لا توجه شرحك لي؟
دفع بيرت الرجل عن لين ثم امسكه من قبة قميصه فتدخلت لين مهدئة:
- دعه يابيرت. لم يحصل شيء يستحث القتال.
لم يكد الرجل يصدق عندما حرره بيرت فلا احد يرغب بمنازلة شاب مثله ذي عضلات مفتولة بارزة، وعلى الفور جمع الرجال بعضهم واختفوا من المكان بلحظة.
علمت لين، وهما في طريق العودة الى الفندق، ان الوقت حل لتمثيل دور حاسم على بيرت. وهكذا لما طلب المصعد قالت له:
- لنخرج قليلا الى الحديقه.
وهناك مشت الى جانبه وعيناها سارحتان في البعيد وفج؟أة توقفت وضربت ضربتها قائلة:
- بيرت، انا .... ضمني اليك!
عانقها بحنان مذهولا لا يفهم مرادها والتحول غير التوقع في موقفها. ولتزيد من حيرته قالت لين هامسة:
- آه لو نبقى هكذا الى الابد!
- للمرة الاولى اخذت المبادرة فكاد عقله يطير.
حاولت لين التراجع لكن بيرت لم يدعها تفلت الى ان همست في اذنه:
- الا تريد سماع ما سأقول؟
- قولي.
- احبك واريدك شريكا لحياتي.
كان لكلامها وقع الصاعقة عليه فهو لم يكن يتوقع كل هذا الدفق من السعادة مرة واحدة. فاخذ يحدق فيها تبذل جهدا جبارا لتبدو صادقه وجادة في ماتقول:
- آه يا حبيبتي كم هي سعادتي كبيرة في هذه اللحظات وكأن الكون صار ملك يدي. ولكن لماذا عذبتني كل هذا العذاب؟
- كنت خائفة
- مني؟
- خشيت ان يكون عرض الزواج ستارا حتى تحصل علي؟
- كيف تراودك هذه الافكار وقد صرحت لك بحبي يا نيتا؟
- ظننت الامر مجرد وهم او نزوة.
- يالغباء حبيبتي الصغيرة!
- اوافق على ذلك فقد اظهرت حماقة كبيرة في تعاملي معك يا بيرت.
- ومالذي جعلك تغيرين رأيك؟
- اكتشقت حقيقتك الليلة في فندق الهيلتون عندما ظهر الفارق ساطعا بينك وبين هؤلاء الرجال الذين لا يرون في المرأة اكثر من ساقين و...

ضحك بيرت عاليا وهو يسجنها بين ذراعيه فاضافت سائلة:
- اتسخر مني؟
- وكيف لا اسخر منك بعد كل ما اظهرته من غباء! المهم الان ان العاصفة مرت بسلام ودرب السعادة مفتوح امامنا لنسلكه سويا....


6-العروس الخفية



توج بيرت فرحته بعقد قرانه على لين بعد شهرين في بلدته في انكلترا. وحضر الزفاف اقرباؤه واصدقاؤه وافراد طاقم طائرته بالطبع، والكل لا يصدق ان بيرت طلق العزوبيه من اجل امرأة عارضت لين بادئ الامر ان يكون العرس كبيرا ومشهودا، غير ان بيرت اصر على ان يأتي زواجه حدثا طنانا رنانا لانه امر غير اعتيادي لايحصل كل يوم ويقتضي ان تبقى ذكراه ماثلة في الاذهان. ومما قاله مبررا:
كيف لي ان اتزوج من حبيبتي الغالية النادرة بدون ان اشرك جميع معارفي بهذه الفرحة؟
وافقت لين بالنتيجة على الزفاف الكبير كما تخلت عن وظيفتها
وعادت من سنغافورة الى وطنها حيث مكثت في شقه في العاصمة لندن لتحضر حاجياتها قبل الزواج،رافضة اصرار بيرت على سكنها مع اهله. وهي ارادت من بقائها في لندن بعض الوقت وضع خطة انتقامية جديدة بعد ان تخلت عن الفكرة السابقه. فطلبت منه بدلال يحرك الجبال ان يمضيا شهر العسل في شمال افريقيا، فلبى رغبتها على الفور وحجز جناحا في احد فناق سوسة في تونس. وفي لندن ذهبت لين لزيارة ناديا كليرمونت. واختلقت لين لبيرت عذرا لتغيب بعض الوقت فادعت انها سمنت قليلا وانها ستدخل مصحا خاصا لاتباع حمة لمدة اسبوع حتى تنقص وزنها بضعة كيلوغرامات. اقتنع بيرت بالفكرة، وهو لا يرفض لها طلبا، وطار الى سنغافورة في رحلة عادية لن يعود منها الا قبل الزفاف بيومين. وفي اثناء غيابه كان من المفروض ان تكون لين في المصح، لكنها طارت الى تونس بجوازها القديم واضعه شعرا مستعارا كشعرها السابق ونزعت عن عينيها العدستين اللاصقتين ليعود لون عينيها الحقيقي. وهناك نزلت في الفندق الذي حجز فيه بيرت ومكثت خمسة ايام خالطت اثناءها بعض الناس قبل ان تعود الى لندن بعدما ابقت غرفة في الفندق محجوزة باسم الين ماكسويل.
لم تحتج لين الى ادعاء التوتر في اليومين السابقين لحفل الزواج،فهي بدت عصبية المزاج وعلى عتبة مرحلة خطيرة وجديدة في حياتها وتفهم بيرت ذلك لان كل عروس تشعر بالشيء نفسه مع اقتراب ساعه الصفر.
كان يوم الزفاف رائعا، فالشمس اشرقت كما لم تشرق في انكلترا من قبل مضيفة على الريف، حيث بلدة بيرت ، جوا لطيفا ناعما ومريحا للاعصاب. وبعد المراسم الشكلية اقيم حفل استقبال في حديقة منزل آل داين حضره جميع المدعوين، وقدمت خلاله انواع مختلفه من الحلوى بمافيها قالب الكعك الكبير الابيض كما القيت في الماسبة كلمات من القلب تحمل تمنيات الاصدقاء والمقربين بحياة مديدة عامرة بالرفاة والبنين. واخيرا جاء دور بيرت في الكلام فشكر الحضور باسمه واسم زوجته التي رمت، كما يقتضي العرف ، باقة الزهور باتجاة الفتيات متعمده قذفها نحو جوليا التي التقطتها وصارت بالتالي اولى المرشحات لحذو العروس. واخيرا استقل العروسان سيارة مزينة بالورود والشرائط الزاهية وسط الزغاريد ونثر الزهور وابتعدا عن المكان باتجاة لندن ومطار هيثرو بالتحديد للسفر الى تونس.
شعرت لين خلال كل ما مرت به انه مجرد مهرج يؤدي دوره بدون ان يكون في الامر شيء من الحقيقة، وفي حين ان الاثارة والفرح غمرا بيرت وافراد عائلته خصوصا والدته التي شكرتها لانها جعلت ولدها يقرر الزواج والاستقرار. وتجاة ذلك احست العروس ببعض اللوم لانها ستصدم اناسا طيبين لا ذنب لهم بما فعله بيرت يوم اودى بها الى السجن، ولكن ما العمل فالعدالة تؤدي احيانا الى ظلم الابرياء كما حصل لها تماما. فلتتحمل عتئلة داين ماجناه بيرت كما تحملت لين نتائج جريمته.
اوقف بيرت السيارة في الطريق اى المطار حتى يزيل بعض الزينة ليتمكن من القيادة، وبعد ذلك انصرف الى عناق لين التي قالت:
- الا تستطيع تأجيل ذلك الان،فالطائرة لن تنتظرنا.
- مرة واحدة بعد كي اتمكن من الصمود حتى تونس.
- واحده فقط!
وصل العروسان الى تونس في العصر، وتوجها من العاصمة الى منتجع سوسة الساحلي السياحي. اعجبت لين بالاجواء العربية هناك وتأملت المدينة الجميلة المحافظة على اصالتها برغم المنشأت السياحية الحديثه.فشاهدت مثلا الجمال تسير في بعض الاحياء والسيارات الفخمة في شوراع اخرى، كما رأت البيوت الحجريه البيضاء البسيطة الى جانب العمارات الشاهقه. اما الفندق ففخم جدا معظم اعمدته وجدرانه رخامية مزروعه بانواع الفسيفساء، والقناطر تعلو كل مدخل كما في فن العمارة العربي القديم. دخلا غرفتهما الكبيرة المطلة على حدائق الفندق وحوض السباحة، ووقفت لين على الشرفه تتمتع بالطقس الدافئ والجاف الابعيد كل البعد عن رطوبة سنغافورة القاتلة.
بيرت من جهته لم يكترث لالجمال سوسه ولا لفخامة الفندق بل صب اهتمامه على لين وعلى ساعات المقبلة عندما تصبح اخيرا ملكه. نظرت


العروس اليه وهي تضحك في نفسها لانها ستتركه يحترق بنار الخيبة من جديد، ستوصله الى قمة الانتظار وتدحرجه من هناك الى هوة المرارة والحسرة، ستدفع به الى درك لن يستطيع النهوض منه معافى ابدا.
دخلت لين للاستحمام قبل بيرت ولما خرجت كان زوجها على الشرفه ينفث دخان سيكارته. انتظرت دخوله الحمام حتى تخلع ثوب الحمام وترتدي ثيابها لكنه ادرك ذلك وعاد اليها يعانقها، ويقول
- لا حاجة للخجل بعد ان اصبحنا زوجين.
وامعانا في اثارته همست لين:
لم اعد اعرف الخجل معك يا حبيبي
- آه لو تدركين كم هي جارفه رغبتي الان! ساعات الانتظار حى يحل الليل تبدو دهرا.
تابع الرجل عناق عروسه بحرارة جعلتها تخشى ان يكمل طريقه الان ولا ينتظر حلول الظلام. بيد انها لم تعد تملك ورقه تبرر صده فخضعت لمشيئته للحظات ثم ابتعدت عنه بهدوء
- دعني اتنفس يابيرت!
ابتسم الرجل وقال لاهثا:
- يبدو ان تيار الرغبة واللهفة جرفني بعيدا
مرت التجربة بسلام ونزل العروسان الى مطعم الفندق للعشاء بعد ذلك تنزها في جناح ارضي خاص. وتأملا في الواجهات السجاد الفاخر والزخرفيات الجميلة والحلي الفضية.
التفتت لين الى بيرت وقالت:
- اتبتاع لي سوارا فضيا احمله في يدي كل يوم لئلا افرط بالسوار الذهبي او اضيعه؟
لم يكن الامر بحاجة الى سؤال فلين تأمر وبيرت ينفذ دونما جدال او مناقشة، اذ المهم ان تبقى العروس الرقيقة راضية سعيدة.
بعد ذلك جلسا على مقعد تحت شجرة نخيل يدا بيد صامتين الى ان اقترح بيرت بصوت تخنقه الاثارة:
- هلا صعدنا الى الغرفه.
وافقت لين على ذلك ونهضت متعمده ترك علبة السوار الفضي على المقعد.
ولما دخلا الفندق وصعدا السلم الى غرفتهما صاحت:
- آه ! لقد نسيت سواري في الحديقه!
همت بالنزول لجلبه، غير ان بيرت اوقفها قائلا:
- لا تقلقي يا حبيبتي سنجده في الغد.
رمقته لين بنظره وتوسلت:
- قد يسرقه احد يا حبيبي. انزل واجلبه فأنا اكره ان افقد هدية من شخص عزيز.
- حسنا سأنزل الان بخاصة واني قد اكون منشغلا جدا ي الصباح حتى اكترث لسوراك.
نظرت اليه بغنج وقالت:
- ايها الماكر!
اعطاها مفتاح الغرفه فقبلته وحثته على الاسراع فقفز الدرجات قفزا حتى يعود اليها باسرع مايمكن.
وما ان غاب عن ناظريها حتى هرعت الى الغرفه واخرجت حقيبة صغيرة من حقيبتها الكبيرة وارتدت فستانا فوق فستانها، ثم وضعت الشعر المستعار الشبيه بشعرها القديم وخرجت من الغرفه بعد ان تأكدت من خلو الرواق من اي فضولي. بعدها دخلت غرفه جانبية خاليه مخصصة للخدم حيث بدلت ملابسها وحذاءها ونزعت العدستين اللاصقتين عن عينيها تاركة الملابس القديمة وتنزل الى القاعة الرئيسية حيث ما لبثت ان شاهدت بيرت يقفز السلالم كالمجنون ويقول للموظف:
- هل لديك مفتاح اخر للغرفه رقم 220؟
- هل اضعت مفتاحك ياسيدي؟
- لا المفتاح مع زوجتي
- مالمشكلة اذن؟
اجاب بيرت بنفاذ صبر:
- المشكلة اني طرقت باب الغرفة ولم انل جوابا من زوجتي المفترض وجودها في الداخل.
- ربما كانت السيدة على الشرفه او في الحمام
- مستحيل! فهي بانتظاري. ارجوك اعطني مفتاحا اخر.
اخذت لين تراقب دلائل انتصارها في القلق البادي على وجه بيرت ، لكنها فوجئت بعدم تلذذها بذلك مع انها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن بعيد.
فكر الموظف قليلا وقال:
- سأتصل بالغرفه بواسطة الهاتف.
فعل ذلك بدون ان ينال جوابا فالتقط بيرت السماعه من يده صائحا:


- قلت لك احضر المفتاح، فلربما اصابها مكروه وهي في الغرفه وحدها!
لم يجد الرجل بدا من جلب مفتاح ثان. ورافق بيرت الى الغرفه بعد ان استدعى موظفا اخر يحل محله. اقتربت لين من المكتب طالبه مفتاح غرفتها المحجوزة باسم لين ماكسويل، فسألها العامل:
ما رقم غرفتك يا سيدتي؟-
لم تتذكر لين رقم غرفتها على الفور وكادت تعطيه رقم الغرفه التي حجزها بيرت لكن الرقم عاد الى ذاكرتها فجأة لحسن الحظ. ناولها الرجل المفتاح فصعدت السلالم ويدها على قلبها الثائر، واحست ان هذه الرحلة هي الاطول في حياتها بسبب الخوف والاضطراب الهائلين اللذين يستبدان بها في هذه اللحظات الخطيرة. وفي طريقها الى الغرفه لمحت بيرت وعامل الاستقبال واقفين امام الغرفه المفتوحه يتجادلان، غير انها لم تستطع سماع شيء من الحديث فتابعت الصعود الى غرفتها حيث سقطت على السرير مجهدة خائرة القوى بعد يوم طويل مضن.
مكثت في السرير ساعات وساعات تتصور ماقد حصل لبيرت فهو لا بد قلب الدنيا بحثا عنها مذعورا حائرا. وابتسمت وهي تتخيله يمضي ليلة زواجه الاولى على عكس ماكان يأمل ويتمنى. اما ادارة الفندق فلن يمكنها ان تساعده يشيء بخاصة وان خلاف العرسان ليس بالامر المستغرب والنادر، فالقندق عرف ولاشك احداثا مماثلة. بيد ان القضية ستنقلب جديه بعد العثور على الحقيبة والملابس المتروكه في غرفة الخدم ومفتاح الغرفه رقم 220 بينها، الامر الذي سيزيد بيرت حيرة وارتباكا.
ومرة جديدة غمر لين ذلك الشعور الغريب بعدم الرضا عما حصل كأن عملية الثأر ضحت واجبا لا هدفا كما خططت ، وكمن غاص في امر ولم يعد بوسعه الاحجام عنه.
خلعت ملابسها وحرصت على وضع الثوب الازرق الذي كانت ترتديه بصحبة بيرت على حده حتى تتخلص نه في الصباح،فلربما قاموا بتفتيش كل الغرف بحثا عن العروس الضائعه نيتا لويس داين.
عادت لين الى السرير عاجزة عن النوم وعن التفكير معا ففكرها مشوش وعقلها قاصر عن العمل بمنطق . وفجأة سمعت سيارة مطلقه صفارة الانذار وتتوقف قرب الفندق. علمت آنئذ ان بيرت استدعى رجال الشرطة ليعاونوه على حل لغز اختفاء زوجته، او ان ادارة الفندق استدعتهم بعد العثور على الحقيبة والملابس. وظلت لين ساهرة طوال الليل لايغمض لها جفن تنصت الى الاصوات في الخارج، اصوات نزلاء الفندق يعودون الى غرفهم من اماكن السهر واصوات المزيد من سيارات الشرطة واوامر تعطي بالعربية التي لا تفهم منها شيئا.
عندما انبلج الفجر قامت من سريرها والقت نظرة من النافذه لترى مجموعه من رجال الشرطة موزعين يبحثون عنها او عن دليل يشير الى مكان وجودها، كما رأت غيرهم يقومون بالمهمة عينها على الشاطئ القريب من الفندق. واستنتجت من ذلك ان بيرتيشك في انها انتحرت برمي نفسها في مياه البحر هربا من استحقاقات الزواج.
نزلت الى مطعم الفندق لتناول الفطور والخوف يسحق قلبها، ثم حجزت لها مكانا في باص متوجه الى مدينة المونستير في جولة سياحية، واضطرت الى انتظار موعد الرحيل بعض الوقت.
اخيرا حان موعد الذهاب بعد وصول جميع الركاب، ولما قامت لين تنتظر دورها للصعود الى الباص توقفت بقربها سيارة ترجل منها ثلاثة رجال كان بيرت احدهم. وعلى الفور وضعت نظارتيها السوداوين لئلا يتعرف اليها واخذت تنظر اليه بثيابه التي كان يرتديها البارحة والتعب والقلق يبدوان عليه جليين كأنه شاخ بليلة واحدة عشرات السنين. عندها فقط علمت كم كانت اللطمة موجعه والانتقام رهيبا، فبيرت الان انسان محطم فقد املا ملا حياته الفارغه وركض في صحراء نحو سراب ظنه ماء يروي عطشه الى الحب والحنان. بلحظة عاد بيرت وحيدا واضاع نيتا التي جاءت لتنتشله من الوحده الغارق فيها، يتنقل من امراة الى امرأة باحثا عن دفء الحب بدون جدوى مصطدما ببرود الاحضان اللاجئ اليها.
فالتقطها ثانية واقفلت الخط مبتسمة مسرورة بمعاناته.
عادت لين الى الفندق عبر الشاطئ مطمئنة الى ان الوقت لم يكن كافيا لاقتفاء اثر المكالمة، ولكنها ادركت فجأة ان هذا القدر من التلذذ بعذاب الاخرين ليس سوى سادية معيبة لا تبرير لها مهما كان مقدار الاذى الذي الحقه بيرت بها في الماضي. ولكن لا مجال للتراجع الان فجرحه انفتح وعليها جعله ينزف حتى الموت كما امات مشاعرها واحرق امالها وراء القضبان النبذ الحديديه
في الصباح التالي توجهت الى سوق المدينة لترى مفعول مكالمتها بعدما اشارت الى النبع الصغير، وبالعفل لمحت عدة رجال امن يحومون حول المكان ويسالون المارة والتجار محاولين العثور على قرينه تقودهم الى مكان وجود المخطوفه. اكملت لين طريقها نحو سوق المحلات التي تبيع الجلود الاصلية الفاخرة حيث شاهدت بيرت بصحبة رجلين يحاولان تهدئته اذ كان يخرج من متجر ليدخل الى اخر صائحا بوجه صاحبه مستوقفا المارة.... كان كالمجنون يبحث عن حبيبته التي سلبته اياها براثن الشر وحرمته اسعد ليلة في حياته. وعلى الفور اندست لين بين مجموعه من السياح وعادت معهم في الاتجاة المعاكس نحو سوق الحرير.
هناك وقفت تراقب احدى الواجهات وعينها على مكان وجود بيرت بانتظار اللحظة المناسبة . ولما رأت رجلين من السكان المحليين يتجهان ناحيتها خلعت الشعر المستعار والنظارتين واندفعت نحوهما فدفعتهما مولولة متظارهة بالهرب من قبضتهما:
- بيرت ! النجده يابيرت!
ثم ركضت نحو سلم حجري قديم وصعدت الى شارع آخر في السوق حيث عادت وضع الشعر المستعار والنظارتين.. وعادت الى مكان الحادث لتشاهد احد الرجلين مطروحا ارضا ورجال الشرطة يمسكون بالاخر وبيرت الذي يحاول لاجهاز عليه كما فعل برفيقه المسكين. فاخذت تضحك سرا وهي مسرورة بالشغب والفوضى للذين احدثتهما . ثم انضمت الى جموع السياح وعادت الى الفندق تمكث في غرفتها حتى الصباح حين سددت الحساب وذهبت الى المطار بالباص لتستقل أول طائرة عائدة الى انكلترا.


7-انقلب السحر




أعلن صوت المذيع في مطار نيس الفرنسية : نأسف لاعلام المسافرين الكرام ان اقلاع الطائرة في الرحلة رقم 907 المقررة الى لندن سيتأخر نحواً من ساعة لأسباب طارئة .
كانت هذه المرة الثالثة يعلن فيها عن تأخير والمسافرون جالسون في قاعة الانتظار يتململون شاكين . اما لين فلم تجد سوى اعادة تصفح مجلة الازياء التي في يدها للمرة الثانية والنظر الى ساعتها حيناً بعد حين وعقاربها تقترب من السابعة مما يعني انها لن تصل الى شقتها في لندن الا في وقت متأخر من المساء . غير ان غداً يوم عطلة فيتاح لها النوم قدر ما تشاء وتعوض بعضاً من ارهاق الاسبوعين الماضيين .
فوظيفتهما في فرع العلاقات العامة التابع لاحدى كبريات شركات صناعة الالكترونيات في انكلترا اوجب عليها التنقل مع زبائن كبار في فرنسا وسويسرا حيث اطلعت على سير الامور في التحضير لمعرض ضخم لمنتجات الشركة سيجري افتتاحه في الشهر المقبل . وبرغم التعب تجد متعة في عملها الذي حصلت عليه فور رجوعها من تونس ، ذلك لأن فيه تحدياً وتجدداً دائمين في التعامل مع الزبائن وفن اقناعهم بجودة المنتجات التي تصنعها الشركة وحملهم على التعاقد لشراء كميات منها بأسعار عالية تناسب أهمية الصناعة الالكترونية المعقدة . غير ان عملها الذي مر عليه اكثر من سنة حتى الآن بدأ يرهقها ، ومازاد الطين بلة تأخر الطائرة التي ستعيدها الى لندن بعد أربعة عشر يوماً من الرحلات السندبادية بين فرنسا وسويسرا .
وعندما سألت مكتب الاستعلامات عن طائرة أخرى متوجهة الى لندن افيدنت ان الرحلة الوحيدة الى هناك الليلة هي على متن طائرة تابعة للشركة العالمية ستتوقف في نيس في طريقها من كوريا الجنوبية الى لندن . وبالطبع فضلت لين الانتظار على ان تغامر وتستقل طائرة قد يشاهدها فيها أحد زملائها أو زميلاتها السابقين برغم انهم لن يتعرفوا اليها بعد عملية تغيير الوجه ، والآخرون الذين قابلتهم في سنغافورة لن يتعرفوا اليها كذلك لأن شعرها عاد الى لونه الطبيعي وعينيها تحررتا من العدستين اللتين رمتهما في تونس مسرح انتقامها الرهيب من بيرت.
ومع ذلك يظل الابتعاد عن الشركة العالمية آمن واحسن تحسباً للمفاجأت.
بعد نصف ساعة قامت لين لتتناول مرطباً وما كادت تنتهي حتى اعلن المذيع عن اقلاع فوري للرحلة 907 من الباب رقم 11 بعد ابدال الطائرة بأخرى . فتوجهت فوراً الى الباب المحدد وتم نقل الركاب الى الطائرة حيث سادت الفوضى في احتلال المقاعد وتقسيم الطائرة منطقة للمدخنين واخلاى لغير المدخنين .\وجدت لين لنفسها مقعداً قرب سيدة عجوز فجلست وربطت حزام الامان اذ بدأت محركات الطائرة تدور استعداداً للاقلاع .
وراحت احدى المضيفات تتفقد الركاب في مقاعدهم وتتأكد من ربطهم الاحزمة فوصلت الى لين التي رفعت عينيها لترى المضيفة ترتدي بزة الشركة العالمية للملاحة الجوية ، فسألت :
-أليس من المفروض ان نكون على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الاوروبية؟
اجابت المضيفة مبتسمة :
-هذا صحيح ، ولكن الشركة اضطرت لاستئجار طائرتنا بطاقمها لتقوم بالرحلة الى لندن لأن الفنيين اخفقوا في اصلاح الطائرة المعطلة .
-شكراً على الايضاح .
اثار ذلك الرعب في نفس لين خوفاً من حدوث شيء ما ولكن ما ان ارتفعت الطائرة عن الارض وبدأت المضيفات بجلب المرطبات للمسافرين حتى تبددت مخاوفها البلهاء وهدات اعصابها التي ثارت الى درجة انها فكرت في النزول من الطائرة قبل اقلاعها!
ارجعت لين مقعدها وحاولت النوم بينما الطائرة تشق عباب السماء الململمة نتفاً من انوار الشمس الآخذة في المغيب ، بيد انها لم تستطع النوم متقلبة في مقعدها حتى كادت توقع المنديل الحريري المعقود حول شعرها . فحاولت اصلاحه عبثاً اذ لا مرآة لديها ، لذلك قامت الى حمام الطائرة الخلفي لتغسل وجهها وتسرح شعرها . ومرت بين الركاب النائمين أو الذين يقرأون بهدوء لتصل الى ذيل الطائرة حيث وجدت ان دورتي المياه مشغولتان فانتظرت قليلا خلو احداهما .
وفجأة استدارت احدى المضيفتين العاملتين هناك على تعبئة المرطبات للمسافرين وصاحت :
-نيتا!
وقبل ان يتاح للين التهرب وجدت نفسها واقفة امام جوليا كونورز المضيفة التي تقربت بواسطتها في سنغافورة من بيرت . وتجمدتت في مكانها عاجزة عن التحرك او التفطير لاعنة سوء الطالع الذي دبر لها


هذه الصدفة . وفي تلك اللحظة شغر حمام فدخلته على الفور واقفلت الباب وراءها في اغرب عملية فرار . ومن شق الباب شاهدت جوليا تجر عربة المرطبات والسندويشات نحو وسط الطائرة .
ماذا عساها تفعل الآن لتهرب من هذه الورطة ؟ كيف تقنع جوليا بانها مخطئة ولا علاقة لها بالمدعوة نيتا ؟ نظرت لين الى المرآة وادركت ان تغطية شعرها بالمنديل جعلت جوليا تتعرف اليها برغم اختلاف لون العينين ، وماعليها بالتالي سوى نزع المنديل لتعود لين ماكسويل التي لا تمت بصلة الى المسكينة نيتا لويس داين ضحية عملية الخطف في تونس.
وهكذا حررت شعرها من المنديل والدبابيس واسدلته على كتفيها بعد تسريحه بالفرشاة وغطت جبينها بغرة تستر وجهها قدر الامكان .
ولما همت بالخروج سمعت صوت بيرت يقول :
-في أي حمام ؟
اكتملت الفاجعة ، فلم يكن كافياً وجود جوليا على الطائرة بل تبين ان بيرت يقودها والمضيفة اسرعت لاعلامه بما شاهدت واحضاره ليتأكد بنفسه .
هل تجد لين مخرجاً من هذه المصيدة الجديدة؟ ولو استطاعت خرق معدن الطائرة والقاء نفسها في الهواء لما قصرت لحظة ، فالموت هكذا اسهل الف مرة من الموت البطيء في مواجهة بيرت . كيف لها ان تقنعه انها ليست نيتا؟ هل باظهار جواز السفر الذي يحمل اسم لين ماكسويل؟ خياران احلاهما مر كالموت.\
وبينما هي تحاول ايجاد حل سمعت طرقة على الباب ارتعدت لها فرائصها وكادت تسقط الحقيبة من يدها ، لكنها تمكنت من ان تقول :
-لحظة واحدة لو سمحت.
وبسرعة اخرجت من حقيبتها ماتيسر من أدوات الزينة وغطت شفتيها باحمر شفاه كثيف وعينيها بصباغ ازرق براق ، كل ذلك لتبعد الشبهة عنها لأنها كنيتا لويس لم تكن تضع الشيء الكثير على وجهها.
وأخيراً فتحت الباب وخرجت مخفضة رأسها ومعتذرة :
-آسفة لتأخري.
غير ان بيرت لم يكن ليدعها تفلت ببساطة فقبض على ذراعها بقوة حتى كادت تصرخ وقال :
-اسمحي لي يا آنسة .
تغلبت لين على خوفها استدارت لتواجه بيرت فاذا بها ترى فيه رجلا مختلفاً تماماً عن الذي عرفته ، فملامحه الوسيمة ترزح تحت اثقال الحزن والهم وعيناه الساحرتان فقدتا بريقهما بفعل العذاب والمعاناة.
نظر اليها الرجل بتمعن والتردد ظاهر على محياه لا يدري ماذا يقول. فاخذت لين الباردة وقالت :
-بيرت ! بيرت داين ، اليس كذلك؟
لا شعورياً شدد الرجل قبضته على ذراعها مجيباً:
-نعم.
نجحت لين في رسم ابتسامة مزورة على شفتيها واضافت :
-كم غيرك الوقت يا بيرت ؟ ( ولما بقي صامتاً اضافت) يبدو انك لم تعرفني انظر الي جيداً.
امعن الرجل النظر اليها لكن قوله عكس فشله :
-اسمك لا يحضرني مع الأسف .
-أنا لين ، لين ماكسويل التي عملت معك منذ مدة طويلة .
ارتاحت الفتاة عندما رأت الذهول والدهشة يتسللان الى نظراته وشعرت بيده حرر ذراعها المتألمة ويقول :
-لم يخطر ببالي ابداً انك لين .
-لماذا اوقفتني اذن ؟
-لقد ظنتك المضيفة امرأة اخرى .
وهنا تدخلت جوليا:
-اقسم لك اني رأيتها.
قاطعها بيرت بحدة :
-لاشك انك مخطئة .
وباشارة من يده صرف المضيفة ليتوجه الى لين :
-تبدين مختلفة كثيراً عن السابق.
-قد يتغير المرء تماماً خلال خمس سنوات.
نزه الرجل عينيه متفحصاً اياها فلم تستطع كتم شعور بالحرج والارتباك وقالت:
-لن أؤخرك اكثر عن قيادة الطائرة .
توجهت نحو مقعدها مضيفة :
-سررت برؤيتك يا بيرت .
شعرت لين وهي تبتعد عنه ان نظراته سهام تنفذ الى صدرها وتعريها من الستار المزيف الذي لفت به نفسها . وما ان غرقت في مقعدها حتى


شغلت نفسها بصحيفة تلهيها عن التفكير ببيرت وبلحظات الهلع التي اجتازتها .
وبعد طول انتظار حطت الطائرة في مطار هيثرو في لندن وان بخبطة قوية اخافت المسافرين اذ يبدة ان بيرت فقد توازنه عندما رآها وكاد يودي بالطائرة وركابها.
كانت لين اول من غادر الطائرة الى الباص ومنه الى اروقة المطار راكضة حتى تنهي المعاملات الشكلية وتعود الى بيتها . ولسوء حظها تأخرت في استلام حقيبتها والمرور بحاجز الجمرك ، وفيما هي تدفع العربة بالحقيبتين الثقيلتين باتجاه موقف سيارات الاجرة سمعت صوت بيرت يقترح :
-دعيني اساعدك في دفع العربة .
صدمة جديدة ارعبتها وكأن هذا الليل الطويل لن يعرف نهاية .
وبدون ان ينتظر منها رداً امسك بيرت بدفة القيادة سائلا :
-اقرأ على حقيبتك اسم كيلبورن . هل تقيمين هناك؟
-نعم وسأستقل القطار الى المنزل.
كذبة حاولت بها صرفه ، غير انه لم يزل محافضاً على ميزة العناد والاصرار اذ قال :
-انه يوم الحظ بالنسبة اليك فانا ذاهب بسيارتي الى المنطقة نفسها وارحب بذهابك معي.
أي وصف ينطبق على هذا اليوم باستثناء كلمة "حظ" فلين لم تكن تحسب حساباً لهذا اللقاء المزعج ، وهي حاولت التهرب من جديد فقالت:
-لاضرورة للازعاج فالقطار يوصلني الى البيت بسهولة .
-لا ازعاج البتة والقطار سيرهقك بعد تعب الانتظار في مطار نيس.
انبأها حدسها ان في كلامه شكوكاً فجزعت ولم تزد في الرفض:
-حسناً سأذهب معك بشرط الا تغير طريقك من اجلي.
-لا ، ابداً.
دفع بيرت العربة باتجاه المخرج المخصص لافراد الطواقم ولين تحث الخطى لتحلق به وهي تتساءل ما اذا كان تبعها عمداً ام ان ذلك حصل مصادفة . واخيراً توقف بيرت قرب سيارة فخمة وضع الحقيبتين في صندوقها بعد ان رمق لين بنظرات ذات الف معنى ومعنى ، غير ان الفتاة سيطرت على خوفها بعد ان عاد اليها الشعور بالحقد والكراهية تجاه هذا الرجل الذي جعل من الاتجار بالمخدرات وسيلة للعيش الرغيد ومنه شراء هذه السيارة الفخمة .
قاد بيرت السيارة ذات المحرك القوي بسرعة ونعومة، وسرعان ما بلغا وسط مدينة لندن المزدحمة . وخلال الطريق لم يتكلم الا عندما طلب منها اعطاءه علبة السكائر الموضوعة على المقعد الخلفي ففتحها واشعل السيكارة ثم استدرك وقال معتذراً:
-آسف لأني اقدم لك سيكارة ، ولكنك لا تدخنين على ما اذكر .
-ذاكرتك لم تحنك .
قالت الفتاة ذلك وهي تسأل نفسها ما اذا كان يذكر أشياء أخرى عن لين ماكسويل كأنفها المميز مثلا والذي تغير تماماً بعد الجراحة التجميلية . تجاوز بيرت منطقة ريجنت بارك قاصداً شمال المدينة لكنه مالبث ان توقف قرب احد المقاهي وقال :
-لننزل ونحتسي فناجين من القهوة .
-افضل التوجه الى المنزل مباشرة لأني مرهقة فعلا.
امتلأت السيارة بجو من التحدي بخاصة عندما اصر بيرت:
-عشر دقائق جديدة لن تميتك بعد ساعات من الانتظار .
رضخت الفتاة للأمر الواقع بعدما طلبت منه الا يتعدى الامر الدقائق المعدودة لأنها كادت تغفو في السيارة .
دخلا المقهى المعتم ذا الاجواء الانكليزية الداكنة التي تذكر بلندن القرن السابع عشر واختارا طاولة قريبة من المدفأة حيث تضطرم نار كبيرة جالبة الدفء. جلست لين بينما توجه بيرت لاحضار القهوة وعيناها عليه تتأملان قامته المديدة والمليئة عاجزة عن طرد احاسيس شبيهة بما كان يختلج في قلبها أيام زمان.
عاد بيرت حاملا القهوة وبعض قطع البيسكويت فارتشف قليلا من فنجانه وسأل :
-ماذا كنت تفعلين في فرنسا؟
-كنت في اجازة لاسبوعين .
-مع من ؟
-وحدي.
لم يقتنع بيرت بالجواب الاخير غير انه لم يصر فتابع اسئلته :
-ماذا تعملين في هذه الايام ؟
-وضيفتي مكتبية تشتمل التوثيق والضرب على الآلة الكانبة وما شابه .
-أين مركز عملك ؟


في لندن ( ولتجعل الجو طبيعياً هادئاً اضافت ) ارى انك رقيت من مساعد طيار الى طيار ، غير اني اذكر حبك للسفرات الطويلة فلماذا اخترت خط نيس-لندن؟
-عملت طويلا على الخطوط البعيدة ولم انتقل الى اوروبا الا منذ فترة وجيزة .
لم يزح عينيه عنها اثناء الجلسة الشيء جعلها تتوتر وتنظر الى ساعتها قائلة :
-اليس من المفروض ان يقفل المقهى الآن ؟
-لا تخافي فعندما ينوون الاقفال سيطردوننا (امسك معصمها الايسر متفحصاً يدها وزاد) ارى انك غير متزوجة او مخطوبة مما يعني ان لا احد ينتظرك في البيت .
تمنت لين الا يكون شعر بارتجاف يدها فسحبتها وقالت :
-مازلت اعيش وحيدة .
-اليس هناك احد في حياتك ؟
اجابت باقتضاب وبرود :
-لا.
ساد الصم بينهما ورأت لين انه ينوقع ان تقول له شيئاً والشيء الوحيد الذي يجب ان يقال لبيرت يتعلق بالحادثة التي مر بها . ومن جهة اخرى خوضها هذا الموضوع يبعد عنها الشبهة . فشحنت عينيها بالأسى والأسف وقالت:
-آسفة لماحصل لزوجتك فقد قرأت عن الحادثة في الصحف .
أوشك الحزن ان يقطر من حدقتيه ولم يجد سوى كلمة واحدة :
-شكراً.
-هل استطاعوا … هل عثرت …
خانتها العبارات فالبراعة في الكذب لها حدود لين ولاتقدر على الذهاب اكثر من ذلك في هذه اللعبة المتمادية كون الرجل الجالس امامها محطماً شر تحطيم . فهم بيرت مقصدها فأجاب :
-لم يتوصل رجال الشرطة الى كشف اي خيط او العثورة على اي اثر لها .
استوى في مقعده مردفاً:
-اتعلمين انك تشبهينيها كثيراً برغم اختلاف لون الشعر والعينين ولهذا ظنتك المضيفة نيتا .
ادعت لين الدهشة فقالت :
-اذكر ان المضيفة نادتني باسم زوجتك على الطائرة لكني الم انتبه للأمر . فهمت الآن لماذا القيت القبض علي إذن (ضحكت وتابعت) ظننت انك جئت لتلقي علي التحية بعد كل تلك السنوات .
-اعترف اني نسيتك تماماً يا لين لكن الشبه بينك وبين نيتا كبير جداً.
اطلقت لين ضحكة جديدة قائلة :
-لا غرابة في ذلك لأن الرجال يسعون عادة ولا شعورياً وراء نموذج معين من الفتيات يعجبهم ، وأظن ان الكثيرات من اللواتي عاشرتهن يشبهنني .
أشعل بيرت سيكارة جديدة وقال :
-تفسير معقول يصدر من خبيرة بأمور الرجال .
-ومن أين آتي بالخبرة ؟ أمن سجن النساء؟
لعنت لين نفسها لسماحها للسانها بالتفوه بهذه الكلمات وتمنت لو انها تختفي من الوجود في هذه اللحظة فترتاح من مواجهة بيرت الذي زادها حرجاً بسؤاله :
-وهل أمضيت في السجن سنة أو اكثر ؟
تلقت الفتاة هذه الكلمات بمرارة لأنها تعني ان بيرت لم يكن مكترثاً لها الى درجة انه نسي مدة عقوبتها .
-انعمت علي المحكمة بثلاث سنوات .
-الم يمنحوك تخفيضاً لحسن السلوك؟
-لا ، فلقد اكملت المدة حتى الدقيقة الأخيرة ( نهضت لين من كرسيها مضيفة ) أود الذهاب الآن لو سمحت .
-هيا بنا .
سبقته الى السيارة ريثما يسدد الحساب . واكملا طريقهما بصمت الى ان بلغا البناء الذي تقطن فيه فترجلت من السيارة واخرجت حقيبتها من الصندوق عندما ترجل بيرت بدوره وقال :
-احد زملائي الطيارين يقيم حفلة غداً مساء بمناسبة ذكرى ميلاد زوجته في منزله الصيفي في مقاطعة كنت ، فما رأيك بمرافقتي ؟
-شكراً على الدعوة ، لكن اشغالي الكثيرة ستحرمني تلبيتها .
-كما تشائين ، فلنستعض عنها بعشاء اذن .
-لايمكنني …
اسرعت يد بيرت الى اقفال فمها فجاءت ملامسته كصقعة هزت كيان لين تبعها قوله الجازم :


-عشنا اياما جميلة معاً افسدها سوء تفاهم سخيف ، فلنحاول تنقية الاجواء الآن بعد انقشاع الغمامة .
الم يجد تعبيراً عن اتهام احدهما الآخر بارتكاب جريمة خطيرة سوى "سوء تفاهم سخيف" . اغتاضت لين لذلك وقالت بقساوة :
-أنا لا اخرج مع رجال متزوجين .
اثار قولها ضحك بيرت المجبول بالمرارة الناصحة من كلماته :
-متزوج ؟ وهل تسمين رجلا اختفت عروسه بعد ساعات من الزفاف رجلا متزوجاً؟ ( مرر يده على وجنتها وأضاف ) ارغب في رؤيتك من وقت الى آخر فأنا اقضي معظم وقتي في انكلترا .
اكرهت لين عقلها على التفكير برغم صعوبة الموقف . فالى ماذا يرمي بيرت بعد ماحصل بينهما؟ وما السبيل الى التهريب منه بعد ان عرف عنوانها ؟ قررت مسايرته مؤقتاً حتى تتدبر لها منزلا جديداً وترتاح منه.
-متى علينا مغادرة لندن في حال اردنا الذهاب الى الحفلة الراقصة ؟
- في حوالي السابعة مساء لأن الرحلة تتطلب ساعة .
-حسناً يا بيرت ، سأنهي ماعلي واذهب الى الحفلة على أمل ان تكون مسلية .
-لا تقلقي فمعروف عن بوب فريمان انه يقيم حفلات رائعة .
افترقا بعد الاتفاق على اللقاء هنا في السابعة ولين لا تبغي من ذلك سوى الوقت الكافي لتوضيب حقائبها والنزول في فندق حتى تجد مكاناً تقطن فيه بعيداً عن بيرت ومتاعبه .
عجزت الفناة عن النوم برغم الارهاق الشديد لان بيرت بقي مائلا في ذهنها طوال الليل يقض مضجعها ويحرمها لذة التمتع بقسط ولو يسير من الراحة . بقيت صورة وجهه المتعب والذي شاخ بسنة واحدة منطبعة في مخيلتها تعيد اليها ذكريات بشعة تتمنى ان تنساها وتدفنها في غياهب الماضي الحزين .
نهضت من سريرها في السادسة وتناولت فطوراً خفيفاً قبل ان تبدأ بتوضيب اغراضها وتغطية الاثاث بشراشف بيضاء الى ان تتدبر شاحنة تنقله الى شقتها الجديدة .
في الثامنة والنصف باحد مكاتب السيارات ليرسلوا لها سيارة في التاسعة ، لكن المفاجأة المذهلة حصلت بعد خمس دقائق فقط عندما رن جرس الباب وفتحت لتجد بيرت منتصباً امامها كشبح خارج من كابوس مزعج . وبالطبع لم ينتظر الرجل دعوة بالدخول اذ اقتحم الشقة ليجد الحقائب محزومة والأثاث مغطى فقال بشيء من الحدة :
-اراك راحلة .
اقفلت الباب وواجهته قائلة :
-لا ، ولكني كنت تعبة في الامس فلم أكلف نفسي مشقة فتح الحقيبتين .
-ولماذا غطيت الاثاث بالشراشف؟
-لئلا يمتلئ بالغبار اثناء غيابي في فرنسا .
-ولمن هذه الكتب الموضوعة في الصناديق ؟
-انها لصديقتي التي مكثت في الشقة بعد خلافها مع زوجها .
تابع بيرت الاستجواب :
-وهل هي هنا الآن؟
تنفست لين الصعداء بعد ان انطلت عليه الكذبة وأجابت :
-عادت الى بيتها بعد تسوية الخلاف وسترسل في طلب اغراضها يوم الاثنين .
نظرت اليه يقف في وسط الغرفة التي كانت لها ملاذاً بالفرار فاذا به يحولها جحيماً لا تعرف كيف تولي الادبار لتتخلص منه ، وتابعت :
-ما الذي جاء بك في هذه الساعة المبكرة؟
-حدث تغيير مفاجئ في البرنامج فبوب لم يستطع توفير الوقت الكافي للتحضير للحفلة ، لذا طلب مني الذهاب الى المنزل لتحضيره .
-وتريدني بالتالي ان أوافيك في المساء .
-ليس تماماً ، بل اريدك ان تذهبي معي منذ الآن لنمضي النهار معاً.
-سبق وأبلغتك ان مشاغلي كثيرة اليوم .
-الا يمكنك تأجيلها الى الغد ؟
أجابت الفتاة الحائرة :
-أمامي نهار طويل من التسوق ...
اقترب منها ووضع يديه على كتفيها وقال :
-ستذهبين معي.
-بالطبع ولكني افضل موافاتك في المساء .
-لن تستطيعي بلوغ المكان بدون سيارة .
سأستأجر سيارة .
-العنوان معقد للغاية ولن يمكنك الوصول بسيارة اجرة . من الافضل ان تأتي معي الان .
في هذه اللحظة رن جرس الباب من جديد فتولى بيرت فتحه وأطل رجل قال :
-الم تطلب سيارة الى فندق كوينز بالاس يا سيدي ؟


تشنج بيرت ورمى لين بنظرات حادة كنصل السيف ثم اخرج من جيبه بعض المال متوجهاً الى الرجل :
-هذا ما يعوض تعبك فقد اضطررنا الى تغيير الخطة ولن نحتاج الى السيارة الآن .
اقفل الباب وقال للين :
-فندق كوينز بالاس؟
كانت لين قد اعدت الجواب :
-اذهب الى هناك دوماً لأني اصفف شعري عند مزين يقع محله قرب الفندق .
-شخصياً ارى ان شعرك ليس بحاجة الى تصفيف .
ازاء تصميمه ادركت لين ان لاسبيل الى التهرب فالرجل اعند من ان يرجع خائباً ، لذلك قررت الرضوخ لمشيئته فقالت :
-فليكن ماتريد يا بيرت ، سأذهب معك الى بيت صديقك هذا ... هل استطيع تبديل ملابسي هناك ؟
-بالطبع وانصحك بجلب ثياب الاستحمام فبامكاننا السباحة في حوض المنزل اذا وجدنا الطقس دافئاً.
نفذت لين اقتراحه ووضعت كل ما يلزمها من ادوات تزيين في حقيبة صغيرة ثم انطلقا بسيارته في رحلة اين منها رحلة معاناة السجن الرهيبة.
كنت من اجمل مناطق انكلترا فالخضرة فيها مساحات لا تنتهي ، ومازادها جمالا ان توقعات بيرت صحت فالطقس تحول دافئاً وكأن الصيف اراد ان يودع الناس بذكرى حارة قبل ان يطرده برد الخريف . وخلال الرحلة كانت لين تحاول ان تحلل وتعلل سبب اهتمام بيرت بها واصراره على الخروج معها ، الأنه يحاول اشعال جذوة حب انطفأ منذ زمن بعيد ؟ ام لأنها تذكره بعروسه الضائعة نيتا؟ والله وحده يعلم العواقب الوخيمة التي ستحل بلين لو اكتشف بيرت الحقيقة والخديعة التي راح ضحيتها . وصار كل أمل الفتاة ان يمضي هذا اليوم بسلام حتى تطلق ساقيها للريح وتختفي من وجه الرجل الذي افسد حياتها .
وفيما هي غارقة في وساوسها خطرت لها فكرة جديدة زادتها سوداوية وقلقاً، فماذا لو كان هدف بيرت مجرد مغامرة عابرة ؟ ونظرت اليه متسائلة عما فعله بغياب نيتا خلال السنة الفائتة ، هل بقي محروماً من النساء وفاء لحبه ام انه نسي او تناسى متاعبه مع نساء أخريات؟ وخشيت مايخبئه لها هذا النهار عاجزة عن ايجاد سبيل للنجاة من براثن بيرت . ترك الرجل الطريق العام سالكاً دروباً فرعية غير معبدة في نهايتها بيت صغير في حضن تلة خضراء.
برغم تعاظم مخاوفها عبرت لين عن اعجابها بالمكان:
-انه بيت رائع!
-يستحق تعب الطريق، اليس كذلك؟
ترجلا من السيارة ولين تقول :
-كنت على حق يا بيرت عندما قلت اني لن اتمكن من الوصول الى هذا المكان المنعزل عن البشرية وحدي.
اشار بيده موافقاً:
-اقرب مكان مأهول مزرعة تقع على الجانب الآخر من النهر ، كما ان خلو البيت من هاتف يجعله اكثر انعزالا.
دخلا حديقة مليئة بالزهور على انواعها يزيدها عفوية عدم الاعتناء بها فتبدو اللوحة الملونة طبيعية لا تدخل ليد الانسان فيها.
والعبير الطيب الذي ملأ الجو انسى لين قلقها والرجل الذي بقربها وأثار في نفسها ذكريات ميامي الحلوة حيث كان بيرت غير بيرت اليوم.
فتحت عينيها على الواقع لتراه يراقبها وشيء من البريق عرف طريق العودة الى ناظريه ، هل يتمتع بالذكريات نفسها؟ ولتتخلص من هذا النزال النظري دخلت المنزل ذا السقف المنخفض والمدفأة العتيقة التي تحتل مكاناً كبيراً في غرفة الجلوس . ولم يكن في المنزل اثاث كثير ، غير ان الموجود يكفي ويريح ، فالكنبات الرعيضة وكراسي القش تتمشى مع جو البيت ، وغرفتا النوم في الطابق الثاني مجهزتان بشكل ممتاز اضافة الى الحمامين الكاملين .
بدأ بيرت بفتح النوافذ لتهوئة المنزل المقفل منذ مدة طويلة لأن بوب فريمان صديق بيرت أمضى عطلته هذه السنة خارج البلاد ولم يستعمل منزله الصيفي . بعد ذلك فتح الباب الخلفي المطل على حديقة نما فيها العشب الأخضر كثيراً ما جعل لين تقول :
-عليك ان تقص العشب قبل المساء.
-سأفعل ذلك بواسطة الآلة الخاصة .
خلع بيرت كنزته ثم قميصه كاشفاً العضلات القوية والبشرة المحروقة بأشعة الشمس ثم قال :
-لماذا لا تلبسين ثوب الاستحمام كما سأفعل ؟
زعمت لين انها لم تسمع فسألت :
-ماذا علي ان افعل لمساعدتك؟


لماذا لا تقطفين تشكيلة من الازهار لتزيين الدار ؟
ناولها بيرت مقصاً خاصاً وسلة فانشغلت بالحديقة تختار ازهاراً متنوعة وتخيف الفراشات الوادعة المطمئنة في هذا الملاذ البعيد عن سطوة الانسان . شعرت لين اثناء عملها بحر شديد فقررت الصعود الى غرفة النوم وارتداء ثوب الاستحمام لأن البقاء في هذه الثياب مزعج فعلا .
بينما هي تخلع ملابسها في الغرفة فتحت خزانة مثبتة في الحائط لتعليق ثيابها فرأت بزة طيار وملابس رجالية اخرى . اين ملابس زوجة بوب فريمان التي سيحتفل بعيد ميلادها الليلة ؟ اثار ذلك الخوف في نفسها وتحول الخوف الى رعب عندما فتحت درجاً لترى فوق الجوارب والملابس الداخلية صورة لها موضوعة في اطار معدني .
كانت الصورة تمثل بيرت ونيتا في ثياب العرس فعلمت عندها ان بيرت استدرجها الى هذا المكان الذي يخصه ولا يمت بصلة الى المدعو بوب فريمان . في هذا الوقت لم تنتبه لين الى توقف صوت الآلة الكهربائية وصعود بيرت الى الغرفة الا عندما رأته واقفاً يحدق فيها فرمت الصورة على السرير وقالت بسخرية :
-من الواضح ان هذا المنزل يخص صديقك بوب .
التقط بيرت الصورة واعادها الى طاولة موضوعة قرب السرير اي الى مكانها الاصلي ، فاضافت لين :
-الم تزعم ان البيت يخص صديقاً؟
اجاب متهكماً:
-لا اذكر ذلك ، بل قلت انه يقيم حفلا هنا ( اردف مشيراً الى الصورة ) ارى انك عثرت على صورة لزوجتي .
لم تستطع لين التعليق لأن شوكة كبيرة علقت في حلقها ففتحت الخزانة واعادت ارتداء قميصها .
-اليست نيتا جميلة ؟
-نعم.
-لماذا تعيدين ارتداء ملابسك؟
غريب كيف يعيد التاريخ نفسه فلين وجدت نفسها في الموقف عينه عندما دخل عليها وهي ترتدي ثيابها في النادي الرياضي في سنغافورة وكما فعلت هناك صاحت :
-اخرج من هنا !
امسك الرجل بقميصها ومزقه شر تمزيق مؤكداً:
-مازال الوقت باكراً لاخرج الآن .
-لا تفعل ذلك يا بيرت .
- اتعلمين انك تشبهين زوجتي كثيراً.
حاولت الفتاة الافلات كمن قبضته لكنه شدها اليه فانسحقت بين عضلات صدره العريض وعلقت كالفريسة اليائسة تحت انظاره الحادة . وفجأة ادركت ان في عينيه غضباً لا اثارة ، ورغبة في القتل لا رغبات اخرى . لابد اذن انه نصب لها هذا الشرك عمداً ليقتص منها كما يحلو له بعيداً عن اي نجدة محتملة . ولما رأى الخوف في عينيها ابتسم بازدراء فاطلقت لين صرخة مدوية وافلتت من يديه بقدرة قادر .
لحق بها عند اعلى السلم ولوى يدها كما شد شعرها بعنف جعلها تنفجر باكية من الألم غير قادرة على الحراك او الصراخ .
جرها الى غرفة النوم جراً ورماها على السرير ساحقاً ظهرها بركبته ، دافناً وجهها في الوسادة ، مردداً:
-آه كم تشبهين زوجتي المختفية ! ولا اشك في انك تحملين العلامة الفارقة نفسها على صدرك .
قضى بيرت على ماتبقى من ملابسها وروى فضوله بعدما تأكد من ان لين ماكسويل ليست سوى نيتا لويس ، وانه كان ضحية لعبة خداع مارستها لين منذ البداية ببراعة فائقة . واستغلت الفتاة شروده لتقفز هاربة ، بيد انه سرعان ماتبعها وسمرها على الحائط قبل ان تدرك الباب. فاستسلمت لقدرها محاولة ستر عريها بيدها وبيرت يصرخ كالمجنون :
-ايتها الماكرة المخادعة ! تستحقين الموت على ما فعلته بي !
احكم قبضته على عنقها وقال :
-لماذا لا أدق عنقك الجميل هذا وأريح العالم منك !
أطلقت لين زفرة ألم وأصابعه تغرز في عنقها الناعم ، ولما رأت الشرر يتطاير من عينيه أدركت هول الأمر فلم تقوَ على التحمل وسقطت بين يديه كالخرقة مغمياً عليها .


8-سقوط الأقنعة



شلال من المياه الباردة نجح في اعادة لين الى وعيها فأفاقت مذعورة تمسح الماء عن عينيها لتجد نفسها مستلقية على السرير وبيرت يقف محدقاً كالذئب الكاسر .
وبيأس اطلقت صرخة مخنوقة :
-ساعدني يا الهي !
ثم تحسست آثار اصابعه على عنقها واخذت تذرف الدموع غزيرة وهي تتوقع منه هجوماً جديداً . واذا به يجلس على السرير ويبدأ بالاستجواب:
-كيف نجحت في خداعي طوال هذه المدة ؟ كيف اوهمتني انك نيتا لويس؟
ولما رآها صامتة صفعها بقوة مهدداً:
-اجيبي ايتها الحقيرة والا ازهقت روحك !
نظرت لين الى وجهه الغاضب فعلمت ان لا مجال للتهرب أو الكذب ، وان عليها البوح بالحقيقة ، فاخبرته بصوت متهدج كيف أجرت عملية لانفها وكيف صبغت شعرها ووضعت عدستين ملونتين على عينيها .
لم تكن هذه التفاصيل لغزاً بالنسبة الى بيرت فهز رأسه سائلا :
-كيف نجحت بالاختفاء في تونس؟
كفكفت الفتاة دموعها واكملت يدفعها الخوف من سخطه الى الاعتراف بكل شيء:
-لم اذهب الى مصح لاتبع حمية كما قلت لك ، بل توجهت الى تونس حيث حجزت غرفة في الفندق باسمي الحقيقي وعدت الى انكلترا من أجل ...
صمتت فجأة لأن ما اوشكت ان تقوله سيثير سخطه أكثر ، لكنه صفعها من جديد لئلا تغفل عنه أصغر تفصيل ، فقالت:
-عدت من أجل حفل الزفاف .
عندها ادرك بيرت خيوط اللعبة فاكمل سرد الاحداث:
-وهكذا استطعت الاختفاء بتحولك من نيتا الى لين بطريقة ما ، ولا أحد سيشك بأن السائحة الانكليزية هي نفسها العروس المخطوفة ! وكي تمعني في شرورك اتصلت بي زاعمة ان الخاطفين اخفوك في مكان ما من السوق حيث اسمعتني صراخك في اليوم التالي فزدت في حيرتي وحيرة رجال الشرطة . ألم يكفك الجرح العميق الذي فتحته في قلبي حتى تمعني طعناً وتمزيقاً ايتها السادية المجرمة؟
تحول بيرت الى بركان على وشك الانفجار فاصاب لين هلع شديد وقاومت محاولة الافلات من انيابه ، غير انه عادها الى السرير بدفعة واحدة ، فصاحت :
-انت تؤلمني كثيراً ، أرجوك دعني اذهب !
-طريق الألم ما زال في بدايته يا حلوتي ، سأجعلك تدفعين ألماً وعذاباً ما يكفي لتسديد ديوني ! ولا تنسي انك مدينة لي بأشياء أخرى منها الحرمان من ليلة الزفاف الأولى مثلاً.
واذا بعينيه تجوبان جسمها ولم يأبه بيرت الجائع النهم الى توسلاتها ودموعها مصمماً على نيل مأربه بعد طول انتظار . ومن يأسها استمدت لين شجاعة ومن ضعفها قوة ، فرفسته بشدة على معدته وافلتت منه ، ثم بدل ان تولي الادبار انهالت عليه ضرباً كالمحنونة وانشبت أظافرها في صدره صائحة بنبرة هستيرية :
-ايها الحقير الطماع ! مافعلته بك نقطة في بحر لانك تستحق أعظم من ذلك !
أراد بيرت التكلم لكنها سبقته والغضب العارم يطرد الخوف من نفسها :
-لقد سلبتني ثلاث سنوات من عمري ! سلبتني اسمي وحرمتني منزلي وعائلتي ، رميتني الى الذئاب اصارع للاستمرار وسط عالم الجريمةلا يغذيني سوى الحقد الذي زرعته في نفسي ! أمضيت أيامي أخطط للثأر منك أيها المهرب الدنيء ! وتدعي بعد هذا كله انك مظلوم ومعذب؟
هدأت الفتاة فجأة وجثت على السرير تحدق في الفراغ وأخذت ترتعد كالورقة في مهب الريح وانفجرت باكية . أما بيرت فلم يحرك ساكناً وظل يتفرج عليها لبضع دقائق قبل ان ينهض الى الخزانة ويخرج منها ثياباً ثم يناولها أياها قائلا:
-ارتدي ملابسك ووافيني الى الطابق السفلي.
لم تتحرك الفتاة من مكانها الا بعد دقائق عندما ادركت انها اصبحت وحيدة في الغرفة . فنهضت الى الحمام وغسلت وجهها وسرحت شعرها ، ثم ارتدت ملابسها استعداداً لجولة جديدة مع بيرت. فهي تعلم ان الرجل لم ينتهِ منها بعد وانه لم يحضرها الى هذا


هذاالمكان النائي ليلاعبها، لذلك عليها ان تكون فولاذة الاعصاب لتقوى على مواجهة ما سيأتي.
وجدته ينتظرها في غرفة الجلوس نافثا دخان سيكارته، فالتفت اليها وامرها بالجلوس فامتثلت لأمره لان العصيان لن يجدي نفعا والغريب ان بيرت بقي صامتا لدقائق طويلة يحدق فيها وهي تسترق النظر الى عينيه محاولة المواجهة وما تلبث ان توهن وتخسر المعركة وبعد طول انتظار قال بصوت متعب:
- لقد كنت على خطأ يالين منذ حصول الحادثة حتى هذه اللحظة، فأنا قلت وأكرر اني لم ادس المخدر في حقيبتك.
رفعت الفتاة عينيها اليه رافضة التصديق فاكمل:
- ما الفارق ان صدقتني او لا فما فات مات، والسنوات الثلاث مرت.
انتظر تعليقها الذي لم يأت فتابع:
- لكن ما حصل اليوم جعلني ادرك شيئا مهما وهو انك بالفعل برئية من تهمه التهريب ومؤمنه اني المجرم الحقيقي. في البداية ظننتك تحاولين الايقاع بي لتبرئي ساحتك بعد ان ضاق الخناق حول عنقك واقفلت سبل النجاة في وجهك، اما الان فجاء ثأرك المحرق دليلا ساطعا على براءتك وبراءتي التي ترفضينها.
نهضت لين من مقعدها قائلة:
-اما تزال تحاول الانكار والقاء المسؤولية علي؟ حتام نمضي في التنصل من جريمتك النكراء؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامه الشفقه وهز رأسه مؤكدا بهدوء:
- لست المجرم الذي تبحثين عنه ياسيدتي.
- غير معقول! تحاول اقناعي ان انتقامي ضاع سدى( ارتفعت نبرتها ورددت) غير معقول! مستحيل!
- كلانا كان على خطأ،وانا اعترف به الان فلماذا لاتصدقيني؟اقترب منها وامسك بكتفيها مضيفا:
- انظري الي جيدا وافتحي عقلك الغبي. ما حاجتي الى الكذب الان؟ انا بريء من مسألة الهيروين ولا املك دليلا على صدقي غير كلمة شرف.
درست لين نظراته لتميز الحق من الباطل فلم تفلح في النفاذ الى ضميره، فقالت بيأس:
- لقد مر وقت طويل جعل الحقد يتأصل في قلبي، ولن تنجح مجرد كلمة في نزعه ونسيان الماضي.
ابتعد عنها واتكأ على المدفأة ليشعل سيكارة جديدة ويقول:
- حسنا، مازلت تعتبرينني كاذبا،ولكن امنحيني الفرصة لاثبت اقوالي على الاقل.
- ماذا تعني؟
- فلنفتح تحقيقا جديدا لاكتشاف الفاعل الحقيقي ولو اضطرنا ذلك للتحقيق مع جميع المسافرين وافراد الطاقم الذين كانوا على متن الطائرة في ذلك اليوم.
- انت مجنون! فمن يستطيع كشف خيوط جريمة بعد خمس سنوات من حصولها والادلة قد زالت! ثم لماذا تزعج نفسك وتبحث عن المهرب؟
اجاب بحزن وكأنه يتمنى ان يكون جوابه مختلفا:
- لأدفع التهمة عن نفسي واجنب نفسي التعرض لمؤامراتك من جديد.
- ومالذي يجعلك تعتقد اني سأشاركك البحث عن سراب؟
ابتسم هازئا واجاب:
- لا خيار لك في ذلك، لأني لن ادعك تفلتين من قبضتي قبل انكشاف الحقيقة.
- واذا رفضت البقاء معك؟
- عندها يصبح لزاما علي اعلام الشرطة بأن المواطنه الانكليزية المختفية نيتا لويس ماهي الا السجينة السابقه لين ماكسويل، ولا اعتقد انهم سيسرون كثيرا بانتحالك شخصية زائفه واستعمالك جوازا مزورا.
عجزت لين عن الكلام فبيرت يملك سلاحا مصلتا على رقبتها يجعله متحكما بها. توجهت الى النافذة تنظر الى البعيد باحثه عن حل اخر غير الهروب لان بيرت سيظل ملتصقا بها بعدان وجدها ولن يفرط بها ابدا .
اضف الى ذلك ان الخروج من البلاد سيصبح مستحيلا اذا سلم اسمها الى الاجهزة المختصة ولن يمكنها استعمال اي من الجوزاين.
وحاولت الفتاة فهم مقصده من فتح تحقيق جديد. الانه يود تحين فرصة ليثأر منها ويرد الكيل كيلين؟ ام هو جلد في قوله وبريء حقا؟ وسرعان ما استبعدت الاحتمال الاخير لانه لو صح فان تأنيب الضمير لن يدعها تعرف الراحه طيله حياتها.
فجأة خطر لها سؤال جديد:
- كيف ومتى عرفت اني ونيتا لويس شخص واحد؟
لانت قسمات وجهه واجاب باسما:
-عرفتك منذ ان شاهدتك في الطائرة.
-وبرغم ذلك لم يبدر منك مايفضح الحقيقه.
- لقد تعلمت كيف اخفي احاسيسي وانفعالاتي، وهكذا اوهمتك بأنك في مأمن مني حتى استطعت استدراجك الى هذا المكان
- لم تقل لي كيف عرفتني.
روى بيرت فضولها بشيء من السخريه:


ايعقل ان ينسى المرء شخصاً يحبه ويهتم به ويحتل عقله وروحه ؟ثقي اني اذكر كل تفاصيل والدقائق عنك من نعومة بشرتك الى حركات راسك ويديك ومشيتك ، من صوتك الى بتسامتك الى الخوف الذي يلوح في ناظريك . كل هذه الاشياء قفزت الى عيني عندما رايتك في الطائرة ، فعلمت على الفور ان لين هي نينا . وفي اي حال كان لابد ان نلتقي يوما ، فالهروب مني الى الابد امر مستحيل .هنا ذكرته لين:
_ ولكني خدعتك في سنغافوره بدور نيتا لويس
_ لا يسعني سوى الاعتراف بهذه الحقيقه ،ومرد ذلك الى غيابك عني فترة طويله والى تصميمي على حذفك من حياتي بعد دخولك السجن واقتناعي بانك مهربه هيروين. برغم من ذلك فقد خالجني شعور غريب ان هناك شيئا مريبا في تصرفاتك وان لغزا غامضا يكتنف لقائنا.
اثارت اقواله في نفسها رعشه وارتباكا فادارت وجهها لئلا يشاهد ذلك وسالت :
_ ماذا تريد مني الان؟
_ اريد اولا وعدا بانك لن تحاولي الفرار مرة جديدة .
مرت لحظة شك قبل ان يجيب :
_ نعم .
_ ماالسبب؟
_ لاني اتفهم موقفك واعلم تمام اني كنت لافعل الشيء نفسه لو كنت مكانك ، فليس اقسى من البريء المظلوم عندما يود الاقتصاص من جلاده او ممن يحسبه جلاده.
بدات لين تخاف من نفسها ومن ضميرها لانها تشعر ان اقواله صادقه ونيته صافيه وهكذا اضطرت الى الموافقه :
_ حسنا ، اعدك باني لن احاول الفرار .
_ فلنتاقش الموضوع الان بعمق ونضع خطتنا على هذا الاساس.
جلسا يفتحان ملفا قديما كان طي النسيان وبيرت مسرورا لانها منحته فرصه ليثبت حسن نيته، انا هي فترفض الاغتراف بانها اخذت تشك فعلا في اقتناعها السابق بذنب بيرت.
بدأ الرجل بالكلام مفصلا الخطه :
_ سنبدأ اولا باستجواب افراد الطاقم ذلك لان اقتفاء اثرهم سهم جدا وسنركز على المضيفات .
_ ولم التركيز على المضيفات؟
_ هذا منطقي لأنه من الطبيعي ان تميل امرأة لارجل الى اخفاء المخدر في علبه بودرة، فوجود مثل هذه العلبه في حقيبة رجل يثير شكوك رجال الجمرك حتى في الاحوال العاديه. سأتوجه الى مكاتب الشركه .يوم الاثنين للحصول على عناوين المضيفات.
_ وهل يقبلون باعطائك أياها؟
أجاب بمكر:
_ المسؤوله هناك صديقه قديمه وبوسعي اقناعها ببساطه.
اعاد كلامه الى ذاكرتها انه شاب وسيم يملك قدرة كبيره على سحر النساء والتلاعب بعواطفهن كيفما شاء، ولن يصعب عليه بالطبع اقناع صديقته باطلاعه على العناوين.
وكمحاوله لثنيه عن عزمه قالت:
_ سوف تستغرق مقابلة هذا العدد من الناس وقتا طويلا.
_ سأطلب اجازة اداريه واتفرغ لذلك.
_وهل تتوقع استجابة الشركه لطلبك؟
_ سأدعي ان هناك جديدا عن زوجتي كما فعلت في المرة السابقه وقد اعطوني يومها سته اشهر امضيتها بالبحث المضني عنك في شمال افريقيا.
جلس بيرت ولين في السيارة بعد مقابلتهما احدى المضيفات السابقات وهي تسكن في منطقة مايفير اللندنيه الراقيه. وكان بيرت قد استبشر خيرا بالعنوان معتبرا ان سكن المضيفه في هذه المنطقه قد يعني انها توفر المال بالاتجار بالمخدرات غير ان آماله تبخرت عندما تبين ان المضيفه تركت عملها وتزوجت من احد كبار الاثرياء، كما ان المرأة اظهرت كل تجاوب واستعداد للمساعدة في كشف الحقيقة فرضيت باخذ بصماتها والخضوع لفحص طبي يثبت خلو دمها من اي مادة مخدرة. وخرجت لين بعد المقابلة والشعور بالخيبة والخجل يغمرها بعد احراج المرأة بهذا الشكل ، فتنهدت وقالت:
_ لافائدة ترجى من هذا البحث العقيم والفاعل لن يأتي ويقدم اعترافه على طبق من فضه. نحن نضيع وقتنا هباء.
لم يكن بيرت من رأيها اذ اكد:

- كفي عن مثل هذا الكلام الاستسلامي. حققنا حتى الان مع ثلاث مضيفات وبقيت لدينا اثنتان.
_ تماما، وواحدة منهن تعيش في استراليا وانت طبعا مستعد للحاق بها الى المقلب الاخر من العالم لترضي رغباتك البوليسيه.
_ وما المانع من اللحاق بها اذا كان ذلك يساعدنا؟ اين روحك القتاليه التي بها وحدها ستنجحين في اثبات براءتك؟
اطلقت لين زفره متعبه وقالت:
_ اسفه اذ اظهرت ضعفا، فمقابلة اناس عايشوا الحادثه تحيي ماضيا شائنا.
_ لنذهب لمقابلة المضيفه سوزان سوندرز التي تقطن في هتفوردشير.
_ معلوماتك تقول انها تزوجت وصار اسمها سوزان سوندرز وارنر . انا لا اذكر سوزان هذه.
_ وانا ايضا نسيتها تماما.
_ اعطني خريطة لندن وضواحيها من المقعد الخلفي لاتأكد من الطريق التي لن تستغرق اكثر من ساعه، فهتفوردشير تقع بالقرب من واتفورد على ما اعتقد.
لم تصح حسابات بيرت لان السير كان كثيفا للغاية فتوقفا لتناول الغذاء في احد المطاعم قبل معاودة الانطلاق في الاتجاه المقصود.
وصلا المكان في حوالي الثانية ظهرا ليجدا ان العنوان يشير الى بيت قديم ومهمل ولايبدو انه صالح لايواء عائلة. فترجلت لين من السيارة وتبعها بيرت قائلا:
_ هيا بنا.
_ لايعقل ان يكون هذا المنزل ملكا لتاجر مخدرات حصل على مال وفير
_ من الارجح ان يكون ساكنوه من المدمنين لا من التجار دخلا عبر بوابه حديديه صدئة الى مايجب ان يكون في الاصل حديقه حيث نمت اشواك ونباتات طفيلية مختلفه والقيت دراجه صغيرة مهترئه الى جانب بعض الالعاب المحطمة.
طرق بيرت الباب بيده ونظرا لغياب الجرس فعلا صراخ طفل يلعب في الداخل ونباح كلب لم تسكتهما اوامر امرأة فتحت الباب قائلة:
_ نعم؟
نظرت لين الى المرأة الواقفه امامها بشعرها المشعث وثيابها القذرة، تحمل والدها الحافي وتحاول اسكات الكلب الثائر. وتمكنت من معرفه زميلتها السابقه التي كانت تعمل معها على خط لندن- ميامي برغم من تحولها من فتاة رشيقه جملية الى امرأة بائسة فقيرة . اما المرأة فنظرت الى الين مستغربة ثم الى بيرت فبدا الذهول عليها، وتبعه الشعور بالخوف والذنب. وحاولت اقفال الباب بوجه الزائرين، لكن بيرت كان اسرع منها ومنعها بكتفه قائلا:
_ نود التحدث اليك قليلا ياسيدة وارنر.
دخلا المنزل وتبعا سوزان وارنر الى المطبخ تعلو جدرانه القذارة وتفوح منه روائح كريهة. وهناك جلس رجل على كرسي متحرك يحمل رضيعا بين يديه وعيناه جامدتان لاتعبير فيهما.
وقبل ان يتكلم بيرت قالت سوزان:
_ ياالهي! كنت اعلم ان الحقيقه ستنكشق يوما
واخذت المرأة تجهش بالبكاء فأمرها يبرت بلهجة وحشية:
_ اعترفي بكل شيء والا فضحت امرك للشرطة.
انهارت سوزان واقرت بكل شيء:
_ كنت مرغمة على التهريب لانقاذ حياة ستيف!
اشارت بيدها الى شبه الرجل الجالس هناك وتابعت:
_كان مدمنا الى درجة خطيرة فهدده رجال العصابه بقطع المخدرات عنه اذا لم اقم بالتهريب، ولكي يقنعوني اكثر قاموا بضربي وضربه بشدة.
_ هل كنتما متزوجين يومها؟
_ لا. انما كنا نعيش معا.
وقفت لين تشاهد مايجري امامها كشريط سينمائي خيالي باهر وهي تكاد لاتصدق السهولة التي استخرج فيها بيرت الحقيقة من هذه المرأة المنهارة . فأخبرته بعدد المرات التي قامت فيها بنقل المخدرات وكيف تم اعلامها بأن رجال الجمارك في مطار لندن تلقوا اخبار عن العملية، فدفعها الهلع الى دس العلبة في حقيبة لين على الطائرة. ولما سألها بيرت اماذا اختارت حقيبة لين لاغيرها اوضحت انها فعلت ذلك لاحتمال اكتشاف بصماتها على العلبة، فتستطيع دفع التهمة عنها بالتذكير كيف وقعت الحقيبة من يد لين في ميامي وتبعثرت اغراضها على الارض فتطوع جميع افراد الطاقم لجمعها، فيغدو وجود بصماتها على العلبة امر طبيعيا

كان للحقيقة في نفس لين وقع الصاعقه فوقفت دون حراك وكأن احدا سحب الدم من عروقها وخدر عقلها . كيف تتصرف الان حيال هذه المرأة التاعسة وحيال بيرت البرئ؟
واخيرا ارغم بيرت المرأة على تدوين اعترافها والتوقيع عليه، ثم حمل الاوراق وقال:
_ اتعلمين ان هذه الاوراق ستؤول الى الشرطة؟
اجابت سوزان باستسلام:
_ اجل ولن احاول الاعتراض او الانكار فقد ارتحت عند اعترافي بالحقيقة التي كواني كتمها طلية هذه السنوات( ثم نظرت الى ولديها واضافت) ماذا سيحل بهذين الطفلين البريئين؟
نظر بيرت الى الرجل القابع دون حراك في كرسيه المتحرك وسأل:
_ هل هذا زوجك؟
_ نعم.
_ ماذا حصل له؟
_ كان يقود السيارة وهو في حالة ضياع بسبب الهيروين فاصطدم بعمود كهربائي وصار مشلولا.
التفت بيرت الى لين قائلا:
_ لنغادر هذا المكان.
اضطر الرجل الى معاودة كلامه بصوت مرتفع حتى تسمعه لين المتخبطه في خضم من الافكار الحزينة، التي جفلت لما سمعت بيرت يدعوها للخروج. فمدت يدها طالبة اوراق الاعتراف، وعندما سلمها بيرت اياها دنت من المرأة المحطمة وقالت:
_ لاحاجة للخوف ياسوزان فلن تري لنا وجها بعد اليوم. مزقت لين الاوراق ورمتها على الارض، وخرجت مسرعه من المنزل المعتم كالسجن الى الهواء الطلق لتستطيع التنفس ورؤية نور الشمس.
انضم بيرت اليها واستقلا السيارة باتجاه الريف صامتين لايجدان كلمات تعبر عن الموقف. وبعد نصف ساعه انعطف بيرت يمينا في درب ضيقه واوقف السيارة في مكان بعيد على سفح تلة خضراء .
فتح نافذة السيارة ليتمتع بزقزقة العصافير المتنقلة بحرية بين احضان الاغصان المضيافه ، ورمق لين بنظرة اعجاب قائلا:
_ قمت بعمل جبار فعلا في منزل سوزان.
_ قاست هذه المسكينة مافيه الكفاية وعانت الامرين في منزل احقر من السجن. وفضح امرها للشرطة لن يرجع عجلة الزمن للوراء ويعيد الي سنواتي وسنواتك الضائعه.
فتحت الفتاة باب السيارة وراحت تعدو باتجاه الغابة على العشب الاخضر الطري، ولم تتوقف الابعد ان توغلت في الطبيعه الطاهرة ووقفت لتنصت الى شدو العصافير وتتأمل لوحات الجمال التي ترسمها الفراشات الملونه السابحه في الهواء ، بيتها الزهور وملعبها الرياحين.
ومكثت الفتاة في مكانها تعب من جمال الطبيعه وطيب الهواء ما ينسيها مرارة الواقع ، وعمق الوحول التي سقطت فيها واسقطت معها بيرت دونما ذنب .
لقد انتقمت من رجل برئ، وخطيئته انها لم تثق فيه ولم تؤمن بحبه . رباه كيف تستطيع التعويض على هذا الانسان الذي تلقى منها الضربات برحابة صدر وساعدها على الخروج من محنتها؟ وها هي الان تدخل في محنة اقسى، محنة وخز الضمير العادل الذي لن يريحها قبل ان يسامحها بيرت.
وصل الرجل فالتفت اليه وانفجرت:
_ انا اسفه لكل ماحصل!( وسقطت على ركبتيها صائحة) ولكن مانفع الاسف بعد حماقاتي وجرائمي؟
_ الاجوبة الصريحة قد تنفع حيث يفشل الاسف.
رفعت عينيها الدامعتين اليه هامسة بما يشبه الامل:
_ اي اجوبة؟
تردد بيرت قليلا قبل ان يقول بسرعه:
_ اكنت جادة عندما اعترفت لي بحبك قبل دخولك السجن؟ التقطت لين ورقه صفراء اسقطتها اولى جحافل الخريف واجابت:
_ لو لم اكن احبك لما استطعت ان اكرهك الى هذا الحد.
_ وفي سنغافورة؟
_ في سنغافورة كنت اكرهك واكره نفسي اكثر. فكلما امعنت في لعبتي كنت اقنع نفسي اني اكرهك حتى لا اجبن واتراجع لانني في الحقيقة...
لم تقو على اكمال الكلام فالعبرات حجبت عنها الرؤية والغصة خنقتها، فشدها بيرت اليه بعنف سائلا:
_ والان؟
القت رأسها على صدره معترفه:
_ احبك! وسأظل احبك مهما حصل


تنفس بيرت الصعداء وكأن ثقلا كبيرا ازيح عن صدره، فا حكم ذراعيه حول خصرها وهي بدورها دفنت وجهها في عنقه متنعمه بالدفء والامان بين احضانه.
_ هل استحق ان احظى باهتمامك بعد اليوم يابيرت؟ هل استحق ان تسامحني؟
_ اعتبري الامر منسيا.
_ كيف يمكنك النسيان؟
_ بيد ان قدري مرتبط بقدرك يالين مهما حاولت تفاديك والحقيقة ان حياتي بدونك تبدو بلا معنى شئت ذلك ام ابيته.
مسح دموعها بيديه وعانقها بحرارة وتعني في ماتعنيه طي صفحة الماضي الاليم وفتح صفحة جديدة من الحب والسعاده . ولين لم تهرب هذه المرة بل بادلته العناق.
ولم يعد الحبيبان الى السيارة حتى ستائر المساء التي بدأت تلقي ظلالها على اخر انوار النهار. قاد بيرت السيارة ببطء ولين ملقيه رأسها على كتفه وكأنها لاتريد الابتعاد عن حبيبها بعد الان بورصه واحدة ، فهي تكاد لاتصدق ان ماحدث حقيقه وانها وجدت اخيرا طريقها الى الهناء.
منحها بيرت نظرة وابتسامة ملؤهما الرقة والحنان واكمل الطريق حتى بلغ فندقا صغيرا محاطا بالحدائق الغناء، فاوقف السيارة قائلا:
_ هذا المكان يبدو مناسبا.
_ لتناول العشاء؟
_ بل لتمضية شهر العسل.
ضحكت لين بادئ الامر ولكنها فطنت لشيء فسألت:
_ ايمكن اعتبارنا متزوجين بنظر القانون؟
_ ولم لا؟
_ لكنني تزوجتك باسم مزيف.
_ لا آبه لذلك مادام حبك حقيقيا وأصيلا.
ترجلا من السيارة وهما بدخول الفندق عندما سألته:
_ ماذا سنقول لذويك واصدقائك؟
_ سنخبرهم بالحقيقة او نخلق لهم قصة مقنعه. الست بارعه في التأليف والكذب؟
اطلقت لين ضحكة عالية موافقه على كلامه ووضعت يدها في يده قائلة:
_ هذه التفاصيل تافهه مادمنا معا.
وسارا سويه خطوة على درب حياة يسطع فيها فجر السعادة بعد نفق طويل مظلم.


تمت
قامت بكتابتها الاخت... Shining Tears