المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباشا


AshganMohamed
01-13-2020, 09:04 PM
د. أفنان القاسم

الباشا

رواية النكبة الأولى

نسخة مزيدة ومنقحة

الطبعة الأولى بالعربية وزارة الإعلام بغداد 1977
الطبعة الثانية بالفرنسية دار لارماطان باريس 2003
تحت عنوان فلسطين... عظمة وتعاسة أرض ميعاد

إلى جدي إبراهيم

تنبيه للطبعة الفرنسية
أنت يا من تفتح هذا الكتاب، اعلم أنه لا يوجد هنا أي شبه بشخصيات أو أماكن أو أحداث حقيقية ابن صدفة أو خيال نزوي مجنح. ترتسم خلف هذه الصفحات الفاجعة الفلسطينية وممثلوها الذين سترى في تعداد كل معسكر منهم حصته من الأبرياء العاجزين والضحايا الثائرين والجبناء والخونة والمحركين السفهاء والقتلة.
ستغوص في أعماق تاريخ شعب تتسلط عليه ذكرى المذابح والمحارق منحصر بعذابه مهيج شرعًا برجفة ثأر ضد قدره الأسود، ترك نفسه تفتتن بوعد ملجأ أمين يضمد فيه جراحه ويضمن ملاذه. عند ذلك، وعلى باب الكابوس المرعب الذي كانته الإبادة الجماعية في القرن العشرين من طرف النازيين، تلاقى عدد من الشطار المهرة ليدّعوا (بغير حق) حق إخراج هذا الحلم كمن يخرج فيلمًا، وحادوا بمعناه عبر مكيدة سياسية وجد شعب آخر بريء نفسه فيها ضحية بدوره.
هذا ما يدور في هذه الصفحات الحمراء بالدم والشهباء بالرماد، ولكن أيضًا، وبشكل خجول، المظللة بالأمل. ستجد فيها أرضًا ذبيحة تزهر فيها أشجار اللوز وفلاحين بسطاء يحبونها حبًا جنونيًا تحول إلى حلم للحب حتى الموت. ستجد فيها أولئك الذين حركوا ولم يزالوا يحركون خيوط هذه الفاجعة. ستجد فيها بشكل متعاقب الرجال والنساء، المكائد والوقائع، التي صنعت في بضعة عقود هذه العقدة الشيطانية حيث أوقع الأبرياء في الشرك اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لا يمكننا قراءة هذه الصفحات دون أن نبقي في الذهن ما كانه وما يكونه التاريخ الحقيقي لأرض فلسطين.

د. فيفيان بارّو
فاحصة ومصححة ومراجعة بالفرنسية
دكتورة في علم الاجتماع / ليون

كلمة غلاف الطبعة الفرنسية
الباشا هي رواية الفاجعة الفلسطينية: كيف عمل الإنجليز على طرد الفلسطينيين من ديارهم عام 1948؟ المكائد التي حاكتها زعامات الأرستقراطية ولكن أيضًا الموظفون وكبار الفلاحين يتم الكشف عنها هنا، في روي يلعب على عدة نبرات: سياسية، ملحمية، حلمية... الحياة في القرية بكل ألقها وكل بساطتها ولكن أيضًا وعلى الخصوص الأرض-العشيقة تُستدعى هنا بجدارة. مقابل الخيانة يُرسم الحب، حب المرأة أو حب الأرض، كما لو كان هذا العالم يعود إلى أصوله، عندما كنا نجهل الحرب، وكان السلام يسود فيه. زد على ذلك، الخالة ميريام، العجوز اليهودية الفلاحة لا تفهم ما يجري، تعاسة كل القرويين هي تعاستها أيضًا، فضحايا هذه المأساة الألفية هم عرب ولكن أيضًا يهود، وهذه طريقة يقال فيها إن كل المآسي الكبرى هي في جوهرها فاجعة واحدة ووحيدة، وإن عذابات الإنسان لا تعرف عروقًا ولا حدودًا.
أسماء الأبطال مستعارة من الكتاب المقدس: إبراهيم، إسحق، رقية، إسماعيل... الشيء الوحيد الذي يهمنا هو ما ترمز إليه. إلا أننا عندما نعرف أن إسحق في هذا الرواية هو فلسطيني يتبدل كل شيء: هنا هوية الإنسان هي التي يُعلى قدرها أكثر من أي شيء آخر.


القسم الأول
قال الجنرال ناهريخ لمعاونه الكولونيل هينز:
- بعد أن جمعنا حثالة البشرية في وارسو أقترح عدم التعجيل في بناء الجدار حولها.
تفاجأ الكولونيل هينز:
- هذا غير ما يريده الفوهرر.
ابتسم الجنرال ناهريخ:
- لنشبع العقلية المناقضة للغيتو لدى العالم بشكل بطيء ولكن أكيد قبل القضاء على نزلائه.
لم يفهم الكولونيل هينز:
- تريد القول إشباع العقلية القومية لدى نزلاء الغيتو؟ ولكننا لا نريد إشباع الأخلاقيات اليهودية، وبالتالي رصهم حولها.
امحت ابتسامة الجنرال ناهريخ، وأوضح بهدوء مزعج:
- عن أية أخلاقيات تتكلم؟ أخلاقيات الولاء المزدوج والخيانة للوطن الذي يأويهم وامتيازات الفسق والقذارة؟ ليكن كل هذا نجمةً عار على أذرعهم، ولكننا لسنا بصدد اكتساب الرأي العام من أجل تهجير بعضهم أو قتل بعضهم الآخر على طريقة المعادين للسامية. كان ذلك في الماضي، ولم يؤد إلى نتائج حاسمة. لا يكفي أن تقول عن شخص حثالة ليكونها، عليه أن يكونها بالفعل في ثوبه في رأسه في كيانه حتى يغدو التخلص منه سيان لديه، شيئًا لا يطرح، ويغدو أبشع الأفعال فيه بالنسبة لغيره أمرًا طبيعيًا. يجب أن تخمد العواطف، أن تتشيأ النفوس، أن يرى الناس الميت جوعًا ملقى على الرصيف، فلا ينظرون إليه، ويغذون الخطى صوب أعمالهم. عند ذلك، سنفتح أبواب معسكر تريبلينكا المجيد على مصاريعها، ليستقبل من نريد لهم الانتهاء في الجحيم، لأنه العقاب الرباني الذي يستحقه كائن جعلنا منه أبشع كائن. الفوهرر علمنا أن المعارك تكسب على مراحل، ومعركتنا هذه، الحيوية، إكمال بناء الجدار عليه أن يكون آخر مراحلها بعد التجويع والترويع وتفريق الابن عن أمه وأبيه والزوجة عن زوجها والأخ عن أخته وأخيه والانتزاع والإذلال والموت من البرد والمرض ومنع التجول الذهني. هذه هي شروط حثللة البشر، أيها الكولونيل هينز.
ابتسم الكولونيل هينز، فطلب الجنرال ناهريخ بنعومة:
- لا تبتسم، أيها الكولونيل هينز.
قطع الكولونيل هينز ابتسامته، وعبس، والجنرال ناهريخ يتابع بنعومة:
- أنا من يبتسم، ويأمر بالابتسام.
تلعثم الكولونيل هينز:
- أردت فقط أن...
- أنا من يبتسم، أنا من يبتسم، ويأمر بالابتسام.
- أردت فقط أن أعبر عن فهمي الآن تمام الفهم، يا سيدي الجنرال ناهريخ.
ولم يزل الجنرال ناهريخ يردد بنعومة وبشيء أقرب إلى الهمس:
- أنا من يبتسم... أنا من يبتسم... أنا من يبتسم...
ضاعف الكولونيل هينز عبوسه، والجنرال ناهريخ يوضح:
- إشباع العقلية المناقضة للغيتو لدى العالم يعني أيضًا من بين ما يعني بعث اليديشية فيما بين يهود العالم وحصر معاملاتهم المشبوهة وثقافتهم المتخلفة وقطع يدهم العاملة الرخيصة التي تسببت في زيادة البطالة بين سكان بولندا، هذا البلد الذي نحن بصدد تحقيق حل لكل معضلاته السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، معضلات تسببت في تدهور الأجور على كل مستويات العمل. كل هذا يجعلنا نحقق شيئين حيويين للرايخ، الأول سنبدو كمحررين لا كمحتلين، والثاني سنقدم خدمة لكل أوروبا إذ بدلاً من الدعوة إلى تهجير اليهود كما وعد بلفور تحت غطاء من الكلمات الجميلة المؤثرة عن وطن قومي وكلام فارغ – وهذا هو الوجه اللطيف للمعادين للسامية - والحقيقة هي للحد من البطالة، نجعل لهم غيتوهات هنا وهناك، أوطانًا مصغرة، وينتهي الأمر... أريد القول ينتهي الأمر بعد المرور بتريبلينكا، ولكن ببطء وهدوء وحزم وذكاء.
ابتسم الجنرال ناهريخ، وشيئًا فشيئًا اتسعت ابتسامته، ثم انفجر ضاحكًا، والكولونيل هينز يزداد عبوسًا.
- ابتسم، أيها الكولونيل هينز، طلب الجنرال ناهريخ بلطف.
فلم يبتسم الكولونيل هينز، مما جعل الجنرال ناهريخ يعيد بلطف:
- قلت لك ابتسم، أيها الكولونيل هينز.
والكولونيل هينز لا يبتسم.
- آمرك بالابتسام، أيها الكولونيل هينز.
ابتسم الكولونيل هينز بشيء من التردد، وهو يلتفت حوله.
- ابتسم، بل وقهقه، أيها الكولونيل هينز، قهقه كما أقهقه.
أخذ كلاهما يقهقه إلى أن أوقفهما رنين الهاتف فجأة، أدى الجنرال ناهريخ التحية للفوهرر بعد أن رفع السماعة، وردد بصوت منسحق ينوء بالطاعة والولاء:
- تحت أمرك، يا سيدي الفوهرر... تحت أمرك، يا سيدي الفوهرر... تحت أمرك، يا سيدي الفوهرر...
أدى الجنرال ناهريخ التحية للفوهرر من جديد قبل أن يضع السماعة، استعاد هيبة الجنرال، وأعطى أمرًا للكولونيل هينز بأكثر ما يكون من لطف:
- أيها الكولونيل هينز، عليك التعجيل في بناء الجدار حول غيتو وارسو، الفوهرر يسخر أشد السخرية من استراتيجية المراحل التي وضعها هو بنفسه، ويقول حل المسألة اليهودية لا يحتاج إلى أية استراتيجية.
هتف الكولونيل هينز بكل ما أوتي من قوة وعزم ليخفي استغرابه ولكن ليعبر عن حماسه لفكرته الأولى:
- تحت أمرك، يا سيدي الجنرال ناهريخ!
- لتعمم إرادة الفوهرر في الحال.
- تحت أمرك، يا سيدي الجنرال ناهريخ!
- وليس فقط التعجيل في بناء الجدار وإنما أيضًا في كل شيء، في كل شيء، في كل شيء... وإلى الجحيم العقلية المناقضة للغيتو لدى العالم!
- تحت أمرك، يا سيدي الجنرال ناهريخ!
- سارع بالذهاب، أيها الكولونيل هينز، ولا تظل واقفًا في مكانك كالأبله مرددًا تحت أمرك، يا سيدي الجنرال ناهريخ!
- تحت أمرك، يا سيدي الجنرال ناهريخ!
أدى الكولونيل هينز التحية الفوهررية تحت نظرة الجنرال ناهريخ المحزنة المضحكة، ثم خرج.
* * *
انطلق الكلب كالسهم، وهو يثير ريحًا طفيفة من ورائه. تابعه إسماعيل بعينيه حتى اختفى. تسمَّر في مكانه، ونظر حوله مذعورًا. كان الليل يبسط جناحيه، ويحركهما بين حين وآخر، فتتساقط بضع غيوم قطنية. أحدد إسماعيل نظره إلى نقطة في مكان بعيد، ورأى كتلاً سوداء هنا وهناك. شدَّ على صدره الطوق الجلدي، وضغط قلبه. كان يضيقه أن يجد نفسه وحيدًا، في الليل، في الطبيعة الصامتة. لسعت وجهه النسمة الباردة، فرفع ياقة معطفه، وبقي ساكنًا. لم يكن من العادة أن يهيم الكلب طويلاً، خاصة في ليالي الشتاء التي كان كلاهما يخشاها بسبب العتمة والمطر. أراد إسماعيل أن يصيح به مناديًا، لكن الهدوء المخيم حوله ألجمه. ولأول وهلة، راوده انطباع بانفتاح الأرض تحت قدميه، بسقوطه، إلا أنه تمالك نفسه. تقدم بضع خطوات، عجّل، ووجد نفسه يركض كالكلب.
رأى جذوع الشجر تتقاطر كالأعمدة في طريق السفر، وهو يجذبها، ويبذل جهدًا، ليفلتها عندما يشعر بالإرهاق. توقف فجأة، منهكًا، وراح يزفر، وقلبه يخبط حتى هدأ. ومن جديد، سقط في هدوء الليل، فراعه الفراغ. اندفع، ونادى الكلب. غطته الأصداء، وكأن الأشجار غدت أناسًا نكل بهم انتصبوا في كل مكان ليجيبوا بأفواههم الدامية. نادى الكلب بأعلى صوته دون أن ينتظر جوابًا، وهرب راكضًا. تفرقت الغيوم، وتساقطت بطيئة وواطئة.
وجد إسماعيل نفسه في الغابة، فأبطأ، وشيئًا فشيئًا فقد سرعته. عندما توقف، علا نقيق حاد آتٍ من المستنقع، وأحس بحركة راحت تبتعد باتجاه الدغل. شد ذراعيه حوله، وأرهف سمعه. فجأة، سمع طيرانًا ثقيلاً. رفع رأسًا أشعث إلى السماء، وميز طائرًا أسود يغادر قمة شجرة، وهو ينعق. سيعود أدراجه. عاد الطائر ينعق. قفز شيء بين قدميه، ودفعه جانبًا، فقبض عليه الخوف من خناقه. تمالك نفسه، وحثَّ خطاه عائدًا. بعد مسافة عدة أمتار، تناهت إلى أذنيه لهثات الكلب. توقف، وراح يبحث بعينيه عنه بين جذوع الشجر. كان الليل يتساقط هفًا كالندف الأسود، وكانت اللهثات تزداد ارتفاعًا كلما ازداد من الكلب اقترابًا. إنه هناك. تقدم منه، فدهك شيئًا لينًا ظنَّه في البداية قدمَ رضيع. سمع صوتًا موجعًا لحيوان صغير تسلق ساقه، وعضَّها، قبل أن يهرب مختفيًا في العشب.
وهو يشتم العالم بمن فيه، سار إسماعيل وكلبه كل واحد على مقربة من الآخر بتواز،ٍ وصفوف الشجر تفصل بينهما. أصابه اليأس، فتح فمه، ونادى مرتين، فنبح الكلب. قطع المتنزِّهُ الليليُّ صفوف الشجر، فقفز الكلب بين ذراعيه. شمَّ إسماعيل رائحة سميكة، فدفع الكلب عنه، ومسح شدقه بالمنديل. دم! كان الكلب يخفق كالشراع من شدة الانتشاء. لم يهتم الشاب بالأمر كثيرًا. طوق عنق كلبه، وسحبه.
أراد أن يعود إلى القصر بسرعة، لكنه تردد في اللحظة الأخيرة. كان كوخ الحارس هناك، في طرف الحقل. رفع رأسه إلى السماء: كانت تغطيها ببطء... الغيوم، ببطء، ولكن بإصرار على غلق كل أبوابها. رمى الكلب بنظرة، رآه، وهو يفتح شدقه واسعًا، ولسانه يتدلى، ويرتعش كاللهب. ترك إسماعيل الكلب يقوده، فاجتاز به السياج المتهدم بعيدًا عن الكوخ، لكن الكلب بدل رأيه فجأة، وحاول التحرر بعنف ليذهب باتجاه الكوخ.
مزقت الفضاء ضحكة خشنة، ثم حطَّ الصمت. كان أحدهم في الحظيرة. أقعى إسماعيل قرب الكلب، ولفه بذراعيه راميًا إلى حبس أنفاسه. كانت في أماكن من الجدار الخشبيّ شقوق، تقدَّم منها ليسترق النظر عندما دوت الضحكة الخشنة من جديد، فاختلطت مرايا العتمة بالظلال ثملة عابثة، ووصلته همسات مختنقة:
- لم يتبدل فيك شيء!
غاب الصوت الخدر لحظة، ثم غدا أكثر وضوحًا:
- ثقل نهداك... هذا كل ما هنالك.
ارتفع صوتها محذرًا:
- اخفض صوتك، أيها الفلاح!
الآن أمكن لإسماعيل أن يرى الحارس وامرأته. قهقه الحارس، وهو يسحب شاربيه الكثين من طرفيهما، وقال لزوجته بنبرة مطمئنة:
- لا تخشي شيئًا! البنت تنام، والباشا في قصره!
- ألهذا تفضل الحظيرة؟
لفَّها بذراعيه، ولثمها بنهم، وبدورها، انفجرت تضحك.
- ماذا دهاك، باسم الشيطان؟
- هذا بسبب القش.
رماها بالقش إلى أن غطاها كلها، وهي تداوم على الضحك. ارتمى عليها، وتدحرج معها، وبعد قليل، انفصلت بجسدها الرخص عنه ظلاً غامضًا في عاج الليل. قال لاهثًا:
- بدأ يصيبني العياء.
- هذا لأنني ثقيلة.
- لا، ليس هذا.
بحث عن سبب مقنع، ولكن دون جدوى. ليس هذا لأنه يسير إلى الكبر بسرعة... وهي، من ناحيتها، عادت بجسدها إليه. أعطت نفسها كليًا، فاختلطت أنفاسها برائحة الروث، ونتج عن ذلك عطر الحظيرة، عطر راح يفعل في رأسه فعل الخمر على شاربه. قليلاً قليلاً، غدا جسد الحارس دبقًا من العرق. ضاق صدره فجأة، تراخى، وذاب كالشمع بين ذراعي زوجته.
- آه! يا إلهي...
- يا لنا من رجل وامرأة ضالين أنا وأنت!
- لقد كانت رغبتك.
رمى أصابعه في ترهلات خصرها، وقال:
- من اللازم أن نفعل شيئًا عندما يحطُّ الليل.
وذهب صامتًا. لم تكن تحب صمته، لأنه عندما كان يصمت، كانت تحس بنفسها وحيدة، عارية، دون وقاية، في البرد والظلام. لخوفها من هذا الصمت الموهن، أبعدته عنها، ونهضت، فتساءل دهشًا:
- إلى أين؟
قالت مرتجفة:
- لنعد إلى الدار. الشياطين من حولنا.
- يا لك من معتوهة!
بطحها، وربض عليها، فراحت تئن، وتتخبط إلى أن حط كل شيء في السكون.
تطلع إسماعيل حوله، واخترقه الصمت الهائل. كان صمتًا قويًا، إلهيًا تقريبًا. حثَّ خطاه بقصد الهرب، لكنه توقف فجأة. كان باب الكوخ مفتوحًا. تعثر، وتردد، ثم دخل. كانت الأشياء في العتمة تبدو غير حقيقية. قرب الحائط، كانت البنت تنام على الأرض، وشعرها الأسود يتناثر على المخدة. ارتفع قميص نومها، فكشف عن قسم من فخذيها. كان كل شيء مبعثرًا في تلك الحجرة البائسة، ولا ضير لو عاث الكلب هناك. لا. سيوقظ البنت. أمره بالجلوس، فجلس الكلب، وأخذ يراقبه عن كثب. أشعل إسماعيل مصباح الزيت، واقترب من الطفلة، فتموجت تحت الضوء بالألوان الذهبية، وكأنها حقل في الصيف. سحره ذلك وأتعسه. جلس قربها متأملا، فنفضته من أعماقه شهوة أليمة خفية. تكوَّم على نفسه مندحرًا حتى غدا له شكل الكلب. بماذا تحلم يا ترى؟ أمَّا عنه، فلم يعد يحلم منذ موت أمه. وإذا حصل له ذلك أحيانًا، فهو كابوس. بقي جهم الوجه، وأراد النهوض. لن يكون لطيفًا أن يجدوه هنا. ومع ذلك، لم يبذل أية حركة، كالضائع كان. اقترب بإصبع راعشة من شفتي البنت الصغيرة المتفتحتين. فقط كي يمسهما مسًا خفيفًا. لكنه تراجع، وراح يرتجف، ويلهث مثل كلبه.
* * *
توقفت عشرات الشاحنات في الطرق الضيقة المؤدية إلى وسط وارسو، كانت المرة الأولى التي يأتي فيها النازيون بآلاف اليهود الألمان، ويلقون بهم كما تلقى البهائم، ومن حولهم كان القمر يسطع في الأسلاك الشائكة جميلاً دون أن يبالي بدموع النساء والأطفال. كان موزارسكي ينظر إلى القمر، ويقول لزميله ماريك إنه لم ير في حياته أوقح من قمر وارسو، وماريك يبتسم، بينما لا يتوقف عن بناء الجدار الدائر بالغيتو الذي هم فيه، ويقول إنه قمر غبي مثل كل أقمار العالم لا شيء آخر. كانوا لا يتوقفون عن رفع الجدار ليل نهار بعد أن أتاهم الأمر بالتعجيل في بنائه، وكان النازيون يشددون الحراسة، كان ذلك في الأمس، ثم لم يعودوا يهتمون بذلك كثيرًا بعد أن راحوا يدفعون ضعف ما كانوا يدفعونه من قبل، وغدا البناؤون أنفسهم يدافعون عن الجدار من أجل ((حياة أفضل)).
- الليلة ننهي عملنا باكرًا، قال موزارسكي لماريك، سنذهب إلى حانة، ونبقى نشرب حتى يغيب قمر وارسو الوقح.
لم يكن ماريك يريد الثمل فقط بل والنوم مع امرأة ليدفئ قلبه، فبناء الجدار يدفئ جسده في ليالي وارسو الشتائية للحركة التي يبذلها دون توقف، ولكنه لا يدفئ قلبه.
- سنذهب إلى حانة ثم إلى ماخور، قال ماريك. منذ بداية الاحتلال، وأنا أحلم بالنوم مع امرأة أدعوها ماريشيا أو بولينا، وأجعلها تنسى اسمها، طوال الوقت الذي تقضيه معي، وهي بين ذراعيّ. إنه شيء أقرب إلى العبث، أعرف، ولكنها طريقتي في مواجهة ما نحن فيه من مصاب.
دمعت عينا موزارسكي، وسأل:
- لماذا بولينا؟ لماذا هذا الاسم؟
- لا، ليس هذا لأنني بولوني قبل أن أكون أي شيء آخر، فلتطمئن. أنا علماني، ولكنني لست علمانيًا في السرير. إنه اسم الصدفة، الاسم الثاني الذي وقع على لساني بعد ماريشيا.
عندما رأى الدمع في عيني موزارسكي، همهم:
- أعتذر إذا كنت قد أسأت إلى يهوديتك، يا صديقي... ما اسمك؟ نعم، كدت أنسى اسمك. موزارسكي. أعتذر لك، يا صديقي موزارسكي، أعتذر لصداقتنا التي نمت بفضل هذا الجدار الذي نبنيه بيدينا من حولنا كي نكون سعيدين.
همهم موزارسكي، وهو يمسح دمعه بظاهر يده:
- ذكرتني بزوجتي بولينا.
- كانت لك زوجة اسمها بولينا؟
- لم تزل زوجتي، لكنني لا أعرف أينها الآن.
- هي حتمًا هنا، زوجتك بولينا، في مكان ما هنا. هل تريد أن نبحث عنها؟
- هنا؟ كيف تريدنا أن نبحث عنها هنا؟ نحن هنا نقارب نصف المليون، والعدد يزداد ارتفاعًا يومًا عن يوم.
- نصف مليون شخص في مساحة أربعة كيلومترات، لا تنس ذلك.
نظر ماريك إلى القمر الساطع في الأسلاك الشائكة، وقال، وهو يشير إليه، ويبتسم:
- يبدو أن القمر ليس غبيًا إلى هذه الدرجة كما ظننت.
- ماذا تعني؟ سأل موزارسكي حائرًا.
- ولا وقحًا، لأنه يعرف أين هي بولينا.
صاح موزارسكي غاضبًا:
- كيف سيدلنا القمر على بولينا؟ لا بد أنك معتوه!
اربد وجه ماريك، وأوضح:
- أنا وحيد أبويّ اللذين قتلا أمام عينيّ لأنهما رفضا الإذعان لرجال الغستابو...
- والحالة هذه؟
- لن أخسر شيئًا إذا حال أحدهم بيني وبين أن أجد لك بولينا في أزقة الغيتو الفضية.
- أما أنا، فلا أريد أن أخسر أي شيء بعد كل ما خسرت، بولينا وعملي وحياتي، ويا ليت هذا الجدار الذي نبنيه ألا ينتهي إلى الأبد. بالإضافة إلى ما يدره علينا من مال، إنه فعل وجودي الوحيد.
- على هذا الإيقاع سوف ينتهي خلال أيام.
- لا تجد لي بولينا وجد لي طريقة نؤخر فيها انجاز الجدار.
* * *
ترقرق الغدير كالنهر الصغير، وأقيم على الضفة مشعل. كانت خيالات سوداء وبيضاء هنا وهناك، وكان ضوء المشعل ضعيفًا. لم يبد أي شيء غير لمعان الماء الجاري. كالتماثيل، كان الفلاحون يتسمرون في أماكنهم كالتماثيل، وهم يحدقون في الطريق. لم يعودوا يأبهون به، وقد غلب عليهم الانتظار: فلاح يلتوي في قيده، وهو يلهث منهكًا بلسان رخو كالمطاط، ويسيل من فمه لعاب دبق. كان قرب شجرة السنديان فلاح آخر، في قيده هو أيضًا، قبضوا عليه من خناقه، فجمد في وقفته مذهولاً. في تلك اللحظة، وصل إلى مسامعهم ضجيج عربة، فبدأوا يتحركون كلهم. دار الدم في عروقهم دورة العجلات، وعلا النبض في قلوبهم علو العربة. تقدم أحدهم بخطوات سريعة صوب الطريق، وابتعد تاركًا للعربة المرور. رشقت العربة أضواءها الباهتة هنا وهناك، وأطلق الحوذي صيحة ليوقف الخيول الأربعة. أخذ الرجل يجري في اللحظة التي وطئ فيها الحوذى الأرض، وفتح باب العربة:
- تفضل بالنزول، يا مستر كلارك.
نزل إنجليزي طويل القامة، ذو ربطة عنق حمراء، ومعطف أسود، وقبعة سوداء، ووجد نفسه أمام الرجل الذي كان يلهث، فسأله:
- كل شيء جاهز؟
- كل شيء جاهز، يا مستر كلاك.
سار بضع خطوات، فقدم الرجل له كرسيّاً مريحًا. ألقى نظرة فاحصة على الفلاح الذي التوى بقيده: فم من حجر، عينان ميتتان ذهب لونهما.
قال الرجل مبالغًا تبجيله:
- تفضل بالجلوس، يا مستر كلارك.
رمى مستر كلارك الفلاح الآخر بنظرة سريعة قبل أن يجلس، فأخرج الرجل من جيبه ورقة، وقرأ:
- بناء على قرار هيئة المحكمة رقم 223، والذي وافقت وصادقت عليه حكومة صاحب الجلالة الملك، وبحضور السيد نائب المندوب السامي، يتم تنفيذ حكم الإعدام بالمجرمين حسين أبو سِِنَّه وعطا عبد اللطيف عودة، لحيازة الأسلحة غير المشروعة – مسدس وبندقية صيد - ولأعمال تخريبية ارتكباها ضد رجال الأمن وبعض المراكز الإدارية، التهم عينية ومثبتة بإدلاءات الشهود.
تقدم اثنان من الفلاح الأول، وطرحاه أرضًا. ساطور ضخم علا، وهوى. قُذف الرأس في السيل، وراح الجسد يضرب في التراب، ويتلوى حتى شُل، وغدا ركامًا من اللحم الميت. للرعب الذي أعاد الحياة في عرقه، تفجرت صيحات الفلاح الثاني لكنهم شقوا فمه بوثاق جلدي، ومن جديد، تدفق الدم في الغدير. عندما أنهوا مهمتهم، وقفوا جامدين، بانتظار أمر آخر. ضجَّت ضوضاء الرعد. نهض مستر كلارك، وتحركت العربة.
* * *
دفع موزارسكي باب خمارة الخروف الثمل، وجعل ماريك يدخل أمامه. كانت القاعة مكتظة بالرواد، رواد يبدون دون وجوه، أشبه بالرسوم الممحوة وجوهها، وكلهم يلفون سواعدهم اليمنى بالنجمة السداسية. وهما يبحثان بعينيهما عن مكان يجلسان فيه، بقي النادل ينظر إليهما جامدًا كتمثال. عندما أعياهما البحث، دبت الحركة في جسد النادل، وأشار إلى مكان قصي لشخصين تحت ساعة مستطيلة تقترب من التاسعة مساء. بعد أن جلسا، أشار النادل إلى ما يشربه الآخرون من جعة، فهزا رأسيهما بالإيجاب. كان كل شيء يتم عبر الإشارات في جو من الصمت المطبق، وكان الكل يحدق في الفراغ، بعضهم يدخن، وبعضهم ينظر من وقت إلى آخر إلى الباب، وبعضهم يغمض عينيه لثوانٍ ثم يفتحهما، وهما ممتلئتان بالرعب. أحضر النادل كأسي الجعة، وفرك سبابته وإبهامه، ففهما أن عليهما أن يدفعا. أعطياه أكثر مما طلب، فأعاد إليهما الباقي، ثم انصرف إلى حيث يقف جامدًا. أنهيا كأسي الجعة دون أن ينطقا بكلمة واحدة، وأشارا إلى النادل أن يحضر لهما كأسين أخريين، فتم كل شيء كالمرة الأولى. فجأة، دخلت امرأة بهيئة أقرب إلى العته، وراحت تشير إلى الحاضرين واحدًا واحدًا، وتقهقه، ولا أحد يهتم بها، حتى أصابها العياء، فعادت من حيث جاءت. وبعد قليل، دخل صبي رث الثياب نحيف الجسم ميت النظرة، وراح يدور بين الطاولات واحدة واحدة دون أن يفوه بكلمة، ولا أحد يهتم به. عندما وقف قرب الصديقين، أعطاه موزارسكي قطعة نقدية، فأخذها، وبعد أن نظر إليها طويلاً، تركهما، وذهب إلى طاولة أخرى، وأخرى، إلى أن وصل الطاولة الأخيرة، فرأيا يدًا لامرأة علت حتى رأس الصبي، ومسحت كل عناء الإنسانية. أعطته قطعة نقدية أخذها، وبعد أن نظر إليها طويلاً، غادر المكان. التفتت المرأة إلى الرجلين، وابتسمت، فعرف الرجلان فيها الممثلة الشهيرة ماغدلينا التي ما لبثت أن نهضت بصحبة رجل ملتح كان معها. وقبل أن تذهب والرجل، التفت الرجل، وألقى على ماريك نظرة طويلة، فعرف ماريك فيه الشاعر والمسرحي آدم مردخاي.
طلب الصديقان كأس جعتهما الثالثة بلغة الإشارة ذاتها، وهما على وشك احتساء نصفها، دخل رجل قبيح الوجه نتن الثياب، وهو يشد بيده سلسالاً تتدلى منه نجمة داوود. كان ينحني على أذن أحدهم هنا وأحدهم هناك، ويهمس بضع كلمات، وأمام عدم أي رد فعل لا يلبث أن ينسحب بهدوء. عندما أفرغ بين يدي الصديقين ما عنده، ابتسم ماريك، وحرك إصبعًا تحريك العقرب في ميناء الساعة مرة واحدة، ففهم موزارسكي أن صاحبه سيتغيب ساعة أو ما يقارب الساعة، وأنه يطلب إليه البقاء بانتظاره. جرع ماريك كأسه، وتبع الرجل.
سار الرجل بماريك في أزقة ظن أنه يأتيها للمرة الأولى، كانت تحت ضوء القمر تبدو كاللوحات السريالية لما فيها من التداخل في عدم التآلف: كان البعض ينام في العراء، على أفرشة قذرة، وقرب أكوام من القمامة، وكان البعض الآخر يمارس العناق عند حواف المجاري، وعلى عتبات الديار. رأى ماريك فتاة، وهي تقضم رغيفًا، ومضاجعها يقضم حلمتها، ورأى صبية يتابعون المشهد، وهم ينتظرون أن ترأف بهم الفتاة ببعض الفتات، بينما تئن ثانية من المرض، وهي في حضن أمها، وأمها تبتسم لظلها، وثالثة لا تكف عن السعال، والجرذان على مقربة منها تنتظر موتها. لم يكن الرجل الذي يسير بماريك ينظر إلى أحد، كان يغذ الخطى إلى أن وصل عمارة على وشك التهدم. دفع بابًا كاد يتكسر تحت أصابعه، وصعد بماريك سلمًا خشبيًا كاد يتحطم تحت خطواته. وقبل أن يدخله إلى وكره، قذف أحدهم بآخر نصف عار من باب مجاور كان مفتوحًا، والآخر يسب، ويلعن، ورماه من فوق السلم. شد الرجل الستارة، وكشف غطاء ممزقًا عن امرأة عارية تمامًا. وعلى التو، نهضت المرأة، وأخذت تطلي وجهها بالمساحيق، ومن المرآة تنظر إلى ماريك، وتبتسم. كانت بجمال القمر، أنفها الدقيق، عنقها العاجيّ، حاجبها الذهبيّ، شعرها الذهبيّ، ظلها الماسيّ. ابتسم لها ماريك، ورجلها يحرك أصابعه كالمجنون يريد نقودًا بينما السلسال يضرب بيده. أعطاه ماريك حفنة من النقود أخذها بهوس، وأغلق على المرأة وماريك الستارة.
- ماريشيا!
أخذها ماريك في أحضانه، وبينما هو يقبلها، سمع بكاء الرجل، ثم ما لبث الرجل أن أطلق صرخة حادة، فهرع ماريك ليرى ماذا جرى، وإذا بالرجل ملقى على الأرض، والدم يسيل من رسغه. صاحت المرأة لما رأت دم زوجها يلوث العالم، وجذبته بين ذراعيها، وهي تبكي، وتردد:
- ولكنها فكرتك، يا فرينكل! ولكنها فكرتك، يا حبيبي!
أبعدها ماريك برفق، وبعد أن فحص الجرح، قال لها:
- لا تخشي شيئًا، يا ماريشيا! الجرح ليس غائرًا، فقط أعطني شيئًا كي أربطه له.
مزقت المرأة ثوبًا، فربط ماريك الجرح، وابتسم للرجل. وقبل أن يتركهما، أفرغ على السرير كل ما في جيبه من نقود.
* * *
كانت أنغام بيانو تتصاعد من القصر، وكأن ريحًا مكدودة تنقلها ببطء الأضواء التي ترشق الظلام بلونها الأصفر عبر نوافذ الطابق الأرضي للقصر، وكانت الأنغام تجول في أزقة القرية، وتضيع عند قبابها، قبل أن تذوب في الليل... كأنها موجات وهنت لمذياع قديم.
وفي القصر، كان هناك من يصغي إلى الموسيقى بانتباه عندما حصلت حركة مفاجئة. ظل امرأة. ظل ثريّ. كان الظل ينعكس على الزجاج، والمرأة تمضي من نافذة إلى أخرى، وكان يختفي مع اختفاء المرأة، ويظهر مع ظهورها.
أرعدت السماء، فاقتربت امرأة في ثوب السهرة من النافذة. رفعت الستارة الشفافة، وألقت بضع نظرات شاردة. كانت العتمة شديدة. استدارت، وقطعت الردهة الكبرى إلى الصالون. هناك توافقت الأنغام، واستعادت إيقاعها العادي.
سالومي. في الخامسة عشرة. شعر أشقر. منسدل. فستان أحمر. مخمل. أنامل رقيقة. حاذقة. كانت تعطي ظهرها إليهم، وهم يجلسون في نصف دائرة. الباشا إبراهيم في الوسط. مسز كلارك على يمينه. صاحب المقام اليهودي، الخواجا داوود على يساره. على بعد مقعدين من مسز كلارك المهندس صادق. في ركن مهمل مرجانة، خادمة سوداء رهن الإشارة. جاءت المرأة، ووقفت قرب سالومي. كانت تسطع بهاء. حنت عنق العاج، وراحت ترنو إليها بإعجاب، بينما ترسل من بين شفتيها المكتنزتين ابتسامة خلابة. سارة. سيدة القصر. وهو؟ كان مبهورًا. رفع المهندس صادق رأسه إلى الثريا ذات الألف شمعة. رأى كيف تنتثر الأشعة على رسوم الزيت لتتلألأ بألوانها الساخنة. حواري عدن. على ضفاف بحيرة. كلما أمعن النظر في محاسنها ازدادت فتنة. أخيرًا، سقط في عاصفة الضوء. كالضائع. كانت الموسيقى تصله على موجات، بينما يتماوج شعرها باستمرار، فيغرقه بحر من الرغبات. نقل الكأس، ولامس بشفتيه حافتها الشفّة. انساب الخمر أسفل لسانه، فانساب بدوره في حلم قديم قضي زمنًا وهو عاجز عن تحقيقه. عندما عاد إلى وعيه، وجد أن (( مطامحه )) لم تتحقق بعد، ولا حتى بعض مطامحه. لم تكن الأنغام تتدوزن بإرادته، ثم، طوال حياته لم يمتلك آلة موسيقية واحدة. للمرة الأولى، صدمه كل هذا الثراء: الأرائك الوثيرة. تماثيل العاج. السجاجيد الفارسية الفريدة. الديكور الأوروبي المذهب. عقد اللؤلؤ على عنق سارة الأغيد. فستان مسز كلارك الكاشف عن فخذين ناعمتين. غاص في مقعده، وفكر للحظة أن وجوده هنا وجود الدخيل. ولكي يبعد عنه ما فكر فيه، ويمحو من عيني مسز كلارك ماضيه الخسيس في قرية من قرى اللد البائسة، ابتسم ببلاهة وبكثير من التكلف. إنه المهندس! طرب للقب! ذهب بعينيه ثملاً، من البيانو إلى صورة الباشا إبراهيم المعلقة مقابلاً إياه، وتأمل الصورة بمزيج من الرهبة والإعجاب: شعر غزير أبيض. شاربان كثان أبيضان. جبهة عابسة. وجه مدور ذو حزوز عميقة رغم الرخاء الغالب على تعابيره. للصورة إطار ضخم من الخشب المحفور. على ناحيتيها حسامان مرصعان.
حسد صادق نفسه على وجوده هناك، في حضن الدفء، في حضن الثروة، وهذا الحفل البهيج الذي على شرفه! انفرجت شفتاه عن ابتسامة واسعة واثقة للكائنات وللأشياء، حتى للفهد المحنط المثبت على الحائط بأنيابه الشرسة المهددة. ولكثرة ما أحدد بصره إليه، انطلق من عينيه الفاتكتين شرر أحمر، فاجتاحت صادق حرارة محرقة. طلب كأسًا أخرى. تقدمت الخادمة، وصبَّت له الخمر. تأمل لونه الأصهب، وأخذ جرعة. أرعدت السماء. للضجيج الهائل، توقفت سالومي عن العزف، فنظروا إليها بقلق. بعد قليل، عادت إلى العزف، لكن أحدًا منهم لم يستسغ الإيقاع الرقيق الدافئ كما كان يستسيغه قبل قليل. أرعدت السماء من جديد، ودفعة واحدة، سقط المطر.
اتجهت الخادمة نحو النافذة، ورفعت الستارة. كان المطر يسقط مدرارًا. رمت سالومي أمها بنظرة متسائلة، فطلبت إليها بإشارة من يدها أن تتابع. كلما ازداد عنف المطر ازداد تعالي الأنغام. فجأة، سُمعت حركة في الخارج، ثم انطلق العواء. (( لقد غاب طويلاً وها هو يعود! )) فكرت سارة، وأومأت إلى الخادمة التي خفت إلى فتح البوابة الكبيرة. دخل إسماعيل، وكله يقطر ماء. أطلقت الخادمة صيحة تعجب واستغراب، وراحت تردد: (( يا سيدي! يا سيدي! )). لم يولها إسماعيل اهتمامًا. شق طريقًا بين الأعمدة متجنبًا مواجهة الحضور. قطعت سارة الردهة الكبرى بسرعة في أعقابه. كان عليها أن توقفه، وأن تقول له كم هي تتعلق به. قالت، وهي تفكر فيما أرادت البوح به قبل ذهابه:
- ...وهكذا انتهت إذن نزهتك المسائية، يا عزيزي إسماعيل.
توقفت، وهي تفكر: (( ما الذي يمكنني أن أفعله من أجلك؟ آه، يا إلهي!)). رفعت ثوبها لتسهل عليها الحركة، وجاءت تنزرع أمامه. وفي الحال، اجتاحت وجهها أمارات التعجب والاستغراب، فقالت بصوت منخفض:
- يا إلهي! يا إلهي!
سحبته من ذراعه:
- تعال. سأجفف لك هذا.
لكنها جمدت عندما جذب ذراعه.
- أنت تقطر ماء! لن أدعك تذهب هكذا، ستسقط مريضًا.
تناولت منديلها الحريري، ومسحت الماء عن وجهه. كانت ترتعش كلما لمسته بأناملها، وهو جامد كالرخام. قالت بنبرة عتاب:
- يطيب لك السير تحت المطر لتقع بعد ذلك طريح الفراش! أليس ما أقوله صحيحًا؟
بقى مقطبًا. لم يَفُهْ ببنت شفة. كان عطرها كارثته. هذا الشعر المكوي الذي بلون الخروب، طالما نثره الباشا إبراهيم بأصابعه، وأطفأ في تجعداته الشموس! رمقها. رمق البذخ، المال، والأسرار الغريبة كلها. هذا الجسد البض الشهي كان جزءًا منها، كتمثال الغادة العاج الذي كان قربه، وها هي ذي تتنفس، وينتشر عنها أريجها. كانت ترتعش، ويرتجف نهداها. امرأة في الخامسة والثلاثين. عيناها الواسعتان العسليتان ترعبانه. تخلص منها، وتقهقر.
- إلى أين أنت ذاهب؟
لم يعطها جوابًا.
تقدمت منه قلقة، كالثمرة الناضجة التي على وشك السقوط بين الأصابع الجائعة، وراحت تردد مطنبة:
- يا عزيزي! يا عزيزي!
نثرت شعره المبتل، وأخذت تتأمله: أسمر، قامة فارعة، عينان زرقاوان حالمتان، شعر غزير أسود، أنف دقيق، حاجبان منقوشان، وأكثر ما كان يسحرها عناده. انزاح، وهمَّ بصعود الدرج.
- ستنزل بعد أن تبدل ثيابك.
لكنه صعد.
أتاه صوتها الراجي:
- سنبقى بانتظارك.
لم يجب.
* * *
لم ينتظر موزارسكي صديقه، نهض أول ما ذهب من وراء امرأة كانت تحمل طفلاً وتستجدي لكنها تجنبت المرور بطاولته. كانت المرأة تشبه بولينا زوجته الضائعة، وكان موزارسكي يؤمن بمعجزات العهد القديم، فقال لنفسه ربما هذه واحدة منها. تبعها على الرصيف، وعلى الرصيف أطفال جوعى أجسادهم جلد يكسو العظم، يحدقون في ضوء القمر، ويجدون لونه أسود من لون قدرهم. كانت هناك بعض النساء اللواتي على وشك الموت، وهن يمددن أياديهن إلى القمر، والقمر يُسقط فيها فضته، وكان هناك شابان كأنهما توأمان ينامان في حضن السغب ولامبالاة الكون، ومن حولهما فراشات الموت الزرقاء.
- بولينا، انتظري... بولينا!
وضع موزارسكي يده على كتفها، لكنها ارتعدت من الرعب:
- يا سيدي الإس إس، خذ ولدي، واتركني بسلام!
دفعت الطفل بين ذراعيه، وأغذت السير كالمهووسة.
- بولينا!
أحس بالطفل خفيف الوزن، كان أشبه بالهيكل العظمي، فخف يجري من ورائها:
- بولينا، انتظري... بولينا!
بحث عنها في الشوارع المجاورة دون أن يجدها، ثم سمع فجأة ضحكتها، فصاح:
- بولينا!
وجدها تضاجع أحدهم عند منعطف الشارع. كانت تلهث من اللذة، وتقهقه من الغضب، وكانت تلعن الله، وتصلي من أجل رحمته. جلس على عتبة غير بعيد عنها، وهو يشد الطفل بين ذراعيه، ويبكي. ظل يبكي طويلاً، لم يكن قادرًا على إيقاف بكائه. عندما جف دمعه، نظر من حوله، ولم يجد المرأة، فنهض يبحث عنها كالمجنون في كل زوايا الشارع: كان الشارع معلقًا بين الحقيقة والخيال بحبال جهنم. فجأة، فطن إلى الطفل الذي مات بين ذراعيه، ومن جديد انفجر يبكي. في تلك اللحظة، كان مستعدًا ليقتل أيًا كان، أباه، أمه، بولينا نفسها، فقط أن يقتل. أخذ يبحث بجنون المحروم من دم العالم عن ضحية تكون نهايتها على يديه. غاب القمر، وحط الظلام في كل مكان، في القلب أول مكان. شد الطفل الميت إلى قلبه بقوة، وعزم على دفنه. لو كان ابنه لما ألقاه على الرصيف، وذهب دون مبالاة. طرق باب المقبرة، فردعته أصوات الحراس الألمان، وأمرته بالانتظار حتى الصباح.
* * *
أنهت سالومي مقطوعتها بسحبة سريعة. صفق لها الباشا إبراهيم، وكل الآخرين. تقدمت سارة منها وسط تهليلاتهم، وأخذتها بين ذراعيها. طبعت على وجنتها قبلة خفيفة، وهي تردد: (( يا طفلتي! يا طفلتي! )) أفلتت سالومي منها خجلة، وارتمت في حضن أمها، والباشا إبراهيم يقول: (( تعالى، يا معجزة! تعالى، أيتها الملاكة الصغيرة! )) دفعتها مسز كلارك بلين، من حضنها إلى حضنه، فأملس شعرها بيده الضلعاء، ثم أبعدها بهدوء، وراح يقول بصوت مهيب:
- ستصبحين عازفة شهيرة بعد عدة سنوات، وسأبني لك أوبرا، لك وحدك.
- أشكرك، يا باشا.
- إنني أعدك.
أخذت سارة يديها بافتتان، وهي تقول:
- يا للبراعة!
وتوجهت إلى مسز كلارك:
- فاقت (( شوبان )) روعة!
دون أن تنقطع ابتسامة مسز كلارك.
نقلت عينيها الخضراوين ناحية ابنتها، ورمتها بنظرة فخورة. تشبهان بعضهما تمامًا: مسز كلارك وابنتها. قالت لتخفي زهوها:
- ما زالت سالومي صغيرة.
رَنَتْ سارة إلى البنت، أمالت رأسها كمن تفكر فيما قالته أم سالومي، وردت:
- لا، يا عزيزتي، لنكن عادلين، إنها كبيرة بما فيه الكفاية.
ثم أضافت بابتسامة براقة:
- إنها تتقن الضرب على البيانو تمامًا.
أجلسها الباشا إبراهيم على أريكة واطئة قربه، والتفت إلى المهندس صادق ليقول دون أن يتوقع منه ذلك:
- وأنا أيضًا كنت في شبابي بارعًا!
صعد الدم إلى وجهه، وترك الباشا إبراهيم يتابع:
- علمني أبي كل شيء، الموسيقى والرسم والأدب وفن الزهور.
ضحك الباشا إبراهيم بجذل، فضحك المهندس صادق لضحكه. بسط الباشا إبراهيم يديه، وعاد يُلبس تقاطيعه الجد:
- هذه حكايا لا تدوم عندما تعظم المسؤولية.
ثم قال بلذعة من السخرية، دون أسف:
- حكايا شباب.
وجد المهندس صادق نفسه يقول:
- ولكنك في شباب دائم، يا باشا!
ابتسم له ابتسامة خفيفة، ثم سيطر عليه بنظرته القاسية.
قالت مسز كلارك:
- ربما يرغب السيد المهندس في إسماعنا قطعة.
زفر صادق محرجًا، وهو يضحك خحلاً:
- لا أجيد الضرب على البيانو، مع الأسف.
أعاد الخواجا داوود كصدى:
- مع الأسف!
أضاف، وسكسوكته الحمراء الوسيمة تعلو مع كلماته وتنخفض:
- برأيي أن الموسيقى والهندسة الصناعية علمان توأمان. كلاهما بحاجة إلى ورق للرسم، وكلاهما بحاجة إلى آلة للعمل. إن لهما في النتيجة الأخيرة قيمة واحدة. الفرق الوحيد أن الموسيقى روحية، بينما الهندسة الصناعية مادية. لهذا السبب قلت إنهما علمان توأمان. هل أنت متفق معي؟
أجاب المهندس صادق، وهو يحرص على عدم معارضته، ويبذل عند الابتسام جهدًا:
- أنا متفق معك.
تدخلت سارة:
- ولكن، يا خواجا، ليس بالضرورة أن يكون المهندس موسيقيّاً أو الموسيقي مهندسًا، أقول ليس بالضرورة.
كان الخواجا داوود يستبق كلامه دومًا بابتسامة. انحنى حتى بدا عظمه على وشك التكسر لشد ما كان نحيفًأ، وقال بأسف:
- لو كان مهندسنا الجديد موسيقيّاً لصنع في البلد معجزة!
قالت مسز كلارك:
- نعم، هذا ما كنت أتمناه.
ورمت صادق بنظرة جعلته يعرق، وهو يلتهم شفتيها الفراولتين بعينيه: كان يرتعش رغبة في قضمهما ليكشف سرها وجنونها، وكان يفكر: إنها ساخنة على الفراش ما في شك!
تلعثم، وقال:
- لم يفت شيء، بإمكان المرء أن يتقن أي شيء، إذا ما رغب في ذلك.
ابتسم ببلاهة قبل أن يضيف:
- كونوا مطمئنين، أنا أرغب في ذلك أكبر رغبة.
ومن جديد، راح يلتهم بعينيه شفتي مسز كلارك الفراولتين.
قالت مسز كلارك:
- أهنئك، يا سيدي المهندس، على هذه الشجاعة.
أخذ الخواجا داوود يفحص صادق بعينيه الحادتين، موحيًا للجميع معرفته في الفراسة، وكأنه اكتشف أشياء كثيرة:
- يبدو لي أن مواهب السيد المهندس لا تقف عند حد.
دفع الباشا إبراهيم صدره إلى الأمام بأبهة، وعظمة، ونهض:
- هذا ما أتمناه.
التفت إلى الجميع، وأعاد:
- هذا ما نتمناه جميعًا.
قالت سارة بدلال:
- حقًا، هذا ما نتمناه جميعًا.
أحاطوا بالمهندس: بذلات سوداء، وفساتين براقة، أناقة إلى حد الإفراط... اتجهوا إلى قاعة الطعام، فتدحدل صادق بينهم مبهورًا بكل ما يجري حوله.
* * *
عندما عاد ماريك إلى خمارة الحمل الثمل، لم يجد موزارسكي، لكنه رأى على العتبة ماغدلينا، الممثلة الشهيرة، وآدم مردخاي، الشاعر ورجل المسرح المعروف، كما لو كانا بانتظاره. همّ بالجلوس في مكان أشار إليه النادل الرخام، وهو يفكر في صديقه الذي اضطره الذهاب أمر ما حتمًا، والذي لن يلبث أن يعود كما بدا له، لكن نقرة إصبع ناعمة على كتفه جعلته يلتفت، ليقع على وجه ماغدلينا، وهي تتبسم عن لؤلؤ. أشارت إليه بأن يتبعها، ففعل. كانت حيرته كبيرة في عالمٍ كلُّ شيءٍ شنيعٍ فيه متوقع أما الجميل فنادر. كانت ابتسامة الأنثى أجمل الأشياء، وكانت ابتسامة ماغدلينا أجمل ابتسامة.
وهو يقترب من آدم مردخاي الواقف قرب عربة ثلاثية العجلات، ابتدأه هذا بهذه الكلمات:
- تعال، يا صديقي ماريك باويل، هلا تذكرتني؟
- أنا أعرفك، يا آدم مردخاي، وهل يخفى القمر؟ رمى ماريك وهو على بعد خطوتين منه.
لم يطلع القمر مذ غاب في سماء أقصى حالات البؤس، وهو لهذا وجد تشبيهه غريبًا، لكن مردخاي لم يكن يأبه بقمر وارسو في تلك اللحظة ولا بقمر الأنا، كان يسعى إلى شيء آخر:
- سألتك هلا تذكرتني ولم أسألك هلا عرفتني؟
علقت ماغدلينا وهي لا تنقطع عن الابتسام:
- لا تربكه، يا آدم، فأنت لا تكتب مسرحية جديدة.
وتوجهت بالكلام إلى ماريك:
- غدت حياته كلها مسرحية.
أشار آدم مردخاي إلى لوحة العدم التي كانها الغيتو بينما هم يلقون في وسطها، وهمس:
- نحن نعيش في مسرح لامعقول، يا ماغدلينا أنييلوفيتش!
انقطعت ابتسامة ماغدلينا، وبدت لها سحنة فاجعة كتلك التي عهدها الجمهور فيها عندما تمثل التراجيديات الكبرى. قال ماريك لآدم:
- أنا أتذكرك الآن، كنا قد التقينا في المجلس اليهودي.
- وكنت أنا من أصرَّ على إدراج اسمك في قائمة بنّائي الجدار.
- هل ما زلت عضوًا فيه؟
- أنا نائب الرئيس اليوم. اصعد، سنذهب إلى مكان نتحدث فيه بهدوء.
- اصعدي أولاً، يا ماغدلينا، قال ماريك للممثلة الشهيرة. إنه لشرف لي أن أركب وإياك في نفس العربة.
وقبل أن يصعد ماريك، التفت إلى باب الخمارة، وذهب بعينيه إلى أقصى الشارع، فسمع مردخاي يقول من ورائه:
- صديقك لن يعود...
وسارع إلى القول:
- اطمئن، لم يحصل أي مكروه له.
صعد ماريك ثم آدم، فالتصقت فخذ ماريك بفخذ ماغدلينا التي رمته بسهام نظرة كوبيدية أحس بكل سخونة الكون فيها، والتي ابتسمت له ابتسامة غير تلك التي اعتاد الناس عليها، كانت ابتسامة له وحده، ابتسامة خاصة به، وهو لذلك كان سعيدًا، كان لم يزل يقدر على أن يكون سعيدًا. أخبرت السائق الذي يأخذ مكانًا خلفهم أين يريدون الذهاب، فسيّر عربته بالدواسة، وما لبث أن انطلق بهم.
* * *
كانت الأرض تتنفس وتتحرك كالجسد الحي. وبشيء من الهوس، كانت الخيول الأربعة تعدو بالعربة، والحوذي يسوطها، فتصهل، وتلمع عيونها في الليل. من بعيد، كانت عيونها تشبه الأضواء الحمراء... ومن بعيد، كان من عيونها يبدو المطر أحمر، وكان مستر كلارك يتنفس وينظر إلى ما يتكاثف من أنفاسه على الزجاج: كان مرتاحًا وفي أمان، والسوط يلسع من جديد، فيعلو الصهيل، ويلسع مرة أخرى، فيعود الصهيل، ويعلو.
* * *
فتح موزارسكي عينيه فجأة، كان الطفل الميت الذي في حضنه يبتسم له بوجه أجمل من قمر وارسو، وما لبث أن وقف الطفل على قدميه، وهو في أجمل ثيابه. مد يده، وأمسك بيد موزارسكي الذي لا يصدق ما يرى، وقال له:
- تعال، يا بابا، نعود إلى دارنا، لقد كلت ماما الانتظار.
نهض موزارسكي المنذهل، وسار مع الطفل، وهو ينظر إلى سور المقبرة الذي تركه من ورائه. أخذ الطفل يقطع به الغيتو من أقصاه إلى أقصاه دونما باب يعيقه أو جدار حتى وجد موزارسكي نفسه في أجمل أحياء وارسو. اجتاز الطفل به سور إحدى الفيلات، وسار به على حافة بركة كان ماؤها في الليل بنفسجيًا. دخل به إلى الصالون، وقبل أن يتركه يصعد إلى غرفة النوم، قال له:
- اصعد، يا بابا، ماما هناك بانتظارك.
لكنه لم يصعد، كان لا يفارقه الذهول، وكان ينظر إلى فوق بشيء من الخوف والريبة. جذبه الطفل من يده، وصعد به إلى غرفة النوم. دفع بابها الفخم، وحثه على الدخول. عندما دخل، نهضت بولينا التي كانت تقرأ كتابًا في سريرها الضخم، وجاءته بقميص نومها الحريري، وبكل جمال الدنيا، وهي تسأله بلهفة:
- أين كنت غائبًا، يا موزارسكي؟ لماذا تأخرت على بوليناك؟ إنها تنتظرك منذ الصيف الذي ذهبت فيه إلى برلين! كيف هي برلين؟ هل هي دومًا جميلة؟ تعال، يا حبيبي! لا بد أنك تعب، يا حبيبي! تعال إلى ذراعيّ، يا حبيبي!
سار موزارسكي تحت دفعاتها الرقيقة، ونام إلى جانبها بثوبه وحذائه وكل أوحال الموت. وعندما اطمأن الطفل على والديه، قال لهما:
- تصبحان على خير، يا بابا، ويا ماما! أنا ذاهب لأنام في بطن ماما!
أغلق عليهما الباب بهدوء، وعاد ينزل الدرج إلى البركة ذات الماء البنفسجيّ. نزل على سلمها حتى غمره الماء تمامًا، وراح يقطعها ماشيًا تحت الماء إلى أن وصل سريره الصغير المقام في الركن. دخله، وتغطى جيدًا. وبعد ذلك، مد يده الصغيرة إلى المصباح الموضوع على طاولة الليل، وأطفأه.
* * *
أضواء ضعيفة في الحجرة الكبيرة. أغطية السرير الضخم قاتمة. الأثاث قديم. الستارة سوداء. فوق سريره صورة أمه الحسناء. تقدم إسماعيل منها. كانت عيناها تدعوانه. في كل مرة كان يجد نفسه في الحجرة، كانت عيناها تدعوانه. كانت شفتاها تهمسان له. اختفى من عينيها البريق، وارمد لون شفتيها الأحمر. ومع ذلك، فلم تكن تشكو. كانت تطل عليه دومًا من نفس المكان، هادئة، وادعة، بينما تنحلُّ ابتسامتها في الظل. كالضوء الحالك. ويفنى جمالها في الظل. كالزهر الظامئ. لكنه لن ينسى جمالها القديم، حبها القديم، ذراعيها، طفولته بين ذراعيها، شفتيها على عنقه، لن ينسى عاره القديم. استدار على نفسه، وأتى ينزرع قرب البوفيه. كانت على البوفيه صور مؤطرة يتفاوت حجمها بالتدريج. هو وأمه. منذ كان طفلاً في عامه الثالث حتى الثاني عشر. في أوضاع مختلفة. في حضنها. إلى جانبها. من أمامها. على الكرسي. نقل إحداها، فإذا بطفولته تدب بين أصابعه كالأرنب فوق العشب حارة وثقيلة. لكنه تجاوز هذا العمر، بما أنه يحس اليوم بالشيخوخة. أعاد الإطار إلى موضعه، والتفت حوله بهيئة تعبة عاجزًا عن تحديد علاقته بأشيائه. كانت تجتاحه ذكرى حالات متعارضة تجعله بخصوصها غريبًا. ثم لا يلبث أن يقع على عزائه بفضل أمه، وهي تنظر إليه من أعلى الحائط على الدوام، وهي تفنى في قلب الحائط على الدوام.
أزاح الستارة، ونظر إلى الخارج. الليل والمطر لم يزالا هناك، والعربة ذات الخيول الأربعة كانت تقترب من سور القصر. عندما دخلت العربة باحة القصر، وصل إسماعيل الصهيل وصيحة الحوذي. كانت الخادمة قد هرعت لتفتح البوابة. عند ذلك، توقفت العربة، خف الحوذي فاتحًا المظلة لمستر كلارك، ورافقه حتى عتبة القصر.
قال الباشا إبراهيم، وهو يفتح ذراعيه على سعتهما:
- تأخرت علينا، يا صديقي العزيز.
وأشار إلى مقعد فارغ إلى يساره:
- مكانك إلى جانبي.
ناول مستر كلارك معطفه وقبعته للخادمة، وتقدم بجلبة:
- أضاع سائقي الطريق.
ثم أضاف موضحًا:
- بسبب المطر.
وقبل أن يجلس، خفض رأسه بتأدب تحية لسارة.
- سيدتي!
كانت تجلس في رأس المائدة المواجه للباشا. في الطرف المقابل، ابنة المستر كلارك وزوجته. مر عنهما بسرعة، وهو يبتسم، ووقع على المهندس صادق إلى يمين الباشا إبراهيم. قدمهما الباشا إبراهيم لبعضهما:
- هذا هو مهندسنا الجديد، يا مستر كلارك، وهذا هو مستر كلارك، يا باش مهندس.
تبادلا التحية.
جلس المستر كلارك إلا أنه تذكر الخواجا داوود الجالس في أقصى الطاولة، على يمين سارة. انحنى، وحيّاه بحرارة. نهض الخواجا داوود بكل احترام:
- تحياتي، يا مستر كلارك:
ثم جلس.
شرعت الخادمة القيام بواجبها. رمت سارة مقعد إسماعيل الفارغ بنظرة، وهي تفكر: لم ينزل! وبدا لها المقعد مهجورًا منعزلاً بشعًا.
نفض مستر كلارك محرمة الحرير، وفرشها على حضنه. تناول مغرفة الفضة، ونظر إلى الباشا إبراهيم الذي كان يستفسره بعينيه. قال مستر كلارك:
- لقد تمَّ كل شيء.
غرز الباشا إبراهيم الشوكة في قطعة لحم، ودفعها في فمه. راح يمضغ بتأنٍ، ويبتلعها بتأنٍ، ثم مسح فمه بتأنٍ، والتفت إلى صادق:
- كلنا يعلم لماذا نجتمع الليلة على مائدتي المتواضعة هذه...
مسحوا أفواههم، وضعوا من أيديهم، وراحوا ينصتون.
- إنه احتفال صغير نعتز به جميعًا إكرامًا لمهندسنا الجديد.
صفقوا، وابتسموا، ثم حطُّوا في الصمت.
- وكلنا يعلم أن مصنع النسيج في بلدتنا خطوة بناءة ما في شك، سواء على الصعيد الداخلي اليوم، أو على الصعيد الخارجي غدًا، به نثبت قدراتنا وإمكاناتنا المحلية، ونجعل من إنتاجه الجيد بطاقة السفر إلى سوقنا الصغيرة أولاً، وإلى الأسواق الكبيرة ثانيًا، عدا عن تثبيت سمعة هذا البلد كمنتج ومصدر ومتقدم بالتالي، لا كبلد متخلف يعاني من قلة الإنتاج وضحالة صادراته.
أخذ نفسًا عميقًا.
- تعلمون كلكم كم كلفني هذا المشروع من جهد ومال وتعب. إن آمالنا اليوم كلها تنصب على حكمة وحنكة مهندسنا الجديد بعد أن فشلت تجربتنا مع المهندس السابق، ليذهب بالمشروع إلى تحقيق المرامي التي قام من أجلها.
ثم أنهى بصخب:
- أرحب بالسيد المهندس مرة أخرى بيننا، داعيًا له بالتوفيق في مهمته.
وصفق، وهم كلهم معه.
كان صادق، طوال الخطبة، يصغى، وقلبه يضرب بقوة كبيرة على غير عادته. وكان يبتسم بشكل مفرط، وهو يفكر: لكم يبالغون بإبداء مشاعرهم في هذا البلد!
* * *
تابع آدم مردخاي بينما ماغدلينا تعد القهوة في المطبخ المفتوح على قاعة الجلوس، وتسمع:
- ... لهذا السبب، لم أتردد لحظة واحدة عن إسناد دور هنري الرابع لماغدلينا، ولو كان شكسبير يعيش معنا في عالم العبث المذهل واللامعقول الذي أبدًا لا مثيل له مذ كان الوجود وجودًا، لفعل ما فعلت، فانتزاع السلطة من طرف أسرة لانكستر سينتمي إلى المطلق كفعل ميتافيزيقي، وسيان أن يكون هنري الرابع امرأة أو رجلاً، فعل السلطة والصعود والسقوط هو الأساسي أما الفاعل فشيء ثانوي، ثانوي تمامًا. ولهذا السبب أيضًا، يأتي ضباط الفوهرر كل مساء ليصفقوا لماغدلينا فخارًا وإعجابًا.
وضعت ماغدلينا فناجين القهوة والعديد من ألواح الشوكولاطة. كسر آدم قطعة، ورماها في فمه، وهو يرسم بسمة محتقنة، وينظر إلى الممثلة الشهيرة التي كانت تطلق ابتسامتها الخلابة:
- هذه الشوكولاطة اللذيذة تعبير عن إعجاب النازية بشكسبير، أضاف آدم مردخاي، وهناك أشياء أخرى أكثر من الشوكولاطة السويسرية. حدثي ماريك عنها، يا ماغدلينا.
عتمت ملامح ماغدلينا، نظرت إلى ماريك، ثم إلى آدم، ونبرت:
- ولكننا لم نتفق على هذا.
فهب مردخاي بها صائحًا:
- اتفقنا أم لم نتفق، حدثيه عما تفعل فيك الشوكولاطة السويسرية كل مساء بعد كل عرض.
ارتبكت ماغدلينا، نقلت فنجان القهوة إلى شفتيها، وهي ترتعش، فانسكبت القهوة على كتف ماريك. اعتذرت له وبدلاً من وضع فنجانها على الطاولة بهدوء ومسح القهوة عن كتف الضيف ضربت يدها بفنجان قهوته ودلقتها على ركبتيه. تضاعف ارتباكها، وهي تمسح بمنديلها القهوة، بينما أخذ آدم مردخاي يصيح بأعلى صوته:
- قولي له إنهم يغتصبونك كل مساء لا لشيء إلا لإعجابهم بدور هنري الرابع الذي تمثلينه.
جمجمت ماغدلينا رادعة:
- يا لك من لئيم! لا تصح هكذا، فالدنيا كلها تسمعك!
- الدنيا كلها تسمعني! رمى مردخاي ساخرًا، الدنيا كلها تسمعني!
تدخل ماريك:
- أتركها، يا مردخاي، وشأنها.
- نعم، اتركني، لأجل محبة موسى.
هدأ آدم مردخاي، وهمهم باتجاه ماريك:
- أنا علماني مثلك، لكنني أحب موسى مثلها، أحبه على طريقتي، كل شيء في التوراة أحبه على طريقتي، وأترك الآخرين يحبون كل شيء فيها على طريقتهم التي غالبًا ما تلتقي بطريقتي...
قطع كلامه، وجمد على منظر دموع ماغدلينا التي راحت تنسكب حارة على خدها. حنت رأسها، وحدقت في قدميها الصغيرتين الجميلتين:
- يقول لي بعد كل مرة يغتصبني فيها إنه سيدق قدميّ ببلطة عبرية قديمة ذات يوم لا لشيء سوى لأنهما صغيرتان جدًا وجميلتان جدًا... الكولونيل هينز! هذا وليس غريبًا أن يبدو في كل مرة يغتصبني فيها وكأنه يغتصب السلطة وقد جسدتها في نظره... ثم يترك نفسه تتحدث عن شكسبير، عن إرادة القوة وقوة العرق وسيطرة العرق وجماله لأن شكسبير برأيه ألماني أخطأ في الهوية، ولكنه ما من مرة يتحدث فيها عن سقوط أسرة هنري الرابع، لأن السقوط في نظره لحظة غير شرعية من تاريخ كل بلد عظيم وأمة عظيمة، وهو هنا يمثل كل ما هو شرعي في أعين الرايخ. ما من مرة يتحدث فيها عن نهاية أسرة هنري الرابع، لأن ذلك يذكره بنهاية أخرى لا يريدها.
رفعت رأسها قليلاً قليلاً، مضت بعينيها بمردخاي ثم بماريك، وأفضت:
- ذهبت إلى الجنرال ناهريخ بناء على نصيحة مردخاي كي أشكو الكولونيل هينز ويضع حدًا لفعله فيّ بعد كل عرض. كانت في قاعة الانتظار بعض الفتيات اليهوديات الجميلات، تسع أو عشر فتيات، كان يبدو عليهن أنهن لم يكن هنا لشكوى يرفعنها للجنرال ناهريخ مثلي أو لأمر آخر، كان يبدو عليهن أنهن أجبرن على المجيء لغرض يجهلنه. عندما علم الجنرال ناهريخ بوجودي، أدخلني عليه في الحال، فانهرت بين يديه، سالت دموعي دون أن أستطيع التحكم بها، وأنا أحكي له قصتي مع مرؤوسه. راح الرجل يركز نظره على شفتيّ الراعشتين، ولا يكف عن الطلب إليّ ألا أتوقف عن البكاء. كان بكائي يضاعف الشبق لديه، ويوتره جنسيًا، وكان الوحش يتحول على إيقاع شهقاتي من شكل إلى شكل، ويغوص في مقعده، يغوص، كان يغوص في بحر لذة مستعرة يثيرها دمعي في عروقه المريضة، وفجأة كان يأخذ في الصراخ كالمعتوه، ثم يهمد كالجسد الملقى على الرصيف، وتكاد تدوسه الأقدام.
* * *
كانت فوق مكتب الأبنوس الفخم صورة من الحجم الكبير تمثل الباشا إبراهيم في شبابه: بذلة سوداء، قميص مخطط ما دون صدارتها ارتفعت قبته المنشاة فوق عقدة ضخمة لرباط العنق، منديل من الحرير الأبيض في جيب السترة العلوي مروحي الشكل، طربوش يضغط الجبين ويضاعف من استدارة الوجه، حاجبان كثَّان وعينان سوادان تقدحان.
امتدت يده، وكأنها تروز دفعتها، وسحبت جرار المكتب. نقلت اليد صندوق السيجار، وراحت الأخرى تعبث بغطائه إلى أن فتحته. تقدم الباشا إبراهيم بالصندوق إلى مستر كلارك، وانحنى ربعًا بقامته الممتلئة:
- سيجار، يا مستر كلارك؟
تناول مستر كلارك سيجارًا ضخمًا بين أصابعه، وراح يتأمله لوهلة قبل أن يقضمه، ويضعه في فمه. ركن الباشا إبراهيم الصندوق فوق طاولة الزجاج، وقدح لمستر كلارك ولاعة من الذهب الخالص. عفط مستر كلارك الدخان، مما عجَّل بإثارة أفكاره. أخذ الباشا إبراهيم مجلسًا مقابلاً لمستر كلارك، فغاص في المقعد الجلدي. تبادلا النظر، وكل واحد بانتظار أن يبدأ الآخر الكلام، وكان من الباشا إبراهيم أن قال:
- سينتشر خبر الإعدام بسرعة.
رد مستر كلارك:
- التعميم أمر قانوني.
وضع مستر كلارك رجلاً على رجل، واندفع إلى الوراء. راحت ابتسامة غامضة ماسخة تأخذ طريقها إلى شفتيه:
- أنت، يا باشا، ذو كلمة مسموعة، وثقتنا بك كبيرة.
استشاط الباشا إبراهيم غضبًا:
- ولكنها مسؤوليتكم أيضًا!
قال مستر كلارك:
- انتهت مسؤوليتنا مع تنفيذ حكم الإعدام.
أضاف بارتياح أزعج كما يبدو محدثه: والآن تبدأ مسؤوليتكم.
- وفي حالة ما إذا حصل شغب... وعصيان.
- لن يحصل شغب ولا... عصيان إذا تكفل الباشا إبراهيم بالأمر.
- ها أنتم تلقون على عاتقي كل الأمر، وتتركونني أحمل وحدي ما لا يستطيع عليه المندوب السامي نفسه. إن الأشياء جد خطيرة!
- ليست خطيرة إلى هذه الدرجة، المهم أن...
قاطعه الآخر:
- إذا أردتم أن نتعاون كما ينبغي أجلوا نشر التعميم.
- القانون يقول يجب تعميم كل إعدام يجري تنفيذه وإلا غدا في حكم الشرع جريمة.
فلعت ابتسامة فمه، وتابع: إخفاء ما هو شرعي جريمة، يا باشا!
انتظر لحظة قبل أن يذكّر:
- لا تنس، يا باشا، أننا استجبنا لمطالبك كلها، ولم نجر تنفيذ الحكم علنًا بناء على رغبتك.
- طبعًا، وإلا ساءت الأمور كثيرًا.
- إذن لن تسوء الأمور بما أننا عملنا برأيك.
أحدد مستر كلارك نظره في عيني محدثه، وتشنج:
- فلتعمل برأينا، إنه دورك الآن.
لاحظ عليه الضيق، مما جعله يضيف:
- إن المندوب السامي يقدرك تمام التقدير، وهو يترك لك معالجة الأمر بحكمتك وخبرتك، وسينتهي كل شيء على أحسن وجه. في أسوأ الأحوال، سيسبب لك آل سعد الله بعض الإزعاج. ما عدا ذلك، إذا طلبت منَّا أن نتدخل، فسنتدخل. وأزيدك اطمئنانًا بأن المندوب السامي سيصدر عما قريب مرسومًا بعودة أرض المعدمين إليك.
* * *
بكت ماغدلينا، وآدم مردخاي يشد لحيته، وينتف شعرها دون شعور منه، ودون أي ألم. بعد قليل، مسحت دمعها، وابتسمت لماريك الذي بقي عابسًا ساخطًا لا يدري كيف يعبر عن مشاعره الناقمة أشد نقمة. امحت ابتسامة ماغدلينا، وعمق لون عينيها الأخضر:
- قال لي الجنرال ناهريخ قبل أن يصرفني إنه سيكلم الكولونيل هينز حالاً، ولن يزعجني هذا بعد ذلك أبدًا، لكنني تفاجأت بالكولونيل هينز في مقصورتي بعد عرض ذلك المساء، واستمر على المجيء كل مساء كما كان يفعل دومًا. لم يذكر لي شيئًا عن الزيارة التي قمت بها إلى الجنرال ناهريخ، ففهمت أن الضابط الألماني الكبير يريد أن أسكب دمعي بين يديه من جديد، وهذا ما حصل بالفعل عندما استدعاني. لم يكن في قاعة الانتظار أحد، وأدخلني حارسه إلى مكتبه حال وصولي. لم يكن الجنرال ناهريخ في مكتبه، وبعد مضي بعض الوقت، بدأت تصلني صرخات نساء من الجناح التابع للمكتب، صرخات كانت تقمع بعنف، إلى أن انفتح الباب الداخلي فجأة على الجنرال ناهريخ عاريًا وفي يده مسدس لوح به إليّ لأجيء، فجئت، وذهلت على رؤية سبع من النساء العاريات المعقودة أياديهن، المدماة أثداؤهن، الجاحظة عيونهن، وكأنهن سبايا في الجحيم. تفجرت دموعي على منظرهن، وعلى منظر دموعي، تهيج الجنرال ناهريخ، فطوى إحداهن على طاولة كانت هناك، ودخل فيها دخول الفاتح لبولندا، وهو يأمرني ألا أتوقف عن البكاء. وعند ذروة سعاره، أخذ يطلق النار على النساء، ويقتلهن واحدة واحدة، وهو يصرخ من عظيم اللذة، والمرأة الذي هو فيها تصرخ، فقتلها، وبقي فيها، وهي قتيلة، إلى أن قذف كل الأبيض الأسود الأخضر الأزرق الدمويّ الذي في كيانه، ولوّث الكون.
* * *
صاح الحوذي بكل قواه، وساط الخيول المندفعة، والعربة ترتج إلى أن اختفت. كان المطر يصب دومًا، والليل أسود. وكانت العجلات تدور في الماء والطين، فتصنع أقواسًا ترشق الطريق كالنوافير. كان كلاهما يجلس في الداخل، وكان كل منهما يحاذي الآخر. كانت على رأس الخواجا داوود قبعة طويلة، وكان يستند بكلتا يديه على مظلته كي يحول دون الترجج. عند ذلك قال مستر كلارك:
- المهم في الأمر هو هذا: أن يحمل الباشا على عاتقه كل شيء، ونبقى طرفًا متفرجًا.
- وبعد ذلك؟
- تعرف جيدًا ماذا سيحصل بعد ذلك.
- وإذا حصلت تطورات، أقصد إذا كانت للأمر ردود فعل هامة؟
- هذا يتوقف على مدى شخصية الباشا وحكمته.
- تقصد مشيئته.
- اطمئن، طالما أن فيها منفعة.. ولو مؤقتًا.
- الأرض؟
- الأرض.
- هذا ما يقلقني.
تقاطعت تقاطيع الخواجا داوود، وقال بصوت بطيء متحسب:
- إذا وقعت الأرض في حوزته قبض عليها بمخالبه، ولا تنس هذا، إنها أخصب ما في المنطقة.
- لديك المال.
- سيسبقني إلى شرائها طالما لديه المرسوم.
- وهنا يأتي دورك.
أمرَّ مستر كلارك إصبعه على الزجاج، ومحا الغبش المتراكم: لقد انقطع المطر. قال:
- سيكون موسمًا خصبًا.
بقي الخواجا داوود جهم الوجه، كان يحدق في العتمة بحثًا عن ثلم ينتزع منه بذرة حلمه. أعاد مستر كلاك:
- سيكون موسمًا خصبًا.
أعاد الخواجا داوود من طرف شفتيه المغضنتين:
- بالفعل، سيكون موسمًا خصبًا.
مال مستر كلارك ناحيته، وبعث في قلبه الاطمئنان:
- عندما يصبح الأمر بيننا وبين الباشا كل شيء يغدو سهلاً، وعلى الخصوص إذا تعلق من ناحيته الأخرى بك. أنت لديك المال، والباشا لديه الأرض، ونحن لدينا وساطتنا. منذ وعد بلفور ونحن البريطانيين نعمل كل شيء من أجل إقامة الوطن القومي اليهودي، وطنكم، في فلسطين: الييشوف، الوكالة اليهودية، الكيبوتزات، الهاغانا... كل المؤسسات التي ستتحول إلى دولة حديثة بكل ما في الكلمة من معنى. الفلسطينيون محرومون من كل إدارة ما عدا إدارة الباشا، إدارة إقطاعية بالية. لا تنس هذا، يا خواجا ديفيد.
- أنا لا أنسى هذا، لكن ما تفعلونه ليس كافيًا.
- اسمح لي أن أقول لك، ليهودي هنا قبل أن يكون الانتداب هنا، أنت يهودي نهم، يا خواجا ديفيد.
- نعم، أنا نهم، أنا يهودي نهم لأجل شعبي، لأجل أهلي الذين عانوا عبر التاريخ والذين يسعى الألمان إلى إبادتهم.
صححه مستر كلارك ببسمة كبيرة:
- الألمان وليس الفلسطينيين.
- ليست غلطتي إذا كان هؤلاء الناس قد اغتصبوا حقنا التوراتي.
- حقكم التوراتي؟ ماذا تعني؟
- صهيون. صهيون، يا مستر كلارك. وبعبارة أخرى، العودة إلى الأرض المقدسة، إلى أرض العسل واللبن، العودة إلى ما كانت أرض أجدادنا منذ ألفي عام.
- يبدو لي هلوسة ما تقوله ولا منطقي، يا خواجا ديفيد. الحاصل... من وجهة نظري الشخصية، على الأقل.
- احتفظ بوجهة نظرك الشخصية، يا مستر كلارك، من الأحسن لك. بالنسبة لي كصهيوني، إنه حق العودة هذا الذي يجب أن يطبق ويصبح حقيقة واقعة أيًا كانت الوسائل للوصول إلى ذلك، ومهما كانت شناعة هذه الوسائل.
- بما في ذلك الوسائل الأكثر شناعة؟
- نعم، بما في ذلك الوسائل الأكثر شناعة. أقول ما أقول دون أدنى تردد.
- بما في ذلك ثمن إبادة أخرى في حق شعب آخر؟
- لن يكون الأمر واحدًا.
- هل أقول لك شيئًا، يا خواجا ديفيد؟ وأنا أسمعك تفكر هكذا أجدني مرتاعًا.
- لنا نحن الصهاينة، البوغرومات، دريفوس، اللا سامية، الغيتوهات، تريبلينكا، تبرر كلها ضرورة أن تكون إسرائيل ملجأً لكل يهود العالم، وفي هذا يكمن معنى العالية، الصعود من أجل الإقامة في فلسطين.
- بارتكاب الشناعات نفسها في حق شعب آخر؟
- نعم، بارتكاب الشناعات نفسها في حق شعب آخر. أقول ما أقول للمرة الثانية دون أدنى تردد.
- مريع ما تقوله ومخيف، يا خواجا ديفيد، ولكن ما أقوله... يبقى وجهة نظري الشخصية.
- من حظك، يا مستر كلارك.
- أتهددني، يا خواجا ديفيد؟
تفاجأ الخواجا داوود، تلعثم، ثم اضطر إلى القول:
- لم تكن سوى زلة لسان، يا مستر كلارك.
- حذار! الزم المكان الذي وضعناك فيه، وقم بالغرض الذي سنجيء بأهلك من أجله!
وتناهت إليهما صيحة الحوذى في اللحظة التي استدارت فيها العربة بقوة مع المنعرج.
* * *
كان آدم مردخاي قد نتف نصف لحيته دون أن يشعر بذلك إلا أنه في غمرة الصمت صاح من الألم فجأة، فقامت ماغدلينا قلقة، وهي ترى الدم ينفر بين أصابع رجل المسرح، وتقول:
- ستقتل نفسك ذات يوم، يا صديقي آدم!
جاءت ببعض القطن، وبقنينة دواء معقم، فتأوه آدم مردخاي للحريق الذي سببه الدواء المعقم، وعندما لم يحتمل أكثر، دفع ماغدلينا عنه بعيدًا.
- سأقصقص لك لحيتك، قالت ماغدلينا مبتسمة، وهي على كل حال كانت تلتهم كل وجهك.
توجه مردخاي بالحديث إلى ماريك بعد أن نظر إلى دمه على قطعة القطن ورماها جانبًا:
- تعرف جيدًا أن غيتو وارسو اثنان أحدهما كبير والآخر صغير مهمل تقريبًا قليل الحراسة، وحراسه في معظمهم من شرطتنا اليهود، لهذا لن يصعب علينا هدم جداره.
انتبه ماريك جيدًا عندما سمع بهدم الجدار، كان يريد هذا الهدم كما وعد صديقه موزارسكي، ولم يكن يعرف كيف، لكنه لم يعرف بعد أسباب مردخاي.
- هدم جدار الغيتو الصغير سيخلصنا من الكولونيل هينز إلى الأبد، رمى آدم مردخاي.
قال ماريك:
- أنا لا أفهم.
- ومع ذلك، كل شيء واضح، قال مردخاي.
تدخلت ماغدلينا:
- سأقوم بعرض خاص بجنود الغيتو الصغير وشرطته، هذه فكرة استحسنها الكولونيل هينز، وهو في أحضاني. عند ذلك، سيكون كل الجدار تحت تصرفك، يا عزيزي ماريك.
- تحت تصرفي؟ تحت تصرفي كيف؟
- ستكون هناك متفجرات في أحد الأقبية، أوضح مردخاي، ستخرجها مساء العرض إلى الجدار، وتفجره، هذا كل ما هنالك.
- سأفجره، هذا جميل، ولكن كيف التخلص من الكولونيل هينز إلى الأبد كما ذكرت؟
- تفجير الجدار لغلطة عسكرية كبيرة ارتكبها الكولونيل هينز ستؤدي إلى تصفيته من قبل الجنرال ناهريخ وإنهاء الأمر بسرعة قبل أن تنشغل قيادة الرايخ هي بالأمر، فيلحق الجنرال ناهريخ الأذى، لأنه المسئول المباشر عن الكولونيل هينز.
- تصفية الكولونيل هينز؟ تصفية الكولونيل هينز فقط دون غيره؟
هب مردخاي بماريك صائحًا:
- وماذا يهم حتى ولو تمت تصفية كل مشاهدي هذا العرض الخاص؟! نعم، يا ماريك باويل، بمن فيهم شرطة المجلس اليهودي الذي أنا نائب رئيسه. هكذا نعجل بتحريك الأمور، وندفع الناس إلى أن يهبوا، ويحرروا بابل!
- وإذا ما كان الثمن الذي سيدفعه الناس أكثر مما تتصور؟
عاد مردخاي يصيح:
- لن يدفع الناس أكثر مما هم فيه!
* * *
طلب صادق:
- أوقفي ماسحة الزجاج.
وفي الحال أخذت يدها تبحث عن الزر أسفل المقود:
- أخيرًا!
- توقف المطر.
قالت مسز كلارك وهي ترمي ضحكة:
- إذا أمطرت فهي تمطر من أجل فصل كامل.
استدارت نحوه، ثم تابعت التقدم في الطريق الموحلة بصعوبة، للحلكة الشديدة، وضعف المصابح.
- ربما أثرت في قلبك الضحك، أتعرف أنني أخاف من المطر؟
قال صادق دون أن يدهشه ذلك:
- ليس هذا بالأمر الغريب.
ضحكت من جديد، وقالت:
- يبدو أننا متشابهان.
رماها بنظرة، وقال، وهو يفكر في أنهما متشابهان:
- انتبهي إلى الطريق.
- لم أعد أرى شيئًا.
- هذا بسبب الظلام.
طلبت سالومي الجالسة على المقعد الخلفي:
- هل أمسح لك الزجاج، يا ماما؟
ضحكت:
- لكِ أن تفعلي، لكن هذا لن يبدل من الأمر شيئًا. سأخفف السرعة.
ثنت سالومي ركبتيها، وراحت تمسح الزجاج الخلفي.
- لهذا يفضل زوجي العربة.
قليلاً فيما بعد، أضافت:
- إننا نجمع بين القديم والحديث.
- هذا هو الحال غالبًا في كل القرى.
- لا، ليس كذلك.
ارتجت السيارة، ثم وثبت، قبل أن تعود إلى السير من جديد. أدار صادق رأسه، وقال:
- أنا لا أرى شيئًا، من المحتمل أن يكون حجرًا كبيرًا.
سألته:
- هل أعجبتك القرية؟
- لا!
قطع كلامه فجأة: أقصد...
- أنت على خطأ. ستقول عنها في الربيع: إنها الجنة.
- أحب المدينة على أي حال: ضوضاءها... شوارعها.
سكت، ثم:
- هذا لأنني لم أعتد على ذلك ما من شك.
- ستعتاد على ذلك. هذه قرية ساحرة! يجب أن تكتشفها أولاً.
انحنى بكل ثقله، وقال بشيء من الفتنة المسبقة:
- يجب أن نكتشفها معًا.
ثم فغر فمه مضيفًا:
- إلى جانب تعليمي الضرب على البيانو.
قهقهت مسز كلارك، وهي تقول:
- آه، وماذا أيضًا!
شكت سالومي:
- أنا تعبة، يا ماما!
- نحن على وشك الوصول، يا عزيزتي.
أضافت لصادق:
- القدس إلى اليسار، ويافا إلى اليمين. ما عليك سوى أن تخطف قدمك، فإذا بك في صخب المدينة.
كانت رنة صوتها تدغدغه، وحركة ساقها اللينة على الداعسة.
- ماذا قلت؟
أجاب دون أن يميز أين تتجه السيارة:
- سيكون كل شيء على ما يرام.
- هل عملت في المغرب؟
- نعم.
- مدينة...؟
- الرباط.
- ولماذا تركت؟
تردد، ثم أجاب:
- لا أستطيع البقاء إلى الأبد في مكان واحد.
- هل زرت لندن؟
- لا.
وأفضى دون كلفة:
- لكنني أحب لندن.
وردد بهيام:
- أحبها كثيرًا، أحبها كثيرًا!
قهقهت كمن يدغدغها أحدهم في مضجع:
- تحبها كثيرًا؟
- أحبها كثيرًا!
قالت مسز كلارك:
- لم أعد أشعر بالحنين إليها.
هتف صادق فجأة:
- هنا.
وقفت السيارة، وهي تئن، بينما انقذف جميع الركاب إلى الأمام.
- عندما كنت في باريس، أردت زيارة لندن، ولكن...
- ولكن لم تزرها.
- لم تسنح الفرصة.
- هل قضيت مدة طويلة في باريس؟
- ستة شهور.
- ستة شهور كبيرة!
- نعم، أردت أن أتخصص في صناعة الدبابات.
أخذ يبحث عن يد الباب دون أن يجدها. مالت عليه، فضغط نهدها ذراعه، ونثر شعرها عطرًا ساميًا أثمله. كمن ساكنًا، أهبًا، دون أن يدري ماذا يفعل. وقبل أن تصل أصابعها إلى يد الباب، مضت في راحته، فسرت في بدنه رعشة من حرير. وفي الأخير، فتحت له الباب، وأحاطت بذراعيها المقود. قال، وهو يطلق نفسًا:
- حقًّاً! وددت زيارة لندن!
- ربما سنحت الفرصة.
وقبل أن يغلق الباب، ذكرته:
- غدًا سنقوم بجولة معًا. مع السلامة.
سعلت سيارة الدودج، وهي تبتعد بخط يحاذي السياج. تبعها بعينيه حتى اختفت، فحثَّ خطاه إلى البيت، وهو كالضائع في الليل.
* * *
رافقت ماغدلينا ماريك حتى الباب، قبلته من خده، وأوصته أن يأخذ حذره. عندما عادت إلى آدم مردخاي، وجدته يبحث في الحمام عن شفرة لحلق لحيته، ليس كلها، ولكن الشعر الذي على خديه فقط كيلا يبدو أحدهما منتوفًا. أجلسته ماغدلينا على حافة البانيو، وجعلته يمسك بمرآة مربعة. جاءت بمقص، وبدأت تخفف اللحية الكثة قبل أن تجردها بالشفرة. كانت تنحني أمامه، فيرى نهديها الجميلين من تحت قميصها، وكانت تقترب أكثر ما يكون منه، فتلتصق ببطنها عليه أو بخصرها أو بفخذها. ترك المرآة جانبًا، واستسلم لها كليًا. كان لها كليًا، وكان على استعداد ليقبل كل ما تريده منه. غاب قليلاً عن الوجود، وحاول أن يخنق لهثاته. ظنته يتألم للحيته الكثة، وعزمت على إنهاء ذلك بأقصى سرعة. لكنها ما أن بدأت بسحب الشفرة على خده حتى ازداد تهيجًا، وكان جرح هنا وجرح هناك قد جعله يتحول من موضوع كلي للاستسلام إلى مجبر كلي على الاستسلام. بدأ يلمسها من خاصرتيها، ومن نهديها، ومن وركيها، فهمهمت ماغدلينا:
- أنا لا رغبة لي، يا آدم!
لم يسمعها إذ واصل لمسها من كل مكان من جسدها، فقفزت بعيدة عنه تاركة كل شيء يسقط من يدها، الشفرة والمقص وروحها الضائعة:
- توقف، يا مردخاي، وإلا صرخت!
قفز هو الآخر قريبًا منها، ثم أخذها كلها، ودفعها على الحائط، وأخذ بها تقبيلاً، وماغدلينا تردد:
- أنا لا رغبة لي... أنا لا رغبة لي...
غدا شرسًا، متسلطًا، متملكًا، كان يريدها كلها، أن تكون كلها له، أن تكون كلها له وحده، أن يفعل فيها ما يشاء، أن يكون سيدها، قدرها، إلهها! مزق قميصها، ومعلقها، وتنورتها، ولباسها، وهي تقاوم دون جدوى. طواها على المغسلة، واغتصبها.
* * *
في قميص الليل الشفاف، كانت سارة تتهادى بين قاعات القصر. على يدها شمعدان. وسوار. كلما انتقلت خطوة تراقص ضوء الشمعدان، ورنّت أنغام السوار، وانعكس ذهبه. كان عملها الأخير: أن تطفئ الأضواء، وتترك من ورائها القاعة معتمة، لتدخل أخرى لم يزل فيها الضوء. كانت تمضي بقدم رخوة، وكانت الشموع تتذبذب بشراهة بحثًا عن نهديها، قبل أن تضيع هناك، مثل زبد الموج، عندما يأتي من وسط البحر، ويشهق في الرمل قبل أن يموت.
خلال ذلك، كان إسماعيل يستلقي بحذائه على السرير. من رآه ظنه يموت، في صحن معبد. فجأة، لمح جناحين يخفقان خلف الزجاج، ويختفيان بسرعة. اعتدل، وأطل من النافذة. كان الليل سيدًا، وصمت كبير يلف الكون. ربما كان الأمر خيالاً! وقبل أن ينكفئ عائدًا إلى سريره، انبثق الطائر كالبرق. شقَّ الليل، واختفى. كحد سيف أُشهر قبل أن يعاد إلى غمده. نظر إسماعيل بانتباه، فلم يكن الأمر خيالاً. تذكر الطائر الذي كان ينعق في الغابة. لحظتئذ سقطت على النافذة كتلة بدت لأول وهلة ضخمة، وبرز منقار حاد، راح يدق صفحة الزجاج، يريد كسرها، ثم هوى. تناهت إلى مسامعه صرخة ثاقبة، ومن جديد، وثب الطائر بمنقاره، وراح يدقه في الزجاج بعنف أكثر هذه المرة. اندفع إسماعيل مذعورًا، وفتح النافذة، فانقض الطائر على ذراعه، وزرع منقاره في كفه. صرخ إسماعيل من الألم، لكنه تمكن من التخلص من الطائر، ومن إلقائه في الليل. أقفل النافذة بسرعة، فإذا بطرقات على الباب. كان إسماعيل غير متأكد مما يجري له، وكان الدم يسيل من كفه بغزارة.
صاحت سارة من الناحية الأخرى للباب:
- إسماعيل!
سحب قدمه بصعوبة، والتصق بالباب لاهثًا:
- ماذا تريدين؟
- لماذا تصيح؟ افتح!
حمل يده الجريحة، وهو لم يزل ينظر إلى النافذة، فأتي صوتها أكثر حدة:
- افتح!
رفع المزلاج، وفتح. على منظره الزائغ، والدم المتفجر من كفه، أصاب سارة الرعب. حطت الشمعدان على الأرض، وتلقفت يده:
- يا إلهي! ماذا حصل لك؟! هل أردت قتل نفسك؟
ابتعد إسماعيل، وسارة تنظر إليه بذهول، وصدرها كالبحر، يعلو ويهبط. كان يحمل طوال الوقت ذراعه، والدم لا يتوقف عن الانسياب.
- دمك يسيل! يجب عليك أن تفعل شيئًا!
مزقت ثوبها لتجفف دمه، ثم ساعدته على الجلوس في السرير. حملت يده السليمة، وقالت:
- ضع أصابعك هنا.
ونهضت.
- سأحضر بعض القطن.
عادت تنقل الشمعدان. اختفى خيالها خلف الباب، لدقائق، ثم عاد. أغلقت الباب من ورائها، ووضعت الشمعدان على الطاولة. اعتمدت على ركبتيها، وعادت تأخذ يده. بدأت تمسح الجرح بالقطن والماء المؤكسد. الجرح عميق! بقي هادئًا، باهتًا، وتركها تمسح جرحه، وادعًا! حيرها سلوكه، فرفعت وجهًا عاشقًا إليه، وهي تضغط الجرح، وتقول بصوت منخفض:
- إنه جرح غائر، لكنه سيلتئم.
تركت نفسها تذوب تحت سحر نظرته، فأشاح إسماعيل بوجهه عنها، وقال بقسوة:
- كانت غلطتي.
- هل هي أدواتك الحادة؟
- نعم.
شدت يده بين يديها، وطبعت على الجرح شفتيها. سحب إسماعيل يده بعنف، وأغلق أصابعه.
- لم أنتهِ بعد، يبقى المسحوق والضماد.
- لا.
أدار لها ظهره، فنهضت بعناء، وجلست على حافة السرير. بقي كلاهما صامتًا. فجأة، نهض إسماعيل، واتجه بخطوات سريعة نحو الباب ليفتحه، وسارة لا تحرك ساكنًا. قال بغلظة:
- الباشا بانتظارك.
أشار إليها بالخروج، فاستدارت كحزمة من الحطام، وقد تلاشى سحرها. بدت كهلة، بنهدين رخوين.
- أهذا ما تريده؟
تقدمت منه بخطوات تعبة:
- ألهذا لا يصدأ مزلاجك؟
رفعت رأسًا خائرًا إلى صورة أمه:
- أتعشقها أكثر مما أعشقك؟
عند ذلك، ندت عنها ضحكة لا تخلو من القسوة:
- لم تعد سوى سراب الآن! ألوان تبهت بالتدرج! صورة ميتة!
ونبرت:
- إن أمك لعنتك!
صفق الباب، وقفز نحوها. أنشب مخالبه في زندها، ولهث لانفعاله:
- قوليها، لماذا لا تقولينها؟ قاتل أمه! هذا ما عليك قوله!
وراح يقهقه، وهو يهتز كالمجنون، قبل أن يجمد فجأة.
ترك ذراعها، وتقدم من صورة أمه برأس منكسر. وقف يتأملها كالناسك، وبعد عدة لحظات، سألها بصوت أليم:
- أكان لها عشيق؟
لم يتركها تجيب إذ قال مؤكدًا:
- هذه هي الحقيقة.
بينما حفرت فمه ابتسامة ساخرة:
- ألا تصدقين؟
توقف على بعد خطوة منها:
- ومع ذلك، فأنا لا أدينها.
وراح يصيح بأعلى صوته.
- لا! لا! لا!
هدأ. صغرت عيناه حتى غدتا ثقبين في رأس بوم تبشر بالخراب. قال بصوت منخفض:
- هو قاتلها الوحيد... الباشا.
غدا له شكل مخيف. أضاف:
- ولكي ينفي عنه التهمة ألصقها بي.
فتح يده، وراح يفحص الجرح كما لو كان يقع عليه للمرة الأولى. عند ذلك، أفلتت من فمه هذه الكلمات:
- كلكم صدقتموها، حكاية كأس الحليب. قال لكم الباشا وضعت في الكأس سمًّا، شربته، وبكل بساطة ماتت، انتحرت، فصدقتموه. وجعلني أعتقد أنني المسئول، فالكأس كأسي، والحليب حليبي الذي أشربتها إياه، وهكذا، وبكل بساطة ماتت، دفعتها إلى الانتحار، فصدقتموه.
انتهرته:
- أوقف ترهاتك.
سألها لاهثًا:
- ألم تقوليها منذ قليل؟
- لم أقلها. أنت من يقولها.
حنى رأسه كالمسحور:
- هل أنا من يقولها؟
جَهُمَت، وغدا صوتها جافًا وجسيمًا:
- لا أحد يتهمك.
- لا أحد؟
راح يقهقه، فنبرت:
- اسكت، ستوقظ الجميع.
انطوى على نفسه، فبدا له شكل المسكين الضائع تحت المطر. قال بحزن:
- سأسكت. هذا ما أسعى إليه.
من جديد، ثارت عواطف سارة الرقيقة نحوه، فأمسكته من ذراعه، وهزته:
- أنا أحبك! لا تقتلني!
تخلص منها، وعاد إلى السرير. أخذ يضغط جرحه برفق، وهمد ساكنًا. أتاه تهدجها من ورائه، لكنه بقي ساكنًا. سألها متى ستتزوج أباه. انتظر جوابها، وعاد يسألها:
- لماذا لم يتزوجك أبي؟
راحت سارة تخلل أصابعها في شعرها، ثم تسحبه بعصبية.
- لا أدري.
- لماذا لم تطلبيه لنفسك؟
- لا يريده أبوك.
- لماذا؟
اهتزت:
- لا أدري.
سمعها تقول بصوت منخفض:
- إنه يحب أمك.
- لماذا قتلها إذن؟
لم تجب:
- لماذا قتلها إذن؟
انفجرت تبكي:
- كفَّ عن تعذيبي! كفَّ عن إهانتي!
قال بصوته المنكسر:
- أنت سيدة القصر على أية حال!
فجأة، توقفت عن البكاء، ثم نبرت بين شهقتين:
- نعم، أنا سيدة القصر، ماذا باستطاعتك أن تفعل؟
همس بخفوت:
- تستطيعين أن تخرجي.
ثم وهو يغلق عينيه:
- دعيني وحدي.
بقيت قليلاً دون حراك، ثم حملت الشمعدان، وخرجت.
* * *
كانت شمس وارسو على غير عادتها ذهبية ودافئة، وكأنها لا تفهم لغة الموت الجاثم في كل مكان من غيتو اللعنة والخراب، فالجثث ملقاة هنا وهناك، والناس يمضون بها دون أن يروها. لم تكن اللامبالاة، ولا اليأس، كان الناس في شغل شاغل عنها، فاللامبالاة واليأس هما صفتان إنسانيتان في عالم طبيعي، وهنا لا شيء طبيعي، كل شيء مناقض للطبيعة. كان شغل الناس الشاغل شيئًا لا يفهمونه، لا يعرفونه، وأن لا تفهم ما يشغلك، أن لا تعرف ما يشغلك، هو كنه فاجعة الإنسان. وربما كانت تلك العربة التي تُرمى فيها الجثث واحدة واحدة هي قدر البشر عندما يعجزون عن الفهم، وعندما تصبح المعرفة قيمة للجهل والجهل إدراك الوجود. سقطت الجثة من الجهة الأخرى للعربة، فحملها اثنان ورمياها، فسقطت، ودائمًا من الجهة الأخرى، وفي الجهة الأخرى دومًا تكون الحياة بكل كوابيسها.
نهض موزارسكي عند سماعه عجلات العربة الحاملة لجثث هي أقرب إلى الهياكل العظمية، أقرب إلى الرسوم الصينية، أقرب إلى فكرة لم تخطر أبدًا على بالنا عن الموت، ومع ذلك كانت الفكرة هناك في قبضة ذراع متدلاة أو تحت قدم منسحقة أو بين أسنان لم تأكل منذ قرن، فكرة الجلال كانت، فأولئك الموتى المغدورون كانوا كلهم آلهة.
انفتح باب المقبرة تحت صيحات الحرس الألمان، وقبل أن يتركوا العربة تمر بالموتي، أرادوا أن يخلّصوا موزارسكي جثة الطفل من بين ذراعيه ليلقوا بها فوق باقي الجثث، لكنه رفض، تشبث بالجثة، وكأنه يتشبث بكل قدره وكل قوته وكل جمال وارسو القديم. مُسِخ الحرس الألمان، وغدوا كالكلاب المسعورة. راحوا يجذبون جثة الطفل من طرف، وهو يجذب من طرف آخر. لم يمكنهم فصله عن نفسه عندما كان طفلاً، وبعد ذلك، لم يمكنهم طرده إلى جحيم آخر. كان يبدو كالعملاق وبين ذراعيه كالعملاق الجسد الأصغر في العالم، وكان يصر على دفن الطفل كما لو كان طفله في قبر يليق بكل طفل مات قبل أن يطبع على خد والديه قبلة الوداع.
دخل موزارسكي مدينة الموتى، ولم يجد للطفل مكانًا يدفنه فيه. كانت مدينة الموتى مكتظة بقاطنيها اكتظاظ غيتو وارسو، ولم يكن هناك سوى التآخي في العدم داخل قبور جماعية، فانفجر موزارسكي يبكي. لم يكن هناك سوى التعاضد في الامحاء داخل قبور لا هوية فردية لها، كانت الهوية قد محاها الموت، وما أبقى سوى هوية الإنسان المضطهد. أحس موزارسكي فجأة بكونيته الفقيدة، فراح يشد الطفل الميت بين ذراعيه، ويكاد يقتله للمرة الثانية. نزل في الحفرة التي يلقون فيها الجثث، وأراح الطفل بين طفلين آخرين. مسح التراب عن جبينه، وسوى له ثوبه. كانوا ينتظرون خروجه من الحفرة ليهيلوا على الجثث التراب، وبعد أن قام، وهم بالصعود، خلع سترته، وطواها جيدًا تحت رأس الطفل. نهض، وهو يتأمله، ثم عاد، وفرش طرفًا من السترة تحت رأسي الطفلين الآخرين. صعد هذه المرة من جهنم، وفي نفسه قد عزم على ألا يبكي أبدًا، وهو على أية حال لم يعد لديه دمع، وقد جف نهر الدموع.
* * *
كانت الشمس دافئة جميلة، وخيط بخار أبيض يرتفع من الأرض، وعلى الأرض، كان الضوء والأنسام والريف التقي، كانت كلها تخصب التراب. كانت رائحتها رائحة العشب المبتل، هادئة هدوء هذا العشب المترامي على مدِّ النظر. أخذت عضلاته تضيق وتتسع كلما رفع فأسه وأهواها. كان المطر قد سقط غزيرًا، فانهارت حواف القنوات، وإسحق راح يسويها.
صداح الطير... خفقات الفأس... أنفاس إسحق...
أيّة موسيقى! رفع عنقًا فارعًا، ومسح بظاهر يده العرق عن جبينه. ألقى نظرة إلى البحيرة الصغيرة التي كان عواد يغسل بقراته الثلاث عند حافتها. طائر تداني... تداني... واختفى في الأيك. على طرف البحيرة الآخر قام بيت حقير تسكن فيه بسمة وأبوها، ومن ورائه بيوت ثلاث: بيته، بيت مأمور المخفر، وبيت رقية وأبي رقية. عاد إسحق يحفر بعزم ومضاء معجلاً الوصول إلى البحيرة... إلى أن وصلها. رفع حاجزًا من التراب بين البحيرة والقنوات. غسل الفأس بالماء، ورفعها على كتفه صائحًا بعواد:
- كيف حال بقراتك؟
لم يجبه عواد كما هي عادته: (( يكلفني علفها أكثر من حلبها )). بقي يفرك ظهر أكبرها بالفرشاة مقطبًا. خرج إسحق بقدمه من بطن الأرض، واقترب من عواد:
- كيف حال بقراتك، يا عواد؟
أعاد، وأسنانه الناصعة تشتعل بياضًا.
حدجه عواد، وقذف ظهر البقرة بدلو ماء قبل أن يعود إلى فركه، وهو يبدو مضطربًا. امحت ابتسامة إسحق:
- ما لك، يا عواد؟
حط عواد على إسحق عينيه المرهقتين، وسأله:
- أما سمعت؟ قتلوا أبا سِنَّه وعطا عبد اللطيف أبا الغزال.
وفي اللحظة ذاتها، جاءت ثلاث فلاحات من آخر الطريق الترابي، وهن يتقدمن بخطوة إيقاعية واحدة، وأثواب مزركشة تجرُّ على الأرض، وحول رؤوسهن شال أبيض. امتدت ذراع تعبة في اتجاههن:
- النساء تعود إلى بيوتها اليوم. لا أحد يعمل.
بقي كلاهما صامتًا: إسحق يفتُّه الغضب، وعواد يبذل نفسًا صعبًا. رمقا زوجة حارس الباشا بينما اجتازتهما الفلاحات الثلاث إلى ما وراء السلسلة.
سأل إسحق:
- متى حصل ذلك؟
- أمس مساء.
أضاف وهو يطلق تنهدة ألم:
- رحمهما الله!
رفع إسحق فأسه، وعاد يسأل، وهو يطحنه الغضب دومًا:
- ورجال القرية، ماذا يريدون أن يفعلوا؟
حط عواد عليه عينيه طويلاً، فرأي إسحق ظلالاً بائسة في زواياهما.
- إنهم يضربون.
- وبعد ذلك؟
احتدت نبرة الرجل:
- ماذا تريدهم أن يفعلوا؟
ثم راح بأسى يهمهم:
- مصيبتنا كبيرة!
طوى قامته الهزيلة، وملأ الدلو بالماء. دار بالبقرة، ورشقها من الجهة الأخرى. وقبل أن يلقي الدلو، قال متأوها:
- نحن أناس فقراء لا حول لنا ولا قوة!
مما أهاجه:
- ما هذا الذي تقوله، يا عم عواد؟ ألسنا في نظرك رجالاً؟
طأطأ الآخر رأسه، وراح يدفع الفرشاة بتمهل في ظهر بقرته الضخم، وهو يقول:
- القوة للقوي الذي في الأعالي، أما على الأرض، فنحن بشر فيما بيننا.
ابتسم بخفوت، وكاب لونه:
- لكن الإنجليز ليسوا بشرًا، إنهم أبالسة!
امَّحت ابتسامته:
- إذا كنت قادرًا بحق، فلماذا إذن تخشى الأبالسة؟
نبر إسحق منتفضًا:
- أنا لا أخشى الأبالسة، يا عواد، أنا لا أخشى أحدًا.
وقبض على فأسه بقوة.
- إذن ماذا تنتظر؟ اقبض على عنق أقربهم واذبحه. لن يعجزك أن تجد إنجليزيّاً هذه الأيام، إنهم في الطرقات، في كل مكان.
تمهل قليلا قبل أن يضيف:
- أنت لن تفعل شيئًا، أعرف ذلك. ليس لأنك لا تستطيع ذلك، ولكن لأن لا فائدة من ذلك.
تضاحك إسحق:
- اتق الله، يا عواد، اتق الله!
ارتجف عواد كالورقة:
- هل عليّ أن أتقي الله لأنني أطلب إليك أن تكون أنت، أن تكون قويًّا كما يجب عليك أن تكون؟
ثم أطبق على فمه السكوت، لكنه عاد إلى القول، وأعاد:
- نحن أناس فقراء لا حول لنا ولا قوة!
- ليس هكذا تجري الأمور.
- إذن كيف؟
- يجب أن يتفق رجال القرية كلهم.
صفق عواد، وقهقه، كمن أصابه الجنون فجأة:
- من هم هؤلاء الرجال الذين تريدهم أن يتفقوا؟
اسودت سحنته، وتساءل:
- الباشا إبراهيم ورجاله؟
أحس إسحق بنفسه خجلاً، فحنى رأسه:
- لم يكن قصدي.
قبض عواد على ذراعه:
- أتدري من هم رجال الباشا إبراهيم، يا إسحق؟
كان إسحق يفكر في أعماق نفسه: يا لعواد المسكين!
- هل تدري؟
- أدري.
عاد عواد إلى بقراته خائرا، منكسرًا، وأشار إليها بإصبعه: كانت إحداها تشرب عند ضفة الماء، والثانية تقضم العشب، والثالثة تحدق بذهول، كما لو كانت تصغي إليهما.
- إن رجال الباشا يطالبونني بها ليل ونهار.
بقي إصبعه الهزيل يرتعد كسهم أنهكه وتر القوس لكثرة ما انطلق.
- أو أن أبيع لهم الأرض. لماذا؟ حكايتي تعرفها. سأرويها لك مرة أخرى.
أخذ نفسًا:
- ربما خففت عن نفسي الألم.
عاد يأخذ نفسًا أطول هذه المرة. انطوى على نفسه، وبدأ يهمهم:
- ما الفائدة؟ ما الفائدة؟
- تكلَّم يا عواد.
ضمر كتفاه، فأحس إسحق بنحولهما تحت قنبازه المرقع. انفعل عواد، فارتعش صدغاه. نظر إلى إسحق بحنان: رآه عملاقًا بصدار الجلد التي بلا ذراعين، والتي تكشف عن صدره الأشعر وزنديه المفتولين. ولأول مرة، كان هناك شيء من الحنو في صوته:
- اسمع، يا إسحق، اعمل للأرض بكل قواك، هكذا فقط تفزع منك الأبالسة، وتولّي الأدبار.
وسعل بحدة:
- أما أن تقول لي إنك تقدر على مواجهتها وغلبتها، فمن المستحيل ذلك .
دفع البقرات أمامه، فسارت بطواعية.
- عواد!
رأى أخاديد وجهه المهشمة، فقال عواد بهيئة غائبة:
- تركوا لي الخيار بين أن أبيعهم الأرض أو البقرات كي أسدد لهم بذار ثلاثة مواسم!
بهت دفعة واحدة، لكنه راح يبذل ابتسامة ضعيفة طيبًا هادئًا:
- لن أبيعهم شيئًا.
وكأنه لفظ نفسه الأخير:
- ما دمت حيّاً!
خطوات... التفت إسحق إلى الطريق الترابي. كانت فلاحتان تأتيان بنفس الإيقاع، ونفس الثوب، ونفس الشال: رقية وامرأة القاضي. وجدها إسحق فرصة ليزيل حسرة عواد، فهز رأسه باتجاههما، وجهر:
- صحيح كما قلت، يا عواد، النساء تعود إلى بيوتها اليوم.
في وسط الطريق، انفصلتا. قبل أن تصعد رقية المنحدر، رمت إسحق بنظرة مترددة. مرت امرأة القاضي بهما، فسألها إسحق:
- كيف تجري الأمور؟
- سيئة!
أجابت بنبرة مقتضبة، حنت رأسها، وعجلت خطاها.
اقترب عواد من إسحق ببطء، وأشار بحركة مرهقة إلى أعلى المنحدر، فاستدار إسحق، ورأى والد رقية، وهو يتربع بطمأنينة على حصيرة فرشها على العتبة. أحرقت الشمس بالشيب شعره، ومن فمه امتد خرطوم النارجيلة إلى ما لا نهاية، وكان يبدو عليه أنه يجلس منذ زمن هناك. قال عواد:
- انظر إليه! تبدو عليه الطمأنينة!
لم يجب إسحق، ثم، كمن وجد له عذرًا:
- إنه رجل هرم.
أجاب عواد متهكمًا:
- يتربع في الشمس، ويشرب النارجيلة!
- لماذا لا تريح نفسك، يا عواد؟
- أريح نفسي؟ أبالعار أريح نفسي؟
- أي عار؟
- أمن أجل رقية تقول لي هذا؟ ألأنك تحب البنت تسألني هذا السؤال بينما أنت تعرفه أحسن مني وأول من يعرفه فينا؟
- رقية بنت كادحة، هذا كل ما أعرف.
- رقية بنت كادحة هذا صحيح، لكن الخواجا داوود الذي تعمل عنده لا يكدح لكسب حياته.
- هذا يخص رقية وحدها.
- وأبوها، والناس كلهم.
ونبر:
- أنا أسمي هذا عارًا.
راحت شفته السفلى ترتجف:
- اسألني لماذا.
بقى إسحق صامتًا.
أخذت عينا عواد شكل عيني بقرته الكهلة، فتح فمه بصعوبة، تقدم خطوة، وقال:
- أن تؤجر أرضك أو تبيعها، الأمر سيان! العار سيان!
أجاب إسحق:
- إنه شيخ عاجز، يا عم عواد.
- ليس للعجز هنا أية علاقة وشباب القرية العاطلون عن العمل كثيرون.
بذل عواد خطوة أخرى:
- ولمن أجرها؟ للخواجا، لليهودي! إبليس آخر!
بدا عليه الشعور بالعار:
- الابنة للخواجا، والأرض للخواجا! والأب يشرب النارجيلة مطمئنا في الشمس! أترى؟
تململ إسحق، وقال في الأخير:
- ما الذي تريدني أن أفعله، يا عواد؟
رمي الوشم الذي على عضلة ذراعه بنظرة: قلب يخترقه سهم سقطت منه قطرات دم. رفع في وجهه إصبعًا منبهًا، وعظم صوته:
- حذار، يا إسحق! حذار!
وفجأة أضاف:
- رقية هذه أخذوها منك!
ضجة. عربة لوكس من الحجم الصغير بحصان أبيض انطلقت من الطرف الآخر للطريق الترابي، كان يقودها حارس الباشا، والبندقية داخل حزام مثبت على اليمين، ارتدت عنها أشعة الشمس. في تلك اللحظة، مرَّت العربة بهما بسرعة، واختفت.
قال إسحق:
- إنه الباشا...
همهم عواد:
- لقد بدأ الجد!
حمل دلوه وفرشاته، وذهب مُرَافَقًا ببقراته. رآه إسحق يدور بالحقل، مارّاً ببيته، إلى أن أخفته شجرة السرو العجوز. تعكر إسحق: لقد فقد عواد! نظر إلى حيث يجلس أبو رقية، وقال لنفسه: كالمدخنة، ينفث نارجيلته دون توقف!
وضع إسحق فأسه على ضفة البحيرة، وانحنى ليغسل وجهه وزنديه. وصلته خطوات من الطرف الآخر: بسمة. رمته بنظرتين خفيتين، وغطست بغسيلها في الماء. اعتمدت على ركبتيها، وراحت تدعك القطع الهزيلة بالصابون. غريبة هذه الفتاة! ارتفع بقامته كالجبل، وخطا عدة خطوات. نظر إليها، فرمت عينيها في الماء. كانت تراقبه عن كثب.. مثله تمامًا. فجأة، تذكر عيني رقية اللتين تجردانه من كل سلاح. للحب قدرة السماوات! نظر إلى بسمة من جديد، ورغوة من الصابون تتهادى في البحيرة كالبجعة البيضاء. جاءت فلاحة عجوز، ورمت هي أيضًا مزقها في الماء، وراحت تدعكها بصمت. وبأقصى قوة، رفع إسحق الفأس إلى أعلى، وجعلها تهوي، فتفجر الماء، وتدفق في القناة.
* * *
وهو يخرج من المقبرة، سمع موزارسكي نباح كلب يصل من أقصى الطريق. كان الكلب يهرب من شابين يطاردانه، وفي يد كل منهما موسى من أجل ذبحه. وكان الكلب يبدي نواجذه للعيان مهددًا كل من يمضي به، ولعاب السعر يسيل منها. كان يبدو عليه الجوع والضنى، وفي الوقت ذاته الرعب والأسى، وكأنه كان يعلم أن الشابين أكثر منه جوعًا وأسى، وهما لهذا لا بد أن ينهيا عليه. فجأة، توقف الكلب المسعور عن الركض، واستدار ليواجه قدره. انقض على الشاب الأول، فالثاني، وكاد يقضي عليهما لولا تدخل موزارسكي الذي قبض عليه من فكيه، وقصمهما. سجد له الشابان كإله، ثم حملا جثة الكلب، وذهبا بها، وهما لا يتوقفان عن الالتفات ناظرين إلى شخص أخطأ الطريق إلى غيتو الموت والخراب.
وجد موزارسكي نفسه يسير في قلب شارع الغيتو الرئيسي، شارع من جهنم، لا تهدأ فيه حركة الناس والأشياء. كانت عربات النقل ذات العجلتين والعجلات الثلاث تحرث الشارع بكم هائل، ومع ذلك كان التراموي لا يتوقف عن الصعود والهبوط والتحليق، في لحظة من اللحظات، في كل الاتجاهات. وأكثر ما كان يلفت النظر عظمة البؤس بالمعنى الفلسفي، البؤس القادر على حمل صاحبه، وليس العكس، فعلى الرغم من أقصى حالات البؤس والتعاسة البشرية، لم يزل الناس يستطيعون العيش، فترى منهم الجميل، وترى منهم غير الجميل بعد أن استلب جماله، وترى منهم الكثير من غير المنتظرين للحظة الاستلاب هذه. كانت النجمة السداسية التي يلفون بها أذرعهم أو التي يرسمونها على واجهات محلاتهم وعلى كل شيء يتحرك لحظة من لحظتين لم يفطن إليها النازيون وإلا ما تركوها رمزًا للتدني البشري، لحظة انتظار فات ولحظة انتظار لم يفت، لن يفوت، حتى في أقصى حالات عدم الانتظار بشاعة، إنها هذه اللحظة التي يعيشها بشر اليوم ليكونوا بشرًا.
فجأة رأى موزارسكي بولينا، وهي تحمل الطفل الذي دفنه منذ قليل، رائحة غادية في قلب شارع جهنم. لم يكن يبدو عليها الجنون، فهي تركت حتى الجنون من ورائها. كانت تردد جملة واحدة فقط دون أن تنتظر رد فعل من أحد، كانت تقول:
- الخبز ليس جيدًا، الخبز يسبب السمنة!
بقي موزارسكي يتأملها ساعة أو ساعتين ربما ثلاث ساعات من بعيد دون أن يدنو منها، وهي تردد الجملة ذاتها رائحة غادية. فجأة، أحس بهراوة تسقط على رأسه، وأحدهم يدفعه إلى الساحة العامة. كان رجال الشرطة يدفعون الناس بأمر رجال الإس إس ليتجمعوا دون أن يعرفوا لماذا، لم يتساءلوا لماذا، نفذوا ما طلب منهم دون أن يسألوا لماذا. كانوا يقتربون من بعضهم البعض كالحملان، ويضعون رؤوسهم بين رؤوس بعضهم، ولا يمضي بخاطرهم هذا السؤال الممل، هذا السؤال المقيت: لماذا؟ وبعد قليل، راحت الهراوات تفرقهم، وتأمرهم بالذهاب: إلى أين؟ سؤال آخر ممل ومقيت.
فكر موزارسكي فجأة أنه كان محاميًا، وأن ماريك كان محاميًا أيضًا مثله، فتذكر صديقه، وبالتالي تذكر أن عليه الذهاب إلى عمله مع صديقه. كانت الطريقة الوحيدة للتذكر في عالم الجحيم، أن تمضي بوصلة ضرورية لعلاقات الموت والحياة. وتذكر أن المحاكم كلها أزيلت، فلا حاجة بملائكة الموت إلى محاكم يحاكمون فيها البشر قبل قتلهم. وعدم وجود المحاكم ذكره بعدم وجود بنوك لهم بعد أن أمم الرايخ كل المرابين لأنهم خفضوا فوائدهم وخصصوا قدرا من المال لشوربة يوم السبت. هودوا كل شيء في الغيتو، كل شيء، ما عدا فرع للبنك المركزي الألماني. وذكره اقتصاد الحل النهائي هذا بإعلام الحل النهائي، بمنع ومصادرة كل راديو، وإعلام الحل النهائي بثقافة الحل النهائي، بمنع ومصادرة كل كتاب، وثقافة الحل النهائي بذِواقة الحل النهائي، بمنع ومصادرة كل طبق.
عند ذلك، أحس موزارسكي بالجوع. كانت إلى جانب البنك المركزي الألماني مخبزة، فدخلها، واشترى رغيفًا راح به التهامًا، وهو يستند على حاجز أمام المخبزة. وبينما هو كذلك، جاء طفل رث الثياب، دخل المخبزة، لكنه ما لبث أن أُخرج منها عنوة، وصاحب المخبزة يجذبه من أذنه. نظر الطفل الجائع إلى حارس البنك الألماني، ثم إلى صاحب المخبزة الذي لم يزل يقف على عتبة دكانه مهددًا. وما أن دخل هذا الأخير حتى أخرج الصبي من جيبه علبة دهان طلى به النجمة السداسية التي على الواجهة، وبعد ذلك، جذب الجندي الألماني من يده ليريه الفعل الجسيم الذي ادعى أن الخباز هو صاحبه. جن جنون النازي، فإحساسه لم يكن إحساس شخص بالمهانة، وإنما إحساس من تنهدم عليه كل صروح التفرد والتفوق والنقاء. قيد صاحب المخبزة، ودفعه أمام أعين جيرانه من أصحاب الدكاكين في شاحنة إلى مصير يعرفونه جميعًا. لكن ما حصل كان غريبًا، جعل موزارسكي يفتح عينيه على سعتهما. لم يكن أمر الطفل الذي دخل المخبزة دون صاحبها، وبين ذراعيه العديد من الأرغفة، ولكن أمر أصحاب الدكاكين الذين رشقوا النجمة السداسية التي على واجهاتها بشتى الأصبغة احتجاجًا. وبالطبع، اندفع رجال الإس إس، ورموا الجميع في شاحنة ذهبت بهم إلى تريبلينكا، والصبي يرى كل هذا، وعلى وجهه تبدو إمارات الندم.
فما الذي فعله؟
غافل حارس البنك الألماني، ورسم النجمة السداسية على واجهة البنك العملاق للفوهرر، وسارع بالاختفاء من وراء عمود ليرى رد فعل جندي الإس إس. كان رد فعله أكثر من فعل واحد جُن. راح يضرب نفسه عندما فر الكل، ويلطم، ويولول، والصبي يضحك عليه، وموزارسكي يضحك عليه، والناس كلهم يضحكون عليه. كانوا يضحكون كالماضي. بدا غيتو وارسو أجمل مكان، وبدوا قادرين على كل شيء، فلم يذعنوا للجندي النازي عندما طلب منهم مسح النجمة، فاضطر إلى مسحها بنفسه.
* * *
دخلت عربة اللوكس الصغيرة ساحة القرية بضجة عجلاتها وحوافر الحصان. ولدان وامرأتان عجوزان كانوا يجلسون على العتبة الفقيرة صامتين. جاءت جدران البيوت إلى لقاء العربة، والحصان ينطلق. بيوت عتيقة بطابق أو طابقين متزعزة، لكنها لم تزل واقفة، تتتالى. شقت العربة أحد الأزقة، وقفزت عن حفرة: صهل الحصان. سارعت امرأة إلى النافذة، وأغلقت مَغْلَقيها. كان ينحني... ينحني دومًا زقاق القرية. كانت تتحرك.. تتحرك دومًا جدران القرية. حجارتها تواريخ. سطوحها منابر. بعضها من قرميد، وبعضها من زنك، وكل شيء على سطوحها: زجاجات، وطابات، وعجلات، وأحطاب، وألعاب. وهناك أيضًا تنساب الشمس في الصيف، وفي الشتاء يصب المطر. شعار أحمر خطته يد طفل أو يد رجل نصف جاهل: الموت للإنجليز! قرأه الباشا إبراهيم، وقطب. صفعه شعار آخر: الموت للخونة!
مضت العربة بالمطحنة، وهي في أقصى سرعتها، وبالمصبنة، وبالمعصرة: كانت أبوابها مقفلة. ثارت ثائرته، لكنه تماسك.
عند نهاية الأزقة، كانت البراكات الخشبية لمصنع النسيج في مجموعها تقوم هناك. السور الجديد. الباب الحديد. الساحة الكبيرة. الجمهرة الغفيرة. العمال.
عندما رأى زغلول، بواب المصنع، العربة، وهي تجيء، راح يثب بقدمه العرجاء، وقامته القميئة، صائحًا بالعمال:
- افتحوا الطريق! افتحوا الطريق!
والعربة لم تزل تتقدم بين صفوف العمال، إلى أن توقفت أمام مكتب المهندس. جاء الحارس بسرعة، والبندقية على كتفه، ليفتح باب العربة، وليؤدي له التحية، فهبط الباشا إبراهيم متعاظمًا بطربوشه وعباءة وبر الجمل التي يرتديها. بيد مسبحة صفراء، وبالأخرى عصا تنتهي بِسَيْر.
واصل زغلول الصياح:
- افتحوا الطريق! افتحوا الطريق!
كانت هناك جمهرة صغيرة من العمال قرب أحد الأعمدة، فتقدم الباشا إبراهيم منها بخطوات سريعة، وحارسه يتبعه آليًا على يمينه، بينما يجر زغلول نفسه من ورائه كالكلب، وهو يعرج. كان أحد العمال يقرأ لرفاقه بنظارتين طبيتين سميكتين مرسوم المندوب السامي بصعوبة:
- وهكذا بإعدام المجرميْن يستتب الأمن والنظام وتسير الأمور في مجراها الطبيعي. هذا ويحذر المندوب السامي وينذر كافة...
انفض الجميع قبل أن ينهي جملته، لكنه استمر في القراءة دون أن ينتبه إلى ذلك، ونظارتا حسير النظر اللتان له تلتصقان بجفنيه، وهو يعطي ظهره إليهم.
لسع السير كتفه، فقفز مذعورًا. انتزع الباشا إبراهيم الورقة، والتفت مستطلعًا النظرات المشدوهة، وهو يدعك المرسوم في قبضته. أحدهم لم يبذل أدنى حركة. كانوا يرمون النظر إلى شفتيه الضخمتين، وسحنته الممنتفخة، حتى أن بعضهم كان عاجزًا عن ابتلاع ريقه. دخل الباشا المكتب كالريح، فنهضوا كلهم: المختار، القاضي، شيخ الجامع، مأمور الخزنة، مأمور المخفر، سمسار القرية، كاتب الباشا، الأسطى حسن رئيس عمال المصنع. عملوا صفًا، فمر عليهم بعينيه واحدًا واحدًا، والشرر يتطاير منهما. كان مأمور المخفر يهلك نعاسًا، يسند مأمور الخزنة كتفه دون فائدة، إذ لا يلبث أن يتساقط في مقعده متثائبًا بقوة، يقف من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية. تقدم الباشا من المختار، فسقط على يده، وقبَّلها. أخذوا يتساقطون على يده واحدًا تلو الآخر، وهم يطرحون شفاههم الجافة، إلى أن وصل دور الأسطى. رفع الباشا عصاه إلى أقصاها، وضربه بسيرها، فبدت على وجهه في الحال آثار بنفسجية.
صاح الأسطى مهتزًا:
- لا، يا باشا!
جذبه الباشا من خناقه، ونبر:
- أسطى حسن الكلب!
والأسطى يردد:
- على مهلك، يا باشا إبراهيم، على مهلك، على مهلك!
سدد قبضته في قلبه، وقال بنبرة مهددة، ولكن واطئة، وشديدة الغلظة:
- قل لعمالي أن يعودوا إلى عملهم حالاً، وإلا خربت بيوتهم، وجئت بآخرين من آخر الدنيا، من لندن، ليحلوا محلهم. كلمة واحدة لا غير، أن يعودوا إلى عملهم في الحال. معك نصف ساعة. فقط. هيا!
والأسطى قرب الباب، كان الباشا إبراهيم يواصل دعك المرسوم في قبضته، ثم مزقه، وهو يقول:
- إذا قتل الإنجليز، فجريمتهم ليست جريمتي. أما إذا أضرب عمالي، فالضرر ضرري، أنا، وليس ضررهم.
قذف المرسوم في وجه الأسطى:
- القضايا الكبيرة لا دخل لعمالي بها. للقضايا الكبيرة رجالها.
التفت إلى الحاضرين بعينين يتطاير الشرر منهما، وهتف:
- الموت للإنجليز!
ثم عاد إلى نبرته المعتادة:
- ولكن كيف؟
أضاف:
- نحن الذين نعرف كيف.
وهو يلتفت إلى الحاضرين من جديد، وينظر إليهم واحدًا واحدًا. نفض عصاه في وجه الأسطى آمرًا إياه بالخروج، وأخذ مجلسًا وراء المكتب، وبأطراف أصابعه، سمح لهم بالجلوس:
- اجلسوا، يا سادة.
جلسوا، وهو لا يغادره الحنق دومًا:
- ما حكايا الأولاد هذه، يا سادة؟
لم ينبسوا بكلمة واحدة.
- وأنتم موجودون هنا يحصل كل هذا؟
غمغم المختار بهيئة عابسة، وهو يشد عقاله، ويحرك رأسه على الجانبين:
- الأمور خطيرة، يا سيدي.
وسكت في الحال كالزوجة المتملقة.
- أعرف.
لم ينبسوا بكلمة واحدة.
- وماذا أيضًا؟
حرك المختار رأسه على الجانبين من جديد، وثغثغ:
- الناس في البلد لا يعجبهم الحال، يا باشا.
وسكت خافضًا أذنيه.
- هذا صواب.
تطاول شيخ الجامع بعنقه، وقال:
- العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم، يا سيدي الباشا إبراهيم.
سعل بشدة، ولحيته تهتز.
- هذا ما نعرفه جميعًا.
شخر مأمور المخفر، وسقط شاربه من كل ناحية من خديه، فسدد سمسار القرية ضربات مرفقه في خصره.
- ماذا أيضًا؟
قال السمسار وكله استيحاء بصوته الناعم، نعومة صوت المرأة، بعد أن رفع إصبعًا مستأذنًا:
- أعلمك، يا سيدي الباشا إبراهيم، أن الخواجا داوود قد أعفى عمال مزرعته كلهم من العمل اليوم، ودفع لهم أجورهم كاملة.
- هذا شأنه.
بدأ الباشا إبراهيم يسحب بإبهامه خرزات مسبحته خرزة خرزة.
تلعثم السمسار:
- ولكن، يا سيدي الباشا إبراهيم، زاد الخواجا داوود الطين بلة بعمله هذا.
حصلت همسات ووتوتات هنا وهناك:
- هذا صحيح.
- إنه ماكر!
- حرَّض الناس على...
- دفع الجميع إلى...
- إنه يهودي لعيـ...
ضرب الباشا الطاولة بقبضته.
سكوت.
فجأة، وقف كاتب الباشا، فتح سجلاً، وراح يقلب صفحاته بقلق وسرعة:
- هناك، يا سيدي الباشا...
ثم أطبق الدفتر، وجلس مطبقًا فمه.
- ماذا هناك، يا سيد عبد الغني؟
علا وجهه الاحمرار، وبقي منذهلاً. انتزع كلماته انتزاعًا، وتلعثم:
- الحقيقة... يا سيدي... أردت أن أوضح نقطة...
فجأة، إذا به ينطلق بحماس وإسراع فائقين قائلاً:
- آل سعد الله عن بكرة أبيهم، هم وأعوانهم، قاموا منذ الصباح الباكر، وأخبروا الناس جميعًا، ودعوهم إلى الإضراب. حرضوا العمال، البنات، الأولاد، الصغار، الكبار، ال...
انقطعت أنفاسه.
قال الباشا:
- أكمل، يا سيد عبد الغني.
تنفس، وهو يرسل صفيرًا، ولهث:
- أكملت، يا سيدي الباشا إبراهيم.
وانسحق.
استعرض الباشا وجوههم واحدًا واحدًا، وقصده من ذلك أن يحثهم على إفراغ ما عندهم:
- أهناك إضافة إلى ما قيل؟
قال القاضي بنبرة رخيمة:
- لا، يا سيدي الباشا إبراهيم.
وجمع من حوله جبته.
صفق الباشا إبراهيم سير العصا في كفه مرتين، وقال بإملاء وسطوة:
- يجب أن تعود الحياة في القرية إلى مسارها الطبيعي. هذه مهمة ألقيها على عاتقكم. أنتم وحدكم المسؤولون أمام الله والوطن وخبز كل يوم...
انتظر قليلاً قبل أن يضيف:
- وأمامي.
انحنى فوق المكتب عظيمًا هيابًا، وهو يحدد بصره إليهم:
- الخواجا داوود؟ سألعن أباه. آل سعد الله؟ سأبصق عليهم. الإنجليز؟ سأطردهم. ألا تثقون بي؟
ارتفعت همهماتهم المتشتتة بالإيجاب.
قال الباشا:
- وإذن؟
سمعوا شخير مأمور المخفر، فعلق مأمور الخزنة، وهو يشير بإصبعه إليه:
- تثقل كتفه المرتينة!
ضحكوا كلهم، وهم يضعون أياديهم على أفواههم، وكأنهم يبكون. خلع الباشا إبراهيم طربوشه، ووضعه أمامه:
- هذه هي واجباتكم، وهذه هي واجباتي.
اندفع الباب، ودخل الأسطى. تسمر أمام الباشا إبراهيم قليلاً قبل أن يقول، وقد غلب عليه القهر والضيق:
- كل شيء على ما يرام، يا باشا.
قال الباشا إبراهيم ببرود جم:
- حسنًا.
- عاد الجميع إلى عملهم، بمن فيهم عمال الأرض.
تريث قليلاً قبل أن يضيف:
- ما عدا أولاد عوض، وابن السيد، والحاج عبد النبي أبو صبوح الأسمراني.
أعاد الباشا إبراهيم دون أن يطرأ على صوته أدنى أثر:
- حسنًا.
أشار له كي يأخذ مكانًا:
- تفضل بالجلوس.
وكأن شيئًا ما كان!
قال الأسطى حسن:
- هناك عمل بانتظاري.
واتجه صوب باب داخلي.
تابع الباشا إبراهيم للأسطى:
- سيأتيكم مهندس جديد اليوم.
رد الأسطى حسن دون أن يبدو عليه السرور:
- هذا خبر عظيم، يا باشا.
- سيحتاج إلى عونك، في البداية.
- حتمًا، يا باشا.
بقي للحظة واجمًا، دون أن يصفو لونه. وجس بأصابعه خده الرض، ودفع الباب.
تابعته عينا الباشا إبراهيم حتى بعد ذهابه، سوى عباءته، ونظر إليهم قائلاً:
- أرأيتم؟ حللت لكم نصف العقدة.
حمل طربوشه، ونهض، فنهضوا جميعًا، ما عدا مأمور المخفر الذي دخلت ذقنه في صدره كالنعامة. قال الباشا إبراهيم لكاتبه:
- وزِّع من خير الله على الجماعة، يا سيد عبد الغني.
ثم لمأمور الخزنة.
- ولكل واحد مني عشر ليرات!
شكروا، وعرقوا، ودعوا له بطول العمر.
أضاف، وهو على الباب:
- وكذلك لزوجتي وأولاد الشهيدين.
بينما القاضي وشيخ الجامع يرسلان الدعوات تلو الدعوات.
قال السمسار بصوته النسائي:
- أبو الغزال كان أعزب، يا سيدي الباشا.
لكن الدعوات عادت تصم الآذان من جديد.
فتح الباشا إبراهيم الباب، فاعتدل الحارس، ووثب زغلول على يد الباشا إبراهيم، وراح يقبلها. شدَّه من أذنه مداعبًا كالكلب، وزلق بين أصابعه قطعة نقد جعلته يقبِّل يده من جديد، وهو يدعو له، ويدعو. التفت الباشا إبراهيم حوله: لا أحد. امحى الغضب! أشار إلى المختار، فأتاه يجري كالأرنب.
قال له:
- اطلب من البيك سعد الله أن يأتيني هذا المساء.
وامتطى العربة بعد أن فتح الحارس بابها، وأدى التحية، ثم أغلقه. رأوها تبتعد في الزقاق، وسمعوا الحوذي يصيح:
- ها! ها!
* * *
بينما كان بناء الجدار يجري على قدم وساق، تسلل ثلاثة شبان بين العمال آتين من وارسو، وهم يحملون ثلاث قفف، في الأولى لحم، وفي الثانية سجائر، وفي الثالثة خمر، وكلها بالطبع مهربة. ولكي يخفيها الشبان الثلاثة عن العيون، غطوا القفف الثلاث بالحصى، لكنهم، وهم على وشك ترك الجدار خلفهم، والذوبان في محيط الغيتو، أمسك بهم ثلاثة من البنائين، شبان مثلهم، ونادوا على جنود الإس إس ليلقوا القبض عليهم. وفي الحال، رماهم الألمان في شاحنة ستحملهم إلى معسكر تريبلينكا. وبالمقابل، كافأ الضابط المسئول عن الجدار البنائين الثلاثة بفخذ خروف أخذه الأول، وبخرطوش سجائر أخذه الثاني، وبزجاجة خمر حرص على أن تكون من النبيذ المحلي لا الفرنسي أخذها الثالث. حياهم تحية الأبطال، وكافأهم بتمثال صغير مذهب للفوهرر أشبه بالتمثال الشهير أوسكار، تمثال هوليود، ومن صندوق تفاح لم يفلح صاحبه في تهريبه، أعطى كل واحد تفاحة تعبيرًا عن سروره منهم، ثم عافاهم من العمل لذلك اليوم. انفعل أحد البنائين الثلاثة، وتأثر بكل هذا الكرم الذي لم يعد أحد في الغيتو يحلم به، فسقط تمثال هتلر من يده، وانفصل رأسه عن جسده. صرخ الضابط، وكأن رأسه هو الذي طار في الهواء، ولولا أن الفتى سارع إلى إلصاق رأس هتلر بقليل من الجبس دون أن يفلح في البداية ثم أفلح بإلصاقه بين الفخذين لكان مصيره تريبلينكا. ومرة أخرى، سقط التمثال من يده لتأثره وانفعاله دون أن ينكسر من جديد، فسارع الأرعن تحت نظرات الضابط المشتعلة غضبًا إلى رميه في سرواله الداخلي. ويا ليته لم يفعل، إذ بدا وكأنه في انتصاب أضحك عليه الجميع، واضطر الضابط في الأخير إلى صرفه هو ورفيقيه بأسرع ما يمكن.
كان موزارسكي قد وصل منذ عدة دقائق، وكان ماريك قد أوضح له ما يجري. لكن الذي وقع للواشين الثلاثة فيما بعد لم يكن بالحسبان، فهم بعد أن باعوا غنيمتهم في السوق السوداء، وتوزعوا فيما بينهم نقودها، ذهبوا ليشربوا الجعة في خمارة الحمل الثمل حتى تختخوا. وبعد ذلك، وهم في أحد الأزقة، رموا تمثال الفوهرر أرضًا، وتبولوا عليه، بدافع آخر غير الثمل، بدافع آخر غير الهزء، بدافع آخر غير الانتقام، كانت كل هذه الدوافع غير مطروحة لديهم، ولم يكن من خلقهم عدم المسؤولية أو الإذعان للبلاهة أو عدم الإدراك، كانوا ضحايا للكدر، وكان الكدر متعة لهم، الإفراط فيه كالإفراط في السعادة. تبولوا على التمثال، وهم يقهقهون، والواحد على الآخر، وكلهم على العالم. وهم في طريق العودة إلى أوجارهم، مروا بالكنيس، فدخلوه، ليس لأن يهوه كان هناك بانتظارهم، ولكن لأن الصلاة والدعاء ربما كانا شيئين ضروريين، وذلك كان وضعهما. تفاجأوا بكلمتين معلقتين في كل مكان من بيت الرب: الاعتراف إجباري! في البداية، أخذ الحاخام من الأول والثاني تفاحتيهما، أما الثالث، فسبقت أسنانه يد الحاخام إلى التفاحة وقضمها، والطفل القديم الذي كان فيه يضحك من كل قلبه. وفي النهاية، سلمهم الحاخام إلى رجال الإس إس المختبئين في حرم يهوه بعد الاعتراف بتبولهم على تمثال هتلر. لم يكن الأمر لديهم اعترافًا بالقدر الذي كان حكاية من حكايا مكان خارج الزمن، مكان لا ينتمي إلى البشر. ولكن الأبطال الثلاثة الذين كانوا منذ ساعات غدوا قطاع طرق. صفوهم على الجدار، ورشوهم.
* * *
أغلق إسماعيل باب حجرته بالمفتاح، ودفعه في جيبه، وراح يهبط الدرج بسرعة. وهو في وسطه، تباطأ. كانت مرجانة هناك، على هامش القاعة، وبين أصابعها تحفة من الكريستال. كانت التحفة تلمع، وهي تزيدها لمعانًا. أحست به يأتي من ورائها، فالتفتت مرتبكة. جمعت نفسها بخضوع، وألقت عليه التحية، لكنه خرج بعجلة.
رفع رأسه إلى الشمس، فتناثر ذهبها على رمشيه. دمعت عيناه. أعطاها ظهره، وأتى الوجار. أخذ الكلب المربوط خارج الوجار يتخبط، ويتنطنط. وضع قائمتيه الأماميتين على كتفي إسماعيل، ولعق سيده طويلاً. فك إسماعيل الحزام، فاندفع الكلب يجري. دخل إسماعيل المستودع، وأخرج سيارته المشكوفة... إلى بقعة ظل. تعالى ضجيج عربة الباشا إبراهيم في باحة القصر، فحاول أن يتحاشى أباه. صفّر للكلب الذي خدش الأرض، وقفز إلى جانبه، ثم تحركت السيارة.
بيارات.
بيارات برتقال.
بيارات... وبيارات.
على طول الطريق البيارات.
وحدائق الزيتون.
أينما نظر، تعالى... تعالى... لهب أخضر. كان النور يمزق حدائق الزيتون، وينثر ذهبه الأصفر، بينما كانت شقائق النعمان تحرق الوادي، وكانت السماء فراشة زرقاء.
أخد إسماعيل منعطفًا، والعجلات تزحك، ودخل حقلاً. قتل الأعشاب! وقصف الأغصان! كان يند عنها حفيف الأوراق المختنقة قبل أن تموت. توقف، وهبط. كانت المنطقة نائية ذات هدوء مطلق، وكانت شجرات لوز هنا وهناك. وهناك، قفز الكلب، وراح يجول. كانت لإسماعيل هيئة الغائب، ثم سمع كلبه، وهو يلهث. تقدم من آخر شجرة لوز، وتوقف قرب جذعها الشيخ. عصفور هوى، فرفع إسماعيل رأسه، لكنه كان قد اختفى. قرفص، وأزاح كومة من الأغصان الجافة بحركة خاطفة. حفرة. صندوق. حمل الصندوق. وضعه بين ساقيه، وارتكز بظهره على جذع الشجرة. فتحه. زجاجة خمر. كأس. علبة سيجارات. أعواد ثقاب. أقلام ملونة. دفتر. مجلة فيها رسوم. قفز الكلب عليه، فطرده بغضب. شد زجاجة النبيذ تحت إبطه، واقتلع غطاءها. انتزع العشب ليضع الكأس، وملأها. أحكم سداد الزجاجة، ثم، تركها جانبًا. أخذ جرعة صغيرة، ثم كبيرة، ورمي رأسه على كتفه. شرد! تشعشعت الزرقة في عينيه. فجأة، قفز: أية وردة عجيبة! صغيرة كالثغر في الوجه الحسن! بنفسجية كالليل في صيف الجليل!
حط الكأس، ونهض. بقي قليلاً، وهو ينحني فوقها، ثم قطفها. جاء بها إلى حيث كان، ورماها في كفه المضمد ليفحصها بحذر. حفر في الأرض، ودفنها. جرع كأسه، وأطلق نفسًا.
طنين.
لهثات ليست عادية تُوقِعُ قفزات الكلب الذي يحاول عبثًا اصطياد الذبابة. كانت في كل مرة تجعله يربض على الأرض، ثم تعلو مزهوة فوق خطمه، وما أن يقفز، حتى تنبو في الفضاء. كان يتظاهر أحيانًا بتجاهلها إلى أن تعيد الكرة، فيقفز صوبها، أو يركض مطاردًا إياها. تابعهما إسماعيل عن كثب، بكل حواسه اليقظة. يا لها من معركة! انتظر لمن تكون الغلبة. مد الكلب ساقيه إلى الأمام، مستعدًا للوثوب، وراح يتابع طيران الذبابة الجسورة، وهو يركز الذهن، لكنها باغتته، وهي تحط على خطمه، وتطن بحدة. طمر الكلب رأسه في التراب، ثم انقلب على ظهره، وأخذ يصفق بقوائمه خطمه، دون أن يستطيع الإمساك بالذبابة. فجأة، أخذت الذبابة تعلو وتهبط فوقه، وكأنها عُلقت بخيط، والكلب لم يزل في ذات الوضع. توترت كل عضلاته، وراح ينبح بجنون. لن ينقذك أحد غيري! تدخل، فحومت الذبابة بذهول، وهي تطن بحدة. انتصب الكلب إلى يمينه، ليعطي لنفسه بعض الشجاعة، وعاد ينبح. رمي إسماعيل يده في الهواء، والتقطها. لقد وقعت الذبابة في يده! أراحه ما فعل، فنظر إلى الكلب، والكلب يقفز، وهو يرمي إلى تخليصه إياها. سحقها إسماعيل بإصبعيه قبل أن يلقيها للكلب، فقفز الكلب عليها، وهو يطفح بالحقد، ومحق بقوائمه الضحية بعنف حتى فتتها. عند تلك اللحظة بالذات، اخضل، واجتاحه الكسل. لمس إسماعيل بطنه، وفرك رأسه، قبل أن يعود إلى مكانه. أشعل سيجارًا، وأصغى... لم تعد هناك لهثات في الأجواء، جمد الكلب، وكأنه مات. وضع إسماعيل السيجار على حجر، وقلّب المجلة. فرش الأقلام، وفتح الدفتر المليء بمحاولات رسم بائسة. بدأ بتقليد أحد رسوم المجلة، ولكنه في الأخير ترك نفسه تنقاد كما يريد لها الخيال.
* * *
- انظر هناك، يا موزارسكي، ولا تدعهم يكافئوننا بأوسكار جديد! همس ماريك.
نظر موزارسكي، فرأى فتاتين شقراوين، وهما تحاولان العبور بقفتين من الطعام والشراب ككل المهربين حتمًا من الجهة الأخرى للجدار. ابتسم موزارسكي، وقال:
- مواطناتنا الألمان أذكى منا جميعًا، فلا تخش عليهن شيئًا، يا ماريك!
- ثقتهن كبيرة، هذا صحيح! يقلن إن وجودهن هنا ليس سوى محطة قبل نقلهن إلى مدغشقر أو أية مستعمرة أخرى. وهن يقمن بكل ما يطلب النازيون منهن عن طيب خاطر، وبحماس نساء لم يزلن يعشن في زمن السلم. أنظر كيف الجدار يتطور بناؤه معهن بضعف الوتيرة التي لنا.
وفجأة، قال، وهو يشير برأسه إلى أحد البنائين، كان يبدو عليه أنه اكتشف أمر الفتاتين المهربتين:
- حذار!
أعاقه موزارسكي بقدمه، وقبل أن يسقط على الأرض، التقطه ماريك، وضربه على رأسه، فأداخه. أخفياه تحت نظر الفتاتين الشقراوين وراء أكياس الإسمنت، فأشارتا إليهما باللحاق بهما. عجلتا الذهاب إلى الشارع العام، والصديقان يتبعانهما، ثم سارا معهما، وكل منهما قد حمل عن كل فتاة قفتها.
- ماريشيا، قال ماريك لإحداهما، سأسميك ماريشيا.
قهقهت الفتاة:
- إنه اسم ما كان ليعجب أمي.
- وأنا، سأسميك بولينا، قال موزارسكي للثانية.
- أحب هذا الإسم، قالت الفتاة، وهي تقهقه.
عجلوا الخطى على رصيف الكنيس، وسمعوا الحاخام، على عتبته، وهو يدعو العابرين:
- تعالوا إلى بيت يهوه! لطّفوا من كربكم بين يدي الرب!
اثنان أو ثلاثة استجابوا، وبعد الاعتراف الإجباري، سلمهم الحاخام لرجال الإس إس.
وجد الصديقان نفسيهما على باب حظيرة مليئة بالخنازير مقسومة نصفين، الجدار يشقها من قلبها، فدخلاها من وراء الفتاتين الشقراوين، وهما يتبادلان نظرة متسائلة.
ضحكت ماريشيا:
- إنه المكان الأكثر أمنًا في الغيتو.
أوضحت بولينا:
- كانت الحظيرة لمسيحيين قبل أن يفرق الجدار بين أهلها، وبعد التهويد، تم طردهم جميعًا.
نزل أربعتهم من سلم إلى قاعة واسعة تحت الأرض كانت مخزنًا لعلف الخنازير وقشها، وفي زاوية تحت نافذة واطئة كانت مرآة كبيرة، وطاولة كبيرة، وكراسي بذراعين من المخمل الأحمر. حالما وضع الصديقان القفتين على الطاولة، بدأت الفتاتان بإفراغ ما فيهما، وهما ترسلان أعذب الضحكات، وتنظران بين حين وآخر إلى موزارسكي وماريك لتريا رد فعلهما. وشيئًا فشيئًا، اكتشف الصديقان ما في القفتين من قناني العطر الفرنسي وشتى المساحيق والفساتين وقمصان النوم والملابس النسائية الداخلية والأحذية التي امتلأت الطاولة بها، وتحولت الضحكات العذاب إلى قهقهات راحت ترن بكل حلاوتها مشنفة آذان الكون. ارتدت ماريشيا وبولينا أجمل الثياب، وتجملتا بأغلى المساحيق، وتعطرتا بأروع العطور.
* * *
رفع إسحق يد المضخة وأنزلها عدة مرات، فأتى الماء يسعل في الحنفية. ملأ الدلو، ونقله. قاقت الدجاجات من حوله. فتح باب الإسطبل، فبدد الضوء العتمة. صهيل. قوائم على القش في الزاوية. كان الحصان والفرس ساكنين والمهر لا يستقر في مكان. ابتسم لها من كل قلبه. أشعل بابور الكاز، ووضع عليه الدلو. كان يريد يأخذ حمامًا. رمي نصف البرميل الخشبي بنظرة سريعة، وتقدم من الحيوانات. نفض الحصان الأصهب رأسه بكبرياء، وترك نفسه للمداعبة بسعادة. وضع خدَّه على خدِّه، وما لبث الحصان أن راح يضرب القش بساقه. أملس للفرس عُرفها، وضغط فكيها، فصهلت خدرة، وهي تميل. كان يعرف تمام المعرفة أين تحبه أن يدللها. وبدوره، صهل المهر، بدافع الغيرة ما في شك، فجذبه إسحق من عنقه، وأخرج للشمس عائلته الصغيرة.
رأى رقية فجأة. كانت تكنس بسطة الدار دون أن يغادر أبوها مكانه. اقترب إسحق، وهو يشير برأسه إلى أن وقعت بنظرها عليه. لم تعره أدنى اهتمام، وعلى العكس، أعطته ظهرها. تراجع قليلاً، وكاد يقع. كان يبدو كثير الانزعاج. دخل بيته، وأطل من الشباك. عند ذلك، ظهرت امرأة مأمور المخفر على شباكها، وأخذت تدهن بسطار زوجها الضخم، وتلمعه. اضطرته إلى الدخول، فاعترضته طاولة من خشب الجوز صنعها بنفسه، خشنة كالجذع، لم يغادرها طعم الحقل، ولا رائحته أو لونه.
كرسيان من القش. أحدهما بمسند، والآخر يستند إلى الفراغ. عند المدخل، في القرنة، مطبخه الصغير. طناجر أربع مختلفة الحجم معلقة من آذنها على الجدار، باطنها أبيض، وظاهرها أسود. إلى جانبها إبريق الشاي وبكرج القهوة. تحتها لوح خشبي وُضعت عليه باقي الأدوات: ملاعق بلا شكل من نحاس وخشب، سكين بمقبض كالخنجر، صحون زينكو وخشب وفخار، كأسا فخار، كأس زجاج مشقوقة، فنجان مخدوش بلا مقبض. تحت اللوح الخشبي: موقد، وحطب. في الطرف الآخر للغرفة: صندوق كبير، سرير بغطائه الصوفي ذي الألف لون. فوق السرير رفوف كثيرة ملأتها طرائف الفلاح: حطة وعقال وحزام جلد عريض وقنديل كاز تركي يتدلى من السقف وفروة جدي تكمل الديكور. الأرض من أسمنت، الشباك من خشب. الباب من تنك. وإسحق يفتح الصندوق، تناهت إلى مسامعه خطوات في الخارج. سارع بالذهاب إلى الشباك، ورأى رقية... وصلت إلى بداية المنحدر عندما ناداها:
- رقية!
سألت لاهثة:
- من هناك؟
ورأته:
- أنت!
همهمت، وهي تضرب على صدرها:
- يا خرابك، يا رقية! يا خراب عمرك! سيراك أبي والناس!
- لن يرانا أحد، يا رقية، سوى شجرات الحور.
تنهدت:
- ماذا تريد؟
عاتبها إسحق بنبرة العاشق:
- تبدلت، يا رقية!
عادت رقية تتنهد، وهي تعض شالها، وتلتفت يمنة ويسرة. أعاد إسحق، وقد ملكه حزن شديد:
- تبدلت، يا رقية!
استنكرت وجوده قربها، أولاً، وفوق ذلك في عزِّ النهار:
- بجاه المصطفى أن تبتعد! ستعمل لي فضيحة!
- لم تعودي رقية التي أعرف! كنت تعجنين لي بيديك، أتذكرين؟ خبزناها سويّاً أرغفة الخبز الأسود. كنت لا تفارقين حجرتي ليل نهار، يا رقية!
- ابعد من هنا! ابعد!
جرت، وسبقته. توقف إسحق خائبًا، وقال بصوت يرجعه الصدى:
- ما زلت أحبك، يا رقية!
لم تصغ إليه. عاد إلى بيته حزينًا. وقف وسط غرفته حائرًا. وضع أصابعه على رأسه تلقائيّاً. كان عاجزًا عن فهم لماذا كل هذا الصد، ولماذا كل هذا الجفاء. لماذا تبدلت رقية فجأة؟ أين تراها تذهب في هذه الساعة وهي لا تعمل اليوم! صعد الدم إلى رأسه، فأراد أن يتبعها ليعرف الحقيقة. تطلع من الشباك: لم يكن هناك أحد في الخارج. وللمرة الأولى، أحس إسحق أنهم أخذوا منه رقية، تمامًا كما فكر عواد. أثقل رأسه الصداع، ومن جديد، صعد الدم إلى رأسه. آه! يا نبينا الحبيب! لم يتحرك أبوها من مكانه. رأى الدخان يتصاعد من قرنيه! صعدت في أنفه رائحة التبن المحترق، رائحة آتيه من أطراف القرية. فكر: إنها الساعة التي تتناول فيها القرية طعامها. تجد القرويين الآن يطبخون في قدورهم الصغيرة، أو يخبزون في أفران الطابون، أو يقومون بالفعلين معًا. بقي إسحق أسيان حزينًا. تذكر الماء الذي تركه في الإسطبل، وقال لنفسه: سآخذ حمامًا على أي حال. سأغسل حبي - لم يقل حزني - وسأرفق بقلبي المسكين. تقدم من الصندوق، وأخرج ثيابًا نظيفة: قميص خشن، مدعوك، فيه ألف كسر. سروال أسود، محكوك، لم يذق على الإطلاق طعم المكواة، برقعتين قطبهما إسحق بنفسه، فأخذتا شكل صرصورين بألف قائمة. وفي الأخير، أخرج بشكيرًا لم يكن شيئًا آخر غير بطانة قديمة.
* * *
ناداها ماريك:
- ماريشيا، تعالي، يا ماريشيا!
جاءته بكل جمال الدنيا، فحاول أخذها بين ذراعيه، لكنها أفلتت منه، وراحت تجري، وهي تقهقه. جرى من ورائها، إلى أن أمسكها، وسقط بها على كومة من أعواد الذهب.
- خذ حذرك! ستتلف لي فستاني!
لكن ماريك لم يأخذ حذره، قبلها، وهو يتقلب معها، إلى أن اصطدما ببولينا وموزارسكي اللذين كانا يستلقيان هناك وكل واحد في حضن الآخر، فانفجروا كلهم ضاحكين. قالت ماريشيا:
- الشيوعيون الروس بانتظارنا، علينا أن نسلمهم البضاعة التي طلبوها.
- الشيوعيون الروس؟ تساءل ماريك.
- إنهم المنشقون الذين هربوا من ستالين، أوضحت ماريشيا.
علق موزارسكي باستغراب:
- يهربون من ستالين إلى هتلر!
- هم في مكان لا يعرفه أحد، أوضحت بولينا.
- هم في مكان لا يعرفه أحد سواكما، رمى ماريك باسمًا، يا أجمل يهوديتين في الوجود!
- نعم، هم في مكان لا يعرفه أحد سوانا، رمت ماريشيا، وهي تبوسه من فمه بوسة صغيرة.
- وكل هذه البضاعة الفخمة للشيوعيين الروس؟ عاد موزارسكي يعلق باستغراب. ماذا سيفعلون بها؟
قالت بولينا:
- الشيوعية ليست مرادفًا للفقر!
قبلها موزارسكي من كتفها، وطلب إليها:
- قولي لنا بالله عليك، يا حبيبتي، لماذا الشيوعيون الروس يخاطرون بشراء أغلى العطور في باريس؟
- ليبيعوها للأباراتشيك.
- الأطر العليا للحزب؟
قالت ماريشيا:
- وربما لستالين نفسه، ستالين يحب النساء، ومن يحب النساء يحب العطور.
وقامت:
- سنذهب حالاً، يا بولينا، وإلا تأخر بنا الوقت كثيرًا.
قامت بولينا، وقام ماريك وموزارسكي. أعادت الفتاتان الشقراوان كل البضاعة في القفتين ليحملهما المحاميان السابقان، وغادر جميعهم المكان.
* * *
خلع الباشا إبراهيم عباءته، فقنبازه المذهب، ووقف بقميصه القطني. كانت ستائر المخمل مسدلة، وضوء الثريا ساطعًا. وكانت من حوله جدران ملساء، مغطاة بالزخارف. كان من ورائه سريره الوثير، وكان يمكن لأربعة أنفار الارتياح فيه. كلما رتبته مرجانة كانت تتساءل: أي نوم يمكن للمرء الحصول عليه في مضجع كهذا؟ نوم الملك ما في شك! كانت في الأمام خزانة كبيرة مصقولة وملساء كالتحفة الفنية. فتح الباشا إبراهيم أول درفة على اليسار: قمصان لا حصر لها! تناول واحدًا من الحرير، وفرشه بيد رخوة. فتح درفتين في الوسط: بدلات! بدلات كثيرة ومرتبة! اختار إحداها، رماها على السرير، واقترب من المرآة... فحص عرض كتفيه، ثم رفع أصابعه بتوأدة، ولمس شاربيه.
* * *
قذف إسحق الماء الساخن في البرميل الخشبي، وأطفأ البابور. كان عليه أن يأتي بملء دلو آخر من الماء البارد كي يخفف من سخونته، ويزيد من كميته. غاب قليلاً، وعاد بالماء. كانت ثيابه النظيفة معلقة على حبل في الإسطبل، وكانت هنا وهناك من حوله أكداس القش، وأدوات الحقل، وبعض الأكياس. أحضر علبة صدئة من مشرب الدواب وقطعة صابون وضعهما عند قدميه، ووقف على حجر. قذف صنداله على القش، ونزع صداره، فسرواله، وانتصب عاريًا.
عملاق!
كانت له هيئة إله من العصور الغابرة! ملأ العلبة، وصب الماء على رأسه، فكتفيه، فصدره، في الصمت الهائل، والعتمة المخصبة! رغا شعره بالصابون، وفركه بمضاء، ومن جديد أغرق نفسه في الماء. جرى سيل صغير، وهو يحمل معه بعض أعواد القش، كالمراكب. اقتربت إحدى الدجاجات بفضول، ووقفت على العتبة. نظرت إلى إسحق بشيء من التردد، ونقرت الذهب في السيل.
* * *
وقفت سارة في الحمام... رخام!
نزعت حرائرها قطعة قطعة، وعلقتها. فجأة، انتصبت عارية. عاج! بللت إصبعًا مدللاً. لبشرات الحرير لا بد من درجة حرارة تتكيف وإياها! اطمأنت. كل شيء على ما يرام. وقفت في الحوض قليلاًً، ثم استلقت، والماء يفيض، والرغوة تتشكل، والبخار يتكثف...
* * *
سأل ماريك ماريشيا، وهم يغذون الخطى في الطريق الذاهبة من الناحية الأخرى للغيتو، الناحية التي لم يرفع فيها الجدار بعد:
- هل ما زال المكان بعيدًا؟
ابتسمت ماريشيا، وخاطبت صديقتها:
- أرأيت، يا بولينا، كيف صاروا يتعبون بسرعة؟
ابتسمت بولينا، وأشارت إلى موزارسكي:
- هذا لا يبدو عليه التعب.
كان موزارسكي يقرأ بصوت لا أحد يسمعه سواه بعض الآيات التوراتية، ومن وقت إلى آخر يغمض عينيه.
- يا ليتني كنت مثله، قال ماريك، فقط يا ليتني كنت مثله.
- أنت لست مثله؟ سألت بولينا.
- إنه لا يؤمن بما نؤمن به جميعًا، أجابت ماريشيا، وأظنني لهذا سأتوقف عن حبه، وقهقهت الشقراء الماكرة.
- سأومن بكل ما تأمرينني به، رجاها ماريك، فقط لا تتوقفي عن حبي.
تعلقت ماريشيا بعنقه، وهي تقهقه:
- وهل صدقتني، يا حبيبي المسكين؟ لا تصدق ماريشيا، فهي تقول أحيانًا ما لا تفكر فيه.
أنهى موزارسكي صلاته، فسأل ماريك:
- ما لها ماريشيا، يا ماريك؟ هل تكذب عليك وقد انتهى الكذب؟
- أنا لا أكذب إلا على الذين أحبهم، قالت ماريشيا، ولكنني لا أكذب كما يكذب الآخرون.
- اسألوني أنا عن كذبات ماريشيا، قالت بولينا، فهي أيضًا كذباتي.
- أحب كذباتك، يا بولينا، همهم موزارسكي، كذباتك تشبه صلواتي، كلها صادقة.
- حذار! هتف ماريك، وهو يشير إلى شاحنة للجيش الألماني آتية من الجهة الأخرى للطريق.
خفوا كلهم إلى الاختفاء من وراء جذوع الشجر، وهمدوا ينتظرون عبور الشاحنة. لكن الشاحنة راحت تسعل فجأة، وتهتز، ثم سكت محركها، وتوقفت. نزل منها السائق ليرى السبب، وهو ينظر في محركها، فقرأ الأصدقاء الأربعة على غطائها الكلمات التالية: إذا لا تحب فلا تكره! مما أدهش موزارسكي وماريك وجعل بولينا وماريشيا تضحكان. نزل الضابط أمام عجز السائق عن فعل شيء، وراح يضرب الشاحنة بقدمه. أمر الجنود المرافقين للعديد من النساء والأطفال الذاهبين إلى تريبلينكا بالهبوط كي يدفعوا الشاحنة، معللاً ذلك بما أدهش الصديقين للمرة الثانية: أنه لا يمكن أن يطلب من الأطفال والنساء ما لا يطلب، ولو كانوا رجالاً لتغير الأمر. كانت الفتاتان الساحرتان تزينان ثغريهما بأجمل بسمة، والصديقان لا يصدقان ما يريان وما يسمعان. دفع الجنود الألمان وضابطهم الشاحنة عدة أمتار، ثم تراموا على الحجارة لما بذلوا من كثير الجهد. نهضوا بعد عدة دقائق، وراحوا يساعدون النساء والأطفال على النزول من الشاحنة التي تمكنوا من دفعها بسهولة هذه المرة، وتمكنوا من تشغيل المحرك. امتطوا الشاحنة التي داومت على السير بسرعة، وهم يتصايحون، دون أن يعيدوا أخذ الأطفال والنساء، وغادرت بهم الشاحنة إلى أن اختفت عن الأنظار، بينما يفتح ماريك وموزارسكي عينيهما على سعتهما غير مصدقين ما يجري. عندما وجدت النساء والأطفال أنفسهم أحرارًا، سارعوا إلى الهرب في الحقول، وماريشيا وبولينا قد ارتمت كل منهما بين ذراعي حبيبها، وهي تصرخ من عظيم الفرح.
* * *
ارتدى إسحق ثيابه النظيفة، ورمي ثيابه المتسخة في الدلو الذي حمله بيد، وبابور الكاز بيد، وغادر الإسطبل.
- يا إسحق!
هذه خالة ميريام، فلاحة عربية يهودية. نعم، توجد القبائل العربية اليهودية منذ عهد محمد. ارتفع صوتها الشيخ:
- يا إسحق!
التفت إسحق إليها، وهو يبدو عليه السرور، وانتظرها إلى أن وصلت قرب السياج، وهي تعتمد على عصا طويلة كعصا الراعي.
قالت خالة ميريام لاهثة:
- لعن الله الشيخوخة ما أقساها!
ثم بنبرة متماسكة:
- كيف حالك، يا إسحق؟
ابتسم إسحق ابتسامة عريضة:
- بخير، يا خالة ميريام.
انعطفت بقامتها الضامرة، وقالت بمودة:
- هذا الفلاح القوي لا يشكو أبدًا!
زلقت مُلاءتها، فظهر شعرها بخيوطه البيضاء.
- تعالي، يا خالة ميريام.
سارت إلى جانبه، وهي تكاد تسقط لضيق خطواتها.
- لم أركِ منذ مدة طويلة.
- آه! لو تعلم، يا ولدي...
- ماذا؟
- ابنتي أوروبا مريضة.
دفع الباب بقدمه:
- مم تشكو؟
زمَّت شفتيها المغضنتين، فأبرزت حركتهما تجاعيد وجهها، واغرورقت عيناها بالدموع:
- أوروبا مسلولة، يا إسحق.
ركزت عصاها على الحائط، وجلست على الأرض، وهي تمسح عينيها بطرف ثوبها.
- ماذا؟
- أوروبا مسلولة.
- من قال لك هذا؟
قرصت طوايا ثوبها بعصبية:
- أنا من تقول هذا.
- كيف عرفت؟
قالت بارتعاب وبأساء:
- رأيتها تبصق دمًا.
ثم لطمت وجهها:
- يا ويلك، يا ميريام! يا ويل عمرك!
نظر في عيني هذه اليهودية التعسة، وقال مشفقًا مشجعًا:
- هوني عليك!
سالت من عينيها دمعة، وزفرت:
- أنا صابرة، يا ولدي. أحرق لها البخور كل ليلة كي أطرد من صدرها الشياطين، وقد غليت لها، حتى اليوم، كل أصناف الحشائش.
فكَّر فيما أخبره بعضهم عن مستشفى جديد في القدس، فيه أطباء يهود جاؤوا من الخارج، فقال:
- اذهبي بها إلى القدس.
أصغت بانتباه، وسألت:
- القدس!؟
- إلى حكيم في القدس يعطيها دواء يشفيها.
اربدت سحنة خالة ميريام، وبدا عليها الخوف والحذر في آن واحد:
- لا، لن أسلم ابنتي إلى أولئك السحرة!
أطلق ضحكة:
- ليسوا سحرة، يا خالة ميريام، إنهم يعالجون المرضى، وأوروبا مريضة، أليس كذلك؟
بقيت مربدة:
- لا، يا إسحق، لا تحدثني عنهم، كفاني مصيبة واحدة، كفاني مصيبتي بجيرمان. أتذكر؟ ذهبت إلى حكيم ألماني يوم كان كبدها يحرقها، ومنذ ذلك الحين لم أرها أبدًا.
همهمت بصوت واطئ:
- من يدري؟ لربما قتلوها؟
ارتفع صوتها:
- لربما لا! على الرغم من أن جيرمان ابنتي الصغرى، فإنها أكثر فهمًا وحذقًا من ابنتي الكبرى أوروبا، ولكن.. (عبر في عينها خيال خافت) ولكن يا للخسارة! كانت طوال حياتها تكرهني، أنا التي حبلت بها، ونفحتها عطر الحياة! قضت طوال حياتها تحلم بالمدينة، بموقع هناك، كما لو كانت ابنة امرأة أخرى غير هذه العجوز التعسة. كانت نهمة ومجنونة الطموح إلى أبعد حد، حتى أنها لم تكن تتوانى عن قذف كل شيء، وعمل أي شيء باسم هذا النهم وذاك الطموح المجنون.
أطلقت نفسًا عميقًا:
- كانت مجنونة ذات أحلام مجنونة!
لم يتوقف إسحق لحظة واحدة عن الإصغاء إليها. فجأة، سمعها تقول:
- لقد فقدتها، لم يقتلوها، لقد فقدتها.
سكتت، وهمهمت بحزن:
- إن الأمر سيان، بما أنني فقدتها، إن الأمر سيان.
تطلعت في عينيه، لتقرأ في عينيه إدانتها، ومع ذلك غمرها الضياء. قالت بهيئة غائبة:
- لقد كانت غلطتي.
جمعت ملاءتها في حضنها، ورأسها ينخفض، وكأنها تبحث عن شيء، بينما راحت تهمهم لنفسها:
- لهذا لا أرغب في الوقوع في الخطأ مرتين.
قال إسحق:
- ستموت ابنتك، ستموت أوروبا.
نصبت رأسها في الحال، وألقت عليه نظرة فزعة:
- لا، لن أبعث بها عند سحرة أورشليم! إن أرادت الموت، فلتمت بين ذراعيّ.
ومع ذلك، ابتهلت:
- ما زلت أقوى على إعانتها، يا ولدي. دعني أعينها طالما بقي خفق في قلبي.
تمتم إسحق:
- أعانك الله!
نهضت، ووضعت يدها على كتف إسحق:
- تمنيت أن يكون لي ولد مثلك يعوضني عن كل هذا، ولد أصنعه مثلك قويّاً، يحب أمه والأرض.
كانت تفهم معنى هذا التمني الورع، أعطته ظهرها، وذهبت مثقلة. قالت بصوت واطئ:
- أنا أعرف، ستنتحر جيرمان في النهاية، أو سيأتي من يقتلها لأجلي.
التفتت، وذابت في صليب حاجبيه:
- هذا ما يحدثه لي قلبي دومًا.
مدَّ إسحق حطته على الأرض، وألقى قطعًا يابسة من الخبز الأسود:
- سنأكل مما تيسر.
قالت، وهي تدفع نفسها إلى الابتسام:
- آه! كم أنت طيب، يا إسحق!
- ألم تأكلي بعد؟
- لم آكل بعد، أنا منقبضة القلب، ليست لي شهية، وفِّر لقمتي لك.
- لن أذبح لك دجاجة، يا خالة ميريام! سنأكل مما تيسر، مما هو موجود في البيت.
ملأ إبريق الشاي بالماء، ووضعه على البابور بعد أن أشعله. جر تنكة الزيتون من تحت السرير، وأخذ كمية بأصابعه رماها في صحن. فرش على كوفيته ثلاثة أزرار بندورة، وثلاث رؤوس بصل، وقطعتين من الجبن اليابس. كانت خالة ميريام قد أحضرت كأسين وملعقة صغيرة، و... بنبرة جسيمة:
- لا بد أنك تعلم، ألا تعلم بغريب العجائب التي تحصل في البلد؟ عجائب يشيب لها الرأس!
رماها بنظرة فاحصة، ورفع قامته ليتناول علبة السكر من فوق الرف. قال إسحق:
- لا أحد يرضيه الحال.
ضربت خالة ميريام على صدرها، وراحت تشهق، وهي تحرك رأسها على الجانبين:
- آه، يا إسحق! يا ولدي! لو رأيت لبكت عيناك!
اقترب منها شادّاً علبة السكر بين أصابعه، وهي تقول:
- امرأة أبي سِنَّه قتلت نفسها لكثرة ما لطمت وصوَّتت، ضربت رأسها بالحجر حتى فجرَّت الدم، ولم نقدر نحن النساء على منعها. خدشت بأظافرها وجه أم رجب، وعضت بنت الراعي من عنقها. أما أنا، فقد بكيت عليها ومن أجلها حتى جفَّ دمعي، ولم أستطع احتمال رؤيتها ورؤية طفليها وابنتها لطيفة، وهم يبكون وينشجون. خرجت، وهمت على وجهي في الحقول إلى أن وجدتني عندك.
تأملها إسحق بحنان: مسكينة خالة ميريام! تعابيرها تحكي قصة جسيمة! كانت تحمله على ذراعيها عندما كان طفلاً، وهي وجدته كانتا فلاحتين مثابرتين. زلقت دمعتان من عينيها، وتمتمت:
- يا لهم من قتلة!
قال إسحق، وهو ينحني:
- لن تمضي الأمور على خير.
انعطفت، ووميض من الحنق يشق عينيها:
- اذبحوهم، يا ولدي، اذبحوهم كما ذبحونا!
وضع علبة السكر على الأرض، ورفع قامته:
- لا تزعجي نفسك كثيرًا.
نبرت بعتاب:
- كيف لا أزعج نفسي كثيرًا والكل يموت دون سبب؟
انطلق البخار من إبريق الشاي.
- أمس قتلوا أبا سِنَّه وأبا الغزال، وغدا سيقتلون آخرين، سيقتلون لي أوروبا.
رمى حفنة شاي في الأبريق، ووضعه إلى جانب الحطة. وهو يجلس، جاءه صوتها الراعش:
- أنا خائفة، يا ولدي!
طمأنها إسحق:
- لا يكن لديك أي خوف.
- يا رب، رحمتك!
اقتربت ببطء، فنظر إليها، وللمرة الأولى بدت له عظيمة ومهيبة كما لو كانت كل القرية تقترب معها.
- حذار، يا إسحق! لنحل دون زرعهم الموت ما بيننا!
جمد في مكانه لحظة، إلى أن جلست على الأرض قربه. رنا إليها: ها هي ذي تعود إلى طبيعتها خالة ميريام الطيبة أكثر مما يجب، المتحطمة أكثر مما يجب. رمى في كل كأس ملعقة سكر، وصبَّ الشاي.
- بسم الله، يا خالة ميريام.
- بسم الله، يا ولدي.
قطعا الخبز، وكسرا البصل، وراحا يأكلان.
* * *
غطست مغرفة الفضة في المرق المليء باللحم، وسكبها الباشا إبراهيم لزجة مبهرة في صحنه. كانت مرجانة تدور بالأطباق، فبعد أن انتهى الباشا إبراهيم من تناول ما يريد، تقدمت من سيدة القصر الجالسة إلى يمينه، فغرفت بدورها، وأشارت إلى الخادمة بالخروج، فاختفت مرجانة في الممر، بعيدًا.
كانت سارة جميلة كعادتها، لكنها لم تكن مشرقة.
كان تحت الجبين الأملس كرخام معبد صامت، وكان الجفنان ينخفضان ببطء، والشفتان ترتجفان ببطء أيضًا. كانت تريد أن تقول شيئًا، لكنها انتظرت الباشا إبراهيم أن يبدأ الكلام، فمن عادته ألا يتكلم على طاولة الأكل. في النهاية، عزمت على أن تكسر الصمت. رفعت عينيها نحوه، فرأته أكثر صمتًا من أي وقت آخر، حتى أنه بدا مصرًا على صمته إصرارًا لم تعهده فيه من قبل.
سألت سارة:
- هل يعجبك الطعام، يا باشا؟
قال:
- ممتاز.
صمت.
كان هناك ما يشغله حتمًا. وهي؟ عليها أن تحادثه لتخفف عن نفسها الشيء القليل من همومها. ربما ليست الفرصة المناسبة، ولكنها لم تشأ الانتظار حتى المساء، لأنها لا يمكنها الوثوق بحديث السرير، وخاصة مع الباشا إبراهيم.
- هل كل شيء على ما يرام؟
ترددت بسمة غامضة تحت شارب الباشا الغزير الأبيض:
- كل شيء على ما يرام. وأنت؟
ربما كانت فرصتها المناسبة، فخاطرت، وقالت بصوت متردد:
- أشعر ببعض العياء.
صمت.
- هذه هي! نفسيتي، بسبب نفسيتي!
افتعلت ضحكة، وأضافت:
- ليس الأمر خَطِرًا!
وضع السكين على حافة الصحن، نظر إليه، وقال بتجرد:
- وجنتاك شاحبتان.
وبصوت أكثر جسامة:
- مِمَّ تشكين؟
ردت دون أن تحس باهتمامه الحقيقي بها:
- من لا شيء.
ختم الباشا كعادته:
- إذن لا تقلقي نفسك.
مسحت فمها، وطوت محرمتها، بينما انهمك الباشا إبراهيم بإنهاء صحنه.
قالت سارة، وهي تنظر في خط مستقيم أمامها، دون أن تلاحظ باقة الورد الأصفر الموضوعة في مزهرية ليس بعيدًا:
- سأسافر غدًا إلى يافا، لأرى ابنتي.
فهم الباشا كل شيء.
لم يتجهم، ومنع نفسه من الغضب، لكن تعابيره خانت الهيبة التي يفرضها على كل من هم حوله! ومع ذلك، لم يتسلل إلى قلب سارة الخوف، إذ بقيت تنظر باستقامة دون أن تراه.
- فأنا، كما تعلم، لم أرها منذ ثلاثة شهور.
انتظرت رد الفعل لديه، سماع كلمة منه، لكنه بقي صامتًا، وهي دومًا، لم تحد عن النظر باستقامة.
تأوهت، وأنهت:
- هذا كل ما كنت أريد قوله!
جاءت الخادمة بطبق آخر: قطع من السمك المحمر منثورة على تل من الأرز الأبيض. لم يأخذ الباشا إبراهيم سوى ملعقة أرز وقطعة سمك، أما سارة، فلم تأخذ شيئًا، وشكرت الخادمة.
عندما ابتعدت الخادمة، قال الباشا إبراهيم:
- لك أن تسافري.
دون أن يبدو عليه الرضى.
نظرت إليه، وهي تهتز، وقالت بصوت متهدج:
- أنا أم، يا باشا، فلا تنس! أنا أم قبل كل شيء!
ترك الشوكة تسقط، رفع المنديل، وجذبه على فمه، وهو يحملق بعينين مشتعلتين بالغضب، ومع ذلك دون أن يرفع صوته:
- تحسنين اختيار الكلام المناسب في الوقت المناسب! أهو وقت الحديث عن ابنتك؟
كمنت في مقعدها، وانتظرت، دون أن تخشى ردود فعله:
- لقد قطعت قرارًا، يا باشا، بالعودة مع ابنتي.
أخذه الغضب أيما مأخذ، فنهض كما لو كان ذلك للتذكير بأنه الباشا! أنه الباشا إبراهيم! بدت له هيئة الجمل الهائج، الضخم، والمريع.
- إنه قراري الأخير.
انفرج فمه بحركة هائلة البطء، وألقى هذه الكلمات:
- إذا خرجت من بيتي، فلا تعودي إليه... إياك أن تعودي!
صاحت فجأة:
- لا!
حدجها بقسوة، وهي ترحي تحت ناظره. تبدد جمالها، وصبرها، ودأبها. لم تعد سيدة القصر، وإنما الجارية. سقطت على يده، وراحت تطنب:
- تزوجني، يا باشا، لا أريد أن أبقى عارك! تزوجني!
سحب يده بهدوء، وغادر القاعة ببطء، وهو يسمعها تبكي.
* * *
وهم يواصلون طريقهم، إذا بمجموعة من النساء البدينات جدًا تأتي من الجهة المعاكسة. قالت ماريشيا:
- هذه النساء لسن من عندنا.
- ولا من عند غيرنا، قالت بولينا.
- إذا لم يكنّ لا من عندنا ولا من عند غيرنا، فهل يكنّ من المريخ؟ رمى موزارسكي.
- قليلٌ من الصبر، وسنرى، قال ماريك.
والنساء على بعد عدة أمتار منهم، صاحت ماريشيا:
- من أنتن؟ يبدو عليكن الضياع!
كن يتقدمن بجهد، وهن يلهثن، ويسيل من جباههن العرق. توقفن من حول الأصدقاء الأربعة، وقالت إحداهن:
- نحن أمريكيات.
- أنتن أمريكيات! إعادت بولينا باستغراب. أمريكا بعيدة جدًا، أبعد من المريخ! قولي من المريخ، هذا منطقي أكثر.
- كيف الذهاب إلى غيتو وارسو؟ سألت أخرى.
- غيتو وارسو؟ سألت ماريشيا باستغراب.
- غيتو وارسو، أعادت المرأة.
- غيتو وارسو، صاحت أخرى كصدى.
- لماذا غيتو وارسو؟ سأل ماريك. هل أنتن يهوديات؟
- لا، أجابت المراة.
- لماذا إذن تريدون الذهاب إلى غيتو وارسو؟ سأل موزارسكي حائرًا.
- غيتو وارسو هو المكان الوحيد في العالم الذي لا يوجد فيه همبرغر ولا بيتزا، أوضحت المرأة.
- هل سمعت، يا ماريك؟ قالت ماريشيا متهكمة. توقع من الأمريكان كل شيء.
- الحقيقة أننا جربنا كل الوصفات واتبعنا كل النصائح دون أن نفلح في إنقاص الوزن الذي لنا، شرحت المرأة.
كشر الأصدقاء الأربعة، وتابعوا طريقهم، دون أن يستجيبوا لنداء مجنونات الرجيم. وما هي سوى مائة متر حتى أخذ يصلهم وقع لحوافر ظباء تركض بجنون، عرفوا فيها جنسًا بولنديًا في طريق الانقراض كان هتلر قد أصدر مرسومًا لحمايته، ورأوها تبتعد هاربة على الطريق الذاهبة إلى غيتو وارسو.
وبعد مائة متر أخرى، إذا بعشرات من سمك القرش المجنح، تطير فوق رؤوسهم معجلة الذهاب إلى حفل دعاها إليه هتلر. وبينما هم كذلك، إذا برجل عجوز يأتي من بعيد، له هيئة المجنون، كلما سار خطوتين التفت حوله، وراح يتأمل الكون. وهو في وسطهم، مد يده، وجسّ نهدي الفتاتين الشقراوين من أجل المعرفة، والفتاتان تضحكان، وتقولان: يا للعجوز الفاجر! قدم نفسه، غوته، وقال إنه في حرب السنوات السبع اكتشف الحضارة الفرنسية، وفي هذه الحرب يريد أن يكتشف الحضارة الألمانية. تركهم، وسار على الطريق الذاهبة إلى غيتو وارسو.
نظروا إلى غوته حتى غيبه الفضاء، وإذا بهتلر يبين على الطريق الآتية من غيتو وارسو، وهو منفوش الشعر، والدموع تملأ عينيه. حير الأصدقاء الأربعة وجوده ما بينهم، فأوضح لهم أنه كان وزوجته الحبلى في زيارة لغيتو وارسو، ولشد ما هز زوجته مصير الناس، اهتز الجنين الذي في بطنها، فأسقطته، وهو ذاهب في طلب طبيب لم يجده في كل الغيتو. عاد يبكي، فأحزنهم أمره، وأخبروه أن كل الأطباء يوجدون في تريبلينكا، معسكر الموت، بأمر منه. أوقف أول سيارة عسكرية مرت به، سيارة عسكرية كان مكتوبًا عليها: إذا لا تحب فلا تكره! وراح بضباطه وجنوده صياحًا، وهو يحثهم على الذهاب بأسرع ما يمكن إلى تريبلينكا.
* * *
وصلت سيارة الدودج، وهي تسعل، ففلعت بصوتها رؤوس زمر أولاد القرية. تبعها بعضهم حفاة، وهم يصيحون. كان زغلول يجلس على حجر قرب البوابة، وهو يقضم قطعة حلاوة طحينية، ويحيطه الذباب. عندما وصله صياح الأولاد، كانت السيارة قرب سور المصنع. دفع ما تبقى من قطعة الحلوى في فمه، وهو يهش الذباب، ومسح يده بصدره. كان يعرف مسز كلارك جيدًا. رفع يده محييًا، وفتح البوابة، وهو يفحص صادق بكثير من التمعن: كانت عادته كلما وقع على وجه غريب. عندما قطعت السيارة قسمًا من الساحة، فطن إلى صياح الأولاد، فهب بهم صائحًا، وهو يشتمهم، إلى أن طردهم. نزل صادق، وقال لمسز كلارك:
- كانت جولة رائعة! أشكرك!
قالت مسز كلارك:
- إذا ذهبنا إلى القدس استصحبناك معنا.
هز رأسه بالإيجاب.
قالت:
- إلى اللقاء.
عملت نصف دورة، وغادرت السيارة الساحة. جاء زغلول يقفز كالضفدعة الصغيرة، وهو يحاول الوصول إلى صادق بأقصى سرعة. وقف، وهو يلهث، وابتسامة ترحاب تدبق على فمه:
- أهلاً وسهلاً، يا سيدي المهندس!
- ألا يوجد أحد هنا؟
- تفضل، يا سيدي المهندس!
تقدمه زغلول، وهو يعرج، ثم فتح باب المكتب.
- هذا هو مكتبك، يا سيدي المهندس. تفضل واجلس ريثما أنادي الأسطى حسن، إنه أسطى العمال كلهم!
فتح الباب الداخلي، فارتفع ضجيج الماكينات، وما لبث أن رقَّ مع انغلاق الباب. أخذ صادق ينظر إلى حجرة المهندس! إلى مكتبه الكبير! كان المكتب كبيرًا وجميلاً رغم الغبار المتراكم في بعض نواحيه، وكان صادق به مسحورًا. عينات خضراء وحمراء من الأقمشة كانت تغطي المكتب.
فجأة، اقتربت الخطوات. قطب صادق، وجعل عقدة بين حاجبيه. وضع سيجارة في فمه، فاندفع الباب: بدا الأسطى حسن، وهو يمسح بقطعة قذرة يديه الملوثتين:
- يداي وسختان، فاسمح لي.
مد لصادق رسغه بقصد المصافحة، فجسه صادق بأطراف أصابعه.
- نورت المصنع!
أشعل صادق السيجارة، وجاء زغلول ينزرع قربهما، وهو يرخي شفته السفلى.
- شرفت المصنع، يا سيدي المهندس!
قال صادق، وهو يغطي وجهيهما بالدخان:
- سأزور المصنع.
- حالاً، يا سيدي المهندس.
فتح الأسطى له الباب، وجعله يجتاز إلى الضجيج. وهو يدور بالماكينات، كان العمال ينظرون إليه بتعب، وقد ملأ عيونهم صبر كبير.
* * *
أمسك موزارسكي بولينا من ذراعها خوفًا وريبة، وكذلك فعل ماريك بماريشيا، وهما يقتربان من ثكنة ألمانية.
- هل يعقل أن يختبئ الشيوعيون الروس في ثكنة ألمانية؟! سأل موزارسكي، وكأنه يعيش حلمًا غريبًا.
- لا، يا ماريشيا، صاح ماريك! أتكونين جاسوسة لهم؟
- أنا جاسوسة للألمان، أيها المجنون! احتجت ماريشيا.
حررت بولينا ذراعها من قبضة موزارسكي، وهي تنبر:
- أنت تؤلمني، أيها الوغد!
- ولكن كيف يختبئ المنشقون الروس في أفواه الذئاب؟! رمى موزارسكي.
قرأ ماريك بصوت عال الشعار الذي أثار استغرابه مكتوبًا بالخط العريض البارز في أعلى البوابة: إذا لا تحب فلا تكره! ثم همهم:
- أنا لا أفهم شيئًا.
- ستفهم كل شيء بعد قليل، يا حبيبي، طمأنته ماريشيا.
كانوا قد وصلوا عند قدم بوابة الثكنة المحصنة، فصاحت الفتاتان الشقراوان بالحارس النائم في مرقبه ذي الزجاج المدرع الملون تلوينًا خفيفًا. نهض الحارس فزعًا، ولما عرف في الفتاتين الشقراوين ماريشيا وبولينا ابتسم ابتسامة الملاك، لكنه كشر على رؤية ماريك وموزارسكي، وأشار من وراء الزجاج المدرع الملون لماذا هما هنا، ولماذا هما هذان بالذات، وهو يدفع إصبعه على ذراعه اليمنى بعد أن رأى النجمة السداسية.
- إنهما الحمالان، صاحت الصديقتان، وهما تشيران إلى القفتين.
- ماذا؟
كان الزجاج المدرع الملون يحول دون سماعه جيدًا.
- إنهما هنا لحمل قفتينا، أوضحت بولينا وماريشيا.
عندما فهم الحارس، ابتسم ابتسامة الملاك من جديد، وطلب منهم الانتظار قليلاً. وبالفعل، لم تمض سوى بضع ثوان حتى انفتح باب الثكنة الأوتوماتيكي، وترك لهم مكانًا يدخلون منه.
في الداخل، كانت المفاجأة الثانية لحاملي القفتين: الجدران المزدانة برسوم الغرافيتي، رسوم بكل الألوان الزاهية، وكأنهما يوجدان في جنة لا في ثكنة. وأكثر ما هزهم رسوم عن أهل الغيتو من ضعاف البنية، وقد نبتت في أجسادهم الورود، وارتقوا كالأغصان المورقة فضاءات الحياة. مضوا ببعض الجنود الألمان الذين كانوا يحيون ماريشيا وبولينا بأدب جم، إلى أن صاروا وحيدين قرب باب أرضي، رفعته الفتاتان الغريبتان ليبين درج نزل أربعتهم منه قبل أن يعيدوا غلق الباب الأرضي من فوقهم.
* * *
قفزت ابنة حارس الباشا الصغيرة بالحبل، وهي تشدو تحت شجرة التوت، ثم جرت خلف الدجاجات التي هرعت فزعة، مقأقئة، والطفلة تضحك. كانت صيحات الطيور البائسة تجعلها في منتهى الغبطة، فكرت أنها أميرة، كما حكت لها أمها ذات مرة. فجأة، حملت بين يديها فرخًا، وراحت تحاكيه، وتضع منقاره على فمها، وتداعبه من جناحيه.
كان أحدهم يراقبها من بعيد، من بين أغصان الشجر. إسماعيل. كان يتابع حركاتها بعينيه، وهو يخفي نفسه كتمثال دون حراك. تلك العجيبة الصغيرة كانت حلمًا حقيقيّاً، لكنه مع الأسف كان بعيدًا في مخبئه. كان لا يجرؤ على الظهور، لأنه إذا أظهر نفسه، تبدد الحلم، والمتعة معه.
تمنى إسماعيل لو تجيء إليه، لو جاءت إليه لأخذها بين ذراعيه، وهرب بها إلى مكان بعيد جدًا. ومع ذلك، كان لا يمكنه خطفها، وإن فعل خسر أشياء كثيرة، وضاعت عليه أشياء كثيرة. كانت الطفيلة توقظ كل ثمله. وضعت الفرخ على الأرض، وعادت تغني من جديد. أخذ يرتعش، والأنغام الشفافة تخترقه بعنف، ويحس بنفسه غير قادر على المقاومة أمام نعومتها، فبقي في مكانه، وهو يواصل مراقبتها.
جاء دور الكرة الآن. قذفتها عاليًا أعلى ما يكون، وتلقفتها مرات ومرات. فجأة، سقطت الكرة على بعد مترين من إسماعيل. اندفعت البنت تجري لإحضارها، ووقعت عليه. لما رأته بشحوبه وجموده دهشت في البداية، ثم ابتسمت. شع إسماعيل فرحًا، وانحنى ليمد إليها الكرة، والبنت تداوم على الابتسام. كان كل حبوره ألا تختفي ابتسامتها. كانت الشفتان الخلابتان تسحرانه، العنق المائل قليلاً، الشعر المنثور...
أراد أن يهمس لها: (( تعالي! )) ليشدها إلى صدره، ويخلط أنفاسها بأنفاسه. وبينما كانت شفتاه تنفرجان، انطلق صوت أمِّها الحاد، وهي تأتي بحثًا عن الطفلة من بعيد. أسقط إسماعيل الكرة، وهرب، وهو يدفع الأغصان من أمامه.
* * *
بين عشرات صور ماركس وإنجلز ولينين، كان هناك عشرات الشيوعيين الروس في الطابق التحت الأرضي، وكانوا بلحاهم يشبهون بعضهم البعض شبهًا غريبًا. كانوا كلهم يرتدون بنطالاً أسود وقميصًا أحمر، وكانوا كلهم شقرًا حتى السمر منهم، ويبتسمون ابتسامة بيضاء. لاحظ ماريك أن لهم كلهم خطابًا واحدًا، وكلهم يتكلمون عن موضوع واحد: البضاعة المهربة التي استقبلوها كما لو كانت من الذهب أو الماس. واحتفاءً بالأصدقاء الأربعة، فتحوا قناني الفودكا، وبعد أن دارت الفودكا بالرؤوس رقصوا على إيقاع البلالايكا.
حضر قائد الثكنة الألمانية، ورحب بالأصدقاء الأربعة، وقال إنهم أعدوا على شرفهم مأدبة غداء للجميع، فصعد الجميع إلى باحة الثكنة. وقبل أن يأخذوا مكانًا حول الطاولات، أعلن القائد الألماني أنه بهذه المناسبة السعيدة الجامعة بين المنشقين الروس وممثلي غيتو وارسو وضباط وجنود ثكنة إذا لا تحب فلا تكره، سيرفع الستارة عن لوحة محبة وصداقة ذات رمز عميق. وبالفعل، جذب الستارة، فبانت صورة عملاقة لهتلر بلحية ماركس توسطت صور الغرافيتي الأخرى. صفق الجميع، وحيا كل منهم الصورة على طريقته. أخذ كل منهم مكانًا حول الطاولات عندما جاء الطباخون بصواني الخنازير وللأصدقاء الأربعة بأربع دجاجات كاشير، وفتحوا قناني الجعة. ماريك وحده من أكل قطعة لحم بيضاء مع البطاطا، ووجدها لذيذة. كان جنود وضباط الشاحنة والسيارة العسكريتين اللتين التقاهما الأصدقاء الأربعة في الطريق قد عادوا، وشاركوا الجميع في الوليمة، ولم ينس قائد الثكنة الحارس الذي أصعد له في مرقبه من الأكل ما يكفي عشرة جنود. بعد ذلك، وضعوا في الغرامافون الأغنية الشهيرة (( ليلي مارلين))، ورقصوا عليها، وهم يتخاطفون بين أذرعهم ماريشيا وبولينا.
نظر الأصدقاء الأربعة إلى بشر ثكنة إذا لا تحب فلا تكره الذين أعياهم الفرح والمرح وأثملتهم إزالة الرتب والفروق، فأسأمهم ذلك، تركوهم إلى الصراع والتناقض والجدل عائدين إلى غيتو وارسو.
* * *
صفّق القاضي:
- يا ولد! بصة نار، الجمر انطفأ!
صاح القهوجي:
- أمرك، يا سيدي القاضي.
رفع إبريق الشاي عن موقد، ونقل بملقطه الصغير ثلاث جمرات وضعها في صحن نحاسي مغطى بالرماد.
صاح الحاج عبد النبي بالقهوجي من طرف آخر:
- القهوة! أين القهوة، يا أبا الملاك؟
- على النار، يا حاج!
دار القهوجي بالطاولات القصيرة بصعوبة، بسبب اكتظاظ المقهى بالرواد. حمل الصحن النحاسي بواسطة سلسلة، بينما تابع القاضي مقدمه من بعيد. نثر القهوجي بملقطه رماد النارجيلة، وضغط التنباك، ثم جعل من الجمرات الثلاث هرمًا. قال القهوجي:
- أنا خادم شاربيك، يا سيدي القاضي!
امتص القاضي نارجيلته، ونفخ الدخان:
- أطال الله عمرك، يا ولدي!
بدا تحت عمامته الخضراء كالبرميل، ببطنه المندفع. عندما مرَّ القهوجي بالحاج، سأله هذا:
- أين القهوة؟ ذهبت منذ ساعة كي تحضر لنا القهوة فأصبحت قهوة!
قال القهوجي:
- الصبر مفتاح الفرج، يا حاج عبد النبي!
تصانع عدم الفهم:
- أسألك هل غلت القهوة أم لا؟
كان المقهى يزدحم بالرواد ازدحامًا شديدًا على غير العادة، وكان ضجيجهم يعلو، والدخان يعلو، بينما حجارة طاولات النرد تتصادى. أعاد القهوجي بصوت مرتفع كي يسمعه الحاج:
- الصبر مفتاح الفرج، يا حاج عبد النبي!
صفَّق الحاج، ونبر:
- أي فرج هو هذا! أحضر لنا القهوة وإلا ذهبنا!
لكن القهوجي ضاع بين الرواد قبل أن يسمع آخر كلامه.
شعر حليق. في وسط أنفه شامة كبيرة. حفرتان هما خدا الحاج. وجه طويل تجاعيده ناعمة وكثيرة كجذور اللفت. قال جاره، موسى عبد الرحمن، وهو يطلق زفرة:
- الناس كثيرون اليوم!
أجابه الحاج دون أن يزول التوتر عن وجهه:
- أوقفوا أعمالهم، وجاؤوا، اليوم هو العيد!
ضحك جاره، والحول يصيب عينيه:
- هو العيد حقًّا، ولكن أيهما؟ الصغير أم الكبير؟
انتهره الحاج:
- لا تضحك، يا موسى عبد الرحمن، لا تضحك!
قطع الرجل ضحكته على الرغم منه، ضغط طربوشه، وألبس تقاطيعه الجد:
- سألتك فقط أهو العيد الصغير أم الكبير؟
- أهذا سؤال يسأل، يا موسى عبد الرحمن؟ ألم تشاهد بأم عينك كيف كانت الذبيحة؟ إنه العيد الكبير، عيد الضحية، عيد الضحايا؟
توجَّه الحاج بالكلام إلى القاضي الذي ينفخ نارجيلته، وهو يرهف السمع:
- ماذا قلت، يا سيدي القاضي؟
- قلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!
هزَّ الحاج رأسه عدة مرات:
- هذا ما يقوله الجميع، يا سيدي القاضي، ولكن أسمعنا ما يرضيننا.
جهر القاضي بصوت جسيم:
- رضي الله عنك وعافاك وجنبك شر الوباء والويلات، إنه سميع مجيب الدعوات!
ثم خرّت النارجيلة. فجأة، انبثق القهوجي من بين الأقدام والأصوات:
- وصلت حبيبتي السمراء!
وضع فنجانين فارغين أمام الحاج عبد النبي وموسى عبد الرحمن، صب القهوة، وترك كأس ماء.
- بالهناء والشفاء، يا سيدي الحاج!
وضاع من جديد بين الأقدام والأصوات.
تمتم الحاج متهكمًا:
- الكل يدعو بالهناء اليوم، ولكنه دعاء أبدًا لا يستجاب!
سحابة سوداء: دخان كثيف، وعتمة خفيفة، وشوشات خشنة، وضحكات خشنة، مصباح عتيق، ولم تكن في المقهى طاقة. جلسوا في حلقات عديدة حول طاولات اللعب: من يلعب الشَّدَّة، ومن يلعب النرد، ومن يلعب الدومينو. في حضن القش، استلقى أبو الكسيح، وهو يشخر، رغم الضوضاء، وعلى مقربة منه، ترامى خمسة على الأرض، وهم يلعبون الشَّدَّة، رائحتهم قذرة، ويتكلمون بقذارة: أبو سريع، الأعور، مصطفى الذبيح، الأشقراني، وداني عمران الخضرجي. كانت قوارير النارجيلة بين أقدامهم، سحقوا على الأرض قمع السجائر، أو أطفأوها في الفناجين. كان الظلام شديدًا من حولهم، فأشعل الأعور شمعة وضعها فوق صحارة. كلما قذف مصطفى الذبيح من يده ورقة قذف من فمه شتيمة، وكان أبو سريع يصدر فحيحًا خشنًا دون توقف، والأشقراني يحك شعره الأشقر المتلبد ما دون طاقية الصوف التي بلا لون لشدة اتساخها. أما الخضرجي، فلم يكف عن قضم ما يملأ جيبه من خضروات. على حين غرة، صاح الأعور:
- لقد ضاجعتكم جميعًا!
وفرش أوراقه، فأمطرت الشتائم:
- لماذا لم تنتظر دورًا آخر، يا جرذ؟
- أي مغفل هو أبوك!
- أية داعرة هي أمك!
- سأحرق عرضك!
قال الأشقراني بغضب:
- سأفقأ لك العين الأخرى!
بينما انفجر الأعور يقهقه:
- افقأ لي هذا بالأحرى!
وهو يشير إلى فرجه.
والأشقراني يردد مغتاظًا:
- سأجعلك أعور بعينين!
رمي كل منهم قرشًا على الأرض، فجمع الأعور القروش، وهو يهلل. عادوا إلى توزيع ورق اللعب، والأشقراني يلف سيجارة. وضعها في فمه بعد أن بللها بريقه، وأشعلها مستطلعًا ورقه بشرود، ثم شتم، دون أن يلتفت إليه أحد. بصق أبو سريع، وكذلك فعل الخضرجي، وأخذ الأعور يدنّ. سأله مصطفى الذبيح:
- مبسوط؟
- سأضاجعكم جميعًا!
دون أن يرفع عينيه عن ورقه.
رمي أبو سريع ورقة بسرعة، وراح يقهقه، وهو يخبط بيده ظهر الذبيح عدة مرات. سألهم بصوت الأجش:
- ماذا تشربون!
ودون أن ينتظر إجابتهم، صاح بالقهوجي:
- أعد لنا زجاجة خمر!
دخل المختار، فالسمسار، وراح السمسار يصيح بالرواد:
- يا جماعة! يا جماعة!
لم يهتم أحد به: كانوا كالغرقى في بحر اللعب. عاد المختار إلى الصياح بدوره:
- السماع، يا جماعة!
رفع اثنان أو ثلاثة رؤوسهم إليه بكسل، ثم خفضوها، وتابعوا التحديق في أوراقهم.
صاح السمسار وقد ازداد صوته النسائي حدة:
- المختار يكلمكم! السماع! السماع!
علت همهمة خشنة:
- ما الذي يريده هذا الأعته؟
- فرجك!
تفجر أبو سريع بالضحك، وهو يفح كالثعبان. أخذ المختار يصفق بقوة، وانتهى به الأمر إلى أن يثير اهتمامهم. قال، والعرق يغزوه غزوًا:
- بعد جولتي على بيوت القرية كلها، وبعد كلامي مع معظم الأهالي، أخبركم ألا فائدة من الإضراب.
ضرط أحدهم، وهمهم:
- لا أحد يضرب هنا!
أطلق أبو سريع صفيرًا طويلاً، والمختار يضيف:
- يجب أن يعود الجميع إلى أعمالهم، وإلا لحقنا الضرر الكبير. اسمعوا، يا جماعة، أقولها لكم بصراحة، نحن أناس لا دخل لنا بالسياسة، للسياسة رجالها، ورجل رجالها الباشا الذي وعد بأن يقوم بالواجب على أكمل وجه.
أخذ نفسًا مديداً، وأشار إلى السمسار:
- السمسار شاهدي أمامكم، وعد الباشا إبراهيم بحل الأمور بالتي هي أحسن، ونحن...
تجشأ أحدهم في العتمة، مما اضطر المختار إلى التوقف محملقًا دون أن يتبين شيئًا. تابع:
- يا جماعة، أقولها لكم بكل صراحة، عين العقل والصواب أن نترك السياسة للساسة، والساسة للسياسة، ولن ينفعنا الإضراب في شيء. من له دكان عليه الذهاب لفتحها، ومن له قطعة أرض عليه إنهاء حراثتها. هذا الموسم يبشر بالخير، إياكم التفريط بنعمة الإله، فتحل علينا نقمته!
صاح الحاج عبد النبي متفجرًا بالغضب:
- والدم! من يأخذ لنا بثأر الدم الذي سال؟
همهمات وهمسات وأصوات خشنة انتشرت في أجواء المقهى. تقدم المختار من الحاج بعد أن تعثر بالزبائن عدة مرات، وقال:
- للدم أيضًا رجاله، يا حاج عبد النبي، فلا تنشر الفتنة بين الناس.
أخذ الحاج عبد النبي يلهث، ويصرخ:
- الله أكبر! من ينشر الفتنة بين الناس؟ أهناك أكثر منها فتنة بعد أن قطعوا رأس اثنين من أنظف وأخلص الناس فينا؟
أحاطه السمسار من طرف والمختار من طرف، وكل واحد منهما راح يعمل على تهدئته:
- طوّل بالك، يا حاج عبد النبي، يا أبا صبوح الأسمراني!
- لن يذهب دم الشرفاء سدى!
أخذ الحاج يضرب بقدمه الأرض لشد ما ثارت ثائرته:
- وماذا لو قطعوا لي رأسي، يا سيدي المختار؟
والمختار يهمهم:
- أبعد الله عنك الشر.
- ستقول للناس عودوا إلى أعمالكم لأن الدجاجة الشهية من الضروري ذبحها والتهامها! أهذا ما ستقوله؟
والسمسار يضرب بيده على لا شيء:
- لا حول ولا قوة إلا بالله! أليس المختار موضع ثقتك، يا حاج عبد النبي؟ أتنكر العيش والملح اللذين تقاسمناهما؟ نحن أهلك، ولن يصيبك سوء طالما بقينا أحياء على وجه الأرض. زد على ذلك، أنت رجل الجميع، يا حاج عبد النبي.
قال القاضي من ورائهم:
- اتق الله، يا حاج عبد النبي، واترك الأمور تجري كما يشاء الله لها أن تجري.
قذف الحاج عبد النبي وسطه العلوي إلى الأمام:
- تركتها، يا سيدي القاضي، ولنرَ إلى أي مدى ستجري هذه الأمور التي لا يرضى الله عنها.
ثم نهض، وهو يرتعش، ويقول، وهو يشنج أصابعه في وجه المختار:
- هيا، يا موسى عبد الرحمن! شبنا ورأينا العجب، وسنرى عجب العجب! هيا بنا!
نهض موسى عبد الرحمن، وغادر معه المقهى. مسح المختار عرقه مطلقًا نفسًا مرتاحًا. قال القاضي:
- تأخرتم.
فنفخ السمسار:
- كان علينا أن نكلم الجميع.
- والنتيجة؟
أجاب المختار:
- حسنة إن شاء الله.
وصلتهم شتيمة، فالتفت ثلاثتهم: كان الأعور يصفق من جديد، والأشقراني يشتم، ويكفر. صاح القاضي مستنكرًا:
- أستغفر الله العظيم!
تابع السمسار، وهو يكاد ينقصف على نفسه:
- هذه هي شلة العاطلين عن العمل! رفضوا كل عرض مني، وفضلوا التلهي بالقمار والقذارة، شلة المصائب!
- شلة المصائب والهمل الذين لا يعرفون اسم الله! لعنهم الله أشد لعنة، وأهلكهم أقسى هلاك!
انبثق صوت شيخ الجامع من ورائهم، وهو يظهر بلحية تنام على صدره:
- سلم الله فمك، يا سيدي القاضي!
وجلس:
- إنهم كفرة قذرون لا يتقون شرًا ولا باطلاَ!
- لكل بلد بلاياها! وهؤلاء هم بلايانا!
في زاويته المنعزلة، وبعد أن جرع كأسه الرابعة، تمخط مصطفى الذبيح بجلبة، ومسح أنفه بطرف ردائه. سأل المختار:
- ما هي الأخبار؟
قال الشيخ:
- من عادتي أن أصرف الناس بعد الصلاة، لكنني اليوم ألقيت خطبة.
حطوا عليه نظرهم. علَّق الشيخ مسبحته حول ذراعه، وقال:
- ستعود الأمور إلى مجاريها، بإذن الله.
خرج لهم القهوجي كخروج الجن في ليل القرية:
- طلباتكم، يا سادة؟
طلبوا ثلاثة قهوة، وذاب القهوجي في الدخان.
بعد قليل، أتاهم صوت يعرفونه:
- السلام عليكم.
ردوا سويّاً:
- عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم أخذ كل منهم يحيى السيد لطفي على طريقته: قميص من الكتان مخطط فضفاض الذراعين، شروال قديم أسود تشده حطة حمراء تدور بخصره... إلى أن قال المختار:
- كبر شنبك، يا سيد لطفي!
جر السيد لطفي كرسيّاً، ورفع عنقه القصير، فبانت عيناه الصغيرتان ووجهه المدور وقامته القصيرة كالبطة السمينة.
رمى:
- من له شنب حتى ولو كان صغيرًا خير ممن لا شنب له!
والتفت إلى القاضي:
- وإلا ماذا، يا سيدي القاضي؟
- من له شنب فحل ابن فحل!
وأخذ القاضي يبرم شنبه. قال السيد لطفي، وهو يرمي إلى المناوشة:
- عين المختار فارغة، يا سيدي القاضي، أخذ مني المخترة، والآن يحسدني على شنبي!
قال السمسار، وقد أوكل نفسه بالدفاع عن مختار القرية:
- المختار كله خير وبركة!
- حاضر، يا سيدي السمسار، أنت أيضًا كلك خير وبركة، وكذلك سيدي القاضي وسيدي الشيخ، والناس كلهم، ولم أغلط طوال عمري على المختار، لكنه أخذ مني المخترة من أجل الزعامة! منذ صغره وهو يحب الزعامة!
رد المختار، وقد أغاظه:
- الزعامة للزعماء، يا سيد لطفي، يا ابن بهية الأميرة، وأنا كما تراني خادم الجميع لا زعيمهم. أما أنت...
- أما أنا ماذا؟ أعمل في الأرض ليل نهار، ومنذ يومين فقط أنهيت بناء السلسلة.
تابع المختار:
- أما أنت، فأنت تسعى إلى الذي تسعى إليه منذ سنين وسنين، والله أعلم بما يخفيه يعقوب في صدره!
- تقصد المخترة؟ لا، تركتها لك.
- تكذب، ومن ناحية أخرى، ليست المخترة وحدها التي تسعى إليها.
- ماذا إذن، يا سيدي المختار؟ أوضح. نسمعك على الأقل بما أننا لا نرى وجهك في عتمة هذا الجدث الأسود الذي تجلسون فيه!
زمَّ المختار شفتيه، وقال بحرد:
- أنت تسعى إلى الزواج من رقية.
جاء صوت القاضي بشيء من الضجيج:
- سيكون يوم المني، يا مختار، أن نفرح بالسيد لطفي بعد كل هذه السنين. لماذا أنت غاضب؟ أما أن يبقى عازبًا، وقد غزا الشيب رأسه، فهذا أمر لا يقبله كل عزيز.
صاح السيد لطفي، وقد ارتاح لكلام القاضي:
- الكل لا يقبل أمرًا كهذا عزيزًا كان أم غير عزيز ما عدا المختار.
ثم وضع يديه في خاصرتيه:
- قل لي إنك تريدها الآن! المخترة وأخذتها، أما رقية...
قاطعه:
- لا، يا حبيبي، اطمئن! سأترك رقية لك...
أضاف متململاً:
- هذا إذا ما قبلك أبوها طبعًا.
عصف:
- وماذا ينقصني، يا سيدي المختار؟ ألست رجلاً، وأرضي أغنى من أرض كل أجدادك؟ وزيادة على ذلك، سأغمرها حبّاً تلك المدللة؟
قال المختار ضائقًا:
- ليس هذا من شأني، ما أردت قوله إنك لو تزوجت في شبابك لكانت رقية اليوم بقدر بناتك!
كان السيد لطفي على وشك الانفجار، لكنه أسكته بحركة لامبالية من يده:
- المهم، هذا شأنك وشأن أبيها، في النهاية.
سأل السمسار ورأسه يترنح إلى اليمين وإلى الشمال:
- هل كلمت أباها؟
- سأذهب أنا وسيدي الشيخ غدًا إن شاء الله، تكون الأحوال قد تحسنت، والناس هدأت، أليس كذلك، يا سيدي الشيخ؟
- هو كذلك، وستسير الأمور بإذن الله على خير ما يرام، إذ ما حلمت رقية ولا أبو رقية برجل كريم الخصال مثلك، يا سيد لطفي.
وضع القهوجي طلباتهم، فناداه صاحب المقهى:
- يا أبا الملاك.
صاح القهوجي بمدة في صوته:
- حاضر، يا معلم.
وذهب بخفة إلى حيث يجلس صاحب المقهى، أسفل رفوف الفناجين والكؤوس وقوارير النارجيلة.
قال القاضي بحفاوة:
- إذن سنأكل الطبائخ والصفائح عمَّا قريب، يا سيد لطفي.
انشرح صدر السيد لطفي، وراح يقول، وهو يبتسم دون أن يصدق أذنه:
- وشتى أنواع الفطائر والقطائف والكنائف، يا سيدي القاضي، وعلى يديك إن شاء الله سيتم عقد القران.
هذا ما كان ينتظره القاضي، قال بصوته الرخيم:
- إن شاء الله، يا سيد لطفي... إن شاء الله!
ونهض.
- إلى أين، يا سيدي القاضي؟
- لم يزل الوقت باكرًا.
علَّق الخرطوم على يد النارجيلة، وجمع من حوله القفطان:
- ينتظرني الأولاد على العشاء.
قال السمسار:
- أنا أيضًا سأذهب.
شفط المختار ما تبقى من قهوته دفعة واحدة، ونهض هو الآخر:
- سأرافقكم حتى طلعة البئر، ومن هناك سأذهب إلى التل الشمالي لملاقاة البيك، الباشا يطلبه.
رنت كلمات السيد لطفي المتهمكة:
- أدامك الله للباشا، يا سيدي المختار، وأدام الباشا لك!
غمغموا جميعًا، والمختار بامتعاض يقول:
- سامحك الله، يا سيد لطفي!
* * *
في غيتو وارسو تحول اليهود إلى خيول والألمان إلى بنات آوى، كانت الخيول أكثر من حزينة وأكثر من تعبة وأكثر من ضعيفة، تمشي الهوينا، أو تنام على ظهرها، أو تحتضن بعضها، وتملأ الشوارع والأزقة والحارات، وكانت بنات آوى تسعى بينها، وعندما يحين موعد الصيد، تنقض على أحدها دون أن تطاردها، وتنزع بأسنانها لحمها، وتلتهمها. والخيول كانت تقطع الجسر الضيق المعلق في الهواء الرابط بين غيتو وارسو الصغير وغيتو وارسو الكبير رمى بعضها بنفسه من أجل الهرب، فنجح اثنان أو ثلاثة، وتحطمت قوائم اثنين أو ثلاثة، ومات اثنان أو ثلاثة. راحت الخيول الحرة تعدو في الشارع الطويل الذاهب إلى ما وراء الحرب، وهي تصهل، وقد استعادت قوتها وأملها، وعجزت بنات آوى عن اللحاق بها، فراحت تعوي على بعضها البعض، وتتصارع فيما بينها، فقتلت ما قتلت منها.
* * *
تقدمت مرجانة، وهي تحمل صينية من النحاس عليها إبريق القهوة النحاسي وفنجانين نحاسيين. دقت باب مكتب الباشا إبراهيم دقتين، ودخلت، وخفها يهمس على السجادة. كان الباشا إبراهيم يقول مخاطبا البيك سعد الله:
- هذا ما كنت أريد معرفته: وإذا ما ثار الريف، هل تستطيع أن تقول لي من سيكسب؟ ماذا سنكسب كلنا؟ سيأتي الإنجليز بسيوفهم وسنجاتهم ليذبحوا الجميع، بمعنى أن ندفع الثمن غاليًا جدًا: ستكون مجزرة، ومَنْ سيكون الضحايا؟ الفلاحون.
وضعت مرجانة الصينية على الطاولة القصيرة، وخرجت. قال البيك مقطبًا:
- الفلاحون ضحية الإنجليز سواء ثاروا أو لم يثوروا.
نفد صبر الباشا إبراهيم:
- إذن أنت مع المذبحة، يا بيك؟ مع التقتيل الجماعي؟ المستعمر لا يرحم أحدًا!
ثم تمالك نفسه:
- أبوك رحمه الله كان يفهمني تمام الفهم، وكان لي دومًا شرف الأخذ برأيه قبل كل قرار أتخذه. كان يقول لي، اعمل من أجل أن يستطيع الفلاحون أكل اللحم على العشاء. وأنا، طوال حياتي أعمل من أجل أن يستطيع الفلاحون أكل اللحم على العشاء. بنيت لهم مصنعًا، وحسنت أتاء الأراضي، والحال في تحسن مستمر.
نهض بتأنٍ، وتقدم خطوة:
- لهذا السبب عليك أن تطلب من رجالك العمل على عودة الأمور إلى مجاريها، هذا هو عين الصواب والصواب وحده، يا بيك.
صبَّ القهوة، وهو يقول:
- في عودة الأمور إلى مجاريها صالح وخير الجميع.
ظل البيك صامتًا مقطبًا في عباءة بيضاء من حرير، وحطة بيضاء من حرير، وعقال أسود من حرير. كان في الخامسة والثلاثين، ومسحة من النعيم ينضح بها وجهه:
- أنا لا أعدك بشيء طالما أنت لا تعمل على غسل الجريمة.
قدم الباشا فنجان القهوة إليه متجاهلاً قوله، وراح يمسح بيده على ياقة جاكيته الأسود دون أن يظهر ضيقه من حوار الطرشان ذاك. قال الباشا إبراهيم قبل أن يعود إلى مكانه، وبيده فنجان القهوة:
- سأعمل على غسل الجريمة، سأعمل على غسل كل أثر للجريمة. أهذا كل ما تريده؟
حافظ البيك على سكوته، فرشف الباشا قهوته، وأحنى رأسًا مثقلاً، ثم قال مركزًا على كلماته النطق:
- عدني بحلَّ الأمور ما بيننا، ولك ما شئت من مال ودعم.
ولأول مرة، نظر البيك في عيني الباشا، وقال:
- أنا لا أعدك بشيء.
أضاف بجفاف:
- رجالي صعاب المراس، همهم الوحيد هو غسل الجريمة والجريمة وحدها، وهم عنيدون لا يقنعون إلا بالفعل.
دفع الباشا إبراهيم فنجان القهوة على الطاولة، فكاد يسقطه، وراح ينبر مهتزّاً:
- الفعل! الفعل! فليفعلوا ما أرادوا مع الإنجليز إذا كان بإمكانهم. لكنني أقسم بشيب رأسي إنني لن أحرك ساكنًا إذا أنزل الإنجليز المذابح برجالك وبسبب رجالك!
هب البيك ناهضًا:
- أَعْتَبِرُ هذا تهديدًا!
أخذ الباشا يهدد بالفعل:
- أقول لك ولرجالك، افعلوا ما شاء لكم، أمَّا إذا ألحقتم برجالي وأملاكي الأذى شردتكم جميعًا، وجعلت بيني وبينكم نارًا تصل الأرض بالسماء.
عجل البيك خطاه، وخرج غاضبًا.
* * *
كان الحاخام يقف على عتبة الكنيس، ويخاطب العابرين:
- تعالوا إلى بيت يهوه! لطّفوا من كربكم بين يدي الرب!
مر الأصدقاء الأربعة أمامه، فراح يجذبهم من أذرعهم، وهو يردد جملتيه، والأصدقاء الأربعة يضحكون.
- هل تنتظرونني إذا ما ذهبت إلى الصلاة مدة عشر دقائق؟ سأل موزارسكي.
- ولا دقيقة واحدة، قال ماريك، نحن متأخرون جدًا عن موعدنا.
قال موزارسكي للحاخام:
- المرة القادمة، يا سيدي، فمعذرة!
والحاخام يواصل جذبه من ذراعه بقبضة قوية أوجعته إلى أن أمكنه التخلص منه. التفت موزارسكي إليه، وهو يحدجه، وقبل أن يغيب الأصدقاء الأربعة في زرقة المساء خف الحاخام إلى داخل الكنيس. كان المساء أزرق على غير عادته، والجو دافئًا، وكان زبائن خمارة الحمل الثمل يحملون كؤوس الجعة، ويقفون هنا وهناك على الرصيف.
في الداخل، لم تكن القاعة مليئة بالرواد كالمرة الماضية، ولم يكن النادل في مكانه المعتاد، كان ينتقل بين الطاولات، ويبتسم للزبائن. بحث ماريك عن آدم مردخاي بعينيه، وبصعوبة وجده يجلس وحده في زاوية شبه معتمة.
استقبلهم مردخاي استقبالاً لم يكن وديًا، ونبر في وجه ماريك:
- أنا بانتظارك أنت وموزارسكي فقط، يا ماريك!
امتعضت الفتاتان الشقراوان.
- نحن هنا لأننا نحب بولندا، همهمت ماريشيا.
- وأنا لا أحب أحدًا، رمى مردخاي بعصبية.
- هيا بنا، يا بولينا، قالت ماريشيا واقفة، لا مكان لنا حول هذه الطاولة.
شدها ماريك من يدها، وأجلسها، وهو يقول لمردخاي:
- إنهما على استعداد للقيام بكل شيء تريده، يا آدم مردخاي، فلماذا أنت كريه إلى هذه الدرجة؟
- أنا فخور بكوني كريهًا، رد مردخاي، هل أصبح كريهًا إذا كنت لا أثق بأحد، أريد القول بأحد لا أعرفه.
- ثق بهما، يا آدم مردخاي، تدخل موزارسكي، أنا أيضًا لا أعرفك، ومع ذلك، أنا أثق بك.
- ليس الأمر سيان، يا مويز موزارسكي، قال مردخاي.
- اسمع، يا مردخاي، قال ماريك، ماريشيا حبيبتي، وبولينا حبيبة موزارسكي، ونحن بعد القيام بمهمتنا سنتدبر أمر الهرب من هذا الجحيم لنتزوج بهما.
بقي مردخاي صامتًا، وهو ينظر إلى ماريشيا تارة، وإلى بولينا تارة، والنادل يضع على الطاولة كؤوس الجعة. وبعد ذلك، قال:
- ربما سيقام العرض الخاص بحراس جدار الغيتو الصغير وشرطته اليهود غدًا.
ابتسم ماريك:
- نحن جاهزون لكل شيء.
ابتسم موزارسكي:
- هذا المساء أو غدًا أو في أي وقت.
قبّل موزارسكي بولينا التي ابتسمت هي الأخرى فرحة، وكذلك فعل ماريك مع ماريشيا، وهو يهمس لها:
- سنتزوج قريبًا، يا حبيبتي.
نبر مردخاي مفزعهم:
- ليس قريبًا، يا ماريك! ليس قريبًا!
- ماذا؟
- ليس أمر تفجير الجدار لعبة أطفال!
قالت ماريشيا لماريك:
- صاحبك يظن أننا نجهل نتائج فعل جسيم كهذا.
نبر مردخاي من جديد:
- لن يكون تفجير الجدار الفعل الأخير أيًا كانت النتائج!
قالت بولينا لموزارسكي:
- آدم مردخاي يسعى إلى تأزيم الوضع، يا حبيبي!
- لا تخشي شيئًا، يا بولينا، أجاب موزارسكي، نحن سنتزوج على كل حال.
- نعم، يا ماريشيا، قال ماريك، نحن سنتزوج على كل حال.
- كيف تفكرون في الزواج وهذا وضعنا؟ رمى مردخاي.
إذا بماغدلينا تدخل، وتتجه إليهم بخطوة عجلى، ووجه عابس لم يعتد عدم الابتسام. أجلسوها بينهم، ولكنها لم تفه بكلمة. أخذ كل منهم جرعة من كأسه، وسأل مردخاي دون أن يحتمل الانتظار أكثر:
- قولي لنا، يا ماغدلينا أنييليفيتش.
- سيتم العرض الخاص غدًا، كشفت ماغدلينا.
نهض مردخاي دفعة واحدة، وأفضى:
- علينا أن ننظم أنفسنا حالاً، فلا وقت لدينا نضيعه. ستقضي بولينا وماريشيا هذه الليلة عندي، وماريك وموزارسكي عند أنييليفيتش، بانتطار الأوامر.
أخذ جرعة كبيرة من كأسه، وأشار إلى الفتاتين الشقراوين كي تتبعاه. قبّلت كل منهما صديقها قبلة خفيفة على ثغره، وسارتا من وراء مردخاي. وبينما هما في زقاق معتم لا أحد فيه، أخرج مردخاي مسدسًا من جيبه، وقتلهما.
* * *
أخذ المساء ينثر ألقه الأزرق في فضاء القرية، وعلا شدو العصافير، ثم خبا. طارت معًا، وهي تصفق أجنحتها بقوة، قبل أن تحط في الأعشاش. سقط إسماعيل في حفلة المساء صامتًا، وهو يقبض على الكلب من طوقه، فوقف إلى جانبه واجمًا دون حراك. وهم يأتون من بعيد، مر به بعض الفلاحين، وعلى أكتافهم فؤوسهم ومعاولهم، ورأى عرباتهم التي تجرها الحمير. انتشروا في الدروب الضيقة، وهم يعودون إلى بيوتهم. وانصرف العمال هم أيضًا من المصنع، فرأى كم هي خطواتهم متثاقلة. كان بإمكانه أن يفعل شيئًا، أن يلقي على أحدهم تحية المساء. كان بإمكانه أن يرمي أحد هؤلاء الفقراء بكلمة، تعوضه القليل، بعد شقاء نهار كامل. لكنه بقي يرقب من بعيد: هم على الدروب، وهو بين أغصان الشجر. ومن بعيد أيضًا، ترقرق الغدير، وهو يوشوش، على بطن الأرض. ولمعت البحيرة بما احتفظت من نور النهار، وما يذيبه أول الليل من فضة. انعكست على مرآتها شجرات الحور حيث يراق ليلك المساء، وتبتعد البجع في الماء... وتبتعد المواويل في الليل على إيقاع شبَّابة. انتهى أحد المواويل بنبرة حزن أمالت الشجر، كانت الأرض تتأوه، بينما الخطوات تجر الخطوات، والآذان الصابرة تصغي:

وتربتي الحمرا ناطر
طوال الليل ناطر
عيون الليل
يا عيون حبيبي!

ضربت الأجنحة صفحة الماء، فأضاءت الموجات، وسقطت القرية في الصمت بعد أن أوت الطيور، ودخل الفلاحون بيوتهم، إلا من تعكير البجع البيضاء وكلمات الموال: يا عيون حبيبي!
همهم إسحق: يا عيون حبيبي! وتأوه طويلاً. كان يجلس على الأرض، ويقتلع كتلاً منها يضغطها بقوة، فيتدفق التراب بين أصابعه. ويبتعد الموال مع سريان الماء، تذوب نغمات الصوت العذب، ويبدأ ليل القرية الحقيقي. الهدوء شامل. القرية معبد. قلب إسحق الخافق كصلاة. لم تغادر عيناه المنحدر، فلم تعد رقية إلى الدار! كان يرقب عودتها بحزن لكنه كان يحتفظ بأمل العاشق. ومع ذلك، كان لديه إحساس بالاطمئنان، وهي تدغدغه أنسام المساء، فيملأ صدره بالهواء النقي. كانت رقية هذا النقاء، وميلادها كان قرب جدول لا تلوثه رياح الجنوب. هكذا كان يعرف رقية، وهكذا كان يفهمها.
فجأة، تذكر جفاءها، ففزع على فكرة أن يتمكن أحد من خداعها. تذكر مزرعة الخواجا، وما فيها من وجوه غريبة. وتذكر أيضًا كيف تبدلت رقية بعد عدة أيام من عملها في المزرعة.
غضب إسحق، واشتعل الدم في صدغه حتى غدا كالجمر. ثم أطلق نفسًا، وهو يطرد أفكاره السوداء. سيبقى أمله برقية أمله بالمطر. رفع رأسه إلى السماء، فرأى الغمام، وهو يزلق، ويتمدد بطيئًا خفيفًا كأنامل رقية على عنقه. دنّ حالمًا:

حبيبي زرعنا الأرض
بكرة الثمر طالع
حبيبي روانا النبع
حبيبي في الفلا ضايع

إلى حد أن انجرح حلقه. كان يفزعه أن يضيع رقية. يقطع ذراعه على أن يضيعها. يعطي عينيه، ولو طلبوا منه حصانه أيضًا، ومحصول فصل. عاوده حديث خالة ميريام، فاطمأن، وهو يفكر أنها مع باقي النساء في بيت أبي سِنَّه، للتخفيف عن زوجه وأولاده.
تذكر أبا سِنَّه بوشاحه الأسود ومرتينته القوية. آخر مرة جاء عنده في الليل، وهو يلف وجهه بوشاح أسود، ويحمل مرتينته على كتفه، طلب منه أن ينادي الأسطى حسن، لثقته به، ولأنه لا يستطيع دخول القرية بالسلاح. كان إسحق يعرف أن أبا سِنَّه من الثوار، ولو كانت له زوجة مثله وأولاد لترك لعنايتهم الأرض، وذهب إلى الجبال ليقاتل: هكذا كان يعتقد إسحق. أذعن إسحق لمطلبه، وجرى في الليل ليعود بالأسطى، وقلبه يخفق بعنف. في تلك الليلة، تحدث أبو سِنَّه عن الثورة والثوار، وابتسامته تسطع على شفتيه. كان يأمل كثيرًا بطرد الإنجليز، حتى أنه تحدَّث عن الغرباء من مستوطني اليهود الذين بدأوا يطمعون بالبلاد، وعن الخونة. أكد للأسطى حسن أنه خير من يكون مأمور اتصال في القرية، أعطاه بعض المعلومات المكتوبة، وطلب إليه أن يتصل بالفلاحين، ويوسع نشاطه بينهم. ثم توشَّح من جديد، وهو يقبض على بندقيته بقوة كبيرة، واختفى في ليل الحقول. كان ذلك منذ شهرين، ومنذ شهرين وإسحق يعمل مع الأسطى.
خطوات... التفت، فرأى عواد، وهو يخرج من الليل، بخطواته البطيئة، ويديه المندستين في جيبي بنطاله. عندما توقف قربه، انطفأ الضوء في دار مأمور المخفر. بقي ضوء خافت يتسلل من دار رقية، وهو يتذبذب باستمرار.
- لا يأتيك النوم؟
قال عواد:
- لا يأتيني النوم.
أخذ مجلسًا على الأرض، وهو يبسط ساقًا، ويرفع أخرى، معتمدًا على كوعه الأيسر. بقي كلاهما صامتًا. كان عواد يحدق في الظلام، وإسحق يحدق في المنحدر. كانت تشغل إسحق عودة رقية، دون أن يضيقه وجود عواد: كان يحب عواد، ويطمئن إليه. ثم سمع تأوهته الطويلة، انتظر أن يتكلم، لكنه بقي يحدق في الليل، وعيناه تذوبان ببطء، كالضوء الآتي من دار رقية. رمى شقوق الحرث التي في ذقنه وعنقه بنظرة، وأراد أن يقول له شيئًا، إلا أنه سمعه يهمهم:
- بدأ الليل يبرد.
اعتدل في جلسته، والتف بدثارته الخشنة، ثم تثاءب:
- هل تنتظر أحدًا؟
أجاب إسحق دون تردد:
- لا.
- ما رأيك في كأس شاي؟
ابتسم إسحق، وعواد يلح:
- كأس شاي ساخن عندي.
- ليس الآن، يا عواد.
رمي عواد نافذة رقية بنظرة، ثم استدار ناحية البحيرة التي تلمع في الليل.
قال إسحق:
- عاد معظم الناس إلى أعمالهم رغم الإضراب.
لم يعلق عواد، وبقي ينظر إلى الماء الساكن. ثم زلق يده في الأرض، وراح يداعبها بنعومة، والأرض تنبض بقوة. ودون أن يرفع عينيه، ناداه:
- يا إسحق.
- نعم، يا عواد.
سأل عواد بكل بساطة:
- هل عادت رقية؟
تفاجأ إسحق، فتحرك، ولم ينطق بكلمة. انطفأ الضوء في دارها، وبقي يتلاعب بالليل الذي حولهما اللمعان الناجم عن مرايا الماء. عاد عواد يسأل بشيء من الإلحاح:
- منذ متى وأنت بانتظارها؟
همهم إسحق على الرغم منه:
- منذ غروب الشمس.
انفرجت شفتا عواد، وهام بينهما خيال طفيف. قال بهيئة غائبة:
- وأنا في مثل عمرك أحببت رقية حتى الجنون، ولم يأخذها أحد مني.
علا صوت إسحق محتجّاً:
- لن يأخذ رقية مني أحد، يا عواد!
بقي عواد هادئًا:
- كانت تعود إلى دارها مع المغرب ككل الفلاحين.
ثم تخدر تمامًا:
- في النهار، طوال النهار، كنَّا نعمل في الأرض. هذه الأرض ذاتها التي نقعد في حضنها الآن أنا وأنت، يا إسحق. كنَّا نعمل فيها جميعًا، أنا ورقية وأمي وأبي وكل الفلاحين، من الفجرية حتى المغربية. نلقمها البذار، وتلقمنا الثمر. نسقيها عرقنا، وتسقينا الماء الحلو. تعيش من سواعدنا، ونعيش من دمها. نتنفس أنفاسها، وتتنفس أنفاسنا. يكبر حبنا لها، ويكبر حبها لنا. كبرنا، وشخنا، وما زالت قوية وصبية. أعطيناها لأبنائنا، مثلما أعطانا إياها آباؤنا، ومثلما أعطاها لآبائنا أجدادنا منذ زمن طويل، منذ أول يوم طلعت فيه الشمس.
رفع كتلة تراب بين أصابعه الراجفة، وقال محبورًا:
- هذه الأرض شرفنا وقدرنا وكرامتنا وكل شيء... إنها نحن.
ضم كتلة التراب إلى صدره بقوة، وبقي يقول:
- وقفت إلى جانبنا وقت المصاعب. مرت بنا مصاعب ومصائب: أيام الأتراك وأيام الإنجليز، فوقفت الأرض إلى جانبنا. أطعمتنا الخبز والبصل الأخضر، لأنها تعرف أننا نحبها، وأننا نفديها بالغالي. ولولا عطاء الأرض وصبر الفلاح، لما كان بإمكاننا الوقوف رجالاً نرد عنها وعنا المصائب. كانت الأرض تعطي، دومًا تعطي، رغم الإضرابات والحجز والقلع والقمع وكرباج الطاغي. وبقيت تعطي للأيدي التي تعطيها، والتي ترعاها، طوال الوقت.
أنام كتلة التراب برفق، وراح يمسح عليها براحته الدافئة:
- بالأمس كانت أرضنا، واليوم هي أرضنا...
ملأ برحيق الأرض رئتيه:
- وغدا ستبقى أرضنا.
رفع رأسًا شابًا شامخًا، وهو يرتعش:
- أرضنا تعرفني، يا إسحق، تعرف خطواتي.
وتضرم:
- أرضنا طيبة، يا إسحق!
ثم تهدل بالشيخوخة، وراح يتحدث عن بقراته وأعوان الباشا إبراهيم الذين يهددونه دومًا بأخذها:
- مجنون الباشا، وكل أعوانه مجانين! كيف سمحوا لأنفسهم التفكير في شيء كهذا؟ كبرت أنا و(( المحروسة )) معًا، أرضعتني من ثديها كابنتها (( خرزة ))، وحرثت معي الأرض. أنا لا أفهم! هل يمكنك أن تفهم، أنت، يا إسحق؟ سيأخذون مني المحروسة وخرزة وفضيلة، ليتركوني دون أهل. إنهم مجانين تمامًا! أما أن أبيع الأرض، فهو الكفر والعته وأيام آخر زمن! وعلى أي حال، أرض السماء أقرب لهم من أرضي!
أخذ يرتجف كالطائر الهزيل، وكل جزء من جسمه الناتئ العظام يرتعد. أطبق على فمه السكوت، وبقي صامتًا. مضي وقت، وهما يمعنان النظر في الليل والسكون والمنحدر الذي يرتفع كالسيل حتى عتبة دار رقية.
أطلق عواد تأوهة، ووقف خائرًا، ثم سار خطوتين، والتفت إلى إسحق:
- ألا تريد أن تشرب كأس شاي معي؟
- سألحق بك بعد قليل.
زحف حتى الزريبة، وألقى نظرة على بقراته. دفع الحاجز، ودخل ليراها: كانت البقرات لا تنام! لفَّ عنق بقرته العجوز بذراعه، وأخذ يبادلها النظر، وهي ساكنة، وادعة، طيبة كذراع عواد. مسح بيده على بطن الصغرى، ووقف متلفتًا حوله. وقع على الكبرى في ركن بعيد وراء كومة من القش، وبعد أن اطمأن عليها، عاد إلى كوخه.
شبح في الطريق الترابي!
هب إسحق ناهضًا، ثم، تراخى. لم يكن شبح امرأة. صعد الشبح المنحدر إلى منتصفه ثم أخذ طريقًا آخر. على بعد مترين من هناك، تبين إسحق في الشبح الأسطى حسن.
- لم أر ضوءًا في بيتك، وكنت على وشك العودة. ماذا تفعل وحدك في الليل؟
- كنت متوقعًا قدومك.
- أردت أن آتيك بعد انصرافي من المصنع مباشرة، لكنني فضلت هبوط الظلام.
* * *
ادعى آدم مردخاي أن رجال الإس إس هم الذين قتلوا ماريشيا وبولينيا، وأنهما لو استمعتا إليه، لكانت نجاتهما أكيدة. بكى الصديقان، وماغدلينا تنظر إلى مردخاي بعينين غير مصدقتين وسحنة عابسة. كانت لا تريد الشك في الشاعر الشهير ورجل المسرح المحنك، وكانت تكره كل من يشك لأجل الكريه عطيل وما فعل الشك فيه حتى غدا قدر ديدمونة. لكنها لم تشأ ارتداء قناع المرأة المعذبة، عادت تنظر إلى مردخاي بعينين غير مصدقتين، بعينين متهمتين هذه المرة، فقال آدم مردخاي:
- لم أهرب، أقسم لك، يا ماغدلينا!
همهمت ماغدلينا:
- أعرف أنك لم تهرب.
- لو كنا معًا لتمكنا من مواجهة رهط الذئاب.
قامت ماغدلينا، واحتضنته، وهي تهمهم:
- لا بأس، يا صديقي! يا للسعادة أنك بقيت لي، يا لرضى السماء أنك عدت سالمًا إلى ذئبتك!
ترك نفسه تذهب بين ذراعيها، لكنها عضته من أذنه مسيلة منها الدم، فصرخ، وهو يدفعها بعيدًا عنه، والدم يلوثه:
- ماذا فعلت، أيتها المجنونة!
راحت ماغدلينا تقهقه بعصبية، فأخذها ماريك وموزارسكي بين ذراعيهما إلى أن هدأت، ثم حملاها إلى السرير، عرياها، وتعريا، وعمل ثلاثتهم الحب، ومردخاي يكاد يموت من القهر.
* * *
صبَّ إسحق شايًا أسود في كأس قدمها للأسطى، انتظر قليلاً، ثم سأل:
- ماذا سنفعل؟
أجاب الأسطى حسن:
- الصبر.
جلس إسحق نافدًا صبره، وراح يحرك كأسه بعصبية. أضاف الأسطى حسن:
- إلى جانب العمل بين صفوف الفلاحين.
رمى الملعقة على الطاولة، وكمن ساكنًا دون أن يبارحه الارتباك.
- كان بإمكان الباشا أن يأتي بغيرنا كما قال، وكان بإمكانه أيضًا أن يقفل المصنع شهرًا شهرين ثلاثة حتى يرضخ الجميع. كانت لهجته مهددة وقاطعة!
هب إسحق صائحًا:
- الباشا! الباشا! دعني أقتل الباشا، فأريحكم منه ومن شره! سأقتل الخواجا أيضًا ومستر كلارك!
بقي الأسطى حسن صامتًا، لف سيجارة، لحسها، ثم حملها إلى شفتيه. استمع إلى إسحق، وهو يحتج:
- كان بإمكان العمال أن يفعلوا شيئًا على أي حال، ولولا تدخلك لما عادوا إلى ماكينات النول.
أشعل الأسطى حسن السيجارة، ونفث الدخان من أنفه، فعمل سحابة ارتفعت حتى المصباح. أنار الضوء وجه الأسطى الممتلئ الأحمر، فظهر مهيبًا رغم الشعاع الضعيف.
- أليس كذلك؟
قال الأسطى حسن بتمهل:
- بتدخلي أو بدون تدخلي كان العمال سيعودون إلى العمل. للباشا سلطته التقليدية التي تنحني لها رقاب الجميع، والعمال يخشونه.
شفط إسحق الشاي، وهو يحدث ضجيجًا، والأسطى لم يزل يقول:
- إن مقتل أبى سِنَّه وأبى الغزال لا يهمهم الشيء الكثير في النهاية، وهم يفكرون في معدات أطفالهم الذين يطلبون القوت، رغم قلته، والذين ينامون على الضوى. هذا سبب آخر.
سحب نفسًا من سيجارته، وقال:
- يجب أن نتساءل ما هي مصلحة العمال في كل هذا؟
رفع إسحق حاجبيه دهشة:
- أتقول لي هذا؟ أتقول لي هذا، أنت؟
أخذ الأسطى من كأسه عدة رشفات صغيرة:
- نعم أنا من يقول هذا لك، وأعني تماما ما أقول: ما هي مصلحة العمال في كل هذا؟ إذا أضرب العمال، فالغاية ليست هي الإضراب، وإنما ما يمكن لهم أن يجنوه في المقابل.
توتر إسحق:
- أتقول لي هذا، وأنت تقضي معهم من الوقت أكثر مما تقضيه مع نفسه!
- تمهل، يا إسحق!
لكن إسحق صاح:
- أنا لا أفهم شيئًا.
ثم أطبق فمه.
انحنى الآخر بكل ثقله، واقترب منه بحاجبيه الكثين ما وسعه الاقتراب:
- افهمني، يا إسحق، النشاط له أهميته الأولى والكبيرة، وأذكّرك أنني لست وحدي الذي ينشط في المصنع، نحن ثلاثة. ولكن مع أبي داود وسمعان وزغلول والعم بطرس وعبد الله الصغير، مع جيل كامل من عبيد الباشا والعهد التركي، ماذا بإمكاننا أن نفعل نحن الثلاثة؟ إلى جانب أننا لم نبدأ نشاطنا إلا منذ وقت قصير... مجرد أن يجمع العمال على عمل الإضراب، لا أن يضربوا كما حصل، بغض النظر عن استمرار الإضراب أو عدمه، بغض النظر عن المندسين وأهدافهم، مجرد أن تسود فكرة الإضراب لدى العمال مكسب يجب ألا يستهان به.
اعتدل في جلسته، وأضاف:
- لهذا أصر هنا على مصلحة العمال في كل هذا، مصلحة القرية والناس كلهم؟ وأنا أقول لك، إذا طلبنا إليهم أن يضربوا، فمن الواجب أن نعطيهم شيئًا بالمقابل. ليس طعامًا أو مالاً، فجميعنا فقراء، أحدنا لا يمكنه أن يقيت نفسه، وإنما أن نصل بهم إلى إمكانية تحطيم أسطورة الباشا إبراهيم وإزالة عبئه الثقيل عن الرقاب، وأن نبث في صدورهم الثقة بإمكانية دحر الإنجليز.
هل فهمت؟
لهذا أيضًا، علينا أن نتساءل ماذا قدمت للقروي الفقير بندقية أبي سِنَّه وأبي الغزال؟ ستقول لي ربما الشرف والكرامة والعزة والفداء والوطنية والموت من أجل التراب وحرية الوطن والجميع. هذا صحيح. إلا أن القروي الفقير لا يفكر في هذا وحده، إنه يفكر في هذا وفي الخبز وفي أن يدفأ في الليل في نفس الوقت. ولكي ندفعه إلى حمل البندقية من أجل الخبز والحرية، علينا المرور بمراحل طويلة من النضال اليومي الشاق والمرير ضد الباشا والإنجليز، وأن نحرز انتصارات. نعم، أؤكد على كلمة انتصارات. عبر هذا الطريق، وعبر هذا الطريق فقط، ستتحقق الثورة الشاملة والكاملة على كامل ترابنا، من القدس حتى أقاصي الجليل.
كان إسحق يصغى باهتمام، كان يريد أن يتعلم عن الأسطى أشياء كثيرة.
- النضال ضد الباشا يبدأ هكذا، يجب علينا أن ندغدغ أحلام عمال المصنع وعمال الأرض بإعطائهم إمكانية تحسين شروطهم المعيشية برفع الأجور وتخفيض ساعات العمل. القروي لا يفهمك إلا عبر مصلحته، هكذا هو يفهمك في البداية، القروي، ويكتشف بعد ذلك معنى الاستغلال. وفوق ذلك، لكي نشرّع مطالبه، ونزيد ثقته بالبندقية، يجب أن نتحين الفرص لضرب الباشا في العمق. هكذا سنساهم في تحطيم أسطورته وسلطته المورثة. وفي الوقت نفسه علينا أن نبرز فعل البندقية في قوى الاحتلال، ليجد خبزه وحريته.
داوم إسحق على شفط كأسه، فسأله الأسطى حسن:
- هل فهمت الآن؟
حمل الأسطى الكأس، وأخذ جرعة. قال إسحق:
- إن ما يقلقني في كل هذا أمر الخواجا. أنت لم تضعه في حسابك! من أين يأتي بالأموال؟ اشترى بعض الأيدي، وبعض الأراضي، وجلب الكثير من الوجوه الغريبة. المستعمرة اليهودية التي ليست بعيدة عن أراضينا لهم. إن نفوذه يمتد ويتسع يومًا عن يوم.
ونبر إسحق:
- دعني أقتله!
سحب الأسطى آخر أنفاس السيجارة، وقال بهدوء:
- إياك والتهور! كل شيء وله وقته. عمل كهذا ستكون له ردود فعل كثيرة وجسيمة، ولن تضمن وقوف الناس إلى جانبك بقوة ماسورة البندقية. لا تفكر الآن إلا في العمل بين صفوف القرويين. أنت لست غبيّاً، يا إسحق! قالها لك المهندس صبحي قبل أن يطرده الباشا من المصنع. وها أنا أقولها لك: أنت لست غبيّاً، يا إسحق! فتح المهندس صبحي عيوننا لنرى أشياء كثيرة، فقد كان نصير الكادحين، إلى جانب أننا قرأنا أنا وأنت معًا ما تيسر لنا أن نقرأ ونحن صغار، فاستطعنا أن نفهم كثيرًا من الأمور، ولو ساعدتنا الظروف لأتممنا الدراسة، وكنَّا شيئًا آخر ينفع القرية أكثر مما ينفعها اليوم، بينما معظم أهالي القرية إن لم يكن كلهم، جهلة وأميون. لهذا إياك والتهور، إياك والتصرف بغباء، كن صبورًا، واتبع ما أقوله لك.
أنهى الأسطى حسن كأس الشاي، ووقف:
- سأذهب إلى لقاء ابن السيد، إنه عنصر جيد، وهو يفهمني أكثر من أي واحد آخر بين العمال. بقي مستمرًا في الإضراب، ولم يعد إلى الشغل هو وأولاد عوض والحاج عبد النبي. ابن السيد عن إخلاص وشجاعة، أما الآخرون، فأنا أشك في وفائهم.
* * *
لم يقدر آدم مردخاي على النوم، وهو يرتعد خوفًا، ويرشح عرقًا. لم يكن خائفًا من أن يُكتشف أمر قتله للفتاتين الشقراوين ماريشيا وبولينا بسبب شك ماغدلينا فيه، لكنه كان مرتاعًا على فكرة أن ماغدلينا متأكدة من قتله لهما، وأنها على الرغم من ذلك، لن تبوح بما هي متأكدة منه لأحد. كان من عادته أن يواجه كل خطر محدق به مذنبًا كان أم غير مذنب، متهمًا كان أم غير متهم، أما أن يبقى من التهمة متفرجًا، وهو يعلم تمام العلم أنه مذنب، فقد كان ذلك بالنسبة له شيئًا غير محتمل، شيئًا يقض مضجعه، ويعذب ضميره. كان حاله من حال ماكبث الذي لا يتعذب لقتله وإنما لخوفه من فقدان التاج الذي قتل من أجله. راح يهلوس على قهقهات شبحي بولينا وماريشيا، وكان من الرضوخ لسطوة الشبحين عليه بحيث قام شبحه بأمرهما، في العالم الما ورائي، وجاء بشبح ماغدلينا، وقتلها هي أيضًا في ثوب شبحها. وعلى منظر نهر الدم الميتافيزيقي الذي راح يجرف الوجود في الزمن القادم، راحت الفتاتان الشقراوان تقهقهان أعلى ما يمكنهما القهقهة، فلم يحتمل آدم أكثر مما احتمل. طرد شبحيهما عنه بعيدًا، وأخذ يصرخ، ويلهث، وينادي على ماغدلينا، فلم تأته ماغدلينا. اخترق حجرة نومها كمن أصابه مس، لم يكن ماريك وموزارسكي هناك، كانا قد ذهبا بحثًا عن جثتي حبيبتيهما، فأيقظها، وهي تصده صدًا عنيفًا، لكنه اغتصبها.
* * *
سعل الحاج عبد النبي بشدة، ودخان النارجيلة ينتشر في أجواء الحجرة. انحنى، واستغفر، ليخفف من ألمه:
- أستغفر الله العظيم! اللهم رحمتك، لا إله إلا أنت!
وعند ذلك، توقف عن السعال.
استدار بوجهه إلى الحاضرين: كانوا يجلسون على مطارح من القطن دارت بالجدران الأربعة، وغطَّت أرض الحجرة سجادة عجمية في وسطها صينية كبيرة من النحاس فوق كرسي قصير، عليها إبريق القهوة والفناجين، وجاط مليء بالفواكه. وكان في الحجرة: البيك، أولاد عوض الأربعة - العمال الثلاثة وأكبرهم صاحب المزرعة - وموسى عبد الرحمن، والهيثم، أقرب الناس إلى البيك. كانوا كلهم يمصون خرطوم النارجيلة، بساق مبسوطة، وأخرى مرفوعة، أما نارجيلة البيك، فقد تميزت بضخامة قارورتها وعلوها.
علت سحابات الدخان بطيئة، فقال الحاج عبد النبي:
- نفذنا تعاليمك يا بيك بالواحد، وجرت الأمور في البداية كما كان متوقعًا: خرجنا إلى الساحة، وأعلنا الإضراب، حتى أن البعض هتف بموت الإنجليز. جاء الباشا إبراهيم، وتبدل كل شيء. إنه يرعب الجميع! ومع ذلك، طلبنا إلى العمال، أنا وأولاد عوض، أن يتماسكوا، وتماسكوا، لولا ذلك الخبيث، لعنه الله شر لعنة، الذي اسمه الأسطى حسن... أسطى من أين؟ ومعلم علينا منذ متى؟ كيف أمكنه أن يصبح أسطى المصنع، وهو لم ير خيْطا في حياته؟ أمه طوال عمرها، وهي تجمع الطين. وأبوه مات، وهو يحلم بالفقيه الذي كان يريد أن يكونه لأنه تعلم كيف يتلو القرآن على شيخ جاهل في الحرم الشريف، دون أن يميز ديمايته، أمصنوعة هي من القطن أم من الصوف! للصنعة أربابها، ونحن أربابها، أبًا عن جد نحن أربابها! في بيتنا نول ويد تغزل عليه ليل نهار. أمي وزوجتي وبناتي يعملن على النول ليل نهار: سجاجيد وحرامات وشراشف. أنا هو ابن الصنعة، يا بيك! ومع ذلك، جاءنا الباشا إبراهيم بأسطى خبيث لا يفهم في النسيج بقدر ما يفهم إصبع قدمي الصغير... حاشا السامعين! والسبب بسيط، لأنه يخشاه، ويعمل لمنفعته.
سحب نفسًا من نارجليته، فخرت معها نارجيلتان أو ثلاث:
- هذا الخبيث الذي اسمه الأسطى حسن، أوهم العمال بألا فائدة من الإضراب، بعد أن أبلغهم تهديدات الباشا إبراهيم بقطع أرزاقهم. والحق يقال إن البعض قد جفل للخبر. تصايحنا، وتناطحنا، ومن لنا به ثقة همسنا في أذنه أن البيك نصيرنا، فلا خوف ولا من يعلمون، ولكن دون أية فائدة. قتله الله ما أخبثه! بدد كل مجهوداتنا سدى، وأضاع علينا فرصة لن تعوض. قلنا لهم إن الباشا يتآمر مع الإنجليز، وهو الذي أخبر عن أبي سِنَّه وأبي الغزال، ورغم أن البعض انسحب دون أن يعلق بكلمة، والبعض الآخر ركبه الخوف، إلا أن العمال كانوا على استعداد لتحطيم كل شيء.
سحب نفسًا من نارجيلته، فتجوف خداه:
- هذه هي الحكاية، يا سيدي البيك، وأولاد عوض عليّ شواهد. أليس ما أقوله صحيحًا؟
هزَّ ثلاثة من أولاد عوض رؤوسهم هزة واحدة، وبقي الرابع يفض شفتيه ببلاهة. كان أربعتهم من الشبه بحيث يظنهم الرائي، لولا اختلاف أعمارهم، شخصًا واحدًا: قصار، سمان، رؤوسهم مكورة، وأكتافهم مربعة، وشعورهم كثة، وشاربهم مغولي دقيق.
بقي البيك صامتًا، يسحب دخان نارجيلته على مهل، وهي تحدث هديرًا مستديمًا. أزعج الحاج عبد النبي صمته، فعلًّق الخرطوم على ذراع النارجيلة، وبدا حائرًا. التفت إلى صاحبه موسى عبد الرحمن، كمن يطلب نجدته، لكنه كان يمتص الدخان من خرطومه ساهيًا. تنحنح الحاج عبد النبي قبل أن يضرب كفًّاً بكف مطلقًا الأيمان المغلظة:
- أقسم بالرب الأعلى الذي لا يعلو عليه عال، رب الجن والملائكة، أن الأسطى خبيث، والمختار أخبث (دفع موسى عبد الرحمن من كتفه منبهًا؛ مما جعله يقفز في جلسته)، والسمسار كذلك، والقاضي الذي طرده سيدنا المفتي بنفسه من مجلس القضاة، وجاء عندنا ليعمل قاضيًا مهابًا علينا! أقسم بالرب الأعلى الذي لا يعلو عليه عال، أنهم خبثاء كلهم، وهم مماسح لكندرة الباشا إبراهيم لعنه الله شر لعنة اللهم آمين، أليس كذلك يا سيد موسى؟ (دفعه من كتفه دفعة أقوى، مما جعله يوافق: أي نعم! أي والله!) وهذا هو شاهدي اليوم في المقهى (أشار إلى موسى عبد الرحمن الذي أخذه العجب والفزع)، عندما جاء المختار ومعه السمسار، هذان الأكتعان، وألقيا على الناس خطبة، يا سيدي البيك، وأية خطبة! قال المختار لهم اذهبوا إلى أعمالكم، ودعوا السياسة لأصحابها. ومن هم أصحابها بالله عليك؟ الباشا إبراهيم اللعين وزبانيته أمثال المختار وغير المختار! هببتُ به صائحًا، وهذا هو شاهدي (دفع إصبعه في وجه موسى عبد الرحمن الباهت)، وقلت له الدم، لن يغسل دم أبي سِنَّه وأبي الغزال، أكثرنا طهرًا، إلا الدم، وليس الساسة وأصحاب السياسة! فتدخل القاضي بعمامته التي الله يعلم من أين سرقها، وأوقفوني بالقوة بين ضجيج الناس. أليس كذلك، يا سيد موسى؟
أعاد موسى عبد الرحمن بصوت محتقن:
- أي نعم! أي والله!
- أي نعم! أي والله! ثم تركنا لهم مقهى بنات وردان، وخرجنا ونحن نشتمهم!
حرَّك رأسه يمنة ويسرة وتعابيره تنطق بالاحتقار:
- ذلك المختار أخبثهم! وكيف أتته المخترة حتى قدميه؟!
فغر فمه عن ابتسامة مائعة:
- كلنا نعرف، يا بيك. إصبع قدمي الصغير، حاشا السامعين، يفهم أكثر من أبيه وأبي أبيه! ولو أردت المخترة على طريقته لأخذتها من زمان، لكنني صادق أحب الصدق، أكره الزلفى، ومسح الجوخ، ولحس الكنادر! يا للعار! مثل هذه قرية بحاجة إلى مثل هذا مختار! (وبصق) أخ، تفووووه! متذبذب! دجال! مخادع! لعنه الله شر لعنة!
كان أولاد عوض هياكل من خشب، والهيثم صامتًا، والبيك يسحب الدخان، وهو يفكر في شيء آخر، وموسى عبد الرحمن باهتًا... باهتًا. عادت الحيرة تنهش قلب الحاج عبد النبي، ونطق وجهه بالضيق:
- هذه هي كل الحكاية، يا بيك.
زم البيك عينيه بسبب الدخان، وقال:
- اذهب إلى عملك غدًا، يا حاج عبد النبي.
راحت السكرة وجاءت الفكرة!
- ماذا؟!
- اذهب غدًا إلى عملك...
أضاف برخاوة:
- كالعادة.
أراد الآخر أن يقول رأيًا معاكسًا، لكنه أمره:
- شمشم جيدًا، ولا تترك العمال وحدهم بين أصابع الأسطى.
تقصف عنق الحاج النحيف، وأراد أن يتكلم، لكنه منعه:
- اسمعني جيدًا، يا حاج عبد النبي. اذهب غدًا إلى عملك، ولا تدع لغيرك فرصة التلاعب بالعمال على هواه.
ركَّز عليه عينيه، وجاء صوته الرنان، الطافح بالوعود:
- ستصبح أسطى، يا حاج عبد النبي، عمَّا قريب.
رسم على شفتيه ابتسامة مقصودة، ثم نظر إلى أولاد عوض:
- أما أولاد عوض الثلاثة، فإياهم أن يذهبوا إلى المصنع! وإذا سمعت أن قدم أحدهم وطئت عتبته قطعتها! اقعدوا في مزرعة أخيكم الأكبر.
ارتج الأخ الرابع كالطبل.
- ناموا، وارتاحوا، ولا تفعلوا شيئًا. ستصلكم أجوركم كل يوم، وأنتم في أتم راحة. هذا كل ما هنالك، هيّا، دعوني وحدي الآن.
نهضوا جميعًا، وراحوا ينحنون: قبّل كل منهم يده، وأدناها من جبهته.
لم يتحرك الهيثم، عندما انغلق الباب، نظر إلى البيك، وابتسم.
قال البيك:
- لا أحب الثرثارين.
- ولا أنا.
سحب من نارجيلته نفسًا مديدًا قبل أن يضيف:
- الحاج عبد النبي ثرثار، لكنه ثرثار نافع!
قهقه الهيثم حتى سمع البيك يقول:
- سيجن جنون الباشا عندما يعلم أن أولاد عوض لم يعودوا إلى العمل.
التمعت عينا الهيثم الخبيثتان:
- سيرسل تهديداته بالمجان.
ابتسم البيك:
- وماذا سنفعل بها؟
- سنبيعها بثمن باهظ.
ابتهج البيك:
- بدأت تفهمني.
قهقه الهيثم من جديد، وقال:
- أنت فرعون، وأنا...
أوقف قهقهته، فعم الصمت. غضن البيك جبهته، فسأله:
- ماذا هناك، يا بيك؟
- سيهدد الباشا أول وثانيًا ثم ثالثًا... دون أية فائدة. إن أولاد عوض هم أولادي، هل تفهم؟
سكت قليلاً، وهو يستطلع الأحداث، ثم عاد إلى الكلام:
- هم أولادي.
انتظر قليلاً قبل أن يضيف:
- وبعد أن يعلم الجميع بأمر التهديدات...
نشق، فأخذ الهيثم الكلام: ستقتل واحدًا من أولادك.
قال الآخر بسرعة:
- ستتكلف بالأمر.
أضاف بسرعة:
- أوكل إليك الأمر.
رفع الهيثم حاجبيه بلا دهشة، ثم خفضهما.
قال البيك:
- أما الباقي، فدعه لي.
أضاف بصوت واطئ حازم:
- استطاع الباشا الوقوف في وجه أبي، أما أنا...
انفرجت شفتاه، وامتد خط دبق طويل في شق دقيق.
* * *
كانت الجثث في كل مكان ذهب ماريك وموزارسكي إليه، جثث رجال، وجثث نساء، وجثث أطفال. رفع الصديقان رأسيهما إلى الذين كانوا يلقون بأنفسهم من النوافذ، وشاهدوا قتل الناس لبعضهم البعض، وبشتى الطرق، ولم يحولوا دون مصرع البعض لأجل علبة سردين أو غطاء. حتى الجرذان التي لا تجد شيئًا تأكله انتحرت معًا وبالعشرات.
- زرنيخ!
كان صوت البائع الجوال يأتي من بعيد، وكأنه يأتي من ليل القرون الوسطى.
- زرنيخ! علاج ناجع وفعال!
رأياه وهو يتقدم تحت مصباح يبذل ضوءًا أصفر ضعيفًا.
- زرنيخ!
ورأيا امرأة تمسك بيد طفلتها، وتركض لتشتري من الرجل قارورتين، ثم ذهبت إلى زاوية لا جثث فيها، وجعلت طفلتها تجرع السم الناجع والفعال، فسقطت على الأرض ميتة في الحال. جذبتها إلى صدرها، ونهلت مر الدمع، وبحركة عصبية، أفرغت القارورة الثانية في جوفها، وماتت هي الأخرى في الحال.
علا صوت الشيطان:
- علاج ناجع وفعال!
ابتعد الصديقان، وهما يسمعان من ورائهما خطوات المشترين العجلى.
- زرنيخ! زرنيخ!
مضت بهما شاحنة عسكرية مبرَّدة، جمعوا فيها بعض الجثث التي اختاروها بعناية، فصعد بينها ماريك وموزارسكي، وأخذا يبحثان عن ماريشيا وبولينا. كانت الشاحنة تتوقف من وقت إلى آخر، ليرمي الجنود الألمان فيها بعض الجثث الأخرى. وفي كل مرة، يتصنع الصديقان الموت لئلا يكشف أمرهما. في إحدى المرات، رمى أطفال الفوهرر بجثتي الفتاتين الشقراوين، فاحتضن كل من ماريك وموزارسكي حبيبته، وأخذا يبكيان. حملاهما، وقفزا بهما من الشاحنة العسكرية المبرَّدة، فوجدا نفسيهما أمام ماريشيا وبولينا في لباس الجندية، وهما تهددانهما بإطلاق النار. كاد الصديقان يفقدان عقليهما، وهما يجيلان نظرهما في ماريشيا وبولينا الميتتين بين أذرعهما وماريشيا وبولينا الجنديتين الألمانيتين. تركا الجثتين تسقطان أرضًا، وهبا لاحتضان الجنديتين، لكنهما أطلقتا الرصاص بين أقدامهما. رمتاهما في سيارة عسكرية، وأخذتاهما إلى مقر الكولونيل هينز.
* * *
ضاعف الحصان العدو، والبيك يضربه بسوطه على كشحيه، في الطريق الترابي، كان يريد الوصول إلى مزرعة الخواجا داوود بأقصى سرعة. وفي الليل، سحر غريب: نجوم ألقة نثرتها يد شفة على وسائد الغيم، والشجرات الوادعة أطلت على مقربة.
صاح أحدهم:
- من هناك؟
عندما توقف الحصان قرب الحاجز، قال البيك لاهثًا:
- الخواجا بانتظاري، دعني أمر.
جاء الحارس، وتقدم ليعرف الفارس الذي كان على وجهه لثام:
- من أنت؟
- لا تكثر الكلام، اذهب، وأعلم سيدك، فسيعرف.
تردد الرجل ثم قال بنبرة مطلقة:
- لا داعي لذلك بما أنه سيعرف.
رماه بنظرة متفحصة، وفتح له الطريق قائلاً:
- تقدَّم!
تقدَّم البيك بالحصان، وصار في مزرعة الخواجا داوود.
قال الخواجا مبالغًا الاحتفاء بالبيك:
- أهلاً وسهلاً، يا بيك، أهلاً وسهلاً في دارك الصغيرة!
فتح ذراعيه، وأشار إلى أريكة من الجلد السود:
- كنت بانتظارك.
اعتذر البيك:
- تأخرت عليك، كانت لدي بعض الأشغال.
ردد الخواجا:
- ما في شك، يا بيك، ما في شك!
وسكسوكته الحمراء تهبط وتصعد مع حركة حنكه.
- لهذا تجدني على عجلة من أمري.
أخذ الخواجا نفسًا طويلاً، وهو يجلس إلى جانب البيك، وأسند ظهره. مسح صلعته وقليل الشعر الذي له، وأسقط نفسه في ثوب الجد:
- كلي آذان صاغية إليك، يا بيك...
استدار البيك، وقال:
- الأمور بسيطة: لقد فشل الإضراب، وأنت لا شك على علم بذلك (هز الخواجا رأسه) القرية لا تهتم بمصرع اثنين من سكانها كما توقعنا. تمردوا في أول النهار، وباقي الوقت قضوه في المقهى، بالطبع، باستثناء عمال أرض الباشا ومصنعه الذين عادوا إلى عملهم كالعادة. الباشا إبراهيم يهدد، إذا لحقه الأذى، أدنى أذى، جعلها نارًا تصل الأرض بالسماء. الأمور حتى الآن...
أوقفه الآخر بحركة آمرة من يده، فانصاع البيك. أعاد الخواجا بشيء من السحر، وكأنه قضى زمنًا طويلا في البحث عن هذا:
- الباشا إبراهيم يهدد، إذا لحقه الأذى...
ابتسم بدهاء، ونهض كغراب عجوز محنك، وهو يلتفت حوله بانتباه. نقل صندوق سجائره الصدفي، وقدمه منه:
- سيجارة، يا بيك.
وأشعلها له.
- الأمور حتى الآن جيدة، يا بيك، فما الذي يزعجك؟
نفخ البيك السيجارة، ولم يقل شيئًا.
فكَّر: قتل واحد من أولاد عوض أمر لا بد منه.
لم تمح ابتسامة الدهاء التي تحوم دومًا على شفتي الخواجا الجافتين.
- أم أنك عدلت عن رأيك؟
رفع البيك رأسه استغرابًا:
- عدلت عن رأيي؟
ضحك الخواجا:
- إذن؟
- لا تستهن الأمور، يا خواجا.
انحنى الخواجا، وخنّ:
- لا، يا بيك، أبدًا!
اعتدل، وهو ينظر إليه، ثم سأله:
- ويسكي أم كونياك؟
- لا شيء.
تمهل الخواجا قبل أن يقول:
- ليس من الصعب أن تصبح باشا، يا بيك.
سكت ليفحص أثر كلماته عليه، وبعد قليل أضاف بابتسامته المحومة على شفتيه الجافتين:
- إذا كانت رغبتك.
لحظة، لحظتان، وامحت ابتسامته.
قال الخواجا مطمئنًا إياه:
- دع مستر كلارك علي أنا، والمندوب السامي أيضًا إذا احتاج الأمر، هذا ما وعدتك به أكثر من مرة، دع كليهما علي أنا!
فتح خزانة زجاجية، وأخرج زجاجة ويسكي وقدحين:
- أنت مصمم على عدم احتساء قدح صغير معي؟
انتظر جوابه، ثم حرك رأسه مشجعًا، فقال البيك:
- إذا أردت.
رفع الخواجا الزجاجة إلى مستوى رأسه، وقال باختيال:
- عمرها عشرون عامًا.
وضع القدحين على الطاولة القصيرة، وصبَّ الويسكي فيهما. أقفل الزجاجة، وقدم إلى البيك قدحًا:
- بصحتك، يا باشا!
مضت كلمة الباشا كالبرق في عينيه:
- هذا أمر سابق لأوانه.
مال الخواجا على جانبه، وأصر:
- ومع ذلك، بصحتك، يا باشا!
دقا قدحًا بقدح، وأخذا جرعة.
سعل الخواجا، وجلس مقابل البيك. تأمله بعينين كثقبين، ثنى رأسه، ثم تنهد:
- النار...
وسكت.
صرّ صوته المخن:
- النار التي سيجعلها الباشا إبراهيم تصل الأرض بالسماء شيء جيد، يا بيك. ولكن كيف؟ الباشا إبراهيم لا يجسر على إشعالها كما يدعي. أنا أعرفه (وقّع كلماته) إنه جعجاع خداع... مدع! لهذا، ابدأ أنت بإشعالها، يا بيك. ابدأ أنت الأول. ليس في أرضه، وإنما في أرضك. هددك الباشا بإشعالها، أليس كذلك؟ إذن أشعلها أنت، وستقول للجميع إن النار هذه من فعل الباشا، ثم ستحرق أكواخ ومحاصيل بعض القرويين، وهنا أيضًا سترمي بالمسئولية على عاتق الباشا إبراهيم: ستقف القرية إلى جانبك ضده. عند ذلك يأتي دور النار الكبرى التي تصل الأرض بالسماء، ليس في أرضك أو أرض غيرك، وإنما في أرض الباشا إبراهيم. لا داعي إلى أن تشعلها أنت، ستجد عشرات غيرك على استعداد لإشعالها بدلك انتقامًا منه. وسيكون بإمكانك أيضًا أن تنسف الآبار وخزانات الماء وأسوار بيارات البرتقال، وفي الأخير أن تنسف الباشا إبراهيم نفسه. سنقول لمستر كلارك هذا من صنع الفلاحين، وهم على صواب، بعد أن شردهم الباشا إبراهيم، وحرق أراضيهم وأكواخهم. بعد كل هذا، ماذا سنفعل؟ سنأتي بك باشا على الجميع، سيدنا كلنا، سيد...
قطع حديثه فجأة، وهو يرفع إصبعًا وحاجبًا إلى أعلى:
- أمر آخر: عمال المصنع. هل فكرت في خطورة عمال المصنع إذا اتحدوا ضدك؟ هل فكرت في هذا؟ شخصيًا، أنا لا أريد سوى منفعتك والسلام معك.
أراد أن يقول له إن الحاج عبد النبي يعمل بينهم، لكنه فضل الإصغاء إليه. لم يقل الخواجا أي شيء آخر، فحثَّه البيك على المتابعة:
- ماذا عن عمال المصنع؟
قال الخواجا:
- دع أمر عمال المصنع علي، ولا تبدأ بإشعال الحريق إلا عندما أقول لك. نريده حريقًا هائلاً يصل الأرض بالسماء... تمامًا كما يشتهي الباشا إبراهيم!
* * *
اتهم رجال الغستابو موزارسكي وماريك بقتل الفتاتين الشقراوين، فهما برأيهم قادران على ذلك، لأن المرء الذي يقدر على التهرب من بناء الجدار يقدر على فعل كل شيء، والمرء الذي يقدر على المشاركة في جرم التهريب يقدر على ارتكاب أكبر جرم. بدأوا بتعذيبهما، وهما ينفيان التهمة عنهما، ولم تنفع معهما لا الكهرباء ولا الحديد ولا الماء. عندما قالا إنهما محاميان، يعرفان القانون أكثر من أي شخص آخر، وإنهما سيذهبان إلى المحاكم، ضحك رجال الغستابو منهما، وعادوا إلى تعذيبهما، وعندما قالا إنهما صديقان لصديقة للكولونيل هينز، أجفلوا، وسألوا عن اسمها.
أجابا:
- ماغدلينا أنييليفيتش.
توقفوا عن تعذيبهما في الحال، ووضعوهما في زنزانة كان فيها بعض الصبية الذين يأكلون ألواحًا من الشوكولاطة، ومن وقت إلى آخر كان النازيون يأتون لاصطحاب هذا أو ذاك.
انتظر ماريك وموزارسكي ساعة أو أكثر إلى أن حضر الكولونيل هينز بنفسه من أجل إطلاق سراحهما. اعتذر لهما عن كل ما جرى، وقال إن رجاله اضطروا إلى الذهاب عند الممثلة الشهيرة ليتأكدوا من صحة كلام الصديقين، لهذا تأخر قراره الذي اتخذه في صالحهما لئلا يغضب منه شكسبير، وانفجر ضاحكًا، ثم توقف عن الضحك فجأة، فعرفا أن من واجبهما مشاركته في الضحك، وعند ذلك، انفجر ثلاثتهم ضاحكين.
* * *
سقط كل شيء في هدوء الليل، وأصغى: طائر الليل. سمع الأنغام النقية نقاء الماء. كانت تشغله دائمًا عودة رقية. نبش إسحق الظلام بعينيه، ولاحظ أن لا ضوء على شباكها ولا حركة.
فكر: ربما عادت والأسطى عنده. لم يكن متأكدًا. أحس بالاختناق، وقد ضاق فجأة، وضاقت أنفاسه، رغم النسمة المنعشة. رفع رأسه إلى السماء: كانت الغيوم تعوم، وهي تمضي بنصف القمر، وكان شعاع ثلجي يصب في عينيه. عندما تناهت إليه أنغام طائر الليل من جديد، التفت إلى شجرة السرو العجوز، ودار من حول بيته: كان كوخ عواد هناك، والزريبة. خطا باتجاهه خطوتين، وهو يفكر في كأس الشاي التي عرضها عليه عواد، لكنه توقف. لم يكن هناك ضوء ولا حركة، تمامًا كما هو عليه في سائر بيوت القرية.
فجأة، هز قلبه حبه لها، لقريته المطمئنة، لشجرات الحور، لسمك النهر، وللأثلام الحمراء. أحس أنه بحاجة إلى رقية ليبكي بين ذراعيها، ليترك دموعه تسيل، ليعرف حقًا لماذا يبكي، ليضحك، ليعرف حقًا لماذا يضحك.
عاد أدراجه، وحاذى البحيرة. كان يحب الماء بقدر حبه لرقية، وكان يحب أبا رقية، رغم أنه أجر أرضه للخواجا، وخالة ميريام، وأنفاس عواد، والأسطى، وشجرات الحور! انسابت الكلمات من شفتيه:

قريتي يا مِيْة هوى
يا مِيْة صبابة وألف شوق
يا قريتي!

كان نفسه ساخنًا. جلس على حافة البحيرة، وأغرق أصابعه فيها. دنّ من جديد: قريتي يا مِيْة هوى! فكر: ماذا يريدون من قريتي؟ كان يعرف تمامًا دون شرح الأسطى. سيأخذون منك كل ما هو لك، هذه البحيرة الصغيرة، وهذا الفضاء الرحب، وبيتك، وحصانك، والمنحدر، وشجرات الحور. سيأخذون أرضك! اهتزَّ، وأججه الغضب.
الأرض... يا إلهي!
فرش أصابعه على الضفة الرطبة، ثم أولجها في الطين، وراح يعجنه. وعجن الليل، والأنسام، وأنفاس الشجر. فاح عطر الأرض، وتصادت أنغام طائر الليل. أطلَّ بين أصابعه التاريخ، واندمج معه. كان أكثر من أي وقت مضى قربًا من الأرض. كانت الأرض تختلج في عروقه، وهو يختلج في عروقها. أحس أنه ينبت في أعماقها، وهي تنبت في أعماقه. لم يعد يخاف على فكرة أن يمكن لأحد انتزاعها منه. لم يعد في العالم سواهما: هي وهو. وها هو يفكر: وحدنا، نحن الاثنين! تردد: وحدنا، نحن الاثنين! وفجأة تسارعت أحلامه: أن يشتري محراثًا جديدًا، وديكًا له تاج أحمر، وأن يغني في المساء. عاد يغني:

قريتي يا مِيْة هوى
يا مِيْة صبابة وألف شوق
يا قريتي!

نهض، عملاقًا، وثلج الليل يندف على كتفيه. أحس بعلاقته المكينة بالماء: هذا الوجه الأبيض الذي يبتسم له، ويدعوه، فيتجلى قلبه من الفرح، مشعًا كالصباح الهارع فجأة، مدغدغًا رغم الظلام.
اشتعلت رغبة متبادلة بينه وبين الماء: أن يداعب كل منهما جسد الآخر، أن يعانق كل منهما الآخر. نزع إسحق ثيابه، ووقف بطوله الفارع عاريًا، كالماء، كالليل، كأمه لما كانت صغيرة، كشجرات الحور. ألقى بنفسه في البحيرة، فعلا به الموج، ثم هبط، قبل أن يتدفق على الضفة... تمامًا كعضلات إسحق التي تنطوي وتنبسط في غمرة الموج.
يا إلهي! كم كان ذلك منعشًا! كان يغمر ذراعيه، ويغمرهما من جديد، إلى ما لا نهاية. وكان ينثر الماء، وينثره من جديد، إلى ما لا نهاية. غطى الرذاذ جبهته، وسرى غدير في حاجبه. كان الله ينظر إليه مبتسمًا، ورمشه يكتحل بالغيوم. وكان القمر العاشق، ابن الله، يخضع له بطاعة. هذا ما كانه الموعد السماوي الذي تتكلم عنه الأساطير! وبقي إسحق ينثر الماء، وهو يقترب رويدًا رويدًا من الضفة الأخرى. وعلى الضفة الأخرى، كانت بانتظاره... شجرات الحور. انتصب لاهثًا، وجسده يتلألأ بألف نجم. كان سعيدًا.
لم تكن لديه سوى رغبة واحدة: أن يعود إلى الماء، لكن هناك حركة ما بين سيقان الشجر. خطا متفقدًا المكان، فذهبت الحركة السرية بسرعة. أخذ إسماعيل يجري والكلب من وراء الشجر بعد أن شاهدا كل شيء: الموعد السماوي، وحقيقة إسحق. وعلى الرغم من ذلك، ظل إسماعيل يجري. أحسَّ أنه يضل الطريق، لكنه ظل يجري. قذف إسحق بنفسه مرة أخرى في البحيرة، وقطعها إلى حيث وضع ثيابه. وهو يرتديها، سمع خطوات على الطريق الترابي، فصاح:
- من هناك؟
جرى عاري الصدر، والماء يقطر من شعره.
جمد عندما رآها، وهي بدورها جمدت. أخذ قلبه يخفق بحدة حتى طغى الوجيب على مسمعه. إنه قلب العاشق الذي اشتعلت فيه براعم الورد الأحمر! نظر إليها، إلى جسدها الجميل، وإلى شالها الأبيض، وقال لنفسه بين حيرته ولهفته: ها هي ذي رقية تعود! تركت شالها يسقط، ورنت إلى تلك القامة التي تفوح برائحة الماء. وبين غيابها وصحوها فكرت أنه لا يمكن لها أن تجد مرتعًا إلا على صدره، وقوة إلا بين ذراعيه، عندما تنفتل عضلاته حولها كالحديد. عند ذلك، ستخطئ الحساب لو رنت إلى جمالها في المرآة دون أن ترنو بالأحرى إليه في عينيه. أعطته ظهرها، وغذت خطاها، فناداها مترددًا:
- رقية!
وجذبها إليه، وهي تلهث. لم تمانع، لم تصح، لم تدفعه عنها بعيدًا، لكنها بقيت تنجذب إلى صدره، وهي تلهث. ذهب بها تحت السلسلة، فألصقت خدها على ثديه، وداعبت زنديه. سقطت قطرات ماء من شعره على شفتيها، فرفعها من ذقنها، وغاص في عينها السوداوين: الليل الألق كله كان هناك، كان ملاذه وصلاته.
أبهج شعاع الثلج نظرتها، فاقترب بشفتيه، وأحس بشجرة تفاح تهتز بين ذراعيه. كان على وشك أن يقضم التفاح لكنه دفن وجهه في نهدها، وتنسمها. عانقها، رفعها قليلاً، وماج في خصرها كما ماج الماء في خصره. لم يشأ إفلاتها. وهي؟ كانت تغوص في قلبه. وهو؟ كان يحس بانتفاض نهدها، بلحمها، بذراعيها حول عنقه. كان يحس بأنه اكتمل كالفلاح ومحراثه، كالشتاء والمطر، كالأرض وخطوات عواد، كان يحس بأنه اكتمل. ذاب في عينيها السوداوين، وجيدها البض الأسمر. نثر شعرها، وتنسم فيه رائحة الحشيش وخشب الجوز.
سألها:
- ماذا دهاك؟
فكر: أبسبب الليل تبدي حبها لي أم لتتحاشى أسئلتي؟ نهبه الضجر فجأة، فابتعد. عند ذلك، أتاه صوتها كالفاكهة الذائبة في السكر:
- أحبك، يا إسحق!
لكنه أحدَّ نظره في الأفق البعيد، ولم ينطق بكلمة. تركته، وهذه الكلمات تذبحه:
- لا تنسنى، يا إسحق!
جاءها لهفًا، موجعًا، كمن حش أحدهم كبده بسكين، ورأى دمعة كحبة المطر تسقط من عينيها.
- إياك أن تنساني!
أرعبه الطلب، فوقف ذاهلاً، ضائعًا، لا يدري ما يفعل.
أضافت:
- سقطت رقية من بين ذراعيك!
سالت دموع إسحق. لفت نفسها، وراحت تغذ الخطى نحو المنحدر.
* * *
رافقت الجنديتان الألمانيتان ماريشيا وبولينا الصديقين في سيارتهما العسكرية حتى باب العمارة التي تسكن فيها ماغدلينا. عرضا عليهما الصعود لأخذ كأس من الجعة، فاعتذرتا بسبب عملهما الليلي.
- نحن نعمل في بناء الجدار، أوضح ماريك، وغدًا ننهي عملنا على الساعة الثالثة بعد الظهر.
- لا أحد يحبنا هنا، قالت ماريشيا، وهي تبتسم.
- هذا صحيح، فلا تأتيا بلباسكما العسكري، قال موزارسكي.
أشار ماريك إلى النجمة السداسية التي على ذراعه الأيمن، وقال:
- سنتدبر أمر إخفائها، فلا تخشيا شيئًا.
أطلقت الجنديتان ضحكة عذبة.
- إذن اتفقنا، قال الصديقان.
- ولكن أين سنلتقي؟ سألت ماريشيا وبولينا.
- سنلتقي أمام الكنيس، قال موزارسكي، وهو يمسك بولينا من يدها.
- بعد ذلك، سنتدبر أمر الذهاب إلى وارسو، قال ماريك، وهو يمسك ماريشيا من يدها.
- سندعوكم إلى شرب كأس من الجعة في أحسن بار كان للمحامين هناك، أضاف ماريك.
ركبت الجنديتان الألمانيتان سيارتهما العسكرية، وهما تبتسمان، وتشيران إلى الصديقين بيديهما مودعتين، وغادرتا المكان.
فوق، فتحت ماغدلينا الباب لماريك وموزارسكي، وأدخلتهما، وهي تضمهما، وتقبلهما، والدموع تسيل من عينيها. عندما جاء آدم مردخاي، انقضا عليه، وكانا على وشك القضاء عليه لولا تدخل ماغدلينا.
قال مردخاي ليبرر فعلته:
- لا مكان للحب في قلوبنا اليوم، الحب غدًا، أما اليوم، فللمهمات التي من الواجب القيام بها من أجل إنقاذ شعبنا.
* * *
قطع إسماعيل الحقل حتى كوخ الحارس، ظن أن بعض الهمسات تأتي من الحظيرة، فاقترب منها، لكن السكون كان ثقيلاً. وجد باب الكوخ مغلقًا، والظلام دامسًا. وصل قرب العتبة، والكلب يشرد هنا وهناك. كأنه عالم موتى! اشتد خفقان قلبه من أجل الصغيرة. في الأخير، تراجع، وهو يشد عنه الظلام مبعدًا، واخترق الشجر. عندما التفت، أنار الكوخ نور خافت، وظهر خيال من وراء الزجاج، ثم انفتح الباب. كان الحارس عاري الفخذين، في قميص مفتوح على الصدر حتى منتصفه. كنس بنظره الحقل، وجذوع الشجر. وهو يفكر أن لا أحد هناك، عاد أدراجه. أقفل الباب، وأطفأ الضوء.
سحب إسماعيل الكلب من طوقه، وقرر العودة إلى القصر. كانت سيارته بانتظاره على حافة الطريق، ركبها والكلب إلى جانبه. ترك القرية من ورائه، واجتاز سور القصر إلى الباحة. فتح باب حجرته الموصد بمفتاحه، وسارع إلى الدخول، ثم عاد يوصده بالمزلاج. أشعل الضوء، ووجد الباشا إبراهيم يجلس على كرسي بانتظاره. تفجرت عيناه، فأطلق الباشا إبراهيم قهقة طنانة، وقال:
- للباشا تخر الجدران، وتحل الأبواب الموصدة!
كان يجلس بثياب السهرة، بأبهة وعظمة.
- وزيادة على ذلك، أنا أبوك، إذن، أنت لي، وحجرتك لي، وكل ما تملك!
بقي إسماعيل متسمرًا في مكانه، يحدق في أبيه عبر أجواخ الظلال، وكم يجده بشعًا.
- تقدم!
- ماذا تريد؟
- دمك!
انقض على أبيه، وجذبه من خناقه:
- أيها المجرم! أيها المجرم!
تشعث شعره، واهتز، ولهث. كان الباشا إبراهيم يقهقه، وكأن إسماعيل يدغدغه. فجأة، أصاب إسماعيل العياء، خر على قدميه، وهو يئن. ركله الباشا إبراهيم، ودفع عنقه تحت حذائه. قبض على سكين، ورفعه إلى أعلى، إلى أعلى ما يكون، وهو يفح بنابين مندفعين:
- سأذبحك! سأذبحك!
تخبط إسماعيل، وهو يصرخ حتى انشلت حركته تمامًا. ذرب إبراهيم الشفرة على عنقه، فنضحت الدماء. ندت عن إسماعيل بحات هلع، وهو يخبط بيده على السرير. سقط الغطاء عن قدميه، والعرق كحبات المطر من جبينه! وفي الوقت نفسه، تسللت إلى الحجرة طرقات حذرة. كان إسماعيل لم يزل يتلوى في فراشه، وصوته المتهالك يصل ضعيفًا إلى سارة المنحنية قرب الباب في قميص نومها وشمعدانها بيدها. طرقت الباب طرقًا أعلى:
- إسماعيل!
نهض دفعة واحدة دون أن يبارحه الرعب:
- من هناك؟
سارع إلى إشعال الضوء، ويده على عنقه، ليرى إذا كان أبوه بالفعل هناك، فلم يعثر على أحد. والدم؟ والسكين؟... لا شيء سوى ابتسامة أمه الميتة من فوق السرير. مسح عرقه، وفقد توازنه. جاءت الطرقات من جديد، فنهض بحذر، وأرخى السمع.
- هذه أنا، افتح!
سحب المزلاج بسرعة، وتحرك مع الباب: جامدًا، محدقًا في نقطة ظلت مظلمة كالنقطة المبهمة في ضمير الكون. منذ قليل كانت هنا، في حجرته، في هذه الحجرة، مقصلة كان ضحيتها، وأبوه الجزار. قطع له أبوه حنجرته، فأغرق الدم العالم. خطت سارة خطوتين، ووقفت قبالته نصف متحيرة، نصف متهيبة:
- صرخت منذ قليل، فأتيت لأرى. هل أصابك مكروه؟
أقفل إسماعيل الباب، واتجه إلى وسط الحجرة. بقي يعطيها ظهره... وضعت الشمعدان على البوفيه القصيرة، وسألت من جديد:
- هل هذا بسبب يدك الجريحة؟
رفع يده بآلية كما لو كان يريدها أن تفحص الضماد، انتزعه، وكشف عن يد شدتها سارة إلى صدرها. ارتعش إسماعيل، وهو يحس بثقل النهد، واستدارته، وانتفاضته بين أصابعه. فتحت شفتيها قليلاً، والتصقت به. كانت على وشك معانقته، وعض عنقه. آه... كم كانت تشتهيه! لكنه سحب يده، واندفع خطوتين إلى الأمام.
قال:
- كان كابوسًا، هذا كل ما هنالك.
حنت سارة رأسها لجفاف نبرته، وظلت صامتة. بعد قليل، سألت:
- ماذا كان... كابوسك؟
نبر:
- لا شيء! لا شيء يهمك!
استدار فجأة، وقال محملقًا، مذعورًا، متمثلاً المشهد من جديد:
- بلى! يهمك...
شحب وجهه، وقال:
- ذبحني أبي... هذا ما حلمت به.
تعجبت:
- إبراهيم!
ورفعت أصابعها إلى فمها.
- نعم، إبراهيم!
قهقه كالمجنون. جذبها من ذراعها، وأدناها من المكان الذي أسقطه أبوه فيه. كانت تفغر فمها بينما هو يهمهم:
- دمي! هذا دمي! قتلني أبي هنا منذ لحظة!
انتصب، ونبر:
- لكنني لم أزل حيّاً!
رمت يدها على صدرها، وخفضت رأسها، وهي تهمهم بمرارة:
- ويلاه!
قهقه من جديد. فجأة، أطبق فمه، وجلس على كرسي ذي ذراعين. نصب عنقه، وقال:
- طالما ادعيت بأن لا ذنب لك، حان الوقت كي تثبتي لي ذلك. سأبرئك من دم أمي مقابل كفارة، كفارة صغيرة.
تقدمت منه، وشعرها المشعث يعمل هالة من حول وجهها:
- ماذا تريدني أن أفعل؟
- كفارة صغيرة...
رفع حاجبيه نحو صورة أمه، وانبسطت تعابيره. فجأة، اكفهر:
- أن تقتلي الباشا.
صاحت:
- أن أقتل الباشا!
قال بهدوء الراهب الذي يعترف إليه الآخرون:
- إذا أردت أن أبرئك.
ودون أن يرمش:
- إنه قاتل، يجب قتله!
ضرب ذراع الكرسي بعنف:
- إنه قاتل!
صمت.
بدت جامدة. مستسلمة. جفت شهوتها. رغبتها. وقف فجأة، وجري نحو الباب. دفع المزلاج، والتفت إليها. لمعت بسمة الموت على شفتيه، اصفر، وانطفأت عيناه:
- هل تعلمين لماذا أقفل بابي كل مساء؟
اسودت بالبسمة تعابيره:
- خوفًا من أن يأتيني ويذبحني خلال نومي.
رافق كلماته بصوت أحدثه لسانه، وبحركة يقلد فيها شفرة سكين تهوي. اجتاحه القلق، وثقل كتفاه:
- ومع ذلك، استطاع الباشا إنجاز فعله، نحرني عكس ما جاء في القرآن.
ارتمى بين ذراعيها:
- الذي بين ذراعيك ليس أنا.
قبلها من شفتيها:
- إنها جثتي.
انفجر يبكي، وهي تجذبه من شعره جذبًا خفيفًا. فتح عينين حمراوين راجيتين:
- اقتليه، ورديني إليّ. أنت تستطيعين ذلك، أما أنا، فلا، لقد قتلني منذ زمن طويل.
داعبت وجنتيه، وهي شاردة، وراحت تمسح دموعه.
- لن أدين لك بالشكر وحدي، بل وكثيرون غيري... كثيرون... هل تسمعين؟
تأوهت، وقالت:
- نسيت أمرًا واحدًا.
وسكتت. بقي يصغى، وهو يحترق في جحيم أن يعرف ماذا نسي. قالت:
- إنه الباشا!
قفز:
- وماذا يعني ذلك؟
اتجهت إلى الشمعدان:
- اسأل أمك، لربما وجدت الجواب.
التفت كلاهما إلى الصورة.
* * *
سار آدم مردخاي في الأقبية، ومن ورائه الصديقان، وثلاثتهم يحمل كل منهم مصباحًا. كانت الأقبية تفتح على بعضها، وهي تبدو كالمتاهة، ولكن الدليل كان يعرفها معرفة دقيقة. كان ينتقل من أحدها إلى الآخر دون تردد، ولم يكن يبدو عليه الخوف من مفاجأة الجيش الألماني لهم. كانت الجرذان تقفز بين أقدامهم، تهاجمهم أحيانًا، وأحيانًا تنظر إليهم متسائلة عن سبب وجودهم في ديارها. مضوا ببعض البجع السوداء، ورأوا بعض السحالي الغريبة، فتقدم مردخاي منها، وراح يفحصها تحت ضوء مصباحه. حمل إحداها، وداعبها قليلاً بإصبعه، ثم تركها على باب ثقب يأتي منه ضوء القمر. نظر من الثقب إلى القمر، ثم نظر إلى ماريك وموزراسكي، وقال:
- نحن على وشك الوصول.
وعلى الرغم من ذلك، لم يخرجوا من الأقبية إلا بعد أن مضوا بمجاري وارسو، واحتاجهم ذلك إلى أكثر من ساعة. في الأخير، وجدوا أنفسهم في أرض واسعة قطعوها إلى طرفها الآخر، وعندما أطلوا من وراء ردم، رأوا قافلة كبيرة من المقطورات تنام في العراء. أضاء مردخاي مصباحه، وأطفأه عدة مرات، وإذا بأحدهم على بعد مائة متر يضيء مصباحًا، ويطفئه هو الآخر.
- إنه رجلنا، قال مردخاي، وهو يبتسم.
عجل ثلاثتهم الذهاب إليه، وعندما وصلوا إلى حيث كان واقفًا، عرف الصديقان فيه تحت ضوء القمر واحدًا من الغجر بعين سليمة وأخرى معصوبة.
- هذا أحمدان، قال مردخاي لرفيقيه، وهو من غجر الكوسوفو. وهذان هما الصديقان اللذان كلمتك عنهما، قال مردخاي لأحمدان.
- كل شيء هناك، قال أحمدان، وهو يشير إلى عربة مغطاة بالغشايات الكتيمة.
ذهب بهم إلى العربة، وكشف بيد قوية عن صناديق الديناميت، وشتى أنواع الأسلحة.
- سنأخذ صندوقًا، قال مردخاي.
وفي الحال حمله الصديقان.
رمى أحمدان فوق الصندوق ثلاثة مسدسات وثلاثة أسلحة أوتوماتيكية مع علب رصاصها:
- في المرة القادمة، إذا طلبتم حتى الدبابة أحضرتها لكم. كل أسلحة يوغوسلافيا تحت إمرتنا.
- شكرًا كثيرًا، قال مردخاي.
أخرج من جيبه حفنة من الدولارات أعطاها للغجري الذي قال:
- فليأخذ كل منكم بزة ألمانية هدية من عندي.
سار بهم إلى عربة أخرى، وكشف عن بذلات ألمانية عسكرية من كل المقاييس وكل الرتب. قال مردخاي لماريك وموزارسكي:
- خذا بزة المقدم، فهم كثر، وسوف تضيعان بينهم. أما أنا، فبدلة الجنرال.
أمام نظرة التساؤل التي أبدياها، أوضح:
- لأنني لن أرتديها إلا في اللحظة القصوى التي تفرض فيها الظروف علينا القيام بالدور النهائي.
* * *
زحف السحاب، ولف القرية بشال الغيم. تدفق بحر العتمة، وأكثر ما تدفق في أزقة القرية المبلطة، وفي حفرها، وعلى عتبات البيوت. ومن بعيد، جاء أحدهم، وهو يحمل مصباح كاز، وأضواؤه الخافتة تتذبذب على وجهه. وفي صمت الأزقة، علا صدى الخطوات. لا أحد! لا أثر لمخلوق! بقي الرجل ينثر الأضواء الخافتة إلى أن وصل الساحة الكبرى للقرية. توقف قليلاً، ورفع المصباح مستطلعًا على مستوى وجهه. الهيثم. استدار إلى اليمين، وأخذ المنعطف، ثم ذهب باتجاه المقهى.
كان باب المقهى مجرورًا تمامًا، وكانت أضواء باهتة تتسلل من شقوق في جوانبه. رفعه الهيثم حتى خصره، ودخل منحنيًا، ثم أنزله بدفعة قوية من قدمه، والتفت.
دخان كثيف. ظلال كثيرة. ضحكات مختنقة. همسات خشنة. طرقات حجارة. خرير نارجيلات. أوقف صاحب المقهى عد ملاليمه ما أن وقع على الهيثم، وابتسم له ابتسامة الصنعة. تقدم الهيثم منه، ووضع المصباح على الطاولة.
قال الهيثم:
- أنتم ما زلتم تسهرون، وأنا نسيت هذه العادة.
رمى صاحب المقهى النقود جانبًا، وبحماس راح به مرحبًا:
- شرفتنا الليلة، يا الهيثم!
سأله:
- حتى متى تسهرون؟
سحب عن رأسه طاقيته، وقال بعتاب:
- نسيتنا، يا الهيثم! نسيتنا!
ابتسم الهيثم بذكاء، وقال:
- لم أمض من هنا منذ مدة.
- خير لا سمح الله؟
- كنت مسافرًا.
وربت على خده بلطف.
رد صاحب المقهى:
- نحن نسهر حتى آذان الفجر.
رفع الهيثم يديه، وهو يشير إلى أكداس الرواد:
- المقهى على ما يرام! كل شيء كما يجب! وأنت تكسب عيشك جيدًا!
قهقه صاحب المقهى، فرأى الهيثم لثته السوداء، والكهوف التي حلت محل أسنانه.
- ذكرناك أكثر من مرة.
أدنى فمه من أذن الهيثم، وهمس:
- لدي ما يعجبك فوق.
نظر الهيثم إلى حيث أشار، إلى علية الخشب. وفي اللحظة ذاتها، نزل رجل قذر الوجه سلمًا متآكلاً.
سأل الهيثم:
- ماذا هنالك؟
التفت صاحب المقهى إلى الرجل، وخاطبه بغلظة:
- هل انتهيت، أيها الأبله؟
هز الرجل رأسه بكلل، والتعاسة تبدو عليه، ثم جمجم:
- إنها بقرة لا تساوي قرشين!
بصق عدة مرات، مما سبّب الضيق لصاحب المقهى، والهيثم يسمع. انسحب الرجل إلى طاولة تسقط في الدخان، وضاع.
- أنت لم تصدقه؟
همس في أذنه مرة أخرى، كمن يوفيه سرًا:
- لا أخفى عليك... إنها فنانة!
رد الهيثم:
- أفضل أن ألعب قليلاً.
تناول عن الرف مجموعة من أوراق اللعب، وأعطاه ظهره، فتعلق صاحب المقهى بذراعه:
- أنت لن تندم على الإطلاق، ما عليك سوى أن تصعد، وتلقي نظرة.
تردد الهيثم قليلاً، وعيناه الذكيتان تومضان بحدة. ارتقى السلم بصعوبة، وعلا بنصفه، فرأى امرأة في الأربعين، شديدة السمنة، تفتح فخذيها العاريين فوق القش، سقط نهداها المترهلان في ثنيات بطنها، على وجهها أرطال من المساحيق مرشوقة بطريقة منفرة، وصبغت شعرها الشعث بالأوكسجين دون حذق. أشارت إليه كي يقترب، وهي تصطنع الغنج، لكنه هبط منزعجًا.
- ما رأيك؟
أخرج من جيب جاكيته صندوق سجائره، وأشعل سيجارة:
- أفضل أن ألعب الورق.
همهم صاحب المقهى:
- كما تريد.
والخيبة تبدو عليه.
رأى القهوجي، وهو يخرج من الدخان، فسأل الهيثم صاحب المقهى:
- قل لي؟
جاءه صاحب المقهى مسرعًا.
- من أين أتيت بها؟
علت ضحكة مختنقة في مؤخرة المقهى، وبقي صفيرها لفترة في الآذان. قال صاحب المقهى:
- إنه الخواجا داوود، قال لي إنها بولندية، فتشاركنا.
ربط القهوجي حطته حول كتفيه، وشد طرف قنبازه في حزامه. انحنى بين يدي الهيثم، وحيّاه بحرارة.
- والله زمان، يا سيدي الهيثم!
رفع الهيثم رأسه بزهو:
- ها أنا الآن بينكم!
راح القهوجي يردد:
- يزداد شبابًا سيدي الهيثم! يزداد شبابًا!
وهو يتأمل شعره المصفف، وسالفيه الطويلين.
- سأجلس هناك.
سار خطوتين، فسارع القهوجي يسأل:
- القهوة الحلال أم القهوة الحرام؟
التفت إليه وجبينه يتغضن للدعابة:
- القهوة الحرام.
صفَّق القهوجي، وهو يتلوى من الضحك:
- يا عيني على ذوقك الملوكي، يا أبا الهياثم!
وهو يتقدم من الرواد، كان فحيحهم يزداد ارتفاعًا، وضحكاتهم المختنقة القصيرة النفس، وكانت شتيمة تلقى من هنا وأخرى من هناك. عمل بعضهم حلقات حول بعض الطاولات، وبعضهم الآخر ارتمى على الأرض، وهم يلعبون الورق. كان من الصعب عليه أن يتبينهم بسبب الدخان. ميز صوت أبي سريع الأجش في جوف المقهى القصي، فتقدم منه، ووقع على شلة الصعاليك، كما يدعوها البيك. على الأرض. في جلستهم ذاتها. كأنهم لم يغادروا أماكنهم منذ قرون: أبو سريع والأعور ومصطفى الذبيح والأشقراني وداني عمران الخضرجي و... مأمور المخفر الذي كان يتربع بقامته الضخمة، وشاربه الخشن مثل فرشاة القنب. في فمه خرطوم النارجيلة، والورق في يده، والبندقيته ذات الماسورتين معلقة على كتفه. كان هناك أيضًا أبو الكسيح، علا فوق القش، ومد قدميه القذرتين في وجوههم متابعًا اللعب.
لم يشعروا بوجود الهيثم قربهم حتى آنذاك. هناك طاولة بكرسي مقلوب على الأرض، رفعه، وجلس. خفق ورق اللعب، وهو يرمي النظر إليهم بين حين وآخر. كانت عيونهم على أوراقهم، وكل واحد منهم ينتظر دوره بلا صبر. يد امتدت، وسحبت ورقة. كان على اللاعب إما أن يحتفظ بها، وإما أن يلقيها. تسلل في أجسادهم شيطان اللعب، فبدا كل واحد منهم بسحنته الشاحبة ضائعًا. كانت هناك مجموعات من ورق اللعب بلون واحد والعدد مختلف، أو بعدد واحد واللون مختلف، ثلاثًا ثلاثًا أو أربعًا أربعًا أو أكثر، مصففة ومرتبة على الأرض.
وعلى حين غرة، ضحك أبو سريع، وهو يفح، ويضرب بكفه ورقة رماها في الحريق:
- سيكون هذا الدور لي!
فتح عليه المأمور عينيه الحذرتين، وأخذ مصطفى الذبيح يشتم، وقد وهن عزمه. عندئذ، قال القهوجي:
- ها هو طلبك، يا سيدي الهيثم.
وضع على الطاولة نصف زجاجة خمر وكأس، وافرنقع.
رفع أبو سريع عينيه، وابتسم للهيثم، وهو يكشف عن أسنانه البارزة. همهم رجل عجوز من الطرف الآخر:
- يزعجني العودة إلى الدار، هذا كل ما هنالك.
وعبس، فعملت تجاعيده صليبًا بين حاجبيه. مسح الآخر لحيته الكثة، وقال بتثاقل:
- أما أنا، فليس هذا هو السبب، كبرت، وأنا لا أفعل شيئًا.
برز شاب شديد السمرة، متبلد الشعر، وهو يضحك، ويكاد يغشى عليه من شدة الضحك. قبض على عضوه، وراح يسحبه، ويقول:
- هكذا! هكذا!
انفجر ثلاثة معه ضاحكين بفظاظة.
قال الشاب، وهو يغص بين ضحكتين:
- حتى طريق القدس.
انفجروا يضحكون من جديد.
- وبعد ذلك؟
- أنقذه أحد الفلاحين.
ثم قبض على عضوه، وسحبه متنطنطًا حتى انقطعت أنفاسهم لشد ما ضحكوا.
- إنها كلبة مضجاعة!
- بل كلبة ذات شرف! بقيت تركض به، وهو فيها، حتى أذلته بين الناس جميعا!
تجشأ المأمور، ومسح كرشه. قال بصوته الضخم:
- لقد غلبتكم!
وضع أوراقه كاملة، وراح يجمع القروش التي ربحها. جاء أحدهم، وقال للهيثم:
- سنلعب سويًا.
بدا وجهه له غريبًا مع أنه يعرف الكل على التقريب. ومع ذلك، كان يعرفه. أين رآه؟ كان الدخان يتراكم هنا وهناك كالضباب. وتذكر: إنه الرجل الذي هبط من عند عاهرة المقهى منذ قليل. صاح أبو سريع:
- تعال، يا الهيثم.
صديق الكل كان الهيثم حتى أنه لم يكن يخفي صداقته المتينة مع البيك!
اعتذر للرجل:
- أترى؟ إنهم يطلبونني.
رحبُّوا به جميعًا، ما عدا مأمور المخفر الذي حياه باقتضاب. أخذ مكانًا على الأرض، وتربع. ارتفع حاجبا الرجل العجوز في حركة لا تتوقف جعلتهما يتماسان، كان على وشك البكاء:
- حسرة عليك، يا حبيبي، يا أبا سِنَّه! حسرة على شبابك؟
- الكل يحمد خصاله.
- قاتل الله أعداءه.
- رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
رفعا لحيتهما ويديهما إلى السماء، وقالا بصوت واحد متهدج:
- آمين.
كان يبدو على بعض اللاعبين التعب، وعلى بعضهم الآخر الانكسار. أما الهيثم، فقد كان على أحسن ما يرام، كان كمن أخذ حمامًا باردًا ومنعشًا.
قال الهيثم:
- إذا أردتم اللعب معي وضعت شرطًا.
سعل المأمور، وقال محذرًا:
- إياك أن تعقد الأمور!
لمعت عينا الهيثم الماكرتين:
- إنه شرط ستوافقون عليه، وسيجعل للعبنا طعمًا وحرارة.
زحف أبو الكسيح، وسأل:
- ما هو شرطك؟
فصفعه أبو سريع:
- اخرس أنت! ما شأنك أنت باللعب؟!
أخذ الهيثم من فم الأشقراني سيجارة أنهى لفها، ووضعها بين شفتيه، فأشعلها له الأعور بسرعة. اختلج الأشقراني للحركة المباغتة، فقال الهيثم:
- إذا خسرتم دفع كل واحد منكم قرشًا كالعادة، أما الرابح، فله مني خمسة قروش.
صفَّق أبو الكسيح متحمسًا، فشتمه مصطفى الذبيح.
- اتفقنا؟
لف الأشقراني سيجارة أخرى، وهو يرمي النظر إلى المأمور الذي جرع قدح خمره، وسأل باحتقار:
- ألأنك تظن التفوق علينا وغلبتنا يأتي عرضك هذا؟
رفع سبابته حتى شاربيه محذرًا:
- عرضك لا شرطك!
ثم ضرب كفًا بكف:
- لكنك ستكون الخاسر حتمًا!
تعالى رأس الهيثم.
- إنها لذة اللعب التي أبحث عنها، المنافسة، والحرارة. ولأثبت لك ذلك وللجميع، وليس للتفوق وإظهار المهارة، ها أنا أقول لك وللجميع، إذا كسبت دورًا قدمت لكم زجاجة خمر.
ضجوا كلهم، واقترب بعض الرواد.
- وإذا لم تكسب؟ وأتحداك أن تكسب!
- حسنًا. ستكون لك خمسة قروش مني.
صاح المأمور بالقهوجي:
- بدِّل رأس الشيشة، يا ولد!
وهتف بالهيثم:
- اخلط الورق.
تأهبوا كلهم، وأحاط بهم معظم رواد المقهى قيامًا قعودًا. خرج الذبيح من اللعب، مفسحًا المكان للهيثم. كانوا أربعة: الهيثم، أبو سريع، الأعور، ومأمور المخفر. أحضر القهوجي للمأمور نارجيلة جديدة عليها هرم من الجمر، وبعد أن أحضر للهيثم نصف زجاجة خمره، سأله:
- ما رأيك ببنت ملك؟
وهو يقصد النارجيلة.
لم يجبه الهيثم في الحال، أنهى توزيع الورق، وبدأ بترتيب أوراقه، وفي الأخير، قال موافقًا دون أن يرفع عنها عينيه:
- برأس دوبل.
انتظر قليلاً قبل أن يضيف:
- وزجاجة خمر للأصحاب.
فتح المأمور الجالس في الجهة المقابلة للهيثم عينيه، فرماه الهيثم بابتسامة مقصودة:
- عربون صداقتي.
سحب المأمور ورقة، وقذف أخرى، وقال متفاخرًا:
- يبدو أن الحظ يبتسم لي!
ضحك كالحشاش، وأوداجه الضخمة تتلاطم، ثم صفع أبا الكسيح صفعة هائلة جعلته يصرخ، وصدغه بين يديه. عم الضحك: كان الشيوخ يضحكون لأقل شيء، ويعبسون لأقل شيء. كانوا طرفًا محايدًا، لكنه طرف مفتتن باللاعبين.
إن الحظ يبتسم له! كان كرش المأمور يعلو وينخفض كالبحر المفعم بالأسماك كلما سحب ورقة أو نفسًا من الدخان. أما الهيثم، فكان يلعب باطمئنان الخبير والكاشف والمتمرس. يا له من أبله كبير! رمى إلى المأمور بنظرة سريعة، وابتسم بمكر. شرب أولى أنفاس نارجيلته، وعاد يبتسم بمكر. كان قد عزم على أن يديخ خصمه بعد ساعتين، ويجعله يرقص من تلقاء نفسه للهزيمة ولكؤوس الخمر التي سيجرعها على حسابه، على حسابه هو، فخصمه سيكون الخاسر. فرش الهيثم أوراقه كاملة. مفاجأة! لقد ربح الأزعر! وضع المأمور أوراقه دون أن يصدق عينيه، وداعبها بأصابعه، وهو يشنك. جرع كأسه، ومزمز، وقال للهيثم:
- ربحت، أيها الأزعر!
صاح الهيثم بالقهوجي:
- زجاجة خمر للجماعة.
صفع الأعور نفسه، وحك عينة السليمة بخشونة، ولولا دفعة رادعة من كتف أبي سريع لما كف عن هجمته ضد عينه.
- خذ كأسًا.
أخذ الأعور كأسًا بطريقة تدعو إلى الرثاء، وجرعها على دفعتين. قال:
- إنه حظي الأخير!
قهقه أبو كسيح، فزجره الأشقراني بعنف:
- اخرس، أيها الأجرب!
نهض الخضرجي، وهو يحك صدره وعنقه: عشش الدخان في شعره المتبلد، وكان جائعًا. بحث في جيبه عن عرق لوبياء، أو زر بطاطا، لكنه لم يجد شيئًا. أحس بالخدر في عظمه، فتثاءب بقوة، ثم صعد على هضاب الدخان التي كان يتركها تفور من ورائه، وتتراكم كالقطن، وكان صاحب المقهى يلتهم رغيف خبز مطلي بمربى الخشخاش.
- أنا جائع!
- على قفاي!
ألح عليه طويلاً، فقسم له قطعة وضعها دفعة واحدة في فمه، والمربى يقطر على ذقنه الخشنة. مد لسانه عدة مرات لاحسًا، والخبز الذي لاكه يتناثر من شفتيه. ثم مسح فمه بقفا كمه. قذارة على قذارة! تمخط في جريدة ملوثة نقلها عن الأرض، واشترى بمليمين قطعة علك شامي دفعها في فمه، وقفز إلى حيث يجري اللعب. صبوا له كأسًا، فبصق قطعة العلك في كفه، وجرع الكأس دفعه واحدة. عاد يرمي قطعة العلك في فمه، وسعل، فشتمه مصطفى الذبيح، وهو يضغط عنقه النحيف بين أصابعه. هزه، وشله، ثم تركه، عابس الوجه دميمه، وهكذا غدت له عقدة خشنة بين حاجبيه الأملسين. كان ذلك كل ما فيه من صفات النعومة: حاجباه الأملسان. كان يغضنهما بقوة، ويكاد يمزق جبينه المتوتر على الدوام. وكان قميصه مفتوحًا دومًا عن صدر أشعر، ينتزعه بأظافره السوداء لقذارتها. لاحظ أبو الكسيح أن المأمور يشرب بشراهة، ففكر: يريد أن يربح بأي ثمن! لكن الهيثم ربح من جديد.
- أيها الممحون!
همهم أبو سريع بصوته الأجش:
- أيها الممحون! أيها الممحون!
ضحك الشيوخ في لحاهم، وتغضنت خدودهم المحفرة بشيء من الطيبة. راح الأشقراني يشد طاقيته القذرة بكلتا يديه، وهو يكاد يغمى عليه من الضحك المختنق على هيئة الأعور الذي يكاد يقتلع عينه السليمة لشد ما حكها. صاح الهيثم بالقهوجي:
- زجاجة أخرى للجماعة!
جمع القروش، وجاءت الزجاجة من فوق رؤوسهم. أفرغ أحد الجالسين كأس الهيثم في جوفه، فالخمر للجميع، أليس كذلك؟ طالما هناك ربح! انسحق وجه المأمور، وجرع كأسه الرابعة. شرب أبو سريع، وغردت الكأس على شفتي أبي الكسيح التي اختطفها أحدهم قبل أن يفرغها في حلقه. عند ذلك، نهض أبو الكسيح بقدمين سليمتين، وأتى زاوية في المقهى. فك بنطاله، وأخرج عضوه الدبق، وبال، ثم بصق مرتين، وهو يقفل سرواله، ويعود إليهم بسرعة، فوجدهم قد أخذوا مكانه. انطرح على الأرض، وسحل بين أجسامهم الرخوة، ورفع رأسه على مستوى الورق. ربح الهيثم للمرة الثالثة، فهبطت ذقن مأمور المخفر مثقلة بالخيبة، ودون أن يفوه الهيثم بكلمة، قفز القهوجي الذي كان يتابع اللعب من فوق أحد الكراسي ليحضر زجاجة خمر. عب المأمور الخمر بعناد وغضب: إن القضية في آخر الحساب أن تكون غالبًا أو مغلوبًا. همس في أعماقه، بين الثمل والصحو: مغلوبًا! حمل البندقية، وجعلها تقف عموديًا.
وزَّع الأعور الورق، وراح أحدهم يسعل بحدة. ترك ثلاثة أشخاص المقهى تاركين فراغًا بين المتفرجين. وقبل أن ينتهي الدور، عاد آخرون إلى بيوتهم. رفع أبو الكسيح عينيه إلى سقف المقهى ذي الروافد الخشبية الضخمة. هنا دخان أسود، وهناك أعشاش للعناكب، وهناك أيضًا بعض الصراصير. عندما أنزل عينيه، رأى أن الليل قد مضى، فوصلتهم ترنيمات آذان الفجر.
زلق الورق من بين يدي مأمور المخفر، وسقط رأسه، وأطبقت ذقنه على صدره. أطلق شخيرًا عالياً، ثم تماسك، وهو يرفع رأسه بصعوبة، ويبحث عن الأوراق. كانت الزجاجات ملقاة هنا وهناك. زحف أبو الكسيح، وهو يدحدلها بيده حتى كومة القش. رمي بنفسه فوقها منهكًا. كذلك فعل الخضرجي والأشقراني، وكلاهما يستند بظهره على ظهر الآخر، وقد انكفأ رأس كل منهما إلى الوراء. تثاءب الأعور، وهو يحك عينه السليمة بوهن، بينما سحب أبو سريع ورقته الأخيرة بصعوبة. الوحيد الذي احتفظ بقواه: الهيثم. تشعث شعره قليلاً، وبدا كأنه بدأ اللعب منذ قليل. تركهم آخر الرواد منذ لحظة، وهو يسحب قدمه سحبًا حتى الباب المرفوع إلى وسطه. وفي زاوية، كان القهوجي يجمع الأوساخ بمكنسته ذات اليد القصيرة.
- لننهض!
ترك الهيثم الأوراق، ورمي أبا سريع بقطعة ذات عشرة قروش، فذهب عنه شحوبه واسترخاؤه، وقفز في جلسته.
- إنها لك.
التفت إلى رفاقه ليتأكد من أن أحدًا لم يره: لا، لا أحد! أشار الهيثم إلى المأمور الذي سقط رأسه من جديد.
- من سيوصله؟
- سيعود وحده مثل كل صباح.
خبطه أبو سريع على كتفه خبطة قوية، فنهض كالجمل الخائر. كان يعرف اللحظة التي يضربه فيها أبو سريع، اللحظة المعلنة عن الانصراف. اصطدم بكل شيء يعترضه، دون أن يشعر بذلك، شاقًا طريقه بعنف. كان مصطفى الذبيح ينام على ظهره، ويداه تحت رقبته، وطاقيته على وجهه. نكزه أبو سريع برأس حذائه، فهب ناهضًا، وتبعا المأمور. عاد الهيثم يأخذ مصباحه، وتبعهما، ثم تبعهما الأعور بدوره، وهو يسير بصعوبة، لخدر يصيبه من رأسه إلى قدميه.
في الخارج، كان الفجر الأزرق في الخارج... كان يسحب عن القرية ثوب الليل، لتنهض عارية في الصباح. وفي الخارج، الزقاق الأزرق، والنسمة الزرقاء، والآذان الأزرق الذي ينتهي بنغمة ترتد مع حفيف أوراق الشجر.
أحاط أبو سريع والذبيح بالمأمور كلٌّ من ناحية، والمأمور يترجح. وبعد عدة خطوات، حمل أبو سريع البندقية، ووضعها على كتفيه. جعل ذراعيه تتدليان من فوقها، وراح يغني:

فرجي بطول السلاح
مكانك قف!

ثم قهقه عاليًا وكثيرًا، والذبيح يصفع إليتيه، بينما جري الأعور حتى التحق بهما، وتأبط ذراع المأمور.
ها هم يسحقون لآلئ الندى، وتصعد في الأجواء رائحة مقززة. وها هو الهيثم يتباطأ في مشيته، بعد أن تركهم بضعة أمتار من أمامه، المصباح بيده، وهو يسمع بأذنيه أصواتهم المتنافرة، ويري بعينيه خطواتهم المضطربة، على درب الملعونين.
* * *
ما أن صعدت الشمس على الجحيم حتى حمل الصحفي الأمريكي جوني شارلز، المبعوث الخاص للتايم، كاميرته وكراسه وقلمه، وأخذ يتجول في شوارع الموت والخراب. صوّر الجثث الأشبه بالهياكل العظمية التي يجمعها في عربة يهوديان بائسان، وحقق في الأزقة التي لا فرق فيها بين الإنسان والحيوان، وشرب الجعة في خمارة الحمل الثمل. لم يجد في كل هذا ما يثير اهتمام القارئ الأمريكي، كان كل هذا مسئمًا ومملاً.
عمّق البحث، فشاهد كيف رجال الغستابو يسوقون البريئين من الرجال والنساء سوقًا إلى مراكز التحقيق، حتى أنه رافق بعضهم، وشاهد حلقات التعذيب. ولما منعوه من التصوير، حرد، وعزم على ألا يكتب كلمة واحدة عن كل هذا، إذ دون التوثيق العلمي لا يصدق القارئ الأمريكي ما يجري. وعندما تركوه يصور شاحنات الموت الذاهبة إلى تريبلينكا، أوهموه أنها ذاهبة للراحة والاستجمام.
ذهب جوني شارلز إلى لقاء الكولونيل هينز من أجل مقابلة نشرتها التايم فيما بعد مع صورة ملونة للعسكري النازي على الغلاف، تحت عنوان: الروح الجرمانية روح الحرية. شرح له معضلته، قال له إنه لم يجد شيئًا في غيتو وارسو يثير اهتمام القارئ الأمريكي. ابتسم الكولونيل هينز، وقال مداعبًا: لو كنتم جيراننا لكان النظام الجديد خير نظام لكم! ابتسم الصحفي الأمريكي بدوره، وأبدى بالفعل أسفه، فالجغرافيا والتاريخ أحيانًا لا ينسجمان. بعد المقابلة، رافق الكولونيل هينز جوني شارلز إلى أماكن في الغيتو كان يفترض ألا تكون مسئمة ولا مملة. أخذه إلى عنبر جمعوا فيه النساء الحبالى اللواتي على وشك الولادة، فرأى النساء نحيفات أشبه بالهياكل العظمية، لكنهن يلدن على يدي القابلات أطفالاً أجمل من كل أقمار الدنيا. صور المبعوث الخاص للتايم، وهو لا يتوقف عن ترداد: انترستنغ! انترستنغ! وأخذه إلى عنبر آخر جمعوا فيه النساء اللواتي لم يعرفن ضوء الشمس منذ أسابيع بل منذ شهور بانتظار دورهن للذهاب إلى تريبلينكا، عندما فتحوا عليهن الباب أخفين أعينهن بأياديهن للضيق الذي أبدينه من انعكاس الضوء، وبدون كالمجنونات بشعورهن المنفوشة، وتعابيرهن المتوحشة. وهنا أيضًا صور المبعوث الخاص للتايم، وهو لا يني يردد: أنترستنغ! أنترستنغ! وعلى باب عنبر ثالث، تردد الكولونيل هينز، وفي الأخير دفع الباب بقدمه، وأدخل جوني شارلز أمامه، فإذا بعشرات المرضى من النساء والرجال والأطفال، وهم على وشك الموت. سد المبعوث الخاص للتايم أنفه للرائحة الكريهة، وسأل لماذا لا يذهبون إلى العلاج. أجاب الكولونيل هينز: بكل بساطة لأنهم يرفضون الذهاب إلى العلاج! وليزيل آثار الاستغراب من عيني الصحفي الأمريكي وربما ليزيدها، حمل الضابط النازي طفلاً، وهو يقول لأمه: من أجل علاجه! من أجل علاجه! والأم تجذب الكولونيل من ذراعه، وتبكي، لا تريده أن يأخذ ابنها من أجل علاجه. خلال ذلك، لم تتوقف كاميرا المبعوث الخاص للتايم عن أخذ الصور، وهو لا يتوقف كآلته عن ترداد: أنترستنغ! أنترستنغ!
* * *
كان صعود الشمس ساحرًا: خوخة حمراء غطاها السحاب الأبيض. وفي القرية، كانت حركة كل صباح: غناء الديك، وخوار بقرات عواد، وأهازيج الطير.
خرج الفلاحون إلى الحقول، بفؤوسهم، ومعاولهم، وعرباتهم. ابتسموا للشمس، وللسحاب الذي يغشى الأرض. جرى الماء في القنوات، والأرض خضلة كجسد مبتل. صعدت رائحة العشب الأخضر، ورائحة العشب المحترق، في الأجواء.
نزل عواد ببقراته إلى حافة البحيرة، وبدأ يغسلها. ومن ناحيتها، أخذت رقية طريقها على المنحدر، بقامتها الفارعة في نداوة الصباح، وثوبها الأزرق يلتصق بفخذيها. سحق النسيم أصابعه السحرية على بطنها، وتراخى قليلاً، وهو يترك ثنيات ثوبها تتساقط على وركيها، ثم هاجم نهديها اللذين يشرأبان كفرخين جريئين، وانساب بين نهديها. انتفضت رقية، رفعت عنقها، وتمايلت. انزلق النسيم أبعد، على عنقها الآن، وانعكس الغدير في عينيها. وفي عينيها السوداوين أضاءت مروج الليل. يا إلهي! تساقط الضوء الأسود كالشلال. تغضن جفنيها ثم مَلِسَا كحشائش الجبال.
دفعت امرأة مأمور المخفر خشب النافذة، ورأت عوادًا وبقراته والبحيرة وشجرات الحور. في الطرف الآخر، كانت أم بسمة تأتي، على ظهرها حزمة من الحطب، بينما ترمي بسمة الدجاج بالذرة. في الطرف الآخر، كان إسحق يغذ الخطى.
بعد أن حياه أحدهم من فوق حماره، قال:
- القمح! لم تمطر الليلة من أجل القمح!
- ستمطر على أي حال.
رفعا رأسيهما إلى السماء، كان الغيم ينسحب عن نهد أزرق.
- لن تمطر اليوم!
- ستمطر على أي حال.
ابتعدت خطوات الدابة.
فلاحان آخران: أحدهما يضرب الفأس في الحطب، والآخر يمشط شعر الأرض.
قال إسحق:
- الله يعطيكم العافية!
أجاب الفلاحان:
- عشت!
- الله يعافيك!
اقترب شيئًا فشيئًا من مجموعة بيوت حقيرة من صفيح وخشب، وكانت هناك أيضًا بعض الخيم السوداء المرقعة التي يسكنها فلاحون آتون من وادي عربة. جاؤوا بأولادهم ونسائهم منذ سنوات، واستقروا في بقعة جرداء من أرض الباشا حولوها بكدهم وعرقهم إلى جنة. ومع ذلك، بقيت هذه الجنة ممنوعة عليهم. حاول الباشا طردهم لمرات، لكنهم كانوا يدفعون له مما يكسبون كأجراء للأرض، لقاء سماحه لهم بالبقاء. كان البؤس يقيم في كل مكان معلنًا أنه السيد الطاغي، وكانت أكوام القمامة على الأبواب، وأبوابهم ستائر من الخيش أو القماش الملوث المرقع. كان أولادهم يقومون ويقعدون في الطين، عراة، أو شبه عراة. وكانت هناك قدور مدغمة، شديدة السواد، فيها ماء يغلي فوق نار من التبن والحطب. كان كل شيء هنا يستمد قوته من الطين، حتى عبارات (( الله أكبر )) و(( توكلت على الله )) التي كتبت على الجدار الطوبي الوحيد. أسماهم البعض غجرًا، والبعض الآخر نَوَرًا، بينما هم عربان فقراء يبحثون عن الرزق والحياة الأفضل. رفض الباشا أن يعملوا في أرضه، إلا أن البيك أخذ بعضهم نكاية به، وقبل الخواجا الأيدي القوية منهم بثمن زهيد.
وهو يمضي ببيت شيخهم أبي قاسم، ظهرت ابنته صفوريا من وراء الستار. كانت تحمل طشتا امتلأ بالماء العكر، وتشمر عن ذراعيها المكتنزتين، وتجدل شعرها الغزير الأسود بجديلتين رمتهما على نهدها الفائر. كان وجهها الأبيض المدور موشومًا على الذقن والجبين، وكانت أذناها مزينتين بأقراط ثقيلة، ويداها بأساور كثيرة، وأنفها بحلقة كبيرة من الفضة انغرزت في جناح أنفها الدقيق. عندما تلاقت عيناها اللوزيتان وعينا إسحق، أطلقت صيحة، وارتدت على عقبيها خجلة، وهي تخفي ابتسامتها البيضاء. جاءت امرأة بطفلها العاري بين ذراعيها، على وجهها ملاية سوداء لم تظهر منه سوى عينيها، ونظرت امرأة أخرى مكحلة بكحل غزير من وراء ستار الباب. عند ذلك، أطلت صفوريا برأسها، وهي ترفع الستار حتى ذقنها، متابعة باهتمام القامة الفارعة لهذا الفتى الأسمر، لكن إسحق مضى، وهو يغذ خطاه وسط هرج الأولاد ومرجهم.
كان أبو بسمة يشمر عن ساقيه، ويغوص بهما في الطين الذي راح ينقله بالمجرفة، وينثره أسفل خيوط الشمس التي بدأت تنكه، وقد سال العرق تحت إبطه. وقف إسحق عند أول الحقل، أخذ نفسًا، ونادى:
- يا أبا بسمة!
استقام أبو بسمة، وهو يبدو عليه الإرهاق، وأشار إليه بالمجيء، فجاء إسحق بخطوات واسعة.
* * *
قال الكولونيل هينز لمبعوث التايم الخاص:
- الحياة هنا مملة ومسئمة لأنها عادية ككل حياة في أي مكان آخر.
ردد جوني شارلز:
- أنترستنغ! أنترستنغ!
- انظر إلى اللحم المعلق على باب هذه الملحمة، أشار الكولونيل هينز إلى الملحمة التي يمضيان قربها.
- أنترستنغ! أنترستنغ!
لم يقل الكولونيل هينز إنهم سمحوا باللحم من أجل أن يصوره الصحفي الأمريكي، كما أنه لم يقل إن معظم سكان الغيتو ليس بمقدورهم شراء اللحم.
- وانظر إلى الخبز المعروض على كافة أنواعه في واجهة هذه المخبزة، أشار الكولونيل هينز إلى المخبزة التي رموا صاحبها في معسكر الموت تريبلينكا، وجسّ بيد فخورة النجمة السداسية الكبيرة أكثر مما يجب التي تلطخ الزجاج.
- أنترستنغ! أنترستنغ!
- وانظر إلى هذا الحمّام الجماعي المقدس الذي يقوم به ناس الغيتو مع احترام رغبة التوراة في فصل النساء عن الرجال.
- أنترستنغ! أنترستنغ!
- وانظر إلى ممارسة الختان الحر في هذا النادي.
- أنترستنغ! أنترستنغ!
- وانظر إلى قُشامة طعام الجنرالات في هذا السوق الشعبي بعد أن أعدنا إحياء تجارة المهرج التي كانت سائدة في فرنسا في القرن التاسع عشر.
- أنترستنغ! أنترستنغ!
- ومفاجأتي لك يا مستر شارلز هي هذه...
إذا بجوقة من الطبالات الجميلات تصعد شارع الغيتو الرئيسي، والطبالات يرتدين زيًا عسكريًا أحمر يكشف عن أفخاذهن الناصعة البياض، تتقدمهن فتاة تبتسم لشمس الغيتو، وتلوح بصولجان في يدها ذات القفاز الذهبي.
- أنترستنغ! أنترستنغ!
راح جوني شارلز يصور الاستعراض آلاف الصور ولا صورة واحدة للناس الذين يغذون الخطى دون أن يفطنوا لشيء.
* * *
توقفت سيارة البلايموث السوداء أمام القصر، هبط السائق بزيه الخاص، وأخذ ينقل الحقائب من القصر إلى صندوق السيارة.
خرجت سارة، وهي تحمل حقيبة مربعة بيضاء، وحقيبة يد بنية. كانت ترتدي معطف فراء فاخرًا، وتعقد حول عنقها شالاً بنيّاً لفت به شعرها. تقدمت من السيارة بخطوات بطيئة، ومرجانة إلى جانبها، وهي تحمل أكياس ملفوفة بعناية. فتح السائق الباب الخلفي، فدخلت سارة، وتناولت من مرجانة ما تحمله.
- مع السلامة!
مسحت مرجانة دموعها بمنديل، وانطلقت السيارة. لم يكن في أزقة القرية أثر لإنسان، رأت سارة من وراء الزجاج فلاحة تقترب وولدان ثم ثلاثة. وقفوا جميعًا باهتين، وهم يحدقون في السيارة. ركض أحدهم بقدميه الحافيتين من ورائها، وهو يصيح. أخذ يقلد زامورها، وهو يقبض على مقود خيالي، وكأنه يسوق.
الساحة العامة: البقال يخرج أكياسه، والعم أبو إسماعيل الحداد ينصب أسرجته، والحلاق يرفع باب دكانه. رأت سارة من بعيد أبواب المصبنة والمطحنة والمعصرة مشرعة. كان هناك بغل على ظهره أكياس الدقيق. عندما مرت السيارة، سارع أحد عمال المعصرة إلى الخروج بدافع الفضول. كان العمال في طريقهم إلى المصنع بأرديتهم الخشنة، وجباههم السمراء العريضة. كان بعضهم يشمر عن ذراعيه القويتين، فترمي سارة العضلات المفتولة بنظرة شهوانية. وكان بعضهم يضع على رأسه طاقية، أو يلف رأسه بحطة. عندما وصلت السيارة إلى الطريق العام، التفتت سارة خلفها: رأت فلاحين شابين يهرعان من بعيد، وفجأة، يتوقفان في قلب الحقل. رفع أحدهما يده فوق عينيه، وضحك الآخر بقوة، وهو يشير إلى السيارة. وقبل أن تسقط السيارة في اللهب الأخضر للبيارات، مضت بالمكان الذي يعمل فيه أبو بسمة وأبو بسمة يتابعها بعينيه. توقف إسحق عن الكلام إلى أن اختفت السيارة خلف الأشجار الكثة.
- سيارة الباشا!
تأوه أبو بسمة، وهو يشير إلى أراضي الباشا إبراهيم الشاسعة:
- الله في السماء والباشا على الأرض!
بدا مهمومًا. كانت أصوات الموتورات الحديثة التي تنقل الماء من بطون الآبار تهدر في أرض الباشا إبراهيم.
- ماذا قلت، يا أبا بسمة؟
اربد وجه أبي بسمة الشديد السمرة. فجأة، توقفت الموتورات، وجرى فلاحان بقدميهما الحافيتين في القنوات. قال إسحق:
- عواد أخونا كلنا، ولولا ثقتي الكبيرة بك وبنخوتك لما لجأت إليك.
تأوه أبو بسمة من جديد:
- عواد كله خير وبركة!
حدق إسحق فيه، وقال:
- الصديق وقت الضيق، ومن لعواد غيرك من صديق؟
انتظر أن يعطيه كلمة:
- ماذا قلت؟
تململ أبو بسمة:
- بذار ثلاثة مواسم شيء كبير فوق طاقتي وطاقتك.
فلم يتمالك إسحق عن قول:
- أعط ما تستطيع عليه، كيسًا أو كيسين، واترك علي الباقي. سأتصل بالناس الكرام أمثالك، ونحل هكذا مشكلاً عويصًا. يد الله مع الجماعة، يا أبا بسمة.
رقّت نبرته:
- إيه، يا ولدي... أي نعم، يد الله مع الجماعة، صدق من قال.
- إذن لنتعاون من أجل نجدة عواد.
خرج من الطين، وسار حتى الأرض المحروثة.
- ولكن...
تردد.
- ماذا، يا أبا بسمة؟ عهدنا بك تقف دومًا إلى جانب الرجال وقت الشدائد.
سلخت هذه الكلمات وجهه:
- إيه، يا ولدي إسحق!
قطع تردده وقال بحزن وضيق:
- العين بصيرة واليد قصيرة!
- ماذا تعني، يا أبا بسمة؟
- مشيئتك يا رب وإرادتك!
عبس إسحق:
- تعني أنه ليس بمقدورك؟
توجه إليه طالبًا السماح:
- الله وحده العارف بالحال، لو كان باستطاعتي أن أفعل شيئًا لما قعدت مكتوف اليدين، وعزيز عليّ مثل عواد ينهبه الضيق.
لاحظ الخيبة تحفر وجه إسحق، فقال:
- كلنا في الهم سواء، فاسمح لي، يا ولدي.
تمتم إسحق والخيبة تطحنه:
- بسيطة.
وأراد أن يتركه.
- يا إسحق!
حط عليه عينيه:
- إذا لم تصدق اذهب على التو إلى بيت الخزين وانظر بنفسك. ستجد فيه بعض التبن وبعض الأعشاب.
- صدقتك، يا أبا بسمة.
رفع حاجبيه، وقال:
- ما أزرعه آكله أنا والولية وبسمة. الأرض سترنا في الدنيا والآخرة. ولا تنس الضرائب. الحمد لله على أي حال!
- لتبقَ قويّاً على الدوام!
تذكر فجأة، فسأله:
- لماذا لم تكلم المختار؟
- المختار؟
- سيعمل ما في وسعه. قل له إن عواد زلمة الجميع.
قال إسحق مركزًا على كلماته:
- اعلم، يا أبا بسمة، المختار إبليس، إبليس رجيم لا يعمل إلا لمنفعته.
– ليس إلى هذه الدرجة، يا إسحق!
- اعلم، يا أبا بسمة، المختار ظفر من أظافر الباشا، وعلينا جميعًا أن نعرف هذا.
- اتصل بالبيك.
فاستعاذ إسحق:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
- إذن لا فائدة من إنقاذ عواد.
قال إسحق بترو:
- لن يكون إنقاذ عواد إلا على أيدينا.
– لكن الحال صعب.
- سيتغير الحال.
- من فمك إلى باب السماء. لكنه حلم!
أشار إلى أملاك الباشا الواسعة:
- إنه متغلغل في الأرض كجذور الشجرة العجوز.
- علينا أن نقتلع الشجرة العجوز من جذورها، ونزرع معًا في مكانها شجرة غضة نأكل من ثمرها جميعًا.
- الله يحرسك ويحميك، يا إسحق! ما أحلى كلامك لو يتحقق!
- الصبر.
- الله يعطيك القوة، يا إسحق، ويحفظك!
همَّ إسحق بالذهاب.
- انتظر!
رأى ابنته تقترب. تابعاها إلى أن وصلت.
- صباح الخير، يابا.
- صباح الخير، يا بسمة الغالية.
قبلت يده، ثم قالت لإسحق بخجل:
- صباح الخير، يا إسحق.
- صباح الخير، يا بسمة.
- فطورك يابا.
قدمت إليه صرة الطعام.
بسمة السمراء. النحول في خديها ألم في قلبه. كلما رآها أحس بقسوته عليها. كانت تحبه. كان يعرف ذلك معرفته لعدد الأشجار في حقله. لكنه مشغول الفؤاد، كان يحب رقية. ودَّ لو يفهمها أن عليها أن تكف عن حبه. لكن غرامها في العينين به يساوي غرامه في العينين برقية. من هنا ينبت ألمه، وحيرته. من هنا يشفق على بسمة، ويدعو أن تلقى من يعوضها عنه. لم يشأ إسحق الانتظار أكثر:
- سأذهب أنا.
- قلت لك انتظر، يا إسحق.
حلّ أبو بسمة الصرة، وقسم رغيف الزيت بالزعتر نصفين:
- خذ هذا من صنع يدي أم بسمة.
- لا، يا عمي.
- خذ وكل في الطريق.
رمى الأب بسمة بنظرة، وابتسم:
- من أجل بسمة.
صعد الدم إلى وجهها، وطأطأت رأسها، وهي تبتسم. تقدم إسحق مترددًا، وتناول نصف الرغيف.
قال أبو بسمة:
- تحضره لي بسمة كل صباح. الله يحرسها!
تأملها إسحق مبتسمّا: ستبقى عذابه رغم كل شيء.
قال:
- يعطيكم العافية!
– مع السلامة، يا ولدي!
وذهب.
* * *
نادى الحاخام:
- تعالوا إلى بيت يهوه! لطّفوا من كربكم بين يدي الرب!
ابتسمت ماريشيا وبولينا له، كانتا في ثيابهما المدنية، وقالتا للحاخام:
- نحن لسنا يهوديات.
ابتسم الحاخام لهما، وقال:
- لا بأس في ذلك، العبادة لا دين لها.
ضحكت الفتاتان الشقراوان، فاقترب الحاخام من ماريشيا، وهمس في أذنها، وهو يلتصق بها:
- إذا أردت، جعلتك تهتدين بطريقة أخرى ستحبينها!
قهقهت ماريشيا، وبولينا تشير إلى ماريك وموزارسكي، وهما يقتربان من موعدهما في لباس الضباط الألمان. بعد قليل من الحيرة والارتباك، قالت ماريشيا للحاخام:
- معذرة، هناك من يأتي لاصطحابي.
تركته وبولينا، وذهبتا إلى لقاء الصديقين، وهما لا تخفيان قلقهما.
- ماذا تفعلان في هذه البزة؟ همست ماريشيا محاولة ألا يسمعها أحد، وهي تقبل ماريك قبلة صغيرة.
- لماذا تخاطران بحياتكما من أجلنا هكذا؟ همست بولينا، وهي تقبل موزارسكي قبلة صغيرة.
قطعا بهما الشارع إلى الرصيف الآخر، والحاخام يلاحقهما بعينيه، وضاعوا كلهم بين الجموع. كان الجسر الضيق الواصل بين الغيتو الصغير ملآن بالعابرين، الشيوخ منهم قبل الشباب، والأطفال منهم قبل النساء، وعلى الرغم من قصره، كان قطعه يكلف المرء جهد وعناء من يقطع الجحيم، بينما ما أسهل قطعه من تحت، من باب في الجدار، لا يفتح إلا لأفراد الجيش الألماني. اجتازه الأصدقاء الأربعة، ووجدوا أنفسهم في الشارع الذاهب إلى قلب وارسو. أخذوا تاكسي إلى بار المحامين، والزوجان العاشقان يجلسان على المقعد الخلفي الضيق للسيارة، وهم في أحضان بعضهم البعض. كان السائق يرمي النظر إليهم عبر المرآة، ولا يجرؤ على فتح فمه، فالزي العسكري كان زي الله، وعليه أن يسجد لكل الآلهة التي ترتديه. لم ير العشاق الأربعة خلال طريقهم وارسو التي غدت أنقاضًا، كانوا في عناق دائم، ولم يكن يهمهم أن تغدو كل وارسو أنقاضًا وكل العالم. عندما وصلوا إلى بار المحامين، وجدوه دمارًا على دمار، فطلبوا من السائق أن يذهب بهم إلى مكان جميل يعرفه يقضون فيه بعض اللحظات الممتعة، ورموه بحفنة من الماركات. أخذهم إلى منطقة راقية بعيدة جعل الألمان منها منطقتهم الخضراء، وأنزلهم قرب صف من المطاعم الفخمة.
أكلوا أفخر الطعام، ورقصوا، وضحكوا. كانوا من أسعد الناس على وجه الأرض، وحولهم، معظم من كان حولهم كان من الضباط الألمان، كانوا هم أيضًا مع عشيقاتهم، وكانوا هم أيضًا من أسعد الناس على وجه الأرض.
وماريك يخرج من التواليت، سمع حديثًا خافتًا بين صاحب المطعم البولندي وصاحبة المطعم البولندية، لم يسمع تمامًا ما يقولان، لكنهما على مرآه، وهو يتقدم منهما، سارعا إلى الهرب من الباب الخلفي، ففهم ماريك كل شيء. خف إلى البحث في كل مكان من القاعة عن القنبلة الموقوتة، وعلى منظره المرتعب، فهم الجميع أن الخطر محدق بهم، فأخرسوا الفونوغراف، وانتظروا. لم يهرب منهم أحد، كان لهم في تلك اللحظة قدر واحد تركوه بين يدي ماريك، واستسلموا له. لنقل القدر، ولنقل المصير. وما هي سوى دقيقة أو دقيقتين حتى وقع المحامي القديم على الآلة المدمرة، وعقربها يتكتك لم تبق على انفجارها سوى عدة ثوان تمكن ماريك خلالها من انتزاع خيط الموت، وأنقذ الجميع.
رفعه الضباط الألمان على أكفهم عاليًا، ورموه، ثم تلقفوه، وأجلّوه. وضعوا أسطوانة، وعادوا إلى الرقص رقص الجنون، والصياح صياح المجنون حبًا للحياة، لكنهم لم يستمروا إلى ما لا نهاية. وقعت سلسلة من الانفجارات المتتالية في المطاعم المجاورة، وقبل أن يتركوا المكان ليضيعوا في شوارع وارسو المدمرة، رأى العشاق الأربعة جثث الجنود الألمان المتفحمة، وهي تغطي الأرصفة.
* * *
كان لآلات الحياكة صوت رتيب: خيوط تمتد، تسيل في سمفونية، ثم تتساقط قطعة واحدة. وكانت هناك أيضًا آلات تغسل القطن، وأخرى تصبغه، وثالثة تحول القطن إلى خيوط.
كان الصبر سمة العمال، السكوت، المثابرة، وكان المهندس صادق يتفقدهم. مر بالحاج عبد النبي، فالتفت الحاج يمنة ويسرة: لا أحد من العمال يراه. فغر فمه عن ابتسامة كريهة، وراح يهمس في أذن صادق، فاتجه صادق رأسًا إلى إحدى الآلات المعطلة.
صاح المهندس:
- يا أسطى.
جاء الأسطى حسن، وهو يمسح يديه المصبوغتين باللون الأخضر بقطعة قماش ملوثة، فسأله بجفاف عن سبب توقف الآلة.
- تعطلت بالأمس.
- لماذا؟
- تعطلت فجأة. حاولت إصلاحها، ولكن...
- لماذا لم تخبرني بالأمس؟
- كنت قد خرجت.
- واليوم صباحًا؟
- ها أنا أخبرك، يا سيدي المهندس.
- من عطلها؟
- توقفت وحدها.
نبر:
- من كان يعمل عليها؟
قال الأسطى بصبر:
- أبو العبد.
- فلتأت به.
أتى الأسطى بأبي العبد: في عقده الخامس، عيناه تبرقان، حاكت وجهه خيوط الزمن قبل الأوان، وتهدل لحم عنقه.
- ماذا فعلت بالماكينة؟
- توقفت وحدها.
- توقف وحدها كيف؟
- لا أدري.
وعيناه البراقتان ممتلئتان بالتحدي.
- لا تدري؟
– لا أدري.
تمتم المهندس:
- يا لك من مخرب!
وهب به طاردًا:
- اذهب واقعد في دارك، وإياك أن تريني وجهك ثانية!
راح أبو العبد يصيح:
- الله أكبر، يا عالم... يا ناس... اسمعوا العجب العجاب... الله أكبر!
وأبرز مخالبه ليزرعها في وجه خصمه، إلا أن الأسطى حسن حال دون ذلك. لا ذنب لأبي العبد! مظلوم... في المكتب، طلب الأسطى حسن محادثة المهندس صادق، فرفض. عاد الأسطى حسن أدراجه خائبًا. ارتفع ضجيج الآلات. تأمل في المهندس الجديد المساندة والتفهم، ولكن...
بعد قليل، جاءت عربة الباشا إبراهيم، فهب المهندس صادق ليستقبله، بعد أن فتح الحارس له الباب.
- شرَّفت، يا باشا!
وأدخله أمامه.
- كيف الحال؟
- كل شيء على ما يرام، يا باشا.
وتردد:
- ما عدا...
فتح عليه عينيه القاسيتين منتظرًا. قال صادق:
- عطَّل أحد العمال إحدى الماكينات.
رد الباشا بجبروت وبأس:
- اطرده!
انفردت تعابير صادق، وابتسم:
- هذا ما فعلته، يا باشا.
أبدى الباشا عن نواجذه:
- اركله بقدمك وحطم أسنانه!
تقلص حجم المهندس بين يديه:
- أمرك، يا باشا.
- إياك والتساهل، أشكال كهذه يجب الضرب على رقابها بشدة، وإلا تدهور العمل.
- أمرك، يا باشا.
جسّ الباشا إبراهيم عباءته بأصابعه الممتلئة، وجاء هيابًا من وراء المكتب. جلس، وقال:
- أخبرك بأنني عقدت صفقة مع بعض التجار في سوريا، سيبيعوننا قطنهم مقابل أن يشتروا أقمشتنا. الصفقة مستعجلة، وبالتالي ضاعف ساعات العمل.
– حاضر، يا باشا.
– من يتأفف اسحق عنقه.
- أمرك، يا باشا.
- إذا وجدت تقصيرًا أو إهمالاً من أحد عوضه بآخر، من يافا، من اللد، وحتى من لندن. أريد عمالاً جيدين لإنتاج جيد.
ضرب الباشا عصاه في كفه مرتين، ونهض:
- هل من طلبات؟
نظر المهندس بين قدميه، ثم قال:
- هنا كل شيء على ما يرام.
- والبيت؟ هل أعجبك البيت؟
ابتسم:
- كأن الباشا إبراهيم على علم بالأمر!
- ماذا ينقصك؟
- مدفأة الحطب أمرها مزعج.
- سنبعث لك بمدفأة على الكاز. هل أنت سعيد؟
- شكرًا، يا باشا.
وهو يصل إلى باب العربة، أضاف الباشا:
- ستكون المدفأة في بيتك غدًا.
وقبل أن يغلق الحارس باب العربة، قال:
- رغم هذه الشمس، فإن الشتاء سيكون باردًا هذه السنة.
كان زغلول قد جاء يقفز من بعيد، ارتمى على يد الباشا يقبلها، والباشا يقهقه، وهو يشد خصلات شعره كالكلب.

ما أن غادر الباشا إبراهيم المصنع حتى جاء الخواجا داوود على قدميه. سأل المهندس صادق من بعيد:
- هل أنت بانتظاري؟
- أهلاً وسهلاً بك، يا خواجا.
خلع الخواجا داوود قبعته، وقال بلهثة خفيفة:
- كنت مارًّا من هنا، فقلت لنفسي من الواجب أن ألقي على مهندسنا التحية.
قال زغلول، وهو يقبل يده:
- زارتنا البركة، يا خواجا!
- كيف حالك، يا زغلول، يا كليبي؟ هل برئت ساقك؟
راح زغلول يشكو ظلم الأيام. كان عاملاً فاعلاً في المصنع، لكن الآلة هوت على ساقه، وسحقتها.
- أسنانك سليمة؟
- سليمة، يا سيدنا الخواجا داوود.
- خذ.
دس قطعة نقدية في يده:
- اشتر قطعة حلاوة لأسنانك.
رفع زغلول يديه على السماء، وراح يدعو، ويدعو.
في المكتب، سأل الخواجا المهندس صادق:
- كيف حال العمل؟ أتمنى أن تكون قد اعتدته.
- العمل جيد، يا خواجا.
- اعتبرني صديقك، واشك لي همومك.
- هذا أملي.
سحب الخواجا داوود سكسوكته مرتين، وتبصر فيه مليّاً:
- والعمال؟
- طردت أحدهم منذ ساعة.
تصانع عدم الفهم، وسأل:
- لماذا، لا سمح الله؟
- إنه فوضوي ومخرب.
تصانع الموافقة والإقرار:
- أما إذا كان الأمر كذلك، فالحق معك.
وبطريقة ودية، وضع الخواجا بين يديه ظرفًا:
- هذا لك.
ألقى المهندس صادق على الظرف نظرة متسائلة قبل أن يفتحه، واكتشف رزمة من النقود.
- ما هذا، يا خواجا؟
فلقت الابتسامة فمه:
- ضعه في جيبك!
استجاب.
قال الخواجا داوود عَرَضِيًا:
- أما عن العامل الذي طردته، فلا تحمل همّاً.
- هناك من يعوضه في الوقت الحاضر.
قال الخواجا داوود ساخطًا:
- حسنًا.
ثم تقدم من محدثه خطوة:
- إذا احتجت إلى من يعمل معك، بأمرك وحسب مشيئتك وإرادتك، فعندي من العمال المهرة، والذين عملوا لسنوات في مصانع أحدث ألف مرة من هذا المصنع، في ألمانيا.
سكت ليشاهد رد الفعل لديه. ودون أن يدع له مجالاً للتفكير، أضاف:
- بعض الأقارب ليس إلا.
طلت الآن ابتسامة صفراء فمه. كرر:
- بعض الأقارب. أقارب عانوا عبر التاريخ، ونكل الألمان بهم.
ابتلع ابتسامته، وقال بسرعة:
- ها أنا آتيك ((بالحضارة)) على طبق من فضة.
- نحن بلد متطور، يا خواجا! هل تنسى حقولنا وكرومنا وصناعتنا الخجولة حقًا ولكن الموجودة. لسنا رهطًا من الناس الوحوش!
- بالنسبة لأقاربي أنتم وحوش! خذهم، والإنتاج يتحسن.
راح المهندس صادق يفكر في صفقة الباشا المستعجلة مع تجار سوريا. سمعه يقول:
- ستكسب رضاء الباشا ورضائي.
أخرج من جيبه ظرفًا آخر، وضعه على المكتب، وخرج.

انتبه المهندس صادق إلى الضجة التي أحدثتها عربة المستر كلارك، فخرج لاستقباله مسرعًا، وهو يخفي الظرف.
- أهلاً وسهلاً بك، يا مستر كلارك.
- موعدي مع الباشا في المصبنة.
وفحص ساعته:
- بعد قليل.
ثم أجبر نفسه على الابتسام.
- أردت أن ألقي على مستر صادق التحية.
فتح له المهندس صادق الباب، وأدخله المكتب.
قال مستر كلارك:
- إنني أحسدك!
احمر وجه المهندس صادق:
- لماذا؟
- لأنك مهندس.
وكما لو كان يريد التخفيف من أثر الإطراء، رد صادق:
- بإمكان كل امرئ أن يصبح مهندسًا.
قال مستر كلارك بإصرار:
- لا، ليس كل امرئ.
ثم أضاف بتمهل:
- على المهندس أن يكون ذكيّاً.
أشار إليه صادق بالجلوس وراء المكتب.
- الهندسة شيء معقد. كل ما يتعلق بالتكنولوجيا شيء معقد. والتكنولوجيا حقل الأذكياء. هل أنا غلطان، يا مستر صادق؟
- أشكرك، يا مستر كلارك.
امحت ابتسامة مستر كلارك:
- سأدخل في الموضوع مباشرة.
- تفضل.
قال مستر كلارك بنبرة آمرة:
- يجب أن توقف عمل المصنع.
تفاجأ صادق، ولم يجرؤ على سؤال محدثه لماذا.
- أيفاجئك هذا؟ لا، من اللازم ألا يفاجئك.
بقي صادق صامتًا.
- إذا لم يكن بمقدورك أن توقف العمل تمامًا، فاعمل على توقيفه مؤقتًا. اختلق العوائق. أتعرف لماذا؟
قال صادق:
- لا أعرف.
- حسنًا. سأشرح لك.
- ولكن...
- لماذا أطلب منك أن توقف عمل المصنع مؤقتًا في الوقت الحاضر؟ باختصار إنها شركة إنجليزية، هل تفهم؟ لا نريد لها منافسًا محليًا.
فتح عينيه الزرقاوين، وراح يدغدغ مواطن الضعف لدى المهندس:
- ستكون لك سيارتك الجديدة عند آخر الشهر، و...
سكت قليلاً، ثم:
- وشيك بمبلغ محترم.
انتظر، ثم سأل:
- اتفقنا؟
بقي صادق صامتًا دون أن يبدي رد فعله، ثم:
- اتفقنا.
أبدى قلقه:
- ولكن... ستسببون لي المتاعب مع الباشا إبراهيم.
نهض الآخر:
- تدبر الأمر بنفسك، ألم أقل ليس بإمكان كل امرئ أن يصبح مهندسًا؟
على الباب، سأله بإلحاج:
- يجب على المهندس أن يكون ذكيًّا، هل أنت متفق معي؟
- تمام الاتفاق.
امتطى مستر كلارك العربة.
- إلى اللقاء، يا مستر صادق.
- إلى اللقاء، يا مستر كلارك.
وبينما العربة تبتعد، فكر صادق: سأطرد بعض العمال بحجة التخريب، أعطى لي الباشا إذنًا بذلك... وبانتظار أن يأتيني الخواجا بآخرين تكون بضائع الشركة الانجليزية قد اكتسحت السوق، وهكذا أضرب عصفورين بحجر واحد. وماذا سيكون رد فعل الباشا بخصوص صفقته المستعجلة مع التجار السوريين؟ سيجد مبررًا، وبالطبع، مدعِّمًا. وراح يحلم بالسيارة الجديدة التي وعده بها مستر كلارك.

دفع الأسطى حسن الباب الداخلي، وزعزع كل أحلامه. سأل المهندس صادق:
- ماذا هنالك؟
بوجه متوتر، وعينين تقدحان شررًا، رمى الأسطى:
- أبو العبد... ما كان عليك أن تطرد أبا العبد.
هب الآخر به صائحًا:
- الزم حدودك، يا أسطى حسن! أنت آت لتحاسبني؟!
تمالك الأسطى حسن عن فعل ما لا يحمد عقباه، وقال متمهلاً:
- وحدي، لا أحاسبك، أما إذا اجتمع العمال معًا، فسيكون حسابهم عسيرًا.
حدجه معنفًا:
- ماذا تقصد؟
أجاب الأسطى حسن:
- السيد صبحي، المهندس الذي كان قبلك، كان حليفًا للعمال، وقد عمل كل ما بوسعه من أجل خدمتهم واحترام حقوقهم.
هبَّ به صائحًا من جديد:
- أتريد أن تعطيني درسًا؟
ثم رفع إصبعًا محذرًا:
- الزم حدودك، يا أسطى، وإلا...
توقفت السيارة، وزمرت. خف المهندس صادق إليها، فهبطت مسز كلارك حالما رأته:
- هالو!
- هالو!
- الطقس حار، والقدس برمتها بانتظارنا، فما رأيك؟
نظر إلى ساعته:
- الآن؟
- لديك عمل؟
قال:
- سأعود خلال لحظة.
رجع إلى المكتب، فوجد الأسطى حسن لم يزل في مكانه، وهو يتأجج من شدة الغضب:
- هل سمعت؟ الزم حدودك، وحذار!
حمل معطفه دون مبالاة، وخرج.
وبينما السيارة تغادر الباحة، كان الأسطى حسن ينظر من الباب المنفرج قليلاً، وعيناه على وشك الانفجار.
* * *
لم ير الصديقان في حياتهما دموعًا تتفجر من عينين أنثويتين كتلك الدموع التي تفجرت من عيني ماريشيا وبولينا، كانتا مطاردتين بمناظر الجثث المتفحمة في المنطقة الخصراء.
- وماذا لو كنت أنا، رددت ماريشيا، وماذا لو كان واحدًا فينا؟
- وماذا لو كان بابا، رددت بولينا، وماذا لو كانت ماما؟
- لا تقولي هذا، يا حبيبتي، قال موزارسكي لبولينا، وهو يضمها، ويقبلها.
- اللعنة على كل الحروب، قال ماريك لماريشيا، وهو يجذبها من كتفيها.
ساروا في أنقاض وارسو، وذهبوا إلى حيث كان يسكن ماريك، فوجدوا كيف محا الألمان العمارة التي كان يسكن فيها، وعملوا مكانها مرأبًا عامًا لدباباتهم. أما الشقة التي كانت لموزراسكي، فقد وجد فيها عائلة ألمانية. ترك صوره في أطرها على الجدران، واحتفظ بمفتاحه. وبينما هم في أزقة الموت والدمار، سمعوا أنين الناس، وكيلا يعلو الأنين أكثر، فيُخضع بشر المدينة الثكلى، دقت الأجراس. سدت ماريشيا أذنيها بيديها، وصاحت:
- أين الله؟ فليأتوني به كي أحاسبه.
قبلها ماريك في كل مكان من وجهها، وهو يردد:
- مات الله، يا حبيبتي!
- ولماذا كل هذه الأجراس التي تقرع إذن؟
- هذا لأنه مات، يا حبيبتي.
همهم موزارسكي:
- الله لا يموت!
فصاح به ماريك:
- ما لا يموت هو الشر!
- لا يوجد شر هناك، همهم موزارسكي من جديد.
- كل هذه الشرور، وتقول لا يوجد شر هناك، تهكمت ماريشيا.
- يجب القول لا يوجد خير، هذا ما تقوله المزامير، رفع موزارسكي صوته. يوجد هناك خير أو لا يوجد، الأمر ببساطةِ ضوءِ العالمِ في عيني بولينا.
- ولماذا لا يوجد الخير، يا حبيبي، سألت بولينا، وهي تقبله.
- لأن الله يريد أن يجربنا، جربنا مرة بالمسيح، واليوم بغيتو وارسو وبوارسو وببولندا وبأوروبا وبالعالم أجمع.
- لكي يوجد، أليس كذلك؟ صاح ماريك ناقمًا، فيجعلنا ندفع الثمن باهظًا.
- لكي نوجد نحن، فنحن ظلاله على الأرض.
- هراء!
- نحن ظلاله التي تبحث عنه لتكون، فلم تجده، ولم تجد نفسها. ألا ترى في سبب كل ما يجري ضياع الله؟
- نحن ظلال أنفسنا، نوجد بها، معه أو بدونه. وكل هذا الدمار لأننا لم نعرف كيف نوجد، هذا كل ما في الأمر.
- بل لأننا أضعنا الطريق إلى الله، وبالتالي إلى أنفسنا.
- الله أنا، ها أنا، الحقيقة الوحيدة التي بين يديك!
- إذا كنت الله، فخلصنا مما نحن فيه.
- ليس على الله أن يخلصنا مما نحن فيه، هو لا يستطيع، وبالتالي أنا لا أستطيع، وكل إله منا لا يستطيع، ليس لأن الوقت قد تأخر كثيرًا، وإنما لأنه الصراع بين الآلهة الذين هم بشر هذا الزمان، ولأن علينا أن نتصارع ما بيننا حتى نهايات الكون.
أوقفوا سيارة مدنية، وقالوا لصاحبها، سنعيدها إليك بعد أن نذهب إلى مكان يكون أبعد مكان عن الحرب في وارسو.
* * *
انسحبت الغيوم عن وجه الشمس، فتساقطت بشعرها الأشقر في حضن عواد. كانت بقراته تقضم العشب عند شجرة السرو، وكانت شجرة لوز سامقة خلف الكوخ، راسخة كعواد في صلب الأرض، تصب أغصانها المتشابكة ذات الأوراق المتساقطة ظلا على الأرض جاءه عواد، واضطجع فيه.
صعدت خالة ميريام المنحدر في اللحظة التي هبط فيها السيد لطفي وشيخ الجامع. ألقت عليهما التحية، فلم يجب السيد لطفي. كان مربدًا، عابسًا، وعضلة عنقه تهتز. رد عليها الشيخ التحية، فسألته مشيرة بعصاها إلى الآخر:
- ماله عابس؟ هل من مكروه؟
قال الشيخ:
- كل شيء بيد الله، وهو يرمي التخفيف عن السيد لطفي الذي رفضه أبو رقية زوجًا لابنته.
ثم هبط الشيخ من وراء السيد لطفي بسرعة. قبل أن تقطع خالة ميريام المنحدر إلى دار إسحق، رأت أبا رقية يخرج بنارجيلته تحت الشمس. صاحت به:
- لماذا لم تكرم ضيوفك؟ دخلوا عليك ضاحكين، وخرجوا عابسين!
رماها بنظرة لا اهتمام فيها، وأعطاها ظهره، فقالت:
- غفر الله لك وللجميع!
انتهى بها الحال إلى الوصول إلى بيت إسحق بصعوبة.
- يا إسحق...
نقرت الباب بعصاها.
- خالة ميريام على بابك!
همهمت:
- لا يوجد أحد.
تأوهت، واستدارت. رأت بقرات عواد، فاقتربت منها، وهي تتساءل أين عواد، يا ترى؟ تعجبت لابتعاده عن بقراته، لكنها ما لبثت أن رأته ينام على ظهره تحت شجرة اللوز.
رفع رأسه على سماعه لخطواتها، فصاحت:
- ماذا تفعل هناك، أيها الفلاح؟
انتظر قليلاً أن تقترب منه، وقال:
- أنا أطلب بعض السكينة.
وضعت خالة ميريام عصاها، وجلست قربه، وهي تزفر:
- السكينة، هذا ما يحتاجه الشيوخ.
استرق عواد النظر إلى الشمس، وعلى محياه نوع من الحنو.
- أتحب الشمس؟
بقي يتأملها ألقة وذهبية.
- أجبني.
قال عواد بشغف:
- أؤلهها!
- ولماذا تجلس في الظل؟
أجاب:
- لقد شاخ جسدي.
- تقصد أنه ما عاد باستطاعتك احتمال حرارتها.
- هذا صحيح.
أضاف برقة:
- أما الشمس، فأحبها كما لو كنت شابّاً دومًا.
- حلال عليك!
تنهد بقوة، وسأل:
- هل رأيت البقرات؟
- ما لها البقرات؟ تقضم العشب بمرح...
ابتسم عواد، وكأن خالة ميريام تحدثه عن حبيبة.
- غسلتها هذا الصباح، وأحسنت تنظيفها.
- ها هي ذي بَهِجَة كالعرائس!
اعتمد على مرفقه، ونهض بنصفه العلوي، وهو يعيد مغتبطًا:
- ها هي ذي بَهِجَة كالعرائس!
سألته خالة ميريام عند ذلك:
- ألم ترَ إسحق؟ ذهبت إلى داره، فلم أجده.
- لم أره.
- أين تراه ذهب؟
قال عواد بثقة، وطمأنينة:
- إذا ذهب إسحق، فهو لا يتأخر عن العودة إلى الأرض.
ابتسم قبل أن يضيف:
- تجدينه الآن في الطريق.
شبكت أصابعها، وذهب عنها قلقها:
- سأنتظره طالما الأمر كذلك.
فجأة، وصلهم وقع أقدام. ثلاثة من رجال المخفر بصحبة كاتب الباشا. قفز عواد مرتعبًا، وكذلك فعلت خالة ميريام، وهي تعتمد على عصاها. سأل عواد:
- ماذا تريدون؟
فتح الكاتب سجلاً، وأغلقه:
- إما أن تدفع ما يعادل بذار ثلاثة مواسم، وإما أن تعطينا البقرات.
اقترب منه، واقترب... وقف أمامه مشدوهًا للحظة، ثم رفع قبضته إلى أقصاها، وأهوى بها على صدر خصمه بكل قواه، صائحًا:
- أيها المجرم!
دقه أحد رجال المخفر ببندقيته في صدره، فسقط عواد في حضن الأرض. ركله آخر، فاختلط جسده بالتراب. رمت خالة ميريام بنفسها عليه، وهي تحاول رفعه، وتبكي، وتشتم، وتنادي إسحق. صادر رجال الباشا البقرات، وذهبوا.
* * *
أينما ابتعد الأصدقاء الأربعة في ريف بولندا وجدوا الحرب قربهم، وكأنها تلتصق بأبدانهم. كانت القرى مدمرة، والأشجار محترقة، وألوان الشمس سوداء. بحث موزارسكي عن قريتهم، قرية أمه وأبيه، فلم يجدها، محاها الألمان من الوجود، وبحث ماريك عن أصدقائه من البولنديين، فلم يجدهم، أخذوا طريق المنفى بعد أن طردهم المحتل وشردهم أو خوفهم وجعلهم يهربون، وغدا المنفى قدرهم، فالمنفى بعد الاحتلال قدر، والقدر بعد الاحتلال الإجرام. اضطروا في النهاية إلى أن يتوقفوا، ويقفوا على صخرة في وسط الدنيا، وينادوا. نادى كل واحد على نفسه:
ماريشيا!
بولينا!
ماريك!
موزارسكي!
وفي كل مرة، كان الصدى يجيب:
فاطمة!
آداما!
تونغ!
جيمي!
عرف الأصدقاء الأربعة أن كل واحد منهم هو آخر في مكان ما على وجه المعمورة، فحيّرهم الأمر أكثر مما ريّحهم. نزلوا عن الصخرة، وأخذوا يبحثون عن أنفسهم في الحيوانات المحيطة بهم. كانت بولندا مليئة بشتى أنواع الحيوانات الأليفة منها والمتوحشة، ووجد كل واحد نفسه في حيوان لم يختره وإنما لأن الحيوان اختار عنه، وكانت للحيوان صورته. اختارت الفقمة ماريشيا، والبومة بولينا، والدب ماريك، والفهد موزارسكي. كانت الحرب قد انتهت. وما لم يتوقعه أحد منهم هو عجز كل منهم عن عناق الآخر وأخذ الواحد للآخر بين ذراعيه، فالفقمة لا تعانق دبًا، والبومة لا تعانق فهدًا، لهذا فضلوا رفض الاختيار، والعودة إلى عدم الحرية الذي هو الحرب. فهموا أن عدم الحرية هو أيضًا عدم السلم، لهذا عادوا إلى غيتو وارسو، ليعيش كل منهم عدم حريته في الحرب اليوم، وغدًا في السلام.
* * *
نقل داني عمران الخضرجي صحاحير الخضار إلى الشاحنة الصغيرة التعبة ليأخذها إلى حسبة المدينة، وهو يلوك أعناق اللخنة الخضراء. لم تكن له دكان، بما أن القرية الخضراء لا تحتاج إلى خضّار. ومع ذلك، سموه بالخضرجي لعلاقته الخاصة هذه بالخضار. عندما أنهى نقل الصحاحير كلها، ركب إلى جانب السائق، وطلب:
- ارمني في ساحة القرية.
- هل انتهى عملك؟
- هلكت. منذ الفجر وأنا اعتل على ظهري!
صححه السائق:
- منذ الفجر وأنت تجتر خضار العاطي!
وقهقه:
- كالناقة! كالناقة الجوعى!
مما أغضب الخضرجي، نزل، وهو يشتم، ويضرب الباب بغضب. ناداه السائق:
- تعال اصعد، سأرميك أينما تريد.
- سأصعد على ظهرك في المرة القادمة!
ذهب السائق، وهو يقهقه.
اتجه داني عمران الخضرجي إلى البيارة، فأخفى إسماعيل نفسه خلف شجرة برتقال. أخذ يصفر، ثم ابتعد. أخذ إسماعيل يجري بحثًا عن كلبه. صعد التل، ثم هبط. التقاها. وجد ابنة الحارس في وسط الحقل، وهي تقطف زهر الشتاء. توقف واجمًا: ما العمل؟ وقعت عليه فجأة، فشعت ابتسامتها في الشمس، وجاءت تجري نحوه.
قدمت إليه الباقة. أخذها إسماعيل، وهو يرتعش، ثم سقط على الأرض، كما لو كان يشكر السماء. أخذها من كتفيها دون أن يغادره اضطرابه، وهو يرغب في اكتشاف نرجسة أحلامه، في شمها، في ضمها... بقي غائبًا بعض الشيء، لكنه أفاق على أشعة هذه الابتسامة التي تتفجر بالنهار. غمره الفرح، ولأول مرة، ابتسم ابتسامته الحقيقة. التمع الوميض الأزرق في عينيه على طبيعته، فهو يعكس سماء حرة. مد أصابعه إلى وجنتيها، وداعب بنعومة شفتيها، ثم بحث في جيبه، وأخرج سوارًا ذهبيًا سرقه من كنز سارة. ألبسه ذراع الصغيرة، فقبلته من خده قبلة السحر. تشمع على ملمسها، وصار له شكل فاجع. أجال أصابعه في شعرها حالمًا، وأراد أن يثنيها بين ذارعيه، لكنها هربت. نهض، وهو يصيح بها أن تعود، فراحت تطلق الضحكات. انتشرت في الأرجاء موسيقى نقية بنقاء الندى. عدا من ورائها إلى أن أمسك بها. كانا يلهثان. تخللت أصابعهما، فذابت القبضة الصغيرة في قبضته. جذبها إليه، وهو يقهقه كالطفل، ثم راحا يجريان. كان الصدى نقيًا كضحكاتهما، كخطواتهما، كالموجات في الحشائش. خنقه الفرح. حقق حلمه. رمى بنفسه في الموج الأخضر، وجعلها تعوم معه، ثم رفعها بين ذراعيه، وشدها إلى قلبه. آه! أية نشوة دقات نهدها الصغير. أية مغامرة نفسه الساخن على عنقها! تأوهت، وضمته بعنف. وضع شفتيه على أذنها، فاجتاحه اللهب. ارتد مذعورًا، وهو يراها تنظر إليه بذهول. حل أقفال ثوبها، وأسقطه، فانتصبت عارية. راح يتأمل جسدها الطفل برعمًا برعمًا، وهي واجمة. نزع ثيابه، واقترب رويدًا... رويدًا...
لم يلامسها بعد، كان يقترب رويدًا، رويدًا. بدأ يدور في خياله شريط بطيء: (( الطفلة تعدو باكية، بشعرها المشعث، وثوبها المقفول دون عناية )) وهو يواصل الاقتراب إلى أن يلامس جسدها. (( تقطع الحقل بقدميها الحافيتين، دون أن تتوقف عن البكاء )) وهما يسقطان معًا في الحشيش، (( لتستقبلها أمها، متسائلة أولا، ثم متفحصة، وقد عرفت كل شيء. تصفعها، وتأخذ باللطم والولولة )) قطرات دم تلوث فخذي الطفلة، فتصرخ، وتنهض فزعة. (( أبوها يخبر الباشا إبراهيم بكل شيء، والباشا إبراهيم متفجر بصمته )) يرمي عليها ثوبها، فتعدو باكية، بشعرها المشعث، وقدميها الحافيتين. (( أبو البنت عند البوابة الكبيرة، وهو ينظر بجشع إلى حفنة النقود، بينما تفحص الأم السوار الذهبي فحصًا دقيقًا )).
* * *
كانت ماريشيا تنام في فراش ماريك، وبولينا تنام في فراش موزارسكي. كان يبدو على الأربعة التعب بعد فعل الحب، وعلى الرغم من ذلك، أرادوا التعب أكثر، ليس سعيًا وراء اللذة، وإنما من أجل التعب أكثر. كانوا يريدون أن يتعبوا أكبر تعب، وأن يهلكوا من التعب. كانت شهوة الواحد للآخر قد جفت، ولكنهم أرادوا أن يتعبوا دون شهوة ولا لذة، كانوا يريدون أن يشعروا بتعب ليس مثله تعب، بتعب ليس لأنه تعب المفجوع ولكن لأنه تعبهم. كان التعب الذي يعرفه الناس ليس التعب الذي يريدونه، كانوا يريدون أن يتعبوا أكبر تعب، وفي الوقت ذاته أن يكون تعبًا خاصًا بهم، أن يكون تعبهم. كان تعبهم لا ليشعروا بتعب الناس ويرأفوا بهم، وإنما ليكون تعبهم، فقط تعبهم.
قالت بولينا لموزارسكي:
- بعد كل هذا التعب، لم أتعب بعد التعب الذي أريد.
وقال موزارسكي لبولينا:
- بعد كل هذا التعب، هناك من يتعب أكثر.
- هل تعني أن لا حدود للتعب؟
- للتعب حدود، ولكن لا أحد يمكنه الوصول إليها.
- لنتعب إذن إلى الأبد، قالت بولينا، وهي تعود إلى ممارسة الحب مع حبيبها دون شهوة ودون لذة.
هذا أيضًا ما تبادله ماريك وماريشيا من حديث، وأضافا بعد أن تعبا أكبر تعب:
- فلنرتح قليلاً، ثم لنعد إلى التعب.
- وبعد أن نتعب من جديد؟
- سنرتاح من جديد.
- وبعد أن نرتاح من جديد وجديد؟
- سنتعب من جديد وجديد.
- وإذا ما مللنا الراحة والتعب؟
- سنتصرف.
- سنتصرف كيف؟
- سأكون جندية في الجيش الألماني، وأنت يهودي بان للجدار.
- هذا أيضًا تعب.
- ولكنه ليس التعب الذي هو التعب.
- هناك إذن تعب وتعب.
- تعب وتعب وتعب، وكلها تعب.
- تريدين القول قدرنا التعب.
- لا وإنما تعبنا القدر.
قبّلت ماريشيا ماريك من خده قبل أن تنام طلبًا للراحة، وكذلك فعلت بولينا مع موزارسكي. قالت كل منهما لحبيبها إنها مدعوة هذا المساء إلى عرض خاص لمسرحية شكسبير هنري الرابع، فعمل الصديقان كل ما بوسعهما على إقناعهما بعدم الذهاب. قالا إن شكسبير لا يُتعب إلا ممثليه ولا يُريح إلا ممثليه، ووعدا الحبيبتين بتعب من نوع آخر فريد.
* * *
جاء رجال المخفر من بعيد، وهم يسحبون بقرات عواد، بينما تقدمهم كاتب الباشا بسجله تحت إبطه. زلقت الشمس من خصر السماء، وراحت ترسل الشعاع على دفعات، كإشارات الخطر. ترك فلاح فأسه متابعًا إياهم، وهو يطحنه الغضب. كان في ثوبه الفقير محرومًا من إرادته، ومع ذلك، كانت الأرض تشده إلى صدرها. أخذوا بقرات عواد! وفي أقصى الحقل، رمق فلاح أسلحة رجال المخفر، وكتم غيظه. كانت الأرض، وأشجار الزيتون، والغدير تنظر إلى بقرات عواد، وتبكي بغرابة. كيف استطاعوا مصادرتها؟ كيف جرؤوا على ذلك؟ لم ينهض الفلاحون، كانوا غاضبين، ولكنهم لا يتمردون. عند المفترق، ذهب اثنان من رجال المخفر بالبقرات إلى إسطبل الباشا، بينما اتجه كاتب الباشا وثالث الخفر إلى بيوت فلاحي وادي عربة. كان الفلاحون يقلبون أرضهم، والألم يحرث جباههم، وكان أحدهم يدندن بصوته الحزين:

أودعتك السلام يا طير السلام
أودعتك ضنى قلبي
طوال الليل ما بنام
طواني الليل... طوى دربي
وعواد بحبك داب غرام
متلي أنا وحياة ربي
بسبب العدا حل الخصام
أخدوكِ... واندبح قلبي...

اخترق الصوت الحزين لحم الأرض، واختلط بالأثلام الحمراء. وصل كاتب الباشا إلى بيت أبي قاسم، ونادى بصوت عال:
- يا أبا قاسم.
تجمع بعض الأولاد، وأطلت بعض النساء، فانتهرهم الخفير، وهو يهددهم بالبندقية، ليتركوا الكاتب في حاله.
- يا أبا قاسم.
انجذب ستار الباب، ظهرت صفوريا، وهي تخبئ نفسها حتى ذقنها، وسألت بعينيها اللوزيتين:
- ماذا تريد؟
- أين أبو قاسم؟
- لم يعد إلى الدار.
جاء الخفير بقنبازه المتسخ المرقع، وانزرع بساقيه المشعرتين اللتين أول ما تلحظهما العين لقصر القنباز. تقدم الكاتب من صفوريا، وماعت ملامحه. كسر عنقه الهزيل بطريقة مزرية، وهمس في أذنها. التفت فجأة، ووجد الحارس يقلده تلقائيًا، فانتهره:
- ابعد الأولاد، يا عويس! ابعدهم، وانشر النظام كي أنهي الشغل بإرادة الله وعونه.
هب عويس بالأولاد صائحًا، فهربوا، وراح يدب كالدب من ورائهم. تلعثم الكاتب قبل أن يقول:
- يا صفوريا... ليس أبوك في الدار يا صفوريا؟ قولي لي... هاه... يا صفوريا...
لمح امرأة تطل برأسها من باب مجاور، فهبَّ بها صائحًا:
- ادخلي دارك، يا ولية، ودعي كاتب الباشا يعمل! ما شأنك أنت يا متلصصة!
نبرت المرأة:
- قصر الله أجلك، يا كاتب الفاتحة على قبرك!
دخلت بسرعة، والكاتب متلوحًا:
- قطع الله لسانك، يا غجرية، يا نورية، يا بنت النور! سأكتب الفاتحة على قبرك أنت!
خلال ذلك، كانت صفوريا تضحك، ويكاد يغشى عليها من كثرة الضحك. اقترب منها متمهلاً، وعلى فمه ابتسامة ثعلبية:
- تضحكين، يا صفوريا! تسلم لي هالضحكة! ادفع عمري لهالأسنان!
جذبت الستار تحت عينيها، وسألته بجفاف:
- ما الذي تريده من أبي؟
قال بصوته المعسول:
- المسألة بسيطة، إذا شئت، يا صفوريا. دعيني... دعيني أدخل أولاً.
انتصبت في وجهه كالحصن:
- لن تدخل طالما بقي أبي خارج الدار. احفظ حرمة ديار الآخرين، يا كاتب الباشا!
طلب إليها بدلع:
- قولي لي يا عبد الغني.
لكنها مسحت به الأرض:
- احفظ حرمة ديار الآخرين، يا رجل!
أطلق آهة تعجب:
- أتقولين لي هذا، أنا! أنا من حفظت حرمة ديار الأقربين والأبعدين طوال عمري!
مال بعنقه متوددًا، متوسلاً:
- دعيني أدخل، يا صفوريا.
وتلاهث:
- عيونك اللوزية أفديها عمري! شفايفك التوت أدبح لها قلبي!
لكنها انتهرته:
- اذهب من هنا!
أبدى عن أنيابه:
- أتقولين لي هذا!
- اذهب! هيا اذهب!
اربدت تقاطيعه، وأخذ بها يتحلف:
- طيب، يا ابنة الغجر!
جذبت الستار في وجهه، فعلت نبرته المهددة:
- قولي لأبيك إذا لم تدفعوا الأجرة السنوية للباشا خلال ثلاثة أيام اقتلع بيوتكم، وشردكم في الصحاري بلا مأوى. هذا ما تستأهلونه، يا أبناء الكلاب!
ثم صاح بكل قواه:
- يا غجر! يا نور! يا جرذان الصحراء!
التفت حوله باحثًا عن عويس الذي جاء يركض كالنعامة من آخر الزقاق، والأولاد يزفونه. صاح به من بعيد:
- تعال، يا عويس الزفت!
- نعم، يا سيدي.
أجاب عويس منهكًا.
جذبه من خناقه:
- امش أمامي، يا عويس الزفت!
وبصق لمرات، وهو يلتفت حوله، بينما تعالت زفة الأولاد.
* * *
امتلأت قاعة المسرح بالضباط والجنود الألمان الذين يحرسون جدار الغيتو الصغير وكذلك بأفراد الشرطة اليهودية لأجل العرض الخاص بهم لمسرحية شكسبير هنري الرابع. كان يتصدر الصفوف الكولونيل هينز، إلى يمينه ضيف الشرف جوني شارلز مبعوث التايم الخاص، وإلى يساره مقعد بقي فارغًا. في الخارج، كان المساء لا نجوم فيه، والشوارع كلها خالية. وكان ماريك وموزارسكي يسمعان من النوافذ المفتوحة للمسرح تصفيق المشاهدين من وقت إلى آخر، وصوت ماغدلينا أنييليفيتش الهاز للمشاعر، وخاصة عندما أنشدت هذا المقطع الكبير الذي قوطع عدة مرات بالهتاف والتصفيق:

في كل واحد بربريّ
حتى في أكثر الأزمان تطورًا وحضارة
هكذا الإنسانية صُنعت
من متحضرين برابرة

بالقوة نرقى أعلى القمم
ونستحق العيش عن جدارة
بالقوة نكون خير الأمم
ولغيرنا هديًا ومنارة

ما كان الذئب ذئبًا لحمل وديع
إلا لأن الدمَ دمٌ واستعارة
فالحياة لمن للحياة نابٌ ومخلب
وقبعةٌ وقبلةٌ تُعطى بحرارة

الغد لمن يعرف معنى الوجود
وما في الكأسِ من أسئلةٍ حيرت شاربها
وغدت أجوبةً للقائد الفذ
وللعالِمِ البارعِ في عالَمٍ
جعل كلَّ الناسِ فيهِ حيارى

هكذا الصعود يدوم إلى الأبد
النجومُ تسقطُ
لكنها تبقى معلقةً في القمم
وتبقى أنوارها تسطعُ
كالشموس
في دياجي الزمن
كالكواكب السيارة

هكذا التفوق يكون إلى الأبد
على الصغار
الكبارُ كبارٌ لأن على الصغار أن يبقوا صغارًا
إلى الأبد
فالأبد قاربٌ لا يمل الإبحارا

ليست النجوم للأقمار صغيرة
الأقمار تكبر والنجوم تعلو
وما كل من يكبر كبيرا
كل من يعلو كبيرا
الأنهار تغدو له إصبعًا
وما في الأنهار ظِفرًا واستئسارا
* * *
أخذ كلب إسماعيل في المساء يجري وينبح.
وأخذ كلب آخر في أقصى القرية يجيب.
ابتعد السمسار عن السياج، وراح يقطع الممر الطويل حتى دار البيك الحجرية. انتظر قليلاً، ثم طرق الباب. فتح له خادم أسود، فسأله بصوته النسائي:
- سيدي البيك موجود؟
حدجه الآخر دون مودة، وأدخله دون أن ينبس بكلمة. بعد أن جعله ينتظر قليلاً في ردهة الدار التي في وسطها بركة، ساقه إلى مكتب البيك: كان البيك في قميصه وسرواله، وكانت حول عنقه لفحة حمراء. حاول السمسار أن يضفي على صوته خشونة أصوات الرجال، لكنه لم يفلح:
- السلام عليكم، يا سيدي البيك.
تمتم البيك من طرف شفتيه:
- خير، يا سمسار؟
- خير، يا سيدي البيك.
تقدم من الهيثم الذي لم يترك مقعده الجلدي، وسلم عليه:
- كيف حالك، يا سيد الهيثم ؟
- بخير دومًا.
وسدد ذراعه بضربة معبرًا عن صداقته:
- وأنت؟
أطلق السمسار تنهدة:
- الحمد لله!
قال له البيك:
- اقعد.
راح يبحث عن مقعد، وهو يجمع ثوبه مهمهمًا :
- استغفر الله!
ثم قعد، وأطبق فمه.
سأل البيك:
- أنت آت من طرف الباشا؟
انتفض المسمار:
- الباشا!
جمجم متصنعًا النقمة ليخفى متانة صلته بالباشا:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
وأبدى سحنة مضطربة. تبادل البيك والهيثم نظرة ممتعضة: لم يرسل الباشا إبراهيم تهديداته بشأن أولاد عوض! تململ السمسار، وهو يرمي الهيثم بنظرات من طرف عينه، ممَّا دعاه إلى الخروج. عندما سمع السمسار طرقة الباب، قال:
- يا سيدي البيك، أتيتك بما يسعدك ويرضيك، لتعرف أنني زلمتك، ووحدي خادمك وخادم أبيك من قبلك... الخادم الأوحد.
تقدم البيك مهتمًا، وجلس على حافة المقعد الوثير.
- كان بإمكاني أن أذهب عند الباشا أو عند الخواجا أو عند آخرين، لكنني أبيت إلا أن يكون هذا الشيء لك، لمقامك العالي، وأنا السمسار الحقير!
جعل البيك في صوته طراوة:
- ماذا هنالك، يا سيد علي؟
- العفو، يا سيدي البيك.
ظل البيك منتظرا. قال السمسار :
- شمس الدين أخ أبي سِنَّه يريد بيع أرضه.
كشف عن صفقته.
- أرض من أخصب أراضي البلد وأغناها، أنت تعرفها ما في شك، إنها جنة غناء، يا سيدي البيك.
ثم فجأة غدت نبرته حزينة:
- حسرة عليك، يا أبا سِنَّه! لما رأى شمس الدين ما فعلوا بأخيه، أقسم ألا يقعد في هذه البلاد، بلاد الموت والخراب، وصمم على الرحيل.
أضاف بنعومة من ورائها غاية:
- كلفني بالأمر، فأتيت إليك. أنت أولى الناس وأكرمهم!
رفع البيك حاجبيه مفكرًا، والسمسار يضيف:
- لا أريد زيادة على (( سمسرتي )) من عندك، فسمسرتي معروفة يدفعها الأعلى والأدنى، ومع ذلك، اخترتك، لأنني زلمتك، وزلمة أبيك من قبلك، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
اختصر البيك لفه ودورانه:
- اشترينا الأرض، يا سيد علي.
تقوس السمسار، وهو يبالغ في التهاني.
- وأعطيناك زيادة على سمسرتك المعتادة ما شئت وما أردت.
سقط السمسار على يده، وقبلها، ثم رافقه البيك حتى الباب.
- لقد تم الاتفاق.
أنهى السمسار آخر مهماته:
- سأعدُّ الأوراق، وسأنجز كل ما هو قانوني خلال يومين، لتضع توقيعك.
- أنا بالانتظار، يا سيد علي.
- أدامك الله وأبقاك، إنه سميع مجيب الدعوات!
أراد تقبيل يده مرة أخرى، إلا أن البيك منعه.
ذهب السمسار، وجاء الهيثم:
- ماذا لديه ذو الحنجرة الرقيقة؟
راح ينعم صوته مقلدًا، والبيك يبتسم. توقف الهيثم فجأة مبحوحًا، وعيناه تدمعان. اتجه البيك إلى مكتبه:
- توقعنا أن ينقل تهديدات الباشا، لكنه باعني أرضًا.
قهقه الهيثم:
- يمارس حرفته بمهارة!
قال البيك:
- أرض شمس الدين، أخصب أراضي البلد.
توقف قليلاً قبل أن يضيف، مع بسمة ذات مغزى لم يغب عن الهيثم:
- انتبه! لو علم الخواجا بالأمر لسال لعابه من فمه.
ثم، بهيئة متأملة:
- سنصبح أنا والخواجا كالند للند، وسنتعامل على هذا الأساس: خدمات مقابل خدمات. أرض شمس الدين الخصبة مقابل تقطيع أصابع الباشا.
لفَّ ذراعيه من حوله بعنف. نظر إلى الهيثم في عينيه، فسأل الهيثم:
- إذن هل نؤجل ما اتفقنا عليه الليلة؟
بقي يلف من حوله ذراعيه كما لو التف بحبل، مال على الجانب، فتح فمه، ثم أفلت كلماته:
- ما اتفقنا عليه تم واستنفد.
تشمع، وقال:
- اقتل أحد أولاد عوض هذه الليلة.
* * *
أخرج ماريك وموزارسكي صندوق الديناميت من أحد الأقبية، وذهبا بالبزة العسكرية الألمانية ليزرعا أصابع نوبل في أكثر من مكان من جدار العار بينما كل السلطة تشاهد سقوط هنري الرابع. فجر الصديقان الجدار، وارتديا الظلام ثوبًا. توقفت المسرحية مع الدوي الهائل الذي لم يحسب شكسبير له حسابًا، لأنه لم يخطر على باله قط، وهرعت البذلات العسكرية والهراوات لتقف على الحقيقة، وكانت الحقيقة مذهلة، لم تكن خيالية، كانت فقط مذهلة.
وكما توقع آدم مردخاي، أنزل الجنرال ناهريخ العقاب أول ما أنزل بالكولونيل هينز وكل مرؤوسيه من ألمان ويهود، ورشهم كلهم على طرف الجدار الذي لم يتهدم، ثم جاء رجاله برجال الحي الذين لم يتمكنوا من الهرب للالتحاق بالغجر عبر الأقبية، ورشهم هم أيضًا كلهم. اختار عن أبي جنب بعض النساء والأطفال، وملأ بهم عشر شاحنات توجهت في الحال إلى تريبلينكا.
* * *
جلس عواد على البساط منتحباً: كانت عيناه اللتان بلون الليل منطفئتين. لم يتحرك، ولا الفراشات في الضوء الأصفر لمصباحه القديم الذي يبذل ضوءًا ضعيفًا. انعطف إسحق نحوه، والألم يحفره حفرًا، يفصمه فصمًا. ماذا يقول أكثر ليخفف عنه؟
- يا عواد، أنت رجل شجاع! سأعيد لك البقرات. بماذا أقسم لك؟ سأعيد لك المحروسة، وابنتيها، ولكن عليك أن تصبر حتى ينضج القمح، وفي الصيف سنحصده سويّاً. سيكون المحصول وفيرًا هذه السنة، أليس كذلك؟ سنبيعه، وبالمقابل، سندفع للباشا لقاء أن يرفع الحجز عن البقرات. البقرات بخير، يا عواد. رأيتها هذا المساء، وهي تأكل قمحًا أشقر. أترى؟ نحن بطولنا وعرضنا لا نأكل القمح الأشقر، لأننا لا نملكه، أما في أرض الباشا، فالقمح كثير، وهم يقدمونه للبهائم! أتسمع؟ أطعموا بقراتك قمحًا أشقر، وسقوها الماء بالسكر. عندما نستعيدها في الصيف، تكون قد ربربت ما شاء الله! لا تقلق من ناحية الحمّام. هناك من يغسلها كل يوم، مثلما كنت تفعل. زيادة على ذلك، لم تعد تسعل في الليل عندهم. أتدري لماذا؟ لأنهم يدفئون الإسطبل في الليل. كن سعيدًا! هيّا، افرد وجهك، ولا تبتئس!
لم تند عن عواد أدنى حركة. في البعيد... بحث بعينيه على حواف البحيرة عنها، وبحث، دون أن يجدها: بقراته. ومع ذلك، فلم يغادر عواد كوخه. كان يسمع إسحق، دون أن ينتبه إليه، فالكلمات تسقط كالقطن في أذنيه. ومن جيد، حدق في البعيد، أبيض الشفتين. رقَّ الليل في عينيه، وغدا بلوريّاً.
- هل أعمل لك كأس شاي؟
لم يجبه.
قام إسحق مثقلاً، واقترب من المصباح. التفت إليه مكتئبًا. أيها المسكين يا عواد! وإسحق فريسة للألم، دفع نفسه إلى القول:
- نم قليلاً، يا عواد. عليك أن ترتاح.
انتظر قليلاً، ثم سأله:
- هل أطفئ الضوء؟
رقَّ عواد، وغدا كالليل بلوريّاً.
- سأطفئ الضوء.
نفخ على الجذوة.
- نم يا عواد! لا تحمل همّاً!
وخرج.
بعد قليل، نهض عواد، وهو يعتمد على الأرض بكل ثقله، وغادر الكوخ. سار بطيئًا إلى الزريبة، وبحث عن بقراته. لقد انتزعوها منه! انقض الألم عليه. أخذ حزمة تبن، ونشقها بقوة، ثم ألقاها مخيبًا، وعاد أدراجه في الليل المظلم. رأى ضوءًا في بيت إسحق، ثم انطفأ الضوء. رفع رأسه إلى السماء المخصبة باللؤلؤ، لؤلؤ نثرته يد الطبيعة الطيبة في تربة الليل، كالقمح عندما ينثره عواد.
تمتم: العبد يحرث والله يزرع!
أصبح نقيّاً كنجم في ليل الأبدية. ارتفع بعنقه المنكسر إلى شرفات البيوت، ثم سقط بعينيه على المنحدر، فالبحيرة، فشجرات الحور. تنهد دون شعور منه. كأنها ليلة من ليالي الصيف! تجرجر حتى شجرة اللوز، جسّ جذعها الخشن بأصابعه التعبة، وكأنه يجُس جسدًا عمره بعمر الزمان. تسلقها، وأتى قمتها، فأحس بعمق ارتباطه بالليل، وبقربه أكثر من النجوم. ومن هناك، ألقى بنفسه في الفراغ، ومات.
انبثقت أقدام من الظلام، وتقدمت من الجسد. ظهر الكلب، وشم عواد. انحنى إسماعيل، وجذب الكلب من طوقه، ثم اختفى من جديد.
* * *
انتحر رئيس المجلس اليهودي، لم يحتمل مصرع رجال شرطته، لم يحتمل مصرع رجال الحي، لم يحتمل التحقيق المحتمل، فجرع قارورة زرنيخ، ومات. وفي الحال، احتل آدم مردخاي، نائبه، مكانه.
عندما بعث الجنرال ناهريخ بطلب ماغدلينا أنييليفيتش بشكل عاجل، كانت تعلم تمام العلم أن القائد النازي في أزمة، وهو ما طلبها بشكل عاجل إلا للتخفيف عنه. وجدته عاريًا وسط عدد من أجمل يهوديات الغيتو العاريات هن أيضًا مثله، كان قد عذبهن دون أن يكفيه ذلك، كانت حاجته ماسة إلى دموع الممثلة الشهيرة، لكن دموع ماغدلينا جفت بعد أن ذرفت كل الدمع على ضحايا الجدار. توسل الجنرال ناهريخ إليها، فحاولت البكاء دون أن تفلح. توسل القائد النازي من جديد، ورجا الفاتنة ماغدلينا أن تبكى. وعلى منظر دموع القائد الفذ، أحست ماغدلينا لأول مرة في حياتها بلذة لم توفرها لها كل شخصيات شكسبير المستبدة. حررت شقيقاتها من نير شخص مهستر، ودقت بنعلها كل نجوم الرايخ، وابن الرايخ المدلل يواصل البكاء. كانت ماغدلينا أنييليفيتش قد تعرت، واستلقت على مكتب أقوى رجل في العالم، وراحت تقوم بفعل الحب وحدها، وكل شبقها دموع النسور.
* * *
اصطفقت أوداج مأمور الخفر الضخمة لقهقهته المفزعة، وتطاير شاربه. طرح كفه الضخمة على ظهر الأعور، مما جعله يسعل. فرك كفيه برعونة، وخاطبهم باحتدام:
- ليدفع كل واحد قرشًا، والهيثم خمسة قروش.
وقهقه من جديد.
ابتسم الهيثم ابتسامة احتقار لهذا الرجل الذي ربح للمرة الأولى منذ بداية اللعب. انتظر انتهاء رعد قهقهاته، ورفع قطعة النقد أمام عينيه:
- خمسة قروش لك!
ورماها عليه.
- وزجاجة خمر فوقها على حسابي.
انتظر قليلاً قبل أن يضيف:
- هذا لأنك ربحت!
خفق مأمور المخفر الورق بعنف دون أن يهتم بكلام الهيثم، وفجأة، أخذ يتوعد:
- الليلة ليلتي، يا أولاد! سأضاجع كل أمهاتكم!
صفق الهيثم للقهوجي:
- زجاجة خمر على حسابي، لأن المأمور ربح...
رفع المأمور صوته مكملاً:
- وسيربح، وسيضاجع كل أمهاتكم!
تبادل أبو سريع والهيثم نظرة ذات مغزى، وابتسم كل منهما للآخر. بعكس الأماسي الأخرى، كان أبو سريع أقل حركة، وسحنته أكثر دمامة. خاطبه الهيثم:
- أي إلهام يسقط على المأمور هذا المساء!
لم يعلق أبو سريع. دفعه الهيثم في كتفه، فقفز، والتقط ما يعنيه محدثه. راح يضحك، وهو يهز رأسه علامة الموافقة.
أتمَّ الأشقراني لفَّ سيجارة، وقدمها للمأمور:
- سيجارة، يا شرطي!
كانت المرة الأولى التي يقدم فيها الأشقراني للمأمور سيجارة! انتزعها منه، وزرعها في فمه. أشعلها الأشقراني له، والمأمور يواصل فحص أوراقه. انحنى الأشقراني على أذن الهيثم، فهز الهيثم رأسه إيجابًا. فجأة، ضرب الأشقراني مصطفى الذبيح على ظهره للفرح الذي أصابه، فشتمه هذا، وأغلظ له القول. عندما نهض، سأله أبو الكسيح:
- إلى أين؟
انتهره:
- اخرس أنت، يا جرذ!
جاء القهوجي بالخمر ملتقيًا الأشقراني أثناء عبوره. رفع الصينية فوق رأسه كي يتمكن من المرور بين الرواد الذين كانوا كالخرفان يترامون هنا وهناك.
دنا الأشقراني من أذن صاحب المقهى، فعقد صاحب المقهى بين حاجبيه، والتفت إلى ناحية الهيثم. كان يقعد في الدخان، فهز الهيثم رأسه. انبسطت ملامح صاحب المقهى، ودعا الأشقراني إلى الصعود.
خفَّ يتسلق السلم إلى العليّة. تقدم من المرأة خطوة، فأوقفت تلويث شفتيها بالحمرة، واستلقت. نزع ثيابه القذرة بسرعة، ثم ألقى بجسده عليها.
ظل القهوجي في ذهاب وإياب، وهو يحمل زجاجات الخمر للجماعة، والمأمور يشرب بشراهة. بَدَّل رؤوس نراجيلهم وماء قواريرهم عدة مرات، وهم يسقطون في دوامة الدخان... ودوامة الخمر... إلى أن خلا المقهى.
بزغت أشعة الفجر.
فجأة، سقط المأمور كلوح الخشب. رفعه أبو سريع من ناحية، والأشقراني من ناحية، وخرجا به إلى طريق لا روح حية فيها. جاء صوت المؤذن ينادي إلى الصلاة، وقد ابيض الليل. لا غيمة، لا نسمة، وإنما صمت ساج بعد النداء الطلي.
فجأة، أخذ المأمور يغني، ثم أطبق فمه، وغاب. راح يجر خطواته جرًّا. التفت أبو سريع من ورائه، فرأى شبح الهيثم، وهو يتبع عن كثب. آن الأوان! سحب بندقية المأمور بحذر، وتركه في عهدة الأشقراني، ثم راح يجري مخترقًا الحقول مسافة طويلة. عندما صعد الطريق المحفر، انخطفت من أمامه سيارة مسز كلارك. سحقت عجلاتها الحصى مع المنعطف. كان المهندس صادق هو الذي يسوق. دعس على الفرامل في آخر لحظة، فحال دون اصطدامها بالشجرة.
انقض عليها، فتلوت مسز كلارك، وأنّت، وهي تخبط دونه. كانت طريقتها في العناق، بحركات شبقة. كانت رائحة خمر سميكة تفوح منهما، وهما يغرقان ثملاً. شقَّ ثوبها بعنف، وقبّلها من نهديها، ثم عضها، وفك بنطاله. علت أناتها مسافة في الحقل، وأبو سريع لم يزل يسمعهما إلى أن وصل مزرعة أولاد عوض.
مرَّ من تحت الطاقات، ثم شرّج كالقط، وهو ينحني، على طول الزريبة. فتحها، فسقط ديك بين قدميه أسقط قلبه. صرخ الديك من الرعب، وهمر أحد الحيوانات. قلب بقدمه أحد البراميل، فجعل الضجيج صدى. اختفى أبو سريع من وراء شجرة تواجه الباب، وانتظر أن يخرج أحدهم. خرج أحد أولاد عوض دون أن يميز أيهم. أطلق، فاصطخب فجر القرية الهادئ. رأى أبو سريع الجسد، وهو يتدحرج، فحطَّ قدمه، ووثب عائدًا من حيث أتى. عندما انطلقت الرصاصة كان صادق النائم على مسز كلارك قد انتفض، ثم تراخى، وهو يزفر. وكان مأمور المخفر قد نصب رأسه، كأنما ردت إليه أنفاسه فجأة، وبسرعة بعد ذلك أغمض عينيه، وسقط على كتف الأشقراني، وهو يشخر. وكان القهوجي قد توقف عن كنس قاذورات الرواد، بهيئة منهزمة، بينما فتح أبو الكسيح عينيه على سعتهما، وهو يستلقي على القش. توقف صاحب المقهى واجمًا عن عد نقوده، وعاد الهيثم إلى داره بسرعة، وأقفل بابه بالمزلاج.
كانت خطواته! التفت الأشقراني، فرأى أبا سريع، وهو يصل من بعيد... بحركة خفيفة، علق البندقية على كتف مأمور المخفر، رافقه بضع خطوات أخرى، ثم انسحب الاثنان بحرص. تركاه يدب كالدب الثمل، وهو يكاد يتهاوى.
* * *
مع بداية النهار، راحت سيارة جيب ألمانية تقطع شوارع الغيتو المنكوب، وكأنها سيدة للكون. صفت وراء الكنيس، ونزل منها ضابط ألماني دخل الكنيس من بابه الخلفي. في حجرة للتبديل، بدأ الضابط يخلع ثيابه العسكرية، ويرتدي ثياب الكهنوت، وشيئًا فشيئًا إذا به الحاخام الذي يرسل الناس إلى جهنم بعد اعترافهم الإجباري.
دخل عليه ماريك وموزارسكي، وهما في بزة المقدم. في البداية ظنهما معاونيْهِ، فقال لهما دون مبالاة:
- أنتما مبكران اليوم!
وفجأة، تذكر الصديقين، وهما يأتيان إلى موعدهما مع ماريشيا وبولينا، فسارع إلى تناول مسدسه، لكن موزارسكي وماريك عاجلاه برصاصتين أرديتاه قتيلاً. ضربه الأول بقدمه، وبصق الثاني عليه، وخرجا من الباب الخلفي للكنيس.
* * *
أول النهار.
كانت العربة اللوكس بحصانها الأبيض تقف أمام المصبنة الغارق داخلها في العتمة، وكان باب المصبنة الضخم مزردًا ذا درفتين أعلاهما على شكل قوس، ومفتوحًا على دهاليز سقوفها هي أيضًا كل سقف منها على شكل قوس. خرج الحارس، ووقف على الباب بهيئة ممتقعة. حطَّت ذبابة على أنفه، فنفخ عليها بخشونة، وراح يكشها بكلتا يديه. سار خطوة حتى العربة، وتفقد الطريق. كان اليوم يوم جمعة، ومن المفترض أن يكون هناك سوق عام للقرية وللقرى الصغيرة المجاورة، لكن الطريق كانت خالية. خرج عامل في الخمسين من عمره، وهو يرتدي شروالاً تركيّاً أسود، وصدارًا مفتوحًا على قميص أصفر.
- لا أحد؟
- لا أحد.
عاد العامل العجوز يدخل المصبنة، فالتهمته العتمة. هناك بئر، وسطوح من الصابون. انعطف يمينًا، فتلون وجهه بلون ناري. كانت النار تأتي من الفرن، وكانت الحرارة تسري في الجدران السميكة، فتعرق الأقواس كما تعرق الجباه. دفع العامل في الفرن حطبة ضخمة، بينما داعب الحارس الحصان من عُرفه. عندئذ، جاء رجلان من آخر الطريق: كان المختار يسير بخطوات عجلي متصلة ومأمور المخفر يزحف من ورائه نصف نائم.
عند الباب، قال الحارس:
- الباشا إبراهيم بالانتظار، تأخرتما!
حثُّ المختار رفيقه بعصبية، وهو يضغط يديه:
- هيا، يا سيدي الحكمدار، الباشا إبراهيم ينتظرنا!
ارتقيا درجاتٍ أربعًا في أقصى المصبنة، ووصلا مكتب الباشا إبراهيم. طرق المختار الباب طرقة لم تكد تسمع قبل أن يفتحه، فنهض الباشا إبراهيم بقنبازه الأبيض. خلع طربوشه، وخف صوب المأمور. قال المختار باحتراس:
- ها هو المأمور، يا سيدي.
نطق المأمور بعناء:
- صباح الخير، يا سيدي، صباح الخير، يا سيدي الباشا إبراهيم.
بحث بعين ذابلة عن يد الباشا كي يقبلها، فتلقى صفعة جعلته يرقص كما لو كان يرقص رقصة الموت:
- سيذبحك سيدك الباشا إبراهيم، سيشرب دمك، يا سكير، يا عربيد، يا من يقضي نهاره غافيًا وليله لاهيًا!
نهش مأمور المخفر وجهه بأصابعه الضخمة، وهو يرتعد، ويئن. سحبه الباشا من خناقه، فأطاع كالجمل، ودفعه على كرسي.
- حصلت جريمة، يا مأمور الوَسَخ! جريمة قتل! بينما أنت مخدر! ومن المتهم؟ سيدك الباشا إبراهيم، يا كلب!
أخذ الباشا يضربه بالمسبحة على وجهه، والمأمور يئن، ويحاول تحاشي الضربات مديرًا رأسه يمنة ويسرة. تعبت يد الباشا. استعاد رَباطة جأشه. استدار ناحية المختار، فخفض المختار عينيه. جلس الباشا على مكتبه. رفع المأمور نحوه وجهًا متورمًا: سقط شاربه من طرف، وارتفع من طرف. سال عرقه، ودمى أنفه. نشق بجلبة، وجذب كمه على أنفه، وانتظر.
قال الباشا إبراهيم:
- الآن أفهم لماذا احتج الجميع عندما عملت على تعيينك مأمورًا.
اشتدت نبرته:
- أنت إنسان مخمور، أعمى، غبي، لا تقدر على حمل المسؤولية!
قال المأمور، وقد ذهب النوم عنه تمامًا:
- ليس الذنب ذنبي، يا سيدي الباشا إبراهيم.
هبَّ الباشا إبراهيم به صائحًا:
- ذنبك ونصف! مليون مرة ذنبك! ما هي وظيفتك في البلد؟ قل لي؟ وظيفتك السهر على استتباب الأمن والنظام! الأمن والأمن وحده، يا مأمور الوَسَخ، لئلا تقع الجرائم وأنت نائم!
ألقى نظرة على المختار:
- إذا كانت الجرائم تقع على بعد مترين من المأمور، في قرية الشؤم هذه، فكيف في القرى الصغيرة التابعة لنا؟ ستحصل هناك مجازر، هذا ما سيحصل والمأمور نائم لا يشعر بشيء، وآخر من يعلم!
سلط على المأمور النظر، فانسحق:
- اسمع، يا مأمور الوَسَخ، هذه فرصتك الأخيرة، وإلا شلحتك المرتينة، وجعلت منك ذبابة...
دخل كاتب الباشا على رؤوس أصابعه خرعًا كأرنب، وأصغى:
- جعلت منك فأرًا مشردًا في الصحراء! يجب عليك أن تجد القاتل، قم بأوسع تحقيق أنت ورجالك، جد القاتل، وأحضره لي. مفهوم؟ هذه آخر مسؤولية لك، إن نجحت، جعلتك شاويشًا بثلاثة شرائط. وإن فشلت، حلقت شاربك، وجعلت منك فأرًا بائسًا، كما قلت لك، ستقضي باقي عمرك في الصحراء تائهًا.
أخذ نفسًا قبل أن ينهي:
- جد لي القاتل قبل أن يتدخل الإنجليز، وإلا هدموا القرية على رؤوسنا جميعًا.
سكت قليلاً ثم صاح:
- الإنجليز، يا مأمور الوَسَخ، الإنجليز! خرب الله بيتك!
وصرفه:
- هيا، إلى العمل! قم!
تلعثم كاتب الباشا:
- الحقيقة... نعم... أريد، يا سيدي الباشا أن...
عنفه الباشا، وهو يضغط أسنانه:
- انطق، يا عبد الغني!
أخيرًا، انتزع كاتب الباشا الكلمات من فمه انتزاعًا:
- عربان وادي عربة، يا سيدي الباشا إبراهيم.
لم تستسلم صفوريا له، وها هو، في الوقت الحاضر، كالذليل يريد أن ينتقم.
- ما لهم عربان وادي عربة؟
- أمس رجموني بالحجارة، و...
سكت قليلاً، ثم بسرعة جدًا:
- شتموك، يا سيدي الباشا إبراهيم!
تابع بتفصيل أكثر:
- رفضوا دفع أجرة الأرض، وهددني شيخهم أبو قاسم، و... شتموا سعادتك!
أضاف بعد صمت قصير:
- قال لي أبو قاسم إن الأرض أرضهم الآن، ولن يعيدوها للباشا إلا على جثثهم.
وأنهى:
- إنهم قتلة، كفرة، يا سيدي الباشا، وأنا أخشى أمرهم!
أوقف الباشا إبراهيم المأمور منبهًا:
- خذ هذا أيضًا، يا مأمور الوَسَخ، وحقَّق في الأمر جيدًا. اسجنهم عن بكرة أبيهم، أولاد الغجر هؤلاء، واهدم عليهم ثقوبهم!
همهم المأمور بتخاذل:
- أمرك، يا سيدي الباشا إبراهيم.
فبدت على الكاتب أمارات الارتياح.
عندما خرج المأمور، توجه الباشا إلى المختار:
- اجمع أهل القرية بعد صلاة الجمعة، وانتظر قدومي. قل للبيك أن يخرس، وألا يطلق الإشاعات.
انحنى المختار طائعًا: أمرك، يا سيدي الباشا إبراهيم.
* * *
كان الغجر ومعهم رجال الغيتو الذين تمكنوا من الهرب بعد هدم الجدار يتقدمون بأسلحتم وآلياتهم من ثكنة ((إذا لا تحب فلا تكره))، وعلى رأسهم آدم مردخاي وأحمدان. حاصروها من كل جانب، وبدأوا يقصفونها، ويقوسون جنودها. قتلوا بعض المنشقين الروس، ولم يستمع مردخاي إلى صرخاتهم وتوسلاتهم. لم يصدق في الآخرين أصدقاء ألمان، أو أنه لم يشأ ذلك، فاضطر الشيوعيون إلى القتال في صف واحد مع النازيين، ولولا مجيء فرقة ألمانية من خلف رجال المقاومة لقضي عليهم.
كان رد الفعل الألماني سريعًا وحاسمًا، أكثر مما جرى ليلة البارحة. أحرق الألمان الغيتو بالنار، ولم يردعهم رصاص المقاتلين. دمروا ((الثقوب))، كما كانوا يدعونها، على رؤوس أصحابها، وقتلوا في الحال كل من لم يقدروا على ترحيلهم إلى معسكرات الإبادة.
كان التصعيد في صالح آدم مردخاي، اجتمع من حوله كل يهود بولندا، فجاءه جوني شارلز، المبعوث الخاص للتايم، من أجل حوار في مخبأه. ومن بين ما قال مردخاي:
- فاجعتنا لن تجد حلاً لها هنا، نحن في الغرب سنظل غرباء إلى الأبد، فاجعتنا لن تجد حلاً لها إلا في فلسطين. نحن اليوم قدمكم هنا، وغدًا قدمكم هناك.
والصحفي الأمريكي يردد:
- أنترستنغ! أنترستنغ!
* * *
قال الهيثم، والبيك في جيئة وذهاب، يداه خلف ظهره، وحاجباه مقطبان:
- صحيح، وقع خطأ، لكنه مات!
اهتز البيك:
- والهدف؟ الهدف الأساسي؟
التفت الهيثم مرتبكًا إلى الخواجا داوود الجالس براحة تامة في المقعد الوثير. صاح البيك:
- نحن لم نصب الهدف!
- لكن الذي...
هب به مقاطعًا:
- لكن الذي حصل مضاد لما نهدف إليه!
شخص ببصره إليه، وقال:
- مقتل الابن البكر لأولاد عوض يزيد المشكل تعقيدًا.
تنحنح الخواجا داوود، وتأرجح في جلسته، ثم ابتسم:
- لماذا أنت غاضب، يا بيك؟
استدار كلاهما إليه.
- أنت لا يحوجك الغضب.
منع ضحكة، وتابع:
- المهم في الأمر هو التنفيذ، وقد تم التنفيذ.
أخذ يسبر أغوارهما:
- القضية في تطور...
انتظر قليلاً، ثم بنبرة مطمئنة:
- لصالحك، يا بيك.
تقدم البيك ثلاث خطوات، وسكن تمامًا. استطرد الخواجا داوود:
- عليك أن تنتظر رد فعل الباشا، وسترى، سيكون عنيفًا عنف ثور هائج.
سأل، وهو يطرف بعينه:
- ولكن كيف سيكون رد فعلك أنت؟
أطلق ضحكة قصيرة مثقلة بالنوايا:
- أقصد كيف سيكون رد فعلنا نحن؟ عنيفًا أيضًا.
التفت إلى الهيثم كما لو كان يسعى إلى تحريضه هو أيضًا:
- يجب التحرك! يجب التحرك! بذكاء، و...
وبنبرة صارمة:
- بعنف!
ثم رفع ذراعيه نحو البيك كما لو كان يريد أخذه في أحضانه:
- بانتظارك الباشوية، يا بيك. السلطة على مرمى حجر.
* * *
كلما حصلت فاجعة احتاج الجنرال ناهريخ إلى دموع ماغدلينا كي يخفف عن نفسه قليلاً، وماغدلينا لم تعد تجد دموعها، فيتوسل إليها القائد النازي حتى البكاء. هذا ما غدت تنتظره ماغدلينا، وعند ذلك، تأخذ بالتلوي على منظر دموعه كالأفعى، وتفتكّ من العينين الدمويتين كل اللذة التي حُرمت منها. غدت ماغدلينا نوعًا من هنري رابع سفاح ودموي، وسعت عند القائد الفذ إلى المزيد من عذابات شعبها، لتلتذ بهذه العذابات، وقد انعكست الآية: بدلا من أن تبكي، وعلى دمعها يلتذ المجرم، صار المجرم يبكي، وعلى دمعه تلتذ الضحية. أخذت ماغدلينا أنييليفيتش مكان الجنرال ناهريخ، فقرر آدم مردخاي قتلها بعد أن أوهم ماريك وموزارسكي بأن في قتلها خلاصًا للناس، وأخفى، ككل مرة، السبب الآخر للتصعيد، لأن مصرع ماغدلينا بالنسبة لناهريخ أهم من إفناء كل سكان الغيتو.
* * *
جلست النساء على عتبة كوخ عواد، وعلى الأرض، أمام الزريبة. كتل سوداء من الحداد. كانت خالة ميريام تبكي، وتعتصر عينيها برِفل ثوبها، وهي تعجن وجهها المجعد. تجاعيدها مرثاة!
مات عواد!
أنّت امرأة، وزفرت أم بسمة، وهمهت امرأة أخرى: آه! يا غالي! يا عواد! يا شحاري عليك ! على عمرك! يا شحار أمك!
في داخل الكوخ، جلس الرجال محزونين، متوتري الوجوه، مشوكي اللحى. الشباب شاخوا، والشيوخ شاهوا. طحنهم جميعًا موت عواد. صعدت الزفرات من آن لآن، والدعوات، ومن وقت إلى آخر، الابتهالات:
- لا إله إلا الله!
- يا رب رحمتك!
- إنا الله وإنا إليه راجعون!
- يا الله!
وعلى حين غرة، هذه الكلمة:
- الصبر!
تتبعها تنهدة، وتساقُط حبات المسابح من بين الأصابع.
أنهى إسحق غلي القهوة المرة، صبها في كؤوس، وأتى بقنبازه الذي يصل الأرض ليقدمها للحاضرين. تبادل نظرة فاجعة مع الأسطى حسن، وهو يحتفظ في أعماق نفسه ببصيص الأمل، وبالثقة بالمستقبل.
فجأة، مزقت الصرخات الموجعة الصمت الساجى في الخارج.
* * *
صعد موزارسكي وماريك، وهما في زيهما القيادي، إلى مكتب الجنرال ناهريخ، وكل من مر بهما من جنود الإس إس يلقي عليهما التحية. قال لهما الحارس إن الجنرال ناهريخ في مهمة خارج وارسو، فأجابا أنهما يعرفان، وهما هنا من أجل مقابلة ماغدلينا أنييليفيتش التي تنزل في جناح الجنرال. طلب منهما الانتظار، ودخل على سيدة المسرح، لكنهما لحقا به، وقتلاه، وهو يدق عليها الباب. صاحت ماغدلينا من جديد:
- قلت لك أدخل!
فدخل عليها الصديقان، وفهمت كل شيء. حاولت التبسم، وأخذهما بين ذراعيها، لكنهما أطلقا عليها النار، وأردياها قتيلة. مدداها في السرير، وخرجا، فإذا بهما وجهًا لوجه مع ماريشيا وبولينا في ثياب الجندية.
طلبت الصديقتان من ماريك وموزارسكي بعد أن سحبتا الحارس القتيل، ورمتاه داخل خزانة، أن يتبعاها. استطاعتا الهرب بهما من سلم الخدم، وهما تبتسمان للقليل من العساكر الذين نزلوا السلم أو صعدوه قبل أن يغيبوا وراء الأبواب.
* * *
سوق الجمعة.
انطلق صوت دلال الحمير أعلى الأصوات، وامتزجت صيحات الإنسان والحيوان: هنا واحد يبيع دجاجة، وهناك ثانٍ يبيع بيضًا في قفة، وهناك ثالث يرمي على ذراعه عباءة يعاينها فلاح رث. كانت الجمهرات كثيرة في الساحة العامة، والضوضاء: هبط الفلاحون الهضاب، وجاؤوا من قراهم الصغيرة ليبيعوا بهائمهم وبضائعهم أو ليبادلوها. تبعثر الروث، وتصاعدت رائحة نافذة بين المعروضات، بينما وقفت هنا وهناك بعض الكروسات. ورغم الصورة العامة للبؤس، فإن بهجة تلقائيّة سادت الجميع. يوم ليس ككل يوم!
غابت كل الهموم، وسادت روح التجارة. كان بعض الأولاد الفقراء يتخاطبون ومسافات بينهم بصوت مرتفع، سرق أحدهم بضع حبات قُطِّين من كوم فوق ثوب مرقع، وراح صاحب القطين يطارده، وهو يرفع قنبازه، ويشتم. اصطدم بالعديد من الناس الذين بدأ بعضهم يشتم، وبعضهم الآخر يقهقه. كان عدد من الفلاحين يجلسون على كراسي القش القصيرة أمام باب المقهى، وهم يدخنون النارجيلة، ويشربون القهوة. وفي وسط السوق، كان بائع الحلوى والذباب ينادي بأعلى صوته. وكان هناك من يبيع نعجة، أو من يعرض أمامه أكوام الذرة والشعير والكرسنة، أو من يلوح بفخذ من اللحم المقدد، أو من يقايض أتانًا:
- كم قلت؟
- ليرتان ورطل سمنة وقفة ذرة وقفة قُطّين.
- غالية، يا عم! وهي ضعيفة الساقين. انظر، ما هذا! أعوذ بالله، عنقها مبقع بالجرب!
هب صاحبها به صائحًا:
- ماذا تقول؟ جرب!
سحب أتانه بغضب:
- لن أبيعك إياها.
أمسكه الآخر من ذراعه:
- لا تغضب! انتظر!
خلّص الفلاح نفسه بعنف، وهو يسحب أتانه بعناد:
- الله يفتح!
فجأة، استدار إليه:
- ألم تقل إن حمارتي جرباء!
- نعم، لكنني أريد شراءها!
دفع الرسن في وجهه:
- حمارتي ليست للبيع، لن أبيعها، حتى ولو دفعت لي ثقلها ذهبًا.
لوّح الرجل يده:
- على قفاي، أنت وحمارتك!
كان السيد لطفي قد تقدم منهما، والبائع يصرخ، وهو يرتعش:
- على قفاك؟ هذا جزائي لأنني أبيع حماراتي للحمير أمثالك!
- يا ابن البغي!
وصفعه.
التحما، وراحا في معركة طاحنة. تكوم الناس، وتدخل السيد لطفي. ساهمت بعض الفلاحات العجائز في الفصل بين الرجلين، وهن يستنكرن على الرجلين تصرفهما بهذا الشكل.
تمكن السيد لطفي من نتع صاحب الأتان من عنقه:
- كفى مصايب، يا أهل المصايب!
تضاءلت الشتائم، وخبا الصياح، وحدق الجميع فيه:
- قلت كفى مصايب!
اطمأن لقواه الرادعة! استطاع أن يفصل بينهما، رغم أنه أقصر الجميع، وتقريبًا أكبرهم سنًا. انتفخ صدره تيهًا وخيلاء:
- ما الذي جرى؟
أراد صاحب الأتان أن يحكي له الحكاية، لكن الآخر أوقفه:
- انتهى، يا عم! حمارتك حلال عليك، دعني في حالي!
أعطاهم ظهره، وذهب. تفرق الناس، بينما راحت إحدى العجائز تفغر فمها العجيني عن ضحكة بلا أسنان. جاءت ولدًا يحمل قفة زعتر يابس، عرضت عليه خمس بيضات، وقالت:
- إذا أردت بادلتك إياها.
قال الولد:
- موافق.
اقترب السيد لطفي من صاحب الأتان، وسأل:
- تريد أن تبيع الحمارة؟
تردد صاحبها، وهو يقلب فيه النظر، ثم قال:
- كم تدفع؟
- دعني أعاينها.
وراح السيد لطفي يفحص الحمارة بعين خبيرة.
انطلق زامور سيارة مسز كلارك، فانتحى بعض الرجال بقدم ثقيلة، وهم يكسرون أعناقهم مع عبور السيارة ليشاهدوا بشكل أفضل الفخذين اللتين ارتفع الثوب عنهما. أعاقت جمهرة من الناس السيارة، فانطلق زامورها من جديد. كان أحدهم يعرض ثعبانًا، فانطلق الزامور أيضًا وأيضًا. تبادلت مسز كلارك والمهندس صادق الابتسام. أخيرًا، قرر الناس فتح الطريق للسيارة. حمل الرجل الثعبان من عنقه، والثعبان يفح، وهو يحرك لسانه أحيانًا. تبعه الناس قرب دكان البقالة. سارت مسز كلارك، والأولاد يعدون من ورائها. ارتقى دعامة السيارة الخلفية ثلاثة منهم لمسافة، ثم قفزوا كلهم دفعة واحدة، والتحقوا بالآخرين.
التفت المهندس صادق حوله مكتشفًا السوق، البضائع، الوجوه. لمح أحدهم يحادث فلاحة كهلة أمام خيمة مغلقة بحزام من الصوف الأسود. كيف جاء هذا المسيح الدجال؟ طلب منها التوقف. وهو يتقدم من الرجل، صادف بعض الفلاحات الشابات الآتيات من النبع، وعلى رؤوسهن جرار الماء. رمينه بنظرات الإعجاب، ورحن يتغنجن، وهن يضحكن، ويتغامزن. أخيرًا، وهو على مقربة منه، ناداه:
- هيه!
نظر الرجل، وخف إلى المهندس صادق بشيء من الضجيج:
- سلامات، يا سيدنا! سلامات، يا مولانا!
- ماذا تفعل هنا؟
- كما ترى، يا مولانا.
أشار إلى الخيمة.
- أكتب الأحجبة للناس، وأقرأ حظوظهم.
- إذن أنت في كل مكان!
- تركت المغرب منذ شهور، وأنت؟
- وأنا.
كانت مسز كلارك قد نزلت من السيارة، واتجهت صوبهم بكثير من الثقة بالنفس. سأل المهندس صادق:
- كل شيء على ما يرام؟
ابتسم المنجم ابتسامة راضية:
- كل شيء على ما يرام، يا مولانا.
توقفت مسز كلارك على مقربة منهما، وهي تواصل ابتسامتها. قال المنجم:
- الفرق أن الناس هنا يريدون أن يعرفوا كل شيء.
انتظر قليلاً قبل أن يضيف:
- لكنهم يعطوني كل ما أطلب.
ولهج:
- دعني أقدم خدمة لك.
أجاب المهندس صادق:
- لا، أشكرك.
- سأقول للمدام طالعها. هاتي يدك.
قهقهت مسز كلارك.
قال المهندس صادق:
- المرة القادمة.
توجه المنجم بالقول إلى مسز كلارك:
- طالعك سعيد، باسم صهيون.
قالت له:
- أشكرك.
أحاط الأولاد بهم، وكذلك بعض الفضوليين من الرجال والنساء. هتف المهندس صادق:
- طيب، إلى اللقاء.
لكن المنجم أمسك بذراعه:
- عندي ما أقوله لك، يا مولانا.
تردد المهندس صادق، وهو يجيل النظر بين المنجم ومسز كلارك، أخيرًا، استأذن المسز، ودخل تحت الخيمة. كان شلال من الضوء والغبار يصب من شق في الزاوية.
- سأطلب منك خدمة صغيرة، يا مولانا.
أخرج المنجم من صندوق دينمو صغير يعمل على البطاريات:
- هذا الجهاز لا يعمل.
لاحظ المنجم عدم اهتمام المهندس، فحاول أن يعمل على إغرائه:
- أصلحه لي، وسأجعل منك شريكًا.
أخذ المهندس صادق يضحك للعرض بصخب، فانعطف المنجم نحوه منزعجًا:
- أصله بسلك في حديد هذا الكرسي الذي يجلس عليه الزبائن، وأجعل تيارًا يسري في أبدانهم كلما استحضرت روحًا. أولى دفقات سحري مرهونة به. ومنذ أن توقف جهازي، صرت ألجأ إلى أساليب أخرى ليست ناجحة دومًا، عدا عن أنها تحتاج مني إلى جهد كبير.
قال المهندس صادق:
- يا لك من مسيح مخادع؟
فتعلل المنجم:
- هكذا يتطلب العيش!
- وهم يعتبرونك نبيًا!
- لشدة ما تنطق به تعابيرهم أكاد أصدقه.
قهقه المهندس صادق:
- إذن... إذن... لست بحاجة إلى عوني. انفخ عليه شيئًا من نفس الله، وسيعود إلى العمل.
ارتد المنجم مكروبًا:
- لا تسخر مني، يا مولانا.
شده من أذنه، وقال:
- وماذا لو فضحتك؟
- لن يصدقوك.
عاد صادق إلى القهقهة بأكثر قوة.
- حسنًا، سأكون لك شريكًا، ولكن ليبق الأمر ما بيننا.
راح المنجم يلهج بالدعاء: أطال الله عمرك وأبقاك، يا مولانا!
وهو يتداعى على يديه.
حينما خرج من عنده، كان يحمل الدينمو في سلة مغطاة. وبعد أن سارت السيارة، تعالى صوت المنجم بين هرج الأولاد:
- يا عباد الله! الجنة مفتوحة للصالحين من عباد الله! عبد فقير بينكم يرجم بالغيب، ويدرأ الخطر، وينشر اليمن، ويكتب الحرز وشتى أنواع الحجاب!
* * *
لم تعترض الأصدقاء الأربعة أية عقبة أثناء انتقالهم من الغيتو الكبير إلى الغيتو الصغير، حقًا كان الجحيم في كل مكان، لكنه الجحيم العادي، جحيم كل يوم. لم ينتشر خبر اغتيال ماغدلينا أنييليفيتش، كان الجحيم القادم الأكثر جحيمًا لم يبدأ بعد.
- حتى في أكبر جحيم يعتاد المرء جحيمه، قال ماريك.
- أن يعتاد المرء جحيمه شيء وأن يعتاد فردوسه شيء آخر، قال موزارسكي. من هذه الزاوية أفضل أن أعتاد فردوسي، ولهذا السبب أقاتل.
- الفردوس أنا، يا حبيبي، قالت بولينا، حتى في الجحيم.
- الفردوس فكرة سمجة، يا موزارسكي، قالت ماريشيا. إذا كانت بولينا الفردوس، فبولينا فكرة سمجة.
- أنا فكرة سمجة، يا ماريشيا؟ زعلت بولينا. الحب فكرة سمجة؟
- الحب ليس الفردوس، قال ماريك. الحب هو الجحيم، ولكن بشكل آخر.
- أنا جحيمك الشهي، يا حبيبي، قالت ماريشيا لماريك. الحب هو الجحيم الشهي، لهذا نستطيع الحب حتى في أقصى ساعات الإنسانية همجية.
- الفردوس في الجحيم شيء غير موجود، علق موزارسكي، شيء غير معقول.
- الحب في الجحيم، يا موزارسكي، احتد ماريك، أنت تهلكنا وتوراتك في رؤيتك إلى الأشياء! ماريشيا صائبة، لا يوجد فردوس لا في الجحيم ولا في غير الجحيم، لا يوجد إلا الجحيم، ونحن ما علينا سوى أن نقطعه، أن نذهب من جحيم إلى آخر. وليكون الجحيم أقل جحيمًا نحب من يستحق الحب، ونقتل من يستحق القتل.
توقفت قربهم سيارة عسكرية، وطلب منهم الضابط التي يستقلها إن يذهبوا إلى عون فرقة من النازيين يحاصرها بعض المقاتلين ريثما يعود بدعم عسكري.
- الفردوس هناك، يا عزيزي موزارسكي. لنذهب إليه قبل أن يحيله غيرنا إلى جحيم غير جحيمنا.
هاجم الأصدقاء الأربعة فلول النازيين من ظهورهم، وقضوا عليهم، وهم يشعرون بسعادة من هم في الفردوس، ثم اندمجوا مع المقاتلين في جحيم المقاومة.
* * *
ترك السيد لطفي سوق الجمعة، وأتى زقاقًا، وهو يسحب الأتان التي انتهى به الأمر إلى شرائها، حتى وصل إلى بيت المختار. ربط الدابة بحلقة الباب المفتوح، ونادى:
- يا أهل الدار!
طالعته بعض الخيالات، فدخل، وهو يحاذر أن تلتقي نظرته صدفة ونظرة امرأة من نساء الدار، مرددًا:
- يا الله! يا ستار!
أخيرًا، جاء المختار، متوتر الوجه، وقد غمق لونه. سلّم عليه بفتور، وأدخله إلى حجرة وسيطة يجلس فيها الرجال، ثم اختفى وراء باب.
وجوم مطبق. عشرة إلى خمسة عشر جالسًا على المطارح. كان بعضهم يدخن النارجيلة، وبعضهم الآخر يسبّح أو يستغفر. كان الكل صامتًا. لم يكن وقت المضافة، ولكن لأن الأمور لا تسير على ما يرام. أخذ السيد لطفي مكانًا أمام القاضي، ورفع يده إلى مستوى رأسه إشارة للتحية. بادله القاضي إياها بذات الإشارة، وخرطوم نارجيلته في فمه. رفع السيد لطفي يده تحية لشيخ الجامع، ثم للسمسار، ثم لجار السمسار، وأخذ يحيى الجميع واحدًا واحدًا، وهم يردون عليه بالطريقة ذاتها، مع الهمهمة أحيانًا. بعد قليل، انعطف على جاره، والضيق يبدو عليه، ووتوت في أذنه. فتح الرجل يده رافعًا إياها إلى مستوى كتفه، وقال بصوت خافت مبديًا جهله:
- الله أعلم!
أطبق السيد لطفي فمه، وقد اشتد ضيقه، ثم ما لبث أن تنحنح، ورفع صوته مخاطبًا القاضي:
- ما لك ساكت، يا سيدي القاضي؟
أتاه جواب القاضي صارمًا وغليظًا:
- ما لي من حالي، والحال أنت به أعلم، والله بكل أمر عليم!
رد السيد لطفي دون أن يغادره ضيقه:
- صدق الله العظيم! ولكن قل لنا رأيك، ولنسمع رأي الجماعة الحاضرين.
ونظر إليهم:
- ألسنا هنا لتبادل الرأي والمشورة؟
أشار القاضي إلى شيخ الجامع:
- اترك الكلام للشيخ، سيدي الإمام، فهو أفصحنا قولاً، وأكثرنا علمًا وفهمًا وإلمامًا بشتى الأمور، وهو ذو أصل طهور!
أملس الشيخ لحيته، وانحنى مهمومًا للمدائح التي انهالت عليه:
- أنت أطهر الناس، يا سيدنا القاضي! أشرف الأنام، وأصلك فرع ينتسب لشجرة النبي عليه الصلاة والسلام!
علت الأصوات من هنا وهناك: (( عليه الصلاة والسلام! ))
ردد القاضي بنبرته الطنانة:
- أستغفر الله! أستغفر الله!
قال الشيخ:
- آه، يا أخوتي! دعوت وأدعو وسأبقى أدعو كي يجنبنا الله شر الويلات. ما وقع كريه ومكروه! أكره المكروهات عند الله القتل والعياذ بالله! جنبنا الله شر عواقبه!
اندفع السيد لطفي يسأل بشيء من التهكم:
- ومن القاتل، يا سيدي الشيخ؟
صاح الشيخ:
- الله أعلم!
وهو يلوح بمسبحته مؤكدًا جهله.
صاح السيد لطفي بدوره:
- يجب أن يلقى القبض على القاتل.
نصب السمسار عنقه الديكي، وأبدى بصوته الدقيق عجبه:
- بالله عليك، يا سيد لطفي!
- ماذا بالله علي!
- بالله عليك اسكت، ولا تزدنا غمّاً!
- أسكت والقاتل يسرح ويمرح حرًّ بلا قيد؟!
ذرب السمسار صوته:
- دلنا عليه إذا كنت تعرفه.
- لو كنت أعرفه لقلت للجميع.
- إذن اسكت، ولا تزدنا غمّاً!
أبدى السيد لطفي مرارته:
- الله على أيام آخر زمن!
تلوى السمسار:
- إذن اذهب، وابحث لنا عنه، جده إذا كان بمقدورك، ولا تلمنا بشيء.
رفع السيد لطفي يديه كمن لا يعنيه الأمر:
- وما شأني، أنا، يا سيدي السمسار! من قُتل لا عمي ولا ابن عمي ولا قريبي لا من بعيد ولا من قريب!
نظر السمسار إلى الحاضرين كمن يرمي إلى الكشف عن نوايا محدثه، ولكي يستثيرهم، قال:
- أسمعتم؟ ها هو يسحب نفسه كالشعرة من العجين!
أوضح السيد لطفي ليزيل شكهم:
- لم أقل إنني لم أكن مسئولاً، هذا ما أردت قوله. طالما وقع قتل في البلد، فهي مسئولية كل أهالي البلد.
جاء المختار مرددًا من طرف شفتيه:
- مسئولية أهالي البلد! مسئولية أهالي البلد! أهذه هي بلد؟!
تذمر القاضي بنبرة من اللوم:
- هذا شيء لم يحصل في التاريخ أبدًا!
عزف الشيخ على نفس الوتر:
- شيء لم يذكره قرآن ولا توراة ولا إنجيل!
فتح أبو حنا فمه، وقال بشفة رخوة:
- القضية وما فيها أن تجدوا حلاً يحول دون وقوع جرائم كهذه مرة أخرى، والحل... والحل...
أسقط رأسه، وأغفى. بقى الجميع بانتظار أن يصحو أبو حنا، فهي عادته، وكلهم يعرفها. رفع رأسه فجأة، وأضاف:
- والحل بين يدي الباشا إبراهيم!
أغفى من جديد، فقعر القاضي صوته:
- عين العقل والصواب!
توجه السيد لطفي بكلامه إلى المختار:
- أسمعت، يا سيدي المختار؟ يعني الكل يلقي بالمسئولية عليك.
ثم قال متصنعًا الخيبة:
- لكن مختارنا مكتف اليدين، يرى الدم يسيل حتى الركب،
ولا يبدي حراكًا!
أخذ المختار يلهث غيظًا، وصمغ كلماته يلصق زاويتي فمه:
- أنا! أنا من لا يبدي حراكًا! عيب عليك، يا سيد لطفي أن تقول هذا!
- إذن ماذا فعلت؟ لماذا لم تكلم الباشاإلى حد الآن؟ المخترة وأخذتها، فماذا فعلت للبلد مخترتك، يا سيدي المختار؟ لو كنت مكانك لذهبت إلى القصر عشرات المرات، لطرقت باب المفتي، وقلبت الدنيا وأقعدتها. هذا وقت حبيبك الباشا كي يعمل! هذا هوالوقت! لكنك جامعنا وقاعد معنا تبحث عن حل. نحن ماذا لدينا مما نقترحه عليك؟ سلم الله فمك، يا أبا حنا!
نصب أبو حنا رأسه عند سماعه لاسمه، ثم عاد يغرق في النوم. واصل السيد لطفي:
- الحق أن الحل بين يدي الباشا القوي، ومختارنا يرى بأم عينه كيف يسيل الدم حتى الركب، ولا يبدي حراكًا!
انفجر المختار:
- عيب عليك، يا سيد لطفي، أن تقول هذا الكلام! خذ المخترة التي تحسدني جنابك عليها منذ مولدك، واعمل الذي عملته إلى اليوم أكون لك شاكرًا. خذها، ها أنا أعطيها لك على وجوه السامعين، وفك عني!
أشار السيد لطفي بحركة نافية من يده:
- لا، يا سيدي! تركتها لك، حماني الله منها ومن شرها!
ولم يزل المختار متوترًا:
- افهم الأمور أولاً، واحكم بعد ذلك. تتهمني بالتقاعس، وأنا من مطلع الشمس أركض. الباشا والمأمور ومزرعة أولاد عوض، ثم من جديد المأمور ومزرعة أولاد عوض والباشا، والناس الذين هم هنا، وأنت، أنت، يا سيد لطفي، ألم آت إليك كي أنقل لك الخبر وأدعوك؟ وفوق هذا كله، سآتي بالباشا إبراهيم، بطوله وعرضه، سأنتشه من شعره، وأحضره لك بعد صلاة الجمعة كي يحادثك، ويحادث الجميع، وكي تحادثه أنت، ويحادثه الجميع...
انقطعت أنفاسه:
- وتأتي وتقول لي: المخترة وأخذتها، وماذا فعلت للبلد؟ خذها، يا سيدي، أعطيتك إياها، ما عدت مختار البلد منذ اليوم!
انهالوا عليه مراضين ومطيبين إلى أن قال القاضي:
- المختار خير وبركة، منذ أن أعفاني الإمام الأكبر سيدنا المفتي إلى اليوم، وهو يتوسط لي لدى الكبار والصغار من أجل تعييني قاضيًا لمنطقة الحرم الشريف، بارك الله فيه، وفي أهله، نيته صافية كالعسل!
هونت على المختار شهادة القاضي بعض الشيء، فرمى نفسه إلى جانبه، ونفخ للتأكيد:
- هه!
انطوى السيد لطفي على نفسه، وهو يجمع في حضنه قنبازه، وكان من أبي حنا أن نصب عنقه، وتوجه إلى السيد لطفي بالكلام:
- لا تبتئس، يا سيد لطفي، ستزول المشاكل، وسيصفو... سيصفو...
أسقط عنقه، وأغفى، ثم انتصب عنقه:
- سيصفو الجو.
تثاءب أبو حنا، وأغفى من جديد. قال القاضي:
- سيصفو الجو والبال، وسنفرح بك عما قريب، يا سيد لطفي.
نظر إلى الشيخ:
- وإلا ماذا، يا سيدي الشيخ؟
- إن شاء الله!
همهم السيد لطفي دون حماس:
- وفرها، يا سيدي القاضي.
تعجب القاضي:
- كيف؟!
- قلت لك وفرها، عدلت عن الزواج، اشتريت حمارة.
قهقه الجميع:
- حمارة؟
- حمارة، يا سيد لطفي!
- حمارة برسن؟
وهو جاد التعابير:
- أي نعم، حمارة برسن.
ردد القاضي ضاحكًا:
- يا خسارة! يا خسارة!
والتفت إلى الشيخ:
- بطلنا، يا سيدي الإمام. منذ ثلاثة أشهر إلى اليوم لم يجرِ عرس واحد في البلد، بينما ازداد عدد الأموات مرات. ألغينا الاتفاق. الأفراح وعقود الزواج تكلف بها أنت، أما المآتم والطلاق، فسأتكلف بها أنا.
قال أكبرهم سنًا:
- بالله عليك، يا سيدي القاضي، أسرع، وطلقني هذه المرة من امرأتي.
ضحك الجميع، والقاضي يتهرب بهذه الكلمات:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
انتهره:
- ألا تعرف، يا رجل، أن أبغض الحلال عند الله الطلاق؟
- أعرف، يا سيدي القاضي.
- إذن لماذا الطلاق؟
تردد الرجل، وقال:
- أردت أن أسببك.
ضحكوا من جديد، والقاضي يشكر:
- بارك الله فيك وفي خلفك! ولكن، ألا تعرف أن أبغض الحلال عند...
قاطعه الرجل:
- وإلا فجد للعجوز الشمطاء زوجتي عريسًا.
قهقه الجميع، والقاضي يلقي نظره على السيد لطفي، ويقول عن عمد:
- على بركة الله، يا ولدي! العريس موجود وجاهز... على بركة الله!
أشاح السيد لطفي بوجهه عنه، وقد غمق لونه، وبدا عليه السخط والتقزز.
فجأة، صاح الشيخ:
- إلى الصلاة، يا عباد الله، حان موعد الصلاة!
نهضوا جميعًا، وذهبوا إلى الجامع.
* * *
وهم يقطعون الأقبية والأنفاق إلى القيادة، كان مقاتلو الغيتو تعبين، ولم يكونوا يائسين. كانوا على استعداد لمواجهة كل المخاطر دون أن يفكروا في الموت، كان الموت آخر ما يفكرون فيه، وكانت وارسو كل ما يريدون فضاءً لهم. كانت كل الهمجية في وارسو، وكل الإنسانية في وارسو، وكل النهايات في وارسو. ومع ذلك، كانوا لا يريدون شيئًا آخر غير وارسو. كان كل شيء بالنسبة لهم يبدأ في وارسو، وينتهي في وارسو. كانت المَحْرَقات لا تعني شيئًا آخر غير وارسو، وكذلك الأعشاش التي لم تهدمها الحرب. كانت وارسو لهم البندقية والحيوانية، وكانت وارسو لهم الأمل كما يفهمه طفل يرفع يديه مستسلمًا أمام الغزاة، وكل الشناعة التي عرفها طفل سيحترق من أجل ألا يحترق طفل آخر في مكان آخر غير وارسو. لم تكن الضحية ضحية لأنها ضحية، ولم تكن الضحية تحت معنى الافتداء، ولا تحت معنى الإدانة، لا ولا تحت معنى التأثيم، وإنما تحت معنى البقاء في ذاكرة الإنسانية إلى الأبد، تحت معنى المطر في جحيم النفس، وتحت معنى ألا تغدو الضحية جلادًا، ألا ترتكب الضحية كل ما ارتكب ضدها من حماقات تجعل من الجميل في الجحيم دالاً للدمامة، ومن الدمامة مدلولاً للحياة.
* * *
قال الأسطى حسن:
- عد إلى شغلك، يا ابن السيد.
كانت لابن السيد عينان حالمتان وطلعة لا توحي بالأذى.
قال طائعًا:
- كما ترى، يا أسطى.
صححه الأسطى حسن:
- كما ترى المصلحة العامة.
- حاضر، يا أسطى.
وكمن في ركنه هادئًا.
لم يكن على ما يرام أبو العبد، كان يفتح عينيه بصعوبة، وقد برزت حنجرته تحت جلده الهرم. خلع إسحق صندله، وجاءهم حافيًا. نظر إلى إبريق الشاي الموضوع فوق الرف، وسألهم إذا كانوا يريدون قدحًا، لكنهم اعتذروا بحجة احتسائهم القهوة في بيت عواد. لاحظ إسحق وجه أبي العبد الباهت، وعينيه الذابلتين، فابتسم له قليلاً، ودعاه إلى الكلام:
- تكلم، يا أبا العبد.
ابتلع أبو العبد ريقه أولاً، وسأل بغم:
- ماذا أقول لك، يا إسحق؟
وبعد قليل، همهم:
- لقد ركبوا على ظهورنا!
قال إسحق:
- لا تقل هذا، يا أبا العبد، فنحن لهم بالمرصاد دومًا.
انفعل:
- بالمرصاد، كيف؟
ثم توجه إلى الأسطى حسن بالكلام:
- سامحك الله، يا أسطى حسن! لماذا لم تدعني أجهز عليه، مهندس المجاري ابن الكلب؟
- صبرك، يا أبا العبد.
لكنه اهتاج:
- تعرفني، يا أسطى حسن! تذكر في 36... تذكر ماذا فعل أبو العبد في 36.
- أذكر، لكن الحال اليوم يختلف.
- ما الذي يختلف؟ كنت في يافا سنة 36، وعملت العجب العجاب خلال إضراب الستة أشهر. بحث عني الإنجليز في الشوارع والحارات شبرًا شبرًا، لكنهم لم يقعوا لي على إصبع. ذبحت منهم ثلاثة، وفي كل ليلة كنت أوزع المناشير.
أخذ نفسًا، وتابع، وهو يستعيد الماضي:
- رحمك الله، يا شيخ القسام! لقد كنت وطنيّاً حقيقيّاً مخلصًا! حملت البندقية إلى جانبه قبل إضراب الستة أشهر. كان قد أعلن الثورة في قضاء جنين، وقد أراد تحرير حيفا أولاً، ليعلن فيها دولة الثورة، لكن الإنجليز، مصاصي دم الشعوب، قتلوه قبل أن يستطيع تحقيق ذلك. قتلهم الله!
التفت إلى الأسطى حسن، وقد عاد البريق إلى عينيه كالعادة، وها هو ذا يتلهب حماسًا:
- لماذا لم تدعني أقتل مهندس المجاري ابن الكلب؟ إنه عميل وخائن! هل رأيته بأي شكل يلحس كندرة الباشا والإنجليز! لو قتلته لأرحتكم منه ومن شره!
قال الأسطى حسن:
- لو قتلته لقتلك الباشا إبراهيم، وفوق هذا، نحن لسنا في غنى عنك الآن.
أخذ أبو العبد يرتعش:
- الموت أحسن من الإهانة!
ثم راح يتوعد:
- لن يكون موته إلا على يديّ ذاك النذل.
قال إسحق مهدئًا:
- هدئ روعك، يا أبا العبد.
أطلق أبو العبد نفسين، وهدأ دون أن تغادره رعشة أصابعه.
قال الأسطى حسن:
- سأعمل كل ما بوسعي من أجل إعادتك إلى العمل.
لم يجب أبو العبد، أشاح بوجهه عنه، وهو ينظر في الفراغ.
توجه الأسطى حسن إلى ابن السيد بالكلام:
- اعتمد عليك، يا ابن السيد، يجب أن يصل التقرير إلى الثوار الليلة.
رمش ابن السيد مرتين قبل أن يجيب بطاعة وهدوء:
- اطمئن، يا أسطى.
غريب هدوء ابن السيد، لا يتكلم إلا إذا سُئل، وإذا تكلم قال كلمتين فقط، وسكت. كان يصغي بانتباه دومًا، كمن يسجل كل ما يقال. وكان على استعداد دومًا للقيام بأية مهمة، لا يناقش ولا يسأل الأسطى حسن عن حاله لثقته الكبيرة به. التفت الأسطى حسن إلى إسحق، وقال:
- أرض عواد في عهدتك الآن، اعتن بها عنايتك بأرضك، واجعلها تنتج الغلال كي يمكننا استعادة بقراته.
قال إسحق:
- اطمئن. ثمن البذار الذي على عواد دين في أعناقنا، سندفعه، وسنستعيد البقرات.
أطلق أبو العبد آهة:
- حسرة عليك، يا عواد!
قال الأسطى حسن:
- لا نفع للحسرة اليوم! يجب العمل!
قفز أبو العبد:
- ولماذا لا نحطم ماكينات النول؟ قل لي لماذا؟ هذا ما يلزم علينا فعله إذا أردنا العمل.
وضع الأسطى حسن يده على كتف أبي العبد، اقترب منه ما وسعه الاقتراب، وقال له:
- تمهل، يا أبا العبد، تمهل، قليل من الصبر.
* * *
أنشد ماريك:

الورد الأحمر اختار لونه
وأنا اخترت لوني

الثلج الأبيض اختار لونه
وأنا اخترت لوني

البحر الأسود اختار لونه
وأنا اخترت لوني

الأسد الأشجع اختار طبعه
وأنا اخترت طبعي

الذئب الأجشع اختار طبعه
وأنا اخترت طبعي

الدب الأحمق اختار طبعه
وأنا اخترت طبعي

المصري المخاطر اختار دربه
وأنا اخترت دربي

الإغريقي المغامر اختار دربه
وأنا اخترت دربي

الصيني المقامر اختار دربه
وأنا اخترت دربي

الملك الظالم اختار خصمه
وأنا اخترت خصمي

الفيلسوف الحائر اختار خصمه
وأنا اخترت خصمي

الجاهل العالم اختار خصمه
وأنا اخترت خصمي

الحجر المنفي اختار هجره
وأنا اخترت هجري

الجناح المرمي اختار هجره
وأنا اخترت هجري

الكتاب المروي اختار هجره
وأنا اخترت هجري

العذاب النفسي اختار شخصه
وأنا اخترت شخصي

الجحيم الأزلي اختار شخصه
وأنا اخترت شخصي

الصراع الزمني اختار شخصه
وأنا اخترت شخصي
* * *
أعطى الباشا إبراهيم ظهره للمئذنة، وضعوا له كرسيّاً على مصطبة، بينما جلس أهل القرية وكل من جاء إلى سوق الجمعة من القرى المجاورة على الأرض أمام الجامع.
ارتدى الباشا إبراهيم عباءة من الحرير الأصفر، وحمل المسبحة بيده، ووضع الطربوش على رأسه. بدا في جلسته أكثر ضخامة، شاربه الأبيض كالفضة، وفي شفتيه ثنية صارمة. إلى جانبه، انتصب الحارس كالتمثال. علق البندقية على كتفه، فسقطت لثقلها كتفه، وقبض على البندقية من الحزام. كان الحصان الأبيض على مقربة هناك، وقد بدا الحصان في عالم آخر غير عالم الباشا، والعربة اللوكس كانت أيضًا هناك.
كانت الوجوه الترابية ترنو إلى الباشا، وجوه الفلاحين، بثيابهم القاتمة، ونظراتهم اليائسة، وفي ذات الوقت، البريئة. إذا ما التقت نظراتهم بنظراتنا انجرحت قلوبنا! كانوا ينتظرون أن يتكلم الباشا، كانوا يعرفون أن الباشا سيتكلم، ولكن عن أي شيء يريد أن يتكلم؟ نسى معظمهم قصة القتل التي وقعت في الفجر، ولم تعد قصة أبي سِنَّه وأبي الغزال شيئًا كبيرًا في ذاكرتهم. كانوا في حضرة الباشا! وها هم يتركون له الكلام! وفي الأخير، تكلم الباشا:
- جمعتكم هنا كي أحذركم من الشيطان الذي يسكن في أثوابكم! هذ الشيطان الذاهب، الآيب، الآكل، الشارب معكم أينما حللتم، وأنتم ساهون غافلون! هذا الشيطان الصانع لكم ما لا يصدق من أشياء دون أن تعلموا! والله إذا بقيتم على حالكم هذا جثم الشيطان على رقابكم حتى تزهقوا الروح، فتموتوا. عليكم اللعنة إذا لم تبالوا! والله شر البلايا أن يحل الشيطان في بلد نائم في الليل والنهار، فلا ينهض أهلها، ليدمرها عليهم أفظع دمار!
فغرت الأفواه، وابيضت الجباه. كانوا كلهم يتابعون باهتمام كلمات الباشا المرعبة تلك، وأوداجه الممتلئة التي تتلاطم على وقع الكلمات.
- لقد وقعت حكاية غريبة لا يصدقها العقل في الآونة الأخيرة! حكاية تحرق الرأس بالشيب! أنا والله ناقم أشد نقمة. تركتموني وحدي، ورميتم على عاتقي كل المسئولية. وكأني بأهل موسى عليه السلام عندما قعدوا عن نجدته قائلين، اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون! وماذا كانت النتيجة؟ جعلهم الله يوغلون في التيه السنين تلو السنين! وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتعاون فيما بيننا عندما تشتد الأمور، بمعنى أن نلم شمل بعضنا وقت المصائب. وأي مصائب تجري في البلد اليوم! لم نر مثلها مصائب منذ العهد التركي، لعنه الله من عهد مشؤوم مذموم، وجنبنا الله شر اليوم، أكبر الشرور! هذا اليوم الذي نشهد فيه على جرائم تلو جرائم، والله سبحانه وتعالى، ونبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، قد أدانا بلدًا تقع فيه الجرائم تلو الجرائم، ونحن غارقون حتى رؤوسنا في الطين، عاجزون عن رفعها، ونصبها في وجه القاتل. ومن هو القاتل؟ إنه واحد منكم!
امتلأت الدنيا بالضجيج.
- فهل تعرفونه؟
عظمت صيحات الباشا إبراهيم:
- قولوا لي، هل تعرفونه؟
وكأنه قبض على خناق كل واحد منهم وهزَّه:
- لا أحد يعرف هنا بالطبع. عقاب الله سبحانه وتعالى قد حلَّ بكم، تمامًا كما أحله بجماعة سيدنا موسى عليه السلام! وها أنتم اليوم تائهون في الصحراء! أمس، حفرتم قبورًا لأكثرنا طهارة، أبي سنه وأبي الغزال، واليوم لابن عوض، أما غدًا... غد الشؤم غدًا، فسيكون أمرَّ الأيام إذا بقيتم على حالكم، وستحفرون القبور لأهل القرية جميعًا. موتوا إذن! واستسلموا! وابقوا في الطين! ثم قولوا لي كما قال أهل موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنَّا ها هنا قاعدون!
نفضهم من أعماقهم، فضجوا، وهمروا:
- الله أكبر!
- معك، يا الباشا... معك!
- لعن الله الخاضعين لغير الله اللهم آمين!
رددوا معًا:
- فداك، يا الباشا... فداك! فداك، يا الباشا... فداك! فداك...
رفع الباشا يده الهائلة، وتركها تسقط على رؤوسهم كالسوط:
- اسمعوني... اسمعوني...
انسحقوا.
- عملت لكم، ومن أجلكم، وما زلت أعمل لكم، ومن أجلكم، كما عمل أبي وجدي وجد جدي لكم، ومن أجلكم.

اقتلع رجال المخفر ستائر الخيش عن أبواب فلاحي وادي عربة. قمعوا أبا قاسم في عقر داره. انقضت صفوريا على المأمور. دق بقبضته صدرها. خرت تصرخ وتبكي. أطلق رجال المخفر على بعض الفلاحين. هدموا المواقد. ضربوا بظهور بنادقهم الأطفال. علا البكاء. سقطت النساء في الطين. جاءت صفوريا تعدو وهي تشتم وتبكي، وسقطت في الطين. نادت على الله مستنجدة. ذرفت الدموع الحرى.

- والمسلم الصالح من أوفى بالمعروف لصاحب المعروف. وما أطلبه منكم أن تفتحوا عيونكم جيدًا، وألا تنساقوا وراء الكارهين والحساد ممن ليس لهم شرف ولا دين. احذروا الحساد والكارهين. أولئك الخونة الذين يعملون في الظلام كالشيطان، لعنه الله ولعنهم، ليعيثوا في الأرض فسادًا، ودعوا باقي الأمور علي.

خلال ذلك، كان رجال المخفر يواصلون عمليات القمع، اقتلعوا الفلاحين من أقاصي القرية، لطموا نساءهم، ساقوا دوابهم، وجروهم بالحبال.

- هذا ما أطلبه منكم، ودعوا باقي الأمور علي. سأجد القاتل (هب ناهضًا كالجمل الضخم الخيالي) وسأسحقه بنعلي كالذبابة...
صيحات، وهتافات، وقبضات.
- سأسحقه بنعلي كالذبابة! ولن أطلب من الإنجليز عونًا لأنهم خداعون وأصحاب مكائد! طلب العون من الإنجليز لهو أكبر خيانة، والله أكبر على كل من خان وتكبر!
هتافات:
- الله أكبر على كل من خان وتكبر!
ثم معًا:
- فداك يا الباشا... فداك! فداك يا الباشا... فداك!
هجم بعضهم، وحاولوا رفعه على الأكتاف، لكنه دفعهم، وهو يصرخ، ويشتم. هبَّ الحارس مبعدهم حتى خلصه. قفز داخل العربة حيث أمنه وسلامه، وانطلق الحصان.
* * *
أنشد ماريك:

أنا إن ورثت شيئًا
فبؤس كل إنسان
أو سعادته

أنا إن أُعطيت شيئًا
فثوب كل إنسان
أو سلاسله

أنا إن وُعدت بشيء ليس شيئًا
يوعد به كل إنسان
لن يكون وعدًا
بل عبئًا
لا أقدر على حمله

البؤس ليس قدرًا
ولا السعادة

الثوب ليس أبدًا
ولا السلاسل

الوعد ليس جنونًا
ولا قبلة يهوذا
* * *
بينما كان أهل القرية يتفرقون، والغوغاء تبتعد، إذا بوقع حوافر تأتي من خلف الظهور. وصل البيك والهيثم كل واحد يركب حصانًا، فتردد الناس في البداية إلى أن توقف الفارسان. عند ذلك، جاء بعضهم بدافع الفضول، دون أن يهدأ حصان البيك، ربما بسبب عيونهم المحملقة التي كانت تبهره. شبّ حصان البيك عدة مرات، وهو يصهل، إلى أن كبح جماحه. نادى أحدهم:
- يا جماعة! تعالوا واسمعوا! يريد البيك أن يكلمكم.
تردد من هم في الطرف الآخر، ثم اقتربوا، وهم ينظرون بريبة. وهناك من كان يحدج بضغينة. نادى الهيثم من ابتعدوا:
- تعالوا! تعالوا جميعًا!
كان المختار والشيخ والقاضي قد انسحبوا دون أن يشعر أحد بهم. تبعهم السيد لطفي والسمسار والسمسار يخفي وجهه بذراعه. عندما أحاط جميعهم بالبيك، خاطبهم قائلاً:
- كنت مارًّا من هنا عندما سمعت هتافاتكم، فأثرتم في صدري مشاعر الفخار بوثبة هذا الشعب الذي يرفض العار، ويشعل النار، النار اللهابة في وجه أعداء الشعب وأعداء الله، أعدائنا اللدودين، وهم كثيرون! نحن نعرفهم جميعًا، ومع ذلك، فمن الواجب علينا هذه الساعة أن نسميهم بأسمائهم، وأن ونعدهم واحدًا واحدًا! كانت هتافاتكم وطنية تترجم الغضب على الأعداء. لقد حان وقت الحساب! ومن لامرئ حساب يريد تصفيته، فعليه أن يعرف كيف. وإلا بقينا في العموميات، نقول أعداءنا، دون أن نحدد من هم واحدًا واحدًا. إن أشدهم خطرًا، وأكثرهم جرمًا...
وقعر صوته:
- قاتلو أبي سِنَّه وأبي الغزال... قاتلو الشعب، ومصاصو دمه! هؤلاء هم أشد أعدائنا ضراوة... كفرة، قتلة، أوجب الله سبحانه وتعالى قتلهم وقتالهم.
أخذوا يغلون.
- ويأتي في الدرجة الثانية الخونة، نعم يا إخوان، الخونة الذين هم من لحمنا ودمنا مع الأسف، تبرأ الله منهم ومن نسلهم! إنهم ضعاف النفوس، كريهون، لا يرون إلا مصالحهم أولاً، ومصالح الشعب لا في الأول ولا في الأخير! يعلون على رقاب أهل البلد، ورقاب أهل البلد تغرق أكثر فأكثر في الطين!
ثم قعر صوته ما وسعه ذلك:
- اهتفوا معي وعلوا الضجيج: سحقًا لهم!
فرعدوا معًا:
- سحقًا لهم!
والبيك من جديد:
- سحقًا! سحقًا!
وهم من جديد:
- سحقًا! سحقًا!
- سحقًا! سحقًا! سحقًا!
- سحقًا! سحقًا! سحقًا!
تعالت أصوات كالموج الهادر:
- أكبر... أكبر... آه يا بيك... الله أكبر!
وهو ينفخ صدره مرتفعًا فوق حصانه:
- أما عدونا الثالث...
وهم لم يزالوا مندمجين مع هتافهم. أعاد البيك:
- أما عدونا الثالث...
انتهروا بعضهم، وسكتوا.
- أما عدونا الثالث، فهم الأذناب. أولئك الذين لا يساوي الواحد منهم متليكًا! يلسحون ليل نهار نعال الطاغي تمامًا كالكلاب، كي يرميهم الطاغي بعظمة!
صاح أحدهم:
- الله أكبر على كل من طغى وتجبر!
وانسحق.
قال البيك بهدوء:
- نعم أيها الإخوان، الله أكبر!
وبنبرة صارمة:
- الله أكبر على كل من طغى وتجبر! الله أكبر على الأعداء ألف مرة! حان الوقت كي نعرف جميعًا من هو ابن الشعب المخلص، ومن هو عدو الشعب اللدود.
حمحم الحصان جامحًا.
- كان أبي رحمه الله مخلصًا لهذا الشعب، والكل يعرف هذا. كان خادمًا لكم طوال حياته، دافع عنكم دفاع الأبطال يوم لوَّث المستعمر بأقدامه أرض الوطن الغالي. ومنذ أن شبت أظافري، وهو يبث في نفسي روحه الوطنية، روح النضال من أجلكم، ومن أجل الاستقلال. ثم مات، فتركني لكم من بعده، أنا الخادم الأمين المخلص، والأخ القريب إلى فؤاد كل منكم، يا أهل قريتي الأعزاء!

خرج أولاد عوض من الدار، وهم يحملون تابوت أخيهم القتيل على الأكتاف. كانوا يسيرون بخطوات تثقلها الفاجعة. تعلقت امرأة بالباب. مدت ذراعها، ثم تركتها تسقط. أخذت تصرخ، وتولول. ركضت امرأة شابة من وراء النعش ثم ألقت بنفسها على الأرض. بكى الأطفال، وناحت النساء.

- نعم أيها الإخوان، الأخ القريب إلى فؤاد كل منكم، يا أهل قريتي الأعزاء! اجتمعنا اليوم لنغضب، فلنغضب، ولنقف صفًّا واحدًا في وجه أعداء الله والوطن والدين!
وصاح:
- اهتفوا! اهتفوا! وعلوا الضجيج!
تفجرت الرعود. انقذفوا نحو البيك، ورفعوه على أكتافهم.
* * *
قال آدم مردخاي لماريك وموزارسكي.
- انتهى دوركما هنا وبدأ دوركما في فلسطين.
نظر الصديقان إلى ماريشيا وبولينا، وهما في لباسهما العسكري دومًا، حائرين، وماريشيا وبولينا لا تصدقان ما تسمعان.
- سنأخذ ماريشيا وبولينا معنا، قال الصديقان.
- ستلحقان بكما فيما بعد، هما ألمانيتان أمرهما سهل.
- متى ستلحقان بنا؟ سأل موزارسكي.
- قلت لك أمرهما سهل، أجاب مردخاي.
- إنهما في خطر، كما تعلم، قال ماريك.
- ماريشيا وبولينا، لن تخرجا من عندي، فاطمئن، قال مردخاي لماريك.
فتح باب مخبئه، ونادى أحدهم، قال له:
- رافق الرفيقين، وزودهم بما يلزم لمغادرة بولندا. الرفيق دافيد في فلسطين على علم بالأمر.
هتف الرجل:
- العام القادم في أورشليم!
- العام القادم في أورشليم، رد مردخاي.
بعد أن تأكد من اختفاء ماريك وموزارسكي في الممر التحت الأرضي الطويل، أقفل مردخاي الباب، واستدار، وفي اليد مسدسه. أطلق النار على ماريشيا وبولينا، وأرداهما قتيلتين.
* * *
حام إسماعيل حول بيت الحارس. لا ضجة. لا أحد. كأن الكوخ مهجور. طغى على قلبه الشوق إلى البنت. اقترب من الطاقة، وبحث بعينيه عنها. لا ضجة. لا أحد. أين تراهم ذهبوا؟ أين تراهم أخذوها؟ كأنه فقد عزيزًا. كان مولعًا بها أشد الولع، تلك البنت الصغيرة ذات نَفَس الفرخ، وعنق البان، وصفصاف مصر، وعطر الندى، وشفاه الورد، وحرير الشام. كان الكلب هائجًا على غير العادة. حتى والكلب إلى جانبه في السيارة، كان يلهث، وينبح، بينما الريح تلطم ذيله. انتفخ شعر إسماعيل وثوبه. كان يسوق بأقصى سرعة دون أن يلاحظ جماعات الفلاحين بعد أن غادرهم البيك، وهم يتفرقون في الحقول. انعطف بجنون، هناك، إلى حيث من عادته أن يذهب. قرب شجرة اللوز توقف، وضع رأسه بين يديه، واعتمد على المقود. قفز الكلب مبتعدًا بين الأشجار. هبط إسماعيل، واتجه إلى حيث الصندوق الذي أخرجه. صب آخر كأس، وجرعها دفعة واحدة. أشعل سيجارًا، وراح ينفخه شاردًا. طرف بعينه نحو رسومه، رفعها بيد رخوة حتى عينيه، ثم شرع في تمزيقها. استتبت به فكرة، أن يحرقها... أن يحرق كل شيء. أشعل النار. فتنه لونها، لهبها، رائحتها، عنفوانها الأبدي. غطى لونها باقي الألوان، والتهمت الرسوم بحمية. تعالت، وتعالت، وزحفت في العشب. رمى إسماعيل العشب الذهبي في النار، والأغصان البنية. أحس بمتعة أمام النار التي تتلوى شوقًا على مقربة منه. تفجرت ضحكته المفتونة، وأصابه الهوس. مزق المجلة، ونثرها في النار. أفرغ صندوقه، ورماه برمته في اللهب، وهو يزيده تأججًا بإطعام النار مزيدًا من ذهب العشب، مزيدًا من بن الأغصان. هبت الريح، فطارت عصافير اللهب. كانت ترتفع في السماء، وتختفي فجأة. أصغى: عزفت موسيقى اللهب، وانساب معها. مد أصابعه نحو النار بأقصى متعة، ثم أخذ يقهقه بينما النار تتعالى... تتعالى...
* * *
بعد اغتيال ماغدلينا، أحرق الجنرال ناهريخ الأخضر واليابس، وبالغاز أباد المبعدين من رجال ونساء وأطفال في معسكرات الموت، ثم جاء بغيرهم، وأبادهم، بالغاز وبالنار، ثم جاء بغيرهم، وأبادهم، بالغاز وبالنار، فانتشر دخان الإنسانية، وصعد إلى كل سموات العالم. وصل التصعيد أقصاه، فتحرك الحلفاء، وقضوا على الوحش الوسيم. كان آدم مردخاي قد جعل من نفسه الناطق باسم كل اليهود في العالم، بعد أن أعلن أن فصول المسرحية التي يكتبها، والتي تدور أحداثها هنا انتهت، وستبدأ فصول المسرحية التي سيكتبها، والتي تدور أحداثها في فلسطين. عندما التقاه جوني شارلز قبل سفره إلى نيويورك، سأله، وهو يرتدي بزة الجنرال الألماني للتخفي:
- لماذا نيويورك، وليس القدس، يا مستر مردخاي؟
أجاب:
- لأنني من نيويورك سأحكم القدس، يا مستر شارلز!
وانفجر ضاحكًا، والمبعوث الخاص لمجلة التايم يردد:
- أنترستنغ! أنترستنغ!
* * *
والنار تتعالى... تتعالى... من جوف مخازن الباشا الضخمة. لونت الليل، فصار أحمر. ورغم جمال النار الساحر، اجتاح الرعب قلوب الفلاحين. كان اللهب العملاق يصرخ كما لو كان يحوي النسور. وكان الفلاحون يرشقون دلاء الماء، ولكن دون فائدة. تصايحوا، ووثبوا، ولكن دون فائدة. أخذت المخازن تنهار واحدًا واحدًا بينما انطلق الحصان الأبيض كالبرق بأقصى سرعة، والعربة تتبع، والحوذي يمسك بالرسن وقوفًا، وهو يهدر:
- ها! ها!
وهو يلوح بالسوط.
توهجت عينا الحصان توهجًا رهيبًا وهي تطالعه عظمة الحريق. وفي اللحظة التي جذب فيها الحودي الحصان، قفز الباشا، وهو في ثياب السهرة الفخمة، واندفع باتجاه الحريق. عدل الفلاحون عن النظر إلى النار، وراحوا يرمون هذا الباشا الإفرنجي الذي لم يروه أبدًا من قبل بنظرات الريبة والاستهجان. لا فائدة ! أخذت النار العظيمة تلتهم كل شيء. بدا الباشا صغيرًا جدًا، وخيالات اللهب تصفع وجهه. فجأة، جاء أحدهم، وصرخ:
- يا ناس! يا جماعة! يا أهل البلد!
جمد الرجل عند وقوعه على الباشا، انضنى، جحظت عيناه، وانعقد لسانه.
هزه الباشا من كتفيه، فتطايرت من عينيه دمعة.
- انطق!
والنار الحمراء تتعالى... تتعالى... وصوت القضم الناتج عن التهام النار للمخازن. فتح الرجل فمه، وقال ذاهلاً:
- يا باشا... النار... التهمت المصنع!
صفعه الباشا بكل قوته، فعجنه في الأرض. هب ليتمطى العربة، والحارس يركض من أمامه. ساط الحارس الحصان بقوة، فشبّ الحصان صاهلاً بغضب. تراجعت العربة، وكادت تنقلب. أطاع الحصان بعد أن روعته الصيحات. انطلق الحصان بأقصى ما يستطيعه من سرعة، عَبَرَ الأزقة، وشق الليل. أخذت الحلكة الحمراء تنتشر شيئًا فشيئًا، وأخذ هذا العملاق يعلو شيئًا فشيئًا، إنها النار القوية، اللاقدرية، الأقوى من كل شيء. وقبل أن تقف العربة تمامًا قفز الباشا، وراح يصرخ بالفلاحين الذين يرشقون دلاء الماء دون توقف. لم تلتهم النار المصنع تمامًا، كان الجناح الأيسر منه سليمًا على التقريب. صاح الباشا كي يسرعوا بإخماد الحريق، إلا أن جلب الماء لم يكن من الشيء السهل بسبب محرك كان يضخه من أحد الآبار الملاصقة للمصنع، ولم يكن في ذلك الكفاية، أما القناة، فكانت على مسافة ليست قصيرة. كان الفلاحون يذهبون ركضًا إليها، ويعودون ركضًا منها، وهم يسرفون من الدقائق ما هو ثمين. وبخهم الباشا، فزادهم ارتباكًا. شلته النار. لم يكن قادرًا على السؤال عمن فعل هذا، ولم يكن الفلاحون أنفسهم قادرين على طرح هذا النوع من الأسئلة، فالنار تهاجم، وتزحف. لم يكونوا قادرين على التفكير إلا في أنفسهم، وكذلك كان الباشا. الآن، يجب إخماد الحريق. دخل الباشا المصنع، فهوت النار بألواح الخشب، ورفع الرجل ذراعيه للاحتماء. لأول مرة، كان عاجزًا، ضعيفًا. كان يرفع يديه إلى أعلى خاضعًا! في النار! في الجحيم! كان في الجحيم!
تبعه أحدهم.

انطلق الأسطى حسن يعدو عبر الحقول، وقلبه يكاد ينط من حلقه. كان يعدو بأقصى سرعة، ومن ورائه، من الشرق... أشرقت الشمس في الليل لأول مرة، وتفتح الورد في الليل لأول مرة، ولأول مرة، كان الأسطى حسن يعدو بمثل تلك السرعة، إلى أن وصل الطريق الترابي. هناك كانت تستلقي كعروسة في خدرها، أرض إسحق، وكان الأسطى حسن قد صعد المنحدر، وهو يخفق كأجنحة الريح. جاء بيت إسحق، وراح يطرق الباب بكلتا يديه، وهو يصيح بأعلى صوته:
- يا إسحق! انهض... الباشا مات!

















القسم الثاني

صاح طفل:
- انظري!
فجذبته أمه إلى طرف لتمضي كوكبة الفرسان مضي البرق. أخذ الطفل الذهول، وهو يلتفت برأسه إلى حيث مضت الكوكبة، دون أن يأخذ حذره من خطوات أمه السريعة.
قال دَهِشًا:
- أرأيت؟
انتهرته الأم، وبحقد:
- إنهم يثيرون الكثير من الغبار!
واصلت جذبه بقوة:
- أسرع!
واخترقا الغبار حتى نهاية الطريق الترابي.
كان الجنود الإنجليز في كل مكان: في الأزقة، في الدروب، وعند مدخل القرية. وكان معظمهم شبابًا في العشرين لا أكثر، تعابيرهم صارمة، على رؤوسهم قبعات بيضاوية، وفي أياديهم أسلحة قوية، يلبسون الشورت، ويتفحصون الفلاحين.
بصق جندي إنجليزي أشقر شقار بولندي على الأرض في اللحظة التي جاء فيها من بعيد فلاح بعربة من القش يجرها حمار، وقد جلس في مقدمتها ابنه الصغير. وهو يقترب من الجندي، أوقفه هذا سائلاً:
- إلى أين؟
أجاب الفلاح بنبرة جازمة:
- أحمل قشي إلى الزريبة.
دار الجندي بالعربة، وسأل جنديًا آخر أشقر مثله:
- ماذا نفعل به؟
قال الجندي الآخر بنبرة غريبة دون أن يدنو خطوة واحدة:
- ليعد أدراجه! الطريق ممنوعة للعربات.
- أسمعت؟ عد أدراجك.
بدت على الفلاح كل سذاجة الريف:
- لماذا؟ لم أفعل شيئًا!
- الطريق ممنوعة للعربات.
ثم مهددًا:
- عد أدراجك!
التفت الأب إلى ابنه مقهورًا، وبادله نظرة مليئة بالحقد. سحب الحمار، وعاد أدراجه. على بعد عدة أمتار، التقى شاحنة صغيرة تنقل الخضروات إلى الحسبة، فأشار العربجي إلى السائق بالوقوف.
سأل السائق حانقًا:
- ماذا هنالك؟
- لا فائدة. عد أدراجك. أرجعني الجنود الإنجليز. الطريق ممنوعة للعربات.
نبر السائق:
- الطريق ممنوعة للعربات التي تجرها الحمير أمثالك، أما أنا، فلدي شاحنة!
هزَّ الفلاح كتفيه، وقد لاح عليه عدم الفهم، وتقدم السائق من الجندي. أطاع أمر الوقوف، وهبط.
- من أجل الخضروات. أنا ذاهب لنقلها إلى حسبة المدينة.
لم يفه الجندي بكلمة. رفع عنها الغطاء، وسأل:
- ما هذا؟
مشيرًا إلى صناديق مستطيلة في أقصى السيارة.
- لوز. صناديق ملأى باللوز اليابس. حمولة خاصة بالخواجا أسلمها في طريقي.
رمى الجندي الآخر:
- دعه يمر!
قفز السائق من وراء المقود، وقبل أن يذهب، صاح:
- أنت يا جندي من مسك!
فلم يبد على الجندي أن ذلك يروقه.
انتهره:
- هيا، اذهب!
ابتعدت الشاحنة الصغيرة بصعوبة، وهي تسعل، تاركة خلفها سحابة من الغبار والدخان. بعد مسافة، رأى السائق صحاحير خضار مصففة فوق بعضها على طرف الطريق، وداني عمران الخضرجي يجلس على إحداها.
- مرحى، يا خضرجي!
وقطع المحرك.
نهض داني عمران الخضرجي بلا اهتمام، وهو يقضم عنقًا من الفاصولياء:
- لم هذا التأخير؟
- ألم ترهم؟ الإنجليز يملأون الدنيا! أم أنك لاه بالتهام الخضروات؟
وراح يقهقه، لكن داني عمران الخضرجي استشاط:
- لا مزاح!
قفز السائق متصنعًا الدهشة:
- معك؟ أنا لا أمازح أحدًا!
رفع الغطاء، وأشار إلى الصناديق:
- إياك أن تمسها. إنها ملأى باللوز.
- على قفاي كل لوز الدنيا!
- يا للحظ!
- كما أقول لك.
- ضع حمولتك على اليسار، سأهبط بالصناديق في مزرعة الخواجا.
- أهو بحاجة إلى اللوز، خواجاك؟
- ليس هذا من شأنك. هذه بضاعة للخواجا جئته بها من المدينة، وهاءنذا أحذرك من جديد، إياك أن تمسها.
قضم الخضرجيى عنقًا آخر من الفاصولياء، ولم يفه بكلمة. توجه نحو الصحاحير، وراح ينقلها داخل الشاحنة الصغيرة: صناديق مستطيلة ملأى باللوز. ألقى عليها عدة نظرات مترددة، لا أكثر.
قال السائق:
- أرى بين حمولتك بعض صحاحير البرتقال.
- إنه الموسم.
- حقًّاً، إنه الموسم.
تركه يغيب داخل الشاحنة الصغيرة، فتناول السائق حبة برتقال، وقضم قشرتها، وبصق، ثم راح يقشرها بأظافره. وفي داخل الشاحنة الصغيرة، تناول الخضرجي حبة لوز، وكسرها. رمى قشرتها خلف الصناديق، ودفع اللب في فمه. عندما نزل، جاءت عينه في عينه، فحاول كل منهما إخفاء سرقته على الآخر، بمسح الفم، وإبعاد النظر إلى الناحية الأخرى.
والخضرجي يصعد بحمله من جديد، رأى السائق يبتعد إلى حيث أعواد القصب. تقدم بسرعة من صناديق اللوز، وراح يملأ جيوبه، لكن أظافره خدشت فجأة أنبوبة معدنية. ما هذا؟ دق قلبه بعنف، وبحركة عجلى، أبعد اللوز: يا رب الشياطين! بنادق! انحنى على صندوق آخر، وبنفس الحركة العجلى، أبعد اللوز: بنادق بورقها الجديد! اجتاحه خوف رهيب. نزل من الشاحنة الصغيرة بحذر، والتفت إلى ناحية السائق الذي كان على وشك الانتهاء من التبول، وهو يبصق، فحط الخضرجي قدمه في الأرض، وقفز هاربًا في الحقول.
نفض السائق نفسه مرتين، وأعاد غلق سرواله.
- هل انتهيت؟
لم يكن أحد هناك. بحث عن الخضرجي بشيء من الهوس، ثم صعد إلى الشاحنة الصغيرة: اكتشف الخضرجي أمر البنادق! قفز مسعورًا، جرى قليلاً باتجاه الحقول، وتوقف ظانًا أنه وقع عليه. لكنه كان قد اختفى! هب يقود شاحنته بكل ما أمكنه من سرعة إلى مزرعة الخواجا.
أزاح أحدهم الحاجز عندما رآه يأتي من بعيد، فدخل دون أن يتوقف حتى المستودع. تقدم منه رجل غزير الشعر، غزير الحاجب، عريض الوجه والمنكبين:
- ماذا دهاك؟
انحنى على أذنه، وأودعه الخبر. توترت ملامح الرجل، ضرب نعليه في الأرض، وصعد ليرى الصناديق، ثم راح يجري داخل المستودع، والسائق يقف متسمرًا في مكانه. بعد لحظات، غادر رجلان ضخمان المزرعة بخطوات عجلى إلى أزقة القرية، فالمقهى الذي كان شبه فارغ: كان أبو سريع والأشقراني والأعور يلعبون الورق بلا هرج على غير العادة، ولم يكن داني عمران الخضرجي معهم. اقترب أحد الرجلين من أبي الكسيح النائم على وجهه، وقلبه، وبقى أبو الكسيح يغط في نوم عميق. نظر إليهما صاحب المقهى مذهولاً، والقهوجي مذعورًا. أخيرًا، غادرا المقهى في اللحظة التي دخل فيها جنديان. ترى أين يمكنه أن يختفى؟ بحثا عنه في البيارات، وتفقدا الآبار. في الغابة، وعند فلاحي وادي عربة... وذهبا حتى المغارة في التل الشمالي.
حزر داني عمران الخضرجي مقدمهما عندما سمع خطواتهما، فانسحب بخوف وحذر، وتغطى بظلام المغارة، لكنه اصطدم بأحد البراميل. جاء الرجلان يجريان، فوصلت إليهما لهثاته. استل أحدهما سكينًا، وتقدم مع الآخر. كالمرآة... كانت شفرة السكين تلمع، واللهثات تزداد أكثر فأكثر ارتفاعًا.
وهما على مقربة منه، قفز داني عمران الخضرجي على حين غرة، وراح يصيح برعب.
أصداء!
قبضا عليه من خناقه، وغرزا النصل في قلبه، ثم رمياه في البرميل، وعادا إلى المزرعة.
* * *
يا إلهي! كم هم كثيرون!
توقف العم أبو إسماعيل الحداد في الساحة ذاهلاً، عندما رأى الجنود الإنجليز متجمعين بكثرة. كان يريد فتح الدكان، وكانت الأزقة خالية من أهلها، والقرية صامتة. وعلى الرغم من تلك البساطير الغريبة، وكل ما كان يجري من غريب، فإن القرية كانت جميلة: كانت تتفتح كالزنايق البيضاء في الصباح بجمالها العذري. لا، لن يفتح العم أبو إسماعيل الدكان! عاد أدراجه، والتقى فلاحة كهلة تعتمد على عصاها. لم يكلم أحدهما الآخر، ولكن وجه كل منهما نطق بالحقد، لا شيء غير الحقد. إنه الحقد الصامت الذي يمسخ الوجوه!
كان لخطوات الفلاحة صدى يسمع من بعيد، فسأل العم أبو إسماعيل نفسه: إلى أين تذهب هذه العجوز والجنود الإنجليز في كل مكان؟
مر قرب شجرة تين عارية، تمتد جذورها عميقًا في الأرض، تنتظر الربيع ليتفتق ثمرها، ولتعطي كما أعطت طوال أعوام وأعوام. فكر العم أبو إسماعيل: شجرة التين هي القرية التي تتعري لتعطي العطاء الوافر رغم وجود المحتل. فهم إلى أين تذهب هذه العجوز ولماذا؟ عند ذلك، تقدم منه بعض الجنود، وأمروه أن يفتح الدكان، أجبروه على فتحها.
وهو ينفذ ما أجبر عليه، كان جندي إنجليزي يهدده بسلاحه. لكنه خفض الباب منتفضًا بالتحدي، وصنع ضجيجًا تصادى في كل أنحاء القرية. شج الجندي رأسه بعقب البندقية، وأوسعه جنود آخرون بأقدامهم ضربًا. فتحوا الدكان، وحطموا كل ما فيها.

لقد حان الوقت!
دفع الحارس دفتي الباب، وجعله مفتوحًا على مصراعيه. أشار إليهم بالنهوض، فتركوا قاعة الانتظار، ودخلوا قاعة التشريفات: المختار، القاضي، شيخ الجامع، مأمور الخزنة، مأمور المخفر، سمسار القرية، كاتب الباشا، وآخرون.
كانوا مبهورين لعظمة القصر، مسحورين، وكانوا يقلبون في أنحائه النظر خفية، دون أن يجرؤ القاضي على التنحنح. ساروا حتى صدر القاعة، نحو كرسي ضخم موشى، ذهبي الظهر والذراعين. صفهم الحارس كالسلاحف، على طرف، وطلب إليهم أن يبقوا وقوفًا دون حراك. حانت لحظة هبوط إسماعيل، الباشا الجديد. امتقع القاضي، وفي الأخير، تنحنح. لم يفلت من حدج المختار المؤنب بعينيه، فتدارك ذلك بقول: أستغفر الله العظيم! ثم مسح فمه وذقنه.
انتهى إسماعيل من ارتداء العباءة، نظر إلى الكلب ليرى رد فعله. حدق الكلب فيه، وهو يجلس على الأرض، ولسانه يتحرك دون توقف.
وضع الطربوش بيدين مثقلتين، وكمن يكتشف شخصًا آخر، راح يتفحص صورته في المرآة. ها هو ذا! الباشا! ارتعش حاجباه، تغضنا، تساقطا، وجمدت تعابيره. سارع متلفقًا زجاجة الخمر من فوق البوفيه، ملأ كأسًا، وجرعها دفعة واحدة. بقى لفترة منحنيًا إلى الأمام، وهو يغضن شفتيه.
وقع على صورته طفلاً في أحضان أمه، فنقل الصورة، وراح يتفحصها بحنو. ها هو ذا إسماعيل طفلاً! بين ذراعي أمه التي ماتت! ثقلت عليه العباءة، وضغط على رأسه الطربوش. أحس أنه يخونها. تغضن حاجباه، وهو يرمي النظر إليها، وكاد الدمع ينبجس من عينيه. ها هو يطلب عونها، وها هي، أمامه، لا تني تبعث بابتسامتها الباهتة. لا، لا، لا يعني هذا أنها راضية تمام الرضى. إنها تسخر مني! خف الذهاب إلى حيث صورتها معلقة، وسقط على السرير. رمى رأسه إلى الوراء، وهو يقبض على ظهر السرير بقوة، وراح يتوسل إليها أن تهبه القوة، الثقة، الشجاعة. ثم خفض رأسه باحترام.
أعادته إلى الواقع طرقات على الباب، فنهض، وهو يبدو عليه الذعر، وصاح من مكانه:
- من بالباب؟
أتاه صوت متهيب:
- حارسك، يا سيدي.
- ادخل.
قام إسماعيل، فقفز الكلب ليأخذ مكانه، ودخل الحارس:
- ماذا تريد؟
- الجميع بانتظارك، يا سيدي الباشا إسماعيل.
مضت بضع لحظات صمت.
كان الكلب قد أخذ يعض مسبحة الباشا الصفراء، ويقذفها، ثم يعضها ثانية.
أشار إليه بطرف إصبعه:
- تعال.
تقدم الحارس بحذر، دون أن تفارق يده حزام البندقية الثابتة على كتفه، ووقف وجهًا لوجه معه.
- انظر إليّ جيدًا.
أخذ الحارس يرمي النظر إليه بارتباك وتبجيل.
- كل شيء على ما يرام؟
تردد الحارس، ثم قال مؤكدًا:
- كل شيء على ما يرام، يا سيدي الباشا إسماعيل.
لمس إسماعيل الطربوش:
- وهذا؟
ثنى الحارس رأسه على الجانبين مدققًا، وقال:
- أمله قليلاً إلى اليسار، يا سيدي.
اقترب من المرآة، وأمال الطربوش إلى اليسار... كثيرًا، ثم قليلاً. استدار نحو الحارس، ليقف على رأيه من جديد، فهز رأسه علامة الرضاء. تطلع إسماعيل إلى نفسه من جديد، وقد غلب عليه الاطمئنان. بعد لحظة، تلاقت فيها نظرته بنظرة الحارس عبر المرآة، قال:
- هيا بنا.
اتجه الحارس بخطوات سريعة نحو الباب، ثم توقف. صب إسماعيل لنفسه كأس خمر، شربها على دفعتين، وتعابيره تموج، وتنسحق. نزل الدرج بتؤدة، وكلبه يتبعه، وحارسه يرفع رأس الخزف إلى أعلى كما يرفع مرتينته العصملية على كتفه، وقد استطال شنبه. كذلك إسماعيل، كان يرفع رأسه إلى أعلى، ولم يعد إسماعيل ابن السابعة والعشرين. أضافت الباشوية إلى عمره عشر سنين على الأقل، وأمدته بهيبة لم يكتشفها في نفسه إلا الآن، وهو يرى كل شيء من علٍ: الأعمدة، الجدران، الأثاث الرفيع. ورغم ذلك، كان خائفًا بعض الشيء. كان يدخل رويدًا رويدًا في عالم أبيه المليء بالأعاجيب، وكأن ألف حنجرة ترتل مقدمة. إنه احتفال الصعود على العرش! علت الأصوات علوّاً رهيبًا، حتى أنه لم يعد قادرًا على احتمالها. لا، هذا فوق التصور! رافقت الترتيل موسيقى كلاسيكية، فهل هو احتفال الصعود على العرش أم مأتم من مآتم الموتى؟ بقي دون جواب. رآهم من بعيد في اللحظة التي اجتاز فيها أحد الأبواب الجانبية إلى قاعة التشريفات.
كانوا يصطفون كالسلاحف: لأول مرة يراهم عن مقربة، أعوان أبيه الذين جاؤوا، وقد اصفرت سحنهم، للتعبير عن طاعتهم وولائهم.
ذهب إسماعيل إلى كرسيه الضخم، جاء الكلب إلى يساره، وبقي الحارس واقفًا خلفه. زحفوا واحدًا تلو الآخر، وتساقطوا على يده كالذباب، وهم يلثمونها بشفاهم الغليظة. هكذا هم كانوا يؤدون فروض الولاء والطاعة. في الأخير، طلب إسماعيل منهم أن يجلسوا، فجلس بعضهم على طرف الكرسي، وبعضهم الآخر انحنى على الجانب. دمدموا عبارات التهنئة، ودعوا للباشا بطول العمر، وإسماعيل صامت لا ينبس ببنت شفة. جاءت مرجانة بالقهوة، فشربوها بضيق، ونهضوا إلى باب الخروج بصحبة الحارس.
طلبت مرجانة من مستر كلارك أن يتبعها، فترك قاعة الانتظار، ودخل قاعة التشريفات، وهو يتقدم بقدم خفيفة. وقف مستر كلارك للحظة، دون أن يتحرك إسماعيل في جلسته. انحنى، ومد يده مصافحًا بحرارة:
- للباشا تحيات المندوب السامي الصادقة، وتمنياته بالصحة والرخاء!
أشار إسماعيل إلى مقعد قربه:
- خذ مكانًا.
لكنه تابع:
- وهو يطلب منكم المعذرة لعدم تمكنه من الحضور بسبب أشغاله الكثيرة، كي يهنئكم شخصيًا بالثقة التي خصكم بها أهالي البلد ورجالاته، والتي أنتم أهل لها ما في شك، ويرجوكم أن تغفروا له، طامعًا بلقائكم في أول فرصة.
- خذ مكانًا.
تقدم مستر كلارك من أقرب الكراسي، وجلس. رسم مستر كلارك بسمة على شفتيه، وقال بهدوء:
- كذلك، تقبلوا تهنئتي القلبية، يا باشا.
أجاب إسماعيل بنبرة مقتضبة:
- أشكرك.
أحضرت مرجانة القهوة، فأخذ مستر كلارك فنجانًا وضعه إلى جانبه، وقال:
- أود أن أبلغ الباشا إسماعيل أننا في صدد التحقيق بأمر الحريق، توصلنا إلى بعض الإثباتات، لكنها ليست وافية. يجب أن نحصل على دلائل قاطعة. اطمئن: ستأخذ العدالة مجراها، وسنضرب بيد من حديد على أولي الذنب. هذا شغلنا الشاغل. كان والدكم الباشا إبراهيم، طيب الله ثراه، عزيزًا وغاليًا علينا وعلى الجميع، وكان مثال الصديق المتفهم الذي نرجو أن نجده في شخصكم. ومن ناحية أخرى، أعلمكم أن المندوب السامي يدرس حاليًا مشروع إعادة بناء المصنع على نفقة حكومة صاحب الجلالة، وتزويده بآخر مبتكرات العقل الأوربي من ماكينات حديثة. سندخل طرفًا شريكًا بالمقابل، إذا أمر الباشا إسماعيل، من أجل مضاعفة الأرباح. ليس لدى تفاصيل في الوقت الحاضر، لكنني سأبلغكم بما يجد أولا بأول.
وسكت.
كان إسماعيل قد لمس عنق الكلب لمرات، وقد لحس الكلب يده لمرات. عندما انتهى مستر كلارك، رفع رأسًا فارعًا، وقال بإملاء بدأه ببعض التهكم:
- أشكر المندوب السامي باسمي لعواطفه، ولا داعي إلى إزعاج نفسه بمسألة إعادة بناء المصنع إذ أنني سأتكفل بذلك على نفقتي.
امّحت الهيئة الهادئة لمستر كلارك، وأصغى مهتمّاً.
- أما الحريق، فأنا على علم بمن أضرمه، وبناء على صلاحياتي الإقليمية سيكون عقابي شديدًا. ولا تنس هذا: كانت هناك ضحايا من بينها أبي.
أراد مستر كلارك أن يتكلم، لكنه أوقفه بإشارة آمرة من يده:
- لم يحصل لي شرف التعرف عليك، يا مستر كلارك، لكنني أعرفك من خلال ما عرفه عنك الآخرون. إنني أحذرك!
كان إسماعيل متمالكًا لأعصابه تمامًا، وكان يتكلم بهدوء كامل:
- لا تتدخل بشئوني، ولا بشئون البلد، إلا إذا طلبت منك بنفسي ذلك. في الوقت الحاضر، لست بحاجة إليك. أعطيكم ثماني وأربعين ساعة تخلون خلالها البلد من جنودكم، وتطلقون سراح المعتقلين، أبو قاسم وجماعته وباقي الفلاحين الذين اعتقلوا عن خطأ. أضف إلى ذلك، أطلب منكم أن توقفوا هجرة اليهود، وتحدوا من نفوذهم في الإدارة ولدى الخواجا داوود. كذلك إصدار مرسوم يلغي المرسوم الذي يعطي حق التعهد لأبي علي أراضي أبي سِنَّه وأبي الغزال، لأنني مزمع التخلي لأهل الضحيتين عن هذا النوع من التدابير الجائرة. تستطيع الانصراف.
خرج مستر كلارك ساخطًا.
* * *
استقبل الخواجا داوود مستر كلارك، ومستر كلارك يقول:
- لقد عملنا بنصيحتك، يا خواجا، فرضينا بولد غر باشا على الجميع! لكنه عكس ذلك تمامًا، إنه ليس بالهين، وسيثير لنا الكثير من المتاعب!
سأل الخواجا داوود:
- أية متاعب؟
رمى مستر كلارك بنفسه على الكنبة:
- خذ هذه، لقد هددني من أول لقاء!
خنق الخواجا داوود ضحكة من أنفه، وذهب ليحضر زجاجة ويسكي:
- هذه إشارة حسنة، يا مستر كلارك.
التفت مستر كلارك إليه دهشًا، فوجده ينتظر رد فعله. ترك يده حول عنق الزجاجة، نقلها وكأسين، واتجه إلى الطاولة القصيرة.
- لماذا إشارة حسنة، يا مستر كلارك؟ لأنه يعطي التبرير الشرعي لكل ما تراه سلطة الانتداب مناسبًا.
فتح عينيه على سعتهما قبل أن يتابع:
- هل فهمتني؟
أجاب مستر كلارك:
- لا.
- سأكون أكثر وضوحًا.
صب الويسكي، قدم كأسًا، ورفع الأخرى:
- بصحتك، يا مستر كلارك.
بقي مستر كلارك صامتًا.
لحوس الخواجا داوود شفتيه، ووضع الكأس:
- ما قصدته هو، بما أن الباشا الصغير ليس سهلاً حسب انطباعات مستر كلارك الأولى، وسيثير كثيرًا من المتاعب على عكس ما أرى تمامًا، حسب انطباعاتي أنا الأولى... ولكن لنسلم بالأمر، ولنقل بأن الباشا الصغير سيثير عددًا من المتاعب التي ليست في صالح الانتداب البريطاني، إذن ضد المصلحة العامة، لهذا، أي تحرك بإرادة المندوب السامي يصبح ردًّا على المتاعب التي سيثيرها الباشا الصغير. ومن ناحية ثانية، أنتم بحاجة إلى مثل هذه المتاعب الصغيرة، ليمكنكم الرد والردع المناسبين، وشرعيًا لإقرار ما هو في صالح الانتداب، إذن المصلحة العامة... ومصلحة الخواجا داوود التي هي جزء لا يتجزأ من المصلحة العامة، يا مستر كلارك.
- تقصد ألا نذعن لمطلبه بإطلاق سراح المعتقلين؟
ابتلع الخواجا داوود جرعة:
- لا بأس لو أطلقتم سراح...
ثم بنبرة شديدة:
- بعض المعتقلين.
أضاف بتمهل:
- الأقل خطرًا بين هؤلاء الكواسر.
- سيظن نفسه قويّاً، وستزاد صولته.
- ولماذا ننكر ذلك؟ إنه قوي، يا مستر كلارك!
قال مستر كلارك:
- أخبرني أنه يعرف من أضرم الحريق، وأنه سيعاقب الجاني بقوة، وعلى طريقته، حتى أنه طلب إخلاء البلد من قواتنا خلال ثمانٍ وأربعين ساعة.
رفع الخواجا داوود حاجبيه، وابتسم عن قصد:
- أترى؟ إنه قوي، يا مستر كلارك!
امحت ابتسامته:
- لهذا أصر على مضاعفة شحنات الأسلحة.
تردد الخواجا قبل أن يقول:
- أريد القول الأسلحة الثقيلة.
ثم وهو يرجو:
- ما في حوزتي من أسلحة خفيفة لا يكفي على الرغم مما أصنع... إن مصلحتي ومصلحتكم اللتين هما جزء لا يتجزأ من المصلحة العامة لفي خطر. كن مطمئنًا، أقارب لي وصلوا من أوروبا، نعم، أولئك الذين ذاقوا أقسى أنواع العذاب عبر التاريخ، والذين ذبحهم الألمان، سيحملون على عاتقهم هذه المسؤولية، مسؤولية الدفاع عن المصلحة العامة والمشتركة، يا مستر كلارك.
- وإذا ما واجهنا البيك على طريقته؟
مسح الخواجا داوود لحيته مرتين، وقال دون أن تبارحه هيئة الضحية:
- هذا ما نأمله.
أضاف بسرعة:
- المهم في الأمر هو هذا: أن نبقى طرفًا متفرجًا.
ثم أحدد في عينيه النظر، وقال ببطء:
- أتذكر؟ هذه جملتك...
تصنع التأتأة:
- برأيي أن تنسحب قواتكم حتى مشارف البلد، وليس بالشكل التام كما يريده الباشا الصغير... للطوارئ. وجودهم بين الناس مدعاة للهيجان، ولنترك المهمة لأقاربي الأوربيين مع جنودنا وشرطتنا، دون بزة بريطانية طبعًا.
- هناك شيء آخر...
دخل ابن الخواجا: في الخامسة والعشرين، أنيق، جميل.
- هذا ولدي، يا مستر كلارك. أنهى تحصيله الجامعي منذ فترة قريبة في العلوم الاقتصادية، جامعة أكسفورد.
- كيف الحال؟ يبدو لي أنني التقيتك من قبل؟ على كل حال، أتشرف بمعرفتك.
أجاب ابن الخواجا دون حماس:
- وأنا كذلك.
أخذ سيجارة من علبة على الطاولة القصيرة، وأشعلها. توجه إلى أبيه:
- لي كلمتان معك.
- أهذا وقته، يا طوني؟
- هل أزعجك؟
- نعم، أنت تزعجني.
حدج الشاب مستر كلارك، وخرج. قال الخواجا داوود نافخًا:
- مطالب الشباب لا تعرف الحدود!
- ظريف ابنك!
تأفف الخواجا داوود:
- ظريف... ظريف! لكن مطالبه كثيرة!
- ماذا سيفعل؟
جلس الخواجا داوود، ووضع ساقًا على ساق:
- لو استطاع أن يأخذ منصب المندوب السامي الآن لما تأخر عن ذلك.
افتعل ضحكة:
- كل قليل التجربة يظن نفسه قادرًا على تحقيق ما لا طاقة له على تحقيقه، لكنني سأعصره معي ومع همومي حتى يصبح رجلاً كفؤًا. سأجعل منه مساعدًا وساعدًا قويّاً لإدارة أعمالي، فكم من آمال نعول عليه، يا مستر كلارك! الآمال العظمى للصهيونية، للعالية، لعرقنا.
- إذا أردت، جعلت له وظيفة محترمة في الإدارة.
- فيما بعد، يا مستر كلارك، سنفكر في الأمر، فيما بعد.
وحث مستر كلارك على إكمال حديثه:
- ماذا كنت تريد أن تقول لي؟
- طلب منا الباشا أن نوقف هجرة أصدقائك، اليهود طبعًا.
- يا له من طفل عاق، هذا الباشا الصغير!
- لا تنس ما وقع من تظاهرات وقلاقل في القدس وحيفا ونابلس والخليل.
- ستستمر هجرة أصدقائي، اليهود كما قلت... من أجل المصلحة العامة، مصلحتنا المشتركة، يا مستر كلارك.
- سندرس المسألة بالتفصيل.
- لا تعقد الأمور، لقد كان اللورد بلفور رجلاً سياسيّاً محنكًا، فهمناه وفهمنا.
- أنا أفهمك جيدًا.
- وماذا أيضًا عن الباشا الصغير؟
- طلب الباشا إسماعيل أيضًا أن أعمل على إلغاء المرسوم الذي يعطي لأبيه حق تسيير أراضي أبي سنه وأبي الغزال بمرسوم آخر يعيد الأراضي لذويهما.
- ماذا كان ردك؟
- لم يعطني فرصة للرد.
- وماذا سيكون ردك؟
سكت قليلاً، وقال بتأن:
- إلغاء المرسوم بمرسوم آخر يعيد الأراضي إلى سلطة الانتداب.
و... بتأن أكثر:
- سنجد صيغة تسمح لنا بتحويلها إلى عهدتك.
- الصيغة جاهزة إن شئت.
- ليس بهذه السرعة، يا خواجا.
- والمصنع؟
- رفض أن نكون طرفًا شريكًا.
- بمعنى؟
- بمعنى أنه سيعيد بناءه على نفقته.
أجرى الخواجا داوود بعض الحسابات، وهو يهمهم ماطًّاً فمه:
- إذا طلبت بعض الماكينات من لندن، فهلا أتيتني بتصريح خاص؟
تمهل مستر كلارك قبل أن يجيب:
- كل شيء بأمر المندوب السامي.
* * *
كانت العصافير تزقزق بين أغصان البرتقال، وكان الرجلان يغرقان في الظل الكثيف.
قال الخواجا داوود، وهو يبحث عن الشمس بين الأوراق الخضراء:
- الطقس رائع! كأن الشتاء قد انتهى! الشمس الدافئة والعصافير التي تغني توحي بذلك. آه! كم هو رائع هذا المكان! حلم!
قال البيك سعد الله:
- إنه مكاني المفضل!
كراسي من الخيزران، وطاولة عليها فناجني قهوة في حضن البستان.
- انظر!
أشار البيك إلى الخمائل:
- لقد تفتحت الزهور.
استطرد الخواجا:
- ألم أقل لك؟ إنه الربيع قبل الربيع!
مال عليه بكل ثقله، وتمنى له:
- ربيعك، يا بيك!
لم يبد على البيك أي أثر للتمني.
- أؤكد ما أقوله، يا بيك.
لم يعلق البيك. تعكرت سحنة الخواجا، أطلق نفسًا مرهقًا، وقال:
- كل المساعي التي قمنا بها حتى الآن ذهبت سدى، ومع ذلك، علينا ألا نقطع الأمل.
أجاب البيك بجفاف:
- كان وعدك قاطعًا، رغم ذلك.
علت نبرة الخواجا:
- وما زلت عند وعدي. ولكن، يجب عليك أن تفهم جيدًا أننا نتعامل مع أناس خبثاء.
أخذ نفسًا:
- الإنجليز خبثاء، يا بيك، إذا تعاملت معهم، وجب عليك أخذهم من أعناقهم، وليس بوسعنا هذا، فهم أقوى مني ومنك. حتى أنه من الواجب سحبهم من الذيل...
سكت، ثم:
- ليس بوسعنا هذا، ولكن علينا أن نستعمل الحيلة، وأن نتمتع بالصبر، الصبر الكبير.
- إلى متى؟
تصنع الحرد:
- لا، يا بيك... كن صبورًا!
ثم بهيئة جادة:
- وهكذا، ستأتيك الباشاوية.
اقترب قليلاً، رفع يده، وراح يفتح أصابعه في وجه البيك، ويغلقها:
- لن أنسى أبدًا، يا بيك، ما فعلته من أجلي، لن أنسى ما حييت، ولا أولادي من بعدي، أرض الأخ الأكبر لأبي سنه، هديتك المتواضعة! إذا عدنا للحقيقة، فإنها أقل جودة من أرض أبي سنه، لكنها أجود من أرضي. لن أنسى هذا، يا بيك. وعدتك بالمقابل أن أسعى لتصبح سيدنا جميعًا، لا أنكر هذا. سعيت، وما زلت أسعى. وكلام في سرك، حينما أبلغني مستر كلارك أن إسماعيل سيرث الباشاوية عن أبيه، وألا فكاك من ذلك، لم ألح حول أمرك، لأنني قلت لنفسي: الباشا إبراهيم الأب العظيم بطوله وعرضه ذهب بشربة ماء، فكيف إذن ما سيحدث مع ذاك الفتى الغر الخرع؟ لن تطول باشويته أكثر من عدة أشهر. أيامه معدودة، أؤكد لك. إنه خصم خاسر أمامك، يا بيك، فتفاءل، واستعد لمنازلته بأقل أسلحتك ضراوة. اسحب الكرسي من تحته، واصعد مكانه.
* * *
مشى ماريك وموزارسكي في أزقة القدس القديمة، وشعور بالاختناق يسيطر عليهما. كانت الرطوبة لا تطاق، والعتمة قروسطوية، والوجوه مقطبة. وإضافة إلى العبء المكاني، كانت الأجواء تضغط عليهما بكل العبء الزماني، فالتاريخ هناك مثقل بالقصص والأوهام، ومهلك للنفس. كانا، وهما يتجولان في قلب الأوهام، يريان ما لا يراه غيرهما. كانا يريان بوضوح الخرافة التي أصبحتها القدس، خرافة أقرب إلى الخرفنة. عظمة صلاح الدين صارت خرفنة! كان تاريخ القدس لديهما يبدأ وينتهي بصلاح الدين، ومع ذلك، غدا صلاح الدين نوعًا من التخريف، من احتراف التخريف، وجعل التخريف تاريخًا. أما قبل صلاح الدين، فليس الخرفنة، وإنما خرفنة الخرفنة. لهذا كان ماريك وموزارسكي موجودين فيما أريد للقدس أن تكون، ولم يكونا في القدس التي كانت، القدس الحقيقية، القدس الحقيقة، وبكلام بسيط القدس المدينة.
مرت بهما جمال وحمير وبغال، وحوافرها تدق بلاط الأزقة وأدراجها الحجرية، ورائحة روثها تزكم الأنوف. كانت تلك هي وسائل النقل في القدس القديمة، وكانت سقوفها المزججة محطمة، غدت للعناكب والسحالي أكوانًا، كما غدت أقبيتها ممالك للصراصير والجرذان. كان الشحاذون بالعشرات، وكان رواد المقاهي بالعشرات. كانوا خليطًا من الفلاحين الأميين والشباب العاطلين عن العمل. رأيا كيف يميز الإنجليز في معاملتهم بين المسيحي والمسلم، المسيحي يكلمونه بأدب والمسلم باحتقار. وكانوا يرفضون التكلم مع الناس بالعربية، على الرغم من معرفة كل القياديين لها، فيستجيب لهم المسيحي والمسلم ممن يعرف الإنجليزية. حتى الصلاة، كانوا يطالبون الناس بالصلاة بالإنجليزية. ولو كان بإمكانهم لجعلوا الآذان بالإنجليزية، وهديل الحمام، وهمسات الأنسام في آذان الورد. قالوا عن المسيحيين ليسوا عربًا، وقالوا عن الثوار مجاهدين في سبيل الله. فجأة، وماريك وموزارسكي يبحثان عن زقاق يخرج بهما إلى شمس القدس، إذا برجل يظهر من باب فتحته امرأة في العشرين، وعلى المارين أخذ يقيء، والمارون يشتمونه.
- نعم، إنه ماخور، قالت المرأة للرجلين، والقيء ممنوع فيه لأبناء الماما الذين لا يحتملون شرب كأسين.
عمت رائحة القيء أجواء القدس، وطغت على رائحة العبادة. جذبت ابنة الهوى موزارسكي وماريك، وهي تريد إدخالهما بالقوة، ونادت:
- يا سونيا الدلوعة، تعالي، أتيتك بفرخين!
جاءت ابنة هوى، هي الأخرى في العشرين، وابتسمت لماريك وموزارسكي، فاعتذرا، وقالا:
- لا وقت لدينا.
- القدس ليست فقط للصلاة، قالت سونيا بدلع، وهي تبتسم دومًا.
- ولكنه ليس وقت ال... قال ماريك.
- وهل ستأتيان فيما بعد؟ سألت ابنة الهوى الأولى.
- نحن لا نعدكما بشيء، قال موزارسكي.
- إذا أتيتما، فاطلبا سونيا ولولا.
تلقفت المرأتان عابرًا كان يرتدي قنبازًا نظيفًا، ويبتسم ببلاهة أسطورية، وقبل أن تدخلا به، قالتا للصديقين:
- تعالا، ولن تندما.
وهما على وشك الخروج من باب العامود، قطع عليهما الطريق بائع تحف تذكارية، وقال لهما:
- كل هذه التحف مقدسة، يا سيديّ.
قلّباها بيد عارفة، وهما يبتسمان، فهي ليست مقدسة إلا لأن البائع الدجال يريدها أن تكون كذلك:
- هذه مصنوعة من خشب زيتون جبل الزيتون، كذب البائع، وهذه مفبركة من جلد حمل من نسل خراف سيدنا عيسى، وهذه نفخت من زجاج استخرج من المنجم الذي استخرج منه زجاج المسجد الأقصى.
- ومن يضمن لنا صحة ما تقول، رمى موزارسكي، وهو يعيد التحف للبائع، ويبتسم.
- إذا قلت لك الحقيقة، هل تأخذ مني واحدة على الأقل، يا خواجا؟
- من أجل الحقيقة، سيأخذ كل منا واحدة من تحفك، قال ماريك، وهو يعيد التحف للبائع، ويبتسم.
- كلمة شرف، يا خواجا.
- قل، وسنرى.
خفض البائع صوته، وهو يتلفت لئلا يسمعه أحد:
- هذا جلد خنزير، وهذا خشب من الصين، وهذا زجاج فالصو ينكسر لنفخة من فم رضيع، والله إني أقول الصدق!
قهقه ماريك وموزارسكي، وأعطياه ظهرهما.
- أنتما لا تصدقان ما أقول، أليس كذلك؟
رماه موزارسكي بقطعة نقدية، وقال:
- هذا من أجل النكتة.
والآخر يقسم أنه لم يكذب، وأنه إذا كذب، ذهب إلى المسجد، وطلب من الله الصفح والغفران.
والصديقان يتركان مدينة القدس القديمة من ورائهما، إذا بالجنود الإنجليز يهوون بالهراوات على رأس أحدهم. أخرجوا من جيبه مسدسًا صغيرًا، قيدوه، ورموه في مركبتهم العسكرية. وقبل أن يذهبوا به إلى المعتقل، ذهبوا بشاب على طرف، وأعطوه مالاً.
همهم موزارسكي، وهو لا يدري لماذا:
- سأذهب إلى حائط المبكى كي أبكي قليلاً.
- هل أثر فيك المشهد إلى هذه الدرجة؟ سأل ماريك.
- لم يؤثر فيّ على الإطلاق.
- إذن لماذا البكاء؟
- البكاء حاجة شخصية.
- دون سبب؟
- دون سبب.
كانا قد وصلا إلى جدار من سور القدس مليء بالأعشاب البرية، وكانت في ثقوبه بعض الأوراق المطوية.
قال ماريك:
- أنت ستبكي، وأنا سأقرأ ما في هذه الأوراق من أدعية.
أخذ ماريك، أول ما أخذ، يلمس حجارة السور بنوستالجيا، وهو يجمجم: وارسو... حبيبتي! ثم أخذ يفتح الأوراق واحدة واحدة، ويلقيها من وراء كتفيه حتى جمدت أصابعه فجأة على ملمس قطعة من الرق عجل بفضها، وإذا به يقع على جملة واحدة مكتوبة بالآرامية، لم يفهم ما تقول.
- توقف عن البكاء، يا موزارسكي، قال ماريك، وهو يضرب صديقه بكوعه، واقرأ هذه الجملة إن كنت تعرف الآرامية، فوجودها هنا محير.
أنهى موزارسكي صلاته بدعاء سريع، وراح يتأمل قطعة الرق، ويبحر في التفكير.
- هذا الرق هنا منذ أيام المسيح ربما، قال موزارسكي.
دوت ضحكة ماريك:
- منذ أيام المسيح!
- طبعًا من غير المعقول هذا، ولكن يبقى الأمر غريبًا.
- ماذا تقول الجملة؟
- أنا لا أعرف الآرامية.
- لا بد من وجود أحد يعرفها.
- لا بد، أليسها المدينة التي صلب فيها المسيح؟
- لنذهب إلى كنيسة القيامة، ونسأل قساوستها.
عادا يجتازان باب العامود، وبائع التحف، يصيح بالمارة أنه لا يكذب، كل هذه التحف ملوثة بدم المسيح، والدم يسيل من رسغه. مضيا ببيت الهوي، ورأيا سونيا الدلوعة جالسة مع لولا على عتبته، ابتسما، وابتسمتا. قطعا كل دروب القدس القديمة الرطبة، وهما يتحاشيان المشي في روث البهائم حتى ظهرت من بعيد كنيسة القيامة الموشكة على الانهيار لولا الدعامات التي تحيط بها، وكأنها أصابع أخطبوط متوحش خارج من أعماق التاريخ. لكن ما شد انتباه موزارسكي وماريك ثلة من الجنود الإنجليز تحيط بمدخل مسجد عمر ومكتبته، كانوا يمنعون دخول الذاهب إلى المكتبة، وعلى العكس كانوا يسمحون دخول كل من يود الصلاة.
قرأ القس دون اهتمام، بعد أن قلّب قطعة الرق طويلاً بين أصابعه:
- سري في قبري.
- إنه المسيح إذن، رمى ماريك.
- لا بد أنها دعابة من دعابات أحد رجال الكنيسة الروسية، علق القس قبل أن يضيف... خصومنا.
- طبعًا من غير المعقول أن تكون قطعة الرق هذه هنا منذ أيام المسيح، قال موزارسكي، لكنها ليست دعابة.
- ماذا تعني؟ سأل القس باهتمام هذه المرة.
- أعتقد أن ما يفكر فيه موزارسكي هو التالي، قال ماريك، هناك سر في قبر المسيح من الضروري معرفته أيًا كان عمر الرق ومن هو واضعه.
ابتسم القس:
- هل تلمسان خطورة ما تقولان؟ إذا كان للمسيح سر، فسره في بعثه.
- وإذا كان هناك سر بالفعل، سأل موزارسكي بنبرة أقرب إلى الجسامة، سر آخر غير بعثه؟
- إذا كان هناك سر بالفعل، همهم القس، هذا يعني الصلاة والسلام على المسيحية. أتريان إلى أين سيؤدي مسعاكما؟ عظمة واحدة من عظامه ستقول إن المسيح لم يبعث، وإن هذا القبر شهادة على موت المسيح كسائر البشر.
وهب واقفًا:
- أطلب منكما المغادرة في الحال.
رمى قطعة الرق في وجهيهما، فتلقفاها دون أن يتحركا من مكانهما.
رفع القس صوته:
- أخرجا في الحال، وإلا طلبت الشرطة.
- أنت لن تطلب الشرطة، قال ماريك.
- ولن تنام الليل إلا إذا وقفت على السر، قال موزارسكي.
- لأنك تشك قبل الآن في كل هذا، فالبعث لديك أمر مشكوك فيه، قال ماريك.
- وإذا لم نقع على رفات المسيح اطمأن قلبك إلى الأبد، قال موزارسكي.
ظل القس صامتًا، ثم قال:
- يجري هذا المساء محفل الدم، وسيكون كل القساوسة مشغولين. اذهبا الآن، وعودا مع منتصف الليل.
وهما في الخارج، رأيا كيف يحرق العساكر الإنجليز أثمن المخطوطات وأندرها، كانت الحروف تهرب من النار كالعصافير، وكانت الكلمات تصيح، وكانت الصفحات تتحول إلى رماد، كل حضارات العرب كانت تتحول إلى رماد.
* * *
خرجت السيارة السوداء من بين كثافة الشجر، وسارت في طريق رفيع يتعرج كالنهر وسط الحقول. رفع بعض الفلاحين رؤوسهم: ها هي سارة تعود إلى القصر. أخفضوا رؤوسهم من جديد، كانوا عابسين، كارهين، صابرين، يقلبون الأرض بمعاولهم.
إلى جانب سارة، كانت ابنتها هاجر ذات الخمسة عشر ربيعًا. تساقط الشلال الأسود حتى خصرها، وعكست عيناها السوداوان ووجه الملاك الأبيض الذي لها مسرات الطفولة. هكذا كان الانطباع الأول لمن يراها. ارتدت كأمها ثوبًا أسود، ولكن دون شال التل، الأسود كالليل. ربما بسبب عيني أمها الحزينتين، كانت هاجر ترمي النظر من النافذة، مفكرة، صامتة. كانت تستطلع الأيك، وتصغي بصمت إلى شدو العصافير.
بعد قليل من الوقت، بدت من الزجاج الأمامي بعض القبور: أكوام تراب مستطيلة أحيطت بحجارة مسننة. ارتفع في مقدمة بعضها حجر منحوت بالبسملة وبآية قرآنية، وكتب عليه بخط بدائي اسم وتاريخ وفاة الميت. تساقطت بعض أعواد الجريد الجافة، وكان بعضها الآخر على وشك السقوط. وكذلك كانت هناك بعض الأزهار المتكسرة، وكانت على تل ارتفع قليلاً أربعة قبور مبنية من الحجر المنقوش. في المقدمة، كان خامسها وأكبرها من الرخام: قبر الباشا إبراهيم. توقفت السيارة في المقبرة، نقل السائق من جانبه باقة الزهور، ونزل. نزلت سارة وابنتها أيضًا. أعطى السائق لسارة باقة الزهور، وهو لا يدري كيف يعبر لها عن أساه، لكنه حاول أن يبدي أقصى ما يستطيع من الرأفة. كان ذلك جزءًا من مهنته. أمسكت الباقة بيد، وابنتها بيد، وسارت مثقلة باتجاه القبر. ماذا على السائق أن يفعل؟ أن يتبع عن كثب.
هبت ريح خفيفة، فأخذ شعر هاجر الأسود يتطاير... وأخذ شعرها ينسدل، كشال سارة. لم ينشف بعد الجريد الأخضر وإكليل الورد. انحنت سارة بأسى، ووضعت على القبر الباقة. ودون توقف، كان شعر هاجر الأسود يتطاير... يتطاير، وكان شعرها ينسدل. كانت هاجر تبدو مرتاعة، لسبب تجهله. ما شأنها هي بكل هذا؟ ارتعش العشب الأسود في عينيها والتوت الأسود على شفتيها من الخوف. أنّت سارة، والتفتت نحو السائق. رأته يجمع يديه فوق صرته، وهو يخفض رأسه، ويتمتم الفاتحة بصوت مهيب، ثم رفع رأسه ببطء، مسح وجهه على الطريقة المأتمية، وعاد الجميع إلى السيارة.
عندما دخلت السيارة القرية، بان المصنع من بعيد: ركام من فحم. كان بعض الجنود الإنجليز هنا وهناك. اقتربت سارة بوجهها من الزجاج. التقى اثنان من الجنود الفرسان بالسيارة، وهي تأتي من الاتجاه المعاكس، فانزاح كل منهما بحصانه إلى جانب ليوسع لها الطريق. نظرت هاجر إليهما من الزجاج الخلفي بشغف وخوف: أردية سوداء وحمراء، وقبعة دون كيشوتية، وسيف مدلى من الخصر، وبندقية مرفوعة على الكتف، وجزمة سوداء ذات مهماز. كانت أزقة القرية خالية على التقريب إلا من بعض الصبية، وفي الساحة العامة يرابط دومًا جنود كثيرون. كانت أدوات الحداد مبعثرة، وهناك، أمام دكان البقال المغلقة، جلس بعضهم، وهم يعلكون العلك، ويلعبون الورق، وصعد بعضهم فوق أحد الأسوار. ذهب ثلاثة رجال في الزقاق إلى المقهى حيث جلس ثلاثة منهم، وكوكبة من الفرسان جاءت عادية من بعيد.
الاحتلال.
سألت هاجر:
- ماما، ما هذا؟
نظرت سارة، وهي تخفض إصبع ابنتها:
- لا أدري، يا حبيتي!
توجهت إلى السائق:
- أسرع! أسرع!
لكنه توقف بأمر الجندي:
- إلى أين أنت ذاهب؟
- هذه سيارة الباشا، ومعي عائلته، نحن ذاهبون إلى القصر.
ألقى الجندي نظرة على سارة، وقال بتراخ:
- بإمكانك الذهاب.
مضت السيارة في الطريق الترابية المحاذية للمخازن المحترقة. كالمصنع، كان الركام يتلو الركام. أثارت السيارة الغبار، وبدا القصر هناك. كان خارج السور بعض الجنود. اجتازت السيارة الباحة، وتوقفت قرب البوابة. كان الحارس يسحب بندقيته على كتفه ذاهبًا إلى القرية، ليخبر الكاتب ومأمور الخزنة بالحضور غدًا صباحًا بناء على طلب الباشا إسماعيل. عندما رأى سيدة القصر، عاد يهرول حتى السيارة:
- حمدًا لله على السلامة!
فتح لسارة الباب:
- شرفت البلد! شرفتينا!
لا كلمة، لا إيماءة، الحداد التام.
نزل السائق لأخذ الحقائب. أخذت سارة ابنتها من يدها، وخفت إلى الداخل. ساعد الحارس السائق، بينما جرت مرجانة من أحد الممرات:
- سيدتي! سيدتي!
أخذتها من يديها لفرحها، دون أن تجرؤ على تقبيلها، وعلى العكس، وثبت على الفتاة، وراحت تقبلها من وجنتيها.
قالت سارة دون أن يغادرها الحزن:
- هذه ابنتي، يا مرجانة.
عادت مرجانة تعانق الفتاة مطلقة صيحة فرح:
- سيدتي الصغيرة! سيدتي الصغيرة!
تقدمت سارة خطوتين إلى الداخل، وسألت:
- الباشا هنا؟
حينئذ، تذكرت مرجانة واجبها. تركت هاجر، وأطلقت آهة من أجل الراحل:
- آه، يا سيدتي!
تركت دمعها يسيل.
- أجيبيني، يا مرجانة.
مسحت مرجانة دمعها بطرف مئزرها، ابتلعت ريقها، وتلعثمت:
- الباشا إسماعيل هنا، في المكتب، يا سيدتي.
سارعت سارة الذهاب إلى المكتب، ثم تباطأت مفكرة قبل أن تنقر الباب. نقرت الباب، ودخلت. استدار إسماعيل في اللحظة ذاتها، وعلى يده كتاب مفتوح.
بقيت سارة تقف في مكانها، وتعابيرها تصطخب كالموج. كانت تشعر بالانسحاق. وضع إسماعيل الكتاب على الطاولة بآلية، دون أن يفارقها بعينيه. فجأة، ركضت سارة لتلجأ إلى صدره، وهي تنشج. وهو، بقي ساكنًا، جامدًا، لا يتحرك. ارتفعت يده بآلية، وسقطت على كتف سارة التي توقفت عن البكاء، وهدأت. بقي الباشا الجديد ساكنًا، جامدًا، لا يتحرك. صارت له عينان من زجاج، وغدا كله زجاجيّاً. انفتح فمه، وقال بآلية:
- كانت النيران العملاقة تتفجر مرتفعة في أعالي السماء، عظيمة وعنيفة! وكان لونها الأحمر يشغف البصر، فاندفع وسطها مسحورًا. كان وثنيًا بطبعه! اندفع وسطها مذعورًا، ولكن مسحورًا، وفي اللحظة الأخيرة، عزم على التراجع، لكن يدًا قوية سحبته من خناقه، وجعلته يصطلي فيها. فجأة، انتهت الأسطورة.
رفعت إليه وجهًا مرتعبًا، محملق العينين:
- أحقًا؟ انتهت الأسطورة؟
أعاد القول بآلية:
- فجأة، انتهت الأسطورة... مات.
انفجرت تصرخ:
- لا!
وابتعدت عنه.
انكسرت على نفسها، فسقط شال التل الأسود، وهي تتهدج مطلقة الزفرات.
قال إسماعيل، وقد بارحته هيئته السلبية:
- فلم تعد هناك إرادة أخرى.
لكنها صاحت:
- وأنت؟
انتظرت الجواب إلى أن قال:
- أحاول أن أبدأ من جديد.
رفعت قامتها بآلية، وقهقهت، فدفعها بعنف:
- لقد تمنينا له الموت، سويّاً، نحن الاثنين.
ثنت رأسها بتثاقل، وبدت كهلة:
- ماذا تعني؟
سارت ببطء شديد، ثم توقفت:
- حقًّا لقد كففت عن أن أصبح عاره، لكنه أورثك كل شيء: السلطة والمال والجاه وأنا، كل شيء. وبعد هذا كله، تأتي لتقول لي: أحاول أن أبدأ من جديد!
نبر حانقًا:
- أنت لا تفهمين شيئًا!
هرب في داخله، وسقط في ليل عينيه الأزرق. همهم:
- كنت أعرف كل شيء.
- وهل تظن في نفسك القدرة على الصمود؟
- هذا ما أريده: القدرة!
- ستجد نفسك وحيدًا في النهاية.
- أنا وحيد، منذ البداية.
تقدمت منه لهفى، وشدته من ذراعه:
- خذني عونًا.
سحب ذراعه:
- طالما أنت مغرمة بي، فما الفائدة؟
أطلقت آهة غضب.
- سأقطع الدرب. ستكون هناك عقبات كثيرة. إعادة بناء المصنع همي الوحيد. أناس كثيرون سيموتون جوعًا من جراء الحريق.
قالت سارة بتهكم:
- لقد أراد أبوك أن يأكل الفلاحون اللحم على العشاء! ها أنتما على اتفاق من جديد!
صاح:
- لم يكن مرة واحدة في حياته صادقًا بخصوصهم.
تقدمت من المقعد الوثير، وترامت بتعب:
- أتظن حقًا أن هذا ما يكفي أحلامهم، بناء المصنع من جديد؟
- هذا ما أقدر عليه اليوم.
- وغدًا؟
جلس في الوجه المقابل لها، ولم ينطق بكلمة. قالت سارة بأسى:
- لقد انتهى الغد بالنسبة لي يوم مات أبوك.
همهم وهو يضغط أسنانه:
- يا لك من تعسة!
استجدت بنظراتها استعطافه، ثم نهضت تعبة، واتجهت إلى الباب. قال لها بلهجة آمرة:
- اخلعي ثيابك السوداء.
التفتت نحوه، وبقيت للحظة دون حراك:
- إنها ثياب السفر، على أي حال.
بعد خطوة، تعثرت إذ تذكرت:
- نسيت أن أشكرك، يا باشا.
اقترب منها ببطء.
- لقد رفضه أبوك لي طوال حياتي معه.
وقفا وجهًا لوجه.
- إن ابنتي هنا.
وجمالها يتبدد.
- كان يظن أنها ابنته.
نظر إسماعيل إليها بجسامة.
- وهل كان لك عشيق؟
أطلقت تنهدة:
- نعم، تمامًا مثل أمك.
توتر حاجباه، والخبر يسحق تقاطيعه. كانت كارثته الحقيقية.
- كما ترى، نحن لسنا بالأطهار، يا باشا!
نبر مهتزًا:
- اخرسي!
- سبق وقلت لي إنك لن تدينها.
لكنه استمر ينبر:
- اخرسي! اخرسي!
افترت شفتاها عن بسمة واهنة زادتها شحوبًا. بعد قليل، سألته:
- هل أقدم لك ابنتي الآن، يا باشا، أم تفضل...
* * *
اقتربت هاجر من تحفة الكريستال، ونقلتها بأصابعها النحيلة. ألقت عليها نظرات الإعجاب عن قرب: فارس يتقلد سيفًا فوق صخرة عالية. كان له بعض الشبه بالفرسان الإنجليز الذين رأتهم منذ قليل. ربما لهذا السبب كان اهتمامها بالتحفة. خرج إسماعيل من المكتب، تتبعه سارة. عندما لمحها من بعيد، تباطأ: انسدل شعر الليل، وأينعت القامة الصغيرة كالزنبقة في حوض من المرمر. أخذ قلبه يخفق بقوة كبيرة. لا، سيتقدم. وهو على مقربة منها، التفت إلى سارة. كانت البنت غائبة مع تأملاتها للفارس، فلم تشعر بهما يدنوان. في الأخير، نادتها أمها:
- هاجر!
استدارت دَهِشة:
- آه! كنت...
شدت التحفة إلى صدرها.
كانت كالشمس تطل عليه!
يا إلهي! من ذاك الذي أتى بك إليّ؟ كم هي رائعة الجمال؟ خلابة!
غاب إسماعيل مع تأملاته لها، تمامًا مثل هاجر منذ قليل.
- هذه ابنتي هاجر، يا باشا.
وضعت هاجر التحفة، ومدت له يدها:
- كيف حالك، يا باشا؟
ألقى نظرة مفتتنة إلى أصابع اللبلاب التي تمتد إليه، رفع يده بآلية، وضغطها.
- أعجبني هذا الفارس، فسمحت لنفسي بلمسه، هل أنت غاضب، يا باشا؟
وسحبت أصابعها.
كانت تتكلم بسلطة تتجاوز عمرها، وطريقتها في النطق سحرت إسماعيل. أعطاها الفارس، وحاول الابتسام:
- خذي، إنه لك.
قفزت على عنقه، وقبلته، ثم أخذت التحفة، وتوجهت بالكلام إلى أمها:
- ماما، انظري، كأنه فارس حقيقي.
جس إسماعيل وجنته، حيث طبعت شفتيها.
- حافظي عليه، يا عزيزتي، وإياك أن يقع من يدك، إنه هدية من الباشا إسماعيل.
زال عن شفتي هاجر حزن المقبرة، وتأججت عيناها السوداوان بوهج أخاذ.
- أنا أشكرك! أنا أشكرك من كل قلبي.
ردت سارة إسماعيل إلى الواقع:
- ها هي ابنتي، يا باشا، فما رأيك فيها؟
حاول أن يخفي اهتمامه:
- جدي لها حجرة نوم مريحة، واهتمي بملبسها ومأكلها، ولتعملي على أن تكون إقامتها ممتعة.
- أمرك، يا باشا.
مدت إليها يدها:
- هيا، يا هاجر، لنصعد.
سحبتها، ثم التفتت إلى إسماعيل الذي قال:
- لا تنسي أن تبدلي ثيابك السوداء، أنت والصغيرة.
- بالطبع، يا باشا. إنها ثياب السفر كما قلت لك.
أخفتهما تماثيل العاج قبل أن تصعدا. بقي إسماعيل لفترة مفكرًا، التفت إلى الفراغ الذي تركه فارس الكريستال، ثم اتجه بناظره إلى أعلى الدرج.
- سيدي!
استدار نحو الصوت: كان الحارس ينتظر بخضوع.
- الكاتب ومأمور الخزنة سيكونان هنا غدًا صباحًا كما أمرت.
استعاد إسماعيل هيئته الجادة:
- حسنًا.
- أمرك، يا سيدي.
أعطى كل منهما للآخر ظهره، إسماعيل باتجاه المكتب، والحارس باتجاه الأمر القادم.
* * *
بعد عدة ضربات على الإزميل، تخلخل غطاء قبر المسيح، فخر القس على قدميه، وذهب في صلاة تلو صلاة، وهو مغمض العينين. رفع ماريك وموزارسكي الغطاء، وبمجرفتيهما أخذا بإخراج التراب بحثًا عن سر المسيح. كان محفل الدم لم يبدأ بعد في تنفيذ الهدف الذي انعقد لأجله، لكن التراتيل كانت تسمع من كل ناحية، وكأن كل القدس تغني من حول الجسد المصلوب الملطخ بالدم. أهرقت الخمور، فشرب كل رجال الكنيسة ونسائها حتى انضغط العالم عليهم، وزالت ما بينهم المسافات. دخلوا الجنة معًا، فتعروا، وتعانقوا، وبحثوا عما نسوا لماذا هم يعقدون محفلهم. كانت الرغبة تارة، وتارة المتعة. لم يعتبروا أنفسهم طيورًا جارحة، كانوا الطيور الجارحة، ولم يعتبروا أنفسهم أسماكًا جامحة، كانوا الأسماك الجامحة. كانوا ما لم يكونوا بالفعل، وكانت تلك قوة إيمانهم، من أجل شفقة الرب عليهم. لكن إرادة الدم شيء أقوى من كل إرادة إنسانية حتى تلك التي جعلت من إنسانيتها لعبة تتسلى بها. كان على ثلاثة منهم أن يدفعوا الثمن كيلا يجف دم المسيح، فلا ينسى البشر ما فعلوا فيه أشنع فعل، وتبقى لهم امتيازاتهم الزمنية، السلطات الغيبية، وثروات الغباء لدى الورعين. حضر ثلاثة جلادين، واختاروا امرأتين ورجلاً، هكذا، ودون سابق تحديد، ربطوا كل واحد منهم على صليب، وفي القلب دقوا، تحت صيحات الغبطة النهائية، وتدًا خشبيًا.
مضت ساعة، وموزارسكي وماريك يحفران قبر المسيح دون أن يقعوا على سره، حفروا مترًا ثم مترًا، وفي كل مرة كان القس المغمض العينين يقطع صلواته، ويسأل: هل وجدتم شيئًا؟ فيجيبان: لا شيء. فجأة، فتح القس عينيه على سعتهما، وراح يهمهم كالمجنون:
- بعث المسيح إذن قد وقع، وأنا من سخرت طوال حياتي بمثل هذا فعل! لا رفات هناك! كل عدم الحقيقة إذن حقيقة!
عند ذلك، توقف الصديقان عن الحفر، وتبادلا نظرة مهولة. هذا هو سر المسيح الذي في قبره: لا مسيح هناك! بالنسبة لهما، لا بد من وجود المسيح في مكان آخر، فمعجزة البعث شيء غير مقنع للعلماني الذي كانه ماريك وللمتسول على باب العهد القديم الذي كانه موزارسكي. وعلى العكس، فقد القس عقله، أخرج مسدسًا صغيرًا من جيبه، وأطلق رصاصة في رأسه قطع دويها المحفل، وقذف بأعضائه من الغبطة النهائية إلى الجريمة البدائية. جاء الجلادون الثلاثة يجرون، ولم يبالوا بمسيح بعث أو لم يبعث. رموا القس في قبر المسيح، وقادوا ماريك وموزارسكي إلى المحفل، فرأيا الجثث الثلاث الغارقة في دم الثالوث المقدس. كان باستطاعتهما أن يزجا بالجميع في السجن، ويهدما صرح المحفل على رأس أصحابه، فقرر الأعضاء بالإجماع التضحية بهما على الصليب بعد أن وقفا على سرهم. وهما على وشك الموت بوتد يُدَق في قلب كل منهما، سرى في القاعة غاز أنام الحضور كلهم. لم ير أي منهم الفتاتين ذاتي القناع المضاد للغاز اللتين سحبتا موزارسكي وماريك، وذهبتا بهما على عربة يجرها بغل إلى بيت الهوى بعد أن رفعتا القناع عن وجهيهما: ماريشيا وبولينا. تركتا الصديقين في أيدي سونيا ولولا الأمينة، واختفتا.
* * *
قال إسماعيل لكاتبه ومأمور الخزنة وهما يفتحان سجلهما:
- ريثما تتم إعادة بناء المصنع ليعمل أكبر عدد من العمال في أشغال الأرض. أطلب منكما أن تقدما لي بسرعة مشروع عمل للمباشرة ببناء المصنع في أقرب فرصة ممكنة. ليشارك في بنائه ما استطاع من العمال بدلاً من القعود في الدار، وانتظار أن يسقط عليهم الرزق من السماء. وأطلب أيضًا تعويض العمال عن الخسارة التي لحقت بهم...
تبادل الكاتب والمأمور نظرة استغراب.
- لنقل ليرة لكل عامل... لا، ليرتان، زائد كيس من القمح، وكيس من السكر.
تنحنح الكاتب.
- هل تريد أن تقول شيئًا؟
تردد الكاتب ثم قال:
- نعم، يا سيدي الباشا إسماعيل، أريد أن أقول...
- أن تقول ماذا؟
- مثلما يعرف، سيدي الباشا إسماعيل، لقد احترقت المخازن عن بكرة أبيها.
وكأن لم يكن للأمر أية أهمية:
- ليشتر مأمور الخزنة القمح والسكر من يافا أو من حيفا، ليس هناك أي مشكل.
استجمع أفكاره:
- وكذلك، أطلبا من عمالنا مغادرة أرض أبي سنه وأرض أبي الغزال، وإرجاعهما لأهل المتوفيين. ولتأخذ عائلة أبي سنه ليرتين وكيسًا من القمح وكيسًا من السكر كسائر عمال المصنع، ونفس الشيء لعائلة أبي الغزال، وللمعتقلين، أبي قاسم وجماعته. هذا كل ما كنت أريد قوله لكما.
نهض الرجلان، وتردد الكاتب.
- هل تريد أن تضيف شيئًا؟
ترك إسماعيل مكتبه، واقترب من الكاتب.
- نعم، يا سيدي الباشا إسماعيل.
- أنا أصغي إليك.
تردد الكاتب:
- الحقيقة، يا سيدي... نعم...
نطق ببطء هذه المرة، ولكن بعصبية:
- أردت أن أقول لك إن أبا النشامة ابن عمي لم يهدأ له بال ولا خاطر إلا بعد أن أخذ بثأر أبيه من دار الزعيم. ذبحوا أباه، فذبح أباهم، ونحن من حسبه طوال الوقت...
انقطعت أنفاسه ثم أضاف:
- ... جبانًا.
ابتلع مأمور الخزنة ريقه، وعزف على نفس الوتر:
- نحن رجالك، يا سيدي الباشا إسماعيل، وتوكل علينا نثأر لك. اطلب منا دمنا نهبه رخيصًا في سبيل سيدنا الباشا إبراهيم الأعظم. لحم أكتافنا من نعمته!
رافقهما حتى الباب:
- اتركا الأمر لي.
- أمرك، يا سيدي الباشا إسماعيل.
- هناك من يقول إن أولاد عوض هم الذين أضرموا الحريق ثأرًا لأخيهم.
- وهناك من يقول إنه البيك.
- أو الخواجا.
- أو حتى الإنجليز.
- طلبت منكما أن تتركا الأمر لي.
تساقط كل منهما على يده يريد تقبيلها، وهما يقولان:
- سمعًا وطاعة، يا سيدي الباشا إسماعيل.
لكنه سحب يده.
خارج القصر، ركب الكاتب حمارًا، وسار مأمور الخزنة إلى جانبه. سأله المأمور:
- ماذا قلت، يا سيد عبد الغني؟
- القول قولك، يا سيد ياقوت.
- الحكاية وما فيها أن نكون متفقين.
- وأن ينفع أحدنا الآخر.
- بالعدل والقسطاط.
- في السراء والضراء.
- معاذ الله من الضراء، يا سيد عبد الغني!
- وأن يبقى الأمر سرًّا ما بيننا.
- في بئر عميق، يا سيد عبد الغني.
- أنا أقول...
تردد الكاتب، ثم أنهى قصده، وهو يهتز من فوق الحمار اهتزازات متتالية دون توقف:
- كثير أن ندفع ليرتين للعامل الواحد، نصف ليرة تكفي.
- عين العقل، يا سيد عبد الغني.
- نصف كيس سكر ونصف كيس قمح فيهما الكفاية أيضًا.
- توكل على الله، يا سيد عبد الغني.
- توكلت عليك يا الله، وتوسمت مغفرتك، أنت الغفور الرحيم.
* * *
لم يتوقع الفلاحون الذين يعملون في أرض أبي سنه مقدم كاتب الباشا إسماعيل على حماره، ورأى من كانوا في الأطراف البعيدة، ما أن يأتي الكاتب مجموعة، حتى يرفع أفرادها أدواتهم على أكتافهم، ويغادرون الأرض، مع التراكتورات الحديثة التي كانت ملكًا للباشا وحده. نغز الكاتب الحمار في مؤخرته، فجرى به، وهو يصيح بالفلاحين:
- إلى أرض الباشا! إلى أرض الباشا! لا عهدة للباشا على هذه الأرض بعد اليوم، لقد أعادها لأصحابها... إلى أرض الباشا!
خرجت امرأة أبي سنه من الكوخ: نحيفة كالعود، صفراء كالذرة، حول عينيها المنتفختين دوائر زرقاء، خرجت على سماعها صيحات الكاتب. ركض طفلان بثيابهما الرثة مسافة ليست قصيرة، وهما يلاحقان بعينيهما الفلاحين المغادرين لأرضهم. جاءت لطيفة ابنة السادسة عشرة، بوجه شاحب، وثوب كالح. تجاوزت أمها، ورفعت يدها في الشمس فوق عينيها. كانت الحظيرة بلا دجاج، والمحراث مهجورًا تحت شجرة التوت. مر كاتب الباشا إسماعيل قرب الطفلين، فراحا يجريان من ورائه. وفي الأخير، توقف على مقربة من امرأة أبي سنه:
- كيف الحال، يا امرأة أبي سنه؟
وصل الطفلان عند أمهما، ودارا بها، وهما يرميان كاتب الباشا بنظرة خائفة مقرونة بحب الاستطلاع. سألته بحقد:
- ماذا تريد؟
نزل عن الحمار، وتقدم منها:
- أن أشرب القهوة عندك، يا امرأة أبي سنه، معي أخبار طيبة لك.
صدته بجفاف:
- لن تجد قهوة عندي.
أجابها مستلطفًا:
- على مهلك، يا امرأة أبي سنه! لا تحقدي علي، أنا لا ذنب لي!
انكسرت امرأة أبي سنه على نفسها، وهبطت كالناقة الهزيلة على العتبة. جلس أحد الطفلين في حضنها، وبقي الآخر يحدق في الكاتب واجمًا.
- أين لطيفة؟ تعالى، يا لطيفة!
لكنها بقيت تقف بعيدًا عنه.
- لا تريد لطيفة أن تأتي! والله لا أحمل لكم إلا الخير. بشارة! بشارة يا ناس! أعاد لكم الباشا إسماعيل الأرض. هي لكم منذ اليوم مثل أيام كان المرحوم أبو سنه يفلحها ويزرعها. لكم! (وصفق:) افرحي يا امرأة! اجعلي صوتك يلعلع بالزغاريد! وفوق هذا يعطيكم الباشا إسماعيل (توقف، أجرى حساباته، حساباته الخاصة به، وقال:) نصف ليرة ونصف كيس سكر فقط لا غير، وفي هذا خير وبركة! بعد يومين أحضر لكم هذا العطاء الكريم بنفسي. واعملي حسابك على شراء بعض القهوة، فسيكون هناك سكر، وسنشربها حلوة من يدي لطيفة الأميرة!
لم يطرأ على وجه الأم أدنى تغيير، كانت ينهشها مزيج من الحقد والمرارة. قرص الكاتب شفتيه، وقد خاب ظنه:
- عجيب ألا يبدو عليكم السرور! وكذلك كان الأمر مع عائلة أبي الغزال عندما أبلغتهم الخبر (ثم لا مباليًا:) المهم، لقد أبلغتكم الخبر، وهاءنذا قد صرفت العمال. أرضكم لكم، وما على الرسول إلا البلاغ. أترككم على خير.
ركب حماره، وذهب.
* * *
وصل كاتب الباشا إسماعيل إلى بيوت فلاحي وادي عربة. كانت الأزقة القذرة ميتة، وكأن لا أحياء من وراء الجدران. توقف أمام بيت أبي قاسم، ونزل عن الحمار بحذر. بعد أن دار برأسه كاللص يمينًا وشمالاً، رفع ستارة الباب، ودخل بسرعة.
أطلقت صفوريا شهقة:
- أنت! ماذا تفعل هنا؟
قامت عن الأرض التي تمسحها، وتقهقرت مغطية بيدها أعلى صدرها العاري.
- ماذا تريد أيضًا بعد كل الذي فعلته بنا؟
كان يسعى إلى تهدئتها:
- على مهلك! على مهلك، يا صفوريا! كل خير، يا صفوريا!
لكنها اهتزت بالغضب:
- كل خير بعد أن وشيت بأبي...
أصبح قربها.
- وأودعته السجن!
فجأة، رفعت قبضتها، وضربته بقوة على صدره، وهي تصرخ:
- يا مجرم!
أمسك بقبصتها بعنف، وهو يحني رأسه باتجاهها لاهثًا:
- صفوريا! خذي ما شئت! عيني، قلبي، مهجتي، فقط دعيني...
انقض عليها، وهي تصرخ، فتراجع مرتاعًا مهددًا:
- لا تصرخي، يا صفوريا!
وضع أصابعه على فمها:
- لا تصرخي هكذا، لن يكون في صالحك، كوني عاقلة!
انتظرت في الزاوية، وهي تلهث: أهبة، متوثبة، تخبئ أعلى صدرها بيدها.
- نصف ليرة لك.
لهث كالكلب:
- ليرة، اثنتان، أعطيك إياهما في الحال، خذي.
قذفهما لها.
- غدًا سآتيك أيضًا بكيس من القمح.
دون أن يتوقف عن اللهاث:
- ألا يكفي هذا؟ كيس آخر من السكر؟
أصبح مسعورًا، انقض عليها، فصرخت، وهي تنشب أظافرها في أنفه، فسقط صائحًا من الألم:
- أخ، يا بنت النور! لقد جرحتني!
سال الدم من أنفه، وجمجم بغضب:
- سأذبحك لقاء هذا! والله سأذبحك!
استعاد نقوده، وهو يهدد، وسارع إلى الخروج. ركب حماره، لكن حماره أبى السير. خنقه الحنق، راح ينهره حاثًا إياه على المسير:
- حا!
محال! نغزه بعود في مؤخرته، فانطلق الحمار بأقصى سرعة. كان كاتب الباشا قد عزم على أن يذبح صفوريا.
* * *
تحت تمثال مريم العذراء وولدها بين ذراعيها، كان ماريك ينام في سرير لولا فاقد الأنفاس، ولولا تبحث عن ولاعة في جواريرها لإحراق بعض البخور. كان الكل قد نام متأخرًا في بيت الهوى، والساعة تقترب من الحادية عشرة صباحًا، والكل لم يزل ينام ما عداها. كل الرجال الذين نامت لولا معهم ولم تتعود النوم مع رجل وضعته في سريرها فاقد الوعي، ويبدو أنه لن يسترد وعيه قبل وقت كبير. أخيرًا وجدت علبة كبريت فيها عودان، أشعلت بهما عودًا من البخور لعلّ رائحته تساعد ماريك على استعادة أنفاسه. وبالفعل، ما أن أخذ ماريك باستنشاق رائحة المعابد حتى أخذ ينشق مشمئزًا، وأخذ يلهث مرتعبًا. رفعته لولا بين ذراعيها، وحاولت تهدئته:
- أنت هنا، بين ذراعي لولا، ليست ذراعا لولا الجحيم، يا حبيبي!
فتح ماريك عينيه، وتحرر من الذراعين الفردوسيين، وهو ينظر من حوله.
- هذه أنا، لولا، وأنت في بيت الهوى عندي.
لم يفهم ماريك كيف هو هنا.
- نعم، كانوا على وشك أن يرتكبوا جريمة...
ضمها ماريك بحرارة.
- انتظر، انتظر، ليس أنا التي...
وماريك يقبلها في كل مكان من وجهها، ولولا تقهقه، وتقول:
- انتظر، انتظر، من الخطأ أن تعتقد...
توقف ماريك عن تقبيل الفتاة، وراح يبحث بعينيه عن موزارسكي:
- اطمئن على صديقك، إنه مع سونيا الدلوعة، أتذكر؟ في غرفتها.
نزل ماريك من السرير، وحاول الوقوف، فتأرجح، وقال بعد أن تماسك:
- أريد أن أرى موزارسكي.
- من الأفضل أن تتركه ينام.
أمسكت يده:
- عد إلى الفراش... لا تريد؟ سترى موزارسكي، قالت لولا وهي تذهب به إلى الباب، ولكن لا توقظه.
دخلت لولا بماريك حجرة سونيا المجاورة، فطالعته أول ما طالعته آية الكرسي المخططة بماء الذهب في برواز ضخم معلق فوق السرير. رأى ماريك صديقه، وهو ينام إلى جانب سونيا نومًا عميقًا. أشارت لولا بالخروج، ففتحت سونيا عينيها، وابتسمت:
- ماذا تفعلان هنا، يا لولا؟
- سنذهب في الحال، أجابت لولا، وهي تسحب ماريك من يده. أراد فقط أن يطمئن على صديقه.
- اتركيه يفعل، قالت سونيا، السرير كبير، وتعالي أنت أيضًا إن شئت.
- شكرًا لك، همهم ماريك.
تمدد إلى جانب صديقه، وتمددت لولا إلى جانب صديقتها، حاول ثلاثتهم العودة إلى النوم دون أن يستطيعوا ذلك. هز ماريك موزارسكي، وقال له:
- انهض، يا موزارسكي، كفى نومًا.
ضحكت سونيا، وقالت:
- إن صديقك يحب النوم، فدعه وشأنه.
- قلت لك انهض، يا موزارسكي.
أدار ماريك رأسه ناحية الفتاتين، وهمهم:
- أشكركما على إنقاذنا.
قالت لولا:
- لسنا نحن.
قالت سونيا:
- لا نستطيع أن نقول من أنقذكما، ولكن ما يمكننا قوله هو أنكما أُنقذتما من موت محقق.
- ألا تريد أن تنهض، يا موزارسكي؟
دفعه دفعة قوية، فسقط موزارسكي من السرير، وأنّ، وهو يمسك رأسه، والفتاتان تضحكان. خرجتا من السرير، وانحنتا لترفعا موزارسكي، فتدلى من عنق لولا سلسال ينتهي بصليب، ومن عنق سونيا سلسال ينتهي بيد فاطمة. عندما وقع موزارسكي على ماريك، اطمأن، وهمهم:
- أنا لست في الجحيم إذن.
قهقهت الفتاتان:
- هل نحن الجحيم يا هذا؟
- الجحيم جميل أحيانًا حتى لأكثر المؤمنين صلاحًا، علق ماريك، هذا إذا ما وقع المرء بين يدين لفاتنتين مثلكما.
- كيف نحن هنا، يا ماريك، سأل موزارسكي.
- ستعلمان فيما بعد، قالت سونيا بدلع.
- فيما بعد متى؟
- فيما بعد.
- ولماذا لسنا في فندقنا؟
- هنا أنتما في أمان أكثر، قالت لولا قبل أن تضيف، ألستما جائعان.
جلست سونيا على ركبتي موزارسكي، وقالت:
- إنه يشبه أخي، هذا الأشقر.
وقهقهت:
- منذ كنت طفلة صغيرة، وأنا أحلم بأخ أشقر.
جلست لولا على ركبتي ماريك، وقالت:
- منذ قمت من الفراش، وأنا أحلم بصحن حمص بلية الخروف المحمرة، هل أطلب هذا للجميع.
- لية الخروف المحمرة؟ تعجب ماريك.
- إنه طبق سيعجبك، يا...
- ماريك.
- يا ماريك.
- لية خروف محمرة، لا أظن.
قبّلها من عنقها قبل أن يقول:
- أفضل هذا.
- ليس هذا...
جعلته يقبض عليها من إليتها:
- هذا.
قهقهت هي وصديقتها، وقبلتا ماريك وموزارسكي.
دفعهما الصديقان، وتوجها نحو الباب:
- علينا العودة إلى الفندق.
أخذت لولا سونيا بين ذراعيها، وقالت بأسف:
- لو بقيتما لأسعدناكما بالفعل.
قبلت إحداهما الأخرى من الشفة ومن النهد، وعلى مشهد من مشاهد الجنة، قال ماريك:
- هذا لأن الإنسان ليس بهيمة، البهيمة لا تحب مثيلها.
قال موزارسكي:
- الإنسان يحب غيره ومثيله، كل الكتب المقدسة تقول هذا.
رسمت لولا وسونيا على السرير أبدع اللوحات السماوية، وفي لحظة من اللحظات مدت يديهما إلى ماريك وموزارسكي كمن يمد يده في ماء بئر انعكست على سطحه كل قصة البشرية. تعرى الصديقان، وتركا لشاغال وقتًا ليس قصيرًا لينهي رائعته. بعد ذلك، تمدد أربعتهما عرايا، وهمهمت لولا:
- أهم ما في اللوحة من شخصية واحد من زبائننا أعمى في الثمانين من عمره، ولكنه في الفراش هو كشاب في العشرين، امتلكنا نحن الاثنتين امتلاك الآلهة، وقضا طوال الليل معنا، وهو يحبنا، ويبكي. سألناه إذا ما كان يبكي لحبنا، فقال لا، من حبنا، فقال لا. حيرنا، وقلنا، ما هو إلا عجوز يهذي. قبل أن يذهب، أعطانا قطعة رق، وقال لنا كل السر فيها.
- قطعة رق؟ سأل ماريك مهتمًا، وهو ينتصب بنصفه الأعلى جالسًا.
- قطعة رق أيضًا؟ سأل موزارسكي، وهو ينتصب بنصفه الأعلى جالسًا كصديقه.
- سأحضرها لكما، قالت سونيا، وهي تذهب إلى جرار.
- هل هي مكتوبة بالآرامية؟ سأل ماريك من جديد.
- بأية لغة هي مكتوبة؟ ثنّى موزارسكي.
- بالعبرية، أجابت سونيا، وقد خلا صوتها من الدلع، وغدت لها نبرة وخيمة.
مدت بالرق إلى الصديقين، فاختطفه ماريك، وقال:
- هذا صحيح، بالعبرية.
وأعطى قطعة الرق لصديقه:
- أنت تعرف العبرية، يا موزارسكي.
قرأ موزارسكي بعد تأمل طويل حير الجميع:
- سري في قبري.
* * *
انطلقت الزغاريد من بيت رقية. ترامت النساء على بسطة الدار، وفي الداخل، وعجَّ بهن المكان. كانت هناك من تنقر الدف، ومن تقرع الطبلة، وكانت هناك عجوز في السابعة والسبعين على عينيها نظارة طبية سميكة العدسة، معقودة حول أذنيها بخيط من القنب، وضعت تنكة بين ساقيها، وراحت تضرب عليها بعودين، وهي تغني:

يا بنت أمير العرب يا أم العبا السودا
وأبوك شيخ العرب حاكم على العوجا
حلمت يا بنت إنك بالمنام عندي
وأبيض من القطن وأنعم من حرير هندي

انطلقت زغاريد النسوة اللواتي في الخارج:

ها هي وخلوا المهني يهني
ها هي والعدو بعيد عني
ها هي وشكلوها بالأزهار
ها هي وزغرطوا لها صغار وكبار

وتجيب النسوة من الداخل:

ميت هلا ومرحبا بالضيوف
العشا علينا والغدا خروف
ميت هلا ومرحبا يا أحباب
العشا علينا والغدا كباب

اصطخب الأفق بصيحات الفرح الحادة. مباراة! كانت كل امرأة تريد أن تعبر عن فرحها أفضل من الأخرى. تركت العروس رقية نفسها بين أيدي النساء ليقمن بمراسم الحنة من اليد حتى الرسغ، ومن القدم حتى الركبة، دون أن يبدو عليها أي فرح، وكأنها تعيش مأتمًا. كانت عيناها الجميلتان واهنتين، وهي واجمة، باهتة. ومن جديد، عادت الطبلة تقرع في أذنها، وكذلك غناء النسوة:

يا بنت أمير العرب يا أم العبا السودا
وأبوك شيخ العرب حاكم على العوجا
...................................
...................................

تعالت الزغاريد أكثر بينما وقف إسحق في الطاقة مشدوهًا. ذهب إلى الإسطبل، حمل المجرفة والفأس، ودار من وراء بيته إلى أرض عواد. قلب التراب، والألم يفتك في قلبه، بينما تتناهى الزغاريد إلى سمعه من بعيد. لم تتمالك رقية نفسها عن البكاء. كان الكل لاهيًا عنها، إلا خالة ميريام التي غادرها الفرح. أخذت عجوز السابعة والسبعين تراقب رقية عن كثب. عندما رأت الدمع، نهضت على التو، بهيئة استهجان، وغادرت الحجرة. مضت بالنساء اللواتي يصفقن تبعًا للنغم، وباللواتي يشعلن الفرن، وباللواتي يعملن على الجاروشة، وباللواتي يرقصن الدبكة في دائرة. تعثرت بالأطفال، وصارت في الحقل.
كان أبو رقية هناك مع ثلاثة من الرجال، من بينهم مأمور المخفر، بطربوشه الفاقع حمرة. رمى أبو رقية تحت ركبته كبشًا، وهو يستل سكينًا ماضيًا. برق أحمر! ثم ينبوع من الدم. انحنى اثنان من الرجال، وشدوا الكبش من أقدامه. ضغط أبو رقية رأس الخروف بكل قواه، حتى أفرعه من دمه. مستنقع أحمر! لزج! شديد اللزوجة! وشُلت حركة الكبش تمامًا.
همست المرأة الكهلة بعض الكلمات في أذن أبي رقية، فقطب حاجبيه مستهجنًا هو الآخر. مسح السكين المدمى بالعشب، وكذلك يديه، وتبع المرأة. التفّت النساء برقية مستطلعات الخبر، لكنها رفضت الإجابة: كانت دموعها تكفي. أخيرًا، دخل أبوها، فخرجت النساء بشيء من الضجيج. أغلق الباب، وتقدم منها، وهو يلوح بالسكين:
- تريدين أن تعملي لي فضيحة!
صرخت رقية، وهي ترمي نظرات الرعب على السكين:
- لا، يابا!
والأب لا يتوقف عن التلويح بالسكين:
- أعطيت مأمور المخفر كلمتي الأخيرة، وقرأنا الفاتحة معًا، وانتهى. فاهمة؟
أدنى السكين من نحرها، ورقية تصيح برعب:
- أمرك، يابا!
- قولي لي، أتريدين أحسن من المأمور؟ إنه أقوى الناس جميعًا! له مرتينة بفوهتين، والناس كلهم يخضعون لبأسه. هو وحده القادر على حمايتك. الوحيد الأوحد! زد على ذلك، المأمور جاري منذ عهد بعيد، وهو أصيل الحسب والنسب، شديد الوتد! أما إذا كنت تبكين بسبب زوجته...
وجأر:
- ذبحتك!
وهو يلوح بالسكين قرب عنقها، ورقية تصيح برعب:
- لا، يابا! أمرك، يابا!
* * *
صفع مأمور المخفر زوجه بوحشية، فراحت تولول:
- يا ويلي! يا ويلي!
ضغط فمها بيديه الضخمتين حتى أيقن أنها لم تعد تصرخ، وراح يهدد والزبد يتناثر من فمه:
- ورب الكعبة الأعظم قتلتك! تقولين لي ضرة! إنها ضرة ليس لها مثيل! رقية جوهرة! كنز! كنت طوال الوقت أقول: لو يزوجني أبوها إياها لدفعت عمري مهرًا. وها أنا الآن أحملها إلى بيتي كالحلم، فإياك والمشاكل، يا حرمة! إياك والتنكيد على البنت! أنت أكبر منها بكثير، فكوني الأعقل! اعتبريها ضيفة عندك، ريثما أبني لها حجرة من أجلها وحدها بعيدًا عن وجهك وجه الطين!
انفجرت الزوجة تبكي، فصفعها، وهي تولول أكثر ما تولول، والنساء يسمعن. كان أبو رقية قد خرج ليسلخ الكبش، بينما هرعت النساء للإحاطة برقية. ولكي تغطي من بقي من النساء على صيحات المأمور المجلجلة وولولات زوجه رحن يغنين:

غندور مأمورنا غندور
أسمر ظريف الطول
من يوم ما خطبنا له
واحنا في هنا وسرور

استمرت زوج المأمور تولول، والنساء يغنين. جرت نحو النافذة، وكشفت صدرها، وهي تولول. جذبها المأمور من شعرها، وهو يصفق النافذة، وراح يسدد بنعله في بطنها الضربات.
- اخرسي، يا بنت الكلب!
تمالكت نفسها عن الزعيق فجأة، وجمجمت مرتعبة:
- خرست! والله خرست!
تركت خالة ميريام النساء، وذهبت عند إسحق محزونة، مدندنة:

قولوا لبوي
الله يخلي اولاده
استعجل علي
وطلعني من بلاده!

صاحت:
- يا إسحق.
رفع إسحق صدره، وهو ينهكه الضنى. لأول مرة بدا على إسحق الضنى. أدار وجهًا يقطر بالعرق، فصاحت خالة ميريام متلوحة بالغضب:
- إنه عرس رقية، وأنت لا تفعل شيئًا؟

جأر الشاويش:
- قلت لك اخرسي، يا بنت الكلب!
غصت المرأة:
- خرست! والله خرست!
فجأة، نهض ضخمًا قويًا أمام زوجته الضعيفة:
- أنا وحدي من يأمر في الدار، فاهمة؟
رددت المرأة بخضوع:
- أنت وحدك من يأمر في الدار!
- أنا السيد المطاع!
- أنت السيد المطاع!
- أنا سيدك وخالقك، أنا ربك المطاع!
- أنت ربي المطاع!
- بدلاً من أن تفرحي لأنني أبقيتك على ذمتي! كان علي أن أطلق امرأة خرفانة جربانة مثلك! كان علي أن أرميك للضباع!
وجأر من جديد:
- امسحي دمعك!
مسحت دمعها بأصابع مرتجفة.
- زغردي!
أطلقت زغرودة.
* * *
خلال وهلة، ظن أنه انتهى! رفع فأسه بقبضة قوية، وزرعها في التراب. لا، لم ينته إسحق، ما دامت فأسه القوية راسخة في الأرض، ما دامت قبضته القوية تلتحم بالفأس. كان مرتبطًا بهذه الأرض الطيبة، وكان راسيًا على صدرها، كانت الأرض أرضه. حقًّاً أخذوا منه رقية... باعوها أو وهبوها، إن الأمر سواء. لكنهم لم يأخذوا حبه، حبه باقٍ ما بقي في عرقه نبض. كان يعرف كم هذا الغرام قد تغير، وهو يتذكر كيف كانت تأتي إليه في الليل، وكيف كان يشتعل على شفتيها الليل! كانت القرية تنام مطمئنة، ورقية تنام على صدره مطمئنة. وهي بين ذراعيه، كان يزول خوفها. لقد قررا أن يصبحا زوجًا واحدًا حتى الموت، ولقد قررا أن يصنعا عشًّا، وأن يأتيا بالأولاد، من أجل أن تكبر سواعد الأولاد، ومن أجل أشياء كثيرة، ولقد أرادا أشياء كثيرة، أشياء صغيرة. فجأة، تبدل كل شيء، بعدما عملت رقية في مزرعة الخواجا. منذ ذلك اليوم، تبدلت رقية، وأصبحت تلك الرقية الأخرى. ومع ذلك، لم ييأس إسحق رغم ألمه. كان يقول لنفسه مشدودًا بأمله: رقية أصيلة. سر الأرض. رقية حبي. لسوف تعود لي في النهاية رقية! لم يعرف إلا بعد أن غدا كل شيء متأخرًا أنهم بالفعل قد أخذوها منه. كلهم: أبوها والمأمور ومستر كلارك والخواجا والباشا وحتى زغلول الأعرج. ولم يعرف إلا في الأخير أن رقية الضحية... لوثن الفخار! لسلطة الفخار! وأن غرامه الحرام في مملكة الطغاة! قال له عواد ذات مرة: حذار، يا إسحق! رقية هذه أخذوها منك! عندما بقي دون أن يفعل شيئًا حاسمًا، أحس بالذنب، وحفره الألم. وللمرة الأولى، تفجرحقده، حقده الحقيقي الوضاح. توقف عن حب من لا يستحق حبه، أبو رقية مثلاً. يا إلهي، أي غبي أنا! فهم الآن أن عليه واجب القتال ضد الماضي ليكسب المستقبل ويهيمن على الحاضر، وذلك بتحطيم ما يسحقه منذ العهد التركي حتى عهد الباشا والخواجا والإنجليز. ولأول مرة، وجد إسحق نفسه يواجه الظلم بوضوح، ورأى بساطير الغرباء تلوث جسد أرضه. نعم، يا إسحق، لتستعيد حبيبتك عليك أن تقاتل في كل مكان، ضد الخواجا والباشا والإنجليز. عليك أن تحطم الأوثان وهذا الحكم المريض، عليك أن تقتلع شجرة الخواجا من جذورها، موضوع البدائل السيئة، وأن تضع حدًا لجشعه النهم، عليك أن تقتلع من الجذور أيضًا شجرة الباشا العفنة لتزرع شجرة الحرية: مهماتك كثيرة ونبيلة. تقدم! أنت لست وحدك، يا إسحق. حلفاؤك الوحيدون هم الأسطى والبندقية وأشجار الزيتون، والأرض ساح القتال. رفع رأسه إلى الشمس، ومسح العرق عن وجهه. كانت الشمس على وشك الغروب. تنهد: آه، يا عيون رقية! يا عيون حبيبتي، نبع وأنفاس المساء! حب الأرض! في الماضي، على زنده كانت ترحل شفتاها، من زنده إلى خصره. وعلى زنده كانت تؤوب شفتاها، من زنده إلى خصره. كان الليل يتغسل على زنده، ويتدفأ ليتساقط مع شعرها الأسود كالشلال. وفي الحال، كان يغمره دفء الحرير، وهو يفكر في الصيف، في سنابل القمح الأسود، وكيف كان طفلاً جسورًا قرب أمه التي لم تكن تفارق المحراث. كان إسحق ورقية يكمنان بين الجدران، فتقترب منهما الجدران. أيتها السماء! هذا ما كانته حرارة البيت، هذا ما كانه حب إسحق، الهدوء، السلام، هذا ما كانته أنفاس أمه، طفولته، البحيرة الصغيرة، شجرة الزيتون. ثم جاءت الزغاريد من بعيد، فتكسرت أزهار الشتاء. استمر إسحق يقلب الأرض ليزرع من جديد كي يتحداهم: رقية له، هذه الزغاريد حلم وهميّ، وغدًا... سيكون عرس رقية والربيع!
مسح إسحق العرق مرة أخرى عن وجهه، ورفع رأسه نحو برتقالة الغروب: كانت الشمس تهتز بين أصابع المساء، والسماء تتلون. كانت الشمس تهتز بين أصابع المساء قبل أن يقطفها الليل، ويلقي بها في عرض البحر. رغم عملية الاغتيال الرهيبة هذه، فكأنه العيد: آلاف الألوان الحمراء، آلاف المراكب المبحرة. رفع إسحق رأسه إلى أعلى، إلى أعلى ما يكون، وهو يقف راسخًا في الأرض. ومن الأعلى، رنت معه آلاف العيون إلى الشفق الغارب. كانت السماء في عيد، والقرية الطيبة تغني ككل مساء. حمل إسحق فأسه ومجرفته، واقترب من بيته، فأخذت الطبول وزغاريد النسوة تصله أكثر وضوحًا. وما أن وصل حتى حط في قلبه غم ساحق، فانحنى بكل ثقله على النافذة، وأغلقها.
طرقات خفيفة على الباب.
فتح الباب.
بسمة.
علا غناء النسوة:

غندور مأمورنا غندور
أسمر ظريف الطول
من يوم ما خطبنا له
واحنا في هنا وسرور

طلب إسحق:
- ادخلي.
خطت خطوة خجلة مترددة:
- أبي يحتاج إليك.
- خير إن شاء الله.
أغلق الباب، فابتعد الغناء.
رفعت عينيها، وابتسمت:
- إنه عرس رقية!
أمام عبوسه، خفضت عينيها من جديد، ثم أضافت بعد قليل من الصمت:
- لم ندعى لا أنا ولا أمي ولا أبي... لا أدري ما يريده أبي منك، كنا في الحقل معًا، فأرسلني كي آتي بك إليه.
- الآن؟
- نعم، هو في طريق عودته إلى البيت الآن.
رماها بنظرة: نحيلة، خجلى. انبثق الغناء من خلف الجدران، ففكر إسحق: إنه عرس رقية!
- هل ستأتي؟
- سآتي.
خلع صندلاً تراكم عليه الطين، وقال:
- اقعدي.
- لا، معلهش.
ضخ الماء من المضخة الداخلية، فتساقط الماء في الطشت. أعطته ظهرها، وهي تتأمل بيت إسحق ككل مرة تأتي فيها عنده، وككل مرة كان يسحرها ذلك:
- لك بيت جميل!
رسمت على شفتيها ابتسامة خجلى، أخذت كرسيًا، وجلست.
- الأرض نظيفة!
انحنى إسحق ليغسل قدميه، ولم يجب، فسألت بقلق:
- لست على ما يرام؟
نظر إليها، وهو يحافظ على انحنائه:
- بلى، أنا على ما يرام.
خفضت عينيها:
- ظننت أنك على غير ما يرام.
وضع إسحق قدمه الثانية في الطشت.
- إن أبي يحبك كثيرًا.
سمع صدى صوتها: إن أبي يحبك كثيرًا. يا لحنان صوتها! لكنه كان مغمومًا... مكروبًا.
- وأنا أيضًا.
في الأخير، رمى صندله في الطشت، وكتل الطين تزول ذائبة في الماء.
- انتهيت.
- لا تسرع، خذ ما تحتاجه من وقت.
غدا الماء غامقًا.
قبل أن يدس قدميه في صندله، نظر إليها أسيان الفؤاد. إنهم هناك... يزفون رقية، وبسمة هنا، الهادئة، اللطيفة، ترتعش شفتاها تحنانًا! من بعثها إلي في وقت كهذا؟
- هل نذهب؟
نهضت دون أن تفوه بكلمة، وهبطت المنحدر معه. كان بيت المأمور يزدحم بالرجال، وبيت رقية بالنساء. وهما يدوران بالبحيرة، سألت بسمة:
- من عادتي أن أغسل هنا...
ترددت:
- إن أردت غسلت لك ثيابك.
أضافت بسرعة:
- لن تسبب لي الضيق، والله العظيم.
ابتسم إسحق:
- أشكرك، يا بسمة.
رآها تتضرج احمرارًا. أعادت بحماس:
- بماذا أحلف لك؟ أبدًا لن تسبب لي الضيق.
- طيب، يا بسمة.
- كل ما شئت وما أردت.
لأول مرة، نظرت في عينيه بشجاعة، فلاحظ إسحق هذا، واغتبط. فجأة، خفضت عينيها، وعجلت الخطى. (( كل ما شئت وما أردت ))، أهذه هي واجبات بسمة حقّاً؟ أراد أن يفهمها ما هي واجباتها الحقيقية، واجباته هو، وواجبات الجميع. لكنه عكف عن ذلك، وهو يرى الكوخ في البعيد.
كان أبوها قد وطئ المصطبة لتوه، نظر إليهما، وهما يقتربان، فقالت بسمة:
- ها هو إسحق، يابا.
حفر التعب وجه الأب.
- هاءنذا، يا أبا بسمة.
وبرزت عظام الرجل بشكل مذهل.
- ادخل، يا إسحق.
خرجت أم بسمة على سماعها صوت إسحق، فرحبت به، وهي تبتسم. رمى أبو بسمة بنفسه على إحدى المطارح، وهو يتأوه، فسأل إسحق، وهو يجلس إلى جانبه:
- ما لك، لا سمح الله؟
تأوه الرجل من جديد:
- تعبان! تعبان، يا ولدي...
- ليكن الله في عونك! أنت ما زلت شابّاً، يا أبا بسمة!
استند أبو بسمة على الحائط، وهو يئن، مادّاً قدميه الموحلتين.
- أي شباب، يا إسحق؟ لقد مضى الشباب وولى!
جثت بسمة قرب أبيها، وخلعت صندله. جاءت أم بسمة بطشت ماء صبته من تنكة، وغسل الأب يديه ووجهه.
- لا تتعب نفسك كثيرًا.
- وكيف نأكل؟
- بسمة عاقلة، دعها تعينك.
- الله يحفظ لي بسمة، بنت ليس لها مثيل! لأبيها ومن أجل أبيها! لا تقصير من ناحيتها، تعينني كزلمة! لن أزوجها من أحد ما بقيت حيّاً. وحدها، مع هذه المرأة (مشيرًا إلى زوجته)، تقاسمني قسوة هذه الحياة.
فركت أم بسمة قدمي زوجها، وأحضرت بسمة منشفة ملونة. ثنت رأسها مصغية لحديث أبيها، دون أن تبدي أقل ابتهاج.
قال الأب:
- ماذا نفعل؟ لقد كتب علينا الشقاء!
انعطف إسحق نحوه دون أن يقول شيئًا.
- طوال عمرنا ونحن نعمل، منذ أن وعينا على الدنيا ونحن نعمل، فماذا جنينا؟
فتح يده، وأغلقها بحركة يأس شديدة:
- لا شيء!
وكأنه تذكر:
- ربما هذا: استطعنا الزواج. وللزواج أيضًا همومه ومتطلباته. ما عدا ذلك، فيد من الأمام ويد من الوراء! ما حوشنا ما عمرنا!
ثم أنهى:
- مشيئتك، يا رب، وإرادتك!
- للأرض سيئاتها.
لهج أبو بسمة:
- آه، يا حبيبي، يا إسحق! سلم الله فمك!
- تمسك بالصبر.
أطلق تأوهة عميقة:
- إيه... الصبر!
هز رأسه على التوالي:
- يا ما صبرنا!
ثم رفع صوته:
- لا تطلب الصبر من الفلاح، وإلا كلمت أسمى صفاته.
حملت أم بسمة الطشت، وأخذت بسمة تجفف قدمي أبيها.
- المهم!
لاح على وجهه ما يوحي بالخطورة:
- بعثت إليك، يا ولدي، لتأتي كي...
قاطعته أم بسمة:
- ماذا تريد أن تشرب، يا إسحق؟ شاي؟ قهوة؟
- لا شيء.
- يجب أن تشرب شيئًا.
- لا تزعجي نفسك.
تدخل أبو بسمة:
- عيب، يا إسحق! اشرب شيئًا.
أمام إلحاحه، قال:
- سآخذ شايًا.
انتهت بسمة، فطوى الأب ساقًا، وترك الأخرى ممدودة. جاءت بسمة بممسحة، وراحت تجمع ما تناثر على الأرض من الطين.
- ماذا أردت أن تقول؟
وكأنه نسي:
- أردت أن أقول...؟
انتظر إلى أن ابتعدت بسمة، ثم قال:
- الحكاية وما فيها أن أخي يوسف أفندي باع نصف الأرض لأحد اليهود الأجانب، وأنا الآن في حيرة من أمري، يا ولدي، ماذا أفعل؟ سامحك الله، يا يوسف أفندي! أهذا عمل يعمله أخ لك من لحمك ودمك؟! والأرض على بعضها لم تكن تكفينا، فكيف لما باع نصفها؟! لا داعي لذكر الضرائب واحتكارات الباشا للزرع والسوق عدا عن الديون وباقي المصائب. وبدل أن يأتي يوسف أفندي كي يمد يد العون لنا، تمدن، وتأنف، وصارت له طباع أهل المدينة اللئيمة، هؤلاء المنافقون، الجبناء، الهرابون. ضرب في عرض الحائط كل ما علمنا أبونا رحمه الله من قيم، وكل ما أورثنا من خصال. ولو عرف أبونا رحمه الله، يا يوسف أفندي، حالك الذي صرت إليه لما أورثك شبرًا واحدًا من الأرض، لكنه على العكس قسمها بيننا بالتساوي! مضت سنون منذ أن هجرنا ولا خبر منه، حتى هذه الأيام الأخيرة. طلب بسمة لابنه مقابل أن يترك لي كل الأرض، فرفضت. قلت لك منذ قليل، ابنتي لي، ولن أزوجها من أحد ما بقيت حيّاً. هي نور عيني وساعدي! ثم، زواجها من ابن يوسف أفندي يعني ذهابها إلى المدينة، وفقداني لها إلى الأبد. وهذا ما لا يقره شرع ولا دين!
المهم، يا حبيبي، يا إسحق، ماذا سأفعل؟ يوسف أفندي باع وانتهى، وهذا اليهودي الأجنبي يطالبني بتسليمه الأرض خلال ثلاثة أيام. الله أكبر، يا إسحق! يعني أن أعطيه قطعة من كبدي. ولتنظر أي ظلم! فلحتها وزرعتها على أمل أن أجنيها مع نهاية الموسم، لكنه يصر على تسليمه الأرض خلال ثلاثة أيام. يعني العوض على العرق والتعب الذي دفعته من دمك، يا أبا بسمة! ماذا أفعل، يا إسحق؟ إذا لم أعطه الأرض أخذها بالقوة. وإذا أعطيته إياها مت قهرًا وجوعًا. هل أوقف محاميًا؟ أنت تعرف أن محاميي اليوم كلهم أولاد حرام! على اتفاق مع قضاة المحاكم للتأجيل، فتبقى القضية معلقة سنين وسنين، كي يبتزوا الفلاح المسكين، موزعين ماله ما بينهم. لا داعي لتذكيرك، كلنا يعرف قضية أبي عيسى حول تقسيم الأرض بينه وبين أولاد أعمامه، كذلك قضية الثأر بين أبي النشامة ودار الزعيم. إذن النتيجة واحدة. يد من الأمام، ويد من الوراء! ثم ما الفائدة في كل هذا ويوسف أفندي باع، وانتهى؟ قال لي اليهودي الأجنبي إنه يريد أرضه. أيام آخر زمن! أتصدق أذناك هذا؟ ذلك اليهودي الأميركاني أو الألماني لا أدري رماه الشيطان علينا من أين، يقول عن أرضي، أرضي أنا وأرض أجدادي إنها أرضه، وأنا من لحمه اتحد بلحمها، إلى حد الذوبان فيها، وأنا من حفظها عن ظهر قلب قطعة قطعة. لم أفارقها، ولم تفارقني منذ سنين، بل منذ دهور، وإذا تركتها إلى فراشي، حلمت بها في منامي.
أنا في حيرة، يا إسحق، لا أدري ماذا أفعل. كأنهم على وشك أن يقذفوني في القبر. أمام حيرتي وهمّي أبدى لي ذاك اليهودي اللعين رغبته في شراء النصف الذي لي لإنشاء كيبوتز، وأغراني بمبلغ كبير من المال. آه، يا إسحق! لنفترض أنني وافقته، وبعت، ماذا سيبقى لي بعد أن أنفق مبلغه الكبير من المال هذا؟ ماذا سيبقى لي وقد بعت الأرض؟ أكون قد بعت الشرف!
كان الليل قد هبط، فأحضرت بسمة مصباح الكاز وهالته الصفراء تزيد وجه أبيها شحوباً. حضّرت أم بسمة الشاي والكؤوس والسكر، وإسحق يفكر: مصائب على مصائب! الجنود الإنجليز في كل مكان، واليهود الأجانب ينتزعون الأراضي بالأموال، ورقية تتزوج من مأمور المخفر. مصائب على مصائب! ماذا باستطاعته أن يقول لهذا الشيخ؟ (( الصبر ))، ولم يعد هناك صبر؟ أم أن يقول له (( تمسك بالإيمان ))؟ كل هذا لا يجدي نفعًا. فجأة، شعت في عينيه أشد ما يشع به ضوء، بندقية أبي سنه وأبي الغزال. هل يقول له عليك بالبندقية، لتدافع عن أرضك بالبندقية؟ هذا إن وجدها، وإن وجدها، فهو شيخ عجوز! وللمرة الثانية، فكر في واجبات بسمة الحقيقية. رفع بصره إليها دون أن يأبه بوجود أبيها وأبوته (( المقدسة )) وكل أفكاره القديمة عن العلاقات العائلية، وصمم على أن يطلب منها العمل معه من أجل أبيها والأرض والجميع.
تلذذ إسحق بشرب الشاي، وهو ينتعش بأمل مفاجئ، وقال لأبي بسمة:
- احتفظ بنصف الأرض الذي لك وإياك أن تبيعه، وسنجد الوسيلة لاسترجاع النصف الثاني.
* * *
في نابلس القديمة، لم يكن قبر يعقوب الشغل الشاغل لأهلها، بينما كان مصير كل اليهودية يتوقف على معرفة إذا ما كانت في القبر رفات أم لا. رفض الحاخام في البداية، لكن ماريك وموزارسكي أكدا له رغبتهما في رفع الغموض عن الأمر تمامًا، فالرق لا يؤكد شيئًا، وكذلك في بعث الطمأنينة في أفئدة المؤمنين إلى الأبد. أعلمهما الحاخام أن اليوم محفل الدمع، وطلب منهما العودة مع منتصف الليل.
* * *
صبَّ إسماعيل الخمر في الكأس، وروب دي شامبره مفتوح عن صدره الأملس. كان يلبس بيجامته الحريرية، وينتعل خفه المخملي. تقدم بالكأس إلى كرسي، وأشعل سيجارة. قفز الكلب عن السرير، والتصق بساقه. كان لسانه لا يكف عن التحرك، وكان إسماعيل لا يكف عن احتساء الخمر، وقذف الدخان، أشعث الشعر، شاحب الوجه. تنزه بنظره على أشيائه العتيقة: صورة أمه الباهتة والظلال الكثيفة وقطع الأثاث الثابتة. لم يكف لسان الكلب عن التحرك، وإسماعيل عن احتساء الخمر، وقذف الدخان.
أنغام.
راح أحدهم يعزف على البيانو.
فتح الباب، فعلت الأنغام. أطل من الأعلى، فرأى هاجر من بين الأعمدة. نزل الدرج ببطء، والحزوز على جبهته تزداد. تبعه الكلب، وفي النهاية، توقف إلى يسار الفتاة. رفعت إليه وجهًا ملائكيًا، فتحركت على شفتيه ظلال ابتسامة راحت تفنى. بقي هناك، مأخوذًا بالمشهد: بهذا الرأس الذي يميل مع الأنغام، بهذه الأصابع اللينة المنسجمة. جرع كأسه، وضغط شفتيه. كم هي فاتنة تلك الصغيرة! تقدم خطوة، وارتكز على البيانو. كانت هاجر شعاعية في قميص الليل، والموسيقى تضرم شفتيها. ترك نفسه فريسة لموجات شعرها الأسود، ولم يشعر بمجيء سارة.
توقفت هاجر عن العزف.
عند ذلك، فطن إلى وجود سارة، وسمع لهثات الكلب، مما سبب له شديد الضيق. أخذت هاجر تطلق ضحكاتها العذبة، وأمها تلفها من ظهرها.
سألت هاجر إسماعيل:
- هل أعجبتك المقطوعة؟
ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال:
- ساحرة!
أضافت سارة دون أن تطلق ابنتها:
- أنت ساحرة، يا عزيزتي!
- إنها آخر مقطوعة علمنا إياها أستاذ الموسيقى.
ابتعدت سارة عنها، وعاتبتها:
- ولكن، يا عزيزتي، أهذا وقت العزف على البيانو؟
قالت هاجر:
- لم يأتني النوم، وكنت حائرة.
التفتت سارة إلى إسماعيل:
- هل أزعجتك، يا باشا؟
رفعت هاجر عنقها اللذيذ:
- أنا آسفة! هل أزعجتك؟
نفى إسماعيل بقوة:
- لا، على الإطلاق.
حط على سارة عينيه القاسيتين: روب دو شامبر وردي، وشعر متراخي. كان يحقد عليها.
- أنا سعيد، بإمكانك أن تتابعي.
ردت هاجر بدلع:
- خلاص. لم تعد لدي رغبة.
نهضت تضم الكلب، وتركته يلحس ذقنها.
- ما اسمه؟
أجاب إسماعيل:
- لا اسم له.
- سأسميه (( سهمًا )). هل أنت موافق؟
- أفضل ألا يكون اسم له.
- لكل كلب اسم. كان لأستاذ الموسيقى كلب يشبهه تمامًا، كان يحبني، وكان اسمه سهمًا.
سألت سارة:
- هل كان يحضره معه إلى المدرسة؟
- لا. كنا نذهب إلى بيته أحيانًا مع البنات.
وغابت في عناق مع الكلب.
رمت سارة إسماعيل بنظرة وجلة، والشك لديها بان كبيرًا:
- كنت في مدرسة داخلية للراهبات، يا عزيزتي، أليس كذلك؟
- نعم.
- إذن كيف كن يسمحن لكن بالذهاب إلى بيت أستاذ الموسيقى؟
- أحيانًا كن يسمحن لنا.
- إلى بيت أستاذ الموسيقى؟ وحدكن؟
لم تجب هاجر، رفعت وجهًا ساحرًا إلى إسماعيل:
- هل أنت موافق؟ سأسميه سهمًا.
- كما تشائين.
وشوشت الكلب، وسارة تقول لها:
- يجب أن تصعدي إلى حجرتك، يا عزيزتي، لقد تأخر الوقت.
- حاضر، يا ماما.
قالت للكلب:
- تصبح على خير، يا سهم.
وتركته يلحس ذقنها. وقفت، وقالت لإسماعيل:
- تصبح على خير، يا باشا.
قبلت أمها من خدها، واختفت بين تماثيل العاج. سمعا خطواتها العجلى على الدرج، فتقدم إسماعيل من خزانة الزجاج، وأخرج زجاجة خمر. ملأ كأسًا، وجرعها، ثم أخرى، وتجاوز سارة، بينما الكلب يصعد الدرج.
- يا باشا!
استدار مخدرًا:
- ماذا تريدين؟
تقدمت منه خطوة، وقالت:
- لا تعتد الشرب.
سألها بجفاف:
- هل هذا كل ما هنالك؟
فجأة، هدمها هيامها به:
- هذا كل ما هنالك.
قال إسماعيل بنبرة حاسمة وسريعة:
- أشكرك.
وأعطاها ظهره.
- تذكرت، حقًا...
توقف، وهو يعطيها ظهره دومًا.
- مرجانة مريضة، وقد أعفيتها من الخدمة ليومين.
- حسنًا.
- إذا احتجت شيئًا، فلا تتردد عن طلبه مني.
صعد الدرج، وسمعت سارة طرقة الباب كالصفعة. أحست بقلبها يضيق، فتأوهت. أطفأت الضوء، وتشبثت بالجدار. سارت منحنية القامة، صعدت الدرج بصعوبة، ومرت بحجرته. كان الضوء يتسرب من تحت الباب، وكذلك من تحت باب هاجر المجاور. اقتربت من بابه، لكنها عدلت عن طرقه. سارعت الذهاب إلى حجرتها الواقعة في أقصى الممر، حجرة الباشا الأب، دخلتها، وأغلقت الباب بعجلة من ورائها.
ألقت بنفسها على السرير، وأنّت: إلى متى سيرفض حبها؟ كان القمر يركض بين الغمام. نظرت إلى الشعاع الثلجي الذي يسقط في الحجرة. كانت النافذة مفتوحة، والستارة تتراخى مع النسمة. كان يفتك بها جحوده، عناده الصغير، طريقته في صدها دومًا كانت تفتك بها. كانت تشعر بنفسها جميلة! جميلة وشهية! لماذا إذن يرفض هذا الجمال؟ لماذا يريد هزمها؟ نهضت، وأشعلت الضوء. اقتربت من المرآة، وراحت تتفحص وجهها: حقّاً، عيناها منتفختان من أثر الدموع. خلعت روبها، ووقفت بقميصها الشفاف فاتنة الجسد، يخر له أشد الرجال فحولة، وتفنى لأجله قبيلة برمتها! أما عن إسماعيل... فقد كان يعلم أنه يعذبها!
تطايرت الستائر مع هبوب الريح، فذهبت تقفل النافذة. وهي تخرج بنصفها العلوي بحثًا عن الدفات، لمحت الحارس واقفًا في الليل تحت النافذة. تراجعت بسرعة مغطية بالستارة نهديها، ثم مدت رأسها بحذر، ونظرت: كالتمثال، لم يكن يتحرك. ماذا يفعل؟ أرادت أن تعرف، فصاحت:
- ماذا تفعل هنا؟
رفع الحارس رأسه بهدوء، وقال بكل بساطة:
- أقوم بالحراسة.
- هنا؟ وفي مثل هذه الساعة؟
- في مثل هذه الساعة، يا سيدتي.
- يجدر بك، في مثل هذه الساعة، أن تكون في بيتك.
تراجع خطوتين، وقال:
- إنها أوامر الباشا. كلفني بفتح عينيّ، وبالبقاء في حالة استعداد دائم...
رأته كيف يقبض على البندقية وإصبعه على الزناد.
-... كي أحمي القصر من الجنود الإنجليز.
لمع وجهه المتوتر تحت ضوء القمر، وبدا شابّاً.
- هل من خدمة أقدمها لك، يا سيدتي؟
بدا عليها التردد، أطلقت الستارة، فسقط الضوء على نهديها.
- لا. افتح عينيك جيدًا كما يطلبه الباشا.
أغلقت النافذة، ولجأت إلى السرير حزينة. لم تزل ترى الحارس بوجهه المتوتر، وقامته الشابة.
تناهى الآن إلى أذن إسماعيل غناء هاجر. كان لها صوت كالبلابل! صوتها والخمر، كان لهما فعل السحر عليه. لم يكن يمكنه مقاومتهما. وضع نفسه في الفراش، واقترب من الجدار بهيئة منكسرة. قفز الكلب عليه لاهثًا، فأغلق إسماعيل له خطمه. انقطع الغناء فجأة، فنزل إسماعيل عن السرير منهكًا، وأخذ جرعة. غادر الحجرة منتفخ الوجه، مشعث الشعر، ووقف أمام باب هاجر. وهو على وشك الدخول، فتحت سارة بابها، فشق الممر ضوء كثيف، مما دفعه إلى الانسحاب إلى حجرته بسرعة. قطعت سارة الممر، ودخلت حجرة ابنتها. خلال ذلك، أفرغ إسماعيل كأسه، وهو يهمهم بتعب وضغينة: أيتها اللعينة! أيتها اللعينة! ارتمى على السرير، ولم يعد يتحرك.
* * *
لم يصمد غطاء القبر طويلاً تحت ضربات إزميلي ماريك وموزارسكي، وضعاه جانبًا، وتراتيل الحاضرين في المحفل تصم الآذان. اجتمعوا في أثوابهم الكهنوتية، وكلهم من أصحاب اللحى السوداء، حول بئر تحيطها جدران عالية مانعة لعيون الفضوليين. وفي زاوية غطيت بكساوٍ منسوجة بخيوط الذهب والفضة، كان جمع من النساء والرجال الذين يضمون أبناء لهم في ريعان الشباب، ويبكون. كانوا يبكون بحرقة، والقمر يومض، وكأنه يبتسم. لم يكن التناقض صفة للطبيعة آنذاك وإنما للفاجعة. هل تسخر الطبيعة من البشر أم أن البشر لا يفهمون كنه الطبيعة؟ كان العبث في تلك اللحظة المصيرية شيئًا لا إرادويًا، شيئًا أقرب إلى اللعب بالروح، لهذا كان ماريك وموزارسكي يقلبان مع تراب القبر كل شيء، المفاهيم والرؤى، ويجعلان من العبث إرادة البشر، وبالتالي التخلص منه، فالخلاص الديني هو هذا، التخلص، التخلص من العبث، والتخلص من التبرير، وذلك لأجل الوصول إلى التخلص مما يوجب التبرير، فيعود الموجود إلى حريته في وجوده الحر الأول.
على أكوام التراب التي أخرجتهما مجرفتا موزارسكي وماريك دون الوصول إلى الرفات، بدأ الحاخام يشك فيما لم يشك فيه أبدًا، فأغمض عينيه، وذهب في صلوات لم تنته إلا على تصاعد نشيج الآباء والأمهات، وهم يرون أبناءهم وبناتهم يلقون في البئر كما ألقى أخوة يوسف يوسف. انسكب الدمع كيلا يجف كما جف في عيني يعقوب بعد أن ذرف من الدمع أقصى ما استطاع عليه. كانت هذه هي الغاية، ألا يتوقف البشر عن البكاء، ألا يتوقفوا عن الخضوع للدمع، لدمعهم هم أنفسهم، ألا يتوقفوا عن الخضوع للفاجعة، لفاجعتهم هم أنفسهم، الفاجعة التي هم صانعوها.
ألقى ماريك وموزارسكي مجرفتيهما يائسين، فأخرج الحاخام مسدسًا صغيرًا من جيبه، وانتحر. كانت الطلقة على الرغم من صغرها مهولة، زلزلت الأرض تحت الأقدام، فسارع بعضهم إلى المجيء، والوقوف على السر الخفي. رموا القتيل في الحفرة، وذهبوا بالصديقين إلى المحفل الذي قرر بالإجماع قذفهما في البئر، وهذا ما وقع بالفعل.
* * *
انطلق صادق بمسز كلارك في سيارته الفورد الجديدة على الطريق القادمة من القدس. ركض القمر على الغيم، واحتدت النسمة.
هتفت مسز كلارك:
- رحلة ممتازة!
سأل المهندس صادق:
- هل أعجبتك سيارتي الجديدة؟
- كثيرًا. أنت سائق ماهر!
- أخذت رخصتي في المغرب على أمل أن أشتري سيارة. جرى ذلك منذ مدة.
- أنت سائق جيد!
دخلا القرية، ومن حولهما لفت أذرع الليل الشجر.
قال المهندس صادق:
- سنشرب الشاي عندي.
قالت مسز كلارك:
- لن أطيل البقاء إذن.
جاءتهما أصداء واهنة لطبل وغناء.
- أتسمع؟
- إنه عرس. منذ الفجر، وهم يطبلون ويغنون.
- متى ستتزوج؟
- لا أفكر في هذا الآن.
- ألم أقل لك؟
- ماذا؟
- سنرحل قريبًا.
أوقف السيارة أمام بيته، واستدار إليها، وقد فاجأه الخبر.
- إن مهمة زوجي على وشك الانتهاء.
خرج من السيارة، وأغلقها بالمفتاح، وراح ينظر إليها من كل جانب. اجتازت مسز كلارك السياج سابقة إياه، والغناء الواهن يروح في الليل. خرج لها المنجم فجأة من بين الأغصان، فأطلقت صرخة أوقفها بيد على فمها. جاء صادق يجري:
- ماذا أصابك؟
عندما راى المنجم، قطب حاجبيه، وشدد من نبرته:
- باسم صهيون، ماذا تفعل هنا؟
قال المنجم بإجلال:
- كنت بانتظارك، يا مولانا.
- أهذا وقته؟
- الأمر يهمك، يا مولانا.
قال المهندس صادق لمسز كلارك:
- اسبقيني وسألحق بك.
مد لها رزمة المفاتيح:
- هذا هو المفتاح.
ذهبت مسز كلارك بخطوات عجلى، وسأل المهندس صادق المنجم دون أن يبارحه عبوسه:
- ماذا تريد؟
أخذ المنجم يبحث في جيبه الداخلي، بحركة مهتمة ومتحيرة. في الأخير، أخرج حزمة من النقود:
- جئت من أجل هذا.
تردد صادق في البداية، وضوء القمر ينعكس على ورق النقد. مد يده، ودفع ورق النقد في جيبه. أعطاه ظهره:
- إلى لقاء قريب.
- يا مولانا...
التفت إليه.
- توقف الدينمو من جديد، يا مولانا.
وهو يرفعه في سلة لم يدر صادق من أين جاء بها. أخذ السلة بسرعة، وقال:
- طيب، سأصلحه. مر عندي غدًا مساءً.
أطلق المنجم ضحكة بدت لصادق شيطانية، وقال مبررًا:
- هذا بسبب الزبائن. كانوا كثيرين!
توقف عن الضحك، ثم:
- كن مطمئنًا، لقد قسمت النقود بالتساوي.
سأله صادق بخشونة:
- هل هناك شيء آخر؟
- لو تصلحه لي في الصباح، يا مولانا، فأنت تعرف أن العمل...
قاطعه:
- حسنًا جدًا، مر غدًا صباحًا.
وسار باتجاه بيته.
- أسعد الله ليلتك، يا مولانا.
انطلق يضحك من جديد، مما دفع المهندس صادق إلى أن يحث الخطى. دخل البيت، وأغلق الباب. سأل مسز كلارك:
- لماذا لم تشعلي المصباح؟
- لم أجد كبريتًا.
بحث في جيبه عن علبة الكبريت، وأشعل المصباح. كانت تستلقي على السرير.
- تعبة؟
- قليلاً.
استندت على مسند السرير.
- ظننته واحدًا منهم.
- ممن؟
- الثوار.
قهقه المهندس صادق:
- أتصدقين تلك الخرافة؟
- هم يتزايدون بكثرة هذه الأيام.
أشعل سيجارة، فانتشر الدخان.
- هذا ما قاله لي زوجي، وهم يترصدوننا.
لم تبارحه هيئته الساخرة:
- هيا! هيا!
لكنها انفعلت:
- لا تستهن بالأمر.
جلس المهندس صادق على حافة السرير، وقال:
- إنهم حفنة من رجال لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين.
- أنت غلطان! هم الذين كانوا وراء مظاهرات القدس والخليل الأخيرة. كانت مظاهرات عنيفة، وقد سقط بعض القتلى.
بقي صامتًا.
- لماذا لا تقول شيئًا؟
- لا علاقة لي بالسياسة.
انفعلت من جديد:
- ولكن... يجب...
تبدت لها بنادق الثوار، ثم تركت نفسها تزلق مطلقة زفرة. بعد لحظة، قالت:
- لولا تدخل الهيئة العربية العليا لتدهورت الأمور كثيرًا.
- قلت لك، يا عزيزتي، لا علاقة لي بالسياسة. يهود، عرب، إنجليز... وماذا أيضًا؟ هذه الهيئة العربية العليا ليست عربية إلا بالإسم، لأن كل أعضائها فلسطينيون. وإذا أردت رأيي، عرب، يهود، إنجليز، كل الأطراف على خطأ. حقًّا إن هجرة اليهود تثير المشاكل، ولكن يجب أن نصل إلى حل بالاتفاق معكم دون اللجوء إلى العنف.
- هذا ما كان يقوله زوجي منذ سنين. اليوم، الوضع تبدل، وتأزم تمامًا. أنا، يا عزيزي...
وضع أصابعه على شفتيها، وابتسم:
- لا سياسة معي.
تراجعت:
- ولكن...
ضغط شفتيها، فقالت:
- كما أردت.
بعد قليل، سألها قلقًا:
- هل صحيح ما قلته لي عن رحيلكم؟
- هذا ما قاله لي زوجي بالأمس.
- ألم يكن مسافرًا بالأمس؟
- عندما عدت إلى البيت وجدته بانتظاري. يحصل أن يسافر ويعود فجأة. لقد غادرنا بعد ظهر اليوم لاستقبال شخصية هامة في مطار القدس بصحبة المندوب السامي.
لم يكن المهندس صادق يسمعها. كان غائبًا.
- إلى أين ستذهبون؟
- لست أدري على التحديد. إلى إحدى محميات الخليج.
- الخليج!
- أجهل أية محمية على التحديد.
أطفأ المهندس صادق سيجارته، وأصغى: كانت الزغاريد تخترق الحجرة على دفعات متماوجة، تارة بحدة، وتارة بوهن.
- تستمر الأعراس حتى الصباح... لقد حضرت أحدها في يوم...
- لماذا لا تأخذونني معكم؟
- معنا؟! إلى الخليج!
- الخليج نقود كثيرة، نقود لا أكثر منها، سأعمل في إحدى شركات البترول.
ندت عنها ضحكات متتالية، فاحتدت نبرته:
- لم لا؟
صمت.
بعد قليل، قال المهندس صادق:
- ولكي نبقى معًا.
انطلقت مسز كلارك تضحك من جديد حتى كاد يغمى عليها. أخذها من خاصرتيها، ونفضها، فتسمرت.
- ماذا قلت؟
- هذه آخر ليلة لنا معًا.
جاءتهما صيحات قوية جدًا من الخارج:
- يا مستر صادق! يا مستر صادق!
هب المهندس صادق إلى النافذة قافزًا، وراح يفحص بعينيه القلقتين الأغصان المعتمة. نصب أبو العبد البندقية، وأطلق، فسقط الغريم. فجأة، توقف الطبل والغناء، وصرخت مسز كلارك. تدلى المهندس صادق بنصفه الأعلى خارج النافذة، وسال الدم من جبهته أسود على الجدار. هرعت مسز كلارك هاربة، وخبط أبو العبد قدمه على الطريق القائمة بين الأشجار على غير هدى.
* * *
عجلت النساء الفضوليات الخروج إلى المصطبة على أثر طلقة الرصاص، وكذلك فعل الرجال المجتمعين في بيت المأمور. كان الهدوء شاملاً، وفجأة، انبعث نقيق الضفادع. كانوا يحدقون كلهم في الليل مبهورين، أربكهم أن يتساقطوا في الليل على مثل هذه الحال، بينما يفتهم لغز الرصاصة. لم تصدق رقية عينيها، كانت وحدها، تركتها النساء إلى الظلام، وها هي تجلس والمصباح في ثوب العرس. كان الباب مشرعًا، والنافذة مشرعة، والصمت خياليّاً. قطعت قرارًا: نهضت بحذر، واقتربت من النافذة. كانت الحقول تترامى على مد النظر، وبين مكان ومكان تترصع بالقمر. دلت قدمها من النافذة، وقفزت. أخذت تركض بأقصى ما أوتيت من قوة.
مجانين أولئك الذين يؤمنون بالمعجزات! عجلت عجوز السابعة والسبعين بالدخول. لقد اختفت رقية! ضربت صدرها، واتجهت بخطواتها البطيئة المتحطمة لتطل من النافذة. هبت الأنسام محركة بعض الأغصان. فجأة، أخذت تصيح عاليًا، فدق الرعب قلوب الكل، وجاءت النساء يجرين:
- ماذا هناك؟ ما لك؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! بسم الله عليك!
ولولت العجوز:
- هربت رقية!
سارعت النساء إلى داخل البيت كي يتأكدن، وعلا صوت الأب من الناحية الأخرى:
- ماذا هناك؟
راحت بعض النساء يلطمن، ويصوتن، فهرع أبو رقية والمأمور وبعض الرجال، والمأمور يسأل بصوته الأجش:
- هل من مكروه؟
ناحت امرأة:
- يا ليلة سوداء!
- أتخرفين، يا امرأة؟
- يا عارك، يا أبا العروس! يا عارك وعار أجدادك!
وقفوا مع النساء وجهًا لوجه مذهولين:
- ما الخبر؟
دقت امرأة صدرها، وصاحت:
- هربت رقية، هذا هو الخبر... هربت رقية!
ودبت على الأربع وهي تصوت.
تهاوى الأب لولا أن أسندته بعض الأيدي. تعلق بذراع المأمور، وقال بصوت هالك:
- انبش الأرض بحثًا عنها، وجدها لي كي أغسل عاري. لن أدافع عن شرفي إلا إذا أسلت دمها كدم النعجة الحلال. جدها لي، يا مأمور المخفر.
صفقت الريح شاربي المأمور، وأوداجه الضخمة ترتج على وقع أقلها كلمة. استدار، واللهب يحرق له الكيان، ونادى على رجاله. جاء إسحق وسائر الرجال، أوقد البعض المشاعل، ثم تفرقوا في البيارات والحقول بحثًا عن رقية.
* * *
وقع حوافر.
كان الجنود الإنجليز ينسحبون إلى مشارف القرية عندما أطلق أبو العبد الرصاص، فانطلق قسم من الفرسان إلى بيت المهندس صادق، وأبو العبد يخبط قدمه في الأرض لاهثًا بين الأشجار. اجتاز ثلاثة منهم السياج إلى النافذة: دم أحمر لوث الليل! سحب جندي جسد المهندس صادق من ياقته: ثقب غائر في الجبين، والوجه لطخة. تركه يسقط، وسارع جميع الفرسان يعدون عبر الأشجار. سمع أبو العبد وقع الحوافر. أية أبالسة! كانوا يجرون في أعقابه منذ عام 36، منذ الحرب العالمية الأولى، بل قبل ذلك، كانوا يريدون قتله! لا، لن يقدروا على قتله، ما دام يتشبث بسلاحه. سينتصب كالصخرة في وجوههم، والسلاح بين يديه، قويّاً على الرغم من سنه. توقف في قلب الشجر، دفع سلاحه على كتفه، وراح يفتح عينيه الشيختين في الليل الثخين. سيرديهم برصاصاته قتلى الواحد تلو الآخر، وسيظفر بالحرية. دمدم: تعالوا! يا أبالسة تعالوا! ضج وقع الحوافر. رآهم، وهم يخرجون من قلب الظلام، وأطلق... فسقط أحد الجنود، ومعه عبء الاحتلال. وعلى الرغم من نصره المبين هذا، حاصرت أبا العبد فوهات النار من كل صوب.
* * *
تعلق ماريك بجدار البئر، وكذلك فعل موزارسكي، والقمر ينعكس عن الماء كما ينعكس عن مرآة.
- أنا لا أعرف العوم، يا ماريك، قال هذا الأخير.
- ماذا سنفعل إذن؟ سأل ماريك.
- اغطس أنت في الماء ربما وجدت منفذًا.
- وإذا لم أجد؟
- ستنفق أنت غرقًا، وسأنفق أنا غرقًا مثلك بما أنني في آخر المطاف سألقي بنفسي في الماء.
وبينما هما بين أخذ ورد، انشق ماء البئر عن وجه ماريشيا، فصاح ماريك بذهول:
- ماريشيا!
ثم انشق ماء البئر عن وجه بولينا، فصاح موزارسكي بذهول أيضًا:
- بولينا!
قالت ماريشيا:
- لا وقت نضيعه...
أضافت بولينا:
- اغطسا من ورائنا.
تردد موزارسكي، وتلعثم، فأوضح ماريك:
- موزارسكي لا يعرف العوم.
صاحت بولينا:
- اقفز، يا موزارسكي.
قفز ماريك، وغطس من وراء ماريشيا، وبولينا تصيح من جديد:
- هيا اقفز، يا موزارسكي، ولا تخف.
أغمض موزارسكي عينيه، وقفز، وهو يصرخ، وغاب عن الأنظار. لحقت بولينا به، وجرته. مضوا بجثث انتفخت، وعلقت بطحالب تتغذى على الجثث. ظلوا يعومون حتى منفذ خرجوا منه، ووجدوا أنفسهم في حمام لا أحد فيه مسكون بظلال الأجساد العارية.
في الخارج، كانت سيارة الفتاتين بانتظارهم، ركبوها، وعاد أربعتهم إلى القدس.
* * *
سأل فلاح بحذر مشوب بالخوف:
- أسمعت؟
- سمعت.
- طلقات رصاص.
- ماذا؟
- طلقات رصاص.
- تقول طلقات رصاص؟
- طلقات رصاص.
- يوم القيامة، يا عبد الستار!
- إلى أين تغذ الخطى؟
- إلى الغدير.
- ورقية؟ ألم تعد تريد البحث عن رقية؟
لكنه ابتعد في الظلام، والآخر يرفع المشعل صائحًا:
- هيه! إلى أين أنت ذاهب؟ انتظر!
جاء صوت من بين الأشجار:
- لماذا تصرخ في الليل؟
ارتاع:
- أين أنتم؟ ذهب وتركني.
لكن الصوت ألح:
- لماذا تصرخ في الليل؟
أجاب جاره:
- ألا تعرف؟ إنها المرة الأولى التي يصرخ فيها في الليل.
ناداه:
- نحن هنا، على شمالك، تعال.
اتجه نحوهم على غير هدى. قال أحدهم:
- لا أثر لرقية. أين تراها ذهبت؟
قال ثان:
- الظلام شديد!
قال ثالث:
- لقد اختفى القمر.
جاء رجل المشعل.
- ها هو، مع مشعله.
سأل رجل المشعل:
- أنتم هنا؟
- تقدم، مع مشعلك.
- لا نبتعد عن بعضنا البعض، لنبق معًا.
ابتعد صوت في الليل:
- الظلام شديد!
أكد صوت آخر، وهو يطلق نفسًا عميقًا:
- الظلام شديد!
صاح صوت ثالث بحامل المشعل:
- لا تذهب إلى الغابة. الظلام شديد!
همهم إسحق: الظلام شديد! ذهب بناظره إلى البعيد: البرتقال الأسود، والحشيش الغامق، وأقدام القرية التي تطأ التراب بحثًا عن رقية. أحقًّا لغسل العار هم يبحثون عن رقية، أم لغسل الشرف والوقوع على النفس، لقاء الأنا، والتشبث بها؟ قبل أن تهرب رقية، كان قد فقدها وحده، أما في الوقت الحاضر، فقد فقدها الجميع. وها هم يعجلون الخطى في الليل الدامس، وهم يبحثون عنها. وها هم يعون في هذا الليل الدامس أن لشروق الشمس قانونًا.
قال أحدهم:
- هل نذهب من هنا؟ هذا عرق مكسور.
- لنذهب.
- افتح عينيك جيدًا، وانظر في كل صوب.
في كل صوب، كانوا يخترقون الأشجار، ويوغلون في الطين. غاب القمر مذ غابت، وازدادت كثافة الغيم. إلى متى سيبحثون عنها؟ هل الرصاصات التي انطلقت جواب السؤال؟ والسؤال هذا، هل يعرفون جوابه؟ لا تنتهي الأسئلة في رأس إسحق. وانتهى إلى هذه الحقيقة: لم تعد رقية له. لم يكن غاضبًا. إنها الآن لجميع الفلاحين. حتى ولو وجدها هو، فسوف يجدها لهم. وتبدت له صورة أبي بسمة، وهو يغرق في الطين. لقد قضى عمره، وهو يغطس في الوحل، وقد ذبح عمره، وهو يغطس في الوحل، والآن يقول إسحق لنفسه لا بد أن أبا بسمة في مكان ما من القرية، يسحب قدميه من الوحل بحثًا عن رقية.
- تعال، لندخل هنا.
علق أحد الخفراء:
- المغارة معتمة!
- لدي مشعل، فتعال.
- ادخل أمامي.
ارتسمت خيالات على الجدران.
- رائحة موتى!
- إنها رطوبة الجدران، تقدم.
- ما هذا؟
تسمرت قدماه:
- دم على البرميل!
دفعه بذعر:
- انظر في الداخل.
- أتكون رقية انتحرت؟
اقترب بالمشعل.
عينان ميتتان وفم مفغور.
- يا إلهي!
- من؟ الخضرجي!
سارعا إلى الخروج، وصاحا بالفلاحين:
- قتيل! قتيل!
خطوات خفيفة على الأرض. صاح مأمور المخفر:
- ماذا هنالك؟
- قتلوا الخضرجي!
هبوا إلى داخل المغارة بمشاعلهم.
خيالات.
- هذا صحيح!
- يا إلهي!
- طعنة سكين!
- من القاتل؟
توجه المأمور بالحديث إلى اثنين من رجاله:
- احملاه إلى المخفر، وغدًا سنحقق في الأمر.
قلبا البرميل، وحملاه من يديه وقدميه.
وصل إسحق إلى تخم الغابة، فجاءه حديثها. كان يعرفها جيدًا منذ كان طفلاً، كانت عالمه الغريب، وها هو يدخلها الآن، مدخلاً معه عالمه الآخر. كانت أحاسيسه واحدة، الفرق أنه لم يعد طفلاً. يا رقية! ناداها دون يفتح فمه. هل يمكن أن تكون هنا؟
سأل أحدهم:
- هل تعرف سر الطلقات؟
توقف الآخر، وهو يبدو عليه الذهول:
- دعنا ندخل الغابة.
استمر إسحق يوغل في الغابة. كانت أمه تنهره بحنان: (( إياك أن توغل في الغابة، هناك أشباح وغيلان! )) لكنه أوغل فيها دون أن تعرف، وعرفها شبرًا شبرًا: شجرها وحيوانها. كان صديق كل الأرانب البيضاء، عرفته الطيور وألفته، وشاركها الغناء.
توقف حديث الغابة فجأة، في اللحظة التي دعست فيها قدمه بقعة دم ضاعت منه طفولته البريئة، وانتهت كل علاقة له بعالمه البريء. هذا العالم الحاضر لهو عالم دموي ذو أسنان ماضية تريد قضمه والتهامه. رفع قدمه، وحط بأصابعه على جذع شجرة، فسالت من بين أصابعه قطرات حمراء. يا إلهي! هل يقتلون عالمه؟ هل يذبحون ماضي الطفل الذي كانه؟ هل يتمادون على حاضره بسكاكينهم ليزرعوا فيه الأنصال؟ هب إليها، وهو يعصف كالريح. وجدها ملقاة على طرف المستنقع. أطبق أحدهم على قلبه فكيه وانتزعه. كانت ميتة! كانت الأنصال تخترق جسدها، ونبع أحمر يسيل من شفتيها. يا إلهي! أية كارثة حلت في القرية! رفعها بين ذراعيه، وسارع إليهم، تاركًا من ورائه الغابة.
جاء اثنان أو ثلاثة يعدون، فهز قلوبهم كل هذا العنف، وصاحوا بالآخرين ليتجمعوا. خبط مأمور المخفر قدميه في الأرض، ووقف أمام الجسد المطعون كتمثال الورق. عندما فطن إلى نفسه، أخذ يصيح:
- القاتل! يجب أن نلقي القبض على القاتل!
تشنجت تعابير إسحق، وسارع بحمله إلى بيت رقية، إلى عرس الدم. اجتاز مأمور المخفر الغابة مع بعض الرجال، وبعضهم الآخر تبع إسحق عن كثب حتى المنحدر. سبقه فلاح شاب، وضاع بين النساء.
صوّتت امرأة، وهي ترى إسحق يصعد المنحدر. لطمت أخرى، وهي تولول. كان الأب قد اعتمد على حطامه، وتقدم بوجه نصف ميت. توقف إسحق لحظة أمامه، ورقية بين ذراعيه. الربيع مات! الينابيع الحمراء أعطت حتى جفت. ارتعشت شفتا الأب ويداه، وانطفأ وجهه الشيخ. امتدت بعض الأذرعة حاملة إياها إلى الداخل، وعلت أصوات الموت مصحوبة بالعويل. لطمت امرأة حتى أدمت وجهها، وهي تردد باكية:
- قتلوني، يا رقية... قتلوني!
* * *
قالت لولا وسونيا للأصدقاء الأربعة بعد أن اغتسلوا وبدلوا ثيابهم:
- تعالوا نقدم لكم سارة، نزيلة جديدة في بيت الهوى.
- سارة؟ قال ماريك، يا له من اسم جميل.
ضحكت بنتا الليل:
- وصاحبة الاسم أجمل!
- هذا سيثير الغيرة لدى بولينا، قال موزارسكي.
- اطمئن، يا حبيبي، قالت بولينا، الجمال لا يثير الغيرة لدي بل الإعجاب.
- وأنت أيضًا، يا ماريشيا، سأل ماريك، الجمال لا يثير الغيرة لديك؟
- الجمال يثير الإعجاب لدي، أجابت ماريشيا، وأحيانًا الخوف.
- الخوف! استغربت سونيا ولولا، الخوف لماذا؟
- كل جمال حقيقي يثير الخوف، وضحكت ماريشيا، يكفي النظر إلى ما في عيني ماريك وموزارسكي عندما يتأملان جمالنا أنا وبولينا.
ضحكوا كلهم.
- الخوف عليكما، علقت سونيا ولولا، أما الخوف منكما، فهذا أمر آخر يبدو أن سره في قبره.
ضحكوا كلهم من جديد، وخرجوا إلى القاعة، حيث كانت هنا وهناك بنات الهوى نصف عاريات مع عدد من الزبائن.
- أين سارة؟ سأل الصديقان بتلهف.
- تلك القادمة.
أجابت سونيا ولولا.
بهت أربعتهم لجمالها، ولم يجدوا لجمالها وصفًا: قدسي؟ نوراني؟ ما ورائي؟ كان الجمال في بعده المطلق. سلمت سارة عليهم بخجل، وعلقت على تعليقاتهم في مدح جمالها:
- ربما لأنني لست سارة واحدة، فأنا عدة سارات، وجمالي أكثر من جمال، إنه جمال عدة نساء.
ذهل ماريك وموزارسكي للتعليق الذي قامت به الفتاة، فطلبا شمبانيا، وذهبوا يجلسون كلهم في الصالون الأحمر.
سألت ماريشيا:
- إذا كنتِ عدة نساء في واحدة، فكم هو عمرك؟
ضحكت فتاة العشرين بخجل لا يبارحها، وقالت، وهي تلامس سلسالاً انتهى بنجمة سداسية:
- هل أدهشك إذا ما قلت لك إن عمري أكثر من أربعة آلاف عام؟
ضج الجميع مرددين:
- أربعة آلاف عام!
- أنا زوجة إبراهيم، رمت الفتاة لتزيد من الأمر غموضًا.
- زوجة إبراهيم!
- هل سمعتم عن امرأة عجوز وعاقر تأتي بالأولاد؟ هل سمعتم عن رجل عجوز ويائس يأتي بالأولاد عمره قرن أو يزيد؟ هو أيضًا عدة رجال في واحد، هذا إذا ما لم يكن وهمًا وخرافة.
- أفضل أن يكون عددا من الرجال جمع الناس أعمارهم أو عددًا من القبائل كانت تحمل اسمه عاشت بقدر ما يقال إنه عاش على أن يكون وهمًا أو خرافة، قال موزارسكي.
- وإذا ما كان بالفعل وهمًا أو خرافة؟
جاءت الشمبانيا، ففتح ماريك الزجاجة، وصب أمتع ما في فرنسا من شراب الحب في الكؤوس، وهو يقول:
- وما الفرق في ذلك؟ أن يكون وهمًا أو خرافة أو أعدادًا بالغ الناس في جمعها أو حتى ولو كان فكرة، المهم أن تمشي الفكرة، وهي تمشي.
- ليس إلى الأبد، قالت الرائعة سارة.
- لنشرب نخب سارة عمرها أربعة آلاف عام، قال ماريك، وهو يوزع الكؤوس.
- ليس إلى الأبد لماذا؟ سألت بولينا حائرة.
لم تتردد سارة، أخرجت من بين ثدييها قطعة من الرق مطوية، وكشفت:
- أعطاني إياها أحد الزبائن بعد أن مارس الحب معي، قال لي إنه إبراهيم، بحث عني في كل أرجاء الأرض إلى أن وجدني كي أحبل منه، فآتي له بإسحق ابنًا، آخر إسحق في الوجود بعد أن يأتي أحدهم، ويكشف عن السر الذي في قطعة الرق هذه. عندما أخبرتني لولا وسونيا بقصتكما، قلت أنتما يمكنكما ما لا يمكن غيركما من الناس.
حمل موزارسكي قطعة الرق بيد راجفة، وفتحها، ثم ما لبث أن دفعها إلى ماريك.
- أية لغة هي؟ سأل ماريك، وهو ينفخ عناء.
- الكلدانية، أجابت سارة.
- أنا أفك الكلدانية، قالت ماريشيا، وهي تأخذ الرق من يد حبيبها، ألممت بأصولها في هارفارد.
نفخت ماريشيا بعد أن قرأت، وهي تهز رأسها:
- سري في قبري.
نظر الجميع إلى سارة التي كانت تشرب كأسها على مهل، وتبتسم أجمل ابتسامة في الوجود.
* * *
أسرج إسحق حصانه، وامتطاه، فاتجه الحصان إلى باب الإسطبل. كان يعرف مرمى فارسه، وما هو واجبه. قبض إسحق على مشط الحصاد، وانطلق صوب الغابة.
ابتعدت الأشجار عن طريقه ليسهل عبوره، وشق القمر الغيم ليضيء له الطريق. لم يزل دم الضحية ساخنًا، والقاتل حرًا. هذ الدم الغالي الذي تفجر نبعًا ليخصب حبك، يا إسحق، وقوتك. ضرب الحصان الأرض بحافره، فخفق قلبها، ثم هدأ. كان قلب الأرض يخفق، ثم يهدأ، كلما كان حصان إسحق يضرب بحافره بين أغصان الأشجار. دروب الغابة هذه كان إسحق يعرفها كلها، لكنه لم يعرف إلا الليلة قانون الغاب. وها هو في صدد التغلب عليه، واقتلاعه، لأن القرية في خطر. رأى بعض الرجال مع مشاعلهم، وهم يبحثون بدورهم، عن رقية منذ قليل، أما الآن، فعن قاتل رقية. آه، يا أهل قريتي الطيبين! لماذا ارتكبتم هذا الخطأ؟ أما كان من اللازم أن تبحثوا عن القاتل أولاً فرقية؟ أما كان من اللازم أن تزرعوا أنصالكم في قلب القاتل قبل أن يزرع القاتل نصله في قلب رقية؟ كان الظلام شديدًا، وأنتم تتغطون بطيبتكم الشديدة! أنا... اختلط عليّ الأمر، وأخطأت الحساب.
بدت آخر دروب الغابة الضيقة. انطلق الحصان في الحقول. كان الهواء البارد يبعثر شعر إسحق، وهو ينطلق كسيف الثلج القاطع النقي. وكانت الحوافر الواثقة تقطع الطريق المؤدية إلى البيارات، فانتشر في الهواء عطر البرتقال والمندلينا والتفاح الأحمر. كان عطر جسدها المغتال بين ذراعيه، وكان إسحق يشرق بهذا الأمل: رقية تحيا، لم تمت!
حث إسحق حصانه على العدو أكثر، ليصل اليد التي قتلت، فيزرع في كفها مشط الحصاد. ليحفظ بسمة. كانت غايته في الوقت الحاضر: ألا يقع لبسمة أي سوء. كانت غاية القمر الذي أضاء فجأة. سر الأرض كانت تعرفه الحوافر، فارتفع الصهيل، وشد إسحق على اللجام. كان كلانا ينكر الموت ابن الجريمة، لكن للموت شرفًا تدافع عنه، أنت، يا حصاني! فلتنطلق! انطلق، يا حصاني!
اخترق البيارات، وتنقل بين الأشجار التي كانت أوراقها الرطبة تأتي لتحتكّ بجذعه. أيمكن أن يختفي القاتل دون أن يترك أثرًا؟ أيمكن أن تمحوه الريح، وتطويه الأرض؟ تأمل الأرض جيدًا، وجه رقية والنبع الأحمر السائل من ثغرها. فجأة، وقع على آثار في الطين امتدت حتى أرض أبي سنه، وامّحت ابتداء من هناك. ما أن وصل حتى رأى رجلاً يجري في الظلام إلى السياج. انطلق الحصان، وحفرت الحوافر الأثلام، بينما علا مشط الحصاد أعلى ما يكون في يد إسحق.
- قف!
لقد عرفه.
- قف!
ابن الخواجا.
يا إلهي! كان الدم يرشق صدره وقبضتيه. دار ليختبئ بين شجرات تين عارية كذراع إسحق التي تعلو بالمشط. تبعه إسحق حتى الطريق الترابي، وتمكن من حصاره. استل ابن الخواجا خنجرًا مدمى. وفي اللحظة التي انقض فيها على إسحق، شب الحصان، وهو يصهل. كان إسحق قد زرع مشط الحصاد في عنقه. لقد قتل القاتل. سحب المشط، وعاد إلى بيته. ومن بعيد، علا الصهيل.

بينما كان عدد من الفرسان الإنجليز يقطعون الطريق التراب، وجدوا هنا وهناك جثث بعض الأرانب الذبيحة دون أن يهتموا بها إلى أن صاح بهم قائدهم آمرًا بالوقوف، وهو يرفع يده ذات القفاز. كانت جثة ابن الخواجا تعيق العبور. ترجل اثنان، وتقدما بحذر. اقترب ثالث بحصانه: فارس عربي عجوز من العهد التركي.
- هل هو ميت؟
قلبه على ظهره، وقال:
- مقتول. هل تعرفه؟
قال الآخر:
- لا.
ترجل الفارس العجوز:
- أنا أعرفه. هذا ابن الخواجا داوود.
- ماذا سنفعل به؟
دارت الأحصنة بالقتيل.
- سننقله إلى مزرعتهم. إنها في طريقنا. وسنفتح تحقيقًا.
حمله الرجلان. قال الفارس العجوز:
- انتظرا حتى أصعد، واربطاه من ورائي.
ثم... صاح القائد:
- ها...ه!
مشيرًا بيده إلى الأمام كي يتقدموا.
خرج حارس الخواجا، وفي فمه غليون. وقفوا أمامه دون أن يفوهوا بكلمة. ترجل الفارس العجوز، وسحب الحصان بحمله، ففغر الحارس فاه.
قال الفارس العجوز:
- كنّا ننسحب عندما وجدناه مقتولاً في الطريق الترابي الذي يشق أرض أبي سنه.
ترجل فارس ثان لحمل الجثة.
- ها نحن نودعكم الجثة، وسنفتح تحقيقًا.
والحارس يحدق مذهولاً.
صعدا من جديد، ونبر الفارس الثاني:
- لا تقف مكتوف اليدين، اذهب في طلب من يحمله.
تعالت أكثر من صيحة في الفروسية تعني إلى الأمام بينما هب الحارس يجري إلى الداخل لينقل الخبر إلى الخواجا.
* * *
عزمت بولينا وماريشيا على مرافقة موزارسكي وماريك إلى الحرم الإبراهيمي، وذلك من أجل الحيلولة دون تعرضهما للخطر، فوجدتا أن كل الخليل هناك في محفل النار، يحيط الكل بقبر البطريرك، وهم في حالة من الدروشة والهلوسة لا مثيل لها. رأى الأصدقاء الأربعة عددًا كبيرًا من البنات والصبية في قفص، وهم يرتدون أجمل الحلل. لم يكن يبدو عليهم أي وجل عندما أشعل الشيخ النار في كوم من الحطب كبير، وصوته يعلو بالترتيل والتسبيح. وما هي سوى بضع لحظات حتى اخترق الحجاج جمع من اليهود كان في مقدمتهم بعض الصبية والبنات وسامريّ من السامريين، فثارت ثائرة المسلمين.
قال السامريّ للشيخ:
- نحن هنا مع جدنا وسبب ديننا ووجودنا.
قال الشيخ للسامريّ:
- نحن هنا مع جدنا وسبب ديننا ووجودنا والوجود.
أخذ كل من الرئيسين الروحيين ضربًا في الآخر ولكمًا، وكاد الكثيرون يقضون على القليلين لولا تدخل ماريشيا:
- يا سادة، صاحت ماريشيا من على درجة من سلم المحراب، لنجعل من العقل حكمًا.
- يا سادة، صاحت بولينا من على درجة أوطأ من سلم المحراب، لنجعل من الله شاهدًا.
- يشهد الله أني هنا من أجل طلب رضاه، ليكن القلب حكمًا والله شاهدًا، قال الشيخ.
- يشهد الله أني هنا من أجل طلب رضاه ليكن العقل حكمًا والله شاهدًا، قال السامريّ.
- قبل الاقتتال على جدنا جميعًا من واجب المحفل أن يطفئ النار، ويحرر أبناءنا، قال موزارسكي، والناس تتجمع من حوله.
- نعرف أن رائحة البهائم المشوية لهي من أطيب الروائح، قال ماريك، والحجاج يلتفون به، فلماذا نبدل اليوم عادة عمرها آلاف الأعوام؟
- غلت الحياة، قال الرئيسان الروحيان، ولم يعد بمقدورنا التضحية بالبهائم كل عام، فقلنا نعمل بما لم يعمل به إبراهيم جدنا، فنضحي بأبنائنا مرة واحد نرضي فيها الله العلي القدير إلى يوم الدين.
- وإذا كان إبراهيم خرافة، جلجل صوت ماريشيا الذي استقبله الحجاج بصيحات الاحتجاج.
- وإذا كان إبراهيم فكرة، جلجل صوت بولينا الذي استقبله أعضاء المحفل بصيحات الاستنكار.
- هذا الرق، صاح ماريك، وهو يلوح بالقطعة الأثرية، كتبه إبراهيم بيده، وقال: سري في قبري!
صمت كل من كان في الحرم، وسُمع في الخارج مرور النسيم.
- سنفتح القبر، قال موزارسكي، فإذا كانت فيه رفات إبراهيم كان إبراهيم، وإذا لم تكن فيه رفات إبراهيم، أطفأنا النار، وعاد كل منا إلى بيته.
علت صيحات الاحتجاج والاستنكار من جديد، لكن الشيخ أسكت الجميع بإشارة من يده:
- برفات أو بدون رفات نحن سنضحي بأبنائنا.
وهذا ما قاله السامريّ، قبل أن يضيف:
- وسيكون الوعد.
ضج الحجاج المسلمين، وكادوا يحطمون الكون على رؤوس الحجاج اليهود.
صاحت ماريشيا:
- لا شيء ييرر الاقتتال وكل شيء يبرر التفاهم.
صاحت بولينا:
- إذا كانت هناك رفات كان هناك وعد.
- وإذا لم تكن هناك رفات كانت هناك طريقة أخرى للتفاهم، قال ماريك.
- ولن نضحي أبدًا بأبنائنا، قال موزارسكي.
- إن لم تكن هناك رفات بحثنا في طول البلاد وعرضها عن إثبات آخر للحق تكون فيه هذه الأرض ملكًا لكل اليهود في العالم وكل العرب في العالم وإلا فهي لمن هم فيها الآن ولهم وحدهم، قال ماريك.
استغل ماريك وموزارسكي الصمت المخيم، بينما الكل يقلّب الفكرة على نار هادئة، وأخذا بضرب غطاء قبر البطريرك بإزميليهما. فتحاه، ثم راحا بمجرفتيهما يرفعان ترابه، ورائحة الرطوبة القوية تدفع الكثيرين إلى الاختناق والسعال. نبشا القبر نبشًا حتى كَلّ الحجاج النظر، والدمع يسيل من مآقيهم، واليأس يدك أفئدتهم، وفي لحظة من اللحظات، تناول بعضهم مسدسًا صغيرًا أو موسى صغيرة، وارتكب في حق نفسه ما لا يُرتكب.
وفي الأخير، همهم الرئيسان الروحيان، وهما لا يتوقفان عن ذرف الدمع السخين:
- وماذا هناك من بديل؟
كانت ماريشيا وبولينا قد أطفأتا نار المحرقة، وجاءتا لتجيبا على السؤال الوجودي:
- سنذهب نحن وصديقانا إلى البحث عن إي أثر لغوليات وداوود في طول البلاد وعرضها، نحن نعرف قليلاً في الآثار، وهما يعرفان كثيرًا في القانون، سيكونان محاميين لكم ضد كل أبطال الأحاجي والخرافات.
* * *
امتدت يد عصبية، وأزاحت اللوز، فبدت أكداس البنادق. نعم، بنادق تمت فبركتها في مصانع يهودية للأسلحة. بنادق ((فاحشة)). قبضت اليد العصبية على إحداها، ودفعتها لأحدهم، وراح الرجل ذو الشعر الغزير والحاجب الكث يوزع البنادق على الرجال الذين كان من بينهم أعضاء من الهاغانا والشرطة اليهود، وحتى من الجنود اليهود المجيشين تحت العلم الإنجليزي. كان الجنديان الأشقران، جنديا ذلك اليوم، هنا، وكان الخواجا داوود يدور حولهم شاحبًا كالديك الهرم، بشعره المنفوش، وربطة عنقه المفتوحة، وقبته الواقفة، وقميصه الخارج من حزامه. كان غامض النظرة وواضح الفكرة. عثروا على ابنه قتيلاً في الطريق الشاقة لأرض أبي سنه، إذن، سيحتل أرض أبي سنه. نهشت شفتيه ابتسامة المهستر، والبنادق الجديدة تبرق في ضوء القناديل. من سيمنعه؟ قانون الأقوى سيطبق! فتح أحد الصناديق، وأخذ يوزع علب وشرائط الرصاص آمرًا: ضحوا لي بكل هذه النعاج، كل هذه النعاج، كل هذه النعاج... تعالت في المستودع أصوات تنذر بالدمار: هناك من يلقم بندقيته، وهناك من يربط حزامه، وهناك من يعقد حذاءه، وهناك من يشحذ خنجره أو موساه. بعد ذلك، انطلق بعضهم ليأتي بالخيل، بينما ركب آخرون الشاحنات. وقبل أن يذهبوا، رفع الخواجا داوود إليهم كلتا يديه مباركًا.
* * *
سقط الغيم ثقيلاً، وصعد من الأرض غبار أسود، فاشتد ظلام القرية حلكة. جاؤوا ببنادقهم من عالم آخر، ودخلوا عالم إسحق ورقية وخالة ميريام والأسطى وأبي بسمة والبحيرة وشجرات الحور. لماذا جاؤوا هذا العالم المطمئن يا ترى؟ أوقفوا عرباتهم، وزحفوا إلى الأكواخ الواقعة قرب السياج الدائر بأرض أبي سنه، دفعوا الأبواب بأقدامهم، وأخرجوا أهلها أنصاف عرايا، ثم...
قتلوهم.
انطلقوا على خيولهم نحو كوخ امرأة أبي سنه، فخرجت هلعة على وقع الحوافر. طرحوها أرضًا، وجروها بالحبل في الأثلام.
ثم... قتلوها.
دب الطفلان على الأرض كدودتين، طاردهما فارس تبعه آخر، ثم سحقت الحوافر صدريهما.
مزق ثالث ثوب لطيفة، وهي تصرخ، وأغمد نصله في نهدها، ثم... قطع نهدها.
رشوا الأكواخ بالبنزين، وأحرقوها. زرعوا أكعابهم في مناكب الأطفال، وطلقاتهم كذلك. سرى الحريق في الحقول، فاحترقت أشجار الزيتون، واحترقت أشجار البرتقال والمندلينا والتفاح الأحمر، واحترقت نبتات الزرع الصغيرة. ولنصرهم الخاطف ذاك، اخترقوا أرض البيك. استولوا على قسم كبير منها، وبنوا المتاريس.
خلال ذلك، كان حارس الباشا إسماعيل يتثاءب تحت شباك سارة، جاء عتبات القصر، وأغفى. استطاع أحد الفلاحين الذين يعملون في أرض البيك النجاة، فركض إلى دار البيك صائحًا، والرعب يدق صدغه:
- الحق، يا بيك! احتل اليهود أرضك!
قام البيك من نومه غاضبًا؛ لأنهم أزعجوه في ساعة متأخرة من الليل. عندما وقف على الحقيقة من فم الفلاح، لبس ثيابه بسرعة، امتطى حصانه، وذهب إلى لقاء الخواجا، لكن الخواجا رفض استقباله. والآن، عن أي حليف سيبحث البيك؟
* * *
لأجل البحث عن آثار داوود وغوليات، اتفق الأصدقاء على أن يذهب ماريك وماريشيا من شمال البلاد إلى نقبها، وأن يسير موزارسكي وبولينا من بحر البلاد إلى نهرها، وعزموا على الالتقاء، بعد أن يجمعوا المعلومات، في القدس، وعلى التحديد، في فندق الملك داوود. في الموعد المحدد، كان أربعتهم في الجناح الخاص بالشخصيات الكبرى، تحت ثريا تضاهي ثريات قصر فيرساي فخامة. أجمعوا كلهم على عدم وجود أي أثر لا لغوليات ولا لداوود، ولكن، ويا للغرابة، وقفوا على الكثير من الأسرار الخطيرة الخاصة بشخصيات الساعة، والتي أهمها تتعلق بثلاث منها، الباشا إسماعيل والخواجا داوود ونائب المندوب السامي مستر كلارك. اكتشف أبناء وارسو المغامرون أن الباشا إسماعيل والفلاح إسحق أخوان من أم واحدة، وأن الخواجا داوود قاتل رقية لا ابنه، وأن مستر كلارك هاتك الصغيرة هاجر وزميلاتها بالمشاركة مع أستاذ الموسيقى صديقه.
ما حصل بعد ذلك متوقع، ولكن ليس على مثل تلك السرعة، إذ بينما كانت سيارة الفتاتين مصفوفة أمام الفندق، وضع حارس الباشا إسماعيل فيها قنبلة موقوتة، كادت تنفجر بالبولنديين الأربعة لولا أن لولا وسونيا وسارة اللواتي جئن للقاء ماريك وموزارسكي وماريشيا وبولينا رأين حارس الباشا إسماعيل، وهو يهرب حالما رأى ضحاياه، وهم يخرجون من الفندق، فأحاطت كل من سارة وسونيا ولولا ببولينا وماريشيا وموزارسكي، واندفعن بعيدًا عن الانفجار الذي أودى بحياتهن. كان تأخر ماريك عن الخروج بسبب ربطه لبريم حذائه هو الذي أنقذه، فأذهله الانفجار، وأذهله أكثر إنقاذ بنات الهوى لأصدقائه. مزقت القنبلة أجساد بعض الجنود الإنجليز وبعض المارة تحت نظر مستر كلارك الذي كان يتابع كل ما جرى من أقصى الشارع، فتحرك رجلان ضخمان من أعوانه بسيارتهما الرولز رويس الضخمة بإشارة منه، وذهبا ليعرضا على ماريك وموزارسكي وماريشيا وبولينا خدماتهما بعد أن أبرزا هوية التحري الرسمية التي لهما.
وهما في الطريق، قال رجلا الإسكوتلانديارد:
- سننقلكما إلى عمان.
أمام تردد الأربعة والمفاجأة التي سببها لهم قرار نقلهم، أوضح الإنجليزيان:
- إنه خير مكان آمن في الظروف الحالية.
وهم في منتصف الطريق إلى عمان، أوقف الرجل التحري السيارة، وطلب من موزارسكي أن يأخذ مكانه. جلس إلى جانب زميله في المقعد الخلفي، والأصدقاء الأربعة، على المقعد الأمامي، لا يفطنون لما يعده لهم الإنجليزيان. نبه موزارسكي الجميع إلى سيارة تتبعهم، فاستداروا، ولم يعرفوا في الرجلين اللذين يستقلانها الجنديين البولنديين، رجلي الخواجا داوود. لم يعلق رجلا الإسكوتلانديارد اللذان وضع كل منهما على رأسه خوذة تقيه من حادث مفترض، ما أن أخذت السيارة تدور مع المنعرجات. ابتسما للرؤوس التي استدارت، وللنظرات المتسائلة، وأول ما بدأت السيارة تشق الحقول المنبسطة، كانت اللحظة الحاسمة. شد كل منهما عنقين من الأعناق الأربعة بسلك، فراحت السيارة تذهب يمنة، وتذهب يسرة، اخترقت الحقول، ومقاومة الأربعة على أشدها، وصعدت على الحجارة، وفجأة انقلبت، وفي الأخير توقفت، والدخان يتصاعد من محركها.
بعد بضع ثوان، خرج ماريك وموزارسكي وماريشيا وبولينا سالمين. كانوا في حالة يرثى لها، لكنهم حاولوا الابتعاد بسرعة عن القتيلين اللذين تركوهما في السيارة قبل أن تنفجر.
* * *
كأن القصر من ورق! تساقط القصر خفيفًا في رماد النهار، وانتظرت سيارة سوداء رسمية على باب القصر وحصان البيك إلى جانبها. جلس إسماعيل من وراء مكتبه، والبيك على الأريكة، وكل منهما في لباسه الغربي.
قال إسماعيل:
- أنا فاهم تمام الفهم. الحالة جد خطيرة. كنت أتوقع أن يلجأ الخواجا إلى العنف، ولكن ليس بهذه السرعة. يجب علينا أن نعيده إلى مواقعه، ونسترجع الأراضي بالقوة. أخذها بالسلاح، فلنسترجعها بالسلاح.
قال البيك:
- إنه يفوقنا قوة، يا باشا.
- لكننا أكثر عددًا. يجب على كل الفلاحين أن يقفوا في وجهه. يجب علينا أن نقف كلنا في وجهه. إذا صمدنا، رفع يديه مستسلمًا.
- برأيي، يا باشا، أن تطلب من الإنجليز العمل على إعادته إلى مواقعه، فإذا عجزوا أو إذا رفض، هو، إذا ماطلوا أو إذا قدموا له الدعم، عند ذلك، سنسترجع الأراضي بالقوة.
- لا أثق بالإنجليز، وهاءنذا أقول لك مقدمًا أن لا فائدة من ذلك. سبق لي أن حملت مستر كلارك تهديداتي، لكنه عزز التعاون مع الخواجا. أتظن أن الإنجليز لم يكونوا على علم بعمليات الخواجا العسكرية هذه؟ سنكون أغبياء لو اعتقدنا العكس، وألبسناهم لباس البراءة. انسحبوا من القرية كي يسلموها إليه، وفوق هذا، أعطوه السلاح.
- الهيئة العربية العليا على استعداد لتقديم يد العون.
- ولا أثق بالهيئة العربية العليا، فهي منقسمة بين هذه العائلة وتلك، وكل عائلة لا تبحث إلا عن مصالحها. سبق أن قدم لنا المفتي، رئيسها الديني، يد العون، ولكن يد عونه كانت للتسكين والتهدئة، ليعطي العدو فرصة يزرع فيها أقدامه في أرضنا.
- إذن؟
- يجب على القرية أن تدافع عن نفسها بنفسها.
لم يستوعب البيك منطقه:
- القرية ضعيفة، يا باشا!
أحدد إسماعيل النظر في عينيه، وسأل:
- هل كنت تعرف هذا قبل اليوم؟
- كنت أعرف هذا منذ طفولتي.
قال إسماعيل بتأن:
- لماذا لم تعمل على تقويتها؟
بقي البيك صامتًا لا يفوه ببنت شفة.
نهض إسماعيل، وبقي واقفًا أمام محدثه:
- سأبلغك نتائج احتجاجاتي لدى لإنجليز، وعلى أي حال يجب أن يتحملوا هم مسؤولياتهم، وأن نتحمل نحن مسؤولياتنا.
نهض البيك:
- نحن في أزمة!
- بل في كارثة!
رافقه حتى الباب.
- سأضع رجالي تحت إمرتك، يا باشا.
- يجب الاستعداد.
- المذبحة التي ارتكبت ضد قريتنا أخافت ناس المدن الذين بدأوا بالهرب.
- يجب ألا نترك، ألا نستسلم.
- الحكام العرب يطلبون من الناس أن يتركوا كل شيء ويرحلوا لتكون لهم الطريق خالية إلى التحرير، وهم يعدون بالانتهاء من اليهود خلال بضعة أيام.
- لا ولا أثق بحكام الهراء هؤلاء! ليس علينا سوى الاعتماد على أنفسنا.
- الناس في كل البلد خائفون بعد المذابح التي ارتكبها الخواجا وباقي الميليشيات الصهيونية. منظمة الإرغون اليهودية الإرهابية تضع المتفجرات في الأسواق، في السينمات، في الفنادق. مذبحة دير ياسين من صنع الإرغون. بطلب الحكام العرب او بعدمه، كل هذه الأفعال لن تعمل إلا على التسريع بأخذ طريق المنفى.
اكتفى الباشا الصغير بإعادة:
- ليس علينا سوى الاعتماد على أنفسنا.
بعد ذلك، رافق الحارس البيك حتى الباب الخارجي.
* * *
من فوق تل مرتفع، نظر أحد الجنديين البولنديين الأشقرين من منظار ما لبث أن أعطاه لزميله، فرأى بولينا وموزارسكي وماريشيا وماريك، وهم يعتمدون على بعضهم البعض، يريدون ترك المكان الذي وقع الحادث فيه إلى الطريق العام. ركب رجلا الخواجا السيارة، وذهبا إلى حمل الأصدقاء الأربعة. والسيارة قربهم، قالا:
- نحن من أتباع الخواجا داوود.
سأل موزارسكي بنبرة ليست ودية:
- انتما اللذان كنتما تتبعاننا؟
قال الأول:
- غبتما عن أنظارنا فجأة، فلم نستطع أن نفعل شيئًا.
سأل الثاني:
- تمام؟
- كدنا نذهب بشربة ماء، قال ماريك.
- اصعدوا، سنذهب بكم إلى مكان آمن.
صعدوا، والأول يقول:
- اليهودي لليهودي في السراء والضراء.
- نعم، هكذا، رمى ماريك غير مهتم سوى بنجاة نفسه.
بعد مسافة ليست قصيرة، اخترقت السيارة طريقًا ضيقة تقوم على هضبة. لم تكن الطريق معبدة، وكانت مغلقة قبل نهايتها. بدا منزل من بعيد، أشار إليه أحد الرجلين، وقال:
- ستقيمون هناك لبعض الوقت ريثما ينهي الخواجا الشغل، فنعيدكم إلى القدس.
- ريثما ينهي الخواجا الشغل، تهكم موزارسكي.
- ريثما ينهي الخواجا الشغل، أعاد الرجل الثاني.
- ريثما ينهي الخواجا الشغل، تهكم ماريك.
- ريثما ينهي الخواجا الشغل، أكد الرجل الأول.
فتحا لهم بابي السيارة، فنزلوا، وساروا من أمامهما على حافة الهضبة، حافة حادة كأنها حافة سيف خيالي معلق في الهواء. التفت ماريك، وهمهم عابسًا باتجاه الرجلين:
- ريثما ينهي الخواجا الشغل.
- ريثما ينهي الخواجا الشغل، ردد الرجلان.
وبعد قليل:
- اليهودي لليهودي في السراء والضراء.
- في السراء والضراء، همهم ماريك.
- في السراء والضراء، أعاد الرجلان.
- في السراء والضراء، عاد ماريك يهمهم بشيء من القرف.
إذا به يتلقى دفعة قوية من قدم الرجل في ظهره أسقطته في الفراغ، أتبعها الرجل بأخرى في ظهر ماريشيا، وكذلك فعل رفيقه بموزارسكي وبولينا. انحنيا من فوق الحد الهائل، ورأيا ماريشيا وبولينا جثتين هامدتين على صخرة، وماريك وموزارسكي جثتين معلقتين على شجرة. مسح كل منهما يده إشارة إلى التخلص من غريم، وقالا:
- ليطمئن بال الخواجا الآن!
ركبا السيارة، وعادا من حيث جاءا.
* * *
خطا إسماعيل خطوتين مفكرًا، أخرج من خزانة قصيرة كأسًا وزجاجة خمر، وابتلع جرعة، ثم غادر الحجرة بعد أن أعاد كل شيء إلى مكانه. قطع الردهة الحمراء، وقبل أن يدلف إلى حجرة الاستقبال التقى الحارس، وهو يتثاءب. قطع تثاؤبه عند وقوعه على الباشا إسماعيل، واعتدل منتصبًا في حالة استعداد.
- أنت نعسان؟
- لا، يا سيدي الباشا.
- اذهب ونم لتقدر على الحراسة هذا المساء.
- أمرك، يا سيدي الباشا. بعد أن أرافق الزوار إلى مكتبك، يا سيدي الباشا.
- سأذهب إليهم بنفسي، يمكنك الذهاب.
لم يتحرك. سار إسماعيل خطوتين، والتفت إليه: لم يزل منتصبًا في حالة استعداد.
- لماذا لم تذهب؟
- سأذهب، يا سيدي الباشا.
ألقى عليه نظرة قبل أن يدخل: بقي في حالة استعداد. عندما دخل إسماعيل، وغاب عن عيني الحارس، تراخى هذا الأخير، وتثاءب بقوة. فطن فجأة، وأوقف تثاؤبه، وهو يتلفت حوله. لم يره أحد: فغر فمه متثائبًا من جديد، دون مبالاة هذه المرة، وأخذ يجر نفسه جرًا إلى الخارج.
دخل إسماعيل، فنهض الرجال الثلاثة واقفين.
- تفضلوا بالجلوس، يا سادة.
ثلاثة إنجليز من كبار موظفي الانتداب: بدلات سوداء، أربطة عنق سوداء، قبعات سوداء، حقائب سوداء، أحذية سوداء. جلسوا، وبقي إسماعيل واقفًا.
قال أحدهم:
- يعتذر مستر كلارك عن عدم استطاعته الاستجابه شخصيًا لدعوتكم، لأنه بمعية شخصية هامة وصلت البلاد مؤخرًا. ومن ناحية أخرى، نظرًا لما وصفتموه بالحالة الخطيرة، كلفنا المندوب السامي نفسه بمقابلتكم بعد أن حملنا للباشا تحياته الودية. نحن في خدمتكم، يا سيدي.
قال إسماعيل بهيئة متعالية:
- كنت قد طلبت منكم سحب قواتكم تمامًا من أراضينا ليشعر الفلاحون بالأمن في بيوتهم، انسحبتم، ولكن الذي حصل أن الخواجا داوود وزمرته قد أخذوا مواقع جنودكم، واحتلوا الأراضي بقوة السلاح.
تقدم منهم:
- إنه إنذاري الأخير: إذا لم يعمل المندوب السامي على عودة الخواجا داوود وزمرته إلى مواقعه، استرجعنا أراضينا بقوة السلاح. يبدو أن هذه هي اللغة الوحيدة التي يُصْغَى إليها هذه الأيام، وتسمح لصاحبها بالاحترام.
- لا داعي للانفعال، يا باشا، خوفًا من تعقيد الأمور. سنحقق في الأمر، ونحن على يقين من أن اتصالاتنا السليمة ستكون مثمرة. إن التعقل والتبصر ضروريان، وما نطلبه منكم أن تعطونا الفرصة لحل المشكل على طريقتنا. كانت ثقتنا عظيمة بوالدكم، رحمه الله، وهي مشاعرنا ذاتها تجاهكم. كانت احتراماتنا عظيمة لوالدكم، وهي نفس احتراماتنا لكم. مبدؤنا التفاوض المتبادل من أجل التفاهم المتبادل.
قال الباشا إسماعيل:
- سأترك لكم الوقت لاتصالاتكم السليمة، ولكن دون إطالة، إلا أن عليكم اعتبار إنذاري قائمًا دومًا.
وأنهى:
- أبلغوا المندوب السامي أن العمال والفلاحين ثائرون لاستلاب أراضيهم، وهو يعلم تمام العلم ماذا تعني هذه الثورة. تستطيعون الانصراف، يا سادتي.
تقدم أمامهم بخطوات سريعة نحو باب مكتبه، وتركهم يقطعون الردهة وحدهم إلى الباب الخارجي، ويركبون السيارة الرسمية السوداء التي أقلتهم إلى القصر دون أن يشيعهم أحد.
* * *
انطلقت هتافات قوية من حناجر العمال والفلاحين، وانصبت جماهيرهم الغاضبة في ساحة القرية. ارتفعت القبضات، واهتزت فوق الرؤوس، بينما علا صوتا الأسطى حسن وإسحق بين هدير الحناجر. لا للاحتلال! نعم للاستقلال! الموت لليهود المجرمين! الموت للإنجليز المستعمرين! الموت للخونة... ولبائعي الأرض! السلاح للشعب! النصر للشعب! والهدير الهائل يتصادى في أنحاء القرية. نزل الجنود الإنجليز من مرتفعات القرية، مع فرسانهم ومشاتهم، وأطلقوا النار، فسقطت الأجساد على الأرض، وجرت السيول الحمراء، وعلى الرغم من كل شيء، استمر هدير الحناجر، وعلى الرغم من كل شيء، استمر عصف الرياح. كانوا عزلاً من غير سلاح، فتعوضوا عن السلاح بالحجارة، وتعوضوا عن السلاح بالفؤوس، من أجل الدفاع عن الأرض والحرية، وبفضل عطر الدم قاوموا.
* * *
عاد إسماعيل إلى الطاولة القصيرة، وتناول سيجارة. سحب نفسًا سريعًا، ثم آخر، وخرج. بدت سارة كالتمثال في الردهة الحمراء، وفجأة، دبت فيها الحياة، وسارت باتجاهه.
- هل ذهب زوارك؟
سحب نفسًا سريعًا.
- ذهبوا.
توقفت قربه:
- أنت ماضٍ حتى النهاية؟
أنعم فيها النظر:
- ماذا تقصدين؟
قال سارة:
- عندما كان الخواجا داوود يلتقي أباك كان يغدو كالذبابة!
- أنا ماضٍ حتى النهاية.
- وهل ستكون لك، هذه النهاية؟
سحب نفسًا سريعًا، ثم سحق السيجارة في منفضة. انتظرت جوابه، لكنه بقي صامتًا.
- لأنك وحدك؟
- البيك معي.
- الأخ العدو.
- نحن على حافة الهاوية!
أنّت، وانعطفت على نفسها، وهو يغرق في التفكير:
- لم يكن الفلاحون على ثقة بأبي.
- لكنها كارثة للجميع!
- لهذا السبب أيضًا.
- يجب عليك أن تفعل شيئًا، على أي حال.
- فكرت أن أوزع أراضيّ فيما بينهم.
- أنت مجنون!
- لا.
صب لنفسه خمرًا، وبسرعة أخذ جرعة.
- هكذا سيدافعون عن أراضيهم.
ضحكت:
- أية دعابة!
أجاب بهدوء:
- في المحنة لا أجد حلاً.
- أنت مسالم منذ نعومة أظافرك.
- ليس هذا هو السبب.
- ربما أردت اللجوء إلى كوخ مهجور على طرف البحر.
- أحب البحر كثيرًا.
اقترحت سارة فجأة:
- لنرحل.
قفز عليها بسُعر:
- أنت مجنونة!
- نعم.
وهو يغلي من الغضب:
- لا تفكري في هذا أبدًا.
قالت:
- فلم يبق لي أي شيء.
جاءت هاجر، وهي تجذب الكلب من طوقه، وتقفز على الدرج معه. نظرا إليها، والكلب يجذبها، يريد لقاء سيده:
- انتظر، يا سهم! قليل من الصبر!
قفز على صدر إسماعيل، وإسماعيل يداعبه من عنقه، ويلاطفه. هبط الكلب مفتتنًا في اللحظة التي سألت فيها سارة ابنتها:
- إلى أين أنت ذاهبة به؟
أجابت هاجر بنعومة:
- إلى الحديقة. يجب أن يتنفس بعض الهواء. هل تسمح، يا باشا؟
- هل تعرفين الحديقة؟ الحديقة كبيرة، منتزه.
- لا.
قالت سارة:
- لم تخرج هاجر منذ وصولها.
قال إسماعيل لهاجر:
- سنذهب إلى الحديقة معًا؟
ردت بحمية:
- هذا أحب ما عليّ، يا باشا.
استدار إسماعيل نحو سارة:
- ليس من أجل الكلب فقط، بل من أجلها أيضًا، ومن أجلي. سنتنفس بعض الهواء.
قالت سارة:
- نزهة طيبة، يا باشا!
فتح لهاجر يده، فرمت فيها أصابعها. جذبت الكلب من طوقه، وخرج ثلاثتهم. أما سارة، فقد اتجهت إلى الحجرة التي تلزم مرجانة الفراش فيها.
- سيدتي!
تحاملت مرجانة على نفسها محاولة النهوض، فزلق الغطاء كاشفًا عن نهديها.
- ابق كما أنت.
ربتت سارة على كتفها بأطراف أصابعها، وباغتها وجوم مفاجئ. كانت مرجانة نصف عارية.
- كيف حالك؟
- أحسن، يا سيدتي.
جسَّت جبينها.
- لم تزل لديك بعض الحرارة.
- أنت وحدك، يا سيدتي، لا أحد يقوم على خدمتك.
- بلى، هل تأخذين الدواء بانتظام؟
- نعم، يا سيدتي.
- ستلازمين الفراش حتى تبرئي.
ندت عن مرجانة تأوهة، وسارة تداوم النظر إليها بوجوم، ثم استدارت نحو مدفأة الحطب:
- لماذا لم تشعليها؟
نهضت لتدفع حطبة بقدمها.
- لا أشعر بالبرد، لكنني أشعلها في المساء.
- يجب أن تعرقي. العرق يعجل بالشفاء.
- أمرك، يا سيدتي.
اقتربت سارة من النافذة: كانت الورود تملأ الحديقة، وفي الحديقة، كانت هاجر تطلق ضحكاتها العذاب، وتجري، بينما يتبعها الكلب، ويقفز بين ذراعيها. كانت نشوى رغم الغيم في السماء، وأشرعة الضباب في عيني إسماعيل.
- لماذا لا تلعب معنا؟
- لا رغبة لي في ذلك.
- أنت لست سعيدًا؟
ابتسم.
- تعال. هل آتي لآخذك؟
جاءت هاجر كنسمة المساء، وجذبته من ذراعيه.
- سنذهب إلى طرف الحديقة الآخر. هل نركض؟
كان مسحورًا، فلم يجب. أضافت:
- سنركض، واحد... اثنان... ثلاثة...
انطلق ثلاثتهم في عاصفة الورود، وعلت ضحكاتهم حتى براعم الأشجار.
* * *
حرك النسيم أغصان الشجرة، ففتح ماريك وموزارسكي عينيهما، وتمكنا من النزول بصعوبة. بكيا موت ماريشيا وبولينا، وتركا الجسدان الحبيبان وليمة للصقور. أقلتهما شاحنة إلى العقبة، ومن العقبة أبحرا إلى غرب جزيرة العرب. كان كل من قابلاه خلال بحثهما عن آثار غوليات وداوود يقول لهما: اذهبا إلى غرب جزيرة العرب، في غرب جزيرة العرب كل الآثار، في غرب جزيرة العرب كل الأسرار.
مضيا برعاة لا رأفة لهم، يفتحون صدور حملانهم الهزيلة، ويقتلعون طحالها وأكبادها وقلوبها، ويأكلونها نيئة. ومضيا بقبائل تنام وتنهض على المخدر إبرًا أو مسحوقًا أو تبغًا، يسيل من أنوف المدمنين الدم، ومن أفواههم الزبد، ومن فروجهم النفط، ويموتون دون أن يصلي عليهم أحد. كانوا يموتون كالكلاب، ويلقى بأجسادهم في المزابل. ومضيا ببرابرة من رجال الأمن، جراذين بين أيدي نسائهم، اللواتي ينزلن بهم أعظم العقوبات، ويعاملنهم بغطرسة وعنجهية. كن يذللنهم، وللتعويض عن ذلك، كان يستبد بهم الشذوذ، فيفعلون في كل من يقع فريسة بين أيديهم. ألقوا القبض على الصديقين بتهمة التجسس، وبدأوا بتعذيبهما تعذيب الهرعين، وفعلوا فيهما. لم يجرؤوا على قتلهما، فهما يبقيان بولنديين وليس حشرتين سعوديتين. رموهما في إحدى الطرق التجارية القديمة المندثرة التي قادتهما إلى ما بدل كل معتقد لديهما وخفف كل معاناة.
كانت آثار فلسطين الحقيقية كلها هناك، وآثار مصر الحقيقية، وآثار العراق الحقيقية، وآثار الجنة الحقيقية، وآثار الجحيم الحقيقية، وآثار كل ما جاء في التاريخ القديم الحقيقية، وآثار كل القصص الحقيقية، وآثار كل الحكايات الحقيقية، وآثار كل الأساطير الحقيقية. كان المرء هناك في قلب الماضي، وكان كل شيء ميت في السرد يعود إلى الحياة. كان المرء هناك في قلب الخيال، إذا كان من الممكن تسمية ذلك الخيال خيالاً وكل هذه الحقيقة التي لا تصدق.
قبل أن يفتحا قبور الأنبياء الثلاثة ليقفا على سرها، هبت الريح بسيل ماء عظيم أحمر يفصل مصر جزيرة العرب عن سيناء حزيرة العرب، ودفعت الماء في جَزْرٍ أبدى للسيل بطنه، فقطعه الصديقان كما قطع موسى البحر بشعبه. كانت بقايا الأهرامات لم تزل شاهدًا من خلفهما، وبقايا المعابد من أمامهما.
أشار بعض البدو المتوحدين إلى جبال السراة، وقالوا هذه سارة، وإلى وادي عدنة، وقالو هذه جنة عدن. استداروا باتجاه صحراء النفود، وقالوا هذه جهنم. وقبل أن يدلّوا الصديقين على سور القدس، قالوا عن بئر هذا إسحق، وعن المطر القليل هذا إبراهيم. ينكح المطر الجبل، فيفيض البئر، كانت تلك الصورة الشعرية لكل حكاية البشرية.
- إذن لن نجد رفات إبراهيم في قبر إبراهيم، قال ماريك وموزارسكي.
- بلى، أكد أبناء الصحراء، فقد صار هناك إبراهيم، الإبراهيم الأول قبل ملايين غيره، بعد أن صارت الحكاية.
فتحا قبر البطريرك، ووقفا على سره، كانت رفاته هناك. وكذلك فعلا بقبر يعقوب، ووقفا على سره، كانت رفاته هناك. أما المسيح، فلم تكن رفاته هناك. كانت هناك بقايا سور القدس، وكان هناك قبر المسيح، ولم تكن رفات المسيح هناك. كشف البدو المتوحدون سر الأسرار، فقالوا:
- جاء الكهنة الهنود، وقالوا عن المسيح هذا ولدنا الذي كرهناه في حياته لكثرة ما أتعبنا بأسئلته، وأحببناه في مماته لكثرة ما أراحنا برسالته. فتحوا قبره، وأخذوا رفاته، رفات المسيح في الهند.
* * *
قال الأسطى حسن:
- رغم قمع الإنجليز، فإن قريتنا ما زالت صامدة. وأعلمك أننا وضعنا يدنا على الشخصية الهامة التي وصلت البلاد منذ يومين، واستطاع مستر كلارك الإفلات بأعجوبة.
تلهب وجه إسحق، ولم يفه بكلمة. قال الأسطى حسن:
- أنا متفائل. سيكون النصر حليفنا.
سأله ببشاشة:
- وأنت؟
قال إسحق:
- يجب علينا مهاجمة الخواجا.
- جئتك من أجل هذا.
- يجب تكريس كل قوانا للتغلب عليه.
- ولاقتلاعه.
- يجب العمل بسرعة قبل فوات الأوان.
قال الأسطى حسن بابتسامة خفيفة:
- قررنا أن نتركك تذهب هذا المساء لإحضار السلاح.
أشرق وجه إسحق بالنور.
- هل أذكرك بالتعليمات من جديد؟
- أحفظها عن ظهر قلب.
- هل وجدت الرفيقة؟
- وجدت.
- هل تثق بها؟
- نعم، أثق بها.
- حسنًا. وجودها إلى جانبك يبعد انتباه دوريات الليل. سأذهب.
سأله إسحق:
- متى نبدأ التحرك؟
- مع هبوط الليل.
شيعه بناظره حتى اللحظة التي قطع فيها أرض عواد، واختفى وراء الأشجار البعيدة.
* * *
طرح الأسطى حسن عليهم السلام، فردوا بصوت واحد. أخذ مجلسًا على التراب تحت شجرة الزيتون، وقال بصوت عال:
- حانت ساعتكم، يا جماعة.
فتح ابن السيد عينيه وأذنيه بانتباه، وهو يتقدم برأسه.
- قررنا أن نبدأ عملياتنا ضد الخواجا وزمرته هذه الليلة.
ظلوا صامتين.
- سنتسلل إلى مستودعات الذخيرة، وسنقوم بنسفها.
فتحوا أعينهم، وقلوبهم تضرب. تناول الأسطى حسن غصنًا يابسًا على مقربة منه، وتابع:
- سيأتيني ابن السيد عند منتصف الليل كي ينقل معي الديناميت، بينما أنت، يا كنعان، وأنت، يا ميشيل، ستنتظران مقدمنا على التل الشمالي، هنا، تحت شجرة الزيتون هذه.
نظر في عيونهم للحظة ليرى إذا ما كان أحدهم يريد استفسارًا، ولكنهم لم ينبسوا بكلمة. نهض الأسطى حسن، وهو يحتفظ بالغصن اليابس في يده دومًا:
- يجب ألا نبقى طويلاً معًا. السلام عليكم.
وذهب مثلما جاء.
* * *
قال ابن السيد للخواجا، وهو يرتعش من الخوف:
- سيكون لقائي بالأسطى من أجل نقل الديناميت عند منتصف الليل، وبعد ذلك، سنذهب إلى لقاء الآخرين على التل الشمالي.
نبر الخواجا:
- هؤلاء الإنجليز، أبناء الكلب! لم يفتحوا عيونهم جيدًا، فتركوا السلاح يتسرب إلى يدي الأسطى والمخربين أشباهه. حقّاً، هم شددوا إجراءات الحظر والتفتيش، لكن ذلك لم يكن كافيًا.
سكت قليلاً، وسأله:
- أتعرف من أين أتى الأسطى حسن بالديناميت؟
راح السيد يصب عرقًا، وهو يواصل الارتعاش:
- لا أعرف. من الثوار، على التأكيد.
- كلهم سواء، كلهم واحد. ولكن، المصدر الرئيسي، وكيف؟ أنت لا تعرف طبعًا، يا صغيري.
أوقف ابن السيد ارتعاشه، وقال:
- أطلب اللجوء إلى مزرعتك، يا خواجا.
- لماذا؟
ابتلع ريقه بصعوبة:
- سيكتشفون أمري، هذه المرة.
أجاب الخواجا:
- سنفكر في ذلك فيما بعد. أما هذا المساء، فاعمل على الذهاب إلى موعدك مع الأسطى.
مسح عرقه بأصابع راجفة، وتمتم بين شفتين منقبضتين:
- طيب.
طبطب الخواجا على ظهره:
- أنت مخلص لنا، يا ابن السيد، ولسوف نكافئك أحسن مكافأة.
وصرفه.
* * *
كان الليل المتساقط شديد الحلكة، مما سهل التفاف إسحق وبسمة من حول الصخور، وتجنب الفرسان الإنجليز الذين أشعلوا نارًا، وضعوا فوقها إبريقًا، وتغطى اثنان أو ثلاثة منهم بالبطانيات.
كان على إسحق وبسمة أن يذهبا إلى الهضبة الأخرى، وها هي ذي معه، رفيقته بسمة، في ثوب القرية، وشبشب المطاط. كانت النسمة رطبة، والطبيعة العظيمة هادئة. فكر إسحق في المهمة التي كلف بها، في سلاح الحرية، في القرية، وقال لنفسه: حتى ولو بدت الطبيعة عظيمة... فهي تخر طائعة لإرادة الإنسان. التفت إلى بسمة، وابتسم في الليل، وابتسمت بسمة في الليل بدورها، مما بعث في قلبه الثقة بنجاح المهمة.
* * *
تجاوزت ساعته منتصف الليل، فتسلل القلق إلى قلب الأسطى حسن، وراح في ذهاب وإياب: لم يأت ابن السيد بعد! ربما حصل له مكروه! لم يحدث أن تأخر أبدًا من قبل! لم يكن من الممكن تأجيل العملية. ثم، كان ميشيل وكنعان بانتظاره. نظر إلى ساعته من جديد. منتصف الليل وثلاثون دقيقة. تقدم من البئر بخطوات عجلى، وسحب الدلو: صندوق مليء بالمتفجرات، وآخر بالقنابل اليدوية. حملهما، وشق الحقول إلى شجرة الزيتون. لم يكن أحد هناك.
أطل الأسطى حسن من فوق التل الشمالي، فخرجوا بأسلحتهم من بطن الليل، وألقوا القبض عليه. رأى ميشيل وكنعان، وهي تشد فمهما ويديهما من الوراء حبال ليفية، فسقط عليه الأمر كالصاعقة: لم يتوقع أبدًا خيانة ابن السيد.
* * *
فجأة، ارتجفت سارة، وصاحت في وجه إسماعيل:
- هل هو الخمر الذي يبعدك عني؟ هل هو الذي يمدك بالقوة على مقاومتي؟
تهدجت، وأنّت:
- أحبك! أضحي بروحي لك!
قفزت نحوه جاذبة من ذراعه:
- اذبحني، شنع بي، أنا عبدتك! افعل بي ما تشاء!
غطت يده بالقبلات، ثم خرت على قدميه. زحف بكأسه حتى حافة السرير مثقل الرأس والجسد، كقطعة إسفنج نقعت في النبيذ. سعل ببطء، وقال لها بصوت منهك:
- عودي إلى فراشك.
رمت سارة شعرها إلى الوراء، وتقدمت من إسماعيل ببطء. وقفت قبالته، وقد أعياها التوسل. لم تكن تريد الذهاب، فقفز، وصاح بأعلى صوته:
- عودي إلى فراشك.
وأطبق فمه بعياء.
انسحبت ببطء، وغادرت الحجرة. رفع الكأس بين أصابعه المشلولة، وأخذ جرعة صغيرة. كأنما نزلت به فاجعة. ضاقت عيناه الحمراوان ليمنع دموعه، وأزاح رأسه بصعوبة. جاء صورة أمه زاحفًا، وهمهم: اخرجي من قبرك وتعالي. تعالى لإنقاذي. أنا ولدك الوحيد، وأنت أمي الوحيدة! لكن غناء هاجر قطع تأمله:

وعدتني أن تعود
فأتى الليل على بابي
وحدي أسهر في الليل
تعالوا يا أحبابي!

سمرته الكلمات. كانت سارة تروح وتجيء في حجرتها، وهي تمزق منديلها. تروح وتجيء. أخرجت خمرًا وكأسًا ونارًا وسجائر. ابتلعت الخمر للمرة الأولى بقرف واشمئزاز، وكذلك الدخان. تابعت عيناها الغيمة حتى السقف، وابتعد الليل كثيرًا. أصبحت نشوى! تدخن، وتشرب، وتفكر في جسدها الجميل المهمل، وفي انتقامه منها. كانت بحاجة إلى جسد يعذبها متعة. فجأة، غدت على هذه الفكرة دميمة. اتجهت نحو النافذة، فتحتها، واسترقت النظر: كان الحارس جامدًا كالعارضة. أخفت نفسها وراء الستارة بسرعة، ودفعت خشب النافذة بقوة، فرفع الحارس رأسه.
سألته بهيئة متعالية:
- ماذا تفعل هنا دومًا؟
بدا صوت الحارس محزنًا:
- أقوم بالحراسة، يا سيدتي.
تصنعت الدهشة:
- بعد انسحاب الجنود الإنجليز؟!
- أوامر الباشا إسماعيل، يا سيدتي، خوفًا من أن يأتي اليهود، ويحتلوا القصر.
بقيت تنظر إليه، وقد غابت قليلاً.
- هل من خدمة أقدمها لك، يا سيدتي؟
ردت بحدة:
- لا.
ثم أردفت في الحال:
- بلى. اصعد إلى حجرتي.
صعد الحارس إلى الحجرة مبهوتًا، وفي ذات الوقت مبهورًا. كانت تنتظره، وهي تستلقي، نصف عارية. هل يحلم؟ هل أصابها الجنون؟ هل أصابه الجنون؟ ماذا يفعل هنا؟ ها هي ذي سيدة القصر تستلقي في مخدعها الوثير، نصف عارية، مستعدة لاستقباله! أنزل بندقيته عن كتفه، وهو يفغر كالأبله فمه، وترك طاقيته تزلق عن رأسه. تعرى، واقترب ببطء، ثم بسرعة، وقهر الساق التي تقهره.
* * *
وصل إسحق وبسمة إلى الهضبة. كان الليل يترامى على مساحات شاسعة معشبة، وكانت الصخور رطبة تحت قطرات الندى. تمكنا من الوصول دون خطر بعد أن تسلقا الدروب الوعرة، وبقيت بسمة صامتة طوال الوقت، صامدة طوال الوقت، تجيبه إذا سأل، ولا تفوه ببنت شفة. كانت تأنس إلى أنفاسه، فتطمئن، أمسك بذراعها عدة مرات ليساعدها على التسلق.
غاب إسحق قليلاً ثم عاد قربها بعد أن راد المكان، فوجدها تقف كالشجرة. قال لها:
- من المفترض أن يأتي أحدهم إلينا.
- هل هو الوقت؟
- لقد تأخرنا قليلاً.
- لو أتى لانتظرنا.
- أكيد أنه في الطريق.
- أكيد.
- سننتظر.
اقترب من حجر، وجلس.
- لماذا تظلين واقفة؟
جلست أمامه، بصمت، وخفضت عينيها.
- تشعرين بالبرد؟
نفت بهزة من رأسها.
لكن إسحق أكد:
- أنت تشعرين بالبرد.
مد حطته إليها:
- لفي كتفيك.
رمته بنظرة حنان، وتناولت الحطة. قال لها:
- هذه من حياكة الأسطى.
ابتسمت.
خطوات. اتجه إسحق نحوها تتبعه بسمة. توقفت الخطوات. انزرع رجل يتقلد سلاحًا بين الصخور. كان يرتدي ملابس ثخينة، طلب بحذر:
- كلمة السر.
قال إسحق:
- ثلاث تفاحات في سلة.
اقترب الرجل منهما، وقال باطمئنان:
- أهلاً وسهلاً! هل صادفتكما صعوبات في الطريق؟
كان أسمر الوجه، شديد السمرة، وكانت بسمته فضية.
- أخذنا طريقًا وعرة، فلم نصادف أية دورية.
- أنتما تعبان ما في شك.
سارع إسحق إلى القول:
- لا، نحن لا نشعر بـ...
توقف فجأة ناظرًا إلى بسمة، فابتسمت:
- نحن لا نشعر بأي تعب.
ذهبا مع الرجل الذي أكد:
- أنتما تعبان.
تأملهما قليلاً قبل أن يضيف:
- ستظفران ببعض الراحة.
أخذوا طريقًا تنعطف فوق الهضبة دون أن ينبسوا بكلمة واحدة، إلى أن وصلوا إحدى الصخور التي لاحت عليها بعض البنادق المتلألئة. رفع الثائر يده، وصاح:
- هذا أنا.
اقتربوا من آخر يقف على الصخرة، وهو يلف رأسه وعنقه بوشاح صوفي. نزل اثنان آخران، وقلّبا النظر في وجهي إسحق وبسمة. وما أن اجتازوا الصخرة قليلاً حتى طالعهم المعسكر: خيمات هنا وهناك غطيت بالأغصان، موقد مطفأ علق فوقه بواسطة عيدان ثلاثة قدر أسود، بعض الخيول والبغال، بعض براميل الماء، بعض أكياس الرمل، وثوار يتمددون على الحشائش. وقف بهما الرجل أمام خيمة، وقال:
- ستنام الأخت تحت خيمة النساء.
ما أن أنهى جملته حتى خرجت من الخيمة امرأة ذات جديلتين ترتدي ثوبًا طويلاً أسود. قال الرجل:
- هذه معلمتنا عائشة. جئتك بضيفة.
رحبت عائشة بحرارة:
- أهلاً وسهلاً!
أضاف الرجل:
- بفضلها حولتني من رجل أمي وجاهل إلى آخر يعرف القراءة والكتابة.
أطلقت عائشة ضحكة مديدة.
وبسمة تنحني لتدخل الخيمة، تبادلت مع إسحق ابتسامة سخية، والرجل يقول لهذا الأخير:
- أنت، تعال معي... ستظفران ببعض الراحة، وغدًا ستنقلان السلاح.
استعاد إسحق ابتسامة بسمة الألقة، وهو يسير قرب الرجل والبندقية. وهنا، أحس إحساسًا حقيقيًا بكونه بين ذويه.
* * *
سارت السيارة السوداء الرسمية في ساحة القرية، باتجاه الزقاق المؤدي إلى المصبنة. كانت أزقة القرية رمادية لا قدم فيها، وكان الطقس باردًا. على باب المصبنة، وقفت سيارة إسماعيل المكشوفة، وجلس زغلول على العتبة. كان أحدهم ينقل قِرَبَ الزيت من المعصرة إلى المصبنة، وعندما توقفت السيارة السوداء الرسمية وقف زغلول. هبط أحد الرجال الإنجليز الثلاثة الذين كانوا في زيارة إسماعيل بالأمس، بطاقمه الأسود ورباط عنقه الأسود وقبعته السوداء ومحفظته السوداء، واتجه بصحبة زغلول إلى المكتب: اثنان أو ثلاثة يطبخون الصابون، والنار قوية في الفرن. رمى الرجل النار بنظرة قبل أن يدخل، فبهره لونها الأحمر.
وهو يتقدم من إسماعيل، قال:
- للباشا تحيات المندوب السامي الودية، وبالمناسبة، اعتذارات مستر كلارك لعدم تمكنه من الحضور؛ فهو يستعد للرحيل نهائيّاً إلى الخليج.
كان الرجل يتكلم بنبرة مجامَلَة مفرطة. أخذ مجلسًا، دون أن يفكر الباشا إسماعيل في التحرك.
- ما أحمله من أخبار ممتاز، يا باشا! أنهينا انسحاب قواتنا، ليس فقط من القرية، ولكن من مشارفها، طبقًا لأوامركم. بالنسبة للاتصالات التي قمنا بها، قررنا أن يقف الخواجا داوود عند المواقع التي وصل إليها، بانتظار أن تحلوا المشكل فيما بينكم سلميّاً. أبلغناه أنه حتى ولو انسحبت قواتنا، فإنها جاهزة للتدخل عند الطلقة القادمة. الحل الوحيد والمعقول أن تلتقوا في أقرب فرصة، هكذا تضعون حدًا لحالة العداء هذه التي انفجرت فجأة، وستعود الأمور إلى مجراها الطبيعي. هذا ما يراه السيد المندوب السامي من حل مناسب وواقعي.
أعاد إسماعيل ببسمة متهكمة:
- مناسب وواقعي!
- لا فائدة من شحن جو الحرب هذا.
نبر إسماعيل:
- يجب أن ينسحب الخواجا خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة. إنه إنذاري الأخير.
نهض مبعوث المندوب السامي، وهو يقول:
- سأنقل موقفكم إلى المندوب السامي.
- وبلهجة مشددة.
- حسنًا، يا سيدي.
وخرج.
* * *
قال مأمور المخفر:
- اطمئن، يا سيدي الباشا إسماعيل، سنلحق بالخواجا هزيمة ساحقة. سوف أعد رجالي، وسنزحف بأسلحتنا، ما أن تأمروا بذلك، لتحرير الأرض. سنحطم الخواجا برمش عين! أنا، يا سيدي الباشا إسماعيل، ذو خبرة عسكرية عريقة، شهد لي بها أبوكم الباشا إبراهيم، رحمه الله وطيب ثراه. كنت جنديّاً شجاعًا في صفوف الجيش التركي تخشى صولته الأعداء، اطمئن، يا سيدي الباشا إسماعيل، سنسحق المعتدين.
* * *
قال المختار:
- سأهيء نفسية الناس ليتبعكم الجميع، يا سيدي الباشا إسماعيل، أنا خادمكم المخلص. ولسوف يلتف كل الفلاحين من حولكم، فجميعهم يستنكرون هذا الاعتداء الجبان. كنت أعرف أن هذا الخواجا رجل طماع وشرير.
* * *
قال شيخ الجامع:
- ستكون حربًا مقدسة على الأعداء، وسنقيم الصلوات من أجل النصر المبارك. نصرك الله، يا سيدي الباشا إسماعيل، نصرًا مبينًا، وسدد خطاك! وسامحك الله، يا سيدي القاضي! فلو لم تختف فجأة، لشاركتني مهمة الدعوة والتبشير بالجهاد الأعظم.
* * *
قال البيك:
- وصلتني كمية من الأسلحة المصرية، صحيح فاسدة وغير قابلة للاستعمال، ولكن سيبعث لنا بعض معارفي في شرق الأردن والعراق عددًا من المتطوعين البواسل. ستمتد الحرب على كل شبر من تراب الوطن، وستكون حربًا عربية قومية.
* * *
قال كاتب الباشا إسماعيل:
- هرب مأمور الخزنة، وفي حوزته ألف ليرة. إنه لعمل شائن، شائن، يا سيدي الباشا إسماعيل، خاصة في هذا الزمن الصعب! سأتولى، إن أمرتم، مسؤولية الخزنة إضافة إلى مسئولياتي الأخرى، وليكن الباشا إسماعيل مطمئنًا، سأتصل بتجار السلاح من أجل صفقة جديرة بحرب مشرفة.
* * *
أحضر القهوجي فنجان قهوة للسيد لطفي، وضع الفنجان، فرماه السيد لطفي بنظرة عاجلة، وسأل:
- ما لك زعلان، يا أبا الملاك؟
لكن الآخر ابتعد بعصبية.
- يا أبا الملاك!
توقف.
- ما لك زعلان؟
تدخل صاحب المقهى:
- أهذا سؤال يسأل، يا سيد لطفي؟ نحن في الخراء حتى عنقنا!
كانت المقهى فارغة على التقريب، وكان هناك اثنان يلعبان النرد في طرف، وأربعة صامتون في طرف آخر. نام أبو الكسيح في القش، واختفت شلة الصعاليك. بقي السيد لطفي يحاصر القهوجي بالسؤال:
- أسألك أنت، يا أبا الملاك، ما لك زعلان؟
احتد القهوجي:
- أما سمعت ما قاله المعلم لك؟ نحن في الخراء حتى عنقنا!
شرب السيد لطفي قهوته، وأطلق نفسًا عميقًا، ثم راح يردد:
- باعونا، يا أبا الملاك! باعونا!
تدخل صاحب المقهى من جديد:
- من تقصد، يا سيد لطفي؟
- أقصد الكبار والصغار، السادة الكبار الذين قبضوا، والعبيد الصغار الذين هربوا.
واهتاج:
- الذين باعوا أراضيهم لأجانب اليهود وهربوا! الذين باعوها للقرود كي ينفذوا بأرواحهم سالمين! أفهمت عم أتكلم؟
تثاءب القهوجي، وقال:
- كلنا يعرف القصة.
تقدم فلاح من السيد لطفي:
- كلنا يعرف القصة، سلم الله فمك، يا أبا الملاك!
أحنى السيد لطفي عنقه، وقال للفلاح ساخرًا:
- أنت أيضًا، ستخاف يومًا، عندما تشعر بالخطر.
اضطرب الفلاح:
- أنا!
وراح يدلي بالأيمان المغلظة:
- أقسم بالله العظيم أني لم أفكر في هذا يومًا واحدًا، ولن أفكر فيه أبدًا حتى والرصاص يخترقني. أنا أعبد أرضي، وأنا صادق.
استمر السيد لطفي ساخرًا:
- اليهود ليسوا الإنجليز. جاؤوا ليقتلعوك، ويزرعوا أنفسهم مكانك. هذا هو هدفهم الجهنمي.
قال الفلاح بإصرار:
- أنا لن يقتلعوني، يا عم! الأرض أرضي، وسأبقى هنا ما بقيت حيّاً!
أمسك السيد لطفي بآخر كلماته:
- هذا إذا ما بقيت حيّاً.
والفلاح بتحد:
- فليأتوا إذن لقتلي!
أجاب السيد لطفي:
- إذا بقيت في خراك، أتوا لسحقك كالذبابة!
ثم أعطاه ظهره دون أن يهتم بمشاعره. شرب قهوته، ولحوس شفتيه، ثم قال كمن يحدث نفسه:
- كنا متساهلين منذ البداية!
استشاط الفلاح: أما الذين باعوا الأرض، فهم جبناء!
وافقه السيد لطفي بجفاف، وهو يعطيه ظهره دومًا:
- سلم الله فمك! جبناء... جبناء وخونة!
دخل المختار بصحبة السمسار وشيخ الجامع، فدار الحديث حول الذين هربوا، والذين بقوا، الذين باعوا، والذين رفضوا، عن الجهاد الأعظم، ومعركة التحرير والشرف. وبينما هم مندمجون في لغوهم، انتحى السيد لطفي بالسمسار جانبًا، وقال له:
- كلام في سرك، يا سيدي السمسار.
- في بئر عميق، يا سيد لطفي.
- الحال عسير وأنا في عسر!
- هذا واضح.
- وأنا فلاح أبًا عن جد. الأرض التي ألقاها أفلحها، وأجعلها خضراء بالزرع.
- فلاح أصيل وابن أصيل!
- أراضي الله واسعة، ودنيا العرب واسعة.
- آه ما أوسعها من دنيا!
- أقول... أرض على ضفاف بردى فيها النعيم.
- آه يا أرض الشام! يا دوحة من الجنان!
- ما رأيك؟
- في ماذا؟
التفت يمنة، والتفت يسرة، وخفض صوته:
- كلام في سرك دومًا، يا سيدي السمسار.
- قلت لك في بئر عميق، يا سيدي السيد لطفي.
- ما رأيك لو بعت الأرض؟
أبطأ في الرد قليلاً، وهو يجري حساباته، ثم:
- أرضك غالية وأنت أغلى، يا سيد لطفي.
- سقيتها بالعرق، وبنيت فيها السلاسل.
- سنجد من يدفع للغالي الثمن الغالي.
- بسرعة.
- مستعجل على فراقنا، يا سيد لطفي؟
- الفراق صعب، لكنني سأعود ما أن تحررنا الجيوش العربية.
- أية جيوش عربية، يا سيد لطفي؟ لا سلاح عندها ولا إرادة وقياداتها كلهم خونة.
- خونة أم غير خونة، قال لنا الرؤساء العرب روحوا، إذن سأروح. هم قالوا لأسبوع، لكنني أنا، طوال عمري حذر ابن محاذر.
- أمرك، يا سيد لطفي.
- ثم، هنا أو هناك... أينما حللت، أنا فلاح.
- نعم مقامك أينما حللت.
- المثل يقول: ابعد عن الشر وغنِّ له.
- وأي شر! وأي شر!
- أوكلك بالأمر، عساك أن تحله بسرعة.
- توكل على الله، يا سيد لطفي.
- أرضي غالية.
- والثمن غال.
- كلام في سرك.
- في بئر عميق.
* * *
سأحفظك من الشر، وأحميك... يا أرضي! سأبعد عنك العار، وأرويك... يا أرضي! عهدي معك أن أبقى وفيًا لك. لا يفنى عهدي معك. عهدي معك أن أبقى حبك... يا أرضي! وإذا حاولوا سحتك من عيني، سحت من عيونهم نور العين. وإذا حاولوا سحتك من قلبي، سحت من قلوبهم خفق القلب. وإذا حاولوا سحتك من دمي، سحت من دمائهم لون الدم. وإذا حاولوا سحتك من رئتيّ، غرست في حلوقهم سكيني، وتنفستك، يا حبي، وشققت أثلامك في لحمي.
رفع أبو بسمة فأسه وأهواها. كان يحفر خندقًا حول الأرض. ترقط جبينه الكهل بالعرق. وكان فلاحون آخرون يحفرون الخنادق حول أراضيهم المجاورة. نصب أبو بسمة قامته، مسح بكمه العرق عن جبينه، وراح ينظر إلى متاريس العدو في الطرف الآخر. ارتعش جفناه، تغضنا، ثم انبسطا. يجب أن يحفر كي يدافع عن الأرض، ويحميها. رفع الفأس، وأهواها.
* * *
جذبت صفوريا ستارة الخيش، أطلت يمنة، وأطلت يسرة. عندما لم تجد عابرًا واحدًا في الطريق، اختطفت القدم صوب إحدى التناكيات القريبة. كان أربعة أطفال شبه عرايا يجلسون على العتبة، ويعجنون الطين. في الداخل، كان أربعة أطفال شبه عرايا هم أيضًا يدورون بأم السعد: بعضهم يصيح، وبعضهم يضحك، وبعضهم يركض. كانت المرأة ترضع طفلاً لم يتجاوز العام. شكت صفوريا:
- حمام، يا خالة أم السعد! حمام!
أطلقت أم السعد صيحة مجلجلة أسكتت الجميع ما عدا واحد لم يتوقف عن الصياح، فالتقطت إحدى فردتي قبقابها، وقذفته بها:
- اخرس، يا عفريت!
لكنها لم تصبه. ضاعف الطفل صياحه، وقلده الكل، فشكت أم السعد:
- ماذا أفعل؟ أراد طه أن أبذر له كل هذا النسل!
ونبرت بحقد:
- فلتسعد حيث أنت في سجنك، يا طه، يا ابن الكلب!
جلست صفوريا قربها على الأرض:
- هدئي روعك. ستفرج.
لكن غضبها انفجر، وهاجمت أحد الأطفال:
- أوقف بكاءك وإلا فصصتك من زامورة رقبتك!
أوقف الصغير بكاءه دفعة واحدة، وبقي ينشق. عندما أنهمكت أم السعد بالحديث مع صفوريا، انفجر الطفل باكيًا من جديد.
لاحظت صفوريا:
- لقد هزلت كثيرًا، يا أم السعد!
- نعم، لقد هزلت كثيرًا!
قبضت على ثديها الطليق، وعصرته بين أصابعها بعصبية، وهي تقول:
- انظري! هاءنذا أعصره بكل قواي، ولا قطرة واحدة!
قلبت الرضيع، والحلمة في فمه، وصاحت:
- وهذا اللعين الذي يمتص دمي!
انفجر الرضيع باكيًا، فأخذت تهزه، وتشتم، وصفوريا تعمل على تهدئة الأم وابنها. قالت صفوريا:
- سيعود طه عما قريب، ليقيت الأطفال.
كشفت المرأة صدرها، رفعت رأسها إلى السماء، وأخذت ترسل الدعوات:
- إلهي يقطع رزقك، يا من قطعت رزقي! إلهي يذبح قلبك، يا من ذبحت قلبي! إلهي ألحق به أشد مكروهك، يا من كنت السبب! إلهي...
أطبقت فمها، وبدت أكثر هزالاً وبشاعة. حدقت في صفوريا:
- أتظنينني أؤمن أن إلهًا هناك؟
شهقت صفوريا:
- أستغفر الله العظيم، يا خالة أم السعد!
لكن الأخرى تابعت:
- إذا كان إله هناك، فليأت لنجدتي!
وصفوريا تستغفر وتستغفر. خلعت أم السعد خاتم الزواج، ورمته للفتاة:
- خذي، ولكن اعملي على إخراج طه من السجن. إنه خاتم زواج تعس، هذا كل ما أملك.
دست صفوريا الخاتم بين ثدييها، وقالت:
- اطمئني، الوعد أكيد. المصاغ مقابل إطلاق سراح المعتقلين، وها نحن قد جمعنا لكاتب الباشا بعضه.
علا صوت كاتب الباشا بين ضجيج الأولاد:
- يا صفوريا! يا صفوريا!
قالت صفوريا:
- ها هو.
ونهضت بعجلة. قذفت أم السعد بفردة قبقابها الثانية طفلاً آخر، وهي تشتم.
كان حماره يقف هناك، وكان كاتب الباشا يتقوس قرب باب صفوريا محاولاً رفع الستارة. عندما سمع خطواتها تأتي من ورائه، اعتدل، وتنحنح. أخفت صفوريا نفسها من وراء الستار، وفتحت عليه عينيها.
سأل كاتب الباشا:
- هل جهزت كل شيء؟
- جهزت كل شيء.
- إذن ما لك واقفة كالصنم؟ أسرعي بإعطائي المال والمصاغ، فالأمر عاجل.
بقيت لثوان تحدق في الشوك الذي يجتاح وجهه الماكر، ثم خفضت الستارة، واختفت. جذب حماره من رسنه، وتفقد الزقاق البائس بضيق. لم يزل أولاد أم السعد يعجنون الطين أمام بابهم.
رفعت صفوريا الستارة، وقدمت له أوراق النقد.
- هذا إيجار الأرض.
أخذ يعد أوراق النقد، وهو يلحس إصبعه، ويجعل نظراته تزلق في كل اتجاه. بعد أن انتهى، تنحنح، وانتظر.
قالت صفوريا:
- وهذا ما استطعت جمعه من أجل إطلاق سراح المعتقلين.
- هات!
حاول انتزاع ما أسال لعابه من مصاغ، ولكنها شدت يدها على صدرها، فضرب كاتب الباشا قدمه في الأرض، وهتف:
- ما هذه الألاعيب؟!
قالت صفوريا:
- من يضمن لي أنك ستفي بوعدك؟
اختلج:
- كلمة الشرف! الثقة، يا صفوريا! أم ما زلت غاضبة مني؟ نسيناها أيام زمان، نحن أبناء اليوم.
رجاها بدلع:
- هات، يا شيخة... هات!
وهي ترى أصابعه المفتوحة قرب صدرها، استولى عليها الشك، لم تكن تثق به، لكنها أعطته المصاغ:
- خذ.
تلقف الجواهر، وهو يطلق لهثات قصيرة، وبعد أن عاين القطع الذهبية، دفعها في جيب بنطاله، ثم امتطى الحمار، دون أن يفوه بكلمة واحدة.
* * *
اختطف ابن السيد قدمه، وهو ينظر خلفه. تحركت الأشجار في البيارة، فضاعف من سرعته. انبثق فلاحان من بين الأشجار، وتبعاه. عندما التفت، لم يجد أحدًا. اختفى الرجلان، لكن ابن السيد داوم على المشي بسرعة، وكذلك الفلاحان.
بدت لابن السيد مزرعة الخواجا داوود، فأخذ يركض. ركض الفلاحان قليلاً من ورائه، ثم توقفا. اجتاز ابن السيد مواقع العدو، فكمنا بانتظاره.
قاومت الشمس السحاب، وفي النهاية، استسلمت الشمس للسحاب.
سقط الليل.
من بعيد، جاء وقع خطوات خافت.
نهض الفلاحان بحذر، فرأيا شبح ابن السيد عائدًا من مزرعة الخواجا داوود، ورأيا رجالاً مسلحين، وهم في ذهاب وإياب، من وراء المواقع. كان من اللازم أن يتركاه يعبر. اختفى الفلاحان خلف الأشجار، وسمعا الخطوات المذعورة، وهي تدب على الأرض. مر أمامهما، فتبعاه، ثم انقضا عليه. كمماه، وعقدا يديه، وتحت تهديد مسدس صغير، صعدا به إلى الجبل.
* * *
ها هما يعودان بالسلاح، إسحق وبسمة. قطعا منتصف الطريق الوعرة، وكل منهما يسحب بغلاً ضخمًا يحمل بعض الصناديق. غطاهما الليل، وجعل الصمت لخطواتهما صدى. سيصلون مع الفجر. سيجمع الأسطى الفلاحين، وسيوزع عليهم السلاح الذي اشتروه بعرق سواعدهم ليدافعوا عن القرية. بعضهم باع محاصيله، وبعضهم باع حلى نسائه. ((كمية الأسلحة لا شيء بالمقارنة مع ما يملكه الخواجا داوود من عتاد، لكن إرادة الفلاحين من حديد للاحتفاظ بأرضهم واسترداد الحرية))، هذا ما كان إسحق يفكر فيه. كان همه الوحيد الوصول بسرعة. بقيت بسمة صامتة، كانت تفكر كما يفكر إسحق، وتقول لنفسها: يجب الوصول بسرعة. وعلى حين غرة، رفع إسحق يده، وأمرها بالوقوف. اقتربت بعض الأشباح من بعيد، فصعد إسحق وبسمة بالبغلين سفحًا صخريًّا بصعوبة، وكمنا من وراء الصخور. رأيا ابن السيد مكممًا معقود اليدين، وعرفا الرجلين الآخرين.
تدحرجت الحجارة مع إسحق، وإذا به أمامهم:
- إسحق!
لم يقل إسحق شيئًا. كانت تطحنه الدهشة على رؤية ابن السيد في تلك الحال.
أوضح أحد الفلاحين:
- باع الأسطى والآخرين، وها نحن نأخذه إلى الثوار ليحاكم.
مادت به الأرض: ابن السيد يبيع الأسطى! ما هو مصير الأسطى؟ لكنه بقي معقود اللسان لاستغرابه وغضبه.
تدحرجت الحجارة مع بسمة إلى أن وقفت قربهم. في الأخير، نطق إسحق:
- أين الأسطى الآن؟
- في أيدي الخواجا.
خفض ابن السيد رأسه، وهو يتوقع أن يلكمه إسحق. سأل أحد الفلاحين:
- هل الطريق خطرة؟
بقي إسحق يعقد بين حاجبيه، ويتأوه:
- اسلكا هذه الطريق الوعرة، إنها الأقل صعوبة.
أحس ابن السيد بالهوان تحت نظرة إسحق الذي قفز يتسلق الرابية. دق أحد الفلاحين ابن السيد في خاصرته، فاندفع إلى الأمام. نزل إسحق بالبغلين، فصعدت بسمة حتى منتصف الرابية حيث توقف أحد البغلين، وسحبته من رسنه. عندما اقتربت من إسحق، سألته:
- أليس هذا ابن السيد؟
هز إسحق رأسه.
- ألم يكن يعمل لكم؟
فتح عينين واسعتين:
- أكاد ألا أصدق!
أضاف بتأن: لقد باع الأسطى.
أزاح عينيه، وراح يسبر أغوار الليل:
- كان أشد الناس به ثقةً والتصاقًا.
* * *
قنديل معلق على شجرة، وعلى الحشائش فراء، وعلى الفراء هاجر، والكلب على مقربة منها. كانت تميل إلى جانب، وهي تداعب بأصابعها الحشائش، وكان الكلب لا يتحرك. كان إسماعيل يجلس على كرسي، وهو يرنو إليها... وكالكلب كان لا يتحرك. كانت النسمة باردة، وهما في ثياب الصوف، وكانت الأشجار في الحديقة تهتز مع الأنسام، والغيم يزداد كثافة. رفعت عينيها نحوه، وابتسمت. بقي صامتًا، وهو يرنو دومًا إليها، والجذوة الصفراء للقنديل تكسو وجهها.
* * *
كانت تلك كأسها الرابعة أو الخامسة، أطفأت سارة سيجارة، وأشعلت أخرى. نفختها بعصبية، ونهضت: في فوضي كان شعرها، دون عاشق، دون رُقاد، تائهة. كسرت سيجارتها في الصحن، وأشعلت الشمعدان. صعدت إلى حجرة إسماعيل المفتوحة على دفتيها دون أن تجده. ازدادت هيئتها بشاعة. عادت تهبط الدرج إلى حجرتها. جرعت كأسًا، وأخذت تروح وتجيء، وهي تغذ الخطى. أشعلت سيجارة ما لبثت أن سحقتها، ثم اتجهت إلى النافذة. دفعت خشبها بقوة، وبحثت عن الحارس بعينيها، فلم يكن هناك.
أحست بالجنون لها دنيا ومتاعًا.
هرعت تجري إلى الباب الخارجي، وأخذت تبحث عن الحارس. كان الليل شديد العتمة، والنسمة شديدة البرودة. طار ثوبها الشفيف، وهبت بها شهوة مدمرة. عادت إلى القصر، وهي تضرب الباب بقوة. تعالى صدى هائل في القصر، ففقدت رشدها، وراحت تعدو بين الأعمدة. أين يمكنه أن يذهب، هذا الحارس الخنزيز؟ ألم تعجبه مضاجعتها؟! أبطأت الخطى حتى جمدت. التفتت إلى الناحية التي توجد فيها حجرة مرجانة، وجعلت بابها يسيل بهدوء. مليون خيال أحمر: كانت ألسنة اللهب تفرقع في المدفأة. عندما دخلت، رأت مرجانة تنام عارية، وهي تدير ظهرها. يا إلهي! أهذه هي جهنم الآخرة أم جهنم الدنيا بكل ما فيها من عربدة ولذة وجنون؟ زحفت حتى رأسها، وراحت تتأمل جسدها الأسود الذي استرق لون النحاس. تبدلت صورة سارة تمامًا، وغدت امرأة مجنونة بالنار والنحاس، مجنونة برائحة الكافور والدمار. ذهبت إلى الناحية الأخرى للسرير، وسحبت أصابعها على ورك الخادمة، ثم على خصرها، ثم على نهدها، واقتربت بشفتيها لتقطف من شفتيها القبلات الولهى.
* * *
خلال ذلك، كان إسماعيل يداوم على الرُّنُوِّ إليها، وهي تبتسم، حتى غشى الدمع عينيه، لكنهما بقيا على حالهما حتى انطفأ القنديل.
* * *
ترك إسماعيل رأسه يسقط، وهو يطلق أنينًا مختنقًا. تحامل على نفسه، ورفع رأسًا منهكًا بين الظلال. سقطت الكأس من يده، وتحطمت، فنهض مثقلاً، مشعث الشعر، مكشوف الصدر. جاء البوفيه، وأخرج غليونًا صغيرًا حشاه بالحشيش، وراح يشربه بشراهة، وهو يسعل، حتى تخدر. قبل أن يتمدد، رفع عينين ذابلتين إلى صورة أمه التي تترنح ابتسامتها المحتضرة على طرف شفتيها.
* * *
اندفع الحصان الأبيض بعربة اللوكس الصغيرة، والحارس يسوطه بقوة، بينما كتل من الرماد تتساقط من منفضة النهار. قطع الطريق الخارجية الدائرة بالقرية، ثم وصل إلى القصر. فتح الحارس الباب لمستر كلارك، ورافقه إلى الداخل. تركه في قاعة الانتظار، وسارع إلى حجرة إسماعيل. نقر الباب نقرتين، ثم نقرتين، فقفز إسماعيل من السرير، وهو يفرك عينيه. طلب إليه الدخول، وهو يتثاءب.
هتف الحارس:
- مستر كلارك هنا كما أمرتم، يا سيدي الباشا إسماعيل.
دفع إسماعيل عنه اللحاف، ونهض خائرًا:
- هنا؟
وتثاءب من جديد.
- نعم، يا سيدي الباشا إسماعيل.
- يجب أن أرتدي ثيابي.
ذهب بقدم ثقيلة إلى ستار من المخمل الأحمر.
- هل أطلب منه الانتظار، يا سيدي الباشا إسماعيل؟
جذب الستار، وهو يبذل جهدًا، فبانت المغسلة:
- لا، دعه يصعد.
- حاضر، يا سيدي الباشا إسماعيل.
غسل إسماعيل وجهه، ومسحه. ترك شعره مشعثًا، وارتدى روبه بلا مبالاة. فجأة، نظر إلى نفسه في المرآة، فاقترب بوجهه من وجهه مذهولاً. يا إلهي! كانت التجاعيد تحفر وجهه في كل نواحيه، وكانت الدوائر الداكنة تحيط بعينيه اللتين لمسهما بحذر. قلب في ذقنه النظر، ثم رفع ظهره المنحني وعنقه. لا، لن يحاول خداع نفسه، حقًا كان يحس بالشيخوخة. ترك كتفيه يتساقطان، وألقى نظرة رعب على صورته. طرق الحارس الباب، فجر نفسه حتى الكرسي التي في الصدر، وهو يلهث. اختلجت شفتاه، وهتف بتعب:
- ادخل.
فتح الحارس الباب، وانحنى في فُتحته، دون أن يترك قبضته:
- مستر كلارك، يا سيدي الباشا إسماعيل.
اندفع مستر كلارك صوب إسماعيل بكثير من الضجيج:
- يسعدني، يا باشا، أن تستقبلني في حجرتك، هذا شرف عظيم لي، ويسعدني كذلك أن تبعث بعربتك الخاصة للمجيء بي إلى هنا.
بعد أن سلم على إسماعيل بحرارة، جلس على الكرسي المقابل، وأضاف:
- ويا للمصادفة! كنت مزمعًا على المجيء لألقي عليك تحيتي الأخيرة، ولأودعك وداعي الأخير، فقد حزمت حقائبي، وسأرحل بين لحظة وأخرى.
سأل إسماعيل مثقل اللسان غير منتبه تقريبًا:
- هل تريد أن تشرب كأسًا؟
فاجأ مستر كلارك السؤال. أجاب، وهو يغدق بسماته:
- لا، يا باشا.
أشار إسماعيل بيد مثقلة إلى البوفيه:
- سنشرب مع هذا نخبك.
ابتسم مستر كلارك نصف ابتسامة، وإسماعيل يقول بصوت جسيم:
- الخمر والكؤوس هناك، أعد لنا ما نشرب.
نظر مستر كلارك إلى حيث أشار الباشا، ونهض. أخرج كأسين طويلين، وحمل زجاجة موضوعة على البوفيه منذ ليلة البارحة.
قال إسماعيل:
- هذه فارغة.
أمالها مستر كلارك ليتأكد من كونها فارغة، وأعادها إلى مكانها. سحب من البوفيه زجاجة ممتلئة إلى نصفها، وصب المائع الأحمر في الكأسين. قال مستر كلارك، وهو يقدم لإسماعيل الكأس:
- هذا شرف عظيم لي، يا باشا.
تناولها إسماعيل، رفعها إلى أعلى ما يكون، وحدق في مضيفه:
- سنشرب نخبك، يا مستر كلارك، للاحتفاء بانتهاء مهمتك.
قال مستر كلارك:
- نخب صحتك ونخب سعادتك، يا باشا.
وقرعا كأسيهما.
أخذ إسماعيل جرعة، وضغط أسنانه، ثم فتح فمه، وأمال رأسه إلى جانب.
قال مستر كلارك:
- هذه لحظة لن أنساها أبدًا.
- لحظة الاحتفاء بانتهاء مهمتك.
أمال رأسه إلى الجانب الآخر. علق مستر كلارك:
- لقد كانت مهمة صعبة.
قال إسماعيل وهو يحافظ على رأسه مائلاً:
- إلا أن هناك إجراءين اثنين بقيا دون أن تنجزهما.
- ما هما، يا باشا؟
استقام إسماعيل برأسه:
- انسحاب الخواجا داوود من الأراضي التي احتلها، ووقف هجرة اليهود في الحال، هؤلاء الأجانب الآتين من كافة أنحاء العالم ليغزوا بلدنا.
ابتسم مستر كلارك ابتسامة واسعة، ووضع كأسه:
- لم يعد هذان الإجراءان من صلاحياتي.
صاح إسماعيل:
- بلى!
وهو يخبط ذراع الكرسي.
اقترب برأسه أقرب ما يكون من وجه محدثه، وقال:
- هدف كل مهمتك كان هذا، وها أنت الآن ترفع يدك!
استند مستر كلارك على ظهر الكرسي، وقال عابسًا:
- أنا لا أفهم ما تقوله، يا باشا.
ضغط إسماعيل أسنانه، وهو يزيد من نبرته حدة:
- أنت تفهم جيدًا، يا مستر كلارك. أنت تفهم جيدًا ما أقول. سيسمح لكم تهويد فلسطين بإخضاع كل العالم العربي، وإلى الأبد.
بقي ينحني عليه لفترة، وهو يتفحص سحنة مستر كلارك المتبدلة. لم يجد هذا الأخير شيئًا آخر يقوله غير:
- هؤلاء المساكين من المهاجرين اليهود يهربون من الفاجعة التي عاشوها مع النازيين، أقارب للخواجا داوود عانوا عبر التاريخ، وذبحهم الألمان.
- هذا لا يبرر البتة تبديل فاجعة بأخرى.
قال ما يقوله الخواجا دائمًا:
- كانوا هنا، يا باشا، منذ ألفي عام.
- ونحن، نحن هنا دومًا. الزمان يبدأ بنا، وتعجز عن عده الأعوام.
بعد قليل، أضاف الباشا إسماعيل:
- ليس لدينا أي مشكل مع الخواجا داوود، نحن نعيش بسلام معه، حتى اليوم الذي بدأ فيه يعمل سياسة ويملأ رأسه بكل هذه الأفكار المظلمة.
أخيرًا، قال نائب المندوب السامي دون لف أو دوران:
- صهيون، عالية، أرض مقدسة، أرض موعودة، أنا أعرف، كل هذا هلوسة ولا يمت إلى المنطق بصلة، يا باشا، ولكن... ليس هذا سوى رأيي الشخصي.
- رأيك الشخصي!
- ربما كان بإمكاني أن أفعل شيئًا قبل رحيلي.
عند تلك اللحظة بالذات، اعتدل إسماعيل. ذهب إلى المرآة، ونظر إلى مستر كلارك من ظهره.
- ماذا بإمكانك أن تفعل؟
- اقترح ما تريده.
ابتسم إسماعيل بسخرية:
- جميل أن أسمع منك هذا! من يسمعك يعتقد أنك ستعمل على ما أود اقتراحه.
وثب مستر كلارك:
- كنت طوال إقامتي هنا من أشد المخلصين للباشا والدك.
- لا شك في ذلك، يا مستر كلارك.
دون أن تفارقه ابتسامته الساخرة.
- أنت لا تثق بي؟
امحت ابتسامة إسماعيل، تشنج، ونظر إلى محدثه:
- إنه إنذاري الأخير. يجب أن ينسحب الخواجا داوود في أقرب الآجال، وأن يتوقف توافد أصدقائه. أكلفك بهذين الإجراءين الأخيرين، وسأنتظر جوابك حتى الساعة السادسة.
نظر إلى ساعة جدارية عتيقة تجاوز عقربها منتصف النهار:
- حتى الساعة السادسة، هذا المساء.
نهض مستر كلارك بسحنة غامضة:
- سأبذل قصارى جهدي، يا باشا.
- حتى الساعة السادسة، هذا المساء.
- انتظر رسولاً من طرفي.
- وإلا، تصرفت باسم المصلحة الوطنية. إنه إنذاري الأخير.
غادر مستر كلارك الحجرة.
* * *
عندما رافق الحارس مستر كلارك، كان رقاص الساعة الضخمة في القاعة الحمراء يبتعد بعقربها الكبير خمس دقائق عن منتصف النهار: وأخذ الوقت يمضي، ساعة بعد ساعة، إلى أن أنهى عقرب الدقائق دورة الساعة الخامسة، والقرعات الصاخبة تدوي في أرجاء القصر.
نزل إسماعيل الدرج بتؤدة، كان شعره المفروق مبلولاً، وكان تفصيل بذلته كلاسيكيًا. كان يبدو منهكًا، ووجهه مغلقًا من وراء الصمت. دخل الردهة الحمراء مع آخر قرعة، رفع نظره إلى ميناء الساعة، وجلس مراقبًا زحف العقرب.
الساعة السادسة، وهو دومًا جالس في مكانه دون أن يبذل أدنى حركة. سيكون رسول مستر كلارك هنا، حسب الاتفاق، بين لحظة وأخرى.
الساعة السادسة وعشر دقائق. نهض ليأخذ كأس نبيذ، وعاد يجلس في مكانه. الساعة السادسة وعشرون دقيقة.
* * *
انطلق عيار ناري، فسقط أحد الفلاحين الذين يعملون في الأرض صريعًا. سارع البعض بفؤوسهم إليه، لكن عيارات نارية أخرى أردت آخرين. تراجع بعض الفلاحين، وزحف بعضهم لسحب القتلى.
* * *
هبط إسحق المنحدر، وهو يجري، وتركت بسمة الطاحون، وهي تسارع الذهاب إلى حيث يحفر أبوها الخندق. ضرب طائر جناحيه من الغضب في الغروب، ودنا الليل.
* * *
الساعة السابعة وعشرون دقيقة.
* * *
رفع مأمور المخفر بندقيته، وصاح برجاله صيحة مجلجلة: كانوا بين عشرين إلى ثلاثين رجلاً من بينهم زقاقيو المقهى، وكانوا يزحفون بقنابيزهم الملوثة أو سراويلهم الفضفاضة، وهم يسحبون شباشبهم المقطعة أو بساطيرهم الضخمة المفغورة الأفواه. كان هناك من هو حافي القدمين، ومن هو مغطى العينين بحطته الساحلة. كانت شفاههم غليظة، ووجوههم ملتهبة ومقطبة. امتدت أصابعهم، وطق كل منهم الزناد طقته الأولى. تقدمهم مأمور المخفر بشاربيه المديدين وطربوشه القاتم. كان يربط صدره وخصره بأحزمة الرصاص. فقط دورة صغيرة، يا مأمور! كنت جنديّاً شجاعًا تخشى صولته الأعداء في صفوف الجيش التركي! قلدك ضابطك ميدالية فضية! فقط دورة صغيرة! ظهرت له بنادق الأعداء ما وراء المتاريس من حول المستعمرة، فأبطأت خطوات الغضنفر، وترك رجاله يتقدمون إلى أن وصلوا حدّاً أمرهم الوقوف عنده، وأمرهم الوقوف في صف واحد، وإشهار بنادقهم استعدادًا للهجوم. ثم... أعطى بصيحة واحدة مجلجلة إشارة الهجوم. ركضوا باتجاه المتاريس، فزخ الرصاص عليهم كالمطر، رصاص الجيش الإنجليزي والهاغانا. سقط بعضهم، وترنح بعضهم. صاح المأمور بهم كي يتقدموا، بينما هو نفسه يتقهقر، فزخ الرصاص عليهم كالمطر من جديد، وانفجرت القنابل. دبت النار في الأرض، وفي الشجر، وفي العمود الفقري. تمكن البعض من إطلاق الرصاص على المتاريس، وقذف بعض القنابل، ولكن.. كان الهرب من المستحيل، فهجوم العدو كان عنيفًا. أعطى القائد ساقيه للريح هو وثلاثة آخرون، فزخ الرصاص أقوى ما يكون. أصيبوا في ظهورهم، فسقطوا بدورهم. انتشرت بعض الحرائق، وتصاعد بعض الدخان، وأزت بعض الرصاصات الطائشة.
* * *
الساعة الثامنة وثمانون دقيقة.
* * *
أمال جذعه إلى الأمام، وهو يدفن رأسه في كفيه معتمدًا بكوعيه على ساقيه. كان عقرب الدقائق يزحف نحو الهزيمة، وكانت الأشياء من حوله تقطع مع معناها العريق لتغدو بلا معنى. كذلك الضوء، وظله المنكسر على السجادة. كان كل من يراه يظن أنه لم يعد حيًا، معتمدًا على عصا سليمان، ريثما ينهشها العُث ليسقط سقطته الأخيرة. أخذ عقرب الهزيمة يتحرك، وإسماعيل لا يتحرك. كان يريد أن تلحق الهزيمة به دون حراك ليكون عيشها أقل عسرًا! وكان يعلم أن الهزيمة بالنسبة له من حيث العسر هي المنتهى، نهاية كل شيء. لكنه هو، كان بلا بداية. أبوه، وأبوه وحده من كان قادرًا على صنع النهاية. وها هو اليوم منطوٍ على نفسه، تجاوزته بداية الأحداث، كما تجاوزته نهايتها.
* * *
قرعت الساعة معلنة التاسعة مساءً، ثم العاشرة مساءً، فالحادية عشرة، وأخذ دبيب العقرب يزداد ارتفاعًا، وهو يزداد اقترابًا من منتصف الليل، ولم يأت رسول مستر كلارك.
* * *
أخيرًا، دبت في أصابعه حركة الديدان، فرفع رأسًا مكتئبًا، ووجدها، هي، تقف من أمامه. سارة. كأس بيدها، شائهة، مقطبة، محفورة. ظن إسماعيل نفسه في كابوس أزاله صوت سارة مع ذلك:
- هل تنام؟
همهم مهلكًا بالنعاس:
- لا أريد النوم.
- لا تريد أم لا تستطيع؟
افترت شفتاها عن بسمة باهتة، وظن للحظة أنها تترنح:
- كل مهزوم يقول ما تقول.
سألها دون أدنى سخط:
- هل أنت ثملى؟
خطت خطوة، وكأنها تعثرت به:
- أنت من علمني الشرب. إنه لذيذ!
استند إسماعيل بظهره على الكرسي، وبدا عليه أنه مريض جدًا.
- هل تأخذ كأسًا؟
تحامل على نفسه ليقف، ونبر:
- هل أنت معتوهة؟
ضحكت بخفوت، ثم بسعر:
- إنها كأس انتصاري!
استدار:
- لن أستمع إلى ترهاتك.
قطعت ضحكتها، وهي تؤرجح الكأس:
- عندما وصلني الخبر قلت لنفسي كل شيء انتهى بالنسبة لك، وبالنسبة لي كل شيء يبدأ. إنه يوم ميلادي الجديد. كم أنا سعيدة!
استشاط:
- أنت معتوهة!
- وسأظفر بك.
قهقهت، فسارع إليها، ونفضها من خاصرتيها. قطعت قهقهتها، فجأة... وتراجعت، منكسرة انكسار امرأة ثكلى. همهمت بشفتين حامزتين:
- أعرف. يا لي من امرأة بائسة!
فتحت شفتاها ببؤس، وشربت كأسها:
- أليس هذا ما تفكر فيه؟
- أنا لا أفكر في شيء على الإطلاق.
- صحيح... لا شيء يبقى بعد الهزيمة.
اقتربت من الخزانة، وتناولت كأسًا له:
- اشرب، إذا كنت ظامئًا.
- لست ظامئًا، لكنني سأشرب.
جرع الكأس دفعة واحدة.
- أتريد أخرى؟
هز رأسه، وهو يضغط أسنانه. ملأت كأسها وكأسه.
- هل أنت تعيس؟
فكر، وسأل:
- ما معنى السعادة؟
- أن تكسب الحرب مثلاً.
- لماذا لا تقولين أن أحول دون وقوعها؟
- وإن وقعت؟
ذهب إلى الرقاص، ووقف أمامه. خفض رأسه، وقال:
- طوال حياتي، كان يهتف بي صوت، في داخلي، لم أعرف أبًدا ما يريد.
- هل كان صوت أمك؟
رماها بنظرة حانقة، دون أن يبذل أية حركة، دون أن يقول أية كلمة.
- لا أفهم ما تعني.
- ليس هذا غريبًا.
- لا يهمني ما تعني.
- إنه يوم ميلادك الجديد!
- ألا تصدق؟
- كثيرًا ما تلد الهزيمة الهزيمة.
جرعت كأسها، وزحفت خلفه. أحاطته بذراعيها، وأنامت خدها على ظهره. همهمت:
- أو الانتصار.
ابتلع ريقه، وأعاد موافقًا:
- أو الانتصار.
- أما أنت، فلم يعد بمقدورك تحقيق لا الهزيمة ولا الانتصار.
انزرعت أمامه بوجه معنف، وقبضت عليه من ذراعيه:
- أليس كذلك؟
ثم تركته، تعبة، كهلة:
- إنني شقية، فاعذرني!
- قلت إنك سعيدة منذ قليل.
- إنني شقية!
شربت كأسها، وهي تفنى أكثر فأكثر، ووضعتها جانبًا:
- إنني شقية! وميلادي الجديد كذبة!
- لماذا لا تنتحرين؟
- لا أستطيع.
- لا تستطيعين أم لا تريدين؟
ابتهلت باكية:
- هلا ساعدتني.
أعطاها ظهره، وذهب إلى المدفأة:
- لا نار في المدفأة.
لكن إسماعيل بقي يحدد فيها النظر دون أن يفوه بكلمة. انفجرت صارخة:
- أنت جبان!
صمتت فجأة، ومسحت دموعها. أعطته ظهرها، وذهبت، منهكة. جرع إسماعيل كأسه دفعة واحدة، وخفض رأسه معتمدًا على المدفأة.
* * *
منتصف الليل.
* * *
بينما القرعات الأربع والعشرون لمنتصف الليل تدوي، كان الرجل الإنجليزي ذو القبعة السوداء وربطة العنق السوداء والبذلة السوداء والمحفظة السوداء ينذر إسماعيل (( إنذاره الأخير )):
- تبعًا لخرقكم أوامر الأمن العسكرية، ولرفضكم كل محاولاتنا السياسية التي تعرفونها، والتي كانت كلها فعالة، ولغلطتكم، يا باشا، لم يعد بإمكاننا أن نقدم لكم يد العون، ولا أن نعينكم على معالجة ما بينكم وبين الخواجا من سوء فهم. لقد كان لجوؤكم إلى السلاح لحل المشكل عملاً انتحاريًا، وزيادة على ذلك، لم نكن على علم بالأمر. لهذا لسنا مسئولين عن النتائج بمجملها، ولا عن الوضع الجديد. لقد كلفني الخواجا – أنا شخصيًا- أن أطلب منكم تسليم القصر خلال ثمان وأربعين ساعة، وسيسهر على نقلكم إلى البلد العربي الذي تختارونه. وقبل أن أترككم، يا سعادة الباشا، أرفع لفخامتكم تحيات المندوب السامي ومستر كلارك الودية.
* * *
دخل عليها حجرتها، فوجدها تستلقي على السرير، وهي تدخن. عندما رأته، افترت شفتاها الباهتتان. كان ذلك مطلبها منذ زمن بعيد، أن يدخل عليها حجرتها. وقف على بعد مترين منها، وهي تذوب في الدخان، وهي تزفر نفخاتها الأخيرة. كان الضوء ضعيفًا، أصفر بالقوة. وكانت الظلال باهتة كشفتيها، تطوف بالكآبة. أطفأت سيجارتها، وفكرت فيه. لماذا هو هنا؟ وماذا يفعل الآن؟ خلع إسماعيل كل ثيابه، وتقدم منها ببطء. ضاجعها، وضاجعته. عندما انتهى، انقض على عنقها، وخنقها.
نهض، والعرق يصب منه، خائر القوى. ارتدى ثيابه، وجرها إلى الخارج نحو الحصان الأبيض، والعربة اللوكس الصغيرة. رماها في الداخل، وأخذ مكان الحوذي. سار الحصان بتؤدة شديدة، وإسماعيل يشم الليل. لقد قتلها. لقد قام بفعل ما، كان القتل. لقد قتلها بالفعل. والنتيجة؟ كانت لا تهمه النتيجة، بما أنه أضاع كل شيء. عاد يراها، وهي تقاوم كالسمكة، عندما انغرست أصابعه في عنقها. عاد يرى عينيها المنفجرتين، ولسانها المتدلي، واللحم الميت الذي زلق تحته.
صفرت الريح من حول إسماعيل، وسقطت الغيوم الكثيفة حتى الأرض. راح يستمع إلى وقع الحوافر على الطريق، وكأنها كانت نزهة الحصان! وها هو يقطع الطريق على هينته، والعربة تتبع، وإسماعيل يتبع، والبقية التي لا يملك سرها ولا مفتاحها تتبع أيضًا من جهة ما من جهات القرية.
اخترق الحصان زقاقًا طويلاً لا ينتهي، ورغم ذلك، لم يحث الحصان على الإسراع. تركه يتقدم ببطء، ببطء شديد. رفع رأسه مرات إلى سقوف البيوت العتيقة، ونظر إلى النوافذ والأبواب. لم يعد يهتاج، وهو يلامس بجسده جسد الليل، كالماضي. انتهى خوفه من الظلام، ربما صار يخاف النجوم الآن. رفع رأسه مرات إلى السماء السوداء، لم تكن كواكب هناك، ولا نجوم.
أوقف الحصان أمام المصبنة، وفتح البوابة على مصراعيها. أشعل قنديلاً في الداخل، وعاد ينقل الجثة التي وضعها قرب الفرن. ملأ الفرن بالحطب، وأشعله، وهو يصب الزيت. صعدت النار، وتأججت، وفرقعت.
رمى سارة في الجحيم.
راقب احتراق فريسته جزءًا بعد جزء، ورأى كيف ذابت العينان والشعر والجبين، وكيف شويت عظام الصدر والحوض والفخذين، كيف تكسرت في النار، وهو، كان يغذي النار بالحطب، وهو يقلب ما تبقى من أصابع بملقط. وشيئًا فشيئًا، خبت النار، ثم انطفأت. لم يبق سوى الرماد والدخان.
أعاد غلق المصبنة، وعاد به الحصان ببطء إلى القصر. كان بإمكانه أن يلمس الغيوم لشدة ما كانت واطئة. خرج من الأزقة، ووصل إلى الطريق الترابي، فالقصر، وهو غائب تمامًا. صعد الدرج ببطء، وفتح على هاجر الباب. تأملها بوجهه المحتضر، وهي نائمة، فحزرت حضوره، وفتحت عينيها. بقيت لحظات، وهي ترنو إليه. ثم خرجت من السرير، ورمت بنفسها بين ذراعيه.
* * *
شق البرق الدجنة، ورعدت السماء. رفع إسحق بندقية أمسكها من كشحها، ودفعها بين ذراعي أحد الفلاحين. كانت هناك كمية من السلاح موضوعة على بعض الأعواد، والفلاحون والعمال يحيطون بها: كان كل واحد يريد بندقية. دفع بندقية أخرى بين ذراعي أحد العمال، بينما أضاء القرية نور أبيض شديد الوهج، ثم تفجرت الرعود على التوالي. سيصب الرصاص والمطر، من أجل القمح، وسنحميك، يا قريتي. تناولوا السلاح من إسحق، ومن بسمة الذخيرة. بدا شعر بسمة أشبه بأجنحة الحمام الأسود، والضوء في عيناها بضوء أمل العنّاب. الأرض حبيبتك، يا بسمة! هي أمك! الأرض روحك وجسدك... من أجلها توزعين الطلقات والأضواء. نعم... سندافع عن الأرض، وسنقاوم.
هرع أهل القرية بأسلحتهم صوب الخنادق، وأضاءت بعض الوجوه قبل أن ينفجر الرعد.
* * *
انطرح كلاهما على السرير عاريًا، وهاجر تحدد بصرها إلى السقف، وتهمس:
- كان البحر متلاطمًا وقت الغروب... وكان يحترق شيئًا فشيئًا بلونه الأحمر، عندما كنا نستلقي على الرمل. كان أكبر مني بقليل، علمني الهرب من سور الحديقة إلى شاطئ البحر بعد أن توقفت عن الذهاب إلى بيت أستاذ الموسيقى مع زميلاتي. كان يسكن مع أمه، بوابة المدرسة، وهو وحده من سمحت له الراهبات بملاعبتنا. كنت أحبه، وكان يحبني، وكنا نلعب في الرمل عاريين... وكنا نتعانق في الرمل عاريين...
* * *
تألقت عيونهم، وصوبوا بنادقهم، وأهل القرية على أهبة في كل لحظة للانقضاض على الأعداء.
* * *
وعلى حين غرة، ضحكت هاجر، وهي تجلس عارية على حافة السرير. صبغ إسماعيل لها شفتيها، ونثر شعر الليل الذي لها، وراح يتأملها بهيام، وهو يقرفص في روبه الأحمر. كان نهداها صغيرين، وكتفاها نحيلين. زلقت بين ذراعيه، وقبلته. عندما نجح في التخلص منها، رمى بنفسه على كتفيها، منهكًا، ثم قام ليأخذ كأسًا. رمت عليها قميص الليل، وقالت:
- سأغني لك.

وعَدَتني أن تعود
فأتى الليل على بابي
وحدي أسهر في الليل
تعالوا يا أحبابي

* * *
دوى الرعد والطلقات. اخترقت طلقات أهل القرية الليل، فاشتعل، ومزقت قلب العدو. البنادق تعرف أمنيات الرجال. تحقق رغباتهم إذا كانت نبيلة، ومن أجل الفقير. تخيب آمالهم إذا كانت عدوانية، ومن أجل اقتلاع الفقير. كانت البنادق في الأيادي الترابية كالفؤوس، لها معنى الإخلاص والتضحية بالنفس من أجل الأرض... من أجل شجر البرتقال، والزيتون، والبحيرة، والمنحدر... وشجرات الحور: القرية تدافع عن القرية، وها هو إسحق يطلق منقضّاً كالنمر على الفريسة، ليحقق آمال الأسطى، فيشعر أنه قوي، وأنه شجاع، وأنه يحب دومًا رقية. فجأة، أشارت بسمة إليه: تسلل أحد الأعداء بين أغصان الشجر ليقذف قنبلة، إلا أن إسحق قوّسه في قلبه، فانفجرت القنبلة بعيدًا عن الخنادق. لم تبتسم بسمة، كانت مشغولة بعمل أشياء أخرى غير ما اعتادت عليه. وفي عمق الخنادق، كان أبو بسمة يقف، وهو يطلق الرصاص، وصفوريا تقف، وهي تطلق الرصاص، ونساء أخريات يقفن، وهن يطلقن الرصاص. دقت القلوب بعنف، وتفجرت من الغضب: أيحرقون زرعنا وشجرنا؟ أيحرقون أرضنا وأحلامنا وعضلات الرجال؟ لن تموت القرية طالما القرية تدافع عن القرية.
* * *
قلب إسماعيل رأسه، وحمحم. زحف على الأربع، وهاجر على ظهره تحثه على التقدم. دفعت قدميها في خاصرتيه، ثم انحنت شادة إياه من شعره، وإسماعيل يواصل قلب رأسه، وحمحمته. كانت على الأرض كأس اقترب منها، قرّب شفتيه، وامتص السائل، وهي لا تتوقف عن دفع قدميها في خاصرتيه ليتقدم، ووخزه في ظهره. شبّ محتجًا، وحمحم. دلى لسانه في الكأس، ولعق. أمام إلحاح البنت، عاد يزحف، وهو يقلب رأسه تباعًا، بحركة بطيئة أولاً، ثم أسرع، فأسرع، وهو يحمحم في كل مرة. انتهى به المقام إلى النهيق، والرغوة تسيل من فمه.
كاد يغشى عليها من كثرة الضحك لدرجة أنها كانت على وشك السقوط عن ظهره. انقطعت أنفاس إسماعيل، وبدأت الأشياء تدور في رأسه. تصبب العرق من سالفيه، وتلبد شعره. توقف عدة مرات، ونهق عدة مرات. دفع كلبه الباب، ووجد نفسه وجهًا لوجه معه. أخذ كل منهما يحدق في عيني الآخر، وبدا أن كليهما منهك وعلى وشك السقوط. في الأخير، لم تتمالك هاجر نفسها عن النوم على ظهره لكثرة ما ضحكت، ثم عن التدحرج على الأرض. تلوت، ولفت إسماعيل من عنقه، وهي تلهث. أنّ الكلب على مشهد سيده، ولعق له ذقنه، قلب إسماعيل رأسه زاعقًا: لا!
فنظرت هاجر إليه مستغربة. تركها تزلق على السجادة، وسارع إلى الباب، وهو يأمر الكلب بالخروج، لكنه أبى، والتصق بهاجر التي أخذته بين ذراعيها. كانت حائرة: لم تفهم غضبه من الكلب. قفز إسماعيل عليه، وجذبه من عنقه، والكلب يقاوم، وينبح في وجه سيده كالمسعور. ومن الغضب، أقفل إسماعيل للكلب خطمه بكل قواه، ونشبت معركة صغيرة. في النهاية، تمكن من إخراجه، وأقفل الباب، وهو يستبسل ضد القفل، منهكًا، كمن يبذل آخر أنفاسه. أخذ الكلب يخدش بمخالبه الباب من التهيج، ثم اختفى في أحد ممرات القصر. حاول إسماعيل التحكم بنفسه، فاتجه نحو البوفيه. أخرج غليونه، وحشاه بالحشيش، وامتصه بوحشية. عاد إلى هاجر، وانطرح جنبها. جرع الكأس، وتركها تتدحرج حتى قدم الطاولة. امتص الحشيش على دفعتين، ونظر إليها: كجنية البحر نصفها الأسفل سمكة بألف لون، ونصفها الأعلى هذه الهاجر اللذيذة التي خلبت لبه. زمجرت الأمواج، وهي تلطم الصخور. جذبها بأصابعه المنهكة إلى صدره، وعانقها.
* * *
وعلى الهضبة، دارت محكمة الثورة. تراكم الضباب كالقطن، وعلت البنادق. جلس ابن السيد كالأرنب المنسحق أمام أعضاء المحكمة الثلاثة، والندى يبلل الجباه والجبل العالي. انتظر الفلاحان اللذان ألقيا القبض على ابن السيد إعلان الحكم، وهما ينظران إلى القنديل الموضوع على طاولة خشبية. كان الأمل يترعرع في الجباه كلما لفظ أحد أعضاء المحكمة كلمة الثورة، وكانت النبتات تنمو في شقوق الصخر حيث تعلو البنادق. حانت ساعة الحكم! أصغى كل من كان في المعسكر:
- إن جريمة ابن السيد خيانة الثورة، وهي خيانة عظمى في حق الوطن والشعب، لقد قررت محكمة الثورة إعدام ابن السيد في الحال.
نصبوا مشنقة.
* * *
ألم تزل تطربك أنغام البيانو، يا باشا؟ والخمر؟ ألم يزل يسكرك أم يذلك؟ وعالم الحشاشين؟ أهذه هي نهاية عالمك الذي أنت في صدد عيشه اليوم؟ أهذه هي النهاية الأبدية؟
كانت الظلال كثيفة في الحجرة بسبب الدخان، وهاجر تعزف له مقطوعة من الموسيقى الكلاسيكية على البيانو. أسند ظهره على قدم السرير لئلا يقع، وغدا شيخًا. نظرت هاجر إليه، فأبدى ابتسامة غامضة منكسرة. انحلت ابتسامة أمه، وامّحت في الدخان. كل شيء ليس سوى وهم في هذه الحجرة، إذن ما نفع حقيقتك، يا باشا؟ كل شيء بلا قيمة، وأنت تبذل أنفاس المحتضر الأخيرة! ربما هاجر وحدها القادرة على الإفلات من عالمك، رغم جسدها الملوث بطفولة عابثة. وإذا حصل وأفلتت من يدك؟ فهل ستعرف طريقًا قويمة؟ هل ستعرف وسطًا جديدًا؟ ولكن ما نفع السؤال، وأنتم ملعونون كلكم، صغارًا وكبارًا، ملعونون على الأرض، ملعونون كلكم؟ وعلى الرغم من ذلك، لن يدعها إسماعيل تفلت من يديه، وإذا حاولت الهرب، أنشب مخالبه في عنقها حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة.
جاءت طرقات على الباب، ولا أحد يصغي في الموسيقى والدخان. تردد الحارس قبل أن يفتح، ضجت الموسيقى، ولم يقع على أحد في الدخان. خطا خطوتين، فتوقفت هاجر عن العزف، وبان الباشا إسماعيل ملقى عند قدم السرير. حاول فتح عينيه بعياء شديد، وحاول النهوض، لكنه فشل. قال الحارس:
- المختار وشيخ الجامع والسمسار يرغبون في التحدث إليك عن أمر خطير، يا سيدي الباشا إسماعيل.
أخيرًا استطاع إسماعيل الوقوف على قدميه الخائرتين، ذهب إليه، وهو يصطدم بكرسي.
- قلت لهم إنه لمن المحال رؤيتك في وقت كهذا، لكنهم أصروا على مقابلتك.
فتح فمه بصعوبة، ولم يمكنه النطق.
- ماذا عليّ أن أقول لهم، يا سيدي؟ هم يدّعون أن الهزيمة سببها رئيس المخفر الذي لم يحسن الدفاع عن القرية، والذي هو بطبيعته جبان! هل أدعهم يدخلون، يا سيدي؟
فتح إسماعيل فمه من جديد، وهمهم بصوت أبح:
- لا أريد أن أرى أحدًا.
لوح بيده في وجهه طاردًا، لكن الحارس لم يتحرك من مكانه.
- يخوض الفلاحون معارك طاحنة في البلد.
أعطاه إسماعيل ظهره، وسار منكسرًا. خطوة، خطوتان. انقصف كالغصن، وهو يتشبث بالكرسي، ويعتمد برأسه عليه لئلا يقع.
- أنت مصمم على عدم استقبالهم، يا سيدي؟
حرك الباشا رأسه يمنة ويسرة بأقصى جهد وأقصى ألم. عندما أعاد الحارس إغلاق الباب، زلق إسماعيل ببطء، واعتمد على ركبتيه، وهو يعتمد برأسه على الكرسي دومًا، جاذبًا إياه. لهثت هاجر، وهي تحاول رفعه. أبلغ الحارس الزوار رفض الباشا اللقاء بهم، فأصروا على ذلك. وفي النهاية، أذعنوا للأمر، وغادروا متذمرين.
* * *
والحارس لم يزل يقف على العتبات الخارجية للقصر، وصل البيك على حصانه. كان الليل يشتعل من وراء السور، ثم ينطفئ مع الانفجارات. وكانت الطلقات ترد تباعًا، ثم تنقطع فجأة. وضع البيك قدمه على الأرض، والحارس لا يبذل أية حركة.
- أريد لقاء الباشا حالاً.
أجاب الحارس بجفاف:
- الباشا لا يستقبل أحدًا.
ربط البيك حصانه بعمود، وقال بفظاظة:
- المسألة خطيرة وهامة!
خفض الحارس رأسه بلا انتباه، ودلى شفتيه، مما جعل البيك يهتاج:
- كما أقول لك، يا هذا!
أعطاه الحارس ظهره، والبيك يتبع من ورائه. كانت ردهات القصر معتمة، وأضواء خافتة تتسلل من بين الأعمدة.
- انتظرني هنا، سأذهب لإعلامه، لكنه سيرفض حتمًا استقبالك.
نبر البيك:
- عجل، يا هذا، ولا تكثر الكلام.
حدجه الحارس بنفور، وقطع الأعمدة نحو الدرج. طرق الباب، ففتحت هاجر. دخل الحارس مترددًا، وبحث عن سيده بين الظلال. كان الباشا الصغير ينام في السرير، وهو يدير ظهره. اقترب الحارس، وقال بصوت منخفض ومتهيب:
- البيك هنا، يا سيدي الباشا إسماعيل، وهو يلح على مقابلتك من أجل مسألة خطيرة وهامة.
انقلب إسماعيل على ظهره ببطء وهدوء شديدين، فارتعب الحارس على رؤيته: كان سيده على وشك الموت.
- هل أدعه يصعد...
وإسماعيل يرفض بحركة من رأسه.
-... أم أطلب إليه العودة غدًا صباحًا؟
وإسماعيل يرفض بذات الحركة الضعيفة.
قال الحارس طائعًا:
- أمرك، يا سيدي!
شد البندقية التي على كتفه، وأدار ظهره، لكن صوت إسماعيل الأبح أوقفه.
- نعم، يا سيدي؟
اعتدل إسماعيل على السرير، واعتمد بكوعه على الجانب، وهو يئن بصعوبة. تحسس باحثًا عن علبة دواء حتى وجدها على طاولة الليل. أخذ ثلاث حبات، وأحضرت هاجر كأس ماء.
قال:
- دعه يصعد.
- تحت أمرك.
اعتمد إسماعيل على ظهر السرير، وتطلع إلى هاجر. طلب منها، وهو يبدو منهكًا أكثر فأكثر:
- اذهبي إلى حجرتك.
فخرجت هاجر غير راضية.
أعلن الحارس:
- البيك، يا سيدي.
تقدم البيك بقدم خفيفة، وسلم على إسماعيل الذي ترك يده تسقط على الغطاء بحركة ملأى بالعياء، والبيك يقول:
- آسف لإزعاجك، يا باشا، في هذه الساعة المتأخرة، لكنني أحمل لك أنباء خطيرة.
نظر إليه بانتباه دون أن يفوه بكلمة.
- وصلت رجال الخواجا بعض المعدات الحربية الثقيلة من غجر الكوسوفو، وهم يستعدون لشن هجوم كاسح على العمال والفلاحين من أجل احتلال القرية.
توقف ليرى رد الفعل لدى إسماعيل، ثم أضاف:
- والقرية على وشك السقوط بين لحظة وأخرى.
سارع الذهاب إلى النافذة، سحب الستارة، وفتحها، فتناهت إلى أذني الباشا أصوات الطلقات والقنابل.
- اسمع، يا باشا، إنهم يشددون الهجوم.
وائتلقت أضواء حمراء في الليل.
عاد يغلق النافذة دون أن يقفل الستارة، فابتعدت أصوات المتفجرات، بينما ومضت الأضواء الحمراء بين حين وآخر.
- إنهم على مقربة من القصر.
مضى البيك إلى طرف السرير الآخر، وانتظر جواب إسماعيل، لكن إسماعيل لم يقل شيئًا. كان له نفس ضعيف، وتعابير كما لو كانت لميت.
- ماذا قلت، يا باشا؟
أشاح إسماعيل رأسه إلى الناحية الأخرى، بدا عليه الاستسلام، وفتك به الخذلان. قال البيك بحماس غريب جدًا في لحظة كهذه:
- جئت من أجل إنقاذك. يجب الهرب. انتهى كل شيء. لم تكن غلطتي. كل ذلك بسبب الأسلحة المصرية الفاسدة!
نظر إسماعيل إليه، وابتسامة محررة من الوهم على شفتيه.
- هناك اقتراح مغر ينتهي أجله من حيث المبدأ خلال ساعة: المال مقابل إخلاء القصر. وإلا أضعت، يا باشا، فرصة ثمينة لن تعوض، وسلمت عنقك لحبل المشنقة بمحض اختيارك.
أراد إسماعيل أن يقهقه، لكنه لم ينجح في إعادة تشكيل ابتسامته الشاحبة: إذن هذا هو اقتراحك، يا بيك! هذا هو!
استحثه البيك على البت في الأمر والخروج بقرار:
- ماذا قلت، يا باشا؟ يجب أن تقرر الآن. القضية جد حساسة، والوقت يمضي من أجل لا شيء. هل تسمع؟ القصف يشتد، والطلقات تزداد!
أسقط في يده، فأطلق نفسًا مضطربًا:
- لقد قمت بواجبي، أردت إنقاذك، يبدو أنه لمن المحال!
وكأنه يقع على نظرة إسماعيل المنطفئة للمرة الأولى، شُحذت تعابيره، لم يفكر لحظة واحدة أنه السقوط الحقيقي! خرج، وهو يحمل خيبته، والحجرة تتلون أكثر بالومضات الناجمة عن الانفجارات.
* * *
تتابعت الطلقات، وكسى الوميض الأحمر، وميض القنابل، القرية بثوب النار. وشيئًا فشيئًا، هبت الريح الآتية من الروابي حتى بوابة القصر التي دفعتها، ثم أغلقتها بعنف. وصل غضب الريح إلى قباب القصر، وأرادت الريح هدمها. ومن الرعب، استقام إسماعيل بنصفه الأعلى، ونادى هاجر، لكنها لم تجب. تحامل على حطامه، وخرج من السرير، وهو يدب بقدم منهكة إلى حجرتها، فلم يجد أحدًا فيها. كان قميصها ملقى على المخدة، والستارة ممزقه بمخالب الإعصار. ترنح كالجمل الخائر، وهو يعتمد على العمود الحجري، وصرخ باسمها من أعلى الدرج. لا جواب إلا من حشرجة البوابة. راح يبحث عنها كالمعتوه في الردهات، وفي حجرة مرجانة، وفي القبو. كان الموت في كل مكان، والعتمة الباردة. فكر للحظة في معنى ما هو بصدد فعله، وأقر في طويته أن لا فائدة من كل هذا. ومع ذلك، عاند، فقط بدافع جنون الساعة الأخيرة. خرج من البوابة المشرعة، وتركها بين أصابع الريح. جر نفسه إلى الحقول، وهو يزرع قدميه في التراب، بينما الريح تنفح وجهه، والريح تنفح مجده، دافعة إياه في الهاوية.
* * *
من بعيد، سمع الهيثم وقعًا لحوافر: كان حصان البيك يعدو في الليل فارًا من حقل الألغام، وكان الهيثم ينتظره على الطريق الترابية المؤدية إلى مسكنه قرب سيارتين. وضع الخادم الأسود آخر حقيبة في صندوق السيارة، وأقفله بغضب. صعدت كل عائلة البيك، وتهيأت للهرب. ساق كل من الهيثم والبيك سيارة، وغادرا القرية باتجاه نهر الأردن. تركوه، لأنه أراد البقاء. وقف الخادم الأسود قرب الحصان، وتابع بعينيه أولئك الأسياد الذين يهربون في لحظة جسيمة. سحب الحصان من لجامه، وسار به إلى الإسطبل.
* * *
ذلك النغم العظيم الهادر في الأعالي كان نغم البنادق، وكان إسحق سعيدًا، وهو يعزف على البندقية. كان يحس بالشمس تشرق في أعماقه، وكان التراب يكسوه، فلم تعد بسمة تفرق بينه وبين بشرة الأرض. كانت الأرض تصنع نبضهم كالقلب، وكانت تفجر دمهم كالنبع. اشتد ساعد أبي بسمة الشيخ، وهو يطويه على ساعد التراب. كان حريق هائل من حولهم، وهم يضيئون، وهم صامدون. لهث العدو تعبًا تحت طلقات القرويين، والقرية تقاوم، لأن القرية تشتعل بالأمل، وبحب الرجال. اليوم عيد القتال، وغدًا، سيطفئون الحرائق التي دمرت الشجر، سيزرعون شجرًا جديدًا. غدًا أيضًا ستقلب المعاول الردم، وتنقش الصخر. غدًا، ستجدهم الأرض ليحموها بأذرعهم، مثلما يحمونها اليوم رغم قصف العدو، ونار المدافع، رغم دمار الأكواخ وهدم السلاسل.
* * *
اكتسح حريق هائل أكواخ فلاحي وادي عربة بعد أن حطمتها القنابل، ودوى عويل طفل. كان عليهم أن يختاروا بين المذبحة أو المنفى، ومن يعاند منهم ذبحته ميليشيا الإرغون اليهودية رغم العلم الأبيض، ومن كان محظوظًا بعض الشيء طرده الخواجا. أن تكون يهودي في بلد يهودي هذا هو الحل النهائي، فأهلاً وسهلاً إلى التطهير العرقي بالوسائل الأكثر بربرية! كانت حقيقة المشروع كله أن يتقاسم البلد اليهود مع اليهود، وما بقي للفلسطينيين أن يتقاسموا الصحراء مع العقارب والأفاعي، خصمهم الحقيقي. جرّت قافلة من شيوخ الفلاحين والنساء والأطفال القدم بصعوبة، تبعتها بعض الدواب الهائمة.
* * *
ولم يتوقف الدم عن الانسكاب.
* * *
انبثق صراخ تحت أنصال الحريق، ثم سقط الصمت. ابتلعته النار، وفي الحال، مزق الليل صخب مرعب. وهو، كان يواصل السير بين الأوراق المهتزة. انزاحت الأغصان، وظهر وجه إسماعيل المحتضر. انفجرت قنبلة قوية على مقربة، فقفز إلى جانب، وهو يواري رأسه في التراب. عند ذلك، نزل الكلب درج القصر بسرعة، واجتاز البوابة المشرعة للريح. تمايل إسماعيل في الدخان، وتمزق روبه الأحمر. لا فائدة! واصل جر قدمه في الحقول.
* * *
توالت الانفجارات دون انقطاع، وارتج الكوخ ارتجاجًا قويًّا لقذيفة قريبة. تلوت أوروبا، وهي تسعل في الفراش، وتبصق دمًا. لم تحتمل خالة ميريام، أمها، رؤية وجهها الصغير المعذب المضنى بالسل، ولا سماع سعالها الحاد الخادش كالأظافر. خرجت، وسارت هائمة في الحقول. كانوا يموتون من أجل الحقول. تعثرت خالة ميريام بالموت، فأخذت تبكي، وتشتم، لكن القنابل غطت على صوتها. تأملت بركة الدم هذه، والقلب المفتوح على الأرض ذاك، ثم توقف كل شيء إلى الأبد هناك. كانت شحنة من الطلقات قد مزقت صدرها.
* * *
رغم الموت الآتي من الغرب، فإن البحيرة كانت تسطع بنورها الأبدي. ذهب إسماعيل إلى ضفافها، وهو يملأه الذهول، دون أن يدرك ماذا تعني بحيرة النور. لم يعرف أبدًا ماذا تعني أرض إسحق لإسحق، وماذا يمثل المنحدر الذي صعدته رقية، ولا خبز الطابون. لم يعرف أبدًا حب إسحق لشجرات الحور. الآن وهو بصدد الغرق في البحيرة، هل يدرك ما عجز دومًا عن إدراكه؟ هل يعرف الآن أية علاقة تربط إسحق بالماء؟ هل يعرف حقيقته والماء يغطي الآن كتفيه، فعنقه، فرأسه؟ هل يسقط الآن في أعماق الماء بحثًا عن عالم النقاء؟ بقبقت أنفاسه المحتضرة على السطح، وهي ترفع الموج الموجع، وجاء نفس الريح من فوق الروابي.
* * *
لقد تم التنفيذ.
لم يزل جسد ابن السيد يتشنج على حبل المشنقة، ومن حوله حركة غير عادية. كان الثوار يستعدون للهبوط إلى القرية، من أجل أن يدعموا الرجال. بعضهم أخذ الدروب الوعرة مشيًا على الأقدام، وبعضهم امتطى الأسرجة، والخيول تصهل على حرارة فرسانها.
* * *
دكت الحوافر الصخر، ووثبت في الوادي. احتفت السماء بمقدمهم، فأضاء الكون نور أبيض شديد الوهج، تبعه قصف الرعد.
* * *
انتفضت البحيرة، وهي تلفظ من أعماقها جثة إسماعيل المنتفخة التي طفت على السطح.
* * *
هرع الكلب في النار كالمجنون، وهو ينبح بحثًا عن سيده، عبثًا يبحث عن سيده.
* * *
نعم، كل هذا نسخة مطابقة لما كان في جزيرة العرب، كانت الحقيقة هناك، وعلى الحقيقة أن تكون هنا. اندثر ما اندثر، وباد ما باد، ولكنني لم أزل موجودًا، بأحلامي مهما كانت شرسة، بإنسانيتي مهما كانت بربرية، وبسلطتي التي يجب عليّ أن أركّبها عنصرًا عنصرًا كنوع من لعب الورق المعقد، سلطتي أنا لأنني أنا هنا والآن، أو سلطة غيري، فلا بد من أن يوجد أحد غيري... ومثلي. نصب آدم مردخاي مسدسه نحو قلبي ماريك وموزارسكي، وأطلق: على الحقيقة أن تكون حقيقتي. وفي اللحظة نفسها، جاءت ريح صرصر من أعماق الصحراء، وراحت تهب، فتثور الرمال، وتسقط أعمدتها عليه.
* * *
علت أصداء الحوافر، وتجاوبت من كل الجهات. ها هم يأتون. في الطريق. مع الفجر. بالبنادق والغيوم. سيصب الرصاص والمطر. من أجل القمح. سيأتون كلما هبت الريح من أعالي الروابي. روابي القدس والجليل. سيأتون بالريح والمطر. وهم يرفعون إلى أعلى البنادق. وهم يرفعون إلى أعلى الجباه. سيأتون من كل صوب. من كل الطرق. كالشمس. سيأتون دومًا.



29 شباط 1973 / باريس
تمت التنقيحات والإضافات يوم الأربعاء 12 يناير 2011 / باريس



أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

ramus105@yahoo.fr


الباشا أول رواية عن النكبة في الأدبين الفلسطيني والعربي، وأول رواية عن المحرقة في الأدب العالمي بمقاربة جديدة ورؤية جديدة، وهي كثلاثية محفوظ يمكن اعتبارها من كلاسيكيات الأدب العربي، وحتى من كلاسيكيات الأدب العالمي لما فيها من رجوع دائم غير مباشر إلى تولستوي ودوستويفسكي ومارغريت ميتشيل وغيرهم، وعلى الأخص فيسكونتي في غروب الآلهة. إنها رواية أولئك الذين أسقطوا (وكذلك الذين سلبوا) فلسطين سنة 48، تحكي عن لحظة غروبهم التاريخية تلك، إلى جانب لحظات أخرى نضالية لم تزل تشرق خالدة رغم كل ما جرى من أجل طمس معالمها ومحوها. القرية (وكذلك الغيتو) أهم بطل من أبطال الرواية، إنها القرية (( النموذج )) التي استوحاها أفنان القاسم من تكون الأحداث وتشكلها، وترك الحلم ليكون فضاءها الأوحد رغم الكارثة وربما بسببها. هذا وقد نقح الكاتب (( نسخة بغداد )) المشوهة – عندما احتج أفنان القاسم على عدم مراجعة وتصويب الرواية بعد طباعتها أجابه مسئول ذلك الوقت إن المسألة حضارية!!! - كي يقدم للقارئ في الطبعة الثانية للباشا هذه نصّاً ممتعًا خاليًا من الأخطاء. ولنذكر أن راديو بغداد قد قام بتمثيل هذه الرواية وبثها على حلقات، كما أن المسرح الكندي في الكيبيك قد قام بعرض مقتطفات منها بعد ترجمتها إلى الفرنسية، وفي باريس يعتبرها بعض رموز الخضر مطابقة لموقفها السياسي، وبعض المستعربين، خاصة البروفسور محمد أركون، الوجه الآخر، الوجه الفقيد لأدب المهجر.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...