المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشمس العمياء


AshganMohamed
01-13-2020, 12:28 AM
الشمس العمياء
- كلوديا جيمسون - أحلام القديمة كاملة ...



1/ وجهاً لوجه

نضمت بريندا توماسن إلى شقيقها حول مائدة الفطور ، وتوجهت عيناها نحو النوافذ لترى تساقط الثلج الذي تجمع طوال الليل .
- أنظر إلى الطقس ! من توقع هذا في وسط شهر آذار ؟
- صباح الخير بريندا .
قدم لها دان شاي ثم حرك إبريق الحليب الصغير و ( الكورنفليكس ) نحوها على الطاولة وأضاف ك
- هذه انكلترا عزيزتي ..فحتر في آذار يتساقط الثلج .يستحسن أن تمهلي نفسك بعض الوقت قبل أن تذهبي إلى باكنغها مشاير ..فثمة عاصفة قوية قادمة وقد تسبب تراكم الثلوج في الريف ..متى موعدك ظ
- في الثالثة ، دان ألن تعيد التفكير في النقاش الذي جرى بيننا ليلة أمس ؟
- قال بحزم : لا .
ثم ابتسم ابتسامة اعتذار :
- إنه لطف كبير منك أختي ..لكنك قومت الكثير لعائلتك في الماضي ولن أسلب منك شبابك بالسماح لك أن تكوني مدبرة منزل دون أجر وأم بديلة لطفلي .
توقفت ملعقة بريندا في الهواء ..ثم أعادتها إلى مكانها وضحكت :
- تلبني شبابي ؟ أنا في الرابعة والعشرين تقريباً ولا أعيش حياة فخمة ! ولن تسلبني شيء ! سيكون الأمر مجرد استبدال عمل بآخر ..
- هل حصلت على تعليمات للوصول إلى ذلك المكان ؟
فهمت بريندا من مقاطعته لها أن الموضوع انتهى ..لن يسمح لها أن تنتقل للعيش معه لتعتني بمنزله وولديه ، مع أن دايفد وآنيس بحاجة ماسة لمن يعتني بهما ..
نظرت لأخيها ..إنه سيكمل سن الأربعين بعد ستة شهور ، خط شعره الأمامي يتراجع بسرعة للوراء , وهناك خطوط إرهاق حول عينيه وفمه بالرغم من هذا لا يزال رجل جميل الطلعة ، أجمل بكثير من أخته ..كان لها ذات الشعر الأشقر الداكن ن لكن مع بياض بشرتها وبعض النمش لا يمكن وصفها سوى بالمقبولة .عيونهما متماثلة ماعدا أن عيني دان أكثر خضرة وأكبر حجما ، بينما عيناها حسب رأيها من الصعب أعطاء وصف لهما.
دان رجل وحيد ..لقد استعاد تماسكه بعد وفاة زوجته والفضل في هذا لولديه وحاجتهما الماسة إليه ..لكنه كان يعمل بجهد كبير ..وقد بدأ الإرهاق يظهر عليه مما أقلق بريندا.
كانت اكبر أمنية لها أن يلتقي أخوها بامرأة ليتزوج من جديد ..امرأة حتى لو كانت بنصف طيبة ورقة زوجته الأولى..لكن الحياة الاجتماعية عند دان لا وجود لها ، فهو لا يستغل فرصة وجودها مع الولدين للخروج !
مال إلى الأمام يلكزها :
- هل أبعدتني عن أفكارك ؟ كنت أسأل ما إذا كان معك تعليمات للوصول على مكان المقابلة ..بإمكاني ان أحضر خريطة للطريق وأدلك ..
ابتسمت :- لا بأس في هذا.
فتشت في حقيبتها بحثاً عن ورقة مكتوبة أعطتها لها الوكالة في اليوم السابق فيها تعليمات دقيقة للوصول إلى باكنغها مشاير ..مع إن العمل عن مخدومها وعن العمل لم تكن دقيقة .
فقد أخذت بيني المديرة في مكتب التوظيف تعتذر شارحة بأنها مستعجلة وأن عليها الإسراع إلى للحاق بالقطار ..لذلك لم تعط بريندا الكثير من التفاصيل عن مهمتها ، فقط قالت أن السيد غريفز كاتب ، وأنه يحتاج لسكرتيرة بصورة ملحة لكنه يود أن يقابلها قبل أن يقرر توظيفها .
كان عمل بريندا الحالي قد انتهى ، وكانت تفكر بأخذ إجازة لمدة أسبوع ..لكن هذه حالة طارئة كما قالت بيني ، لذا وافقت على مقابلة قصيرة مع السيد غريفز ووضعت بعض الملابس المناسبة في الحقيبة الصغيرة التي كانت ستأخذها إلى ( سواري ) مع أنها كانت مصممة على العودة إلى منزل أخيها بعد المقابلة .
- يجب أن تمنحي نفسك مهلة ساعتين ونصف من هنا تقريباً لتصلي ..ولتكن ثلاثة ..أليس غريباً أن تكون المقابلة يوم السبت ؟!
كانت بريندا تحس بامتعاض خفيف فقد مضت فترة طويلة لم تجر فيها مقابلات عمل ..إنها ليست مجرد طابعة عادية ، إنها كاتبة اختزال من أعلى مستوى وتعمل لوكالة لندنية ضخمة تتعامل فقط مع الصفوة من الناجحين كلهم موهيين في الاختزال ..إنهم جميعا القمة في مهنتهم رجال ونساء ..
قبل الانضمام إلى وكالة بورك كانت بريندا تعمل كاتبة اختزال في المحاكم ..ثم أمضت ثمانية أشهر دون عمل للعناية بأبيها الذي كان يحتضر ..لكنها كانت تتدرب على المحافظة على سرعتها بتسجيل الأخبار من الراديو والتلفزيون ..
- إذا حصلت على هذا العمل ..
- سأحصل عليه ! لكنني قد لا أقبله!
ابتسم دان لثقتها بنفسها خاصة وأنها ثقة مبررة .
- إذا عرضت عليك المهمة وقبلتها ، ألن الانتقال من لندن إلى باركس كل يوم متعباً ؟ خاصة القيادة إلى هناك في ساعات الزحام ؟ أكره لك هذا !
- أبداً ..ثم أنا أتقاضى أجر وقت سفري ، لذا لن يكلفني الانتقال شيء ..هل نسيت أيام كنت مضطراً للانتقال من منزل ذوينا في أقصى ( كنت) إلى المدينة كل يوم ؟
يومها كان يتعلم مهنته وكانت بريندا فتاة صغيرة ، والآن هو يعمل محامياً ، إنه شريك في مكتب صغير ناجح في ضاحية ( سواري )
سألته وقد لاحظت ثقل تساقط الثلج :
- أين الولدان ؟ في الحديقة الخلفية ..أراهن !
- وأين غير هناك ؟ إنهما يبنيان رجل الثلج .
- لكنهما سيتبللان ! هل تناولا الطعام ؟
- كورن فليكس فقط ..كنت على وشك تحضير لحم وبيض ..هل تحبين شيئاً منهما ؟
رفعت عيناها للسماء وضحكت :
- سأعدها أنا ..ابق أنت مع صحيفتك !إن الطهو شيئاً لا يقدر دان عليه ..حتى أنه كان يخلق فوضى وهو يسلق بيضة ، وليس ناجحاً كذلك في أعمال المنزل .تنهدت بريندا ..من الواضح إن منزله منذ أن انتقلت المرأة التي كانت تخدمه نهاراً إلى الشمال منذ ثلاثة أسابيع مهمل بشكل يثير الحزن..
على الأقل استطاعت إقناع أخيها أن بحاجة إلى مدبرة منزل مقيمة ..ليلة أمس حدث نقاش طويل كاد أن يتسبب في شجار ..فقد كانت بريندا قلقة جداً على ولدي أخيها ، حتى أنها عرضت التخلي عن العمل والعيش معهم !! لترعاهم.لكن دان رفض الإصغاء إليها وقال :
- لن أسمح لك بترك مهنتك والانتقال إلى قرية صغيرة هادئة لتصبحي عمة عانس لا حياة خاصة لك .
لم يكن هناك فائدة من الجدال معه فهو عنيد جداً ، إلا أنها حققت بعض التقدم عندما وافق على وضع إعلان يطلب فيه مدبرة منزل ..
أخذت تفكر في حياتها ..كانت حياتها في عالم التجارة محمومة مرهقة ..ولكن حياتها كفتاة عزباء غير جذابة دائماً فارغة ..كانت تؤمن بأنها ستكون سعيدة جداً لو باعت شقتها وعاشت مع أخيها لتكون الأم البديلة لابنيه .
كان الزواج أمر لا تفكر فيه ..فلا جدوى من التفكير ..أنها بكل تأكيد لا تلفت النظر ، إلا أنها تعرف أن ما يلزمها هو رجل غير عادي ليقنعها بالالتزام مدى الحياة ..ومع هذا كانت واقعية ..فبأساريرها البشعة تقريباً وجسدها المترهل قليلا مؤخراً ، حتى الرجل العادي لا يرغب في الخروج معها .
مع كل هذا كانت قانعة ..مرتبها جيد ، ترتدي أفخر الملابس ، تملك شقة وسيارة ، مكتفية ذاتياً ..ولو أن الحياة في لندن موحشة في بعض الأوقات .
في الحادية عشرة ، غادرت منزل دان نحو باكنغها مشاير وقالت للولدين وهما يودعانها أنها ستراهم في المساء ، وحذرها دان من أن تقطع وعداً فالثلج قد يتحول إلى عاصفة ..لكنها أصرت .
- لاتكثر الكلام سأعود ..لقد خططت لحفل شواء كبير في الغد ..أراكم فيما بعد .
- حسن جداً ..حظ سعيد في مقابلتك .
_ إنه مجرد عمل عادي ..سأقول للسيد غريفز هذا أنه لن يجد سكرتيرة أفضل مني .وإذا لم يعجبه منظري ، فسيخسر لأنني سأتمكن من الاختيار من بين عشر مهمات أخرى يوم الاثنين ..وسأقول له هذا .
- كذابة ! لن تقولي شيئاً من هذا !.
سارت بريندا نحو المرآب وضحكتها ترن في الهواء البارد الرطب.
كانت ترتدي حذاء ثقيل عالي الساقين بلون بني , ومعطف من جلد الخراف ..كانت تنورتها التي جربتها أول مرة هذا الصباح ، ضيقة مع أنها اشترتها منذ فترة قصيرة ..وهكذا رضيت بتنوره بلون جلد الجمل ..مع كنزه مماثلة ..كانت تبدو أنيقة وسكرتيرة كفء .
لكن يجب أن تنظم طعامها حقاً ..فالكيلو غرامات الثلاثة التي اكتسبتها منذ عيد الميلاد بقيت معها ، وهي لا تبدو جميلة مع جسمها صغير الحجم وارتفاعها المتوسط ..لكن من الصعب إتباع حمية خاصة في الشتاء .
أبقت سرعتها متوسطة فقد كان الطريق مبللا ً والرؤية ضعيفة ..
كانت ممتنة لأخيها حين وصلت إلى باكنغها مشاير لأنها تكره عدم الدقة في المواعيد .
بوصولها إلى مفترق ثلاث طرق ، توقفت ونظرت لخريطتها المرسومة باليد :
- تابعي الطريق من مفترق ( غريت بريكهيل ) نحو اليسار نحو..
لكن هل هي الآن في ( غريت بريكهيل )؟ أم أن مفترق الطريق لا يزال إلى الأمام ؟ بالطبع ما من أحد هناك لتسأله .
اتبعت حدسها واستدارت إلى اليسار .وما هي إلا عشر دقائق حتى وجدت نفسها تتبع خريطتها بدقة ..وبعد أن قطعت الطريق كله الذي يجب أن يكون منزل السيد غريفز فيه ن أوقفت سيارتها لكنها لم تكن مرتبكة بل ساخطة قليلاً فهذا الطريق لا يعدو كونه درباً ضيقاً تغطيه الثلوج ، والشجيرات تعلو كثيراً بحيث لا تستطيع رؤية ما حولها .
- هل أنت في مشكلة ؟
- لا ..لا..لكنني ضائعة قليلاً . فأنا أبحث عن منزل يدعى ( سيلينا هاوس ).
رد السائق بلطف ك
- إنه هناك ..سيري حوالي المأتي ياردة فتجديه إلى يسارك ..أنه بعيد قليلاً عن الطريق ..لكنك سترين البوابات ..وداعاً!
رأت بريندا البوابات كانت من الحديد المشغول المزخرف ..ووراء البوابات هناك جادة تحيط بها أعمدة تصل للمنزل ..لكن المشكلة كيف تصل للجادة ؟
كان الفضول يتحرك في داخلها وهي تنظر إلى هذا ..هذا المخل المهيب ..ماهو هذا المكان ..معتقل ؟
عند نزولها من السيارة شاهدت لوحة نحاسية مثبتة لأحد الأعمدة الأسمنتية مكتوب عليها ( سيلينا هاوس ) ..لكنها كانت صغيرة جدا ً واضح أن السيد غريفز يتمتع بعزلته .
تأكدت لها هذه الفكرة عندما برز من حيث لا تعلم كلبان ضخمان من الناحية الأخرى للبوابة ينبحان بشدة ..
خافت من شراسة كلبي الحراسة ..كيف من المفترض أن تدخل لهذا المكان ؟!
ثم عن يمينها سمعت صوت أجش يسأل : من الزائر ؟
التفتت ولم تر أحداً ..مع تكرار الصوت لاحظت بإحساس بالبلاهة أن هناك هاتف داخلي تقدمت إليه :
- أنا بريندا توماسن ..من وكالة بورك .
- رد الصوت : أنا غريفز ..أعتقد أنك في سيارة ؟
- طبعاً.
- إذاً أدخلي ..سافتح البوابات.
- وماذا عن الكلبين ؟
- متى فتحت البوابات فلن يزعجاك آنسة توماسن.
انتقلت عيناها للكلبين وكل ما تأمله أن يكون محقاً! وكأنما الكلبان يعملان على جهاز السيطرة عن بعد فقد توقفا عن النباح فوراً بعد أن فتحت البوابتان ..فمرت بسيارتها ..وأغلقت البوابتان خلفها ..قادت ببطء ..وأثارة فكرة مرحها ..كيف يصل ساعي البريد ؟!
كانت الأراضي حول المنزل واسعة ..وبعد خمسين متر برز أمامها المنزل ..كان أنيقا يعود تاريخه للقرن 17م .
أوقفت سيارتها وهي تفكر أن الموقع كله سحري ..كشيء مرسوم على البطاقات البريدية .وأخذ فضولها يزداد مع مرور الوقت .
فتح السيد غريفز الباب ، وعرفت أنه هو ! مع أنها لم تتوقع أن يفتح لها الباب بنفسه !! عرفت أنه هو لأنها تخيلت وجه للصوت الذي سمعته ولم يكن بعيداً عن تصورها .
من الصعب تخمين عمره ربما في 5. أو 6...وجهه زهري ضخم مستدير ، قمة رأسه لماعة صلعاء ماعدا بضع خصل تتشبث بالحياة.ربما كان شعره يماثل يوما لون شعرها إلا أنه الآن ممزوج بالشيب.
كان يرتدي بدله قديمة الطراز ..وبنطلونه مثني الساقين !!
أجل هذا ما توقعته ..أنه غريب الأطوار حقاً..
- مساء الخير .. أنا بريندا توماسن..ولدي موعد مع السيد غريفز في الساعة الثالثة .
- قال وهو يغلق الباب وراءها :
- أنا السيد غريفز.لقد وصلت مبكرة بعشر دقائق ..
لم تعرف بريندا إن كان التعليق تحذير أم تقديراً لأنها تمكنت من الوصول في الطقس المثلج.
- أنا مسرورة للقائل سيد غريفز...أنا فهمت أنك طلبت خدمات سكرتارية ؟ الوكالة ..
وصمتت .هذا الرجل يشعرها بعدم الارتياح ..مع أنها لاتعرف السبب.ولم يصافحها بل قال :
- اسمي غريفز ..فقط غريفز ، والموعد ليس معي آنسة لقد كلمت الوكالة نيابة عن رب عملي المركيز ..سيدي المركيز يرغب في مقابلتك ..لو لحقت بي ..
لم تتحرك بريندا ..سيدي الماركيز ؟ مسيو لو ماركيز ؟ رب عملها المحتمل فرنسي ؟ دهشت وأحست بالتوتر ..لا شك أنه عجوز ومعقد ..وربما لا يسمع وله نزعات غريبة ..ولا شك أنه سيكتب مذكرات حول حياته كفرد من الأرستقراطية الفرنسية !
أما غريفز ..فما هو لا بد أن يكون خادم العائلة ؟ لكنه لا يبدو كخادم .كان يبدو كملاكم متقاعد أو ضابط شرطة متقاعد ..
استدار إليها فتحركت .
- سيد غريفز ..أعني غريفز عرفت أن مخدومك كاتب ..فهل يكتب سيرة حياته ؟
- لا يا آنسة ..إنه قصصي .
رفرفت عينيها دهشة ..قصصي ؟ هذا أكثر غرابة ومثير للفضول ..إيه ؟
- قلت أنه مركيز ..من هو بالضبط ؟
- إنه المسيو لو مركيز جان مارك دو بافندال .
وتابع سيره غير مستعد للرد على المزيد من الأسئلة.
أخذت تهمس لنفسه : لو ماركيز .. جان مارك دو بافندال..الموكيز جان..
لماذا يبدو الاسم مألوفاً ؟ لقد سمعت الاسم من قبل ..لكن أين ؟ لا شك أن له علاقة بالكتابة طبعا ..لا ..لا ..لا تشعر أن هذا صحيح ، مع أنها تعرف أن المركيز كاتب ..
توقف غريفز ..مشيراًً إلى الداخل :
- لو سمحت أن تنتظري في غرفة الاستقبال آنسة فسيراك المركيز في الساعة الثالثة.
أشارته للوقت جعلتها تبتسم ..وكانت تريد أن تنظر للساعة لترى كم دقيقة بقيت للتشرف باللقاء !
عندما دخلت الغرفة بدأت تستوعب ماحولها ..كانت بريندا قد عملت في مكاتب مهيبة ..في عدة مناسبات ، لكن هذا المنزل وهذه الغرفة على الأقل ، كانت شيئاً وقعت في حبه على الفور .
لم تكن أنيقة جداً ولا مبالغ فيها ..لكن محتوياتها مرتبة بتفكير يوحي بالدفء العائلي الحميم.
كانت هناك أريكتان موضوعتان على شكل زاوية حادة أمام المدفأة الرخامية حيث الحطب المشتعل يهدر بصوت مرتفع..قباله الأريكتين يوجد مقعد مرتفع الظهر ..ربما هو مقعد الماركيز.
للأسف لم يكن عندها وقت لتتفحص كل شيء بدقة..فقد عاد غريفز ، واضح أن الساعة أصبحت الثالثة بالضبط..لكن بريندا كانت قد لمحت البيانو من خشب الماهوغوني ، والطاولة الصغيرة التي يقف عليها نسخة رائعة من تمثال ل ( روبن )
وفكرت : فتش عن المرأة ..هذه ليست غرفة جلوس رجل عجوز يعيش وحده ، هناك لمسة امرأة رفيعة النسب ولها ذوق ممتاز وحسن تمييز.
- آنسة توماسن ، لو سمحت أن تأتي معي فالمسيو لو مركيز سيراك في المكتبة !
لحقت به مضطربة الأعصاب ..كم هي سخيفة بالتأكيد تستطيع السيطرة على مقابلة عمل ومتطلباتها !
تعلقت بهذه الفكرة ..ثم وقعت عيناها على المركيز ..كان يجلس وراء طاولة ضخمة في مواجهتها وظهره إلى النافذة ، أجبرت نفسها على الاستمرار في الحركة لا أن تقف مسمرة فاغرة فمها تحدق فيما حولها .
القول أن المركيز وسيم ليس كافياً ..إنه مذهل !!جذاب بوجه جميل وكأنه منحوت ، وبشرته سمراء وشعره كثيف مستقيم أسود كالليل ، مع لطختين تحت صدغيه كأنها مسحوق فضي ..شيب مبكر ، لاشك في ذلك ، فالمركيز لا يمكن أن يكون في أواخر الثلاثين ولا حتى في وسطها.
كان يجلس دون أن يبتسم في وضعية ترقب وانتظار..يداه مضمومتان معا باسترخاء فوق الطاولة ، وأصابعه الطويلة متشابكة.
بدا جذاباً بشكل غير عادي ..اختطفت صدمة مواجهته وجه لوجه أنفاس بريندا..على الفور عرفت أنها في حضرة رجل قوي ..أنه رجل لا يقبل كلام سخيف ..رجل يتوقع ويحصل على أفضل ما في الحياة.


***************************
2/ جرس الإنذار


تحركت عينان سوداوان كجناحي غراب على بريندا وهي تدخل المكتبة ، لم يكن يواجهها عين بعين بل كان يقيمها بصورة عامة ..وبدرت فكرة سخيفة لبريندا ، أمنية محمومة في أن تكون امرأة جميلة ..أو حلوة ..أو جذابة على الأقل .أوه ..لماذا لم تضع قليلاً من الزينة على وجهها ؟ حتى ثقتها المهنية بنفسها بدأت تتراجع ..
كانت وغريفز واقفان داخل الغرفة ، وسمعت صوت غريفز يقول :
- مسيو لو ماركيز ..الآنسة توماسن .
وأشار إليها نحو مقعدين من الجلد البني الفاخر بينهما طاولة قهوة مستديرة تواجهان الطاولة على بعد أمتار قليلة منها ..وأحست بابتهاج للمسافة بينها وبينه ..هناك شيء غامض ومألوف في هذا وتعرف أنها لم تشعر به من قبل ..لا..فكلمة مألوف قوية جداً على ما تشعر به .
جلست مع انحناءه تحية نحوه ، تحس بحاجة للضغط على نفسها حتى لا تنظر نحوه ..ولحسن الحظ لم يفضح صوتها شيء من توترها وهي تحييه :
- مسيو لو ماركيز ..
كان غريفز مازال واقفا وهي تجلس ..ثم فعل شيء صدم بريندا لغرابته ، فقط التقط حقيبة يدها من على الطاولة الصغيرة حيث وضعتها ودسها تحت الطاولة . نظرت إليه متعجبة ، تعتقد أنها مبالغة في الترتيب ..ولكن وجه غريفز الزهري الضخم بقي دون تعبير.
لم يتكلم المركيز إلا بعد أن خرج غريفز من الغرفة :
- آنسة توماسن ..هناك شيئان لا أحبهما أبدأً..الكفاءة المتوسطة والتردد.
اتسعت عيناها ..كان صوته خافتاً ..واللكنة ظاهرة قليلاً ..كان الصوت عميق جداً ..
لم يخدعها الصوت ..الصوت كان يتعمد السيطرة ..بلكنته الخفيفة والعميقة ..نظرت إليه مسحورة وخائفة قليلاً. كل ما فكرت فيه هو أنها لا تحب أن تبقى قرب هذا الرجل حين يفقد أعصابه .
لم تعرف بماذا ترد ..فاجأتها ملاحظته ..
تابع :
- الكفاءة والدقة أمران أحبهما على أي حال ، ويبدو أن لديك كلى المؤهلين بالنظر إلى دقة موعد وصولك ، خاصة وسط العاصفة الثلجية .
أدهشها أنه وهو يتكلم إليها لم يلتق بعينيها مع أنه كان يركز النظر إليها ..
ردة فعلها على ذلك هو الارتياب ..لكن المركيز صريح ومباشر في كلامه ، ولو كان لديه شيء يخفيه فهو بكل تأكيد شيء لا علاقة له بالمقابلة.
- قيادتي كفؤ ..أجل ..والدقة هي من آداب الملوك ..وأنا دائما دقيقة في مواعيدي مسيو ..وأتوقع الأمر نفسه مع الناس ..صحيح أنني لا أحصل عليها دائماً لكنني أتوقعها باستمرار أما الكفاءة المتوسطة والتردد فستجد أن هاتين الخصلتين ليستا من طبعي بالنسبة لعملي.
- لا شك عندي من أن عملك سيكون من أعلى المستويات ، أنت تعملين لوكالة بورك ولا حاجة لأن نقول المزيد عن المؤهلات ..لكنك لست أول من يرسلون لهذا العمل ..ولست الثانية ..أنت الخامسة آنسة توماسن ..الخامسة ..مهمة إيجاد سكرتيرة لي أصبحت تستهلك مني وقتاً وتصيبني بالضجر أكثر مما توقعت .
أحست بارتباك كبير بسبب القوة التي تنضح منه ..كانت بالكاد تعي ما يحيط بها ..وإخباره لها أنه رفض أربعة أشخاص من وكالة بورك! أمر لم تستطع أن تفهمه ..ربما هم رفضوه ؟ هذا ممكن جداً ! فالمركيز ليس شخصية من السهل التفاهم معه..لكن ..أوه ..أليس في ذلك شيء من التحدي !
وهي فعلاً بحاجة إلى تحد لتواجهه.
خلف هذه الأفكار ..كان هناك في أعماق عقلها الاوعي إحساس بأن المركيز جان مارك معروف جيداً ، وليس فقط في الكتابة ..كانت تتشوق إلى الجزء من المقابلة التي سيتكلم فيها عن عمله ..ربما ساعتها سيتضح كل شيء ..إنها قارئة قصص مواظبة ..وكن بالإمكان أن تتذكر ..إلا إذا كان يستخدم اسم مستعار ..
قالت وقد أحمرت حتى جذورها وهي تدرك أنها كانت تحدق به :
- أعذرني ، فأنا لست مربوطة اللسان في العادة ، لكنني لا أفهمك بكل احترام مسيو لو ماركيز ، إذا كنت تجد أن عملي سيكون مرضياً فلماذا تجد ضرورة لهذا اللقاء ؟ وماذا حصل مع الآخرين ..
قاطعها بتوتره :
- هذا لأنني دقيق جداً مع من أ‘مل معهم ..فأنا سأحجز خدماتك لمدة ستة أشهر ، أكثر أو أقل بأسبوعين ..عدا هذا ستعيشين تحت سقف منزلي ..ومن الضروري أن أكون حذراً مع أي شخص ينتقل للسكن معي .
أخذت تقاوم كي لا تظهر انزعاجها ..أنها بطيئة الغضب لكن ما تسمعه نجح في إغضابها ..يا إلهي ! ستعطي بيني يوم الاثنين رأيها بكل صراحة ! لماذا لم تقل لها أنه عمل مع إقامة ؟ كانت ستنجح أكثر لو كانت تعرف مطالب الماركيز مقدماً، تباً لبيني وعجلتها لتسافر في نهاية الأسبوع ..نقص المعلومات لديها جهلها تبدو كالحمقاء!! وهي الآن تريد هذه المهمة ، أكثر مما أرادت أي شيء في حياتها ..لقد صممت على هذا في اللحظة التي دخلت فيها المكتبة .
منعها ولاءها للوكالة من أن تقول له أنها لم تحصل على المعلومات الكافية عن الوظيفة ، خاصة أنه يبدو غير راضياً على الوكالة ! هكذا بدأت تتكلم بسرعة :
- أجل ..أفهم هذا ..لكنني أؤكد لك أمرين ، بإمكاني التكيف مع ما يحيط بي ومع سرعة رئيسي في عمله ..منزلك جميل جداً مما رأيته منه حتى الآن ..إضافة إلى واقع أنك تحب الحياة الهادئة ..وتركز على خلوتك ..
كانت نظرة تركيزه قوية حتى أنها جعلتها أكثر ارتباكاً ..كانت تعي كل كلمة يقولها ، تعي قبحها ، وتعي في الواقع أنها على وشك أن تكون الفض الخامس له .
ومما لاحظته هذا الرجل يتمتع بأن تحيط به الأشياء التي تسر العين ..وهي لا تملك تلك الشخصية التي تغطي قبحها .
حين نهض الماركيز من وراء منضدته ، ظنت أن المقابلة انتهت لذلك ذهلت حين قال :
- أتفضلين شيئاً ساخناً آنسة توماسن ؟ قليل من الشاي ربما ظ
- أوه ..شكراً لك ..هل هذا إبريق قهوة كهربائي هناك ؟
- أجل .
- إذن سأشرب القهوة إذا أمكن ..مجرد فنجان صغير .
ساعد هذا بريندا على الاسترخاء قليلاً ..لكن حركاته ، خطواته ، أبقتها منومة . من هو هذا الرجل ؟ أين شاهدته من قبل ؟ على التلفزيون ؟ في أي مكان ؟
صب فنجانين من القهوة بحركات دقيقة متعمدة ، وكأنه يفكر بكل شيء قبل أن يتحرك ..هناك هالة من الهدوء تحيط بالرجل ..بدأ وكأنه من المستحيل إزعاجه..مع ذلك ..مع ذلك ..
وهو يسير إليها والفنجان بيده ..أحست بذلك الإحساس المربك وهي تسجل القسوة في وضعية فمه ..
أمام خيبة أملها ، وضع الفنجانين على الطاولة وجلس إلى جانبها ..وهذا جعلها قلقة ومتوترة ومذهولة ، من هذا القرب رأت ندبة لا يزيد عرضها عن شعرة ممتدة من لطخة الشعر الفضية في فوده الأيمن حتى الحد الخارجي لحاجبه ..لا يبدو أنه جرح من أيام طفولته لكنه قديم بما يكفي ليختفي ..من أجرى له الجراحة كان سيداً في مهنته..
نظر إليها الآن مباشرة ..فتمكنت من أن تبتسم متسائلة ماذا يمكن أن يجتذب ابتسامة منه .
سأل :
- هل أخبرتك الوكالة شيئاً عن روتين عملك ؟ ساعات العمل وما إلى ذلك ؟
- أوه ..لا..لم يدخلوا معي بالتفاصيل الدقيقة .
- إذن دعيني أخبرك قبل أن نتعمق بالبحث أكثر ..أنا أبدأ الإملاء في السابعة صباحاً ..لذا أحتاج إلى من هو على استعداد للإقامة معي ..
أحب العمل في الصباح الباكر ، فهو أفضل جزء من اليوم كله ، في العادة انهي الإملاء في الحادية عشرة ، غريفز يقدم الغداء الساعة الواحدة والعشاء الساعة الثامنة..ولا أهتم متى يطبع إملاء الصباح ، فهذا عائد إليك ، بإمكانك إبقاء بعد الظهر حراً أو بالطبع المساء ، أو العكس .أنا أعمل أيام السبت لكنني لا أعمل أيام الآحاد .كل ما أطلبه أن يكون إملاء الصباح السابق مطبوعاً في الصباح التالي .وسيبفى لك بعد ظهر السبت ويوم الأحد ، اعتماداً على ما تختارين أن تفعلينه .
سألته ك
- كم عدد الموظفين المقيمين هنا ؟
- غريفز لوحده ..فأنا أعيش وحيداً عداه ..وأوظف عدة جنائنيين من السكان المحليين ، وهذا كل شيء .غريفز يدير المنزل ..وستكون لك حرية الانتقال أينما شئت فيه ، شريطة أن تحترمي خصوصياتي ..وأظنك فهمت حتى الآن أنني ناسك نوعا ما ..أليس كذلك يا آنسة توماسن ؟
زاد إحساسها بالغموض حول هذا الرجل وتاقت لتسأله عن مؤلفاته ..لكن الوقت مازال مبكراً جداً لهذا ..في البداية ترغب في التأكد أنها مستعدة للعمل في ساعات العمل الغريبة تلك .حسناً ..لا فارق لديها في أية ساعات تعمل ..وستبقى قادرة على زيارة دان وولديه في نهاية الأسبوع .
قال :
- ترددك يوحي بالكثير ، هل أفهم منه أنك لست مهتمة بالعمل ؟
- أبداً ! أنا آسفة ، ماعدا أن كلمة ناسك ليست الكلمة التي أختارها لوصفك ..أفضل القول أنك تختار أن تعيش حياتك بهدوء .وأن خصوصياتك لها الأولوية الأهم .
تحركت زوايا فمه كوعد بابتسامة لم تصل مرحلة البداية :
- حقاً؟ ألا يعجبك ما توحيه كلمة ناسك ؟
ياله من لغز مبهم ! ككاتب يجب أن يكون دقيقاً في اختيار كلماته ، وكلمة ( ناسك ) لم تختارها صدفة .لكنها لم ترغب أن تفكر فيه كناسك فهو ليس بالرجل المسن منحنىي الساقين ..بل هو بعيداً جداً عن هذا ! إنه نشيط وحيوي و..أوه ..ستكون خسارة إذا لم تقع عيون العالم عليه ..
أجابت بجرأة وصدق :
- بالنسبة لك ..أجل .
ساد لحظات صمت ..ثم رفع فنجانه وارتشف ما تبقى دفعة واحدة ..وقال :
- أخبريني مدموزيل ..هل أنت من النوع المتفائل أم المتشائم ؟
لم تتردد
- لا هذا ولا ذاك ..أنا واقعيه.
- هل هذا صحيح ؟ أخبريني عن نفسك .
كان في صوته دليل خفيف على التسلية ..لكن دون وعد ابتسامه ..
لقد بدأت تفهمه ..إنه رب عمل بعيد النظر لكنه ليس بالرجل العادي ..لايريد أسمها ورقمها ..كل مايريده أن يعرف من هي ؟ كيف تفكر؟ ماهي نظرتها للحياة ..أخبريني عن نفسك ..ياله من طلب رهيب ..في وقت هي فتاة عادية بسيطة متوسطة الحال ..لا شيء في حياتها يثير الاهتمام ولا في شخصيتها .
أعطته تفصيلاً مختصراً :
- أنا بريندا توماسن ..في 23من عمري ، تربيت في الريق ، ولي اخ وحيد يكبرني بكثير ..ةأعيش في لندن في شقتي الخاصة .
كانت الغرفة تزداد ظلاماً مع تلاشي ضوء بعد الظهر ..وتمنت لو يبتعد المركيز عنها ويعود وراء منضدته ..قربه يجهل التعامل معه أصعب ..وعلى هذا الضوء هناك شيء شرشر حوله.
- أنت لم تمسي قهوتك آنسة توماسن ..وإذا لم تسترخي قليلاً فلن نصل إلى شيء.
بالرغم من أن صوته كان هادئاً ..إلا أنها عرفت أنه كان متوتر ..تسألت لماذا لا يقول لها وداعا ..في التو واللحظة ؟!
- قولي لي ماذا تفعلين في الأمسيات؟
- أقرأ كثيراً .
- أليس لديك التزامات ؟ خطيب صديق ، قد يتذمر لأنك ستبقين عالقة في الريف طوال الأسبوع ؟
- لا.
- متى تخرجين ؟ في نهاية الأسبوع ؟ ماذا تفعلين للتسلية ؟
- إذا لم أذهب إلى بيت أخي مباشرة بعد العمل ، أخرج أيام الجمعة مساءً.
- وماذا تفعلين ؟
- أذهب للمسرح ..أفضل الباليه أو الأوبرا ..أنها متعتي الوحيدة بعد أسبوع عمل شاق.
- متعتك ؟ أتعنين أنك تذهبين وحدك ؟
تحركت بارتباك ..لا يوجد لديه صديق ..، وصديقاتها أصبح معظمهن متزوجاً ، وكاثلين أقرب صديقة لها خطبت مؤخراً ولم تعد ترغب في الخروج معها كثيراً لأنها توفر المال لدفع مقدم شراء منزل .
تجاوزت السؤال وتطوعت بمعلومات أخرى طمعاً أن يقود هذا أسئلته إلى اتجاه أخر :
- أنا أزور أخي كل أسبوعين ..إنه أرمل ..ويعيش مع ولديه في ( سواري ) وأنا في الواقع قدمت من هناك اليوم.
لم يكن من السهل إلهاء المركيز :
- وماذا عن الرقص ...السهرات ؟ ..هذا لايبدو مناسباً آنسة توماسن ..أنت امرأة شابة تعيش في أكثر المدن إثارة في العالم عدا باريس..فلماذا لا تتمتعين بالحياة ؟
الآن أصبحت أسئلته شخصية جداً ..وانزعجت قليلاً ..أم أنه يتعمد القسوة ؟ يستطيع أن يرى أنها ليست جميلة وليست من الفتيات اللواتي تحجز أمسياتهن مسبقاً.
لماذا لا تنتهي هذه المقابلة ؟
سأل أخيراً:
- لماذا تنقصك الثقة في النفس هكذا ظ
ثم لوح بذراعيه :
- لا بأس أخبريني ..هل أنت شديدة الاحتشام وتصدمين بسهولة ؟
أدركت أنه كان يوقع بها ..يجب أن ترحل في الحال ..يجب أن تقول أنها غيرت رأيها..لكن لن يكون هذا صحيح ..لقد أصبح اهتمامها ليس في العمل بقدر الرجل نفسه .. من أسئلته كانت تحصل على فهم بسيط لشخصية الرجل نفسه ولكن ..هناك الكثير بعد الكثير ..وهي متأكدة من هذا ومن جرس التحذير الذي يستمر بالرنين في رأسها .
أخذت نفس عميق والتقت بنظرته وهي تتكلم :
- بدأت أفهم مسيو ..أنت تريد أن تطمئن إلى أنني لن أضجر من وجودي هنا ..ولك تأكيدي ..لن يكون هناك تراجع ، ولن تضطر لتغيير سكرتيرتك ، ولسوف التزم بالمهمة هذه حتى النهاية ..قلت ..ستة أشهر ..هذا بالتقريب ما يلزم لإنهاء مؤلفك ..أترى ..فكرة العيش في الريف تروقني ..الأراضي التابعة لمنزلك عظيمة دون شك ..وتبدو كأنها صورة على بطاقة ميلاد بريدية ، شيء غير حقيقي وجميل ..وساتمتع بالسير في هذه الأراضي في وقت الفراغ ..استكشفها وأراقبها تتغير مع الفصول..
تلاشى صوتها لرؤيتها نظرة التركيز التي استقرت على وجهه، وما أردت قوله تالياً أصبح صعب :
- أنا ..أنت ..تستطيع أن ترى بنفسك أنني لست من النوع الفاتن أو المتقلب ..ولا شيء في لندن .على شكل رقص أو سهرات أو ..رجال ..ساشتاق إليه ، فأنا مثلك ..أتمتع بحياة الهدوء ، أدرك أنك كنت تمتحنني ، تحاول رسم صورة لي ن لكن هذا يجعلني متوترة ..وكل ما تريد معرفته في الواقع ما إذا كان بالإمكان الاعتماد علي ..حسناً وكالتي يمكنها دعم ليس قدراتي فحسب بل استقامتي وأهليتي بالثقة .بصراحة لا أجد معنى لسؤالك الأخير ..لكنني سأرد عليه ..لا ، لست متزمتة وبعد عملي ككاتبة اختزال في المحكمة ن لم يعد من السهل أن أصدم بشيء ..ولا يدهشني ما قد يفعله الناس .
صمتت فجأة وقد أحست أن خطبتها الصغيرة قد تحولت عن مسارها بفعل التوتر الذي كانت تعاني منه ..وبدا أن دهرا قد مر قبل أن يتكلم الماركيز :
- أحسنت ..لكنني أؤكد لك أن لي أسباباً لطرح هذه الأسئلة ..كلها..أما السؤال الأخير ، فسببه أن كتبي غير متحفظة كثيراً بعض الأحيان ..فإذا كنت من النساء اللواتي لا يطقن سماع شيء عن الدم والرصاص والعنف في أبشع أشكاله ..فلن يروق لك العمل!
دم رصاص ..؟نظرت لفمه ..عنف في أبشع أشكاله ؟ طافت عيناها فوق وجهه .في النور الذي بدأ يتلاشى بدت بشرته أكثر دكنه ، تعطيه نظرة شريرة ..
سألته بهدوء :
- من أنت ؟ واضح أنك تستخدم اسم مستعار مسيو لو ماركيز .ألم تصل بعد للمرحلة التي تجعلك مستعداً لإخباري عن الاسم ؟
- بلى ..وصلنا..إنه سكوت ستيفن.
سكوت ستيفن ..لقد سمعت به طبعاً ..الجميع تقريباً يعرف هذا الاسم .لقد كتب عدة قصص وآخر اثنتين كانتا قنبلتين قويتين الانفجار ..حققتا أفضل المبيعات في العالم ..
التقط الماركيز علبة سكائر فضية :
- أترغبين في سيكارة ؟
- لا شكراً لك .
- ألا تدخنين ؟
- في مناسبات قليلة ..لكنني لا أريد الآن ..شكراً.
أن يكون هذا الرجل هو سكوت ستيفن الكاتب الشهير عالمياً ، مسألة أصبحت مفهومة ..لكن الغموض الذي كانت تقاومه منذ أن سمعت أسمه الحقيقي لم يحل بعد ..كانت كتاباته عنيفة لا رقة فيها ..لماذا لا يتوقف هذا الجرس عن الرنين ؟ لماذا تعتقد أنه لا زال هناك هوية أخرى لهذا الرجل ؟
قاطع أفكارها :
- هل ستبقينني منتظراً طوال اليوم؟ أتوقع منك نوعاً من التعليق .
- أوه ! أجل ..أنا آسفة ..أخشى أن لا أكون قد قرأت مؤلفاتك ..لكنني أعرف طبيعتها .هز كتفيه وكأنه لا يهتم :
- أريد أن أعرف ما إذا كنت ستكونين سعيدة في العمل بمثل هذه المواد ؟
جاء دورها لتهز كتفيها بلا اكتراث :
- لم لا ؟ أعني إنها قصص خيالية ، أليست كذلك ؟
أطلق نفس طويل ..أهو مرتاح أم نافذ الصبر ؟
- هذا إذا كان هناك خيال فعلاً ..هناك أمران أود أن أوضحهما لك قبل أن يتخذ كل منا قراره . أنا بحاجة لمن يبدأ العمل يوم الاثنين مباشرة ..كدت أصل إلى نهاية الفصل الأول من روايتي الحالية ثم توقفت عدة أيام وأنا أحاول إيجاد سكرتيرة جديدة ، هذا أمر محبط وسيء بالنسبة للكتاب ..أفهم أنك حره في أن..
تابع المركيز كلامه ولكن بريندا توقفت عن الإصغاء ..أصبح تفكيرها مشوشاً وعيناها تستقران على شيء حرك ذكرى مراوغة ..فوق المدفأة ، حيث كان المركيز يقف لوحة أصلية رأتها من قبل ..مرة واحدة ..ومنذ زمن طويل.
من هذه المسافة كان توقيع الفنان غير واضح ، لكنها لم تكن بحاجة أن تقرأه لأنها تعرف الرسام ..أنه فريد من نوعه ..واسمه مارك.
مارك ..أوه بالطبع ! بالطبع !
التصق نظرها باللوحة بينما كانت الذكريات تتسارع في رأسها وكأنها قطع أحجية .المقالة التي رأتها في المجلة ..المعلومات ..صورته ..عدة صور !
في جزء من الثانية توضح كل شيء ، وكونت القطع صورة كاملة وذكرى مؤلمة ..شهقت وهي تقف ببطء عن كرسيها ، وقالت بصوت يكاد يكون أدنى من الهمس ك
- ياإلهي ! ..أنت أعمى !
ثم تخبطت وهي تدرك أنها كانت فاقدة للباقة ..
- أنا آسفة ..m;الأمر أنني معجبة جداً بأعمالك ولدي نسخة طبق الأصل عن لوحتك الشهيرة ( بستان في فرساي ) ..وأردت فقط أن أقول..
وتلاشى صوتها ..لقد كانت غير لبقة ، حمقاء خرقاء ..اللوحة التي أشارت إليها كانت آخر لوحة أكملها مارك قبل أن تصيبه المأساة التي حرمته نظره ..وحرمت العالم من فنه .
استدار المركيز عنها ..كانت عقدة أصابع يديه بيضاء وهي ممسكة برف المدفأة في سعي للسيطرة على نفسه ..وهذا لم يحدث أبداً من قبل ..الغرباء الآخرون ، ممن قابلهم ، لم يتعرفوا عليه ..ولا حتى على لوحاته ..وهو من ظن نفسه آمناً من هذا النوع من التطفل .
أنه غبي ..غبي أن يخاطر بأن يتعرف عليه أحد ..ذلك التعرف الذي لن يأتي إلا بالألم ..لكن لن يحدث هذا مرة أخرى ! الليلة سيعري منزله من لوحاته..كلها .
غبي ..أحمق ! لو أنه فقط يستطيع أن يفعل هذا ! لكن المشكلة كانت هذه الفتاة !! من المؤسف جداً أن يتركها تذهب من يده ..هذه الفتاة التي تتحدث عن بطاقات الميلاد البريدية وعن مراقبة تغيير الفصول ..لكن يجب أن يتركها ترحل ..لقد تعرفت إليه وكانت معجبة به . ولا يستطيع تحمل الموقف ولا الشفقة التي ستشمل دون شك عملهما معاً ..يجب أن يتخلص منها ..الآن .
تسألت بريندا لماذا لم يقل من هو ؟ ولماذا لم يخبرها على الأقل عن عماه ؟ ..
كان تعرفها عليه كرسام آخر شيء أراده فهو لم يستدر عنها ساعة ذكرت عماه ، بل ما إن ذكرت فنه ن، وهذا ما أخبرها كل ما احتاجت إلى معرفته ..أدركت أن حياته كرسام لا يجب أن تذكر أمامه مرة أخرى.
عماه أمر تغلب عليه منذ زمن بعيد ، .أكانت ستحصل على العمل أم لا ، فهي ببساطة يجب أن تنهي هذه المقابلة بملاحظة صائبة .
أخذت نفساً عميقاً تهدي نفسها ، وتكلمت بطريقة عملية ، صوتها لا يظهر أي أثر للعاطفة :
- آسفة لدخولي في أمور جانبية .فبعد أن أظهرت معرفتي بمارك ن أستطيع الآن نسيان أمره وأتابع البحث في العمل الذي بين أيدينا ..لكن المكان أصبح مظلماً هنا ..وبما أنني أدرك أن لا فرق لهذا عندك ، فسيكون أكثر راحة لي لو أنك أضأت المصباح لننهي المقابلة .
استدرار المركيز ببطء ليواجهها ، فأحست أن قلبها قفز إلى فمها ..فهل ذهبت بعيداً في جرأتها ؟
فقد جان مارك دوبا فندال القدرة على الكلام مؤقتاً ..ثم ابتسم وتحولت ابتسامته إلى ضحكة غيرت معالم وجهه لتطرد عنه كل الظلال ، تنير عينيه السوداوين وتكشف أسنانه البيضاء ..وعلقت أنفاس بريندا هذه المرة في حلقها ..كان هذا وكأن الشمس برزت من خلف غيمة سوداء وقال :
- المقابلة انتهت ..والعمل لك .



*************************************
3/ يقرأ ابتسامتها



كانت يدا برينا مازالت ترتجفان قليلاً وهي تصب الماء الغلي في إبريق الشاي . يجب أن تتصل بدان فوراً وتخبره أنها لا تستطيع العودة إلى ( سواري ) ويجن أن تنهي الغسيل وتنظف الشقة ، وتعطي الزهور التي اشترتها بالأمس للسيدة العجوز التي تعيش في آخر الرواق ..
في الغد ستنتقل إلى ( سيلينا هاوس ) .
لكن بدلاً من أن تتابع عملها ، جلست قرب المدفأة ، لا تستطيع أن تتصل بدان الآن ..ولا تستطيع فعل شيء قبل أن ترتب أفكارها التي تكونت بعد لقاءها بالماركيز جان مارك دوبافندال ..سكوت ستيفن الكاتب ...ومارك الرسام .
من هو حقاً ؟ لا زالت مرتبكة لأحداث اليوم .أنه رجل له أوجه كثيرة ..بكل بساطة لا تستطيع مقارنة الرجل الذي قابلته اليوم بالفنان الذي أبدع تلك اللوحات الرومانسية الجميلة !!
في تقييمها له خلال المقابلة ظنته دون إحساس .كم هي مخطئة !
اتجهت عيناها إلى ما قد يكون أكثر ممتلكاتها مدعاة للفخر ..نسخة طبق الأصل عن آخر لوحة له ، كان منظر لبستان في منتصف الصيف وشابان صغيران يسيران عبر الأشجار . الفتاة ترتدي فستاناً بلون أزرق وقبعة عريضة ..أما الشاب يرتدي ثيابا بيضاء والابتسامة على وجهه ، النظرة في عينيه إعلان صامت عن حبه الذي يشعر به نحو رفيقته .
هل تمثل هذه الصورة مارك نفسه أيام صباه ؟ مارك والفتاة التي تزوجها ؟ أوه ..أجل..المركيز متزوج ..تذكرت هذا من المقال الذي قرأته عنه ، والصورة التي أظهرته مع زوجته ، وجعلها هذا تفكر كم هما جميلان معاً..فزوجته كانت مذهلة الجمال .
كان هذا منذ خمس سنوات ، خلال السنة التي ماتت فيها سالي زوجة أخيها ..في شتاء تلك السنة ، أقنعت بريندا أخيها دان بأن يرافقها إلى عرض بريطاني لفنانين فرنسيين غير مشهورين في بريطاني ..وكانت في الواقع محاولة لإخراج دان من سجن نفسه .
جال مارك في المعرض لا يظهر اهتماماً بشيء ..من ناحية أخرى أحبت بريندا كل شيء تقريباً رأته ..كانت لوحات مارك ناعمة ورومانسية ..ويومها اشترت النسخة التي تحتفظ بها الآن ..فشراء الأصلية أبعد من قدراتها ..فحتى النسخة سلبت كل مدخراتها ..
رافق المعرض دعاية صحفية كان أبرزها رواية عن الحادث الذي تعرض له مارك في اليوم السابق للمعرض .كان مسافر من فرنسا إلى انكلترا في طائرة خاصة تحطمت وهي تحط .
هكذا كان مارك وقت المعرض ملقى دون وعي في أحد مستشفيات انكلترا ..ولم يكن أحد يعرف بأن الفنان فقد بصره ..لكن أعلن هذا في مطلع السنة ..وذكرت المجلة اسم المركيز الكامل وأنه معروف في الوسط الفني باسم مارك ..
هذه الأيام لوحاته تساوي الكثير من المال ..ولا يسمع أحد ذكر لاسمه ..بالنسبة لعالم الفن مات مارك ..لكن الماركيز جان مارك دوبافندال حي يرزق وكذلك سكوت ستيفن .
هزت بريندا رأسها عجباً لتذكرها كل شيء .. الماركيز جان مارك دوبافندال رجل غير عادي ومتفوق ..والعمل له لن يكون مجرد وظيفة بل تجربة فريدة ثمينة ، وأحست بسعادة لا تفسير لها لهذا .
أجاب أخوها على الهاتف من أول رنة :
- بريندا! الحمد لله ! لقد بدأت أقلق عليك..أين أنت ؟
- في منزلي .
- أوه ..لا ألومك . ليس من السهل الوصول إلى هنا في هذا الطقس ، كيف كانت المقابلة ؟ هل أعجبه منظرك ؟
بدا لها السؤال دون لباقة أبداً ..لكنه سؤال طبيعي خاصة أمام الكلمات بريندا اللاذعة له ساعة فراقهما .
- يبدو إنني أعجبته .
ضحك دان : لا تبدين واثقة.
ابتسمت بقلق :
- حسناً ..لقد حصلت على الوظيفة ..
وتابعت تشرح له انه ستنتقل على سيلينا هاوس في اليوم التالي ولم تقل له شيء عن رب عملها على الرغم من أن سألها إذا كان كاتب معروف.
-قالت :- أجل ..إنه معروف جداً ..لكنه شديد الحرص على إخفاء هويته .لذا لا استطيع أن أقول لك اسمه المستعار عبر الهاتف.
في الواقع لن تستطيع أن تعطي اسمه لأحد إلا إذا أعطاها إذنه.
في الحادية عشرة ، خرجت من المغطس بعد أن بقيت فيه لفترة طويلة ..غنت ثلاث أغنيات مفضلة لديها ..ثم غسلت شعرها ..فالغناء عادة طفولية لم تكبر أبداً لتتجاوزها ..انتهت من الغسيل والكي ، والشقة أصبحت نظيفة الآن ..
آخر مهمة لبريندا كانت مثبطة للهمة . فهي منذ استطاعت أن تكتب ، كانت تحتفظ بمذكرات ..ربما كان هذا لا معنى له ..لكنه عادة متأصلة .وهي مراهقة كانت لديها فكرة كتابة قصة حياتها يوماً . لكنها تدرك الآن أن هذا أمر سخيف ..وكم ستكون أمر قراءة مثل هذه المذكرات أمر ممل ! مع ذلك استمرت في تسجيل سطر أو سطرين كل ليلة من مذكراتها ..
لكن الليلة تختلف ، الليلة ستحتاج إلى أوراق زائدة بالرغم أنها تكتب المذكرات بالاختزال! توقفت تضرب القلم بخفة على أسنانها ..كيف ستتمكن من وصف الرجل الذي تفكر فيه طوال المساء ؟ أين يجب أن تبدأ ؟الجلة الأولى هي الأصعب في العادة ، وبعد ذلك تتدفق الأفكار بسهولة ..وكان الوقت منتصف الليل حين دخلت فراشها .


**********************************



كان غريفز يرتدي نفس الملابس المخيفة التي كان يرتديها في اليوم السابق وهو يقول لبريند :
- إذا كان هناك شيء تريدينه آنسة ، فالتقطي سماعة الهاتف واضغطي على زر الجرس ..أنه يعمل كهاتف داخلي إلى المطبخ ، كما يحتوي على خط خارجي .
هزت رأسها تفهماً ، لكن مع شيء من الارتباك .
غرفة نومها كانت جناحا يحتوي على غرفة ملابس وغرفة جلوس ثلاث مقاعد ، وجهاز تلفزيون ، وراديو وغرفة نوم كبير مع حمام ، وبالرغم من أن المركيز أعطاها حرية التنقل ، إلا أن هذا بالتأكيد يعني التزامه بالبقاء في جناحها خلال وقت الفراغ ، في الواقع هنا يوجد كل ما تحتاج إليه .
تأكدن هذه الفكرة عندما قال لها غريفز بأنها سيأتيها بالعشاء إلى غرفة جلوسها في الساعة الثامنة ..وأكد لها أن المركيز يبدأ العمل في الصباح الساعة السابعة تماماً. مكملاً كلامه بسؤالها متى تريد الفطور ، وماذا تريد أن تأكله ؟.!
- آه ..مجرد شاي وتوست ..، أرجوك ..هل ..من المناسب أكثر أن أتناول الفطور في المطبخ ؟
لم يهز حتى كتفيه ..بل قال بصراحة أن الأمر عنه سيان ، وسيكون مسروراً بأن يأتيها بالطعام هنا .
- حسن جداً ..الساعة السادسة إذن ..شكراً غريفز.
توقعت أن يتركها ..لكنه التقط حقيبتها ووضعها إلى جانبها على السرير :
- ربما تنزلين إلى المطبخ بعد إفراغ حقيبتك لأريك أين يوجد كل شيء .
ابتسمت دون أن تفهم سبب دعوته لكنها كانت راغبة في أن تماشيه .
- أترين آنسة توماسن ..من المهم جداً أن يبقى كل سيء في مكانه الصحيح في المنزل ، الماركيز يعرف كل تفاصيل البيت وما يحيط به من أرض ..ويجب أن تفهمي أنه لو تحرك أي شيء من مكانه ، فسيتسبب هذا له بانزعاج كبير وقد يكون خطراً عليه ..سيأتي وقت قد تحتاجين فيه إلى شيء من المطبخ ..فلو كان هناك سكاكين ملقاة هنا وهناك أو زجاجة ...
- آه ..أجل ..أجل ..فهمت ..سأضع هذا نصب عيني أؤكد لك , فلا تقلق.
- من السهل جداً أن ينسى المرء آنسة توماس ..لذلك أرجوك أن تتذكري دوماً ..كما أطلب منك التأكد دائماً من إقفال الأبواب خلفك وأن لا تدعيها مواربة أبداً.
كان لديها إحساس أن غريفز لن يكون مسروراً أبداً لو نست شيئاً مما يقول ..وبحركة من رأسه تدل على الاحترام تحرك نحو الباب ..لكنها سألته :
- غريفز ..هل كنت ..مع المركيز منذ مدة طويلة ؟
- هكذا وهكذا ..لكنني أعرفه طوال حياته .
هكذا وهكذا؟ ماذا يفترض بهذا التعبير أن يعني ؟
- أتعرف أنني أعرف من هو حقاً؟
استدار وهو يفكر بكلماته قبل أن يرد عليها :
- لقد قال لي ..آنسة توماسن أنك تعرفين من كان.
حدقت بالباب بعد أن أقفله ..(تعرفين من كان.) ؟ من غير الصيغة للماضي ..غريفز أم الماركيز ؟ على أي حال واضح أن الماركيز يرغي في أن يبقى ماضيه ميتاً ومدفون ..
في الساعة العاشرة قررت بريندا أن تقوم بشيء جيد ..أن تنام باكراً ..فالعاشرة من الآن وصاعداً ستصبح ساعة نومها المعتادة في الستة شهور القادمة ..
بعد أن ضبطت المنبه ..استندت للوسائد ..والمفكرة في يدها تحاول جمع أفكارها ، ثم كتبت : ( اليوم انتقلت إلى سيلينا هاوس ..وسميت هذه اللحظة باسم ( غريفز الغامض ) ! وليس لدي فكرة ما إذا كان يوافق أو لا يوافق على وجودي ..وليس الأمر مهماً ..فأنا هنا لأودي عملاً ..)
توقفت مترددة عند آخر جملة كتبتها ..أجل إنها هنا لتؤدي عملاً ..فما هو الذي يشعرها بتململ في أعماقها ؟ هل ترتاب بأن المركيز صعب التعامل ؟
لا ..لاشيء من هذا ، ففي الواقع ذلك الإحساس الغامض كان متلازماً مع شيء لا تستطيع فهمه !!وبهزة من رأسها أنهت مذكرات يومها بجملة أخرى ..ولكي تحدد ماهي مشاعرها الآن : منزوية ، متفتحة الفكر ، أم محايدة كتبت ( الأبيض هو لوني اليوم !
لكن صدمة مواجهتها للماركيز في الصباح الباكر أعادت لها ذلك الإحساس على الفور الذي اعتقدت أنها تخلصت منه .كان يجلس في كرسي دوار ، يبتعد قليلاً عن منضدته نصف مستدير نحو النافذة ، بحيث أن بريندا صدمت بجانب وجهه القوي المنحوت بدقة .
هذا الصباح وهو ينظر نحو الشرق ، حيث الشمس تشرق ببطء ، بدت عيناه رماديتين كئيبتين ..والجناحان الفضيان على فوديه يتناقضان بشكل دراماتيكي مع شعره الأسود .
أحست بريندا بتقلص معدتها ..وعاد ذلك الإحساس ..هذا إذا تركها أصلاً..وبخت نفسها لأنها تأثرت بوسامته المذهلة.
وهي تقفل الباب خلفها ، رأت أصابع يده اليمنى تمر بخفة فوق ساعته..وقال :
- أنت دقيقة جداً..كما توقعت تماماً ..هل جناحك مرض؟
- أكثر من مرض ..شكراً لك .
لاحظت أن الكرسي الذي استخدمته خلال المقابلة قد أزيل من مكانه ..وأصبح إلى جانب المنضدة الكبيرة في مواجهته تماماً.
أشار جان مارك نحو الكرسي :
- اجلسي..سنبدأ العمل ..سنرتاح لتناول القهوة عند التاسعة.
جلست بريندا متوترة ، مذهولة للطريقة التي التقت عيناه بعينيها بشكل صحيح ، لم تعتد بعد على فكرة أنه لايستطيع أن يراها .
سألها :
- أيمكنك أن تقرأي اختزال شخص آخر ؟ آخر سكرتيرة لي تركتني فجأة بسبب أزمة عائلية وآخر صفحات من مخطوطة المؤلف لم تطبع بعد ..من عاداتي الاستماع إلى آخر صفحتين أو ثلاثة قبل متابعة الإملاء.
- دعني القي نظرة ، فهذا يعتمد على استخدام المقاطع ..معظم المختزلين يطورون طريقة خاصة بهم .
- أتعنين أنهم ينحرفون عن القواعد ؟
ابتسمت :
- أعني أنهم ينحرفون عن القواعد.
التقط دفتر ملاحظات عن الطاولة وسأل :
- لماذا تسليك الفكرة ؟
رفرفت بريندا ..مندهشة للطريقة التي قرأ فيها الابتسامة في صوتها .
- أنا ..ليس الأمر هكذا ..إنها الطريقة التي عارضت فيها رأيي وقلت لي بالضبط ما أعني.
- ليس لدي وقت للدوران حول الموضوع.
أخذت بريندا الدفتر منه وقد أجفلت لملامسة أصابعه لأصابعها ..وأحمر وجهها بشكل غبي وأخذت تفتش لتجد آخر بضع صفحات من الاختزال .
بدأت تقرأ بصوت مرتفع ، وما هي إلا لحظات حتى أصبح من الواضح أن أسلوب الماركيز في الكتابة مقتصد بقدر كلامه ..كان الأسلوب جداً واضح ، يتحرك ضمن مسيرة ثابتة أثارت اهتمام بريندا على الفور وأسرتها .
كانت الشخصية الرئيسية لرجل اسمه وايلي ، رجل قاسي القلب ، يفعل أي شيء مقابل المال ..في هذه المرحلة من القصة كان في لندن يتلقى تعليمات عن مهمة طُلب منه تنفيذها في بلد استوائي في القارة الإفريقية ..
لم تكن المادة تشبه ما اعتادت بريندا أن تقرأه لكنها عرفت إنها ستتمتع بها ..ويالها من طريقة لكسب العيش ، وهي تراقب بفضول انكشاف غموض القصة !
- هل أنت جاهزة ..آنسة توماسن ؟
التقطت قلمها : تفضل.
ارتد إلى كرسيه وهو يميل عليها ، ويبدأ الإملاء..
( ..لم ينتظر وايلي ليسمع ما تبقى ..بل وقف على حين غرة على قدميه واتجه للباب ..يصيح بشورتمان -:- إنس الأمر ..المهمة مستحيلة ..نظر إليه شورتمان ببرود ..إنه يريد وايلي ولا أحد غيره ..
- ما قولك لو ضاعفت أجرك ؟ عند سماعه هذا استدار وايلي عن الباب ن وشفتاه مكورتان بتكشيرة :- سأقول إنها ممكنة ..)
بالنسبة لبريندا ، كان صباحاً غريباً ..طريقة جديدة للعمل ، كان إملاء المركيز يأتي باندفاع قصير وطويل ..وفي الصمت بين الجمل وهو يجمع أفكاره، لم تكن تحرك عضلة خوفاً من أن تلهيه أو تزعجه ..وما إن حلت الساعة التاسعة حتى كانت متلهفة لفنجان قهوة .
وقف المركيز ، وتحرك قليلاً يمدد ساقيه بطريقة الفهد :
- لقد قرعت الجرس لغريفز ..سيأتينا بالقهوة بعد بضع دقائق ..كيف الحال ؟
- الإملاء على ما يرام .
كم هي كفاءة هذا الرجل ، كم هو منظم !
نظرة لساعتها :
- مسيو لو مركيز ..أود الاتصال بالوكالة إذا أمكن .لا شك أن المكتب مفتوح الآن ، ومن الأفضل أن يعرفوا أين أنا .
- بكل سرور ..هناك هاتف في مكتبك المجاور لمكتبي تماماً.
أشار إلى باب مشترك في زاوية الغرفة لم تلاحظه من قبل :
- وبإمكانك كذلك توبيخهم نيابة عني ؟
- أرجو المعذرة ؟
- لقد جئت إلى هنا يوم السبت دون أي فكرة عن هذه الوظيفة ..كبداية ، لم يقل لك أحد أن هذه الوظيفة تتطلب الإقامة هنا ..لقد سمعت الانزعاج في صوتك آنسة توماسن ، وسمعت الطريقة التي حاولت بها تغطية نقص المعلومات التي وفرتها لك الوكالة ..وأنت الآن على وشك توبيخهم ..وهذا من حقك .
غادرت بريندا الغرفة دون أن تقول شيء وجلست قرب الهاتف في مكتبها دون التقاط السماعة ..نباً! كم كانت شفافة خلال المقابلة ! كانت تعلم أن الحواس الأربعة المتبقية لمن يفقد البصر تزيد حدة وتصبح أكثر فعالية لكن المركيز يستطيع قراءة أي إحساس ، كل تأثر في الكلام ، كل تنهيدة أو ابتسامة!
لم تكن بيتي في الوكالة ..وبدا أنها لن تعود إلا قبل الغد ، تنهدت وأعادت السماعة لمكانها ..كان غضبها قد تلاشى ، فعلى أي حال لقد حصلت على العمل وهي تقوم الآن بعمل جيد .
لم يكن في مكتبها مدفأة نار ، لكن كان فيه سخاناً لتدفئة مركزية ، والأرض مكسوة ببساط صوفي سميك بلون صدئي يعطي الغرفة الحياة ..ولاحظت أن فيها آلة طباعة وبجانبها كومة من أوراق مطبوعة ، الصفحات الأولى من الفصل الأول لرواية المركيز ..أو رواية سكوت ستيفن.
عند عودتها إلى المكتبة ..تابع الوقت تقدمه بشكل مرض ، إلى أن ارتكبت بريندا أول غلطة ..حين توقف المركيز عن الإملاء سألته :
- أين يمكن أن تجد مخطوطتي آخر كتابين لك ، فأنا أرغب في قراءتهما.
أجابها بصوت لطيف :
- إنهما في الدرج الأعلى من خزانة الملفات ..لكن أطلبي من غريفز نسخاً مطبوعة ستكون أسهل عليك .
ساعتها تخلت عن حذرها وسألته :
- هل مضى عليك زمن طويل وأنت تكتب ..سيد لو مركيز ؟
مرت ظلال على وجهه وغاب الهدوء المعتاد من صوته :
- كنت أكتب قبل أن تبلغي عهد المراهقة بكثير .
شدت بريندا على قبضتيها وانغرست أظافرها في راحتيها ..ماذا من المفترض أن يكون هذا ؟ امتحان لقابليتها على تحمل الصدمات ؟ حسناً جداً ..لن ترد . لن تعطيه الرضا بسماع ردة فعلها ! إنها لم تقصد الإشارة إلى ماضيه ، بل كانت تتسأل فقط كم مضى عليه من وقت وهو يكتب باسم سكوت ستيفن . وتأكدت من شيء واحد ..لن تسأله بعد الآن أي سؤال يمكن تفسيره ولو من بعيد على أنه أمر شخصي.

******************************************
4/ تذوب كالماء




تركت الأيام الأولى في ( سيلينا هاوس ) بريندا في حالة ارتباك ..
كانت مقتنعة أن المركيز رجل وحيد ..أختار أن يعيش بعيداً عن أي مكان ليحمي شخصيته الحقيقية ..كان يرتدي الأسود ولا يبتسم أبداً ، يكتب كتباً مليئة بالعنف ..مع ذلك يعيش في منزل مليء بالألوان ، والجمال والرومانس .
على جدار الدرج ، وفي ردهة الطابق الأول حيث جناحها ، رأت لوحتين أخريتين من لوحات مارك ..وتذكرت بوضوح محتويات غرفة الجلوس ..هنا وهناك ، أشياء ثمينة وجميلة ..هناك أشياء كثيرة تسعد العين .
كل هذا ..في منزل سكوت ستيفن ؟ كل هذا ..في منزل رجل لا يبصر ؟ لمن كل هذه المباهج البصرية ؟
خلال أربعة أيام ، حسب عملها ، لم يأت زائر واحد ، ولا حتى مخابرة هاتفية .
أين هي زوجته ؟ هل سافرت إلى مكان أكثر دفئاً لتمضية الشتاء ؟ ربما تكون مجنونة لتفكر بأن تتركه يتم كتابه لوحده ؟ لكن المركيز قال أنه يعيش وحده ..ربما تركته نهائياً ؟
وجدت بريندا من الصعب التوافق معه ..فهل هو فعلاً صعب المراس ؟
كان الثلج لا زال يغطي الأرض ، ويحاول منع الربيع من الظهور ..لكن ..الربيع قادم لا محالة ..
أضاءت المصابيح وعادت للجلوس تتمتع بغرفة جلوسها ، مع أنها تشعر برغبة في الخلاص منها ..ربما السبب أنها تشعر بالوحدة ..ربما لأن هذا المنزل موحش كأمسياتها في لندن ..لكنها كانت تعرف هذا ..عللا الأقل ، المناظر حولها أفضل بكثير مما تراه من شقتها في بادنتغتون.
لقد عرفت لماذا أعطاها المركيز الوظيفة بعد رفضه لأربع سكرتيرات من الوكالة ، بالرغم من إشارتها الخرقاء لماضيه ..لأنها أظهرت أنها لم تضطرب لعماه ولا أحرجها أبداً ، فهو لا يتحمل أحداً لايستطيع التعاطي مع إعاقته كما يتعاطى معها هو ..بينهما على الأقل في هذه المسألة ، كان هناك تفاهم غير ملفوظ ..لكن لماذا تشعر بالحاجة للتواصل معه ؟..
كانت محاولاتها للحديث ، تصد بجملة قصيرة، لا تترك لديه أي شك أن لا يرغب في المزيد من التفاهم .
دق غريفز عللا بابها بعد الثامنة بقليل ، وتقبلت منه العشاء مبتسمة ..وقالت له :
- طعامك دائماً رائع غريفز ..أين تعلمت الطبخ جيداً هكذا ؟
تابع تحضير المائدة على الطاولة الصغيرة أمامها ، وهو يقول :
- تعلمت ؟ لا أذكر حقاً..أظن هذا أمر طبيعي ..هل ستتناولين القهوة في ما بعد آنسة ؟
- لا ..شكراً..هل يتم إيصال كل شيء إلى المنزل ؟ أعني الخضار والسمانة و..
- أجل ..كل الخدمات العادية آنسة ..سأذهب إلى القرية غداً . هل هناك شيء تريدينه ؟
تنهدت : لا..لا..أنا فقط ..
كان غريفز مثله مثل المركيز ، لديه طريقة متفوقة في تحويل الحديث إلى موضوع آخر ..مع ذلك اغتنمت الفرصة لتسأله سؤال مباشر :
- لماذا يعيش المركيز في انكلترا ؟ أنا ..أذكر أنني قرأت في مكان ما أنه نصف إنكليزي ، في الواقع ..لكنني أذكر كذلك أن المقال قال أن منزله في باريس ؟
لم يتغير تعبير وجه غريفز وقال وهو يتحرك نحو الباب :
- كنت أعتقد أن الجواب واضح آنسة . لاشك أنه يحب المقام هنا ..عمت مساء ..آنسة.
التقطت بريندا الشوكة مقطبة ..ألم يكن غريفز الغامض ظريفاً الآن ؟ كيف يمكن للمركيز أن يحب الحياة هنا وهو يعيش كناسك ولا يمكنه أن يتمتع حتى بمناظر الريف الانكليزي ؟!
كانت الأمسية لا زالت أمامها ، وتسألت ماذا ستفعل بها ..لأول مرة لم تشعر برغبة في القراءة ..ربما ستجلس طويلاً في المغطس ، ثم تشاهد التلفزيون قليلاً ..لكن أولاً ستتصل بدان ، إنه يتوقعها في نهاية هذا الأسبوع ، لكنه لا يعرف بعد أنها ستعمل أيام السبت ولن تصل إلى ( سواري ) حتى بعد الظهر.
حياها دان بحرارة ..أكثر من المعتاد :
- بريندا ، أحمد الله على اتصالك ..كنت سأحاول الاتصال هذا المساء ، لكنني لم أجد رقم هاتف السيد غريفز ، هل هو رقم خارج الدليل أم ماذا ؟
ضحكت بريندا :
- بإمكانك قول هذا ..لكم ما الخطب ؟ كان بإمكانك الاتصال بمكتب بورك لتحصل على الرقم .
- كنت سأفعل هذا غداً ، على أي حال لا شيء خاطئ سوى أنني كنت سأستبقيك بعيدة هذا الأسبوع ، فكلنا مصابون برشح مزعج .
غاص قلب بريندا :
- أوه ..أنت تعلم أنني لا ألتقط الرشح بسرعة ..وسأجيء على أي حال ..أظنك ستكون مسروراً ليد تساعدك إذا لم يكن الولدان على ما يرام.
- لا تكوني عنيدة ..لا داعي للمخاطرة وأنت تبدئين عملاً جديداً.
وعطس كأنما يبرهن كلامه :
- لكنك بحاجة إلى مساعدة ، دان ..يمكنني على الأقل أن أطهو ..
قال أخوها بصوت حازم :
- لا..لاتفعلي ..والدة سالي قادمة غداً ..وستبقى معنا بضعة أيام ..وسنكون بخير .
- وهل هي قادمة من ( ثاونتون ) ؟
كما كانت سالي الأم شخصية لطيفة جداً ، لكنها لم تكن ممن يتحملون طقس الربيع ، ومن الظلم المجيء بها من ( سومر ست ) لتعتني بثلاثة مرضى .
وتوقع دان سؤالها :
- أعرف ..أعرف ..أنا لم أرسل في طلبها إذا كان هذا ما تفكرين فيه ..حدث أنها اتصلت وكلمها دايفد أولاً وقال لها بمرح إنه لم يذهب إلى المدرسة ..بعد ذلك لم أستطيع أن أبعدها .
- هه ..هل أعلنت عن طلب مدبرة منزل ؟ أنا واثقة أنكم لا تتناولون طعاماً جيداً ..وعلى الأرجح أنكم التقطتم الرشح لأنكم بحاجة إلى الفيتامينات المناسبة.
ضحك دان :
- هذا ممكن ..لقد نشرت الإعلان في الصحف المحلية يوم الثلاثاء ، والأمس ، واليوم ، لكن حتى الآن لم أتلق مكالمة واحدة..
- إذن من الفضل أن تعلن في الصحف الوطنية .
- لكن هذا مكلف أختي !
- دان ..!
- سأفعل ! أعطني رقم هاتفك لأتصل بك في الأسبوع المقبل .
أعطته بريندا الرقم وحذرته أن يتصل قبل الحادية عشرة صباحاً .
بعد ذلك أمضت بقية الأمسية مع التلفزيون ..ستذهب إلى منزلها هذا الأسبوع ، لكن لن تقضي يوماً ونصف أمام التلفزيون ..لقد بلغت مرحلة تتشوق فيها للحديث ..ستزور شخصاً ..أو تمضي السهرة مع كاثلين ، هذا إذا كانت موجودة ..
لكن نهاية الأسبوع تحولت إلى شيء كريه ..فمساء السبت لم يرد هاتف كاثلين ، إحدى صديقاتها المتزوجات أصيبت بالأنفلونزا المنتشرة والأخرى لديها أنسباؤها يقيمون لديها لنهاية العطلة ..هكذا اضطرت بريندا إلى القيام بزيارة منفردة للسينما .
مع حلول نهاية الأسبوع استقرت بعملها ..استقرت ؟ لكنها لم تشعر من قبل بأنها غير مستقرة ، قلقة ..فلماذا تحس بالسعادة ؟ كان الرد على هذا غريباً ..لكن عليها أن تكون صادقة مع نفسها ..إنها سعيدة لأن العمل ينقلب إلى متعة ...وهناك قصة وايلي بطل سكوت ستيفن ..وهناك نوع من الأمن العاطفي الذي تجده طبعتها في الروتين ..لكن فوق كل هذا ، كان هناك لذة أن تكون في رفقته..
كان يسحرها أكثر فأكثر مع مرور الوقت ..أصبحت الآن قادرة على مشاركته صمته حين يصمت خلال الإملاء ..لكن أفكاره لا يمكنها مشاركتها طبعاً ..فهو دائما مشغول بكلمة وايلي التالية , عمل وايلي القادم ، بينما هي مشغولة في المركيز نفسه .
مرة بعد أخرى كانت تنظر إلى لوحة مارك فوق المدفأة ، ثم تنظر مجدداً إلى سكوت ستيفن ..وليس إلى المركيز .هذا الرجل تغير إلى درجة مأساوية ..كما تغير عمله ..صحيخ أنه لا يزال مبدعاً ..لكنها ببساطة لا تستطيع التوفيق بين الرومانسية والحساسية اللتين كان يتسم بها مارك ن مع الفظاظة والعنف الفائضين من سكوت ستيفن ..
في مكان ما بين الفنان والكاتب ، يوجد الرجل نفسه .وهو نفسه من يذهلها ..أنه الرجل الذي يجمع اليوم خلاصة ما عاناه ، ضحك له ، خاف منه ، تلذذ به..
جان مارك ..الرجل.
يوم السبت من ثاني أسبوع لها في سيلينا هانس تغير الطقس أخيراً ..أستيقظت لترى الشمس الشاحبة تعلو السماء ..الليلة ستتقدم كل الساعات ساعة إيذاناً بوصول الربيع ..
ألقت بريندا على رئيسها تحية الصباح ثم وربما نتيجة لمعنوياتها المرتفعة ..ألقت تعليقاً على الطقس ..قالت مبتسمة :
- لقد شاهدنا آخر الثلج ..ومع أنه كان جميلاً ، فلقد كرهته لأنه أبقاني داخل المنزل كثيراً ..لكنه سيذهب الآن ، الثلج يذوب ...الأشجار تبدو كأنها تذوب .
مال إلى الوراء وأصابعه تضرب بخفة على الذراع الخشبي ..
- أتعنين أن الدفء بدأ هجومه ؟
لم يكن سؤالاً ..بل كان طريقته لإقفال الحديث ..وأجابت :
- حسنا جداً ، إذا شئت أن تصف الأمر هكذا .
استدار إليها الوجه الجميل :
- لكن ألست أنت الفتاة التي قالت لي أنها واقعية ؟ آنسة توماسن ، الواقعيون لا يتكلمون عن ذوبان الأشجار .
ذهلت بريندا ..إنه على حق ..لكن متهذا ؟..تبادل حديث ؟ أم أنه نوع من التأدب لمجرد أنه سمع التوتر في صوتها ؟ لا ..ليس مجرد أدب ، لأنه كان ينظر إليها الآن بتوقع وكأنه يريد رداً . ثم ابتسم لها فضحكت ..أسعدتها ابتسامته كثيراً ، لأنها تستطيع العد على أصابع اليد الواحدة عدد المرات التي تفضل عليها بواحدة خلال أربعة عشر يوماً.
- مسيو لو مركيز ..هناك شيء أريد أن أسألك عنه ..سوف أرى أخي بعد الظهر و..من الطبيعي أن يطرح أسئلة عمن أعمل له ..إنه ..يعرف أنك كاتب ..لكن ..هل استطيع أن أقول له من أنت ؟
أحنى رأسه باختصار يعطيها الإذن ، وزادت ابتسامته اتساعاً :
- بالطبع تستطيعين ، فأنا واثق أن أخاك يكتم السر..ولا أعتقد للحظة أنه سيضع إعلاناً في التايمز .
قالت بخفة :
- لا ..ليس حول هذا الأمر.
- عفواً ؟
- آسفة ..أنس الأمر .
ذكرتها فكاهته بمشكلة دان ومدبرة المنزل ، وارتفع حاجباه قليلاً :
- ما الذي لامسته بكلامي ؟ هل يعمل أخاك لصحيفة وطنية ..هل هذا هو الأمر ؟
- لا ..دان محامي ، الأمر فقط أنك ذكرتني بأمر آخر ..من المفترض أن ينشر إعلاناً لمدبرة منزل هذا الأسبوع ، فهو بحاجة ماسة إليها ..في الواقع ، أنا قلقة عليه ، حتى كدت لا أجيء أصلاً للمقابلة ، ! أردت ..أعني ..لا..هذا غير صحيح ..لم يسمح دان ..
ولم تعد راضية عن نفسها ، فتلاشى صوتها ..أنها الآن فعلا تتكلم مع المركيز ..وأصبحت متوترة مربوطة اللسان .إنها تثرثر ولا يمكن أن يكون مهتم بأي حال !!
لكنه كان مهتم إذ قال بصوته المخملي :
- أكملي شرحك ..كانت الطريقة التي حثها فيها على الكلام لطيفة جداً ..لم يدفعها ..بل مال إلى الأمام وذراعاه على الطاولة ويداه مضمومتان بخفة أمامه ، وعلى وجهه تلك النظرة المهتمة :
أخبرته عن دان وولديه ..وكيف أنهم بحاجة ماسة لمن يعتني بهم ..وكيف تطوعت لهذه المهمة بنفسها ..وكيف رفض دان ..وكانت مسترخية تماماً وطبيعية بحيث لم تفكر بآخر كلماتها :
- هكذا قلت لدان أنه يتصرف كا لأطفال وأنني في النهاية سأصبح عمة عانس على أي حال ..لكنني لم استطع تغيير رأيه ..بل أصر على أن تكون لي حياتي الخاصة ، وهذا كل شيء .
مرت ثواني قبل أن يعلق :
- إنه على حق تماماً ، يجب أن تعيشي حياتك ..يبدو أن دان رجل طيب ..أخبريني المزيد عنه .
ساد الصمت مجدداً ..وتلعثمت بريندا ..كان يجب أن تدرك أنه لا يظهر الأدب فقط ن فهذا ليس أسلوبه ..لقد كان يهتم فعلاً بعائلتها ..لكنها لا تستطيع تصور السبب .
- بريندا..؟ هل لي أن أدعوك بريندا ؟
- بالطبع !
- وهل ستتمكنين من مخاطبتي بما هو أقل من الرسميات ؟
أقل من الرسميات ؟!!
- أجل مسيو مارك.
ابتسم ومال إلى الأمام أكثر يقول لها وكأنها معاقة :
- حاولي هذا ..جان . جـ ..ا..ن !!
- ارتفع حاجبا بريندا ذهولاً ..وذكرت الاسم كالببغاء كما لفظه تماماً.
- أجل ..لكنه ..كما ترى ..دان عادي جداً ، حتى أنه من الصعب تصفه ..حقاً.
بدأت تلعب بدفترها ، شفتها السفلى عالقة بين أسنانها ، وهي تفكر بأفضل طريقة لوصف أخيها :
- دعني أقول هذا ..لو كان دان ..مثلاً.. بناية ..فسيكون مبنى البلدية ..لأنها عملية وفعاله ، إذا كنت تعرف ما أعني ..ولو كان لوناً فهو اللون الكاكي ، لون دافئ متعقل ، لكنه مضجر.
لم يضحك المركيز ، بل العكس دخل روح القول :
- فهمت الفكرة ..الإحساس ..ولو كان زجاجاً ، لكن إبريق عادي ..أليس كذلك ؟
ضحكت :
- تماماً.
- وإذا كان ماء ، فما هو الشكل الذي يأخذه ؟
- آه ..! هذا تشبيه جيد ! لأن الماء يتخذ عدة أشكال وله عدة مزاجات ..لذا سيكون دان ..أجل ..سيكون بركة ..كبيرة وهادئة ..و..أنا آسفة لأن أقول هذا ، راكدة قليلاً.
هز المركيز رأسه ببطء واهتمام :
- وأنت بريندا ..لو كنت ماء ..فماذا تكونين ؟
فكرت بجهد ، مسرورة لأنه مهتم :
- مثله تماماً كما أخشى .
- مخطئة !
أصبحت ابتسامته وميض أبيض ..جعل دقات قلبها تتسارع ..بدت عيناه مختلفة بدت دافئتين ومليئتين بالمرح ..فقالت له متحدية :
- حسن جداً ..أخبرني إذن ماذا أكون ؟
تراجع المركيز فجأة ، وقال بلهجة تصرف النظر :
- في وقت آخر ..يجب أن نضغط سير عملنا الآن .
وكأنما اكتفى من العبث التافه ..أو أنه أدرك فجأة أنها تضيع له وقته ..أحست بريندا بارتباك وانزعاج سخيف..
حين انتهى من الإملاء قبل الحادية عشرة بقليل ، وقفت وقالت له :
- سأسافر فوراً إلى سواري..وسأطبع عمل اليوم مساء الغد حين أعود.
هز {اسه دون تعليق ..فتركت الغرفة بينما كان يستدير بكرسيه ليواجه النافذة ..لا شك أن الشمس أصبحت عالية جداً الآن ، لكنه لا يشعر بحرارتها عبر النافذة ..وماذا عن الثلج ؟ هل ذاب كلياً ..أم أن الأشجار لا زالت تذوب ؟!!
كان راضياً بوجودها هنا ..هذه الفتاة التي تجيء معها بروح الورد إلى الغرفة كل صباح ..لم يكن يستطيع معرفة نوع عطرها ..ربما عطر انكليزي له رائحة انكليزية لطيفة ..
ابتسم جان لنفسه بقلق ..آه لكنه اليوم لن يستطيع المقاومة !!
كيف يمكن أن تظن نفسها واقعية وهي في أغلب الأوقات تقول أشياء بجمل شاعرية ؟
وصوتها ..ذلك الصوت الناعم الفائق الأنوثة ، بضحكته الخجولة وقهقهته التي تخرج من من أعماق حنجرتها ..إنها تبتهج بالأشياء البسيطة ..باستطاعته سماع الحماس المؤثر حين قالت ذات صباح في وقت سابق من الأسبوع إن طائر عقعق وقف لتوه خارج النافذة ، ثم كأن الأمر بالغ الأهمية ، أضافت :
- أوه ..وليفته جاءت تقف معه ! الحمد لله ، فالمثل يقول ( غراب واحد للأسى ، اثنان للفرح) أتعرف هذا ؟
ولم يرد ، لم يعرف تماماً كيف يرد ، وكأنه نسي كيف يتكلم بهذا المستوى ..لكن كان هناك أوقات كان فيها ..لا ..لا يجب أن ينظر إلى الخلف ..لقد أصبح هناك نظام لحياته الآن ، ومن دونه لن يستطيع أن يكون فاعلا ..غي حركاته روتينية ، هناك حدود فرضت عليه ..لكنها حدود من السهل أن يعيش معها ، حدود أخذت وقت طويل وتطلبت تدريباً لدماغه ..يجري دماغه الآن فوق خطوط روتينية محددة لا تسمح بالتسكع ولا بالعواطف..
كون بريندا عميقة الإدراك ، حساسة ، أمر عرفه من الطريقة التي أنهت فيها المقابلة الأولى ..في الواقع تصرفت وكأنها قرأت أفكاره ..لكنه لم يدرك أنها رومانسية هكذا ..لم يدرك أنها ستكون كأنفاس الهواء النقي ..بهجة لن يتحمل التجاوب معها .
لكنه اليوم استجاب ، أحس بالحاجة أن يتقرب منها .إلا أن هذا لن يحصل مرة أخرى ، لا يجب يحصل مرة أخرى..فهذا أمر خطير ..جداً ! أنه لا يجرؤ على المخاطرة بأي شيء يزعج حيلته ..أي عودة للعواطف والأفكار التي لزمه خمس سنوات من القتال ليغلبها ويدفنها .
لا ..أنه ببساطة ، لن يجرؤ على السماح لنفسه أن يشرب من النبع الحلو المترقرق الذي اسمه بريندا ، مع إطلالة الربيع .




******************************************
5/ الرسم بالكلمات ..




نظرت بريندا نظرت بريندا لى أخيها دان بترقب تسأله :
- حسناً ! ما رأيك بالمركيز حسبما قلته لك عنه ؟
كان دان ينفخ غليونه ، وقد أدهشته الجدية في صوت أخته :
- إنه لا يشبه الصورة الذهنية التي رسمتها لسكوت ستيفن ، لكن الأمر جيد ان تعملي لمثل هذا المؤلف المعروف ..هه ؟ أنا فعلاً أتمتع بكتاباته !
كانت خيبة أمل بريندا مساوية لانزعاج الذي أحست به ..أملت أن يفهم دان لماذا هي فضولية ؟ لكن كان يجب أن تعرف أنه لن يفهم ..
كانت ردة فعل دان لسماعه عن هويتي المركيز الأخيرتين ، مختلفة تماماً عن ردة فعلها ..لقد تأثر كثيراً لدرجة الاهتياج بمعرفة أن شقيقته تعمل لدى سكوت ستيفن ..لكنه لم يكن مهتماً أن يكون ذات الرجل هو مارك ، الرسام الذي فنه يبهج الناس ، لو أنه فقط ..
لكن ..هذا هو دان الذي سأل ممازحاً :
- لماذا صمت ..كنت تتكلمين عن الرجل منذ ساعة..لاتعدي رأيي يوقفك !
ابتسمت بريندا ..هل استمرت في الكلام لساعة فعلاً ؟ لا شك أن دان ضجر منها :
- آسفة ..هل أبدأ بتحضير العشاء ؟ سيأخذ بعض الوقت ، متى سيعود الولدان من الحفلة ؟
- لا تقلقي عليهما ..فلن يرغبا في العشاء بعدما يحشوا بطنيهما بالكيك والآيس كريم طوال بعد الظهر ..لكن ، هيا بريندا تابعي كلامك . ماذا كنت تسأليني ؟
لم تجد جدوى من متابعة الحديث ..
- أوه ..لاشيء ..أنا ..فقط كنت أتسأل ما إذا كنت توافق معي على أنه رجل وحيد .
- أستطيع القول أنه كذلك فعلا ..لكنه كما قلت لقد أختار أن يعيش أميالاً بعيداً عن أي مكان دون أن يزوره أحد ، لكن ماذا يهمك من كل هذا على أي حال ؟ هل أنت معجبة به ؟
ردت بعنف :
- لا تكن سخيفاً! إنه رجل متزوج ! إضافة إلى هذا ، أنت لا تعتقد أن رجلاً مثله قد يهتد بفتاة مثلي !
- لا أرى لماذا لا ..لماذا تقللين من قيمة نفسك دائماً كلما اقتربنا من موضوع الرجال ، أو موضوع جاذبيتك وأنوثتك ؟
- هيا دان ..أنت أخي وأتوقع منك الصراحة ..فلنواجه الأمر ..أنا لست ملفته للنظر !
أخذ يملأ غليونه مجدداً ، وبدا انشغاله بهذا يزعجها ..ثم أجاب :
- لكن المركيز لا يعرف .
- دان ..؟
- لا ..أنا لا أعني شيئاً سيئاً ..وتعرفين هذا .كل ما أقوله أن الرجال لا ينجذبون إلى النساء دائماً بسبب مظهرهن . وأنت تعرفين هذا كذلك ..ماذا عن شخصيتك الرائعة ؟ ماذا عن إخلاصك , ذكائك , وصبرك ؟
الصب إنها تفقده الآن وبسرعة ..
- أنت أخي ..أنت ملزم بأن تعتقد أن لدي هذه المواصفات . أنت منحاز.
- كلام سخيف ! وبما أنن ذكرنا الموضوع ..دعيني أوضح لك أمراً آخر .أنت لست غير جذابة ..صحيح أنك عادية المظهر ..لكنك لا تتزينين جيداً لتظهري أفضل ما عنك ..صحيح ؟ أعني لو فعلت شيئاً لشعرك ووضعت بعض الزينة ، فستتمكنين من جذب الكثير من الرجال ممن ..
قاطعته :
- ..ممن سيكتشفون فيما بعد أنني لست جميلة فعلاً.
- إذن كنت ستقول إنني أكاد أصل الرابعة والعشرين ولقد آن الوقت لأتزوج.
لم يلحظ دان توترها ..بل بدا مشغول الفكر بشيء آخر ما عدا غليونه ..ثم قال ببطء وكأنه حل معضلة :
- أوه ..أجل ..أذكر أين رأيت هذا الآن ..جان مارك ليس متزوجاً في الواقع ..لقد طّلق منذ مدة ..أذكر أنني قرأت هذا .
جاهدت فبقاء صوتها غير مضطرب ..وسألت :
- هل أنت متأكد ؟
- تعرفين أن لي ذاكرة قوية ..بالطبع أنا متأكد ! لقد قرأت هذا ..لكنني كنت أحاول أن أتذكر أين ..همم ..هذا صحيح ..مارك كان متزوج من امرأة اسمها اليان ..ولقد هربت مع رجل آخر ..شخص في السينما ..كانت امرأة جميلة جداً ..أذكر صورتها...
رفعت نظرها لترى دان يراقبها بغير رضا ظاهر :
- أختي ..أنت تقعين في حب هذا الرجل ..أليس كذلك ؟
- دان ..إذا قلت هذا مرة أخرى ..سأخرج ..وبإمكانك تحضير العشاء لنفسك .
- أنا لم أرك متوترة الأعصاب هكذا منذ زمن طويل ..حسناً إذا كنت ستأخذين بنصيحتي ، أوقفي هذا قبل أن يحدث ..يجب أن تتركي ذلك المنزل فوراً.
وقفت مرة أخرى ..شديدة الاضطراب :
- عم تتكلم ؟
ماذا هناك لأوقفه قبل أن يحدث ؟! أن تترك سيلينا هاوس ؟ كيف يمكنها أن تفعل ذلك ؟ حتى لو أرادت ..
لكن الفكرة لم تتطور فملاحظة دان التالية قلبت التوازن وأفقدته أعصابها تماماً :
- أعني أنني لا أريدك أن تتورطي مع رجل أعمى . أتريدين ذلك ؟
كادت بريندا البطيئة الغضب ، أن تنقض على عنقه :
- ماذا ؟ وما دخل بصره في كل هذا ؟
لم يبدو على دان الخجل ..بل دس غليونه بين أسنانه وكلمها وكأنها في العاشرة من عمرها :
- أنت الآن سخيفة ..تعرفين الرد على هذا كما أعرفه ..أي نوع من الحياة ستعيشين ..مع رجل أعمى ؟ يجب أن تقضي على هذا في مهده ..أعني ..لماذا هو ؟ حتى ولو كان سكوت ستيفن ! لماذا تتوجهين إلى رجل لا تستطيعين حتى ..
- كف عن هذا !
عبرت الغرفة لتفتح الباب :
- سوف أبدأ بتحضير العشاء ..أنا آسفة دان ، لكنني لا أريد المزيد من الجدل حول هذا ..ليس الآن , ولا أبداً ..فأنت لا تعرف عما تتكلم ..
لكنها ببساطة لم تستطع ترك الأمر هكذا ..ورجعت بسرعة إلى باب غرفة الجلوس :
- أجد كلامك عن إعاقة جان مقرف ! والأسوأ من هذا أنها تخيفني ..لأني أتسأل بأي قياس تقيس قيمة الرجل؟!
كانت لا تزال منزعجة حين دخل دان المطبخ بعد نصف ساعة ..لكنها ابتسمت له ..فهو أخوها وهي تحبه بغض النظر عن أي شيء .
أنهما مقربان من بعضهما لكن تفكيرهما مختلف تماماً..لف ذراعه حولها :
- آسف ..ليس في وسعي إلا أن أكون أخاك الكبير .
- أعرف ..ولا بأس بهذا أخي الأكبر .
لكن كان هناك أوقات تحس أنها أكبر منه سناً بكثير..
- هاي ! لم تسمعي أخباري عن مدبرة المنزل .
أحست بالذنب فوراً ..لقد تكلمت كثيراً منذ وصلت ونست هذه المسألة :
- وهل وجدت واحدة ؟
- ليس بالضبط , لكنني متفائل ..نشرت إعلان في صحيفة التلغراف ..نشرة واحدة فقط وتلقيت خمس مخابرات ..لكن هناك امرأة واحدة تبدو واعدة ..إنها اسكتلندية وستأتي لتراني في الأسبوع المقبل .وبالطبع يجب أن أدفع لها المصاريف ..لكنها بدأت لطيفة جداً على الهاتف ، إنها مدبرة منزل منذ سنوات ، تعمل في منزل ضخم لأحد اللوردات . لقد كتبت كل شيء هنا ، وسأكتب طالباً للتزكية ..الرجل الّي كانت تعمل عنده مات وأصبحت بلا عمل ، لكنها قالت أن بإمكاني طلب التزكية من ابنته.
ارتفع حاجبي بريندا قليلاً:
- وهل قلت لها أن هذا المنزل يحتوي على أربعة غرف نوم فقط لكن هناك ولدان للرعاية ؟
- طبعاً ؟
تركت بريندا منزل أخيها بعد الظهر واتجهت لتأخذ ملابس من شقتها ، ..ثم ذهبت لمنزل كاثلين ..كانت لا تزال متحمسة للحصول على رأي آخر حول المركيز ..ورأي كاثلين سوف تقدره ..تعرف أنها تستطيع التحدث إليها بثقة ، ومن المهم الاستماع لرأي امرأة .
فتحت كاثلين الباب وابتسامة عريضة على وجهها :
- هاي ! ادخلي بريندا ..ادخلي ! مضى زمن طويل لم أرك فيه ! أنا مسرورة لأنك هنا ..فسيعطيني وجودك عذراً للتوقف عن التنظيف !
- لقد اتصلت بك عدة مرات في الأسبوع الفائت .
ملأت كاثلين إبريق الماء ، وأخرجت فنجاني قهوة .
- آه ..حسناً ..لدي أخبار لك ! كنت في ( ليدز ) وسأعود لهناك نهاية الأسبوع المقبل ..سأنتقل أنا وجون إلى ليدز بعد زواجنا ! لقد عرضت عليه وظيفة في المكتب الرئيسي ..وظيفة مكتبية ! أليس هذا عظيماً ؟ هذا يعني أنه لن يسافر كثيراً الآن ..وسيعود للمنزل كل ليلة .
ابتسمت بريندا :
- إنها أخبار جيدة ! ماعدا أنني سأكون آسفة لفقدانك ..سأشتاق إليك ..إذن ستسافران عدة مرات إلى هناك إلى أن تجدا منزلاً ، أليس كذلك ؟
- أجل ..أوه ..هل تحبين تناول سندويش ؟
- لا ..شكراً ..وستنتقلان مباشرة بعد الزواج في نهاية شهر تموز ؟
مضت النصف ساعة التالية بحديث كاثلين عن خططها ، حفلة العرس , خاتم الزواج ..وغيرها ..أخيراً غيرت كاثلين الموضوع ن مدركة إنها تكلمت كثيراً عن نفسها ..
مالت إلى الأمام تربت على يد صديقتها :
- آسفة بريندا ..أنت لم تتفوهي بكلمة ، لقد اشتقت لرؤيتك وهذه هي المشكلة أعرف أنني كنت مقتصدة جداً بعد الخروج معك ، لكننا نحاول توفير كل بنس ..
- لا بأس في هذا ..أفهم.
- قصي علي أخبارك إذن ..سمعت أنك تعملين لسكوت ستيفن ! أمر مثير ..هه ؟ وسمعت كذلك أنه غريب الأطوار .
لم تندهش بريندا لقيل وقال الوكالة الذي وصل كاثلين ، لكنها انزعجت للوصف المهين لسكوت ستيفن ..فضاقت عيناها مفكرة :
- إلى من كنت تتكلمين ؟ هل قالت لك بيني هذا ؟
- لا ..لكنني ..كنت أعمل مع أليكس ماديستون هذا الأسبوع وكان قد أجرى مقابلة مع سكوت ستيفن .
تنهدت بريندا ، أليكس ماديستون انضم إلى وكالة بورك منذ ستة أشهر ، وهو على الأرجح أسرع مختزل .صحيح أنه جذاب لكن لا عمق لشخصيته ..خرجت معه بريندا مرة واحدة وأحست بالضجر ، قالت لكاثلين :
- مع كل مظهره الجذاب فهو أسوأ رجل قابلته ، ولا يمكنه أن يفهم رجل مثل سكوت ستيفن ..لا استطيع أن أتصور لماذا أرسلته بيني للمقابلة !
- لا أعرف السبب ..لكنني سمعت أن عدة أشخاص أرسلوا إلى هناك ..وسأل اليكس على من حطت المهمة رحالها ..فقلت أنك بدأت العمل فعلاً قبل أسبوعين ..أوه ..لقد أخبرني أليكس كذلك أن السيد ستيفن أعمى..هل هذا صحيح ؟
- هذا صحيح جداً ..لكنه ليس غريب الأطوار ، أؤكد لك ..أنه غامض قليلاً ..هل سمعت شيء آخر عنه ؟
- لا ..لا شيء .
إذن ما من أحد من الذين قابله عرف أن سكوت ستيفن هو مارك الرسام .
- اسمعي كاثلين ، لا أريد لهذا أن تنتشر ، لكن سكوت ستيفن ..كان ..يعرف باسم آخر .
- إذن سكوت ستيفن هو اسم مستعار ..خمنت هذا .
- لا ..أعني بلى ..إنه ..ولست أدري أن كان هذا يعني لك شيء ، أنه جان مارك ..مارك اسم الشهرة.
ارتفع حاجبا كاثلين دهشة :
- الرسام ! ذلك الذي فقد بصره ! أجل ..بالطبع أعرفه ..وأنت لديك لوحة له ..أليس كذلك ؟
- إنها نسخة طبق الأصل ..أجل ..في الواقع اسمه الكامل لو ماركيز جان مارك دوبافندال..
أصغت كاثلين بهدوء بينما مضت بريندا تقص عليها كل شيء عن المركيز وأسلوب حياته ..أخيراً قالت بريندا :
- على أي حال ..لا أستطيع تقييمه ..هل لديك أفكار ما ؟
صمتت كاثلين برهة ..ثم :
- لا بد من وجود امرأة متورطة في كل هذا , فهل هو متزوج ؟
ابتسمت بريندا :
- ابحثي عن المرأة ..كان لدي فكرة مماثلة ..لكنه في الواقع مطلق ..ويبدو أن زوجته هربت مع ممثل ..نشرت القصة في الصحف .
- هكذا إذن ..يبدو هذا غريباً ..أليس كذلك ؟ أعني أنه جميل المظهر ..وكل شيء لصالحه ..أستطيع أن أرى سبب انجذابك إليه .غريب كيف أنه عزل نفسه عن الحياة تماماً ..لا يبدو أن عماه يشكل مشكلة كبيرة له ..ومما قلته لي ..فهو يتصرف جيداً ..أتسأل ..
- ماذا ؟
- ..لو كان لا زال يحب زوجته ؟ يشتاق إليها ؟
- إليان ؟ لا..لاأظن ..لا ..أعتقد أن هذا ممكن .
قالت كاثلين بحزم :
- بل ممكن جداً ..يبدو لي هذا منطقياً ..ويبين سبب ماهو عليه الآن ..هل ترغبين في المزيد من القهوة ؟
- لا ..شكراً ..من الأفضل أن أذهب ..لا أريد أن أعود في الظلام ..فهناك خطر أن أضيع ..اسمعي ، سأعطيك رقم هاتفي ..لكن أرجوك لا تتصلي قبل الحادية عشرة .
سجلت كاثلين رقم الهاتف ووعدت بريندا أن تتصل ..
بعد التفكير طوال طريق العودة ، صرفت بريندا النظرة عن فكرة كاثلين ..جان لا يزال يحب زوجته السابقة ؟ لا ..لا يبدو صحيحاً ..لكنها لم تتوقف لتسأل نفسها لم كل هذا التصميم ؟ ولم كل هذا الاهتمام ؟!
في الوقت الراهن هناك عمل ينتظرها ، ومغامرات وايلي ستلهها عن أفكارها ..أوقفت سيارتها في المرآب وذهبت فوراً للعمل .
حين وصلت للردهة بعد أن أنهت طباعتها ، رأت المركيز يدخل عبر باب في نهاية الرواق .. توقف واستدار بعد أن سمع وقع قدميها بالرغم من وجود السجادة السميكة :
قال :- مساء الخير بريندا .
ثم رحل !!
لم يسألها كيف حالها ، ولا ما إذا كانت قد لاحقت ما تأخر عليها من عمل ..لا شيء ..دخلت غرفتها ورمت نفسها متعبة على السرير ..تتذكر تمتعه بالطريقة السخيفة التي وصفت بها دان !! لقد فهمها جان فوراً ..لكن هذا كان حديثهما الوحيد حتى اليوم ..
لن يسمح بأن يدفعها هذا لأن تكون منسحبة متحفظة مثله ، ! هكذا ..كانت تخبره متى سنحت لها الفرصة عن الأشياء اللطيفة التي كانت تحدث خلال سيرها في الأراضي المحيطة بالمنزل ، مثل الزهور الزعفرانية التي كانت تشق الأرض والنرجس البري بمحاولاته الشجاعة للبقاء بعد ثلج الشهر المنصرم ..أو كانت تخبره إذا خرجت للتفرج على واجهات المحلات ، أو أنها حضرت ندوة قراءة شعر ..أو عن الكتب التي استعارتها من مكتبته ..وبالطبع لم تكن تحصل على رد ..لكنها مع ذلك كانت تستمر في الثرثرة في وقت استراحة القهوة مصممة على أن لا تصدها تصرفاته ، مصممة أن تستمر في أن تكون نفسها .
بعد حوالي الشهر من انتقالها للسكن في سيلينا هاوس .حدث لقاء قصير خارج ساعات العمل جعلها تدرك أنها تصل للمركيز طوال الوقت ولو بطريقة محدودة .كانت الساعة تكاد تصل للتاسعة مساءً حين خرجت إلى الحديقة ..كانت السماء سوداء مرصعة بالنجوم ..والقمر بدراً فضياً ..التقطت رائحة سيكار جان قبل أن تستقر عيناها عليه ..كانت ساقاه الطويلتان ممدودتين أمامه ، يداه داخل جيبيه ، يجلس دون حراك ضائعاً في أفكاره ..
كانت قد رأته هكذا أكثر من مرة ، في المكتبة عند الصباح ، يفكر ..يحدق نحو الظلمة التي تخصه وحده ..كانت تعلم في تلك اللحظات أنه لا يفكر في كتابه ، لأن عينيه تكون كليلتين ، رماديتين ، وتمر ثوان طويلة قبل أن يحس بوجودها .
هكذا كان الآن ..جلست لإلى جانبه بصمت ، تحس بحزنه قبل أن يتكلم :
- السماء جميلة جداً اليوم .
للحظات لم يرد ..لم يتحرك ..ثم أدار رأسه إليها :
- صحيح بريندا ؟
أكمل بصوت هادئ جداً :
- ارسميها لي إذن بالكلمات ..
بالكلمات ..؟! أحست بالرعب ، لأنها لا تريد أن تخذله ، غير واثقة مما يتوقعه منها :
- هيا بريندا ..لا تفكري في الأمر ..لاتحاولي أن تختاري الكلمات ..تكلمي فقط ، لديك أجمل طريقة في وصف الأشياء ، أتعرفين هذا ؟ أنها موهبة ! يجب أن تحاولي أن تكتبي عن نفسك ، وأعني ما أقول ..أرجوك ارسمي لي المنظر الآن .
وفعلت ...تدفق الكلام منها بسهولة دون وعي .رسمت السكون ، الصمت ، الأشجار وظلالها ، القمر ، النجوم ، حددت معالم البيوت والأنوار المشعة منها التي تستطيع أن تراها براقة غير متحركة .
في تلك الدقائق القليلة ..أحست أنها سعيدة بشكل لا يصدق ..ما أروع أن تتمكن من إعطاء البهجة بمثل هذه السهولة والبساطة ..وما أروع أن سألها أن تفعل !
كان بإمكانها الاستمرار في الرسم إلى الأبد ..أرادت أن تسير معه في الأراضي كلها حول المنزل ، حول العالم ، وتصف له كل شيء تراه .
لكن اللحظة السعيدة انتهت بسرعة ..فجأة وقف وتحرك مبتعداً عنها :
- أرجو أن تعذريني الآن .
- جان ..؟
- يجب أن أفكر بعمل الغد ..تصبحين على خير .
كان هذا كصفعة على وجهها ، وتدفقت الدموع من عينيها ..راقبته يسير مبتعداً وحزنه ملتف حوله كالعباءة ..كان حديثاً ممتعاً ، ولا شك أن مارك الفنان كان يتفجع على لحظات كهذه .
صدمها إدراكها هذا فدفنت وجهها بين يديها التي أصبحتا باردتين .جان مارك لا زال يلبس أثوان الحزن ..
أفلتت منها صيحة صغيرة بعد أن بدا لها كل شيء ، ..ووجدت نفسها فجأة مع أعماق جان مارك ..
فكرت بكل التناقضات في حياته ، في المنزل المليء بالفن والألوان ..وتصورته يتحرك في المكتبة ويداه تمران بمحبة فوق التماثيل ..إنه حزين على فنه ..ذلك الذي لن يتمكن بعد اليوم أن يبدعه طالما هو حي ..ولا أن يشهد هذا المنزل والجمال الذي فيه واللوحات المعلقة به ..لقد وضع جان الماضي خلفه وقاطع الجميع وكل شيء ما ..عدا فنه ..ماعدا الجمال ..هذه الأشياء لا يتحمل العيش بدونها .
إنه يعرف كل أنش في منزله ! يعرفه حقاً ..إنه قادر على رؤية الجمال المحيط بوضوح يماثل وضوح رؤية بريندا بل أفضل بكثير..
في عتمة نهاية الليل كانت بريندا لا تزار تفكر والدموع تتدفق من عينيها ..دموع ليست من أجل جان ..بل لأجل نفسها .استطاعت سماع كلمات دان ..ودوى اتهامه في رأسها ..أنت تقعين في حب هذا الرجل ، أليس كذلك ؟! وصاحت لنفسها عالياً معترفة : - أجل ..أحبه ..أحبه ! و لا آبه بشيء البته !
إنها تعرف أن هذا لن يأتيها سوى بتحطيم قلبها لأن جان مارك لن يشعر بشيء نحوها .
كانت تعرف أن هذا سيحدث ..منذ البداية عرفت ..ذلك الإحساس الغامض المختلط بالتململ.
ابتسمت بحزن ، تفتح صفحات مذكراتها ..يالها من تعبيرات ملطفة ، وتبريرات ، تلك التي استخدمتها خلال أسابيع في جهد لإخفاء مشاعرها الحقيقية نحوه ، وياله من أمر سخيف تفعله ، تحاول أن تخدع نفسها هكذا !..لماذا لم تعترف أنها بدأت تحبه منذ البداية ..وأن هذا أخافها حتى الموت ؟
كونها تحب جان هذا أمر حتمي لا يمكنها تجنبه ، مثله مثل الأم الذي جاء مع الحب ..الاثنان لا يمكن فصلهما لأنها تعرف أن حبها لا طائل منه ، محكوم عليه بالاحتراق من أجل رجل لن يحس أبداً بحرارته ..
كانت العزلة ، والبرودة ، والتعاسة في داخل جان بعيدة عن الملمس ..لم يكن دفئه الظاهر وحساسيته والمرح حقيقة ..كانت مجرد طبقات سمح لها بأن تلمح بعضها لأنها حاولت جاهدة لتحصل على هذه الميزة ، لكن هذه الطبقات لم تخدعها ..فمن خلفها رجل تخلى عن الحياة بكل بساطة ..رجل لايهتم بشيء ..أوه ..رجل تجمد قلبه منذ خمس سنوات.
كيف يمكن أن تأمل لفتاة مثلها في إذابة ذلك القلب حتى لو تمكنت من أن تجد طريقاً يقودها إليه ؟ لن تستطيع ..
صحيح أنها في الفترات التي يتحدث فيها إليها تحس بأن هناك تفاهم وألفة بينهما ..إلا أنه يتراجع بعده فوراً وكأنه يحس أنه خذل نفسه ..أنه لا يريد الناس لا يريدهم أن يشهدوا طريقة حياته ، انعزاله عن العالم ..جان مارك بكل بساطة ، ليس في حاجة للناس .
لقد فقد بصره ، قدرته على الرسم ، وهاهو الآن غارق في حزنه ..كانت غبية إذ اعتقدت أنه تكيف ! لا شيء لا أحد يمكنه تقديم العزاء لمثل هذا النوع من الفجيعة ..و لا عجب من وجود أوقات تستطيع فيها أن تشعر بحزنه وكأنه ملموس .
نظرت إلى مذكراتها ..لم تستطع الاعتراف بكل هذه الأفكار على الورق ..إضافة إلى هذا ..ما تشعر به نحو جان هش جداً ومعرض للخطر ..وثمين أكثر من أن تصفه بالكلمات ..إذاً ستترك في الصفحة جملة واحدة فقط لن تخاطر فيها بأي تشويه للمشاعر ، للألم أو اليأس ، إذا بقيت ملتزمة برموز اختزالها . وكتبت بسرعة لوني اليوم هو الأزرق .
6/ كيف يرى الأعمى ؟




خلال الأيام التالية كان على بريندا أن تقوم بجهد كبير ، لتظهر وكأنها لم تتغير بأي طريقة . ولم يكن هذا سهلاً ..ذات صباح استيقظت مع صداع أليم وإحساس بالذعر يتصاعد في حلقها ..نظرت إلى ساعتها ..الرابعة والنصف ..لقد نامت بشكل سيء مرة أخرى ..حوالي ثلاث ساعات ..ومن الأفضل لها أن تنهض ..فلن تنال نوماً هادئاً إلى أن تجد حلاً لحبها الذي لا ثمرة له نحو جان مارك ..هذا ما عليها أن تفعله ..وإلا فستكون الأشهر المتبقية عنده لا تطاق ..
ارتدت بنطلوناً وكنزة سميكة ومررت مشطاً في شعرها ، وارتدت البوط في قدميها . نزلت السلم بسرعة متجهة للباب الخلفي ..لكن ما كان عليها أن تزعج نفسها بالتسلل بخفة القطة ، كان غريفز في المطبخ وهذا يعني أن المركيز مستيقظ أيضاً .
- صباح الخير غريفز .
كان يجلس إلى طاولة المطبخ يشرب الشاي ويقرأ ، يرتدي بيجاما كحلية مقلمة بشعة ، فوقها روب بني ..حاولت بريندا تجنيبه الإحراج بالسير مباشرة إلى خارج باب المطبخ ..لكنه كان قد وقف ما أن دخلت ، وكأنها ضبطته بفعل شرير.
سارت ..وسارت ..إلى أبعد مما سارت من قبل ، إلى أن وصلت الغابة في نهاية الأرض ..لكن هذا لم ينفعها كثيراً ..في العتمة ، التقطت زهوراً من حافة الغابة ، ثم عادت إلى المنزل حين لم تعد تطيق تحمل الضجيج في صدغيها .
وهي تصعد المرجة في مؤخرة المنزل ، رأت الأنوار مضاءة في قاعة بركة السباحة ..صحيح أنها رأت هذا أكثر من مرة ، لكنها لم تر بعد من يستخدمها .
كان المركيز هناك ، يقطع الماء بسرعة خارقة ، يسبح طولاً بعد طول ..وقفت بريندا تراقبه ..كانت قريبة بما يكفي لتراه هبر الأبواب الزجاجية ، لكنها بعيدة بما يكفي حتى أنه لم يحس بوجودها ..
حين خرج من الماء ، بلعت ريقها تحس بعقدة الذنب لتطفلها العرضي على خصوصياته ..
كان يجب أن تتحرك لتوها ..كان يجب أن تبتعد عن الأنظار كي لا يلمحها غريفز من نافذة المطبخ .لكنها لم تفعل وظلت تراقبه يقف قرب البركة يبعد الشعر الأسود عن وجهه . لم تع سوى إحساس بالرهبة لجماله الرجولي وهي تتأمله لدقائق طويلة ..
كان غريفز يخرج الأطباق من آلة الغسيل ..كان يرتدي ملابسه الآن وقد حلق ذقنه وأصبح مرتباً:
- صباح الخير مرة أخرى آنسة توماسن ..لقد استيقظت باكراً اليوم .
ظنت بريندا أنها رأت نظرة الرضا في عينيه :
- أجل غريفز ..أيمكن أن تجد لي إناء لهذه الزهور ، وحبتين من الأسبرين ؟
هز رأسه إيجابا وضعت بريندا الزهور على رف المغسلة ، وأدارت غلاية الماء الكهربائية .
- سأحضر لك الشاي والتوست آنسة .
ثم أعطاها فازة من الكريستال وعلبة أسبرين . قالت :
- لا أريد التوست اليوم شكراً ..الشاي فقط ، وسأشربه هنا .
- مسألة الأسبرين تثير الاهتمام ..سمعت أنك لو وضعت قرصين منه في الماء ، تساعد الزهور على الحياة فترة أطول .
في أي وقت آخر كانت بريندا ستضحك لنكتته غير المقصودة ..لكن كان الضحك بعيداً عنها هذا الصباح ، وأوضحت له ببساطة سبب طلبها للأسبرين . كانت طريقته في إبداء التعاطف شهقة :
- إذن لهذا خرجت باكراً ؟
تنهدت :
- لم أستطع النوم ..هل تستيقظ دائماً في منتصف الليل ؟
- لا ، آنسة . بل الرابعة والنصف كل يوم ..مسيو لو مارك يتناول القهوة في غرفة السباحة في الخامسة . ثم يسبح ، ويحب تناول الفطور عند الساعة السادسة .إذا عذرتني يجب أن أحضر فطوره الآن .
أخذت بريندا أزهارها إلى فوق واستحمت ..يجب أن تحاول التماسك ..لا تريد أن تبدو مختلفة .
لم يساعدها الأسبرين كثيراً ..ومع حلول الثامنة والنصف كان الصداع قد عاد بشدة ، بحيث وجدت صعوبة في التركيز على دفتر الاختزال .حين دخل غريفز بالقهوة ابتسمت له شاكرة ..فقد وضع قرصين من الأسبرين على الصينية ..كم هو بارع ..إنها لا تريد أن يعرف جان أن هناك خطب ما ، ولن يعرف الآن شيئاً ، وهز غريفز رأسه باختصار.
لكن جان مارك لم يكن بحاجة لأن يرى الأقراص ليعرف أن هناك شيئاً خاطئاً ، فقد أحس بأنها ليست على ما يرام منذ عدة أيام ..
- ما بك بريندا ؟ ما الخطب ؟
أجفلها الاهتمام القلق في صوته .
- خطب ؟..لا شيء
قال بلهجة تحذيرية : بريندا ..
- أوه ..أنا فقط لا أنام جيداً ..يجب أن آخذ قيلولة بعد الظهر .
. إلى أي مدى هو سيء ؟
- ما هو السيئ ؟
- صداعك ، أيتها الفتاة الماكرة ! كم هو سيئ صداعك ؟
ضحكت ، يبدو وكأنه عالم نفسي ، ولأنها أحست أنها بحاجة إلى قليل من الارتياح ضحكت .
- جان ..أنا بخير تماماً ..أرجوك لا تقلق .
أصدر لسانه فرقعة عدم رضا ..وتركها بحيرة صامتة إلى أن استسلمت :
- حسناً جداً ! حسناً جداً ! إنه متواصل !
هز رأسه راضياً :
- انهي قهوتك ، ثم أذهبي .
- هه ؟
قلدها :
- هه ؟ إلى الفراش ..اذهبي إلى النوم .
- بالتأكيد لا ! لدينا برنامج ومواعيد يجب أن نحافظ عليها ، ثم لن نستطيع ترك وايلي ينزف حتى الموت في غابة استوائية !
رمى جان رأسه للوراء ضاحكاً ..هذع الفتاة لا يمكن مقاومتها ..تباً لها ً تباً للطفها ً لإخلاصها ، وأنوثتها ، ولجعلها إياه يحس بالحياة أربع ساعات كل يوم ..
- هذا غير صحيح ..وايلي سيعيش وتعرفين هذا . يجب أن يعيش ليخبر القصة ، وليحارب في يوم آخر ..والأن كفى محاولة لإلهائي ! اذهبي ونامي .
على مضض ، تركته ..أقفلت الستائر لتمنع نور الصباح واستلقت فوق الفراش ..ما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسها تبكي ..
لم تقاوم البكاء ، تركت نفسها تبكي إلى أن لم يعد هناك مزيداً من الدموع ..وساعدها هذا ، واسترخى الضغط العصبي قليلاً .
لكنها جسدياً كانت أسوأ بكثير ..كان صدغاها يضجان بشدة ويداها ترتجفان وهي تلتقط الهاتف لتقول لغريفز أنها لن تتناول الغداء اليوم ..وأبدى غريفز الاحتجاج مشيراً إلى أن الطعام قد يكون فيه الشفاء ..وشكرته بريندا لكنها لم تقبل احتجاجه .

*****************************

في المطبخ ، ساد صمت مطبق بينما كان غريفز ينظر مفكراً إلى سماعة الهاتف ..لقد بدت غريبة جداً ..
- حسناً جداً غريفز ..شكر لك . أحسنت في أخباري ..هلا صببت لي القهوة بما أنك هنا ؟
كان المركيز يجلس في كرسي مريح قرب النار في غرفة الجلوس ..وبدا غريفز مجفلاً ..قهوة ..وفي هذه الساعة ..يبدو أن الروتين في هذا المنزل قد خُرق !!
- لم أرد أن أزعجك مسيو مارك ..لكن الآنسة توماسون بدت شاحبة جداً هذا الصباح ..أعني ..بدت مريضة . أعني أن أقول ..أنها في العادة فتاة لطيفة جداً ومرحة !
- حسناً غريفز ..تابع تحضير الغداء كالعادة ..فالآنسة توماسن ستأكل ، ستتناول الغداء معي .
كاد الخادم العجوز الأمين يوقع إبريق القهوة من يده .
- أنا ..أنا آسف ..ماذا قلت ؟
- قلت أن الآنسة توماسن ستتغدى معي اليوم .
- معك سيدي ؟ أتعني ..في غرفة الطعام ..معك ؟
ضحك جان باختصار :
- أين غير هناك ؟ صب فنجانين من القهوة وضعهما على الطاولة .
لم يقل غريفز شيئاً أخر . فعل ما قيل له وترك الغرفة مشوش الفكر.
أشعل جان سيكارة يتصارع مع نفسه ..يجب أن يذهب إليها . إنه على الأقل مسئول ولو جزئياً عن توترها وهذا ماهو واثق منه ..إنها مخلوقة حساسة وقد عاملها بفظاظة ..و لا يمكن لأحد أن يفعل هذا لفتاة مثل بريندا ، دون أن يكون لفعلته أي تأثير .
تباً ! لماذا يجب أن تكون مدركة وشديدة الحساسية ؟ لماذا ليست كبقية السكرتيرات لا يهتممن سوى بثمن الطعام والثياب ، أو تتجاهله ؟ إنها أكثر حكمة من سنوات عمرها ..إنها لا تلائمه وما كان يجب أن يستخدمها أصلاً .
حتى كتاباته تأثرت ..لم يحدث من قبل أن قام بمثل هذا التغيير الكبير في مخطوطاته ..وهذا الأمر يسبب لها مزيداً من الضغط ..لكنها لم تتذمر يوماً ، كانت دائماً تقول شيئاً مشجعاً : أوه ..أجل ! هكذا أفضل ..لم أدرك هذا حتى قلته ..لكن ..
كانت لها طريقة غريبة في معرفة متى تتكلم ومتى تبقى صامتة ..لم يشعر أبداً من قبل لا في حياته السابقة ولا في حياته الحالية ، بمثل هذه الراحة في الصمت المشترك ..تباً !
بمقدوره الآن أن يجعلها تشعر أفل حالاً ..وهو مدين لها بذلك ..لم يكن يريد أن يلمسها ..لا يريد أن يفعل هذا ..فملامستها يعني في الواقع أن يعرفها ، وأن يعرفها تعني أنه لن ينساها بعد أبداً ..
لكن ..هذه مشكلته وسيتدبر أمره بطريقة ما ..حين يأتي وقت رحيلها ، سيتمكن ، كما في السابق ، أن يمحو ذكراها من حياته .
آه ..كم كان على استعداد يوماً أن يتخلى عن الكثير ليعرف فتاة مثلها ..لكن الأوان فاته الآن ، وقد تأخر به الوقت كثيراً ..كثيراً جداً..
ظنت بريندا أن غريفز هو الذي يقرع بابها ..فأحست بالتوتر لأنها لا تريده أن يرى وجهها المحمر المبلل ..لكنها لن ترده خائباً دون أن ترد خاصة أن كان لطيفاً معها هذا الصباح .
نادت :
- إذا كنت قد جئت بالشاي غريفز ، أتركه خارج الباب أرجوك ..أنا ارتدي ثياب النوم .
انفتح الباب ..وأجفلها الصوت المخملي الدافئ فجلست مستقيمة .
- جئتك بالقهوة.
- جان ..! أنا ..أوه ..
- لا تجزعي ..لا أستطيع أن أراك ، ألا تذكرين ؟
كان يقف بالباب وكوب قهوة في كل يد من يديه يبتسم لها .
لم تعرف ما تقول ..كانت صدمة ..هو ..يأتي إليها هكذا ..
- أنا ..لست في الواقع ..
- آه ..كنت تقولين هذا لأنك لم ترغبي في أن يقتحم أحد خلوتك ..أنا آسف ..أعرف هذا الشعور .
- سأجعل من حالتك هذه استثناء لأنك لن تعرف كم أبدو رهيبة .
ضحك ضحكة منخفضة :
- هلا أخذت القهوة مني وأخبريني أين هي الكرسي ؟
وقفت بريندا وأخذت منه الكوبين :
- الكرسي قرب طاولة الزينة إلى يسارك مباشرة ، على بعد حوالي ثلاثة أقدام .
انتظرت إلى أن جلس وأعادت له كوبه .
- كيف حدث أنك تتناول القهوة قبل الغداء ؟ أنا التي لست على مايرام !
تراجعت عنه تراقبه وهو يلاحق صوتها إلى أن جلست على السرير ..كان يتعرف على الغرفة ، غرفة لا يمكن أن يكون على معرفة بها ..وأكملت :
- آسفة ..كنت أمازحك ..أنا في الواقع على مايرام .
- هناك زهور في غرفتك ؟
- أجل ، إنها أمامك مباشرة على حافة النافذة ..لكن الستائر مغلقة ويدهشني أنك شممت رائحتها .
وقفت مجدداً واستمرت في الثرثرة بتوتر :
- سأفتح الستائر ..التقطت الزهور من الغابة هذا الصباح ..استيقظت باكراً اليوم ..وأنا ..
رفع جان يده يسكتها :
- بريندا ..أرجوك أن تسترخي ! ى تحاولي أن تكوني مبتهجة مرحة وأنت تشعرين بالحزن ، فأنت لا تخدعين أحداً .
جلست مجدداً تحتسي القهوة علها تعطيها القدرة على أن تتصرف بشكل طبيعي ..لكن هذا ليس بالأمر السهل ، خاصة وهي قد اعترفت لنفسها أنها تحبه ..لقد أفسدت عليه يومه وهو هنا ليقول لها شيئاً عن عملها .
- أنا آسفة بشأن الإملاء يا جان ..لكن بالإمكان التعويض في الغد بكل تأكيد

أحزنته ملاحظتها ..هل تظن فعلاً أنه هنا ليحدثها عن شيء لا أهمية له ؟ أم أنها تتكلم لأنها بريندا المهتمة المفكرة بمصلحته دائماً ؟
- أنا لست هنا لأتحدث عن العمل .
- إذن ..لماذا أنت هنا ؟
- هل ستصعبين علي الأمر ؟ ليس من السهل أن أعتذر ، وتعرفين هذا ..الاعتذار ليس سهل لرجل مثلي .
قطبت ..مسرورة لكن مرتبكة قليلاً :
- وكيف يكون رجلاً مثلك ؟
- رجل نسي أخلاقه الحميدة ..لأنه ببساطة لم يحتج إليها منذ زمن طويل ..رجل لم يعتذر من قبل أبداً عن تصرفه ..تصرف بدا بارداً دون لزوم .
وشرب قليلاً من قهوته .كان يمنحها طبقة من طبقات نفسه ..لكن ماذا تعني هذه الطبقة ؟ وما قيمتها ؟القليل جداً .
أغمضت عينيها بشدة لتقاوم اندفاع الدموع منها ..ياإلهي ..لا تدعني أظهر أية مشاعر ، فيحس بها ، سيسمعها ، ستصل إليه ..وأنا لا أريد لهذا أن يحدث ..
تنحنحت :
- هناك تناقض ما في مكان ما ..إذا كنت متبصرة كما تظن ، فأنا بالتأكيد سأفهم تصرفك !
ولكونها غبية ظنت نفسها قادرة على أن تتحداه ، ظنت أنها ستتمكن من أن تقول له أنها تعرف كل أسراره ..وإنه في أعماقه لا يهتم بشيء أو بأحد ..لكنها لم تستطع ..فهذا لن يؤلمه ، لكنه سيسبب لها ألم أكبر من أن تتحمله الآن ..تمسكت بصمتها ..فهناك أمان في الصمت .
هز كتفيه :
- أستطيع القول أنك تفهمينه إلى حدود ما ..لكن فهم معاملتي السيئة لك لا يعني أنها تعجبك لقد سمعت الألم في صوتك الآن للتو ، وسمعته الكثير من المرات من قبل .وأنا اعتذر لأني لم أفعل سيئاً يجعلك مرتاحة في منزلك المؤقت ..وعدا عن هذا حملتك عملاً أضافياً في الأسبوع الماضي ..وأنا واثق أن كل هذا ساهم في إحساسك بالتوتر اليوم ..بريندا ، هل ستظهرين لي أنك قبلت اعتذاري بأن تتناولي طعام الغداء معي اليوم ؟
استقبلت الدعوة بمشاعر مختلطة ..أردت استبقاء الحواجز بينهما ..لم تعد تريد فرصة لتقترب منه ، بعد أن تبين لها أنه جامد صلب ..
أغمضت عينيها دون إرادة منها هذه المرة :
- سأكون مغتبطة جداً بأن أتناول معك الغداء .
بررت لنفسها ..لقد قبلت الدعوة لأن كرامته كانت على المحك ..ثم إنه أعتذر ..ألم يفعل ؟! فكيف يمكنها أن ترفض ؟
- ماذا ترتدين بريندا ؟ فستان ، تنورة ..أم ماذا ؟
لم تسمع كلمة :
- أنا آسفة ..ماذا قلت ؟
- -سوف أدلك كيف تدلكين بعض الأماكن في رأسك ليزول صداعك ..وهذه هي المرحلة رقم اثنين لأجعل بريندا أفضل حالاً ..
- لا تكن سخيفاً ..! قلت لك أنني تحسنت ! وكثيراً !
- أنت كاذبة ! هيا راقبي حركة يدي وقلديها ..وسيزول صداعك في خمس دقائق .
وراح يدلها على الأماكن التي يجب أن تدلكها عند أعلى رقبتها وعند صدغيها وعند فقرات ظهرها العليا ..
- دعي رأسك يتجه للأمام ..دعيه الآن يرتاح .
وراح يرشدها لتحرك رأسها حركات دائرية أزالت منه التوتر .
- أفضل حلاً ؟
- أوه ..شكراً لك !
تحرك للأمام يجذبها لتقف .
لم تستطع بريندا إخراج صوت حتى لو أرادت ..بل رحبت بلمسته ، فهذا هو جان يقول لها : مرحبا ويراها لأول مرة .
كانت على وجهه تلك النظرة المركزة المألوفة ..عيناه مغمضتان ..وقلبها يخفق بصوت مرتفع ..حتى انها خشيت أن يكسر صوته سحر اللحظة ..كان هذا أكثر مما تستطيع أن تتحمل .
- جان ..أرجوك .
فتح عينيه فوراً ، تتطلعان إليها باعتذار صامت . وابتسامة حزينة تشد فمه :
- أنت لطيفة جداً ..بريندا ..وجميلة جداً .
وابتعد عنها ..صاحت متألمة :
- أوه ! لا! لا تقل هذا ..أنا لست جميلة ..أنا لست جميلة جان !
فتح الباب ، واستدار يواجهها بابتسامة :
- آه ..عزيزتي بريندا ..ألم تعلمي بعد أن الجمال في الإنسان يأتي من أكثر من مصدر ؟
غاصت في سريرها ..لطيفة ..إنه هو اللطيف الذي جاء لزيارتها ليحاول أن يجعلها أفضل حالاً.
لقد جاء الوقت الذي يجب أن تعطي فيه ..أدركت هذا الآن ..منذ اعترافها الأخير لنفسها بمشاعرها نحوه لم تهتم إلا بنفسها ، بمشاعرها ، ولم تتوقف لتأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن تفعله له .
إنه معجب بها ..وهي متأكدة من ذلك ..وإلا لماذا انزعج نفسه هكذا ؟ قد يكون لأنه يواجه خطر خسارته سكرتيرته ..صحيح أن هذا ليس كل ما ترغب فيه لكن ما حصلت عليه ..وستحاول جهدها أن تظهر له أن الحياة تستحق أن تعاش .
يجب أن تدفعه إلى الحياة مجدداً ، يجب أن تبين له أن بإمكانه أن يكون سعيداً حتى لو لم يستطع أن يرسم ..أنه عمل شاق ..طويل ..ويكاد أن يكون مستحيل ..لكن عليها أن تجرب ..يجب أن تجرب ..ثم أليس هذا الحب ؟ العطاء ..لسوف تفعل أي شيء لمن تحبه ، وهي تحب جان مارك أكثر من أي شيء في العالم .
من الآن فصاعداً لن تتوقف لحظة لتفكر بنفسها ..ستفكر فقط فيه ..إذا كان هنالك وقت تستخدم فيه شيء من المكر أو التخلي عن كبريائها ، فستفعل ، ستفعل أي شيء إزالة الثلج عن قلبه المتجلد ..وستفعل هذا باسم الحب ..


************************************************** **
7/ مقاومة !




أمن لها تناول الغداء مع المركيز أول فرصة حقيقية لمعرفة شيء عنه ..تحدثا عن نفسيهما ..مجرد تفاصيل عامة جعلت الحديث يجري بسهولة ..وأدركت بريندا غرابة أن تعرف القليل عن جان في وقت تعرفه فيه جيداً ..كان الأمر وكأنها تتناول الغداء مع صديق حميم لم تره منذ عشرين سنة ..
أكد لها جان أنه فعلاً نصف انجليزي لجهة أمه ، لكنه تربى وتعلم في باريس .
سألته : كيف اخترت أن تعيش في انكلترا ؟
- ورثت هذا المنزل عن والدي ..تركته لهما جدتي لأمي ، اللايدي والتري ..لقد تقاعد والدي هنا منذ كنت في العشرين من عمري ..كنت في الجامعة ولم يكن لي رغبة في ترك فرنسا ..أمضيت أمي خمساً .وعشرين سنة في باريس مع أبي ، ولطالما وعدت نفسها بأن تنهي أيامها في بلدها انكلترا ..وهذا ما فعلته .لطالما أحببت هذا المنزل ..كنت أجي دائماً لأزور والدي ّ .الكثير من عطلات الطفولة كنا نقضيها هنا ، وأنا أعرف كل أنش من المكان ..وأحببت انكلترا دائماً ..لذا بدا لي من المنطقي أن أعود لأعيش هنا في مكان مألوف جداً وأحبه ، بعد أن فقدت بصري .
كان هناك ثغرات في القصة طبعاً ..فبالتأكيد أن منزله في باريس مألوف كذلك له ويحبه ؟ فلماذا انتقل إلى هنا ؟ ربما بتركه باريس ، ترك وراءه ماضيه كرسام ..وماذا عن زوجته ؟ هل كانت معه هنا في أيامه الأولى ؟ لم يذكرها جان ولن تجرؤ بريندا ان تطرق هذا الموضوع الخاص ..فهي تخوض معه الكلام بحذر .
- ماذا عن أقربائك ؟ لا بد أن لديك عائلة على كلا الجانبين من القناة ..فلماذا لا يزورونك ؟
- كانوا يزورونني في البداية ، لكنهم واحد أثر الآخر فهموا الرسالة بأنني لا أريد أي تطفل .
- الآن ..من يحاول المخادعة ؟ أنت تعني أنك أفزعتهم واحداً إثر الآخر !
ابتسم ابتسامة عريضة :
- حسناً جداً ..واحداً واحداً أخفتهم .
- وماذا عن غريفز؟ . أين موقعه وسط كل هذا ؟
- أوه ..لقد جاء غريفز إلى الخدمة وهو في الرابعة عشرة , وهو الآن في الرابعة والستين ..هل تصدقين هذا ؟ عمل لجدتي ، ثم لوالدي ّ ..حين ورث المكان أخذته معي إلى باريس ..وأقفلنا القصر هنا بعد وفاة والدي ّ ، وبقي معي ثلاث سنوات قبل الحادث ..بعد الحادثة عدنا إلى هنا ..و..تعرفيت الباقي .
تعرف الباقي ؟ لا زال لم يذكر زوجته بعد !
دخل غريفز يحمل صينية عليها قصعة كبيرة من سلطة الفواكه الطازجة , أطباق وبرطمان من الكريما ..وضع كل شيء على الطاولة بدقة شديدة ..وسكبت بريندا الفاكهة ، تلاحظ نظرة الموافقة من غريفز وهي تعيد كل شيء إلى مكانه ووضعه الأصلي .
قال جان :
- كنت أقول للآنسة توماسن ، أنك مع العائلة منذ أن كنت في الربعة عشرة ..أليس هذا صحيحاً غريفز ظ
كانت النظرة التي رمقها بها غريفز نظرة ذهول : حقاً ؟
وكأنما ظنها قد حققت إنجازاً مذهلاً باجتذابها مثل هذه المعلومات منه ..فغمزت له بمكر ، ولم يعرف غريفز كيف يتصرف .
ابتسمت بريندا ..إذن فهو ليس ذلك الغامض على أي حال !
- أوه ..هذا صحيح مسيو ..تركت المدرسة في الرابعة عشرة وأخذتني اللايدي والتري عندها ..بالطبع في تلك الأيام كان لدينا الكثير من العمال في المنزل ..كان جداك دائماً يقيمان حفلات كثيرة ، ولا يمر وقت دون أن يبقى في المنزل ضيوف ..بما فيهم أنت ..سيدي .
أنهى خطبته وغادر الغرفة بوقار كما دخل .
- وماذا كان والدك يعمل ، جان ؟ أعني في باريس قبل تقاعده ؟
كشر المركيز قليلاً :
- كان سياسياً ..خلال الحرب كان رمزاً قيادياً في المقاومة الفرنسية .
ثار إعجاب بريندا في الحال :
- حقاً ؟ لا شك أنك سمعت قصصاً عن هذا..هل حصلت على أفكار لكتابك منها ؟ من مغامرات والدك أثناء الحرب ظ
- بعضها أجل ومن قصص غريفز أثناء الحرب ..لقد شاهد الكثير من المعارك ..وصدقي أو لا تصدقي إنه راوية ممتاز .
لم تستطع إلا أن تضحك ..
- لا لن أصدق !
ثم اعترفت بالاسم المستعار الذي أطلقته على غريفز ، فضحك جان وقال :
- إن غريفز رجل حريص جداً ولا يثق بأحد بسهولة .
- و لا أنت .
ساد صمت طويل لكنه لم يكن صمتاً مربكاً ..ترك جان الصمت معلقاً بينهما وأدركت بريندا انه تحذير ..بامكانها الوصول إلى هنا دون المزيد ..وقبلت بهذا ..للوقت الحاضر .
حين عاد للكلام غير الموضوع بالكامل ..بدأ يسأل بريندا عن نفسها ، عن طفولتها ووالديها.
بعد الغداء ذهبت بريندا إلى غرفتها لتحصل على النوم الذي تحتاجه كثيراً ..حين استيقظت ، كان اللم لا زال موجود ، وفي قلبها سيبقى ..لكن على الأقل ها هي تتعلم كيف تعيش معه ..
حين وصلت منتصف السلم ، وقفت مسمرة مكانها . من غرفة الجلوس ، تناهى إليها صوت البيانو بمعزوفة لشوبان . تعرف باسم ( في أعماق الليل ) لكنها لم تسمعها ابداً بمثل هذه الحدة في الموسيقى .
لم يكن هذا ما أوقفها ..بل كان غريفز ..كان يقف في الردهة ، خارج الباب الموصد لغرفة الجلوس ، حين ظهرت بريندا استدار وابتسم لها ..ابتسامة فعلية !!
على الفور ارتبكت واغتبطت ..الابتسامة من غريفز إطراء كبير ..لكن لم يكن لديها فكرة عن سبب هذا الشرف ..ثم أشار نحو المطبخ .
لحقت به دون كلمة ، لا تفهم أبداً تصرفه الغريب . حين وصلا إلى الداخل همست له :
- ما الأمر ؟ لقد سمعت المركيز يستمع إلى التسجيلات من قبل ..لماذا تبدو عليك السعادة هكذا ؟
- هذا ليس تسجيلاً آنسة .
استدار عنها يعرض صنع الشاي ، لكن بريندا أمسكت بذراعه :
- هل هو مسيو مارك ؟ ماذا يعني هذا غريفز ؟ أخبرني ..أرجوك !
هز كتفيه ، وأحناهما إلى الأمام دليل ارتباك .
- لست واثقاً ..كل ما استطيع قوله لك أنه لم يمس البيانو منذ خمس سنوات .
حدقت بريندا به :
- هذا رائع! أرجوك ، أريدك أن تخبرني شيئاً ..و أرجوك لا تراوغني ..أرجوك ثق بي ..ما الذي حدث مع زوجته ..الطلاق ؟
لكن غريفز لم يصغ إلي شيء ، وعادت الستائر فوق وجهه واستدار بعيداً عنها .
- سأصنع الشاي ..لدي بعض الكيك بالكريما في البراد ..أتحبين تناول واحدة ..آنسة ؟
غاصت بريندا في كرسي المطبخ ..المحاولة كانت تستحق العناء ..لكنها كانت تستحق العناء ..وأجبرت نفسها على المرح .
- لا ..شكراً ..لقد زاد وزني مؤخراً .
ظنت أنه تمتم شيئاً حول الطعام . وقالت :
- ألن تنضم إلىّ في شرب الشاي غريفز ؟ أنت دائماً مشغول . ألا يمكنك الراحة عشر دقائق ؟
- لا أمانع آنسة .
بعد استقرارهما حول طاولة المطبخ ..حاولت مرة أخرى . كانت الموسيقى قد تغيرت ، لكن طالما هي مستمرة تبقى بأمان .
- ماذا حدث وقت الحادثة ؟ أعني هل تعرف التفاصيل ؟ لم أقرأ الكثير عنها في الصحف .
أطلق غريفز نفساً بطيئاً ..وخشيت أن يكون هذا دليل نفاذ صبره معها ..ثم ذهلت لرده ..
- طبعاً أعرف التفاصيل ..كنت في الطائرة معه .
_ أوه ! أوه ..أنا آسفة ..لم يكن لدي فكرة .
- لا بأس في هذا ..لقد حلمت بما جرى طويلاً . ولم يعد يزعجني الكلام عنه ..كانت طائرة صغيرة خاصة ..كنا نطير من باريس إلى لندن لإجراء مقابلة حول أول معرض لمارك هناك ..كنا نحن الاثنان فقط والطيار ..وحدث تسرب للوقود ..طبعاً الطيار لم يعلم بهذا ، كان هناك خطأ ما بالعدادات ولم تسجل النقص ..بدأ المحرك يتقطع وفعل المسكين ..الطيار كل ما يستطيع لينزلنا سالمين ..وحطت بنا الطائرة في حقل في ( ديفون ) وتحطمت .مسيو جان لم يصب بأذى تقريباً ..أما أنا فعلقت..وعرفت أن ساقي انكسرت .كانت ملتوية وعالقة تحت مقعدي ولم أكن أشعر بها ..وحررني المركيز ..جرني بعيداً عن الحطام قبل أن تنفجر الطائرة ..بعد أن أوصلني عاد إلى الطيار ..فصحت به ..مرات ومرات صحت به أن يعود ..لكنه لم يسمعني أو تجاهلني ..لكنه لم ينجح بأي حال ، حين وصل على بعد أمتار ن حصل انفجار هائل كاد يكلفه حياته ، عدا بصره.
ساد صمت رهيب ، والاثنان يتصوران ماحدث ..
- لقد شاهت ..الانفجار ..بالطبع ؟
- أجل آنسة ..لكن المسألة لم تكن هكذا فقط ..كان الطيار ميتاً ..مسيو مارك لم يكن يعرف ..لكنني رأيت وجهه..نظرت إلى قناع الموت عليه قبل أن يجرني المركيز .
كانت الموسيقى الناعمة لا تزال تتناهى إلى المطبخ ..غطت بريندا وجهها بيديها ، وأبقتها مع استقرار معاني كلام غريفز في رأسها ..مر وقت طويل قبل أن تجد صوتها :
- أليس هناك أمل أبداً ؟ بصره ..أعني . هل قالوا له شيئاً ؟ ماذا عن المستقبل ؟ جراحة ربما ؟ ألم يعطوه أي أمل ؟
- لقد تكيف مع الوضع الآن ..وعاش معه خمس سنوات .
- هذا لا يرد على سؤالي .
نظر إليها وكأنه يخاف أن يقول :
- حسناً ..بعد سنتين من الحادثة ، تلقى رسالة ..قرأتها له . كانت من بروفسور سويسري ، صديق قديم للعائلة .أنه رائد في التقنيات الحديثة ..أخصائي عيون ..طلب من المسيو الذهاب ‘لى عيادته في سويسرا لإجراء الفحوصات ..لكنه لم يعده بشيء طبعاً ..طلب فقط فحص المركيز .
مالت للأمام متلهفة : حسناً ؟ ماذا حدث ؟
نظر إليها بعجز :
- رمى الرسالة في النار .
- ماذا ؟لم يذهب ؟ لم يحاول معرفة ما إذا ..؟
- بعد أسبوعين ، أرسل ابن عم له إلى سويسرا لإيصال لوحة .كانت أمراً عجيباً، لم يرسل رداً ، بل أحدى لوحاته فقط . وكانت أحدى أشهر لوحاته كذلك ..تلك التي في البستان ، تعرفينها .
- أعرفها ..لدي نسخة عنها في شقتي ..وهل كانت هذه نهاية المسألة ؟
- ليس تماماً ..وصلت رسالة أخرى من البروفسور بعد أسبوع تقريباً ..كانت ..كانت دفقاً من التهجمات جعلت المركيز يضحك ..ويمكنك معرفة ما حل بها ..لكن البرفسور لم يستسلم ..اتصل بعد شهر تقريباً..وبالطبع لم أعرف ماذا جرى .
- ألم يحصل اتصال منذ ذلك الوقت ؟
- ولا كلمة .
اشتدت يداها في قبضتين .
- لا أفهم غريفز ..أنا لا أفهم.
- حسناً جداً ..أنا أفهم . لم يعرض البرفسور شيئاً أكثر من فحص عادي ..لكن المركيز كان قد كيف نفسه ، ولن يسمح لنفسه أن تأمل ..إضافة إلى هذا ، فالمستشفى في لندن قالت له دون مواربة أن لا أمل أبداً .لذا استطيع أن أفهم ..أنا ..حاولت الحديث معه في ذلك الوقت ، آنسة ، لكنه كاد يكسر رأسي ..قال إن هذا شيء يعرفه ..في أعماقه ..وأنه سيبقى أعمى لما تبقى من حياته .
نظرت إليه بريندا بعجز , ومحبة :
- أنت لا تمضي أيامك بيسر هنا ..أنت في الخدمة سبع ليال في الأسبوع ..لكن هل أنت باق هنا لأن المركيز أنقذ حياتك ؟
- أوه لا ...آنسه ! ولو كان المركيز يظن بي هذا لما سمح لي بخدمته ..أنا باق لأنني كنت دائماً مخلصاً للعائلة ..ويعرف هذا .
انسحب جان إلى عالمه الخاص ..لكن بريندا ضاعفت جهودها للتواصل معه ..بقيت في المنزل نهاية الأسبوع ، وتمكنت من أن تنضم إليه في نزهة قصيرة ، لكنه بقي على مسافة منها حتى وهما جنب إلى جنب .
كان المركيز يقاومها في كل إنش من الطريق ..أسقمها كشف غريفز لها ، وزاد حبها عمق للمركيز مع كل يوم ..وما من مرة ارتبكت في المهمة المستحيلة التي حددتها لنفسها .
في نهاية الأسبوع التالي ، عادت لشقتها لتأخذ بريدها وبضع فواتير ، وشيك الراتب من الوكالة ، وبرنامج الشهر القادم للأوبرا ..
ذهبت إلى منزل دان ، والتقت مدبرة المنزل الاسكتلندية التي استخدمها دان واستقرت وكأنها في منزلها في غرفة الضيوف .واضطرت بريندا أن تنام في غرفة ابن أخيها ، لكنها لم تمانع في هذا بل كانت مبتهجة لأن مدبرة المنزل لطيفة جداً وواضح أنها ناجحة جداً مع دان والولدين.
السيدة ماكفر ايد ، أو داغمار كما تفضل أن تنادى ، امرأة في أوائل الأربعين ولها ابن ..ترملت حين كان الصبي في الثالثة من عمره ، وأمضت كل سنواتها التالية مدبرة منزل ..ابنها الآن في الثامنة عشرة ، ويدرس في جامعة لندن ليصبح طبيباً ..وداغمار فخورة جداً به .
بدا دان أكثر استرخاء الآن وقد خف الضغط عليه ..وسرّ بريندا أن ترى هذا ..في ستة أسابيع تغيرت حياته كثيراً نحو الأفضل ..ستة أسابيع ؟ هل مضت حقاً ستة أسابيع منذ ذلك اليوم الذي دخلت فيه مكتب المركيز جان مارك ؟ التفكير بكم ممكن أن يحدث في مثل هذه البرهة القصيرة أمر مذهل ، بل مخيف.
شارف شهر نيسان على نهايته ، كانت الحدائق في قصر المركيز مليئة بالزهور ..وتشوقت بريندا لرؤية الورود في قمة إزهارها ..ووعدت نفسها أن تسير عبرها مع جان وترسم له بالملكات كل شيء تراه ..كم كانت تتشوق لهذا !
كوفئ صبر بريندا حين طلب منها المركيز أخيراً تناول العشاء معه .كانا يعملان من نصف ساعة تقريباً ، وبدا في مزاج نكد بحيث أن آخر شيء تتوقعه كان الدعوة للعشاء .
كانت تقرأ له إملاء اليوم السابق ..وكالعادة كانت تكاد تمثل المشهد ..
- توقفي !
أمر المركيز رفع رأسها بحدة :
- آسفة ؟
- قلت توقفي ! واشطبي الجملة الأخيرة ..بل الصفحة كلها ..إنها كلام سخيف !
أجفلت بريندا :
- أوه ..! أظن من العين أن نشطبها ..وايلي مستغرق في الذكريات وهذا ما يجعله إنساناً أكثر..
- هذا ليس من طبيعته ..ليس من المفروض أن يكون إنسانياً ..ألغيها !
وأدار كرسيه ليواجه النافذة . وانتظرت بريندا ...
- لقد فعلت ما طلبت جان ..وأنا مستعدة ، إذا كنت مستعداً .
استدار ونظرة اعتذار على وجهه :
- بريندا ..هل تتناولين العشاء معي الليلة ؟
- أجل ..سأكون مسرورة جداً .
بدا عليه الشك ك
- حقاً ..بريندا ؟ أعني ألا ..
دخل غريفز ودهشت بريندا للمقاطعة ، وانزعج المركيز :
- ما الأمر غريفز ؟
- أنا آسف مسيو مارك ، لكن الناشر على الهاتف ..يقول أن الأمر طارئ .
نظر غريفز إلى بريندا بتساؤل ، فهزت كتفيها دلالة عدم إدراك ، فهي لم تستطع فهم سبب إظهار جان لمشاعره .
- وماذا يريد في مثل هذه الساعة ؟ لا تكاد تصل إلى الثامنة ..لابد أنه يعرف أنني أعمل الآن !
- لقد اعتذر لهذا وقال شيئاً عن اضطراره للسفر اليوم .
- حسناً جداً ..سآخذ المكالمة في مكتب بريندا ..قل له أن ينتظر .
مع خروج غريفز ، استدار جان إلى بريندا .
- بريندا ، ارتاحي اليوم ..لا استطيع الكتابة ..أنا لست في مزاج مناسب ..أخرجي في نزهة في السيارة أو أي شيء ..سأراك في غرفة الجلوس في السابعة مساء.
- طبعاً .
كانت محتارة ، لكنها لن تظهر له هذا ..وقفت متجهة إلى الباب ..فاجأها بالقول :
- بريندا ..ارتدي شيئاً جميلاً.
ارتدي شيئاً جميلا..؟
وأصبحت الآن أكثر ارتباكاً !!



********************************************
8/ ليلة بلون الورد.



حين التقته في غرفة الجلوس , تلاشى بعض من ارتباكها ، كان جان يقف قرب المدفئة ، يرتدي ثياب سهرة ، ويبدو فائق الأناقة في سترة من المخمل بلون أحمر داكن وقميص أبيض مزركش ..بدت كل ذرة فيه ارستقراطية ..ومع لمسات الفضة في شعره ، بدا مميزاً ووقوراً جداً .
ما أن رأته بريندا حتى أحست بانقباض في حلقها .كم تحبه ..وسيم ، موهوب ، بعيــــــــــــــــــــــــــد المنال
عند سماعه لها ، استدار فوراً يتقدم إليها :
- بريندا ..تشرفني صحبتك .
ضحكت بخجل :
- أظن أن الشرف لي ! هل ترتدي دائماً بمثل هذه الروعة للعشاء ؟
- آه ..لا ! أغير دائماً بالطبع . لكنني لا أبالغ هكذا عادة .
- إذن ، لم الليلة ؟
- الليلة مميزة ، اليوم أول أيام شهر أيار .
- وماذا ..؟
- إنه يوم مولدك..أليس كذلك ؟
أحست بالسعادة وخيبة الأمل معاً ..سرها أنه تذكر يوم مولدها . وخاب أملها لأن دعوته لها كانت بداعي الواجب وليس رغبة في صحبتها .
تمنى لها السعادة ، ثم كانت هناك خطبة قصيرة بالفرنسية مرت دون أن تفهمها .
ضحكت بريندا :
- أوه ..يا إلهي ! أنا لا أفهم ماذا تقول لكني واثقة أنه قول لطيف .
- أنا أتمنى لك الصحة الجيدة مع إكمالك الرابعة والعشرين ، وأتمنى لك سنوات عديدة قادمة .
أشار نحو الأريكة الأقرب إلى النار وجلس بجانبها :
- لا بد أنك تعلمت الفرنسية في المدرسة ..أخبريني ..كم هي جيدة فرنسيتك ؟
اختارت ردها بدقة ، تتذكر جيدا الجملة الافتتاحية في مقابلتها الأولى .
- متوسطة.
فهم ما تعني على الفور ، وضحك بصوت مرتفع :
- أوه بريندا ! لا تكوني متوسطة أبداً ..إذا أردت فعل شيء ..أي شيء ..يجب أن يكون كاملاً !
- فكرة جيدة ! لكن عزيزي جان ، لسنا كلنا موهوبين مثلك .
قال وهو لا يزال يضحك :
- هناك طريقة وحيدة لتعلم الفرنسية ..الذهاب لفرنسا ! أخبريني هل زرت يوماً باريس ؟
- لا..ام أذهب أبداً إلى فرنسا .
وضع يده على قلبه وكأنه جرحته :
- هذا رهيب ! رهيب ! ويجب أن نفعل شيئاً ..
انتقل مرحه إليها ، فاسترخت سعيدة ..وماهي إلا لحظات ، حتى دفعها جان لتتكلم عن نفسها مجدداً .
- قلت لي مرة إن والديك فكرا أن يوجهاك ‘لى المسرح وأنت صغيرة ..فماذا حدث ؟
- لا شيء ..كبرت ..وهذا كل شيء ! وبدا من الواضح ساعتها أن ليس لدي الجمال ولا الموهبة لعالم الأضواء ..وكما قلت لك ، أنا لست ذلك الجمال الذي تفكر به.
كان المهم أن تؤكد له هذا ن فهي لا تريده أن يتوهم شيء حولها .
رد بصوت هادئ ومنخفض وجاد :
- وأنا قلت لك ، الجمال يأتي من النفس .
أسرتها ملاحظته بالطبع ، لأنها تعرف أنه صادق .عدا عن هذا ، كان يحاول أن يجعل ذكرى ميلادها سعيدة .
- وماذا عن دروس البيانو ؟
- فشلت في النهاية ..مع أنها استمرت أطول من صفوف البالية والرقص الإيقاعي .
- وهل أخذت دروس في الغناء ؟
نظرت بدهشة إليه :
- أجل ..لكن كيف عرفت ؟
- لقد سمعتك .
- آسفة ؟
- سمعتك تغنين في الحمام ..وكان الغناء لطيفاً جداً .
- أوه ..لا! لا يمكن أن تسمعني ! الجدران هنا سميكة جداً ..
ضج بالضحك :
- هدئي من روعك ما شيري بريندا ..أستطيع أن أسمع العشب وهو ينمو ! يجب ان تكوني عرفت هذا الآن ..تعالي .
- إلى أين ؟
- إلى البيانو طبعاً ..ستغنين مقابل عشائك .
- لن أفعل !
- إذن ..ستغنين لي.
- لن أفعل بالتأكيد !
لكنها وقفت مكملة :
- على أي حال سأنضم إليك في أغنية ثنائية .
جلسا على مقعد البيانو ونظر جان إليها مترقباً:
- حسناً ..ماذا ستغنين ؟
قالت أول شيء خطر في بالها :
- ( أنت ضوء القمر ) أتعرفها ظ
ضحك :
- أعرفها ..لكنها تناسب ما بعد العشاء ..أما الآن فنريد شيئاً صاخباً !
فكر لحظة :
- حسناً جداً ..أعطني نغمة ( بوغي ) من الدرجة الثامنة للسلم الموسيقي .
شهقت ك
- لا نستطيع لعب ( بوغي ووغي ) على أساس النغمة الثامنة !
- ولم لا ؟ الآلة هنا لمتعتنا ..أعزفي يا امرأة ..أعزفي !
وعزفت خمس دقائق وكانت منطلقة بأعلى صوتها بالأغنية المناسبة ..إلى أن خطر ببالها صورة غريفز في المطبخ والنظرة التي على وجهه ..فانهارت ضاحكة بهستريا ..حين تمكنت من أخبار جان عما تفكر به ، رعد ضاحكاً بدوره .
تفوق غريفز على نفسه ..فكان العشاء ممتازاً ، وفي منتصف العشاء كانت بريندا تقارب النشوة في سعادتها ، ولم يكن هذا بسبب العشاء الفاخر وحده .
حين أعطاها جان علبة صغيرة ملفوفة بشكل جميل ، نظرت إليه باتزان :
- لي أنا ؟ أوه ..جان ..ما كان يجب ..!
- بالطبع يجب . إنها مجرد إشارة صغيرة على افتتاني ..افتحيها !
كانت قلادة فضية على شكل فراشة معلقة في سلسلة ناعمة ..كانت رائعة جداً ..فتأثرت بريندا جداً .
- إنها جميلة ! أنا ..أشكرك جان .
- ماذا ترتدين الليلة ؟ فستان ؟
- أجل ، إنه كحلي بلون منتصف الليل ، بياقة مفتوحة والقلادة ستزينه بجمال .
وضعت القلادة حول عنقها وهي تشعر بتأثر .
وكان لدى غريفز مساهمة في يوم مولدها .حين جاء بالحلوى ، قدم لها علبة كبيرة من الشوكولا المصنوعة يدوياً :
- سنوات سعيدة عديدة آنسة ! و لا تقولي لي إنك لن تجرؤي على أكلها ً
قفزت دموع سخيفة إلى عينيها وهي تشكره بحرارة .لا بد أن غريفز هو الذي أختار القلادة بالنيابة عن المركيز ..
لم يلعبا البيانو بعد العشاء ..فقد تغير المزاج ، وعادا إلى غرفة الجلوس يتحدثا وهما يتناولان القهوة .
- هل كان هناك شيء خاطئ هذا الصباح ؟ اعني ، تلك المخابرة من الناشر ، هل كان يسأل متى سينتهي الكتاب ؟
- لا ..لا.روس العجوز كان مهتاجاً في الواقع ..لقد اتصلت به شركة سينمائية أمريكية ..يريدون إنتاج آخر كتاب لي كفيلم .
- حقاً ؟ يا إلهي ! هذا مثير جداً ! أليس كذلك ؟
- بالفعل ؟
نظرت إليه بدهشة :
- طبعاً أمر مثير ! وسيكون هذا رائع لمحبيك .
بدا وكأنها لا يعرف عما تتكلم :
- محبين ؟
قراؤك ..يا سخيف ! أنا متأكدة أنهم سيسارعون لمشاهدة النسخة السينمائية لقصصك .
أخذ يفكر بالأمر ك
- أجل ..أعتقد أن هذه إحدى الطرق للنظر إلى المسائلة .
- وأنا أعتقد هذا .ثم أنت مدين لهم بذلك ، أعني أن لا ترفض.
- لم أرفض .الأمر عائد لروس ..سيجني كثيراً من المال .
ابتسمت لنفسها ..جان في موقف لا يفكر فيه بالمال الذي سيجنيه هو ..وأكمل يؤكد لها :
- لن أمانع ..لكن قيل لي أن الأمر سيحتاج إلى بعض الوقت في ..استشارات بسيطة مع المؤلف ..بإمكانهم المجيء هنا .
أنهى التفكير مع نفسه بصوت مرتفع ، ونظرت بريندا إليه بارتياب ..هل يفكر بأن يربك كل روتين حياته ؟
إذن المسألة هي كما فكرت فيها تماماً ..! جان لا يهتم أبداً لسكوت ستيفن ..كتاباته كانت مجرد تنفيس ، وسيلة لإعطاء مخرج للطبقة الأعمق من نفسه ..واستعادة ذكرى ما كشفه لها غريفز ، طريقة فقدانه لبصره في جهد لإنقاذ رجل ميت ..يا الله ..لا عجب أن يكون بحاجة إلى متنفس !
وضعت بسمة في صوتها :
- أتعرف ..سألتك يوماً منذ متى وأنت تكتب ولقد أعطيتني ..رداً غير لطيف ! وكان ذلك سؤالا بريئاً ..كنت فقط أتساءل كم مضى وأنت تكتب باسم سكوت ستيفن .
تحولت عيناه إلى لون بني متوهج ، مليء بالمرح :
- أذكر هذا ..والرد على سؤالك الحالي هو نعم ، كنت أكتب قبل أن أصاب بالعمى ..ولمجرد التسلية . وكنت أكتب الشعر ..هل اكتفيت الآن ؟
لم تقلق بريندا ..مع كل يوم يمر ، كانت تعرف المزيد والمزيد عن جان ..لكنها لن تتركه يعرف كم عرفت ..ليس بعد ..في يوم ما ستستخدم كل ما عرفته لتهز هذا الرجل حتى أعماقه ..ستعيده إلى الحياة , حتى لو اضطرت إلى جرحه بشدة ..لكن عليها أن تأخذ وقتها ..في هذه اللحظات ليس لديها ما يكفي من قوة لتؤثر عليه .
- عزيزي جان ..يجب أن أتمنى لك الآن ليلة سعيدة ..وشكراً على الأمسية الرائعة .
أعطاها تلك الابتسامة التي تجعلها تحس كأن الشمس أشرقت ..
- تصبحين على خير يا بريندا ..وشكراص لك ، لقد تمتعت بالأمسية أيضاً .
- حقاً ؟ أتعرف ..أنت لغز محير ..أجدك مضيفاً رائعاً ..لكنك جعلتني أنتظر طويلاً لأنال حظوة قضاء المساء معك ..وأنت لم تدعني هذا المساء إلا لأنه عيد ميلادي .
- لا ..هذا غير صحيح ..عيد ميلادك عذر جيد ، هذا كل شيء .مجرد عذر للتطفل على خلوتك .
- لست أنا من يحتاج إلى خلوة جان ..لو كنت أنت راغباً فأنا على استعداد لتناول العشاء معك كل ليلة .
- عزيزتي بريندا ..أنت لطيفة جداً.
- لا دخل للطف في هذا ..لقد كنت فعلاً أنانياً ..وتعرف هذا .
اعتذرت لتصرفك المعادي للاجتماعات ثم انسحبت تماماً ! أنا لدي احتياجات أيضاً ..وظننتك تلاحظ هذا . إذا أردتني أن أكون سعيدة حقاً هنا ن يجب أن تعطيني المزيد من صحبتك .
انضم حاجباه في عبوس شديد ك
- أهذا ما تريدينه حقاً ؟
- أجل ..هذا ما أريد ..هذا ما أحتاج إليه .
ابتسم وبدا سعيداً ، لكنه لا زال مرتاباً قليلاً .
- حتى مساء الغد إذن .
- - حتى مساء الغد جان .
تركته بريندا في غرفة الجلوس ..صعدت السلم إلى غرفتها كل درجتين بخطوة واحدة ، وهي تعرف أنها حطمت الحاجز ..كانت مهتاجة ..ومع أنفاسها المتثاقلة كانت تغني :
- لوني اليوم وردي ..وردي ..وردي ..وردي !!




************************************************** *
9/ ابقي بعيدة





منذ ذلك اليوم لم يفترقا ، كانا يعملان كرئيس وسكرتيرته ، ويتغديان ويتعشيان كصديقين .كانا يلعبان البيانو دائماً مع أن بريندا كانت تفضل الجلوس والاستماع بدلاً من المشاركة ..جان كان طيباً ، حقاً طيباً . لكن يجب أن يكون هكذا ، فهو رجل موهوب جداً ، أي شيء يضع ذهنه فيه سيكون سيده ..وسيبرز فيه !
تحدثا وقت الغذاء عن الفن ، ..تحدثا في الموسيقى ، في السياسة ن والتاريخ ، وكان جان معيناً لا ينضب من المعلومات ، وازدادت معرفة بريندا وتحسنت أذواقها في أشياء كثيرة .
سارا معاً حول أرض المنزل الواسعة تحت المطر أو الشمس ، وحين تراجع أيار أمام حزيران أصبحت الورود مكتملة ..لكن بريندا لم ترسم حديقة الورود له بالكلمات كما خططت ، بل قام جان لها بذلك ..وما كانت مندهشة ..فليس من المبالغة القول إن جان يعرف كل إنش من الحدائق كما يعرف المنزل من الداخل ..أتم الجنائنيون تشذيبها وقاموا بعمل رائع في المحافظة على المرجة وكأنها بساط أخضر .ومع تحرك حزيران ليفسح المجال لتموز ، كان كل شيء في الحدائق رائعاً ..وقطعت بريندا الورود لتضعها في كل غرفة من الطابق الأسفل ، مما اضطر غريفز للخروج وشراء آنية جديدة ..لكنه كان سعيداً فقد أصبح من الواضح الآن أنه معجب جداً ببريندا ..وأعجب جان بالورود في المنزل ..وكان يسأل دائماً أين توجد بالضبط وفي أي نوع من الآنية هي .
لم تعد بريندا تزور أخاها كما كانت تفعل بانتظام .في الواقع كان دان متفقاً جداً مع مدبرة منزله ولم يعد بحاجة إليها ..وأصبحت زياراتها إلى سواري زيارات واجب لتسأل عن الولدين ..وكان جان يسألها دائما عنهما ، ويهتم بما يفعلانه ..أكثر من مرة , دعته بريندا للانضمام إليها حين كانت تخرج معهما لكنه لم يقبل أبداً .
لكن الكتاب لم يسر مثلما يجب ..في بعض الأيام كان جان يتخلى عن العمل تماماً ، ويتناولان الفطور في الخارج فوق المرجة قرب بركة السباحة ، يتنعمان بشمس الصباح وبريندا تقرأ له الصحف . كانت بريندا راضية عن تقدم الكتاب ببطء ..فبالنسبة لها يمكن لجان أن يأخذ خمس سنوات لإكماله .
كانت سعيدة بشكل محموم ، ماعدا معرفتها أن هذا الوقت الجميل سينتهي يوماً ..لكن مع انطواء الأيام أصبحت أكثر أملاً ..جان كان يتمتع وكانت واثقة من هذا ..ولو ظلت كتاباته تسير ببطء ، فلربما أبقاها معه دائماً..ولم تكن تأمل بشيء أكثر من هذا ، فمن الواضح المؤلم أن جان لم يكن يهتم بها جسدياً أو رومانسيا .في الواقع ، وصلت علاقتهما إلى مرحلة لم يعودا يتلامسان .وأي محاولة من الإمساك بيده أو ذراعه كان يقابلها بالصد ، لكن بطريقة لطيفة ..ولم يكن يقال شيء ما ، كان فقط يتجنب لمستها وتطبق الستائر فوق وجهه ..
بالنسبة لبريندا ، كان هذا مؤلماً ، لكنها تقبلت هذا ولن تحاول تغيير الأمور بأية طريقة ، فهي لا تريد أن تخاطر بأي نوع من الانسحاب في هذه المرحلة .
أحبته إلى درجة الدمار ، إلى درجة لم تعد قادرة على السماح لنفسها بالتفكير باليوم الذي يجب أن تغادر فيه المنزل ..لكن كل الآمال التي احتضنتها في أن يوظفها جان بشكل دائم ، تشتت حين زاره الناشر روس ..وأمضى الرجلان بعد الظهر في المكتبة ، ولم يدعوا بريندا للجلوس معهما ولا حتى لتسجيل الملاحظات ..وكان واضحاً ، بهذا ، أن أية خطط كان يضعها جان للمستقبل لا يشملها ***رتيرة .
لكن معرفتها هذه لم تخفف من اشتياقها لقضاء بقية حياتها مع الرجل الذي تحبه ..ولم تكن بريندا تريد أن يحصل هذا ولكنه حصل ..
أما جان ..حسناً ..من الصعب القول كم حقتت من تقدم بالنسبة لمشروعها الخاص ..بكل تأكيد ، بدا جان أكثر سعادة هذه الأيام ....لكن لم يسمح لها بأن تعرف ماذا يجول برأسه : كيف يحس حقاً حول الحياة ؟ حديثهما لم يذهب أعمق من المواضيع العامة ..كان وكأنما هناك جزء من نفسه يرفض مشاركته أحد .كان لا زال غامضاً جداً.
كان اليوم هو ثاني يوم سبت في شهر تموز .خرجت بريندا للتسوق ولشراء زي تحضر به عرس كاتلين ..التقت الفتاتان باكراً بعد الظهر ..قالت كاتلين :
- كان يجب أن نفعل هذا في وقت مبكر ..بدلاً من تركه إلى ما قبل الزفاف !
لم تعلق بريندا ..كلن يجب أن تشتري ثوبها منذ أسابيع مضت ..لكن كاتلين كانت راغبة في مساعدتها على الاختيار ، وهي كانت في ( ليدز ) في نهايات الأسبوع التي سبقت ، وقامت بريندا بجهد لإسعاد صديقتها .
- لا بأس ..نحن في منتصف الطريق ولم يبق لدينا أكثر من مئة متجر لنفتش فيها قبل أن نصاب بارهاق !
كانت الساعة قد وصلت للخامسة قبل أن تجدا الشيء المناسب ، نظرت الفتاتان إلى بعضهما في مزيج من الإرهاق والتعب والرضا ..وضحكت كاتلين :
- عظيم ..هل نطعم أنفسنا الآن ؟
- أكاد يغمى علي من الجوع !
بعد ذلك ، كانتا جالستين في زاوية مطعم إيطالي صغير ..قالت كاتلين :
- أتسأل إذا كان الأمر يستحق كل هذا العناء ! أعني كنت سأرضى تماماً بمراسم صغيرة في مكتب تسجيل الزواج .لكن أهل جون أصروا على زفاف كنسي كبير ، أتصدقين هذا ؟ إنهم راغبون ( في الأفضل ) لابنهم الوحيد.
ضحكت بريندا ، غير مقتنعة بحجج صديقتها :
- وأنت أردت هذا كذلك ، هيا الآن ن أنا سعيدة جداً لك ، وأتمنى لك حظ سعيد .
رفع شيء ما في صوت بريندا رأس كاتلين إليها بحدة .أحست بالذنب ، لقد تركت طوال بعد الظهر دون أن تسأل بريندا عن حالها ..ولم يعد من الصعب الآن رؤية أن هناك شيئاً خاطئاً :
- بريندا ..بم كنت تفكرين ..إنه جان ..أليس كذلك ؟ ماذا ..كيف حالك معه ؟
- جيدة جداً .
وأخبرت صديقتها عن الطريقة الرائعة التي نمت فيها علاقتها مع جان ..وكيف أنه دعاها للعشاء معه يوم عيد ميلادها ، وكيف أنهما منذ ذلك الوقت لا يفترقان ..لكن وهي تتكلم ، تمكنت حتى هي من سماع مرحها المزيف في صوتها ..وعرفت أنها لا تخدع كاثلين ..فتلاشى صوتها ..وقد صدمها تهديد الدموع ، حين وجدت صوتها ثانية ، أكملت ترفع يدها احتجاجاً :
- أعرف ماذا ستقولين ، كان يجب أن أترك منزله منذ أسابيع ، وما كان يجب أن ..أنا من خارج وسطه ، أعرف هذا ..في الأساس نحن من عالمين متباعدين ، وهذه هي المشكلة ..وأنا ..
جعلتها النظرة في وجه كاثلين تتوقف ..كاثلين فتاة ذكية ، وتعرف بريندا منذ وقت ، هكذا لم يكن من الصعب أن تعرف الحقيقة :
- لكن ..هذا لن يكون له فارق أبداً ..لو أنه مهتم بي ..أعرف هذا ..لكن ..أنا ..الأمرفقط ..
- أوه بريندا ! أكره أن أراك تتألمين هكذا ..أليس هناك أية مشاعر من ناحية جان ؟
تأرجح السؤال معلقاً في الهواء ..وهزت بريندا رأسها ك
- نحن صديقان ، وهذا كل ما في الأمر بالنسبة له .
وصبت بريندا مافي قلبها لأذنين عطوفتين دون أي حرج ..ودون الأمل بشيء ..كاتلين صديقة طيبة وأكثر صدقاً من أن تعرض عليها أملاً ، في وقت يعرف كلاهما أن ليس هناك أمل .
قالت كاتلين :
- كان يجب أن أرى هذا قادماً ..أول مرة أخبرتني فيها عنه ، كان يجب أن أرى كل هذا آتياً ..عرفت أنك معجبة به ، لكن ..أوه بريندا، يجب أن أقولها : الأمر ميؤس منه ! اقطعي كل ارتباطاتك واخرجي من هناك !
- لكن ..لكن ..ألا تظنين أنه مع الوقت قد ..
ولم تستطع إنهاء السؤال ..إنها تعرف الرد مسبقاً ..
- كاتلين ..لقد قلت لك وجهات نظري حول الطريقة التي قطع فيها نفسه عن الحياة ..الطريقة التي يشتاق فيها إلى الرسم ..إنني أحاول أن أظهر له أن هناك أشياء أخرى يستطيع أن يعيش لأجلها ..السعادة في مجرد العيش يوم بيوم ..وأعرف أنني تقدمت كثيراً ..هكذا ن ألا تظنين ..
بالغم منها عاد السؤال مرة أخرى ، فجاء صوت كاتلين لطيفاً وصارماً :
- لا ..لا أظن أنه سيقع في حبك مع الوقت ..ولو كنت في ذات وضعك ن كنت سآمل بهذا ..لكن ألا ترين أن فكرتي الأولى كانت محقة ؟ إنه لا يزال يحب زوجته ألا ترين ذلك ؟ إنه لم يقطع نفسه عن الحياة فقط بل عن المشاعر كذلك ، وهنا الحاجز الحقيقي ..بريندا ..إذا كان أحد قد تمكن من اختراق هذا الرجل ، فهو أنت .وأنا واثقة أنه معجب بك كثيراً ..لكن ..
لم تنه جملتها ، لا تحتاج لأن تنهيها فقد أنهتها بريندا بنفسها ..
_ لكن طوال هذا الوقت ، لم يعط دليلاً على إعجابه ..
وأكملت كاتلين :
- أظنك تخدعين نفسك بأنه حزين على رسمه ..لقد خسر زوجته لرجل آخر ، وهذا ما لن يستطيع التغلب عليه .
هزت كتفيها تنظر لبريندا بعجز وحزن :
- أنا آسفة ، لكنني أعتقد من الحكمة أن تغادري سيلينا هاوس بأسرع وقت ممكن .
قالت بريندا بهدوء :
- لا بأس في هذا .
لم تكن واثقة من صحة نظرية كاتلين ، لكن النصيحة جيدة ، ولا يهم من منهما على حق ، فالواقع يبقى أن جان لا يحبها مهما طال يقاءها معه ..
قالت وهي تودع كاتلين :
- سأشتاق إليك عندما تنتقليت شمالاً .
- هاي ! لا تبعد ليدز مليون ميل! ستأتين لقضاء نهاية الأسبوع معنا من وقت لآخر ..ألن تفعلي ؟
- طبعا سأفعل ..إلى اللقاء ..أراك الأسبوع المقبل ..في الكنيسة .
لم تضحك كاثلين ..ففي تلك اللحظة بدت تعيسة :
-أنا آسفة لأن الأمور انقلبت هكذا بالنسبة إليك بريندا ، في وقت أنا ....
وصمتت مدركة كم أن الكلمات غير لبقة :
- أوه بريندا ..لطالما كنت صعبة الإرضاء بالنسبة للرجال ! ولقد وقفت الآن أمام رجل ..هو ..
أنهت بريندا كلامها :
- غير مكترث ..أجل ولا يمكن الوصول إليه ..أنت محقة ..أنت محقة .
لامست ابتسامة حزينة شفتي كاثلين :
- هل ستغادرين ، وتفتشين عن عمل آخر ؟ لا ..لن تفعلي ..هذا ما ظننته !
هزت كتفيها ..وقالت بريدنا بصوت منخفض :
- أنا أوذي نفسي ..أعرف هذا ..لكن ما بيدي حيلة ..أنا ..سأضطر إلى تركه في القريب العاجل على أي حال ..لكنني لن أرحل قبل دقيقة من اضطراري للرحيل !.


************************************************** ******
1./ لأجلها فقط .





كون جان لا يزال يحب زوجته السابقة ، فكرة لم تعطها بريندا مصداقية في البداية ، أما الآن فقد جعلها الحديث مع كاثلين تعود مجدداً ..أيمكن أن تكون هذه الحالة ؟
هناك طريقة واحدة لمعرفة الحقيقة ، لكن بريندا انكمشت لمجرد التفكير فيها ..بإمكانها سؤالها عن ماضيه ، جعله يتحدث عن حياته يوم أن كان مارك .لا داعي لأن تتكلم عن زوجته ، لكن بمجرد جعله يتكلم عن حياته كرسام ، ستتمكن أن تعرف ماهي مشاعره الآن حول رسمه ..بعدها ستعرف بالتأكيد ما إذا كانت نظرياتها صحيحة ..ما إذا كان حقاً فقدانه القدرة على الرسم ، هو ما يمنعه من أن يكون حياً .
لكن فكرة طرق الموضوع أخافتها ..لم تتحدث معه يوماً عن مارك ..كان مفهوما ً من البداية أنه لا يريد هذا .عدا عن هذا كانت تخشى أن ينقلب غضبه العميق عليها لو لامست مثل هذا الموضوع المتأزم .هناك اعتبارات أخرى ..فلو اكتشفت أنها كانت تعمل على أساس خاطئ طوال هذه الأشهر ، فستضطر إلى مواجهة واقع أن لا جدوى من البقاء هناك أبداً.
لم تكن ترغب أن يتضح لها أن لا شيء تستطيع فعله لجان ..وطالما لديها العذر للبقاء ، فلحياتها معنى .
مرت الأيام دون رحمة ..زفاف كاثلين جاء ومضى .تابعت الحياة في منزل جان سيرها كما كانت طوال فترة الصيف الجميل ..تشارك جان وبريندا أياماً رائعة وأمسيات طويلة متكاسلة ، كصديقين ..طوال الوقت كانت بريندا تتعلق بيأس بالعذر الواهي ، إنها باقية لأجل جان ..واستطاعت تجاوز معرفتها بأنها تحضر لتحطيم قلبها لا محالة يوماً بعد يوم ..لأن حبها يوماً بعد يوم كان يزداد عمقاً .
يا للأسف لو أن كتاب سكوت ستيفن جرت كتابته بالسرعة الطبيعية لكانت ستغادر سيلينا هاوس في أيلول ..فحجز خدمتها كان لستة أشهر ، أكثر أو أقل بأسبوعين ..لكن الكتاب لا يكاد يصل إلى نصفه . ولم يذكر لها جان أي شيء عن استمرارية توظيفها ..وهذا موضوع آخر كانت تخاف الخوض فيه .
كانت قد أمضت طوال بعد الظهر في السرير مصابة بصداع ، وكان جان يعرف سبب مرضها ..لكنه هذه المرة لم يحاول تخفيف التوتر .وهذا أفضل ، فهي الآن لن تتحمل اهتمامه دون ردة فعل ، دون الانهيار ، دون أن تخبره كم تحبه ..وهذا آخر ما ترغب أن تفعله .
الليلة ...الليلة ستكلم جان ..لأجلها ولأجل جان معاً ..يجب أن تعرض هذا الموضوع بشكل حاسم .لقد آن الوقت لمحاولة جعله يتكلم عن ماضيه ..وستعرف ساعتها أين هو موقفها .
انتظرت إلى ما بعد العشاء , إلى أن جلسا في غرفة الجلوس ..كانا يجلسان بهدوء ، ويشربان القهوة ..بريندا مكورة على الأريكة تتمتع برؤية جان في مقعده المريح ، كانت تفكر بالمرة الأولى التي رأت فيها غرفة الجلوس ..هذه الفكرة أعطتها وسيلة رائعة كبداية لحديث :
- أتعلم أنني أحب هذه الغرفة حقاً ؟
ابتسم جان :
- أجل ..فلها جو نابض بالحياة ..أليس كذلك ؟ لقد كان هذا المنزل مكاناً سعيداً جداً في الماضي .
- أتعلم ..أحب غرفة الطعام كذلك بكسوة جدرانها البيضاء والزرقاء ..ديكور المنزل كله رائع ..من صممه ؟
- صممته مؤسسة ديكور في لندن ، لكنني اخترت الألوان بنفسي بمساعدة غريفز طبعاً !
حين لم يتلق رداً على ما قال ، ابتسم :
- ألست مندهشة ؟ أم أنك أدركت حتى الآن أن لاشيء خاطئ في مخيلتي أو ذاكرتي للألوان ؟
- حدث هذا منذ زمن ..ماذا عن الأثاث ؟ أكان لأمك أم أنك جئت به من ..من باريس ؟
- بعضه لي ..لقد جئت معي بقطعي المفضلة ..مثل طاولة خشب الأطلس ، المرآة الأثرية هناك ، واللوحة فوق المدفأة .
كانت بريندا تراقبه بحذر ، ومعدتها تتقلص :
- ولوحاتك ؟
رفع رأسه نحوها بسرعة ، بدهشة ، وكأنما خاب أمله فيها ..ثم تصلب وجهه وأصبحت نظراته محترسة .
قال ببطء :
- حسناً جداً بريندا ..ما الذي تريدين قوله عن مارك ؟
- لا شيء بالتحديد . أنت من يقلقني.
بدا مسروراً لاعترافها ..لكن صوته كان متوتراً وهو يتكلم :
- وبعد ؟
أخذت نفساً عميقاً ، خائفة أن يفقد أعصابه ..
- حسناً ..لقد استبقيت لك أربعة لوحات لمارك ..ويبدو ..ويبدو هذا لي غير مناسب .يجب أن تكون في معرض عام ..يجب أن تعطى للعالم ..وخاصة أن عددها لن يزيد أبداً .
لقد بدأت ..وحضرت نفسها للموجهة ..مرت لحظة طويلة لم يتكلم ..وحين تكلم استخدم ذلك الصوت الهادئ الذي يحجب مشاعره :
- أليس لي حقوق ؟ ألا يحق لي الاحتفاظ بأربعة منها ؟
فكرت بالأمر جيداً :
- ربما لك الحق ، لكن ..لكنك تستبقيها بأعذار خاطئة .
صمتت لحظة ، أصابعها مكورة بشدة ، حتى أن أظافرها كادت تقطع راحة يديها :
- أعتقد أنك تحتفظ بهذه اللوحات لأنك لا تستطيع ترك الماضي وشأنه .
وحصلت على ردة فعل ..رحبت بها بريندا وخافت منها في نفس الوقت ..فقد وقف عن مقعده وأخذ يسير في الغرفة بخفة الفهد :
- أيتها الحمقاء ! لقد أمضيت خمس سنوات أفعل هذا بالضبط ! لقد تركت الماضي وشأنه ! والآن أتسمحين بأن تسحبي كلامك ؟ آرس لونغا ..فيتا بريفاز !
- أنا ..لا أعرف ماذا تعني !
- أعني أن الفن طويل ، والحياة قصيرة ، هل فهمت الآن ؟
- لا.
فجأة ودون توقع منها ..هدأ :
- حسناً جداً بريندا ..دعيني أشرح لك ..الفن يعيش طويلاً .فإذا كان جيداً حقاً ن يعيش باستمرار في وقت يموت فيه أجيال من الناس ..وأنا فخور ومبتهج لأنني تمكنت من إنتاج هذا العمل ! وأشكر الله على الموهبة التي أعطنيها للعديد من السنوات ، لكنها ذهبت الآن وتقبلت هذا ، كل ما أتمناه أن يتقبله الآخرون ..سأبقى أعمى لما تبقى من حياتي ..وهذا شيء أعرفه ..اللوحات الأربعة في هذا المنزل هي لسعادتي ..صدقيني أستطيع أن أراها أكثر مما ترينها أنت ، وماذا يستطيع المرء أن يطلب أكثر من اللذة التي يعطيها الفن ؟ حين أموت هذه اللوحات ستمر إلى أيد أخرى تقدّرها ..ولا يهمني ما إذا كانت ستعرض للناس أو لشخص واحد ..طالما تعطي السعادة فكل شيء على ما يرام .أنا لا أفكر على أساس امتلاكها ..بل أفكر على أساس أنها عندي كقرض ..موقتاً هي هنا لإعطائي السعادة ..وهذا لا علاقة له بترك الماضي وشأنه .
كانت الخطبة رائعة ..إنه يقول الحقيقة وهي متأكدة من ذلك ، ويعني كل كلمة قالها :
- إذن ..أنت فعلاً تكيفت مع واقع أنك لن ترسم مجدداً ؟
- أجل ..لقد تكيفت .
كل هذه الشهور وهي تحمل أفكار خاطئة ...خاطئة !
- تقول أنك ممتن لما أنعم الله عليك من موهبة والقدرة على إنتاج الجمال الذي سيستمر في الوجود عبر الأجيال ..وقلبك ..ألا يحن أبداً للعودة ؟
- عودة القدرة على الرسم ؟ لا لم يعد قلبي يشعر بشيء.
استدار عنها ، فأطرقت برأسها وعيناها تحرقهما الدموع ..هذا كل شيء ..لقد أصبحت أيامها معدودة . لم يعد هناك ما تستطيع القيام به لمساعدته ، ما عدا ..ربما ..
قالت بصوت لا يكاد يصل الهمس :
- فهمت ..لكن قل لي لماذا تبقى سجيناً هنا ؟ لماذا لا تخرج معي ولو لمرة واحدة ؟
استدار بسرعة :
- سجين ؟عم تتحدثين ؟ هناك فرق كبير بين السجين والناسك !ّ أنا أبقى هنا لأنني اخترت البقاء ، وليس لأنني مضطر! أحب الهدوء والخلوة ..هذا كل شيء .
قالت تتحداه :
- حسناً جداً ..أثبت هذا لي ..أخرج معي هذا الأسبوع .
كتمت أنفاسها ..أنها تريد هذا بشده له كما لها ..تريد ولو مرة واحدة أن تخرجه من المنزل ..أن تقضي أمسية جميلة معه ، تستطع أن تحتفظ في ذاكرتها بها بعد أن تتركه.
قال :
- لست مضطراً لأثبت شيئاً لأي كان بريندا ..لقد خيبت أملي ..لماذا أخرج بحق الله ؟
قالت ببساطة ، تدعو الله أن يكون مهتماً لأن يفعل هذا الأمر الصغير لجلها :
- لأنني أطلب منك هذا ..فسيعطيني هذا الكثير من السعادة ..جان .
عادت إلى فراشها ..لكن لتقضي ليلة بلا نوم ..إذن جان ليس حزيناً لفقدانه لقدراته.الآن لم يعد هناك أمامه سوى خيار مواجهة ما يتعذر عليها الهرب منه .لقد كانت مخطئة ..وكاثلين محقة !
في الأسبوع التالي ستغادره ..سيكون الآن أفضل منه لاحقاً ..ستقول له بعد أن يقضيا الأمسية في الخارج معاً ..ستحصل على هذا أولاً ..صحيح أنها رغبة سخيفة وتعرف هذا !! إلا أنها تريد أن تقضي أمسية معه بالخارج ..مجرد أمسية واحدة يقضيانها وكأنهما شخصان عاديان يتمتعان بموعدهما .
ليس كثيراً أن تطلب هذا !
مضى يومان على هذا ن كانا يجلسان في المكتبة وقد عاد وايلي إلى نشاطه مرة أخرى ..لكن العمل لم يكن يجري جيداً ، واختارت بريندا لحظة سيئة لتقول لجان عن خطتها :
- هل اشتريت لنا بطاقتين للأوبرا؟ بريندا ..هذه فكرة سخيفة ..أنسها !
- هل ستتراجع عن وعدك ؟
- أنا لم أعدك بشيء ..أنت تفترضين الكثير !
لم تستطع أن تغضب منه ، إنه محق فهو فعلاً لم يعدها بشيء .
- ولماذا هي فكرة سخيفة ؟ لو أنني دعوتك إلى البالية لفهمت وجهة نظرك ..لكن هذه موسيقى جان ..ولا تحتاج إلى عينين لتتمتع بالموسيقى الجيدة ..وأنت تتمتع بالموسيقى ، ولا تستطيع أن تقول لي العكس .
كان صعباً عليها الظهور بمظهر طبيعي ..لكنها أكملت ك
- ظننت أنها ستكون أمسية جميلة لنا ..وستكون بكل تأكيد تغيير بالنسبة لي .
ها قد طارت كبرياؤها من النافذة .لكنها لم تتوقف :
- أنا ..حجزت مقصورة خاصة كي لا يزعجنا أحد لو وصفت لك المنظر وأخبرتك ماذا يرتدي الجميع ..أرجوك جان ..أفعل هذا لأجلي .
تنهد مارك داخلياً ..أفعل هذا لأجلها ؟ يا إلهي ! سيفعل أي شيء في العالم لأجل هذه الفتاة ..أي شيء ! ..لقد حاول طويلاً مقاومتها من البداية ..لكن مقاومتها كانت كمحاولة السباحة في الرمال المتحركة .
لقد أصبح يعرف بريندا أكثر مما تعرف نفسها ..إنها تفعل هذا متعمدة ..لكن ليس من المفترض أن يعرف هو بهذا ..آه ..يالها من طفلة حلوة ثمينة ! لقد تمشت معه ، عملت معه ، تحاربت معه ، تحدثت وأصغت إليه ..كانت عيناه ، وسمحت له بعض الأحيان أن يكون عينيها .
فعلت كل هذا لأنها اللطف بعينه ..ولأنها بحاجة ماسة لأن يحتاجها أحد ..
لقد سمح بلطفها وتقبله لأن التقبل عطاء ..لقد أراد كثيراً أن يعطيها ، أن يجعلها سعيدة .وهي سعيدة الآن ..ليبارك الله قلبها ، وستترك المنزل وهي تعلم أنها حركت جان مارك ليعيش من جديد ..وهو فهم هذا .
كان إخراجه من عزلته هو هدفها الرئيسي الآن ، وما من شك أنه هدفها الأخير ..أنه شيء تمهد له منذ شهر ..وسيذهب ..سيعطيها الأمسية التي ستذكرها دوماً ، وسيظهر أنه يقضي أجمل أمسية في حياته ..لأجلها ؟أجل ..سيفعل هذا لأجلها !
رأت بريندا وجهه ينفرج بابتسامة ، وطار قلبها فرحاً ..لقد ربحت ! ربحت !
- هل ستخرج معي ؟ ستخرج ؟ كنت تمازحني ، أليس كذلك ؟ التذكريتين ليوم الجمعة ، أيناسبك هذا ؟ هاي ..سأذهب لأجد غريفز ..فكر فقط أنه سيتمكن من أخذ أمسية كاملة من الراحة !
ضحك جان :
- أنا سأقول له ..لقد فكرت لتوي بأمر ما ..النظرة التي ستكون على وجهه حين يعرف أنني سأخرج ..لن تتمكني من تحملها ..لذلك سأقول أنا له !
وكانت أمسية للذكرى ..مرة حلوة، نظرت إليها بريندا كخطوة هائلة إلى الأمام لمصلحة جان ..وكنهاية لفصل جميل جداً من حياتها .
ارتديا أفضل ما لديهما ، وقادت بريندا سيارة جان الجاغوار إلى قلب لندن ..كانت تعرف أنها لا يمكن أن تحبه أكثر من هذا ، ولكنها كانت تحس بتقارب أكبر بينهما هذا المساء ، ليس فقط لأن جان مضطر للإمساك بذراعها ، بل كذلك لأنها أحست أنه يتمتع بوقت رائع .
جلسا خلال الأوبرا يحضران عرضاً مفضلاً لكليهما ..من وقت لآخر ، كانت تهمس له ، ترسم بالكلمات المشاهد والديكور والأزياء وضحكا معاً لسخافة الحبكة المسرحية ، وبقيا صامتين والمؤدون يغنون من كل قلوبهم .
مع انتهاء العرض أعلن جان أنه سيأخذها إلى العشاء في فندق ( السافوي )..
كانت قد أدارت المحرك لتوها ، وأصيبت بصدمة :
- السافوي ؟ أوه ..لقد ظننت ..
كان لديها أفكار خاصة حول عما سيفعلان فيما تبقى من السهرة .
نظر إليها جان بحيرة :
- تشعرين بخيبة أمل ..لماذا ؟
- لا لست هكذا ..هل حجزت ؟
- لا ..ليس الحجز ضرورياً في مثل هذه الساعة من الليل ..بريندا هل من خطب ما ؟
- أبداً ! الأمر فقط أنني فكرت أن نذهب في نزهة بالسيارة ..إنها ليلة دافئة جميلة ..فكرت أن نجلس على تل مرتفع قرب المنزل ..تل يشرف على الأضواء اللامعة في البلدة الجديدة .
ابتسم :
- آه ..! لنعود شباباً ..! يا لهذا الطيش ! لكن ماذا سنفعل بخصوص الطعام ؟
ثارت حماستها لأنه وافق على خططها :
- هناك محل يبيع سمك ورقاقات البطاطس خارج مطعم السنونو ..
ولم تكمل حديثها فقد كان يضحك بشدة :
- ماذا بك ؟ ماذا قلت ؟
فجأة أخذت تضحك بدورها لأن ضحكته معدية ، ومضت برهة طويلة قبل أن يتمكن من الكلام ، بينما بريندا تنطلق بالسيارة :
- بريندا لا أصدق هذا ..ها أنا أعرض عليك عشاء فاخر في فندق سافوي ، وأنت تريدين الجلوس فوق تلة وأكل السمك ورقائق البطاطس ..لا أظن أنني قادر على تحمل هذا !
قالت بصوت معاتب :
- جان مارك ! لا تقل لي أنك عشت حياة الطبقة الراقية حتى إنك لم تذق الطعام الانكليزي الشعبي ؟
- لا تكوني سخيفة ..لقد عشت على أشياء مماثلة أيام الدراسة أو ما يماثلها في فرنسا .
- إذن لماذا تضحك كثيرا ؟
كانت نصف آسفة لسؤالها هذا ، لأنه تجهم فجأة وأحست بعينيه على وجهها :
- أنت لا تأبهين البته لثرائي ..أليس كذلك ؟
ردت بجدية مماثلة :
- لست أدري ما تعني ..أتعني الثراء المادي ؟
كانت ضحكته جوفاء :
- وما غيره ؟ أنا في الواقع مليونير ياحلوتي ..خلال أيام حياتي ، صرفت قدراً كبيراً من المال كذلك ..وها أنت تشترين تذاكر الأوبرا وتعرضين شراء العشاء لي !
جعلتها لهجته تشعر بارتباك بسيط ..ما الذي يدور في دماغه ؟! لم تستطيع فهمه أبداً ..فقد أخذ الحديث منحنى غريب بالنسبة إليها ، وقامت بجهد لإعادة الضحك :
- هاي ..مهلك قليلاً ..! أنا لم أقل شيئاً عن دفع ثمن السمك والبطاطس ..
ونجحت ..على الأقل في الوقت الحاضر ..فقد عاد جان إلى طبيعته لكنها في ما بعد لاحظت أنه أصبح هدئ ومحترس .
كانا يجلسان على التلة ، يتمتعان بالمنظر كل بطريقته حين أحست بريندا بدافع لتسأله ماذا به ! لكنها لم تسأل ، أبقت فضولها مكبوتاً، لأنها خافت بيأس أن يفسد شيء عليهما الأمسية .
كان جان في الواقع يبعد أميالاً ، سنوات عديدة في أفكاره ..يا الهي ! لماذا يفكر بإليان الآن ؟لماذا الآن في وقت كل شيء يريده هو الإحساس بقرب بريندا ؟ جسدياً كان يحس بوجودها ..كان عطرها الوردي الرائحة يختلط بهواء الليل النقي يغزو أنفه وأحاسيسه ..كانت تجلس قريبة جداً منه حتى يكاد يحس بكل حركة لرأسها ، ويرى تقريباً عينيها تشربان بعطش من المنظر الذي أمامها ، كم تتمتع بالأشياء البسيطة ! يا لها من طفلة ..بريندا !
لقد بدا يحبها منذ زمن بعيد ..يوماً بعد يوم ، كان ذلك الحب يزداد عمقاً .لكنه لم يكن واهماً في حبه ..ويعرف أن لاشيء سينتج عنه ..لا شيء أبداً ..لقد تأخر الوقت كثيراً .
عما قريب سترحل ، ولن تعرف أبداً أنها رمته مباشرة إلى عذاب أسوأ بكثير مما كانت عليه حياته من قبل ..وكيف يمكنه أن يستمر في العيش دونها ؟وذكر نفسه أنه أستطاع من قبل أن يتكيف ، لكن هذا لن ينفع الآن ..فالأمر مختلف ..مختلف جداً ..
لقد دخل في كل هذا وعيناه مفتوحتان واعيتان ..كما يقال . ولا مجال للوم أحد ماعدا نفسه ..لكن أيمكن أن يلوم نفسه لأنه إنسان ؟
أجل خاصة أنه علاف ما ستكون عليه النتيجة ..فمع حبه لبريندا الذي يتعاظم كل يوم ، كانت قوته تخونه ..لقد أراد المستحيل : أراد أن يمضي كل دقيقة لما تبقى من حياته معها ن أرادها بكل ما تعني كلمة حب من معنى ..لا يجرؤ على هذا ببساطة لا يستطيع الوثوق بنفسه ، وحبه لها هو إطلاق لعنان نفسه وهذا الذي سيجعل حياته المستقبلية جحيماً لا يطاق .
تحركت بريندا إلى جانبه ، تقول شيئاً لم يسمعه ..بالرغم منه عاد يفكر بإليان ..التوى فمه بانزعاج وهو يبعد الفكرة عنه .إنه لا يريد التفكير بها الآن ..ليس الليلة ..
- تعالي بريندا ..يجب أن نذهب ، لقد أصبح الجو بارداً .
جاء صوته بحدة أكثر مما كان ينوي ..فنظرت بريندا إليه بدهشة ..أين كان مستغرقاً في أفكاره لتوه ؟ لماذا ازداد تجهمه طوال المساء ؟
- ماذا ..ماذا بك جان ؟ ما الخطب ؟
لم يرد ..وهي تصعد للسيارة أحست بالغثيان من شدة القلق ، نظرت إليه مرتبكة ..بدا مجهداً ، فانتظرت إلى أن دخل المنزل لتسأله مرة أخرى ما خطبه ..فحتى هذه اللحظة لم يكن لديها خيار سوى إعادة السؤال مرة أخرى ، جان لم يتكلم أبدا خلال رحلتهما ، وازداد ذعرها لفكرة أنها قد تكون ارتبكت غلطة مريعة في إقناعه بالخروج من المنزل ..أيمكن إن تكون أخطأت الليلة في سعيها لتظهر له أن الحياة لا زالت تتقدم ظ هل نجحت فقط في تذكيره كم ينقصه ؟
- جان ..أنت لم تتمتع بهذه الأمسية ..صحيح ؟
كادت تموت للتعبير المؤلم الذي مر سريعاً على وجهه .
- كانت أروع أمسية أمضيتها منذ زمن طويل ..وأتمنى لو أنني فعلت هذا من قبل الآن ، شكراً لك .
أحست بقلبها يخفق ويديها ترتجفان ، لماذا يكذب عليها ؟ ما الذي حدث هذه الأمسية ليجعله يتغير بهذا القدر ؟
دون تفكير مدت يدها تلامس يده ..أجفل قليلاً وأطبقت عيناه ، فسارعت إلى إبعاد يدها ..عرفت لحظتها أن الأمسية كانت غلطة شنيعة , وعرفت كذلك ما الذي يجري في رأسه .
- الليلة ..ذكرتك بشيء ما ..أليس كذلك ؟ كنت ..كنت تفكر بماضيك ؟
لم ينكر جان هذا ولم يقل شيء ..بل هز كتفيه .
غضت بريندا شفتها السفلى بقسوة ، ممتنة لأول مرة أنه لا يستطيع رؤيتها ، رؤية وجهها ، والألم فيه ، الدموع الصامتة التي أخذت تلمع في عينيها ..لو كانت راغبة في إثبات أن كاثلين على حق ، فقد حصلت عليه الآن .لقد كان جان يفكر باليان الليلة :
- أنت ..كنت ..تفكر بزوجتك ..أليس كذلك ؟
نظر إليها بحدة وفضول ..وشدت بريندا من عزيمتها تحارب لتسيطر على النحيب المتصاعد إلى حنجرتها ..قال بنعومة :
- أجل ..في الواقع كنت أفكر فيها ..تعالي ، لنتناول شيئاً ساخناً قبل أن ننام ..أنا بحاجة إلى شيء .
لم تتحرك ..فقد لزمها كل ذرة من قوة إرادتها لتسيطر على الهستريا المتصاعدة داخلها ..ولتجبر صوتها على الخروج بما يشبه الوقار :
- لا ..شكراً ..سأنسحب إذا كنت لا تمانع ..فأنا متعبة.
استدار جان وهي تصعد السلم ، وعيناه ضيقتان قليلاً :
- كما تشائين ..هل هناك شيء خاطئ بريندا ؟
تمسكت بريندا بدرابزين السلم لدعم نفسها ..أحست أن ساقيها تكادان تنهاران تحتها ..يجب أن تقول ..الآن ..ومع أن قلبها وروحها كانا يصيحان أن لا ..يجب أن تقول له أنها راحلة :
- لا ..لكن كنت أفكر مؤخراً ..أن عملي ..الستة أشهر تكاد تنتهي ..أعرف أنني وعدتك أن أبقى إلى حين انتهاء كتابك لكن ..يجب أن نبحث الأمر في وقت ما ..نظراً إلى أنك لم تصل بعد لمنتصف القصة ..
جعلها التعبير الذي احتل وجهه ، تصمت ..هل هذه خيبة أمل ، حيرة أم ماذا ؟ لكن حين تكلم اتضح لها بألم أنه لم يكن خائباً :
- أجل ..يجب أن نبحث الأمر ..اتفاقنا كان فقط لستة أشهر . ولا يمكنك البقاء هنا لأجل غير مسمى ..ربما نتحدث بالأمر غداً ؟
- لا ..فأنا ذاهبة إلى حفلة عيد ميلاد ابنة أخي غداً ..ولن أعود قبل يوم الأحد .
أصبح متصلباً معها :
- حسناً جداً ..سنتكلم يوم الأحد ..ليلة سعيدة .
ما إن أغلق باب غرفة الجلوس وراءه ، حتى ركضت بريندا ما تبقى من السلم والدموع تتدفق على وجهها .
رمت نفسها على السرير ، وذراعاها تلتفان بشدة على معدتها ، وكأنما هذا يمنع الألم في داخلها ..هذا كثير على مثل هذه الأمسية الجميلة ! وستكون فعلاً ..للذكرى ...هل ستتمكن يوماً أن تنسى أن المرة الوحيدة التي خرجت فيها مع جان ، أمضى فيها نصف الأمسية يفكر بزوجته التي فقدها لرجل آخر ؟ الزوجة التي لا زال يحبها !!



************************************************** ******
11/ خذي حبك وارحلي !




أزعجت محاولات التصرف بشكل طبيعي في حفلة ميلاد ابنة أخيها ، بريندا إلى أقصى الحدود ..وتهربت من منزل أخيها صباح الأحد الباكر ، وعادت بسرعة أكبر مما يجب إلى سيلينا هاوس .
لكن ما إن وصلت إلى البوابات الطويلة الحديدية حتى أوقفت السيارة ..ثم تراجعت قليلاً ، لا تريد جذب اهتمام الكلبين ..إنها بحاجة إلى بعض الوقت لتفكر قبل مواجهة جان .
أفلتت منها ضحكة جوفاء ..وقت للتفكير ؟ هذا كل ما كانت تفعله في الأسابيع العديدة الماضية ، ومع ذلك لا يزال تفكيرها مشوش ..ولأجل سلامة عقلها يجب أن تترك العمل لجان في أسرع وقت ممكن ..لكن لو أرادها أن تبقى حتى نهاية مدتها ..أربعة أو خمسة أسابيع أخرى ..فستفعل .لقد وافقت على الاتفاق من البداية ..عدا عن هذا لن تستطيع رفض أي طلب له ، مهما سبب لها القبول من ألم ..
مدت يدها تدير المحرك ثم أطفأته على الفور ..ياإلهي!! ألن يتوقف دماغي عن الدوران في حلقات ؟ يا لضعفها وترددها ...!
دفنت وجهها بين يديها ، تحس بتعرق جبهتها ..كان داخل السيارة كالفرن وكانت تشعر بخفة في رأسها ..ماذا ستقول لو طلب منها البقاء ستة أشهر أخرى إلى أن ينهي كتابه ؟ ماهو العذر الذي ستعطيه للرفض ؟ هناك إمكانية كبيرة أن يسألها هذا ..فهي على كل الأحوال بارعة في عملها ..لكن كيف يمكنها البقاء ستة أشهر وهي تحبه وتريده..وتعرف إنه يريد امرأة أخرى ؟!!
كان دماغها يدور ..فأجبرت نفسها على الانطلاق بالسيارة وهي لا تزال عالقة في عذاب التردد .
فتح لها غريفز البوابة ..ودخلت المنزل بالمفتاح الذي معها ..لم يكن هناك أثر لجان في غرفة الجلوس أو المكتبة ..في المطبخ رأت البخار يتصاعد من غلاية الماء ، وافترضت أن غريفز أخذ القهوة إلى غرفة جان ..لكن هذا غريب .لماذا هو في غرفته في يوم جميل كهذا ؟
صعدت إلى جناحها ..وما إن انتهت من ارتداء ملابسها ، حتى قرع غريفز الباب ..ودخل يبدو عليه الاضطراب والحيرة .
- ما الأمر غريفز ؟
- لست أدري حقاً آنسة ، مسيو مارك كان مكتئباً جداً اليوم .لقد امضي الكثير من الوقت على الهاتف .و..سهر كثيراً ليلة أمس .
- لا شك أنه يفكر بكتابه ..إنه لا يسير على ما يرام .
- على أي حال آنسة ، عرف بعودتك .وطلب مني أن أسألك الذهاب إليه ..إنه في غرفة الجلوس الآن .
- سأنزل حالاً ..شعري مبلول ..سأمشطه قليلاً .
انكمشت معدتها ..إذن جان يريد التكلم معها مباشرة ! سيطلب منها أن تبقى ، أن تنتظر لحين انتهاء عمله ؟!
لم يكن جان في غرفة الجلوس ..كان يجلس خلف منضدته في المكتبة ..وتذكرت بريندا أول مقابلة لهما ..كان يرتدي الأسود كما كان يفعل في الأيام الأولى ، وتسألت عن مزاجه الآن .
لم تكن المنضدة هي الحاجز الوحيد بينهما .كان متباعداً جداً ..
- جان ...
لم يحاول الالتفاف حول الموضوع :
-بريندا ، لدي أخبار جيدة لك ، أخبار تناسبك ..لقد اتصل بي روس بالأمس ويريدني السفر إلى أمريكا معه يوم الجمعة ..سنستقل الطائرة بعد الظهر إلى كاليفورنيا ..وسنبقى هناك بضعة أسابيع لنجري نقاشاً مع كاتب السيناريو ، ومخرج الفيلم ..وبالطبع ، أنا لا أطلب منك مغادرة المنزل فورا منتصف الأسبوع يناسبك أكثر ..لكن هذا وضع نهاية لنقاش كان سيجري بيننا ..أليس كذلك ؟
مهما طالت حياتها، لن تنسى بريندا صدمة كلاماته ..ترك المنزل وسط الأسبوع ؟ وسط الأسبوع !!؟ ارتفعت يدها إلى فمها ، وكل ما استطاعت أن تفكر به في تلك اللحظة هو انحراف النفس البشرية ..أفلت القرار من يدها ..وقال لها عقلها إن هذا أفضل ..لكن قلبها بدا إن له إرادة بنفسه ..إنها ليست مستعدة لهذا بعد! ويجب أن تواجه الحقيقة الآن ..كانت تعتمد على البقاء معه شهر على الأقل ..
- بريندا ؟
حاولت السيطرة على نفسها ..كان كل شيء من حولها يتحطم إلى شظايا صغيرة ..
- أنا ..ألا يمكن ..أن أجيء معك ؟ أعني ..أنا لا أفكر بالمغادرة فوراً و..ستحتاج إلى سكرتيرة ..
لوح بذراعه دلالة صرف نظر :
- لا ..روس سيأخذ سكرتيرته الشخصية ..آسفلهذا ..لكنني أعرف أنك لن تواجهي مشكلة في إيجاد عمل جديد ..
نظرت إليه عبر ستارة من دموع والغصة في حلقها تجعل من الكلام مستحيلاً ..كيف تمكن من إبلاغها هذا ، هكذا ؟ كيف يمكنه أن يتحدث كرجل أعمال ؟ كل ما يشعر به شيء من الإحراج لأن فترة الإنذار بترك العمل قصيرة ..ولهذا هو متباعد ! ألا يهتم بها ؟أليس لديه فكرة كم يجرح مشاعرها ببروده هذا ؟ وبعد خمسة أشهر من الصداقة !!
لم ترغب في قول شيء من هذا ..لكن حاجتها تغلبت على منطقها وعلى كرامتها :
- لا ..فهذا وداع كما أخشى ، لكنني أود أن أقول ..
- لكن يمكنني انتظارك ! أستطيع البقاء مع غريفز ..
- لا تكوني سخيفة ..أينما أذهب ، يذهب معي غريفز ..
- وماذا عن الكتاب ؟ لم نكد نتجاوز منتصفه ؟
وكادت تضحك على خداعها لنفسها :
كان صوته هادئاً كعادته :
- تعرفين كما أعرف أن الكتاب كله أخطاء ..يجب أن أعيد التفكير به لأبدأ من جديد ..ولا أستطيع أن أقول متى سأعاود كتابته ..احتاج إلى راحة لبضعة أسابيع ..لا احتاج للعمل بنفس السرعة التي كنت أعمل بها ..وتعرفين بالضبط ما أعني بهذا ..أليس كذلك ؟
أوه ..بلى تعرف تماماً ما يعني بكلامه ..هذه الأيام ليس غاضباً جداً ، لذا لا يحتاج إلى التنفيس عبر الكتابة ..ليس غاضباً لكنه لا زال غارقاً في ذكريات إليان !!
أخذ رأس بريندا يدور ..أحست أنها قريبة من الإغماء ..كانت يداها ترتجفان فأمسكتهما بشدة معاً وكأنها تصلي ك
- أنا ..لا أفهم لماذا أنت ذاهب إلى أمريكا ..لقد قلت إن باستطاعة هؤلاء الناس أن يأتوا إلى هنا .
ابتسم فخوراً بنفسه :
- أعرف ..والشكر في كل هذا لك .أخرج من المنزل في أسبوع ، وأغادر البلاد في التالي !
أرادت بريندا أن تضحك لهذه السخرية ..إذن لقد أعادت جان إلى العالم الخارجي ..وسيغادر البلاد ويتركها ..
لو أنها تستطيع الذهاب الآن محتفظة بوقارها .لو أنها فقط تستطيع إيقاف هذه الدموع وتصافحه وتتمنى له الخير ..بكل تأكيد هذا أفضل ..والأفضل أن لا تراه مجدداً ..أبداً! من الأفضل أن تحرم من بضعة أسابيع أخرى معه ..أسابيع ستكون مرة حلوة كتلك التي مرت
لكن المنطق لا دور له هنا ، وانهارت ..تنتحب بهدوء وعجز محطمة :
- بريندا ..أرجوك ..
كان في صوته شيء من الدهشة ..ومد يده ببرود إلى جيبه ليعطيها منديله :
- بريندا ..لماذا تكدرت بالله ؟ أنا ممتن لك وتعرفين هذا ، كنت لطيفة جداً معي في الأشهر الأخيرة ..ولن أنسى ..
قاطعته بغضب :
- لطيفة !! لطيفة ! جان ..أنا أحبك أتسمعني ؟ أحبك ..ولقد أحببتك منذ زمن طويل !
هيمن الصمت في الهواء بينهما ..لقد قالتها ..ولا يمكن أن تسحبها ..والأهم ، أنها لم تهتم بشيء أبداً .لا تهتم كم أنها غبية كبيرة ..الآن ظهرت .
لثوان طويلة بقى جان مارك دون حرك .ثم تقدم إليها ، وعيناه مغمضتان بحيث لم تستطع قراءة أفكاره .
- بريندا ..عزيزتي بريندا ..هل يتسع لطفك إلى درجة أن تقولي لي هذا ؟ يا طفلتي العزيزة !
دفعت يده عنها ، تكره منه محاولة إظهار العطف عليها :
- لا تتهمني جان بهذا ..لقد قلت لي كم أنا لطيفة عشرات المرات ..وأنت الآن تتهمني بذلك ..أنا أحبك ..أحبك أكثر من أي شيء في العالم ..وهذا أمر لا علاقة للطف فيه .
تلاشى صوتها ..لا جدوى من كل هذا ..إنه لا يريد أن يصدقها ، أو أنه يرفض أن يصدقها ، وهذه طريقته بالبقاء من عزلاً لإبقائها على مسافة منه ، لأنه لا يستطيع بأية طريقة التجاوب ..لاشيء عنده يعطيه ، لاشيء يمكنه يعطيه لها .
- بريندا ..إصغي إلي ..أشعر بالغرور لكلامك هذا ..لكن إحساسك ليس حقيقياً ..مع الوقت ، سترين أنه امتداد للطفك ، لطبيعتك اللطيفة ألا ترين هذا ؟ لديك قدرة عطاء كبيرة ..وهذا من الأمور الأولى التي عرفتها عنك . لقد أخبرتني عن طريقة عنايتك بوالديك قبل أن يموتا ..ثم حين التقط دان وولديه الرشح ، أول ما أردت عمله هو الإسراع إليهم ..حتى أنك أردت التخلي عن شقتك , وعملك كي تعتني به وبولديه ..فعلت كل هذا دون التفكير بنفسك ..وما كنت تفكيرين بحياتك الخاصة ، تدعين أنك واقعية ، لكنك رومانسية لأقصى الحدود .وقد قلت لك هذا مئة مرة ..جئت إلى هنا ورأيت فيّ رجل عزل نفسه عن الحياة ، وقمت بجهد عنيد كي تتواصلي معي ، كي تظهري لي أن الحياة لا زال لديها أشياء تقدمها لي ..حسناً ..لقد نجحت وسأبقى إلى الأبد ممتناً لك لأجل هذا .
تضاعف الألم في قلبها ..إنه يتكلم عن الامتنان وهذا آخر شيء تريده منه ..لم تقل سيء لا داعي لأن تقول شيء ..وأكمل :
- صمتك يخبرني الكثير ..أفهم مشاعرك ..تعتقدين أنني مخطئ ، تعتقدين أنك تحبينني ..صدقيني ، سترين الأشياء مختلفة جداً بعد مضي بضعة أسابيع ..عزيزتي ، أنا عشت أكثر منك وسرعان ما ستعرفين أنني محق ، ستعدين النظر في فترة إقامتك هنا ، وستكون ذكرى مبهجة كما أرجو ..لكنها لن تكون أكثر من ذلك ..مع الوقت ، ستلتقين بشخص ما وستحبينه حقاً ، وأرجو الله أن يكون شخصاً يستطيع تقديم حياة طبيعية لك و يستحقك ..
- جان ..أريد الذهاب الآن ..أشعر فعلاً أن الأفضل لي أن أترك الآن ..في الحال .
نظرت لعينيه كانتا كئيبتين كما كانتا مرات عديدة فيما مضى ..إذن فهو يشعر بشيء نحوها ! ليس كثيراً ، لكن بما يكفي لكي لا يتمكن من إخفاء عطفه عليها ..ولم يكن هذا محتملاً لكليهما .
قال :
- أجل ..ربما أنت على حق ..سيكون هذا الأفضل .
تجرك مبتعداً فاتجهت مسرعة نحو الباب :
- دعيني أعرف متى كنت مستعدة .
- لا ! لا تأت لوداعي ! إذا أردت أن تسهل علي ّ هذا قليلاً فابق حيث أنت ..أرجوك .
هز رأسه ببطء وابتسامة متشنجة تشد أطراف فمه :
- وداعاً بريندا .
- وداعاً جان
بقيت معظم ثيابها دون توضيب ورمتها في السيارة دون اعتناء ..كانت تتحرك كرجل آلي ..وكان غريفز يراقبها متكدراً :
- هذا كل شيء آنسة ، لم يبق شيء في غرفتك ..أنا ..لست أدري ماذا يجري لكنني آسف جداً لرؤيتك هكذا .
أجبرت نفسها على الابتسام ..
- ستذهبان لأمريكا يوم الجمعة ..هذا ما يجري .بعد خمسة أيام ، ستكون مع سيدك في كاليفورنيا المشمسة ..أوه ..غريفز ..لا تنظر إلى هكذا ! سيشرح لك كل شيء .
- لكنك ستعودين ..ألن تفعلي ؟ حين نعود ؟
- لا ..جان لن ينهي كتابه ..على الأقل ليس الآن ..إنه ..وداعاً غريفز ..اعتن بنفسك !
صعدت وراء المقود وأنزلن زجاج نافذتها :
- غريفز ..لديك عنواني ..إذا كان هناك ..إذا ظننت يوماً أنني قد ..أعني ..إذا كان المركيز ..
ولم تعرف ماذا تريد أن تقول ..لكن غريفز فهم :
- سأفعل آنسة ..أعرف مشاعرك .
وراقبها وهي تبتعد ..مرتبكاً لانقلاب الأحداث المفاجئ ..ثم دخل متصلباً ليكلم سيده ..متلهفاً لكي يعرف ماذا يجري حقاً.
************************************************** ********** *****

عند منتصف الليل ، كانت بريندا لا تزال تلبس البنطلون والتي شيرت وتجلس في مطبخ شقتها ، تمسك بين يديها فنجان قهوة ومنذ زمن طويل ..لم تذكر أنها صنعته ..لا تذكر أنها قادت سيارتها من ( باكنغهامشاير ) إلى ( بادنغتون ) ..لكنها تتذكر كل كلمة مرت بينها وبين جان ، بعد ظهر هذا اليوم ..حتى آخر كلمة .
لم يكن إحساسها يضاهي أي إحساس خبرته في حياتها ..الرجل الذي سمح لها أن تدخل عالمه بالقليل القليل من المشاعر ، تركها مع قلب يتألم بحبه ..وبالاضافة إلى هذا عرفان بالجميل ..كيق يمكنه أن يرجع حبها له إلى اللطف ؟ كيف يمكنه أن يخلط بين الاثنين ؟ ..ربما كانت هذه طريقته لتجنب المزيد من الإحراج .كانت الساعة الثالثة صباحاً حين ذهبت للفراش أخيراً ، ولم تكتب شيء في مفكرتها ..وماذا يمكنها أن تكتب ؟!
استيقظت بريندا في الساعة الخامسة ..فبعد ستة أشهر من الاستيقاظ مبكراً ، تكيفت على هذا وسيطول أمد عودتها إلى طبيعتها ..ما هي إلا ثوان حتى امتلأ تفكيرها المشوش بالتساؤل :
ما الذي ارتكبته من غلط جعله لا يطلب منها البقاء ؟ سيغيب في كاليفورنيا أسبوعين فقط كما قال !! فلماذا لم يسألها متابعة الإقامة أو العودة بعد أن يعود ؟ لا يتعلق الأمر بخوفه من أن تحرجه ..فهي في تلك المرحلة لم تكن قد باحت له بمشاعرها بعد .
كل ما فعلته أنها قالت لجان أنها تريد أن تناقش معه مسألة العمل ..لو أنها لم تقل هذا لم تقل شيئاً عن رحيلها ..لربما كان أبقاها معه ..ولربما كانت معه الآن ..
خرجت من السرير تشعر بالتعب ..مع حلول ساعة الغداء استحمت وارتدت روبها لتعود وتجلس مجدداً تحدق في الفراغ ..
ما كان يؤلمها هو الإحساس بالنبذ..لن تتغلب على الطريقة التي صرفها بها جان ببرود تام ..كل تعاليمها الأخلاقية وعقلها السليم لم يحضراها لمثل هذا أبداً .
من كانت تخدع طوال تلك الأشهر ؟ يمكن للمرء أن يخدع نفسه فترة قصيرة إذا استطاع ..بالطبع كانت تأمل بمستقبل مع جان ..بالرغم من كل شيء استمرت بالأمل ..إنها من البشر ..وكيف لبشري أن يحب بمثل هذا العمق دون أمل أن يعود له ولو القليل من حبه ؟ القليل ..القليل فقط .
قدم يوم الأربعاء وهي تجلس على الأريكة ..كانت تعيش على التوست والشاي فقط ..لا تزال ثيابها ملقية على الأرض ..لم يتصل بها أحد ولم تتصل هي بالعالم الخارجي ..حتى الوكالة ..فالعمل سيكون مستحيلاً لها الآن ..كل ما تريده أن تتكور في مكانها وتموت ..صحيح أن حياتها كانت فارغة قبل أن تلتقي بجان لكنها الآن قاحلة عقيمة ! بالنسبة لها لن يكون هناك سواه أو أحد مثله ..أنه كل شيء أرادته واحترمته في رجل ..
كانت لا تزال غير قادرة على النوم ..بعد منتصف الليل بقليل ، قامت بشيء لم تفعله من قبل ، خرجت من شقتها تسير في الشوارع لمدة ساعتين ..كانت تحاول أن تهدئ تفكيرها ، أن توقفه عن الدوران في حلقات فارغة ..أن توقف نفسها عن القول : لو أنني فقط .. لو أنني فقط ..
صباح الجمعة أخرجها رنين الهاتف الحاد من غفوتها ..وسارعت لتجيب قد يكون جان !!ولكن ..قبل أن تصل للهاتف أنبت نفسها ..لن يكون هذا جان ..فحتى لو أراد ..لن يطلب عودتها الآن وقد بدت حمقاء أمامه وأحرجته بإعلانها حبها ..وكأنها مراهقة مهووسة .
وكن دان :
- بريندا ، ما الذي يجري ؟ اتصلت بمنزل المركيز ليلة أمس وقال رجل لي ذو صوت أجش أنك لم تعودي تعملين هناك ..ماذا حصل ..هل أنهى كتابه ؟
- أجل ..أنتهى ، وانتهت الوظيفة .
فيما بعد ستخبر دان الحقيقة ..لكنه لن يعرف أبداً ما حصل فعلاً ..لم تقل كلمة لدان ..بل بقيت هادئة وتركته يثرثر وهي تصغي ..لمحت نفسها في المرآة ..أنها تبدو كالشبح ، تحت عينيها دوائر سوداء ..شعرها غير مغسول غير مسرح ..وتبدو سقيمة ..
قال دان :
- أريد رؤيتك نهاية الأسبوع .
- ماذا ؟ أوه ..لا ..لن آتي هذا الأسبوع ..أنا لست على ما يرام ..لا استطيع تتحمل الولدين .
- لا أريد أن أراك أختي ..سأجيء لأراك ..هناك ..هناك شيء أريد أن أقوله لك .
نظرت بريندا مستغربة لسماعة التلفون :
- حسناً جداً ..أعني بالطبع تستطيع المجيء .
يا إلهي ..يجب أن تتماسك ..كيف تستطيع أن تخفي عن دان أن عالمها أنهار إلى قطع متناثرة ؟
- غداً بعد الظهر ؟
- أجل ..أجل دان ..في أي وقت تشاء .
بعد أن وضعت السماعة أجبرت نفسها على أن ترتب نفسها وبيتها قليلاً ..لا تريد أن يجدها أخوها كالميتة والشقة في فوضى ..منذ اتهمها بأنها تقع في حب جان تجنبت أن تذكر المركيز أمامه إلا بصورة عفوية.
قبل الظهر خرجت لتشتري القهوة والخبز ..وفيما بعد ذهبت للتنزه في حديقة عامة صغيرة..وأخذت تتذكر أرض سيلينا هاوس ..
وهي تستدير عائدة لشقتها ، رأت سيارة تاكسي متوقفة أمام مدخل المبنى .ولم يخطر ببالها أن شخص ما يزورها ، لذا لم تستعجل ..حتى وصلت للباب الرئيسي ، رأت لفافة ضخمة تستند إلى الجدار ، وسائق التاكسي يضع أصبعه على جرس بابها ..ومضت ثوان قبل أن تجد صوتها :
- هل ..هل هذا لي ؟
بدا الارتياح على وجه السائق :
- أنت الآنسة توماسون ؟ أجل ..وهذه أيضاً ..
وضع في يدها لفافة صغيرة وحمل اللفافة الكبيرة للداخل .
- أجل ..أنا أسكن الطابق الأول ..
كانت تعرف ما بداخل اللفافة كما .كانت ملفوفة بشكل جيد لكن الشكل لا يمكن إخفاؤه ،أسندها السائق على جدار غرفة الجلوس ..وأعطته بريندا إكراميته وشكرته ..ثم وقفت تنظر للوحة بلا تصديق ..
لماذا ؟ لماذا فعل جان هذا ؟ بماذا فكر وهو يرسل لها لوحة أصلية قيمتها آلاف الجنيهات ؟ هل هذا دليل آخر على العرفان بالجميل ؟ الجميل الذي لا تريده ؟
ركعت على ركبتيها وانتزعت اللصوق الصغير فوق الورق الأسمر ..تحت الورق كان هناك كرتون مضلع للحماية ، وضعت ثقباً فيه لترضي فضولها برؤية أي لوحة هي ..لا تنوي فتحها أو استبقاءها ..لن تستطيع هذا .
كانت اللوحة التي تحتل مكانها فوق المدفأة في المكتبة ..تلك التي أثارت ذكرياتها لأول مرة يوم تعرفت على المركيز .
نظرت لساعتها ..يجب أن يكون هناك تفسير لهذا ..لقد قدم لها جان العذر المناسب لتتصل به .
لكن الوقت متأخر جداً ..لم يكن هناك أحد بالمنزل ..لا شك أن ساكنيه متجهان الآن لأمريكا ..لقد وقت التسليم في هذا الوقت عن قصد لعلمه أنه لن يكون موجوداً مع وصول سائق التاكسي للندن . إنه لا يريد أن يتحدث إليها ..وهذه اللوحة مجرد هدية ولا يجب أن تقهم أي شيء منها .
على أي حال ، هناك شيء أهم من هذا ..فقد تذكرت اللفافة الصغيرة الأخرى ، وفتحتها دونما اهتمام .
كانت اللفافة شريط مسجل ..فتحركت كالبرق لتجلب مسجلتها بيدين مرتجفتين ..
كان صوت جان الهادئ يتحدث إليها بوضوح وكأنه يجلس قربها :
( مرحباً بريندا ..أرسل لك هذه اللوحة لأنني أعرف كم تحبينها ..إنها لك ..وأرجو أن تعتبرينها ضيفة في منزلك كما كنت أفعل ، وضبت اللوحات الثلاث الأخرى وأرسلتها إلى المعرض الذي عرض أولى لوحاتي في انكلترا فأنا مستعد للتخلي عنها ..وأعرف أن هذا سيسعدك )
ساد صمت قصير ..حين تكلم ثانية ، كانت الكلمات أكثر بطئاً :
( ستدركين الآن أنني أهتممت بملاحظاتك حين ناقشنا أول مرة أمر مارك ..كان لدي إحساس أنل لم تصدقيني حين قلت أنني تركت الماضي وشأنه ..وهذا هو الدليل ..هناك أشياء كثيرة أخرى في الحياة أحصل منها على سعادتي ن وأشكرك لك ..وداعاً بريندا ..واذكريني من وقت لآخر )
لأول مرة منذ تركته ، بكت بريندا ..سيطرت شهقات متشنجة عليها وتركت جسدها خاليا من الطاقة .إذن جان فعلاً رجل أكثر سعادة هذه الأيام ..على الأقل ذاب جليد قلبه بما يكفي ليزعج نفسه بإرسال هدية لها .
جلست على الأرض ، تكرر سماع الشريط مرات ومرات .لقد جاء دورها الآن لتتكيف ..عليها كذلك أن تواجه المستقبل ..مستقبل دون جان .لم يعد يحتاج إليها ويجب أن تترك الماضي وعواطفه ن يجب أن لا تفكر بنفسها أو بألم قلبها ..يجب أن تكون ممتنة لأنها تمكنت من القيام بشيء ما ..مهما كان صغيرا ..لجان مارك ..
وربما بعد قليل من الوقت ، سيتمكن من نسيان إليان !!





************************************************** ******
12/ الحب يعمى أيضاً





في الساعات الأولى من الصباح التالي استيقظت بريندا لتجد نفسها مبللة بالعرق بعد أن شاهدت حلماً مثير للاضطراب ..فقد استمرت ترى جان في مختلف أحواله ، يجلس إلى البيانو معها ، يضحك وهي تغني ..ثم رأته يجلس تحيط به هالة باردة من الوحدة في الحديقة ..ثم رأت أنها تجلس معه في المكتبة تتلقى الإملاء ، وفي اللحظة التالية أحست بلمسة يده على يدها حين كان ينظر إليها لأول مرة .
تركها الحلم خائفة ومنزعجة ..
أمضت الصباح وهي تنظف وتعمل بشكل محموم ، وكأنها بهذا تطرد كل ذكرى لكل لحظة قضتها في سيلينا هاوس ..
وصل دان بعد الظهر ..لو تمكنت من تجنب أخيها لأسبوعين فقط ، لربما تمكنت من استعادة رباطة جأشها ..لكن الجرح لا زال طازجاً ..وكل ما تريد أن تخفيه عنه كان محفور بوضوح على وجهها .
- ياإلهي ! تبدين مريعة !
هذه تحية جان لها حين فتحت له الباب ، فابتسمت له :
- إنه مجرد رشح ..يقال أن الرشح في الصيف أسوأ من حد السيف ، أليس كذلك ؟
- لكنك فقدت الكثير من وزنك بريندا . هل كنت حقاً مريضة ؟ لماذا لم تبلغيني ؟ ظننتك تتمارضين نهاية الأسبوع المنصرم ..كنت هادئة جداً .
أجبرت نفسها على الابتسام :
- لا تفتعل ضجة ..إذا كنت قد فقدت من وزني فهذا أفضل لي . شاي أم قهوة ؟
- ماهذه اللفافة في غرفة الجلوس ؟ أوه ..قهوة من فضلك .!
استدارت تعد القهوة :
- لا يفوتك شيء ..أليس كذلك ؟ إنها نوع من الإكرامية للعمل الذي قمت به ..من مارك .
- أتعنين أنها أحدى لوحاته ؟ يالله ، إنها تساوي ثروة ! لا يمكنك قبولها بريندا .
- أعرف هذا ..جيء بالصينية معك ، أتسمح ؟ وغير الموضوع ! أنت هنا لتقول لي أخبارك ..ألا تذكر ؟
- لكنني لا أفهم إكرامية ؟ لا يعطي المرء إكرامية تساوي آلاف الجنيهات ، مهما كنت كفؤة ! ما الداعي ؟
لم تعرف بماذا ترد عليه !!
- ربما للمركيز مال أكثر مما له عقل ..لكنني بالتأكيد سأعيدها .
لم يقل دان شيء آخر مع أنه لم يكتف بردها ..بل نظر إليها بقسوة مطولاً ..كأنها أهانته في ذكائه ..لكنه لم يضغط عليها للمزيد ..
ابتسمت مع انفراج وجهه بابتسامة :
- إذن ماذا لديك لتقول لي ؟
لم تكن قد شاهدته مسترخياً منذ زمن بعيد ..
- ألا يمكنك أن تخمني ؟
- بدأت لتوي أفهم شيئاً ..أيمكن أن يكون لهذا دخل بك وبداغمار ؟
ابتسم دان ورمي سترته على ظهر كرسي ك
- سألتها أن تتزوجني .
- أوه ..دان ! ..إنها مفاجأة ! أليس كذلك ؟
- لا ..! إنها معي منذ خمسة أشهر ..ويمكنك معرفة شخص ما خلال خمسة أشهر ..خاصة حين تعيشين معه تحت سقف واحد .
خمسة أشهر , بالطبع خمسة أشهر
! كيف طار الوقت !! ثم نعم يجب أن يعرف المرء شخصاً بشكل جيد إذا عاش معه خمسة أشهر ..يجب ..
تابع دان :
- لقد حدث هذا فجأة أختي ..أعجبت بها منذ البداية وتعرفين هذا ن ولن تصدقي كم نحن متفقان ..كم نحن منسجمان ! والولدان يحبانها كثيراً ..هل أنت سعيدة لأجلي بريندا ؟ أرجوك قولي نعم !
- أوه ..حبيبي ..بالطبع أنا سعيدة ! وأتمنى لك كل السعادة ..وتعرف هذا ..إنها أخبار رائعة ! سأتصل بداغمار في ما بعد لأهنئها ..أنا مبتهجة دان .
كانت سعيدة جداً ..تقدم دان واحتضنها :
- أوع ..بريندا ..أنت إنسانة لطيفة .
على الفور ، أخذت الدموع تتجمع في عينيها ..ياله من كلام يقوله ..وهو آخر ما تريد سماعة :
_ سئمت سماع هذا ..منك و..من الآخرين..ثم لا داعي لذلك الكلام وهو سخيف ..وما هو رد الفعل الذي توقعته مني غير هذا ؟!
عاد إلى مقعده ، وتجنب النظر إليها :
- عرفت أن هذا سيسرك ..كان لديك فرصة مناسبة للانتقام مني لردة فعلي الحمقاء السخيفة يوم قلت لي أنك وقعت في حب المركيز ..لكنك لم تستغلي ذلك ..ولهذا أنت لطيفة .
- أنا لم أقل لك أبداً أنني أحب المركيز .
التقى بعينيها :
- لم تكوني بحاجة لتقولي ..كما لست بحاجة لتقولي الآن أن شيئاً رهيباً حدث ..مع أنني أرجو أن تقولي لي ..شاركيني سرك بريندا ..لا تقولي لي المزيد من الهراء عن أنك مصابة برشح صيفي .
بدأت بريندا تبكي مع بدئها بالكلام ..لم تتوقع منه أن يفهم مع أن الحب داخل حياته , لم تقل له كل شيء ..واصغى إليها دان باهتمام ..لم يقاطعها إلى أن غلبها البكاء ..ثم أعلن رأيه بالقضية ..وكان رأياً صدمها حتى الأعماق :
- لا أستطيع اتهامك بالغباء بريندا ..لأنك لست غبية . الأمر ببساطة أنك قريبة جداً من المسألة بحيث لا تستطيعين النظر إليها بموضوعية رأيي أن جان مارك لا يشعر فقط بما تشعرين به ..لكنه يحبك كثيراً بحيث أنه قام بتضحية مثالية ..تركك ترحلين .
مر جزء من الثانية صدقته فيها ، لأنها أرادت أن تصدقه ..ولأن دان يقول هذا ، ودان متعقل ومنطقي ..لكن تفكيرها السليم عاد إليها بسرعة :
- عم تتكلم ؟ كيف وصلت إلى هذا الاستنتاج ؟
ارتفع صوتها إلى وتيرة مرتفعة جداً ..لكن دان رد بهدوء ، وكأنما كل شيء واضح :
- من عشرات الأشياء التي قلتها لي ..المركيز وثق بك واحترمك ..وهذا بالتأكيد ما ترينه بنفسك ..نمت علاقتكما ببطء ، بالرغم من أنه كان يقاوم ..ألا ترين لماذا المقاومة ؟ ألا ترين الآن لماذا أبعدك عن حياته ؟
- دان ..هناك شيء لا تفهمه ..
- لأنه أعمي بريندا ..أنه أعمى !
وقفت بريندا ..غاضبة ..خائبة الأمل :
- هذا كلام سخيف تماماً ! أنت تترك لتحيزك أن يلون تفكيرك ! لا يهمني كونه أعمى ! وهو يعرف هذا ..لقد أتفقنا على هذا من اليوم الأول !
مال دان إلى الخلف بطريقة تشعل السخط :
- الآن أعتقد فعلاً أنك غبية .
- أريدك أن تذهب الآن دان ..أنا متعبة جداً ..وبصراحة أنت آخر شخص يمكنه فهم الموقف هذا .
وقف فجأة يدفعها إلى الوراء لتعود إلى الأريكة :
- أجلسي وأخرسي !
- في حال لم تفهمي ما قلته من قبل ..لقد اعتذرت لملاحظاتي حول إعاقة جان ..أعرن الآن أنك حين تقعين في حب شخص ما ، لا تتوقفين لتفحص عيوبه ..داغمار تكبرني بخمس سنوات ..وهي من بيئة مختلفة جداً عني ..غير متعلمة ..لكن هل تعتقدين لدقيقة واحدة أن هذا يجعلني أحس بشيء مختلف نحوها ؟ وأنني كنت سأغير رأيي لأن ماضيها لا يخلو من عيوب ؟ أنا أحب ما هي عليه ..كما تحبين أنت جان ..بنظر أو بغير نظر ..أنا أتعلم ..أترين ؟ أنا لست المتوحش الذي لإحساس له كما تعتقدين ..أعرف أن عمى جان لا أهمية له عندك , ولكن له أهمية عنده .
نظرت إليه بريندا بذهول ..لا بد أن داغمار أثرت عليه أكثر مما ظنت ، ومات غضبها ..دان يحاول أن يفهم وهي ممتنة له ..لكن هناك شيء يفهمه خطأ :
- هناك شيء لا تفهمه ..أنا ..جان وأنا ، كنا صديقين ، وهذا كل شيء ..أترى ..إنه ..لا يزال يحب زوجته .
نظر إليها دان وكأنها تهذي :
- هل هذا ما قاله لك ؟ وابتلعت الطعم ؟ ألا ترين أنه يحاول ..
لوحت بيديها بنفاذ صبر :
- لا ..لا، لم يقل لي ..لم يكن بحاجة لأن يقول ، إنها الحقيقة دان ..كان يجب أن أرى الحقيقة منذ زمن طويل ، منذ مدة قالت لي كاثلين هذا ..لكنني توصلت إلى قناعتي بنفسي وأنا ..
قطب :
- كاثلين ؟ هل هذا هو رأي كاثلين ؟
- حسناً ..اولاً ..أجل ..لكنه أمر واضح إذا فكرت فيه ..ألا ترى ؟ أود دان ..هناك أشياء كثيرة لا تعرفها .
- أخبريني أياها إذن ..لدي كل الوقت ، ولسوف أحل هذه المشكلة بريندا ..هيا ..بالتأكيد يمكنك الثقة بأخيك ؟
حين لم ترد ، ضغط عليها أكثر :
- أرجوك ثقي بي أختي ..سأفهم ، وستعرفين هذا ..أخبريني كل شيء ..أخبريني التفاصيل .
تكلمت بريندا أكثر من ساعتين ..وأخبرته بكل شيء وكل الاستنتاجات التي توصلت إليها عن جان وعن فنه وحزنه ، وكيف اقنعها أنها مخطئة ..كل شيء :
حين انتهت رفعت رأسها لتجد دان يبتسم لها بصبر :
- الأمر بوضوح الأنف في وجهك عزيزتي ..المشكلة أنك لا تستطيعين الرؤية بوضوح ..فكري بالأمر الآن ! فكري بالفرق بين الرجل الذي وصفته لتوك والرجل الذي أخبرتني عنه في البداية ..أنظري إلى الفرق ! ألا ترين كم أثرت على حياته ؟
- أجل ..لكن ..كاثلين ..
- كاثلين مخطئة ..كما أنت الآن مخطئة.
- لكن ليلة ذهابنا للأوبرا ..اعترف جان أنه كان يفكر بزوجته .
ضحك ضحكة جوفاء :
- وماذا في هذا ؟ هذا أمر يحدث من وقت لآخر .يمكن أن يكون أي شيء ولو صغيراً جداً ذكره بها ، ربما عطر امرأة أخرى ، أو شيء قلته أنت له ، أو ربما الموسيقى ...أشياء كهذه تحدث من وقت لآخر ، أتظنين أن يوماً يمر دون أن أتذكر سالي ؟ ثم ليس لديك دليل يظهر أن جان كان يتمتع بذكرياته .لقد قلت أنه أصبح مكتئباً .
- أجل ..لكن ..بالتأكيد ..
- اسمعي بريندا ..لقد أبعدك جان عنه لأنه أعمى ..أقول لك هذا ، فكري بالأمر بعقلانية ..إنه أكبر منك بسنوات ..ثم هناك اعتبار الأولاد ..كيف سيتمكن من التعامل معهم ؟ ألا ترين إنه خائف لأن هناك أشياء كثيرة لن يتمكن من مشاركتها معك ؟ لقد تركك ترحلين لصالحك أنت !
لم تجرؤ على السماح لنفسها بالتفكير أن هناك بعض الحقيقة في كل هذا أو بعض أمل :
- لا ..لا ..أنت مخطئ ..! لقد قلت لك كم هو كفؤ ، وسيتمكن من التعامل مع الأولاد ..حتى لو ..ولو كان يحبني ..فهو لا يؤمن أنني أحبه ! يجب أن نواجه الحقائق !
نظر إليها دان بمزيج من الشفقة ونفاذ الصبر ..وبكثير من الحب :
- مشكلتك الرئيسية أنك لا تصدقين كم من السهل الوقوع في حبك ، وكم أنت مميزة .أنت لا تصدقين أن جان يمكن أن يحب ما تزعمين أنها فتاة قبيحة مثلك ..لكنه يحبك ..وبما أننا نتعامل مع الحقائق أخيراً بدل النظريات ، فكري بهذا : لطفك أمر واقعي ..وجان يعرف هذا كما أعرفه أنا ..ألا ترين أنه لا يستطيع أن يطلب منك البقاء معه أو العودة إليه في ما بعد ..في وقت يظن أنك قد توافقين بداعي اللطف ؟
أخذت أفكار بريندا تدور وتدور بارتباك :
- لكنه يعرف أن عماه لا يهمني !
سألها دان وهو يقف على قدميه :
- أيعرف حقاً ؟ أيعرف ؟ أنا ذاهب الآن ..سأتركك تفكرين بهذا ..لا تبدئي بالبكاء مرة أخرى !
ضحك ساخراً لأنه أراد أن يوضح وجهة نظره :
- تتكلمين عن الآلفة الجميلة بينك وبينه ..هاه ! يبدو لي أنكما أمضيتما وقتاً أطول مما يجب تلعبان البيانو وتتمشيان تحت ضوء القمر ..ولم تصلا إلى التواصل الحقيقي ..عودي إلى سيلينا هاوس بريندا ..وتواصلي معه ..وحاولي استخدام كلمات جيدة وقديمة ..فلن يحدث بينكما تخاطر روحي !!
عند الباب وضع يده على كتفها :
- يعجبني ما بدا من جان مارك ..وكلما أسرعت في العودة إلى تعقلك ، كلما أسرعت في الترحيب به كصهر ..
- ماذا ..ماذا تعني ؟
رفع نظرته إلى فوق ،وعلق سترته على كتفه :
- سأقول هذا فقط : حين قلت لداغمار أنني أحبها ن ابتسمت بحزن ..وطلبت مني أن لا أخلط الحب بالامتنان نحوها لكل ما تفعله لي ولولدي ..فهل عرضت عليها الوظيفة لخمس سنوات لأبرهن لها عن حبي ؟ لا ..لقد برهنت لها بالطريقة الوحيدة التي أستطيعها ..ولقد سمعت بها اليوم .
نظر إليها مبتسم وخرج .
ومع مرور الأيام ، كانت بريندا تتقلب ما بين تصديق أخيها وبين الظن أنه متفائل أبله ، فكل شيء في حياته أصبح وردياً وهو يظن أن عالمها يمكن أن يكون مثله ..لقد ارتفع دان في نظرها ..فقد أصغى إليها وفهم ..مع ذلك لم تصل لنتيجة !!
صحيح أنه ليس لديها دليل عن إليان ..ما عدا أن جان لم يذكرها قبل ليلة الأوبرا .!
أما عماه ..فتعاملها العفوي معه هو الذي أمن لها العمل في الدرجة الأولى !
أخيراً يس هناك شيء يظهر أن جان مارك أحبها ..و لاشيء ..لكنها تصرفت حسب نصيحة أخيها دان وذهبت لتكلم جان ..
فهي ليست من النوم الانهزامي ..لكن كيف تعود لمنزل جان ؟
مضى على سفر جان أكثر من أسبوع فبل أن تفك بريندا اللفافة عن اللوحة ..أوه ..إنها لا تزال تنوي إعادتها لمارك ..لكنها فتحتها على أمل أن تعطيها ولو قليل من المواساة ..
كانت قطعة ورق وحيدة ما بين الكرتون واللوحة .وكان بالإمكان أن تمزقها دون تفكير لولا أنها وقعت على الأرض ..نظرت إليها بغباء ، ودون إدراك ..كان عليها جملتان بخط غريفز البارز : ( آنسة ..نحن لن نذهب إلى أمريكا ..بل إلى سويسرا )
سويسرا ؟ إلى أخصائي العيون ؟ جان ذهب لمقابلة البروفسور ؟ ( إنه يفعل ذلك لأجلك آنسة ..ولأجلك فقط ..غريفز )
فغرت بريندا فمها تحدق بآخر جملة ..وجسدها كله يرتجف ..يا إلهي ..دان محق ! إنه محق !! كم كانت غبية ..كم هي غبية بشكل لا يصدق !! لقد كانت مشغولة جداً حتى أنها لم تر ما هو واضح بشك صريح !
لكنه كان واضح لدان ..جان يحبها ! ( إنه يفعل ذلك لأجلك آنسة ) ..
أنه يحبها بقدر ما تحبه هي ..وعرف ذلك غريفز !! وكانت هي آخر من يدرك هذا !!
ضمت الرسالة إلى صدرها وقلبها يغني فرحاً ..
وتمكنت من رؤية كل شيء لأول مرة بوضوح ..هناك دلائل كثيرة توضح أن جان كان يعيقه عماه ..ليس لأنه لم يعد يستطيع الرسم ..بل لأنه ظن نفسه غير قادر على الحب أو تقبل الحب ..هناك أشياء كثيرة سمعتها لكن فشلت في فهمها !!
تستطيع سماع صوت جان الآن ، حين كان يرد على أسئلتها يوم تحدثا عن مارك ..قال : ( لم يعد قلبي يتألم أو يتشوق للقدرة على الرسم ) يومها لم تفكر بالطريقة التي صاغ بها الرد ..فقد قال : ( لقد ذهب كل هذا الآن واتقبله تماماً ..كل ما أتمناه أن يتقبله الآخرون أيضاً )
اجتاحتها موجة خجل وهي تفكر بالجملة الأخيرة له ، وهي تنظر للموقف كله من وجهة نظر جان ، كان يعرف أنها مصممة على تغييره ..أمضت خمسة أشهر تفعل ذلك ، ولا عجب أنه ظن أنها لم تتقبله كما هو !
اتصلت برقم سيلنا هاوس لكن ..لم يكن هناك رد طبعاً ..فلم يمض على سفره أكثر من أسبوع ..والله وحده يعلم كم سيبقى في سويسرا .
كان النوم مستحيلاً تلك الليلة ..كلما كانت تقترب من النوم ، كانت ترى ذكرى آخر لحظات معه تعود لتطاردها: ( مع الوقت ستقابلين شخصاً تحبينه حقاً ، ويستطيع تقديم حياة طبيعية لك )
حياة طبيعية ..لن يكون هناك أي سؤال عن اللطف لو قبلت فتاة عرض الزواج من رجل يمكنه تقديم حياة طبيعية ..هذه الرحلة إلى سويسرا هي آخر خندق دفاع لجان ن آخر محاولة يائسة لتحقيق ذلك ، قد لا تنجح العملية ..وهو يعرف هذا ..غريفز قال أن المستشفى في لندن أعلنت له أن لا أمل ..وقال إن هذا أمر يعرفه في أعماقه ، وأنه سيبقى أعمى ما تبقى من حياته ..
فهمت بريندا هذا وهي تحترم هذا النوع من الحاسة السادسة ..لا ..قد لا يتمكن البروفسور من استعادة بصر جان ..وجان لن يأتي إليها أبداً وهو أعمى ..فلا عجب أنه أنهى علاقته بها كما فعل دون وعد ..فالزيارة للبروفسور شيء عليه أن يجربه ..مع أنه يعرف أنه لن ينجح ..لا بد أنه الآن يشعر بيأس مريع ..
مرت سبعة عشرة يوماً قبل أن تحصل بريندا على رد من سيلينا هاوس ..لا شك أن البروفسور أجرى لجان الجراحة فلا شيء يبقيه هناك طويلاً .
حين رد غريفز على الهاتف في الصباح الباكر ..أعادت بريندا السماعة بلطف دون أن تتكلم ..يجب أن لا يعرف جان مسبقاً بزيارتها ..وإلا فلن يدعها تدخل ..
استحمت وارتدت ثيابها بعناية فائقة , هل ستتمكن من التواصل مع جان ؟ كم دفعته تجربته في سويسرا إلى أعماق نفسه مجدداً ؟ وقبل كل شيء ..يجب أن تكون حذرة وأن لا تتركه يعرف أنها عرفت أين كان وإلا سيظنها عادت إليه بدافع الشفقة .
كان الكلبان هناك ..والأشجار تبدو جميلة ..
كان غريفز يتوقعها ..فهو ليس بغبي ! رد عليها على الهاتف الداخلي بصوت أقرب للهمس ، وفهمت أن جان موجود في المنزل .
وجدت الباب مفتوح وغريفز ينتظر داخل الردهة ..نظر غريفز لوجهها وهز رأسه :
- لو أن الأمور كانت مختلفة آنسة ..لجاء هو إليك .
همست :
- أعرف ..شكراً لك غريفز ..شكراً لكل شيء .
نظر غريفز بسرعة نحو باب غرفة الجلوس . وقال :
- يجب أن أعلن عن وصولك .
لكنه بقي حيث هو ، وتركها تشق طريقها بنفسها ..عند الباب توقفت ، واستدارت لتنظر بعجز إليه ..فابتسم وهز رأسه بنفس الطريقة التي فعلها دان قبل ثلاثة أسابيع .
أخذت نفسأ عميقاً ..ثم بلطف دفعت باب غرفة الجلوس و...دخلت ...
..





************************************************** ********** **
13/ ساعدني كي أغلبك !!




كانت الغرفة باردة ..بالرغم من النار المشتعلة في المدفأة ..
كان جان يجلس في مقعده المعتاد ، مغمض العينين ، رأسه يستريح على أحد جناحي المقعد ..أصابعه النحيلة مكورة في قبضة ..كان يرتدي الملابس التي كان يرتديها يوم الوداع ، وانقبض قلب بريندا لمنظره ..بدا شعره أكثر بياضاً على جانبيه ، فمه رفيع الشفتين ، مشدود بقسوة ..قسوة أضافت عليها الكثير دون إرادة منها ..للحظة لم تستطع الحراك أو التكلم ..بدا أكثر نحولاً معتل الصحة ..ومنعزلاً تماماً ..
تنفس جان بعمق ..أصبح هذا العطر يلاحقه باستمرار ! كم مرة تصور وجودها ، سمع صوت ضحكتها يوم أثر يوم ..كانت هناك في قلبه ..وتفكيره ..
- ماذا هناك غريفز ؟ لماذا أنت واقف هنا ؟
قالت بنعومة :
- أنا أقف هنا لأنني لا أعرف ما إذا كنت ترحب بي أم لا .
للحظة فقد السيطرة على نفسه ..ورأت بريندا الألم والسعادة والارتباك على وجهه ، ورأت تصلب جسده وهو يجلس مستقيماً في مقعده .
- بريندا ؟ ماذا ..لماذا أنت هنا ؟
ثم بصوت لا يشبه أبداً صوته الهادئ سأل :
- ما الذي تريدينه بحق الله ؟
تحركت نحوه ببطء ، لم تخدعها قسوته .إذن هكذا سيكون الأمر ..كل الدفاعات انطلقت ضدها ..هل هو غبي ليعتقد أنه قد يخيفها لتهرب ؟
- كان يجب أن أراك ..نحن صديقان على أي حال ..أرجوك اسمعني جيداً جان ..فلدي مشكلة .
أمسكت أنفاسها ترى المعركة الدائرة داخله :
- جان ..أرجوك !
- حسناً جداً ..أجلسي ..سأساعدك دائماً لو استطعت ..ما الذي يزعجك ؟
الكلمات لا بأس بها لكن الطريقة حازمة ..جلست على مقعد منخفض ، وتحركت قريباً منه متوترة :
- المكان بارد هنا ..لكن الخريف وصل ، فماذا تتوقع ؟ الحديقة تبدو جميلة ..كل الأشجار بدأت في ..
أغمض عينيه :
- ادخلي صلب الموضوع بريندا ..ماذا تريدين ؟
هناك الكثير تريد قوله ..راجعت في عقلها مليون مرة كل شيء خلال السبعة عشر يوماً المريعة ..لكنها انتظرت طويلاً , وهو انتظر طويلاً أيضاً ..الآن كل ما تريده هو أن تتوسل إله أن ..يتزوجها!!
قال بصوت شرير :
- قلت ..ماذا تريدين ؟
خرجت أنفاسها بشهقة ، وهي تدرك أنه كان يحارب للسيطرة على نفسه ، قالت بهدوء :
- أريدك أنت ، لكنك تعرف هذا .رأيك كان خاطئ ..حين قلت لك إنني أحبك ..قلت إن علي الانتظار بضعة أسابيع ، حتى أرى كم تختلف مشاعري ..لقد انتظرت ولا أشعر بأي اختلاف ..كوني بعيدة عنك جعلني أحبك أكثر إذا كان هذا ممكناً ..أريدك أنت جان ، ولا أستطيع العيش من دونك ..أحببتك من البداية ..وأحبك الآن ..وسأحبك إلى الأبد.
رأت أصابعه تشتد على ذراع المقعد ، وفمه يتلوى وكأنه يتألم :
- إلى الأبد ..؟ أوه بريندا ..لا يجب على الناس أن يتجرؤوا على مثل هذا الكلام ..فنحن لن نتمكن ..
- أنا هنا لأطلب منك أن تتزوجني جان .
بدا مصدوماً حتى الأعماق ..وفتح فمه ثم أغلقه دون خروج كلمات منه ..تقدمت منه أكثر ، تضع يدها في يده ، لا تحاول كبت دموعها المنبثقة من عينيها :
- جان ..أرجوك ..أعرف أنك تحبني ..أعرف ..أرجوك ..تزوجني ..لا أستطيع الاستمرار من دونك .
- أوه بريندا ، أوه حبيبتي ..أحبك ..أحبك أكثر مما أحببت شيئاً أو أحد ..أحبك كثيراً حتى أنني ..
ضحك ضحكة جوفاء :
- أحبك كثيراً حتى أنني لا أستطيع الزواج بك .
صاحت منتحبة :
- لكن لماذا ؟ لماذا تريد طمس السعادة التي يستطيع تقديمها لنا المستقبل ،؟ أنا مجنونة بك وأظنك تعرف هذا ..لقد انتظرتك طويلاً ، وأنت كل ما أريده في رجل ..وأنت ..حبيبي ..وأعتقد أننا لو التقينا في مكان مختلف وزمان مختلف لما تحاببنا ..لكننا هنا الآن ، نحتاج بعضنا بعضاً ..كل ما مررت به جعلك الرجل الذي أنت عليه اليوم ..الرجل الذي أحب ..فيك القليل من سكوت ستيفن ن والكثير من مارك ..حساسية مارك ..لكن أساساً أنت أنت نفسك ، جان ، وهذا هو من أحبه .لو التقيت بك وأنت مارك ما كنت أحببتك ..لو التقيتك بعد عشر سنوات وأنت سكوت ستيفن الملئ بالمرارة والغضب لما أحببتك ..لكن نحن هنا الآن والمستقبل أمامنا لنكبر ونتغير معاً بالطريقة المناسبة
رد بهدوء :
- لا ..هنا بالضبط أنت مخطئة ..أنت تحبين مارك ..
صاحت :
- لا !هذا ظلم !
وتمسك غضب مفاجئ بقلبها ..وخوف من نوع جديد وليد إدراك مفاجئ :
- بمن تقارنني ؟ بزوجتك السابقة ؟ هل هذا هو الأمر جان ؟ هل هذا هو ؟ أنا ..أعرف عن ذلك الرجل الآخر . ما الذي حدث ؟ أنت لم تتكلم أبداً عن الأمر ..أرجوك أخبرني ! أرجوك قل لي الآن !
أبعدها بلطف عنه ..وانتظرت بريندا تعرف أن ما سيقوله له أهمية قصوى :
- ليس هناك الكثير ! أنا ..هي ..إليان كانت تعمل ( موديل ) رسم لي ..واحدة من عدة نساء .كانت جميلة بشكل لا يصدق ، وكنت شاباً مقتنعاً أن الجمال هو جمال الشكل فقط ..وجدتها فاتنة تتفجر حيوية ..كانت من عائلة فقيرة ..كانت ذكية لكن جمالها كان ميزتها الوحيدة ، وتعرف هذا . أسرفت في ملاطفتي في البداية وجننت بها بعد ذلك ، حين تزوجنا تغيرت بين ليلة وضحاها ..ساعتها فقط رأيتها على حقيقتها ..كانت تحب المال ، اللقب الذي أحرزته بعد زواجنا ، وأنا لم أحب يوما أن أكون وسط الأضواء ..طالما أحببت العيش بهدوء ، طالما فضلت البقاء خلف الستار ..اهتم فقط بعملي ..لكن إليان لم يعجبها هذا ..كانت دائماً تتحدث للصحافة ، إلى الناس في عالم الفن..ترتب الحفلات والمعارض ..معارض لم أكن احتاجها حقاً ..ولا أردتها .أنا ..ما كنت لـ..
وتلاشى صوته ..واستند إلى الجدار ن وكأنما تلك الذكريات أرهقته عاطفياً :
- أكنت تحبها يوم طلقتها ؟
- نعم و لا .لقد فهمتها على الدوام وتجاوزت ما هي عليه ..وما كان لهذا أن يدوم ، كانت المسألة مسألة وقت قبل أن ينتهي بي الأمر إلى كراهيتها .بريندا ، أجد صعوبة في الكلام عن إليان لك ..أنها لاتصلح لتمسح حذائك حبيبتي ..وأنا أخجل من التفكير ..ما أحسست به نحوها لم يكن حقيقياً ..لم يكن حباً .لم أكن أعرف ما هو الحب في تلك الأيام ..
- لكن ماذا حدث ؟ ما سبب الطلاق إذا كنت لا زلت تشعر بشيء نحوها ظ هل كان ذلك بسبب الرجل الآخر ؟
- لا ..لم تكن قد قابلته بعد ..كلفت إليان محامي لترتيب أوراق الطلاق بعد أسبوعين من حادثة تحطم الطائرة ..لم تنتظر حتى إلى أن أغادر المستشفى لتبلغني قرارها ..أوضحت تماماً أنها لن تتمكن من العيش مع رجل أعمى .
غضت بريندا على شفتيها محاولة خنق شهقة الرعب .التفكير بأن جان استعاد وعيه ليكتشف أنه أعمى وأنه لن يتمكن من الرسم مجدداً ..ثم ..ثم تظهر له زوجته أنه أصبح لا قيمة له ..ياله من توقيت !! ويا لها من قسوة شريرة !
أكمل جان :
- تركتني على الفور ..وما هي إلا أشهر حتى اتفقت مع ذلك الممثل الإيطالي ..ولم أعتقد للحظة أنها تحبه ..لكنه قادر على أن يوفر لها نوع الحياة التي تريدها ..حفلات مستمرة ، دعاية ، ذكر اسمها الدائم في مقالات المجتمع ..
راقبته بريندا وصوته يتلاشى ..إذن كانت كاثلين على حق ..زوجته السابقة هي العقبة ..و لا تزال ..وهو يخذلها ..وتدفع ثمن الضرر الذي سببته امرأة أخرى !
- لكن جان ..أنا لست إليان ! ألا ترى أنني مختلفة ؟
- مختلفة ؟
تقدم إليها بسرعة :
- أوه ..أجل حبيبتي ..أنت مختلفة !
- إذن لماذا نبذتني ؟
- أوه بريدا ، لم يكن نبذاً بريندا ..لا تقولي هذا ..أعرف معنى الشعور بالنبذ ..
- لقد كان نبذاً ..حين ..حين أبعدتني ، جعلتني أشعر أن لا قيمة لي ، لا أنفع لشيء أو لأحد ..لماذا جعلتني أدفع ثمن ما فعلته هي ؟ إليان لم تحبك يوماً كرجل ..لكنني أحبك ! أحبك كما أنت ! لماذا ..لماذا ترفضني ؟
- لأنني أعمى ..وهذا شيء لا نستطيع تغييره ..أنا أعمى وسأبقى أعمى ما تبقى من حياتي .
- أعرف هذا ..لكن ما الفرق ؟
- كيف تقولين هذا ؟
- لأنه أمر صحيح ! لا فرق عندي ..ولم يكن عندي فرق ولن يكون مستقبلاً..جان ن هناك شيء أريد أن أوضحه لك ..أنا ..كما كنت معك خلال تلك الأشهر ..لم أكن أحاول تغييرك لأني لم أكن راضية بك ..لقد أحببتك قبل أن تبدأ بالتغيير ..لقد فعلت ذلك لأجلك جان ..لا ..هذا غير صحيح ..بل فعلته لأجلي أنا كذلك .عرفت أنك رجل قادر على التمتع بالسعادة ..عرفت هذا لأنك مررت بألم كبير ..والسعادة والألم يأتيان من مصدر واحد ..لك قدرة هائلة على الحب ، على الفهم ، والحياة وفعلت كل هذا لأنني أحبك ..والحب يأتي بالدرجة الأولى ..اجبني جان ! افهمني ! عش معي وأنا زوجتك ..تقبلني وسأجعلك سعيداً ..أعرف أنني قادرة على هذا .
تنهد مستديراً عنها ، وكأنه قادر على رؤية التعاسة التي يعرف أنها مرسومة في عينيها :
- بريندا..يبدو أنك لم تفهمي ..أوه ..لقد تعاملت مع عماي جيدا لبضعة أشهر .لكن الأمر سيكون مختلف على المدى البعيد ..أنت شابة وترغبين في حياة طبيعية ن وزوج يستطيع مشاركتك كل شيء ..
- لكنك تستطيع هذا ..تستطيع ! لقد أثبتنا هذا!
- حبيبتي ..هناك شيء أريدك أن تعرفيه ..أنا لم أذهب إلى أمريكا ..
- لكن ..ألم تسافر ؟ أتعني ..
- كتن مجرد فرصة بأن يساعدني الطب ..كان أملاً ضعيفاً لكنني قبلي به ..كان علي أن أجرب ..كنت يائساً حين تكلمت عن الرحيل ، حين فكرت انني على وشك أن أخسرك للأبد ..ولو نجحت التجربة ، صدقيني ، كنت سأهرع إلي بابك أتوسل إليك أن تتزوجيني ..لكنها لم تنجح ..لقد ..قابلت ذلك الرجل في سويسرا ..إنه أخصائي عيون ، صديق قديم للعائلة ..لقد اتصل بي وطلب أن يفحصني .لم يعطني وعداً لكنني فكرت أن هناك تقنية جديدة ..تقدم جديد في السنوات المنصرمة ..وربما ..
- ذهبت لمقابلة البروفسور ؟
لم يكن الاستغراب في صوتها زائفاً تماماً ، لقد أدهشها جان بقوله هذا لها ..واتخذت القرار في لمح البصر ..هنا الآن ، فرصتها الأخيرة لاختراق دفاعاته ..إنها تقاتل لأجل حياتها :
رفع رأسه بحدة :
- البروفسور ؟ أكنت تعلمين بأمره ؟
- طبعاً ..عرفت منذ زمن بعيد ..سألت عريفز ما الذي حدث للوحة ( البستان في فرساي ) الأصلية ..وأنت تعرف أنني أفضلها فأخبرني أين هي وكيف أرسلتها بعد الاتصال مع صديق العائلة ..لكن ماذا في هذا ؟
كانت عيناه تنظران إليها دونما تصديق :
- أتعنين أنك عرفت أن هناك فرصة و..لم تذكري هذا أبداً ؟ لم تذكري هذا مرة واحدة ؟ كان هناك فرصة ، ولم تذكريها ..! لماذا ؟ لماذا ؟!
تهلل قلبها فرحاً ..فقد عرفت أن النصر أصبح لها ، كل ما عليها أن تعطه الرد المناسب :
- قلت لي مرة أنك تعرف بأنك ستبقى أعمى ما تبقى من حياتك ، وتقبلت هذا ..وتفهمته ، واحترمت هذه القناعة الداخلية . هل فهمت حبيبي ؟ عماك لم يكن له أي فارق أبداً عندي ..الآن هل تتزوجني ؟
- بريندا !!
لم تستطع قول المزيد ، لم يكن يريد قول أكثر من هذا ..وقال دون كلمات كم يحبها ..وأخيراً عاد يقول :
- أوه حبيبتي ..لو تعرفين كم أردتك ! كيف قاومت لأحتفظ ..
ابتسمت :
- أعرف لأنني مررت بذات الإحساس .
أمسكت يده تضعها على قلبها :
- وسيكون هذا عالماً جديداً تفتحه لي ..شيء آخر ستعرفني عليه وسيكون جميل جداً .
راح يضحك بنعومة ..لقد وجد الإنسانة التي انتظرها طويلاً وليس فقط لخمس سنوات ، بل العمر كله .
- هذا كله غلط ..وتعرفين هذا ..أنا الذي يجب أن أجثو على ركبتي أتوسل إليك أن تتزوجيني .
ضحكت :
- حسناً ..يجب أن أقول إن كل فتاة تتمنى أن يجيء طلب الزواج من الرجل الذي تحبه ..بدلاً من العكس ..فما هو رأيك ؟
- بريندا ..حبيبتي ..هل تتزوجيني ؟
ضحكت بطيش :
- همم هناك مشكلة صغيرة .
. أوه ..حقاً ؟ ما هي ؟
- غريفز ..كيف سنقول له إننا سنتزوج ؟ لن أتحمل النظرة على وجهه !
رمى جان رأسه إلى الوراء يضحك بابتهاج صرف :
- سأقول له أنا ..سأقول له أنا !!





تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــت