المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر حمار


AshganMohamed
01-05-2020, 09:53 PM
خواطر حمار
مذكرات فلسفية وأخلاقية على لسان حمار
تأليف
الكونتيسة دي سيجور
ترجمة
حسين الجمل
مقدمة الناشر
خواطر حمار
هذا عنوان غريب في اللغة العربية، ومفاجأة جديدة في الكتب العصرية، ونوع طريف من الحكاية على ألسنة الحيوانات، إذا كان مستحدثًا في هذا العهد فما هو بالجديد في الآداب الشرقية، فقديمًا قرأنا كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وحديثًا اطَّلعنا على كتاب العيون اليواقظ لمحمد عثمان جلال، ولولا براعة الإغراب في الوصف ومعرفة المراد بالكتاب لكان جديرًا أن يكون عنوانه «مذكرات أخلاقية فلسفية على لسان حمار».
•••
ولقد شاهدنا أن أكثر ما تخرجه المطابع المصرية في هذا العصر وهي فيه أكثر ما كانت عملًا، لا يعدو إلا قليلًا نوعين اثنين من الكتب: الكتب العلمية، والروايات الغرامية أو الجنائية. فأما الكتب العلمية فمكانها المدارس وقراؤها الطلبة، وأما الروايات فأكثر قرائها ناشئة الجنسين من الطلبة والفتيات، وهم إذا فرغوا من فصول الدراسة وحل زمن العطلة الصيفية انكبوا على تلك الروايات. ويسوء الآباء ورجال التربية والأخلاق أن أكثر تلك الروايات مشحون بالمغريات من الحوادث الشائنة والمخزيات من الفظائع المدهشة، وهي سيئة الأثر في أنفس الناشئين؛ بما تقرب إليهم من الجرائم والمنكرات، وبما تكشف لهم عن وجوه من الشر والموبقات كانت مستترة عنهم وكانوا هم عنها غائبين لولا تلك الكتب المجرمة، وقد كان أولى لهم الجهل بها فإننا ممن يرون أن من الجرائم نشر الجرائم.
•••
وكان حقًّا علينا وعلى القائمين بخدمة الآداب في الشرق، أن نتخير لمطالعة الناشئة ومحبي الفكاهة والمسامرة طائفةً من الكتب تكون مصونة من ذلك التبذل، بريئة من تلك العيوب.
•••
ودعانا إلى إيثار هذا الكتاب بالاختيار ما تضمنه من الحكمة البالغة في الفكاهة السائغة، والموعظة الحسنة في الأسلوب الشائق، وأعجبنا من عبارته أنها ليست بالجد المضني ولا بالهزل الساخر.
وهو كتاب وضعته الكونتس دي سيجور من مشهورات الكاتبات باللغة الفرنسية، الغنية بالكتب المؤلفة للطلبة والناشئين، مما رُوعِي في موضوعه القرب من مداركهم والمناسبة لأذواقهم.
فاقترحنا نقله إلى اللغة العربية، من أجل ما بَيَّنّاه من الأسباب، على الكاتب العصري حسين أفندي الجمل، وهو كاتب معروف لدى الأدباء أكثر من معرفته عند جمهور القراء، إذ كان توظفه في الحكومة يجعل أكثر عمله في الرسميات، وكان ذلك يقضي عليه بالتنكر فيما ينشر ووضع إمضاءات رمزية١ على كثير من رسائله المنشورة في الجرائد والمجلات؛ فأجاب الاقتراح وكان عند حسن الظن في أدبه، إذ أتحفنا بآية مختارة في فن الترجمة بأسلوب ممتع هو السهل الممتنع، ترى المعاني فيه منطبقة على الأصل انطباق الكف على الكف، وكأن الترجمة في اللغتين مرآة تجمع بين الحسناء وخيالها.
•••
وإنا لنرجو أن يكون ما تحراه الأستاذ المترجم في ترجمته من تسهيل اللفظ، وتيسير المعنى، وسلاسة الإنشاء داعيًا إلى حسن القبول وإقبال أكبر عدد من القراء.
١ نذكر منها إمضاء «حسان بن ثابت» التي وقع بها عدة مقالات في الأهرام والمقطم والأفكار
مقدمة المترجم
الرفق بالحيوان معروف في الشرق قبل الغرب بما سبق إليه الشرقيون من الحضارة والمدنية، وبما أوحت إليهم الأديان السماوية من رقة العواطف والرحمة الإنسانية.
ولقد كان المصريون القدماء يكرمون بعض الحيوانات تكريمًا ترقَّى إلى حد التقديس وانتهى إلى درجة العبادة. وإذا كان الغربيون قد سبقونا في هذا العصر إلى تأليف الجمعيات للعطف عليها والعناية بها، فقد كان ملوك العرب يجودون بالرعاية العظيمة للحيوان، وكان الناس على دين ملوكهم. ورُوِيَ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين كان يركب دابته فإذا أجهدها السير نزل عنها يمشي إراحةً لها.
وشُوهِد رجل من العرب في يده قِطَعٌ من الخبز يكسرها ويلقيها بجانب جدار بيته إلى النمل، فقِيل له: ما لك وللنمل؟ فأجاب: «هن جارات ولهن حرمة»، فما أحسنها رقة جديرة بالاحترام! وما أجمله عطفًا قَلَّ مثله في هذه الأيام!
ومن الحيوان المستأنس حيوان هادئ متواضع، هو رفيق الفلاح المصري في كَدِّه وشريكه في تعبه، يستقبل الشمس معه للعمل في البكرة ويودعها معه للراحة في الأصيل، ذلك هو الحمار الذي يعمل لصاحبه أكثر من عمله لنفسه، فإن كان لهذا سُمِّي حِمَارًا فحبذا الحمار!
وقد سَبَق إلى إنصاف هذا الحيوان كاتبة من شهيرات كاتبات الفرنسيين بهذه الرسالة التي جعلت عنوانها «خواطر حمار»، وأبدعت الإبداع كله فيما حدثتنا به عنه من عجائب الحوادث وما صدقت فيه رواية الخيال، فإن فاتني السبق في هذا المضمار فلا أقل من اللحاق بها والنقل عنها وترديد صوتها، اعترافًا بجميل هذا الحيوان الوديع الذي يستحق عندنا فوق جزاء المعاونة على العمل بحسن الصنيع، كرامة أنه كان مطية لعيسى عليه السلام وهو المتواضع الرفيع.
ونظرة أخرى في هذا الكتاب تنبئ الناظر فيه بما اسْتُودِع من محاسن الآداب، وتدل على براعة المؤلفة وحسن تصويرها لوجوه الموعظة، وحذقها الكامل في إدخال الحكمة على القلوب، وإزجاء الفكاهة إلى النفوس من أقرب الأبواب بأيسر الأسباب.
حسين الجمل
مصر الجديدة
إهداء الكتاب
إلى سيدي الصغير هنري
أنت يا سيدي الصغير كنت بي رحيمًا، ولكنك كنت إذا ذُكِرَت الحمير تحدثت عنها باحتقار لها جميعًا، فلأجل أن تعرف عن علم حقيقة الحمير ويصدق حكمك عليها، كتبت هذه المذكرات وأهديتها إليك.
وسترى يا سيدي العزيز كيف كنت أنا المسكين ورفقائي من الحمير نعاني من الناس قسوة المعاملة، ثم تتحقق أن لنا نصيبًا عظيمًا من الذكاء، وحظًّا وافرًا من المواهب الطيبة. وستعرف كيف أنني كنت شقيًّا في عهد حداثتي، وكم كنت أُجَازَى بالعقاب الشديد! ولكن الندم والتوبة والعمل بإخلاص وحب كل ذلك أعاد إليَّ محبة رفقائي ورضا سادتي.
فإذا فرغت من قراءة هذا الكتاب، فإنك تنتهي إلى الحكم بأنه بدلًا من أن يُقَال: «بليد كالحمار، جاهل كالحمار، عنيد كالحمار»، يجب أن يُقال: «ذكي كالحمار، عالم كالحمار، متواضع كالحمار.»
ثم ترى بحق أنت وقومك أن هذه أوصاف صادقة، وأنها إذا اعْتُبِرَت مدائح فلم تكن عبثًا.
هي هان!١ يا سيدي العزيز، إنني أتمنى لك ألا تكون في النصف الأول من حياتك شبيهًا بخادمك المخلص.
كديشون
الحمار العالم
١ هاتان اللفظتان حكاية لصوت الحمار وهو ينهق
فاتحة الكتاب
سيدي
لا أتذكر جيدًا عهد طفولتي، وأظن أنني كنت في الغالب بائسًا مثل كل جحش، وكنت لطيفًا ظريفا كسائر الحمير.
ولكنني متحقق من أنني كنت قوي الذكاء، كما أنا الآن في سن الهَرَم أشد ذكاء وأحسن تصرفًا من رفقائي.
ولقد خدعت سادتي ومكرت بهم غير مرة، وهم لم يكونوا إلا من بني آدم ولذلك لم يستطيعوا أن يدركوا مقدار فهم حمار وبراعة حيلته.
وسأقص عليك في هذا الكتاب بعض الأدوار التي مثلتها معهم في زمن الصبا وعهد الشبيبة.
كديشون
الحمار العال
الفصل الأول
السوق
لما كان الناس لا يعرفون كل ما يعرفه حمار عالِم، فإنكم يا من تقرءون هذا الكتاب تجهلون بلا شك ما هو معروف لكل رفقائي الحمير؛ من أنه يُقَام في كل يوم ثلاثاء سوق في مدينة «ليجل»، يُبَاع فيها الخضار والزبدة والبيض والجبن والفواكه وأشياء أخرى فاخرة.
وكان ذلك اليوم يوم شقاء لرفقائي المساكين، وكان لي كذلك أيضًا قبل أن تشتريني سيدتي الكبيرة جدتك الكريمة التي أعيش الآن عندها، فقد كنت مملوكًا لفلاحة شرسة قاسية. تصور يا سيدي الصغير كيف أنها كانت تبالغ في القسوة حين تجمع كل البيض الذي يبيضه ما عندها من الدجاج، وكل ما يتجمع عندها من الزبدة والجبن الذي يُسْتَخْرَج من لبن ما تملك من البقر، وكل ما ينضج عندها أثناء الأسبوع من الخضر والفاكهة، ثم تملأ بكل ذلك سلالًا تضعها فوق ظهري.
فإذا تم لها كل ذلك وكنت محملًا بالأثقال في حالة لا أستطيع معها التحرك، كانت تجيء هذه المرأة الثقيلة وتجلس أيضًا فوق السلال، ثم تسوقني بغلظة وعنف إلى أن أصل إلى السوق وكان بينه وبين منزلها مسافة فرسخ، وكنت دائمًا في شدة الغيظ الذي لا أستطيع إظهاره لأنني أخشى وقع العصا التي كانت تحملها دائمًا، وهي عصا غليظة معقدة كانت تؤذيني أذى شديدًا كلما ضربتني بها. وكنت كلما اقترب وقت الذهاب إلى السوق أشهق وأنهق برقة أستعطف بها سادتي، فكانت هي تسرع إليَّ وتقول: اسكت أيها الكسول، ولا تصدعنا بصوتك المنكر «هي هان! هي هان!» كأنك تحسب هذا الصوت موسيقيًّا مطرِبًا. ثم تنادي ولدها «جول» وتقول له: قَرِّب هذا البليد من الباب لكي أضع الأحمال على ظهره؛ هناك سَبَت البيض وسَبَت آخر، والجبن والزبدة، والخضار أخيرًا. وهذا حمل تحصل من بيعه في السوق على بضعة ريالات، وتدعو ابنتها مارييت بعد تشييد الحمل على ظهري فتقول لها: أحضري كرسيًّا لكي تصعد أمك على الحمار. فإذا ركبت تناولت العصا، وبدأت تضرب ضربًا متكررًا، وكأنها تحسب الضرب مداعبة ضرورية، ثم تسير ولا تكاد العصا تقف أو تكف في يدها عن الضرب على رقبتي وعلى جنبي وأفخاذي، وكنت أسرع في السير وأحيانًا أجري، ومع كل ذلك فلا تنقطع الفلاحة عن استمرار الضرب، فكان من حقي أن أقسو وأن أنتقم بل حاولت الرفس لكي ألقيها على الأرض، ولكن كان الحمل ثقيلًا فلم أستطع هذه الحركة، ولكني كنت دائمًا أتحول في الطريق يمينًا وشمالًا، وكنت مع ذلك مسرورًا لأنني أشعر باضطرابها فوقي، فكانت تهددني وتقول لي: سأصلح هذا الاعوجاج بالعصا، وأعلمك الاستقامة في السير. ويستمر الضرب حتى كان يؤلمني كثيرًا المشي في الطريق إلى أن نصل إلى السوق، ثم تُرفَع الأحمال التي على ظهري وتُلْقَى على الأرض.
وتذهب سيدتي بعد أن تربطني لتأكل، ومع أنني كنت أكاد أموت من الجوع والتعب، فإنها لم تعطني لا شيئًا من الماء ولا قليلًا من البرسيم، لذلك احتلت على الاقتراب من سبت الخضار أثناء غيابها، فرطبت لساني وفمي بما ملأت به معدتي من الخضراوات والكرنب، ولم أذقْ في حياتي أطعم من هذه الخضراوات، وانتهيت من التهام آخر كرنبة في اللحظة التي عادت فيها سيدتي.
فصرخت حين أبصرت السبت فارغًا، ورأيتها ممتقعة متألمة لأنها أدركت فعلتي.
ولا أكرر على مسمع القارئ ألفاظ الشتم والسباب التي هالتها عليَّ وكانت لهجتها حادة شرسة، وكانت وهي غاضبة تقول من الكلام ما أحمرُّ منه خجلًا أنا الحمار.
ولم يكن مني إلا أنني كنت أتلمظ ثم ولَّيتها ظهري، فتناولت عصاها واستمرت في الضرب بقسوة إلى أن ضاع رشدي ونفد صبري فرفستها ثلاث رفسات؛ هشمت الأولى أنفها وكسرت بعض أسنانها، وخلعت الثانية يدها، وأصابتها الثالثة في معدتها وألقتها على الأرض.
فهُرِع إليَّ أشخاص كثيرون وأثقلوني ضربًا وإهانة، ثم حملوا سيدتي ولا أدري إلى أين، وتركوني مربوطًا بجانب المكان الذي ألقيت فيه أحمالي وبقيت وحدي فيه مدة، فلما رأيت أنه لا يفكر فيَّ أحد أكلت ما في سبت آخر من الخضار اللذيذ، ثم قرضت الحبل الذي ربطوني به وعدت بهدوء إلى طريق العزبة.
ودُهِش الذين رأوني في الطريق عائدًا وحدي، وصاروا يتهامسون ويتضاحكون، وقال بعضهم: إنه لا يحمل شيئًا فأين صاحبته؟ وأين ذهبت أحماله؟ فقال آخر: لا بد من أنه فعل فعلة سيئة، وقالت امرأة: قرِّبوه ليركب هذا الطفل على بردعته، فقال زوجها: إنه يستطيع أن يحملك أنت والطفل.
وأردت أن أحسن ظنهم بي وبحسن أخلاقي، فاقتربت بلطافة من الفلاحة ممهدًا لها سبيل الركوب على ظهري، فقال زوجها وهو يساعدها على الركوب: ليس خبيثًا هذا الحمار.
فابتسمت لهذا الكلام لأن الحمار الذي تحسن معاملته لا يكون خبيثًا، فإننا لا نكون مُغْضَبِين عنيدين إلا إذا أردنا أن ننتقم ونجازي على ما يُصَبُّ علينا من الأذى والإهانة، أما إذا عُومِلْنَا برفق فإننا نكون طيبين أحسن من كل أنواع الحيوان.
وذهبت مع هذه المرأة وطفلها إلى منزلها، وكان الطفل جميلًا عمره سنتان، فأحبني ولاطفني وأراد أن أبقى عندهم، ولكني فكرت في أن هذا لا يكون من الشرف، فإن سيدتي هي التي اشترتني فأنا مملوك لها، ولقد هشمت أنفها وخلعت يدها وآذيت معدتها وهذا كافٍ في الانتقام.
وأدركت أن الأم تهم بموافقة طفلها على استبقائي عندها فأسرعت فقفزت من جانبها، وقبل أن تستطيع اللحاق بي لتمسك لجامي ركضت حتى وصلت إلى المنزل.
وكان أول من أبصرني مارييت بنت سيدتي، فقالت: هذا كديشون، وقد عاد اليوم مبكرًا، يا جول اخلع عنه البردعة، فقال جول: كثيرًا ما يشغلنا هذا الحمار، وإلا فلماذا عاد وحده؟ أنا أراهن على أنه هرب. وشتمني ثم ضربني برجله على فخذي، وقال: لو تحققت أنك فررت من السوق لضربتك مائة ضربة.
وخلع عني البردعة واللجام فابتعدت راكضًا، ولم أكد أتوغل في المزرعة حتى سمعت أصواتًا من جهة العزبة، فتلفت فرأيت سيدتي قد عادت محمولة، وكان أولادها يصيحون فأصغيت لما يقولون، فسمعت جول يقول لأبيه: إنني سآخذ كرباج العربجي، وسأربط الحمار في شجرة وأضربه حتى يسقط على الأرض.
فقال له أبوه: اذهب ولكن لا تقتله، فنفقد الثمن الذي دفعناه، وإنني سأبيعه في السوق القادم.
وبقيت مضطربًا من الخوف لما سمعت حين أبصرت جول يجري إلى الإصطبل يبحث عن الكرباج، وصار الأمر واضحًا وتوقعت الأذى فلم أفكر هذه المرة في استفادتهم من الثمن الذي اشتروني به، وركضت إلى الزريبة التي تحجبني عن النظر، وجريت بسرعة وقوة حتى كسرت في طريقي كثيرًا من فروع الأشجار ووصلت إلى آخر المزرعة، ثم جريت في الغيط، واستمررت أجري طويلًا وأسرع كثيرًا وأنا أحسب أنهم يطاردونني، وأخيرًا حين عجزت عن الاستمرار في الجري وقفت وأصغيت فلم أسمع شيئًا، وصعدت ربوة فلم أرَ أحدًا فنعست واسترحت وابتهجت بتخلصي من شراسة هؤلاء الفلاحين.
ولكني سألت نفسي: ماذا يكون من أمري، فإذا بقيت في البلد فسيعرفونني وسيمسكونني، ثم يرسلونني إلى العزبة؟ فماذا أصنع، وأين أذهب؟!
ونظرت حولي فرأيت نفسي وحيدًا بائسًا وبكيت حالتي المحزنة، وكنت على مقربة من غابة جميلة فانتعشت وقلت إنني سأجد في هذه الغابة الحشيش الرطب والماء وما أشتهي من غذاء، فأقمت فيها أيامًا ثم ذهبت إلى غابة أخرى بعيدة جدًّا عن عزبة سادتي.
ودخلت هذه الغابة، ثم أكلت الحشيش المبسوط على الأرض بلذة، وشربت الماء الجاري من نبع عذب بهناء.
واقترب الليل فاضطجعت على بساط أخضر من الطحلب بجانب شجرة صنوبر، ونمت هادئًا إلى اليوم التالي.
الفصل الثاني
المتابعة
فلما أصبحت تذكرت في اليوم التالي بعد أن أكلت وشربت ما وصلت إليه من الراحة والسعادة، وقلت في نفسي: ها أنا نجوت وهم لن يدركوني، وبعد مُضِي يومين أكون فيهما استكملت راحتي سأمعن في الابتعاد عن هذا المكان أيضًا.
ولم أكد أفرغ مما فكرت فيه حتى سمعت نباح كلب عن بعد أعقبه نباح كلب آخر، ثم تبينت زمرة من الكلاب فصرت قلقًا خائفًا، وقمت فاتجهت إلى نُهَيْر لمحته في الصباح، وبمجرد وصولي إليه سمعت صوت جول يخاطب الكلاب: اذهبوا يا كلابي فابحثوا جيدًا حتى تجدوا ذلك الحمار البائس وتعضوه وتمزقوا جلده وتحضروه إليَّ لأقطع الكرباج على ظهره.
فوقعت من شدة الخوف، ولكني عدت إلى التفكير فقلت: إنني إذا سرت في الماء فإن الكلاب لا تستطيع إدراك أثر أقدامي، وأمعنت في السير في مياه النُّهَيْر بدون توقف زمنًا طويلًا، وابتعد نباح الكلاب عني وكذلك صوت جول، وانتهيت إلى أنني لم أسمع منهم شيئًا، ثم تعبت وأحسست بالظمأ فوقفت هنيهة لأجل الشرب، وأكلت مما حول النهير من العشب، وكنت مُبْتَرَد الساقين ولكني لم أجسر على الخروج من الماء، لأنني خائف من متابعة الكلاب وشعورها بخطواتي. ولما استرحت عدت إلى السير بجانب النهر دائمًا إلى أن خرجت من الغابة، فوجدت أنني وصلت إلى مرجع متسع فيه من الثيران نحو خمسين، ونمت في الشمس في جنب البرسيم، ولم تلتفت إليَّ الثيران أدنى التفات حتى رأيت أنني أستطيع أن آكل وأن أنام كما أشتهي.
وفي المساء دخل رجلان المرج، وقال أكبرهما للثاني: ألا ترى يا أخي أن نبيِّت الثيران هذه الليلة، فإنه يُقَال إنه يوجد في الغابة ذئاب؟ فأجابه: ذئاب! مَنْ حَدَّثك بهذه السخافة؟
فقال: ناس من مدينة ليجل، وقيل: إن حمارًا من تلك المدينة اخْتُطِف وافْتُرِس في هذه الغابة.
فأجاب: اسكت يا أخي، فإن كنت تعني حمار العزبة القريبة منا فإن أهلها غلاظ الأكباد، وربما كانوا هم الذين قتلوا الحمار من شدة الضرب، فقال: فلماذا إذن يقال إن الذئاب أكلته؟ فأجاب: لكيلا يُعرَف أنهم هم الذين قتلوه. فقال: على كل حال يحسن أن ندخل الثيران. فأجاب: افعل ما شئت يا أخي، فإنني لا أتمسك بالموافقة ولا بالمخالفة.
سمعت هذا منهما وأنا لم أتحرك من مكاني، وإن كنت كثير الخوف من أن يرياني، وكان البرسيم عاليًا يخفيني عن النظر، ولحسن الحظ لم تكن الثيران في الجهة التي أنا فيها، فقادوها إلى العزبة التي فيها أصحابها.
ولم أخفْ من تلك الذئاب لأن الحمار الذي تحدثوا بقتله لم يكن سواي، وأنا لم أحس أثرًا لأي ذئب في الغابة، فلذلك نمت ملء جفوني، وأتممت فطوري في الوقت الذي عادت فيه الثيران صباحًا إلى المرج، وكان يقودها كلبان ضخمان.
ولمحتهما بخفة حين كان أحدهما يبصرني وينبح بلهجة مهددة، وجرى نحوي فتبعه الآخر. ما العمل؟ وكيف أفر منهما؟ هُرِعت إلى جانب النهير وابتعدت عنهما، وسمعت صوت أحد الرجلين اللذين سمعتهما ليلًا ينادي الكلاب، واستمررت في سبيلي هادئًا متابعًا السير إلى أن وصلت إلى غابة أخرى لا أعرف اسمها، وأيقنت أنني بعدت عن العزبة وعن مدينة ليجل بنحو عشرة فراسخ وأنني نجوت الآن، لأنه ليس يعرفني هنا أحد، وأستطيع أن أظهر بغير خوف من أن يقودني أحد إلى سادتي.
الفصل الثالث
الأسياد الجدد
عشت هادئ البال في هذه الغابة نحو أشهر، وضجرت من العزلة، ولكنني مع ذلك أفضل الانفراد على معيشة البؤس مع الناس.
وزاد همي حين أبصرت الحشائش تقل وصارت قاسية، وتساقطت أوراق الشجر وتجمد الماء وترطبت الأرض.
فقلت: وا أسفاه! ماذا أعمل إذا مكثت هنا، سأهلك من البرد والجوع والظمأ؟ ولكن أين أذهب؟ وماذا يحل بي؟
وبقوة التفكير تخيلت طريقة أجد بها ملجأ، فخرجت من الغابة ودخلت قرية صغيرة قريبة منها، فرأيت فيها منزلًا منعزلًا نظيفًا وامرأة طيبة جالسة على الباب تغزل، وتأثرت بمنظرها الذي يدل على الطيبة والأسى، فاقتربت منها ووضعت رأسي على كتفها، فانبعث من هذه المرأة الطيبة صوت مؤثر، وأسرعت إليَّ تحرك كرسيها وظهر أنها تخوفت، فلم أتحرك ونظرت إليها بعين هادئة مطمئنة.
فقالت: دابة مسكينة، ليس على هذا الحمار شيء من سمة الخبث، وإذا لم يكن لك صاحب فإنني يسرني كثيرًا أن تكون عندي لكي تخلف حماري جريزون الذي مات من الكِبَر، وبذلك أستطيع الربح من بيع الخضار في السوق. ولكن لعل لك أصحابًا يبحثون عنك.
وسمعت صوتًا رقيقًا من الداخل يقول: مع مَنْ تتكلمين يا جدتي؟
فقالت: أتكلم مع حمار جاء ووضع رأسه على كتفي، ونظر إليَّ بعاطفة لم أستطع معها أن أطرده.
فأجابها صاحب الصوت: سننظر. ولمحت على جانب الباب غلامًا جميلًا في نحو السادسة أو السابعة من العمر، وكانت ثيابه ثياب فقير ولكنها نظيفة، فنظر إليَّ بعين فاحصة ولكنه كان خائفًا قليلًا.
وقال لها: هل يمكن أن ألاعبه؟
– نعم بلا شك، ولكن احذر أن يعضك يا جورج.
فبسط الغلام ذراعه ولم يدركني، ولكنه تقدم خطوة وأخرى ثم استطاع أن يصل إلى ظهري.
فلم أتحرك خشية أن أخيفه، ولكنني أدرت رأسي نحوه ولحست يده بلساني.
فقال جورج: ما ألطف هذا الحمار! إنه طيب لأنه لحس يدي.
فقالت الجدة: من الغريب أنه وحده، أين صاحبه؟ اذهب يا جورج إلى الفندق حيث ينزل المسافرون، واسأل عن صاحب هذا الحمار فإنه ربما كان مشغولًا بالبحث عنه.
جورج: هل أقود الحمار بيدي يا جدتي؟
الجدة: هو لا يتبعك، فاتركه يذهب حيث يشاء.
وذهب جورج راكضًا فأسرعت السير وراءه، فلما رأى أنني أتبعه جاء إليَّ ولاطفني قائلًا: ما دمت تتبعني فإنك لا تمنعني من ركوبك. وقفز إلى ظهري وقال لي: شي … شي …
ومشيت مشيًا خفيفًا فرح به جورج، ولما وصلت إلى الفندق وقفتُ أمامه ولم أتحرك كأنني مقيد.
فقال صاحب الفندق: ماذا تريد يا ولدي؟
– جئتُ لأعرف إذا كان هذا الحمار الذي على الباب هو لك أم لأحد النازلين عندك.
فتقدم مسيو دوفال إلى الباب ونظر إليَّ بإمعان، وقال: كلا، ليس لي هذا الحمار ولا لواحد ممن أعرفهم، فاذهب وابحث في غير هذا المكان.
فصعد جورج على ظهري، وعدت إلى السير به، ومشينا وهو يسأل من باب إلى باب عن صاحبي فلم يعرفني أحد.
وانتهينا إلى الرجوع إلى تلك الجدة الطيبة، التي كانت مستمرة في الغزل وهي جالسة أمام باب منزلها.
جورج: يا جدتي، هذا الحمار ليس ملكًا لأحد من أهل البلد، فماذا نصنع به هو لا يريد أن يتركني، وإذا تمسك به أحد تخلص منه إليَّ؟
الجدة: ما دام الأمر كذلك فلا يحسن أن تتركه في الليل في العراء فإن ذلك يضره، فاذهب به إلى إصطبل حمارنا جريزون وقدم له شعيرًا وماء، وسننظر غدًا إذا ذهبنا به إلى السوق لنتعرف صاحبه.
جورج: وإذا لم نجده يا جدتي؟
الجدة: نحتفظ به إلى أن نسأل عنه، فإننا لا نرضى أن نترك هذا الحيوان يهلك من البرد في هذا الشتاء، أو ندعه يسقط في أيدي الغلمان الأشرار الذين يعبثون به ويتركونه يموت من التعب والشقاء.
وقدم لي جورج الشعير والماء ولاطفني وخرج، وسمعته وهو يقفل الباب يقول: كم أتمنى ألا يكون له صاحب وأن يبقى عندنا!
وفي اليوم التالي قَدَّم لي جورج بعد الفطور رسنًا وقادني إلي الباب، ووضعت الجدة فوقي بردعة خفيفة وجلستْ عليها، وأحضر لها جورج سبتًا صغيرًا من الخضار وضعته على ركبتيها ومشينا إلى سوق مامير، وباعت هذه المرأة الطيبة خضارها في السوق ولم يعرفني أحد، فرجعت مع أسيادي الجدد.
وعشت عندهم أربع سنوات، وكنت سعيدًا، فلم أفعل شرًّا لأحد، وكنت أؤدي عملي جيدًا، وأحب سيدي الصغير الذي لم يكن يضربني أبدًا، وهم لم يكونوا يتعبونني كثيرًا، وكان الغذاء كافيًا جدًّا مع أنني لست نهمًا، ففي الصيف يقدمون قشور الخضار والحشائش التي لا يأكلها الخيل ولا البقر، وفي الشتاء كان طعامي من الشعير ومن قشور البطاطس والكراث والكرنب، وهذا يكفينا نحن الحمير.
وكانت مع ذلك تمر بي أيام لا أحبها، هي تلك الأيام التي كانت تؤجرني فيها سيدتي إلى الصبيان المجاورين لنا.
وذلك لأنها لم تكن غنية، ففي الأيام التي لم يكن لي فيها عمل عندهم كانت تؤجرني إلى غلمان القصر القريب منا ليتنزهوا بركوبي، ولم يكونوا دائمًا طيبين.
وإليك ما جرى ذات يوم في نزهة من تلك النزهات:
الفصل الرابع
القنطرة
كان في الحوش ستة من الحمير مصفوفة، وكنتُ من أقواها وأجملها، وأحضر ثلاثة من البنات الصغار طعامنا من الشعير، وكنت وأنا آكل أسمع الأطفال يتحدثون.
فقال شارل: هيا بنا يختار كل منا حماره، أنا أختار هذا. وأشار إليَّ بأصبعه.
فأجاب الخمسة الأطفال الذين كانوا معه: إنك دائمًا تختار لنفسك أحسن الموجود، يجب أن يكون التوزيع بالاقتراع.
فقال شارل: كيف يمكن أن نقترع على الحمير يا كارولين؟ هل يمكن وضع الحمير في كيس والسحب منها كما تُسحَب الأكر؟
فأجاب أنطوان: كيف تقول هذا؟ أليس من الممكن أن نضع نمرة على كل حمار من الحمير الستة ١ و٢ و٣ و٤ و٥ و٦، ونضع هذه النمر في كيس ثم نسحب النمر على اسم كل واحد، فتخرج نمرة كل واحد بحسب حظه.
فصاح الباقون: أحسنت. وقالوا لأرنست وهو أصغرهم: اكتب أنت النمر على ظهور الحمير، واكتب مثلها على قطع من الورق.
وضحكت في سري لأنني رأيت أن هؤلاء الأطفال أغبياء، ولو كان عند أحدهم شيء من ذكاء الحمار لرأى أن أحسن من هذا الجهد في الكتابة والتنمير أن يصفُّوا الحمير بجانب الحائط ويقترعوا عليها، فمن كانت نمرته الأولى أخذ الحمار الأول ومن كانت نمرته الثانية أخذ الثاني وهكذا.
وفي هذه الأثناء أحضر أنطوان قطعة كبيرة من الفحم، وكنت الأول فكتب على جنبي بخط كبير ١، وبينما كان يكتب ٢ على جنب الحمار الذي يليني انتفضتُ بشدة لكي أظهر له أن اختراعه الكتابة بالفحم لم يكن مفيدًا، فإن الفحم الذي كتب به نمرتي تطاير واختفت النمرة ١، فصاح الذي كتب منهم شاتمًا لاعنًا وقال: سأعيد الكتابة، وبينما كان يكتب ثانيًا نمرة ٢ على جنب الحمار الذي بجواري، وكان حمارًا خبيثًا، انتفض هو أيضًا انتفاضة شديدة فتطاير ما كتبه بالفحم ثانيًا من نمرته، فغضب أنطوان من هذا العمل المكرر الذي ضايقه في أثناء الكتابة، ولكن إخوانه ضحكوا كثيرًا وسخروا منه.
وأشرتُ إلى جميع الحمير بأن تنتظر الكتابة ولا تتحرك، وقد حصل ما أشرت به. وعاد أرنست ومعه النمر في منديله، وبدءوا يسحبون النمر كل واحد يأخذ نمرة، فعملت إشارة أخرى إلى رفقائي، وأخذنا جميعًا ننتفض ونهتز بسرعة وشدة، فذهب ما تكلفوا من الفحم وما تعبوا فيه من الكتابة، وقال أحدهم: يلزم أن نعود إلى الكتابة. وكانوا متغيظين، ولكن شارل كان يضحك منتصرًا، أما أرنست وألبير وكارولين وسيسيل ولويز فصاحوا في وجه أنطوان، وكان هو يضرب الأرض برجله غيظًا، وسخطوا وسبوا جميعًا، فأخذت أنا ورفاقي في النهيق، وتنبه الآباء والأمهات وساقتهم إلينا هذه الضجة وعرفوا ما جرى. وأخيرًا اقترح واحد من الآباء أن يصفُّونا صفًّا بجانب الحائط، وبدأ في سحب النمر لهؤلاء الأطفال.
فسحب نمرة ١ فصاح أرنست: هذا لي.
وسحب نمرة ٢ فقال سيسيل: هذا حماري.
وسحب نمرة ٣ فصاح أنطوان. وهكذا كلما سحب نمرة نادى واحد من الأطفال إلى أن انتهى من الأخير.
ثم قالوا: إذن فلنبدأ السير، وقال شارل: أنا أمشي أولًا.
وأجابه أرنست: وأنا ألحق بك حالًا وأدركك سريعًا.
فقال شارل: أؤكد لك أنك لا تستطيع.
فأجاب أرنست: وأنا أراهن على إمكاني ذلك.
وبدأ شارل يسوق حماره فسار به ركضًا، وقبل أن يضربني أرنست بكرباجه أسرعت أنا في السير بحالة أوصلتني في أقرب وقت إلى شارل وحماره فابتهج أرنست، وتضايق شارل وصار يضرب حماره ويكرر الضرب، ولكن أرنست لم يكن في حاجة إلى ضربي لأنني جريت بسرعة كأنني أسابق الرياح، وتجاوزت شارل في دقيقة واحدة. وسمعت الآخرين يضحكون ويصيحون: ما أسرع الحمار نمرة ١! إنه يجري كأنه فرس رهان.
وخامرني الزهو فتشجعت واستمررت في الركض به إلى أن وصلنا إلى قنطرة فتوقفت فجأة، لأنني رأيت لوحًا عريضًا من خشب أرض القنطرة متآكلًا منهارًا، ولم أشأ أن أسقط في الماء مع أرنست إذا سرت به على القنطرة، فقفلت راجعًا إلى الجماعة التي كانت معنا وكانوا متأخرين عنا كثيرًا.
فناداني أرنست: كلا، كلا، لا ترجع، استمر في اجتياز القنطرة، فقاومت ولم أنتقل، فضربني بعصاه، فاستمررت أمشي نحو الآخرين، فقال لي: اذهب يا عنيد وتحول إلى القنطرة. واستمررت نحو رفاقي وأدركتهم رغم المقاومة والضرب من هذا الغلام الغبي.
فلما أبصره شارل قال له: لماذا تضرب حمارك يا أرنست مع أنه حمار فارِهٌ، وقد جعلك تسبقنا وتتجاوز شارل؟
فأجاب: ضربته لأنه عاند ولم يستمر في السير على القنطرة، بل عاد أدراجه ولم يوافقني على اجتيازها.
فقال له: ذلك لأنه كان وحده، أما الآن وقد صرنا معًا فإنه سيجتازها مع سائر الحمير.
فقلت: مساكين كلهم! ووجب عليَّ أن أفكر فيما يمنع سقوطهم في الماء، ويحسن أن أدلهم على أن في الأمر خطرًا.
فأسرعت ركضًا نحو القنطرة على ارتياح تام من أرنست وصياح مستمر من رفاقه، فلما وصلت إلى القنطرة وقفت فجأة وقفة الخائف المضطرب.
فدُهِش أرنست وحثَّني على الاستمرار، فتراجعت بحالة اضطراب زادت في دهشة أرنست، ولكن هذا الغبي لم يدرك شيئًا مع أن اللوح الخشب المتآكل من القنطرة كان ظاهرًا جدًّا. واستغرب الآخرون وهم يضحكون من مجهود أرنست في حملي على المسير ومجهودي في التوقف عنه، وانتهوا بالنزول عن حميرهم وكان كل واحد منهم يدفعني ويضربني بدون شفقة ولكني لم أتحرك.
فصاح شارل: اسحبوه من ذيله، فإن الحمير أهل عناد تتراجع إذا أراد الواحد أن تتقدم.
وهموا بأن يسحبوا ذيلي فدافعت عن نفسي بالتحول عنهم فضربوني كلهم، ولكني لم أتحرك ثانيًا.
فقال شارل: انتظر يا أرنست، سأذهب وأجتاز القنطرة أنا أولًا، وسيتبعني بعد ذلك حمارك بغير شك.
وأراد أن يتقدم فاعترضته، وجعلت نفسي بينه وبين القنطرة، فأرجعوني بقوة الضرب المستمر.
فقلت في نفسي: إذا كان هذا الغبي يريد أن يغرق فإنني قد فعلت كل ما في وسعي لنجاته، وما دام يريد أن يشرب من ماء النهر بسقوطه فيه فلينزل ما دام يريده على كل حال.

ووصلوا بعد الجهد إلى إنقاذ المسكين شارل من الغرق.
ولم يكد حمار شارل يضع قوائمه على اللوح المتآكل من القنطرة حتى تكسَّر اللوح وسقط الحمار وشارل في الماء، ولم يحدث أدنى خطر لرفيقي الحمار لأنه كان يعرف العوم مثل كل الحمير. أما شارل فكان يحاول التخلص ويصرخ بأعلى صوته دون وصول إلى ما يتمنى من الإنقاذ، ثم صاح قائلًا: أحضروا مدرة، أحضروا مدرة، فصرخ الأطفال وجروا إليه من كل ناحية، وأبصرت كارولين مدرة طويلة فالتقطتها ومدَّتها إلى شارل فقبض عليها، ولكن ثقله في الماء كاد يجر إليه كارولين، فصاحت قائلة: ساعدوني! فأسرع إليها أرنست وأنطوان وألبير ووصلوا بعد جهد إلى إنقاذ ذلك المسكين شارل، الذي شرب من الماء أكثر مما يدعو إليه الظمأ، وغطاه الماء من القدم إلى الرأس. فلما نجا ضحكت الأطفال من هيئته التي تغيرت فغضب شارل، وركب الأطفال حميرهم ونصحوه بأن يعود إلى المنزل لتغيير ملابسه، فركب حماره والماء يقطر منه. وضحكت أنا على حدة من شكله المتغير ووجهه المكتئب، وكان تيار المياه قد جرده من قبعته وحذائه، فكان والماء يقطر منه على الأرض وشعره نازل على وجهه وملتصق به، ذا شكل يدعو إلى الضحك. ضحك الأطفال وجاراهم رفقائي الحمير، فكانوا يشاركونهم في الاستهزاء والسخرية من ذلك المنظر.
ويجب أن أزيد هنا أن حمار شارل الذي سقط في الماء كان بغيضًا إلينا نحن الحمير جميعًا، لأنه كان مشاغبًا وكان نهمًا وبليدًا، وهذه صفات نادرة في الحمير.
أخيرًا اختفى شارل، وهدأ الأطفال والحمير، وكأنهم فهموا ما أردت من نجاتهم بابتعادي عن القنطرة، فأصبحوا يلاطفونني ويستحسنون عملي ورأيي. وعدنا إلى السير جميعًا، وأنا على رأس الجماعة، إلى أن رجعنا وتفارقنا وذهب كل واحد إلى منزله.
الفصل الخامس
المخبأ
لقد كنت سعيدًا كما حدَّثت فيما مضى ولكن لكل شيء نهاية، فقد ذهبت سعادتي؛ كان والد جورج جنديًّا فعاد إلى بلده يحمل من المال ما تركه رئيسه، ويعتز بوسام أهداه إليه القائد، فاشترى منزلًا في مدينة مامير، وأخذ معه ابنه الصغير وأمه العجوز، ثم باعني إلى جار له يملك مزرعة صغيرة، فحزنت لأنني اضطُرِرت إلى ترك سيدتي العجوز وسيدي الصغير جورج، وكان كلاهما رحيمًا بي، وكنت أؤدي عندهم واجباتي أحسن الأداء.
ولم يكن سيدي الجديد لئيمًا، ولكنه كان ذا رغبة شديدة في العمل الكبير الذي يشغل به كل من يكون عنده، وكنت أيضًا كغيري ممن كلفهم كثرة العمل، فقادني إلى عربة صغيرة يحملني عليها الأتربة والسباخ والبطاطس والأخشاب، فابتدأت في التكاسل لأنني لم أكن أطيق أن أكون مربوطًا، وكنت أكره على الخصوص أيام السوق، وذلك ليس لأنه كان يحملني فوق طاقتي ولا لأنه كان يضربني، بل لأنني كنت أضطر يوم السوق إلى البقاء جائعًا من الصباح إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، وكنت إذا جاء وقت الظهر أكاد أموت من العطش، وكان واجبًا عليَّ أن أنتظر حتى يتم بيع كل الحمل، وأن يقبض سيدي ثمن ما يبيعه، وأن يحيي أصحابه، وأن يأكل أكلة العصر.
ولذلك لم أكن لهم حينئذ طيبًا، فإنني أحب أن أُعَامَل بالحسنى وإلا فإنني أبحث عن وسيلة للانتقام، فانظر ماذا عزمت عليه في يوم من الأيام، وسترى من ذلك أن الحمير ليست غبية، وستعرف أنني صرت لئيمًا:
ففي يوم السوق يستيقظون مبكرين، فيجمعون الخضار ويصنعون الزبدة ويلتقطون البيض، وأنا في الصيف أنام في حقل واسع، فكنت ألاحظ هذه الأعمال وأنا أعرف أنهم في الساعة العاشرة قبل الظهر يبحثون عني ليربطوني في العربة التي يملئونها من كل ما يريدون بيعه، وسبق أنني قلت إن يوم السوق يضايقني ويتعبني؛ فرأيت أن أبحث عن مخبأ أحتجب فيه وقت الطلب إلى السوق، فلاحظت أن في وسط ذلك المرج حفرة كبيرة مملوءة من الطحلب والحشائش، وفكرت أنه يمكن أن أختبئ فيها فلا يرونني وقت ذهابهم. ففي يوم السوق حين رأيت الذاهبين والآيبين من سكان المزرعة نزلت بخفة إلى الحفرة، وتوغلت فيها بحالة تجعل من المستحيل على الناظرين أن يروني، ومكثت فيها نحو ساعة مغمورًا بالقش والطحلب، في الوقت الذي كان فيه الخادم يبحث عني ويجري في كل ناحية حتى عاد إلى المزرعة، ويظهر أنه أخبر بأنه لم يجدني لأنني رأيت صاحب المزرعة بنفسه يسأل امرأته وكل من حوله عني، فقال أحدهم: الظاهر أنه ذهب إلى الزريبة.
فأجاب آخر: من أي جهة تظن أنه ذهب وليس له طريق مفتوح في الغيطان؟ إنه ليس بعيدًا من هنا، فتشوا عليه في كل مكان وعودوا حالًا فإن الوقت يمر بسرعة، وسنتأخر عن الوصول إلى السوق في الوقت المناسب.
وها هم أولاء كلهم قاموا إلى الغيط وفي الغابة يجرون وينادونني، وأنا في أثناء ذلك أضحك في سري وأجتهد في أنني لا أظهر من مكاني.
وعاد المساكين يلهثون من شدة التعب، وكانوا قد بحثوا عني في كل مكان مدة ساعة كاملة.
فأكد صاحب المزرعة أنني قد سرقني لص، وأنني كنت بغير شك بهيمًا بليدًا لأنني تركت اللص يسرقني، ثم ربط إلى العربة فرسًا من خيوله وذهب إلى السوق وهو مغتاظ.
ولما رأيت أن كل واحد قد ذهب إلى عمله وأنه لم يعد يراني أحد إذا خرجت من مكمني، رفعت رأسي باحتراس ونظرت فيما حولي، فلما تيقنت أنني وحدي ذهبت وجريت إلى الطرف الآخر من المرج لكيلا يعرف أحد مكان اختفائي، وبدأت أنهق نهيقًا عاليًا بكل قوتي.
وجرى على أثر هذه الضجة سكان المزرعة.
فصاح الراعي: ها هو قد رجع.
فقالت سيدتي: من أين عاد الآن؟
فقال العربجي: من الجهة التي كان غائبًا فيها.
ولفرحي من تخلصي من السوق تقدمت إليهم، فاستقبلوني استقبالًا حسنًا ولاطفوني، وقالوا إنني حمار طيب لأنني تخلصت من أيدي اللصوص الذين كانوا في زعمهم سرقوني، وبالغوا في مدحي حتى خجلت لأنني في الحقيقة كنت أستحق الضرب لا الملاطفة.
وتركوني أرعى في المرج بهدوء وراحة، فأمضيت يومًا سعيدًا لولا ما كان ينغِّصه عليَّ من وخز الضمير بأنني أتعبت في ذلك اليوم سيدتي.
ولما عاد صاحب المزرعة وأخبروه بعودتي ارتاح واطمأن ولكنه كان في ريب مني، وفي اليوم التالي طاف حول المرج وتفقد بكل عناية الفتحات في جوانب الزريبة، وحين انتهى قال: إن هذا الحمار يكون نحيفًا جدًّا إذا استطاع أن يخرج من بين فتحات الحيطان، فإنني سددت كل فتحة بالحطب والقش حتى إنه صار من المتعذر أن تمر من تلك الفتحات قطة.
ومضى الأسبوع وهم لا يفتكرون فيما كان من غيابي يوم السوق، ولكنني في يوم السوق التالي عدت إلى تمثيل ذلك الدور الماكر، واختبأت في تلك الحفرة متعبًا كثيرًا وخائفًا جدًّا.
وبحثوا عني كما بحثوا في المرة الأولى ودُهِشوا، وظنوا أن لصًّا ماهرًا سرقني وجعلني أخترق سياج الزريبة.
وقال سيدي صاحب المزرعة بلهجة حزن وأسف: إن حمارنا اختفى هذه المرة نهائيًّا، ولا أظنه يستطيع النجاة مرة ثانية، إذ لا يمكن أن يعود من فتحات السور لأنني سددتها كلها سدًّا محكمًا.
وذهب إلى السوق في هذه المرة متنهدًا، وناب عني أيضًا في جر العربة واحد من خيوله.
وكما فعلت في المرة الأولى خرجت من الحفرة حين ذهب كل من كان قريبًا مني، ووجدت من حسن الرأي في هذه المرة ألا أعلن عن عودتي بالنهيق «هي هان!» كما فعلت في المرة الأولى.
ولما رأوني آكل البرسيم بهدوء واطمئنان في المرج، وحين علم سيدي أنني رجعت بعد ذهابه إلى السوق بغير تأخير؛ صرت أراهم يشكون في أمري، ولم أجدهم يلاطفونني كما فعلوا في المرة الأولى، وكانوا ينظرون إليَّ نظر الارتياب، ولاحظت جيدًا أنني أصبحت مراقبًا بحالة لم تكن من قبل، فاستهزأت بهم وقلت في نفسي: «أيها الأصحاب الأعزاء، لأنتم أشد مكرًا مني إذا أمكنكم أن تكتشفوا محل اختفائي، ولكنني سأريكم أنني أشد مكرًا وحيلة، وسأعود إلى الضحك عليكم ثانيًا وأستمر عليه دائمًا.»
واختبأت مرة ثالثة وأنا مسرور كل السرور بمهارتي، ولكنني لم أكد أنزل في حفرتي حتى سمعت نباحًا شديدًا من كلاب الحراسة، وسمعت أيضًا صوت سيدي يقول: «أوقعه وأمسك به، وانزل معه في الحفرة، وعضه في قوائمه، وجره يا كلبي العزيز، أحسنت وبوركت.»
وما لبث الكلب الخبيث حتى أطاع فيَّ سيده، فإنه نزل إليَّ في الحفرة ثم عض قوائمي وبطني، وكاد يفترسني لو لم أطاوعه في الخروج من الحفرة، ثم بادرت وجريت إلى الزريبة أبحث فيها عن طريق أفتحه لنفسي، ولكن كان صاحب المزرعة يرصدني فضربني بالكرباج وأوقفني حالًا وهو مسلح بكرباج يروِّعني به، واستمر الكلب يعضني وسيدي يزجرني، فندمت على ما كان من كسلي، ثم صرف سيدي كلبه وكفَّ عن الضرب، وربطني من رقبتي وجرني وأنا في غاية الخوف والألم إلى العربة التي كانت تنتظرني.
وعرفت من ذلك أن واحدًا من أولاده كان مكلفًا بالانتظار في الطريق بقرب سور الزريبة، لكي يفتح لي بابًا فيها إذا رآني عائدًا، ولكنه لما أبصرني خارجًا من الحفرة عَرَّف أباه المستبد.
فحقدت عليه ما ظننته خبثًا منه، ولكن الحوادث والتجارب ردتني إلى الحِلْم وجعلتني أعدل في الحكم عليه.
ومن ذلك اليوم أصبحوا قساة عليَّ وأرادوا أن يحبسوني في الزريبة، ولكنني وجدت لنفسي الطريق إذ كنت أقرض بأسناني أطراف السور، ثم أدخل في كل مكان وأخرج من كل ناحية كما أشاء.
فأقسم صاحب المزرعة أن يزجرني ويضربني، وصار حاقدًا عليَّ وصرت أنا أيضًا أشد حقدًا عليه، وشعرت أنني مهين من أجل تلك الخطيئة، ثم قارنت هذه الحياة التعسة بما كنت عليه من السعادة عند هؤلاء السادة، ولكني بدلًا من أن أكون صالحًا صرت أتمادى عندهم في العناد واللؤم؛ ففي ذات يوم دخلت إلى بستان الخضار فأكلت كل ما كان فيه من شجيرات السلطة، وفي يوم آخر ألقيت على الأرض ذلك الولد الذي كان دلَّ عليَّ حين خرجت من الحفرة، وفي مرة أخرى أكلت كل ما كان موضوعًا في إناء القشدة وكانوا يريدون استخراج الزبدة منها، وصرت أرفس الدجاج، وأدوس الأرانب، وأعض الخنازير، وانتهيت إلى أن ربة الدار تضايقت مني كثيرًا، ولم تعد تطيق النظر إليَّ، فطلبت من زوجها أن يبيعني في سوق «مامير»، وكان موعده بعد خمسة عشر يومًا.
ولكني كنت هزيلًا ضامرًا لما نالني من كثرة الضرب، وما عُوقِبت به من سوء الغذاء، ولكي يمكن أن يبيعوني بثمن طيب وضعوني في مكان موافق، وزادوا لي الغذاء الصالح، كما أوصى بذلك رجال المزارع المجاورة، ومنعوا الأطفال ورجال المزرعة من معاملتي معاملة سيئة، وصاروا يقللون شغلي ويكثرون طعامي، فصرت سعيدًا جدًّا في أثناء هذه الخمسة عشر يومًا، ثم أخذني سيدي إلى السوق وباعني بمائة فرنك.
فلما تركته هممت بأن أنتقم منه بأن أعضه في يده، ولكني خفت أن يسيء الظن بي الذين اشتروني، واكتفيت بأنني أعرضت عنه وأدرت له ظهري بحركة احتقار وازدراء.
الفصل السادس
المداليون١
لما باعني سيدي في السوق كما ذكرت في الفصل الماضي، اشتراني رجل وامرأة لهما بنت عمرها اثنا عشر عامًا، وهي دائمًا متألمة ومتضجرة، كانت تعيش وحدها في الخلاء لأنها لا تجد أحبابًا في سنها، وأبوها لا يهتم بها كثيرًا، وأمها التي تحبها لم تكن تحس بألمها من أنها لا تجد لها حبيبًا من الناس ولا من الحيوان.
ونظرًا لأن الطبيب كان وصف لها شيئًا من اللهو والرياضة، فكرت في أن النزهة على ظهر حمار تكفي للهو والتسلية، وكان اسم سيدتي الصغيرة هذه «باولين»، وهي دائمًا كئيبة وغالبًا مريضة مع أنها هادئة وطيبة وجميلة.
كانت تركب عليَّ كل يوم، فأمشي بها في الطرق المزهرة وحول الحدائق الصغيرة التي أعرفها. وفي أول الأمر كان خادم أو مربية ترافقها معي، ولكنهم لما رأوا أنني طيب أحسن الصحبة وأجيد العناية بها تركوها لي وحدي، وكانت تسميني «كديشون» فبقي لي هذا الاسم.
وسمعت والدها يقول لها: اذهبي مع كديشون، فالذهاب مع حمار كهذا لا خطر فيه، فإن له من العقل ما يشبه عقل الإنسان، وإنه دائمًا يعرف كيف يعود بك إلى المنزل.
ولذلك كنا نخرج دائمًا معًا، أنا وهي، فإذا لاحظت أنها تعبت من المشي كنت أقف بجانب رصيف مرتفع أو أنزل في حفرة صغيرة لكي تستطيع بسهولة أن تصعد على ظهري، ووصلت بها مرة إلى شجرة بندق مثمرة، وتأخرت أنا لكي أترك لها الفرصة لتجمع منها ما تشتهي. وكانت هي تحبني كثيرًا وتعتني بي وتلاطفني.
وإذا كان الجو رديئًا لا يحسن فيه الخروج، فإنها تجيء عندي في الإصطبل وتقدم إليَّ خبزًا وحشيشًا أخضر وأوراق خضار وكرنبًا، ثم تبقى معي وتخاطبني وهي تظن أنني لا أفهم كلامها، وتحدثني بما تشكو منه، ثم تبكي أحيانًا وتقول: «آهٍ يا كديشون الصغير المسكين، إنك حمار، ولا تستطيع أن تفهم كلامي، وأنت مع ذلك حبيبي الوحيد لأنني أستطيع أن أقول لك وحدك كل ما أفكر فيه. إن أمي تحبني، ولكنها تغار لأنها تريد ألَّا أحب غيرها، وأنا لا أعرف أحدًا من سني ولذلك أتضجر.» ثم تبكي باولين وتلاطفني.
وكنت أنا أيضًا أحبها وأرثي لها، وإذا كانت قريبة مني فإنني أجتهد ألَّا أتحرك خيفة أن أخدشها برجلي.
وذات يوم رأيتها تجري نحوي وهي فرحة مسرورة، تقول: «كديشون، انظر، أمي أعطتني «مداليون» من شعرها، وأنا أريد أن أضم إليه شيئًا من شعرك لأنك أنت أيضًا حبيبي، فأنا أحبك وسأجمع شعر كل من يحبونني كثيرًا في هذه الدنيا.»
ثم قصت من ناصيتي خصلة من الشعر، وفتحت «المداليون» وضمتها إلى شعر أمها.
فكنت سعيدًا برؤية مقدار حب باولين إياي، وكنت فخورًا بأن أرى شعري محفوظًا في «مداليون»، ولكن يجب أن أعترف بالحق فأقول: إنه لم يكن يحدث تأثيرًا حسنًا، إذ كان يظهر رماديًّا غليظًا خشنًا بجانب شعر أمها الناعم اللامع. ولم تلتفت إلى ذلك باولين، فكانت تقلب «المداليون» وتستحسن ما فيه في اللحظة التي دخلت عليها والدتها وقالت لها: ماذا تنظرين هنا؟
فقالت وهي تخبئ ما في يدها قليلًا: هذا هو «المداليون».
الأم: لماذا أحضرتيه هنا في الإصطبل؟
باولين: لأجل أن يراه كديشون.
الأم: ما هذه الحماقة يا باولين؟! كأن عقلك ذهب مع حمارك كديشون، أو كأنه يفهم معنى وجود الشعر في المداليون.
باولين: أؤكد لك يا والدتي أنه يفهم ذلك، لأنه لحس يدي حين … حين … وخجلت باولين أن تكمل فسكتت.
الأم: حين ماذا؟ ولمَ لمْ تكملي كلامك؟ ولماذا كان كديشون يلحس يدك؟
باولين (وهي متضايقة): أفضل يا ماما ألَّا أقول لكِ، فإنني أخشى أن تعنفيني.
الأم (وهي متأثرة): قولي لأرى أي حماقة أخرى جئت بها؟
باولين: ليست حماقة يا ماما.
الأم: إذن فلماذا تخافين؟ أنا أظن أنك أعطيت كديشون مقدارًا من الشعير يجعله مريضًا
باولين: لا، أنا لم أعطه شيئًا.
الأم: اسمعي يا باولين، لقد نفد صبري، وأحب أن تقولي لي ماذا فعلتِ، ولماذا أنتِ تركتني منذ نحو ساعة وجئت إلى هنا.
وفي الواقع فإنها صرفت زمنًا طويلًا في تسوية ما قصته من شعري، واقتضى ذلك أن تنزع الورقة المصمغة وراء المداليون وتخلع الزجاجة، وتضع الشعر ثم تعيد لصقها.
وتوقفت باولين ثانيًا لحظة، وقالت بصوت خافت وهي مترددة: أنا قطعت خصلة من شعر كديشون لأجل …
الأم (وهي نافذة الصبر): لأجل … أتمي كلامك، لأجل ماذا؟
باولين (بصوت خافت جدًّا): لأجل وضعها في المداليون.
الأم (بغضب شديد): في أي مداليون؟
باولين: في المداليون الذي أعطيتني إياه.
الأم (وهي غاضبة): وماذا صنعت بشعري؟
باولين: هو في المداليون أيضًا، وها هو. (ثم قدمت المداليون.)
الأم: شعري تخلطينه بشعر الحمار؟! آهٍ، هذا شديد جدًّا لا أحتمله.
أنت لا تستحقين الهدية التي أهديتها إليك، أتجعلينني في منزلة واحدة مع الحمار، وتعطين الحمار نفس الانعطاف الذي لي عندك؟!

الطفلة وأمها تنتزع منها المداليون وتلقيه على الأرض والحمار يطل على ذلك باكيًا.
ثم انتزعت المداليون من يد الطفلة المسكينة ورفعته بيدها فوق رأسها وألقته على الأرض، وباولين مبهوتة، ثم وقفت فوقه وكسرته قطعًا صغيرة، وبدون أن تنظر إلى بنتها خرجت من الإصطبل وأغلقت الباب بحدة وعنف.
وخافت باولين من هذا الغضب القاسي، ومكثت برهة لا تتحرك وأجهشت بالبكاء، وألقت نفسها على عنقي وقالت لي: كديشون، كديشون، أنت ترى كيف يعاملونني! هم لا يريدون أن أحبك، ولكنني أحبك على رغمهم، وأكثر منهم، لأنك أنت طيب، وأنت لم تعنفني أبدًا، ولم تسبب لي شيئًا من الكدر، وأنت تسعى في رضاي كلما خرجت للتنزه، وا أسفاه يا كديشون! وما أشد حزني لأنك لا تستطيع أن تفهم كلامي ولا أن تخاطبني! كم عندي من الكلام الذي أريد أن أقوله لك!
ثم سكتت وألقت نفسها على الأرض، واستمرت تبكي وتنتحب، فتأثرت وحزنت لبكائها، ولكنني لم أستطع أن أعزيها، ولا أن أعرفها أنني فاهم ما تقول.
ووجدت في نفسي غضبًا شديدًا على هذه الأم التي سببت هذا الحزن لبنتها بحماقة أو بفرط الشفقة، ولو استطعت لأفهمتها مقدار الشجن والأسى الذي جلبتْه إلى باولين، والضرر الذي أحدثته في صحتها الضعيفة، وفي هذا المزاج الرقيق، ولكنني لا أقدر على الكلام، ولذلك كنت أنظر بعطف شديد الدموعَ التي تذرفها هذه الطفلة.
مضى على ذهاب والدتها نحو ربع ساعة، ثم دخلت مربية باولين ونادتها: إن أمك تدعوك وهي لا تريد أن تبقي هنا في إصطبل كديشون، بل هي تريد ألَّا تدخليه أبدًا.
فصاحت قائلة: كديشون، عزيزي كديشون، هم لا يريدون أن أراك.
فأجابتها: هكذا قالت أمك، وأزيدك أنها تقول إنك بعد انتهاء الفسحة فإن مكانك يكون في الصالون وليس في الإصطبل.
فلم تعارض باولين لأنها تعلم أن أمها تريد أن تكون مطاعة الأمر، ثم عانقتني للمرة الأخيرة، وكنت أحس دموعها تجري على عنقي، ومضت ولم تعد إلى الإصطبل بعد هذه المرة.
ومنذ ذلك الوقت صارت الطفلة أكثر حزنًا وأشد تألمًا، وكنت أرى لونها يصفرُّ ويتغير، وجسمها ينحف ويهزل، ونضارتها تذبل.
وجاء فصل الشتاء، فكانت مدة رياضتها قليلة ونادرة.
وإذا قربوني من رصيف القصر تركب على ظهري دون أن تكلمني، ولكن إذا صرنا بعيدًا عن الأنظار فإنها تنزل عني وتداعبني، وتقص عليَّ كل ما كان يشغلها في تلك الأيام، وهي تحسب أنني أستطيع أن أفهم كلامها.
وهكذا فهمت أن أمها كانت دائمًا متغيرة عليها وناقمة منها حادثة المداليون، وأن باولين من جرَّاء ذلك كانت تزداد حزنًا عما كانت عليه، وأن مرضها الذي كانت تشكو منه صار أشد خطرًا عليها.
١ Médaillon
الفصل السابع
الحريقة
لم أكد أبدأ في النوم ذات ليلة حتى أيقظني صراخ وأصوات تنادي: الحريق! الحريق! فدعاني الخوف والاضطراب إلى التملص من اللجام الذي كنت مربوطًا به، ولكني حاولت عبثًا، وكانت تدور بي الأرض، لأن ذلك اللجام كان متينًا لا يُقطَع. وأخيرًا اهتديت إلى فكرة حسنة هي أن أقرضه بأسناني، فظفرت بذلك بعد مجهود غير قليل.
وكان لهيب نار الحريق يضيء ما حولي في الإصطبل، وازداد الصراخ وعلا الضجيج، ثم سمعت أصوات الخدم وسقوط الحيطان وطقطقة الأخشاب وملأ الدخان الإصطبل ولم يفكر فيَّ أحد، ولم يخطر في بال أحد شيء عني، ولا فكرة يسيرة بفتح باب الإصطبل لأخرج منه.
وازداد اللهيب شدة وأحسست بحرارة لاذعة.
فقلت في نفسي: لقد قُضِي الأمر وجرى القضاء بأن أموت محترقًا هذا الموت الفظيع، وتذكرت عزيزتي باولين وقلت: يا سيدتي العزيزة، لقد نسيتِ خادمك المسكين كديشون.
ولم تكد تخطر في بالي هذه الكلمة دون أن أنطق بها حتى فُتِح الباب عليَّ بقوة وسمعت صوت باولين وهي تقول: «يسرني أنك نجوت»، فتقدمت نحوها واجتزنا الباب أنا وهي. في لحظة اضطرنا فيها صوت قرقعة السقوف إلى التقهقر، وكانت الأنقاض تملأ كل الممر، وكادت سيدتي الصغيرة تعرض نفسها للخطر بسبب إنقاذي، وأوشكنا أن نختنق من شدة الدخان وتراكم الغبار وهول الحرارة.
وسقطت باولين على الأرض بجانبي، فابتدرت حركة خطرة ولكن فيها وحدها النجاة لنا، فقبضت بأسناني على ثوب سيدتي الصغيرة التي كانت كالمغمى عليها، واقتحمت الممر الذي كان ممتلئًا بالأنقاض الملتهبة التي تغطي الأرض، وكان من حسن حظي أنني استطعت أن أجتاز الممر بدون أن تعلق النار بثيابها. ثم توقفت لأنظر من أي جهة أستطيع أن أسير، وكل ما كان حولنا كان يحترق، ومع أنني كنت يائسًا متضعضعًا من الخوف والاضطراب، فإنني وضعت باولين التي كانت غائبة عن صوابها إلى الأرض وذلك حين لمحت كهفًا مفتوحًا، فتقدمت إليه مطمئنًّا إلى أننا صرنا في مأمن.
فألقيت باولين بجانب وعاء مملوء بالماء لكي تستطيع أن تبل وجهها حين عودتها إلى صوابها، ومن حسن الحظ أنها أفاقت بسرعة.
فلما وجدت نفسها قد نجت، وأنها صارت في مأمن من كل خطر، جثت على ركبتيها وصارت تصلي بخشوع تامٍّ شكرًا لله على النجاة من ذلك الخطر الهائل، ثم التفتت إليَّ برقة واعتراف بالجميل أثَّرا في نفسي كل التأثير.
وشربت قليلًا من الماء وأنصتت، وكانت النار لا تزال متقدة، وكنا نسمع صراخًا وأصواتًا مبهمة دون أن نستطيع تمييز الأصوات.
فقالت باولين: مسكين أبي! ومسكينة أمي! فإنهما سيعتقدان أنني هلكت في سبيل تخليص كديشون مخالِفة أمرهما في التوجه إليه والبحث عنه، فالآن يجب انتظار انطفاء النار. ثم قضينا الليل كله في الكهف، وقالت باولين: إنك طيب يا كديشون، فإنني بك وحدك صرت عائشة، ولم تزد على هذا القول. وكانت جالسة على صندوق متكسر، ورأيت أنها نامت، وكان رأسها مستندًا على برميل فارغ. وأحسست أنا بالتعب وكنت عطشان فشربت الماء الذي كان في ذلك الوعاء، وتمددت بجانب الباب ولم يطل عليَّ الوقت حتى أخذني النوم أيضًا.
واستيقظت ساعة الفجر، وكانت باولين لا تزال نائمة، فأيقظتها بتلطف، وذهبت إلى الباب وفتحته، ونظرت فرأيت كل شيء محترقًا، ورأيت كل شيء منطفئًا، وكان من الممكن اجتياز الطريق والوصول إلى خارج المنزل، ولأجل إيقاظ سيدتي العزيزة همهمت «هي! هان!» ففتحت عينيها ورأتني بجانب الباب، فجرت ونظرت فيما حولها، ثم قالت بحزن: كل شيء قد احترق، وكل شيء قد فُقِد، فلست أعود أرى المنزل فإنني سأموت قبل إعادة بنائه، وهذا ما أشعر به فإنني ضعيفة ومريضة مرضًا شديدًا كما تقول أمي عني.
ثم بعد أن استمرت تفكر مدة وهي لا تتحرك نادتني قائلة: تعالَ يا كديشون، ولنخرج الآن، ومن الواجب أن أرى أبي وأمي لأجل أن يطمئنَّا عليَّ فإنهما يظنان أنني مت.
ومرت بخفة على الحجارة الساقطة والحوائط المتكسرة والكتل التي لا تزال مدخنة، وتبعتها فوصلنا إلى خضرة الحديقة، وهناك صعِدتْ على ظهري واتجهت إلى القرية، ولم يطل علينا الوقت حتى أدركنا المنزل الذي هاجر إليه أهل باولين وهم يظنون أنها احترقت فكانوا لذلك في حزن شديد، فلما أبصروها صاحوا صيحة السرور وأقبلوا عليها فرحين، فَقَصَّتْ عليهم كيف أنني بأي ذكاء وبأي شجاعة عملت على إنقاذها.
وبدلًا من أن يتقدموا إليَّ بشكر، فإن أمها نظرت إليَّ نظرًا شزرًا، أما أبوها فلم ينظر إليَّ أدنى نظر.
وقالت لها أمها: من أجل هذا الحمار كاد يدركك الخطر يا عزيزتي، فلو لم تأخذك حماقة الرغبة في فتح باب الإصطبل لتخليصه لكان توفر علينا الهم الطويل والحزن الشديد في الليلة الماضية التي قاسيناها بحزن أنا وأبوك.
ولكن باولين أسرعت فأجابت: ولكن هو الذي … فبادرتها أمها وقالت: اسكتي، اسكتي، ولا تحدثيني عن هذا الحيوان الذي أبغضه كثيرًا لأنه كاد يسبب لك الموت.
فتنهَّدت باولين ونظرت إليَّ وهي متألمة وسكتت.
ومنذ ذلك اليوم لم أعد أراها، فالاضطراب الذي سببته الحريقة والتعب الذي أصابها في ليلة لم تذقْ فيها طعم الراحة والنوم، وخصوصًا ما أصابها من رطوبة الكهف؛ كل ذلك ضاعف أسباب الألم الذي كانت تشكو منه من زمن، واستولت عليها الحمى منذ الصباح ولم تفارقها، ووضعوها على سرير لم تنزل عنه، وأكمل برد الليلة الماضية الألم والضجر اللذين استوليا عليها، وكانت مريضة بذات الصدر فاشتد عليها المرض ولم تلبث شهرًا حتى ماتت غير آسفة على الحياة ولا خائفة من الموت، وكانت تتحدث عني كثيرًا وتناديني وهي في بُحْرَان الحمى.
ولم يعد أحد يسأل عني ولا يعتني بي، فكنت آكل ما أجد لا ما أشتهي، وأنام في العراء مع شدة البرد والمطر.
ولما رأيت نعش سيدتي العزيزة وهم يخرجون به من المنزل تملَّكني الأسى والحزن، فتركت البلد ولم أعد إليها من ذلك الوقت.
الفصل الثامن
سباق الحمير
كنت أعيش عيش البؤس بسبب رداءة الجو، واخترت لي مأوى في الغابة التي وجدت فيها ما يمسك الرمق، ويحول بيني وبين الموت جوعًا وظمأً.
ولما جمدت الأنهار من البرد، كنت أتغذى بأكل الثلج وقرض الحشائش وأنام تحت أشجار الصنوبر، وكنت أقارن هذا العيش الضنك بالنعيم الذي كنت ألقاه عند سيدي جورج، بل بالحالة التي كنت عليها عند صاحب المزرعة الذي باعني، فلقد كنت عنده سعيدًا كلما نبذت الكسل وتباعدت عن اللؤم وعيب الانتقام، ولكن ليس لي وسيلة للتخلص من هذا البؤس لأنني أحب أن أبقى حرًّا متصرفًا وحدي في أعمالي.
وكنت أحيانًا أقترب من بعض القرى المجاورة للغابة لأطَّلع على ما يجري في هذا العالم.
وجاء الربيع وهو خير الفصول، فدُهِشْت لأنني رأيت حركة غير عادية، وكان يلوح على القرية مظهر العيد، والناس يمشون جماعات، وكان كل واحد يلبس ملابس الأعياد والآحاد، والذي زاد دهشتي أنني رأيت جميع حمير البلد مجتمعة.
وكان لكل حمار قائد يمسكه بلجام، والحمير كلها نظيفة ممشَّطة، وبعضها كان يزدان رأسه وعنقه بالورد والأزهار، ولم يكن واحد منها يحمل فوق ظهره بردعة.
فقلت: هذا غريب، فليس اليوم يوم سوق، وماذا تصنع هنا جميع هذه الحمير المنظفة المزخرفة، التي يظهر عليها أنها قد غُذِّيَتْ أحسن غذاء في هذا الشتاء؟ ولما فرغت من هذه الكلمة نظرت إلى ظهري وبطني وأفخاذي وكلها نحيف، والشعر غير ممشَّط والوبر متكسِّر، ولكنني كنت أشعر في نفسي بالقوة والحزم.
فاقتربت لأرى ما شأن هذه الحمير المجتمعة، فرأيت الغلام الذي يمسكها وقد تبسم حين لمحني، ثم قال: انظروا يا إخواني الحمار الذي قدم إلينا هل هو ممشَّط؟ فقال آخر: وهل هو مُعْتَنًى به؟ وهل هو جيد الغذاء؟ وكيف مع ذلك يحضر السباق؟
وقال ثالث متهكمًا: وَمَنْ يدري؟ فلندعه يجري ويسابق فليس علينا خطر إذا فاز بالجائزة …
فضحك الجميع من هذا القول، وساءني استهزاؤهم بي، وفهمت أنهم على عزم مسابقة بين الحمير، ولكن كيف تحصل وأين تكون؟ هذا الذي كنت أطمع في معرفته، فاستمررت مصغيًا لكلامهم وتظاهرت بأنني لم أفهم شيئًا مما قالوا.
وسأل واحد منهم: هل جاء وقت السباق؟
فقال الآخر: لا أدري، ولكنهم ينتظرون العمدة.
وجاءت امرأة فقالت: أين يكون مجرى الحمير؟
فأجابها جانون: محل السباق في مرج الطاحون الواسع أيتها الأم ترانشيه.
فسألته: كم عددكم من الحمير هنا؟
فأجاب: نحن ١٦، وأنت غير داخلة في هذا العدد.
وتجدد الضحك منهم لهذه السخرية في الإجابة.
فقالت ضاحكة: إنك خبيث. وماذا يستفيد الذي يجيء في السبق أولًا؟
فأجاب: لذة الظفر، ثم جائزة ساعة من الفضة. فقالت: لقد كان يسرني كثيرًا أن يكون لي حمار فأطمع في الحصول على الجائزة، ولكني لا أملك من الدنيا ما أقتني به حمارًا.
فضحك جانون وقال: كأنك تحسبين أن مجرد وجود حمار لك يكفي للظفر والفوز بالجائزة! وتضاحك رفاقه جميعًا.
فقالت هي: كيف تظن أن يكون لي حمار؟ وهل أنا أستطيع أن أطعمه وأن أدفع ثمنه؟
أما أنا فلما رأيتهم يتكلمون هكذا عن الحمير، وسمعت كلام الأم ترانشيه وتمنيها أن يكون لها حمار لتفوز بالجائزة؛ مِلْتُ إليها وأعجبني منها أن عليها سِيمَا اللطافة وحسن الخلق، فخطر في بالي أن أعمل لكي تفوز هي بالساعة الفضية.
وكنت قد تعودت الجري السريع في الغابة، وقطعت في السير أشواطًا بعيدة لكي أستدفئ بالجري من شدة البرد، ولذلك استطعت أن أكون قادرًا على الجري، وعلى الاستمرار فيه والصبر عليه كالحصان.
وقلت في نفسي: سنرى ولنجرِّب، وإنني إذا لم أظفر بالجائزة فلا أخسر شيئًا، وإذا ربحت فقد ساعدت الأم ترانشيه على الحصول على الساعة التي أظهرت رغبة في الفوز بها.
ولذلك تقدمت بخطوات معتدلة ووقفت بجانب الحمار الأخير، وزهوت وانتفخت كبرًا ونهقت بحدة.
فاحتد أندريه وقال مغتاظًا: ألا تريد أن تنتهي من هذا النغم الذي لا يُطْرِب أيها الحمار القذر؟ إنك لست نظيف الشعر، ولا تستطيع الجري، وإنك لا صاحب لك.
فكدت أختنق من الغيظ، ولكني لم أتحرك ولم أغادر مكاني، وصار بعضهم يضحك وبعضهم يغضب، ثم تشاجروا حين صاحت الأم ترانشيه: إذا لم يكن لهذا الحمار صاحب فإنه سيكون له صاحبة، وأنا قد عرفته الآن فهو كديشون، حمار المسكينة مدموازيل باولين، فإنهم طردوه منذ غابت عن المنزل، ولم يكن له فيه مَنْ يرحمه، وأنا أظن أنه قد قضى طول هذا الشتاء في الغابة لأنه لم يره أحد منذ وفاة تلك الطفلة.
ولذلك أنا آخذه منذ اليوم في خدمتي، وهو سيجري اليوم في السباق لأجلي.
ولما سمعوا هذا القول صاحوا من كل جانب: إذا كان هذا كديشون، فإننا قد سمعنا كثيرًا عن شهرته وفراهته.
وقال جانون: إذا شئتِ أيتها الأم أن يجري في السباق لأجلك، فلا بد أن تشتركي في المسابقة بأن تضعي في كيس عند العمدة قطعة فضية من النقود قيمتها نصف فرنك.
فأجابت الأم ترانشيه: بكل ارتياح يا أولادي، ها هي قطعتي. وحلت عقدة في طرف منديلها، ثم قالت: ولكن هل يُطلَب مني غيرها، لأنه ليس معي كثير من نوعها؟
فقال جانو: أنت إذا ربحتِ الجائزة فلن يضيع عليك ما دفعته، لأن كل سكان القرية اشتركوا في السباق، ووضعوا في هذا الكيس أكثر من مائة فرنك.
واقتربت أنا من الأم ترانشيه، ثم درت دورة، وقفزت قفزة، ورفست برجلي في الهواء رفسة قوية، أثرت في الأطفال وجعلتهم يظنون ويخشون أنني سأكون السابق.
فقال جانون لأندريه بصوت خافت: إنك أخطأت إذ جعلت الأم ترانشيه تضع قطعتها في الكيس، فذلك أعطاها حقًّا في دخول كديشون في المسابقة، وأنا أكاد أراه فائزًا بالجائزة، وأتوهمه قد حرمنا جميعًا الفوز بالساعة وكيس النقود.
فأجاب جانو: إنك أبله، كأنك لا ترى وجهه، أنا أظن هذا المسكين كديشون سيكون سببًا لضحكنا لأنه لا يستطيع أن يذهب بعيدًا.
فقال أندريه: أنا لا أدري، ولكن أفضل أن أقدم له شيئًا من الشعير لكي يأكله ويذهب فنستريح منه.
فأجاب جانو: والنصف فرنك الذي دفعته الأم ترانشيه؟
فقال أندريه: إذا ذهب الحمار نرد لها ما دفعته.
وقال جانو: ومع ذلك فإن الحمار ليس ملكًا لها، ولا لي ولا لك، فاذهب فأعطه وجبة من الشعير ودعه يذهب، وحاذر أن تراك الأم ترانشيه.
وسمعت أنا كل ما تحاوروا به وتحققته حين أبصرت أندريه قادمًا إليَّ ومعه الشعير يحمله في «مريلته»، فبدلًا من أن أقترب منه لتناول ما معه اقتربت من الأم ترانشيه التي كانت تتحدث مع بعض معارفها، فتبعني أندريه وأخذ جانو برأسي وشدني من أذنيَّ ولوى رأسي نحو الشعير وهو يظن أنني لم أره، ولكنني وقفت ثانيًا ولم أتحرك مع شدة رغبتي في الطعام، وبدأ جانو يسحبني وأندريه يدفعني فأخذت أنهق بكل صوتي الجميل.
فالتفتت الأم ترانشيه وأدركت فعلة جانو وأندريه، فقالت لهما: ليس جميلًا ما تصنعانه هنا يا ولديَّ، وما دمتما قد كلفتماني أن أدفع نصف الفرنك فهل يجوز أن تُبعِدا كديشون عن المسابقة؟ وهل أنتما تخافان من نجاحه؟
فقال أندريه: أنخاف مِنْ مثل هذا الحمار؟ كلا، نحن لا نخافه.
فأجابت: إذن فلماذا تسحبانه لتبعداه؟
فقال أندريه: ذلك لأجل إعطائه وجبة من الطعام.
فأجابت بتهكم: لا بأس إذن، وهذا حسن، فضع له الشعير على الأرض ليأكل على رغبته، وأنا كنت مخطئة حين ظننت أنكما تؤذيانه.
فخجل الطفلان، وكانا غاضبين ولكنهما لم يستطيعا إظهار الغضب، وضحك رفقاؤهما لأن حيلتهم انكشفت، وكانت الأم ترانشيه تفرك يديها، أما أنا فكنت مسرورًا وأكلت الشعير بِشَرَه، وشعرت بأنني زدت قوة بعد أكله، وكنت راضيًا عن الأم ترانشيه. ولما فرغت من الطعام صرت قليل الصبر على ابتداء المسابقة متشوقًا لتعجيلها.
وأخيرًا حدثت ضجة، وجاء العمدة فأمر بترتيب الحمير وصفِّها صفًّا واحدًا، فوضعت نفسي في الآخر تواضعًا.
ولما ظهرت وحدي قال بعض الناس: لمن هذا الحمار، ومن صاحبه؟
فأجاب أندريه: ليس هو لأحد.
فصاحت الأم ترانشيه: بل هو لي.
فقال العمدة: يجب أن تدفعي رسم المسابقة في الكيس.
فأجابت: لقد دفعت يا سيدي العمدة.
فقال العمدة: حسنًا، والتفت إلى الكاتب ليسجل اسمها.
فأجاب الكاتب: لقد تم ذلك من قبل يا سيدي العمدة.
فقال العمدة: هل أنتم مستعدون؟ ثم صاح: واحد، اثنان، ثلاثة، سيروا! فأرخى كل الغلمان لُجُم الحمير، وضرب كل واحد حماره سوطًا شديدًا فجرت الحمير كلها. وكان هذا إذنًا منه بالسباق.
ومع أنه لم يقدني أحد للجري، فإنني انتظرت دوري للبدء في المسير بشرف، واقتضى ذلك أن كل الحمير تقدمتني قليلًا في ابتداء السير، ولكنها لم تكد تبلغ نحو مائة خطوة حتى أدركتها، وها أنا سبقت وأصبحت في مقدمة هذا القطيع.
فصاح الغلمان وأعملوا سياطهم في ظهور الحمير يستحثونها على الجري السريع لأجل اللحاق بي وسبقي، وكنت في أثناء ذلك أدير رأسي نحوهم لأرى امتعاض وجوههم من التأخر، ولكي أتلذذ بسبقي لهم وأضحك من جهودهم الضائعة في إدراكي. ولكنهم تحمسوا كثيرًا إذ رأوني بعيدًا عنهم وأنا أضعفهم جسمًا وهم أحسن مني منظرًا، فضاعفوا جهدهم لإدراكي وسبقي، وسمعت ورائي صيحات وحشية مزعجة، وقرب مني حمار جانو. وكان يمكنني أن أستعمل لأجل السبق ما استعملوه من الطرق، ولكنني احتقرت تلك المناورات السخيفة، ورأيت أنه يلزمني ألَّا أهمل شيئًا لكيلا أكون مقهورًا، فسبقت منافسي بمسافة بعيدة، وفي تلك اللحظة التي أسرعت في سبقه فيها قبض بأسنانه على ذيلي وعضني، واضطرني الألم إلى السقوط على الأرض، ولكن شرف الفوز بالسبق شجعني على التخلص من أسنانه، ولو أنني تركت فيها قطعة من لحمي وشعري. والرغبة في الانتقام منه أعارتني خفة الأجنحة فجريت بسرعة فائقة، فوصلت إلى نهاية خط المسابقة، ولم أكن الأول فقط بل تركت ورائي بمسافة طويلة جميع مَنْ ينافسني في السباق.

كديشون في سباق الحمير وهو سابق والناس يتفرجون. (وفي اللحظة التي سبقته فيها قبض على ذيلي بأسنانه وعضني.)
فكنت مجهودًا متعبًا، ألهث من شدة التعب، ولكني كنت سعيدًا بالفوز، وكنت أسمع بلذة وابتهاج تصفيق ألوف من المشاهدين الذين كانوا يحيطون بالمرج الذي جرت فيه المسابقة.
فوقفت وقفة الظافر، واتجهت بأبهة نحو مكتب العمدة الذي استعد لإعطاء الجائزة، فتقدمت نحوي الأم الطيبة ترانشيه ولاطفتني، ووعدتني بكمية كبيرة من الشعير، وبسطت يدها لاستلام الساعة وكيس النقود حين هَمَّ العمدة بإعطائهما إليها، وفي هذه اللحظة رأينا أندريه وجانو يجريان ويصيحان وهما مقبلان على العمدة: تمهل يا سيدي العمدة، تمهل فليس هذا عدلًا، لأن هذا الحمار لا يعرفه أحد، وهو لا يخص الأم ترانشيه إلا ادعاء لأول نظرة، فهذا الحمار لا يعد في المسابقة، والذي جاء أولًا في السباق هو حماري مع حمار جانو، فالساعة والكيس يجب أن يكونا لنا.
فسأل العمدة: أليست الأم ترانشيه قد وضعت في الكيس قطعة النقود؟
– نعم يا سيدي العمدة، ولكن …
– هل عارض أحد حين وضعت القطعة في الكيس؟
– لا يا سيدي العمدة، ولكن …
– هل في وقت السير في المسابقة حصلت منكما معارضة؟
– لا يا حضرة العمدة، ولكن …
– إذن فحمار الأم ترانشيه قد فاز بحق بجائزة الساعة والكيس.
فصاحوا معترضين: يا حضرة العمدة، اجمع أعضاء المجلس المحلي للفصل في الموضوع، فإنه ليس لك وحدك حق الاستئثار بالفصل فيه.
وتردد العمدة، فلما رأيته متوقفًا قبضت بحركة عنيفة بأسناني على الساعة والكيس، ووضعتهما بلطف بين يدي الأم ترانشيه، التي كانت منتظرة رأي العمدة وهي مضطربة قلقة جازعة.
ولكن هذه الحركة جذبت الجمهور نحوي، وسمعت على أثرها ضجة التصفيق والاستحسان.

الأم ترانشيه وهي تستلم الجائزة بحضور العمدة (فقبضت على الساعة والكيس بأسناني ووضعتهما بين يدي الأم ترانشيه).
فقال العمدة وهو ضاحك: انتهى الفصل في الموضوع بواسطة الفائز نفسه لجانب الأم ترانشيه. ثم التفتَ إلى أعضاء المجلس فقال: هلموا نبحث حول المائدة هل كان من حقي أن أنصف هذا الحمار أم لا! ثم أضاف باستهزاء قوله وهو ينظر إلى أندريه وجانو: أنا أظن أن أغبى الحمير بيننا ليس هو حمار الأم ترانشيه! فصاح الناس من كل جانب: أحسنت يا حضرة العمدة.
واستمر الناس يضحكون ما عدا أندريه وجانو، فإنهما ذهبا وهما يهددان بقبضة يديهما وينظران إليَّ شزرًا.
أما أنا فهل كنتُ مسرورًا؟ كلا، فقد جرح العمدة كبرياء نفسي حين كان في نظري بعيدًا عن الأدب، إذ وصف نوع الحمير بالغباوة في تهكمه على أندريه وجانو، فكان ذلك منه جحودًا وظلمًا.
ولقد كنت في هذه المسابقة شجاعًا صبورًا ذكيًّا، فانظروا كيف كانت مكافأتي؟ حتى إن الأم ترانشيه شغلها الفرح بالحصول على الساعة والكيس، فنسيت مَنْ أحسن إليها وأوصل إليها هذه الجائزة، ولم تحقق لي وعدها بإعطائي مقدارًا من الشعير كنت أرجوه بعد وعدها، ثم تركتني وانصرفت إلى محادثة الجمهور بدون مكافأتي على الربح الذي فازت به على يديَّ وبفرط جهدي.
الفصل التاسع
الأصحاب الصالحون
وقضى الله بعد كل ذلك أن أبقى وحدي في المرج فكنت محزونًا، وكان ذيلي المجروح من عضة حمار المسابقة يؤلمني.
ثم شعرت فجأة بيد ناعمة تلاطفني، وسمعت صوتًا جميلًا يخاطبني ويقول: مسكين يا هذا الحمار! إنهم عاملوك بقسوة، تعالَ عند جدتي فإنها تطعمك وتعتني بك أحسن من أولئك الأصحاب القساة، مسكين أنت! ما أشد نحافتك!
فالتفتُّ فرأيت طفلًا جميلًا عمره خمس سنوات، ورأيت أخته التي تزيد عنه ثلاث سنوات وهما يسيران مع مربيتهما.
فقالت روز تخاطب أخاها جاك: ماذا قلتَ لهذا الحمار المسكين؟
فأجاب: قلت له يحضر ليقيم عند جدتنا، لأنه يعيش هنا وحده، وهو بائس.
فقالت أخته: نعم نأخذه، انتظر، أنا أريد أن أركب على ظهره، يا دادتي ساعديني على ركوب الحمار.
فساعدتها المربية، واطمأنت روز على ظهري.
وأراد جاك أن يقودني فلم يكن لي لجام يمسك به.
فقال للمربية: انتظري، سأربط منديلي في رقبته بدل اللجام، وحاول جاك أن يلف منديله حول عنقي ولكنه كان صغيرًا لا يحيط به، فأعطته الدادة منديلها وكان أيضًا صغيرًا لا يكفي.
فكاد جاك يبكي لأنه لم يجد ما يستطيع أن يقودني به، وقال للمربية: ما العمل إذن؟
فأجابته: لنذهب أولًا إلى القرية نطلب لجامًا أو حبلًا، هلمي فانزلي يا روز. ولكن روز تعلقت برقبتي وقالت: لا، أنا لا أريد النزول، أنا أحب أن أبقى فوق ظهره حتى يوصلني إلى المنزل.
فأجابت المربية: كيف ذلك وليس معنا لجام نقوده به؟ وانظري فإنه واقف لا يتحرك كأنه حمار من خشب.
فقال جاك: انتظري يا دادتي وسترين، فأنا أعرف أن اسم هذا الحمار كديشون كما أخبرتني الأم ترانشيه، وها أنا سألاطفه وأقبله وأظنه بعد ذلك سيتبعني بغير لجام.
واقترب مني جاك، وقال لي في أذني بصوت خافت: امشِ يا كديشون، أرجوك أن تمشي؟
فتأثرت بما بدا من هذا الطفل من الثقة بي، ولاحظت أنه بدلًا من أن يطلب عصا يضطرني بها إلى التقدم فإنه فكر في طريقة ودية طيبة، ولذلك لم يكد يتم كلمته السابقة حتى أخذت أسير أمامهم.
فقال جاك: أرأيتِ يا دادتي، إنه يفهم كلامي، وهو يحبني؟ وكان مبتهجًا، وقد احمرَّ وجهه ولمعت عيناه فرحًا، ثم تقدمني ليعرِّفني الطريق، فقالت الدادة: هل تظن أن حمارًا يفهم شيئًا؟ إنه مشى لأنه ملَّ الوقوف هنا، فأجاب جاك: ولكن أنت ترين أنه يتبعني!
فقالت الدادة: ذلك لأنه يشم الخبز الذي في جيبك.
فقال جاك: أتحسبين أنه جائع؟
فأجابت: بغير شك! ألا ترى أنه في غاية النحافة؟
فقال جاك: هذا صحيح، يا كديشون المسكين! وأنا لم أفكر في إعطائه ما معي من الخبز. ثم أخرج من جيبه قطعة الخبز التي أعطتها له الدادة لطعامه في هذه النزهة، وقدمها إليَّ بيده اللطيفة.
ولكنني كنت ممتعضًا من كلام الدادة وظنِّها أنني لم أمشِ إلا تطلعًا إلى ذلك الخبز، فراق لي أن أثبت لها أنها لم تكن على صواب حين ظنت بي هذا الظن، وأن أؤكد لها أنني لم أحمل روز على ظهري إلا تلطفًا وتوددًا.
ولذلك رفضتُ تناول الخبز الذي قدمه إليَّ جاك، واكتفيتُ بأن ألحس يده.
فقال جاك: يا دادة، انظري! فإنه يقبل يدي، ولا يرضى قبول خبزي، فما أحسن طبعك يا كديشون! وما أحقك بالحب! أنت ترين الآن يا دادة أنه يتبعني لأنه يحبني، وليس لأن معي قطعة من الخبز.
فأجابت الدادة: لك رأيك إذا كنت ترى في حمار ما لا يراه الناس حتى تحسبه مثالًا! حسنًا، أما أنا فإنني أعرف أن كل الحمير أهل عناد وخبث ولذلك لا أحبها.
فقال جاك: كلا يا دادة، كديشون هذا ليس خبيثًا، انظري كيف هو طيب معي.
فقالت: سترى إذا كان هذا يدوم منه.
فالتفت إليَّ جاك، وقال بتلطف: أنت يا كديشون ستكون طيبًا لي وللدادة، وستستمر على هذا، أليس كذلك؟
فأدرت رأسي نحوه، ونظرت إليه نظرة حنو أدركها مع حداثة سنه، ثم أدرت رأسي نحو المربية وألقيت عليها نظرة جفاء حادة أحست بها، ولذلك قالت: ما أقسى نظرته! إن عليه سيماء اللؤم، فإنه ينظر إليَّ نظرة جارحة كأنه يريد أن يفترسني.
فدُهِش جاك وقال: كيف يمكن يا دادة أن تقولي هذا؟ فإنه ينظر إليَّ نظرة لطيفة كأنه يريد أن يقبِّلني.
والحقيقة أن كل واحد منهما كان مصيبًا في قوله، وأنا لم أكن مخطئًا، فإنني اعتزمت أن أكون طيبًا مع جاك وروز وأهل المنزل الذين يكونون طيبين معي، ونويت أن أكون شديدًا مسيئًا لمن يسيء معاملتي أو يشتمني كما فعلت الدادة.
ولكن هذه الرغبة في الانتقام كانت أخيرًا هي السبب فيما حلَّ بي من المصائب، فندمت على التخلق بالحقد وآثرت التسامح.
وكنا نمشي مع الاستمرار في الكلام، حتى وصلنا إلى منزل جدة جاك وروز فتركوني على الباب فوقفت وقفة حمار مهذب، بدون أن أتحرك وبدون أن أتذوق شيئًا من الأعشاب والخضرة المحيطة بالمنزل.
ثم عاد جاك بعد دقيقتين ومعه جدته وهو يقول لها: تعالي يا جدتي، انظري كيف ترينه لطيفًا، وكيف هو يحبني، لا تصدقي كلام الدادة عنه، وأرجوكِ أن تصدقيني أنا.
فضحكت الجدة وقالت: سنرى ما يكون من هذا الحمار الشهير، ثم اقتربت مني ولمستني ولاطفتني وأمسكت أذني ووضعت يدها في فمي، فلم يظهر عليَّ ما يجعلها تخاف من أنني أعض يدها، ولم أبتعد عنها.
وقالت الجدة: يظهر أنه لطيف جدًّا، فكيف قلتِ يا إميلي إن مظهره يدل على الخبث والمكر؟!
فقال جاك: أليس كذلك يا جدتي؟ هو طيب كثيرًا كما رأيتِ، وإنه يستحق أن نبقيه عندنا. فقالت الجدة: أنا أظن يا عزيزي أنه طيب جدًّا كما قلتَ، ولكن كيف نستطيع أن نبقيه عندنا وهو ليس لنا؟ والواجب أن يُعَاد إلى صاحبه.
فقال جاك: ليس له صاحب يا جدتي.
وكررت هذا القول أخته روز، وقالت: لا شك يا جدتي في أن ليس له صاحب.
فقالت الجدة: كيف لا يكون له صاحب؟! هذا مستحيل!
فأجاب جاك: حقيقة يا جدتي، ليس له صاحب هكذا أخبرتني الأم ترانشيه.
فقالت الجدة: إذن كيف فاز بجائزة السباق لأجلها، وما دامت أخذته لأجل السباق فلا بد أن تكون استعارته من أحد؟
فقال جاك: كلا يا جدتي، هو جاء وحده لكي يجري مع الحمير، ولكن الأم ترانشيه دفعت رسم السباق لكي تأخذ ما يربحه. وهو ليس له صاحب، فإنه هو كديشون حمار المسكينة باولين، التي ماتت وطرده أهلها، حتى إنه عاش طول الشتاء الماضي في الغابة وحده.
فقالت الجدة: كديشون! الحمار الشهير! الذي أنقذ من الحريق سيدته الصغيرة! إنني مسرورة بمعرفته، فإنه في الحقيقة حمار نادر يستحق الإعجاب. وتلفَّتتْ نحوي، ثم أطالت النظر إليَّ، فكنت فخورًا بأن أسمع أن شهرتي ذاعت كما رأيت، وانتعشت وفتحت خياشيمي وهززت ناصيتي طربًا وابتهاجًا.
وقالت الجدة: مسكين! ما أشد نحافته! إنهم لم يحسنوا مكافأته على إخلاصه. قالت ذلك بلهجة صدق وأسف وتأنيب.
وسنبقيه عندنا، يا أولادي، ما دام متروكًا ومطرودًا من الناس الذين كان يجب عليهم الاعتناء به ومعرفة حقه. ادعُ إليَّ «بولان» فإنني أريد أن أكلفه بأن يضعه في الإصطبل وأن يهيئ له أسباب الراحة.
ففرح جاك وأسرع يستدعي «بولان» فحضر على الأثر، فقالت له الجدة: هذا حمار اقتاده إلينا الأطفال، فضعه في الإصطبل وقَدِّم له الأكل والشرب.
فقال بولان: وهل يلزم أن نرده إلى صاحبه بعد ذلك؟
فقالت الجدة: كلا، فإنه ليس له صاحب، ويظهر أنه هو الحمار الشهير كديشون، الذي طردوه بعد موت صاحبته الصغيرة، وهو قد عاد إلى القرية ورآه الأولاد، فجاءوا به إلى هنا وسنبقيه عندنا.
فأجاب بولان: إن سيدتي أحسنت صنعًا باستبقائه، فإنه لا نظير له في هذه البلاد، ولقد حدثوني عنه أحاديث مدهشة، وقالوا إنه يسمع ويفهم كل ما يقوله الناس حوله، وسترى سيدتي مصداق ذلك. تعالَ يا كديشون لتأكل حتى تشبع من الشعير الجيد.
فالتفتُّ وتبعتُ بولان في ذهابه.
فقالت الجدة: هذا حقيقة مدهش، فإنه قد فهم الكلام! ثم عادت إلى المنزل، وتركت معي جاك وروز فتبعاني إلى الإصطبل فوضعوني فيه، وكان يرافقني فيه فرسان وحمار.
وقام بولان يساعده جاك بتهيئة موضع لنومي، ثم ذهب بولان لإحضار الشعير.
فقال جاك: زد له الشعير، فإنه يلزم له الكثير منه لأنه جرى طويلًا.
فقال بولان: لا يا سيدي، لا تكثر له، فإن الإكثار من الطعام يجعله حادًّا شرسًا، فلا تستطيع أن تركبه أنت ولا أختك.
فقال جاك: كلا، فإنه طيب، وإننا مع ذلك نستطيع أن نركبه معًا.
فزاد بولان في علفي وأكثر من الشعير، ووضعوا بجانبي جردلًا مملوءًا ماءً وكنتُ عطشان فبدأت بشرب نصف الجردل، وأكلت الشعير، وذكرني لطف هذا الطفل جحود الأم ترانشيه. ثم تمددت على القش ورأيتني مضطجعًا كأنني ملك، ثم أخذني النوم.
الفصل العاشر
الكلب ميدور
عرفت الكلب ميدور من زمن بعيد، كنت حَدَثًا صغيرًا وكان هو أيضًا حدَثًا حين تعارفنا وتحاببنا، وكنت حينئذ أعيش عيشة البؤس عند أولئك الفلاحين الذين اشتروني من بائع حمير، وهم الذين تخلصت منهم بكثير من المهارة.
وكنت نحيفًا لأنني كنت دائمًا أتألم من الجوع، أما ميدور فقد كان يُعَامَل معاملة كلاب الحراسة وكان من أحسنها وأقواها، ولذلك كان أقل بؤسًا مني، وكان يسلي الأطفال الذين يعطونه خبزًا ولبنًا.
وفوق ذلك فإنه اعترف لي أنه حين يدخل إلى مخزن اللبن مع سيدي أو مع الخادم، فإنه كان يجد الفرصة لتجرُّع ما يصل إليه من اللبن أو القشدة، وأن يفوز بكثير من قطع صغيرة من الزبدة التي تتناثر من أوعيتها.
وكان ميدور طيبًا، فإنه أشفق عليَّ لنحافتي وضعفي، وأحضر إليَّ ذات يوم قطعة من الخبز وقدمها إليَّ بهيئة الظافر، وقال لي بلسانه: كُلْ هذا، فإن عندي كثيرًا من الخبز الذي يعطونه إياي لأجل غذائي، أما أنت فليس عندك إلا قليل من الشوك والحشائش التي تكاد تكفي لإمساك الرمق.
فأجبته: إنك طيب يا ميدور، ولقد تكلفت من أجلي كثيرًا، وإنني شاكر لمجهودك، ولكنني لست كما تظن كثير التألم، فقد تعودت الإقلال من الطعام والنوم والإكثار من العمل، وكثيرًا ما ذقت الضرب وتحملت العناء.
فقال ميدور: أنا لم أتكلف شيئًا، وإنني أؤكد لك أني غير جائع، وأرجو أن تبرهن لي على محبتك إياي بقبولك هذه التقدمة الصغيرة، هي شيء قليل ولكني أقدمه لك بسرور، وإذا رفضت فإنني أستاء منك.
فأجبت: قبلت إذن لأنني أحبك، وأؤكد لك أن هذا الخبز لازم لي فإنني جائع كثيرًا. وأكلت خبز ميدور الكريم، وكان مسرورًا وهو ينظر إليَّ وأنا أمضغ وأبلع، ووجدت لذة في هذه الأكلة التي لم أكن متعودًا مثلها.
وذكرت ذلك لميدور مع حسن اعترافي بصنعه الجميل، واقتضى هذا الرضا والشكر أنه استمر على أن يحضر لي في كل يوم أكبر قطعة من الخبز الذي يقدمونه له.
وكان يجيء ليلًا وينام بقربي تحت الشجرة، أو على النبات الذي أستحسن أن أقضي الليل فوقه.
وكنا نتفاهم حينئذ ولا يسمعنا أحد، لأننا كنا نتحدث بغير كلام فنحن الحيوانات لا ننطق بكلمات مثل الناس، ولكنَّا نتفاهم بلحظات العيون وبحركات الرءوس والآذان والأذيال، ونتفاهم بها فيما بيننا كما يتفاهم الناس بالكلام.
وفي ذات ليلة رأيته عائدًا إليَّ حزينًا مكتئبًا، وقال لي: يا عزيزي، إنني أخشى ألَّا أستطيع في المستقبل أن أحضر إليك ما تعودت من الخبز، لأن سادتي قرروا أنني كبرت ولم يعد من اللازم أن أكون مطلق السراح طول النهار، ولذا فلا يُحَلُّ رباطي إلا في الليل لأجل الحراسة. وفوق ذلك فإن سيدتي عنَّفت الأطفال على ما كانوا يعطونه إياي من الخبز الكثير، ومنعتهم من أن يعطوني شيئًا في المستقبل لأنها تريد أن تطعمني بنفسها طعامًا قليلًا، وذلك في زعمها يجعلني كلب حراسة مقتدر.
فقلت له: يا حبيبي ميدور، إذا كان الخبز الذي كنت تحضره إليَّ هو الذي يكدرك فتأكد أنني الآن لست في حاجة إليه.
وذلك لأنني اكتشفت في هذا اليوم فتحة صغيرة في مخزن الدريس (البرسيم الناشف)، وقد سحبتُ قليلًا منه، وأظن أن في إمكاني أن أتناول منه كل يوم كفايتي.
فأجاب ميدور: إنني مسرور بما تقول، ولكني أُسَرُّ كثيرًا إذا قاسمتك ما يصل إليَّ من الخبز، ويحزنني كثيرًا أن أكون مربوطًا طول النهار فلا أستطيع أن أراك.
ثم تحادثنا أيضًا مدة من الزمن وتركني متأخرًا.
وكان فيما قاله لي: إنني عندي الوقت الطويل لأنام نهارًا، وأما أنت فليس عندك ما تصنعه في هذا الفصل.
ومضى نهار اليوم التالي دون أن أرى وجه هذا الصديق، فلما جاء الليل انتظرت بصبر نافد، ثم سمعت صوته فركضت نحو الزريبة فرأيت الفلاحة الخبيثة تقبض عليه من جلد رقبته، وكان جول وهي تمسكه يضربه بكرباج طويل.
فوثبت داخل الزريبة من شرم لم يكن مقفولًا، وألقيت نفسي على جول وعضضته في ذراعه بحالة اضطرته إلى إلقاء الكرباج من يده، وأفلتت الفلاحة الكلب ميدور من يدها فنجا، وهذا هو الذي أردته، ولذلك تركت ذراع جول بعد تركها رقبة ميدور. وبينما أنا عائد إلى مكاني، شعرت بمن يقبض على أذني، وكانت هي الفلاحة، قبضتْ عليَّ بيديها وصرختْ في وجه جول وهي تقول: أعطني الكرباج الكبير وأنا أؤدب هذا الحيوان الشرس الذي لم أرَ أرذل منه في الدنيا، هات الكرباج أو اضربه أنت بنفسك.
فأجابها جول: أنا لا أستطيع تحريك ذراعي، فإن العضة خدَّرتها وهي تؤلمني ألمًا شديدًا.
فقبضت الفلاحة بيديها على الكرباج الساقط على الأرض وسعت نحوي لكي تنتقم مني لابنها المجرم، ولم أكن أحمق لأنتظر أذاها كما يمكن أن تفتكروا ذلك، فقفزت قفزة شديدة حين هَمَّتْ أن تقبض عليَّ، فاستمرتْ تتبعني واستمررت في الجري تخلصًا منها، مجتهدًا في أن أكون بعيدًا عن مدى الكرباج الذي في يدها، وراق لي هذا الجري كثيرًا، ورأيتُ غضب الفلاحة يتزايد حتى تعبتْ، وذلك لأنني أتعبتها في الجري حتى سال منها العرق، فلم تقدر أن تصل إليَّ بشر، ولم تستطع أن تضربني ولا بطرف الكرباج لشدة ما نالها من التعب.
وسرني أني قد أخذت لصديقي بثأره.
وبحثت عنه بنظري لأنني رأيته يجري حول الإصطبل، ولكنه كان ينتظر حتى تغيب عن نظره سيدته القاسية.
وسمعتها تصيح وهي مغضبة تقول لي: سأنتقم منك وأجازيك أشد الجزاء حين تكون تحت البردعة.
وبقيت وحدي، ورأيت ميدور يخرج رأسه بخوف وحذر من الحفرة التي كان قد اختبأ فيها، فركضتُ نحوه وقلت له: لقد ذهبتْ.
ثم سألته: ماذا فعلتْ بك؟ ولماذا أذنتْ لجول بضربك؟
فأجاب: ذلك لأنني قبضت على قطعة خبز ألقاها بعض الأولاد على الأرض، فلما رأتني نهضت إليَّ ونادت جول وأمرته أن يضربني بغير رحمة.
وسألتُه: ألم يوجد من فكر في الدفاع عنك؟!
فقال منكرًا: هم يفكرون في الدفاع عني؟! كلا، فإنهم بمجرد رؤيته يحمل الكرباج ويهم بالضرب تصايحوا: اضربه يا جول، لكيلا يعود إلى ما كان منه. وأجابهم جول: إنني لا أتركه حتى تسمعوا صياحه، فلما صرخت أول مرة صراخ الاستغاثة من شدة الضرب صفقوا بأيديهم وقالوا: برافو! برافو! اضرب ثانيًا.
فتأسفتُ وقلتُ: ملاعين هؤلاء الصغار، ولكن قل لي يا ميدور لماذا أخذت تلك القطعة من الخبز؟ ألم تكن تناولتَ فطورك؟
فأجاب: نعم، كنت أفطرت، ولكن الخبز الذي كان في فطوري كان قليلًا جدًّا لا يكاد يكفيني، ولو كنت استطعت أن أنقل إليك تلك القطعة الكبيرة التي ضُرِبْتُ من أجلها، لكنت أحضرتُ لك أكلة لذيذة.
فقلت: مسكين يا صديقي ميدور! إذن كان ضربك من أجلي، أشكرك يا صديقي، ولا أنسى مودتك وفضلك، ولكن أرجو ألَّا تعود لمثل هذا. وهل تظن أن هذا الخبز يلذُّ لي إذا كان يسبب لك ألمًا؟! أنا أفضِّل ألَّا أعيش إلا بالحشائش والشوك وأنْ أعلم أنهم يحسنون معاملتك.
ثم تحادثنا أيضًا طويلًا، وطلبت منه ألَّا يعرض نفسه بعد هذه المرة للأذى من أجلي.
ثم إنني في نفس اليوم أوقعت جول وأخته في حفرة مملوءة بالماء، وتركتهما يتخبطان فيه وتخلصت. وفي مرة أخرى تتبعت الطفل الذي عمره ثلاث سنوات بحالة أوهمته أنني سأعضه، فصاح وجرى وهو مرعوب. وفي مرة ثالثة كان على ظهري حمل من البيض، فتظاهرت بأن عندي مغصًا وصرت أدور في الطريق وأجري حتى تكسر أكثر البيض.
ومع أن الفلاحة كانت مغتاظة فإنها لم تجسر على ضربي، فإنها ظنت أنني كنت حقيقة مريضًا وحسبتْ أنني سأموت، وأن الثمن الذي دفعوه في شرائي سيضيع عليهم، فبدلًا من أن تضربني أخذتني برفق وأحضرت إليَّ شعيرًا ونُخَالة، ولم ألقَ في حياتي أحسن من هذه الرحلة. وفي المساء حدثت ميدور بكل ما جرى فاستلقينا من الضحك.
وفي مرة رابعة رأيت كل ثياب الفلاحة منشورة على الحبال، فأخذتها بأسناني قطعة فقطعة ثم ألقيتها في حفرة مملوءة بالماء القذر ولم يرني أحد، فلما رجعت الفلاحة لم تجد الغسيل على الحبال، وبعد بحث طويل وجدَتْها في ذلك المستودع فتغيظت كثيرًا وضربتِ الخادم، والخادم ضربتِ الأولاد، والأولاد ضربوا القطط والكلاب والخرفان، وكانت موقعة لطيفة لديَّ لأنهم كانوا كلهم يضجون ويلعنون وهم مغتاظون. وضحكنا كثيرًا في مساء ذلك اليوم أنا وميدور.
ولما تفكرت فيما جرى مني ندمت كثيرًا، لأنني جازيت الأطفال الأبرياء بذنوب غيرهم، وعاتبني ميدور على ذلك ونصحني بأن أكون أحسن أخلاقًا، ولكني لم أصغِ إليه بل ازددت سوءًا عُوقِبْتُ عليه عقابًا شديدًا كما سترى أيها القارئ.
ففي يوم من أيام البؤس والشقاء والحزن، مرَّ رجل فرأى ميدور فناداه ولاطفه، ثم توجه إلى صاحب المزرعة واشتراه منه بمائة فرنك، وكان صاحب المزرعة فرحًا مسرورًا لأنه يعرف أنه يشتري كلبًا آخر ببعض هذا الثمن.
وفي الحال رُبِط صديقي بحبل وقاده سيده الجديد، وذهب وهو ينظر إليَّ نظرة حزن وأسف على الفراق، فجريت كثيرًا ودرت في أنحاء الزريبة لكي أجد ممرًّا أخرج منه فلم أجد، وأسفت كثيرًا لأنني لم أستطع القيام بتوديع صديقي وتشييعه في سفره.
ومنذ ذلك اليوم اشتد بي الضجر، وكان هذا بعد حادثة السوق بمدة وبعد هروبي إلى الغابة، وفي أثناء السنين التالية لذلك فكرت كثيرًا في صديقي، ولكن أين أجده وقد عرفت أن سيده الجديد لم يكن يسكن البلدة، وأنه لم يكن جاءها إلا لرؤية صديق له؟
ولما قادني جاك نحو جدته دُهِشْتُ دهشةً عظيمة حين أبصرت صديقي ميدور عندها، وكانت دهشة عظمى للناس جميعًا حين أبصروا ميدور يهرول نحوي ويتودد إليَّ وأنا أتبعه حيث كان، وظنوا أن ذلك الفرح من ميدور كان سببه أنه وجد له رفيقًا في النزهة.
ولو أنهم كانوا يستطيعون أن يعرفوا محادثتنا، لفهموا ما بيننا من المودة والإخاء. وصار ميدور مسرورًا من كل ما قصصتُ عليه؛ من معيشتي الهادئة البسيطة، ومن طيبة أسيادي، ومن شهرتي المجيدة في البلد بعد حادثة السباق.
وكان يتألم معي إذا حكيت له ما أصابني من المتاعب، وكان يضحك وهو يعتب عليَّ لتلك الأفعال التي فعلتها مع تلك الفلاحة التي اشترتني، ثم يأسف على ما سمع من جحود أهل باولين وإنكارهم جميلي في إنقاذ بنتهم من النار، وذرفتْ عيناه دمعة حارة حزنًا على تلك الطفلة المسكينة.
ولم يفتْه الانتقاد على الأم ترانشيه لأنها تركتني بعد فوزي لها بالجائزة وإن كان لها عذر من الفقر.
الفصل الحادي عشر
الحمار العالم
وفي يوم من أيام الربيع، رأيت وأنا أتناول الطعام في المرج أن الأطفال تجري بقرب المنزل، وكان لويس وجاك يلعبان بقربي ويروق لهما أن يتبادلا الصعود فوق ظهري وكأنهما يحسبان نفسيهما خفيفين في اللعب، وهما كانا — والحق يُقَال — غير خفيفي الوزن خصوصًا جاك فإنه كان سمينًا، ولو أنه أصغر سنًّا من ابن عمه. وكان لويس يتعلق بي وربما شد ذيلي قبل صعوده، وكان جاك يجتهد كثيرًا حتى يتعب ليسبقه إلى الصعود فوقي، ولكنه لفرط سمنه كان يسقط ويدور ولا يستطيع الوصول إلا بمساعدة قريبه. ولكي أوفر لهم التعب وضعت نفسي بجانب مرتفع من الأرض يسهل عليهما الصعود منه، أما لويس فقد دلَّ على خفة حركته بالصعود مباشرة، وأما جاك فإنه استفاد من هذا الموقف الجديد وركب بسهولة، وفي هذه اللحظة سمعنا سربًا من الأطفال فرحين، وكان اثنان من بينهم يصيحان: عندنا بعد غد ألعاب جميلة في المولد، وسنتفرج على الحمار العالِم.
فقال جاك: الحمار العالِم! ما هو هذا الحمار العالم؟
فقالت إليزا: هو حمار تعلَّم كل أنواع الدوران.
فقال جاك: أي دوران؟
فأجابت مادلين: دوران … دوران … دوران والسلام.
فقال جاك: ما أظنه يفعل ما يفعله كديشون.
فقال هنري: كديشون بلا شك طيب وذكي من بين الحمير، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يفعله الحمار العالِم في المولد.
فقالت كاميل: أنا واثقة أنه يقدر أن يفعل كل ما يعلمونه أن يفعله.
فقال بيير: لننظر أولًا ما يصنعه ذلك الحمار العالِم، ثم ننظر إذا كان كديشون يستطيع فعله أم لا.
فقالت كاميل: الحق مع بيير، وعلينا أن ننتظر إلى ما بعد انتهاء المولد.
فقالت إليزا: إذن فماذا نصنع بعد المولد؟
فقالت مادلين وهي ضاحكة: نتناقش في الموضوع.
وتهامس جاك ولويس ثم سكتا، وبعد تحققهما من انصراف سائر الأطفال وأنهما لا يراهما ولا يسمعهما أحد، صارا يتغنيان بنشيد يذكران فيه اسمي ويطلبان مني أن أكون عارفًا بكل ما يفعله الحمار العالم في المولد، ويقولان في هذا النشيد:
كديشون شمرا
وإلى السوق جرى
بانتباه دائمِ
للحمار العالِمِ
ناظرًا أعماله
حاكيًا فعاله
فائقًا في صنعه
بارعًا في طبعه
ليفوز بالثنا
ويعود عندنا
وهو محمود على
صنعه الذي علا
فقال جاك بعد انتهاء النشيد: هذا الذي أنشدناه جميل.
فأجاب لويس: ذلك لأنه شعر موزون.
فقال جاك: شعر؟ أنا أظن أن نظم الشعر صعب.
فأجاب لويس:
هو سهل كما ترى
غير صعب بلا امترا
وها أنا قد زدتك منه.
فقال جاك: هيا بنا نُسْمِع أولاد عمنا هذا النشيد.
فقال لويس: كلا، فإنهم إذا سمعوه عرفوا ما تريد، والأحسن أن نفاجئهم به مفاجأة في نفس المولد.
فقال جاك: وهل تظن أن أبي وعمي يرضيان بأن نذهب إلى المولد ومعنا كديشون؟
فأجاب لويس: بلا شك، خصوصًا إذا عرفناهما سرًّا لماذا نريد أن يرى كديشون الحمار العالم.
فقال جاك: إذن هلمَّ بنا نسرع في هذا الطلب.
ثم جريا معًا نحو منزل، وفي هذه اللحظة جاء الأب والعم إلى المرج لكي يبصرا ماذا يصنع الأطفال، فلما رآهما الطفلان أقبلا وقالا: عندنا شيء نريد أن نقوله.
فقالا: ماذا تريدان؟ تكلما.
فقال لويس: أنتما تعلمان أنه سيوجد في المولد بعد غد حمار عالِم.
فأجاب والده: لا، أنا لا أعلم، ولكن ماذا يهمنا من حمار عالم ونحن عندنا الحمار كديشون؟
فقال لويس: هذا الذي قلناه، وأكدنا أن كديشون أعلم من كل الحمير، ولكن أخواتي وأولاد عمي سيذهبون إلى المولد لرؤية ذلك الحمار العالم، ونحن نريد أن نأخذ كديشون معنا إلى هناك لكي يرى ما يصنعه ذلك الحمار ثم يعمل مثله.
واستغرب والد جاك فقال: كيف تجعلون كديشون يتفرج في وسط الجمهور؟
وأجاب جاك: نعم يا بابا، فإننا لا نذهب في عربة ولكن نركب كديشون، ونقف به بقرب الدائرة التي يلعب فيها الحمار العالم ألعابه.
فقال أبوه: هذا ممكن، ولكني لا أظن أن كديشون يستفيد شيئًا من رؤية هذه الألعاب مرة واحدة.
فالتفتَ جاك إليَّ وقال: أليس كذلك يا كديشون؟ ألستَ تقدر أن تعمل أحسن من أعمال الحمار العالم متى اطلعت عليها؟
ولما وجه إليَّ جاك هذا السؤال كان ينظر إليَّ نظرة شك، فنهقت لكي يكون مطمئنًّا، وأنا أضحك من ارتيابه.
فقال جاك: هل سمعتم؟ إن كديشون أجاب بالموافقة، ثم ضحك ضحكة الظافر، وتبعه أبوه وعمه فضحكا أيضًا، وقبَّل كل منهما ولده، وذهبا وهما يَعِدان بأنني سأُرْسَل إلى المولد، وأنهما والأطفال سيذهبون إليه معي.
فقلت في نفسي: عجبًا! هما يرتابان في مهارتي، أليس غريبًا أن يكون الأطفال أذكى وأعرف بي من آبائهم؟!
وجاء يوم المولد، وقبل موعد الذهاب بساعة عملوا لي التواليت كاملًا، تنظيف تام وتمشيط للشعر، ثم وضعوا عليَّ بردعة ولجامًا جديدين، وطلب لويس وجاك أن يبكرا في الذهاب قبل الموعد مبادرة إلى الوصول قبيل اللعب.
فسأل هنري: لماذا تبكرون؟ وكيف تذهبون؟
فأجاب لويس: سنذهب راكبين كديشون، وسنبكر في المسير.
فقال هنري: أتذهبان أنتما وحدكما؟
فقال جاك: كلا، فإن أبي وعمي سيذهبان معنا.
فقال هنري: لكن مسير مسافة ميل يكون شيئًا مملًّا.
فقال لويس: لا، نحن لا نمل شيئًا ومعنا أبوانا.
فقال هنري: أنا أفضل أن أذهب بالعربة، وبذلك نصل قبلكم.
فأجاب جاك: كلا، لا تصلون قبلنا، لأننا سنقوم قبلكم بمدة.
ولما انتهوا من كلامهم كنت متهيأ للسير، وأنا على أحسن ما يكون من الزينة، وكان الوالدان مستعدين، فوضعا الطفلين على ظهري، وسرت بهم متمهلًا لكيلا أكلف الوالدين مشقة الإسراع وهما يمشيان بجانبي.
وبعد ساعة وصلنا إلى ساحة المولد، وكان هناك جمع من الناس قرب دائرة محاطة بحبل، وهي التي سَيُظْهِر فيها الحمار العالِم ما يعلمه.
وتركنا والدا الطفلين بقرب الحبل، ووصل بعدنا أقاربهما ووقفوا بقربنا.
وقُرِعَت الطبول إيذانًا بأن زميلي العالِم سيظهر، وكانت الأنظار متجهة إلى المكان الذي سيخرج منه، ثم فُتِح الباب وظَهَرَ الحمار العالِم.
وكان نحيفًا ضعيفًا يلوح على وجهه الحزن والكآبة، ناداه صاحبه فاقترب منه بدون نشاط وعليه سيما الخوف، ولاحظت أن هذا الحمار المسكين كان قد ضُرِب كثيرًا ليحفظ ما عَلَّمُوه.
وتكلم صاحبه فقال: أيها السادة والسيدات، أتشرف بأن أقدم لكم «ميرليفلور» أمير الحمير، فهو حمار ليس كسائر الحمير، بل هو حمار عالِم، أكثر علمًا من كثير من الموجودين بينكم، فهو حمار بارع ليس له نظير.
هلمَّ يا ميرليفلور، أظهرْ لنا ما تعلم. فبدأ يحيي السادة والسيدات كما يُنْتَظَر من حمار مهذب.
وكنت متكبرًا، فأغضبتني تلك الخطبة، واعتزمت أن أنتقم قبل نهاية الفصل. ثم تقدم ميرليفلور ثلاث خطوات وحيَّا الجمهور بهز رأسه، ولكن كانت تبدو عليه الكآبة والشكوى.
وقال له صاحبه: هيا، قَدِّمْ هذه الصحبة من الأزهار إلى أجمل سيدة في هذا الجمع.
فضحكت لأنني رأيت كل أيدي السيدات تهيأت وامتدت واستعدت لاستلام الصحبة منه.
ودار ميرليفلور في طرف الدائرة التي يحيط بها المتفرجون، ثم وقف أمام امرأة سمينة غير جميلة، علمتُ حينئذ أنها امرأة صاحب الملعب، وأنها كانت تحمل إليه في يدها سُكَّرًا، وبعد وقوفه وضع عندها الأزهار.
فضايقني منه ما رأيت من قلة ذوقه، ووثبتُ إلى داخل الدائرة من فوق الحبل بين دهشة عظيمة من الجمهور، ثم تقدمتُ ونظرتُ إلى الجمهور محييًا من كل جانب: أمام ووراء، وعن اليمين وعن اليسار.

فقال صاحب الحمار العالِم: أيتها السيدات وأيها السادة.
ومشيت بخطى مطمئنة نحو المرأة السمينة، وانتزعت الصحبة من عندها وذهبت بها ثم وضعتها على ركبتَي الطفلة «كاميل»، وعدت إلى مكاني والجمهور يصفق بيديه تصفيقًا حادًّا.
وتساءل الناس: ما معنى ما كان من ظهوري بذلك المظهر؟ وظن بعضهم أن ذلك كان شيئًا ممهَّدًا من قبل، وأنه يوجد في الدائرة حماران عالِمان لا حمار واحد، ولكن الذين رأوني في صحبة سادتي من الأطفال والرجال والذين يعرفونني من غيرهم كانوا مبتهجين بذكائي وبراعتي.
وظهر الغضب على وجه صاحب الحمار ميرليفلور، وكان هذا غير متأثر بتفوقي عليه وانتصاري فبدأت أفهم أنه حقيقة بهيم. وأذكر هنا أن هذه البلادة نادرة في جنسنا.
ولما ساد السكوت ناداه صاحبه ثانيًا: تعالَ يا ميرليفلور وأظهر لهؤلاء السادة والسيدات أنك بعد معرفتك تمييز الجمال تستطيع أن تميز الحماقة، فخذ هذه البرنيطة وضعها على أحمق رأس في هذا الجمع.
وقدم له برنيطة حمار عُلِّقَتْ فيها أجراس صغيرة، وزُيِّنَتْ بشرائط حريرية ملونة.
فأخذها ميرليفلور واتجه بها نحو غلام أحمر سمين كان هز رأسه مقدمًا استلفاتًا للحمار العالِم، واستعدادًا لاستلام البرنيطة منه، وكان من السهل — لمشابهته لتلك المرأة السمينة التي ادَّعت زورًا أنها أجمل مَنْ في الحفلة — ملاحظة أن ذلك الغلام لم يكن إلا ابن صاحب الملعب وأنه متواطئ معه على ما حصل.
ورأيت أن هذه هي الفرصة السانحة للانتقام من ذلك الغبي على ما صدر منه من الكلام المهين.
وقبل أن يفكر الناس في ظهوري على المرسح تقدمتُ ثانيًا إلى داخل الدائرة، وسعيتُ نحو زميلي وانتزعت منه البرنيطة في اللحظة التي هَمَّ فيها بوضعها على رأس ذلك الغلام، وقبل أن يلحظ المعلم صاحب الملعب شيئًا جريت نحوه ووضعت يدَيَّ (قائمتَيَّ) الأماميتين على كتفه، وهممت بوضع البرنيطة على رأسه هو فقاومني بعنف وصار في غاية الشراسة، ولكن ضحك الجمهور وتصفيقاته المتواترة كانت تُسْمَع في هذه اللحظة من كل جانب.
وصاح الناس: برافو! هذا هو الحمار العالِم الحقيقي.

سقوط الرجل وإلباسه البرنيطة.
وصرتُ مأخوذًا متشجعًا بتصفيق الجمهور، فبذلتُ جهدًا آخر في إلباسه برنيطة الحمار فبمجرد انسحابه تقدمت وتسابقنا مسابقة شديدة، فهو أفلت مني بكل قوته وأنا جريت وراءه، ثم تنشطت ووثبت فوق ظهره ووضعتُ يدَيَّ على كتفيه واعتمدت برجلي على ظهره، فسقط على الأرض.
وانتهزتُ فرصة سقوطه فوضعت البرنيطة على رأسه، وأوغلتها فيه إلى الذقن، وانسحبت فجأة. وقام الرجل فلم يستطع أن يراني لأن عينيه كانتا محجوبتين بالبرنيطة، وكان هو في غاية الخجل من سقوطه، فكان يداري خجله بالدوران والوثب ضمن الدائرة، وإتمامًا لهذا الدور من اللعب كنت أجاريه في الدوران والوثب مثله.
ثم قطعت هذه المحاورة بأن ذهبت إليه ثم عضضته في أذنه، ثم اعتمدت على رجليَّ ووثبت مثله تارة إلى الأمام وتارة إلى الوراء.
وليس من السهل أن أصف لكم ما كان عليه الجمهور المشاهد من الابتهاج والتأثر والاستغراب، وما أظن أن حمارًا في الدنيا نال من الإعجاب والظفر مثل ما نلت في تلك الحفلة.
واقتحم الناس الدائرة وكان كثيرون منهم يقتربون مني ويلاطفونني، لأنهم يريدون أن يبصروني من قرب، وصار الذين يعرفونني يفتخرون بي، ويذكرون اسمي ويُعَرِّفُون بي مَنْ لم يكن يعرفني، ويحدثونهم عن عجائب أعمالي بالصدق وبالكذب، وبما رأوا من نوادري المعروفة عندهم، فقال أحدهم إنني أطفأت حريقًا وحدي بتمشية خرطوم ماء وتوجيهه إلى النار، وبأنني صعدت إلى الدور الثالث ثم فتحت باب سيدتي الصغيرة وقبضت عليها وهي نائمة في سريرها، ولما كان اللهيب يملأ السلالم والشبابيك وَثَبْت من الدور الثالث بعد الاعتناء بسيدتي ووضعها فوق ظهري، وأنه لم يصبنا أذى ولا جرح في ذلك الوثوب، لأن الملك الحارس الذي كان يحفظ سيدتي ساعدنا في الهواء حتى وصلنا إلى الأرض بسلام. وقال آخر إنني قتلت في ليلة واحدة كثيرًا من اللصوص، لأنني عضضتهم بأسناني واحدًا بعد واحد بحالة لم تسمح لواحد منهم بالاستعانة بصاحبه والتخلص مني.
وإنني ذات مرة فزت في السباق على جميع حمير البلد، وإنني جريت في شوط واحد مدة خمس ساعات … وقطعت ٢٥ فرسخًا بدون وقوف …
هكذا قالوا، ومن عادة الناس المبالغة وتكبير الصغائر. وكان الإعجاب بي يزداد كلما انتشر هذا الكلام بين الناس، وكانوا يدورون حولي ويتفرسون فيَّ، واضطُرَّ رجال البوليس إلى تفريق الناس عني منعًا للزحام. وسَرَّنِي من حسن الحظ أن أقارب لويس وجاك حملوا الأطفال وأبعدوهم حين رأوا تجمهر الناس وازدحامهم حولي، وتكلفت تعبًا كثيرًا لكي أخلص من الناس، ولم أخلص إلا بمساعدة البوليس. وكاد الناس يحملونني إعجابًا، واضطرني الحياء إلى التخلص منهم خجلًا من هذا التشريف، ولم أتخلص إلا بأنني كنت أمد فمي في كل ناحية لأعض بأسناني مَنْ يقترب مني، وكنت أهم برفس خفيف برجلي تنفيرًا لهم، ولكني كنت شديد الحرص وعظيم الحذر من أن أجرح أحدًا، وأردت بذلك أن أجعلهم يخافون مني فيفسحون لي الطريق.
ولما تخلصت من الجموع تلفتُّ في كل ناحية فلم أجد لويس ولا جاك، ولم أرضَ بأن هذين الصغيرين العزيزين يرجعان إلى المنزل مشيًا على الأقدام، فلم أضيع الوقت في التفكير بل جريت إلى الإصطبل المعتاد وضع الخيول فيه، فدخلت فيه فلم أجدهما لأنهما ذهبا.
وحينئذ أسرعت السير في الطريق الموصل إلى المنزل، فأدركتهم وهم يركبون عربتين اثنتين تكدس فيهما الأطفال مع الرجال فوق بعض، حتى كانوا خمسة عشر راكبًا في هاتين العربتين.
فلما لمحني الأطفال صاحوا مبتهجين: كديشون! كديشون! فوقفت العربتان، وطلب جاك ولويس أن ينزلا لكي يقبِّلاني ويثنيا عليَّ، ثم تبعهما سائر الأطفال ونزلوا جميعًا.
وقال لويس وجاك: أرأيتم كيف أننا كنا نعرف أكثر منكم ذكاء كديشون وخفة روحه؟
أرأيتم كيف كان متيقظًا، وكيف أنه بسرعة أدرك تلاعب ميرليفلور وصاحبه الغبي؟
فقال بيير: هذا صحيح، ولكنني أحب أن أعرف لماذا اجتهد كديشون في وضع البرنيطة على رأس صاحب الملعب؟
أذلك لأنه أدرك أن ذلك الرجل غبي، وأن تلك البرنيطة كانت علامة الغباوة والحمق؟
فقالت كاميل: بلا شك هو أراد هذا، ومن السهل عليه إدراكه.
فضحكت إليز، وقالت: ها أنتِ تقولين هذا لأنه قدَّم إليك صحبة الأزهار باعتبارك أجمل من في الحفلة.
فأجابت كاميل: كلا، أنا لم أفكر في ذلك، حتى إنني في هذه اللحظة التي كنت تتكلمين فيها تذكرت أنني كنت مدهوشة، وكنت أتمنى أنه كان قدَّم الصحبة إلى ماما فإنها هي التي كانت أجمل مَنْ في الحفلة.
فقال بيير: أنتِ التي كنت تمثلينها، وإن الحمار في غياب خالتي لم يكن يستطيع أن ينتخب غير التي انتخبها.
فقالت مادلين: وأنا هل كنتُ غير جميلة؟
فقال بيير: كلا، بدون شك، ولكن المسألة مسألة ذوق، وذوق كديشون كان في اختيار كاميل.
وقالت إليزا: بدلًا من أننا نتكلم في الجميلات وغير الجميلات، يلزمنا أن نسأل كديشون كيف أمكنه أن يفهم كلام ذلك الرجل.
وتأوهت هنريت، وقالت: وا أسفاه على أن كديشون لا يمكنه أن يتكلم، وإلَّا فقد كان يحدثنا بأحاديث عجيبة!
فقالت إليزا: مَنْ يدري إن كان يفهم كلامنا، أنا قرأت مذكرات عروسة (لعبة) فهل هذه العروسة كانت تستطيع أن ترى وأن تفهم، فإنها كتبت في مذكراتها أنها كانت ترى وتسمع كل شيء.
فقال هنري: وهل تظنين أنتِ أن هذا صحيح؟
فقالت إليزا: نعم، أنا أصدق ذلك.
فقال هنري: كيف تستطيع اللعبة أن تكتب؟!
فقالت إليزا: هي تكتب ليلًا بريشة رفيعة جدًّا، ثم تخفي مذكراتها تحت سريرها.
فضحكت مادلين وقالت: لا تعتقدي شيئًا من هذه الجهالات، فإنما هي سيدة من الكاتبات هي التي تكتب هذه المذكرات على لسان اللعبة، ولكي تجعل ما تكتبه فكاهيًّا مقبولًا تظاهرت بأنها هي نفس اللعبة، وكتبت على لسانها كأن اللعبة هي التي تكتب.
فقالت إليزا: ألا تحسبين أن التي كتبت لم تكن هي حقيقةً اللعبة؟
فقالت كاميل: كلا بكل تأكيد، وكيف تظنين أن اللعبة التي لا حياة فيها ولا روح لها، والتي هي مصنوعة من الخشب والجلد ومملوءة بالقش تستطيع أن ترى وتفكر وتسمع وتكتب؟
وانتهت هذه المحادثة فوصلنا إلى المنزل، وبادر الأطفال فتقدموا مسرعين إلى جدتهم التي كانت باقية في المنزل وحدثوها بكل ما صنعتُ في المولد، وكيف أنني أدهشت وأطربت كل مَنْ كان في ذلك المجتمع.
فقالت الجدة: حقيقةً إن كديشون حمار عجيب! وتقدمت إليَّ تلاطفني، واستمرتْ تقول: لقد رأيت حميرًا تفوق في الذكاء كثيرًا من الحيوانات، ولكني لم أرَ منها مثل كديشون، ويجب الاعتراف بأن الإنسان ليس منصفًا في حكمه على الحمير.
سمعت هذا فسُرِرتُ والتفتُّ نحوها، ونظرتُ إليها نظرة شكر واعتراف بالجميل.
وسمعتها تقول أيضًا: ومَنْ يدري لعله يفهم كلامي! ويا كديشون، تأكد أنني لا أبيعك ما دمت على قيد الحياة، وأنني سأعتني بك كل الاعتناء جزاء إدراكك وإحساسك بكل ما حولك.
فتنهدتْ حين تذكرتْ عمرها الطويل، وأنها بلغت التاسعة والخمسين وأنا لم أكد أبلغ السنة العاشرة. وقلت متمنيًا: يا سادتي الصغار، إذا ماتت جدتكم فاحفظوني عندكم، ولا تبيعوني ودعوني حتى أموت وأنا في خدمتكم.
وتذكرت صاحب الملعب المسكين، وندمت على ما فعلته معه وما أخزيته به هو وحماره العالِم، فإنكم لا تنسون الألم الذي سببته له في سبيل إظهار مواهبي وبراعتي.
الفصل الثاني عشر
حسن الدفاع
كان طفل شقي يُدْعَى «أوجست» من أولاد الجيران اعتدى عليَّ بالضرب، فانتقمت منه انتقامًا شديدًا.
وبينما أنا أحاول عبثًا إظهار الندم على ما فعلت به، اقترب الأطفال من المكان الذي كنت أفكر فيه وأنا أقرض الأعشاب.
ورأيت أن أوجست وقف على مسافة مني، ونظر إليَّ نظرة هادئة.
وقال «بيير»: الدنيا حر في هذا اليوم، ولا أظن أنه يمكننا أن نقوم بنزهة طويلة لشدة الحر، فالأحسن أن نمكث في الظل في هذه الحديقة.
فقال أوجست: الحق مع بيير، خصوصًا لأن المرض الذي أصابني وكدت أموت منه جعلني ضعيفًا لا أقوى على رحلة طويلة.
فقال هنري: لقد كان كديشون سبب المرض، وأظنك حاقدًا عليه وكارهًا له لما جرى منه.
فقال أوجست: أنا لا أظن أنه كان يقصدني بما فعل، فالظاهر أنه حصل له خوف من شيء في الطريق، فحمله الخوف على الاضطراب الذي كان سبب تلك الوثبة التي ألقتني في تلك الحفرة الخطرة، ولذلك أنا لا أحقد عليه ولكن …
فقال بيير: ولكن ماذا؟
فأجاب أوجست، وقد احمرَّ وجهه فجأة: ولكن أنا أفضل ألَّا أركبه ثانيًا.
فتأثرتُ بقول هذا الطفل المسكين، وزادت شهامته تأسُّفي وندمي على سوء ما جازيته به.
وشرعت «كاميل» و«مادلين» تستعدان لصنع الطعام، وبنى الأطفال لهم فرنًا من الرمل في الحديقة، وأوقدوا فيه النار من الحطب الذي جمعوه بأنفسهم وتهيئوا لذلك بتمام الاستعداد، فقام «أوجست» و«بيير» بجمع الحطب وقطَّعاه قطعًا صغيرة وملأا به الفرن.
وقبل أن يوقدوا النار فيه اجتمعوا ليتفقوا على ما يصنعونه طعامًا لهم، فقالت كاميل: أنا أصنع عجة.
وقالت مادلين: وأنا أصنع قهوة ولبنًا.
وتكلم كل واحد منهم عما يريد صنعه من أنواع الطعام.
وقال أوجست: وأن أقطِّع الخبز وأضع غطاء السفرة وأحضر الماء وأجهِّز طلبات الجميع.
وأخذ كل واحد منهم من المطبخ كل ما يلزم لما يريد أن يصنعه، فأحضرت كاميل البيض والزبدة والملح والفلفل، وقالتْ لأوجست: تفضَّل وأوقد لي النار، فإنها تلزم لتذويب الزبدة وتسوية البيض. فسألها: أين أضع النار؟ فقالت: بجانب الفرن وبسرعة، فإنني كسرت البيض.
ونادت مادلين: أوجست، أوجست، أسرع بإحضار اللبن من المطبخ فإنني نسيته. فأجاب: ولكن يلزم الآن أن أوقد النار لأجل كاميل.
وهكذا تشاغل الأطفال بصنع الطعام الذي أرادوه، وشغلوا أوجست باستحضار طلباتهم كما تعهد، ثم نادى جاك: اطلبوا كديشون كي يجيء لمساعدتنا.
فأجاب لويس: ماذا تريد من كديشون؟
فقال جاك: يا كديشون، انظر فإن سلتي فارغة، فاذهب واجتهد أن تملأها.
فوجدت نفسي بجانب أربعة من الأطفال النَّهِمين. ووضع جاك السلة تحت أنفي لكي يفهمني ماذا يريد مني، فتوجهت إلى المطبخ فرأيت فيه سلة من الكريز فأخذتها بأسناني، وذهبت بها حتى وضعتها بين أيدي الأطفال الذين كانوا جالسين حول دائرة ينتظرون، فصاح بعضهم فرحًا عند عودتي، وتلفَّت الذين كانوا على غير مقربة مني حين سمعوا الصياح وتساءلوا: ماذا جرى؟
فأجاب جاك: هذا كديشون.
فقالت له جان: اسكت، فإنهم يعرفون أننا أكلنا كل الكريز الذي كان عندنا.
فأجاب جاك: وماذا في الأمر إذا عرفوا؟ أنا أحب أن يعرفوا كيف أن كديشون طيب وماهر. ثم مشى إليهم وحدثهم بما جلبتُ لهم أخيرًا.
فلما علموا به لم يوبخوا الذين كانوا يريدون إخفاء السلة الأخيرة، وإنما مدحوا جاك لصراحته وأثنَوْا عليَّ لذكائي ونشاطي.
وفي هذه الأثناء أوقد أوجست النار لأجل كاميل وهي طبختْ العجة، ومادلين صنعت المهلبية، وإليزا أنضجت الضلوع، وهنري جهَّز السَّلَطَة، وجاك صنع مربى من الكريز. ولما أتم كل واحد منهم صنع ما اختار صنعه، وتم وضع الأطباق على المائدة؛ ضربت كاميل بيدها على جبهتها وصاحت: نحن لم يفتنا إلا شيء مهم، وهو أننا كنا نستأذن أمهاتنا في أننا سنتغدى وحدنا ونأكل من طبيخنا.
فصاحوا: فلنذهب إذن للاستئذان وأوجست يحافظ على المائدة. ثم ذهبوا جميعًا إلى الصالون الذي كان فيه آباؤهم وأمهاتهم.
فدُهِشُوا حين أبصروا الأطفال ووجوههم محمرَّة وعليهم آثار التعب وهم يضعون على صدورهم «مرايل» كأنهم خدم المطبخ.
وتقدم كل طفل إلى أمه يستأذنها بلطف في أن تسمح له بأن يتناول طعامه خارجًا عن المنزل، فلم تفهم أمهاتهم لأول وهلة سبب هذا الطلب.
ولكن بعد استفهامات وإجابات صدر الإذن، وعادوا جميعًا بسرعة إلى مكان المائدة التي كان يحفظها أوجست، ولكنهم لم يجدوه فنادَوْه باسمه.
فأجابهم بصوت ضعيف كأنه آتٍ من السماء، فرفعوا رءوسهم فرأوه متسلقًا شجرة عالية وقد بدأ ينزل بتحفظ وتمهل.
فقال هنري: لماذا صعدتَ هذه الشجرة؟
فلم يُجِبْ، ولكنه استمر في النزول، فلما وصل إلى الأرض رأوه شاحب اللون مأخوذًا، فقالت مادلين: لماذا تسلقت الشجرة يا أوجست؟ وماذا حلَّ بك؟
فأجاب: لولا وجود كديشون لَمَا وجدتموني ولَمَا أدركتم طعامكم، وإنما تسلقت الشجرة لكي أنجو بنفسي.
فقال بيير: قُصَّ علينا ما جرى، وكيف أن كديشون أمكنه أن يخلص حياتك ويحفظ طعامنا.
وقالت كاميل: هلموا بنا إلى الطعام نتحدث ونحن حوله، فإنني أكاد أموت جوعًا.
وجلسوا على الخضرة والحشائش حول المائدة، وقدَّم كل واحد منهم الطبق الذي جهَّزه ليأكلوا جميعًا منه. وفي أثناء تناولهم الطعام قال أوجست: إنكم لم تكادوا تغيبون عني حتى شاهدت كلبَي العزبة الكبيرين هاجمين عليَّ مدفوعين برائحة الطعام، فأخذت عصا من فرع الشجرة ولكن الكلبين لما رأيا اللحم والبيض والخبز اتجها إليها ولم يباليا بالعصا، وهمَّا بالهجوم عليَّ فضربت أكبرهما بها على رأسه فوثب على ظهري.
فقال هنري: كيف وثب على ظهرك، هل استدار خلفك؟
فأجاب أوجست وهو يحمرُّ خجلًا: كلا، فإنني كنت ألقيت العصا، ولم يكن معي شيء أدافع به عن نفسي، وأنتم تفهمون أنه لم يكن يصح أن أترك نفسي حتى يفترسني ذلك الكلب المتوحش.
فأجاب هنري بلهجة المستهزئ: فهمت إذن، إنك أنت الذي أدرت ظهرك ونجوت بنفسك.

الطفل وهو يتسلق الشجرة والكلب يمسك ملابسه بأسنانه.
فقال أوجست: ولكنني ذهبت لأبحث عنكم فجرى ورائي الكلبان الهائلان، على أن كديشون أدركني فقبض بأسنانه على جلد الكلب الكبير من خلفه وألقاه على الأرض في اللحظة التي صعدت فيها على الشجرة، ووثب الكلب الثاني فاقترب مني ولحق بي وأنا أصعد خائفًا حذرًا، فجر بأسنانه ثيابي وظننت أنه سيفترسني لولا أن كديشون نجاني من هذا الحيوان الخبيث أيضًا، فإنه بعد أن عض الكلب الأول عضة شديدة وقذف به إلى الأرض أسرع إلى الكلب الثاني الذي أمسك بثوبي وقبض بشدة على ذيله، فاضطره إلى ترك ملابسي، وبعد أن صار بعيدًا عني هجم عليه كديشون وعضه عضة قوية في خده أظنها خلعت فكه.
وهرب الكلبان بعدما أصابهما أذى شديد من كديشون، وابتدأتُ في النزول عن الشجرة في الوقت الذي عدتم فيه.
فلما انتهى من حديثه استحسن الأطفال شجاعتي، وأعجبهم ما قمت به من الدفاع الحسن وما كان من حضور بديهتي فيه، وأقبل كل واحد منهم نحوي يحييني ويلاطفني ويصفق لي.
وقال جاك وهو يهتز وعيناه تلمعان سرورًا: ألا ترون أن حبيبي كديشون أصبح عظيمًا؟ أنا لا أدري إذا كنتم تحبونه مثلي ولكني أحبه دائمًا وكثيرًا، أليس كذلك يا كديشون أننا دائمًا صديقان صميمان؟!
فأجبت بأحسن ما عندي من نهيق الفرح فضحك الأطفال جميعًا، ثم عادوا إلى المائدة واستمروا في الأكل، ولما انتهوا منه كان قد اقترب وقت رجوعهم إلى الدراسة. فلما سمعوا الجرس التمسوا التأخر ربع ساعة لأجل الاستعداد، ثم لما مضى الوقت ذهبوا إلى العمل وودعهم أوجست.
وقبل أن أذهب دنا مني أوجست وناداني، فلما رأى أنني مقبل عليه تقدم إليَّ ولاطفني وشكرني بكلامه وحركته على الخدمة التي أديتها إليه، فسرني أن أرى منه هذه العاطفة.
وثبت عندي أنه كان أفضل مما كانت أظنه أولًا، وأنه لم يكن ماكرًا ولا خبيثًا، وأنه إذا كان جبانًا وفيه بعض الغباوة فلم يكن ذلك ذنبًا له، وكان من حسن الحظ أنني اجتهدت في يوم آخر فقمت له بخدمة أخرى.
الفصل الثالث عشر
السفينة
تحدث جاك مع إخوانه فقال: ما أحسن أن يكون لنا دائمًا غداء لذيذ كالذي كان في الأسبوع الماضي، لقد كان سائغًا مستحسنًا.
فأجاب لويس: تذكر كيف كان مع ذلك غذاء جيدًا تامًّا.
فقالت كاميل: إن الذي أعجبني هو سلطة البطاطس والتوابل، التي كان ما فيها من الخل يجعلها شهية.
فردت عليها مادلين: أنا أعرف السبب، ذلك لأن والدتك تمنعك غالبًا عن الطعام الذي فيه شيء من الخل، والإنسان يشتهي ما غاب عنه.
فقالت كاميل: هذا جائز، فإن الأشياء التي يندر تناولها تظهر أحسن من غيرها، خصوصًا إذا كان الطبع يشتهيها.
وقال بيير: أي شيء تختارون اليوم أن نتسلى به؟
فهذا يوم الخميس يوم الفسحة وعندنا راحة إلى وقت الظهر.
فقال هنري: هيا بنا نصطاد سمكًا من البحيرة الكبيرة.
فقالت كاميل: فكرة طيبة، وبذلك يكون عندنا لطعام الغد طبق من السمك اللذيذ.
فقالت مادلين: كيف نصطاد؟ هل عندنا أدوات صيد؟
فأجاب بيير: عندنا صنارات كثيرة، والذي ينقصنا هو القضبان التي يكون في طرفها الخيط الذي تُرْبَط الصنارة به.
فقال هنري: يمكن أن نطلب من الخادم أن يشتري لنا ما يلزم من القرية.
فأجاب بيير: ذلك لا يوجد في القرية، ولا بد من الذهاب إلى المدينة وهي بعيدة.
وقالت كاميل: هذا أوجست مقبلًا، ولعل عنده ما يلزم لنا أو هو يذهب مع الخادم.
فقال جاك: أنا أذهب ولكن مع كديشون.
فقال هنري: لا يمكنك أن تذهب بعيدًا هكذا وحدك.
فأجاب جاك: ليس بعيدًا جدًّا، فالمسافة نصف فرسخ.
ووصل أوجست فقال: ما الذي تريدون أن تبحثوا عنه مع كديشون يا إخواني؟
فأجاب بيير: نبحث عن قضبان وخيوط للصيد، فهل عندك منها؟
فقال أوجست: ليس عندي، ولكن لا نحتاج للذهاب بعيدًا لأجل الحصول عليها، فبالسكين يمكننا أن نصنع من الأغصان ما نريد من القضبان.
فقال هنري: هذا صحيح، وكيف لم نفكر في ذلك مع بساطته؟
فقال أوجست: هيا بنا نقطع ما يلزم لنا من الغابة، وهل معكم المطاوي؟ أما أنا فمعي واحدة في جيبي.
فقال بيير: أنا عندي واحدة جيدة أحضرتها إليَّ كاميل من لندرة.
وقال هنري: وأنا عندي واحدة أهدتها إليَّ مادلين.
وأجاب جاك ولويس بأن كلًّا منهما يحمل واحدة أيضًا.
فقال أوجست: تعاليا معنا إلى الغابة، وفي أثناء قطعنا القضبان تنزعون أنتم القشر والأغصان الصغيرة منها.
وقالت كاميل ومادلين وإليزا: ونحن؟ ماذا نصنع في أثناء ذلك؟
فأجاب بيير: تصنعن باقي ما يلزم للصيد، فتحضرن خبزًا ودودًا وصنارات.
ثم قام كلٌّ منهم إلى عمله.
أما أنا فاتجهت بهدوء إلى البحيرة، وانتظرت وصول الأطفال مدة نصف ساعة، ثم رأيتهم قادمين ومعهم كل ما يلزمهم لأجل الصيد.
فقال هنري: أظن أنه يلزم أن نضرب في الماء لكي يعلو السمك بقرب سطحه.
فأجاب بيير: كلا، بل يلزم الهدوء التام، لأن السمك يهرب إلى قرار الماء إذا أخفناه.
فقالت كاميل: أظن أن الأحسن أن نجلب الأسماك إلينا بإلقاء قطع صغيرة من الخبز.
فأجابت مادلين: ولكن يلزم أن يكون ما نلقيه قليلًا فإننا إذا أكثرنا لا يعود السمك جائعًا، ومتى كان غير جائع لا يقبل على ما في الصنارة.
فقالت إليزا: انتظروا، واتركوني أجهِّز قطع الخبز في أثناء تركيبكم الصنارات.
وأخذت إليزا الخبز، وبمجرد إلقائها قطعًا منه صعد إلى سطح الماء نحو ست سمكات، ولما رأت ذلك إليزا ألقت أيضًا خبزًا، فتبعها لويس وجاك وهنريت وجان، وأرادوا مساعدتها في الإلقاء أيضًا، فألقوا كثيرًا منه حتى شبع السمك ولم يعد يمسها.
فقالت إليزا بصوت خافت تخاطب لويس وجاك: أخشى أن نكون ألقينا الكفاية من الخبز.
فقال جاك: كيف هذا؟ بل سيأكل الباقي في هذا المساء أو غدًا.
وقالت إليزا: ولكن أنا أخشى أن السمك لا يعض في الصنارات لأنه لم يعد جائعًا الآن؟
فقال جاك: إذا صح هذا فإن أقاربنا لا يكونون مسرورين.
فقالت إليزا: لا تقولوا لهم شيئًا، هم مشغولون بالصنارات، ومع ذلك فربما كان السمك يعض في الطُّعْم.
وأقبل بيير وقال: ها هي الصنارات جاهزة، فليأخذ كل واحد منا وليلقِ في الماء صنارته.
فأخذ كل واحد صنارة وألقاها في الماء كما قال بيير، وانتظروا بضع دقائق ساكتين حذرًا من الضوضاء، ولكن السمك لم يعض في شيء منها.
فقال أوجست: ليس هذا الموضع موافقًا فلننتقل إلى مكان آخر.
وقال هنري: يظهر أنه لا يوجد هنا سمك، فقد ألقينا كثيرًا من قطع الخبز ولكنها باقية لم تُؤْكَل.
فقالت كاميل: هيا إلى طرف البحيرة بجانب السفينة.
فأجاب بيير: الماء هناك عميق جدًّا.
فقالت إليزا: وماذا تخشى من ذلك، أتحسب أن السمك لا يعوم هناك؟
فقال بيير: لا أخاف هذا، ولكن أخاف على أنفسنا إذا سقط منا واحد في الماء.
فأجاب هنري: وكيف تخاف؟ نحن لا نقترب من الشاطئ كثيرًا لكيلا نصل إلى المكان العميق.
فقال بيير: هذا صحيح، ولكني لا أحب أن الأطفال الصغار يذهبون إلى هناك.
فقال جاك: يا سلام، يا بيير دعني أذهب معك، وليكن جلوسنا بعيدًا عن الشاطئ.
فقال بيير: كلا، يجب أن تبقى في مكانك هذا، ونحن نعود لنأخذكم إذا اقتضى الحال، لأنني لا أظن أنه يوجد هناك سمك أكثر مما يمكن أن يوجد هنا. ثم خفض صوته وزاد فقال: ولكن الحق عليكم إذا نحن لم نحصل على شيء، فإنني رأيتكم وأنتم تلقون من الخبز في الماء أكثر من اللازم حتى ضاعفتم الخبز أكثر مما ينبغي عشر مرات، وأنا لا أريد أن أذكر ذلك لهنري وأوجست وكاميل ومادلين، ولكن من العدل أن تلقوا جزاء ما كان منكم من الطيش.
وامتثل الأطفال فلبثوا في ذلك المكان مؤمِّلين أن يصطادوا بعضًا من السمك فيه.
أما أنا فتبعت بيير وهنري وأوجست في ذهابهم إلى طرف البحيرة، فألقَوْا أدوات صيدهم فلم يجدوا من النجاح فوق ما كان هناك، فغيروا مواقفهم وجربوا الصنارات ولكن لم يظهر لهم سمك.
فقال أوجست: يا إخواني، عندي فكرة ناجحة هي أننا بدلًا من أن ننتظر أن السمك يجيء وحده حتى نأخذه، يمكننا أن نصطاد منه ١٥ سمكة مرة واحدة.
فقال بيير: كيف نعمل لنستطيع أن نصطاد منه ١٥ في مرة واحدة، مع أننا لم نقدر أن نصطاد سمكة واحدة؟!
فأجاب أوجست: ذلك بواسطة شبكة الصيد.
فقال هنري: لكن ذلك عمل صعب، فإن أبي يقول إنه يجب أن يعرف الإنسان كيف يلقي الشبكة.
فقال أوجست: صعب؟! أي صعوبة؟! أنا ألقيت الشبكة عشر مرات وعشرين مرة، وإلقاؤها سهل.
فسأل بيير: وهل أخذت بها كثيرًا من السمك؟
فأجاب أوجست: كلا، لم آخذ شيئًا من السمك لأنني لم ألقها في الماء!
فقال بيير: فكيف إذن؟! وأين ألقيتها؟
فأجاب أوجست: كان ذلك على الخضرة وعلى الأرض، وذلك لكي أتعلم كيف ألقيها.
فقال بيير: ولكن ليس الأمر واحدًا في الحالتين، وأنا أظن أنك إذا ألقيتها في الماء سيكون إلقاؤك رديئًا.
فقال أوجست: أنت تظن أنني أرمي الشبكة رميًا رديئًا؟ سترى إذا كنت أطرحها رديئًا أو جيدًا إذا أنا أحضرت الشبكة المنشورة في الحوش.
فقال بيير: لا يا أوجست، فأنا أخشى أنه إذا حدث أمر أن أبي يعنفنا.
فأجاب أوجست: وماذا تظن أنه يحدث ما دمت قد عرفتك أنهم عندنا يصطادون كثيرًا بالشبكة؟ أنا ذاهب، فانتظرني ولن أغيب.
ثم ذهب يجري وترك بيير وهنري وهما غير مطمئنَّيْن، ولم يلبث حتى عاد وهو يجر وراءه الشبكة، وقال وهو يبسطها على الأرض: الآن فليحذر السمك. ثم ألقاها بنظام وسحبها بتحفظ وتمهل.
فقال له هنري: اسحب بسرعة لأجل أن تنتهي.
فقال أوجست: كلا، بل يجب التمهل والهدوء لكيلا تتقطع الشبكة ولا تفر منها سمكة واحدة. واستمر في سحب الشبكة، ولما تم اجتماعها عنده كانت كلها فارغة ولم يُؤْخَذ فيها شيء من السمك.
فقال: إن مرة واحدة لا تُحْسَبُ، ولا يجوز اليأس، وسأعاود.
وعاود إلقاء الشبكة، ولكن لم يزد نجاحه في المرة الثانية عن الأولى.
فقال: عرفت السبب، ذلك لأنني قريب جدًّا من الشاطئ وليس فيه الماء الكافي، سأدخل في السفينة ونظرًا لأنها طويلة فسأكون بعيدًا عن الشاطئ، وبذلك يمكنني أن أبسط الشبكة كما ينبغي في الماء العميق.
فأجاب بيير: كلا يا أوجست، لا تفعل، ولا تذهب إلى السفينة ومعك الشبكة، فربما اختلطت بالحبال وربما انقلبتَ أنت في الماء.
فقال أوجست: أنت خائف كأنك طفل عمره سنتان، أنا أشجع منك وسترى. ثم تقدم إلى السفينة وطلع عليها وتجوَّل فيها يمينًا ويسارًا، وتبيَّن فيه الخوف وإن كان متظاهرًا بالضحك. وأَوْجَسْتُ خيفة من سوء تصرفه فتشبث بأن يلقي الشبكة، ولم يُحْسِنْ إلقاءها لأنه كان مضطربًا غير متوازن الجسم بحركة السفينة، فلم يتمكن من إجادة القبض بيديه على أطراف الشبكة فالتفَّت على قدميه.
وحمله الزهو مع ذلك على أن يحملها ثم يلقيها، ولكنه وقف فجأة خائفًا من السقوط في الماء، فتعلقت الشبكة بكتفه اليسرى والتفَّتْ عليه وهزَّتْه هزة شديدة رمت به إلى البحيرة، وكان رأسه أول ما لمس الماء.
فصاح هنري وبيير صيحة فزع، أعقبها صراخ الخوف والجزع الذي صرخه المسكين أوجست حين سقوطه وقد التفَّتْ عليه الشبكة وعاقته عن الحركة، فلم يتمكن من العوم ليعلو على سطح الماء ويقترب من الشاطئ، وكان كلما حاول نفض الشبكة عنه كانت تشتد التفافًا على جسمه، فأبصرته يغرق في الماء شيئًا فشيئًا ولم يمضِ إلا وقت قليل حتى غمر جسمه.
ولم يكن بيير وهنري يستطيعان أن يقدما له أي مساعدة لأن كلًّا منهما لا يعرف العوم، ولاحظت أنه إذا تأخر إنقاذ أوجست حتى يتجمع الناس فإنه يكون قد هلك.
فلم أقصر ولم أضيع الوقت قيامًا بواجبي، فبادرت وألقيت بنفسي في الماء وسبحت نحوه ثم طفوت لأنه كان على عمق كبير من الماء، ثم قبضت بأسناني على الشبكة التي كانت محيطة به وسبحت نحو الشاطئ وأنا أجره ورائي وكان وجهه وشعره يقطران ماءً.
وكنت حذرًا من أن يصطدم بحجر أو بجذع شجرة وأنا أجره، حتى وصلت به إلى الخضرة فأبقيته فوقها ولكنه كان جامدًا لا يتحرك.
وكان بيير وهنري مضطربين فتقدما نحوه، وخلَّصاه بجهد شديد من الشبكة التي كانت تضمه وتضغط عليه، ولما أبصرا كاميل ومادلين توجَّها إليهما وطلبا منهما السعي في طلب المساعدة.
وأقبلت الأطفال الصغار التي شاهدت عن بعد أوجست وهو يسقط.
ولم يتأخر خدم المنزل عن المجيء فحملوا أوجست، ومكث معي الأطفال وحدهم.
فقال لي جاك: أحسنت يا كديشون، فإنك خلَّصت حياة أوجست. ثم التفتَ إلى إخوانه وقال: أرأيتم كلكم بأي شجاعة ألقى كديشون نفسه في الماء؟

الحمار وهو ينشل أوجست من الماء ويخرج به إلى البر.
فأجاب لويس: نعم، شاهدنا ذلك، ورأينا كيف كان يعوم لتخليص أوجست.
وقالت إليزا: وكيف قاده بلطف إلى البر!
وقال جاك: مسكين كديشون! فإنه مبلول بالماء الكثير.
فقالت هنريت: لا تلمسه يا جاك لئلا يبل ثيابك، ألا ترى الماء يسيل من جسمه من كل ناحية؟
فقال جاك: وماذا في الأمر إذا كنتُ أبتل بالماء؟ ثم طوَّق رقبتي بيديه وقال: إذا بلَّني الماء فهو لا يبلغ مقدار ما بلَّ كديشون.
فقال لويس: أحسن من أن تعانق كديشون وتثني عليه أن تقوده إلى الإصطبل، حتى تستطيع هناك أن تنشف جسمه وأن تقدم إليه الشعير استجماعًا لقوته.
فقال جاك: هذا صحيح، ومعك الحق، تعالَ يا كديشون.
وتبعتُ جاك ولويس في ذهابهما إلى الإصطبل بعد أن أشارا إليَّ بأن أتبعهما، فلما دخلنا الإصطبل أقبل الطفلان يجتهدان في تنشيف جسمي، وكانا يفركانه بقبضة من القش. ولما تم التنشيف جاءت هنريت وجان بمشط فسرَّحا شعر رأسي وذيلي، فكنت بعد ذلك على أحسن حال وتناولت بشهية حسنة كل ما قدموه إليَّ من الشعير.
وفي أثناء ذلك قالت هنريت بصوت خافت تخاطب جان: كديشون عنده شعير كثير جدًّا.
فأجابت: لا بأس بالزيادة، فهو طيب جدًّا وهي مكافأة له.
فقالت جان: أنا أستحسن أن نقدم له قليلًا منه.
فقالت هنريت: لماذا؟
فأجابت جان: لكي نعطي للأرانب التي ليس عندها شعير، وهي تحبه كثيرًا.
فقالت هنريت: إذا أبصرك جاك ولويس وأنت تأخذين الشعير من كديشون فإنهما يوبخانك.
فقالت جان: هما لا يرياني، لأنني أنتظر حتى لا ينظرا إليَّ ثم آخذ.
فقالت هنريت: إذن تكوني سارقة، لأنك تسرقين الشعير من كديشون المسكين الذي لا يستطيع أن يشكو لأنه لا يقدر أن يتكلم.
فأجابت جان وهي متأثرة: هذا صحيح، ولكن أرانبي تكون مسرورة إذا حصلت لها على شيء من الشعير.
ثم جلست بقربي تنظر إليَّ وأنا آكل.
فقالت هنريت: لماذا تجلسين هنا يا جان؟ تعالي معي نسأل عن أخبار أوجست.
فأجابت جان: أنا أفضل أن أنتظر حتى يفرغ كديشون من أكله، فإذا بقي منه شعير أحمله للأرانب وبذلك لا أكون سرقته.
فحاولت هنريت أن تأخذها معها فلم تقبل، فتركتها وذهبت. واستمرت جان تنظر إليَّ وتراقبني وأنا آكل وكأنها كانت تقول: أنا خائفة أن يأكل الشعير كله، وليته كان يبقي منه قليلًا! فإنني أكون مسرورة وآخذ ما يتركه لأجل الأرانب.

أوجست وهو يقدم الحمار إلى أهله ويقول: هذا هو الذي أنقذني.
فأكلت أكثر ما كان أمامي، ولكنني أشفقت على تلك الطفلة الصغيرة، وأعجبني منها أنها لم تمس شيئًا من طعامي مع شدة رغبتها في إطعام أرانبها، ولذلك تظاهرت بأنني شبعت ورفعت رأسي تاركًا بعض الشعير إرضاءً لها. فلما أبصرتْ ذلك فرحتْ كثيرًا، وقامت إلى مكان الشعير فأخذت منه بيديها، ووضعته في طرف مريولها الأسود، وقالت: ما أكرمك وما ألطفك يا كديشون! أنا ما رأيت في حياتي حمارًا أحسن منك، ومن أحسن طباعك أنك لستَ شرهًا تحب الأكل الكثير، وكل الناس يحبونك لأنك طيب وكريم، والأرانب ستكون مبتهجة، وأنا سأقول لها إنك أنت الذي أبقيت لها الشعير. ثم ذهبت وهي تجري.
ورأيتها حين وصلتْ إلى مأوى الأرانب وسمعتها وهي تحكي لهم كيف أنني كنت كريمًا وطيبًا وأنني لم أكن نهمًا، وأنها ستكون مثلي، وأنه ما دمت أنا أبقيت من طعامي للأرانب فيجب على الأرانب أن تبقي من الشعير لصغار الطيور.
ثم قالت للأرانب: وسأعود قريبًا لأرى إذا كنتم قنوعين، وإذا كنتم صنعتم كما صنع كديشون. ثم أغلقت الباب على الأرانب، وذهبت تسأل عن أوجست، فتبعتُها لكي أطمئن على هذا المسكين، فلما اقتربت من المنزل سَرَّني أنني رأيت أن أوجست كان جالسًا على الخضرة مع إخوانه بكل ارتياح. فلما أبصرني قادمًا نهض وتقدم إليَّ وقال ملاطفًا: هذا هو الذي أنقذني، ولولاه لكنتُ هلكتُ، وقد كنت فقدت صوابي في اللحظة التي كان فيها كديشون قابضًا على الشبكة حين ابتدأ يجرني إلى البر، ولكنني رأيته جيدًا حين ألقى بنفسه في الماء وساعة كان يعوم لأجل إنقاذي، فلست أنسى أبدًا المعروف الذي صنعه معي، ولست أحضر إلى هنا مرة أخرى بدون أن أسلم عليه وأشكره.
فقالت جدته: هذا الذي تقوله حق وصواب يا أوجست، فإن الواجب على كل عاقل أن يشكر مَنْ أحسن إليه سواء أكان إنسانًا أم حيوانًا، أما أنا فإنني أتذكر دائمًا الخِدَم التي أداها لنا كديشون، ومهما يكن من الأمر فإنني عزمت على ألَّا أدعه يفارقنا.
فقالت كاميل: لكنك منذ أشهر كنتِ يا جدتي قد عزمت على إرساله إلى المطحنة ليشتغل فيها.
فأجابت الجدة: نعم، ولكنني لم أرسله، إنما خطر ذلك في بالي، وكان السبب ما حدث منه أولًا ضد أوجست حين ألقاه في الحفرة، وكان هذا على أثر عدة شكاوى ضده من سكان المنزل، أما الآن فإنني عزمت على الاحتفاظ به في المنزل مكافأة له على خدماته العديدة، ولست أكتفي ببقائه عندنا بل أريد أن يكون هنا منعَّمًا مستريحًا.
فابتهج جاك وصاح: أشكرك كثيرًا يا جدتي، وأنا أحب أن أكون الشخص الذي يعتني بكديشون، لأنني أحبه وهو يحبني أكثر من الآخرين.
فقالت له جدته: لماذا تريد أن يحبك كديشون أكثر من حبه للآخرين، وليس هذا من العدل أو الشهامة؟!
فأجاب جاك: بل هو العدل يا جدتي، لأنني أحبه أكثر مما يحبه أولاد عمي، وفوق ذلك فإنه حينما كان غير صالح ولم يكن أحد يحبه كنت أنا أحبه قليلًا. ثم أضاف بعد هذه الجملة: وكنت أيضًا أحبه كثيرًا … قالها وهو يضحك ملتفتًا إليَّ قائلًا: أليس كذلك يا كديشون؟
فجئت على الأثر واعتمدت برأسي على كتفه، فضحك جميع الحاضرين. واستمر جاك يقول: ألا ترون يا أولاد عمي، وكيف كنتم تظنون أن كديشون لا يحب غيركم؟
فضحكوا وقالوا: نعم، نعم.
فقال جاك: ألا ترون أيضًا أنني أحب كديشون، وأنني أحببته دائمًا أكثر مما كنتم تحبونه؟
فأجابوا كلهم بصوت واحد: نعم، نعم.
فقال جاك: وأنت ترين يا جدتي أنه نظرًا لأنني أنا الذي جلبت كديشون إلى المنزل، وأنني أحبه أكثر من غيري؛ فمن الحق أن كديشون يحبني أكثر منهم.
فأجابت الجدة وهي ضاحكة: أنا لا أعارض في ذلك وهو يسرني، ولكن إذا كنت غائبًا فمن الذي يعتني بكديشون؟
فبادر جاك وقال: أنا هنا دائمًا يا جدتي.
فأجابت جدته: لا يا عزيزي، فإنك لا تكون هنا دائمًا، لأنك ستذهب مع أبيك وأمك متى ذهبا.
فاكتأب جاك وظل مفكرًا وذراعه ممدودة فوق ظهري ورأسه معتمد على يده، ثم أشرق وجهه فجأة وقال: هل تسمحين يا جدتي بأن تهبي لي كديشون؟
فأجابت: أهبه لك كما تحب يا ولدي العزيز، ولكنك لا تستطيع أن تأخذه معك إلى باريس.
فقال: هذا صحيح، ولكنه سيكون لي، فمتى صار أبي صاحب منزل كبير فإننا نضع فيه كديشون.
فأجابت: أهبه إليك على هذا الشرط، وإلى أن يتم ذلك يعيش هنا، وربما يطول عمره أكثر مني فلا تنسى حينئذ أن كديشون لك، وأنني أترك لك العناية به حتى يعيش سعيدًا.
الفصل الرابع عشر
الخاتمة
ومنذ ذلك اليوم استمر جاك يظهر لي حبه الدائم، وأنا أيضًا كنت أعمل ما في وسعي لكي أكون ظريفًا ونافعًا، ليس له وحده بل لجميع أهل المنزل. ولم آسف على الجهد الذي بذلته في تهذيب نفسي، لأن جميع الناس كان يزداد تعلقهم بي وعطفهم عليَّ، واستمررت على ملاحظة الأطفال وحياطتهم من الحوادث وحمايتهم من شر الناس وأذى الحيوانات.
وكان أوجست يحضر كثيرًا إلى المنزل، ولم يكن ينسى زيارتي كما وعد، وكان في كل مرة يهدي إليَّ تفاحة أو كُمَّثْراة أو قطعة من الخبز أو الملح الذي أحبه خاصة، وأحيانًا شيئًا من الخضراوات التي تعجبني، ولم يكن يفوته أن يقدم إليَّ من لذيذ الأطعمة كل ما يوافق ذوقي. وهذا يدل على أنني كنت مخدوعًا في الحكم بأنه لم يكن طيب القلب، وإنما كنتُ حكمت عليه هذا الحكم لأنه كان يظهر عليه أحيانًا شيء من الكِبْر والطيش.
•••
والذي دعاني إلى تحرير هذه المذكرات، وأوجد عندي فكرة نشرها هو ما سمعته في محاورة دارت بين هنري وأبناء عمه، فقد كان هنري يظن دائمًا أنني لا أعقل ما أفعل وأنني لا أفهم ولا أدري لماذا أفعله.
فكان من رأي أبناء عمه وخصوصًا جاك أنني ذكي مدرِك، وأن لي إرادة في كل ما أعمل. فانتهزت فرصة فصل الشتاء، وكان شتاء قارسًا لا أستطيع الخروج فيه، فدوَّنْتُ بعض الحوادث المهمة مما صادفته في حياتي.
وستجد الناشئة في هذه المذكرات، على ما أظن، شيئًا من التسلية والفكاهة والموعظة. وعلى كل حال فإنكم ستعرفون منها أنه لكي تكونوا مخدومين أحسن خدمة يجب أن تُحْسِنُوا معاملة الخدم، وسترون أن الذين يظهرون منهم بمظهر الغباوة ليسوا أغبياء بالقدر الذي يلوح عليهم، وأن كل حمار له كسائر الحمير قلب يحب به سادته ومن أحسن إليه، ويتألم به مما يجد من سوء المعاملة، وأن له إرادة تحمله على إحسان جزاء المحسن والانتقام مِمَّنْ أساء، وأنه يستطيع كما يشاء سادته أن يكون سعيدًا أو شقيًّا، وأن يكون بحسب إرادتهم وأعمالهم صديقًا أو عدوًّا مهما يكن الحمار صغيرًا أو بائسًا.
وإنني أحمد الله على أنني أعيش الآن سعيدًا، محبوبًا من جميع الناس، مُعْتَنًى بي كل الاعتناء كما يُعْتَنَى بالصديق، برعاية سيدي جاك. ولقد اكتهلت وأوشكت أن أصير هَرِمًا، ولكن الحمير تعيش كثيرًا. وما دمت أستطيع المشي وأقدر على العمل، فسأجعل كل قواي وذكائي ومواهبي وَقْفًا على خدمة سادتي.
(انتهى