المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بيروت البكاء ليلًا


AshganMohamed
01-05-2020, 09:51 PM
Table of Contents
الفصل الأول‏
الفصل الثاني‏
الفصل الثالث‏
الفصل الرابع‏
الفصل الخامس‏
الفصل السادس‏
الفصل السابع‏
الفصل الثامن‏
الفصل التاسع‏
الفصل العاشر‏
الفصل الحادى عشر‏
الفصل الثاني عشر‏
الفصل الثالث عشر‏
الفصل الرابع عشر‏
الفصل الخامس عشر‏
الفصل السادس عشر‏
الفصل السابع عشر‏
الفصل الثامن عشر‏
الفصل التاسع عشر‏
الفصل العشرون‏
الفصل الحادي والعشرون‏
الفصل الثاني والعشرون‏
الفصل الثالث والعشرون‏
الفصل الرابع والعشرون‏
الفصل الخامس والعشرون‏
بيروت البكاء ليلًا
بيروت البكاء ليلًا
تأليف
شوقي عبد الحكيم

بيروت البكاء ليلًا
شوقي عبد الحكيم

رقم إيداع ١٥٦٦٨ / ٢٠١٤تدمك: *٩٧٨ ٩٧٧ ٧٦٨ ٠٦٧ ٧‬

مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
جميع الحقوق محفوظة للناشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
المشهرة برقم ٨٨٦٢ بتاريخ ٢٦ / ٨ / ٢٠١٢
إن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة غير مسئولة عن آراء المؤلف وأفكاره
وإنما يعبِّر الكتاب عن آراء مؤلفه
٥٤ عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ١١٤٧١، القاهرة
جمهورية مصر العربية
تليفون: *+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢‬ فاكس: *+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣‬
البريد الإلكتروني: hindawi@hindawi.org
الموقع الإلكتروني: http://www.hindawi.org

تصميم الغلاف: إيهاب سالم.

يُمنَع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إلكترونية أو ميكانيكية، ويشمل ذلك التصوير الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مضغوطة أو استخدام أية وسيلة نشر أخرى، بما في ذلك حفظ المعلومات واسترجاعها، دون إذن خطي من الناشر.
Arabic Language Translation Copyright © 2016 Hindawi Foundation for Education and Culture.
Copyright © Shawky Abdel Hakeem 1985.
All rights reserved.
الفصل الأول
قال: كان ما يُعجبني فيها أو لا يُعجبني — لا أعرف على وجه الدقة، أحاول جاهدًا الإيضاح — هي تلك الحكايات الصغيرة إلى حد الهيافة، والتي تنساب على التوالي من فمها مع طرقعات الليدن. مرَّت على شكل سريان الذكريات، تلك الأفعال المتراكمة كمثل قمامات المدن المحاصرة الموبوءة، إلا أنها على أية حال ذكريات تظل عالقة بالكائن، مثلها مثل الجلد والبصمة وحجم الفك.
وقال: إن المهم هنا هو الحكايات، لا من حيث إني جامع لها أغترفها من أفواه الناس، حين كان يأخذ طريقه في الصباح عبر الطرقات الزراعية، والغوص في أوحال البلدان الصغيرة والبنادر والقرى ضاربة القحط والسواد؛ بحثًا عنها منسابة من فم لفم، أفواه جوعى وشائخة وجنائزية لندابات القرى والبلدان المحيطة، أناس عمال زراعيون ورعاة وصيع، تطحنهم مهنهم اليومية، والتي قد تمتد لأحقاب، مضافًا إليها الجروح … تلك الندبات الغائرة التي تولدها الأيام والليالي عبر رتابة تتابعها المتوالي، من ندبات قد تنبت مزهرة للحظتها، طارحة من فورها حصادها ومواتها المعجل، منها تلك النتئة أو الدمل الذي نبت للحظته مرة في قدم الخليفة العباسي الثاني السفاح، وما إن دلكته له خليلته المصرية من تانيس — الغادرة — حتى تمدد ميتًا، السفاح يموت.
فكم من ندبات تحملها القلب! وكم من جراحٍ كانت تفيض بها حكايات القرى وفابيولاتها! تسأل: أهي ذاتها الندبات، الجراح، حتى هنا، لعله ذات الفم، التم، الإيقاع.
كان قد قدم إلى بيروت هاجًّا بجلده من قهر مدن أكثر حصارًا من القاهرة، وكان قد عبر سلسلة متوالية من المصائد والحصارات من جمارك وتفتيش مرورًا بعمان، الزرقاء، دمشق وبيروت، ألعلها ذات الحكايات، الحواديت؟
قالت: انقطعت طفولتي بقرية الجنوب اللبناني السليبة — راشيا الفخار — منذ الطفولة وانقطاع الفطام. تربيت عند تيتا — في القنيطرة، وحين تعلمت المشي وجاءت أمي للعودة بي وتعميدي اخترتها أشبينتي. لم أكن أعرفها، وحين التقيت للمرة الأولى بإخوتي، غريبة تائهة، انهالوا عليَّ ضربًا جميعهم من كل جانب، كمثل جوارح صغار.
قالت: وها أنا ذا منذ لحظتي تلك نهبًا للضرب الجماعي.
كانت المدينة المثقلة بالحصار والعدوان بيروت، مثلها مثل جسد بشري مقطع على هذا النحو أو ما يقاربه قليلًا، تبدت لعينيه من نافذة السيارة التي استقلها من دمشق عبر تلال الجليد الممتدة، لا شيء يقطع الصمت سوى الطلقات المتبادلة عبر محاور أشلاء الجسد البارد الممزق، على عادة آلهة الاخضرار الذبيحة، تذكره إله فينيقيا الممزق، الذي لحقته أيدي الاغتيال وليس الموت، أدونيس، وتموز، ربط بينهما وبين أوزوريس مصر.
غمغم وهو يستجلي شعارات الجدران والميادين: جميعهم لحقتهم أيدي الاغتيال الجماعي عبر البراري، سواء أدونيس لبنان، أو تموز ما بين النهرين، أو أوزوريس مصر من سفلى لعليا.
كان قد زار عابرًا الكثير من المدن الأقل خرابًا. الناس على الدوام جميعهم غرباء، ويبدو أن الوحدة الجاثمة تجيء ملازمة للقوة واستهدافها.
ولعلها المقولة الوحيدة لفيلسوف النازية والتفوق «نيتشه»، التي يحفظها له كثيرًا «الإنسان القوي هو الإنسان الوحيد.» ورغم أنها مقولة مرعبة، إلى حد ما يحدث من دمار، وتبادل إطلاق النار العنصرية على المحاور، إلا أنه تقبلها، وقد تكون أراحته كثيرًا، إلى حد تقبله لحالات تمريض نفسه بالقيء والمغص الكلوي، وحالات التسمم بالسكر، عبر الفنادق والبنيونات الرخيصة في باريس والكوت وأزور ومرسيليا وباب خضرا في تونس وسوسة، تلك المدن المذعورة بالخوف والتربص، وهو في كل حالاته غريب وسط غرباء.
في الأسواق الشعبية للحرامية وسلع البالات الروبابيكا، كان يحلو له الاستماع إليها، تلك الحكايات الصغيرة الأقرب إلى ألوان الأطفال ورسوماتهم، سوى من اختلاف ضئيل يتصل بالتصميم، ذلك الذي يمتلك الجسد الأساسي لكل حكاية مفردة؛ حتى لتصبح مثلها مثل الكائن البشري الحي المهاجر دومًا.
قالت: مفيش حاجة بتاعتي.
قال: منذ الضرب الجماعي.
تذكَّر أن بالقرب من ذات المكان «الجنوب اللبناني» سبق له التعرف على الحكاية الأم، حين أقدم إخوة يوسف الصديق — ابن الجارية المضطهدة راحيل، ابنة لابان بن تاحور السوري الفلسطيني الحوراني — الأحد عشر على ضربه وإلقائه في أعماق الجب.
غمغم: «لعلها ابنة غير شرعية لأم شامية فلسطينية ترويها الجدات والتيتات مع رضعات اللبن منذ المهد؛ لتستقر في المخيلة، وعنها ينتج ويجيء — على عادة الإرث والتوارث — كل مسوخاتها، عبر جيل وما يعقبه وذاكرة وأخرى. الذاكرة مستودع الحكايات الصغيرة، أين هي فيما يحدث؟!
الطبيعة الراعدة عبر البحر والجبال، والنار على المحاور، وسيول السيارات والشاحنات الحبيسة الكسحاء على الطريق المتعرج ما بين دمشق ومداخل بيروت.
قدم هذه المدينة هربًا بجلده من حصارات أكثر قسوة، لماذا كل ما بداخل حقيبته لا يعدو مخطوطات الحكايات الصغيرة والاستطرادية التي دأبت الشفاه على أن تلوكها بلا توقف أو هوادة، من حيث إنها تحفظ ما يمكن أن يُشابه الذكريات، تلك التي مكانها الذاكرة، مستودع الحكايات الصغيرة، التي قد توغل في قصرها وإيجازها، إلى حد المأثور، النكتة، أين هي فيما يحدث من حصارات الجليد، ودوي الانفجارات، وتلك الشبورة الجاثمة الثقيلة المغيبة لكل مرئيات؟
وفي لحظة متقاربة، بل لعله «أتموسفير» متناسق، هو ذلك الذي جمع بينهما منذ أول لقاء، حيث جاء كلاهما من بلده ومسقط رأسه، ومرتع طفولته، هي من إحدى قرى الجنوب التي يحتضنها الجبل الشاهق المائل؛ راشيًا الفخار، هربًا من اعتداءات إسرائيل التاخمة، وهو من إحدى قرى الفيوم، وما اشتهر عنها منذ فخار ما قبل التاريخ والدولة القديمة، مرورًا بفخار الإقليم الأرسينوي البطلسي الهليني الروماني والقبطي، وحتى أيامنا، حيث يقوم الفلاحون وحفارو المقابر بنهبه بالمقاطف والجوالات من «كيمان فارس» وأهناسيا المدينة، وأبو صير الملق، وجميع الهوارات السبع، واللاهون.
أكداس من التماثيل الفخارية المهمشة في عمومها كان يحرص في جمعها على ما تبقى منها من رءوس الآلهة والملكات والآلهات: إيزيس، حورس، نفتيس، هاثور، وإله الموتى حارس الرمم أنوبيس، الذي يحرص تجار الآثار على تلقيبه بأبي الحصين.
هي هي ذات البلدان التاريخية للموتى وما خلفوه للأحياء، هي بذاتها الموغلة في العوز واللاأمن.
قال: لعلها هي هي المعضلة الجاثمة لسيول السيارات والشاحنات الحبيسة داخل أكداس الجليد، ويشاع عبر نداءات السائقين وإجهادهم أن الأمر قد يحتاج إلى نجدات عاجلة بالهيلوكوبتر.
الأمن وافتقاده.
عبر كل المحاور الملتهبة بالجليد ونيران الميليشيات.
وبدا هو بدوره «المهاجر» بمنظاره ومعطفه المتهدل، وهو يرقب وجهه بلا تعمد في مرآة السيارة، مكفهرًّا.
كان قد بدأ يغزوه خوف حقيقي على محتويات حقيبته، نصوص حكايات فقراء فلاحي مصر ونداباتها التي دوَّنها للمرة الأولى من أفواههم، أهازيجهم وغنائهم وندبهم الذاتي بقلم رصاص أو كوبيا، وظلت حبيسة عنده منذ أكثر من عشرين عامًا إلى أن جمعها بترابها وأودعها حقيبته المهترئة هذه التي أصبحت غارقة في مياه الأمطار، والتي لا بد أنها لحقت ورقها الأصفر الرخيص المهترئ، إنها كل ما خرج به من بلده، سواء الفيوم، أو قاهرة السادات التي أدماها القهر، وألبسها شاراته — أو طرحاته — السوداء المهينة.
الفصل الثاني
رأى نفسه عبر الفراغ الجليدي اللانهائي ولدًا صغيرًا بطيء الإيقاع، يسعى عبر جموع زاحفة من صبيان وبنات وكهول وعواجيز ذات مطلع نهار — قبل طلوع الشمس — إلى أحد الموالد الموسمية القريبة، يتسمَّر مبهورًا أمام الأراجوزات والخلابيص، ومقاهي الهواء الطلق، وحركات الغوازي والصييتة من المغنين الشعبيين، مواصلًا تنقُّلاته عبر إيقاعات الأذكار، ومنشدي دلائل الخيرات، ودقات كوديات الزارات الهمجية المهيجة من سودانيين ونوبيين وصعايدة.
إلى أن كان يوم قرر فيه جمع وتدوين ما يسمعه من حكايات وأشعار من خضراء دنيوية لحمراء جنائزية، على ورق كراساته المدرسية، وكلما تراكمت نصوصها راح يسترجعها بالقراءة والتمثل على ضوء اللمبات الغازية، قبل أن تدخل الكهرباء بلدتهم.
لكم كانت رحلة شاقة وعرة مضنية امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا! ولكم هجر كل شيء بحثًا عنها … الحواديت، حتى مدرسته، ومساعدة والديه!
أصبح لا شيء يمكن أن يتملك مخيلته سوى السعي، بلاد وقرى إثر بلاد بحثًا عنها من أفواه الناس، من سائلين وشحاذين ورعاة بهائم وندابات وممثلات وكوديات وحراس مقابر ولصوصها، الذين عادة ما تغشى عيونهم نهارًا في وضح ضوء الشمس، لكنها تبرق ليلًا، فيرون على عادة المعبودات الطواطم من كلاب وأبناء آوى.
حكايات تُروى وتفيض في سرد مواجع وآلام بطلاتها من أطفال جنينية تعاني الاضطهاد والمطاردة منذ أن كُنَّ نُطفًا في بطون أمهاتهن الحوامل، لحين اكتمالهن على مدى انقطاع حيض النساء، عبر أشهر الحمل التسعة، وذلك حين أقدم عمال وبصاص كل من فرعون مصر مع موسى، ونمرود بابل وما بين النهرين مع إبراهيم الخليل.
وأخرى توغل في رصد معاناة فتيات — بنوت — كست الحسن والجمال في مواجهة زوجة أبيها، وإخوة كبار في صراعهم مع أشقائهم الصغار، يقطعن من أجسادهم بالسكاكين؛ لتتحول الأعضاء المتقطعة من فورها إلى نبات زهور الأكاسيا الدامي عبر البراري، وبحيرات التماسيح مفتوحة الأفواه للالتهام وعيونها تسح دموعًا بلا هوادة في حالة أقرب إلى التحسر منها إلى أمراض العيون ورمدها، كما لو كن أناسًا من بين الإنس مُسخن إلى حيوانات خشبية مجففة، تسعى على طول البحيرات المسحورة، قارون، وبحر يوسف والنيل، عبر حالات التحولات والتبدلات في حكايات وخرافات سحر المشاركة والأثر، بين ساحر شائخ وصبيه الفتي الذي علمه كاره ومهنته يومًا، ولما فاقه واشتد ساعده رماه، مثلما حدث بتمامه في حكايات السريان النساطرة والسورية واللبنانية بين وزير البلاط الأول الحكيم إحيفار وبين صبيه وابن أخته الانتهازي نادال أو النذل، الذي انتهى به صراعه مع خاله إلى أن يواصل ضموره وتضاؤله ليصبح كمثل قملة الحنطة، يفسدها إلى حد معادة الإثمار والازدهار في جدلية علاقتها، ملازمة الإفساد للنماء، والموت والانتفاء، لمعاودة الحياة.
من حكاية نسائية نمطية لزوجات خائنات تظل تواصل اختزالها عبر العصور ملخصة في مأثور، أو نكتة بذيئة وخادشة ومحرضة.
زوجات لصات وفتانات ومخلصات وشبقات، نادبات أحوالهن في بكائيات جنائزية ذاتية:
مسيكي بالخير يا عود الأنا يا روحي
يا للي تيابك على الجسم ترد الروحي
بكرة آخذ اسمي واسمك وأكتبه في اللوحي
وأعلقه في الهوا الطاير لأجل البكا والنوحي
ومنها:
يجازيك يا دي العدو يجازيك
يا للي بتبحت في حضانا
بعد الجميل ما كان رامي الرماميل
خليته جفانا
حكايات تلوكها الحلوق، وهي الأصل فيما يحدث، سواء الآن على المحاور، أو في ذلك الاضطهاد المزري إلى حد التكافؤ بالتجاذب.
أن يلتقيا.
الفصل الثالث
تذكر أنهم كانوا قد أخذوا الموسى بجرابه الأبنوسي من جيبه الخلفي حين ضبطوه معه، فتحفظوا عليه ووضعوه بعناية في خانة المضبوطات بجمارك عمان.
حين تجمهر حراس الحدود البدو قصار القامات بكاباتهم الزرقاء، فأحاطوه من كل جانب، وعاودوا التفتيش عبر جيوبه، حقائبه، واسته.
حاول إفهامهم في صمت مشيرًا إلى ذقنه ورقبته، استراب الركاب وبقية المسافرين، وتحسس أكثر من راكب بدوي مناطق عنقه بعيونهم في استرابة.
الناس عبر حواجز الحدود والجمارك لا يعرفون بعضهم البعض سوى أنهم يتبادلون الكلمات العجلى.
على طول الطريق الصحراوي تتراص شاحنات وقاطرات المازوت.
تزايد سوء وضعه، حين عثورهم على بعض حبات لأدوية مختلفة، وقدم صول وكاتب مدني بيده قلمه ليجري التحقيق حول الموسى وأوراقه الكثيرة المهترئة الصفراء، وشرح لهم الوضع في صعوبة وحكاية الحكايات.
قال بأن الأمر لا يعدو بضع حواديت ونكات عامية وخارجة بذيئة لبطات وشحارير وأبراص وعناكب وزواحف، من تلك التي على بطونها تزحف، وترابًا تأكل وتقتات.
هداهد لها هيئة الطواويس، ومن فصيلتها، رسل الحب بين بلقيس الملكة وسليمان الحكيم.
ضحك الجنود قصار القامات في حياء وكأن الأمر فاضح إلى هذا الحد، وربط الكاتب المحقق بملابسه المدنية بين الموسى الأبنوسي في جيب المهاجر وبين الأوراق والكراسات، الورق.
لماذا يكرهونه؟
كان له وجه طويل عظمي ناحل، وكان له «دقة» تركوازية لوشم ثلاث حبات هرمية لعنبات، أو تفاحات. يدخن بطريقة متواصلة، وبين وقت آخر يبصق في سلة بين قدميه، معاودًا الكتابة والتلصص.
وأجابه: بأن من السابق لأوانه الربط بين أوراق حكايات قديمة كان قد جمعها منذ زمن من أفواه العامة بنفس ما يحدث في حالات جني القطن وآفاته، وهو أمر عادي غير ضار بالدرجة التي يربط بينها وبين الموسى، الذي لم يفارق جيبه الخلفي منذ الإفراج عنه عبر صحاري مصر المحاطة إحاطة الرمل بالواحة، وعبر سلسلة متناهية من محاولات الإطباق عليها وجهًا لوجه من كل جانب، على عادة ما يحدث مع الحيوانات الضارية، التي أفضت به بدورها؛ لأن يصبح مثلهم ومن فصيلتهم ضاريًا.
دفع طاولة المحقق في الوقت الذي أطبقت عليه من كل جانب العساكر القصيرة في محاولة لمنعه من الوصول بمرفقه إلى طاولة المحقق، مجاهدًا في عنف حقيقي لمقاربة سلة الزبالة بين قدمي المحقق الموشوم؛ لينكفئ باصقًا مسعلًا في عنف أقرب إلى السعار الطويل المصاحب للإغماء وحالاته، مهوهوًا على عادة الكلاب الضالة: هو … هو.
ظل يسعل مهوهوًا منكفئًا عبر مساحة الصمت المطبق وقيام المحقق المدني الموشوم على كرسيه الخيزراني مبتعدًا، ووجوم العسكر، وذعر الصول السمين، إلى أن دفع له أحدهم بالسلة، وآخر بكوبة ماء، ثم شاي بالنعنع ولفائف، وانتهى الموقف بنجاحه في كبح ذلك البكاء الداخلي الملازم للسعال والسعار.
اعتذر للجميع وشدد عليهم مسلمًا، خاصةً الصول الذي أشار بجمع حاجياته، وحين عاد إلى السيارة رحب به الجميع، وانطلق السائق الفلسطيني من أريحا عبر حواري عمان المتعرجة المتصاعدة، بموازاة البيوت الواطئة والمتعالية على مدى التلال التي تعتليها المدينة.
تزايدت النار على المحاور.
قال: يبدو أنها بيئة ملائمة لأن ينبت فيها نبي الصبر أيوب الدمشقي، فالناس هنا سواء: الركاب الأربعة الذين لا يجمعهم سوى السيارة وسائقها يبدون مستسلمين، حتى عندما سرت إشاعة أن الأمر قد يحتاج إلى نجدات عاجلة بالجرافات والهيلوكوبتر لخروج سيول على المحاور.
أينما وجد الناس تستعر النيران على كل المحاور.
كان قد خلفها في القاهرة، لتطالعه هنا في بيروت هي هي، فلعله ذات الوهج، درجات التوتر، لزوجة الجلد الأصفر، الافتقاد داخل غابات المدن المعنية المحاصرة بالخوف والتربص، والتي تتحين في كل لحظاتها الغوص العمودي، الاختباء المصاحب للطرد، فهي في كل حالاتها وتواجدها طريدة، لا مكان لها في فلك القدماء ولا العائشين. إنها هي بعينها سليلة ذلك الحيوان أو الابن النوحي الطريد، لا مكان.
أجل هي حيوان الماموث الجليدي القطبي، الضال في طوفانات الحشرات وزواحف الأرض التي تفيض في سردها الحكايات القديمة، الغرق المحقق للابن أو الابنة الضالة … الخوارج.
المدن.
الضواري.
ولعلهم يتواجدون بكثرة حتى هنا، إنهم يتكاثرون بمعدلات أكبر بالطبع سنة أو محنة عقب أخرى، وهم كانوا سببًا دائمًا لهجرته … شتاتاته، رغم انقطاع كل صلة يمكن أن تقربه من طرقهم، مقاهيهم، أفكارهم الموصلة إلى حد التدمير.
قال: لعله الموسى.
تحسس جيبه الخلفي منزعجًا، في لحظة مشابهة لتلك التي أحاطت به فيها جند الملك سمر الوجوه والقفيان، وتذكر أنهم أخذوه.
الفصل الرابع
ما إن دق جرس الباب وفتحت له صاحبة المنزل وهي تلقي على وجهها الناحل العظمى الأصفر بمنشفة قطنية، متراجعة هلعة من منظره، بمنظاره وقامته العظيمة التي بدت مفرطة الطول في مواجهتها، مثقل تحت حقيبتيه الجلديتين وكيس ملابسه المنزلية.
ساعدته في إدخال حاجياته وهي تجاهد في تذكر اسمه، وقامت بدورها أختها هلعة من فراشها رغم النيران المستعرة على المحاور.
أزالوا بقايا المياه والجليد المتساقط من على معطفه وتحلقوا حول الفراش من فورهم يرتشفون الشاي، وحكى لهم في ملل قصير ما حدث، وعم صمت مفتعل اندفع المهاجر خلاله يحاسب نفسه، فلعله أيضًا ذات الجو، ذلك الحزن الدفين الرابض في أعماق الفتاتين، وهو بدوره معهم، لماذا هو في كل حالاته، تذكر على الفور السور الطيني الممتد على طول مرمى البصر ومن داخله تمتد أشجار الكافور والسنط وذقن الباشا، للمقابر الممتدة في مواجهة شباك بيتهم الريفي، ولا ينقطع، لجنازات النساء المتشحات بالسواد، والنيلة التركوازية والزرقاء ضاربة القتامة تلطخ وجوههن وسواعدهن وهن يندبن، ويَنُحْن، ويرقصن في حلقات. وفي حالة نادرة، حين يكون الميت من «أسرة» وهو صبي صغير، لم يتزوج بعد — ويدخل دنيا — تستخدم الجنازات الدفوف الواسعة العنيفة.
بينما تستخدم جنازات الرجال المصاحبة المُشيِّعة لنعش الميت فرق المزيكة الشعبية التي تُستقدم من المدينة القريبة بكامل أزيائها الفرايحي الأوكر، وطرابيشهم الحمراء، وآلاتهم النحاسية تدق أمام المرحوم العازب، وكورس دلائل الخيرات ينشدون بأصواتهم الباص والباريتون، متبوعين بجوقات النساء.
كل هذا من أمام شباك بيتهم، وهو لا يزال يعتلي كتف أمه، يشهده يوميًّا عشرات المرات.
قال حين سألته كُبراهن عن شروده وهي تميل عليه لتعطيه قطعة من البسكوت المجفف ألقى بها على الكنبة: تذكرت الحزن في مصر.
قامت صغراهن وكان لها وجه فينيقي ينحو إلى الاستطالة، وشعر أسود طويل مسترسل، وكانت تمقت المهاجر، تثاءبت طويلًا وهي تطوق رأسها بمرفقيها، بيدها كتاب لمح عنوانه «الشقيقات الثلاث»: عن إذنكم.
تذكر تشيكوف، ذلك الأسى المقطر داخل المنازل، شقق عواصم المدن المحتدمة بالنار والتربص.
الناس حين تتبادل الأحاديث بلا طعم، أهمية، انتباه، في الشرفات، ومن حول المدافئ وألسنة اللهب.
حين يرتشفون الشاي، ويعانون من كره بعضهم البعض، الأم وابنتها وشقيقتها، الأم وأبناؤها الذكور والإناث، حيوانات البيت الأليفة، برامج أجهزة البث والتوتر.
قال: لعله شيء أو احتياج ضروري تعرفه بكثرة، وضوح أكثر في زنازين المنافي وقلاياتها على مدى الثلاثين عامًا الماضية.
لكم وُفِّق سارتر في مأثوره الملخص عن جحيم الآخرة، الابنة، الحبيب.
تعرَّف من فوره، حين نزع — بريهه — الأسود عن شعره وصلعته، أن كلتا الأختين تضيق بوجود الأخرى، إلى حد الكره.
وتذكَّر بالدقة أنه هو بذاته ما يجاهد في البحث عنه، بدءًا من عمله — وكاره — ومهنته، وهو حقل حكاياته وطرائفها: الكره.
ذلك الذي يحاول الجميع تجنبه والإفلات من قبضته الماثلتين على الدوام ممزوجًا في حنكة بنقيضه وتوءمه، من حب وتدلُّه.
وهو ما أغفلته النصوص القديمة التي خلفها الموتى من الأسلاف والجدود، في ثنايا وصاياهم وتمائمهم المقدسة والمحظورة، ذلك أن الحديث عن نقيضه أنساهم واقعة الماثل المتواجد، سواء في ثنايا ذلك النقيض الوله يبطنه متدثرًا، ويخالطه مخالطة التنفس.
إنه الشهيق الزفير
الخارج المنسل
عبر عمليات التلوث
عبر اللحظة
طرفة العين
ودقة ساعد
الناس هنا تحت الشرفة
في الشوارع ونواصيها
أين موتانا؟
قتلانا؟
أين؟
تساءل حين أخرجه من غفوته على حافة الفراش صوت الأخرى العظيمة الكبرى الطفولي: أحسن حاجة في الدنيا الحب.
– لماذا يكرهها؟
صحيح أنه لا يعرف كلتا الأختين بالقدر الكافي، ورغم أنها فتحت له بابها في الساعة الثالثة ليلًا وأخذت عنه أغراضه، حين لم يجد صديقه، لمجرد المعرفة العابرة للجيرة، إلا أنه يبدو غارقًا في حرجه، إفلاته اللامجدي من قبضة تواجدها.
قالت: أخذوا كل شيء، الأم والأب ماتوا، والضيعة نُهبت، حرتوا أرضها بالشاحنات والدبابات، قطعوا كل أشجار الحديقة، شجرتي وشجرة عالية، فاكهة من كل الأصناف، زهوري … أحواضي.
مالت عليه مسرعة لاكرة، مشيرةً إلى حجرة عالية التي كانت وقتها تسعل في عنف متلاحق عالي الصوت: أطلقوا النار على الوالد، والد عالية، في حديقة بيتنا الجبلي، من ثلاث جهات متقاربة.
صنعت بمعصميها العظميتين هيئة مثلث متساوي الأضلاع أطلت منه بوجهها فترة في مواجهته.
تعالى سعال العالية بشكل مجهد، وجاهد هو في ألا تعاوده الحالة. هب واقفًا مزيحًا الستارة عن الشرفة الزجاجية معاتبًا.
المدينة كانت قد بدأت يقظتها، دويها اليومي مع مطلع ضوء النهار البيروتي، والحرب الأهلية العنصرية تعتصر رحيق أناسها وشوارعها.
ها هو الشارع في بيروت.
سعال صغرى الفتاتين لا ينقطع، بينما الأخرى تعدد مصائب بيتهم الريفي وضيعتهم الجبلية ذات الفردوس الصغير المفتقد الذي كان.
وتصور المشهد عبر أسطح العمارات الممتدة من حوله، العالية بجدائلها السوداء تقف في شرفتها مطلة على الوالد الهرم، مفتش البريد والبرق العتيد بسترته الداكنة وحقيبة يده الجلدية خارجًا عبر طرقة حديقته المتعرجة، ومثلت الجنود الفاشست يطبقون عليه من أضلعه العدة مُطلقين النيران في لحظة متقاربة.
الأب يسقط على وجهه في طين حوض زهور البنفسج، ومن حقيبته تتناثر الخطابات.
العالية تلطم وتسعل بشدة بلا صوت.
ولم يكن هناك بد من الخروج.
عاد المهاجر متخليًا عن الشرفة، باحثًا عن معطفه الجبردين إلى داخل الشقة.
وحين غطس بوجهه الطويل الضامر العظمي في ماء حوض غسيل الحمام الدافئ قال: تكفي مرة واحدة، حاله، البكاء ليلًا، يكفي ما جرى، لولا ذلك الصول المكرش السمين، تذكر تعبيرات وجه، انكماشه بعيدًا بحذاء الجدار المُشاد من الآجر الأحمر، ويبدو أنه غطَّى جانب وجهه الملحم بقبضتيه يرقبه عبر أصابعه، بنفس ما فعلته الأخت الكبرى … الماجدة، منذ هنيهة، حين أطلت عليه من مثلث ساعديها الصفراويين، وهي تصف الطريقة.
أزاح الصابون عن عينيه، فالشمالية تعاني آثار رمد قديم: حين أحاطت شلة الجند بالوالد في حديقة البيت، ودوت الطلقات، وسقط مدير البوستة، غاص وجهه بلا تعبير في طين حوض الورد ورغامه.
الفصل الخامس
عانى المهاجر حين اندفع خارجًا من باب الأسانسير، ومدخل البناية الداخلي المطوق والمتعانق بجذع شجرة عنب عملاقة مجففة، ماتت منذ زمن.
عانى من استقبال عينيه لضوء النهار المتقدم، حين تلقفه الشارع، دلف عبر صفوف السيارات وتاكسيات الخدمة العامة والشاحنات، من جانب لآخر، ومن تقاطع لما يعقبه، تطلع هنا وهناك للقناصة على أسطح البنايات الشاهقة يدخنون ويفطرون في تراخٍ، تذكر البكاء ليلًا.
تناول قهوته واقفًا مشعلًا غليونه في وجه المارة. الناس هنا لا يتطلعون في وجوه بعضهم البعض بالقدر الكافي، سوى أن أحدهم دلق بضعة قطرات من قهوته على سترته معتذرًا.
وتطوعت عجوز بإزالة البقعة بمنديلها.
اندفعت مجموعة من الجنود جارية في أعقاب سيدة ضخمة حافية بيدها مشعل مضاء بالقار والزيت في وضح النهار.
وكما لو أن القهوة حركت معدته، ذلك أنه قاوم طويلًا وسط الزحام والتدافع؛ لينتحي جانب الشارع مرجعًا.
خلف نفسه ماشيًا في اتجاه معاكس للجند الفارين أو المنتصرين، وعند آخر الشارع، شاهد المرأة تعتلي أطلال بناية قديمة بيدها مشعلها، وشعرها الطويل الفاحم استطلعها من زوايا الطريق فترة؛ ليجد أنها على ما يبدو اعتلت قاعدة نصب تذكاري أو تمثال رخامي متهدم وليست بناية، ومن حولها الجند، وراحت تخطب مهددة: قاتلوهم، سدوا الطرقات.
اندفع يجري في الجهة المقابلة، مسندًا منظاره بيده اليسرى بينما الناس تتدافع من حوله، وتسبقه بمسافات واضحة القسمات، حتى النساء المنفضة من حول أفران الخبز والسوبر ماركتس وعربات الخضار، لينضممن إلى طوابير الجارين.
دوت طلقات الرصاص، وجاءه صوت المرأة الضخمة البنيان، وكما لو كان يعنيه هو بذاته: سدوا الطرقات … المنافذ … ادفعوا بأيديكم الطويلة، كل وكر وجحر وبطن أم.
حاول أن يستدير منفلتًا في عنف من يد تحاول اللحاق به، حتى إن جيب سترته انقطع فلم يعبأ به جاريًا متقدمًا بأقصى قواه، حتى إنه تجاوز بعضهم من الذين سرعان ما واصلوا تقدمهم ليجد نفسه في مؤخرة الفارين، عرضة لنيرانهم، أيديهم الطويلة إلى الخلف، وهم بالقطع أكثر سرعة، حنكة، توقد، كما أنهم يمتلكون أسلحة أكثر فتكًا، مضافًا إليها العقول، الخبرات، المناهج الملخصة، القفزات المباغتة للضفادع والحشرات النطاطة.
قفز بشكل أدهشه من قدراته، مخترقًا صفوف النسوة والعواجيز المحتمين بالجدران، محافظًا من جديد على تفوقه تقدمه أكثر إلى المقدمة.
جاهد طويلًا في الاحتفاظ بتوازنه، ألا يصطدم بالباقين الأكثر حركة وعَدْوًا، وتفادى محاولة من أحد الشبان لشنكلته بشكل واضح، حيث يسقط منبطحًا. تلافي في حيوية أدهشته سقوط المنظار. كارثة، وضحك بعضهم من لخبطته وهو شبه منبطح على ركبتيه يجاهد طويلًا في استعادة توازنه، استقامته قائمًا، ومواصلة العَدْو، بقامته الطويلة، وأطرافه العظمية المترامية، بينما ربطة عنقه قاتمة الزرقة تتطاير من حول عنقه، والتعليقات لا تكف عن ملاحقته.
حاول تعرف موقعه من الشارع الراكض بكامله من حوله وأمامه، وما إن حانت منه نظرة إلى الخلف حتى هاله أنه آخر الفارين.
دلف إلى حانة كمثل شق في جدار متناهي الطول والإظلام والإضاءات الخافتة الحمراء، ملقيًا بنفسه على أول فوتيه صادفه، خلع منظاره وبيريهه، وفكَّ وثاق قميصه. ظل يلهث ويسعل طويلًا دون أن يثير أي انتباه.
كان من عادته عندما تغزوه النوبة وتقتحمه أن يركز بصره عن آخره على شيء محدد يتملك انتباهه دفعة واحدة.
وجاء ذلك الشيء: دمية لها حجم بشري، عرف فيما بعد أنها إحدى عرائس صقلية، بملابسها الكثيرة الزاهية الشعبية، ركبت فوق منصة إلى الخلف قليلًا من المكان المعد للجوقة الموسيقية، لها شعر أنيق قصير كستنائي، وعلى صدرها النافر تتدلى الخرزات، وبإحدى يديها مظلة يابانية من الحرير الشيفون الملون.
اندفعت ترقص قافزة في الهواء رقصات صقلية على أنغام البيانولا، لحين الإيذان بخروج وفود الراقصات، ولهن هيئة الدمى وإيقاعها.
عرف من فوره وهو يجفف عرقه بمنديله أن الحانة يونانية، وبخاصة حين قدَّم له الساقي كوب ماء مثلج، فطالبه بمشروبه معتدلًا وهو يعيد التطلع إلى المكان: روم.
كانت الجدران مغطاة بورق حائط له ملمس القطيفة السوداء والحمراء القانية، وحتى طريقة استخدام الورود الصناعية والصحراوية والمحنطة جاءت متناسقة، مع إضاءات الشمعدانات الكهربائية ذات الأفرع الثمانية، وعلى طول المكان وقاعاته المتعرجة انتشرت مرايا طولية مقعرة ومحدبة.
ولما كان المساء قد بدأ يحط مع ارتشاف المهاجر لقدحه الثالث، بدأت وفود الزبائن تتوافر في جماعات، صبيان وفتيات في سن متقاربة جميعهم، وبعضهن سال لعابه من منظر دمى صقلية الزائرة هذه الليلة.
ومن المطبخ انتشرت أبخرة الأطعمة الشعبية، من إسباجيتي لسندوتشات اللحم بالعجين والنقانق والشواء.
وتسمَّر واقفًا من فوره حين شاهدها داخلة في أعقاب شلة شباب، وتلاقت عيونهما الأربع.
قال: أيمكن أن يحدث أن أُخلِّفها هناك في شوارع شبرا المظلات؛ لتدخل على هذا النحو.
اندفع ناحيتها من فوره معترضًا سائلًا، مشيرًا إلى الشارع خارج الحانة القبرصية: عملوا إيه؟
– مين.
– في الخارج.
تأملته مليًّا هي ذات العيون المطلة من تحت الجبهة المدفونة دفنًا تحت الشعر.
قال: الفارين.
تعالت الضحكات المربكة من جوانب عدة، فانسحب من فوره عائدًا معتذرًا لها، منحطًّا على طاولته.
اتخذ أفراد الفرقة الموسيقية أماكنهم، وتعالت الموسيقى المحمومة الراقصة، وعلى الفور ازدحمت الحلبة بالراقصين من الشباب وبضع عواجيز.
وحين تغيرت الإضاءة فأصبحت أكثر سطوعًا، آلمه سوء حظه، في ذات اللحظة المكفهرة التي طالع فيها استطالة وجهه في مرآة الباب المواجه المحدبة، على ما كان يغرقه ويتملكه في نحت البرتوجياكوميتي.
بدا وجهه شاهق الاستطالة، أضفت عليه المرآة ساحات وهالات من المساحيق اللونية البلورية، فتبدت له جبهته مطبقة على حاجبيه اللاكثيفين، وجلد وجهه المشدود المجفف. أما أنفه فواصل استطالته بدءًا من رأس تلك المرآة النافذة اللعينة حتى ما بعد منتصفها، وبين وقت وآخر تطغى صور الحشد المتزايد من الراقصين والراقصات، وعبور السقاة في صعوبة شديدة، بأيديهم صواني الطعام والمشهيات على صورته، فتريحه من المدى المفصح المُشوَّه الذي تُضفيه المرآة الهازلة.
تذكر المرآة المحرضة وربط بينها وبين المرأة، تعتلي التمثال المتهشم تحت قدميها الحافيتين بيدها مشعلها.
وطالعه وجه الفتاة التي سألها منذ هنيهة على الطاولة المقابلة تجلس مع أصدقائها كمن تجاهد في أن تراه، وترى المرآة من خلفها فترة.
عم الضحك لفترة قصيرة، وجاء صوت المغنية المرحة اليونانية أجش إلى حد مؤلم:
«قطعني حتت وارميني في الزيت.»
قدمت إليه الفتاة، فقام وأجلسها، حين أشعلت لفافة وسألته عما كان يسأل.
حاول أن يميل عليها بجذعه الأعلى، مكملًا مضغ طعامه ومزته الخضراء: برا … كتير … كانوا ينجروا … الشارع ورانا … وقدام.
ويبدو أن الفتاة لم تفهم شيئًا، سوى كلمة «إسرائيل»، ذلك أنها اندفعت بدورها تحكي لي عن بلدتهم الجبلية «راشيا الفخار» حين ربط بينها وبين فخار الإقليم الأرسينوي، دون أن يسمع منها كلمة واحدة صحيحة؛ نظرًا لصعوبة تفهمه للهجتها الجنوبية، وعواء الآلات النحاسية، والمغنية نصف الصلعاء، والضحكات المدوية، ونيران المحاور، مما شجعه أكثر على حل وثاق لسانه بالخمر حين قال: أجمع حكايات حواديت، ما يلوكه الناس، الجدات النينات.
قالت: الناس.
قال بتراخٍ: الناس، الرمم.
الفصل السادس
حين تلقفه الشارع البارد، ظل يغمغم لنفسه بصوت شبه مسموع: المعضوض يعض.
تذكَّر خرافة معاصرة عن الدراكولا، ربط بينها وبين العدوان المتربص يدق الأبواب الصهيونية دون أن يعرف لهذا سببًا.
ظل يتقدم في اتجاه البناية حيث الفتاتين وكتبه، حاجياته، مرددًا ميلوديته الكئيبة هذه، عن جدلية المهان المضطهد.
واجه إطلال التمثال المرمري المتقوس إلى أن وجد نفسه داخل مجاله، كتله المتناثرة، أقدام حصان، أعالي كتف، كفة يده، منشة، مشعل روماني الطراز والزوايا، عين.
قاوم نوبة نحيبه الليلي، رغم شاعرية المكان الذي كان يهدر في وضح النهار بالناس والميليشيات، في أعقاب المرأة المحرضة على سد المنافذ.
كان ملتقى الشوارع ومداخلها يشيع فيها الصمت المتوجس، برغم الهدنة الملفقة للمتناحرين، وضوء القمر المكتمل بإشعاعه الرمادي الفضي المتمدد على البنايات المحيطة في استرخاء.
ربط بين المكان وبين معمارية وميتافيزقية دي شيركو، معابد ومصحات وقصور ومحاكم وأبنية أريكايك، تحوي تماثيل هلينية وأيونية وأثروسكية معظمها أقرب إلى التهاوي … التحلل.
وعادة ما يتسلط جاثمًا على هذا العالم الحلمي الكابوسي خراج جلدي دامي الاحمرار، يتمدد قانيًا من إحدى زوايا مقدمة اللوحة كحبل مشنوق.
قضم ساندوتش السجق مستعينًا على دهونه بجريدة النهار المنصرم.
استعاد نفسه … مظهره، حين كان يركض غير فزع على رأس ركب وفي مؤخرته، منفلتًا في حنكته من تلك القبضة — القفازية — التي لامست كتفه الأيسر، إلا أنه انفلت مطلقًا ساقيه للريح بشكل أدهش الجميع، خاصة حين تحول ركضه إلى نوع من التزلق الدافع إلى المقدمة، دون أخطاء كثيرة مفضية إلى الاصطدامات والإيقاع بالآخرين، يده على شنبر منظاره، والأخرى قابضة على الجريدة التي بداخلها سندوتش السجق الزيتي، لا تلين.
قام من فوره ملقيًا ببقايا أكله، منحدرًا نازلًا عن الأحجار، مجهدًا ومجاهدًا في تذكر أقرب الطرق إلى حيث مسكن الفتاتين، متحسسًا في لهفة من تذكر شيئًا يهمه، إن لم يكن اليوم فغدًا، تحسس عنوان فتاة الجنوب القصيرة المهجرة التي التقى بها في الملهى القبرصي.
الفصل السابع
ما إن دق جرس الباب — وكان له صوت الصلاصل اليونانية والإيجية الشعبية — حتى أحس المهاجر من فوره بالإظلام الذي عم عين الباب السحرية، وسط ظلام الطرقة المديدة الموحشة.
تسمَّر في مواجهة العين محاولًا الابتسام غير البعيد عن التوسل فترة طالت إلى حد أنه عاد يجاهد في أن يتعرف الوقت في ساعته الفسفورية، وهاله أنها تقارب الرابعة صباحًا.
أعاد طرق الجرس ووصله همس طويل مصحوب بحدة تمادت إلى حد العنف والضراوة، تبعتها صرخات الاستغاثة المكتومة التي سرعان ما خالطها صدى أشياء تتهشم وتوجعات انتهت إلى الضراعة الكاملة، والعواء المفضي في كل الحالات إلى الصمت المطبق.
فتح الباب كمثل شق ضنين عن جسد الأخت الصغرى الجهمة، بينما اندفعت الأخرى الأقل حجمًا تتوارى هنا وهناك، مطلة برأسها الصغير الدقيق المكفهر من تحت الكنب، وأغطيته، نافذة كمثل جرذ بشري إلى ما خلف ستائر الشرفة الزيتية، مطلة بعينيها الخرزيتين التركوازيتين.
أشارت له العالية بالدخول وهي تجذبه بامتهان جلي من كتفه الأيسر: ادخل.
تحاشى نظراتها وتحرشها الاصطناعي، وهي الفتاة الصغرى التي لا يخلو مظهرها وسلوكها اليومي في وضح النهار من الحياء والتناسق، أما الآن على هذا النحو الضاري.
تحاشى من فوره عينيها، وأفخاذها السمراء الوردية المتناسقة وهي تضع — بتحدٍّ تَبدَّى في عيني الأخت الكبرى الضئيلة التي كانت لحظتها منكمشة في افتعال واضح، إلى جانب انثناءة جدار بالقرب من ألسنة النيران — نيران الفحم المتوقدة داخل الموقد المرتفع النحاسي.
شغل نفسه عن عينيها وفخذيها باسترجاع بضعة مشاهد، قراءات، ذكريات لها مستودعها، منها: كيف أخذ القديس مكان الأسير في السفينة، والسيد مكان اللصين المغمغمين الفاهمين.
«خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها».
ومنها: ظهر مدير البرق ماشيًا بين أحواض زهوره المستأنسة في بطء شديد، إلى حد إيقاع الضحية استكانتها.
مضى من فوره مُسلمًا على الأخت الكبرى، الأقل حجمًا، التي سرعان ما استعادت توازنها، ابتسامتها البريئة متقدمة منه في ترحيب بالغ، في ذات اللحظة التي عادت فيها العالية إلى حيث كانت تجلس على كرسي أو «بوف» واطئ إلى جانب مدفئة نحاسية هائلة الحجم تغلي بنيران الفحم وعليها آنية القهوة.
ولم ينقضِ وقت كثير حتى اندفعت كلتا الأختين تكيد للأخرى، قالت العالية في اتهام مشيرة بذراعها كلها إلى أختها الكبرى دقيقة البنية: ما كانتش عايزة تفتح لك الباب.
بينما ارتمت الأخرى أمامه على البساط الأخضر الرخيص محملقة في وجهه المخمور النائم كمن تستطلع أعماقه، وما يعتمل في أعماقه: ما تشرب من القهوة دي.
في الوقت الذي صبت له الصغرى فنجانًا ضخمًا أناضولي الطراز مشيرة في شبه أمر: خذ.
هب من فوره راكضًا منحنيًا قابضًا على يدها بالفنجان: في وقته … آه الصداع.
انقضت الكبرى مغتصبة الفنجان من يده، جارية إلى المطبخ المقابل وهي ترشفه في نهم.
بينما أشارت له العالية من مكانها: ميتة من زمان.
وصبت له فنجانًا فأخذه متراجعًا، مرتشفًا، وهو موقن مما به.
مضت الماجدة ترقص وتحادث نفسها طويلًا وهي متقوقعة في شباك المطبخ.
أما هو، فمضى يتخفف من ملابسه استعدادًا للتمدد والإغفاء، دافعًا عن مخيلته أشياء أحاطته متلاطمة ينقصها التتابع، إن لم يفسدها، ذلك أن حركاتها جاءت مستعرضة، إن لم تكن أيضًا مكركبة لسراديب بكاملها تطلق عنانها.
حاول إعادة التيقظ مسلطًا عينيه على عيني العالية في جلستها لجذب انتباهها دون جدوى.
حاول بضع مرات الكلام، تحريك أصابعه في حذر من أمام عينيها الكبيرتين المسلطتين دون أدنى رمش منها.
عاد متمددًا متمرغًا على الفراش، وأراحه جدًّا أنه ها هو أخيرًا وحيد، قوي في كل حالاته، بلا عين آخر، رقيب.
راحت الماجدة تغني لنفسها في شرفة المطبخ، تحبو على أربع في بطء ومعاناة.
تذكر عالم المصور الروسي الأبيض المرتد، كاندنسكي، لمدن زرقاء طائرة، وقذائف، وسقوط متهافت للطبيعة ومرئياتها، تداخلات الأحمر مع زرقة السماء بلا غيوم كثيرة، قباب وكاتدرائيات وأقبية.
وتذكر أزقة المدن العتيقة بالأسطورة والمعمار، تلك الشقوق وسراديب البيوت وباحاتها، أبوابها التي عادة ما تعلوها أيقونات الحيوانات والطيور المحفورة على الأخشاب المقدسة، المشئومة — اللاعربية — من تماسيح وبوم أم آويات وحدآت؛ لطرد الأرواح الشريرة التي عادة ما تتلبس الغرباء من أمثاله، الداخلين.
ربط بينها وبين أدعية داخلي المنازل: يا ساتر، يا أهل البيت، يا من هنا.
الناس في تدافعها أفواج إثر أفواج في سوق الحميدية، ومن حول المسجد الأموي يخلعون الأحذية … المداسات.
والماجدة تزحف ببطء طويل سلحفائي إلى حد التوقف في حيزها الضيق على أربع كمثل رضيع داخل رحم.
وتذكره من فوره، ذلك الرحم الخالق، الذي توقف أمامه كثيرًا في الأنتيكخانة، ومتحف الإنسان حين طالعه فور دخوله مُهَمْهمًا أو هو مترنمًا على عادة الداخلين الغرباء: المعبود الأول.
الماجدة داخل الرحم.
قال: تسقط من الشباك.
أما الأخت طويلة عظم الوجه، فقط غطست طويلًا في سباتها. سمراء أوصلت نيران المدفئة النحاسية بسقاطاتها جسدها أفخاذها إلى درجة من الاحمرار ضارب القتامة، مضت تمدد أطرافها مسترخية أكثر على كرسيها الواطئ إلى حد ملامسة بلاط الشقة.
تفرس في وجهها طويلًا، حين انفرجت شفتاها المزمومتين الصارمتين عن كلمات أحجية لها طابع النصوص المحفوظة.
مد رقبته الطويلة النحيلة وهو يزحف طويلًا إلى أن قارب حافة الفراش، وعيناه إن لم يكن انتباهه بكامله معلق بالصوت الكلمات، تيقظ حين قارب السقوط من الفراش، ولفحه أكثر وهج نيران فحم العنب المعبق المشعل.
ولما لم يسمع المهاجر شيئًا بأكثر من الطلقات المتقطعة لحين الدوي المتقطع من العالية المبنجة، فقد زارته من جديد حكاية مدير البريد بشعره الذي خالط بياضه سواده، داخل مثلث نيران الميليشيات الفاشية، ثم وهم يضحكون.
الفصل الثامن
ما إن هب المهاجر العجوز من إغفاءته القصيرة تحت لسعات ضوء النهار المتسلل عبر ستائر الشرفة، وتحسس منظاره متطلعًا، ورأى الوضع على حاله، حتى تسلل إلى حيث معطفه وحقيبته، فحملها مواصلًا فراره.
قال: العالية تسقط في النار.
تلقفته الشوارع المجنونة بالجري ونيران المحاور، الجموع المتدفقة حول أفران الخبز والبوتيكات، والمرأة الضخمة الجثة على رأس ميليشياتها، تعتلي البنايات مطالبة بتضييق الخناق للتنفس.
اتخذ من فوره تاكسيًّا إلى أقرب شقة مفروشة، أشار عليه السائق بها.
بناية بيزنطية الطراز والمعمار غاب عنها طلاؤها، تقبع بأسوارها المتعالية كمثل حصن خربه أعداؤه يتصدر إحدى جادات بيروت وحواريها.
غمغم من فوره حين تمدد على فراشه الجديد بملابسه: تسقط في النار.
مضى يتقلب في فراشه، محاذرًا ألا تعاوده الحالة، حاول إدخال البهجة إلى نفسه مغمغمًا: «عش في خط» الموت كمدًا على كل فراش، كنبة، صوفة، سجادة، أدبخانة … أدب خانة، ما الفرق؟
تذكر مخلوقاته الحبيسة التي كانت داخل حقيبته الكبرى: من شطار، ولصوص مهرة، وأفاقين، وسائلين لهم هيئة آلهة قمم أشجار الأرز والبكاء المتسامقة.
«عندما تسمع صوت أقدام في رءوس أشجار البكاء».
ربط بين أشجار البكاء المتسامقة العلو، وبين مقولة رابين الشهيرة خلال عدوان ٦٧ لطياري جيش الدفاع الإسرائيلي: تذكروا أن إسرائيل كانت على طول تاريخها تنفذ من السماء.
غمغم: لعله يهوه الطائر المحارب.
وتذكر حكاية ذلك الرجل الأبله الذي أمسك بعندليب بشري ينطق بالحكمة، فسخر الطائر الأخرس، محلقًا في انتصار من على رأسه ريشة.
قردة بالنهار يأخذن في التحول والتبدي إلى فتيات فاتنات مع غياب الشمس ودخوله الليل الفطيس، يعجِنَّ العجين، ويخبزْنَ ويُطعمنَ حيوانات البيت الأليفة أو الجبانة.
ملوك تُهتك عروشهم، حُلَلهم الملكية جلودهم في مواجهة رعاياهم خصيانهم، ويتسمون في اليمن الغابر بمزيقيا.
بهائم ترعى في الجدب وتراب الأرض بدلًا من المراعي المزهرة المحيطة الفارغة، حتى لا تسمن وتشبع فتشطح ناطحة أصحابها؛ حكامها السلطويين الخونة.
هداهد وطواويس متلصصة كمثل شرطة القمع والمباحث، الناس داخل الأقبية المفضية إلى مدن البيع والشراء بالصلاة على النبي، بل وبلا صلاة واستنجاء، تأخذ حاجتها … ما يكفيها وتمضي، والويل للخونة اللصوص الجشعين، العثمانيين، الصول الخائف المرتعد منه في محنة سعاره على مشارف عمان وتلالها يحتمي بالجدران، بطوب الآجر الأحمر، يداه على وجهه كمن يخفي عينيه، يحتمي بالرمال والتراب لتؤويه، يخاف الطرد المحقق في كل الأحوال، العصور.
حاول إدخال البهجة إلى نفسه قائلًا: خايف مني.
اعتدل جالسًا على حافة السرير، ومضى يتخفف من خفيه معانيًا في تذكر ما حدث: تلك القهوة اللعينة.
انثنى يدلك معدته متلويًا حين طالعته صورته في المرآة على هيئة شخصيات فان جوخ، جاحظة العينين، الشمامين، بجلودها السوداء المشققة تحت معارك الألوان الهستيرية أو الانتقامية، تتحسر مسندة على الجدران الصماء التي لا ترد تحية، صدًى لصوت، دوي انفجار، ماذا حدث؟
ساءه وضعه إلى حد أنه تسند واقفًا، منكفئًا مقررًا إخراج مواد حقيبته، كراساته، الناس وزواحف الأرض الزانية والفتانة وناكرة الجمائل، أين هي حكايات الموتى؟ آثار أقدامهم؟ حكمة السلف من صالح لطالح؟ ما يحدث على المحاور، وعبر الساحات المحترقة بالقار والنفط، المانيكانات الشمعية المُسيَّجة بالمرايا في الأسواق التجارية، كنب الأرصفة، الباروكات، وسينمات السيكس آبيل، وجيمس بوند، والأميركان جوجولو.
وجه العالية سليبة الإرادة بجدائلها وردفيها على وهج ألسنة الموقد النحاسي، تسقط على وجهها سائحة كشمع قاتم.
لو أن شخوصه تحركت من حوله، أخذته معها من حيث جاءت، لو أنه سمع صراخ الأخت الكبرى الضامرة إلى حد طفلة داخل رحم محذرة: ما تشرب من القهوة دي.
تذكر أنها عادت فخطفت فنجانه وارتشفته بكامله، لعلها لا تزال داخل قفصها بشباك المطبخ على ذات النحو.
جاهد طويلًا هذه المرة في منع نفسه من أن يجهش بالبكاء، حيث هو وحده بلا عين أو رقيب، سوى المرآة المؤسفة المحدقة تترصده من جوانبه العدة، كمثل شخص يقظ لم تلحقه قهوة العالية تكبرها: اشرب.
ها هو نهبًا لأسره الاختياري يمزق جلد وجهه، بينما من المرآة تطل عليه في خرسها فتاة راشيا الفخار، الجنوب، بقميصها قاتم الزرقة، وحنانها الطافح تضع من فورها يدها على فمه كمن تمنعه من الصراخ، النحيب الليلي، الذي يلازمه منذ أن كان يحبو على أربع مثل دواب الأرض … جرذانها.
في تلك الأيام الخوالي التي سبقت دخول الكهرباء وتوابعها من بوتاجاز وراديو، وتليفون وتليفزيون، وشاحنات وسيارات الميكروباس والتيوتا، وسخانات المياه والسيفونات.
اندفع يحبو عبر الحواري الموحلة والمتنزهات الغاصة بزهور عباد الشمس ونجيل الأرض البري، خلجان الضفادع، وفراشات ديدان القز، والحدآت العملاقة المهاجمة، سارقة الأطفال الرضع، كما تروي عنها آداب الكلام، القطط وولائمها المسحورة في أعياد اللحم، والضحايا في عالم الدواب وما تحت الأرض.
حاول تذكُّر واحدة دون جدوى، تذكر بدلًا منها حكاية أنكيدو مع حيواناته البرية، تلك التي كان يعاشرها عند موارد المياه، إلى أن اقتنصته عاهرة أوروو حين كشفت له عن فرجها، مهبلها الصغير المكفهر؛ حيث كان يستبقي مع حيواناته من نمور وأيائل وحمير وحشية وحيات.
فكان أن ضاجعها سبعة أيام وست ليال، وحين عاد إلى حيواناته أدارت له ظهرها، وفرت هاربة منه، يا للإدانة!
قام من فوره متسندًا فاتحًا حقيبته الكبرى، ملقيًا بكومات كراساته ونوته وأوراقه الصفراء، وهو يجرها جرًّا إلى حيث الطاولة الكبيرة التي أُعدت للأكل والولائم، فأحالها إلى مكتب تعلوه أكوام الكتابات الخطية والمراجع الرثة، تحسس رأسه بين كفيه، مُبعدًا شبح ذلك الكابوس الليلي.
ابدأ بالتصنيف، هه، ها هي حكايات الجان المردة النداهات أم الشعور، أشباح ما تحت الأرض، أين؟ ومن عليها في كل شق ومكان، وأينما وُجد حيز، تلك التي ما إن يواجهها الإنسي: اتشطر على من قتلك.
حتى تتوارى من فورها، إن لم تحترق بنيران أحقادها حيث هي.
ها هي حكايات الأشجار وأخشابها المقدسة من زان وجميز وعوسج، حين أرادت الأشجار يومًا أن تولي عليها ملكًا هو العوسج، الذي هدد من فوره بأن تخرج نيرانه لتحرق أرز لبنان. هه.
قال وهو ينحني هنا وهناك بشكل آلي، مُغيرًا من أوضاع أكوامه، كمن يفنط أوراق كتشينة: الحيوانات والطيور وزواحف الأرض المشئومة والنجسة لها خانتها في هذا الدرج، من كلاب وأتان وغربان وبوم وضباع وحيات زانية.
– ثم يجيء الدور على حمامة الأيك والحمى، واليمامة ومدنها على طول جزيرة العرب العارية، والعنكبوت الذي له سورته (وليس صورته) كحيوان أو حشرة منقذة أن ضللت مغتالي الغار، غار حراء، وفوتت عليهم فرصة الاغتيال الجماعي.
– دمه على الجميع.
قال: يبدو أن القتل البشع الممزق، كان من الميسر حدوثه في مكة وإتمامه بنجاح، لولا العنكبوت التلقائي المبادر.
قال: ويبدو أن الهدف لم يكن القتل لذاته بقدر ما هو تغيير مسار الأسطورة البدوية، لولا ذلك العنكبوت الدينامي المناور لتغير كل شيء، كل شيء.
تذكَّر كومة لعب الأطفال، فعزلها مبعدًا: كوك كوك، إنتو نصارى والا يهود.
ترنم: أنا الغراب النوحي.
أخطب وأروح على سطوحي
وأعجبته فابيولات صديق الفلاح المصري، أيبس أو أبو قردان، ذلك الذي يُنسب له أنه عيط عيطة شق الحيطة.
قتل ولاده وقعد مسكين.
ساعتها كانت قد غزته النوبة، التي عادة ما يسبقها السعال، وجاءته منكفئًا على أكوام أوراقه، فراح يزيحها بذراعيه المشمرتين بعيدًا، وآلمه أكثر أنه عاد فهدم جهده المرهق، تصنيفه، مرة أخرى يختلط الحابل بالنابل، والغلة بالغلث، سعل قائلًا: الغلث.
جاهد طويلًا في منع النوبة، مُركِّزًا جلَّ ما تبقى من انتباهه، أين؟ على ذلك الجاثم في مرآته، حكاياته من شفوية ومدونة، ذلك الصراع الإمبراطوري المقدس، للذبيحة الرومانية يوليوس قيصر.
أراحه قدرته على الإفلات من حصار الحالة، واصل تنفسه المتعسر ملقيًا بنفسه على الفراش. نام.
الفصل التاسع
من مطلع النهار قام من فوره متصعبًا، ناشف الريق، متأملًا أوراقه المبددة المنكفئة من هنا وهناك، وأزعجه أكثر ألوان ستائر البيت، وتلك الكثرة من الورود الصناعية والصحراوية التي تزحم فازات الشقة، تأمل شريحة البحر الممدد الصافي من الشرفة؛ حيث على الجانب المقابل منه يتربص العدوان وهو يرتشف قهوته السادة، مسترجعًا قهوة الأمس، وتصور دهرًا متصلًا متلاحقًا لم تشرق له شمس قط، ذلك الأمس الأبعد من اليوم بالغد، يا لها من ليلة! تلك السراديب المنسابة التي منها وعبر شقوقها تسربت شخوصه من موتى وأحياء، جميعهم جاءوه وحاوطوه إحاطة السوار بالمعصم جنبًا إلى جنب، الخالق الناطق، ذات التماثل، الإحساس بهم معًا: الموتى الأحياء.
تساءل وهو يغير ملابسه متخاذلًا استعدادًا للخروج للنادي لحضور السيمنار الدولي، حول ذات الموضوع … اللاآمن: كيف حدث؟
وفي النادي حاول جاهدًا طرد الأمر كله، بل ربما الرحلة بكاملها بدءًا من وباء السادات ومهاتراته، مرورًا بصول عمان المختبئ، حتى العالية وقهوتها المرة.
كان الحفل قد بدأ فأضيئت أضواء القاعات بالإضافة للتليفزيون الملون.
اتخذت الوفود أماكنها مع انفتاح باب أقصى القاعة المواجهة ودخول الرئيس ورؤساء الأقسام، ودوت القاعة بالتصفيق لثوانٍ متصاعدة، لحقها هو على الفور مصفقًا، بل هو قام واقفًا معبرًا أكثر عن حماسته ويقظته، وهو الخبير الجديد في حكايات القرى … الجدات.
جلس وحده حين أخذ الرئيس ونائبه مقعديهما جنبًا إلى جنب.
وكذلك بقية الوفود والضيوف من محدثين ومستمعين ومراقبين ومتفرجين.
كانت القاعة الفسيحة الفسيفسائية غارقة في الضوء القوي الساطع، بما ييسر الأمر على كاميرات التليفزيونات ومصوري الصحف، وبخاصة الصحفيون الذين انتشروا من حول الوفود والمنصة الرئيسية والرئاسية، كمثل زنابير داخل خلايا نحل.
وحين دارت أكواب عصير الليمون والبرتقال والمانجو، تذكَّر ما حدث رغم أنه كان لحظتها مستغرقًا بكامله في تتبع الندوة الدولية «ثقافة القرية والمدينة في الشرق الأوسط»، وتمنى جاهدًا طرد ما حدث، كما تمنى ألا يصيبه الدور في يوم كهذا تجيء حصته فيه من الكلام … المحاضرة.
قال: الأمر لا يعنيني بالدرجة الكافية، العدو المتلاحق الذي تحول بالفعل عصرية يوم أمس إلى حد المطاردة، الحصار على تلال عمان، تجبر الأخت الصغرى مع مطلع هذا النهار الذي يبدو أنه لن ينتهي بشكل مباشر على خير، يتيح العبور بعده في هذا الجسد ليوم جديد، أين؟ ها هو الرئيس والرئيسة يفتتحان الندوة الدولية، ويبدو مما حدث أن الأمر لن يطول، ليلقي بدلوه، فعليه أن يسترجع الموتى قبل الأحياء، قريتهم وتخومها ما حول بحيرة قارون، قرى الجبل المحيطة هذه التي لا يمكن لأي محاضر أن يتلمسها من شرفات السمرلاند، ممددة تحت شمس هذا اليوم الربيعي رغم ضراوة الحرب الأهلية.
تفرس بعض الوجوه من عرب وأجانب، يضعون سماعات الترجمة الفورية على آذانهم وهم منصتون للكلمة الافتتاحية للإحاطة بالموضوع.
ذلك الماضي الحي، ضيعة الفتاتين وفردوسهم المفتقَد، الهدف الأخير للعالم من قديم غابر، لمعاصر ماثل متواجد.
انتهى كلام الرئيس، ومن جديد دوت القاعة بالتصفيق، الجميع آلفهم التصفيق الحاد فيما عداه، بما أتاح للرئيس ونائبته وبعض الحضور ملاحظته في حرجه ذاك، وهو يعاود الانكباب على البرنامج الشامل للكلمات والمحاضرات والاطراحات والمناقشات.
دارت عدسات التليفزيون فاعتدل مستبشرًا، بعض البروفيسورات والباحثين عندهم «دسك»، أمراض مكاتب عصرية، تصيب البروفيسور منهم في قفاه أو سلسلة ظهره الفقرية، وبعضهم رمد صديدي، والبعض ارتعاشات، وعمى ألوان وقلب، ونقرس.
أما الاكتئاب فيستبد بالأغلبية العظمى مثله، لعله حالة التحسر، حاول طردها من مخيلته حين غزته على مشارف تلال عمان، قال لنفسه محذرًا وهو يصلح أو يدون بعض الملاحظات على مرأى من الجميع: غير معقول بحال، هنا وعلى مرأى من الجميع، خاصة أولئك الحاقدين المتربصين، هذا الحصار بالعيون والكاميرات. ليت الأمر يقصر أو يطول وينفض السامر الذي غاب عنه صاحبه، القرية والمدينة، ما الفرق في الشرق الأوسط، في عمان ودمشق والطائف وصهرجت الكبرى والكعاي والدامور والقاهرة وصنعاء ودير مواس؟ ما الفرق في هذا الشرق الأوسط؟
وحتى لو جاءت الطوبة في المعطوبة، وحدث الفرق، لن يصل الأمر إلى حد يدعو إلى الانزعاج، ذلك الذي يغمر الشارع ويطفح على طول الشرق الأوسط. وهنا الفرق حين يمكن طرح القضية من منطلق زمني بأكثر منه مكاني فراغي، طفح الماضي، وإغراق الحاضر العربي الماثل على اعتبار أن «الماضي يفسر الحاضر» إن لم يغرقه، عاليه قبل واطئه.
أجل أيها السادة، فالمدينة في الشرق الأوسط ما هي سوى صورة متطورة إن لم تكن معدلة من القرية والنجع والبادية، هكذا الحال مع عمان وبيروت وقرطاج وطرابلس والقاهرة.
هي هي بادية الجاهلية الأولى والثانية، ثمود وقراها الخمس، هكذا الحال في مخيمات الشارع.
حيث تباع الأطفال الرضع.
حسب المواصفات.
لون البشرة وخفة الدم.
ناهيك عن أسواق النخاسة المعاصرة.
اللحم الأبيض والخمري.
هنا على النواصي والسوبر ماركتس.
البوتيكات ومشارب الشاي.
المحاور.
دارت المناقشات بعمق، تساءل أكثر من باحث ومتخصص، وأثنى بعض المشاركين على توجهات الكلمة الافتتاحية وشجاعة الندوة لذاتها، المقامة تحت وابل قذائف حرب الشوارع والتهديدات المعادية بحثًا عن حل، أين؟
شحذ ذهنه في محاولة للتكامل مع عقول كثيرة للخروج من المأزق، الغرق، رفع إصبعه طلبًا للكلمة، ثم يده بكاملها، دون أن يسأل فيه أحد، واصل المحاولة ولم يستطع، ظل هكذا يطلب الكلمة دون أن يلفت نظرًا، ما الخبر؟ الجميع يتكلمون في استطراد فيما عداه، لماذا هو وحده في كل حالاته؟ الجميع يلغطون، يتبادلون اللفائف والمداعبات، التواعد باللقاء، المراجع، الآراء المفيدة.
وحتى عندما رُفعت الجلسة لتناول المرطبات والحلوى، وانتقل الجمع الحاشد في جماعات إلى حيث بوفيهات قاعة الطعام التالية، ظل هو يتحرك متعسرًا، جامعًا حاجياته، باحثًا من تحت منظاره في تسلل عن شلة يأنس إليها دون أن يلفت نظرًا، يتبادل معها حوارًا، وجهة نظر لا غير، وكما لو أنه أُحبط كليةً في العثور على وجه أليف مرحِّب.
توجَّه من فوره إلى أقرب طاولة، فأعدَّ لنفسه طبقًا من الجاتوه وعصير الليمون.
قال: الليمون هو الحل للإفلات مما حدث، تلك القهوة المشئومة، استند بالجدار وحده وراح يتأمل الجمع الحاشد من حوله وأمامه، يرتشفون مشروباتهم، يدخنون في شرَهٍ، يتبادلون النكات والمزاح، يسترجعون معلوماتهم مضيفين ومصححين آخر المعلومات، الإحصاءات، المناهج، الاتجاهات البنائية. أجل شتراوس … ليفي.
حاول ثلاث مرات التقرب من مجموعاتهم دون جدوى. كانت الشلة أو الحلقة تتقارب في أشكال ثلاثية ورباعية، وفي معظم الأحايين ثنائية، رجل وامرأة لتدفع به خارج قطرها، في محاولة منه لتلافي الوضع بشكل رياضي، حيث عادة ما يدفع بعنقه النحيل الطيع من حيث التمدد، والعودة إلى التقلص والقصر في اتجاه ياقة قميصه والكرافتة متراجعًا، مواصلًا البحث بلا كلل عن موضع آخر في مناقشة يدلي فيها برأي؛ وجهة نظر.
على الإطلاق، ليس هذا أبدًا هو الحل. أجل، ليس هذا هو المنطق الجدلي المفضي إلى حل لن يجيء أبدًا ويكتمل إلا مع التشخيص وترصد الحالة، والتي لن تغدو أبدًا، طفح الماضي إلى حد الإغراق للحاضر، ما نحن فيه. وليت الأمر بقاصر على الثقافة في الشرق الأوسط، لكنه يتمدد سرطانيًّا محتضنًا الشارع والبيدر، ونقط التفتيش والكمائن، وحرس الحدود، التي عادة ما تتصدر لافتاتها الخطية الطرقات، ورءوس المسئولين، والجدران، ودورات المياه، وبيوت الراحة.
«أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة».
وحين بادرته سيدة أنيقة بالسؤال عن الحل الذي يبحث عنه الجميع في عيون بعضهم البعض، أجاب من فوره: بالطبع، كل تصور فيه نفي الموجود الطافح وهدمه.
اعتدل معتذرًا في أدب القرود: التحليل الجدلي إمكانية توجيه العمل الثوري توجيهًا سليمًا.
واجهته السيدة المهندمة في حدة وهي تشير له بإصبعها في شبه اتهام: أنا أعني الحل لما نحن فيه الآن في الواقع.
غمغم بذات الأدب والصوت الخفيض قال: أجل، الواقع كبناء من المتناقضات.
أدارت له السيدة ظهرها، وكان قد انسحب الجميع، دخل مكفهرًّا إلى داخل قاعة الاجتماعات.
الفصل العاشر
بدا أن الرئيس ونائبته، إنما يتحرشان به، راوده هذا حين كان مأخوذًا يُدوِّن إحدى الملاحظات عقب تعليق موجز أدلت به زميلة باحثة فنلندية في موضوع، أو حقل الحزازير والفوازير، مما أربكه إلى حد متابعتها في عداء.
لكن ما إن التقت صدفة عيناه بعيني الرئيس ونائبته متقاربي الرأسين، وعيونهما الأربع تحط عليه، واهتزازة الرئيس إياها، التي دفعت ذات مرة بما كتب المغتال لأن يفض اجتماعه الوزاري رافعًا رأسه عاليًا إلى حيث الكوة النارية في أعلى سقف البهو الملكي، ومنها يطل شبح رأس الملك الشرعي الذبيح صارخًا بعلو صوته: لا تهز جدائلك الدامية.
لماذا يرقبانني على هذا النحو كما لو كنت المتهم الوحيد في هذا الحشد القفصي؟
انكب المهاجر من جديد وقد اختلج تنفسه قائلًا: الأمر لا يحتاج. ثلاث جلسات أرفع فيها إصبعي بأدب، ثم يدي فذراعي المشمر بكامله في طلب الكلمة، أية كلمة، وجهة نظر.
رفع ذراعه عاليًا، بل هو قام واقفًا احتجاجًا على مرأى من كل المؤتمرين، فنقر الرئيس على طاولته بخنجر نحاسي أُعد لتقطيع الورق، ودون أن يومئ إليه مباشرة.
جلس في مكانه، دون أن يلحظه أحد.
وارتفع صوت باحثة «حزر فزر»، فطغى على تساؤلات الحضور من الباحثين والصحفيين والمراقبين.
راحت الفنلندية الفاتنة تربط بين الحزازير والألغاز، وبين طاقات الذكاء الفطري لدى الأقدمين وورثتهم، فها هي ميكروفونات البث والتليفزيون الملون، يغرقوننا بفوازيرهم السخيفة خاصة مع تسالي رمضان، ثم ها هي الصحف السيارة لا تبعد بنا كثيرًا عن ملغزات جلجاميش، في مواجهة الإله الأكبر، سائلًا عن الموت قبل الحياة، متحديًا ذلك الإله الأزلي الخالد: اشمعنى أنت اللي خالد؟!
وذلك بعد أن ظل ذلك البطل الإلهي «جلجاميش» في العالم السفلي اثنتي عشرة ساعة مضاعفة متجولًا في الظلام الدامس، مقاومًا النوم ستة أيام وسبع ليالٍ، بحثًا عن الخلود والتيقظ.
حتى إذا ما وصل إلى عتبات كبير الآلهة «أوتونبشتم»، متعرضًا للكثير من امتحانات الذكاء والحزازير، منها وضع سبعة أرغفة على رأسه، «وأن يعجن الرغيف السابع، ويشكل السادس، ويبلل الخامس، ويترك الرابع يختمر، ويحمر الثالث، ويشوي الثاني، ويعد الأول للأكل وهو على رأسه»، غمغم متمخضًا: تعطيل.
من جديد تمددت ذراعه بكاملها، ومن طرفها تتدلى أصابعه المفكوكة الخمس، في وجه الرئيس ونائبته، بينما التحدي الغشيم يطغى على ملامحه بوجهه الأقرب إلى محاولات النحت الحديث، ودأبه في تشكيل الفراغ بدلًا من الكتلة وترهلها، تلك الاستطالات الغائرة، تلك العيون اليقظة الندبات، الأنف النحيف الدقيق الانسيابي الصقري، ثم ذلك الأسى المتمثل في زمة فمه، كمن يمسك عن القول: أجل الإفصاح، الجنب المريح الذي عليه ننام، نستريح، أن أعبر عن نفسي مثلكم، ألقي بدلوي، وجهة نظر.
تنبَّه ساحبًا يده السائلة، معتدلًا في كرسيه، مستديرًا إلى حيث اليد التي امتدت من خلفه منبهة؛ ليجد نفسه وجهًا لوجه مع تلك الفتاة الجنوبية الحنونة الصغيرة، فتاة راشيا الفخار، التي مالت على أذنه اليسرى مُسِرَّة، كمن آلمها وضعه ذاك فوجدت له مخرجًا هامسة: اكتب سؤالك وقدِّمه للرئيس.
شكرها حين انسحبت الفتاة مختفية في كواليس المؤتمر، وانكب مدونًا:
الزميل رئيس الندوة الدولية، منذ أمس الأول وأنا أرفع لكم يدي بالسؤال وما من مجيب.
الباحث المهاجر لديكم
المذكور
أشار من فوره في تعالٍ إلى أحد موظفي العلاقات العامة بالمؤسسة المعنية بشئون الشرق الأوسط ونكباته المستعصية، ودفع له بالورقة المطوية: للسيد الرئيس.
أخذ الموظف الوريقة ودفع لآخر بها، دفع بها لما يعقبه إلى أن استقرت في يد الرئيس الشارد، فقرأها وردها من فوره عبر موظفي وموظفات العلاقات العامة بشاراتهم الخضراء التي تعلو صدورهم، وتحمل طوطم المؤسسة ومناسبة المؤتمر، إلى أن استقرت من جديد في يده.
أعاد المهاجر قراءتها، مكتشفًا أنها ذات الورقة بلا إجابة، بل حتى سؤاله ذاته الذي سبق له تدوينه بقلم جاف الحبر مُحي تمامًا من سطحها، بنفس ما حدث بذهنه هو ذاته لومضة.
من جديد دفع بذراعه العظمية المنتهية بأصابعه الخمس مشهرة في وجه الرئيس، بل الندوة الدولية بكاملها، ولما لم يجد بدًّا هبَّ واقفًا على مرأى من الفتاة المجمدة في كواليس المؤتمر.
وظل هكذا مهتزًّا عاصفًا دون أن يسأل فيه أحد، إلى أن أعلنت دقات الرئيس المنذرة، فانكب جالسًا، قال: يبدو أنني سأظل هكذا على الدوام أقف في الخارج.
تذكر وقفته بعد منتصف الليل في مواجهة العين السحرية مبتسمًا إلى حد التوسل، وتمنى للمرة الأولى قهوة العالية، ذلك المغص الكلوي والمعوي الذي لم يبرأ منه لحين انعقاد الندوة.
وتصوره يومًا يمكن إضافته مع بقية أيام الأسبوع الأخيرة، تلك التي يختص كل يوم منها بكوكب أو جرم سماوي ويحمل اسمه.
وأدهشه للحظة ربط المحاضِرة الفنلندية بين الألغاز وحزازيرها وبين أيام الأسبوع السبعة، وما يصاحبها عادة من أحجية وملغزات، تنتهي في الأبراج وثقافتها، وهيافتها، كسلعة لها خانتها اليوم داخل كل بوتيك وصحيفة سيارة.
أخرجه من إحباطه ووقوعه في نكده الذاتي عينا فتاة الجنوب الحنونة، تدفع به من جديد إلى معاودة الكتابة والسؤال، قال مهمهمًا: وجهة نظر.
كتب رقعة جديدة ومررها من يد ليد إلى أن استقرت في كفة نائبة الرئيس، فالتهمتها دون أن تصل يد الرئيس، وراحت تمضغها مضغًا على مرأى من الجميع.
أخفي المهاجر من فوره وجهه الأصفر غائر الجلد إلى حد التواري تحت نتوءات العظام الطولية بين كفتيه المتناسقتين مع وجهه.
فخذا العالية تحت وهج نيرانها.
غمغم مطرقًا كفًّا بكف: ارحم.
سعل بشدة واضحة، تصاعد إلى حد الدوي عبر ميكروفونات البث والتسجيل من مسموع لبصري، وكاد أن يبصق على أوراق زميله العدني الذي دفع إليه بسلة خلسة من تحت المنضدة.
تذكَّر من فوره وجه صول عمان الفحل، بلا عينين، وبصق في منديله مسلطًا عينيه المحمرتين من فوره على الرئيس ومرءوسيه وزبانيته وباحثيه، وفتيات علاقاته العامة، دون أن يتخلى عن ألمه الواضح المرتسم على شفتيه … منطقة ذقنه الدقيقة، هزت رأسه أسفًا، إن لم تكن تشفيًا.
أشار بذراعه بكامله عبر الشرفة المواجهة المطلة على البحر بلا صوت حين سمع انفجارًا لسرب طائرات يخترق جدار الصوت.
واصل الرئيس دقاته بخنجر الورق عاليًا في عصبية، وواصل هو سعاله دون أن يثير التفاتًا يُذكر، سوى من فتاة الجنوب التي تسللت فقاربته مقدمة له كوب شراب ليمون، شربه فرحًا على دقات المنصة الرئاسية.
عبر الشرفة تبدت له رأس الملك الذبيحة، مواصلة اهتزازاتها، ودوي الانفجارات والأسلحة المطاردة يطغى صوتها على صوت تلميذة كارل كرون الفنلندية ومقاطيعها: لماذا أيها الرئيس؟
واصل اهتزازاته المنتظمة مسلطًا عينيه في عيني الرئيس غير المكترث، الذي كان ساعتها منجذبًا بفكره بكامله في أحبولات زوجته ومشاحناتها، رابطًا بينها وبين الفنلندية فارعة الجسد.
وحين دوى الانفجار الذي لحق شرفات المبنى انبطح مرتاعًا مع المنبطحين.
الفصل الحادى عشر
حين أفاق وجد نفسه في المستشفى، مع ستة عشر خبيرًا وباحثًا، وثلاث من فتيات العلاقات العامة، وتلك الصغيرة فتاة الجنوب، غمغم من فوره: الرئيس ونائبته.
وسمع حديثًا جانبيًّا بين المرضى والجرحى في أطراف العنبر شاهق الطول، شديد الضيق، الشبيه بإسطبل إنجليزي الطراز، طُليت جدرانه بلون أصفر لموني، وما زالت لمبات سقفه المدلاة في أعناقها وسلوكها مشعلة، رغم أن الوقت كان ضحى نهار يوم جديد، قال أحد المرضى: إن ما حدث كان متوقعًا، نتيجة منطقية في منطقتنا، فالنزال يفضي إلى ما نحن فيه.
سمع أوجاعًا وتوجعات وسبابًا كثيرًا، معيدًا تساؤله، بل هو راح يحرك عينيه مكتشفًا ضياع منظاره، فتكوَّر من فوره باحثًا عنه على سريره، وما تحته وحوله، والطاولة وجيوبه بكاملها، فُقدت، تساءل: الرئيس … الباقين.
وضايقه جدًّا سماعه لتأوهات يعرفها، فتح عينيه عن آخرهما، ومسحهما بفوطة مستطلعًا وجه العالية: ما معنى هذا؟
قال: ما معناه؟
قام من فوره مرضوضًا مجرجرًا إلى الخلف عنه ملاءة السرير حافيًا إلى أقارب سريرها، فيما قبل منتصف العنبر شاهق الطول، ضامر العرض، قاربها، نائمة تغط كطفلة راضية أقرب إلى أن تكون في ضيعتها أو حديقة بيتها الريفي، منها إلى هذا العنبر، تحسس جبهتها عن قرب في ذات اللحظة التي قاربت السرير فيها ممرضة، لامست يدها يده قبل أن تستقر على جبهة العالية نائمة، انسحب من فوره عائدًا إلى سريره كمن يطمئن نفسه: تنفسها طبيعي.
استقر المهاجر على سريره مدخنًا في شَرَهٍ، صامتًا بلا منظار، لحين انفتاح أقصى أبواب العنبر ودخول وفد الأطباء وكبار الزائرين يتقدمهم ثلاثة مصورين صحفيين، راحوا يصورون كبار الزوار وهم يسلمون على المرضى والجرحى، ويقدمون لهم الزهور الصناعية والشيكولاتا، والهدايا التذكارية في لطف بالغ، والمصورون ينحنون ويتلوون بفلاشاتهم لتغطية كل الزوايا.
ولدهشته اكتشف الرئيس ونائبته في مقدمة الوفد الوزاري الزائر.
– هما!
تنبَّه مادًّا جذعه الناحل الطويل المنتهي بوجهه وأعلى ذقنه المشرئبة، حين قارب الوزير وكبار الزوار فراش العالية، والمحاولات الكثيرة التي بُذلت من الأطباء والممرضين والسيسترات لإيقاظها، بل حتى مصوري الصحف والتليفزيون أخفضوا من إضاءاتهم التي كانت منذ قليل مسلطة كمثل جمر فحم على وجهها الفينيقي البرنزي وسباتها، وذلك التنفس الهادي الوردي الصادر عبر أنفها الطويل القائم كمثل زاوية منفرجة مع سطح الوجه المسترخي إلى حد النوم.
– تنفسها طبيعي للغاية.
اعتدل جالسًا في منتصف سريره، تسح عيناه رامشة أكثر بلا منظار.
على هذا النحو رمقه الرئيس ونائبته حين أحاط بفراشه ستة مصورين مسلطين إضاءاتهم، بل إن بعضهم اعتلى سريره بحثًا عن زوايا جديدة، وتكوين مبتكر.
وظل هو يرمش في قرفصته، ضامًّا ركبتيه الناحلتين بساعديه، باذلًا أقصى جهده في أن يبدو ثابتًا تحت وابل الإضاءات المكثفة والعيون، خاصة الرئيس والنائبة التي سبق أن التهمت سؤاله على الورقة قبل أن يقع الدوي المفاجئ بلحظات: توقيت مريب، عقاب.
قاربه الرئيس دون أن يراه، وقدَّم له منظاره، فابتسم من فوره، ووضعه على عينيه فرحًا أكثر مما شجع النائبة البضة على بذل جهد أكبر وأشق في التدافع مع المسئولين ومصوري الصحف النشطين الذين اجتذبتهم زوايا جديدة لإعادة تصويره بالمنظار مبتسمًا، فرحًا، متطلعًا إلى ما حوله في حالة من الصفاء المحلق نادرة.
لكن ما أزعجه حقًّا هو محاولته لرد التحيات الكثيرة التي انهالت عليه: حمدًا لله على السلامة.
ذلك أن صوته الأجش المبحوح على الدوام لم يخرج أصلًا ليصل أذنًا قريبة منه إلى حد ملامسته والتقارب معه داخل «كدر» فوتوغرافي.
مضى معانيًا في توضيح حركة شفتيه للرد على كبار الزوار وصغارهم، لمجرد المجاملة، تبادل التحيات: متشكر قوي، دا كرم منك، سليمة سليمة، إلهي يهد حيلهم.
بل هو حاول التندر مع الوزير بنطق: «عمر الشقي بقي.»
إلى حد مقاربته ليصب مزحته هذه في أذنه اليمنى بلا طائل، ذلك أن الوزير وسكرتيرته الحسناء وطبيب العنبر أعادوا المحاولة لسماعه ثلاث مرات. الوزير، السكرتيرة، طبيب العنبر إلى أن تقدَّم منه الرئيس والنائبة في انزعاج قليل لاستيضاح الأمر، فلعله يتشكى، حتى إن النائبة قاربته بدورها مهونة واعدة: سؤالك عندي، في عنيه.
مشيرة إلى فمها.
وحاول هو إيضاح الأمر أكثر، لا يشكو، مجرد مزحة: عمر الشقي بقي.
مشيرًا معتدلًا إلى رقبته.
ومن جديد ضاع صوته الأجش، وطبطبت على ظهره النائبة منسحبة في أثر الوفد المتقدم، فظل مستقرًّا في جلسته، غير مقدم على التغيير من زاوية قرفصته، ذلك أن الركب تحرك من خلف ظهره، إلى أن غمرته إضاءة العنبر الطبيعية بدلًا من الفلاشات التي صاحبت تقدم الركب الرسمي.
ظل مثبتًا في وضعه ذاك، ذراعاه تطوقان ركبتيه مبتسمًا، في رضاء، جلس متطلعًا عبر منظاره المقرب إلى الجهة المقابلة، لحين أن أخرجه من وضعه الساكن ذاك الإضاءة التي عادت فغمرت ظهره المقرفص، ومنطقة قفاه، ومطلع رأسه الأميل إلى الاستطالة الرأسية باتجاه جبهته.
أخجله إلى حد تكثيف الإضاءة التي داخلها الكثير من ألوان قوس قزح، تبعًا لحركة الضوء وزواياه، أنه غطس قليلًا في ياقة قميصه، دون أن يستدير مستطلعًا الأمر: إيه اللي بيحصل … ولو.
خفت الضجة بخروج الوزير وكبار المسئولين من الباب الخلفي وتبعهم الباقون، بعد أن أدوا دورهم وأخذوا الصور التذكارية الصحفية.
حط وجوم أقرب إلى السكون على العنبر وجرحاه، فيما عدا وجه العالية حين تحركت بعينيها يمنة ويسرة كمن تبحث عن شيء لنراه.
قفز من فوره حافيًا مجرجرًا ملاءة سريره باتجاه سريرها وهي مسجاة تهمس بلا صوت، قاربها، حين انكب مطلًّا بوجهه الطويل المتندم على الدوام على وجهها، مكتشفًا من فوره أنها ليست الأخت الصغرى العالية.
عاد من فوره إلى فراشه، معيدًا التروي والتفكير فيما حدث ويحدث ماثلًا أمامه بكامله: ما معنى هذا؟ ها أنا ذا أتحرك، ليس بي خدش ولا حتى رضوض بسيطة، بل إنه حتى ليس هناك أدوية، أو موضع لمطهر ميكروكروم، أين؟
راح يتفحص أعضاء ومكونات جسده الناحل العظمي مفرط الطول، والتدفق المتلاحق بالحركة والحيوية، تحسس ذراعيه، منطقة رقبته، كيعانه، ساقيه، مقدمة سلسلة ظهره، أسنانه، ركبتيه، تسمَّع دقات قلبه.
– أين؟
أدهشه إلى حد كبير أن ليس بجسده بكامله أية آلام، مركزًا انتباهه على موضع آلام بواسيره، وأزعجه أكثر أنها باردة لا تنبض بأدنى ألم.
– ماذا جرى؟
هب جالسًا نصف جلسة قافزًا في رشاقة إلى إحدى زوايا فراشه متسائلًا: لماذا أنا هنا؟
بحث طويلًا عن مهرب على طول العنبر، منتعلًا شبشب زنوبة، متحركًا بأقصى حيويته إلى حد الركض والجري، عن تومرجي أو ممرضة دون جدوى.
عاد ثانية إلى فراشه مهدودًا قليلًا، محاولًا تذكر ما حدث، ذلك المؤتمر السيمنار الذي حُرم فيه من الإدلاء بمجرد وجهه نظر، لحين دوي جدران المبنى وابتهاجه الذاتي بالانبطاح.
مضى يلتفت هنا وهناك بحثًا عن الممرضة، هب من فوره منتعلًا شبشبه أزرق اللون، سائلًا: تسمح من فضلك، أي حد من إدارة المستشفى.
– أجل.
– أنا لم أُجرح.
مضى المهاجر يكشف للتومرجي، أو الطبيب، هو لا يعرف؛ ذلك أن محدثه كان يدفع أمامه بنقالة مستشفى عليها مريض أو جريح، مَن يعرف وكلاهما يضع قناعه على وجهه؟
الفصل الثاني عشر
حين تخلى عنه التومرجي، دافعًا أمامه بعجلته ومريضه أو جريحه أو عهدته وتركه نهبًا لتساؤله، عاد المهاجر منكسرًا قليلًا إلى فراشه، وراح يسترجع الأمر بكامله، بدءًا بالرحلة المضنية التي بدأها من عند سفح الهرم الأكبر من قرية «كرداسة» وما حولها بحثًا عن حواديت القرى فيما قبل المعرفة بالراديو — طبعًا لحين اختراق الحواجز وصولًا إلى هذه المدينة المتأججة بالنيران، ناهيك عن قهوة الأخت الصغرى، وصول عمان المرتعد، والموكب بكامله الذي لم يعنه في قليل أو كثير، سوى من حيث وصول منظاره إليه. صحيح أنه تعرفه منذ أن تسلمه غير مصدق من يد الرئيس — فما إن تحسس شنبره حتى عرف أنه ليس بمنظاره، لكن ما أراحه وهوَّن الأمر هو ارتياحه لحظة اكتشافه بأن مقاساته هي هي ٨٢٠٠ / ٦ للعين لليسرى، و٤٣٨٠ / ١٨ لأختها اليمنى. ومن هنا كانت جلسة استرخائه تلك التي تعمد أن تجيء على مرأى من المسئولين والجميع في منتصف الفراش بأقصى دقة ممكنة، وعلى فمه ابتسامة عريضة، تسببت فيما حدث من تسابق للمسئولين ومصوري الصحف السيارة، لتغطية كل الزوايا، الجميع أخذوا معه أكثر من كدر وبوز تذكاري.
أخرجه من تزاحم أفكاره تلك ضجةُ عجلات نقال المستشفى المخلعة العتيقة، يدفع بها التومرجي الملثم عائدًا بعد أن ألقى بمريضه على فراش أقصى العنبر عائدًا.
قفز من فوره إليه معترضًا: أنا هنا ليه؟
رفع عامل المستشفى قناعه، أو هو أنزله تحت ذقنه كمن يبذل جهدًا مضاعفًا وأجابه بكلام كثير موجزه أنه — أي التومرجي — لا دخل له يُذكر، أو يمكن أن يشكل خطرًا، عليه أو على جميع نزلاء هذا العنبر، وأولهم المهاجر ذاته، وقال موجهًا كلامه للجميع: ما نحن سوى نزلاء معكم ومعه، فالأمر سيان، طالما أنه «عبد المأمور»، بل إن مأمور المستشفى ذاته ومديره، له موقع أدنى من رئيسه، وهي متوالية — كما نعرف جميعًا — لا تنتهي.
وحاول هو بالمقابل أيضًا إيضاح الأمر، وأنه سليم ليس به خدش واحد، حتى إن آلامه القديمة لم تعد تؤلمه.
راح يقفز هنا وهناك محركًا جذعه الأعلى في رشاقة حسده عليها بالفعل عامل المستشفى وبعض الجرحى والمرضى، بل والفتاة المواجهة التي تَصوَّرها العالية.
الجميع التقت عيونهم وحطت إلى حيث يقف معتليًا سريره ووسادات رأسه وبذلته، كمن يخطب مُدويًا بلا صوت، سوى من حشرجات بدت مؤلمة لبعض الجرحى، وبخاصة الفتاة التي هبت منزعجة، كما لو كانت قد تخلصت من تأثير المورفين المخدر دفعة واحدة على صوته المدوي زاحفة بجذعها الأعلى بكامله، وهي تغطي منطقة أذنيها.
ولاحظ هو حركتها هذه، فأوصل درجة حشرجاته الصوتية إلى أقصى مداها، مستعينًا بعظمية ورشاقة تكوينه الجسدي، وقدراته البلاغية المؤثرة التي يعرفها عنه الجميع.
لكن يمكن عدم الجزم الدقيق بما تناثر بالفعل من خطابه في مواجهة التومرجي نصف المقنع، الذي واجهه عبر نقالة العنبر البيضاء، التي خدشت دماء راكبيها بياضها الناصع النقي، فبدت متسقة بدورها مع كلٍّ من العنبر وجرحاه.
أقول: لا شيء محدد حول ما تناثر من كلمات المهاجر وهياجه إلى حد الخطابة، الدفاع عن النفس.
أنا لست جريحًا، لا مكان لي هنا، طالما أني معافًى، وفي مقدوري الكشف عن كل أعضائي؛ القلب، ساقاي، البول، السكر، الدم، أين؟
تساءل بعض الجرحى الذين ساءهم وضعه وهياجه على هذا النحو، دون مراعاة لراحتهم، إلا أن الفتاة شبيهة العالية صرخت من فورها بأعلى صوتها في وجوههم مشيرة إلى أذنيها لاطمة: أنا سمعاه، مفيش نقطة دم، سكر.
وواصل هو دفاعه عن وجوده، لكن ليس أبدًا — وبالمرة — هنا مكاني؛ حيث إني باحث متخصص.
راح يتوجع قليلًا على سريره في مستوى أعلى من التومرجي الغاضب المندهش ونقالته: ليتني جريح أنزف!
استدار مستشهدًا بالنزلاء: مثلكم جميعًا، ليتني! لكنه شرف لا أدعيه، ليس في مقدوري.
صرخ عاليًا: ليكن هذا حالنا.
واستلقى من فوره منحطًّا في الوضع الممدد الملائم في منتصف فراشه.
– تنفسه طبيعي.
انسحب عامل النقالة تحت قناعه، ولم يعد يسمع سوى صوت عجلاتها بأزيزها لحين إغلاقه الباب الأخير المقابل بالمرصاد، والكمارات الحديدية الضخمة على هيئة مقص عملاق متعانق.
ساد ذلك النوع من الصمت الذي عادة ما يعقب المشاحنات عالية الصوت.
أما المهاجر المسن، فقد غطس نهبًا لهواجسه التي لا تخلو بحال من آلام جسدية، خاصة زوره الجاف إلى حد التشقق مما أدى إلى غياب صوته بكامله، في مواجهة الوزير والرئيس والنائبة الملهمة، حين حاول تخفيف الأمر عليهم ومجرد المداعبة الشائعة بأنه سليم معافى.
– عمر الشقي بقي.
ومع ذلك أخفق هو من جانبه في إيضاح الأمر، إن لم يزده سوءًا إلى حد التخوف من الوشاية، مما ترتب عليه بالقطع تركه على هذا النحو، وهو الذي لا يحس خدشًا في جسده، وإن لم يخل الأمر من هبوط عام.
تذكر فيما تذكر أن شيئًا أقرب حدث له في القاهرة، لم يكن بالدقة ذات الأمر أو الوضع، الذي موجزه الخروج.
صحا ذات نهار ليجد نفسه جالسًا القرفصاء على سريره داخل بدرومه، وأفراد ذلك الجهاز العام بملابسهم المدنية محيطين بالفراش والحمام الملحق، يفتشون السرير ومرتبته وجيوبه وأعلى الشرفات، وسيفون الكابينيه والكتب، وغرفة الكرار الملحقة، ودواليب الحائط، وانتهى الأمر كالمألوف، بأخذه مع الغسق داخل سيارة «بوكس»، وفي أحيان شيفروليه وموتوسيكل، ومشيًا على الأقدام، بل وظهر حصان، يختفي بعدها لحين الإفراج عنه بكفالة في ثلاثة أحايين غير متتابعة.
– والآن.
أحس بوخز زوره، غمغم بذات الصوت الأجش المبحوح، وهو يتطلع ماسحًا أعلى حوائطه بعينيه.
صحيح أنه لم يكن ذات العنبر، بسرائره الحديدية والبطاطين رمادية اللون على عادة الميري.
وبدا استياؤه جليًّا في عيني تلك الفتاة الجنوبية كطفلة صفراء الوجه حنونة، حين قاربت سريره في جينزها الأزرق وحديثها المفصح متحسسة جبهته، نبضه.
وحين فتح عينيه في عينيها بدت منكسة أكثر خجلًا، سألها أكثر من مرة بلا صوت سوى الفحيح «لماذا هو هنا؟» ولما لم تجب تصورها جزءًا من جهازهم العام.
مرة أخرى فتح عينيه حين راحت تدثره ببطانية وهي تشدها شدًّا من تحت منطقة وسطه في صعوبة.
كيف يمكن إفهامها، راح يشير إلى منطقة زوره: اللوز.
وحين أومأت إليه فاهمة، مضى من فوره شارحًا الأمر، مشيرًا مرة إلى أعضاء جسده الخشبي الممدد، ومرة إلى رأسه، ومنطقة الحجاب الحاجز وفكيه.
قفز جالسًا وهو يقاربها، سائلًا بصعوبة أجهدت الفتاة بقميصها ضارب الزرقة المزين بفراشات ذهبية تغطي منطقة نهديها: دي مصحة والا مستشفى؟
وحين أجابته الفتاة بالنفي، واصَلَ: يبقى معتقل.
ضحكت الفتاة وهي تحاول إقناعه بأنها مجرد زميلة، حيث إن فراشها في أقصى العنبر ونفس صفه، وإنها هي أيضًا لحقها الانفجار، إلا أنها مثله لم يصبها جرح، كل ما هنالك أنها استغرقت في النوم ولم يوقظها سوى صوته.
قال بصعوبة مشيرًا من جديد إلى زوره: صوتي راح.
وسألها إن كانت تسمعه، فأجابته: بصعوبة شوية.
أعجبه ابتسامتها التي ذكرته لومضة بحقول مصر الممتدة، فمضى يشرح لها الأمر كله مستعينًا بيديه وذراعيه في ملامسة يديها البضتين البيضاوين، وكتفها وعنقها النافر كمثل حمامة أيك دقيقة حين تنفعل وتتفاعل مع شرحه للأمر كله، لحين تذكيرها لما تعرض له طيلة أيام السيمنار، مذكرًا إياها باقتراحها بكتابة سؤاله وتقديمه للرئيس، حين التهمته النائبة من فورها قبل أن يصل يده.
ضحكت طويلًا، وأشارت إليه بأهمية الخروج، وحين سألها مقاربًا هذه المرة وهو يتحسس مفرق شعرها العاجي الأحمر، أعادت التأكيد بالإيجاب.
– بل يمكننا الخروج معًا.
ضمها من فوره إلى صدره العظمي، وقفز مرتديًا ملابسه بعد أن أقنعته بأن هذا العنبر الذي تساقط طلاؤه ما هو سوى رقم، أو عربة في قطار ممتد الطول من عنابر مزدحمة تغطي الأفق.
وأدهشه أن الأمر لم يستغرق كثيرًا، ليجد الجهة المقابلة، ويدلفان خارجين إلى حديقة الليمون.
الفصل الثالث عشر
حين غمرتها الشمس الساطعة خارج العنبر، أخفى كل منهما عينيه بكفتي يديه، كان الوقت فيما بعد الضحى، الحر لا يطاق، وشعرَ هو بخطأ لارتدائه ملابسه بالكامل حتى الكارفاته حين تصبب عرقًا. كانت في بعض الأحيان تقوم بتجفيفه بمنديل يدها الصغيرة الرخيص، إلى أن جلسا على دكتين متقابلتين في ممشى الحديقة المحاذية للعنبر، وأجهدها المهاجر في معرفة جلية الأمر، مستشهدًا بما حدث في ذلك السيمنار المشئوم، ولم يخل الأمر من ذكر أمراض الشرق الأوسط المستعصية: اللاأمن، اللاتوازن، إسرائيل والضحية الأخيرة لبنان، وأحبولتها التي لا تبعد كثيرًا عن بحث الفنلندية الفاتنة حول الحزازير والفوازير، لحين وقوع الهجوم المفاجئ، وتهتك مبنى الأوتيل البحري والانبطاح أرضًا، ووصول سيارات النجدة والإسعاف.
وحين وصل هو في حديثه إلى حد زيارة الوزير والمسئولين أنكرت هي كلية معرفتها بهذا الأمر، وهي التي لم تصح إلا منذ حين.
حاول بصعوبة ضاعفت من نزف عرقه مدرارًا تذكيرها بالزيارة والفلاشات، ومداعبته التي عجز عن إيضاحها لحين فرحته بوصول منظاره الطبي حين ناوله له الرئيس ممتنًّا.
عاوده يأسه فلزم الصمت حين أصرت الفتاة الصغيرة على عدم تواجدها فيما حدث رغم الضجة والطنين وتعللت بالنوم، فوافقها مكرهًا، وهما يزحفان على طول مقعديهما في اتجاه معاكس للشمس الحارقة.
هنا وهناك على طول مرمى البصر تراصت العنابر المستطيلة الغارقة في الصمت، ومن حولها انتشر عمال نقل المرضى والمصابين الجرحى المقنعون يدفعون بنقالاتهم البيضاء في كل اتجاه بشكل منسق للغاية. في أقصى الأفق البعيد ينتصب مبنى إدارة المعزل، بلونه البني القاتم، وشرفاته الرحبة، ومن على رأسه ترفرف الأعلام الملونة في حركة عكسية لأسراب الطيور الضخمة العملاقة التي راحت تحلق ضاربة بأجنحتها طائرة في اتجاه دائري واحد، فيما حول القبة العملاقة التي ينتهي بها المبنى المدجج بالحراس والمقاتلين.
نبهته الفتاة الصغيرة وهي تأخذ بإصبعه بين راحتيها بألا يشير بإصبعه على هذا النحو: هس.
حاول نزع سبابته من بين يديها، موضحًا بأنه لا يعني المبنى الرئاسي لذاته بقدر ما هو يعني الجوارح، من حداءات ونسور وخفافيش، وتحليقها على هذا النحو، ولا شيء يطغى على سمع المكان بأكمله سوى أصواتها الجارحة المعدنية الصدى، تقطع أحبال صمت المبنى بأكمله.
– لا بد أن في الأمر وليمة.
أردف: بشرية.
انفصل كلية فجأة عن الفتاة، وعاودته زمة شفتيه وهو يتطلع بعينيه في توجس مستطلعًا المكان، الذي اختلط من فوره — داخل مخيلته — بأماكن لها ذات الصمت الموحش أو المتوحش ذاك، رغم إحاطتها بالكثير من المناظر البهيجة المنفتحة الخلابة، حيث لم يكن الأمر يخلو من شلالات مياه أهرامات مدرجة، بقايا أصنام هائلة الضخامة تنتصب في الأفق الأحمر القاني مع الغروب، قرى جبلية مطلة على هذا النحو، نيل وبحار وأشلاء غابات ونخيل مفرط الطول.
أما الفتاة، فغرقت بدورها في أفكارها طويلًا، تذكرت بلدة أمها عبلة التي كانت — القنيطرة — حيث تربت في حضن الجبل وجدتها.
– أين؟
البلدة ضاعت والجدة ماتت.
مضت تحكي له حكايات لا رابط بينها، عادة ما كانت تختتمها بأنها لا تعرف ولا تدري، وهي تشرح له بساعديها الدقيقتين راسمة شبه دوائر غير مكتملة في فراغ.
وتذكر هو من فوره بناءات وعوالم ومعمارية وفراغات ذلك المصور الميتافيزيقي السريالي، دي شيروكو، غمغم ملتاعًا: يا له من يوم!
من جديد عاود احتضانه للفتاة، مومئًا برأسه عاليًا إلى حيث الطيور المحلقة الضواري، بجلجلات أصواتها: إحنا هنا ليه؟
مرقت من حول مبنى الإدارة الشاهق البعيد، سيارتان سوداوان فاخرتان، تتصدرها الأعلام الرئاسية، نزل منها ركابها يضحكون متطلعين هنا وهناك باتجاه العنابر، والأسوار الشائكة المسورة للمعزل بكامله، وتناثر منهم بضع كلمات سمعتها الفتاة بدقة، حين أسرت في أذنه اليسرى مشرئبة: بيتكلموا عن وباء.
تساءل من فوره: وباء والا انفجار؟
تساءلت: إسرائيل.
وحين انسحب الضيوف داخلين المبنى الرئاسي، جاهد هو في ألا تعاوده الحالة، سعل طويلًا وبصق جانبًا دون أدنى تحرج من الفتاة البسيطة الرقيقة، التي حاولت مساعدته في ارتباك مما ألم به.
ونجح أيضًا هذه المرة في أن يركز اهتمامه المركزي على الجوارح المحومة تحت وهج الشمس حول المبنى بأصواتها الجرسية المدوية.
وما إن فتح عينيه معاودًا التنفس بصعوبة، حتى أسر لنفسه وللفتاة التي لم تفهم شيئًا: يبدو أن الأمر سيطول … هاه؟
تخفف كل منهما من ملابسه، وقاما يذرعان مشيًا مساحات الظل الضنينة فيما حول أشجار حديقة الليمون وزهور الإنترهينم بأفواهها المفتوحة على هيئة حيوانات دقيقة صريحة الألوان والعطر.
توقفا في مكانهما حين وصل تحليق الطيور الضواري من فوق مبنى الإدارة، وهي تضرب بأجنحتها وأصواتها إلى حد العنف … الصراخ.
وأمكن للفتاة الصغيرة لحظتها أن تربط بلا خوف، بين برودة أطرافه حين تحسستها، وبين ما يحدث.
قال: أروح فين؟
بدا وجهه مفصحًا للفتاة إلى حد جلي، حين ركزت عينيها التركوازيتين الخرزيتين على فيزيقية جسده بكامله، وهو يزم شفته مستطلعًا ما يحدث عبر فراغات المؤسسة التي يغلب عليها اللون الأبيض، ليس من المنطلق الجمالي، بل لا بد أن الأمر هنا متصل بالدرجة الأولى، يتعذر هروب النزلاء، الأمن: أين؟
تذكر دفاع التومرجي الملثم في مواجهته: ما نحن سوى نزلاء مثلكم.
سقط بصره أرضًا باتجاه الفتاة المعلقة بأطراف أصابعه بعينيها نظرة من تنتظر استطلاع الأمر، ولما لم يجد كلامًا يقوله، استلقى على النجيل وأعناق الزهور البرية ممددًا وقاربته الفتاة جالسة.
– وبعدين؟
أصوات الجوارح تطغى على كل صوت حتى أزيز عجلات نقالات نقل المصابين الجرحى، التي تضاعف نشاطها، مئات من النقالات لكلا المرضى والتومرجية المقنعين: كل دا.
مضت الفتاة الصغيرة تعبث وهي تتشمم بأنفها الدقيق روائح اليود والصبغات التي أثقلت من «شوب» اليوم وحصار الأسوار الشائكة وعواء الجوارح أعلى القبة فوق.
فجأة توقف تومرجي العنبر مفتول الساعدين، متخليًا عن نقالته ومريضه بالقرب منهما، ساحبًا بيديه كمامتين ألقى بهما إليهما قائلًا مهددًا: البسا.
ومن فورها وضعت الفتاة قناعها على وجهها المكفهر، وساعدته في ارتداء قناعه، واندفع كل منهما يتأمل الآخر عبر قناعه فترة في توجس، انسحب على أثرها عامل المستشفى دافعًا جريحه إلى بعيد.
ولما كان صوت المهاجر قد وصل إلى درجة من الانحباس الكلي؛ لذا بدا الوضع أكثر صعوبة من حيث التعبير، كيف والأمر برمته أصبح على هذا النحو الضبابى تحت صهد يوم صيفي كهذا وفي منتصف نهاره بالضبط: جوارح جرحى.
كانت الفتاة دائمة التطلع إلى عينيه من أسفل إلى أعلى عبر زجاج منظاره الطبي، على اعتبار أنهما الشيء الوحيد المُفصِح الذي لم يصل إليه القناع؛ لذا حاول جاهدًا شرح الوضع لها، وهما في طريق عودتهما إلى العنبر، ذاكرًا بأن الوضع في مجمله غير طبيعى، خاصةً ما حدث منذ وصوله، وضراوة الأخت الصغرى الضخمة، كرد فعل طبيعي للأشياء والفراديس المفتقدة، مضافًا إليه نيران المحاور، الحصن الجماعي، ما الذي تبقى؟ فها هي حكايته، عمله وكاره لم يقاربها منذ مجيئه ولو بمجرد القراءة، تلك التي أضناه جمعها وتحويشها سنين، أين هي منه؟
ورغم الكمامة التي تُغيِّب ملامحها فيما عدا عينيها، فقد تبدت في عينيه تحت وهج الشمس، وحدة صدى أصوت الجوارح كمثل إلهة بحرية ضاحكة متفائلة.
ضحك قليلًا ربما للمرة الأولى منذ هروبه، حين عرف أن ما أبهجها هو ذلك العالم المنقضي لحكايات: موت البجعة، وكسارة جوز الهند، والسمساوية، والعندليب الحكيم الذي أمسك به ذات مرة رجل مغفل.
قالت: احك لي واحدة.
ضحك المهاجر عاليًا عبر قناعه … كمامته.
الفصل الرابع عشر
بدا كمثل جد عظمي مفرط الطول يلاعب حفيدته.
لاعبها طويلًا برغم الكمامتين، حاكيًا لها واحدة مضحكة: ابن ملك تحت الأرض بيحب بنت ملك الأرض.
تحركت الفتاة الصغيرة بإيقاع ابنة ملك الأرض، مما أعاد الابتسامة إلى شفتيه، حين واصل متقوسًا على نفسه حاكيًا بصوته الذبيح في أذن فتاته: لقي البنت ماشية في يوم في جنينة أبيها، قرب منها، البنت سحرت نفسها فرخة تكاكي، تصرخ وتقول: يا أولادي. «توقف.»
وابن الملك سحر نفسه ديك وجرى وراها في الجنينة، فالبنت انقلبت رمانة، الديك مضى يلقط حبها الأحمر ما عدا حبة رمان انقلبت حية، طاردت الديك لحد ما مصته … قتلته.
مضيا يضحكان طويلًا ويعبثان عبر حديقة مدخل عنبرهما.
وحكى لها مُومئًا مُعبِّرًا بجسده الشاهق وأطرافه كمثل ممثل صولو: أسد شاخ وضعف وتمارض ورقد في المغارة، وكل ما يزوره حيوان يفترسه، لكن لما جاء الثعلب يزوره ويسلم عليه قال الأسد العجوز: اتفضل، ادخل يا أبا الحصين.
الثعلب قال له: أدخل! … بعد كل الضيوف اللي دخلت ومآنسينك بعد!
وأعجبته حكايات الضيوف الثقلاء، فروى لها واحدة جديدة كانت تعقبها بضحكاتها الصافية: مرض غزال وجاء أصحابه من الوحوش يزورونه، يأكلون عشبه وحشيشه، ولما صحا لم يجد شيئًا، فقال: آدي الضيوف وبلاويها.
وبادرته بدورها بحكاية جنوبية: اصطاد كلب أرنبًا ومضى يعضه بقوة ويعود يلحس دمه في حنان، فقال له الأرنب: تعضني كأنك عدوي، وتُقبِّلني كأنك حبيبي!
وبدلًا من أن يضحك المهاجر كالعادة عقب كل مأثورة وحكاية فشر، ابتسم، إلا أن ابتسامته توارت حين سمعها تهمس في أذنه: «حبيبي» إلى حد أن عاوده الاكتئاب.
استدار مسرعًا كشاب منفصلًا عنها.
وحين تمالك نفسه مستديرًا باتجاهها، هاله أنها منكسة كمن ارتكبت ذنبًا: بل راحت تعبث بعينيها فيما يصل أعلى ركبتها من زهور برية، من تلك التي لا وطن لها، وفي معظم الأحيان تتخذ من الأرض المهجورة الصلدة منبتًا لها؛ لتزهو ببراعمها حمراء قانية تتخللها النقاط السوداء الفاحمة.
قطفت ثلاث زهرات برية رشقتها في صدره.
حتى إذا ما دلفا جنبًا إلى جنب إلى داخل العنبر، بدا وكأنما هما يخطوان على إيقاعات مارش محبب.
تطلعت إليهما معظم عيون المرضى والجرحى، لكن أين هم؟ لقد قاموا جميعهم هاجرين سرايرهم، يتزاورون ويتحلقون في ممشى الطرقات الرئيسية التي تفصل ما بين الأسِرَّة، يتبادلون اللفائف والبيرة والسفن أب.
وتعرف هو من فوره رغم الكمامات على أكثر من باحثٍ زميل، وفتيات العلاقات العامة الثلاث، وشبيهةٍ لعالية، بل والعالية وأختها حين قدمتا لزيارة النزيلة المشابهة.
انحنى ليسمع تعليق فتاة الجنوب التي كانت ساعتها تضغط يده: غريبة دول زينا.
قال في حشرجةٍ لم تتفهمها الفتاة: سلام.
ومن فوره استدار محرضًا: الخروج من هنا، الآن.
وعلا تساؤل النزلاء: إحنا هنا ليه؟
إلى أن جاء العدوان الصهيوني بالجواب، لم يبعد عنه، جاء هكذا مستشريًا من الباب للطاق، وإن لم يخل الأمر طبعًا من مسبباتٍ أو تلفيقاتٍ بثها راديو العدو، عن أمن الجليل وسلامته.
أي جليل، الجليل الفلسطيني، ضد من … سكانه المطرودين؟ إذن فلنعاود طردهم.
وكلما تواترت الأخبار بالاجتياح هاج المرضى داخل العنبر، وعنابر أخرى لا يحدها بصر كانت قد بصرت فتاة الجنوب بهذا المهاجر الذي واصل تحريضه بالخروج.
إلى أن اندفعوا جميعهم خارجين تحت القصف بملابس المستشفى عبر شوارع بيروت المظلمة.
الفصل الخامس عشر
ظل ممسكًا بيد الفتاة الجنوبية وهما يعبرون الشوارع المظلمة التي تطحنها الحرب، آلاف القنابل العدوانية تدك المدن والجبل، المخيمات والأحياء المكدسة بالفقراء، من لا مأوى لهم، قالت: حبالى.
نساء بملابس نومهن وشباشبهن يسحبن أطفالهن في حرص، ورجال يحملون ما أمكن إنقاذه من بيوتهم وجحورهم التي دكتها القنابل المعادية للفقراء، أينما وجدوا. قدموا من أمريكا وإسرائيل بطائراتهم الفانتوم لقتل هؤلاء الحوامل وأطفالهن في بيروت والجنوب والبقاع، زحموا شارع الحمراء وما حوله وما تفرع عنه من حارات وجادات.
افترشوا مداخل العمارات والبنايات والحدائق، وكورنيش البحر والأوتيلات، وأسطح البيوت، والمدارس والمواخير.
بينما تبدت الطائرات المغيرة كما لو كانت تتعقبهم أينما رحلوا بصبيانهم وهلعهم المتبدي لتدكهم دكًّا؛ مَن لا وطن لهم.
المدينة كانت تشتعل بالنيران والشظايا والحرائق، والأنباء تحمل قصف الصهاينة للجمال في لبنان خلدة والشويفات والدامور وعرمون وعالية.
– الفقر والجمال.
ابتسمت له وهي ترفع رأسها عاليًا وسط الظلام المطبق، إلا أنه واصل طريقه بصعوبة دون أن يتخلى عن العودة إلى منطلقه ذلك الذي قدم به من القاهرة لتغرقه أحداث بيروت على هذا النحو، قال: الأمر لا يبعد كثيرًا، ذات ما جئت به، الطفح، أجل، باكابورتات العصور القديمة التي كانت. وهنا على ذات أرض هذا المكان؛ الأسوار القديمة، ملايين الأسرى في حجلاتهم، والقتلى هم ملح الأرض التي على ترابها وصخور جبالها سقطوا.
استوقفته حين ضغطت يده الممسكة بيدها الصغيرة الهشة، المخيمات التي انتصبت في زوايا الميادين والجراجات من فورها النيران المتوهجة، الناس وهي تركض طوابير إثر طوابير، طوفان النيران المتوهجة التي تشعل السماء: ماذا حدث؟
اخترقت الطائرات الأجنبية حواجز الصوت من فوق رأسيهما، حتى إنها ارتمت بالجدار محتمية.
– ماذا حدث؟
– أشعر بدوار.
لحظتها كان دمها قد أسيل من عند مفترق شعرها العسجدي، دون أن يبدو على وجهها الطفولي الباهت أثر الألم، ظلت ترقبه وهو مقرفص بجوار جدار محاولًا التقاط قطرات الدم بمنديل ورقي، مبتسمةً: إلى هذا الحد.
قالت دون أن يلتقط الكثير مما لفظت به في عصبية: أجل، القلب تحمَّل الكثير، مثلك.
وحين أعجبه قدرتها على التحمل، طالبها من فوره التماسك لحين وصولهما إلى البيت، رغم تيقنه من صعوبة مثل هذا الأمر.
ذلك أن الشوارع كانت قد بدأت تغلي بالحركة والمسلحين ودوي القصف المتبادل ما بين الأرض والسماء الملبدة بالغيوم والنيران.
لماذا على هذا النحو يرمون بلاءهم على كاهل مدينة عتيقة مثقلة بالحرب الأهلية التي مزقتها بالمُدَى والسكاكين على هذا النحو، العدوان ضارب الحصار والأظافر، عبر كل منافذها الستة، حتى البحر.
ومن كل مكان تطل تلك النجمة النارية الطوطم: نجمة داود.
أشارت إلى حيث كان يجري الإنزال؛ لتتلقفه سناكي المقاتلين الفلسطينيين الفقراء على مشارف بيروت.
المقاتل الشيوعي والفلسطيني في الدامور، وصيدا البطلة منذ الأزل، وقلعة الشقيف، وخلده.
الأشبال على المحاور يتصدون للفاشست المعضوضين على طول تاريخهم.
مضت دائخة وهي تتطلع إليهم؛ شبان في ذات سنها ولكنتها الجنوبية، التي جاهد المهاجر طويلًا في استيضاحها منها، حين اندفعت قائلة — كمن تعارك ذاتها بذاتها — منفعلة: أجل، على هذا النحو منذ أن ولدت في إحدى قرى صور نفس الشيء، القصف الإسرائيلي بسبب وبدونه، وحتى عندما أمضيت طفولتي الأولى بالقنيطرة بسوريا، نفس العدوان، وحرق الدور، ورحيق حياة القرى، وها أنا في بيروت المحاصرة بالعدوان، إلى أين؟
مال عليها بجذعه الطويل مطمئنًّا، وهو يدغدغ آخر أطراف أصابعها بأطراف أصابعه هو، وداخله خوف خفي من افتقادها، تُراه فارق السن، أم الموروثات، أم التبصر: لعل ما يجمعنا هو افتقاده.
تساءلت: شو.
قال: كان يشدها شدًّا إلى حد التوقف عن السير، وجوه أطفال المجرين المعدمين على صدور أمهاتهم، حيث افترشن الطوارات ومداخل البنايات والسينمات التي ما زالت تعلوها أوضاع «رومي شنيدر» تزحف على بطنها عاريةً، بيدها سكين مشهر: على بطنها تزحف، وترابًا تأكل وتقتات.
وحين صعدا سلالم البناية ذات الطرز البيزنطي حيث يقيم، أضاءا شمعة لاستكشاف الطريق.
على جانبي السلالم وطرقات البناية ذاتها، تتراص وفود المهجرين ومن دُكَّت منازلهم الآمنة تحت قنابل الصهاينة، أعداء كل الفقراء وجمال عرمون وعالية والشويفات وخلده.
وحين أشعلا الشموع عبر المكان، وصبت هي الشاي، واصلت حديثها المحتدم العصبي: والديها المهاجرين، والبيت الذي كلما ذقنا الأمرين في بنائه أعادوا هدمه بالقنابل وراجمات الصواريخ الضالة، مدرستها على طريق مطار بيروت التي احترقت مرتين، وأتوبيس المدرسة الذي دُمر بأطفاله ونجتْ هي والسائق صدفة.
قال: أجل، صدفة.
أعاد القول لنفسه وهما يعبران ميدانًا يغص بالجنود، والمارة عن آخرهم يعلو الاكفهرار الأميل إلى الحزن العميق جباههم المحتدمة العالية: صدفة! إنها الشيء الوحيد الغائب عما يحدث على أرض هذا الوطن الصغير المعذب لبنان، أين هي فيما يحدث؟ إن الأمر أميل إلى المعادلات الرياضية الجافة إلى حد الأرقام وثقلها ليس غير، ومنذ الأزل. صحيح أن الأمر لا يعنيني بدرجةٍ كافية، سوى من حيث الحكايات، كيف أني مجرد جامع لها من أفواه عجائز القرى المعدمة، المتلاشية قسرًا وبالضرورة، مثلما يحدث الآن على أبواب وهامات المدن والدول القديمة: صور، صيدا، بيروت أمام العدوان الصهيوني، فما بالنا بالقرى والنجوع؟!
وعلى هذا، فالأمر متتابع الحلقات منذ الأزل، هكذا تقول وتصر على القول حكايات القرى وتخاريفها الليلية.
ذلك الاجتياح العدواني الضاري الذي يتصدره الطوطم السلف: النجمة المسدسة.
أشارت إليها من فورها بيدها القصيرة، حمراء متوهجة في الأفق البعيد تبدت من بين شقوق العمارات وفراغاتها، كمن تسقط من السماء.
وحين احتواها الفراش، بدا الأمر أكثر صعوبةً، ذلك أنها راحت تشكو وتشكو رافعة ذراعها عاليًا.
أما يده هو ساعتها، فكانت دائمة العبث في الموسى المستقر تحت مخدته دون معنى، قال مبعدًا وجهه عنها: كان من الواجب أن أكون أكثر دقة، إحكامًا، أن أبعده حتى لا يؤذيها الأمر.
راح يتأمل وجهها الشاحب وعينيها الخرزيتين وهي تتخفف من أثقالها المطاردة عبر المدن المحاصرة، حيث لا مهرب سوى الاختباء: إلى أين؟
قالت: هنا.
قام بجذعه الأعلى عن فراشه، ومضى يتأمل وجهها العصبي الحاد طويلًا، زامًّا فمه في حنق من سُدت عليه جميع المنافذ.
عاودته نقطة بدئه حين حزم حقيبته ذات نهارٍ بعد أن ضمنها كتبه وحكاياته، حاسمًا الأمر مقررًا استيطان هذه المدينة المهترئة بالحرب الأهلية والتصفيات، معاودًا البحث في مخلفاتها، ويمكن القول: نفاياتها بحثًا عن منفذ أو مكمن داءٍ عضالٍ يفت في جسدها المريض القابل على الدوام للتلوث.
هذا على الرغم من تيقن المهاجر بأن الأمر فيها سيكون أحسن حالًا وأقل حصارًا من مثيلاتها العربيات في الحجاز ونجد وصنعاء وقرطاج وعمان والقاهرة.
ذلك أن داءات مثل هذه المدن وأمراضها المستعصية لها أيضًا مستوياتها الأقرب إلى الخطر واستفحاله.
ها هو أخيرًا على أرض ما كان يظنه فردوسًا هيلينيًّا فينيقيًّا لمجتمع ثقافي مستنير، يؤوي الغريب قبل القريب ويحميه.
هنا في هذا الوطن الجبلي الوعر، المزين بخيرات الأرض وعطائها الموسمي المزدهر.
أجل على أرض اللورد النبيل الذي كان جميلًا فعشقته النساء، أدونيس «أدون».
وعاودته حكاياته — كاره — تلك الممددة أكوامها على طاولة الطعام لم يلمسها منذ نزوحه مهاجرًا، وما حدث على تلال عمان — حين عاودته النوبة التي عادةً ما يفجرها الحصار، ويمكن القول لا متناهية الحصارات التي اعترضته، بدءًا بالرقباء وأجهزة القمع في القاهرة، وبالغيبيين والسماويين والجهلاء، لحين مجيء الأكاديميين: الرئيس ونائبته البدينة التي تقتات بالتهام التساؤل، لماذا ضحكت فتاة الجنوب في سذاجة طفلة؟
– تذكرت النايبة.
عاوده تزمته، ويمكن القول ذلك التعبير المتندم المتبدي على الدوام في عينيه تحت منظاره، فمه، أنفه المستطيل، هزَّات رأسه: ماذا جرى؟
الدوي يكاد أن يقلب تلك البناية الخرسانية العملاقة كمثل حصن تنقصه أحصنته وخيوله الغازية.
– ما زالوا يدكون مخيمات الفقراء.
غمغمت: عالية … عرمون.
تذكرَت ما تبقَّى من أصدقائها الأحياء منذ نزحت مهاجرةً مع أسرتها من إحدى قرى صور، مطاردين بالقذف الإسرائيلي وسقوط البنايات القديمة التي أحبتها على رءوس من فيها من أمهات وبنات في سنها وأطفال.
تذكرت صديقتها الدرزية المتشاحنة دومًا مع كل من يحاوطها، وأختيها وخالتها السريانية: راحوا.
توالى القذف إلى حد تطاير شظايا زجاج الشقة مخترقًا جسدها نصف العاري تحت ملاءة السرير التي غطتها على الفور بقع الدم.
آه.
وفي هذه المرة لم يسأل أحد في جرحهما الدامي.
الفصل السادس عشر
بدا المهاجر وفتاة الجنوب تحت ضماداتها الصمت كما لو كانا ينصتان عن آخرهما إلى دوي الطائرات الأمريكية المعربدة دون رادع، حياء في سماء بيروت المقاتلة.
– مرضى … صهاينة.
جاءت الممرضة بوجهها المستكين المتجهم الذي ذكَّرَه بوجه العالية، وراحت من فورها ترفع أربطة الفتاة من حول صدرها الكبير المُغطَّى بالدماء، مضت تُدلِّكها محاولةً تخليص لفات القماش الطبي المتجلطة بالدم الأحمر النازف المتجمد فيما حول تكورات نهديها النافرين: آي.
هاله جمال صدرها حين هبَّ برأسه عن وسادته، ومضى يرقبهما في فضول لا يخلو من شَرَهٍ: فاشست.
وحين أحست الممرضة المتجهمة طويلة الوجه بما يعتمل في أعماقه؛ طمأنته: إصابة سطحية.
ذكَّره الدم المتجلط فيما حول صدر الفتاة الرحب، بذلك الشعار الدموي السالف لأرجوان فينيقيا الذي تغنت به الإلياذة الهومرية.
عاود الاسترخاء بملامسة رأسه لوسادته، متحسسًا ما تحتها بيده اليسرى: الموسى.
من جديد تلاقت عيونهما الغائرة في ثقب الضمادات البيضاء: بسيطة.
هزت له رأسها مبتسمة لحظة انسحاب الممرضة المتجهمة التي سحبت شنطتها خارجة، مغلقة الباب عليهما في عنف صاخب.
من جديد عاودهما الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى دوي القنابل التي تطحن أحياء الفقراء والمهجرين في صبرا وبرج البراجنة وشاتيلا وما حول الجامعة العربية، ويُسمع صداها المدوي عبر الليل والإظلام في شوارع الحمراء: آي.
كان قد أغفى قليلًا، إلا أنه سرعان ما وضع منظاره على عينيه مستديرًا برأسه صوب الفتاة: ماذا؟
أشارت بيدها إلى صدرها: دم.
هب من فوره حافيًا إلى أن قارب فراشها منحنيًا، بينما اندفعت هي متألمة وعلى جبهتها تقاطعت خيوط العرق النازف.
حاول تهدئتها مطالبًا إياها بالاستسلام للاسترخاء للنوم، إلا أنها بدت أكثر عصبية.
– نار.
أشارت إلى حيث الأربطة، وحاول هو ملامسة صدرها، حيث امتلأت خياشيمه بروائحهما الجنسية التي يعرفها، يخالطها روائح اليود وصبغاته.
– نار.
لم يعرف كيف يتصرف بإزاء الفتاة التي تبدت آلامها في انفعالات وجهها وذراعيها وهي تنشج ألمًا: نار.
هو يعرف عن الفتاة مدى تحملها … جلدها، ابتسامتها الضنينة الشاحبة المبددة لكل ألمٍ وتهافت: ماذا جرى؟
أتكون الممرضة تلك المتجهمة، غامضة النظرات، قد تعمدت أو هي أخطأت؟ دفن عينيه أكثر فيما بين تكورات نهدي الفتاة الجنوبية التي من فورها أحاطته بذراعيها، مشدِّدة حصارها حول عنقه ومطلع رأسه جاذبة، كمن تنشد ومضة حماية.
حاول هو مراتٍ أن يخفي عينيه مغمضًا عن صدرها المتفجر بالدم، الذي مضت قطراته تأخد لها مجرى، لتعاود الضمادات القطنية رشفها وامتصاصها.
ولما لم يجد له منفذًا والفتاة متألمة تغرز أظافرها — المقصوصة — في عنقه وقفاه دون وعي، مدَّ يده في حذرٍ وراح يمررها محاولًا الإمساك بطرف الضمادات التي كانت قد تلاصقت حلقاتها من حول الصدر الطافح بفعل الدم النازف المتجلط.
– أوه … أوه.
وجد منفذه حين قارب أكثر صدر الفتاة مستعينًا بطرف لسانه ويديه الاثنتين في حذر، كمن يذيب بلعابه دم صديقته الحنونة، التي مضت من فورها تواصل شهقاتها وتعلقها أكثر بعنقه: بشويش.
وحين نجح في حل ضمادات البز الأيسر، واصل من فوره لعق الدم وما خالطه من أصباغ تلك الممرضة الجهمة.
تذكر صفعها المفاجئ بعنف جلي لباب الشقة الخارجي، وتذكَّر أنها لم تبادلهما التحية ولم تنطق بشيء.
دوى القصف الشديد للعدوان والحصار، والسماء الصماء النحاسية تبرق عبر زجاج الشرفات بوهج نيران المقاومة التي غطت كل سماء بيروت.
هنا احتضن الفتاة بأقصى عنف، بينما يده اليسرى ترفع عن صدرها الثاني ضماداتها دفعةً واحدة، صرخت لها الفتاة من أعماقها، مشيرةً بأقصى توجسها إلى البنايات المقابلة عبر الجدار الزجاجي التي لحقتها نيران العدوان، فسقطت متهاويةً بأطفالها ونسائها وعجائزها يطلبن الرحمة بأيديهن المتضرعة طلبًا للنجدة، الغوث، وما من مجيب سوى اندلاع النيران المتصاعدة التي برقت ألسنتها مقتربةً أكثر، ذلك أنهما أحسا وهجها إلى حد احتراق جلديهما، حتى إن ألم الفتاة وصدرها النازف لم يعد — على عادة ما نعرفه عن الألم ودرجاته — بإسقاط أعلاه الحارق لأدناه الدامي.
– النار.
احتضنها مبتعدًا — إلى الحافة المقابلة للفراش — عن ألسنة النيران المندلعة المحاصرة، ودوت الطائرات العدوانية المغيرة، التي لم تكف، والتي تواصل حصارها من لا وطن لهم، زاحفةً على كل فراشٍ ومنفذ.
أوقعها بأقصى رفقٍ على الفراش ليفترشها «موكيت» الغرفة، بينما ألسنة النيران تواصل زحفها إلى حد الحصار داخل الغرفة.
الدوي لا يتوقف، والارتجاج يصل جدران البناء «الحصني» ذاته وحيث يقيم، إلى حد الإحساس الجاثم بجلطةٍ أو هي ومضة لتوقف … الموت.
– نهرب.
اجتذبها من يدها، وهالَه مدى استردادها لحيويتها توازنها إلى حد اختطافها لروبها المنزلي وشبشبها ولفائفها، وكيس نقودها، ومفتاح الشقة، واندفعا جاريين وهما يحتميان بالجدران هنا وهناك، إلى أن تداخلا بصعوبةٍ بأناس على شاكلتهما هربًا إلى حيث جراج البناية أو مخبئها عبر السلم الحلزوني الرصاصي الواسع، وفود إثر وفود، لا ينقطع لها هبوط وتدافع.
عرف المهاجر البعض منهم، من سكارى ومومسات مصريات وحبشيات، وفتيات بُنِّيَّة اللون قصار القامات من سنغافورة والفلبين وسريلانكا، والتقى — فيما التقى من وجوه تكدَّست في رعبٍ داخل جراج البناية — بالعالية وأختها.
– مرحب.
وقبل أن يجيب داهمه انحباس صوته كما داهم الجمع الحاشد دوي القنابل المهاجمة، واتساع رقعة النيران الزاحفة، ووهجها اللاسع، تلك التي ضاعف من وهجها، بل ولحاقها وإمساكها بأطراف الملابس التي لحقت بكُم ردائه المنزلي، وعرف من فوره أنها من نوع النابالم، حين تقدم منه سمكري لبناني مهاجمًا، فخلع كم الجلباب منتزعًا من عند الكتف، محذرًا الجميع الذين لحقتهم ذات النيران والشظايا.
– نابالم.
لم يعد يحس بوجوده ولا بالفتاة المريضة، محركًا جذعه المستطيل تبعًا لاندفاع حركة الناس وهم يتكومون في آخر الجدران، يدفعون بحائطه الخرساني إلى أن أسقطوه مواصلين فرارهم عبر منفذ الأحراش الصخرية المواجهة المطلة على البحر. هنا تراجعت الوفود الفارة بفوهات المدافع المتربصة على طول الشاطئ تصب لهبها.
– أين؟
حاول التراجع متعثرًا، باحثًا هنا وهناك عن الفتاة الجريحة الجنوبية صديقته، دون جدوى.
الفصل السابع عشر
تحت القصف المتوالي عبر كل المحاور، واصَلَ المهاجر بحثه عن صديقته الجنوبية.
بدأ أولًا بزيارة أصدقائهما والجيران، ومسكنها بالمزرعة الذي اقتحمه مهجرون جدد دون طائل.
وفي كل مرة كان يعاود بحثه في الحمراء، وحيث كان يقيم، فيما مشيا فيه معًا من شوارع وأزقة، حتى البناية التي كان يقيم فيها، كانت البناية القديمة العملاقة تموج بسكان وغرباء مثله، ما بين مقاتلين ومومسات مصريات وشراكسة، وامرأة بلجيكية في منتصف العمر محاطة بكلابها، وأُسَر بكاملها تعتلي صور الإمام الصدر وجنبلاط مساكنهم، وموارنة.
وزاد ذلك الاختلاط وفاض حين قدمت جموع المهجرين الذين دكت الطائرات أو البارجات بيوتهم ومخيماتهم، وبخاصة تلك الدبابة التي تفنن الإسرائيليون في تجميع سرقتها من أسلحة فتك ودمار غريبة أخرى من هنا وهناك «الميركفا»، والتي من فورهم أعلنوا عن بيعها وتسويقها معددين قدرتها الخارقة على سفك دم الفقراء وإهداره؛ أولئك المطاردين الذين لا وطن ولا ثمن لهم، من صبرا وبرج البراجنة والكولا ومنطقة الجامعة العربية والبريد وشاتيلا.
كانوا في تجمعاتهم يواصلون زحفهم من موطن أو مسكن لآخر أكثر أمنًا، ما بين أحيائهم الشعبية والجبل وقرى الجنوب والشمال، لا شيء يشكل هيئاتهم وملامحهم سوى الفزع والفرار هربًا من الجلد، بل خروجًا منه إن أمكن.
كانت الناس تحت الحصار قد بدأت تعرف بعضها البعض، سواء وهي تتبادل النظرات المستطلعة عبر الشرفات والبلكونات ونواصي الشوارع وشواطئ البحر، والمقاهي، والمخابئ، وجراجات السيارات، وكمبونات السلالم، وأسطح البنايات، والجناين، والحدائق العامة.
كان المحاصَر منهم يتطلع إلى جاره أو جارته، وجه أسمر فينيقي أو أوروبي، وبخاصة فلسطيني، يبرز له مرةً مطلًّا غارقًا في أوهامه ومخاوفه، من فجوة شقة، أو عبر ستائر أو شباك أو كرسي هزاز.
بينما الطلقات وراجمات الصواريخ تدوي، ويبرق ضوؤها المعدني المذهب ساطعًا على السحب منطبعًا على الطبيعة ذاتها التي تغيَّرت سحنتها وفضاؤها اللاندسكيبي، فأصبحت في بعض الليالي شديدة القيظ، أميل إلى البرودة وخلخلات صقيع بيروت الشتوي.
حتى إذا ما أعقب صمت الليل الدامس الخالي من كل نور وكهرباء، الدوي، تبدت المدينة عبر صمتها وجراحها النازفة أشبه بجسدٍ عملاقٍ لمريض أو جريح مفتوح البطن، ممتثل لعملية جراحية إسرائيلية النهج.
وعَلِقت بضع سحنات بذهن المهاجر، منها ذلك الكهل الفلسطيني وابنته العايقة التي قُتل زوجها منذ اليوم السادس في الدامور، والذي استوطن إحدى شقق البناية المواجهة، ويبدو في كل غروب محملقًا كمشدوهٍ في اللاشيء، ولا شيء أو بادرة حركة تصدر عنه سوى ضرب أخماس في أسداس بأصابعه العشر، كمن افتقد كل شيء، لا بد أنه فلسطيني.
المطاردات لا تنقطع، والمدينة تبدو من كل زواياها ومنافذها كمثل سجن إن لم يكن حصنًا كبيرًا مسوَّرًا بآلات حرب الغزاة الخواجات الفاشست.
الفصل الثامن عشر
ظل المهاجر موقنًا من أنه سيصل يومًا إلى غايته ومرفئه الآمن، برغم أن كل ما حوله كان يشي بعكس ذلك، فالعدوان يستشري عبر اللحظة وما يعقبها، ولا شيء يمكن أن يوقفه، يعيده إلى صوابه، لا العالم ولا شعوبه ولا نقاباته ولا رأيه العام أصبح في مقدوره.
الجميع أخفقوا إلى حد الفشل، وضعوا أصابعهم في الشق، كل شقوق هذا العالم الذي نعيشه، ومنها بالطبع الشقوق البشرية، اللحم الطازج الأبيض والأسمر والنحاسي البشري.
لا بد أن هذا ما يحدث.
وضع الأصابع في الشقوق خلفًا وأمامًا، عبر كل التكورات ثم الغشيان، التآمر.
قال: لعل الأمر لم يعد بنا هنا تحت القصف والحصار عن «فابيولات» الرءوس والرمال.
الاستخباء، الدفن.
وها هم الناس من حوله أينما حل يتحركون عبر الشوارع والساحات وشواطئ البحر، بلا طائل، لا مفر.
ماذا يحدث؟
تذكَّر حديث سيدة شابة كانت تنتصب في وجهه المنكس حين زارهم ليلًا خلسة محاطة بأسلحتها من مسدسات وخناجر ورشاشات، بانتظار لحظة وصول ميليشياتهم والتمشيط.
ها هو السلاح مكانه، لن أحركه، وإن حدث ليكن حيث ينبغي أن يكون في وجوههم المعدنية.
صرخت في وجهه: الفاشست … اللمامة.
وحين حاول إيضاح الأمر، وبأنه لا يبغي شيئًا سوى الراحة، لحظة اطمئنان، عاودت الصراخ.
هذه المدينة، كانت يومًا تصخب وتشتعل نيرانها ومظاهراتها لأي حدث عربي وغير عربي تافه في العالم، تتضامن وتعبر عن فرحتها، مساندتها، شجبها بالسلاح.
هدأت قليلًا وهي تكمل في مرارة: أين نحن الآن؟ القصف والدماء ليل نهار، ولا من يسمع العرب، العالم؟
بصقت: مؤامرة.
– مؤامرة؟!
هز رأسه خجلًا متحسرًا.
– صحيح … أين العالم؟ ما خارج الحصار، الناس في طرقات المدن، العواصم.
– لا شيء سوى القصف الذي التهب من جديد، وجاء هذه المرة عبر البحر.
سمعت عبر السلم الحلزوني دقات أرجل لبناتٍ ثلاثٍ نازلات مسرعات، عرف فيما بعد أنهن بناتها، حين اندفعن داخلات وهنَّ يلعنَّ خبر وصول المليشيات الغازية للتفتيش: ماما ماما وصلوا.
ولدهشته حين رأى الأم الشابة ثابتة في وضعها، فلم يرمش لها جفن، حتى إنه حاول الاقتراب أكثر منها لاستطلاع سبب ثباتها المريب ذاك الذي لم يقطعه سوى محاولة كبرى الشقيقات الاقتراب من الأسلحة، عندئذٍ انتفضت الأم واقفة بجذعها النحيل، شاهرة ذراعها، مانعة ابنتها من لمس السلاح: حذار ريما حذار. كل شيء مكانه. واتجهت ناحية باب مدخل الشقة — البدروم — وفتحته على مصراعيه.
– تعالوا.
حين ازدادت ربكته تفجر منه العرق مدرارًا.
كبت في نفسه رغبة قوية في الانسحاب، العودة من حيث أتى.
– إلى أين؟
ربط بين البنات من جانب، والأم في غلها من جانب مقابل، وتقدم منها محاولًا من جديد إقناعها بتمشية الحال، والتصرف على عادة ما اتبعه الناس في بيروت منذ الرحيل الدامي للمقاتلين، وخلو الجو لهم ليبيضوا ويصفروا بعد أن اقتحموا المدينة عقب رحيل حراسها ومقاتليها، وفي أعقابهم فلول القوات المتعددة الجنسيات، فالكل هنا أسلم سلاحه أو أخفاه، أو حتى مجرد التخلص منه بإبعاده في الزبالة التي شكَّلت بدورها حصارًا عمَّا يشكله الغزاة المدججون بأقذر الأسلحة وأحدثها، بدءًا بالنيران، مرورًا بالنيترون والفسفور، وانتهاء بالجراثيم والطواعين.
أصبحت الزبالة بدورها تشكل حصارًا، أكوامًا في الخرائب والساحات ومفارق الطرق ومداخل البنايات، وحتى الحدائق العامة لم تسلم منها.
ظلت عبر أيام الحصار تنمو وتتراكم، خاصة بعد أن أعلن الغزاة عبر مكبرات الصوت والراديو والمنشورات التي كانت تلقي بها الطائرات من فوق الرءوس، بالاستسلام وإلقاء السلاح.
وبإزاء الوضع والتهديد المتواصل، أخرجت المدينة عبواتها من سلاح ومتفجرات وبارود، ملقية به في الزبالة والنفايات.
حتى إذا ما لامستها النيران … بقايا سيكارة اشتعلت من فورها وتفجرت من هنا ومن هناك.
وبذا، لم يوقف تفاقم الأمر سوى تحذيرات المسئولين عبر الراديو والتليفزيون.
– أَبْعِدوا النيران عن الزبالة.
سمعت قرقعات أقدامهم وأسلحتهم الهمجية عالية وهم ينزلون سلم البدروم الحلزوني المفضي إلى حيث الشقة، وحين اندفعوا داخلين ثبت الجميع في أماكنهم كمثل دُمَى، الأم ومن حولها بناتها الثلاث.
وامرأتان من الجيران كانتا تلعبان الورق وهما تدخنان وتحتسيان رشفات القهوة الباردة تحت وهج شمعدان نُحي في ركن الجدار.
وحين دخلوا لم يتعرف سحنتهم أحد، ذلك أنهم صوبوا من فورهم بطارياتهم وأسلحتهم، حتى إن المهاجر تخاذل جالسًا قليلًا على أقرب كنبة، ثم هبَّ من فوره منتصبًا، دون تيقن إرادي من تصرفه العفوي على هذا النحو، كان مشهدهم مدججين بالظلام، بشعورهم الطويلة المرسلة وتسلطهم وأسلحتهم من مدافع وخناجر وقنابل.
كفت المرأتان عن اللعب، ومن فورهما هبتا واقفتين متداخلتين في تساند.
تبادل جميع الموجودين فردًا فردًا النظرات المريبة إلى حد الكراهية، انحباس التنفس ذاته، لجنود الدخلاء ذوي العيون الزرقاء والخضراء بخوذاتهم وتجهمهم وقنابلهم المتفجرة من حول أجسادهم.
والناس داخل بيوتهم، البنات الثلاث، المرأتان إلى بعيد، المهاجر الضيف في انزوائه، يده على جيب بنطلونه لحظة استعداد لإخراج هويته، حيث تجمدت يده، مما لفت نظر أحد الجنود الذي أرابه الأمر فاندفع مسلطًا ضوء بطاريته على عينيه. هنا أخرج الهوية والأوراق مقدمًا.
الأم في حنقها الدفين تتأملهم بأقصى شراسة يمكن لعينين أن تُفصِحا عنها هذه السيدة الرقيقة ذات التقاطيع السمحة، والتي كثيرًا ما أكل من يديها الحانيتين وهي تناقشه في كل شيء حتى حكايات القرى والضياع ولغوها. إلياس أبو شبكة وبودلير والتكافؤ مع الشر.
أية شرور يا لبنان!
هكذا تضرعت السيدة، في لحظة محاولة أحد الجنود لاقتحامها، استفزازها، إلى حد محاولة تمرير فوهة بندقيته المشرعة المصوبة إلى جيدها النافر كمثل حمامة أيك، ثم النزول بها إلى نهديها وما بينهما في بطء، مرورًا بخصرها وما بين فخذيها.
هنا اختطفت الأم من فورها طبنجة أفرغتها في جسده، في ذات اللحظة صُوِّبت عليها المدافع الرشاشة لتحيلها إلى كومة لحم محترقة أمام بناتها الثلاث.
الفصل التاسع عشر
كلَّت قدما المهاجر العجوز تحت القصف المتوالي بحثًا عن فتاته الجنوبية التي افتقدها داخل الخندق، وصدرها النازف بالدم مدرارًا. زار جميع مستشفيات بيروت بدءًا من شاتيلا والبربير، وانتهاء بمستشفيات الهلال والصليب الأحمرين والجامعة الأميركية.
ظل أيامًا إثر أيام يطوف العنابر ويتداخل في الجرحى المنكوبين سائلًا.
المدينة جميعها تدميها الجروح النازفة، ممن قطعت أيديهم وسيقانهم، وخزقت عيونهم، وغابت عنهم ملامحهم، يتحركون على عجلاتهم وعكاكيزهم، وأذرع التومرجية وذويهم والسيسترات والجدران.
القصف لا يتوانى، حتى المستشفيات ولحم الجرحى النازف لم يسلم، وسيارات الإسعاف بأجراسها وإضاءاتها تمر عبر الشوارع المظلمة دون انقطاع.
كم يا ترى يصل حجم الجروح والإصابات لو أنها تراكمت في كفة ميزان — قبان — دون سبب واضح! تعالت ضحكات استلفتت أبصار الجميع وسمعهم، ماذا حدث؟ منذ مدة طويلة لم تطرق أذنه ضحكة قهقهة على هذا النحو، رغم الابتسامات الودودة التي تعلو وجوه الجميع، حتى الجرحى والمشوهين لم يغب عنهم حبورهم وهم في ضماداتهم، مُعلَّقينَ على فراشهم، مُوثَقِينَ من أرجلهم وكعوبهم كمثل ذبائح.
كانوا يتلقون الزهور وعلب الشيكولا مبتسمين وهم مُوثَقون يَئِنُّون في صمت لا يسمع … المقاتلون … تراها أين ذهبت؟
في مستشفى غزة، مضى يرقبهم داخل عنابرهم شبان وشابات طريحون، يتسامرون في وداعه تحت القصف والمطاردة.
الشهداء.
لعلهم الحقيقة الوحيدة فيما يحدث.
فالجميع كانوا قد هاجروا فرارًا، وظلت المدينة تواصل طردها السكاني في اتجاه الضمور والفناء وغياب الحركة، بالإضافة إلى الحرمان من الماء والضوء والدواء.
الليل موحش، والعمليات لا تنتهي.
ويبدو الأمر كمثل ذلك الملازم دومًا للطرد.
فلول التاكسيات والشاحنات لا يتوقف لها هدير محملة بالمهاجرين وأشلاء بيوتهم التي كانت.
وعادة ما تقع مثل هذه الرحلات من بيروت إلى الجبل أو شمالًا، مع الفجر، بسبب الفزع ولا شيء سواه، يا لها من لحظة أليمة، تلك المصاحبة للغياب، وهذه البيوت وصور الجدران وذكرياتها!
صحيح أنه لم يعانها كما يحدث للآخرين.
فهو حتى لم يأخذ حقيبة يد لمسافر أو مهاجر؟ لم يأخذ من شقته حتى ملابسه الداخلية، ترك كل شيء كما هو عقب تهدم بعض أجزاء البناية التي فيها يقيم، وعنها نزح معظم سكانها.
قال: الأمر لا يستحق.
عرج من فوره على رسام فلسطيني، لم يخرج موضوعاته أبدًا عن ذات الموقف … الخروج، أناس منكمشون عبر فراغات اللوحة ذات البعدين، يتحركون تحت أحمالهم وأزيائهم الفلسطينية وحطاتهم شبه مطاردين، وكما لو كانوا يبغون الإفلات من أسر اللوحة ذاتها ذات البعدين.
جمال وماعز ملون، وفي أقصى اللاند السكيب، تتبدى أشلاء لمدن وقرى متفجرة، نهبًا للحرائق ونيران الكبريت والكوبالت.
كان له لحية كثيفة يغلب فيها بياضها على سوادها، تلمع عيناه شرهًا لكل ما يمت إلى الحياة والأحياء، رغم رسوماته ذات الدلالة المحددة للهجرة والرحيل وخراب البيوت … الخروج من أسر الجلد.
ما إن فتح له شق باب مسكنه الحديدي متهللًا حتى اندفع من فوره داخلًا عابرًا لوحات الهجرة والترحال التي ملأت صالة البيت وفاضت إلى الحديقة.
وحين تأمل المنظر، تذكَّر من فوره حديقة الليمون قصيرة الشجر الملحقة بعنبر صحة المعتقل، فيما قبل العدوان، والذي لم يُخرجه منها متأبطًا ذراع فتاته سواه … العدوان.
جلسا من فورهما يحتسيان البيرة الساخنة متواجهين في شبه الحديقة الفقيرة العارية، ولم يخرج حديثهما بأبعد مما يحدث.
الدم والنار.
تمادى المضيف كثيرًا دفاعًا عن موضوعه الذي يشغله سنين طويلة منذ تفرغه بمرسم الأقصر منذ الستينيات قائلًا، وهو يمشط لحيته بأظافره في هدوء لا اتساق بينه وبين ما يحدث من وهج النيران والدوي، ذاكرًا بأنها القوة الدافعة للتاريخ، ومنذ الأساطير الهلينية المبكرة، يتبدى الأمر جليًّا في حالة بروميثيوس وعقابه، ذلك المقتحم مغتصب النار، التي بها يصبح بنو البشر أندادًا للآلهة، كما ذكر كبير الآلهة زيوس، إلا أن بروميثيوس — بعيد النظر — كان على وعي تام بعقابه المتمثل في نخر النسر لقلبه على جبل كيقاوس؛ لينبت له قلب جديد في صباح اليوم التالي، يعاود النسر الوحشي التهامه بلا رحمة، وبكثير من التأني.
اختتم مصور الرحيل الفلسطيني كلامه عن الدم والنار، مشيرًا لما يحدث ويبرق عبر سماء المدينة المحاصرة ومحاورها الملتهبة بكليهما مستشهدًا.
أما المهاجر فلم يجد عندئذٍ كلامًا يقوله، ولو من باب ومدخل إثراء الموضوع الماثل للنقاش والممارسة، مضيفًا بأن الأمر الجلي هو أن لكل شيء — مهما ضؤل وانكمش — تاريخَه ودورةَ تواجده، بدءًا بالجراثيم وحربها حتى الثدييات، وزواحف الأرض والسماء المنقذة، منذ يهوه المحارب حتى نسور جيش الدفاع وطائراتهم القاذفة المحاربة بلا محاربين.
قال: فما بالنا بالدم والنار؟
ابتسم الفنان قائلًا: ها أنا أتأهب لرحيلي السادس.
راح يتأمل محتويات بيته عبر باب الحديقة الواطئ.
كل هذا سيذهب ويروح مثل سابقه.
ارتفع مزاحه وقهقهاته طويلًا: نحن لسنا بعيدي النظر مثلهم، فلا يجب أبدًا أن نعد بيوتًا ومآوي وذكريات وأشياء من كتب وملابس ولوحات، بل حتى الحب.
استدار راقصًا هازلًا: ما الفائدة طالما أننا في كل مرة وطرد نتركها متخلين؟
مضى يجري عبر مسالك الحديقة الضيقة: اللي في سكتي … يحلالي.
اندفع يجري ويقذف بلوحاته وأوراقه واسكتشاته، وجرادل نفطه وألوانه، عبر صالة البيت الضيقة هازلًا: ما الفائدة؟
اقتربت أصوات الدوي والمعارك، محاصرة أكثر حتى لم يعودا يسمعان بعضهما بعضًا، ويبدو أن المصور المرح قال الكثير الذي لم يصل منه سوى متناثرات، منها: أهمية بلا حتمية أن يحيا المطارد خفيفًا كمثل طائر ذليل، إلا أنه محلق بلا ممتلكات أو إرث.
وطالب بأهمية التراضي دون ضجر بما نحن فيه.
وحتى عندما صافحه المهاجر مبتسمًا مودعًا أعاد قوله: ما الفائدة؟
كانت الشوارع الصماء غارقة في ظلامها الدامس، ولا شيء ينبئ عن حياة سوى كوميونات المسلحين عند مفارق الطرق، وكانت السيارات المحترقة مكدسة على جانبي الشوارع بكثرة واضحة.
وبدت الدور التي رحل عنها أصحابها خامدة مستسلمة للوحشة التي حطت على جدرانها وكواهلها، أما أرضيات الشوارع والميادين الفسيحة فقد فُرشت بشظايا الزجاج المتطاير من الأبواب والنوافذ والشرفات، ولم يعد يُسمع سوى القصف المتلاحق عبر البحر والمحاور.
وكثرت بشكل ملفت أفواج الكلاب والقطط الضالة التي اتخذت أصواتها من نباح ومواء حدة أحالتها إلى أكثر ضراوة.
وحين تيقن من أن العدوى أصابته تداخل أكثر إلى أقرب سور واندفع يعوي.
الفصل العشرون
أيقظه من إغفاءته أول سرب طائرات مغيرة جاء عبر البحر كالعادة مبكرًا جدًّا مع نسمات الصباح، ومطلع يوم جديد من أيام الحصار والعدوان.
تحسس من فوره هويته، ولدهشته لم يعثر عليها في جيب سرواله الخلفي كما اعتاد على وضعها، بل عثر عليها في جيب سترته الأعلى، ولم يطل تفكيره فيما حدث، ذلك أنه رأى أناسًا يجرون مسرعين في اتجاهٍ واحد، فاندفع مجهدًا مؤرقًا في أثرهم لا يعرف له اتجاهًا بعينه، رابطًا بين قصف الطائرات المغيرة على الأحياء والبيوت التي لا تزال تغط في نومها، وبين أكداس المنشورات التي لا بد وأن محتواها كالعادة مطالبةً البقية الباقية من سكان بيروت بالفرار هربًا بالجلد وإنقاذًا له: ليخلو الجو لهم.
واصل عدوه مرهقًا: بيضوا واصفروا.
تداخل مع الفارين إلى حد أنه عاد فسبق الكثيرين منهم، خاصة النساء الثكالى والمسنين والمصابين.
انكفأ مراتٍ على الأسفلت حين لوى عنقه لتصدمه الطائرات في أثره تقذف بالحمم، وبدا له الأمر وكأنه في سبقٍ معها، مما أحاله إلى حمامة مهيضة، إلا أنها أخف حركة من كثيرين.
كتم من فوره رغبةً ملحةً في الضحك: منذ أن نزلت قدماي هذه المدينة المثقلة وأنا أعدو دون غاية.
غمغم: لعلني أصبحت مثلهم مهجرًا.
ردد متذكرًا كلام صديقه الرسام الملتحي: ما الفائدة؟
وأيقن بأن هذا أصبح حالنا على أرض هذه البقعة الموبوءة من العالم، أن نجري كثيرا هربًا بالجلد … ومنه.
لماذا نحن بالذات؟ ها هي القارات الخمس من حولنا، ها هي إفريقيا السوداء.
وأعاد إليه الأمر نقطة بدئه وكاره، نفايات القرى، العوامل المنقضية.
قال: السباحة المعاكسة.
– اللاهدف.
– أخيل.
– حرث البحر.
مضى يتأمل الوجوه بحثًا عنها بوجهها الأبيض البريء كشاةٍ ضالة.
وانضم الكثيرون للموكب، وتداخلت الأجساد وتقاربت أكثر، نساء وفتيات وأطفال وشيوخ وشبان وأمهات يحملن أو يجررن أطفالهن الرضع باكيات بالدموع.
ما من حارة أو شارع جانبي أو زقاق لم يُلق بدلوه في بحر الموكب الزاحف عدوًا بلا هدف واضح أو مستقر.
والطائرات في الأعقاب تفرغ حمولاتها من قنابل ودوي وحرائق، أصبح يحس وهجها الحارق فيتصبب منه العرق.
عصرًا يعصر عرق الجبين.
رأى نفسه مجهدًا إلى حد مغالبة السقوط أرضًا تحت الأقدام الفزعة المروعة.
كان الموكب ساعتها يعبر جاريًا من فوق كوبري علوي يفضي إلى ساحة الشهداء التي يعرفها.
تسنَّد بالدربزين الحديدي للكوبري في إعياءٍ واضح، ومضى يتلوى بجذعه النحيل فارع الطول، مجاهدًا في السيطرة على تنفسه … نبضه.
وقبل أن يأخذ راحته الكافية، راح يعدو في بطء فاكًّا عنه رباط عنقه ملقيًا به، حتى إذا ما انتهى به المقام وحيدًا تعبًا بعد أن انفض عنه الموكب، اتجه من فوره عابرًا الميدان الموحش الفارغ إلى شق لا يبين في الجدار المواجه، ودلف منه صاعدًا بضع سلمات حجرية متربة تسدها القاذورات والنفايات، إلا أنه تخطاها ليجد نفسه مشرفًا على ميدان صغير مسوَّر من جميع جهاته، ببعضه مقاهٍ وبارات شعبية فقيرة، وفي مداخلها تراصت مقاعد قصيرة من القش، وتمدد السكارى والشمامون متحلقين في ظل الجدران ورطوبة السقف.
انحط من فوره على واحد من تلك المقاهي، وظل يلهث ويمسح عرقه الغزير، ويتطلع إلى السماء الملتهبة بالنيران والقذائف.
أعاد تأمل الوجوه من حوله، فوجدها ولدهشته غائبةً عن عالمها.
إما منكسة تتطلع إلى الأرض تحت أقدامها، أو مسبلة العيون لا تهزها شاردة أو دوي، ما الخبر؟ لماذا الناس هنا على هذا النحو من السكينة وروقان البال، وكأن الأمر لا يعنيهم في كثير أو قليل؟
فحتى أجهزة البث التي ترسل بأخبارها ومارشاتها الدافعة للحماس يبدو وكأنها لا تلامس آذانهم، تساءل: تراهم مستسلمين أم شامتين؟! سمع أحدهم يطرق كفًّا بكف وهو يُقعي إلى بعيد على صندوق ورنيشه بدلًا من كرسي المقهى: قلناها كثير.
كمل له آخر ضاحكًا، وقد بدا نصف أسنانه الفضية: ما بتفرق معاهم.
تساءل: من؟
– تجار هذا البلد … أصحاب البنوك والودائع.
وسرعان ما حل الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى دوي القذائف، وأخبار الراديو المزدحم وأصوات أحجار النرد داخل المقهى.
حلقت طائرتان معاديتان من فوق المكان من حول محيطه؛ حتى تيقن من أنهما لا محالة ستفرغان حمولتهما من نابالم وقنابل عنقودية فوق رأسه بالتحديد، ودون تفكير ثبت بصره عليهما طويلًا، تاركًا العنان لجذعه الأعلى بكامله راجعًا إلى الوراء إلى حد ملامسة الجدار والانبطاح أرضًا دفعة واحدة، حتى إنه سقط على آخرين من خلفه موقعًا بعض الكراسي والمشروبات، وظل هكذا مضطجعًا فترة إلى أن جاء الدوي والانفجار إلى بعيد.
عندئذٍ تسنَّد جالسًا من جديد ثم هب بقامته المديدة، ملقيًا نظرة خجلى على الموجودين، معتذرًا مطبطبًا على كتف من أوقع بهما: اعذرونى يا إخوتى، آسف جدًّا.
ولدهشته الكبرى أن الأمر بدا عاديًّا، فلم يلق له أحد بالًا، وكما لو أن عينًا لم تلحظه.
– ما الخبر؟
انحط جالسًا على كرسيه منزويًا، رأسه بين ساعديه ضاغطًا، إلى أن قاربه أحدهم بأسبرين وكوب ماء، فشكره المهاجر ممتنًّا، مستعيدًا من جديد ثباته، ماسحًا زجاج منظاره حين عاجله الرجل: انس.
– كيف؟
– مثلما نفعل جميعًا.
أشار بأصابعه الخمس المرصعة بالخواتم: الجميع.
وحين تفهَّم الموقف ابتسم في ود إلى محدثه مقاربًا، حتى إذا ما جاءت القهوة كان قد اتصل بينهما الود، مما حدا بالرجل — وكان قصيرًا ممتلئ الحركة — لأن يضع يده في جيبه مخرجًا، في قليل من الحذر، علبة نشوقه، مُقدمًا له جرعة تشممها بمنخاريه عاطسًا في البداية.
كان الغروب القاني قد بدأ يزحف.
ولعلها المرة الوحيدة، منذ العدوان المروع والحصار، التي ينسى فيها فتاته الجنوبية الضالة، متذكرًا من فوره العالية وأختها.
جاءته من فوره العالية الأخت الصغرى تزحف على أربع عبر الميدان المسور بمقاهي الشمامين والزعران، تبحث عن ماذا … فردوسهما المفقود الذي كان.
أحس من فوره براحة تسري في أعصابه، بدءًا من قدميه العطنتين داخل حذائه، مرورًا بساقيه وركبتيه ورأسه.
أصبح المكان الغاص بالرجال أكثر شاعرية، بل لقد انفتحت أكثر من شرفة، وبالكون أطلت منها نساء متحررات من معظم ملابسهن.
يبدو أنه لم يكن يلحظهن منذ أن دلف إلى هنا لاهثًا متشويًّا: ياه.
أخرج من فوره مائة ليرة متحسسًا، ودسها خلسةً في جيب محدثه، الذي رفض في البداية مصرًّا على رد المبلغ، إلا أنه أصرَّ بدوره وعيناه على فتيات الشرفات أعلى بدلًا من الطائرات.
وحين رضخ الرجل اللبناني القصير إلى القبول، قدم إليه من جديد جرعة ضعف سابقتها، وأكثر من سيجارة، وتجددت القهوة السادة، وصفا الجو.
ويبدو أن أخبار الراديو بدورها جاءت بالجديد المشجع: هدنة.
ذلك أن التصفيق جاء مدويًا من داخل المقهى وبقية المقاهي المواجهة، وعربة بائع السجق الساخن وزبائنه، وتعالت الضحكات والتعليقات: إفراج.
– نشم فقط نفسنا.
– إلهي يهد حيلهم.
– عصابات.
– ريجن وبيجن.
– بيجن وبيجن.
– بيجن وشريكه.
أحس بالجوع المفاجئ عقب الجرعة الثانية، فهب من فوره مادًّا الخُطى إلى بائع السجق، وعاد محملًا بستة ساندوتشات وسلاطات، اقتسمها مع الرجل وجرسون المقهى، ورجل آخر عجوز يرتدي شورتًا ملونًا كان قد أوقع به حين انبطاحه.
علت ضحكات نساء الشرفات، وعرف فيهن فتاة سمراء رقيقة التقاطيع مصرية.
وعرف من صديقه اللبناني أن اسمه محمود العريض، وأنه تقلب في عدة مهن، منها خباز، وبائع عرقسوس، وسمسار، وصاحب محل فليبرز.
مختتمًا خبراته ومهنه بأنه صحفي.
قال: صحفي، أمال.
أما هو ففاض وزاد معه في الحديث عن فتاته الصورية المصابة التي أضاعتها الحرب وأعياه البحث عنها: لم أترك مستشفى واحد في بيروت، شارعًا، ساحة تحت القصف، ولم أعثر لها على أثر.
غمغم محمود: العدوان، الحرب، أولاد الرمم «خاربين البيوت». أين نذهب ونفلت من ظلمهم؟ لا مهرب سوى النسيان.
وعاد يعزم بجرعة جديدة، فشكره المهاجر ممتنًّا، معتذرًا بأنه لم يسبق له.
وما إن تطلع العريض إلى ساعته متحينًا لحظة انسحابه حتى طالبه المهاجر بإيصاله إلى أقرب فندق. هنا أشار العريض من فوره إلى سيارته «البويك» المستهلكة، البلا طلاء، وكانت مركونة في أقصى الطرف المقابل للميدان، حتى إذا ما استقلاها وبذل العريض جهودًا مضنية في تسخينها وإدارة محركها، اقترح عليه من فوره الإقامة معه بمسكنه الذي يقيم به وحده، بعد أن رحَّل أسرته وأبعدها عن الحرب والأخطار، زوجته وبناته الثلاث وأمه المقعدة وعمتين دفعة واحدة منذ الشهر الأول للحرب إلى دمشق.
فنحن الرجال نحتمل، أما النساء الحرمات، فعبء ما بعده عبء في هذه الأيام السوداء التي لن تنتهي.
وحين وصل محرك السيارة إلى درجة التنقل بتكاسل عبر الظلام الكثيف ثم الأسرع، أخبره بأن منزله يقع في منطقة أكثر خطورة من الحمراء، وحيث كان المهاجر يقيم ضحك وهو يتطلع إلى الطرقات الخاوية مُهوِّنًا: لكن لا يهم؛ فأنا أعرف كيفية التسلل ليلًا، ومثلنا مثل الناس في شاتيلا.
غمغم المهاجر مأخوذًا: شاتيلا.
الفصل الحادي والعشرون
تواصل القذف بعنف لدرجة أن العريض أطفأ فانوس سيارته «الخردة»، فمضت السيارة مندفعة تزحف عبر أكداس الظلام المخيم، إلى أن أشرفا على أحد جوانب حديقة الميدان التي أحرق العدوان شجرها، والتي أحالها الفلسطينيون إلى مجمع لمقابر شهدائهم، بل حتى الحديقة المقبرة لم تسلم بدورها من القصف والدمار، في محاولة الفاشست المعتدين لإعادة تدمير الموتى وحرق عظامهم داخل أكفانهم.
تسللا خارجين من السيارة، وحين حاول المهاجر غلق بابها امتدت يد العريض فمنعته وهو يجذبه من يده متسللًا عبر أوحال الشارع ومطباته، ثم استدار به جاذبًا إلى حيث فتحة خاصة بالنفايات، انفلتا منها إلى داخل المخيم الغارق لرأسه في الظلام والصمت، وروائح البارود، والتي يخالطها العطن.
وبحذاء الجدران واصلا تسللهما عبر عدة حارات متعرجة قذرة، قادتهما في نهاية المطاف إلى البيت المكون من أربعة طوابق، وما إن دلفا داخلين وأشعل العريض قدَّاحته، حتى أحاطت به ثلة من النساء والصبيان المهجرين تكوموا هنا وهناك، فزحموا المدخل والممر المؤدي إلى السلم الحجري القذر، واندفعوا سائلين عما يحدث.
الإسرائيليون يزحفون أكثر هذه الليلة، المخيم مطوق من محاوره الثلاثة، الخلاص.
تطلع الجميع إلى السماء، حيث تفجرت إضاءات القنابل الفوسفورية التي بدأت تسطع صفراء فاقعة مقتربة، فاضحة كل معالم المخيم، وهي تقترب أكثر ليتضاعف وهجها، محيلةً ليل المكان الدامس إلى نهار جلي التفاصيل؛ مما أتاح للمهاجر إعادة تأمل المكان وأناسه ونسائه اللائي رحن يغطين وجوههن بكفوفهن متواريات في استسلام، بينما أحاطت الأمهات بأطفالهن في انتظار ما يحدث ويعقب عادة مثل هذه القنابل الضوئية المشابهة لشموس بطيئة الحركة تسقط من عليائها فوق الرءوس، مضيئة محاور المكان هدف العملية، محددة أماكن الثوار والمقاتلين وأسلحتهم.
وحاول العريض — دون جدوى تُذكَر — تهدئة الجميع، بإعلان خبر الهدنة الذي سمعه في المقهى، مستشهدًا بالمهاجر وقبول المقاتلين الفلسطينيين قهرًا؛ حفاظًا على حياة النساء والأطفال … الخروج.
عمَّ صمت طويل حشد المهجرين والسكان فمعظمهم فلسطينيون.
اندفع يصعد بضيفه حيث يقيم، مستعينًا ببقايا شمعة لتجنب أجساد المهجرين الذين زحموا السلالم ومداخل الطوابق الأربعة، إلى أن وصلا المسكن المكون من غرفتين فسيحتين يغلب عليهما الإهمال وضيق ذات اليد.
انحط المهاجر من فوره على فراش غير مرتب، خالعًا عنه حذاءه وسرواله: إيه … هدنة.
وحين أغمض عينيه قليلًا مستسلمًا للقذائف المتبادلة التي كانت تمرق مدوية من فوق رأسه، تساءل: لو أنها ماتت ودفنوها لقضي الأمر.
كانت قد عودته على أن تجيئه، وبين أحضانه وذراعيه العظميتين تدفن مخاوفها وتوترها، بإزاء الاشتباكات الملتهبة دومًا على طول هذه المدينة: أين؟
مضى المضيف من فوره، يدفن ويداوي توتره … هلعه في الإكثار من جرعات الكوكايين واللفائف مغيرًا ملابسه، قافزًا ما بين زوايا الشرفة الرحبة المطلة على الميدان، وبين غرفة نومه، متحدثًا بصوت مرتفع دون أن يسمعه المهاجر، قال بأن الوضع يزداد سوءًا، وينذر بمؤامرة أكثر من الهدنة والتقاط الأنفاس.
وذكر أن هذا هو حالهم على الدوام منذ الأزل الطعنات من الظهر، وليتها طعنات! إنها مئات «الهيروشيمات» التي أصبحت مدوية تحت سمع العالم المتآمر بدوره وبصره.
وبدا معتذرًا لضيفه المهاجر، بأنه ضاعف من أخطاره هذه الليلة، وإن كان لم يعد يجد مهربًا منقذًا من هذا البلاء الباطش على طول المدينة وعرضها، إن لم يكن لبنان بكامله، بل والشرق الأوسط.
وأكثر المهاجر من موافقته: صح صح، تمام تمام.
وكان ساعتها غائبًا بكامله عما يحدث.
يسترجع لحظة تذوق دم صدرها النازف، والهلع الآسن في عينيها المعبرتين، وذكر محمود العريض، عبر حركته الدءوبة وتوقده بالجرعات كثيرًا: الخروج.
– ونحن؟
عاد ففتح باب الشقة على مصراعيه، قبل أن تطرقه ثلاث فتيات فلسطينيات يطلبن تسوية قهوة على بوتاجازه، ومن فوره اختفى معهن داخل المطبخ الضيق.
احتدم نقاشهن الذي لم يكن يخلو من ضحكات صافية: خروج.
وتصورها لحظة طرد جماعية، وود لو أنه واصل بحثه ولم يكل.
جاءته إحدى الفتيات خلسة بهدف الاطمئنان والتسرية عنه، تزحف على أربع على بلاطات الغرفة، بيدها لفافتها المشعلة — الملفوفة — لتقدمها إليه جاثية على أربع: الأخت الصغرى.
تعارفا حين قدمت له نفسها في بدلتها الجينز الأقرب إلى زي المحاربين، أميل إلى القصر والامتلاء، واسمها شادية، مخطوبة لشاب لبناني يدعى: بسام.
وبدت قليلًا مؤرقة وهي تقاربه ضاحكة لا يروقها الموقف بكامله، خاصة على هذا المحور، وأشارت له إلى الجهة المقابلة من الشرفة دون إدراك منه لشيء سوى تفهمه لمخاوفها الدفينة على صديقها المقاتل على ذلك المحور، وحيث أشارت «بسام».
ذكرته كثيرًا بصديقته من حيث حساسيتها وفروسيتها الدافقة، حتى ومحاولتها لتقريب حذائه من تحت السرير.
هب من فوره معتدلًا مرحبًا، معاودًا الانضمام إلى الباقين الذين تعالت أصواتهم بما يتلاءم والقصف القريب الضاري، ودارت القهوة واللفائف وجرعات العرق اللبناني الساخن، فلا كهرباء ولا ثلاجات.
اختلطت أصوات الفتيات وتعبيراتهن الساخطة الماجنة الهلعة مع أصوات راديو لالتقاط الأخبار، وتعرف موقع القدم، التنفيس فيما يحدث من أخطار محيطة مطبقة.
جرت إحدى الفتيات إلى الشرفة مشيرة إلى حيث الإنزال، واشتداد حركة مقاتلي القوات المشتركة في تشبثهم بأماكنهم أعلى البنايات المواجهة يسارًا، وخلف متاريس الشوارع، لا يثنيهم عن موقعهم تقدم صفوف الدبابات المشرفة على التلال المحيطة بالمدينة المحاصرة.
وبدا القلق أكثر مرتسمًا على وجه شادية.
تواصل القتال على مرأى منهم، وتداخل الجميع بعضهم في بعض، وارتفع ذعر السكان أكثر من فقراء ومطاردي الشعبين اللبناني والفلسطيني في الأدوار السفلى، للحظة أقرب إلى الومضة، تبدى الأمر له كمثل كابوس جاثم مخيم، ولا مهرب.
ركض مرات إلى الطرقة الخارجية، وتداخل في المهجرين المتلاصقين في بعضهم البعض كجسد واحد، دم واحد يسري متدفقًا في الشرايين، حتى لم يعد يعرف اللبناني من الفلسطيني.
– أما من مفر؟
قاربته الفتاة بيدها شمعة، وحين عاد إلى داخل المسكن أسلم نفسه للعريض والفتيات متداخلًا مفترشًا بلاط الشقة وبضع مخدات قطنية، تاركًا قياده لمهرب — العريض — بالنسيان والتناسي ضاحكًا مع الباقين.
بينما الدوي والحصار يزحف أكثر مطبقًا على الجميع، حين غفا المهاجر نائمًا، وعلا غطيطه.
الفصل الثاني والعشرون
في ضحى اليوم التالي — على غير موعد — ودون جهد منه للبحث عنها.
التقيا هكذا داخل إحدى غرف عمليات مستشفى شاتيلا الذي لا يبعد عن بيت مضيفه محمود العريض أكثر من حارتين جانبيتين وثلاثة شوارع.
ذلك أن العريض أيقظه من نومه وغفوته التي ألمت به فجأة، معلنًا في أذنه بأعلى صوته الجهوري مدويًا: قوم قوم، البنت شادية استشهدت.
– شادية.
اندفع من فوره جالسًا ممسكًا برأسه بين كفتيه من أثر الصداع ورطوبة البلاط، محاولًا استرجاع الاسم وملامح تلك الفتاة الفلسطينية في زيها العسكري ومرحها العذب، وذلك الحنان الجارف الذي أحاطته به منذ أن التقيا أمس، حتى إنه نسي المعارك وأوجاعه واستسلم لنوم عميق أفاق منه على استشهادها.
– كيف؟
لم يمهله العريض، بل اندفع من فوره يحضر القهوة حاكيًا بصوته العالى وإيقاعاته المتلاحقة دون أثر لتندم، كيف أنها صممت وركبت رأسها على أن تلحق بصديقها الشاب اللبناني الذي لم تكن تكف عن الحديث عنه منذ التقيا، والذي يرابط مع زملائه مقاتلًا على أحد محاور المخيم، دفاعًا عنه.
غمغم المهاجر متذكرًا: بسام، بسام.
وفعلًا سحبت سلاحها وظلت تعدو إلى أن لحقت به، ولم يطل الأمر بهما، حتى جاءنا خبر الاثنين، إصابتهما معًا، ونقلهما إلى المستشفى القريب، جحيم.
وحين ذكر العريض تأهبه لزيارتها، والاستعداد للجنائز والدفن، لم يجد المهاجر منفذًا من أصحابه، برغم أن المضيف حاول ثنيه وإبقائه في المسكن ومواصلة النوم، حين أحس تهالكه ولونه الشاحب.
مسح وجهه بمنشفة مبللة، وعدل من هيئته أمام مرآة متربة، واندفع في أثره، إلى أن أشرفا على الميدان حيث تقع المستشفى التي تصدَّرتها وملأت أروقتها عائلات الجرحى والمصابين والشهداء.
وما إن دلف بنصف جسده داخل غرفة العمليات، وعيناه على جثمان شادية المسجاة، حين قاربها العريض وهو في أثره، حتى وجدها في أحضانه مقبلة.
في البداية لم يتعرفها تحت قناعها في زيها الأبيض، إلى أن قفزت عالية محتضنة متعلقة بعنقه مقبلة بلا صوت، وتشمم روائحها العذرية.
– معقول؟!
ودون أن يعي ما يحدث وهو يتأمل فتاته الجنوبية في صمتها المتفهم المفصح عن الكثير، وردائها الأبيض، اندفع نحوه العريض عائدًا من فوره، مقاربًا معلنًا انقضاء أجل الفتاة: ماتت.
– شادية!
انسحبوا ثلاثتهم خارجين من عنبر العمليات المشابه لجراج، ويدها الدقيقة تعمل في يده، قدَّمها إلى العريض الذي ابتسم: شيء مفرح في هذا الغم أن يلمع شيء، تلتقيا.
عرف منها بأسها بحثًا عنه، إلى أن تقدَّمت متطوعة للعمل بهذا المستشفى مع صديقة أخرى درزية تقيم هنا، تدعى ليلى، سبق له أن شاهدها معها مرارًا.
وأخبرها بدوره مسرعًا منفعلًا متوعكًا ما مر به وألمَّ من ظروف منذ تهدم البناية، وسد مدخلها، وهج سكانها عنها ذعرًا وافتراقهما.
قاطعته: أعرف، ومررت عليها ثلاث مرات آخرها أول أمس.
ابتسمت: وبالطبع لم أسأل عنك.
تساءل: كما هي؟
ضحكت: أكثر سوءًا، فالشارع بكامله أصبح شبه مهجور، وأصحابها رحلوا إلى الجبل والشمال.
قاربه العريض وهو يلكزه مُنَبِّهًا لمشهد الفتاة الفلسطينية شادية وحبيبها اللبناني، جسديهما المسجيين على نقالتين، وقد أحاط أهاليهما رأسيهما بالورود والزهور والصبار، وأحاطوا بالعجلتين حاملين سلاحهما المشهر.
تقدم العريض من رأس الفتاة مصلحًا، مختلسًا نظرة أسية أخيرة من تحت خباء وجهها السمح الطفولي المبتسم دومًا.
وعاد كالمذعور فشدد عزاءه للأم الهرمة الثكلى وفتاتَي الأمس، اللتين قاربتا المهاجر مسلمتين في حزنهما، فقدمهما لصديقته التي رمقتهما بنظرة فاحصة يعرفها عنها سائلة: من البنتان؟
حكى لها مكملًا ما ألم به عقب افتقاده لها ولبيته وكتبه ومخطوطاته، لحين التقائه بالعريض والإقامة عنده، ثم كيف التقى بفتيات العمارة الثلاث عنده بمسكنه لحين استشهاد إحداهن.
بدا أنها تفهمت الموقف، خالعة عنها معطف المستشفى، دافعة برأسها وخصلات شعرها الذهبية إلى الوراء كمثل جواد عربي فتي.
– شوب.
ومن فورها رافقت الموكب المستعد لرحلة الدفن في حديقة شاتيلا، التي أصبحت حديقة الشهداء.
كانت الهدنة المزعومة قد استقرت عقب اتصالات ما بين عواصم الشرق الأوسط والأمريكتين وغرب أوروبا.
الشوارع بدت قليلًا مزهوة بأناسها الشاحبين المكدودين من أثر ثقل عدوان الأمس، الذي امتد طيلة النهار، وحلول المساء بطوله، حتى مطلع هذا اليوم التالي، وغارات الطائرات القاذفة بكل أنواع الدمار وحممه، مضافًا إليها البوارج والزوارق البحرية، ناهيك عن الدبابات والمدرعات، وقنابل الإضاءة، وكل أنواع المدفعية لم يتوقف لها عدوان.
بدا ما تبقى من نساء بيروت ورجالها وهم يروحون ويعدون من أمام عتبات بيوتهم، أو أمام المخابز والأفران، متحلقين في طوابير مستكينة للحصول على الخبز والماء وعربات الخضراوات والفاكهة «البايتة»، والبحث عن شموع الإضاءة والكيروسين والدواء، وهم يتبادلون النظرات والتهاني بالتواجد — حتى الآن — داخل أجسادهم.
وحين تراصوا متقابلين داخل عربة نقل الموتى السوداء، جاءت الأم والفتيات بفستان العروس المحترقة شادية الأبيض، ونصبوه قائمًا في موقع الرأس من تابوتها.
تلمست بيدها الدقيقة يده في رقه سرت عبر عظامه والسيارة تمرق بهما الطرقات المفرغة من الناس.
قال العريض: أعمار.
سالت دموع الفتاتين من رفيقات الشهيدة في صمت، شمل أيضا إيماءات الأم الفلسطينية السمراء التي راحت تلطم مقبلة أطراف كفن الابنة: ظلم ظلم.
تسندت الأم في محاولة منها للوقوف على قدميها والاقتراب من جثمان الابنة المسجى، في ذات اللحظة التي حاول فيها العريض معاودة إجلاسها على مقعدها، دون تراجع منها، انتهى بالعريض إلى أن تعنف حركته أكثر، ذاكرًا مرة بأن الأمر لا يعدو: أعمار.
وأخرى بأن الشهيد أبدًا لا يموت، ولا داعي لمزيد من الإزعاج.
هنا تبادل جميع المتواجدين داخل سيارة نقل الموتى النظرات المتسائلة.
إلا أن إصرار العريض على عدم السماح للأم بالاقتراب من الجثة، أهاج عواطفها أكثر فأكثر.
– بنتى … حبيبتي … أبوسها.
هنا لكز العريض المهاجر كمن يطلب عونه، دافعًا بجسد الأم إلى الوراء.
وغطت الفتاة الجنوبية في ذعر وجهها بكفة يدها، في ذات اللحظة التي جاشت فيها مشاعر الأم إلى ابنتها، إلى حد مقاومتها للعريض وشابين آخرين مسلحين، وانتصبت من فورها واقفة منحنية على النعش، كاشفة في رقة أم تهدهد صغيرتها … طفلتها، ولدهشتها … صرختها، لم تجد شيئًا سوى خصلة شعر محترقة تعلو مطلع جمجمة.
الفصل الثالث والعشرون
ما إن حلت الهدنة المريبة، وبدأت دفعات المقاتلين في الترحيل البحري، حتى بدا ما تبقى من سكان بيروت تحت الحصار وفوهات مدافع العدوان كمن يستيقظون لتوِّهم من كابوس جماعي يكتم التنفس ذاته.
بدأت الجموع تأخذ طريقها إلى الشوارع، خاصة الحمراء التي دبت فيها الحياة من جديد، ففتحت معظم المقاهي والكازينوهات ومحلات الأطعمة الشعبية، ومنها اللحم بالعجين أبوابها.
وعادت وجوه الفتيات البيروتيات الرقيقات تزحم الشوارع ونواصيها.
وهن ذات الفتيات المقاتلات بزيهن الحربي، كما أنهن ذاتهن اللائي كن يبكرن في كل صباح، ويأخذن طرقاتهن إلى حيث ميناء بيروت ومرفئها لتوديع المقاتلين المغادرين وعائلاتهم، يلوحون لمن عاشروهم وقاسموهم حياتهم وخبزهم وكدهم اليومي، ودافعوا عن مدينتهم وهن ينثرن الزهور والورود من فوق رءوسهم في زهوة ووعود باللقاء.
وعلى هذا النحو، دأبت فتاة الجنوب ورفيقتها الدرزية في معظم أيام الخروج العصيبة.
وكم كان المهاجر يحس بالزهو حين كانت تعود إليه لتحدثه مختلجة عن هول ما أثاره الموقف من مشاعر، وما علق بذهنها من حكايات وقصص الغرام الدافق بين اللبنانيين والفلسطينيين، وهي العلاقة المتقدة التي جاء العدوان ليدمرها من جوانب عدة، تختتم على هذا النحو بالفراق، وخروج أولئك المطاردين أينما حلوا، من لا وطن لهم.
في تلك الأيام التي أصبحت تتسم بالحلاوة بعودتها، وسماعه للهجتها الجنوبية كمثل نغم، أو «ميلودية» عذبة تعاشر أسماع سامعها.
فبدأ المهاجر معها يستعيد أمنه وسلامته الذاتية، بإزاء ما عاناه عبر العدوان ولياليه وافتقادها والتشرد، والهروب المفتعل بالشم والمخدرات مع صديقه اللبناني الجديد طيب القلب، الذي قاسمه مسكنه مجزلًا له الأجر أضعافًا، في الوقت الذي كان يرفض فيه العريض عن جد أخذ أي شيء، والاكتفاء باستضافته في تلك المحنة التي حلت بالجميع عربًا ولبنانيين.
وفي بعض الليالي كانت تزوره صديقته الجنوبية؛ لتمضي الليل معه في أحضانه في غرفته المنعزلة إلى حد ما عن الغرفة التي اختارها صاحب المسكن لنومه الليلي المتقطع، وشخيره العالي المتصل، ومعاركه مع نفسه عبر كوابيسه الملازمة، التي ادَّعى لكل من حادَثه فيها بأن العتب ليس عليه، بل هي الحرب ودمارها حتى في النوم والمضاجع.
ودأب هو بدوره على زيارة صديقته التي دفعها واجبها إلى التطوع لخدمة المصابين والجرحى من الشباب والأشبال بمستشفى هذا المخيم الفقير الذي جمع معدمي الشعبين الفلسطيني واللبناني، ومعظمهم أيضًا من مهجري الجنوب الذين فروا إثر اعتداءات العدو المتسلط المتعاقبة، وآخرها هذا العدوان الذي وصل ذروته بحصار بيروت، بل واقتحام أطرافها وتقطيعها قطعًا على مشهد من أهلها المثقلين.
كان يأخذ طريقه إلى المستوصف عبر شوارع شاتيلا وأزقتها العفنة، مستطلعًا وجوه الناس البسطاء الذين لم يتخلوا للحظة عن ابتساماتهم البشوشة برغم جسامة المحنة بالعدوان والخطر الداهم المحاوط برًّا وبحرًا وجوًّا، في استباحة ما بعدها استباحة تجيء على هذا النحو منذ ما قبل ١٩٤٨، لحين التواجد الفعلي، والتباهي بالنجمة الغازية «الطوطم» المسدسة، تعلو بفعل وهج القنابل الفوسفورية، وعبر أستار الليل الكثيف، وانقطاع الكهرباء فوق أعلى معالم المدينة العاصمة بيروت، ورموز كرامتها، دون أدنى استحياء.
رغم ذلك، لم يتخلَّ هؤلاء القوم السمحاء عن ابتساماتهم المرحبة، خاصة للغرباء؛ حيث إن السكان بدورهم غرباء، ومن هنا يجيء التعاطف متجانسًا لا رياء فيه: وطن الغرباء.
بل هو تعرَّف إلى الكثيرين منهم رجالًا ونساءً، تعرَّف على أسرة شيعية لبنانية: أم وخمس أخوات في سن متتابعة متقاربة، وجميعهن حتى الأم لم يتركن لحظة وداع وتساند مع الخارجين أو المطاردين.
وحكت له الأم البشوش الهرمة كيفية إنقاذها لبناتها وأولادها هربًا بالجلد من مجزرة مدينة الخيام الأقرب من متاخمة الحدود الإسرائيلية في الجليل الأعلى حين اجتاحتها الميليشيات الإسرائيلية عام ١٩٧٨، فقتلت معظم ذكورها عن آخرهم من آباء وجدود وأشبال.
كما استمع من مصحح لغة عربية طويل القامة، أحمر الوجه، يدعى عساف قسيس، كيف أحالت إسرائيل بلدتهم بكاملها بالقرب من صور، بعد أن أجبرت سكانها قتلًا وتهجيرًا على أن يخلفوها مفرغة من كل حياة؛ لتقيم فيها القوات الإسرائيلية بروفات حرب حية على الطبيعة؛ لإتقان — أو إخراج — حرب المدن، بنسف الدُّور والمدارس والمستشفيات وكل مَعْلم لحضارة وحياة.
لماذا؟
كان يحلو له آخر النهار ومع حلول المساء اصطحابها من عند الباب الخارجي المطل على حديقة تفضي إلى سلالم المستوصف، حين كانت تمد له ذراعيها الاثنتين القصيرتين كمثل عصفور جريح محلق، ومن فورها تلقي بنفسها بين أحضانه لاثمةً مطلع عنقه، ويمضيان يجوبان الشوارع ولهما هيئة أب وابنته … وحيدته.
يغوصان في أوحال المخيم، يتطلعان خلسة إلى الوجوه المحاصرة في صمتها المطبق كمثل ذبائح الضحية، يعملون: يبيعون ويشترون ويتزاورون، ويتحلقون حول دكاكين وعربات الأكل والفاكهة وخبز الزعتر، انتظارًا لأن تعمل بدورها آلات الحرب الأمريكية القادمة عبر البحر فعلها في لحم أجسادهم وفقرهم «الدقة»، كما لو أن الهدف الفعلي هو اندثارهم: الفقراء.
كانت كثيرة التساؤل بلا كلمات: لماذا الأمر على هذا النحو؟
أما هو فكان يجيبها بأنه لا يصدق، وأكثر ما يضايقه هو هذا الأمر، أن لا تصدق ما ترى وتشهد إلى حد الدهشة.
صحيح أن مثل هذا الأمر كان من الممكن أن يصادفه عبر حكايات القرى والحقول، حين كان صاحب النجمة المسدسة يحرث أجساد أعدائه الفلسطينيين والأردنيين بالنوارج، والباجات ذات اللفافات حصدًا جماعيًّا.
لعله ما يحدث أو يقاربه؛ فالحصاد هذه المرة يجيء نيرانًا ونابالمًا عبر الزوايا الست أو المسدسة، بالإضافة طبعًا لمكبرات الصوت والبث ذات اللهجة المهذبة التي تُطالب أشلاء سكان هذه المدينة وغيرها بالفرار هربًا بالجلد.
– إلى أين؟
الناس لا يكفون عن الفرار، إن جنوبًا أو عبر أحياء العاصمة وشقوقها وأطرافها المقطعة وضواحيها، لا شيء أصبح يمكن أن يُرى سوى وفود وكوميونات المهجرين يسدون كل منفذ ومدخل لبناء، أو حديقة هامة، أو واجهة سينما بالحمراء.
وحيث كثيرًا ما يأخذان طريقهما إليها، يمضيان هكذا متسكعين من طوار لآخر بلا هدف واحد، سوى مجرد التطلع إلى وجوه وهيئات ما تبقى من أحياء، وحتى يحين الحين، بانتظار ما يستجد من أدوار وحصد.
وذات يوم، وجدا نفسيهما على مقربة من البناية التي فيها كان يقيم المهاجر، والتي لحقها القصف الجوى فتهدم طابقها العلوى ومدخلها الذي سُدَّ تمامًا، فشلت حركتها، وعنها رحل سكانها.
مضى يتأمل من داخل الجراج المهجور الواقع خلف البناية إلى حيث مسكنه الذي كان، كتبه ومخطوطاته وملابسه.
وكم كان حبوره وإكباره لفروسيتها حين أخبرته من فورها بأنها ستصعد مستعينة بسلم إلى بلكون بالطابق الثاني، ومنه إلى ما يليه حيث مسكنه، وستلقي إليه خاصة بمخطوطاته التي كان منشغلًا بالعمل بها قبل العدوان، وما يعنُّ له أيضًا من أشياء بسيطة.
في البداية، وحرصًا منه عليها، حاول ثنيها عن مثل هذا الفعل، فلا داعي للخطر، ويكفي ما نحن فيه.
إلا أنها أصرَّت معدلة عن كيفية التسلل عبر باب الشرفة إلى داخل المسكن بلا مخاوف.
ومن فورها، قفزت جارية إلى البناية المجاورة، ونجحت بمساعدة ناطورها في إحضار سلم خشبي، تسلقته حتى أصبحت داخل المسكن، وراحت تلقي إليه بأوراقه وما وقع عليه اختيارها من ملابسه وأشيائه ضاحكة، وهي تمازحه ممتنعة عن إحضار بعض الأشياء في عبث بناتي محبب، إلى أن نجحت نازلة: ها أنا قد نجحت … أنفع.
وضحكا طويلًا وهما يأخذان طريقهما بعد أن ساعدته في حمل معظم أشيائه في حنان، إلى حيث مسكنهما الجديد في شاتيلا.
الفصل الرابع والعشرون
تساءل المهاجر بين وقت وآخر عن ذلك الخيط الخفي غير المرئي الذي يربطها به إلى حد أن توقف حياتها عليه، وأن تتخلى عن مصاحبتها لأهلها الذين رحلوا إلى مهجرهم بالبرازيل، منذ الساعات الأولى للعدوان، بينما تخلفت هي مصرة على عدم ترك البلد للمعتدين؛ إذ إن هذا بالتحديد هو هدفهم، كما سبق لهم فعله في فلسطين، نشر الذعر والفزع وإعادة استثمارهما في ترحيل السكان وهجرتهم إلى حيث لا رجعة: لن أرحل.
وهكذا بقيت قاصرة طاقتها على العمل بالمستشفى تكنس وتنظف وتسهر على رعاية المصابين؛ لتعود آخر اليوم لترعاه، تقرأ له وتنصت الساعات الطوال، وتصنع له قهوته السادة وطعامه، وتحمل الماء والصحف وخبز المستشفى «الجراية».
ما الذي يشدها إليه؟ إنه لا يستطيع الادعاء بأنها على دراية بدوره الفكري، فكيف يصلها منهجه في علمنة الثقافة، وعلوم الأثنوجرافي والأنثروبولوجي، وجدلية ما يحدث بعامة، ثم ما ضرورة مثل هذا الآن في «جحيم» ما يحدث، وتلحقهما نيرانه ووهجه الحارق؟ أسئلة يظل يطرحها دون إجابة، منذ ذلك السيمنار الذي انتهى بالانفجار والمصحة المعتقل معًا، لحين مجيء العدوان بدءًا من الجنوب مستشريًا عبر كل المحاور، لحين القتال والصمود، وقبول الخروج والرحيل، ووصول القوات متعددة الجنسيات.
تذكَّر وعوده المتكررة لها بالسفر والترحال لرؤية أكبر حيز ممكن من هذا العالم، وتضاعف هذا الحلم وكبر أكثر مع حلول العدوان والحرب، ما الذي يشدها إليه؟ أتراه افتقاد الأب، على عادة ما يحدث بالنسبة لمثل هذه الحالات؟ أم تراه الخطر؟ تللك الجاذبية الخفية «اللامرئية» التي جاء من وطنه هاجًّا إلى هذا البلد الصغير الغارق لقمة رأسه في بحاره الآسنة.
بل إن تساؤلاته أوصلته إلى حد محاولة الإمساك بتلك الصدفة التي دفعت بكليهما إلى المجيء أصلًا إلى هذا الحي الفقير المضطرب دومًا بمعدمي الشعبين الفلسطيني واللبناني، إن لم يكن كل الفقراء، من لا وطن لهم. ذات ليلة، سألها إن كانت تستشعر بحق مدى الأخطار المحيطة، وإن كانت تفضل الرحيل والبحث عن مسكن أو مأوى آخر أكثر أمنًا، قالت: أين؟
وأردفت بأن الخطر هنا كما هو بكل أحياء بيروت، لا فرق يُذكر بين المسكن والخندق والشارع، طالما أنهم أصبحوا يتعمدون ضرب المخابئ ذاتها، ومدافعهم تطول كل شق في بيروت الغربية الوطنية.
وتعللت بارتباطها بزميلتها الدرزية والمستشفى القريب الذي تعملان به، وإقامة جسور الاتصال والتعارف بالجرحى والمصابين حتى الأطفال، ومن غَيبت الحرب وجوههم إلى حد البشاعة.
– كيف أتخلى عنهم؟
قالت: كيف أتخلى عن صديقتك الفتاة الفلسطينية شادية، التي جاءوا بها ورفيقها اللبناني فجرًا كتلة لحم بلا وجه، سوى من بقايا نبض ضنين، وأحسست بها وهي مسجاة تحملق بي متعلقة بأحد ذراعيها بمؤخرة عنقي هذا ضاغطة، إلى أن توقف نبضها، وسرت البرودة من قبضتها خلف عنقي إلى عنقي ذاته، وبقية جسدي وأطرافي.
– وكيف؟
لا أحد يعرف، بل هو نفسه المهاجر لم يعد يدري؛ ففيما يتصل بنفسه يستوي الأمر، فهو لم يتخل للحظة عن سلاحه. صحيح أنه غير كافٍ، ولا يستوي مع أسلحة العدو من نابالم وقنابل انشطارية وأوبئة؛ ذلك أن سلاحه مجرد سكين «قرن غزال» أو موسى، إلا أنه كافٍ في كل الحالات وأضيقها لقتله أو انتحاره، بإزهاق نفسه، وقتما أراد.
وقليلًا ما حادثها في هذا، حين تحسسته تحت وسادته — الموسى — ذات ليلة، ولمسته سائلة: لماذا الاحتفاظ به هنا؟
تردد في البداية حول كيفية إخبارها، إلا أنه ألمح لها بحقيقة الأمر، كيف أن لكل إنسان مأزقه واختياره لتوقيت فك وثاقه وغيابه.
ساد الصمت بينها للحظة كان من الممكن أن تطول جدًّا، ذلك أنها قامت مبتعدة عن الفراش، واندفعت تتأمل وجهها وجسدها نصف العاري بملابسها الداخلية، ثم اتجهت إلى المرآة المواجهة لباب مدخل المسكن، وتناولت لفة زهور — الأوركيدا — التي كانت قد جاءت بها إليه، ومضت في ذات الصمت توزع الزهور وتنسقها في فازات البيت إلى أن عادت إليه، فأشعلت لفافة وانحنت على ذراعه فلثمتها قائلة: طبعًا الانتحار حل مطروح.
وجاهد هو ساعتها في تغيير الموضوع الماثل للحديث، معيدًا الموسى إلى مكانه، وهبَّ من فوره منشغلًا معها، ومساعدتها في تنظيف حوض غسيل المطبخ وإعداد القهوة.
ولعلها كانت اللحظة المحددة التي مست فيها قلبه «الشائخ» فأحبها.
الفصل الخامس والعشرون
جاءهما صاحب المسكن محمود العريض فزعًا مروعًا إلى حد أنه كسر مزلاج باب المسكن الخارجي، معلنًا أن الإسرائيليين «الجِزَم» لم يكتفوا بما فعلوه بلبنان، فاغتالوا الرئيس المنتخب بشير الجميل، وكبار جنرالات ميليشياته في ذات التوقيت الذي أعلن فيه تأهبه لافتتاح جسر فؤاد شهاب، أو جسر الاتصال بين العاصمتين، بيروت الغربية والشرقية؛ إذ كيف يتوحد لبنان وتلتئم لحمته؟ هم لا يريدون له سوى التمزق، عزل اللحم عن اللحم، تساءل ثلاثتهم، ولعلهم اتفقوا: لازم يعملوا حاجة.
يدخلون بيروت الوطنية بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين الذين أوقفوهم وصدوا عدوانهم بحجة تمشيطها، ويعملون مذابحهم.
هبَّت من فورها عن فراشها مؤكدة في صمتها العظيم: هنا.
– ما العمل؟
أجاب العريض وهو يتحرك بشكل مكوكي لا إرادي يأكل في نهم، ويحتسي البيرة، ويحشو منخاريه، ويعطس بحدة: هنا مثل هناك … لا مهرب.
تلاقت عيونهم في ذات اللحظة التي واجهت هي فيها المرآة بذات الصمت.
أعلن الراديو اغتيال الرئيس والحداد.
قال العريض: وجاءت الأخبار كالعادة سابقة لكل توقعات قبل حلول المساء الدامي وبصر العالم … الخول.
قبلته ضاحكةً وبدورها قبلت العريض: موعدي، عندي شفت الليلة.
– الليلة.
ود لو أنه قفز إليها معترضًا هذه المرة معلنًا هواجسه، ما يعتمل في داخله، ولا يعرف كيف يمكن أن يعبر عنه، يفصح عنه: بنتي.
انتفض واقفًا مجاهدًا في ألا يبدو منحنيًا، واندفع يلثمها في كل ما هو عار من جسدها جاثيًا على ركبتيه، حتى ملابسها، بنطلونها الجينز القديم، أذنيها، عينيها، سوارها الذهبي.
تجسدت له كلُبنان.
أرزة قصيرة في مقدور أي رياح معتدلة اقتلاعها.
أما هي فمضت تلحس حواف فمها غير مستوعبة ما يحدث، على عادة الضحايا … بل هي أعادت إيقافه على قدميه منتصبًا وتأملته لحظة.
وجاءت الأخبار كالعادة سابقة لكل توقعات قبل حلول المساء الدامي في شاتيلا.
غمغم لنفسه: الليلة تباع الرءوس بيع السماح.
تذكَّر كليب الفلسطيني ملك العرب.
أذاع راديو محمود العريض الترانزيستور «المتآمر» سلسلة من الأخبار التي جاءت كمثل جلد على بطن عارٍ.
واندفعت الفتاتان الفلسطينيتان اللتان اختفى مرحهما العربيد في أعتى ساعات المحنة عقب استشهاد رفيقتهما الثالثة شادية، داخلتين مُحمَّلتين بأخبار جديدة: لا قدم واحدة في الشوارع، مخلوق، سوى الكلاب الضالة المسعورة.
اندفعوا جميعهم خارجين مسرعين، وفي أعقابهم المهاجر «المصري»، نازلين السلالم متداخلين في الأجساد الكثيرة التي زحمت السلالم وما تحتها، وطرقات البناية، وقد عمَّهم الصمت، فتحولوا جميعهم من رجال ونساء وصبيان إلى عيون مفتوحة عن آخرها، تعمل فيما حولها من فراغ نصف مظلم، أما الآذان والحلوق فلا عمل لها، لا كلمات، ولا سماع لأناشيد الراديو الحماسية التي تبث غنائياتها عن لبنان: أحبك يا لبنان. يا وطني أحبك.
ثم سيول الأخبار المميتة حتى العظم للتهديدات الإسرائيلية لجيش الدفاع ضد من، هؤلاء الناس، والأطفال الرضع. خرجوا أربعتهم إلى الشوارع التي غطاها الصمت المترقب، لا سيارات ولا بشر ما عدا الكلاب التي تَزايَد سعارُها، في عراك ضارٍ حول أكوام الزبالة وصناديقها وروائحها.
ظلوا يمشون في ظل الحواري ميتة الحركة، ومنها إلى الشوارع، إلى أن قاربوا مبنى المستشفى التي تبدت وحيدة بيضاء، تنبض فيها بقية حياة، حيث تكوم الأهالي هنا وهناك، وزحموا حديقتها قصيرة الشجر العارية.
مرق سرب من الطائرات الأسرع من الصوت، وعليها ثبتت كل العيون عاليًا.
وكان قد انفصل عن العريض وفتاتيه الفلسطينيتين متخذًا خطاه وحده باتجاه المستشفى.
ألقى السلام على الجرحى وأهاليهم وصافح أحدهم مندفعًا صاعدًا السلالم المفضية إلى داخل عنبر الجرحى.
وما إن التقيا حتى أسرعت إليه ملقية بنفسها بين ذراعيه على مرأى من الجرحى والمصابين الذين ركزوا أبصارهم الكليلة عليها.
– ماذا يحدث؟
أزاحت قناعها عن وجهها النضر المبتسم: لماذا جئت؟
أفضى إليها بما يختنق به هذه الليلة: هذه الليلة الليلاء؛ دعيني أتأملك.
قدمت الفتاتان مسلمتين عليها، وفي أعقابها العريض.
– ما الأخبار؟
– يزحفون أكثر باتجاه بيروت بمدرعاتهم ودباباتهم.
صرخ أحد المقاتلين الجرحى دفعة واحدة على صوته من خلفهم: تعالوا.
وبدا كما لو كان يهب لتوِّه من نومه، أو يجاهد في أن يهبَّ واقفًا باحثًا عن سلاحه: خونة.
انسلت هي من بينهم منزلة من جديد قناعها على وجهها جارية إليه مسندة مهدئة، معبرة بذراعيها المفتوحتين، وصدرها الرحب العريض، وإيماءاتها بكاملها، خاصة تللك الابتسامة الحانية التي كانت تفتق الخباء أو القناع عن وجهها.
أخذته في صدرها ضامة معيدة رأسه المقاتل الشبل على نهديها الحانيين إلى وسادته؛ ليعاود النوم من فوره كمثل طفل بين ذراعي أمه: بيتقدموا صوبنا.
صرخ العريض بدوره مهتاجًا وهو يتراجع عن الشرفة المطلة على التلال القريبة، كان المساء قد بدأ يحط جاثمًا: العدو يزحف … يقترب.
سمعت الطلقات المدوية تجيء من كل الاتجاهات الأربعة المسورة للمخيم فترة.
وبدا الترقب الشديد على وجوه الجرحى والمصابين الذين قاموا جميعهم عن مضاجعهم في تحفز، بل إن البعض منهم تحامل ممسكًا بسلاحه.
انفتح الباب على مصراعيه؛ حيث قدم أهالي المصابين وذووهم، فلم يعرف من يحتمي بالآخر، سوى أن الأمهات قاربت أكثر أبنائهن وبناتهن.
– مهرب … مغيث.
النيران القريبة تواصل حصارها حيث تساقطت المباني، وارتفعت الحرائق، والتهب الجو بكامله، فتحول الفراغ إلى كتلة متوهجة من نارٍ تسدُّ كل منفذ وأفق.
قاربته أكثر وهو يتداخل في الأجساد المندفعة التي راحت تتقارب وتتلاصق، حتى إن الجرحى قاموا بدورهم عن سرائرهم، وتلاصقت الأجساد أكثر فأكثر، إلى أن أصبحت كتلة واحدة قابلة على الدوام للاستزادة بقدوم بقية المرضى والممرضين والأطباء.
وتحول الليل إلى نهار بفعل القنابل الفسفورية التي تفجرت في السماء كاشفة كل أرجاء المعسكر وتفاصيله، بل إن تفاصيل الجنود المعتدين بآلات حربهم التي تبدت أكثر شيطانية ووضوحًا وهم ينسفون البنايات المحيطة التي نزل عنها سكانها، متلاصقين على ذات النحو، كمثل جسد واحد يتعذر انفكاكه لحين أن تحصدهم النيران، فيسقطوا على ذات الوضع المتلاحم كتلة صماء واحدة … جثة.
حاول محمود العريض وهو يتداخل أكثر في الفتاتين وبقية الموجودين التنبيه لما يحدث، صوت مكبرات الصوت العالية التي لا يصل صوتها بفعل القذف المتواصل والانفجارات وصرخات أهالي المخيم، الذي تحوَّل بكامله إلى كتلة من النيران الزاحفة دون أن يسمع شيئًا.
كان المعتدون يصعدون البنايات المحيطة والمواجهة، بأيديهم مدافعهم وقنابلهم، بل وسيوفهم وخناجرهم التي تقطر دمًا، بفعل وهج القنابل الفسفورية: مذبحة.
أحاط بالمستشفى كتيبة كاملة من الجنود، وبدوا وهم أكثر قربًا مقنعين، لا يبين من وجوههم المتحفزة للقتل والتمثيل بالجثث لتغيب ملامحها سوى عيونهم الغريبة الملونة.
صرخ أحدهم بالعربية: العواجيز هنا.
هنا اندفع الجميع جريًا ينزلون السلالم، إلا أن بقية الجنود المهاجمين تفرسوهم مسرعين، معيدين الجميع، فيما عداه «المهاجر»، وفي أثره العريض الذي بدا للحظة مهدمًا لا يقوى على الوقوف.
وقبل أن يستدير المهاجر كانت النيران قد حصدت الجميع من ثلاثة اتجاهات، حيث سقطوا من أعلى السلالم كتلة واحدة.
وتقدم الباقون بأيديهم سلاحهم الأبيض، فمضوا من فورهم يجزون الرءوس، أحس بأن عينيها كانتا تحطان عليه، وهو يركض هلعًا عبر الأستار وأحد الجنود يمزع بطنها عرضًا: ابنتي.
ظل المهاجر ورفيقه اللبناني يجرون عبر أستار الليل، وانضم إليهما بعض الراكضين والهاربين، إلى أن خرجوا من أسر المذبحة … شاتيلا.
كان ما يزال نائمًا على مقعده، رأسه إلى الوراء وغطيطه المتقطع غير المنتظم يثير الركاب.
حين أعلنت مضيفة الطائرة الوصول بسلام إلى مطار القاهرة: سلام.
وداخل ردهة الوصول بالمطار، تمثل المنظر داخل مطار القاهرة ذاته هذه المرة، الجنود الإسرائيليون بخوذاتهم النحاسية وأسلحتهم وعدوانيتهم يحيطون فتاته من جهات عدة مطلقين النيران إلى أن سقطت ممددة على أرض المطار، فبقروا بطنها، قال: هنا … هذه المرة.