المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بنات حارتنا


AshganMohamed
01-02-2020, 01:43 AM
ملاحة الخاني







بنات حارتنا


*رواية *





من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1998 














تصميم الغلاف للفنان : ابراهيم هزيمة.









تمهيد:
لكل إنسان حكاية يغزل خيوطها مع رفاق درب تابعوا أم لم يتابعوا مسيرة الحياة معه. وحكايتي أنا حكاية أناس من دمشقي الحبيبة، ظل نبضهم حياً في خاطري. رغم غيابهم تركوا بصماتهم على خط الحياة تأرجحوا مع الأيام، لكنهم لم يتقهقروا أو يطأطئوا.
أناس حارتي، بنات حارتي، شباب حارتي، حملوا قيماً ورواسب، ومفاهيم أصلتها بأصالتها الحياة، وغيرتها بتغيراتها الحياة. فإن وجدت نفسي بينهم ووجدت نفسك معهم فلأننا نعيش أفراحهم وأتراحهم، ويعيشون أفراحنا وأتراحنا، فما زالت الدنيا خيرة وبخير ومن لا يقع لا يقف ولا يصل، هكذا مات بعضهم واقفين.
قالوا:
-حملت سلمى من اسمها بعضاً من تكوينها النفسي والخلقي بنظرة متشوقة نحو المتغيرات التي تحيط بها. توقفت في محطات متلونة تركت في مخيلتها الفتية آثاراً عميقة، ونمنمات مثيرة، وذكريات ثرة، كمرتها في فؤادها.
إذا أطل الماضي بأبعاده الحانية أو الداكنة، تبسمت رضى لحياة عاشتها بين أب وأم عاشقين، حاولا أن يرضيا غرورها بعيش هنيء موار.
قالت نساء الحارة:
-ليست سلمى جميلة كما الجمال بتقاطيع مثالية متناسقة، وأنف دقيق شامخ، وفم مغرٍ وعينين حوراوين.
وقال شاعر:
-كانت سلمى أقوى من الجمال.. حضور حلو، أنفة، وشخصية متميزة. ملكة نفسها وقال آخر:
-إذا أرادت سلمى، صممت، توهجت كشرارة، لم تنزلق في وحل، ولم تقف على قدم واحدة. تفتحت في أرض صلبة مليئة بعروق الذهب.
قالت الأم:
-لسلمى نظرة شفافة تخترق القلب. تقرأ خطوط الزمن في وجوه أناس الحارة. سلمى مزيج من تواشج الضباب والشمس والمطر. خلقت في يوم شتائي عاصف يتلاعب على شاشة الحياة.
كبرت سلمى وسجلت سلمى على دفتر صغير ملامح شخصيات آسرة عن الحارة، بسيطة غنية، ظلت متألقة في ذاكرتها.
"جعلتني دمشقيتي قريبة من الهواء النقي الذي يتسلل من جبل قاسيون عبر النوافذ المشرعة نحو الشمس. بيتنا واسع فسيح ينبض بالحب. يرى السماء الزرقاء بتغيراتها الأربع. في الشتاء تمتلئ الدار ثلجاً وخيراً".
أنام في غرفة نافذتها عالية مشرقة مطلة على حارة مغلقة بمستطيل انكسر أحد أضلاعه يلتصق جداري بجدار أبوي، اسمع دردشتهما وجدالهما وحوارهما.
صوت أمي:
-إن شاء الله ما في إضراب غداً.
يرد أبي:
-نصف السنة إضرابات.
أخي الكبير هشام الذي يُذبح خروف العيد بين رجليه يجر جسده جراً إلى المدرسة "الفرير"Frere وهو يلعن تقاليدها الصارمة، ونظامها القاسي، والساعة التي دخلها.
كما علق الأوسط كرة القدم. أضحت هوايته كارثة حقيقية لعائلة امتهنت القضاء أباً عن جد.
ما كنت لاهية عما يقلق بال والدي، فأبي أمين جمرك دمشق تحدر من صلب علماء تركوا بصماتهم واجتهادهم على الفقه والعدل.
بين اليقظة والحلم يموت الحوار يقترب من الهمس الدافئ.
يحلو لأمي. عروس بيروت، سليلة عائلة عريقة فيها، أن تلتم على أولادها، وأن تقاطع كل متحدث كي تحكي عن أخيها المغترب الذي هاجر إلى إفريقيا في عام ألف وتسعمئة وخمسة وعشرين.
-وهناك- تعيد السيرة ذاتها- أصبح اسمه محمد الفاتح تاجر للحرير والعاج من أكبر التجار. في يوم صحو آخر من أيام نيسان لحقه أخي الأصغر. كان شمساً حقيقية توهجت في البيت. وعندما حمله بحر بيروت، أحست أمي بتسرب الدم الغالي من أوردتها، فأنّتْ، ومكثت تئن طوال حياتها وحتى مماتها.
دفعتني يوماً، وأنا في مطالع قدرتي على القراءة والكتابة أن أخط أول رسالة إليه، فما كانت تفك سوى أحرفٍ من أسماء أولادها التي أغلقت دنياها عليهم.
قرأت لها بعض الأسطر القليلة. كتبتها بحروف كبيرة مائلة عن السطر ملأت الصفحة. فبكت.
أمدني بكاؤها برصيد معنوي عاطفي جسّم كبريائي. ربحت جولة أولى، ولما أتجاوز الثاني ابتدائي. تغلبت على مفردات صعبة سعّرت أوار عطشي إلى عالم زاخر بالحكايا. رحت أنبش عنها في الكتب الصفراء والبيضاء والمجلات وبين مزق الزيبق ودليلة. نسيت حالي، ونسيني الجميع.
كنت أطير فرحاً بقراءاتي. أعاقب دليلة وأغضب من الزيبق. وأعجب بنجيب محفوظ.
ضم بيتنا الكبير أربعة صبيان وثلاث بنات. توأمان جاءتا الدنيا قبل مجيئي أنا إليها، ما لبثا أن أغلقتا الباب على أسرارهما، ولم نلتقط منهما سوى الابتسامة مرسومة على الشفاه الراضخة لقانون العائلة الصريح: لا فضائح.
يرفض عقلي الصغير انطواءهما تحت هيمنة العرف السائد وقيده الذهبي.. "لمها" الثانية قد فارع، وقامة هيفاء، بهيجة، صغيرة كبيرة، سرعان ما صارت أماً لأربع بنات ولما تتخط التاسعة عشرة.
كانت نهمة للحياة تهبج الأفراح من وجه النسمة. تزورنا كل شهر إذا سمح أبو البنات. تقول العائلة متبرمة:
-ضحك القدر في وجه التوأم هدى عندما تزوجت نبيلاً ينتمي إلى أسرة باشوات عريقة تسلسلت عبر مراتب سلك الجيش. وبعد أشهر حملها زوجها إلى مدينة اسكندرون، لتعيش مع أهله في بيئة أرستقراطية تجيد اللغات الأجنبية وأصول الاتيكيت.
زياراتها إلى الشام محدودة مقننة وموزعة على المواسم والأعياد.
كانت هدى جميلة شقراء، مرهفة تحب الموسيقى ماهرة في حياكة الصوف والتطريز.
تردد أمي:
-أناملها شمع، ويداها ذهب.
ذات مساء خريفي. امتلأ البيت بصديقات أمي، وجاءت "مها" تجر خلفها بناتها الأربع. انزوى أبي بعيداً في غرفة الجلوس يقرأ (طه حسين) معجباً.
رن جرس الباب رنات متسارعة نزقة تحركت "مها" نحوه. أوقفتها والدتي بزجرة من عينيها ثم دفعتها إلى الغرفة حيث الوالد. مشت هي تستطلع أمر القارع المتعجل.
طال الحديث خلف الباب.. علا صراخ مبهم. عادت أمي إلينا صفراء مضطربة. همست في أذن أختي:
-هو.. وأضافت نكدة. صبري أفندي بسلامته.
فهمنا يومئذٍ لم جاءتنا. كانت حردانة.
لا تفصح أمي عادة عن مرادها بوضوح. ترمز وعلى الآخرين أن يفهموا ويستجيبوا.
هو يعني: "صهري" الذي أتى محارباً يبغي استرداد امرأته وبناته.
علقت أمي بحياء:
-قال يحبها.. والله لا يوفر كلبة في الشارع، ولا يتورع عن قطة.
وقفت "مها" قرب الباب حائرة. انهمرت دموعها على خديها. أطرق والدي محزوناً، كور حبات السبحة الصدفية في كفه وتعوذ من الشيطان الرجيم.
-يا بنتي. البيت بيتك. والبنات بناتك، شرفك. أعرف أنه قذر، ولكن ما العمل؟ اذهبي معه الآن وسنرى.
صدرت عن أخي هشام حركة غضب، ألقى كتاب الفرنسي جانباً، همّ، ولكنه أحجم.
لمحت دموع "مها" وأنا ألملم زهرات الياسمين البيضاء عن الطاولة.
لحقت بالمرأة المقهورة قبل أن تغادرنا إلى بيتها الذي لم تحبه أبداً.
شددتها من ثوبها المخملي الخمري أستبقيها. تلكأت لحظة، ثم مسحت على شعري المضفور كإكليل فوق رأسي وقبلتني. قبل أن تغلق الباب خلفها بصمت غرست نظرة مبهمة في عيني، ثم حملت ابنتها الرضيع وغادرت مع بناتها.
لم يودعها أحد، لم يسمح والدي بذلك، كلمته مطلقة.
لملمت أمي فناجين القهوة المبعثرة على الطاولات، تشاغلت بتنظيم البيت نبرت دون تمهيد وبصوت مبحوح:
-والله ما أحببته يوماً. نصيب. آخر حركاته، كلب ذئبي مرعب.. ينبح في أذن المصلين، وأين وضعه؟ على السطح المطل على الجامع يا خجلنا من الناس..
كلب ابن كلب أنهت رأيها، ثم أطبقت شفتيها.
انطوى شهر تشرين الأول. وتبعه الثاني. هفهف برد كانون، عكر سكينتنا خبر مفاجئ سافرت أختي إلى أرض بكر مجهولة في شمال سوريا. ضب "صبري أفندي" الأثاث الأنيق الفاخر وباعه بالجملة كي يسدد ديونه بعد أن خسر نصف أمواله على موائد القمار في نادي الصفا.
في صدر أمي بئر عميقة لأسرار الجيران الأوادم.
يفصلنا عنهم من كتبية المطبخ جدار رقيق من خشب الجوز رصفت على رفوفه الطناجر النحاسية المتلألئة.
في تمام الثامنة، يخرج الرجال إلى أعمالهم.
تدق جارتنا الطويلة النحيلة كقصبة صيد السمك دقات منغمة على الجدار:
-صباح الخير أم هشام.. راح جارنا الله معه.
تتكتك المرأتان بقلب مفتوح، تكشفان همومهما المبثوثة في خبايا الأضلع عبر الفاصل الهزيل الذي يمنع سقوط العين عندما تتعرى الأفئدة.
مشكلة جارتنا أنها تلد بناتاً، ويسكنها هلع من شبح الطلاق. تتوهم بأن جذورها باتت على البلاط، ولن يشفع لها حسن سلوكها ولا سمعة أبيها كأستاذ محترم في الرياضيات.
ينغل بيتنا بالأولاد، أمي ولود، والعائلة ولود تحمل أوسمة الخصب المبكر. البنت عربية، مساعدة أمي، حولاء جاءتنا من تل منين، تنظف، ترفو الجوارب، تكوي وأحياناً تساعد الغسالة أم حسن التي تأتينا مرة كل أسبوع من جبل الأربعين حاملة سطلاً فارغاً. كانت أمي في آخر النهار تملأ السطل مما طبخت، وتحمله أم حسن إلى أولادها اليتامى.
تردد باكية:
-شاب والله، يا أم هشام، مثل الوردة، أحسن طيان في المهاجرين ما مثله شغّيل. سقط عن السقالة صباح العيد وماردّ النفس. نصيب. تسأل أمي جزعة:
-وما له تعويض، معاش؟
-ما له!
كان بيتنا عامراً دوماً بأشهى الطعام، يأتينا سمك طازج من طبريا توزع أمي منه على الجيران الملاكة، وهم بدورهم يصبون علينا خيرات أراضيهم في الغوطة. تبدو والدتي مزهوة بكرمها، راضية عن عيشتها.
لم تخفف السهرات القليلة المختلطة من إدمان أبي على مقهى المهاجرين في آخر خط الترام. يسعى ماشياً مشية عسكرية يعب الهواء عبات مسموعة بزفير وشهيق منتظمين، وعندما يصل البيت يأخذ مكانه على الكرسي القش ذي المسندين. يرمي سبحته على الطاولة المعدنية المدورة، ويطلب شاياً، ثم يتأمل دمشق من إطلالته المشرفة منتشياً داعياً:
-الله يحفظك يا شام، ويخلصك من الأجنبي.
كنت معجبة بأبي.. وما دام في البيت كنت لا أكاد أفارقه. أنتظره عصراً قرب الباب أقبل يده، وأظل ممسكة بها. وحتى على سجادة الصلاة كنت أبربر معه بكلمات لا أفهم معناها تعلمتها لا من تلاوات أبي بل من دروس الراهبة الإيطالية في المدرسة. يضحك، ومن خلف ظهري يتضاحك إخوتي، وتقف أمي باسمة..
تشبه الحارة في المهاجرين نادياً نسائياً. تنزين النساء جمعة الاستقبال أجمل زينة وتبدأن منافسة شيقة بينهن ومباهاة في الملبس والمأكل والضيافة والتسريحة.. يدور حديث حول الموضة، والسفور، ورائدات السفور اللواتي تجرأن وتحدّين فنزعن المنديل الأسود عن رؤوسهن. تعود الواحدة منهن مفعمة بالقصص والأشعار وغرائب الحكايا لتسلي العائلة.
يقايضني أخي سامي على قطع الحلوى فيحل لي مسألة الحساب. جاءني يوماً مستضعفاً:
-سلمى حبّابة أنت.. أريد معروفاً، أنا بحاجة إلى كتاب التاريخ الطبيعي.
أرامقه مستفهمة.
-هلا استعرته لي من صديقتك "زينة". تكبرني زينة، رفيقتي في المدرسة، بأعوام ثلاثة. هي جميلة بيضاء نظيفة الرائحة.
قلت: لمَ لا.. تحب أمها أمي وتسّر لها كوامن أشجانها وحتى دقائق حياتها الزوجية، ورغبتها المكبوتة بين أربع حيطان ضم ابنة حماها العانس فيما زوجها يقضي معظم وقته في الضيعة. مع من؟ لا تدري.
ألم تسألها مرة أن تقسم على المصحف الشريف بأن تحفظ سرّها إذ تتمنى الموت لتلك العانس الشمطاء؟ أو تجد وسيلة.
ارتديت ثوباً سماوياً مطرزاً بخيوط حريرية حول القبة المدورة، فصلته لي خياطة الحارة الماهرة " مسرة خانم".
تقول أم زينة عنها:
-من تضاهيها؟ ولا واحدة. فنانة، ترسم، وتفصل، وتجدل الخيوط ببعضها، وتصنع زنانير رائعة.
أجلستني زينة على الأريكة الطويلة المستورة بقماش مورد مكشكش. تأملت أظافرها المقصوصة، ثم ابتسمت بلطف، غابت لحظة وعادت بالكتاب. وضعته أمامي:
-تفضلي.
قلبته. صور حيوانات مألوفة وغير مألوفة من قارات بعيدة. حملتني عوالمه وألوانه إلى بلاد شاسعة إلى ما وراء حدود دمشق وبيروت التي لا أعرف غيرها.
عدت فرحة بما أحمل. سلمت سامي الكتاب، لمحت بريقاً لامعاً في عينيه، وسعادة آسرة غمرت وجهه البرئ المزغب وهويتفتح للحياة.
غيرت مجبرة مدرستي الأجنبية بتحريض من أعمامي خوفاً منهم على عقيدتهم من الإنشراخ. وما أسلموا أعماقهم في حقيقة الأمر إلاّ إلى الغيرة.
اعتبرت تلك النقلة من المدرسة الإيطالية بمثابة عقاب لي. هبطت عشر درجات ودخلت دوامة الأزورار في المدرسة الحكومية والخوف من المسطرة، والقرفصة على الأرض حتى تتيبس الأقدام. أضعت متعة الغناء الجماعي بمرافقة الراهبة على أنغام البيانو.
بعد لأي متعثر بدأت أتأقلم مع لداتٍ في مدرسة "خولة الكندية" بالمهاجرين. في هذه المدرسة توثقت عرى الصداقة بيني وبين زينة وليلى وناديا من بنات الحارة التي أضحت مرتع لقاءاتنا البريئة وحلم أيامنا.
أعدت كتاب التاريخ الطبيعي إلى صاحبته وأنا سعيدة.
في طريقي إلى المدرسة صباحاً رأيت زينة كحمامة يرفرف فوق جبينها شريط أبيض. لحقت بها. هربت مني. قرأت في عينيها شيئاً غريباً، بغيضاً، انقلاباً استوفز كبريائي وبنى سداً منيعاً بيننا، أمعنتْ في أزوارها، تعمقت القطيعة فقررت إذلالها. أغفلتها من حياتي وتفكيري، وعقدت صداقة مع ليلى.
عدت من المدرسة إلى البيت في الرابعة بعد الظهر. رأيت الحطب مرمياً، والحطابون ينيخون جمالهم للراحة. شممت رائحة شياط.
بادرتني نظرة من أمي ملبدة بالغضب. لاحظت رعشة خفيفة في شفتيها. ردت الباب بنزق:
-عجلي عجلي غيري صدارك.. عندما أم زينة.
-أم زينة؟ وما شأني أنا؟
امتثلتُ. فتحتُ باب الصالة فضرب الحائط. هاجمتني رصة لئيمة تعلو شفتي جارتنا الرقيقتين مضمومتين على ازدراء. لمحت بين يديها كتاب التاريخ الطبيعي الذي لابنتها. فجأة رمته من يدها على الطاولة قرب فنجان القهوة الذي لم تمسه ورددت مرتين:
-باطل، باطل يا أم هشام، كيف ينجح ابنك في حياته. كيف يسمح لنفسه وينزلق نحو فعل مشين كهذا وهو في هذه السن.
فتحت الكتاب وتلوت في الكرسي، ثم قربته من أمي:
-انظري بنفسك. استعاره من زينة ثم رده وعلى جلدته الداخلية أشعار غرامية.. بالحبر الأحمر.
فركت كفيها باستياء وقلبت شفتيها كضفدعة.
-باطل، باطل.
ركبني الذهول حقاً أمام صمت أمي. فتحت فمي لأدلي بشهادتي فأسكتتني بقسوة.
-ولا كلمة.. هزت الكتاب في وجهي، ثم رمته على الأرض فانفرطت صفحاته.
أكملت:
-أشعار غزل لبنات الناس. كيف يتجرأ، كيف تمكنت أصابعه من خط كلمات حب ليست من حقه. باطل، باطل.
تأبطت الجارة محفظتها الجلدية السوداء، وهرولت تاركة إيانا مشدوهتين وكلماتها الواخزة تسبح في فراغ الغرفة.
لبدت في مكاني، تلبستني مشاعر عديدة. أخفقت في القبض عليها كاملة. أحببت لو أركض خلفها وأجرها من منديلها، وأمعسها بقدمي، اضربها، أعفر أنفها الرفيع البارز لأثأر لأمي الدّهشة.
أرخت والدتي رأسها حزينة. أدلت رقبتها النبيلة على ضلفة باب غرفة الضيوف مهانة مكلومة إلى آخر عظمة في بدنها. لم تجرؤ على الكلام. مسحت دموعها عن خديها ببطء وفجأة تيقظت من ارتباكها. تحفزت نحوي تريد الإمساك بتلابيبي، وتفجير الغضب.
خطا أبي خارجاً من غرفته، متوجهاً إلى المقهى. قرأ حيرة على وجهينا، رمى على الكرسي صحيفة الألف باء، ومجلة المضحك والمبكي الأثيرة لديه. استدار عائداً إلى غرفته. نبر بصوت آخر:
-أم هشام.. الحقيني.
جأرت أمي مكفكفة دموعها:
-شفت، شفت ابنك سامي، ماذا فعل بنا، بهدلنا أمام الصغير والكبير، مرغ سمعتنا في الوحل، تصور..
قاطعها:
-اهدأي يا امرأة، لم أفهم شيئاً من الأول.
-لا أول ولا آخر.. والله، والله. حلفت بالعظيم، لن أبقى في هذا البيت. لم أعد احتمل عجرفة الأب، ولا ميوعة الأولاد ولا ميوعة الجيران.
رفع أبي حاجبيه متسائلاً كيف أقحمته في مشاكلها.. صرخ بها مهدئاً فأوقف هذيانها.. تقطع الكلام في حلقها.
-ابنك سامي، ابنك عشقان ما شاء الله، مع من؟ مع ابنة جارنا العزيز، يا خجلي!
-سامي، عشقان، ألا تعرفين معنى هذه الكلمة؟
انخضت عيناه، وتغلب لونهما الأحمر القاني على لون بشرته وشعره الأشقر.
-أعيدي.. لم أسمع.
-يا سيدي.. وحكت القصة كاملة.
أخضع ردة فعله وثورته بعد عذاب إلى تحكيم العقل رد حانقاً:
-أهذا ما تعلمه في مدرسة الفرير؟ تحملت كلام الناس، حاربت اخوتي، ليصبح بشراً. بعت بيتاً، بيوتاً، لأصرف عليه وعلى إخوته في المدارس الأورباوية..
وعلى حين غرة صرخ بملء صوته:
-الجيران، عرضي، شرفي فهمت؟ أين هو، أين، ناده هذا جزائي.
ضرب على صدره مهدداً:
أجابت بضعف:
-لم يعد من المدرسة، لفت يديها حول صدرها تكبت زفيراً حاداً متقطعاً، بينما راحت شفتاها تبسملان.
اقتربت من أبي مسترحمة.
تخاذلت أمي أمام ردة فعله العنيفة عائدة إلى كامل رشدها.
-أبو هشام، مابودنا فضائح ولا شماتة، هنا حفرنا، وهنا طمرنا. والله لو ضربته كفاً لتركت البيت لك، وسافرت إلى بيروت.. كراج العلمين موجود، وأشارت بيدها نحو الباب.
استدار بجسده المديد نحوها. لم تعجبه لهجتها الطارئة، وخروجها عن المألوف، بظّت عيناه من محجريهما.. لكنه التزم الصمت.
خرجت أمي من الغرفة ولسانها يقول:
-هل تجاوزت الحدود معه، هل أساءت إليه، هل سيغفر لها جرأتها المفاجئة على سلطته؟
لعلع صوت أبي:
-ماشي الحال، اليوم نعقد جلسة مع العائلة وندبر الأمر زفر. كان زفيره قوياً، يوقد حطباً.
تكركب البيت الملموم على الحب بحضور أختي هدى التي جاءتنا ضيفة مكرمة، كانت خارجة من الحمام على صراخ أبي موردة الخدين مجدولة الشعر الأشقر الطويل. هتفت:
-سلمى ماذا جرى؟ كأني سمعت صوت بابا على غير العادة.
أجبت:
-قام يوم القيامة.. أمك ستطلق وانتحبت. ستطلق أمك.
رمت المنشفة الكبيرة من يدها فانحلت ضفيرتها على كتفيها. بدت حورية جميلة. شدتني من شعري.
-ثقيلة الدم، غليظة، هذه كلمة كبيرة من أين أتيت بها.
-سمعتها من أبي يهدد بها أمي وهو يدلف إلى غرفته غاضباً، على كل حال هيئي نفسك اليوم لحضور المحاكمة.
أمسكتني من كتفي وثبتتني على الحائط.
-لن أتركك حتى تقولي كل شيء.
-يا ستي، كتب سامي قصيدة غرامية على كتاب زينة، فهمت الآن؟
اربد وجه هدى، لعلها تذكرت ابن عمها الذي قبر حبهما قبل أن يزهر. فابن العم العزيز سافر إلى فرنسا وتزوج هناك، وما عاد إلى بلدها مطلقاً.
حكم أبي على سامي حكماً جائراً. أجبره أن يقف على قدم واحدة طوال السهرة، ووجهه إلى الحائط، ولم تنفع معه واسطة.
تتلاعب الليالي بي، تمد لي شرائط ملونة، أتعمشق عليها، ثم ما تلبث أن تنقطع فوق جنازة قتيل شهيد، ويزداد عدد القتلى كل يوم. تحمل الأكف الشابة جثمان الفقيد إلى مقبرة الدحداح.
ومئات الحناجر الغاضبة تردد:
-والشهيد حبيب الله، لا إله إلا الله، تسقط فرنسا، يسقط الانتداب! يركض النعش خفيفاً، ليصبح منارة فرماداً.
أتساءل:
-ما الموت، من أنا، من أين أتيت، وكيف؟ أتعب فأمتطي حزمة الضوء اللامعة التي تخترق زجاج نافذتي من نور الشارع، وأتحول إلى ساحرة.
فتحت حادثة سامي العابرة فجوة في ذهني. ألقيت الانكماش جانباً فتجرأت، وبنيت بيتاً لأبطال روايات قرأتها، وقبضت على عشقهم، وفروسيتهم، لازمتهم، سيّرتهم، دفعتهم إلى القبر أو الخلود.

كانت ساعات النوم أقربها إلى نفسي. أخلو بها إلى معبدي المقدس لا يلجه غيري أرتب زواياه على مزاجي دون أن يعترضني أحد. هناك أستنطق دخيلتي بحرية، وأبوح لها بأسراري.
كتبت نتفاً عن حبيبين انتحرا لم يجدا منفذاً إلى الهواء فآثرا الموت وحيدين، متعانقين. جاء موتهما شاهداً على ظلم الإنسان وأنانيته.
التقطت أذناي القصة من حديث مكنون بين أمي وهدى. كانت تهمس وأنا أسارق النظر إليهما:
-تعرفين جميلة الكاظم طالبة دار المعلمات، البنت الحلوة، والدها إمام جامع الشمسية.. أحنت هدى رأسها، ونبرت بصوتٍ عالٍ:
-ماما، ارفعي صوتك سلمى صغيرة ومشغولة بوظائفها.
-يا حرام على شبابها، انتحرت.
-المجنونة! باعدت هدى بين قدميها، فارتخى ثوبها في حجرها، ووقعت صنارتا الصوف من يدها.
قربت أمي ركبتها من ركبة ابنتها، لكزتها.
-انتحرا معاً، شربا سم الفئران. جميلة الكاظم، وعزيز الأسعد، الحب، الله يلعن الحب، هذا ما تعلماه من كلام الروايات والأفلام.
-يوجد ألف وسيلة للالتقاء، الزواج، الخطف، واسطة العائلة. غباء ما بعده غباء أن يلجآ إلى الموت. الحياة غالية.
-لم يقصر الولد، خطبها، ولم يرضوا: بسبب الفارق المادي بينهما. ردوه خائباً يائساً.
صفنت هدى وعضت على شفتيها أسيانة، تنهدت:
-سخافة، تخلف أين نحن وأين العالم.. الزواج ليس فراشاً وليست المشكلة أنها رفضت ابن عمها كما أرى، بل لأنها شقت عصا الطاعة على إرادة العشيرة. هذه هي الحقيقة.
-ما هذا الكلام؟ هدى!
-ماما، انتحارهما احتجاج كبير لمن يفهم. السكوت لا يعني الرضا، معناه الرضوخ، أو الموت البطيء، أو عدم القدرة على الصدام. أتعرفين لِمَ؟ لأننا نحن البنات نخاف، نخاف وحتى الشباب يخاف.
عقدت الدهشة لسان أمي. لأول مرة في حياتها تقع على زرّ ورد يخفي أريجه ويتطلع إلى جو الانعتاق.
تغير الحديث بينهما، فلم تقويا على الاسترسال أو الخوض في العمق. أضافت أمي:
-ولكن الحمد لله بقيت عذراء ماتت وظلت عذراء، هكذا قال الطبيب الشرعي.
-يا لطيب على هذه الفضيحة. صرخت هدى.
-أبداً.. طارت أمها من الفرح، برأت ابنتها أمام الناس. ظهر شرفها سليماً صحيح ماتت، ولكن العائلة ظلت مرفوعة الرأس.
تساءلت بيني وبين نفسي:
-عذراء ماتت وبقيت عذراء.. عصي الفهم علي.
اندفعت جارتنا أم ناديا إلى الغرفة هائجة تحمل صينية امتلأت بكؤوس فضية منقوشة نقشاً هندياً.
-أرجوك يا أم هشام. خلّهم أمانة عندك، لم يترك شيئاً في البيت إلا حطمه. حتى ملابسي وملابس البنات مزقها كلها.
ارتعشت هدى:
-هذا مجنون، بدائي، مكانه المرستان، وليس بين البشر.
-مسكين، خرج الأمر من يده.. أنتْ المرأة المقهورة وأكملت: إنه لا يعي نفسه. عندما يشرب أبو أولادي العرق يتحول إلى وحش لا أعرفه.
-اتركيه، عاقبيه، اذهبي إلى أهلك.
-ومن له غيري ومن لي غيره، كلانا غريبان هربنا من ليبيا.
كيف أتركه. وإذا رحلت، والبنات؟ البنات كسرن ظهري. آه.. هرولت أم ناديا خائفة عائدة إلى بيتها.
علقت هدى:
-يا لحظي.. ظهرت المشاكل على وجهي.. البيوت ملأى بالأسرار الحزينة. من يدري بالمكنون.. هرت دمعتان من الفضة على خديها.
شق الفجر خيوطه. لمحت عباءة أبي المقصبّة ترفرف عبر الباب المفتوح كسارية سفينة أرخت شراعها للريح فيما تدق عصاه الأرض بنغمات متواترة توقظ فيّ رغبة النهوض، ينطلق من الحارة يومياً إلى جامع الشيخ محي الدين في سوق الجمعة حيث يعتكف وفي صدره ينثال الأمان وتهدأ النفس، تملأ خياشمي رائحة الخبز التنوري الطازج. ممزوجة برائحة الفول المدمس بالثوم والليمون. ها قد عاد.. بعد قليل ستفوح رائحة القهوة.. ويهب البيت.
أفهم نظرة أمي الملحاحة بفطرة أنثوية. تقف وتصوب عينيها علي وهي تبتسم. أغض النظر خجلة.. فقد نبت نهداي وآلماني.
تروزني خالتي الكحيلة الجميلة، إذ تأتينا زائرة من بيروت وهي تفرد حقائبها الملأى بالأثواب الحريرية، والخواتم الفيروزية.. تروزني كخروف حلل ذبحه.
-صرت صبية "يا سلمى" زهرة مفتحة. مثلك صار عندها أولاد.
-أم عبد، ما له مكان هذا الكلام، ما زالت صغيرة، على مهلها، لم العجلة؟ جربنا وشفنا أختي أعصر لك كأس ليمون، لا بد انك دائخة من الطريق. طلعة ظهر البيدر صعبة.
أعلم أن أمي على عجلة من أمري. تريد أن تتخلص من الأمانة سالمة قبل أن تهتك كما فعل القدر بجميلة وعزيز.
أخذ يتردد علينا من بيروت ابن خالتي "عبد الحميد" جعل من أمه عباءءة يتستر خلفها. برقت عيناه عندما وقعتا على زريّ الورد الصغيرين في صدري. تلكأ قرب الباب.
-سلمى، أنت سلمى، غير معقول. صرت صبية.
صدمتني أظافره المسودة. شممت في خيالي رائحة السيارات والشحم وورشات التصليح وقطع الغيار تنفر من أنفاسه وتفوح من أعطافه.
تكرر أمي لازمتها على أذني:
-ابن خالتك يقص ذهب.. صنعته مربحة،
يدحُره بطلي الذي يخرج من الكتب، فارساً طويلاً ممشوق القامة شديد الاعتداد، قوي الملاحظة، يزين وجهه شارب أسود أنيق.
أوقفني بطلي الخيالي هذا في إشكالات المقارنة، أيقظ في لا وعيي تهيباً من الرجل العادي، ورغبة البوح على الورق.
بات ابن خالتي صاحب الورشات الميكانيكية زائراً أسبوعياً، يأتينا بسيارته "الرينو" من بيروت، ملمع الشعر، مطيب الأعطاف، نظيف الملابس. يبيت ليلة، ثم يعود صباحاً باكراً، يتحمل نزقي ومزاجي بصير عجيب، ثم ملّ مني.
-يا الله، يا ماما، حفظت الدرس، لا أريده.. ضربت الأرض بقدمي وصفقت الباب خلفي بقوة.
قال الطبيب وهو يطفئ النور بين عينيه:
-يجب أن تضعي نظارة بيضاء. عندك انحراف بسيط.
علقت أمي شاكية:
-من أول عمرها يا دكتور. لا يغرّك طولها، ما تزال صغيرة.
في ظني أنها خافت علي من العنوسة، فالناس لا يحبون النظارات على عيون الصبايا.
انكمشت على بعضي، وبدأت أغوص في عزلة محببة أفسدتها كلمات من إخوتي مجدولة بالسخرية ها قد تقدمت عليك ابنة عمك الهام، أضحت أحلامها حقيقة، رزقت عريساً تاجراً في سوق الحرير.
هتفت عندما رأيتها:
-يا ربي.. كم تغيرت يا إلهام؟
صارت نصف امرأة. وجه ملطخ بالأحمر والأبيض بعيد عن البساطة والبراءة تتعبد نفسها بالمرآة.
راقبت عينيها في حفل الغداء، كانتا تزغردان مشوقتين إلى عريسها الفتى صراحة دون حرج، انبسطت أمامها الأمور المعقدة بشرعية مباركة.
طقت ضحكة بدرت منها.
خلف الباب رأيتها تتلوى عجينة لينة بين يديه. يهصرها، وتتسلل أنامله إلى قميصها.
انفردت بأوراقي، كتبت ما لاحظت. ثم خبأت أفكاري بين طيات ملابسي الداخلية.
تطير حمامة أخرى من الحارة، تطير "زينة" التي انقطعت كل علاقة لها مع سامي تطير من المهاجرين إلى عرنوس لتحط زوجة في بيت وثير أنيق، ملكة على قلب طبيب خمسيني.
زفت الخبر جارتنا "أم زينة" متباهية.
-لا تؤاخذيني أختي "أم هشام" فضلنا شهر العسل في أوربا على حفل العرس. فرصة وحيدة أمام البنت لترى العالم قبل أن تعلق بالأولاد.. بيت سيارة، طباخة، لا يجوز للمرأة أن تفني عمرها في المطبخ.
-ورضي العريس؟ سألت أمي منكسرة الخاطر، تذكرت سامي الذي رسب في صفه.
-طبعاً.. قاتل حاله.. قبل بكل شروطنا..
شروط للزواج، شروط للحب، وتنازلات، وقوانين تتحكم بمقدرات المرء، ترى ما كانت ردة فعل العشيرة فيما لو تزوجت رفيقي ميشيل في المدرسة الإيطالية؟ ميشيل جليسي في المقعد، معه تعرفت الحرف الأول حتى ترفعنا إلى الصف الرابع. كان لطيفاً، حلواً، يساعدني في حمل حقيبتيّ الملأى بالكتب المصورة. وعندما يوصلني أبي بالعربة السوداء التي يجرها حصانان إلى باب المدرسة أجده واقفاً. يندفع نحوي فرحاً وبيده قطعة شوكولا يقضم نصفها وأقضم أنا نصفها الآخر ونضحك.
تفصلنا الراهبة قبل الغداء إلى فريقين.. بلا وعي مني ألتزم صف ميشيل. ويلتزم ميشيل صفي. نبعان صافيان من العسل لم تشوهمهما المواضعات الاجتماعية. أين أراضيه اليوم يا ترى؟
ها أنذي أصغر تلميذة في الصف الخامس، وفي مدرسة حكومية ابتدائية عافت نفسي القراءة والطعام. انقلب الوضع تماماً. أرجحني في شبكته، فألعاب البنات حولي مثقلة بالرتابة وإيحاءات الآخرين.. ذروة التفجر المكبوت عندهن صورة ممثلة أو ممثل مقصوصة من مجلة الاثنين المصرية تسلل شيء ما إلى حياتي فجأة. قطعة سكر ذابت في حلقي عندما شد صبي في مثل عمري على يدي جاء مع أمه، نظر في عيني، خرق حجاباً، قبلني من خدي، لا أدري لم كانت متلصصة هرولت خارجة، سمعت صوته خلفي: "اورفوار".
بحثت عن غطاء أسبله على وجهي، كفنت جسدي بشرشف أبيض. طرت مع سابع حلم. تحولت إلى حمامة بيضاء كسيرة الجناح، مالت بمنقارها نحو النوافذ المغلقة تنادي الأخريات، ثم سقطت على الأرض لتجد إرادتها مسيجة بالجدران، ومشدودة بخيط مربوط في قدمها.
تقوم قيامة البيت يوم الاستقبال صباح كل اثنين من كل شهر على جري العادة. تكوى الستائر المكرنشة الدانتيل. تفرك القدد النحاسية بمادة تثير الغثيان، وتفرش الملاءات البيضاء المطرزة على الطاولات. عرس جميل يتجدد كل شهر.
غير أن هذا العرس المتجدد أصيب بنكسة بالغة، فقد توارى الفرح عن البيت، واسلمه إلى كارثة هزت أركانه، وزلزلت أمنه عندما نشب خلاف بين أبي موظف الجمرك الكبير، وبين مديره القومندان شارل الذي حمل في ثيابه العسكرية عقلية فجة، وتعليمات صارمة من حكومة الانتداب الفرنسي تحتم على موظفي الجمرك ارتداء الزي العسكري الفرنسي، والتكلم باللغة الفرنسية والتعامل فيها حصراً، وإلا فالطرد من الوظيفة.
انطوت الأفئدة على فكرة الخروج من المأزق الصعب، فتفرق الأهل جماعات. وأصبحت في البيت وحيدة، غريبة كنبتة خضراء أصابها الجفاف، لا يدري أحد بي، ولا يلتفت إلي عيني الرامدتين ليمسح عنهما العمش. أسندت رأسي إلى مخدتي علني أفهم المشكلة، ولم انفجرت الدنيا في وجهنا فجأة ولكن عبثاً حاولت.
أطبقت أمي فمها على هم لم أدرك مداه في سني الصغيرة، يداها في حضنها مستسلمة، تتوجه بإشارات بكماء إلى "عربية" التي أبت أن تغادرنا. ترف عيناها السوداوان الواسعتان بأسى وحسرة كلما باع أبي بيتاً أو دكاناً.
تقاربت زيارات أختي هدى، أضحى حديثها همساً مع والدتي.
-شباب، أفواه مفتوحة، الجوع لا يرحم.. كلمات غريبة ترددت. أعقبها تقشف بادٍ في ألوان الطعام، ولون الخبز والسكر.
تعرض الرجال كما تعرضت البلاد في أواخر عام 1943 لدعايات شتى غزت رؤوس الشباب بأحلام البطولة. عملاء بريطانيا المأجورون جعلوا يجوبون المدارس ويدعون ويزينون الانخراط في صفوف الجيش الانكليزي لمحاربة عنجهية ونازية الألمان التي تضعنا في أسفل السلم البشري تخلفاً، وانحطاطاً.
تشد الدعاية تارة ازر الألمان، وتارة ازر الحلفاء، والشعب دائخ بين رحى الطاحون. يدور همس بين سامي وعادل:
-كيف لا نحارب فرنسا التي طردت أبي من عمله، وهي حليفة انكلترا، كل يوم اضراب وقتلى وجرحى؟
يجيب عادل:
-تموج المدرسة بالدعاية وتملأ الآذان ويسكت عنها المدير.
-سمعت أن الانكليز فتحوا باب التطوع، ما رأيك؟
-أنا مؤمن بأن الاستقلال قريب، أنا ما زلت أفكر. الاستقلال قريب.
-أنت تحلم يا عادل. تحكمنا فرنسا بسيف مسلط على رقابنا، لا جيش ولا أسلحة. دفعة عادل من كتفه ممازحاً:
-والله كبرت يا سامي. هذا الرأس.. يملؤه شيء آخر غير كرة القدم.
تحرك نحو مكتبه.
من زاويتي رأيته يفرد خارطة سوريا، ويلون بقعاً بالأحمر والأزرق. رمى القلم من يده ونقر على الخشب، وتبسم رضى عن نفسه. لف رزمة ضخمة من أوراق في صحيفة أخرجها من صندوقه.
اقترب سامي وربت على كتفي:
-ليتني مثلك، أغبطك على جلدك واجتهادك، ألا تتعبين؟
أحسست أنه بحاجة إلى إنسان يحكي معه.
-سلمى، اسمعي، هل أتطوع مع الانكليز لأصبح شخصية عسكرية مرموقة؟ هززت رأسي مفاجأة:
-لا أخي لا أرجوك، كل شيء ما عدا العسكر. أخاف منهم.
-سلمى، معي سر أخفيه في قلبي عن الجميع، يكاد يفجر رأسي. احلفي بأنك لن تبوحي لأحد به، ورفع يدي بالقسم.
-البارحة، بعد الانصراف لحقني عيّاد الليبي الذي نزح من طرابلس الغرب هرباً من إيطاليا. فتحنا حديثاً، شكوت له حالنا التي تنزلق نحو الإفلاس. عياد، لا بد أنك رأيته عندما طلب أطلس الجغرافية مني، الشاب الأسمر الغامق النحيل مثل مسلول، يعرج من قدمه اليسرى.. تذكرته الآن؟
-تذكرت
-حكى لي الكثير عن جيش الحلفاء. قال:
تزيّن قيادة الانكليز سواعد الجنود بالأشرطة الذهبية إن أبدى أحدهم شجاعة وإخلاصاً لهم، للحلفاء ويرفع إلى مرتبة أعلى، ذكر لي أسماء نصف شباب المدرسة الذين تطوعوا على يديه.
-وأنت؟
-سأتطوع كجندي محترف.
-ولكنك صغير.
قال هذا شغله. يجب أن أترك الموضوع له.
يبتسم سامي. تلون الأحلام رأسه، تهب معالم الرجولة على وجهه وترسم خطين من الزغب الأشقر فوق شفتيه وعلى صفحة خده. سألته متلهفة سعيدة بالسر.
-يعني خلص، قررت.
-لا يمكن التراجع. يجب أن أصبح شخصية وأحطم أنف مسيو شارل، بودي أن أخلص أمي من همومها. لم أعد أحتمل بكاءها. خلّفت أفكارها قبحاً على وجهها الجميل. أنا خائف ولا يمكنني التراجع.
فيما كان "عادل" يوزع منشوراته المعادية للانتداب الفرنسي في الأحياء القديمة والمدارس ترك سامي البيت تحت جنح العتمة هائماً متستراً وعلى كتفه جعبة إلى محطة الحجاز حيث يتجمع الطابور أمام ميجر انكليزي للالتحاق بجيش الحلفاء.
طمرت رأسي تحت اللحاف، ورحت أنشج. أترقب صباحاً صاخباً.. ما إن جهجه الضوء حتى اعترفت بسرّ سامي، وكان الأوان فات. عاف أبي المقهى من بعد. انطوى على خيبةٍ بابن غرٍ يلتحق بصفوف الأعداء.
قاطع اجتماعات الرجال التي تدعو إلى الاضراب وإغلاق الدكاكين برأي منه.
هل سقطت هيبته عن أولاده حتى وقع في مطب المشاكل خارج الخط الفاصل بين إرادته والمتغيرات القسرية. كيف سمح للهواء بأن يتسرب عنيفاً إلى زعامته؟ يتساءل دوماً في خلوته.
تغير مالكو البيت في رأس الحارة. أجرته الأوقاف لصالح ورثة يتامى. زارتنا الجارة الجديدة. امرأة جهمة. وجه مدور طفح، قامة مديدة مرصوصة على الشحم. تبعتها فتاة فارعة القوام، جعداء الشعر منفوشة الغرة. شدت على يدي بقوة:
-مرحباً.
خرج من حلقها صوت رجالي ثخين مبحوح، توددتْ إليّ مبتسمة. ثم استدارت نحو أمي:
-بيتكم حلو خالة. ربما في الصيف أحلى. ديار وياسمين وعنب.
ردت أمي المجاملة منبسطة الأسارير.. بادرتها:
-أنت أحلى.
تلوت البنت بدلع.. وهمست في أذني:
-أتذهبين معنا إلى السينما. الساعة السادسة ماتينه، فيلم عن غزو نجمة المريخ.
شعرت أنها هدمت قسماً من السياج حولي، وفتحت لي طاقة نحو الهواء الطلق.
-أذهب، أجبت متعجلة.
-وأمك؟ غمزت بعينها.
-لا أدري، مشغولة مع الضيوف، متى؟
-بعد نصف ساعة. اسبقيني إلى رأس الحارة.
-تصير الدنيا عتمة.
-لا.. لا.
يثير حديث ناديا مشاعري، ويذكي خيالي، الأبطال، المركبة الفضائية، الممثلة، الثياب العجيبة، الطيران، سألتها: ما اسم السينما؟
-ربما الأمبير، أو اللونابارك في شارع بغداد قد تكون روكسي.
تسللت خلفها ممغنطة. وجدتها تنتظرني، وإلى جانبها شاب يماثلها طولاً وشبهاً.
-أخي زهير، أشارت إليه.
ما إن اطفئت الأنوار في الصالة الضخمة حتى غرفت بخوف يكاد يفجر شراييني. طغى الرعب على كل متعة ممكنة، وصورة مدهشة. فماهمني لو هرب البطلان عليهما اللعنة في المركبة ذات الأزرار العجيبة ليغزوا المريخ. تقامزت النجوم أمام بصري مثل كرات لاهبة نارية انصبت على وجهي وكهربتني استجمعت شجاعتي ولكزتها.
-ناديا متى ينتهي الفيلم ونعود إلى البيت؟
-خائفة؟
-لا أبداً.. يعني..
ارتعشت حتى أخمص قدمي. كيف أعود؟ أغمضت أجفاني على صورة أبوي اللائبين الجزعين.. أفظع منهما أخي هشام الصعب..
عندما غادرنا القاعة المذهلة برائحتها الرطبة الخاصة غرقت الدنيا في عتمة خلف عتمة. أطرقت برأسي إلى الأرض، وبلعت لساني. اقتربنا من حارة العفيف. لاح أمام ناظري شبحان عرفتهما تماماً. أمي وقد لفّت قامتها الباسقة المتكبرة بعباءة سميكة مقصبة تخفي ثيابها الموردة، وأبي ترج عصاه المفضضة الأرض. اختبأت خلف "ناديا" وأخيها ريثما عبرا الطريق إلى جانبي. لم أقو على مناداتهما.
عند عتبة الباب ناولني أخي هشام صفعة رنانة لم أنسها طوال حياتي عمقت الهوة بيننا. أكد مرتين:
-لا لأنك ذهبت، ولكن لأنك كذبت.
قضيت ليلة رهيبة محبوسة في الحمام، أتصارع مع أشباح الظلام، أبكي وأتوجع بصمت.
شغلت العائلة عني مؤقتاً بقصة سامي. طاردتني نظرات أخوتي اللائمة. ضيقت الدائرة حول عنقي. كانت الثغرة التي فتحتها تجربة السينما دونما إذن وقبلها إخفائي هروب أخي تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.
انطلقت بدوري أفكر بسامي من زاويتي المهملة بعيداً عن أحلامي. كتبت عنه، ومزقت ثم كتبت ما يجول في خاطري ورفضت الاستسلام تصلبت قدماي بقوة على الأرض. ها هو سامي متمرد آخر على قوانين جائرة يرفض الانصياع لأعراف العشيرة ويثقب تقاليدها ولا يبالي بالنفي.
ابتسم القدر في وجهي انزاح ثقل العائلة عن كاهلي بعد حين.. هرب سامي من المعسكر، وعاد إلى البيت متخفياً في الليل. وقف خائفاً متهيباً يخشى مواجهة الأهل. رأته أمي. ذهلت عما حولها. فارت القهوة على النار وكسرت الفناجين. هبت العائلة كلها. وبعد قليل جاء أبي.. ألقى سامي نفسه على يديه يقبلهما بحرارة. ويبللهما بدموعه جعلنا كلنا نبكي ودموع الفرح تهمي على وجناتنا.

لكنه عاد مقهوراً قلقاً زائغ العينين، يتناوشه هاجس الموت، بمفاصل هشة مرتعشة. عاد الكنار إلى القفص يغني موالاً حزيناً.. اختنق بأنفاسه مبكراً لأنه أضاع اتجاه الريح.
اجتمع مجلس العائلة. وقفت أبكي خلف أمي. تأتأ مرات. ناولته كأس الماء استدار نحوي يريد أن يشهدني، ولكنه تراجع إزاء خوفي.
"انتظرنا الطابور في محطة الحجاز. وجدت زملائي يودعون أهاليهم ويتناولون حقائب الطعام وعلب الحلوى من نوافذ القطار وكأنهم في نزهة إلى الربوة. كانوا في السن المناسبة بين الثامنة عشرة والعشرين، وكنت بينهم كالطفل الذي أضاع أهله.
حشرنا في عربات القطار الخمس. دفعت حقيبتي الصغيرة إلى رف فوق رأسي. وانكمشت في مقعدي أراقب الأجسام الضئيلة والضخمة التي تهبط وتصعد حاملة حاجياتها. راجعت خطواتي مذ فكرت في السفر راودتني فكرة الهروب والعودة وقد وجف قلبي وحاصر الندم روحي".
شهقت أمي دامعة.
"فجأة أغلق باب القطار بإشارة من عصا الميجر الإنكليزي. أغلق كل منفذ في وجهي. ظلت يد شاب معلقة بكف أمه وهي تقبلها. وعندما تحرك القطار انتزعها بقوة وراح يبكي.
خيمّ السكون الحزين على العربة هب أحدنا فجأة وأنشد بصوت رخيم: "موطني، موطني" اندفعت الأصوات الشابة خلفه بحناجر دافئة "موطني، موطني" يقطعها إيقاع العجلات مختلطة بالآمال تتماوج على وجوه شبان من أعمار مختلفة. شعرت بشوق خارق إلى أمي، إلى أبي، إليكم جميعاً. أوشكت أن أفقد وعيي، شعرت بتخاذل في أعصابي، انبجست الدموع من عيني بغزارة لكني قاومت النشيج خجلاً.
تحركت نحو الباب، باب القطار. أسلمته جسدي المنهك، وفكرت بأبي الذي يتفقدنا كل مساء، فهدّني ضعفي، تراكضت الأشجار في الظلام، تلاعبني مرة وتختفي عني مرة أخرى.. بدت سيقانها مبقعة بالضياء ينثره نور القطار. رجعت إلى مكاني تاقت نفسي إلى كسرة خبز. اجتزنا دمر والهامة. تجاوز القطار عين الفيجة. انبسطت أمامنا سهول الزبداني قطعاً قائمة منسقة، تفوح منها رائحة الأرض المحروثة. علا صفير وفح ونحن ندخل أرضاً أخرى، استسلمت لنغمة وغفوت جالساً.
صاح صوت:
-رياق يا شباب..
لكزت زميلي الذي غلبه النوم مثلي:
-وصلنا رياق.
رد بحسرة:
من هنا تبدأ مسيرتنا نحو المجهول.. إلى فلسطين، نقطع حيفا، غزة.. ثم مصر أم كلثوم.. الأهرامات.. النيل يا الله..
أفعمت الحرية صدري، تنفست الهواء ملء رئتي. كثرت الأقاويل عن دورة تدريبية. لم أع فكرة وأبعاد تلك الدورة فمن قائل سننتقل إلى الاسكندرية، وآخر.. لا بل إلى الصحراء، لا، إلى السودان.
جهجه الضوء.. انتصف النهار، مررنا بسهول ومزارع وأناس تركوا صورهم في رأسي أغنتني عن رغيف الخبز وقطعة الجبن التي قدمها لي جاري. اعتذرت منه، فلم يكرر دعوته، راح يقضمها بصمت. وينقل ناظريه بأسى بين وجوه المسافرين، كان شعره حليقاً عند الصدغين، بريء النظرة، نحيل القامة لا يكاد يبلغ خمسين كيلو غراماً، ربما في مثل سني.
قلت في سري:
-قد يصبح هذا رفيقي.
علمت أن اسمه "أحمد العنبري" من أطراف دمشق، فقير الحال، أبوه حلاب ماعز يدور على البيوت صباحاً.
كنت متشوقاً للوصول، عكس زملائي، مفعماً برغبة التغيير والاستمتاع باللهجة المصرية، ها قد اقتربنا منها. مررنا بحيفا، لم يسمح لنا بالنزول، مجرد ترتيبات أمنية، تخللها لغط عسكر انكليز على رصيف المحطة."
يسترسل سامي في رواية قصته، قلوبنا واجفة، وأعصابنا متعلقة بكل كلمة يقولها.. نتمنى بألا تنتهي، فكل حركة أتى بها تخصنا وكل حادثة مرت تهمنا.. نعيش معه في مغامرة كان يمكن أن يجد فيها نهايته.
"مضى القطار يطحن ذكريات الأهل والحارة.
صرخنا:
-اقتربنا من مصر.. آه أم كلثوم.. جئناك.. دخلنا الاسكندرية. هب هواء مملح على وجهنا. شممت رائحة بيروت. توقفنا قليلاً في المحطة، ثم جر القطار عجلاته نحو القاهرة. نقلونا إلى شاحنات عسكرية تحت ستر الليل. سار موكبنا صامتاً حزيناً كجنازة، ثم أفرغ حمله منا كالقمامة عند بوابة حديدية لمعسكر كبير. تفرقنا إلى مهاجع مستطيلة ملأتها أسرة عسكرية رفيعة الأرجل سريعة الطي عليها بطانيتان.
بدأت دورة التدريب بلا تأخير في الصباح الباكر لوصولنا. دورة تدجين بطيئة قاتلة.. ثم ها نحن وجهاً لوجه مع العمل المضني، حفر الخنادق، وردم الآبار، يا إلهي.. تصوروا.. ثلاثة أشهر، تسعون يوماً وليلة من الأشغال الشاقة. يأتيني وجه أمي في الليل وغضبة أبي، ودهشة أخوتي، يدفعني وضعي إلى الجنون، فأنخرط في حوار مع نفسي لا ينتهي ثم أبكي كطفل.
شيئاً فشيئاً تبلورت الأمور في ذهني، فهمت أن الحرب ليست حربنا. وما نحن إلا عيدان كبريت تحترق أولاً.. غداً ستساق إلى ليبيا ونحارب؟ والعياذ بالله. وهكذا صممت على الفرار والعودة إلى دمشق. أحسست أنني كبرت عشر سنوات. دبرت أمر الهرب مع رفيقين لي من حي المهاجرين تلكأنا عن التدريب، تسترنا.. ومن خلف سياج هربنا كالقطط.. المحطة تعج بالجنود. ركبنا القطار من القاهرة باتجاه حيفا بإجازات مزورة. توقفنا في محطة حيفا. لم نر منها سوى أضواء العنابر التموينية المحاطة بأسلاك شائكة، والسكك الحديدية اللامعة في الليل البهيم تتحرك قربها أجسام عملاقة.
تناولت الحقيبة وعصرتها على بطني. كنت قد اتفقت مع رفيقي من أهل الشام على إبلاغ أهلي وأهله فيما إذا أوقف أحدنا أو حوكم.. أو اغتاله رصاص الإنكليز.
كان جوفي ينعصر بشدة وكنا جائعين. تلاقت نظراتنا عازمة، حازمة. هذه فرصتنا، فلنغتنمها، لكن هذه المرة بحذر وتدقيق وتعقّل".
أكمل سامي:
"تسللنا في حيفا تحت جنح الظلام إلى ظهر القطار كالعفاريت، يدفعنا خوف من خطر يشل أقدامنا، فلو أن دوريات العسكر المتواجدة ضبطتنا لكان مصيرنا الإعدام رمياً بالرصاص. انبطحنا على بطوننا مصلوبين هلعين.
أسلمتنا رتابة العجلات على السكة الحديدية إلى نوم مربك قلق يهدهد أحلامنا الطفولية. أيقظتنا من خوفنا رجة قوية وصفير متواصل وصلنا بيروت.
هرج ومرج على الرصيف.. العسكر العائدون بإجازة، وأهلهم المستقبلون.. تسللنا هابطين وحين ابتعدنا ووصلنا برّ الأمان توجهنا إلى كراجات الشام. رمينا الطاقيات نحو السماء نضحك ونلهو كالمجانين ونحن نسأل عن سيارة أجرة تقلنا إلى عائلاتنا.
تحسسنا إجازاتنا المزورة في ساحة "فكتوريا" خوف مداهمة الشرطة ونحن في الزي العسكري. نفحت فينا حرارة الشجاعة، وأنقذتنا من رعب مميت. انحل عقد الرفقة في ساحة المرجة عند موقف ترام المهاجرين. تلفّت حولي. آه، يا دمشق، ما زلت حلوة نظيفة. رميت بجسدي على الحافلة مكذباً نجاتي، ألصقت أنفي وعيني بزجاج النافذة أتملى مشهد بردى يتراقص ماؤه في ضوء الليل. وبدأت أعب، أعب من هواء الشام، من تعبي، وخوفي، وشوقي. يا لحظي الذي تمطى كعملاق. فيما كانت تتخطفني اللهفة نشوان أحسست بلكزة في كوعي. استدرت مرتعداً، رأيت وجهاً مألوفاً. عرفت وجه عياد الليبي الذي هربني من بيتي وبلدي لألتحق بالجيش الانكليزي، عانقني بحرارة سألني عن أحوالي، ثم نظر إلى ساعته..
-الساعة العاشرة ليلاً.. هل أنت في إجازة؟
أجبت بريئاً:
-معي إجازة، اشتقت إلى أهلي وبلدي، ولكني لن أعود يا عياد.. لمحت على وجهه ابتسامة صفراء عريضة لم أعن بملاحقة معناها فقد صرت في الشام، ولن يتمكن لا هو ولا أي عميل آخر أن ينتزعني منها. فجأة قفز عياد من الترام كجني، وانشقت الأرض عنه، لم أبال به.. إلى ألف جهنم.. وعندما وصلت البيت كان السكون يخيم عليه. وقفت أمام النافذة متردداً، حاولت اختراق الظلمة، من الدرفات الخشبية، عجزت، نقرت الباب بيدي سمعت خطوات سلمى وصوت باب يفتح، هدأ قلبي جاءني صوت سلمى:
همست:
-أنا سامي افتحي لا تخافي، رأيت سلمى تعاني نعاساً أثقل جفنيها. توقفت لحظة قبل أن ترتمي وتعانقني، خلصت قدمي من بسطاري العسكري.. ومشيت على رؤوس أصابعي غير مصدق أنني صرت في بيت أهلي. لكن في أعماقي خوف هصر أعصابي وألهب حساسيتي، فأنا أتوقع شراً وخوفاً من غول ما انفك فاغراً فاهاً مرعباً.
توقف "سامي" عن الكلام وأطرق.. جالت عيوننا تتصفح وجوه الآخرين. لتتوقف عند وجهه المتعب. كان قد أخذ يبكي وينشج كطفل..
انخطفت أمي إلى المطبخ، وعادت بكأس ماء. تناولها بيد مرتجفة، ورشف منها، رفع بصره تجاه أبينا الذي لفت بصره إلى ناحية أخرى. كان على درجة عالية من التأثير. لكنه ضبط أعصابه، ورفع سبابته:
-لنأكل لقمة، أحس بالجوع. لا نعرف ماذا يخبئ الغد.
شهقت أمي دامعة، رصت يدها على فمها، وقفزت مضطربة إلى الحمام تتقيأ الحزن صاح أخي هشام من قلب الدنيا:
-العسكرية، ظننتها لعبة. لا تخرج من البيت، لن يتركك الكلب.
كنا فعلاً على موعد مع الغول، قرع الباب ولما يُنه المؤذن قول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح". شعرت بيد قاسية تقبض على صدري وتأخذ بخناقي. سرقت نظرة من ثقب المفتاح، لم أتبين سوى لباس عسكري. ارتعدت مفاصلي، عملاقان من البوليس الإنكليزي. ومعهما رفيق أخي في المدرسة "عياد الليبي" اثنان آخران. عرفنا فيما بعد أن صاحب الطربوش المائل الذي يمصمص شفتيه وأسنانه، ويعلك الكلام هو المختار. والثاني شرطي من مخفر المهاجرين، مصطبة.
هبّ سامي حافياً خلفي. حاولت منعه، فدفعني عنه وفتح الباب، برقت عينا الأشقر بنصرٍ مؤزر، تكلم بعربية محطمة:
-أنت سامي الشريف، يا الله، تعال معنا.
نحى جسده العريض الذي سد الباب، فتسللت منه خيوط الفجر الأولى ونسمة رقيقة داعبت دموعي.
أدخل سامي قدميه المتورمتين في البسطار الكبير وسلم نفسه بالبيجاما، غنمة طائعة مدت عنقها للذبح قبل أن يفيق أبي.
صرخت وتعلقت بسترته.
-لا تروح سامي، سامي لا تروح. انتظر بابا. جاء بابا.
استدار نحوي:
-لا أستطيع، يجب أن أذهب معهم حتى لا أعتبر جاسوساً.
دفعه العسكري من نقرته إلى سيارة جيب، وقفت خارج الحارة، أبكي ملء عيني.. هب البيت بعد فوات الأوان..
لكن سامي كان مضى.
إلى أين مضى؟ هاجمتني أيدٍ سوداء وبيضاء. تسمرت في مكاني ارتعش خوفاً وترقباً. انقلب الفرح إلى عزاء وبتنا على جمر الانتظار. نلطش على واسطة خير أشهراً عدة. جمع أبي معلومات عن مفتاح يوصله إلى سجن القابون. وبعد أربعة أيام ظفر بجارنا متعهد الطرق شفيق العشا، وفواز الحلاق الذي يعمل لحساب الإنكليز، ويقدم خدمات مشبوهة.
عاد متعباً من مشواره، طلب كأس لبن، وروى لنا بصوت متهدج قصة لقائه مع سامي في غرفة مدير السجن.
-"لم أدر كيف تصرفت، وتصرف ساعتئذ، هجم علي واحتضنني وبكى أم هجمت عليه؟ أم تسمّر في مكانه؟ كانت لحظة غائمة تحجب الوضوح ربما قال:
-هبط قلبي يا بابا، خفت من النداء، وكأنني أساق إلى حكم الإعدام"
أفزعتنا أمي بنحيبها، رششنا وجهها بماء الزهر. سقطت مريضة بين الموت والحياة. وعم الأسى المنزل.
مرت الأيام بطيئة تئن في أفئدتنا كأزيز ناعورة مهترئة. لا نقوى على الضحك، ولا الرضوخ لواقع أقوى من إرادتنا.
قبل المغرب من أيام حزيران القائظة قرع الباب عسكري أسود الوجه لماع. ناولني ورقة مطوية عدة طيات أخرجها من محرمة في جيبه. وصلتنا أول رسالة مهرّبة من سامي.
أهلي أحبابي.
اعترف بضياعي ويأسي. أنا مشرد، ربما أموت غداً قبل أن أراكم.
أحبابي. أتذكركم وأبكي، رفضت كل ما قدم لي من طعام، فاصوليا حب ورز. وحتى كار الشاي الأسود المغلي. أبكي ندماً حتى الصباح، ولا أخجل من ضعفي. استولت علي فكرة التخاذل فأسندت رأسي إلى الجدار، سمعت خربشة فأرة تختبئ في كيس طحين، دققت على الحائط عدة مرات ابحث عن إنسي. خيل إليّ أن جواباً أتاني من خلف الحجارة السميكة الصلبة السوداء، والأرض الباردة المقفرة إلا من بطانية. أعدت المحاولة اليائسة. توضح الجواب. جاءتني دقات رتيبة وسؤال عن اسمي باللغة العربية، ثم ظهر وجه الحارس الأسود الذي حمل ورقتي وسألني:
-مسلمان؟
-مسلمان.
فهمت كما لو أنني أفكك طلاسم الجن، أن فرقتي رحلت إلى ليبيا لقتال الألمان. رجوته أن يوصل أمر سجني إلى أهلي، عاد بعد ساعة، ودفع بورقة وقلم من أسفل الباب.
بت ليلتي شقياً، هل كتب لي عمر جديد؟ أحقاً هربت من مصر إلى دمشق لأنجو من الحرب.
لعلكم حسبتم مجيئي حلماً من أحلام اليقظة. بت أنا أيضاً أسير أوهامي. تتلاعب بي يمنة ويسرة. قادرة على ابكائي، وعاجزة عن تخفيف الرعشة، رعشة الرعب التي تلاعبت بي كورقة صفراء.
أهلي
علمت أن الواشي "عياد" كلب الانكليز، وأنه عميل مزمن للمخابرات البريطانية في دمشق. عمله التقاط الأغرار أمثالي.
بعد أن غادرني أبي، رمينا في شاحنة عسكرية كالغنم. رؤوسنا متلاصقة، وظهورنا إلى الشارع. في محطة الحجاز رأيت القطار الذي مهد لي سبيل اللقاء بكم.
رافقني "عياد" إلى بيروت عن طريق "رياق" ويده على المسدس شعرت برغبة عارمة في ذبحه.
تأبط ذراعي عسكريان أجنبيان، وساقاني إلى السجن دون أن يتمكن ابن خالتي عبد الرحمن المقيم في بيروت من تهريبي بطلبٍ منكم. يرن صوته في أذني.
-سامي، أنا عبد الرحمن. ابن خالتك.
أحسست بأهميتي. يداي مطوقتان بقيد حديدي كأعتى المجرمين. رميت منفرداً في سجن الحرس. عقد الخوف لساني تساءلت ببلاهة: كيف تسربت من أيدي أهلي وأمام أعينهم في بيروت.
تعرفت في السجن على قافلة الموت. كانت مؤلفة من ثلاثة عشر افريقياً أسود. داخلني الخوف. انكمشت على بعضي بادئ بدء. كانوا مثل الليل. ظلام بظلام، وعتمة في عتمة. دفعت قدمي بالباب وأسندت ظهري إلى الحائط. ونمت كالقتيل.
تنبهت على بربرة غريبة من حارس سنغالي يحمل الفطور جبنة زيتون ومرملاد. قال بلكنة عربية مشوهة:
-مسلمان، الله محمد، ووضع يده على صدره احتراماً وردد:
-مسلمان:
-مسلمان.
قفزت الفرحة من عيني. ها هو بني آدم آخر قريب يتحرك أمامي بلحمه ودمه. سحبت قدمي من الكوة القصيرة المقضبة بحديد أسود.
لوحت بيدي وهتفت: -مسلمان.
طق مفتاح ثقيل بالقفل. أخرجني حارس إلى المهجع المقابل. خلصت بدني من الخوف. انتابني شعور مخدر وأنا أسير نحو رفاقٍ سجناء جدد، لعلهم هاربون من عذاب ما، من وطن محتل مثل وطني. بدأت يداي تلوحان، تترجمان بلغة الخرس. عجبت من رقتهم وليونتهم، حكيت قصتي من خلف القضبان، وحكوا قصتهم من خلف القضبان. كانت ألوانهم الأبنوسية السوداء اللماعة بداية الدرب الوعر الذي قادهم إلى الجلد والذل والسجن كنفايات أفرزها الإنسان الأبيض تحت شمسٍ محرقة.
الأسود في خدمة الأبيض، يدفع الأسود ضريبة لونه، لعله أخيراً يدرك أو لا يدرك بأن الحياة له إلا مع مجموعته. يعيش معهم ، ويفنى معهم.
كانت قافلة الموت أمامي أشبه بأيدٍ عارية مغلولة مبتهلة.
فهمت بصعوبة أن مأساتهم الأزلية تكمن في غنى أرضهم، وفقرهم ولونهم.
وفي ليلة قائظة حيث امتزج الدم بالغضب، قررت الكتيبة السوداء قتل كابتن انكليزي لأنه جلد رفيقهم بالسوط حتى الموت. وعندما اكتشف الأمر، انتقى الانكليز واحداً من كل كتيبة متطوعة لينفذ حكم الإعدام به رمياً بالرصاص انتقاماً وعبرة.
يسوق الحراس رفاقي السود إلى المحاكمة في السابعة صباحاً، ثم يعيدونهم كالغنم في الثانية عشرة. أربعة أيام متتالية دورت عيونهم كحبة المشمش وفرغت الدم من أبدانهم.
تنهد أبي، وطوى الرسالة. تعلقت عيناه لحظة بها، ثم ردد وكأن الغرفة خالية إلا من شبح أمي:
-نامي، نامي يا امرأة. الصباح رباح: عيدنا بمولد نبينا. ثم صاح وعيناه إلى السماء. اللهمّ إني صائم عن الطعام حتى يخرج سامي من السجن. بكينا حتى جف الدمع من عيوننا.
انزوت النسوة من بعد، كل في دارها يندبن حظ أمي العاثر. وشباب أخي.
انبلج النهار ساطعاً بشمس قوية نفضت كدر الأيام السابقة. خرج الناس إلى أعمالهم. فالأفواه مفتوحة، والغلاء يتفشى، والجوع يدخل البيوت المستورة بعد أن أضحت الإعاشة "بالبونات".
قامت مظاهرة ضخمة، كسرت نوافذ المدارس وأغلقت الدكاكين: جوعانين جوعانين رطل الخبز "بثلاثين قرشاً" ارتأى بعض من الوجهاء أن تتحمل الحارة جزءاً مادياً من مسؤولية حارة الفواخير الفقيرة المجاورة بعد اعتقال سبعة من شبانها وزجهم في سجن القلعة.
في تلك الأيام الصعبة دخلت أرجل غريبة إلى بيت كبير مهجور منذ سنوات يطل على خط الترام. جاءته عائلة مهاجرة من اسكندرون.
لم نر رجلاً واحداً من سكانه. بل ثلاث أجيرات يافعات قويات البدن تعاون مع عتالة على تفريغ الشاحنات الكبيرة المليئة بالخيرات من برغل وأرز وخوابي السمن البلدي، وتنكات الزيت في زمن الشح والاضرابات، وما هي إلا أسابيع حتى أسدلت الستائر المخملية على النوافذ وتم تنسيق الحديقة التي تفصل البيت عن الشارع بشتلات ورود ملونة. فجأة دبت الحياة فيه.
كان البيت كبيراً جداً طوابق ممتدة نحو الشمس بمستويات متدرجة داخلية على بساتين الحواكير.
ألف الناس منظر أقراص الكبب المدورة الشهية، ورائحة السمن البلدي تحملها الخادمتان صبيحة وصليحة على رأسيهما إلى الفرن. تنادي الحناجر مخنوقة: جوعانين جوعانين رطل الخبز بثلاثين. وتنهال الحجارة على نوافذ الترامواي من النقيفات والمقاليع المشغولة بأيدي الأمهات، على ساحة المرجة. انتقاماً من صاحبته فرنسا يشد الأطفال السنكة عن المسار الكهربائي. يتعلق الشباب بالرفراف وأصواتهم تلعلع:- حكم لصوص.. حكم لصوص خونة.
ترددت إشاعة بأن رب البيت المهاجر من اسكندرون سيصبح وزيراً للمالية. كان الوزير المرتقب طويلاً نحيلاً كعصا، ولكنه يملك عقلاً حسابياً وبناتٍ لا أجمل ولا أحلى.
تنبأت العائلات لهنّ بحظٍ يفلق الصخر.. ولم تمض أشهر قليلة حتى خطبت الجميلات إلى شبان أصلاء سلبوا أحلام كل فتاة في المهاجرين.
تبتسم الحياة لبناته، وتصبح الدنيا خادمة طيعة بين أيديهم. تقول أم مصطفى الأرمل:
-الحظ يجرّ الحظ. والفقر يجر الصئبان.
-جمال وكمال. ما شاء الله ترد أمي.
-أعوذ بالله. تنفض المرأة ثوبها عن صدرها.
فيما كنت، أنا وسامي نتلقى الصدمات المتلاحقة ازداد عادل ثقة واقتراباً من أبوي. أبدى صبراً وتنظيماً لحياته خططهما بفهم وتوازن.
أهدته أمي دون اخوته صندوقاً خشبياً أثرياً مصدفاً بنحو فني رائع. أغلقه بقفل نحاسي.
كثرت التكهنات حول ما يحتويه هذا الصندوق من أسرار يخشى عليها. استغل هشام وجود عادل بالحمام وكسر القفل مدفوعاً بفضول جهنمي. ماذا وجد؟
قصصاً، وروايات ورسائل مغفلة من الاسم والعنوان، وأقلاماً للرسم وصوراً مرسومة بالحبر الصيني لشخصيات معروفة شكلها على مزاجه، ورسماً مكبراً لسميرة فاتنة الحارة. فما كان منه إلا أن جمع الأوراق كلها ودفع بها إلى موقد الحمام. ساعتئذٍ بردت نيرانه.
خرج عادل متوهجاً كالجمر ينشف شعره الحليق عند الصدغين. فرأى المنظر.. الصندوق مفتوح، والأغراض مبعثرة. نفر الغضب من عينيه.
رد هشام متباهياً:
-لا أسرار في هذا البيت.
جُنّ عادل، خرج عن طوره لأول مرة في حياته هجم على أخيه يحاول خنقه. كيف يعتدي على حريته وملكيته؟ جره من رقبته، ألصقه بالأرض. لم يوقف الصراع سوى والدي الذي أطل وهو ينقر على النافذة. قال بحزم يفصل بينهما:
-فنجان قهوة يا هشام، تجرب عضلاتك مع أخيك. النادي الرياضي قريب. انحشرت بين الخزانة والجدار. صمت كل شيء إلا زفرات مكبوتة مهانة في صدر عادل.
ظفر هشام بشيء أسقط الحجاب عن الوجه الوقور الكتوم. ركضت ألملم بقايا مزق الأوراق المبعثرة.
ارتمى عادل على سريره محنقاً كحيوان ذبيح.
سارت الأمور داخل العائلة دون أحداث تذكر. لكن المدينة لم تهدأ، تأججت بالمظاهرات تدعو إلى حكم وطني لا يأتمر بأمر فرنسا.
لم تتغير دورة الحياة. تابعت خطها بزخمها الفوار. هي الأقوى. نجح عادل بالبكالوريا قسم الرياضيات.
يلذ لعادل صيفاً أم شتاءً،... عادة يومية.. أم يحمل كرسيه الخيزران ويتأبط كتابه ويجلس في رأس الحارة المشرفة على شوارع عده.. يقرأ ويتسلى بمراقبة الناس، وفي نيته المخبوءة أن يلمح فتاة أحلامه سميرة عائدة بباص الكلية يحمر وجهه، يغض الطرف إذ تمر مسرعة وتلقي التحية:
-مرحباً، عادل.
وتشاء الظروف السيئة أن تقع سميرة في غلطةٍ ترافقها مدى العمر. لمحها عادل مع شاب أسمر وسيم الطلعة في عربة يجرها حصانان. نزلت في مكان غير بعيد عن رؤياه قرب جادة الحواكير.. عادت منتشية لاهية تدندن نغماً شائعاً. لم يصدق عينيه، رفض الحقيقة. أحزنه ما رأى من فشل وتطلع نحو الغريب لم يتوقعه. طار صوابه دون وعي، لحق بالعربة. هجم على الشاب جره من نقرته تلوى الرجل بين يديه مباغتاً متملصاً. ركله عادل بقدمه على بطنه طرحه أرضاً. داس على رقبته وهو يصرخ:
-كلب حقير والله. لو رأيتك ثانية تُدردر ناحية الحارة لقلعت عينيك، لأعدمتك. والله أعدمك وأرميك مثل كلب في الشارع.
تجمع الناس. نفض عادل ثيابه، ونفض الغريب بنطاله. هرول أبو شاكر السمان، يتبعه جاره الحمصاني يوسف وهو يترنح من السكر:
-اتركه لي، دعه لي. أنا أربيه. يظن بنات الحارة داشرات. تبسم عادل، انتزع يوسف ضحكة من قلبه.
-شكراً يا يوسف، أنت قدها وقدود. ضحك الناس وتفرق الجمع. نفخ عادل الهواء ثقيلاً من رئتيه. مسح أنفه من الدم. أحس بأن ضلعاً سقط من صدره. تضخم الخبر في الحارة وبين الجيران وسعى البعض إلى توسيع الفجوة فبنوا سداً منيعاً لالقاء بعده. تنبهت سميرة من غفلتها. حاولت استرضاءه واستعطافه واغراءه. عبثاً، باءت محاولاتها بالفشل. وأخيراً جربت الرسائل. وقع بعضها في يد رفيقتها سها القاطنة الجدار بالجدار، الباب بالباب، فأوصلت الأخيرة الأمانة إلى غير أهلها، غير مبالية بالنتائج الخطيرة.
تمرغت سمعة البنت بالوحل، وحرمت من المدرسة فبقيت حبيسة الدار تنتظر العريس الذي لم يأت أبداً.
مدح أبي ابنه أمام الرجال:
-ابني زكرد، لاقواد، يجب أن يفهم الجميع.
منحته "الزكردية" ثقة على ثقة، أضحى الفكر المخطط والمنظم لشؤون البيت، وزعيم شباب الحارة. يحرض على الإضراب، ويدعو إلى المظاهرات ضد الفرنسيين، ويقود بعضها: بل ويكتب المنشورات.
التقي ليلى أخت سها "لطيفة ظريفة، نسير إلى المدرسة، نشتري كعك الدبس والتماري تتبعني كظلي. دعتني إلى بيتها كي نستظهر قصيدة: لبلابة قالت لنجم مرة يا طول صبرك. حددت أمي الوقت اللازم والمسموح به.
-نصف ساعة، فهمت يا سلمى، لا أريد مشاكل مع المجنونة سها هذه خبيثة. لا تتورع عن أية دسيسة.
-أعرف ماما.
تحاصر سها عادل تنقل أخباراً ملفقة عن سميرة. طورتها إلى دسائس سخيفة وحقيرة بمساحات تافهة. يتلبسها شيطان يأبى الهزيمة. صفعها عادل مرة على وجهها صفعة أنستها عمرها، صرخ في رأسها:
-إياك أن تقتربي مني. مجنونة مهسترة. قضيت على سميرة. والآن تبحثين عن ضحية أخرى. أحب رائحة الياسمين في بيت ليلى. دخلت وراءها وجلة. نقزت سها عندما وقعت عيناها علي، قامت من سريرها، ولطمتني على خدي انتقاماً من أخي، وعادت إلى اضطجاعها تنتظر ردة فعلي كي تكمل نهمها إلى الشر.
شدتني ليلى من يدي هامسة:
-لا تردي عليها، مجنونة. سأشكوها إلى أمي.
اندست مع سها تحت اللحاف.. خادمة ممصوصة بلهاء هبطت من الضيعة مع أبيها الفقير بحثاً عن الخبز. فجأة راحت تقبل سها من وجهها وفمها، وتداعب ثدييها.
صرخت بشدة:
-يا مجنونة، سأحكي لأمك.
اهتز السرير هزات متسارعة، ثم همد أخبرت أمي بما رأيت فضربتني على فمي.
-ما دخلك؟
تنسى الحارة همومها. تهب ودودة تمديداً حميمية فرحة لتحضيرات العرس للفتى البكر إبراهيم بن رفعت الحموي. يرفل إبراهيم ذو الوجه الناعم الأنثوي بالدلال في حضن والده صاحب المكتب العقاري لبيع أراضي الغوطة الشرقية.
يلعب رفعت الحموي بالمال لعباً رغم أن جذوره على وجه الأرض. يتلاعب بحياة الفلاحين البسطاء، يتحكم برقابهم يبيع ويشتري ويؤجر ويضمن من يشاء. تدور همسات بين كبار الحارة حول حقيقة عمله. تظل الهمسات مكتومة ومكبوتة في الصدور ترمى عيون زوجته المخلصة الرائعة. تفلت أحياناً كلمات بين الرجال حول صداقة مشبوهة بناها مع حكومة الانتداب، واتكأ عليها وإلا كيف تخلص من السجن وأيدي الشرطة بعد صفقة الحشيش المهربة من بعلبك.
- الغاية تبرر الواسطة، يطعمها صغيرة، ويأكلها كبيرة، يعلق عادل:
- لكل شيء نهاية. يرد أبي متيقناً
تضيف والدتي:
- من أجل عيني أم إبراهيم أمد يدي إليها. مغلوبة على أمرها، مطيعة، مسايرة، ذكية، مقهورة، يحركها كيفما يشاء كقطعة أثاث
تجددت الحياة بنغم جديد ولون حديث. ودعنا الصمت والانطواء على ذواتنا. فردت الأقمشة الغالية عند الخياطة مسرة التي كلفت بملابس العروس عرض أبي بيته الكبير لتلبيس العريس، والزفة والعراضة. وكأنه تناسى قصة ابنه سامي.
همس هشام في أذن عادل:
- يا رجل ستأتي ناديا العريس مع فرقتها خصيصاً لعرس إبراهيم
- سمعت أن ملكة جاجاتي أيضاً قد تأتي... يا زلمة كيف تعرف عليهم واحدة إثر واحدة، وكأنه خلق في كاباريه؟
هيأتني أمي كي أحمل ذيل العروس، فاشتريت لي ثوباً من الأوركنزا البيضاء، تفننت الخياطة في إبراز موهبتها زينته بشريط من الساتان الزهري التف حول الكتفين العاريين لينسدل إلى الأرض. وأخذتني أمي إلى الحلاقة((ماري)). يقع بيتها على بعد خطوات من حارتنا. تطل غرفة تصفيف الشعر على الطريق العام حيث يمر الترام التقط دردشة النسوة المفرعات بملابس مكشوفة الصدر والأكمام. مشهد كرنفالي حقيقي شكلته لفائف التجعيد الملونة على رؤوسهن. من هذه الدكان تخطب معظم البنات. ويعرف المرء خفايا ودقائق الحياة الزوجية وحتى العامة، والاضرابات. وبين الحين والحين تقطب الحلاقة((ماري)) عينيها، وتعض على شفتيها محذرة من أم مصطفى.
- الحيطان لها آذان.
كانت أم مصطفى راديو الحارة الجوال من بيت إلى بيت.
حشرتُ مع الأخريات في الجو الخانق، ورائحة الشعر المحروق المكوي تثير الدمع في عيني. قطعت أمي حديثها مع جارتها، مدت يدها ببكلة على شكل زهرة المرغريت اشترتها من صالة((آ- ب، ث))
- جدائل يا ست ماري. الفرق على اليسار. رجاء، موديل يناسب سنها، أنت صاحبة ذوق يا ست ماري.
- على عيني، ولوْ، تغمز الحلاقة بعينيها الكحيلتين. ويبين((الروميل)) كثيفاً على أهدابها القصيرة.
في السادسة. علقت أم إبراهيم بيدي، ويد ليلى، وناديا سلة أزهار صغيرة مليئة بالملبس. ربطت بشرائطها أرباع ليرات ذهبية حقيقية لتنثر على العروس والعريس. تعيد كلامها مع أمي.
- العروس، صورة مصورة يا أم هشام، سبحان من خلقها. من عائلة مستورة، عجينة لينة، عرس مطنطن.
- يا ليت يا أم إبراهيم، واللّه عتم قلبنا
تلألأت العروس ابنة الرابعة عشرة بتاج ماسي رصع جبينها الأبيض، تهادت أميرة بثوب الدانتيل الأبيض كشف عن كتفين مستديرين ورص على خصر نحيل زنار طرز باللؤلؤ والماس.
جلست مع رفيقاتي عند قدمي العروسين. انكبت المدعوات على الأرض يلتقطن قطع الذهب المرشوشة تيمناً بالأفراح الدائمة.
تلوب عينا العريس بين الصبايا تتنزهان بحرية.
وشوشت أم هيثم:
- حظ، انحرف الحظ عن بنت العائلة. هاقد شارفت ابنتها جميلة على الثالثة عشرة ولما تتزوج بعد.
رجعت الحياة إلى طبيعتها. عشش حديث العرس في السهرات، حديثاً لا نهاية له عن الآبهة والحرير الذي غلف الأعمدة في الديار وفوتيكات مستأجرات قدّمن الضيافة بلباقة وخبرة وحسن تصرف.
لم ينس الناس طعم الحلوى والمحلاية عندما مزّق الصراخ المرير هدأة الليل.
تيبسنا في أسرتنا، تعلقت عيوننا ببعضنا، تسرق آذاننا مصدر الصوت.
- خير إنشاء اللّه، نّحى والدي أمي التي اعترضت دربه وخرج يستطلع الأمر:
- أبو سعيد، شنق نفسه في الضيعة، الحكي كثير
استدار نحو أخوتي: فضيحة إثر فضيحة:
- البلاء الأعظم، انتبهوا يا أولاد ملأت الشرطة الحارة، تستجوب ما هب ودب من الجيران. لا حول ولا قوة بدأت تنهار الحارة. تحركت أشباح النساء إلى بيت الميت يضربن كفاً بكف:
- يا حسرة عليك يا أم سعيد، واللّه بنت أكابر، من فم ساكت. جرت أم مصطفى جسدها البدين الملفوف بعباءة سوداء نحو أمي بدت كغراب أسود جاحظ العينين.
- يا ستي، الولد سعيد عاق، علق فلاحة وتركها حبلى مرمية في بيت أهلها، الولد لا شغل ولا عمل، على كلمة هات، وذبح خرفان، افتضح أمره، طار صواب الأب وفقد عقله.
عقبت أمي سريعاً:
- فشنق نفسه، حرام عليك يا أم مصطفى من أين جئت بهذه الحكايا، المجالس بأماناتها.
ارتمت أم سعيد على الديوان المخملي معقودة اللسان هادئة تحت وطأة المفاجأة.
صوت الرجال:
- الفرح مثل العزاء يحتاج إلى قلوب حنونة.
- ترحيل الميت إكرامه. نبر أبو فايز
فرش موت أبي سعيد عتمة على القلوب. فمن عرس إلى موت كبرت فيه النميمة. مات. وظل السر سراً مدفوناً في صدر القتيل.
تستعيد الحارة صحتها. أشرف العيد على الأبواب وحجزت صاجات المعمول من الأفران. ارتخت الحياة مجدداً بعد نقلتين متناقضتين.
عاد أبي وإخوتي من صلاة العيد. دفع أجير الخباز معجن الخبز النحاسي إلى قلب الدهليز الطويل. فاحت رائحته الزكية ممزوجة بالمحلب والمسكة.
بح صوت غريب خشن.
- يا اللّه
- تفضل. تفضل
ركضت أمي متلهفة تحمل كأس ماء الزهر، قبلت يد الضيف الكبير الذي تضمخ بالبخور والمسك والعنبر، تراجفت نحو الباب احتراماً وصاحت بصوت دافئ:
يا أولاد، زارنا النبي... الشيخ أحمد في دارنا. غيروا ملابسكم البسوا ثياب العيد. وتعالوا.
عبقت رائحة البخور في الصالة الكبيرة. انبعثت فاغمة من ملابس الشيخ أحمد. تسمرت حائرة أمام هيمنة شيخ جليل على هيبة أبي اقتربت منه. مدّ لي يده مشجعاً. تحولت عنها إلى رأسه رفعت عنه الطاقية البيضاء شغل الإبرة، ووضعتها على رأسي. درت متباهية. شدني هشام من جديلتي وصاح بي:
- هات الطاقية. استح أمام الشيخ أحمد، ما عاد فيك حياء. لن تكبري. روحي حضري الطعام مع الوالدة. رميت الطاقية على الأرض وهربت.
سكنت خاطري جاذبية الأراجيح التي تنصب في ساحة الحارة.
وهبت رائحة السينما رائعة رطبة فتحت أبوابها أمامي.
- مدت ليلى رأسها. شعرها مجعد مكوي تدلت من رقبتها سلسلة ذهبية تعلقتها سمكة
- سمكة؟ أمسكتها مهتاجة بكلتا يدي. لعبطت بين أصابعي.
وقف هشام يتأمل ليلى. جسد عبل مرصوص بنضارة الصبا. تلوت بدلال ورمقته بنظرة أنثوية خارقة لكل براءة. نظرة صريحة مغناج.
قالت: سنذهب إلى الأرجوحة. ثم إلى السينما فيلم حلو كتير((ليلى بنت الفقراء)) بالروكسي.
- وحدكما؟ سأل هشام:
رد عادل من الداخل:
- أنا.... معهم موجود.
- نحن صغار، أجابت بصيغة الجمع.
قهقهة عادل واقترب من الباب. سرقت عيناه زري الورد في صدر ليلى. نبر ممازحاً على غير المألوف.
- كبرت واللّه يا ليلى، البارحة كنت صغيرة. وأحملك على كتفي.
لحقت أمي بنا:
- يا بنت، لا أريد مشاكل. الأرجوحة قربنا، لا تذهبا إلى الجسر الأبيض.
- طيب، طيب. طرنا، قفزنا، لهونا، أصبحنا فراشتين بيضاوين. تعبنا. داهمتني أحلام اليقظة في طريقنا إلى السينما. رقة حديث الممثل. همساته الناعمة. أحسست برعشة لذيذة وددت لو طالت.
عينا صبي مراهق رافقا زهوي. أتعثر به يومياً في طريقي إلى المدرسة. ها هو قربي يبتسم، يدير ظهره ويمشي على الرصيف المقابل. يرفع يده مسلما
لم يجرؤ على الكلام معي. كان قصيراً لا بل كان معتدلاً. شعره خرنوبي، وعينه -ربما- زرقاوان، خضراوان أرى ألقهما من بعيد. وأنا بدوري ما كنت أقوى على رد سلامه، وأنا المفعمة بخوف ضبابي من الجنس الآخر يلاحقني كظلي حتى أصبح طيفي الحقيقي.
- كبرت يا سلمى، أضاف عمي العائد من قرية السنابل على حدود الجولان يهيئ صفقة مع تجار الميدان لبيع القمح. يحمل في تقاطيعه فحولة الرجل الجبلي الهارب من سهوب باردة. يخرش صوته الأجش مسمعي.
كان عجيباً في شكله. غريب السمات، لا هو بالعربي، ولا بالأجنبي. يحمل فوق عينيه المكحولتين حاجبين أسودين كثيفين يميزان شكله عن بقية إخوته الشقر.
يداه كبيرتان سرعان ما تتحولان إلى أنامل سحرية تحكي حباً، لهفة، إذا أمسك العود.
كان العود هدية أبي لأمي عندما تزوجا، جاءها وقتذاك بمعلم تركي الأصل اسمه((شوقي بك)) أكبر عازف كمان في دمشق. وعندما درجت أصابعها على أوتاره، وحفظت أنغام الحجاز كار، والنهوند ورقصة((ستي))، كر الأولاد من بطنها واحداً إثر واحد، حتى قضوا على موهبتها.
تردد في صفائها:
- ينعصر قلبي كلما سمعت رنة العود فأبكي.
ربما رضعت هذه الحساسية منذ كنت نطفة في رحمها. أحببت الموسيقى هاجسي الغرامافون الأسود. مسحورة أمامه. كيف يخرج الصوت من جوفه نقياً رائعاً. حفظت معظم الأسطوانات.((كلنا يحب القمر، أراك عصي الدمع، يا جارة الوادي، أحببت شنشنة، جفنه علم الغزل)) اللحن راقص والكلمات جميلة. كم اسطوانة شطبت وجهها بقلة درايتي؛ من بعد حرمت الاقتراب من الغرامافون.
في يوم كنت مع الغرامافون رن جرس الباب خبأت الأسطوانات، وأقفلت الحاكي. أطلت ((باهية خانم)):
- أمك موجودة يا سلمى.
- لا. عند طبيب الأسنان. تفضلي
رفعت الغطاء الأسود عن وجهها لتجفف العرق. بان طرف خدها. جلد أبيض معجون بالأحمر. مجعد مثنى شتر الفم نحو الأذن حتى نبقت أسنانها. تراجعت.
- يا ربي.
- خفت مني يا سلمى. ردَّت الغطاء على الجانب المشوه ببساطة.
كيف لماذا؟ وقفت مبهوتة أتأمل ملامحها.
- رمى شاب متعصب ماء الفضة على وجهي. حرقني، رآني سافرة عن وجهي.
بدا النصف السليم آية بالجمال جعلني مشدوهة.
تلبست مظهر صاحبة البيت، الترحاب ذاته، الابتسامة العريضة ذاتها. راقبتني المرأة الضيفة وابتسمت.
- صرت صبية يا سلمى، إيه الأيام. العم يسري كأني أرى أمك تتحرك أمامي. مجدو كبر أيضاً. بعد سنة يقدم البكالورية الأولى قسم الفلسفة. وبعدئذٍ يدخل كلية الحقوق ليصبح محامياً.
نقزت في مكاني، محامي، أنا أكره كل محام بعد صبري أفندي زوج أختي لأنه يقبض على أسرار النسوة ويدفع بهن إلى أحضانه.
- مجدو يا سلمى حلو. ليس طائشاً مثل أخيه فائز. لطيف، أخلاقه عالية.
فهمت التلميح والترميز، قرفصت وانتشلت اسطوانة من الخزانة ندهت، يا حظي، كركت((أم فائز)) ومجت من سيكارة الخانم ذات الفم الأحمر. صدح صوت عبد الوهاب((جفنه علم الغزل))
غلى الدم في عروقي. تدفق دفء حار إلى أوردتي، فاندفعت أتلوى على النغم الراقص. تلاحقني صفقة باهية خانم المشجعة
- لك يا حبيبتي، هات بوسة
انتهت الأغنية. سربلني الخجل ندمت، لم رقصت أمامها؟ لا.. أنا رقصت للأغنية لحلم لم أعرفه، لآمال تركزت حول كلمة عابرة عن الرجل. لملمت أشلائي المبعثرة بين الأرض والغرامافون، وركنت جسدي في كرسي أصغي إلى كلمات الإطراء.
ذاع خبر ليونة جسدي، ورقتي بين النسوة في الاستقبال، سرعان ما نقلنه إلى الأبناء، فاندلق الخطاب علي، بدأت لعبة فصارت حقيقة، تحتم علي أن أخضع لسماجة بعضهن وأناقة ألفاظهن، راجيات كي أقف أمامهن ولو مرة واحدة. دفعت الثمن فادحاً ضريبة فظيعة تتنافى مع كبريائي. مكثت في البيت، ورفضت الظهور أمام أي كائن كان.
تدللني أمي بثياب جديدة. جاءت بالخياطة إلى البيت واشترت أقمشة جميلة.
- ست مادلين، قطبة عند الخصر، وأخرى عند الكتف. افتحي القبة قليلاً. لابأس. الكم فوق الكوع. لا. لا يرضى أبوها.
تنكب ست مادلين على ماكينة الخياطة دون أن ترفع رأسها إلا عندما تفصل وتقيس. أثناءها ترشف القهوة. حتى إذا اندفع الغداء بأريج الأطعمة الزكية((غسلت يديها متأنقة)) وجلست تمضغ الطعام بصمت. لعلها ملّت هذه المهنة القاسية، لعلها شعرت بوطأة العمل الذي يكسر ظهرها يومياً وهي تنتقل من بيت إلى بيت حاملة((الكاتلوجات)) في محفظة يدها السوداء الكبيرة. تنهال عليها كلمات الإطراء عندما يصبح الثوب جاهزاً. فستان وسترة وتنورة في يوم واحد. تلف المئة ليرة، وتضعها في عبها. تسكن عينيها نظرة امتنان.
تغادرنا قبل المغرب لتلحق فتطبخ لأولادها.
أكبر بسرعة. تدلك أمي خدي العاجيين بقليل من الحمرة الجافة.
- سلمى عندنا ضيوف أسرعي. ارتدي ثوبك البنفسجي. فهمت. هصرت خصري بالزنار الأسود الجلدي اللماع. برز نهداي مذعورين شددت قامتي، ودخلت بصينية القهوة. جلست قريبة من الباب أراقب عيني المرأة الفاحصتين، وأتجاهل غمزة أمي المتكررة تدعوني كي أخرج. لذت لي ملاحظة الضيفة بدت دقيقة القد. قدماها صغيرتان رقيقتان محشورتان بحذاء ذي كعب عالٍ. بانت أشد نحولاً أشبه بمراهقة عندما خلعت معطفها البني. تدلى من عنقها عقد لؤلؤي ثمين وسلسلة عريضة بطرفها ليرة ذهبية. يوحي مظهرها بالبحبوحة.
ظلت عيناها معلقتين بوجهي وهي تشكو كساد السوق وعدم إقبال الناس على الشراء. ردت أمي:
- لا تؤاخذيني بهذه الكلمة. التجار هم الكاسبون دوماً في الحرب والسلم. ما صدقنا أننا خرجنا من الحرب الثانية حتى فتحوا علينا أزمات واضرابات جديدة لن يتركونا بسلام. معلوم، أرض فلسطين خصبة، زيتون وبيارات برتقال. بلاد خير وجبل من ذهب في السعودية. الإنكليز دهاة الإنكليز بلوانا.
هزت الخاطبة رأسها. لم يعجبها الحديث.
- مفهوم.... مفهوم. ولكن...
لضمت المرأة الكلمة دون تصريح.
تساءلت:
- ترى ما عساها تريد أن تقول. أن تحكي بالسياسة؟ أم تريد أن توهمنا بأنها تدري ما لا ندري حتى لا تطلب أمي ثمن حقي نصف الألف.
سألت الضيفة بلطف:
- عملت شراب التوت هذه السنة؟
- عندي شراب السنة، صنعته بنفسي. تذوقيه ثم احكمي. سلمى شاطرة
- لا تعذبيها، فحت المرأة
غادرت الصالة مرغمة، ليس في مقدوري الرفض. إكرام الضيف من شعائر العائلة.
أرخيت السلم الخشبي من علاقته الحديدية في الجدار وركنته. صعدت إلى السقيفة متلهفة إلى إنهاء المهمة. تناولت قنينة واحدة من الرف وعدت. وضعت قدمي على أول درجة. لم أدر كيف انزلق تحتي، وهويت على الأرض أنا والقنينة. اندفعت المرأتان إثر الخبطة إلى المطبخ، وفجأة فرّت الخاطبة. بقيت أنا مطروحة لا أقوى على التنفس. قال مصور الأشعة الدكتور منذر:
- رضة قوية في الأضلاع.
فقدت القدرة على الضحك، والبكاء مدة أسبوعين. أغلقنا الباب ريثما أستعيد صحتي.
تقفز طموحاتي درجتين، درجتين، أهي فورة المراهقة، أم ثورة الانطلاق من الطفولة إلى الأنوثة الكاملة؟ أسمع تمزق الأغشية في جسدي. أسمع هسيسها في الليل فيما أضع رأسي على الوسادة. تقلقني. تسرق أمني، تجعلني أفكر بالألم الذي بدأ يدب في بدني يجب أن أخبر أمي:
- ما هذا الوجع؟ أنا مريضة؟
ترد متضاحكة صارمة:
- كل البنات يتوجعن في مثل سنك؟ تظل أسئلتي معلقة دون أجوبة يقتلها الحياء. سرعان ما أكتشف أجوبتها بنفسي. يكبر رأسمالي يوماً إثر يوم في عالم نماذجه غنية مذهلة.
اقتربت الامتحانات ولما تجف دمعة أمي على فراق سامي
يدخل هشام البيت ملكاً، ليخرج وزيراً. ترف أهداب(عربية) رفات مذعورة إذ تراه. يصرخ:
- عربية فنجان قهوة.... حضرت الأكل؟
تقترب منه. تمسح حذاءه الأسود اللماع. يمد قدمه متباهياً أمام إخوته. هي تخشاه ولا تخشاه.
أمي من جهتها لاهية عنه بعشيرتها، تزداد مشاكلها الصحية تعقيداً تحت وطأة الحزن. تسرح أفكارها خلف ابنها الشمس المهاجرة إلى افريقيا وخلف سامي السجين، وخلف أختي(مها) التي استكانت إلى حياة تعيسة مع صبري أفندي حين قبض عليها عصفورة صغيرة، وعصرها حتى لا ترجو انفلاتاً.
انتفخ بطن عربية، دفعتها أمي مداعبة من كتفيها
- سمنانة يا ضربانة. أطبقت البنت شفتيها وانتحبت عند قدميها. رفعت رأسها وقد ازداد نحيبها. ستي ستي، أنا غلطت استروني انتفضت أمي فجأة، جلست، نهضت. لا تصدق. فضيحة جديدة انهالت فوق البيت.- يا رب يا رب. رفعت أمي يديها إلى السماء تستمطرها الرحمة، والستر المقيم على المظلومين الغائبين. أمسكت مسبحتها البيضاء من حبات اللؤلؤ، وراحت تركع وتصلي وتبكي الفضيحة القادمة. عندما حبك الليل أوى كل إلى سريره تسللت أمي...
حملت القرآن الكريم من محفظته المطرزة بالقصب والترتر، وأدنته بخشوع من وجه أبي المورد بجمر المنقل النحاسي.
- أبو هشام. احلف بالكتاب الكريم أن تحفظ السر وتجد له مخرجاً.
صاح بها وقد تولاه الغضب واربد وجهه:
- هل جننت يا امرأة. أنا أحلف على القرآن، ولِمَ؟
لم يكن بد من إفلات الحقيقة الرهيبة:
- عربية عربية حامل.
انتفض كمن لسعته أفعى. حددّ نظرته يطرد كابوساً مفزعاً. رمق وجه أمي المرتعش مكذباً، انكمشت داخل ثيابها، قام مهتاجاً، ضرب الباب المغلق على الخادمة، رفعها من شعرها كريشة، ثم رماها على الأرض.
- كلبة. قولي الصدق، واللّه أذبحك إن لم تقولي الصدق.
- اذبحني، اذبحني يا سيدي، أنت أهون من أخي ومن أهلي.
- من هو، انبسي.
نشج صوت مقهور:
- سيدي هشام
- هشام، ابني هشام يبول في دلوي. واللّه قتْلك وقتله حلال في هذه الأيام الفضيلة، يا سواد وجهي من حالي ومن أهلك، ماذا أقول لهم تفضلوا ابنتكم حامل، انظري إلي.. حلفت لأبيك بشاربي هذين بأن أرعاك مثل ابنتي، دار على نفسه كثور هاج في طاحون، هرعنا كلنا من أسرتنا...
فهمنا الكارثة على الفور اقتربت أمنا منه متخاذلة.
- نحسبه من أولادنا يا رجل.
- اسكتي أنت، وهي، وهي ماذا نقول للغريب والقريب؟
سقط الجبار على الديوان خائراً ثائراً، غطى عينيه بكفه، فسالت منه قطرات ناصعة كالندى تشجعت أمي إزاء ضعفه، فاقتربت منه، ومسحت على شعره أسلم رأسه إلى صدرها.
وقفت على مبعدة يا إلهي، عاد طفلاً، هذا الجبار الذي يهز الأرض تحت قدميه، يعترف بالخيبة، وأمامي.
هزت الكارثة أركان البيت العريق، جللته بسواد أشد سواداً من اعتقال سامي، رفع الراديو الخشبي الضخم من غرفة الجلوس ومنعت أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب ومنيرة المهدية، وحل شجار يومي بين الوالدين العاشقين هدد بالانفصال.
هرب هشام إلى بيت عمته منذ اللحظة الأولى.
انفرجت الغيمة قليلاً عندما عاد الشيخ أحمد بعد أسبوعين تفوح من ثيابه رائحة البخور الفاغمة، وخلفه هشام، أمسك يدي عربية وهشام، وقرأ الجميع الفاتحة، لم توزع الحلوى ولا الملبس ظلت أمي تبكي حظ ابنها البكر وارتدت الأسود.
أحس هشام بالقيد الملفوف على عنقه، فالتحق طالباً بالكلية الحربية في حمص ومرت الأزمة الخانقة مليئة بالغم واليأس والخجل.
غير أن القفزة السريعة التي أدتها عربية دون تمهيد دفعتها إلى التمرد الدنيء على تقاليد البيت غير مبالية بالحزن الذي لفه، ولا بنظرات الجيران إلى بطنها المنفوخة. صارت تمشي متباهية كبطة سمينة نفضت جناحيها من الماء. رمت الشغل كله على كتف أمي. ها قد أصبحت زوجة لابن الشريف الكبير. من يقاربها؟
وقعت أمنا فريسة ضغط الدم.
زارنا الطبيب زهدي مرات ثم أعياه مرضها. فوصف لها العلق خلف أذنيها عله يخفف من الخطر. ارتمى العلق متورماً بالدم على منشفة بيضاء لفت حول رقبتها.
لعب القدر في تحرير هشام من قيد حديدي ربطه بعربية. وخرج من الوضع النفسي السيء الخطر خاوي اليدين. ولدت عربية ابناً ميتاً زاد من حزننا في الوقت الذي فرَّج عن قلوبنا ونفوسنا.. فما هي سوى أيام حتى رمى أخي الطلاق عليها الذي عمق في نفسي نفوراً منه مشوباً باحتقار خفي.
وصلتنا أوراق مهربة من سامي.
أهلي
فاض الشوق بي. بت كالزيز يئز ويدور حول نفسه، ثم يضرب رأسه بالجدار. جافاني النوم. أغزل أفكاري حول نفسي والمساجين. نسيت حالي ونسيت عائلتي. اقتحمت المهجع أرطب خاطرهم. قرأت لهم سوراً من جزء عمَّ وسورة ياسين والفاتحة. رددوها معي. ظلت عيونهم الخائفة متشبثة بالسماء تستجدي الرحمة. ولكن عبئاً فقد أحكمت الأنشوطة حول أعناقهم، أعناقنا، هل أصدق أذني، أأنا واهم، أم مجنون، سمعت أصواتكم تحت نافذة الزنزانة. قفزت أحاول رؤيتكم، لم أفلح فرحت أبكي. ضربت رأسي بالحائط. رآني السنغالي. دخل. أمسك قدمي ورفعني إلى النافذة، إلى الطاقة المعلقة في السماء. صرخت:
- ماما، بابا، خالتي، سمعت صوت خالتي يلعلع كالرصاص يقطعه نشيح أمي الباكية:
- لن أعود قبل أن أراه.
هل أنا واهم، اختلطت الآهات بالكلمات، ولكني متأكد من وجه شيخ أسود الشعر ملتح يتكلم الإنكليزي تذكرت سحنته. كانت لرجل لمحته في مكتب التطوع تملأ الخواتم الزمردية والياقوت أصابعه العشرة. وقفت أترنح كالسكران ناداني صفير خافت من الزنزانة المقابلة من خلال القضبان، رأيت الوجوه السوداء تلمع بدموع مغلوبة مقهورة ذليلة. تعانق أيديهم المستحيل. فهمت المصير القاتم الذي يفتح شدقيه لالتهامهم ربما التهامي غداً أو بعد غد.
مضت ساعة دقت أقدام عسكرية رتيبة قاسية على أرضية الزنزانة، وانتصبت قامات عملاقة مروعة في الضوء الباهت.
مشى الضعفاء طائعين أمامهم. أكتافهم متهدلة، رؤوسهم المجعدة منكسة كرايات مهزومة. كانوا الوقود العبرة الذي لملم من كل كتيبة ثأراً للضابط الإنكليزي.
لم يمض وقت كبير حتى دوت ثلاث عشرة طلقة. نظرت إلى ثيابهم المكومة في الزوايا وعلى الأرض. اقشعر بدني. انكمشت هلعاً هالني صوت الرصاص صرت أدور على نفسي كالمهووس أبكي مصيرهم. بل مصيري من يدري، أجل، ممكن، قد ألحق بهم غداً أو بعد غد.
فجأة دفع الباب عليّ بشدة. هبط قلبي.. وقف حارس أبيض فوق رأسي آمراً:
- خذ أغراضك، هيا هيا بسرعة.
وجدتني في محطة القطار التي شهدت حريتي أول مرة وأنا أغادر مصر إلى سوريا. كان الطريق إلى الحرية قصيراً جداً. أعادوني إلى الإسماعيلية ثم إلى قطعتي. ومنها إلى السجن قيد المحاكمة. جرجرة مهينة. عينت المحكمة الكابتن جورج محامياً للدفاع عني.
أحبكم جميعاً. أقبل أيدي ماما وبابا.... سامحوني
ما إن أنهى أبي تلاوة الرسالة التي وصلت متأخرة حتى جاءتنا البشارة سريعاً بأن سامي أصبح في سجن القلعة بدمشق. وقع أبي على محضر طويل في مخفر الشرطة ربطت به حيثيات الحكم، وأعاد سامي إلى البيت.
وقف سامي كالقطة المبلولة قرب الباب. حليق الشعر نحيل الجسم في ملابس عسكرية فضفاضة تخب قدماه في بسطار كبير. درنا حوله تلمسناه بأيدينا. وشممناه من رقبته وكتفيه البارزتين. تنحنح بدا خجلاً من ملابسه الوسخة. وربما من رائحة العرق. استند إلى الجدار ورمى الحقيبة عن ظهره ما إن أدار نظره فينا حتى دبت الحرارة في جسمه المنهك نفض عنه لحظة الذهول، وارتمى على صدر أمي يبكي بحرقة مثل طفل، جعل يبكي وينشج.
ضمته أمي بحرارة تمسح دموعه. ويمسح دموعها
حسم عادل الموقف العاطفي باحترام حقيقي لمشاعر أخيه.
- صار رجلاً، كفى دلالاً يا أمي.
تبادر إلى ذهن أمنا الطعام. يجب أن يأكل ويستعيد عافيته. انسحبت مرغمة وبقينا مسمرين إلى فمه ننتهز فرصة غياب الوالدة في المطبخ فقد ذابت كشمعة في الآونة الأخيرة.
- أي سامي نبر أبي بنفاد صبر فرحاً بعودة ابنه. اتكأ على مسند فوق الديوان المفروش بسجادة شرقية.
- رائحتي قاتلة. أغسل بدني وأعود إليكم. أجاب:
صرخنا بصوت واحد: لا، لا...
تدفق صوت سامي واهناً:
((عندما صدر علي الحكم بالسجن المخفف نظراً لصغر سني رحت أحفر الأيام بأظافري على الجدار إذا ما انسحب الليل وهاجمه الصباح. وصلتني دراهم أبي عن طريق ابن العشا متعهد الطرق لدى الإنكليز. فطلبت مذياعاً صغيراً تقاسمت سماعه مع الحارس الكونغولي. ازداد الضغط على السجناء المساكين. سمعت بأذني أصوات التعذيب الخارقة لكل معاني الرحمة.
عرفت ومن معي بما لا يدركه الشك بأن الجيش الإنكليزي في تدهور وتراجع. لازمني سوء الحظ في الفترة العصيبة لاندحارهم وتقهقر الجيش الثامن حتى أبواب الإسكندرية. بل قيل ذلك حتى((مرسي مطروح)).
تهب الأخبار مثل زوبعة مداً وجزراً، تقلباً وهدوءاً، حيال أي تقدم أو تقهقر، في هذه الأثناء تغيرت القيادة الإنكليزية، قبض عليها الرجل الحديدي((مونتغمري)) رص الصفوف، أعاد تنظيم الجيش الثامن، نفخ فيه روحاً عسكرية حديثة، دعمتها الإمدادات الأمريكية عبر البحر.
هكذا استسلمت إيطاليا، وانسحب الحليف الألماني الجنرال رومل إلى الصحراء وتبدلت القيادة الألمانية أيضاً، أدى الاختلاف بين القيادتين المتدربتين مع فن الحرب في الصحراء إلى هزيمة نكراء ساعدت الحلفاء على تطويق الجيش الألماني.
- يا حرام على مصر، يا حرام على مصر يا حرام عليك يا مصر أم الدنيا. ردد سامي وضرب جبينه بكفه.
وقفت الدنيا على رأسها. عمت المجاعة مصر كلها وتسلطت الأوبئة على الشعب المسكين البسيط، فمن نجا من الكوليرا سقط فريسة مرض الزهري والطاعون الأسود حتى ملأت رائحة الموت الخياشيم، ودخلت الزنزانات المغلقة، وشوارع القاهرة رحل العديد من المساجين السود حمدت ربي أني داخل القضبان أثناء تلك القتامة التي محت الحياة حولي وحتى الشمس اللاهبة التي باتت كئيبة باهتة، كانت الأنباء شاهد عصر على قسوة الحرب الضروس التي جرت الشعوب الضعيفة ومصر إلى حافة الهاوية. حرقت الجثث أو طحنت بجنازير الدبابات الثقيلة. باعت الحرة طفلها، والصبية جسدها وغزت همجية القرون الوسطى شوارع القاهرة تتاجر بالرقيق الأبيض مقابل لقمة العيش.
أنباء رهيبة كانت تصلنا. تعلمت كيف أكره الإنكليز، فلا الجيش جيشنا، ولا اللغة لغتنا.
سألني المدعي العام:
- ما الذي دفعك إلى صفوفهم؟
أجبت:
- أحببت رؤية مصر.
استغرب المدعي العام قولي. نظر إلي بدهشة كمن يعاين مجنوناً..
- تدخل الجيش فقط ليأخذوك إلى مصر؟
- نعم سيدي..
تأكد عند ذلك من سذاجتي أن يكن من جنوني.
في اليوم السابع من محاكمتي المرهقة. ثارت علي أسناني. تفجر رأسي من الألم: ولم أقو على تركيز مخي، جروني إلى عيادة طبيب يهودي اسمه((صموئيل)) كان يهودياً قذراً بلا قلب. أدخل الكلابة في فمي وخلع لي ضرسين سليمين دون مخدر. صحت من الألم ورفسته بالبسطار على وجهه. أعادوني إلى الزنزانة لم يتوقف النزيف كدت أختنق بالدم وعندما رآني الحارس رثى لحالي وأشفق علي... أخبر الشرطة العسكرية. نقلوني إلى المستشفى وخاطوا الجرح الذي لم يندمل.
كانت فترة المستشفى وقلع الضرسين، ومرارة الألم فترة راحة واستحمام لي. لم تلبث أن انتهت سريعاً، فقد أعادوني إلى المحكمة مثل كلب أجرب وقرأوا علي التهمة التي تلخصت كالتالي:
- الهروب من الحرب بالسلاح الكامل.
- كنت بحاجة إلى إنسان من أهلي ووطني. فرغم قسوة الموقف ظلت ذاكرتي تعيدني إلى دمشق. احتل هذا الحلم ذهني. كان الأمل الذي يمدني بالشجاعة والصبر.
أعادوني إلى القاضي، للمرة الأخيرة سألني:
- العمر
- ستة عشر عاماً
حدق في الأوراق، ثم أدخل يده في درج المكتب وأخرج ورقة كان قد زورها عيّاد ليصبح العمر ثمانية عشر عاماً. ثم أخرج الوثيقة الأصلية التي جاء بها الشيخ العميل من دمشق، وقارن بين الاثنتين.
قال القاضي عاقد الحاجبين مع ظل ابتسامة بصوت مهيب بعد معاينة استنطاقي الأسبق:
- أهذه تذكرتك؟
أجبت: نعم.
- تكلم، كيف تطوعت بالجيش.. جيش بريطانيا العظمى.
عدت أؤكد ونظري إلى الأرض:
- أحببت أن أرى مصر، لا علاقة لي بالإنكليز ولا بالحرب. ترجم رجل وقف إلى جانبي. كان بديناً ذا وجنتين منتفختين ونظارتين هبطتا إلى أرنبة أنفه.
ضحك الحاضرون بصوت عال. تقبلت نتيجة المحاكمة بفرح عارم. حكم علي بالسجن مدة أسبوعين مع تسريح من الجيش لصغر سني.
ظل موضوع غلاء الخبر يؤرق الناس في حياتهم اليومية وبات الهم اليومي الذي يقض مضاجعهم، ويلون سهراتهم بقصص العوز والتقتير.
خرجت من البيت المجاور المرأة الليبية التي كانت تودع حليها عندنا إثر كل يمين طلاق يطلقه زوجها. كانت تحمل حقيبة ملابس واحدة. وتجر ثلاث بنات ذاهلات عن المصير خلفها. فتحت أمي الباب راجية إياها أن تخزي الشيطان ريثما يتم الصلح بينها وبين زوجها:
- الصباح رباح يا أم نادية.
- لا، لن أعود إليه، واللّه لن يرى ظفري بعد اليوم.
همدت الأصوات نهائياً في المنزل. ثم تغير شيء حولنا. دخل الحارة طنبر خشبي يجره حصان أصهب.
توقف أمام بيت أم ناديا المهجور. أنزل العتال أثاثاً ملفوفاً بعناية، وآلات معدنية كبيرة حديثة، وكرسياً دواراً تناوله رجل مخضب الشعر في الخمسين من عمره. علّق الرجل قطعة نحاسية مستطيلة على الباب. حفر عليها: كامل السمان طبيب أسنان وجراح.
تلهّت الحارة بالزوار الجدد، وأغمضت عينيها عن رجل غريبة دبت لعملاق ضخم الجثة تفوح من فمه رائحة عجيبة ذات أبخرة واخزة، يرتدي قنبازاً مفتوحاً كالحاً وشالاً يضمه حول وسطه بزنار جلدي عتيق. يأتينا كل يوم.. يترنح في مشيته يمنة ويسرة إلى أن يصل إلى دكة ترابية يجلس قرب برميل القمامة القلاب. ثم يخرج رغيف خبز التقطه من الفرن ويقضمه على مهل. تدفع قذارة شكله وشعره الطويل اللزج الأولاد إلى الضحك والسخرية منه، وأحياناً إلى ضربة بالحجارة وشد الزنار ينفلش القنباز المهترئ عن بدن عار في عز الشتاء.
يلكزه خبيث:
- حميدو، أين كنت البارحة؟ لا تخجل، قل، قل.
وينط آخر:
- اعترف لك حشاش.
ترف عينا حميدو الزائغتان بحثاً عن معين. لا يجد. يعود ساهماً تائهاً في جلسته.
- حميدو.. إبك.. أين بيتك؟. حميدو ارقص.
يترنح حميدو ثقيلاً، يدب بخوف مبهم. يدور دورتين ثم يقع على الأرض.
- شوفوا المجنون. حميدو، غني يا وابور اجري، حميدو ابكي.
يمسح حميدو عينيه. تهر منهما دمعتان حقيقيتان. يبحث عن عود ثقاب، يمد يده مستنجداً. ويضربه الصبي هيثم، يدوس حسن على قدمه يبقى حميدو ضعيفاً حتى الموت.
حشاش، حشاش يخرب بيتك، ما وجدت غير هذه الحارة حتى توسخها... أمامك القميم في العفيف، هناك تستطيع أن تحشش على مهلك. سلطان زمانك. يا اللّه انقلع. يميل الغريب على جنبيه ويعود في اليوم التالي أشد إلحاحاً على جلسته مترنحاً مهاناً لا واعياً. كل ما تعرفه الحارة عنه. أنه خرج من السجن حشاشاً اتهمه زوج أمه بالسرقة. طرده من البيت، وسلمه إلى الشرطة.
تنبعث من عيادة الطبيب(كامل السمان) أغنية يومية أسيانة بصوت(لور دكاش) الرخيم الصداح. أغنية واحدة لا تتغير وكأنها أبدية. (آمنت باللّه. نور جمالك آية، آية من اللّه. آمنت باللّه).
ألفت في عودتي من المدرسة ظهراً رؤية امرأة تركية شقراء الشعر تلف شعرها المنسق الأملس بشبكة سوداء ناعمة تعقصه على شكل قلب فوق الجبين العالي.
كانت قصيرة القامة، بنظرة نبيلة تنبئ عن ماض عريق. ترتدي طقماً أسود يطل من قبته الرسمية قميص أحمر. تنتعل في قدميها حذاء من الفلين السميك. تهرول خلفها امرأة سوداء لا تحاذيها أبداً، ولا تكلمها فقط تتبعها كظلها.
يطغى النداء الدافئ من حنجرة(لور دكاش) على أزيز الآلة المرعبة لنخر الأسنان. يتلصص الأولاد من ثقوب الخص الخشبية المتقابلة. يدفعهم فضول ما إلى فعل ذلك لا يدري أحد كنهه. فعل صبياني محرم على الكبار ومباح للصغار.
تصمت الآلة. لا ينير الضوء الخافت الغرفة، بل يسهم في تهييج الخيال، يتبادل الأشقياء الكلام.
- أين يده، قدمه، فمه... ولكن هي، أين هي؟
تظل الخادمة جالسة وحيدة في الردهة. صنم قُدَّ من أبنوس قديم. تلف سيكارة وتدخن بصمت لاهية عن العالم. أتراها جالسة معها مجرد حماية.. أم ماذا؟
تخرج المرأة التركية. تمشي فتتبعها المرأة الأخرى. تتكرر اللقاءات. وتكبر الإشاعات. وتتأجج الغيرة الحمقاء في الصدور.
لابد من كبش فداء يبرد الدم يجب أن يسيل الدم حاراً قانياً كي يغسل أعتاب الحارة من رجس الشيطان. ولكن متى. لابد من توقيت.

يتلمظ الرجال حسرة كلما تهادت التركية. عيناها دائمتا النظر إلى الأمام. لا مباليتان بالخطوات المتلصصة التي تتبعها.
فيما كانت الحمية تدفعها المروءة تثور لتدمر، وتحطم، وتقتل، وتذبح باسم الشرف، انتهت اللقاءات العاطفية بصمت، دون دم بعد أن غادر الطبيب الحارة تلقائياً. جمع حوائجه وغاب.
حلّ محله طبيب نفسي جلب فرنسية جميلة معه. شهق الرجال وغمغمت النسوة حسرة:
- أجنبية!
تظل النساء حاضرات غائبات مكبلات حتى العظم، هي في الشورت الأبيض وهن بالمانطو الأسود.
تنقر شكواهن آذان الأزواج بلا ثمرة. صب حضورها برداً على القلوب المتعصبين جميعاً. فما عادوا يتذمرون من رائحة الخمر ولا صوت الموسيقا الضاجة في الليل. ولا من نباح الكلب الرابض خلف الباب. ارتخت مفاصلهم كما ارتخت معارضتهم لجارهم(كريم) صاحب الأراضي الواسعة في الغوطة عندما جاء بطفلة بنت أشهر ورماها بين أيدي أخواته العانسات قائلاً:
يتيمة الأبوين سجلوها تحت اسم فريدة العبد اللّه
لم تتجزأ واحدة على فتح فمها عن أصلها، وكيف جاءت. من أبوها؟
فجرت البنت اللقيطة عاطفة الأمومة المكنونة في صدورهن.
- التربية غالية. قالت جدة رفيقتي المتهالكة على الحياة.
هذه ابنة كريم ولا يعترف بها خوف الفضيحة. يا لطيف اقطع يدي إن لم تكن من صلبه. رغم القيل والقال والهمسات قبلتها الحارة. تسللت رخاوة إلى عيني أبي الصقريتين. نادى عربية التي فقدت ولدها وظلت مقيدة بنا وقفت واجفة القلب.
- نعم سيدي.
- إذا كان في ودك أن تتركينا وتذهبي إلى أهلك فأنا أوصلك بيدي. ربما تجدين ابن الحلال الذي يسترك في الضيعة. أطرقت المسكينة برأسها إلى الأرض وانهمرت دموعها.
- يا سيدي. الموت معكم أرحم. أين أذهب من عيون أهلي؟
سكت محزوناً، وهز رأسه مستغفراً ربه، ودعاه في سره.
ظل الفقر والجوع الهم اليومي للناس. جابت مصفحات إنكليزية شوارع دمشق لمدة أربعة أيام كي ترغم الفرنسيين على الانسحاب.... رمى جنودها البسكويت والعلكة للأولاد وفرقوا الطحين الزيرو على الأفران... وعندما انسحبوا.... عاد الخبز الأسمر إلى موائد الشوام وعمر التشاؤم قلوبهم.
علق أحدهم: حكم لصوص أنذال.
عيد الجلاء!
استيقظت دمشق على فرحة كاسحة... فرغت الدنيا من جيوش الاحتلال الفرنسية. لأول مرة تتحرر البلاد بعد أربعمئة سنة حكم عثماني وثلاثين سنة حكم فرنسي..
فرح ووجوه باسمة، وآمال تعمر الصدور.... اللّه أكبر.
قال أبي متحمساً:
- هل نقوى على تحمل هذا الفرح يتفجر في الصدور. في ودي لو أضم الناس جميعاً بذراعين خالصتين من البغضاء، هل يمكن للمرء الذي فتح عينيه على المظالم والإضرابات والمظاهرات والغلاء والقتلى والشهداء أن ينسى هذا اليوم؟ عيد الجلاء.
لابد أن الكبار فهموا معنى عيد الجلاء أكثر منا نحن الصغار عشنا عيداً ملوناً لا يماثله عيد في العالم على كثرة الأعياد. هبت الحارات والأخيار، والكبير والصغير هبة واحدة وقلب واحد للاحتفال بعيد الجلاء. ذبحت الخرفان ووزعت الهدايا والحلوى. وارتفعت الزينات. غناء موسيقى حماسية مذيعون يتناوبون.... ضجيج وفرح... من قبة السيار في آخر خط المهاجرين إلى الشيخ محي الدين... ومن سوق ساروجة إلى سوق الحمدية. وباب الجابية والسويقة إلى القصاع وباب توما، وحيّ الأمين. سجاد على الجدران مشاعل الكشافة ليلة العيد لمبات كهربائية متصالبة على النوافذ والشرفات. أسهم نارية ملأت السماء عيون ساهرة تنتظر الغد. السابع عشر من نيسان عيد الجلاء تاريخ جديد لنضال مرير منذ هجوم التتر وحتى آخر فرنسي.
مضينا في الصباح رجالاً ونساءً وأطفالاً وشباباً وشيبا إلى شارع بيروت تتفجر رغبة الحياة الحرة من مآقينا. أصبحت سوريا جمهورية عربية مستقلة رئيسها شكري القوتلي.
صرخ عادل من السرادق:
- تعيش سورية، يالدمشق العظيمة... افرحي لشهدائك لقتلاك.
علق أبي:
- الآن جاء دور الشباب. نحن عملنا واجبنا دوركم يا أولاد
لعل غرابة وتنوع نماذج النساء التي تعثرت بها، ورأيتها قربي خاضعة لتعليمات اجتماعية صارمة أثرت بعمق في مشاعري، كل شيء في الناس كان مشوهاً... حتى تصرفات أمي واخوتي البنات حين كان الأمر يتعلق بالتقاليد والعادات والأعراف السائدة... خنوع وملل ورتابة عيش.
شكلنا أنا ورفيقتي((نورس)) ثنائياً جيداً في الصف. جمعنا تطلع نحو الثابت في المجتمع... الوطن، الفكرة، الثورة... أما المتحول فيجب أن تكون التقاليد البالية المتوارثة.
كانت نورس مرجعاً في قواعد اللغة العربية، وكنت أنا بأجنحتي المفرودة دوماً نحو الريح كتلة مشاعر وأحاسيس لا تنضب. أقرأ بين السطور وأستوعب وأعب من ثروة المفردات.
ذات صباح. تمسحت بي زميلة في الصف اسمها((سوسن)) يموج على كتفيها شعر أسود طويل مفرق بجديلتين، ويرتسم على شفتيها الدقيقتين خط من الزغب الأسود الواضح فوق بشرة بيضاء. رفت أهدابها الوطفاء على عينين واسعتين ذئبيتين.
نبرت هامسة: سلمى تحملين سراً؟
حدجتها بنظرة قاسية أرخت يدها عن كمي.
- شوفي، معي رسالة غرام.
تراجعت خجلة.
- لا تخافي... لي
- مجنونة، لو سمعتك الموجهة. فضيحة، ثم طرد.
- خذي اقرئيها، وغداً ترجعينها. موافقة؟ دستها في جيبي.
كنت أرتعش خوفاً، ماذا لو وقعت في يد أخي؟ هل يصدقني؟
تركتني أتخبط بحيرة واجمة ساخرة على نحوٍ صبياني، وهربت.
أحدث نفسي:
- هذه البنت النصف رجل تجد فتى أحلامها، وتقع في الحب ياللمهزلة.
اشتريت من دكان صغيرة على ناصية حارة الرئيس مجلة الاثنين واحدى روايات ارسين لوبين وخبأتهما بين كتبي.
أحببت هذه المغامرة الصغيرة، كبرت تطلعاتي. سئمت الكتب التاريخية الوصفية، والكتب الصفراء في مكتبة أبي واجتهادها الذي توقف وبحثت عن الممنوع والمجهول واللامألوف الصعب. يضيق رأسي بحمل أفكاري كما تضيق ملابسي وتنبئ بتغيرات فيزيولوجية تقلقني وتفرحني. استدار الكتفان والردفان تحت الخصر النحيل وامتلأ النهدان ضراوة.
غلفت سوسن تقربها المفاجئ مني أمام التلميذات بمجلة، ضمنتها رسالة زهرية اللون كتبت بخط جميل.
هذه هي الثانية تلمع عيناها إذ تحكي.
- هل تصدقين يا سلمى، يعبدني، يعبدني، يقبلني قبلات طويلة حارة. ويضغط على ثديي بقوة فأطير من النشوة اللذيذة أخشى أن أغيب عن الوعي بين يديه. يريد أن يأكلني.
- وأهلك؟
- في غرفة الجلوس.. آخر اطمئنان. سلمى إذا هبت رياحك فاغتنميها. لا تكوني غبية.
- صرت مثقفة يا سوسن. منذ متى؟
دبكت بقدمها:
- لو رأيته يا سلمى. لو رأيته. رجل ناضج كامل مثقف موشى الشعر بخيوط من فضة. نظارتان على أنف معتدل، وفم مدلوق ذقن مبرومة. يداه، يداه يداه. كم أحب يديه تمتصان قوتي، تهدّان مقاومتي...
لم أسمع بقية حديثها، رحت أتخيل شكل العاشق المتيم الذي يكتب الأشعار ولا تفهمها. رسمت للعاشق صوراً شتى. لم تنطبق أي منها على من أعرف.
قلت لها:
- وما دوري أنا... أنا بالذات؟
- أنت شاطرة بالعربي، أنت ثقتي، أرجوك ساعديني، كلماته كبيرة علي ما رأيك لو كتبت جواباً باسمي. أنا كسلانة بالعربي.
انحنت وقبلت يدي بذل.
خامرني شعور خبيث. لم لا أتلاعب بعواطفها، وأساومها على تقبيل قدمي ثمن كل رسالة أخطها.
ضحكتُ من أفكاري الجهنمية، وطمأنتها:
- طيب، طيب. أشوف.
حبست نفسي في الحمام وقرأت. كانت أشعاراً حقيقية، وتشابيه صعبة وتراكيب معقدة أرفع من مستوانا المدرسي في الصف الثامن. فالكلمات جميلة حارقة تقطر جوى وشكوى. تبنيتها، اعتبرتها ملكاً خاصاً بي وحدي. مددت بيني وبين الشاعر خيوطاً حريرية خلقتها كلمات عاطفية.
انكب على رسالة((سوسن)) مشوقة إلى تفريغ شحنة الصبا في بدني التي تتوق إلى الانفجار. كبسني شوقي إلى ولوج حياتها الخاصة.
وقّعت سوسن حذره بالحرف الأول من اسمها في ذيل الرسالة المزينة بقلوب حمراء. ثم رسمت قلباً يقطر دماً.
- اللعينة!
تابعتها وضحكت منها، وعندما مررت لسانها على الظرف شعرت بهول تهوري. تساءلت"
- لم أزج نفسي في لعبة خطرة. لماذا أغمس أصابعي في أهواء فتاة تتلمظ شهوة وأحلاماً بالتحرر من ربقة العذربة كما تدعي. دون أي شعور بالمسؤولية.
سرقت مداراة الأعراف سكينتي.
- هل أقوى يوماً على التسلل إلى أحضان فتى أحلامي. وأقف أمامه عارية لا يسترنا سوى الظلام كما تفعل((سوسن)) يومياً بعد أن يأوي أبواها إلى فراشهما.
تبادلني النظرات في يوم آخر، أفهم. مزيداً من الرسائل ولكني لن أقبل أن أكون الثانية بعد أن تقرأ الرسالة أولاً. عرضت شروطاً مليئة بالابتزاز:
- أفتح الرسائل أولاً.
انصاعت مرغمة.
أحسستني تعيسة للشر الذي تفجر في أعماقي، والغيرة التي تأكلني فجأة.
- أمجرد احتكاك بسيط مع أناي الداخلية تحولت إلى لا((إنسانة)). أمدتني بالرسائل على نحو منتظم، صباح كل سبت. تعلقت بها وعصرت قلبي قطرة قطرة. وسوسن سعيدة لاهية ناعمة بالحب، تجول يدا حبيبها حرتين في ثناياها جسدها اللاهب. تحكي لي بسذاجة بريئة عن مداعباته، وعن ابن الجيران الذي يلاحقها ويقرصها من فخذها. وأستاذ الإنكليزي الذي يلمس شعرها بأنامله. ولم تتطرق أبداً إلى الرسائل.
ذات حين دعتني إلى بيتها كي نشرب الشاي، ونستمع إلى اسطوانة((مجدلينا)) الراقصة.
وهناك مع فنجان الشاي التقيته. مشهد مضحك هرب من فيلم مصري. ابتسم ابتسامة عريضة مغرية دبقة.
- آنسة سلمى. أخمن؟
أجبته بابتسامة عريضة مماثلة.
تسلقت عيناه شفتي. تعلقتا بفمي. ثم درجتا على وجهي ويدي وجسدي. قرأت اللعب في عيني رجل مخادع شبق مجرب.
دخلت((سوسن)) بالقهوة. رشفت من فنجاني رشفة ساخنة. ورشف من فنجانه رشفة. وبلمحة بدل الفنجانين، وبهدوء تام أشعل سيجارة((بافرا)) وراح يدخنها على مهل، ويتأملني من خلال الضباب الكثيف، تجاهلت حركته الصبيانية التي لا تليق بسنواته الخمس والثلاثين. كسر الصمت. قال ممازحاً:
- حكت لي سوسن عنك... قالت إنك تحبين كتابة الرسائل. ثبت عينيه في مؤق عيني. فاجأني بكلامه. خسرت اللعبة. كشفني ببساطة. ياللغبية التي لا تؤتمن على سر)).
- لا. لا أحب، أجبت غاضبة.
تناولت محفظتي وهرولت نحو الباب. رفعت يدي مودعة.
- عندكم درس خاص.
تنتقل سوسن متباهية كفراشة من جميل إلى أجمل ومن طالب إلى أستاذ ومن ابن مدينة إلى ابن ريف، تمسك بتلابيبهم وتزحلقهم. يمر أسبوع تملّهم واحداً إثر واحد. حتى فاحت رائحة نتنة وامتلأ بطنها، وعلى باب المدرسة ناولها طالب طب ثلاث رصاصات ثأراً لكرامته. خطفت الروح من بدنها وقضت على مستقبله، ثم أسلم نفسه للشرطة.
كنت قد كتبت قصة سوسن على مزاجي الخاص، ودفعتها إلى حافة الموت بسكين حادة. عندما قتلت شعرت بأني مدانة ومشاركة في تلك الجريمة بنحوٍ أو بآخر. عفت الطعام والنوم، وكرهت نفسي، ذبحتني القفزة القاتلة التي قامت بها. تساءلت:
- ترى لو أهملت طلبها أما كان الأفضل؟ ظلت جثتها الملطخة بالدماء المرمية تحت الأقدام ماثلة في مخيلتي ورافقتني سنوات طويلة زرعت الهلع في قلبي.
تلونت الأيام بعد أربع سنوات من الاستقلال فقط. تحولت من زهر إلى رمادي، ومن رمادي إلى أسود حسب الظروف والأهواء السياسية التي أطلت فجأة على حياة الشوام، برز وجه عسكري ينادي بتغيرات اجتماعية مظهرية مثل الغاء الطربوش والشروال. وحمل الدعوة أزلام مُتكسّبون داروا بها على منافيخ الحارات.
قال أبو عجاج الحمصاني الذي ارتدى البدلة الرسمية لأول مرة في حياته بصوت مسموع:
- معلوم يا أخي... بدنا رجال تحارب بفلسطين، هذا رد على هزائم فلسطين. همس زكردي في أذنه وفي يده خيزرانة رفيعة:
- أسلحة فرنسية وصورة الزعيم على السبطانات، هكذا سمعت ما شاء اللّه وكان!
- حبيبي هذا رجال وليس ديكاً كما أقول لك. كان في السجن، سجنته فرنسا. اتفق على شراء أسلحة متطورة. رفع دعوى على الحكومة الفرنسية وطالب بأوسمته.
طارت طابة من خرق قماشية ملفوفة على واجهة أبي عجاج فكسرت الزجاج.
خرج أبو عجاج من دكانه مهتاجاً غاضباً.
- لك أين هو... وينه الكلب، ابن الكلب.
هرب الولد وتخبأ في زاروب ضيق وصرخ مناكداً:
- أبو عجاج... حسني بك يا عزنا! بسرعة غيرت؟
لم تهدأ الحكايا. ذعر الناس حين استيقظوا صباحاً على أجساد محكومة تتدلى من حبال المشنقة في ساحة المرجة، فأغلقوا أبوابهم تحسباً من مفاجآت تالية، وما هي إلا ليال من شهور ستة من الأحداث المتسارعة الدامية في سوريا ولبنان حتى انفجر الوضع الجديد ولمّا يثبت أركانه. دخل عادل مهتاجاً مضطرباً إلى البيت:
- انقلاب جديد... انتبهوا كتيبة مصفحة تجوب شوارع المدينة. لا تخرجوا من الدار. أنت سامي، وأنت سلمى....
- خير إنشاء اللّه؟ سأل سامي...
- مشروع سوريا الكبرى... رد على تحرشات إسرائيل في الظاهر والباطن بعلم اللّه...
وقعنا في هم المفاجآت. مرة من انقطاع الكهرباء. ومرة من انقطاع مياه الفيجة. وباتت الأضواء الخافتة بالألوان النيلية على النوافذ تنذر بالشؤم وتُؤرّث الخوف.
فيما كانت الشام تتطلع إلى تثبيت الحلم الديمقراطي عبر مجلس نيابي أمين على مقدراتها ويوسع نواة الأحزاب الوطنية من خلال الطلاب والمثقفين من خلال الأساتذة الذين عادوا من أوروبا بعدما نهلوا من العلم والخبرة، وتشبعوا بالأفكار التحررية، تعرفت وتعمقت علاقتي بالفنان التشكيلي أحمد.
كان شاباً حنطياً حاد التقاطيع معبأً بذخيرة ديناميكية من الجدية، كتلة أعصاب مكهربة.
لفّه خيالي، وحفظته أحلامي، وراقبه زهوي. اندفعت خلفه بقوة كهرطيسية لاهية عن احتمالات التقول.
تابعت نشاطه، أقرأ ما يكتب في الفن والفكر أستذكر بيني وبين نفسي ما يكتب في الصحف المحلية من تعليق، فاجأتني تقاطيعه الحادة منذ اللقاء الأول فيما استقرت عيناه على وجهي. بت أترصد خطواته: محاضرة في جمعية الفنون، ومعرض في صالة الفن الحديث، تعليق في الندوة الثقافية، ومنتدى سكينة، والنادي العربي. كنت واحدة بين حاضرات وحاضرين.
وقفت، يوماً بينهم صغيرة مترددة أسأله، وما عساي أن أسأله وأنا لم أتجاوز الكفاءة.
همستُ بصوت خافت خجل كلمات مبهورة حول كتاب أصدره عبد السلام. ابتسم. تعلق شيء ما بيننا.
سأل عن سبب اهتمامي بهذا الكاتب بالذات. كشفتني رعشات شفتي ويدي. لملم أفكاري المبعثرة بلطف حول أسلوب المؤلف، كان رأيه أن المعنى المحرض يجب أن يستلم الريادة بعيداً عن الإسهاب والتفاصيل السطحية.
بعد أيام، أخذ يمدني بمواعيد المحاضرات صابراً على غيابي في أحيان. أدمنت على لقائه وأنا خائفة، أخذته انشغالاته بعيداً عني، بات أسير المقالة اليومية والمطابع التي تفتح فاهاً كالغول.
أحمد يعرض وينشر تعليقات ساخرة، تعج بالمرارة والضحك، تثير نقمة الحكومة الانقلابية الجديدة تكبر حلقته يدعو إلى تكتل الفنانين في نقابة تصونهم وتحمي حقوقهم. فن واقعي يعالج الأمور الراهنة ويضم اليميني واليساري في عصبة متحررة من أي ارتباط خارجي قد يشوه اسمها لا لدكتاتورية الحزب الواحد متمثلاً بحركة التحرير التي عمت دعايتها الدوائر والجامعة، والمدارس والأسواق
كانت الحركة غائمة الأهداف، طافية على السطح في الهواء الطلق لا جذور شعبية. لها بعيدة عن البنى التحتية لخصتها جريدة((الإنشاء)) بعناوين من مثل:
- حركة الفترة وليس التحرير فقط
- ضم عدد ضخم من الأصوات
- شعارات حرة لشعب حر
- المستقبل: الروح والجسد
لكن الحكم كان في واد والشعب في واد.. جاء حين تفجرت فيه العواطف المكبوتة. أعلن عن إضراب عام في الجامعة، انضمت إليه ثانويات التجهيز للبنين والبنات، وأغلقت المدارس بعد تحطيم النوافذ بالحجارة، خرجت أعداد كبيرة من الطلاب بمظاهرة تدعو إلى إسقاط الدكتاتورية.
لاحقت المباحث المنظمين فسقط عديدون في حبائلها كما سقط عادل في فخ الاعتقال، كشفت الواجهة الديمقراطية عن وجهها الكاذب.
ظل انتماء أخي عادل السياسي سراً خافياً علينا.
اشتد أوار الصدام بين العسكر والأهالي، وامتلأت سجون القلعة والشيخ حسن والمزة بالمقابل. ظل أحمد على خطه اليساري يقاوم بضراوة إغراءات الوزارة المعروضة عليه، يئس المتكسبون من احتوائه فسُّرح من سلك التعليم ومن الصحيفة، ووضع تحت الإقامة الجبرية في البيت.
طال غياب عادل عنا، رحنا نعد الأيام ننتظر خطواته، أرقنا القلق وأرثته أخبار التعذيب. أدخلت التمنيات الطيبة من الأصحاب والجيران خناجرها في حلوقنا لتنكأ جراحنا كلما حاولنا تضميدها، وكأننا غسلنا أيدينا من جثة ميت.
أخيراً، خرج أخي عادل من السجن صدر عفو عام عن بعض المعتقلين لعدم توفر الأدلة.
عاد نصف حي يجر جسماً نحيلاً يابساً.
فتحت أمي عينيها من غيبوبة السكري الذي أكل عافيتها.
- رجع عادل. همس سامي في أذنها. وأمسك كفيها النحيلين مطمئناً. صدر عفو عنه.
دخل عادل عليها وأخذ يمرغ وجهه بيديها... نفر الدمع من مآقينا.
خفف نجاحي في الكفاءة بعض الآلام التي ركبتنا تماثلت أمي نحو الشفاء وتجلست في سريرها النحاسي الأصفر.. هاقد عادت الضحكة إلى عينيها الكابيتين.
داعبتها بقولي:
- ماما تتلامح أمامي الجامعة. سنة وهوب يا جامعة... ساعتئذ ماذا أفعل.. احزري، ماذا أفعل. وقفزت فوق سريرها وضممتها تبسمت بوهن.
أرنو حالمة حزينة إلى ما كان ملكي قبل أن ينبشه هشام على نحو مباحثي من بين طيات ملابسي الداخلية. هتك سر مذكراتي، ومزق قصة الحب التي كتبتها عن سوسن. ففقدت مع ثورته الذكورية أهم أفكاري.
عادت العصفورة التي قضمت القضبان بأسنانها إلى العش مهيضة الجناح منتوفة الريش لتلتقط من الحب ما يسمح به.
سقى اللّه أيام الجمعيات الأدبية الذهبية والمنتديات الثقافية. هاجت بي الأشواق بعيداً عن الحزن. كتبت قصيدة بعنوان: ((إلى فنان)). أرسلتها متفائلة إلى صحيفة الفيحاء وانتظرت حتى مللت وعيل صبري.
وفجأة بعد أيام طويلة ظهر اسمي إلى النور.
تلفنت إلى أحمد، وسألته رأيه متوجسة.
رد بلا نفس:
- أثارت أعصابي. أثارتني
شعرت بخجل من تعليقه. لضمت الإهانة
- أنت لا تحب ما أكتب. يعني أن أكف عن الكتابة. أنسحب بشرف... لم لا تصفعني على خدي؟
- اكتبي: ولكن لا تتركي عواطفك مكشوفة متداولة و...
- أفهم من ترميزك أنها سيئة. قلها بصراحة.
- على هذا النحو نعم. اخرجي من ذاتك إلى الآخرين، إلى الناس.
انطويت على قهرٍ قاسٍ. فمزقت أوراقي التي سودتها وكبرت معي.
- رميتها في موقد الحمام بملء إرادتي. واتخذت قراراً بأن أترك المدرسة وأعيش حياة دعة أسوة ببنات الحارة انتظر العريس. بكيت طوال الليل. لاحظت أمي احمرار الجفنين وطفحاً خفيفاً على وجهي. نادتني:
- سلمى، ما هذه، حساسية على جلدك. على وجهك. يجب أن يراك الدكتور.
- وجهي، ركضت إلى المرآة. تلمست حبيبات حمراء منتفخة بشعة شوهت بشرتي. وكأنها جدري الماء.
هجمت على الطعام بشكل مرضي، لم أجد تفسيراً لذاك الاضطراب الجسماني وزيادة الإفرازات.
- هل كنت أعاقب نفسي؟ لا يمكن. شيئاً فشيئاً استرجعت صوابي وتوازني. فهمت بأن الصدمة التي أكلتها ضرورية، وأنها انعطافة جادة لابد منها في مسيرتي الفنية. إن أردت المتابعة.
تشبث الهوى بي، وتشبثت به. اصطلي بناره.. عاجزة عن رد وهجه. عدت مكبلة مزعزعة أقتل غيرتي التي أججتها فتاة سمراء نحيلة القد طويلة القامة كصبي أعجف تلبسها فكر يساري غائم ومضطرب تسللت إلى مخدعه ليلاً. نقلت الخبر ابنة خالته المكبوتة على رغبة الحب.
تغيرت الأحوال السياسية بعد الانقلاب الأخير، صدر عفو عن أحمد. بحث مجدداً عن صحيفة أخرى تتبنى أفكاره. عاد فشدد من لهجته ضد الدكتاتورية التي خلقتها الانقلابات منذ أن بدأها بطلها((حسني الزعيم)) وما جرته على البلد من ويلات وتمزيق نفسي وخلقي أدى إلى عدم الاستقرار وفقدان الثقة بين الأخ وأخيه. نسي الرسم واللوحات والمعارض وما عاد يعبأ بانزلاق فنان تشكيلي نحو الإفلاس.
تناوب أحمد حسب سياسة الصحيفة على كتابة الافتتاحية مع كاتب يميني اتضح أنه داعية حزب الشعب، يتعارضان ثم يلتقيان في مطالب أهمها:
حرية التعبير، تعدد الأحزاب، نظام ديمقراطي سليم.
لفتت لهجة المقالات النقدية اهتمام الناس فأقبلوا على شراء الصحيفة. هكذا رجع أحمد بعد لأي مرير إلى تثبيت أقدامه في عالم الصحافة.
تدخل عادل الرجل الثاني في البيت في مسيرة حياتي. أقنع أبوي بنقلي إلى الثانوية الأدبية حيث عين أستاذاً للرياضيات فيها. تحظى المدرسة بسمعة جيدة ومستوى رفيع باللغة الإنكليزية.
كان في نيته أن يبعدني عن أحلامي التي شم رائحتها عشية سمعني أكلم أحمد بالهاتف. لم يجابهني. ولم يسألني. تركني مع مواجهة نفسية ومحاسبة مميتة بدت أقسى من السوط على جلدي والقهر في ضميري. وفي حالٍ من التأهب المضني لسؤال أو جواب قد يأتي.
لم يسعني الرفض. برزت أمام نقلي إلى مدرسة أخرى مشاكل عدة:
- قالت أمي: المدرسة بعيدة عن المهاجرين والأقساط غالية، تشكل عبئاً جديداً على العائلة.
ذلل عادل العثرات جميعاً:
- أنا المسؤول:
تغير نمط حياتي. فمن جو متزمت خانق إلى تباسط ومناقشة وحرية في التعبير وصدام في الآراء حول التاريخ والحكم ونظام الحكم.
صرت أستيقظ مبكرة قبل موعدي السابق بساعة. يرافقني أخي، نركب الترام ونهبط في بوابة الصالحية، ثم نمشي في الحي الضيق المضموم على دخانه وروائح الطعام الزكية وهذا ما أغضب والدتي. وبعد أيام تراخى الحبل الذي لف حول عنقي حين ملّ أخي مرافقتي وحررني من رقابة عاتية.
أخذت بالجو الجديد. طال دربنا أم قصر أنا وأحمد، بتنا نلتقي يومياً. تترافق خطواتنا مشياً متوازناً. هو على رصيف، وأنا على رصيف نضحك على منظرنا. ثم نجده جميلاً في ظروف بلدنا.
فاجأتني أنظمة المدرسة غير العادية برسالة فكرية تبشيرية حزبية حول مشروع((سوريا الكبرى)) تطرح منطلقاتها في الصفوف مع الأساتذة والتلميذات وتتداول البنات صحيفة يومية تحمل شعارات الحزب السوري.
في الباحة لمحتني معلمة اللغة العربية الآتية من الجامعة الأمريكية في بيروت.
- سلمى، أملنا كبير في نشاطك وحيويتك. أتوسم فيك مستقبلاً مشرقاً. سرني إطراء الأستاذة هيفاء. حسبت كلامها مسايرة بوصفي أخت عادل الشريف الذي ذاعت موهبته بالرياضيات.
سارت الأمور بعد لأي سيراً طبيعياً. توثقت صلتي بها. وصلتها بي. كانت المدرسة قصراً بديعاً أثرياً ذا طابع شامي. هندسة معمارية مدروسة، واسعة فسيحة بساحة كبيرة مشجرة بالكباد والنارنج والليمون تشقها سلالم حجرية ملونة ضيقة تؤدي إلى متاهات الغرف الكثيرة في الطابق الثاني والثالث المشرعة للشمس.
في درس التاريخ وجه الأستاذ ميشيل حديثه بنحو غير متوقع، قال في جملة ما قال:
- ليست المرأة شفة تتلمظ، ولا جسداً يتلوى. هي من تكون كالملكة سمير أميس.
- الملكة سمير أميس؟ سألت مهتاجة:
- أجل، سمير أميس ملكة حكى عنها التاريخ الملكة الأسطورية لبلاد آشور وبابل. تنسب التقاليد إليها تأسيس مدينة بابل وحدائقها المعلقة تمجيداً لشجاعة زوجها الملك نينوس.
- يا اللّه. تنهدت.
أضاف وكأنه يلقي درساً في التاريخ
في عام 1748 كتب عنها((فولتير)) مسرحية تراجيدية، وقبله عالج الموضوع ذاته كريبّيون.
تدخلت ابنة المدير زميلة الصف:
- أستاذ، لا تنسى أوبرا روسيني التي وضع موسيقاها بافتتاحية رائعة عام/ 1825 .
علق مبتسماً راضياً:
- ابتعدنا عن الدرس.
- ماذا يعني.
- تساءلت دهشة.
قبل الانصراف. نادتني المعلمة((هيفاء))
- سلمى، أنت مدعوة إلى الشاي في بيت المدير هنا في المدرسة، انتظريني في الباحة.
تلكأت مترددة... ولكن..
- لن تتأخري. ستتعرفين على زميلات من كافة الصفوف.
دفعني الفضول إلى قبول الدعوة.
رأيت وجوهاً مألوفة. جلست المعلمة هيفاء قرب النافذة في زاوية مهملة تراقب مدى انسجامنا مع ما نسمع تتلاعبني أفكار شتى تحملني إلى صباح عطلة فيه رن الجرس في بيتنا. فتحت الباب. وقفت قامة فارعة بوجه متطاول أسمر وعيني واسعتين كحيلتين. خلفها بانت فتاة قصيرة بدينة، ابتسمتا في وجهي. نبرت الطويلة متعجلة.
- جئنا من قبل أحمد. أنا نائلة أدرس في كلية الحقوق. ورفيقتي أسماء من اللاذقية. تدرس العلوم.
تنحيت مرحبة ومتعجبة. كانتا أكبر سناً مني بنحو خمس سنوات على الأقل.
ظلت البنتان واقفتين على أقدامهما
- لن نأخذ من وقتك. ندعوك إلى أمسية شعرية ثم حوار بمناسبة عيد المرأة العالمي، في 8 آذار. تشارك في الأمسية الشاعرتان: أم جمانة وعزيزة، حول حقوق المرأة، ثم حديث لمناقشة مشروع إيزنهاور، وسوريا الكبرى والهلال الخصيب سنحتفل بعيد المرأة العالمي احتفالاً شعبياً في نادي العائلات بالقصاع. وهذه دعوة لك.
أخرجت إحداهما من حقيبتها بطاقة بيضاء مطبوعة. على غلافها اسمي.
تكررت الدعوات. أحببتها. صارت نافذة واسعة، وكتاباً أعيش بين سطوره على أرض الواقع. يمتد بيت المحامية الشاعرة أم جمانة طولاً بدهليز يدفع الغرف إلى جانب واحد.
في أول زيارة. رأيت بضع بنات في مثل سني جلسن متلحفات بالخفر. زينت الجدران لوحات أصلية لفنانين عرفتهم. ولوحة صغيرة بتوقيع أحمد. في زاوية قبع بيانو أسود لماع. انسدلت على النوافذ ستائر مخملية خضراء تلائم الأرائك القليلة المتناثرة بأسلوب أوروبي. وكثير من الكراسي الخيزران.
امتلأت الكراسي بعد نصف ساعة. ثم دخلت صاحبة البيت. استغربت شكلها. امرأة بدينة قصيرة جداً سمراء غامقة. شعر أجعد قصير ملموم فوق نافوخها، تترنح في مشيتها. رحبت بنا بوجه بشوش أزال الغم عن نفسي.
ألقت نكات ظريفة كسرت جو الصمت وبدأت تحكي عن وضع المرأة المتردي في البلد. يا إلهي. هكذا تعيش المرأة ولا نعرف عنها شيئاً. باسم الشرف تقتل، وباسم العائلة تموت، وباسم الأولاد تحرم. وباسم... انقلبت المحامية في نظري إلى أنثى جميلة رشيقة ساحرة، استطاعت أن تغرد هموم المرأة على بساطٍ صريح دون الاتكاء على أحد. كسبتنا منذ الجولة الأولى. خرجنا من عندها مفعمات بأهمية دور المرأة المتعلمة في توعية المجتمع الأمي المشلول الذي تمثله معظم النساء.
في ذهني أخذت تدور كلمات قالتها:
- الحرية، والعلم... العلم يأتي بالحرية. إذا لم تتعلم الواحدة منا فلن تخرج من قوقعتها إلى الهواء الطلق. من خلال الحماس طرحت أسئلة ذات طابع أنثوي صميمي تجاوز بعضها الهموم الصغيرة إلى هموم أشمل. نقطة سوداء تم التوقف عندها: هدايا النقطة الرابعة التي وزعت على المدارس، وفي علبها السم المدسوس لأجيالنا.
هالتني الكلمات الكبيرة الجريئة. في زمن الغليان.
انتشلني أستاذ التاريخ من سهومي مبتسماً:
- سلمى مشغولة عنا. ليست معنا إطلاقاً. سمعت أنك تكتبين شعراً.
تبسمت:
- مجرد محاولة، أستاذ..
- أحب هذه المحاولات، أطلعيني عليها، ربما أنشرها في صحيفتنا. سأعرفك على شاعر رقيق قوي المشاعر لعلك سمعت باسمه((خازن نمر))
- قرأته. أحب شفافيته، ليتني أتعرف عليه. صوره مثل لوحة بالألوان المائية.
تساءلت في قرارتي: -لم قال صحيفتنا... من هو؟ ماذا يعمل؟ ما خلفيته؟ من وراءه؟
انكمشت مرتبكة. هأنذي أدخل في لعبة أخرى... أنزلق في خطين متعارضين يجب أن أحذر خطواتي. جئت إلى هذه المدرسة كي أرمم لغتي الأجنبية لا أكثر.
مرت الأيام مليئة بالجدية والمثابرة.
نلت حظوة حسدتني عليها الكثيرات. كانت حلم كل فتاة منظمة حزبياً، هي رؤية زعيمة الحزب السوري.
كنت خالية الذهن ساذجة لا أعي أهمية وقيمة تلك المقابلة.
عندما دخلت بيتها المتواضع في عين الكرش، تقدمت نحو سيدة شاحبة جميلة المحيا، رشيقة القوام نحيلة الجسد غارقة بالسواد رفعت يدها بالتحية.
انبرت الأستاذة هيفاء متعجلة تقدمني:
- سلمى شاعرة الصف.
رأيت السيدة الحزينة في لوحة كبيرة على الجدار. تعلقت على خدها دمعة.
- أهلاً بشاعرتنا الصغيرة، يسعدني أن أراك. قالت كلماتها فصيحة واضحة، لم نلبث في بيتها سوى دقائق. انتهت الزيارة عندما دخلت بنتان صغيرتان. حيتا برفع يديهما.
انتظرت((هيفاء)) في الردهة خرجت مستبشرة:
- حظك كبير يا سلمى. تركت انطباعاً حلواً في نفسها.
- الفضل لك. أجبت مجاملة بحياء.
خفت من الانجرار والتمزق خلف دعوات ولقاءات أخرى لا أقوى على الاستمرار فيها، تراجعت. تحاشيت الكلام مع((هيفاء)) خارج الصف عن الزيارة غير العادية. تشاغلت بالمذاكرة. تخبأت خلف مناقشة الأوضاع في بلدنا حتى يئست مني. من ترويض المهرة الجامحة التي لا تعترف بقيد مذ خلعت الرسن من عنقها ومهما كان الثمن. في الواقع، ما كنت بقادرة على الانصياع تحت أوامر والتمزق الفكري بين اليمين واليسار. ثم أقف متفرجة مذبذبة منافقة.
تجاوزت((هيفاء)) عن دلعي كما وصفته، فصلت بين القناعة والاقتناع، ثم حسمت الأمر بذكاء وتفهم كبيرين لوضع قربني من صداقتها وأبعدني عن كثير من المشاكل مع الإدارة والمدير الذي اكتشفت أنه كان غارقاً بحبها.
ركبني الشيطان مرة، اقتربت من غرفتها المعلقة في متاهة السلالم من الطابق الأخير في المدرسة... أحزنني ما رأيت، تقشف بادٍ لأبسط قواعد الراحة، مثل غرفة عسكري يؤدي الخدمة الإلزامية بسرير حديدي، وطاولة جرداء قذرة عليها طابعة باللغتين العربية والإنكليزية وتحت أرجل الطاولة علبة معدنية امتلأت بورق الكربون الأسود والأزرق.
تربعت على الجدار صورة قديمة للمعلمة مقصوصة من صحيفة عربية لبنانية مع فريق من شباب الجامعة أثناء التخرج.
- كم هي جميلة هذه الشابة الجامعية، تأملتها بإعجاب. على قصاصة أخرى كلمات: الحكم بالإعدام على قتلة الزعيم اللبناني رياض، وقعت على سر دفين، قبضت على حياة امرآة تتسلل الروح من بدنها لحظة، لحظة، حزنت حزناً أليماً على هذه الهاربة من بهجة الشباب إلى عزلة قاتلة مقرفة بين أربعة جدران لا تتعدى ستة أمتار مربعة ولا تصلح إلا زنزانة لأعتى المجرمين، أو زريبة للدجاج.
هيفاء هاربة من وجه العدالة قاتلة. تملكني ذهول. انسحبت ببطء ألملم خطواتي المسروقة على صرير السلم الخشبي الفضاح، وأنا أهمهم.
- ماذا تخبئ الأيام؟
تسللت إلى الباحة، اختلطت مع البنات، ربتت هيفاء على كتفي وسألت:
- سلمى، ما أخبار أحمد؟
نقزتُ في مكاني، حسبتني أخفيت عواطفي، ووسدتها بئراً عميقة، ها هي واضحة كعين الشمس.
ضحكتْ من ارتباكي:
- هل قرأت عمر أبو ريشه؟
قفي لا تخجلي مني
فما أشقاك أشقاني

كلانا مر بالنعمى
مرور المتعب الواني

أضافت: عسى أن يكون صادقاً معك؟
- من؟
- أحمد، رأيتكما معاً أكثر من مرة.
ما من مجال للمراوغة، هاجمت بلا تحسب:
- أحلم أن أكون جديرة به، هو الكاتب والفنان الذي يملأ اسمه دمشق.
غادرتني باسمة.
ندهت على ملكة جمال المدرسة. تقدمت قامة سامقة بشعر أسود منسدل بنعومة الحرير، وجه يقطر لطفاً وجاذبية فهمت الآن لم ترك ميشيل أستاذ التاريخ ابنة عمه وعلقها جوىً وهياماً.
مرّ بجانبي سعد أستاذ العلوم، رفع يده محيياً.
- سلمى، لم نعد نسمع أخبارك؟
هززت رأسي.
- اقترب الفحص أستاذ، يجب أن أنجح حتى لا أسود وجه أخي.
- ألم تخبرك الآنسة هيفاء؟
اختارتك المدرسة للمسرحية الجديدة.
أجبت:
- حفلة مسرحية يعني تدريبات ودوام إضافي، لا، لا أستاذ، وجع رأس أنا في غنى عن المشاكل.
- وجع جميل.
تركني... راودتني أحلام عن خشبة المسرح، التصفيق، أحمد. تجسد المسرح في خيالي لعبة حلوة عانقتها أعادني في أفكاري صوت الآنسة هيفاء.
- سلمى، وصلت صور مسرحية زنوبيا من بيروت قدمتها طالبات وطلاب الجامعة الأمريكية، ولقيت نجاحاً باهراً، مرّي علي حتى أطلعك عليها. أنا موجودة في الإدارة أرجو أن تتحقق المسرحية بشكل جيد في دمشق أيضاً: ضمت يديها إلى بعضهما وكأنها تصلي.
- ولكن..
- لا اعتراض، أراك مسحوقة الإرادة، خاملة، ما هذا؟.
- أعني أن المسرحية بحاجة إلى ملابس، وديكور، وإكسسوارات، فمن أين نأتي بها، ونحن نسمع بأن المدرسة تشكو من عجز في ميزانيتها ووزارة المعارف لا تساعد، والأقساط المورد الوحيد.
- هذه أمور محلولة، نستعير الملابس من الفرقة السورية أما المكياج ومعلمي الرقص والإلقاء، فهناك متطوعون.
- والأهل؟.
- هذه مهمتك، تصرفي.
ما كدت أضع رأسي على المخدة حتى برزت في وجهي مشاكل جديدة.
منها الظهور على الخشبة أمام جمهور من الناس لا يزال يزدري الممثل ويدعوه بالمشخصاتي، لم لا أنتقي درباً معبداً مثل بقية البنات؟ هند مثلاً التي علمتنا التانجو والرومبا والسامبا.
- أين تعلمت الرقص يا هند؟.
- في نادي الضباط مع أبي، أبي ضابط طيار، ألا تعرفين؟.
-أبوك من علمك الرقص؟..
تتعجب، إذن لم لا يرقص أبي معي أيضاً؟ تخيلت سليل قضاة دمشق يرقص، ضحكت من أفكاري المجنونة، ألا يكفي ماحل بجارنا أستاذ الموسيقى الذي درس الكمان في أرقى معهد للموسيقى في باريز، وعاد بفكر متحرر ليعلم التلاميذ أصول قراءة النوتات وعندما علم ابنته العزف ورقصة التانجو وكذا أبناءه وصحبها إلى النادي الموسيقي في الشهداء ماذا كانت النتيجة؟
ازور عنه الجميع، وأنكره المثقف والجاهل: لا حقته أقوالهم:
- جاء المزيكاتي، وذهب المزيكاتي، عمل من ابنته فرجة.
يارب.. كيف أتصرف دون أن أدخل تجربة ممضة لا تقلب البيت على رأسي من أساسه.
ركبت تمثيلية بيت حول تمثيلية المدرسة. يفهم أهلي العلم، المدرسة. أما المسرح، وتجسيد أفكار المؤلف والمخرج على منصة فهذا غير مرغوب فيه بتاتاً.
ألبست مشاركتي ثوب الأمر الإداري. ولم أتطرق مطلقاً إلى أدوار الرقص مع زميلتي أميرة بدور فارس الأحلام المحبوب. ولا بدور راقصة المعبد.
وكما خمنت وتوقعت، في البداية ثورة عنيفة ذات طابع قطعي. ابنة الشريف في آخر الزمن ممثلة، من بعد بدأت الأرض الصخرية تستجيب لضرباتي اليومية المتواصلة حتى تراخت اللا.
بدت تدريباتنا عشوائية وحركاتنا لا رابط بينها، نبكي حيث يجب أن نضحك، ونضحك حيث يجب أن نبكي. نعتمد على ماينغل في رأسنا الجاهل عن فن التمثيل دون وجود مخرج مختص. قمنا بتجسيد الأدوار كما فهمناها نحن الصغيرات نبدل من رأسنا ونغير من رأسنا. كان دوري ( رئيس الكهنة) في مملكة زنوبيا. رجل داهية منافق، جاسوس يعمل لحساب الرومان.
وعندما ارتديت الثوب الأسود الطويل الكاهن شاب دخل الكهنوت حديثاً ضحكت الآنسة هيفاء من شكلي: وشعرك؟ سألت.
تلمستُ جدائلي الكستنائية الطويلة.
- أقصه آنسة.
بدوت سعيدة مندفعة رغم يقيني بأن الحزن رفيق مخلص لي. قررت أن أدخل التجربة بعيداً عن الكتب الجادة التي يدفعني أحمد إلى قراءتها. تعبت من اللحاق به ومازال يسبقني بمراحل قد لا أعرفها أبداً، وقد لا أقبض على الزمن والحقيقة من كتب التاريخ المزور.
كان المسرح شيئاً خارقاً للعادة، لا يستوعبه وصفي، مزيجاً من فلسفة الوجود، الفن، والتاريخ، تواصل جماعي.. وإلى ذلك متعة نفسية، وتجاوز.
تساءلت:
- هل تجاوزت المحرمات بقبولي هذا الدور. ولكن ماعساي أن أفعل وأنا التي تتفجر الأسئلة في رأسي حول الكون والكائنات والناس والوطن، والوطنية هل أنا مجنونة أمشي على رأسي غير آبهة بالعائلة، وبالتقاليد والمحرمات؟ ترقرقت الدموع في عيني.
حضرني شوقي وغلبني يأسي من أحمد... أنا لا أشعر بالأمان إلا ورأسي على كتفه. أرمم بقايا المخزون في شراييني حتى لا يشمت أحد بالألم الذي يملؤني، وماذا بعد؟
لابد من لا. حددت وقتها رغبة في ترتيب ماتبعثر من ذهني في الدروب المتشعبة التي أثقلها التفكير بالنجاح والفشل ولقاء أحمد المذعور المخطوف من فم الغول. تناسيت شرور العالم ومؤامراته علينا.. حتى أثقلني التعب. ثلاثون يوماً من التدريب اليومي.
ثم توفيت المسرحية في أواخر نيسان كوداع لصف البكالوريا.
لم يخف تزيين وجهي باللمسات الرجالية ملاحمي. لحية صغيرة مدببة وشعيرات موزعة على جانبي وجهي. شعر قصير ملموم تحت قلنسوة كبيرة هبطت فوق جبيني، وثوب فضفاض ضم خصري بحبل مبروم مثل زاهد.
أثار ظهوري بتلك الهيئة ابتسامة عريضة لاحظتها على وجه أحمد الذي كنت قد دعوته. لم أفسر معناها، ولكنها أثارت غيظي. هاهو يضحك مني.
اندمجت بدوري غير مبالية، أديت الدور بكبرياء مغايرة لما أراده المؤلف.
انسحبت أخيراً متراجعة إلى الداخل كي أغير هندام الروح وأستعيد رغبة الحياة.
تحررت من اللباس الكهنوتي. انقلبت من فوري إلى دور آخر في المسرحية غدوت فارساً مرغوباً من الفتيات الجميلات يختار قلبه واحدة هي (الملكة زنوبيا).
عندما أسدل الستار وقفت لحظة صامتة وحدي وسط ديكورات ملونة أشيع وقتاً امتلأ بالحياة والنشاط.
بكيت في ليلة لا تنسى. أهو انغمار، انغماس، تواجد، هلع، اضطراب.. مجموعة انفعالات إنسانية أيقنت أنها لن تعود أبداً..؟
ركضتُ إلى الأستاذ سعيد كي يمسح عن وجهي بقايا المكياج لألحق بأخوي عادل وسامي قرب الباب الخارجي.
حملت الآنسة هيفاء صحيفة النصر مزهوة سعيدة، كأنها طردت حزن العالم من قلبها المسكون بالألم.
- سلمى.. سلمى. انظري هذه الكلمات في المربع الأسود. نجحنا. اقتربت من أذني همست. أحمد كتب بضعة أسطر أيضاً.
- صحيح؟.. طرت من الفرح.
عززت مكانتي معه وفقدتها مع العائلة. ثارت علي ابنة عم لي بنميمة من مجهولين. كانت قد اتخذت من بيت جدي مقراً لدعوة سلفية نصف أمية بعيداً عن جوهر فقهي حقيقي. غيرت في لون أسقفه الدار الخشبية الثمينة المحفورة والملونة. والمنقوشة بالأزاهير، والمرشوشات بماء الذهب والفضة. جعلتها مطلية بالكلس الأبيض. قلبت قاعاته التي شهدت أفراح وأتراح العائلة على مدى مئات السنين وأحالتها إلى كتاتيب شيخية بدائية.
زارتنا هذه المبشرة الملفوفة بملاءة سوداء مزمومة عند الخصر يقطر السم من ذقنها، ويلهب العينين الخضراوين.
ركضت أمي إلى المطبخ مبتهجة بالضيفة الكريمة. تود أن تضيف صنفاً آخر إلى الطعام. سمعت صراخاً وصوتاً يهدد.
- يابن عمي، يابن عمي، معقول أن تمثل سلمى دور كاهن في مسرحية وتظهر أمام الرجال. هذه بنت زقاق، وليست "بنت الشريف"....
حق علينا التأديب رحم الله جدها القاضي. مايقول فيها لو خرج من قبره، مايقول فينا. لكان أنكرنا ولعننا..
أحس الوالدان بالحرج وبالخطر يهدد ابنتهما. حملا درع الحماية بشراسة أثارت عجبي. فتفجرت دموع الفرح من عيني. خرجت منتصرة مرة أخرى وهذه المرة ضمن عائلتي.
رد والدي بحزم: سلمى لم تخرج عن طوعنا، نحن سمحنا لها بذلك. وضمن جو المدرسة، هرولت ابنة عمي إلى الشارع، ولم تعد إلى بيتنا أبداً.. لكنها ظلت تنتقل كالمكوك من بيت إلى بيت لتؤجج النيران ضدي.
يدرك والدي وحده مدى طموحي. فتح المحفظة الجلدية الصغيرة، ونتر منها مئة ليرة سورية:
- اشتري ياسلمى ماترغبين.
زوت أمي بين حاجبيها معاتبة.
- اسوارة في يدها أفضل.
- حسن هذه مني، والأسوارة منك.
لم أطلب بلساني ذهباً ولا فضة. كنت واحدة من كثيرات تبحث عن كيانها، عن وجودها، عن شخصيتها، تدافع مثلما يدافعن عن ذات أنثوية حرة تأتي في المقام الأول.
تنفس الدمشقيون نسائم الصيف الحارة. توجهوا نحو آخر خط الترام في المهاجرين ليشاهدوا سباق الخيل الذي يقدمه أبو عبدو الغاوردي وأبناؤه. يتحرك موكبهم التقليدي الفرساني بخيول مطهمة مزدانة الأعناق بالأطواق والسلاسل صبيحة كل جمعة من الميدان إلى المهاجرين في جلال مهيب إلى ساحة مكشوفة تتجمع فيها مئات النساء والرجال والأطفال. تبدأ التحية بكر وفر وإقدام وتراجع يلهب الآلاف بالتصفيق، ويفجر الحماس، ثم يعود موكبهم الرائع وكأنهم عائدون من ساحة حرب فرسان على صهوات جيادهم يزين جبينهم إكليل النصر. يلاحقهم هتاف الإعجاب.
أغلقت الجمعيات الثقافية أبوابها بسبب الحر. رحل من رحل إلى بلودان والزبداني. أو جبل لبنان. بقي أحمد يساهر الأوراق في عملٍ مضنٍ يرسم لوحات روائع. اعتكف يترجم مسرحية لغوغول. تقطعت أخباره وتعذر اللقاء. وصبر الهاتف علينا. فالمطبعة غول لا يرحم.
ظلت المدرسة النافذة الوحيدة التي لا تسيجها القضبان. أنطلق مهاجرة، أحمل رفة قلبي في الصدر الموجع أحاوره في سري وأنا في الطريق.
- ترى هل أراه، أم لا أراه، هل أراه أم لا أراه. وفجأة يهبط قلبي. وينذر باقات متناغمة لا تتوقف إلا عندما ينطلق جامحاً عابراً الرصيف نحوي.
هاهو آت بعد غياب يرمي الرسالة في كفي أوسدها صدري. ترى كم مرة قرأت كلماتها حتى انعدمت الأحرف وباخ الحبر.
ماذا يقول هذه المرة؟ يفلسف الحياة والعطاء.
(ساذجة أنت ياسلمى أنت ساذجة وبريئة. الحب حب متكامل مصهور بالجسد والفكر والإحساس. أتدرين ماقيس وليلى سوى أسطورة العجز عن الحب الكامل الحقيقي.
سلمى مزقي المألوف والسائد، تجاوزي نفسك، مزقي الأشواك التي وضعها المتكسبون. كوني امرأة كاملة الأنوثة متحررة من عبودية المواصفات التي وضعها المتكسبون، كوني امرأة كاملة الأنوثة متحررة من عبودية المواضعات).
أهي دعوة إلى الانعتاق من ربقة التابوهات. والاقتراب من النار. ارتعدت مزقت الرسالة. لم أجد أحمد بين سطورها. أصبح رجلاً آخر فقد صبره. عدت أجر رفات قلب ميت... يعذبني شوقي إليه. ترى هل أقوى على ضمه دون وجل. يريد روحي عارية صادقة مع نفسي أولاً. لا أكذب عليها مرة واحدة.
أمضيت ليلة معتمة تحجر الضوء فيها انسكبت ظلمته على إنسانيتي تتلظى بثورة الشباب.
نعود في صباح آخر لنلعب لعبة طفلية مضحكة. أمشي على رصيف ويمشي على رصيف. كيف نلتقي وأين. سؤال أمضنا. أفي بيته الذي ينغل بالأفراد، أم في بيتي المفعم بالأعراف حتى الاختناق.
مقاهي دمشق مفتوحة للرجال ومغلقة في وجه العشاق. لم يبق أمامنا سوى السينما. هذه الصالات التي عاشت قصتنا الغريبة.
ماكان أحمد ليرضخ لمثل هذه العلاقة الصبيانية كما يدعوها.
سرعان مايثور ويتململ:
- فكرت أن أستأجر بيتاً.
- أنت، وفي دمشق لتعيش وحدك؟
يشدني من يدي ويقهقه:
- لا ليس لوحدي.
ترى كم ظللنا هاربين في أزقة ضيقة وحارات مجهولة ونظرات متهمة. يسايرني ويضغط على أعصابه وهو العائد من بلاد بعيدة حيث يصل المحبان فيها إلى غايتهما مباشرة، تتلجلج الأنثى فيّ أمام قبلة. تتنازعني رغبتنا في التمرد والخضوع. أبقى بين مد وجزر ممزقة في علاقة محرمة بين رجل وفتاة. قال باستغراب:
- لم لا تسأليني عن الزواج شأن البنات عندما يتعرفن على أول شاب. مجرد أن يقول لهن مرحبا، يلقين الأنشوطة حول عنقه. حيرتني معك ياسلمى. ماذا تعنين؟!
رفضتُ الخوض في أي حديث مشابه، وفي زعمي أني أخرق ثغرة في سد إرثي منيع أقوى مني. وصلتني همسات مغرضة حول انهماك الأهل بالبحث عن عروس له. مثلت دور اللامبالية.
تنتصر الكبرياء تطغى على وجهي ومسام جلدي. تنز قطرات ندى من شعري في لحظات اللقاء المذعور، وأنا أهرب متخفية من عشيرتي... إلى حبي الكبير.
آه يا أحمد، كم أحس بالأمان معك؟
داعبته قائلة:
- أحمد ، سمعتُ أن العائلة نشطة خلف البنات الحلوات في هذه الأيام. قرأ في عيني الحريق، وقرأتُ في عينيه الاستسلام. كلانا يتلظى ويمشي عكساً إلى غايته.
تجاهل كلامي. احترمت صمته.
لم يك الخبر كاذباً، ولا مجرد إشاعة ملفقة. عقد قرانه على بنت مضمومة الشفتين على آهات مكبوتة في صدر أعجف، وقامة قصيرة، ودراية كبيرة بالكنس والطبخ.
ولم يتخلص أحمد من حلقة العشيرة. كان برغياً في عجلتها. لم ألومه على ضعفه؟ أليس منا ومن هذا البلد؟
أحزنني خضوعه وهشاشة ثوريته على الأعراف. هاهو أول من سقط في شبكة احتجاجاته، ولم يقو على انتشال نفسه منها. جللني غضب ونفور منه. فما عدت أريد أن أفهمه، ولا أريد أن أعرفه. انشطر إلى خليتين. جسدين، فكرين، تمالكت خيبتي. آه لو ينفجر هذا القلب إلى شظايا.
مشيت في الطريق. توقفت أمام محل للبوظة.
- ممكن أن أستعمل الهاتف؟
أدرت الأرقام التي أحببتها. انسكب صوته الصافي في أذني.-ألو.
صمتَ، صمتُ، بادرتهُ:
- مبروك أستاذ أحمد.
- تأخرت بالهاتف. انتظرته منذ فترة.
استيقظت في اليوم التالي، كالموتى، صفراء، خرقاء. مومياء. أجر قدمي إلى المدرسة. وكأني مساقة إلى المقصلة. فقدت كل بهجة. تساءلت:
- أكنت أتعلم، وأتعرف، وأستكشف، وأحارب سواد الحياة من أجله؟!
انتصرت عائلته على الحب. كانت تعرفني تخشاني. تخشى تحرري المورّد.
حاولت في الأيام التالية أن أضمد طعنة السكين المثلمة، لكنه ذات يوم عاد... قابلني واجهني كلمني، شدّ على يدي. قال إنه فسخ.
استعدت روحي. ظفرتُ به ظفرت به، هو لي وأنا له، ولن تتمكن امرأة أخرى أن تسلبه مني. قد تحظى بالجلد واللحم. ولكن ليس بقلبه. حاورت نفسي فيما كان يقترب بخطواته العجلى المتسارعة. تفرست في جسده النخيل المتمايل ويديه المعروقتين، وأصابعه الطويلة المتناسقة. حسبته مسيحاً أهو المسيح بعينه.
تراوح علاقتي بأحمد مكانها، تختمر على جمر هادئ. لم تعد لقاءاتنا في الأزقة المهجورة وبين المقابر في الجبل. فقد ساعدنا الحظ، سافر سعيد رفيق أحمد إلى بولونيا لنيل دكتوراه في الفيزياء. أشفق علينا فقدم لنا مفتاح بيته.
نجم عن هذه النقلة، بل القفزة فزع أكبر، وآلية شديدة الوطأة مثل كابوس مزعج. حشرتني بين رحى الطاحون. أثناء ذلك تشكلت رابطة للكتاب السوريين. وعمت المظاهرات العنيفة المدينة وحلب وحمص داعية إلى إسقاط حكم الشيشكلي، ساندها تمرد عسكري في حلب قادة نقيبان.
حسم الموقف لصالحهما انحياز قادة المنطقة الوسطى حمص. ترددت أثناءها إشاعة بأن لواءين عراقيين تحركا إلى جانبهم. وتسربت إشاعة أخرى بأن السعودية تدخلت حقناً للدماء.
يبدو مصفحتين مدججتين بالأسلحة شقتا صفوف المظاهرات إلى نصفين ووقع المقدور.
سرعان مانبذنا همومنا أمام متغيرات متسارعة حلت بالوطن. أفقنا صباح 1954، على بيان موجه إلى الشعب السوري يعلن الإطاحة بحكم الشيشكلي.
مل الشعب حوادث العنف، وأخبار الاعتقالات، والإضرابات والفوضى، ففي صيف تلك السنة وحدت الأحزاب التقدمية أهدافها ودعت إلى انتخابات بديلة حرة شعبية تثور على الرجعية وضمن خط سياسي ديمقراطي، وصولاً إلى الاشتراكية.
عاد شكري القوتلي رئيساً للجمهورية.
تنفست المدينة الصعداء بعد أن تصدعت سنوات متوالية. لفظت القشع الصدئ من صدرها، وارتخت أعصابها، عم الفرح والحزن.. الحزن خوفاً من تمزق جديد، فالأيام حبلى بالثارات والتصفيات، والولاء لفئة دون فئة أخرى. من يدري بالغد. ربما اعتقالات أخرى وانتماءات، واجتهادات، وربما انفجارات. فالموقف لم يتبلور بعد.
وعاد من سمّوا بالمحاليق إلى التمختر في شارع الصالحية، يزينهم شباب متفجر وعنجهية صارخة بعد أن تخلصوا من إعدام محقق. سرت شائعة أيام الانقلاب الأول تتهمهم بإلقاء القنابل والعبث بالأمن.
رن جرس الهاتف صباحاً، تناولت السماعة:
- سلمى، باختصار، ضحك الحظ في وجهك، وافق وزير المعارف على بكالوريا موحدة، بدل بكالوريا بقسمين، أنا في المطبعة، ثم سكت الهاتف.
- معقول ، غير معقول، سنة واحدة فقط وإذا أنا في الجامعة؟ جننت فرحاً، سأعبر سورها الحديدي إلى القاعات الفسيحة المطلة على الحديقة حيث يتجمع الطلاب أمام كلية الآداب.
تساءلت كطفلة وجدت نفسها في محل للألعاب كلها جميلة ومغرية. تتلون الأحلام. تتزاحم، تتناقض، ماذا دهاني، هل فقدت القدر ة على التركيز؟ الجامعة، الجامعة، اللقاءات، النقاش، الحرية.. صحت وأنا أخلع قميص النوم عنّي:
- في سبيل الجامعة. نحيا أو نبيد!
صفنت لحظة، يجب أن أراه، ولكن كيف؟ ركبت رأسي.. أينما كان، في الطريق، في المعمل، في الباص... أمام الناس، مع الناس لايهم لن أعدم وسيلة. فاجأته في المطبعة يتابع تصحيح البروفات قبل إرسالها إلى الطباعة منكباً على الطاولة ظهره إلى الباب، وإلى جانبه عامل صغير. لم أ در، أسرّه وجودي أم أغضبه. كانت نظرته متسائلة.
سلم الأوراق إلى العامل، وانتحى جانباً دون كلام. أفسح لي الطريق. مشى، مشيتُ كطفلة مذنبة.
البناء قديم لارتوش على جدرانه القذرة. أبواب مسدودة، وأرض وسخة. فتح باباً إلى اليسار وقال:
- تفضلي...
قرب النافذة المغبشة من هباب السيارات. العارية من الستائر. قبع رجل في مثل سن أحمد، زميله في العمل يمج الدخان من سيجارة. ويراقب سحائبه الملتفة في الغرفة المغلقة. دار في كرسيه المعدني. وقف مسلماً. لمحت في عينيه نظرة جريئة. ابتسم متخابثاً، وكأنه يصل حديثاً انقطع قبل هنيهة.
- البروفات جاهزة أستاذ أحمد؟
- حاضر أخي حبيب، دوماً حاضر.. وابتسم غامزاً نحوي.
- لا تنسَ مقالتك النقدية، يجب أن تصل إلى المطبعة اليوم. من الضحية هذه المرة، الفنان أم الفن التشكيلي؟ وضحك لنكتته. حمل بعضه وأوراقه، وقبل أن يغادر رازني بعينيه الصغيرتين المجربتين متأنياً مستكشفاً، ربما المسافة التي قطعتها مع أحمد. قال:
- ليت الآنسة سلمى تترجم لنا قصة من الأدب الأمريكي الحديث، هنري جيمس مثلاً. الكتاب عندي. ثم التفت نحوي:
- كيف لغتك؟
- أنا؟ رددت ساهمة أراقب أسنانه المسودة بفعل الدخان.
- طبعاً، أنتِ.
- مازلتُ في العاشر. لا تعتمد علي.
تباسط بالحديث، وخرج.
عقد أحمد حاجبيه مستاءً من تصرفات رفيقه، عقّب باقتضاب:
- اترك الأمر لنا.
ارتميت بين ذراعيه أنبش صدره وأتلفح بأضلاعه. سمعت وجيب قلبه. نسيت نفسي، تمنيتُ لو أقضي عمري معه، أموت هنا على الكتفين العريضين يضمانني بحنان وقوة همست لنفسي:
- إنه لي، إنه لي..
نقرة على الباب، انفصلنا، دخل الآذن يحمل صينية القهوة. نبر بأدب:
- طلبها الأستاذ حبيب.
مسحت عينا الرجل الطويل النحيل كنخلة باسقة أطراف قدمي، ثم تراجع نحو الباب بلطف:
- إنشاء الله تعجبك أستاذ.
أهي أطيب قهوة ذقتها في حياتي. أهي أحلى أمنية قطفتها من النجوم. أم أحلى فجر؟ غمرتني متعة الظفر. علي أن أختار.
- مارأيك بما طلبه حبيب؟
- سؤال متعجل.
رفع رأسه نحوي. رأيت غيرة واضحة في عينيه. قال: عندما تشربين القهوة، غادري، فما اعتاد العاملون في المطبعة زيارات مماثلة. غرس عينيه في شفتي. جرّني إليه وقبلّني.
في الدرب الملتوي نحو المرجة حيث محطة الترام وحوانيت الحلوى شعرت بالجوع، اشتريت قطعة مبرومة واحدة.
- واحدة، قال البائع دهشاً؟
- واحدة.
تسكعتُ أمام المكتبات. قلبت الكتب، والكتب المترجمة. خفق قلبي. هذا اسمه، اسم (أحمد الخالد) مؤطر بالأحمر على كتاب (غوغول).
تتبادل التوأمان دمشق وبيروت المعرفة. وددتُ لو أشتري سالومي، الأم، الزنبقة السوداء، درب إلى القمة، تاييس، أورى، الحي اللاتيني.
استعدت معنوياتي التي أوشكت على الانهيار بفضل نشاط ابنة العم المتزمتة كان أبي اسعدنا، فالعلم عنده خبز مقدس يحلف عليه. من أجله دفع ذهباً لإخوتي في مدرسة الفرير، وللبنات في مدرسة إيطالية. باع دكاكين وبيوتاً جميلة.
منعني التفكير من النوم.
- يافتاح ياعليم. قالت أمي وهي تفرك عينيها بالمنشفة. ماخلصنا قراءة؟ أرى دليل الهاتف في يدك. خير؟
- أبحث عن رقم إلهام حداد. سمعت أنها افتتحت مدرسة خاصة قد أشتغل عندها معلمة.
سكتت قليلاً ثم رمقتني:
- لا تتعجلي، لست بحاجة إلى العمل. أبوك موجود انتظري البكالوريا. أين أحلام الجامعة؟
تدفق الكلام تباعاً من فمها.
إذن هي لا تمانع، هذه بادرة طيبة. لو تدري كم أحتاج إلى أشياء وأشياء.
- طيب، هات بشارة، قلتها وأنا أندفع نحوها وأقبلها.. خلص، صرت بالبكالوريا. وافق وزير المعارف على دمج البكالورتين اعتباراً من هذه السنة. يعني السنة القادمة بكالوريا موحدة، ما سمعت الإذاعة؟!
تراجعت مرتاحة إلى المطبخ، فاحت رائحة القهوة بمذاق لذيذ منعش. نوّر الغرفة وجه أبي المشرق بابتسامة حانية.
- صباح الخير سلمى، شربتِ القهوة؟
هجمتُ عليه أعانقه:
- معقول بابا، بعد البكالوريا... الحقوق... مافينا كاني ماني.
- المحاماة والقضاء مهنة العائلة.
سألتُ: صحيح. أنا أنحدر من سابع قاضٍ ليس بينهم امرأة متعلمة؟
- طبعاً غير صحيح. ابنة أخي سعاد أول امرأة درست الحقوق في بلدنا.
- بابا، هات البشارة أنت أيضاً، صرت بالبكالوريا.. يعني قصر الدرب وحدوا البكالوريا. ما سمعت الخبر البارحة؟ أصبح بالإمكان الجمع بين العمل والجامعة.
مد وجهه نحوي:
- وهذه قبلة.
أبعدتني أخبار طازجة عن خواطري وصلتنا دعوة ملحاحة حارة تنز غيثاً من صهري صبري أفندي الذي استعاد وجاهته بين بدوٍ في آخر نقطة من شمالي البلاد. ضمنّ رسالته كلاماً كبيراً عن نجاحاته في زراعة القمح والقطن. لم ينسَ أن يذكر ما اشترى لأختي من ذهب ملأ يديها وأذنيها وحتى قدميها. وفي آخر الرسالة أن أم البنات حامل للمرة الثالثة منذ أن سافرت بعد عدة إجهاضات.
من خلال الأسطر فهمنا أنه اقتنى سيارة فخمة (بونتياك) زيتيّة وأجر سائقاً سريانياً سيكون تحت تصرفنا عندما يقرر والدي المجيء.
رمى الرسالة جانباً:
-سنرى ، عقب والدي، ونفخ ضيقاً من صدره.
رقصت فرحاً، صيفية رائعة، هأنذي أنطلق إلى أفق آخر.
تساءلت:
- ترى كيف أصبحت مها؟ أما زالت جميلة، نحيلة فارعة.
قرأنا الرسالة مرات، بادرت أمي بطيبتها المعهودة إلى توزيع الحلوى ابتهاجاً بالأنباء الجيدة التي رفضها إخوتي ساخرين.
- القمحة المسوسة لا تعطي إلا قمحاً مسوساً.
تنذرني عين أبي بالتروي. اقتربت منه أتدفأ بذراعه همست: بابا، أينما ذهبت أذهب معك. لا فكاك مني. ألا تشتاق إلى حفيداتك.
- أنا معك ياسلمى، البعد جفاء. ربت على كتفي وتمتم:
- لابد من بحث الأمر. سيئاته. وحسناته مع أخوتك.
تواترت القصص عن صبري أفندي عبر الأصدقاء والمعلمين العائدين من هناك.
- ذهب أبيض بين يديه، قطن بالأطنان.. أرض خصبة، رخيصة وفلاحون فقراء، جاء صبري أفندي في الوقت الملائم. حظ.. ووجه آخر للعملة الواحدة مستور بطبقة هشة تصبو إلى الكشف عنها. ولن يطول ذلك.
أطار المال صواب مها. أغمضت عينيها عن تحرشات زوجها بالفلاحات. وانغماسه حتى أذنيه في الرذيلة. وأغلقت سمعها عن همسات تدور في غرفة الخادمة الكردية. خرجت أختي من إهاب الخفر والحياء بعد أن كانت ترف عيناها من صوت عالٍ أو صفقة بابٍ حادة مفاجئة في بيت أهلها، تمسك أمي رأسها من أخبارها.
- العمى جنت مها، جنت البنت.
بعد لأي وافقت والدتي على سفرنا. كان يوماً قائظاً من شهر تموز.
أطلت علينا سيارة فخمة بلونيها الرائعين الأخضر الزيتي والأخضر الفاتح ملأ انسيابها البديع عيون الجيران. دار حولها الأولاد في الحارة، وتلمسوا أضواءها وأطلقوا زمورها.
حمل السائق سهيل الحقائب وعلب الحلوى، رتبها في صندوق السيارة الواسع بعناية.. ثم أخرج برادي القهوة والشاي من جيب الباب المخفي وسأل بأدب:
- هل تتكرم المدام. بملئه بالقهوة؟ الطريق طويلة والقهوة تساعدني على الانتباه.
كان السائق شاباً لا يتجاوز العشرين لطيفاً أزرق العينين، أشقر الشعر طويل الجذع. ارتاحت أنفسنا إلى تصرفاته. شد أبي من همته مرحباً ونحن نركب السيارة.
- الله يبارك بالشباب.
أبدى سهيل لهفة لإرضائنا، دخلت دماثته قلوبنا كأحد أفراد العائلة. توقف عند أول محطة للبنزين على مشارف حمص. نفخ الدواليب، ثم خرج بنا إلى ضفاف العاصي في حماة.
كان المنظر ساحراً، والنواعير تدور وتدور، وتئن، تجرف الماء ثم تصبه في قناة طويلة تروي أراضي حماة الخصبة. أسرع سهيل، مد بساطاً قماشياً مقلماً. وفرد كراسٍ من المعدن الخفيف.
- فنجان قهوة على العاصي ينعش القلب، مارأيك ياعم؟
ضحك والدي برضى: المليح لا يحتاج إلى مشورة.
- والآنسة، استدار نحوي متسائلاً بعينين ضاحكتين.
- مافي كلام، أجبته.. لكن بعد أن نأكل من الزوادة، أخشى عليها من الحر. وضبّت أمي أقراص الكبة والكفتة، والباذنجان المقلي في السلة الصغيرة.
تناول الشاب السلة.
أكلنا، استروحنا هواءً عليلاً هب من العاصي يحمل نسائم رطبة جففت العرق. تخلصنا من أحذيتنا، نراقب الغروب الفاتن الذي زحف سريعاً على المياه الخضراء الداكنة.
علق أبي:
- الماء حياة الدنيا. أنظروا، وأشار بيده نحو غيضة طويلة عامرة بالأشجار الكثة. بدت مثل كتلة سوداء متزاحمة على ضفتي النهر بشريط طويل ملتوٍ انساب مع جريان الماء. سرحنا مع المنظر وارتخت أعصابنا وهاجرت خواطرنا إلى دمشق.
همّ سهيل:

- لنلحق بحلب لنبيت ليلنا هناك. الفندق محجوز والغرف مهيأة، لا مشكلة من هذه الناحية.
- ماعرفناه عن المنطقة الشرقية نتف لا تفصح عن الحقيقة.
رد سهيل:
- أرض بكر خصبة، آبار ارتوازية حفرها الرأسماليون الحلبيون. جاؤوا بالتراكسات الحديثة. قلبت الأرض نحو الشمس، الأرض صالحة لزراعة الأرز وأجود أنواع القطن.
- وشوارعها، وحدائقها؟ أعني مدينة أختي.
- جميلة خططها الفرنسيون على نحو حديث حضاري، شوارع مستقيمة، وحارات منظمة مثل أوروبا، وأضاف:
- قد تصبح أكبر منافسة لبيروت، موقع استراتيجي مفتوح على تركيا شمالاً والعراق شرقاً وحتى إيران. تدفق الكلام من فمه حاراً وكأنه يستظهر درساً. بلاد مفتوحة على التهريب. كل شيء موجود فيها. من الدخان إلى الكهربائيات.
عندما أشرفنا على خان شيخون ومعرة النعمان صاح أبي مردداً بيتاً لأبي العلاء:
صاح، خفف الوطء، فما أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
تلمست كتفه متعبة، وغمرني نعاس عجيب، توقفنا على الطريق العام، شربنا الماء، وغسلنا وجوهنا، ثم تابعنا إلى مدينة حلب. نزلنا في فندق (الكونتيننتال) الذي بدا مهيباً تزين واجهاته الثريات النحاسية الأثرية.
لاحظت عراقة الأثاث والخشب المصقول القديم، والسرير العريض، زينت الجدران لوحات زيتية أصيلة، وامتدت على الأرض سجادة عجمية منقوشة بأجمل الطيور. نمنا بلا هز كما يقال. استيقظنا ظهراً. حركنا عضلاتنا الميتة من المشوار الطويل وخرجنا نتفرج على المدينة الرائعة بأبنيتها الحجرية البيضاء. شاب يترنّح في زاوية الشارع.. يخبئ قنينة العرق في جيب ستره الداخلية يمتصها قطرة قطرة.
- مسكين، بعد قليل سيقع ويدوسه الناس بأرجلهم.
ضحك الرجلان من كلماتي.
في عتمة الليل وقد خفّ استعارّ القيظ، سرنا شرقاً نحو دير الزور على هدي الأضواء الأمامية، في طريق وعرة صحراوية، ترابية، غير معبدة، شقتها دواليب الشاحنات المحملة بالبضائع من حلب إلى العراق. كانت الدروب تتطاول أمامنا كلما لحقت بنا سيارة. كنا كمن ألقي في اليم بلا طوق نجاة، بين سماء زرقاء وبحر هائل هدّار.. شعرنا أننا بين فكي لونين ترابيين غامقين رمليين تواصلا ثم ابتعدا ثم تواصلا. تلال وهضاب. قطعنا مساحات واسعة في قلب الصحراء. توقف السائق عدة مرات ليمسح زجاج الضوئين الأماميين. بعد نصف ساعة نثر العجاج ذراته على اللوح الزجاجي العريض، تسلل الرمل الناعم إلى الحلق والصدر. توقفنا مرة أخرى أمام عمود رملي انتصب فجأة غاشياً مهاجماً صافراً مرعباً، ثم تلاشى شيئاً فشيئاً. وترك أمامنا تلة.
بدت وجوهنا مضحكة في ضوء السيارة الباهت. مرشومة ببودرة بيضاء محت من ملامحنا الحواجب والأهداب. اجتزنا أرض جرداء مسلوخة عن المدينة ويد الإنسان، مرمية، منبوذة مقهورة عطشى. كانت محطات البنزين المتناثرة والمتباعدة معلماً مضيئاً مشرقاً ضمن واحات من السراب.
مررنا بخيام كالحة غبراء مصنعة من شعر الماعز فاحت منها رائحة الماعز والغنم والسمن البلدي... مضينا نسير ليلاً ونهاراً نتفيأ الشمس الحارقة. من خيام البدو ملأنا أوعيتنا وسلالنا باللبن والخبز واللحم المشوي والبيض والجبن الأبيض. فاجأتنا بيوت طينية. وأحياناً قرى هاربة من عمق التاريخ صامدة رغم أنف الطبيعة القاهرة بجدران قائمة وطاقات صغيرة وأبواب قصيرة خوف الطوز.
يرحب البدو بنا، تقول نظراتهم أنهم تعودوا على رجل غريبة... وحتى على رؤية أجانب من كل لون يحملون أدواتهم للتنقيب عن الآثار حول الفرات العظيم.
قال سهيل:
- رغم احتكاك هؤلاء البدو بالأجانب، مازالوا يحافظون على بدائية مفرطة ساهمت في تأصيلها قسوة الطبيعة، وشح المياه وهجمات العشائر الغازية.
خلال ساعات متواصلة من الحديث مع النفس أو الصمت، أو الأسف على الأراضي البور، وصلنا دير الزور عند المغيب، ومررنا فوق الجسر المشرف على النهر العظيم. بضع مقاهٍ على ضفة النهر تشوي السمك المسكوف. تبعثر رجال هنا وهناك يشربون القهوة أو الشاي. ويدخنون النارجيلة. عضنا الجوع. فلنجرب حظنا مع المسقوف. اختار أبي وسهيل جلسة مريحة قربنا الكرسي القش من حافة النهر كانت السماء صافية لا غيم فيها. ولا رفة نسمة. على الضفة الثانية تحركت كتلة سوداء مبهمة المعالم في الظلمة. حركات عشوائية ثم فجأة اشتعلت بها النيران سرعان ما أضحت كتلة لاهبة كالشمس أضاءت سطح الماء المتجمد. عوى صوت امرأة، وطقطقت عظام، وقف الرجال لحظة ثم عادوا إلى كراسيهم.
علق أحدهم:
- مجنونة أخرى حرقت نفسها. هذه الرابعة في أسبوع واحد.
حضر الأكل... لم أستطع فتح فمي بلقمة واحدة.. ظللت أبكي وبقي أنين المرأة المقهورة يضغط على أعصابي بجلال الموت. التهبت الآدمية دفعة واحدة. صبت على بدنها الكاز.. وانتهت هكذا. وبغفلة من الزمن والأحباب التهمها شيء ماسكن أعماقها.
حاول أبي وسهيل تهدئتي، فلم يفلحا. فالحظ الأسود ينتظرني في مفاجآت لم تكن في الحسبان وعلى موعد دائم معه.
ردد الجرسون وهو يلملم بقايا الحسك عن الطاولة ويرميها في النهر: حادثة مألوفة تتكرر باستمرار.. وأضاف: الدم هام في هذه الديار.
أعاد سهيل وضع الكوفية على رأسه، وأبي أيضاً... درجت السيارة على الجسر الشامخ ذاته في الشمال الشرقي.
قطعنا مسافة.. وفجأة هبت علينا رائحة بيض فاسد، سددت أنفي.
- ماهذه الرائحة؟
- أرض كبريتية، وصلنا الآن إلى رأس العين، قال السائق: هذه المياه تكفي لغسل أمراض جميع السوريين.
- عميقة؟ سألت.
- ما أحد يعرف، لو سقط فيها حجر لما سمعنا صوت ارتطامه. ياحرام، نبع يغلي بالنار. فمه مفتوح وخطر، وليس حوله حمامات للاستطباب.
- قد يقع أحد فيه.
- هو هو كل يوم حادث... رد بصوت عادي.
عادت الطبيعة إلى مهاجمتنا. يتثاءب السائق بملل، فالمناظر الرتيبة تدفعنا إلى اليأس. أسأل بين لحظة وأخرى:
- الطريق طويل.
يرد:
- هو هو.. دون أن يلتفت إليّ.
ثلاثة أيام ننام نهاراً ونمشي ليلاً. من بعيد سمعنا ناقوس كنيسة، لاحت بشائر بني آدم، هاهو الفردوس الموعود.
- هوذا.. البيت ذو الواجهة الحجرية والباب الحديدي، المصقول، خفق قلبي، رأيت امرأة قرب الباب تدلي بطنها، وتجمع على رأسها شعراً جعد كثيف، من أذنيها تدلى قرطان ذهبيان كبيران يحملان سمة تلك المنطقة، عانقتنا أختي وناحت على كتف والدها.
- هذه مها..؟!
اقترب صهري، انحنى مرحباً بشوشاً بملء فمه. صاح:
- مريم.. أبوشيرو!
هرول رجل مجدوع الأنف وهرولت امرأة شابة طويلة نحيلة القد، جميلة المحيا، حملت على رأسها لفّة كردية كبيرة، وبرز من أطراف ثوبها الأحمر سروال طويل امتد حتى الكعبين.
- عمي، شاي، أم قهوة؟ وأنت ياسلمى... ماشاء الله صرت صبية.
- دايماً حلوة، أما قلت لك، زغردت ضحكة مها الصافية.
- ليمون، نحتاج إلى شوال ليمون، ثم قهوة ثقيلة، بابا دائخ الله يعينكم، الداخل مفقود على طريق بلدكم، والواصل مولود.
عادت مها بإبريق ليمون معصور محمرة الجفنين. رسمت ابتسامة حلوة على ثغرها، وجلست قربنا تتلمسنا بيديها غير مصدقة.
- الغداء يا مها.. أنسيتِ حالك؟!
- مالي قلب ياصبري، اتركني معهم، خمس سنوات محرومة منهم.
قامت على مضض تحضر الطاولة، فاحت رائحة زكية، توهج خروف محشو بحمرة قانية، تلألأ بالدهن.
طال الليل علينا، أذن الصبح ومازلنا على جلستنا نحكي ونحكي. تنبهت حواسنا حتى مات النوم في أعيننا.
استقبلنا اليوم التالي بالمهنئين، انتقلت الحارة الدمشقية بتقاليدها وحرارة عاطفتها إلى هنا، عمر البيت بايفون، ومارلين، ومادلين، وعبد الله وسعد وجورج وفيرا، كل حمل صحناً ترحيباً بنا.
هدأت العاصفة وتوضحت ملامح أختي مها التي تضخم جسدها، وانتفخ بطنها كالطبل، ملأت الأساور الذهبية ذراعيها حتى الكوعين، ضحكتْ من دهشتي فبانت أضراسها المذهبة البشعة.
- آه لو تراها عين أمي وهي على حالها الجديدة مثل هدية المجنونة، أهذه مها ذات التقاطيع النبيلة، والقامة الرشيقة، والحركة الخفيفة؟ لم أر سوى كتل لحم مباركة تهتز وترتج بعيداً عن الأناقة الشامية. هذه شيخة بدوية ممرعة، زوجة شيخ، وليست مها التي أعرفها.
التقت أفكاري بأفكار أبي، ضبطته يراقب تحولها ويتعوذ:
- لاحول ولا قوة إلا باللّه.
تضخمت الولائم، فهمت الآن لم تعّرض جسد الصبية إلى التورم والترهل. ستلحق العدوى بي لو بقيت، فالفن المطبخي الحلبي والجزراوي، والشامي يملأ المائدة بروائح البهارات التي تسيل لها اللعاب. هكذا تطامن صبري أفندي إلى غرق زوجته في الشحم واللحم، كي يتفرغ هو لأعماله، مضاربة بالمراهنات، وتخليص أرض من فلاح أو حجز أرض على آخر أو رفع حجز من هناك، أو رفع حجز من هناك. يأكل كالمنشار، يسلخ ولا يرحم.
تقزز أبي من الموائد، وعافت نفسه الفراغ القاتل والجلسات اليومية وحديث أسعار القمح والقطن والدودة، همهم وأقسم معلناً عن ضجره وعزمه على العودة قبل أن تسخن الأرض تحتنا، وننسى هلعنا من هجوم الطبيعة الضاري.
حلف المضيف بالطلاق ثلاث مرات، وهكذا بقينا مرغمين نعاند الزمن ويعاندنا.
اقترحت الجارة فيرا، التي تدس يدها في جيب صهري، وترتاح لعطاياه أن نقوم برحلة إلى الضيعة حيث هواء صحراوي يبلل ليلنا، ويهدهد نومنا، ثم نشهد سباق الخيل بين فرسان البدو.
كان الطريق إلى البولادية وعر المسالك شديد المتعرجات، والانحدارات كادت أن تنزلق السيارة إلى الهاوية عدة مرات.
انطويت أشد على بطني بكلتا يدي أمنع الإقياء، لم أقو على الصمود تقيأت مافي جوفي داخل السيارة وعلى ثيابي، كما تقيّأ غيري، استمرت السيارة بحملها الثقيل، واهتزازها المضني تنقلنا من أكمة إلى أكمة، تهبط في وهدة وترتقي إلى درب ضيق لا تسلكه إلا الدواب، شعرنا باقتراب الموت، تساءلنا بخوف:
- هل سترمي جثثنا إلى الكلاب والوحوش الضارية في الفلاة وتكون هذه الرحلة إلى جهنم رأساً؟ تشبثت العيون القلقة بالسماء، وأطبقت الشفاه على تسليم بالقدر، أخيراً انبسطت الأرض كالكف.
سارت المركبة على خير، انزلقت الهوينا تجتاز نهراً عريضاً يفصلنا عن الضيعة، كانت سيارة الجيب قوية عالية وحدها تستطيع أن تخترق المياه الدفاقة دون خشية من انطفاء الموتور. كبس السائق على البنزين، فانطلقت كالعروس، عادت إلينا سكينتنا، تنفسنا الهواء والصعداء، شقت النهر رويداً رويداً، ثم خفت صوت المحرك.
- يالله، ونحن في عرض النهر، صرخت.
صرخ السائق مهدئاً:
- لا تخافوا، لا تخافوا ياجماعة، بسيطة، دوماً نقع في المطب ذاته.
قاطعته أختي المنفوخة كالضرف.
- يازلمة،خطوة وندرك حتفنا، علقت الأعشاب بالدواليب.
ملأت خيالي أفلام الرعب أغمضتُ عيني، واستسلمت للمجهول.
هدأنا أبي:
- لا ذعر، ولا غضب، حال الرجل مثل حالنا، ماباليد حيلة إلا أن ندعو الله ليبتسم لنا الحظ. باءت محاولات الشاب الجادة بالفشل، أدار المفتاح، أغلق الباب، انحنى يمنى ويسرة... لا فائدة، انقطع الأمل. دفع الحظ فلاحاً نحونا هرول مسرعاً، هلل بيديه من الضفة الأخرى، ضاع صوته وصوتنا في هدير النهر، حرك الفلاح يديه، ثم غاب، غابت معه قلوبنا، والماء يرتفع إلى خاصرة الجيب.
- ياجماعة لا تتحركوا رجاء، كرر السائق بعينين حمراوين.
فجأة لاح الفلاح ومعه مجموعة من الناس.
- جاء الفرج مع المجموعة، صرخنا.
أنزلوا حصانين مع فارسين وحبال إلى الماء، وبدأت عملية الجر لسفينة نوح التي بدأت تغرق، ذقنا طعم الموت.. ثم نجحت عملية الإنقاذ. وعدنا إلى الحياة.
قطعنا النهر خلف الأحصنة نحو النجاة. في الضيعة ارتمينا على فرش ممددة على الأرض مغطاة ببسط صوفية ملونة بنقوش رائعة، جلست أختي مثل خاتون في الزاوية وحولها ألقيت مخدات عالية، مسحت وجهها من العرق، شربت لبناً، ثم رأيناها فجأة وقد أغفت في مكانها، رمت زوجة المرابع حراماً صيفياً جديداً عليها.
توسطت المربع طاولة منقوشة عليها صدر نحاسي كبير وفي داخله صفت فناجين القهوة المرة والركوة.
اقتحمت رائحة الشواء أنوفنا، هب الفلاح إلى الخلاء يثير همم النسوة. تداخل الغداء والعشاء. انتصف المغرب ولما يفّك أسر الخرفان الثلاثة التي ذبحت على شرفنا.
اقترب صبري أفندني من أبي وقال:
- مارأيك بكأس من اللبن الطازج؟ أم تفضل الحليب من ثدي الماعز؟
- اللبن.
- ذقنا لبناً أطيب من القشدة، وبلمح البصر فرش أولاد الفلاح المرابع شرشفاً حموياً مقلماً على الأرض فوق السجاد. فاحت رائحة خبز الصاج الذهبي. قرب رجل طستاً من يد أبي ثم يدي صب الماء من إبريق نحاسي غسلنا أيدينا، ثم دار على الآخرين.
صاح صاحب الدعوة:
- يالله ياجماعة، وأنت ياشيخ سلومي، الأكل على قدر المحبة. تحرك من زاوية الخيمة المزخرفة المشغولة بأناة من عيدان قصبٍ بديع شاب في الثلاثين من عمره كان قد سبقنا. هجمت قامة مديدة زادها اللباس العربي هيبة، رد كوفية بيضاء عن كتفيه.
تململت مها في مكانها غمزتني، ركضت نحوها.
- ألست جائعة يامها؟! يجب أن تأكلي شيئاً من أجل الطفل، أما أنا فأكاد أموت من الجوع.
- أرخي ثوبك ياسلمى، هذا شيخ عشيرة شمر السلومي، شباب، ومال لا تأكله النيران.. يوم في دمشق، وآخر في حلب، والآن في فيينا، تدرج نحو أوروبا.
- ياسلام!
لم أخف ضحكة صغيرة اغتالها أبي مع ازورار، تنبهت إلى نفسي، سددت فمي بيدي.
همست:
- وكيف يتفاهم معهم،بأية لغة؟
- في خدمته سكرتير.
- يحكي عنه؟
- اخرسي وعودي إلى الطعام، لا فائدة منك، خائبة.
جلبتُ صحنين باللحم واقتربت منها.
أحسست بنظرات شيخ العشيرة الدبقة على وجهي، نظرات بدوي جريء، كور خبز الصاج واللحم بأصابعه الثلاث. ورماها في فمه، صدمني احتقان قبيح في عينيه.
- مها، عيناه بشعتان مثل الجمر.
- تراخوما، تراخوما، كل أهالي المنطقة الشرقية مصابون بها بسبب الطوز والعجاج.
- يالطيف، ما أبشعه.
- مجنونة، نصف بنات حلب يرتمين على قدميه.
- بل على ماله. متزوج؟
- متزوج.
- طبعاً. هؤلاء يتزوجون صغار السن، عادة العشيرة . الزوجة الأولى ابنة العم.
- ماشاء الله، ومادخله معكم ومعنا وكأنه من أصحاب البيت، شغلنا مرتبط به. أراضيه بين يدي صهرك.
-فهمتُ الآن سبب الدعوة الحارة . تجارة وزيارة بل زيادة نعجة جديدة تضم إلى قطيعه. رقيق أبيض يباع شرعاً بالزواج، ويقّبن بالمال والأراضي.
- مجنونة ، موتي مع أحلامك.
أجبت بعصبية:
- أفضل من الموت مع لص ابن لص يتحكم في جلساتنا وحياتنا.
تنبه صبري أفندي. صفق بيديه محدثاً ضجة:
- القهوة تقتل الدسم.. أعلن صهري..
لم يكذب السلومي حدسي. فقد حضر إلى العشاء في اليوم التالي بسيارته الخمرية الشيفروليه المكشوفة كي يدعونا إلى العشاء في مطعم (كربيس).
تلمظ وتضوع الطعام الحلبي، قال بلهجة بدوية غريبة:
- يا الله ياجماعة.
يحتل مطعم (كربيس) موقعاً استراتيجياً في البلدة الصغيرة الملمومة على بعضها، والواقعة على الحدود الشرقية الشمالية. يسميها أهلها (الفردوس) ويطلق الغرباء عليها بلدة التهريب لجميع أنواع السجائر والبلوريات، والسجاد والغنم من تركيا. تلتف حول المطعم دور مدير المنطقة، ورئيس المخفر والبلدية، ومحكمة الصلح، وسوق الصاغة. وخارج الدائرة الأولى توزعت المدارس الابتدائية.
تقدمنا صهري. ركض الجرسون يدله على الطاولة المحجوزة، رافقه بناظريه. التفت إلينا:
- نصف الأهالي بوليس، والنصف الآخر مهربون، على كلِ هذا أفضل مطعم لا تجد مثيله إلا في العاصمة. صاحبه خبيث شاطر يعرف من أين تؤكل الكتف، وكتف المواطنين بخاصة.
كان المطعم أنيقاً تفوح منه رائحة بورجوازية أنيقة باذخة جميلة مزيناً بديكورات خشبية تصالبت فوق الجدران وطليت باللون الأخضر، وفصل بعضها بين الطاولات، تدلت من الأحواض المرمرية أوراق اللبلاب والختمية وأنواع من الورود والأزهار الصيفية. انتقلت ديارات دمشق، وبحراتها إلى هنا، سالت من نوافيرها مياه رقراقة شفافة.
قطعة معمارية دمشقية وسط بيوت نصفها طيني، ونصفها الآخر خيام.
كنا أربعة كباراً ماعدا أولاد أختي، اتخذ السائق طاولة بعيدة كالعادة، وطلب بطحة عرق مع مازة حلبية، بعد قليل شرف الداعي يحف به رهط من زلمة باللباس العربي، تفرقوا عنه إلى طاولات أخرى.
فرك كفيه معتذراً وانحنى ويده على صدره، وجه كلامه إلى أبي وأشار بيده نحو صبري أفندي:
- لا تؤاخذني ياعم. البركة في الأستاذ. وقعد قبالتي، نقلني أبي إلى كرسي قربه. انخرط الرجلان صهري والسلومي في حديث مسموم حول تهريب الغنم ومقتل الراعي حمد على يد الحرس التركي، ترك ظلاله القائمة على وجهيهما:
قالت مها:
- مشاكل مع الحدود لا تنتهي.
اقترح السلومي أن يشرب قدحاً على شرف والدي. صفق بيديه، هرع النادل.
- بطرس قازان. مافي توما، مافي أكسترا وطاولة زهر.
- مارأيك ياعم دق بدق.
- محبوسة. فتح الطاولة وتجلس، لا أعرف غيرها. قهقه بصوتٍ مبحوحٍ. لعب السلومي، اندلق الزهر عليه، وأتاه الحظ، غلب ضيفه مرات خمساً. فرك يديه مبتهجاً، نتر من جيبه سبحة ذهبية بأحجار كريمة.
وقدمها لأبي.
- هدية للذكرى.. لا تتردد ياعم. هذه عادتنا. النبي قبل الهدية.
مد أبو هشام الرجل المهيب يده. تحسس الحبات اللامعة، وتركها ملتوية على الطاولة. نادى السلومي على أحد رجاله. حرك أصابعه آمراً دون أن يلتفت.
- أين العلبة؟
أخرج الرجل العلبة متزلفاً باسماً تحت شاربين عنتريين. أدخل المسبحة الثمينة بين طيات المخمل وتهيأ متأدباً.
لم يسع أبي الرفض. أعطاها إلى أختي دستها في حقيبة يدها الجلدية دون أن تلمس الشرابة المشكوكة بحبات من الزمرد والياقوت قد تصلح عقداً أو حلقاً.
لكلزتني مها بكوعها:
- هذه مقدمة. مال لا تأكله النيران.
كثرت الدعوات، وتناثرت أثناءها كلمات مرمزّة تفسر رغبة السلومي في التقرب منا.
- بسببي أنا، من يظن نفسه هذا البدوي؟ قلت لمها.
- تنازعتني خواطر عدة، وتناهبني مد وجزر، وإقبال وصد.
ألم يعذبني أحمد ليلة عقد قرانه على أخرى، وتركني مجنونة محبوسة في قمقم، لا أقوى على الخروج منه تحت وطأة عواطفي المكسورة، ألم يدعني نهباً للذل وقت أن فكر بثانية، ألم يجرح كبريائي أمام رفقائنا، وتركني نهب الأقاويل؟ لم لا أرد له الصاع صاعين وأصبح أميرة على بطاح لا نهاية لها يتسمر الخدم بين يدي. آمر، أنهي. ربما تتحقق أحلامي الكبيرة انطلاقاً من هذه القرية المعلقة بآخر الدنيا. ابني مدرسة، ومسرحاً وحدائق، أنقل دمشق إلى هنا، إلامَ الناس ومعظم من قابلتهم هنا كالدواب، يأكلون وينامون ويضاجعون نساءهم مع روائح المزابل.
هل أرفض الشيفرولية؟ أكون مجنونة إذن.
استيقظت على صليل خشخشة الأساور في يد مها، ما الفرق بينها وبين هدية المجنونة.
- ربما سأصبح أنا هدية مجنونة أخرى ذات يوم.
- قومي.. قومي.. هل رأيتِ حلاماً لمِ كنت تصرخين؟
- وماذا قلتِ؟ خفت أن أكون قد تلفظت باسم أحمد.
- قلت مستحيل، لا!
نفضت من رأسي كابوس مها، أنا لستُ مها، لست نعجة تغرق بالطعام والذهب، الجامعة، هل نسيتها؟ وماذا لو رضي الوالد؟ وأغراه البدوي بالمال والشباب؟
- ولكنه زعيم عشيرة تتجاوز الآلاف. ليس بدوياً إطلاقاً.
- وأميّ لا يعرف القراءة والكتابة. ثلاثون سنة وخلفه عر أولاد يخرب بيته وبيت ماله.
في الصباح جاء مبكراً. حمل حليباً طازجاً ساخناً من ثدي النعجة، ترفرف حول كتفيه كوفية بيضاء تنسدل فوق ثياب نظيفة مكوية. داهمت وأنا أقترب من غرفة الطعام حديثاً بين الصابحين، فتلكأت.
- يالله بسم الله الرحمن الرحمين نقرأ الفاتحة، علا صوت صهري صبري أفندي.
رد أبي اللقمة عن فمه وأجاب:
- كله نصيب، لم العجلة؟ على مهل، الأيام أمامنا، لن تطير البنت ماتزال صغيرة.
صدق حدسي هاقد شربوا القهوة وتحدثوا، وتناقشوا، وقصوا وفصلوا حول مستقبلي، حياتي، وأنا في غفلة، هسهست مها فرحة من المطبخ، لحقتها.
- لك يامجنونة، حظك من السماء، طلب السلومي يدك، تصوري ست وثلاثون قرية له وحده، وتحت إمرته، أي إمرتك، ملكك، إن شاء الله يصير نصيب، أعادت: إن شاء الله يصير نصيب، ورفعت يديها كعجوز إلى المولى.
صفنت:
- ست وثلاثون قرية لرجل واحد، ياه ياللنعيم، الذي سأرفل فيه ويالفرحة أمي التي ستزف البشرى إلى الجيران بعد أن تكون قد أوصلت الأمانة سالمة إلى أصحابها، إلى الزوج المقبل، أجبت مداعبة:
- ماذ أفعل بها. الحياة واحدة، وأواجه مشكلاتها وحدي. طار فكري إلى أحمد هل أجرحه كما جرحني يوم تركني إلى أخرى؟ سألت:
- وبماذا أجاب بابا؟
- كزت على شفتيها:
- غريب أمر أبي من يرفض عرض السلومي، لم يعطِ جواباً، ولم نعرف رأيه.. وأصر على السفر.. ربما أجلّ الموضوع إلى حين عودته إلى دمشق يوم الخميس القادم.
أصبح وجود السلومي بيننا، وهداياه، ونكاته، وخرفانه المذبوحة أمراً مألوفاً، صار مصدر قلق لي. لم يك سيئاً لبنت تتشهى الزواج ولكنه لم يخلق لي بتاتاً، فأنا أريد أن يتركني للتجارب المريرة التي تعيشها الزوجات المهملات، وتؤدي بأكثرهن إلى الجريمة، إما إلى قتله، أو إلى قتلها. هل أضع القيد في عنقي بملء إرادتي وحريتي لأعيش مع أميّ يضمني إلى حريمه مستقبلاً؟ من يرده، يصدّه، من يردعه، ولديه أكبر قوة محركة في العالم: المال!
أقلقتني الأسئلة الصعبة لاختيار أصعب.
جهزتُ مها زوادة لسفرنا، واشترت الهدايا رداً على هدايانا، وخلعت من معصميها سوارين ذهبيين دقة الماس.
- هذه هدية مني لك.
قلبت السوارين بين يدي.. وغضبت من تصرفاتها.. شعرت بإهانة.
لِمَ لم تشتر جديدين..؟
قرأت أفكاري: هات، هات يدك، عنيدة، وألبستني إياهما غصباً.
أمرت الخادمة الكردية بتحضير المرتديلا، واللحم المقدد، أوجعني مجرد التفكير بعناء السفر والعودة عبر الفيافي ذاتها.
ثلاثة أيام أخرى من لوعة الوداع قضيناها لم تنسنا ماسنعانيه من الحر والغبار والخوف من الطبيعة المتحولة حتى مدينة حلب.
لاح أحمد على البعد، عبر الرؤى، عبر رعشات القلب وتقلصات الحلق حتى الاختناق. أحمد بكل روائه، وتحوله، وعقده، وتأرجحه بين عادات موروثة، وانطلاقة العقل الحكيمة العلمية. مغموس بالسياسة حتى قراقيط أذنيه، مهدد بالتسريح كلما تبدل مسؤول وجاء مسؤول.. فكرت كذلك: من الحماقة والغباء الفاحش أن أترك مصيري عائماً في قارب مهدد أبداً بالغرق، والتشرد بعيداً عن السكينة البيتية والأولاد، أجّل أبي موضوع الساعة إلى حين، لعله خاف من اتخاذ موقف دون موافقة أمي وعشيرة آل الشريف.. بالأغلب احترقت الطبخة بين يدي صبري أفندي ومها.
في صباح مبكر.. غادرنا القرية المفتوحة على الخيرات دون أسف، مللنا الراحة المصطنعة:
بدا أبو هشام متحمساً راضياً عن قراره. أزاح هما عن صدره، ماكنتُ لأرضى أن أعود خاسرة.
قررتُ مواجهة أحمد بالأمر. في أول لقاء، شرحت ماحدث ببساطة متناهية كما لو أن الأمر يعني فتاة أخرى. تأملني فترة طويلة بدون كلام.
تقول عيناه:
- يالك من ممثلة فاشلة، عجزت وسلمت أمام أول هزة، نترت قصيدة جديدة كتبتها أثناء وجودي في قرية (الفردوس) وطلبت منه أن يعطيني رأيه صراحة بها.
قرأها مرتين ثم تبسم رضى. ربت على كتفي ولفني بحنان قائلاً:
- هذه سلمى التي أريد...
رغم العاطفة المشبوبة المتحيرة بين أسطرها؟ تساءلت:
- عاطفة صادقة، وهذا سر جمالها.
- أعجبتك.. قلها.. قلها.. لم تخبئ الفرح؟
- لا أدري.. دائماً أخاف من الفرح. أرجح جسده يمنة ويسرة ثم أبقاه واقفاً صلداً كالحجر وأضاف:
- هذه كلمات تعلق بالذهن.
طرت فرحاً، تعمشقت على الحيطان الملساء.. أخيراً نطق كلمة حلوة. هو ذا رجلي، رجلي الذي أريد.
فرط مشروع الزواج بضغط من أخي عادل.. يظل عادل مثقفاً متوازناً ومنفتحاً ولا تهمه المغريات الآنية التي لا يدري أحد إلامَ ستؤدي في آخر المطاف. عاشت الرحلة شهراً معنا، لونت أحاديثنا، وغيرت طعمها وسمرها في السهرات العائلية.
وردتنا من ليبريا رسالة مطبوعة باللغة الإنكليزية من أخي المغترب في إفريقيا، استعنت بالقاموس عدة مرات ثم ترجمتها لامي: كانت الرسالة عبارة عن حديث شاب متعجرف انتسب إلى نادي سباق السيارات الأمريكي الدولي الذي تموله شركة (فايرستون) العالمية. وكيف أصبح عضواً بارزاً بعد محاولات ناجحة في ركوب السيارات، ومقرباً من رئيس الجمهورية، كما أصبح أكبر رامٍ بالمسدس في مدينة هاربل قرب العاصمة منروفيا، ضربت أمي على صدرها خائبة:
- ياللأخبار المخزية عن نجاحات وهمية حادت به عن الدرب والهدف.
تساءلت بأسى قبض على قلبي:
- أهي الغربة القاسية جرته إلى تفريغ الحنين من فؤاده عن طريق العنف. أم التوحد الوحشي في بيئة غير بيئته، أم المال الذي هبط عليه دون تعب؟ خاب ظن العائلة به. حسبوا حساب كل شيء إلا هذه النتيجة، حلموا بأنه سيعود بعد خمس سنوات، يحمل الذهب على كفيه، رجلاً صلباً لا ككل الرجال.. رجلاً خلقته المعاناة.
زاد بكاء أمي تركناها تفرج عن كربها.
علق أبي محزوناً:
- المال السهل يذهب بالطريق السهل.
قال سامي:
- بداية الانتحار.
أجل كان محقاً في قوله. فقد حمل البريد أخباراً تعيسة عن غرقه في أحضان النساء الإفريقيات في مجتمع أموي لا يملك، هو الإنسان الشرقي، حق أبنائه الذكور السبعة.
أطلقت أمي تنهيدة: ست محلات تجارية تمتد من أرض المطار حتى العاصمة ولا تسد الديون وفوائد البنوك؟ أية خيبة لأخي محمد الفاتح.
رد هشام ممازحاً وساخراً:
- لا تخشي على ابنكِ فهو الأمين الوفي لتلك المخازن. يعرف كيف يصرّفها.
أتلفن إلى أحمد لمجرد سماع صوته ثم أغلق السماعة، كشفني، كشف لعبتي.
ترى هل أحس بلهاثي حتى فضح أمري؟
ناولته القصة مترجمة على صفحات ثلاث. قرأ الصفحة الأولى نبر بثقة:
-لا، لا ليست هذه ترجمة، هذه كلمات مرصوفة لا تشكل قلب ونبض كاتب مثل (جيمس).
مزق أحمد سهر أسبوع كامل، تناولت المزق المرمية على الطاولة، واندفعت هائجة خارجة من بيته، همت في الشوارع التي أحبها محبطة، المهاجرين، عرنوس، الجسر الأبيض، بوابة الصالحية، المرجة، بقيت بالترام، عدت معه حتى آخر الخط في المهاجرين، بكيت بلا دموع. صممتُ على القطيعة. لابد من اتخاذ خطوة، موقفٍ حاسمٍ، أعلمته في الليلة ذاتها عن قراري.
- يجب أن نبتعد عن بعضنا، لنجرب أنفسنا، على كلٍ سأسجل في دورة صيفية قد تلتهم وقتي، وأنت أدرى الناس بقيمة الوقت. أعلنت مدرسة (الثانوية الأدبية) عن دورة مكثفة للمواد الرئيسية مدتها شهران، وهذه فرصة لي، أصبحت في سباق مع الزمن. قال متردداً:
- لنجرب، كما.. تشائين.. أنا واثق من أنها تجربة سخيفة.
انغمست في كتب المنطق، وعلم النفس، والفلسفة على نحوٍ مرهق. جافاني النوم في تلك الركضة. سرح مدير التربية بعد خلاف جوهري مع وزير المعارف حول مناهج التدريس وجاءنا مدرساً لمادة العربي. جاءنا من كان يهز أركان التربية.
في الصف، تعرفت زميلة خفيفة الظل، لمّاحة، تحب النكتة إذ تخلق جواً مرحاً حولها. بطفولة صبيانية، معاندة للمألوف قلمت شفتها السفلي بالحبر الأزرق، جعلته وشماً كنساء بلدة السلومي.
ضحك الأستاذ حين رآها. حين دمعت عيناه. لم يتمالك نفسه من التعليق:
- من أين الآنسة؟
ضحكنا كلنا.
- من الرقة أستاذ.
وفي درس تالٍ، رسمنا جميعاً الوشم على شفاهنا.
قال الأستاذ مدير المعارف السابق:
- يابنات ، مهلاً، ستجيء إلى دمشق بدوية من الميادين تجيد الوشم، أرى أن هذا الحبر الأزرق الذي وضع على شفاهكن غير جميل، فمن أرادت أن تكتحل أو توشم فلتسجل اسمها على هذه الورقة، ونادى على رجاء صاحبة الفتنة، وسلمها الورقة.
- دوري على زميلاتك من فضلك.
أحسسنا بخطر اللعبة، أوقعتنا اللعينة في شر أعمالها. قد يطردنا المدير وقد يحرمنا من تقديم الفحص، وهات يا أمل كاذب بالبكالوريا. غير أنه كرجل ذكي محنك غفر مداعباتنا بأبوة سمحة.
سقى الله تلك الأيام، كمّ مرحنا، وكم لعبنا، وكم سقطنا في جب البراءة لاهيات عما يخبئ القدر حالمات بالتقاط النجوم.
ها أنذا أشتري صحيفة أحمد، علقني هوس قراءة الصحف اليومية. أسجل بعض الملاحظات الساخرة على هامش مقالته. (من القلب) كرد انفعالي لهيمنته علي، أمضّنا الشوق. يعترض أحمد طريقي بعد جفاء.
- مرحباً ، آنسة سلمى...
أسمع تحيته وأكابر.
- البعد جفاء. كفى تمثيلاً فاشلاً، أين أنتِ، على الأقل اسألي عن إنسان يقلق عليك.
حدثتُ نفسي:
- يقلق علي، كيف ياترى؟ تجاهلتُ مايرمي إليه. رميت كلمة:
- البكالوريا وصعوبة البكالوريا..
- خطوة، وتتحقق أمانيك حين تطلين على الجامعة، ساعتئذٍ من يقدر عليك؟
- أملي ضعيف ، مواد صعبة، ووقت قصير.
- هنا تبرز شخصية سلمى الشريف، أم نسيت؟
حدقت في عينيه وددتُ لو أمزق وجهه قبلات، ربما غرقت في رغبتي تلك. لم أكذب على نفسي. اعترف بأني أشتاق إليه شوقي إلى النور. هل أقول له إنني كذبتُ يوم طلبتُ القطيعة، وإنني أنتحر يومياً وإنني وياللمهزلة، أتلاشى أمام لحظة سقوط العين في العين.
- أراكِ غداً. قال باتاً. استسلمت.
- أراك..
هجم الفحص بكلكله. مئات مثلي، أولا مثلي يركضن خلف هدف. وهدفي أنا.. الجامعة. أحقق ذاتي، كياني، وجودي، حريتي من خلالها.
يسلّ شهر الامتحان العافية مني.. ولكنه يحمل الموعود، القرار استثنائي والدورة استثنائية، والنجاح استثنائي.
-وكيف عملتِ؟ سألني أحمد وهو يخاصرني بغتة.
- وضعتها في جيبي.
- من؟
- البكالوريا، ألا تسأل عنها؟
أطار نبأ النجاح صوابي. وحملني إلى سموات سبع اخترقت حجاباً خلف حجاب، سبحت فوق غيمات رقاق قطنية دافئة، يؤهلني النجاح لأي فرع أريده في الجامعة..عدا الطب الذي أخشاه. صحيح أنني لم أحقق درجة عالية في العلامات، ولكنها قمينة بأن تحملني فوق عتبة صعبة نحو الانطلاق.
من تحت الأقفال، وفوق الأسيجة الحديدية، رحت ألقاه، وأمشي عذراء حافية على الجمر، أمشي على صوت تصفيق المتفرجين الذين يزكي اللهيب، يتلبسني رعب قاتل من ألسنة الناس. وها أنذا أمشي إلى مالا نهاية..اخترت الطريق. أدرك الخطر. وأمضي إليه بقدمي مندفعة متألقة عاجزة أمام ندائه.
عدت إلى التفكير الممض. ماذا حققتُ؟ فجأة وجدتني لا أقبض على برغي صغير في دورة الحياة الهائلة، تساءلت بوعي أشد.
- هل حقاً تحررت بالنجاح من سلطة الذكورة النتنة؟
استعرضت وجوهاً محبوبة في الوسط الاجتماعي. لمياء دفعت باسمها إلى التقول ثم انتحرت. عفاف هربت إلى أحضان عجوز يسد جوعها إلى الملابس الأنيقة والسيارة الفارهة بعد أن تحطمت وحطمت ناديا التي خرقت تقاليد بلدة ساخرة من أم عجوز وعانس تاهت خلف الغبار. هيام التي وضعت النظارات السوداء على عينيها ولم تخلعها حتى ماتت. نورس التي أفنت صباها وموهبتها في العمل من أجل مثل لإخوة صغار. أمي التي أطرت حياتها بالعادات والأعراف، وتأمين رغبات زوج ازدادت سنة بعد سنة مع التغيرات الفيزيولوجية المنهارة؟ مها التي أضحت نقطة ضمن غبار يعج بقذارة المال والحياة التافهة الدنيئة المخبوءة في حنايا زوجها الوجيه. مَنْ، مَنْ، التي استطاعت أن تنتشل نفسها حقيقة وحدها دون كفٍ رفيقة يملؤها الحنان. دون رجلٍ حرٍ انتزع من أعماقه جذور الأنانية التي تقبر الحب وأدرك تماماً أن المرأة ليست ضلعاً هشاً خرج من خاصرة الرجل ولا هي وعاء لرغباته. إنها سر الدنيا.
ابتسم بمرارة فائقة لحديث امرأة معي تجاوزت الخمسين. كانت صامتة جميلة كما الجمال، ذكية داهية، قادرة على تنظيم الحياة، وأعرف من كثيرات رأيتهن أو مررن بحياتي.
سألتني مرة وهي تربت على رأس آخر مواليدها:
- كيف يكون الحب بين زوجين ياترى؟
- رفعت حاجبي دهشة من حقيقة صدمتني.
- والأولاد الخمسة من أين أتيت بهن.
- سمعت عن الحب، سماعاً ، والحب في عرفنا عيب.
هل تعلن المرأة رغبتها بالرجل أيضاً؟ همست خجلة.
حاورت نفسي:
- أكانت حياتها اغتصاباً وجسدها لحماً مستباحاً طوال ثلاثين عاماً من الزواج؟
تؤرقني ذكرى هذه المرأة، وربما كثيرات من نسائنا اللواتي قتلهن الخفر. فسقطن أسيرات أحلام اليقظة. فكرت، يجب أن أتحرك على صعيد العمل إن أردتُ وزناً متكاملاً. تحريت من صديقاتي العاملات.
- البنك، لا، الهاتف، أعوذ بالله، بائعة، مستحيل. أسلم طريق للمرأة في بلدي هو التعليم. ولكن التعليم يحتاج إلى دار معلمات وأصول التدريس، وقواعد الانضباط، هذا هو الطريق الأمين والمنفرج عن كلمة نعم من الأهل.
عشية الخميس وهو يوم مقدس في بلدي تتم فيه كل الشعائر الدنيوية والدينية، من زواج وختان، وصلة الرحم زارنا قريب ذو نفوذ في وزارة الاقتصاد يتأبط دكتواره في العلوم السياسية من أمريكا. كان الرجل بعينيه الزرقاوين الهاربتين من دم هجين عن طريق أمه الفرنسية، ودوداً وذكياً، يفهم لغة العيون كما يفهم الموسيقى الكلاسيكية. يحمل صوته لطائف النبرات الدافئة.
- ايه يابن العم. كيف وجدت بناتنا.
- في تقدم مروع. يضحك.
يتدخل أبي مسالماً:
- عسى أن لا تكون قد وقعت في حبائل الأجنبيات.
يضحك ابن العم ويرمقني متوجساً من الانزلاق في حديث متشعب لا يرغبه.
- أفكار مغلوطة عن نساء الغرب ياعمي.
- يكفي أنهن يستولين على خيرة شبابنا، فهمت علي. زيوان البلد ولا قمح الجلب. كما يقال.
يحتدم النقاش بينهما وأتفرج. أقول في سرّي:
- ليتني أسافر أيضاً لأعب من المعرفة، لماذا نغالط. قلت متوددة:
- هل تساعدني ؟ خدمة بعشرة أمثالها. أريد أن أجد وظيفة ترضى العائلة عنها.
ضرب كفيه على فخذيه، ووقف متأدباً يرجو السماح له.
- سأحاول، رد.
- مضى أسبوع. رن الهاتف.
- سلمى غداً لديك لقاء مع مدير البنك العربي في الحريقة. تعرفين المكان؟
- أسأل عنه لا تقلق علي، شكراً.
أرجحتني الأحلام بين ردٍ وأخذ. غرقت في دوامة الانفعال. ورغبات صغيرة جانبية.
في الساعة العاشرة صباحاً. اندفعت من الباب الحديدي العريض للبنك إلى سلم حجري رخامي أوصلني إلى باب خشبي سميك الضلفتين. وجدتني في صالون كبير، بل ورشة تعج بالناس وبضجيج آلات طابعة.
سددت أذني.
- يا إلهي كيف لا تدفعهم هذه الضوضاء والجلبة إلى الجنون؟
كانت القاعة مقسمة إلى كابينات صغيرة يفصل مابينها زجاج قصير يطل منه رأس الموظف أو الموظفة.
جلست في ركن أراقب عجقة الحياة الغريبة، أهذا ماتذكرتني به يابن العم؟ انتابتني الخواطر المتباينة على نحوٍ عصي غلاب، متى يفرغ السيد المدير من مراجعيه ذوي الحقائب المقفلة على الأموال؟ أذن لي بالدخول.
وقف رجل مهيب أشيب الشعر على عينيه نظارتان مربوع القامة ذو هندام أنيق جداً، زرر سترته باحترام ومدّ يداً طرية. ثم انتقل من خلف مكتبة إلى أريكة مخملية خضراء وأشار لي.
جلستُ ، وجلس قبالتي..
- نعم آنسة سلمى الشريف، تريدين عملاً. تحملين بكالوريا موحدة.
- نعم.. خفضت من بصري. عددتُ خيوط السجادة وخطوط الطيور المغردة، عشرات المرات.
- طبعاً.. تجيدين الضرب على الآلة الكاتبة. عربي وإفرنسي.
- طبعاً لا...
-هِمْ.. تجيدين إحدى اللغتين؟ مرر إصبعه على شفته السفلى.
- مستوى البكالوريا عندنا..
- تجيدين المحاسبة.. أعمالنا تعتمد على الأرقام.
- لا أعرف المحاسبة، ولا الحساب.
-لم تريدين الوظيفة.؟
تلكأتُ، كيف أشرح جوانيتي المخبأة، كيف أوضح له رغبة العصفور بالطيران، من قضبان القفص، كيف أشرح لهيب النيران المتراكمة بين ضلوعي، وأفشي سري الخاص.
- مجرد رغبة تزجية فراغ، أجبت.
- هل أنت بحاجة مادية.
انتفضت في مكاني كما لو أن صفعة حادة حطت على وجهي، تملكني الغضب حتى رغبة الصدام، ثم انهمرتُ دموعي، ولم أقوَ على كفكفتها ظلت أقوى من إرادتي. تفجرت ينبوعاً حاراً صافياً، شلالاً، يغسل إهانة ملأت كياني ورأسي حتى العظم. عميتُ تماماً، ولم أعد أرى بعيوني شيئاً إطلاقاً. كل شيء أضحى غائماً أسود.
صدم السيد المدير، ناولني علبة المحارم، حرك يديه مضطرباً حائراً عدة مرات وهو يقول:
- يا آنسة سلمى افهميني.. لم أقصد..
حدثت نفسي:
- هل أسأل أنا سلمى الشريف هذا السؤال، وأبي يقدم حبة عينيه من أجلنا.
تابع معتذراً : أسأت التصرف؟
هل أخطأت.. لكل إنسان ظروفه المالية، كلنا نعمل من أجل عيشنا، اندفعت نحو الباب أمانع شهيقي، بكيت بحرقة محروم جائع. همت في الطرقات دخلتُ في حارات وأزقة لم أعرفها أرغب في أن أجفف دموعي قبل أن أصل إلى البيت، ويراها أهلي بماذا سيتهمونني عند ذاك؟
لازمني شعور الانكسار والعنف أمام مدير البنك مدة طويلة، وقتئذٍ لم أفهم ولن أفهم لم بكيت؟ أكنت أخشى استغلالاً؟ بعد فترة أحسستُ بأنني كنتُ بحاجة إلى من يكشط عني بريق اسم العائلة كي أصبح أصلب عوداً في مواجهة الحياة. فالحياة ليست أماً وأباً وإخوة وحبيباً ونظرات هائمة تظللها الأحلام. الحياة أن أكون أولا أكون. وهذا مايجب أن أقرره وحدي.
غضضتُ النظر عن البنك،وبحثت عن معلمتي إلهام حداد أيام الابتدائية. توسطت المدرسة فم سوق ساروجة. بيت عربي قديم ينفتح بباب صغير على باحة مربعة، على جانبيها غرفتان ثم غرفة الإدارة تدلف منها إلى باحة كبيرة تقع في صدرها غرف ثلاث على صف واحد ليخرج من خاصرة الباحة سلم حجري ملتوٍ بأناقة إلى الطابق الأعلى.
كانت إلهام حداد سمراء حمراء الخدين ذات شعر قصير منسدل فوق الأذنين بقصة موضة العشرينيات، وعينين كبيرتين جاحظتين قليلاً ترنوان بود يثلج الصدر. كنت أثيره في صفها. لم تطوني الأيام من ذاكرتها. تجددتُ معرفتنا يوم كبرت. صرت أذهب إلى بيتها مع ثلة من البنات نحمل الورد اعترافاً بفضلها. كما حفظنا ودها، عندما التقيتها لاحظتُ تكدس الشحم حول بطنها وركبتيها. بادرتني باسمة. وتجاهلت دهشتي:
- سلمى الشريف، ابنتي..
- هأنذي جئتك أطلب عملاً. وظيفة.
رفعت حاجبيها ثم ضحكت.
- ياللأيام ياسلمى، سلمى الصغيرة تصبح كبيرة ومعلمة.
بادرتها:
- حظ طيب أنا في طريقي إلى الجامعة. نجحت في البكالوريا.
- ألف مبروك . ماريك بالصف السابع. أم تفضلين عملاً إدارياً؟
- أي شيء لا يعيقني عن الدراسة.
- يوجد في الصف السابع خمس عشرة بنتاً كأزرار الورد. تبقى مهمتك صعبة قليلاً مع بنات البكالوريا. المدرسة مؤلفة من سابع، وثامن، وتاسع، وبكالوريا صف وحيد للراسبات.
- ياويلي: همهمت.
توجست قليلاً في البداية فالبنات أكبر مني سناً. لكنني سرعان ما تأقلمت. لم تمضِ أيام عشرة حتى عقدتُ صداقة معهن. وجدتُ أن الهدنة أسلم طريق إلى قلوبهن، وبخاصة أنهن في سن الفوران والرغبات المكبوتة.
عندما دخلتُ صفي السابع هبّت في وجهي رائحة الطفولة البريئة، كن بنات في أعمارٍ مختلفة بين الحادية عشرة والخامسة عشرة جئن من حي شعبي ثرٍ بعواطفه، بسيطات الملبس، سليمات، مسالمات في اللعب، حكيتُ لهن قصة أحلامي، فتعلقن بي بمودة وتعلقت بهن.
مضى الشهر سريعاً، قبضت أول راتب في عمري مئة وخمسون ليرة، كانت كافية لشراء أشياء وأشياء، وكتب وهدايا للأهل. حققت استقلالاً مادياً، وقريباً معنوياً، جرى تبدل طفيف في نظرة الأهل لي صارت أكثر ثقة.
أضحى صف السابع بهجة حقيقية لي. غيرت في لباس بعضهن. لفتت انتباهي من بينهن فتاة صغيرة القد نحيلة ذات عينين ذكيتين براقتين. شعلة ذكاء وتفتح.
هذه أول سنة أترك فيها الدراسة، وأتربع فوق كرسي، وأحمل في يدي مسطرة أدق بها على الطاولة لأزجر عبث الأطفال. وعبث الأطفال كثيراً مايعن على باله أن يمد رأسه بين المقاعد ليظهر في وشوشة هامسة. كتبت على اللوح الكبير بخط واضح عريض (وصف ورقة صفراء تروي قصتها)، لبثت لحظة أنظر، ثم عاودت الكلام: الموضوع جميل يا آنسات نحن في فصل الخريف.
- آنسة خلصت. ارتفعت الرؤوس عن المقاعد. هل أسمعك إياها. هل أقرأ ماكتبت.
أدرت رأسي حيث ارتفع الصوت، ورأيت أصبع فادية ترتفع مستفهمة مترددة.
((بينما كنت أتنزه في الخريف بإحدى الحدائق الملأى بالورق الأصفر سمعت صوت همسات تقول لي:
-كنت في إحدى الشجرات الجميلة- وهي أمي- أعيش في لذة الحياة لأنني في فصل الربيع الذي كساني رونقاً. ثم جاء فصل الصيف، وتنهدت بعدها. كنت أنعم بلذة حياتي لأني لم أفارق أمي الحنون. أمي التي ربتني وغذتني وتعبت علي...))
وعاد صوتها:
((ولم أكد أنعم بشبابي حتى جاء فصل الخريف فصل الفراق، فدفع نحو أمي البرد القارس، فاصفررت أنا وإخوتي، ثم جاء بعواصفه الهائلة التي هزت أمي هزاً عنيفاً. ولكن أمي أمسكتنا بحنان خوف أن يقتلعنا. غير أنه- آه.. فلم أكد أرد لها جواباً حتى جاءت ريح قوية... طارت بالورقة تتلاعب بها.))
دق جرس الفرصة.
كنت أريد أن أقول لها:
بأنها ستصبح كاتبة، أو شاعرة. إذا تابعت دراستها، ولتحيا في طمأنينة وأمان بعيداً عن شرور القنبلة الذرية.
بادرتُ مديرة المدرسة متفائلة: - أجدني أتعلق بالتدريس.
دخلت ((إلهام)) في سهوم وتوحد، انسللت إلى صفي، وبالي مشغول. ترى بماذا تفكر، وبمن، هل فشلت في إنجاز حب أو حلم؟ تقول عيناها الكثير من الحكايا الحلوة والمرّة. يا لبناتنا، تموت الواحدة منهن ألف ميتة، ولا تبوح بسرّها لأحد.
تمنيت أن أدعو أحمد على الغداء، ولكن أين، وأنا محاطة برماح تغرس في دربي كلما تجاوزت ذهنية الحارة، وحدود العشيرة. استعرضت كافة الاحتمالات، تلاعبت بي خواطر غريبة أخافتني. عرضت الفكرة على أحمد، فرفضها بشدة.
-الأيام القادمة أفضل من الماضية.
كلمة عابرة لفظها، مدت لي خيطاً من حرير متين. أخفيت مشاعري.
قلت:
-أجدك مكبلاً أكثر مني. أيها التقدمي.
بقينا حبيسي سريرتنا نتمنى لو نستحم بضياءٍ لم تسمح به العادات أبداً. كبرت حلقة الأصدقاء حولنا وكبرت همومنا معهم، وتشتت تساؤلاتهم المبطنة التي تكشف عن سلفية متأصلة كامنة في النفوس.
فيما كنا نبني أنفسنا، تلتهم دمشق المعرفة، وتمد يدها الرخصة السمحة إلى الكنوز الإنسانية وإلى صداقات دولية ترجوها حقيقية وتسعى إلى الحفاظ على السبيكة الذهبية قبل السقوط في خضم المعاهدات والاتفاقيات وأهواء الرؤساء. حاولت بدوري قلب التربة في عقول زميلاتي المعلمات كي تتجه نحو الشمس. بئت بالفشل. فقد حافظن على خطٍ أفقي غير قابل للتغيير أو الكسر.
أبقيت على شعرة معاوية بيني وبينهن بعد نقاش حاد حول حرية المرأة ودورها كاد يودي بنا إلى ما لاتحمد عقباه صرن يتجنبن الحديث معي. أذهلني الانطلاق على مفاهيم ساذجة وأحلام مريضة فالحديث عن الحب حرام، وعن الجنس مرفوض ومخزٍ، والنصيب محتوم، وللإنسان حظه في الحياة أين، السعي، أين الكفاح؟ ياه.. ياه... أين أنا؟ أحسست بالاحباط ونكوص إلى الوراء سنوات تلي سنوات.
رغم هذه العصي المتصلبة اليابسة في مجلس الإدارة دخلت صبية إلى المدرسة. تخففت من حقيبتها المعلقة بكتفها، وضعتها على الطاولة بتأن وقدمت نفسها:
-صفاء.. مدرسة الانكليزي.
كانت جميلة لونت جو الغرفة القاتم وجو العوانس البارد. شعر عجيب كستناوي ضارب إلى الحمرة الداكنة، عينان زرقاوان كحيلتان، قد نحيل طويل.
همست بصوت خافت:
-آسفة لتأخري، وصلني الرد البارحة فقط توجهت بكلامها إلى المديرة.
لا أدري لم فرحت بوجودها هنا. لعلي توسمت في شخصيتها هيأة حضارية. وقفتُ مرحبة مستبشرة.
-أهلاً آنسة صفاء، أهلاً بك في المدرسة. أنا سلمى الشريف. التفتت نحوي بلطف ومدت يداً رشيقة تكاد تتقصف، قائلة:
أهلاً متى أبدأ؟
-الآن إن أحببت، فالحصة خالية. والبنات موجودات. نهضت فلحقتني بخطوات قطة. تأملت هندامها، كان بسيطاً أنيقاً، سترة وتنورة من الجوخ الكحلي. برز من القبة إيشارب زهري.
عند باب الصف قالت:
-أتمنى أن تتعمق صداقتنا، فأنا جديدة، والأخريات مخضرمات.
-آنسة سلمى، هل تتابعين دراستك؟
-سنة أولى جامعة، الثقافة العامة.
-أنا في سنة ثانية إنكليزي.
عدت إلى غرفة الإدارة، ولحسن حظي كان فارغة من القامات المهزوزة والعيون المغلقة على رواسب مئة سنة. ضممت أوراقي، ودخلت صفي.
رغم ما اختلط من أحداث متسارعة، فقد أفرز الزمن وعياً وتكاتفاً لدى فئات واسعة من الشعب دفع بنا نحو القضايا المصيرية رغبة التخلص من التبعية الغربية وشق طريق قد تؤدي إلى الحرية المطلقة المرجوة. وهكذا حبكت صداقتنا المتطلبات الوطنية، والتغيرات الاجتماعية التي خلفتها الانقلابات المتوالية:
حدثت نفسي:
-أخيراً التقيت في هذه المدرسة بفتاة ثابتة الخطو والموقف، في ظروف منطقة تتسم بإضطراباتها، موزعة متلاطمة متأرجحة بين فكر ليبرالي واشتراكي، ورأسمالي.
كنت سعيدة بخروجي من عب الحارة المتشددة على قيم متخلفة. نفضت عني تراخياً شكلته مهنة التعليم. فكرت بالجامعة التي ملأت كياني بادئ الأمر خفت من التسمر خلف طوابير الطلاب للحصول على ((نوتة)) أو الانتظار أمام غرفة مدير شؤون الطلاب للتسجيل والتوهان بين المعاملات والطوابع، فأنا أساساً لا أدري شيئاً عن الأمور الإدارية.
تلبس هشام دور المنقذ معلناً عن وجوده كي لا أخرج من تحت إبطه، تبرع بالمتابعة والتسجيل، وحتى طبع البرنامج وساعات الحصص والقاعات.
-سلمى، نبر بصوت حاد.
استجبت ملهوفة خائفة.
-خير إنشاء الله..
ضرب على جزمته اللامعة بقضيب خيزران مصقول رفيع:
-كل شيء تمام مبروك صرت طالبة نظامية وهذا هو البرنامج على الطاولة.
راقب تحوله السريع بخشية وحذر. ترى ما وراء سعيه المشكور؟
أرجأت الجواب إلى حين تكشفه الأيام. غمرني سرور طغى على ترددي..
لم يتغير شيء في مسار حياتنا البيتية إلا انغمار أبي في عمل تجاري لم يخلق له. باع دكاناً أخرى في السوق القديمة من حي القنوات. وقبض ثمنها ليرات ذهبية لماعة ما لبث أن خرجت من محفظة جلدية خمرية اللون إلى يد زوج عمتي صاحب معمل الشوكولاه الشهيرة. دخل أبي مساهماً في شركة رابحة مضمونة دون أوراق. مجرد كلمة. انتظرنا أشهراً مليئة بالوعود. وخرجت المدخرات من زنار أمي لتصرف على حاجيات كمالية، يحدوها أمل في سَعَة قريبة مباركة لمالٍ حلال يندلق علينا طيباً لذيذاً كطعم الشوكولاه، يعيد الهناء لحياتنا العائلية التي اتسمت دوماً بالبحبوحة قبل تسريح الفرنسيين لأبي من وظيفته. غير أن هذا الرخاء حين جاء لم يتعد الأشهر القليلة فسرعان ما انطفأ نوره حين تناثرت كلمة التاجر الكبير قريب العائلة الموثوق نيازك حارقة.. ضاعت الليرات الذهبية في بطن المحترم.. في ليلة غاب قمرها هرّب أمواله إلى بيروت وأعلن إفلاسه.
من كان يدري ما في الصدور وما يحمل الغد؟ خيبة إثر خيبة. لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين. تجربة مرّة لم تكن الأولى، تهز كيان أبي وكياننا. رمى عادل كلمة غاضبة قاسية في وجه أبي:
-نحن أولاد اليوم. ماراح راح. هل نبكي مثل العجائز، ما الفائدة؟ ثم نظر إلى ساعته، وصفر متعجلاً: أف. تأخرت، عندي إجتماع.
لم يرفع والدي رأسه. بقيت عيناه ثابتتين إلى الأرض.
طقطقت خالتي الزائرة بأسنانها الاصطناعية.
-قال صهر، قال: قريب وحبيب وتاجر محترم، لارده الله. انسكب على رأس أمي سطل بارد. ارتعشت شفتاها، وهي تلتفت إلينا.
-المال والبنون زينة الحياة الدنيا.. أنتم يا أولادي كنزي. لا يسمح أبوكم سوى صوته. أعلنت الصيام. ودخلت غرفتها، حبست نفسها ضمن جدرانها إحتجاجاً على تسلط الحاكم المطلق في البيت، حتى شارفت على الموت.
إنتصرنا على غدرات الزمن ومراراته.. دفعنا إلى سباق غير متكافئ معه. زحف ثقيلاً على آمالنا، وأجبر أبي على أن يعفي سامي من الدراسة ويدفعه عاملاً متدرباً في محل تجاري بلا أجرة لمدة ثلاثة أشهر.
خلقت تلك النقلة البعيدة عن جو المدرسة والدارسة من أخي شخصاً آخر.. غيّره جو الاحتكاك مع الناس تغييراً ملموساً جذرياً في سلوكه وفي مفهومه للحياة. أحس بقيمته كرجل منتج، وبأهمية القرش. بدأ يتدخل في شؤون البيت، وألوان الطعام متجاوزاً رغبة الآخرين،
والأنكى أنه فرض مسؤوليته وهيمنته على سلوكي. أخضعني إلى نظام مراقبة يومية لزجة صارمة، أوقعتني بإشكالية مزعجة منها: حرماني من رؤية أحمد، والجامعة، والندوة، صبرت على نار ريثما تنجلي الغيمة السوداء من تلقاء نفسها، غير أنها ظلت تحوم فوق رأسي باستكبار.
قررت المواجهة والصدام والتشبث بمكاسبي، وإن قدر لي أن أموت فلأمت واقفة كما الأشجار التي تموت واقفة كما يقال:
ضممت شفتي بقسوة، وأضربت عن الطعام والماء أثار وضعي الصحي أمي وأربك أبي سمعت صوته الحنون:
-تكلمي معها أم هشام. هنا دورك. قد تموت العنيدة.
-أقفلت الباب بالمفتاح، كيف ألج الغرفة. ردت بكآبة.
-أفهميها...والله، والله إن لم...
صرخت أمي:
-لا تقسم... لا تقسم كل شيء بالحسنى. أترك الأمر لي.
خرجت من الصيام منهكة واهنة خوفاً على مشاعر المسكينة والدتي. كانت أعصابي مرخية وإرادتي مهيضة.
ذات صباح باكر لفّه الصمت، تسللت إلى المدرسة، أمضيت نهاري كاملاً غائبة عن البيت. ضربت عرض الحائط بتعليمات أخي ومن خلفه العائلة. أراد الحرب، فلتكن. خلق سوء التفاهم فليتحمل. قبيل الإنصراف وجدت صفاء في غرفة الإدارة.
إقتربت مبتسمة: سلمى صار لي ساعة هنا. أين أنت، مريضة؟
ارتسم سؤال على وجهي.
-خير.
هزت مجلة بيدها. ثم نشرت مجلة الجندي قرب النافذة. وأزاحت الستارة كي يدخل النور هتفت فرحة:
-انظري.. تمعني، إقرئي، اسم من هنا؟
ضحكت من قلبي المرتعش.
-اسمي، طبعاً
-قرأت قصتك ((واحدة منهن)) أهنئك. فعلاً رائعة.
-إن هي، إلا محاولة تحبو.
-بل مؤشر، نقرأ في الأدب الإنكليزي قصص جويس... ذكرتني به.
-أرجوك يا صفاء، لا تنفخي في رأسي حتى لا يكبر فيتضخم، فيطق.. حينئذ..هوب..
-لا أمزح... قطبت جبينها.
-لا أراك في الجامعة.. ألا تحضرين الدروس؟
خجلت، تلكأت:
-مهمة جديدة أضيفت إلى مسؤوليتي كمعلمة. دخلت في لعبة الإدارة والتوجيه.
غامت عيناها لحظة، ثم تبسمت.
الإدارة تنظيم، لا يحتاج إلى كبير موهبة.
تأملت زرقة عينيها الداكنة، والنمش الطفيف على وجهها. أجبت بألم.
-يا صفاء، الجامعة تعني تفرغ. ونحن نمر الآن في أزمة مادية قاهرة من بعد يسر وعز.
-لست وحدك، أنا أعيل أمّاً وحيدة غريبة جاءت هذه الديار من الشرق البعيد.
حملها أبوها إلى شام شريف. أما كيف نعيش. وندبر أنفسنا. فالطابق مستور.
أقبض راتباً من الدولة كسبته بعلاماتي الجيدة في البكالوريا. دروس خصوصية في البيت، وها أنا ذي في المدرسة.
-أنتِ، صعقتني كلماتها. مثلك من تحمل ذوقك وجمالك يرصع البرلنت أصابعها وتمشي على الذهب.
حدثت نفسي: يا الله.. هذه إنسانة تعانق النجاح ويعانقها، مسؤولة عن إطعام وإكساء وإيواء أم وما تزال غضة. أنا من أنا. أنا لم أقدر قرشاً واحداً لعائلتي. شعرت بالخزى وبشاعة أنانيتي.
-هل نترافق اليوم نحو الجامعة، المشي جميل في هذا الشهر ما رأيك؟
-أحب نيسان، يبدو أن سرتنا قطعت على حب الكتب، ما رأيك لو نتدرج نحو المكتبات. طريقنا واحدة.
نسيت همي. سرنا الهوينا في الطريق المشمس. من بوابة الصالحية إلى مكتبة اليقظة التي تعرض أحدث الإصدارات.
انحرفنا نحو مدرسة التجهيز الأولى للبنين. هاجمتنا رائحة الفلافل الزكية، من موقع في زاوية الشارع.
فكرت بأبيها الهارب الجبان الأناني كيف فر وترك إبنة كالوردة تهاجم الصقيع ويهاجمها. ومن جهتها تساءلت صفاء: ما هي علة أبيها هل مات، هل تزوج أخرى، هل انتحر، لابد أنه وقع في هوى أخرى. دوامة من الأسئلة. لاح في بالي أحمد. وما كان ليغادر خاطري رغم شراسة أيام حبلى بالألم. ترى لو سألتني عمن أعز وأحب هل يسعني أن أراوغ، ولا أصدقها القول؟
سرقت نظرة جانبية نحوها، دخلت هي الأخرى في حوار مع ذاتها بدا في تقطيبة الحاجبين وشبه إبتسامة حول الفم. فقط حركة إنقباض من أصابعها داخل الكف الجلدي الأسود تنبئ بالغليان.
مزقتُ الصمتُ:
-حلوة الجامعة.... جو آخر أليس كذلك؟
-أراها ثانوية كبيرة، لم أجد فيها تغيراً جوهرياً.
-أعني، بمحاضراتها، بأساتذتها، بإختلاط الجنسين، بعوامل عديدة قد تساعد على الانفلات من الحبل المشدود على رقابنا، وبالتحديد رقاب البنات.
رمقتني بوداعة:
-أتظنين؟! لن تجدي هذا في شهادة الثقافة العامة. مدجنة تفرغ دجاجاً وديكاً.
توقفت أستروح هواء دمشق الذي هب من الربوة ودمر وفتح رئتي- يا الله.. ندهت:
سألتني:
-وماذا بعد الجامعة؟
ضحكت:
-الزواج، كأي بنت.
-سلمى هل ثمة رجل في حياتك؟
-لم يفاجئني قولها. كنت أتوقعه.
دقرت لحظة، وأجبت بسرعة كمن يفرغ حملاً ثقيلاً عن قلبه:
-أجل. صحيح.
أطرقت برأسها إلى الأرض.
-أما أنا، فلا، حياتي صحراء، كلما غمرني الغيث عطشت.
أيقنت بأن أمها وجمالها عثرة. صفاء مشرنقة بالمعجبين، والمتزلفين، والطامعين. لا تدري بمن تثق.
عندما دخلنا الجامعة، تباعد الطلاب عن دربنا نحو الحائط. لاحقتها عيون جائعة ورغبات مكبوتة كانت نقطة الضوء الباهرة في مجموعة نجوم صغيرة كسفت نورها. تدرك بنظرة عجلى مدى سيطرتها على الجنس الآخر. أرجأت حديث قلبها إلى وقت آخر فانكبت تلمع فكرها. تصقله، تصهره معرفة.
-أمن مكان نشرب القهوة؟
-النادي. هلمي بنا. نادي الطلاب. تقابل إنسانان مشهوران على السلم الحجري العريض، استأثرا بشهقة حسد وإعجاب من الطلاب. مدت صفاء يدها مصافحة:
-الأستاذة رندة، أستاذة الأدب الإنكليزي. أول إمرأة دخلت سلك التدريس الجامعي في بلدنا وشاعر الحب نزار، أشهر من نجمة. فجأة لمعت شرارة في العيون، لكنها ما لبثت أن أنطفأت في بؤبؤي صفاء. هنا الشاعر بجوانيته إليها، أسدلت ستاراً من الوقار بينهما، اختفت صفاء الناعمة خلف كبرياء قاسية، بينما ظلت عيناه تأكلان وجهها وشفتيها.
استدارت نحوي مكابرة:
-كلاهما موهوب، متفوق، يرنوان نحو كتابة قصة حب خالدة لا تعترف بحدود وسدود وعمر.
وعلقت متجاهلة رفة القلب في وجهها.
-وأنتِ، أين أنت منهما؟
تنهدتْ:
-لا أدري؟ أنا ضائعة.. الآن تحتاجني أمي الأرمل المسكينة تحتاج حبي.
غيرتُ الحديث عندما لحمت ((غادة)) تتأبط ذراع ابنة خالتها السمراء سمية. اقتربت مني بلهفة.
-سلمى
رن صوت دلع رقيق بناتي في أذني.
غادة، فاتنة الجامعة، عانقتني.
-سلمى، قرأت قصتك في مجلة الجندي ((واحدة منهن)) أنت الواحدة منهن.
تفرست في عينيها:
-أتمزحين يا غادة؟
-سلمى والله أعني ما أقول، لك ما يميزك. وسترين.
- يا لحظي الرائع اليوم، صفاء وأنت؟ أعتز برأيكما.
-حذار يا سلمى من التراجع، اكتبي، اكتبي ولا تتوقفي.
لم تكن غادة معروفة على صفحات الجرائد بعد. كانت طالبة ذكية تحمل عيني سوداوين شبقتين إلى الحياة، تفهم محرك العالم، ومحرك العالم هو الذي قبض عليه وحكى عنه وكرسه فرويد.
تطير غادة، تدور حول نفسها تخشّ تنورة القش الزرقاء حول خصرها النحيل المرصوص بزنار مطاطي عريض، وتبتسم ابتسامة مسرحية مدربة. انظري حولك. يخضعون جميعاً لفرويد.. ضحكت وأنت يا سلمى لا تكذبي.
أنا أيضاً مع فرويد.
للجامعة رائحة خاصة، كما للسينما رائحة خاصة في كياني. تصب الحياة فيهما بزخم فوّار. دخلت مدرج الجامعة متهيبة. من منبرها نسمع أشد البيانات خطورة ومن منبرها يعلو صوت مفكر، ومعارض، وسياسي، مع دعوات إلى لملمة تبرعات لحركة التحرير في الجزائر.
يندلق الطلاب رويداً رويداً حاملين صخبهم، وحيويتهم، فوضاهم، راقبت هذا البحر الحيوي. ملأني فرحاً.. يقترب شاب من المكبر.
يدق الطلاب على المقاعد.
-يعتذر أستاذ علم الاجتماع عن الحضور اليوم بسبب إنعقاد مجلس الكلية.
-يا لحظي التعيس؟
انشلع من المدرج كغصن عابث. أحمل كتبي وأمشي خائبة نحو البيت. تزاحمني الأفكار، أتذكر نورس بقامتها المنمنة القصيرة، ونظرتها المتسائلة.
-أين وصلت؟
أعرفها، ترمي جملتها، وتتركها مفلوشة منفرجة نحو معان عدة تطال في صميمها علاقتي بأحمد، بينما تظل أحاديثها الخاصة ملجوجة في صدرها.
في الطريق فاحت رائحة الفلافل. تساءلت: ماذا لو صدمني شخص أحمد الآن. ماذا لو رآني أخي عادل معه الآن؟ هل يغض النظر؟ كيف أتصرف؟ تُراني أهرب؟ أم أواجه، أقاتل، ما عدت أعرف نفسي. شغلتني أفكاري عن المسافة الطويلة التي قطعتها مشياً من الجامعة حتى المهاجرين... أحسست بالتعب وبرغبة النوم إلى الأبد.
على مائدة الطعام بادرنا أبي بنبأ طازج كرغيف تنوري ساخن وفواح.
-سأعود إلى عملي...
قرر المعهد الوطني، إعادة وتعويض كل من سرحهم الفرنسيون إلى وظائفهم. قامت قيامتنا. هللنا وجعلنا نقبل أبي وأمي. علت طرقات الملاعق فوق الصحون.
حاولت أمي كفكفة دموعها فما استطاعت. إنسحبت من المائدة ناشجة.
خلقت التغيرات الحياتية عندنا بخِطّها البياني المتأرجح خوفاً من الفرح ومن الحزن على حد سواء. فالضحك مخيف، واللهو مخيف، والحزن يقف خلف الباب، فما كنا يوماً لنقبض على السرور حتى يقبض الألم على خناقنا. نعود بعد فترة فنتفتح براعم خضراء طرية، ثم زهراً مثمراً لا تلبث ريح أن تلفحه فيسقط. ما أشقى انساننا، وماأقوى صدامه. يظل أقوى من الممنوعات ويتفوق على اللاءات ويخترق التحديات.
بم أحلم؟
غرفة ومطبخ وسقف يظللني في رأس جبل.. مع أحمد. تعاتبني نفسي هازئة.
-ما أبسط أحلامك.
-لست أحلامي بسيطة أبداً، بل متنامية متكاثرة، كالخلية، تنشطر ثم تنشطر وتولد من جديد.
إذن، قولي له صراحة أحبك، أتلاشى في لحظة لقائك معك أسمع تمزق الأنسجة في جسدي.. أحبك كما تحب إمرأة، كما تقدر إمرأة على الحب.
تدعوني رائحة الجامعة. بدأت أضيق بالجو المخنوق كمعلمة ضمن مدرسة محدودة بإطار معين.. فاعل ومفعول وجار ومجرور. أهذا ما أريده حقيقة؟ فكرت في أن أهرب كتبت قصيدة نثرية جديدة ((سأعود بعد الحصار)) تحكي قصة عاشقة تتحايل بسلة تين تحملها لترى حبيبها.
((هززت مهد الصباح الرضيع/ صعدت الجبل، في يمناي سلة من تين يداعب أذيال ثوبي الهفهاف نسيم وادع ممراح/ توقفت أمام بيته تتنازعني الأفكار. يا لدهشتي: لقد أطل علي حبيبي/ تملأ فمه إبتسامة حانية. فكرت فيما عساي أن أفعل؟ أأترك السلة وأعدو هاربة/ أم أتريث لأراه؟... أراه/ وبين الرهب والرغب تركت سلتي وانطلقت أعدو.. /وركض خلفي صوت حبيبي: ((عودي)) فسمعت صوتي يقول ((سأعود بعد الحصاد)).
نشرت مجلة دمشقية القصيدة النثرية. لفتت النظر. دعاني محي الدين ((المشرف على إدارة الندوة الأدبية)) إلى التعرف على شلة الندوة والمشاركة في أمسية مقبلة قد يحضرها عميد كلية الأداب ووكيل الجامعة، وبعض الأساتذة بمناسبة عيد الجلاء.
في الندوة تعرفت على الأذكى عادل، واسكندر، ونصر، وهيام وناديا وعيسى هشام وعبد الله وعبد العزيز عكست الندوة صورة مصغرة عن النشاطات الثقافية والفنية التي أخذت تعج في العاصمة لكنها بقيت دون ناظم فكري محدد موحد، تستحم بفوضى الانفلاش الفكري الفاغمة.
استهوتني الانطلاقة من اليومي إلى المقبل.. لهذه الندوة ونكهتها الفجة، تحمل المشعل غير هيابة. أحياناً، كانت الكلمة تجمل قوة الرصاص ذات طابع قومي وإشتراكي تفجر الأسئلة في الأذهان الطلابية النظيفة. كيف، ولِمَ، ومتى؟.
ما إن تنتهي الأمسية، ويغلق آخرنا خلفنا الباب حتى يلتم شملنا ثانية فنهبط إلى النادي.. تسبقنا أصواتنا المتشابكة بنقاشٍ حاد محتدم حول موضوع الندوة، حول الوضع السياسي والعقبة التي فتّتت الأنظمة الرجعية، نتحلق مثقفين وشباباً طلعة طلاباً كنا وطالبات: رجاء نورس فرات، رضى، محي الدين فرحات، قتيبة، نبيه، أدهم، ناديا، عادل، نصر، عبد الله، عمران، هشام.
كلهم بدؤوا نشطاء برؤوس حامية وأرواح فياضة ومشوا في دربٍ وعرٍ شاق متجاوزين مطبات الأنظمة والعهود والانقلابات، والتطلعات نحو امتطاء المستحيل.. تلك صفحة مشرقة لعطاء مبكر قدمته قلوب عرفتها من ذهب.
ماكان الخميس إلا موعداً ووعداً يرش عطره عليهم. في أمسية لمحت أحمد بين الحاضرين يرعى الشتلات الصغيرة، وإلى جانبه عادل ومحي الدين.
لكزني عبد الله باسماً:
-جاء المعلم.
أرد متضاحكة:
-جاء يرعى الشتلات الواعدة أمثالك.
-دعك من ضلالك وتعبيرك المعهود.
أتساءل بيني وبين نفسي:
-ما الذي جاء به؟ عن اهتمام جاء، أم كن يترصد خطواتي ليعرف كيف أقضي وقتي ومع من؟ لم يذكره مرة أنه حريص على معرفة ما يدور في ندوتنا التي حدثته عنها. مثل أبي الهول هو... صابر، كتوم، سري، خفي....
قررت أن أفوت عليه فرصة إنتصاره. هرولت مسرعة التقط خطواتي قفزت فوق درجات السلم الحجري. وجدتني في الحديقة. تنفست الهواء بعمق.
ربتت يد على كتفي. جفلت.
-سلمى، لم تركت الندوة هكذا ألن تحضري النقاش؟
همهمت مستفهمة: وأنت؟
ضحك.
-قلب المحب دليله، هل أرافقك؟
تلكأت هنيهة، لعله قرأ ترددي.
أضاف:
-نسير حتى مدرسة التجهيز الأولى فقط.
ترافقت خطواتنا متناسقة متكاملة في نصف العتمة يداً بيد، كتفاً بكتف سرنا. أميل عليه ويميل عليّ. جناحاي صلبان. لم أشعر بالدنيا. ولا الدنيا شعرت بي. مخلوقة خفيفة أنا تسبح في فضاء هلامي وصلنا التجهيز. خفق قلبانا بشدة. من يغادر أولاً. كلما هممنا تراجعنا. وكلما تراجعنا هممنا. ودوماً نتقدم.
بركت فوق أول كرسي صادفته في البيت. هجمت أمي تلفني بحنانها.
-تعبانة، زعلانة، بردانة، ما بك؟
صبت علي فواجع الأمراض جميعاً. وأنا غارقة في لجة المنتهى. كيف أشرح لها ما بذاتي وهي الخاضعة أبداً لسطوة التقاليد، كيف أزف لها صبوات صبية عاشقة يتفجر الهوى في شرايينها، ولا يلقى مسيلاً له؟
غنت لورد كّاش في مسمعي: ((آمنت بالله))
ترنمت: آمنت بالله. تكومت بعضي على بعض وغفوت فوق الأريكة.
ربت أخي سامي على كتفي. كفى استرخاء. لن تستطيعي النوم في الليل. أجبت وأنا ناعسة:
-عندي دراسة. وتلخيص، سأسهر الليل.
-تسهرين الليل، من أجل ماذا؟
تيقظت أعصابي كلها.
-من أجل الجامعة.
-جامعة طز في ستين جامعة.. هذه الحال لم تعد تعجبني.
نهضت مثل لبوة أمعن النظر في خلقته.. أطلق من جهته صراخاً في خلقتي:
-بلا جامعة، بلا بطيخ.. دوام مسائي، وعودة متأخرة... جنون هذا... ما عندنا بنات من هذا الصنف.
زعقت، انتفضت، لسعتني أفعى هيأتني للشجار.
-نعم، نعم؟ لم أسمع. أعدها مرة ثانية.. أنا لست جارية في بيتك وتنصاع لقوانينك المتخلفة. أعماني الغضب فأخذت أرتجف.
رفع يده، وهوى بصفعة رنانة على وجهي، أفقدتني توازني. شعرت بطعم مالح في فمي.. وبأقصى ما أملك من قوة وصبر وفوران السنوات السابقة ركلته على بطنه. أنّ متوجعاً. هجمت على وجهه خرمشته بأظافري. سال خيط رفيع من الدم من أظافري.
اندفع كل من في البيت نحونا... صراخ، هلع. كنت أبكي وأنشج بحرقة الخيبة. أضرب الجدران بجسدي ورأسي... دارت الدنيا بي، لم أعد أرى أحداً، أسمع أحداً، كل العائلة تجمعت أمامي في وجه واحد بشع، قاسٍ معاد.
عندما أويت إلى سريري، جفت دموعي. أضحت قاسية صلبة. تشنجت ملامحي. مقاتلة أنا أضحيت.. هذه معركتي ولن أتراجع..
لم أنم حاولت أن أقرأ فلم أعِ ما قرأت... مثُل أخي أمام عيني.. هل يعقل أنني فعلت ما فعلت معه، وهل يعقل أن أعود نعجة يسيّرها هو أو غيره كما يريد.
ينشر الليل ظله. يخبئني، يطويني تحت جناحه الأسود. أبوح بين يديه بما بقلبي متحررة، منطلقة، وأكتب على لوح خاطري، ما في خاطري.
رغم الأقفال خابرني أحمد:
-وصلت المنشورات التي تدعو لانتخابات حرة ديمقراطية تشمل اليمين واليسار معاً.
-إنتخابات حقيقية؟ يعني تخلص الزعماء الكبار من عقدة الأبوة. إسمع، قد تكون هدنة مؤقتة تخدم هدفاً ما.
-لم لا؟
-ولكن الأيام حبلى بثارات وتطلعات وعمالة وإنتماءات. هل ننسى.؟
أضاءت تلك الدعوة المباركة مصباحاً في درب وعر المسالك بدأ تعبيده ملأت الإعلانات الجدران والأعمدة الكهربائية وواجهات المحلات. إعترضت الشوارع يافطات خامية بيضاء كتب عليها بالأسود والأحمر: ((لا للأحلاف، لا للمؤامرات، لا للعملاء)) من يعارض هذه الشعارات؟
ملَّ الشعب الانقلابات المتوالية التي أورثته الإنقسامات والفوضى، وجردته من إنتماءاته الواضحة. بات أشد وعياً، وأكثر حذراً في إندفاعاته العاطفية. يريد أن يجرب طعماً آخر للسياسة، طعم الديمقراطية الصحيحة.
ضمت قوائم المرشحين فئات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف المحافظ. تثور الجامعة بخطب رنانة متعصبة لأفكار أصحابها، ترفع شعاراً تصب في مطلب رئيسي: ((الديمقراطية))... ديموقراطية بألوان متباينة بالطبع.
إزدحمت الحديقة الجامعية بالطلاب، وقف نشأت طالب الطب على سلم النادي خطيباً ثم تناول الحديث يعقوب طالب الحقوق، صياح طالب الآداب. وقفت خلفهم بنات متحمسات، منطلقات. تحدث الخطباء واحداً إثر واحد، ناشدوا الطلبة بالسعي على إنجاح الإنتخابات المقبلة ورص الصفوف، والتصدي لأي دخيل قد يزرع الفوضى أو البلبلة في طريقها.. كنت مستمعة لا تزال ترزح تحت وطأة الصدمة التي تلقتها في البيت.. فكرت:
-لماذا الطلاب والعمال هم الوقود الحقيقي المستمر، والوجه المضيء الذي يدفع الثمن ويدفع به إلى الصفوف الأولى في ثورات العالم؟ ظل سؤالي معلقاً.
خلف السور الحديدي والباب المغلق للجامعة وقفت ثلة من الشرطة لم يسمح لها بالدخول.
أدى المؤتمر العشرون في زمن خروتشوف والتطورات السياسية الجديدة إلى انفتاح البعثيين على الاتحاد السوفييتي وإنجاح الفئة اليسارية في الإنتخابات.
إنكسر الوهم. نبذت البلد الدعاية الأمريكية التي أججت نيران الحقد عند الأنقياء البسطاء ضد بلاد الموسكوف. بدأت روسيا الإشتراكية تفك الأغلال والأقفال عن شعوبها، وتفتح قلبها لاستقبال آلاف الناس القادمين من بلادٍ غمرتها الأسئلة اللاذعة حول تجربة تاريخية امتد لهيبها على نصف الكرة الأرضية.
دعا الإتحاد السوفييتي إلى ما سماه ((المهرجان العالمي الأول للشبيبة)) في لقاء أسطوري يجمع مختلف الألوان والمذاهب والعقائد والأجناس. في المهرجان ستقدم مختلف الفعاليات والأنشطة والمسابقات: قصة، شعر وموسيقى، وغناء. وفرق للرقص الشعبي تحمل تراث وتقاليد أمتها.
دفعني أحمد بقوله:
-سلمى، لم لا تشاركين في مسابقة القصة لشباب العالم. تقدمي بقصة ((واحدة منهن)) شروط المسابقة واضحة. أن تكون مترجمة لإحدى اللغتين الفرنسية أو الإنكليزية.
-سأغير العنوان ليصبح الورقة الصفراء... ما رأيك؟
-فكرة، يؤدي المعنى.
-من يترجمها؟
-أنا أترجمها إلى الفرنسية. انبرى متفائلاً.
غمرني خوف، فأنا بطبعي أخشى الفشل.
-وإذا فشلتُ
-فشلتِ، فشلتِ، ما المشكلة، هز كتفيه لا مبالياً.
صفنت قليلاً. ملأتني أحلام النجاح، أحسست بجذوري تتمدد في شرايين البلد. هجمت عليه، قبلته، عانقته.
-هل يسمح وقتك؟ دقرت أستشف صدى كلماتي.
أطرق برأسه إلى الأرض متبرماً.
-لدي كل الوقت.
يحيرني هذا الحبيب، يضعني في حلبة سباق مع الزمن وأنا لا أجيد الركض والقفز العالي، ألا يتعب؟
-سألني:
-أتودين المشاركة بمهرجان موسكو مع شبان الجامعة. لديك فرصة كبيرة، أصبح اسمك معروفاً.
-أنت تمزح.
-لِمَ لا، حاولي، وسأحاول من جهتي. سأسافر قريباً إلى بلغاريا لحضور العيد الوطني ومن هناك أتابع إلى موسكو. من يدري؟ وضحك.
تركني وحدي أواجه تحدياً، وقفزة نوعية قد تودي بي إلى كسر رقبتي.
-يا إلهي، يا إلهي، هل أقوى؟
لا تقارب المشكلة هذه المرة أية مشكلة أخرى، فإن تخطيت أشدها وعورةً وتملصت من الإنزلاق في هاوية الرضوخ حتى الآن، فهذا لا يعني إطلاقاً بأن الحظ سيحالفني دوماً. السؤال الصعب الذي يطرح نفسه: كيف أمهد السبيل مع عقول تؤمن بأن الإتحاد السوفييتي بلد الفسق والإلحاد وشيوع النساء، وأن الأطفال أطفال الدولة، كيف أفسر لأهلي بأنها دعايات خلقتها وأشاعتها الرأسمالية الغربية خوفاً من مدٍّ إشتراكي شعبي يرعبها ويهدد مصالحها في الشرق الأوسط؟
كيف أباغتهم بطلبي هذا الذي لم يجرؤ عليه إخوتي الشباب وآخرهم سامي الذي تلفح بعقلية تويجر.
اهتديت إلى أسلوب المباغتة. المباغتة في الحرب طريق النصر نفضت أمام أهلي ما بجعبتي مرة واحدة.
-إختارتني الجامعة مع عدد من الطالبات لتمثيلها في مهرجان موسكو، وهذه ميزة كبيرة وفرصة قد لا أنالها في سنوات مقبلة.
استدرت متراجعة متشاغلة حتى لاتقع عيني في أعينهم الدَهِشة لحظتها لن يسعني الانفلات من شباكها.
سمعت أمي:
-ما هذه البنت المجنونة- تطلع كل يوم بفن جديد، تود لو تأكل الدنيا وتهبجها ليتها تزوجت ذاك البدوي، وبقي همها في قلب زوجها. والله أنا خائفة عليها.
لم يرد والدي، ولم ينبس بكلمة. هل سيجري عليّ الحد، ويمنعني من مغادرة البيت إلى الجامعة مثلما ود أخي لو يفعل؟ لعله سئم تمردي. ماذا يبيت في سريرته؟ يلتزم صمتاً مريباً يطول، وقلبي يخفق ويخفق.. نجاحي وفشلي على كف عفريت..
لبث في زاوية أتنصت. لم أسمع شيئاً، هربت إلى غرفتي، وفتحت كتبي، حاولت أن ألخص أفكاراً ليونع، وآدلر، اشتغلت بهمة فائقة حتى خارت قواي، وتعبت عيناي ها قد دخل حياتي عامل آخر. السفر.
هل أسافر، أم لا أسافر....
من أجل أن أخفف من قلقي قرأت شيئاً من غوركي في الأم مرة أخرى، ومقاطع من الحرب والسلام لتولستوي، فاجأتني روعة العبقرية وصلابة الإنسان، كما أرعبتني سهوب سيبريا وصليل سلال ديستويفسكي.
-ترى كم مر على الإنسانية من حكام وظلام وقطاع طرق نهبوا الأخضر واليابس.
من غرائب الصدف غير المقولة، أن تنقر دجاجة رأس ديك. عارض أخي عادل، ودعمتني أختي هدى التي جاءتنا ضيفة لمدة يومين في طريقها إلى مصايف بيروت.
أصبت بالإحباط من موقف عادل الإنسان المثقف الهادي الذي يناقش وينظّر بخط قومي عربي مع أستاذه ميشيل... أخي عادل المثقف المتفتح وصفني بالتهور والأنانية.
بدت ثورته العارمة غير خاضعة لأي منطق. فجأة تحجر عقله وتبخرت نظرياته المبثوثة في زوايا الصحف حول دور المرأة الرفيقة في نهضة الأمة. وحلت محلها تقطيبة دائمة بين العنين. أعقبها صمت وقطيعة شبه كاملتين. لم يعد الحامي من شطحات هشام الفقاعية. بل أضحى المتسلط الذي يشن الهجوم المركز آن يستطيع ذلك حتى يثبط همتي. قلبت الأمور على وجوه عدة علني أجد تفسيراً لتحولاته.
-هل يخاف الجريء على اسمه من أخت ستسافر إلى بلدٍ شيوعي لا يعرف الأخ أخته فيه وإلى مجتمع مجهول ملحد مليء بالأخطاء. هل يخشى على منطلقاته التحررية من الإنهيار؟ ناقشت الأسئلة جميعاً. زادني الازورار عناداً وتشبثاً. ورحت أرتب أموري شيئاً فشيئاً، فما عدت ألتقيه على مائدة الطعام، أو في سهرة العائلة، خلقتنا جواً تعيساً في البيت لم يرض عنه والدي.
من جانبي بدأت انحت بإزميل دقيق حاد في تزمت عادل أمام العائلة وأتكتك مع أبي. ناقشنا الإحتمالات. وجدتني أدخل في دوامة محكمة صارمة وأمثل أمام قاض. قمت بدور المحامي بجدارة، تطوي الأيام أحلامي وأنا أحارب على عدة جبهات محرومة من الجامعة والمدرسة ومنبوذة في البيت ضمن عشيرة في قلب قبيلة لا تؤمن حقيقة بجوهر حرية المرأة إلا من خلال الكتب النظرية.
يشد أحمد أزري حتى لا ترتخي قوتي. برزت هدى بكل ثقلها وروائها وهمينتها على العائلة التي غادرتها صغيرة لتعيش في جوٍ آخر تحوطها الأبهة والارستوقراطية. رغم هذه المظاهر التي تستميت تحت أقدام المراسم، رغم هذه التبعية الخالصة مدت لي أملاً حريرياً، ويداً أتوكأ عليها في نقلتي تلك، وتطلعني نحو السفر، نحو الأفق البعيد.
أعلنت عن رأيها بصراحة وثقة أمام الجميع. مهدت لحديثها بأمثلة كثيرة عن البنات والسيدات اللواتي يقمن بأدوار راقية تعلو فوق المطبخ وإنجاب الأولاد والتنظيف.
-بابا، يجب أن تنزع سدادة الفلين عن طموح سلمى. بابا الحياة لا تعود إلى الوراء في زمنٍ دخلت فيه المرأة ميدان العمل، وخلعت الحجاب، هل تصدق أنني أدرس البروفيه مع أولادي هذه السنة سأتبعها بالبكالوريا فالجامعة.. زوجي معي خلف كل خطوة صالحة أرجوها. فلماذا نكبت طموح زهرة متفتحة نحو الجيد من اللامألوف؟
استدارت نحو أمي:
-ماما سلمى، مختلفة عنا، إتخذت طريقاً، ما يسعدنا قد لا يفرحها ثم قامت من مكانها، وقبلتها من رقبتها، ودغدغتها من خاصرتها. سألتها.
-أما كنت تحلمين بالسفر؟ يجب أن تتعرف سلمى على العالم. وهذه فرصة لإختراق ألوان قوس قزح في سماء أخرى. صارت حكيمة نفسها فلتواجه التيار وأنا على ثقة أنها ستطفو أما إذا أخطأت فعندئذٍ الحساب.
-هكذا ببساطة؟ ردت الوالدة.
أفعمتني الدهشة. بل سحرني بيانها. لم أصدق ما سمعته أذني. هذا المنطق، وتلك القدرة على الإقناع أين كانا، لم تخبأت هذه المرأة خلف الأستار طويلاً، ولماذا ابتعدت عني، وتركتني أواجه المشكلات وحدي. ما هذه الأحجية؟ ما أغباني عندما فتحت عيني على الدنيا ولم أجدها، ظننتها ماتت، رأيتها صبية مدللة بين يدي زوج يتقدمها بأشواط في العمر. يضحك بمقدار، ويأكل بمقدار. إعتبرتها ميتة. كيف استطاعت أن تنتشل نفسها من سلاسل الرسميات، والدعوات والنوادي المختلطة؟ وَعَتْ ذاتها وحققت شخصيتها من حيث لم تحتسب، ولا نتخيل البنت المدللة وقد صارت ربة عائلة وسيدة نفسها. هل أرادت أن تحقق المزيد من ذاتها من خلالي. أم تنتقم من إرث بالٍ حال دون استمتاعها بطفولة بريئة؟ أم أن تلك الحياة الأرستوقراطية لم تكن حقاً فارغة ولا تافهة كما ظننت، وإنما أكسبتها صقلاً رائعاً أضيف إلى ثقافتها الأجنبية الأولية؟
غادر ((عادل)) بمهمة مجهولة إلى المحافظات في وقت كنت بأشد الحاجة إلى غيابه.. تنفست الصعداء.. فقد فك أسري، وانفكت عقد العائلة.
ثبّتت دعوتي إلى مهرجان الشبيبة ككاتبة شابة.
قرر أبي السماح بسفري، لكن ليس قبل تأكده من أن الوفد يضم العديد من البنات ومن السيدات المعروفات.. وفاض علي فزودني بالرسم الرمزي للرحلة وأجرة السفر: أربعمئة وخمسين ليرة سورية.
ملأت هدى حقيبتي الجلدية الرمادية بالهدايا دون أن أدري، هدايا شامية، علب موزاييك، أقراط فضة مشغولة بصبر الدمشقي الفنان، قطع بروكار، عباءات مقصبة.
تذللت فجأة كل العقبات، لم تعد الأرض تحملني، صارت الرحلة هوس ليلي ونهاري. دارت برأسي الأحلام. حرة طليقة أنا، سيدة قراري، ما من رقباء، ولا تعاليم...
بحر وماء وسماء، اللاذقية، البوسفور، أوربا، ثم موسكو بالقطار، سأتفرج على العالم، أناجي القمر حرة مع أصدقاء العمر... بيدي هاتين أمسك زمام أموري.
في السابعة مساء، التقت جموع المسافرين في ساحة المرجة، هرج مرج وتجمع الباصات وكأننا في عيد.
لوحت لأبي وهدى من النافذة، لم أصدق أنني وحدي، وحدي دفعة واحدة، ومن عرين الأسد أخرج؟
تحرك ركبنا في أجمل ليلة صيفية مقمرة، هب نسيم عليل، وبدأ الشاعر محمد حديثه الضاحك، تفنن في رمي النكات الساخرة، ما هي إلا لحظات حتى استقطب ركاب الحافلة فالتفوا حولنا ليشاركوا معنا في ايقاد الفرح والظرف، النكتة تلو النكتة.
صباحاً شممنا رائحة البحر، رائحة السمك، أجمل بحر في العالم، بحر اللاذقية، صفحة زيت تجعدت بشرتها بنسائم لطيفة، قرب الشاطئ ربضت باخرة بيضاء أطل من سطحها بحارة بلباسهم الرسمي، رفرفت أعلام وزينات، وعلا مكبر صوت باستقبال موسيقي مهيب.
من سطح الباخرة بدا صف من الملاحين الشباب يتقدمهم الربان.
تجمعنا أمام السلم المرخى، وقفنا ننتظر التوزيع، نادوا علينا بالأسماء، وجدتني في حجرة ضيقة بنافذة مدورة تلطمها الأمواج تتسع لسريرين نضدا فوق بعضهما.
فوجئت بزميلة الندوة ناديا في الحجرة ذاتها، مع انطلاقة الباخرة هرعنا عشرات إلى السطح نتفرج على اللاذقية مستحمة بشمس الصباح وتبتعد عنا، فما غفوت بعض الوقت حتى صحوت على آلام في بطني ودوار في رأسي.
غالبته فغلبني، نهضت فدارت بي الدنيا، تشبثت بالباب، لم أعد أميز ما حولي، لم يوفرني دوار البحر أبداً منذ اللحظة الأولى للسفر، مثلي تساقط الرفاق واحداً تلو الآخر، والبحر يستل رويداً رويداً القوة من أبداننا ويتركنا في حالٍ من الإنهاك والصفرة البشعة، عمل البحر ضدنا ثلاثة أيام متوالية.
اكتشاف تلو الإكتشاف، ووجوه تترى خلف وجوه، وصداقات تعقد، والسفر أحلى كشاف لنفسية الناس، تبادلنا العناوين والأحاديث حول موائد الطعام، وتأرجحنا مع اهتزازات السفينة فوق موج البحر الأسود، شاهدنا شروق الشمس وغروبها وراقبنا في الليالي القمراء السمك بتقافز فوق الماء، يماشي سفينتنا ويناكدنا، ويماحكنا، يدعونا إلى الغوص معه، ثم يمل أعيننا، فيغيب، مع آخر فجر أرخيت المرساة عند قدمي أوديسا المتعالية ببيوتها الجميلة وسلالمها الحجرية المحفورة في التلال المشرفة على الطريق الملتف بطبيعته الخلابة، بدت أوديسا منارة مضاءة بنجوم متلألئة عبر بيوت الناس، تنسرب ألحان راقصة من مؤخرة السفينة تطلق وداعها الفرح بوجوه مستبشرة منطلقة، يرقص البحارة ويدورون، ينتشون، يتسلل الوجد إلى أفئدتنا، نحاول أن نغني جماعياً، ولكننا لا نجيد الغناء، نحاول أن نرقص، فلا نعرف كيف نرقص، فقط نعرف كيف نحزن، ونأسى ونبكي، شعرت بطعم المرارة في فمي.. هل حقاً سألتقي أحمد في موسكو.
تجولنا في المدينة الرائعة في طريق مسلط على البحر ثم انقلنا إلى محطة القطار، كان القطار أنيقاً جداً تشع النظافة من ثياب الأسرة الجديدة والستائر البيضاء المنسدلة على النوافذ، أكسبتنا المظاهر الحضارية راحة نفسية، تهالكنا على المقاعد، وقد عضنا الجوع، رتبنا حقائبنا، ومشينا نبحث عن المطعم، اجتزنا عربات كثيرة، في مقطورة المطعم كانت في انتظاري مفاجأة...
وجدتني أمام أحمد... هل أفرك عيني؟ أحمد بشحمه ولحمه أمامي مع الشاعر سليمان، يا إلهي، كيف يفاجئني على هذا النحو؟ تجمدت مصلوبة في مكاني وإذ شعر هو بحرج موقفي نهض عن كرسيه واتجه نحوي.
-الحمد لله على السلامة.. سبقتك بليلة كاملة.
-لم أجد كلمات أعبر بها عن دهشتي وفرحتي في آن واحد. أخذ بيدي وجلسنا إلى مائدة.
-أنت سادي.
تدخل سليمان وهو يراقب الموقف الغريب باسماً:
-قلت له ذلك قبلك.
-ألا يفرحك حضوري؟ على كل حال، اسمعي التقيت بشاعرنا سليمان في صوفيا، وطلبنا من مضيفينا البلغار إيصالنا إلى أوديسا لنرافقكم بدلاً من نقلنا إلى موسكو مباشرة.
-هكذا إذاً.

-أما كانت فكرة حلوة؟ أخذنا الطريق مقاطعة.. واقترب مني هامساً: من أجلك... ما عاد بي صبر على فراقك.
-شد كرسي نحوه، وأجلسني قربه، قبلني كعراب أمام الجميع.
نبرت خجلة:
-أراك تأقلمت مع جو صوفيا، وهات يا حرية؟
-يا ستي تأثرت، عندك مانع...
-ضحك سليمان وقال:
-ما رأيت حبيبين إلا تخاصما.
تفرست في وجه أحمد:
-خمسة عشر يوماً أعادتك إلي رشيقاً.
تلمس صدره بيده، ثم قهقه:
-رأيت نحولي، ولم تلحظي اشتياقي، حظ عاثر؟
ضحكنا ثلاثتنا.
-نشرب القهوة؟
-بل أنا جائعة.
دفعني من كوعي، تملص سليمان من رفقتنا بلباقة بعد تناول الطعام مباشرة.
-إيه، أخيراً وحدنا لارقيب ولا نظير.
-لا يعرف الطائر الحبيس ماذا يفعل بحريته، نبست.
-انس نفسك، ومن أنتِ. تنشقي الحرية بملء رئتيك.
وضع يده فوق يدي على الطاولة.
-مرحباً أستاذ أحمد.
ألقت ((نادرة)) تحيتها الخبيثة، وكأنها تسجل نقطة علينا.
جلسنا قرب النافذة الملمعة، نحتسي القهوة نطيل بقاءها في حلقنا، ونمتصها قطرة قطرة... غرقنا في لهفة التعبير، وتعثر التعبير، عاد يمسك كفي ويعصره.
-تأكلنا العيون...
-دعيها... فلتأكل جوعها...
-قال بعد قليل ونظرته تعبر النافذة الصغيرة المستدير.
-ما هي سوى أيام نقتنصها من فم السبع.. بها نختصر حياة. الآن بدأ عمرنا هكذا يجب أن تفكري، كفانا تشرداً، وملاحقة وخوفاً، أنت لي، وأنا لك.
هززت رأسي وجلة.
-هل رأيت بقية الرفاق؟
-جميعاً، إلا ليان، لم أره... البقية رافقوني من دمشق حتى اللاذقية في الباص ذاته.
لكزني من كتفي منبهاً.
اقترب منا ثلاثة شبان، بنتان سمراوان، وشاب منمنم، نهض أحمد مسلماً ومعرفاً.
-أهلاً بناديا بطلة الغساني، ونينا. سهيل أصغر وأذكى مترجم في سوريا.
من ينسى سالومي؟
-تشرفنا: ابتسمت بود.
تعارفنا، توافقنا، ولم نفترق طوال الرحلة.
عدت إلى سريري، وجدت مدرسة التاريخ وقد لطخت الوجنتين بالأحمر الفاقع. تعثرت في رحلتي تلك بنماذج إنسانية متنوعة، مختلفة المشارب والأهواء تحتاج إلى صفحات، أحببتها بأخطائها، وعقدها ومحاسنها، بإقبالها وإدبارها، كلنا سواء، نحمل رواسبنا أنى حللنا ولا ننسى شرقيتنا تكومت، غفوت على هدهدة القطار.
في الصباح، غيرت ملابسي، وتوجهت نحو المطعم، وجدت أحمد بين مجموعة من رفاقه. حنا، شوقي، ناديا، محمد، سهيل، نينا، شحادة.
-تتهادى هناء كنار الرحلة، بقامة مهيبة، بيضاء غضة، مفعمة بالأنوثة، تتحرك بدلال، دارت بعينيها الزرقاويين على الحاضرين ثم ارتدت خائبة.
علقت نايا بخفة:
-فشلت جولتها الصباحية، فتاها غائب يعلم الله أين حط ومع من.
-تقصدين الضخم بطل الكمال الجسماني؟ سأل حنا مغتاظاً.
قام عن كرسيه، لحق بها، رص على أسنانه، يطحن غيظه، يود أن يمزقها يشتمها، نبر بصوت متهدج: يحرق.... د.....
شده أحمد من كم قميصه مداعباً: ومن الحب ما قتل، بهدلتنا يا رجل، تماسك، لم تتعب نفسك، ليست لك، عندها رفيق حلو جميل ولست مثله.
يغرس حنا عينيه يائساً في وجوه رفاقه وفي حبات المسبحة المرمية على الطاولة، يكورها بين كفيه، يضغطها... يتنفس ببطء:
والله ذبحتني، يحرق د... تعرف نفسها، وتعرفني تريد أن تقتلني أن تمزقني، ذبحتني... والله ذبحتني أنا متهالك أمام هكذا جسد، اتركوني، وحدي بالله عليكم،
ولكنه هو من ترك الطاولة،... غابت قامته بين المجموع.
انضم سليمان إلينا...
-حرملك، وسلاملك هنا، ومثلها هناك.... مللت هذه الرحلة بالله.
-دعنا من أحاديث البنات والشباب، ما الجديد في الشعر؟
-((برتقالي معلق)) قصيدة جديدة، غداً نصل موسكو، وفي ساحة الكرملين وتحت القبة الزرقاء.. حيث لاتنام موسكو، ولا تعرف الليل، سأسمعكم إياها.
-وعد؟
-وعد.
أشعل سيكارة... طاتلي سرت....وسار الهوينا نحو عربة التدخين. تدعونا أنغام الموسيقى، نركض معاً، نتكاثر في المطعم، فجأة ينزلق من وفدنا جسدان غضان يرقصان، سرت عداوهما إلينا، حاولنا أن نحرك أرجلنا، مسحت صدري بيدي، لأجفف العرق، فالجو حار خانق، والقطار يخب ويكاد يغيب صوته. وصلنا محطة أخرى.
امتلأت عربات القطار بأنواع الورود، دارت رؤوسنا من رائحة الأزاهير، تجمع في المحطة مئات الناس نساء ورجالاً تحت المطر الغزير الصيفي، يرفعون رايات الترحيب، ينشدون أغان روسية حميمة، لا يمكن أن نفهمها، ولا نستطيع أن نستوعب معانيها وأمداءها، غمرتنا المشاعر العميقة فبكينا، تساءلت:
-هل يقبل الإنسان على إنسان غريب بهذه اللهفة، هل تختلط الدماء مع الماء يوماً ليصبح الجميع أخوة، لا حرب، ولا مؤامرات، ولا أسلحة، ولا قنبلة ذرية، مستجيبين لنداء السلم، يا لهؤلاء البشر، أية قوة ديناميكية تحرك عواطفهم، وتدفعهم في الليل والنهار وتحت المطر كي يقفوا الساعات الطوال في المحطة وليهتفوا لنا كفاتحين.
((مير.... دروجبا))) سلام صداقة
ماذا تريد الشعوب أكثر من سلام وخبز وماء وحب وحرية...؟!
سماء زرقاء، طقس ربيعي في صباح موسكو تجمعنا في ساحة كبيرة توسطت الفنادق المعدة لاستقبال الوفود، تفقدنا حقائبنا، ضم فندق الوفد السوري غرفاً لا نهاية لها. صالون كبير أفضى بنا إلى متاهة دهاليز امتدت طولاً وعرضاً التفت من حول طوابق حديثة بيضاء مثل الثلج، توزعنا الغرف بالأسماء.
أنا، وعفاف، ومنيرة باقة منسجمة امتدت جذور معرفتها إلى مقاعد الدراسة الإبتدائية.
ارتميت على سريري اتفقده، اتشمم رائحة النظافة المنعشة على الشراشف البيضاء.
تباعد عن وعيي حديث الصديقتين، ورحت في سابع نوم حتى صباح اليوم التالي، شبعت نوماً وراحة، هرولت فرحة نحو الشلة، كانت بينهما الجثة الهائلة لصديق الكل، وحبيب الكل مئة و عشرون كيلو من الطيبة وروح النكتة وخفة الدم.
قلت ممازحة بلهجة تمثيلية بطيئة متوجهة إليه:
-لتكن دليلنا ونقطة تلاقينا يا محمد.. الحيز الذي تشغله شكل نقطة علام حيثما كنت.... ضعنا ضمن الزحمة في هكذا متاهة.
تنحنح في مقعده وخلص جسده منه بصعوبة:
-من أجل عينيك، ونكاية بهذا الذئب أحمد أنا حاضر.
مد لي يده السمينة كنبيل فرنسي ومددت يدي. علق أحمد ضاحكاً:
-أين أين يا جماعة نحن هنا؟ نحن هنا....
ضمن التنظيمات الهائلة للمهرجان خصصت لكل مجموعة عرقية وجغرافية مطاعم تناسبها.
وجدنا أنفسنا ضمن مطعم سوري بكل أطايبه ورائحته، ومطبخه، تجولنا في المطاعم الأخرى، هذا فرنسي، وذاك إنكليزي، وذاك صيني، لكل وفد ذوقه وطعامه. بين الجموع المتلاطمة صدمت بالأستاذ ((رفيق)) صاحب سوسن التي قتلت على عتبة المدرسة يتأبط ذراع طباخة روسية قمئية قصيرة، تذكرت الرسائل الزهرية، ولعله تذكرها، احمر وجهه خجلاً.
وقفت مشدوهة أمام حرارة لقائه.
-أهلاً سلمى، يا للمفاجأة الرائعة؟
انغمسنا بلقاءات ثقافية وفنية معدة مسبقاً، لقاء تاريخي مع ((بولغانين)) بحضور سفيرنا الدكتور جمال، والأستاذ خالد والتلفزيون، وجهاً لوجه مع الزعيم السياسي الذي أوقف الاعتداء على مصر إثر تأميم قناة السويس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف.
رمى نكات غير متوقعة، وضحك ببساطة آسرة نابعة من بساطة الإنسان الطيب لشعب طيب.
كرّم الشعبُ الطيب شعبنا الطيب. رأيت على المسارح الكثيرة المتناثرة بين الأحياء، وجهاً سورياً، وفي اللقاء الثقافي وجهاً سورياً، وفي المعارض الفنية وجهاً سورياً، خمسة عشر يوماً من الأعياد المتواصلة المتكاملة التي لم يبهت لونها، وأخيراً أقيم حفل الختام في الكرملين، قصر القياصرة، والأباطرة، والثوريين، آلاف من سحنٍ مختلفة رقصت على أغنية المهرجان ((مساء موسكو))، موسكو فيتشر.
هيمن الانبهار علينا، تساءلنا بخشوع هل داست هذه الحدائق أقدام ايفان الرهيب، هل، هل،.....؟
بطلب من إذاعي سوري يعمل هناك سجلت بصوتي قصة ((الورقة الصفراء)) اشتريت إسطوانات كلاسيكية لعباقرة الموسيقى.
لا يقوى وصفي أو قلمي على الإلمام بالغنى النفسي الكبير الذي اختزنته ذاكرتي من تلك الرحلة، حملت تجربة لا يعدلها ما قرأت من كتب، وحكايا إلى آخر العمر، التواصل الإنساني، التواشج، الصدق، في عالم مغاير لعالمنا، بعيد عن عاداتنا، وتقاليدنا، قريب من طيبتنا واستمرارنا وصراعنا وحبنا للحياة... فجأة انساحت القارات بحب في هذا المهرجان، وافعمت روحي هوى بالحرية وباستقلال الإرادة.
رجعت إلى بلادي، إلى جوي، كنت سعيدة، ممتلئة حتى آخر قطرة ممكنة.. لا شيء، لا شيء، وما من أحد يمكن أن يعيدني إلى القمقم بعد الذي عشت ورأيت.
بدأت أتعرف على مهنة الكتابة كحرفة موازية لدارستي في كلية الأدب، فلم أعد مجرد هاوية تغتبط برسم اسمها على صفحات الجرائد، ربصت الكتابة بثقلها فوق كاهلي،
أصبحت مسؤولة عما أكتب، أحاسب، وأنقد، وأقدم توضيحاً لأفكاري.
أيقنت بعد محاولات جدية، أن الأدب ليس كتاباً يقرأ، ولا قصيدة ممتعة، ولا حديث عابر.
أريد، أحب، أرغب بزاوية لي في صحيفة، غير أن الصحف في بلدي تلتهم العمل الفني التهاماً دون أجر، وعلى المرء أن يتبرع مجاناً بأفكاره، قد تعقبها كلمة الشكر، أولا شكر.
تحاورت مع أحمد حول عمل في صحيفة الفيحاء، لم ألق جواباً شافياً، قلب شفتيه وهز برأسه:
-كم بطيخة ستحملين بيد واحدة؟
ركبت رأسي معاندة، قدمت طلبي إلى رئيس التحرير فائز. تملاني متيقناً من جدية القول ورغبة الدخول إلى عالم الرجال، خجلت من الخوض في موضوع الراتب كالعادة، تركت الأمور سائبة، فأنا لا أشكو تقصيراً، وماتزال الدنيا فسيحة مفتوحة أمامي. نبر الأستاذ مقاطعاً أفكاري:
-طيب، تبقين فترة تحت التجربة، أقترح عليك موضوعين اختاري أحدهما:
تحقيق عن الطوالع السبع في دمشق. أو يوم في حياة أسرة دمشقية من حي شعبي.
-ويلي، أين هي الطوالع السبع؟ في دمشق، أم حماة؟
اكتشفت أني لا أعرف شيئاً عن دمشقي ولا أحيائها، فقط مجرد أسماء أقرأ عناوينها في طريقي إلى المدرسة، وحتى الأحياء الكبرى كالقيمرية، أو القصاع، أو باب توما، أو الميدان، ما كنت أدري عنها إلا القليل.
هالني الأمر وأنا المحاصرة بمئة سؤال وجواب في البيت. وقفت حائرة:
-من أين أبدأ، من الحارات المتفرعة عن خط الميدان أم الشاغور أم السويقة، وباب الجابية. أم شيخ محي الدين وحي الأكراد. كلها أماكن خلقت في ذاكراتي صوراً صوفية عن المروءة والكفاح لا تلطخها عتمة الفقر والجهل.
ترددت في خطواتي.

-كيف سأدق الباب على عائلة غريبة لم أزرها في حياتي، وأقول لها:
احكي لي عن همومك؟!
حملتني الخواطر إلى آفاق متشعبة صعبة التحقيق في جو مغلق على أسراره. يؤمن أناسه بالفقر الأبيض ويرفض الخوض في الفقر الأسود. يموتون ويعيشون بلا حكايا معلنة ترن في جنباتها الضحكة. رغم كل شيء اتخذت قراراً صعباً بالولوج في حياة أسرة دمشقية من حي شعبي.
إلى ذلك الحي الذي لا يصله ترام، ولا سيارة توقفت أمام عتبة منزل حجري سوداء خلع الأولاد أحذيتهم المهترئة خارجها. طرقت الباب متوجسة. أطل صبي في الحادية عشرة يهرش عرنوس ذرة نيئة. تفرس في وجهي مستغرباً. ثم وارب الباب، ثم عاد وفتحه.
-أمك في البيت يا شاطر؟
ندت كلمة ترحيب ممطوطة متكاسلة من الداخل.
-تفضلي. تفضلي ناولني الغطاء يا علي.
تربعت على الأرض إلى جانب المرأة التي اندلق ثديها على صدرها. ردت الرضيع عنه. ظلت قبة الثوب مفتوحةً، تحلق ثلاثة صبية حولي حفاة فوق أرض عدسة اسمنتية تمددت فوقها طراريح رقيقة. على بعضها في الزاوية غفا طفلان برز وجهاهما من غطاء أسود كالح. قرفصت البنات، أسندن ظهورهن إلى الجدار الكلسي المشقق. ارتسمت في عيونهن دهشة. تفقدت الغرفة التي فصلها شرشف حموي مخطط إلى غرفتين.
-لابد أنها غرفة الأبوين. وإلا كيف بظّت كل الأفراخ.
صرخت المرأة:
-مية السلامات. خديجة فنجان شاي للآنسة.
اعتذرت منها بكلمات خرجت من فمي متعثرة جوفاء باردة فضحت كذبي. خجلة من ذاتي كنت وأنا أرفض زهورات أشربها على مرارة هؤلاء؟!
فيما كانت المرأة تتحدث، أنا أسأل وهي تجيب، تارة تنهر الأولاد وتارة تتعثر بهم، أحسست أني في سبيلي إلى الإغماء. أهذه دمشق التي أعرف، على مبعدة قليلة من بيتي وحتى من مركز العاصمة في ساحة المرجة. هربت من رائحة الرطوبة العفنة إلى شمس انبدرت في الحارة... بكيت. رثيت هؤلاء ورثيت نفسي؟ فشلت في تجربتي الصحفية وخنقتها في المهد.
-ما أصغر همومنا!
حكيت لرفيقاتي، ولتلميذاتي، ولأحمد عما رأيت. أطرق برأسه إلى الأرض ثم نظر طويلاً في عيني نظرة أسيانة.
-هذه عينة بسيطة. تذكريها إن أردت الأدب مهنة.
حملت من مادة الثقافة العامة فقه اللغة للدورة الثانية. أيقنت أنها ليست لعبة أبداً، ولا مجرد فاعل، ومفعول وإن وأن وإذا وصرف ونحو.
مرت الأشهر تباعاً وتخلصت من دبق الثقافة العامة التي أبعدتني عن الكتابة. سجلت فرعاً قريباً من اللغة العربية. فرع آخر أحب: ((علم النفس)). كان من حقنا أن نجمع الفرعين معاً آنذاك.
عبر أسلاك الهاتف نقل الأستاذ ليان البشرى:
-مبروك آنسة سلمى. الجائزة الأولى في مسابقة القصة لشباب العالم.
دبلوم شرف مكتوب بماء الذهب. وعليه اسمي، وعليه عنوان القصة.. وفي الأعلى: المهرجان ((العالمي الأول للشبيبة)).
من فوري ذهب تفكيري إلى أحمد. فرحة طاغية، بدأت ألهث، يجب أن يشاطرني أحمد فرحتي. لا تكون فرحة إن لم اقتسمها معه....
درت على نفسي، أختنق بلذة الانتصار، أراقص الحلم الجميل الذي عشش في ذهني وقلبي أياماً وليال، ونقلني إلى ذرى صعبة المنال.
تلاقينا أطلت شمس ذهبية من عينيه. كان سعيداً وحزيناً.
ماذا هناك؟
-قبلك بلغني خبر فوزك بالمسابقة، لكن...
-لكن ماذا؟
-انظري...
ونشر أمامي جريدة يومية كتبت الخبر أسفل إحدى صفحاتها الداخلية وربما في باب الوفيات. الورقة الصفراء. قصة سورية تفوز في مسابقات مهرجان الشباب العالمي وكأن الفائزة ليست سورية بل من واق الواق.
شرنقني وكبلني نجاحي. حد من حريتي. أثناءها نشطت الأحزاب السياسية، رفدتها دماء جديدة نظفت شرايينها.
دعت جريدة ((الجمهور)) الطلاب بالتفافٍ ذكي وسبق صحفي منها إلى اجتماع مصغّر خاص بالمستقلين الحياديين. كي يعبروا عن رأيهم كاملاً، إزاء قضية مصيرية ملحة ستطرح قريباً على بساط البحث مع الشعب. وهي ((الوحدة مع مصر)).
تفتحت الدعوة من قلبٍ مزقته الانقلابات. فتفجر حماساً، فما كانت الأحلام الطويلة لتذهب هباءً. من لا يهلل لأرض تكبر....ولوطن يتمدد، وبقاع تنتشر خصباً وحضارة ومنَعَة. من لا يهوى ولا ينادي بوحدة متماسكة مدروسة تضم شعبين شقيقين مصيرهما واحد. ونبضهما واحد، وعدوهما واحد.
نقل أبي بعض أحاديث الرجال في المقهى:
-كرست الحركة الناصرية. مصر عربية في الدستور المؤقت.
-خطوة جريئة وخطيرة، هناك شائعة بأن زعيم مصر سيشتري الأسلحة من الشرق.
-تأميم القناة وحدَّ العالم العربي: رد رجل.
-أيجب أن تعم رؤوسنا المصائب حتى نتجمع على بعضنا؟ علق أبي متسائلاً متشائماً.
-ولكن نداء استوكهولم للسلام بلبل أفكارنا. فكيف نحارب إسرائيل وهي حربنا المصيرية ونشجب الاعتداء علينا والقتل الجماعي بالقنبلة الذرية وننادي بالسلام؟
غمغم عادل وهو يضب أغراضه في كيس قماشي علقه فوق السرير.
-التفسير صعب حالياً... ولكن الأحداث تبشر بالغيث.
تنامت التحديات خلقت صراعات وصدامات بعد شهر العسل إبان الانتخابات بين نشأت ويعقوب. المناضلين الشهيرين الخصمين لكن العدوين اللدودين للأحلاف ولمشروع الهلال الخصيب.
كان الاثنان من حملة لواء تنظيم الطلاب الجامعي كل في حزبه...
إبّان الانتخابات عملا معاً ضد أهل اليمين ودعاة الأحلاف. وبعدها عادا إلى مواقعهما وقناعاتهما.
تأججت مظاهرات ضخمة أعقبها اعتقالات في مختلف المدن السورية تدعو إلى الإحاطة بصاحب الانقلاب الثالث.
عقد المجلس النيابي جلسة أخيرة كثر فيها الجدل. وفي الكواليس وزعت الكراسي على حكومة مؤقتة.
يدعو صوت إلى الوحدة الكاملة مع مصر. عبر يعقوب عن رأيه بصراحة أمام مجموع الطلاب المحتشدة في حديقة الجامعة:
-الوحدة كنز ومطلب مصيري. الإطار أولاً، ومن ثم التفاصيل، لحقه الكثيرون على شرفه النادي المطلة على بقايا فرع بردى المنسربة بعد الربوة حتى المرجة. كنا جماعة الندوة الأدبية نشرب القهوة، نناقش جوهر الوحدة ونتائجها سلباً وإيجاباً.
في تلك الفترة المشتعلة./ شغل أحمد عن لقاءاتنا ضيوف أعزاء جاؤوا من مصر محمود أمين، إدريس، بهجت.
التقيت بأحمد في الشارع بادرني معجلاً:
-تفهمين وضع البلد جيداً. أعتذر منك، لابد أنك تقدرين ظروفي. هؤلاء ضيوفي وفي بيتي... بهجت يعمل في مجلة أدبية مهمة سيلتقيك مع عدد من أعضاء الندوة الأدبية. ربما غداً، أو بعد غد..
سيتلفن إلى المدرسة أعطيته رقمك. لا تتهربي من أسئلته. كوني مرتاحة وصريحة.
غادرني مسرعاً.
تدفق الكلام من فم بهجت كحبات السبحة، نبعاً لا ينضب... يقفز مع أفكاره المتلونة السريعة بأمثلة تطال المستقبل. وبالتكامل الاقتصادي والثقافي بين البلدين. يحكي ويبتسم. طلب فنجان قهوة آخر.
صب حديثه علي أنا وعلى مسابقة القصة لشباب العالم.
شاركتنا نورس الجلسة ظلت مستمعة جيدة ومستوعبة، تحكي بمقدار، وتتنقل بعينيها الصغيرتين بين وجهينا، وتتمتم: -أكيد، نعم.
كتب بهجت على ورقة اسمه الكامل وعمره وتاريخ ولادته. واسم أمه، وخاله وعمه، وثقافة كل منهم. قرأها علي.
ضحكت ملء قلبي ما هذه الأحجية التي لاعلاقة لها بموضوعنا؟
-هذه ترجمة حياتي.
كنت فعلاً خالية الذهن بعيدة عن تشعبات ذهنه. غادرنا وهو يؤكد عودة سريعة إلى الشام
-ما رأيك فيه؟
-أرى فيه صورة الرجل النشط المتوثب.
-أما أنا، فأراه الرجل الخبيث الباطني.
-سلمى التي أعرفها، لاتقبل تحدياً ولا تراجعاً.
مشينا الهوينا، عضّنا الفكر بنابه. لم تحاول أية واحدة أن تخرق الصمت.
وأخيراً تنهدت صديقتي:
-انقضت العطلة سريعاً وهاأنذي أسافر إلى السويداء حيث المدرسة والبنات وطعام وشراب ونوم مدة أسبوع قد أعود قبل رأس السنة. كي أكسر رتابة حياتي بين أهلي وفي دمشقي. إلى اللقاء.
-طريقي غير طريقك، اسمعي لا تنسي اللبن والزبدة والجبن من السويداء. ضحكتْ، ضحكتُ.
كرَّ ومر الأسبوع سريعاً. وفي ليلة رأس السنة هتفت إلى أحمد من صيدلية دخلتها، كنت بحاجة إلى أن أسمع صوته.
-أحمد، مشغول أنت؟
-عندي ضيوف نحضر لأفراح رأس السنة الجديدة، نتقاسم المهمات، وبعد قليل سيأتي حنا وشوقي، وسعيد والشلة... الدنيا قائمة وقاعدة في بيتي.
-وأنا؟
-طبعاً لا. أبداً. جننت؟ أصلاً أنت لا تستطيعين الخروج في الليل.
-متى نحتفل كالناس وأمام الناس بلا خوف، ولا وجل؟
-قريباً. ليس الآن. تذكريني الليلة.. نلتقي في السنة الجديدة.
لم أنم. لا أدري بماذا انشغل ذهني... كوابيس تتناوب على ألامي كلما غفوت لحظات.
عندما شق الفجر أول خيوطه. وامتدت عبر نافذتي. وبدأت أغمض عيني، واستسلم لهدهدة الحمام في الديار، شممت رائحة حريق نهضت كالملسوعة. أين الحريق؟..
وحدي في البيت من رأى الدخان واختنق بالنيران.
لم نسبر حقيقة المقدمات التي سبقت إعلان الوحدة، ولم أسأل أخي عادل حول آلية محركي مواضيع الساعة التاريخية المصيرية، ولم أقل له أني معنية بوطني الكبير. كما هو معني بالتخطيط لوطنه. ونلعب على رقعة الشطرنج ذاتها. قد يكون بأسلوب مختلف وتكتيك مختلف ولكن وصولاً إلى الأهداف ذاتها التي أدت إلى توحيد الحزب الاشتراكي والبعث. بقيت أحاور وأناقش المعطيات وحدي ومع رفاقي ربما لأني غير منظمة حزبياً، وبعيدة عن طموحات بطوليّةٍ لست من قياسها.
تابعت نوعيات الوفود، والاجتماعات المتوالية بتأنٍ.
بعد أشهر من غرق الجامعة بالخطب واللقاءات والبيانات وتحويل صالة الرياضة إلى قاعة خطابية سياسية يتناوب عليها الحزبان البعثي والشيوعي، عاد الصحفي بهجت ممثل مجلة صباح الخير وفي جعبته أسئلة وفي أهابه دور استطلاعي يلعبه.
تبادر إلي أنه اجتمع بناديا، ونصر وعادل ومحي الدين. وصل الدور إلي. موعدي معه على شرفة النادي. حول طاولة مخلعة دبقة. جلسنا أنا ونورس ننتظر. أطل. لاحظت أنه في الثلاثين، أسمر غامق، في مشيته تؤدة وفي تقاطيعه الفرعونية تصميم وذكاء. فوق كتفيه مؤشر على انكبابه على الورق.
بدا كلامه كأي مصري خفيف الظل نكتي، ساخر ينتزع الضحك والأسى معاً. موهبة حقيقية ودهاء صحفي كبيران، رمى على الطاولة مجلة صباح الخير التي حققت انتشاراً، وبريقاً كشافاً برسومها الكاريكاتوريه بالغة العمق والمعنى.
ماذا يحكي المرء عندما يلتقي غريباً يؤم بلده؟ تعرجت الأسئلة فتلوت الأجوبة حتى دخلت مضامين الحياة الدمشقية، ومتاهات الأحزاب السياسية وحول الوحدة لتخرج منهكة إلى الفضاء الرحب بعيداً عن تفاصيل النتائج. ترتمي، تفتح ذراعيها معانقة رغبة شعبين أصيلين طالما وحدتهما الملمات. رمى بهجت قشرة موز في طريقي، فما تزحلقت. طرحت أفكاري حرة فجة ساخنة دون تنميق. فأعجبته لا بل تبناها... يجب أن يسبق إعلان الوحدة تمهيد مرحلي قد يدوم سنوات إذا أردناها قابلة للعيش والديمومة.
أهي الحاسة السادسة؟ أهي إشراقة في الوجد؟ أهي لغة التخاطر النفسي التي يتحدث عنها الناس؟
أحسستني محمولة على أجنحة بومة سوداء تطير بي وتطير الكون. كله ظلام. استلقيت متعبة طردت الخواطر السوداء لفني محلها توهج الشوق وهسيس موسيقى ناعمة تبعد عن ذهني توقعات الشر.
غفوت على سرير هندي مليء بالمسامير.
انتصف النهار، انتظرت كلمة حلوة أنهي سنة بها وأبدأ سنة مزهوة موارة. ولكن عبثاً انتظرت.
يلاحقني غول مجهول. يضربني الخوف بسياطه. أصوات ثاقبة منغمة ممطوطة تنادي بعناوين الصحف:
-اعتقالات جماعية في ليلة رأس السنة.
أحمد، أتراك تتشبث بأمل التغيير لترسخ حلماً محققاً.؟ أتراك تتغلب على التنين الأسود في الرؤوس الموصدة بالحديد والمغلقة على الأنا؟
اندفعت نحو الطريق الإسفلتي، إلى الجامعة. الدرب طويل ومتعرج ومقفر. الحرم الجامعي مغلق بقضبان سوداء، عيون سوداء، رشت يد ساحرة شريرة الموت على المدينة فغفت بلا حراك. أضحت أحجاراً من أسمنت وتراب.
أحمد، لست النعجة التي تمد رأسها للجزار، وتستسلم للذبح. قاوم فلن تجرفك العاصفة.
قرب الباب الحديدي.. دفعها رجل خشن من كوعها إلى سيارة عسكرية مصفحة تجمدت الدمعة أسى في عينيها. أضرمت ضراوة في قلبها أبعدت التردد والتخاذل واللا إنتماء عن خطواتها لتتوحد مع خطوات الآخرين في درب معشب بالأشواك. قدرها لا يلهو أبداً معها ولن يترك لها الخيار.
ينبثق عامود من ضياء أمام عينيها. لن تضيق الأفكار عليها وإن لوى كتفيها حمل ثقيل بعيد من التخييل، فلتدخل التجربة مع الأنبياء. تجربة لن ينساها، ولن تنساها. حالة الدخول في الذات الأخرى،.... دورات الآخرين. فإن بدت تحركات الكائنات البشرية المأمولة كتحرك السلحفاة في الوقت الراهن، فإنها حتماً لتتسارع نحو الهدف على نحو مذهل. استكانت إلى الحلم. وأغمضت عينيها.





رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية

بنات حارتنا :رواية/ ملاحة الخاني- دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1998-144 ص؛ 24 سم

1- 813.03 خ ا ن ب.
2- 813.009561 خ ا ن ب.
2- العنوان.
3- الخاني.
ع -2023/12/98 مكتبة الأسد





هذا الكتاب

مجموعة قصائد وجدانية مرصعة بالهم الوطني والقومي، تحمل شحنات كبيرة من الحب والوجد والرؤيا البعيدة المدى منسوجة على منوال قصيدة التفعيلة المضبوطة الوزن والإيقاع صاغها الشاعر بلغة معبرة عن بوح شديد عما يدور في خلد الشاعر من أفكار ورؤيا وحلم وبوح.


هذا الكتاب


مامن شئ أصعب من أن يكون المرء حراً، سيد مصيره ومبدعه كيف لفتى من أسرة محافظة وضاغطة في أربعينيات القرن أن يميز معالم طريقه؟ وكيف لفتاة من الأسرة ذاتها - مع تنامي الطبقة الوسطى وتفتحها - أن تؤكد استقلالها وتتحلص في الوقت ذاته من المسائلة والخنوع؟
ألا يجب استبعاد الخلط بين الحرية والنزوة؟ وهل المرور بالخوف والضعف صورتان متلازمتان للثمن الذي يجب دفعه لبلوغ النضج؟
أسئلة كلها تجيب عنها حكاية ناس من دمشق تركوا بصماتهم على خط الحياة تأرجحوا مع الأيام الصعبة لكنهم لم يقهقروا أو يطأطئوا..
ومن لا يقع لايقف ولايصل هكذا مات بعضهم واقفين.