AshganMohamed
10-28-2019, 10:29 AM
ثارات العرب
ثارات العرب
ثارات العرب
أدبية تاريخية غرامية تشخيصية
تأليف
نجيب الحداد
مقدمة
أسماء الأشخاص:أبو قابوس المنذر: ملك العرب.سلمان: أخوه.ليلى: خطيبة حماد.حسان: عاشق ليلى.شمطاء: عجوز.فقير: الملك متنكر.عامر، حماد، سالم، قراد، قيس، ناقد، زياد: أمراء.هلال، زيدان، فاضل، عمران، فاتك: أسرى.جنود وحرس وأسرى وضباط.
المكان: الواقعة حدثت في بلاد العرب.
الفصل الأول
الجزء الأول
شمطاء: هنا أمراء القصر في اللهو والطربوهذي أسارى القوم في الشغل والتعبهنا رنة الألحان والأنس والصفاوهذا رنين القيد والظلم والغضبهنا الجد يأوي بابنهِ وكلاهمايعدَّان ما قد أسلفاهُ من الحقبيكران طرف الذكر في نوبٍ مضتوهيهات يغني الذكر والعمر قد ذهبأميران قد عزَّا على كل مالكٍوعبدٍ فكانا الرأس والعالم الذنببحصن سما عن كل حصنٍ ومعقلٍفكاد يفوت النسرَ أو يلحق الشهبومن حوله أبطال حرب أعزةٌيرون عذاب الموت أحلى من الضربرجالٌ لهم في كل جسم صحيفةيخطون فيها بالرماح وبالقُضُبويحمون هذا الحصن من كل طارقعدو فلم يدخل إليهِ سوى الطربدخلت إلى هذا المكان ذليلةعجوزًا تولتني المصائب والنوبأجر قيود الذل فيهِ وطالماجررت ذيول العز زينها الذهبولكن رويدًا ساكني القصر إننيرسول البلايا والنوائب والعطبالجزء الثاني
(هلال – زيدان – فاضل – عمران – فاتك – ثم جندي)
هلال: هذه ساعة الراحة والحمد لله … حقًّا لقد تعبتُ.زيدان: لقد كنت حرًّا غنيًّا، أما الآن …فاضل: وا أسفاهُ.زيدان: أريد أن أعرف ماذا تصنع هذه العجوز هنا.فاضل: جلُّ ما أعلمه من أمرها أنهم أخذوها مسبية في الشهر الماضي مع بعض التجار، وجاءوا بها إلى هذا الحصن.عمران: لماذا يقيدوننا نحن، ويتركونها حرة تذهب حيث تشاء.فاضل: ذلك لأنها شفت حفيد الأمير الكبير من حمَّى قتالة، وقد شفت أيضًا أحد الأمراء من لدغة أفعى.زيدان: أظن أن هذه العجوز سحارة، فإنها لم تشفِ هذين الأميرين فقط بل شفت الثلاثة البرص؛ الذين كانوا هنا فأصبحوا لها من أطوع الخدم، وظني أنها امرأة خبيثة ذات مقاصد هائلة، فهي لا تأوي إلا الكهوف أو المقابر، وتوقد فيها النار وتصنع عليها أدوية وعقاقير لا أعلم كيفية تركيبها. وقد رأيتها مرة ماشية مع رجالها الثلاثة في جانب الحصن، وإذا بها قد اختفت معهم فجأة كأنها شقت الجدار ودخلت فيه.فاتك: يا ليتها بدلًا من أن تشفي حمادًا الخبيث وغيره شفت ليلى خطيبة حماد وابنة أخت الشيخ سلمان جده.زيدان: حقًّا؛ إن هذه الفتاة ملك في صورة إنسان.فاتك: ولكنها ناحلة ذابلة تخطو كل يوم خطوة في سبيل القبر، ولا شك أن خطبتها لهذا الوحش الضاري حماد هي السبب الأكبر في سقمها وانتحالها.فاضل: هذه العجوز قد عادت حقًّا، إنَّ منظرها يرعبني، فلعنة الله على هذا الحصن كم فيه من أهوال.زيدان: اسكت ولا ترفع صوتك لئلَّا يسمعنا أحد.فاضل: لا تخف، فإن أمراءنا في وليمتهم، وهم بعيدون عنا.زيدان: ولكن الاثنين هنا.فاضل: وأي اثنين.زيدان: الشيخ الأكبر سلمان وابنهُ، فإن هذا الباب لا يدخله غيرهما وغير ليلى والفتى الضابط حسان الذي قدم إلى هذا الحصن في العام الماضي، وخدم بين رجاله ونال محبة سلمان الجد الأكبر بشبابه ومحاسن أخلاقه، أما الجد فيقضي غالب أوقاته في هذه الحجرة العميقة، وإلى جانبه ابنه الأكبر عامر يحمل رمحه، ويقضيان معًا ساعات طويلة لا ينطقان فيها بحرف. ويقال: إن هذا الشيخ العاجز يندب ذنوبًا له سلفت، وقد ثقلت جرائمها عليه، ويبكي ولدًا له صغيرًا خطف منه منذ عشرين عامًا، ولا يدري من كان خاطفه ويبلغني أن أولاده الأدنياء من أشد مصائب الدهر عليه، وأظنه لم يلقب بالشريد عن عبث.فاضل: وهل تعرف شيئا عن أمر هذا الحصن.زيدان: جل ما أعرفه من أمره أنه قد جرت فيه جريمة هائلة، ثم أخلاه صاحبه من بعدها وهجره عشرين سنة لا يأوي إليه، ثم عاد إليه بعد ذلك، وهو على ما تراه من الحزن والهم.فاتك: وهل لاحظت في هذه الغرفة فوق مجرى النهر شباكًا من حديدٍ مكسورًا.زيدان: نعم، وهذا الذي يسمونه المظلم، ويقال: إنه مكان تسكنه الجن، وإن دم الجريمة قد جرى على جدرانه قديمًا، وأصبح اليوم لا يدخله إنسان غير الذين ذكرتهم لك، وذلك من عشرين سنة تقريبًا إلى حين قُتل الملك الكبير أبو قابوس النعمان بن ماء السماء في حرب العجم.عمران: أما أنا فالذي أعلمه أن هذا الملك لم يمت، وقيل لي: إنه لا يزال حيًّا وأن منجمًا أخبر الناس بأن هذا الملك سيشيع خبر وفاته، ثم يعود فيظهر مرة أخرى.فاضل: هذه خرافة لا أصدقها، فقد حضرت الحرب التي قتل فيها ورأيت النهر يحمله بجواده، وقد حالت بيننا وبين إنقاذه كثرة الأعداء.عمران: صدقت، ولكن ذلك لا يمنع من نجاته، وأن يعود إلى بلاد العرب، فيصلح أمورها بعد هذا الدمار العظيم، فإنهم قد بحثوا عن جثته كثيرًا فلم يجدوا لها أثرًا.زيدان: ألا تُسمعون لي هذه الحكاية.عمران: تكلم.زيدان: أذكر من نحو ثلاثين سنة أنني وجدت رجلًا في بعض أحياء العرب يدعى سليمان، يزعم أنه كان خادمًا عند الأمير غسان والد الملك أبي قابوس المنذر، وقد حكى لنا أن الأمير لما ولد له هذا الولد خاف عليه من كثرة الأحزاب حوله، فأرسله إلى ولد له آخر كان يسكن في حصن حصين على هذه الجبال، وسأله أن يربيه ويعتني بأمره وأنه أخوه فليحرص عليه ما استطاع، فأقام هذا الولد الذي صار ملك العرب إلى أن بلغ العشرين من عمره في ذلك الحصن، فوجدوا الفتى وخادمه جريحين وهما على شفا الموت، فأخذوهما واجتهدوا في علاجهما حتى شفيا فعاد الخادم، وهو الذي حدثني بهذه الحكاية إلى مولاه، ومعه ابنه الذي صار ملكًا بعد ذلك وظني أن أخاه قد مات، ولم يعرف أن أخاه القتيل قد صار ملكًا، ويقال: إنه هو الذي قتله؛ لأنهما كانا يعشقان امرأة واحدة، وأنه بعد أن قتله مع خادمه وطرحهما من نافذة الحصن عمد إلى معشوقته، فقيدها وباعها رقيقة لبعض التجار، ولم يعلم أحد كيف كان مصيرها بعد ذلك.عمران: وماذا تستنتجه من هذه القصة؟زيدان: أستنتج منها أن ما شاع من عودة أبي قابوس المنذر صحيح، وأن هذا الرجل لم يمت بعد، وإن خفي أمره على الناس، ويقال أيضًا: إنه كان يدعى زيادًا عندما قتله أخوه، وأن أخاه كان يدعى غصوبًا، وأن تلك المعشوقة كانت عبسية. أما القاتل فقد خرج من الحصن بعد هذه الجريمة كما قلت لك، وأما الفتاة فقد بحث عنها الملك المنذر كثيرًا فلم يجدها، وأعرف من ثقة أنه بحث عنها في جميع هذه الحصون وقدم بجيشه، وقد كنت معه فحاصر هذا الحصن حصارًا شديدًا، وأقام يقاتل حوله قتال الأبطال إلى أن التقى بصاحبه في المعركة، وكان في يد خصمه حديدة محماة، فكوى بها الملك في زنده ومرق من الجيش بسرعة جواده، ولم يقدر أحد على معرفته؛ لأن وجهه كان مقنعًا بالحديد، والله أعلم إذا كان الملك لا يزال حيًّا كما يقولون، أم أحاديثهم عنه خرافات وأساطير.جندي (يدخل): انهضوا أيها العبيد إلى أشغالكم، فقد جاء وقت العمل، وإن مولاي حمادًا وضيوفه سيزورون هذا المكان، فلا يحسن أن يروكم هنا.الجزء الثالث
(حسان – ليلى – هند)
حسان: تعالي استندي عليَّ وسيري برفق … اجلسي على هذا الكرسي قليلًا … كيف حالك اليوم؟ليلى: على أسوأ حالٍ، فإن البرد يقرصني وأعضائي ترتجف ضعفًا، إن هذه الوليمة قد أزعجتني كثيرًا … (لهند) انظري ألا يأتينا أحد.حسان: لا تخافي، فإن أصحابنا يشربون إلى الصباح، ولكن لماذا ذهبت إلى تلك الوليمة لتؤثر على جسمك الضعيف تلك الأغاني والكئوس.ليلى: إن حمادًا قد حكم عليَّ.حسان: حمادًا …؟ليلى: اخفض صوتك، فإنه لا يبعد أن يسمعنا ألا تدري أنني خطيبته، وله عليَّ الأمر والنهي.حسان: نعم، ولكن كان ينبغي أن تشكي أمرك إلى الشيخ الكبير مولانا، فإن حمادًا يخاف منه.ليلى: وما الفائدة من ذلك، وأنا سائرة في طريق القبر؟حسان: ليلى، بالله ما هذا الكلام.ليلى: حزنٌ وهمٌّ يليهِ الموت عن عجلهذي حياة النسا في العالم الفانيحسان: أما ترين بهاء الشمس غاربةً… … … … … … …ليلى: … … … … … … …نعم وقد مرَّ عنها شهر نيسانِوصارت الأرض في فصل الخريف، وقدرمت بأوراقها من فوق أغصانِوأصبح البرَّ قفرًا لا أنيس بهكأنهُ مقلة من غير إنسانِحسان: لكن سترجع أوراق الغصون كماكانت وتكسو الروابي حسن ألوانِليلى: نعم وهذي جماعات الطيور غدتتسير عنا إلى أهلٍ وأوطانِحيث الحرارة تحييها وتنعشهافتأنس الأرض تغريدًا بألحانِحسان: نعم ولكنها لا بدَّ راجعةإلى هنا شأنها قبلًا إلى الآنِليلى: نعم، ولكن أنا هيهات أبصرهاأو أبصر الزهر يزهو بين أفنانِفإن عمري قصير لا انتظار بهلعودها وعذاب البين أفنانيحسان: حبيبة القلب ما هذا الكلام فقدأجرى الدموع وأذكاني بنيرانِليلى: ضعني قريبًا من الشباك خذ بيديوارمي لهذي الأسارى كل هميانيما أجمل الشمس ما أبهى أشعتهاكأنها وجه صبٍّ بائسٍ عانيتلقي أشعتها حمرًا فنحسبهاقد كللت هامة الدنيا بتيجانِويلمع النهر من أنوارها فيرىكأنه أدمعٌ في خد ولهانِما أحسن الأرض في عيني وأجملهاكل الحياة بها والكل ينسانييتيمةٌ لا أبٌ يحنو على سقمييومًا ولا أمٌّ تسليني وترعانيوحيدة لستُ ألقى في الورى سندًالذاك أصبح صرف الموت يلقانيحسان: لا تكفري لا تقولي أنت واحدةٌوها أنا في الورى من بعدك الثانيإني أحبك يا روحي ويا أملي… … … … … … …ليلى: … … … … … … …هيهات لم تكُ يا حسانُ تهوانيهذا رسول مماتي قد دنا وأناأمضي فتسلو غرامي بعد أزمانِحسان: إن مت متُّ بلا شك وأقسم بالــحب الصحيح وهذا جل إيمانيأتزعمين بأني لا أحبك قدفطرت قلبي، وقد هيجتِ أحزانيدخلت ذا الحصن من عام فكنت بهمن أهله مؤمنًا ما بين أوثانِأرى الجميع لصوصًا لا ذمام لهمالدين في عرفهم والكفر سيانكانوا ظلامًا على عيني يخالفهمطبعي وينفر منهم طيب وجدانيحتى بدت شمس حسن منك مشرقةٌشعاعها من جمال فيك فتانِوأصبح القلب رهنًا في يديك ولاتؤاخذيني، فإن الحب ألجانيإذ قد عشقت فتاة في إمارتهاخطيبةً لأمير باذخ الشانِمع أنني رجلٌ لا أصل يرفعنيوليس لي والدٌ في المجد ربانيولست أعرف من نفسي سوى هممتسمو بنفسي إلى أطباق كيوانِوإن لي صارمًا يغني عن النسب الــقاصي وأُنشئ منه مجديَ الدانيفقد يكون أبي لا أصل ينسبهوقد يكون مليكًا رب سلطانِلكنني كيف كانت رتبتي فأنارهين حبك يا روحي وريحانيإن كان في القصر من أهوى فأنت بهقبلًا وبعدك ذاك العاجز الفانيهذا المسن الذي يقضي لياليههنا ويبكي عليها بالدم القانيوكل أبنائه عارٌ ومنقصةٌبل كلهم ثعلبٌ في زي ثعبانِوليس غيرك يسليه فأنت لهكبارد الماء يروي غل ظمآنِأما أنا الجندي التائه المجهول، فإني أشعر أن نفسي صارت كبيرة بقرب ذلك الشيخ الجليل، وصارت نقية طاهرة بقربك، ولكنني مع ذلك غيور تلذعني الغيرة في صميم فؤادي، فأبكي وأسكت، ولقد رأيت خطيبك من ساعةٍ ينظر إليك نظر العاشق المغرم، فكدت أجن من الغيرة، بل كدت أهجم عليه فأحطمه تحطيمًا، ولكنني راعيت الظروف مكرهًا وصبرت، أتزعمين بعد ذلك أنني لا أحبك:أنت روحي أنت النعيم لقلبيأنت شمس وأنت بدر سمائيلك قلبي لك الحشا لك ما ترجوه نفسي من غبطة وهناءولكن عفوًا إذا كلمتك عن نفسي في حين ينبغي أن لا أذكر لك سواك.ليلى: إن حظي مثل حظك أيها الحبيب كله تعاسة وشقاء، فإنني قد عشت يتيمة وأنت قد عشت كذلك وكنا كلانا على السواء، ولقد كان الدهر يقدر أن يجمع بين شقائي وشقائك، فيكون لنا منهما تمام الهناء، ولكن …حسان: ولكن أنا أهواك يا طلعة البدروحق الذي في جفن عينيك من سحرولكن أنا المضنى أنا العاشق الشجيأنا المغرم الموصول عمرك في عمريولكن أنا أقتل خطيبك إذا أساء إليك، وأنا وحدي أقوم لك مقام أبويك، أما أبوك فأنوب عنه بسيفي وزندي، وأما أمك فأنوب عنها بحنوي ووجدي.ليلى: شكرًا لك أيها الحبيب فقد أظهرت لي خفايا فؤادك، فعلمت أنك أشد بأسًا من الجبابرة، وأرق فؤادًا من النساء، تلك هي صفاتك الحسنة التي أحببتك لأجلها، ولكن هيهات أن تقدر في سبيلي على شيء.حسان: نعم أقدر.ليلى: لا، لا تقدر على شيء، فإن الأمر لا يتعلق بإنقاذي من خطيبي، بل إن لي خطيبًا آخر سيأخذني بلا دفاع ولا امتناع لا تقدر عليه أنت بعزمك، ولا يرق فؤاده لجمالك وغرامك؛ لأن هذا الخطيب قوي قادر، وهو الموت. والآن إذ قد دنت أيامي من الفناء، فأنا أقسم قلبي قسمين قسمًا أقدمه لك وقسمًا أبسطه تحت عرش الله:فأموت راضية عليك، وقد رضيعني إلهي فارضَ عني واعذرِفليأخذ الله العلي نفسي وخذمني فؤادي، فهو جود المقصرِهند: إني أسمع وقع أقدام.ليلى: إذن فهلمي بنا.أأموت في سن الشبيبة والصباويلاه ما أقسى الممات وأرهباأأموت عاشقة وأفقد كلَّ ماأهوى ولست أنال منه مأرباإن الممات يخيفني فأشفق علىقلبي فلم يكُ في غرامك مذنباأحبيب قلبي خلص القلب الذيتهوى وكن بخلاص نفسي لي أبًاأتراك تقدر أن تخلصني …… … … … … … …حسان: … … … … … … نعملا بدَّ أن تحيي فعودي للخباأتموتين هكذا في صباكحلوة يفتن الجماد بهاكوأنا واقفٌ أراك ولا أســعى بشيء إذن أخون هواكلا تموتين، إن كل دمائيفدية دون نقطة من دماكسوف تحيين لي وأقسم بالله… … … … … … …الجزء الرابع
(حسان – شمطاء)
حسان: … … … … … … … …لقد جئتِ في أوان لقاكأنا في حاجة إلى حسن مسعاكِ، وفي حاجة إلى أن أراكشمطاء: ابعد عني وسر في طريقك.حسان: اسمعي لي كلمتين.شمطاء: أتريد أن تسألني أيضًا عن بلادك وعن قومك؟ إنني لا أعرف شيئًا، وأن تسألني لماذا ربيتك وحيدًا، وإني وجدتك طفلًا لقيطًا وربيتك عندي؟ إنني لا أعرف أيضًا، ولماذا أتيت بك إلى هذا الحصن، وقلت لك: تظاهر بأنك لا تعرفني؟ إنني لا أعرف أيضًا، ولماذا أنا مقيدة أسيرة ولماذا أبقيت القيد في رجلي؟ إنني لا أعرف أيضًا. أتريد أن تسألني ما هو اسمي، ومن هم قومي، وما هي عشيرتي، وأين بلادي؟ إنني لا أعرف أيضًا، فاكشف أمري إذا شئت، وسلمني لهؤلاء الظالمين، ولكن لا تسألني عن شيء، ولا تؤمل أن أجيبك بشيء.حسان: قفي لا أسألك عن شيء من ذلك، وليس الأمر متعلقًا بنفسي، فأنا أسألك عن ليلى.شمطاء: إنها ستموت قريبًا.حسان: أتقدرين أن تشفيها.شمطاء: وماذا يهمني من شفائها؟ نعم إن في هذا الصدر لعلمًا عظيمًا وحكمة واسعة، فلقد قضيت أكثر أيامي في الهند والصين، وتعلمت الطب وتركيب الأدوية وصنع السموم، وجميع العلاج حتى صرت أقدر بدواء واحد أن أجعل المائت حيًّا وبدواء واحد أن أجعل على وجه الحي هيئة الأموات.حسان: أتقدرين أن تشفيها؟ تكلمي بالله.شمطاء: نعم أقدر.حسان: إذن استحلفك بالله العلي القادر، وأركع على قدميك ملتمسًا ضارعًا أن تخلصيها وتشفيها.شمطاء: افرض أنك بينما كنت هنا الآن تغازل ليلى التي تهواها دخل عليك حماد خطيبها، وهو هائج من الغيرة والغضب وطعنها بخنجر في صدرها ورماها في هذا النهر الكبير، ثم أخذك بيدك وباعك في السوق بيع العبيد ليرموك بالخسف والعذاب، ثم تعذبت كثيرًا وعدت إلى هذا المكان ماذا يبقى في قلبك، وأي شيء يجول في فؤادك؟حسان: الانتقام والقتل وأخذ الثار.شمطاء: إذن، فأعلم أنني أنا الانتقام والقتل وأخذ الثار، أنا الظامئة إلى شرب الدماء وأخذ نفوس الغادرين، أتطلب مني الآن أن أكون شفيقة، وأن أكون فاضلة، وأن أشفي الأحياء؟ هيهات، إن ذلك أمر قد فات … أتقول: إنك محتاج إليَّ؟ أتقول: إنك تريد إسعافي؟ وإذا أنا أرجفت فؤادك رعبًا، وقلت لك: إنني أيضًا محتاجة إليك، وإنني أريد إسعافك، وإنني قد ربيتك لأنتقم على يدك، فماذا تقول وماذا تصنع …؟ اذهب أيها الصبي، وابعد عني، فإنني كلي غضب وانتقام، إن الذي حكيته لك الآن هو تاريخي بعينه، ولكن الذي قتلوه هو العاشق، والتي باعوها جارية هي المعشوقة، وهي أنا والقاتل لا يزال حيًّا يرزق ولا منتقم منه سواك، أنت الذي تأخذ ثأري وتنتقم لي مما لاقيته من عذاب شديد كل هذه السنين الطوال.حسان: ويلاهُ، ما هذا الخبر الفظيع.شمطاء: إنني تعذبت كثيرًا وخدمت ستين عامًا، وزرت مصر والهند والعراق، ودرست الطبيعة والعوالم والأكوان، وتقلبت عليَّ ألوان العذاب والذل والهوان، أما الآن فقد انتهى كل شيء ولم يبقَ في صدري قلب إنسان، بل أنا أضع يدي هنا، فلا أشعر بحركة ولا خفقان؛ ذلك لأنني أصبحت صخرًا قاسيًا لا يحن ولا يلين.حسان: لله، ما أتعس حظك.شمطاء: ولقد أتيت إلى هذا الحصن من الشهر الماضي، والانتقام يلتهب في قلبي التهابًا، حتى وصلت إلى عدوي، وجعلته في قبضة يدي وجعلت حياته موقوفة على لفظة من ألفاظي إذا لفظتها سقط قتيلًا، وأنت أنت وحدك تقدر أن تنيلني الانتقام كما أُريد، ولكني مع ذلك أخاف من هذه الجريمة، ومع كل قساوتي وشراستي أشفق عليك، وأخاف على حياتك في مثل هذا الانتقام الشديد. اذهب بالله عني؛ ولا تجربني لأنك إذا طلبت مني شيئًا فيه حياة حبيبتك، فأنا سأطلب منك شيئًا فيه هلاك عدوي، ولكن إذا بقيت على عزمك أفتجرد خنجرك من غمده؟ أترضى أن تكون قاتلًا؟ أتريد أن تكون سيافًا؟ أراك ترتجف منذ الآن، إذن فاذهب عني يا قلبًا ضعيفًا ويدًا ساقطة، اذهب ولا تكلمني ودعني في شأني.حسان: وأي شيء تطلبين مني إذا شفيت من أحب؟شمطاء: لا تدنس يدك بالجريمة، واذهب عني.حسان: اعلمي أني أسفك دمي في سبيل خلاصها، فاطلبي وتكلمي.شمطاء: اذهب عني.حسان: أرتكب جريمة إذا شئت أرضيت الآن …؟شمطاء: ويلاه، لا يزال يجربني، إذن سأقضي مرامي … أتعلم أنك ستصبح ملك يدي، وأنك لا يفيدك تضرع ولا التماس، وأن كل ذلك يضيع في أعماق قلبي المظلم، وإنني تمثال أصم لا رحمة عندي ولا شفقة إلا إذا رأيت حبيبي المقتول قد عاد حيًّا أمامي، وهو الأمير زياد الذي كنت أهواه؟ والآن فاسمع ما أقول لك، فإني أنبهك إلى عاقبة أمرك قبل أن تبدأ بالعمل الذي أريد، إنني أريد منك أن تقتل رجلًا هنا كما يقتل الجلاد الرجل المجرم كائنًا من كان ذلك الشقي في أية ساعة أردت بلا رحمة ولا شفقة، أسمعت؟حسان: نعم، ثم ماذا؟شمطاء: اعلم أن كل دقيقة تمر علينا تسوق حبيبتك إلى القبر، وأنا وحدي أشفيها ولا يقدر أحد على إنقاذها غيري، انظر هذه الزجاجة تشرب منها نقطة في كل ساعة، وأنا أضمن لك أنها تعيش.حسان: يا ربي أحق ما تقولين، أعطيني هذه الزجاجة بالله.شمطاء: اسمع قبلًا، إذا رأيت حبيبتك غدًا سليمة متعافية، وقد زال عنها كل ألم وعاد لها رونق الشباب بفضل هذا الشراب، فأنت تصبح ملك يدي أتصرف بك كما قلت لك.حسان: نعم.شمطاء: اقسم لي.حسان: أقسم بالله العلي العظيم.شمطاء: ومع ذلك، فإن حبيبتك ليلى ستكون رهنًا في يدي عنك، وهي التي يقضى عليها إذا أخلفت وعدك لي وأنت تعلم أنه لا يصعب عليَّ شيءٌ، وأنني أعرف كل هذا الحصن بجميع خفاياه، وأدخل منه في كل مكان وفي كل آن.حسان: أتقولين أنها تشفى؟شمطاء: نعم، ولكن اذكر أنك حلفت.حسان: أتنقذينها من الموت؟شمطاء: نعم، ولكن اعلم أنني عندما أعطيك هذه الزجاجة آخذ منك قلبك، وتكون رهن يدي.حسان: إذن فهاتي وخذي.شمطاء: (تعطيه الزجاجة) إلى الغد (تخرج).حسان: إلى الغد:هذي حياتك يا حياتي في يديوكذاك بين يديك كل حياتيفخذي حياتك من يدي لكنمالا ترجفي قلبي ففيه مماتيإني اشتريت لك الشفاء، ولم أكنمتندمًا والجود من عاداتيهذا الدواء لنا كلانا بالسوافإذا شفيتِ شفيتُ من علاتيوإذا الحبيب شُفي بشرب دوائهفأنا سأشرب بالشفا كاساتي
الفصل الثاني
الجزء الأول
(أبو قابوس – اثنان من أتباعه)
أبو قابوس: قد وصلنا هنا مكان الجريمهوهنا تظهر الذنوب العظيمهوهنا تُغفر الذنوب ولا يغــفر ذنبًا إلا النفوس الكريمهصنت نفسي بالنسك عشرين عامًاوتركت البلاد مني يتيمهوقضيت الأعوام يحسبني الناس قتيلًا بين العظام الرميمهغير أني سمعت صوت بلاديتشتكي الذل والرزايا الأليمهفتركت النفار عنها وأقبلــت إليها بنيةٍ مستقيمهوبعزمي إنقاذها من بلاياها وأحكام قومها المذمومهفإذا ما حييت تحيا، وإن متُّفموت الذليل أشهى غنيمهفاكتموا ما نويت، فالمرء لاينجيه إلا أعماله المكتومهلا تقولوا: إني مليك وقولوارب فقر في غربة مستديمهفعساني أرى أخي وأنجيوطني والعقبى تكون سليمهرام قتلي فيما مضى وأنا اليوم سأعفو عنه وأمحو الجريمهالأول: مولاي، أتكون الملك العظيم أبا قابوس سيد العرب، وتعود إلى ملكك بمثل هذه الملابس، وعلى هذا الحال.أبو قابوس: هكذا تقتضي الحكمة، فإما أن أنقذ بلادي وأنا على هذه الصفة، وإما أن أموت فقيرًا كما أنا الآن، فلا يعرفني سواكم أحد.الثاني: ولكن يا مولاي، أين كنت كل هذه المدة؟ وما الذي تقصده من هذا المكان؟أبو قابوس: لقد عشت في القفار والجبال عشرين عامًا حسبني فيها الناس مائتًا، واستبد الحكام في الأمور والأحكام وأنا أحسب أنني أُكفر عن ذنوبي، وأمحو ما لعله فرط من الآثام. أما الآن فقد رأيت بلادي في ربقة الظلم والضيق، ولا ينقذها سواي وعلمت أن أخي الذي ظن أنه قتلني لا يزال حيًّا، وهو من أقوى الأمراء، فأتيت لكي أراه فأغفر له ذنبه في قتلي وأُبشره بأنني لا أزال حيًّا، ثم أستعين به وبقومه على إنقاذ البلاد.الثاني: وكيف قتلك أخوك يا مولاي.أبو قابوس: كنت عنده في قصره هذا أيام شبابي، فعشقت فتاة جميلة وعشقها معي ثم رآنا كلينا في خلوة غرام، فغار غيرة شديدة، وضربني بخنجره وألقاني من النافذة إلى النهر، فألتقطني بعض الرعاة وأنقذوني من الموت، وهو يحسب أنني في عداد الأموات.الأول: ولما صرت ملك العرب، ألم يعرف ذلك؟أبو قابوس: لقد كنت عنده أُدعى زيادًا حينما ضربني وألقاني في النهر، ولما ملكت العرب ببأسي وقوتي لقبوني أبا قابوس، فأخفى هذا اللقب الجديد ذلك الاسم القديم، ولم يعرف أخي أن أخاه القتيل لا يزال حيًّا.الثاني: ولما صرت ملكًا، ألم تسعَ في طلبه؟أبو قابوس: لقد جئت بجندي فحصرت حصنه هذا، وحاربني وهو لا يعرفني فلم أقدر على أخذه، بل كواني في زندي بحديدة محماة وجمح بي جوادي، فألقاني في النهر، وانكسر العسكر بعدي، وهم يحسبون أنني قُتلت، أما أنا فكنت قد نجوت بنفسي من النهر، وذهبت فتنسكت في القفار، واعتزلت الملك والحروب حتى ظنوني ميتًا، وهذه هي أسرار أخي بي إلى الآن.الأول: وهل تريد أن تخبر أخاك الآن أنك أخوه؟أبو قابوس: سأرى كيف تكون ظروف الأحوال، أما قصدي الأول فهو إنقاذ البلاد من دمارها كما قلت لكما، وهو الأمر المهم الذي أتيت لأجله.الأول: والآن، فماذا يأمر مولاي الملك أن نفعل؟أبو قابوس: أُريد أن تبقيا هنا في انتظاري، وأنا ذاهب إلى الحصن وحدي، وسأفعل هناك أفعالًا عجيبة يرويها التاريخ عني، فإذا نجحت في قصدي دعوت بكما إليَّ، وإذا لم أنجح وقتلوني فارجعا عن هذه البلاد، ولا تخبرا أحدًا بأمري:اذهبا الآن واخفيا عن عيون الــناس طرًّا من كاشحٍ وصديقواكتما عنهم جميع حديثيوادعوَا لي بالفتح والتوفيقالجزء الثاني
(سالم – قراد – قيس – حماد – ناقد – عامر – زياد – حسان – سلمان – ثم ضابط)
سالم: انظر أيها الأمير، إن باب الحصن وطريقه يظهران من هنا.قراد: ما هذا المكان الواسع المظلم؟قيس: إن من يرى هذا الباب المظلم يقول: إنه مكان تسكنه الجن.حماد: هنا يجلس جدي الكبير.قيس: وحده.حماد: لا، بل مع أبي.قراد: لله درك، كيف قدرت أن تخلص من هذين الشيخين.حماد: لقد ذهبت أيامهما واختلَّ عقلهما كثيرًا، وها قد مضى على جدي الآن أكثر من شهرين لا يتكلم، فانظر مفاعيل الشيب والهرم، فإن عمره يبلغ نحو المائة سنة، أما أنا فقد أخذت مكانهما بعد أن تخليا عنه.ضابط (يدخل): مولاي.حماد: ماذا تريد؟ضابط: إن الأسير الهندي لم يدفع الفدية بعد.حماد: اشنقوه.ضابط: إن عرب الحدود قد جاءوا طائعين، وهم يطلبون الأمان.حماد: انهبوا أموالهم فقد أخذنا أموالهم بسيوفنا.ضابط: وماذا نصنع بجيرانهم.حماد: انهبوهم أيضًا (يخرج الضابط).ناقد: إن شرابك جيد أيها الأمير.حماد: هذا لا شك فيه، فإن لي ضريبة من الخمر كل سنة على قبيلة غسان.قيس: وعلم الله أن خطيبتك ليلى لجميلة.حماد: نعم، لا بأس بها فهي نسيبتنا من جهة الأم.قيس: وكذا يظهر أنها مريضة.حماد: ليس ذلك شيئًا يذكر.الضابط (يدخل): علمت أن بعض التجار سيمرون من هنا غدًا.حماد: استعدوا لقطع الطريق عليهم، لقد كان آباؤنا يقاتلون، أما نحن فنلهو الآن ونطرب، وقد كانوا يستعملون القوة، أما نحن فنستعمل الحيلة والخداع، وما أنكر أن الناس تشتمني، والتجار تلعن اسمي، والعرب تتعوذ من بأسي، ولكن كل ذلك لا يهمني ما دمت أضحك وأشرب، وما دام حصني منيعًا يرد عني غارة الأعداء، وما دامت خطيبتي جميلة تسر الناظرين، وعلى ذكر الخطيبة هل تزوجت بنت أمير اليمن؟قيس: لا.حماد: ولكنك وعدت أباها، وأخذت منه مالًا.قيس: نعم، وعدت وأخذت، ولكني أترك البنت لأبيها وأترك المال عندي.حماد: ولكن ماذا يقول أبوها عنك؟قيس: ليقل ما شاء أن يقول.حماد: وما تصنع بالوعد الذي وعدت؟قيس: ذلك شأن لا يهم.عامر: عهدت الكريم إذا ما وعدوفي أو يخون قواه الجلدوكنا إذا ما عقدنا العهودتراها علينا كدرع الزرديراه الكريم لدى بابهويلقاه في حلمه إن رقدوتنفد أعمار أصحابهوأكثر أوعادهم ما نفدتبارك ربي إلى أي حالٍغدونا وأي زمانٍ فسدفضاعت مواعيد أبنائناوضاع الذمام وضاع الرشدوأضحى البغاة مكان النسوروقام الكلاب مقام الأسدحماد: احذر يا أبي فأنت تهيننا، واذكر أن الملك أبا قابوس عاقب عمه مرة على إهانة أصغر من هذه، فلا تتركني أتبع هذا المثال.عامر: يظهر لي أني سمعت اسم أبي قابوس، فإياكم أن يلفظ أحدكم هذا الاسم أمامي بعد.قيس: وبماذا ساءك هذا الملك أيها الشيخ؟عامر: أتقول بماذا ساءني، انزل في هذه الهوة، وانظرْ كَم فيها من قصور مهدمة بيد هذا الملك العاتي، انظر كم أذلَّ من أبطالنا، وكم أسر من رجالنا، وكم سبى من نسائنا، وكم سفك من دمائنا على أيدي جنوده الغادرين، أتقول بماذا ساءني؟ لقد استعبدنا ثلاثين عامًا يقتل أبناءنا، ويحرق منازلنا ويستعبد رؤساءنا، ويسجن أبطالنا، ويسومنا الذل والخسف ويضع في أيدينا قيود الحديد، ولا يلبث أمامه أحد، وأنا أذكر أنه نازلنا في إحدى المعارك، واقتحم وحده جيشًا كاملًا من جيوشنا، فلم يقدر أن يقف في سبيله واحد منا إلا أبي هذا، فإنه صادمه في طريقه وكوى زنده برمح من حديد، أما الآن فقد ذهب كل ذلك هباءً منثورًا، وبادت رجال الحرب جميعًا، ولم يبقَ من تلك الغابة العظيمة إلا شجرة واحدة؛ وهذه الشجرة هي أنت أيها الولد الكريم. أتقولون: أبو قابوس، ويلٌ لمن يذكر هذا الاسم الكريه، وويلٌ لي إذا لم أنتقم منه إذا كان لا يزال حيًّا أو من أولاده إذا كان قد مات، وأنا أسأل الله قبل موتي أن يسهل لي هذا السبيل، ولو بأن اضرب هذا الملك ضربة واحدة في حياتي، ثم أموت بعدها مسرورًا، بل أكاد أقول: إنني لو كنت ميتًا في ترابي وتمثل لي أبو قابوس على قبري لنهضت إليه مسرعًا، ونفضت غبار الموت عني وطعنته طعنة واحدة بهذا الخنجر … ويلاه ماذا أقول أنا الشيخ العاجز الفاني.حماد: يظهر أن أبي قد خرف.زياد: غدًا يصير أبي مثل أبيه وجده، وآخذ أنا مكانه.حماد: إن كل جنودنا خاضعون لهذا الشيخ، فما هذا المصاب؟!زياد: تعالَ يا أبي، وانظر إلى هذا الشيخ.قراد: إنه يصعد بهدوٍّ، وتلوح عليه علائم التعب.ناقد: حتمًا إنه في تعب شديد.سالم: نعم، ويظن أنه فقير، فإن عباءته ممزقة تنسفها الرياح.زياد: أظن أنه يطلب الضيافة في القصر.قيس: إنه فقير لا شك فيه.قراد: بل أظنه جاسوسًا.سالم: إذن فاطردوه من هنا.حماد: اطردوا هذا الكلب في الحال، وارجموه بالأحجار.زياد: اذهب من هنا يا كلب.عامر: أعوذ بالله، أي عصر صرنا إليه وأي رجال أهل هذا الزمان؟ أيطردون الشيخ البائس المسكين برجم الأحجار، لقد كنا أيام الصبى والشباب مثلكم نسكر ونطرب كما تفعلون، ولكن إذا مرَّ بنا شيخ عاجز فقير، ونحن في السكر والطرب كنا ننهض في الحال، فنملأ كفه ذهبًا ونقربه قربًا حسنًا، ونرد سلامه ردًّا جميلًا، ثم نعود إلى ما كنا عليه من اللهو والسرور، تلك كانت أحوالنا من قبل فقيسوا عليها أحوالكم الآن.سلمان: اسكت أيها الشاب تلك كانت أحوالكم، أفتعرف كيف كانت أحوالنا؟ كنا نجلس على طعامنا وشرابنا وأمامنا بعير بأسره في قصعة واحدة نأكل منه ونشرب عليه، وإذا مر بنا الشيخ الفقير المسكين، أفتعرف ماذا كنا نصنع له؟ كنا نرسل طليعة من الجند لاستقباله، ثم نضرب الطبول عند دخوله ثم ننهض كلنا إلى ملاقاته، ولو كان في مجلسنا أبناء الملوك، ويتقدم الكبير منا إلى ذلك الفقير، ويمدُّ إليه يده وهو يقول: يا مرحبًا بالضيف … اذهب وقل للفقير ليأتِ.حماد: ولكن يا مولاي …سلمان: اسكت.قيس: مولاي إنه …سلمان: لقد قلت: اسكتوا فمن يتجاسر أن يتكلم.حسان: أحسنت يا شيخ العشيرة في الذيقد قلته وكذا يكون أبو الكرميا أيها الأسد الذي من حولهخبث الذئاب يلوح في خوف الغنمارفع زئيرك غاضبًا كي يسكتواإن الشباب يخاف من صوت الهرمزياد: لقد أتى يا مولاي.سلمان: قفوا جميعًا واصطفوا هنا حولي كما تفعلون في استقبال الملوك.الجزء الثالث
(المذكورون – الفقير)
الجميع: أهلًا بضيف زارنافي دار مولانا السعيدنحن الضيوف وأنت ربالدار فافعل ما تريدسلمان: كن من تشاء فأنت ضيــفي أيها الشيخ الطريدوانزل على الربع الرحيــب لديك والعيش الرغيدوالآن فاسمع هل سمعــت بسيدٍ بطلٍ فريدشاد المفاخر كلهافي حصنه العالي المشيدوعدا على ريب الزمان بذلك البأس الشديدلم يرهب الأهوال فيــه ولم يخف منه الوعيدسقطت جميع رجالهمن دونه مثل الحصيدوأقام ثابت دولةٍفي ذروة المجد الوطيدبليت جميع رجالهوزمانه غضٌّ جديدأعرفته من وصفهأم أنت ترغب أن أزيديدعى بسلمان الشريــد، وكان يدعى بالعنيدطال الزمان به كمامن قبل طال على لبيدأنا ذلك الرجل المشار إليه في هذا القصيدفابشر فإنك نازلٌفي دار سلمان الشريدوجميع حصني رهن أمــرك فاقضِ فيه بما تريدالفقير: يا أيها الأمرا جميــعًا والعساكر والعبيداصغوا لما ألقي، فإنَّكلاميَ النصح المفيدلا تحقروا الضيف الفقيــر إذا أتاكم من بعيدوتصدقوا بالخير إنَّالخير مفتاح المزيد وثقوا بأن الموت يأتي سابقًا خيل البريديعدو على الشيخ الكبيــر ولا يعفُّ عن الوليدفليذكر الشبان منكمفي مشيبهم العتيدوليندم الأشياخ إنَّ الــموت منهم بالوصيد وحسابهم أدنى إلى الـأرواح من حبل الوريدوأعطوا الفقير، فإنماهذا هو الفخر الأكيدوبه يدوم نعيمكمويزيده من يستزيدومصيرنا طرًّا لمنفي الحشر يفعل ما يريدالجميع: يا أيها الضيف الكريمقد فزت بالخير العميمفاهنأ بذا الود السليموالأمن من شر اللئيمفالخير من طبع الكراموالعرب ترعى للذماموالشكر يسري في الأناميبقى على طول الدوام
الفصل الثالث
الجزء الأول
الملك: آن الأوان لأن أخاطر بالدممن لم يخاطر بالدما لم يسلمأجزيرة العرب التي أحببتهاكم من أكفٍّ قد رمتك بأسهمقد عدت نحوك بعد طول تغرُّبيفوجدت مجدك صار كالمتهدملعبت أكفُّ ذويك فيك فغادروافي كل نهرٍ فيك نهرًا من دمقتلوا رجالك واستذلوا من بقيفسقطتِ صاغرةً سقوط المجرموتفرقت أحياء أهلك في الورىأيدي سبا وبقيت كالمتيتموتقسمت أبناك مظلومًا يرىفيك العذاب وظالما لم يرحموغدا نفوذك للقوي وقد غدافيك الضعيف يموت إن لم يظلمباعوك بيع العبد في سوق الريافسقطت جرحى لليدين وللفمسلبوا بلادك من يديك غنيمةًحتى رأيتكِ غنم من لم يغنمِوالفرس حولكِ يزأرون بجمعهمفيضيع عندهمُ زئير الضيغمِضاعت حقوق العرب في أطلالهمورمت بها ظلمًا أكفُّ الديلمِوغدا العراق مع الحجاز غنيمةًوبلاد نجد سبيَّة المتقسمِهذا مصابك، وهو كل مصائبيأبكي عليه بحسرة المتندمفليرسل الله العلي جنودهولينقذ العرب التي لم تأثمالجزء الثاني
(حسان – ثم ليلى)
حسان: طاب الفؤاد وطابت البشرى بهوشفي الحبيب من الضنى بشرابهأبرأتها وأنا السقيمُ فليتهاتشفي ضنى قلبي بنيل طلابهِأهلًا وسهلًا بالتي قد عوفيتفشفت فؤادي من أليم عذابهليلى: حسان إني قد نجوتُ من الردىفليحيَ من صنع الدوا وأتى بهوغدوت سالمةً من الداء الذيلزم الفؤاد وزاد في أوصابهواليوم أقدر أن أحبك مثلمايهوى فؤادي في ربيع شبابهوالآن فاسمح لي بأن أمضي إلى الــجدِّ الكبير إجابةً لخطابهفلقد دعاني نحوه من مدةٍمع حاجبٍ قد جاء من حجابهحسان: لكن قفي كي نشكر الله الذيأحيى فؤادينا بفضل ثوابهالجزء الثالث
(حسان – شمطاء)
شمطاء: كيف حالك الآن هل أنت مسرور؟حسان: هذا أنتِ.شمطاء: أرأيت أنني قد وفيت بوعدي.حسان: وأنا سأقوم بعهدي.شمطاء: بلا رحمة.حسان: ولا خوف … وبعدها أقتل نفسي.شمطاء: أنا في انتظارك هذا المساء عند منتصف الليل.حسان: في أي مكان.شمطاء: أمام السجن المظلم.حسان: ذلك مكان مخيف لا يمر فيه إنسان، ويقال: إن على الصخر هناك لطخة سوداء.شمطاء: نعم، وهي أثر الدماء التي سالت على ذلك الجدار.حسان: أثر دماء … أرأيت كيف يدنس الدم ويحرق؟شمطاء: بل قل إن الدم يغسل ويطهر.حسان: حسنٌ فمري بما تشائين … ومَن أجد في ذلك المكان.شمطاء: تجد رجلًا مقنعًا ينتظر وحده.حسان: وبعد ذلك.شمطاء: وبعد ذلك تتبعه إلى حيث يسير بك.حسان: لقد قضي الأمر.شمطاء: يا سماء اشهدي ويا كائنات الـأرض طرًّا، وأنت يا جو فاشهدواشهدي لي يا شمس، واشهد أيا بدر وقل للنجوم في الأفق تشهدواشهدي لي أيا حياتي التي مررت ويا عيشي الشقي المنكدواشهدي يا قبور واشهد أيا حصــنًا حصينًا على الفساد تشيداشهدي أنني أبيح دم القاتل عدلًا بذا السلاح المحددوبأني أبحت قتل غصوبٍوغصوبٌ عدو نفسي المؤكدحسان: من هذا غصوب.شمطاء: هو الذي يجب أن يموت من يدك هذا المساء، اذكر ولا تنسَ وعدك (تخرج).حسان: ويلاه من جرم يكاد يميتنيمن قبل أن أقضي وفاء وعوديإني وعدت بقتل نفسٍ حيةٍطمعًا بعيشٍ للحبيب رغيدوالآن قد نال الحبيب شفاءهودنت منية ذلك المنكودالجزء الرابع
(حسان – سلمان – ليلى – شمطاء (مختفية))
ليلى: نعم لقد شفيت وصرت أقدر أن أجري … انظر يا مولاي ها قد أتينا.حسان: هذا أنت يا مولاي.سلمان: لقد شعرت اليوم أن حزني قد ازداد، وأن النصيحة التي أبداها لنا الفقير قد أثرت فيَّ كثيرًا ثم فكرت في أمرك، وإنك كنتِ على شفا الموت، وأن أمك المسكينة قد أوصتني بك قبل موتها، كنت افتكر في كل ذلك، وإذا بها دخلت عليَّ فرحة مسرورة والحياة تجول في عينها حتى كدت أبكي من السرور، وأحسب أنني في حلم لا في يقظة، وقد دنت مني وقالت لي: تعالَ واشكر حسانًا، فهو الذي شفاني فقلت لها: هيا بنا.ليلى: وها نحن بين يديك.سلمان: ولكن أخبرني بأية أعجوبة شفيتها تكلم ولا تكتم عني شيئًا.حسان: شفيتها بعلاج أعطتني إياه أسيرة من أسارى القصر.سلمان: إن هذه الأسيرة حرة لوجه الله، وأنا أنعم عليها بألف ناقة، وأعفو عن المحكوم عليهم، وأعفي ألف فلاح من الضريبة، وذلك سرورًا بهذا الشفاء، افرحا معي فإن قلبي مملوء فرحًا، ويكفيني سعدًا أن أراكما:نعم أنا منكود طريد مشردأرى الناس من حولي كأني مفردأقيم بأقصى الحصن أندب ما مضىوأذكر أيامي وربي يشهدأرى العرب من حولي تمزق شملهموكل ولاة الأمر أشأم أنكديسوقون هذي الأرض نحو دمارهافلا مهجة ترثي ولا يد تنجدولا بد أن نهوي مع الظالمين أوتمد من الله العلي لها يدفيرسل من يرثي لها في مصابهافينجدها إن كان ينفع منجدمصاب بلادي لي مصاب وفوقهمصيبة أولادي الذين تمردوالئام أرى عيشي بهم وهو أسودكما أن قلبي من ذنوبي أسودوما لي سلوى غير هذا الفتى وذي الــفتاة فكل منهما لي مسعدفهذي الفتاة كالغزالة بهجةوهذا فتى من صفحة السيف أجودإذا وقفا حولي تقول ملائكتحن إلى الشيطان أو تتوددحسان: مولاي ماذا تقول؟ليلى: سيدي ما هذا الكلام؟سلمان: تقدما إليَّ كلاكما، اقتربا مني لأعانقكما، فيا لله ما أجمل هذه الطلعة الباهرة، حقًّا، إنك شريف كريم ممن يفون بالوعد إذا وعدوا، كل ما يعد به هذا الفتى، فإنه يقوم بوفائه … أليس كذلك؟ليلى: لا تسألني يا سيدي، فإن حياتي من عنده.سلمان: لقد كنت مثله طاهرًا شريفًا قبل أن أسقط في ذنوبي وآثامي، انظري يا ليلى إلى هذا الوجه الجميل إنه يذكرني بولد لي يدعى سنانًا كان آخر أولادي رزقني الله إياه من عشرين عامًا، وأنا في شيخوختي فابتهجت به كما يبتهج الأعمى إذا نظر النور، وكما تزدهي الشجرة الذابلة بسقوط ندى الصباح، ولكن وا أسفاه، فإنه لم يكن يبلغ اثنتين من عمره حتى خطفوه مني، وهو يلعب على الطريق، ولا أدري من خطفه وقيل لي: إن خاطفيه قد قتلوه انتقامًا مني، فإياك إذا صرتِ أما أن تتركي أولادك يلعبون على الطريق بعيدًا عنك، فإن أعداء الإنسان كثيرون. ويلاه إني لا أزال أذكره، وأبكي كأنه خطف بالأمس، لو بقي حيًّا كان الآن في سنك ولكان جميلًا جريئًا مثلك. تعالَ إلى صدري فأنت مكانه عندي، وقد جعلتك ولدي فاجعلني بمثابة أبيك، تعالَ وكن ولدي أنت يا من كنت سلوتي وعزائي في هذا الحزن الذي أنا فيه، ويلاه من يقدر أن يراكما كليكما جميلين زاهرين متحابين، ولا يلين فؤاده فرحًا وسرورًا لهذا الحب بينكما، أبشرا أيها العاشقان فأنا سأجمع بينكما بعقد القران.ليلى: يا رباه!حسان: مولاي، ماذا تقول؟سلمان: لقد ماتت أمكِ أختي، وهي توصيني بك وأنا أقسم لها بحفظ وصايتها، وما أنكر أن ولدي سنانًا قد خطف مني بعد ذلك، وإن امرأتي قد توفيت على أثره، وإن المصائب قد انهالت على رأسي من كل جانب، ولكني لم أنسَ ما قلته لأمك عند وفاتها فلقد قلت لها: اذهبي بسلام، فأنا أقوم لابنتك مقام الوالد وأدافع عنك إلى آخر نقطة من دمائي.ليلى: شكرًا لك يا سيدي الحبيب.سلمان: لا تشكريني، فإني قد أقسمت على ذلك … وأنت أيها الفتى الباسل اذهب وحارب وانتصر، وافعل كما فعلت أنا في شبابي، ولكن ما عدا الجريمة. واعلم أنني من يوم رأيتك قد عزمت على أن أزف ليلى إليك، وأن أجعلها سعيدة بقربك، ولكن اكتم هذا الأمر الآن، فإني أخاف عليك من حماد فهو شرس الأخلاق غدار لا شيء أهون عليه من قتل البريء، فأبشر أيها الفتى فإني أحبك وسأسعى لزواجك.حسان: ولكن يا مولاي …سلمان: أترفض هذا الزواج؟حسان: حاشا يا مولاي، كيف أرفض وأنت تعرض عليَّ نعيم الجنان.سلمان: إذن فاصنع كما قلت لك، وإياك أن تبوح بكلمة مما جرى بيننا الآن، وأنا في هذا المساء أسهِّل لكما سبل الفرار، وأمنع حمادًا من أن يتعقبكما فتذهبان من هنا خفية وتقترنان في مكان بعيد.شمطاء (مختفية): آه يا خائن.سلمان: ذلك ما أريد أن أصنعهُ قبل وفاتي عساني أن أخفف بهذا القران بينكما بعض ما بي من العذاب والحزن الشديد، إن الغرفة التي أقيم فيها لها باب خفي إلى خارج الحصن هو الباب الذي تخرجان منه الليلة سرًّا، ويذهب معكما قائد حراسي ليدافع عنكما إذا أوجب الأمر، فانتظراني هنا قليلًا لأذهب وأحضر لكما مفتاح هذا الباب، يا رب سهل أعمالي وخفف بعض مصابي لسعادة سواي.حسان: يا ربِّ ما هذا أحلم ما أرىأهي الحقيقة أم حديث يفترىأأفر مع ليلى وأحظى بالذيأهواه أم حلمٌ على عيني طراإن كنت في حلم فخليني بهودعي فؤادي منه في سنة الكرىلكنما لا فالحقيقة عينهاتبدو وها أنا في النعيم بلا مراإني أراك لديَّ فالحلم انجلىعني ولاح لي الجمال مصوَّراقد صرت لي يا من أنا لك فابشريفلقد غدا نيل الفرار ميسرًاليلى: ماذا تقول … … … …… … … … … … …حسان: أقول: لا تخشي فقدتمَّ الفرار لنا كما قد قدِّرالكن يميني قد حلفت وإنماماذا يهم إذا هربت منكرايا رب فاحكم بيننا أتريد أنأبقى وأرتكب الخطأ إلا كبراأم أن أفرَّ من الجريمة هاربًاوأطيع أمرك مثلما قد سطراهيا لنهرب لم يعد من دونناأحد … … … … … …الجزء الخامس
(حماد – حسان – ليلى – عامر – قيس – قراد – سلمان – الملك متنكرًا – جنود)
حماد: … … … … … … …… كذبت فإن دونك عسكراليلى: يا رب … حماد …حماد: اقبضوا على هذا الرجل وهذه الفتاة.حسان: أيها الأمير حماد أنا أعلم أنك نذل جبان غادر خائن مخلوع الفؤاد، وها أنا أريد الآن أن أظهر لهؤلاء الأمراء حولك أنك جبان سافل لا تقوى على مصادمة الرجال، فأعلم أنني أقوم في هذا الموقف مقام الأميرة ليلى، وأدافع عنها دفاع الأبطال؛ لأنها لا تريدك بعلًا لها، وهي تهواني أنا، فأنا أدعوك الآن للبراز أيها الأمير حماد بالسيف أو بالرمح أو بالخنجر أو بأي سلاح شئت، ونجعل ميداننا ضفة النهر حيث ينفسح مجال القتال، وهناك نرمي بالقتيل منا في تيار المياه فاخرج معي لتقتل أو أُقتل، قفوا مكانكم جميعًا فإني أخاطب الأمراء، واسمعوا أيها الأمراء إني أدعو الأمير حمادًا من بينكم للبراز.حماد: أفرغت الآن من كلامك؟ علم الله لقد تركته يتكلم كثيرًا أيها الأمراء، والآن فاسمع ما أقول لك أيها الغلام: إني أسألك من أنت بين الأبطال، هل أنت ابن ملك؟ هل أنت ابن أمير؟ هل أنت ابن شيخ قبيلة على الأقل؛ لكي تقف موقف البراز مع الأمير حماد؟ قل لي ما هو اسمك فقط؛ إن كنت تعرف اسمك ألا تدري إنك ولد لقيط لا أصل لك ولا نسب؟ أخبرني من هو أبوك، ومن أية قبيلة أنت؛ إن كنت ذا أصل وشرف؟ تأملوا أيها الأمراء لم يعد ينقصنا إلا مبارزة العبيد، فإذا كان فيكم من يأخذ بناصره ويدافع عنه، فأنا أمامكم كلكم فارس لفارس أو عشرة لفارس، ولكن عبدًا لقيطًا مثلك لا ينازله أمير مثلي، فاذهب وبارز الرعاة والغلمان.حسان: آه يا نذل الرجال.الملك: أيها الأمير إن لي من العمر تسعين عامًا أو تزيد، ولكني أبارزك الآن، أعطوني سيفًا.حماد: حقًّا لقد كان ينقصنا مضحك في هذه الوليمة وها قد حضر، من أين جاءنا هذا الشحاذ، وكيف انتقلت من العبد إلى الفقير؟ أنا أبارزك أيها الفقير فلا بأس، ولكن ألا تخبرني قبل ذلك من أنت؟الملك: أنا الملك أبو قابوس بن ماء السماء.عامر: أنت أبو قابوس؟الملك: هذا خاتم الدولة فانظروه، نعم أنا أبو قابوس المنذر ملك العرب، وحامل سيف العدل، قضيت عشرين عامًا من حياتي بين المقابر والكهوف آكل من نبات الأرض، وأشرب من مطر السماء، وأندب ما سلف من أيامي وأسأل الله حسن الختام، وقد حسبني الناس ميتًا، وما أنا بميت ولكني كنت وحيدًا منقطعًا في زي الأموات حتى سمعت صوت بلادي يئن من الظلم والجور، وتدعوني إلى وقايتها وإسعافها، فخرجت من مكمني الذي كنت فيه، وها أنا واقف بين أيديكم. أعرفتموني الآن؟عامر: أرني زندك يا ملك العرب.الملك: أتريد أن ترى أثر الضربة التي ضربني إياها واحد منكم؟ خذ وانظر …عامر: نعم، هو بعينه وأنا أقول هنا على رءوس الأشهاد: إن هذا هو أبو قابوس المنذر ملك العرب.الملك: قد كنتم تسمعون صوتي أيها الفتيان أيام كانت حمائل سيفي ترف على جنبي، أما الآن فقد عرفتموني حق عرفاني، وعرفتم السيد العظيم الذي حكم عليكم زمانًا طويلًا، وقد جاء يحاكمكم اليوم، هذا هو الملك الكبير الذي دانت له الممالك، وخضعت له بلاد العجم واقفًا يكلمكم الآن، هذا هو الشيطان الأكبر الذي حارب رجالكم، وأخذ بلادكم وهدم معالم ظلمكم وعصيانكم، قد شفق على مصائب بلاده، وجاء يحاسبكم على ما جئتم من المنكرات، فقد حان أوان عذابكم وسأُريكم كيف يكون العقاب، إني أقول لكم ذلك على مسمع من جنودكم، فإن هذه الجنود عساكري، وأنا أعتمد عليها، وهي لي قبل أن تكون لكم؛ لأنها كانت للمجد قبل أن تكون للعار، وكانت تحارب تحت أمري بعزة وازدهاء قبل أن تحارب حولكم بخيانة وذل … آه يا عصاة ويا قاطعي السبيل لقد حييتم بموتي فموتوا الآن بحياتي فها قد عدت إليكم حيًّا، فلا تحسبوا أنني ضيفكم بل أنا الملك الذي ينتقم منكم، لقد كانت آباؤكم جبابرة أبطالًا ينازلون أعداءهم نزال الأسود في ميدان القتال بلا خيانة ولا خداع، فما بالكم جئتم على أعقابكم كلابًا نابحة وعقبانًا خاطفة، وقاطعي طريق ورجال لصوصية وفساد؟ أُفٍّ لكم أتقطعون السبيل على العابر المسكين، وتغدرون المارة غدرًا وضربًا من وراء الظهور، وتحسبون أن هذا هو المجد العربي، وهذا هو الفخر الصحيح؟ أترون بلادكم ساقطة بلا رئيس ولا عضد ثم تظلمونها وتجورون من كل مكان …؟ إنكم مجرمون تستحقون العقاب الشديد على أعمالكم، فتقدموا أيها الجنود وضعوا في أرجلهم الأغلال والقيود.عامر: هذا هو بعينه قد عاد حيًّا … ضاعفوا الحرس … أغلقوا الأبواب … أوقفوا الجنود في مراكزها … سلحوا الرجال … أرسلوا العساكر إلى الغابة تقطع لها حطبًا كثيرًا، وأشعلوا نارًا عظيمة لإحراق هذا الملك العظيم، لقد سلم نفسه بيده، وقد أخذناه في فخه:لقد عدت لكن أين عسكرك المجروأين العلا والعز والمجد والفخروأين طبول كنت تقرعها هنافيهتز من أصواتها السهل والوعروأين صناديد حواليك جمةلها الطوع فيما تشتهي ولك الأمروأين الخيول الدهم تجلبها لنافترجع عنا، وهي من دمنا حمرعرفتك أنت السيد الملك الذيأطاعك فيما قد مضى الفتح والنصروأنت الذي دست البلاد عوامرًاوأقلعت عنها، وهي موحشة قفروأنت الذي دانت لك الأسد في الوغىوأنت خطيب المجد والبطل الحرعرفنا أبا قابوس قدمًا، وإنماأتعرفنا من نحن أم فاتك الذكرلقد سمعتك تخاطب هؤلاء الجند، وتقول: إنهم جنودك قبل أن يكونوا جنود العار، ولكن هل رأيت أحدًا منهم تحرَّك من مكانه وجاء إليك، إذن فأعلم أنهم جنود أبي لا جنودك، وأنهم للأمير سلمان قبل أن يكونوا لآبائهم، إن الضيف محرَّم علينا أيها الملك، وأنت قد قلت الآن: إنك لم تعد ضيفًا فأنت إذن عدو، انظر إلى هذا الشيخ الكبير إنه أبي الأمير سلمان، وهو الذي كوى زندك في المعركة، وجعل لك تلك العلامة التي عرفناك بها أكثر مما نعرفك بتاج الملك، وأنت تعلم أن الحقد بينكما شديد قديم، وأنك قد وضعت لرأسه ثمنًا، وقد وضع لرأسك ثمنًا كذلك، وها قد وقعت الآن في أيدينا وحيدًا شريدًا تحيطك أمراء أبطال وجنود بواسل، فماذا تصنع بنفسك أيها التعس الشقي.حماد: أرجِع لنا بلادنا أيها الملك، فقد أخذتها منا اغتصابًا.قيس: رد إلينا دماء رجالنا فقد سفكتها عدوانًا وظلمًا.قراد: أرجِع لنا أصحابنا الأبطال، فقد قتلتهم جورًا وجبرًا.عامر: لقد خرجت اليوم من قبرك أيها الملك، وإني لأرجعك إليه في الحال حتى لا يقال أبو قابوس حي، فيجاوبها الصدى قد مات، فمِت أيها الأحمق جزاء ما جنت يداك.سلمان: أبيت اللعن يا مولاي إن ابني عامرًا قد صدق في قوله: إنك عدوي الألد، وأنا الذي تجاسرت ورفعت يدي على جلالتك فيما مضى من الزمان؛ لأني أكرهك وأريد قتلك، ولكني مع ذلك أريد أن تكون بلاد العرب سالمة من الدمار، وأن أرى بلادي ناهضة من سقطتها وخمولها الطويل، وأنت وحدك قادر على إنقاذها وإصلاحها، فخلص بلادك. أما أنا فأركع الآن طائعًا على قدميك، وأشكر الله الذي ردَّ إليَّ سيدي ومليكي … اركعوا كلكم معي، وارموا سيوفكم إلى الأرض، أبيت اللعن إن وجودك واجب لقبائل العرب الساقطة، وأنت وحدك تجمعها ولا أحد سواك يقدر على إنقاذها، وإنه لا يزال في بلاد العرب اثنان بحمد الله، أنا وأنت، وأنا وأنت نكفي فاحكم علينا يا مولاي، أما هؤلاء فقد تمادوا في كلامهم معك، ولكنهم لا يزالون صغارًا فاعف عنهم بحلمك، لقد حاربناك يا مولاي كثيرًا ونوينا لك الشر والقتل، وحاربتنا أنت كذلك، ولكنا كنا مخطئين وأنت وحدك المصيب العاقل، أطلقوا سراح الأسرى والآن تقدموا وضعوا القيود في أرجل الأمراء، مدوا أيديكم للقيود، فهكذا يريد الملك، ضعوا القيد في رجلي أولًا:قد غدونا كما تشاء أسارىأيها السيد الرفيع البناءوغدا في القيود عندك سلمان الشريد الشهير في الأحياءلست أرجو منك انفكاكًا لقيديفبحقٍّ قيدت مع هؤلاءغير أني أهوى المسير وإياك لنغدو معًا على الأعداءخلنا في القيود ثمت خذنالقتال العدى وسفك الدماءوأقمنا في أول الصف كي نلــقى المنايا في الغارة الشعواءوعسى أن نريك منا جنودًاقلبها مثل سيفها في المضاءثم نبقى أسرى لديك ونغدوبقتال العدى من الأمراءضابط: أمر مولاي، أمر مولاي …… … … … … … …الملك: … … … … … للسجــن جميعًا خذهم بلا إبطاءأغصوب … … … … …… … … … … …سلمان: ويلاه … … … … …… … … … … …الملك: … رح وانتظرنيحيث تمضي للندب كل مساء
الفصل الرابع
الجزء الأول
سلمان: كيف المليك أتى، وماذا قالاأرأيت شخصًا أم رأيت خيالا؟قد حار فكري فيه حتى ما درىأتبعت حقًّا أم اتبعتُ ضلالاويلاه قد كثرت عليَّ مصائبيوتجمعت فغدت عليَّ ثقالانوبٌ تمرُّ، وهي جديدةمع إن عهد حدوثها قد طالالم يبقَ مما مرَّ بي شيءٌ سوىأني أسيرٌ أحمل الأغلالاأضحى أبو قابوس حاكم منزليوغدوت مغلول اليدين مذالالكنما ماذا يهمُّ، فإننيأنقذت فيه الأهل والأطلالاأحييت أوطاني بتسليمي لهفغدا عليها قائلًا فعالاهذا أبو قابوس، وهو ألدُّ أعــدائي، وأكثرهم عليَّ وبالاخصمان معتركان يقتل عسكريحينًا، وأقتل عنده الأبطالافني الزمان، وليس فيه غيرناباقٍ، وكل خليطنا قد زالاقرب السقوط لواحد منا وهاهو قائمٌ يرمي لأسقط حالاغلبتني الأقدار لكن بعد ماعانت عليَّ معاركًا وقتالافقل: السلام على انتصاري إنهولى ومجدي إنه قد حالاوعلى حروبي والمعارك والعلاوالعز أدركه الزمان فمالاضربت بي المثل الأعارب في الوغىوغدت بذلي تضرب الأمثالاويقال: قد سقط العزيز من الذرىوغدا على غدر الزمان مثالاماذا أسلمان الشريد يذل هلمثلي يصادف في الورى إذلالاكلا لتخزى كبرياؤك أنت يامَن كنت قبلًا مجرمًا قتالافاخفض جبينك إن تزد قبر الــذي فاجأته وقتلته محتالافي ذا المكان قتلته في ليلةوهنا جرى دمه الزكي وسالاويلاه من جرم تقادم عهدهفغدا يجدد في الحشا الأوجالاجرم فظيع قد ندمت عليه لوتغني الندامة فاتكًا قتالاسبعون عامًا أو تزيد قضيتهاأبكي وأضرع للإله تعالىأرجو السماح عن الذنوب ندامةًفأزيدها بندامتي أثقالاوكفاك تبكيت الضمير فقد غداطي الفؤاد عقاربًا وصلالاوالناس تحسبني شريفًا ماجدًامثل العطاش تظن ماءً آلاأزياد مع حسناء عفوًا عن أخيجرمٍ بكى الأيام والأحوالاكثرت مصائبه وأثقلها الأسىفغدت على عدد الرمال جبالاسقطت حصوني واغتدى ابني عاجزًاوبنوه زادوني جوى ونكالاوابني الصغير فقدته ومصائب الـأطفال فينا لم تكن أطفالاوبحثت عن ليلى وحسانٍ فلمأبصرهما ومصائبي تتوالىفالموت أولى فلأمت من خنجريفلقد غدا موتي لديَّ حلالاأزياد عفوًا عن غصوب فقد بداحدُّ السلاح بصدره يتلالافأنا غصوب ولست سلمانًا فدعللعفو عن ذنب الغصوب مجالاالجزء الثاني
(سلمان – شمطاء)
شمطاء: قابيل.سلمان: يخيل لي أني سمعت صوتًا، وأظن أن ذلك رجع الصدى بل صوت سكان القبور، فإن هذه الحجرة العميقة لا يدخلها أحد غيري، وقد مات من كان يعلم سرها من سنين، فأصبح لا يعلم بها أحد سواي، يا زياد الشهيد البريء مرحمةً وعفوًا عن غصوب.شمطاء: قابيل.سلمان: لم يعد ريب فيما سمعته فقد سمعت صوتًا يتكلم، فأنت أيها الخيال المتكلم كائنًا من كنت اضرب وخلصني من حياتي، فقد سئمت الحياة، اضرب فإنه خيرٌ لي أن أموت من أن أسمع هذا الصدى الهائل الذي يردد كل كلمة من كلامي فيزيد آلامي.شمطاء: قابيل. قابيل. قابيل …سلمان: ويلاه، لم أعد أقدر أن أقف، أفي يقظة أنا أم في منام، وهل ما أسمعه حقيقة أم أضغاث أحلام؟ يا رب إن أحزاني قد استحالت إلى جنون، ولا شك أن ما أسمعه هو حلم هائل، نعم هو حلم يتبعني كيف سرت، ويزيدني اضطرابًا ورعبًا في هذا المكان المخيف. أنت أيها الصوت المرهب الخارج من القبور، ها أنا أمامك، قل ماذا تريد أن تعلم مني؟ واسألني؟ فإني أجيبك عن كل ما تريد.شمطاء (تدخل): أريد أن أقول لك ما قاله الله لقابين قاتل قابيل، ماذا فعلت بأخيك؟سلمان: من هذه المرأة …؟شمطاء: هي فوق الأرض أسيرة، وهنا ملكها، أنت تعلم أيها الأمير أن هذا الحصن كثير المداخل والكهوف، وأن تحت قاعاته الواسعة غرفًا كثيرة مظلمة، والآن فاعلم أن كل ما تنيره الشمس هو لك وفي سلطتك، وكل ما يخفيه الظلام هو ملكي وتحت سلطاني، وها أنا قد قبضت عليك ولم يعد لك من خلاص.سلمان: مَن أنتِ أيتها المرأة؟شمطاء: اسمع قبل ذلك لأقص عليك حكاية هائلة جرت منذ سبعين عامًا: انظر إلى هذه الغرفة، وإلى أشعة القمر الساطعة فيها، في مثل هذه الليلة، وفي هذا المكان نفسه كان اثنان عاشقان يشكوان سر الهوى على نور القمر، وإذا برجل قاتل خرج عليهما والسيف في يده.سلمان: رحماكِ، كفى بالله …شمطاء: أتعرف هذه الحكاية؟ إذن فاعلم أن المكان الذي سقط فيه زياد طعينًا هو هذا، واليد التي طعنته هي هذه.سلمان: اطعنيني أنت أيضًا، ولكن اسكتي.شمطاء: وبعد أن سقط زياد قتيلًا أخذوه ورموه من هذه النافذة بعد أن كسروا حديدها بيد شديدة، واليد التي كسرت الحديد هي هذه أيها الأمير.سلمان: بالله عفوًا أو سماحًا.شمطاء: لقد كانت العاشقة الحزينة الثكلى تطلب منك العفو والسماح أيضًا في ذلك الحين، وهي أنا، ولكنك سخرت بي هازئًا وأخذتني فربطتني هنا، ثم أخذت القيد بنفسك ووضعته في هذه الرجل بلا رحمة ولا شفقة.سلمان: حسناء.شمطاء: نعم لقد كنت في ذلك الحين حسناء، وأما الآن فقد غيرتني السنون والأيام، وصارت تلك الفتاة الجميلة تدعى اليوم شمطاء … إنك ستموت أيها الأمير.سلمان: يا رب شكرًا فهذا الذي أريد.شمطاء: ولكن اصبر قبل أن تشكر الله، واعلم أن ابنك الذي خطفوه منك لا يزال حيًّا.سلمان: ماذا تقولين …؟شمطاء: وأنا الذي خطفته منك.سلمان: أين هو بالله؟شمطاء: وكان هذا العقد في عنقه.سلمان: رحمةً وعفوًا إني أقبل قدميك فدعيني أنظر إليه نظرة واحدة.شمطاء: إنك تنظره قريبًا، فهو الذي سيقتلك في هذا المكان.سلمان: ويحكِ ماذا فعلت بابني هل جعله حقدك وانتقامك وحشًا كاسرًا يتجاسر على قتل أبيه؟شمطاء: إن ابنك هو الفارس حسان.سلمان: تبارك الله، كذلك كنت أرجو أن يكون، إنه شريف نبيل لا دناءة في أخلاقه فباطلًا تعتمدين عليه في قتلي، وإن آمالك ستذهب أدراج الرياح.شمطاء: اسمع أيها الأمير لقد كنت تمشي في النور وأنا أدب وأسعى في الظلام، حتى وصلت إليك على مهل وسكون من غير أن تشعر مني بشيء، فاستيقظ الآن من غفلتك يا غصوب فقد وقعت في الشرك الذي نصبته لك، واعلم أنك بينما كنت واقفًا مع الملك والأمراء ذهبت أنا إلى مخدع ليلى سرًّا، وسقيتها شرابًا شديدًا جعل على وجهها هيئة الأموات، التفت الآن وانظر (تريه تابوتًا).سلمان: ويلاه تابوت، يا رب ليلى … لقد قتلتها يا كافرة.شمطاء: إنها لم تمت بعد، وأنا معتادة مثل هذه الأمور، فهي مائتة لدى كل من يراها، ولكنها نائمة عندي، وإن شئت فعلت بها ما أريد.سلمان: وماذا تطلبين لكي توقظيها؟شمطاء: اطلب موتك، وقد أخبرت حسانًا بالأمر، وهو الذي يختار بين حياتها أو مماتها، فليختر بين الأمرين، إذا شئت أن تهرب فاهرب، فأنا لا أمسكك، ولكن حسانًا وليلى يموتان، وهما في قبضة يدي.سلمان: ويلاه، ويلاه …شمطاء: اترك حسانًا يقتلك، مت وليلى تحيا.سلمان: اسمعي، إني ألتمس منك التماسًا، إن الموت هين عليَّ فخذي حياتي كما تشائين، ولكن لا تدعي ولدي البريء الطاهر يرتكب هذه الجريمة الشنعاء، رحمة بالله فإنني قد بكيت كثيرًا وبكتني ضميري تبكيتًا شديدًا وذلك جزاء القاتلين، فاقتليني أنا وحدي وارتضي بقتيل واحد، فإني أستحق أشد العقاب، ولكن اعفي عن ولدي بالله أتريدين أن يدخل إلى هنا بريئًا شريفًا، ويخرج بالخزي والعار بعد قتل أبيه، قد كفاك أنك أخذته مني وحملتني من فقده الحزن والعذاب كل هذه الأيام، فلا تزيدي عليَّ هذا الهوان، إنه قد صار ولدك مثل ما هو ولدي، فاشفقي عليَّ من هذا الجرم الشديد فقد كفاني شدة وعذابًا، عاقبيني على ذنبي لك، ولكن لا تتجاوزي مقدار ذنبي في هذا العقاب، لا تكوني أقسى مني إذا كان لك قلب يرحم.شمطاء: إنني لم يعد لي قلب فقد نزعته مني يا قاتل.سلمان: إذن أموت هنا كما تشائين، ولكن ليس من يده.شمطاء: إن الأخ هنا قتل أخاه، فهنا الولد يقتل أباه.سلمان: ارحميني واشفقي عليَّ، اقتليني أنت استحلفك بالله.شمطاء: آه يا ظالم، لقد كنت ألتمس منك أكثر من هذا الالتماس عندما قتلت حبيبي، لقد كنت راكعة على قدميك أقرع صدري بيدي، وأسألك الرحمة والعفو عنه، وأقول لك: ارحم شبابه وشبابي، ولكنك صممت أذنك عن كلامي وقتلت زيادًا حبيبي ورميته من هذه النافذة غير مشفق ولا راحم ورفستني برجلك، وقلت لي: خذي ثأرك إذا كنت تقدرين، وها أنا الآن آخذ ثاري.سلمان: إن ابني لم يسئ إليك بشيء فارحميه وارحميني، اعذريني بالله فقد كنت أهواك، وكنت غيورًا عليك.شمطاء: اسكت يا خائن، اسمعي أيتها السماء إنه لا يزال يتجاسر على ذكر الغرام هذا الأثيم القاتل، ولقد كنت أحب أنا أيضًا أيها الغادر فرد لي حبيبي إذا كنت تقدر، رد لي حبيبي يا قاتل أخيك.سلمان: أيعرف حسان أنه سيقتل أباه.شمطاء: لا، بل هو سيقتلك من غير أن يعرفك؛ لكي يخلص ليلى من الموت.سلمان: حسان ولدي … ما هذه الليلة الهائلة …شمطاء: إنه سيدخل عليك الآن كما يدخل الجلاد لقطع رأس المجرم، وهذا جلَّ ما يعرفه عنك، فخذ هذا القناع وضعه عليك ومت مقنعًا ساكتًا، ولا تنطق بحرف فقد رضيت بذلك، إني أسمع وقع أقدام وها هو قادم فأنا سأتركك وأدخل، ولكن اعلم أنني سأسمع كل شيء وأن ليلى لا تزال في قبضة يدي (تدخل).سلمان: اللهم لطفك …الجزء الثالث
(سلمان – حسان)
حسان: إلى أين جئت بي؟ ما هذا المكان الهائل؟ ويلاه قد ذهب وبقيت وحدي، يا رب أين أنا؟ أهنا مكان القتل؟ لقد بدأت أرجف وأضطرب، ما هذا الخيال الذي أراه؟ يا رب من هذا؟ ويلاه ما أصعب الجريمة والقتل! أهنا تُسفك الدماء؟ أهذا هو القتيل؟ يا غصوب التعيس المذنب، هل هذا أنت؟ أجبني، إنه لا ينطق بحرف فهذا هو بعينه. أنت أيها الشخص الراكع أمامي كائنًا من كنت تكلم، أجبني، عفوًا وسماحًا إذا قتلتك، فإن حبيبتي ليلى نائمة نومة الموت في هذا المكان ولا تفيق من نومها إلا بقتلك، فاعذرني واشفق عليَّ أيها الشيخ المسكين الشقي، كلمني وقل: إنك تغفر لي جرمي وذنبي، كلمة عفو واحدة أيها الشيخ، وشفق على قلبي الذائب.سلمان: حسان ولدي تعالَ إليَّ.حسان: مولاي سلمان …سلمان: لا، لم أعد أقدر أن أسكت وقد كفاني عذابًا، لا أقدر أن أموت قبل أن أعانقه، تعالَ إلى صدري، دعني أقبلك وأنظر إليك، فإنني لا أصدق إنني أراك، وهذه أول مرة رأيتك فيها مع أني أبصرك كل يوم، دعني أقبل جبينك وأناملك كما أريد، لقد كنت تتكلم الآن يا بني، وأنا ساكت، ولكن كلامك كان شديدًا مؤثرًا حتى لم أقدر أن أسمعه وأسكت، انظر يا بني إنك تجد سيفي وآلة جلادي معلقةً في حجرتي، فخذها كلها فقد وهبتك إياها، وكن بطلًا عظيمًا فأنا أباركك وأدعو لك، اللهم باركه برحمتك، واجعل أيامه طويلة مثل أيامي، ولكن بغير جرائم ولا ذنوب.حسان: مولاي …سلمان: اللهم إني أبارك هذا الشاب في كل ما فعل، وفي كل ما يفعل الآن فاسمع لي يا بنيَّ، إنني قد فقدت كل شيء وذهب ملكي ضياعًا، وأصبح أبنائي أسرى، وذلك لكي أخلص بلادي من الذل والاستعباد، فلم يبقَ إلا أن أقتل نفسي وأستريح، ولكن يدي ضعيفة ترتجف ولا تقدر فساعدني على قتلي فمن يدك أنتظر هذه الخدمة الكبرى.حسان: أمن يدي أنا؟ ولكن ألا تعلم أني أبحث هنا عن رجل؟سلمان: إنك تبحث عن غصوب وهو أنا.حسان: ويلاه ماذا أرى وماذا أسمع؟ أنت يا مولاي، أنت الشيخ الجليل الذي أعتبرك وأحبك، ويلاه، هو بعينه يا رب رحمتك ولطفك، إنه سلمان الكبير سيدي ومولاي، أبدًا لا أرفع يدي عليك أيها الأمير الجليل وحاشا لله أن أقتلك.سلمان: اسمع يا حسان، إن قبري قد انفتح وأنا مجرم مذنب، وهذه حبيبتك ميتة لا محالة إذا أنت لم تقتلني فاضرب وخلصها. اقتل الشيطان العاتي وخلص الملك الجميل، خلص حبيبتك من الموت، أنقذها يا بنيَّ وأسرع.حسان: أتموت أنت لكي أخلصها …؟سلمان: ويحك وهل تتردد …؟ أترى من جهة شيخًا عاجزًا بيضت شعره السنون، كما سودت وجهه الذنوب والآثام، وترى من جهة فتاةً بريئةً طاهرةً جميلةً تدعوك وتصرخ إليك، ثم تتوقف بينهما وترتاب، ألا تزال تتردد، أتحار بين قتل المجرم وحياة البريء، إن مماتي خلاص لي وخلاص لها، فاضرب وخلصنا كلينا، فإنك بضربة واحدة تخلص نفسين، اضرب ولا تتوقف.حسان: ويلاه …سلمان: اضرب يا بنيَّ وأسرع فإنك تنقذني من حياتي، خذ وعجل وخلصني من الذنوب وتبكيت الضمير.حسان: هات الخنجر …سلمان: ما بالك تتوقف؟حسان: لقد خطر لي فكر هائل، لقد قلت لي اليوم: إنه كان لك ولد ثم خطفوه منك وهو صغير، وأنا قد خطفت من أهلي صغيرًا وربتني امرأة غريبة، أفلا يمكن أن أكون أنا ذلك الولد؟ ألا يمكن أن تكون أبي؟سلمان: ويلاه، إن الخوف قد أضاع صوابي يا حسان، فأنت لست بابني.حسان: لكنك كنت أحيانًا تقول لي: يا ولدي.سلمان: ذلك لأني أحبك كثيرًا؛ ولأن هذه الكلمة معروفة يقولها الجميع.حسان: إنني أشعر بشيء في قلبي.سلمان: لا تصدق …حسان: مولاي … مولاي، أشفق عليَّ، ألا يمكن أن أكون ابنك؟سلمان: بالله لا تذهب بك الظنون إلى هذا الحد، فإن ابني الذي خُطف مني قد قُتل ولا أمل لحياته، وقد أخبرتك بذلك اليوم.حسان: لا …سلمان: تذكَّر فقد قلت لك: إنهم قتلوه انتقامًا مني فأنت لست بولدي، ولو لم أكن على ثقة من أنهم قتلوه، وأنهم أحضروا إليَّ جثته في حينها لكنت أشك مثلك وأظنُّ إنك ولدي، ولكن ذلك مستحيل، فإن ابني قد مات؛ إذن فكن على ثقة مما أقوله لك يا ولدي، انظر إنني لا أزال أقول لك: يا ولدي؛ لأنها كلمة قد تعودتها، وهي التي يقولها الشيوخ للفتيان في كل حين، كن على ثقة واضربني فإني لست أباك ويا حبذا لو كان لي ولد مثلك، تقدم يا حسان واضرب، وكن آمنًا مما تفعل فإنك لست ولدي ولا أنا بأبيك. (لقد أصبحت ليلى على شفا الموت، ولا يمكن أن تنتظر أكثر من ربع ساعة.)
حسان: ليلى …سلمان: ويحك، أتريد أن تقتلها؟حسان: يا رب، ماذا أصنع؟ ويلاه قد ضاع رشادي في هذا المكان المخيف.سلمان: اضرب وكفى تردد.حسان: بالله لا تدفعني لهذا العمل، اصبر وأشفق عليَّ، فإني لا أكاد أمسك نفسي وأحسب أنني سأرتكب جرمًا فظيعًا هائلًا فتمهل ولا تشدد عليَّ.سلمان: إذن فاضرب، فأنت تعاقب مذنبًا وتخلص بريئًا طاهرًا.حسان: ألا تدري أنني أكاد أرتكب القتل؟ وأن صوابي قد ضاع مني، فأنا الآن بلا عقل.سلمان: لقد حان لي أن أموت يا حسان، إن أخي قد سألني الرحمة كثيرًا في هذا المكان فقتلته، ولم أعفُ عنهُ، فكن أنت مثلي الآن، كن آلة العدل المنتقمة، كما كنت أنا آلة الجريمة والظلم، انظر أي وحش ضارٍ أمامك واعلم أنني قتلت هنا رجلًا بريئًا، وأنني طعنتهُ بيدي غير شفيق ولا رحيم، إن القتيل البريء هو أخي.الجزء الرابع
(سلمان – حسان – الملك – ثم شمطاء وليلى)
الملك: هو أنا.سلمان: هو أنت …؟حسان: الملك …؟الملك: نعم، فأنا الذي أرسلني أبي إليك ثم ضربتني بخنجرك، وألقتني من هذه النافذة، وأنت تقول لي: اذهب غير مأسوف عليك، ولكن الله خلصني فلم أمت (تدخل شمطاء)، وكانت نجاتي على أيدي جماعة من الرعاة أخذوني وأنقذوني من الهلاك، ثم سعيت بشجاعتي وإقدامي فصرت ملكًا، ولقبوني بأبي قابوس؛ ولذلك خفي عنك أمري، ولم تعلم أن أخاك لا يزال في قيد الحياة وأنقذوني.سلمان: ها أنا راكع بين يديك فعاقبني وخذ بثأرك.الملك: انهض يا أخي وعانقني، فأنا أسامحك وأعفو عنك.شمطاء: لقد زال الحق ومات الانتقام، وقد عاد حبيبي زياد حيًّا، فلم يعد لي ثار ولا طلب خذوا كل ما أخذته منكم في أيام كرهي وغضبي، فخذ أنت حسان ابنك، وخذ أنت يا حسان ليلى عروسك.حسان: ليلى … أبي …ليلى: حبيبي … مولاي …سلمان: يا رب حمدًا وشكرًا.شمطاء: أما أنا فقد حان مماتي … يا قبر خذني إليك.الملك: ماذا تصنعين …؟شمطاء: قد أقسمت أن لا أخرج هذا التابوت فارغًا، فدعني بالله.الملك: ولماذا تموتين …؟شمطاء: تأمل بي يا زياد إنني أموت مسرورة بلقياك، فأنا حبيبتك حسناء.الملك: حسناء … أنتِ هنا … أنت؟!شمطاء: نعم، لا أزال حية، وقد كنت آخذ ثارك.الملك: إذن فاعفي عن نفسك الآن، كما عفوت أنا عن عدوي إذا كانت أيام الحب قد زالت فقد عاد الحبيب، ولم يعد على الدنيا عتب أو ملام، فلنعد كما كنا سعداء ولنقضِ باقي أيامنا في سلام، أما أنت يا سلمان فعد إلى إمارتك، وأنا عائد لتدبير أحوال البلاد:قد تمَّ ما أبغي فعودوا كماكنتم وسيروا سيرة تصفوأردت قبل الموت أن أمنع الــظلم، وأن ينقطع العسفُوأن أرى وجه شقيقي، وأنأعفو كما يقضي به العرفُوقد بلغت الآن ما أشتهيونال قلبي ما له يهفوطوبى لمن بارك أعداءه… … … … … …سلمان: … … … … … … …طوبى لمن يقدر أن يعفو
ثارات العرب
ثارات العرب
أدبية تاريخية غرامية تشخيصية
تأليف
نجيب الحداد
مقدمة
أسماء الأشخاص:أبو قابوس المنذر: ملك العرب.سلمان: أخوه.ليلى: خطيبة حماد.حسان: عاشق ليلى.شمطاء: عجوز.فقير: الملك متنكر.عامر، حماد، سالم، قراد، قيس، ناقد، زياد: أمراء.هلال، زيدان، فاضل، عمران، فاتك: أسرى.جنود وحرس وأسرى وضباط.
المكان: الواقعة حدثت في بلاد العرب.
الفصل الأول
الجزء الأول
شمطاء: هنا أمراء القصر في اللهو والطربوهذي أسارى القوم في الشغل والتعبهنا رنة الألحان والأنس والصفاوهذا رنين القيد والظلم والغضبهنا الجد يأوي بابنهِ وكلاهمايعدَّان ما قد أسلفاهُ من الحقبيكران طرف الذكر في نوبٍ مضتوهيهات يغني الذكر والعمر قد ذهبأميران قد عزَّا على كل مالكٍوعبدٍ فكانا الرأس والعالم الذنببحصن سما عن كل حصنٍ ومعقلٍفكاد يفوت النسرَ أو يلحق الشهبومن حوله أبطال حرب أعزةٌيرون عذاب الموت أحلى من الضربرجالٌ لهم في كل جسم صحيفةيخطون فيها بالرماح وبالقُضُبويحمون هذا الحصن من كل طارقعدو فلم يدخل إليهِ سوى الطربدخلت إلى هذا المكان ذليلةعجوزًا تولتني المصائب والنوبأجر قيود الذل فيهِ وطالماجررت ذيول العز زينها الذهبولكن رويدًا ساكني القصر إننيرسول البلايا والنوائب والعطبالجزء الثاني
(هلال – زيدان – فاضل – عمران – فاتك – ثم جندي)
هلال: هذه ساعة الراحة والحمد لله … حقًّا لقد تعبتُ.زيدان: لقد كنت حرًّا غنيًّا، أما الآن …فاضل: وا أسفاهُ.زيدان: أريد أن أعرف ماذا تصنع هذه العجوز هنا.فاضل: جلُّ ما أعلمه من أمرها أنهم أخذوها مسبية في الشهر الماضي مع بعض التجار، وجاءوا بها إلى هذا الحصن.عمران: لماذا يقيدوننا نحن، ويتركونها حرة تذهب حيث تشاء.فاضل: ذلك لأنها شفت حفيد الأمير الكبير من حمَّى قتالة، وقد شفت أيضًا أحد الأمراء من لدغة أفعى.زيدان: أظن أن هذه العجوز سحارة، فإنها لم تشفِ هذين الأميرين فقط بل شفت الثلاثة البرص؛ الذين كانوا هنا فأصبحوا لها من أطوع الخدم، وظني أنها امرأة خبيثة ذات مقاصد هائلة، فهي لا تأوي إلا الكهوف أو المقابر، وتوقد فيها النار وتصنع عليها أدوية وعقاقير لا أعلم كيفية تركيبها. وقد رأيتها مرة ماشية مع رجالها الثلاثة في جانب الحصن، وإذا بها قد اختفت معهم فجأة كأنها شقت الجدار ودخلت فيه.فاتك: يا ليتها بدلًا من أن تشفي حمادًا الخبيث وغيره شفت ليلى خطيبة حماد وابنة أخت الشيخ سلمان جده.زيدان: حقًّا؛ إن هذه الفتاة ملك في صورة إنسان.فاتك: ولكنها ناحلة ذابلة تخطو كل يوم خطوة في سبيل القبر، ولا شك أن خطبتها لهذا الوحش الضاري حماد هي السبب الأكبر في سقمها وانتحالها.فاضل: هذه العجوز قد عادت حقًّا، إنَّ منظرها يرعبني، فلعنة الله على هذا الحصن كم فيه من أهوال.زيدان: اسكت ولا ترفع صوتك لئلَّا يسمعنا أحد.فاضل: لا تخف، فإن أمراءنا في وليمتهم، وهم بعيدون عنا.زيدان: ولكن الاثنين هنا.فاضل: وأي اثنين.زيدان: الشيخ الأكبر سلمان وابنهُ، فإن هذا الباب لا يدخله غيرهما وغير ليلى والفتى الضابط حسان الذي قدم إلى هذا الحصن في العام الماضي، وخدم بين رجاله ونال محبة سلمان الجد الأكبر بشبابه ومحاسن أخلاقه، أما الجد فيقضي غالب أوقاته في هذه الحجرة العميقة، وإلى جانبه ابنه الأكبر عامر يحمل رمحه، ويقضيان معًا ساعات طويلة لا ينطقان فيها بحرف. ويقال: إن هذا الشيخ العاجز يندب ذنوبًا له سلفت، وقد ثقلت جرائمها عليه، ويبكي ولدًا له صغيرًا خطف منه منذ عشرين عامًا، ولا يدري من كان خاطفه ويبلغني أن أولاده الأدنياء من أشد مصائب الدهر عليه، وأظنه لم يلقب بالشريد عن عبث.فاضل: وهل تعرف شيئا عن أمر هذا الحصن.زيدان: جل ما أعرفه من أمره أنه قد جرت فيه جريمة هائلة، ثم أخلاه صاحبه من بعدها وهجره عشرين سنة لا يأوي إليه، ثم عاد إليه بعد ذلك، وهو على ما تراه من الحزن والهم.فاتك: وهل لاحظت في هذه الغرفة فوق مجرى النهر شباكًا من حديدٍ مكسورًا.زيدان: نعم، وهذا الذي يسمونه المظلم، ويقال: إنه مكان تسكنه الجن، وإن دم الجريمة قد جرى على جدرانه قديمًا، وأصبح اليوم لا يدخله إنسان غير الذين ذكرتهم لك، وذلك من عشرين سنة تقريبًا إلى حين قُتل الملك الكبير أبو قابوس النعمان بن ماء السماء في حرب العجم.عمران: أما أنا فالذي أعلمه أن هذا الملك لم يمت، وقيل لي: إنه لا يزال حيًّا وأن منجمًا أخبر الناس بأن هذا الملك سيشيع خبر وفاته، ثم يعود فيظهر مرة أخرى.فاضل: هذه خرافة لا أصدقها، فقد حضرت الحرب التي قتل فيها ورأيت النهر يحمله بجواده، وقد حالت بيننا وبين إنقاذه كثرة الأعداء.عمران: صدقت، ولكن ذلك لا يمنع من نجاته، وأن يعود إلى بلاد العرب، فيصلح أمورها بعد هذا الدمار العظيم، فإنهم قد بحثوا عن جثته كثيرًا فلم يجدوا لها أثرًا.زيدان: ألا تُسمعون لي هذه الحكاية.عمران: تكلم.زيدان: أذكر من نحو ثلاثين سنة أنني وجدت رجلًا في بعض أحياء العرب يدعى سليمان، يزعم أنه كان خادمًا عند الأمير غسان والد الملك أبي قابوس المنذر، وقد حكى لنا أن الأمير لما ولد له هذا الولد خاف عليه من كثرة الأحزاب حوله، فأرسله إلى ولد له آخر كان يسكن في حصن حصين على هذه الجبال، وسأله أن يربيه ويعتني بأمره وأنه أخوه فليحرص عليه ما استطاع، فأقام هذا الولد الذي صار ملك العرب إلى أن بلغ العشرين من عمره في ذلك الحصن، فوجدوا الفتى وخادمه جريحين وهما على شفا الموت، فأخذوهما واجتهدوا في علاجهما حتى شفيا فعاد الخادم، وهو الذي حدثني بهذه الحكاية إلى مولاه، ومعه ابنه الذي صار ملكًا بعد ذلك وظني أن أخاه قد مات، ولم يعرف أن أخاه القتيل قد صار ملكًا، ويقال: إنه هو الذي قتله؛ لأنهما كانا يعشقان امرأة واحدة، وأنه بعد أن قتله مع خادمه وطرحهما من نافذة الحصن عمد إلى معشوقته، فقيدها وباعها رقيقة لبعض التجار، ولم يعلم أحد كيف كان مصيرها بعد ذلك.عمران: وماذا تستنتجه من هذه القصة؟زيدان: أستنتج منها أن ما شاع من عودة أبي قابوس المنذر صحيح، وأن هذا الرجل لم يمت بعد، وإن خفي أمره على الناس، ويقال أيضًا: إنه كان يدعى زيادًا عندما قتله أخوه، وأن أخاه كان يدعى غصوبًا، وأن تلك المعشوقة كانت عبسية. أما القاتل فقد خرج من الحصن بعد هذه الجريمة كما قلت لك، وأما الفتاة فقد بحث عنها الملك المنذر كثيرًا فلم يجدها، وأعرف من ثقة أنه بحث عنها في جميع هذه الحصون وقدم بجيشه، وقد كنت معه فحاصر هذا الحصن حصارًا شديدًا، وأقام يقاتل حوله قتال الأبطال إلى أن التقى بصاحبه في المعركة، وكان في يد خصمه حديدة محماة، فكوى بها الملك في زنده ومرق من الجيش بسرعة جواده، ولم يقدر أحد على معرفته؛ لأن وجهه كان مقنعًا بالحديد، والله أعلم إذا كان الملك لا يزال حيًّا كما يقولون، أم أحاديثهم عنه خرافات وأساطير.جندي (يدخل): انهضوا أيها العبيد إلى أشغالكم، فقد جاء وقت العمل، وإن مولاي حمادًا وضيوفه سيزورون هذا المكان، فلا يحسن أن يروكم هنا.الجزء الثالث
(حسان – ليلى – هند)
حسان: تعالي استندي عليَّ وسيري برفق … اجلسي على هذا الكرسي قليلًا … كيف حالك اليوم؟ليلى: على أسوأ حالٍ، فإن البرد يقرصني وأعضائي ترتجف ضعفًا، إن هذه الوليمة قد أزعجتني كثيرًا … (لهند) انظري ألا يأتينا أحد.حسان: لا تخافي، فإن أصحابنا يشربون إلى الصباح، ولكن لماذا ذهبت إلى تلك الوليمة لتؤثر على جسمك الضعيف تلك الأغاني والكئوس.ليلى: إن حمادًا قد حكم عليَّ.حسان: حمادًا …؟ليلى: اخفض صوتك، فإنه لا يبعد أن يسمعنا ألا تدري أنني خطيبته، وله عليَّ الأمر والنهي.حسان: نعم، ولكن كان ينبغي أن تشكي أمرك إلى الشيخ الكبير مولانا، فإن حمادًا يخاف منه.ليلى: وما الفائدة من ذلك، وأنا سائرة في طريق القبر؟حسان: ليلى، بالله ما هذا الكلام.ليلى: حزنٌ وهمٌّ يليهِ الموت عن عجلهذي حياة النسا في العالم الفانيحسان: أما ترين بهاء الشمس غاربةً… … … … … … …ليلى: … … … … … … …نعم وقد مرَّ عنها شهر نيسانِوصارت الأرض في فصل الخريف، وقدرمت بأوراقها من فوق أغصانِوأصبح البرَّ قفرًا لا أنيس بهكأنهُ مقلة من غير إنسانِحسان: لكن سترجع أوراق الغصون كماكانت وتكسو الروابي حسن ألوانِليلى: نعم وهذي جماعات الطيور غدتتسير عنا إلى أهلٍ وأوطانِحيث الحرارة تحييها وتنعشهافتأنس الأرض تغريدًا بألحانِحسان: نعم ولكنها لا بدَّ راجعةإلى هنا شأنها قبلًا إلى الآنِليلى: نعم، ولكن أنا هيهات أبصرهاأو أبصر الزهر يزهو بين أفنانِفإن عمري قصير لا انتظار بهلعودها وعذاب البين أفنانيحسان: حبيبة القلب ما هذا الكلام فقدأجرى الدموع وأذكاني بنيرانِليلى: ضعني قريبًا من الشباك خذ بيديوارمي لهذي الأسارى كل هميانيما أجمل الشمس ما أبهى أشعتهاكأنها وجه صبٍّ بائسٍ عانيتلقي أشعتها حمرًا فنحسبهاقد كللت هامة الدنيا بتيجانِويلمع النهر من أنوارها فيرىكأنه أدمعٌ في خد ولهانِما أحسن الأرض في عيني وأجملهاكل الحياة بها والكل ينسانييتيمةٌ لا أبٌ يحنو على سقمييومًا ولا أمٌّ تسليني وترعانيوحيدة لستُ ألقى في الورى سندًالذاك أصبح صرف الموت يلقانيحسان: لا تكفري لا تقولي أنت واحدةٌوها أنا في الورى من بعدك الثانيإني أحبك يا روحي ويا أملي… … … … … … …ليلى: … … … … … … …هيهات لم تكُ يا حسانُ تهوانيهذا رسول مماتي قد دنا وأناأمضي فتسلو غرامي بعد أزمانِحسان: إن مت متُّ بلا شك وأقسم بالــحب الصحيح وهذا جل إيمانيأتزعمين بأني لا أحبك قدفطرت قلبي، وقد هيجتِ أحزانيدخلت ذا الحصن من عام فكنت بهمن أهله مؤمنًا ما بين أوثانِأرى الجميع لصوصًا لا ذمام لهمالدين في عرفهم والكفر سيانكانوا ظلامًا على عيني يخالفهمطبعي وينفر منهم طيب وجدانيحتى بدت شمس حسن منك مشرقةٌشعاعها من جمال فيك فتانِوأصبح القلب رهنًا في يديك ولاتؤاخذيني، فإن الحب ألجانيإذ قد عشقت فتاة في إمارتهاخطيبةً لأمير باذخ الشانِمع أنني رجلٌ لا أصل يرفعنيوليس لي والدٌ في المجد ربانيولست أعرف من نفسي سوى هممتسمو بنفسي إلى أطباق كيوانِوإن لي صارمًا يغني عن النسب الــقاصي وأُنشئ منه مجديَ الدانيفقد يكون أبي لا أصل ينسبهوقد يكون مليكًا رب سلطانِلكنني كيف كانت رتبتي فأنارهين حبك يا روحي وريحانيإن كان في القصر من أهوى فأنت بهقبلًا وبعدك ذاك العاجز الفانيهذا المسن الذي يقضي لياليههنا ويبكي عليها بالدم القانيوكل أبنائه عارٌ ومنقصةٌبل كلهم ثعلبٌ في زي ثعبانِوليس غيرك يسليه فأنت لهكبارد الماء يروي غل ظمآنِأما أنا الجندي التائه المجهول، فإني أشعر أن نفسي صارت كبيرة بقرب ذلك الشيخ الجليل، وصارت نقية طاهرة بقربك، ولكنني مع ذلك غيور تلذعني الغيرة في صميم فؤادي، فأبكي وأسكت، ولقد رأيت خطيبك من ساعةٍ ينظر إليك نظر العاشق المغرم، فكدت أجن من الغيرة، بل كدت أهجم عليه فأحطمه تحطيمًا، ولكنني راعيت الظروف مكرهًا وصبرت، أتزعمين بعد ذلك أنني لا أحبك:أنت روحي أنت النعيم لقلبيأنت شمس وأنت بدر سمائيلك قلبي لك الحشا لك ما ترجوه نفسي من غبطة وهناءولكن عفوًا إذا كلمتك عن نفسي في حين ينبغي أن لا أذكر لك سواك.ليلى: إن حظي مثل حظك أيها الحبيب كله تعاسة وشقاء، فإنني قد عشت يتيمة وأنت قد عشت كذلك وكنا كلانا على السواء، ولقد كان الدهر يقدر أن يجمع بين شقائي وشقائك، فيكون لنا منهما تمام الهناء، ولكن …حسان: ولكن أنا أهواك يا طلعة البدروحق الذي في جفن عينيك من سحرولكن أنا المضنى أنا العاشق الشجيأنا المغرم الموصول عمرك في عمريولكن أنا أقتل خطيبك إذا أساء إليك، وأنا وحدي أقوم لك مقام أبويك، أما أبوك فأنوب عنه بسيفي وزندي، وأما أمك فأنوب عنها بحنوي ووجدي.ليلى: شكرًا لك أيها الحبيب فقد أظهرت لي خفايا فؤادك، فعلمت أنك أشد بأسًا من الجبابرة، وأرق فؤادًا من النساء، تلك هي صفاتك الحسنة التي أحببتك لأجلها، ولكن هيهات أن تقدر في سبيلي على شيء.حسان: نعم أقدر.ليلى: لا، لا تقدر على شيء، فإن الأمر لا يتعلق بإنقاذي من خطيبي، بل إن لي خطيبًا آخر سيأخذني بلا دفاع ولا امتناع لا تقدر عليه أنت بعزمك، ولا يرق فؤاده لجمالك وغرامك؛ لأن هذا الخطيب قوي قادر، وهو الموت. والآن إذ قد دنت أيامي من الفناء، فأنا أقسم قلبي قسمين قسمًا أقدمه لك وقسمًا أبسطه تحت عرش الله:فأموت راضية عليك، وقد رضيعني إلهي فارضَ عني واعذرِفليأخذ الله العلي نفسي وخذمني فؤادي، فهو جود المقصرِهند: إني أسمع وقع أقدام.ليلى: إذن فهلمي بنا.أأموت في سن الشبيبة والصباويلاه ما أقسى الممات وأرهباأأموت عاشقة وأفقد كلَّ ماأهوى ولست أنال منه مأرباإن الممات يخيفني فأشفق علىقلبي فلم يكُ في غرامك مذنباأحبيب قلبي خلص القلب الذيتهوى وكن بخلاص نفسي لي أبًاأتراك تقدر أن تخلصني …… … … … … … …حسان: … … … … … … نعملا بدَّ أن تحيي فعودي للخباأتموتين هكذا في صباكحلوة يفتن الجماد بهاكوأنا واقفٌ أراك ولا أســعى بشيء إذن أخون هواكلا تموتين، إن كل دمائيفدية دون نقطة من دماكسوف تحيين لي وأقسم بالله… … … … … … …الجزء الرابع
(حسان – شمطاء)
حسان: … … … … … … … …لقد جئتِ في أوان لقاكأنا في حاجة إلى حسن مسعاكِ، وفي حاجة إلى أن أراكشمطاء: ابعد عني وسر في طريقك.حسان: اسمعي لي كلمتين.شمطاء: أتريد أن تسألني أيضًا عن بلادك وعن قومك؟ إنني لا أعرف شيئًا، وأن تسألني لماذا ربيتك وحيدًا، وإني وجدتك طفلًا لقيطًا وربيتك عندي؟ إنني لا أعرف أيضًا، ولماذا أتيت بك إلى هذا الحصن، وقلت لك: تظاهر بأنك لا تعرفني؟ إنني لا أعرف أيضًا، ولماذا أنا مقيدة أسيرة ولماذا أبقيت القيد في رجلي؟ إنني لا أعرف أيضًا. أتريد أن تسألني ما هو اسمي، ومن هم قومي، وما هي عشيرتي، وأين بلادي؟ إنني لا أعرف أيضًا، فاكشف أمري إذا شئت، وسلمني لهؤلاء الظالمين، ولكن لا تسألني عن شيء، ولا تؤمل أن أجيبك بشيء.حسان: قفي لا أسألك عن شيء من ذلك، وليس الأمر متعلقًا بنفسي، فأنا أسألك عن ليلى.شمطاء: إنها ستموت قريبًا.حسان: أتقدرين أن تشفيها.شمطاء: وماذا يهمني من شفائها؟ نعم إن في هذا الصدر لعلمًا عظيمًا وحكمة واسعة، فلقد قضيت أكثر أيامي في الهند والصين، وتعلمت الطب وتركيب الأدوية وصنع السموم، وجميع العلاج حتى صرت أقدر بدواء واحد أن أجعل المائت حيًّا وبدواء واحد أن أجعل على وجه الحي هيئة الأموات.حسان: أتقدرين أن تشفيها؟ تكلمي بالله.شمطاء: نعم أقدر.حسان: إذن استحلفك بالله العلي القادر، وأركع على قدميك ملتمسًا ضارعًا أن تخلصيها وتشفيها.شمطاء: افرض أنك بينما كنت هنا الآن تغازل ليلى التي تهواها دخل عليك حماد خطيبها، وهو هائج من الغيرة والغضب وطعنها بخنجر في صدرها ورماها في هذا النهر الكبير، ثم أخذك بيدك وباعك في السوق بيع العبيد ليرموك بالخسف والعذاب، ثم تعذبت كثيرًا وعدت إلى هذا المكان ماذا يبقى في قلبك، وأي شيء يجول في فؤادك؟حسان: الانتقام والقتل وأخذ الثار.شمطاء: إذن، فأعلم أنني أنا الانتقام والقتل وأخذ الثار، أنا الظامئة إلى شرب الدماء وأخذ نفوس الغادرين، أتطلب مني الآن أن أكون شفيقة، وأن أكون فاضلة، وأن أشفي الأحياء؟ هيهات، إن ذلك أمر قد فات … أتقول: إنك محتاج إليَّ؟ أتقول: إنك تريد إسعافي؟ وإذا أنا أرجفت فؤادك رعبًا، وقلت لك: إنني أيضًا محتاجة إليك، وإنني أريد إسعافك، وإنني قد ربيتك لأنتقم على يدك، فماذا تقول وماذا تصنع …؟ اذهب أيها الصبي، وابعد عني، فإنني كلي غضب وانتقام، إن الذي حكيته لك الآن هو تاريخي بعينه، ولكن الذي قتلوه هو العاشق، والتي باعوها جارية هي المعشوقة، وهي أنا والقاتل لا يزال حيًّا يرزق ولا منتقم منه سواك، أنت الذي تأخذ ثأري وتنتقم لي مما لاقيته من عذاب شديد كل هذه السنين الطوال.حسان: ويلاهُ، ما هذا الخبر الفظيع.شمطاء: إنني تعذبت كثيرًا وخدمت ستين عامًا، وزرت مصر والهند والعراق، ودرست الطبيعة والعوالم والأكوان، وتقلبت عليَّ ألوان العذاب والذل والهوان، أما الآن فقد انتهى كل شيء ولم يبقَ في صدري قلب إنسان، بل أنا أضع يدي هنا، فلا أشعر بحركة ولا خفقان؛ ذلك لأنني أصبحت صخرًا قاسيًا لا يحن ولا يلين.حسان: لله، ما أتعس حظك.شمطاء: ولقد أتيت إلى هذا الحصن من الشهر الماضي، والانتقام يلتهب في قلبي التهابًا، حتى وصلت إلى عدوي، وجعلته في قبضة يدي وجعلت حياته موقوفة على لفظة من ألفاظي إذا لفظتها سقط قتيلًا، وأنت أنت وحدك تقدر أن تنيلني الانتقام كما أُريد، ولكني مع ذلك أخاف من هذه الجريمة، ومع كل قساوتي وشراستي أشفق عليك، وأخاف على حياتك في مثل هذا الانتقام الشديد. اذهب بالله عني؛ ولا تجربني لأنك إذا طلبت مني شيئًا فيه حياة حبيبتك، فأنا سأطلب منك شيئًا فيه هلاك عدوي، ولكن إذا بقيت على عزمك أفتجرد خنجرك من غمده؟ أترضى أن تكون قاتلًا؟ أتريد أن تكون سيافًا؟ أراك ترتجف منذ الآن، إذن فاذهب عني يا قلبًا ضعيفًا ويدًا ساقطة، اذهب ولا تكلمني ودعني في شأني.حسان: وأي شيء تطلبين مني إذا شفيت من أحب؟شمطاء: لا تدنس يدك بالجريمة، واذهب عني.حسان: اعلمي أني أسفك دمي في سبيل خلاصها، فاطلبي وتكلمي.شمطاء: اذهب عني.حسان: أرتكب جريمة إذا شئت أرضيت الآن …؟شمطاء: ويلاه، لا يزال يجربني، إذن سأقضي مرامي … أتعلم أنك ستصبح ملك يدي، وأنك لا يفيدك تضرع ولا التماس، وأن كل ذلك يضيع في أعماق قلبي المظلم، وإنني تمثال أصم لا رحمة عندي ولا شفقة إلا إذا رأيت حبيبي المقتول قد عاد حيًّا أمامي، وهو الأمير زياد الذي كنت أهواه؟ والآن فاسمع ما أقول لك، فإني أنبهك إلى عاقبة أمرك قبل أن تبدأ بالعمل الذي أريد، إنني أريد منك أن تقتل رجلًا هنا كما يقتل الجلاد الرجل المجرم كائنًا من كان ذلك الشقي في أية ساعة أردت بلا رحمة ولا شفقة، أسمعت؟حسان: نعم، ثم ماذا؟شمطاء: اعلم أن كل دقيقة تمر علينا تسوق حبيبتك إلى القبر، وأنا وحدي أشفيها ولا يقدر أحد على إنقاذها غيري، انظر هذه الزجاجة تشرب منها نقطة في كل ساعة، وأنا أضمن لك أنها تعيش.حسان: يا ربي أحق ما تقولين، أعطيني هذه الزجاجة بالله.شمطاء: اسمع قبلًا، إذا رأيت حبيبتك غدًا سليمة متعافية، وقد زال عنها كل ألم وعاد لها رونق الشباب بفضل هذا الشراب، فأنت تصبح ملك يدي أتصرف بك كما قلت لك.حسان: نعم.شمطاء: اقسم لي.حسان: أقسم بالله العلي العظيم.شمطاء: ومع ذلك، فإن حبيبتك ليلى ستكون رهنًا في يدي عنك، وهي التي يقضى عليها إذا أخلفت وعدك لي وأنت تعلم أنه لا يصعب عليَّ شيءٌ، وأنني أعرف كل هذا الحصن بجميع خفاياه، وأدخل منه في كل مكان وفي كل آن.حسان: أتقولين أنها تشفى؟شمطاء: نعم، ولكن اذكر أنك حلفت.حسان: أتنقذينها من الموت؟شمطاء: نعم، ولكن اعلم أنني عندما أعطيك هذه الزجاجة آخذ منك قلبك، وتكون رهن يدي.حسان: إذن فهاتي وخذي.شمطاء: (تعطيه الزجاجة) إلى الغد (تخرج).حسان: إلى الغد:هذي حياتك يا حياتي في يديوكذاك بين يديك كل حياتيفخذي حياتك من يدي لكنمالا ترجفي قلبي ففيه مماتيإني اشتريت لك الشفاء، ولم أكنمتندمًا والجود من عاداتيهذا الدواء لنا كلانا بالسوافإذا شفيتِ شفيتُ من علاتيوإذا الحبيب شُفي بشرب دوائهفأنا سأشرب بالشفا كاساتي
الفصل الثاني
الجزء الأول
(أبو قابوس – اثنان من أتباعه)
أبو قابوس: قد وصلنا هنا مكان الجريمهوهنا تظهر الذنوب العظيمهوهنا تُغفر الذنوب ولا يغــفر ذنبًا إلا النفوس الكريمهصنت نفسي بالنسك عشرين عامًاوتركت البلاد مني يتيمهوقضيت الأعوام يحسبني الناس قتيلًا بين العظام الرميمهغير أني سمعت صوت بلاديتشتكي الذل والرزايا الأليمهفتركت النفار عنها وأقبلــت إليها بنيةٍ مستقيمهوبعزمي إنقاذها من بلاياها وأحكام قومها المذمومهفإذا ما حييت تحيا، وإن متُّفموت الذليل أشهى غنيمهفاكتموا ما نويت، فالمرء لاينجيه إلا أعماله المكتومهلا تقولوا: إني مليك وقولوارب فقر في غربة مستديمهفعساني أرى أخي وأنجيوطني والعقبى تكون سليمهرام قتلي فيما مضى وأنا اليوم سأعفو عنه وأمحو الجريمهالأول: مولاي، أتكون الملك العظيم أبا قابوس سيد العرب، وتعود إلى ملكك بمثل هذه الملابس، وعلى هذا الحال.أبو قابوس: هكذا تقتضي الحكمة، فإما أن أنقذ بلادي وأنا على هذه الصفة، وإما أن أموت فقيرًا كما أنا الآن، فلا يعرفني سواكم أحد.الثاني: ولكن يا مولاي، أين كنت كل هذه المدة؟ وما الذي تقصده من هذا المكان؟أبو قابوس: لقد عشت في القفار والجبال عشرين عامًا حسبني فيها الناس مائتًا، واستبد الحكام في الأمور والأحكام وأنا أحسب أنني أُكفر عن ذنوبي، وأمحو ما لعله فرط من الآثام. أما الآن فقد رأيت بلادي في ربقة الظلم والضيق، ولا ينقذها سواي وعلمت أن أخي الذي ظن أنه قتلني لا يزال حيًّا، وهو من أقوى الأمراء، فأتيت لكي أراه فأغفر له ذنبه في قتلي وأُبشره بأنني لا أزال حيًّا، ثم أستعين به وبقومه على إنقاذ البلاد.الثاني: وكيف قتلك أخوك يا مولاي.أبو قابوس: كنت عنده في قصره هذا أيام شبابي، فعشقت فتاة جميلة وعشقها معي ثم رآنا كلينا في خلوة غرام، فغار غيرة شديدة، وضربني بخنجره وألقاني من النافذة إلى النهر، فألتقطني بعض الرعاة وأنقذوني من الموت، وهو يحسب أنني في عداد الأموات.الأول: ولما صرت ملك العرب، ألم يعرف ذلك؟أبو قابوس: لقد كنت عنده أُدعى زيادًا حينما ضربني وألقاني في النهر، ولما ملكت العرب ببأسي وقوتي لقبوني أبا قابوس، فأخفى هذا اللقب الجديد ذلك الاسم القديم، ولم يعرف أخي أن أخاه القتيل لا يزال حيًّا.الثاني: ولما صرت ملكًا، ألم تسعَ في طلبه؟أبو قابوس: لقد جئت بجندي فحصرت حصنه هذا، وحاربني وهو لا يعرفني فلم أقدر على أخذه، بل كواني في زندي بحديدة محماة وجمح بي جوادي، فألقاني في النهر، وانكسر العسكر بعدي، وهم يحسبون أنني قُتلت، أما أنا فكنت قد نجوت بنفسي من النهر، وذهبت فتنسكت في القفار، واعتزلت الملك والحروب حتى ظنوني ميتًا، وهذه هي أسرار أخي بي إلى الآن.الأول: وهل تريد أن تخبر أخاك الآن أنك أخوه؟أبو قابوس: سأرى كيف تكون ظروف الأحوال، أما قصدي الأول فهو إنقاذ البلاد من دمارها كما قلت لكما، وهو الأمر المهم الذي أتيت لأجله.الأول: والآن، فماذا يأمر مولاي الملك أن نفعل؟أبو قابوس: أُريد أن تبقيا هنا في انتظاري، وأنا ذاهب إلى الحصن وحدي، وسأفعل هناك أفعالًا عجيبة يرويها التاريخ عني، فإذا نجحت في قصدي دعوت بكما إليَّ، وإذا لم أنجح وقتلوني فارجعا عن هذه البلاد، ولا تخبرا أحدًا بأمري:اذهبا الآن واخفيا عن عيون الــناس طرًّا من كاشحٍ وصديقواكتما عنهم جميع حديثيوادعوَا لي بالفتح والتوفيقالجزء الثاني
(سالم – قراد – قيس – حماد – ناقد – عامر – زياد – حسان – سلمان – ثم ضابط)
سالم: انظر أيها الأمير، إن باب الحصن وطريقه يظهران من هنا.قراد: ما هذا المكان الواسع المظلم؟قيس: إن من يرى هذا الباب المظلم يقول: إنه مكان تسكنه الجن.حماد: هنا يجلس جدي الكبير.قيس: وحده.حماد: لا، بل مع أبي.قراد: لله درك، كيف قدرت أن تخلص من هذين الشيخين.حماد: لقد ذهبت أيامهما واختلَّ عقلهما كثيرًا، وها قد مضى على جدي الآن أكثر من شهرين لا يتكلم، فانظر مفاعيل الشيب والهرم، فإن عمره يبلغ نحو المائة سنة، أما أنا فقد أخذت مكانهما بعد أن تخليا عنه.ضابط (يدخل): مولاي.حماد: ماذا تريد؟ضابط: إن الأسير الهندي لم يدفع الفدية بعد.حماد: اشنقوه.ضابط: إن عرب الحدود قد جاءوا طائعين، وهم يطلبون الأمان.حماد: انهبوا أموالهم فقد أخذنا أموالهم بسيوفنا.ضابط: وماذا نصنع بجيرانهم.حماد: انهبوهم أيضًا (يخرج الضابط).ناقد: إن شرابك جيد أيها الأمير.حماد: هذا لا شك فيه، فإن لي ضريبة من الخمر كل سنة على قبيلة غسان.قيس: وعلم الله أن خطيبتك ليلى لجميلة.حماد: نعم، لا بأس بها فهي نسيبتنا من جهة الأم.قيس: وكذا يظهر أنها مريضة.حماد: ليس ذلك شيئًا يذكر.الضابط (يدخل): علمت أن بعض التجار سيمرون من هنا غدًا.حماد: استعدوا لقطع الطريق عليهم، لقد كان آباؤنا يقاتلون، أما نحن فنلهو الآن ونطرب، وقد كانوا يستعملون القوة، أما نحن فنستعمل الحيلة والخداع، وما أنكر أن الناس تشتمني، والتجار تلعن اسمي، والعرب تتعوذ من بأسي، ولكن كل ذلك لا يهمني ما دمت أضحك وأشرب، وما دام حصني منيعًا يرد عني غارة الأعداء، وما دامت خطيبتي جميلة تسر الناظرين، وعلى ذكر الخطيبة هل تزوجت بنت أمير اليمن؟قيس: لا.حماد: ولكنك وعدت أباها، وأخذت منه مالًا.قيس: نعم، وعدت وأخذت، ولكني أترك البنت لأبيها وأترك المال عندي.حماد: ولكن ماذا يقول أبوها عنك؟قيس: ليقل ما شاء أن يقول.حماد: وما تصنع بالوعد الذي وعدت؟قيس: ذلك شأن لا يهم.عامر: عهدت الكريم إذا ما وعدوفي أو يخون قواه الجلدوكنا إذا ما عقدنا العهودتراها علينا كدرع الزرديراه الكريم لدى بابهويلقاه في حلمه إن رقدوتنفد أعمار أصحابهوأكثر أوعادهم ما نفدتبارك ربي إلى أي حالٍغدونا وأي زمانٍ فسدفضاعت مواعيد أبنائناوضاع الذمام وضاع الرشدوأضحى البغاة مكان النسوروقام الكلاب مقام الأسدحماد: احذر يا أبي فأنت تهيننا، واذكر أن الملك أبا قابوس عاقب عمه مرة على إهانة أصغر من هذه، فلا تتركني أتبع هذا المثال.عامر: يظهر لي أني سمعت اسم أبي قابوس، فإياكم أن يلفظ أحدكم هذا الاسم أمامي بعد.قيس: وبماذا ساءك هذا الملك أيها الشيخ؟عامر: أتقول بماذا ساءني، انزل في هذه الهوة، وانظرْ كَم فيها من قصور مهدمة بيد هذا الملك العاتي، انظر كم أذلَّ من أبطالنا، وكم أسر من رجالنا، وكم سبى من نسائنا، وكم سفك من دمائنا على أيدي جنوده الغادرين، أتقول بماذا ساءني؟ لقد استعبدنا ثلاثين عامًا يقتل أبناءنا، ويحرق منازلنا ويستعبد رؤساءنا، ويسجن أبطالنا، ويسومنا الذل والخسف ويضع في أيدينا قيود الحديد، ولا يلبث أمامه أحد، وأنا أذكر أنه نازلنا في إحدى المعارك، واقتحم وحده جيشًا كاملًا من جيوشنا، فلم يقدر أن يقف في سبيله واحد منا إلا أبي هذا، فإنه صادمه في طريقه وكوى زنده برمح من حديد، أما الآن فقد ذهب كل ذلك هباءً منثورًا، وبادت رجال الحرب جميعًا، ولم يبقَ من تلك الغابة العظيمة إلا شجرة واحدة؛ وهذه الشجرة هي أنت أيها الولد الكريم. أتقولون: أبو قابوس، ويلٌ لمن يذكر هذا الاسم الكريه، وويلٌ لي إذا لم أنتقم منه إذا كان لا يزال حيًّا أو من أولاده إذا كان قد مات، وأنا أسأل الله قبل موتي أن يسهل لي هذا السبيل، ولو بأن اضرب هذا الملك ضربة واحدة في حياتي، ثم أموت بعدها مسرورًا، بل أكاد أقول: إنني لو كنت ميتًا في ترابي وتمثل لي أبو قابوس على قبري لنهضت إليه مسرعًا، ونفضت غبار الموت عني وطعنته طعنة واحدة بهذا الخنجر … ويلاه ماذا أقول أنا الشيخ العاجز الفاني.حماد: يظهر أن أبي قد خرف.زياد: غدًا يصير أبي مثل أبيه وجده، وآخذ أنا مكانه.حماد: إن كل جنودنا خاضعون لهذا الشيخ، فما هذا المصاب؟!زياد: تعالَ يا أبي، وانظر إلى هذا الشيخ.قراد: إنه يصعد بهدوٍّ، وتلوح عليه علائم التعب.ناقد: حتمًا إنه في تعب شديد.سالم: نعم، ويظن أنه فقير، فإن عباءته ممزقة تنسفها الرياح.زياد: أظن أنه يطلب الضيافة في القصر.قيس: إنه فقير لا شك فيه.قراد: بل أظنه جاسوسًا.سالم: إذن فاطردوه من هنا.حماد: اطردوا هذا الكلب في الحال، وارجموه بالأحجار.زياد: اذهب من هنا يا كلب.عامر: أعوذ بالله، أي عصر صرنا إليه وأي رجال أهل هذا الزمان؟ أيطردون الشيخ البائس المسكين برجم الأحجار، لقد كنا أيام الصبى والشباب مثلكم نسكر ونطرب كما تفعلون، ولكن إذا مرَّ بنا شيخ عاجز فقير، ونحن في السكر والطرب كنا ننهض في الحال، فنملأ كفه ذهبًا ونقربه قربًا حسنًا، ونرد سلامه ردًّا جميلًا، ثم نعود إلى ما كنا عليه من اللهو والسرور، تلك كانت أحوالنا من قبل فقيسوا عليها أحوالكم الآن.سلمان: اسكت أيها الشاب تلك كانت أحوالكم، أفتعرف كيف كانت أحوالنا؟ كنا نجلس على طعامنا وشرابنا وأمامنا بعير بأسره في قصعة واحدة نأكل منه ونشرب عليه، وإذا مر بنا الشيخ الفقير المسكين، أفتعرف ماذا كنا نصنع له؟ كنا نرسل طليعة من الجند لاستقباله، ثم نضرب الطبول عند دخوله ثم ننهض كلنا إلى ملاقاته، ولو كان في مجلسنا أبناء الملوك، ويتقدم الكبير منا إلى ذلك الفقير، ويمدُّ إليه يده وهو يقول: يا مرحبًا بالضيف … اذهب وقل للفقير ليأتِ.حماد: ولكن يا مولاي …سلمان: اسكت.قيس: مولاي إنه …سلمان: لقد قلت: اسكتوا فمن يتجاسر أن يتكلم.حسان: أحسنت يا شيخ العشيرة في الذيقد قلته وكذا يكون أبو الكرميا أيها الأسد الذي من حولهخبث الذئاب يلوح في خوف الغنمارفع زئيرك غاضبًا كي يسكتواإن الشباب يخاف من صوت الهرمزياد: لقد أتى يا مولاي.سلمان: قفوا جميعًا واصطفوا هنا حولي كما تفعلون في استقبال الملوك.الجزء الثالث
(المذكورون – الفقير)
الجميع: أهلًا بضيف زارنافي دار مولانا السعيدنحن الضيوف وأنت ربالدار فافعل ما تريدسلمان: كن من تشاء فأنت ضيــفي أيها الشيخ الطريدوانزل على الربع الرحيــب لديك والعيش الرغيدوالآن فاسمع هل سمعــت بسيدٍ بطلٍ فريدشاد المفاخر كلهافي حصنه العالي المشيدوعدا على ريب الزمان بذلك البأس الشديدلم يرهب الأهوال فيــه ولم يخف منه الوعيدسقطت جميع رجالهمن دونه مثل الحصيدوأقام ثابت دولةٍفي ذروة المجد الوطيدبليت جميع رجالهوزمانه غضٌّ جديدأعرفته من وصفهأم أنت ترغب أن أزيديدعى بسلمان الشريــد، وكان يدعى بالعنيدطال الزمان به كمامن قبل طال على لبيدأنا ذلك الرجل المشار إليه في هذا القصيدفابشر فإنك نازلٌفي دار سلمان الشريدوجميع حصني رهن أمــرك فاقضِ فيه بما تريدالفقير: يا أيها الأمرا جميــعًا والعساكر والعبيداصغوا لما ألقي، فإنَّكلاميَ النصح المفيدلا تحقروا الضيف الفقيــر إذا أتاكم من بعيدوتصدقوا بالخير إنَّالخير مفتاح المزيد وثقوا بأن الموت يأتي سابقًا خيل البريديعدو على الشيخ الكبيــر ولا يعفُّ عن الوليدفليذكر الشبان منكمفي مشيبهم العتيدوليندم الأشياخ إنَّ الــموت منهم بالوصيد وحسابهم أدنى إلى الـأرواح من حبل الوريدوأعطوا الفقير، فإنماهذا هو الفخر الأكيدوبه يدوم نعيمكمويزيده من يستزيدومصيرنا طرًّا لمنفي الحشر يفعل ما يريدالجميع: يا أيها الضيف الكريمقد فزت بالخير العميمفاهنأ بذا الود السليموالأمن من شر اللئيمفالخير من طبع الكراموالعرب ترعى للذماموالشكر يسري في الأناميبقى على طول الدوام
الفصل الثالث
الجزء الأول
الملك: آن الأوان لأن أخاطر بالدممن لم يخاطر بالدما لم يسلمأجزيرة العرب التي أحببتهاكم من أكفٍّ قد رمتك بأسهمقد عدت نحوك بعد طول تغرُّبيفوجدت مجدك صار كالمتهدملعبت أكفُّ ذويك فيك فغادروافي كل نهرٍ فيك نهرًا من دمقتلوا رجالك واستذلوا من بقيفسقطتِ صاغرةً سقوط المجرموتفرقت أحياء أهلك في الورىأيدي سبا وبقيت كالمتيتموتقسمت أبناك مظلومًا يرىفيك العذاب وظالما لم يرحموغدا نفوذك للقوي وقد غدافيك الضعيف يموت إن لم يظلمباعوك بيع العبد في سوق الريافسقطت جرحى لليدين وللفمسلبوا بلادك من يديك غنيمةًحتى رأيتكِ غنم من لم يغنمِوالفرس حولكِ يزأرون بجمعهمفيضيع عندهمُ زئير الضيغمِضاعت حقوق العرب في أطلالهمورمت بها ظلمًا أكفُّ الديلمِوغدا العراق مع الحجاز غنيمةًوبلاد نجد سبيَّة المتقسمِهذا مصابك، وهو كل مصائبيأبكي عليه بحسرة المتندمفليرسل الله العلي جنودهولينقذ العرب التي لم تأثمالجزء الثاني
(حسان – ثم ليلى)
حسان: طاب الفؤاد وطابت البشرى بهوشفي الحبيب من الضنى بشرابهأبرأتها وأنا السقيمُ فليتهاتشفي ضنى قلبي بنيل طلابهِأهلًا وسهلًا بالتي قد عوفيتفشفت فؤادي من أليم عذابهليلى: حسان إني قد نجوتُ من الردىفليحيَ من صنع الدوا وأتى بهوغدوت سالمةً من الداء الذيلزم الفؤاد وزاد في أوصابهواليوم أقدر أن أحبك مثلمايهوى فؤادي في ربيع شبابهوالآن فاسمح لي بأن أمضي إلى الــجدِّ الكبير إجابةً لخطابهفلقد دعاني نحوه من مدةٍمع حاجبٍ قد جاء من حجابهحسان: لكن قفي كي نشكر الله الذيأحيى فؤادينا بفضل ثوابهالجزء الثالث
(حسان – شمطاء)
شمطاء: كيف حالك الآن هل أنت مسرور؟حسان: هذا أنتِ.شمطاء: أرأيت أنني قد وفيت بوعدي.حسان: وأنا سأقوم بعهدي.شمطاء: بلا رحمة.حسان: ولا خوف … وبعدها أقتل نفسي.شمطاء: أنا في انتظارك هذا المساء عند منتصف الليل.حسان: في أي مكان.شمطاء: أمام السجن المظلم.حسان: ذلك مكان مخيف لا يمر فيه إنسان، ويقال: إن على الصخر هناك لطخة سوداء.شمطاء: نعم، وهي أثر الدماء التي سالت على ذلك الجدار.حسان: أثر دماء … أرأيت كيف يدنس الدم ويحرق؟شمطاء: بل قل إن الدم يغسل ويطهر.حسان: حسنٌ فمري بما تشائين … ومَن أجد في ذلك المكان.شمطاء: تجد رجلًا مقنعًا ينتظر وحده.حسان: وبعد ذلك.شمطاء: وبعد ذلك تتبعه إلى حيث يسير بك.حسان: لقد قضي الأمر.شمطاء: يا سماء اشهدي ويا كائنات الـأرض طرًّا، وأنت يا جو فاشهدواشهدي لي يا شمس، واشهد أيا بدر وقل للنجوم في الأفق تشهدواشهدي لي أيا حياتي التي مررت ويا عيشي الشقي المنكدواشهدي يا قبور واشهد أيا حصــنًا حصينًا على الفساد تشيداشهدي أنني أبيح دم القاتل عدلًا بذا السلاح المحددوبأني أبحت قتل غصوبٍوغصوبٌ عدو نفسي المؤكدحسان: من هذا غصوب.شمطاء: هو الذي يجب أن يموت من يدك هذا المساء، اذكر ولا تنسَ وعدك (تخرج).حسان: ويلاه من جرم يكاد يميتنيمن قبل أن أقضي وفاء وعوديإني وعدت بقتل نفسٍ حيةٍطمعًا بعيشٍ للحبيب رغيدوالآن قد نال الحبيب شفاءهودنت منية ذلك المنكودالجزء الرابع
(حسان – سلمان – ليلى – شمطاء (مختفية))
ليلى: نعم لقد شفيت وصرت أقدر أن أجري … انظر يا مولاي ها قد أتينا.حسان: هذا أنت يا مولاي.سلمان: لقد شعرت اليوم أن حزني قد ازداد، وأن النصيحة التي أبداها لنا الفقير قد أثرت فيَّ كثيرًا ثم فكرت في أمرك، وإنك كنتِ على شفا الموت، وأن أمك المسكينة قد أوصتني بك قبل موتها، كنت افتكر في كل ذلك، وإذا بها دخلت عليَّ فرحة مسرورة والحياة تجول في عينها حتى كدت أبكي من السرور، وأحسب أنني في حلم لا في يقظة، وقد دنت مني وقالت لي: تعالَ واشكر حسانًا، فهو الذي شفاني فقلت لها: هيا بنا.ليلى: وها نحن بين يديك.سلمان: ولكن أخبرني بأية أعجوبة شفيتها تكلم ولا تكتم عني شيئًا.حسان: شفيتها بعلاج أعطتني إياه أسيرة من أسارى القصر.سلمان: إن هذه الأسيرة حرة لوجه الله، وأنا أنعم عليها بألف ناقة، وأعفو عن المحكوم عليهم، وأعفي ألف فلاح من الضريبة، وذلك سرورًا بهذا الشفاء، افرحا معي فإن قلبي مملوء فرحًا، ويكفيني سعدًا أن أراكما:نعم أنا منكود طريد مشردأرى الناس من حولي كأني مفردأقيم بأقصى الحصن أندب ما مضىوأذكر أيامي وربي يشهدأرى العرب من حولي تمزق شملهموكل ولاة الأمر أشأم أنكديسوقون هذي الأرض نحو دمارهافلا مهجة ترثي ولا يد تنجدولا بد أن نهوي مع الظالمين أوتمد من الله العلي لها يدفيرسل من يرثي لها في مصابهافينجدها إن كان ينفع منجدمصاب بلادي لي مصاب وفوقهمصيبة أولادي الذين تمردوالئام أرى عيشي بهم وهو أسودكما أن قلبي من ذنوبي أسودوما لي سلوى غير هذا الفتى وذي الــفتاة فكل منهما لي مسعدفهذي الفتاة كالغزالة بهجةوهذا فتى من صفحة السيف أجودإذا وقفا حولي تقول ملائكتحن إلى الشيطان أو تتوددحسان: مولاي ماذا تقول؟ليلى: سيدي ما هذا الكلام؟سلمان: تقدما إليَّ كلاكما، اقتربا مني لأعانقكما، فيا لله ما أجمل هذه الطلعة الباهرة، حقًّا، إنك شريف كريم ممن يفون بالوعد إذا وعدوا، كل ما يعد به هذا الفتى، فإنه يقوم بوفائه … أليس كذلك؟ليلى: لا تسألني يا سيدي، فإن حياتي من عنده.سلمان: لقد كنت مثله طاهرًا شريفًا قبل أن أسقط في ذنوبي وآثامي، انظري يا ليلى إلى هذا الوجه الجميل إنه يذكرني بولد لي يدعى سنانًا كان آخر أولادي رزقني الله إياه من عشرين عامًا، وأنا في شيخوختي فابتهجت به كما يبتهج الأعمى إذا نظر النور، وكما تزدهي الشجرة الذابلة بسقوط ندى الصباح، ولكن وا أسفاه، فإنه لم يكن يبلغ اثنتين من عمره حتى خطفوه مني، وهو يلعب على الطريق، ولا أدري من خطفه وقيل لي: إن خاطفيه قد قتلوه انتقامًا مني، فإياك إذا صرتِ أما أن تتركي أولادك يلعبون على الطريق بعيدًا عنك، فإن أعداء الإنسان كثيرون. ويلاه إني لا أزال أذكره، وأبكي كأنه خطف بالأمس، لو بقي حيًّا كان الآن في سنك ولكان جميلًا جريئًا مثلك. تعالَ إلى صدري فأنت مكانه عندي، وقد جعلتك ولدي فاجعلني بمثابة أبيك، تعالَ وكن ولدي أنت يا من كنت سلوتي وعزائي في هذا الحزن الذي أنا فيه، ويلاه من يقدر أن يراكما كليكما جميلين زاهرين متحابين، ولا يلين فؤاده فرحًا وسرورًا لهذا الحب بينكما، أبشرا أيها العاشقان فأنا سأجمع بينكما بعقد القران.ليلى: يا رباه!حسان: مولاي، ماذا تقول؟سلمان: لقد ماتت أمكِ أختي، وهي توصيني بك وأنا أقسم لها بحفظ وصايتها، وما أنكر أن ولدي سنانًا قد خطف مني بعد ذلك، وإن امرأتي قد توفيت على أثره، وإن المصائب قد انهالت على رأسي من كل جانب، ولكني لم أنسَ ما قلته لأمك عند وفاتها فلقد قلت لها: اذهبي بسلام، فأنا أقوم لابنتك مقام الوالد وأدافع عنك إلى آخر نقطة من دمائي.ليلى: شكرًا لك يا سيدي الحبيب.سلمان: لا تشكريني، فإني قد أقسمت على ذلك … وأنت أيها الفتى الباسل اذهب وحارب وانتصر، وافعل كما فعلت أنا في شبابي، ولكن ما عدا الجريمة. واعلم أنني من يوم رأيتك قد عزمت على أن أزف ليلى إليك، وأن أجعلها سعيدة بقربك، ولكن اكتم هذا الأمر الآن، فإني أخاف عليك من حماد فهو شرس الأخلاق غدار لا شيء أهون عليه من قتل البريء، فأبشر أيها الفتى فإني أحبك وسأسعى لزواجك.حسان: ولكن يا مولاي …سلمان: أترفض هذا الزواج؟حسان: حاشا يا مولاي، كيف أرفض وأنت تعرض عليَّ نعيم الجنان.سلمان: إذن فاصنع كما قلت لك، وإياك أن تبوح بكلمة مما جرى بيننا الآن، وأنا في هذا المساء أسهِّل لكما سبل الفرار، وأمنع حمادًا من أن يتعقبكما فتذهبان من هنا خفية وتقترنان في مكان بعيد.شمطاء (مختفية): آه يا خائن.سلمان: ذلك ما أريد أن أصنعهُ قبل وفاتي عساني أن أخفف بهذا القران بينكما بعض ما بي من العذاب والحزن الشديد، إن الغرفة التي أقيم فيها لها باب خفي إلى خارج الحصن هو الباب الذي تخرجان منه الليلة سرًّا، ويذهب معكما قائد حراسي ليدافع عنكما إذا أوجب الأمر، فانتظراني هنا قليلًا لأذهب وأحضر لكما مفتاح هذا الباب، يا رب سهل أعمالي وخفف بعض مصابي لسعادة سواي.حسان: يا ربِّ ما هذا أحلم ما أرىأهي الحقيقة أم حديث يفترىأأفر مع ليلى وأحظى بالذيأهواه أم حلمٌ على عيني طراإن كنت في حلم فخليني بهودعي فؤادي منه في سنة الكرىلكنما لا فالحقيقة عينهاتبدو وها أنا في النعيم بلا مراإني أراك لديَّ فالحلم انجلىعني ولاح لي الجمال مصوَّراقد صرت لي يا من أنا لك فابشريفلقد غدا نيل الفرار ميسرًاليلى: ماذا تقول … … … …… … … … … … …حسان: أقول: لا تخشي فقدتمَّ الفرار لنا كما قد قدِّرالكن يميني قد حلفت وإنماماذا يهم إذا هربت منكرايا رب فاحكم بيننا أتريد أنأبقى وأرتكب الخطأ إلا كبراأم أن أفرَّ من الجريمة هاربًاوأطيع أمرك مثلما قد سطراهيا لنهرب لم يعد من دونناأحد … … … … … …الجزء الخامس
(حماد – حسان – ليلى – عامر – قيس – قراد – سلمان – الملك متنكرًا – جنود)
حماد: … … … … … … …… كذبت فإن دونك عسكراليلى: يا رب … حماد …حماد: اقبضوا على هذا الرجل وهذه الفتاة.حسان: أيها الأمير حماد أنا أعلم أنك نذل جبان غادر خائن مخلوع الفؤاد، وها أنا أريد الآن أن أظهر لهؤلاء الأمراء حولك أنك جبان سافل لا تقوى على مصادمة الرجال، فأعلم أنني أقوم في هذا الموقف مقام الأميرة ليلى، وأدافع عنها دفاع الأبطال؛ لأنها لا تريدك بعلًا لها، وهي تهواني أنا، فأنا أدعوك الآن للبراز أيها الأمير حماد بالسيف أو بالرمح أو بالخنجر أو بأي سلاح شئت، ونجعل ميداننا ضفة النهر حيث ينفسح مجال القتال، وهناك نرمي بالقتيل منا في تيار المياه فاخرج معي لتقتل أو أُقتل، قفوا مكانكم جميعًا فإني أخاطب الأمراء، واسمعوا أيها الأمراء إني أدعو الأمير حمادًا من بينكم للبراز.حماد: أفرغت الآن من كلامك؟ علم الله لقد تركته يتكلم كثيرًا أيها الأمراء، والآن فاسمع ما أقول لك أيها الغلام: إني أسألك من أنت بين الأبطال، هل أنت ابن ملك؟ هل أنت ابن أمير؟ هل أنت ابن شيخ قبيلة على الأقل؛ لكي تقف موقف البراز مع الأمير حماد؟ قل لي ما هو اسمك فقط؛ إن كنت تعرف اسمك ألا تدري إنك ولد لقيط لا أصل لك ولا نسب؟ أخبرني من هو أبوك، ومن أية قبيلة أنت؛ إن كنت ذا أصل وشرف؟ تأملوا أيها الأمراء لم يعد ينقصنا إلا مبارزة العبيد، فإذا كان فيكم من يأخذ بناصره ويدافع عنه، فأنا أمامكم كلكم فارس لفارس أو عشرة لفارس، ولكن عبدًا لقيطًا مثلك لا ينازله أمير مثلي، فاذهب وبارز الرعاة والغلمان.حسان: آه يا نذل الرجال.الملك: أيها الأمير إن لي من العمر تسعين عامًا أو تزيد، ولكني أبارزك الآن، أعطوني سيفًا.حماد: حقًّا لقد كان ينقصنا مضحك في هذه الوليمة وها قد حضر، من أين جاءنا هذا الشحاذ، وكيف انتقلت من العبد إلى الفقير؟ أنا أبارزك أيها الفقير فلا بأس، ولكن ألا تخبرني قبل ذلك من أنت؟الملك: أنا الملك أبو قابوس بن ماء السماء.عامر: أنت أبو قابوس؟الملك: هذا خاتم الدولة فانظروه، نعم أنا أبو قابوس المنذر ملك العرب، وحامل سيف العدل، قضيت عشرين عامًا من حياتي بين المقابر والكهوف آكل من نبات الأرض، وأشرب من مطر السماء، وأندب ما سلف من أيامي وأسأل الله حسن الختام، وقد حسبني الناس ميتًا، وما أنا بميت ولكني كنت وحيدًا منقطعًا في زي الأموات حتى سمعت صوت بلادي يئن من الظلم والجور، وتدعوني إلى وقايتها وإسعافها، فخرجت من مكمني الذي كنت فيه، وها أنا واقف بين أيديكم. أعرفتموني الآن؟عامر: أرني زندك يا ملك العرب.الملك: أتريد أن ترى أثر الضربة التي ضربني إياها واحد منكم؟ خذ وانظر …عامر: نعم، هو بعينه وأنا أقول هنا على رءوس الأشهاد: إن هذا هو أبو قابوس المنذر ملك العرب.الملك: قد كنتم تسمعون صوتي أيها الفتيان أيام كانت حمائل سيفي ترف على جنبي، أما الآن فقد عرفتموني حق عرفاني، وعرفتم السيد العظيم الذي حكم عليكم زمانًا طويلًا، وقد جاء يحاكمكم اليوم، هذا هو الملك الكبير الذي دانت له الممالك، وخضعت له بلاد العجم واقفًا يكلمكم الآن، هذا هو الشيطان الأكبر الذي حارب رجالكم، وأخذ بلادكم وهدم معالم ظلمكم وعصيانكم، قد شفق على مصائب بلاده، وجاء يحاسبكم على ما جئتم من المنكرات، فقد حان أوان عذابكم وسأُريكم كيف يكون العقاب، إني أقول لكم ذلك على مسمع من جنودكم، فإن هذه الجنود عساكري، وأنا أعتمد عليها، وهي لي قبل أن تكون لكم؛ لأنها كانت للمجد قبل أن تكون للعار، وكانت تحارب تحت أمري بعزة وازدهاء قبل أن تحارب حولكم بخيانة وذل … آه يا عصاة ويا قاطعي السبيل لقد حييتم بموتي فموتوا الآن بحياتي فها قد عدت إليكم حيًّا، فلا تحسبوا أنني ضيفكم بل أنا الملك الذي ينتقم منكم، لقد كانت آباؤكم جبابرة أبطالًا ينازلون أعداءهم نزال الأسود في ميدان القتال بلا خيانة ولا خداع، فما بالكم جئتم على أعقابكم كلابًا نابحة وعقبانًا خاطفة، وقاطعي طريق ورجال لصوصية وفساد؟ أُفٍّ لكم أتقطعون السبيل على العابر المسكين، وتغدرون المارة غدرًا وضربًا من وراء الظهور، وتحسبون أن هذا هو المجد العربي، وهذا هو الفخر الصحيح؟ أترون بلادكم ساقطة بلا رئيس ولا عضد ثم تظلمونها وتجورون من كل مكان …؟ إنكم مجرمون تستحقون العقاب الشديد على أعمالكم، فتقدموا أيها الجنود وضعوا في أرجلهم الأغلال والقيود.عامر: هذا هو بعينه قد عاد حيًّا … ضاعفوا الحرس … أغلقوا الأبواب … أوقفوا الجنود في مراكزها … سلحوا الرجال … أرسلوا العساكر إلى الغابة تقطع لها حطبًا كثيرًا، وأشعلوا نارًا عظيمة لإحراق هذا الملك العظيم، لقد سلم نفسه بيده، وقد أخذناه في فخه:لقد عدت لكن أين عسكرك المجروأين العلا والعز والمجد والفخروأين طبول كنت تقرعها هنافيهتز من أصواتها السهل والوعروأين صناديد حواليك جمةلها الطوع فيما تشتهي ولك الأمروأين الخيول الدهم تجلبها لنافترجع عنا، وهي من دمنا حمرعرفتك أنت السيد الملك الذيأطاعك فيما قد مضى الفتح والنصروأنت الذي دست البلاد عوامرًاوأقلعت عنها، وهي موحشة قفروأنت الذي دانت لك الأسد في الوغىوأنت خطيب المجد والبطل الحرعرفنا أبا قابوس قدمًا، وإنماأتعرفنا من نحن أم فاتك الذكرلقد سمعتك تخاطب هؤلاء الجند، وتقول: إنهم جنودك قبل أن يكونوا جنود العار، ولكن هل رأيت أحدًا منهم تحرَّك من مكانه وجاء إليك، إذن فأعلم أنهم جنود أبي لا جنودك، وأنهم للأمير سلمان قبل أن يكونوا لآبائهم، إن الضيف محرَّم علينا أيها الملك، وأنت قد قلت الآن: إنك لم تعد ضيفًا فأنت إذن عدو، انظر إلى هذا الشيخ الكبير إنه أبي الأمير سلمان، وهو الذي كوى زندك في المعركة، وجعل لك تلك العلامة التي عرفناك بها أكثر مما نعرفك بتاج الملك، وأنت تعلم أن الحقد بينكما شديد قديم، وأنك قد وضعت لرأسه ثمنًا، وقد وضع لرأسك ثمنًا كذلك، وها قد وقعت الآن في أيدينا وحيدًا شريدًا تحيطك أمراء أبطال وجنود بواسل، فماذا تصنع بنفسك أيها التعس الشقي.حماد: أرجِع لنا بلادنا أيها الملك، فقد أخذتها منا اغتصابًا.قيس: رد إلينا دماء رجالنا فقد سفكتها عدوانًا وظلمًا.قراد: أرجِع لنا أصحابنا الأبطال، فقد قتلتهم جورًا وجبرًا.عامر: لقد خرجت اليوم من قبرك أيها الملك، وإني لأرجعك إليه في الحال حتى لا يقال أبو قابوس حي، فيجاوبها الصدى قد مات، فمِت أيها الأحمق جزاء ما جنت يداك.سلمان: أبيت اللعن يا مولاي إن ابني عامرًا قد صدق في قوله: إنك عدوي الألد، وأنا الذي تجاسرت ورفعت يدي على جلالتك فيما مضى من الزمان؛ لأني أكرهك وأريد قتلك، ولكني مع ذلك أريد أن تكون بلاد العرب سالمة من الدمار، وأن أرى بلادي ناهضة من سقطتها وخمولها الطويل، وأنت وحدك قادر على إنقاذها وإصلاحها، فخلص بلادك. أما أنا فأركع الآن طائعًا على قدميك، وأشكر الله الذي ردَّ إليَّ سيدي ومليكي … اركعوا كلكم معي، وارموا سيوفكم إلى الأرض، أبيت اللعن إن وجودك واجب لقبائل العرب الساقطة، وأنت وحدك تجمعها ولا أحد سواك يقدر على إنقاذها، وإنه لا يزال في بلاد العرب اثنان بحمد الله، أنا وأنت، وأنا وأنت نكفي فاحكم علينا يا مولاي، أما هؤلاء فقد تمادوا في كلامهم معك، ولكنهم لا يزالون صغارًا فاعف عنهم بحلمك، لقد حاربناك يا مولاي كثيرًا ونوينا لك الشر والقتل، وحاربتنا أنت كذلك، ولكنا كنا مخطئين وأنت وحدك المصيب العاقل، أطلقوا سراح الأسرى والآن تقدموا وضعوا القيود في أرجل الأمراء، مدوا أيديكم للقيود، فهكذا يريد الملك، ضعوا القيد في رجلي أولًا:قد غدونا كما تشاء أسارىأيها السيد الرفيع البناءوغدا في القيود عندك سلمان الشريد الشهير في الأحياءلست أرجو منك انفكاكًا لقيديفبحقٍّ قيدت مع هؤلاءغير أني أهوى المسير وإياك لنغدو معًا على الأعداءخلنا في القيود ثمت خذنالقتال العدى وسفك الدماءوأقمنا في أول الصف كي نلــقى المنايا في الغارة الشعواءوعسى أن نريك منا جنودًاقلبها مثل سيفها في المضاءثم نبقى أسرى لديك ونغدوبقتال العدى من الأمراءضابط: أمر مولاي، أمر مولاي …… … … … … … …الملك: … … … … … للسجــن جميعًا خذهم بلا إبطاءأغصوب … … … … …… … … … … …سلمان: ويلاه … … … … …… … … … … …الملك: … رح وانتظرنيحيث تمضي للندب كل مساء
الفصل الرابع
الجزء الأول
سلمان: كيف المليك أتى، وماذا قالاأرأيت شخصًا أم رأيت خيالا؟قد حار فكري فيه حتى ما درىأتبعت حقًّا أم اتبعتُ ضلالاويلاه قد كثرت عليَّ مصائبيوتجمعت فغدت عليَّ ثقالانوبٌ تمرُّ، وهي جديدةمع إن عهد حدوثها قد طالالم يبقَ مما مرَّ بي شيءٌ سوىأني أسيرٌ أحمل الأغلالاأضحى أبو قابوس حاكم منزليوغدوت مغلول اليدين مذالالكنما ماذا يهمُّ، فإننيأنقذت فيه الأهل والأطلالاأحييت أوطاني بتسليمي لهفغدا عليها قائلًا فعالاهذا أبو قابوس، وهو ألدُّ أعــدائي، وأكثرهم عليَّ وبالاخصمان معتركان يقتل عسكريحينًا، وأقتل عنده الأبطالافني الزمان، وليس فيه غيرناباقٍ، وكل خليطنا قد زالاقرب السقوط لواحد منا وهاهو قائمٌ يرمي لأسقط حالاغلبتني الأقدار لكن بعد ماعانت عليَّ معاركًا وقتالافقل: السلام على انتصاري إنهولى ومجدي إنه قد حالاوعلى حروبي والمعارك والعلاوالعز أدركه الزمان فمالاضربت بي المثل الأعارب في الوغىوغدت بذلي تضرب الأمثالاويقال: قد سقط العزيز من الذرىوغدا على غدر الزمان مثالاماذا أسلمان الشريد يذل هلمثلي يصادف في الورى إذلالاكلا لتخزى كبرياؤك أنت يامَن كنت قبلًا مجرمًا قتالافاخفض جبينك إن تزد قبر الــذي فاجأته وقتلته محتالافي ذا المكان قتلته في ليلةوهنا جرى دمه الزكي وسالاويلاه من جرم تقادم عهدهفغدا يجدد في الحشا الأوجالاجرم فظيع قد ندمت عليه لوتغني الندامة فاتكًا قتالاسبعون عامًا أو تزيد قضيتهاأبكي وأضرع للإله تعالىأرجو السماح عن الذنوب ندامةًفأزيدها بندامتي أثقالاوكفاك تبكيت الضمير فقد غداطي الفؤاد عقاربًا وصلالاوالناس تحسبني شريفًا ماجدًامثل العطاش تظن ماءً آلاأزياد مع حسناء عفوًا عن أخيجرمٍ بكى الأيام والأحوالاكثرت مصائبه وأثقلها الأسىفغدت على عدد الرمال جبالاسقطت حصوني واغتدى ابني عاجزًاوبنوه زادوني جوى ونكالاوابني الصغير فقدته ومصائب الـأطفال فينا لم تكن أطفالاوبحثت عن ليلى وحسانٍ فلمأبصرهما ومصائبي تتوالىفالموت أولى فلأمت من خنجريفلقد غدا موتي لديَّ حلالاأزياد عفوًا عن غصوب فقد بداحدُّ السلاح بصدره يتلالافأنا غصوب ولست سلمانًا فدعللعفو عن ذنب الغصوب مجالاالجزء الثاني
(سلمان – شمطاء)
شمطاء: قابيل.سلمان: يخيل لي أني سمعت صوتًا، وأظن أن ذلك رجع الصدى بل صوت سكان القبور، فإن هذه الحجرة العميقة لا يدخلها أحد غيري، وقد مات من كان يعلم سرها من سنين، فأصبح لا يعلم بها أحد سواي، يا زياد الشهيد البريء مرحمةً وعفوًا عن غصوب.شمطاء: قابيل.سلمان: لم يعد ريب فيما سمعته فقد سمعت صوتًا يتكلم، فأنت أيها الخيال المتكلم كائنًا من كنت اضرب وخلصني من حياتي، فقد سئمت الحياة، اضرب فإنه خيرٌ لي أن أموت من أن أسمع هذا الصدى الهائل الذي يردد كل كلمة من كلامي فيزيد آلامي.شمطاء: قابيل. قابيل. قابيل …سلمان: ويلاه، لم أعد أقدر أن أقف، أفي يقظة أنا أم في منام، وهل ما أسمعه حقيقة أم أضغاث أحلام؟ يا رب إن أحزاني قد استحالت إلى جنون، ولا شك أن ما أسمعه هو حلم هائل، نعم هو حلم يتبعني كيف سرت، ويزيدني اضطرابًا ورعبًا في هذا المكان المخيف. أنت أيها الصوت المرهب الخارج من القبور، ها أنا أمامك، قل ماذا تريد أن تعلم مني؟ واسألني؟ فإني أجيبك عن كل ما تريد.شمطاء (تدخل): أريد أن أقول لك ما قاله الله لقابين قاتل قابيل، ماذا فعلت بأخيك؟سلمان: من هذه المرأة …؟شمطاء: هي فوق الأرض أسيرة، وهنا ملكها، أنت تعلم أيها الأمير أن هذا الحصن كثير المداخل والكهوف، وأن تحت قاعاته الواسعة غرفًا كثيرة مظلمة، والآن فاعلم أن كل ما تنيره الشمس هو لك وفي سلطتك، وكل ما يخفيه الظلام هو ملكي وتحت سلطاني، وها أنا قد قبضت عليك ولم يعد لك من خلاص.سلمان: مَن أنتِ أيتها المرأة؟شمطاء: اسمع قبل ذلك لأقص عليك حكاية هائلة جرت منذ سبعين عامًا: انظر إلى هذه الغرفة، وإلى أشعة القمر الساطعة فيها، في مثل هذه الليلة، وفي هذا المكان نفسه كان اثنان عاشقان يشكوان سر الهوى على نور القمر، وإذا برجل قاتل خرج عليهما والسيف في يده.سلمان: رحماكِ، كفى بالله …شمطاء: أتعرف هذه الحكاية؟ إذن فاعلم أن المكان الذي سقط فيه زياد طعينًا هو هذا، واليد التي طعنته هي هذه.سلمان: اطعنيني أنت أيضًا، ولكن اسكتي.شمطاء: وبعد أن سقط زياد قتيلًا أخذوه ورموه من هذه النافذة بعد أن كسروا حديدها بيد شديدة، واليد التي كسرت الحديد هي هذه أيها الأمير.سلمان: بالله عفوًا أو سماحًا.شمطاء: لقد كانت العاشقة الحزينة الثكلى تطلب منك العفو والسماح أيضًا في ذلك الحين، وهي أنا، ولكنك سخرت بي هازئًا وأخذتني فربطتني هنا، ثم أخذت القيد بنفسك ووضعته في هذه الرجل بلا رحمة ولا شفقة.سلمان: حسناء.شمطاء: نعم لقد كنت في ذلك الحين حسناء، وأما الآن فقد غيرتني السنون والأيام، وصارت تلك الفتاة الجميلة تدعى اليوم شمطاء … إنك ستموت أيها الأمير.سلمان: يا رب شكرًا فهذا الذي أريد.شمطاء: ولكن اصبر قبل أن تشكر الله، واعلم أن ابنك الذي خطفوه منك لا يزال حيًّا.سلمان: ماذا تقولين …؟شمطاء: وأنا الذي خطفته منك.سلمان: أين هو بالله؟شمطاء: وكان هذا العقد في عنقه.سلمان: رحمةً وعفوًا إني أقبل قدميك فدعيني أنظر إليه نظرة واحدة.شمطاء: إنك تنظره قريبًا، فهو الذي سيقتلك في هذا المكان.سلمان: ويحكِ ماذا فعلت بابني هل جعله حقدك وانتقامك وحشًا كاسرًا يتجاسر على قتل أبيه؟شمطاء: إن ابنك هو الفارس حسان.سلمان: تبارك الله، كذلك كنت أرجو أن يكون، إنه شريف نبيل لا دناءة في أخلاقه فباطلًا تعتمدين عليه في قتلي، وإن آمالك ستذهب أدراج الرياح.شمطاء: اسمع أيها الأمير لقد كنت تمشي في النور وأنا أدب وأسعى في الظلام، حتى وصلت إليك على مهل وسكون من غير أن تشعر مني بشيء، فاستيقظ الآن من غفلتك يا غصوب فقد وقعت في الشرك الذي نصبته لك، واعلم أنك بينما كنت واقفًا مع الملك والأمراء ذهبت أنا إلى مخدع ليلى سرًّا، وسقيتها شرابًا شديدًا جعل على وجهها هيئة الأموات، التفت الآن وانظر (تريه تابوتًا).سلمان: ويلاه تابوت، يا رب ليلى … لقد قتلتها يا كافرة.شمطاء: إنها لم تمت بعد، وأنا معتادة مثل هذه الأمور، فهي مائتة لدى كل من يراها، ولكنها نائمة عندي، وإن شئت فعلت بها ما أريد.سلمان: وماذا تطلبين لكي توقظيها؟شمطاء: اطلب موتك، وقد أخبرت حسانًا بالأمر، وهو الذي يختار بين حياتها أو مماتها، فليختر بين الأمرين، إذا شئت أن تهرب فاهرب، فأنا لا أمسكك، ولكن حسانًا وليلى يموتان، وهما في قبضة يدي.سلمان: ويلاه، ويلاه …شمطاء: اترك حسانًا يقتلك، مت وليلى تحيا.سلمان: اسمعي، إني ألتمس منك التماسًا، إن الموت هين عليَّ فخذي حياتي كما تشائين، ولكن لا تدعي ولدي البريء الطاهر يرتكب هذه الجريمة الشنعاء، رحمة بالله فإنني قد بكيت كثيرًا وبكتني ضميري تبكيتًا شديدًا وذلك جزاء القاتلين، فاقتليني أنا وحدي وارتضي بقتيل واحد، فإني أستحق أشد العقاب، ولكن اعفي عن ولدي بالله أتريدين أن يدخل إلى هنا بريئًا شريفًا، ويخرج بالخزي والعار بعد قتل أبيه، قد كفاك أنك أخذته مني وحملتني من فقده الحزن والعذاب كل هذه الأيام، فلا تزيدي عليَّ هذا الهوان، إنه قد صار ولدك مثل ما هو ولدي، فاشفقي عليَّ من هذا الجرم الشديد فقد كفاني شدة وعذابًا، عاقبيني على ذنبي لك، ولكن لا تتجاوزي مقدار ذنبي في هذا العقاب، لا تكوني أقسى مني إذا كان لك قلب يرحم.شمطاء: إنني لم يعد لي قلب فقد نزعته مني يا قاتل.سلمان: إذن أموت هنا كما تشائين، ولكن ليس من يده.شمطاء: إن الأخ هنا قتل أخاه، فهنا الولد يقتل أباه.سلمان: ارحميني واشفقي عليَّ، اقتليني أنت استحلفك بالله.شمطاء: آه يا ظالم، لقد كنت ألتمس منك أكثر من هذا الالتماس عندما قتلت حبيبي، لقد كنت راكعة على قدميك أقرع صدري بيدي، وأسألك الرحمة والعفو عنه، وأقول لك: ارحم شبابه وشبابي، ولكنك صممت أذنك عن كلامي وقتلت زيادًا حبيبي ورميته من هذه النافذة غير مشفق ولا راحم ورفستني برجلك، وقلت لي: خذي ثأرك إذا كنت تقدرين، وها أنا الآن آخذ ثاري.سلمان: إن ابني لم يسئ إليك بشيء فارحميه وارحميني، اعذريني بالله فقد كنت أهواك، وكنت غيورًا عليك.شمطاء: اسكت يا خائن، اسمعي أيتها السماء إنه لا يزال يتجاسر على ذكر الغرام هذا الأثيم القاتل، ولقد كنت أحب أنا أيضًا أيها الغادر فرد لي حبيبي إذا كنت تقدر، رد لي حبيبي يا قاتل أخيك.سلمان: أيعرف حسان أنه سيقتل أباه.شمطاء: لا، بل هو سيقتلك من غير أن يعرفك؛ لكي يخلص ليلى من الموت.سلمان: حسان ولدي … ما هذه الليلة الهائلة …شمطاء: إنه سيدخل عليك الآن كما يدخل الجلاد لقطع رأس المجرم، وهذا جلَّ ما يعرفه عنك، فخذ هذا القناع وضعه عليك ومت مقنعًا ساكتًا، ولا تنطق بحرف فقد رضيت بذلك، إني أسمع وقع أقدام وها هو قادم فأنا سأتركك وأدخل، ولكن اعلم أنني سأسمع كل شيء وأن ليلى لا تزال في قبضة يدي (تدخل).سلمان: اللهم لطفك …الجزء الثالث
(سلمان – حسان)
حسان: إلى أين جئت بي؟ ما هذا المكان الهائل؟ ويلاه قد ذهب وبقيت وحدي، يا رب أين أنا؟ أهنا مكان القتل؟ لقد بدأت أرجف وأضطرب، ما هذا الخيال الذي أراه؟ يا رب من هذا؟ ويلاه ما أصعب الجريمة والقتل! أهنا تُسفك الدماء؟ أهذا هو القتيل؟ يا غصوب التعيس المذنب، هل هذا أنت؟ أجبني، إنه لا ينطق بحرف فهذا هو بعينه. أنت أيها الشخص الراكع أمامي كائنًا من كنت تكلم، أجبني، عفوًا وسماحًا إذا قتلتك، فإن حبيبتي ليلى نائمة نومة الموت في هذا المكان ولا تفيق من نومها إلا بقتلك، فاعذرني واشفق عليَّ أيها الشيخ المسكين الشقي، كلمني وقل: إنك تغفر لي جرمي وذنبي، كلمة عفو واحدة أيها الشيخ، وشفق على قلبي الذائب.سلمان: حسان ولدي تعالَ إليَّ.حسان: مولاي سلمان …سلمان: لا، لم أعد أقدر أن أسكت وقد كفاني عذابًا، لا أقدر أن أموت قبل أن أعانقه، تعالَ إلى صدري، دعني أقبلك وأنظر إليك، فإنني لا أصدق إنني أراك، وهذه أول مرة رأيتك فيها مع أني أبصرك كل يوم، دعني أقبل جبينك وأناملك كما أريد، لقد كنت تتكلم الآن يا بني، وأنا ساكت، ولكن كلامك كان شديدًا مؤثرًا حتى لم أقدر أن أسمعه وأسكت، انظر يا بني إنك تجد سيفي وآلة جلادي معلقةً في حجرتي، فخذها كلها فقد وهبتك إياها، وكن بطلًا عظيمًا فأنا أباركك وأدعو لك، اللهم باركه برحمتك، واجعل أيامه طويلة مثل أيامي، ولكن بغير جرائم ولا ذنوب.حسان: مولاي …سلمان: اللهم إني أبارك هذا الشاب في كل ما فعل، وفي كل ما يفعل الآن فاسمع لي يا بنيَّ، إنني قد فقدت كل شيء وذهب ملكي ضياعًا، وأصبح أبنائي أسرى، وذلك لكي أخلص بلادي من الذل والاستعباد، فلم يبقَ إلا أن أقتل نفسي وأستريح، ولكن يدي ضعيفة ترتجف ولا تقدر فساعدني على قتلي فمن يدك أنتظر هذه الخدمة الكبرى.حسان: أمن يدي أنا؟ ولكن ألا تعلم أني أبحث هنا عن رجل؟سلمان: إنك تبحث عن غصوب وهو أنا.حسان: ويلاه ماذا أرى وماذا أسمع؟ أنت يا مولاي، أنت الشيخ الجليل الذي أعتبرك وأحبك، ويلاه، هو بعينه يا رب رحمتك ولطفك، إنه سلمان الكبير سيدي ومولاي، أبدًا لا أرفع يدي عليك أيها الأمير الجليل وحاشا لله أن أقتلك.سلمان: اسمع يا حسان، إن قبري قد انفتح وأنا مجرم مذنب، وهذه حبيبتك ميتة لا محالة إذا أنت لم تقتلني فاضرب وخلصها. اقتل الشيطان العاتي وخلص الملك الجميل، خلص حبيبتك من الموت، أنقذها يا بنيَّ وأسرع.حسان: أتموت أنت لكي أخلصها …؟سلمان: ويحك وهل تتردد …؟ أترى من جهة شيخًا عاجزًا بيضت شعره السنون، كما سودت وجهه الذنوب والآثام، وترى من جهة فتاةً بريئةً طاهرةً جميلةً تدعوك وتصرخ إليك، ثم تتوقف بينهما وترتاب، ألا تزال تتردد، أتحار بين قتل المجرم وحياة البريء، إن مماتي خلاص لي وخلاص لها، فاضرب وخلصنا كلينا، فإنك بضربة واحدة تخلص نفسين، اضرب ولا تتوقف.حسان: ويلاه …سلمان: اضرب يا بنيَّ وأسرع فإنك تنقذني من حياتي، خذ وعجل وخلصني من الذنوب وتبكيت الضمير.حسان: هات الخنجر …سلمان: ما بالك تتوقف؟حسان: لقد خطر لي فكر هائل، لقد قلت لي اليوم: إنه كان لك ولد ثم خطفوه منك وهو صغير، وأنا قد خطفت من أهلي صغيرًا وربتني امرأة غريبة، أفلا يمكن أن أكون أنا ذلك الولد؟ ألا يمكن أن تكون أبي؟سلمان: ويلاه، إن الخوف قد أضاع صوابي يا حسان، فأنت لست بابني.حسان: لكنك كنت أحيانًا تقول لي: يا ولدي.سلمان: ذلك لأني أحبك كثيرًا؛ ولأن هذه الكلمة معروفة يقولها الجميع.حسان: إنني أشعر بشيء في قلبي.سلمان: لا تصدق …حسان: مولاي … مولاي، أشفق عليَّ، ألا يمكن أن أكون ابنك؟سلمان: بالله لا تذهب بك الظنون إلى هذا الحد، فإن ابني الذي خُطف مني قد قُتل ولا أمل لحياته، وقد أخبرتك بذلك اليوم.حسان: لا …سلمان: تذكَّر فقد قلت لك: إنهم قتلوه انتقامًا مني فأنت لست بولدي، ولو لم أكن على ثقة من أنهم قتلوه، وأنهم أحضروا إليَّ جثته في حينها لكنت أشك مثلك وأظنُّ إنك ولدي، ولكن ذلك مستحيل، فإن ابني قد مات؛ إذن فكن على ثقة مما أقوله لك يا ولدي، انظر إنني لا أزال أقول لك: يا ولدي؛ لأنها كلمة قد تعودتها، وهي التي يقولها الشيوخ للفتيان في كل حين، كن على ثقة واضربني فإني لست أباك ويا حبذا لو كان لي ولد مثلك، تقدم يا حسان واضرب، وكن آمنًا مما تفعل فإنك لست ولدي ولا أنا بأبيك. (لقد أصبحت ليلى على شفا الموت، ولا يمكن أن تنتظر أكثر من ربع ساعة.)
حسان: ليلى …سلمان: ويحك، أتريد أن تقتلها؟حسان: يا رب، ماذا أصنع؟ ويلاه قد ضاع رشادي في هذا المكان المخيف.سلمان: اضرب وكفى تردد.حسان: بالله لا تدفعني لهذا العمل، اصبر وأشفق عليَّ، فإني لا أكاد أمسك نفسي وأحسب أنني سأرتكب جرمًا فظيعًا هائلًا فتمهل ولا تشدد عليَّ.سلمان: إذن فاضرب، فأنت تعاقب مذنبًا وتخلص بريئًا طاهرًا.حسان: ألا تدري أنني أكاد أرتكب القتل؟ وأن صوابي قد ضاع مني، فأنا الآن بلا عقل.سلمان: لقد حان لي أن أموت يا حسان، إن أخي قد سألني الرحمة كثيرًا في هذا المكان فقتلته، ولم أعفُ عنهُ، فكن أنت مثلي الآن، كن آلة العدل المنتقمة، كما كنت أنا آلة الجريمة والظلم، انظر أي وحش ضارٍ أمامك واعلم أنني قتلت هنا رجلًا بريئًا، وأنني طعنتهُ بيدي غير شفيق ولا رحيم، إن القتيل البريء هو أخي.الجزء الرابع
(سلمان – حسان – الملك – ثم شمطاء وليلى)
الملك: هو أنا.سلمان: هو أنت …؟حسان: الملك …؟الملك: نعم، فأنا الذي أرسلني أبي إليك ثم ضربتني بخنجرك، وألقتني من هذه النافذة، وأنت تقول لي: اذهب غير مأسوف عليك، ولكن الله خلصني فلم أمت (تدخل شمطاء)، وكانت نجاتي على أيدي جماعة من الرعاة أخذوني وأنقذوني من الهلاك، ثم سعيت بشجاعتي وإقدامي فصرت ملكًا، ولقبوني بأبي قابوس؛ ولذلك خفي عنك أمري، ولم تعلم أن أخاك لا يزال في قيد الحياة وأنقذوني.سلمان: ها أنا راكع بين يديك فعاقبني وخذ بثأرك.الملك: انهض يا أخي وعانقني، فأنا أسامحك وأعفو عنك.شمطاء: لقد زال الحق ومات الانتقام، وقد عاد حبيبي زياد حيًّا، فلم يعد لي ثار ولا طلب خذوا كل ما أخذته منكم في أيام كرهي وغضبي، فخذ أنت حسان ابنك، وخذ أنت يا حسان ليلى عروسك.حسان: ليلى … أبي …ليلى: حبيبي … مولاي …سلمان: يا رب حمدًا وشكرًا.شمطاء: أما أنا فقد حان مماتي … يا قبر خذني إليك.الملك: ماذا تصنعين …؟شمطاء: قد أقسمت أن لا أخرج هذا التابوت فارغًا، فدعني بالله.الملك: ولماذا تموتين …؟شمطاء: تأمل بي يا زياد إنني أموت مسرورة بلقياك، فأنا حبيبتك حسناء.الملك: حسناء … أنتِ هنا … أنت؟!شمطاء: نعم، لا أزال حية، وقد كنت آخذ ثارك.الملك: إذن فاعفي عن نفسك الآن، كما عفوت أنا عن عدوي إذا كانت أيام الحب قد زالت فقد عاد الحبيب، ولم يعد على الدنيا عتب أو ملام، فلنعد كما كنا سعداء ولنقضِ باقي أيامنا في سلام، أما أنت يا سلمان فعد إلى إمارتك، وأنا عائد لتدبير أحوال البلاد:قد تمَّ ما أبغي فعودوا كماكنتم وسيروا سيرة تصفوأردت قبل الموت أن أمنع الــظلم، وأن ينقطع العسفُوأن أرى وجه شقيقي، وأنأعفو كما يقضي به العرفُوقد بلغت الآن ما أشتهيونال قلبي ما له يهفوطوبى لمن بارك أعداءه… … … … … …سلمان: … … … … … … …طوبى لمن يقدر أن يعفو