AshganMohamed
10-28-2019, 09:50 AM
شجرة الدر
شجرة الدر
شجرة الدر
تأليف
جُرجي زيدان
شجرة الدر
جُرجي زيدان
رقم إيداع
تدمك:
إن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة غير مسئولة عن آراء المؤلف وأفكاره
وإنما يعبِّر الكتاب عن آراء مؤلفه
?? عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ?????، القاهرة
جمهورية مصر العربية
تليفون:
جميع الحقوق الخاصة بصورة وتصميم الغلاف محفوظة لمؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. جميع الحقوق الأخرى ذات الصلة بهذا العمل خاضعة للملكية العامة.
Cover Artwork and Design Copyright © 2011 Hindawi Foundation for Education and Culture.
All other rights related to this work are in the public domain.
أبطال الرواية
شجرة الدر: زوجة الملك الصالح
شوكار: جارية شجرة الدر
عز الدين أيبك التركمانى: قائد الجيش
ركن الدين بيبرس: أحد أمراء الجيش
سلافة التركية: جارية الملك الصالح
سحبان: تاجر أقمشة من بغداد
لمستعصم بالله: آخر الخلفاء العباسيين ببغداد
الأمير أحمد (أبو بكر): ولى عهد المستعصم بالله
هولاكو التترى: حفيد جانكيز خان
مؤيد الدين بن العلقمى: وزير المستعصم بالله
مراجع رواية شجرة الدر
هذه المراجع هى التى اعتمد عليها المؤلف فى سرد حوادث الرواية، وكان شديد الحرص على أن تكون وقائعها الرئيسية صحيحة.
حسن المحاضرة للأسيوطى
تاريخ ابن إياس
الهلال مجلد ??
تاريخ الفخرى
سيرة الملوك
معجم ياقوت
تاريخ ابن جبير
تاريخ مصر الحديث لجرجى زيدان
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
فرغنا من رواية صلاح الدين وقد دخلت مصر فى حوزته، وبنى بها قلعة القاهرة وجعلها كرسى ملكه، ثم توارثها السلاطين من أولاده وأخوته وأولادهم وأحفادهم، واقتسموا فيما بينهم ملك مصر والشام، حتى أفضت السلطنة بمصر سنة ???هـ. إلى الملك الصالح بن الكامل، فأكثر من اقتناء المماليك الأتراك، وجمع منهم نحو ألف مملوك بنى لهم قلعة فى جزيرة الروضة أسكنهم فيها وجعلها سرير ملكه بدلاً من قلعة القاهرة ونقل إليها أهله وحاشيته ومماليكه.
وفى أيامه حمل الصليبيون على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وكان الملك الصالح مريضاً فما علم بأمر هذه الحملة حتى أمر بالتجنيد والاستعداد للحرب، لكن الصليبيين استولوا على دمياط بخيانة بعض أهلها وفرار بعض أمرائها، وتوفى الملك الصالح على أثر ذلك، وخلفه ابنه غياث الدين طوران شاه، الذى لقب بالملك المعظم، ولكن النفوذ كان لشجرة الدر إحدى جوارى الملك الصالح، وهى التى دبرت أمور الدولة بعده، وكتمت موته حتى جاءوا بأبنه غياث الدين من سورية وبايعوه سنة ???هـ.
وعاد المصريون لمحاربة الصليبيين، ففازوا وردوهم على أعقابهم بعد معارك شديدة، وأسروا الملك لويس التاسع وكثيراً من ضباطه وجنده.
ووقع الخلاف بعد ذلك بين رجال الملك المعظم غياث الدين، ومماليك أبيه الملك الصالح، فخرج هؤلاء المماليك عليه، فخاف وأراد الفرار، ولكنهم قبضوا عليه وقتلوه شر قتله قرب فارسكور، ثم أجمعوا أمرهم على مبايعة شجرة الدر، وهى أول امرأة تولت الملك فى الإسلام. وقام التنازع على السيادة بينها وبين بعض الأمراء المماليك، وبين بقية الدولة الأيوبية وغيرهم من طلاب السيادة، وأفضت السلطة أخيراً إلى المماليك الأتراك وتوارثوها، وفى أيامهم سطاً التتر على بغداد بقيادة هولاكو، وقتلوا الخليفة المستعصم، وانتقلت الخلافة إلى مصر مما سترى تفصيله فى هذه الدولة إن شاء الله.
الفصل الثاني
فى جزيرة الروضة
– ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!.
– أنه جميل يا سيدتى، وليس أجمل منه إلا الجلوس بين يديك والتمتع بحديثك.
– أنك تتملقيننى يا شوكار ولا تقولين الحق. من منا أكثر تمتعاً بصاحبتها: أأنا وليس فى حديثى إلا المتاعب والمشاكل السياسية؟. أم أنت وقد وهبك الله كل ما تتطلبه الغانيات من الجمال والذكاء ورخامة الصوت ولطف العشرة؟. وأنت فى مقتبل العمر وأنا فى حدود الكهولة، وقد أناخ على الدهر بأثقاله ومشاكله.
فخجلت شوكار من هذا الأطراء وبادرت إلى الجواب قائلة: «العفو يا سيدتى، أنك تخجليننى بهذا الأطراء، ومن أكون أنا حتى أعد شيئاً مذكوراً بجانب مولاتى شجرة الدر، محظية الملك الصالح — رحمه الله — وأم والده؟ وقد خصك الله بمواهب لم يخص بها أحداً من البشر سواك. ليس فى النساء يا سيدتى امرأة تطمع فى بعض ما نلته. زادك الله رفعة و…».
فبادرت شجرة الدر إلى قطع حديث جاريتها شوكار بأن وضعت يدها على فمها بلطف وهى تبتسم لها، وفى ابتسامها انقباض، وقد أبرقت عيناها من عظم التفكير، ثم تنهدت تنهداً عميقاً وقالت: «تحسديننى على ما تنوهمينه فىّ من رفعة القدر؟ من هنا يأتى سبب شقائى». قالت ذلك وأطرقت وهى مقطبة الوجه، فتهيبت شوكار النظر إليها، ولم تجبها.
وكانت شجرة الدر جالسة على مقعد من الأبنوس، فى شرفة بأحد قصور الملك الصالح التى بناها فى جزيرة الروضة، تطل على مجرى النيل إلى مسافة بعيدة. وجزيرة الروضة من أجمل جزر النيل بين مصر القديمة والجيزة، وطالما اتخذها الملوك متنزهاً، وقد جعلها مولاها الملك الصالح سريراً لملكه بدلاً من القلعة حيث كان أسلافه يقيمون. وأنشأ فى هذه الجزيرة قلعة فخمة عرفت بقلعة المقياس، نسبة إلى مقياس قديم للنيل، وسموها أيضاً قلعة الروضة أو القلعة الصالحية. وكان فى موضع هذه القلعة أبنية كثيرة فيها القصور والمساجد والمعابد، ودور الصناعة لبناء السفن، والهودج الذى بناه الآمر بأحكام الله الفاطمى لجاريته، واشتهر أمره. فهدم الملك الصالح كل هذه الأبنية، وبنى القلعة مكانها، وأنفق عليها أموالاً طائلة، وفى جملة ما بناه قصور ومسجد، نقل إليها العمد والأساطين الصوان والجرانيت والرخام من الهياكل القديمة، وغرس فيها الأشجار والرياحين، وبنى فيها ستين برجاً شحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأقوات خوفاً من محاصرة الأفرنج، لأنهم كانوا على عزم غزو مصر. وبالغ فى اتقان تلك الأبنية حتى قيل أن الحجر الواحد من أحجارها كلفه ديناراً. وكان يقف بنفسه ويرتب العمل، فلما تم بناؤها نقل إليها أهله ونساءه وجواريه، وفرق فيها مماليكه، وعددهم نحو ألف مملوك. وأنشأ خارج القلعة بناء عظيماً جمع فيه أصناف الوحوش من الأسود والنمور وغيرها.
وكانت شجرة الدر فى جملة جواريه، وقد أنجبت ولداً اسمه خليل، فقربها منه، كما كانت هى على جانب عظيم من الدهاء والذكاء، فنالت نفوذاً عظيماً عنده، فلما مات فى المنصورة سنة ???هـ. كتمت أمره، وقامت بأمور الدولة، وكانت توقع على الأوامر بتوقيعه خوفاً من الفشل وهم فى حرب مع الصليبيين، لكنها أسرت الخبر إلى كبار الأمراء، ولاسيما عز الدين أيبك التركمانى، وكانت بينه وبينها مودة، فبعث أعيان الأمراء إلى غياث الدين بن الملك الصالح فاستقدموه من حصن كيفا وولوه عليهم وواصلوا محاربة الصليبيين.
أما شجرة الدر فإنها عادت إلى تلك القلعة وأقامت فيها، وفى خاطرها أشياء لم تطلع عليها أحداً، ورغم ثقتها العظيمة بشوكار لم تفاتحها بشئ منها. وفى تلك الليلة المقمرة جاشت أشجانها وأرقت لسبب تعلمه هى ولا يعلمه سواها. وكانت كثيرة الاستئناس بشوكار جاريتها، وهى جميلة الطلعة رخيمة الصوت تتقن العزف على العود. فلما أرقت دعتها إليها للاستئناس بها واللهو بصوتها. واتشحت شجرة الدر بثوب بسيط، والتفت بمطرف من الخز، وجلست على الشرفة وأطلت على مجرى النيل، وقد سكنت الطبيعة وهدأ النسيم ألا ما يعبث منه بشعرها المرسل على ظهرها وقد ضمته ورأسلته بلا اعتناء. ولم تحسن ارتداء مطرفها، حتى ليخيل إلى الناظر إليها أنها فى شاغل مهم، ناهيك بما فى عينيها من دلائل القلق حتى يكاد الشرر يتطاير منهما لفرط ما جاس فى خاطرها من البلبلة. وهى امرأة ليست كسائر النساء، فلها قلب الرجل ومطامع كبار الرجال. إذا عزمت على أمر فلا تبالى ما يقف فى سبيلها من العقبات لأنها تذللها بأية وسيلة كانت، كما يفعل عظماء الرجال وأرباب المطامع.
وكانت شوكار جاريتها الخاصة فتاة تركية مثلها ما زالت فى مقتبل العمر، فأحبتها واتخذتها مستودع أخبارها وأسرارها، وإن كانت لفرط دهائها لا تفتح قلبها لأحد أو تأمنه على أسرارها المهمة. ولذلك كان كبار المماليك يهابونها ويحسبون لها حساباً، وقد استولت على قلوبهم تهيباً وإعجاباً.
•••
خرجت شجرة الدر تلك الليلة من قصر الملك الصالح أجمل قصور تلك الجزيرة وأثمنها رياشاً وزخرفاً، ومعها جاريتها شوكار. ومشت فى ممر مسقوف يؤدى إلى شرفة تطل على النيل، فجلست على أريكة مغشاة بالديباج المزركش، وجاريتها تعزف على العود وتغنى لها أصواتاً تعودت أن تطلب إليها أنشادها، وهى مستغرقة فى هواجسها تنظر إلى النيل وهو يبدو كالفضة اللامعة من تكسر نور القمر على سطحه، ولولا ما يتخلل بياضه من التموج والارتعاش لم تشك أنه فضة خالصة، أو أنه مرآة صافية، وكانت مراياهم تصنع من الفضة المصقولة بدل الزجاج اليوم.
وكأنها أحست بطول سكونها واشتغالها عن غناء شوكار، فأجالت بصرها فى الفضة المقابلة من النيل فى بر الجيزة، وقد بدت فيها النخيل صفوفاً أرسلت رؤسها فى الفضاء كأنها أسراب من العذارى يحملن المظلات وقد وردن الماء، فلما أشرفن على ضفاف النيل تهيبن فوقعن خاشعات ينظرن إلى مجراه، وبانت ظلال النخيل فى الماء، وأكسبها النيل حركة اهتزازية كأن أولئك العذارى نزلن للاغتسال فارتعدت أجسامهن من البرد أو من الحياء. ووراء النخيل تراءى الهرمان كأنهما جبلان وقد اتنصرا على طوارئ الحدثان، فأرادت شجرة الدر أن توهم جاريتها أنها سكتت تهيباً للطبيعة الجميلة فقالت لها: «ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!».
فسرت شوكار لأن سيدتها قد سرى عنها، وزادت امتناناً لما سمعت أطراءها صوتها. لكنها ما لبثت أن رأتها عادت إلى الانقباض وأخذت تشكو من حالها، وإن ما تغبطها عليه من النعيم إنما هو سبب شقائها. فانقبضت نفس شوكار، وألقت العود من يدها، وتقدمت حتى جثت عند قدمى سيدتها، وقبلت ركبتها وقالت: «ما الذى يشغلك يا سيدتى؟ وهل أنت لا تثقين بى، مع أنى مستودع أسرارك، وليس لى شاغل سواك؟».
وشرقت بريقها من عظم التأثر، فابتسمت شجرة الدر ووضعت يدها على رأسها وجعلت تعبث بشعر الفتاة وبوجهها كأنها شاب يداعب فتاة يحبها، وشوكار مطرقة يلذ لها ذلك لأنه دليل ارتياح مولاتها إليها وهان على شجرة الدر أن تصارح جاريتها ببعض هواجسها، وهى تحسبها خالية الذهن من أمرها، وتحسب سرها مكتوماً عنها كل الكتمان، وذلك من الأوهام الشائعة عند أصحاب الأسرار. يكتم المحب حبه، ويلذ له كتمانه، لتوهمه أنه لا يعلم به أحد سوى حبيبه. وقد يكون ذلك الحب حديث الجيران والخدم ليل نهار، وقس على ذلك أكثر الأسرار ولاسيما ما كان منها يتعلق بالعامة، فإنه لا يخفى عليهم، لكنهم يسكتون عنه فيتوهم صاحبه أنه سر مغلق على الناس كافة. وهب أنه يخفى على الجيران فهو لا يخفى على الخدم والجوارى لأن هؤلاء لا شاغل لهم غير استطلاع الأسرار والتوسع فيها والتكهن بما يكون من أمرها، لكنهم فى الغالب يشوهون الحقيقة بما تصوره لهم أفكارهم وميولهم.
فكانت شوكار على بينة من هواجس سيدتها وإن لم تصب الحقيقة تماماً، لكنها تجاهلت وطلبت إلى شجرة الدر أن تكاشفها بسرها، فقالت لها شجرة الدر: «ليست أخفى عليك سراً كما تعلمين، لكن ما أكتمه ليس مما يهمك الإطلاع عليه».
فقالت: «لا أطلب الإطلاع عليه لأنه يهمنى، لكنى أطلب ذلك لعلمى أن الإنسان إذا اشتكى ما يكابده لشخص يحبه ويثق به، فإن وطأة ذلك السر تخف عنه».
فضحكت شجرة الدر على سبيل المداعبة وقالت: «يظهر يا بنية أنك قد جربت الأسرار ولذة المكاشفة».
فأطرقت خجلاً وقالت: «وليس عندى أسرار أكتمها أو أبوح بها، وليست أسرارى مما يصح الاهتمام به. لكنى أعرف ذلك عن سواى، فهل أنا مخطئة يا سيدتى».
قالت: «كلا، أنك تقولين الصواب. ولكن دعينا من ذلك الآن وأطربينا بشئ من غنائك الرخيم».
لم تعتبر شوكار ذلك الرفض مقصوداً لأنها قرأت عكسه فى عينى سيدتها شجرة الدر — والعينان أصدق من اللسان — فاستأنفت الكلام قائلة: «أنى طوع إرادتك يا سيدتى، لكنى أحب تخفيف قلقك».
فأحبت شجرة الدر أن تكون جاريتها البادئة بالحديث فقالت لها: «ماذا تظنين سبب قلقى؟».
قالت: «من أين لى أن أعلم ذلك؟ ليس فيما أعلمه من أحوالك إلا ما يوجب السرور والفخر، حتى فيما له علاقة بالقلب، أعلم أنك قد نلت منه ما لم ينله سواك. أن الأمراء كافة يتمنون رضاك، ويعدون التفاتك نعمة. ويكفى لاكتساب قلب أحدهم أن تنظرى له نظرة رضا. على أنك فى غنى عن ذلك بموقعك الجميل من قلب مولاى عز الدين أيبك، وهو كبير الأمراء، ويتمنى لفتة منك و…».
فلما سمعت شجرة الدر اسم عز الدين تصاعد الدم إلى وجنتيها، وقطعت كلام جاريتها وهى تظهر عدم الاهتمام وقالت: «ليس هذا الأمر مما يهتم له أمثالى يا شوكار، وإنما هو للفتيات أمثالك».
•••
وأظهرت شوكار أنها صدقت سيدتها، مع أنها تعلم حق العلم بما بينها وبين عز الدين أيبك التركمانى كبير الأتراك من صلات المحبة، ثم حولت كلامها إلى موضوع أخر وقالت: «أصفحى يا مولاتى عن جرأتى وأغفرى لى خطئ، فلعل شواغلك تتعلق بأحوال الدولة، على أثر وفاة سيدى الملك الصالح رحمه الله».
فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «نعم. نعم. أنها تتعلق بما نحن فيه من الخطر، والحرب قائمة بيننا وبين الأفرنج فى المنصورة وفارسكور».
فقالت: «ولكن الأخبار الواردة علينا حسنة على ما أعلم. ألم يأتنا الطائر مبشراً بالنصر، ثم حمل إلينا الرسول خبر انتصار جنودنا على الفرنسيس، وأنهم قتلوا منهم ثلاثين ألفاً، وأسروا ملكهم لويس، وجسوه فى دار ابن لقمان.. ثم جاءنا رسول يحمل رسالة أخرى، وعليه ثوب ملك الأفرنج نفسه، وهو المخمل الأحمر بفرو سنجابى وقلنسوه من ذهب. وقد زينت له القاهرة زينة لم يسمع بمثلها؟ أم أنت تظنين ذلك غير الواقع؟».
قالت: «بل هو الواقع عينه».
قالت: «إذن ما الذى يقلقك يا سيدتى؟».
فتنهدت وقالت: «لقد أحرجتنى يا شوكار. فلابد من إطلاعك على بعض الخبر. أن قلقى ليس خوفاً من الأفرنج فإن جندنا كلهم أشداء — ولاسيما هؤلاء الأتراك الذين بنى لهم مولانا الملك الصالح هذه القلعة — وقد ظهرت بسالتهم فى الحرب التى ذكرتها. ولكننى أخاف الانقسام بين جندنا من سوء تصرف الملك المعظم طوران شاه!». قالت ذلك وهزت رأسها هز الأسف.
فقالت شوكار: «هل تأذن مولاتى بكلمة، وإن كنت لا أفهم شيئاً من أحوال الدولة ولا شأن لى بتدبير المملكة؟ أظنكم أخطأتم باستقدام هذا السلطان من حصن كيفا وتوليته السلطة. وعندكم من الأمراء من هو أكفأ منه».
فقالت: «ولكن الناس لا يذعنون للسلطان إلا إذا كان من الأسرة المالكة، أسرة آل أيوب، ولولا ذلك لهان الأمر. ولو كان طوران شاه هذا عاقلاً لاستقام الأمر، ولكنه غلام جاهل أحمق يشرب الخمر، فإذا سكر فعل ما لا يفعله الأطفال، بلغنى أنه يصف الشموع فى الليل أمامه، ويأخذ السيف بيده ويضرب به تلك الشموع ويقول: (هكذا أفعل بالمماليك البحرية). ويعنى مماليكنا الأتراك. وما برح منذ جاءنا — ولم يمض عليه شهران — يفضل مماليكه الأكراد الذين أتوا معه على مماليكنا، ويعرض بذلك فى مجالسه، مع أن النصر فى حروب الأفرنج إنما كان بفضل أبطالنا، ولاسيما عز الدين وركن الدين بيبرس وسيف الدين قطز وأمثالهم. فأخاف أن يطول النزاع ويغتنم العدو تفرقنا فيكر علينا!». وسكتت لحظة وهى مطرقة، ثم بلعت ريقها واستأنفت الحديث قائلة: «ولكننى دبرت تدبيراً إذا أفلح سلمنا من الخطر!». ثم نهضت، وأظهرت أنها فى شاغل خوفاً من أن تستزيدها شوكار بياناً وهى لا تريد كشف التدبير لها.
أدركت شوكار غرض سيدتها، لكنها تشاغلت بإصلاح العود وهى تنظر إلى النيل، لكنها ما لبثت أن لحظت عن بعد اضطراب صفحة الماء، فتطلعت فإذا هى ترى شبحاً كبيراً سابحاً قادماً من الشمال، ولم تتمالك حين تبينته إن صاحت: «هذه سفينة قادمة إلينا، لابد لقدومها فى هذا الليل من أمر مهم!».
وكانت شجرة الدر تتشاغل بإصلاح شعرها، فلما سمعت صيحة شوكار التفتت نحو السفينة وصاحت: «هذه عشارية عز الدين ما الذى جاءنا به يا ترى من الأخبار؟». قالت ذلك وهرولت وهى تلفت بالمطرف، وتبعتها شوكار فى مثل دهشتها نحو المرفأ».
وكان للروضة مرفأ جميل تقف عنده السفن منذ كانت فيها دار الصناعة، ومن هذا المرفأ إلى داخل القلعة طريق مختصر. لكن شجرة الدر — بعد أن دفعتها الدهشة إلى طلب المرفأ — عادت إلى رشدها وتراجعت، وأظهرت أنها ذاهبة إلى الإيوان الكبير الذى كان الملك الصالح يستقبل فيه الوفود والأمراء والوزراء.
كان ذلك الإيوان من أفخر الأبنية، بذل الصالح جهده فى إتقانه وزخرفته، وهو قاعة كبيرة قائمة على أساطين الرخام، وقد زين سقفها بالصور المذهبة والنقوش من النوع المعروف بالمقرنص، وعلى جدرانها كتابة جميلة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسى والكافورى والمجزع، مما يبهج النفوس ويستوقف الإبصار.
ولم تدخل شجرة الدر هذا الإيوان منذ شهرين وبعض الشهر بعد أن توفى الملك الصالح، فاضطرت لإخفاء إضطرابها أن تنزل إليه، فأمرت بعض الخصيان أن يفتحه ودخلت وشوكار وراءها وقد أدركت قلقها وتوهمت أنها تريد الخلوة هناك فتراجعت عند الباب وقالت: «استأذن فى الانصراف يا سيدتى».
قالت «إلى أين؟». قالت: «إلى حيث تأمرين. وإنما أخاف أن يكون فى وجودى ما يثقل عليك».
فأشارت إليها أن تدخل وقالت: «تعالى يا شوكار. لا ينبغى أن أخفى عليك شيئاً». فدخلت، وجلست شجرة الدر على سرير من الذهب فى صدر الإيوان كان يجلس عليه الملك الصالح، وأشارت إلى شوكار فجلست على كرسى مذهب بين يديها، وقد أضئ الإيوان بالشموع وظهرت نقوشه الجميلة. وتأملت شوكار فى سيدتها وهى جالسة على سرير الملك وضحكت، فلحظت شجرة الدر ضحكها وسألتها: «ما بالك تضحكين يا شوكار». قالت: أنى مسرورة يا سيدتى من جلوسك هنا، وقد استبشرت به خيراً. إن هذا المجلس لائق بك!».
فخفق قلب شجرة الدر لهذه البشرى، لأنها كانت راغبة فى السيادة، وهى أهل لها، لكنها أنكرت ذلك على شوكار، وأظهرت أنها تستبعد هذا الأمر وأنها ليست أهلاً له، وشغلت نفسها باستدعاء قيِّم تلك الدار. فلما حضر أمرته أن يذهب إلى المرفأ، وإذا جاء أحد برسالة فليأت بها إليها فى ذلك الإيوان.
وجلست وهى تظهر الجلد، لكنها كانت على مثل الجمر من القلق. وجلست شوكار بين يديها تشاغلها بالحديث عما فى تلك القاعة من التحف، وما أنفقه الملك الصالح فى تلك الأبنية، وهذه تظهر الاهتمام بالموضوع وتقص عليها ما رأته من عناية الملك الصالح باتقان ذلك البناء.
وبينما هما فى ذلك إذ سمعت شجرة الدر صوت نفير من بعيد، فعلمت أنه إشارة وصول السفينة إلى المرفأ، فخفق قلبها وظهر القلق فى وجهها ولحظت شوكار ذلك ولكنها تجاهلته. ولم يمض وقت يسير حتى جاء الغلام يقول: «أن الأمير ركن الدين بيبرس بالباب».
فقالت شجرة الدر: «ليدخل».
فدخل شاب طويل القامة، قد تزمل بعباءة تغطيه كله، ثم نزع العباءة فإذا هو جميل الخلقة صبوح الوجه عليه هيبة الشيوخ ونضارة الشباب، لم يتجاوز عمره يومئذ ?? سنة، وعليه الدرع والخوذة كأنه فى ساحة الحرب التى قدم منها. فلما دخل حيى شجرة الدر تحية لم تحى بمثلها من قبل، ففهمت ما عناه لكنها تجاهلت وقالت: «ما وراءك يا ركن الدين؟».
فالتفت يميناً وشمالاً كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فأدركت أنه يحمل سراً لا يحب أن يفوه به جهاراً، فأشارت إلى الخدم بالخروج واحتفظت بشوكار، وأشارت إليه أن يتقدم نحوها، فتقدم فقالت: «ما وراءك أيها الأمير الشاب؟ قل ولا بأس من وجود عزيزتى شوكار، بل لابد من وجودها فهى التى طالما أعجبت بشهامتك، قل. ما وراءك؟».
فاستغربت شوكار ما روته شجرة الدر عنها من أنها معجبة بركن الدين، ولم تجد باعثاً على ذلك فى تلك الساعة فسكتت، واتجهت بكليتها لسماع ما يلقيه ركن الدين. أما هو فلما سمع قول شجرة الدر عن إعجاب شوكار به التفت إليها فوجدها فى غاية الجمال واللطف، وفى عينيها معنى جمع بين الذكاء والسحر. وكان يسمع برخيم صوتها لأن ذلك كان شائعاً فى القصر. لكنه توجه نحو شجرة الدر وقال: «أن ورائى أمراً ذا بال وخبراً مهما لا أدرى أيسر مولاتى أم يسوءها».
فأجفلت ونظرت فى عينيه باهتمام وقالت: «قل ما هو.. ولا يهمك ساءنى أم سرنى، فأنى لا أتوقع من هذه الدنيا سلامة».
فقال: «أن الملك المعظم طوران شاه بن مولانا الملك الصالح قد لاقى أجله فى هذا الصباح، وبعثنى مولاى الأمير عز الدين أيبك لأنقل هذا الخبر إليك ريثما يصل هو إلى هنا فى صباح الغد، ولم يشأ أن يرسله مع الطائر مبالغة فى الكتمان، لكنه دفع إلى هذه البطاقة الصغيرة مختومة، وأمرنى أن أدفعها إليك يدا بيد». قال ذلك واستخرج من جيبه بطاقة دفعها إليها.
فلما سمعت شجرة الدر بموت طوران شاه بانت الدهشة فى عينيها، لكنها تجلدت وتناولت البطاقة وفضتها، واقتربت من المصباح وقرأتها فإذا فيها: «أما بعد فأنى مسرع فى إرسال البشارة بذهاب ذلك الشاب المغرور إلى سبيله، على كيفية يقصها عليك الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى حامل هذه البطاقة إليك. وقد كان لهذا الأمير النصيب الأكبر من العمل فى هذا السبيل وهو يستحق التفاتك. وعندى خبر أخر سأتلوه عليك فى الغد شفاهاً إن شاء الله».
قرأت البطاقة لنفسها وعادت إلى مخاطبة ركن الدين كأنها لم تقرأ شيئاً فقالت: «أنت على ثقة من قتلك الملك المعظم؟».
قال: «نعم يا سيدتى. كل الثقة».
قالت: «هل قتل سرا؟».
قال: «كلا يا سيدتى، أنه قتل جهاراً». قالت «من قتله؟».
قال: «نحن قتلناه، لأنه لم يترك للصالح مكاناً، وقد بالغ فى الطيش والهوج، وكرر مغاضبتنا وأسمعنا الإهانة، ولم يعجبه المماليك البحريون، مماليك أبيه الملك الصالح، وكلما ذكروا أمامه استخف بهم، مع أنهم أصحاب السيف حماة هذه الدولة.. وهم الذين ردوا الأفرنج عن هذه البلاد. وقد صور له طيشه أنه الفاعل لما يريد، وأننا حشرات لا يعتد بنا، حتى بلغنا أنه كان يصف الشموع ويأخذ رؤوسها بالسيف ويقول أنه هكذا سيفعل بنا، وقد صبرنا على ذلك، حتى بلغنا أن هذا لا يرضى مولاتنا أم ولد الملك الصالح رحمه الله، فأضمرنا له السوء، فلما كان صباح اليوم جلس فى موكبه والأمراء والأكراد وأصحابه بين يديه، ورؤوس النواب واقفون أمامه بعصى كسيت بالذهب، كأنه يقول لنا أنى سلطانكم رغم أنفكم. فصبرنا عليه حتى مضى الموكب وبقى وحده وحضر السماط فجلس عليه على العادة، فتقدم إليه جماعة منا بأيديهم السيوف وضربوه على أصابعه فقطعوها، فقام وهرب ودخل البرج الخشبى، وأغلق عليه بابه، فأطلقنا النار على البرج، فخرج منه وألقى نفسه فى البحر وصار يسبح فيه والنشاب يأخذه من كل ناحية وهو يقول: «خذوا ملككم ودعونى أرجع إلى حصن كيفا)، فلم يغثه أحد. وما زال على ذلك حتى قتل، فكأنه مات حريقاً غريقاً قتيلاً، فأخرجناه من البحر وتركناه على الصعيد وسيبقى كذلك حتى لا يعرف له قبر».
•••
كان ركن الدين يقص خبر مقتل طوران شاه، وشجرة الدر مصغية لا تبدى حراكاً، لكن الاهتمام باد فى عينيها، فلما فرغ من كلامه قالت: «مات طوران شاه! رحمه الله، أنها أخطأ فى تصرفه ولم يحسن سياسة الملك الذى أعطيناه إياه. وكل من لا يسوس الملك يخلعه!». ثم نظرت إلى ركن الدين وقالت: «وهل عندك خبر أخر غير هذا؟».
قال: «عندى خبر سيتلوه عليك مولاى الأمير عز الدين أيبك فى صباح الغد».
قالت: «لعله خبر مهم؟».
قال وهو يبتسم: «أظنه كذلك».
فأدركت شيئاً من مراده لكنها حولت الحديث وقالت: «لم تخبرنى عن القواد الأبطال الذين فتكوا بالملك المعظم. هل أنت منهم؟».
قال: «نعم أنى أصغرهم شأناً، وقد فعلت ذلك بأمر مولاى الأمير عز الدين».
فأعجبها تواضعه واحتشامه فقالت: «أراك تتنصل كأنك تعد هذا العمل جريمة وعاراً.. أنه عمل عظيم يحق لك الافتخار به، وقد نجيت البلاد من الخراب، لأن هذا الملك لم يكن أهلاً للسلطة، ولو طال مكثه فى هذا المنصب لجر علينا الدمار. فلا تخف، وقد أنبأنى عز الدين ببلائك، وأنا طالما توسمت فيك البسالة والأقدام، وسيكون لك شأن عظيم، فإذا صدق توسمى فيك أهديتك أثمن ما عندى». قالت ذلك ونظرت إلى شوكار وضحكت، فأدركت شوكار غرضها فغلب عليها الحياء لأنها لم يخطر ببالها حب أحد. وقد كفاها من نعم المولى أن تكون حائزة رضا سيدتها شجرة الدر، فلما سمعت تلميحها تصاعد الدم إلى وجنيتها وأطرقت، وودت لو أنها بالنقاب لتغطى وجهها، ولكنها لم تكن تنتقب بين أيدى الأمراء.
أما ركن الدين بيبرس فأعجبه أطراء شجرة الدر شجاعته، وكان يسمع بحسن شوكار ولطفها وجمال صوتها ولم يكن يتوقع أن يأتى يوم ينالها فيه، فلما رأى شجر الدر اشترطت فى نيلها أن يصدق توسمها فيه لم يدر بماذا يجيب، فقال أخيراً: «أشكر لمولاتى حسن ظنها بعبدها، وأرجو أن أكون أهلاً لثقتها، وفى كل حال أنى رهين إشارتها وما تأمرنى به، وأفديها بروحى».
ففرحت شجرة الدر بهذا التصريح لأنها إنما أرادت أن يكون طوع إرادتها لتستخدمه فى أغراضها لما رأته فيه من البسالة ورباطة الجأش.
ولما سمعت شوكار جواب ركن الدين أحست بشئ لم تحسن بمثله قبلاً، وبأن التأثر فى عينها، وخفق قلبها خفقاناً لم تعرفه من قبل. لكنها أطرقت وظلت ساكتة.
وأما شجرة الدر فقد سرها ما وفقت إليه من مقتل الملك المعظم، إذ هى التى أمرت المماليك أن يقتلوه، ولولا ذلك لم يجسروا على قتله. وقد أغراهم على ذلك عز الدين أيبك حبيبها، وهو كبير قواد المماليك. وكان لركن الدين بيبرس اليد الطولى فى هذا العمل، وكانت قد سمعت من عز الدين عن بسالته وتفانيه فى طاعته وطاعتها فأرادت أن تزيد إخلاصه فى طاعتها فوعدته بشوكار. فلما لحظت تعلق آماله بها تحركت فى مجلسها كأنها أرادت استئناف الحديث، فقالت: «ومتى يصل إلينا الأمير عز الدين؟»
قال: «أظنه يصل فى صباح الغد، وسيأتى معه سائر الأمراء والعسكر، وسيحدث تغيير عظيم فى أمور الدولة. وقد حفظ الأمير عز الدين حق هذه البشارة لنفسه وهو كبيرنا ومولانا».
فضحكت شجرة الدر وهى تنهض عن السرير وقالت: «أظنك نلت جائزة حسنة.. وإنما أرجو أن تحقق ظنى فيك يا ركن الدين».
فأدرك أنها تصرفه، فتحول وهو يلتفت إلى شوكار لفتة الوداع وهى لا ترفع بصرها إليه، لكنها رأته ورآها وتفاهم النظران وتناجى القلبان. وما أسرع تناجيهما إذا توافقت الطباع.
خرج ركن الدين وقد شغله ذلك الوعد عن دهشة الخبر الذى حمله من فارسكور إلى القاهرة، وما يجرى أن يحدث من التغيير فى أمور الدولة بسببه، سار تواً إلى برج من أبراج القلعة كان يقيم فيه مع بعض المماليك من رفاقه.
الفصل الثالث
عز الدين أيبك
مشت شجرة الدر — بعد أن توارى ركن الدين — نحو شوكار وهى تجر مطرفها وراءها، فنهضت لها احتراماً، وأطرقت شكراً، وهى لا تدرى أأحسنت إليها بذلك الوعد أم أساءت. ولم تستقر أفكارها لتحكم فى الأمر فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «أرجو أن تكونى مسرورة من هذا النصيب يا شوكار».
فرفعت بصرها والخجل يغشاه فرأت شجرة الدر تنظر إليها نظر المداعب فأجابتها: «يظهر أن سيدتى ملت رفقتى؟». وضحكت.
فقالت شجرة الدر: «لا، لكننى نظرت إلى مستقبلك، فمن كانت فى مثل ما أنت فيه من الجمال والعلم ورخامة الصوت يجب أن تنال نصيباً حسناً. وأنا على ثقة أن هذا الشاب الباسل من خيرة الشبان، وله مستقبل مجيد. فإذا أخطأ ظنى فيه ولم يكن الرجل الذى أرضاه لك لا أزوجك به. لا تخافى أنى شديدة الغيرة على مصلحتك لأنك بمنزلة ولدى كما تعلمين.. والآن ينبغى لنا أن نطلب الرقاد فقد تعبنا».
فقالت شوكار: «ولكن التعب جاء بنتيجة ترضينها يا سيدتى.. أن الرجل الذى كنا نشكو منه قد مضى لسبيله وعادت الأمور إلى مجاريها. فمن يا ترى سيتولى هذه السلطنة؟. أرجو ألا يعودوا إلى بيت أيوب مرة أخرى. إن هؤلاء قد مضت أيامهم ولكل أيام دولة ورجال».
فأظهرت شجرة الدر أنها خالية الذهن من أمر المستقبل، وأنها تتوقع أن تعرف الحقيقة فى الغد بعد مجئ عز الدين. فأكبت شوكار على يد سيدتها وقبلتها للوداع، فقبلت شجرة الدر رأسها.
وحالماً خلت شجرة الدر بنفسها انصرفت من باب سرى فى الإيوان إلى قصرها وقد توسط الليل، فلما صارت فى غرفتها كان الخدم قد أناروها، وهى فى أجمل ما يكون من الرياش، وعلى جدرانها ستأثر الديباج عليها الأبيات الشعرية أو الصور والنقوش بأزهى الألوان. وما كادت تدخلها حتى استلقت على سريرها واستغرقت فى هواجسها، وجعلت تناجى نفسها قائلة: «قتلوا طوران شاه — لا إقامة الله — وقد قتل بسعى عز الدين حبيبى». ولما ذكرت اسمه تنهدت وقالت: «هو حبيبى لكنه سرير لا أظنه أميناً فى حبه. وهؤلاء الرجال لا يؤمن جانبهم. ما لى وله؟! فليكن كما يشاء. ألم يخدمنى فى هذا الأمر؟ ليس بعد قتل طوران شاه إلا أن يعود الملك إلى يدى. هكذا وعدنى عز الدين فهل تراه قد بر بوعده؟. فإذا صرت ملكه فأنا أول ملكة فى الإسلام. وسأجازى عز الدين خيراً لأنه أخلص فى خدمتى».
قضت هزيعاً من الليل فى مثل هذه الهواجس، ولما نامت حلمت أنها تولت الملك وقبضت على صولجانه، وذلك لفرط رغبتها فى الملك مهما يكلفها الوصول إليه، فأنها من طلاب السيادة بأية وسيلة كانت وقد نبهت ذلك فى خاطرها منذ ولدت للصالح ابنها خليلاً لعلمها أنه سيكون وسيلة إلى تحقيق مطامعها أو أنه يكون هو السلطان وهى الوصية عليه، لكنه توفى طفلاً.
وفى صباح اليوم التالى جاءتها الجارية الموكلة بتدبير غرفتها وقالت: «أن الأمير عز الدين أيبك ينتظر فى الإيوان يا سيدتى».
فنهضت وأصلحت من شأنها، وبذلت جهدها فى الزينة لتظهر بين يدى حبيبها فى أجمل حالاتها. وهذه طبيعة النساء على الإجمال، فكيف بمن تعلق على ذلك الحب غرضاًُ سياسياً مهماً؟ لبست ثوباً مخططاً معتم اللون، وضفرت شعرها ضفائر قليلة أرسلت منها اثنتين إلى جانب وجهها، وغطت رأسها بغطاء مرصع بحجارة كريمة فوق الجبين له ذيل مزركش يغطى العنق من القفا حتى يسترسل على الظهر. وقد تقلدت عقدين أحدهما من اللؤلؤ والأخر من العقيق وغيره، وتمنطقت بمنطقة مشبكها من الذهب المرصع، وهى مع كونها على أبواب الكهولة لا يزال ماء الشباب يتلألأ فى محياها، ولا تزال عيناها ترسلان السحر إلى قلوب الناظرين، فتتملكهم الهيبة والقوة، لا اللطف والوداعة، كما ينبعثان من عينى شوكار.
وكان عز الدين أيبك يشعر بقوة تلك المرأة وسيطرتها على قلبه ويحبها حب تهيب واحترام لا حب شغف وتلهف. وزاده رغبة فيها ما كان يعلمه من منزلتها عند الملك الصالح وتقدمها فى داره ونفوذها عنده. فتودد إليها وبادلته هى حباً بحب، ووافق ذلك هواها لأنها من مطامعها الواسعة لا حول لها، وهى امرأة لا تطمع فى قيادة جند تستعين بهم فى نيل أغراضها، فرأت فى ارتقاء عز الدين إلى منصب كبير أمراء المماليك فائدة لها فأعانته على نيل ذلك المنصب فى زمن الملك الصالح، وهو لم ينس هذا الجميل لها. ولما سنحت فرصة أخرى يخدمها فيها بقتل طوران شاه لم يضيعها، وإن كان قد فعل ذلك لمصلحته أيضاً.
فلما أتم عمله أمس أنقذ بعض الخبر مع ركن الدين واحتفظ ببقيته لنفسه ليتلذذ بسماع الأطراء والإعجاب بدهائه وبسالته. وجاء فى ذلك الصباح على جواده مع جماعة من حاشيته وقواده، ولم يسترح إلا قليلاً ثم جاء إلى الإيوان، وبعث إلى شجرة الدر لتوافيه.
•••
لم تمض هنيهة حتى دخل الغلام يعلن قدومها، فوقف لها عز الدين، ثم أكب على يديها كأنه يقبلهما، فأجفلت وأشارت إليه أن يجلس، وجلست هى على السرير وجلس هو بين يديها، وأمرت الخدم بالخروج. ولما خلت به قالت: «أهل بك يا عز الدين. قد بلغنا بلاؤك فى إنقاذ البلاد من ذلك الغلام، جزاك الله خيراً، أنها خدمة للمسلمين».
قال بلهفة المحب الولهان: «إنما فعلت ذلك خدمة لسيدتى وحبيبتى شجرة الدر وطوعاً لأمرها».
فأثر كلامه فى خاطرها لأنها تحبه، فهاجت أشجانها وقالت: «أنى أعرف هذا الجميل لك يا عز الدين. وليست هذه هى المرة الأولى التى برهنت فيها على صدق مودتك، فأنا أسيرة ودادك».
قال: «يكفينى منك لفتة رضا يا سيدتى، ولاسيما الآن بعد أن صرت ملكة المسلمين».
فتظاهرت بالاستغراب وقالت: «ملكة المسلمين»، ماذا تقول؟». قال: «أنت الآن ملكتى والقابضة على قلبى وستصبحين غداً ملكة المسلمين وعصمة الدنيا والدين». قالت: «وكيف ذلك؟ أفصح».
قال: «لما قتل الملك المعظم أمس اجتمع الأمراء ودار الحديث على من يتولى السلطة بعده، واختلفت الآراء فقلت لهم: أننا لا نحب أن نستقدم أحداً من آل آيوب، وقد رأينا مصيرنا معهم، وشدد آخرون فى أن يكون السلطان من البيت الأيوبى، فقلت لهم نعمل عملاً وسطا؟ً نحن إنما نحترم من الأيوبيين مولانا الملك الصالح — رحمه الله — ولا نأمن أحداً من أهله، وهذه أم ولده خليل كانت من أعز الناس عنده، وهى عاقلة مدبرة، ومن أبناء جلدتنا وتغار علينا، فأرى أن نوليها هذا المنصب. فرضى القوم بذلك، واتفق رأيهم على أن تكونى ملكة مصر. ألا يحق لى أن أقبل يدك وأطلب رضاك؟».
قالت: «معاذ الله. استغفر الله. أنك حبيبى وصاحب الفضل على، لأنى لولاك لم أحصل على هذا المنصب. فأذا تم لى الملك فأنت صاحب النفوذ الأول فيه، فأدعوك مدبر الملكة. ومن وهو أولى به منك؟».
فانشرح صدر عز الدين لهذا الوعد، وهو ما كان يتمناه وقد حصل عليه على أن يتدرج منه إلى ما هو أعظم. فاظهر الشكر وأنه لا يستحق هذا الالتفات ونحو ذلك من أسباب المجاملة.
أما هى فأنها عرفت لصديقها فضله، وأخذت تثنى على علو همته وغيرته، وأنها لا تثق إلا به، وقالت له: «أنى لا استغنى عنك فى تدبير المملكة».
فقال: «أنت فى غنى عن تدبيرى لكننى طوع أرادتك وما تأمرين». وقضيا ساعة فى الحديث، وكل منهما قد طار قلبه فرحاً بما ناله، ثم قالت: «ومن الحكمة أن نفرق المناصب على أصحابنا الذين معنا من الجند لتتأيد هذه الدولة فماذا ترى؟».
قال: «دبرت كل شئ، ولا يخفى على سيدتى شجرة الدر أن جندنا مؤلف من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وأكثرهم من المماليك المتباعين. وإنما يهمنا نحن أن نقوى الأتراك لأنهم جندنا الأصليون فنقدمهم فى مناصب الدولة، وهم كما تعلمين طبقات من حيث المناصب، وفيهم أمراء المئين وأمراء الألوف، وكلهم من الفرسان الأشداء، وهم عضد الجند وقوته، فنفرق هذه الوظائف على كبار الأمراء الذين أخذوا بناصرنا فى هذا العمل. ومناصب الدولة غير الجندية عديدة أعظمها منصب أمير السلاح الذى يتولى حمل السلاح للسلطان فى المجامع الجامعة، والداودار الذى يبلغ الرسائل عن السلطان ويرفعها إليه ويستقبل من يحضر ويقدم البريد ويأخذ خط السلطان على جميع المناشير والتواقيع والكتب، والحاجب الذى يقف بين الأمراء والجند، وأمير جاندار الذى يسلم الزردخانة ويقتل من أراد السلطان قتله، والأستاذ دار وإليه أمر بيوت السلطان كلها، وغير ذلك من المناصب. فما الذى ترينه من أمر هذه المناصب؟ ثم لابد من إرضاء الجند بالعطايا».
قالت: «أنى تاركة أمر ذلك كله إليك لأنك ستكون مدبر المملكة، فتولى هذه المناصب من تثق بهم من رجالك وترى فيهم الإخلاص لنا، لكننى أطلب أمراً واحداً وهو أن تنظر فى أمر ركن الدين بيبرس الشاب الذى بعثت رسالتك معه. أنه من خيرة الأمراء فوله منصباً بحيث يكون قريباً منا».
فلما سمع أطراءها ركن الدين أحس بالغيرة، ورغم ثقته به حدثته غيرته أن يطعن فيه — والغيرة تعمى وتصم — ولكنه رجع إلى صوابه ودهائه وقال: «أن ركن الدين من خيرة الأمراء، صدقت. وأرى أن توليه الداودارية، وبذلك يكون قريباً منا».
أحست شجرة الدر بغيرة عز الدين — والمرأة أرق شعوراً من الرجل، ولكنها تجاهلت وأغضت لأنها لم يكن لها مطمع فى حب واحد، وإنما هى تحب العلى وتهوى السلطة وتبذل كل شئ فى سبيلها ثم قالت: «ومتى يأتى الأمراء من المنصورة؟».
قال: «أظنهم يكونون هنا غدا ليحتفلوا بتولية شجرة الدر ملكة على هذه الديار. ما أجمل هذا الاسم فى فمى! وما ألطف وقعه فى قلبى! فهل لاسمى شئ من ذلك فى قلبها؟». قال ذلك ونظر إليها نظرة عتاب.
فنظرت إليه وقد أدركت مراده وقالت: «سترى ثقتى وحبى، وستعلم مركزك بالفعل لا بالكلام. أراك تلمح وتستطلع كأنك تشك فى صدق مودتى. سامحك الله يا عز الدين..» وبان العتب فى عينيها.
فاعتقد صدق قولها وقال: «معاذ الله يا سيدتى..».
فابتدرته قائلة: «لا تقل سيدتى، أنت حبيبى، أنت سندى، أنت موضع ثقتى وعليك اتكالى. كن واثقاً بذلك..».
قال: «أنى واثق ولكن المحب كثير..».
فقطعت كلامه وقالت: «دعنا من ذلك فإنه مفهوم بيننا، وهلم إلى تدبير شؤوننا.. أنى أسمع لغطاً فى الدار».
فأسرع عز الدين وهو يقول: «أظن الأمراء قد وصلوا من المنصورة، ولعلهم يطلبون تقديم تحياتهم لك».
قالت مبالغة فى اكتساب قلبه: «وهل ترى أن استقبلهم؟».
قال: «لا أرى بأسا من استقبالهم إذا طلبوا ذلك لأنهم أصحاب فضل فى هذا الأمر، وقد رأيت منهم اذعاناً سريعاً لما اقترحت أن تصير السلطنة إليك. ولكن، طبعاً سترسلين الستر بينك وبينهم، ولاسيما أنت الآن ملكة المسلمين».
فنظرت إليه بطرف عينها وهى تبتسم وقالت: «أن عز الدين غيور، ولكن يسرنى ذلك، لأن الغيرة دليل المحبة، على أنى لم أكن أحتاج إلى تنبيه، وأنت تعلم أنى لا ألقى أحداً كما ألقاك». قالت ذلك وأشارت إلى الخصى الواقف فى خدمتها أن ينزل الستر. ولم يكد يفعل حتى جاء الحاجب يقول: «أن كبار أمراء الجند يلتمسون التشرف بمقابلة السيدة الجليلة». وذكر الحاجب أسماء الأمراء بلباى الرشيدى وفارس الدين أقطاى وبيبرس ركن الدين البندقارى وسنقر الرومى. فقال عز الدين بالنيابة عنها: «فليدخلوا».
دخل كبار الأمراء وحيوا تحية طيبة فاستقبلهم عز الدين بلطف. ثم تكلم الفارس أقطاى عنهم قائلاً: «أن الأمراء قادمون لرفع واجب التعزية إلى السيدة أم خليل فى القضاء الذى نزل بطوران شاه، ولابلاغها أن اختيارهم قد وقع عليها لتتولى أمور المسلمين، فعسى أن يقع ذلك لديها موقع الرضى».
فأجاب عز الدين عنها قائلاً: «أن مولاتنا السيدة الجليلة قد بلغها بلاؤكم الحسن أيها الأمراء فى سبيل مصلحة الدولة وقد وقع القضاء على ذلك الملك فأسفت لما أصابه، ولكنه جنى على نفسه رحمه الله».
فقال الأمير سنقر الرومى: «أنه الجأنا إلأى ما أتيناه لأنه لم يجعل لنا يداً فى شئون الدولة. وأن مولاتنا زوج ملكنا المرحوم الملك الصالح أولى الناس بهذا الأمر».
فأجابتهم من وراء الحجاب: «أنى شاكرة مروءتكم وحسن ظنكم، ولا يسعنى إلا الانصياع لما تم اتفاقكم عل يه وأنتم نخبة الأمراء أصحاب السيوف، وإنما أقبل هذا المنصب اعتماداً عليكم وثقة بكم لأنى لا أستطيع عملاً إن لم تأخذوا بيدى».
فصاحوا بصوت واحد: «نحن طوع أمر مولاتنا نفديها بأنفسنا. وغدا نحتفل بتوليتها فى القلعة إن شاء الله».
ثم تحولوا للخروج فرافقهم عز الدين وهو يقول لهم: «إن مولاتنا شجرة الدر كانت تحدثنى قبل وصولكم مثنية على بسالتكم وشجاعتكم، وقد أعدت الهدايا للأمراء والرجال، وقالت لى أنها إنما ترضى بالسلطنة لأنكم اخترتموها لها».
وقد صدقوه، وسرهم ما سينالونه من الهدايا — وهى العطايا يعطيها السلطان عند توليته — وقد اعتزمت شجرة الدر أن تجعلها كبيرة لعلمها بما يعتور سلطنتها من العقبات لأنها أول امرأة تولت ذلك فى الإسلام.
وخرج عز الدين لوداعهم وهو يثنى على همهم ويمنيهم، ثم عاد إلى شجرة الدر يلفتها إلى الهدايا وقيمتها، ثم افترقا على أن يمضى لتهيئة الاحتفال.
•••
لم تطلع شمس ذلك النهار حتى علم أهل جزيرة الروضة بما نالته شجرة الدر، وأنها أصبحت سلطانة مصر. وقد وقع الخبر موقع الاستغراب عند كثيرين، وموقع الغيرة والحسد عند زميلاتها جوارى الملك الصالح — وكل ذى نعمة محسود — وكانت أشدهن غيرة جارية كردية الأصل اسمها سلافة، كانت تفاخر سائر الجوارى بأنها من قبيلة الملك الصالح، وكان هو يقربها حتى جعلها قيمة قصره، لكنها لم تلد منه كما ولدت شجرة الدر، فأصبحت هذه أقرب جواريه إليه. وكانت سلافة بارعة الجمال لكنها قليلة الدهاء شديدة الغيرة سريعة النقمة.
وكانت مشهورة بجمالها الفتان، يتحدث أهل الروضة والقاهرة بحسنها وإن لم يرها منهم إلا القليلون. ومن بين الذين أتيح لهم رؤيتها تاجر بغدادى اسمه سحبان كان يتردد إلى مصر ومعه الأقمشة الفارسية والهندية، وكان الملك الصالح يدعوه إليه ويبتاع منه ما يختاره لنسائه من الأنسجة الجميلة ويطلب منه إحضار ما يحتاج إليه من مصنوعات العراق وفارس وغيرهما. فاتفق له وهو يعرض عليه بعض المنسوجات النسائية، وكانت سلافة حاضرة لتختار نوعاً منها، أن وقع بصره عليها فأخذت بمجامع قلبه، لكنه تجلد وتهيب، وشعرت هى بما جال فى خاطره، وتجاهلت أنه أصبح بعد تلك المقابلة يغتنم الفرص لإبلاغها ما يكنه فؤاده من الحب لها بهدايا يبعث بها إليها على أيدى بعض الخصيان دون أية إشارة، فيظهر ذلك منه مظهر الإكرام للملك الصالح لأنها قيمِّة داره ورئيسة جواريه.
فلما توفى الملك الصالح ضعف شأن جواريه، فتوسم سحبان بابا للنظر إلى سلافة نظر المحب الطامع بالقرب، فاحتال يوماً ببضاعة حملها إلى القصر كعادته، فلقيه أستاذ الدار ونساوماً، ولم تتأت له مشاهدة سلافة ولا مخاطبتها، وقد علمت هى بمجيئه وتجاهلت، وفى خاطرها أن تراه ولكنها لم تكن تعرف سبيلاً إلى ذلك، ولا حاجة لها إليه لأنها لم تشعر بالميل إليه.
فلما علمت بما صارت إليه شجرة الدر فى ذلك اليوم، وأنهم سيحتفلون فى الغد بتوليتها ملكة، وإن ذلك إنما جرى بسعى عز الدين أيبك — ولم تكن تخفى على سلافة علاقته الودية بشجرة الدر — هبت نيران الغيرة فى قلبها، وأصبحت تتقلب وتتعذب كأنها على قطع الجمر، وأخذت تفكر فى إيقاع الأذى بشجرة الدر، لا لسبب غير الغيرة، فإنما لذتها أن ترى تلك النعمة قد زالت عنها. ذلك هو داء الحسد العضال، وبين مرضاة من يفضل أن يشترك هو نفسه فى الأذى الذى ينوى إيقاعه بمحسودة على أن يراه رافلاً فى نعمته.
ضاقت سلافة ذرعاً بطول التفكير وهى جالسة فى غرفتها، فأرادت التشاغل ببعض الشئون، فتنقبت والتفت بملاءة من الحرير، وخرجت من قصر النساء من ممر يؤدى إلى حديقة تابعة لذلك القصر فيها الأشجار والجداول والرياحين والأزهار كان الملك الصالح قد تعود أن يقعد فيها صباحاً. وجاءها أحد خصيان القصر مسرعاً يعدو وهو يقول: «أن الشيخ سحبان جاء بأنسجة جديدة».
فلما سمعت اسمه أجفلت، لكنها أحست بانفراج كربها قبل أن تفكر فى كيفية ذلك — وهو تنبؤ نسائى مبنى على مجرد الشعور بلا برهان. فإن المرأة تأتيها الفكرة أولاً ثم تفكر فى برهانها — فالتفتت سلافة إلى الغلام وقالت: «أين هو؟».
قال: «وهو فى فناء القصر، وقد ذكرك بالتخصيص، وقال أن بين أقمشته أشياء تسرك».
فقالت: «لا أرى أن أعود إلى هناك. دعه يدخل إلى هذه الحديقة من بابها الخارجى لأرى بضاعته». قالت ذلك وأصلحت من شأنها وتنقبت بطرف الملاءة، وأصبح قلبها يخفق، ولم تكن تشعر بشئ من ذلك فى مقابلاته السابقة.
وبعد هنيهة دخل الغلام من باب الحديقة وهو يقول: «هذا الشيخ سحبان يا سيدتى». ورجع.
وكانت جالسة على كرسى بين الأزهار فالتفتت نحو الباب فرأت الشيخ سحبان كما كانت تراه قبلا بقلنسوته الفارسية وجبته السوداء ولحيته القصيرة الخفيفة وعينيه البراقتين، لكنها تفرست فيه هذه المرة فرأت فى وجهه معنى لم تلحظه من قبل. فلما دخل حياها فردت بمثل تحيته، وأشارت إليه أن يتقدم وقالت: «أين الأقمشة؟».
فتقدم وقال: «أنها لا تزال فى القصر مع الجمال، فإذا أذنت باستجلابها إلى هنا فعلت».
قالت: «لا بأس، دعها الآن هناك.. تفضل أجلس».. وأشارت إلى حجر منحوت كالكرسى، فجلس عليه وهو يصلح قلنسوته، فقالت له: «لم تكن عادتك إذا جئت بأقمشة أو نحوها أن تطلب سلافة باسمها».
قال: «وهل ساءك ذلك يا سيدتى؟».
قالت: «كلا.. لكنى لم أفهم السبب لتغيير عادتك معى».
قال: «غيرت عادتى جرياً مع التغييرات الكثيرة التى انتابت أهل هذا القصر فى هذا العام».
فتصاعد الدم إلى وجنيتها، وبانت البغتة فى عينيها، وتذكرت ما هى فيه فقالت: «صدقت، أن التغيير كثير — رحم الله الملك الصالح، أنه كان حرزاً لهذه الدولة، فلما مضى اضطربت أحوالها». وظهرت فى مآقيها دمعة أوشكت أن تسقط.
فقال سحبان: «نعم، رحمة الله، ولكن ما العمل؟ هذا قضاء مبرم يا سيدتى، والدنيا دول». قالت: «أعلمت ماذا جرى؟».
قال: «إذا كنت تعنين ما صارت إليه شجرة الدر فقد علمت».
قالت: «نعم، إياه أعنى، وكيف تراه يا سحبان؟».
فاستأنس بمناداتها له باسمه بلا لقب وقال: «أرى؟ ماذا أرى؟ أرى أمر أقل ما يقال فيه أنه لم يسبق له مثيل فى الإسلام».
فابتسمت وقد أشرق وجهها، وقالت: «أرايت مثل هذه البدعة قط؟» قال: «لا. لكننى». وبلع ريقه كأنه يحاذر أن يبدى رأيه.
فقالت بلهفة: «قل. ولكن ماذا؟ قل».
قال: «ولكن. كيف توصلت هذه الجارية إلى هذا المنصب؟ لا أدرى».
قالت: «ألا تعرف عز الدين أيبك التركمانى أمير الجيش؟».
قال: «نعم أعرفه، قد فهمت مرادك يا سيدتى. نعم فهمت الآن.
عرفت الفرق بين السيدة سلافة الكردية والمحظية شجرة الدر التركية».
فتوسمت من عبارته ما يوصلها إلى الموضوع الذى تريد الخوض فيه فقالت: «وما هو الفرق؟».
قال: «الفرق أن هذه وفت بالأمانة فى حق مولاها. وأن تلك أشركت سواه فى حقه».
فأظهرت أنها تعارضه وقالت: «لا. لا تقل ذلك أنها أم ولده خليل. لا. لا تقل ذلك».
فأدرك سحبان أنها تتظاهر بالاعتراض، فقال: «قد قلت يا سيدتى، أنى أتردد على هذا القصر منذ عدة أعوام، وقد رأيت سلافة مراراً وعيناى شاخصة إليها، وفى كل مرة أحاول أن أكسب منها لفتة فلا تفعل. ولم أر غيرها يحرص هذا الحرص. استأذنك يا سيدتى فى هذا التصريح. وأما سواك فمع كونها أم ولده فإن علاقتها مع عز الدين أيبك مشهورة، ومع ذلك فهى الآن ملكة المسلمين، ولابد لكل منا أن يصدع بأمرها».
فصاحت فيه: «أنها لن تكون ملكة وإذا صارت فالى أجل قصير».
ثم رأت أنها قد تورطت بالتصريح بما فى نفسها، فتراجعت والتفتت إلى ما يحيط بها، وتشاغلت بزهرة قطفتها من شجرة إلى جانبها وهى مطرقة وقد علت الحمرة محياها.
فتوسم سحبان فى ذلك المنظر فرجا فقال بصوت منخفض: «يا سيدتى لا ينبغى لنا أن نطيل الحديث بلا جدوى. إذا كان لابد لامرأة من أهل هذا القصر أن تحكم فأنت أولى من سواك لأنك أرقى درجة من سائر نسائه، وأنت من عصبة الملك الصالح رحمه الله، ولكن».
فقطعت كلامه قائلة: «لا. لا أريد أن أحكم. أن النساء لم يخلقن للحكومة يا سحبان، ولذلك قلت لك أن شجرة الدر لا ينبغى أن تبقى فى السلطة طويلاً، والآن أقول لك لا ينبغى أن تبقى أبداً». قالت ذلك وبان الغضب فى عينيها.
وأدرك هو أنها تستحثه على مساعدتها فى هذا الأمر فقال: «إذا كنت ترين فىّ مكاناً لثقتك فأنى رهين إشارتك. افصحى لى عماً ترينه». فغلب عليها الحياء، والوردة فى يدها، فجعلت تتشاغل بنشر أوراقها بيت أناملها كما يفعل المضطرب الأفكار وهو لا يدرى، فابتدرها سحبان قائلاً: «إذا كنت لم تفهمى مرادى بعد فانى أتجاسر وأفصح عما يكنه ضميرى لك يا سيدة الملاح.. أنى أسير هواك منذ عرفتك، وكلما زدت أعراضاً عنى أيام الملك الصالح ازددت إجلالاً لأخلاقك الفاضلة. وأما الآن وقد مضى ذلك الملك إلى سبيله، فهل ترين فى سحبان ما يستحق التفاتك وثقتك؟».
فاردادت حياء، وتوردت وجنتاها، وشعرت بخفقان قلبها، وأوشكت أن تنسى الأمر الذى كان شغلها الشاغل فى ذلك الصباح. ثم التفتت إلى ما حولها فلم تر غير الأشجار والرياحيين، ولم تجد ما تتشاغل به عن الجواب ريثما تعمل فكرتها. وأدرك سحبان ما دار فى خلدها فتحفز كأنه يريد النهوض، فمدت يدها نحوه وأشارت إليه أن يمكث. وظلت ساكتة وهى تعض شفتيها وتمسح جبينها وتصلح نقابها فقال لها: «دعينى أنصرف الآن فربما كان وجودى معك سبباً للقيل والقال».
فنظرت إليه نظرة اخترقت أحشاءه وقالت: «وأى قيل وقال؟ أنى لا أخاف أحداً، وأما وجودك هنا فإنه لازم لى».
فهش لها وضحك كأنه نال أمراً لم يكن يتوقع الحصول عليه وقال: «إذا كان وجودى هنا لازماً لك فأنى رهين أمرك».
•••
اعتدلت سلافة فى مقعدها والجد باد فى عينيها، ولو كشفت عن وجهها لظهرت دلائل العزم والإصرار حول شفتيها، وقالت: «هل أنت صادق فيما تقول؟».
قال: «جربى يا سيدتى. بعد أن تسمعينى كلمة منك يطئمن لها قلبى. ألا ترين فى الرجل الذى يستحق رضاك؟»
فأشارت برأسها وعينيها وقالت: «بلى! والدليل على ذلك أنى سأعرض عليك أمراً خطيراً لا يجوز أن يطلع عليه أحد على وجه الأرض» وسكتت.
فقال: «تفضلى يا سيدتى». قالت: «وسأكلفك بمهمة لا تخلو من الخطر».
قال: «روحى فداك. لا أبالى أن أموت فى سبيل رضاك».
فقالت: «أنت من أهل بغداد تسافر إليها كل عام، أليس كذلك؟».
قال: «أسافر إليها متى شئت». قالت: «ولماذا لا تمكث هناك؟».
قال: لابد من الجواب عن هذا السؤال؟». قالت: «نعم».
قال: «أن هذه الجلسة التى سمح الزمان بها على قصرها جعلتنى أشعر أن قلبينا متحدان من عهد بعيد. فاذنى لى أن أخاطبك بجسارة وصراحة». قالت: «هذا ما أريده منك».
قال: «لا أقيم فى بغداد لأنى شيعى، والخلفاء العباسيون يكرهون الشيعة ويطاردونهم، ولاسيما فى بغداد، فإنه لا تمضى سنة لا يقاسون فيها تعدياً أو اضطهاداً أو نهباً أو قتلاً، ففضلت الرحيل عن ذلك البلد، وإن كنت فى غنى عن التجارة، ولكننى جعلتها سبيلاً للأسفار. وإذا سافرت إلى بغداد فلا أمكث فيها إلا ريثما أبتاع البضاعة وأعود».
قالت: «هل تعنى أن الخليفة المستعصم الحالى يطارد الشيعة؟».
قال: «أكثر الخلفاء العباسيين فعلوا ذلك، والمستعصم هذا من أشدهم وطأة علينا، فقد قاسينا فى أيامه الأمرين». قال ذلك والغضب يتجلى فى وجهه.
فأطرقت وبان التردد فى عينيها وسكتت، فقال: «مالى أراك تترددين؟ قولى ما يخطر لك». قالت: «أخاف أن يكون فى قولى تعب عليك».
قال: «لا لذة فى الحب إن لم يرافقه التعب».
ولما ذكر الحب اختلج قلبها فى صدرها وقالت: «أنت تطلب ذلك باسم الحب يا سحبان؟». قال: «إذا كنت تأذنين».
قالت: «نعم. انظر يا سحبان. إن هذه الجارية التركية لا ينبغى أن تبقى ملكة إلا ريثما تصل أنت إلى بغداد وتعود منها».
ففهم مرادها وقال: «لك على ذلك. وهل تريدين أن أذهب بهذه المهمة من عند نفسى أم أكون رسولاً منك؟».
قالت: «بل تكون رسولاً تحمل كتاباً منى إلى بغداد، ولا يصل الكتاب حتى يأتى الجواب بخلعها لا محالة».
قال: «لمن تريدين أن يسلم الكتاب؟». قالت: «سلمه إلى قيمِّه قصر النساء هناك. أنها صديقتى، ولى معها مودة. هل تفعل ذلك؟»
فنهض وقال: «أفعله الساعة. هاتى الكتاب». ومد يده إلى منطقته واستل منها دواة مغروسة فيها واستخرج القلم منها ودفعه إليها وأخذ من جيبه ورقة بيضاء دفعها إليها فتناولت الورقة والقلم وهى تتفرس فى وجه سحبان وهو ينظر فى عينيها. بقيا لحظة على هذه الحال كأنهما يتفاهمان بالعيون. ثم قالت سلافة: «إن هذه هى المرة الأولى التى تخاطبنا فيها، ألا تعد ذلك تسرعاً منى؟».
قال: «جسى قلبك.. فمن القلب إلى القلب دليل. وإذا كنت فى ريب من صدق خدمتى أقسمت لك بما تريدين». وهم أن يقسم ولكنها أمسكت بيده وقالت: «لا حاجة إلى اليمين».
وكانت هذه هى المرأة الأولى التى تلمس فيها يدها يده منذ تعارفا، فأحس كلاهما بالقشعريرة وهى دليل التحاب، ولا تحدث عند كل تلامس بين الجنسين، وإنما تقع بين اثنين فى قلبيهما استعداد إلى الاتحاد. أو بالتعبير العلمى «بين كهربائيتهما تجاذب» ويزيد هذه القشعريرة ظهوراً قلة الاختلاط بين الجنسين والمبالغة فى التحجب، ويلوح للباحث فى نواميس الحب وظواهره أن أسبابه تقوى أو تضعف على حسب الأمزجة والأشخاص، أو كان الواحد متمم للأخر، فإذا اتلقى اثنان من هذا النوع شعرا بالتجاذب لأول مرة على أن للجمال المادى والمعنوى قواعد أجمع الناس عليها، يغلب فى أصحابها أن يلفتوا أنظار الناس ويجتذبوا قلوبهم.
فلما أحست سلافة بتلك الرعشة اتخذتها دليلاً على صدق مودة سحبان، وتناولت الورقة وأخذت تكتب، وكانت بارعة فى الخط والإنشاء لأن السلاطين كانت لهم عناية فى تعليم الجوارى الكتابة واللغة والأدب. ولما فرغت من الكتابة أقفلت الكتاب ودفعته إليه وقالت: «هذا سرى قد عهدت به إليك. إذا أفلحت فقد برهنت لى على ما تقول».
فتناوله وقال: «أستودعك الله». ومشى وهو يلتفت إليها حتى خرج من الحديقة، وظلت هى بعده واقفة تفكر فيما فعلته، فخالج ذهنها ندم على تسرعها، لكنها راجعت ما رأته وشاهدته منه، وتذكرت تاريخ معرفتها به، فلم تجد ما يوجب الحذر.
الفصل الرابع
أول ملكة للمسلمين
أصبحت القاهرة فى اليوم التالى وأهلها فى هرج، والناس يزحم بعضهم بعضاً نحو القلعة، بين راكب وماش، رجالاِ ونساء. حتى أصبحت ساحة الرميلة تحت القلعة غاصة بالناس من كل الطبقات، وقد اختلط بهم الباعة يحملون أنواع الكعك والفاكهة والثمار والمملحات والحلوى والمأكولات الجافة. وبينهم حملة الودع وكشاف البخت وفاتحو المندل، ينادى كل واحد على بضاعته على اختلاف الألحان وطبقت الأصوات، وقد علت ضوضاء الناس وأصوات الحيوان.
ولو أشرفت على الرميلة من سور القلعة لرأيت الساحة بقعاً، يشغل كل بقعة جماعة متشابهون لباساً وشكلاً، أكثرهم قاعد القرفصاء، يلهو الواحد منهم بشئ يمضغه أو عوعد ينكت به الأرض أو أداة يلاعب بها أصابعه. وهناك جماعات التفت على رجل يلاعب دباً أو قرداً، ثم يدور عليهم بدفة يجمع ما يجودون به من الدوانق، وجماعات هدأ جوهم لاشتغالهم بحديث يقصه عليهم شيخ منهم يبذل جهده فى اجتذاب قلوبهم ونيل إعجابهم، وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، وقد أخذهم الاستغراب.
ولو أتيح لك حضور تلك المجالس لرأيت عجباً وأخذتك الدهشة من أخلاق العامة وسرعة تصديقهم للغرائب، لأنك قد تسمع حديثاً أنت أعلم الناس به فتجده تشوه واضطرب حتى انقلب إلى غير ما تعرفه، وقد تنكره وتظنه حديثاً أخر. ويزداد تحريفهم للأحاديث بنسبة ما تحويه من الغرابة عن مألوفهم، فما ظنك فى موضوع ذلك اليوم، وهو تنصيب امرأة ملكة على المسلمين، مما لم يسبق له مثيل فى تاريخهم. فتضاربت أقوالهم فى ذلك، واخترعوا الأسباب الباعثة عليه، وافترضوا الأسرار، وتكهنوا بمصير هذه الحال، وزعم بعضهم أنهم صاروا فى أخر الزمان، وسوف تنقضى الدنيا، لأن ذلك من دلائل الفناء.
وبينما هم فى ذلك إذ سمعوا نفخ الأبواق وقرع الطبول، ثم رأوا موكب أمراء المماليك البحريين متوجهاً نحو القلعة وفى مقدمته كبراء الفرسان بالملابس المذهبة تتلألا فى شعاع الشمس حتى يكاد بريقها يذهب بالإبصار، وبعدهم هودج شجرة الدر تحمله البغال وقد تجلل بالحرير المزركش، وأحاطت به الفرسان فى أزهى الملابس وأجملها وفيهم حملة الأعلام، ووراءهم كوكبة من الفرسان أصحاب المزاريق ثم كوكبة من حملة الرماح، ووراءهم جماهير الناس مشاة على أقدامهم يموجون كالبحر الزاخر، وفيهم من تبطل وأوقف عمله لمشاهدة موكب الملكة، وهو لا يرجو شيئاً من وراء تلك الخسائر، وإنما يساق العامة إلى ذلك بفطرتهم الساذجة وميلهم الطبيعى إلى مشاهدة الغرائب، فهم يؤخذون بالظواهر ويتبعون كل ناعق. ولذلك كان إجماع العامة على أمر ما لا يدل على صوابه.
وصل الموكب إلى باب القلعة الكبير المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرج، وكانت طائفة من الجند قد وقفت هناك بالسلاح لتمنع الناس من الدخول. وللقلعة باب أخر نحو القرافة أقفلوه فى ذلك اليوم لئلا تتزاحم الأقدام فى ساحة القلعة، وهى ساحة كبيرة فى وسط القلعة تنتهى بمصطبة وراءها باب كبير هو الباب الداخلى المؤدى إلى الأبنية الخاصة بسكنى السلطان والأمراء والأجناد، وفيها الجامع والإيوان.
دخل الموكب القلعة من بابها المدرج، وظل العامة خارجها يكتفون بما يسمعونه من قرع الطبول ونفخ الأبواق. وقطع الموكب الساحة حتى وصل إلى الباب الداخلى المذكور ففتحوه، ولم يأذنوا لغير الخاصة بدخوله، ولاسيما الأمراء وأرباب المناصب ونحوهم، وخلفوا فى الساحة جمعاً من الخاصة اكتفوا بأنهم امتازوا عن سائر العامة بدخول القلعة.
ودخل الموكب من ذلك الباب إلى ممر فسيح تحف به الأبنية وهناك ترجل الفرسان، واعتنى جماعة بشجرة الدر فأنزلوها عن الهودج، وبينهم وبين الإيوان الكبير ممرات وأبواب لابد من اجتيازها، وكانوا قد فرشوها بالسجاد وعلقوا على أبوابها الرياحين والأعلام، ومشى عز الدين أيبك وسائر الأمراء — وهم بملابسهم الفاخرة — بين يدى شجرة الدر، وهى فى ذلك اليوم فى أبهى ما يكون من اللباس، وكانوا قد أعدوا لها قبة من الحرير المطرز قائمة على أربعة أعمدة يحملها نفر من القواد، وقد أريخت ستائرها. وشجرة الدر فى داخلها، ومعها جاريتها شوكار وبعض الوصيفات.
لم يصل إلى الإيوان الكبير إلا الخاصة وكبار الموظفين وهم أصحاب المطامع وطلاب السيادة، يسخرون العامة لأغراضهم ويسوقونهم كالأنعام لا يدرون مصيرهم، وربما اكتسبوا رضاهم بأكلة يطعمونهم إياها أو بصلاة يتلونها بين أيديهم، أو دعاء لولى أو قديس يعرفون أنهم يعتقدون كرامته.
ظل أصحاب القبة سائرين حتى وصلوا إلى صدر الإيوان، وكانوا قد نقلوا إليه سرير السلطنة الذهبى، فجعلوا القبة فوق السرير وأرخوا ستأئرها حوله فقعدت شجرة الدر على السرير وبين يديها شوكار والوصائف يأتمرن بأمرها ولا يراها أحد من الحضور. ثم دخل قاضى القضاة فقعد إلى يمين القبة، ووراءه صاحب بيت المال وناظر الحسبة، وإلى يساره كاتب السر وغيره من كبار أرباب المناصب وذوى السن وأمراء المشورة، وجلس بين يدبى القبة فى وسط الإيوان الأمير عز الدين أيبك أمير الجند، وكبار أمراء المماليك وبينهم ركن الدين بيبرس. ووراء القبة والسرير صفان من حمة السلاح، ووراءهم الحجاب ونحوهم، وأتوا فى جملة ذلك بجماعة من أسرى الأفرنج عليهم ألبسة الأسرى مبالغة فى الاعتزاز.
وبعد أن استقر بهم الجلوس على هذه الصورة وقف عز الدين أيبك ووجه خطابه إلى الجمع وقال: «أيها الأمراء والقواد. لا يخفى عليكم ما أصاب الملك المعظم طوران شاه. أنه أساء السيرة وأراد التنكيل بجند هذا الجلد البحريين الذين عرفتهم بلاءهم فى زمن الملك الصالح رحمه الله فى حرب الأفرنج وغيرهم، فوقع القضاء عليه، ولما خلا كرسى السلطنة ممن يسوسها لم نجد من هو أولى بها من أصحاب الحق فيها إلا مولاتنا الصالحة شجرة الدر والدة خليل وصاحبة الملك الصالح لما نعلمه من ثقة مولانا المرحوم بها وهى أم ولده، فأجمع رأى الأمراء والنواب والقضاة على اختيارها ملكة تتولى شؤون الدولة بمساعدتهم. وقد تعهد أصحاب السيوف بطاعتها لإحقاق الحق وحماية بيضة الدين. ونحن الآن نحتفل بتنصيبها، وسندعو لها على المنابر بعد مولانا أمير المؤمنين المستعصم بالله. وسننقش أسمها على الدنانير والدراهم فادعوا لأمير المؤمنين».
فضج الجميع بالدعاء للخليفة وهم وقوف، ثم تقدمى قاضى القضاة فدعا لشجرة الدر قائلاً: «وأحفظ اللهم ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح».
فقال عز الدين أيبك: «وقد عهدت إلى فى تدبير المملكة باسمها، وولت الأمير ركن الدين بيبرس الدوادارية الخاصة. وأمرتنى أن أثبت أصحاب المناسب الموالين لنا فى مناصبهم من أصحاب الأقلام وأصحاب السيوف». وثم أشار إلى صاحب الستر الواقف بجانب القبة فأزاح الستر، فبان داخل القبة فإذا هى مبطنة بأطلس أسفر مزركش، وفى صدرها شجرة الدر جالسة على السرير قد أرخت النقاب وعلى رأسها العصائب السلطانية وهى صفر عليها ألقاب المملكة مطرزة بالذهب.
فعاد الناس إلى الدعاء لها، ثم أرخوا الستر وعاد عز الدين إلى الكلام فقال: «وعما قليل نحتفل بقراءة المرسوم الذى سيرد علينا من أمير المؤمنين المستعصم بالله يؤيد سلطنة مولاتنا حفظها الله».
وكان الناس فى أثناء الاحتفال سكوتاً كأن على رؤوسهم الطير، وقد أخذتهم الدهشة لأنهم لم يسمعوا بمثل هذه الولاية، وفيهم الغاضب والعاتب والمعترض ولكن لم يجسر أحد منهم على الكلام لعلملهم أن هذه السلطنة إنما كانت بتواطؤ المماليك البحريين أصحاب القول فى ذلك العهد.
وقبل الفراغ من الاحتفال أشار عز الدين إلى بعض الوقوف من الداودارية فمضى وعاد ومعه الأطباق عليها صرر النقود، فأخذوا يوزعونها على الحضور وعلى كل صرة اسم صاحبها.
ولما هم الحضور بالانصراف وقف عز الدين أيبك وقال: «أيها الأمراء: أن مولاتنا ملكة المسلمين اقتضت إرادتها أن تنقل دار السلطنة من جزيرة الروضة إلى هذه القلعة، وستكون هذه القلعة مقر أرباب المناصب بدلاً من قلعة الملك الصالح فى الروضة، لأن السبب الذى من أجله جعلها الملك المرسوم كرسياً للسلطنة قد زال».
فكان لهذا التغيير وقع حسن عند بعض السامعين ووقع سئ عند آخرين، ولكن لم يجسر واحد على إبداء رأى أو ملاحظة. وانقضت الحفلة وانصرف كل إلى مكانه، وانتقلت شجرة الدر إلى قصر خاص بالسلطنة هناك. وأخذوا فى نقل الرياش وغيره من جزيرة الروضة، ولم تعد تلك الجزيرة كرسياً للسلطنة من ذلك الحين، وأخذوا فى تعريتها من زخرفها ونقوشها ولاسيما لما صارت السلطنة إلى عز الدين أيبك فإنه أمر بهدمها ونقل ما كان فيها من الأعمدة والنوافذ والسقف والأخشاب لبناء مدرسة باسمه فى القاهرة.
وكانت شوكار فى أثناء الاحتفال مع شجرة الدر فى الهودج كما تقدم. فلما رفع الستر انزوت فى مكان ترى الحضور منه ولا يرونها، وكان نظرها لا يتحول عن ركن الدين وهو بلباسه الرسمى، على رأسه القلنسوة الجندية ولباسه مزركش بالقصب وقد زانه شبابه. ورسها على الخصوص ما سمعت من أنه صار داودارا لسيدتها لعلمها أنه أصبح أقرب إليها إذ يكثر تردده إلى قصر الملكة لقضاء مهام منصبه، فخفق قلبها فرحاً وتحققت قرب السعادة لأنها ستكون زوجة لداودار السلطنة.
•••
انتقلت شجرة الدر بعد انقضاء الاحتفال إلى قصر السلطنة، وقد أعدوا لها فيه غرفة فرشوها بأحسن الرياش. ودخلت الغرفة يحيط بها الجوارى والوصائف وفى مقدمتهن شوكار فأخذن فى تبديل ملابسها، ثم أمرت الخدم بالانصراف، فلما خلت بنفسها أخذت تفكر فيما صارت إليه مما لم تكن تحلم به فى صباها، وتذكرت صباها وكيف كانت تنظر إلى السلاطين وال ملوك، وما كانت بينها وبينهم من المسافات البعيدة، وكيف أصبحت اليوم ملكة المسلمين تطأطى لها الرؤوس وتعنو لها الرقاب. فلما تصورت ذلك انشرح صدرها وانبسطت نفسها، لكنها لم لبثت أن فكرت فيما يعتور ذلك المنصب من المشاق، وما فى مصر يومئذ من المشاكل والحروب مع الصليبيين، عدا الأحزاب المختلفة بين رجال الدولة والجند، فانقبضت نفسها.. لكنها لم تذكرت عز الدين مدبر المملكة ومن معه من الأمراء الذين يأخذون بناصرها للعصبية أو للعطاء، هان الأمر عليها، وأن بقى الانقباض ظاهراً فى وجهها.
وبينما هى فى ذلك إذ دخلت عليها جاريتها شوكار والفرح يتجلى فى وجهها وأكبت على يد سيدتها تقبلها وهى تقول: «الحمد لله على نعمه يا سيدتى.. أنت ملكة المسلمين.. ألم أقل لك عندما رأيتها على ذلك السرير أنه لائق بك؟. مالى أراك منقبضة النفس؟ هل ساءك مجيئ الآن؟ هل تأمرين بانصرافى؟».
فطوقت عنقها بيديها وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهى تقول: «كيف تنصرفين يا شوكار؟!. لا. لا. لست منقبضة من شئ. أنى شاعرة بالسعادة التى أنا فيها والحمد لله. ولكننى أفكر فى المهام الكثيرة التى بين يدى. كنت قبل الآن أتمنى أن يتم هذا الأمر لى، فلما تم ذهبت شهوة ذلك الميل، وتبين لى المنصب بما يحف به من المشاكل والمسؤوليات».
فأرادت شوكار مداعبتها لتشغلها عن تلك الهواجس فقالت وهى تضحك: «إذا كنت قد كرهت هذا المنصب فأنا آخذه منك وأخفف عنك مهامه».
فابتسمت شجرة الدر وقبلت شوكار ثانية وقالت: «لم أكره هذا المنصب يا عزيزتى، فأنى لم أذق منه شيئاً بعد، لكن لا ينبغى لى أن أتغاضى عما يحيط به من أسباب العناء».
قالت: «أن هذه الأسباب لابد منها. وهذا مولانا عز الدين مدبر المملكة يحمل عنك كل أثقالها، وهذا ركن الدين. أنه بطل». ولما ذكرته خجلت وأطرقت حياء.
فضحكت شجرة الدر من قولها ومدت يدها إلى جبينها تمسحه وقالت: «إن ركن الدين بطل. وإذا شئت أن ترى ذلك وتختبريه فأنى سأكلفه بمهمة ذات بال لا أرى بين الأمراء من أثق به وأعول عليه فى قضائها غيره. هل تأذنين فى ذلك؟»
فخجلت شوكار من هذا الاستئذان وقالت: «من أكون أنا ليؤخذ الإذن منى؟ ألسنا جميعاً عبيداً نصدع بالأمر؟».
فلما سمعت هذا التعبير — وهو مما يقال للملوك — عظم الأمر عندها، لكنها كانت عاقلة تنظر فى الأمور إلى حقائقها، ولا يهمها الزخارف فقالت: «كلنا عبيد يا شوكار، وإنما سألتك لأن ركن الدين يهمك الآن. أليس كذلك؟.
فقالت وقد توردت وجنتاها من الخجل: «هبى أنه لى، فأنا لم أكن لأحصل عليه لولاك».
قالت: «ليس هذا هو المهم فى الأمر يا شوكار، ولكننى أحب قبل أن يعقد له عليك أن يأتى عملاً يوجب له الفخر على أقرانه، فإذا تزوجك بعد ذلك زاد افتخارك به».
قالت: «الأمر لك فى كل حال». لكنها فى الحقيقة لم يسرها هذا الأمر، لأن ركن الدين من الأمراء المعروفين. وإذا لم يكن بد من زيادة أسباب شهرته فليكن ذلك بعد العقد.. وقد أصبحت لفرط غبطتها بذلك النصيب تخاف أن يؤخذ منها، لكنها لم تستطع إظهار غير الرضا. أما شجرة الدر فأنها لحظت ترددها وما خامر ذهنها من هذا الأمر فتنهدت ونهضت وقالت: «اتبعينى يا شوكار».
فتبعتها وهى تفكر فى غرضها من هذا النهوض، فإذا هى قد مشت فى ممر إلى غرفتها الخاصة. وهى غرفة أعدوها لها بأثمن الرياش، فدخلت واستقلت على سريرها بلا كلفة وهى تقول: «آه يا شوكار، لقد تعبت من التفكير، وشعرت بثقل العمل الذى أخذته على عاتقى.. أطربينى بصوتك الرخيم لعى أروح عن النفس قليلاً».
فسرها هذا الاقتراح، وأمرت بعض الغلمان بإحضار العود، فتناولته وأخذت تضرب عليه بإتقان، وتغنى أغانى تعلم أن شجرة الدر تطرب لها، فآنست منها استحساناً كثيراً وهى تضحك لها وتعجب بها، وشوكار تائهة الفكر فى ركن الدين، وتود لو يكون حاضراً لتراه لعلها تتحقق منه شيئاً. لأنها لم تملك فرصة تسمع منه فيها قوله أنه يحبها، وأحست هى أنها أحبته وخافت ألا يكون قد بادلها حباً بحب، وبان انقباض قلبها فى وجهها، وظهر أثر ذلك فى ضربها وغنائها، فقالت لها شجرة الدر: «ما بالك يا شوكار؟» فانتهبت لنفسها وقالت: لا شئ يا سيدتى». ثم ابتسمت لتخفى ما بها وقالت: «شكراً يا مولاتى.. أنى محاطة بكل أسباب السعادة والحمد لله». وسكتت وفى سكوتها شبه إنكار.
فلحظت شجرة الدر شيئاً مما اعترى جاريتها شوكار فقالت: «لا شئ يا سيدتى». ثم ابتسمت لتخفى ما بها وقالت: «شكراً خاطرك شيئاً تكتمينه. هل ساءك ما قلته عن ركن الدين من أمر السفر؟».
قالت بلهفة: «كلا يا سيدتى، أن ما تأمرين به لا يكون فيه غير أسباب الراحة والسعادة ولكن». وأطرقت حياء.
قالت: «ولكن ماذا؟ أن هذا الأطراق يعجبنى من الفتاة فى مثل هذه الحال، يظهر أنك تشتاقين رؤية ركن الدين قبل سفره. ولعلك تحبين أن تعرفى رأيه فيك. أنى سأدعوه الساعة يجالسنا بحجة عزمى على تكليفه بتلك المهمة». وصفقت فجاء بعض الغلمان فأمرته أن يدعو الداودار ركن الدين، وعادت إلى مشاغله شوكار فقالت لها: «لا يمضى كثير حتى يأتى ركن الدين.. غنى شيئاً من عندك».
فأخذت تغنى، وقد فرحت بقرب قدوم ركن الدين، لكنها أحست بخفقان قلبها فتشاغلت بالضرب والغناء.
وبعد قليل جاء الغلام يقول: «أن الأمير ركن الدين بالباب». فقالت: «يدخل». وأشارت إلى شوكار أن تسكت.
فدخل وألقى التحية، فابتسمت له، وقد ألقت النقاب بعض الشئ على رأسها، وفعلت شوكار مثل فعلها. وقالت شجرة الدر: «مربحاً بالبطل ركن الدين.. تفضل». وأشارت إلى كرسى بين يديها، فجلس عليه وهو يتأدب فى نظراته ويفكر فى سبب تلك الدعوة، فقالت شجرة الدر: «أتعلم يا ركن الدين لماذا دعوتك؟». قال: لا يا سيدتى. وإنما أعلم أنى سيف من أسياف مولاتى ترمى بى حيثما شاءت». فقالت: «بارك الله فيك. لكن هل تفعل ما تفعله إكراماً لى وحدى؟».
فلما سمع قولها علم أنها تداعبه وتشير إلى علاقته المستقبلة بشوكار، فسره أنها بادرته بالحديث فقال: «نعم يا سيدتى، لأنك أنت صاحبة الأمر والنهى من كل وجه». والتفت إلى شوكار وابتسم.
فخجلت شوكار وبان الخجل فى عينيها وأطرقت، فقالت شجرة الدر: «أرى شوكار قد خجلت، ويعجبنى الحياء منها، لكننى أحب أن تسمعنا لحناً أخر يشاركنا ركن الدين فى سماعه. ما رأيك؟».
فقالت: «أنى رهينة أمرك يا سيدتى». قالت: «أسمعينا أو أسمعيه، لعله يسمعنا ما يطرب من غير لحن أو نغم».
فتناولت شوكار العود وأخذت تضرب عليه وتغنى حتى أخذت بمجامع قلب ركن الدين، فطرب طرباً كثيراً وهاجت عواطفه، وكان قد سمع عن صوت شوكار ولم يسمعه. أما وقد سمعه فازداد إعجاباً به وتعلقاً بزواجها، وعلم مقدار النعمة التى وهبته إياها شجرة الدر لما وعدته بتلك الغادة المطربة.
وكانت شوكار تضرب وتغنى وعيناها تراقبان حركات ركن الدين، فرأته قد هاجت أشجانه وبان الطرب والهيام فى وجهه، ولولا تهيبه من وجود الملكة لقال أشياء كثيرة. ولحظت شجرة الدر أيضاً ذلك وسرها ما لحظته، لأنها كانت تريد أن تقبض على قلب ركن الدين لتستخدمه فيما تريد من الأمور، إذا أصبحت — بعد أن صارت ملكة — تخاف من الدسائس والمناظرين من الداخل والخارج. وقد توسمت فى ركن الدين همة عالية وبسالة فأرادت أن تملك قلبه ليكون طوع إرادتها فيما قد تعتزم فعله، لأنها كانت سيئة الظن فيمن حولها حتى عز الدين أيبك صديقها، كانت ترى أنه غير أمين لها وأنه إنما يظهر الطاعة موقتاً.
فلما رأت هيام ركن الدين بشوكار قالت له «هل أعجبك صوتها يا ركن الدين؟».
فتحرك احتفاء بذلك الاستفهام وقال: «تسأليننى عن صوتها؟ ألا يكفى أنه يعجب ملكة المسلمين؟ ومن لا يطرب لهذا الصوت الرخيم؟».
قالت وهى تضحك: «أرجو ألا يكون الصوت وحده الذى أطربك». فالتفت خلسة إلى شوكار وسكت.
فقالت شجرة الدر: «أراك تستشيرها فى ذلك، هل تشك فى أنها تعجب بك؟».
قال: «إذا كانت ترى فىّ شيئاً حسنا فإنما تراه بناء على رضا مولاتى الملكة عنى».
قالت: «لا أنكر أنى وسيلة التعارف بينكما، لكنها تسمع عن البطل ركن الدين من قبل، ويكفى ما تسمعه منى عن بسالتك. ويعجبنى منها أنها لا يعجبها غير رجال الحرب المستبسلين فى الدفاع عن الدولة. ولذلك سألتك حين دخولك هل تعلم لماذا دعوتك فأجبت جواباً وقع من نفسى موقعاً حسناً، ولاشك أنه وقع مثل هذا الموقع عند شوكار. وقد لحظت ذلك فى عينيها، وبدلاً من أن أتم حديثى معك طلبت إليها أن تسمعك صوتها وقد فعلت.. وأنى فى غاية السرور من تقارب قلبيكما. فلنعد إلى ما كنا فيه. قل لى هل تعلم لماذا دعوتك، ونحن فيما نحن فيه من أمر الأفرنج فى دمياط وحولها؟».
قال: «أنك تريدين أن أكفيك أمرهم، وهذا هين».
قالت: «سيعهد إليك الأمر عز الدين غدا فى ذلك، ولكننى أحببت أن أطمئنك أن هذا العمل يرضى شوكار، وأنها تحب الشجعان البواسل. ومن الجهة الأخرى لحظت من شوكار أنها». وضحكت وهى تنظر إليها ثم قالت: «لحظت أنها تحب أن تتحقق رأى ركن الدين فيها».
فغلب الحياء على ركن الدين وقال: «هل لركن الدين رأى بعد أمر مولاتنا الملكة؟».
قالت: «هى لا تريد أن يكون حبك لها طوعاً لأمر الملكة».
قال: «أن أمر الملكة كان فاتحة الكلام، ولكننى أحبها الآن طوعاً لأمر قلبى. ويكفينى أن يكون عندها نصف ما عندى». قال ذلك ونظر إلى شوكار فأطرقت خجلاً، وتكلمت عيناها بما يعجز اللسان عن الإفصاح به».
•••
لما وثقت شجر الدر من ترابط قلبى ركن الدين وشوكار، التفتت إليه قائلة: «والآن يا ركن الدين كن رجلاً مثل عهدى فيك. إن نجاحك فى هذه المهمة ضامن لوصولك إلى الرتب الرفيعة. سر بحراسة الله، ولكن قبل ذهابك صافح شوكار وضع يدك فى يدها. أنى أسمح لكما بذلك».
فتقدم ركن الدين ومد يده ومدت شوكار يدها وتصافحا، وهى أول مرة تلامست فيها يداهما، فكأنهما تفاهما وتعاقدا. ثم انحنى ركن الدين أمام شجرة الدر وودعها وخرج، فأحست شوكار كأن قلبها قد خلع من صدرها وسار معه.
فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «ألم أقل لك أنه يتفانى فى حبك، وسيزداد حبك له عندما ترينه عاد ظافراً من ساحة الحرب. أنه سيناضل ويحارب باسمك.. فأهنئك يا عزيزيتى بهذا البطل».
فأطرقت وقلبها يخفق طرباً، ثم أذنت لها بالانصراف لتتفرغ لمهام الدولة. وما كادت تخرج من عندها حتى جاءها الحاجب ينبئها بقدوم عز الدين نائب السلطنة فقالت للحاجب: «قل له ينتظرنى فى الإيوان».
وكان عز الدين قد جاء إلى الإيوان لملاقاة حبيبته على حدة ليهنئها بما نالته، وهو يتوقع أن تكثر من الثناء عليه عند المقابلة على انفراد لأنه كان السبب فى نيلها ذلك المنصب الذى لولاه لم تكن لتناله فلما لم يجدها هناك. قصد إليها فى غرفتها، ولكنه رأى ركن الدين خارجاً من عندها، وعلى وجه إمارات الهيام، ودهش ركن الدين عند مشاهدته وحياة وقد ظهرت البغتة فى كلامه. أما عز الدين فإن الشك تسرب إلى فكره، وشبت الغيرة فى قلبه فلم يزد على رد التحية، وعزم على استطلاع سبب وجود ركن الدين هناك حالما يلاقى شجرة الدر فى غرفتها.
فلما عاد إليه الحاجب بأن ينتظر شجرة الدر فى الإيوان زادت وحشته وعظمت غيرته وخيل إليه أن شجرة الدر غلبت الكبرياء على قلبها حتى أصبحت تستنكف من ملاقاة صديقها وسبب نعمتها فى غرفتها. لكنه أخذ يغالب شكوكه وتجلد وذهب إلى الإيوان فى انتظارها. واتفق أنها تباطأت فى الوصول ريثما بدلت ثيابها، ثم جاءت وهى تجر ذيل ثوبها الملكى والوصيفات بين يديها. فلما دخلت وقف لها ورحب بها فحيته وأشارت إليه أن يجلس وصرفت الخدم.
فلما رآها تهش له تغير ما فى نفسه وأغضى عما سبق إلى ذهنه وقال: «جئت لأهنئ مولاتى بمنصبها، وأرجو أن تتأيد دولتها».
فابتسمت ابتسامة الشكر وقالت: «أنى لا أنسى فضلك فى ذلك يا عز الدين، ولابد لى من الاتكال عليك فى فض المشاكل التى تنتاب الدولة».
قال: «أنى رهين الإشارة يا سيدتى».
قالت: «أنت تعلم ما يحيط بنا من الحساد وما يهددنا من الأعداء ولاسيما الأفرنج فإنهم لا ينامون من مناوأتنا».
قال: «لا يشغلك شاغل من أمر هؤلاء فأنى مدبر أمرهم».
قالت: «بارك الله فيك.. غير أنى رأيت ركن الدين يليق بهذا العمل. وقد سمعتك تثنى على بسالته. وقد اتفق أنى رأيته اليوم وذكرت أمر الأفرنج بين يديه فرأيت منه ارتياحاً إلى الخروج إليهم غير أنى أحببت أن يكون ذلك برأيك».
فلم يعجبه قولها أنها رأته اليوم، وكيف تراه إن لم يكن ذلك على موعد بينهما؟. وكيف يكون ذلك فى غرفتها لا فى الإيوان؟. لكنه تجاهل وقال: «إن ركن الدين أهل لثقتك. لا بأس من أن يعهد إليه فى ذلك بأمر منك رأساً».
فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت ورقة ملفوفة وقالت: «إليك ما كتبته له فى ذلك».
فتناول الورقة وفضها فإذا هى أمر صادر إلى ركن الدين هذا نصه: من ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجليل، والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح رحمه الله إلى القائد الباسل الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى. نظراً لثقتنا الكبرى ببسالتك وعلو همتك، ولما ظهر من بلائك فى دفع الأفرنج عن بلادنا، ولما كان هؤلاء الملاعين لا يزالون يناوئوننا فى جهات دمياط، عهدنا إليك بعد مشورة مدبر مملكتنا الأمير عز الدين أيبك أن تخرج إليهم برجالك الذين تختارهم وتكفينا أمرهم. وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
والدة خليل فلما قرأ الأمر أعجبه قولها أنها فعلت ذلك بمشورته، فطوى الكتاب وبعث به إلى ركن الدين، وعاد إلى محادثتها فى شئون الدولة، وهى تبذل جهدها فى مجاملته ليطمئن قلبه لها، ولا يزال الشك يخامره — والمحب كثير الشكوك — لكنه كان يطرد تلك الشكوك من خاطره، فلما انصرف من عندها وخلا إلى نفسه عادت إليه الشكوك.
أما ركن الدين فإنه لما جاءه كتاب شجرة الدر بادر إلى تنفيذه، وقد اتسعت آماله فيما تطمح إليه نفسه من الارتقاء فى مناصب الدولة، وهو يرى نفسه أهلاً لأكبر المناصب. فإنه كان كبير المطامع عالى الهمة، والدولة فى اضطراب، وقد خطر له أن الدولة التى تستطيع امرأة أن تصير ملكة فيها لا يعجز فيها عن نيل ذلك مثله، ولكنه يعلم أن مطلبه عسير وعز الدين أمامه، وهو صاحب النفوذ الأقوى عند الجند وعند شجرة الدر نفسها. على أن ما آنسه من ملاطفة فى ذلك اليوم بعث فى نفسه بعض الشجاعة، فتكم مطامعه هذه عن الجميع لعلمه بما يعتور ذلك من الخطر. ومع ذلك فإن حبه شوكار هون عليه كل عسير وصار من أقوى الدوافع له على طلب العلا.
أما شوكار فإنها أصبحت بعد سفر ركن الدين إلى دمياط شديدة الميل إلى سماع أخبار الحرب واستطلاع ما جرى، وهى تصبر نفسها، وكلما طال انتظارها ازدادت شوقاً ولهفة. وأما هو فكان يغتنم قدوم بعض خاصته للسؤال عنها وتتبع أحوالها.
ومضى على ذلك ثلاثة أشهر لم يأت إلى القاهرة خلالها إلا مرتين، فاجتمع فيهما بشوكار على علم شجرة الدر وسمع غناءها. وفى المرة الثانية تواعدا على العقد بعد رجوعه، فمكثت تنتظر ذلك بفارغ الصبر كأن قلبها دلها على سوء سيصيبها.
•••
مشى عز الدين بعد خروجه من الإيوان إلى المنزل الخاص به فى القلعة، ودخل غرفة فيه تطل على القاهرة، وقد تعمد الخلوة ليفكر فى تلك الظنون التى غزت قلبه، وهو لا يزال فى أول هذا الدور الجديد، وجلس على مقعد بجوار النافذة، فوقع بصره على القاهرة وما وراءها من الفسطاط إلى النيل وفيه جزيرة الروضة، فتذكر الملك الصالح، وأيامه هناك مع شجرة الدر، فمر فى مخيلته تاريخ علاقته بها، فلم يجد ما يوجب شكا فعاد إلى حسن الظن.
وبينما هو فى ذلك إذ جاءه غلام ينبئه بمجئ أمرأة منقبة تريد مقابلته، فسأل الغلام من هى تلك المرأة فقال: «لم أستطع تمييزها لأنها منقبة وقد غطت وجهها».
فنهض وهو يفكر فيمن عساها أن تكون، وسار إلى غرفة خاصة بمقابلة القادمين، فوجد تلك المرأة جالسة على المقعد وقد التفت بملاءة ثمينة، ويدل مجمل حالها على أنها لم تأت لطلب صدقة، فدخل وحياها فردت التحية وهى تتحفز للنهوض، فأشار إليها أن تقعد فقعدت، وقعد هو بين يديها وقال لها: «من أنت وماذا تريدين؟».
فأزاحت النقاب عن وجهها ولم تجب، فإذا هى سلافة قيمِّة قصور الملك الصالح، وكان معجباً بجمالها، وله معها مواقف كانت هى الظافرة فيها نظراً لما كان لها من المنزلة عند الملك الصالح، وكان يحترمها من أجل ذلك، ولم يكن يتوقع أن يراها آتية إليه على هذه الصورة. فحالما كشفت وجهها بادر إلى الترحيب بها فقالت: «لم آت إليك لضيافة، ولكننى جئت ألتمس منك شيئاً أنت صاحب الأمر فيه».
فقال: «وما هو؟» قالت: «علمت اليوم أن أمور الدولة صارت إلى صديقتك شجرة الدر، وأنا كما تعلم قيمِّة قصور الملك الصالح، والملك الصالح مات، وقصوره نهبت، وأثاثها نقل إلى هذه القلعة، وصارت الحكومة إلى إحدى جواريه. لا تؤاخذنى على هذا التعبير. أنها جارية ولكنها صديقة عز الدين أيبك وهو الذى رفعها إلى مقام الملك. أنت رفعتها إلى ذلك المقام لأنها صديقتك. ولك الخيار فيما فعلت، هنأها الله بهذا المنصب. وإنما جئت الآن أطلب منك أن تطلق سراحى من الخدمة، ولم يبق لى عمل فى هذه القصور، إذ لم يبق فيها دور للحريم، بعد أن صارت ملكتنا من الحريم، فاصرفنى، أم أنت لا تقدر أن تفعل ذلك من تلقاء نفسك بدون أن تشارو ملكة المسلمين؟».
وكان لكلام سلافة وقع شديد فى نفس عز الدين وهو فى تلك الحال من التردد والشك، وكان يجل قدرها ويحب التقرب منها ولكن لم تكن تسنح له فرصة فى حياة مولاها. ولما جاءته فى تلك الحال وقع فى حيرة، وتنبهت فيه عوامل كثيرة أهمها احتقار نفسه لأنه خضع لامرأة لم ترض امرأة مثلها أن تخضع لها، وتنبه فى خاطره حب كان كامناً فهاجه لقاؤه لسلافة. ولم يسعه السكوت مع ذلك عن الدفاع عن شجرة الدر حفظاً لكرامته فقال: «أن شجرة الدر لم تصل إلى هذا المنصب إلا لأنها أم ولد السلطان كما تعلمين».
قالت: «صدقت، بارك الله فيكم. لم تبايعوها إلا لأنها أم ولد السلطان. ما شاء الله؟ وأين ذلك الولد؟ لقد مات. وإذا كان الغرض المحافظة على نسب السلاطين الأيوبيين فى هذه السلطنة أفلم يكن الأولى أن تولوا عليكم أيوبياً يكون الأمير عز الدين وصياً عليه؟ أن الأمير عز الدين الآن مدبر المملكة ولكن هل الأمر بيده؟ أنا أعرف جنس النساء، أنهن لا يحفظن الوداد. لا أقول هذا عن شجرة الدر وحدها، لكن هكذا طبيعتنا نحن النساء. ويؤيد ذلك ماجاء عنهن فى كتب الدين، وعلاوة على ذلك فإن هذه السلطنة لا تثبت إن لم يأت كتاب أمبر المؤمنين العباسى راضياً عن هذا الاختيار».
فقال: «وهل تظنين أمير المؤمنين يعترض على هذا التعيين؟».
قالت: «لا شك عندى فى ذلك».
قال: «أظنك مخطئة يا سلافة، لأن شجرة الدر حكيمة عاقلة، وقد اختارها الأمراء والقواد، فلا أظن أمر المؤمنين يخالفهم». قالت: «أؤكد لك أن أهل بغداد سيغضبون لهذا العمل وليس الخليفة فقط. وسوف ترى.. أنى أعرف هذه الأمور من قبل.. مالنا ولذلك إنما أطلب منك الآن أن تصرفنى وتطلق سراحى ولكن دون مشورة أحد».
قال: «وإلى أين تذهبين إذا أطلقت سراحك؟». قالت: «أذهب فى هذه الدنيا». وغصت بريقها وتساقطت دمعتان على خديها فمسحتهما وأظهرت أنها خجلت من الضعف الذى ظهر عليها وسكتت.
فأثر منظرها فى قلبه وقال: «بدلاً من ذهابك فى هذه الدنيا، امكثى عندنا». قالت: «أين أمكث؟ وقد ذهبت القصور والنساء، وحيثما مكثت سأكون أسيرة سجينة، أو رهينة رضا ملكة المسلمين أو غضبها. وهذا لا صبر لى عليه مثل صبركم أيها الرجال العظام والقواد البواسل، فأنى امرأة ضعيفة».
فأحس بالتهكم الذى يتخلل أقوالها ووجدها مصيبة فيما تراه، وأعجب بجسارتها حتى تقول ذلك له، فقال لها: «يا سلافة.. كفى تأنيباً وتعنيفاً. ما حدث قد حدث، وأنا أعرف قدرك، ولا أحب أن تخرجى على هذه الصورة، فامكثى عندى و…».
فقطعت كلامه قائلة: «أمكث عندك؟! مسكين!. وما الذى يصيبك لو علمت شجرة الدر بوجودى هنا؟».
فوجد الحق معها، لكنه كبر عليه أن يعترف بهذه الحقيقة فقال: «مالها ولمن عندى. أنا لا أتعرض لما عندها؟».
قالت: «وما هو الفرق بين الملوك وسواهم؟. هل يجوز لنا ما يجوز للملوك؟ هل خيل إليك أنك لو رأيت رجلاً خارجاً من غرفة شجرة الدر صديقتك الحميمة — وأنت الذى وضعتها فى هذا المنصب — يحق لك أن تسأل عن سبب وجوده هناك؟. أما هى فلها أن تعد أنفاسك وتحاسبك على كل خطوة».
فتذكر رؤيته ركن الدين فى ذلك الصباح خارجاً من عندها وما خامره بسبب ذلك من الشكوك. فأطرق هنيهة يفكر، لكنه خاف أن يدل ذلك على ضعف فيه، وهو لا يريد أن يظهر ذلك خصوصاً بين يدى سلافة بعد ما أسمعته إياه من اللمز والتعريض فقال: «أنت تعتقدين إذن أن وصول شجرة الدر إلى هذا المنصب أبعد ما بينها وبينى، فحق لها أن تنصرف كما تشاء. فما الذى يمنعنى من أن أفعل أنا ما أريده ولا التفت إلى ما يرضيها أو يغضبها؟».
فقالت: «لا.. لا أشير عليك بذلك. أنه يكون سبباً لتنغيص العيش. ولا أحب أن يكون ذلك بسببى».
قال: «هل تظنين وجودك عندى يغضبها؟. ومع ذلك لا رأى حاجة إلى إطلاعها على وجودك عندى».
فهزت رأسها وقالت: «أنها جرأة عظيمة منك لا سيدى، إذ أحببت أن أكون تحت ظلك، ولكنى لا رأى أن أقيم معك فى منزلك، بل أقيم فى مكان أخر. وأنا فى كل حال صديقتك، وسأبقى على ودادك ولو صرت ملكة المسلمين.. على أنى لا أضمن ذلك. لأن الإنسان عرضة للتغير» وضحكت.
فقال: «ما الذى يجول بخاطرك وتخافين أن يتغير؟» قالت: «يجول بخاطرى أن النساء لا يصلحن للحكومة، وأن السلطنة لا تليق إلا بك، فأنت قائد الجند، وأنت حاربت الأفرنج وقهرتهم، وأنت دبرت كل شئ. هذا ما أراه الآن ولا أغير فكرى فيه». فكان لهذا الأطراء وقع جميل فى قلبه.
والإنسان تخدعه ميوله حتى تريه الأسود أبيض والخرافة حقيقة، ومن فطرته أن يعتقد صدق مادحه وإخلاصه ويميل إليه بقلبه، وقد عرف هذه الطبيعة أصحاب التدبير الذين يحتاجون إلى مصانعه الناس فى التجارة وغيرها فاتخذوا مدح عملائهم وأطراء مناقبهم وسيلة للتقرب إليهم واكتساب ثقتهم، واتخذ هذه الخلة أيضاً طلاب رضا النساء، وجعلوا أطراء جمالهن وسجاياهن وسيلة لاكتساب قلوبهن ولذلك قال أمير الشعراء:
خدعوها بقولهم حسناءوالغوانى يغرهن الثناء. والحقيقة أن الثناء لا يغر الغوانى فقط، بل هو يغر كل إنسان، ويندر أن ينجو عاقل من الوقوع فيه.
فلما سمع عز الدين عول سلافة أعتقد صدقها وأنها مصيبة فيه، وتوهم ألا عرض لها غير تقرير الحقيقة، وتمكن اعتقاده فى إخلاصها وصدق مودتها، وكان ذلك باعثاً على التباعد بينه وبين شجرة الدر بدون أن يشعر. وافترقا على أن تقيم سلافة فى قصر خاص بها وتكون تحت رعايته.
وبعد ذهابها أخذ يفكر فيما قالته فوجدها على صواب، إذ كان يجب أن يتولى السلطنة أحد غلمان بنى أيوب، على أن يكون هو مدبراً للمملكة ولا يكون هناك باب للاعتراض، وذلك أفضل من أن تتولى الدولة أمراة.
الفصل الخامس
خلع شجرة الدر
أصبح أهل القاهرة يتهامسون عن رسول قادم من عند أمير المؤمنين العباسى وقد نصب فسطاطه خارج القاهرة، وأخذوا يتكهنون فيما عسى أن يكون كنه رسالته، إذ يندر أن تأتى رسالة من الخليفة العباسى إلا إذا كان هناك أمر مهم من عزل أو تولية.
وكان الرسول حين أشرف على القاهرة قد بعث أحد رجاله ينبئ القواد والأمراء بقدومه ليرسلوا من يستقبله كما هى العادة احتراماً للرسالة التى يحملها من خليفة الرسول. ولم يمض كثير حتى ضجت المدينة وغصت الشوارع بالمارة والوقوف، ولاسيما فى الشوارع الممتدة من باب النصر إلى القلعة حيث يمر الرسول. واستعد الأمراء والقواد فى القلعة للاجتماع وسماع الرسالة عند تلاوتها، وأكثرهم يظن أنها تتعلق بسلطنة شجرة الدر، والأرجح عندهم أنها تثبيت لها فى المنصب كما تعودوا فيمن ولوهم من السلاطين. وتقاطر الأمراء والقواد إلى الإيوان، وفى مقدمتهم عز الدين أيبك وغيره من الأمراء البحرية، إلا ركن الدين لأنه كان غائباً فى دمياط. أما شجرة الدر فقد كانت على سريرها فى صدر الإيوان، وعليها ثوبها الملكى الذى لبسته يوم الاحتفال بتوليتها منذ ثلاثة أشهر ومعها شوكار، وكانت هذه حزينة لغياب ركن الدين فإنها كانت تود حضوره.
أما سلافة فكانت أعلم الناس بفحوى تلك الرسالة، إذ جاءها رسول خاص من قيمِّة قصر الخليفة المستعصم بالله كان مرافقاً لرسول الخليفة، وقد أنبأها أن الرسالة تضمنت خلع شجرة الدر عن سلطنة مصر، فكاد قلبها يطير فرحاً، وأحبت إبلاغ ذلك إلى عز الدين، وكان يتردد عليها فى اثناء هذه المدة، وقد تحابا وبلغ خبرهما إلى شجرة الدر فاستاءت لكنها كظمت غيظها، فلما علمت سلاقة بقدوم رسالة الخليفة بعثت إلى عز الدين فجاءها، فقالت له: «بلغنى أنه جاءكم رسول يحمل كتاباً من أمير المؤمنين، ما هو فحواه يا ترى؟» قال: «لا أعلم». قالت: «وما ظنك أن يكون فحواه؟» قال. «قلت لك أنى لا أعلم، فهل أنت تعلمين؟».
فضحكت وقالت: «نعم أعلم، وقد قلت لك عن فحواه منذ ثلاثة أشهر. ألا تذكر؟» فأطرق وهو يفكر، فتذكر حديثها الأول معه يوم جاءته إلى القلعة، وذكرت له يومئذ أن الخليفة لا يسلم بسلطنة شجرة الدر فقال: «أظنك تعنين حديثنا عن شجرة الدر؟». قالت بتهكم: «نعم عن ملكة المسلمين!».
قال: «أذكر أنك تنبأت أن الخليفة لن يوافق على توليتها، فهل جاء الرسول بهذه المهمة؟».
قالت: «نعم جاء بهذه المهمة. وفحوى رسالته خلع هذه المرأة عن الملك».
فأدهشته هذه المفاجأة لأنه لم يكن ينتظرها، واستغرب إطلاع سلافة على ذلك الخبر قبل كل إنسان، والرسول لم يدخل القلعة بعد، والكتاب ما زال فى حقيبته، فقال لها: «كيف عرفت ذلك؟».
فضحكت وقالت: «عرفته وتنبأت به قبل حدوثه، لعلمى أن تلك التولية لا ترضى أمير المؤمنين. والآن كن حازماً، وأعلم أن الرأى الذى ذكرته لك منذ ثلاثة أشهر هو الرأى الصواب. هل تذكره؟».
فظهرت الدهشة على عز الدين، فشعر بضعفه بين يدى تلك المرأة، وفكر فيما تطلبه منه، فتذكر أنها أشارت إليه يومئذ أن يولى أحد أبناء الأيوبيين ويكون هو مدير المملكة والوصى على العرش، ثم يغتنم الفرصة ويستقل بالسلطنة بعد أن تستقر قدمه فيها فقال: «نعم أذكره. لكن ما هو السبيل إلى إتمامه، ومن هو الغلام الأيوبى الذى يمكننا تنصيبه؟».
قالت: «متى بلغتم إلى هذا الأمر فأنا أدلك على من يصلح لذلك».
قال: «قولى الآن فربما لا تسنح الفرصة بإعادة النظر».
قالت: «صدقت. أتعرف موسى بن صلاح الدين بن مسعود بن الكامل؟». قال: «نعم أعرفه لكنه غلام لم يجاوز الثامنة من عمره».
قالت: «لو كان فى الخامسة لكان أصلح لما نريده. هذا الغلام هو أولى الأيوبيين بهذه السلطنة، ومتى كنت أنت الوصى عليه كان كل شئ إليك».
قال: «ولكن من يضمن لى الوصاية عليه؟».
قالت: «أنا أضمنها لك بشرط ألا تظهر ضعفاً، وأن تكون أنت المقترح لسلطنة موسى هذا، وإتمام ذلك على».
قال: «وهل تحضرين الاحتفال معنا؟». قالت: «أحضر مع النساء من وراء الستر». فودعها وخرج من عندها وقد ملكت عقله بعد أن ملكت قلبه. ولما وصل إلى القلعة وجد الأمراء فى انتظاره وكانت شجرة الدر أكثرهم قلقاً على غيابه، فقد علمت بغيابه وهى وراء الستر، وكان قلبها دلها على تنافر بينهما. ومكثت تنتظر وصول الرسول وتلاوة الكتاب وهى لا تعلم ما هو مخبوء لها.
•••
كانت الجماهير تموج فى ساحة القلعة منذ صباح ذلك اليوم، وجاء الخبر بوصول الرسول، فتقدم الحاجب لاستقباله حتى دخل الإيوان، ووقف الأمراء على الجانبين، وشجرة الدر فوق سريرها وراء الستر ومعها شوكار. وقد لحظت هذه اضطراب سيدتها وخوفها فأخذت تخفف عنها وتطمئنها وتداعبها وهى تتجلد وتصغى لما يدور من الحديث فى الخارج، ثم سمعت عز الدين يقول: «أيها الأمراء. هذا رسول مولانا الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله حفظه الله، ومعه كتاب من الخليفة سيتلوه علينا، فاسمعوا له وأضمروا الطاعة لما يحويه، لأنه من خليفة الرسول ?». فصاح الجميع: «نحن مطيعون للرسول وخليفته».
فتقدم حامل الكتاب، ووقف على منصة وفضه، وأخذ يقرأ والناس سكوت كأن كان رؤوسهم الطير، ويكاد أحدهم يقطع نفسه لئلا يكدر عليه سمعه وهذا نص الكتاب: من أبى أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أمراء الجند والوزراء فى مصر. السلام عليكم. وبعد فقد بلغنا أنكم وليتم أمركم شجرة الدر، جارية الملك الصالح، وقلدتموها أمور الدولة، وجعلتموها سطانة عليكم. فإذا لم يكن عندكم رجال يصلحون للسلطنة فأخبرونا لنرسل إليكم من يصلح لها. أما سمعتم فى الحديث عن رسول الله ?: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
ولم يفرغ القارئ من تلاوة الكتاب حتى ضج الناس وعلت الضوضاء، ولا تسل عن شجر الدر وما أصابها لما سمعت ذلك. لكنها كانت عاقلة حازمة، فلما سمعت أمر الخليفة وعلمت أنه لا مندوحة لها عن العمل به تجلدت وأومأت إلى الحاجب أن يزيح الستر المنصوب بينها وبين المجلس، فأزاحه والتفت الناس نحو السرير وتهيبوا، ولبثوا ينتظرون ما يبدو من شجرة الدر بعد تلاوة الكتاب، فإذا هى تقول: «يا معشر الأمراء.. قد سمعتم ما أمر به أمير المؤمنين، وطاعته فرض على كل مسلم. قد صدق — حفظه الله — فإن النساء لا يصلحن للسلطنة، وأنا لم أقبل هذا المنصب إلا عملاً برأيكم أيها الأمراء والقواد ورغبة فى استقرار الأحوال بعد اضطرابها. أما الآن وقد استقرت الأمور وسمعنا رأى مولانا الخليفة، فأنى أخلع نفسى وأطلب منكم أن تختاروا من ترونه ليتولى هذا الأمر، وأنا أول من يخضع له».
فاستحسن محبوها هذا التنازل منها، لأنه دل على كبر نفسها وسعة عقلها، ولم تستحسنه سلافة، لأنها كانت تحب أن تتردد فينزلوها كرهاً.
على أنها فرحت بخلعها. ولما فرغت شجرة الدر من قولها خرج صوت من وراء حجاب يقول: «لا نقبل علينا سلطناً ليس من سلالة آل أيوب».
ولم يعرف الأمر من أين خرج الصوت، لكنه عبر عن شعور كثيرين فأمنوا عليه وصادف هوى من نفوسهم. فقد كان أكثر المصريين عند تولية شجر الدر غير راضين عن توليتها، ويطلبون تولية رجل من آل أيوب، لكنهم أذعنوا خوفاً من الجند. فلما خلعت وسمعوا صوتاً يقترح ما يشعرون به أجابوا بالموافقة ولو لم يعرفوا المقترح. وعلا الضجيج وكان الصوت الغالب اختيار سلطان من آل أيوب. فتوجهت الأنظار نحو كبير الأمناء هناك، وهو عز الدين أيبك، كأنهم يستشيرونه فقال: «أن مولاتنا شجر الدر قد برهنت بتنازلها عن الملك على أنها مخلصة لمولانا أمير المؤمنين وأنها حريصة على حقوق المسلمين، ونحن لم نولها هذا المنصب إلا لأنها والدة المرحوم خليل من سلالة الأيوبيين.
أما الآن فما علينا إلا اختيار أحد أمراء تلك السلالة. وأعلم أن منهم مولانا موسى بن صلاح الدين بن مسعود لكنه صغير السن».
فقاطعه حامل الكتاب قائلاً: «لا يضره صغره فأنك وصيه وقائد جنده ومدبر أموره، فما رأيكم أيها الأمراء؟».
فصاحوا جميعاً: «هذا هو الصواب، لا نرى أصوب منه».
فاستغرب عز الدين ذلك من صاحب الكتاب وهو قادم من بغداد، وكيف عرفه ورشحه لهذا المنصب. فلما سمع مصادقة الجمهور وقف ساكتاً، فقال حامل الكتاب: «بما أنكم قد أقررتم تولية موسى بن صلاح الدين فلنفعل ذلك الآن، وقد دفع إلى مولانا أمير المؤمنين شارات السلطنة لألبسه إياها».
قال ذلك وأشار إلى بعض رجاله فدفع إليه حقيبة كالصندوق، فأمره ففتحها وفرض ملاءة وأخذ يستخرج ما فى الصندوق ويضعه فوقها والناس ينظرون، فكان أول شئ استخرجه خلعة سوداء. هى شارة بنى العباس، ثم عمامة سوداء، وأخرج طوقاً من ذهب للعنق وقيدا من ذهب للرجل. فلما صارت كلها على الملاءة قال: «هذه شارات السلطنة، فأتونى بالسلطان موسى بن صلاح الدين لنلبسه إياها فقد أوصانى أمير المؤمنين ألا أخرج من مصر إلا وعليها سلطان من آل أيوب».
فسارع عز الدين إلى إحضار موسى، ولم تمض مدة قصيرة حتى جئ به، وهو طفل فى الثامنة من عمره، فألبسوه تلك الشارات على قد رالإمكان، ونادوا به سلطاناً على أن يكون عز الدين أيبك وصياً عليه ومدبراً لأمور الدولة بالنيابة عنه.
كل ذلك وشجرة الدر على سريرها ترى وتسمع، فلما فرغوا من تنصيب السلطان الجديد وأرخوا الستار عليها تنفست الصعداء وأكبت على كتف شوكار وأخذتا فى البكاء، وشوكار تتجلد وتقول: «هلمى يا سيدتى نذهب إلى غرفتك لئلا نفتضح».
فأطاعتها، ومشتا نحو الغرفة، ولما وصلتا إلى هناك أخذت شوكار تخفف عن سيدتها وهذه تتأوه وتتنهد، وأخيراً قالت: «لا أعلم سبب هذا التغيير، ولكننى أحسنت بالتنازل من تلقاء نفسى. ولا تظنى أنى آسفة على اعتزال هذا المنصب الشاق وأنت أعلم الناس بما كنت أشكوه من ثقال أعبائه. ويكفينى أنى أول أمرأة تولت الملك فى الإسلام، وأنت الآن تعزيتى الوحيدة».
فلم يعجبها قولها لأنها أصبحت تفضل أن تكون تعزية ركن الدين، فسكتت، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «إنما اتأسف لأنى لم أبق على كرسى الملك حتى ينال ركن الدين ما هو أهل له من الرتب العالية، لكنه سينالها من سواى، ولو كان هنا اليوم لنال شيئاً، وربما كان هو المختار للوصاية».
فانقبضت نفس شوكار عند سماع ذلك، وتأسفت لفوات الفرصة، لكنها عادت إلى أطراء سيدتها وقالت: «إنما يهمنى يا سيدتى أن تكونى سعيدة».
قالت: «أنى سعيدة بك يا شوكار كما تعلمين والحمد لله على أن تخلصت من أعباء الملك. لقد ذقتها فلا أحسد أحداً عليها ولا أتمنى أن أعود إليها».
قالت شوكار: «صدقت يا سيدتى، لأنى رأيتك منذ توليت السلطنة قلقة الخاطر، وكنت قبلها منشرحة الصدر، فلنعد إلى ذلك. متى يعود ركن الدين يا ترى؟».
قالت: «سيعود قريباً، أنه حالما يسمع بهذا التغيير يأتى، ومتى أتى نلت ما وعدتك به». فأطرقت وسكتت.
•••
تولى الأمر موسى بن صلاح الدين، ولقبوه بالملك الأشرف، وناب عنه فى تدبير الأمور عز الدين. ولقد أحسن هذا أن ما ناله فى هذا اليوم كان الفضل فيه لسلافة. فلما انصرف القوم كان أول شئ عمله أنه ذهب إلى منزل سلافة، فرآها جالسة جلوس الملك الظافر وهى تضحك لنجاح مهمتها، فلما دخل ألقى التحية فقالت: «كيف رأيت أيها الأمير.. ألم تكن سلافة عاقلة تفهم سرائر الأمور؟».
قال: «صدقت والله أنك جئت بالمعجزات. ألا تخبريننى كيف استطعت الإطلاع على هذه الأمور قبل وقوعها؟».
قالت: «أما وقد علمت صدق مودتى لك فلا أخفى عليك أنى أنا السبب فيما رأيته من التغيير والتبديل بسبب صداقتى لقيمة قصر الخليفة المستعصم بالله، فأنى كتبت إليها كتاباً ترتب عليه ما رأيت، ولكنها اشترطت على أمراً ضمنت لها تنفيذه ولم أحدثك عنه من قبل لعلمى أنك لا ترى مانعاً من إمضائه».
قال: «وما هو؟». قالت: «أتعدنى أنك فاعلة؟».
ففكر فيما عسى أن يكون طلبها، وخاف أن يكون فيه ما يسوءه، لكنه لم يسعه إلا الطاعة فقال: «أنى فاعل ما تريدين».
قالت: «هذا كتاب قيمِّة القصر تقول فيه أن مولانا أمير المؤمنين بلغه أن فتاة رخيمة الصوت تتمتع شجرة الدر بغنائها، وقد طلب أن ترسل إليه حالاً، لأن أمير المؤمنين مغرم بالغناء، وقد ضمنت لرسول الخليفة أن أرسل معه جارية شجرة الدر هدية للخليفة».
قال: «لعلك تعنين المغنية شوكار؟». قالت: «نعم، إياها أعنى، فماذا ترى؟».
قال: «هذا هين على. وأظنه يسر الجارية لأنها ستنتقل من خدمة ملكة مخلوعة إلى قصر خليفة عظيم».
قأعجبها قوله: «ملكة مخلوعة». وابتسمت وقالت: «ولا يخفى عليك أن إرضاء الخليفة لابد لك منه الآن، وأنك ستحتاج إلى رضاه عنك إذا أحسنت التدبير وصرت سلطاناً مستقلاً. أظنك فهمت مرادى».
فأوما برأسه أنه فهم كل شئ، وأسرع إلى النهوض وأشار إليها مودعاً وهو يقول: «أئذنى لى فى الانصراف للقيام بهذه المهمة».
قالت: «سر يحرسك الله. ولا تنس أن الرسول سيسافر غداً، ويجب أن تكون معه شوكار».
وسار عز الدين إلى القلعة متنكراً وكان فى أثناء الطريق يفكر فى سلافة واقتدارها، وقد شعر بفضلها عليه، ورأى أنه لم يكن أميناً فى حب شجرة الدر، ولكنه اغتفر لنفسه ذلك بما كان قد داخله من الشك فى أمرها مع ركن الدين بالأمس، وكان يجب أن يؤجل مقابلة شجرة الدر إلى الغد ريثما يهدأ روعها لكن الحاح سلافة بعثه على سرعة مقابلتها.
فلما دخل القلعة صار توا إلى منزل شجرة الدر، وكانت جالسة فى غرفتها مع شوكار، وقد أخذت هذه تعزف على العود وتغنيها لتخفيف ما بها. ولما أقبل عز الدين على باب الدار سمع صوت العود فأشار إلى الحاجب أن يخبر شجر الدر بقدومه.
ودخل الحاجب وأنبأها بذلك، ولكن عز الدين لم ينتظر جوابها بالأذن، بل دخل توا بما له من الصداقة، فلما أقبل على الغرفة رأى شجرة الدر بثياب المنزل، وقد عصبت رأسها بعصابة مزركشة أردات بها تخفيف صداع ألم برأسها على أثر ما كابدته فى ذلك اليوم، فلما رأته داخلاً تثاقلت فى النهوض وهى تتألم من الصداع، ولم يكن الصداع وحده سبب تثاقلها، لكنها كانت قد شعرت بتغير قلبه وتحول محبته، ولم يفتها أمر سلافة وتردده إليها قبل خلعها، وتأكدت تغيره فى ذلك اليوم لأنها كانت تراقب حركاته، وعلمت أنه ذهب إليها عقب انقضاض المجلس فى حين كان ينبغى له أن يبادر إلى لقائها هى لكى يؤانسها ويخفف عنها. وهذا ما كانت تتوقعه لو كان باقياً على عهده معها. فلما رأته داخلاً انقبضت نفسها وأخلج قلبها فى صدرها عتباً وغيظاً.
أما هو فأسرع إليها وهى تتحفز للوقوف وقال: «إجلسى يا سيدتى لا حاجة إلى وقوفك، أنى أراك مريضة، ماذا أصابك؟».
فعادت إلى مقعدها وهى تصلح العصابة وتلتف بالمطرف وتكمش كأن البرد يتمشى فى عروقها، وظلت ساكتة، فقعد عز الدين على كرسى بين يديها وقال: «أظنك مصابة بالصداع الذى كان يتردد عليك أحياناً».
فقالت: «أنه صداع شديد لم أصب بمثله من قبل، لا أراك الله مثله يا عز الدين وحماك من غوائله».
فلم يعجبه قولها، وأدرك أنها تعنى شيئاً تضمره فقال: «لا ينجو أحد من الصداع يا شجرة الدر. وليس هو مما يؤبه له، ولا يلبث أن يزول».
قالت: «أنه يختلف عما تعودته قبلا، وتغيير العادة صعب. أليس كذلك؟». وظهر العتب فى عينيها.
فأدرك مرادها لكنه تجاهل وقال: «إن الإنسان لا يتعود الأوجاع فإذا عاودته رآها فى كل مرة جديدة كأنه لم يذقها من قبل. ولو علمت أنك مصابة بالصداع لأسرعت إليك قبل هذه الساعة».
قالت: «لا تشغل بالك بهذه الملكة المخلوعة، وأنت الآن فى شاغل بأمور الدولة وغيرها».
قال: «وهل تظنين أمور الدولة تشغلنى عن شجرة الدر، وقد كان يجب أن أبادر إلى تهنئتك بالنجاة من أثقال هذه المهام. وأعجبنى منك ما أظهرته فى هذا الصباح من رباطة الجأش وسعة الصدر، وقد أحسنت فى كل ما صدر منك فلم تتركى لأمر الخليفة بالخلع قوة أو أثراً». وتنحنح وبلع ريقه وقال: «والحق يقال أن ذلك الأمر إذا كان له أثر فإنما يكون أثره موجهاً إلينا، أو إلى خاصة، لأننا ألجاناك إلى قبول السلطنة، ولم يدر فى خلدنا أن يكون ذلك مخالفاً لإرادة أمير المؤمنين». فلم يعجبها منه ذلك المن عليها بأنه هو الذى جعلها ملكة فقالت: «أنتم أخطأتم بالاقتراح وأنا أخطأت بالقبول. على أن نزولى عن عرش الملك لم يترك أثراً كبيراً فى نفسى بقد رما ترك…». وسكتت وهى تنظر إليه نظر العتاب.
فعلم أنها تشير الى تغيره، فبادرها وقال بلهفة: «أخاف أن يكون قد داخلك شك فى صداقتى و….».
فقطعت كلامه قائلة: «لا. لا. لم يداخلنى شئ.. ولكننى تعلمت أن الإنسان لا ينبغى أن تغره ظواهر الأمور دائماً. والذى أراه الآن أن تترك العتاب ونروح خواطرنا بلحن نسمعه من شوكار».
والتفتت إلى شوكار، وكانت قد وضعت العود بجانبها، فتناولته وأصغت لما تأمرها به سيدتها فإذا هى تقول لها: «أنت يا شوكار تعزيتى الوحيدة الآن. ولا أخاف تغيرك. غننى لحناً محزناً». قالت ذلك وتلألا الدمع فى عينيها.
فتأثر عز الدين من منظرها، خصوصاً بعد ما رآه من تعلقها بشوكار وهو قادم ليأخذها منها.. فظهرت البغتة فى وجهه، لكنه تشاغل بسماع الغناء، وهو يظهر أنه يسمع والحقيقة أنه وقع فى حيرة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، والوقت لا يساعده على تأجيل مهمته. وقضى برهة وهو يفكر فى حيلة ينتحلها للدخول فى الموضوع وطلب شوكار منها. فلما فرغت شوكار من الغناء التفت عز الدين إلى شجرة الدر وهو يبتسم وقال: «يظهر أنك انقطعت عن كل شئ إلى شوكار». أليس فى قصرك من يحسن الغناء سواها؟».
قالت: «ولا أعنى الغناء فقط وإنما أعنى أنها تؤانسنى، وأعتقد أنها تحبنى، ولا أخاف أن تتحول عن محبتى».
فأدرك عز الدين ما تعنيه من تغيره عليها، لكنه صمم أن يصل إلى مراده فقال: «ولكن ليس من الحكمة أن تعلقى آمالك بها إلى هذا الحد، أنا أتيك بمغنية أحسن منها متى شئت».
فقالت: «لا. لا أريد سواها».
فقال: «الأفضل أن تطلبى سواها».
فقالت وكأنها أحست بما يضمره: «هل تنوى أن تسلبنى هذه التعزية أيضاً؟». قال: «لم أكن أحسب لها هذا المركز لديك، ولولا ذلك لما وافقت على أخذها».
فأجفلت وصاحت: «أخذها؟. من يأخذها منى؟. لا. لا. أنها جاريتى وأعزها معزة البنين. لا أسمح بها لأحد أبداً».
فتشاغل بحك عثنونة بسبابته وهو مطرق ثم قال: «صدقت، يحق لك أن تحرصى عليها وألا تسمحى بها لأحد. ولكن الإنسان لا يقدر أن يفعل ما يشاء دائماً. ولاسيما إذا كان الطالب لا يمكن رد طلبه».
فنهضت ونظرت إليه بدهشة وقالت: «من طلبها؟ قل يا عز الدين».
قال: «لا تغضبى يا سيدتى. أن طالبها أعظم رجل فى المسلمين». فقعدت وقالت: «أظنك تعنى المستعصم بالله أمير المؤمنين؟.. أما كفاة خلعى عن الملك حتى يطلب جاريتى؟».
قال: «يسوءنى أنى لا أرى مندوحة عن إجابة طلبه وهو أمير المؤمنين ونحن تحت رعايته وهو خليفة الرسول ?».
قالت: «وكيف طلبها؟.. ومن جاء ليأخذها؟».
قال: «رسول الخليفة حامل كتابة، وقد رأيته بالأمس».
فتناثر الدمع من عينيها رغم إرادتها، والتفتت إلى شوكار فرأتها مطرقة ساكتة ودموعها تندحرج على خديها فأثر منظرها فى نفسها وهاج غضها وقالت: «هل وافقته على ذلك يا عز الدين؟».
قال: «وهل فى الإمكان رد طلبه، وقد رأيت أمره نافذاً فيما هو أعظم من ذلك؟».
فوقفت وأخذت تمسح عينيها بمنديلها وهى تكاد تتميز من الغيظ، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «ولكن هذه الفتاة مخطوبة».
قال: «لا أعلم، وإنما على أن أنفذ طلب أمير المؤمنين، فإذا كانت لأحد حاجة فليطالب بها أمير المؤمنين». قال ذلك ونهض وقد ظهر الإصرار والجد فى حركاته ثم قال: «فلتستعد شوكار للسفر غداً صباحاً، وأعلمى أنها ستسافر معززة مكرمة لأنها طلبة أمير المؤمنين ولا خوف عليها».
وخرج عز الدين، ولم يكد يبلغ الممر حتى سمع بكاء شوكار وشهيقها لكنه تغافل وأوصى الحرس هناك أن يراقبوها لئلا تفر خلسة فى أثناء الليل.
وقد أحسن عز الدين بهذه الوصية لأن شجرة الدر كانت قد عزمت على أن تمهد لشوكار سبيل الفرار، فلما رأت استحالة ذلك عظم الأمر عليها، وتمكنت البغضاء من نفسها، وأصبح همها التخفيف عن شوكار والتهوين عليها، وتجلدت أمامها ويبنت لها أن ذلك الأمر لا مناص من الطاعة فيه، ولكنها ستبذل جهدها فى إنقاذها، وأكدت لها أن ذهابها لا خوف منه.
أما شوكار فكان أكبر همها أن ترى ركن الدين وما يكون إحساسه بعد أن يسمع ذلك الطلب، وما الذى يبدو من غيرته أو فتوره. ولكن لا سبيل إليه وهو بعيد، والوقت لا يساعد على استقدامه فى ذلك الليل، فاستسلمت وتوكلت، ولم يكن ذلك فى عرف تلك الأيام شيئاً عظيماً لما تمكن من نفوس الناس من امتياز الخلفاء والأمراء، وأن أولئك الجوارى مثل سائر المتاع لا إرادة لهن ولا رأى، وعليهن الاستسلام لما يطرأ عليهن فى الانتقال من سيد إلى سيد. ولولا خوف شوكار من أن تخسر ركن الدين لكان انتقالها إلى بيت الخليفة مما يحسدها عليه كثيرات، ومع ذلك لم يكن لها أن تختار.
وفى صباح اليوم التالى حملها بعض الخصيان إلى معسكر رسول الخليفة بعد أن ودعت مولاتها وداعاً مؤثراً. لكن شجرة الدر أكدت لها أنها لن تنساها، ولابد من أن تقترن بركن الدين، فسافرت إلى بغداد وقلبها فى مصر.
أما شجرة الدر فقد شق عليها فراق شوكار كثيراً، لكن غضبها من عز الدين إنما كان سببه الغيرة من سلافة، وحدثتها نفسها أن تلك الجارية هى سبب مصائبها. وقد نقمت على عز الدين خيانته المضاعفة، فقد خانها فى قلبها وأحب سواها، وخانها فى منصبها فلم يبد اعتراضاً على خلعها وهو قائد الجند وصاحب القوة الفعالة، فاضطرت إلى الإذعان لحكم الزمان، إذ لم تر وسيلة إلى غير ذلك.
على أنها تذكرت ركن الدين وهو آت عما قليل إلى القاهرة، فكيف تقابله وماذا تقول له؟. وكان هو حين بلغه ما حدث من الانقلاب فى القاهرة قد سارع إليها، فوصل عقب سفر شوكار، وجاء إلى شجرة الدر قبل مقابلته عز الدين، فأخبرته بما جرى ولاسيما فى شأن شوكار، وأكدت له أنها بذلت جهدها فى إقناع عز الدين ليبقيها فأبى، وبالغت فى وصف قحته وفظاظته لكى توفر صدره عليه.
وكان ركن الدين ما زال بثياب السفر، فعظم عليه الأمر، وقام فى خاطره لأول وهلة أن عز الدين فعل ذلك نكاية فيه ليحرمه من شوكار، لكنه كان رابط الجأش واسع الصدر حريصاً على سره، فلم يجب بكلمة واحدة مع أن الغضب بدأ فى عينيه، وكانت شجرة الدر تلاحظ ذلك فيه فتعيد الشكوى وتتوقع أن يقول قولاً يشفى غليلها، ولا يشفيه إلا أن يتوعد عز الدين بالقتل، لأن حبها له قد تحول إلى كره بعد ظهور خيانته.
وبعد حديث طويل وهو ساكت ملت سكوته، فقالت: «ما بالك يا ركن الدين؟ لعلك سررت بذهاب شوكار من يدك كما سررت بذهاب الدولة منى؟ وكلاهما من فعل ذلك الخليفة الخليع؟!».
فعظم عليه ذلك التعبير الجرئ عن الخليفة فقال لها: «وأى خليفة تعنين؟»
قالت: «أعنى المستعصم، صاحب بغداد، الذى استعظم أن يتولى أمر المسلمين امرأة ولم يستعظم أن يتولاه رجل ساقط الهمة ضعيف الرأى مشتغل باللهو والقيان وسماع الغناء». قالت ذلك وقد بان الغضب فى عينيها وتاقت نفسها إلى معرفة وقع هذا القول فى نفس ركن الدين، فوجدته لم يزدد إلا إطراقاً وسكوتاً.
ولو أوتيت قراءة الأفكار لعلمت أن سكوت ذلك الأمير أدل على غضبه من الكلام وأنفذ لغرضه من السهام. وقد تنازعته عوامل كثيرة كل واحد منها يقيمه ويقعده، وقامت فى نفسه أمور لو أطلعت عليها شجرة الدر لشفى غليلها وخفت نقمتها، لأنها كانت تستحثه على المسير ذراعاً وهو يريد أن يمشى ميلاً أو فرسخاً.
فلما رأته ما زال ساكتاً أشكل عليها أمره فقالت: «تكلم يا ركن الدين، تكلم، لقد ضاق صدرى من سكوتك، لعلك لم تصدق قولى؟ تمهل أنى سآتيك برجل يعرف هذا الخليفة حق المعرفة، وقد جاء من بغداد أمس، اسأله ينبئك عن أفعال ذلك الخليع. أجلس وأنا أبعث إليه الساعة».
فقعد وهو يلاعب شاربيه ولحيته بيده ويوشك أن يقتلع شعرهما بأنامله من فرط التأثر وهو لا يشعر. وبعد قليل دخل البغدادى، وحالماً رآه ركن الدين عرفه وناداه قائلاً: «سحبان».
فصاحبت شجرة الدر: «قد أنطقك الله بعد طول السكوت، الحمد لله. الفضل فى ذلك لسحبان — حفظه الله — قل يا سحبان، ما الذى تعرفه عن المستعصم صاحب بغداد؟ ولا تخف من التصريح فإن ركن الدين صديقنا، قل ما قلته لى البارحة».
•••
وكان سحبان قد عاد عن المهمة التى بعثته فيها سلافة وقضاها كما تريد، فلما جاءها وقص عليها ما فعله لم يجد منها إقبالاً، ثم لحظ تردد عز الدين عليها ورأى الجفاء منه أيضاً فتحول حبه لسلافة إلى بغض، ونقم عليها وعلى عز الدين. وهو ناقم على تلك الدولة برمتها لأنه شيعى من أهل بغداد، وقد برحها فراراً من ظلم العباسيين واضطادهم الشيعة بحيث لم يعد فى إمكانه الصبر على الضيم هناك، فجاء القاهرة منذ بضعة أعوم، واجتمع بمن فيها من الشيعة، فتشاكوا فيما بينهم وهم صابرون مرتقبون سنوح الفرصة لعلهم يستطيعون أن يستعيدوا الأمر للعلويين كما حدث فى أيام الفاطميين. وكان سحبان ذا ثروة وتجارة واسعة، وقد أحب سلافة فكلفته بتلك المهمة، فلما عاد شق عليه تغيرها، ولم يجد خيراً من أن يثير غضب شجرة الدر عليها وعلى العباسيين وعلى سلطانهم بمصر جملة، وهو يعلم أنها قريبة الإصغاء إليه لما هى فيه بسبب زوال منصبها وخيانة عز الدين لها. فقابلها بصفة تاجر، وكانت تعرفه كما تعرفه سلافة، وأظهر أنه قادم من بغداد بسلع جديدة تليق بها، وتطرق فى الحديث حتى هاجها على الخليفة، وأكد لها خيانة عز الدين، فكتمت ذلك حتى جاء ركن الدين قصت عليه ما عرفته، ولأجل التثبت استقدمت سحبان، فلما رأه ركن الدين بش له ودعاه إلى الجلوس، فقالت شجرة الدر وهى تضحك: «كيف فارقت أمير المؤمنين يا سحبان؟».
فقال: «فارقت رجلاً لا هم له إلا سماع الغناء والاشتغال بالطعام والشراب والنساء».
قالت: «وكيف ترى دولته؟».
قال: «أنى أخاف على دولته من أهلها، إن لم أخف عليها من المغول، فإنهم أوشكوا أن يحملوا عليها والناس خائفون. أما الخليفة فلا يهمه غير الطرب واللهو، وإذا ظل على هذه الحال فالدولة ذاهبة لا محالة».
فضحك ركن الدين وقال: «هل تذهب دولة العباسيين؟.. قد سمعت أصحاب الأخبار يؤكدون أنها تبقى أبد الدهر ولا يمكن أن تخلو الأرض منها».
قال: «لكن الواقع أنها ذاهبة لا محالة».
قال: «وهل تخلو الدنيا من خلافة؟»
قال: «كلا يا مولاى».
قال: «فمن أين نأتى بالخليفة؟ ومن يثبت سلاطيننا على مصر؟»
قال: «ألا يصح التثبيت إلا إذا كان من العراق؟ ألا يصح أن يكون من مصر؟ ألم تكن مصر هذه خلافة زاهية منذ أقل من مائة سنة؟ ألم تكن أحسن حالاً وأوسع جاهاً؟ و…».
فلم يصبر عليه ركن الدين حتى يتم كلامه فقال له: «أظنك تعنى دولة الفاطميين ولكن أولئك من الشيعة».
فقال: «وما ضر أنهم شيعة؟ أليسوا مسلمين من قريش؟ وإنما الفرق أن الخلافة يكون مركزها فى هذه البلاد فيزداد عمرانها وتتسع تجارتها وتعمر أساطيلها وتمتد فتوحها وتصير العراق إمارة مع من إماراتها بدلاً من أن تكون صاحبة الأمر عليها».
وكان سحبان يتكلم وركن الدين شاخص إليه مستغرق فى تتبع كلامه ليستطلع حقيقة ما يكنه ضميره، وهو يعلم غرض الشيعة، فصدق من كلامه ما يوافق غرضه، ولم يبد ملاحظة ولا صرح بما جال فى خاطره وما زاد على قوله: «لقد أفدتنا يا سحبان جزاك الله خيراً». ونهض يريد الانصراف، فنهض سحبان واستأذن وانصرف، وقد أدهشه سكوت ركن الدين وتكتمه، وقال فى نفسه» أنه رجل لا يؤمن جانبه».
أما شجرة الدر فلم تكن أقل دهشة من سحبان، فلما خرج قالت: «يا ركن الدين قد آن لك أن تتكلم، ولا أزيدك شيئاً على ما سمعته عن تضعضع العباسيين فى بغداد ولا عن حال السلطنة المصرية، فإن سلطانها غلام سنه ثمان سنوات، والحكومة كلها فى يد الوصى عليه عز الدين».
قالت ذلك وهى تتميز من الغيظ.
قال: «أراك غاضبة على عز الدين، لعلك غضبت لأنه سمح بإرسال شوكار إلى الخليفة لتكون عنده فى جملة المغنيات.
قالت: «نعم، هذا هو سبب غضبى الرئيسى، ولى على عز الدين أمور أخرى تخصنى».
فقال: «وهل ذهبت شوكار راضية؟».
قالت: «كلا، أنها ودعتنى باكية وهى تذكر ركن الدين، وأوصتنى أن أقول لك أنها باقية على حبك لا ترضى عنك بديلاً ولو كان الخليفة نفسه، وأنا أكدت لها أنك لن تتخلى عنها. أن البطل ركن الدين سيكون ركناً قوياً لنا، أعنى أنا وهى، لأنى أصبحت الآن وحيدة، وهذا عز الدين قد شغل بسواى وبمنصبه ونسى الصداقة. ولكن لا بأس ليكن كما يشاء والله مع الصابرين».
فقال ركن الدين: «إذن شوكار ما زالت على حبها لى؟».
قالت: «نعم، ولاشك عندى أنك ستتفانى فى سبيل إنقاذها والانتقام لها. لكن قل لى ما رأيك فيما ذكره سحبان من حيث الخلافة الفاطمية؟».
قال: «لم يعجبنى قوله. أن الرجل يطلب خلافة شيعية، وهذا لا يصح ولا يليق بنا. ولكننى لم أجبه سلباً ولا إيجاباً. ولا أقول شيئاً الآن على كل حال بل أترك ذلك إلى حينه والأمور مرهونة بأوقاتها.
استأذنك يا سيدتى». قال ذلك ونهض خارجاً فشيعته شجرة الدر قائلة: «فى حراسة الله».
الفصل السادس
ركـن الديـن
خرج ركن الدين من بين يدى شجرة الدر مخلفاً أثراً عميقاً فى قلبها. رأت منه فى ذلك الموقف ما لم تره من قبل، وعظم أمره فى نظرها، وقد زادها تهيباً منه تكتمه ما يجول بخاطره، فما هدد ولا توعد ولا نقم، ولكنها كانت تقرأ ذلك كله على أساريره وفى عينيه.
أما هو فسار تواً إلى غرفته فى القلعة، ولم ينبه أحداً إلى مجيئه، وأجل مقابلة الأمير عز الدين إلى الغد. دخل غرفته وأقفل بابها وأخذ فى نزع ثيابه وهو غارق فى التفكير فيما سمعه فى ذلك اليوم من الأمور الغريبة، وهو لا يزال فى مقتبل العمر قليل الاختبار. وتلك أول مرة انتبه فيها إلى مطامع الرجال الكبار على أثر ما سمعه عن قلب السلطنة بمصر، وما هى عليه الخلافة فى بغداد، ولم يفته غرض سحبان من تقبيح الخلافة العباسية وتحسين الخلافة الفاطمية، ولا غاب عند قصد شجرة الدر من المبالغة فى سيئات المستعصم والتحريض عليه، وأدرك ما فى نفسها من النقمة على عز الدين، وأنها إذا أرادت فوز ركن الدين فإنما تريده انتقاماً من الدين أساءوا إليها. مر كل ذلك فى خاطره وهو يبدل ثيابه، ثم قعد على فراشه وهو لا يزال فى التفكير، فرسخ فى ذهنه أن شجرة الدر وسحبان إنما حرضاه على طلب السيادة لا حباً فيه بل انتقاماً لنفسيهما. ولم يكره ذلك ولا رآه غريباً ولا عده خداعاً. لأنه كان عاقلاً حكيماً ينظر إلى الأمور من حيث حقيقتها، فلم يكن يرجو سحبان مساعدة ليس له من ورائها مصلحة، لعلمه أن الناس لا يأتون عملاً بلا قصد، ولا يقدمون على أمر أن لم يتوسموا من ورائه نفعاً لهم. ومن زعم أنه يفعل الخير مجاناً لكى ينفع الآخرين فقد أخطأ وكذب. فإذا علمنا هذه الحقيقة سهل علينا أن نعامل أصدقاءنا معاملة حقة، فلا تتوقع منهم فوق المستطاع، ولا نستقبح منهم أن ينظروا إلى مصلحتهم فيما يخدمون به مصلحتنا.
كان ركن الدين على بينة من هذه الحقائق، وأدرك غرض صاحبيه من ذلك التحريض، فقبله شاكراً، وعزم على الانتفاع به، فضل كتمان مقاصده إلى حين الحاجة. فلما قعد على فراشة وهو وحيد فى تلك الغرفة طفق يحدث نفسه قائلاً: «أخذوا شوكار منى. أخذها الخليفة إليه فى بغداد ليسمع غناءها، وهى نعمة قل من ينالها من الجوارى الحسان. أرادت شجرة الدر أن تهيج غضبى على المستعصم لأنه فعل ذلك، وهل يلام لأنه طلبها وقد رفع قدرها وزادها نعماً؟. لا يحق لى أن أنقم عليه أو أعد عمله إساءة لى لأنه لم يتعمد أخذ شوكار وهو يعلم أنها خطيبتى أو امرأتى. وقد يقال أن هذا الخليفة ضعيف أو محب للهو، يجب قتله أو خلعه لأجل ذلك، وهذا معقول، ولكن من يضمن أن خلقه لا يكون أكثر ضعفاً منه؟ ومن يخاطر بنفسه فى خلعه أو قتله وهو لا يرجو أن ينال حظاً لنفسه من السيادة؟. وقد أضحكنى ما رأى ذلك الشيعى من أحياء الدولة الفاطمية أو غيرها من العلويين بمصر. وما الفائدة لنا من إحيائها؟ متى صارت مصر خلافة لا يبقى مجال لطلاب السلطنة، أى لا يبقى حاجة إلى السلاطين. أما إذا بقيت الخلافة العباسية فى بغداد تثبت السلاطين فى مصر، فإن سلطان مصر يشبه أن يكون مستقلاً، غير أن ذلك لا يمنع مجاراة الرجل ومصانعته لعل فى سعيه نفعاً يأتى عن غير قصد منه. وإذا لم ننجح فلا خسارة من مسايرته».
ولما بلغ إلى ذكر سلطنة مصر نهض من الفراش وقد هاجت مطامعه، وتمشى فى الغرفة لحظة وهو مطرق، ثم قال: «سلطنة مصر؟ أنها أفضل من خلافة بغداد. هل أطمع فيها أنا؟ نعم، ولكن لو قلت ذلك للناس لاستجهلونى. وقد أكون مبالغاً فى مطامعى ولكن يجب أن أسعى منذ الآن. أحذر يا ركن ال دين أن تجعل أحداً يشعر بذلك».
وسمع وقع حوافر جواد مار أمام غرفته فانتبه لنفسه وتذكر سفر شوكار فقال: «هل أتغافل عن شوكار لا أطلبها؟. أنى أحبها، وإن كان ذلك الحب جاءنى فى أول الأمر تكلفاً لكنه تمكن من قلبى، ويكفى أنها تحنبى وتتوقع منى إنقاذها. هذا إذا ظلت هى على ودادى بعد دخولها قصر الخليفة».
•••
كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فاعتزم أن يقضى بقية يومه مستريحاً، على أن يبكر فى الصباح ليقابل عز الدين ثم السلطان الجديد لتهنئته بما ناله، وانتظار ما يفعله. فتناول العشاء واستراح قليلاً فلم يشعر بحاجة إلى الرقاد لعظم ما جاش فى صدره واستولى عليه الأرق.
فلما أسدل الليل نقابه تزمل بعباءته وخرج يتمشى فى فناء القلعة نحو الجبل، والجو صاح والقمر قد تكبد السماء، وظهرت الطبيعة بأبهى ما يكون من الجلال والهيبة، ويحلو للمفكر فى مثل تلك الليلة أن يقف على جبل أو فى واد أو حديقة يناجى نفسقه بهدوء وسكينة كأنه يعهد فى سره إلى القمر أو يخاطب الطبيعة ويباحثها.
وقد علمت ما كان فيه ركن الدين من الهواجس على أثر ما تزاحم فى أفكاره من الأمانى والمطامع. فسار وهو ملتف بالعباءة فلم يعترضه الحرس، وتسلق الجبل فى ضوء القمر حتى بلغ إلى سطحه، فوقف والتفت إلى القاهرة وما بهى من الحدائق، ووراءها النيل، ينعكس ضوء القمر على مائه، ووراء ذلك الأهرام وقممها تناطح السحاب، وحولها بساتين النخيل والجميز لا يظهر منها إلا أشباحها كالظلال، فقعد على صخرة وراءها بناء خرب أصله مسجد أو قلعة، ولبث هادئاً ساكناً كأنه يتأمل مناظرالطبيعة، وأفكاره تنتقل به من موضوع إلى موضوع، ونصب عينيه شوكار وأين هى؟ ويعترض تفكيره فيها مطامعه فى السلطنة وهل ينالها؟ وضوء القمر يكبر أشباح الفكر فتتعاظم الأوهام حتى تظهر كالحقيقة.
وبينما هو ساكت مطرق إذ سمع حفيفاً يشبه انسياب الثعبان على التراب فلم يخفه ذلك، لكنه تنبه إلى انفراده واستغراقه فى هواجسه، فهم بالنهوض وإذ هو يسمع قهقهة على مقربة منه، فالتفت فلم ير أحداً، فأوشك أن يتوهم ذلك الصوت من أصوات الجان — وكانت هذه الخرافات رائجة فى تلك الأيام — لكنه ما لبث أن سمع وقع أقدام وراء تلك الخربة من الجهة الأخرى، فسكت لا خوفاً ولا تلصصا، لكنه لم يكن يريد أن يشعر أحد بخروجه فى تلك الليلة من القلعة.
وأصاخ بسمعه فاستنتج من مجمل ما سمعه أن هناك أناساً يتسامرون، فساقه حب الاستطلاع إلى التسمع، وإن يكن ذلك مخالفاً لما فطر عليه من البسالة والأنفة، لكن حب الإطلاع على المخبآت من جملة طبائع الإنسان وهو لم يسع إلى التجسس وإنما سيق إليه مصادفة.
وقد زاده رغبة فى التسمع أنه سمع صوتاً يشبه صوت سحبان، وهو حديث العهد بسماعه فى ذلك اليوم. سمع ذلك الرجل يقول لمخاطبه: «أن سلافة هذه قد أدهشتنى بدهائها ومكرها».
فأجابه الأخر: «أظنك تعنى قيمة قصر الملك الصالح.. هل هى من دهاة النساء»؟
فقال سحبان: «مهما قلت فيها لا يمكن أن تحيط بوصفها، أما أنا فقد خبرتها بنفسى. أرأيت هذا الانقلاب الذى جرى أمس والتبديل الذى حصل فى السلاطين؟ أرأيت خلع شجرة الدر وتنصيب الملك الأشرف؟ أنها هى وحدها السبب فى ذلك كله».
فقال الأخر: «هذه مبالغة منك يا سيدى، كيف يتأتى لها ذلك وهى هنا والخليفة فى بغداد؟. لعلك توهمت هذا فيها لما رأيت عز الدين أيبك يتردد عليها حتى أفسدت ما بينه وبين شجرة الدر ولكن هذا».
فقطع سحبان كلامه قائلاً: «أنا أقول لك عن ثقة، أن سلافة وهى فى القاهرة قلبت الحكومة وبدلت السلاطين». فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «يظهر أن نفوذها هناك عظيم جداً وأن كلامها مسموع فى قصور الخلافة».
فقاطعه الأخر قائلاً: «صدقت لأنها هى فى الأصل من جوارى ذلك الخليفة وقد أهديت للملك الصالح، ولكن قد يكون فى قولك مبالغة».
قال سحبان: «أنى أقول لك شيئاً خبرته بنفسى». وخفت صوته وقال: «أنا أخذت كتابها بيدى إلى بغداد، فلم يكن إلا مسافة الطريق حتى جاء الجواب بخلع شجرة الدر».
فضحك الرجل وقال: «ما الذى أدخلك فى هذه المهمة؟ وما هو شأنك مع هؤلاء الأتراك يا سحبان؟».
قال: «لا يهمك أن تعرف تفصيل ذلك، ولكنى وجدت هذه المهمة قد تساعدنا فى مشروعنا، وكنت أحسب خلع شجرة الدر على هذه الصورة يفضى إلى ثورة تهيئ لنا الأسباب المعلومة».
•••
فلما سمع ركن الدين هذا الحديث رأى فيه فائدة له فاغتفر لنفسه تنصته، ومكث لسماع بقيته، فسمع رجلاً أخر يقول: «لقد اسأت يا سيدى بأداء هذه المهمة، فأنك أخرجت الدولة من يد امرأة ضعيفة إلى يد رجل شديد، فلا يلبث أن يخلع ذلك السلطان الغلام ويقبض هو على الدولة بيد من حديد والحقيقة على ما أرى أنك قمت بهذه الخدمة طمعاً فى رضاء سلافة.. أنها فى الحقيقة بارعة الجمال».
قال سحبان: «صدقت، أنها جميلة وربما خطر لى أن أنال رضاها، لكن المهمة فى أصلها خدمة للغرض المعلوم».
فقال الأخر: «وهل نلت ما كنت تؤمله من رضاها؟».
قال: «لا أدرى، أن هذه المرأة سر من الأسرار أو هى لغز معمى لا يمكن حله، يلوج لى أنها بلا قلب، أو هى ذات خلق خاص، أعترف لكم أنى كدت أنال رضاها ورأيت من تقربها وتلطفها ما أكد لى حبها، ثم ما لبثت أن رأيتها وقد تغيرت بعد رجوعى من بغداد إذا اختصت الأمير عز الدين بحبها، وقد ملكت قلبه ولبه حتى شعرت شجرة الدر بذلك وغضبت عليه، لكن هذه أصبحت بعد خروج الملك من يدها لا تستطيع غير العتاب والشكوى».
فتصدى رجل للسؤال قائلاً: «كل ما تقوله صحيح، وأزيد عليه أن السبب فى اهتمام المرأة بخلع شجرة الدر وتنصيب غيرها ليس إلا غيرة منها، لأن شجرة الدر صارت ملكة، وهى تحسب نفسها أحق منها بذلك لأنها كردية من قبيلة الملك الصالح، ففعلت ما فعلته انتقاماً، وليس فيه شئ من الدهاء لأنها نقلت الدولة إلى يد أخرى، وإذا صدقنا أنها فعلت ذلك بدهائها، فما الذى عاد عليها من هذا العمل؟. ثم أنى لم أفهم كيف توصل الخليفة فى بغداد إلى خبر شوكار المغنية حتى يطلبها؟».
فقال سحبان: «هى التى أوعزت إليه بأن يطلبها نكاية فى شجرة الدر لأنها مغنيتها».
فلما سمع ركن لدين اسم شوكار خفق قلبه وزاد ميلاً إلى السماع، وحمد الله على تلك المصادفة التى أسمعته هذا الحديث وهو فى أشد الحاجة إلى معرفته لأنه كان غائباً عن مصر فى أثناء تلك الحوادث فأنصت فسمع رجلاً يقول: «وهذا لا شئ فيه من الدهاء لأن شجرة الدر يمكنها الاستعاضة عن شوكار بعشرات مثلها، ولكن السر الحقيقى فى نجاح هذه المرأة أن لها صداقة متينة مع قيمة قصر المستعصم، ولها عليها حقوق مختلفة، فكتبت إليها بما رأته، وتلك صاحبة النفوذ هناك فأنفذته. دعنا منها أنها امرأة متلونة منافقة والسلام».
فضحك سحبان وقال: «صدقت أنها منافقة لأنها خدعتنى، وأظنها ستخدع سواى، ولكن لاشك أنها صاحبة نفوذ عظيم فى قصر الخليفة.. ما لنا ولها.. هيا بنا».
فقال أخر: «لا تطاوعنى قدماى على الابتعاد عن ضوء القمر الجميل، ولكن قد آن وقت الرقاد فلا حول ولا..».
وسمع ركن الدين وقع خطواتهم وهم خارجون من تلك الخربة، فأنزوى ريثما ابتعدوا، وعاد التفكير فيما سمعه عن سلافة عن سر الانقلاب الذى جرى، فانجلت له أمور كثيرة يؤمل الانتفاع بها.
عاد إلى غرفته يطلب الرقاد وقد أنهكه التفكير فى هذه الأمور، فتوسد الفراش على أن ينهض فى الصباح لمقابلة الملك الأشرف وعز الدين مدبر المملكة. فلما اصبح لبس ثيابه وذهب إلى الإيوان فلقى عز الدين، فأخبره أنه وصل أمس لكن التعب منعه من القيام بهذا الواجب، فقدمه عز الدين إلى الملك الأشرف، فقص عليهما نتيجة مهمته فى دمياط وقد انتهت بإخراج الأفرنج من هناك بشروط موافقة.
فأثنى عز الدين على همته وبسالته ووعده بالمكافأة، فشكر له تلطفه، ولم يرفيه ما كان يعلمه من غيرته منه، أو لعله أحس بذلك بسبب ما خامره من المطامع وما سمعه من الأقوال، وعلى كل حال فإنه بالغ فى الكتمان ولبث يتوقع سنوح الفرص.
•••
ثم عاد إلى التفكير فى شوكار وهو لا يدرى هل يبحث عنها أو ينتظر ريثما يتأكد بقاءها على حبه لأنه كان كثير الشك فى ذلك لما ستلاقيه فى قصر الخليفة من النعم. ولم يكن من ذوى العواطف القوية الذين يضحون بمصالحهم المادية فى سبيل الحب، ولكنه كان قوى العقل كبير المطامع، ويغلب فى أمثاله أن ينظروا إلى كل شئ من الناحية التى تنيلهم مطامعهم، ولذلك لم يصدق أن شوكار ستبقى على وده بعد ذلك الانتقال، على أنه كان يشعر بميل شديد إليها وعطف عظيم عليها، وكان يعزيه أنها هناك فى نعيم لا خوف عليها من الاهانة ولا يمس شرفها بما لا يبعث على غيرته لأنها جارية مغنية فقط. قضى برهة وهو يفكر فيما يعمل: أيسافر إلى بغداد للبحث عنها أم يبعث أحداً فى طلبها؟ وشغل أيضاً بمهام منصبه، لكنه لم يستطع الصبر على الفراق، وهو لا يعلم ما يكون من حال شوكار هناك.
فأصبح ذات يوم وقلبه قلق على شوكار، وقد رآها فى نومه على غير ما يريد. وهو غير قادر على السفر إليها، فخطر له أن يكلف سحبان بذلك، وأن يطمئنه ويظهر له المسايرة فى رأيه. فبعث إليه فجاءه وهو مسبتشر طمعاً فيما يرجوه، فلما لقيه قال ركن الدين: «صدقت يا سحبان، أن هؤلاء القوم لا يصلحون للخلافة وهم فى هذا الفساد».
قال: «ألم أقل ذلك يا سيدى؟».
قال: «نعم وأنا أعرفه، وقد خبرته بالأمس مما فعلوه معى.. لا أعلم إذا كنت قد سمعت بأخذهم شوكار».
قال: «كيف لا؟ سمعت، نعم سمعت، وهذا لا يفعله الخلفاء العلويون و..»
فقطع ركن الدين كلامه قائلاً: «ولكن هل تعلم من هى شوكار؟».
قال: «نعم أنها جارية شجرة الدر ومغنيتها».
قال: «وهى فوق ذلك خطيبتى..»
فأظهر الدهشة وقال: «خطيبتك؟ وأخذها منك؟. يا لله من هؤلاء القوم الظالمين؟».
قال: «لم يأخذوها وهم عالمون بذلك.. مالنا ولهم، وإنما يهمنى الآن أن أعرف حال شوكار هناك، وأنا لا أقدر على السفر، وأنت تسافر دائماً فى تجارتك، فهل تقضى هذه المهمة لصاحبك ركن الدين؟».
فاستأنس سحبان بذلك التلطف وقال: «أقضيها على الرأس والعين، وأسافر فى الغد لأجلها.. قبحهم الله.. أنهم مضيعون هذا الملك عن قريب».
فقال ركن الدين: «أشكر الله سعيك يا سحبان، والأيام بيننا».
فقال: «أن خدمتك يا مولاى واجبة على.. أنى مسافر غداً ولا اسألك عما تطلبه فأنى أعرف كل شئ، كن فى راحة». قال ذلك وخرج بعد أن ودع.
وعاد ركن الدين إلى شؤونه وقد اطمأن باله نوعاً، وصبر نفسه ريثما تنقضى المدة اللازمة لذهاب سحبان إلى بغداد ورجوعه منها، وهى أكثر من شهر. لكن لم يمض أسبوعان على سفر سحبان حتى جاءه رسول بكتاب من بغداد وصل فى المساء فلم يصبر على تبليغ رسالته إلى الصباح. وكان ركن الدين فى تلك الليلة عند شجرة الدر وقد أكثر من ترداده إليها ليسليها على ما أصابها من الوحشة بعد وقوع الفتور بينها وبين عز الدين، ولم يدر أن ترداده يزيد تلك الوحشة.
كان تلك الليلة عند شجرة الدر وجاء الحاجب وقال: «أن بالباب رسولاً يحمل كتاباً إلى الأمير ركن الدين ولا يريد أن يسلمه إلا بيده».
فقال ركن الدين: «ليدخل» ولم يطاوعه قلبه على الصبر، فوثب كالسهم حتى لقى الرسول وصاح فيه: «ما وراءك؟».
فقال: وهل الذى يكلمنى الأمير ركن الدين بيبرس؟». قال: «نعم من أنت؟ ومن أين أتيت؟».
قال: «أنا رسول إلى الأمير من فتاة تريد أن يصل كتابها إليه سراً». فخفق قلبه وقال: «هاته». فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج الكتاب ودفعه إليه، فتناول ركن الدين الكتاب ودخل إلى القاعة وأخذ يقرأه، وشجرة الدر تنظر إليه وتراقب حركاته وما يبدو فى وجهه من التغير. ولم يفرغ من قراءته حتى بلغ الغضب منه مبلغاً عظيماً، وشجرة الدر قلبها يخفق وعيناها شاخصتان إليه. فلما فرغ من تلاوة الكتاب صاحت فيه: «ماذا قرأت؟ ماذا جرى؟».
فرمى الكتاب إليها، فتناولته وقرأته فإذا فيه: من المسكينة شوكار إلى سيدها وحبيبها ركن الدين. اختطفونى من بين ذراعى شجرة الدر وأنت غائب، ولم تجد مولاتى حياة لاستبقائى حتى حضورك. فبرحت القاهرة وقلبى فيها، ولم أزل منذ برحتها وأنا أندب حياتى لا أجد لى سلوى برغم ما كان يبذله صاحب الركب من أسباب الراحة لى. وهم يستغربون البكاء من جارية طلبها أمير المؤمنين لتكون فى مجلسه، على أنى ما لبثت أن وجدت بكائى كان فى محله لأنى حين أشرفت على بغداد تغيرت حالى إذ أسلمونى إلى قوم جاءوا من قصر الخليفة وكنت أحسبهم جاءوا ليستقبلونى، وعزمت على أن أطلب إليهم أن يعيدونى إلى مصر أو أوسط أحداً للخليفة ليأمر بإرجاعى بعد أن أقص عليه خبرى. لكننى لم أكد أقع فى أيديهم حتى عاملونى معاملة الأسيرة، وساقونى إلى حيث لا أدرى. هذا وقد كان فى الركب الذى حملنى من مصر الخصى عابد البصرى حامل هذا الكتاب إليك. وكنت قد استأنست به وأحسست بعطفه على فاغتنمت فرصة كتبت فيها هذا الكتاب على عجل ورجوته أن يوسله إليك. فأكرمه ما استطعت، وأستودعك الله، ولا أظننا نلتقى فى هذه الدنيا، وقد ختمت هذا الكتاب بدموعى.
وكانت شجرة الدر تقرأ وركن الدين يخاطب حامل الكتاب.
وسأله: «ماذا تعرف من التفاصيل؟».
فقال: «لا أدرى يا سيدى سوى أنى كنت فى خدمة الركب الذى أتى بكتاب الخليفة، ولما عاد ومعه هذه الجارية رأيت فيها لطفاً، وكنت أنا المكلف بخدمتها. والمفهوم بيننا أنها محمولة إلى أمير المؤمنين لتكون مغنية فى قصره، وكنا نبذل جهدنا فى خدمتها وراحتها، فلما وصلنا إلى ضواحى بغداد جاءنا وفد من الجند قالوا أنهم قادموا من قصر الخليفة، وطلبوا إلينا أن نسلمهم شوكار، فلم يسعنا إلى الطاعة، لكننا لحظنا أنهم ذاهبون بها إلى غير قصر الخليفة، فأشفقت عليها وأخذت فى تعزيتها وسألتها عما تريد أن أصنعه فقالت: «لا أريد شيئاًَ سوى أن توصل هذا الكتاب إلى الأمير ركن الدين، وتسلمه إليه بيده، وقد فعلت) …».
فقال: «وأين هى الآن؟ وماذا تظن أنهم يفعلون بها؟ وما غرضهم من أخذها على هذه الصورة وهى لا تعرفهم ولا علاقة لها بهم؟».
قال: «لا أدرى يا سيدتى، وأنا أيضاً مستغرب هذه المعاملة».
فأطرق ركن الدين، وأخذ يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك فلم يوفق إلى رأى فقال: «والآن يا عابد إذا دفعت إليك كتاباً هل توصله إليها، وأين تجدها؟».
قال: «أبحث عنها جهدى، ولأ أنفك حتى أجدها وأكون طوع إرادتها فيما تريده وأفديها بروحى.. أنها يا مولاى تفدى بالروح للطفها وأدبها».
فأثنى ركن الدين على مروءته وقال: «تعال فى صباح الغد فأدفع إليك بالكتاب. تجدنى فى غرفتى بالقلعة، هل تعرفها؟». فأجاب بإحناء الرأس أن «نعم» وانصرف.
•••
وقف ركن الدين مطرقاً وقد أخذته الدهشة، ثم انتبه لشجرة الدر فتحول نحوها فرآها قد فرغت من تلاوة الكتاب وتغير وجهها وظهرت إمارات الغضب فى عينيها، فلما التفت بيبرس إليها بادرته قائلة: «تلك هى أعمال الخلفاء الذين لم يعجبهم أن تتولى السلطنة امرأة! هذا المستعصم أمير المؤمنين. ووالله لو أن امرأة سليطة تولت هذا الملك لدبرته أحسن من تدبيره، شغل نفسه بالغناء واللهو، ثم يأخذ نساءنا من بين أيدينا ونحن صابرون!».
فأدرك ركن الدين أنها تستثير غيرته على شوكار للانتقام من المستعصم فقال: «ولكن ما أصاب شوكار ليس من المستعصم».
قالت: «ممن إذن؟ ألم يكن هو الذى بعث فى طلبها إليه. وهب أن الذين اختطفوها الآن لم يفعلوا ذلك بأمر الخليفة، ألا يدل وقوع ذلك على ضعف الرجل وقلة هيبته حتى يجرؤ الناس على اختطاف مغنية آتية إليه فى موكب حافل؟ على أننى أضع أكثر الحق على».
فقطع كلامها قائلاً: «الحق كله على عز الدين، هذه هى الحقيقة، ولو شاء هو لاحتال فى استبقاء شوكار».
فقالت: «صدقت، وهذا هو رأيى. لا أدرى ما غير هذا الأمير؟ أن مطامع الدنيا تغير الناس. طمع عز الدين فى السلطنة فضحى كل شئ فى سبيلها، ضحى أصدقاءه وخلانه و…». وغصت بريقها وسكتت.
لم يكن ركن الدين يجهل ما فى خاطر شجرة الدر على حبيبها من الغيرة والنقمة، فأراد أن يخالفها لاكتشاف ما يكنه ضميرها فقال: «لا أظنه فعل ما فعله طمعاً فى الملك لأنه كان فى نفس هذا المنصب وأنت سلطانة. بل كان معك أقرب إلى السيادة والنفوذ منه الآن، ويظهر أنه لم ير بداً من إعاطة أمر الخليفة فيما يتعلق بشوكار».
فضحكت ضحكة اغتصابية وقد امتقع لونها من شدة التألم والغضب وقالت: «لعله أطاع بذلك غير أمر الخليفة». وبلعت ريقها وتشاغلت بمنديلها تسمح به فمها وجبينها.
فلحظ ركن الدين أنها تعنى سلافة فقال: «وهل تلومنيه لأنه يبحث عن مصلحته؟ ليس فى الدنيا أحد لا..»
فقطعت كلامه قائلة: «كلا، لا ألومه لذلك، ولكنى ألوم غيره لأنه لا ينظر إلى مصلحته أيضاً، أن هذا الأمير ضحى بشوكار وركن الدين وشجرة الدر فى سبيل مطامعه ولم يبال، ونحن ما زلنا نحافظ على عهده ونلتمس وده». وتزحزحت من مجلسها وفى ملامح وجهها أنها لم تتم حديثها بعد.
فأراد ركن الدين أن يستزيدها بياناً فقال: «أنا ناقم على هذا الأمير كما تعلمين، لكننى لا أراه يستحق هذا الغضب منك. لأن ما جرى لك ولشوكار لم يكن هو فاعله، ولم ينل من فعله شيئاً جديداً لم يكن له وأنت سلطانة».
قالت: «قد أحرجتنى يا ركن الدين، فاستأذنك فى كشف ما فى قلبى. قد يتبادر إلى ذهنك أنى كرهت عز الدين لأنه أحب تلك الجارية الكردية (سلافة) وهى التى ساعدته على ما فعل، وكنت أحسبها فعلت ذلك حباً فيه، ولكننى عرفت الآن أنه لم يكن يحبها، ولكنه خدعها كما خدعنى، فلما نال مرامه منها تخلى عنها. هل علمت بما عول عليه وأوشك أن يفعله بمشورتها ومساعدتها؟». قال: «كلا». قالت: «قد عزم عزماً أكيداً على أن يستقل بالسلطنة».
قال: «أليس هو مستقلاً بها الآن؟ أليس الملك الأشرف صورة لا معنى لها». قالت: «صحيح، ولكنه سيخلعه ويطلب من الأمراء أن يبايعوه سلطاناً بدله».
فهز رأسه هز الإنكار وقال: «هذا لا يكون، وكيف يتأتى له ذلك والناس يحتجون؟ أنهم لا يخضعون لملك ليس من آل أيوب».
فقالت وهى تضحك ضحك الاستهزاء: «أنك ما زلت قليل الاختبار يا ركن الدين، لكنك لا تلبث أن تعلم أن هؤلاء القوم لا رأى لهم ولا صوت، ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس. والظاهر أن عز الدين تتمكن من إغراء المقربين له وأنت غائب وقبلوا مبايعته، وبلغنى أنهم اختاروا له أحد ألقاب الخلفاء الفاطميين بمصر وهو (المعز) فهل بعد ذلك شك؟ ولعله لو طال مكثك فى دمياط لأمضى هذا الأمر فى غيابك.. أو أظنه أمضاه من ذلك الحين.. ألا تشعر أنه تغير معك كما كان عليه من قبل؟».
فثارت الغيرة فى نفس ركن الدين، وأوشك أن يبوح بما فى خاطره، لكنه تجلد وتماسك. وقد فتح أمامه بعد هذا الحديث باب حديد، فهو لم يكن بالأمس يتصور أنه يمكن لغير الأيوبيين أن يستقلوا بالسيادة فإذا هو يرى عز الدين استطاع ذلك ووافقه عليه الأمراء. فازداد رغبة فى السلطة، لكنه ما زال حريصاً على كتمان ذلك المطمع خوف الفشل عملاً بالحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان». لكنه غلب عليه ظنه بعد أن سمع من حديث القوم عن سلافة فى تلك اليلة أن عز الدين لم يفعل ذلك ألا بنفوذها فأراد أن يستطلع رأى شجرة الدر فى ذلك فقال: «ألا تظنين أن لسلافة دخلاً فى هذا الأمر؟».
قالت: «لا ريب عندى أنها ساعدته فى ذلك نظراً لنسبها الكردى وعلائقها الودية مع بعض الأمراء أصحاب النفوذ من آل أيوب وغيرهم. ولعلها ارتكبت أموراً دنيئة فى هذا السبيل ظناً منها أنها اختطفت عز الدين من شجرة الدر. ولكن خاب ظنها لأن هذا الرجل ليس لأحد منا، وسوف ترى». قالت ذلك وابتسمت وعيناها تلمعان.
ولحظ ركن الدين فى عينيها معنى لم يكن فيهما من قبل. رأى الغيرة والنقمة والغيظ تتزاحم فيهما، فقال: «لمن هو أذن يا مولاتى؟».
قالت: «أتريد أن أبوح لك بكل ما أعرفه عن هذا الخائن مرة واحدة؟ سألتنى لمن هو؟ فأجيبك أنه يزعم أنه لامرأة ثالثة». قال: «من هى؟». قالت: «أمرأة لا تعرفها، ليست فى مصر».
فاستغرب قولها وقال: «أظنك تمزحين؟» قالت: «كلا، أنى أقول الصدق، أن عز الدين يزعم أنه ساع فى خطبه بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل».
قال وقد بدأ الاستغراب فى عينيه: «أن صاحب الموصل له مقام رفيع عند الخليفة، وهل تظنينه يفوز بها؟».
وكان التأثر والغضب قد ملكا عليها أمرها، فقالت وهى تشير بيدها إشارة الإنكار: «لا. لا. لن يفوز بها، أنه ليس لإحدى هؤلاء النسوة، بل هو نصيب الرابعة». وأشارت بيدها إشارة رجل بيده خنجر يطعن به أخر إلى جانبه. ففهم ركن الدين أنها تنوى قتله، وتأكد ذلك مما بدا فى عينيها من الإحمرار، فضحك وأظهر الاستخفاف بهذا الرأى، ونهض يريد الانصراف وهو يقول: «لا أظن الأمر يبلغ بك إلى هذا الحد، قد انتصف الليل وأن لى الانصراف، أستودعك الله».
فصاحت به: «ويلك يا ركن الدين، تذهب على هذه الصورة وتتركنى على هذه الحالة؟ ماذا جرى لك؟». قال: «ماذا أصنع يا مولاتى؟». قالت: «قد رأيت من أمرك عجباً. تكلمنا فى أبواب كثيرة وصرحت لك بأمور كثيرة كنت أكتمها عن كل إنسان وأنت جامد كالصخر الأصم لا تقول شيئاً.. إذا كنت تفعل ذلك عن دهاء فنعم الفعل، وإلا فأنك صلب بارد. وفى كل حال كنت أتوقع منك أن تقول كلمة عن شوكار المسكينة التى ذهبت ضحية حبك، وهى تقاسى العذاب، وقد تفطر قلبى من كتابها. ولو كنت خطيبها لركبت الساعة إلى بغداد ولم أرجع إلا وأنا منتقمة لها من ذلك الخليفة الظالم الذى لا يهمه إلا التمتع بملذاته». قالت ذلك وهى تتفرس فى عينيه.
فكان لكلامها وقع السهام فى قلبه وأوشكت أن تخرجه إلى التصريح بما ضميره، لكنه تراجع وتمالك وتشاغل بالضحك وقال: «لله أنت من خطيب غيور شجاع. أما أنا فأظن عندى مثل ذلك. ولكننى سأنظر فيه وأعمل ما يسرك وإن لم أقل شيئاً». قال ذلك وبرقت عيناه، وبان الحزم والجد فى جبينه، فتقدمت إليه ووضعت يدها على كتفه، وقالت: «هذا عهدى فيك، وقد فهمت من هذه العبارة كل شئ. وأعلم أنى فاعلة ما يتمم عملك هنا.. اقتل المستعصم وأنا أقتل عز الدين، وأنت السلطان صاحب الأمر والنهى».
فتجاهل ما سمعه وقال: «أتأذنين لى فى الانصراف الآن؟».
فأشارت إليه مودعة، فخرج وهو ينتفض من الغضب، وقد تضاربت الأفكار فى خاطره، ولم يعجبه تصريح شجرة الدر بقتل المستعصم لاعتقاده أن مثل هذا الأمر الخطير لا ينجح إلا إذا ظل مكتوماً فى خاطر صاحبه.
•••
مشى ركن الدين وقد انتصف الليل وأخذ منه التأثر مأخذاً عظيماً حتى أصبح لا يرى طريقه من فرط ما تجاذبه من الهواجس، وأسرع فى خطاه رغبة فى الاختلاء بغرفته لمناجاة نفسه، لكنه لم يكد يصل إلى باب منزله فى القلعة حتى تصدى له أحد الحراس وحياه، فرد التحية ومشى، فتقدم إليه الحارس قائلاً: «أن خادماً فى انتظار مولاى هنا منذ ساعتين». وأشار إلى رجل واقف بجانبه.
والتفت نحوه وقال: «من الرجل؟» وظنه لأول وهلة رسول شوكار جاء يأخذ جوابه إليها، فاذا هو سواه.
فتقدم الرجل ودفع إلى ركن الدين كتاباً مختوماً، فتناوله وأمر خادمه أن يسرع إلى غرفته ويضئ فيها المصباح ففعل.
فدخل ركن الدين وحده وفض الكتاب أمام المصباح، وقد أدهشه ما فاح من رائحة الطيب، فترجح لديه أنه من امرأة، فأخذ يقرأ فإذا هو من سلافة جارية الملك الصالح، فاستغرب ذلك وقرأ فيه: «سلافة جارية الملك الصالح وقيمِّة قصوره ترغب فى مقابلة الأمير ركن الدين بيبرس ساعة وصول كتابها هذا إليه، وحامل الكتاب يرشده إلى المكان».
فوقع فى حيرة، وتولته الدهشة، وأخذ يسأل نفسه ماذا عسى أن يكون غرضها من تلك المقابلة وليس بينها وبينه سوى معرفة بسيطة. وتذكر ما سمعه عنها من سحبان، وما جرى من ذكرها بين يدى شجرة الدر، وعلاقتها بعز الدين أيبك، فأصبح شديد الميل إلى تعرف هذه المرأة، ولعل التعرف بها ينفعه فى مشروعه.
ورآها تطلب إليه مقابلتها ساعة وصول كتابها فقال فى نفسه: «ما عسى أن يكون سبب هذا السرعة؟». وبرغم ما كان فيه من التعب والقلق عزم على إجابة الدعوى حالاً، فنادى الرسول إليه فدخل فقال له: «هل المكان بعيد من هنا؟». قال: «كلا يا سيدى أنه قريب جداً». قال: «وهل أنت هنا من زمن طويل؟». قال: «منذ نحو ساعين». قال: «ولماذا انتظرت كل هذه المدة؟». قال: «لأن مولاتى صاحبة الكتاب أمرتنى ألا أعود إلا بالجواب».
فإزداد ركن الدين دهشة واستغراباً وصمم على الذهاب، فلبس ثيابه وخرج، والرسول يمشى بين يديه، وقد أخذ القلق منه مأخذاً عظيماً، ومر بباب القلعة فعرفه الحراس ولم يعترضوا سيره.
خرج إلى القاهرة والطريق مظلم إلا من بعض المصابيح بأبواب المنازل، وما زال ماشياً والرسول معه حتى وصل إلى باب كبير وقف الرسول عنده واستوقف الأمير ريثما طرق الباب، ففتحت طاقة فيه وأطل منها عبد خصى يسأل عن الطارق فأوما إليه الرسول فوسع له ولرفيقه، فدخل ركن الدين إلى حديقة مظلمة، لولا شموع مضيئة لكان الظلام حالكاً. على أن ذلك النور الضعيف زاد المكان وحشة لانه جعل ظلام الأشجار تظهر متكاثفة متلبدة. فلما رأى نفسه فى ذلك المكان ندم على مجيئه، وتوهم أشياء كثيرة بعضها يوجب القلق، ولكنه تجلد ومشى بقدم ثابتة لا يبالى ما قد يتهدده، وهو لم يتعود الخوف، لكنه خاف الفضيحة لعلمه بما بين صاحبة هذا المنزل وعز الدين من العلائق.
وكان الرسول قد تقدمه لينبئ بوصوله، فما كاد ركن الدين يتوسط الحديقة حتى عاد الرسول وأشار إليه أن يتبعه، فتحول به إلى قاعة منفردة قد أضيئت فيها الشموع على منائر فى وسطها، وفرشت أرضها بالبسط والوسائد، وأدهشه ما شاهده بين الأثاث من الآنية التى كان يراها فى قصور الملك الصالح قبل هدمها وتخريبها، وتأكد أن عز الدين جاء سلافة بهذا الرياش، لأنه هو الذى خرب تلك القصور واستأثر بأنقاضها ورياشها.
استقبلته سلافة بباب القاعة وقد لبست أثمن ما عندها من الحلى والثياب ولم تتنقب إلا قليلاً، وكان قد تنسم رائحة الطيب قبل أن يراها فلما تلاقت عيناها زاد ندمه لمجيئه لأنه توهم شركاً يخاف الوقوع فيه.
أما هى فاستقبلته بالسلام والترحيب قائلة: «قد أزعجناك أيها الأمير».
قال: «العفو يا سيدتى، أنى مسرور من هذه الفرصة فعسى أن أستطيع أداء خدمة أو قضاء طلب».
فمدت يدها للسلام عليه فمد يده وصافحها فوجد أناملها باردة كالثلج وفيها رعشة أثرت فيه، لكنه تشغل بالثناء على ترحابها، ثم مشت به وهى قابضة على يده حتى وصلت إلى مقعد فى صدر القاعة، فأشارت إليه أن يجلس فجلس وقد أقشعر بدنه من لمسها، فأفلتت يده وجلست بين يديه على وسادة، وهى تنظر إليه وترحب به، وهو ينتظر أن تفاتحه بما دعته من أجله، فلم تزد على الترحيب والمؤانسة. فلما ابطأت عليه قال: «جئت طوعاً لأمرك، فهل من خدمة أقضيها لك؟».
قالت: «بل أنا فى خدمتك يا ركن الدين، ولعك لم تكن عالماً بوجودى قبل هذه الليلة ولم أخطر ببالك. وأما أنت فلم تبرح من فكرى لحظة، وأنا أتتبع خطواتك منذ أعوام». قالت ذلك وأحمرت وجنتاها وبرقت عيناها، وكانت جميلة فزادها ذلك جمالاً.
أما ركن الدين فلم تعجبه هذه الفاتحة لأنه فى شاغل عن المغازلة، وكان يسمع بجمال هذه المرأة ويعرف عنها بعض الشئ فى حياة الملك الصالح، ولم يكن أمرها يهمه، ولاسيما فى تلك الليلة وهو فى ذلك الاضطراب. فلما سمع قولها أطرق وقال: «العفو يا مولاتى، كنت أسمع بمنزلتك الرفيعة عند مولانا الملك الصالح، ولكن الأحوال لم تأذن بالتعارف».
قالت وهى تتظاهر بالخجل والحياء: «هذا صحيح بالنظر إليك وحدك، أما أنا فقد عرفتك جيداً، وطالما راقبت دخلوك قصر الروضة وخروجك منه، وكثيراً ما كنت أسهر الليل بطوله أنتظر مرورك فى الحديقة لأراك من وراء الستائر».
فاستغرب ركن الدين هذه المشاكاة وتجاهلها وقال: «أن ذلك فضل منك يا سيدتى، وأتأسف لأنى لم أكن أعلم به».
فقالت: «ألم تعلمه الآن؟ أرجو الإغضاء عن جسارتى يا ركن الدين ولا تكن قاسياً».
فلما سمع هذا التعريض أجفل وأسف لمجيئه وقال: «العفو يا سيدتى، لم أكن أتوقع أن أسمع هذا وأنا أعلم أن مولانا الأمير عز الدين يتردد إلى هذا المكان وهو صاحبه».
فتنهدت وقالت: «مولاك أو مولاى الأمير، لا يستحق هذه الحظوة، دعه وشأنه، مالنا وله؟».
فظن ركن الدين أنها تريد أن توقعه فى الفخ لتستخدمه فى مهمة لها كما فعلت بسحبان، فصممم على الرفض وسرعة التخلص فقال: «ألهذا دعوتنى يا سلافة فى هذا الليل؟».
فأجابته وعيناها ذابلتان وقالت: «وهل هذا أمر قليل الأهمية فى نظرك يا حبيبى؟».
فنهض وهو يقول: «ليس قليل الأهمية، ولكننى فى شاغل عنه الآن يا سيدتى». وهم بالاستئذان فى الانصراف».
فنهضت ووقفت فى طرقه وقالت: «ماذا الذى يشغلك عنى. لم يبق الآن ما يشغلك يا قاسى القلب، أين القاهرة من بغداد؟».
فأدرك أنها تشير إلى شوكار وأخذها إلى بغداد، فنفرت نفسه منها وقال: «ما زلت فى شاغل، أرجو يا سيدتى أن تأذنى فى انصرافى ناشدتك الله».
فأمسكت يديه بكلتا يديها وقالت: «تمهل يا ركن الدين، لا تسرع فى الرفض وانتبه لنفسك، وأعلم أن سلافة وحدها تقدر أن تنيلك مرامك. مالك وللغناء؟ أنت فى حاجة إلى من يضع يده بيدك، وإذا ألقيت الوقود فى النار نفخ فيها وأشعلها حتى ينضج الطعام». ونظرت فى عينيه وابتسمت، فعلم أنها تشير إلى تفضيل نفسها على شوكار فقال: «بالله دعينى أنصرف لأنى فى شاغل ذى بال».
قالت: «أنا أعلم بشواغلك، أما شوكار فلا سبيل إليها أبداً و..» فلما سمع تصريحها فجأة اجتذب يديه من يديها وقد غضب وقال: «ما الذى حملك على ذكر هذه الفتاة الآن، مالنا ولها؟».
قالت: «كيف لا أذكرها وهى سبب قلقى وعلة شقائى، لكنها الآن بعيدة عنا».
فقال: «إذا كانت بعيدة الآن فإنها ستكون بعد قليل قريبة بإذن الله».
قالت: «من قال لك ذلك فقد خدعك. أن شوكار اصبحت فى غير هذا العالم يا ركن الدين، وقد نصحتك فانتصح».
فأقشعر بدنه عند سماع هذا الكلام وحملق فيها وقال: «أطلب إليك أن تكفى عن هذا القول وتدعينى وشأنى، دعينى أذهب بسلام». قال ذلك وقد مال إلى تصديق قولها لكثرة ما عرفه من دهائها وعلاقاتها ببغداد ونفوذها هناك، وبخاصة لأنها لم تستقدمه إليها إلا فى الليلة التى جاء فيها ذلك الكتاب من شوكار تشكو فيه الخطر، فقام فى ذهنه أن سلافة تعرف حقيقة حال شوكار، فقعد وأشار إلى سلافة أن تقعد وأظهر الجد وقال: «يا سيدتى أرجو أن تصغى لما أقوله لك، وقد علمت من كثيرين بمالك من المنزلة العالية والكلمة النافذة فى قصور أمير المؤمنين ببغداد، فأرغب إليك أن تساعدينى فى أمر يهمنى هناك».
فقطعت كلامه وقالت: «أنى طوع إرادتك فى كل ما تريد، ولا أنكر عليك ما لى من الكلمة النافذة، ولعلك تعلم أن ما حدث من العزل والتنصيب بمصر إنما كان على يدى».
فلم يخامره شك فيما تقوله، وأعتقد أنها تقدر أن تفعل كل ما ادعته وهو طامع فى السيادة، لكنه أحس بشئ حال بينه وبين تلك المطامع، وأصبح همه إنقاذ شوكار فقال: «أشكر لك تفضلك، ولا ريب عندى فى صدق ما تقولين، ولا أظننى استغنى عن يدك فى بعض هذه الأمور لكننى أطلب الآن أمراً واحداً فهل تقضينه لى؟».
قالت: «أقضيه على الرأس والعين».
فقال: «أريد أن استرجع شوكار من بغداد إلى هنا».
فتغيرت سحنتها وقطبت حاجبيها ونظرت إليه شزراً وصاحت: «لله أنت من أمير عاقل! أبعد ما ذكرته لك تعود فتسألنى استرجاع هذه المغنية من بغداد، وقد قلت لك أنها ليست هناك؟»
فقال: «أين هى؟ فى مصر؟» قالت: «ولا فى مصر أنها غير موجودة فى مكان. ألم يأتك خبرها؟».
فلما سمع سؤالها أجفل وتحقق أنها عالمة بما أصابها فصاح فيها: «لم يجئنى خبر بسوء أصابها كما تقولين».
قالت: «أنها لن ترجع إليك أبداً، ولو علمت أنها ترجع لأعدتها على أعقابها بيدى، وهل قذف بها إلى تلك الديار غيرى؟».
فاعتدل فى مجلسه واستغرب تصريحها وقال: «أنت أرسلتها إلى هناك؟ ما الذى كان يضرك لو بقيت هنا؟ أنها لا تزاحمك فى نعمة».
فنهضت وهى تشير بأصبعها إليه وقالت: «أنها تزاحمنى عليك يا ركن الدين!» وغصت بريقها وبان الهيام فى عينيها.
فظنها تتقرب إليها تزلفاً لغرض تريد أن يقضيه لها فقال: «بالله يا سلافة لا تطيلى تعذيبى. إذا كنت تريدين منى خدمة أقضيها لك قضيتها حباً وكرامة، وإنما أطلب منك أن تساعدينى فى استرجاع شوكار».
فنظرت فى وجهه نظر المتفرس وقالت: «ويلى منك يا رجل ويا لشقائى! أترامى عليك وأصرح لك بما فى قلبى وأنت تصم أذنيك عنى، مع علمك أن أكبر أمرائكم يتمنى رضاى؟». ثم أمسكت عن الكلام لأن الدموع أوشكت أن تغلبها وحولت وجهها عنه خجلاً.
فأشفق عليها وقال: «أنى مقدر تنازلك حق قدره، وأشكرك عليه شكراً جزيلاً، لكننى طلبت منك خدمة أنت قادرة عليها و…».
فقطعت كلامه قائلة: «أنى رهينة أمرك فى كل شئ إلا فى هذا. يهون على أن أجعلك سلطاناً على مصر، وأما استرجاع تلك المرأة فلا يمكن، ألم تفهم بعد؟».
وكان ركن الدين صاحب مطامع، ولم يكن شديد التعلق بشوكار، فكان المتوقع فيما تعرضه عليه سلافة أن ينصاع لها ويستعين بها فى تحقيق مطامعه، لكنه بعد ما سمعه منها ضد شوكار أحس بميل جديد إلى هذه سيما أن إرسالها إلى بغداد إنما كان بسببه، كما صرحت له الآن سلافة، فأصبح فى حيرة، وأطرق يفكر فيما رآه وسمعه وفيما مر به فى ذلك الليل من الغرائب، واستعظم ما سمعه من تصريح سلافة وتحببها له، وحدثته نفسه لحظة أن يسايرها لأنها قد تساعده فى نيل مطامعه، لكنه تذكر كتاب شوكار الذى جاءه فى ذلك المساء وما فيه من دلائل التعلق به، فأبت نفسه أن يساير عدوتها اللدودة.
وبقى مطرقاً يفكر وسلافة تنظر إليه وتراعى حركاته وتكاد تلتهمه ببصرها، ورفع نظره إليها فرأى فى عينيها معنى لا يعبر عنه بالكلام، وأحس بحرج الموقف، ولم ير بداً من تأجيل الكلام إلى فرصة أخرى لأنه لفرط ما اتنابه من التأثيرات المتضاربة أحس أن عقله قد أصيب بالكلال، فأحب أن يؤجل الحديث ريثما يستريح وينظر بماذا يجيب.
فنهض وقد بانت الحيرة فى عينيه ونظر إلى سلافة وابتسم لها ابتسامة شكر وقال: «أشكر لسيدتى حسن ظنها بى فأنى لا أستحق شيئاً من هذا الالتفات، واستأذنها فى الانصراف». قال ذلك وانحنى مودعاً ومد يده ليصافحها.
فأبعدت يدها عنه، وخبأتها وراء ظهرها، وتراجعت ولم تجب بفيها، لكنها أجابت بنظرة أفصح من الخطاب أنها عاتبة أسفة لسوء حظها معه، وأن قلبها لا يطاوعها على الفراق. فخطأ خطوة أخرى نحوها وقال كالمستعطف: «بالله يا مولاتى أئذنى فى انصرافى الساعة فقد تعبت وأصبحت فى حاجة إلى الرقاد..».
قالت وهى تهز رأسها: «لله ما أسوا حظى!. أشكو لك غرامى وأنت تشكو حاجتك إلى النعاس؟!». قالت ذلك وتحولت عنه ومشت خطوة، ثم التفتت نحوه ورمته بنظرة كالسهم أصاب صدره، وإن لم يؤثر فيه كثيراً وقالت: «سر يحرسك الله، سر إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلى هذا يذهب هدراً». ودخلت مخدعها مسرعة.
وانصرف ركن الدين، وقضى معظم الطريق وهو يردد كلامها ويفسر نظراتها ويعلل حركاتها، وقد عظم أمرها فى عينيه ولاسيما بعد أن تذكر ما سمعه عن نفوذها فى بغداد، وأصبح فى خوف على شوكار منها، ولم يبق عنده شك أن شوكار إنما أصابها ما أصابها فى سبيله فهو السبب فى شقائها، وأن وجودها فى بغداد أصبح بعد هذه المقابلة أكثر خطراً. وخيل إليه أن سلافة لا تلبث أن تبذل جهدها فى إيصال الأذى إليها بسببه، فأحس بالتبعة التى تحملها بمجافاة سلافة لأنه سيعبثها على تعمد الأذى لشوكار، وشعر بقشعريرة وقف لها شعره.
وكان قد دخل باب القلعة ودنا من غرفته، ففتحها له الخادم وأضاء المصباح فأخذ فى خلع ثيابه، ثم وقع نظره على كتاب شوكار فأعاد قراءته فكان تأثيره فى هذه المرة أشد من تأثيره الأول كثيراً، وغلبه العطف على شوكار، وأيقن أنه لا يرتاح باله إلا إذا نجاها من ذلك الضيق، وهو لا يقدر أن يعهد فى هذا الأمر إلى أحد، ولاسيما بعد تهديد سلافة، فأخذ يفكر فى السفر إلى بغداد.
وبينما هو فى ذلك إذ سمع أذان الفجر فتوسد الفراش التماساً للراحة، وكان نومه مضطرباً متقطعاً، ولم تبرح صورة شوكار من خاطره لحظة. ولما نام رآها فى الحلم حزينة باكية تعاتبه لأنه شغل عنها بسلافة، فأثر هذا الحلم فى خاطره تأثيراً شديداً. ولما أفاق من نومه وطن عزيمته على الأخذ بناصرها.
وأصبح فى اليوم التالى ورسولها ببابه يطلب جوابه على كتابها، فأدخله إليه وسأله عن سفره إلى بغداد وكيف يكون؟ وكان ركن الدين قد سافر إليها مرة وعرف أهم طرقها وأحيائها، ثم زوده بكتابه إلى شوكار وبالغ فى إكرامه وملاطفته. فسأله الرسول إذا كان عازماً على السفر إلى بغداد.
فقال: «سأنظر فى ذلك». وصرفه بعد أن عرف منه المكان الذى يجده فيه إذا سافر إلى هناك.
أما سلافة فلا تسل عن غضبها لما لقيته من تردد ركن الدين لأنها كانت تحبه من كل قلبها، وكانت تحسب مكاشفتها إياه بحبها كافية لتجعله اسير هواها، فإذا هو يتردد ويظهر ميله إلى شوكار، وهى لا تستطيع أن تتصور وجودها لأنها تزاحمها على حبه، وكانت قد علقت به وهو لا يعلم، وتحينت فرصة لمفاتحته فى أمرها ولكنها رأت شجرة ال در اجتذبته لنفسها، فكان ذلك فى جملة ما حملها على مقاومتها، وبلغها أمر خطبته شوكار فجعلت رٍسالتها إلى بغداد تتضمن التخلص من الاثنتين معاً، فأنزلت شجرة الدر عن العرش، وأبعدت شوكار إلى بغداد. وتقربت إلى عز الدين لتفسد ما بينه وبين شجرة الدر عدوتها ومناظرتها وأفلحت فى ذلك، ولم يبق لإتمام سعادتها إلا أن تسترضى ركن الدين ليكون لها.
وكانت الأخبار تأتيها من بغداد متواصلة، فوصلها فى صباح ذلك اليوم خبر ما أصاب شوكار فى بغداد، فتسلحت به بحيث يقطع ركن الدين كل أمل فى بقائها فيتحول إليها، وعزمت على بذل جهدها فى إسعاده وتقديمه، ووطنت نفسها على الاكتفاء به، فلما رأت منه ما أرته غضبت وانقلب حبها إلى حقد، وعزمت على مناوأته أن لم يرجع إلى صوابه ويسترضيها!.
فلنترك القوم فى مشاغلهم بمصر وننتقل إلى بغداد.
الفصل السابع
فى بغداد
بلغت بغداد أقصى عمرانها فى أيام المأمون، حتى امتدت أبنيتها وبساتينها إلى نحو ????? فدان. وقد كانت مدناً متلاصقة.
وهى واقعة فى الجانب الغربى لنهر دجلة ولا تزال المدينة التى بناها المنصور هناك باقية بشكلها المستدير.
أما فى زمن روايتنا، فى القرن السابع للهجرة، فقد تبدل حالها وانتقلت أكثر عمارتها إلى الجانب الشرقى من حيث قصور الخلافة. وأمحت مدينة المنصور، وتدهورت حالتها الاجتماعية بعد أن كانت فى القرون الأولى من بنائها أم المدائن ومهبط التجارة ومجتمع العلماء والشعراء وموئل طلاب الثروة والجمال، على أنها بعد أن ضعف شأن الخلافة فيها تسربت إليها الدسائس وقامت الفتن بين أهلها، وأهمها الشقاق بين أهل السنة والشيعة، فلم تكن تمضى سنة لا يقع فيها بين الطائفتين قتال تتوسط الحكومة فى شأنه. وكانت هذه سنية فكان الضغط يقع غالباً على الشيعة، وكانوا يقيمون فى الكرخ والكاظمية وهم صابرون على ما يكابدونه من الاضطهاد، والحكومة مع ذلك توليهم مصالحها وتعهد إليهم فى تدبير شئونها.
وكان هذا الشقاق سبباً فى سقوط بغداد ودخولها فى حوزة التتر على يد هولاكو، وذلك طبيعى فى تاريخ الدول. وإذا تدبرت أسباب الانقلابات السياسية التى تنتقل بها السيادة من دولة إلى دولة. وجدت معظمتها يرجع إلى انقسام أبناء البلاد فيما بينهم بالمشاحنات الدينية أو الأغراض السياسية حتى يستولى القنوط على الفئة الضعيفة إذا غلبت على أمرها فتستنجد بالغرباء ليأخذوا بناصرها. ثم لا يزالون يتحينون الفرص حتى تصير الدولة إليهم. وتكاد لا تجد انقلاباً سياسياً فى تلك العصور يخرج سببه عن نحو ما تقدم.
•••
وكان على دجلة جسران موصلان بين شرقى المدينة وغربيها، وكل منهما مبنى من أخشاب مفروشة على سفن مستديرة الشكل، وأهمها منصوب بين حى قصر عيسى والرصافة، ينتقل عليه الناس والدواب.
وكان على ضفاف دجلة فى البر الشرقى قصور الخلفاء وأهم أبنية بغداد، وأشهرها قصر التاج والقصر الحسنى، والمدرسة المستنصرية التى بناها المستنصر بالله والد المستعصم بالله الذى تدور فى زمانه حوداث هذه القصة، والمدرسة النظامية، وقصر الريحانية، وقصر الفردوس. وأقربها من طرف الجسر الشرقى قصر لا اسم له كان يقيم فيه مؤيد الدين ابن العلقمى وزير المستعصم، وكان من أهل الكفاءة والدهاء، ولكنه كان نصوحاً مخلصاً يرى فى ما فى الدولة من الاضطراب ويبذل جهده فى النصح للخليفة وتنبيه إلى ما يعود بالصلاح عليه وعلى الدولة. وكان المستعصم ضعيف الرأى لكنه حسن الظن بوزيره فكان يصغى لنصائحه فى أكثر الأحيان.
غير أن ذلك لم يكن ضامناً للخير منقذاً من الخطر، لأن الرأس إذا كان مختلاً اضطربت سائر الأعضاء ويغلب فى مثل هذه الحال أن ينقاد إلى المتملقين وذوى الأغراض من أهل الدولة أو العصبية، فيغتنموا فرصة ضعفه ويعيثوا فى الأرض فساداً لإرواء مطامعهم، وهو لا يسمع فيهم لوما ولا يصغى إلى انتقاد.
تلك كانت حال المستعصم فى ذلك الحين، حتى أصبح ألعوبة بين أيدى أعوانه ورؤساء قصوره، لأنه كان منغمساً فى الترف شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغانى، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة وكان ندماؤه. وأعوانه منهمكين معه فى الملاذ لا يرجون له صلاحاً.
وزاد الطين بلة أن هولاكو التترى حفيد جنكيزخان كان قد أسس دولة عرفت بدولة أيلخان أو مغول الفرس، فلما استقر له الأمر فى فارس طمع فى بغداد وأخذ يستعد للحملة عليها، فاتفق أنه وهو يحارب الإسماعيلية فى فارس ويحاصر قلاعهم كتب إلى المستعصم يستنجده، وأراد هذا أن ينجده فمنعه امرأؤه من ذلك مخافة أن يكون قصد هولاكو الخديعة لتخلو بغداد من الرجال فيملكها بسهولة. ثم فتح هولاكو تلك القلاع وبعث إلى المستعصم يعاتبه فأشار عليه الوزير ابن العلقمى أن يسترضيه بالهدايا والأموال فأطاعه وأخذ فى تجهيز هدية من الجواهر والمماليك والجوارى، فاعترض الداودار (قائد الجند) وطعن فى نية الوزير وقال: «أنه يروم تسليم الدولة إلى التتر». فكف الخليفة وأرسل هدية يسيرة. فغضب هولاكو وبعث إلى الخليفة أنه لا يرضيه إلا إذا أتى هو بنفسه للاعتذار أو أن ينيب عنه الوزير أو الداودار، فأرسل إليه أناسا لم يقبل هولاكو نيابتهم واتخذ ذلك ذريعة للحملة على بغداد.
ولم يدرك المستعصم حقيقة غرضه، ووقع ابن العلقمى فى حيرة من أمره فكان يكثر التفكير فى مصير هذه الحال، ويرى الخطر محدقاً بالدولة فينصح ويحذر بلا جدوى. وكانت رسل هولاكو تأتيه سراً تحمل إليه كتب التحريض على الخروج إليه أو مطاوعته فى تسليم بغداد ويعده الوعود الكثيرة. وهو يتردد ويصبر لعل الخليفة يصغى لنصحه، وكان إذا لقى المستعصم وخاطبه فى ذلك وعده أن يعمل برأيه ثم لا يلبث بعد أن يفارقه حتى يرجع عن وعوده بما يدسه بعض الأعوان من الدسائس على ابن العلقمى ويتهمونه بالخيانة لأنه شيعى.
وكان الكبار الشيعة من الجهة الثانية يحومون حول ابن العلقمى يشكون إليه ما يقاسونه من الاضطهاد والعسف من ابن الخليفة، حتى أصبحوا لا يأمنون على أموالهم ولا على أعراضهم، وهم يقيمون فى الجانب الغربى من بغداد وأكثرهم فى الكرخ والكاظمية، وابن العلقمى يخفف عنهم ويعدهم خيراً، لكنه كان يتجنب الاجتماع بهم جهاراً خوفاً من وقوع الشبهة عليه، فلم يكن يأذن لأحد منهم أن يزوره إلا خلسة، لأن جواسيس المستعصم مبثوثون حوله يعدون عليه أنفاسه.
•••
أصبح ابن العلقمى ذات يوم وقد عظم الأمر على نفسه، ونفر من العمل وهو لا يرى فيه مصلحة له ولا للدولة، فاعتكف فى منزله، وكان فى قصره شرفة مرتفعة تطل على دجلة والجسر والرصافة والكرخ جميعاً، كان قد بناها لهذا الغرض، فصعد إليها وأمر الخدم ألا يزعجوه كأنه مريض لا يقدر أن يقابل أحداً.
صعد إلى الشرفة وقد التفت بعباءة خفيفة واعتم بعمامة صغيرة، وكانت الشرفة كالمصطبة أو المنظرة عليها الوسائد والطنافس وبعض أدوات التسلية لمن شاء من زائريه، وبينها وقعة من شطرنج موضوعة على وسادة فجلس بجانبها، وكانت هذه اللعبة كثيرة الشيوع فى بغداد تلذ لأصحاب العقول المفكرة، ولاسيما الذين يهتمون بالسياسة ويحتاجون إلى الحيل العقلية، وهو يومئذ فى تردد واضطراب فأخذ ينظر فى تلك الرقعة ويتسلى بنقل أحجارها على سبيل التجربة فلم تجد نفسه راحة فى ذلك.
فانتقل إلى دكة فى صدر المنظرة تطل على بغداد، وكان الجو صافياً فألقى نظره إلى تلك المدينة التاريخية يخترقها نهر دجلة المبارك، وعلى ضفتيه العمائر من القصور والمدارس والمستشفيات والمساجد والحمامات والبساتين والترع والجسور والطرق والدروب والأسواق مما يشغل الخاطر، واستحضرت ذاكرته تاريخ بناء هذه المدينة وسبب بنائها منذ خمسمائة سنة ونيف، ومن توالوا عليها من الخلفاء، وما تقلب عليهم من الأحوال، وما بلغت إليه فى أيام الرشيد من أسباب الحضارة، يوم كانت عاصمة الإسلام فى أقطار الأرض، تجبى إليها الأموال من معظم العالم المعمور، من تركستان إلى المحيط الأطلانطى، ويتوافذ إليها ملوك الأرض يخطبون ود صاحبها ويتزلفون إليه.
ثم صدمته فجأة نكبة البرامكة وما كان من ذلهم بعد عزهم وهم أصحاب الفضل الأول فى تلك الحضارة، وما عقب ذلك من الفتنة بين الأمين والمأمون ومن قتل فى سبيلها من الأنفس. إلى أخر ما حدث من تقلبات السياسة حتى صارت الدولة العباسية إلى التقهقر.
وبينما هو يفكر فى كل هذا إذ سمع لغطاً فى داره كأنه لجاج وجدال، فأصغى فسمع رجلاً يطلب أن يقابله والخدم يقولون له: «إن مولانا الوزير فى شاغل عن المقابلة».
فاستأنس بذلك الصوت وظن أنه يعرف صاحبه، فجذب حبلاً بجانبه متصلاً بالطبقة السفلى من القصر فدق جرساً هناك — وهى إشارة الاستدعاء عندهم — فجاءه غلام من غلمانه، فسأله سبب الضوضاء فقال: «إن رجلاً غريباً يطلب أن يرى مولانا، ولم يصغ إلى قولنا».
فقال: «قد سمعت صوته وأظننى عرفته، لا بأس من إدخاله».
فعاد الغلام بعد قليل ووراءه رجل عليه ثياب الفرس ووجهه فارسى، فحالماً رآه مؤيد الدين عرفه فرحب به وقال: «مرحباً بسحبان».
فأكب سحبان على يد الوزير يهم بتقبيلها فمنعه الوزير من ذلك وصافحه وأجلسه بجانبه وأمر الخادم بالانصراف وقال: «منذ متى جئت؟» قال: «جئت بغداد مساء أمس يا سيدى».
قال: «من أين أتيت؟». قال: «من القاهرة». قال: «أذكر أنى رأيتك هنا من عهد غير بعيد».
قال: «نعم يا مولاى كنت هنا وسافرت ثم عدت، حين نفدت بضاعتى لأشترى سواها، وتعب السفر لا يهمنى كثيراً».
فابتسم مؤيد الدين وقال: «انقطعت للتجارة يا سحبان؟»
فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «وهل ترى فائدة من سواها أيها الوزير؟»
فأدرك ابن العلقمى أنه يشير إلى الوزارة التى هى عمله فقال: «صدقت، لا فائدة من سواها، ولا خير فى أعمال الحكومة، حتى الوزارة فإن صاحبها متعب القلب بلا فائدة، مضت أيام الوزارة الحقيقية و…». وسكت كأنه خاف التصريح بما فى خاطره، فقال سحبان: «الوزارة أرقى مناصب الدولة، والوزير هو صاحب الحل والعقد، لكن يشترط أن..» وبلع ريقه وسكت وهو يخرج منديله ليتشاغل به.
فقال مؤيد الدين: «ماذا يشترط يا صاحبى؟ هل تحسب وزير اليوم كما كان فى صدر هذه الدولة؟» فقطع سحبان كلامه قائلاً: «بل ينبغى أن يكون اليوم أقدر منه فى تلك الأيام لضعف الخلفاء».
فهز مؤيد الدين رأسه وقال: «ولكن هؤلاء الضعفاء لا يسمعون نصيحة، لأنهم يصغون إلى خدمهم وخصيانهم».
قال: «أليس عندك علاج لهذا الضعف يا سيدى؟». قال ذلك وبان الجد فى عينيه. فقال مؤيد الدين: «وأى علاج تعنى؟». قال: «أعنى علاج هذا الضعف، هذا الرجل عضو فاسد، والجراح يشير بقطع العضو الفاسد لئلا يجر الفساد إلى سائر البدن». وحدق فى وجه الوزير يستطلع رأيه.
فأكبر ابن العلقمى هذه الجسارة بين يديه، فنظر إليه نظر المنكر العاتب. وقبل أن يقول كلمة تصدى سحبان وقال: «أنك تعد قولى جسارة أو وقاحة سمة كما تشاء، ولكننى أقول ما أشعر به، ونحن مشتركان فى الأمر، وبيدنا مفاتيح النصر لا ينقصنا غير الحزم.. تشبه إذا شئت بخلفاء صدر هذه الدولة وكفى».
فالتفت ميؤد الدين إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعهما أحد، ثم نظر إلى سحبان قائلاً: «لا أوافقك على ما تقول، ولم أفهم ما تشير إليه».
قال: «أجلك عن أن يفوتك مرادى، ولكنك ترى من السياسة أن تتجاهل، أنى أشير إلى ما فعله الرشيد بجعفر، ألم يقتله ويقتل البرامكة لأنهم شيعة، ولأنه خاف أن يكون منهم سوء على سلطانه، وقد أساء بقتلهم إلى دولته وإلى نفسه. أما أنت فإذا انتقمت للشيعة بهذا الحزم فأنك تنجى هذه البلاد من الخراب».
فاستعظم مؤيد الدين هذا التصريح وقال: «دعنا من هذا الكلام يا صاحبى إذا لا فائدة منه، ورأى أنك متألم من أمير المؤمنين أو بعض أهله فأردت …».
فقطع سحبان كلامه قائلاً فى تأثر ظاهر: «كلا. لا أقول ما أقوله عن غضب أو نقمة، وليس بينى وبين هؤلاء علاقة شخصية، لكننى غضبت لقومى وملتى، غضبت للنفوس التى تقتل والأعراض التى تمزق لا لشئ سوى حبها للأمام على وسائر أهل البيت».
ولم يكن مؤيد الدين أقل منه غضباً ونقمة لكنه كان حذراً متأنياً فقال: «خففت من حدتك يا سحبان، ودعنا الآن من هذا الحديث، أن الأمور مرهونة بأوقاتها».
قال: «لا أرى وقتاً أنسب من هذا، أن هذا الأمر إذا كان مرهوناً بوقت فهذا هو وقته.. اسألنى وأنا أجيبك».
قال: «لا أجهل ما يجول فى خاطرك، لكننى لا أرى هذا وقته».
قال: «لا أظنك فهمت مرادى تماماً، عندمى مشروع أخر غير الذى تعرفه، غير هولاكو..».
فلما سمع الوزير هذا الاسم أجفل لأنه ما برح نصب عينيه منذ أشهر، وهو سبب تردده، فقال: «ما هو؟».
قال: «أشكر لك أصغاءك يا سيدى، الأمر الذى عندى يوصلنا إلى المطلوب رأساً، أعنى أننا نحيى الدولة العلوية فى بلد ظل مقر العلويين نحو مائتى سنة».
فقال: «أظنك تعنى مصر، أين نحن منها؟ وقد تسلط عليها الأتراك و..».
قال: «أنا أعلم منك بحالها لأنى جئت من هناك أمس، وأنا لا أسافر وأجئ للتجارة، لكننى أريد حياة قومى ونصرة الأئمة المظلومين، أنا فى مصر منذ أعوام، وقد عرفت دخائلها، وهى فى يدى كما أشاء».
فضحك ابن العلقمى وقال: «ما أوسع أحلامك وما أكثر أوهامك! كيف خيل لك الغرور هذا، حتى توهمت مصر فى قبضة يدك، وهى فوق ذلك سنية المذهب ورجال دولتها كلهم من الأتراك السنيين؟»
قال: «أنا أعلم ذلك يا سيدى. ولكنهم منقسمون على السيادة، وطالب السيادة الأن رجل حازم ناقم على السلطان الحاضر فى مصر لأنه ساءه بأمر له ارتباط بقلبه فهو يبذل جهده فى غرضنا، وهو ناقم أيضاً على خليفتك هذا لأنه أخذ خطيبته منه، ولا يلبث أن يأتى للانتقام، فإذا ساعدناه على قتل هذا الخليفة وبايعناه سلطاناً على مصر أطاعنا فى إعلان الخلافة الفاطمية بمصر، فنعود إلى عزنا ونتخلص من هؤلاء الظالمين». وأبرقت أسرته كأنه نال ذلك فعلاً، فقد كان من أهل الخيال وأصحاب الأوهام الذين يستسهلون الصعب ويتوهمون وقوع المحال، إذا تصور أحدهم أمراً يتمنى حدوثه تذرع إلى تصديقه بأوهى الأسباب وأغضى عما يعترضه من العقبات أو يحول دون الحصول عليه من الموانع الطبيعية، وهذه الفئة من الوهميين كثيرة، وبخاصة فى بلاد المشرق. ولعل الفرق بين النجاح والفشل إنما هو فى تقدير الحقيقة حق قدرها والاحتياط للحوادث قبل وقوعها.
أما مؤيد الدين فإنه كان من أهل التدبير والحزم، ينظر فى العواقب ويتدبرها ولا تأخذه الأوهام، ولولا ذلك لم يصل إلى منصب الوزارة فى دولة مذهبا غير مذهبه وبين قوم يكرهون الشيعة ويفتكون بهم. فلما سمع كلام سحبان استخف برأيه، وبخاصة لأن ابن العلقمى لم يتطوح بمطامعه إلى هذا الحد لعلمه بعجز الشيعة عن النهوض، ولكنه كان يكتفى بأن يبدل خليفة بخليفة، فلم يشأ أن يفاتح سحبان بهذا الأمر وعمد إلى الاختصار فى الحديث فقال: «سننظر فى ذلك فى وقت أخر».
فأحس سحبان بما يضمره من احتقار رأيه فقال: «يظهر أنك لم تكترث لقولى، أو لعلك استبعدته، ولو عرفت الأسباب التى عندى لوافقتنى».
قال: «نعم يا صديقى، رأيت مطمعك بعيداً يكاد يكون محالاً».
وكان سحبان يحترم رأى مؤيد الدين فقال: «إذا كان رأى ضعيفاً فأسمعنى رأياً خيراً منه، أم أنت ترى أن نبقى فى هذا الذل إلى الموت ونحن سكوت؟».
قال: «كلا. لا ينبغى أن نبقى كذلك، لكن علينا أن نفكر ونقيس ونحتاط لا أن نرمى الكلام على عواهنه ونطلب المحال».
قال: «إذن يا سيدى ما هو الممكن من ذلك، وما هى الطريقة للنجاة؟».
قال: «لقد أحرجتنى واضطررتنى للكلام يا سحبان ولم أكن أحب التصريح بما فى خاطرى الآن، فأعلم أننا نحن الشيعة لا ينبغى لنا أن نطمع فى إعادة دولتنا اليوم لأن الأسباب لا تساعدنا على ذلك، ولكن لابد من أن يأتى يوم يتمكن فيه أبناؤنا منه. أما الآن فيكفينا تغيير هذا الخليفة الضعيف المشتغل باللهو بخليفة عاقل حازم ينصفنا. هذه هى الخطة التى يجب أن نضعها نصب أعيننا».
فأطرق سحبان وهو يعمل فكرته، وقد استصغر نفسه واستضعف رأيه، وكان مع قربه من التوهم سريع التقلب سهل الانقياد، فاستصوب رأى ابن العلقمى وقال: «صدقت يا سيدى أنك فى الحقيقة وزير مدبر عاقل. قل لى ما هى المعدات التى أعددتها لتنفيذ هذا المشروع؟».
فنهض مؤيد الدين وهو يظهر أنه مل الحديث، أو أنه لا يريد التصريح بأفكاره لسحبان، ووجه التفاته إلى جسر بغداد القائم على السفن المستديرة فإذا هو يعج عجيجاً بالناس على غير المعتاد، وقد تزاحمت عليه الأقدام، وأكثر المشاة يركضون كالهاربين من حرب، فلم يستطع أن يتبين الوجوه، لكنه توسم فى الأمر شيئاً مهما، والتفت نحو سحبان فرآه أكثر منه دهشة، وكان أحد منه بصراً فصاح: «ألا ترى يا مولاى؟ ألا ترى؟ هؤلاء أجناد الخليفة لعلهم عائدون من حرب يجرون وراءهم الأسرى والسبايا».
فقال وقد أجفل: «وأى حرب؟».
قال: «لا أدرى، ولكننى أرى جنداً وهذه راياتهم أمامهم، وإذا صدق ظنى فأنى أرى رأيه الداودار فى مقدمتها، وقد أذكرنى ذلك بما كنت أراه من تعدى هؤلاء الأجناد على قومنا فى الكرخ والكاظمية».
فحدق مؤيد الدين فى المازة فلم يستطع أن يتحقق شيئاً، وإذا هو يسمع ضوضاء فى داره أشبه بالعويل منها بالصباح، فأطل من نفاذة تشرف على فناء الدار فرأى جماعة من النساء يبكين ويعولن وقد تلطخت أثوابهن بالدماء والتراب، ومعهن شيخ أحنى ظهره الكبر وهو يتوكأ على عكاز ويبكى، فتفطر قلبه لهذا المنظر، ولكنه لم يعرف القوم، وكان سحبان واقفاً بجانبه ينظر إلى الدار، ولم يكد يتفرس قليلاً حتى صاح: «وا أبتاه!».
فأجفل ابن العلقمى وقال: «من هذا؟ لعله أبوك؟».
قال: «هو أبى يا سيدى، أعهده مقيماً فى الكرخ بسلام وأمان، ماذا جرى له؟». قال ذلك واستأذن فى النزول، فنزل ومؤيد الدين فى أثره.
ولم يكد سحبان يصل إلى الدار حتى سمع أباه يقول: «أين الوزير، أن مؤيد الدين؟». ولما وقع بصره على مؤيد الدين صاح فيه: «أنت وزيرنا ويصيبنا ما أصابنا؟ إذا كان ذنبنا أننا نحن أهل البيت الكرام فقد قبلنا العقاب على الرأس والعين، والله يجرى كل نفس بما فعلت».
وكان سحبان قد وصل إلى إبيه وقال له: «أبى ماذا جرى، ماذا أصابكم؟.. كيف خرجتم من البيوت على هذه الصورة؟».
فالتفت الشيخ إلى ابنه، ولما تبينه ألقى عصاه وأكب عليه وقبله وأخذ فى الشهيق والبكاء وقال: «ولدى سحبان؟ أنت هنا؟ متى جئت؟ آه يا ليتك جئت عندنا قبل مجيئتك إلى هنا. لا بل أراك أحسنت بابتعادك عنا لئلا تصاب بما أصيب به أخوتك».
فأقشعر بدنه وقال: «أخوتك؟ ماذا أصابهم؟ من فعل بكم ذلك؟» قال: «ألا تعلم ممن تأتى مصائبنا؟ أنها تأتى من …» والتفت حوله وهو خائف وعيناه يغشاهما الدمع وقال: «أنت تعلم ممن..».
فقال: «لعل هؤلاء الجنود المارين على الجسر كانوا عندكم».
فصاح: «أننا هاربون منهم، وجئنا إلى هنا نلتجئ إلى مولانا مؤيد الدين». والتفت إلى الوزير وقال: «آه يا سيدى، أنقذنا من هذا العذاب. أخرجنا من هذا البلد». والتفت إلى سحبان وقال: «أنك تفر من هذه المصائب كل سنة وتنجو بنفسك وتتركنا وأخوتك فى هذا الخطر. يا إلها متى نخلص من هذا العذاب؟.
فأجابه سحبان وهو يرتعد من الغضب: «عن قريب إن شاء الله».
والتفتت إلى مؤيد الدين فرآه واقفاً يسمع ويتجلد، وقد أوما إلى النساء أن يدخلن دار الحريم، ونظر إلى الشيخ وتلطف فى خطابه وقال: «تفضل يا عماه وأجلس هنا، خفف ما بك وقص على ما جرى».
قال ذلك وقعد وأقعد الشيخ بين يديه، وسحبان واقف لا يريد أن يجلس من شدة الغضب، فأخذ الشيخ يقص حديثه فقال: «أنت تعلم يا مولاى حالنا مع هؤلاء القوم، وكي يناوئوننا ويعذبوننا ونحن صابرون ننتظر الفرج. لكنهم لم يرتكبوا مثل ما ارتكبوه هذه المرة من القتل والسبى، فأنهم لم يبقوا على الأموال والأعراض». وغص بريقه وشفتاه ترتعشان فتشاغل بالبحث عن عصاه.
فتاثر مؤيد الدين من منظره، ونظر إلى سحبان فرآه يمسح عينيه ويخجل أن يراه الناس باكياً، فتجلد وأخذ يخفف عن الشيخ فقال: «يا عماه، هون عليك لكل شئ نهاية والله مع الصابرين. ثم ماذا جرى؟. قال: «لا تسألنى يا بنى عما جرى فإنه يفتت الأكباد، يكفى ما ترونه». وجعل يمسح عينيه، وأنامله ترتجف، فأجابه سحبان: «قد تعودنا هذه الشائد منهم ولكن..». فقاطعه أبوه قائلاً: «لا. لا. هاذ أنذا قد أدركت الشيخوخة فى هذا البلد مع هؤلاء القوم، وشاهدت نكبات عديدة ليس فيها واحدة مثل هذه. كانوا يعتدون على بعض المارة أو يتهمون بعض الرجال بأمر يسوغون به لأنفسهم مصادرة ماله أو إهانته، أما الآن فإنهم دخلوا المنازل بلا حجة ولا سبب، وداسوا مخادع النساء، وارتكبوا الفاحشة وقتلوا الأطفال. دعنى لم أعد أستطيع الكلام، ولا أبا لى إذا مت. وإنما أطلب من الله أن يبقينى حياً لأرى زوال هذه الدولة». ثم أسرع تنفسه وأوشك أن يغمى عليه، فرشوه بالماء، وبادر ابنه إليه فأعانه حتى أدخله غرفة استراح فيها، وذهب تواً إلى دار الحريم وكلف بعض الخصيان أن يجمعه بأخته، وكانت مع النساء. فجاءت وهى تبكى وتندب وقد قطعت شعرها، فقال لها: «أخبرينى يا صفية ماذا جرى لكم؟ هل أصيب أحد منك بسوء؟ أين أخوتك؟.
فضربت كفاً بكف وقالت: «لا أدرى هل هم أحياء أم أموات؟. ويلاه أين كنت فلم تشاهد المذابح؟ أنهم دخلوا مخدعى وأوشكوا أن يمسونى أعوذ بالله..».
فأقشعر بدنه من هذا التعبير، ولم ير بداً من التجلد بين يديها فقال: «الله منتقم يا أخيه، وسوف ينتقم من القوم الظالمين». وتحول إلى الدار فلم يجد مؤيد الدين هناك، فسأل الخدم عنه فقالوا أنه فى حجرته يلبس ثيابه، فعلم أنه عازم على الذهاب إلى قصر الخليفة فى هذا الشأن، فسره أنه غضب وود ألا يفلح فى مهمته لعله يعمل بمشورته ويعزم على التخلص من هذه الدولة.
وذهب إلى أبيه فرآه قد صحا واستراح، فجلس إليه وأخذ يخفف عنه ويسأله عن تفصيل ما جرى، فلم يزدد إلا دهشة وغضباً لما سمع.
لكنه أخذ يهون على أبيه بأنه سينتقم له، وإن الله لابد أن يبيد الظالمين، ونحو ذلك من عبارات التعزية، وقد تعودها الشيعة فى بغداد لكثرة ما توالى عليهم من الأحن.
•••
لبس مؤيد الدين فلنسوته وقباءه الأسود، ثم ركب بغلته إلى قصر التاج ليرى الخليفة ويشكو إليه ما فعله جنده مما لا يحتمل، والغلام يركض بين يديه. فمر بالمدرسة المستنصرية والقصر الحسنى حتى وصل إلى قصر التاج، فدخل بساتينه والخدم يوسعون له. فلما وصل إلى بابه الأكبر ترجل ودخل مسرعاً، والغضب باد فى محياه، حتى أنه لم يحسن رد التحية على من لقيه فى طريقه من الخاصة.
فلما بلغ باب العامة مشى الحرس بين يديه، فسأل صاحب الباب عن الخليفة فقال: «أنه جالس فى منظرة المسناة، فهل استأذن لمولاتى الوزير؟. قال: «هل هو وحده هناك؟» قال: «عنده بعض الخاصة والمغنين». فشق عليه ذلك لأنه طالما فكر فيه وتكدر منه فقال له: «استأذن لى عليه، أو قل له أنى أحب لقاء أمير المؤمنين حيثما يشاء».
فذهب الغلام وعاد وهو يقول: «لا يرى أمير المؤمنين بأسا من دخولك إلى المنظرة». فلم تعجبه هذه الدعوة لأنه كان يحب أن يراه على حدة، لكنه لم يرد بداً من الطاعة، فدخل من دهليز إلى دهليز، والخصيان يوسعون له حتى أطل على المنظرة، وهى كالعريش أو (الكشك) تشرف على دجلة، فوقها قبة من الخشب مزخرفة بالنقوش والتذهيب الجميل. وأرض المنظرة مفروشة بالبسط الثمينة عليها الرسوم البديعة، وفوق البسط الوسائد المطرزة، وفى وسط المنظرة مائدة عليها ألوان الفاكهة والحلوى، والمستعصم فى صدر المكان قد اتكأ على مرتبة عالية كالسرير، وعليه ثوب أبيض مذهب يشبه القباء، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس الملوك، وكأنه يتعمد بذلك تقليد زى الأتراك، وكان المستعصم أسمر اللون مسترسل اللحية ربعة القوام لا بالطويل ولا القصير ظاهر الحياء لين الكلام سهل الأخلاق، إلا أنه ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطموع فيه. وبين يدى المنظرة دجلة يجرى وفيه الزوارق المعدة لركوب الخليفة متى شاء.
فاستعاذ مؤيد الدين من هذه المقابلة، وود لو أنه لم يأت فى تلك الساعة، لكنه لم يسعه إلا إلقاء التحية بالاحترام اللائق، فأشار إليه المستعصم أن يجلس على وسادة بالقرب منه وقال: «مرحباً بوزيرنا الهمام».
فتأدب فى الجواب وتقديم الاحترام، والتفت إلى الحضور فلم يجد بينهم من يحترم مجلسه أو يعتد بوجوده، وإنما هم طائفة من خاصة الخليفة العائشين فى داره، وقيِّم القصر، وأستاذ الدار، ويعرف بالصاحب، وله قدر كبير عند الخليفة ويدعى له على المنابر بعد الدعاء للخليفة، وقلما يظهر للعامة، اشتغالاً بما هو بسبيله من أمور تلك الديار ومراقبتها والتكفل بها وتفقدها ليلاً ونهاراً.
وما كاد الوزير يجلس حتى أشار الخليفة إلى المغنى أن يعيد ما غناه، وراح يظهر طربه الشديد، متجاهلاً ما يقتضيه منصب الخلافة من الوقار، وكان أعوانه يعرفون ذلك فيه فيعده بعضهم لطفاً وظرفاً، ويعده الأخرون ضعفاً وتهاوناً، وهذا هو رأى مؤيد الدين فيه، على أنهم أجمعوا على حسن طوية الخليفة، ولعل ذلك من أسباب ضعفه التى جعلت سبيلاً لارباب الدسائس إليه.
•••
كان مؤيد الدين يسمع الغناء وهو مطرق يفكر فيما جاء من أجله، وينتظر أن يسأله الخليفة عن شأنه. فلما أتم المغنى دوره التفت المستعصم إلى الوزير وقال: «هل سمعت أشجى صوتاً وأرق نغماً؟. أن هذا اللحن يطربنى كثيراً، وهناك لحن أخر قريب منه لم أجد من يجيده فى بغداد، وقد بلغنى عن مغنية فى دار سلطان مصر تجيده فبعثت فى استقدامها لكنها لم تصل إلى». قال ذلك وسكت وقد انقبض وجهه، ثم استطرد قائلاً: «وكنت معتزماً أن أبعث إليك منذ أيام لأخبرك بذلك، وأستعينك فى البحث عن هذه المغنية لأنى على ثقة من أنها وصلت إلى بغداد، لكن بعض اللصوص أخذوها من الركب الآتى بها من مصر، فهل تبحث عنهم؟» فأشار مؤيد الدين مطيعاً وقال: «لابد من البحث عن كل لص ومعاقبته، إذ لا يليق أن يتجرأ أحد على جريمة فى أيام مولانا أمير المؤمنين أيده الله». وأحب أن يتطرق إلى ما جاء من أجله، فتصدى له أستاذ الدار وقال: «أن تجرؤ اللصوص على خطف مغنية محمولة لمولانا أمير المؤمنين لأمر لم يسمع بمثله، وهو يدل على ضعف سلطة الحكومة وقلة هيبتها فى عيون الناس، وكان المرجو من الوزير حفظه الله ألا يترك سبيلاً إلى مثل ذلك».
فوقع هذا الكلام وقوع السهم فى قلب مؤيد الدين، ولم يطق صبراً على السكوت عنه، وعلم أن الأستاذ الخصى يريد أن يظهر لدى مولاه فى مظهر الغيور على مصالح الدولة، فاستثقل ذلك منه، وعده جسارة خارجة عن حدود الليافة فى مجالس الخلفاء، فالتفت إليه وقال: «صدقت يا أستاذ، لا ينبغى أن يقع مثل ذلك، وتبعته تلقى على الوزير إذا كان الأمر راجعاً إليه، فإن أرواحنا فداء أمير المؤمنين فى الذب عن الدولة وبذل الجهد فى طاعته، ولكن هذه الأمور وأمثالها تقع أحياناً ولا حيلة للوزير فى دفعها». ثم حول بصره إلى المستعصم وقال: «وكثيراً ما يقع هذا وتتلافاه بدون أن يبلغ إلى سمع مولانا أمير المؤمنين، حتى الجند فإنهم يرتكبون أمور لا يليق بهم ارتكابها، ولا أدرى هل يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم». قال ذلك وتغير وجهه، وظهر للخليفة أنه يحمل شكاية يريد إيصالها فقال له: «لا ينبغى أن يقع شئ من ذلك إلإ بإذن منا أو من وزيرنا أو من أستاذ دارنا. وهل وقع شئ من هذا القبيل قريباً؟».
قال الوزير: «أرفع إلى سمع مولاى أمير المؤمين أن جماعة من أهل الكرخ أتونى الساعة وفيهم الشيوخ والنساء يبكون ويندبون، وقالوا أن شرذمة من الجند نزلوا عليهم ونهبوا منازلهم وقتلوا من وقف فى طريقهم وارتكبوا الفاشحة وغير ذلك».
فتصدى أستاذ الدار وقال وهو يهز رأسه هز الاستهزاء: «أهل الكرخ؟ أهل الكرخ تعودوا هذه الشكاية فلا يمضى عام أو شهر إلا سمعناها منهم».
فاستقبح مؤيد الدين تعرضه ووقاحته واستغرب اعتراضه فقال وهو يخاطبه: «تعود أهل الكرخ الشكوى لأن الجند تعودوا أن يؤذوهم و..»
فقطع الأستاذ كلامه وقال: «وإن لم يؤذوهم، أنهم يحبون الشكوى. هذه عادة الشعية». ونظر إلى الحضور وضحك ضحك الاستخفاف.
فأثر ذلك فى خاطر ابن العلقمى تأثيراً سيئاً جداً، وحول وجه عن الرجل وهو يقول: «لم أكن أظن أحداً يجسر على هذا القول فى حضرة مولانا أمير المؤمنين». وسكت.
فتصدى المستعصم للكلام وقال: «لا أستحسن ما جرى بينكما، ولا حق للأستاذ أن يتكلم بهذه اللهجة، فإذا اشتكى أهل الكرخ أو غيرهم فعلينا أن ننظر فى شكواهم وننصفهم». ووجه خطابه إلى مؤيد الدين وقال: «ماذا جرى أيها الوزير؟».
فاتجه هذا نحو الخليفة وقال: «بلغنى يا مولاى أن شرذمة من الجند سطت على الكرخ فى هذا الصباح وأمعنت فى أهله قتلاً ونهباً. وقد رأيت جماعة من المصابين وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال فلم أشأ أن أفعل شيئاً قبل أن أستطلع رأى مولاى».
فقال الخليفة وهو يظهر الاهتمام: «أن هذا منوط بالداودار قائد الجند، فينبغى أن نسأله عما بعثه على ذلك، لعل له عذرا». وصفق فجاء الحاجب فأمره أن يستقدم الداودار حالاً.
وعاد الخليفة فأشار إلى المغنى أن يعود لغنائه، واقترح عليه لحناً غناه وهو يعزف على العود، فطرب الجميع، إلا ابن العلقمى فإنه كان يغلى من الغضب وهو يتجلد.
وبعد قليل جاء غلام وقال أن الداودار بالباب، فأمره الخليفة أن يذهب به إلى دار العامة ينتظر حضوره. ثم نهض وأشار إلى الحضور بالانصراف، وأومأ إلى الوزير أن يتبعه، فسار فى أثره نحو دار العامة، وهى قاعة الاستقبال الخاصة بالأعمال.
ودخل الخليفة أولاً غرفة الألبسة، وجاء صاحب الثياب فألبسه ما تعود لبسه إذا جلس لمقابلة الناس: العمامة الكبرى والجبة وغيرهما. ثم أقبل على دار العامة من باب داخلى، وهى مفروشة أحسن فرش بالستائر والنمارق والأرائك، يقلدون بها ما كان من أسباب البذخ فى صدر الدولة العباسية. فلما دخل الخليفة القاعة جلس على سريره، وأومأ إلى ابن العلقمى أن يقعد، ثم أمر الحاجب أن يدخل الداودار. وكان ابن العلقمى قد سرى عنه، فدخل الداودار وألقى التحية ووقف متأدباً فقال به الخليفة: «يقول وزيرنا حفظه الله أن الجند سطوا على الكرخ وقتلوا ونهبوا. هل أنت عالم بذلك؟». قال: «نعم يا مولاى». قال: «وتقول نعم؟ وكيف أذنت بوقوعه؟».
قال: «فعلته بأمر من مولاى الأمير أبى بكر نجل مولانا أمير المؤمنين».
قال: «إذا قال لكم احمد (أبو بكر) اقتلوا الناس قتلتموهم بلا سبب».
قال: «لم أسمح بإرسال الجند إلى الكرخ بلا سبب، لكن مولاى أبا بكر قال أن جماعة من أهل الكرخ خطفوا جارية من جواريه وخبأوها عندهم، فذهبت للبحث عنها عند صاحب الشأن فمنعونا من الدخول وجردوا علينا السلاح، فأمرنى الأمير بالدفاع والتفتيش، وقد فعلت».
فقال الخليفة: «ذهبتم للتفتيش عن جارية أخذت من بيت أحمد فقتل بسببها عشرات من الناس، فلوا فعلت مثل فعلكم بسبب الجارية المغنية التى أخذت منى لحدث مثل هذا وأعظم منه. أن هذا لا يليق بنا. أين أحمد؟».
فأجابه الداودار: «أظنه فى قصره لا مولاى». فقال: «ادعه إلى حالاً».
فلما شاهد مؤيد الدين غضب الخليفة على ابنه استبشر بنجاته من تطاوله وتدخله فى أمور الدولة، ونظر إلى المستعصم فرآه مطرقاً والغضب يتجلى فى وجهه، لكنه لم يتبين من ذلك الغضب حزماً وعزيمة — وتلك كانت علة الخليفة — لم يكن ينقصه حسن القصد وإنما كان ينقصه الحزم. فظل مؤيد الدين صامتاً مطرقاً حتى دخل الحاجب وأنبأ بمجئ الأمير أحمد فأمر الخليفة بدخوله.
•••
دخل أبو بكر، وهو شاب فى مقتبل العمر، قد أخذه الغرور، تمازح حركاته خيلاء لا تظهر إلا على الأدمغة الفارغة. ولاسيما فى أوائل الشباب فقد كان فى حوالى السنة العشرين من العمر — وتلك هى سن الغرور فى كل شاب إذ يتوهم صاحبها أنه بلغ الكمال فى كل شئ. إذا مشى حسب الناس ينظرون إليه إعجاباً بجسالة أو بسالته، وإذا قال قولاً توقع أن يكون له وقع الوحى على القلوب، فإذا آنس منهم فتوراً أو احتقاراً غضب وأنحى عليهم باللائمة ورماهم بالجهل أو الحسد لأنهم بخسوه حقه، وبأنهم إنما فعلوا ذلك تقليلاً من فضله. ونحو ذلك من غرور الشباب.
فإذا كان ذلك شأن الشباب على اختلاف طبقاتهم فكيف بأبناء الملوك والخلفاء الذين لا يسمعون إلا التحبيذ والأطراء؟ وبخاصة إذا كان فى الشاب خفة وصغار مثل أحمد هذا الذى زاده غروراً أن أباه أطلق سراحه من محبسه على غير المعتاد عند الخلفاء قبله، فأصبح لذلك لا يحسب للعواقب حساباً، بل هو لا يدرك حقائق الأمور، وإنما يهمه أن تنفذ كلمته وينال مشتهاه مهما يكلفه ذلك.
دخل أبو بكر وألقى التحية، وتلفت يميناً وشمالاً فوقع بصره على مؤيد الدين فنظر إليه باحتقار، ومؤيد الدين لا يبدى ملاحظة. وقعد أبو بكر قبل أن يأذن له أبوه فى القعود فقال له المستعصم: «يا أحمد أنت أمرت الداودار بالهجوم على أهل الكرخ؟».
فأجاب وهو يبتسم نكاية فى مؤيد الدين: «نعم يا أبى». قال: وكيف ذلك؟ ولماذا؟». قال: «لأن جارية من جوارى هربت من قصرى واختبأت فى منزل أحدهم، ولاشك أنهم حملوها على الفرار وخبأوها، فبعثت من يأتى بها فشتموا رسولى وضربوه، فأمرت الداودار أن يؤدبهم فتمردوا عليه، فاضطر — للدفاع عن نفسه — أن يضربهم وقد فعل، وما المانع من ذلك؟».
فقال المستعصم: «المانع أنه لا يليق أن تحدث مذبحة يقتل فيها عدة رجال من أجل جارية، وأنت تعلم أن فى قصورنا ألوفاً من الجوارى فلو طلبت منى عشر جوار بدل الجارية لكان ذلك أهون على مما أسمعه، والجوارى كلهن سواء».
فاعتدل فى مجلسه وهو يصلح منطقته بدلال وأنفة وقال: «إذا كانت الجوارى سواء، وفى قصورنا ألوف منهن، فما الذى حمل أمير المؤمنين على أن يبعث فى طلب جارية من سلطان مصر».
وكان مؤيد لادين يلاحظ ما يتقلب على وجه المستعصم من الملامح ليرى ما يكون تأثير قول ذلك الغلام فيه، فإذا به لما سمع اعتراض ابنه غلب عليه ضعف العزيمة وعمد إلى الاسترضاء وقال: «أنا لم أطلب تلك الجارية من سلطان مصر إلا لتفردها بغناء أصوات لا يستطيعها سواها، وأما…».
فقطع أحمد كلام أبيه بكل وقاحة واستخفاف وقال: «وما أدرك أن تكون جاريتى هذه غير ممتازة بمناقب لا توجد فى سواها، وما أجدرنى أن أقتدى بوالدى وهو أمير المؤمنين، قدوة سائر المسلمين».
فحمل المستعصم هذا القول محمل التهكم، وخجل من أن يسمعه أمام مؤيد الدين والداودار ولا يرد عليه فقال: «أهكذا تجيبنى يا أحمد؟ وهل يحق لكل واحد أن ينال ما يناله أمير المؤمنين؟ أن عملك هذا لا يرضينى».
فهز أحمد رأسه وقال: «يكفى أن يرضينى أنا. وهل أعمال أبى ترضى كل إنسان؟ لا يطلب من المرء أن ترضى أعماله كل الناس».
وبعد أن كان المستعصم قد صرح بإنكاره تهكم ابنه حمله ضعفه على المغالطة، وتناسى تهكمه فابتسم وقال: «وبعد تلك المقتلة هل ظفرت بالجارية؟».
قال: «كلا.. ما زالت مختبئة، ولابد من العود إلى البحث عنها».
قال: «لا يا ولدى، لا تبحث عنها هكذا، وسأكلف أنا وزيرنا مؤيد الدين أن يتحرى عنها حتى يقف على مكانها ويعيدها إليك».
فنظر أبو بكر إلى مؤيد الدين لحظة ثم حول وجهه عنه نحو الداودار وقال: «إذا لم يقف على مكانها فنحن نقدر على إخراجها من مخبئها ولو كانت فى جيب الوزير أو بين أهله». ثم نهض وقال: «استأذن سيدى الوالد فى الانصراف الآن لأنى على موعد مع بعض القواد للخروج إلى الصيد». وخرج ولم ينتظر إذن والده وأومأ إلى الداودار أن يتبعه فتبعه والمستعصم ينظر إلى ابنه وهو خارج وقد بان اليأس فى وجهه، ثم حول بصره إلى مؤيد الدين وتنهد وقال: «صدق القائل: «وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض..» ودمعت عيناه.
فأطرق مؤيد الدين وهو يتعجب من ذلك الضعف. ولبث فى انتظار خطاب الخليفة حتى سمعه يقول: «يا مؤيد الدين، أنك وزيرى وموضع ثقتى.. وقد رأيت ما أظهره أحمد من الاستخفاف بقولى.. وأظننى أخطأت بإطلاق سراح أولادى، فخالفت بذلك تقاليد أجدادى.. لو كان أحمد كما كان أبناء الخلفاء قبله لكنا فى غنى عما نحن فيه». وتشاغل بإصلاح لحيته، فلم يشأ مؤيد الدين أن يخوض فى هذا الموضوع خوفاً من تغلب عاطفة الحنو فى نفس الخليفة مما قد يحول غضبه إليه وبخاصة أنه يعلم ضعفه من جهة ابنه هذا. فقال المستعصم: «نطلب من الله أن يهدى هذا الغلام إلى صوابه، أنت أب تعرف قلوب الآباء، فأتقدم إليك أن تساعدنى فى البحث عن جارية أحمد وأن تعوض على أهل الكرخ خسائرهم، وأنى آسف لما وقع وعسى أن لا يتكرر». ثم تنحنح وهم بالنهوض وهو يقول: «لا يبرح من بالك أيضاً أن تبحث عن الجارية شوكار المغنية التى استقدمناها من مصر وخطفها اللصوص قرب بغداد».
فنهض مؤيد الدين وطأطأ رأسه طائعاً وقال: «أنى عبد أمير المؤمنين، وفقنى الله فى خدمته ولكننى».
فقطع الخليفة كلامه قائلاً: «أنا أعلم أن أحمد لم يكن ينبغى له أن يقول ما قاله.. لكنه لا يزال شاباً قليل الاختبار ولا يلبث أن يهتدى إلى الصواب». وتحول كل منهما فى طريقه.
•••
خرج مؤيد الدين بن العلقمى من قصر التاج وركب بغلته عائداً إلى قصره وهو غارق فى التفكير، تتنازعه عوامل مختلفة، لكن الخوف متغلب عليها كلها.
ولما دنا من قصره رأى فى موقف الدواب بغلتين أحداهما بغلة سحبان، وقد عرفها، والثانية لم يكن قد رآها من قبل فتقدم غلامه إلى الباب وقرعه ففتح على سعته ودخل مؤيد الدين ببغلته إلى مدخل الباب وترجل هناك، فتناول الغلام زمام البغلة وساقها إلى مكانها، ومشى مؤيد الدين وكان البواب يسرع بين يديه. فقال له: «من هو صاحب البغلة الأخرى المربوطة هنا؟».
قال: «أن صاحبتها امرأة جاء بها سحبان من وقت قريب، وهو فى انتظار مولانما الوزير فى الشرفة».
قال: «قل له يأتى إلى غرفتى، من هى المرأة التى معه؟».
قال: «لا أدرى يا سيدى، لكنه بعد خروجك أخذ أباه وأخته إلى الكرخ ثم عاد الساعة ومعه هذه المرأة وأظنها جارية».
وكان مؤيد الدين قد دخل غرفته وأهل بيته يعلمون أنه إذا دخلها لا يدخل عليه أحد إلا بإذن خاص، وسأله الطاهى: هل يريد الطعام فقال: «هيئ لى مائدة مختصرة أدخلها إلى هنا، وليأت سحبان للأكل معى».
ودخل فبدل ثيابه، ولم يكد يفرغ من اللبس حتى جاء سحبان وفى وجه إمارات البشر، وكان قد فارقه واليأس غالب عليه، فاطمأن مؤيد الدين بعض الشئ، وابتسم ابتساماً لم يعتد شفتيه وقال: «ما وارءك يا صاحبى؟». قال: يظهر أنك غضبت مما شاهدته فى قصر التاج، ليس عند القوم ما يفرح». وابتسم.
فقال مؤيد الدين: وهل عندك شئ يفرح يا سحبان؟ بالله قل إن صدرى قد ضاق مما أراه وأسمعه. تقدم كل معى».
فأتى على دعوته وتناول سكباجة وتشاغل بتقطيعها وهو ينظر إلى وجه الوزير ويقول: «لدى خبر يسرك ويوجب استغرابك ودهشتك».
ومال مؤيد الدين إلى استطلاع ذلك الخبر، فتوقف عن المضغ. وقال: «ما ذلك؟ قيل لى أنك جئت ومعك امرأة. من هى؟» ثم عاد إلى المضغ.
فضحك سحبان وبادر إلى قطعة من السكباجة أدناها من فيه وهو يقول: «هى طلبة الأمير أحمد وهى الجارية التى فتك بأهل الكوخ من أجلها».
فقال: «كيف ظفرت بها؟ الحمد لله على ذلك قد خلصنا من شر هذا الغلام، أين كانت؟».
قال: «كانت مخبأة عند جيراننا، وأختى عالمة بذلك، لكنها كتمته واحتملت الخطر من أجل كتمانه كما علمت، لأنها رأت الجارية نكرة أن تعود إلى أحمد هذا، فلما جرى ما جرى وعدت أمس مع أهلى قصت على أختى خبر هذا الجارية وأرتنى إياها فأتيت بها إلى هنا».
قال: «حسناً فعلت لأن الخليفة ألح فى التوصية بأن نبحث عن هذه الجارية ونعيدها إلى ابنه حذر طيشه، وقد حيرنى هذا الوالد بضعفه وحنوه».
فقال سحبان: «لكن الجارية لا تريد أن تعود إليه».
قال: «هى وشأنها، نحن ندفعها إلى الخليفة ونتخلص من تبعة أمرها».
قال: «أنها أشد كرهاً للخليفة، ولا تريد أن يعرف بوجودها هنا».
قال: «وكيف ذلك؟ لم أسمع أن الجوارى يرفضن التقرب من الخلفاء».
قال: «لهذه الجارية شأن خاص لا يعرفه أحد فى بغداد سواى».
قال: «لله أنت! ما أكثر ما تعرفه!…».
قال: «لا أعرف ذلك لذكاء خاص أو لكرامة أو ولاية، ولكن الأسفار تعلم الإنسان أشياء كثيرة». قال: «وما علاقة ذلك بالأسفار؟» قال: «أنى رأيت هذه الجارية بمصر وعرفت حديثها، وهو ذو شجون، لو عرفته لتولتك الدهشة من غرائب الاتفاق».
فازداد رغبة فى الاستطلاع وقال: «قل يا سحبان لا صبر لى على الإطالة». قال: «ألم تسمع شكوى الخليفة من جارية طلبها من سلطان مصر وخطفت قبل وصولها إلى قصره؟ أنها هى هذه الجارية نفسها».
قال بدهشة: «هى نفسها الجارية التى فرت من ابنه إلى الكرخ؟».
قال: «نعم يا سيدى هى بعينها، هى شوكار جارية شجرة الدر التى سمع الخليفة برخيم صوتها وجودة صنعتها على العود فبعث إلى سلطان مصر يطلبها منه. وقبل دخولها بغداد سطا عليها بعض الناس بحجة أنهم قادمون من قصر الخليفة لحملها إليه وفروا بها. وتحدث أهل بغداد بذلك زمناً ثم سكتوا، وكان الباعث على ذلك السطو أن أبا بكر لما سمع بالجارية القادمة إلى أبيه رأى أنه أولى بها، فبعث من قبله أناساً أخذوها من القادمين بها بدعوى أنهم أتون من قصر التاج لاستقبال مغنية أمير المؤمنين، فلما صارت فى أيديهم أخذوها إلى قصر أعده هذا الشاب لمثل هذه الحاجة، وكان أهل قصر التاج فى انتظارها. ثم علموا أنها أخذت خلسة لكنهم لم يعلموا أين هى، وما زالوا يجهلون ذلك إلى الآن».
فاستغرب مؤيد الدين وقاحة ذلك الشاب وقال: «وماذا فعلت شوكار بعد ذلك؟ ألم تستطب مقامها عند هذا الشاب؟».
قال: «أن هذه الفتاة لا يطيب لها المقام فى غير مصر لأنها مخطوبة لأمير من أمراء المماليك».
قال: «مخطوبة؟ وبعث الخليفة يأخذها من خطيبها؟».
قال: «لم يعلم الخليفة أنها مخطوبة وإنما يعلم أنها جارية شجرة الدر الملكة السابقة وأنها تحسن الغناء فطلبها من السلطان الجديد فلم يسعه مخالفة الأمر».
قال: «من هو خطيبها؟» قال: «هو ركن الدين بيبرس البندقدارى». قال: «ركن الدين بيبرس؟ أنه بطل باسل ورجل حكيم اجتمعت به مرة فى مصر ونحن شابان وتكاتبنا غير مرة، أنى أعرفه شجاعاً لا يصبر على الضيم، فماذا هو فاعل؟».
قال: «أنه يكاد يتقد غيظاً، ولا أخفى على مولاى أنه أسر إلى أمر هذه الجارية وأنا فى مصر، وقد تعجلت السفر إلى بغداد فى سبيل خدمته، لعلى أقف على خبر خطبته، وكان قد جاءه كتاب منها تنبئه فيه باختطافها من رجال الخليفة، ولم تكن تعرف من اختطفها، وربما جاء هو بنفسه للبحث عنها».
فأطرق مؤيد الدين مدة وهو يفكر فى حال ذلك الخليفة وابنه، وفى اشتغالهما باللهو عن الملك وقال: «هل تظن ركن الدين يأتى إلى بغداد؟»
قال: «لا يبعد أن يأتى، والآن إذا أذنت فلتبق شوكار عندنا ريثما يأتى هو أو نكتب إليه عن نجاتها وننتظر رأيه فيها».
قال: «وكيف استطاعت الفرار من قصر أبى بكر وهى غريبة هنا؟»
قال: «ساعدها على ذلك خصى كان فى خدمتها يعرف أهل المنزل المجاور لمنزلنا فحملها إليه بحيلة، ولما علم أبو بكر بذلك جاء الكرخ كما علمت، لكنه لم يستطع الوقوف على خبرها، ولما علمت اليوم بوجودها أتيت بها إلى هنا لأرى رأيك فيها».
فأخذ مؤيد الدين يفكر فيما سمعه وهو حذر يقظ، فخاف أن يكون فى بقاء تلك الفتاة عنده باعث على سوء الظن به، لعلمه بوجود الجواسيس حوله فقال: «انظر يا صاحبى، أن أمر هذه الفتاة أهمنى كثيراً، وقد فرحت بنجاتها من الأسر، وأحب استبقاءها، لكنى لا أرى أن تبقى فى منزلى».
فبادره سحبان قائلاً: «صدقت، وأنا لا أطلب ذلك وإنما استشيرك فى الأمر، وأحب أن يعلم بيبرس أن نجاتها كانت على يدك، وهو قائد عظيم ننتفع برأيه وحزمه فى الأمر الذى تكلمنا فيه، ولابد من الوصول إليه.. أن هذا القائد وعدنى وأنا فى مصر أنه يستطيع أن يقلب هذه الحكومة ويقتل الخليفة ويقيم لنا الدولة العلوية الشريكة بمصر وعند ذلك».
فأسكته مؤيد الدين بالإشارة وهمس فى أذنه قائلاً: «لا تتطرف فى أفكارك يا أخى. دعنا من التخيلات إلى الممكنات».
فتعجب سحبان من إنكاره ذلك عليه لأنه كان يعتقد إمكانه، ويعتقد أن ركن الدين وعده به، مع أن ركن الدين لم يبد فى هذا الشأن غير السكوت. ولكن سحبان كان كثير التعويل على الأوهام فيبنى من الحبة قبة، بينما مؤيد الدين كان على عكس ذلك. فلما أنكر عليه قوله اضطر سحبان إلى السكوت والتظهر بالاقتناع وقال: هب أن أملى بعيد، ألا ترى فى مجئ ركن الدين نفعاً لنا؟.
قال: «قد يكون حضوره نافعاً لنا إذا أحسنا استخدامه، ولا محل للكلام فى ذلك الآن».
فقاطعه قائلاً: «ما لى أراك لا تجد محلاً للكلام، هب أنك وافقتك على رأيك واكتفيت بإبدال خليفة بخليفة ألا يجوز أن نبحث فى هذا؟.
قال: «يجوز يا صاحبى، وترانى فى حيرة من أمر هذا الخليفة. تارة أراه معتدلاً يمكن إصلاحه، وآونة أقطع الأمل فى إصلاحه. سنفكر فى ذلك».
قال: «أفرض أن المستعصم هذا يمكن إصلاحه، أترى الإمام أحمد ابن الظاهر أهلاً ليقوم مقامه؟».
فبغث مؤيد الدين لهذا الاقتراح لأنه طالما فكر فيه ولم يخطر له أحد سوى الإمام أحمد أهلاً له، لكنه لم يكن ليبوح به لأحد، فلما سمع اقتراح سحبان أجفل وظهرت البغتة فى عينيه وزادتا لمعاناً وقال: «لا بأس به، لكنه محبوس فى قصر الفردوس كما تعلم ولا سبيل إليه».
قال: «متى تم رأينا على أمر لا يقف الحبس فى طريقنا. وإنما أطلب إليك أن تصرح لى برأيك. يكفينى منك تكتما، أن التكتم حسن لكنه إذا زاد على حده يفشل صاحبه. قل لى ألا ترى الإمام أحمد أهلاً ليقوم مقام المستعصم».
قال: «أنه نعم الخلف، ولكن دون الوصول إليه خرط القتاد، وسننظر فى الخطوة الأولى. وأفضل إصلاح حال المستعصم لأن ذلك يغنينا عن التغيير والتبديل».
قال: «وأنا أدعوك إلى إصلاحه». وتحفز للنهوض وقال: «أما تريد أن ترى شوكار وتأذن لها فى تقبيل يدك؟»
قال: «لا بأس من ذلك وإن كنت أرى أن تسرع بإخراجها من هذا المنزل».
قال: «تقبل يدك وتذهب حالاً». ونهض ومشى ثم عاد ومعه شوكار، وكانت قد تغيرت سحنتها من فرط ما قاسته من العذاب والهموم، فلم يفرج همها إلا فى ذلك اليوم لما رأت سحبان وطمأنها على ركن الدين وأنه بعثه للتفتيش عنها، وأصبحت تتوقع سرعة الرجوع إلى مصر أو وصول ركن الدين إلى بغداد. فلما دخلت على مؤيد الدين أكبت على يده تقبلها، وقد غلبها البكاء وبللت كفه بالدموع، فاجتذب يده من يدها وقال: «لا باس عليك با بنية لا تخافى أن أمير المؤمين لا يظلم أحداً، وأن الله لا يتخلى عن أحد».
فأطرقت برأسها حياء وهى واقفة وقالت: «أحمد الله الذى وسط هذا الشهم فى إيصالى إليك، وأنا لا أطلب شيئاً غير إرجاعى إلى مصر». وغصت بريقها.
فقال مؤيد الدين: «ستعودين فى خير أن شاء الله». وتحرك من مقعده ونهض، وأوما سحبان إلى شوكار أن تتبعه، وودع مؤيد الدين شاكراً ومشى، فتبعته شوكار فأسرع إلى إخفائها فى منزل لبعض أهله فى الكاظمية.
الفصل الثامن
مؤيد الدين وهولاكو
أما ابن العلقمى فما كان يخلو بنفسه حتى صعد إلى الشرفة، والشمس قد مالت إلى المغيب، وتوسد فراشاً على مقعد يطل على دجلة، وقد تاقت نفسه إلى الوحدة والتفكير فيما هو فيه من مشاغل. فلما سمع أذان المغرب نهض للصلاة فى مسجد بالقرب من منزله، وهو يتوقع أن يرى فى الصلاة راحة. وليس للمؤمنين فى ساعة القلق سبيل إلى الراحة والطمأنينة خيراً من الصلاة والدعاء إلى الله أن يهديهم سواء السبيل وينقذهم من المخاطر.
أحس مؤيد الدين حاجته إلى الراحة فأسرع إلى المسجد وأخذ يصلى، فلما فرغ رأى شيخاً من الصوفية راكعاً بالقرب منه وسمعه يتمتم بالصلاة فلم يهتم به، ثم رآه يزحف نحوه، وكدرته وقاحة ذلك الصوفى وظنه مصاباً فى عقله، فالتفت إليه شزرا وزجره بلطف، فازدجر الرجل هنيهة وأظهر أنه يصلى. فعاد مؤيد الدين إلى صلاته ودعائه، واستغرق فى التوسل إلى الله أن يهديه سبيل الرشاد.
ولما فرغ نهض وتحول نحو الباب فوجد أناساً واقفين للسلام عليه فحياهم ومشى، ولما وصل إلى المنزل إذا بذلك الصوفى واقف بجانب الطريق وبيده مسبحة وهو يتمتم كأنه يدعو، فلما دنا مؤيد الدين منه تقدم الصوفى المسبحة فى يده وهو يبتسم وقال: «أنى أستطلع الغيب وأنبئك بما تفعله يا مؤيد الدين».
فلما سمع ذلك أجفل لأنه قيل له بلحن الأمر وفيه صيغة العجمة، فعلم أن مخاطبه غير عربى وأنه ليس من الفقراء المتسولين، وأنه الأمر ذى بال تعرض له فى الطريق على هذه الصورة، فألقى الرجل نظرة متفرس، وتأمل لباسه ووجهه، فرأى عليه قلنسوة الصوفية وجبة الصوفية وفى يده مسبحة الصوفية، لكن سحنته غير سحنتهم، ولحيته غير لحيتهم، فأجاب قائلاً: «من أنت يا رجل؟».
قال: «أنى بصير بخفايا القلوب قادر على تفريج الهموم أكشف لك ما خفى عليك وأرشدك إلى الطريق السوى، وأن لم تصدقنى فجرب».
فأوما إليه أن يتبعه، وأشار إلى البواب أن يدخله إلى غرفته الخاصة، ودخل هو وقد شغل خاطره بهذا الدرويش، ومال كل الميل إلى الاسترشاد برأيه، وهو يعتقد الكرامة بأصحاب الكرامات، وتمنى أن يكون هذا منهم. وبعد قليل دخل الدرويش وقد أدخل إحدى يديه بكم الأخرى وقبض بالأنامل المطلقة على مسبحة أخذ يعد حباتها، فأشار إليه مؤيد الدين أن يقعد، وسأله إذا كان يحتاج إلى طعام فقال: «لا» فأوما إلى الخادم أن يخرج ويغلق الباب وراءه ففعل. ثم نظر إلى الدرويش وتفرس فى وجهه فلم يذكر أنه يعرفه، ولم ير فى وجهه سحنه التصوف فقال له: «أرشدنا بعلمك يا شيخ».
قال: «أرنى يدك مفتوحة».
ففتحها وأره باطنها فنظر فيها مليماً ثم قال: «أنت تفكر فى أمر عظيم الأهمية شديد الخطر عليك وعلى أهلك وسائر عشيرتك». فأشار مؤيد الدين برأسه أن: «نعم».
فأعاد الدرويش النظر إلى كف الوزير كأنه يقرأ كتاتباً مخطوطاً، ثم رفع بصره إلى مؤيد الدين وقال: «أن المشكلة التى أنت واقع فيها يسهل التخلص منها إذا شئت».
فقال: «وكيف ذلك؟». قال: «ينبغى أولاً أن تنظر إلى مصلحة نفسك وقومك، ولا تتقيد باعتبارات وهمية لا قيمة لها إلا عند ضعفاء القلوب. فهل أنت من هؤلاء؟».
فاستغرب مؤيد الدين اقترابه من الحقيقة بهذه السرعة، وأحب زيادة الإيضاح فاستل يده من بين أنامل الصوفى وقال: «قل قبل كل شئ ما اسمك؟». قال: «اسمى رسول إلى مؤيد الدين». ففرح لأن ظنه كان فى محله، أى أن الرجل ليس صوفياً فقال له: «من أرسلك؟» قال: «صديق نصوح يريد بك وبأهلك خيراً، لكنك لا تعرف كيف تنتفع بالفرص التى تقع لك».
فعلم مؤيد الدين أن الرجل رسول متنكر فقال: «افصح يا رسول الخير، من أين أنت آت؟ لا تنهيب». فقال: «أنى رسول من خاقان عظيم لا يلبث أن يأتى بلادكم ويفتحها عنوة ولا قبل لكم بدفعه».
فعلم مؤيد الدين أنه يشير إلى هولاكو التترى، لأنه جاءه منه غير كتاب من قبل يدعوه إلى مشايعته على الخليفة المستعصم ويعده ويمنيه، ولكنه هو يتردد، فتجاهل وقال: «من تعنى؟». قال: «أعنى مولاى الخاقان هولاكو، ألا تعرفه؟.. قد كتب إليك مراراً يدعوك إلى التخلص من هذا الخليفة الضعيف عشير النساء والمغنين وأنت لا تجيب، فأمرنى أن أتيك مرشداً ناصحاً. ولا يخفى عليك أن مثلى لا يدخل هذا المدخل، ويتعرض لهذا الخطر، إلا إذا كان قد باع نفسه فى سبيل الحق. فأنا أدعوك باسم مولاى أكبر السلاطين أن تكون معه على هذا الطاغية فتخلص أنت وقومك الشيعة من الظلم والعسف، وتكون لك المنزلة الأولى عند صاحب هذا البلد حينئذ، لا تكن ضعيفاً، ما لى أراك مطرقاً كأن نفسك تحدثك باعتبارات تقدر لها قيمة لا تستحقها، وكأنك تقول فى سرك لا يليق بك أن تخلف ظن مولاك الخليفة فيك. لعله لم يخلف ظنك فيه؟ أنا هنا منذ أيام، وقد أطلعت على ما جرى بينك وبينه وبين ابنه، ورأيتك تتململ وتتذمر، وإنما ينقصك الحزم فتنقذ نفسك وأهلك وعشيرتك، وإلا فأنتم هالكون لا محالة».
فأكبر مؤيد الدين هذا التهديد من رسول غريب ولكنه ر أى فى وجه ذلك الرسول هيبة وجرأة لا توجدان فى عامة الناس. فقال: «أهد مولاك شكرى لما عرضه على، وقل له أن طلبه لا سبيل إلى إجابته، وقد رأيته يعرض بعجز هذه الدولة عن مقاومته، لقد أخطأ كل الخطأ لأن جندنا لا يغلب من قلة ولا من ضعف، ونحن على ثقة من الفوز إذا نشبت الحرب بيننا وبينه».
فضحك الرجل وقال: «أتيت إليك على أنى منجم يقرأ الأفكار، وها أنذا اقرأ فكرك الآن من وراء ما تقول، أنك تقول غير ما تعتقد، أنا أعرف كل ما تحاول إخفاءه من اضطراب الجند وفساده، فأصغ لهذا النصح. وأعلم أننا لا نكلفك تعباً ولا خطراً، ولا نطلب منك أمراً عظيماً. أن البلد نحن فاتحوه لا محالة. فإذا توسطت معنا قللت من القتل والفتك، لأننا نحب أن ينحصر الأذى فى صاحبه المسبب لهذه الشرور، ولا ذنب لرعايا، وبخاصة الشيعة الذين قضوا الأجيال المتوالية وهم يتحملون أنواع العذاب من هؤلاء الخلفاء، ومن هذا المهذار. وقد يصعب عليك أن ترجع عما قلته الآن وزعمته فى الدفاع عن مولاك المستعصم، فأنا لا أكلفك الرجوع الساعة، ولكننى أرشدك إلى الصواب وأترك لك الوقت الكافى للتفكير. وأما مولاى الخاقان هولاكو فأنه فاعل ما يريده، ولا يلبث أن يأتيكم كتابه بالإنذار والتهديد، فإن لم تصغوا إلى مطالبه حمل عليكم وفعل ما يشاء. وثق أنه الغالب الظافر، فإذا كنت تحب بلدك وأهلك فابعث إلى مولاى الخاقان كلمة بأنك على ولائه فتنجو وتكون لك الكلمة النافذة والصوت الأعلى.. أظننى أطلت الكلام عليك فاعذرنى». قال ذلك ووقف ومده يده إلى جنبه واستخراج لفافة فى اسطوانة من القصب وقدمها له وهو يقول: «وهذه رسالة من مولاى إليك لا تفتحها إلا بعد خروجى». قال ذلك وخرج.
فدهش مؤيد الدين لما شاهده من ذلك الرسول، وظل ينظر إليه حتى رآه خارجاً من باب الدار، وقد أثر كلامه فيه تأثيراً شديداً، وعاد إلى غرفته وفض الرسالة وأخذ يقرأ فيها. أعلم يا مؤيد الدين أن الرسول الذى خاطبك هو الخاقان هولاكون نفسه، وقد بذل ذلك النصيحة فانتصح، ولا تطمع فى تعقبه فإنك لا تجد إلى ذلك سبيلاً. وكان فى وسعى أن تبقى على اعتقادك ولا ترعف من هو مخاطبك، لكنى أحببت نصحك فانظر فى أمرك. وابعث برسالتى إلى كما قلت لك قبلا.
فأعاد مؤيد الدين قراءة تلك الورقة وقد تولته الدهشة وأوشك أن يكذب بصره وسمعه لغرابة ما شاهده، وأطرق هنيهة وهو يخاطب نفسه قائلاً: «هولاكو نفسه خاقان التتر، وفى خدمته مئات الألوف من الرجال لا يثق بأحد منهم فى مهماته فيأتى بنفسه متنكراً تحت هذا الخطر لكى يخاطبنى، وكان فى إمكانه أن يبعث رسولاً ولكن الهمة العالية والحرص على الملك يدعوانه إلى ذلك. لا ريب أن هولاكو يعرف أسرارنا كما نعرفها نحن، ويعرف عدد جندنا وعلاقة قوادنا بخليفتنا. يعرف كل شئ. أين ذلك من خليفتنا المشتغل باللهو والغناء عن أمور الدولة، ويهمه العثور على شوكار المغنية أكثر من دفع العدو عن بغداد؟ هذه علامات الزوال. هكذا كان حال الروم لما قام العرب لفتح بلادهم، كان خلفاؤنا وقوادنا العظام من الصحابة وغيرهم يتولون أمروهم بأنفسهم، لا يعولون على أحد ولا يشتغلون بغير الجهاد، وكانوا قليلين فغلبوا جيوش القياصرة والأكاسرة».
ثم أطرق وتراجع وندم على ما خطر له وقال لنفسه: «لا. لا. أن الدولة العباسية باقية أبد الدهر، لا تزول من الأرض، وإنما هى فى حاجة إلى الإصلاح، إلى خليفة أخر».
وكان الليل قد أسدل نقابه، فوضع تلك الورقة تحت الوسادة وطلب العشاء، ثم ذهب إلى الفراش مبكراً ليرتاح مما مر به فى ذلك اليوم، وتوالت عليه الخواطر المتضاربة لكن ولاءه للخليفة ظل غالباً على عقله. وكان ليله مأهولاً بالأحلام، ولم يفق فى اليوم التالى إلا على ضوضاء طلبة المستنصرية وهم خارجون لصلاة الضحى.
وأحب البقاء فى الفراش لأعمال الفكر فيما شغل خاطره. والإنسان فى الصباح قادر على التفكير، وتفكيره أقرب إلى الصواب من سائر الأوقات، فلم يزدد إلا ثباتاً على الولاء للخليفة والرغبة فى إصلاحه، فارتاح باله لأنه استقر على رأى — وليس أتعب للإنسان من التردد بين رأيين، فنهض من فراشه وأخذ فى لبس ثيابه، ولم يبق فى ذهنه إلا مسألة شوكار. وكان يود أن يسلمها إلى الخليفة ويتخلص من القيل والقال لو لم يحل سحبان دون ذلك، وعذره مقبول. فخطر له أن يبعث فى طلب سحبان ليكرر له الوصية بإخفاء مكان تلك الفتاة، لكنه توقع مجيئه من تلقاء نفسه.
مضى ذلك النهار ولم يبرح مؤيد الدين منزله التماساً للراحة وقضاء بعض المهام الخاصة، وجاء الغروب وأقبل العشاء ولم يأته سحبان فهم بالذهاب إلى الفراش، وقبل أن ينزع ثيابه تذكر الكتاب الذى دفعه إليه درويش الأمس، ورأى أن يعدمه لئلا يقع فى يد أحد فيجعله وسيلة للإيقاع به، فتذكر أنه وضعه تحت الوسادة، فافتقده هناك فلم يجده، فأخذ يبحث عنه فى جيوبه فلم يقف له على أثر، فخفق قلبه لئلا يكون قد سمع حديثهما أمس جاسوس وسرق الكتاب وأخذه إلى الخليفة.
•••
وبينما هو فى ذلك إذ سمع قارعاً يقرع الباب الخارجى بعنف، فأجفل ومكث ينتظر الخبر وإذا بالبواب يدخل وهو يقول: «أن سحبان بالباب ومعه رفيق، هل يدخلان؟».
فاطمأن باله وارتاحد إلى قدوم سحبان فى تلك الساعة لعله يخفف عنه بعض الشئ، وأحب أن يعرف من هو رفيقه، ولم تمض لحظة حتى أقبل سحبان وهو يبتسم وألقى التحية، ثم تنحى وقدم رفيقه باحترام وأشار إليه أن يدخل، فنظر مؤيد الدين إلى ذلك الرفيق فإذا هو ملثم لا يظهر من وجه إلا عيناه وما يحيط بهما، ورأى السواد غالباً على لونه كأنه عبد حبشى ملثم، ورأه يمشى الهوينى، وسحبان واقف باحترام، فاستغرب مؤيد الدين ذلك فقال: «من هو رفيقك يا سحبان؟»
قال: «ستعرفه الساعة يا سيدى». وتقدم حتى أقعد ذلك القادم على كرسى فى صدر الغرفة، وأشار إليه أن يتفضل بإزاحة اللثام، ومؤيد الدين ينظر إليه من جانب المصباح، فأزاح الرجل اللثام، وحالماً وقع نظر مؤيد الدين عليه اختلج قلبه فى صدره وصاح: «مولاى الإمام أحمد بن الظاهر؟ من أين أتيت به يا سحبان؟». وأكب على يده يقبلها، وكان الإمام أحمد أسمر اللون لأن أمه حبشية.
فضحك سحبان وقال: «أتيت به طوعاً لأمرك».
فصاح مؤيد الدين: «ويلك! متى طلبت إليك إحضار مولانا إلى هنا؟ كيف تأتى لك ذلك وهو محبوس وعلى قصره الحراس والجواسيس؟ أن شؤونك كلها غريبة يا سحبان!».
قال: «أنك لم تطلب إلى إحضاره، لأنه لم يخطر لك استطاعتى ذلك. لكن الحديث الذى دار بيننا أمس يدل على أنك تحب أن تراه وتستوثق من رضاه».
فقال: «صدقت، لم يخطر لى أنك تستطيع ذلك، وكيف أقدمت على هذا الخطر؟ لله أنت من شجاع مقدام! وإنما ينقصك التؤدة والتبصر».
فقال: «ما ينقصنى تكلمه أنت بحكمتك ودهائك!».
وتوجد مؤيد الدين نحو الإمام أحمد، وكان يومئذ فى إبان الكهولة وقد ظهرت السكينة عليه، وقعد بين يديه على وسادة باحترام ووقار وأخذ يرحب به. فتقدم سحبان وقال: «أنى رجل متسرع، ولا أحب المطاولة أو التسويف، وأكره التردد، وقد أعجبنى منك أمس ثقتك بمولانا الإمام أحمد، وأن رأيك فيه وافق رأيى وهذا دليل الصواب، والآن ها هو ذا صاحب الشأن لم أكلمه فى شئ بعد، وإنما سعيت فى إنقاذه من السجن».
فقال: «وكيف استطعت ذلك، ما هذه الجرأة؟»
قال: «استطعته بمعونة الله، وعسى أن أستطيع ما هو أهم منه، وأرى هذا الإمام العاقل العادل خليفة يتولى أمورنا بدلاً من ذلك الـ..»
فتصدى الإمام أحمد للكلام قائلاً: «لا تقل شيئاً يا بنى، أن الخليفة المستعصم بالله لا بأس به لولا تسلط ابنه على رأيه ورغبته فى اللهو، وهذا ما يمكن ملاقاته فلا تحولوا قلوبكم عنه..».
فقال سحبان: «نعم الرجل أنت يا سيدى.. أما خليفتنا فلا أمل لنا فى إصلاحه، ولابد من تغييره، ومولانا الإمام أحمد أولى بالخلافة منه لأنه أهل لها من كل وجه، وهو أخو المستنصر رحمه الله، ولا يخفى عليك ما أتاه المستنصر من الأعمال الشاهدة بحسن السيرة والتقوى والرغبة فى العمران..».
فقاطعه الإمام قائلاً: «لو علمت أنك جئت بى لأسمع منك ما سمعته لفضلت البقاء فى سجنى، أننا فى طاعة أبى أحمد المستعصم ابن أخى. وإذا أخطأ فعلينا نصحه وكفى».
فلم يستغرب مؤيد الدين حذر الإمام وإنكاره وما ظهر من تسرع سحبان، وإن كان يعتقد رغبته فى الخلافة أكثر من رغبتهما، وإنما هى التؤدة والدهاء وحسن السياسة لابد منها فى مثل هذه الحال. فالتفت إلى الإمام وقال: «أن صديقى سحبان يعبر بعمله عن شعور كل مسلم، ولاسيما قومنا الشيعة العلوية، فأنهم قاسوا فى أيام ابن أخيك هذا مر العذاب مما لا يمكن إخفاؤه، وإن كنت لا أرى التسرع فى الأمر إلى هذا الحد وعلى هذا الشكل لأننا لم نخط خطوة واحدة فى سبيل ما نحن فيه». والتفت إلى سحبان وقال: «أخرجنا مولانا الإمام من قصره فأين نضعه الآن؟ وإذا عرف الخليفة غدا أنه ليس فى قصر الفردوس فلا يتهم به سوانا والجند فى يده يفتك كما يشاء».
فقطع سحبان كلامه قائلاً: «لا تخف أنى أعود به إلى قصره الليلة، وقد دبرت ذلك بحيث لا يشعر به أحد. وإنما جئت به لتطلعه على غرضنا بناء على قولك أنه يكفينا الآن إبدال خليفة بخليفة، واتفق رأينا على أن مولانا الإمام أحمد أولى العباسيين بذلك». والتفت نحو الإمام وقال: «وأرغب إلى مولانا أن يرفع كل حجاب بيننا وبينه ويكفينا مؤونة المجاملة والحذر فإنى لا أحب إلا الصراحة. ونحن الآن نطلب من مولانا أن يجيبنا عن هذا السؤال. (إذا استطعنا قلب الحكومة وأردنا تنصيب خليفة فهل يقبل الإمام أحمد أن تكون الخلافة إليه؟ وهل يعدنا خيراً، ولاسيما من جهة الشيعة ومعاملتهم؟»..».
وبرغم ما رآه مؤيد الدين من التسرع فى عمل سحبان، فإنه وافقه على هذا الاقتراح ورأب الصواب فيه، وعلم أن المشروعات الكبرى تفتقر إلى الإقدام والحزم مثل حاجتها إلى التروى والتؤدة. فأطرق وهو ينتظر ما يقوله الإمام فإذا به يقول: «أن الخلافة يا أولادى إذا أتتنى لا يمكننى التخلف عنها خوفاً على مصالح المسلمين. وإذا أبيت فأنى أرتكب خطأ أو معصية، وإذا صرت خليفة فأول واجب على إجداء العدل وإنصاف المظلومين من آل بيت الرسول صلوات الله وسلامه عليه».
فقال مؤيد الدين: «بارك الله فى مولانا، وإذا وفقنا الله إلى ما نبغيه فإنما يكون لصالح المسلمين، ونشكر لمولانا قبوله القيام بتلك المهمة، وإنما آسف لأن صديقى سحبان كلفك مشقة الخروج إلينا فضلاً عن الخطر».
فتصدى سحبان قائلاً: «لا مشقة هناك ولا خطر، ويمكن بقاء الإمام خارج قصره عدة أيام ولا يشعر أحد بغيابه، لأنى وضعت فى مكانه رجلاً كثير الشبه به. استطعت ذلك بما بينى وبين قيم ذلك القصر من الصداقة، وهو راغب فى قلب هذه الخلافة أكثر من رغبتنا لأن هذا الخليفة وابنه لم ينج أحد من أذاهما. كن مطمئناً يا صاحبى، وإذا كنت خائفاً من التجسس عليك فها نحن أولاء ذاهبون عنك الساعة». وتحفز للوقوف، وهم الإمام أحمد بأن ينهض، فنهض مؤيد الدين باحترام وقال: «أن مولانا الإمام قد شرف منزل مملوكه، وأطلب إلى الله أن يمن علينا بصيرورة الأمر إليه ويوفقنا إلى القيام بخدمته».
خرج الضيفان وخرج مؤيد الدين لوادعهما، ولما عاد إلى غرفته عاد إلى التفكير فى كتاب هولاكو وكيف أضاعه، وعاد إلى التفتيش عنه فى كل مكان حتى كل دماغه وتوالت عليه الأوهام والمخاوف، لعلمه أن يعون الجواسيس لا تنام عن استطلاع أخباره والوشاية به، فتولاه القلق، وذهب إلى فراشه فلم يستطع الرقاد وعاد يفكر فى ذلك الكتاب وأين هو؟ وكان يعترض هذه الهواجس تفكيره فى الإمام أحمد وسحبان وهولاكو وما هو فيه من القلق على قومه وعلى نفسه، وتعاظمت مخاوفه وهو تحت الغطاء لأن الظلام يكبر الأوهام ويعظم الأشباح، وأفاق فى الصباح وقد أخذ التعب منه مأخذاً عظيماً.
وليس على الإنسان أشدة وطأة من التردد بين أمرين مهمين لا يدرى أيهما يتبع، ويغلب أن يكون سبب التردد تنازعاً بين العقل والقلب، فمتى غلب أحدهما انتهت الأزمة واستقر الرأى وهذا الخاطر. وكان مؤيد الدين يتنازعه عاملان: أحدهما يدعوه إليه عقله وهو إن فساد الحكومة ذاهب بالدولة إلى الخراب ولا يرجى صلاحها إلا بإبدال الخليفة، ولا يستطاع ذلك إلا بيد قوية قاهرة مثل يد هولاكو، ويخامر هذا الحكم العقلى شعور قلبى فيه انتقام من ابن الخليفة وثأر للعلوين من أهل السنة. والثانى يدعوه إليه قلبه أو ضميره إذ يبكته على هذا العمل لأنه خيانه لمولاه الذى أقسم على طاعته.
على أن ضياع كتاب هولاكو أحدث عاملاً أخر شديد الوطأة على قلب مؤيد الدين، إذ ترجح لديه أن يدا أخذت ذلك الكتاب عمداً، ولا يلبث أن يصل إلى عدوه الذى يتجسس عليه فيجعله حجة ضده ويتهمه بالمؤامرة مع أعدائه. ثم تذكر فحوى الكتاب فلم يجد فيه ما يبعث على تهمة المؤامرة لكنه يد لعلى مخابرة جارية بين عدو البلاد ووزيرها.
فلما تصور ذلك خيل له أن الخليفة إذا علم به يأمر بالقبض عليه أو يقتله، ولاسيما إذا دخل ابنه أو بكر فى ذلك، فلا تبقى له حيلة فى النجاة، فمن الحزم أن يتدبر الأمر ويتلافى الشر قبل وقوعه أو يستعد له على الأقل. وتذكر ما وعده به هولاكو من الحسنات إذا هو أطاعه وكتب إليه بالمجئ، فخطر له أن يبعث إليه فى ذلك، فاشمأزت نفسه من هذا الخاطر، ثم اعترضه ما يهدده من الخطر إذ ظل ساكتاً فاشتد تحيره، فنهض من فراشه وأخذ يتشاغل بلبس ثيابه وهو غارق فى التفكير، فغلب عليه الدفاع عن حياته وهم بالكتابة إلى هولاكو، فأمر قيِّم الدار أن يأتيه بغلام من عبيده، فأتاه بشاب أصله من رقيق تركستان وقد دخل قصر الوزير من عهد غير بعيد وليس فيه نباهة، فلما وقف الغلام بين يديه تفرس فيه، ثم أمر القيم أن يحلق له شعر رأسه ففعل. وجاء الغلام ورأسه كأنه صفحة بيضاء. وكان ذلك القيِّم قد ربى فى بيت مؤيد الدين وله إطلاع على مكنوتات قلبه، وهو شديد الغيرة عليه، وقد أدرك غرضه من طلب ذلك الغلام على هذه الصورة. فلما عاد به ناده مؤيد الدين قائلاً: «ألم تفهم مرادى؟» قال: «نعم يا مولاى. أنى رهين الإشارة». قال: «إلى بالأبر والكحل وأغلق الباب وراءك».
فذهب وعاد بالإبر والكحل وأغلق الباب، وقعد على مقعد وأمر الغلام أن يجثو أمامه بحيث يصبح رأسه بين يديه. ثم تقدم مؤيد الدين وبيده ورقة قد كتب عليها كلمات قليلة، وأومأ إلى القيم أن ينقشها على رأس الغلام بالإبر وبذر عليها الكحل كما يفعل الوشامون فتناول القيِّم الورقة وقرأ فيها: «تعال إلينا بقوتك وجندك؟. فأدرك أنها رسالة إلى هولاكو، وكان من أشد الناس عداوة للخليفة وحاشيته لأنه شيعى وقد أصابه شئ من أذاهم، فأخذ فى نقش الرسالة على رأس الغلام، وهو لسذاجته كالبيهمة لا يفهم شيئاً، فلما فرغ القيم من ذلك نظر إلى مؤيد الدين وابتسم، فأشار إليه أن يحتفظ بذلك الغلام حتى ينبت شعره ويغطى تلك الكتابة، فإذا ظل على اعتزامه استقدام هولاكو أرسل الغلام إليه. ويكفى أن يقال لهولاكو أن هذا الغلام قادم من مؤيد الدين فيحلق راسه ويقرأ عليه ثم يقتله. فإذا رأى العدول عن إرسالها استبقى الغلام عنده وشعره يكسو رأسه، لأنه لم يزل إلى تلك الساعة متردداً، وضميره غالب على إرادته وهو يرجو أن تصلح الشئون بالمسالمة.
وأحس مؤيد الدين فى تلك الساعة براحة، وعاد إلى شواغله وهى كثيرة، أهمها النظر فى أمور الدولة. فركب بغلته إلى قصر التاج للنظر فيما جاء به البريد أو ما حدث من الأمور العامة، وكان يفكر طول الطريق فى الكتاب الضائع ويراقب حركات القوم هناك ليتحقق ما كان من أمره، فلما لم ير ما يبعث على سوء الظن اطمأن باله وعاد إلى منزله وقد ذهب قلقه.
الفصل التاسع
بين المستعصم وهولاكو
مضت على تلك الحال أيام، وقد نسى مؤيد الدين أمر الكتاب وهولاكو، ولم يسمع عن ابن الخليفة شيئاً يسوءه. فظن خيراً وتوهم أن ذلك الشاب رجع عن غيه بعد أن أحس بحرج المركز والخطر الذى يهدد المملكة بسبب الانقسام. لكنه أصبح ذات يوم وقد جاءه رسول المستعصم يدعوه سريعاً، فركب بغلته وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب هذه الدعوى العاجلة، وتذكر الكتاب الضائع، فخاف أن يكون لتلك الدعوة علاقة به، فتجلد حتى أتى قصر التاج، ودخل على الخليفة وهو جالس فى ديوان الخاصة وعنده ابنه أبو بكر والداودار، فاستعاذ بالله من ذلك الصباح، لكنه دخل وألقى السلام، فرد المستعصم التحية ودعاه إلى الجلوس، ثم رفع إليه كتاباً كان بجانبه على السرير فتناوله مؤيد الدين وقرأه وإذا فيه: من الخاقان العظيم هولاكو سلطان السلاطين إلى المستعصم بالله العباسى. أما بعد فأننا قد مللنا المماطلة ونحن صابرون. أما آن لك أن ترعوى وتعرف قدرنا؟ بعثنا إليك نستعينك على الإسماعيلية الفتاكين القتلة، ونحن لا نخافهم على أنفسنا كما نخافهم عليك فأيبت. فدلنا ذلك على سوء رأيك، فبعبثنا نعاتبك على عملك فأجبتنا جواباً بارداً لا يشفى غليلاً وشفعته بهدية هى أولى أن تهدى إليك كأنك تظننا فى حاجة إلى المال، ولم ترسل إلينا رسولاً يخفف من غضبنا. وقد كنا نقنع منك برسول عاقل، أما الآن فلا يرضينا إلا أن تأتى أنت بنفسك أو ترسل إلينا وزيرك أو قائد جندك للاعتذار، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك.. والسلام.
وما فرغ الكتاب حتى أخذ منه الأسف مأخذاً عظيماً، ونظر إلى الخليفة فرآه مطرقاً يفكر، فظنه قد اعتبر ولا يلبث أن يطاوعه فى استرضاء هذا الفاتح التترى، فإذا هو قد وقع بصره إليه وقال: «كيف رأيت أيها الوزير؟» قال: «الرأى لمولاى أمير المؤمنين».
قال: «هل أعجبتك وقاحة هذا التترى، وما جزاؤه عندك؟»
فلما سمع هذا التعبير استغربه، وشعر أن الخليفة لم يقدر مركزه حتى قدره، فقال: «استأذن مولاى فى أمر لابد لى من التصريح به. أن هذا الرجل أصبح الآن شديد البطش، وقد علمنا من جواسيسنا أنه فاز فى حروبه مع الفرس وغيرهم، وأصبح جيشه عديداً، وعنده العدة والمؤونة، وإذا لم نجبه جواباً حسناً حمل على بغداد، فالذى..».
فتعرض أبو بكر للكلام باستخفاف وقال: «يحمل على بغداد؟ وهل ينال غير الخزى والفشل إذا حمل عليها؟».
فإزداد مؤيد الدين أسفاً ولم يجبه، لكنه وجه كلامه إلى الخليفة وقال: «فالذى أراه أن نسترضيه ريثما تتأهب».
فقال الخليفة: «بماذا نسترضيه؟ أنه يطلب منى أن أذهب إليه بنفسى أو أرسل إليه الوزير أو الداودار، ألم يكن الأولى أن نتلافى الأمر قبل تفاقمه؟».
قال الوزير وقد أعجبه إذعان الخليفة للحقيقة: «كان ينبغى ذلك، ولم يقصر العبد فى أداء النصيحة فى المرة الماضية لما جاء كتاب هولاكو هذا، فقد شرحت لمولاى ما نخافه من هؤلاء، ورغبت إلى أمير المؤمنين أن يبعث إليه بالهدايا الفاخرة من الجواهر والمماليك والجوارى فإن القوم يرضيهم ذلك، فاعتراض الداودار يومئذ، واتهمنى بالضعف، وظننى أفعل ذلك ممالأة للعدو، وأطاعه مولاى فأرسل هدية حقيرة أغضبت هولاكو فكتب ما كتب».
وكان الداودار جالساً فلما سمع ذكر اسمه تصدى للكلام قائلاً: «أظن الوزير يريد منا أن نذعن لهذا الطاغية ونسترضيه بكل ما عندنا، ولو فعلنا ذلك لم يزدد إلا عتواً وطمعاً».
فقال الخليفة موجهاً خطابه إلى الداودار: «وماذا يرى قائدنا الآن، هل يذهب إليه بنفسه كما يطلب؟».
قال وهو يظهر الأنفة والعظمة: «نعم أذهب إليه محارباً إذا شاء مولاى».
فاستغرب ابن العلقمى غرور هذا القائد، وهو يعلم عجزه عن ذلك، مع فراغ الخزانة من الأموال، حتى اضطر الخليفة أن يقتصد من أعطيات الجند. وكان مؤيد الدين قد أشار عليه بذلك لجميع مالا يرضى به التتر لعلهم يعودون بلا حرب. وكان جيش بغداد ?????? فارس فسرح منه ????? واستبقى عشرين ألفاً والداودار يعلم ذلك. فهل يحارب التتر بهذا العدد؟. أما الخليفة فلم يكن يجهل هذه الحقيقة. فأجاب الداودار قائلاً: «كيف تخرج لمحاربتهم وليس عندك إلا عشرون ألفاً؟».
قال: «صدق أمير المؤمنين، أن هذا العدد لا يكفى الآن لكننا نجند سواهم».
فقال: «هل يسهل التجنيد؟»
قال: «كيف لا؟. أن المال الذى أشار الوزير باقتصاده من أعطيات الجند يكفى للتجنيد. سامح الله الوزير، أنه أخطأ بأخذه بهذا الرأى ولم نستفد منه إلا نقمة الجند علينا».
فأراد الخليفة أن يدفع عن الوزير، فتصدى أبو بكر وقال: «وما الذى يهم الوزير رضى الجند أو غضبوا، إنما يهمه ألا يغضب هولاكو».
•••
فكان لهذا الكلام وقع شديد على نفس ابن العلقمى، وتذكر كتابه الضائع فخاف أن يكون لهذا الكلام علاقة به، فأغضى عن وقاحة ذلك الشاب إلى مخاطبة الخليفة، ثم أجاب الداودار فقال: «أن ما أشرت به من قبل لا أزال عليه حتى الآن. وما جمع لدينا من المال المقتصد لو استرضينا به هولاكو لرضى وكفانا مؤونة الحرب. أما الآن وأنت قائد الجند، فإذا كنت ترى جندنا قادراً على الحرب، فالرأى راجع لأمير المؤمنين».
فنظر الخليفة الى ابن العقلمى وقال: هل هذا هو رأى الوزير فيما نحن فيه».
قال: «نعم أرى أن نسترضى هولاكو بما أمكن غير الحرب».
قال الخليفة: «أنه يطلب أن أذهب أنا إليه أو أنت أو الداودار».
قال: «يرسل المولى من شاء منا».
فقطع أبو بكر أحمد كلامه قائلاً وهو يضحك متهكماً: «أظن الوزير يتمنى أن يذهب هو بهذه المهمة لزيارة صديقه الخاقان». وقهقه ضاحكاً.
فاستغرب المستعصم هذا القول، ونظر إلى ابنه نظرة توبيخ على هذا المزاح، فوقف أبو بكر وأظهر الجد وقال: «أننى أقول الحق يا أبى. اسأل الوزير ألم يكن بينه وبين هولاكو صداقة ومراسلة؟».
فأجفل الوزير وترجح عنده أن أبا بكر مطلع على شئ مما بينه وبين هولاكو، فأظهر اشمئزازه من ذلك الحديث والتفت نحو الخليفة معاتباً، فالتفت الخليفة إلى ابنه وقال: «لا محل لهذا الكلام يا أحمد الآن». فمد أبو بكر يده إلى جيبه وأخرج كتاباً دفعه إلى أبيه وقال: «وهذا الكتاب يشهد بذلك». فتناول المستعصم الكتاب وقرأه، ثم نظر إلى مؤيد الدين فرآه مطرقاً، فقال له: «أتعرف هذا الكتاب؟». فرأى من الحزم أن يتجلد فنظر إلى الكتاب وقال: «أعرفه يا مولاى وقد كان معى وسرق منى».
فرماه المستعصم إليه وقال: «أنه يؤيد كلام ولدنا، ويدل أيضاً على أن بينك وبين هولاكو تزاوراً».
فالتقط مؤيد الدين الكتاب وقال: «نعم يا سيدى، لكن هل يدل على أنى متفق معه على عمل، أم هو يشكو من رفض مطالبه؟».
فقال أبو بكر: «ولكن على كل حال يظهر مما فى أخره أن المخابرة بينكما قديمة. ألم يكن يجدر بك أن تطلع أمير المؤمنين على ذلك. ما أدرانا بما دار بينكما؟. والأرجح أنك متفق معه على تسليم البلاد إليه، وإنما اختلفتما فى كيفية تسليمها. ليس هذا شأن الوزير المخلص لمولاه كما تدعى».
فتحير مؤيد الدين بماذا يجيب، وهم بالكلام فرأى الخليفة يشير إليه أن يسكت، وقد بان الغضب فى وجهه ثم قال: «صدق أبو بكر لم أكن أتوقع منك ذلك مع ثقتى بك. كان ينبغى أن تطلعنى على ما يدور بينك وبين عدونا قبل الآن».
فأراد ابن العلقمى أن يدفع عن نفسه فأشار إليه المستعصم أن يسكت وقال: «طالما دافعت عنك وكذبت ما ينقلونه لى والتمست لك الأعذار. أما الآن فظهر لى أن كلامهم هو الصواب، ولا أفهم لسكوتك عن اتصال هولاكو بك معنى سوى أن لك فى ذلك غرضاً أو مطمعاً، ولولا ذلك لأطلعتنى على ما دار بينكما».
فلم يطق مؤيد الدين صبرا على السكوت فقال: «لم أر فائدة من إطلاع مولاى على ما يكدره، وإنما يطلب منى أن أحافظ على الولاء له وأدافع عن مقام الخلافة. فهل فى هذا الكتاب ما يدل على خيانة؟ فإذا كان فيه شئ من ذلك فالعبد رهين أمر مولاه».
فاعتدل المستعصم فى مجلسه وقال: «حسناً. وهل كان فى إطلاعى على مكان تلك الجارية ضرر أيضاً؟».
فاستغرب مؤيد الدين قوله وقال: «أى جارية يا مولاى؟». قال: «جارية أبى بكر الذى ذبح أهل الكرخ بسببها». قال: «وما شأنها فيما نحن فيه؟».
فقال الخليفة: «ما كنت أظنك تجهل شأنها، ألم تكن تعلم أن مقتلة الكرخ إنما جرت بسببها لأن أبا بكر علم أنها مختبئة هناك وأنكروها عليه؟» قال: «بلى!». قال: «وقد قلت لنا يومئذ أنك لا تعرف عنها شيئاً». قال: «نعم». قال: «كيف تقول ذلك وهى مخبوءة فى منزلك؟». فأجفل مؤيد الدين عند سماع ذلك وقال: «مخبوءة فى منزلى؟». قال: «نعم. أو منزل بعض أهلك فى الكاظمية. وقد استرجعها أبو بكر أمس بهمة الداودار».
فتذكر مؤيد الدين شوكار وأن سحبان أخذها من عنده ليخبئها فى الكاظمية، ولما تذكر ذلك سرى عنه لأنه سيفوز بها على أبى بكر لعلمه أنها جارية المستعصم وقد خطفها أبو بكر لنفسه، فقال وهو يظهر الاستخفاف: «هل أمير المؤمنين واثق بما قيل له؟».
قال: «هذا أبو بكر، وهذا الداودار، وقد أتيا بها أمس من الكاظمية».
قال: «هل رآها أمير المؤمنين؟» قال: «لا. لم آرها ولكنى لا أشك فى صدقهما».
ووقف أبو بكر وهو يظهر الغضب وقال: «وهل أنا كاذب؟». فقال له مؤيد الدين: «لا أعلم ولكننى أعلم أنى غير كاذب. وبما أنك وجهت إلى تهمة الخيانة فيقتضى أن تثبت قولك بالبرهان. فإذا أثبته فأنى مذعن لحكم مولاى».
فقال أبو بكر: «لا حاجة إلى إثبات ذلك فإنه ثابت عندنا جميعاً».
وجلس وراح يتشاغل بفتل شاربيه ويظهر الإزدراء، وقد خاف أن يلح مؤيد الدين فى طلب الجارية ليراها أبوه فيفتضح أمره، وندم على ذكر هذه الجارية لأبيه، لكنه لم يكن يعلم أن مؤيد الدين مطلع على تاريخها.
أما مؤيد الدين فازداد تمسكاً بقوله ووجه كلامه إلى الخليفة وقال: «هل من ضرر إذ أمر مولاى أمير المؤمنين بإحضار الجارية لنراها ونطلب شهادتها؟».
فقال: «لا ضرر من ذلك». والتفت إلى أبى بكر وقال: «أين هى؟» فأظهر الاشمئزاز من ذلك الطلب وقال: «ما الداعى لاستقدام جارية إلى ديوان أمير المؤمنين؟ وما هى أهميتها؟».
قاد مؤيد الدين: «أنها ذات أهمية كبرى، لأن الوزير متهم بالخيانة والكذب بسببها، فالمطلوب إثبات ذلك».
فنهض أبو بكر وهو يظهر عدم المبالاة وقال: «ليس أمر هذه الجارية مهماً، وإنما المهم كتاب هولاكو وقد أطلع عليه والدى وكفى».
قال ذلك وتحول وخرج بلا استئذان وأبوه ينظر إليه، وقد سره خروجه لئلا يفرط منه كلام يسيئه، لكنه كان يحب بقاءه ليتحقق أمر تلك الجارية فناداه وقال: «أحب أن تتم أمر البحث فى أمر الجارية». فقال: «لا أهمية لها.. وأنا أسامح الوزير على خطيئته بشأنها». فقال الوزير: «أما أنا فلا أسامح نفسى. أحب أن تأتى الجارية وتثبت الخيانة على أو على غيرى، وطلبى هذا حق».
فما زاد أبو بكر على أن ضحك ومشتى وأبوه يتبعه بنظره.
أما مؤيد الدين فالتفت إلى الخليفة وقال: «يأمر مولاى باستقدام الجارية إلى هنا، وهذا الداودار يعرفها لأنه كان مع الأمير أبى بكر لما أخرجاها من منزل بعض أهلى فى الكاظمية كما يقول».
فالتفت الخليفة إلى الداودار كأنه يأذن له فى الكلام فقال مخاطباً الوزير: «وهل أنت فى شك من قول مولانا أبى بكر؟» قال: «لاشك عندى فى قوله ولا قولك، لكنى ألتمس من مولاى الخليفة أن يأمر باستقدامها». فأشار الخليفة إلى الداودار قائلاً: «لا أرى بأسا من استقدامها فأفعل».
ولم يكن الداودار يعرف علاقة هذه الجارية بالخليفة ولذلك لم ير بأسا من إحضارها، فنهض وهو يقول: «أنا ذاهب بأمر مولاى لاستقدام الجارية بدون أن استأذن الأمير أبا بكر». قال الخليفة: «أفعل». فخرج الداودار وظل ابن العلقمى جالساً يفكر فيما وفق إليه من التغلب على عدوه، والخليفة مطرق لا يتكلم. ولم يمض كثير حتى عاد الداودار لأن المنزل الذى وضعوا فيه شوكار كان قريباً من قصر التاج.
دخل الداودار ووقف وقفة الظافر وقال: «أن الجارية بالباب، هل أدخلها يا مولاى؟». قال: «لتدخل».
فدخلت ومؤيد الدين ينظر إلى الباب بلهفة مخافة أن يكون قد جاء بجارية أخرى غير شوكار. فلما وجد أنها هى انشرح صدره. أما شوكار فوقفت مطرقة، فخاطبها الخليفة قائلاً: «ألم تكونى مخبوءة فى الكاظمية وجاء بك قائدنا هذا أمس؟». قالت: «بلى يا مولاى». قال: «ومن خبأك هناك، أصدقينى؟». قالت: «وهل يجسر أحد على الكذب فى حضرة أمير المؤمنين، خبأنى رجل اسمه سحبان». قال: «ألم يكن الوزير مؤيد الدين الذى خبأك؟». قالت: «كلا يا مولاى، ولم يكن يعرف أنى مختبئة هناك». قال: «ألا تعرفين وزيرنا قبل الآن؟»
فتحيرت فى الجواب وتلعثمت لأنها توسمت من وراء تلك الأسئلة سواء يريده الخليفة بالوزير وهى لم تر من الوزير إلا الخير، ولا تحب مع ذلك أن تفض خبرها على الخليفة فارتج عليها. فوقف مؤيد الدين وقال للخليفة: «يتفضل مولانا بالسؤال عن اسمها ومن أين أتت إلى بغداد وما سبب مجيئها؟».
فقال الخليفة: «وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟» قال: «سيرى مولانا أنه ذا علاقة كبرى بذلك، وسيكشف له عن أمور جليلة». فقال الخليفة: «ما أسمك، ومن أين أتيت، ولماذا؟» ففهمت شوكار من تعرض ابن العلقمى لهذا الأمر أنه يريدها أن تقول الحقيقة، فقالت: «اسمى شوكار، وقد جئت من مصر لأكون مغنية فى قصر أمير المؤمنين».
فلما سمع الخليفة قولها أجفل وخفق قلبه إذ ترجح له أنها المغنية التى كان قد أضاعها، فنظر إلى مؤيد الدين ثم إلى الداودار وقد تولته الدهشة وأعاد السؤال عليها قائلاً: «أنت شوكار جارية شجرة الدر؟».
قالت: «نعم يا مولاى أنى شوكار جارية شجرة الدر». قال: «من أخذك منى؟ وأين كنت كل هذه المدة؟».
قالت: «أخذنى ابنك الأمير أبو بكر وأخفانى عنده».
قال: «ألم تكونى أنت الجارية التى حدثت مقتلة الكرخ من أجلها؟».
قالت: «أنا تلك الجارية يا مولاى، وكنت قد فررت للنجاة بنفسى».
قال: «وكيف أخذك ابنى وأنت محمولة إلى؟»
قالت: «لما وصلت مع الركب إلى قرب بغداد جاءنا جند قالوا أنهم قادمون من قصر أمير المؤمنين ليأخذونى إليه، فدفعنى الركب إليهم فأخذونى إلى قصر عرفت بعد ذلك أنه للأمير أحمد أبى بكر..».
فأخذ الغضب من الخليفة مأخذاً عظيماً، وندم الداودار لأنه تصدى لحمل الجارية إلى هناك، وأصبح خائفاً على أبى بكر من غضب أبيه، فوقع فى حيرة، وأعاد النظر إلى تلك الجارية بدهشة. وظل مؤيد الدين ساكتاً وقلبه يرقص فرحاً لفوزه، أما شوكار فقد عدت انتقالها من بيت أبى بكر إلى بيت الخليفة فرجاً وإن كانت تفضل الانتقال إلى مصر.
•••
وحينما تحقق الخليفة الواقع صفق، فجاءه غلام فأوما إليه أن يأخذ شوكار إلى قصر التاج ويسلمها إلى القهرمانة ويوصيها بها خيراً، والتفت إلى الدوادار وقال: «قد سمعت الآن أن الذين أعانوا أحمد على هذه الجريمة من الجند. أيليق ذلك بالإجناد؟ أليست هذه خيانة منهم؟»
فاعتبر الداودار هذا التوبيخ موجهاً إليه لأنه القائد العام، فاضطر فى سبيل الدفاع عن نفسه أن يشكو ابن الخليفة فقال: «لم يفعل الجند ذلك بأمرى وإنما فعلوه بأمر الأمير أحمد أبى بكر، وهل نستطيع أن نخالف له أمراً؟».
قال: «كيف لا؟ أتطيعون ابنى فى سبيل معصيتى، وأنا لا أزال حياً؟».
وتحرك فى مجلسه من شدة الغضب وأخذ يلهث وينفخ ويصر على أسنانه، فخيل لمؤيد الدين أن أبا بكر لو كان حاضراً لأمر الخليفة بقتله، وود لو أنه يحضر، وإذا بالخليفة يقول للداودار: «أين أحمد الآن؟». قال: «لا أعلم يا مولاى». قال: «إلى به حالاً أينما كان». فخرج الداودار، ونظر الخليفة إلى مؤيد الدين نظر الاعتذار لأنه شك فيه وقال: «لقد أسأنا الظن بك يا وزيرنا. جوزيت خيراً، لماذا لم تطلعنى على خبر هذه الجارية من قبل؟».
قال: «لأنى لم أعرف بها إلا منذ أيام قليلة، وقد قلت للذى قص على خبرها أن بخبئها فى مكان أمين ريثما نطلع أمير المؤمنين على أمرها فى فرصة مناسبة لا يدرى بها الأمير أبو بكر، لأننا لو أردنا أن نفعل ذلك بعلمه لما نجونا من الأذى وهو ابن أمير المؤمنين والجند طوع إرادته».
فهز الخليفة رأسه وقال: «أنا لله وأنه إليه راجعون. أنى أخطأت بإطلاق سراح ابنى هذا، ولو كان محجوراً عليه كما كان الأمراء قبله لما كان فى مثل هذه الأخلاق، ولما جر علينا هذه البلايا. لأحبسنه ولاحجرن عليه ولاعلمنه كيف يكون مطيعاً، قبحه الله من ابن عاق».
وبينما هما فى ذلك إذ سمعا ضوضاء بالباب عرفا منها صوت أبى بكر وهو يقول بلحن الغضب: «أما كفاه من فى داره من النساء حتى يطمع فى جاريتى. دعنى أدخل». وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «أن مولانا أبا بكر ابن أمير المؤمنين بالباب، هل يدخل؟». فقال: «هل جاء وحده؟» قال: «نعم». قال: «وكيف ذلك، أليس الداودار معه؟». قال: «لا». ولم ينتظر أبو بكر الأذن له فى الدخول، فدخل والغضب باد فى محياه، فلما رآه أبوه داخلاً استعاذ بالله وابتدره قائلاً: «ما هذا يا أحمد، أهكذا يدخلون على أمير المؤمنين، أين التربية ووقار الخلافة؟».
فجلس دون أن يننتظر الإذن، وقال: «تسألنى عن التربية وأنا ابن أمير المؤمنين وقد ربيت فى حجرة؟ ولعل ذلك من أسباب شقائى.. يحسدنى الناس على أن الخليفة أبى ولو علموا كيف يعاملنى لأشفقوا على». قال ذلك واختنق صوته كأنه يجهش بالبكاء.
فلما سمع المستعصم أجهاشه ولحظ شيئاً يتلألأ فى عينيه كالدمع خمد غضبه وتغلب حنانه، وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الحنان والإشفاق، وذلك لأن المحبة الأبوية لا تذعن للحقوق ولا تعترف بقواعد المنطق ولا تطلب البراهين، وإنما هى حاكم مستبد أكثر أعماله لا تنطبق على القوانين، وكثير منها يناقض المنطق ويخالف أحكام العقل. الأب يحب ابنه ويغار عليه ويرى فيه حسنات لا يراها الأخرون. وهو لا يحبه لأنه يرجو منه نفعاً، أو لأنه يستحق المحبة لفضائل فيه أو حسنات أتاها، وإنما يحبه عفواً. يحبه لأنه ابنه، ويزداد حبه له كلما شقى فى تربيته، ويزداد عطفه عليه إذا رآه حزيناً. أن الوالدين ليس أدعى إلى تحريك شفقتهما من أن يريا ابنهما باكياً وإن كانا فى أشد حالات الغضب كأن دموعه تقع على نار ذلك الغضب فتطفئها ويتصاعد دخانها فيغشى ما هناك من دواعى النقمة فلا يريان غير بواعث الشفقة والعطف.
وكان المستعصم من أضعف الآباء قلباً وأكثرهم حناناً، فأوشك أن ينسى أسباب غضبه على ابنه لكن تجلد وقال: «أبمثل هذا تخاطب أباك؟ هل يحق لك الشكوى من أبيك وقد منحك ما كان يشتهيه أبناء الخلفاء قبلك؟ كانوا مسجونين وأنت حر طليق ولك الأمر والنهى، ألم تر الداودار؟.
قال: لا. لم أره. لكنهم قالوا لى أنه أتى قصرى وحمل جاريتى فلم أطق الصبر على ذلك فجئت لأشكو إليه عمله. فإذا أنت تمن على بالحرية التى وهبتنى إياها. وأى حرية هذه وقد ضننت على بجارية مع كثرة الجوارى فى قصرك ولكن..».
فقطع المستعصم كلامه قائلاً: «لم أضن عليك بجارية، لكننى عتبت عليك لأنك اختطفت جارية أتية من مصر باسمى».
فقال وهو يحول وجهه استخفافاً: «أتية من مصر باسمك؟ لأنك لا ترى بأسا من اقتناء مئات الجوارى وتبعث فى طلبهن من الأطراف. وابنك الشاب إذا أخذ جارية منهم اتهمته بالعقوق وشددت النكير عليه. لو كنت ابن أحد العامة لم يفعل أبى معى فعل أمير المؤمنين». قال ذلك وغص بريقه وأظهر أنه ضاق صدره من الإجهاش وأنه إنما يمسك نفسه عن البكاء حياء ثم قال: «ومع ذلك أنت أمير المؤمنين ولك الحق فى أمور ليس لسواك الحق فيها. ونحن عبيدك وكل ما هو لنا طوع إرادتك. ولا يزال عندى بضع جوار أخر أبعث الداودار ليحملهن إليك. يا ليتك أبقيتنى أسيراً ولم ترنى نور الحرية. إن المولود فى الظلمة لا يعرف لذة النور ولا يأسف لفراقه، وإذا كنت قد ندمت على إطلاق سراحى فهذا أنذا بين يديك أحبسنى أو اقتلنى. والقتل خير لأنى أريحك من المتاعب». وأظهر أنه لم يعد يستطيع التماسك عن البكاء وأخذ فى الشهيق، وأوشك أبوه أن يشاركه فى ذلك.
أما مؤيد الدين فكان جالساً يسمع ويرى وقد أدهشه ما رآه من الانقلاب فى عواطف المستعصم، فذهب فرحه بالفوز عبثا، واكتفى بالنجاة من الغضب، وود الخروج من ذلك المجلس، ولكن لا يجوز له أن يستأذن قبل أن يرى الخليفة راغباً فى صرفه على عادة الخلفاء والملوك. فأخذ يتحرك فى مجلسه ليوجه التفات الخليفة إلى صرفه، وقد يكون الخليفة أكثر رغبة منه فى ذلك.
لكن حركته لفتت انتباه أبى بكر فتحول نحوه وعاد إلى الكلام فقال: «أنا لا أشك فى حب أبى، ولكن الذنب كله على هذا الوزير الذى شب على كرهنا لأنه علوى ولا يرى لنا الحق فى الخلافة». ووجه خطابه إلى أبيه وقال: «وأنى لاستغرب صبر والدى على رجل يكرهنا ويسعى فى خلع خلافتنا ويخابر ألد أعدائنا سراً، وأغرب من ذلك أنه صدق دفاعه عن نفسه». ومد يده إلى كتاب هولاكو، وكان ما زال فى يد مؤيد الدين، فاختطفه منه بخشونة وفتحه وقال وهو ينظر فيه» صدق دفاعه وظنه بريئاً من المواطأة مع عدونا وهو يقول له فى هذا الكتاب أنه صديقه ويشير عليه بإرسال الرسالة كما قال له قبلاً، ألا يدل هذا على سبق المخابرة فى شأن الخيانة؟. ومع ذلك فإن قول ابن العلقمى العلوى مصدق وقول أحمد مكذب». وعاد إلى البكاء.
فتفطر قلب أبيه لبكائه، ورأى مؤيد الدين فى وجهه الانصياع إلى رأى ابنه، فأسقط فى يده وتحقق أن سعيه ذهب سدى، وود لو أنه يختفى من المجلس لئلا يسمع تأنيباً من الخليفة نفسه، فإذا هذا يقول: «سأنظر فى أمر أحمد والجارية فى فرصة أخرى. أما من حيث مخابرة العدو فقد صدق أحمد يا مؤيد الدين. كيف صبرت على مخابرة ذلك العدو مدة ولم تخبرنا. أنى واثق بأمانتك ولكن للثقة حدوداً تقف عندها.. لا. لا. لا. أزال على ثقتى بك وأن خالفنى أحمد. أنه قال ما قاله الآن من غضب».
فقطع أحمد كلام أبيه قائلاً: «لا. لا أقول من غضب، أنت تعرف سوء رأيى فى هذا الوزير من قبل وقد تحقق ظنى فيه اليوم».
فلم يشأ الخليفة أن تنتهى الجلسة على هذه الصورة لأنه يعتقد اقتدار وزيره ويرى نفسه فى حاجة إليه، لكنه لم يستطع أن يغالب عواطفه الأبوية ويجدل ابنه فأحب إقفال باب الكلام، فأبدى إشارة الصرف فوقف مؤيد الدين واستأذن فى الانصراف وهو ساكت يفكر.
خرج الوزير وقد أخذ الغضب منه مأخذاً عظيماً حتى اخطأ الطريق من الديوان إلى موقف الدواب حيث كان غلامه فى انتظاره، ثم اتنبه لنفسه فركب بغلته وسار قاصداً منزله وهو لا يكاد يرى طريقه لعظم ما جاش فى خاطره من الأسف واليأس والخوف. وتضاربت خواطره بين الانتقام والتربص حتى وصل إلى المنزل فاستقبله قيِّم الدار على جارى العادة، فحالما وقع نظره عليه تذكر المملوك الذى كتب الرسالة على رأسه فسأل عنه فقال: «هو فى حجرتى». قال: «كيف شعره؟» قال: «قد نما حتى كسا رأسه، وإذا شئت أتيتك به الساعة».
قال: «أحضره». ومشى إلى غرفته وهو يفكر وخاطره مشتغل بما مر به فى ذلك اليوم، وكلما تصور أبا بكر واحتقاره إياه اقشعر جسمه قشعريرة الحقد والغيظ والكراهية. فقعد على سريره وهو مطرق، وإذا بالقيِّم قد جاء ومعه ذلك الغلام يساق كالبهيمة، وليس فيه من علامات الإنسانية إلا شكله الخارجى ونطقه إذا تكلم. فلما رآه مؤيد الدين نظر إلى رأسه فرأى شعره قد نما وتكاثر ولم يبق شئ ظاهر من جلده، فتفرس فى رأسه وهو يناجى نفسه قائلاً: «إن تحت هذا الشعر رسالة إذا بلغت صاحبها أقام الدنيا وأقعدها وأنتقم لى من ذلك المغرور الطائش. وما على إذا أنا أرسلتها إلى هولاكو؟ أن الرجل قادم إلينا لا محالة وهو فاعل ما يريده، ولا ريب عندى بفوزه، فإذا أرسلت إليه دعوتى هذه على رأس هذا المملوك ضمنت حياتى وحياة من أحب من أهلى وأصدقائى. ولو علمت أننا قادرون على دفع هولاكو ورجاله لم أكن لأبالى بجهالة هذا الغر واستخفافه، بل كنت أدافع عن أمتى وبلدى وأغضى عن ضعف الخليفة وطيش ابنه. ولكن أنى لنا أن ندفع التتر وليس عندنا إلا عشرون ألفا قلوبهم متفرقة ونياتهم متناقضة. إذن..». ووضع سبابته على ذقنه كما يفعل المتأمل ثم رفع بصره إلى قيِّم القصر وقال: «أرسل هذا الغلام فى المهمة التى تعرفها».
فخفق قلب القيِّم فرحاً لأنه كان كثير الرغبة فى الانتقام من الخليفة فنادى الغلام إليه فتبعه، فلما خلا به أفهمه أن مولاه الوزير يريد منه أن يذهب إلى هولاكو خاقان التتر، ويقول له أنه قادم من وزير بغداد وكفى. ومتى عاد نال المكافأة الكبرى، ففرح الغلام ومشى كالشاة تساق إلى الذبح.
الفصل العاشر
شوكار فى دار النساء
ذهبت شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه على أن تبقى عند أبى بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهى فى حرب دائمة معه، لأنه يريدها لغير الغناء وهى تأبى ذلك، ولاسيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصى عابد البصرى رسولها إليه الذى كتبه وهو نافر من سعايه سلافة فى شوكار، ولم يكن سعيها فيها إلا ليزيده تمسكاً بحبها، فكتب إليها كتاباً ضمنه العطف عليها والوعد بإنقاذها، فجاءها الرسول بالجواب المذكور وهى فى حوزة ابن الخليفة، فاحتالت حتى أدخلت عابداً فى خدمته لعلها تحتاج إليه فى شئ بعد أن اختبرت أمانته، وهو الذى أعانها فى الفرار إلى الكرخ وجرى بسبب فرارها ما جرى بين القتل والنهب، وخرج معها إلى الكاظمية، ولما استرجعها أبو بكر إلى منزله كان عابد لا يزال فيه. ثم بعث المستعصم فى طلبها فجاءت وحدها وأمر الخليفة بإرسالها إلى دار النساء كما رأيت.
وقبل وصولها إلى الدار بلغ أهل القصر أن الجارية المغنية التى كانت مرسلة إلى الخليفة واختطفها اللصوص قد وجدت وجئ بها إلى قصر التاج، وأنها قادمة الآن إلى دار النساء. فلا تسل عمن تجمع لمشاهدتها من الرجال والنساء. وكان فى قصور النساء هناك مئات من السرارى والجوارى على اختلاف الطبقات والأغراض، فجاء كثير منهن إلى قهرمانة القصور يستوضحن ما سمعنه عن شوكار، وقد اختلفت الروايات فى شكل هذه الجارية وطول قامتها أو قصرها ودرجة رخامة صوتها وغير ذلك مما تصوره المخيلة فى مثل تلك الحال.
وكان أكثر النساء اهتماماً بأمرها المغنيات، لأن شوكار قادمة لمناظرتهن فى عملهن، فاجتمعن وتحدثن فى أمرها وما وصل إلى علمهن من الأقاويل عنها. وهذا طبيعى فى الناس، وبخاصة فى ذلك العصر، وبين نساء لا عمل لهن غير أمثال هذه الأحاديث، إذ لا يشغلهن عن ذلك كتاب ولا جريدة ولا مجلة ولا مدرسة ولا خطاب ولا اجتماع علمى ولا أدبى، مما قد يشغل نساء هذا العصر، وإنما همهن كله هذه الأحاديث والمباراة فى التبرج لاجتذاب قلوب الرجال.
وأول من لقيته شوكار هناك أستاذ الدار (رئيس الخصيان)، أخذت إليه وهو متصدر فى غرفته فقبلت يده ووقفت باحترام تنتظر أمره، وهو الآمر الناهى فى تلك القصور، وذو نفوذ كبير فى الشئون السياسية، كما كان شأن بعض أغوات يلدز فى زمن عبد الحميد. وبعد أن قدمت نفسها لأستاذ الدار واستفهم عن اسمها وعمرها ويوم وصولها وسائر الأوصاف المميزة لها أمر بتدوين ذلك فى أماكنه لئلا يختلط أمر النساء بعضهن ببعض لكثرتهن. وقد تتشابه الأسماء.
ثم أخذوها إلى قهرمانة الدار وهى كهلة رهلة قد تراكم اللحم على بدنها مثل تراكم المصوغات والمجوهرات حول عنقها وزنديها، وعليها أفخر اللباس، وهى فى تلك الدار كالملكة، ليس فى الجوارى والسرارى من لا يتزلف إليها ويخطب رضاها بالمحاسنة والمجاملة والهدايا. مشت شوكار وهى مطرقة حياء لكثرة من لقيتهم فى طريقها من الخصيان والجوارى وقوفاً فى الدهاليز والأبواب يتفرسون فيها ويتهامسون. فلما أقبلت على غرفة القهرمانة رأت الخصيان ببابها كالحراس بأبواب الملوك، فدخلت تلك الغرفة وتلفتت لتتعرف الوجوه، فعرفت القهرمانة من مجلسها المرتفع ولبسها الفاخر. فمشت نحوها حتى إذا دنت منها أكبت على يدها تقبلها، فقبلتها القهرمانة وأمرتها بالجلوس إلى جانبها، وأخذت ترحب بها بعبارات مألوفة فى مثل تلك الحال، لو تليت على إنسان لم يألفها لظن قائلها أشد الناس مودة له وتفانيا فى مصلحته، لكنها على طول التكرار أصبحت لا معنى لها، أو أن لها معنى يناقض أصل المراد بها.
فاستأنست شوكار ونظرت إلى ما فى تلك الغرفة من الرياش الفاخر، وتأملت حال أهل ذلك القصر من الرخاء والنعيم، فأوشكت أن تؤثر المقام هناك على الاجتماع بركن الدين. ثم نادها قلبها فأصغت إلى ندائه، ولسان حالها يقول: «ليست السعادة بالرياش والمجوهرات وإنما هى فى الحب». ثم سمعت القهرمانة تنادى بعض الخصيان وتأمره أن يهيئ لمغنية الخليفة غرفة فيها كل أسباب الراحة. والتفتت إلى شوكار وقالت: «تمكثين هنا ريثما تتهيأ الغرفة كما يليق بها، أنى فى انتظار قدومك من أمد طويل، وقد شغل بالنا خوفاً عليك فنحمد الله على سلامتك».
فأجابتها شوكار شاكرة وقالت: «أنى لا أستحق هذا الالتفات يا سيدتى، ما أنا إلا جارية حقيرة».
فأجابتها القهرمانة (أو القيمِّة) وهى تضحك: «أنت تظنيننى لا أعرفك قبل الآن، ولكننى أعرفك من عهد بعيد، وأعرف كل شئ عنك، عرفت ذلك من صديقتى قهرمانة الملك الصالح صاحب مصر رحمه الله. أتعرفينها؟».
فتذكرت سلافة وما بينها وبين سيدتها شجرة الدر من المنافسة، ولم تكن تعرف لها هذه المنزلة لدى قيمة قصور الخليفة فقالت: «أظنك تعنين سلافة. نعم أعرفها يا سيدتى ولم أكن أظنها تعرفنى».
قالت: «بالعكس، أنها تعرفك جيداً، وهى التى لفتت انتباهى إلى رخيم صوتك، وأنك تليقين بمجالسة مولانا أمير المؤمنين، فأشرت على مولانا باستقدامك، فطلبك من سلطان مصر كما تعلمين».
فأحست شوكار بفضل سلافة عليها، ولكنها كانت تفضل الخروج من ذلك القصر، غير أنها نظرت فى الأمر من حيث قصدها فقالت: «الحقيقة أن حسن ظن السيدة سلافة منه كبرى يجب أن أشكرها عليها، ولو عرفت ذلك لشكرتها وأنا فى مصر». قالت: «ويمكنك أن تشكريها هنا». قالت: «وهل هى هنا الآن؟» قالت: «هى هنا منذ بضعة أيام».
•••
استغربت شوكار هذه المصادفة، وبان البشر فى محياها، وسبق إلى ذهنها حسن الظن، وتصورت أن وجود سلافة هناك سيكون أكبر تعزية لها ريثما تستطيع التخلص، وخيل لها أن سلافة ستكون عوناً كبيراً لها فى ذلك فقالت: «لله ما أسعد حظى. أين سيدتى سلافة حتى أقبل يدها وأشكر لها صنيعها».
قالت: «سنرينها بعد قليل، وقد سألت عنك ساعة وصولها من مصر فأخبرتها عن ضياعك فتأسفت، ولما جاءتنا البشارة الآن بوجودك أخبرتها ففرحت فرحاً عظيماً وهى آتية الساعة.. هذه جاريتها قادمة.. أين سيدتك يا أقحوانة؟».
فأجابت الجارية: «أنها فى غرفتها يا مولاتنا، وقد بعثتنى لأدعو القادمة الجديدة إليها لتتمتع برؤيتها فإنها فى شوق إليها».
فضحكت القهرمانة حتى بانت بقايا أسنانها وما يتخللها من الفراغ فى أماكن الأسنان المقلوعة وقالت: «هل تريد أن نرسلها إليها لتراها قبل أن يراها أمير المؤمنين؟».
فقالت الجارية: «هذا ما قالته مولاتى، والأمر لك».
قالت: «لا بأس. أن ضيفتنا شوكار ذاهبة معك للقاء صديقتنا سلافة لأنها فى شوق لرؤيتها وتقديم شكرها لها. وقولى لها أن لا تطيل المقام فلابد من إرسالها إلى الماشطة بعد قليل لإصلاح شأنها بحيث يليق بها الجلوس بين يدى مولانا الليلة لسماع صوتها الرخيم، ولا أظنه يصبر على الانتظار إلى الغد.. قومى يا شوكار إلى سلافة.. وأحب أن تستأنسى بنا وتثقى بى فإنك كإحدى بناتى».
فنهضت شوكار ومشت فى أثر الجارية أقحوانة، وهى تمر من ممر إلى ممر، والغرف على الجانبين، وشعرت أن فى تلك الغرفة أناساً يتشوقون إلى رؤيتها، نعنى الجوارى أو السرارى، فترى الأبواب بين مفتوح ومشقوق، والرؤوس تطل لمشاهدتها ثم ترجع خلسة، حتى وصلت إلى غرفة سلافة فتقدمتها أقحوانة وأعلمت سيدتها بمجئ شوكار، فلما أطلت شوكار على مجلس سلافة تصاعد الدم إلى وجهها خجلاً وفرحاً، إذ شعرت بأن هذه السيدة أرادت الإحسان إليها بإرسالها إلى بيت الخليفة وإن كان ذلك لم يوافق حالها، فلما شاهدتها سلافة مقبلة نهضت لها وتقدمت لاستقبالها ببشاشة وترحاب زادا الفتاة خجلاً، لأنها تعرف منزلة تلك السيدة فى قصر الملك الصالح بمصر وقصور المستعصم فى بغداد، فأكبرت تواضعها وعطفها وأكبت على يديها تريد أن تقبلها، فمنعتها من ذلك وهى تقول: «مرحباً بالعزيزة شوكار، وأشكر الله أن رأيتك فى هذا القصر، فقد طالما تمنيت لك هذه السعادة. هل أنت مسرورة يا شوكار؟» وأومأت إليها أن تقعد على وسادة بجانبها، فجلست شوكار وهو تقول: «أشكر لك غيرتك وفضلك يا سيدتى. أنى فى سعادة بحمد الله و..».
فقطعت سلافة كلامها قائلة: «ولكن ساءنى الفهم اختطفوك فى أثناء الطريق، واليوم عرفت سبب ذلك، فالحمد لله على سلامتك.. كم أنا مسرورة بلقياك، ومهما يكن من حظوتك بالقدوم إلى بغدد والمكوث فى دار الخليفة فإن الخليفة أكبر حظاً منك بالحصول على مغنية ليس فى العراق ولا مصر أرخم صوتاً منها».
فأطرقت شوكار وعيناها ولسانها ينطقان بالشكر، وقلبها ينكر ذلك الفضل، لأنها كانت تؤثر البقاء بقرب ركن الدين، ولو فى سجن، على وجودها بعيدة عنه فى قصر الخليفة.
ولم تكن سلافة تجهل ذلك لكنها خاطبتها بما قد تتوقعه منها، لأن شوكار لم تكن تعلم شيئاً مما دار بين حبيبها ركن الدين وهذه المرأة، ولو علمت الغرض الذى حملها على المجئ إلى بغداد لأقشعر بدنها وكرهت النظر إليها، فإن سلافة قد تركت مصر بعد حديثها مع ركن الدين الذى غادر دارها وقد أغضبها لأنه لم يطعها فيما أرادته منه، فتركته واقفاً ومشت بعد أن رمته بنظرة كالسهم وقالت: «سر بحراسة الله. سر إلى فراشك أيها الأمير. ولا تظن فشلى هذا يذهب عبثاً».
قالت ذلك يومئذ وقد أثار باعراضه نقمتها منه، وانقلب حبها بغضاً ولكنها رأت أن تتربص عساه أن يرجع إلى صوابه ويتحول عن حب شوكار وإلا عمدت إلى أذاه. وما زالت تبث الجواسيس لاستطلاع مقاصده حتى علمت عزمه على السفر إلى بغداد، فأسرعت إليها لتستقصى أخباره وترى ما يكون من أمره. وكانت قد سمعت بضياع شوكار، فلما عادت وجدتها حية أخذت تفكر فى حيلة أخرى، وهى تعتقد أن وجود هذه الفتاة حية يقف فى سبيل غرضها. ومن أخلاق هذه المرأة إقدامها على عظائم الأمور، بلا دهاء أو تدبير سابق يضمن نجاحها، فإذا خطر ببالها أمر أقدمت عليه.
فلما سمعت شكر شوكار لها، وعلمت حسن نيتها، وأنها لا تعلم بما دار بينها وبين ركن الدين، استسهلت تنفيذ بغيتها، فأظهرت أنها مسرورة جداً بلقياها، وخطر لها أن شوكار قد تفضل البقاء فى دار الخليفة على الاقتران بركن الدين، فأحبت أن تستطلع رأيها فى ذلك فقالت لها: «يظهر أنك نسيت مصر وأهلها.. لك حق فإن المقيم فى هذه القصور بجوار أمير المؤمنين لا تخطر مصر بباله». قالت ذلك وجعلت تتفحص ما يبدو منها، فتحيرت شوكار بماذا تجيبها، والمحب حريص على سره لا يفشيه إلا لمن يعتقد إخلاصه وصدق مودته، وقد سبق إلى ذهنها أن سلافة تحبها، بدليل سعيها لها فى هذه النعمة بما لها من النفوذ فى تلك الدار، فتصورت أنها إذا شكت إليها حقيقة حالها فربما ساعدتها على التخلص من بغداد والرجوع إلى مصر، فترددت فى الجواب، وبان التردد فى عينيها، ولحظت سلافة ذلك فيها فقالت لها: «ما بالك لا تتكلمين يا حبيبتى؟ قولى.. يظهر أنك تستحين منى أو لا تثقين بى».
فخجلت شوكار من هذا التوبيخ وقالت: «كلا يا سدتى، أنى أقدر تنازلك حق قدره، ولولا حبك لى لم تسعى لى فى هذه السعادة، ولكن..». وسكتت.
فقالت سلافة: «ولكن ماذا يا شوكار؟ ألم أقل لك أنك لا تثقين بى؟» قالت: «العفو يا سيدتى، لكننى استحى أن أقول ما فى خاطرى لئلا تضحكى منى..».
قالت: «أضحك منك؟ لماذا؟. فأطرقت وقد نوردت وجنتاها وجعلت تتشاغل بطرف جديلتها تلفها على سبابتها، ثم قالت: «أن الإقامة فى هذه القصور تشتهيها كثيرات، وربما حسدن عليها، لكننى أفضل الرجوع إلى مصر».
فأظهرت سلافة الاستغراب وقالت: «ترجعين إلى مصر؟ وما الذى خلفته هناك، ألا أن تكونى مخطوبة لأحد؟ حتى هذا فإنك تجدين بدلاً منه فى بغداد، وإذا سمع الخليفة غناءك ومهارتك فى ضرب العود فربما أصبت نصيباً لا يتيسر لك مثله فى مصر».
فقالت شوكار بكل بساطة وإخلاص: «ليست السعادة فى قربى من الخلفاء ولا بالتزوج من أمير أو شريف، وإنما هى فى الحب المتبادل». قالت ذلك وتورد وجهها حياء، فحولته إلى ستارة معلقة بالحائط عليها صور بعض الطيور وتشاغلت بالنظر إليها.
فابتدرتها سلافة قائلة: «إذا كنت عالقة القلب ببعض الشبان فى مصر فإحذرى ولا تنخدعى. قد يكون ذلك الشباب حينما علم بسفرك تزوج غيرك. وهبى أنه تزوجك فليس أسهل على الرجال من الطلاق. لا تثقى بأحد منهم، أقول لك هذا عن اختبار».
فابتسمت شوكار ابتسام النصر لثقتها بحبيبها وقالت: «أن الشاب الذى أحبه على خلاف ما تقولين، وأنا واثقة من ثباته على حبى. وقد يأتى إلى هذا البلد لإنقاذى».
فضحكت سلافة باستخفاف لتحمل شوكار على التصريح بما فى قلبها، وهزت رأسها هز الإنكار وسكتت، فقالت شوكار، «أؤكد لك يا سيدتى أن خطيبى هو كما أقول لك، ولو عرفته لوافقتنى على رأيى».
فأحبت سلافة أن تتبع الحديث إلى أخره فقالت: «ما اسمه؟». وأخذ قلبها يخفق لعلمها بالجواب قبل سماعه.
فقالت شوكار: «هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، ولا شك أنك تعرفينه، فهل ألام على حبه؟» قالت ذلك وأبرقت عيناها وأكبت على يد سلافة تقبلها وهى تقول متضرعة: «بالله يا سيدتى ساعدينى، فليس فى الدنيا أحد يقدر أن يحقق لى هذه الأمنية سواك.. أنت جئت بى إلى هذه المدينة، وأنت وحدك تقدرين على إرجاعى إلى مصر». وشرقت بدموعها.
وكانت سلافة حالماً سمعت اسم ركن الدين قد هاجت عواطفها وزادت نقمتها ويئست من النجاح فى هذا السبيل، فتظهرت بالحنان عليها وتلطفت إليها وقالت: «نعم أعرف الأمير ركن الدين، وهو من خيرة الأمراء، وإذا كانت على ثقة من حبه فأنى أبذل جهدى فى مساعدتك لأنى أحببتك كثيراً ولا غرض لى إلا راحتك وسعادتك».
فلما سمعت شوكار كلامها اعتقدت صدقه، فاختلج قلبها فى صدرها من الفرح وقالت وهى تضحك: «صحيح؟! صحيح ما تقولين؟! ترجعيننى إلى مصر؟! شكراً يا سيدتى، أسرعى فى إنقاذى؟. وهمت بتقبيل يدها فمنعتها وضمتها إلى صدرها تحبباً. ولو علمت شوكار بما يكنه ذلك الصدر نحوها لأجفلت وتراجعت، لكنها صدقت واعتقدت قرب الفرج.
أما سلافة فقالت: «يصعب إنقاذك سريعاً.. وأنت لم يمض عليك يوم بقصر أمير المؤمنين الذى أمر بإصلاح شأنك ليسمع صوتك فى هذه الليلة.. كونى مطمئنة، أنى لا أدخر وسعاً فى إجابة طلبك، ولابد من حيلة أدبرها لك».
فأحست شوكار بارتياح كثير، وعولت فى نجاتها على سلافة، وشكرت الله لالتقائهما.
•••
والتفتت سلافة إليها بلهفة كأنها استدركت شئاً فاتها، أو أنها وفقت إلى رأى جديد وقالت: «اسمعى يا عزيزتى إذا لم يكن بد من الرجوع إلى مصر فالأوفق أن نبدأ بالسعى من هذه الساعة. أما بعد أن يسمع أمير المؤمنين صوتك فسيصبح الخروج صعباً».
فتأكد لدى شوكار صدق رغبتها فى إنقاذها فقالت: «وما هو الرأى يا سيدتى؟ أنى رهينة إشارتك أفعل ما تأمرين به».
قالت: «أرى أن تبدئى من الآن فتشكى من صداع فى رأسك وألم فى حلقك، وأنا أرفع خبر ذلك أن القهرمانة وأقنعها بصحته، ثم احتال فى نقلك إلى قصر أخر أهداه إلى الخليفة لأقيم فيه على مقربنة من قصر التاج، ومتى صرت هناك هان إنقاذك».
فخدعت شوكار بهذا القول، واستبشرت به، ورأت فيه سبيلاً لعودتها إلى حبيبها ركن الدين، فانحنت على قدمتى سلافة تحاول أن تقبلهما وقالت: «شكراً لك يا مولاتى.. شكراً لك.. أنى أشعر بالصداع من الآن..» فتناولت سلافة منديلاً عصبت به رأسها، وصفقت فجاءتها أقحوانة وهى تقول: «أن مولاتنا القهرمانة استبطأت شوكار فبعثت فى طلبها لأن أمير المؤمنين آت بعد قليل».
فقالت: «أنظرى، أنها مريضة تشكو صداعاً شديداً وألماً فى حلقها وقد تعبت فى معالجتها، فالأحسن أن تعتذر القهرمانة إلى أمير المؤمنين من غيابها ريثما تشفى». فذهبت أقحوانة إلى القهرمانة بالخبر، فأسرعت هذه لمشاهدة شوكار وهى تقول بصوت جهورى خشن: «كيف ذلك؟.. مولاى الخليفة يأتى بعد قليل.. وقد قضى زمناً طويلاً فى انتظار هذه المغنية.. فكيف تمرض فى ساعة وصولها؟».
ولما وصلت إلى غرفة سلافة رأت شوكار مستلقية على الأرض وهى تصيح من شدة الألم وقد تغير لونها، فلم يسعها عند رؤيتها إلا الإشفاق عليها، ونظرت إلى سلافة فرأتها شديدة الاهتمام بها والحنو عليها فقالت لها: «أحب أن أنقل هذه المسكينة إلى دار المرضى ليعودها الطبيب ثم..»
فقطعت سلافة كلامها قائلة: «لا، لأن تنقليها إلى مكان، دعينى أهتم بأمرها. دعى ذلك لى..». قالت ذلك وهى تهتم بتغطية شوكار وتلمس جبينها وخديها ثم قالت: «دعى أمرها لى، وإذا اقتضت الحال نقلها نقلتها إلى قصرى، لأن موقعه يساعد على سرعة شفائها».
فعادت القهرمانة وهى تهيئ الأعذار للخليفة لتخلف مغنيته بعد أن منى نفسه بها على أثر انتظاره الطويل للحصول عليها، وقبل وصولها إلى غرفتها جاءها رسول الخليفة يدعوها إليه، فذهبت مهرولة إلى غرفته فوجدته يعد نفسه للذهاب إلى المنظرة، وقد أخذ يلبس ثياب المنادمة. فلما وقع بصره عليها صاح بها: «أين المغنية الجديدة؟ لقد ظفرنا بها بعد طول الانتظار، والحمد لله. هل جربت صوتها؟. هل اسمعتك إياه؟ يقولون أنها أرخم النساء صوتاً وأتقنهن صنعة، قد آن لى أن استريح من مهام الدولة ومتاعبها، سامح الله أبا بكر أنه سبب هذه المتاعب كلها». واسترسل المستعصم فى الكلام وهو واقف والخادم يساعده على لبس الغلالة ولف العمامة الصغيرة، والقهرمانة واقفة تنتظر سكوته لتجيبه على أسئلته. فلما سكت قالت: «أن جاريتك شوكار مريضة الآن».
فصاح فيها: «مريضة! لقد رأيتها اليوم فى عافية. متى مرضت؟»
قالت: «كانت فى خير، لكنها أصيبت منذ ساعة بصداع شديد كاد يقتلها، وقد اهتمت جاريتك سلافة بأمرها».
فقطب المستعصم حاجبيه، وكان الخادم الواقف بين يديه يناوله منطقة من الحرير ليتمنطق بها، فتناولها ورمى بها إلى الأرض، وألقى نفسه على المقعد كأنه يستريح من تعب، وتنهد وقال: «يا لله من سخرية القدر؟ لقد تشاءمت من هذه الجارية، فإنها منذ خروجها من مصر وأمورها معرقلة، ولما ظفرنا بها مرضت، وأخاف أن تكون شؤماً علينا فيما نحن فيه». وأطرق لحظة ثم قال: «يا ليتها ظلت عند أبى بكر ولم نغضبه لأجلها، وهل تظنين مرضها يطول؟». قالت: «أنها تشكو صداعاً وألماً فى حلقها، والأمل أن تشفى فى يومين أو بضعة أيام. وإذا لم تشف فغيرها خير منها.. أن الجوارى المغنيات كثيرات فى خدمة أمير المؤمنين. هل يأمر بتهيئة سواها؟».
قال: «هيئى من شئت منهن.. أنى فى حاجة إلى الراحة بعد تعب هذا النهار. هل علمت ماذا جرى لنا اليوم مع أبى بكر؟».
قالت: «أنه غضب لذهاب شوكار من يده، وقد اخطأ لأنه لأخذها وهو يعلم أنها محمولة لمولانا أمير المؤمنين. لكنه فعل ذلك بدالة الابن على أبيه..». وقد استرضته بهذه العبارة. وهو إنما سألها هذا السؤال ليسمع منا هذا الجواب، لأن قلبه ما زال مشغولاً من جهة ابنه، يتنازعه فى شأنه عاملان: أحدهما النقمة عليه لأنه تجاوز حدوده وتعدى على حقوق أبيه، والثانى عطفه عليه ورغبته فى إرضائه، والعامل الأخير أشد ظهوراً وأكثر تسلطاً على قلبه. وهو يعلم أن تلك القهرمانة تحب أبا بكر، أو هى تعرف حبه إياه فلا تجيب إلا بما يخفف من غضبه عليه، فسألها ذلك السؤال ولم يكن عنده ريب فى إطلاعها على ما جرى فى جلسة ذلك اليوم وإن كانت فى دار النساء. فأنها كانت كثيرة التدخل فى شئون الدولة والإطلاع على ما يجرى منها، لأن المستعصم كثيراً ما كان يذكر ذلك بين يديها على سبيل التفاخر، فأصبحت كثيرة النفوذ عنده شأن الدولة فى عهد انحطاطها.
فلما سمع الخليفة قولها عن أبى بكر سرى عنه وقال: «صدقت أنه فعل ذلك بحسن نية، وقد جرأه عليه الداودار.. وكان ينبغى لهذا أن يردعه ويقف فى وجهه».
ولم تكن القهرمانة تحب الداودار لأنه جندى خشن لا يحترمها، فلما سمعت الخليفة ينتقده وافقته وقالت: «طبعاً كان يجب على الداودار أن يردعه. لكنه يفعل ذلك بدالته على أمير المؤمنين لأنه قائد جنده.. وتلك دالة كاذبة، إذ يستطيع أمير المؤمنين أن يبدل بداوداره أحسن منه.. لكنه لا يبدل بابنه سواءه..». قالت ذلك وضحكت إعجاباً بهذا التعبير، وأظهرت أنها تهتم بالخروج لتهيئة جلسة الغناء، فأجابها بضحكة من نوع ضحكتها وقد فهم قصدها، وهى تعنى أن يعزل الداودار وقال لها: «ابعثى إلى أبى بكر ليحضر هذا المجلس معنا. عسانا أن نعوضه ونرضيه إشارة الطاعة وانصرفت».
•••
تركنا مؤيد الدين فى داره وقد بعث رسوله إلى هولاكو بعد أن يئس من الإصلاح، على أنه ظل برهة بعد إرسال الغلام وهو غارق فى التفكير، تتناوبه الخواطر المتضاربة بين ندم وارتياح، لكن الارتياح كان غالباً عليه لأنه لم يقدم على مخابرة هولاكو إلا بعد تردد طويل. قضى ذلك اليوم ولم يخرج من منزله، ومضت أيام أخر وهو لا يريد أن يرى أحداً ولا أن يخاطب أحداً لعظم قلقه وفظاعة ما أقدم عليه، وإزداد قلقه لأن الخليفة لم يسأل عنه، ولم يدعه إليه، فعد ذلك تغيراً عليه، ففضل البقاء فى منزله كالمحاصر ريثما يرى ما يحدث.
وأصبح ذات يوم فإذا بطارق يطرق الباب، فعرف من طرقه أنه سحبان، وكان قد طال غيابه هذه المرة حتى قلق عليه، فلما رآه مقبلاً رحب به وأشار إليه أن يقعد، ورأى فى وجهه تغيراً فقال: «ما وراءك يا سحبان؟ أراك متغيراً».
قال: «وأنا أراك متغيراً أيها الوزير.. ولا عجب إذا رأيت فىّ تغيراً، فأنا إذا بقينا على رأيك، فنحن متغيرون جميعاً. بل نحن منتقلون إلى الدار الآخرة عما قريب». قال ذلك وتشاغل بعض شفته السفلى كأنه يفكر.
فأدرك مؤيد الدين أن سحبان ينتقد صبره على المستعصم ومحافظته على ولائه إلى هذا الحد فضحك وقال: «أن الانتقال إلى الآخرة خير لنا من هذه الدنيا». قال: «نعم، ولكننا لا ينبغى أن ننتقل قبل أن ننتقم». قال: «لك على ذلك».
ولم يكن سحبان يتوقع سرعة الموافقة، فاستغرب جوابه وقال: «ومتى؟» قال: «منذ بضعة أيام».
فدهش سحبان ونهض فجأة متأثراً وقال: «ماذا تعنى؟ أظنك لم تفهم مرادى». قال: «كيف لا؟ ألم تقصد التخلص من أولئك القوم، ولو استنجدنا عليهم الغرباء؟». قال: «بلى!». قال: «قد فعلت.. فاصبر لنرى النتيجة».
فتلفت سحبان حوله خوفاً من أن يسمعه أحد وقال: «استنجدت هولاكو». كتبت إليه أن يأتى؟». قال: «لقد فعلت ذلك.. وكنت انتظر مجيئك قبل الآن لأخبرك وأرى رأيك..».
فقطع سحبان عليه كلامه وصاح: «وهل لى رأى غير ذلك؟! هذه هى أمنيتى، إذا حصلت عليها لا أبالى إن أنا مت الساعة.. وقد جئتك الآن بأمر جديد معهم لكنه لا يقف فى سبيلنا». قال: «وما هو؟». قال: «الأمير أحمد الذى سميناه الإمام.. أنت تعلم أننى بعد أن أتيت به إلى هنا أرجعته إلى حيث كان فى قصر الفردوس. وكأن القوم أدركوا قصدنا، أو لعلهم علموا بخروجه وارتابوا فى حرس قصره، فنقلوه إلى قصر أخر». قال: «نقلوه إلى قصر باب كلواذى فى الجنوب، وأقاموا عليه الحراس وشددوا التضييق عليه..» قال: «هو الآن فى كلواذى؟ ولماذا فعلوا به ذلك؟».
قال: «فليفعلوا ما يشاءون، أنه خليفتنا حيثما كان، وهل يصعب علينا إخراجه من سجنه متى تم لنا ما نطلبه؟! إذا دخل التتر بغداد وقبضوا على هذا الخليفة فستكون أنت معهم فترشدهم إلى الإمام أحمد فيولونه الخلافة.. آه ما أجمل ذلك اليوم السعيد! وأسعد منه أن نعيد دولتنا العلوية.. هذه هى أمنيتى الحقيقية».
فنظر مؤيد الدين إليه وهو يغبط فيه ذلك الأمل الواسع والوثوق بالنجاح لأضعف الأسباب.. أن صاحب هذا الخلق قد يخطئ ويفشل، لكنه أقرب إلى السعادة من الرجل الحذر الكثير الشكوك الذى يرى السعادة فى قبضته ويشك فى وجودها. ولذلك استغرب مؤيد الدين سرور سحبان واطمئنانه لا لشئ إلا أن سمع منه أنه وافق هولاكو على القدوم إلى بغداد، وفاته ما يعترض نجاح من العقبات، وأنه قد عرض نفسه فى هذا لخطر جسيم. ثم رفع نظره إلى سحبان وقال: «وفقنا الله فى سعينا على القوم الظالمين».
الفصل الحادي عشر
ركـن الديـن فى بغداد
وبينما هما فى ذلك إذا سمعا قرع الباب. وكان الباب بعيداً عن غرفة الوزير، ولم يكن يهتم لسماع قرعة من قبل. أما الآن فإنه لشدة قلقه أصبح لا تفوته حركة مما يحدث فى البيت، فتطلع نحو الباب، وإذا بغلام سحبان قد دخل وفى وجهه تغير، فقال له سحبان: «من أين أتيت يا غلام؟»
قال: «أتيت من المنزل يا سيدى، قال: «ولماذا؟». قال: «لأن قادماً غريباً جاء يطلبك وألح على أن أوصله إليك حالاً، فجئت به لعلمى أنك فى دار الوزير». قال: «من هو هذا القادم؟ وأين هو؟». قال: «لم يشأ أن يخبرنى عن اسمه، لكنه جاء معى وهو واقف فى انتظار الإذن له».
فالتفت سحبان إلى الوزير كأنه يستأذنه فى إدخال ذلك الضيف، فقال الوزير: «أدخله».
فعاد الغلام ومعه رجل حسن البزة عليه لباس السفر، وحالماً وقع نظر سحبان عليه صاح: «الأمير ركن الدين؟! الأمير ركن الدين؟!» ونهض لملاقاته والترحيب به».
ونهض مؤيد الدين وهو يقول: «مرحباً بالأمير ركن الدين». فمشى ركن الدين حتى دنا من الوزير فحياه وحيى سحبان، وجلس على كرسى قدموه له، وأخذ الوزير يرحب به قائلاً: «طالما سمعنا بالأمير ركن الدين بيبرس وأعماله فى مصر، وكنت فى شوق إلى رؤيته فمن الله على بذلك».
فقال ركن الدين: «ليس فى ركن الدين ما يدعو إلى الإعجاب لأنى لم أعمل عملاً، ولكن الإعجاب يجدر بالوزير مؤيد الدين بن العلقمى القابض على أزمة الدولة العباسية يدير شؤونها».
وتصدى سحبان للكلام قائلاً: «أن الأمير ركن الدين بطل عظيم». ووجه كلامه إلى الوزير وقال: «ألم أقل ذلك عن بسالة هذا البطل وما بشأنها عند سفره من مصر، فقال له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة أتاه من المدهشات فى محاربة الأفرنج وتخليص مصر من أيديهم؟ فعساه أن يساعدنا فى تخليص بغداد من غير الأفرنج..». وضحك.
فلم يعجب مؤيد الدين تسرعه لكنه تغافل، وتغافل أيضاً ركن الدين لأنه مثل مؤيد الدين تكتماً وحذراً، فخجل سحبان من نفسه وأراد أن يغطى خجله فأثار موضوعاً جديداً فقال لركن الدين: «متى وصلت إلى بغداد أيها الأمير؟ وكيف عرفت دارى؟».
قال: «وصلت فى هذا الصباح، وأما منزلك فقد عرفت منك فى مصر أنه بالكاظمية. وأنا أعرف بغداد، فصرفت من كان معى وأحببت أن أدخل البلد متنكراً، فوصلت إلى الكاظمية وسألت عنك فقيل لى أنك عند مولانا الوزير فجئت لأراك وأراه لأنى أعرفه بالسماع، فطلبت إلى خادمك أن يأخذنى إليك وقد فعل».
فقال الوزير: «لقد جئت أهلاً ووطئت سهلاً».
وتذكر سحبان تعلق ركن الدين بشوكار وقلقه عليها وحديثه معه بشأنها عند سفره من مصر، فقال له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة التى أنفذتنى إليها من مصر؟ أن لمولانا الوزير إطلاعاً على شئ منها، وهو محب لك غيور على شؤونك».
فقال ركن الدين: «أظنك تعنى شوكار. نعم تكلم وقد كنت أتوقع أن تكتب إلى بشأنها قبل الآن».
فخجل سحبان لكنه بادر إلى الاعتذار قائلاً: «كان ينبغى أن أفعل ذلك، ولم اتأخر عن إهمال، لكننى حال وصولى إلى بغداد لقيت شوكار فى المكان الذى كانت مخبوءة فيه، وأخبرتنى أنها كتبت إليك، وقد عملت على إنقاذها فلم أوفق إلى ذلك حتى الآن، وما الفائدة من الكتابة بلا عمل؟ والوزير يعلم بما وقف فى طريقنا من العراقيل».
فقال: «والخلاصة أين هى الآن؟». قال: «هى فى قصر الخليفة منذ أيام». قال: «وأين كانت قبل ذلك؟ ومن خطفها؟». قال: «كانت عند أبى بكر بن المستعصم، وأبوه لا يعلم أنها عنده وأخذ يبحث عنها. ثم تمكنا من اختطافها من بيت أبى بكر وأخفيناها فى منزلنا، وهممت أن أفر بها إليك فعلم بها ذلك الغلام وأخذها منا بقوة الجند. ثم علم أبوه أنها عنده فأخذها إليه، ولذلك حديث طويل يهمك منه أن شوكار لا تزال كما عرفتها فى مصر تبذل نفسها فى سبيل رضاك، ولا تفضل مكاناً فى الدنيا على قربك. ولاشك أنها فى بيت الخليفة رغم إرادتها. ولابد من أخذها.. تمهل.. أننا فى مشكلة شائكة ستقلب بغداد رأساً على عقب. وسيصل دويها إلى مصر والأندلس وكل أنحاء العالم، وسيكون لها شأن عظيم، وإنما يستفيد منها العاقل الحازم».
فخاف الوزير بعد هذه المقدمة أن يبوح سحبان بما حدث من المساعى وهو يحب كتمانه، فتصدى لمخاطبة ركن الدين قائلاً: «لا تعجب أيها الأمير من اضطراب حالنا فخليفتنا مشغول باستجلاب المغنيات من أقاصى المملكة، عن الاهتمام بأمور الدولة والعدو على الأبواب لا يلبث أن يأتينا، وجندنا فى اختلال و..».
فقطع ركن الدين كلامه قائلاً: «سمعت وأنا قرب بغداد أن هولاكو التترى زاحف بجند كثيف على هذا البلد وأنه الآن على مقربة منها. ألم تسعدوا له؟».
فهز الوزير رأسه وقال: «كيف لا؟ بلغنا منذ أيام أن حملة من جند هولاكو وصلت إلى تكريت بقيادة باجو وعبرت دجلة إلى البر الغربى ونزلت تتطلب بغداد، وقد اختلفت آراؤنا فى طرق الدفاع، ولم يستقر الرأى إلا بعد أن وصل جند التتر إلى دجيل وعددهم نحو ????? فارس، فأمر الخليفة بإرسال عسكره لدفعهم بقيادة مجاهد الدين أيبك الداودار، ولكن عسكرنا قليل العدد والعدة، ولا ندرى ما تكون النتجية. على أنى أخاف سوف العقبى لأننا غير متفقين فى رأى، وخليفتنا ضعيف مستسلم لابنه وقائد جنده، وكلاهما على غير خبره، ونخاف أن يكون الله قد أراد انقضاء هذه الدولة و…».
فتصدى سحبان قائلاً: «لا تخف، بل توسل إلى الله أن تنقضى هذه المحنة، وهذا الأمير ركن الدين لا يخفى عليه شئ من أمرنا، وقد حادثته وأنا فى مصر عن استرجاع خلافة الفاطميين».
فاستاء مؤيد الدين من اندفاع سحبان فى إبداء آرائه وقال: «لا أظن الأمير وافقك على ذلك.. ونحن يكفينا الآن أن نبدل خليفة بآخر كما سبق الكلام».
فاستحسن ركن الدين اعتدال ابن العلقمى فى رأيه فقال: «هذا هو القول المعقول، وهو هين ميسور لمن بيذل المال بدون حرب. وأنا أضمن لكم ذلك متى رجعت إلى مصر وتم الاتفاق بيننا على رأى نرضاه». وهو يضمر أن يجعل أمر إبدال الخليفة مرتبطاً بصيرورة سلطنة مصر إليه. أى أنه يشترط على الخليفة الجديد قبل توليته أن يساعده فى التسلط على مصر.
وأدرك مؤيد الدين غرضه فاستحسنه وندم على رسالته إلى هولاكو وتعريض الخلافة للتتر، لكنه ما زال أن هولاكو لا يزيد على أن يخلع الخليفة المستعصم ويطلب سواه وهم يدلونه على الإمام أحمد فقال: «سننظر فى ذلك ونرجو أن يعود بالخير».
فعاد ركن الدين إلى الحديث عن شوكار وخبرها ووجه خطابه إلى سحبان وقال: «والآن ماذا تفعل شوكار؟ قل لى.. فقد تركت بلدى وقومى وهم فى حاجة إلى وجئت إلى هذه الديار من أجلها، فهل أعود دون أن آخذها معى؟ هذا لا يمكن».
فقال سحبان: «لابد من أخذها، وقد قلت لك أن ذلك ميسور لما نرجو حدوثه من الانقلاب، ومع ذلك فإن الخصى عابداً الذى حمل إليك رسالة شوكار وحملته جوابك إليها مقيم عندى منذ أخذوا شوكار منا، وقد أوصيته أن يتتبع أخبارها. وكان قد جاءنى منذ يومين بخبر لم أصدقه لبعده». فقال ركن الدين بلهفة: «وما هو؟» قال: «أنبأنى أن شوكار خرجت من قصر التاج، على أنها لو خرجت لجاءت إلينا، وقد أوصيته بالأمس أن يبذل جهده ويدقق البحث ويعود بالخبر الصحيح».
فقال: «أين هو الآن؟». قال: «أظنه عاد إلى منزلنا فى الكاظمية أو يعود الليلة، هل تريد الذهاب الآن للبحث عنه؟». قال: «نعم، هلم بنا ومتى فرغنا من أمر شوكار عدنا إلى أمر الخلافة، أو لعل الأمرين يتمان معاً». قال ذلك ووقف واستأذن فى الانصراف، ثم ودع الوزير وخرج معه سحبان.
•••
كان ركن الدين قد عرف بغداد فى صباه، فلما جاءها هذه المرة وجد فيها تغيراً كثيراً. ومشى هو وسحبان فى طريقهما إلى الكاظمية، وهى على مسافة بعيدة من قصر الوزير، فعبرا الجسر حتى صارا فى الجانب الغربى من بغداد، حيث كانت البلدة التى بناها المنصور منذ خمسمائة سنة ونيف ولم يبق منها إلا آثار قد عفتها الأيام وأقيم فى مكانها الأسواق. وبينما هما سائران وركن الدين يتأمل فيها يمران به من الأبنية، رأيا جماعة من العامة يركضون نحو الجسر وهم فى خوف شديد، وعرف سحبان رجلاً منهم فناداه إليه، فجاءه وقد غطى الوحل قدميه إلى ركبتيه، فسأله سحبان عن سبب هذا الركض فقال: «التتر يا سيدى، التتر!».
فقال: «ماذا تعنى؟ أين هم؟». قال وهو يرتعد: «هم هنا.. هنا فى بغداد».
فصاح فيه: «فى بغداد؟ وأين جندنا؟.. ذهبوا لمحاربتهم عند دجيل؟! أين الداودار؟ ما بالكم؟ تكلم».
قال: «أن هؤلاء التتر من الجان لا يقدر أحد أن يقف فى طريقهم. كنت قرب دجيل يوم وصولهم إليه، وما ذاع أن التتر قد أقبلوا حتى ذعر الناس وهربوا قاصدين المدينة بأولادهم ونسائهم فى حالة يرثى لها، حتى كان الرجل يقذف بنفسه فى الماء خوفاً منهم، وقد رأيت ملاحاً لم يرض أن يعبر برجل فى سفينته من جانب إلى جانب إلا إذا أعطاه عدة دنانير، ورأيت امرأة دفعت للملاح سوارها ليعبر بها إلى الضفة الأخرى، ثم قالوا لنا أن جند الخليفة جاء لمحاربة أولئك العفاريت فسكن روعنا، لكننا ما لبثنا أن رأينا جندنا يتقهقر مدحوراً أمام التتر، والتتر يطارودنهم ويمعنون فيهم قتلا وأسرا. وأعانهم على ذلك ما حفروه فى الليل من خندق وصلوه بالنهر فكثرت الوحول فى طريق المنهزمين، ولم ينج إلا من رمى نفسه فى الماء وأنا منهم..». قال ذلك وأشار إلى الوحل على قدميه وهو يلهث.
وكان ركن الدين يسمع ذلك وشرر الغضب يتطاير من عينيه فقال سحبان للرجل: «والداودار، أين هو؟».
قال: «رجع مع بقية الجند مدحورين مكسورين، ولذلك انكسرت قلوبنا. نعوذ بالله من التتر! يا لطيف!»
فقال: «وكيف رأيت هؤلاء القوم؟».
قال: «رأيتهم من الأبالسة يا سيدى.. لا يمكن لجندنا أن يقف أمامهم، وإذا وقفوا أكلوهم أكلاً.. أعوذ بالله! لم أر مثل هؤلاء الناس. لا. لا لم أر مثلهم عمرى. أذهب يا سيدى من الطريق. لأنى أظنهم الآن على مقربة من بغداد، أو لعلهم دخلوها. وبلغنى أن فريقاً منهم نزل عند المارستان العضدى، وفريقاً أخر وصل إلى المبقلة تجاه الرصافة، ولم يبق بينهم وبين قصور الخلفاء إلا دجلة. سر يا سيدى. لا تعرض نفسك للسهام المتساقطة فسهامهم تتساقط كالمطر.. لا. لا. لم أر مثل هؤلاء الناس قط». قال ذلك وجرى مسرعاً.
فالتفت سحبان إلى ركن الدين فرآه يهتز من الغضب، وقد أحمرت عيناه وقطب حاجبيه، وود لو أن فرسه تحته ليهجم على التتر فقال له سحبان: «ما بال سيدى الأمير؟». قال: «ويلك يا سحبان! أهكذا يكون رجال الخلفاء؟ يهربون من وجوه التتر المتوحشين حتى يدخلوا دارهم؟ كم أتمنى أن يكون فرسى تحتى أو يكون رجالى معى لأريهم كيف يكون القتال!»
فضحك سحبان وأمسك بذراع ركن الدين وتحول به إلى زقاق ضيق ومشى وهو يقول: «أن إظهار البسالة لا يفيد، لأنها ضائعة لا مولاى. أن القوم ماتت نفوسهم وذهبت دولتهم، وكفى ما ارتكبوه من المظالم، ولو أراد الله نصرهم لأنار بصائرهم وهداهم الطريق الصواب، لكنهم يتخبطون فى أعمالهم تخبط الأعمى، ولا يعلمون، دعهم أن الله أقدر منا على نصرتهم إذا شاء».
وبينما هما فى ذلك إذ رأيا سهماً وقع أمامهما ذا شكل خاص لم يعهد سحبان مثله فيما يعرفه من السهام، فالتقطه وتأمله فرأى عليه كتابة عربية فقرأها، فإذا هى: «إن الرؤساء العلويين (الشيعة)، وكل من لا يقاتلنا، آمنون على أنفسهم وحرمهم وأموالهم».
فدفع السهم إلى ركن الدين فلما قرأه قال: «يلوح لى أن العلويين ينصرون التتر».
قال: «أن العلويين مظلومين يا سيدى. أما كفاهم ما قاسوه من الضيم والعذاب أجيالاً؟. فإذا كانت الغلبة للتتر وأنصفوهم فلا حرج عليهم ولا علينا». وهز كتفيه هز التنصل من التبعة.
فتحقق ركن الدين أن حماسته للعباسيين لا تجدى نفعاً، ولم يبق له من هم إلا أن يعثر على شوكار ويخرج بها من بغداد ويرجع إلى إمارته ويسعى فى نيل السلطنة بمصر. ولابد له قبل كل شئ من لقاء عابد الخصى ليسمع منه خبر شوكار.
وجعل سحبان طريقهما فى أزقة مهملة لا يتزاحم فيها الناس، لئلا يصدمهم الهاربون، حتى أقبل على المارستان العضدى، فرأيا ضفاف دجلة وما يليها تعج عجيجاً بالتتر وخيولهم وخيامهم وأعلامهم وأسراهم. فوقف سحبان على مرتفع وأومأ إلى ركن الدين أن يأمل أولئك القوم ويميز بينهم وبين البغداديين وقال له: «أرأيت التترى وقوة بدنه وخشونة يديه، وكيف هو مشمر عن ساقيه، وعيناه تكادان تطيران من وجهه.. أن بين هؤلاء الناس من قضى أياماً وهو سارع على قدميه لا ينام إلا لماماً ولا يأكل إلا القومز (لبن الخيل) كما كان البدوى فى صدر الإسلام يكتفى بناقته يسافر عليها ويقتان بلبنها ويتفيأ ظلها ويستأنس بها. هكذا هؤلاء التتر مع أفراسهم. وقد يعدو التترى فيسبق فرسه. فأين ذلك من جند بغداد وقد ألفوا الراحة والرخاء، كما كان الروم فى صدر الإسلام.. هل نستطيع يا سيدى أن نقاوم القضاء؟. لكل أجل كتاب، والله يفعل ما يشاء، هلهم بنا إلى الكاظمية لنرى عابداً ونسمع خبر شوكار».
فلم يحر ركن الدين جواباً من الدهشة التى تولته مع ميله إلى معرفة خبر شوكار، فتجاوز المارستان العضدى والحربية إلى الكاظمية، فاختلفت منظر الأهلين فى عين ركن الدين عما رآه فى سائر الأحياء. رأى أهل الكاظمية هنا مستبشرين مطمئنين، كأن فوز التتر فوز لهم، أو كان التتر دولة شيعية جاءت لنصرتهم. وهكذا الإنسان يحب من يأخذ بناصره مهما بعدت الروابط، ويكره من يسلبه حقه ولو كان أخاه. مرا فى أزقة الكاظمية وأهلها فرحون. وحالما رأوا سحبان تقدموا للسلام عليه وتهنئته، فرد السلام وقد استحيى من التظاهر بالفرح إلى هذا الحد بين يدى ركن الدين.
وبعد قليل وصلا إلى بيت سحبان فدخلا وقعدا، وسأل سحبان عن عابد فجاءه، وحالما رأى ركن الدين تناثر الدمع من عينيه وأكب على يده يقبلها، فاستغرب ذلك منه وقال: «ما وراءك يا عابد؟ أين شوكار؟ ماذا جرى لها؟». فتماسك الخصى وقال: «بذلت جهدى يا مولاى فى سبيل سيدتى شوكار كما وعدتك ولم أفارقها لحظة إلا هذه المرة، فإن الجند أخذوها رغم أنفى. لكنى أتعقب أخبارها كأنى معها».
قال: «وأين هى الآن؟». قال: «أخر ما عرفته عنها أنها فى قصر التاج». فقال ركن الدين: «هذا عرفته من أخى سحبان، وقد أخبرنى أنك ذهبت للبحث عنها أمس، فماذا عرفت؟». فأطرق عابد وقد ارتج عليه، فصاح ركن الدين فيه: «قل. قل يا عابد ماذا جرى؟». قال: «تنكرت أمس فى زى الخدم حتى دخلت قصر التاج فى جملتهم واجتمعت بكثير من أصدقائى الخصيان، واستطلعتهم خبرها فاختلفوا فى الرواية، وفهمت من مجمل أحاديثهم أن شوكار يوم وصولها إلى قصر التاج أصابها صداع شديد، ولم تقدر أن تغنى للخليفة، فباتت تلك الليلة عند صديقة لها من مصر اسمها سلافة». فلما سمع ركن الدين اسمها ارتعدت فراصه وصاح: «سلافة؟ سلافة هنا؟ أين سلافة؟» قال: «نعم يا سيدى، يقولون أنها كانت قيمِّة قصور الملك الصالح بمصر، ولها نفوذ عظيم فى قصر التاج لصلتها بقهرمانة القصور وأستاذ الدار، حتى الخليفة نفسه يحترمها».
فأطرق ركن الدين، وتذكر سعى هذه الجارية فى أبعاد شوكار عنه ليخلوا لها الجو معه، وكيف كانت مقابلته الأخيرة لها؟ وكيف هددته؟ مر كل ذلك فى ذهنه فى لحظة، وقلبه يخفق خوفاً من أذى تلحقاً بشوكار، فنظر إلى عابد وقال: «قل وبعد ذلك ماذا جرى؟».
قال: «واختلفت الرواة فيما جرى بعد تلك الليلة، فقال بعضهم أن سلافة أخذت شوكار إلى قصر لها قرب باب كلواذى، وقال غيرهم أنها لم تأخذها، بل ظلت مخبأة فى قصر التاج، وقال غيرهم غير ذلك». وتغيرت سحنته كأنه يخفى شيئاً خطر له، ثم قال: «يظن بعضهم أن شوكار اختفت، لكنهم لا يعلمون أين هى ولا كيف ضاعت؟». فصاح ركن الدين: «لعل سلافة قتلتها؟».
قال: «لا. لا سمح الله. والمشهور عندهم أن سلافة أحب الناس إليها، وهى التى بذلت جهدها فى راحتها، على أنهم لا يعرفون هل هى حية أو ميتة، لكنهم يعرفون أنها كانت تشكو صداعاً وأن سلافة قد احتضنتها ثم نقلتها إلى قصرها للاستشفاء، ولا يعلمون ماذا جرى بعد ذلك، فلعلها مقيمة عندها إلى الآن إلى الآن بحيث لا يراها أحد».
فى سلطنة مصر، وهو يرجح مصيرها إليه لضعف القائمين بها هناك، وتذكر حاجته إلى مصادقة الخليفة لتثبيت سلطته، فتمثلت له أهمية بغداد — مركز الخلافة الإسلامية — وكيف ان العالم الإسلامى على بكرة أبيه فى مشارق الأرض ومغاربها لا غنى له عنها. فلا يثبت السلطان على عرشه إن لم يأته تثبيت من خليفة بغداد لما للخلافة فى نفوس العامة من الاحترام الدينى. ثم نظر فى حال هذه المدينة وخليفتها على ضوء ما علمه فى ذلك اليوم فاستغرب سلطان الأوهام على الناس. ولكن رجال السيادة لا غنى لهم عن الأوهام ليسوقوا بها العامة إلى حيث يريدون. ولما وصل فى تصوره إلى هنا أطرق وقد خطر له خاطر رقص له قلبه طرباً رغم بعده عن المألوف، ولكن المرء إذا رغب فى أمر أخذ يفكر فيه حتى يرى مستحيله ممكناً — خطر له بعد ما شاهده من اضطراب أحوال بغداد، وما يحدق بها من الخطر، أن ينقل الخلافة منها إلى مصر، فتصير تلك الأهمية إلى مصر بدلاً من بغداد وتصير القاهرة مركز العالم الإسلامى، لا يستغنى عنها أمير أو سلطان، وأن استقل عنها بادارة حكومته فهو فى حاجة إلى خليفتها فى تثبيته. ولو كان المفكر فى ذلك سحبان لرقص فرحاً وتصور نفسه قد نقل الخلافة إلى مصر وصار هو سلطاناً يخطب رضاه سائر السلاطين، لكن ركن الدين كان ضعيف الثقة فى المستقبل، إذ بدا له أمل فى أمر يرغب فيه بحث عن كل ما يمكن أن يحول دون نيله، وهو أميل إلى تصديق أسباب الفشل. فلما خطر له أمر الخلافة تصور العراقيل الكثيرة التى تحول دونه، فعاد إلى التفكير فى شوكار فهاجت أشجانه.
قضى فى هذه الأفكار برهة جاءه فى أثنائها عابد يدعوه إلى الطعام مرة وإلى الصلاة مرة أخرى، وبدل ثيابه حتى دنا الأصيل فقيل له أن سحبان عاد من عند مؤيد الدين، وبعد قليل جاء سحبان والاضطراب باد على وجهه، والغضب يتجلى فى عينيه، فناداه ركن الدين وقال له: «ما وراءك، هل رأيت الوزير؟». قال: «لم أره». قال: «ولماذا؟». قال: «لأنه ليس فى منزله، وقد برحه بعد خروجنا من عنده»، قال: «إلى أين؟» قال: «بعثه المستعصم إلى هولاكو، والظاهر أن هذا الخليفة تحقق الخطر المحدق به، وهو يعتقد دهاء وزيرنا وتعقله فأنفذه إليه ليسترضيه».
قال: «إلى هذا الحد بلغ الضعف من خليفتكم؟» فابتسم وقال: «ألم أقل لك ذلك من قبل، وإرسال وزيرنا فى هذه المهمة أحسن رأى ارتآه المستعصم، لكن أخشى أن يكون قد جاء متأخراً، وذلك لأن هولاكو كان قد اشترط نحو ذلك من قبل للكف عن العداء، وأشار به الوزير على المستعصم ولكنه لم يطعه لأنه كان يسئ الظن به ويصدق ابنه أبا بكر، وهو شاب مغرور — فالظاهر أن المستعصم لما رأى جند التتر محاصراً قصوره، وسمع دوى المجانيق ووقوع قنابلها على القصور، ورأى عجز جنده عن القتال لجأ إلى المسالمة، وقد أحسن لأن وزيرنا حفظه الله له دالة على هولاكو فيشير عليه بما فيه خير الجانبين».
فقال ركن الدين: «لم أفهم مرادك من دالة الوزير لدى التتر، وما هو الباعث عليها؟ هل كانت بينهما معرفة؟».
قال: «لا أخفى عليك يا مولاى أن بين الوزير وهولاكو مخابرة فى هذا الشأن، أعنى أن هولاكو خابره وطلب إليه أن يكون معه، ووعده خيراً كثيراً، وظل مؤيد الدين يتردد، وهو ينصح الخليفة ويخوفه، فلما يئس من إصلاحه خابر هولاكو خوفاً من أنه إذا جاء وفتح بغداد ينتقم منه ومن أهله وسائر الشيعة. أما إذا أظهر موافقته فإنه يراعى جانبه، ولم يفعل ذلك خيانة».
ففهم ركن الدين من ذلك أن مؤيد الدين خان خليفته، ولو تنصل من ذلك، وزعم أنها ليست خيانة — فقال فى نفسه لاشك أن هذا من أكبر أدلة السقوط. ولم يبد رأيه فى ذلك لكنه سأل سحبان قائلاً: «وما تظن الوزير يفعل الآن إذا اجتمع بهولاكو؟».
قال: «أظنه يتفق معه على خلع المستعصم وتنصيب الإمام أحمد أخى المستنصر، فأنه أجدر بنى العباس بمنصب الخلافة، والمستعصم يخافه، ولذلك حبسه فى قصره وأقام عليه الرقباء، فهذا الإمام قد عرفناه واجتمعنا به وخاطبناه فى أمر الخلافة فإذا صارت إليه فوعدنا خيراً. ولا شك أنه يسهل عليك سلطنة مصر ويساعدك عليها، فإنك أولى بها من سائر الأمراء».
فعلم ركن الدين أن سحبان يرغبه فى مظاهرته على المستعصم وفى تنصيب الإمام أحمد خليفة، لكنه يطمع فيما هو أكثر من ذلك: يطمع فى نقل الخلافة إلى القاهرة. غير أنه لم يسمح لنفسه أن تتمكن منه هذه الخواطر خوفاً من فشلها فاكتفى بموافقة سحبان على تنصيب الإمام أحمد بدلاً من المستعصم وقال: «وأين هو الآن؟».
قال: «كان محبوساً فى قصر الفردوس بجورا قصر التاج، ثم أحدقت الشكوك به فنقلوه إلى قصر عند باب كلواذى وأقاموا الحرس حوله، وأنا عارف مكانه، ومن أسهل الأمور على إذا تم اتفاقنا على خلع المستعصم أو قتله أن أخرج الإمام أحمد من محبسه وأنادى به خليفة مكانه، ولا أجد من يخالفنى لأن الناس ملوا ضعف السياسة، ولاسيما إذا علموا أن هذا التبديل كان بإرادة الخاقان هولاكو قائد التتر. وكيف ترى يا سيدى؟».
قال: «أراك مصيباً، ونعم الرأى رأيك، وفقك الله إلى إتمامه». لكنه حالما سمع اسم باب كلواذى تذكر ما سمعه من عابد عن سلافة وأنها أخذت شوكار إلى قصرها قرب هذا الباب، وعادت إليه هواجسه وعاد يفكر فى شوكار: أحية هى أم ميتة؟ وهل سلافة لا تزال على كرهها لها، فالتفت إلى سحبان وسأله قائلاً: «سمعتك تذكر باب كلواذى ومحبس الإمام أحمد عنده، وأمس سمعت عباداً الخصى يذكر هذا الباب وأن قصر سلافة عنده، فكيف ذلك؟»
قال: «أن كلواذى يا سيدى حى فيه باب من أبواب سور بغداد سمى باب كلواذى، وبقربه قصور كثيرة كما تقولون فى مصر باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح فقد أصبحت أسماء أحياء فيها قصور عديدة».
وقضيا بقية اليوم وكلاهما يفكر فى أمره، وأكبر هم ركن الدين الوصول إلى شوكار ومعرفة حالها وإنقاذها أو الانتقام لها، وبات هو يحلم بها.
•••
وأصبح ركن الدين فى اليوم التالى وقد مل الانتظار، لكنه توسم فى بقائه هناك خيراً ينفعه فى مطامعه السياسية، على أنه كلما فكر فى شوكار خفق قلبه ورأى أنه أساء إليها لأن ما أصابها من الأذى إنما كان بسببه. وبينما هو فى ذلك إذ جاءه عابد وفى وجهه خبر فقال له: «ما وراءك؟»
قال: «بالباب رسول من سلافة معه كتاب إليك».
فلما سمع اسمها أقشعر بدنه وقال: «ليدخل».
فدخل الغلام ودفع الكتاب إلى ركن الدين وتناوله فإذا فيه: «من سلافة إلى الأمير ركن الدين. علمت أنك فى بغداد وأنا فيها.. وعندى أمر يهمك أحب عرضه عليك، فإذا شئت تفضلت بالمجئ إلى قصرى بباب كلواذى وهذا رسولى يهديك إليه والسلام».
فلما قرأ الكتاب دفعه إلى سحبان ليرى رأيه فيه فحذره من الذهاب، فقال ركن الدين: «لابد من الذهاب لأرى هذه الداهية وأتحقق أمر شوكار، وماذا عساها أن تفعل بى. عار على أن أخافها وخنجرى معى. لكن أين موقع قصرها من هنا؟»
قال: «هو بعيد، لابد للذهاب إليه من المسير مسافة طويلة ثم عبور دجلة فوق الجسر الذى جئنا منه. إذا شئت المسير فهذا فرسى بين يديك، وهذا عابد يسير فى ركابك فضلاً عن الرسول القادم من عندها».
فوقف ركن الدين وقال: «أذهب الساعة» وتحول إلى غرفة منامه وأصلح هندامه وتسلح بخنجرين وتشدد، ثم خرج وركب الفرس، وسار عابد فى ركابه والرسول يمشى بين يديه. ولحظ فى أثناء الطريق أن أهل الكاظمية فرحون معتزون وقد اشتدت عزيمتهم وهاجت نقمتهم على جيرانهم من أهل السنة الذين كانوا يعتزون بالخليفة وحكومته. ولما خرج من الكاظمية رأى الناس فى خوف شديد يجتمعون جلوساً أو وقوفاً للمداولة فى الأحوال الجارية ويتلقفون الأخبار من أفواه المارة متناقضة متباينة.
وصل إلى الجسر فعبره إلى الرصافة، فرأى الناس هناك أقل قلقاً لقربهم من قصور الخلافة حيث لا يسمعون غير ما يدعو إلى الثقة بقوة الجند ومناعة الحصون رغم ما كان يتساقط عليها من حجارة المجانيق حينا بعد أخر، وهى حجارة صوانية كروية الشكل قطر الواحد منها نصف متر أو أكثر، يقذفه المنجنيق من معسكر التتر على أبراج السور أو على بعض القصور، وكانت الأسوار تجيب بمثلها، وهذه هى مدافع تلك الأيام.
وانتهى مسيره أخيراً إلى ضفة دجلة الشرقية، فوقف الرسول والتفت إلى ركن الدين واشار باصبعه إلى قصر على ضفة النهر تحيط به حديقة حولها سور. دخل ذلك السور راكباً، فتقدم الرسول لإعلان وصوله، وترجل ركن الدين وسلم زمام الفرس إلى عابد وأوصاه أن ينتظر وأن يكون على حذر، ومشى فى الحديقة وقلبه يخفق تطلعاً إلى ما يكون من أمر سلافة، وصورتها لا تزال فى ذهنه كما فارقها فى المرة الأخيرة.
•••
وصل ركن الدين إلى باب القصر فرأى سلافة واقفة فى انتظاره وقد لبست أجمل ما عندها من الحلى والثياب، وبذلت جهدها فيما تملك به قلبه. أما هو فقد كان مدرعاً بالتعقل وحب شوكار، فحياها فردت التحية ورحبت به ترحيباً حسناً، ودعته إلى قاعة مفروشة أحسن فرش فيها النمارق والستائر والطنافس، وأشارت إليه أن يقعد وهى تقول له وتبتسم: «من كان يظن أننا سنلتقى فى هذا البلد؟».
فقال: «أن المصادفة تأتى بأعجب العجب».
قالت: «الصدف! هل تظن أننا التقينا هنا صدفة؟».
قال: «نعم، لأنى لم يخطر لى ببال أنك تجيئين إلى هنا».
قالت: «هذا يصح عليك وأما أنا.. أنا المسكينة الشقية فيخطر لى كل شئ، وأبذل راحتى وحياتى فى سبيل لقاء ركن الدين. لم تخط خطوة فى مصر وغيرها إلا عرفت بها وحسبت لها حساباً». ثم تنهدت، فتشاءم ركن الدين من هذه المقدمة، وأراد تغيير الحديث فقال: «أشكرك يا سيدتى على حسن ظنك بى. وصل إلى كتابك فجئت، لكننى اسألك سؤالاً أرجو الجواب عنه».
قالت: «قل ما تريد».
قال: «علمت أن شوكار جاءت إليك فى هذا القصر فأين هى؟».
قال ذلك وهو يخاف أن يسمع خبر موتها أو قتلها، فتجلد وهو ينتظر الجواب، فأبطأت سلافة فى الجواب وهى تنظر إليه نظر الاستغراب ثم قالت: «مسكينة» فصاح فيها: «مسكينة؟»! أين هى؟».
قالت: «ليست هنا، لعلك تذكر أنى كنت ناقمة عليها، وقد قلت لك أنى أحببت أبعادها رغبة فى قربك، لكننى شعرت هذه المرة لما لقيتها فى قصر الخليفة، أنها لا تستحق العذاب لسلامة قلبها وطيب عنصرها..». وتنهدت وأظهرت سلامة النية وشدة الأسف.
فقال: «قولى ما بالها. أين هى؟ ماذا جرى لها؟» قالت: «قلت لك أنها ليست هنا». قال: «فهمت أنها ليست هنا فأين هى؟»
فنظرت إليه نظرة العاتب وقالت: «لله أنت! ما أكثر تسرعك! أتطمع فى الملك وتوشك أن تناله، ولا تستطيع أن تصبر على سماع حديث قصير عن جارية؟! أسمع لأقص عليك خبر هذه المسكينة: رأيتها فى أول يوم جاءت فيه إلى قصر التاج، وسررت بها، وقد ملأت قلبى، وندمت على ما فرط منى فى حقها، واستأنست هى بى وقصت على حديثها معك وأنها لا تود البقاء بعيدة عنك ولو كان مقامها بقصر الخليفة، فأشرت عليها أن تحتال بالمرض، ولما لى من النفوذ فى دار النساء وعند الخليفة تمكنت من إقناعهم بأنها مريضة وأنها فى حاجة إلى تبديل الهواء، وفى اليوم التالى انتقلت أنا إلى هذا القصر وبعثت من يأتى بها إلى ولبثت فى انتظار قدومها». وسكتت وأظهرت أنها غصت بريقها، فقال ركن الدين: «وبعد ذلك هل أتت؟». قالت: «لا، لم تأت». فصاح قائلاً: «إذن ماتت أو قتلت؟».
قالت: «أحسب كما تشاء. أنها ماتت وانتهى أمرها».
فنهض وقد ثارت شجونه وقال: «لا. أنها لم تمت أنك خبأتها فى مكان».
فضحكت وهى تنظر إليه باستخفاف وقالت: «بل ماتت يا ركن الدين، ويسوءنى أنها ماتت، وقد أخبرنا البحارة الذين حملوها إلى فى القارب أنها غاصت فى الماء رغم إرادتهم، أرجع يا ركن الدين إلى رشدك واستسلم لقضاء الله، ولا تعمل عمل النساء وتبكى على جارية، وبين يديك سلافة تعرض عليك نفسها، وهى فوق ذلك تعرض عليك منصباً لم يحلم به أحد من سلاطين مصر».
فرجع له موت شوكار، وكان فى ريب من سبب موتها، وإن كان يرجح أن سلافة سعت فيه برغم تنصلها منه وإظهارها الميل إليها. فأسف أسفاً شديداً وود أن يقتل سلافة، لكنه لم يتحقق أنها هى القاتلة. ومع ذلك أراد أن يعرف ما هو المنصب الذى تعرضه عليه فرأى من الحكمة أن يسمع حديثها إلى أخره فقال: «مسكينة شوكار واأسفاه عليها».
فقالت هى: «مسكينة، لقد شق والله على موتها، ولكن ما الحليلة؟ لابد لنا من التسليم للقضاء والقدر، والآن ألا تريد أن أخبرك بما انتدبتك له؟». قال: «وما هو؟». قالت: «لنجلس ولنتحادث». ومشت به إلى القاعة فقعدت، وقد سرها أنه أطاعها وأصغى لها، وبان البشر فى محياها، وقالت: «لعلك عالم بالاضطراب المستحوذ على الدولة بسبب محاصرة التتر، وهذا هولاكو عند برج العجمى. ولم يصل إلى هنا إلا لضعف رأى الداودار قائد الجند. وقد غضب مولانا أمير المؤمنين عليه وأراد إبداله، وحادثنى أستاذ الدار فيمن يليق بهذا المنصب ويرجى منه أن يرد شرف الجند العباسى ويدفع العدو عن أسوار بغداد فلم يخطر ببالى سواك — وإن كنت لا تبرح بالى فى أى وقت». ثم ابتسمت وقالت: «ليس هناك من يستطيع أن ينقذ الدولة من هذا الضيق سواك، وأنت إذا صرت قائد جند بغداد هان عليك أن تكون كما تشاء، وأنا أضمن لك سلطنة مصر أو غيرها كما تريد.. أنى أحبك وأتفانى فى الحصول عليك وأحب أن تقول لى أنك تحبنى، أو على الأقل لا تحب سواى». قالت ذلك بلحن الغرام.
فأطرق هنيهة واستجمع قواه، وأطرق يفكر فأصحاب المطامع طلاب منفعة قل كل شئ. أنه أحب شوكار فى بادئ الأمر شفقة عليها، ثم أحبها حقيقة بعد ما قاسته بسببه من الشقاء، وكان يود أن يجعلها سعيدة، أما الآن وقد ماتت فليس من الرجولة أن يموت فى أثرها، وأن كان موتها قد شق عليه كثيراً، ولم يطاوعه قلبه أن يحب التى كانت تبغضها وكانت سبب موتها. لكن ذلك لا يمنع أن ينظر فيما تعرضه عليه لعل فيه ما يبلغه الأمانى التى طالما تاقت نفسه إليها وحلم بها. وقد تأكد من قرائن كثيرة أن سلافة ذات نفوذ لدى الخليفة وأهله وحكومته، فخطر لها أنها قد تفيده فى مطامعه، فأراد مسايرتها مع حفظ مقامه فقال: «لا أرى فىّ الكفاءة لهذا المنصب يا سيدتى، ولا أشعر من نفسى بميل للتكلم فى المناصب الآن. سننظر فى ذلك فى فرصة أخرى».
فقالت: «هذا أمر لا يمكن تأجيله لأن الدولة فى حرب، وهذه قنابل المجانيق تصل إلى قصورنا صباح مساء، وأما كفاءتك فأنا أعلم الناس بها. لم يبق إلا أنه يشق عليك يا قاسى القلب أن تعترف بحبى لك! فكيف لو طلبت إليك أن تعترف بحبك لى؟ يا لله ما أقسى قلبك! اسمع، هذا أستاذ الدار قادم إلى لأنى أسمع صوته بالباب يخاطب الحاجب. أنه أت ليرى هل أقنعتك بقبول القيادة. فبالله لا تخجلنى بين يديه. أما اعترافك بحبك لى فأتركه إلا ما بعد نيلك هذا المنصب وغيره مما ستراه منى».
ثم دخل الخادم يستأذن لأستاذ الدار، فخفت إلى الباب لاستقباله وأخذت ترحب به لما تعلمه من نفوذه لدى الخليفة، ثم دخلت به إلى القاعة وأشارت إلى ركن الدين وقالت: «هذا هو الأمير ركن الدين البندقدارى الذى قهر الأفرنج وأرجعهم عن مصر. وقد ذكرت لك عنه ما يكفى. وأنا أباحثه الآن فيما انتدبتنى له».
فنظر أستاذ الدار إليه وهش له وقد أعجبه ما فى طلعته من أدلة الشجاعة والذكاء وقال: «يسرنا أن يكون فى الأمير ركن الدين ما يرضى مولانا أمير المؤمنين ويكشف عنا العار الذى سببه الداودار السابق بسوء تدبيره. هل تريد أن نذهب معاً إلى قصر التاج الساعة؟»
فأراد ركن الدين أن يعتذر من عجزه، فرأى استاذ الدار ذلك تواضعاً وقال: «لا.. لا نقبل منك عذرا، هلم معى إلى أمير المؤمنين». قال ذلك ومشى فالتفتت سلافة إلى ركن الدين لفتة هيام، وأمسكت يده بحجة الوداع وضغطت عليها وهى تقول: «سرنى النجاح فى هذه المهمة وعسى أن تفوز بإنقاذ الدولة من الخطر. وأما أنا فإذا مت بعد هذا فحسبنى أنك أطعتنى فى شئ عرضته عليك وإن لم يكن فيه غير لوعتى وآلامى. وإذا التقينا بعد الآن كان لنا شأن أخر».
ولكنه لم يرد أن حياها مودعاً وانصرف فى أثر أستاذ الدار، فركب كل منهما فرسه، ومشى عابد فى ركاب ركن الدين إلى قصر التاج.
سار ركن الدين وهو غارق فى تفكيره على أثر ما شاهده من سلافة وهو لا يفهم حقيقة حالها. على أنه فعل ما يفعله الرجل العاقل البصير. ولم يلم نفسه لسكوته عن الانتقام لشوكار، لأنه لم يحقق مصيرها وهل تعمدت سلافة أذاها، وإن كان ميالاً إلى اتهامها بناء على سابق عهده بها. لكنها شغلته بأمر ذلك المنصب، ثم جاء أستاذ الدار فلم يسعه إلا السير معه إلى الخليفة، وفى نفسه إن هذا كله لا يمنع من انتقامه لشوكار عند الوثوق من صحة القتل.
قطع مسافة الطريق وهو لا ينتبه لرفيقه الراكب إلى جانبه ولا إلى اشتغال القوم بأخبار التتر، ولا سمع وقع قنابل المجانيق على المنازل، فقد كان ذلك بعيداً عن طريقهم لا يسمعه إلا المنصت. ولكنه حالما وصل إلى قصر التاج وجد أهله فى هرج واضطراب لكثرة ما تساقط حوله من حجارة المجانيق أو النبال المرمية عن الآلات. ووجه التفاته إلى أستاذ الدار ليقلده فيما يفعله من الرسوم المعتادة، فلما رآه ترجل عن دابته ترجل هو أيضاً وسار فى أثره حتى أقبلا على باب مجلس العامة فلاقاهما الحاجب فأمره أستاذ الدار بالاستئذان له. وما عتم أن جاء الأذن فدخل والأمير ركن الدين يتبعه.
فألقى الأستاذ التحية على جارى العادة ثم قال: «يأذن لى مولاى أمير المؤمنين أن أقدم له الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، وكنت قد ذكرت اسمه لمولاى وأنه خير من يقوم بقيادة جند بغداد فى هذا الوقت العصيب، وقد اشتهر بمهارته فى الحرب وتدبير الجند كما شهدت به سلافة القهرمانة».
وكان الخليفة فى تلك الساعة مطرقاً يفكر، وليس فى مجلسه أحد، كأنه التمس الانفراد للتفكير. فلما سمع قول أستاذ الدار قال: «مرحباً بالأمير ركن الدين». وأشار إليه أن يقعد وقال له: «أصحيح ما يقوله أستاذ دارنا؟!».
قال: «ربما أثبت حسن ظنه ما مضى، أما الآن فلا أرانى كفواً لهذه المهمة لأنى من أصغر القواد».
فأعجب الخليفة بتواضعه فقال: «بل أنت قائد باسل، وكلام القهرمانة سلافة مصدق عندى، ونحن الآن فى حرب مع عدو غريب هو عدو كل مسلم، لأنه إذا فاز لا سمح الله فى حربه معنا لا تنجو مصر من أذاه، فأنت مطالب بقهره للدفاع عن الخلافة ببغداد وعن السلطنة بمصر، وأنت فاعل إن شاء الله. ولو عرفت فضلك من قبل لما سلمت قيادة جنودنا إلى الداودار الذى ألبسنا العار، فعسى أن تكون الوسيلة لمحو هذا العار عن جيش بغداد». قال ذلك وتنحنح وأظهر أنه لم يكمل حديثه بعد فظل ركن الدين ساكتاً.
ثم عاد الخليفة إلى الكلام قائلا: «أظننا أخطأنا لأننا لم نصغ إلى رأى وزيرنا مؤيد الدين من أول الأمر، فلو أطعناه لما اضطررنا إلى إنفاذه الآن لطلب الصلح وتأجيل الحرب، ولا ندرى إذا كان طلبنا يجاب. ولكن سامح الله أبا بكر أنه تعدى حقوق الأبناء وكدر قلبى على الوزير، فالآن انظر أيها الأمير أنى جاعل إمارة جند بغداد إليك فإذا دفعت العدو كافأناك بما أنت أهله».
فأجاب ركن الدين: «أن الدفاع عن دار السلام وأمير المؤمنين فرض على كل مسلم، وأنى باذل روحى فى هذا السبيل، وعسى أن يوفقنى الله إلى القيام بحق الخدمة».
•••
وبينما هم فى ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «أن الوزير مؤيد الدين بالباب». فأشرق وجه الخلفة وبان التطلع فى عينيه. وحالما دخل مؤيد الدين لم يصبر المستعصم عليه حتى يلقى التحية فصاح به: «قل ماذا جرى؟». قال: «كل خير يا سيدى. والتوفيق من عند الله».
قال: «أقعد وحدثنا بما جرى».
فقعد والعرق يتصبب من جبينه وأخذ فى الحديث، فقال: «لقيت هولاكو خاقان التتر، وبينت له جرم اعتدائه علينا بلا حق، وأننا لا نخافه، لكنا نحب حقن الدماء، فأجابنى جواباً غليظاً. وبعد جدال طويل لم يقبل الكف عن الحرب إلا إذا ذهب مولانا أمير المؤمنين بنفسه إلى معكسره، وتعهد بالمحافظة على مقام مولانا والإبقاء على خلافته كما فعل بمن حاربهم من الملوك، وقد قال لى أنه لا يهمه تغيير الملوك والخلفاء وإنما يهمه ألا يهان جنده. وهو يعد رفض مولانا أمير المؤمنين نجدته على الإسماعيلية إهانة لأنه كان يريد بذلك قطع دابر أولئك الأقوام لينجو العالم منهم. ثم حارب القوم وحده وغلبهم وبعث إلى مولاى يعاتبه فلم يرد عليه. وكنت قد أشرت على سيدى أن يبعث إليه هدية فمنعه بعض خاصته من ذلك. وبعث إلينا هولاكو أنه لم يعد يقبل هدية ولا يرضى إلا أن يذهب إليه الوزير أو الداودار فلم نفعل. فعد ذلك إهانة مكررة لا يقبل ترضية عليها إلا أن يركب مولانا أمير المؤمنين إليه ويكون هناك معززاً مكرماً مع رجال خاصته. وقد أخبرنى أننا إذا أطعناه فى ذلك فهو عازم على أن يزوج ابنته من مولانا الأمير أبى بكر».
وكان الوزير يتكلم والعرق يتصبب من جبينه خجلاً من حمل هذه الرسالة إلى الخليفة. والخليفة مطرق يسمع ولا يتكلم ولا يبدى حركة، وكذلك كان ركن الدين. فلما فرغ مؤيد الدين من كلامه رفع المستعصم رأسه وتنهد وقال: «أنه لعزيز على نفسى أن أذهب إلى هذا التترى، وأنى لأرجو أن نفوز عليه ونرده عن بلدنا بعد أن عهدنا بقيادة الجند إلى الأمير ركن الدين..». ولبث ينتظر جوابه.
فقال الوزير: «أن الأمير ركن الدين أهل لثقة أمير المؤمنين، وقد يأتى النصر على يده. لكننى أخاف أن يكون جندنا أضعف مما نظن ولا يبقى باب للصلح، وقد عرض علينا القوم صلحاً تحقن به الدماء ومع ذلك فالأمر لمولاى».
فقال الخليفة: «لكن هذه الطاغية يطلب أن أذهب أنا بنفسى إلى معسكره؟»
قال: «كلا يا مولاى قد رضى أن يركب مولاى باعوانه ورجال خاصته إلى فسطاط ننصبه لهم عند باب كلواذى مما يحاذى الشاطئ فيلاقيه هولاكو هناك وينقضى الأمر».
فهان عليه القبول بعد هذا التسهيل، لكنه التفت إلى أستاذ الدار واستشاره فى الأمر فأشار بالقبول لأنه رأى الخليفة مائلاً إلى السلم — ذلك كان دأبه إذا استشاره الخليفة فيجعل نصب عينيه أن يرضى إحساس مولاه. فإذا رآه مائلاً إلى رأى أشار عليه به، شأن المتملقين المتزلقين فى كل زمان ومكان. وهؤلاء إذا كان الأمير أو الخليفة عاقلاً نبذهم، وإذا كان ضعيفاً أصبحوا من المقربين إليه فيفسدون حكومته ويعينون على سقوط دولته.
فاستقر رأى الخليفة على إجابة هولاكو إلى طلبه، والتفت إلى ركن الدين وقال: «قد سمعت ما أشار به وزيرنا، وقد طالما خالفناه ولم نر فى مخالفته خيراً. أما الآن فالرأى أن نطيعه. وعلى كل حال فأننا نعد الأمير ركن الدين من كبار قوادنا وعسى أن نوفق إلى مكافأته». والتفت إلى الوزير وقال: «متى نصب الفسطاط ذهبنا إليه».
فأشار الوزير مطيعاً واستأذن فى الانصراف وانفض المجلس. وأومأ الوزير إلى ركن الدين أن يوافيه إلى منزله.
فخرج ركن الدين وهو غارق فى الهواجس، وقد ساءه تنازل الخليفة إلى هذا الحد. لكنه ركب إلى بيت مؤيد الدين — وعابد يرشده — ليستفهم عن الحقيقة، فلما وصل إليه رأى مؤيد الدين قد سبقه ورأى سحبان عنده وكان قد جاء للاستطلاع بعد علمه بخروج الوزير إلى هولاكو.
الفصل الثاني عشر
نهاية الدولة العباسية
دخل ركن الدين فوجد الوزير يذرع غرفته ذهاباً وإياباً وقد قطب حاجيبه وأخذ منه التأثر مأخذاً عظيماً، وسحبان قاعد ينتظر التفاته إليه. فلما دخل ركن الدين أومأ إليه مؤيد الدين أن يقعد فقعد. ثم وقف أمامه وقال: «أيها الأمير قد قضى الأمر».
فتصدى سحبان للكلام قائلاً: «وكيف قضى؟»
فالتفت إليه وقال: «قضى كما تريد أنت لا كما أريد أنا ولا كما يريد الأمير ركن الدين».
فقال ركن الدين: «فاصح يا مولاى».
قال: «لم أقدر أن أقنع هولاكو باستبقاء الخلافة العباسية. أنه مصمم على إبادتها».
فصاح ركن الدين: «إبادتها! تريد أن يقتل كل بنى العباس؟»
قال: «هكذا ظهر لى من مغزى كلامه وإن لم يصرح بذلك».
والتفت إلى سحبان فرآه يضحك فانتهره قائلاً: «أنت تضحك لأنك لا تنظر إلى العواقب، إذا محيت الدولة العباسية ذهب الإسلام من هذه الديار».
فقال سحبان: «ولماذا؟ نحن نعيد الخلافة الفاطمية».
فصاح فيه: «أنك رجل أوهام وأباطيل، إذا كنت ترجو إرجاع الدولة الفاطمية فأنك ترجو المحال وتطلب إقامة الأموات». والتفت إلى ركن الدين فرآه ينظر إليه ويراعى حركاته ويوافق على كل حركة منها بملامحه وعينيه. فلما التفت إليه نظر هذا إلى سحبان وقال: «قد أصاب الوزير بقوله، أنه رجل عاقل مدبر، وكم سمعتك تذكر أمر الفاطميين، هل سمعت منى موافقة على ذلك؟».
قال: «كنت إذا ذكرتهم سكت».
قال: «وسكوتى يكفى؟ وإذا كان هذا الطاغية ينوى حقيقة إبادة العباسيين كافة فأنه يحدث كسراً فى الإسلام يعسر جبره». ووجه كلامه إلى الوزير وقال: «لكنك قلت للخليفة أن هولاكو ينوى استبقاءه».
قال: «هذا ما قاله لى هولاكو، لكننى لا أصدقه وقد فهمت من خلال كلامه وقرأت فى عينيه ما ذكرته الآن، ويؤيد ذلك أنه أعطانى رايات عليها علامته، وأوصانى أن أنصبها على أبواب المنازل التى أريد حمايتها من الأذى، أو على الطرق المؤدية إلى منازل الشيعة. فإذا رآها رجاله عرفوها وكفوا عن الأذى، ألا يدل هذا على عزمه الذى ذكرته لكم؟ وعلى كل حال لا بأس من الاحتياط للمخاطر». قال ذلك وتحول إلى ناحية من الغرفة أخرج منها راية صفراء عليها صورة خنجر أحمر ودفعها إلى ركن الدين وقال: «خذ هذه لعلك تحتاج إليها». ودفع رايات أخرى إلى سحبان وقال له: «خذ هذه الرايات أغرسها فى مداخل أحياء قومنا فى الكرخ والكاظمية، افعل ذلك بلباقة لئلا يشعر بك أحد».
فتناول ركن الدين رايته وخبأها تحت ثيابه، وقد شق عليه الالتجاء إلى هذه الخرقة للنجاة من السيف وهو قائد باسل تعود دفع الأذى عن نفسه وقومه بالسيف البتار. لكنه كان داهية يلبس لكل حال لبوسها.
أما سحبان فإنه مكث بعد ما سمعه من الانتهار الصريح صامتاً وقد استولى اليأس عليه، لكنه ما لبث أن رضى بما وقع ورأى ذلك فوزاً عظيماً للشيعة، ونظر إلى ركن الدين وسأله عما فعله عند سلافة فاختصر هذا الجواب لأنه شعر أنه بين يدى أمر مهم ينبغى له أن يسرع فى تدبره واستأذن فى الانصراف.
خرج ركن الدين مهموماً وفكره تائه، فتقدم عابد إليه بالجواد فركبه وهو لا يقصد مكاناً معيناً. ثم خطر له أن يتجه إلى منزل سلافة لأنه ما زال يرجو أن تكون شوكار حية، وأذن لا يليق به الخروج من بغداد قبل أن ينتقم لها. قضى مسافة الطريق وهو يردد ما سمعه من مؤيد الدين عن عزم هولاكو على إبادة العباسيين. ففكر فى الأمر مستوحياً نفع نفسه، كما يفعل كل إنسان فى كل زمان. وليس ما يدور على أقلام الكتاب من أسماء الفضائل الراقية، كالأريحية والنجدة والاتحاد والشجاعة والإحسان وغيرها، إلا أسماء مختلفة ترجع إلى معنى واحد وهو «المنفعة الذاتية» فمن أراد أن يستنهض همم جماعة لعمل فلن يلقى مجيباً إن لم يكن فى ذلك العمل نفع عائد على كل منهم.
فكر ركن الدين فى مطامعه الراخسة فى قلبه، ومرجعها طلب السلطة فى مصر، فرأى لذهاب الخلافة العباسية علاقة كبيرة بذلك فأعمل فكرته للاستفادة من تلك الأحوال، وعاده الخاطر الذى كان قد مر فى ذهنه بالأمس وهو أن يجعل مصر قصبة الخلافة العباسية بحيث لا يستغنى عنها سلطان ولا أمير. وارتاحت نفسه إلى هذا الأمر، وتذكر الإمام أحمد وما سمعا عنه من اللياقة لهذا المنصب وأنه محبوس قرب باب كلواذى. فرأى أن يقابله ويسعى فى إنقاذه فإذا فتك هولاكو بسائر بنى العباس احتفظ هو بهذا الإمام. ومتى صار هو سلطاناً على مصر جعله خليفة فيها. فلما تصور ذلك رقص قلبه من الفرح.
•••
قطع ركن الدين الطريق إلى باق كلواذى وهو غرق فى هذه الهواجس، ولم ينتبه إلا والناس فى ازدحام وهرج عند ذلك الباب وقد أخذوا فى نصب الفسطاط للخليفة، فعاد إلى تذكر الخليفة وما علمه من مصيره، وتذكر الإمام أحمد لعلمه أنه مسجون قرب باب كلواذى فنادى عابداً فدنا منه فقال له: «يقولون أن الأمير أحمد عم الخليفة مسجون فى قصر بهذه الجهة فهل تعرف مكانه؟».
قال: «أظنه هذا القصر». وأشار باصبعه إلى قصر وراء قصر سلافة.
قال: «هل تعرف أحداً من خدمه أو حرسه؟».
قال: «كلا يا مولاى لأنه نقل إلى هنا من عهد قريب، وإذا شئت أن أبحث فى ذلك فعلت، هل تريد الذهاب إليه الآن؟».
قال: «أريد الآن أن أعود إلى سلافة وأفرغ جهدى فى استطلاع خبر شوكار لأنى على وشك سفر.. كن على استعداد يا عابد، هل تسافر معى إلى مصر؟».
فقال شاكراً: «ذلك حظ كبير لى يا مولاى، ولكن شوكار، هل تذهب بدونها؟».
فأثر سؤاله فى نفس ركن الدين تأثيراً شديداً، وكان أولى به أن يسأل نفسه هذا السؤال، فقال وهو يستمهل الفرس بالمسير: «آه يا عابد أن سؤالك هذا دلنى على غيرتك وصدق خدمتك.. صدقت كيف نأتى بغداد لأجل شوكار ونرجع بخفى حنين؟ هذا لا يكون.. أنا سائر الآن إلى سلافة اللعينة ولابد لى من أن أقف على مصير شوكار، وعند ذلك أفعل ما يرضى المروءة والوفاء».
وكان ركن الدين يسير على جواده الهوينى على ضفة النهر وعابد يماشيه فوصل الفرس إلى عشب استطيبة فوقف ليتناول منه شيئاً. فقال عابد: «انظر يا مولاى، لا يليق بى أن أحذرك أو ألفت نظرك لكننى استأذنك فى هذا الأمر، بلغنى عن سلافة هذه أنها من شر النساء وأدهاهن حتى أن الخليفة لا يرد لها طلباً، وأنت ستكون وحيداً فى قصرها فاحذر أن تغدر بك أو تستعين عليك ببعض الأشقياء خلسة».
فأثنى ركن الدين على غيرته وقال: «لا تخف على يا عابد، لكننى أوصيك بالانتظار فى الحديقة قريباً من القصر، فإذا لحظت مكيدة أو شيئاً فنبهنى بالنداء على الملاحين فى هذا النهر، أى أجعل نفسك كأنك تنادى ملاحاً أوشك أن يغرق فتحذره من الغرق، وأنا حالماً أسمع صوتك أفهم المراد، وفى كل حال لا تفارق الجواد وليكن مهيأ للركوب».
فأجابه مطيعاً ودخلا الحديقة، وأسرع الحارس فى إبلاغ خبره إلى سلافة فهرولت لاستقباله وقد بدلت بثوبها ثوباً أجمل منه، وتلقته بالترحاب ودخلت به إلى القاعة وهى تقول له: «أرجو أن تكون قد نجحت فى مهمتك». قال: «وأى مهمة؟». قالت: «ألم تذهب فى هذا الصباح مع أستاذ الدار على أن تلقى أمير المؤمنين ليوليك قيادة الجند؟ فهل تم الاتفاق على ذلك؟» قال: «لم يتم شئ من هذا القبيل، أرى أنه لم يبلغك الاتفاق الذى أبرم بين هولاكو والخليفة». قالت: «لا. ماذا جرى؟».
قال: «بعث الخليفة وزيره مؤيد الدين إلى هولاكو للبحث فى شأن وقف القتال ولو مؤقتاً، فعاد الوزير ونحن عند الخليفة وأبلغه أنهم اتفقوا مع هولاكو على أن يخرج الخليفة بنفسه إليه مسترضياً إلى باب كلواذى. وإذا أطلت من هذه النافذة رأيت الفراشين ينصبون الفسطاط الذى سيأتى المستعصم لملاقاة هولاكو فيه، وهذا الاتفاق يمنع حدوث حرب، ولم تبق حاجة إلى قائد ريثما نرى ما يكون».
فلما سمعت كلامه نهضت إلى النافذة وتطلعت، فرأت الفسطاط يوشك أن يتم نصبه فصفقت ولطمت خدها وقالت: «ويلاه! وإذلاه! أمير المؤمنين يخرج من قصره لملاقاة عدوه ليسترضيه؟. قل على الخلافة وأصحابها السلام..». قالت ذلك وبان التفكير فى عينيها وركن الدين صابر فإذا هى تقول له: «لم يبق لنا وطر فى هذا البلد ولا خير فى المقام به هلم بنا. وهذه أموالى وجواهرى وكل ما أملك بين يديك. هلم بنا». فقال: «إلى أين؟». قالت: «إلى مصر». قال: «نذهب إلى مصر وحدنا؟». قالت: «خذ من شئت من الاتباع والأعوان».
فنظر إليها باهتمام وقال: «وشوكار؟». قالت: «ألم أقل لك عن مصيرها؟». قال: «لا أفهم ما تقولين. جئت من مصر إلى بغداد للبحث عن شوكار فلا أرجع بدونها».
فهزت رأسها هز الاستغراب وابتسمت وقالت بلطف: «ماذا أعمل يا سيدى؟. من أين آتى بشوكار وقت قلت لك أنها غرفت وأصبحت طعاماً للأسماك». فأجابها بهدوء: «لا. أنها لم تمت. ولابد أنها موجودة فى مكان. ابحثنى عنها لعلك تجدينها فأنى لا أرجع بدونها».
فزاد استغرابها وقالت: «ماذا تعنى؟ أظنك تمزح».
قال: «كلا. أنى أقول الجد وقلبى يحدثنى بأن شوكار لم تمت».
فأمسكت بيده وهى تقول: «إذا كنت لم تصدق فتعال لأريك برهاناً يقنعك وتتأكد صدق قولى».
فمشى معها فمرت فى دهليز إلى غرفة تشرف على دجلة، وتقدمت إلى خزانة فى الحائط فتحتها واستخرجت صرة أخرجت منها خصلة كبيرة من الشعر وقدمتها إليه، فحالما وقع نظره عليها عرف أنها شعر شوكار، فأقشعر بدنه وارتعدت فرائصه وصاح: «ما هذا؟».
قالت: «أليس هذا شعر المسكينة المأسوف على شبابها شوكار؟».
قال: «نعم، ومن أين أتاك؟». قالت: «جاءنى به الملاحون الذين أرسلتهم إلى قصر التاج ليأتونى بها إلى هنا لأجل الاستشفاء، فجاءونى بهذا الشعر وقالوا أن السفينة انقلبت بهم فى هذا المكان (وأشارت إلى مكان فى الماء تحت القصر) وأنهم حاولوا إخراجها فأمسكوا بثيابها وشعرها فغرفت وقطع شعرها وظل فى أيديهم».
فأصبح صدر ركن الدين يعلو ويهبط، وهو يغلى كالمرجل من الغيظ، وأطرق يفكر فيما سمعه وأوشك أن يعتقد اشتراك سلافة فى قتل شوكار.
وظنت هذه أن يأسه من لقاء شوكار هون عليه الرضا بها فوضعت يدها على كتفه تلطفاً وابتسمت وهى تقول: «أظنك صدقتنى الآن، آه يا ركن الدين لو تعلم منزلتك فى الحب عندى. لقد بذلت كل ما فى وسعى لكى أجعلك قائداً عند الخليفة فتكون أعظم قائد فى الإسلام. ولا يغضبك أن ذلك لم يتم فانى قد هيأت سلطنة مصر ومهدت لك سبيلها ولم يبق إلا أن تصل إلى القاهرة فتنالها».
الفصل الثالث عشر
موت شجرة الدر وعز الدين
وقع لفظ السلطنة على قلب ركن الدين أجمل وقع لأنه أقصى ما يتمناه فخف غيظه ومال إلى استطلاع حقيقة ما تقوله سلافة، وظل ساكتاً وهى تراه بنظرها، فلما رأت سكوته أمسكت بيده ومشت إلى شرفة فى تلك الغرفة تطل على دجلة وأومأت إليه أن يقعد على وسادة هناك، وقعدت هى بجانبه والماء يجرى بين أيديهما، وركن الدين لا يرى شيئاً لعظم ما جاش فى خاطره، فقعد قعود المتحفز وأدركت هى أنه يطلب تفصيل ما ذكرته.
فقالت: «أظنك تحب أن تطلع على تفاصيل خبر سلطنة مصر وما فعلته فى سبيل أعدادها لركن الدين؟. آه لو تشعر يا قاسى القلب بعظم حبى، ولكنك ستشعر متى علمت بما ارتكبته من الأمور العظام فى سبيل مرضاتك».
وتنحنحت ووضعت ضفيرة الشعر إلى جانبها استعداداً للحديث ثم قالت: «فارقت القاهرة وأنت تعتقد أن الملك الأشرف سلطان عليها وعز الدين أيبك وصى عليه».
فهز رأسه إن «نعم».
فضحكت وقالت: «ذهب هؤلاء جميعاً وذهبت شجرة الدر معهم».
قال: «إلى أين؟». قالت: «إلى الموت». فأجفل وقال: «كيف ماتوا، أنك تكذبين». قالت: «سامحك الله على هذه التهمة، أنا لا أكذب، إلا إذا كان ذلك فى سبيل مرضاتك. نعم قد ارتكبت فى هذا السبيل أفظع من الكذب، ارتكبت القتل والخيانة فى سبيل ركن الدين، وهو ما زال يضن على بكلمة أو لفتة». قالت ذلك وغصت برثقها وتلألأ الدمع فى عينيها، فتأثر ركن الدين من منظرها لكنه تجلد ليسمع تتمه الحديث.
فقالت: «أنك تركت عز الدين وصياً على الملك الأشرف، وقد رضى بذلك، وشجرة الدر ساكتة قانعة بالسلامة، ولو بقى الحال على ذلك لم يبق لركن الدين سبيل إلى نيل السلطة. وهب أنه نالها فهو لا يكون سلطاناً بل وصياً والسلطان من بنى أيوب، وأنا أريد أن يكون ركن الدين سلطاناً كما وعدته، أتدرى ماذا فعلت؟».
فتطاول لسماع الحديث فقالت: «أظنك تعلم منزلتى عند عز الدين ومقدار انصياعه إلى لأنى كنت السبب فى نيله ذلك المنصب بعد خلع شجرة الدر. أنا خلعت شجرة الدر ونصبت عز الدين، وأنا جعلت القوم يختارون سلطاناً أيوبياً ففعلوا وصار عز الدين وصياً. فعلى ذلك تمهيداً لك يا قاسى القلب، وقد ذكرت لك عملى هذا ونحن فى القاهرة فلم تعبأ بقولى، وأوشكت أن أنقلب عليك وأتنقم منك، لكن قلبى لم يطاوعنى فظلت على حسن ظنى بك، والقيام على خدمتك، فأغريت عز الدين بالملك الأشرف فألقاه فى سجن مظلم سيموت فيه قريباً أن لم يكن قد مات. وقبض عز الدين على السلطنة بيده ولم ينازعه أحد فى ذلك، بقى على أن أتخلص من عز الدين ليخلو الجو لركن الدين ويكون هو السلطان، وأنا أعلم أن لعز الدين أعواناً أشداء ولا يسهل قتله، فأغربت به شجرة الدر، وكان قد تزوج بها فدسست بواسطة بعض الجوارى من أبلغ شجرة الدر أن عز الدين لا يحبها وأنه عازم على التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وشغلت عز الدين عن زيارتها مدة فتحققت تلك الإشاعة، وأنت تعلم غلظ قلب هذه المرأة، فاشتدت غيرتها حتى أغرت بعض الخدم وأوصتهم إذا دخل عز الدين الحمام أن يقتلوه خنقاً فقتلوه وقالوا أنه أغمى عليه فى الحمام فأخرجوه وشاع أنه مات مصروعاً».
فصاح ركن الدين: «مات عز الدين؟». قالت: «مات وماتت أيضاً شجرة الدر».
فقال: «وشجرة الدر أيضاً ماتت؟ وكيف ذلك؟». قال ذلك وقد غلبته الدهشة.
قالت: «لما توفى عز الدين بايع القوم ابنه نور الدين على، وكنت قد ربيته، وهو يصغى لقولى، فلما تولى أنبأته أن شجرة الدر هى التى قتلت أباه، وحرضته على الانتقام له، فأوعز إلى نساء بيته فأماتوها ضرباً بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها فى خندق القلعة فأكلت الكلاب نصفها ودفن النصف الباقى فى مقابر السيدة نفسية».
فبغت ركن الدين لذلك الحديث وقال: «أكنت أنت السبب فى ذلك كله؟»
قالت: «نعم. أنا السبب فى ذلك، وقد ارتكبت هذه الأمور فى سبيل مرضاتك، فأنت إذا نزلت مصر الآن لا تجد من يقاومك، وهذا نور الدين على فى قبضة يدى، إذا شئت قتلته أيضاً، فتكون أنت سلطان مصر».
فأدهشته تلك الفظاعة والقسوة من امرأة، وخيل له أنه قبض على السلطة بيده، فاختلج قلبه فى صدره، وأطرق لحظة يفكر، فوقع نظره على خصلة الشعر بجانب سلافة، فعادت صورة شوكار إلى ذهنه، وتذكر أن شجرة الدر كانت السبب فى خطبتها، وأن هذ المرأة الخائنة اعترفت بأنها كانت سبب قتل كثيرين، ورجح لديه أنها قتلت شوكار أيضاً. وما يمنعها أن تقتله إذا خامرها شك فى صداقته ويئست منه؟ فتحير فى أمره معها. فلما رأته ساكتاً قالت: «أرأيت ماذا ارتكبت فى سبيل حبك يا قاسى القلب؟ وأنت تحاسبنى الآن على جارية تستطيع أن تبتاع أحسن منها بمائة دنيار؟ دع عنك الجفاء، ولننس الماضى، ونذهب إلى مصر لتتم سعادتك، وهذه أموالى بين يديك».
فمر بخاطره أنه إذا أطاعها صار سلطاناً ونال البغية التى طالما شغلت باله وتمناها قلبه، لكنه ما لبث أن أنكر ذلك على نفسه وتصور شوكار وما أصابها بسببه، فنهض على رغم إرادته فنهضت سلافة معه وهى تحسبه اقتنع بأقوالها، فمد يده إلى خصلة الشعر وتناولها، وجعل يتفرس فيها فقالت سلافة وهى تداعبه». أظنك تأسف على صاحبة هذا الشعر، ولكن ما لك وله وهذا شعر امرأة حية تخاطبك وتتمنى رضاك؟». وأشارت إلى خصلة من شعرها مرسلة على كتفها.
فقال: «وشوكار؟ هل ماتت؟». فقهقهت وقالت: «ألم أقل لك أنها ماتت؟» قال: «قلت ذلك نقلاً عن الملاحين وقد يكذبون».
قالت: «بل هم صادقون، ولماذا يكذبون؟» قال: «قد يكون لهم غرض».
فنظرت إليه نظرة هيام وقد أحمرت عيناها من فرط ما جاش فى خاطرها من أمره، ثم قالت: «لقد احرجتنى يا ركن الدين لأؤكد لك موت هذه الجارية. أنها ماتت، وأنا دبرت قتلها، وقد فعلت ذلك أيضاً فى سبيل الحصول عليك لئلا يكون وجودها حائلاً بينى وبينك، وهى تنمه الفظائع التى ارتكبتها لأجلك».
فلما سمع إقرارها لم يعد يستطيع التجلد والإغضاء، ونظر إلى ما حوله فلم يجد من يخشى بأسه، ولاحت منه التفاته فرأى عابداً فى الحديقة يشير إليه بيده أن يقتلها، فقال فى نفسه: «لأمر ما يلح على هذا الغلام بقتلها». فاستل خنجره وطعنها فى قلبها طعنتين، فسقطت على الأرض لا تبدى حراكاً وأغمد خنجره وأخذ صرة الشعر بيده وتحول إلى الباب، ولم يجد فى البيت أحداً يعترضه.
•••
ما كاد ركن الدين يجتاز الباب حتى استقبله عابد والفرس معه، وأومأ إليه أن يركب وهو يقول: «لا شلت يمنيك! قد انتقمت لسيدتى شوكار، اركب يا سيدى وهلم بنا».
فركب وخرج من الحديقة. وإذا هى خالية ليس فيها أحد من الناس، فلما صار خارجها قال لعابد: «لماذا تعجلت قتلها؟»
قال: «لأنى تيقنت من بعض الخدم أنها هى التى تعمدت قتل سيدتى شوكار، فأغريت من كان هنا من الخدم بالذهاب إلى باب كلواذى لمشاهدة الخليفة قادماً إلى الفسطاط الذى نصبوه له، فمضوا وخفت أن تقنعك تلك الخبيثة بأنها بريئة فتؤجل قتلها».
فقال: «بورك فيك من صادق أمين. لقد اعترفت بأنها قتلتها؟ واعترفت بفظاعتها ولكن كيف عرفت أنت أنها تعمدت قتلها؟».
قال: «اغتنمت انفرادى ببعض خدمها وتحدثت فى شئون عديدة وقصصت عليهم فظائع زعمت أنى ارتكبتها بإيعاز مولاى بين قتل ونهب وإغراق. وكنت أقول هذا مفتخراً فتحركت غيره أحدهم وقص على كيف كلفته سلافة مع رفيق له أن يأتيا بشوكار من قصر التاج إلى هذا القصر، وأنها أوعزت إليه سراً أن يجعل المسير ليلاً، وأن يغتنم فرصة يحتال فيها لإلقاء الفتاة فى دجلة، وقال أنه لم يستطع ذلك إلا قبيل وصوله إلى قصرها، لأن قارباً أخر كان فى أكثر الطريق قريباً من قاربهم لا يعرفون من فيه. فقص شعرها بخفة ورماها فى دجلة، وذهب بالشعر إلى سيدته شهادة على إمضاء أمرها. فسألته: هل رآها غرقت؟ فقال أنه لم يقدر أن يراها لشدة الظلام، لكنه لا يرتاب فى أنها ماتت».
فاطمأن ركن الدين عند سماع هذا الحديث لأنه رأى سلافة تستحق القتل وقال فى نفسه: «ألا يمكن أن تكون شوكار قد نجت بقضاء الله». ولم يذكر ذلك أمام عابد، لكنه استحثه إلى سجن الإمام أحمد ابن الظاهر.
فساق فرسه، وقد أوشكت الشمس أن تغيب، وإذا بجند هولاكو يركضون من جهة برج العجمى نحو باب كلواذى والناس يفرون من بين أيديهم، فتحول عابد بالفرس إلى الطريق المؤدى إلى سجن الأمير أحمد، وركن الدين يفكر فى سلافة من جهة وفى مصير الخليفة وأهله من جهة أخرى، فأراد أن يلقى نظرة إلى بغداد فى نور الشفق عند الغروب، فصعد إلى مرتفع يطل على باب كلواذى وما يجاوره إلى برج العجمى، فرأى التتر زاحفين نحو المدينة، وتحولت شرذمة منهم نحو قصر سلافة وتسلقوا أسواره، فالتفت عابد إلى ركن الدين وقال، هل ترى يا سيدى؟» وأشار بيده إلى القصر.
فقال: «أرى القوم هاجمين يريدون النهب، ولا أظنهم يجدون من يردهم.. سيجدون سلافة مضرجة بدمها، وأظنهم يشتركون مع خدمها فى النهب والقتل، تلك آخرة القوم الظالمين. كم كنت أحب أن أطلع على ما يجرى فى بغداد غداً، هيا بنا إلى الإمام أحمد».
وقبل الوصول إلى قصره رأوا الحرس وقوفاً بالباب، فتقدم عابد وسأل عن الإمام أحمد هل هو هناك فأجابه الحارس: «نعم لكنه فى شغل شاغل».
قال: «بماذا؟». قال: «جاءه زائر منذ حين». قال: «استأذن لنا فى الدخول عليه». قال: «لا أظنه يأذن لأحد لأن أمير المؤمنين يمنع الناس عن مخاطبته».
قال: «نحن غرباء، وقد أمسى علينا المساء قبل دخول المدينة ونطلب المبيت إلى الغد».
فقال: «لابد من الاستئذان، فماذا أقول له؟».
قال: «قل له أننا من مصر نطلب الراحة الليلة».
فذهب الحاجب وطال غيابه، وركن الدين لا يزال على جواده، وعابد واقف، وبعد برهة سمعاً وقع أقدام الحاجب ثم وصل ومعه رجل أخر تقدم وتفرس فى ركن الدين وصاح: «الأمير ركن الدين تفضل يا مولاى».
فعرف ركن الدين من صوته أنه سحبان فترجل ودخل معه إلى دهليز نوره ضعيف لا يسمع فيه صوت، وقد استولى الهدوء على المكان كأنه مقر الأموات، فتهيب ركن الدين وتوقع أن يبادئه سحبان بالكلام، فلما رآه ساكتاً قال له: «أنت هنا من زمن بعيد؟». قال: «منذ ساعة». قال: «وهل الإمام أحمد هنا؟» قال: «نعم». قال: «أين هو؟»
قال: «يلبس ثيابه للخروج مع الخليفة وأهله إلى الفسطاط لمقابلة هولاكو كما تم الاتفاق فى هذا الصباح».
قال: «ومن أشار عليه بذلك؟».
قال: «جاءه الأمر من الخليفة كما جاء لجميع الأمراء العباسيين».
قال: «وهل وافقت على أن يذهب معهم؟»
قال: «لماذا أمنعه؟ دعه يذهب».
وبان الغدر فى عينيه، فتذكر ركن الدين مطامع سحبان فى أرجاع الخلافة إلى الفاطميين، وأنه ينوى قطع دابر العباسيين من الأرض حتى إذا لم يجد المسلمون خليفة يبايعونه هان عليهم مبايعة الخلفاء الفاطميين فتعود دولتهم. ولكن هذا يخالف مطامع ركن الدين، فرأى من الحزم أن يحول دون خروج ذلك الأمير من قصره فى تلك الليلة، فاستوقف سحبان وقال له: «لا ينبغى لنا يا سحبان أن نسوق هذا الأمير إلى القتل».
قال: «أنهم لا يدعوه للقتل، ولكن لمقابلة هولاكو مع سائر بنى العباس للكف عن الحرب».
فضحك ركن الدين وأمسك بكتف سحبان وهزه وقال: «تقول ذلك لى، وقد سمعنا خبر الاتفاق معاً؟ دع الرجل حياً».
قال: «وهل يهمك بقاؤه؟»
قال: «هب أن بقاءه لا يهمنى، فلا ينبغى أن يهمك أنت قتله، دعه أين هو الآن».
قال وقد تعلثم وارتبك: «أظنه خرج».
قال: «لا يمكن أن يكون قد خرج، ينبغى أن تحضره تواً الساعة». قال ذلك وبان الغضب فى عينيه».
فخاف سحبان غضبه وعمد إلى الملاينة وقال: «أراك قد غضبت يا ركن الدين ولا موجب للغضب، إذا كان الإمام أحمد هنا فهو يسر بلقياك». وأظهر الاهتمام ومشى إلى باب غرفة الأمير وقرعه وركن الدين واقف فسمع الإمام يقول: «أوشكت أن أنتهى من وضع ردائى».
فقال سحبان «هنا أحد الضيوف يرغب فى لقاء مولاى».
الفصل الرابع عشر
الإمـام أحمد بن الظاهر
فتح الباب وأطل الإمام أحمد وقد لبس بعض ثياب الخروج، ولم يبق إلا الجبة السوداء شعار العباسيين وقد تناولها ليلبسها، فتقدم سحبان وساعده فى لبسها وهو يقول: «أقدم لمولاى الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى الذى ذكرت لك أسمه الساعة. انه جاء من مصر، وكان الخليفة قد اراد ان يعهد اليه فى قيادة الجند، ثم جرى الاتفاق والصلح بالشكل الذى ذكرته الآن، وقد جاء ضيفاً على مولاى».
فابتسم الإمام أحمد وقال: «مرحباً بالأمير الباسل، تنزل علينا على الرحب والسعة». وأشار إليه أن يدخل ثم قال: «تمكث هنا ريثما أعود من مقابلة هولاكو بعد قليل».
فلم يتمالك ركن الدين أن قال: «لا ينبغى لمولاى أن يخرج من هذا القصر الليلة».
قال: «ولكن أمير المؤمنين بعث إلى أن أذهب قياماً بالاتفاق الذى عقد بينه وبين هولاكو، وأخاف أن يترتب على تخلفى ضرر، وقد استشرت سحبان فأشار على بالذهاب».
قال: «أظنه غير رأيه الآن، اسأله».
قالتفت الإمام أحمد إلى سحبان فآراه أسرع إلى التنصل من تلك المشورة وقال: «غيرَّت رأيى لأن الأمير ركن الدين نبهنى إلى أمر فاتنى والأفضل أن يبقى مولانا الليلة هنا، وسنرى ما يكون فى الغد».
قال: «وبماذا أجيب الرسول؟»
قال ركن الدين: «قل أنك ستنظر فى الأمر».
وشق على سحبان حبوط مسعاه، فتكم ما فى نفسه وأظهر أنه مضطر للذهاب فى تلك الساعة، فإذن له وانصرف. فارتاب ركن الدين فى نية سحبان، وأعمل فكرته فيما قد يكون غرضه، وعزم أن يصطنع الدهاء والحيلة للوصول إلى هدفه الذى جعله نصب عينيه منذ نشأت مطامعه السياسية، نعنى الوصول إلى السلطنة، وهى تستلزم وجود خليفة عباسى يثبته، وقد كاد أن يوقن أنه ظافر بها بعد ما سمعه من حديث سلافة، فحالما خرج سحبان نظر ركن الدين إلى الإمام أحمد وقال: «هل يعرف مولاى هذا الشيعى من عهد بعيد؟» قال: «نعم». قال: «وهل هو على ثقة من إخلاصه؟» قال: «لم يظهر لى منه ما يوجب شكا».
قال: «وهل تظن الشيعة يخلصون للخلفاء العباسيين؟».
فأطرق الإمام لحظة وقال: «لا أدرى». قال: «يأذن لى مولاى أن أصارحه القول، ونحن الآن على باب مستقبل جديد وانقلاب عظيم».
فاستغرب الإمام أحمد هذا التعبير وقال: «وأى انقلاب تعنى. كنا نخاف الانقلاب قبل عقد الصلح بين الخليفة وهولاكو، وأما الآن فلا تلبث الأمور أن تعود إلى مجاريها».
فابتسم ركن الدين ابتسامة تهكم واستخفاف وقال: «أن الذى بلغ مولاى ليس سوى خداع، وإذا كان المبلغ سحبان نفسه فإنه يكون قد تعمد الكذب، لأنه يعلم أن حقيقة هذا الاتفاق تخالف ظاهره. أن الحقيقة فى ذلك تقشعر منه الأبدان وتشمئز منها النفوس، أعذو بالله منها وأدعو الله أن ينجى الإمام أحمد من عواقبها».
فوقع هذا الكلام فى نفس الأمير وقعاً شديداً، وتهيب مما سمعه، وعظم أمر ركن الدين فى نفسه واصبح شديد الشوق إلى معرفة سر الأمر فقال: «أنى ارى الجد فى كل كلمة أسمعها وكل حركة أراها. قل أيها الأمير. أفصح. أنى شديد الثقة بك».
قال: «لو أن مولاى أطاع سحبان وذهب فى الأمر الذى دعى إليه لأصبحت بغداد وليس فيها واحد من نسل العباس كرم الله وجهه». قال ذلك وأبرقت عيناه واشتد لمعانهما لاضطراب النور الواقع عليهما من المصباح فخيل للأمير أحمد أنه يخاطب رسولاً هبط عليه من السماء. وقال: «كيف ذلك؟». قال: «لأن ظاهر الاتفاق بين المستعصم بالله وهولاكو أن يجتمع هذا بالخليفة وأهله للتصافى والصلح، وأما حقيقته فهى أن يغتنم هذا التترى الفرصة ويفتك ببنى العباس جميعاً».
فلما سمع الإمام أحمد ذلك ارتعدت فرائصه وقال: «وهل كان سحبان يعرف ذلك؟». قال: «نعم». فقال: «قبح من خائن» وبارك الله فيك!. أنى لا أنس لك هذه اليد ما حييت. ولكنى أجزع لما سحل بأهلى وقومى، هل أنت على ثقة مما تقول؟».
قال: «نعم. وفى الغد يظهر الحق، وعسى أن أكون مخطئاً فيكون ذلك الصلح صحيحاً وترجع الأحوال سيرتها الأولى ولا يكون من بأس على مولاى الإمام، وإذا لحقته من ذلك تبعه، فأنا أتحمل عنه كل تبعه وأفديه بروحى».
فازداد الأمير إعجاباً بركن الدين، وهان عليه أن يفعل كل ما يأمره به لأن أنقذه من الموت، فأخذ يثنى عليه ولا يعرف كيف يعبر عن شكره. فقال ركن الدين: «لم أقل ما عندى بعد». قال: «قل أيها الصديق».
قال: «إذا خلت بغداد من بنى العباس غدا تنحصر الإمامة فيكم، فلا تظهر للناس، واستتر كما استتر أئمتكم قبل ظهور دعوتكم على يد العباس والمنصور فى بغداد حتى يأذن الله بظهورها ثانية فى غير بغداد. ستظهر فى مصر، والقاهرة التى كانت عاصمة الفاطميين الذين يطمع سحبان هذا فى إرجاع ملكهم تصير عاصمة ثانية لبنى العباس».
فازداد الأمير دهشة من هذه المنن المتوالية، ورأى أنه قد آن له أن يكافئه على خدماته بمثلها فقال: «إذ شاء الله سبحانه وتعالى أن يحدث ما تقوله وتصير الخلافة إلى فالسلطنة فى مصر لا ينالها سوى الأمير ركن الدين بيبرس».
فوقع القول عنده موقع الرضا، وقال: «أن السلطنة يا سيدى ينالها الأقوى، وأما الخلافة فإنها حق موروث لا توهب ولا تباع».
قال: «وهل فى مصر من هو أهل للسلطنة سواك؟» وأطرق يفكر فيما هو فيه من غرائب الأمور، وتصور المستعصم وسائر أهله فشق عليه ذلك ودمعت عيناه وقال: «يشق على أيها الأمير أن يصيب بغداد ما تقوله».
فقال ركن الدين: «أظن مولاى لا يجهل سبب ذلك، أن التبعة فيه على فساد الأحكام وضعف الخليفة واستسلامه للملاهى والاشتغال بالغناء، فإنه لم يسمع بمغنية فى أطراف المملكة إلا بعث فى استقدامها، وأطاع المتملقين، فعل الله أزال هذه النعمة عنه ليضعها فيمن هو أهل لها».
فقال الأمير أحمد: «قد آن وقت العشاء فلنذهب إلى الصلاة ريثما يعدون لنا الطعام فنأكل ثم نذهب للرقاد التماساً للراحة».
فقال ركن الدين: «أنى طوع إرادة مولاى فى كل ما يريده إلا الرقاد، فليذهب مولاى إلى فراشه متى شاء، وأما أنا فسأمكث ساهراً أرقب ما أخشاه. أن خروج سحبان على النحو الذى خرج به لم يرضنى، ونحن على كل حال فى إبان فتنة كما يعلم مولاى».
فأعجب الأمير بيقظته وعلو همته وقال فى نفسه: «مثله يليق بالسيادة». ثم خاطبه قائلاً: «بارك الله فيك أيها الأمير وما الذى أخافك من سحبان؟».
قال: «أخافنى فشله وسكوته، ولو جادلنى وعنفنى على معارضتى له لما خفت خوفى من كظمة لأن الكظم يحبس الغيظ ويزيد النقمة».
قال: «لا ينبغى أن تخافه لأنه من أوليائنا وأصدقائنا».
قال: «لعلى مخطئ، وعلى كل حال أنى شديد الحذر، وأن شاء مولاى، فأنى رفيقة إلى الصلاة». فنهض الإمام أحمد وذهبا للصلاة فى مصلى خاص هناك، وعادا للعشاء.
•••
استحسن ركن الدين ما ظهر من تقوى الإمام أحمد وتدينه وتوكله، وجلسا إلى الطعام فتناولاه، والأمير أحمد يبالغ فى إكرام ركن الدين الذى أنقذه من القتل، فقال له ركن الدين: «لم أعمل من عند نفسى، إنما كان ذلك بقضاء الله مكافأة على حسنة من حسناتك الكثيرة».
فأطرق الأمير أحمد وهو يبتسم كأنه تذكر أمراٍ يسره تذكره، فتوقع ركن الدين أن يقص عليه سبب ابتسامه فسكت وأخذ يراعيه فقال الإمام أحمد: «أعلم أيها الأمير سبب ابتسامه فسكت وأخذ يراعيه فقال الإمام أحمد: «أعلم أيها الأمير أنى شديد الاعتقاد بأن من يعمل خيراً يلق خيراً، ولعل الله بعثك الليلة لإنقاذى من هذا الخطر مكافأة على حسنة وفقت إلى إتيانها بقضاء من الله».
فأعجب ركن الدين بتواضعه وأنصت يسمع تتمة الحديث فقال الإمام: «أحمد الله على ذلك التوفيق، فإنه من نعم المولى.. وقد وفقت إليه وأنا فى أشد الضنك، واستبشرت من تلك الساعة. وذلك أنى كنت سجيناً فى قصر الفردوس، وأنا صابر على السجن، ولا ذنب لى غير أنى من آل العباس المرشحين للخلافة. وكم شكوت إلى الله ذلك وتمنيت لو كنت من عامة الناس، ولكن الخليفة لم يقنع بالسجن فأراد مزيداً فى التضييق فأمر بنقلى إلى هذا القصر، فنقلونى ليلاً فى سفينة نزلنا فيها دجلة فى مثل هذا الوقت، وكان النوتية ومن جاء معهم من الجند يكرموننى ويؤانسوننى، لكن نفسى ضاقت وعظم على ذلك الظلم، وانفردت فى مكان عند مقدم السفينة أتشاغل بالتفرج على الماء فى الظلام، وكان نظرى يقع بين الفينة والفينة على سفن تمر بنا صعوداً أو نزولاً، واستأنس بنداء ملاحيها أو غنائهم إلا سفينة كانت سائرة على مقربة منا لم نسمع فيها صوتاً ولم نعلم بوجودها إلا من نور ضعيف كان معلقاً فى ساريتها، وقبل وصولنا إلى هذا القصر بقليل سمعت صيحة ورأيت شبحاً وقع فى الماء فحدثنى نفسى بجريمة، فناديت ربان سفينتنا وأمرته أن يتعقب تلك السفينة فلم يستطع لكنه عثر فى أثناء تفتيشه على غريق يتحرك ويستغيث، فأعانه وانتشله وهو على أخر رمق».
وكان ركن الدين يسمع الحديث وشوقه يتزايد إلى سماع تمامه، حتى إذا وصل إلى هنا خطر له أن الغريق الذى يشير إليه شوكار، فلم يتمالك أن صاح: «وهل هى حية؟» فاستغرب الإمام دهشته وتسرعه وسأله كيف عرف أنها امرأة؟
قال: «عرفتها يا سيدى عرفتها، قل بالله ماذا جرى؟»
قال: «فأخذ الملاحون فى معالجتها حتى أفاقت ورأينا شعرها مقصوصاً، ورأدنا الاستفهام منها عن حالها فلم نشأ أن نقول شيئاً، فلم نكرهها على ذلك».
فقال ركن الدين: «وهى شوكار يا سيدى، شوكار أريد أن أراها».
قال: «لا يا عزيزى، لو عرفت أن أمرها يهمك لاحتفظت بها».
فقال: «أين هى الآن؟» قال: «ولما وصلنا بها إلى هنا وارتاحت وبدلت ثيابها وانتعشت سألناها عن شأنها وعما تريد أن نساعدها عليه فلم تزد على أن شكرت فضلنا وأبت أن تبوح بشئ، لكن الملاحين عرفوا من شكل السفينة أن الفتاة من جوارى الخليفة قضى بإغراقها. ولم يجرؤ أحد منا أن يقص خبر هذه الفتاة على أحد، وبعد بضعة أيام سألتها إذا كانت تعرف أحداً فى بغداد تريد أن تذهب إليه، فقالت أنها تعرف سحبان، وتريد خادماً يوصلها إليه، فتنكرت بلباس الرجال وأرسلنا معها بعض الخدم يوصلونها إلى بيت سحبان فى الكاظمية. وكان ذلك فى صباح هذا اليوم ولما جاءنى سحبان ورأيته أنت عندى لم يكن قد علم بوصولها بعد».
فأطرق ركن الدين، وقد ثارت عواطفه وتضاربت أفكاره، وسر كثيراً لنجاة شوكار، لكنه أسف لذهابها إلى بيت سحبان، ولاسيما بعد أن وقع ما وقع بينهما فى ذلك المساء، وأصبح الإمام أحمد فى شوق إلى معرفة علاقة شوكار بركن الدين فسأله عن ذلك فقص عليه خلاصة تاريخ تلك العلاقة فى مصر وما ارتكبته سلافة إلى أخر الحديث، فأسف الإمام أسفاً شديداً لأنه بعثها إلى بيت سحبان، لكنه لم يلم نفسه لأنه لم يكن يعلم علاقتها بالأمير ركن الدين.
الفصل الخامس عشر
التتر يخربون بغداد
وبينما هما فى ذلك إذ سمعا ضوضاء فى حديقة القصر فاستغرب الإمام ذلك، ولكن ركن الدين لم يستغربه بل كان يتوقعه وقد استبطأه، فأوما إلى الإمام أن يظل فى مكانه، ووثب كالأسد حتى أتى الباب فرأى أحد الحراس قد دخل وأقفل الباب وراءه وهو فى اضطراب شديد، فقال له ركن الدين «ما بالكم؟»
قال: «التتر يا سيدى، دخلوا الحديقة وهم يطلبون القبض على مولانا الأمير وقد غضبوا لأنه لم يأتهم من تلقاء نفسه».
قال: «اذهب وقل لهم أنى خارج لهم بنفسى».
قال: «ولكنهم يطلبون الإمام وإلإ فأنهم يأخذوننا عنوة ويقتلوننا مع الإمام».
وسمع الإمام حديثهما فهرول وتوسل إلى ركن الدين ألا يعارض التتر فيما يريدون: وأنه يؤثر الذهاب معهم إلى الفسطاط.
فأشار ركن الدين إليه قائلاً «كن مطمئناً يا مولاى، لا يستطيع هؤلاء القوم أن يمسوا ظفراً من أظفارك قبل أن يستباح دمى».
قال: «وما الفائدة من إباحة دمك إذا فاز أولئك التتر علينا، وهم فائزون لأنهم أكثر عدداً وأقوى عدة».
قال: «لا تخف أنهم غير فائزين بإذن الله». قال ذلك وصعد إلى كوة الباب وأطل منها على الحديقة فرآها مزدحمة بالناس بينهم حملة المشاعل للإنارة وحملة العصبى والنبال والسيوف، وقد علا ضجيجهم وتعالت غوغاءهم وفى مقدمتهم رجل يظهر من هندامه أنه كبيرهم وبجانبه سحبان، فلما رأى سحبان معه تحقق عنده ما ظنه فيه منذ خرج من القصر على تلك الصورة. فناداه: «سحبان». فرفع سحباه بصره إلى ركن الدين وقال: «لابد من تسليم الأمير أحمد لأن خبره وصل إلى الخاقان هولاكو ولم يعد بالإمكان إخفاءه». قال: «أنى لا أرى تسليمه». قال: «لكن الخاقان أمر بالقبض عليه، وإلا فإن الجند يهاجمون القصر ويأخذونه عنوة».
قال: «أنهم لا يفعلون ذلك، ولم يخطر لهم أن يفعلوا لولا وشايتك فأرجع بهم، وذلك خير لك وأبقى».
قال: «لماذا تعترض وتعرض نفسك لهذا الأمر أيها الأمير وأنت فى غنى عنه؟»
قال: «وأنت أيضاً فى غنى عن هذه الدسائس».
قال: «فاتنى أن أخبرك أن شوكار عندى وأنت إنما جئت هذا البلد من أجلها فإذا شئت فأنى أدفعها إليك ودع هذا القصر».
فلما سمع قوله أحس بانقباض لأن سحبان يهدده بشوكار كأنه يقول له أنه إذا لم يطعه آذاه فيها فوقع فى حيرة فقال: «وما تعنى بذلك، وما دخل شوكار فيما نحن فيه؟»
قال: «لا أعلم، والآن افتح هذا القصر وإلا دخله الجند بالقوة. وأنت تعلم عقبى ذلك، ولا تنس أمر شوكار».
وكان الإمام أحمد واقفاً بجانب ركن الدين يحثه على الاستسلام ولاسيما بعد أن سمع هذا التهديد فيه وفى شوكار، فأخذ يحرضه ويلح فأبى ركن الدين. ولما أبطأ ركن الدين فى الخضوع وفى فتح باب القصر قال له سحبان: «لا تقل أن صديقك سحبان غدر بك، فأنى نصحتك مراراً وأعيد النصح الآن أن تسلم وإلا فأنت ومن فى القصر فى قبضة الجند ولن ترى شوكار أبداً».
وإذا بصوت صاح فى وسط الضوضاء قائلاً: «لا تصدق أيها الأمير أن شوكار معنا فى آمان، وعرف ركن الدين أن صوت عابد فصدقه وأحس بانفراج الأزمة واشتد قلبه ونظر إلى سحبان وقال: «لم أكن أتوقع منك يا سحبان أن تحرض الجند علينا».
فقال: «لم أحرضهم، ولكنهم قادمون بأمر الخاقان».
قال: «كذبت أن الخاقان لم يأمرهم بذلك بعد أن أعطانى الأمان أنا وسائر أهل هذا المنزل وهذا علم الأمان انظروه». قال ذلك وأخرج العلم الذى كان مؤيد الدين قد أعطاه إياه، ونشره فى النافذة فبان جلياً للناظرين، وحالماً رآه الجند التتر طأطأوا رؤوسهم إذعاناً وتحولوا من الحديقة راجعين، وسار سحبان فى أثرهم كالهارب، وركن الدين يرقبه، وقلبه يرقص فرحاً بذلك الفوز والإمام أحمد يضمه ويقبله شاكراً. فنزل ركن الدين إلى صحن الدار ونادى عابداً وسأله عنه شوكار فقال: «هى هنا يا سيدى، قد علمت بخروجها من هذا القصر من الخادم الذى أخذها إلى الكاظمية، فذهبت وأتيت بها لعلمى أن وجودها هناك يسبب عراقيل كثيرة».
فقال ركن الدين: «بورك فيك من صديق غيور، أنك لست خادماً، وهذه الأريحية والشهامة جديرة بالصداقة». ففرح عابد لهذا الأطراء وقال: «إذا شئت أن ترى شوكار فهلم إلى غرفتها». فمشى ركن الدين مسرعاً إلى تلك الغرفة، فرأى شوكار لا تزال متنكرة بثوب بعض الخصيان، فلما رأته طفرت الدموع من عينيها فرحاً وترامت على ركبتيه تقبلهما، فأنهضها وقبل رأسها وقال: «الحمد لله على سلامتك يا حبيبتى.. نشكر الله على هذه النعمة، والفضل الأكبر فى ذلك لمولانا الإمام حفظه الله».
قال الإمام: «الفضل كله لك أيها الأمير، وأهنئ شوكار بهذا النصيب».
والتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «كيف عرفت يا عابد خبر شوكار؟».
قال: «كنت جالساً فى الحديقة وصرة الشعر معى، فسألنى بعض الخدم عن خبرها، وحالماً رآها صاح: «ما أشبه هذا الشعر بشعر الفتاة التى وجدناها فى دجلة وأنقذناها من الغرق). وبعد أخذ ورد فهمت أن شوكار حملت إلى منزل سحبان، فذهبت بأسرع من لمح البصر وأتيت بها متنكرة كما تراها».
فكرر الثناء عليه، فازداد فرح عابد، ولكنه قال: «لا ينبغى لمولاى الإمام أن يبقى هنا».
فقال ركن الدين: «لماذا؟» قال «لأن التتر وإن كانوا قد تراجعوا فإن سحبان لا يلبث أن يذهب بنفسه إلى الخاقان أو غيره ويخبره بوجود الإمام هنا فيبعث فى طلبه.. لأنى رأيت فى طريقى من الفظائع ما لا يخطر ببال بشر».
فقال ركن الدين: «ماذا شاهدت، هل نزل التتر بغداد؟».
قال: «نزلوا دور الخلافة، ومعهم هولاكو نفسه، وتفقد تلك القصور، وأخرج من فيها من النساء وفرقهن فى رجاله».
فقال الإمام أحمد: «والخليفة؟ ماذا فعلوا به؟ أين هولاكو».
قال: «علمت أن مؤيد الدين الوزير حرض بنى العباس وجميع وجوه الدولة على الخروج إلى الفسطاط فقتلهم التتر عن أخرهم، ثم هجموا عند الغروب على قصور الخلافة وقتلوا كل من وجدوه هناك من أبناء الخلفاء ومن كان منهم صغيراً أخذوه أسيراً، والقتل الآن على أشده فى بغداد، والقائد التترى باجو قد عبر الجسر إلى الكرخ وغيرها وأخذ رجاله ينهبون ويقتلون، وقد علمت أن الكتب التى كانت فى خزائن قصور الخلافة أخرجوها وألقوها فى دجلة وهى شئ لا يعبر عنه لكثرته. وسمعتهم يذكرون اسم مولاى الإمام وسبب تغيبه، لأنهم لم يجدون فى قصر الفردوس كما كانوا يظنون، ولذلك قلت لكم لابد من السرعة فى الخروج الآن».
فوقع الرعب فى قلب الإمام أحمد، فالتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «أنت من أهل هذه البلاد فارشدنا إلى مكان نخفى فيه مولانا حتى تستقر الحال».
فأشار مطيعاً وقال: «ذلك على. فأمروا بأخذ ما خف حمله وغلا ثمنه واتبعونى».
فعمل الإمام أحمد وخادمه بما قاله عابد، ثم ركبوا قبل الفجر، وعابد يمشى فى مقدمتهم حتى خرجوا من بغداد، وعلموا فى اليوم التالى أن التتر يتعقبونهم فلم يروا بداً من الالتجاء إلى بعض قبائل العرب، فالتجأوا إلى قبيلة هناك مكث عندها الإمام ومعه عابد.
ولما اطمأن ركن الدين على مصير الإمام أوصى عابداً به خيراً، وسافر إلى مصر ومعه شوكار، حيث عقد زواجه بها، ووجد سلطان مصر نور الدين ابن عز الدين، فحرض الأمراء على التذمر منه لأنه غلام لا يصلح للحكومة، وبايعوا سيف الدين قطز سنة ???هـ. لأنه من سلالة ملوك خراسان، فصبر ركن الدين على ذلك وهو يسعى لتحقيق أمنيته ليتم له ما دبره من أمر نقل الخلافة إلى مصر.
وفى السنة التالية زحف هولاكو على سوريا وبعث يهدد قطز، فشاور الأمراء فأشاروا عليه بالحرب وفى مقدمتهم ركن الدين، فجرد حملة سار ركن الدين فيها، واضطر هولاكو إلى الرجوع لموت والده، وأخذ معظم جيشه معه، والتقى ما بقى من رجاله بجيش قطز فى فلسطين فى معركة فاز فيها المصريون وعادوا ظافرين. فاغتنم ركن الدين فرصة فى أثناء رجوعهم وقتل قطز، وكان قد تواطأ على ذلك مع رفاقه الأمراء ورضوا أن يتولى هو مكانه، فنادوا به سلطاناً على مصر سنة ???هـ. ولقب بالملك الظاهر. وحالما استقر له الأمر بعث فى استقدام الامير أحمد فجاءه فى السنة التالية، فبايعه خليفة ولقبه بالمستنصر بالله، وصارت الخلافة العباسية بمصر من ذلك الحين.
شجرة الدر
شجرة الدر
تأليف
جُرجي زيدان
شجرة الدر
جُرجي زيدان
رقم إيداع
تدمك:
إن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة غير مسئولة عن آراء المؤلف وأفكاره
وإنما يعبِّر الكتاب عن آراء مؤلفه
?? عمارات الفتح، حي السفارات، مدينة نصر ?????، القاهرة
جمهورية مصر العربية
تليفون:
جميع الحقوق الخاصة بصورة وتصميم الغلاف محفوظة لمؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. جميع الحقوق الأخرى ذات الصلة بهذا العمل خاضعة للملكية العامة.
Cover Artwork and Design Copyright © 2011 Hindawi Foundation for Education and Culture.
All other rights related to this work are in the public domain.
أبطال الرواية
شجرة الدر: زوجة الملك الصالح
شوكار: جارية شجرة الدر
عز الدين أيبك التركمانى: قائد الجيش
ركن الدين بيبرس: أحد أمراء الجيش
سلافة التركية: جارية الملك الصالح
سحبان: تاجر أقمشة من بغداد
لمستعصم بالله: آخر الخلفاء العباسيين ببغداد
الأمير أحمد (أبو بكر): ولى عهد المستعصم بالله
هولاكو التترى: حفيد جانكيز خان
مؤيد الدين بن العلقمى: وزير المستعصم بالله
مراجع رواية شجرة الدر
هذه المراجع هى التى اعتمد عليها المؤلف فى سرد حوادث الرواية، وكان شديد الحرص على أن تكون وقائعها الرئيسية صحيحة.
حسن المحاضرة للأسيوطى
تاريخ ابن إياس
الهلال مجلد ??
تاريخ الفخرى
سيرة الملوك
معجم ياقوت
تاريخ ابن جبير
تاريخ مصر الحديث لجرجى زيدان
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
فرغنا من رواية صلاح الدين وقد دخلت مصر فى حوزته، وبنى بها قلعة القاهرة وجعلها كرسى ملكه، ثم توارثها السلاطين من أولاده وأخوته وأولادهم وأحفادهم، واقتسموا فيما بينهم ملك مصر والشام، حتى أفضت السلطنة بمصر سنة ???هـ. إلى الملك الصالح بن الكامل، فأكثر من اقتناء المماليك الأتراك، وجمع منهم نحو ألف مملوك بنى لهم قلعة فى جزيرة الروضة أسكنهم فيها وجعلها سرير ملكه بدلاً من قلعة القاهرة ونقل إليها أهله وحاشيته ومماليكه.
وفى أيامه حمل الصليبيون على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وكان الملك الصالح مريضاً فما علم بأمر هذه الحملة حتى أمر بالتجنيد والاستعداد للحرب، لكن الصليبيين استولوا على دمياط بخيانة بعض أهلها وفرار بعض أمرائها، وتوفى الملك الصالح على أثر ذلك، وخلفه ابنه غياث الدين طوران شاه، الذى لقب بالملك المعظم، ولكن النفوذ كان لشجرة الدر إحدى جوارى الملك الصالح، وهى التى دبرت أمور الدولة بعده، وكتمت موته حتى جاءوا بأبنه غياث الدين من سورية وبايعوه سنة ???هـ.
وعاد المصريون لمحاربة الصليبيين، ففازوا وردوهم على أعقابهم بعد معارك شديدة، وأسروا الملك لويس التاسع وكثيراً من ضباطه وجنده.
ووقع الخلاف بعد ذلك بين رجال الملك المعظم غياث الدين، ومماليك أبيه الملك الصالح، فخرج هؤلاء المماليك عليه، فخاف وأراد الفرار، ولكنهم قبضوا عليه وقتلوه شر قتله قرب فارسكور، ثم أجمعوا أمرهم على مبايعة شجرة الدر، وهى أول امرأة تولت الملك فى الإسلام. وقام التنازع على السيادة بينها وبين بعض الأمراء المماليك، وبين بقية الدولة الأيوبية وغيرهم من طلاب السيادة، وأفضت السلطة أخيراً إلى المماليك الأتراك وتوارثوها، وفى أيامهم سطاً التتر على بغداد بقيادة هولاكو، وقتلوا الخليفة المستعصم، وانتقلت الخلافة إلى مصر مما سترى تفصيله فى هذه الدولة إن شاء الله.
الفصل الثاني
فى جزيرة الروضة
– ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!.
– أنه جميل يا سيدتى، وليس أجمل منه إلا الجلوس بين يديك والتمتع بحديثك.
– أنك تتملقيننى يا شوكار ولا تقولين الحق. من منا أكثر تمتعاً بصاحبتها: أأنا وليس فى حديثى إلا المتاعب والمشاكل السياسية؟. أم أنت وقد وهبك الله كل ما تتطلبه الغانيات من الجمال والذكاء ورخامة الصوت ولطف العشرة؟. وأنت فى مقتبل العمر وأنا فى حدود الكهولة، وقد أناخ على الدهر بأثقاله ومشاكله.
فخجلت شوكار من هذا الأطراء وبادرت إلى الجواب قائلة: «العفو يا سيدتى، أنك تخجليننى بهذا الأطراء، ومن أكون أنا حتى أعد شيئاً مذكوراً بجانب مولاتى شجرة الدر، محظية الملك الصالح — رحمه الله — وأم والده؟ وقد خصك الله بمواهب لم يخص بها أحداً من البشر سواك. ليس فى النساء يا سيدتى امرأة تطمع فى بعض ما نلته. زادك الله رفعة و…».
فبادرت شجرة الدر إلى قطع حديث جاريتها شوكار بأن وضعت يدها على فمها بلطف وهى تبتسم لها، وفى ابتسامها انقباض، وقد أبرقت عيناها من عظم التفكير، ثم تنهدت تنهداً عميقاً وقالت: «تحسديننى على ما تنوهمينه فىّ من رفعة القدر؟ من هنا يأتى سبب شقائى». قالت ذلك وأطرقت وهى مقطبة الوجه، فتهيبت شوكار النظر إليها، ولم تجبها.
وكانت شجرة الدر جالسة على مقعد من الأبنوس، فى شرفة بأحد قصور الملك الصالح التى بناها فى جزيرة الروضة، تطل على مجرى النيل إلى مسافة بعيدة. وجزيرة الروضة من أجمل جزر النيل بين مصر القديمة والجيزة، وطالما اتخذها الملوك متنزهاً، وقد جعلها مولاها الملك الصالح سريراً لملكه بدلاً من القلعة حيث كان أسلافه يقيمون. وأنشأ فى هذه الجزيرة قلعة فخمة عرفت بقلعة المقياس، نسبة إلى مقياس قديم للنيل، وسموها أيضاً قلعة الروضة أو القلعة الصالحية. وكان فى موضع هذه القلعة أبنية كثيرة فيها القصور والمساجد والمعابد، ودور الصناعة لبناء السفن، والهودج الذى بناه الآمر بأحكام الله الفاطمى لجاريته، واشتهر أمره. فهدم الملك الصالح كل هذه الأبنية، وبنى القلعة مكانها، وأنفق عليها أموالاً طائلة، وفى جملة ما بناه قصور ومسجد، نقل إليها العمد والأساطين الصوان والجرانيت والرخام من الهياكل القديمة، وغرس فيها الأشجار والرياحين، وبنى فيها ستين برجاً شحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأقوات خوفاً من محاصرة الأفرنج، لأنهم كانوا على عزم غزو مصر. وبالغ فى اتقان تلك الأبنية حتى قيل أن الحجر الواحد من أحجارها كلفه ديناراً. وكان يقف بنفسه ويرتب العمل، فلما تم بناؤها نقل إليها أهله ونساءه وجواريه، وفرق فيها مماليكه، وعددهم نحو ألف مملوك. وأنشأ خارج القلعة بناء عظيماً جمع فيه أصناف الوحوش من الأسود والنمور وغيرها.
وكانت شجرة الدر فى جملة جواريه، وقد أنجبت ولداً اسمه خليل، فقربها منه، كما كانت هى على جانب عظيم من الدهاء والذكاء، فنالت نفوذاً عظيماً عنده، فلما مات فى المنصورة سنة ???هـ. كتمت أمره، وقامت بأمور الدولة، وكانت توقع على الأوامر بتوقيعه خوفاً من الفشل وهم فى حرب مع الصليبيين، لكنها أسرت الخبر إلى كبار الأمراء، ولاسيما عز الدين أيبك التركمانى، وكانت بينه وبينها مودة، فبعث أعيان الأمراء إلى غياث الدين بن الملك الصالح فاستقدموه من حصن كيفا وولوه عليهم وواصلوا محاربة الصليبيين.
أما شجرة الدر فإنها عادت إلى تلك القلعة وأقامت فيها، وفى خاطرها أشياء لم تطلع عليها أحداً، ورغم ثقتها العظيمة بشوكار لم تفاتحها بشئ منها. وفى تلك الليلة المقمرة جاشت أشجانها وأرقت لسبب تعلمه هى ولا يعلمه سواها. وكانت كثيرة الاستئناس بشوكار جاريتها، وهى جميلة الطلعة رخيمة الصوت تتقن العزف على العود. فلما أرقت دعتها إليها للاستئناس بها واللهو بصوتها. واتشحت شجرة الدر بثوب بسيط، والتفت بمطرف من الخز، وجلست على الشرفة وأطلت على مجرى النيل، وقد سكنت الطبيعة وهدأ النسيم ألا ما يعبث منه بشعرها المرسل على ظهرها وقد ضمته ورأسلته بلا اعتناء. ولم تحسن ارتداء مطرفها، حتى ليخيل إلى الناظر إليها أنها فى شاغل مهم، ناهيك بما فى عينيها من دلائل القلق حتى يكاد الشرر يتطاير منهما لفرط ما جاس فى خاطرها من البلبلة. وهى امرأة ليست كسائر النساء، فلها قلب الرجل ومطامع كبار الرجال. إذا عزمت على أمر فلا تبالى ما يقف فى سبيلها من العقبات لأنها تذللها بأية وسيلة كانت، كما يفعل عظماء الرجال وأرباب المطامع.
وكانت شوكار جاريتها الخاصة فتاة تركية مثلها ما زالت فى مقتبل العمر، فأحبتها واتخذتها مستودع أخبارها وأسرارها، وإن كانت لفرط دهائها لا تفتح قلبها لأحد أو تأمنه على أسرارها المهمة. ولذلك كان كبار المماليك يهابونها ويحسبون لها حساباً، وقد استولت على قلوبهم تهيباً وإعجاباً.
•••
خرجت شجرة الدر تلك الليلة من قصر الملك الصالح أجمل قصور تلك الجزيرة وأثمنها رياشاً وزخرفاً، ومعها جاريتها شوكار. ومشت فى ممر مسقوف يؤدى إلى شرفة تطل على النيل، فجلست على أريكة مغشاة بالديباج المزركش، وجاريتها تعزف على العود وتغنى لها أصواتاً تعودت أن تطلب إليها أنشادها، وهى مستغرقة فى هواجسها تنظر إلى النيل وهو يبدو كالفضة اللامعة من تكسر نور القمر على سطحه، ولولا ما يتخلل بياضه من التموج والارتعاش لم تشك أنه فضة خالصة، أو أنه مرآة صافية، وكانت مراياهم تصنع من الفضة المصقولة بدل الزجاج اليوم.
وكأنها أحست بطول سكونها واشتغالها عن غناء شوكار، فأجالت بصرها فى الفضة المقابلة من النيل فى بر الجيزة، وقد بدت فيها النخيل صفوفاً أرسلت رؤسها فى الفضاء كأنها أسراب من العذارى يحملن المظلات وقد وردن الماء، فلما أشرفن على ضفاف النيل تهيبن فوقعن خاشعات ينظرن إلى مجراه، وبانت ظلال النخيل فى الماء، وأكسبها النيل حركة اهتزازية كأن أولئك العذارى نزلن للاغتسال فارتعدت أجسامهن من البرد أو من الحياء. ووراء النخيل تراءى الهرمان كأنهما جبلان وقد اتنصرا على طوارئ الحدثان، فأرادت شجرة الدر أن توهم جاريتها أنها سكتت تهيباً للطبيعة الجميلة فقالت لها: «ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!».
فسرت شوكار لأن سيدتها قد سرى عنها، وزادت امتناناً لما سمعت أطراءها صوتها. لكنها ما لبثت أن رأتها عادت إلى الانقباض وأخذت تشكو من حالها، وإن ما تغبطها عليه من النعيم إنما هو سبب شقائها. فانقبضت نفس شوكار، وألقت العود من يدها، وتقدمت حتى جثت عند قدمى سيدتها، وقبلت ركبتها وقالت: «ما الذى يشغلك يا سيدتى؟ وهل أنت لا تثقين بى، مع أنى مستودع أسرارك، وليس لى شاغل سواك؟».
وشرقت بريقها من عظم التأثر، فابتسمت شجرة الدر ووضعت يدها على رأسها وجعلت تعبث بشعر الفتاة وبوجهها كأنها شاب يداعب فتاة يحبها، وشوكار مطرقة يلذ لها ذلك لأنه دليل ارتياح مولاتها إليها وهان على شجرة الدر أن تصارح جاريتها ببعض هواجسها، وهى تحسبها خالية الذهن من أمرها، وتحسب سرها مكتوماً عنها كل الكتمان، وذلك من الأوهام الشائعة عند أصحاب الأسرار. يكتم المحب حبه، ويلذ له كتمانه، لتوهمه أنه لا يعلم به أحد سوى حبيبه. وقد يكون ذلك الحب حديث الجيران والخدم ليل نهار، وقس على ذلك أكثر الأسرار ولاسيما ما كان منها يتعلق بالعامة، فإنه لا يخفى عليهم، لكنهم يسكتون عنه فيتوهم صاحبه أنه سر مغلق على الناس كافة. وهب أنه يخفى على الجيران فهو لا يخفى على الخدم والجوارى لأن هؤلاء لا شاغل لهم غير استطلاع الأسرار والتوسع فيها والتكهن بما يكون من أمرها، لكنهم فى الغالب يشوهون الحقيقة بما تصوره لهم أفكارهم وميولهم.
فكانت شوكار على بينة من هواجس سيدتها وإن لم تصب الحقيقة تماماً، لكنها تجاهلت وطلبت إلى شجرة الدر أن تكاشفها بسرها، فقالت لها شجرة الدر: «ليست أخفى عليك سراً كما تعلمين، لكن ما أكتمه ليس مما يهمك الإطلاع عليه».
فقالت: «لا أطلب الإطلاع عليه لأنه يهمنى، لكنى أطلب ذلك لعلمى أن الإنسان إذا اشتكى ما يكابده لشخص يحبه ويثق به، فإن وطأة ذلك السر تخف عنه».
فضحكت شجرة الدر على سبيل المداعبة وقالت: «يظهر يا بنية أنك قد جربت الأسرار ولذة المكاشفة».
فأطرقت خجلاً وقالت: «وليس عندى أسرار أكتمها أو أبوح بها، وليست أسرارى مما يصح الاهتمام به. لكنى أعرف ذلك عن سواى، فهل أنا مخطئة يا سيدتى».
قالت: «كلا، أنك تقولين الصواب. ولكن دعينا من ذلك الآن وأطربينا بشئ من غنائك الرخيم».
لم تعتبر شوكار ذلك الرفض مقصوداً لأنها قرأت عكسه فى عينى سيدتها شجرة الدر — والعينان أصدق من اللسان — فاستأنفت الكلام قائلة: «أنى طوع إرادتك يا سيدتى، لكنى أحب تخفيف قلقك».
فأحبت شجرة الدر أن تكون جاريتها البادئة بالحديث فقالت لها: «ماذا تظنين سبب قلقى؟».
قالت: «من أين لى أن أعلم ذلك؟ ليس فيما أعلمه من أحوالك إلا ما يوجب السرور والفخر، حتى فيما له علاقة بالقلب، أعلم أنك قد نلت منه ما لم ينله سواك. أن الأمراء كافة يتمنون رضاك، ويعدون التفاتك نعمة. ويكفى لاكتساب قلب أحدهم أن تنظرى له نظرة رضا. على أنك فى غنى عن ذلك بموقعك الجميل من قلب مولاى عز الدين أيبك، وهو كبير الأمراء، ويتمنى لفتة منك و…».
فلما سمعت شجرة الدر اسم عز الدين تصاعد الدم إلى وجنتيها، وقطعت كلام جاريتها وهى تظهر عدم الاهتمام وقالت: «ليس هذا الأمر مما يهتم له أمثالى يا شوكار، وإنما هو للفتيات أمثالك».
•••
وأظهرت شوكار أنها صدقت سيدتها، مع أنها تعلم حق العلم بما بينها وبين عز الدين أيبك التركمانى كبير الأتراك من صلات المحبة، ثم حولت كلامها إلى موضوع أخر وقالت: «أصفحى يا مولاتى عن جرأتى وأغفرى لى خطئ، فلعل شواغلك تتعلق بأحوال الدولة، على أثر وفاة سيدى الملك الصالح رحمه الله».
فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «نعم. نعم. أنها تتعلق بما نحن فيه من الخطر، والحرب قائمة بيننا وبين الأفرنج فى المنصورة وفارسكور».
فقالت: «ولكن الأخبار الواردة علينا حسنة على ما أعلم. ألم يأتنا الطائر مبشراً بالنصر، ثم حمل إلينا الرسول خبر انتصار جنودنا على الفرنسيس، وأنهم قتلوا منهم ثلاثين ألفاً، وأسروا ملكهم لويس، وجسوه فى دار ابن لقمان.. ثم جاءنا رسول يحمل رسالة أخرى، وعليه ثوب ملك الأفرنج نفسه، وهو المخمل الأحمر بفرو سنجابى وقلنسوه من ذهب. وقد زينت له القاهرة زينة لم يسمع بمثلها؟ أم أنت تظنين ذلك غير الواقع؟».
قالت: «بل هو الواقع عينه».
قالت: «إذن ما الذى يقلقك يا سيدتى؟».
فتنهدت وقالت: «لقد أحرجتنى يا شوكار. فلابد من إطلاعك على بعض الخبر. أن قلقى ليس خوفاً من الأفرنج فإن جندنا كلهم أشداء — ولاسيما هؤلاء الأتراك الذين بنى لهم مولانا الملك الصالح هذه القلعة — وقد ظهرت بسالتهم فى الحرب التى ذكرتها. ولكننى أخاف الانقسام بين جندنا من سوء تصرف الملك المعظم طوران شاه!». قالت ذلك وهزت رأسها هز الأسف.
فقالت شوكار: «هل تأذن مولاتى بكلمة، وإن كنت لا أفهم شيئاً من أحوال الدولة ولا شأن لى بتدبير المملكة؟ أظنكم أخطأتم باستقدام هذا السلطان من حصن كيفا وتوليته السلطة. وعندكم من الأمراء من هو أكفأ منه».
فقالت: «ولكن الناس لا يذعنون للسلطان إلا إذا كان من الأسرة المالكة، أسرة آل أيوب، ولولا ذلك لهان الأمر. ولو كان طوران شاه هذا عاقلاً لاستقام الأمر، ولكنه غلام جاهل أحمق يشرب الخمر، فإذا سكر فعل ما لا يفعله الأطفال، بلغنى أنه يصف الشموع فى الليل أمامه، ويأخذ السيف بيده ويضرب به تلك الشموع ويقول: (هكذا أفعل بالمماليك البحرية). ويعنى مماليكنا الأتراك. وما برح منذ جاءنا — ولم يمض عليه شهران — يفضل مماليكه الأكراد الذين أتوا معه على مماليكنا، ويعرض بذلك فى مجالسه، مع أن النصر فى حروب الأفرنج إنما كان بفضل أبطالنا، ولاسيما عز الدين وركن الدين بيبرس وسيف الدين قطز وأمثالهم. فأخاف أن يطول النزاع ويغتنم العدو تفرقنا فيكر علينا!». وسكتت لحظة وهى مطرقة، ثم بلعت ريقها واستأنفت الحديث قائلة: «ولكننى دبرت تدبيراً إذا أفلح سلمنا من الخطر!». ثم نهضت، وأظهرت أنها فى شاغل خوفاً من أن تستزيدها شوكار بياناً وهى لا تريد كشف التدبير لها.
أدركت شوكار غرض سيدتها، لكنها تشاغلت بإصلاح العود وهى تنظر إلى النيل، لكنها ما لبثت أن لحظت عن بعد اضطراب صفحة الماء، فتطلعت فإذا هى ترى شبحاً كبيراً سابحاً قادماً من الشمال، ولم تتمالك حين تبينته إن صاحت: «هذه سفينة قادمة إلينا، لابد لقدومها فى هذا الليل من أمر مهم!».
وكانت شجرة الدر تتشاغل بإصلاح شعرها، فلما سمعت صيحة شوكار التفتت نحو السفينة وصاحت: «هذه عشارية عز الدين ما الذى جاءنا به يا ترى من الأخبار؟». قالت ذلك وهرولت وهى تلفت بالمطرف، وتبعتها شوكار فى مثل دهشتها نحو المرفأ».
وكان للروضة مرفأ جميل تقف عنده السفن منذ كانت فيها دار الصناعة، ومن هذا المرفأ إلى داخل القلعة طريق مختصر. لكن شجرة الدر — بعد أن دفعتها الدهشة إلى طلب المرفأ — عادت إلى رشدها وتراجعت، وأظهرت أنها ذاهبة إلى الإيوان الكبير الذى كان الملك الصالح يستقبل فيه الوفود والأمراء والوزراء.
كان ذلك الإيوان من أفخر الأبنية، بذل الصالح جهده فى إتقانه وزخرفته، وهو قاعة كبيرة قائمة على أساطين الرخام، وقد زين سقفها بالصور المذهبة والنقوش من النوع المعروف بالمقرنص، وعلى جدرانها كتابة جميلة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسى والكافورى والمجزع، مما يبهج النفوس ويستوقف الإبصار.
ولم تدخل شجرة الدر هذا الإيوان منذ شهرين وبعض الشهر بعد أن توفى الملك الصالح، فاضطرت لإخفاء إضطرابها أن تنزل إليه، فأمرت بعض الخصيان أن يفتحه ودخلت وشوكار وراءها وقد أدركت قلقها وتوهمت أنها تريد الخلوة هناك فتراجعت عند الباب وقالت: «استأذن فى الانصراف يا سيدتى».
قالت «إلى أين؟». قالت: «إلى حيث تأمرين. وإنما أخاف أن يكون فى وجودى ما يثقل عليك».
فأشارت إليها أن تدخل وقالت: «تعالى يا شوكار. لا ينبغى أن أخفى عليك شيئاً». فدخلت، وجلست شجرة الدر على سرير من الذهب فى صدر الإيوان كان يجلس عليه الملك الصالح، وأشارت إلى شوكار فجلست على كرسى مذهب بين يديها، وقد أضئ الإيوان بالشموع وظهرت نقوشه الجميلة. وتأملت شوكار فى سيدتها وهى جالسة على سرير الملك وضحكت، فلحظت شجرة الدر ضحكها وسألتها: «ما بالك تضحكين يا شوكار». قالت: أنى مسرورة يا سيدتى من جلوسك هنا، وقد استبشرت به خيراً. إن هذا المجلس لائق بك!».
فخفق قلب شجرة الدر لهذه البشرى، لأنها كانت راغبة فى السيادة، وهى أهل لها، لكنها أنكرت ذلك على شوكار، وأظهرت أنها تستبعد هذا الأمر وأنها ليست أهلاً له، وشغلت نفسها باستدعاء قيِّم تلك الدار. فلما حضر أمرته أن يذهب إلى المرفأ، وإذا جاء أحد برسالة فليأت بها إليها فى ذلك الإيوان.
وجلست وهى تظهر الجلد، لكنها كانت على مثل الجمر من القلق. وجلست شوكار بين يديها تشاغلها بالحديث عما فى تلك القاعة من التحف، وما أنفقه الملك الصالح فى تلك الأبنية، وهذه تظهر الاهتمام بالموضوع وتقص عليها ما رأته من عناية الملك الصالح باتقان ذلك البناء.
وبينما هما فى ذلك إذ سمعت شجرة الدر صوت نفير من بعيد، فعلمت أنه إشارة وصول السفينة إلى المرفأ، فخفق قلبها وظهر القلق فى وجهها ولحظت شوكار ذلك ولكنها تجاهلته. ولم يمض وقت يسير حتى جاء الغلام يقول: «أن الأمير ركن الدين بيبرس بالباب».
فقالت شجرة الدر: «ليدخل».
فدخل شاب طويل القامة، قد تزمل بعباءة تغطيه كله، ثم نزع العباءة فإذا هو جميل الخلقة صبوح الوجه عليه هيبة الشيوخ ونضارة الشباب، لم يتجاوز عمره يومئذ ?? سنة، وعليه الدرع والخوذة كأنه فى ساحة الحرب التى قدم منها. فلما دخل حيى شجرة الدر تحية لم تحى بمثلها من قبل، ففهمت ما عناه لكنها تجاهلت وقالت: «ما وراءك يا ركن الدين؟».
فالتفت يميناً وشمالاً كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فأدركت أنه يحمل سراً لا يحب أن يفوه به جهاراً، فأشارت إلى الخدم بالخروج واحتفظت بشوكار، وأشارت إليه أن يتقدم نحوها، فتقدم فقالت: «ما وراءك أيها الأمير الشاب؟ قل ولا بأس من وجود عزيزتى شوكار، بل لابد من وجودها فهى التى طالما أعجبت بشهامتك، قل. ما وراءك؟».
فاستغربت شوكار ما روته شجرة الدر عنها من أنها معجبة بركن الدين، ولم تجد باعثاً على ذلك فى تلك الساعة فسكتت، واتجهت بكليتها لسماع ما يلقيه ركن الدين. أما هو فلما سمع قول شجرة الدر عن إعجاب شوكار به التفت إليها فوجدها فى غاية الجمال واللطف، وفى عينيها معنى جمع بين الذكاء والسحر. وكان يسمع برخيم صوتها لأن ذلك كان شائعاً فى القصر. لكنه توجه نحو شجرة الدر وقال: «أن ورائى أمراً ذا بال وخبراً مهما لا أدرى أيسر مولاتى أم يسوءها».
فأجفلت ونظرت فى عينيه باهتمام وقالت: «قل ما هو.. ولا يهمك ساءنى أم سرنى، فأنى لا أتوقع من هذه الدنيا سلامة».
فقال: «أن الملك المعظم طوران شاه بن مولانا الملك الصالح قد لاقى أجله فى هذا الصباح، وبعثنى مولاى الأمير عز الدين أيبك لأنقل هذا الخبر إليك ريثما يصل هو إلى هنا فى صباح الغد، ولم يشأ أن يرسله مع الطائر مبالغة فى الكتمان، لكنه دفع إلى هذه البطاقة الصغيرة مختومة، وأمرنى أن أدفعها إليك يدا بيد». قال ذلك واستخرج من جيبه بطاقة دفعها إليها.
فلما سمعت شجرة الدر بموت طوران شاه بانت الدهشة فى عينيها، لكنها تجلدت وتناولت البطاقة وفضتها، واقتربت من المصباح وقرأتها فإذا فيها: «أما بعد فأنى مسرع فى إرسال البشارة بذهاب ذلك الشاب المغرور إلى سبيله، على كيفية يقصها عليك الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى حامل هذه البطاقة إليك. وقد كان لهذا الأمير النصيب الأكبر من العمل فى هذا السبيل وهو يستحق التفاتك. وعندى خبر أخر سأتلوه عليك فى الغد شفاهاً إن شاء الله».
قرأت البطاقة لنفسها وعادت إلى مخاطبة ركن الدين كأنها لم تقرأ شيئاً فقالت: «أنت على ثقة من قتلك الملك المعظم؟».
قال: «نعم يا سيدتى. كل الثقة».
قالت: «هل قتل سرا؟».
قال: «كلا يا سيدتى، أنه قتل جهاراً». قالت «من قتله؟».
قال: «نحن قتلناه، لأنه لم يترك للصالح مكاناً، وقد بالغ فى الطيش والهوج، وكرر مغاضبتنا وأسمعنا الإهانة، ولم يعجبه المماليك البحريون، مماليك أبيه الملك الصالح، وكلما ذكروا أمامه استخف بهم، مع أنهم أصحاب السيف حماة هذه الدولة.. وهم الذين ردوا الأفرنج عن هذه البلاد. وقد صور له طيشه أنه الفاعل لما يريد، وأننا حشرات لا يعتد بنا، حتى بلغنا أنه كان يصف الشموع ويأخذ رؤوسها بالسيف ويقول أنه هكذا سيفعل بنا، وقد صبرنا على ذلك، حتى بلغنا أن هذا لا يرضى مولاتنا أم ولد الملك الصالح رحمه الله، فأضمرنا له السوء، فلما كان صباح اليوم جلس فى موكبه والأمراء والأكراد وأصحابه بين يديه، ورؤوس النواب واقفون أمامه بعصى كسيت بالذهب، كأنه يقول لنا أنى سلطانكم رغم أنفكم. فصبرنا عليه حتى مضى الموكب وبقى وحده وحضر السماط فجلس عليه على العادة، فتقدم إليه جماعة منا بأيديهم السيوف وضربوه على أصابعه فقطعوها، فقام وهرب ودخل البرج الخشبى، وأغلق عليه بابه، فأطلقنا النار على البرج، فخرج منه وألقى نفسه فى البحر وصار يسبح فيه والنشاب يأخذه من كل ناحية وهو يقول: «خذوا ملككم ودعونى أرجع إلى حصن كيفا)، فلم يغثه أحد. وما زال على ذلك حتى قتل، فكأنه مات حريقاً غريقاً قتيلاً، فأخرجناه من البحر وتركناه على الصعيد وسيبقى كذلك حتى لا يعرف له قبر».
•••
كان ركن الدين يقص خبر مقتل طوران شاه، وشجرة الدر مصغية لا تبدى حراكاً، لكن الاهتمام باد فى عينيها، فلما فرغ من كلامه قالت: «مات طوران شاه! رحمه الله، أنها أخطأ فى تصرفه ولم يحسن سياسة الملك الذى أعطيناه إياه. وكل من لا يسوس الملك يخلعه!». ثم نظرت إلى ركن الدين وقالت: «وهل عندك خبر أخر غير هذا؟».
قال: «عندى خبر سيتلوه عليك مولاى الأمير عز الدين أيبك فى صباح الغد».
قالت: «لعله خبر مهم؟».
قال وهو يبتسم: «أظنه كذلك».
فأدركت شيئاً من مراده لكنها حولت الحديث وقالت: «لم تخبرنى عن القواد الأبطال الذين فتكوا بالملك المعظم. هل أنت منهم؟».
قال: «نعم أنى أصغرهم شأناً، وقد فعلت ذلك بأمر مولاى الأمير عز الدين».
فأعجبها تواضعه واحتشامه فقالت: «أراك تتنصل كأنك تعد هذا العمل جريمة وعاراً.. أنه عمل عظيم يحق لك الافتخار به، وقد نجيت البلاد من الخراب، لأن هذا الملك لم يكن أهلاً للسلطة، ولو طال مكثه فى هذا المنصب لجر علينا الدمار. فلا تخف، وقد أنبأنى عز الدين ببلائك، وأنا طالما توسمت فيك البسالة والأقدام، وسيكون لك شأن عظيم، فإذا صدق توسمى فيك أهديتك أثمن ما عندى». قالت ذلك ونظرت إلى شوكار وضحكت، فأدركت شوكار غرضها فغلب عليها الحياء لأنها لم يخطر ببالها حب أحد. وقد كفاها من نعم المولى أن تكون حائزة رضا سيدتها شجرة الدر، فلما سمعت تلميحها تصاعد الدم إلى وجنيتها وأطرقت، وودت لو أنها بالنقاب لتغطى وجهها، ولكنها لم تكن تنتقب بين أيدى الأمراء.
أما ركن الدين بيبرس فأعجبه أطراء شجرة الدر شجاعته، وكان يسمع بحسن شوكار ولطفها وجمال صوتها ولم يكن يتوقع أن يأتى يوم ينالها فيه، فلما رأى شجر الدر اشترطت فى نيلها أن يصدق توسمها فيه لم يدر بماذا يجيب، فقال أخيراً: «أشكر لمولاتى حسن ظنها بعبدها، وأرجو أن أكون أهلاً لثقتها، وفى كل حال أنى رهين إشارتها وما تأمرنى به، وأفديها بروحى».
ففرحت شجرة الدر بهذا التصريح لأنها إنما أرادت أن يكون طوع إرادتها لتستخدمه فى أغراضها لما رأته فيه من البسالة ورباطة الجأش.
ولما سمعت شوكار جواب ركن الدين أحست بشئ لم تحسن بمثله قبلاً، وبأن التأثر فى عينها، وخفق قلبها خفقاناً لم تعرفه من قبل. لكنها أطرقت وظلت ساكتة.
وأما شجرة الدر فقد سرها ما وفقت إليه من مقتل الملك المعظم، إذ هى التى أمرت المماليك أن يقتلوه، ولولا ذلك لم يجسروا على قتله. وقد أغراهم على ذلك عز الدين أيبك حبيبها، وهو كبير قواد المماليك. وكان لركن الدين بيبرس اليد الطولى فى هذا العمل، وكانت قد سمعت من عز الدين عن بسالته وتفانيه فى طاعته وطاعتها فأرادت أن تزيد إخلاصه فى طاعتها فوعدته بشوكار. فلما لحظت تعلق آماله بها تحركت فى مجلسها كأنها أرادت استئناف الحديث، فقالت: «ومتى يصل إلينا الأمير عز الدين؟»
قال: «أظنه يصل فى صباح الغد، وسيأتى معه سائر الأمراء والعسكر، وسيحدث تغيير عظيم فى أمور الدولة. وقد حفظ الأمير عز الدين حق هذه البشارة لنفسه وهو كبيرنا ومولانا».
فضحكت شجرة الدر وهى تنهض عن السرير وقالت: «أظنك نلت جائزة حسنة.. وإنما أرجو أن تحقق ظنى فيك يا ركن الدين».
فأدرك أنها تصرفه، فتحول وهو يلتفت إلى شوكار لفتة الوداع وهى لا ترفع بصرها إليه، لكنها رأته ورآها وتفاهم النظران وتناجى القلبان. وما أسرع تناجيهما إذا توافقت الطباع.
خرج ركن الدين وقد شغله ذلك الوعد عن دهشة الخبر الذى حمله من فارسكور إلى القاهرة، وما يجرى أن يحدث من التغيير فى أمور الدولة بسببه، سار تواً إلى برج من أبراج القلعة كان يقيم فيه مع بعض المماليك من رفاقه.
الفصل الثالث
عز الدين أيبك
مشت شجرة الدر — بعد أن توارى ركن الدين — نحو شوكار وهى تجر مطرفها وراءها، فنهضت لها احتراماً، وأطرقت شكراً، وهى لا تدرى أأحسنت إليها بذلك الوعد أم أساءت. ولم تستقر أفكارها لتحكم فى الأمر فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «أرجو أن تكونى مسرورة من هذا النصيب يا شوكار».
فرفعت بصرها والخجل يغشاه فرأت شجرة الدر تنظر إليها نظر المداعب فأجابتها: «يظهر أن سيدتى ملت رفقتى؟». وضحكت.
فقالت شجرة الدر: «لا، لكننى نظرت إلى مستقبلك، فمن كانت فى مثل ما أنت فيه من الجمال والعلم ورخامة الصوت يجب أن تنال نصيباً حسناً. وأنا على ثقة أن هذا الشاب الباسل من خيرة الشبان، وله مستقبل مجيد. فإذا أخطأ ظنى فيه ولم يكن الرجل الذى أرضاه لك لا أزوجك به. لا تخافى أنى شديدة الغيرة على مصلحتك لأنك بمنزلة ولدى كما تعلمين.. والآن ينبغى لنا أن نطلب الرقاد فقد تعبنا».
فقالت شوكار: «ولكن التعب جاء بنتيجة ترضينها يا سيدتى.. أن الرجل الذى كنا نشكو منه قد مضى لسبيله وعادت الأمور إلى مجاريها. فمن يا ترى سيتولى هذه السلطنة؟. أرجو ألا يعودوا إلى بيت أيوب مرة أخرى. إن هؤلاء قد مضت أيامهم ولكل أيام دولة ورجال».
فأظهرت شجرة الدر أنها خالية الذهن من أمر المستقبل، وأنها تتوقع أن تعرف الحقيقة فى الغد بعد مجئ عز الدين. فأكبت شوكار على يد سيدتها وقبلتها للوداع، فقبلت شجرة الدر رأسها.
وحالماً خلت شجرة الدر بنفسها انصرفت من باب سرى فى الإيوان إلى قصرها وقد توسط الليل، فلما صارت فى غرفتها كان الخدم قد أناروها، وهى فى أجمل ما يكون من الرياش، وعلى جدرانها ستأثر الديباج عليها الأبيات الشعرية أو الصور والنقوش بأزهى الألوان. وما كادت تدخلها حتى استلقت على سريرها واستغرقت فى هواجسها، وجعلت تناجى نفسها قائلة: «قتلوا طوران شاه — لا إقامة الله — وقد قتل بسعى عز الدين حبيبى». ولما ذكرت اسمه تنهدت وقالت: «هو حبيبى لكنه سرير لا أظنه أميناً فى حبه. وهؤلاء الرجال لا يؤمن جانبهم. ما لى وله؟! فليكن كما يشاء. ألم يخدمنى فى هذا الأمر؟ ليس بعد قتل طوران شاه إلا أن يعود الملك إلى يدى. هكذا وعدنى عز الدين فهل تراه قد بر بوعده؟. فإذا صرت ملكه فأنا أول ملكة فى الإسلام. وسأجازى عز الدين خيراً لأنه أخلص فى خدمتى».
قضت هزيعاً من الليل فى مثل هذه الهواجس، ولما نامت حلمت أنها تولت الملك وقبضت على صولجانه، وذلك لفرط رغبتها فى الملك مهما يكلفها الوصول إليه، فأنها من طلاب السيادة بأية وسيلة كانت وقد نبهت ذلك فى خاطرها منذ ولدت للصالح ابنها خليلاً لعلمها أنه سيكون وسيلة إلى تحقيق مطامعها أو أنه يكون هو السلطان وهى الوصية عليه، لكنه توفى طفلاً.
وفى صباح اليوم التالى جاءتها الجارية الموكلة بتدبير غرفتها وقالت: «أن الأمير عز الدين أيبك ينتظر فى الإيوان يا سيدتى».
فنهضت وأصلحت من شأنها، وبذلت جهدها فى الزينة لتظهر بين يدى حبيبها فى أجمل حالاتها. وهذه طبيعة النساء على الإجمال، فكيف بمن تعلق على ذلك الحب غرضاًُ سياسياً مهماً؟ لبست ثوباً مخططاً معتم اللون، وضفرت شعرها ضفائر قليلة أرسلت منها اثنتين إلى جانب وجهها، وغطت رأسها بغطاء مرصع بحجارة كريمة فوق الجبين له ذيل مزركش يغطى العنق من القفا حتى يسترسل على الظهر. وقد تقلدت عقدين أحدهما من اللؤلؤ والأخر من العقيق وغيره، وتمنطقت بمنطقة مشبكها من الذهب المرصع، وهى مع كونها على أبواب الكهولة لا يزال ماء الشباب يتلألأ فى محياها، ولا تزال عيناها ترسلان السحر إلى قلوب الناظرين، فتتملكهم الهيبة والقوة، لا اللطف والوداعة، كما ينبعثان من عينى شوكار.
وكان عز الدين أيبك يشعر بقوة تلك المرأة وسيطرتها على قلبه ويحبها حب تهيب واحترام لا حب شغف وتلهف. وزاده رغبة فيها ما كان يعلمه من منزلتها عند الملك الصالح وتقدمها فى داره ونفوذها عنده. فتودد إليها وبادلته هى حباً بحب، ووافق ذلك هواها لأنها من مطامعها الواسعة لا حول لها، وهى امرأة لا تطمع فى قيادة جند تستعين بهم فى نيل أغراضها، فرأت فى ارتقاء عز الدين إلى منصب كبير أمراء المماليك فائدة لها فأعانته على نيل ذلك المنصب فى زمن الملك الصالح، وهو لم ينس هذا الجميل لها. ولما سنحت فرصة أخرى يخدمها فيها بقتل طوران شاه لم يضيعها، وإن كان قد فعل ذلك لمصلحته أيضاً.
فلما أتم عمله أمس أنقذ بعض الخبر مع ركن الدين واحتفظ ببقيته لنفسه ليتلذذ بسماع الأطراء والإعجاب بدهائه وبسالته. وجاء فى ذلك الصباح على جواده مع جماعة من حاشيته وقواده، ولم يسترح إلا قليلاً ثم جاء إلى الإيوان، وبعث إلى شجرة الدر لتوافيه.
•••
لم تمض هنيهة حتى دخل الغلام يعلن قدومها، فوقف لها عز الدين، ثم أكب على يديها كأنه يقبلهما، فأجفلت وأشارت إليه أن يجلس، وجلست هى على السرير وجلس هو بين يديها، وأمرت الخدم بالخروج. ولما خلت به قالت: «أهل بك يا عز الدين. قد بلغنا بلاؤك فى إنقاذ البلاد من ذلك الغلام، جزاك الله خيراً، أنها خدمة للمسلمين».
قال بلهفة المحب الولهان: «إنما فعلت ذلك خدمة لسيدتى وحبيبتى شجرة الدر وطوعاً لأمرها».
فأثر كلامه فى خاطرها لأنها تحبه، فهاجت أشجانها وقالت: «أنى أعرف هذا الجميل لك يا عز الدين. وليست هذه هى المرة الأولى التى برهنت فيها على صدق مودتك، فأنا أسيرة ودادك».
قال: «يكفينى منك لفتة رضا يا سيدتى، ولاسيما الآن بعد أن صرت ملكة المسلمين».
فتظاهرت بالاستغراب وقالت: «ملكة المسلمين»، ماذا تقول؟». قال: «أنت الآن ملكتى والقابضة على قلبى وستصبحين غداً ملكة المسلمين وعصمة الدنيا والدين». قالت: «وكيف ذلك؟ أفصح».
قال: «لما قتل الملك المعظم أمس اجتمع الأمراء ودار الحديث على من يتولى السلطة بعده، واختلفت الآراء فقلت لهم: أننا لا نحب أن نستقدم أحداً من آل آيوب، وقد رأينا مصيرنا معهم، وشدد آخرون فى أن يكون السلطان من البيت الأيوبى، فقلت لهم نعمل عملاً وسطا؟ً نحن إنما نحترم من الأيوبيين مولانا الملك الصالح — رحمه الله — ولا نأمن أحداً من أهله، وهذه أم ولده خليل كانت من أعز الناس عنده، وهى عاقلة مدبرة، ومن أبناء جلدتنا وتغار علينا، فأرى أن نوليها هذا المنصب. فرضى القوم بذلك، واتفق رأيهم على أن تكونى ملكة مصر. ألا يحق لى أن أقبل يدك وأطلب رضاك؟».
قالت: «معاذ الله. استغفر الله. أنك حبيبى وصاحب الفضل على، لأنى لولاك لم أحصل على هذا المنصب. فأذا تم لى الملك فأنت صاحب النفوذ الأول فيه، فأدعوك مدبر الملكة. ومن وهو أولى به منك؟».
فانشرح صدر عز الدين لهذا الوعد، وهو ما كان يتمناه وقد حصل عليه على أن يتدرج منه إلى ما هو أعظم. فاظهر الشكر وأنه لا يستحق هذا الالتفات ونحو ذلك من أسباب المجاملة.
أما هى فأنها عرفت لصديقها فضله، وأخذت تثنى على علو همته وغيرته، وأنها لا تثق إلا به، وقالت له: «أنى لا استغنى عنك فى تدبير المملكة».
فقال: «أنت فى غنى عن تدبيرى لكننى طوع أرادتك وما تأمرين». وقضيا ساعة فى الحديث، وكل منهما قد طار قلبه فرحاً بما ناله، ثم قالت: «ومن الحكمة أن نفرق المناصب على أصحابنا الذين معنا من الجند لتتأيد هذه الدولة فماذا ترى؟».
قال: «دبرت كل شئ، ولا يخفى على سيدتى شجرة الدر أن جندنا مؤلف من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وأكثرهم من المماليك المتباعين. وإنما يهمنا نحن أن نقوى الأتراك لأنهم جندنا الأصليون فنقدمهم فى مناصب الدولة، وهم كما تعلمين طبقات من حيث المناصب، وفيهم أمراء المئين وأمراء الألوف، وكلهم من الفرسان الأشداء، وهم عضد الجند وقوته، فنفرق هذه الوظائف على كبار الأمراء الذين أخذوا بناصرنا فى هذا العمل. ومناصب الدولة غير الجندية عديدة أعظمها منصب أمير السلاح الذى يتولى حمل السلاح للسلطان فى المجامع الجامعة، والداودار الذى يبلغ الرسائل عن السلطان ويرفعها إليه ويستقبل من يحضر ويقدم البريد ويأخذ خط السلطان على جميع المناشير والتواقيع والكتب، والحاجب الذى يقف بين الأمراء والجند، وأمير جاندار الذى يسلم الزردخانة ويقتل من أراد السلطان قتله، والأستاذ دار وإليه أمر بيوت السلطان كلها، وغير ذلك من المناصب. فما الذى ترينه من أمر هذه المناصب؟ ثم لابد من إرضاء الجند بالعطايا».
قالت: «أنى تاركة أمر ذلك كله إليك لأنك ستكون مدبر المملكة، فتولى هذه المناصب من تثق بهم من رجالك وترى فيهم الإخلاص لنا، لكننى أطلب أمراً واحداً وهو أن تنظر فى أمر ركن الدين بيبرس الشاب الذى بعثت رسالتك معه. أنه من خيرة الأمراء فوله منصباً بحيث يكون قريباً منا».
فلما سمع أطراءها ركن الدين أحس بالغيرة، ورغم ثقته به حدثته غيرته أن يطعن فيه — والغيرة تعمى وتصم — ولكنه رجع إلى صوابه ودهائه وقال: «أن ركن الدين من خيرة الأمراء، صدقت. وأرى أن توليه الداودارية، وبذلك يكون قريباً منا».
أحست شجرة الدر بغيرة عز الدين — والمرأة أرق شعوراً من الرجل، ولكنها تجاهلت وأغضت لأنها لم يكن لها مطمع فى حب واحد، وإنما هى تحب العلى وتهوى السلطة وتبذل كل شئ فى سبيلها ثم قالت: «ومتى يأتى الأمراء من المنصورة؟».
قال: «أظنهم يكونون هنا غدا ليحتفلوا بتولية شجرة الدر ملكة على هذه الديار. ما أجمل هذا الاسم فى فمى! وما ألطف وقعه فى قلبى! فهل لاسمى شئ من ذلك فى قلبها؟». قال ذلك ونظر إليها نظرة عتاب.
فنظرت إليه وقد أدركت مراده وقالت: «سترى ثقتى وحبى، وستعلم مركزك بالفعل لا بالكلام. أراك تلمح وتستطلع كأنك تشك فى صدق مودتى. سامحك الله يا عز الدين..» وبان العتب فى عينيها.
فاعتقد صدق قولها وقال: «معاذ الله يا سيدتى..».
فابتدرته قائلة: «لا تقل سيدتى، أنت حبيبى، أنت سندى، أنت موضع ثقتى وعليك اتكالى. كن واثقاً بذلك..».
قال: «أنى واثق ولكن المحب كثير..».
فقطعت كلامه وقالت: «دعنا من ذلك فإنه مفهوم بيننا، وهلم إلى تدبير شؤوننا.. أنى أسمع لغطاً فى الدار».
فأسرع عز الدين وهو يقول: «أظن الأمراء قد وصلوا من المنصورة، ولعلهم يطلبون تقديم تحياتهم لك».
قالت مبالغة فى اكتساب قلبه: «وهل ترى أن استقبلهم؟».
قال: «لا أرى بأسا من استقبالهم إذا طلبوا ذلك لأنهم أصحاب فضل فى هذا الأمر، وقد رأيت منهم اذعاناً سريعاً لما اقترحت أن تصير السلطنة إليك. ولكن، طبعاً سترسلين الستر بينك وبينهم، ولاسيما أنت الآن ملكة المسلمين».
فنظرت إليه بطرف عينها وهى تبتسم وقالت: «أن عز الدين غيور، ولكن يسرنى ذلك، لأن الغيرة دليل المحبة، على أنى لم أكن أحتاج إلى تنبيه، وأنت تعلم أنى لا ألقى أحداً كما ألقاك». قالت ذلك وأشارت إلى الخصى الواقف فى خدمتها أن ينزل الستر. ولم يكد يفعل حتى جاء الحاجب يقول: «أن كبار أمراء الجند يلتمسون التشرف بمقابلة السيدة الجليلة». وذكر الحاجب أسماء الأمراء بلباى الرشيدى وفارس الدين أقطاى وبيبرس ركن الدين البندقارى وسنقر الرومى. فقال عز الدين بالنيابة عنها: «فليدخلوا».
دخل كبار الأمراء وحيوا تحية طيبة فاستقبلهم عز الدين بلطف. ثم تكلم الفارس أقطاى عنهم قائلاً: «أن الأمراء قادمون لرفع واجب التعزية إلى السيدة أم خليل فى القضاء الذى نزل بطوران شاه، ولابلاغها أن اختيارهم قد وقع عليها لتتولى أمور المسلمين، فعسى أن يقع ذلك لديها موقع الرضى».
فأجاب عز الدين عنها قائلاً: «أن مولاتنا السيدة الجليلة قد بلغها بلاؤكم الحسن أيها الأمراء فى سبيل مصلحة الدولة وقد وقع القضاء على ذلك الملك فأسفت لما أصابه، ولكنه جنى على نفسه رحمه الله».
فقال الأمير سنقر الرومى: «أنه الجأنا إلأى ما أتيناه لأنه لم يجعل لنا يداً فى شئون الدولة. وأن مولاتنا زوج ملكنا المرحوم الملك الصالح أولى الناس بهذا الأمر».
فأجابتهم من وراء الحجاب: «أنى شاكرة مروءتكم وحسن ظنكم، ولا يسعنى إلا الانصياع لما تم اتفاقكم عل يه وأنتم نخبة الأمراء أصحاب السيوف، وإنما أقبل هذا المنصب اعتماداً عليكم وثقة بكم لأنى لا أستطيع عملاً إن لم تأخذوا بيدى».
فصاحوا بصوت واحد: «نحن طوع أمر مولاتنا نفديها بأنفسنا. وغدا نحتفل بتوليتها فى القلعة إن شاء الله».
ثم تحولوا للخروج فرافقهم عز الدين وهو يقول لهم: «إن مولاتنا شجرة الدر كانت تحدثنى قبل وصولكم مثنية على بسالتكم وشجاعتكم، وقد أعدت الهدايا للأمراء والرجال، وقالت لى أنها إنما ترضى بالسلطنة لأنكم اخترتموها لها».
وقد صدقوه، وسرهم ما سينالونه من الهدايا — وهى العطايا يعطيها السلطان عند توليته — وقد اعتزمت شجرة الدر أن تجعلها كبيرة لعلمها بما يعتور سلطنتها من العقبات لأنها أول امرأة تولت ذلك فى الإسلام.
وخرج عز الدين لوداعهم وهو يثنى على همهم ويمنيهم، ثم عاد إلى شجرة الدر يلفتها إلى الهدايا وقيمتها، ثم افترقا على أن يمضى لتهيئة الاحتفال.
•••
لم تطلع شمس ذلك النهار حتى علم أهل جزيرة الروضة بما نالته شجرة الدر، وأنها أصبحت سلطانة مصر. وقد وقع الخبر موقع الاستغراب عند كثيرين، وموقع الغيرة والحسد عند زميلاتها جوارى الملك الصالح — وكل ذى نعمة محسود — وكانت أشدهن غيرة جارية كردية الأصل اسمها سلافة، كانت تفاخر سائر الجوارى بأنها من قبيلة الملك الصالح، وكان هو يقربها حتى جعلها قيمة قصره، لكنها لم تلد منه كما ولدت شجرة الدر، فأصبحت هذه أقرب جواريه إليه. وكانت سلافة بارعة الجمال لكنها قليلة الدهاء شديدة الغيرة سريعة النقمة.
وكانت مشهورة بجمالها الفتان، يتحدث أهل الروضة والقاهرة بحسنها وإن لم يرها منهم إلا القليلون. ومن بين الذين أتيح لهم رؤيتها تاجر بغدادى اسمه سحبان كان يتردد إلى مصر ومعه الأقمشة الفارسية والهندية، وكان الملك الصالح يدعوه إليه ويبتاع منه ما يختاره لنسائه من الأنسجة الجميلة ويطلب منه إحضار ما يحتاج إليه من مصنوعات العراق وفارس وغيرهما. فاتفق له وهو يعرض عليه بعض المنسوجات النسائية، وكانت سلافة حاضرة لتختار نوعاً منها، أن وقع بصره عليها فأخذت بمجامع قلبه، لكنه تجلد وتهيب، وشعرت هى بما جال فى خاطره، وتجاهلت أنه أصبح بعد تلك المقابلة يغتنم الفرص لإبلاغها ما يكنه فؤاده من الحب لها بهدايا يبعث بها إليها على أيدى بعض الخصيان دون أية إشارة، فيظهر ذلك منه مظهر الإكرام للملك الصالح لأنها قيمِّة داره ورئيسة جواريه.
فلما توفى الملك الصالح ضعف شأن جواريه، فتوسم سحبان بابا للنظر إلى سلافة نظر المحب الطامع بالقرب، فاحتال يوماً ببضاعة حملها إلى القصر كعادته، فلقيه أستاذ الدار ونساوماً، ولم تتأت له مشاهدة سلافة ولا مخاطبتها، وقد علمت هى بمجيئه وتجاهلت، وفى خاطرها أن تراه ولكنها لم تكن تعرف سبيلاً إلى ذلك، ولا حاجة لها إليه لأنها لم تشعر بالميل إليه.
فلما علمت بما صارت إليه شجرة الدر فى ذلك اليوم، وأنهم سيحتفلون فى الغد بتوليتها ملكة، وإن ذلك إنما جرى بسعى عز الدين أيبك — ولم تكن تخفى على سلافة علاقته الودية بشجرة الدر — هبت نيران الغيرة فى قلبها، وأصبحت تتقلب وتتعذب كأنها على قطع الجمر، وأخذت تفكر فى إيقاع الأذى بشجرة الدر، لا لسبب غير الغيرة، فإنما لذتها أن ترى تلك النعمة قد زالت عنها. ذلك هو داء الحسد العضال، وبين مرضاة من يفضل أن يشترك هو نفسه فى الأذى الذى ينوى إيقاعه بمحسودة على أن يراه رافلاً فى نعمته.
ضاقت سلافة ذرعاً بطول التفكير وهى جالسة فى غرفتها، فأرادت التشاغل ببعض الشئون، فتنقبت والتفت بملاءة من الحرير، وخرجت من قصر النساء من ممر يؤدى إلى حديقة تابعة لذلك القصر فيها الأشجار والجداول والرياحين والأزهار كان الملك الصالح قد تعود أن يقعد فيها صباحاً. وجاءها أحد خصيان القصر مسرعاً يعدو وهو يقول: «أن الشيخ سحبان جاء بأنسجة جديدة».
فلما سمعت اسمه أجفلت، لكنها أحست بانفراج كربها قبل أن تفكر فى كيفية ذلك — وهو تنبؤ نسائى مبنى على مجرد الشعور بلا برهان. فإن المرأة تأتيها الفكرة أولاً ثم تفكر فى برهانها — فالتفتت سلافة إلى الغلام وقالت: «أين هو؟».
قال: «وهو فى فناء القصر، وقد ذكرك بالتخصيص، وقال أن بين أقمشته أشياء تسرك».
فقالت: «لا أرى أن أعود إلى هناك. دعه يدخل إلى هذه الحديقة من بابها الخارجى لأرى بضاعته». قالت ذلك وأصلحت من شأنها وتنقبت بطرف الملاءة، وأصبح قلبها يخفق، ولم تكن تشعر بشئ من ذلك فى مقابلاته السابقة.
وبعد هنيهة دخل الغلام من باب الحديقة وهو يقول: «هذا الشيخ سحبان يا سيدتى». ورجع.
وكانت جالسة على كرسى بين الأزهار فالتفتت نحو الباب فرأت الشيخ سحبان كما كانت تراه قبلا بقلنسوته الفارسية وجبته السوداء ولحيته القصيرة الخفيفة وعينيه البراقتين، لكنها تفرست فيه هذه المرة فرأت فى وجهه معنى لم تلحظه من قبل. فلما دخل حياها فردت بمثل تحيته، وأشارت إليه أن يتقدم وقالت: «أين الأقمشة؟».
فتقدم وقال: «أنها لا تزال فى القصر مع الجمال، فإذا أذنت باستجلابها إلى هنا فعلت».
قالت: «لا بأس، دعها الآن هناك.. تفضل أجلس».. وأشارت إلى حجر منحوت كالكرسى، فجلس عليه وهو يصلح قلنسوته، فقالت له: «لم تكن عادتك إذا جئت بأقمشة أو نحوها أن تطلب سلافة باسمها».
قال: «وهل ساءك ذلك يا سيدتى؟».
قالت: «كلا.. لكنى لم أفهم السبب لتغيير عادتك معى».
قال: «غيرت عادتى جرياً مع التغييرات الكثيرة التى انتابت أهل هذا القصر فى هذا العام».
فتصاعد الدم إلى وجنيتها، وبانت البغتة فى عينيها، وتذكرت ما هى فيه فقالت: «صدقت، أن التغيير كثير — رحم الله الملك الصالح، أنه كان حرزاً لهذه الدولة، فلما مضى اضطربت أحوالها». وظهرت فى مآقيها دمعة أوشكت أن تسقط.
فقال سحبان: «نعم، رحمة الله، ولكن ما العمل؟ هذا قضاء مبرم يا سيدتى، والدنيا دول». قالت: «أعلمت ماذا جرى؟».
قال: «إذا كنت تعنين ما صارت إليه شجرة الدر فقد علمت».
قالت: «نعم، إياه أعنى، وكيف تراه يا سحبان؟».
فاستأنس بمناداتها له باسمه بلا لقب وقال: «أرى؟ ماذا أرى؟ أرى أمر أقل ما يقال فيه أنه لم يسبق له مثيل فى الإسلام».
فابتسمت وقد أشرق وجهها، وقالت: «أرايت مثل هذه البدعة قط؟» قال: «لا. لكننى». وبلع ريقه كأنه يحاذر أن يبدى رأيه.
فقالت بلهفة: «قل. ولكن ماذا؟ قل».
قال: «ولكن. كيف توصلت هذه الجارية إلى هذا المنصب؟ لا أدرى».
قالت: «ألا تعرف عز الدين أيبك التركمانى أمير الجيش؟».
قال: «نعم أعرفه، قد فهمت مرادك يا سيدتى. نعم فهمت الآن.
عرفت الفرق بين السيدة سلافة الكردية والمحظية شجرة الدر التركية».
فتوسمت من عبارته ما يوصلها إلى الموضوع الذى تريد الخوض فيه فقالت: «وما هو الفرق؟».
قال: «الفرق أن هذه وفت بالأمانة فى حق مولاها. وأن تلك أشركت سواه فى حقه».
فأظهرت أنها تعارضه وقالت: «لا. لا تقل ذلك أنها أم ولده خليل. لا. لا تقل ذلك».
فأدرك سحبان أنها تتظاهر بالاعتراض، فقال: «قد قلت يا سيدتى، أنى أتردد على هذا القصر منذ عدة أعوام، وقد رأيت سلافة مراراً وعيناى شاخصة إليها، وفى كل مرة أحاول أن أكسب منها لفتة فلا تفعل. ولم أر غيرها يحرص هذا الحرص. استأذنك يا سيدتى فى هذا التصريح. وأما سواك فمع كونها أم ولده فإن علاقتها مع عز الدين أيبك مشهورة، ومع ذلك فهى الآن ملكة المسلمين، ولابد لكل منا أن يصدع بأمرها».
فصاحت فيه: «أنها لن تكون ملكة وإذا صارت فالى أجل قصير».
ثم رأت أنها قد تورطت بالتصريح بما فى نفسها، فتراجعت والتفتت إلى ما يحيط بها، وتشاغلت بزهرة قطفتها من شجرة إلى جانبها وهى مطرقة وقد علت الحمرة محياها.
فتوسم سحبان فى ذلك المنظر فرجا فقال بصوت منخفض: «يا سيدتى لا ينبغى لنا أن نطيل الحديث بلا جدوى. إذا كان لابد لامرأة من أهل هذا القصر أن تحكم فأنت أولى من سواك لأنك أرقى درجة من سائر نسائه، وأنت من عصبة الملك الصالح رحمه الله، ولكن».
فقطعت كلامه قائلة: «لا. لا أريد أن أحكم. أن النساء لم يخلقن للحكومة يا سحبان، ولذلك قلت لك أن شجرة الدر لا ينبغى أن تبقى فى السلطة طويلاً، والآن أقول لك لا ينبغى أن تبقى أبداً». قالت ذلك وبان الغضب فى عينيها.
وأدرك هو أنها تستحثه على مساعدتها فى هذا الأمر فقال: «إذا كنت ترين فىّ مكاناً لثقتك فأنى رهين إشارتك. افصحى لى عماً ترينه». فغلب عليها الحياء، والوردة فى يدها، فجعلت تتشاغل بنشر أوراقها بيت أناملها كما يفعل المضطرب الأفكار وهو لا يدرى، فابتدرها سحبان قائلاً: «إذا كنت لم تفهمى مرادى بعد فانى أتجاسر وأفصح عما يكنه ضميرى لك يا سيدة الملاح.. أنى أسير هواك منذ عرفتك، وكلما زدت أعراضاً عنى أيام الملك الصالح ازددت إجلالاً لأخلاقك الفاضلة. وأما الآن وقد مضى ذلك الملك إلى سبيله، فهل ترين فى سحبان ما يستحق التفاتك وثقتك؟».
فاردادت حياء، وتوردت وجنتاها، وشعرت بخفقان قلبها، وأوشكت أن تنسى الأمر الذى كان شغلها الشاغل فى ذلك الصباح. ثم التفتت إلى ما حولها فلم تر غير الأشجار والرياحيين، ولم تجد ما تتشاغل به عن الجواب ريثما تعمل فكرتها. وأدرك سحبان ما دار فى خلدها فتحفز كأنه يريد النهوض، فمدت يدها نحوه وأشارت إليه أن يمكث. وظلت ساكتة وهى تعض شفتيها وتمسح جبينها وتصلح نقابها فقال لها: «دعينى أنصرف الآن فربما كان وجودى معك سبباً للقيل والقال».
فنظرت إليه نظرة اخترقت أحشاءه وقالت: «وأى قيل وقال؟ أنى لا أخاف أحداً، وأما وجودك هنا فإنه لازم لى».
فهش لها وضحك كأنه نال أمراً لم يكن يتوقع الحصول عليه وقال: «إذا كان وجودى هنا لازماً لك فأنى رهين أمرك».
•••
اعتدلت سلافة فى مقعدها والجد باد فى عينيها، ولو كشفت عن وجهها لظهرت دلائل العزم والإصرار حول شفتيها، وقالت: «هل أنت صادق فيما تقول؟».
قال: «جربى يا سيدتى. بعد أن تسمعينى كلمة منك يطئمن لها قلبى. ألا ترين فى الرجل الذى يستحق رضاك؟»
فأشارت برأسها وعينيها وقالت: «بلى! والدليل على ذلك أنى سأعرض عليك أمراً خطيراً لا يجوز أن يطلع عليه أحد على وجه الأرض» وسكتت.
فقال: «تفضلى يا سيدتى». قالت: «وسأكلفك بمهمة لا تخلو من الخطر».
قال: «روحى فداك. لا أبالى أن أموت فى سبيل رضاك».
فقالت: «أنت من أهل بغداد تسافر إليها كل عام، أليس كذلك؟».
قال: «أسافر إليها متى شئت». قالت: «ولماذا لا تمكث هناك؟».
قال: لابد من الجواب عن هذا السؤال؟». قالت: «نعم».
قال: «أن هذه الجلسة التى سمح الزمان بها على قصرها جعلتنى أشعر أن قلبينا متحدان من عهد بعيد. فاذنى لى أن أخاطبك بجسارة وصراحة». قالت: «هذا ما أريده منك».
قال: «لا أقيم فى بغداد لأنى شيعى، والخلفاء العباسيون يكرهون الشيعة ويطاردونهم، ولاسيما فى بغداد، فإنه لا تمضى سنة لا يقاسون فيها تعدياً أو اضطهاداً أو نهباً أو قتلاً، ففضلت الرحيل عن ذلك البلد، وإن كنت فى غنى عن التجارة، ولكننى جعلتها سبيلاً للأسفار. وإذا سافرت إلى بغداد فلا أمكث فيها إلا ريثما أبتاع البضاعة وأعود».
قالت: «هل تعنى أن الخليفة المستعصم الحالى يطارد الشيعة؟».
قال: «أكثر الخلفاء العباسيين فعلوا ذلك، والمستعصم هذا من أشدهم وطأة علينا، فقد قاسينا فى أيامه الأمرين». قال ذلك والغضب يتجلى فى وجهه.
فأطرقت وبان التردد فى عينيها وسكتت، فقال: «مالى أراك تترددين؟ قولى ما يخطر لك». قالت: «أخاف أن يكون فى قولى تعب عليك».
قال: «لا لذة فى الحب إن لم يرافقه التعب».
ولما ذكر الحب اختلج قلبها فى صدرها وقالت: «أنت تطلب ذلك باسم الحب يا سحبان؟». قال: «إذا كنت تأذنين».
قالت: «نعم. انظر يا سحبان. إن هذه الجارية التركية لا ينبغى أن تبقى ملكة إلا ريثما تصل أنت إلى بغداد وتعود منها».
ففهم مرادها وقال: «لك على ذلك. وهل تريدين أن أذهب بهذه المهمة من عند نفسى أم أكون رسولاً منك؟».
قالت: «بل تكون رسولاً تحمل كتاباً منى إلى بغداد، ولا يصل الكتاب حتى يأتى الجواب بخلعها لا محالة».
قال: «لمن تريدين أن يسلم الكتاب؟». قالت: «سلمه إلى قيمِّه قصر النساء هناك. أنها صديقتى، ولى معها مودة. هل تفعل ذلك؟»
فنهض وقال: «أفعله الساعة. هاتى الكتاب». ومد يده إلى منطقته واستل منها دواة مغروسة فيها واستخرج القلم منها ودفعه إليها وأخذ من جيبه ورقة بيضاء دفعها إليها فتناولت الورقة والقلم وهى تتفرس فى وجه سحبان وهو ينظر فى عينيها. بقيا لحظة على هذه الحال كأنهما يتفاهمان بالعيون. ثم قالت سلافة: «إن هذه هى المرة الأولى التى تخاطبنا فيها، ألا تعد ذلك تسرعاً منى؟».
قال: «جسى قلبك.. فمن القلب إلى القلب دليل. وإذا كنت فى ريب من صدق خدمتى أقسمت لك بما تريدين». وهم أن يقسم ولكنها أمسكت بيده وقالت: «لا حاجة إلى اليمين».
وكانت هذه هى المرأة الأولى التى تلمس فيها يدها يده منذ تعارفا، فأحس كلاهما بالقشعريرة وهى دليل التحاب، ولا تحدث عند كل تلامس بين الجنسين، وإنما تقع بين اثنين فى قلبيهما استعداد إلى الاتحاد. أو بالتعبير العلمى «بين كهربائيتهما تجاذب» ويزيد هذه القشعريرة ظهوراً قلة الاختلاط بين الجنسين والمبالغة فى التحجب، ويلوح للباحث فى نواميس الحب وظواهره أن أسبابه تقوى أو تضعف على حسب الأمزجة والأشخاص، أو كان الواحد متمم للأخر، فإذا اتلقى اثنان من هذا النوع شعرا بالتجاذب لأول مرة على أن للجمال المادى والمعنوى قواعد أجمع الناس عليها، يغلب فى أصحابها أن يلفتوا أنظار الناس ويجتذبوا قلوبهم.
فلما أحست سلافة بتلك الرعشة اتخذتها دليلاً على صدق مودة سحبان، وتناولت الورقة وأخذت تكتب، وكانت بارعة فى الخط والإنشاء لأن السلاطين كانت لهم عناية فى تعليم الجوارى الكتابة واللغة والأدب. ولما فرغت من الكتابة أقفلت الكتاب ودفعته إليه وقالت: «هذا سرى قد عهدت به إليك. إذا أفلحت فقد برهنت لى على ما تقول».
فتناوله وقال: «أستودعك الله». ومشى وهو يلتفت إليها حتى خرج من الحديقة، وظلت هى بعده واقفة تفكر فيما فعلته، فخالج ذهنها ندم على تسرعها، لكنها راجعت ما رأته وشاهدته منه، وتذكرت تاريخ معرفتها به، فلم تجد ما يوجب الحذر.
الفصل الرابع
أول ملكة للمسلمين
أصبحت القاهرة فى اليوم التالى وأهلها فى هرج، والناس يزحم بعضهم بعضاً نحو القلعة، بين راكب وماش، رجالاِ ونساء. حتى أصبحت ساحة الرميلة تحت القلعة غاصة بالناس من كل الطبقات، وقد اختلط بهم الباعة يحملون أنواع الكعك والفاكهة والثمار والمملحات والحلوى والمأكولات الجافة. وبينهم حملة الودع وكشاف البخت وفاتحو المندل، ينادى كل واحد على بضاعته على اختلاف الألحان وطبقت الأصوات، وقد علت ضوضاء الناس وأصوات الحيوان.
ولو أشرفت على الرميلة من سور القلعة لرأيت الساحة بقعاً، يشغل كل بقعة جماعة متشابهون لباساً وشكلاً، أكثرهم قاعد القرفصاء، يلهو الواحد منهم بشئ يمضغه أو عوعد ينكت به الأرض أو أداة يلاعب بها أصابعه. وهناك جماعات التفت على رجل يلاعب دباً أو قرداً، ثم يدور عليهم بدفة يجمع ما يجودون به من الدوانق، وجماعات هدأ جوهم لاشتغالهم بحديث يقصه عليهم شيخ منهم يبذل جهده فى اجتذاب قلوبهم ونيل إعجابهم، وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، وقد أخذهم الاستغراب.
ولو أتيح لك حضور تلك المجالس لرأيت عجباً وأخذتك الدهشة من أخلاق العامة وسرعة تصديقهم للغرائب، لأنك قد تسمع حديثاً أنت أعلم الناس به فتجده تشوه واضطرب حتى انقلب إلى غير ما تعرفه، وقد تنكره وتظنه حديثاً أخر. ويزداد تحريفهم للأحاديث بنسبة ما تحويه من الغرابة عن مألوفهم، فما ظنك فى موضوع ذلك اليوم، وهو تنصيب امرأة ملكة على المسلمين، مما لم يسبق له مثيل فى تاريخهم. فتضاربت أقوالهم فى ذلك، واخترعوا الأسباب الباعثة عليه، وافترضوا الأسرار، وتكهنوا بمصير هذه الحال، وزعم بعضهم أنهم صاروا فى أخر الزمان، وسوف تنقضى الدنيا، لأن ذلك من دلائل الفناء.
وبينما هم فى ذلك إذ سمعوا نفخ الأبواق وقرع الطبول، ثم رأوا موكب أمراء المماليك البحريين متوجهاً نحو القلعة وفى مقدمته كبراء الفرسان بالملابس المذهبة تتلألا فى شعاع الشمس حتى يكاد بريقها يذهب بالإبصار، وبعدهم هودج شجرة الدر تحمله البغال وقد تجلل بالحرير المزركش، وأحاطت به الفرسان فى أزهى الملابس وأجملها وفيهم حملة الأعلام، ووراءهم كوكبة من الفرسان أصحاب المزاريق ثم كوكبة من حملة الرماح، ووراءهم جماهير الناس مشاة على أقدامهم يموجون كالبحر الزاخر، وفيهم من تبطل وأوقف عمله لمشاهدة موكب الملكة، وهو لا يرجو شيئاً من وراء تلك الخسائر، وإنما يساق العامة إلى ذلك بفطرتهم الساذجة وميلهم الطبيعى إلى مشاهدة الغرائب، فهم يؤخذون بالظواهر ويتبعون كل ناعق. ولذلك كان إجماع العامة على أمر ما لا يدل على صوابه.
وصل الموكب إلى باب القلعة الكبير المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرج، وكانت طائفة من الجند قد وقفت هناك بالسلاح لتمنع الناس من الدخول. وللقلعة باب أخر نحو القرافة أقفلوه فى ذلك اليوم لئلا تتزاحم الأقدام فى ساحة القلعة، وهى ساحة كبيرة فى وسط القلعة تنتهى بمصطبة وراءها باب كبير هو الباب الداخلى المؤدى إلى الأبنية الخاصة بسكنى السلطان والأمراء والأجناد، وفيها الجامع والإيوان.
دخل الموكب القلعة من بابها المدرج، وظل العامة خارجها يكتفون بما يسمعونه من قرع الطبول ونفخ الأبواق. وقطع الموكب الساحة حتى وصل إلى الباب الداخلى المذكور ففتحوه، ولم يأذنوا لغير الخاصة بدخوله، ولاسيما الأمراء وأرباب المناصب ونحوهم، وخلفوا فى الساحة جمعاً من الخاصة اكتفوا بأنهم امتازوا عن سائر العامة بدخول القلعة.
ودخل الموكب من ذلك الباب إلى ممر فسيح تحف به الأبنية وهناك ترجل الفرسان، واعتنى جماعة بشجرة الدر فأنزلوها عن الهودج، وبينهم وبين الإيوان الكبير ممرات وأبواب لابد من اجتيازها، وكانوا قد فرشوها بالسجاد وعلقوا على أبوابها الرياحين والأعلام، ومشى عز الدين أيبك وسائر الأمراء — وهم بملابسهم الفاخرة — بين يدى شجرة الدر، وهى فى ذلك اليوم فى أبهى ما يكون من اللباس، وكانوا قد أعدوا لها قبة من الحرير المطرز قائمة على أربعة أعمدة يحملها نفر من القواد، وقد أريخت ستائرها. وشجرة الدر فى داخلها، ومعها جاريتها شوكار وبعض الوصيفات.
لم يصل إلى الإيوان الكبير إلا الخاصة وكبار الموظفين وهم أصحاب المطامع وطلاب السيادة، يسخرون العامة لأغراضهم ويسوقونهم كالأنعام لا يدرون مصيرهم، وربما اكتسبوا رضاهم بأكلة يطعمونهم إياها أو بصلاة يتلونها بين أيديهم، أو دعاء لولى أو قديس يعرفون أنهم يعتقدون كرامته.
ظل أصحاب القبة سائرين حتى وصلوا إلى صدر الإيوان، وكانوا قد نقلوا إليه سرير السلطنة الذهبى، فجعلوا القبة فوق السرير وأرخوا ستأئرها حوله فقعدت شجرة الدر على السرير وبين يديها شوكار والوصائف يأتمرن بأمرها ولا يراها أحد من الحضور. ثم دخل قاضى القضاة فقعد إلى يمين القبة، ووراءه صاحب بيت المال وناظر الحسبة، وإلى يساره كاتب السر وغيره من كبار أرباب المناصب وذوى السن وأمراء المشورة، وجلس بين يدبى القبة فى وسط الإيوان الأمير عز الدين أيبك أمير الجند، وكبار أمراء المماليك وبينهم ركن الدين بيبرس. ووراء القبة والسرير صفان من حمة السلاح، ووراءهم الحجاب ونحوهم، وأتوا فى جملة ذلك بجماعة من أسرى الأفرنج عليهم ألبسة الأسرى مبالغة فى الاعتزاز.
وبعد أن استقر بهم الجلوس على هذه الصورة وقف عز الدين أيبك ووجه خطابه إلى الجمع وقال: «أيها الأمراء والقواد. لا يخفى عليكم ما أصاب الملك المعظم طوران شاه. أنه أساء السيرة وأراد التنكيل بجند هذا الجلد البحريين الذين عرفتهم بلاءهم فى زمن الملك الصالح رحمه الله فى حرب الأفرنج وغيرهم، فوقع القضاء عليه، ولما خلا كرسى السلطنة ممن يسوسها لم نجد من هو أولى بها من أصحاب الحق فيها إلا مولاتنا الصالحة شجرة الدر والدة خليل وصاحبة الملك الصالح لما نعلمه من ثقة مولانا المرحوم بها وهى أم ولده، فأجمع رأى الأمراء والنواب والقضاة على اختيارها ملكة تتولى شؤون الدولة بمساعدتهم. وقد تعهد أصحاب السيوف بطاعتها لإحقاق الحق وحماية بيضة الدين. ونحن الآن نحتفل بتنصيبها، وسندعو لها على المنابر بعد مولانا أمير المؤمنين المستعصم بالله. وسننقش أسمها على الدنانير والدراهم فادعوا لأمير المؤمنين».
فضج الجميع بالدعاء للخليفة وهم وقوف، ثم تقدمى قاضى القضاة فدعا لشجرة الدر قائلاً: «وأحفظ اللهم ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح».
فقال عز الدين أيبك: «وقد عهدت إلى فى تدبير المملكة باسمها، وولت الأمير ركن الدين بيبرس الدوادارية الخاصة. وأمرتنى أن أثبت أصحاب المناسب الموالين لنا فى مناصبهم من أصحاب الأقلام وأصحاب السيوف». وثم أشار إلى صاحب الستر الواقف بجانب القبة فأزاح الستر، فبان داخل القبة فإذا هى مبطنة بأطلس أسفر مزركش، وفى صدرها شجرة الدر جالسة على السرير قد أرخت النقاب وعلى رأسها العصائب السلطانية وهى صفر عليها ألقاب المملكة مطرزة بالذهب.
فعاد الناس إلى الدعاء لها، ثم أرخوا الستر وعاد عز الدين إلى الكلام فقال: «وعما قليل نحتفل بقراءة المرسوم الذى سيرد علينا من أمير المؤمنين المستعصم بالله يؤيد سلطنة مولاتنا حفظها الله».
وكان الناس فى أثناء الاحتفال سكوتاً كأن على رؤوسهم الطير، وقد أخذتهم الدهشة لأنهم لم يسمعوا بمثل هذه الولاية، وفيهم الغاضب والعاتب والمعترض ولكن لم يجسر أحد منهم على الكلام لعلملهم أن هذه السلطنة إنما كانت بتواطؤ المماليك البحريين أصحاب القول فى ذلك العهد.
وقبل الفراغ من الاحتفال أشار عز الدين إلى بعض الوقوف من الداودارية فمضى وعاد ومعه الأطباق عليها صرر النقود، فأخذوا يوزعونها على الحضور وعلى كل صرة اسم صاحبها.
ولما هم الحضور بالانصراف وقف عز الدين أيبك وقال: «أيها الأمراء: أن مولاتنا ملكة المسلمين اقتضت إرادتها أن تنقل دار السلطنة من جزيرة الروضة إلى هذه القلعة، وستكون هذه القلعة مقر أرباب المناصب بدلاً من قلعة الملك الصالح فى الروضة، لأن السبب الذى من أجله جعلها الملك المرسوم كرسياً للسلطنة قد زال».
فكان لهذا التغيير وقع حسن عند بعض السامعين ووقع سئ عند آخرين، ولكن لم يجسر واحد على إبداء رأى أو ملاحظة. وانقضت الحفلة وانصرف كل إلى مكانه، وانتقلت شجرة الدر إلى قصر خاص بالسلطنة هناك. وأخذوا فى نقل الرياش وغيره من جزيرة الروضة، ولم تعد تلك الجزيرة كرسياً للسلطنة من ذلك الحين، وأخذوا فى تعريتها من زخرفها ونقوشها ولاسيما لما صارت السلطنة إلى عز الدين أيبك فإنه أمر بهدمها ونقل ما كان فيها من الأعمدة والنوافذ والسقف والأخشاب لبناء مدرسة باسمه فى القاهرة.
وكانت شوكار فى أثناء الاحتفال مع شجرة الدر فى الهودج كما تقدم. فلما رفع الستر انزوت فى مكان ترى الحضور منه ولا يرونها، وكان نظرها لا يتحول عن ركن الدين وهو بلباسه الرسمى، على رأسه القلنسوة الجندية ولباسه مزركش بالقصب وقد زانه شبابه. ورسها على الخصوص ما سمعت من أنه صار داودارا لسيدتها لعلمها أنه أصبح أقرب إليها إذ يكثر تردده إلى قصر الملكة لقضاء مهام منصبه، فخفق قلبها فرحاً وتحققت قرب السعادة لأنها ستكون زوجة لداودار السلطنة.
•••
انتقلت شجرة الدر بعد انقضاء الاحتفال إلى قصر السلطنة، وقد أعدوا لها فيه غرفة فرشوها بأحسن الرياش. ودخلت الغرفة يحيط بها الجوارى والوصائف وفى مقدمتهن شوكار فأخذن فى تبديل ملابسها، ثم أمرت الخدم بالانصراف، فلما خلت بنفسها أخذت تفكر فيما صارت إليه مما لم تكن تحلم به فى صباها، وتذكرت صباها وكيف كانت تنظر إلى السلاطين وال ملوك، وما كانت بينها وبينهم من المسافات البعيدة، وكيف أصبحت اليوم ملكة المسلمين تطأطى لها الرؤوس وتعنو لها الرقاب. فلما تصورت ذلك انشرح صدرها وانبسطت نفسها، لكنها لم لبثت أن فكرت فيما يعتور ذلك المنصب من المشاق، وما فى مصر يومئذ من المشاكل والحروب مع الصليبيين، عدا الأحزاب المختلفة بين رجال الدولة والجند، فانقبضت نفسها.. لكنها لم تذكرت عز الدين مدبر المملكة ومن معه من الأمراء الذين يأخذون بناصرها للعصبية أو للعطاء، هان الأمر عليها، وأن بقى الانقباض ظاهراً فى وجهها.
وبينما هى فى ذلك إذ دخلت عليها جاريتها شوكار والفرح يتجلى فى وجهها وأكبت على يد سيدتها تقبلها وهى تقول: «الحمد لله على نعمه يا سيدتى.. أنت ملكة المسلمين.. ألم أقل لك عندما رأيتها على ذلك السرير أنه لائق بك؟. مالى أراك منقبضة النفس؟ هل ساءك مجيئ الآن؟ هل تأمرين بانصرافى؟».
فطوقت عنقها بيديها وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهى تقول: «كيف تنصرفين يا شوكار؟!. لا. لا. لست منقبضة من شئ. أنى شاعرة بالسعادة التى أنا فيها والحمد لله. ولكننى أفكر فى المهام الكثيرة التى بين يدى. كنت قبل الآن أتمنى أن يتم هذا الأمر لى، فلما تم ذهبت شهوة ذلك الميل، وتبين لى المنصب بما يحف به من المشاكل والمسؤوليات».
فأرادت شوكار مداعبتها لتشغلها عن تلك الهواجس فقالت وهى تضحك: «إذا كنت قد كرهت هذا المنصب فأنا آخذه منك وأخفف عنك مهامه».
فابتسمت شجرة الدر وقبلت شوكار ثانية وقالت: «لم أكره هذا المنصب يا عزيزتى، فأنى لم أذق منه شيئاً بعد، لكن لا ينبغى لى أن أتغاضى عما يحيط به من أسباب العناء».
قالت: «أن هذه الأسباب لابد منها. وهذا مولانا عز الدين مدبر المملكة يحمل عنك كل أثقالها، وهذا ركن الدين. أنه بطل». ولما ذكرته خجلت وأطرقت حياء.
فضحكت شجرة الدر من قولها ومدت يدها إلى جبينها تمسحه وقالت: «إن ركن الدين بطل. وإذا شئت أن ترى ذلك وتختبريه فأنى سأكلفه بمهمة ذات بال لا أرى بين الأمراء من أثق به وأعول عليه فى قضائها غيره. هل تأذنين فى ذلك؟»
فخجلت شوكار من هذا الاستئذان وقالت: «من أكون أنا ليؤخذ الإذن منى؟ ألسنا جميعاً عبيداً نصدع بالأمر؟».
فلما سمعت هذا التعبير — وهو مما يقال للملوك — عظم الأمر عندها، لكنها كانت عاقلة تنظر فى الأمور إلى حقائقها، ولا يهمها الزخارف فقالت: «كلنا عبيد يا شوكار، وإنما سألتك لأن ركن الدين يهمك الآن. أليس كذلك؟.
فقالت وقد توردت وجنتاها من الخجل: «هبى أنه لى، فأنا لم أكن لأحصل عليه لولاك».
قالت: «ليس هذا هو المهم فى الأمر يا شوكار، ولكننى أحب قبل أن يعقد له عليك أن يأتى عملاً يوجب له الفخر على أقرانه، فإذا تزوجك بعد ذلك زاد افتخارك به».
قالت: «الأمر لك فى كل حال». لكنها فى الحقيقة لم يسرها هذا الأمر، لأن ركن الدين من الأمراء المعروفين. وإذا لم يكن بد من زيادة أسباب شهرته فليكن ذلك بعد العقد.. وقد أصبحت لفرط غبطتها بذلك النصيب تخاف أن يؤخذ منها، لكنها لم تستطع إظهار غير الرضا. أما شجرة الدر فأنها لحظت ترددها وما خامر ذهنها من هذا الأمر فتنهدت ونهضت وقالت: «اتبعينى يا شوكار».
فتبعتها وهى تفكر فى غرضها من هذا النهوض، فإذا هى قد مشت فى ممر إلى غرفتها الخاصة. وهى غرفة أعدوها لها بأثمن الرياش، فدخلت واستقلت على سريرها بلا كلفة وهى تقول: «آه يا شوكار، لقد تعبت من التفكير، وشعرت بثقل العمل الذى أخذته على عاتقى.. أطربينى بصوتك الرخيم لعى أروح عن النفس قليلاً».
فسرها هذا الاقتراح، وأمرت بعض الغلمان بإحضار العود، فتناولته وأخذت تضرب عليه بإتقان، وتغنى أغانى تعلم أن شجرة الدر تطرب لها، فآنست منها استحساناً كثيراً وهى تضحك لها وتعجب بها، وشوكار تائهة الفكر فى ركن الدين، وتود لو يكون حاضراً لتراه لعلها تتحقق منه شيئاً. لأنها لم تملك فرصة تسمع منه فيها قوله أنه يحبها، وأحست هى أنها أحبته وخافت ألا يكون قد بادلها حباً بحب، وبان انقباض قلبها فى وجهها، وظهر أثر ذلك فى ضربها وغنائها، فقالت لها شجرة الدر: «ما بالك يا شوكار؟» فانتهبت لنفسها وقالت: لا شئ يا سيدتى». ثم ابتسمت لتخفى ما بها وقالت: «شكراً يا مولاتى.. أنى محاطة بكل أسباب السعادة والحمد لله». وسكتت وفى سكوتها شبه إنكار.
فلحظت شجرة الدر شيئاً مما اعترى جاريتها شوكار فقالت: «لا شئ يا سيدتى». ثم ابتسمت لتخفى ما بها وقالت: «شكراً خاطرك شيئاً تكتمينه. هل ساءك ما قلته عن ركن الدين من أمر السفر؟».
قالت بلهفة: «كلا يا سيدتى، أن ما تأمرين به لا يكون فيه غير أسباب الراحة والسعادة ولكن». وأطرقت حياء.
قالت: «ولكن ماذا؟ أن هذا الأطراق يعجبنى من الفتاة فى مثل هذه الحال، يظهر أنك تشتاقين رؤية ركن الدين قبل سفره. ولعلك تحبين أن تعرفى رأيه فيك. أنى سأدعوه الساعة يجالسنا بحجة عزمى على تكليفه بتلك المهمة». وصفقت فجاء بعض الغلمان فأمرته أن يدعو الداودار ركن الدين، وعادت إلى مشاغله شوكار فقالت لها: «لا يمضى كثير حتى يأتى ركن الدين.. غنى شيئاً من عندك».
فأخذت تغنى، وقد فرحت بقرب قدوم ركن الدين، لكنها أحست بخفقان قلبها فتشاغلت بالضرب والغناء.
وبعد قليل جاء الغلام يقول: «أن الأمير ركن الدين بالباب». فقالت: «يدخل». وأشارت إلى شوكار أن تسكت.
فدخل وألقى التحية، فابتسمت له، وقد ألقت النقاب بعض الشئ على رأسها، وفعلت شوكار مثل فعلها. وقالت شجرة الدر: «مربحاً بالبطل ركن الدين.. تفضل». وأشارت إلى كرسى بين يديها، فجلس عليه وهو يتأدب فى نظراته ويفكر فى سبب تلك الدعوة، فقالت شجرة الدر: «أتعلم يا ركن الدين لماذا دعوتك؟». قال: لا يا سيدتى. وإنما أعلم أنى سيف من أسياف مولاتى ترمى بى حيثما شاءت». فقالت: «بارك الله فيك. لكن هل تفعل ما تفعله إكراماً لى وحدى؟».
فلما سمع قولها علم أنها تداعبه وتشير إلى علاقته المستقبلة بشوكار، فسره أنها بادرته بالحديث فقال: «نعم يا سيدتى، لأنك أنت صاحبة الأمر والنهى من كل وجه». والتفت إلى شوكار وابتسم.
فخجلت شوكار وبان الخجل فى عينيها وأطرقت، فقالت شجرة الدر: «أرى شوكار قد خجلت، ويعجبنى الحياء منها، لكننى أحب أن تسمعنا لحناً أخر يشاركنا ركن الدين فى سماعه. ما رأيك؟».
فقالت: «أنى رهينة أمرك يا سيدتى». قالت: «أسمعينا أو أسمعيه، لعله يسمعنا ما يطرب من غير لحن أو نغم».
فتناولت شوكار العود وأخذت تضرب عليه وتغنى حتى أخذت بمجامع قلب ركن الدين، فطرب طرباً كثيراً وهاجت عواطفه، وكان قد سمع عن صوت شوكار ولم يسمعه. أما وقد سمعه فازداد إعجاباً به وتعلقاً بزواجها، وعلم مقدار النعمة التى وهبته إياها شجرة الدر لما وعدته بتلك الغادة المطربة.
وكانت شوكار تضرب وتغنى وعيناها تراقبان حركات ركن الدين، فرأته قد هاجت أشجانه وبان الطرب والهيام فى وجهه، ولولا تهيبه من وجود الملكة لقال أشياء كثيرة. ولحظت شجرة الدر أيضاً ذلك وسرها ما لحظته، لأنها كانت تريد أن تقبض على قلب ركن الدين لتستخدمه فيما تريد من الأمور، إذا أصبحت — بعد أن صارت ملكة — تخاف من الدسائس والمناظرين من الداخل والخارج. وقد توسمت فى ركن الدين همة عالية وبسالة فأرادت أن تملك قلبه ليكون طوع إرادتها فيما قد تعتزم فعله، لأنها كانت سيئة الظن فيمن حولها حتى عز الدين أيبك صديقها، كانت ترى أنه غير أمين لها وأنه إنما يظهر الطاعة موقتاً.
فلما رأت هيام ركن الدين بشوكار قالت له «هل أعجبك صوتها يا ركن الدين؟».
فتحرك احتفاء بذلك الاستفهام وقال: «تسأليننى عن صوتها؟ ألا يكفى أنه يعجب ملكة المسلمين؟ ومن لا يطرب لهذا الصوت الرخيم؟».
قالت وهى تضحك: «أرجو ألا يكون الصوت وحده الذى أطربك». فالتفت خلسة إلى شوكار وسكت.
فقالت شجرة الدر: «أراك تستشيرها فى ذلك، هل تشك فى أنها تعجب بك؟».
قال: «إذا كانت ترى فىّ شيئاً حسنا فإنما تراه بناء على رضا مولاتى الملكة عنى».
قالت: «لا أنكر أنى وسيلة التعارف بينكما، لكنها تسمع عن البطل ركن الدين من قبل، ويكفى ما تسمعه منى عن بسالتك. ويعجبنى منها أنها لا يعجبها غير رجال الحرب المستبسلين فى الدفاع عن الدولة. ولذلك سألتك حين دخولك هل تعلم لماذا دعوتك فأجبت جواباً وقع من نفسى موقعاً حسناً، ولاشك أنه وقع مثل هذا الموقع عند شوكار. وقد لحظت ذلك فى عينيها، وبدلاً من أن أتم حديثى معك طلبت إليها أن تسمعك صوتها وقد فعلت.. وأنى فى غاية السرور من تقارب قلبيكما. فلنعد إلى ما كنا فيه. قل لى هل تعلم لماذا دعوتك، ونحن فيما نحن فيه من أمر الأفرنج فى دمياط وحولها؟».
قال: «أنك تريدين أن أكفيك أمرهم، وهذا هين».
قالت: «سيعهد إليك الأمر عز الدين غدا فى ذلك، ولكننى أحببت أن أطمئنك أن هذا العمل يرضى شوكار، وأنها تحب الشجعان البواسل. ومن الجهة الأخرى لحظت من شوكار أنها». وضحكت وهى تنظر إليها ثم قالت: «لحظت أنها تحب أن تتحقق رأى ركن الدين فيها».
فغلب الحياء على ركن الدين وقال: «هل لركن الدين رأى بعد أمر مولاتنا الملكة؟».
قالت: «هى لا تريد أن يكون حبك لها طوعاً لأمر الملكة».
قال: «أن أمر الملكة كان فاتحة الكلام، ولكننى أحبها الآن طوعاً لأمر قلبى. ويكفينى أن يكون عندها نصف ما عندى». قال ذلك ونظر إلى شوكار فأطرقت خجلاً، وتكلمت عيناها بما يعجز اللسان عن الإفصاح به».
•••
لما وثقت شجر الدر من ترابط قلبى ركن الدين وشوكار، التفتت إليه قائلة: «والآن يا ركن الدين كن رجلاً مثل عهدى فيك. إن نجاحك فى هذه المهمة ضامن لوصولك إلى الرتب الرفيعة. سر بحراسة الله، ولكن قبل ذهابك صافح شوكار وضع يدك فى يدها. أنى أسمح لكما بذلك».
فتقدم ركن الدين ومد يده ومدت شوكار يدها وتصافحا، وهى أول مرة تلامست فيها يداهما، فكأنهما تفاهما وتعاقدا. ثم انحنى ركن الدين أمام شجرة الدر وودعها وخرج، فأحست شوكار كأن قلبها قد خلع من صدرها وسار معه.
فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «ألم أقل لك أنه يتفانى فى حبك، وسيزداد حبك له عندما ترينه عاد ظافراً من ساحة الحرب. أنه سيناضل ويحارب باسمك.. فأهنئك يا عزيزيتى بهذا البطل».
فأطرقت وقلبها يخفق طرباً، ثم أذنت لها بالانصراف لتتفرغ لمهام الدولة. وما كادت تخرج من عندها حتى جاءها الحاجب ينبئها بقدوم عز الدين نائب السلطنة فقالت للحاجب: «قل له ينتظرنى فى الإيوان».
وكان عز الدين قد جاء إلى الإيوان لملاقاة حبيبته على حدة ليهنئها بما نالته، وهو يتوقع أن تكثر من الثناء عليه عند المقابلة على انفراد لأنه كان السبب فى نيلها ذلك المنصب الذى لولاه لم تكن لتناله فلما لم يجدها هناك. قصد إليها فى غرفتها، ولكنه رأى ركن الدين خارجاً من عندها، وعلى وجه إمارات الهيام، ودهش ركن الدين عند مشاهدته وحياة وقد ظهرت البغتة فى كلامه. أما عز الدين فإن الشك تسرب إلى فكره، وشبت الغيرة فى قلبه فلم يزد على رد التحية، وعزم على استطلاع سبب وجود ركن الدين هناك حالما يلاقى شجرة الدر فى غرفتها.
فلما عاد إليه الحاجب بأن ينتظر شجرة الدر فى الإيوان زادت وحشته وعظمت غيرته وخيل إليه أن شجرة الدر غلبت الكبرياء على قلبها حتى أصبحت تستنكف من ملاقاة صديقها وسبب نعمتها فى غرفتها. لكنه أخذ يغالب شكوكه وتجلد وذهب إلى الإيوان فى انتظارها. واتفق أنها تباطأت فى الوصول ريثما بدلت ثيابها، ثم جاءت وهى تجر ذيل ثوبها الملكى والوصيفات بين يديها. فلما دخلت وقف لها ورحب بها فحيته وأشارت إليه أن يجلس وصرفت الخدم.
فلما رآها تهش له تغير ما فى نفسه وأغضى عما سبق إلى ذهنه وقال: «جئت لأهنئ مولاتى بمنصبها، وأرجو أن تتأيد دولتها».
فابتسمت ابتسامة الشكر وقالت: «أنى لا أنسى فضلك فى ذلك يا عز الدين، ولابد لى من الاتكال عليك فى فض المشاكل التى تنتاب الدولة».
قال: «أنى رهين الإشارة يا سيدتى».
قالت: «أنت تعلم ما يحيط بنا من الحساد وما يهددنا من الأعداء ولاسيما الأفرنج فإنهم لا ينامون من مناوأتنا».
قال: «لا يشغلك شاغل من أمر هؤلاء فأنى مدبر أمرهم».
قالت: «بارك الله فيك.. غير أنى رأيت ركن الدين يليق بهذا العمل. وقد سمعتك تثنى على بسالته. وقد اتفق أنى رأيته اليوم وذكرت أمر الأفرنج بين يديه فرأيت منه ارتياحاً إلى الخروج إليهم غير أنى أحببت أن يكون ذلك برأيك».
فلم يعجبه قولها أنها رأته اليوم، وكيف تراه إن لم يكن ذلك على موعد بينهما؟. وكيف يكون ذلك فى غرفتها لا فى الإيوان؟. لكنه تجاهل وقال: «إن ركن الدين أهل لثقتك. لا بأس من أن يعهد إليه فى ذلك بأمر منك رأساً».
فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت ورقة ملفوفة وقالت: «إليك ما كتبته له فى ذلك».
فتناول الورقة وفضها فإذا هى أمر صادر إلى ركن الدين هذا نصه: من ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجليل، والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح رحمه الله إلى القائد الباسل الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى. نظراً لثقتنا الكبرى ببسالتك وعلو همتك، ولما ظهر من بلائك فى دفع الأفرنج عن بلادنا، ولما كان هؤلاء الملاعين لا يزالون يناوئوننا فى جهات دمياط، عهدنا إليك بعد مشورة مدبر مملكتنا الأمير عز الدين أيبك أن تخرج إليهم برجالك الذين تختارهم وتكفينا أمرهم. وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
والدة خليل فلما قرأ الأمر أعجبه قولها أنها فعلت ذلك بمشورته، فطوى الكتاب وبعث به إلى ركن الدين، وعاد إلى محادثتها فى شئون الدولة، وهى تبذل جهدها فى مجاملته ليطمئن قلبه لها، ولا يزال الشك يخامره — والمحب كثير الشكوك — لكنه كان يطرد تلك الشكوك من خاطره، فلما انصرف من عندها وخلا إلى نفسه عادت إليه الشكوك.
أما ركن الدين فإنه لما جاءه كتاب شجرة الدر بادر إلى تنفيذه، وقد اتسعت آماله فيما تطمح إليه نفسه من الارتقاء فى مناصب الدولة، وهو يرى نفسه أهلاً لأكبر المناصب. فإنه كان كبير المطامع عالى الهمة، والدولة فى اضطراب، وقد خطر له أن الدولة التى تستطيع امرأة أن تصير ملكة فيها لا يعجز فيها عن نيل ذلك مثله، ولكنه يعلم أن مطلبه عسير وعز الدين أمامه، وهو صاحب النفوذ الأقوى عند الجند وعند شجرة الدر نفسها. على أن ما آنسه من ملاطفة فى ذلك اليوم بعث فى نفسه بعض الشجاعة، فتكم مطامعه هذه عن الجميع لعلمه بما يعتور ذلك من الخطر. ومع ذلك فإن حبه شوكار هون عليه كل عسير وصار من أقوى الدوافع له على طلب العلا.
أما شوكار فإنها أصبحت بعد سفر ركن الدين إلى دمياط شديدة الميل إلى سماع أخبار الحرب واستطلاع ما جرى، وهى تصبر نفسها، وكلما طال انتظارها ازدادت شوقاً ولهفة. وأما هو فكان يغتنم قدوم بعض خاصته للسؤال عنها وتتبع أحوالها.
ومضى على ذلك ثلاثة أشهر لم يأت إلى القاهرة خلالها إلا مرتين، فاجتمع فيهما بشوكار على علم شجرة الدر وسمع غناءها. وفى المرة الثانية تواعدا على العقد بعد رجوعه، فمكثت تنتظر ذلك بفارغ الصبر كأن قلبها دلها على سوء سيصيبها.
•••
مشى عز الدين بعد خروجه من الإيوان إلى المنزل الخاص به فى القلعة، ودخل غرفة فيه تطل على القاهرة، وقد تعمد الخلوة ليفكر فى تلك الظنون التى غزت قلبه، وهو لا يزال فى أول هذا الدور الجديد، وجلس على مقعد بجوار النافذة، فوقع بصره على القاهرة وما وراءها من الفسطاط إلى النيل وفيه جزيرة الروضة، فتذكر الملك الصالح، وأيامه هناك مع شجرة الدر، فمر فى مخيلته تاريخ علاقته بها، فلم يجد ما يوجب شكا فعاد إلى حسن الظن.
وبينما هو فى ذلك إذ جاءه غلام ينبئه بمجئ أمرأة منقبة تريد مقابلته، فسأل الغلام من هى تلك المرأة فقال: «لم أستطع تمييزها لأنها منقبة وقد غطت وجهها».
فنهض وهو يفكر فيمن عساها أن تكون، وسار إلى غرفة خاصة بمقابلة القادمين، فوجد تلك المرأة جالسة على المقعد وقد التفت بملاءة ثمينة، ويدل مجمل حالها على أنها لم تأت لطلب صدقة، فدخل وحياها فردت التحية وهى تتحفز للنهوض، فأشار إليها أن تقعد فقعدت، وقعد هو بين يديها وقال لها: «من أنت وماذا تريدين؟».
فأزاحت النقاب عن وجهها ولم تجب، فإذا هى سلافة قيمِّة قصور الملك الصالح، وكان معجباً بجمالها، وله معها مواقف كانت هى الظافرة فيها نظراً لما كان لها من المنزلة عند الملك الصالح، وكان يحترمها من أجل ذلك، ولم يكن يتوقع أن يراها آتية إليه على هذه الصورة. فحالما كشفت وجهها بادر إلى الترحيب بها فقالت: «لم آت إليك لضيافة، ولكننى جئت ألتمس منك شيئاً أنت صاحب الأمر فيه».
فقال: «وما هو؟» قالت: «علمت اليوم أن أمور الدولة صارت إلى صديقتك شجرة الدر، وأنا كما تعلم قيمِّة قصور الملك الصالح، والملك الصالح مات، وقصوره نهبت، وأثاثها نقل إلى هذه القلعة، وصارت الحكومة إلى إحدى جواريه. لا تؤاخذنى على هذا التعبير. أنها جارية ولكنها صديقة عز الدين أيبك وهو الذى رفعها إلى مقام الملك. أنت رفعتها إلى ذلك المقام لأنها صديقتك. ولك الخيار فيما فعلت، هنأها الله بهذا المنصب. وإنما جئت الآن أطلب منك أن تطلق سراحى من الخدمة، ولم يبق لى عمل فى هذه القصور، إذ لم يبق فيها دور للحريم، بعد أن صارت ملكتنا من الحريم، فاصرفنى، أم أنت لا تقدر أن تفعل ذلك من تلقاء نفسك بدون أن تشارو ملكة المسلمين؟».
وكان لكلام سلافة وقع شديد فى نفس عز الدين وهو فى تلك الحال من التردد والشك، وكان يجل قدرها ويحب التقرب منها ولكن لم تكن تسنح له فرصة فى حياة مولاها. ولما جاءته فى تلك الحال وقع فى حيرة، وتنبهت فيه عوامل كثيرة أهمها احتقار نفسه لأنه خضع لامرأة لم ترض امرأة مثلها أن تخضع لها، وتنبه فى خاطره حب كان كامناً فهاجه لقاؤه لسلافة. ولم يسعه السكوت مع ذلك عن الدفاع عن شجرة الدر حفظاً لكرامته فقال: «أن شجرة الدر لم تصل إلى هذا المنصب إلا لأنها أم ولد السلطان كما تعلمين».
قالت: «صدقت، بارك الله فيكم. لم تبايعوها إلا لأنها أم ولد السلطان. ما شاء الله؟ وأين ذلك الولد؟ لقد مات. وإذا كان الغرض المحافظة على نسب السلاطين الأيوبيين فى هذه السلطنة أفلم يكن الأولى أن تولوا عليكم أيوبياً يكون الأمير عز الدين وصياً عليه؟ أن الأمير عز الدين الآن مدبر المملكة ولكن هل الأمر بيده؟ أنا أعرف جنس النساء، أنهن لا يحفظن الوداد. لا أقول هذا عن شجرة الدر وحدها، لكن هكذا طبيعتنا نحن النساء. ويؤيد ذلك ماجاء عنهن فى كتب الدين، وعلاوة على ذلك فإن هذه السلطنة لا تثبت إن لم يأت كتاب أمبر المؤمنين العباسى راضياً عن هذا الاختيار».
فقال: «وهل تظنين أمير المؤمنين يعترض على هذا التعيين؟».
قالت: «لا شك عندى فى ذلك».
قال: «أظنك مخطئة يا سلافة، لأن شجرة الدر حكيمة عاقلة، وقد اختارها الأمراء والقواد، فلا أظن أمر المؤمنين يخالفهم». قالت: «أؤكد لك أن أهل بغداد سيغضبون لهذا العمل وليس الخليفة فقط. وسوف ترى.. أنى أعرف هذه الأمور من قبل.. مالنا ولذلك إنما أطلب منك الآن أن تصرفنى وتطلق سراحى ولكن دون مشورة أحد».
قال: «وإلى أين تذهبين إذا أطلقت سراحك؟». قالت: «أذهب فى هذه الدنيا». وغصت بريقها وتساقطت دمعتان على خديها فمسحتهما وأظهرت أنها خجلت من الضعف الذى ظهر عليها وسكتت.
فأثر منظرها فى قلبه وقال: «بدلاً من ذهابك فى هذه الدنيا، امكثى عندنا». قالت: «أين أمكث؟ وقد ذهبت القصور والنساء، وحيثما مكثت سأكون أسيرة سجينة، أو رهينة رضا ملكة المسلمين أو غضبها. وهذا لا صبر لى عليه مثل صبركم أيها الرجال العظام والقواد البواسل، فأنى امرأة ضعيفة».
فأحس بالتهكم الذى يتخلل أقوالها ووجدها مصيبة فيما تراه، وأعجب بجسارتها حتى تقول ذلك له، فقال لها: «يا سلافة.. كفى تأنيباً وتعنيفاً. ما حدث قد حدث، وأنا أعرف قدرك، ولا أحب أن تخرجى على هذه الصورة، فامكثى عندى و…».
فقطعت كلامه قائلة: «أمكث عندك؟! مسكين!. وما الذى يصيبك لو علمت شجرة الدر بوجودى هنا؟».
فوجد الحق معها، لكنه كبر عليه أن يعترف بهذه الحقيقة فقال: «مالها ولمن عندى. أنا لا أتعرض لما عندها؟».
قالت: «وما هو الفرق بين الملوك وسواهم؟. هل يجوز لنا ما يجوز للملوك؟ هل خيل إليك أنك لو رأيت رجلاً خارجاً من غرفة شجرة الدر صديقتك الحميمة — وأنت الذى وضعتها فى هذا المنصب — يحق لك أن تسأل عن سبب وجوده هناك؟. أما هى فلها أن تعد أنفاسك وتحاسبك على كل خطوة».
فتذكر رؤيته ركن الدين فى ذلك الصباح خارجاً من عندها وما خامره بسبب ذلك من الشكوك. فأطرق هنيهة يفكر، لكنه خاف أن يدل ذلك على ضعف فيه، وهو لا يريد أن يظهر ذلك خصوصاً بين يدى سلافة بعد ما أسمعته إياه من اللمز والتعريض فقال: «أنت تعتقدين إذن أن وصول شجرة الدر إلى هذا المنصب أبعد ما بينها وبينى، فحق لها أن تنصرف كما تشاء. فما الذى يمنعنى من أن أفعل أنا ما أريده ولا التفت إلى ما يرضيها أو يغضبها؟».
فقالت: «لا.. لا أشير عليك بذلك. أنه يكون سبباً لتنغيص العيش. ولا أحب أن يكون ذلك بسببى».
قال: «هل تظنين وجودك عندى يغضبها؟. ومع ذلك لا رأى حاجة إلى إطلاعها على وجودك عندى».
فهزت رأسها وقالت: «أنها جرأة عظيمة منك لا سيدى، إذ أحببت أن أكون تحت ظلك، ولكنى لا رأى أن أقيم معك فى منزلك، بل أقيم فى مكان أخر. وأنا فى كل حال صديقتك، وسأبقى على ودادك ولو صرت ملكة المسلمين.. على أنى لا أضمن ذلك. لأن الإنسان عرضة للتغير» وضحكت.
فقال: «ما الذى يجول بخاطرك وتخافين أن يتغير؟» قالت: «يجول بخاطرى أن النساء لا يصلحن للحكومة، وأن السلطنة لا تليق إلا بك، فأنت قائد الجند، وأنت حاربت الأفرنج وقهرتهم، وأنت دبرت كل شئ. هذا ما أراه الآن ولا أغير فكرى فيه». فكان لهذا الأطراء وقع جميل فى قلبه.
والإنسان تخدعه ميوله حتى تريه الأسود أبيض والخرافة حقيقة، ومن فطرته أن يعتقد صدق مادحه وإخلاصه ويميل إليه بقلبه، وقد عرف هذه الطبيعة أصحاب التدبير الذين يحتاجون إلى مصانعه الناس فى التجارة وغيرها فاتخذوا مدح عملائهم وأطراء مناقبهم وسيلة للتقرب إليهم واكتساب ثقتهم، واتخذ هذه الخلة أيضاً طلاب رضا النساء، وجعلوا أطراء جمالهن وسجاياهن وسيلة لاكتساب قلوبهن ولذلك قال أمير الشعراء:
خدعوها بقولهم حسناءوالغوانى يغرهن الثناء. والحقيقة أن الثناء لا يغر الغوانى فقط، بل هو يغر كل إنسان، ويندر أن ينجو عاقل من الوقوع فيه.
فلما سمع عز الدين عول سلافة أعتقد صدقها وأنها مصيبة فيه، وتوهم ألا عرض لها غير تقرير الحقيقة، وتمكن اعتقاده فى إخلاصها وصدق مودتها، وكان ذلك باعثاً على التباعد بينه وبين شجرة الدر بدون أن يشعر. وافترقا على أن تقيم سلافة فى قصر خاص بها وتكون تحت رعايته.
وبعد ذهابها أخذ يفكر فيما قالته فوجدها على صواب، إذ كان يجب أن يتولى السلطنة أحد غلمان بنى أيوب، على أن يكون هو مدبراً للمملكة ولا يكون هناك باب للاعتراض، وذلك أفضل من أن تتولى الدولة أمراة.
الفصل الخامس
خلع شجرة الدر
أصبح أهل القاهرة يتهامسون عن رسول قادم من عند أمير المؤمنين العباسى وقد نصب فسطاطه خارج القاهرة، وأخذوا يتكهنون فيما عسى أن يكون كنه رسالته، إذ يندر أن تأتى رسالة من الخليفة العباسى إلا إذا كان هناك أمر مهم من عزل أو تولية.
وكان الرسول حين أشرف على القاهرة قد بعث أحد رجاله ينبئ القواد والأمراء بقدومه ليرسلوا من يستقبله كما هى العادة احتراماً للرسالة التى يحملها من خليفة الرسول. ولم يمض كثير حتى ضجت المدينة وغصت الشوارع بالمارة والوقوف، ولاسيما فى الشوارع الممتدة من باب النصر إلى القلعة حيث يمر الرسول. واستعد الأمراء والقواد فى القلعة للاجتماع وسماع الرسالة عند تلاوتها، وأكثرهم يظن أنها تتعلق بسلطنة شجرة الدر، والأرجح عندهم أنها تثبيت لها فى المنصب كما تعودوا فيمن ولوهم من السلاطين. وتقاطر الأمراء والقواد إلى الإيوان، وفى مقدمتهم عز الدين أيبك وغيره من الأمراء البحرية، إلا ركن الدين لأنه كان غائباً فى دمياط. أما شجرة الدر فقد كانت على سريرها فى صدر الإيوان، وعليها ثوبها الملكى الذى لبسته يوم الاحتفال بتوليتها منذ ثلاثة أشهر ومعها شوكار، وكانت هذه حزينة لغياب ركن الدين فإنها كانت تود حضوره.
أما سلافة فكانت أعلم الناس بفحوى تلك الرسالة، إذ جاءها رسول خاص من قيمِّة قصر الخليفة المستعصم بالله كان مرافقاً لرسول الخليفة، وقد أنبأها أن الرسالة تضمنت خلع شجرة الدر عن سلطنة مصر، فكاد قلبها يطير فرحاً، وأحبت إبلاغ ذلك إلى عز الدين، وكان يتردد عليها فى اثناء هذه المدة، وقد تحابا وبلغ خبرهما إلى شجرة الدر فاستاءت لكنها كظمت غيظها، فلما علمت سلاقة بقدوم رسالة الخليفة بعثت إلى عز الدين فجاءها، فقالت له: «بلغنى أنه جاءكم رسول يحمل كتاباً من أمير المؤمنين، ما هو فحواه يا ترى؟» قال: «لا أعلم». قالت: «وما ظنك أن يكون فحواه؟» قال. «قلت لك أنى لا أعلم، فهل أنت تعلمين؟».
فضحكت وقالت: «نعم أعلم، وقد قلت لك عن فحواه منذ ثلاثة أشهر. ألا تذكر؟» فأطرق وهو يفكر، فتذكر حديثها الأول معه يوم جاءته إلى القلعة، وذكرت له يومئذ أن الخليفة لا يسلم بسلطنة شجرة الدر فقال: «أظنك تعنين حديثنا عن شجرة الدر؟». قالت بتهكم: «نعم عن ملكة المسلمين!».
قال: «أذكر أنك تنبأت أن الخليفة لن يوافق على توليتها، فهل جاء الرسول بهذه المهمة؟».
قالت: «نعم جاء بهذه المهمة. وفحوى رسالته خلع هذه المرأة عن الملك».
فأدهشته هذه المفاجأة لأنه لم يكن ينتظرها، واستغرب إطلاع سلافة على ذلك الخبر قبل كل إنسان، والرسول لم يدخل القلعة بعد، والكتاب ما زال فى حقيبته، فقال لها: «كيف عرفت ذلك؟».
فضحكت وقالت: «عرفته وتنبأت به قبل حدوثه، لعلمى أن تلك التولية لا ترضى أمير المؤمنين. والآن كن حازماً، وأعلم أن الرأى الذى ذكرته لك منذ ثلاثة أشهر هو الرأى الصواب. هل تذكره؟».
فظهرت الدهشة على عز الدين، فشعر بضعفه بين يدى تلك المرأة، وفكر فيما تطلبه منه، فتذكر أنها أشارت إليه يومئذ أن يولى أحد أبناء الأيوبيين ويكون هو مدير المملكة والوصى على العرش، ثم يغتنم الفرصة ويستقل بالسلطنة بعد أن تستقر قدمه فيها فقال: «نعم أذكره. لكن ما هو السبيل إلى إتمامه، ومن هو الغلام الأيوبى الذى يمكننا تنصيبه؟».
قالت: «متى بلغتم إلى هذا الأمر فأنا أدلك على من يصلح لذلك».
قال: «قولى الآن فربما لا تسنح الفرصة بإعادة النظر».
قالت: «صدقت. أتعرف موسى بن صلاح الدين بن مسعود بن الكامل؟». قال: «نعم أعرفه لكنه غلام لم يجاوز الثامنة من عمره».
قالت: «لو كان فى الخامسة لكان أصلح لما نريده. هذا الغلام هو أولى الأيوبيين بهذه السلطنة، ومتى كنت أنت الوصى عليه كان كل شئ إليك».
قال: «ولكن من يضمن لى الوصاية عليه؟».
قالت: «أنا أضمنها لك بشرط ألا تظهر ضعفاً، وأن تكون أنت المقترح لسلطنة موسى هذا، وإتمام ذلك على».
قال: «وهل تحضرين الاحتفال معنا؟». قالت: «أحضر مع النساء من وراء الستر». فودعها وخرج من عندها وقد ملكت عقله بعد أن ملكت قلبه. ولما وصل إلى القلعة وجد الأمراء فى انتظاره وكانت شجرة الدر أكثرهم قلقاً على غيابه، فقد علمت بغيابه وهى وراء الستر، وكان قلبها دلها على تنافر بينهما. ومكثت تنتظر وصول الرسول وتلاوة الكتاب وهى لا تعلم ما هو مخبوء لها.
•••
كانت الجماهير تموج فى ساحة القلعة منذ صباح ذلك اليوم، وجاء الخبر بوصول الرسول، فتقدم الحاجب لاستقباله حتى دخل الإيوان، ووقف الأمراء على الجانبين، وشجرة الدر فوق سريرها وراء الستر ومعها شوكار. وقد لحظت هذه اضطراب سيدتها وخوفها فأخذت تخفف عنها وتطمئنها وتداعبها وهى تتجلد وتصغى لما يدور من الحديث فى الخارج، ثم سمعت عز الدين يقول: «أيها الأمراء. هذا رسول مولانا الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله حفظه الله، ومعه كتاب من الخليفة سيتلوه علينا، فاسمعوا له وأضمروا الطاعة لما يحويه، لأنه من خليفة الرسول ?». فصاح الجميع: «نحن مطيعون للرسول وخليفته».
فتقدم حامل الكتاب، ووقف على منصة وفضه، وأخذ يقرأ والناس سكوت كأن كان رؤوسهم الطير، ويكاد أحدهم يقطع نفسه لئلا يكدر عليه سمعه وهذا نص الكتاب: من أبى أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أمراء الجند والوزراء فى مصر. السلام عليكم. وبعد فقد بلغنا أنكم وليتم أمركم شجرة الدر، جارية الملك الصالح، وقلدتموها أمور الدولة، وجعلتموها سطانة عليكم. فإذا لم يكن عندكم رجال يصلحون للسلطنة فأخبرونا لنرسل إليكم من يصلح لها. أما سمعتم فى الحديث عن رسول الله ?: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
ولم يفرغ القارئ من تلاوة الكتاب حتى ضج الناس وعلت الضوضاء، ولا تسل عن شجر الدر وما أصابها لما سمعت ذلك. لكنها كانت عاقلة حازمة، فلما سمعت أمر الخليفة وعلمت أنه لا مندوحة لها عن العمل به تجلدت وأومأت إلى الحاجب أن يزيح الستر المنصوب بينها وبين المجلس، فأزاحه والتفت الناس نحو السرير وتهيبوا، ولبثوا ينتظرون ما يبدو من شجرة الدر بعد تلاوة الكتاب، فإذا هى تقول: «يا معشر الأمراء.. قد سمعتم ما أمر به أمير المؤمنين، وطاعته فرض على كل مسلم. قد صدق — حفظه الله — فإن النساء لا يصلحن للسلطنة، وأنا لم أقبل هذا المنصب إلا عملاً برأيكم أيها الأمراء والقواد ورغبة فى استقرار الأحوال بعد اضطرابها. أما الآن وقد استقرت الأمور وسمعنا رأى مولانا الخليفة، فأنى أخلع نفسى وأطلب منكم أن تختاروا من ترونه ليتولى هذا الأمر، وأنا أول من يخضع له».
فاستحسن محبوها هذا التنازل منها، لأنه دل على كبر نفسها وسعة عقلها، ولم تستحسنه سلافة، لأنها كانت تحب أن تتردد فينزلوها كرهاً.
على أنها فرحت بخلعها. ولما فرغت شجرة الدر من قولها خرج صوت من وراء حجاب يقول: «لا نقبل علينا سلطناً ليس من سلالة آل أيوب».
ولم يعرف الأمر من أين خرج الصوت، لكنه عبر عن شعور كثيرين فأمنوا عليه وصادف هوى من نفوسهم. فقد كان أكثر المصريين عند تولية شجر الدر غير راضين عن توليتها، ويطلبون تولية رجل من آل أيوب، لكنهم أذعنوا خوفاً من الجند. فلما خلعت وسمعوا صوتاً يقترح ما يشعرون به أجابوا بالموافقة ولو لم يعرفوا المقترح. وعلا الضجيج وكان الصوت الغالب اختيار سلطان من آل أيوب. فتوجهت الأنظار نحو كبير الأمناء هناك، وهو عز الدين أيبك، كأنهم يستشيرونه فقال: «أن مولاتنا شجر الدر قد برهنت بتنازلها عن الملك على أنها مخلصة لمولانا أمير المؤمنين وأنها حريصة على حقوق المسلمين، ونحن لم نولها هذا المنصب إلا لأنها والدة المرحوم خليل من سلالة الأيوبيين.
أما الآن فما علينا إلا اختيار أحد أمراء تلك السلالة. وأعلم أن منهم مولانا موسى بن صلاح الدين بن مسعود لكنه صغير السن».
فقاطعه حامل الكتاب قائلاً: «لا يضره صغره فأنك وصيه وقائد جنده ومدبر أموره، فما رأيكم أيها الأمراء؟».
فصاحوا جميعاً: «هذا هو الصواب، لا نرى أصوب منه».
فاستغرب عز الدين ذلك من صاحب الكتاب وهو قادم من بغداد، وكيف عرفه ورشحه لهذا المنصب. فلما سمع مصادقة الجمهور وقف ساكتاً، فقال حامل الكتاب: «بما أنكم قد أقررتم تولية موسى بن صلاح الدين فلنفعل ذلك الآن، وقد دفع إلى مولانا أمير المؤمنين شارات السلطنة لألبسه إياها».
قال ذلك وأشار إلى بعض رجاله فدفع إليه حقيبة كالصندوق، فأمره ففتحها وفرض ملاءة وأخذ يستخرج ما فى الصندوق ويضعه فوقها والناس ينظرون، فكان أول شئ استخرجه خلعة سوداء. هى شارة بنى العباس، ثم عمامة سوداء، وأخرج طوقاً من ذهب للعنق وقيدا من ذهب للرجل. فلما صارت كلها على الملاءة قال: «هذه شارات السلطنة، فأتونى بالسلطان موسى بن صلاح الدين لنلبسه إياها فقد أوصانى أمير المؤمنين ألا أخرج من مصر إلا وعليها سلطان من آل أيوب».
فسارع عز الدين إلى إحضار موسى، ولم تمض مدة قصيرة حتى جئ به، وهو طفل فى الثامنة من عمره، فألبسوه تلك الشارات على قد رالإمكان، ونادوا به سلطاناً على أن يكون عز الدين أيبك وصياً عليه ومدبراً لأمور الدولة بالنيابة عنه.
كل ذلك وشجرة الدر على سريرها ترى وتسمع، فلما فرغوا من تنصيب السلطان الجديد وأرخوا الستار عليها تنفست الصعداء وأكبت على كتف شوكار وأخذتا فى البكاء، وشوكار تتجلد وتقول: «هلمى يا سيدتى نذهب إلى غرفتك لئلا نفتضح».
فأطاعتها، ومشتا نحو الغرفة، ولما وصلتا إلى هناك أخذت شوكار تخفف عن سيدتها وهذه تتأوه وتتنهد، وأخيراً قالت: «لا أعلم سبب هذا التغيير، ولكننى أحسنت بالتنازل من تلقاء نفسى. ولا تظنى أنى آسفة على اعتزال هذا المنصب الشاق وأنت أعلم الناس بما كنت أشكوه من ثقال أعبائه. ويكفينى أنى أول أمرأة تولت الملك فى الإسلام، وأنت الآن تعزيتى الوحيدة».
فلم يعجبها قولها لأنها أصبحت تفضل أن تكون تعزية ركن الدين، فسكتت، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «إنما اتأسف لأنى لم أبق على كرسى الملك حتى ينال ركن الدين ما هو أهل له من الرتب العالية، لكنه سينالها من سواى، ولو كان هنا اليوم لنال شيئاً، وربما كان هو المختار للوصاية».
فانقبضت نفس شوكار عند سماع ذلك، وتأسفت لفوات الفرصة، لكنها عادت إلى أطراء سيدتها وقالت: «إنما يهمنى يا سيدتى أن تكونى سعيدة».
قالت: «أنى سعيدة بك يا شوكار كما تعلمين والحمد لله على أن تخلصت من أعباء الملك. لقد ذقتها فلا أحسد أحداً عليها ولا أتمنى أن أعود إليها».
قالت شوكار: «صدقت يا سيدتى، لأنى رأيتك منذ توليت السلطنة قلقة الخاطر، وكنت قبلها منشرحة الصدر، فلنعد إلى ذلك. متى يعود ركن الدين يا ترى؟».
قالت: «سيعود قريباً، أنه حالما يسمع بهذا التغيير يأتى، ومتى أتى نلت ما وعدتك به». فأطرقت وسكتت.
•••
تولى الأمر موسى بن صلاح الدين، ولقبوه بالملك الأشرف، وناب عنه فى تدبير الأمور عز الدين. ولقد أحسن هذا أن ما ناله فى هذا اليوم كان الفضل فيه لسلافة. فلما انصرف القوم كان أول شئ عمله أنه ذهب إلى منزل سلافة، فرآها جالسة جلوس الملك الظافر وهى تضحك لنجاح مهمتها، فلما دخل ألقى التحية فقالت: «كيف رأيت أيها الأمير.. ألم تكن سلافة عاقلة تفهم سرائر الأمور؟».
قال: «صدقت والله أنك جئت بالمعجزات. ألا تخبريننى كيف استطعت الإطلاع على هذه الأمور قبل وقوعها؟».
قالت: «أما وقد علمت صدق مودتى لك فلا أخفى عليك أنى أنا السبب فيما رأيته من التغيير والتبديل بسبب صداقتى لقيمة قصر الخليفة المستعصم بالله، فأنى كتبت إليها كتاباً ترتب عليه ما رأيت، ولكنها اشترطت على أمراً ضمنت لها تنفيذه ولم أحدثك عنه من قبل لعلمى أنك لا ترى مانعاً من إمضائه».
قال: «وما هو؟». قالت: «أتعدنى أنك فاعلة؟».
ففكر فيما عسى أن يكون طلبها، وخاف أن يكون فيه ما يسوءه، لكنه لم يسعه إلا الطاعة فقال: «أنى فاعل ما تريدين».
قالت: «هذا كتاب قيمِّة القصر تقول فيه أن مولانا أمير المؤمنين بلغه أن فتاة رخيمة الصوت تتمتع شجرة الدر بغنائها، وقد طلب أن ترسل إليه حالاً، لأن أمير المؤمنين مغرم بالغناء، وقد ضمنت لرسول الخليفة أن أرسل معه جارية شجرة الدر هدية للخليفة».
قال: «لعلك تعنين المغنية شوكار؟». قالت: «نعم، إياها أعنى، فماذا ترى؟».
قال: «هذا هين على. وأظنه يسر الجارية لأنها ستنتقل من خدمة ملكة مخلوعة إلى قصر خليفة عظيم».
قأعجبها قوله: «ملكة مخلوعة». وابتسمت وقالت: «ولا يخفى عليك أن إرضاء الخليفة لابد لك منه الآن، وأنك ستحتاج إلى رضاه عنك إذا أحسنت التدبير وصرت سلطاناً مستقلاً. أظنك فهمت مرادى».
فأوما برأسه أنه فهم كل شئ، وأسرع إلى النهوض وأشار إليها مودعاً وهو يقول: «أئذنى لى فى الانصراف للقيام بهذه المهمة».
قالت: «سر يحرسك الله. ولا تنس أن الرسول سيسافر غداً، ويجب أن تكون معه شوكار».
وسار عز الدين إلى القلعة متنكراً وكان فى أثناء الطريق يفكر فى سلافة واقتدارها، وقد شعر بفضلها عليه، ورأى أنه لم يكن أميناً فى حب شجرة الدر، ولكنه اغتفر لنفسه ذلك بما كان قد داخله من الشك فى أمرها مع ركن الدين بالأمس، وكان يجب أن يؤجل مقابلة شجرة الدر إلى الغد ريثما يهدأ روعها لكن الحاح سلافة بعثه على سرعة مقابلتها.
فلما دخل القلعة صار توا إلى منزل شجرة الدر، وكانت جالسة فى غرفتها مع شوكار، وقد أخذت هذه تعزف على العود وتغنيها لتخفيف ما بها. ولما أقبل عز الدين على باب الدار سمع صوت العود فأشار إلى الحاجب أن يخبر شجر الدر بقدومه.
ودخل الحاجب وأنبأها بذلك، ولكن عز الدين لم ينتظر جوابها بالأذن، بل دخل توا بما له من الصداقة، فلما أقبل على الغرفة رأى شجرة الدر بثياب المنزل، وقد عصبت رأسها بعصابة مزركشة أردات بها تخفيف صداع ألم برأسها على أثر ما كابدته فى ذلك اليوم، فلما رأته داخلاً تثاقلت فى النهوض وهى تتألم من الصداع، ولم يكن الصداع وحده سبب تثاقلها، لكنها كانت قد شعرت بتغير قلبه وتحول محبته، ولم يفتها أمر سلافة وتردده إليها قبل خلعها، وتأكدت تغيره فى ذلك اليوم لأنها كانت تراقب حركاته، وعلمت أنه ذهب إليها عقب انقضاض المجلس فى حين كان ينبغى له أن يبادر إلى لقائها هى لكى يؤانسها ويخفف عنها. وهذا ما كانت تتوقعه لو كان باقياً على عهده معها. فلما رأته داخلاً انقبضت نفسها وأخلج قلبها فى صدرها عتباً وغيظاً.
أما هو فأسرع إليها وهى تتحفز للوقوف وقال: «إجلسى يا سيدتى لا حاجة إلى وقوفك، أنى أراك مريضة، ماذا أصابك؟».
فعادت إلى مقعدها وهى تصلح العصابة وتلتف بالمطرف وتكمش كأن البرد يتمشى فى عروقها، وظلت ساكتة، فقعد عز الدين على كرسى بين يديها وقال: «أظنك مصابة بالصداع الذى كان يتردد عليك أحياناً».
فقالت: «أنه صداع شديد لم أصب بمثله من قبل، لا أراك الله مثله يا عز الدين وحماك من غوائله».
فلم يعجبه قولها، وأدرك أنها تعنى شيئاً تضمره فقال: «لا ينجو أحد من الصداع يا شجرة الدر. وليس هو مما يؤبه له، ولا يلبث أن يزول».
قالت: «أنه يختلف عما تعودته قبلا، وتغيير العادة صعب. أليس كذلك؟». وظهر العتب فى عينيها.
فأدرك مرادها لكنه تجاهل وقال: «إن الإنسان لا يتعود الأوجاع فإذا عاودته رآها فى كل مرة جديدة كأنه لم يذقها من قبل. ولو علمت أنك مصابة بالصداع لأسرعت إليك قبل هذه الساعة».
قالت: «لا تشغل بالك بهذه الملكة المخلوعة، وأنت الآن فى شاغل بأمور الدولة وغيرها».
قال: «وهل تظنين أمور الدولة تشغلنى عن شجرة الدر، وقد كان يجب أن أبادر إلى تهنئتك بالنجاة من أثقال هذه المهام. وأعجبنى منك ما أظهرته فى هذا الصباح من رباطة الجأش وسعة الصدر، وقد أحسنت فى كل ما صدر منك فلم تتركى لأمر الخليفة بالخلع قوة أو أثراً». وتنحنح وبلع ريقه وقال: «والحق يقال أن ذلك الأمر إذا كان له أثر فإنما يكون أثره موجهاً إلينا، أو إلى خاصة، لأننا ألجاناك إلى قبول السلطنة، ولم يدر فى خلدنا أن يكون ذلك مخالفاً لإرادة أمير المؤمنين». فلم يعجبها منه ذلك المن عليها بأنه هو الذى جعلها ملكة فقالت: «أنتم أخطأتم بالاقتراح وأنا أخطأت بالقبول. على أن نزولى عن عرش الملك لم يترك أثراً كبيراً فى نفسى بقد رما ترك…». وسكتت وهى تنظر إليه نظر العتاب.
فعلم أنها تشير الى تغيره، فبادرها وقال بلهفة: «أخاف أن يكون قد داخلك شك فى صداقتى و….».
فقطعت كلامه قائلة: «لا. لا. لم يداخلنى شئ.. ولكننى تعلمت أن الإنسان لا ينبغى أن تغره ظواهر الأمور دائماً. والذى أراه الآن أن تترك العتاب ونروح خواطرنا بلحن نسمعه من شوكار».
والتفتت إلى شوكار، وكانت قد وضعت العود بجانبها، فتناولته وأصغت لما تأمرها به سيدتها فإذا هى تقول لها: «أنت يا شوكار تعزيتى الوحيدة الآن. ولا أخاف تغيرك. غننى لحناً محزناً». قالت ذلك وتلألا الدمع فى عينيها.
فتأثر عز الدين من منظرها، خصوصاً بعد ما رآه من تعلقها بشوكار وهو قادم ليأخذها منها.. فظهرت البغتة فى وجهه، لكنه تشاغل بسماع الغناء، وهو يظهر أنه يسمع والحقيقة أنه وقع فى حيرة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، والوقت لا يساعده على تأجيل مهمته. وقضى برهة وهو يفكر فى حيلة ينتحلها للدخول فى الموضوع وطلب شوكار منها. فلما فرغت شوكار من الغناء التفت عز الدين إلى شجرة الدر وهو يبتسم وقال: «يظهر أنك انقطعت عن كل شئ إلى شوكار». أليس فى قصرك من يحسن الغناء سواها؟».
قالت: «ولا أعنى الغناء فقط وإنما أعنى أنها تؤانسنى، وأعتقد أنها تحبنى، ولا أخاف أن تتحول عن محبتى».
فأدرك عز الدين ما تعنيه من تغيره عليها، لكنه صمم أن يصل إلى مراده فقال: «ولكن ليس من الحكمة أن تعلقى آمالك بها إلى هذا الحد، أنا أتيك بمغنية أحسن منها متى شئت».
فقالت: «لا. لا أريد سواها».
فقال: «الأفضل أن تطلبى سواها».
فقالت وكأنها أحست بما يضمره: «هل تنوى أن تسلبنى هذه التعزية أيضاً؟». قال: «لم أكن أحسب لها هذا المركز لديك، ولولا ذلك لما وافقت على أخذها».
فأجفلت وصاحت: «أخذها؟. من يأخذها منى؟. لا. لا. أنها جاريتى وأعزها معزة البنين. لا أسمح بها لأحد أبداً».
فتشاغل بحك عثنونة بسبابته وهو مطرق ثم قال: «صدقت، يحق لك أن تحرصى عليها وألا تسمحى بها لأحد. ولكن الإنسان لا يقدر أن يفعل ما يشاء دائماً. ولاسيما إذا كان الطالب لا يمكن رد طلبه».
فنهضت ونظرت إليه بدهشة وقالت: «من طلبها؟ قل يا عز الدين».
قال: «لا تغضبى يا سيدتى. أن طالبها أعظم رجل فى المسلمين». فقعدت وقالت: «أظنك تعنى المستعصم بالله أمير المؤمنين؟.. أما كفاة خلعى عن الملك حتى يطلب جاريتى؟».
قال: «يسوءنى أنى لا أرى مندوحة عن إجابة طلبه وهو أمير المؤمنين ونحن تحت رعايته وهو خليفة الرسول ?».
قالت: «وكيف طلبها؟.. ومن جاء ليأخذها؟».
قال: «رسول الخليفة حامل كتابة، وقد رأيته بالأمس».
فتناثر الدمع من عينيها رغم إرادتها، والتفتت إلى شوكار فرأتها مطرقة ساكتة ودموعها تندحرج على خديها فأثر منظرها فى نفسها وهاج غضها وقالت: «هل وافقته على ذلك يا عز الدين؟».
قال: «وهل فى الإمكان رد طلبه، وقد رأيت أمره نافذاً فيما هو أعظم من ذلك؟».
فوقفت وأخذت تمسح عينيها بمنديلها وهى تكاد تتميز من الغيظ، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «ولكن هذه الفتاة مخطوبة».
قال: «لا أعلم، وإنما على أن أنفذ طلب أمير المؤمنين، فإذا كانت لأحد حاجة فليطالب بها أمير المؤمنين». قال ذلك ونهض وقد ظهر الإصرار والجد فى حركاته ثم قال: «فلتستعد شوكار للسفر غداً صباحاً، وأعلمى أنها ستسافر معززة مكرمة لأنها طلبة أمير المؤمنين ولا خوف عليها».
وخرج عز الدين، ولم يكد يبلغ الممر حتى سمع بكاء شوكار وشهيقها لكنه تغافل وأوصى الحرس هناك أن يراقبوها لئلا تفر خلسة فى أثناء الليل.
وقد أحسن عز الدين بهذه الوصية لأن شجرة الدر كانت قد عزمت على أن تمهد لشوكار سبيل الفرار، فلما رأت استحالة ذلك عظم الأمر عليها، وتمكنت البغضاء من نفسها، وأصبح همها التخفيف عن شوكار والتهوين عليها، وتجلدت أمامها ويبنت لها أن ذلك الأمر لا مناص من الطاعة فيه، ولكنها ستبذل جهدها فى إنقاذها، وأكدت لها أن ذهابها لا خوف منه.
أما شوكار فكان أكبر همها أن ترى ركن الدين وما يكون إحساسه بعد أن يسمع ذلك الطلب، وما الذى يبدو من غيرته أو فتوره. ولكن لا سبيل إليه وهو بعيد، والوقت لا يساعد على استقدامه فى ذلك الليل، فاستسلمت وتوكلت، ولم يكن ذلك فى عرف تلك الأيام شيئاً عظيماً لما تمكن من نفوس الناس من امتياز الخلفاء والأمراء، وأن أولئك الجوارى مثل سائر المتاع لا إرادة لهن ولا رأى، وعليهن الاستسلام لما يطرأ عليهن فى الانتقال من سيد إلى سيد. ولولا خوف شوكار من أن تخسر ركن الدين لكان انتقالها إلى بيت الخليفة مما يحسدها عليه كثيرات، ومع ذلك لم يكن لها أن تختار.
وفى صباح اليوم التالى حملها بعض الخصيان إلى معسكر رسول الخليفة بعد أن ودعت مولاتها وداعاً مؤثراً. لكن شجرة الدر أكدت لها أنها لن تنساها، ولابد من أن تقترن بركن الدين، فسافرت إلى بغداد وقلبها فى مصر.
أما شجرة الدر فقد شق عليها فراق شوكار كثيراً، لكن غضبها من عز الدين إنما كان سببه الغيرة من سلافة، وحدثتها نفسها أن تلك الجارية هى سبب مصائبها. وقد نقمت على عز الدين خيانته المضاعفة، فقد خانها فى قلبها وأحب سواها، وخانها فى منصبها فلم يبد اعتراضاً على خلعها وهو قائد الجند وصاحب القوة الفعالة، فاضطرت إلى الإذعان لحكم الزمان، إذ لم تر وسيلة إلى غير ذلك.
على أنها تذكرت ركن الدين وهو آت عما قليل إلى القاهرة، فكيف تقابله وماذا تقول له؟. وكان هو حين بلغه ما حدث من الانقلاب فى القاهرة قد سارع إليها، فوصل عقب سفر شوكار، وجاء إلى شجرة الدر قبل مقابلته عز الدين، فأخبرته بما جرى ولاسيما فى شأن شوكار، وأكدت له أنها بذلت جهدها فى إقناع عز الدين ليبقيها فأبى، وبالغت فى وصف قحته وفظاظته لكى توفر صدره عليه.
وكان ركن الدين ما زال بثياب السفر، فعظم عليه الأمر، وقام فى خاطره لأول وهلة أن عز الدين فعل ذلك نكاية فيه ليحرمه من شوكار، لكنه كان رابط الجأش واسع الصدر حريصاً على سره، فلم يجب بكلمة واحدة مع أن الغضب بدأ فى عينيه، وكانت شجرة الدر تلاحظ ذلك فيه فتعيد الشكوى وتتوقع أن يقول قولاً يشفى غليلها، ولا يشفيه إلا أن يتوعد عز الدين بالقتل، لأن حبها له قد تحول إلى كره بعد ظهور خيانته.
وبعد حديث طويل وهو ساكت ملت سكوته، فقالت: «ما بالك يا ركن الدين؟ لعلك سررت بذهاب شوكار من يدك كما سررت بذهاب الدولة منى؟ وكلاهما من فعل ذلك الخليفة الخليع؟!».
فعظم عليه ذلك التعبير الجرئ عن الخليفة فقال لها: «وأى خليفة تعنين؟»
قالت: «أعنى المستعصم، صاحب بغداد، الذى استعظم أن يتولى أمر المسلمين امرأة ولم يستعظم أن يتولاه رجل ساقط الهمة ضعيف الرأى مشتغل باللهو والقيان وسماع الغناء». قالت ذلك وقد بان الغضب فى عينيها وتاقت نفسها إلى معرفة وقع هذا القول فى نفس ركن الدين، فوجدته لم يزدد إلا إطراقاً وسكوتاً.
ولو أوتيت قراءة الأفكار لعلمت أن سكوت ذلك الأمير أدل على غضبه من الكلام وأنفذ لغرضه من السهام. وقد تنازعته عوامل كثيرة كل واحد منها يقيمه ويقعده، وقامت فى نفسه أمور لو أطلعت عليها شجرة الدر لشفى غليلها وخفت نقمتها، لأنها كانت تستحثه على المسير ذراعاً وهو يريد أن يمشى ميلاً أو فرسخاً.
فلما رأته ما زال ساكتاً أشكل عليها أمره فقالت: «تكلم يا ركن الدين، تكلم، لقد ضاق صدرى من سكوتك، لعلك لم تصدق قولى؟ تمهل أنى سآتيك برجل يعرف هذا الخليفة حق المعرفة، وقد جاء من بغداد أمس، اسأله ينبئك عن أفعال ذلك الخليع. أجلس وأنا أبعث إليه الساعة».
فقعد وهو يلاعب شاربيه ولحيته بيده ويوشك أن يقتلع شعرهما بأنامله من فرط التأثر وهو لا يشعر. وبعد قليل دخل البغدادى، وحالماً رآه ركن الدين عرفه وناداه قائلاً: «سحبان».
فصاحبت شجرة الدر: «قد أنطقك الله بعد طول السكوت، الحمد لله. الفضل فى ذلك لسحبان — حفظه الله — قل يا سحبان، ما الذى تعرفه عن المستعصم صاحب بغداد؟ ولا تخف من التصريح فإن ركن الدين صديقنا، قل ما قلته لى البارحة».
•••
وكان سحبان قد عاد عن المهمة التى بعثته فيها سلافة وقضاها كما تريد، فلما جاءها وقص عليها ما فعله لم يجد منها إقبالاً، ثم لحظ تردد عز الدين عليها ورأى الجفاء منه أيضاً فتحول حبه لسلافة إلى بغض، ونقم عليها وعلى عز الدين. وهو ناقم على تلك الدولة برمتها لأنه شيعى من أهل بغداد، وقد برحها فراراً من ظلم العباسيين واضطادهم الشيعة بحيث لم يعد فى إمكانه الصبر على الضيم هناك، فجاء القاهرة منذ بضعة أعوم، واجتمع بمن فيها من الشيعة، فتشاكوا فيما بينهم وهم صابرون مرتقبون سنوح الفرصة لعلهم يستطيعون أن يستعيدوا الأمر للعلويين كما حدث فى أيام الفاطميين. وكان سحبان ذا ثروة وتجارة واسعة، وقد أحب سلافة فكلفته بتلك المهمة، فلما عاد شق عليه تغيرها، ولم يجد خيراً من أن يثير غضب شجرة الدر عليها وعلى العباسيين وعلى سلطانهم بمصر جملة، وهو يعلم أنها قريبة الإصغاء إليه لما هى فيه بسبب زوال منصبها وخيانة عز الدين لها. فقابلها بصفة تاجر، وكانت تعرفه كما تعرفه سلافة، وأظهر أنه قادم من بغداد بسلع جديدة تليق بها، وتطرق فى الحديث حتى هاجها على الخليفة، وأكد لها خيانة عز الدين، فكتمت ذلك حتى جاء ركن الدين قصت عليه ما عرفته، ولأجل التثبت استقدمت سحبان، فلما رأه ركن الدين بش له ودعاه إلى الجلوس، فقالت شجرة الدر وهى تضحك: «كيف فارقت أمير المؤمنين يا سحبان؟».
فقال: «فارقت رجلاً لا هم له إلا سماع الغناء والاشتغال بالطعام والشراب والنساء».
قالت: «وكيف ترى دولته؟».
قال: «أنى أخاف على دولته من أهلها، إن لم أخف عليها من المغول، فإنهم أوشكوا أن يحملوا عليها والناس خائفون. أما الخليفة فلا يهمه غير الطرب واللهو، وإذا ظل على هذه الحال فالدولة ذاهبة لا محالة».
فضحك ركن الدين وقال: «هل تذهب دولة العباسيين؟.. قد سمعت أصحاب الأخبار يؤكدون أنها تبقى أبد الدهر ولا يمكن أن تخلو الأرض منها».
قال: «لكن الواقع أنها ذاهبة لا محالة».
قال: «وهل تخلو الدنيا من خلافة؟»
قال: «كلا يا مولاى».
قال: «فمن أين نأتى بالخليفة؟ ومن يثبت سلاطيننا على مصر؟»
قال: «ألا يصح التثبيت إلا إذا كان من العراق؟ ألا يصح أن يكون من مصر؟ ألم تكن مصر هذه خلافة زاهية منذ أقل من مائة سنة؟ ألم تكن أحسن حالاً وأوسع جاهاً؟ و…».
فلم يصبر عليه ركن الدين حتى يتم كلامه فقال له: «أظنك تعنى دولة الفاطميين ولكن أولئك من الشيعة».
فقال: «وما ضر أنهم شيعة؟ أليسوا مسلمين من قريش؟ وإنما الفرق أن الخلافة يكون مركزها فى هذه البلاد فيزداد عمرانها وتتسع تجارتها وتعمر أساطيلها وتمتد فتوحها وتصير العراق إمارة مع من إماراتها بدلاً من أن تكون صاحبة الأمر عليها».
وكان سحبان يتكلم وركن الدين شاخص إليه مستغرق فى تتبع كلامه ليستطلع حقيقة ما يكنه ضميره، وهو يعلم غرض الشيعة، فصدق من كلامه ما يوافق غرضه، ولم يبد ملاحظة ولا صرح بما جال فى خاطره وما زاد على قوله: «لقد أفدتنا يا سحبان جزاك الله خيراً». ونهض يريد الانصراف، فنهض سحبان واستأذن وانصرف، وقد أدهشه سكوت ركن الدين وتكتمه، وقال فى نفسه» أنه رجل لا يؤمن جانبه».
أما شجرة الدر فلم تكن أقل دهشة من سحبان، فلما خرج قالت: «يا ركن الدين قد آن لك أن تتكلم، ولا أزيدك شيئاً على ما سمعته عن تضعضع العباسيين فى بغداد ولا عن حال السلطنة المصرية، فإن سلطانها غلام سنه ثمان سنوات، والحكومة كلها فى يد الوصى عليه عز الدين».
قالت ذلك وهى تتميز من الغيظ.
قال: «أراك غاضبة على عز الدين، لعلك غضبت لأنه سمح بإرسال شوكار إلى الخليفة لتكون عنده فى جملة المغنيات.
قالت: «نعم، هذا هو سبب غضبى الرئيسى، ولى على عز الدين أمور أخرى تخصنى».
فقال: «وهل ذهبت شوكار راضية؟».
قالت: «كلا، أنها ودعتنى باكية وهى تذكر ركن الدين، وأوصتنى أن أقول لك أنها باقية على حبك لا ترضى عنك بديلاً ولو كان الخليفة نفسه، وأنا أكدت لها أنك لن تتخلى عنها. أن البطل ركن الدين سيكون ركناً قوياً لنا، أعنى أنا وهى، لأنى أصبحت الآن وحيدة، وهذا عز الدين قد شغل بسواى وبمنصبه ونسى الصداقة. ولكن لا بأس ليكن كما يشاء والله مع الصابرين».
فقال ركن الدين: «إذن شوكار ما زالت على حبها لى؟».
قالت: «نعم، ولاشك عندى أنك ستتفانى فى سبيل إنقاذها والانتقام لها. لكن قل لى ما رأيك فيما ذكره سحبان من حيث الخلافة الفاطمية؟».
قال: «لم يعجبنى قوله. أن الرجل يطلب خلافة شيعية، وهذا لا يصح ولا يليق بنا. ولكننى لم أجبه سلباً ولا إيجاباً. ولا أقول شيئاً الآن على كل حال بل أترك ذلك إلى حينه والأمور مرهونة بأوقاتها.
استأذنك يا سيدتى». قال ذلك ونهض خارجاً فشيعته شجرة الدر قائلة: «فى حراسة الله».
الفصل السادس
ركـن الديـن
خرج ركن الدين من بين يدى شجرة الدر مخلفاً أثراً عميقاً فى قلبها. رأت منه فى ذلك الموقف ما لم تره من قبل، وعظم أمره فى نظرها، وقد زادها تهيباً منه تكتمه ما يجول بخاطره، فما هدد ولا توعد ولا نقم، ولكنها كانت تقرأ ذلك كله على أساريره وفى عينيه.
أما هو فسار تواً إلى غرفته فى القلعة، ولم ينبه أحداً إلى مجيئه، وأجل مقابلة الأمير عز الدين إلى الغد. دخل غرفته وأقفل بابها وأخذ فى نزع ثيابه وهو غارق فى التفكير فيما سمعه فى ذلك اليوم من الأمور الغريبة، وهو لا يزال فى مقتبل العمر قليل الاختبار. وتلك أول مرة انتبه فيها إلى مطامع الرجال الكبار على أثر ما سمعه عن قلب السلطنة بمصر، وما هى عليه الخلافة فى بغداد، ولم يفته غرض سحبان من تقبيح الخلافة العباسية وتحسين الخلافة الفاطمية، ولا غاب عند قصد شجرة الدر من المبالغة فى سيئات المستعصم والتحريض عليه، وأدرك ما فى نفسها من النقمة على عز الدين، وأنها إذا أرادت فوز ركن الدين فإنما تريده انتقاماً من الدين أساءوا إليها. مر كل ذلك فى خاطره وهو يبدل ثيابه، ثم قعد على فراشه وهو لا يزال فى التفكير، فرسخ فى ذهنه أن شجرة الدر وسحبان إنما حرضاه على طلب السيادة لا حباً فيه بل انتقاماً لنفسيهما. ولم يكره ذلك ولا رآه غريباً ولا عده خداعاً. لأنه كان عاقلاً حكيماً ينظر إلى الأمور من حيث حقيقتها، فلم يكن يرجو سحبان مساعدة ليس له من ورائها مصلحة، لعلمه أن الناس لا يأتون عملاً بلا قصد، ولا يقدمون على أمر أن لم يتوسموا من ورائه نفعاً لهم. ومن زعم أنه يفعل الخير مجاناً لكى ينفع الآخرين فقد أخطأ وكذب. فإذا علمنا هذه الحقيقة سهل علينا أن نعامل أصدقاءنا معاملة حقة، فلا تتوقع منهم فوق المستطاع، ولا نستقبح منهم أن ينظروا إلى مصلحتهم فيما يخدمون به مصلحتنا.
كان ركن الدين على بينة من هذه الحقائق، وأدرك غرض صاحبيه من ذلك التحريض، فقبله شاكراً، وعزم على الانتفاع به، فضل كتمان مقاصده إلى حين الحاجة. فلما قعد على فراشة وهو وحيد فى تلك الغرفة طفق يحدث نفسه قائلاً: «أخذوا شوكار منى. أخذها الخليفة إليه فى بغداد ليسمع غناءها، وهى نعمة قل من ينالها من الجوارى الحسان. أرادت شجرة الدر أن تهيج غضبى على المستعصم لأنه فعل ذلك، وهل يلام لأنه طلبها وقد رفع قدرها وزادها نعماً؟. لا يحق لى أن أنقم عليه أو أعد عمله إساءة لى لأنه لم يتعمد أخذ شوكار وهو يعلم أنها خطيبتى أو امرأتى. وقد يقال أن هذا الخليفة ضعيف أو محب للهو، يجب قتله أو خلعه لأجل ذلك، وهذا معقول، ولكن من يضمن أن خلقه لا يكون أكثر ضعفاً منه؟ ومن يخاطر بنفسه فى خلعه أو قتله وهو لا يرجو أن ينال حظاً لنفسه من السيادة؟. وقد أضحكنى ما رأى ذلك الشيعى من أحياء الدولة الفاطمية أو غيرها من العلويين بمصر. وما الفائدة لنا من إحيائها؟ متى صارت مصر خلافة لا يبقى مجال لطلاب السلطنة، أى لا يبقى حاجة إلى السلاطين. أما إذا بقيت الخلافة العباسية فى بغداد تثبت السلاطين فى مصر، فإن سلطان مصر يشبه أن يكون مستقلاً، غير أن ذلك لا يمنع مجاراة الرجل ومصانعته لعل فى سعيه نفعاً يأتى عن غير قصد منه. وإذا لم ننجح فلا خسارة من مسايرته».
ولما بلغ إلى ذكر سلطنة مصر نهض من الفراش وقد هاجت مطامعه، وتمشى فى الغرفة لحظة وهو مطرق، ثم قال: «سلطنة مصر؟ أنها أفضل من خلافة بغداد. هل أطمع فيها أنا؟ نعم، ولكن لو قلت ذلك للناس لاستجهلونى. وقد أكون مبالغاً فى مطامعى ولكن يجب أن أسعى منذ الآن. أحذر يا ركن ال دين أن تجعل أحداً يشعر بذلك».
وسمع وقع حوافر جواد مار أمام غرفته فانتبه لنفسه وتذكر سفر شوكار فقال: «هل أتغافل عن شوكار لا أطلبها؟. أنى أحبها، وإن كان ذلك الحب جاءنى فى أول الأمر تكلفاً لكنه تمكن من قلبى، ويكفى أنها تحنبى وتتوقع منى إنقاذها. هذا إذا ظلت هى على ودادى بعد دخولها قصر الخليفة».
•••
كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فاعتزم أن يقضى بقية يومه مستريحاً، على أن يبكر فى الصباح ليقابل عز الدين ثم السلطان الجديد لتهنئته بما ناله، وانتظار ما يفعله. فتناول العشاء واستراح قليلاً فلم يشعر بحاجة إلى الرقاد لعظم ما جاش فى صدره واستولى عليه الأرق.
فلما أسدل الليل نقابه تزمل بعباءته وخرج يتمشى فى فناء القلعة نحو الجبل، والجو صاح والقمر قد تكبد السماء، وظهرت الطبيعة بأبهى ما يكون من الجلال والهيبة، ويحلو للمفكر فى مثل تلك الليلة أن يقف على جبل أو فى واد أو حديقة يناجى نفسقه بهدوء وسكينة كأنه يعهد فى سره إلى القمر أو يخاطب الطبيعة ويباحثها.
وقد علمت ما كان فيه ركن الدين من الهواجس على أثر ما تزاحم فى أفكاره من الأمانى والمطامع. فسار وهو ملتف بالعباءة فلم يعترضه الحرس، وتسلق الجبل فى ضوء القمر حتى بلغ إلى سطحه، فوقف والتفت إلى القاهرة وما بهى من الحدائق، ووراءها النيل، ينعكس ضوء القمر على مائه، ووراء ذلك الأهرام وقممها تناطح السحاب، وحولها بساتين النخيل والجميز لا يظهر منها إلا أشباحها كالظلال، فقعد على صخرة وراءها بناء خرب أصله مسجد أو قلعة، ولبث هادئاً ساكناً كأنه يتأمل مناظرالطبيعة، وأفكاره تنتقل به من موضوع إلى موضوع، ونصب عينيه شوكار وأين هى؟ ويعترض تفكيره فيها مطامعه فى السلطنة وهل ينالها؟ وضوء القمر يكبر أشباح الفكر فتتعاظم الأوهام حتى تظهر كالحقيقة.
وبينما هو ساكت مطرق إذ سمع حفيفاً يشبه انسياب الثعبان على التراب فلم يخفه ذلك، لكنه تنبه إلى انفراده واستغراقه فى هواجسه، فهم بالنهوض وإذ هو يسمع قهقهة على مقربة منه، فالتفت فلم ير أحداً، فأوشك أن يتوهم ذلك الصوت من أصوات الجان — وكانت هذه الخرافات رائجة فى تلك الأيام — لكنه ما لبث أن سمع وقع أقدام وراء تلك الخربة من الجهة الأخرى، فسكت لا خوفاً ولا تلصصا، لكنه لم يكن يريد أن يشعر أحد بخروجه فى تلك الليلة من القلعة.
وأصاخ بسمعه فاستنتج من مجمل ما سمعه أن هناك أناساً يتسامرون، فساقه حب الاستطلاع إلى التسمع، وإن يكن ذلك مخالفاً لما فطر عليه من البسالة والأنفة، لكن حب الإطلاع على المخبآت من جملة طبائع الإنسان وهو لم يسع إلى التجسس وإنما سيق إليه مصادفة.
وقد زاده رغبة فى التسمع أنه سمع صوتاً يشبه صوت سحبان، وهو حديث العهد بسماعه فى ذلك اليوم. سمع ذلك الرجل يقول لمخاطبه: «أن سلافة هذه قد أدهشتنى بدهائها ومكرها».
فأجابه الأخر: «أظنك تعنى قيمة قصر الملك الصالح.. هل هى من دهاة النساء»؟
فقال سحبان: «مهما قلت فيها لا يمكن أن تحيط بوصفها، أما أنا فقد خبرتها بنفسى. أرأيت هذا الانقلاب الذى جرى أمس والتبديل الذى حصل فى السلاطين؟ أرأيت خلع شجرة الدر وتنصيب الملك الأشرف؟ أنها هى وحدها السبب فى ذلك كله».
فقال الأخر: «هذه مبالغة منك يا سيدى، كيف يتأتى لها ذلك وهى هنا والخليفة فى بغداد؟. لعلك توهمت هذا فيها لما رأيت عز الدين أيبك يتردد عليها حتى أفسدت ما بينه وبين شجرة الدر ولكن هذا».
فقطع سحبان كلامه قائلاً: «أنا أقول لك عن ثقة، أن سلافة وهى فى القاهرة قلبت الحكومة وبدلت السلاطين». فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «يظهر أن نفوذها هناك عظيم جداً وأن كلامها مسموع فى قصور الخلافة».
فقاطعه الأخر قائلاً: «صدقت لأنها هى فى الأصل من جوارى ذلك الخليفة وقد أهديت للملك الصالح، ولكن قد يكون فى قولك مبالغة».
قال سحبان: «أنى أقول لك شيئاً خبرته بنفسى». وخفت صوته وقال: «أنا أخذت كتابها بيدى إلى بغداد، فلم يكن إلا مسافة الطريق حتى جاء الجواب بخلع شجرة الدر».
فضحك الرجل وقال: «ما الذى أدخلك فى هذه المهمة؟ وما هو شأنك مع هؤلاء الأتراك يا سحبان؟».
قال: «لا يهمك أن تعرف تفصيل ذلك، ولكنى وجدت هذه المهمة قد تساعدنا فى مشروعنا، وكنت أحسب خلع شجرة الدر على هذه الصورة يفضى إلى ثورة تهيئ لنا الأسباب المعلومة».
•••
فلما سمع ركن الدين هذا الحديث رأى فيه فائدة له فاغتفر لنفسه تنصته، ومكث لسماع بقيته، فسمع رجلاً أخر يقول: «لقد اسأت يا سيدى بأداء هذه المهمة، فأنك أخرجت الدولة من يد امرأة ضعيفة إلى يد رجل شديد، فلا يلبث أن يخلع ذلك السلطان الغلام ويقبض هو على الدولة بيد من حديد والحقيقة على ما أرى أنك قمت بهذه الخدمة طمعاً فى رضاء سلافة.. أنها فى الحقيقة بارعة الجمال».
قال سحبان: «صدقت، أنها جميلة وربما خطر لى أن أنال رضاها، لكن المهمة فى أصلها خدمة للغرض المعلوم».
فقال الأخر: «وهل نلت ما كنت تؤمله من رضاها؟».
قال: «لا أدرى، أن هذه المرأة سر من الأسرار أو هى لغز معمى لا يمكن حله، يلوج لى أنها بلا قلب، أو هى ذات خلق خاص، أعترف لكم أنى كدت أنال رضاها ورأيت من تقربها وتلطفها ما أكد لى حبها، ثم ما لبثت أن رأيتها وقد تغيرت بعد رجوعى من بغداد إذا اختصت الأمير عز الدين بحبها، وقد ملكت قلبه ولبه حتى شعرت شجرة الدر بذلك وغضبت عليه، لكن هذه أصبحت بعد خروج الملك من يدها لا تستطيع غير العتاب والشكوى».
فتصدى رجل للسؤال قائلاً: «كل ما تقوله صحيح، وأزيد عليه أن السبب فى اهتمام المرأة بخلع شجرة الدر وتنصيب غيرها ليس إلا غيرة منها، لأن شجرة الدر صارت ملكة، وهى تحسب نفسها أحق منها بذلك لأنها كردية من قبيلة الملك الصالح، ففعلت ما فعلته انتقاماً، وليس فيه شئ من الدهاء لأنها نقلت الدولة إلى يد أخرى، وإذا صدقنا أنها فعلت ذلك بدهائها، فما الذى عاد عليها من هذا العمل؟. ثم أنى لم أفهم كيف توصل الخليفة فى بغداد إلى خبر شوكار المغنية حتى يطلبها؟».
فقال سحبان: «هى التى أوعزت إليه بأن يطلبها نكاية فى شجرة الدر لأنها مغنيتها».
فلما سمع ركن لدين اسم شوكار خفق قلبه وزاد ميلاً إلى السماع، وحمد الله على تلك المصادفة التى أسمعته هذا الحديث وهو فى أشد الحاجة إلى معرفته لأنه كان غائباً عن مصر فى أثناء تلك الحوادث فأنصت فسمع رجلاً يقول: «وهذا لا شئ فيه من الدهاء لأن شجرة الدر يمكنها الاستعاضة عن شوكار بعشرات مثلها، ولكن السر الحقيقى فى نجاح هذه المرأة أن لها صداقة متينة مع قيمة قصر المستعصم، ولها عليها حقوق مختلفة، فكتبت إليها بما رأته، وتلك صاحبة النفوذ هناك فأنفذته. دعنا منها أنها امرأة متلونة منافقة والسلام».
فضحك سحبان وقال: «صدقت أنها منافقة لأنها خدعتنى، وأظنها ستخدع سواى، ولكن لاشك أنها صاحبة نفوذ عظيم فى قصر الخليفة.. ما لنا ولها.. هيا بنا».
فقال أخر: «لا تطاوعنى قدماى على الابتعاد عن ضوء القمر الجميل، ولكن قد آن وقت الرقاد فلا حول ولا..».
وسمع ركن الدين وقع خطواتهم وهم خارجون من تلك الخربة، فأنزوى ريثما ابتعدوا، وعاد التفكير فيما سمعه عن سلافة عن سر الانقلاب الذى جرى، فانجلت له أمور كثيرة يؤمل الانتفاع بها.
عاد إلى غرفته يطلب الرقاد وقد أنهكه التفكير فى هذه الأمور، فتوسد الفراش على أن ينهض فى الصباح لمقابلة الملك الأشرف وعز الدين مدبر المملكة. فلما اصبح لبس ثيابه وذهب إلى الإيوان فلقى عز الدين، فأخبره أنه وصل أمس لكن التعب منعه من القيام بهذا الواجب، فقدمه عز الدين إلى الملك الأشرف، فقص عليهما نتيجة مهمته فى دمياط وقد انتهت بإخراج الأفرنج من هناك بشروط موافقة.
فأثنى عز الدين على همته وبسالته ووعده بالمكافأة، فشكر له تلطفه، ولم يرفيه ما كان يعلمه من غيرته منه، أو لعله أحس بذلك بسبب ما خامره من المطامع وما سمعه من الأقوال، وعلى كل حال فإنه بالغ فى الكتمان ولبث يتوقع سنوح الفرص.
•••
ثم عاد إلى التفكير فى شوكار وهو لا يدرى هل يبحث عنها أو ينتظر ريثما يتأكد بقاءها على حبه لأنه كان كثير الشك فى ذلك لما ستلاقيه فى قصر الخليفة من النعم. ولم يكن من ذوى العواطف القوية الذين يضحون بمصالحهم المادية فى سبيل الحب، ولكنه كان قوى العقل كبير المطامع، ويغلب فى أمثاله أن ينظروا إلى كل شئ من الناحية التى تنيلهم مطامعهم، ولذلك لم يصدق أن شوكار ستبقى على وده بعد ذلك الانتقال، على أنه كان يشعر بميل شديد إليها وعطف عظيم عليها، وكان يعزيه أنها هناك فى نعيم لا خوف عليها من الاهانة ولا يمس شرفها بما لا يبعث على غيرته لأنها جارية مغنية فقط. قضى برهة وهو يفكر فيما يعمل: أيسافر إلى بغداد للبحث عنها أم يبعث أحداً فى طلبها؟ وشغل أيضاً بمهام منصبه، لكنه لم يستطع الصبر على الفراق، وهو لا يعلم ما يكون من حال شوكار هناك.
فأصبح ذات يوم وقلبه قلق على شوكار، وقد رآها فى نومه على غير ما يريد. وهو غير قادر على السفر إليها، فخطر له أن يكلف سحبان بذلك، وأن يطمئنه ويظهر له المسايرة فى رأيه. فبعث إليه فجاءه وهو مسبتشر طمعاً فيما يرجوه، فلما لقيه قال ركن الدين: «صدقت يا سحبان، أن هؤلاء القوم لا يصلحون للخلافة وهم فى هذا الفساد».
قال: «ألم أقل ذلك يا سيدى؟».
قال: «نعم وأنا أعرفه، وقد خبرته بالأمس مما فعلوه معى.. لا أعلم إذا كنت قد سمعت بأخذهم شوكار».
قال: «كيف لا؟ سمعت، نعم سمعت، وهذا لا يفعله الخلفاء العلويون و..»
فقطع ركن الدين كلامه قائلاً: «ولكن هل تعلم من هى شوكار؟».
قال: «نعم أنها جارية شجرة الدر ومغنيتها».
قال: «وهى فوق ذلك خطيبتى..»
فأظهر الدهشة وقال: «خطيبتك؟ وأخذها منك؟. يا لله من هؤلاء القوم الظالمين؟».
قال: «لم يأخذوها وهم عالمون بذلك.. مالنا ولهم، وإنما يهمنى الآن أن أعرف حال شوكار هناك، وأنا لا أقدر على السفر، وأنت تسافر دائماً فى تجارتك، فهل تقضى هذه المهمة لصاحبك ركن الدين؟».
فاستأنس سحبان بذلك التلطف وقال: «أقضيها على الرأس والعين، وأسافر فى الغد لأجلها.. قبحهم الله.. أنهم مضيعون هذا الملك عن قريب».
فقال ركن الدين: «أشكر الله سعيك يا سحبان، والأيام بيننا».
فقال: «أن خدمتك يا مولاى واجبة على.. أنى مسافر غداً ولا اسألك عما تطلبه فأنى أعرف كل شئ، كن فى راحة». قال ذلك وخرج بعد أن ودع.
وعاد ركن الدين إلى شؤونه وقد اطمأن باله نوعاً، وصبر نفسه ريثما تنقضى المدة اللازمة لذهاب سحبان إلى بغداد ورجوعه منها، وهى أكثر من شهر. لكن لم يمض أسبوعان على سفر سحبان حتى جاءه رسول بكتاب من بغداد وصل فى المساء فلم يصبر على تبليغ رسالته إلى الصباح. وكان ركن الدين فى تلك الليلة عند شجرة الدر وقد أكثر من ترداده إليها ليسليها على ما أصابها من الوحشة بعد وقوع الفتور بينها وبين عز الدين، ولم يدر أن ترداده يزيد تلك الوحشة.
كان تلك الليلة عند شجرة الدر وجاء الحاجب وقال: «أن بالباب رسولاً يحمل كتاباً إلى الأمير ركن الدين ولا يريد أن يسلمه إلا بيده».
فقال ركن الدين: «ليدخل» ولم يطاوعه قلبه على الصبر، فوثب كالسهم حتى لقى الرسول وصاح فيه: «ما وراءك؟».
فقال: وهل الذى يكلمنى الأمير ركن الدين بيبرس؟». قال: «نعم من أنت؟ ومن أين أتيت؟».
قال: «أنا رسول إلى الأمير من فتاة تريد أن يصل كتابها إليه سراً». فخفق قلبه وقال: «هاته». فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج الكتاب ودفعه إليه، فتناول ركن الدين الكتاب ودخل إلى القاعة وأخذ يقرأه، وشجرة الدر تنظر إليه وتراقب حركاته وما يبدو فى وجهه من التغير. ولم يفرغ من قراءته حتى بلغ الغضب منه مبلغاً عظيماً، وشجرة الدر قلبها يخفق وعيناها شاخصتان إليه. فلما فرغ من تلاوة الكتاب صاحت فيه: «ماذا قرأت؟ ماذا جرى؟».
فرمى الكتاب إليها، فتناولته وقرأته فإذا فيه: من المسكينة شوكار إلى سيدها وحبيبها ركن الدين. اختطفونى من بين ذراعى شجرة الدر وأنت غائب، ولم تجد مولاتى حياة لاستبقائى حتى حضورك. فبرحت القاهرة وقلبى فيها، ولم أزل منذ برحتها وأنا أندب حياتى لا أجد لى سلوى برغم ما كان يبذله صاحب الركب من أسباب الراحة لى. وهم يستغربون البكاء من جارية طلبها أمير المؤمنين لتكون فى مجلسه، على أنى ما لبثت أن وجدت بكائى كان فى محله لأنى حين أشرفت على بغداد تغيرت حالى إذ أسلمونى إلى قوم جاءوا من قصر الخليفة وكنت أحسبهم جاءوا ليستقبلونى، وعزمت على أن أطلب إليهم أن يعيدونى إلى مصر أو أوسط أحداً للخليفة ليأمر بإرجاعى بعد أن أقص عليه خبرى. لكننى لم أكد أقع فى أيديهم حتى عاملونى معاملة الأسيرة، وساقونى إلى حيث لا أدرى. هذا وقد كان فى الركب الذى حملنى من مصر الخصى عابد البصرى حامل هذا الكتاب إليك. وكنت قد استأنست به وأحسست بعطفه على فاغتنمت فرصة كتبت فيها هذا الكتاب على عجل ورجوته أن يوسله إليك. فأكرمه ما استطعت، وأستودعك الله، ولا أظننا نلتقى فى هذه الدنيا، وقد ختمت هذا الكتاب بدموعى.
وكانت شجرة الدر تقرأ وركن الدين يخاطب حامل الكتاب.
وسأله: «ماذا تعرف من التفاصيل؟».
فقال: «لا أدرى يا سيدى سوى أنى كنت فى خدمة الركب الذى أتى بكتاب الخليفة، ولما عاد ومعه هذه الجارية رأيت فيها لطفاً، وكنت أنا المكلف بخدمتها. والمفهوم بيننا أنها محمولة إلى أمير المؤمنين لتكون مغنية فى قصره، وكنا نبذل جهدنا فى خدمتها وراحتها، فلما وصلنا إلى ضواحى بغداد جاءنا وفد من الجند قالوا أنهم قادموا من قصر الخليفة، وطلبوا إلينا أن نسلمهم شوكار، فلم يسعنا إلى الطاعة، لكننا لحظنا أنهم ذاهبون بها إلى غير قصر الخليفة، فأشفقت عليها وأخذت فى تعزيتها وسألتها عما تريد أن أصنعه فقالت: «لا أريد شيئاًَ سوى أن توصل هذا الكتاب إلى الأمير ركن الدين، وتسلمه إليه بيده، وقد فعلت) …».
فقال: «وأين هى الآن؟ وماذا تظن أنهم يفعلون بها؟ وما غرضهم من أخذها على هذه الصورة وهى لا تعرفهم ولا علاقة لها بهم؟».
قال: «لا أدرى يا سيدتى، وأنا أيضاً مستغرب هذه المعاملة».
فأطرق ركن الدين، وأخذ يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك فلم يوفق إلى رأى فقال: «والآن يا عابد إذا دفعت إليك كتاباً هل توصله إليها، وأين تجدها؟».
قال: «أبحث عنها جهدى، ولأ أنفك حتى أجدها وأكون طوع إرادتها فيما تريده وأفديها بروحى.. أنها يا مولاى تفدى بالروح للطفها وأدبها».
فأثنى ركن الدين على مروءته وقال: «تعال فى صباح الغد فأدفع إليك بالكتاب. تجدنى فى غرفتى بالقلعة، هل تعرفها؟». فأجاب بإحناء الرأس أن «نعم» وانصرف.
•••
وقف ركن الدين مطرقاً وقد أخذته الدهشة، ثم انتبه لشجرة الدر فتحول نحوها فرآها قد فرغت من تلاوة الكتاب وتغير وجهها وظهرت إمارات الغضب فى عينيها، فلما التفت بيبرس إليها بادرته قائلة: «تلك هى أعمال الخلفاء الذين لم يعجبهم أن تتولى السلطنة امرأة! هذا المستعصم أمير المؤمنين. ووالله لو أن امرأة سليطة تولت هذا الملك لدبرته أحسن من تدبيره، شغل نفسه بالغناء واللهو، ثم يأخذ نساءنا من بين أيدينا ونحن صابرون!».
فأدرك ركن الدين أنها تستثير غيرته على شوكار للانتقام من المستعصم فقال: «ولكن ما أصاب شوكار ليس من المستعصم».
قالت: «ممن إذن؟ ألم يكن هو الذى بعث فى طلبها إليه. وهب أن الذين اختطفوها الآن لم يفعلوا ذلك بأمر الخليفة، ألا يدل وقوع ذلك على ضعف الرجل وقلة هيبته حتى يجرؤ الناس على اختطاف مغنية آتية إليه فى موكب حافل؟ على أننى أضع أكثر الحق على».
فقطع كلامها قائلاً: «الحق كله على عز الدين، هذه هى الحقيقة، ولو شاء هو لاحتال فى استبقاء شوكار».
فقالت: «صدقت، وهذا هو رأيى. لا أدرى ما غير هذا الأمير؟ أن مطامع الدنيا تغير الناس. طمع عز الدين فى السلطنة فضحى كل شئ فى سبيلها، ضحى أصدقاءه وخلانه و…». وغصت بريقها وسكتت.
لم يكن ركن الدين يجهل ما فى خاطر شجرة الدر على حبيبها من الغيرة والنقمة، فأراد أن يخالفها لاكتشاف ما يكنه ضميرها فقال: «لا أظنه فعل ما فعله طمعاً فى الملك لأنه كان فى نفس هذا المنصب وأنت سلطانة. بل كان معك أقرب إلى السيادة والنفوذ منه الآن، ويظهر أنه لم ير بداً من إعاطة أمر الخليفة فيما يتعلق بشوكار».
فضحكت ضحكة اغتصابية وقد امتقع لونها من شدة التألم والغضب وقالت: «لعله أطاع بذلك غير أمر الخليفة». وبلعت ريقها وتشاغلت بمنديلها تسمح به فمها وجبينها.
فلحظ ركن الدين أنها تعنى سلافة فقال: «وهل تلومنيه لأنه يبحث عن مصلحته؟ ليس فى الدنيا أحد لا..»
فقطعت كلامه قائلة: «كلا، لا ألومه لذلك، ولكنى ألوم غيره لأنه لا ينظر إلى مصلحته أيضاً، أن هذا الأمير ضحى بشوكار وركن الدين وشجرة الدر فى سبيل مطامعه ولم يبال، ونحن ما زلنا نحافظ على عهده ونلتمس وده». وتزحزحت من مجلسها وفى ملامح وجهها أنها لم تتم حديثها بعد.
فأراد ركن الدين أن يستزيدها بياناً فقال: «أنا ناقم على هذا الأمير كما تعلمين، لكننى لا أراه يستحق هذا الغضب منك. لأن ما جرى لك ولشوكار لم يكن هو فاعله، ولم ينل من فعله شيئاً جديداً لم يكن له وأنت سلطانة».
قالت: «قد أحرجتنى يا ركن الدين، فاستأذنك فى كشف ما فى قلبى. قد يتبادر إلى ذهنك أنى كرهت عز الدين لأنه أحب تلك الجارية الكردية (سلافة) وهى التى ساعدته على ما فعل، وكنت أحسبها فعلت ذلك حباً فيه، ولكننى عرفت الآن أنه لم يكن يحبها، ولكنه خدعها كما خدعنى، فلما نال مرامه منها تخلى عنها. هل علمت بما عول عليه وأوشك أن يفعله بمشورتها ومساعدتها؟». قال: «كلا». قالت: «قد عزم عزماً أكيداً على أن يستقل بالسلطنة».
قال: «أليس هو مستقلاً بها الآن؟ أليس الملك الأشرف صورة لا معنى لها». قالت: «صحيح، ولكنه سيخلعه ويطلب من الأمراء أن يبايعوه سلطاناً بدله».
فهز رأسه هز الإنكار وقال: «هذا لا يكون، وكيف يتأتى له ذلك والناس يحتجون؟ أنهم لا يخضعون لملك ليس من آل أيوب».
فقالت وهى تضحك ضحك الاستهزاء: «أنك ما زلت قليل الاختبار يا ركن الدين، لكنك لا تلبث أن تعلم أن هؤلاء القوم لا رأى لهم ولا صوت، ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس. والظاهر أن عز الدين تتمكن من إغراء المقربين له وأنت غائب وقبلوا مبايعته، وبلغنى أنهم اختاروا له أحد ألقاب الخلفاء الفاطميين بمصر وهو (المعز) فهل بعد ذلك شك؟ ولعله لو طال مكثك فى دمياط لأمضى هذا الأمر فى غيابك.. أو أظنه أمضاه من ذلك الحين.. ألا تشعر أنه تغير معك كما كان عليه من قبل؟».
فثارت الغيرة فى نفس ركن الدين، وأوشك أن يبوح بما فى خاطره، لكنه تجلد وتماسك. وقد فتح أمامه بعد هذا الحديث باب حديد، فهو لم يكن بالأمس يتصور أنه يمكن لغير الأيوبيين أن يستقلوا بالسيادة فإذا هو يرى عز الدين استطاع ذلك ووافقه عليه الأمراء. فازداد رغبة فى السلطة، لكنه ما زال حريصاً على كتمان ذلك المطمع خوف الفشل عملاً بالحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان». لكنه غلب عليه ظنه بعد أن سمع من حديث القوم عن سلافة فى تلك اليلة أن عز الدين لم يفعل ذلك ألا بنفوذها فأراد أن يستطلع رأى شجرة الدر فى ذلك فقال: «ألا تظنين أن لسلافة دخلاً فى هذا الأمر؟».
قالت: «لا ريب عندى أنها ساعدته فى ذلك نظراً لنسبها الكردى وعلائقها الودية مع بعض الأمراء أصحاب النفوذ من آل أيوب وغيرهم. ولعلها ارتكبت أموراً دنيئة فى هذا السبيل ظناً منها أنها اختطفت عز الدين من شجرة الدر. ولكن خاب ظنها لأن هذا الرجل ليس لأحد منا، وسوف ترى». قالت ذلك وابتسمت وعيناها تلمعان.
ولحظ ركن الدين فى عينيها معنى لم يكن فيهما من قبل. رأى الغيرة والنقمة والغيظ تتزاحم فيهما، فقال: «لمن هو أذن يا مولاتى؟».
قالت: «أتريد أن أبوح لك بكل ما أعرفه عن هذا الخائن مرة واحدة؟ سألتنى لمن هو؟ فأجيبك أنه يزعم أنه لامرأة ثالثة». قال: «من هى؟». قالت: «أمرأة لا تعرفها، ليست فى مصر».
فاستغرب قولها وقال: «أظنك تمزحين؟» قالت: «كلا، أنى أقول الصدق، أن عز الدين يزعم أنه ساع فى خطبه بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل».
قال وقد بدأ الاستغراب فى عينيه: «أن صاحب الموصل له مقام رفيع عند الخليفة، وهل تظنينه يفوز بها؟».
وكان التأثر والغضب قد ملكا عليها أمرها، فقالت وهى تشير بيدها إشارة الإنكار: «لا. لا. لن يفوز بها، أنه ليس لإحدى هؤلاء النسوة، بل هو نصيب الرابعة». وأشارت بيدها إشارة رجل بيده خنجر يطعن به أخر إلى جانبه. ففهم ركن الدين أنها تنوى قتله، وتأكد ذلك مما بدا فى عينيها من الإحمرار، فضحك وأظهر الاستخفاف بهذا الرأى، ونهض يريد الانصراف وهو يقول: «لا أظن الأمر يبلغ بك إلى هذا الحد، قد انتصف الليل وأن لى الانصراف، أستودعك الله».
فصاحت به: «ويلك يا ركن الدين، تذهب على هذه الصورة وتتركنى على هذه الحالة؟ ماذا جرى لك؟». قال: «ماذا أصنع يا مولاتى؟». قالت: «قد رأيت من أمرك عجباً. تكلمنا فى أبواب كثيرة وصرحت لك بأمور كثيرة كنت أكتمها عن كل إنسان وأنت جامد كالصخر الأصم لا تقول شيئاً.. إذا كنت تفعل ذلك عن دهاء فنعم الفعل، وإلا فأنك صلب بارد. وفى كل حال كنت أتوقع منك أن تقول كلمة عن شوكار المسكينة التى ذهبت ضحية حبك، وهى تقاسى العذاب، وقد تفطر قلبى من كتابها. ولو كنت خطيبها لركبت الساعة إلى بغداد ولم أرجع إلا وأنا منتقمة لها من ذلك الخليفة الظالم الذى لا يهمه إلا التمتع بملذاته». قالت ذلك وهى تتفرس فى عينيه.
فكان لكلامها وقع السهام فى قلبه وأوشكت أن تخرجه إلى التصريح بما ضميره، لكنه تراجع وتمالك وتشاغل بالضحك وقال: «لله أنت من خطيب غيور شجاع. أما أنا فأظن عندى مثل ذلك. ولكننى سأنظر فيه وأعمل ما يسرك وإن لم أقل شيئاً». قال ذلك وبرقت عيناه، وبان الحزم والجد فى جبينه، فتقدمت إليه ووضعت يدها على كتفه، وقالت: «هذا عهدى فيك، وقد فهمت من هذه العبارة كل شئ. وأعلم أنى فاعلة ما يتمم عملك هنا.. اقتل المستعصم وأنا أقتل عز الدين، وأنت السلطان صاحب الأمر والنهى».
فتجاهل ما سمعه وقال: «أتأذنين لى فى الانصراف الآن؟».
فأشارت إليه مودعة، فخرج وهو ينتفض من الغضب، وقد تضاربت الأفكار فى خاطره، ولم يعجبه تصريح شجرة الدر بقتل المستعصم لاعتقاده أن مثل هذا الأمر الخطير لا ينجح إلا إذا ظل مكتوماً فى خاطر صاحبه.
•••
مشى ركن الدين وقد انتصف الليل وأخذ منه التأثر مأخذاً عظيماً حتى أصبح لا يرى طريقه من فرط ما تجاذبه من الهواجس، وأسرع فى خطاه رغبة فى الاختلاء بغرفته لمناجاة نفسه، لكنه لم يكد يصل إلى باب منزله فى القلعة حتى تصدى له أحد الحراس وحياه، فرد التحية ومشى، فتقدم إليه الحارس قائلاً: «أن خادماً فى انتظار مولاى هنا منذ ساعتين». وأشار إلى رجل واقف بجانبه.
والتفت نحوه وقال: «من الرجل؟» وظنه لأول وهلة رسول شوكار جاء يأخذ جوابه إليها، فاذا هو سواه.
فتقدم الرجل ودفع إلى ركن الدين كتاباً مختوماً، فتناوله وأمر خادمه أن يسرع إلى غرفته ويضئ فيها المصباح ففعل.
فدخل ركن الدين وحده وفض الكتاب أمام المصباح، وقد أدهشه ما فاح من رائحة الطيب، فترجح لديه أنه من امرأة، فأخذ يقرأ فإذا هو من سلافة جارية الملك الصالح، فاستغرب ذلك وقرأ فيه: «سلافة جارية الملك الصالح وقيمِّة قصوره ترغب فى مقابلة الأمير ركن الدين بيبرس ساعة وصول كتابها هذا إليه، وحامل الكتاب يرشده إلى المكان».
فوقع فى حيرة، وتولته الدهشة، وأخذ يسأل نفسه ماذا عسى أن يكون غرضها من تلك المقابلة وليس بينها وبينه سوى معرفة بسيطة. وتذكر ما سمعه عنها من سحبان، وما جرى من ذكرها بين يدى شجرة الدر، وعلاقتها بعز الدين أيبك، فأصبح شديد الميل إلى تعرف هذه المرأة، ولعل التعرف بها ينفعه فى مشروعه.
ورآها تطلب إليه مقابلتها ساعة وصول كتابها فقال فى نفسه: «ما عسى أن يكون سبب هذا السرعة؟». وبرغم ما كان فيه من التعب والقلق عزم على إجابة الدعوى حالاً، فنادى الرسول إليه فدخل فقال له: «هل المكان بعيد من هنا؟». قال: «كلا يا سيدى أنه قريب جداً». قال: «وهل أنت هنا من زمن طويل؟». قال: «منذ نحو ساعين». قال: «ولماذا انتظرت كل هذه المدة؟». قال: «لأن مولاتى صاحبة الكتاب أمرتنى ألا أعود إلا بالجواب».
فإزداد ركن الدين دهشة واستغراباً وصمم على الذهاب، فلبس ثيابه وخرج، والرسول يمشى بين يديه، وقد أخذ القلق منه مأخذاً عظيماً، ومر بباب القلعة فعرفه الحراس ولم يعترضوا سيره.
خرج إلى القاهرة والطريق مظلم إلا من بعض المصابيح بأبواب المنازل، وما زال ماشياً والرسول معه حتى وصل إلى باب كبير وقف الرسول عنده واستوقف الأمير ريثما طرق الباب، ففتحت طاقة فيه وأطل منها عبد خصى يسأل عن الطارق فأوما إليه الرسول فوسع له ولرفيقه، فدخل ركن الدين إلى حديقة مظلمة، لولا شموع مضيئة لكان الظلام حالكاً. على أن ذلك النور الضعيف زاد المكان وحشة لانه جعل ظلام الأشجار تظهر متكاثفة متلبدة. فلما رأى نفسه فى ذلك المكان ندم على مجيئه، وتوهم أشياء كثيرة بعضها يوجب القلق، ولكنه تجلد ومشى بقدم ثابتة لا يبالى ما قد يتهدده، وهو لم يتعود الخوف، لكنه خاف الفضيحة لعلمه بما بين صاحبة هذا المنزل وعز الدين من العلائق.
وكان الرسول قد تقدمه لينبئ بوصوله، فما كاد ركن الدين يتوسط الحديقة حتى عاد الرسول وأشار إليه أن يتبعه، فتحول به إلى قاعة منفردة قد أضيئت فيها الشموع على منائر فى وسطها، وفرشت أرضها بالبسط والوسائد، وأدهشه ما شاهده بين الأثاث من الآنية التى كان يراها فى قصور الملك الصالح قبل هدمها وتخريبها، وتأكد أن عز الدين جاء سلافة بهذا الرياش، لأنه هو الذى خرب تلك القصور واستأثر بأنقاضها ورياشها.
استقبلته سلافة بباب القاعة وقد لبست أثمن ما عندها من الحلى والثياب ولم تتنقب إلا قليلاً، وكان قد تنسم رائحة الطيب قبل أن يراها فلما تلاقت عيناها زاد ندمه لمجيئه لأنه توهم شركاً يخاف الوقوع فيه.
أما هى فاستقبلته بالسلام والترحيب قائلة: «قد أزعجناك أيها الأمير».
قال: «العفو يا سيدتى، أنى مسرور من هذه الفرصة فعسى أن أستطيع أداء خدمة أو قضاء طلب».
فمدت يدها للسلام عليه فمد يده وصافحها فوجد أناملها باردة كالثلج وفيها رعشة أثرت فيه، لكنه تشغل بالثناء على ترحابها، ثم مشت به وهى قابضة على يده حتى وصلت إلى مقعد فى صدر القاعة، فأشارت إليه أن يجلس فجلس وقد أقشعر بدنه من لمسها، فأفلتت يده وجلست بين يديه على وسادة، وهى تنظر إليه وترحب به، وهو ينتظر أن تفاتحه بما دعته من أجله، فلم تزد على الترحيب والمؤانسة. فلما ابطأت عليه قال: «جئت طوعاً لأمرك، فهل من خدمة أقضيها لك؟».
قالت: «بل أنا فى خدمتك يا ركن الدين، ولعك لم تكن عالماً بوجودى قبل هذه الليلة ولم أخطر ببالك. وأما أنت فلم تبرح من فكرى لحظة، وأنا أتتبع خطواتك منذ أعوام». قالت ذلك وأحمرت وجنتاها وبرقت عيناها، وكانت جميلة فزادها ذلك جمالاً.
أما ركن الدين فلم تعجبه هذه الفاتحة لأنه فى شاغل عن المغازلة، وكان يسمع بجمال هذه المرأة ويعرف عنها بعض الشئ فى حياة الملك الصالح، ولم يكن أمرها يهمه، ولاسيما فى تلك الليلة وهو فى ذلك الاضطراب. فلما سمع قولها أطرق وقال: «العفو يا مولاتى، كنت أسمع بمنزلتك الرفيعة عند مولانا الملك الصالح، ولكن الأحوال لم تأذن بالتعارف».
قالت وهى تتظاهر بالخجل والحياء: «هذا صحيح بالنظر إليك وحدك، أما أنا فقد عرفتك جيداً، وطالما راقبت دخلوك قصر الروضة وخروجك منه، وكثيراً ما كنت أسهر الليل بطوله أنتظر مرورك فى الحديقة لأراك من وراء الستائر».
فاستغرب ركن الدين هذه المشاكاة وتجاهلها وقال: «أن ذلك فضل منك يا سيدتى، وأتأسف لأنى لم أكن أعلم به».
فقالت: «ألم تعلمه الآن؟ أرجو الإغضاء عن جسارتى يا ركن الدين ولا تكن قاسياً».
فلما سمع هذا التعريض أجفل وأسف لمجيئه وقال: «العفو يا سيدتى، لم أكن أتوقع أن أسمع هذا وأنا أعلم أن مولانا الأمير عز الدين يتردد إلى هذا المكان وهو صاحبه».
فتنهدت وقالت: «مولاك أو مولاى الأمير، لا يستحق هذه الحظوة، دعه وشأنه، مالنا وله؟».
فظن ركن الدين أنها تريد أن توقعه فى الفخ لتستخدمه فى مهمة لها كما فعلت بسحبان، فصممم على الرفض وسرعة التخلص فقال: «ألهذا دعوتنى يا سلافة فى هذا الليل؟».
فأجابته وعيناها ذابلتان وقالت: «وهل هذا أمر قليل الأهمية فى نظرك يا حبيبى؟».
فنهض وهو يقول: «ليس قليل الأهمية، ولكننى فى شاغل عنه الآن يا سيدتى». وهم بالاستئذان فى الانصراف».
فنهضت ووقفت فى طرقه وقالت: «ماذا الذى يشغلك عنى. لم يبق الآن ما يشغلك يا قاسى القلب، أين القاهرة من بغداد؟».
فأدرك أنها تشير إلى شوكار وأخذها إلى بغداد، فنفرت نفسه منها وقال: «ما زلت فى شاغل، أرجو يا سيدتى أن تأذنى فى انصرافى ناشدتك الله».
فأمسكت يديه بكلتا يديها وقالت: «تمهل يا ركن الدين، لا تسرع فى الرفض وانتبه لنفسك، وأعلم أن سلافة وحدها تقدر أن تنيلك مرامك. مالك وللغناء؟ أنت فى حاجة إلى من يضع يده بيدك، وإذا ألقيت الوقود فى النار نفخ فيها وأشعلها حتى ينضج الطعام». ونظرت فى عينيه وابتسمت، فعلم أنها تشير إلى تفضيل نفسها على شوكار فقال: «بالله دعينى أنصرف لأنى فى شاغل ذى بال».
قالت: «أنا أعلم بشواغلك، أما شوكار فلا سبيل إليها أبداً و..» فلما سمع تصريحها فجأة اجتذب يديه من يديها وقد غضب وقال: «ما الذى حملك على ذكر هذه الفتاة الآن، مالنا ولها؟».
قالت: «كيف لا أذكرها وهى سبب قلقى وعلة شقائى، لكنها الآن بعيدة عنا».
فقال: «إذا كانت بعيدة الآن فإنها ستكون بعد قليل قريبة بإذن الله».
قالت: «من قال لك ذلك فقد خدعك. أن شوكار اصبحت فى غير هذا العالم يا ركن الدين، وقد نصحتك فانتصح».
فأقشعر بدنه عند سماع هذا الكلام وحملق فيها وقال: «أطلب إليك أن تكفى عن هذا القول وتدعينى وشأنى، دعينى أذهب بسلام». قال ذلك وقد مال إلى تصديق قولها لكثرة ما عرفه من دهائها وعلاقاتها ببغداد ونفوذها هناك، وبخاصة لأنها لم تستقدمه إليها إلا فى الليلة التى جاء فيها ذلك الكتاب من شوكار تشكو فيه الخطر، فقام فى ذهنه أن سلافة تعرف حقيقة حال شوكار، فقعد وأشار إلى سلافة أن تقعد وأظهر الجد وقال: «يا سيدتى أرجو أن تصغى لما أقوله لك، وقد علمت من كثيرين بمالك من المنزلة العالية والكلمة النافذة فى قصور أمير المؤمنين ببغداد، فأرغب إليك أن تساعدينى فى أمر يهمنى هناك».
فقطعت كلامه وقالت: «أنى طوع إرادتك فى كل ما تريد، ولا أنكر عليك ما لى من الكلمة النافذة، ولعلك تعلم أن ما حدث من العزل والتنصيب بمصر إنما كان على يدى».
فلم يخامره شك فيما تقوله، وأعتقد أنها تقدر أن تفعل كل ما ادعته وهو طامع فى السيادة، لكنه أحس بشئ حال بينه وبين تلك المطامع، وأصبح همه إنقاذ شوكار فقال: «أشكر لك تفضلك، ولا ريب عندى فى صدق ما تقولين، ولا أظننى استغنى عن يدك فى بعض هذه الأمور لكننى أطلب الآن أمراً واحداً فهل تقضينه لى؟».
قالت: «أقضيه على الرأس والعين».
فقال: «أريد أن استرجع شوكار من بغداد إلى هنا».
فتغيرت سحنتها وقطبت حاجبيها ونظرت إليه شزراً وصاحت: «لله أنت من أمير عاقل! أبعد ما ذكرته لك تعود فتسألنى استرجاع هذه المغنية من بغداد، وقد قلت لك أنها ليست هناك؟»
فقال: «أين هى؟ فى مصر؟» قالت: «ولا فى مصر أنها غير موجودة فى مكان. ألم يأتك خبرها؟».
فلما سمع سؤالها أجفل وتحقق أنها عالمة بما أصابها فصاح فيها: «لم يجئنى خبر بسوء أصابها كما تقولين».
قالت: «أنها لن ترجع إليك أبداً، ولو علمت أنها ترجع لأعدتها على أعقابها بيدى، وهل قذف بها إلى تلك الديار غيرى؟».
فاعتدل فى مجلسه واستغرب تصريحها وقال: «أنت أرسلتها إلى هناك؟ ما الذى كان يضرك لو بقيت هنا؟ أنها لا تزاحمك فى نعمة».
فنهضت وهى تشير بأصبعها إليه وقالت: «أنها تزاحمنى عليك يا ركن الدين!» وغصت بريقها وبان الهيام فى عينيها.
فظنها تتقرب إليها تزلفاً لغرض تريد أن يقضيه لها فقال: «بالله يا سلافة لا تطيلى تعذيبى. إذا كنت تريدين منى خدمة أقضيها لك قضيتها حباً وكرامة، وإنما أطلب منك أن تساعدينى فى استرجاع شوكار».
فنظرت فى وجهه نظر المتفرس وقالت: «ويلى منك يا رجل ويا لشقائى! أترامى عليك وأصرح لك بما فى قلبى وأنت تصم أذنيك عنى، مع علمك أن أكبر أمرائكم يتمنى رضاى؟». ثم أمسكت عن الكلام لأن الدموع أوشكت أن تغلبها وحولت وجهها عنه خجلاً.
فأشفق عليها وقال: «أنى مقدر تنازلك حق قدره، وأشكرك عليه شكراً جزيلاً، لكننى طلبت منك خدمة أنت قادرة عليها و…».
فقطعت كلامه قائلة: «أنى رهينة أمرك فى كل شئ إلا فى هذا. يهون على أن أجعلك سلطاناً على مصر، وأما استرجاع تلك المرأة فلا يمكن، ألم تفهم بعد؟».
وكان ركن الدين صاحب مطامع، ولم يكن شديد التعلق بشوكار، فكان المتوقع فيما تعرضه عليه سلافة أن ينصاع لها ويستعين بها فى تحقيق مطامعه، لكنه بعد ما سمعه منها ضد شوكار أحس بميل جديد إلى هذه سيما أن إرسالها إلى بغداد إنما كان بسببه، كما صرحت له الآن سلافة، فأصبح فى حيرة، وأطرق يفكر فيما رآه وسمعه وفيما مر به فى ذلك الليل من الغرائب، واستعظم ما سمعه من تصريح سلافة وتحببها له، وحدثته نفسه لحظة أن يسايرها لأنها قد تساعده فى نيل مطامعه، لكنه تذكر كتاب شوكار الذى جاءه فى ذلك المساء وما فيه من دلائل التعلق به، فأبت نفسه أن يساير عدوتها اللدودة.
وبقى مطرقاً يفكر وسلافة تنظر إليه وتراعى حركاته وتكاد تلتهمه ببصرها، ورفع نظره إليها فرأى فى عينيها معنى لا يعبر عنه بالكلام، وأحس بحرج الموقف، ولم ير بداً من تأجيل الكلام إلى فرصة أخرى لأنه لفرط ما اتنابه من التأثيرات المتضاربة أحس أن عقله قد أصيب بالكلال، فأحب أن يؤجل الحديث ريثما يستريح وينظر بماذا يجيب.
فنهض وقد بانت الحيرة فى عينيه ونظر إلى سلافة وابتسم لها ابتسامة شكر وقال: «أشكر لسيدتى حسن ظنها بى فأنى لا أستحق شيئاً من هذا الالتفات، واستأذنها فى الانصراف». قال ذلك وانحنى مودعاً ومد يده ليصافحها.
فأبعدت يدها عنه، وخبأتها وراء ظهرها، وتراجعت ولم تجب بفيها، لكنها أجابت بنظرة أفصح من الخطاب أنها عاتبة أسفة لسوء حظها معه، وأن قلبها لا يطاوعها على الفراق. فخطأ خطوة أخرى نحوها وقال كالمستعطف: «بالله يا مولاتى أئذنى فى انصرافى الساعة فقد تعبت وأصبحت فى حاجة إلى الرقاد..».
قالت وهى تهز رأسها: «لله ما أسوا حظى!. أشكو لك غرامى وأنت تشكو حاجتك إلى النعاس؟!». قالت ذلك وتحولت عنه ومشت خطوة، ثم التفتت نحوه ورمته بنظرة كالسهم أصاب صدره، وإن لم يؤثر فيه كثيراً وقالت: «سر يحرسك الله، سر إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلى هذا يذهب هدراً». ودخلت مخدعها مسرعة.
وانصرف ركن الدين، وقضى معظم الطريق وهو يردد كلامها ويفسر نظراتها ويعلل حركاتها، وقد عظم أمرها فى عينيه ولاسيما بعد أن تذكر ما سمعه عن نفوذها فى بغداد، وأصبح فى خوف على شوكار منها، ولم يبق عنده شك أن شوكار إنما أصابها ما أصابها فى سبيله فهو السبب فى شقائها، وأن وجودها فى بغداد أصبح بعد هذه المقابلة أكثر خطراً. وخيل إليه أن سلافة لا تلبث أن تبذل جهدها فى إيصال الأذى إليها بسببه، فأحس بالتبعة التى تحملها بمجافاة سلافة لأنه سيعبثها على تعمد الأذى لشوكار، وشعر بقشعريرة وقف لها شعره.
وكان قد دخل باب القلعة ودنا من غرفته، ففتحها له الخادم وأضاء المصباح فأخذ فى خلع ثيابه، ثم وقع نظره على كتاب شوكار فأعاد قراءته فكان تأثيره فى هذه المرة أشد من تأثيره الأول كثيراً، وغلبه العطف على شوكار، وأيقن أنه لا يرتاح باله إلا إذا نجاها من ذلك الضيق، وهو لا يقدر أن يعهد فى هذا الأمر إلى أحد، ولاسيما بعد تهديد سلافة، فأخذ يفكر فى السفر إلى بغداد.
وبينما هو فى ذلك إذ سمع أذان الفجر فتوسد الفراش التماساً للراحة، وكان نومه مضطرباً متقطعاً، ولم تبرح صورة شوكار من خاطره لحظة. ولما نام رآها فى الحلم حزينة باكية تعاتبه لأنه شغل عنها بسلافة، فأثر هذا الحلم فى خاطره تأثيراً شديداً. ولما أفاق من نومه وطن عزيمته على الأخذ بناصرها.
وأصبح فى اليوم التالى ورسولها ببابه يطلب جوابه على كتابها، فأدخله إليه وسأله عن سفره إلى بغداد وكيف يكون؟ وكان ركن الدين قد سافر إليها مرة وعرف أهم طرقها وأحيائها، ثم زوده بكتابه إلى شوكار وبالغ فى إكرامه وملاطفته. فسأله الرسول إذا كان عازماً على السفر إلى بغداد.
فقال: «سأنظر فى ذلك». وصرفه بعد أن عرف منه المكان الذى يجده فيه إذا سافر إلى هناك.
أما سلافة فلا تسل عن غضبها لما لقيته من تردد ركن الدين لأنها كانت تحبه من كل قلبها، وكانت تحسب مكاشفتها إياه بحبها كافية لتجعله اسير هواها، فإذا هو يتردد ويظهر ميله إلى شوكار، وهى لا تستطيع أن تتصور وجودها لأنها تزاحمها على حبه، وكانت قد علقت به وهو لا يعلم، وتحينت فرصة لمفاتحته فى أمرها ولكنها رأت شجرة ال در اجتذبته لنفسها، فكان ذلك فى جملة ما حملها على مقاومتها، وبلغها أمر خطبته شوكار فجعلت رٍسالتها إلى بغداد تتضمن التخلص من الاثنتين معاً، فأنزلت شجرة الدر عن العرش، وأبعدت شوكار إلى بغداد. وتقربت إلى عز الدين لتفسد ما بينه وبين شجرة الدر عدوتها ومناظرتها وأفلحت فى ذلك، ولم يبق لإتمام سعادتها إلا أن تسترضى ركن الدين ليكون لها.
وكانت الأخبار تأتيها من بغداد متواصلة، فوصلها فى صباح ذلك اليوم خبر ما أصاب شوكار فى بغداد، فتسلحت به بحيث يقطع ركن الدين كل أمل فى بقائها فيتحول إليها، وعزمت على بذل جهدها فى إسعاده وتقديمه، ووطنت نفسها على الاكتفاء به، فلما رأت منه ما أرته غضبت وانقلب حبها إلى حقد، وعزمت على مناوأته أن لم يرجع إلى صوابه ويسترضيها!.
فلنترك القوم فى مشاغلهم بمصر وننتقل إلى بغداد.
الفصل السابع
فى بغداد
بلغت بغداد أقصى عمرانها فى أيام المأمون، حتى امتدت أبنيتها وبساتينها إلى نحو ????? فدان. وقد كانت مدناً متلاصقة.
وهى واقعة فى الجانب الغربى لنهر دجلة ولا تزال المدينة التى بناها المنصور هناك باقية بشكلها المستدير.
أما فى زمن روايتنا، فى القرن السابع للهجرة، فقد تبدل حالها وانتقلت أكثر عمارتها إلى الجانب الشرقى من حيث قصور الخلافة. وأمحت مدينة المنصور، وتدهورت حالتها الاجتماعية بعد أن كانت فى القرون الأولى من بنائها أم المدائن ومهبط التجارة ومجتمع العلماء والشعراء وموئل طلاب الثروة والجمال، على أنها بعد أن ضعف شأن الخلافة فيها تسربت إليها الدسائس وقامت الفتن بين أهلها، وأهمها الشقاق بين أهل السنة والشيعة، فلم تكن تمضى سنة لا يقع فيها بين الطائفتين قتال تتوسط الحكومة فى شأنه. وكانت هذه سنية فكان الضغط يقع غالباً على الشيعة، وكانوا يقيمون فى الكرخ والكاظمية وهم صابرون على ما يكابدونه من الاضطهاد، والحكومة مع ذلك توليهم مصالحها وتعهد إليهم فى تدبير شئونها.
وكان هذا الشقاق سبباً فى سقوط بغداد ودخولها فى حوزة التتر على يد هولاكو، وذلك طبيعى فى تاريخ الدول. وإذا تدبرت أسباب الانقلابات السياسية التى تنتقل بها السيادة من دولة إلى دولة. وجدت معظمتها يرجع إلى انقسام أبناء البلاد فيما بينهم بالمشاحنات الدينية أو الأغراض السياسية حتى يستولى القنوط على الفئة الضعيفة إذا غلبت على أمرها فتستنجد بالغرباء ليأخذوا بناصرها. ثم لا يزالون يتحينون الفرص حتى تصير الدولة إليهم. وتكاد لا تجد انقلاباً سياسياً فى تلك العصور يخرج سببه عن نحو ما تقدم.
•••
وكان على دجلة جسران موصلان بين شرقى المدينة وغربيها، وكل منهما مبنى من أخشاب مفروشة على سفن مستديرة الشكل، وأهمها منصوب بين حى قصر عيسى والرصافة، ينتقل عليه الناس والدواب.
وكان على ضفاف دجلة فى البر الشرقى قصور الخلفاء وأهم أبنية بغداد، وأشهرها قصر التاج والقصر الحسنى، والمدرسة المستنصرية التى بناها المستنصر بالله والد المستعصم بالله الذى تدور فى زمانه حوداث هذه القصة، والمدرسة النظامية، وقصر الريحانية، وقصر الفردوس. وأقربها من طرف الجسر الشرقى قصر لا اسم له كان يقيم فيه مؤيد الدين ابن العلقمى وزير المستعصم، وكان من أهل الكفاءة والدهاء، ولكنه كان نصوحاً مخلصاً يرى فى ما فى الدولة من الاضطراب ويبذل جهده فى النصح للخليفة وتنبيه إلى ما يعود بالصلاح عليه وعلى الدولة. وكان المستعصم ضعيف الرأى لكنه حسن الظن بوزيره فكان يصغى لنصائحه فى أكثر الأحيان.
غير أن ذلك لم يكن ضامناً للخير منقذاً من الخطر، لأن الرأس إذا كان مختلاً اضطربت سائر الأعضاء ويغلب فى مثل هذه الحال أن ينقاد إلى المتملقين وذوى الأغراض من أهل الدولة أو العصبية، فيغتنموا فرصة ضعفه ويعيثوا فى الأرض فساداً لإرواء مطامعهم، وهو لا يسمع فيهم لوما ولا يصغى إلى انتقاد.
تلك كانت حال المستعصم فى ذلك الحين، حتى أصبح ألعوبة بين أيدى أعوانه ورؤساء قصوره، لأنه كان منغمساً فى الترف شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغانى، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة وكان ندماؤه. وأعوانه منهمكين معه فى الملاذ لا يرجون له صلاحاً.
وزاد الطين بلة أن هولاكو التترى حفيد جنكيزخان كان قد أسس دولة عرفت بدولة أيلخان أو مغول الفرس، فلما استقر له الأمر فى فارس طمع فى بغداد وأخذ يستعد للحملة عليها، فاتفق أنه وهو يحارب الإسماعيلية فى فارس ويحاصر قلاعهم كتب إلى المستعصم يستنجده، وأراد هذا أن ينجده فمنعه امرأؤه من ذلك مخافة أن يكون قصد هولاكو الخديعة لتخلو بغداد من الرجال فيملكها بسهولة. ثم فتح هولاكو تلك القلاع وبعث إلى المستعصم يعاتبه فأشار عليه الوزير ابن العلقمى أن يسترضيه بالهدايا والأموال فأطاعه وأخذ فى تجهيز هدية من الجواهر والمماليك والجوارى، فاعترض الداودار (قائد الجند) وطعن فى نية الوزير وقال: «أنه يروم تسليم الدولة إلى التتر». فكف الخليفة وأرسل هدية يسيرة. فغضب هولاكو وبعث إلى الخليفة أنه لا يرضيه إلا إذا أتى هو بنفسه للاعتذار أو أن ينيب عنه الوزير أو الداودار، فأرسل إليه أناسا لم يقبل هولاكو نيابتهم واتخذ ذلك ذريعة للحملة على بغداد.
ولم يدرك المستعصم حقيقة غرضه، ووقع ابن العلقمى فى حيرة من أمره فكان يكثر التفكير فى مصير هذه الحال، ويرى الخطر محدقاً بالدولة فينصح ويحذر بلا جدوى. وكانت رسل هولاكو تأتيه سراً تحمل إليه كتب التحريض على الخروج إليه أو مطاوعته فى تسليم بغداد ويعده الوعود الكثيرة. وهو يتردد ويصبر لعل الخليفة يصغى لنصحه، وكان إذا لقى المستعصم وخاطبه فى ذلك وعده أن يعمل برأيه ثم لا يلبث بعد أن يفارقه حتى يرجع عن وعوده بما يدسه بعض الأعوان من الدسائس على ابن العلقمى ويتهمونه بالخيانة لأنه شيعى.
وكان الكبار الشيعة من الجهة الثانية يحومون حول ابن العلقمى يشكون إليه ما يقاسونه من الاضطهاد والعسف من ابن الخليفة، حتى أصبحوا لا يأمنون على أموالهم ولا على أعراضهم، وهم يقيمون فى الجانب الغربى من بغداد وأكثرهم فى الكرخ والكاظمية، وابن العلقمى يخفف عنهم ويعدهم خيراً، لكنه كان يتجنب الاجتماع بهم جهاراً خوفاً من وقوع الشبهة عليه، فلم يكن يأذن لأحد منهم أن يزوره إلا خلسة، لأن جواسيس المستعصم مبثوثون حوله يعدون عليه أنفاسه.
•••
أصبح ابن العلقمى ذات يوم وقد عظم الأمر على نفسه، ونفر من العمل وهو لا يرى فيه مصلحة له ولا للدولة، فاعتكف فى منزله، وكان فى قصره شرفة مرتفعة تطل على دجلة والجسر والرصافة والكرخ جميعاً، كان قد بناها لهذا الغرض، فصعد إليها وأمر الخدم ألا يزعجوه كأنه مريض لا يقدر أن يقابل أحداً.
صعد إلى الشرفة وقد التفت بعباءة خفيفة واعتم بعمامة صغيرة، وكانت الشرفة كالمصطبة أو المنظرة عليها الوسائد والطنافس وبعض أدوات التسلية لمن شاء من زائريه، وبينها وقعة من شطرنج موضوعة على وسادة فجلس بجانبها، وكانت هذه اللعبة كثيرة الشيوع فى بغداد تلذ لأصحاب العقول المفكرة، ولاسيما الذين يهتمون بالسياسة ويحتاجون إلى الحيل العقلية، وهو يومئذ فى تردد واضطراب فأخذ ينظر فى تلك الرقعة ويتسلى بنقل أحجارها على سبيل التجربة فلم تجد نفسه راحة فى ذلك.
فانتقل إلى دكة فى صدر المنظرة تطل على بغداد، وكان الجو صافياً فألقى نظره إلى تلك المدينة التاريخية يخترقها نهر دجلة المبارك، وعلى ضفتيه العمائر من القصور والمدارس والمستشفيات والمساجد والحمامات والبساتين والترع والجسور والطرق والدروب والأسواق مما يشغل الخاطر، واستحضرت ذاكرته تاريخ بناء هذه المدينة وسبب بنائها منذ خمسمائة سنة ونيف، ومن توالوا عليها من الخلفاء، وما تقلب عليهم من الأحوال، وما بلغت إليه فى أيام الرشيد من أسباب الحضارة، يوم كانت عاصمة الإسلام فى أقطار الأرض، تجبى إليها الأموال من معظم العالم المعمور، من تركستان إلى المحيط الأطلانطى، ويتوافذ إليها ملوك الأرض يخطبون ود صاحبها ويتزلفون إليه.
ثم صدمته فجأة نكبة البرامكة وما كان من ذلهم بعد عزهم وهم أصحاب الفضل الأول فى تلك الحضارة، وما عقب ذلك من الفتنة بين الأمين والمأمون ومن قتل فى سبيلها من الأنفس. إلى أخر ما حدث من تقلبات السياسة حتى صارت الدولة العباسية إلى التقهقر.
وبينما هو يفكر فى كل هذا إذ سمع لغطاً فى داره كأنه لجاج وجدال، فأصغى فسمع رجلاً يطلب أن يقابله والخدم يقولون له: «إن مولانا الوزير فى شاغل عن المقابلة».
فاستأنس بذلك الصوت وظن أنه يعرف صاحبه، فجذب حبلاً بجانبه متصلاً بالطبقة السفلى من القصر فدق جرساً هناك — وهى إشارة الاستدعاء عندهم — فجاءه غلام من غلمانه، فسأله سبب الضوضاء فقال: «إن رجلاً غريباً يطلب أن يرى مولانا، ولم يصغ إلى قولنا».
فقال: «قد سمعت صوته وأظننى عرفته، لا بأس من إدخاله».
فعاد الغلام بعد قليل ووراءه رجل عليه ثياب الفرس ووجهه فارسى، فحالماً رآه مؤيد الدين عرفه فرحب به وقال: «مرحباً بسحبان».
فأكب سحبان على يد الوزير يهم بتقبيلها فمنعه الوزير من ذلك وصافحه وأجلسه بجانبه وأمر الخادم بالانصراف وقال: «منذ متى جئت؟» قال: «جئت بغداد مساء أمس يا سيدى».
قال: «من أين أتيت؟». قال: «من القاهرة». قال: «أذكر أنى رأيتك هنا من عهد غير بعيد».
قال: «نعم يا مولاى كنت هنا وسافرت ثم عدت، حين نفدت بضاعتى لأشترى سواها، وتعب السفر لا يهمنى كثيراً».
فابتسم مؤيد الدين وقال: «انقطعت للتجارة يا سحبان؟»
فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «وهل ترى فائدة من سواها أيها الوزير؟»
فأدرك ابن العلقمى أنه يشير إلى الوزارة التى هى عمله فقال: «صدقت، لا فائدة من سواها، ولا خير فى أعمال الحكومة، حتى الوزارة فإن صاحبها متعب القلب بلا فائدة، مضت أيام الوزارة الحقيقية و…». وسكت كأنه خاف التصريح بما فى خاطره، فقال سحبان: «الوزارة أرقى مناصب الدولة، والوزير هو صاحب الحل والعقد، لكن يشترط أن..» وبلع ريقه وسكت وهو يخرج منديله ليتشاغل به.
فقال مؤيد الدين: «ماذا يشترط يا صاحبى؟ هل تحسب وزير اليوم كما كان فى صدر هذه الدولة؟» فقطع سحبان كلامه قائلاً: «بل ينبغى أن يكون اليوم أقدر منه فى تلك الأيام لضعف الخلفاء».
فهز مؤيد الدين رأسه وقال: «ولكن هؤلاء الضعفاء لا يسمعون نصيحة، لأنهم يصغون إلى خدمهم وخصيانهم».
قال: «أليس عندك علاج لهذا الضعف يا سيدى؟». قال ذلك وبان الجد فى عينيه. فقال مؤيد الدين: «وأى علاج تعنى؟». قال: «أعنى علاج هذا الضعف، هذا الرجل عضو فاسد، والجراح يشير بقطع العضو الفاسد لئلا يجر الفساد إلى سائر البدن». وحدق فى وجه الوزير يستطلع رأيه.
فأكبر ابن العلقمى هذه الجسارة بين يديه، فنظر إليه نظر المنكر العاتب. وقبل أن يقول كلمة تصدى سحبان وقال: «أنك تعد قولى جسارة أو وقاحة سمة كما تشاء، ولكننى أقول ما أشعر به، ونحن مشتركان فى الأمر، وبيدنا مفاتيح النصر لا ينقصنا غير الحزم.. تشبه إذا شئت بخلفاء صدر هذه الدولة وكفى».
فالتفت ميؤد الدين إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعهما أحد، ثم نظر إلى سحبان قائلاً: «لا أوافقك على ما تقول، ولم أفهم ما تشير إليه».
قال: «أجلك عن أن يفوتك مرادى، ولكنك ترى من السياسة أن تتجاهل، أنى أشير إلى ما فعله الرشيد بجعفر، ألم يقتله ويقتل البرامكة لأنهم شيعة، ولأنه خاف أن يكون منهم سوء على سلطانه، وقد أساء بقتلهم إلى دولته وإلى نفسه. أما أنت فإذا انتقمت للشيعة بهذا الحزم فأنك تنجى هذه البلاد من الخراب».
فاستعظم مؤيد الدين هذا التصريح وقال: «دعنا من هذا الكلام يا صاحبى إذا لا فائدة منه، ورأى أنك متألم من أمير المؤمنين أو بعض أهله فأردت …».
فقطع سحبان كلامه قائلاً فى تأثر ظاهر: «كلا. لا أقول ما أقوله عن غضب أو نقمة، وليس بينى وبين هؤلاء علاقة شخصية، لكننى غضبت لقومى وملتى، غضبت للنفوس التى تقتل والأعراض التى تمزق لا لشئ سوى حبها للأمام على وسائر أهل البيت».
ولم يكن مؤيد الدين أقل منه غضباً ونقمة لكنه كان حذراً متأنياً فقال: «خففت من حدتك يا سحبان، ودعنا الآن من هذا الحديث، أن الأمور مرهونة بأوقاتها».
قال: «لا أرى وقتاً أنسب من هذا، أن هذا الأمر إذا كان مرهوناً بوقت فهذا هو وقته.. اسألنى وأنا أجيبك».
قال: «لا أجهل ما يجول فى خاطرك، لكننى لا أرى هذا وقته».
قال: «لا أظنك فهمت مرادى تماماً، عندمى مشروع أخر غير الذى تعرفه، غير هولاكو..».
فلما سمع الوزير هذا الاسم أجفل لأنه ما برح نصب عينيه منذ أشهر، وهو سبب تردده، فقال: «ما هو؟».
قال: «أشكر لك أصغاءك يا سيدى، الأمر الذى عندى يوصلنا إلى المطلوب رأساً، أعنى أننا نحيى الدولة العلوية فى بلد ظل مقر العلويين نحو مائتى سنة».
فقال: «أظنك تعنى مصر، أين نحن منها؟ وقد تسلط عليها الأتراك و..».
قال: «أنا أعلم منك بحالها لأنى جئت من هناك أمس، وأنا لا أسافر وأجئ للتجارة، لكننى أريد حياة قومى ونصرة الأئمة المظلومين، أنا فى مصر منذ أعوام، وقد عرفت دخائلها، وهى فى يدى كما أشاء».
فضحك ابن العلقمى وقال: «ما أوسع أحلامك وما أكثر أوهامك! كيف خيل لك الغرور هذا، حتى توهمت مصر فى قبضة يدك، وهى فوق ذلك سنية المذهب ورجال دولتها كلهم من الأتراك السنيين؟»
قال: «أنا أعلم ذلك يا سيدى. ولكنهم منقسمون على السيادة، وطالب السيادة الأن رجل حازم ناقم على السلطان الحاضر فى مصر لأنه ساءه بأمر له ارتباط بقلبه فهو يبذل جهده فى غرضنا، وهو ناقم أيضاً على خليفتك هذا لأنه أخذ خطيبته منه، ولا يلبث أن يأتى للانتقام، فإذا ساعدناه على قتل هذا الخليفة وبايعناه سلطاناً على مصر أطاعنا فى إعلان الخلافة الفاطمية بمصر، فنعود إلى عزنا ونتخلص من هؤلاء الظالمين». وأبرقت أسرته كأنه نال ذلك فعلاً، فقد كان من أهل الخيال وأصحاب الأوهام الذين يستسهلون الصعب ويتوهمون وقوع المحال، إذا تصور أحدهم أمراً يتمنى حدوثه تذرع إلى تصديقه بأوهى الأسباب وأغضى عما يعترضه من العقبات أو يحول دون الحصول عليه من الموانع الطبيعية، وهذه الفئة من الوهميين كثيرة، وبخاصة فى بلاد المشرق. ولعل الفرق بين النجاح والفشل إنما هو فى تقدير الحقيقة حق قدرها والاحتياط للحوادث قبل وقوعها.
أما مؤيد الدين فإنه كان من أهل التدبير والحزم، ينظر فى العواقب ويتدبرها ولا تأخذه الأوهام، ولولا ذلك لم يصل إلى منصب الوزارة فى دولة مذهبا غير مذهبه وبين قوم يكرهون الشيعة ويفتكون بهم. فلما سمع كلام سحبان استخف برأيه، وبخاصة لأن ابن العلقمى لم يتطوح بمطامعه إلى هذا الحد لعلمه بعجز الشيعة عن النهوض، ولكنه كان يكتفى بأن يبدل خليفة بخليفة، فلم يشأ أن يفاتح سحبان بهذا الأمر وعمد إلى الاختصار فى الحديث فقال: «سننظر فى ذلك فى وقت أخر».
فأحس سحبان بما يضمره من احتقار رأيه فقال: «يظهر أنك لم تكترث لقولى، أو لعلك استبعدته، ولو عرفت الأسباب التى عندى لوافقتنى».
قال: «نعم يا صديقى، رأيت مطمعك بعيداً يكاد يكون محالاً».
وكان سحبان يحترم رأى مؤيد الدين فقال: «إذا كان رأى ضعيفاً فأسمعنى رأياً خيراً منه، أم أنت ترى أن نبقى فى هذا الذل إلى الموت ونحن سكوت؟».
قال: «كلا. لا ينبغى أن نبقى كذلك، لكن علينا أن نفكر ونقيس ونحتاط لا أن نرمى الكلام على عواهنه ونطلب المحال».
قال: «إذن يا سيدى ما هو الممكن من ذلك، وما هى الطريقة للنجاة؟».
قال: «لقد أحرجتنى واضطررتنى للكلام يا سحبان ولم أكن أحب التصريح بما فى خاطرى الآن، فأعلم أننا نحن الشيعة لا ينبغى لنا أن نطمع فى إعادة دولتنا اليوم لأن الأسباب لا تساعدنا على ذلك، ولكن لابد من أن يأتى يوم يتمكن فيه أبناؤنا منه. أما الآن فيكفينا تغيير هذا الخليفة الضعيف المشتغل باللهو بخليفة عاقل حازم ينصفنا. هذه هى الخطة التى يجب أن نضعها نصب أعيننا».
فأطرق سحبان وهو يعمل فكرته، وقد استصغر نفسه واستضعف رأيه، وكان مع قربه من التوهم سريع التقلب سهل الانقياد، فاستصوب رأى ابن العلقمى وقال: «صدقت يا سيدى أنك فى الحقيقة وزير مدبر عاقل. قل لى ما هى المعدات التى أعددتها لتنفيذ هذا المشروع؟».
فنهض مؤيد الدين وهو يظهر أنه مل الحديث، أو أنه لا يريد التصريح بأفكاره لسحبان، ووجه التفاته إلى جسر بغداد القائم على السفن المستديرة فإذا هو يعج عجيجاً بالناس على غير المعتاد، وقد تزاحمت عليه الأقدام، وأكثر المشاة يركضون كالهاربين من حرب، فلم يستطع أن يتبين الوجوه، لكنه توسم فى الأمر شيئاً مهما، والتفت نحو سحبان فرآه أكثر منه دهشة، وكان أحد منه بصراً فصاح: «ألا ترى يا مولاى؟ ألا ترى؟ هؤلاء أجناد الخليفة لعلهم عائدون من حرب يجرون وراءهم الأسرى والسبايا».
فقال وقد أجفل: «وأى حرب؟».
قال: «لا أدرى، ولكننى أرى جنداً وهذه راياتهم أمامهم، وإذا صدق ظنى فأنى أرى رأيه الداودار فى مقدمتها، وقد أذكرنى ذلك بما كنت أراه من تعدى هؤلاء الأجناد على قومنا فى الكرخ والكاظمية».
فحدق مؤيد الدين فى المازة فلم يستطع أن يتحقق شيئاً، وإذا هو يسمع ضوضاء فى داره أشبه بالعويل منها بالصباح، فأطل من نفاذة تشرف على فناء الدار فرأى جماعة من النساء يبكين ويعولن وقد تلطخت أثوابهن بالدماء والتراب، ومعهن شيخ أحنى ظهره الكبر وهو يتوكأ على عكاز ويبكى، فتفطر قلبه لهذا المنظر، ولكنه لم يعرف القوم، وكان سحبان واقفاً بجانبه ينظر إلى الدار، ولم يكد يتفرس قليلاً حتى صاح: «وا أبتاه!».
فأجفل ابن العلقمى وقال: «من هذا؟ لعله أبوك؟».
قال: «هو أبى يا سيدى، أعهده مقيماً فى الكرخ بسلام وأمان، ماذا جرى له؟». قال ذلك واستأذن فى النزول، فنزل ومؤيد الدين فى أثره.
ولم يكد سحبان يصل إلى الدار حتى سمع أباه يقول: «أين الوزير، أن مؤيد الدين؟». ولما وقع بصره على مؤيد الدين صاح فيه: «أنت وزيرنا ويصيبنا ما أصابنا؟ إذا كان ذنبنا أننا نحن أهل البيت الكرام فقد قبلنا العقاب على الرأس والعين، والله يجرى كل نفس بما فعلت».
وكان سحبان قد وصل إلى إبيه وقال له: «أبى ماذا جرى، ماذا أصابكم؟.. كيف خرجتم من البيوت على هذه الصورة؟».
فالتفت الشيخ إلى ابنه، ولما تبينه ألقى عصاه وأكب عليه وقبله وأخذ فى الشهيق والبكاء وقال: «ولدى سحبان؟ أنت هنا؟ متى جئت؟ آه يا ليتك جئت عندنا قبل مجيئتك إلى هنا. لا بل أراك أحسنت بابتعادك عنا لئلا تصاب بما أصيب به أخوتك».
فأقشعر بدنه وقال: «أخوتك؟ ماذا أصابهم؟ من فعل بكم ذلك؟» قال: «ألا تعلم ممن تأتى مصائبنا؟ أنها تأتى من …» والتفت حوله وهو خائف وعيناه يغشاهما الدمع وقال: «أنت تعلم ممن..».
فقال: «لعل هؤلاء الجنود المارين على الجسر كانوا عندكم».
فصاح: «أننا هاربون منهم، وجئنا إلى هنا نلتجئ إلى مولانا مؤيد الدين». والتفت إلى الوزير وقال: «آه يا سيدى، أنقذنا من هذا العذاب. أخرجنا من هذا البلد». والتفت إلى سحبان وقال: «أنك تفر من هذه المصائب كل سنة وتنجو بنفسك وتتركنا وأخوتك فى هذا الخطر. يا إلها متى نخلص من هذا العذاب؟.
فأجابه سحبان وهو يرتعد من الغضب: «عن قريب إن شاء الله».
والتفتت إلى مؤيد الدين فرآه واقفاً يسمع ويتجلد، وقد أوما إلى النساء أن يدخلن دار الحريم، ونظر إلى الشيخ وتلطف فى خطابه وقال: «تفضل يا عماه وأجلس هنا، خفف ما بك وقص على ما جرى».
قال ذلك وقعد وأقعد الشيخ بين يديه، وسحبان واقف لا يريد أن يجلس من شدة الغضب، فأخذ الشيخ يقص حديثه فقال: «أنت تعلم يا مولاى حالنا مع هؤلاء القوم، وكي يناوئوننا ويعذبوننا ونحن صابرون ننتظر الفرج. لكنهم لم يرتكبوا مثل ما ارتكبوه هذه المرة من القتل والسبى، فأنهم لم يبقوا على الأموال والأعراض». وغص بريقه وشفتاه ترتعشان فتشاغل بالبحث عن عصاه.
فتاثر مؤيد الدين من منظره، ونظر إلى سحبان فرآه يمسح عينيه ويخجل أن يراه الناس باكياً، فتجلد وأخذ يخفف عن الشيخ فقال: «يا عماه، هون عليك لكل شئ نهاية والله مع الصابرين. ثم ماذا جرى؟. قال: «لا تسألنى يا بنى عما جرى فإنه يفتت الأكباد، يكفى ما ترونه». وجعل يمسح عينيه، وأنامله ترتجف، فأجابه سحبان: «قد تعودنا هذه الشائد منهم ولكن..». فقاطعه أبوه قائلاً: «لا. لا. هاذ أنذا قد أدركت الشيخوخة فى هذا البلد مع هؤلاء القوم، وشاهدت نكبات عديدة ليس فيها واحدة مثل هذه. كانوا يعتدون على بعض المارة أو يتهمون بعض الرجال بأمر يسوغون به لأنفسهم مصادرة ماله أو إهانته، أما الآن فإنهم دخلوا المنازل بلا حجة ولا سبب، وداسوا مخادع النساء، وارتكبوا الفاحشة وقتلوا الأطفال. دعنى لم أعد أستطيع الكلام، ولا أبا لى إذا مت. وإنما أطلب من الله أن يبقينى حياً لأرى زوال هذه الدولة». ثم أسرع تنفسه وأوشك أن يغمى عليه، فرشوه بالماء، وبادر ابنه إليه فأعانه حتى أدخله غرفة استراح فيها، وذهب تواً إلى دار الحريم وكلف بعض الخصيان أن يجمعه بأخته، وكانت مع النساء. فجاءت وهى تبكى وتندب وقد قطعت شعرها، فقال لها: «أخبرينى يا صفية ماذا جرى لكم؟ هل أصيب أحد منك بسوء؟ أين أخوتك؟.
فضربت كفاً بكف وقالت: «لا أدرى هل هم أحياء أم أموات؟. ويلاه أين كنت فلم تشاهد المذابح؟ أنهم دخلوا مخدعى وأوشكوا أن يمسونى أعوذ بالله..».
فأقشعر بدنه من هذا التعبير، ولم ير بداً من التجلد بين يديها فقال: «الله منتقم يا أخيه، وسوف ينتقم من القوم الظالمين». وتحول إلى الدار فلم يجد مؤيد الدين هناك، فسأل الخدم عنه فقالوا أنه فى حجرته يلبس ثيابه، فعلم أنه عازم على الذهاب إلى قصر الخليفة فى هذا الشأن، فسره أنه غضب وود ألا يفلح فى مهمته لعله يعمل بمشورته ويعزم على التخلص من هذه الدولة.
وذهب إلى أبيه فرآه قد صحا واستراح، فجلس إليه وأخذ يخفف عنه ويسأله عن تفصيل ما جرى، فلم يزدد إلا دهشة وغضباً لما سمع.
لكنه أخذ يهون على أبيه بأنه سينتقم له، وإن الله لابد أن يبيد الظالمين، ونحو ذلك من عبارات التعزية، وقد تعودها الشيعة فى بغداد لكثرة ما توالى عليهم من الأحن.
•••
لبس مؤيد الدين فلنسوته وقباءه الأسود، ثم ركب بغلته إلى قصر التاج ليرى الخليفة ويشكو إليه ما فعله جنده مما لا يحتمل، والغلام يركض بين يديه. فمر بالمدرسة المستنصرية والقصر الحسنى حتى وصل إلى قصر التاج، فدخل بساتينه والخدم يوسعون له. فلما وصل إلى بابه الأكبر ترجل ودخل مسرعاً، والغضب باد فى محياه، حتى أنه لم يحسن رد التحية على من لقيه فى طريقه من الخاصة.
فلما بلغ باب العامة مشى الحرس بين يديه، فسأل صاحب الباب عن الخليفة فقال: «أنه جالس فى منظرة المسناة، فهل استأذن لمولاتى الوزير؟. قال: «هل هو وحده هناك؟» قال: «عنده بعض الخاصة والمغنين». فشق عليه ذلك لأنه طالما فكر فيه وتكدر منه فقال له: «استأذن لى عليه، أو قل له أنى أحب لقاء أمير المؤمنين حيثما يشاء».
فذهب الغلام وعاد وهو يقول: «لا يرى أمير المؤمنين بأسا من دخولك إلى المنظرة». فلم تعجبه هذه الدعوة لأنه كان يحب أن يراه على حدة، لكنه لم يرد بداً من الطاعة، فدخل من دهليز إلى دهليز، والخصيان يوسعون له حتى أطل على المنظرة، وهى كالعريش أو (الكشك) تشرف على دجلة، فوقها قبة من الخشب مزخرفة بالنقوش والتذهيب الجميل. وأرض المنظرة مفروشة بالبسط الثمينة عليها الرسوم البديعة، وفوق البسط الوسائد المطرزة، وفى وسط المنظرة مائدة عليها ألوان الفاكهة والحلوى، والمستعصم فى صدر المكان قد اتكأ على مرتبة عالية كالسرير، وعليه ثوب أبيض مذهب يشبه القباء، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس الملوك، وكأنه يتعمد بذلك تقليد زى الأتراك، وكان المستعصم أسمر اللون مسترسل اللحية ربعة القوام لا بالطويل ولا القصير ظاهر الحياء لين الكلام سهل الأخلاق، إلا أنه ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطموع فيه. وبين يدى المنظرة دجلة يجرى وفيه الزوارق المعدة لركوب الخليفة متى شاء.
فاستعاذ مؤيد الدين من هذه المقابلة، وود لو أنه لم يأت فى تلك الساعة، لكنه لم يسعه إلا إلقاء التحية بالاحترام اللائق، فأشار إليه المستعصم أن يجلس على وسادة بالقرب منه وقال: «مرحباً بوزيرنا الهمام».
فتأدب فى الجواب وتقديم الاحترام، والتفت إلى الحضور فلم يجد بينهم من يحترم مجلسه أو يعتد بوجوده، وإنما هم طائفة من خاصة الخليفة العائشين فى داره، وقيِّم القصر، وأستاذ الدار، ويعرف بالصاحب، وله قدر كبير عند الخليفة ويدعى له على المنابر بعد الدعاء للخليفة، وقلما يظهر للعامة، اشتغالاً بما هو بسبيله من أمور تلك الديار ومراقبتها والتكفل بها وتفقدها ليلاً ونهاراً.
وما كاد الوزير يجلس حتى أشار الخليفة إلى المغنى أن يعيد ما غناه، وراح يظهر طربه الشديد، متجاهلاً ما يقتضيه منصب الخلافة من الوقار، وكان أعوانه يعرفون ذلك فيه فيعده بعضهم لطفاً وظرفاً، ويعده الأخرون ضعفاً وتهاوناً، وهذا هو رأى مؤيد الدين فيه، على أنهم أجمعوا على حسن طوية الخليفة، ولعل ذلك من أسباب ضعفه التى جعلت سبيلاً لارباب الدسائس إليه.
•••
كان مؤيد الدين يسمع الغناء وهو مطرق يفكر فيما جاء من أجله، وينتظر أن يسأله الخليفة عن شأنه. فلما أتم المغنى دوره التفت المستعصم إلى الوزير وقال: «هل سمعت أشجى صوتاً وأرق نغماً؟. أن هذا اللحن يطربنى كثيراً، وهناك لحن أخر قريب منه لم أجد من يجيده فى بغداد، وقد بلغنى عن مغنية فى دار سلطان مصر تجيده فبعثت فى استقدامها لكنها لم تصل إلى». قال ذلك وسكت وقد انقبض وجهه، ثم استطرد قائلاً: «وكنت معتزماً أن أبعث إليك منذ أيام لأخبرك بذلك، وأستعينك فى البحث عن هذه المغنية لأنى على ثقة من أنها وصلت إلى بغداد، لكن بعض اللصوص أخذوها من الركب الآتى بها من مصر، فهل تبحث عنهم؟» فأشار مؤيد الدين مطيعاً وقال: «لابد من البحث عن كل لص ومعاقبته، إذ لا يليق أن يتجرأ أحد على جريمة فى أيام مولانا أمير المؤمنين أيده الله». وأحب أن يتطرق إلى ما جاء من أجله، فتصدى له أستاذ الدار وقال: «أن تجرؤ اللصوص على خطف مغنية محمولة لمولانا أمير المؤمنين لأمر لم يسمع بمثله، وهو يدل على ضعف سلطة الحكومة وقلة هيبتها فى عيون الناس، وكان المرجو من الوزير حفظه الله ألا يترك سبيلاً إلى مثل ذلك».
فوقع هذا الكلام وقوع السهم فى قلب مؤيد الدين، ولم يطق صبراً على السكوت عنه، وعلم أن الأستاذ الخصى يريد أن يظهر لدى مولاه فى مظهر الغيور على مصالح الدولة، فاستثقل ذلك منه، وعده جسارة خارجة عن حدود الليافة فى مجالس الخلفاء، فالتفت إليه وقال: «صدقت يا أستاذ، لا ينبغى أن يقع مثل ذلك، وتبعته تلقى على الوزير إذا كان الأمر راجعاً إليه، فإن أرواحنا فداء أمير المؤمنين فى الذب عن الدولة وبذل الجهد فى طاعته، ولكن هذه الأمور وأمثالها تقع أحياناً ولا حيلة للوزير فى دفعها». ثم حول بصره إلى المستعصم وقال: «وكثيراً ما يقع هذا وتتلافاه بدون أن يبلغ إلى سمع مولانا أمير المؤمنين، حتى الجند فإنهم يرتكبون أمور لا يليق بهم ارتكابها، ولا أدرى هل يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم». قال ذلك وتغير وجهه، وظهر للخليفة أنه يحمل شكاية يريد إيصالها فقال له: «لا ينبغى أن يقع شئ من ذلك إلإ بإذن منا أو من وزيرنا أو من أستاذ دارنا. وهل وقع شئ من هذا القبيل قريباً؟».
قال الوزير: «أرفع إلى سمع مولاى أمير المؤمين أن جماعة من أهل الكرخ أتونى الساعة وفيهم الشيوخ والنساء يبكون ويندبون، وقالوا أن شرذمة من الجند نزلوا عليهم ونهبوا منازلهم وقتلوا من وقف فى طريقهم وارتكبوا الفاشحة وغير ذلك».
فتصدى أستاذ الدار وقال وهو يهز رأسه هز الاستهزاء: «أهل الكرخ؟ أهل الكرخ تعودوا هذه الشكاية فلا يمضى عام أو شهر إلا سمعناها منهم».
فاستقبح مؤيد الدين تعرضه ووقاحته واستغرب اعتراضه فقال وهو يخاطبه: «تعود أهل الكرخ الشكوى لأن الجند تعودوا أن يؤذوهم و..»
فقطع الأستاذ كلامه وقال: «وإن لم يؤذوهم، أنهم يحبون الشكوى. هذه عادة الشعية». ونظر إلى الحضور وضحك ضحك الاستخفاف.
فأثر ذلك فى خاطر ابن العلقمى تأثيراً سيئاً جداً، وحول وجه عن الرجل وهو يقول: «لم أكن أظن أحداً يجسر على هذا القول فى حضرة مولانا أمير المؤمنين». وسكت.
فتصدى المستعصم للكلام وقال: «لا أستحسن ما جرى بينكما، ولا حق للأستاذ أن يتكلم بهذه اللهجة، فإذا اشتكى أهل الكرخ أو غيرهم فعلينا أن ننظر فى شكواهم وننصفهم». ووجه خطابه إلى مؤيد الدين وقال: «ماذا جرى أيها الوزير؟».
فاتجه هذا نحو الخليفة وقال: «بلغنى يا مولاى أن شرذمة من الجند سطت على الكرخ فى هذا الصباح وأمعنت فى أهله قتلاً ونهباً. وقد رأيت جماعة من المصابين وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال فلم أشأ أن أفعل شيئاً قبل أن أستطلع رأى مولاى».
فقال الخليفة وهو يظهر الاهتمام: «أن هذا منوط بالداودار قائد الجند، فينبغى أن نسأله عما بعثه على ذلك، لعل له عذرا». وصفق فجاء الحاجب فأمره أن يستقدم الداودار حالاً.
وعاد الخليفة فأشار إلى المغنى أن يعود لغنائه، واقترح عليه لحناً غناه وهو يعزف على العود، فطرب الجميع، إلا ابن العلقمى فإنه كان يغلى من الغضب وهو يتجلد.
وبعد قليل جاء غلام وقال أن الداودار بالباب، فأمره الخليفة أن يذهب به إلى دار العامة ينتظر حضوره. ثم نهض وأشار إلى الحضور بالانصراف، وأومأ إلى الوزير أن يتبعه، فسار فى أثره نحو دار العامة، وهى قاعة الاستقبال الخاصة بالأعمال.
ودخل الخليفة أولاً غرفة الألبسة، وجاء صاحب الثياب فألبسه ما تعود لبسه إذا جلس لمقابلة الناس: العمامة الكبرى والجبة وغيرهما. ثم أقبل على دار العامة من باب داخلى، وهى مفروشة أحسن فرش بالستائر والنمارق والأرائك، يقلدون بها ما كان من أسباب البذخ فى صدر الدولة العباسية. فلما دخل الخليفة القاعة جلس على سريره، وأومأ إلى ابن العلقمى أن يقعد، ثم أمر الحاجب أن يدخل الداودار. وكان ابن العلقمى قد سرى عنه، فدخل الداودار وألقى التحية ووقف متأدباً فقال به الخليفة: «يقول وزيرنا حفظه الله أن الجند سطوا على الكرخ وقتلوا ونهبوا. هل أنت عالم بذلك؟». قال: «نعم يا مولاى». قال: «وتقول نعم؟ وكيف أذنت بوقوعه؟».
قال: «فعلته بأمر من مولاى الأمير أبى بكر نجل مولانا أمير المؤمنين».
قال: «إذا قال لكم احمد (أبو بكر) اقتلوا الناس قتلتموهم بلا سبب».
قال: «لم أسمح بإرسال الجند إلى الكرخ بلا سبب، لكن مولاى أبا بكر قال أن جماعة من أهل الكرخ خطفوا جارية من جواريه وخبأوها عندهم، فذهبت للبحث عنها عند صاحب الشأن فمنعونا من الدخول وجردوا علينا السلاح، فأمرنى الأمير بالدفاع والتفتيش، وقد فعلت».
فقال الخليفة: «ذهبتم للتفتيش عن جارية أخذت من بيت أحمد فقتل بسببها عشرات من الناس، فلوا فعلت مثل فعلكم بسبب الجارية المغنية التى أخذت منى لحدث مثل هذا وأعظم منه. أن هذا لا يليق بنا. أين أحمد؟».
فأجابه الداودار: «أظنه فى قصره لا مولاى». فقال: «ادعه إلى حالاً».
فلما شاهد مؤيد الدين غضب الخليفة على ابنه استبشر بنجاته من تطاوله وتدخله فى أمور الدولة، ونظر إلى المستعصم فرآه مطرقاً والغضب يتجلى فى وجهه، لكنه لم يتبين من ذلك الغضب حزماً وعزيمة — وتلك كانت علة الخليفة — لم يكن ينقصه حسن القصد وإنما كان ينقصه الحزم. فظل مؤيد الدين صامتاً مطرقاً حتى دخل الحاجب وأنبأ بمجئ الأمير أحمد فأمر الخليفة بدخوله.
•••
دخل أبو بكر، وهو شاب فى مقتبل العمر، قد أخذه الغرور، تمازح حركاته خيلاء لا تظهر إلا على الأدمغة الفارغة. ولاسيما فى أوائل الشباب فقد كان فى حوالى السنة العشرين من العمر — وتلك هى سن الغرور فى كل شاب إذ يتوهم صاحبها أنه بلغ الكمال فى كل شئ. إذا مشى حسب الناس ينظرون إليه إعجاباً بجسالة أو بسالته، وإذا قال قولاً توقع أن يكون له وقع الوحى على القلوب، فإذا آنس منهم فتوراً أو احتقاراً غضب وأنحى عليهم باللائمة ورماهم بالجهل أو الحسد لأنهم بخسوه حقه، وبأنهم إنما فعلوا ذلك تقليلاً من فضله. ونحو ذلك من غرور الشباب.
فإذا كان ذلك شأن الشباب على اختلاف طبقاتهم فكيف بأبناء الملوك والخلفاء الذين لا يسمعون إلا التحبيذ والأطراء؟ وبخاصة إذا كان فى الشاب خفة وصغار مثل أحمد هذا الذى زاده غروراً أن أباه أطلق سراحه من محبسه على غير المعتاد عند الخلفاء قبله، فأصبح لذلك لا يحسب للعواقب حساباً، بل هو لا يدرك حقائق الأمور، وإنما يهمه أن تنفذ كلمته وينال مشتهاه مهما يكلفه ذلك.
دخل أبو بكر وألقى التحية، وتلفت يميناً وشمالاً فوقع بصره على مؤيد الدين فنظر إليه باحتقار، ومؤيد الدين لا يبدى ملاحظة. وقعد أبو بكر قبل أن يأذن له أبوه فى القعود فقال له المستعصم: «يا أحمد أنت أمرت الداودار بالهجوم على أهل الكرخ؟».
فأجاب وهو يبتسم نكاية فى مؤيد الدين: «نعم يا أبى». قال: وكيف ذلك؟ ولماذا؟». قال: «لأن جارية من جوارى هربت من قصرى واختبأت فى منزل أحدهم، ولاشك أنهم حملوها على الفرار وخبأوها، فبعثت من يأتى بها فشتموا رسولى وضربوه، فأمرت الداودار أن يؤدبهم فتمردوا عليه، فاضطر — للدفاع عن نفسه — أن يضربهم وقد فعل، وما المانع من ذلك؟».
فقال المستعصم: «المانع أنه لا يليق أن تحدث مذبحة يقتل فيها عدة رجال من أجل جارية، وأنت تعلم أن فى قصورنا ألوفاً من الجوارى فلو طلبت منى عشر جوار بدل الجارية لكان ذلك أهون على مما أسمعه، والجوارى كلهن سواء».
فاعتدل فى مجلسه وهو يصلح منطقته بدلال وأنفة وقال: «إذا كانت الجوارى سواء، وفى قصورنا ألوف منهن، فما الذى حمل أمير المؤمنين على أن يبعث فى طلب جارية من سلطان مصر».
وكان مؤيد لادين يلاحظ ما يتقلب على وجه المستعصم من الملامح ليرى ما يكون تأثير قول ذلك الغلام فيه، فإذا به لما سمع اعتراض ابنه غلب عليه ضعف العزيمة وعمد إلى الاسترضاء وقال: «أنا لم أطلب تلك الجارية من سلطان مصر إلا لتفردها بغناء أصوات لا يستطيعها سواها، وأما…».
فقطع أحمد كلام أبيه بكل وقاحة واستخفاف وقال: «وما أدرك أن تكون جاريتى هذه غير ممتازة بمناقب لا توجد فى سواها، وما أجدرنى أن أقتدى بوالدى وهو أمير المؤمنين، قدوة سائر المسلمين».
فحمل المستعصم هذا القول محمل التهكم، وخجل من أن يسمعه أمام مؤيد الدين والداودار ولا يرد عليه فقال: «أهكذا تجيبنى يا أحمد؟ وهل يحق لكل واحد أن ينال ما يناله أمير المؤمنين؟ أن عملك هذا لا يرضينى».
فهز أحمد رأسه وقال: «يكفى أن يرضينى أنا. وهل أعمال أبى ترضى كل إنسان؟ لا يطلب من المرء أن ترضى أعماله كل الناس».
وبعد أن كان المستعصم قد صرح بإنكاره تهكم ابنه حمله ضعفه على المغالطة، وتناسى تهكمه فابتسم وقال: «وبعد تلك المقتلة هل ظفرت بالجارية؟».
قال: «كلا.. ما زالت مختبئة، ولابد من العود إلى البحث عنها».
قال: «لا يا ولدى، لا تبحث عنها هكذا، وسأكلف أنا وزيرنا مؤيد الدين أن يتحرى عنها حتى يقف على مكانها ويعيدها إليك».
فنظر أبو بكر إلى مؤيد الدين لحظة ثم حول وجهه عنه نحو الداودار وقال: «إذا لم يقف على مكانها فنحن نقدر على إخراجها من مخبئها ولو كانت فى جيب الوزير أو بين أهله». ثم نهض وقال: «استأذن سيدى الوالد فى الانصراف الآن لأنى على موعد مع بعض القواد للخروج إلى الصيد». وخرج ولم ينتظر إذن والده وأومأ إلى الداودار أن يتبعه فتبعه والمستعصم ينظر إلى ابنه وهو خارج وقد بان اليأس فى وجهه، ثم حول بصره إلى مؤيد الدين وتنهد وقال: «صدق القائل: «وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض..» ودمعت عيناه.
فأطرق مؤيد الدين وهو يتعجب من ذلك الضعف. ولبث فى انتظار خطاب الخليفة حتى سمعه يقول: «يا مؤيد الدين، أنك وزيرى وموضع ثقتى.. وقد رأيت ما أظهره أحمد من الاستخفاف بقولى.. وأظننى أخطأت بإطلاق سراح أولادى، فخالفت بذلك تقاليد أجدادى.. لو كان أحمد كما كان أبناء الخلفاء قبله لكنا فى غنى عما نحن فيه». وتشاغل بإصلاح لحيته، فلم يشأ مؤيد الدين أن يخوض فى هذا الموضوع خوفاً من تغلب عاطفة الحنو فى نفس الخليفة مما قد يحول غضبه إليه وبخاصة أنه يعلم ضعفه من جهة ابنه هذا. فقال المستعصم: «نطلب من الله أن يهدى هذا الغلام إلى صوابه، أنت أب تعرف قلوب الآباء، فأتقدم إليك أن تساعدنى فى البحث عن جارية أحمد وأن تعوض على أهل الكرخ خسائرهم، وأنى آسف لما وقع وعسى أن لا يتكرر». ثم تنحنح وهم بالنهوض وهو يقول: «لا يبرح من بالك أيضاً أن تبحث عن الجارية شوكار المغنية التى استقدمناها من مصر وخطفها اللصوص قرب بغداد».
فنهض مؤيد الدين وطأطأ رأسه طائعاً وقال: «أنى عبد أمير المؤمنين، وفقنى الله فى خدمته ولكننى».
فقطع الخليفة كلامه قائلاً: «أنا أعلم أن أحمد لم يكن ينبغى له أن يقول ما قاله.. لكنه لا يزال شاباً قليل الاختبار ولا يلبث أن يهتدى إلى الصواب». وتحول كل منهما فى طريقه.
•••
خرج مؤيد الدين بن العلقمى من قصر التاج وركب بغلته عائداً إلى قصره وهو غارق فى التفكير، تتنازعه عوامل مختلفة، لكن الخوف متغلب عليها كلها.
ولما دنا من قصره رأى فى موقف الدواب بغلتين أحداهما بغلة سحبان، وقد عرفها، والثانية لم يكن قد رآها من قبل فتقدم غلامه إلى الباب وقرعه ففتح على سعته ودخل مؤيد الدين ببغلته إلى مدخل الباب وترجل هناك، فتناول الغلام زمام البغلة وساقها إلى مكانها، ومشى مؤيد الدين وكان البواب يسرع بين يديه. فقال له: «من هو صاحب البغلة الأخرى المربوطة هنا؟».
قال: «أن صاحبتها امرأة جاء بها سحبان من وقت قريب، وهو فى انتظار مولانما الوزير فى الشرفة».
قال: «قل له يأتى إلى غرفتى، من هى المرأة التى معه؟».
قال: «لا أدرى يا سيدى، لكنه بعد خروجك أخذ أباه وأخته إلى الكرخ ثم عاد الساعة ومعه هذه المرأة وأظنها جارية».
وكان مؤيد الدين قد دخل غرفته وأهل بيته يعلمون أنه إذا دخلها لا يدخل عليه أحد إلا بإذن خاص، وسأله الطاهى: هل يريد الطعام فقال: «هيئ لى مائدة مختصرة أدخلها إلى هنا، وليأت سحبان للأكل معى».
ودخل فبدل ثيابه، ولم يكد يفرغ من اللبس حتى جاء سحبان وفى وجه إمارات البشر، وكان قد فارقه واليأس غالب عليه، فاطمأن مؤيد الدين بعض الشئ، وابتسم ابتساماً لم يعتد شفتيه وقال: «ما وارءك يا صاحبى؟». قال: يظهر أنك غضبت مما شاهدته فى قصر التاج، ليس عند القوم ما يفرح». وابتسم.
فقال مؤيد الدين: وهل عندك شئ يفرح يا سحبان؟ بالله قل إن صدرى قد ضاق مما أراه وأسمعه. تقدم كل معى».
فأتى على دعوته وتناول سكباجة وتشاغل بتقطيعها وهو ينظر إلى وجه الوزير ويقول: «لدى خبر يسرك ويوجب استغرابك ودهشتك».
ومال مؤيد الدين إلى استطلاع ذلك الخبر، فتوقف عن المضغ. وقال: «ما ذلك؟ قيل لى أنك جئت ومعك امرأة. من هى؟» ثم عاد إلى المضغ.
فضحك سحبان وبادر إلى قطعة من السكباجة أدناها من فيه وهو يقول: «هى طلبة الأمير أحمد وهى الجارية التى فتك بأهل الكوخ من أجلها».
فقال: «كيف ظفرت بها؟ الحمد لله على ذلك قد خلصنا من شر هذا الغلام، أين كانت؟».
قال: «كانت مخبأة عند جيراننا، وأختى عالمة بذلك، لكنها كتمته واحتملت الخطر من أجل كتمانه كما علمت، لأنها رأت الجارية نكرة أن تعود إلى أحمد هذا، فلما جرى ما جرى وعدت أمس مع أهلى قصت على أختى خبر هذا الجارية وأرتنى إياها فأتيت بها إلى هنا».
قال: «حسناً فعلت لأن الخليفة ألح فى التوصية بأن نبحث عن هذه الجارية ونعيدها إلى ابنه حذر طيشه، وقد حيرنى هذا الوالد بضعفه وحنوه».
فقال سحبان: «لكن الجارية لا تريد أن تعود إليه».
قال: «هى وشأنها، نحن ندفعها إلى الخليفة ونتخلص من تبعة أمرها».
قال: «أنها أشد كرهاً للخليفة، ولا تريد أن يعرف بوجودها هنا».
قال: «وكيف ذلك؟ لم أسمع أن الجوارى يرفضن التقرب من الخلفاء».
قال: «لهذه الجارية شأن خاص لا يعرفه أحد فى بغداد سواى».
قال: «لله أنت! ما أكثر ما تعرفه!…».
قال: «لا أعرف ذلك لذكاء خاص أو لكرامة أو ولاية، ولكن الأسفار تعلم الإنسان أشياء كثيرة». قال: «وما علاقة ذلك بالأسفار؟» قال: «أنى رأيت هذه الجارية بمصر وعرفت حديثها، وهو ذو شجون، لو عرفته لتولتك الدهشة من غرائب الاتفاق».
فازداد رغبة فى الاستطلاع وقال: «قل يا سحبان لا صبر لى على الإطالة». قال: «ألم تسمع شكوى الخليفة من جارية طلبها من سلطان مصر وخطفت قبل وصولها إلى قصره؟ أنها هى هذه الجارية نفسها».
قال بدهشة: «هى نفسها الجارية التى فرت من ابنه إلى الكرخ؟».
قال: «نعم يا سيدى هى بعينها، هى شوكار جارية شجرة الدر التى سمع الخليفة برخيم صوتها وجودة صنعتها على العود فبعث إلى سلطان مصر يطلبها منه. وقبل دخولها بغداد سطا عليها بعض الناس بحجة أنهم قادمون من قصر الخليفة لحملها إليه وفروا بها. وتحدث أهل بغداد بذلك زمناً ثم سكتوا، وكان الباعث على ذلك السطو أن أبا بكر لما سمع بالجارية القادمة إلى أبيه رأى أنه أولى بها، فبعث من قبله أناساً أخذوها من القادمين بها بدعوى أنهم أتون من قصر التاج لاستقبال مغنية أمير المؤمنين، فلما صارت فى أيديهم أخذوها إلى قصر أعده هذا الشاب لمثل هذه الحاجة، وكان أهل قصر التاج فى انتظارها. ثم علموا أنها أخذت خلسة لكنهم لم يعلموا أين هى، وما زالوا يجهلون ذلك إلى الآن».
فاستغرب مؤيد الدين وقاحة ذلك الشاب وقال: «وماذا فعلت شوكار بعد ذلك؟ ألم تستطب مقامها عند هذا الشاب؟».
قال: «أن هذه الفتاة لا يطيب لها المقام فى غير مصر لأنها مخطوبة لأمير من أمراء المماليك».
قال: «مخطوبة؟ وبعث الخليفة يأخذها من خطيبها؟».
قال: «لم يعلم الخليفة أنها مخطوبة وإنما يعلم أنها جارية شجرة الدر الملكة السابقة وأنها تحسن الغناء فطلبها من السلطان الجديد فلم يسعه مخالفة الأمر».
قال: «من هو خطيبها؟» قال: «هو ركن الدين بيبرس البندقدارى». قال: «ركن الدين بيبرس؟ أنه بطل باسل ورجل حكيم اجتمعت به مرة فى مصر ونحن شابان وتكاتبنا غير مرة، أنى أعرفه شجاعاً لا يصبر على الضيم، فماذا هو فاعل؟».
قال: «أنه يكاد يتقد غيظاً، ولا أخفى على مولاى أنه أسر إلى أمر هذه الجارية وأنا فى مصر، وقد تعجلت السفر إلى بغداد فى سبيل خدمته، لعلى أقف على خبر خطبته، وكان قد جاءه كتاب منها تنبئه فيه باختطافها من رجال الخليفة، ولم تكن تعرف من اختطفها، وربما جاء هو بنفسه للبحث عنها».
فأطرق مؤيد الدين مدة وهو يفكر فى حال ذلك الخليفة وابنه، وفى اشتغالهما باللهو عن الملك وقال: «هل تظن ركن الدين يأتى إلى بغداد؟»
قال: «لا يبعد أن يأتى، والآن إذا أذنت فلتبق شوكار عندنا ريثما يأتى هو أو نكتب إليه عن نجاتها وننتظر رأيه فيها».
قال: «وكيف استطاعت الفرار من قصر أبى بكر وهى غريبة هنا؟»
قال: «ساعدها على ذلك خصى كان فى خدمتها يعرف أهل المنزل المجاور لمنزلنا فحملها إليه بحيلة، ولما علم أبو بكر بذلك جاء الكرخ كما علمت، لكنه لم يستطع الوقوف على خبرها، ولما علمت اليوم بوجودها أتيت بها إلى هنا لأرى رأيك فيها».
فأخذ مؤيد الدين يفكر فيما سمعه وهو حذر يقظ، فخاف أن يكون فى بقاء تلك الفتاة عنده باعث على سوء الظن به، لعلمه بوجود الجواسيس حوله فقال: «انظر يا صاحبى، أن أمر هذه الفتاة أهمنى كثيراً، وقد فرحت بنجاتها من الأسر، وأحب استبقاءها، لكنى لا أرى أن تبقى فى منزلى».
فبادره سحبان قائلاً: «صدقت، وأنا لا أطلب ذلك وإنما استشيرك فى الأمر، وأحب أن يعلم بيبرس أن نجاتها كانت على يدك، وهو قائد عظيم ننتفع برأيه وحزمه فى الأمر الذى تكلمنا فيه، ولابد من الوصول إليه.. أن هذا القائد وعدنى وأنا فى مصر أنه يستطيع أن يقلب هذه الحكومة ويقتل الخليفة ويقيم لنا الدولة العلوية الشريكة بمصر وعند ذلك».
فأسكته مؤيد الدين بالإشارة وهمس فى أذنه قائلاً: «لا تتطرف فى أفكارك يا أخى. دعنا من التخيلات إلى الممكنات».
فتعجب سحبان من إنكاره ذلك عليه لأنه كان يعتقد إمكانه، ويعتقد أن ركن الدين وعده به، مع أن ركن الدين لم يبد فى هذا الشأن غير السكوت. ولكن سحبان كان كثير التعويل على الأوهام فيبنى من الحبة قبة، بينما مؤيد الدين كان على عكس ذلك. فلما أنكر عليه قوله اضطر سحبان إلى السكوت والتظهر بالاقتناع وقال: هب أن أملى بعيد، ألا ترى فى مجئ ركن الدين نفعاً لنا؟.
قال: «قد يكون حضوره نافعاً لنا إذا أحسنا استخدامه، ولا محل للكلام فى ذلك الآن».
فقاطعه قائلاً: «ما لى أراك لا تجد محلاً للكلام، هب أنك وافقتك على رأيك واكتفيت بإبدال خليفة بخليفة ألا يجوز أن نبحث فى هذا؟.
قال: «يجوز يا صاحبى، وترانى فى حيرة من أمر هذا الخليفة. تارة أراه معتدلاً يمكن إصلاحه، وآونة أقطع الأمل فى إصلاحه. سنفكر فى ذلك».
قال: «أفرض أن المستعصم هذا يمكن إصلاحه، أترى الإمام أحمد ابن الظاهر أهلاً ليقوم مقامه؟».
فبغث مؤيد الدين لهذا الاقتراح لأنه طالما فكر فيه ولم يخطر له أحد سوى الإمام أحمد أهلاً له، لكنه لم يكن ليبوح به لأحد، فلما سمع اقتراح سحبان أجفل وظهرت البغتة فى عينيه وزادتا لمعاناً وقال: «لا بأس به، لكنه محبوس فى قصر الفردوس كما تعلم ولا سبيل إليه».
قال: «متى تم رأينا على أمر لا يقف الحبس فى طريقنا. وإنما أطلب إليك أن تصرح لى برأيك. يكفينى منك تكتما، أن التكتم حسن لكنه إذا زاد على حده يفشل صاحبه. قل لى ألا ترى الإمام أحمد أهلاً ليقوم مقام المستعصم».
قال: «أنه نعم الخلف، ولكن دون الوصول إليه خرط القتاد، وسننظر فى الخطوة الأولى. وأفضل إصلاح حال المستعصم لأن ذلك يغنينا عن التغيير والتبديل».
قال: «وأنا أدعوك إلى إصلاحه». وتحفز للنهوض وقال: «أما تريد أن ترى شوكار وتأذن لها فى تقبيل يدك؟»
قال: «لا بأس من ذلك وإن كنت أرى أن تسرع بإخراجها من هذا المنزل».
قال: «تقبل يدك وتذهب حالاً». ونهض ومشى ثم عاد ومعه شوكار، وكانت قد تغيرت سحنتها من فرط ما قاسته من العذاب والهموم، فلم يفرج همها إلا فى ذلك اليوم لما رأت سحبان وطمأنها على ركن الدين وأنه بعثه للتفتيش عنها، وأصبحت تتوقع سرعة الرجوع إلى مصر أو وصول ركن الدين إلى بغداد. فلما دخلت على مؤيد الدين أكبت على يده تقبلها، وقد غلبها البكاء وبللت كفه بالدموع، فاجتذب يده من يدها وقال: «لا باس عليك با بنية لا تخافى أن أمير المؤمين لا يظلم أحداً، وأن الله لا يتخلى عن أحد».
فأطرقت برأسها حياء وهى واقفة وقالت: «أحمد الله الذى وسط هذا الشهم فى إيصالى إليك، وأنا لا أطلب شيئاً غير إرجاعى إلى مصر». وغصت بريقها.
فقال مؤيد الدين: «ستعودين فى خير أن شاء الله». وتحرك من مقعده ونهض، وأوما سحبان إلى شوكار أن تتبعه، وودع مؤيد الدين شاكراً ومشى، فتبعته شوكار فأسرع إلى إخفائها فى منزل لبعض أهله فى الكاظمية.
الفصل الثامن
مؤيد الدين وهولاكو
أما ابن العلقمى فما كان يخلو بنفسه حتى صعد إلى الشرفة، والشمس قد مالت إلى المغيب، وتوسد فراشاً على مقعد يطل على دجلة، وقد تاقت نفسه إلى الوحدة والتفكير فيما هو فيه من مشاغل. فلما سمع أذان المغرب نهض للصلاة فى مسجد بالقرب من منزله، وهو يتوقع أن يرى فى الصلاة راحة. وليس للمؤمنين فى ساعة القلق سبيل إلى الراحة والطمأنينة خيراً من الصلاة والدعاء إلى الله أن يهديهم سواء السبيل وينقذهم من المخاطر.
أحس مؤيد الدين حاجته إلى الراحة فأسرع إلى المسجد وأخذ يصلى، فلما فرغ رأى شيخاً من الصوفية راكعاً بالقرب منه وسمعه يتمتم بالصلاة فلم يهتم به، ثم رآه يزحف نحوه، وكدرته وقاحة ذلك الصوفى وظنه مصاباً فى عقله، فالتفت إليه شزرا وزجره بلطف، فازدجر الرجل هنيهة وأظهر أنه يصلى. فعاد مؤيد الدين إلى صلاته ودعائه، واستغرق فى التوسل إلى الله أن يهديه سبيل الرشاد.
ولما فرغ نهض وتحول نحو الباب فوجد أناساً واقفين للسلام عليه فحياهم ومشى، ولما وصل إلى المنزل إذا بذلك الصوفى واقف بجانب الطريق وبيده مسبحة وهو يتمتم كأنه يدعو، فلما دنا مؤيد الدين منه تقدم الصوفى المسبحة فى يده وهو يبتسم وقال: «أنى أستطلع الغيب وأنبئك بما تفعله يا مؤيد الدين».
فلما سمع ذلك أجفل لأنه قيل له بلحن الأمر وفيه صيغة العجمة، فعلم أن مخاطبه غير عربى وأنه ليس من الفقراء المتسولين، وأنه الأمر ذى بال تعرض له فى الطريق على هذه الصورة، فألقى الرجل نظرة متفرس، وتأمل لباسه ووجهه، فرأى عليه قلنسوة الصوفية وجبة الصوفية وفى يده مسبحة الصوفية، لكن سحنته غير سحنتهم، ولحيته غير لحيتهم، فأجاب قائلاً: «من أنت يا رجل؟».
قال: «أنى بصير بخفايا القلوب قادر على تفريج الهموم أكشف لك ما خفى عليك وأرشدك إلى الطريق السوى، وأن لم تصدقنى فجرب».
فأوما إليه أن يتبعه، وأشار إلى البواب أن يدخله إلى غرفته الخاصة، ودخل هو وقد شغل خاطره بهذا الدرويش، ومال كل الميل إلى الاسترشاد برأيه، وهو يعتقد الكرامة بأصحاب الكرامات، وتمنى أن يكون هذا منهم. وبعد قليل دخل الدرويش وقد أدخل إحدى يديه بكم الأخرى وقبض بالأنامل المطلقة على مسبحة أخذ يعد حباتها، فأشار إليه مؤيد الدين أن يقعد، وسأله إذا كان يحتاج إلى طعام فقال: «لا» فأوما إلى الخادم أن يخرج ويغلق الباب وراءه ففعل. ثم نظر إلى الدرويش وتفرس فى وجهه فلم يذكر أنه يعرفه، ولم ير فى وجهه سحنه التصوف فقال له: «أرشدنا بعلمك يا شيخ».
قال: «أرنى يدك مفتوحة».
ففتحها وأره باطنها فنظر فيها مليماً ثم قال: «أنت تفكر فى أمر عظيم الأهمية شديد الخطر عليك وعلى أهلك وسائر عشيرتك». فأشار مؤيد الدين برأسه أن: «نعم».
فأعاد الدرويش النظر إلى كف الوزير كأنه يقرأ كتاتباً مخطوطاً، ثم رفع بصره إلى مؤيد الدين وقال: «أن المشكلة التى أنت واقع فيها يسهل التخلص منها إذا شئت».
فقال: «وكيف ذلك؟». قال: «ينبغى أولاً أن تنظر إلى مصلحة نفسك وقومك، ولا تتقيد باعتبارات وهمية لا قيمة لها إلا عند ضعفاء القلوب. فهل أنت من هؤلاء؟».
فاستغرب مؤيد الدين اقترابه من الحقيقة بهذه السرعة، وأحب زيادة الإيضاح فاستل يده من بين أنامل الصوفى وقال: «قل قبل كل شئ ما اسمك؟». قال: «اسمى رسول إلى مؤيد الدين». ففرح لأن ظنه كان فى محله، أى أن الرجل ليس صوفياً فقال له: «من أرسلك؟» قال: «صديق نصوح يريد بك وبأهلك خيراً، لكنك لا تعرف كيف تنتفع بالفرص التى تقع لك».
فعلم مؤيد الدين أن الرجل رسول متنكر فقال: «افصح يا رسول الخير، من أين أنت آت؟ لا تنهيب». فقال: «أنى رسول من خاقان عظيم لا يلبث أن يأتى بلادكم ويفتحها عنوة ولا قبل لكم بدفعه».
فعلم مؤيد الدين أنه يشير إلى هولاكو التترى، لأنه جاءه منه غير كتاب من قبل يدعوه إلى مشايعته على الخليفة المستعصم ويعده ويمنيه، ولكنه هو يتردد، فتجاهل وقال: «من تعنى؟». قال: «أعنى مولاى الخاقان هولاكو، ألا تعرفه؟.. قد كتب إليك مراراً يدعوك إلى التخلص من هذا الخليفة الضعيف عشير النساء والمغنين وأنت لا تجيب، فأمرنى أن أتيك مرشداً ناصحاً. ولا يخفى عليك أن مثلى لا يدخل هذا المدخل، ويتعرض لهذا الخطر، إلا إذا كان قد باع نفسه فى سبيل الحق. فأنا أدعوك باسم مولاى أكبر السلاطين أن تكون معه على هذا الطاغية فتخلص أنت وقومك الشيعة من الظلم والعسف، وتكون لك المنزلة الأولى عند صاحب هذا البلد حينئذ، لا تكن ضعيفاً، ما لى أراك مطرقاً كأن نفسك تحدثك باعتبارات تقدر لها قيمة لا تستحقها، وكأنك تقول فى سرك لا يليق بك أن تخلف ظن مولاك الخليفة فيك. لعله لم يخلف ظنك فيه؟ أنا هنا منذ أيام، وقد أطلعت على ما جرى بينك وبينه وبين ابنه، ورأيتك تتململ وتتذمر، وإنما ينقصك الحزم فتنقذ نفسك وأهلك وعشيرتك، وإلا فأنتم هالكون لا محالة».
فأكبر مؤيد الدين هذا التهديد من رسول غريب ولكنه ر أى فى وجه ذلك الرسول هيبة وجرأة لا توجدان فى عامة الناس. فقال: «أهد مولاك شكرى لما عرضه على، وقل له أن طلبه لا سبيل إلى إجابته، وقد رأيته يعرض بعجز هذه الدولة عن مقاومته، لقد أخطأ كل الخطأ لأن جندنا لا يغلب من قلة ولا من ضعف، ونحن على ثقة من الفوز إذا نشبت الحرب بيننا وبينه».
فضحك الرجل وقال: «أتيت إليك على أنى منجم يقرأ الأفكار، وها أنذا اقرأ فكرك الآن من وراء ما تقول، أنك تقول غير ما تعتقد، أنا أعرف كل ما تحاول إخفاءه من اضطراب الجند وفساده، فأصغ لهذا النصح. وأعلم أننا لا نكلفك تعباً ولا خطراً، ولا نطلب منك أمراً عظيماً. أن البلد نحن فاتحوه لا محالة. فإذا توسطت معنا قللت من القتل والفتك، لأننا نحب أن ينحصر الأذى فى صاحبه المسبب لهذه الشرور، ولا ذنب لرعايا، وبخاصة الشيعة الذين قضوا الأجيال المتوالية وهم يتحملون أنواع العذاب من هؤلاء الخلفاء، ومن هذا المهذار. وقد يصعب عليك أن ترجع عما قلته الآن وزعمته فى الدفاع عن مولاك المستعصم، فأنا لا أكلفك الرجوع الساعة، ولكننى أرشدك إلى الصواب وأترك لك الوقت الكافى للتفكير. وأما مولاى الخاقان هولاكو فأنه فاعل ما يريده، ولا يلبث أن يأتيكم كتابه بالإنذار والتهديد، فإن لم تصغوا إلى مطالبه حمل عليكم وفعل ما يشاء. وثق أنه الغالب الظافر، فإذا كنت تحب بلدك وأهلك فابعث إلى مولاى الخاقان كلمة بأنك على ولائه فتنجو وتكون لك الكلمة النافذة والصوت الأعلى.. أظننى أطلت الكلام عليك فاعذرنى». قال ذلك ووقف ومده يده إلى جنبه واستخراج لفافة فى اسطوانة من القصب وقدمها له وهو يقول: «وهذه رسالة من مولاى إليك لا تفتحها إلا بعد خروجى». قال ذلك وخرج.
فدهش مؤيد الدين لما شاهده من ذلك الرسول، وظل ينظر إليه حتى رآه خارجاً من باب الدار، وقد أثر كلامه فيه تأثيراً شديداً، وعاد إلى غرفته وفض الرسالة وأخذ يقرأ فيها. أعلم يا مؤيد الدين أن الرسول الذى خاطبك هو الخاقان هولاكون نفسه، وقد بذل ذلك النصيحة فانتصح، ولا تطمع فى تعقبه فإنك لا تجد إلى ذلك سبيلاً. وكان فى وسعى أن تبقى على اعتقادك ولا ترعف من هو مخاطبك، لكنى أحببت نصحك فانظر فى أمرك. وابعث برسالتى إلى كما قلت لك قبلا.
فأعاد مؤيد الدين قراءة تلك الورقة وقد تولته الدهشة وأوشك أن يكذب بصره وسمعه لغرابة ما شاهده، وأطرق هنيهة وهو يخاطب نفسه قائلاً: «هولاكو نفسه خاقان التتر، وفى خدمته مئات الألوف من الرجال لا يثق بأحد منهم فى مهماته فيأتى بنفسه متنكراً تحت هذا الخطر لكى يخاطبنى، وكان فى إمكانه أن يبعث رسولاً ولكن الهمة العالية والحرص على الملك يدعوانه إلى ذلك. لا ريب أن هولاكو يعرف أسرارنا كما نعرفها نحن، ويعرف عدد جندنا وعلاقة قوادنا بخليفتنا. يعرف كل شئ. أين ذلك من خليفتنا المشتغل باللهو والغناء عن أمور الدولة، ويهمه العثور على شوكار المغنية أكثر من دفع العدو عن بغداد؟ هذه علامات الزوال. هكذا كان حال الروم لما قام العرب لفتح بلادهم، كان خلفاؤنا وقوادنا العظام من الصحابة وغيرهم يتولون أمروهم بأنفسهم، لا يعولون على أحد ولا يشتغلون بغير الجهاد، وكانوا قليلين فغلبوا جيوش القياصرة والأكاسرة».
ثم أطرق وتراجع وندم على ما خطر له وقال لنفسه: «لا. لا. أن الدولة العباسية باقية أبد الدهر، لا تزول من الأرض، وإنما هى فى حاجة إلى الإصلاح، إلى خليفة أخر».
وكان الليل قد أسدل نقابه، فوضع تلك الورقة تحت الوسادة وطلب العشاء، ثم ذهب إلى الفراش مبكراً ليرتاح مما مر به فى ذلك اليوم، وتوالت عليه الخواطر المتضاربة لكن ولاءه للخليفة ظل غالباً على عقله. وكان ليله مأهولاً بالأحلام، ولم يفق فى اليوم التالى إلا على ضوضاء طلبة المستنصرية وهم خارجون لصلاة الضحى.
وأحب البقاء فى الفراش لأعمال الفكر فيما شغل خاطره. والإنسان فى الصباح قادر على التفكير، وتفكيره أقرب إلى الصواب من سائر الأوقات، فلم يزدد إلا ثباتاً على الولاء للخليفة والرغبة فى إصلاحه، فارتاح باله لأنه استقر على رأى — وليس أتعب للإنسان من التردد بين رأيين، فنهض من فراشه وأخذ فى لبس ثيابه، ولم يبق فى ذهنه إلا مسألة شوكار. وكان يود أن يسلمها إلى الخليفة ويتخلص من القيل والقال لو لم يحل سحبان دون ذلك، وعذره مقبول. فخطر له أن يبعث فى طلب سحبان ليكرر له الوصية بإخفاء مكان تلك الفتاة، لكنه توقع مجيئه من تلقاء نفسه.
مضى ذلك النهار ولم يبرح مؤيد الدين منزله التماساً للراحة وقضاء بعض المهام الخاصة، وجاء الغروب وأقبل العشاء ولم يأته سحبان فهم بالذهاب إلى الفراش، وقبل أن ينزع ثيابه تذكر الكتاب الذى دفعه إليه درويش الأمس، ورأى أن يعدمه لئلا يقع فى يد أحد فيجعله وسيلة للإيقاع به، فتذكر أنه وضعه تحت الوسادة، فافتقده هناك فلم يجده، فأخذ يبحث عنه فى جيوبه فلم يقف له على أثر، فخفق قلبه لئلا يكون قد سمع حديثهما أمس جاسوس وسرق الكتاب وأخذه إلى الخليفة.
•••
وبينما هو فى ذلك إذ سمع قارعاً يقرع الباب الخارجى بعنف، فأجفل ومكث ينتظر الخبر وإذا بالبواب يدخل وهو يقول: «أن سحبان بالباب ومعه رفيق، هل يدخلان؟».
فاطمأن باله وارتاحد إلى قدوم سحبان فى تلك الساعة لعله يخفف عنه بعض الشئ، وأحب أن يعرف من هو رفيقه، ولم تمض لحظة حتى أقبل سحبان وهو يبتسم وألقى التحية، ثم تنحى وقدم رفيقه باحترام وأشار إليه أن يدخل، فنظر مؤيد الدين إلى ذلك الرفيق فإذا هو ملثم لا يظهر من وجه إلا عيناه وما يحيط بهما، ورأى السواد غالباً على لونه كأنه عبد حبشى ملثم، ورأه يمشى الهوينى، وسحبان واقف باحترام، فاستغرب مؤيد الدين ذلك فقال: «من هو رفيقك يا سحبان؟»
قال: «ستعرفه الساعة يا سيدى». وتقدم حتى أقعد ذلك القادم على كرسى فى صدر الغرفة، وأشار إليه أن يتفضل بإزاحة اللثام، ومؤيد الدين ينظر إليه من جانب المصباح، فأزاح الرجل اللثام، وحالماً وقع نظر مؤيد الدين عليه اختلج قلبه فى صدره وصاح: «مولاى الإمام أحمد بن الظاهر؟ من أين أتيت به يا سحبان؟». وأكب على يده يقبلها، وكان الإمام أحمد أسمر اللون لأن أمه حبشية.
فضحك سحبان وقال: «أتيت به طوعاً لأمرك».
فصاح مؤيد الدين: «ويلك! متى طلبت إليك إحضار مولانا إلى هنا؟ كيف تأتى لك ذلك وهو محبوس وعلى قصره الحراس والجواسيس؟ أن شؤونك كلها غريبة يا سحبان!».
قال: «أنك لم تطلب إلى إحضاره، لأنه لم يخطر لك استطاعتى ذلك. لكن الحديث الذى دار بيننا أمس يدل على أنك تحب أن تراه وتستوثق من رضاه».
فقال: «صدقت، لم يخطر لى أنك تستطيع ذلك، وكيف أقدمت على هذا الخطر؟ لله أنت من شجاع مقدام! وإنما ينقصك التؤدة والتبصر».
فقال: «ما ينقصنى تكلمه أنت بحكمتك ودهائك!».
وتوجد مؤيد الدين نحو الإمام أحمد، وكان يومئذ فى إبان الكهولة وقد ظهرت السكينة عليه، وقعد بين يديه على وسادة باحترام ووقار وأخذ يرحب به. فتقدم سحبان وقال: «أنى رجل متسرع، ولا أحب المطاولة أو التسويف، وأكره التردد، وقد أعجبنى منك أمس ثقتك بمولانا الإمام أحمد، وأن رأيك فيه وافق رأيى وهذا دليل الصواب، والآن ها هو ذا صاحب الشأن لم أكلمه فى شئ بعد، وإنما سعيت فى إنقاذه من السجن».
فقال: «وكيف استطعت ذلك، ما هذه الجرأة؟»
قال: «استطعته بمعونة الله، وعسى أن أستطيع ما هو أهم منه، وأرى هذا الإمام العاقل العادل خليفة يتولى أمورنا بدلاً من ذلك الـ..»
فتصدى الإمام أحمد للكلام قائلاً: «لا تقل شيئاً يا بنى، أن الخليفة المستعصم بالله لا بأس به لولا تسلط ابنه على رأيه ورغبته فى اللهو، وهذا ما يمكن ملاقاته فلا تحولوا قلوبكم عنه..».
فقال سحبان: «نعم الرجل أنت يا سيدى.. أما خليفتنا فلا أمل لنا فى إصلاحه، ولابد من تغييره، ومولانا الإمام أحمد أولى بالخلافة منه لأنه أهل لها من كل وجه، وهو أخو المستنصر رحمه الله، ولا يخفى عليك ما أتاه المستنصر من الأعمال الشاهدة بحسن السيرة والتقوى والرغبة فى العمران..».
فقاطعه الإمام قائلاً: «لو علمت أنك جئت بى لأسمع منك ما سمعته لفضلت البقاء فى سجنى، أننا فى طاعة أبى أحمد المستعصم ابن أخى. وإذا أخطأ فعلينا نصحه وكفى».
فلم يستغرب مؤيد الدين حذر الإمام وإنكاره وما ظهر من تسرع سحبان، وإن كان يعتقد رغبته فى الخلافة أكثر من رغبتهما، وإنما هى التؤدة والدهاء وحسن السياسة لابد منها فى مثل هذه الحال. فالتفت إلى الإمام وقال: «أن صديقى سحبان يعبر بعمله عن شعور كل مسلم، ولاسيما قومنا الشيعة العلوية، فأنهم قاسوا فى أيام ابن أخيك هذا مر العذاب مما لا يمكن إخفاؤه، وإن كنت لا أرى التسرع فى الأمر إلى هذا الحد وعلى هذا الشكل لأننا لم نخط خطوة واحدة فى سبيل ما نحن فيه». والتفت إلى سحبان وقال: «أخرجنا مولانا الإمام من قصره فأين نضعه الآن؟ وإذا عرف الخليفة غدا أنه ليس فى قصر الفردوس فلا يتهم به سوانا والجند فى يده يفتك كما يشاء».
فقطع سحبان كلامه قائلاً: «لا تخف أنى أعود به إلى قصره الليلة، وقد دبرت ذلك بحيث لا يشعر به أحد. وإنما جئت به لتطلعه على غرضنا بناء على قولك أنه يكفينا الآن إبدال خليفة بخليفة، واتفق رأينا على أن مولانا الإمام أحمد أولى العباسيين بذلك». والتفت نحو الإمام وقال: «وأرغب إلى مولانا أن يرفع كل حجاب بيننا وبينه ويكفينا مؤونة المجاملة والحذر فإنى لا أحب إلا الصراحة. ونحن الآن نطلب من مولانا أن يجيبنا عن هذا السؤال. (إذا استطعنا قلب الحكومة وأردنا تنصيب خليفة فهل يقبل الإمام أحمد أن تكون الخلافة إليه؟ وهل يعدنا خيراً، ولاسيما من جهة الشيعة ومعاملتهم؟»..».
وبرغم ما رآه مؤيد الدين من التسرع فى عمل سحبان، فإنه وافقه على هذا الاقتراح ورأب الصواب فيه، وعلم أن المشروعات الكبرى تفتقر إلى الإقدام والحزم مثل حاجتها إلى التروى والتؤدة. فأطرق وهو ينتظر ما يقوله الإمام فإذا به يقول: «أن الخلافة يا أولادى إذا أتتنى لا يمكننى التخلف عنها خوفاً على مصالح المسلمين. وإذا أبيت فأنى أرتكب خطأ أو معصية، وإذا صرت خليفة فأول واجب على إجداء العدل وإنصاف المظلومين من آل بيت الرسول صلوات الله وسلامه عليه».
فقال مؤيد الدين: «بارك الله فى مولانا، وإذا وفقنا الله إلى ما نبغيه فإنما يكون لصالح المسلمين، ونشكر لمولانا قبوله القيام بتلك المهمة، وإنما آسف لأن صديقى سحبان كلفك مشقة الخروج إلينا فضلاً عن الخطر».
فتصدى سحبان قائلاً: «لا مشقة هناك ولا خطر، ويمكن بقاء الإمام خارج قصره عدة أيام ولا يشعر أحد بغيابه، لأنى وضعت فى مكانه رجلاً كثير الشبه به. استطعت ذلك بما بينى وبين قيم ذلك القصر من الصداقة، وهو راغب فى قلب هذه الخلافة أكثر من رغبتنا لأن هذا الخليفة وابنه لم ينج أحد من أذاهما. كن مطمئناً يا صاحبى، وإذا كنت خائفاً من التجسس عليك فها نحن أولاء ذاهبون عنك الساعة». وتحفز للوقوف، وهم الإمام أحمد بأن ينهض، فنهض مؤيد الدين باحترام وقال: «أن مولانا الإمام قد شرف منزل مملوكه، وأطلب إلى الله أن يمن علينا بصيرورة الأمر إليه ويوفقنا إلى القيام بخدمته».
خرج الضيفان وخرج مؤيد الدين لوادعهما، ولما عاد إلى غرفته عاد إلى التفكير فى كتاب هولاكو وكيف أضاعه، وعاد إلى التفتيش عنه فى كل مكان حتى كل دماغه وتوالت عليه الأوهام والمخاوف، لعلمه أن يعون الجواسيس لا تنام عن استطلاع أخباره والوشاية به، فتولاه القلق، وذهب إلى فراشه فلم يستطع الرقاد وعاد يفكر فى ذلك الكتاب وأين هو؟ وكان يعترض هذه الهواجس تفكيره فى الإمام أحمد وسحبان وهولاكو وما هو فيه من القلق على قومه وعلى نفسه، وتعاظمت مخاوفه وهو تحت الغطاء لأن الظلام يكبر الأوهام ويعظم الأشباح، وأفاق فى الصباح وقد أخذ التعب منه مأخذاً عظيماً.
وليس على الإنسان أشدة وطأة من التردد بين أمرين مهمين لا يدرى أيهما يتبع، ويغلب أن يكون سبب التردد تنازعاً بين العقل والقلب، فمتى غلب أحدهما انتهت الأزمة واستقر الرأى وهذا الخاطر. وكان مؤيد الدين يتنازعه عاملان: أحدهما يدعوه إليه عقله وهو إن فساد الحكومة ذاهب بالدولة إلى الخراب ولا يرجى صلاحها إلا بإبدال الخليفة، ولا يستطاع ذلك إلا بيد قوية قاهرة مثل يد هولاكو، ويخامر هذا الحكم العقلى شعور قلبى فيه انتقام من ابن الخليفة وثأر للعلوين من أهل السنة. والثانى يدعوه إليه قلبه أو ضميره إذ يبكته على هذا العمل لأنه خيانه لمولاه الذى أقسم على طاعته.
على أن ضياع كتاب هولاكو أحدث عاملاً أخر شديد الوطأة على قلب مؤيد الدين، إذ ترجح لديه أن يدا أخذت ذلك الكتاب عمداً، ولا يلبث أن يصل إلى عدوه الذى يتجسس عليه فيجعله حجة ضده ويتهمه بالمؤامرة مع أعدائه. ثم تذكر فحوى الكتاب فلم يجد فيه ما يبعث على تهمة المؤامرة لكنه يد لعلى مخابرة جارية بين عدو البلاد ووزيرها.
فلما تصور ذلك خيل له أن الخليفة إذا علم به يأمر بالقبض عليه أو يقتله، ولاسيما إذا دخل ابنه أو بكر فى ذلك، فلا تبقى له حيلة فى النجاة، فمن الحزم أن يتدبر الأمر ويتلافى الشر قبل وقوعه أو يستعد له على الأقل. وتذكر ما وعده به هولاكو من الحسنات إذا هو أطاعه وكتب إليه بالمجئ، فخطر له أن يبعث إليه فى ذلك، فاشمأزت نفسه من هذا الخاطر، ثم اعترضه ما يهدده من الخطر إذ ظل ساكتاً فاشتد تحيره، فنهض من فراشه وأخذ يتشاغل بلبس ثيابه وهو غارق فى التفكير، فغلب عليه الدفاع عن حياته وهم بالكتابة إلى هولاكو، فأمر قيِّم الدار أن يأتيه بغلام من عبيده، فأتاه بشاب أصله من رقيق تركستان وقد دخل قصر الوزير من عهد غير بعيد وليس فيه نباهة، فلما وقف الغلام بين يديه تفرس فيه، ثم أمر القيم أن يحلق له شعر رأسه ففعل. وجاء الغلام ورأسه كأنه صفحة بيضاء. وكان ذلك القيِّم قد ربى فى بيت مؤيد الدين وله إطلاع على مكنوتات قلبه، وهو شديد الغيرة عليه، وقد أدرك غرضه من طلب ذلك الغلام على هذه الصورة. فلما عاد به ناده مؤيد الدين قائلاً: «ألم تفهم مرادى؟» قال: «نعم يا مولاى. أنى رهين الإشارة». قال: «إلى بالأبر والكحل وأغلق الباب وراءك».
فذهب وعاد بالإبر والكحل وأغلق الباب، وقعد على مقعد وأمر الغلام أن يجثو أمامه بحيث يصبح رأسه بين يديه. ثم تقدم مؤيد الدين وبيده ورقة قد كتب عليها كلمات قليلة، وأومأ إلى القيم أن ينقشها على رأس الغلام بالإبر وبذر عليها الكحل كما يفعل الوشامون فتناول القيِّم الورقة وقرأ فيها: «تعال إلينا بقوتك وجندك؟. فأدرك أنها رسالة إلى هولاكو، وكان من أشد الناس عداوة للخليفة وحاشيته لأنه شيعى وقد أصابه شئ من أذاهم، فأخذ فى نقش الرسالة على رأس الغلام، وهو لسذاجته كالبيهمة لا يفهم شيئاً، فلما فرغ القيم من ذلك نظر إلى مؤيد الدين وابتسم، فأشار إليه أن يحتفظ بذلك الغلام حتى ينبت شعره ويغطى تلك الكتابة، فإذا ظل على اعتزامه استقدام هولاكو أرسل الغلام إليه. ويكفى أن يقال لهولاكو أن هذا الغلام قادم من مؤيد الدين فيحلق راسه ويقرأ عليه ثم يقتله. فإذا رأى العدول عن إرسالها استبقى الغلام عنده وشعره يكسو رأسه، لأنه لم يزل إلى تلك الساعة متردداً، وضميره غالب على إرادته وهو يرجو أن تصلح الشئون بالمسالمة.
وأحس مؤيد الدين فى تلك الساعة براحة، وعاد إلى شواغله وهى كثيرة، أهمها النظر فى أمور الدولة. فركب بغلته إلى قصر التاج للنظر فيما جاء به البريد أو ما حدث من الأمور العامة، وكان يفكر طول الطريق فى الكتاب الضائع ويراقب حركات القوم هناك ليتحقق ما كان من أمره، فلما لم ير ما يبعث على سوء الظن اطمأن باله وعاد إلى منزله وقد ذهب قلقه.
الفصل التاسع
بين المستعصم وهولاكو
مضت على تلك الحال أيام، وقد نسى مؤيد الدين أمر الكتاب وهولاكو، ولم يسمع عن ابن الخليفة شيئاً يسوءه. فظن خيراً وتوهم أن ذلك الشاب رجع عن غيه بعد أن أحس بحرج المركز والخطر الذى يهدد المملكة بسبب الانقسام. لكنه أصبح ذات يوم وقد جاءه رسول المستعصم يدعوه سريعاً، فركب بغلته وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب هذه الدعوى العاجلة، وتذكر الكتاب الضائع، فخاف أن يكون لتلك الدعوة علاقة به، فتجلد حتى أتى قصر التاج، ودخل على الخليفة وهو جالس فى ديوان الخاصة وعنده ابنه أبو بكر والداودار، فاستعاذ بالله من ذلك الصباح، لكنه دخل وألقى السلام، فرد المستعصم التحية ودعاه إلى الجلوس، ثم رفع إليه كتاباً كان بجانبه على السرير فتناوله مؤيد الدين وقرأه وإذا فيه: من الخاقان العظيم هولاكو سلطان السلاطين إلى المستعصم بالله العباسى. أما بعد فأننا قد مللنا المماطلة ونحن صابرون. أما آن لك أن ترعوى وتعرف قدرنا؟ بعثنا إليك نستعينك على الإسماعيلية الفتاكين القتلة، ونحن لا نخافهم على أنفسنا كما نخافهم عليك فأيبت. فدلنا ذلك على سوء رأيك، فبعبثنا نعاتبك على عملك فأجبتنا جواباً بارداً لا يشفى غليلاً وشفعته بهدية هى أولى أن تهدى إليك كأنك تظننا فى حاجة إلى المال، ولم ترسل إلينا رسولاً يخفف من غضبنا. وقد كنا نقنع منك برسول عاقل، أما الآن فلا يرضينا إلا أن تأتى أنت بنفسك أو ترسل إلينا وزيرك أو قائد جندك للاعتذار، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك.. والسلام.
وما فرغ الكتاب حتى أخذ منه الأسف مأخذاً عظيماً، ونظر إلى الخليفة فرآه مطرقاً يفكر، فظنه قد اعتبر ولا يلبث أن يطاوعه فى استرضاء هذا الفاتح التترى، فإذا هو قد وقع بصره إليه وقال: «كيف رأيت أيها الوزير؟» قال: «الرأى لمولاى أمير المؤمنين».
قال: «هل أعجبتك وقاحة هذا التترى، وما جزاؤه عندك؟»
فلما سمع هذا التعبير استغربه، وشعر أن الخليفة لم يقدر مركزه حتى قدره، فقال: «استأذن مولاى فى أمر لابد لى من التصريح به. أن هذا الرجل أصبح الآن شديد البطش، وقد علمنا من جواسيسنا أنه فاز فى حروبه مع الفرس وغيرهم، وأصبح جيشه عديداً، وعنده العدة والمؤونة، وإذا لم نجبه جواباً حسناً حمل على بغداد، فالذى..».
فتعرض أبو بكر للكلام باستخفاف وقال: «يحمل على بغداد؟ وهل ينال غير الخزى والفشل إذا حمل عليها؟».
فإزداد مؤيد الدين أسفاً ولم يجبه، لكنه وجه كلامه إلى الخليفة وقال: «فالذى أراه أن نسترضيه ريثما تتأهب».
فقال الخليفة: «بماذا نسترضيه؟ أنه يطلب منى أن أذهب إليه بنفسى أو أرسل إليه الوزير أو الداودار، ألم يكن الأولى أن نتلافى الأمر قبل تفاقمه؟».
قال الوزير وقد أعجبه إذعان الخليفة للحقيقة: «كان ينبغى ذلك، ولم يقصر العبد فى أداء النصيحة فى المرة الماضية لما جاء كتاب هولاكو هذا، فقد شرحت لمولاى ما نخافه من هؤلاء، ورغبت إلى أمير المؤمنين أن يبعث إليه بالهدايا الفاخرة من الجواهر والمماليك والجوارى فإن القوم يرضيهم ذلك، فاعتراض الداودار يومئذ، واتهمنى بالضعف، وظننى أفعل ذلك ممالأة للعدو، وأطاعه مولاى فأرسل هدية حقيرة أغضبت هولاكو فكتب ما كتب».
وكان الداودار جالساً فلما سمع ذكر اسمه تصدى للكلام قائلاً: «أظن الوزير يريد منا أن نذعن لهذا الطاغية ونسترضيه بكل ما عندنا، ولو فعلنا ذلك لم يزدد إلا عتواً وطمعاً».
فقال الخليفة موجهاً خطابه إلى الداودار: «وماذا يرى قائدنا الآن، هل يذهب إليه بنفسه كما يطلب؟».
قال وهو يظهر الأنفة والعظمة: «نعم أذهب إليه محارباً إذا شاء مولاى».
فاستغرب ابن العلقمى غرور هذا القائد، وهو يعلم عجزه عن ذلك، مع فراغ الخزانة من الأموال، حتى اضطر الخليفة أن يقتصد من أعطيات الجند. وكان مؤيد الدين قد أشار عليه بذلك لجميع مالا يرضى به التتر لعلهم يعودون بلا حرب. وكان جيش بغداد ?????? فارس فسرح منه ????? واستبقى عشرين ألفاً والداودار يعلم ذلك. فهل يحارب التتر بهذا العدد؟. أما الخليفة فلم يكن يجهل هذه الحقيقة. فأجاب الداودار قائلاً: «كيف تخرج لمحاربتهم وليس عندك إلا عشرون ألفاً؟».
قال: «صدق أمير المؤمنين، أن هذا العدد لا يكفى الآن لكننا نجند سواهم».
فقال: «هل يسهل التجنيد؟»
قال: «كيف لا؟. أن المال الذى أشار الوزير باقتصاده من أعطيات الجند يكفى للتجنيد. سامح الله الوزير، أنه أخطأ بأخذه بهذا الرأى ولم نستفد منه إلا نقمة الجند علينا».
فأراد الخليفة أن يدفع عن الوزير، فتصدى أبو بكر وقال: «وما الذى يهم الوزير رضى الجند أو غضبوا، إنما يهمه ألا يغضب هولاكو».
•••
فكان لهذا الكلام وقع شديد على نفس ابن العلقمى، وتذكر كتابه الضائع فخاف أن يكون لهذا الكلام علاقة به، فأغضى عن وقاحة ذلك الشاب إلى مخاطبة الخليفة، ثم أجاب الداودار فقال: «أن ما أشرت به من قبل لا أزال عليه حتى الآن. وما جمع لدينا من المال المقتصد لو استرضينا به هولاكو لرضى وكفانا مؤونة الحرب. أما الآن وأنت قائد الجند، فإذا كنت ترى جندنا قادراً على الحرب، فالرأى راجع لأمير المؤمنين».
فنظر الخليفة الى ابن العقلمى وقال: هل هذا هو رأى الوزير فيما نحن فيه».
قال: «نعم أرى أن نسترضى هولاكو بما أمكن غير الحرب».
قال الخليفة: «أنه يطلب أن أذهب أنا إليه أو أنت أو الداودار».
قال: «يرسل المولى من شاء منا».
فقطع أبو بكر أحمد كلامه قائلاً وهو يضحك متهكماً: «أظن الوزير يتمنى أن يذهب هو بهذه المهمة لزيارة صديقه الخاقان». وقهقه ضاحكاً.
فاستغرب المستعصم هذا القول، ونظر إلى ابنه نظرة توبيخ على هذا المزاح، فوقف أبو بكر وأظهر الجد وقال: «أننى أقول الحق يا أبى. اسأل الوزير ألم يكن بينه وبين هولاكو صداقة ومراسلة؟».
فأجفل الوزير وترجح عنده أن أبا بكر مطلع على شئ مما بينه وبين هولاكو، فأظهر اشمئزازه من ذلك الحديث والتفت نحو الخليفة معاتباً، فالتفت الخليفة إلى ابنه وقال: «لا محل لهذا الكلام يا أحمد الآن». فمد أبو بكر يده إلى جيبه وأخرج كتاباً دفعه إلى أبيه وقال: «وهذا الكتاب يشهد بذلك». فتناول المستعصم الكتاب وقرأه، ثم نظر إلى مؤيد الدين فرآه مطرقاً، فقال له: «أتعرف هذا الكتاب؟». فرأى من الحزم أن يتجلد فنظر إلى الكتاب وقال: «أعرفه يا مولاى وقد كان معى وسرق منى».
فرماه المستعصم إليه وقال: «أنه يؤيد كلام ولدنا، ويدل أيضاً على أن بينك وبين هولاكو تزاوراً».
فالتقط مؤيد الدين الكتاب وقال: «نعم يا سيدى، لكن هل يدل على أنى متفق معه على عمل، أم هو يشكو من رفض مطالبه؟».
فقال أبو بكر: «ولكن على كل حال يظهر مما فى أخره أن المخابرة بينكما قديمة. ألم يكن يجدر بك أن تطلع أمير المؤمنين على ذلك. ما أدرانا بما دار بينكما؟. والأرجح أنك متفق معه على تسليم البلاد إليه، وإنما اختلفتما فى كيفية تسليمها. ليس هذا شأن الوزير المخلص لمولاه كما تدعى».
فتحير مؤيد الدين بماذا يجيب، وهم بالكلام فرأى الخليفة يشير إليه أن يسكت، وقد بان الغضب فى وجهه ثم قال: «صدق أبو بكر لم أكن أتوقع منك ذلك مع ثقتى بك. كان ينبغى أن تطلعنى على ما يدور بينك وبين عدونا قبل الآن».
فأراد ابن العلقمى أن يدفع عن نفسه فأشار إليه المستعصم أن يسكت وقال: «طالما دافعت عنك وكذبت ما ينقلونه لى والتمست لك الأعذار. أما الآن فظهر لى أن كلامهم هو الصواب، ولا أفهم لسكوتك عن اتصال هولاكو بك معنى سوى أن لك فى ذلك غرضاً أو مطمعاً، ولولا ذلك لأطلعتنى على ما دار بينكما».
فلم يطق مؤيد الدين صبرا على السكوت فقال: «لم أر فائدة من إطلاع مولاى على ما يكدره، وإنما يطلب منى أن أحافظ على الولاء له وأدافع عن مقام الخلافة. فهل فى هذا الكتاب ما يدل على خيانة؟ فإذا كان فيه شئ من ذلك فالعبد رهين أمر مولاه».
فاعتدل المستعصم فى مجلسه وقال: «حسناً. وهل كان فى إطلاعى على مكان تلك الجارية ضرر أيضاً؟».
فاستغرب مؤيد الدين قوله وقال: «أى جارية يا مولاى؟». قال: «جارية أبى بكر الذى ذبح أهل الكرخ بسببها». قال: «وما شأنها فيما نحن فيه؟».
فقال الخليفة: «ما كنت أظنك تجهل شأنها، ألم تكن تعلم أن مقتلة الكرخ إنما جرت بسببها لأن أبا بكر علم أنها مختبئة هناك وأنكروها عليه؟» قال: «بلى!». قال: «وقد قلت لنا يومئذ أنك لا تعرف عنها شيئاً». قال: «نعم». قال: «كيف تقول ذلك وهى مخبوءة فى منزلك؟». فأجفل مؤيد الدين عند سماع ذلك وقال: «مخبوءة فى منزلى؟». قال: «نعم. أو منزل بعض أهلك فى الكاظمية. وقد استرجعها أبو بكر أمس بهمة الداودار».
فتذكر مؤيد الدين شوكار وأن سحبان أخذها من عنده ليخبئها فى الكاظمية، ولما تذكر ذلك سرى عنه لأنه سيفوز بها على أبى بكر لعلمه أنها جارية المستعصم وقد خطفها أبو بكر لنفسه، فقال وهو يظهر الاستخفاف: «هل أمير المؤمنين واثق بما قيل له؟».
قال: «هذا أبو بكر، وهذا الداودار، وقد أتيا بها أمس من الكاظمية».
قال: «هل رآها أمير المؤمنين؟» قال: «لا. لم آرها ولكنى لا أشك فى صدقهما».
ووقف أبو بكر وهو يظهر الغضب وقال: «وهل أنا كاذب؟». فقال له مؤيد الدين: «لا أعلم ولكننى أعلم أنى غير كاذب. وبما أنك وجهت إلى تهمة الخيانة فيقتضى أن تثبت قولك بالبرهان. فإذا أثبته فأنى مذعن لحكم مولاى».
فقال أبو بكر: «لا حاجة إلى إثبات ذلك فإنه ثابت عندنا جميعاً».
وجلس وراح يتشاغل بفتل شاربيه ويظهر الإزدراء، وقد خاف أن يلح مؤيد الدين فى طلب الجارية ليراها أبوه فيفتضح أمره، وندم على ذكر هذه الجارية لأبيه، لكنه لم يكن يعلم أن مؤيد الدين مطلع على تاريخها.
أما مؤيد الدين فازداد تمسكاً بقوله ووجه كلامه إلى الخليفة وقال: «هل من ضرر إذ أمر مولاى أمير المؤمنين بإحضار الجارية لنراها ونطلب شهادتها؟».
فقال: «لا ضرر من ذلك». والتفت إلى أبى بكر وقال: «أين هى؟» فأظهر الاشمئزاز من ذلك الطلب وقال: «ما الداعى لاستقدام جارية إلى ديوان أمير المؤمنين؟ وما هى أهميتها؟».
قاد مؤيد الدين: «أنها ذات أهمية كبرى، لأن الوزير متهم بالخيانة والكذب بسببها، فالمطلوب إثبات ذلك».
فنهض أبو بكر وهو يظهر عدم المبالاة وقال: «ليس أمر هذه الجارية مهماً، وإنما المهم كتاب هولاكو وقد أطلع عليه والدى وكفى».
قال ذلك وتحول وخرج بلا استئذان وأبوه ينظر إليه، وقد سره خروجه لئلا يفرط منه كلام يسيئه، لكنه كان يحب بقاءه ليتحقق أمر تلك الجارية فناداه وقال: «أحب أن تتم أمر البحث فى أمر الجارية». فقال: «لا أهمية لها.. وأنا أسامح الوزير على خطيئته بشأنها». فقال الوزير: «أما أنا فلا أسامح نفسى. أحب أن تأتى الجارية وتثبت الخيانة على أو على غيرى، وطلبى هذا حق».
فما زاد أبو بكر على أن ضحك ومشتى وأبوه يتبعه بنظره.
أما مؤيد الدين فالتفت إلى الخليفة وقال: «يأمر مولاى باستقدام الجارية إلى هنا، وهذا الداودار يعرفها لأنه كان مع الأمير أبى بكر لما أخرجاها من منزل بعض أهلى فى الكاظمية كما يقول».
فالتفت الخليفة إلى الداودار كأنه يأذن له فى الكلام فقال مخاطباً الوزير: «وهل أنت فى شك من قول مولانا أبى بكر؟» قال: «لاشك عندى فى قوله ولا قولك، لكنى ألتمس من مولاى الخليفة أن يأمر باستقدامها». فأشار الخليفة إلى الداودار قائلاً: «لا أرى بأسا من استقدامها فأفعل».
ولم يكن الداودار يعرف علاقة هذه الجارية بالخليفة ولذلك لم ير بأسا من إحضارها، فنهض وهو يقول: «أنا ذاهب بأمر مولاى لاستقدام الجارية بدون أن استأذن الأمير أبا بكر». قال الخليفة: «أفعل». فخرج الداودار وظل ابن العلقمى جالساً يفكر فيما وفق إليه من التغلب على عدوه، والخليفة مطرق لا يتكلم. ولم يمض كثير حتى عاد الداودار لأن المنزل الذى وضعوا فيه شوكار كان قريباً من قصر التاج.
دخل الداودار ووقف وقفة الظافر وقال: «أن الجارية بالباب، هل أدخلها يا مولاى؟». قال: «لتدخل».
فدخلت ومؤيد الدين ينظر إلى الباب بلهفة مخافة أن يكون قد جاء بجارية أخرى غير شوكار. فلما وجد أنها هى انشرح صدره. أما شوكار فوقفت مطرقة، فخاطبها الخليفة قائلاً: «ألم تكونى مخبوءة فى الكاظمية وجاء بك قائدنا هذا أمس؟». قالت: «بلى يا مولاى». قال: «ومن خبأك هناك، أصدقينى؟». قالت: «وهل يجسر أحد على الكذب فى حضرة أمير المؤمنين، خبأنى رجل اسمه سحبان». قال: «ألم يكن الوزير مؤيد الدين الذى خبأك؟». قالت: «كلا يا مولاى، ولم يكن يعرف أنى مختبئة هناك». قال: «ألا تعرفين وزيرنا قبل الآن؟»
فتحيرت فى الجواب وتلعثمت لأنها توسمت من وراء تلك الأسئلة سواء يريده الخليفة بالوزير وهى لم تر من الوزير إلا الخير، ولا تحب مع ذلك أن تفض خبرها على الخليفة فارتج عليها. فوقف مؤيد الدين وقال للخليفة: «يتفضل مولانا بالسؤال عن اسمها ومن أين أتت إلى بغداد وما سبب مجيئها؟».
فقال الخليفة: «وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟» قال: «سيرى مولانا أنه ذا علاقة كبرى بذلك، وسيكشف له عن أمور جليلة». فقال الخليفة: «ما أسمك، ومن أين أتيت، ولماذا؟» ففهمت شوكار من تعرض ابن العلقمى لهذا الأمر أنه يريدها أن تقول الحقيقة، فقالت: «اسمى شوكار، وقد جئت من مصر لأكون مغنية فى قصر أمير المؤمنين».
فلما سمع الخليفة قولها أجفل وخفق قلبه إذ ترجح له أنها المغنية التى كان قد أضاعها، فنظر إلى مؤيد الدين ثم إلى الداودار وقد تولته الدهشة وأعاد السؤال عليها قائلاً: «أنت شوكار جارية شجرة الدر؟».
قالت: «نعم يا مولاى أنى شوكار جارية شجرة الدر». قال: «من أخذك منى؟ وأين كنت كل هذه المدة؟».
قالت: «أخذنى ابنك الأمير أبو بكر وأخفانى عنده».
قال: «ألم تكونى أنت الجارية التى حدثت مقتلة الكرخ من أجلها؟».
قالت: «أنا تلك الجارية يا مولاى، وكنت قد فررت للنجاة بنفسى».
قال: «وكيف أخذك ابنى وأنت محمولة إلى؟»
قالت: «لما وصلت مع الركب إلى قرب بغداد جاءنا جند قالوا أنهم قادمون من قصر أمير المؤمنين ليأخذونى إليه، فدفعنى الركب إليهم فأخذونى إلى قصر عرفت بعد ذلك أنه للأمير أحمد أبى بكر..».
فأخذ الغضب من الخليفة مأخذاً عظيماً، وندم الداودار لأنه تصدى لحمل الجارية إلى هناك، وأصبح خائفاً على أبى بكر من غضب أبيه، فوقع فى حيرة، وأعاد النظر إلى تلك الجارية بدهشة. وظل مؤيد الدين ساكتاً وقلبه يرقص فرحاً لفوزه، أما شوكار فقد عدت انتقالها من بيت أبى بكر إلى بيت الخليفة فرجاً وإن كانت تفضل الانتقال إلى مصر.
•••
وحينما تحقق الخليفة الواقع صفق، فجاءه غلام فأوما إليه أن يأخذ شوكار إلى قصر التاج ويسلمها إلى القهرمانة ويوصيها بها خيراً، والتفت إلى الدوادار وقال: «قد سمعت الآن أن الذين أعانوا أحمد على هذه الجريمة من الجند. أيليق ذلك بالإجناد؟ أليست هذه خيانة منهم؟»
فاعتبر الداودار هذا التوبيخ موجهاً إليه لأنه القائد العام، فاضطر فى سبيل الدفاع عن نفسه أن يشكو ابن الخليفة فقال: «لم يفعل الجند ذلك بأمرى وإنما فعلوه بأمر الأمير أحمد أبى بكر، وهل نستطيع أن نخالف له أمراً؟».
قال: «كيف لا؟ أتطيعون ابنى فى سبيل معصيتى، وأنا لا أزال حياً؟».
وتحرك فى مجلسه من شدة الغضب وأخذ يلهث وينفخ ويصر على أسنانه، فخيل لمؤيد الدين أن أبا بكر لو كان حاضراً لأمر الخليفة بقتله، وود لو أنه يحضر، وإذا بالخليفة يقول للداودار: «أين أحمد الآن؟». قال: «لا أعلم يا مولاى». قال: «إلى به حالاً أينما كان». فخرج الداودار، ونظر الخليفة إلى مؤيد الدين نظر الاعتذار لأنه شك فيه وقال: «لقد أسأنا الظن بك يا وزيرنا. جوزيت خيراً، لماذا لم تطلعنى على خبر هذه الجارية من قبل؟».
قال: «لأنى لم أعرف بها إلا منذ أيام قليلة، وقد قلت للذى قص على خبرها أن بخبئها فى مكان أمين ريثما نطلع أمير المؤمنين على أمرها فى فرصة مناسبة لا يدرى بها الأمير أبو بكر، لأننا لو أردنا أن نفعل ذلك بعلمه لما نجونا من الأذى وهو ابن أمير المؤمنين والجند طوع إرادته».
فهز الخليفة رأسه وقال: «أنا لله وأنه إليه راجعون. أنى أخطأت بإطلاق سراح ابنى هذا، ولو كان محجوراً عليه كما كان الأمراء قبله لما كان فى مثل هذه الأخلاق، ولما جر علينا هذه البلايا. لأحبسنه ولاحجرن عليه ولاعلمنه كيف يكون مطيعاً، قبحه الله من ابن عاق».
وبينما هما فى ذلك إذ سمعا ضوضاء بالباب عرفا منها صوت أبى بكر وهو يقول بلحن الغضب: «أما كفاه من فى داره من النساء حتى يطمع فى جاريتى. دعنى أدخل». وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «أن مولانا أبا بكر ابن أمير المؤمنين بالباب، هل يدخل؟». فقال: «هل جاء وحده؟» قال: «نعم». قال: «وكيف ذلك، أليس الداودار معه؟». قال: «لا». ولم ينتظر أبو بكر الأذن له فى الدخول، فدخل والغضب باد فى محياه، فلما رآه أبوه داخلاً استعاذ بالله وابتدره قائلاً: «ما هذا يا أحمد، أهكذا يدخلون على أمير المؤمنين، أين التربية ووقار الخلافة؟».
فجلس دون أن يننتظر الإذن، وقال: «تسألنى عن التربية وأنا ابن أمير المؤمنين وقد ربيت فى حجرة؟ ولعل ذلك من أسباب شقائى.. يحسدنى الناس على أن الخليفة أبى ولو علموا كيف يعاملنى لأشفقوا على». قال ذلك واختنق صوته كأنه يجهش بالبكاء.
فلما سمع المستعصم أجهاشه ولحظ شيئاً يتلألأ فى عينيه كالدمع خمد غضبه وتغلب حنانه، وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الحنان والإشفاق، وذلك لأن المحبة الأبوية لا تذعن للحقوق ولا تعترف بقواعد المنطق ولا تطلب البراهين، وإنما هى حاكم مستبد أكثر أعماله لا تنطبق على القوانين، وكثير منها يناقض المنطق ويخالف أحكام العقل. الأب يحب ابنه ويغار عليه ويرى فيه حسنات لا يراها الأخرون. وهو لا يحبه لأنه يرجو منه نفعاً، أو لأنه يستحق المحبة لفضائل فيه أو حسنات أتاها، وإنما يحبه عفواً. يحبه لأنه ابنه، ويزداد حبه له كلما شقى فى تربيته، ويزداد عطفه عليه إذا رآه حزيناً. أن الوالدين ليس أدعى إلى تحريك شفقتهما من أن يريا ابنهما باكياً وإن كانا فى أشد حالات الغضب كأن دموعه تقع على نار ذلك الغضب فتطفئها ويتصاعد دخانها فيغشى ما هناك من دواعى النقمة فلا يريان غير بواعث الشفقة والعطف.
وكان المستعصم من أضعف الآباء قلباً وأكثرهم حناناً، فأوشك أن ينسى أسباب غضبه على ابنه لكن تجلد وقال: «أبمثل هذا تخاطب أباك؟ هل يحق لك الشكوى من أبيك وقد منحك ما كان يشتهيه أبناء الخلفاء قبلك؟ كانوا مسجونين وأنت حر طليق ولك الأمر والنهى، ألم تر الداودار؟.
قال: لا. لم أره. لكنهم قالوا لى أنه أتى قصرى وحمل جاريتى فلم أطق الصبر على ذلك فجئت لأشكو إليه عمله. فإذا أنت تمن على بالحرية التى وهبتنى إياها. وأى حرية هذه وقد ضننت على بجارية مع كثرة الجوارى فى قصرك ولكن..».
فقطع المستعصم كلامه قائلاً: «لم أضن عليك بجارية، لكننى عتبت عليك لأنك اختطفت جارية أتية من مصر باسمى».
فقال وهو يحول وجهه استخفافاً: «أتية من مصر باسمك؟ لأنك لا ترى بأسا من اقتناء مئات الجوارى وتبعث فى طلبهن من الأطراف. وابنك الشاب إذا أخذ جارية منهم اتهمته بالعقوق وشددت النكير عليه. لو كنت ابن أحد العامة لم يفعل أبى معى فعل أمير المؤمنين». قال ذلك وغص بريقه وأظهر أنه ضاق صدره من الإجهاش وأنه إنما يمسك نفسه عن البكاء حياء ثم قال: «ومع ذلك أنت أمير المؤمنين ولك الحق فى أمور ليس لسواك الحق فيها. ونحن عبيدك وكل ما هو لنا طوع إرادتك. ولا يزال عندى بضع جوار أخر أبعث الداودار ليحملهن إليك. يا ليتك أبقيتنى أسيراً ولم ترنى نور الحرية. إن المولود فى الظلمة لا يعرف لذة النور ولا يأسف لفراقه، وإذا كنت قد ندمت على إطلاق سراحى فهذا أنذا بين يديك أحبسنى أو اقتلنى. والقتل خير لأنى أريحك من المتاعب». وأظهر أنه لم يعد يستطيع التماسك عن البكاء وأخذ فى الشهيق، وأوشك أبوه أن يشاركه فى ذلك.
أما مؤيد الدين فكان جالساً يسمع ويرى وقد أدهشه ما رآه من الانقلاب فى عواطف المستعصم، فذهب فرحه بالفوز عبثا، واكتفى بالنجاة من الغضب، وود الخروج من ذلك المجلس، ولكن لا يجوز له أن يستأذن قبل أن يرى الخليفة راغباً فى صرفه على عادة الخلفاء والملوك. فأخذ يتحرك فى مجلسه ليوجه التفات الخليفة إلى صرفه، وقد يكون الخليفة أكثر رغبة منه فى ذلك.
لكن حركته لفتت انتباه أبى بكر فتحول نحوه وعاد إلى الكلام فقال: «أنا لا أشك فى حب أبى، ولكن الذنب كله على هذا الوزير الذى شب على كرهنا لأنه علوى ولا يرى لنا الحق فى الخلافة». ووجه خطابه إلى أبيه وقال: «وأنى لاستغرب صبر والدى على رجل يكرهنا ويسعى فى خلع خلافتنا ويخابر ألد أعدائنا سراً، وأغرب من ذلك أنه صدق دفاعه عن نفسه». ومد يده إلى كتاب هولاكو، وكان ما زال فى يد مؤيد الدين، فاختطفه منه بخشونة وفتحه وقال وهو ينظر فيه» صدق دفاعه وظنه بريئاً من المواطأة مع عدونا وهو يقول له فى هذا الكتاب أنه صديقه ويشير عليه بإرسال الرسالة كما قال له قبلاً، ألا يدل هذا على سبق المخابرة فى شأن الخيانة؟. ومع ذلك فإن قول ابن العلقمى العلوى مصدق وقول أحمد مكذب». وعاد إلى البكاء.
فتفطر قلب أبيه لبكائه، ورأى مؤيد الدين فى وجهه الانصياع إلى رأى ابنه، فأسقط فى يده وتحقق أن سعيه ذهب سدى، وود لو أنه يختفى من المجلس لئلا يسمع تأنيباً من الخليفة نفسه، فإذا هذا يقول: «سأنظر فى أمر أحمد والجارية فى فرصة أخرى. أما من حيث مخابرة العدو فقد صدق أحمد يا مؤيد الدين. كيف صبرت على مخابرة ذلك العدو مدة ولم تخبرنا. أنى واثق بأمانتك ولكن للثقة حدوداً تقف عندها.. لا. لا. لا. أزال على ثقتى بك وأن خالفنى أحمد. أنه قال ما قاله الآن من غضب».
فقطع أحمد كلام أبيه قائلاً: «لا. لا أقول من غضب، أنت تعرف سوء رأيى فى هذا الوزير من قبل وقد تحقق ظنى فيه اليوم».
فلم يشأ الخليفة أن تنتهى الجلسة على هذه الصورة لأنه يعتقد اقتدار وزيره ويرى نفسه فى حاجة إليه، لكنه لم يستطع أن يغالب عواطفه الأبوية ويجدل ابنه فأحب إقفال باب الكلام، فأبدى إشارة الصرف فوقف مؤيد الدين واستأذن فى الانصراف وهو ساكت يفكر.
خرج الوزير وقد أخذ الغضب منه مأخذاً عظيماً حتى اخطأ الطريق من الديوان إلى موقف الدواب حيث كان غلامه فى انتظاره، ثم اتنبه لنفسه فركب بغلته وسار قاصداً منزله وهو لا يكاد يرى طريقه لعظم ما جاش فى خاطره من الأسف واليأس والخوف. وتضاربت خواطره بين الانتقام والتربص حتى وصل إلى المنزل فاستقبله قيِّم الدار على جارى العادة، فحالما وقع نظره عليه تذكر المملوك الذى كتب الرسالة على رأسه فسأل عنه فقال: «هو فى حجرتى». قال: «كيف شعره؟» قال: «قد نما حتى كسا رأسه، وإذا شئت أتيتك به الساعة».
قال: «أحضره». ومشى إلى غرفته وهو يفكر وخاطره مشتغل بما مر به فى ذلك اليوم، وكلما تصور أبا بكر واحتقاره إياه اقشعر جسمه قشعريرة الحقد والغيظ والكراهية. فقعد على سريره وهو مطرق، وإذا بالقيِّم قد جاء ومعه ذلك الغلام يساق كالبهيمة، وليس فيه من علامات الإنسانية إلا شكله الخارجى ونطقه إذا تكلم. فلما رآه مؤيد الدين نظر إلى رأسه فرأى شعره قد نما وتكاثر ولم يبق شئ ظاهر من جلده، فتفرس فى رأسه وهو يناجى نفسه قائلاً: «إن تحت هذا الشعر رسالة إذا بلغت صاحبها أقام الدنيا وأقعدها وأنتقم لى من ذلك المغرور الطائش. وما على إذا أنا أرسلتها إلى هولاكو؟ أن الرجل قادم إلينا لا محالة وهو فاعل ما يريده، ولا ريب عندى بفوزه، فإذا أرسلت إليه دعوتى هذه على رأس هذا المملوك ضمنت حياتى وحياة من أحب من أهلى وأصدقائى. ولو علمت أننا قادرون على دفع هولاكو ورجاله لم أكن لأبالى بجهالة هذا الغر واستخفافه، بل كنت أدافع عن أمتى وبلدى وأغضى عن ضعف الخليفة وطيش ابنه. ولكن أنى لنا أن ندفع التتر وليس عندنا إلا عشرون ألفا قلوبهم متفرقة ونياتهم متناقضة. إذن..». ووضع سبابته على ذقنه كما يفعل المتأمل ثم رفع بصره إلى قيِّم القصر وقال: «أرسل هذا الغلام فى المهمة التى تعرفها».
فخفق قلب القيِّم فرحاً لأنه كان كثير الرغبة فى الانتقام من الخليفة فنادى الغلام إليه فتبعه، فلما خلا به أفهمه أن مولاه الوزير يريد منه أن يذهب إلى هولاكو خاقان التتر، ويقول له أنه قادم من وزير بغداد وكفى. ومتى عاد نال المكافأة الكبرى، ففرح الغلام ومشى كالشاة تساق إلى الذبح.
الفصل العاشر
شوكار فى دار النساء
ذهبت شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه على أن تبقى عند أبى بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهى فى حرب دائمة معه، لأنه يريدها لغير الغناء وهى تأبى ذلك، ولاسيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصى عابد البصرى رسولها إليه الذى كتبه وهو نافر من سعايه سلافة فى شوكار، ولم يكن سعيها فيها إلا ليزيده تمسكاً بحبها، فكتب إليها كتاباً ضمنه العطف عليها والوعد بإنقاذها، فجاءها الرسول بالجواب المذكور وهى فى حوزة ابن الخليفة، فاحتالت حتى أدخلت عابداً فى خدمته لعلها تحتاج إليه فى شئ بعد أن اختبرت أمانته، وهو الذى أعانها فى الفرار إلى الكرخ وجرى بسبب فرارها ما جرى بين القتل والنهب، وخرج معها إلى الكاظمية، ولما استرجعها أبو بكر إلى منزله كان عابد لا يزال فيه. ثم بعث المستعصم فى طلبها فجاءت وحدها وأمر الخليفة بإرسالها إلى دار النساء كما رأيت.
وقبل وصولها إلى الدار بلغ أهل القصر أن الجارية المغنية التى كانت مرسلة إلى الخليفة واختطفها اللصوص قد وجدت وجئ بها إلى قصر التاج، وأنها قادمة الآن إلى دار النساء. فلا تسل عمن تجمع لمشاهدتها من الرجال والنساء. وكان فى قصور النساء هناك مئات من السرارى والجوارى على اختلاف الطبقات والأغراض، فجاء كثير منهن إلى قهرمانة القصور يستوضحن ما سمعنه عن شوكار، وقد اختلفت الروايات فى شكل هذه الجارية وطول قامتها أو قصرها ودرجة رخامة صوتها وغير ذلك مما تصوره المخيلة فى مثل تلك الحال.
وكان أكثر النساء اهتماماً بأمرها المغنيات، لأن شوكار قادمة لمناظرتهن فى عملهن، فاجتمعن وتحدثن فى أمرها وما وصل إلى علمهن من الأقاويل عنها. وهذا طبيعى فى الناس، وبخاصة فى ذلك العصر، وبين نساء لا عمل لهن غير أمثال هذه الأحاديث، إذ لا يشغلهن عن ذلك كتاب ولا جريدة ولا مجلة ولا مدرسة ولا خطاب ولا اجتماع علمى ولا أدبى، مما قد يشغل نساء هذا العصر، وإنما همهن كله هذه الأحاديث والمباراة فى التبرج لاجتذاب قلوب الرجال.
وأول من لقيته شوكار هناك أستاذ الدار (رئيس الخصيان)، أخذت إليه وهو متصدر فى غرفته فقبلت يده ووقفت باحترام تنتظر أمره، وهو الآمر الناهى فى تلك القصور، وذو نفوذ كبير فى الشئون السياسية، كما كان شأن بعض أغوات يلدز فى زمن عبد الحميد. وبعد أن قدمت نفسها لأستاذ الدار واستفهم عن اسمها وعمرها ويوم وصولها وسائر الأوصاف المميزة لها أمر بتدوين ذلك فى أماكنه لئلا يختلط أمر النساء بعضهن ببعض لكثرتهن. وقد تتشابه الأسماء.
ثم أخذوها إلى قهرمانة الدار وهى كهلة رهلة قد تراكم اللحم على بدنها مثل تراكم المصوغات والمجوهرات حول عنقها وزنديها، وعليها أفخر اللباس، وهى فى تلك الدار كالملكة، ليس فى الجوارى والسرارى من لا يتزلف إليها ويخطب رضاها بالمحاسنة والمجاملة والهدايا. مشت شوكار وهى مطرقة حياء لكثرة من لقيتهم فى طريقها من الخصيان والجوارى وقوفاً فى الدهاليز والأبواب يتفرسون فيها ويتهامسون. فلما أقبلت على غرفة القهرمانة رأت الخصيان ببابها كالحراس بأبواب الملوك، فدخلت تلك الغرفة وتلفتت لتتعرف الوجوه، فعرفت القهرمانة من مجلسها المرتفع ولبسها الفاخر. فمشت نحوها حتى إذا دنت منها أكبت على يدها تقبلها، فقبلتها القهرمانة وأمرتها بالجلوس إلى جانبها، وأخذت ترحب بها بعبارات مألوفة فى مثل تلك الحال، لو تليت على إنسان لم يألفها لظن قائلها أشد الناس مودة له وتفانيا فى مصلحته، لكنها على طول التكرار أصبحت لا معنى لها، أو أن لها معنى يناقض أصل المراد بها.
فاستأنست شوكار ونظرت إلى ما فى تلك الغرفة من الرياش الفاخر، وتأملت حال أهل ذلك القصر من الرخاء والنعيم، فأوشكت أن تؤثر المقام هناك على الاجتماع بركن الدين. ثم نادها قلبها فأصغت إلى ندائه، ولسان حالها يقول: «ليست السعادة بالرياش والمجوهرات وإنما هى فى الحب». ثم سمعت القهرمانة تنادى بعض الخصيان وتأمره أن يهيئ لمغنية الخليفة غرفة فيها كل أسباب الراحة. والتفتت إلى شوكار وقالت: «تمكثين هنا ريثما تتهيأ الغرفة كما يليق بها، أنى فى انتظار قدومك من أمد طويل، وقد شغل بالنا خوفاً عليك فنحمد الله على سلامتك».
فأجابتها شوكار شاكرة وقالت: «أنى لا أستحق هذا الالتفات يا سيدتى، ما أنا إلا جارية حقيرة».
فأجابتها القهرمانة (أو القيمِّة) وهى تضحك: «أنت تظنيننى لا أعرفك قبل الآن، ولكننى أعرفك من عهد بعيد، وأعرف كل شئ عنك، عرفت ذلك من صديقتى قهرمانة الملك الصالح صاحب مصر رحمه الله. أتعرفينها؟».
فتذكرت سلافة وما بينها وبين سيدتها شجرة الدر من المنافسة، ولم تكن تعرف لها هذه المنزلة لدى قيمة قصور الخليفة فقالت: «أظنك تعنين سلافة. نعم أعرفها يا سيدتى ولم أكن أظنها تعرفنى».
قالت: «بالعكس، أنها تعرفك جيداً، وهى التى لفتت انتباهى إلى رخيم صوتك، وأنك تليقين بمجالسة مولانا أمير المؤمنين، فأشرت على مولانا باستقدامك، فطلبك من سلطان مصر كما تعلمين».
فأحست شوكار بفضل سلافة عليها، ولكنها كانت تفضل الخروج من ذلك القصر، غير أنها نظرت فى الأمر من حيث قصدها فقالت: «الحقيقة أن حسن ظن السيدة سلافة منه كبرى يجب أن أشكرها عليها، ولو عرفت ذلك لشكرتها وأنا فى مصر». قالت: «ويمكنك أن تشكريها هنا». قالت: «وهل هى هنا الآن؟» قالت: «هى هنا منذ بضعة أيام».
•••
استغربت شوكار هذه المصادفة، وبان البشر فى محياها، وسبق إلى ذهنها حسن الظن، وتصورت أن وجود سلافة هناك سيكون أكبر تعزية لها ريثما تستطيع التخلص، وخيل لها أن سلافة ستكون عوناً كبيراً لها فى ذلك فقالت: «لله ما أسعد حظى. أين سيدتى سلافة حتى أقبل يدها وأشكر لها صنيعها».
قالت: «سنرينها بعد قليل، وقد سألت عنك ساعة وصولها من مصر فأخبرتها عن ضياعك فتأسفت، ولما جاءتنا البشارة الآن بوجودك أخبرتها ففرحت فرحاً عظيماً وهى آتية الساعة.. هذه جاريتها قادمة.. أين سيدتك يا أقحوانة؟».
فأجابت الجارية: «أنها فى غرفتها يا مولاتنا، وقد بعثتنى لأدعو القادمة الجديدة إليها لتتمتع برؤيتها فإنها فى شوق إليها».
فضحكت القهرمانة حتى بانت بقايا أسنانها وما يتخللها من الفراغ فى أماكن الأسنان المقلوعة وقالت: «هل تريد أن نرسلها إليها لتراها قبل أن يراها أمير المؤمنين؟».
فقالت الجارية: «هذا ما قالته مولاتى، والأمر لك».
قالت: «لا بأس. أن ضيفتنا شوكار ذاهبة معك للقاء صديقتنا سلافة لأنها فى شوق لرؤيتها وتقديم شكرها لها. وقولى لها أن لا تطيل المقام فلابد من إرسالها إلى الماشطة بعد قليل لإصلاح شأنها بحيث يليق بها الجلوس بين يدى مولانا الليلة لسماع صوتها الرخيم، ولا أظنه يصبر على الانتظار إلى الغد.. قومى يا شوكار إلى سلافة.. وأحب أن تستأنسى بنا وتثقى بى فإنك كإحدى بناتى».
فنهضت شوكار ومشت فى أثر الجارية أقحوانة، وهى تمر من ممر إلى ممر، والغرف على الجانبين، وشعرت أن فى تلك الغرفة أناساً يتشوقون إلى رؤيتها، نعنى الجوارى أو السرارى، فترى الأبواب بين مفتوح ومشقوق، والرؤوس تطل لمشاهدتها ثم ترجع خلسة، حتى وصلت إلى غرفة سلافة فتقدمتها أقحوانة وأعلمت سيدتها بمجئ شوكار، فلما أطلت شوكار على مجلس سلافة تصاعد الدم إلى وجهها خجلاً وفرحاً، إذ شعرت بأن هذه السيدة أرادت الإحسان إليها بإرسالها إلى بيت الخليفة وإن كان ذلك لم يوافق حالها، فلما شاهدتها سلافة مقبلة نهضت لها وتقدمت لاستقبالها ببشاشة وترحاب زادا الفتاة خجلاً، لأنها تعرف منزلة تلك السيدة فى قصر الملك الصالح بمصر وقصور المستعصم فى بغداد، فأكبرت تواضعها وعطفها وأكبت على يديها تريد أن تقبلها، فمنعتها من ذلك وهى تقول: «مرحباً بالعزيزة شوكار، وأشكر الله أن رأيتك فى هذا القصر، فقد طالما تمنيت لك هذه السعادة. هل أنت مسرورة يا شوكار؟» وأومأت إليها أن تقعد على وسادة بجانبها، فجلست شوكار وهو تقول: «أشكر لك غيرتك وفضلك يا سيدتى. أنى فى سعادة بحمد الله و..».
فقطعت سلافة كلامها قائلة: «ولكن ساءنى الفهم اختطفوك فى أثناء الطريق، واليوم عرفت سبب ذلك، فالحمد لله على سلامتك.. كم أنا مسرورة بلقياك، ومهما يكن من حظوتك بالقدوم إلى بغدد والمكوث فى دار الخليفة فإن الخليفة أكبر حظاً منك بالحصول على مغنية ليس فى العراق ولا مصر أرخم صوتاً منها».
فأطرقت شوكار وعيناها ولسانها ينطقان بالشكر، وقلبها ينكر ذلك الفضل، لأنها كانت تؤثر البقاء بقرب ركن الدين، ولو فى سجن، على وجودها بعيدة عنه فى قصر الخليفة.
ولم تكن سلافة تجهل ذلك لكنها خاطبتها بما قد تتوقعه منها، لأن شوكار لم تكن تعلم شيئاً مما دار بين حبيبها ركن الدين وهذه المرأة، ولو علمت الغرض الذى حملها على المجئ إلى بغداد لأقشعر بدنها وكرهت النظر إليها، فإن سلافة قد تركت مصر بعد حديثها مع ركن الدين الذى غادر دارها وقد أغضبها لأنه لم يطعها فيما أرادته منه، فتركته واقفاً ومشت بعد أن رمته بنظرة كالسهم وقالت: «سر بحراسة الله. سر إلى فراشك أيها الأمير. ولا تظن فشلى هذا يذهب عبثاً».
قالت ذلك يومئذ وقد أثار باعراضه نقمتها منه، وانقلب حبها بغضاً ولكنها رأت أن تتربص عساه أن يرجع إلى صوابه ويتحول عن حب شوكار وإلا عمدت إلى أذاه. وما زالت تبث الجواسيس لاستطلاع مقاصده حتى علمت عزمه على السفر إلى بغداد، فأسرعت إليها لتستقصى أخباره وترى ما يكون من أمره. وكانت قد سمعت بضياع شوكار، فلما عادت وجدتها حية أخذت تفكر فى حيلة أخرى، وهى تعتقد أن وجود هذه الفتاة حية يقف فى سبيل غرضها. ومن أخلاق هذه المرأة إقدامها على عظائم الأمور، بلا دهاء أو تدبير سابق يضمن نجاحها، فإذا خطر ببالها أمر أقدمت عليه.
فلما سمعت شكر شوكار لها، وعلمت حسن نيتها، وأنها لا تعلم بما دار بينها وبين ركن الدين، استسهلت تنفيذ بغيتها، فأظهرت أنها مسرورة جداً بلقياها، وخطر لها أن شوكار قد تفضل البقاء فى دار الخليفة على الاقتران بركن الدين، فأحبت أن تستطلع رأيها فى ذلك فقالت لها: «يظهر أنك نسيت مصر وأهلها.. لك حق فإن المقيم فى هذه القصور بجوار أمير المؤمنين لا تخطر مصر بباله». قالت ذلك وجعلت تتفحص ما يبدو منها، فتحيرت شوكار بماذا تجيبها، والمحب حريص على سره لا يفشيه إلا لمن يعتقد إخلاصه وصدق مودته، وقد سبق إلى ذهنها أن سلافة تحبها، بدليل سعيها لها فى هذه النعمة بما لها من النفوذ فى تلك الدار، فتصورت أنها إذا شكت إليها حقيقة حالها فربما ساعدتها على التخلص من بغداد والرجوع إلى مصر، فترددت فى الجواب، وبان التردد فى عينيها، ولحظت سلافة ذلك فيها فقالت لها: «ما بالك لا تتكلمين يا حبيبتى؟ قولى.. يظهر أنك تستحين منى أو لا تثقين بى».
فخجلت شوكار من هذا التوبيخ وقالت: «كلا يا سدتى، أنى أقدر تنازلك حق قدره، ولولا حبك لى لم تسعى لى فى هذه السعادة، ولكن..». وسكتت.
فقالت سلافة: «ولكن ماذا يا شوكار؟ ألم أقل لك أنك لا تثقين بى؟» قالت: «العفو يا سيدتى، لكننى استحى أن أقول ما فى خاطرى لئلا تضحكى منى..».
قالت: «أضحك منك؟ لماذا؟. فأطرقت وقد نوردت وجنتاها وجعلت تتشاغل بطرف جديلتها تلفها على سبابتها، ثم قالت: «أن الإقامة فى هذه القصور تشتهيها كثيرات، وربما حسدن عليها، لكننى أفضل الرجوع إلى مصر».
فأظهرت سلافة الاستغراب وقالت: «ترجعين إلى مصر؟ وما الذى خلفته هناك، ألا أن تكونى مخطوبة لأحد؟ حتى هذا فإنك تجدين بدلاً منه فى بغداد، وإذا سمع الخليفة غناءك ومهارتك فى ضرب العود فربما أصبت نصيباً لا يتيسر لك مثله فى مصر».
فقالت شوكار بكل بساطة وإخلاص: «ليست السعادة فى قربى من الخلفاء ولا بالتزوج من أمير أو شريف، وإنما هى فى الحب المتبادل». قالت ذلك وتورد وجهها حياء، فحولته إلى ستارة معلقة بالحائط عليها صور بعض الطيور وتشاغلت بالنظر إليها.
فابتدرتها سلافة قائلة: «إذا كنت عالقة القلب ببعض الشبان فى مصر فإحذرى ولا تنخدعى. قد يكون ذلك الشباب حينما علم بسفرك تزوج غيرك. وهبى أنه تزوجك فليس أسهل على الرجال من الطلاق. لا تثقى بأحد منهم، أقول لك هذا عن اختبار».
فابتسمت شوكار ابتسام النصر لثقتها بحبيبها وقالت: «أن الشاب الذى أحبه على خلاف ما تقولين، وأنا واثقة من ثباته على حبى. وقد يأتى إلى هذا البلد لإنقاذى».
فضحكت سلافة باستخفاف لتحمل شوكار على التصريح بما فى قلبها، وهزت رأسها هز الإنكار وسكتت، فقالت شوكار، «أؤكد لك يا سيدتى أن خطيبى هو كما أقول لك، ولو عرفته لوافقتنى على رأيى».
فأحبت سلافة أن تتبع الحديث إلى أخره فقالت: «ما اسمه؟». وأخذ قلبها يخفق لعلمها بالجواب قبل سماعه.
فقالت شوكار: «هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، ولا شك أنك تعرفينه، فهل ألام على حبه؟» قالت ذلك وأبرقت عيناها وأكبت على يد سلافة تقبلها وهى تقول متضرعة: «بالله يا سيدتى ساعدينى، فليس فى الدنيا أحد يقدر أن يحقق لى هذه الأمنية سواك.. أنت جئت بى إلى هذه المدينة، وأنت وحدك تقدرين على إرجاعى إلى مصر». وشرقت بدموعها.
وكانت سلافة حالماً سمعت اسم ركن الدين قد هاجت عواطفها وزادت نقمتها ويئست من النجاح فى هذا السبيل، فتظهرت بالحنان عليها وتلطفت إليها وقالت: «نعم أعرف الأمير ركن الدين، وهو من خيرة الأمراء، وإذا كانت على ثقة من حبه فأنى أبذل جهدى فى مساعدتك لأنى أحببتك كثيراً ولا غرض لى إلا راحتك وسعادتك».
فلما سمعت شوكار كلامها اعتقدت صدقه، فاختلج قلبها فى صدرها من الفرح وقالت وهى تضحك: «صحيح؟! صحيح ما تقولين؟! ترجعيننى إلى مصر؟! شكراً يا سيدتى، أسرعى فى إنقاذى؟. وهمت بتقبيل يدها فمنعتها وضمتها إلى صدرها تحبباً. ولو علمت شوكار بما يكنه ذلك الصدر نحوها لأجفلت وتراجعت، لكنها صدقت واعتقدت قرب الفرج.
أما سلافة فقالت: «يصعب إنقاذك سريعاً.. وأنت لم يمض عليك يوم بقصر أمير المؤمنين الذى أمر بإصلاح شأنك ليسمع صوتك فى هذه الليلة.. كونى مطمئنة، أنى لا أدخر وسعاً فى إجابة طلبك، ولابد من حيلة أدبرها لك».
فأحست شوكار بارتياح كثير، وعولت فى نجاتها على سلافة، وشكرت الله لالتقائهما.
•••
والتفتت سلافة إليها بلهفة كأنها استدركت شئاً فاتها، أو أنها وفقت إلى رأى جديد وقالت: «اسمعى يا عزيزتى إذا لم يكن بد من الرجوع إلى مصر فالأوفق أن نبدأ بالسعى من هذه الساعة. أما بعد أن يسمع أمير المؤمنين صوتك فسيصبح الخروج صعباً».
فتأكد لدى شوكار صدق رغبتها فى إنقاذها فقالت: «وما هو الرأى يا سيدتى؟ أنى رهينة إشارتك أفعل ما تأمرين به».
قالت: «أرى أن تبدئى من الآن فتشكى من صداع فى رأسك وألم فى حلقك، وأنا أرفع خبر ذلك أن القهرمانة وأقنعها بصحته، ثم احتال فى نقلك إلى قصر أخر أهداه إلى الخليفة لأقيم فيه على مقربنة من قصر التاج، ومتى صرت هناك هان إنقاذك».
فخدعت شوكار بهذا القول، واستبشرت به، ورأت فيه سبيلاً لعودتها إلى حبيبها ركن الدين، فانحنت على قدمتى سلافة تحاول أن تقبلهما وقالت: «شكراً لك يا مولاتى.. شكراً لك.. أنى أشعر بالصداع من الآن..» فتناولت سلافة منديلاً عصبت به رأسها، وصفقت فجاءتها أقحوانة وهى تقول: «أن مولاتنا القهرمانة استبطأت شوكار فبعثت فى طلبها لأن أمير المؤمنين آت بعد قليل».
فقالت: «أنظرى، أنها مريضة تشكو صداعاً شديداً وألماً فى حلقها وقد تعبت فى معالجتها، فالأحسن أن تعتذر القهرمانة إلى أمير المؤمنين من غيابها ريثما تشفى». فذهبت أقحوانة إلى القهرمانة بالخبر، فأسرعت هذه لمشاهدة شوكار وهى تقول بصوت جهورى خشن: «كيف ذلك؟.. مولاى الخليفة يأتى بعد قليل.. وقد قضى زمناً طويلاً فى انتظار هذه المغنية.. فكيف تمرض فى ساعة وصولها؟».
ولما وصلت إلى غرفة سلافة رأت شوكار مستلقية على الأرض وهى تصيح من شدة الألم وقد تغير لونها، فلم يسعها عند رؤيتها إلا الإشفاق عليها، ونظرت إلى سلافة فرأتها شديدة الاهتمام بها والحنو عليها فقالت لها: «أحب أن أنقل هذه المسكينة إلى دار المرضى ليعودها الطبيب ثم..»
فقطعت سلافة كلامها قائلة: «لا، لأن تنقليها إلى مكان، دعينى أهتم بأمرها. دعى ذلك لى..». قالت ذلك وهى تهتم بتغطية شوكار وتلمس جبينها وخديها ثم قالت: «دعى أمرها لى، وإذا اقتضت الحال نقلها نقلتها إلى قصرى، لأن موقعه يساعد على سرعة شفائها».
فعادت القهرمانة وهى تهيئ الأعذار للخليفة لتخلف مغنيته بعد أن منى نفسه بها على أثر انتظاره الطويل للحصول عليها، وقبل وصولها إلى غرفتها جاءها رسول الخليفة يدعوها إليه، فذهبت مهرولة إلى غرفته فوجدته يعد نفسه للذهاب إلى المنظرة، وقد أخذ يلبس ثياب المنادمة. فلما وقع بصره عليها صاح بها: «أين المغنية الجديدة؟ لقد ظفرنا بها بعد طول الانتظار، والحمد لله. هل جربت صوتها؟. هل اسمعتك إياه؟ يقولون أنها أرخم النساء صوتاً وأتقنهن صنعة، قد آن لى أن استريح من مهام الدولة ومتاعبها، سامح الله أبا بكر أنه سبب هذه المتاعب كلها». واسترسل المستعصم فى الكلام وهو واقف والخادم يساعده على لبس الغلالة ولف العمامة الصغيرة، والقهرمانة واقفة تنتظر سكوته لتجيبه على أسئلته. فلما سكت قالت: «أن جاريتك شوكار مريضة الآن».
فصاح فيها: «مريضة! لقد رأيتها اليوم فى عافية. متى مرضت؟»
قالت: «كانت فى خير، لكنها أصيبت منذ ساعة بصداع شديد كاد يقتلها، وقد اهتمت جاريتك سلافة بأمرها».
فقطب المستعصم حاجبيه، وكان الخادم الواقف بين يديه يناوله منطقة من الحرير ليتمنطق بها، فتناولها ورمى بها إلى الأرض، وألقى نفسه على المقعد كأنه يستريح من تعب، وتنهد وقال: «يا لله من سخرية القدر؟ لقد تشاءمت من هذه الجارية، فإنها منذ خروجها من مصر وأمورها معرقلة، ولما ظفرنا بها مرضت، وأخاف أن تكون شؤماً علينا فيما نحن فيه». وأطرق لحظة ثم قال: «يا ليتها ظلت عند أبى بكر ولم نغضبه لأجلها، وهل تظنين مرضها يطول؟». قالت: «أنها تشكو صداعاً وألماً فى حلقها، والأمل أن تشفى فى يومين أو بضعة أيام. وإذا لم تشف فغيرها خير منها.. أن الجوارى المغنيات كثيرات فى خدمة أمير المؤمنين. هل يأمر بتهيئة سواها؟».
قال: «هيئى من شئت منهن.. أنى فى حاجة إلى الراحة بعد تعب هذا النهار. هل علمت ماذا جرى لنا اليوم مع أبى بكر؟».
قالت: «أنه غضب لذهاب شوكار من يده، وقد اخطأ لأنه لأخذها وهو يعلم أنها محمولة لمولانا أمير المؤمنين. لكنه فعل ذلك بدالة الابن على أبيه..». وقد استرضته بهذه العبارة. وهو إنما سألها هذا السؤال ليسمع منا هذا الجواب، لأن قلبه ما زال مشغولاً من جهة ابنه، يتنازعه فى شأنه عاملان: أحدهما النقمة عليه لأنه تجاوز حدوده وتعدى على حقوق أبيه، والثانى عطفه عليه ورغبته فى إرضائه، والعامل الأخير أشد ظهوراً وأكثر تسلطاً على قلبه. وهو يعلم أن تلك القهرمانة تحب أبا بكر، أو هى تعرف حبه إياه فلا تجيب إلا بما يخفف من غضبه عليه، فسألها ذلك السؤال ولم يكن عنده ريب فى إطلاعها على ما جرى فى جلسة ذلك اليوم وإن كانت فى دار النساء. فأنها كانت كثيرة التدخل فى شئون الدولة والإطلاع على ما يجرى منها، لأن المستعصم كثيراً ما كان يذكر ذلك بين يديها على سبيل التفاخر، فأصبحت كثيرة النفوذ عنده شأن الدولة فى عهد انحطاطها.
فلما سمع الخليفة قولها عن أبى بكر سرى عنه وقال: «صدقت أنه فعل ذلك بحسن نية، وقد جرأه عليه الداودار.. وكان ينبغى لهذا أن يردعه ويقف فى وجهه».
ولم تكن القهرمانة تحب الداودار لأنه جندى خشن لا يحترمها، فلما سمعت الخليفة ينتقده وافقته وقالت: «طبعاً كان يجب على الداودار أن يردعه. لكنه يفعل ذلك بدالته على أمير المؤمنين لأنه قائد جنده.. وتلك دالة كاذبة، إذ يستطيع أمير المؤمنين أن يبدل بداوداره أحسن منه.. لكنه لا يبدل بابنه سواءه..». قالت ذلك وضحكت إعجاباً بهذا التعبير، وأظهرت أنها تهتم بالخروج لتهيئة جلسة الغناء، فأجابها بضحكة من نوع ضحكتها وقد فهم قصدها، وهى تعنى أن يعزل الداودار وقال لها: «ابعثى إلى أبى بكر ليحضر هذا المجلس معنا. عسانا أن نعوضه ونرضيه إشارة الطاعة وانصرفت».
•••
تركنا مؤيد الدين فى داره وقد بعث رسوله إلى هولاكو بعد أن يئس من الإصلاح، على أنه ظل برهة بعد إرسال الغلام وهو غارق فى التفكير، تتناوبه الخواطر المتضاربة بين ندم وارتياح، لكن الارتياح كان غالباً عليه لأنه لم يقدم على مخابرة هولاكو إلا بعد تردد طويل. قضى ذلك اليوم ولم يخرج من منزله، ومضت أيام أخر وهو لا يريد أن يرى أحداً ولا أن يخاطب أحداً لعظم قلقه وفظاعة ما أقدم عليه، وإزداد قلقه لأن الخليفة لم يسأل عنه، ولم يدعه إليه، فعد ذلك تغيراً عليه، ففضل البقاء فى منزله كالمحاصر ريثما يرى ما يحدث.
وأصبح ذات يوم فإذا بطارق يطرق الباب، فعرف من طرقه أنه سحبان، وكان قد طال غيابه هذه المرة حتى قلق عليه، فلما رآه مقبلاً رحب به وأشار إليه أن يقعد، ورأى فى وجهه تغيراً فقال: «ما وراءك يا سحبان؟ أراك متغيراً».
قال: «وأنا أراك متغيراً أيها الوزير.. ولا عجب إذا رأيت فىّ تغيراً، فأنا إذا بقينا على رأيك، فنحن متغيرون جميعاً. بل نحن منتقلون إلى الدار الآخرة عما قريب». قال ذلك وتشاغل بعض شفته السفلى كأنه يفكر.
فأدرك مؤيد الدين أن سحبان ينتقد صبره على المستعصم ومحافظته على ولائه إلى هذا الحد فضحك وقال: «أن الانتقال إلى الآخرة خير لنا من هذه الدنيا». قال: «نعم، ولكننا لا ينبغى أن ننتقل قبل أن ننتقم». قال: «لك على ذلك».
ولم يكن سحبان يتوقع سرعة الموافقة، فاستغرب جوابه وقال: «ومتى؟» قال: «منذ بضعة أيام».
فدهش سحبان ونهض فجأة متأثراً وقال: «ماذا تعنى؟ أظنك لم تفهم مرادى». قال: «كيف لا؟ ألم تقصد التخلص من أولئك القوم، ولو استنجدنا عليهم الغرباء؟». قال: «بلى!». قال: «قد فعلت.. فاصبر لنرى النتيجة».
فتلفت سحبان حوله خوفاً من أن يسمعه أحد وقال: «استنجدت هولاكو». كتبت إليه أن يأتى؟». قال: «لقد فعلت ذلك.. وكنت انتظر مجيئك قبل الآن لأخبرك وأرى رأيك..».
فقطع سحبان عليه كلامه وصاح: «وهل لى رأى غير ذلك؟! هذه هى أمنيتى، إذا حصلت عليها لا أبالى إن أنا مت الساعة.. وقد جئتك الآن بأمر جديد معهم لكنه لا يقف فى سبيلنا». قال: «وما هو؟». قال: «الأمير أحمد الذى سميناه الإمام.. أنت تعلم أننى بعد أن أتيت به إلى هنا أرجعته إلى حيث كان فى قصر الفردوس. وكأن القوم أدركوا قصدنا، أو لعلهم علموا بخروجه وارتابوا فى حرس قصره، فنقلوه إلى قصر أخر». قال: «نقلوه إلى قصر باب كلواذى فى الجنوب، وأقاموا عليه الحراس وشددوا التضييق عليه..» قال: «هو الآن فى كلواذى؟ ولماذا فعلوا به ذلك؟».
قال: «فليفعلوا ما يشاءون، أنه خليفتنا حيثما كان، وهل يصعب علينا إخراجه من سجنه متى تم لنا ما نطلبه؟! إذا دخل التتر بغداد وقبضوا على هذا الخليفة فستكون أنت معهم فترشدهم إلى الإمام أحمد فيولونه الخلافة.. آه ما أجمل ذلك اليوم السعيد! وأسعد منه أن نعيد دولتنا العلوية.. هذه هى أمنيتى الحقيقية».
فنظر مؤيد الدين إليه وهو يغبط فيه ذلك الأمل الواسع والوثوق بالنجاح لأضعف الأسباب.. أن صاحب هذا الخلق قد يخطئ ويفشل، لكنه أقرب إلى السعادة من الرجل الحذر الكثير الشكوك الذى يرى السعادة فى قبضته ويشك فى وجودها. ولذلك استغرب مؤيد الدين سرور سحبان واطمئنانه لا لشئ إلا أن سمع منه أنه وافق هولاكو على القدوم إلى بغداد، وفاته ما يعترض نجاح من العقبات، وأنه قد عرض نفسه فى هذا لخطر جسيم. ثم رفع نظره إلى سحبان وقال: «وفقنا الله فى سعينا على القوم الظالمين».
الفصل الحادي عشر
ركـن الديـن فى بغداد
وبينما هما فى ذلك إذا سمعا قرع الباب. وكان الباب بعيداً عن غرفة الوزير، ولم يكن يهتم لسماع قرعة من قبل. أما الآن فإنه لشدة قلقه أصبح لا تفوته حركة مما يحدث فى البيت، فتطلع نحو الباب، وإذا بغلام سحبان قد دخل وفى وجهه تغير، فقال له سحبان: «من أين أتيت يا غلام؟»
قال: «أتيت من المنزل يا سيدى، قال: «ولماذا؟». قال: «لأن قادماً غريباً جاء يطلبك وألح على أن أوصله إليك حالاً، فجئت به لعلمى أنك فى دار الوزير». قال: «من هو هذا القادم؟ وأين هو؟». قال: «لم يشأ أن يخبرنى عن اسمه، لكنه جاء معى وهو واقف فى انتظار الإذن له».
فالتفت سحبان إلى الوزير كأنه يستأذنه فى إدخال ذلك الضيف، فقال الوزير: «أدخله».
فعاد الغلام ومعه رجل حسن البزة عليه لباس السفر، وحالماً وقع نظر سحبان عليه صاح: «الأمير ركن الدين؟! الأمير ركن الدين؟!» ونهض لملاقاته والترحيب به».
ونهض مؤيد الدين وهو يقول: «مرحباً بالأمير ركن الدين». فمشى ركن الدين حتى دنا من الوزير فحياه وحيى سحبان، وجلس على كرسى قدموه له، وأخذ الوزير يرحب به قائلاً: «طالما سمعنا بالأمير ركن الدين بيبرس وأعماله فى مصر، وكنت فى شوق إلى رؤيته فمن الله على بذلك».
فقال ركن الدين: «ليس فى ركن الدين ما يدعو إلى الإعجاب لأنى لم أعمل عملاً، ولكن الإعجاب يجدر بالوزير مؤيد الدين بن العلقمى القابض على أزمة الدولة العباسية يدير شؤونها».
وتصدى سحبان للكلام قائلاً: «أن الأمير ركن الدين بطل عظيم». ووجه كلامه إلى الوزير وقال: «ألم أقل ذلك عن بسالة هذا البطل وما بشأنها عند سفره من مصر، فقال له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة أتاه من المدهشات فى محاربة الأفرنج وتخليص مصر من أيديهم؟ فعساه أن يساعدنا فى تخليص بغداد من غير الأفرنج..». وضحك.
فلم يعجب مؤيد الدين تسرعه لكنه تغافل، وتغافل أيضاً ركن الدين لأنه مثل مؤيد الدين تكتماً وحذراً، فخجل سحبان من نفسه وأراد أن يغطى خجله فأثار موضوعاً جديداً فقال لركن الدين: «متى وصلت إلى بغداد أيها الأمير؟ وكيف عرفت دارى؟».
قال: «وصلت فى هذا الصباح، وأما منزلك فقد عرفت منك فى مصر أنه بالكاظمية. وأنا أعرف بغداد، فصرفت من كان معى وأحببت أن أدخل البلد متنكراً، فوصلت إلى الكاظمية وسألت عنك فقيل لى أنك عند مولانا الوزير فجئت لأراك وأراه لأنى أعرفه بالسماع، فطلبت إلى خادمك أن يأخذنى إليك وقد فعل».
فقال الوزير: «لقد جئت أهلاً ووطئت سهلاً».
وتذكر سحبان تعلق ركن الدين بشوكار وقلقه عليها وحديثه معه بشأنها عند سفره من مصر، فقال له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة التى أنفذتنى إليها من مصر؟ أن لمولانا الوزير إطلاعاً على شئ منها، وهو محب لك غيور على شؤونك».
فقال ركن الدين: «أظنك تعنى شوكار. نعم تكلم وقد كنت أتوقع أن تكتب إلى بشأنها قبل الآن».
فخجل سحبان لكنه بادر إلى الاعتذار قائلاً: «كان ينبغى أن أفعل ذلك، ولم اتأخر عن إهمال، لكننى حال وصولى إلى بغداد لقيت شوكار فى المكان الذى كانت مخبوءة فيه، وأخبرتنى أنها كتبت إليك، وقد عملت على إنقاذها فلم أوفق إلى ذلك حتى الآن، وما الفائدة من الكتابة بلا عمل؟ والوزير يعلم بما وقف فى طريقنا من العراقيل».
فقال: «والخلاصة أين هى الآن؟». قال: «هى فى قصر الخليفة منذ أيام». قال: «وأين كانت قبل ذلك؟ ومن خطفها؟». قال: «كانت عند أبى بكر بن المستعصم، وأبوه لا يعلم أنها عنده وأخذ يبحث عنها. ثم تمكنا من اختطافها من بيت أبى بكر وأخفيناها فى منزلنا، وهممت أن أفر بها إليك فعلم بها ذلك الغلام وأخذها منا بقوة الجند. ثم علم أبوه أنها عنده فأخذها إليه، ولذلك حديث طويل يهمك منه أن شوكار لا تزال كما عرفتها فى مصر تبذل نفسها فى سبيل رضاك، ولا تفضل مكاناً فى الدنيا على قربك. ولاشك أنها فى بيت الخليفة رغم إرادتها. ولابد من أخذها.. تمهل.. أننا فى مشكلة شائكة ستقلب بغداد رأساً على عقب. وسيصل دويها إلى مصر والأندلس وكل أنحاء العالم، وسيكون لها شأن عظيم، وإنما يستفيد منها العاقل الحازم».
فخاف الوزير بعد هذه المقدمة أن يبوح سحبان بما حدث من المساعى وهو يحب كتمانه، فتصدى لمخاطبة ركن الدين قائلاً: «لا تعجب أيها الأمير من اضطراب حالنا فخليفتنا مشغول باستجلاب المغنيات من أقاصى المملكة، عن الاهتمام بأمور الدولة والعدو على الأبواب لا يلبث أن يأتينا، وجندنا فى اختلال و..».
فقطع ركن الدين كلامه قائلاً: «سمعت وأنا قرب بغداد أن هولاكو التترى زاحف بجند كثيف على هذا البلد وأنه الآن على مقربة منها. ألم تسعدوا له؟».
فهز الوزير رأسه وقال: «كيف لا؟ بلغنا منذ أيام أن حملة من جند هولاكو وصلت إلى تكريت بقيادة باجو وعبرت دجلة إلى البر الغربى ونزلت تتطلب بغداد، وقد اختلفت آراؤنا فى طرق الدفاع، ولم يستقر الرأى إلا بعد أن وصل جند التتر إلى دجيل وعددهم نحو ????? فارس، فأمر الخليفة بإرسال عسكره لدفعهم بقيادة مجاهد الدين أيبك الداودار، ولكن عسكرنا قليل العدد والعدة، ولا ندرى ما تكون النتجية. على أنى أخاف سوف العقبى لأننا غير متفقين فى رأى، وخليفتنا ضعيف مستسلم لابنه وقائد جنده، وكلاهما على غير خبره، ونخاف أن يكون الله قد أراد انقضاء هذه الدولة و…».
فتصدى سحبان قائلاً: «لا تخف، بل توسل إلى الله أن تنقضى هذه المحنة، وهذا الأمير ركن الدين لا يخفى عليه شئ من أمرنا، وقد حادثته وأنا فى مصر عن استرجاع خلافة الفاطميين».
فاستاء مؤيد الدين من اندفاع سحبان فى إبداء آرائه وقال: «لا أظن الأمير وافقك على ذلك.. ونحن يكفينا الآن أن نبدل خليفة بآخر كما سبق الكلام».
فاستحسن ركن الدين اعتدال ابن العلقمى فى رأيه فقال: «هذا هو القول المعقول، وهو هين ميسور لمن بيذل المال بدون حرب. وأنا أضمن لكم ذلك متى رجعت إلى مصر وتم الاتفاق بيننا على رأى نرضاه». وهو يضمر أن يجعل أمر إبدال الخليفة مرتبطاً بصيرورة سلطنة مصر إليه. أى أنه يشترط على الخليفة الجديد قبل توليته أن يساعده فى التسلط على مصر.
وأدرك مؤيد الدين غرضه فاستحسنه وندم على رسالته إلى هولاكو وتعريض الخلافة للتتر، لكنه ما زال أن هولاكو لا يزيد على أن يخلع الخليفة المستعصم ويطلب سواه وهم يدلونه على الإمام أحمد فقال: «سننظر فى ذلك ونرجو أن يعود بالخير».
فعاد ركن الدين إلى الحديث عن شوكار وخبرها ووجه خطابه إلى سحبان وقال: «والآن ماذا تفعل شوكار؟ قل لى.. فقد تركت بلدى وقومى وهم فى حاجة إلى وجئت إلى هذه الديار من أجلها، فهل أعود دون أن آخذها معى؟ هذا لا يمكن».
فقال سحبان: «لابد من أخذها، وقد قلت لك أن ذلك ميسور لما نرجو حدوثه من الانقلاب، ومع ذلك فإن الخصى عابداً الذى حمل إليك رسالة شوكار وحملته جوابك إليها مقيم عندى منذ أخذوا شوكار منا، وقد أوصيته أن يتتبع أخبارها. وكان قد جاءنى منذ يومين بخبر لم أصدقه لبعده». فقال ركن الدين بلهفة: «وما هو؟» قال: «أنبأنى أن شوكار خرجت من قصر التاج، على أنها لو خرجت لجاءت إلينا، وقد أوصيته بالأمس أن يبذل جهده ويدقق البحث ويعود بالخبر الصحيح».
فقال: «أين هو الآن؟». قال: «أظنه عاد إلى منزلنا فى الكاظمية أو يعود الليلة، هل تريد الذهاب الآن للبحث عنه؟». قال: «نعم، هلم بنا ومتى فرغنا من أمر شوكار عدنا إلى أمر الخلافة، أو لعل الأمرين يتمان معاً». قال ذلك ووقف واستأذن فى الانصراف، ثم ودع الوزير وخرج معه سحبان.
•••
كان ركن الدين قد عرف بغداد فى صباه، فلما جاءها هذه المرة وجد فيها تغيراً كثيراً. ومشى هو وسحبان فى طريقهما إلى الكاظمية، وهى على مسافة بعيدة من قصر الوزير، فعبرا الجسر حتى صارا فى الجانب الغربى من بغداد، حيث كانت البلدة التى بناها المنصور منذ خمسمائة سنة ونيف ولم يبق منها إلا آثار قد عفتها الأيام وأقيم فى مكانها الأسواق. وبينما هما سائران وركن الدين يتأمل فيها يمران به من الأبنية، رأيا جماعة من العامة يركضون نحو الجسر وهم فى خوف شديد، وعرف سحبان رجلاً منهم فناداه إليه، فجاءه وقد غطى الوحل قدميه إلى ركبتيه، فسأله سحبان عن سبب هذا الركض فقال: «التتر يا سيدى، التتر!».
فقال: «ماذا تعنى؟ أين هم؟». قال وهو يرتعد: «هم هنا.. هنا فى بغداد».
فصاح فيه: «فى بغداد؟ وأين جندنا؟.. ذهبوا لمحاربتهم عند دجيل؟! أين الداودار؟ ما بالكم؟ تكلم».
قال: «أن هؤلاء التتر من الجان لا يقدر أحد أن يقف فى طريقهم. كنت قرب دجيل يوم وصولهم إليه، وما ذاع أن التتر قد أقبلوا حتى ذعر الناس وهربوا قاصدين المدينة بأولادهم ونسائهم فى حالة يرثى لها، حتى كان الرجل يقذف بنفسه فى الماء خوفاً منهم، وقد رأيت ملاحاً لم يرض أن يعبر برجل فى سفينته من جانب إلى جانب إلا إذا أعطاه عدة دنانير، ورأيت امرأة دفعت للملاح سوارها ليعبر بها إلى الضفة الأخرى، ثم قالوا لنا أن جند الخليفة جاء لمحاربة أولئك العفاريت فسكن روعنا، لكننا ما لبثنا أن رأينا جندنا يتقهقر مدحوراً أمام التتر، والتتر يطارودنهم ويمعنون فيهم قتلا وأسرا. وأعانهم على ذلك ما حفروه فى الليل من خندق وصلوه بالنهر فكثرت الوحول فى طريق المنهزمين، ولم ينج إلا من رمى نفسه فى الماء وأنا منهم..». قال ذلك وأشار إلى الوحل على قدميه وهو يلهث.
وكان ركن الدين يسمع ذلك وشرر الغضب يتطاير من عينيه فقال سحبان للرجل: «والداودار، أين هو؟».
قال: «رجع مع بقية الجند مدحورين مكسورين، ولذلك انكسرت قلوبنا. نعوذ بالله من التتر! يا لطيف!»
فقال: «وكيف رأيت هؤلاء القوم؟».
قال: «رأيتهم من الأبالسة يا سيدى.. لا يمكن لجندنا أن يقف أمامهم، وإذا وقفوا أكلوهم أكلاً.. أعوذ بالله! لم أر مثل هؤلاء الناس. لا. لا لم أر مثلهم عمرى. أذهب يا سيدى من الطريق. لأنى أظنهم الآن على مقربة من بغداد، أو لعلهم دخلوها. وبلغنى أن فريقاً منهم نزل عند المارستان العضدى، وفريقاً أخر وصل إلى المبقلة تجاه الرصافة، ولم يبق بينهم وبين قصور الخلفاء إلا دجلة. سر يا سيدى. لا تعرض نفسك للسهام المتساقطة فسهامهم تتساقط كالمطر.. لا. لا. لم أر مثل هؤلاء الناس قط». قال ذلك وجرى مسرعاً.
فالتفت سحبان إلى ركن الدين فرآه يهتز من الغضب، وقد أحمرت عيناه وقطب حاجبيه، وود لو أن فرسه تحته ليهجم على التتر فقال له سحبان: «ما بال سيدى الأمير؟». قال: «ويلك يا سحبان! أهكذا يكون رجال الخلفاء؟ يهربون من وجوه التتر المتوحشين حتى يدخلوا دارهم؟ كم أتمنى أن يكون فرسى تحتى أو يكون رجالى معى لأريهم كيف يكون القتال!»
فضحك سحبان وأمسك بذراع ركن الدين وتحول به إلى زقاق ضيق ومشى وهو يقول: «أن إظهار البسالة لا يفيد، لأنها ضائعة لا مولاى. أن القوم ماتت نفوسهم وذهبت دولتهم، وكفى ما ارتكبوه من المظالم، ولو أراد الله نصرهم لأنار بصائرهم وهداهم الطريق الصواب، لكنهم يتخبطون فى أعمالهم تخبط الأعمى، ولا يعلمون، دعهم أن الله أقدر منا على نصرتهم إذا شاء».
وبينما هما فى ذلك إذ رأيا سهماً وقع أمامهما ذا شكل خاص لم يعهد سحبان مثله فيما يعرفه من السهام، فالتقطه وتأمله فرأى عليه كتابة عربية فقرأها، فإذا هى: «إن الرؤساء العلويين (الشيعة)، وكل من لا يقاتلنا، آمنون على أنفسهم وحرمهم وأموالهم».
فدفع السهم إلى ركن الدين فلما قرأه قال: «يلوح لى أن العلويين ينصرون التتر».
قال: «أن العلويين مظلومين يا سيدى. أما كفاهم ما قاسوه من الضيم والعذاب أجيالاً؟. فإذا كانت الغلبة للتتر وأنصفوهم فلا حرج عليهم ولا علينا». وهز كتفيه هز التنصل من التبعة.
فتحقق ركن الدين أن حماسته للعباسيين لا تجدى نفعاً، ولم يبق له من هم إلا أن يعثر على شوكار ويخرج بها من بغداد ويرجع إلى إمارته ويسعى فى نيل السلطنة بمصر. ولابد له قبل كل شئ من لقاء عابد الخصى ليسمع منه خبر شوكار.
وجعل سحبان طريقهما فى أزقة مهملة لا يتزاحم فيها الناس، لئلا يصدمهم الهاربون، حتى أقبل على المارستان العضدى، فرأيا ضفاف دجلة وما يليها تعج عجيجاً بالتتر وخيولهم وخيامهم وأعلامهم وأسراهم. فوقف سحبان على مرتفع وأومأ إلى ركن الدين أن يأمل أولئك القوم ويميز بينهم وبين البغداديين وقال له: «أرأيت التترى وقوة بدنه وخشونة يديه، وكيف هو مشمر عن ساقيه، وعيناه تكادان تطيران من وجهه.. أن بين هؤلاء الناس من قضى أياماً وهو سارع على قدميه لا ينام إلا لماماً ولا يأكل إلا القومز (لبن الخيل) كما كان البدوى فى صدر الإسلام يكتفى بناقته يسافر عليها ويقتان بلبنها ويتفيأ ظلها ويستأنس بها. هكذا هؤلاء التتر مع أفراسهم. وقد يعدو التترى فيسبق فرسه. فأين ذلك من جند بغداد وقد ألفوا الراحة والرخاء، كما كان الروم فى صدر الإسلام.. هل نستطيع يا سيدى أن نقاوم القضاء؟. لكل أجل كتاب، والله يفعل ما يشاء، هلهم بنا إلى الكاظمية لنرى عابداً ونسمع خبر شوكار».
فلم يحر ركن الدين جواباً من الدهشة التى تولته مع ميله إلى معرفة خبر شوكار، فتجاوز المارستان العضدى والحربية إلى الكاظمية، فاختلفت منظر الأهلين فى عين ركن الدين عما رآه فى سائر الأحياء. رأى أهل الكاظمية هنا مستبشرين مطمئنين، كأن فوز التتر فوز لهم، أو كان التتر دولة شيعية جاءت لنصرتهم. وهكذا الإنسان يحب من يأخذ بناصره مهما بعدت الروابط، ويكره من يسلبه حقه ولو كان أخاه. مرا فى أزقة الكاظمية وأهلها فرحون. وحالما رأوا سحبان تقدموا للسلام عليه وتهنئته، فرد السلام وقد استحيى من التظاهر بالفرح إلى هذا الحد بين يدى ركن الدين.
وبعد قليل وصلا إلى بيت سحبان فدخلا وقعدا، وسأل سحبان عن عابد فجاءه، وحالما رأى ركن الدين تناثر الدمع من عينيه وأكب على يده يقبلها، فاستغرب ذلك منه وقال: «ما وراءك يا عابد؟ أين شوكار؟ ماذا جرى لها؟». فتماسك الخصى وقال: «بذلت جهدى يا مولاى فى سبيل سيدتى شوكار كما وعدتك ولم أفارقها لحظة إلا هذه المرة، فإن الجند أخذوها رغم أنفى. لكنى أتعقب أخبارها كأنى معها».
قال: «وأين هى الآن؟». قال: «أخر ما عرفته عنها أنها فى قصر التاج». فقال ركن الدين: «هذا عرفته من أخى سحبان، وقد أخبرنى أنك ذهبت للبحث عنها أمس، فماذا عرفت؟». فأطرق عابد وقد ارتج عليه، فصاح ركن الدين فيه: «قل. قل يا عابد ماذا جرى؟». قال: «تنكرت أمس فى زى الخدم حتى دخلت قصر التاج فى جملتهم واجتمعت بكثير من أصدقائى الخصيان، واستطلعتهم خبرها فاختلفوا فى الرواية، وفهمت من مجمل أحاديثهم أن شوكار يوم وصولها إلى قصر التاج أصابها صداع شديد، ولم تقدر أن تغنى للخليفة، فباتت تلك الليلة عند صديقة لها من مصر اسمها سلافة». فلما سمع ركن الدين اسمها ارتعدت فراصه وصاح: «سلافة؟ سلافة هنا؟ أين سلافة؟» قال: «نعم يا سيدى، يقولون أنها كانت قيمِّة قصور الملك الصالح بمصر، ولها نفوذ عظيم فى قصر التاج لصلتها بقهرمانة القصور وأستاذ الدار، حتى الخليفة نفسه يحترمها».
فأطرق ركن الدين، وتذكر سعى هذه الجارية فى أبعاد شوكار عنه ليخلوا لها الجو معه، وكيف كانت مقابلته الأخيرة لها؟ وكيف هددته؟ مر كل ذلك فى ذهنه فى لحظة، وقلبه يخفق خوفاً من أذى تلحقاً بشوكار، فنظر إلى عابد وقال: «قل وبعد ذلك ماذا جرى؟».
قال: «واختلفت الرواة فيما جرى بعد تلك الليلة، فقال بعضهم أن سلافة أخذت شوكار إلى قصر لها قرب باب كلواذى، وقال غيرهم أنها لم تأخذها، بل ظلت مخبأة فى قصر التاج، وقال غيرهم غير ذلك». وتغيرت سحنته كأنه يخفى شيئاً خطر له، ثم قال: «يظن بعضهم أن شوكار اختفت، لكنهم لا يعلمون أين هى ولا كيف ضاعت؟». فصاح ركن الدين: «لعل سلافة قتلتها؟».
قال: «لا. لا سمح الله. والمشهور عندهم أن سلافة أحب الناس إليها، وهى التى بذلت جهدها فى راحتها، على أنهم لا يعرفون هل هى حية أو ميتة، لكنهم يعرفون أنها كانت تشكو صداعاً وأن سلافة قد احتضنتها ثم نقلتها إلى قصرها للاستشفاء، ولا يعلمون ماذا جرى بعد ذلك، فلعلها مقيمة عندها إلى الآن إلى الآن بحيث لا يراها أحد».
فى سلطنة مصر، وهو يرجح مصيرها إليه لضعف القائمين بها هناك، وتذكر حاجته إلى مصادقة الخليفة لتثبيت سلطته، فتمثلت له أهمية بغداد — مركز الخلافة الإسلامية — وكيف ان العالم الإسلامى على بكرة أبيه فى مشارق الأرض ومغاربها لا غنى له عنها. فلا يثبت السلطان على عرشه إن لم يأته تثبيت من خليفة بغداد لما للخلافة فى نفوس العامة من الاحترام الدينى. ثم نظر فى حال هذه المدينة وخليفتها على ضوء ما علمه فى ذلك اليوم فاستغرب سلطان الأوهام على الناس. ولكن رجال السيادة لا غنى لهم عن الأوهام ليسوقوا بها العامة إلى حيث يريدون. ولما وصل فى تصوره إلى هنا أطرق وقد خطر له خاطر رقص له قلبه طرباً رغم بعده عن المألوف، ولكن المرء إذا رغب فى أمر أخذ يفكر فيه حتى يرى مستحيله ممكناً — خطر له بعد ما شاهده من اضطراب أحوال بغداد، وما يحدق بها من الخطر، أن ينقل الخلافة منها إلى مصر، فتصير تلك الأهمية إلى مصر بدلاً من بغداد وتصير القاهرة مركز العالم الإسلامى، لا يستغنى عنها أمير أو سلطان، وأن استقل عنها بادارة حكومته فهو فى حاجة إلى خليفتها فى تثبيته. ولو كان المفكر فى ذلك سحبان لرقص فرحاً وتصور نفسه قد نقل الخلافة إلى مصر وصار هو سلطاناً يخطب رضاه سائر السلاطين، لكن ركن الدين كان ضعيف الثقة فى المستقبل، إذ بدا له أمل فى أمر يرغب فيه بحث عن كل ما يمكن أن يحول دون نيله، وهو أميل إلى تصديق أسباب الفشل. فلما خطر له أمر الخلافة تصور العراقيل الكثيرة التى تحول دونه، فعاد إلى التفكير فى شوكار فهاجت أشجانه.
قضى فى هذه الأفكار برهة جاءه فى أثنائها عابد يدعوه إلى الطعام مرة وإلى الصلاة مرة أخرى، وبدل ثيابه حتى دنا الأصيل فقيل له أن سحبان عاد من عند مؤيد الدين، وبعد قليل جاء سحبان والاضطراب باد على وجهه، والغضب يتجلى فى عينيه، فناداه ركن الدين وقال له: «ما وراءك، هل رأيت الوزير؟». قال: «لم أره». قال: «ولماذا؟». قال: «لأنه ليس فى منزله، وقد برحه بعد خروجنا من عنده»، قال: «إلى أين؟» قال: «بعثه المستعصم إلى هولاكو، والظاهر أن هذا الخليفة تحقق الخطر المحدق به، وهو يعتقد دهاء وزيرنا وتعقله فأنفذه إليه ليسترضيه».
قال: «إلى هذا الحد بلغ الضعف من خليفتكم؟» فابتسم وقال: «ألم أقل لك ذلك من قبل، وإرسال وزيرنا فى هذه المهمة أحسن رأى ارتآه المستعصم، لكن أخشى أن يكون قد جاء متأخراً، وذلك لأن هولاكو كان قد اشترط نحو ذلك من قبل للكف عن العداء، وأشار به الوزير على المستعصم ولكنه لم يطعه لأنه كان يسئ الظن به ويصدق ابنه أبا بكر، وهو شاب مغرور — فالظاهر أن المستعصم لما رأى جند التتر محاصراً قصوره، وسمع دوى المجانيق ووقوع قنابلها على القصور، ورأى عجز جنده عن القتال لجأ إلى المسالمة، وقد أحسن لأن وزيرنا حفظه الله له دالة على هولاكو فيشير عليه بما فيه خير الجانبين».
فقال ركن الدين: «لم أفهم مرادك من دالة الوزير لدى التتر، وما هو الباعث عليها؟ هل كانت بينهما معرفة؟».
قال: «لا أخفى عليك يا مولاى أن بين الوزير وهولاكو مخابرة فى هذا الشأن، أعنى أن هولاكو خابره وطلب إليه أن يكون معه، ووعده خيراً كثيراً، وظل مؤيد الدين يتردد، وهو ينصح الخليفة ويخوفه، فلما يئس من إصلاحه خابر هولاكو خوفاً من أنه إذا جاء وفتح بغداد ينتقم منه ومن أهله وسائر الشيعة. أما إذا أظهر موافقته فإنه يراعى جانبه، ولم يفعل ذلك خيانة».
ففهم ركن الدين من ذلك أن مؤيد الدين خان خليفته، ولو تنصل من ذلك، وزعم أنها ليست خيانة — فقال فى نفسه لاشك أن هذا من أكبر أدلة السقوط. ولم يبد رأيه فى ذلك لكنه سأل سحبان قائلاً: «وما تظن الوزير يفعل الآن إذا اجتمع بهولاكو؟».
قال: «أظنه يتفق معه على خلع المستعصم وتنصيب الإمام أحمد أخى المستنصر، فأنه أجدر بنى العباس بمنصب الخلافة، والمستعصم يخافه، ولذلك حبسه فى قصره وأقام عليه الرقباء، فهذا الإمام قد عرفناه واجتمعنا به وخاطبناه فى أمر الخلافة فإذا صارت إليه فوعدنا خيراً. ولا شك أنه يسهل عليك سلطنة مصر ويساعدك عليها، فإنك أولى بها من سائر الأمراء».
فعلم ركن الدين أن سحبان يرغبه فى مظاهرته على المستعصم وفى تنصيب الإمام أحمد خليفة، لكنه يطمع فيما هو أكثر من ذلك: يطمع فى نقل الخلافة إلى القاهرة. غير أنه لم يسمح لنفسه أن تتمكن منه هذه الخواطر خوفاً من فشلها فاكتفى بموافقة سحبان على تنصيب الإمام أحمد بدلاً من المستعصم وقال: «وأين هو الآن؟».
قال: «كان محبوساً فى قصر الفردوس بجورا قصر التاج، ثم أحدقت الشكوك به فنقلوه إلى قصر عند باب كلواذى وأقاموا الحرس حوله، وأنا عارف مكانه، ومن أسهل الأمور على إذا تم اتفاقنا على خلع المستعصم أو قتله أن أخرج الإمام أحمد من محبسه وأنادى به خليفة مكانه، ولا أجد من يخالفنى لأن الناس ملوا ضعف السياسة، ولاسيما إذا علموا أن هذا التبديل كان بإرادة الخاقان هولاكو قائد التتر. وكيف ترى يا سيدى؟».
قال: «أراك مصيباً، ونعم الرأى رأيك، وفقك الله إلى إتمامه». لكنه حالما سمع اسم باب كلواذى تذكر ما سمعه من عابد عن سلافة وأنها أخذت شوكار إلى قصرها قرب هذا الباب، وعادت إليه هواجسه وعاد يفكر فى شوكار: أحية هى أم ميتة؟ وهل سلافة لا تزال على كرهها لها، فالتفت إلى سحبان وسأله قائلاً: «سمعتك تذكر باب كلواذى ومحبس الإمام أحمد عنده، وأمس سمعت عباداً الخصى يذكر هذا الباب وأن قصر سلافة عنده، فكيف ذلك؟»
قال: «أن كلواذى يا سيدى حى فيه باب من أبواب سور بغداد سمى باب كلواذى، وبقربه قصور كثيرة كما تقولون فى مصر باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح فقد أصبحت أسماء أحياء فيها قصور عديدة».
وقضيا بقية اليوم وكلاهما يفكر فى أمره، وأكبر هم ركن الدين الوصول إلى شوكار ومعرفة حالها وإنقاذها أو الانتقام لها، وبات هو يحلم بها.
•••
وأصبح ركن الدين فى اليوم التالى وقد مل الانتظار، لكنه توسم فى بقائه هناك خيراً ينفعه فى مطامعه السياسية، على أنه كلما فكر فى شوكار خفق قلبه ورأى أنه أساء إليها لأن ما أصابها من الأذى إنما كان بسببه. وبينما هو فى ذلك إذ جاءه عابد وفى وجهه خبر فقال له: «ما وراءك؟»
قال: «بالباب رسول من سلافة معه كتاب إليك».
فلما سمع اسمها أقشعر بدنه وقال: «ليدخل».
فدخل الغلام ودفع الكتاب إلى ركن الدين وتناوله فإذا فيه: «من سلافة إلى الأمير ركن الدين. علمت أنك فى بغداد وأنا فيها.. وعندى أمر يهمك أحب عرضه عليك، فإذا شئت تفضلت بالمجئ إلى قصرى بباب كلواذى وهذا رسولى يهديك إليه والسلام».
فلما قرأ الكتاب دفعه إلى سحبان ليرى رأيه فيه فحذره من الذهاب، فقال ركن الدين: «لابد من الذهاب لأرى هذه الداهية وأتحقق أمر شوكار، وماذا عساها أن تفعل بى. عار على أن أخافها وخنجرى معى. لكن أين موقع قصرها من هنا؟»
قال: «هو بعيد، لابد للذهاب إليه من المسير مسافة طويلة ثم عبور دجلة فوق الجسر الذى جئنا منه. إذا شئت المسير فهذا فرسى بين يديك، وهذا عابد يسير فى ركابك فضلاً عن الرسول القادم من عندها».
فوقف ركن الدين وقال: «أذهب الساعة» وتحول إلى غرفة منامه وأصلح هندامه وتسلح بخنجرين وتشدد، ثم خرج وركب الفرس، وسار عابد فى ركابه والرسول يمشى بين يديه. ولحظ فى أثناء الطريق أن أهل الكاظمية فرحون معتزون وقد اشتدت عزيمتهم وهاجت نقمتهم على جيرانهم من أهل السنة الذين كانوا يعتزون بالخليفة وحكومته. ولما خرج من الكاظمية رأى الناس فى خوف شديد يجتمعون جلوساً أو وقوفاً للمداولة فى الأحوال الجارية ويتلقفون الأخبار من أفواه المارة متناقضة متباينة.
وصل إلى الجسر فعبره إلى الرصافة، فرأى الناس هناك أقل قلقاً لقربهم من قصور الخلافة حيث لا يسمعون غير ما يدعو إلى الثقة بقوة الجند ومناعة الحصون رغم ما كان يتساقط عليها من حجارة المجانيق حينا بعد أخر، وهى حجارة صوانية كروية الشكل قطر الواحد منها نصف متر أو أكثر، يقذفه المنجنيق من معسكر التتر على أبراج السور أو على بعض القصور، وكانت الأسوار تجيب بمثلها، وهذه هى مدافع تلك الأيام.
وانتهى مسيره أخيراً إلى ضفة دجلة الشرقية، فوقف الرسول والتفت إلى ركن الدين واشار باصبعه إلى قصر على ضفة النهر تحيط به حديقة حولها سور. دخل ذلك السور راكباً، فتقدم الرسول لإعلان وصوله، وترجل ركن الدين وسلم زمام الفرس إلى عابد وأوصاه أن ينتظر وأن يكون على حذر، ومشى فى الحديقة وقلبه يخفق تطلعاً إلى ما يكون من أمر سلافة، وصورتها لا تزال فى ذهنه كما فارقها فى المرة الأخيرة.
•••
وصل ركن الدين إلى باب القصر فرأى سلافة واقفة فى انتظاره وقد لبست أجمل ما عندها من الحلى والثياب، وبذلت جهدها فيما تملك به قلبه. أما هو فقد كان مدرعاً بالتعقل وحب شوكار، فحياها فردت التحية ورحبت به ترحيباً حسناً، ودعته إلى قاعة مفروشة أحسن فرش فيها النمارق والستائر والطنافس، وأشارت إليه أن يقعد وهى تقول له وتبتسم: «من كان يظن أننا سنلتقى فى هذا البلد؟».
فقال: «أن المصادفة تأتى بأعجب العجب».
قالت: «الصدف! هل تظن أننا التقينا هنا صدفة؟».
قال: «نعم، لأنى لم يخطر لى ببال أنك تجيئين إلى هنا».
قالت: «هذا يصح عليك وأما أنا.. أنا المسكينة الشقية فيخطر لى كل شئ، وأبذل راحتى وحياتى فى سبيل لقاء ركن الدين. لم تخط خطوة فى مصر وغيرها إلا عرفت بها وحسبت لها حساباً». ثم تنهدت، فتشاءم ركن الدين من هذه المقدمة، وأراد تغيير الحديث فقال: «أشكرك يا سيدتى على حسن ظنك بى. وصل إلى كتابك فجئت، لكننى اسألك سؤالاً أرجو الجواب عنه».
قالت: «قل ما تريد».
قال: «علمت أن شوكار جاءت إليك فى هذا القصر فأين هى؟».
قال ذلك وهو يخاف أن يسمع خبر موتها أو قتلها، فتجلد وهو ينتظر الجواب، فأبطأت سلافة فى الجواب وهى تنظر إليه نظر الاستغراب ثم قالت: «مسكينة» فصاح فيها: «مسكينة؟»! أين هى؟».
قالت: «ليست هنا، لعلك تذكر أنى كنت ناقمة عليها، وقد قلت لك أنى أحببت أبعادها رغبة فى قربك، لكننى شعرت هذه المرة لما لقيتها فى قصر الخليفة، أنها لا تستحق العذاب لسلامة قلبها وطيب عنصرها..». وتنهدت وأظهرت سلامة النية وشدة الأسف.
فقال: «قولى ما بالها. أين هى؟ ماذا جرى لها؟» قالت: «قلت لك أنها ليست هنا». قال: «فهمت أنها ليست هنا فأين هى؟»
فنظرت إليه نظرة العاتب وقالت: «لله أنت! ما أكثر تسرعك! أتطمع فى الملك وتوشك أن تناله، ولا تستطيع أن تصبر على سماع حديث قصير عن جارية؟! أسمع لأقص عليك خبر هذه المسكينة: رأيتها فى أول يوم جاءت فيه إلى قصر التاج، وسررت بها، وقد ملأت قلبى، وندمت على ما فرط منى فى حقها، واستأنست هى بى وقصت على حديثها معك وأنها لا تود البقاء بعيدة عنك ولو كان مقامها بقصر الخليفة، فأشرت عليها أن تحتال بالمرض، ولما لى من النفوذ فى دار النساء وعند الخليفة تمكنت من إقناعهم بأنها مريضة وأنها فى حاجة إلى تبديل الهواء، وفى اليوم التالى انتقلت أنا إلى هذا القصر وبعثت من يأتى بها إلى ولبثت فى انتظار قدومها». وسكتت وأظهرت أنها غصت بريقها، فقال ركن الدين: «وبعد ذلك هل أتت؟». قالت: «لا، لم تأت». فصاح قائلاً: «إذن ماتت أو قتلت؟».
قالت: «أحسب كما تشاء. أنها ماتت وانتهى أمرها».
فنهض وقد ثارت شجونه وقال: «لا. أنها لم تمت أنك خبأتها فى مكان».
فضحكت وهى تنظر إليه باستخفاف وقالت: «بل ماتت يا ركن الدين، ويسوءنى أنها ماتت، وقد أخبرنا البحارة الذين حملوها إلى فى القارب أنها غاصت فى الماء رغم إرادتهم، أرجع يا ركن الدين إلى رشدك واستسلم لقضاء الله، ولا تعمل عمل النساء وتبكى على جارية، وبين يديك سلافة تعرض عليك نفسها، وهى فوق ذلك تعرض عليك منصباً لم يحلم به أحد من سلاطين مصر».
فرجع له موت شوكار، وكان فى ريب من سبب موتها، وإن كان يرجح أن سلافة سعت فيه برغم تنصلها منه وإظهارها الميل إليها. فأسف أسفاً شديداً وود أن يقتل سلافة، لكنه لم يتحقق أنها هى القاتلة. ومع ذلك أراد أن يعرف ما هو المنصب الذى تعرضه عليه فرأى من الحكمة أن يسمع حديثها إلى أخره فقال: «مسكينة شوكار واأسفاه عليها».
فقالت هى: «مسكينة، لقد شق والله على موتها، ولكن ما الحليلة؟ لابد لنا من التسليم للقضاء والقدر، والآن ألا تريد أن أخبرك بما انتدبتك له؟». قال: «وما هو؟». قالت: «لنجلس ولنتحادث». ومشت به إلى القاعة فقعدت، وقد سرها أنه أطاعها وأصغى لها، وبان البشر فى محياها، وقالت: «لعلك عالم بالاضطراب المستحوذ على الدولة بسبب محاصرة التتر، وهذا هولاكو عند برج العجمى. ولم يصل إلى هنا إلا لضعف رأى الداودار قائد الجند. وقد غضب مولانا أمير المؤمنين عليه وأراد إبداله، وحادثنى أستاذ الدار فيمن يليق بهذا المنصب ويرجى منه أن يرد شرف الجند العباسى ويدفع العدو عن أسوار بغداد فلم يخطر ببالى سواك — وإن كنت لا تبرح بالى فى أى وقت». ثم ابتسمت وقالت: «ليس هناك من يستطيع أن ينقذ الدولة من هذا الضيق سواك، وأنت إذا صرت قائد جند بغداد هان عليك أن تكون كما تشاء، وأنا أضمن لك سلطنة مصر أو غيرها كما تريد.. أنى أحبك وأتفانى فى الحصول عليك وأحب أن تقول لى أنك تحبنى، أو على الأقل لا تحب سواى». قالت ذلك بلحن الغرام.
فأطرق هنيهة واستجمع قواه، وأطرق يفكر فأصحاب المطامع طلاب منفعة قل كل شئ. أنه أحب شوكار فى بادئ الأمر شفقة عليها، ثم أحبها حقيقة بعد ما قاسته بسببه من الشقاء، وكان يود أن يجعلها سعيدة، أما الآن وقد ماتت فليس من الرجولة أن يموت فى أثرها، وأن كان موتها قد شق عليه كثيراً، ولم يطاوعه قلبه أن يحب التى كانت تبغضها وكانت سبب موتها. لكن ذلك لا يمنع أن ينظر فيما تعرضه عليه لعل فيه ما يبلغه الأمانى التى طالما تاقت نفسه إليها وحلم بها. وقد تأكد من قرائن كثيرة أن سلافة ذات نفوذ لدى الخليفة وأهله وحكومته، فخطر لها أنها قد تفيده فى مطامعه، فأراد مسايرتها مع حفظ مقامه فقال: «لا أرى فىّ الكفاءة لهذا المنصب يا سيدتى، ولا أشعر من نفسى بميل للتكلم فى المناصب الآن. سننظر فى ذلك فى فرصة أخرى».
فقالت: «هذا أمر لا يمكن تأجيله لأن الدولة فى حرب، وهذه قنابل المجانيق تصل إلى قصورنا صباح مساء، وأما كفاءتك فأنا أعلم الناس بها. لم يبق إلا أنه يشق عليك يا قاسى القلب أن تعترف بحبى لك! فكيف لو طلبت إليك أن تعترف بحبك لى؟ يا لله ما أقسى قلبك! اسمع، هذا أستاذ الدار قادم إلى لأنى أسمع صوته بالباب يخاطب الحاجب. أنه أت ليرى هل أقنعتك بقبول القيادة. فبالله لا تخجلنى بين يديه. أما اعترافك بحبك لى فأتركه إلا ما بعد نيلك هذا المنصب وغيره مما ستراه منى».
ثم دخل الخادم يستأذن لأستاذ الدار، فخفت إلى الباب لاستقباله وأخذت ترحب به لما تعلمه من نفوذه لدى الخليفة، ثم دخلت به إلى القاعة وأشارت إلى ركن الدين وقالت: «هذا هو الأمير ركن الدين البندقدارى الذى قهر الأفرنج وأرجعهم عن مصر. وقد ذكرت لك عنه ما يكفى. وأنا أباحثه الآن فيما انتدبتنى له».
فنظر أستاذ الدار إليه وهش له وقد أعجبه ما فى طلعته من أدلة الشجاعة والذكاء وقال: «يسرنا أن يكون فى الأمير ركن الدين ما يرضى مولانا أمير المؤمنين ويكشف عنا العار الذى سببه الداودار السابق بسوء تدبيره. هل تريد أن نذهب معاً إلى قصر التاج الساعة؟»
فأراد ركن الدين أن يعتذر من عجزه، فرأى استاذ الدار ذلك تواضعاً وقال: «لا.. لا نقبل منك عذرا، هلم معى إلى أمير المؤمنين». قال ذلك ومشى فالتفتت سلافة إلى ركن الدين لفتة هيام، وأمسكت يده بحجة الوداع وضغطت عليها وهى تقول: «سرنى النجاح فى هذه المهمة وعسى أن تفوز بإنقاذ الدولة من الخطر. وأما أنا فإذا مت بعد هذا فحسبنى أنك أطعتنى فى شئ عرضته عليك وإن لم يكن فيه غير لوعتى وآلامى. وإذا التقينا بعد الآن كان لنا شأن أخر».
ولكنه لم يرد أن حياها مودعاً وانصرف فى أثر أستاذ الدار، فركب كل منهما فرسه، ومشى عابد فى ركاب ركن الدين إلى قصر التاج.
سار ركن الدين وهو غارق فى تفكيره على أثر ما شاهده من سلافة وهو لا يفهم حقيقة حالها. على أنه فعل ما يفعله الرجل العاقل البصير. ولم يلم نفسه لسكوته عن الانتقام لشوكار، لأنه لم يحقق مصيرها وهل تعمدت سلافة أذاها، وإن كان ميالاً إلى اتهامها بناء على سابق عهده بها. لكنها شغلته بأمر ذلك المنصب، ثم جاء أستاذ الدار فلم يسعه إلا السير معه إلى الخليفة، وفى نفسه إن هذا كله لا يمنع من انتقامه لشوكار عند الوثوق من صحة القتل.
قطع مسافة الطريق وهو لا ينتبه لرفيقه الراكب إلى جانبه ولا إلى اشتغال القوم بأخبار التتر، ولا سمع وقع قنابل المجانيق على المنازل، فقد كان ذلك بعيداً عن طريقهم لا يسمعه إلا المنصت. ولكنه حالما وصل إلى قصر التاج وجد أهله فى هرج واضطراب لكثرة ما تساقط حوله من حجارة المجانيق أو النبال المرمية عن الآلات. ووجه التفاته إلى أستاذ الدار ليقلده فيما يفعله من الرسوم المعتادة، فلما رآه ترجل عن دابته ترجل هو أيضاً وسار فى أثره حتى أقبلا على باب مجلس العامة فلاقاهما الحاجب فأمره أستاذ الدار بالاستئذان له. وما عتم أن جاء الأذن فدخل والأمير ركن الدين يتبعه.
فألقى الأستاذ التحية على جارى العادة ثم قال: «يأذن لى مولاى أمير المؤمنين أن أقدم له الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، وكنت قد ذكرت اسمه لمولاى وأنه خير من يقوم بقيادة جند بغداد فى هذا الوقت العصيب، وقد اشتهر بمهارته فى الحرب وتدبير الجند كما شهدت به سلافة القهرمانة».
وكان الخليفة فى تلك الساعة مطرقاً يفكر، وليس فى مجلسه أحد، كأنه التمس الانفراد للتفكير. فلما سمع قول أستاذ الدار قال: «مرحباً بالأمير ركن الدين». وأشار إليه أن يقعد وقال له: «أصحيح ما يقوله أستاذ دارنا؟!».
قال: «ربما أثبت حسن ظنه ما مضى، أما الآن فلا أرانى كفواً لهذه المهمة لأنى من أصغر القواد».
فأعجب الخليفة بتواضعه فقال: «بل أنت قائد باسل، وكلام القهرمانة سلافة مصدق عندى، ونحن الآن فى حرب مع عدو غريب هو عدو كل مسلم، لأنه إذا فاز لا سمح الله فى حربه معنا لا تنجو مصر من أذاه، فأنت مطالب بقهره للدفاع عن الخلافة ببغداد وعن السلطنة بمصر، وأنت فاعل إن شاء الله. ولو عرفت فضلك من قبل لما سلمت قيادة جنودنا إلى الداودار الذى ألبسنا العار، فعسى أن تكون الوسيلة لمحو هذا العار عن جيش بغداد». قال ذلك وتنحنح وأظهر أنه لم يكمل حديثه بعد فظل ركن الدين ساكتاً.
ثم عاد الخليفة إلى الكلام قائلا: «أظننا أخطأنا لأننا لم نصغ إلى رأى وزيرنا مؤيد الدين من أول الأمر، فلو أطعناه لما اضطررنا إلى إنفاذه الآن لطلب الصلح وتأجيل الحرب، ولا ندرى إذا كان طلبنا يجاب. ولكن سامح الله أبا بكر أنه تعدى حقوق الأبناء وكدر قلبى على الوزير، فالآن انظر أيها الأمير أنى جاعل إمارة جند بغداد إليك فإذا دفعت العدو كافأناك بما أنت أهله».
فأجاب ركن الدين: «أن الدفاع عن دار السلام وأمير المؤمنين فرض على كل مسلم، وأنى باذل روحى فى هذا السبيل، وعسى أن يوفقنى الله إلى القيام بحق الخدمة».
•••
وبينما هم فى ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «أن الوزير مؤيد الدين بالباب». فأشرق وجه الخلفة وبان التطلع فى عينيه. وحالما دخل مؤيد الدين لم يصبر المستعصم عليه حتى يلقى التحية فصاح به: «قل ماذا جرى؟». قال: «كل خير يا سيدى. والتوفيق من عند الله».
قال: «أقعد وحدثنا بما جرى».
فقعد والعرق يتصبب من جبينه وأخذ فى الحديث، فقال: «لقيت هولاكو خاقان التتر، وبينت له جرم اعتدائه علينا بلا حق، وأننا لا نخافه، لكنا نحب حقن الدماء، فأجابنى جواباً غليظاً. وبعد جدال طويل لم يقبل الكف عن الحرب إلا إذا ذهب مولانا أمير المؤمنين بنفسه إلى معكسره، وتعهد بالمحافظة على مقام مولانا والإبقاء على خلافته كما فعل بمن حاربهم من الملوك، وقد قال لى أنه لا يهمه تغيير الملوك والخلفاء وإنما يهمه ألا يهان جنده. وهو يعد رفض مولانا أمير المؤمنين نجدته على الإسماعيلية إهانة لأنه كان يريد بذلك قطع دابر أولئك الأقوام لينجو العالم منهم. ثم حارب القوم وحده وغلبهم وبعث إلى مولاى يعاتبه فلم يرد عليه. وكنت قد أشرت على سيدى أن يبعث إليه هدية فمنعه بعض خاصته من ذلك. وبعث إلينا هولاكو أنه لم يعد يقبل هدية ولا يرضى إلا أن يذهب إليه الوزير أو الداودار فلم نفعل. فعد ذلك إهانة مكررة لا يقبل ترضية عليها إلا أن يركب مولانا أمير المؤمنين إليه ويكون هناك معززاً مكرماً مع رجال خاصته. وقد أخبرنى أننا إذا أطعناه فى ذلك فهو عازم على أن يزوج ابنته من مولانا الأمير أبى بكر».
وكان الوزير يتكلم والعرق يتصبب من جبينه خجلاً من حمل هذه الرسالة إلى الخليفة. والخليفة مطرق يسمع ولا يتكلم ولا يبدى حركة، وكذلك كان ركن الدين. فلما فرغ مؤيد الدين من كلامه رفع المستعصم رأسه وتنهد وقال: «أنه لعزيز على نفسى أن أذهب إلى هذا التترى، وأنى لأرجو أن نفوز عليه ونرده عن بلدنا بعد أن عهدنا بقيادة الجند إلى الأمير ركن الدين..». ولبث ينتظر جوابه.
فقال الوزير: «أن الأمير ركن الدين أهل لثقة أمير المؤمنين، وقد يأتى النصر على يده. لكننى أخاف أن يكون جندنا أضعف مما نظن ولا يبقى باب للصلح، وقد عرض علينا القوم صلحاً تحقن به الدماء ومع ذلك فالأمر لمولاى».
فقال الخليفة: «لكن هذه الطاغية يطلب أن أذهب أنا بنفسى إلى معسكره؟»
قال: «كلا يا مولاى قد رضى أن يركب مولاى باعوانه ورجال خاصته إلى فسطاط ننصبه لهم عند باب كلواذى مما يحاذى الشاطئ فيلاقيه هولاكو هناك وينقضى الأمر».
فهان عليه القبول بعد هذا التسهيل، لكنه التفت إلى أستاذ الدار واستشاره فى الأمر فأشار بالقبول لأنه رأى الخليفة مائلاً إلى السلم — ذلك كان دأبه إذا استشاره الخليفة فيجعل نصب عينيه أن يرضى إحساس مولاه. فإذا رآه مائلاً إلى رأى أشار عليه به، شأن المتملقين المتزلقين فى كل زمان ومكان. وهؤلاء إذا كان الأمير أو الخليفة عاقلاً نبذهم، وإذا كان ضعيفاً أصبحوا من المقربين إليه فيفسدون حكومته ويعينون على سقوط دولته.
فاستقر رأى الخليفة على إجابة هولاكو إلى طلبه، والتفت إلى ركن الدين وقال: «قد سمعت ما أشار به وزيرنا، وقد طالما خالفناه ولم نر فى مخالفته خيراً. أما الآن فالرأى أن نطيعه. وعلى كل حال فأننا نعد الأمير ركن الدين من كبار قوادنا وعسى أن نوفق إلى مكافأته». والتفت إلى الوزير وقال: «متى نصب الفسطاط ذهبنا إليه».
فأشار الوزير مطيعاً واستأذن فى الانصراف وانفض المجلس. وأومأ الوزير إلى ركن الدين أن يوافيه إلى منزله.
فخرج ركن الدين وهو غارق فى الهواجس، وقد ساءه تنازل الخليفة إلى هذا الحد. لكنه ركب إلى بيت مؤيد الدين — وعابد يرشده — ليستفهم عن الحقيقة، فلما وصل إليه رأى مؤيد الدين قد سبقه ورأى سحبان عنده وكان قد جاء للاستطلاع بعد علمه بخروج الوزير إلى هولاكو.
الفصل الثاني عشر
نهاية الدولة العباسية
دخل ركن الدين فوجد الوزير يذرع غرفته ذهاباً وإياباً وقد قطب حاجيبه وأخذ منه التأثر مأخذاً عظيماً، وسحبان قاعد ينتظر التفاته إليه. فلما دخل ركن الدين أومأ إليه مؤيد الدين أن يقعد فقعد. ثم وقف أمامه وقال: «أيها الأمير قد قضى الأمر».
فتصدى سحبان للكلام قائلاً: «وكيف قضى؟»
فالتفت إليه وقال: «قضى كما تريد أنت لا كما أريد أنا ولا كما يريد الأمير ركن الدين».
فقال ركن الدين: «فاصح يا مولاى».
قال: «لم أقدر أن أقنع هولاكو باستبقاء الخلافة العباسية. أنه مصمم على إبادتها».
فصاح ركن الدين: «إبادتها! تريد أن يقتل كل بنى العباس؟»
قال: «هكذا ظهر لى من مغزى كلامه وإن لم يصرح بذلك».
والتفت إلى سحبان فرآه يضحك فانتهره قائلاً: «أنت تضحك لأنك لا تنظر إلى العواقب، إذا محيت الدولة العباسية ذهب الإسلام من هذه الديار».
فقال سحبان: «ولماذا؟ نحن نعيد الخلافة الفاطمية».
فصاح فيه: «أنك رجل أوهام وأباطيل، إذا كنت ترجو إرجاع الدولة الفاطمية فأنك ترجو المحال وتطلب إقامة الأموات». والتفت إلى ركن الدين فرآه ينظر إليه ويراعى حركاته ويوافق على كل حركة منها بملامحه وعينيه. فلما التفت إليه نظر هذا إلى سحبان وقال: «قد أصاب الوزير بقوله، أنه رجل عاقل مدبر، وكم سمعتك تذكر أمر الفاطميين، هل سمعت منى موافقة على ذلك؟».
قال: «كنت إذا ذكرتهم سكت».
قال: «وسكوتى يكفى؟ وإذا كان هذا الطاغية ينوى حقيقة إبادة العباسيين كافة فأنه يحدث كسراً فى الإسلام يعسر جبره». ووجه كلامه إلى الوزير وقال: «لكنك قلت للخليفة أن هولاكو ينوى استبقاءه».
قال: «هذا ما قاله لى هولاكو، لكننى لا أصدقه وقد فهمت من خلال كلامه وقرأت فى عينيه ما ذكرته الآن، ويؤيد ذلك أنه أعطانى رايات عليها علامته، وأوصانى أن أنصبها على أبواب المنازل التى أريد حمايتها من الأذى، أو على الطرق المؤدية إلى منازل الشيعة. فإذا رآها رجاله عرفوها وكفوا عن الأذى، ألا يدل هذا على عزمه الذى ذكرته لكم؟ وعلى كل حال لا بأس من الاحتياط للمخاطر». قال ذلك وتحول إلى ناحية من الغرفة أخرج منها راية صفراء عليها صورة خنجر أحمر ودفعها إلى ركن الدين وقال: «خذ هذه لعلك تحتاج إليها». ودفع رايات أخرى إلى سحبان وقال له: «خذ هذه الرايات أغرسها فى مداخل أحياء قومنا فى الكرخ والكاظمية، افعل ذلك بلباقة لئلا يشعر بك أحد».
فتناول ركن الدين رايته وخبأها تحت ثيابه، وقد شق عليه الالتجاء إلى هذه الخرقة للنجاة من السيف وهو قائد باسل تعود دفع الأذى عن نفسه وقومه بالسيف البتار. لكنه كان داهية يلبس لكل حال لبوسها.
أما سحبان فإنه مكث بعد ما سمعه من الانتهار الصريح صامتاً وقد استولى اليأس عليه، لكنه ما لبث أن رضى بما وقع ورأى ذلك فوزاً عظيماً للشيعة، ونظر إلى ركن الدين وسأله عما فعله عند سلافة فاختصر هذا الجواب لأنه شعر أنه بين يدى أمر مهم ينبغى له أن يسرع فى تدبره واستأذن فى الانصراف.
خرج ركن الدين مهموماً وفكره تائه، فتقدم عابد إليه بالجواد فركبه وهو لا يقصد مكاناً معيناً. ثم خطر له أن يتجه إلى منزل سلافة لأنه ما زال يرجو أن تكون شوكار حية، وأذن لا يليق به الخروج من بغداد قبل أن ينتقم لها. قضى مسافة الطريق وهو يردد ما سمعه من مؤيد الدين عن عزم هولاكو على إبادة العباسيين. ففكر فى الأمر مستوحياً نفع نفسه، كما يفعل كل إنسان فى كل زمان. وليس ما يدور على أقلام الكتاب من أسماء الفضائل الراقية، كالأريحية والنجدة والاتحاد والشجاعة والإحسان وغيرها، إلا أسماء مختلفة ترجع إلى معنى واحد وهو «المنفعة الذاتية» فمن أراد أن يستنهض همم جماعة لعمل فلن يلقى مجيباً إن لم يكن فى ذلك العمل نفع عائد على كل منهم.
فكر ركن الدين فى مطامعه الراخسة فى قلبه، ومرجعها طلب السلطة فى مصر، فرأى لذهاب الخلافة العباسية علاقة كبيرة بذلك فأعمل فكرته للاستفادة من تلك الأحوال، وعاده الخاطر الذى كان قد مر فى ذهنه بالأمس وهو أن يجعل مصر قصبة الخلافة العباسية بحيث لا يستغنى عنها سلطان ولا أمير. وارتاحت نفسه إلى هذا الأمر، وتذكر الإمام أحمد وما سمعا عنه من اللياقة لهذا المنصب وأنه محبوس قرب باب كلواذى. فرأى أن يقابله ويسعى فى إنقاذه فإذا فتك هولاكو بسائر بنى العباس احتفظ هو بهذا الإمام. ومتى صار هو سلطاناً على مصر جعله خليفة فيها. فلما تصور ذلك رقص قلبه من الفرح.
•••
قطع ركن الدين الطريق إلى باق كلواذى وهو غرق فى هذه الهواجس، ولم ينتبه إلا والناس فى ازدحام وهرج عند ذلك الباب وقد أخذوا فى نصب الفسطاط للخليفة، فعاد إلى تذكر الخليفة وما علمه من مصيره، وتذكر الإمام أحمد لعلمه أنه مسجون قرب باب كلواذى فنادى عابداً فدنا منه فقال له: «يقولون أن الأمير أحمد عم الخليفة مسجون فى قصر بهذه الجهة فهل تعرف مكانه؟».
قال: «أظنه هذا القصر». وأشار باصبعه إلى قصر وراء قصر سلافة.
قال: «هل تعرف أحداً من خدمه أو حرسه؟».
قال: «كلا يا مولاى لأنه نقل إلى هنا من عهد قريب، وإذا شئت أن أبحث فى ذلك فعلت، هل تريد الذهاب إليه الآن؟».
قال: «أريد الآن أن أعود إلى سلافة وأفرغ جهدى فى استطلاع خبر شوكار لأنى على وشك سفر.. كن على استعداد يا عابد، هل تسافر معى إلى مصر؟».
فقال شاكراً: «ذلك حظ كبير لى يا مولاى، ولكن شوكار، هل تذهب بدونها؟».
فأثر سؤاله فى نفس ركن الدين تأثيراً شديداً، وكان أولى به أن يسأل نفسه هذا السؤال، فقال وهو يستمهل الفرس بالمسير: «آه يا عابد أن سؤالك هذا دلنى على غيرتك وصدق خدمتك.. صدقت كيف نأتى بغداد لأجل شوكار ونرجع بخفى حنين؟ هذا لا يكون.. أنا سائر الآن إلى سلافة اللعينة ولابد لى من أن أقف على مصير شوكار، وعند ذلك أفعل ما يرضى المروءة والوفاء».
وكان ركن الدين يسير على جواده الهوينى على ضفة النهر وعابد يماشيه فوصل الفرس إلى عشب استطيبة فوقف ليتناول منه شيئاً. فقال عابد: «انظر يا مولاى، لا يليق بى أن أحذرك أو ألفت نظرك لكننى استأذنك فى هذا الأمر، بلغنى عن سلافة هذه أنها من شر النساء وأدهاهن حتى أن الخليفة لا يرد لها طلباً، وأنت ستكون وحيداً فى قصرها فاحذر أن تغدر بك أو تستعين عليك ببعض الأشقياء خلسة».
فأثنى ركن الدين على غيرته وقال: «لا تخف على يا عابد، لكننى أوصيك بالانتظار فى الحديقة قريباً من القصر، فإذا لحظت مكيدة أو شيئاً فنبهنى بالنداء على الملاحين فى هذا النهر، أى أجعل نفسك كأنك تنادى ملاحاً أوشك أن يغرق فتحذره من الغرق، وأنا حالماً أسمع صوتك أفهم المراد، وفى كل حال لا تفارق الجواد وليكن مهيأ للركوب».
فأجابه مطيعاً ودخلا الحديقة، وأسرع الحارس فى إبلاغ خبره إلى سلافة فهرولت لاستقباله وقد بدلت بثوبها ثوباً أجمل منه، وتلقته بالترحاب ودخلت به إلى القاعة وهى تقول له: «أرجو أن تكون قد نجحت فى مهمتك». قال: «وأى مهمة؟». قالت: «ألم تذهب فى هذا الصباح مع أستاذ الدار على أن تلقى أمير المؤمنين ليوليك قيادة الجند؟ فهل تم الاتفاق على ذلك؟» قال: «لم يتم شئ من هذا القبيل، أرى أنه لم يبلغك الاتفاق الذى أبرم بين هولاكو والخليفة». قالت: «لا. ماذا جرى؟».
قال: «بعث الخليفة وزيره مؤيد الدين إلى هولاكو للبحث فى شأن وقف القتال ولو مؤقتاً، فعاد الوزير ونحن عند الخليفة وأبلغه أنهم اتفقوا مع هولاكو على أن يخرج الخليفة بنفسه إليه مسترضياً إلى باب كلواذى. وإذا أطلت من هذه النافذة رأيت الفراشين ينصبون الفسطاط الذى سيأتى المستعصم لملاقاة هولاكو فيه، وهذا الاتفاق يمنع حدوث حرب، ولم تبق حاجة إلى قائد ريثما نرى ما يكون».
فلما سمعت كلامه نهضت إلى النافذة وتطلعت، فرأت الفسطاط يوشك أن يتم نصبه فصفقت ولطمت خدها وقالت: «ويلاه! وإذلاه! أمير المؤمنين يخرج من قصره لملاقاة عدوه ليسترضيه؟. قل على الخلافة وأصحابها السلام..». قالت ذلك وبان التفكير فى عينيها وركن الدين صابر فإذا هى تقول له: «لم يبق لنا وطر فى هذا البلد ولا خير فى المقام به هلم بنا. وهذه أموالى وجواهرى وكل ما أملك بين يديك. هلم بنا». فقال: «إلى أين؟». قالت: «إلى مصر». قال: «نذهب إلى مصر وحدنا؟». قالت: «خذ من شئت من الاتباع والأعوان».
فنظر إليها باهتمام وقال: «وشوكار؟». قالت: «ألم أقل لك عن مصيرها؟». قال: «لا أفهم ما تقولين. جئت من مصر إلى بغداد للبحث عن شوكار فلا أرجع بدونها».
فهزت رأسها هز الاستغراب وابتسمت وقالت بلطف: «ماذا أعمل يا سيدى؟. من أين آتى بشوكار وقت قلت لك أنها غرفت وأصبحت طعاماً للأسماك». فأجابها بهدوء: «لا. أنها لم تمت. ولابد أنها موجودة فى مكان. ابحثنى عنها لعلك تجدينها فأنى لا أرجع بدونها».
فزاد استغرابها وقالت: «ماذا تعنى؟ أظنك تمزح».
قال: «كلا. أنى أقول الجد وقلبى يحدثنى بأن شوكار لم تمت».
فأمسكت بيده وهى تقول: «إذا كنت لم تصدق فتعال لأريك برهاناً يقنعك وتتأكد صدق قولى».
فمشى معها فمرت فى دهليز إلى غرفة تشرف على دجلة، وتقدمت إلى خزانة فى الحائط فتحتها واستخرجت صرة أخرجت منها خصلة كبيرة من الشعر وقدمتها إليه، فحالما وقع نظره عليها عرف أنها شعر شوكار، فأقشعر بدنه وارتعدت فرائصه وصاح: «ما هذا؟».
قالت: «أليس هذا شعر المسكينة المأسوف على شبابها شوكار؟».
قال: «نعم، ومن أين أتاك؟». قالت: «جاءنى به الملاحون الذين أرسلتهم إلى قصر التاج ليأتونى بها إلى هنا لأجل الاستشفاء، فجاءونى بهذا الشعر وقالوا أن السفينة انقلبت بهم فى هذا المكان (وأشارت إلى مكان فى الماء تحت القصر) وأنهم حاولوا إخراجها فأمسكوا بثيابها وشعرها فغرفت وقطع شعرها وظل فى أيديهم».
فأصبح صدر ركن الدين يعلو ويهبط، وهو يغلى كالمرجل من الغيظ، وأطرق يفكر فيما سمعه وأوشك أن يعتقد اشتراك سلافة فى قتل شوكار.
وظنت هذه أن يأسه من لقاء شوكار هون عليه الرضا بها فوضعت يدها على كتفه تلطفاً وابتسمت وهى تقول: «أظنك صدقتنى الآن، آه يا ركن الدين لو تعلم منزلتك فى الحب عندى. لقد بذلت كل ما فى وسعى لكى أجعلك قائداً عند الخليفة فتكون أعظم قائد فى الإسلام. ولا يغضبك أن ذلك لم يتم فانى قد هيأت سلطنة مصر ومهدت لك سبيلها ولم يبق إلا أن تصل إلى القاهرة فتنالها».
الفصل الثالث عشر
موت شجرة الدر وعز الدين
وقع لفظ السلطنة على قلب ركن الدين أجمل وقع لأنه أقصى ما يتمناه فخف غيظه ومال إلى استطلاع حقيقة ما تقوله سلافة، وظل ساكتاً وهى تراه بنظرها، فلما رأت سكوته أمسكت بيده ومشت إلى شرفة فى تلك الغرفة تطل على دجلة وأومأت إليه أن يقعد على وسادة هناك، وقعدت هى بجانبه والماء يجرى بين أيديهما، وركن الدين لا يرى شيئاً لعظم ما جاش فى خاطره، فقعد قعود المتحفز وأدركت هى أنه يطلب تفصيل ما ذكرته.
فقالت: «أظنك تحب أن تطلع على تفاصيل خبر سلطنة مصر وما فعلته فى سبيل أعدادها لركن الدين؟. آه لو تشعر يا قاسى القلب بعظم حبى، ولكنك ستشعر متى علمت بما ارتكبته من الأمور العظام فى سبيل مرضاتك».
وتنحنحت ووضعت ضفيرة الشعر إلى جانبها استعداداً للحديث ثم قالت: «فارقت القاهرة وأنت تعتقد أن الملك الأشرف سلطان عليها وعز الدين أيبك وصى عليه».
فهز رأسه إن «نعم».
فضحكت وقالت: «ذهب هؤلاء جميعاً وذهبت شجرة الدر معهم».
قال: «إلى أين؟». قالت: «إلى الموت». فأجفل وقال: «كيف ماتوا، أنك تكذبين». قالت: «سامحك الله على هذه التهمة، أنا لا أكذب، إلا إذا كان ذلك فى سبيل مرضاتك. نعم قد ارتكبت فى هذا السبيل أفظع من الكذب، ارتكبت القتل والخيانة فى سبيل ركن الدين، وهو ما زال يضن على بكلمة أو لفتة». قالت ذلك وغصت برثقها وتلألأ الدمع فى عينيها، فتأثر ركن الدين من منظرها لكنه تجلد ليسمع تتمه الحديث.
فقالت: «أنك تركت عز الدين وصياً على الملك الأشرف، وقد رضى بذلك، وشجرة الدر ساكتة قانعة بالسلامة، ولو بقى الحال على ذلك لم يبق لركن الدين سبيل إلى نيل السلطة. وهب أنه نالها فهو لا يكون سلطاناً بل وصياً والسلطان من بنى أيوب، وأنا أريد أن يكون ركن الدين سلطاناً كما وعدته، أتدرى ماذا فعلت؟».
فتطاول لسماع الحديث فقالت: «أظنك تعلم منزلتى عند عز الدين ومقدار انصياعه إلى لأنى كنت السبب فى نيله ذلك المنصب بعد خلع شجرة الدر. أنا خلعت شجرة الدر ونصبت عز الدين، وأنا جعلت القوم يختارون سلطاناً أيوبياً ففعلوا وصار عز الدين وصياً. فعلى ذلك تمهيداً لك يا قاسى القلب، وقد ذكرت لك عملى هذا ونحن فى القاهرة فلم تعبأ بقولى، وأوشكت أن أنقلب عليك وأتنقم منك، لكن قلبى لم يطاوعنى فظلت على حسن ظنى بك، والقيام على خدمتك، فأغريت عز الدين بالملك الأشرف فألقاه فى سجن مظلم سيموت فيه قريباً أن لم يكن قد مات. وقبض عز الدين على السلطنة بيده ولم ينازعه أحد فى ذلك، بقى على أن أتخلص من عز الدين ليخلو الجو لركن الدين ويكون هو السلطان، وأنا أعلم أن لعز الدين أعواناً أشداء ولا يسهل قتله، فأغربت به شجرة الدر، وكان قد تزوج بها فدسست بواسطة بعض الجوارى من أبلغ شجرة الدر أن عز الدين لا يحبها وأنه عازم على التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. وشغلت عز الدين عن زيارتها مدة فتحققت تلك الإشاعة، وأنت تعلم غلظ قلب هذه المرأة، فاشتدت غيرتها حتى أغرت بعض الخدم وأوصتهم إذا دخل عز الدين الحمام أن يقتلوه خنقاً فقتلوه وقالوا أنه أغمى عليه فى الحمام فأخرجوه وشاع أنه مات مصروعاً».
فصاح ركن الدين: «مات عز الدين؟». قالت: «مات وماتت أيضاً شجرة الدر».
فقال: «وشجرة الدر أيضاً ماتت؟ وكيف ذلك؟». قال ذلك وقد غلبته الدهشة.
قالت: «لما توفى عز الدين بايع القوم ابنه نور الدين على، وكنت قد ربيته، وهو يصغى لقولى، فلما تولى أنبأته أن شجرة الدر هى التى قتلت أباه، وحرضته على الانتقام له، فأوعز إلى نساء بيته فأماتوها ضرباً بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها فى خندق القلعة فأكلت الكلاب نصفها ودفن النصف الباقى فى مقابر السيدة نفسية».
فبغت ركن الدين لذلك الحديث وقال: «أكنت أنت السبب فى ذلك كله؟»
قالت: «نعم. أنا السبب فى ذلك، وقد ارتكبت هذه الأمور فى سبيل مرضاتك، فأنت إذا نزلت مصر الآن لا تجد من يقاومك، وهذا نور الدين على فى قبضة يدى، إذا شئت قتلته أيضاً، فتكون أنت سلطان مصر».
فأدهشته تلك الفظاعة والقسوة من امرأة، وخيل له أنه قبض على السلطة بيده، فاختلج قلبه فى صدره، وأطرق لحظة يفكر، فوقع نظره على خصلة الشعر بجانب سلافة، فعادت صورة شوكار إلى ذهنه، وتذكر أن شجرة الدر كانت السبب فى خطبتها، وأن هذ المرأة الخائنة اعترفت بأنها كانت سبب قتل كثيرين، ورجح لديه أنها قتلت شوكار أيضاً. وما يمنعها أن تقتله إذا خامرها شك فى صداقته ويئست منه؟ فتحير فى أمره معها. فلما رأته ساكتاً قالت: «أرأيت ماذا ارتكبت فى سبيل حبك يا قاسى القلب؟ وأنت تحاسبنى الآن على جارية تستطيع أن تبتاع أحسن منها بمائة دنيار؟ دع عنك الجفاء، ولننس الماضى، ونذهب إلى مصر لتتم سعادتك، وهذه أموالى بين يديك».
فمر بخاطره أنه إذا أطاعها صار سلطاناً ونال البغية التى طالما شغلت باله وتمناها قلبه، لكنه ما لبث أن أنكر ذلك على نفسه وتصور شوكار وما أصابها بسببه، فنهض على رغم إرادته فنهضت سلافة معه وهى تحسبه اقتنع بأقوالها، فمد يده إلى خصلة الشعر وتناولها، وجعل يتفرس فيها فقالت سلافة وهى تداعبه». أظنك تأسف على صاحبة هذا الشعر، ولكن ما لك وله وهذا شعر امرأة حية تخاطبك وتتمنى رضاك؟». وأشارت إلى خصلة من شعرها مرسلة على كتفها.
فقال: «وشوكار؟ هل ماتت؟». فقهقهت وقالت: «ألم أقل لك أنها ماتت؟» قال: «قلت ذلك نقلاً عن الملاحين وقد يكذبون».
قالت: «بل هم صادقون، ولماذا يكذبون؟» قال: «قد يكون لهم غرض».
فنظرت إليه نظرة هيام وقد أحمرت عيناها من فرط ما جاش فى خاطرها من أمره، ثم قالت: «لقد احرجتنى يا ركن الدين لأؤكد لك موت هذه الجارية. أنها ماتت، وأنا دبرت قتلها، وقد فعلت ذلك أيضاً فى سبيل الحصول عليك لئلا يكون وجودها حائلاً بينى وبينك، وهى تنمه الفظائع التى ارتكبتها لأجلك».
فلما سمع إقرارها لم يعد يستطيع التجلد والإغضاء، ونظر إلى ما حوله فلم يجد من يخشى بأسه، ولاحت منه التفاته فرأى عابداً فى الحديقة يشير إليه بيده أن يقتلها، فقال فى نفسه: «لأمر ما يلح على هذا الغلام بقتلها». فاستل خنجره وطعنها فى قلبها طعنتين، فسقطت على الأرض لا تبدى حراكاً وأغمد خنجره وأخذ صرة الشعر بيده وتحول إلى الباب، ولم يجد فى البيت أحداً يعترضه.
•••
ما كاد ركن الدين يجتاز الباب حتى استقبله عابد والفرس معه، وأومأ إليه أن يركب وهو يقول: «لا شلت يمنيك! قد انتقمت لسيدتى شوكار، اركب يا سيدى وهلم بنا».
فركب وخرج من الحديقة. وإذا هى خالية ليس فيها أحد من الناس، فلما صار خارجها قال لعابد: «لماذا تعجلت قتلها؟»
قال: «لأنى تيقنت من بعض الخدم أنها هى التى تعمدت قتل سيدتى شوكار، فأغريت من كان هنا من الخدم بالذهاب إلى باب كلواذى لمشاهدة الخليفة قادماً إلى الفسطاط الذى نصبوه له، فمضوا وخفت أن تقنعك تلك الخبيثة بأنها بريئة فتؤجل قتلها».
فقال: «بورك فيك من صادق أمين. لقد اعترفت بأنها قتلتها؟ واعترفت بفظاعتها ولكن كيف عرفت أنت أنها تعمدت قتلها؟».
قال: «اغتنمت انفرادى ببعض خدمها وتحدثت فى شئون عديدة وقصصت عليهم فظائع زعمت أنى ارتكبتها بإيعاز مولاى بين قتل ونهب وإغراق. وكنت أقول هذا مفتخراً فتحركت غيره أحدهم وقص على كيف كلفته سلافة مع رفيق له أن يأتيا بشوكار من قصر التاج إلى هذا القصر، وأنها أوعزت إليه سراً أن يجعل المسير ليلاً، وأن يغتنم فرصة يحتال فيها لإلقاء الفتاة فى دجلة، وقال أنه لم يستطع ذلك إلا قبيل وصوله إلى قصرها، لأن قارباً أخر كان فى أكثر الطريق قريباً من قاربهم لا يعرفون من فيه. فقص شعرها بخفة ورماها فى دجلة، وذهب بالشعر إلى سيدته شهادة على إمضاء أمرها. فسألته: هل رآها غرقت؟ فقال أنه لم يقدر أن يراها لشدة الظلام، لكنه لا يرتاب فى أنها ماتت».
فاطمأن ركن الدين عند سماع هذا الحديث لأنه رأى سلافة تستحق القتل وقال فى نفسه: «ألا يمكن أن تكون شوكار قد نجت بقضاء الله». ولم يذكر ذلك أمام عابد، لكنه استحثه إلى سجن الإمام أحمد ابن الظاهر.
فساق فرسه، وقد أوشكت الشمس أن تغيب، وإذا بجند هولاكو يركضون من جهة برج العجمى نحو باب كلواذى والناس يفرون من بين أيديهم، فتحول عابد بالفرس إلى الطريق المؤدى إلى سجن الأمير أحمد، وركن الدين يفكر فى سلافة من جهة وفى مصير الخليفة وأهله من جهة أخرى، فأراد أن يلقى نظرة إلى بغداد فى نور الشفق عند الغروب، فصعد إلى مرتفع يطل على باب كلواذى وما يجاوره إلى برج العجمى، فرأى التتر زاحفين نحو المدينة، وتحولت شرذمة منهم نحو قصر سلافة وتسلقوا أسواره، فالتفت عابد إلى ركن الدين وقال، هل ترى يا سيدى؟» وأشار بيده إلى القصر.
فقال: «أرى القوم هاجمين يريدون النهب، ولا أظنهم يجدون من يردهم.. سيجدون سلافة مضرجة بدمها، وأظنهم يشتركون مع خدمها فى النهب والقتل، تلك آخرة القوم الظالمين. كم كنت أحب أن أطلع على ما يجرى فى بغداد غداً، هيا بنا إلى الإمام أحمد».
وقبل الوصول إلى قصره رأوا الحرس وقوفاً بالباب، فتقدم عابد وسأل عن الإمام أحمد هل هو هناك فأجابه الحارس: «نعم لكنه فى شغل شاغل».
قال: «بماذا؟». قال: «جاءه زائر منذ حين». قال: «استأذن لنا فى الدخول عليه». قال: «لا أظنه يأذن لأحد لأن أمير المؤمنين يمنع الناس عن مخاطبته».
قال: «نحن غرباء، وقد أمسى علينا المساء قبل دخول المدينة ونطلب المبيت إلى الغد».
فقال: «لابد من الاستئذان، فماذا أقول له؟».
قال: «قل له أننا من مصر نطلب الراحة الليلة».
فذهب الحاجب وطال غيابه، وركن الدين لا يزال على جواده، وعابد واقف، وبعد برهة سمعاً وقع أقدام الحاجب ثم وصل ومعه رجل أخر تقدم وتفرس فى ركن الدين وصاح: «الأمير ركن الدين تفضل يا مولاى».
فعرف ركن الدين من صوته أنه سحبان فترجل ودخل معه إلى دهليز نوره ضعيف لا يسمع فيه صوت، وقد استولى الهدوء على المكان كأنه مقر الأموات، فتهيب ركن الدين وتوقع أن يبادئه سحبان بالكلام، فلما رآه ساكتاً قال له: «أنت هنا من زمن بعيد؟». قال: «منذ ساعة». قال: «وهل الإمام أحمد هنا؟» قال: «نعم». قال: «أين هو؟»
قال: «يلبس ثيابه للخروج مع الخليفة وأهله إلى الفسطاط لمقابلة هولاكو كما تم الاتفاق فى هذا الصباح».
قال: «ومن أشار عليه بذلك؟».
قال: «جاءه الأمر من الخليفة كما جاء لجميع الأمراء العباسيين».
قال: «وهل وافقت على أن يذهب معهم؟»
قال: «لماذا أمنعه؟ دعه يذهب».
وبان الغدر فى عينيه، فتذكر ركن الدين مطامع سحبان فى أرجاع الخلافة إلى الفاطميين، وأنه ينوى قطع دابر العباسيين من الأرض حتى إذا لم يجد المسلمون خليفة يبايعونه هان عليهم مبايعة الخلفاء الفاطميين فتعود دولتهم. ولكن هذا يخالف مطامع ركن الدين، فرأى من الحزم أن يحول دون خروج ذلك الأمير من قصره فى تلك الليلة، فاستوقف سحبان وقال له: «لا ينبغى لنا يا سحبان أن نسوق هذا الأمير إلى القتل».
قال: «أنهم لا يدعوه للقتل، ولكن لمقابلة هولاكو مع سائر بنى العباس للكف عن الحرب».
فضحك ركن الدين وأمسك بكتف سحبان وهزه وقال: «تقول ذلك لى، وقد سمعنا خبر الاتفاق معاً؟ دع الرجل حياً».
قال: «وهل يهمك بقاؤه؟»
قال: «هب أن بقاءه لا يهمنى، فلا ينبغى أن يهمك أنت قتله، دعه أين هو الآن».
قال وقد تعلثم وارتبك: «أظنه خرج».
قال: «لا يمكن أن يكون قد خرج، ينبغى أن تحضره تواً الساعة». قال ذلك وبان الغضب فى عينيه».
فخاف سحبان غضبه وعمد إلى الملاينة وقال: «أراك قد غضبت يا ركن الدين ولا موجب للغضب، إذا كان الإمام أحمد هنا فهو يسر بلقياك». وأظهر الاهتمام ومشى إلى باب غرفة الأمير وقرعه وركن الدين واقف فسمع الإمام يقول: «أوشكت أن أنتهى من وضع ردائى».
فقال سحبان «هنا أحد الضيوف يرغب فى لقاء مولاى».
الفصل الرابع عشر
الإمـام أحمد بن الظاهر
فتح الباب وأطل الإمام أحمد وقد لبس بعض ثياب الخروج، ولم يبق إلا الجبة السوداء شعار العباسيين وقد تناولها ليلبسها، فتقدم سحبان وساعده فى لبسها وهو يقول: «أقدم لمولاى الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى الذى ذكرت لك أسمه الساعة. انه جاء من مصر، وكان الخليفة قد اراد ان يعهد اليه فى قيادة الجند، ثم جرى الاتفاق والصلح بالشكل الذى ذكرته الآن، وقد جاء ضيفاً على مولاى».
فابتسم الإمام أحمد وقال: «مرحباً بالأمير الباسل، تنزل علينا على الرحب والسعة». وأشار إليه أن يدخل ثم قال: «تمكث هنا ريثما أعود من مقابلة هولاكو بعد قليل».
فلم يتمالك ركن الدين أن قال: «لا ينبغى لمولاى أن يخرج من هذا القصر الليلة».
قال: «ولكن أمير المؤمنين بعث إلى أن أذهب قياماً بالاتفاق الذى عقد بينه وبين هولاكو، وأخاف أن يترتب على تخلفى ضرر، وقد استشرت سحبان فأشار على بالذهاب».
قال: «أظنه غير رأيه الآن، اسأله».
قالتفت الإمام أحمد إلى سحبان فآراه أسرع إلى التنصل من تلك المشورة وقال: «غيرَّت رأيى لأن الأمير ركن الدين نبهنى إلى أمر فاتنى والأفضل أن يبقى مولانا الليلة هنا، وسنرى ما يكون فى الغد».
قال: «وبماذا أجيب الرسول؟»
قال ركن الدين: «قل أنك ستنظر فى الأمر».
وشق على سحبان حبوط مسعاه، فتكم ما فى نفسه وأظهر أنه مضطر للذهاب فى تلك الساعة، فإذن له وانصرف. فارتاب ركن الدين فى نية سحبان، وأعمل فكرته فيما قد يكون غرضه، وعزم أن يصطنع الدهاء والحيلة للوصول إلى هدفه الذى جعله نصب عينيه منذ نشأت مطامعه السياسية، نعنى الوصول إلى السلطنة، وهى تستلزم وجود خليفة عباسى يثبته، وقد كاد أن يوقن أنه ظافر بها بعد ما سمعه من حديث سلافة، فحالما خرج سحبان نظر ركن الدين إلى الإمام أحمد وقال: «هل يعرف مولاى هذا الشيعى من عهد بعيد؟» قال: «نعم». قال: «وهل هو على ثقة من إخلاصه؟» قال: «لم يظهر لى منه ما يوجب شكا».
قال: «وهل تظن الشيعة يخلصون للخلفاء العباسيين؟».
فأطرق الإمام لحظة وقال: «لا أدرى». قال: «يأذن لى مولاى أن أصارحه القول، ونحن الآن على باب مستقبل جديد وانقلاب عظيم».
فاستغرب الإمام أحمد هذا التعبير وقال: «وأى انقلاب تعنى. كنا نخاف الانقلاب قبل عقد الصلح بين الخليفة وهولاكو، وأما الآن فلا تلبث الأمور أن تعود إلى مجاريها».
فابتسم ركن الدين ابتسامة تهكم واستخفاف وقال: «أن الذى بلغ مولاى ليس سوى خداع، وإذا كان المبلغ سحبان نفسه فإنه يكون قد تعمد الكذب، لأنه يعلم أن حقيقة هذا الاتفاق تخالف ظاهره. أن الحقيقة فى ذلك تقشعر منه الأبدان وتشمئز منها النفوس، أعذو بالله منها وأدعو الله أن ينجى الإمام أحمد من عواقبها».
فوقع هذا الكلام فى نفس الأمير وقعاً شديداً، وتهيب مما سمعه، وعظم أمر ركن الدين فى نفسه واصبح شديد الشوق إلى معرفة سر الأمر فقال: «أنى ارى الجد فى كل كلمة أسمعها وكل حركة أراها. قل أيها الأمير. أفصح. أنى شديد الثقة بك».
قال: «لو أن مولاى أطاع سحبان وذهب فى الأمر الذى دعى إليه لأصبحت بغداد وليس فيها واحد من نسل العباس كرم الله وجهه». قال ذلك وأبرقت عيناه واشتد لمعانهما لاضطراب النور الواقع عليهما من المصباح فخيل للأمير أحمد أنه يخاطب رسولاً هبط عليه من السماء. وقال: «كيف ذلك؟». قال: «لأن ظاهر الاتفاق بين المستعصم بالله وهولاكو أن يجتمع هذا بالخليفة وأهله للتصافى والصلح، وأما حقيقته فهى أن يغتنم هذا التترى الفرصة ويفتك ببنى العباس جميعاً».
فلما سمع الإمام أحمد ذلك ارتعدت فرائصه وقال: «وهل كان سحبان يعرف ذلك؟». قال: «نعم». فقال: «قبح من خائن» وبارك الله فيك!. أنى لا أنس لك هذه اليد ما حييت. ولكنى أجزع لما سحل بأهلى وقومى، هل أنت على ثقة مما تقول؟».
قال: «نعم. وفى الغد يظهر الحق، وعسى أن أكون مخطئاً فيكون ذلك الصلح صحيحاً وترجع الأحوال سيرتها الأولى ولا يكون من بأس على مولاى الإمام، وإذا لحقته من ذلك تبعه، فأنا أتحمل عنه كل تبعه وأفديه بروحى».
فازداد الأمير إعجاباً بركن الدين، وهان عليه أن يفعل كل ما يأمره به لأن أنقذه من الموت، فأخذ يثنى عليه ولا يعرف كيف يعبر عن شكره. فقال ركن الدين: «لم أقل ما عندى بعد». قال: «قل أيها الصديق».
قال: «إذا خلت بغداد من بنى العباس غدا تنحصر الإمامة فيكم، فلا تظهر للناس، واستتر كما استتر أئمتكم قبل ظهور دعوتكم على يد العباس والمنصور فى بغداد حتى يأذن الله بظهورها ثانية فى غير بغداد. ستظهر فى مصر، والقاهرة التى كانت عاصمة الفاطميين الذين يطمع سحبان هذا فى إرجاع ملكهم تصير عاصمة ثانية لبنى العباس».
فازداد الأمير دهشة من هذه المنن المتوالية، ورأى أنه قد آن له أن يكافئه على خدماته بمثلها فقال: «إذ شاء الله سبحانه وتعالى أن يحدث ما تقوله وتصير الخلافة إلى فالسلطنة فى مصر لا ينالها سوى الأمير ركن الدين بيبرس».
فوقع القول عنده موقع الرضا، وقال: «أن السلطنة يا سيدى ينالها الأقوى، وأما الخلافة فإنها حق موروث لا توهب ولا تباع».
قال: «وهل فى مصر من هو أهل للسلطنة سواك؟» وأطرق يفكر فيما هو فيه من غرائب الأمور، وتصور المستعصم وسائر أهله فشق عليه ذلك ودمعت عيناه وقال: «يشق على أيها الأمير أن يصيب بغداد ما تقوله».
فقال ركن الدين: «أظن مولاى لا يجهل سبب ذلك، أن التبعة فيه على فساد الأحكام وضعف الخليفة واستسلامه للملاهى والاشتغال بالغناء، فإنه لم يسمع بمغنية فى أطراف المملكة إلا بعث فى استقدامها، وأطاع المتملقين، فعل الله أزال هذه النعمة عنه ليضعها فيمن هو أهل لها».
فقال الأمير أحمد: «قد آن وقت العشاء فلنذهب إلى الصلاة ريثما يعدون لنا الطعام فنأكل ثم نذهب للرقاد التماساً للراحة».
فقال ركن الدين: «أنى طوع إرادة مولاى فى كل ما يريده إلا الرقاد، فليذهب مولاى إلى فراشه متى شاء، وأما أنا فسأمكث ساهراً أرقب ما أخشاه. أن خروج سحبان على النحو الذى خرج به لم يرضنى، ونحن على كل حال فى إبان فتنة كما يعلم مولاى».
فأعجب الأمير بيقظته وعلو همته وقال فى نفسه: «مثله يليق بالسيادة». ثم خاطبه قائلاً: «بارك الله فيك أيها الأمير وما الذى أخافك من سحبان؟».
قال: «أخافنى فشله وسكوته، ولو جادلنى وعنفنى على معارضتى له لما خفت خوفى من كظمة لأن الكظم يحبس الغيظ ويزيد النقمة».
قال: «لا ينبغى أن تخافه لأنه من أوليائنا وأصدقائنا».
قال: «لعلى مخطئ، وعلى كل حال أنى شديد الحذر، وأن شاء مولاى، فأنى رفيقة إلى الصلاة». فنهض الإمام أحمد وذهبا للصلاة فى مصلى خاص هناك، وعادا للعشاء.
•••
استحسن ركن الدين ما ظهر من تقوى الإمام أحمد وتدينه وتوكله، وجلسا إلى الطعام فتناولاه، والأمير أحمد يبالغ فى إكرام ركن الدين الذى أنقذه من القتل، فقال له ركن الدين: «لم أعمل من عند نفسى، إنما كان ذلك بقضاء الله مكافأة على حسنة من حسناتك الكثيرة».
فأطرق الأمير أحمد وهو يبتسم كأنه تذكر أمراٍ يسره تذكره، فتوقع ركن الدين أن يقص عليه سبب ابتسامه فسكت وأخذ يراعيه فقال الإمام أحمد: «أعلم أيها الأمير سبب ابتسامه فسكت وأخذ يراعيه فقال الإمام أحمد: «أعلم أيها الأمير أنى شديد الاعتقاد بأن من يعمل خيراً يلق خيراً، ولعل الله بعثك الليلة لإنقاذى من هذا الخطر مكافأة على حسنة وفقت إلى إتيانها بقضاء من الله».
فأعجب ركن الدين بتواضعه وأنصت يسمع تتمة الحديث فقال الإمام: «أحمد الله على ذلك التوفيق، فإنه من نعم المولى.. وقد وفقت إليه وأنا فى أشد الضنك، واستبشرت من تلك الساعة. وذلك أنى كنت سجيناً فى قصر الفردوس، وأنا صابر على السجن، ولا ذنب لى غير أنى من آل العباس المرشحين للخلافة. وكم شكوت إلى الله ذلك وتمنيت لو كنت من عامة الناس، ولكن الخليفة لم يقنع بالسجن فأراد مزيداً فى التضييق فأمر بنقلى إلى هذا القصر، فنقلونى ليلاً فى سفينة نزلنا فيها دجلة فى مثل هذا الوقت، وكان النوتية ومن جاء معهم من الجند يكرموننى ويؤانسوننى، لكن نفسى ضاقت وعظم على ذلك الظلم، وانفردت فى مكان عند مقدم السفينة أتشاغل بالتفرج على الماء فى الظلام، وكان نظرى يقع بين الفينة والفينة على سفن تمر بنا صعوداً أو نزولاً، واستأنس بنداء ملاحيها أو غنائهم إلا سفينة كانت سائرة على مقربة منا لم نسمع فيها صوتاً ولم نعلم بوجودها إلا من نور ضعيف كان معلقاً فى ساريتها، وقبل وصولنا إلى هذا القصر بقليل سمعت صيحة ورأيت شبحاً وقع فى الماء فحدثنى نفسى بجريمة، فناديت ربان سفينتنا وأمرته أن يتعقب تلك السفينة فلم يستطع لكنه عثر فى أثناء تفتيشه على غريق يتحرك ويستغيث، فأعانه وانتشله وهو على أخر رمق».
وكان ركن الدين يسمع الحديث وشوقه يتزايد إلى سماع تمامه، حتى إذا وصل إلى هنا خطر له أن الغريق الذى يشير إليه شوكار، فلم يتمالك أن صاح: «وهل هى حية؟» فاستغرب الإمام دهشته وتسرعه وسأله كيف عرف أنها امرأة؟
قال: «عرفتها يا سيدى عرفتها، قل بالله ماذا جرى؟»
قال: «فأخذ الملاحون فى معالجتها حتى أفاقت ورأينا شعرها مقصوصاً، ورأدنا الاستفهام منها عن حالها فلم نشأ أن نقول شيئاً، فلم نكرهها على ذلك».
فقال ركن الدين: «وهى شوكار يا سيدى، شوكار أريد أن أراها».
قال: «لا يا عزيزى، لو عرفت أن أمرها يهمك لاحتفظت بها».
فقال: «أين هى الآن؟» قال: «ولما وصلنا بها إلى هنا وارتاحت وبدلت ثيابها وانتعشت سألناها عن شأنها وعما تريد أن نساعدها عليه فلم تزد على أن شكرت فضلنا وأبت أن تبوح بشئ، لكن الملاحين عرفوا من شكل السفينة أن الفتاة من جوارى الخليفة قضى بإغراقها. ولم يجرؤ أحد منا أن يقص خبر هذه الفتاة على أحد، وبعد بضعة أيام سألتها إذا كانت تعرف أحداً فى بغداد تريد أن تذهب إليه، فقالت أنها تعرف سحبان، وتريد خادماً يوصلها إليه، فتنكرت بلباس الرجال وأرسلنا معها بعض الخدم يوصلونها إلى بيت سحبان فى الكاظمية. وكان ذلك فى صباح هذا اليوم ولما جاءنى سحبان ورأيته أنت عندى لم يكن قد علم بوصولها بعد».
فأطرق ركن الدين، وقد ثارت عواطفه وتضاربت أفكاره، وسر كثيراً لنجاة شوكار، لكنه أسف لذهابها إلى بيت سحبان، ولاسيما بعد أن وقع ما وقع بينهما فى ذلك المساء، وأصبح الإمام أحمد فى شوق إلى معرفة علاقة شوكار بركن الدين فسأله عن ذلك فقص عليه خلاصة تاريخ تلك العلاقة فى مصر وما ارتكبته سلافة إلى أخر الحديث، فأسف الإمام أسفاً شديداً لأنه بعثها إلى بيت سحبان، لكنه لم يلم نفسه لأنه لم يكن يعلم علاقتها بالأمير ركن الدين.
الفصل الخامس عشر
التتر يخربون بغداد
وبينما هما فى ذلك إذ سمعا ضوضاء فى حديقة القصر فاستغرب الإمام ذلك، ولكن ركن الدين لم يستغربه بل كان يتوقعه وقد استبطأه، فأوما إلى الإمام أن يظل فى مكانه، ووثب كالأسد حتى أتى الباب فرأى أحد الحراس قد دخل وأقفل الباب وراءه وهو فى اضطراب شديد، فقال له ركن الدين «ما بالكم؟»
قال: «التتر يا سيدى، دخلوا الحديقة وهم يطلبون القبض على مولانا الأمير وقد غضبوا لأنه لم يأتهم من تلقاء نفسه».
قال: «اذهب وقل لهم أنى خارج لهم بنفسى».
قال: «ولكنهم يطلبون الإمام وإلإ فأنهم يأخذوننا عنوة ويقتلوننا مع الإمام».
وسمع الإمام حديثهما فهرول وتوسل إلى ركن الدين ألا يعارض التتر فيما يريدون: وأنه يؤثر الذهاب معهم إلى الفسطاط.
فأشار ركن الدين إليه قائلاً «كن مطمئناً يا مولاى، لا يستطيع هؤلاء القوم أن يمسوا ظفراً من أظفارك قبل أن يستباح دمى».
قال: «وما الفائدة من إباحة دمك إذا فاز أولئك التتر علينا، وهم فائزون لأنهم أكثر عدداً وأقوى عدة».
قال: «لا تخف أنهم غير فائزين بإذن الله». قال ذلك وصعد إلى كوة الباب وأطل منها على الحديقة فرآها مزدحمة بالناس بينهم حملة المشاعل للإنارة وحملة العصبى والنبال والسيوف، وقد علا ضجيجهم وتعالت غوغاءهم وفى مقدمتهم رجل يظهر من هندامه أنه كبيرهم وبجانبه سحبان، فلما رأى سحبان معه تحقق عنده ما ظنه فيه منذ خرج من القصر على تلك الصورة. فناداه: «سحبان». فرفع سحباه بصره إلى ركن الدين وقال: «لابد من تسليم الأمير أحمد لأن خبره وصل إلى الخاقان هولاكو ولم يعد بالإمكان إخفاءه». قال: «أنى لا أرى تسليمه». قال: «لكن الخاقان أمر بالقبض عليه، وإلا فإن الجند يهاجمون القصر ويأخذونه عنوة».
قال: «أنهم لا يفعلون ذلك، ولم يخطر لهم أن يفعلوا لولا وشايتك فأرجع بهم، وذلك خير لك وأبقى».
قال: «لماذا تعترض وتعرض نفسك لهذا الأمر أيها الأمير وأنت فى غنى عنه؟»
قال: «وأنت أيضاً فى غنى عن هذه الدسائس».
قال: «فاتنى أن أخبرك أن شوكار عندى وأنت إنما جئت هذا البلد من أجلها فإذا شئت فأنى أدفعها إليك ودع هذا القصر».
فلما سمع قوله أحس بانقباض لأن سحبان يهدده بشوكار كأنه يقول له أنه إذا لم يطعه آذاه فيها فوقع فى حيرة فقال: «وما تعنى بذلك، وما دخل شوكار فيما نحن فيه؟»
قال: «لا أعلم، والآن افتح هذا القصر وإلا دخله الجند بالقوة. وأنت تعلم عقبى ذلك، ولا تنس أمر شوكار».
وكان الإمام أحمد واقفاً بجانب ركن الدين يحثه على الاستسلام ولاسيما بعد أن سمع هذا التهديد فيه وفى شوكار، فأخذ يحرضه ويلح فأبى ركن الدين. ولما أبطأ ركن الدين فى الخضوع وفى فتح باب القصر قال له سحبان: «لا تقل أن صديقك سحبان غدر بك، فأنى نصحتك مراراً وأعيد النصح الآن أن تسلم وإلا فأنت ومن فى القصر فى قبضة الجند ولن ترى شوكار أبداً».
وإذا بصوت صاح فى وسط الضوضاء قائلاً: «لا تصدق أيها الأمير أن شوكار معنا فى آمان، وعرف ركن الدين أن صوت عابد فصدقه وأحس بانفراج الأزمة واشتد قلبه ونظر إلى سحبان وقال: «لم أكن أتوقع منك يا سحبان أن تحرض الجند علينا».
فقال: «لم أحرضهم، ولكنهم قادمون بأمر الخاقان».
قال: «كذبت أن الخاقان لم يأمرهم بذلك بعد أن أعطانى الأمان أنا وسائر أهل هذا المنزل وهذا علم الأمان انظروه». قال ذلك وأخرج العلم الذى كان مؤيد الدين قد أعطاه إياه، ونشره فى النافذة فبان جلياً للناظرين، وحالماً رآه الجند التتر طأطأوا رؤوسهم إذعاناً وتحولوا من الحديقة راجعين، وسار سحبان فى أثرهم كالهارب، وركن الدين يرقبه، وقلبه يرقص فرحاً بذلك الفوز والإمام أحمد يضمه ويقبله شاكراً. فنزل ركن الدين إلى صحن الدار ونادى عابداً وسأله عنه شوكار فقال: «هى هنا يا سيدى، قد علمت بخروجها من هذا القصر من الخادم الذى أخذها إلى الكاظمية، فذهبت وأتيت بها لعلمى أن وجودها هناك يسبب عراقيل كثيرة».
فقال ركن الدين: «بورك فيك من صديق غيور، أنك لست خادماً، وهذه الأريحية والشهامة جديرة بالصداقة». ففرح عابد لهذا الأطراء وقال: «إذا شئت أن ترى شوكار فهلم إلى غرفتها». فمشى ركن الدين مسرعاً إلى تلك الغرفة، فرأى شوكار لا تزال متنكرة بثوب بعض الخصيان، فلما رأته طفرت الدموع من عينيها فرحاً وترامت على ركبتيه تقبلهما، فأنهضها وقبل رأسها وقال: «الحمد لله على سلامتك يا حبيبتى.. نشكر الله على هذه النعمة، والفضل الأكبر فى ذلك لمولانا الإمام حفظه الله».
قال الإمام: «الفضل كله لك أيها الأمير، وأهنئ شوكار بهذا النصيب».
والتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «كيف عرفت يا عابد خبر شوكار؟».
قال: «كنت جالساً فى الحديقة وصرة الشعر معى، فسألنى بعض الخدم عن خبرها، وحالماً رآها صاح: «ما أشبه هذا الشعر بشعر الفتاة التى وجدناها فى دجلة وأنقذناها من الغرق). وبعد أخذ ورد فهمت أن شوكار حملت إلى منزل سحبان، فذهبت بأسرع من لمح البصر وأتيت بها متنكرة كما تراها».
فكرر الثناء عليه، فازداد فرح عابد، ولكنه قال: «لا ينبغى لمولاى الإمام أن يبقى هنا».
فقال ركن الدين: «لماذا؟» قال «لأن التتر وإن كانوا قد تراجعوا فإن سحبان لا يلبث أن يذهب بنفسه إلى الخاقان أو غيره ويخبره بوجود الإمام هنا فيبعث فى طلبه.. لأنى رأيت فى طريقى من الفظائع ما لا يخطر ببال بشر».
فقال ركن الدين: «ماذا شاهدت، هل نزل التتر بغداد؟».
قال: «نزلوا دور الخلافة، ومعهم هولاكو نفسه، وتفقد تلك القصور، وأخرج من فيها من النساء وفرقهن فى رجاله».
فقال الإمام أحمد: «والخليفة؟ ماذا فعلوا به؟ أين هولاكو».
قال: «علمت أن مؤيد الدين الوزير حرض بنى العباس وجميع وجوه الدولة على الخروج إلى الفسطاط فقتلهم التتر عن أخرهم، ثم هجموا عند الغروب على قصور الخلافة وقتلوا كل من وجدوه هناك من أبناء الخلفاء ومن كان منهم صغيراً أخذوه أسيراً، والقتل الآن على أشده فى بغداد، والقائد التترى باجو قد عبر الجسر إلى الكرخ وغيرها وأخذ رجاله ينهبون ويقتلون، وقد علمت أن الكتب التى كانت فى خزائن قصور الخلافة أخرجوها وألقوها فى دجلة وهى شئ لا يعبر عنه لكثرته. وسمعتهم يذكرون اسم مولاى الإمام وسبب تغيبه، لأنهم لم يجدون فى قصر الفردوس كما كانوا يظنون، ولذلك قلت لكم لابد من السرعة فى الخروج الآن».
فوقع الرعب فى قلب الإمام أحمد، فالتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «أنت من أهل هذه البلاد فارشدنا إلى مكان نخفى فيه مولانا حتى تستقر الحال».
فأشار مطيعاً وقال: «ذلك على. فأمروا بأخذ ما خف حمله وغلا ثمنه واتبعونى».
فعمل الإمام أحمد وخادمه بما قاله عابد، ثم ركبوا قبل الفجر، وعابد يمشى فى مقدمتهم حتى خرجوا من بغداد، وعلموا فى اليوم التالى أن التتر يتعقبونهم فلم يروا بداً من الالتجاء إلى بعض قبائل العرب، فالتجأوا إلى قبيلة هناك مكث عندها الإمام ومعه عابد.
ولما اطمأن ركن الدين على مصير الإمام أوصى عابداً به خيراً، وسافر إلى مصر ومعه شوكار، حيث عقد زواجه بها، ووجد سلطان مصر نور الدين ابن عز الدين، فحرض الأمراء على التذمر منه لأنه غلام لا يصلح للحكومة، وبايعوا سيف الدين قطز سنة ???هـ. لأنه من سلالة ملوك خراسان، فصبر ركن الدين على ذلك وهو يسعى لتحقيق أمنيته ليتم له ما دبره من أمر نقل الخلافة إلى مصر.
وفى السنة التالية زحف هولاكو على سوريا وبعث يهدد قطز، فشاور الأمراء فأشاروا عليه بالحرب وفى مقدمتهم ركن الدين، فجرد حملة سار ركن الدين فيها، واضطر هولاكو إلى الرجوع لموت والده، وأخذ معظم جيشه معه، والتقى ما بقى من رجاله بجيش قطز فى فلسطين فى معركة فاز فيها المصريون وعادوا ظافرين. فاغتنم ركن الدين فرصة فى أثناء رجوعهم وقتل قطز، وكان قد تواطأ على ذلك مع رفاقه الأمراء ورضوا أن يتولى هو مكانه، فنادوا به سلطاناً على مصر سنة ???هـ. ولقب بالملك الظاهر. وحالما استقر له الأمر بعث فى استقدام الامير أحمد فجاءه فى السنة التالية، فبايعه خليفة ولقبه بالمستنصر بالله، وصارت الخلافة العباسية بمصر من ذلك الحين.