المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مفاتيح للتعامل مع القرآن


hania
10-26-2019, 09:10 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: مفاتيح للتعامل مع القرآن
المؤلف: د صلاح عبد الفتاح الخالدي
الناشر: دار القلم - دمشق
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
الإهداء
بسم الله الرحمن الرحيم* قال الله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: 122].
* وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
* وقال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
* وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [محمد: 24].
(1/5)
________________________________________
إلى الأساتذة الأفاضل المدرسين فى كلية الشريعة فى الجامعة الأردنية، الذين يقفون على ثغرة هامة من ثغور الإسلام.
إلى الطلبة الأعزاء: طلاب وطالبات كلية الشريعة فى الجامعة الأردنية، الذين رضوا أن يكونوا جنودا مخلصين لهذا الدين، فالتزموه فى إيمان بصير، وعزيمة واثقة، وثبات راشد، وعمل هاد.
إلى دعاة الإسلام فى كل مكان، واحات الإيمان فى صحراء الجاهلية، ونجوم الهداية فى ليلها البهيم.
إلى أهل القرآن هؤلاء أهدى هذه المفاتيح.
(1/7)
________________________________________
مقدّمة الطّبعة الثانية
قدّر الله أن يكون هذا الكتاب، هو الحلقة الأولى من سلسلة «من كنوز القرآن». وقد صدرت طبعته الأولى هام 1406 هـ- 1985 م.
وقد وفق الله لإصدار حلقات أخرى من هذه السلسلة، وهى: فى ظلال الإيمان، الشخصية اليهودية من خلال القرآن، تصويبات فى فهم بعض الآيات، مع قصص السابقين فى القرآن: 1، 2، 3، ولطائف قرآنية.
وبعد أن نفدت نسخ الطبعة الأولى من هذا الكتاب، فإننى رأيت أن أعهد بنشره إلى الدار الناشرة لكتبى، دار القلم للطباعة والنشر، جزى الله صاحبها الكريم الأستاذ محمد على دولة خير الجزاء، على اهتمامه بنشر العلم، وحرصه على إخراج الكتاب الإسلامى فى أحسن صورة.
وقد فكرت فى إجراء بعض التعديلات على هذا الكتاب، والتوسع فى الشرح والبيان، لكننى عدلت عن ذلك، ورأيت أن أبقى الكتاب كما هو.
(1/9)
________________________________________
على أن أخصص كتابا آخر فى المستقبل، عن مفاتيح أخرى لفهم القرآن، تتضمن قواعد أساسية فى أصول تأويل القرآن. والله المستعان.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور صلاح عبد الفتّاح الخالدى الاثنين 16 شعبان 1413 هـ 8 شباط 1993 م صويلح. ص. ب: 669
(1/10)
________________________________________
هذه السلسلة «من كنوز القرآن»
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه.
أما بعد:
فقد أوجب الله على المسلمين تدبر كتابه، وتكرار النظر فيه، فقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء: 82].
وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [محمد: 24].
وقد بيّنت الآية الثانية السبب الذى يحول بين المسلم وبين تدبر القرآن، وهو الأقفال الكثيرة التى توضع على القلوب، فتدعها فى غفلتها وظلامها وموتها، لا تحيا بالقرآن، ولا تصلها أنواره، ولا تتعامل معه، وهى تدعو أصحاب هذه القلوب إلى تكسير تلك الأقفال وإزالتها، وإلى فتح حنايا قلوبهم لهدى القرآن ونوره وضياءه، لتشرق بالنور وتدب فيها الحياة.
(1/11)
________________________________________
وهذا القرآن الحبيب العجيب المعجز، عجيب فى صفاته وسماته، غنى فى معانيه ودلالاته، ثمين فى كنوزه وحقائقه، حى فى نصوصه وتوجيهاته، قوى فى أهدافه وأغراضه، واقعى فى مهمته ورسالته، فاعل فى أثره ودوره .. معجز فى أسلوبه وهديه .. مستمر فى عطائه .. إنه ذو عطاء دائم متجدد، أقبل عليه المسلمون فى مختلف مراحل التاريخ الإسلامى، فوجدوا عنده ما يريدون وزيادة، قرءوه وتدبروه، وعاشوا به ونظروا فى نصوصه، وفسروا آياته، وبينوا شرائعه، وتحدثوا عن توجيهاته، واستخرجوا من كنوزه، وجنوا من ثماره .. والعلماء والمفسرون والمتدبرون أخذوا هذا فى كل قرن، وسجلوه فى كل عصر.
وبقى القرآن قادرا بحول الله على العطاء، كنوزه ثمينة مذخورة لا تنفد، ولو كثر المغترفون، ومعينه ثرّ كريم غزير لا ينضب، ولو كثر الشاربون، وظلاله ممتدة واسعة لا تزول، ولو توافد عليها المتفيئون .. وأنواره مشعة لا تخبو، ولو طال عليها الزمان وامتدت بها السنون .. ورسالته ومهمته متجددة حتى يدركها القرن العشرون، وما
بعده إلى أن يهلك العالمون أجمعون!!.
وقد صدق فى وصفه أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرّم الله وجهه، عند ما قال عنه: «هو كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخير ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حب الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه .. وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا
(1/12)
________________________________________
أَحَداً (2) [الجن: 1، 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .. ».
وهو فعلا لا تشبع منه العلماء، ولا تنقضى عجائبه .. فالعلماء على كثرتهم وتعدد ثقافاتهم ومدارسهم، أقبلوا عليه وأخذوا منه الكثير، ولم يشبعوا ولم يستقصوا. فكم سجلوا من معانيه، واستخرجوا من كنوزه، ومع ذلك بقى يعطى ويعطى، ويدعو الراغبين إليه، ليقفوا على ما لم يقف عليه السابقون، ويضيفوا إلى ما لاحظه أولئك وسجلوه.
وإن المؤمن عند ما يحسن تدبر القرآن والتعامل معه، يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وإيحاءاته. فإذا قارن هذا بما سجله السابقون، سيجد فيه إضافات وإضافات، وعند ما سيصحح مثلا خاطئا، أطلقه بعض الذين أرادوا إغلاق باب تدبر القرآن والحياة معه، فقالوا: «ما ترك الأول للآخر!!» سيصححه- بتحوير يسير فيه وتبديل كلمة بكلمة- فيقول: «كم ترك الأول للآخر» وكم هنا هى التكثيرية لا الاستفهامية! إن باب التفسير لا يمكن أن يغلق، وإن مدد التفسير لا ينفد، وإن أهل كل عصر سيحتاجون إلى تفاسير جديدة للقرآن، تعالج مشكلات عصرهم، وتحل قضايا مجتمعاتهم، وترد على الشبهات الجديدة التى أثارها أعداؤهم، وتوثق صلة المسلمين بقرآنهم، وتحسّن تعاملهم معه وحياتهم به ..
ونحن فى عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن، نتلوه ونتدبره، ونفهمه ونفسره، ونحيا به ونتعامل معه، ونستخرج المزيد من كنوزه المذخورة، ونتحرك به، ونجاهد الأعداء به، ونصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته .. لأن هذا
(1/13)
________________________________________
العصر هو عصر الهجمة الشرسة، التى شنها الثالوث النجس- اليهودية والصليبية والإلحاد- على الأمة، واخترق خطوط دفاعها الأولى، واحتل مواقع هامة فى عقول وقلوب ومجتمعات وحياة هذه الأمة .. فلا بدّ من اللجوء إلى القرآن، والإقبال عليه، ومواجهة الأعداء به، وجهادهم على هديه ..
ونحن الذين نعيش هذا العصر بمآسيه وآلامه، ونصطلى بوهجه وناره، قد ابتلانا الله بأن جعلنا فى مواجهة أعدائه، وامتحننا بأن أوقفنا فى ميدان المعركة معهم، ووضعنا على ثغرة هامة من الثغور أمامهم، ومن علينا بأن جعلنا من رجاله وجنوده، ومن أهل القرآن وحملته والناظرين فيه .. نرجو الله أن يعيننا فى هذا الابتلاء، وأن يكتب لنا النجاح فى هذا الامتحان، والتوفيق فى العمل فى الميدان، والثبات فى الثغرة، والانتصار فى المواقع، والأجر والثواب فى الحياة الدنيا، والجنة الغالية يوم القيامة ..
منّ الله علينا بفضله بالنظر فى القرآن- وهو نظر عاجز كليل- وبتدبره وفهمه وتفسيره- وهو جهد ناقص قليل- فاستعنا بالله وحده، فى أن نعيش فى ظلال القرآن، وأن نصحبه فى رحلة شيقة ممتعة، نحاول أن نغترف من كنوزه المذخورة، وأن نرتوى من معينه العذب، وأن نستخدم مفاتيح نافعة صالحة إن شاء الله، لحسن التعامل معه، والتلقى عنه، والحياة به ..
وأحببنا أن نقدم ما يفتح الله به علينا من ذلك لقراء القرآن، وأن نضع بين يدى جنوده وحملته وأهله ما نستخرجه من كنوزه، وما نجنيه من ثماره، وما نقف عليه من حقائقه ومعانيه وتقريراته ..
فكانت هذه السلسلة «من كنوز القرآن المذخورة» وسنحرص بإذن الله
(1/14)
________________________________________
أن نأتى بالجديد المفيد، وإن لا نكرر ما قاله السابقون- ما أمكن- ونحاول أن يكون ما نقدمه فى هذه السلسلة، له ارتباط مباشر بالإيمان والعمل، والتربية والتوجيه، والواقع والحركة، والجهاد والدعوة، والمنهجية والعلمية والموضوعية، ولن نلتفت كثيرا إلى كنوز القرآن فى اللغة والبلاغة، والبيان والنحو، والفقه والأحكام، والجدل والخلاف، وغير ذلك لأن هذه الموضوعات تزخر بها الكتب السابقة! ..
وقد بدأنا هذه السلسلة بهذا الكتاب «مفاتيح للتعامل مع القرآن» أساسا لما يليه من كتب قادمة، بعون الله.
ومن الله وحده نستمد العون والتوفيق، وهو الهادى إلى سواء السبيل ..
(1/15)
________________________________________
هذا الكتاب «مفاتيح للتعامل مع القرآن»
مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها فى استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. ولهذا بدأنا سلسلتنا بهذا الكتاب، باعتباره أساسا لها، وتمهيدا لما سيليه من حلقاتها، وباعتباره يسجل نظرتنا إلى القرآن، ويبين منهجنا فى التعامل معه، وخطتنا فى استخراج كنوزه، ويدل القارئ الكريم على الوسيلة التى استخدمناها، ليحاول هو استخدامها .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدى أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها فى صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..
وعندها سيقفون على ما لم نقف عليه، ويلاحظون ما فاتتنا ملاحظته، ويستخرجون منه المزيد من الكنوز واللطائف والمعارف، والدروس والعبر والعظات، والمعانى والحقائق والتقريرات.
وهذه المفاتيح حصّلناها بفضل الله وتوفيقه، من نظراتنا الكليلة القاصرة فى القرآن، ومن اطلاعنا القاصر على التفاسير- وفى طليعتها «فى ظلال القرآن» - ومن قراءتنا الناقصة فى كتب تحدثت عن القرآن، وأشارت إلى مبادئ أساسية لفهمه وكيفية تدبره والحياة به.
لقد كنت حريصا على الحديث عن هذه المفاتيح والإشارة إليها،
(1/16)
________________________________________
أثناء تدريسى لمواد التفسير وعلوم القرآن لطلبة كلية العلوم الإسلامية- التابعة لوزارة الأوقاف- ولطلاب وطالبات كلية الشريعة فى الجامعة الأردنية.
كنت أبدأ محاضرات الفصل الدراسى بالحديث عن هذه المفاتيح، وأشير إلى أهمية وضرورة إدراكهم لها واستخدامهم لها .. وأورد بعض هذه المفاتيح أثناء تفسير آيات سورة الأنعام- فى مادة تفسير «2» - وتفسير آيات جزء «قد سمع» - فى مادة تفسير «3» - وكنت ألاحظ الاهتمام والتفاعل عند الطلاب والطالبات، والفرح والسرور بالوقوف على هذه المفاتيح .. وكنت أحرص على أن أضيف إليها ما يهدينى الله إليه، وأن أقدمه لهم فى قاعات التدريس.
ولم أفكر فى أن أكتب كتابا يعرض هذه المفاتيح والقواعد والأسس، بل كنت اكتفى بأن أعيشها، وأحاول استخدامها وإرشاد الآخرين إليها ..
حتى كان الفصل الدراسى الثانى للعام الجامعى 84 - 1985، حيث درست طلاب وطالبات كلية الشريعة فى الجامعة الأردنية مادة تفسير «3» ومادة «دراسات قرآنية» .. وأعدت طالبات الجمعيات العلمية فى الكلية موسما ثقافيا لهذا العام، ورغبن إليّ أن أبدأ هذا الموسم بمحاضرة جعلن عنوانها «كيف نحيا بالقرآن» .. وأخذت أبحث فى المراجع، واستغرق هذا منى أياما اطلعت فيها على طائفة من كتب التفسير وعلوم القرآن والحديث والفضائل والتزكية .. وألقيت المحاضرة فى مدرج كلية الشريعة يوم السبت 8 رجب 1405 هـ (30/ 3/ 1985). كما دعيت إلى إلقائها فى مدارس ومساجد أخرى، والحمد لله على توفيقه وفضله وإنعامه ..
ثم وجدت لديّ الرغبة فى أن أجمع هذه المفاتيح وأتحدث عنها، وأخرجها فى رسالة للناس .. لعلهم يجدون فيها نفعا، ولعلها تقودهم إلى حسن التعامل مع القرآن، واستخراج كنوزه وذخائره ومعانيه ..
(1/17)
________________________________________
وها هى ذى أقدمها لأهل القرآن وجنوده، راجيا أن يجدوا فيها بعض ما يعينهم على تحقيق هذه الغاية ..
هذا وأحب أن أشير هنا إلى أننى لم أبدأ البحث من فراغ، وإنما استعنت بالله أولا، ثم أقبلت على القرآن، واستخلصت ما يمكن استخلاصه منه، وكنت أقرأ فى كتب عرض أصحابها للقرآن وتفسيره وفضائله ومزاياه، وأشاروا إلى قواعد تدبره وكيفية الحياة به وآداب تلاوته .. وغير ذلك ..
قرأت فى هذه الكتب، وكوّنت منها خلفية علمية وحصيلة ثقافية، كانت ترتدّ إلى ذاكرتى بعض أفكارها وآراء أصحابها والقواعد والأسس التى عرضوا لها فيها ..
فعلى الرغم من أننى لم آخذ من هذه الكتب بالنص- إلّا نادرا وكنت أشير إليه- فإننى أعتقد أن ما قدمته فى هذا الكتاب يتصل بتلك الأفكار والآراء والقواعد بصلة نسب، ويأخذ منها عند ما ارتدت إلى العقل والباطن ومخزن المعلومات فى الذاكرة .. وإن لم تبرز هذه الصلة فى الجمل والعبارات، فقد تبدو فى المعانى والأفكار العامة ..
وأضع بين يدي القراء أهم الكتب التى تحدثت عن القرآن وبينت فضائله وآداب تلاوته وقواعد تدبره وأسس فهمه: فصول فى آداب تلاوة القرآن من كتب: «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالى، «الإتقان فى علوم القرآن» للسيوطى وغير ذلك. وحديث عن فضائل القرآن فى مقدمات تفسير القرطبى والقاسمى- على سبيل المثال- وكتاب «فضائل القرآن» للامام ابن كثير، ملحق فى الجزء الرابع من تفسيره، وقد طبع مستقلا. و «التبيان فى آداب حملة القرآن» للإمام النووى. ومقدمات تفسير القرآن «للإمام الشهيد حسن البنا»، و «مبادئ أساسية لفهم القرآن» لأبى الأعلى المودودى. و «كيف نتأدب مع المصحف» للفرجانى، و «التكميل فى
(1/18)
________________________________________
أصول التأويل» و «دلائل النظام» كلاهما لعالم القرآن العظيم ومفسره صاحب النظرات الفريدة فيه التى لم يقلها أحد قبله ولا بعده «المعلم» عبد الحميد الفراهى الهندى. و «قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل» لعبد الرحمن حبنكة الميدانى. و «كيف نحيا بالقرآن»؟ لنبيه عبد ربه ..
وأقرر هنا أن أغلب ما أخذته وما وقفت عليه من هذه المفاتيح إنما كان من التفسير الرائد «فى ظلال القرآن» للإمام الشهيد سيد قطب.
إننى أدعوا القراء الكرام إلى أن يقبلوا على هذه المفاتيح بنظرات فاحصة، وملكة نقدية، وأرجو أن يصححوا لى فهمى، ويصوبوا لى استنتاجى، ويستدركوا على كلامى .. فنحن ما زلنا نحبو فى ظلال القرآن، ونتطفل على مائدة القرآن، ونتعلم الأساسيات من علوم القرآن، وإن النقص من سمات البشر. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85).
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدى الخميس فى 17 شوال 1405 هـ 4/ تموز/ 1985 م
(1/19)
________________________________________
حديث القرآن عن القرآن: أسماؤه وسماته
وردت فى القرآن الكريم صفات وسمات لكتاب الله، وسجلت آياته أوصافا وخصائص واضحة لهذا الكتاب المعجز، ولاحظت آثاره المباركة الخيرة على الأفراد والجماعات، وأبرزت مظاهر النقلة البعيدة التى ينتقل إليها المؤمنون الأحياء المبصرون، من خلال تفاعلهم الحى مع القرآن، وحياتهم الطاهرة فى ظلاله ..
ويجب علينا- ونحن نتلو القرآن ونتدبره- أن نلاحظ هذه الصفات والسمات، وأن نقف طويلا أمام الآيات التى تعرضها، وأن نعيشها بكامل كياننا وكافة مشاعرنا ودقائق حياتنا ..
إن الله سبحانه يريد أن يعرّفنا بكلامه العظيم فى كتابه الكريم، وأن نلاحظ الحياة المباركة فيه، وأن نعيش هذه الحياة فى ظلاله .. ولذلك عرض لنا طائفة من أسماء القرآن وصفاته وخصائصه وسماته .. فلنقبل عليها بوعى وتدبر وتفاعل، لنعرف طبيعة هذا القرآن ومهمته ودوره ورسالته .. لأنه لا أحد أعلم بكلام الله من الله سبحانه .. وإنّ تفضّل الله علينا بتعريفنا على كتابه لهو نعمة سابغة، ورحمة باهرة، علينا أن نقابلها بالتوجه إلى الله سبحانه بالحمد والشكر، والإخلاص، والحب، والإقبال على كتابه الكريم بالتدبر والتذوق والالتزام والتطبيق، لنعرف طعم الحياة، ونتذوق ألوانها ومظاهرها.
(1/20)
________________________________________
ونقدم فيما يلى طائفة من أسماء القرآن وخصائصه، وسماته وصفاته، وفضائله وآثاره، كما وردت فى نصوصه وآياته ..

1 - القرآن
: هو أشهر هذه الأسماء وأبرزها وأظهرها، وقد خص الله كتابه المنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم، حيث لم يطلق على كتب الله السماوية السابقة. والقرآن مشتق من القراءة (كما هو الراجح عند علماء القرآن). وقد خص بالكتاب المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فصار علما عليه ..
وأورد الراغب فى مفرداته قول أحد العلماء: «تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين كتب الله لكونه جامعا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم» كما أشار إليه بقوله: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف: 111] [المفردات: 402].
ولعل فى اختيار هذا الاسم الكريم- المتميز المتفرد- إشارة بارزة إلى وجوب تميز وتفرد الأمة الإسلامية- الأمينة على قرآنها وعلى وجودها وعلى البشرية من حولها- بحيث لا تأخذ فى مناهج حياتها من غير هذا القرآن الكريم.
أخبر الله عن بدء نزول القرآن فى شهر رمضان المبارك بقوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185].
وقال تعالى فى وصف هذا القرآن ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) [ق: 1] وقال: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1] ووصف القرآن بأنه عربى مبين فى قوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) [فصلت: 3].
(1/21)
________________________________________
وقرر الله أن هذا القرآن ميسر للذكر- لمن أراد أن يذكر ويتذكر، ولمن تعامل معه بقلب حى وتأثر بالغ- فقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)؟ [القمر: 17].
وبيّن أنه ضرب فى هذا القرآن للناس من كل مثل لعلهم يتفكرون أو يتذكرون، ولكنهم غفلوا عن هذه الأمثال وأعرضوا عنها، واختاروا أن يعيشوا فى ريبهم وكفرهم يترددون. فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89) [الإسراء: 89].
وأعلمنا الله أن الكفار لا يحبون سماع هذا القرآن، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن فإن الحاجز السميك، والحجاب الساتر، يرتفع بينه وبين أولئك الكفار، وأن هذا الحجاب الحاجز يتمثل فى الأغطية على القلوب، وفى الصمم فى الآذان، فلا تعى ولا تتدبر كلام الله، ولذلك يعرضون عن القارئ لكلام الله، ويولون مدبرين نافرين، فقال تعالى:
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) [الإسراء: 45، 46].
ودعانا الله إلى أن نتهيأ لتلاوة القرآن، وأن نستعد لها استعدادا خاصا، بأن نتوجه إلى الله قبلها، نستعيذ به من الشيطان، لتكون هذه الاستعاذة وسيلة لتدبر كلام الله، فقال: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) [النحل: 98].
وطالبنا الله بالأدب الجم مع القرآن، عند ما نسمع آياته تتلى علينا، فلا بد من الاستماع لها بكامل كياننا الإنسانى، وفتح كل منافذ القلب لتصل إليه وتتفاعل معه. وفرق بين السماع والاستماع، إذ أن السماع هو وصول
(1/22)
________________________________________
الأصوات إلى الأذن، ولكنه قد يكون سماعا عرضيا غير مقصود .. أما الاستماع فهو مشاركة الحواس والأجهزة المختلفة فى المسلم للأذن، فى التفاعل والتدبر والتلقى والانفعال. قال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) [الأعراف: 204].
وبيّن أثر القرآن على الجبال الجوامد- لو خاطبها به- وتفاعلها معه، وأبرز مظاهر التأثير والانفعال عليها فقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) [الحشر: 21] وقال: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31].
ولقد أمرنا الله بتدبر القرآن، والوقوف طويلا أمام آياته، وملاحظة إيحاءاتها وتوجيهاتها ومعانيها وحقائقها، ووضع أيدينا على العلة التى تحول بيننا وبين هذا التدبر، والداء الذى يعوقنا عن القيام به، وذلك حتى نقضى على تلك العلة، ونزيل ذلك الداء، وهو الأقفال على القلوب، التى توصدها أمام النور والهدى والخير والحياة، وهذه الأقفال هى الشهوات والمعاصى والإقبال على الدنيا، وملء القلب من كل ذلك، بحيث لا يبقى فيه متسعا لتدبر أو هدى أو إيمان .. فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [محمد: 24].
وأرشد الله إلى أن نجعل التدبر وسيلة لا غاية، ولا نقعد عنده ونتشاغل به عن الهدف المنشود، وهو زيادة الإيمان والثقة واليقين بكلام الله، وملاحظة تناسقه وتناسبه وإدراك مهمته وأغراضه، وتلقّى حقائقه ومقرراته .. فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء: 82].
(1/23)
________________________________________
ومن الله علينا بأن أخبرنا أننا إن راعينا ما سبق فى التعامل مع القرآن وتلاوته وتدبره، فإننا سنحصل على الهدى الراشد، والنور الهادى، والشفاء الناجع، فالقرآن هدى للأفراد والمجتمعات، ونور لكل مرافق الحياة الفردية والجماعية، وشفاء لكافة أمراض وعلل الأمة فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء: 9] وقال أيضا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء: 82].
وصدق الله إذ وصف كتابه بصفة الحكمة، وهى صفة عجيبة لا يوصف بها إلّا العقلاء!! ولعلنا عند ما نعيش مع القرآن كما يريد الله، ونحيا به على منهج الله، نلاحظ بعض جوانب الحكمة فى قرآننا العجيب الحكيم! قال تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: 1 - 2].
وقد ذم الله الكفار الّذين قسموا القرآن، وأطلقوا عليه صفات باطلة- ليصدوا الناس عن الإيمان به- فقالوا عنه: سحر وشعر وكهانة، وهذا الذم ينصرف على اليهود والنصارى الّذين قسموا كتبهم السماوية أقساما، وجزّءوها أجزاء، فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، اتباعا لشهواتهم وأهوائهم، وأرى أن هذا ينصرف إلى المسلمين الّذين يجزئون القرآن ويقسمونه، ويأخذون منه جزءا ويتركون أجزاء، ويظهرون منه قسما ويخفون أقساما، ويؤمنون بموضوع منه ويكفرون بموضوعات!!. وقال تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) [الحجر:
90 - 91] وعضين أى مفرقا، حيث قالوا كهانة وقالوا أساطير الأولين إلى غير ذلك مما وصفوه به (المفردات: 238).
وسجل القرآن الكريم شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه، من الكفار
(1/24)
________________________________________
وإعراضهم عن القرآن وهجرهم له. فقال: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) [الفرقان: 30].
بل سجل القرآن أسلوبا من أساليب الكفار فى مواجهتهم لهذا القرآن، ومحاربتهم له، وبذلهم كل ما فى وسعهم من طاقة لطمس نوره والقضاء عليه .. وهيهات هيهات!! إنهم يلجئون إلى وسيلة خسيسة تنبئ عن هزيمتهم الداخلية أمام القرآن، واضطرابهم النفسى أمام حقائقه، واعترافهم- الضمنى الملحوظ- بعجزهم عن مواجهته، وفشلهم فى محاربته .. إنهم يطلبون من الجماهير المخدوعة المستغفلة أن لا تسمع لهذا القرآن- لأنها إن استمعت بكيانها كله آمنت به- وأن تستعيض عن ذلك باللغو والصياح والضجيج، والتظاهرة الإعلامية ورفع الأصوات اللاغية، والمكاء والصفير، والتصدية والتصفيق .. لعلهم يغلبون هذا الحق ويطمسون هذا النور، ويغطون نور الشمس برقعة منديل! .. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) [فصّلت: 26].

2 - الكتاب
: وهو الاسم الثانى للقرآن الكريم، وقد ذكر كثيرا فى آياته، وتردد كثيرا فى سوره، وهو يلى القرآن فى الشهرة وكثرة الذكر، والقرآن كتاب باعتباره مكتوبا، مضمومة حروفه وكلماته وآياته عن طريق الخط والكتابة ..
ومن تسمية كلام الله بهذين الاسمين القرآن والكتاب. يلاحظ معنى الضم والجمع، فإن القرآن مشتق من القراءة والقراءة- كما يقول الإمام الراغب فى مفرداته- «هى ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض فى الترتيل» (المفردات: 402) والكتاب مشتق من الكتابة، وهى- كما يقول الراغب أيضا- «ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وقد يقال ذلك
(1/25)
________________________________________
للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ، فالأصل فى الكتابة النظم بالخط، لكن يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمى كلام الله- وإن لم يكتب- كتابا (المفردات: 423).
ونحن نرى كلمات وآيات القرآن مضمومة إلى بعضها ضما متناسقا متماسكا معجزا، وكل من قرأ فى القرآن وسمع آيات منه، أو كتب ألفاظا وكلمات منه يلحظ معنى الضم فى كل ذلك ..
وتبدو هناك حكمة أخرى من تسمية كلام الله بهذين الاسمين: القرآن والكتاب، وقد أورد هذه الحكمة العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز فى كتابه القيم «النبأ العظيم»، وخلاصتها: أن الله أراد من هذين الاسمين أن يتحقق الجمع الوثيق لكلامه، وأن يوجد الحفظ التام المطلق لكل سوره وآياته وكلماته وحروفه، وأن لا يرد على النفس المسلمة احتمال ولو يسيرا عن تعرض شيء منها للتحريف أو الضياع أو النقصان .. ولذلك تم حفظ القرآن بوسيلتين عمليتين، هما القمة فى وسائل الحفظ والتوثيق:
وسيلة القراءة، ووسيلة الكتابة: «فلا يقبل القرآن المقروء ما لم يعرض على المصحف العثمانى المكتوب ويتفق معه، ولا يقبل المكتوب ما لم يتفق مع تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه للقرآن، وإقرائهم له وقراءته له أمامهم» .. [انظر النبأ العظيم: 7 - 9].
هذا الكتاب الذى أنزله الله هو حق لا ريب فيه، وهو هدى للمتقين.
قال تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة:
1 - 2].
وهو كتاب حكيم كما أنه قرآن حكيم .. الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) [يونس: 10]، وقد أحكمت آياته ثم فصلت ووضحت
(1/26)
________________________________________
وبينت، وقدمت للناس ليؤمنوا بها الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود: 1].
وخاطب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنه أنزل عليه القرآن، وذلك ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكتاب الله هو الوسيلة الوحيدة لهذا الإخراج، وأية وسيلة أخرى غيره إنما هى أوهام وظنون وتخرصات، ولا تنتج إلّا مزيدا من الظلمات. قال تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم: 1].
وأعلمه أنه أنزل إليه الذكر والكتاب تبيانا لكل شيء وتفصيلا له، وهو بهذا التبيان هدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) [النحل: 89]، وقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل: 44].
بل قصر الله مهمة الكتاب الكريم على هذا البيان، وحصرها به، وطالب رسوله عليه الصلاة والسلام بالقيام بذلك وتبليغه وأدائه .. وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) [النحل: 64].
وورود ثلاث آيات كريمة فى سورة واحدة- هى سورة النحل- تحدد مهمة هذا الكتاب وتقصرها على البيان والتبيان، وتطالب الرسول عليه السّلام بذلك، ذو دلالة خاصة على هذا، ويشير إلى تفرد سورة النحل بذلك- وهى سورة النعم، وأية نعمة أعظم من نعمة التبيان والبيان من خلال القرآن- .. كما نشير إلى صياغة الآيات الكريمة، حيث جعلت
(1/27)
________________________________________
التبيان القرآنى عاما للناس جميعا، وخصصت ما فيه من رحمة وهدى وبشرى للمسلمين فقط، لأن هذه الثلاثة مرتبطة بالإيمان الإسلامى ومبنية عليه، ولا توجد عند فقده.
ويطالب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يقوم بهذا التبيان والبلاغ والإنذار للناس، وأن لا يدع للحرج أو الضيق مجالا ينفذ منه إلى صدره، لأنه يعوقه عن أداء هذا الواجب، فلا حرج فيه وإن خالف ما عليه الناس، وإن فاجأهم بما لا يتوقعونه!! ولماذا يتحرج الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لا يتلقى الحقائق والقيم والأعراف والموازين والمبادئ والتوجيهات من الناس، إنما يتلقى كل ذلك من رب الناس، ويكفيه أن الله يشهد له، ويكون معه، وينصره ويثبته، ويأجره على فعله .. قال تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) [الأعراف: 1 - 2].
ويخبر الله سبحانه رسوله عليه الصلاة والسلام، بوظيفة هذا الكتاب المنزل عليه، الوظيفة التى تجعل له وجودا ومهمة، والتى تبرز من خلالها الحياة فيه، وتظهر آثاره، وتجنى ثماره، تلك هى الحكم بين الناس بالحق .. قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105].
هذا وبيّن لنا الله الوسيلة التى تضمن لهذا الكتاب الحق أن يحقق وجوده عمليا، وأن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يقود الناس إلى الحق، تلك الوسيلة هى القوة المادية التى تحرسه وتحميه، والتى تهيّئ له الناصر البشرى الذى يطبقه وينفذ أحكامه، وبدون هذه القوة يبقى حقا نظريا مقيدا عن العمل فى الواقع، ويتحول إلى حق مضيع، يعدو عليه كل جبان، وينتقصه كل ضعيف، ويعوى عليه كل نابح!!. قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ
(1/28)
________________________________________
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) [الحديد: 25].
وقد أشار القرآن إلى وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام فى تعليم الأمة كتاب الله، فسجل دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بذلك منذ زمن بعيد، حيث دعوا الله أن يبعث للبشرية خيرا وطهرا ونورا وهداية ..
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة: 129].
وأخبرنا الله أنه استجاب دعوة النبيين الصالحين عليهما الصلاة والسلام فقال تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) [البقرة: 151].
وقال تعالى مظهرا المنة الربانية العظمى علينا ببعثة النبى عليه الصلاة والسلام، وإخراجه هذه الأمة بإذن ربها من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الموت إلى الحياة لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران: 164].
وتتحدث آية من سورة الجمعة عن نفس الموضوع، حديثا يتناسق مع موضوع السورة وشخصيتها المستقلة، فتقول: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) [الجمعة: 2].
ونلاحظ فى صياغة الآيات الثلاث أمرا لافتا للنظر، وذا دلالة تربوية عميقة، وكأنى بهذه الآيات الثلاث تشير إلى منهج تربوى راشد ناجح،
(1/29)
________________________________________
وتدعو المخططين والموجهين والمربين فى عالمنا اليوم، وواضعى الخطط والمناهج التربوية والكتب التعليمية إلى ملاحظة هذه الإشارة القرآنية واللفتة التعليمية فيها .. تلك هى ترتيب المهمة التربوية التعليمية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، والعطف على وسائلها بالواو، وتقديم الأساس على البناء، والتمهيد على الموضوع، والبذرة والشجرة على الثمرة والجنى، والمقدمة على النتيجة، نأخذ كل هذا من عطف الأفعال المضارعة فى قوله: «يتلو عليهم آياته .. ويزكيهم .. ويعلمهم الكتاب والحكمة» إنها مراحل ثلاث متدرجة متتابعة مرتبة: تلاوة القرآن كتمهيد وتخلية واستعداد وتهيئة، ثم تزكية النفوس وتطهيرها من أمراضها وأدرانها ونقائصها ورذائلها .. وأخيرا تأتى عملية التعليم لهذه النفوس بعد ما استعدت وتهيأت، وبعد ما تطهرت وزكت .. وبعد ما أشرقت واستنارت، تأتى عملية التعليم ثمرة مباركة لشجرة الإيمان والتزكية، ونتيجة معطاءة لمقدمات مدروسة صحيحة، وهدى ورحمة وخيرا وسعادة للمتعلمين، ولأمتهم وللإنسانية من حولهم ..
وقد وصف الله كتابه بصفة البركة، ووسمه بهذه السمة، ودعانا إلى تلمس مظاهر هذه الصفة، والوقوف على ألوان البركة القرآنية الشاملة العامة، ولا أعنى بها البركة بمفهومها المنتشر عند المسلمين اليوم من الخير والعطاء والزيادة فى الأجر والثواب، لا أعنى هذا فقط- كما أننى لا أنفيه من القرآن، فهو مبارك بهذا المفهوم- وإنما أعنى بها البركة فى المفهوم القرآنى، وهى- كما قال العلامة الراغب الأصفهانى فى كتابه الفريد المفردات- «والبركة ثبوت الخير الإلهى فى الشيء، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء فى البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، ومن ذلك وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) [الأنبياء: 50].
(1/30)
________________________________________
تنبيها على ما يفيض عليه من الخيرات الالهية .. » إلى أن يقول:
«ولما كان الخير الإلهى يصدر من حيث لا يحس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة .. » (المفردات: 44).
فكتاب الله الكريم مبارك بكل صور البركة وألوانها، وتتجلى فيه كل مظاهر البركة وآفاقها، وأصولها وفروعها .. قال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: 92]، وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) [الأنعام: 155]. وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [ص: 29].
ونلاحظ فى القرآن آية كريمة قسمت المسلمين فى تعاملهم مع كتاب الله أقساما ثلاثة، فهم قد ورثوا كتاب الله، ولكنهم ليسوا على مستوى واحد فى هذه الوراثة، ولا على درجة واحدة فى الاعتناء بهذا الموروث الكريم، والكنز العتيق، والبركة الغامرة، فمنهم من ظلم نفسه فى التعامل مع كتاب الله وتطبيقه، فقصر فى الواجبات وارتكب المحرمات، ومنهم من هو مقتصد لا يريد أن تزيد طاعاته على معاصيه ولا العكس، والصنف الثالث هو الفائز الناجح، وهو السابق بالخيرات، والمستزيد من الطاعات، والمكثر من الحسنات ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) [فاطر: 32].

3 - الذكر
: قال تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1]، وقال تعالى:
(1/31)
________________________________________
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل: 44].
وفى القرآن الذكر المجيد لهذه الأمة، فقد كانت قبل هذا القرآن نكرة من النكرات، تعيش وتموت ولا يحس بها أحد إن عاشت أو ماتت .. ثم أعلى القرآن ذكرها، وبوأها مكانتها، وأسلمها قيادة البشرية، وجعلها قائدة ورائدة، وفى مركز الأستاذية والوصاية والرعاية .. ولا ذكر لهذه الأمة إلّا بالتزام الذكر الربانى، والانطلاق به والظهور من خلاله. هذا أو العودة إلى زوايا النسيان وعالم النكرات، وذيل القافلة وسقط المتاع .. قال تعالى:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) [الأنبياء: 10]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) [الزخرف: 44].
وهذا الذكر المبارك لا يستفيد منه إلّا من كان صاحب قلب حى متفاعل، فيمتزج الذكر الربانى مع القلب الإيمانى، وتسرى الحياة مع القرآن إلى القلب فتحييه .. وتظهر سمات الحياة القرآنية على الجوارح، وتلحظ على السلوك، وتكون ثمارا يانعة خيرة فى الواقع المعاش .. قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) [يس: 69 - 70].

4 - الروح
: قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى: 52]. ونأخذ هذه الآية على حقيقتها، ونأخذ هذه السمة القرآنية على ظاهرها، فإنه روح وإنه حى وإنه حياة، والإنسان يكون ميتا بين الأموات، يكون ميت القلب
والإحساس والشعور، ثم يتفاعل مع الروح
(1/32)
________________________________________
القرآنى المحيى، ويفتح لهذه الروح قلبه وأحاسيسه وكيانه فتدب فى هذا القلب الحياة، وتنعكس على الظاهر فى الحياة .. وصدق الله القائل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) [الأنعام: 122].

5 - النور
: القرآن نور يشرق فى قلب المؤمن فيزهر بالإيمان، ويشرق فى حياته فينيرها له، ويشرق فى سماء الأمة فيكون ضياء وسعادة وهدى وخيرا، ويشرق فى البشرية فتعرف مواقعها وتهتدى إلى طريقها- إن أرادت سواء السبيل- قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) [المائدة: 15 - 16]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) [التغابن: 8].

6 - الفرقان
: به يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين النور والظلمات، ففيه وحده الحق والهدى والنور، ونقيضه وضده هو باطل وضلال وظلام .. قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ .. [آل عمران: 3 - 4]، وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [الفرقان: 1].
(1/33)
________________________________________
7 - البرهان
: فهو برهان من الله لعباده، أقام به الحجة عليهم، وأظهر من خلاله أوضح الدلالات وأقواها، على موضوعاته ومعانيه وحقائقه، فى العقيدة والحياة .. وكل من تعامل مع أدلة القرآن فى يسرها ووضوحها وتفاعل القلب والعقل معها، وقارنها بالأدلة والبراهين والأقيسة التى أوجدتها العقول البشرية وقررتها وبينتها، كل من فعل ذلك يدرك طرفا من البرهان القرآنى ويسره ووضوحه .. قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) [النساء: 174 - 175].

8 - والقرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة للمؤمنين
: قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) [يونس: 57].
إنه موعظة من الله، وهل هناك أبلغ من الموعظة الربانية؟ وأيسر منها؟
وأكثر منها نفاذا إلى القلب والضمير؟ .. إن مواعظ البشر مهما سمت فى البلاغة والتأثير، عاجزة عن أن تقارب الموعظة القرآنية أو تدانيها، ولو أقبل الدعاة والوعاظ على الموعظة القرآنية وخاطبوا المسلمين بها، لتغلغل الكلام فى قلوبهم، وتأثرت به أعمالهم، وصلحت به حياتهم .. وأى قلب لم تنفعه الموعظة القرآنية فهو ميت لا ينفعه شيء آخر ..
والموعظة القرآنية تولد الشفاء للصدور، والقضاء على ما فى هذه الصدور من أمراض وأدناس وأرجاس، ليعود لها نورها، وتعمل فيها فطرتها المؤمنة التى فطر الله الناس عليها، والقرآن قادر بإذن الله على أن يشفى الصدور والقلوب من مختلف أمراضها المادية والنفسية، أمراض
(1/34)
________________________________________
الشبهات والشهوات، وأمراض الهوى والانحراف، وأمراض الشك والشرك، وأمراض القلوب والنفوس والجوارح والحواس، وأمراض السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع والحياة والحضارة .. بهذا المفهوم الموسع الشامل يجب أن ننظر للشفاء القرآنى، وأن نتناوله بهذه السعة والإحاطة، لا أن نقصره على آلام الرأس والسن والبطن، أو نحوله إلى تعاويذ وتمائم ورقى وحجب، فنمسخه ونقزمه ونفرغه من هذا المعنى الشامل الواسع، وصدق الله وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82].
ومما يلفت النظر فى الآية أنها جعلت الموعظة القرآنية والشفاء القرآنى للناس جميعا، بينما خصصت الهدى والرحمة بالمؤمنين، وقصرتهما عليهم، مما يجعل الإيمان شرطا للهدى والرحمة.

9 - والقرآن بصائر تهدى
: قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) [الأنعام: 104]، وقال تعالى: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) [الأعراف: 203] وقال تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) [الجاثية: 20]. وهذه البصائر القرآنية الربانية الهادية موجهة للناس جميعا، ولكن هذه البصائر لا تدركها إلّا القلوب الحية، حيث تعيها وتتفاعل معها وترشد بها، وتهتدى على أساسها. إن الأجسام لها العيون التى تبصر بها، وإن القلوب
لها البصائر التى تهتدى بها، فالأبصار للأجساد والبصائر للقلوب، وإذا ما تعطلت أبصار الأبدان فقد يعيش الإنسان بدونها، ولكن إذا تعطلت بصائر القلوب فإنها تموت، ولا يبقى فيها نفع أو خير، وصدق الله القائل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج: 46].
(1/35)
________________________________________
وهذه البصائر القرآنية الهادية، تستقبلها القلوب المؤمنة، وتفتح لها منافذها وأصداءها، فتزداد أيمانا وهدى واستقامة ويقينا، بينما القلوب القاسية الكافرة الغليظة توصد منافذها أمام هذه البصائر، وتحكم إقفالها دونها، وتبالغ فى وضع الأقفال عليها، وأنى لها أن تهتدى بها، إنها تزيد هذه القلوب الكافرة كفرا ورجسا وظلاما وعمى. قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) [التوبة: 124 - 125].
ونختم هذه السمات والأسماء والأوصاف والآثار والنتائج بهذه الآيات التى توضح طبيعة القرآن أولا، والحياة الناتجة عنه ثانيا، وتفاعل المؤمنين به عند ما يسمعونه، وانفعال قلوبهم المؤمنة المبصرة الهينة اللينة به، والآثار المترتبة على ذلك، والتى تبرز على الجوارح والجلود، ثم النتيجة لهذا كله وهى الهدى الربانى، الذى يعتبر ثمرة مباركة يانعة للشجرة القرآنية الخالدة. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) [الزمر:
21 - 23].
(1/36)
________________________________________
وصف رسول الله عليه الصلاة والسلام للقرآن
وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن الكريم بصفات صادقة، وأشار فى أحاديثه إلى بعض سمات القرآن وفضائله ومزاياه، وتحدث عن بعض آثاره ومهمته فى الحياة، وبيّن منزلة أصحابه وحملته والمطبقين له والداعين إليه فى الدنيا والآخرة. وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام عن القرآن كلام العارف به، والمحب له، المطلع على علومه، المدرك لمزاياه وسماته ودوره ومهمته، لأنه نزل على قلبه الشريف، فهو أدرى البشر بكلام الله، وأكثرهم خبرة به، ولذلك تنعكس هذه الصفات على كلامه وحديثه، ومن أجل هذا كان لحديثه عن القرآن لون خاص، ودلالة مميزة، وإيحاء فريد.
ونقدم فيما يلى طائفة مما صحّ من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القرآن لنضيف مزيدا من سمات القرآن وصفاته ومزاياه وفضائله ومهمته وآثاره ..
1 - روى البخارى والترمذى وأبو داود عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
2 - روى البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وأبو داود عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذى يقرأ القرآن مثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذى لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: لا ريح لها وطعمها مر .. ».
(1/37)
________________________________________
3 - روى البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعاهدوا هذا القرآن، فو الّذي نفس محمد بيده لهو أشد تلفتا من الإبل فى عقلها».
4 - روى البخارى ومسلم والنسائى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت .. » وزاد مسلم: «وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإن لم يقم به نسيه».
5 - روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذى يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران».
6 - روى مسلم عن أبى أمامة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه».
7 - روى مسلم عن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به فى الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، تحاجان عن صاحبهما».
8 - روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين .. ».
9 - روى أبو داود والترمذى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما عن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق» ورتل كم كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها .. ».
10 - روى الترمذى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال
(1/38)
________________________________________
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف. ولكن: ألف حرف ولام حرف وميم حرف .. ».
11 - روى الترمذى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذى ليس فى جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب .. ».
12 - روى البخارى ومسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا حسد إلّا فى اثنتين: رجل آتاه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار .. ».
13 - روى مسلم وأبو داود عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: « .. وما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله عز وجل، ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة. وذكرهم الله فيمن عنده».
14 - روى الترمذى عن عمران بن حصين رضى الله عنه أنه مر على قارئ يقرأ القرآن ثم يسأل الناس، فاسترجع عمران (أى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون)، وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن، ويسألون به الناس .. ».
15 - روى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال:
خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابى والعجمى.
فقال اقرءوا فكل حسن. وسيجىء أقوام يقيمونه كما يقام القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه .. ».
(1/39)
________________________________________
والقدح هو السهم قبل أن يراش. أى لا عليكم ألا تقيموا ألسنتكم أثناء القراءة إقامة السهم عند إعداده للرمى، فإنه سيأتى أقوام يقيمون حروف القرآن وألفاظه، يمططون أصواتهم فى القراءة، ويجودونها بتفخيم المخارج، ومع ذلك يطلبون بهذا كله العاجلة وليس الآجلة.
16 - روى البخارى ومسلم عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه».
(1/40)
________________________________________
القرآن فى عبارات لأهل القرآن
ننتقل الآن إلى كلام أهل القرآن حول القرآن، من الصحابة والتابعين والعلماء اللاحقين، لنورد طائفة من أقوالهم وعباراتهم التى يتحدثون بها عنه، ويعرضون ما يلاحظونه من سماته وأوصافه، وما يعيشون من حقائقه ولطائفه وظلاله، وما يجدون من آثاره وأغراضه ومهمته.
ونبدأ هذه الأقوال بعرض طائفة من أقوال الصحابة الكرام، الذين هم الجيل القرآنى الفريد، وأكثر الناس دراية بالقرآن وحياة به، وعلما بموضوعاته، وإدراكا لسماته وصفاته.
1 - روى الترمذى عن الحارث بن عبد الله الهمدانى- الأعور- قال: مررت فى المسجد، فإذا الناس يخوضون فى الأحاديث، فدخلت فأخبرته، فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال أما إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه، وهو الذى لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى
(1/41)
________________________________________
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) [الجن: 1 - 2] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم».
وقد ضعف العلماء هذا الحديث لأن فى سنده مجهول، والحارث الأعور ضعيف، وقال الترمذى: هذا حديث لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفى الحارث مقال .. ».
ويبدو أنه من كلام أمير المؤمنين على بن أبى طالب، ولذلك أوردناه هنا .. علما بأنه أورد طائفة من سمات القرآن وأوصافه، ذات دلالة صادقة عليه، ويمكن أن يلاحظ البعد الواقعى لهذه الصفات والسمات (جامع الأصول لابن الأثير 8: 461 - 462) وقد قال عنه الإمام المحدث ابن كثير فى فضائل القرآن: «والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده .. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقد وهم بعضهم فى رفعه، وهو كلام حسن صحيح .. » [فضائل القرآن: 5].
2 - قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: «جمع الله فى هذا الكتاب علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وعلم ما يكون، والعلم بالخالق جل جلاله، وأمره وخلقه .. » [جامع الأصول: 8/ 464 - 465].
3 - روى عامر بن واثلة رحمه الله أن نافع بن عبد الحارث لقى عمر بعسفان- وكان عمر استعمله على أهل مكة- فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى .. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا! قال فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إنّ نبيكم صلّى الله عليه وسلّم قد
قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين .. » [جامع الأصول: 8/ 507].
(1/42)
________________________________________
4 - روى أبو الأسود الدؤلى قال: «بعث أبو موسى الأشعرى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن. فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسوا قلوبكم، كما قست قلوب من كان قبلكم .. » [جامع الأصول: 2/ 452].
5 - قالت عائشة رضى الله عنها: كان أبو بكر إذا قرأ القرآن كثير البكاء، فى صلاة وغيرها. وقالت أيضا: «القرآن أكرم من أن يزيل عقول الرجال .. » [جامع الأصول: 2/ 466 - 467].
6 - وقالت أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها: ما كان أحد من السلف يغشى عليه ولا يصعق عند قراءة القرآن، وإنما يبكون ويقشعرون، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله .. » [جامع الأصول: 2/ 467].
7 - وأورد الإمام مالك فى الموطأ قول محمد بن سيرين رحمه الله: أن عمر بن الخطاب كان فى قوم يقرءون القرآن، فذهب لحاجته، ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا؟ أمسيلمة؟ [جامع الأصول: 2/ 469].
8 - قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنهما: «يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا .. » [جامع الأصول: 2/ 471].
9 - قال ابن عباس رضى الله عنهما: كان القراء أصحاب مجلس عمر رضى الله عنه ومشاورته، كهولا وشبابا». [التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى: 11].
10 - قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: «يا حملة القرآن
(1/43)
________________________________________
- أو يا حملة العلم-: اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله .. وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقا يباهى بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه ..
أولئك لا تصعد أعمالهم فى مجالسهم تلك إلى الله تعالى .. » [التبيان للنووى: 17].
11 - قال عمر بن الخطاب مخاطبا حفظة القرآن وأهله: «يا معشر القراء: ارفعوا رءوسكم، فقد وضح لكم الطريق، فاستبقوا الخيرات، لا تكونوا عيالا على الناس» [التبيان: 28].
12 - قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «ينبغى لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون .. » [التبيان: 28].
13 - قال الحسن بن على رضى الله عنهما: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها فى النهار .. » [التبيان: 28].
14 - «قدم ناس من اليمن على أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فجعلوا يقرءون ويبكون، فقال أبو بكر: هكذا كنا .. » [التبيان: 48].
15 - قال رجل لعبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «إنى أقرأ المفصل فى ركعة واحدة (والمفصل هو سور القرآن من الحجرات حتى سورة الناس وسمى المفصل لكثرة الفصل بين سورة بالبسملة)، فقال ابن مسعود: هذّا، كهذّ الشعر، إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع فى القلب فرسخ فيه نفع» [التبيان: 49].
(1/44)
________________________________________
16 - قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «لا يسأل عبد عن نفسه إلّا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله .. » [فضائل القرآن للإمام ابن كثير: 6].
17 - قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن بعض سور القرآن واعتزازه بها وغناه بها وهى سور: الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء «إنهن من العتاق الأول، وإنهن من تلادى» [فضائل القرآن لابن كثير: 25].
18 - قال ابن عباس رضى الله عنهما: «لو أن حملة القرآن أخذوه بحقه وما ينبغى له لأحبهم الله، ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله وهانوا على الناس» [تفسير القرطبى: 1/ 20].
19 - قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما: لا ينبغى لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن، لأن فى جوفه كلام الله» [القرطبى: 1/ 21].
20 - عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: إنّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به [القرطبى: 1/ 40].
21 - قال عبد الله بن مسعود: «إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين» [إحياء علوم الدين مجلد: 1/ 498].
22 - قال أنس بن مالك: «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه» [الإحياء: 1/ 499].
23 - قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما: لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلّى الله عليه وسلّم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغى أن يقف عنده منها، ثم
(1/45)
________________________________________
لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدرى ما آمره ولا زاجره، وما ينبغى أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل؟ [الإحياء: 1/ 500].
24 - قال عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان رضى الله عنهما:
«لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن .. » [الإحياء: 1/ 522].
25 - قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «إن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن» [الزهد لابن المبارك: 272].
26 - قال أبو هريرة رضى الله عنه: «البيت الذى يتلى فيه كتاب الله كثر خيره، وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشياطين. والبيت الذى لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقل خيره، وحضرته الشياطين، وخرجت منه الملائكة .. » [الزهد لابن المبارك: 273].
27 - عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: (من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلّا أنه لا يوحى إليه، ومن قرأ القرآن فرأى أحدا من خلق الله أعطى أفضل مما أعطى فقد حقر ما عظم الله، وعظم ما حقر الله، وليس ينبغى لحامل القرآن أن يجهل فيمن يجهل، ولا يحد فيمن يحد، ولكن يعفو ويصفح [الزهد لابن المبارك: 275 - 276].
وهذه طائفة من أقوال التابعين وتابعيهم الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخيرية يتحدثون فيها عن القرآن الكريم:
1 - قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ينبغى لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء، فمن دونهم، وينبغى أن تكون حوائج الخلق إليه» وعنه قال: «حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغى أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيما لحق القرآن .. » [التبيان: 28 - 29؛ وإحياء علوم الدين: 1/ 499].
(1/46)
________________________________________
2 - قال إبراهيم الخواص- وقيل إبراهيم النخعى- رحمه الله «دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين» [التبيان: 46].
3 - الأعمش قال: دخلت على إبراهيم (النخعى) وهو يقرأ بالمصحف، فاستأذن عليه رجل فغطاه!! وقال: «لا يرى هذا أنى أقرأ كل ساعة».
وعن أبى العالية قال: كنت جالسا مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى الله عنهم، فقال رجل منهم: قرأت الليلة كذا .. فقالوا: هذا حظك منه». وكأنه لا أجر له عند الله، لأنه يطلب الثناء من الناس، ولذلك أخذ حظه منه المتمثل فى ثناء الناس. [التبيان: 60].
4 - عن طاوس رحمه الله قال: «أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله». [فضائل القرآن لابن كثير: 36].
5 - كان أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمى الكوفى- قد قعد يعلم الناس القرآن منذ إمارة عثمان إلى أيام الحجاج .. قالوا وكان مقدار ذلك الذى مكث يعلم فيه القرآن حوالى سبعين سنة!! [فضائل القرآن: 40].
6 - قال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلّا بذنب يحدثه، لأن الله تعالى يقول: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30]، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب» [فضائل القرآن: 43].
7 - ذكر ابن أبى الحوارى قال: أتينا فضيل بن عياض ونحن جماعة، فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول، فقال بعض القوم: إن
(1/47)
________________________________________
كان خارجا لشيء فسيخرج لتلاوة القرآن! فأمرنا قارئا فقرأ، فأطلع علينا من كوة، فقلنا: السلام عليك ورحمة الله فقال: وعليكم السلام. فقلنا: كيف أنت يا أبا على، وكيف حالك؟ فقال: أنا من الله فى عافية، ومنكم فى أذى، وإن ما أنتم فيه حدث فى الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ما هكذا كنا نطلب العلم، ولكنا كنا نأتى المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم، فنجلس دونهم ونسترق السمع، فإذا مر الحديث سألناهم إعادته فقيدناه، وأنتم تطلبون العلم بالجهل، وقد ضيعتم كتاب الله، ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون. قلنا: قد تعلمنا القرآن! قال: إن فى تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم، قلنا: كيف يا أبا على؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة» [تفسير القرطبى: 1/ 22].
8 - قال مجاهد: «أحب الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل» [القرطبى: 1/ 26].
9 - قال الحسن البصرى: والله ما أنزل الله آية إلّا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعنى بها» [1/ 26].
10 - قال أبو سليمان الدارانى: «الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدة الأوثان .. » [إحياء علوم الدين:
1/ 499].
11 - قال الحسن البصرى: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملا، فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله .. وإنّ من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار [الإحياء: 1/ 500].
(1/48)
________________________________________
12 - قال مالك بن دينار: ما زرع القرآن فى قلوبكم يا أهل القرآن؟
إن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض .. [الإحياء:
1/ 518].
13 - قال قتادة: لم يجالس أحد القرآن إلّا قام بزيادة أو نقصان.
قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء: 28]، [الإحياء: 1/ 518].
14 - قال ثابت البنانى: «كابدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة» [1/ 522].
15 - قال مجاهد رحمه الله فى قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة: 121] «يعملون به حق العمل» [الزهد لابن مبارك: 273].
16 - قال الحسن البصرى: «إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله .. وما تدبّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده .. حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى القرآن له فى خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول إنى لأقرأ السورة فى نفس! والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء مثل هذا؟ ..
لا كثر الله فى الناس مثل هؤلاء .. » [الزهد: 274].
17 - قال قتادة فى قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) [المؤمنون: 3] أتاهم والله من أمر الله، ما وقذهم عن الباطل. وقذهم: يعنى صرفهم وأبعدهم [الزهد: 276].
(1/49)
________________________________________
من آداب تلاوة القرآن
حتى تكون تلاوة القرآن نافعة، وحتى تعطى ثمارها من التدبر والتأثر والاستقامة، وحتى تؤدى كما كان يؤديها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام، فلا بدّ من ملاحظة آدابها والالتزام بها ومراعاتها قبيل التلاوة وأثناءها.
وقد استخرج العلماء هذه الآداب من خلال تعاملهم مع القرآن، حيث عرفوا بعضها من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرة أصحابه، وأدركوا بعضها من خلال تعاملهم الحى مع القرآن الكريم، وتجربتهم الغنية معه.
ومعظم الذين كتبوا عن تلاوة القرآن عرضوا لطائفة من آدابها ومستحباتها، وحذروا من مكروهاتها. ومن أشهر الذين تحدثوا عن ذلك حجة الإسلام أبو حامد الغزالى حيث عرض عشرة من أعمال الباطن- فى نفس القارئ- للقرآن. ومن هؤلاء الإمام النووى الذى ألّف كتابا ممتعا نافعا هو «التبيان فى آداب حملة القرآن» وخصص البابين الخامس والسادس منه لآداب التلاوة .. وقد اطلع السيوطى على ما ذكره الغزالى والنووى- وغيرهما من العلماء- عن آداب التلاوة فأورد فى كتابه: «الإتقان فى علوم القرآن» طائفة من هذه الآداب .. أما الكاتبون المعاصرون عن القرآن فقد عرضوا طائفة من آداب التلاوة التى ذكرها العلماء، ومنهم الإمام حسن البنا فى رسالته «المأثورات»، ونبيه عبد ربه فى رسالته «كيف نحيا بالقرآن»؟.
وسوف أضع بين يدى القارئ الكريم أهم هذه الآداب، بأخصر الألفاظ وأوجزها وأوفاها.
(1/50)
________________________________________
1 - اختيار الوقت المناسب لتلاوة القرآن، والذى يتجلى الله فيه على عباده، وتنزل فيه فيوضات رحمته، وأفضل الأوقات ما كان فى الثلث الأخير من الليل وقت السحر، ثم قراءة الليل، ثم قراءة الفجر، ثم قراءة الصبح، ثم قراءة باقى أوقات النهار.
2 - اختيار المكان المناسب كأن يكون بيتا من بيوت الله، أو ركنا فى بيته يفرغه من الموانع والشواغل والتشويش، ويبعد عنه الضجيج والصياح والكلام الدنيوى ولعب وعبث الأطفال، وجميل جدا أن يتلو القرآن فى حديقة جميلة، أو نزهة ممتعة إلى المناظر الخلابة .. هذا ومن الجائز أن يتلو القرآن وسط الكلام والضجيج والزحام، كأن يكون فى جلسة مع آخرين، أو سائرا فى الطريق العام أو راكبا سيارة أو غيرها، وإن كان التدبر فى هذا قليلا.
3 - اختيار الجلسة المناسبة والحالة الخاصة والهيئة الصالحة لأن يتلقى عن الله .. وهى التى تتجلى فيها عبوديته لله، ويبرز فيها تذلّله وخضوعه، وأفضل الجلسات لمريد التلاوة: أن يستقبل القبلة جالسا جلسة التشهد للصلاة- وهى أظهر الجلسات عبودية- فإذا تعب من هذه الجلسة فليحاول أن يجلس جلسة أخرى مناسبة مستقبلا القبلة، وله أن يجلس أية جلسة شاء، على أن يظهر منها توقيره لكلام الله، وتذلّله لله، وإجلاله له ..
4 - الطهارة الخارجية فلا بد أن يكون متطهرا من الجنابة، وأن تكون المرأة متطهرة من الجنابة والحيض والنفاس، ويفضّل للرجل والمرأة أن يكونا متطهرين من الحدث الأصغر أيضا بأن يكونا متوضئين، ليحسنا التلقى عن الله سبحانه .. ولكن يجوز لهما أن يقرءا القرآن- للعبادة
(1/51)
________________________________________
أو للحفظ أو للعلم أو للتعليم- على غير وضوء، لعدم ورود دليل من القرآن يمنع ذلك، ولعدم صحة الأحاديث التى تشترط ذلك .. هذا وقد أفتى العلماء للمرأة التى تمارس العلم والتعليم- معلمة أو طالبة- أن تقرأ القرآن للتعلم أو التعليم وهى حائض أو نفساء للضرورة.
5 - تطهير أدوات التلاوة التى يتعامل مع القرآن من خلالها، وتنظيفها مما علق بها من معاص وذنوب ومنكرات، لأن نظافة وطهارة الوعاء شرط للانتفاع بالمضمون! فكيف يحسن تلاوة القرآن وتدبره وفهمه بعين لوثتها النظرات المحرّمة؟ أو بأذن دنستها الأصوات المنكرة ومزامير الشيطان؟ أو بلسان نجسته الغيبة والنميمة والكذب والافتراء والسخرية والاستهزاء؟ وكيف يعى القرآن ويتفاعل معه قلب عليه أكنة وأغطية وحجب وموانع الشبهات والشهوات والرغبة فى المعاصى والمنكرات،
والإقبال على الرذائل والمحرمات، وقد أفسدته الأمراض والآفات من الرياء والعجب والتكبر؟
إن القرآن كالمطر، فكما أن المطر لا يؤثر فى الجماد والصخر، ولا يتفاعل معه إلّا التربة المهيأة، فكذلك القرآن لا بدّ أن ينزل على بيئة صالحة ليتفاعل معها، ويؤثر بها، ويحيا من خلالها، وهذه البيئة هى الحواس والقلوب التى تقبل عليه.
6 - استحضار النية عند التلاوة، والإخلاص الكامل لله، والتجرد من كل غرض دنيوى، وذلك حتى يثاب على تلاوته وعمله وعبادته، لأن الأعمال بالنيات، ولأن العلم والفهم والتدبر محض نعمة من الله ورحمة، ورحمة الله لا تمنح لمن اجتمع فى قلبه التخليط والتدليس والتلبيس!! 7 - الالتجاء إلى الله، والعوذ به، والاحتماء بحماه، والإقبال عليه
(1/52)
________________________________________
إقبال المضطر، أو الغريق الطالب النجاة، والتبرّؤ من كل حول أو قوة، أو علم وعقل وفهم وفطنة، والاعتقاد الجازم بأن كل هذا لا نفع له إذا لم يمنّ الله على صاحبه التدبر والفهم والتأثر والالتزام.
8 - الاستعاذة والبسملة. تنفيذا لتوجيهات القرآن للقارئين، كما فى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) [النحل: 98]، وعليه أن يعيش معنى الاستعاذة، وأن يتدبرها، وأن يكون صادقا بكيانه كله فى نطقها، لتتحقق الاستعاذة المطلقة بالله سبحانه، وذلك حتى يعيذه الله ويبعد عنه كيد الشيطان، وذلك لأن الله وعد المؤمن إذا استعاذ بالله من الشيطان- إنسيا أو جنيا- فإنه يعيذه ويبعده عنه: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) [الإسراء: 45 - 46].
أما البسملة فيأتى بها عند ما يقرأ السورة من أولها- باستثناء سورة براءة- ويندب له أن يأتى بها عند قراءته من وسط السورة، ويندب له أن يأتى بها إذا قطع تلاوته لعارض ثم عاد إليها. والإتيان بالبسملة من باب التبرك والتيمن بذكر اسم الله، واستدرار فيوضاته وبركاته ورحماته سبحانه.
9 - تفريغ النفس من شواغلها، وقضاء حاجاتها، وتلبية طلباتها قبل الإقبال على القراءة، وذلك لأن الحاجات تبقى تلح على النفس وتخايل لها، وبذلك تحجب القلب عن التدبر والوعى والتلقى .. فلا يكون قارئ القرآن- أثناء قراءته- جائعا أو عطشا، أو مهموما قلقا مضطربا، أو يعيش فى برد شديد أو حر مؤذ، أو جالسا فى مكان عام ينظر فيه للغادين والرائحين وينشغل بهم، أو جالسا أمام التلفاز عينه فى القرآن وأذنه تسمع التلفاز، أو منتظرا تقديم الطعام ونفسه وأحاسيسه مشغولة باستقباله.
(1/53)
________________________________________
10 - حصر الفكر أثناء التلاوة وجعله مع القرآن فقط، وقصر الخيال على الآيات، ومنعه من الشرود والتجوال مع مظاهر الحياة وظواهرها، وتوظيف كل نوافذ المعرفة ووسائل التدبر وعوامل التلقى، فى النفس والمشاعر والأحاسيس والفكر والخواطر والخيال .. توظيفها للقرآن فقط، وإعادة كل من حاول الخروج عن هذه المهمة. فإذا ما فعل القارئ هذا فإنه سيخرج بزاد عظيم من التلاوة وسيحصل نتائج باهرة وثمارا يانعة.
11 - استحضار الخشوع اللائق بكتاب الله وتلاوته، واستجلاب التأثر والانفعال، وملاحظة بعض نماذج الخاشعين المتأثرين أثناء التلاوة من الصالحين، لتكون له بهم قدوة.
12 - البكاء أثناء التلاوة، وبخاصة إذا قرأ آيات العذاب، أو مر بمشاهده، وذلك عند ما يستحضر مشاهد القيامة وأحداث اليوم الآخر، ومظاهر الهول فيها، ثم يلاحظ تقصيره فى الحقوق، وتفريطه فى جنب الله.
فإذا لم يستطع البكاء فليحاول التباكى، والتباكى هو استجلاب للبكاء واستقدام له، فإذا عجز عن البكاء وعن التباكى فليحاول أن يبكى على نفسه هو، وعلى قلبه وروحه، لكونه محروما من هذه النعم الربانية، مريضا بقسوة القلب وجمود العين!! 13 - تعظيم المتكلم سبحانه وتعالى، والشعور بكرمه وفيوضاته وعطاياه، الذى يخاطب- وهو العلى العظيم سبحانه- عباده الضعاف.
وهذا التعظيم يدعوه- من جملة ما يدعوه إليه- إلى تعظيم كلامه، والإقبال عليه للتفاعل والتدبر والتربية والالتزام. ولعل هذا التعظيم لله ولكلامه، يجعل القارئ ملتزما بآداب التلاوة الأخرى مستحضرا لها،
(1/54)
________________________________________
ولعله من أهم الوسائل للخروج من التلاوة بزاد عظيم من المعانى والحقائق والدروس والدلالات.
14 - الوقوف أمام الآيات ليتدبرها ويفهم معانيها، ويدرك حقائقها، ويلاحظ علومها ومعارفها ودروسها ودلالاتها .. لأن هذا هو الهدف من التلاوة، وما نفع تلاوة لا تحقق هذا التدبر؟ ولا تولد هذا الفهم؟ ولا تعطى هذا الرصيد الخير؟
15 - التأثر والانفعال بالآيات حسب موضوعاتها وسياقها، فتجده يفرح إذا قرأ آيات التبشير والرجاء والأمل، ويحزن ويبكى عند آيات الإنذار والتهديد والوعيد، ويسر إذا قرأ آيات النعيم، ويخاف عند آيات العذاب، ويعرض نفسه على آيات صفات المؤمنين ليستكمل الناقص، وعلى آيات صفات الكافرين والمنافقين ليتخلى عما علق به منها، ويفتح حواسه على الأوامر والتكاليف الربانية ليعمل بها، وعلى المنهيات والمحرمات ليبتعد عنها.
وإذا قرأ آية نعيم سأل الله أن يكون من أهله، وإذا قرأ آية عذاب تعوذ بالله منه، ويجيب على استفهامات القرآن وأسئلته، وينفذ الأوامر والتكاليف، ويتبرأ من الكفار وصفاتهم، ويقبل على المؤمنين ويوثق ولاءه لهم .. وهكذا ..
16 - الشعور بأن القارئ نفسه هو المخاطب بالآيات، وهو الذى وجهت إليه التكليفات، ثم يعيش هذا الشعور، ويدرك نتائجه وآثاره على نفسه وكيانه كله .. وبذلك يقف طويلا أمام الآية، ويعرف ماذا تطلبه منه وماذا تنهاه عنه .. وتستوقفه آيات التكاليف المبدوءة ب: يا أيها الذين آمنوا، ويا أيها الناس، ويا أيها الإنسان، ويفتح لها كل منافذ التلقى
(1/55)
________________________________________
والانفعال والاستجابة، لأن ما بعدها إما أمر للتنفيذ، أو نهى عن محظور، أو عتاب وتذكير، أو توجيه إلى خير وهدى ..
17 - التخلى عن موانع الفهم لآيات القرآن، وحجب التدبر لها، ومن هذه الموانع والحجب، نقيض الآداب والقواعد التى سبق إيرادها، لأن التلبس بضدها هو حائل يحول بين القارئ وبين القرآن، وحجاب ساتر سميك يستر عنه أنوار القرآن وهداه .. كذلك من موانع وحجب الفهم والتدبر عدم ملاحظة ومراعاة المفاتيح التى سنوردها فى المباحث القادمة بعون الله ..
18 - وعلى المستمع للقرآن والمتدبر لما يسمع منه، سواء كان يسمع قراءة قارئ آخر بجانبه، أو يسمعه من قارئ فى الإذاعة أو شريط مسجل، عليه أن يلاحظ الآداب السابقة كلها، وأن يزيد عليها حسن السماع، وحسن الإنصات، وحسن التدبر وحسن التلقى، وأن لا يفتح للتلاوة أذنيه فقط، بل يفتح لها كل نوافذ التلقى والاستجابة والانفعال فى كيانه ومشاعره وأحاسيسه، وأن يلتزم فى سماعه واستماعه التوجيه الربانى الراشد فى كتابه الكريم: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) [الإسراء: 204].
ولا يليق بهذا المستمع للقرآن أن يفتح الراديو أو المسجل على قارئ للقرآن وينصرف عنه، ويتشاغل بأشغال أو أحاديث جانبية، وإن اضطر إليها فليغلق الراديو أو المسجل على أن يعود إليه بعد ما ينتهى من عمله .. وليس من اللائق أن يغلق الراديو والقارئ ما زال يقرأ، بل ينتظر إلى أن يسكت.
(1/56)
________________________________________
نحو نظرية حركية لتدبّر القرآن والحياة به
تدبّر القرآن واجب، والحياة به ضرورة، والحياة فى ظلاله نعمة لا يعرفها إلّا من ذاقها، نعمة تبارك العمر وترفعه وتزكيه .. ولا يدرك هذا إلّا من عاش فى ظلال القرآن فعلا، وتذوق من مظاهر هذه النعمة ما تذوق، ولمس من آثارها ما لمس، ووقف على ما فيها من أنس وسعادة، وراحة وطمأنينة، واسترواح وانشراح (انظر مقدمة الطبعة المنقحة من الظلال وتعريف سيد قطب بسورة الأعراف- على سبيل المثال).
ونحب أن نضع بين يدي القارئ الكريم عبارات رصينة ناتجة عن تجربة عملية رائدة، قام بها رائد الفكر الإسلامى المعاصر الشهيد سيد قطب، ووضعها بين أيدى قراء الظلال، ونحن سنستخرج منه هذه العبارات، التى هى بمثابة أضواء كاشفة، تنير للقارئ الطريق نحو تدبر القرآن وفهمه، وتطلعه على نظرية لازمة للتعامل مع القرآن، والحركة به، والحياة فى ظلاله، وهذه النظرية لا بد أن يطلع عليها المسلمون، ليعرفوا المفتاح الحركى لفتح كنوز القرآن الحركية المذخورة فيه.
إننا ننادى بما نادى به أستاذنا سيد قطب، بنظرية جديدة لفهم القرآن وتدبره وتفسيره، إلا هى نظرية «التفسير الحركى» ونعتبر الأستاذ سيد قطب هو الرائد لها والموضح لأسسها، والمؤسس لمدرسة «التفسير الحركى» التى قدمت القرآن حيا فاعلا مؤثرا للمسلمين المعاصرين، وهو الذى وضع الله سبحانه بين يديه مفتاحا أصيلا هو «المفتاح الحركى» الذى فتح به
(1/57)
________________________________________
كنوز القرآن، وقدمها للناس فى الظلال .. (انظر كتابنا: «المنهج الحركى فى الظلال»).
يقول فى كتابه: «خصائص التصور الإسلامى» عن جوهر النظرية الحركية فى فهم القرآن وتدبره وتفسيره والحركة به.
«إن المسألة- فى إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته- ليس هى فى فهم ألفاظه وعباراته، ليست هى «تفسير القرآن- كما اعتدنا أن نقول! - المسألة ليست هذه .. إنما هى استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب: تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التى صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة وهى تتلقاه فى خضم المعترك ..
معترك الجهاد، جهاد النفس وجهاد الناس .. جهاد الشهوات وجهاد الأعداء .. والبذل والتضحية، والخوف والرجاء، والضعف والقوة، والعثرة والنهوض .. جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس .. جو الشّعب والحصار، والجوع والخوف، والاضطهاد والمطاردة، والانقطاع إلّا عن الله .. ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم بين الكيد والنفاق والتنظيم والكفاح .. جو «بدر» و «أحد» و «الخندق» و «الحديبية» .. وجو «الفتح» و «حنين» و «تبوك» وجو نشأة الأمة المسلمة، نشأة نظامها الاجتماعى، والاحتكاك الحى بين المشاعر والمصالح والمبادئ فى ثنايا النشأة وفى خلال التنظيم.
.. فى هذا الجو الذى تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية ..
كان للكلمات وللعبارات دلالالتها وإيحاءاتها .. وفى مثل هذا الجو الذى يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد، يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور .. ».
[خصائص التصور الإسلامى: 7 - 8].
(1/58)
________________________________________
من هذه الفقرة الكاشفة يتبين لنا بعض الأسس التى بنى عليها نظريته الحركية فى التفسير. منها:
1 - تزوده برصيد ضخم من المشاعر والمدركات والتجارب، واستصحابه لها وهو ينظر فى نصوص القرآن ويتلقى إيحاءاته ..
2 - ذهابه- بخياله ومشاعره وأحاسيسه- إلى الجو الذى تنزل فيه القرآن فى مكة والمدينة، لإدراك أثر القرآن وتأثيره هناك ..
3 - ملاحظته حركة الصحابة- فى جو مكة والمدينة- بالقرآن وتفاعلهم معه وحياتهم به.
4 - وقوفه على الأغراض الأساسية للقرآن، ومنهجه الواقعى الحركى الذى صاغ به حياة الأمة المسلمة، وتنزيله نصوص القرآن على واقع جدى حى مجاهد.
5 - قيامه بدور عملى جهادى، وتجربة حية دعوية، مشابهة- فى بعض مظاهرها- لتجربة الصحابة الكرام- وبخاصة فى جو «مكة»، والحركة العملية الجهادية بالقرآن، وشغل النفس والمشاعر والكيان بشواغلها واهتماماتها، وهمومها وآلامها .. والإقبال- من ثمّ- على القرآن ليجد عنده الجواب الواضح والبلسم الشافى ..
وإذا ما انتقلنا إلى «فى ظلال القرآن» لنبحث عن عبارات توضح النظرية الحركية فى تدبر القرآن وتفسيره فإننا نجدها وافرة متفرقة فى ثناياه.
يدعونا سيد قطب إلى أن نعيش فى جو القرآن- كما عاش هو- للوقوف على أسراره وطبيعته وكنوزه .. «الحياة فى جو القرآن لا تعنى مدارسة القرآن وقراءته والاطلاع على علومه .. إن هذا ليس «جو القرآن»
(1/59)
________________________________________
الذى نعنيه .. إن الذى نعنيه بالحياة فى جو القرآن: هو أن يعيش الإنسان فى جو، وفى ظروف، وفى حركة، وفى معاناة، وفى صراع، وفى اهتمامات .. كالتى كان يتنزل فيها هذا القرآن .. أن يعيش الإنسان فى مواجهة هذه الجاهلية التى تعم وجه الأرض اليوم، وفى قلبه وفى همه وفى حركته، أن «ينشئ» الإسلام فى نفسه، وفى نفوس الناس، وفى حياته وفى حياة الناس .. مرة أخرى فى مواجهة هذه الجاهلية، بكل تصوراتها وكل اهتماماتها وكل تقاليدها، وكل واقعها العملى، وكل ضغطها كذلك عليه، وحربها له، ومناهضتها لعقيدته الربانية، ومنهجه الربانى، وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة، بعد الكفاح والجهاد والإصرار ..
هذه هو الجو القرآنى الذى يمكن أن يعيش فيه الإنسان، فيتذوق هذا القرآن، فهو فى مثل هذا الجو نزل، وفى مثل هذا الخضمّ عمل .. والذين لا يعيشون فى مثل هذا الجو معزولون عن القرآن، مهما استغرقوا فى مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه ..
والمحاولة التى نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن، ليست بالغة شيئا، إلّا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة، ويصلوا إلى المنطقة الأخرى، ويحاولوا أن يعيشوا فى «جو القرآن» حقا، بالعمل والحركة، وعندئذ فقط سيذوقون هذا القرآن ويتمتعون بهذه النعمة التى ينعم الله بها على من يشاء .. [الظلال 2/ 1016 - 1017].
ويدلنا على الطريقة الصحيحة لقراءة القرآن وتدبره والوقوف على أسراره وكنوزه فيقول: «إن هذا القرآن ينبغى أن يقرأ، وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعى. وينبغى أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل، أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود.
(1/60)
________________________________________
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة فى يومنا وفى غدنا، كما كانت الجماعة الإسلامية الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر فى شئون حياتها الواقعية .. وحين نقرأ القرآن بهذا الوعى سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهى! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية، تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق .. » [الظلال: 1/ 61].
ويشير- فى تعريفه بسورة آل عمران سورة المعركة والحركة- إلى الحياة فى القرآن وإلى شروط الحصول عليها وإدراكها .. «ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل فى حسنا، ونستحضر فى تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقى، ووجهت به أحداث واقعية فى حياة هذه الأمة.
.. وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية ..
.. ومعجزة القرآن البارزة تكمن فى أنه نزل لمواجهة واقع معين فى حياة أمة معينة، فى فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها .. ولكنه- مع هذا- يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة فى شئونها الجارية، وفى صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها ..
.. ولكى نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة فى
(1/61)
________________________________________
كل جيل .. ينبغى أن نستحضر فى تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التى خوطبت بهذا القرآن أول مرة، كينونتها وهى تتحرك فى واقع الحياة ..
.. إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل فى حياة الجماعة المسلمة الأولى. ويملك أن يعمل فى حياتنا نحن أيضا. وسنحس أنه معنا اليوم وغدا. وأنه ليس مجرد تراتيل مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد .. » [الظلال: 1/ 348 - 349 باختصار].
ويدلنا على طريق التعامل مع القرآن وفهم نصوصه بقوله: «إن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب .. إنما تدرك أولا وقبل كل شيء بالحياة فى جوها التاريخى الحركى، وفى واقعيتها الإيجابية، وتعاملها مع الواقع الحى ..
وهى لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلّا فى ضوء ذلك الواقع التاريخي ..
ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم، وفاعليتها المستمرة، ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم، ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة، ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان أولئك يواجهون. ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين، الذين يعالجون نصوصه فى ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب .. وهم قاعدون» [الظلال: 3/ 1453 باختصار].
إن القرآن له طبيعة حركية وله مهمة واقعية حية متحركة، ونتيجة لهذا لن يتذوق هذا القرآن ولن يحسن التعامل معه إلّا من يتحرك به فعلا فى عالم الواقع .. يقول: «إن هذا القرآن لا يتذوقه إلّا من يخوض مثل هذه المعركة، ويواجه مثل تلك المواقف التى تنزل فيها ليواجهها ويوجهها.
والذين يلتمسون معانى القرآن ودلالاته وهم قاعدون. يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا فى هذه القعدة الباردة
(1/62)
________________________________________
الساكنة، بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة .. إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا، وإن سرّه لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله، والدينونة للطاغوت من دون الله .. ) [الظلال: 4/ 1864].
ويؤكد على هذا المعنى فى موطن آخر بعبارات أخرى قائلا: «وهكذا يمكن اليوم وغدا أن يتحرك القرآن فى طلائع البعث الإسلامى، ويحركها كذلك فى طريق الدعوة المرسوم.
إن هذه الطلائع فى حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه.
تستلهمه فى منهج الحركة وخطواتها ومراحلها، وتستوحيه فى ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات، وما ينتظرها من عاقبة فى نهاية الطريق.
والقرآن- بهذه الصورة- لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة، ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه ..
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلّا للعصبة المسلمة التى تتحرك به لتحقيق مدلوله فى عالم الواقع. لا لمن يقرءونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرءونه لمجرد الدراسة الفنية والعلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البيانى فيه!.
إن هؤلاء جميعا لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو، إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه .. » [فى ظلال القرآن: 4/ 1948].
وننتهى من هذه النقول الكاشفة التى أخذناها من الظلال، إلى ضرورة إحسان فهم القرآن وتدبره، والتفاعل معه من خلال نظرية حركية فى ذلك،
(1/63)
________________________________________
وباستعمال مفاتيح هادية لذلك التعامل والتدبر .. لأن هذا هو الذى يتفق مع طبيعة هذا القرآن الأساسية، وسمته المطردة، إلا هى «الواقعية الحركية» مفتاح التعامل مع هذا الكتاب العجيب المعجز ..
ونختم هذه النقول بهذه الفقرة الرائدة لسيد قطب، التى توضح هذه السمة، وتدل على المفتاح لهذه النظرية، وتدعو إلى هذا المنهج .. ومن مزيتها أنها تمثل خلاصة رأيه فى هذا، وهو الرأى النهائى الأخير الذى استقر عليه وأصبح عنده بدهية يقينية، وحقيقة قطعية .. لأنه أوردها فى تعريفه بسورة الحجر- من الطبعة المنقحة- وهو الذى كتبه قبيل اعتقاله الأخير بأيام- أو بساعات-!!.
يقول: « .. ومن ثم تواجه حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة (الفترة الحرجة فى الدعوة الإسلامية فى مكة ما بين عام الحزن والهجرة)، وذلك كالذى تواجهه الحركة الإسلامية الآن فى هذا الزمان ..
ونحن نؤكد على هذه السمة فى هذا القرآن .. سمة الواقعية الحركية .. لأنها فى نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب، وفهمه وفقهه، وإدراك مراميه وأهدافه ..
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التى صاحبت نزول النص القرآنى .. لا بدّ من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته، ولرؤية حيويته وهو يعمل فى وسط حى، ويواجه حالة واقعة، كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده ..
وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها، كما هى ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات فى فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
(1/64)
________________________________________
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلّا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين فى مواجهة الجاهلية الحاضرة، ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتى كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى صلوات الله وسلامه عليه والعصبة المسلمة معه .. » [فى ظلال القرآن: 4/ 2121 - 2122].
(1/65)
________________________________________
الخطوات المتدرجة لفهم القرآن والتعامل معه
على قارئ القرآن أن يحسن قراءته وفهمه والتدبر فيه، والوقوف على تفسيره، بإيجاز قاصد ذى دلالة على الغرض القرآنى، وأن يعرف كيف يتعامل معه ويتلقى عنه ويعيش به .. لذلك عليه أن يتبع- فى قراءته له- طريقا محددا، ذا خطوات متدرجة واضحة، ومراحل متتابعة. ونشير بدورنا إلى هذه الخطوات والمراحل، ومن الله نستمد
العون والتوفيق ..
1 - أن يلاحظ آداب التلاوة- التى عرضنا أهمها فيما سبق من هذا الكتاب- وأن يراعيها ويلتزمها ويطبقها، حتى يحسن الدخول إلى عالم القرآن، والعيش فى جو القرآن، واستحضار معانيه وحقائقه، واستقدام دلالاته ولطائفه، واستشعار ظلاله وإيحاءاته .. ومن لم يلتزم تلك الآداب فكيف يتلقى عن القرآن؟
2 - التلاوة للسورة أو الجزء أو المقطع بتأن وخشوع وتدبر، وباسترسال وبطء وانفعال .. وأن لا يكون همه نهاية السورة أو خاتمة الجزء، ولا غرضه كم صفحة قرأ وكم آية تلا، وكم حسنة جمع، وأن لا تخايل له هذه الأمور، حتى لا تتحول إلى حجاب بينه وبين التدبر، وحاجز سميك يحجز عنه أنوار القرآن ولطائفه ..
3 - الوقوف أمام الآية التى يقرأها، وقفة متأنية فاحصة مكررة، ليستخرج منها بعض ما يمنّ الله عليه من كنوزها وعلومها ومعارفها
(1/66)
________________________________________
ومعانيها .. وأن لا يقرأها بعينه فقط، أو يسمعها بأذنه فقط، بل يقرأها بكل كيانه، ويسمعها بكل مشاعره وأحاسيسه، وأن يعيشها بكامل كينونته الإنسانية، وأن ينفعل بها ويتأثر لها، ويفتح لها حياته كلها.
عليه أن يمعن النظر فى الآية، وأن يعيد قراءتها مرة ومرات، ولا يسأم من ذلك ولا يمل، حتى لو استمرت وقفته أمامها دقائق أو ساعات، وحتى لو أعادها عشرات المرات .. وكثير من علماء القرآن كانوا يطيلون الوقفة أمام الآية الواحدة، ويقومون بها ليلتهم كلها، ولا يقطعون تلاوة الآية وترديدها إلّا عند الفجر ..
4 - النظرة التفصيلية فى صياغة الآية: تركيبها وسياقها ومعناها، ونزولها وغريبها وإعرابها، وملاحظة معانيها ودلالاتها وظلالها .. بحيث لا يغادرها إلى غيرها، إلّا بعد أن يكون قد ألم بطرف من ذلك كله، ووقف على تفسيرها وفهمها ..
5 - ملاحظة البعد الواقعى للآية، انطباقها على الواقع ومعالجتها له، بحيث يجعل من الآية منطلقا له ليعالج حياته وواقعه، وميزانا يزن به من حوله وما يحيط به، ونورا يضيء له طريقه .. ولو أحسن إدراك هذا وتذوقه واستخراجه من الآية لوقف على كنز لا ينفد، وزاد عظيم من القرآن العظيم ..
6 - العودة إلى فهم السلف- وبخاصة الصحابة الكرام- للآية، وتدبرهم لها وحياتهم بها، والوقوف على استقبالهم لها وتعاملهم معها، وملاحظة الأحوال والملابسات والظروف والحاجات التى عالجتها ولبتها، والتأمل والتدبر فى ما روى لهم من عبارات فى فهمها وتفسيرها ..
7 - الاطلاع على آراء بعض المفسرين فى الآية، واختيار التفاسير ذات القيمة العلمية، والأصالة والريادة والمنهجية والتوثيق .. وذلك حتى
(1/67)
________________________________________
يقوّم ما لاحظه فى الآية، وما خرج به من أحكام ومعان ودلالات وإيحاءات، فيستبعد ما تعارض مع الأصول العلمية التى قررها علماء القرآن ..
وإذا كان لنا أن ننصح بتفاسير يتعامل معها ويأخذ عنها، فليطلع فى المرحلة الأولى على كتاب موجز يعطيه الكثير من ما يطلبه فى الآيات، ولن يكون هذا إلّا تفسير «فى ظلال القرآن» للشهيد سيد قطب .. ثم يطلع على تفسير من التفاسير القديمة التى تعنى بمعانى الكلمات وصياغتها وإعرابها ونزولها وأحكامها- على تفاوت فى ذلك حسب عصر وثقافة ومدرسة كل مفسر- ويستطيع أن يختار تفسير القرآن العظيم لا بن كثير، أو الجامع لأحكام القرآن للقرطبى، أو فتح القدير للشوكانى، أو رغائب القرآن للقمى النيسابورى .. أو غير ذلك.

ثلاثة أوراد يومية قرآنية:
ولعل كلامنا عن الخطوات المتدرجة للتعامل مع القرآن يطيل الفترة الزمنية التى يختم فيها القارئ القرآن، ويكلفه الكثير من الوقت والجهد والبحث والتدبر .. مع اعتقادنا أن هذا مطلوب لا بدّ منه، وأنه هو الثمرة المرجوة من التلاوة، والمقصد الأساسى من القراءة ..
ولكننا من باب حرصنا على إفادة القارئ الكريم، وتقديم النصح له- نشير إلى ضرورة أن يكون لكل منا مع القرآن الكريم ثلاثة أوراد يومية، ووظائف لازمة، لا يتخلف عنها يوما من الأيام، مهما كثرت شواغله وازدحمت الواجبات عليه.
* الورد الأول: ورد التلاوة، يقرأ فى القرآن- بالآداب التى سبق وأشرنا إليها- ولا ينقص ورده اليومى هذا عن جزء من أجزاء القرآن،
(1/68)
________________________________________
بحيث يختمه فى كل شهر قمرى مرة .. - وهو الحد الأدنى الذى وضعه رسول الله عليه الصلاة والسلام لقارئ القرآن- ولن يأخذ هذا الورد من وقته أكثر من ساعة، بل قد ينقص إلى نصفها!.
* الورد الثانى: ورد الحفظ: بحيث يحرص على أن يحفظ كل يوم آية أو آيتين أو ثلاثا، ويكرر حفظها ويحسنه يوميا، بحيث ما تمر عليه سنوات إلّا وقد حفظ القرآن كاملا بإتقان وضبط ملحوظين ..
* الورد الثالث: ورد التدبر: وهو المقصود بالخطوات المتدرجة السابقة، بحيث يطبق تلك الخطوات يوميا على آية أو آيتين أو ثلاث، ولا يزيد على ذلك، وأن يعيشها بحياته وكيانه كله، لن تمر عليه سنوات حتى يكون قد أحسن تدبر القرآن والتعامل معه وتفسيره وفهمه وفقهه ..
(1/69)
________________________________________
من مفاتيح التعامل مع القرآن
(1/71)
________________________________________
- 1 - النظرة الكلية الشاملة للقرآن
القرآن كتاب شامل، ومنهاج حياة متكامل، وله مهمة واقعية مطردة، وطبيعة حركية حية، ورسالة حضارية عاملة، ووجود وتأثير مستمرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..
وعلى القارئ الذي يريد أن يحسن التعامل مع القرآن، والتلقى عنه، والتأثر به، أن يحسن نظرته له أولا، فإن الزاوية التى ينظر منها، والمنظار الذى ينظر من خلاله، والصورة التى يرسمها له، والمهمة التى يتوقعها له، إن لهذه الأمور كلها ارتباطا مباشرا فى كيفية التعامل مع القرآن ..
بعض الناظرين إلى القرآن والمتعاملين معه والقارئين له ينظر له نظرات جزئية فرعية هامشية ثانوية .. فهو كتاب للشفاء والتعاويذ والرقى عند بعضهم، وهو كتاب شامل للعلوم والمعارف والثقافات عند آخرين، وهو كتاب تضمن أرقى أساليب البيان والبلاغة والفن عند فريق ثالث، وهو كتاب حوى من أخبار الماضين وقصص السابقين وأحوال العالمين، وهو كتاب للفقه والأحكام، واللغة والآداب، والفكر والخيال .. وهو كتاب مبارك للبركة والتيمن، وبعد هذا كله مجال للأجر والثواب، حيث لقارئه عشر حسنات بكل حرف من حروفه .. إلخ.
(1/73)
________________________________________
ونحن لا ننكر وجود هذا كله فى القرآن، وشموله له، وإشارته إليه، ولا يجوز لنا أن نفرغه من هذه الأمور .. لكن توفر هذه الأشياء فيه شيء، وأن نقصر نظرتنا له عليها فقط شيء آخر .. إننا لو فعلنا ذلك فسنفرغه من محتواه، ونعطله عن دوره ومهمته، ونقع فى خطأ النظرات الجزئية الناقصة ..
وبعض الباحثين فى القرآن يقسمه إلى موضوعات، ويبحث عن مفرداته وعباراته، وإشاراته إلى كل موضوع منها، فهذا يبحث عن قصص القرآن، والآخر عن غيوبه، والثالث عن علومه، أو عن تشريعاته أو إشاراته إلى التاريخ أو علم النفس أو الإدارة أو الثقافة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غير ذلك، ومنهم من يبحث فى مصطلحاته ومفرداته كالصبر والصلاة والتقوى والخلافة والدعاء والحكم والجهاد .. وغير ذلك، ومنهم من يحاول تصنيف سوره وآياته وفهرستها وبيان ما تضمنته من موضوعات وعلوم ومعارف ..
وهذه جهود طيبة خيرة، وأصحابها مثابون إن شاء الله- على حسب نياتهم فيها- لكنها لن تكون كاملة متكاملة شاملة، ولن تلم بالموضوع من كافة أطرافه أو تحيط به من كل جوانبه، حيث سيفوت أصحابها الكثير من اللمحات والإشارات واللفتات القرآنية للموضوع الذى يبحث أحدهم فيه .. وإلقاء نظرة فاحصة على نتاج هؤلاء فى هذا المجال كافية للخروج بهذه الحقيقة .. ولا يفهم من كلامنا إلغاء العمل والبحث فى هذه الموضوعات، وعدم جدوى أو صواب أو صحة ذلك، وإعدام تلك الكتب والأبحاث والدراسات!!! فهذا لا بد منه، ولكن نحب أن تكون عند هؤلاء الباحثين وعند القارئين لنتاجهم ودراساتهم هذه الحقيقة، وهى أن القرآن الكريم عملاق ضخم، عملاق فى طبيعته، وفى مهمته، وفى
(1/74)
________________________________________
رسالته، وفى إعجازه، وفى علومه وموضوعاته، وفى مناهجه ونظمه وتشريعاته، وفى كل ما حواه وأشار إليه .. عملاق ضخم تستحيل تجزئته، ويصعب تقسيمه.
النظرة الكلية الشاملة للقرآن هى المفتاح الأول للتعامل معه، وهى المنطلق الأساسي لفهمه وتدبره والتلقى عنه، وسيجد فيه هذا الناظر البصير ما يبحث عنه الآخرون من موضوعات وأمور جزئية جانبية، يجدها فى أثناء التعامل معه، فتكون نظرات ثانوية مكملة لهذه النظرة، ومتممة لها، تزيدها مكاسب وعلوما ومعارف ..
وعلى القارئ للقرآن الذى يريد النظرة الكلية الشاملة له، أن ينظر فى الآيات التى تعرض صفاته وسماته، والتى تشير إلى طبيعته ورسالته ومهمته، ثم يلتفت إلى نظرة الصحابة له- نظرة كلية شاملة- ليعرف كيف يتعامل معه ويعى عنه. ويستطيع أن ينطلق من حديثنا فى ما سبق من هذا الكتاب، عند ما عرضنا حديث القرآن عن القرآن، وكلاما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه، وعبارات لصحابة وتابعين فى وصفه.
(1/75)
________________________________________
- 2 - الالتفات إلى الأهداف الأساسية للقرآن
ومما يرتبط بنظرة القارئ للقرآن نظرة كلية شاملة، التفاته إلى الأهداف الأساسية للقرآن، فإن دقة وصوابية النظرة- كما بيناها فى المفتاح الأول- تقود إلى حسن التعامل مع القرآن وفهمه وتدبره، وتطلع القارئ على أغراض القرآن الأساسية وأهدافه الرئيسية ومقاصده العامة .. وإذا ما التفت القارئ إلى هذه الأهداف فإنه سيسعى إلى تحقيقها فيه وفى من حوله ..
ويخطئ كثير من المسلمين فى تسجيل أغراض القرآن وأهدافه، حيث يسجلون له أغراضا وأهدافا ثانوية فرعية، أو لا يريدها القرآن ولا يهدف لها بحال ..
نزل القرآن للأموات وليس للأحياء عند بعضهم، فلا يلتفتون إليه إلّا عند ما يموت الميت، فتصدح أجهزة التسجيل فى البيوت بالقرآن لعدة أيام، ويحضر القراء إلى البيوت والمقابر فى مناسبات الموت وذكريات الموتى، وتوقف الإذاعة إرسالها العادي وتقصره على بث القرآن عند موت زعيم أو حاكم .. أما أن يتعامل الأحياء مع القرآن، ويبحثوا عن أغراضه وأهدافه ليحققوها فيهم وفى مجتمعاتهم، فهذا ما لم يفكر فيه هؤلاء.
(1/76)
________________________________________
ونزل القرآن عند بعضهم للبركة، حيث يحولونه إلى حجب وتمائم ورقى يضعونها على الأجساد أو البيوت أو السيارات، استحضارا للبركة ودفعا للضرر، ويفتتح هؤلاء كلماتهم ومؤتمراتهم ولقاءاتهم وجلساتهم واحتفالاتهم وإذاعاتهم بآيات من القرآن، من باب التيمن والتبرك، وتعطير الأجواء بذكره، أو من باب العرف والعادة واستغفال الشعب ودغدغة عاطفته الدينية، وإيهامه أنهم مع القرآن ومن جنوده وخاصته وأهله ..
ولكنهم لا يريدون أن يفتحوا للقرآن نفوسهم ومشاعرهم وقلوبهم وكيانهم ليحييهم بما فيه من حياة، ولا يريدون أن يفتحوا له مؤسساتهم ومناهجهم ووزاراتهم
وتشريعاتهم لتتحول إلى هدى ورحمة وعدل .. ولا يريدون أن يفتحوا له مجتمعاتهم وشعوبهم لتتحول إلى رسل خير ودعاة إصلاح، وسادة وأساتذة لبنى الإنسان ..
فما هى الأهداف الأساسية للقرآن، حتى نقف عليها فى كل آياته وسوره، وحتى ندع لهذا القرآن الفرصة ليحققها فينا وفى مجتمعاتنا وفى واقعنا وحياتنا.
إن أهداف القرآن الأساسية لا تكاد تخرج عن أربعة:
1 - الهداية إلى الله سبحانه وتعالى، الهداية الرشيدة الأصيلة الهادفة القاصدة الواصلة، الهداية الشاملة للفرد بكل كيانه ومشاعره وأحاسيسه وجوانب حياته، والهداية الشاملة للأمة بكل أفرادها ومرافقها ومجالاتها وحياتها، والهداية الشاملة للإنسانية كلها إلى ربها سبحانه وتعالى.
قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، فالهداية فى الآية عامة شاملة، والحياة القيمة التى يدعو إليها كذلك عامة شاملة.
(1/77)
________________________________________
وقال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى: 52]، فالقرآن روح ولن يهدى إلّا ذو روح، والقرآن نور والله هو الذى يهدى بهذا الروح، ويهدى بهذا النور، وهو الذى كلف رسوله عليه الصلاة والسلام ليهدى بهذا القرآن إلى صراط الله المستقيم، وهو الذى كلف كل مؤمن مهتد بهذا الهدى القرآنى أن ينتقل إلى الآخرين ليهديهم إلى ما اهتدى هو إليه ..
وقال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) [المائدة: 15 - 16].
2 - إيجاد الشخصية الإسلامية المتكاملة المتوازنة: يكاد يوجدها من العدم، ويلتقطها من الواقع الجاهلى الآسن، الذى تضيع فيه النفوس وتفنى فيه العقول وتعطل فيه المدارك والحواس والمذاهب .. يلتقطها من هناك ثم يبدأ معها بسهولة ويسر وتأن وتدرج وملاحظة وتعهد .. يغرس الإيمان فى هذه النفس، ويضيء لها جوانب حياتها بالنور الهادى، وينمى لها الخير والصلاح فيها، ويوظف لها ما وهبها الله من قدرات ومواهب وطاقات توظيفا نافعا خيرا، ليحقق الهدف والغاية، ويمدها بالوسائل والمناهج التى تعينها على رسالتها وتساعدها على الاستمرار فى أدائها، ويضع فى يديها من القواعد والأسس ما يمكنها من العطاء والإبداع ..
وقد نجح القرآن نجاحا بارزا فى تحقيق هذا الهدف فى حياة الصحابة
(1/78)
________________________________________
الكرام، الذين كان الواحد منهم قرآنيا، يعيش بالقرآن وفيه وله، كما أنتج فى العصور اللاحقة رجالا قرآنيين فى صفاتهم الإسلامية القرآنية .. والنماذج المعاصرة من هؤلاء الرجال موجودة وافرة تتوزع رقعة شاسعة من عالمنا المعاصر .. وما زال القرآن جاهزا وقادرا بإذن الله على العطاء والإخراج، ومستعدا لأداء هذا الهدف وتحقيق هذا الغرض، بشرط أن يلحظ القارئ فيه هذا، وأن يلتفت إليه، وأن يحسن التعامل معه والتلقى عنه، وأن يتجاوب معه فى الإيجاد والتنشئة والتربية ..
وصدق الله العظيم القائل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ .. [الأنعام: 122].
فالناس بدون القرآن أموات فى قلوبهم وحواسهم ومشاعرهم وحياتهم وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) [فاطر:
19 - 22].
فالقرآن لا يدركه إلّا الحى ولا يتفاعل معه إلّا الحى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) [يس:
69 - 70].
3 - إيجاد المجتمع الإسلامى القرآنى الأصيل: وهو المجتمع المكون من الأفراد القرآنيين- الذين أنشأهم القرآن- بناء هذا المجتمع على منهج القرآن وأسسه ومبادئه وتوجيهاته، وإرساء أسس هذا المجتمع ومناهج حياته، وتزويده بكل ما يحتاجه من هذا كله .. وعند ما ينبثق المجتمع من نصوص القرآن، ويعيش فى ظلال القرآن، وينمو فى جو القرآن، ويتقلب فى أنوار القرآن، يكون مجتمعا حيا حياة عزيزة كريمة حرة
(1/79)
________________________________________
سعيدة، وإلّا فهو مجتمع ميت يجتر آلامه ومآسيه، ويتجرع ذله وجبنه وهو انه كل لحظة ..
لقد أوجد القرآن مجتمع الصحابة الأول- المجتمع القرآنى الرائد الفريد- وهو قادر على إيجاد المجتمعات وبنائها وتعاهدها إذا صدقت فى الإقبال عليه والتفاعل معه والحياة به ..
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]، فالقرآن هو دعوة النبى عليه الصلاة والسلام، وهو دعوة إلى الحياة اللائقة ببنى الإنسان، الحياة القرآنية فى كافة مجالاتها وجوانبها ومظاهرها .. ومن رفض هذه الدعوة فقد رفض الحياة، وحكم على نفسه بالموت، الموت المعنوى الذى لا يشابه الموت المادى المحسوس. قال تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) [الأنعام: 36]، وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) [النساء: 174 - 175].
هذا وتستعمل الحياة- فى الأسلوب القرآنى- على أوجه ستة، ذكرها الإمام الراغب فى مفرداته، وأورد الأدلة عليها والنماذج لها من آيات القرآن الكريم.
الأول: القوة النامية الموجودة فى النبات والحيوان: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30].
الثانى: القوة الحساسة، وبه سمى الحيوان حيوانا: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: 22].
الثالث: القوة العاملة العاقلة: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً [الأنعام: 122].
(1/80)
________________________________________
الرابع: ارتفاع الغم، وعليه يحمل قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97].
الخامس: الحياة الأخروية الأبدية، وذلك يتوصل إليه بالحياة التى هى العقل والعلم، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) [الفجر: 23 - 24].
السادس: الحياة التى يوصف بها البارئ سبحانه، فهو حى معناه لا يصح عليه الموت. قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [غافر: 65].
4 - قيادة الأمة المسلمة فى معركتها اللازمة مع الجاهلية من حولها، مع أعدائها المتربصين بها، الذين لا يرقبون فيها إلّا ولا ذمة، ولا يتركون فى حربها أسلوبا ولا وسيلة .. فالقرآن يأخذ بيد هذه الأمة إلى ميدان المعركة، ويوقفها فيه، ويمدها بوسائل النصر وأسلحة القتال وأساليب الجهاد، ويعرفها على سبب شن الأعداء الحرب عليها، وعلى هدفهم من حربها، وعلى اجتماعهم على قتالها، وعلى استخدامهم كل ما يقدرون عليه لإفنائها، وعلى شخصياتهم ونفسياتهم، وعلى أساليبهم ومكائدهم، وعلى مكرهم ومراوغتهم، وعلى شبهاتهم ودعاياتهم، وعلى أسلحتهم وأدواتهم .. ويضع أيديها على عدة النصر وزاد الطريق وقوة المواجهة، بحيث يربطها بحبل ربها ويوثق صلتها بإسلامها .. فتخرج من معركتها المفروضة عليها- بقيادة القرآن وتوجيهاته وهدايته- منتصرة عزيزة حرة كريمة .. وهذا ما فعله القرآن مع الصحابة الكرام فى جهادهم، وهذا ما فعله مع المسلمين عند ما أقبلوا وسعوا إلى تحقيق هذا الهدف.
وهو ما زال مستعدا وجاهزا وقادرا بعون الله، فأين المجاهدون المقبلون
(1/81)
________________________________________
عليه؟ الحاملون له؟ المتحركون به؟ المواجهون للأعداء من خلاله وعلى هديه؟؟
قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) [الفرقان: 52].
وهذا توجيه ربانى للرسول عليه الصلاة والسلام، وللأمة من بعده، أن تجعل القرآن الكريم أداة ووسيلة تستعين بها فى جهاد الكفار، وتعتبره السلاح الأول والأساسى والفعال فى هذا الجهاد ..
وأن مما يدمى القلب فى هذا الزمان أن يقبل أناس من المترئسين والمتنفذين والمتزعمين للأمة على أعداء الإسلام والقرآن، وأن يستعينوا بهم فى جهاد القرآن ومقاومته، وأن يجاهدوا القرآن بهؤلاء، وأن يتحالفوا معهم فى طمس هدايته وإطفاء نوره والقضاء عليه .. ولكن هؤلاء جميعا نسوا أنهم يحاربون الله سبحانه، ومصير كل من حارب الله معروف فى التاريخ، وصدق الله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) [الصف: 8 - 9].
(1/82)
________________________________________
- 3 - ملاحظة المهمة العملية الحركية للقرآن
على القارئ البصير للقرآن أن يلحظ ويلاحظ المهمة العملية الحركية للقرآن، ويقوده إلى هذه الملاحظة المفتاحان السابقان «النظرة الكلية الشاملة» و «الالتفات إلى الأغراض الأساسية» فعند ما يحسن استعمال ذينك المفتاحين فسيتعرف على مهمة هذا القرآن ورسالته، وهى عملية حركية واقعية ..
إن أوضح سمة من سمات القرآن هى «الواقعية الحركية» وهى مفتاح التعامل مع هذا القرآن وإدراك مراميه وأغراضه، وفقهه وفهمه وتدبره- كما يقول الشهيد سيد قطب فى ما أوردناه له- وهذه الواقعية الحركية هى التى تحدد «المهمة العملية الحركية» للقرآن الكريم، وتوضح رسالته الجدية الواقعية فى الحياة ..
لقد وصف الله كتابه وصفا عجيبا، يدل دلالة واضحة على مهمته العملية، الحركية، حيث أخبرنا عن كتابه بأنه حكيم! فقال: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: 1 - 2]، وقال: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) [الزخرف: 4]، والحكمة من صفات العقلاء، ولهذا القرآن صفات العقلاء، إنه على حكيم، يربى بحكمة، ويتصرف بحكمة، ويقود الأمة بحكمة، ويؤدى مهمته ورسالته بحكمة ..
(1/83)
________________________________________
بهذه الحكمة القرآنية عمل القرآن ما عمل فى حياة الصحابة، وبهذه المهمة العملية الحركية أخرج الصحابة إخراجا من العدم إلى القيادة، ومن الموت إلى الحياة، وبهذه السمة «الواقعية الحركية» كان القرآن حاضرا هناك وعاملا حيا، وموجها رائدا .. أدرك الصحابة الكرام- الجيل القرآنى الفريد- هذه السمة، والتفتوا إلى هذه الحكمة، ولاحظوا هذه المهمة، فصنعوا الأعاجيب فى حياة البشرية ..
ولا بد أن نلاحظ نحن هذه المهمة القرآنية فى حياتنا وواقعنا، وأن نتفاعل مع الحكمة القرآنية، وأن نتدبر الواقعية الحركية فيه، حتى نحسن الأخذ عنه والحركة به ..
وحتى ننجح بهذا لا بدّ من ردم الحاجز السميك بين قلوبنا وبين القرآن، وإزالة الفجوة العميقة بيننا وبين القرآن، وتطهير القلوب مما علق بها من غشاوات وأكنة وتلبيسات وشهوات، حالت بينها وبين أنوار القرآن .. لا بدّ أن نخطو نحن نحو القرآن، وأن ندخل فى عالمه الرحيب، ندخل فيه بكامل كياننا الإنسانى، ونتلقى عنه بكافة أجهزة التلقي والاستجابة فينا، ونقف منه على مهمته العملية الحركية الواقعية، ونلحظها فى كل سوره وآياته وعندها سنرى القرآن حيا فاعلا، وحكيما موجها، وقائدا مربيا، وسيخرجنا بإذن الله إخراجا مباركا، وينشئنا تنشئة رائدة، ويوصلنا إلى مركز القيادة والريادة والأستاذية للإنسانية.
كل آيات القرآن توحى بمهمته العملية الحركية، وتشير إلى واقعيته الحركية الجدية، وتنبض بمظاهر الحياة والحيوية فيه .. من ذلك قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110].
فالأمة الإسلامية أخرجت للناس إخراجا من العدم، انبثقت من بين
(1/84)
________________________________________
نصوص القرآن، وولدت ميلادا جديدا فى محضن القرآن، ونمت وترعرعت وعاشت فى ظلال القرآن .. وبهذا كانت خير أمة، ومن هى الأمة التى تقاربها فى هذه الخيرية فضلا عن أن تساويها أو تتفوق عليها؟؟ وهل المسلمون اليوم يتمتعون بهذه الخيرية؟ ويؤدون هذه الوظيفة، ويسبقون العالم إلى الرّيادة والقيادة؟ الجواب معروف، والسر هو فى نظرتها للقرآن، وتعاملها معه، وصلتها به ..
كم سيربح القارئ للقرآن ويستفيد، وما هى الحصيلة الوافرة الثرية من المعلومات والتوجيهات والحقائق والإيحاءات التى سيخرج بها عند ما يقرأ نصوصا للقرآن، وهو يستخدم هذا المفتاح «المهمة العملية الحركية للقرآن»، وهو يدرك هذه السمة «الواقعية الحركية للقرآن»! ندعوه إلى أن يقرأ هذه الآيات- على سبيل المثال- بهذا الاعتبار:
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) [البقرة: 120].
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) [آل عمران:
137 - 138].
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) [المائدة: 105].
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي
(1/85)
________________________________________
حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) [الأنعام: 112 - 117].
(1/86)
________________________________________
- 4 - المحافظة على جو النص القرآنى
قارئ القرآن قد يشغل نفسه بشواغل أثناء التلاوة، تخايل له فتحجب عنه أنوار القرآن، وقد يسرح فى ذهنه، ويجول خياله فى الآفاق .. وقد سبق أن تحدثنا عن هذا فى آداب تلاوة القرآن.
ولكن الذى نبينه هنا أن يبقى القارئ فى «جو» النص القرآنى، وأن يحضر معه كل أجهزة وأدوات التلقى والاستجابة والتأثر والانفعال فى كيانه الإنسانى، للتفاعل مع القرآن وتأخذ عنه .. على القارئ أن «يحافظ» على الجو القرآنى المبارك، وأن يحرص على إبقائه وإثرائه وزيادته كلما أقبل على التلاوة، وأن يزداد من كل هذا كلما تكررت التلاوة وعاود النظر فى كتاب الله ..
وهو فى أثناء قراءته للآيات قد تستوقفه مجموعة منها، وتدعوه إلى أن يتوسع فى تدبرها واستخراج ما فيها، ولا مانع أن يطيل هذه الوقفة، وأن يلبى تلك الدعوة!! لكن بشرط أن لا يخرج عن جو النص القرآنى الكريم، وأن يبقى خواطره ومشاعره، وأفكاره وتصوراته، ونظراته واهتماماته، يبقيها مع الآيات وظلالها وإيحاءها .. فإذا ما سوغت له نفسه الخروج من هذا إلى اهتمامات أخرى فلا يستجب لها، وإذا ما زينت له أفكاره التعريج على مباحث وقضايا وجوانب واستطرادات لا ارتباط بينها
(1/87)
________________________________________
وبين الآيات، ولا يتوقف فهم الآيات وتدبرها عليها، فلا يقبل ذلك ولا يقبل عليه، وليقصر نفسه وفكره على العودة إلى جو النص القرآنى، وليكن يقظا ومنتبها لهذا أثناء التلاوة ..
إن البقاء فى جو النص القرآنى، والمحافظة عليه، هو مفتاح لا بدّ منه لفتح كنوز القرآن، وحسن التعامل معه والتلقى عنه والاستجابة له .. ولا أدرى كيف يجيز قارئ أو كاتب أو ناظر فى القرآن لنفسه وفكره أن يخرج من صحبة القرآن الحبيب، ويغادر ظلاله وأنواره وأفياءه، وجوه وعطره وحكمته، إلى تحقيقات واستطرادات
وشواغل ومشكلات أتى بها البشر وأشغلوا أنفسهم- والناس معهم- بها ..
إن النص القرآنى يطلق شحنات كامنة من معانيه، ويفيض فيوضات دافقة من أنواره، ولكنها لا يقتنصها ويدركها ويتعرض لها إلّا من كان يقظا لها، متفاعلا معها، حاضرا بكل كيانه لحظتها.
ليحاول القارئ- من باب التمثيل لهذا المفتاح- أن يتلو بكل كيانه هذه النصوص، وأن يعيش فى جوها وأن يحافظ على ذلك، ثم لينظر الرصيد الضخم الذى أضافه إلى حياته فى ظلال القرآن، والكنز الثمين الذى خرج به من هذه القاعدة، والثمار اليانعة التى جناها من هذه الصحبة الواعية ..
ليعش طويلا مع قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) [النساء: 123 - 124]، والنقير هو النقرة فى ظهر نواة التمر، وهذه هى أخوف آية فى كتاب الله!!
(1/88)
________________________________________
وليعش طويلا مع قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) [الأنعام: 71].
ومع قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) [التوبة: 111].
ومع قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) [الزمر: 36 - 37].
(1/89)
________________________________________
- 5 - استبعاد المطولات التى قد تحجب نور القرآن
وهذا متمم للسابق ومكمل له، فإن من لوازم المحافظة على جو النص القرآنى، أن لا يلتفت إلى المطولات التى قد تخرجه من هذا الجو، وتحجب عنه أنوار القرآن وموحياته وتوجيهاته .. إن هذه المباحث الكثيرة فى كتب التفسير وضعها السادة المفسرون من أجل «تثقيف» القارئ للتفسير، وتزويده بأكبر قدر من هذه الثقافة، هم فعلوا هذا بمقصد نبيل ونية حسنة، وهم مأجورون عند الله إن شاء الله، ولقد استفاد القراء من كثير منها وأضافوا إضافات إلى رصيدهم الثقافى التفسيرى .. ولا مانع أن يقبل على هذه المطولات والمباحث والمشكلات والقضايا بعض المتخصصين فى التفسير، بين الحين والآخر فى فترات متباعدة .. لكن أن يعود إليها دارسو التفسير جمعيا، وقارئو القرآن، وأن تكون هذه المطولات المختلفة هى الهدف من الدراسة والقراءة، والغرض من النظر فى القرآن، والثمرة التى تجنى من الحياة معه، فهذا حاجز يحجزهم عن القرآن، وحاجب يحجب عنهم نوره وهداه ..
لن يضير قارئ القرآن ودارسه شيئا لو لم يطلع على هذه المطولات أصلا، ولم يفته شيء من هدى القرآن وكنوزه لو لم يعرف عنها شيئا، ولن ينقص علمه بالقرآن لو لم يتعامل معها مطلقا.
(1/90)
________________________________________
إننا نكاد نطالب قارئ القرآن أولا أن يقتصر عليه، ونطلب منه أن يستبعد المباحث والاستطرادات التى ذهب إليها دارسو القرآن ومفسروه من السابقين.
وهذه المطولات والمباحث مختلفة: منها النحوية المتعلقة باختلافات النحويين فى وجوه إعراب الكلمات القرآنية، ونقاشاتهم وترجيحاتهم ..
ومنها البلاغية المتعلقة بالكلمة القرآنية ومعانيها واشتقاقاتها والخلافات والترجيحات فيها .. ومنها الفقهية المتعلقة باختلافات الفقهاء فى الأحكام الفقهية المستنبطة من النص وردودهم وأدلتهم وتوجيهاتهم .. ومنها الأثرية المتعلقة بنزول الآيات وأسبابها وزمانها ومكانها والأقوال المأثورة المتعارضة عن السابقين فى تفسيرها .. ومنها القصصية المتعلقة بقصص القرآن وحديثه عن السابقين، والخلافات فى تحديد القصة أو زمانها أو أبطالها وتفصيلاتها وأحداثها ومجرياتها .. إلى غير ذلك من الأساطير والإسرائليات والخرافات.
إذا قرأ قارئ قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) [البقرة: 30 - 31]، فليبق فى جو هذه الآيات التى تعرض قصة آدم، ليتلقى إيحاءاتها .. ولا يخرج إلى مباحث مطولة واستطرادات مرفوضة قام بها بعض السابقين، تشغل هذا القارئ عن معايشة النصوص، وتحجب عنه أنواره: لا يهتم بالاختلاف فى اشتقاق كلمة «الملائكة» والنقاش بين الآراء المختلفة فيه، ولا يذهب إلى تيه التأويلات الافتراضية حول كيفية قول الله لملائكته، وجوابهم عليه، ومعرفتهم أو توقعهم الإفساد وسفك الدماء من نسل هذا الخليفة وأدلتهم
(1/91)
________________________________________
على ذلك، وتفاصيل ما جرى بعد ذلك بين آدم وإبليس، ومكان الجنة التى جرت فيها هذه القصة .. ولا يستطرد إلى الحديث عن العلم وشروطه وألوانه وفضله .. وغير ذلك.
إذا قرأ القارئ قصة ابني آدم فى سورة المائدة [27 - 32] فلا يقع تحت تأثير الاستطراد والتفصيل والخبط بلا دليل، الذى أتى به سابقون من المفسرين، فى افتراض تفصيلات للقصة لا تقوم على أصل، ولم يرد بها نص موثوق.
إذا قرأ الآيات التى تعرض أحكام الصيام فى البقرة [183 - 187] أو تلك التى تقرر أحكام القتل وأنواعه وكفارته فى النساء [92 - 93] أو التى تتحدث عن الذبائح والتسمية عليها فى الأنعام [118 - 121] أو التى تتحدث عن حد الزنا والقذف واللعان فى سورة النور [1 - 10]، إذا قرأ هذه الآيات وغيرها من آيات الأحكام، فليبق عند جو النص القرآنى لا يغادره إلى استطرادات الفقهاء حولها. ولا يحول نظره فى الآيات وتدبره فيها إلى موسوعة فقهية مذهبية، وإلى معركة جدلية بين الآراء والأقوال المتعارضة .. وليترك هذه للمتخصصين من الفقهاء فى الدراسات الفقهية، وليحقق هو فى نفسه ومن حوله أغراض القرآن، التى ليس من بينها قطعا الاستطراد والتوسع والتفصيل والتطويل.
(1/92)
________________________________________
- 6 - تنزيه القرآن عن الإسرائيليات وعدم تبيين المبهمات
حديث القرآن الكريم عن السابقين وإيراده لقصصهم وأخبارهم، لم يكن يتبع المنهج التفصيلى التحليلى، فلم يتوسع فى الحديث عن زمان أو مكان أو أبطال أو تفصيلات القصة، ولم يتحدث عن كل حادثة أو جزئية أو فرعية فيها، ولم يستطرد إلى تكميلات وتحليلات وتفصيلات فى أحداثها وحركات أبطالها وخلفيات مشاهدها .. لم يفعل القرآن شيئا من هذا لأنه لم يستهدف من قصصه هذه التفصيلات والتحليلات، إنما هدف إلى عرض الحقائق وتقرير القيم والتصورات، واستخلاص العبر والدروس، والتوجيه إلى الدلالات، والانتفاع بما فيها من توجيهات .. وهذا متحقق فى المقدار الذى عرضه القرآن، بالكيفية التى عرضه بها ..
وكان الأولى بالناظرين فى القرآن والدارسين له- الذين اتجهوا إلى الإسرائيليات والأساطير- أن يقفوا عند العرض القرآنى لقصص السابقين وأن يستفيدوا من منهجه وطريقته فى النظر فيها وتحليلها، وأن يقبلوا على استخلاص التوجيهات والدروس فيها، وأن لا يجاوزوا القرآن إلى مصادر بشرية عاجزة جاهلة، يطلبون منها تفصيل ما أجمل القرآن، أو تبيين ما أبهم فيه، أو الحديث عما أغفل!!.
(1/93)
________________________________________
وليتهم طلبوا هذا من مصادر موثوقة قد تعطيهم علما ويقينا فى هذا، ولكنهم طلبوا هذا من مصادر محرفة كاذبة، واستفتوا أناسا كافرين ظالمين محرفين لدينهم .. اتجهوا إلى بنى إسرائيل يسألونهم عن ذلك، وأقبلوا على الإسرائيليات، يزيدون منها علمهم وثقافتهم، ويملئون منها تفاسيرهم وأبحاثهم ودراساتهم، ويحددون بهذا الهراء والادعاء نصوص القرآن، ويفسرون بهذه الأساطير آيات القرآن، ويبينون بهذه الخرافات مبهمات القرآن، ويتقولون بهذا على السابقين ما لم يقولوه، وينسبون لهم ما لم يفعلوه ..
ونسى هؤلاء توجيهات القرآن فى عدم البحث فيما لا دليل عليه، كأحداث الماضين التى هى من أنباء الغيب، وأن لا يسأل فيها من لا علم عنده، وأن لا يقفو المسلم ما ليس له به علم، ولا يتبع ما لا دليل عليه، لأنه يسأل عنه يوم القيامة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) [الإسراء: 36]، ونسوا نهى القرآن المباشر للمسلمين أن يأخذوا فى قصص السابقين عن أهل الكتاب، وأن لا يستفتوهم فى شيء منها، وذلك قوله- أثناء الحديث عن عدد أصحاب الكهف- قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) [الكهف: 22]، ونسوا نفى القرآن الصريح العلم عن البشر فى كثير من أحداث التاريخ الماضية، وتقريره عن حلقات فى ذلك التاريخ لا يعلمها أحد من البشر وإنما يعلمها الله، وذلك فى قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم: 9]، ونسوا دعوة القرآن إلى التثبت فى أنباء الفاسقين، فكيف فى أنباء الكافرين الكاذبين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6].
(1/94)
________________________________________
وعلى هدى هذا المفتاح فى التعامل مع القرآن، وبخاصة حديثه عن قصص السابقين، فإننا ندعو قارئ القرآن أن يتجاوز كل الإسرائيليات والخرافات والأساطير التى وردت عنها، والتى ملأ بها مفسرون ودارسون كتاباتهم، فحجبوا بذلك كثيرا من أنوار القرآن فى أكوام من ذلك الركام.
لا بدّ للقارئ أن ينزه القرآن عن الإسرائيليات كلها، وأن لا يجاوز نصوص القرآن وما صح من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فى ذلك، وأن لا يقبل أى قول آخر بعد ذلك مهما كان قائله، إذا لم يبين دليله الذى استدل به ومصدره الذى أخذ عنه ..
إذا فعل القارئ ذلك فكم سيسقط ويلغى صفحات من تفاسير سابقة؟ ويلغى كتبا وحكايات أسطورية؟ ويكون فى منأى ومأمن عن أن يخبط فى تيه الخرافات، لأنه مهتد بأنوار القرآن ..
لا أجد ما يدعونى إلى التمثيل بنماذج للإسرائيليات فى قصص القرآن، لأنها ما تركت منها واحدة، وأى قارئ فى التفاسير السابقة سيقف على ركام ثقيل منها. سيجد هذا إذا قرأ عن بقرة بنى إسرائيل فى البقرة، وعن ولادة عيسى عليه السلام فى آل عمران، وعن رفعه فى سورة النساء، وعن مائدة النصارى فى المائدة، وعن إبراهيم عليه السلام مع قومه فى الأنعام، وعن موسى عليه السلام مع فرعون ومع بنى إسرائيل فى الأعراف .. وغير ذلك.
ومما هو مرتبط بهذه القاعدة موقف القارئ من مبهمات القرآن، وهى ما أبهمه القرآن من أسماء الأشخاص والأماكن فى قصص السابقين.
وهى التى يستحيل علينا أن نبينها، وأن نحدد تلك الأسماء لأننا لم نشهدها، ولأن الروايات عن أهل الكتاب فيها مطعون فيها، ومردودة علميا، لتطرق التحريف
والكذب إليها وغلبته عليها.
(1/95)
________________________________________
موقف القارئ منها أن ينظر فى القرآن، فإذا وجد ما أبهم فى موضع مبينا فى موطن آخر أخذه، فإن لم يجده مبينا فى القرآن، توجه إلى ما صح من حديث رسول الله عليه السلام، فإذا بين هناك أخذه .. ولا يجوز أن يبحث فى غير هذين المصدرين اليقينيين، فليتركه بعد ذلك على إبهامه، وليسعه ما وسع رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه فى موقفهم منه ..
فإن لم يفعل ذلك قال على الله بدون علم، واتبع من ليس عنده علم.
وأشغل نفسه فى ما لا خير فيه، وخرج عن جو النص القرآنى، وأقبل على موانع وحجب تحجب عنه نور القرآن .. وخالف فى ذلك كله هدى رسول الله عليه السلام وأصحابه الكرام فى الصلة بالقرآن، واستبعد هذه المفاتيح الضرورية للتعامل مع القرآن ..
من المبهمات التى لا يجوز أن يبحث عن بيانها: الشجرة التى أكل منها آدم عليه السلام، وخشب سفينة نوح عليه السلام، وأسماء وأصناف طيور إبراهيم عليه السلام، ونوع عصا موسى عليه السلام، وأسماء أهل الكهف وكلبهم، والثمن الذى بيع به يوسف عليه السلام، واسم الحاكم الذى حاجّ إبراهيم فى ربه، واسم الذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها، واسم الذى عنده علم من الكتاب عند سليمان عليه السلام ..
وغير ذلك.
(1/96)
________________________________________
- 7 - دخول عالم القرآن دون مقررات سابقة
قد يجمع القارئ مقرراته وثقافاته من مصادر عديدة، وقد تكون هذه المصادر متعارضة أو متداخلة أو متناقضة، فينعكس هذا على مقرراته التى أخذها وثقافته التى حصلها، فيكون مشوشا فى فكره، متناقضا فى تصوراته، متعارضا فى نظراته .. وهذا حال كثير من المثقفين فى عصرنا، الذين استقوا علومهم من الينابيع الملوثة، وحصلوا ثقافاتهم من المصادر الغربية الدخيلة ..
والقرآن الكريم وحده هو النبع الصافى الثر الأصيل، الذى يخرج الإنسان المسلم المتوازن، والذى يزوده بالتصورات والحقائق والقيم والثقافات الصحيحة الصادقة اليقينية .. ولكن القرآن لن يفعل هذا إلّا بشرط، وهو أن يدخل القارئ عالم القرآن بدون مقررات سابقة كان قد حصلها من هنا وهناك من نتاج البشر .. هو أن يلقى على عتبة القرآن بكل هذا الركام وأن يدخله مجردا منه، وأن يتعامل معه من البدايات، وأن يتلقى عنه المعانى والإيحاءات والتصورات ..
إن هذا ما فعله الصحابة الكرام فى تعاملهم مع القرآن- فكانوا جيلا قرآنيا فريدا- لقد كان الرجل منهم يلقى على عتبة القرآن بكل ماضيه وتصوراته وموروثاته .. ويدخل عالمه الرحيب الطاهر صفر اليدين، ويبنى
(1/97)
________________________________________
نفسه بناء متوازنا بطيئا، ويحصل منه مقرراته وثقافاته ومناهج حياته، فيتخرج من مدرسته رجلا إيمانيا متوازيا سويا ..
القرآن الكريم يعطى القارئ الكثير من المعانى والحقائق، ويزوده بالكثير من المعارف والثقافات، ويمنحه الكثير من الكنوز والتوجيهات، ويقدم له الكثير من المقررات والتصورات .. ويطلق له من أنواره ما ينير له حياته، وينشر عليه من ظلاله ما يضفى عليه الرحمة والأنس والطمأنينة ..
وهذا كله بشرط أن لا يتعامل معه بمقررات سابقة، غريبة على التوجيه القرآنى، ودخيلة على التصور الإسلامى ..
وقد أخطأ أناس فى صلتهم بالقرآن، ولم يحسنوا دخول عالمه الرحيب، فمنهم من أحضر معه ركاما ثقيلا من المعارف والثقافات والأخلاق والعادات والأعراف والسلوكيات- وهى متناقضة مع توجيهات القرآن- فحجبت هذه عنه أنوار القرآن .. ومنهم من دخل عالم القرآن بمقرر فكرى مسبق، بقى يخايل له وهو ينظر فى القرآن، فحجب عنه الرؤية وأوقعه فى الغبش والتخليط، ومنهم من أقبل على القرآن بنية مسبقة، وخلفية سابقة، وهدف يبغى تحقيقه، فصار يعتسف الطريق، ويتكلف الأدلة، ويلوى أعناق النصوص ليا، ويقسرها قسرا، ويستنطقها استنطاقا، لتشهد له ..
وهؤلاء جميعا خرجوا بنتائج خاطئة، ومقررات مرفوضة، نسبوها إلى القرآن الكريم، وما هى إلّا نتاج غبش وتيه، وثمرة حجاب عن أنوار القرآن وحقائقه.
ومن الأمثلة السريعة لهؤلاء الذين دخلوا القرآن بمقررات سابقة فضلّوا، وخرجوا من ذلك بنتائج خاطئة فأضلوا ..
(1/98)
________________________________________
ذلك الذى أراد أن يستدل من القرآن على أن الأديان السماوية كلها وحدة واحدة، وأن أتباعها كلهم فى الجنة، وأن اليهود والنصارى- بعد نزول القرآن- هم مقبولون عند الله، وتوكأ فى كل هذا على قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) [المائدة: 69].
وذلك الذى استدل بقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [الأنعام: 38] على أن القرآن حوى جميع العلوم والمعارف.
وذلك الذى يركن إلى الحكام الظالمين المحاربين لله ورسوله ولدينه، فيبحث لهم عن آية توجب طاعتهم وتنفيذ أحكامهم، فيعتمد على قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النساء: 59].
وذلك الشيخ الذى باع دينه بدين غيره من الحكام الظالمين، فخسر الأمرين معا، وصار يبرر لهم رذائلهم وضلالهم، ويعطيه بعدا إسلاميا، ويضفى عليه ظلا قرآنيا، ويبحث عن آيات القرآن لتشهد له ..
إذا طلبوا فتوى فى الفائدة الحرام، والربا المقيت، وجدها فى آية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130].
وإذا والوا النصارى وأحبوهم وقربوهم، برر لهم ذلك بآية:
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) [المائدة: 82].
وإذا ذلوا أمام الأعداء وجبنوا عن قتالهم، وفاوضوهم على البلاد، وصالحوهم على الأوطان، وتنازلوا عن البلدان، أجاز لهم ذلك بآية:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61].
(1/99)
________________________________________
وإذا بطش هؤلاء بجنود الله، وحاربوا أولياء الله، وآذوا أحباب الله واتهموهم بكل شناعة، ونسبوا لهم كل عيب، ولفقوا لهم كل تهمة، ومدوا إليهم أيديهم وألسنتهم بكل صنوف الأذى والعدوان والاضطهاد والتعذيب.
اعتبر ذلك التاجر بدينه وقرآنه رجال الله بغاة محاربين، وطبق عليهم حد الحرابة، وذبحهم بالقرآن: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33].
(1/100)
________________________________________
- 8 - الثقة المطلقة بالنص القرآنى وإخضاع الواقع المخالف له
القرآن كلام الله، ولا بدّ أن ينظر له على أنه كلام الله، ويتم التعامل معه على أنه كلام الله، ويوثق به على أنه كلام الله، ويسلم به ويصدق به على أنه كلام الله، وهو الحق المطلق والصدق المطلق والخير المطلق والهدى المطلق .. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) [النساء: 87]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) [النساء: 122].
وموقف القارئ من القرآن هو التسليم التام به، والثقة بنصوصه، والتصديق الجازم بمعانيه وحقائقه ودلالاته .. فما قاله فهو الحق، وما قرره فهو الصدق، وما أشار له ووجه إليه فهو الخير، وما أمر به فهو الهدى والصواب، وما نهى عنه فهو الشر والفساد .. فهذا القرآن من قال به صدق ومن حكم به عدل، ومن التزم به استقام، ومن صدّق به اطمأن، ومن وثق به اهتدى، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
وكيف يجيز مسلم لنفسه أن «يتعالم» على الله فى كتابه، وأن يجعل عقله البشرى القاصر فوق كلامه أو ندا له، وأن يعمل فى نصوص القرآن بالتحريف أو التعطيل أو التأويل، أو التقزيم أو التفريغ أو التلبيس .. وأن
(1/101)
________________________________________
يتشكك فى معانيها ومقرراتها وحقائقها، أو يتفلسف على دلالاتها وإيحاءاتها، أو «يتخير» ما شاء من أحكامها ومبادئها ..
على القارئ البصير أن تكون نظرته لنصوص القرآن، وتعامله معها واقتناعه بها وتسليمه لها محكوما بقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) [النساء: 65]. وبقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36) [الأحزاب: 36] .. فلا يكون «مزاجيا» فى تعامله مع القرآن وثقته بنصوصه، فيفعل فعل اليهود فى التوراة، ذلك الفعل الذى يقوم على «المزاجية» والهوى، والذى ذمه الله بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ [البقرة: 85]. وبقوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) [البقرة: 87] إنه هو الصلة المزاجية اليهودية التى «قرطست» التوراة قراطيس، فمزقتها وقزّمتها وطمست نورها كما قال تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام: 91] ولكننا كم نرى من مسلمى هذا الزمان من هم مزاجيون فى نظرتهم إلى نصوص القرآن! وثقتهم بها! وتسليمهم لها! كم نرى من هؤلاء من يحكم فى هذه النظرة الهوى والشهوة والمصلحة والرغبة .. كم نرى من هؤلاء من «يقرطس» أحكام القرآن ونظمه وتشريعاته «قرطسة» مرذولة مقيتة، تشابه قرطسة اليهود لتوراتهم، وتكاد تخرجه من دين الله ..
إذا أخبرنا عن وجود الملائكة وصفاتهم فهو صدق يجب الإيمان به
(1/102)
________________________________________
والثقة فيه. وقل مثل هذا فى إخباره عن إبليس والشياطين وعن الجن، وعن الأنبياء ومعجزاتهم، وعن الأعداء وهلاكهم، وعن تسبيح كل من فى الكون لله وسجودهم
له، وعن الجنة ونعيمها، وعن النار وعذابها .. وغير ذلك ..
وإذا تضمنت نصوص القرآن حكما أو تشريعا، فلا بدّ من التصديق به والتسليم له، فالخمر ولحم الخنزير والربا والنظرة المحرمة والزنا، والكذب والغدر، وموالاة الأعداء ونصرتهم، ومصالحتهم والجبن والذل أمامهم، وإيذاء أولياء الله واضطهادهم. كل هذه محرمات فى دين الله، لما فيها من إفساد وتخريب وفوضى ودمار ..
وإذا قرر القرآن أمرا، أو تضمن من الله حكما أو وعدا، أو عرض سنّة أو حقيقة، ثم رأى القارئ أن الواقع الذى يعيشه، والأمر الذى يشاهده يتعارض مع ما قرره القرآن، ويتناقض معه، ويتخلف عنه .. فلا تضعف ثقته المطلقة بالنص القرآنى، ولا يتزعزع تصديقه به وتسليمه له، ولا يقبل على هذا النص بالتحريف والتعطيل والتأويل، فلا يجعل ما يراه من مخالفة هو الأصل، وما يوحى به القرآن هو التابع له، الذى يجب أن يخضع له، وأن يؤوّل ليوافقه ..
إن النص القرآنى هو الأساس والقاعدة والأصل، وإن الواقع هو التابع له، فإذا ما تعارضا فى ظاهر الأمر، فلا بدّ أن فى الأمر شيئا، ولا بدّ أن الشروط والمواصفات التى قررها القرآن لم تتحقق، والأسباب التى أشار إليها لم توجد .. فلو وجدت الأسباب كاملة وتحققت الشروط وافية، فلا بد أن نرى الواقع متطابقا مع النص .. فلا بدّ إذن من إخضاع الواقع المخالف لتقريرات القرآن وحقائقه ..
(1/103)
________________________________________
قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) [النساء: 141]. هو الأصل والواقع له تبع. وقوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام: 6]. سنة لا تتخلف والبصير هو الذى يراها قادمة ..
وقوله تعالى مهددا آكلى الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279] يعلن الحرب عليهم، والمؤمن هو الذى يراها الآن حربا أعلنها الله على العالم أجمع لأكله الربا، كما قال فى الآية الأخرى، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: 276].
وقوله تعالى عن اليهود: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 112] حكم قاطع دائم يتضمن الاستثناء فى الحبال الممدودة إليهم فى هذه الأيام، حبل الله بالإمهال، وحبال أمريكا بالمساعدات المالية، وحبال روسيا بالسيل البشرى، وحبال عملائهم بالتحالف والتعاهد، وحبال الأمة بالجبن والذل وترك الجهاد.
وقوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) [محمد: 7] تعليل لسر انتصار المسلمين السابقين، وتعليل لسر هزائم المسلمين المعاصرين، وهو يقرر قاعدة عامة وسنة ربانية ثابتة تتضمن شرطا بشرط، وهو المتمثل فى فعل الشرط وجوابه ..
(1/104)
________________________________________
- 9 - معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه
لنصوص القرآن إيحاءات خاصة، ودلالات صائبة، وظلال لطيفة وارفة، ولطائف غالية نافعة، وتقوم هذه النصوص بإطلاق هذه الايحاءات وإلقاء هذه الظلال، والدعوة إلى تلك اللطائف، ولكن لا يفهم عليها كل من نظر فى القرآن أو قرأ فيه، لأن الجميع لا يملكون المؤهلات لإدراكها، والمفاتيح للتعامل معها. إن هذا يحتاج إلى قارئ حى بصير، يتبوأ الإيمان أولا، ثم يتفاعل مع القرآن بكل كيانه، ثم يفهم عنه ما يوحى به من إيحاءات، ويتفيأ ما يلقيه من ظلال، ويعيش حياة هانئة مباركة فى هذه «الظلال» القرآنية الوارفة، حياة ترفع عمره وتباركه وتزكيه.
بماذا توحى للقارئ البصير آخر آية نزلت فى كتاب الله- كما رجح جمهور العلماء- وهى قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) [البقرة: 281]. إنها تشير إلى عدة مجالات، وتوحى بعدة إيحاءات، ويمكن أن تستنبط منها عدة دلالات:
إن موضوعها عقيدى، حيث تربط المؤمنين بالله وتطالبهم بتقواه، وتوقظ فيهم مراقبته، والنظر فى يوم القيامة وخشيته والخوف منه، وتقرر قاعدة الجزاء فى ذلك اليوم وكونه على ما كسب الإنسان فى الدنيا، وتنفى الظلم عن الله، وهذه كلها من موضوعات العقيدة وقضاياها وجزئياتها ..
(1/105)
________________________________________
ومما يلفت النظر هنا أن تفتتح أول آية فى القرآن- حسب النزول- بالعقيدة، وأن تختتم آخر آية منه بالعقيدة، وأن يكون بين الآيتين فترة زمنية مدتها ثلاثة وعشرون عاما، نزلت فيها آيات فى موضوعات القرآن وتوجيهاته ومبادئه وتشريعاته .. ولهذا دلالات- تربوية وتصورية- على أهمية العقيدة أولا، وعلى ضرورة الاستمرار فى التذكير بها والتركيز عليها، وعلى ربط كافة المناهج والتشريعات بها لضمان الالتزام بها وأدائها، وعلى إقبال المربين والموجهين عليها لتكون مادة التربية وأساس التوجيه، وعلى أهمية التذكير باليوم الآخر، وربط القلوب به لاستقامة الحياة .. وغير ذلك من إيحاءات ودلالات ..
ولو وقف القارئ البصير أمام قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام: 1] وحاول استخراج دلالاته وإيحاءاته فإنه سيقف على رصيد ضخم منها، ومن أهمها:
أن الحمد والشكر والثناء لا يكون فى الحقيقة إلا لله، لأنه هو مصدر الخيرات والنعم، وحمد الناس لكونهم وسائط لها وأسبابا، وهو فى الحقيقة حمد لله الذى أوجد فى قلوب المحسنين والمنعمين الرأفة والرحمة على بنى البشر.
ومنها أن الله هو الخالق لكل ما فى السماوات والأرض، وهذا رد على الملحدين الذين ينسبون الخلق إلى الطبيعة، وأن الله هو الجاعل للظلمات والنور، وهذا رد على الثنوية والمجوس الذى يجعلون للكون إلهين: إلها للخير وإلها للشر. وأن الله وحده لا شريك له، ولهذا ضل المشركون الذين عدلوا به الأصنام أو ساووا به الأوثان ..
ومنها أن الآية تقرر حقيقة ما عليه الكفار من عقول وتصورات،
(1/106)
________________________________________
ومباحث ومناهج حياة، وهى أنهم ليسوا على شيء، ولا يتصفون بالمنهجية ولا بالعلمية ولا بالتوثيق والاتزان، وذلك لأنهم يستخرجون من المقدمات الصحيحة نتائج خاطئة باطلة، وكان الأولى أن يقطفوا منها ثمارا صحيحة، فالله هو الخالق الباري وحده فكيف يعدل عنه إلى غيره؟ ويساوى به غيره وهو عاجز عن فعل أى شيء؟ ..
ومنها أن الآية تقرر أن العدل عدلان: عدل محمود مطلوب وهو المساواة بين المتساويين المتماثلين، وهو العدل بين الناس والتسوية بينهم، وهو ما طولب به المسلمون أساتذة العالم .. وعدل مذموم مرفوض، وهو فى حقيقته ظلم، وهو المساواة بين غير المتساويين، وعدم ملاحظة الفروق بينهما، كالمساواة بين المؤمن والكافر فى التكريم، أو المساواة بين المؤمن والعدو فى الموالاة والمحبة، أو المساواة بين المؤمنين والمجرمين فى الحياة، والمساواة بين الله فى عظمته وبين البشر فى ضعفهم فى العبادة والدينونة والخضوع .. وغير ذلك.
وما هى إيحاءات وظلال ولطائف قوله تعالى فى صفة الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر: 9] وعلى الأخص ما هى ظلال ولطائف الصورة المجسمة المؤثرة لتبوء الإيمان- بعد التمتع بتملّى ما فيها من تجسيم فنى للإيمان المعنوى، حيث عرض فى صورة مادية إذ أصبح كالبيت يدخل فيه الإنسان ويتبوأ له فيه مقعدا، ويلاحظ القارئ البصير بخياله اليقظ حركة هذا الإيمان، وقد تحول إلى بيت صالح للإقامة فيه، وحركة المؤمن وهو يدلف إلى هذا البيت الإيمان ليتبوأ فيه مسكنا- إنه يعرض لطائف ندية، ويلقى ظلالا وارفة .. ويطالب كل مؤمن أن يقيم فى بيت من إيمان خالص، وأن ينصب عليه قبة من إيمان، وأن يستظل بمظلة من إيمان، وأن لا تفارقه فى لحظة من لحظات
(1/107)
________________________________________
حياته، وبهذا يتحول إيمان المؤمن من إيمان سلبى خامد إلى إيمان إسلامى فاعل عامل حى موجه رائد قائد .. إنه سيبقى فى حصن إيمانى، وفى حرز مكين، طالما بقى متبوءا هذا الإيمان .. فإذا ما خرج من بيت الإيمان، أو أخرج أحد حواسه من نوافذه فإن الشياطين الراصدة له بانتظاره، فستخطفه إلى الظلمات، وتهدم عليه بيته، وتنغص له حياته، وتسمم له عيشه، وتقوده إلى نار جهنم.
(1/108)
________________________________________
- 10 - غنى النصوص بالمعانى والدلالات
وصف الله كتابه الكريم بأنه مبارك فقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [الأنعام: 92] والبركة فى هذا القرآن شاملة عامة، تسرى فى كل نص فيه، وتبرز فى كل موضوع من موضوعاته، وتلحظ فى كل جانب من جوانبه .. ولعل من مظاهر هذه البركة وصورها، البركة فى نصوصه، حيث تجد النص قليلا فى كلماته قصيرا فى عباراته، لكنه غنى فى دلالاته، شامل فى معانيه، عظيم فى توجيهاته، عملاق فى إيحاءاته ..
ولهذا كان من أبرز سمات القرآن فى أسلوبه- كما يقول العلامة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز فى كتابه الرائد «النبأ العظيم» - القصد فى اللفظ والوفاء بحق المعنى، ولذلك كل أسلوب القرآن موجز إيجازا قاصدا، لا إطناب فيه ولا حشو ولا استطراد .. وإنك إذا نظرت إليه فستجد «بيانا قد قدّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير» - كما يقول الدكتور دراز- وحتى يتضح لك هذا يدعوك إلى أن تقوم بتمرين عملى على نصوص القرآن: «ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعدّ ما أحصته كفك من الكلمات عدا، ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره، خارجا عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعانى إلى ذاك، ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها
(1/109)
________________________________________
أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأى كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك» [النبأ العظيم: 105].
ويتحدث الإمام سيد قطب عن غنى النصوص بدلالاتها وأصالتها وجمالها فيقول: «إن النص الواحد يحوى مدلولات متنوعة متناسقة فى النص، وكل مدلول منها يستوفى حظه من البيان والوضوح، دون اضطراب فى الأداء أو اختلاط بين المدلولات. وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذى يناسبها .. بحيث يستشهد بالنص الواحد فى مجالات شتى، ويبدو فى كل مرة أصيلا فى الموضع الذى استشهد به فيه، وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهى ظاهرة قرآنية لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها .. » [الظلال: 3/ 1787].
ولا بدّ للقارئ البصير الذى يريد أن يعيش إيحاءات القرآن وظلاله ولطائفه- كما بينا فى المفتاح السابق- أن ينطلق من هذه القاعدة، وأن ينظر له بهذا المنظار، وأن يفتح كنوزه المذخورة بهذا المفتاح، فيتعرض لها ويلحظها ويعيشها ويشير إليها.
الآية التى أوردناها قبل قليل- على سبيل المثال- كم من الدلالات والمعانى يمكن أن تستخرج منها؟ وكم من مظاهر البركة وصورها وألوانها يمكن أن تؤخذ منها؟ - على القاعدة البلاغية «حذف المعمول يفيد العموم» فالقرآن مبارك فى كل شيء، بركة عامة شاملة- إنه مبارك فى مصدره لأنه كلام الله، ومبارك فى مكانه فى اللوح المحفوظ، ومبارك فى حامله جبريل عليه السلام، ومبارك فى من يشيعه من الملائكة، ومبارك فى من تلقاه وهو رسول الله عليه السلام، ومبارك فى من استقر فيه وهو قلب الرسول عليه السلام، ومبارك فى كلماته فهى قليلة فى مبناها غنية فى معناها، ومبارك فى حجمه القصير وعلومه الغزيرة، ومبارك فى علومه ومعارفه
(1/110)
________________________________________
- ومكتبة التفسير وعلوم القرآن على طول التاريخ الإسلامى مصداق هذا- ومبارك فى تشريعاته ومناهجه ومبادئه، ومبارك فى رسالته ومهمته وأغراضه، ومبارك
فى أثره وتأثيره وآثاره .. إلى غير ذلك من صور البركة التى تجلت فيه ..
يقول سيد قطب عن البركة فى حجمه ومحتواه: «فإن هو إلّا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التى يكتبها البشر، ولكنه يحوى من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات فى كل فقرة منه، ما لا تحويه عشرات من هذه الكتب الضخام، فى أضعاف أضعاف حيزه وحجمه! وإن الذى مارس فن القول عند غيره من بنى البشر وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول، ولا يعالجون قضايا التعبير .. إن هذا النسق القرآنى مبارك من هذه الناحية- وإن هناك استحالة فى أن يعبر البشر فى مثل هذا الحيز- ولا فى أضعاف أضعافه- عن كل ما يحمله التعبير القرآنى من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات! وإن الآية الواحدة تؤدى من المعنى وتقرر من الحقائق، ما يجعل الاستدلال بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له فى كلام البشر .. » [الظلال: 2/ 1147].
سورة العصر- على سبيل المثال- من أقصر سور القرآن آياتها ثلاث، ومع ذلك غنية فى معانيها حيث تكتب فيها كتب ومجلدات، وصدق الإمام الشافعى فى وصفها «لو تدبر الناس سورة العصر لوسعتهم».
كم سيخرج القارئ بزاد من المعانى والدلالات، وكم سيستنبط من الحقائق والتوجيهات، وكم سيقف على ثروة من القيم والتقريرات لهذه النصوص، عند ما يتعامل معها على هذا الأساس، إنه سيحتاج إلى صفحات كثيرة ليسجل عليها ما أوحت له بها من إيحاءات ..
(1/111)
________________________________________
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) [الإسراء: 17].
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) [المجادلة: 5].
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) [الأعراف: 34].
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) [طه: 124].
(1/112)
________________________________________
- 11 - الاعتناء بمعانى القرآن التى عاشها الصحابة عمليا
نشأ الصحابة على القرآن الكريم، وعاشوا فى ظلاله، وتذوقوا آياته، وتفاعلوا مع نصوصه، وأدركوا هديه، وأضاءت إليهم أنواره .. فكانوا جيلا قرآنيا فريدا.
وقد رووا أحيانا بعض ما كانوا يجدونه من تأثير القرآن فيهم، وما يعيشونه من إيحاءاته ومعانيه .. وهذا لا يمثل إلّا النزر اليسير الضئيل، فقد كان ما عاشوه من ذلك أضعاف أضعاف ما روى عنهم ..
ولكن تلك الروايات التى نقلت عنهم ذات دلالة على منهج تعاملهم مع القرآن وصلتهم به ونظرتهم إليه، ويمكن للقارئ أن يقتدى بهم فى ذلك، وأن يحاول أن يجد من القرآن بعضا مما وجدوه، وأن يعيش فيه شيئا مما عاشوه .. واطلاعه على ما روى عنهم، أكبر عامل يساعده على اقتدائه بهم واحتذائه حذوهم، واتباعه خطواتهم.
ولقد سبق إيرادنا لقول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به».
(1/113)
________________________________________
وقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلّى الله عليه وسلّم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها ولا ما ينبغى أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل .. ».
إن وقوف القارئ على تعامل الصحابة مع القرآن، واعتناءه بالمعانى والإيحاءات التى حصّلوها من الحياة فى ظلال القرآن، يعرّفه كيف تقبل القلوب الطاهرة على القرآن وتتفاعل به، فيسعى ليكون واحدا من هؤلاء.
والنماذج فى هذا كثيرة، والأمثلة عليه وافرة، نقتطف منها ما يلى:
روى مسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلى نحو بيت المقدس، فنزلت: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فمر رجل من بنى سلمة وهم ركوع فى صلاة الفجر، قد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة».
فهذه الرواية تدلنا على نظرة الصحابة للتوجهات والتكاليف الربانية، وعلى قلوبهم المتبوئة للإيمان وهى تتفاعل معها، وعلى الاستجابة الفورية فى التنفيذ والالتزام.
وأخرج البخارى والترمذى والنسائى وأبو داود- والرواية لأبى داود- عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذى،
(1/114)
________________________________________
فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم سرى عنه: فقال لى: أكتب، فكتبت فى كتف: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..
[النساء: 95]، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله: فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه، غشيت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السكينة، فوقعت فخذه على فخذى، ووجدت من ثقلها فى المرة الثانية كما وجدت فى المرة الأولى، ثم سرى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اقرأ يا زيد. فقرأت:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ .. الآية كلها. قال زيد، أنزلها الله كلها فألحقها» ..
وروى البخارى ومسلم والترمذى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال:
لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ليس ذلك: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان: 13].
وروى أحمد فى مسنده عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال:
يا رسول الله: كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]، فكل سوء عملناه جزينا به- وفى رواية أخرى قال: فلا أعلم قد وجدت انفصاما فى ظهرى حتى تمطيت لها! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك يا أبا بكر؟ فقلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى! قال: فهو مما تجزون به».
وروى ابن جرير الطبرى قال: قرأ أبو طلحة رضى الله عنه سورة
(1/115)
________________________________________
براءة، فأتى على هذه الآية: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41]، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزونى يا بنى، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مات، ومع أبى بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلّا بعد تسعة أيام فلم يتغير، فدفنوه بها .. ».
هذا ويجد القارئ الأقوال والروايات عن الصحابة فى ذلك فى كتب التفسير بالمأثور، وفى كتب أسباب النزول، وفى كتب الأحاديث من الصحاح والسنن، وفى كتب السيرة وحياة الصحابة .. وهى كثيرة ..
(1/116)
________________________________________
- 12 - تحرير النصوص القرآنية من قيود الزمان والمكان
القرآن كتاب الله الخالد، صالح لكل زمان ومكان، ونصوصه تعطى توجيهاتها لكل بنى الإنسان، ويتفاعل معها المؤمنون مهما كان مستواهم المادى والثقافى والحضارى، وفى أية بقعة فى هذا العالم، وفى أية فترة من فترات التاريخ ..
أقبل الصحابة على نصوصه فعاشوا بها، ولم يقيدوها فيهم أو يقصروها عليهم، وأقبل التابعون عليها فعاشوا بها، وأقبل تابعوهم عليها كذلك فعاشوا بها، وهكذا كل طائفة من العلماء، كانت تجد عند القرآن ما تريد، وتلقى عند نصوصه ما هى بحاجة إليه .. فعلى قارئ القرآن أن ينظر إلى القرآن بهذا المنظار، وأن يتعامل معه على هذا الأساس، لا يجوز أن يقيد نصوصه بحالة من الحالات أو فترة من الزمان- إلّا ما كان مقيدا بذلك- ولا أن يقصرها على شخص ما أو قوم ما- إلّا ما كان مقصورا عليه- إنه لا بدّ أن يحرر هذه النصوص من قيود الزمان والمكان والأشخاص والأقوام، لتعطى دلالاتها لكل الناس، وتطلق إشعاعاتها لكل جيل، وتنشر أضواءها على العالمين ..
أما إذا قصر هذه النصوص على حالة أو فترة أو شخص أو بلدة
(1/117)
________________________________________
أو قرن، فإنه سيقيدها وسيفرغها من معانيها، ويقزمها عن دلالاتها، ويحرمها من أداء أهدافها، وكأنه يجعلها سجينة فهم، أو أسيرة وضع، أو رهينة قوم، وبهذا تذوى هذه النصوص وتموت .. وتتحول إلى عبارات فارغة، تتحدث عن فترة من التاريخ سابقة لأمة من الناس ماضية ..
لا يجوز لقارئ مسلم أن يميت نصوص القرآن بين يديه، ولكنه يفسح لها الطريق لتعيش حياتها وتؤدى رسالتها، وتؤثر فى الإنسانية جمعاء، وتنشر عليهم من فيوضاتها وأنوارها .. كل جيل من أجيال المسلمين كان يجد فى نصوص القرآن حديثا لواقعه وإصلاحا لحياته، وكأنها تنزلت اللحظة عليهم، وكل مفسر من المفسرين كان ينطلق من نصوص القرآن لتربية قومه وإصلاح أمورهم .. وكل تفسير من تفاسير القرآن يمكن أن تستخرج منه الحالة الثقافية والمستوى الحضارى، والوضع الأخلاقى والاجتماعى والإيمانى والسلوكى للعصر الذى عاش فيه المفسر، وكان هذا التفسير سجلا حضاريا تاريخيا وثائقيا لحالة ذلك العصر .. وما هذا إلّا لأن نصوص القرآن منطبقة على زمان المفسر ومكانه، وموجهة للناس من حوله ..
ولهذا كم كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه ألمعيا وبصيرا وصادقا، عند ما وصف القرآن وصفا تنطبق عليه هذه القاعدة فقال عنه: «إنه لا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه .. ».
ونحن لا ننكر أن بعض الناظرين فى القرآن من السابقين أخطئوا فى تعاملهم معه، فقصروا بعض نصوصه على أناس من السابقين، وقيدوا بعضها بحالات ماضية، وقزموا هذه النصوص وفرغوها من كثير من معانيها، وحجبوا عن القراء الكثير من دلالاتها .. قوله تعالى- مثلا- عن
(1/118)
________________________________________
الحاكمية: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) [المائدة: 44]، وفى آية أخرى: هُمُ الظَّالِمُونَ (45) [المائدة: 45]، وفى آية ثالثة: هُمُ الْفاسِقُونَ (47) [المائدة: 47]. خاصة عند هؤلاء فى بنى إسرائيل قبل الإسلام، ولا تنطبق على مسلم رفض حكم الله طائعا مختارا- حاكما أو محكوما- إن هؤلاء قزموا الآية وجعلوها أسيرة فترة ماضية من الزمان .. مع أنها تنطبق على كل إنسان أينما كان ومهما كان، رفض حكم الله طائعا مختارا، وآثر أن يتحاكم إلى الطاغوت، فهو كافر ظالم فاسق بنص القرآن ..
قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) [المائدة: 50] رفض لحكم الجاهلية والجاهليين. والجاهلية عند هؤلاء هى الحالة التى كان عليها العرب قبل الإسلام، والمستوى المتدنى من الجهل والجهالة وعدم العلم والثقافة والحضارة، والجاهليون هم أولئك الناس فقط، إن هذا الفهم يقزم الآية ويفرغها من معانيها، ويميتها فى أفواه القارئين لها، لأنها تتحدث عن أموات مضوا فى سالف الزمان .. مع أنها صالحة لكل الناس، ومنطبقة على كل زمان، وفاعلة فى كل مكان، إنها تضع الجاهلية فى مقابلة حكم الله، فالجاهلية هى كل حالة أو وضع أو تشريع أو نظام أو مجتمع أو مناهج أو توجيهات، يرفض أصحابه الاحتكام إلى شرع الله، ويقبلون أن يحكموا بغيره .. فهذه هى الجاهلية فى أية فترة من فترات التاريخ، وفى أية بقعة من العالم، وأهلها جاهلون جاهليون مهما بلغ رقيهم المادى ومستواهم العلمى والتكنولوجى والثقافى ..
وقوله تعالى عن عداوة الكافرين للمؤمنين وعن هدفهم من حربهم وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة: 217] ليس
(1/119)
________________________________________
خاصا بحرب قريش لرسول الله عليه السلام والمسلمين فى المدينة- وإن كانت نزلت بهذه المناسبة- ولكنها تتحدث عن هدف عام للكفار أينما كانوا، فى حربهم للمسلمين حيثما وجدوا .. هذه الآية تنطبق على حرب الرومان للمسلمين وحرب الفرس والصينيين والهنود والمغول والصليبيين والأوروبيين فى القرون الوسطى، والروس القياصرة والروس البلاشفة لهم، وعلى حرب الإنجليز والمستعمرين المعاصرين، وعلى حرب الأمريكيين والشيوعيين واليهود والنصارى والباطنيين للمسلمين فى هذه الأيام، وستبقى تعطى دلالاتها وتنطبق على أية حرب بين المسلمين والكفار حتى قيام الساعة ..
إن سبب نزول الآية يجب النظر فيه وقبوله عند ما يصح سنده، وإضافة أبعاد جديدة للنص على أساسه، لكن لا يجوز أن نقيد النص به ونقصره عليه، بل نعممه على كل الحالات المشابهة والنماذج المماثلة المتكررة إلى قيام الساعة، ولهذا قال علماؤنا الأفذاذ مقررين قاعدة أساسية فى تحرير النصوص من قيود الزمان والمكان «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».
(1/120)
________________________________________
- 13 - ملاحظة البعد الواقعى للنصوص القرآنية
انطلاقا من الأغراض الأساسية للقرآن، وتطبيقا للمهمة العملية الحركية له، فإن القارئ البصير لا بد أن يلاحظ البعد الواقعى لآيات القرآن، وأن يلتفت إلى انطباقها على الواقع المعاصر، وأن يدرك معالجتها له وتقويمها لأموره وإصلاحها لمناهجه ومظاهر الحياة فيه ..
إن القارئ عند ما يحرر الآيات من قيود الزمان والمكان، سيجدها آيات معجزة حية، تصف له حياته، وتتحدث له عن واقعه، وتهتم بالقضايا والمشكلات التى حوله .. إنه عند ما يقرأ سور القرآن على هذا الأساس سيجدها سورا حية حكيمة متفاعلة قائدة وموجهة .. وعند ما ينظر للقرآن بهذا المنطق سيجده صديقا ودودا مؤنسا أليفا حبيبا يناجيه ويخاطبه ويعيش معه .. ويصحبه فى رحلة شيقة ممتعة، ويقوده فى انطلاقة حكيمة مبصرة لعالمه الواقعى، وحياته المعاشة .. سيجد هذا القارئ القرآن وسوره كما وجد ذلك سيد قطب، عند ما أدرك كيف يتعامل مع القرآن، ويلاحظ البعد الواقعى لنصوصه وتوجيهاته، والذى عبر عن ما وجده فيه بقوله: (هكذا عدت أتصور سور القرآن، وهكذا عدت أحسها، وهكذا عدت أتعامل معها. بعد طول الصحبة، وطول الألفة، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته وملامحه وسماته.
(1/121)
________________________________________
وأنا أجد فى سور القرآن- تبعا لهذا- وفرة بسبب تنوع النماذج، وأنسا بسبب التعامل الشخصى الوثيق، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع، والاتجاهات والمطالع ..
إنها أصدقاء .. كلها صديق .. وكلها أليف .. وكلها حبيب .. وكلها ممتع .. وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة، وألوانا من المتاع جديدة، وألوانا من الإيقاعات، وألوانا من المؤثرات، تجعل لها مذاقا خاصا، وجوا متفردا ..
ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة .. رحلة فى عوالم ومشاهد، ورؤى وحقائق، وتقريرات وموحيات، وغوص فى أعماق النفوس، واستجلاء لمشاهد الوجود .. ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم فى كل سورة ومع كل سورة .. ) [الظلال: 3/ 1243].
كل آيات القرآن لها بعد واقعى، سواء آيات العقيدة أو القصص أو الأخبار أو التوجيه أو الأحكام، أو التى تتحدث عن السنن والمبادئ والقيم والموازين .. أو غير ذلك ..
الآيات التى تعرفنا على الله سبحانه، وتعرض لنا مجالات سلطانه ومظاهر قدرته، وتحدثنا عن صفاته سبحانه وأسمائه نجد لها بعدا واقعيا ..
فصفات الله سبحانه فى نصوص القرآن صفات فاعلية إيجابية .. كما فى علم الله الشامل لكل ما فى الكون، وفى قوله تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) [الحديد: 4]، فإذا ما استصحب دلالة هذه الآية الواقعية وعاشها بقلبه وكيانه، واستحضر معية الله له وعلمه بأحواله استقام على منهج الله وراقبه واتقاه. وكانت الآية حية واقعية تنير له حياته وتبصره بطريقه ..
(1/122)
________________________________________
للقصص القرآنى الذى يعرض أخبار السابقين ومواقفهم بعد واقعى، وكأنما يتحدث عن الناس ويصفهم ويحلل شخصياتهم .. ولا بدّ للقارئ أن يلحظ هذا، وأن يستخرج من القصص دروسا فى العقيدة والدعوة والحركة والتربية والمواجهة والجهاد، وأن يستخرج منها معالم قرآنية وأنوارا كاشفة وبصائر هادية ..
ونرجو الله أن يعيننا على إعداد دراسة عن الواقعية فى القصص القرآنى والإشارة إلى دروسها وعبرها فى العقيدة والدعوة والحركة والجهاد، وستكون بعنوان: «مع قصص السابقين فى القرآن» وستكون بعد هذا الكتاب بعون الله ..
وندعو القارئ إلى أن يلحظ الأبعاد الواقعية للآيات التالية:
قوله تعالى فى قصة إبراهيم: قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) [الأنبياء: 59 - 61]. وقوله تعالى عن أصحاب الكهف: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) [الكهف: 19 - 20] وقوله تعالى فى دعوة زكريا عليه السلام أن يرزقه بغلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) [مريم: 5 - 6].
وقوله تعالى عن حكم فرعون الذى يعد نموذجا لأى حكم ظالم وحاكم جائر: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) [القصص: 4].
(1/123)
________________________________________
وقوله تعالى عن إيذاء المجرمين الكافرين للدعاة المؤمنين وسخريتهم بهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) [المطففين: 29 - 32].
وأن يلحظ القارئ الأبعاد الواقعية الاقتصادية لهذه الآية: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5].
والأبعاد الواقعية لهذه السنة الربانية: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) [الأعراف: 96].
والأبعاد الواقعية الأسرية لهذه الآية: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) [النساء: 19].
والأبعاد الواقعية لهذه الآية التى تقرر مصير كل حرب ضد هذا الدين، وهزيمة جنودها مهما كانوا: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) [الصف: 8 - 9].
(1/124)
________________________________________
- 14 - الوقوف فى وجه المادية الجاهلية
مرّ معنا أن من أهداف القرآن الأساسية قيادة الأمة المسلمة فى مواجهتها مع الجاهلية من حولها. وذلك لأن الجاهلية لن تدع الأمة المسلمة تعيش حياتها، بل استعلن عليها حربا بدون هوادة .. وهذه بدهية يدركها من له أدنى تدبر للقرآن، وتفحص للتاريخ الإنسانى الذى يسجل الحرب بين الحق والباطل .. ونتج عن هذا وغيره إدراك المهمة العملية الحركية للقرآن، هذه المهمة التى تعين القارئ على إدراك البعد الواقعى لنصوص القرآن، وعلى الحركة به فى الواقع، والنظر إلى أحداث الحياة من حوله بمنظار القرآن ووزنه بميزانه ..
فإذا ما أدرك القارئ كل هذا، ووقف عليه، فلا بد أن يواجه أعداءه بالقرآن، وأن يعاملهم على أساسه، وأن يجاهدهم به، وأن يقف فى وجه مكائدهم ومؤامراتهم، وأن يرد سهامهم وحربهم، وأن يكون زاده فى هذا كله هو القرآن الكريم .. والقرآن قادر بإذن الله على أداء هذا، على أتم صورة، وأدق أداء ..
هذا ما فعله السابقون مع أعداء هذا الدين، وقد وجدوا عند القرآن ما بحثوا عنه، ونجحوا فى مواجهة هؤلاء والوقوف أمامهم والانتصار عليهم، لأنهم سمحوا للقرآن أن يقودهم وأن يوجههم وأن يحركهم فى مواقعهم ..
(1/125)
________________________________________
وفى عصرنا الحاضر نجد أن المادية الجاهلية- التى يسمونها خطأ «الحضارة الغربية» قد تداعت- بمختلف أنظمتها ودولها ومبادئها ومذاهبها- على الأمة المسلمة، ووجهت لحربها كل وسائلها وأساليبها، واحتلت من الأمة المسلمة مواقع عديدة من حياتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والتعليمية.
واستيقظ الأحياء المبصرون العقلاء من الأمة- وهم الملتزمون بالإسلام والداعون إليه عقيدة وعبادة ومنهاج حياة- وواجهوا الهجمة المادية الجاهلية، ووقفوا فى وجهها وردوا على أسلحتها وأساليبها ..
لا بد للقارئ البصير للقرآن الذى يواجه هذه الهجمة، من أن يقبل على القرآن الكريم ليتحرك به ويجاهد من خلاله، لا بد أن يقف فى وجه المادية الجاهلية، وأن يواجهها على أساس هذا القرآن. وأن تكون نظرته إليها كنظرة سيد قطب الذى استعان بالقرآن فى مواجهته لها فنجح .. وفى ذلك يقول: «وعشت- فى ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التى تموج فى الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة .. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية لما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال،
واهتمامات الأطفال .. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال .. وأعجب .. ما بال هؤلاء الناس؟ ..
وعشت أتملى ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود ..
وأقيس إليه تصورات الجاهلية التى تعيش فيها البشرية فى شرق وغرب، وفى شمال وجنوب. وأسأل كيف تعيش البشرية فى المستنقع الآسن، وفى الدرك الهابط، وفى الظلام البهيم، وعندها ذلك المرتع الزكى، وذلك المرتقى العالى، وذلك النور الوضيء؟ .. » [الظلال: 1/ 11].
(1/126)
________________________________________
وعند ما يقف المؤمن بالقرآن فى وجه المادية الجاهلية فإنه لن «يضبع» بها، ولن يخاف منها، ولن تسترهبه وتقذف الوهن واليأس والاستسلام فى قلبه .. بل سيعرفها على حقيقتها. وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها .. وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها .. إن القرآن يضعها أمامه بحجمها الطبيعى، ووزنها الطبيعى، بدون هالة مصطنعة، أو انتفاش خادع.
رجال هذه المادية الجاهلية فى المنظار القرآنى «عميان» ونتاجهم فى بلادهم هو نتاج عميان أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) [الرعد: 19].
واهتماماتهم وأهدافهم ورغباتهم إنما هى لهو ولعب الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) [الطور: 12] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: 70]، وهم فى حقيقتهم دواب، فى حياتهم وعقولهم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) [الأنفال: 55]، ودواب فى أكلهم وشربهم ومعيشهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) [محمد: 12] ودواب قادهم الشيطان، واحتنكهم، فأسلموا له قيادهم كما تسلم الدابة قيادها لصاحبها عند ما يسحبها من مقودها لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) [الإسراء: 62]، وهم سذج أطفال فى تفكيرهم وفى ممارستهم، تنطلى عليهم الألاعيب، ويخدعون بالزخارف كما تخدع الأطفال وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] وهم قد يتعالمون فيدّعون العلمية والمنهجية والموضوعية ولكنهم لا يتمتعون بشيء من هذا، ولو اتصفوا بجزء منه لقادهم نظرهم فى الكون والحياة إلى الخضوع الكامل الشامل لله
(1/127)
________________________________________
على منهج هذا الدين .. إن المقدمات الصحيحة التى تعطى عند العاقل الواعى المتزن نتائج صحيحة، تعطى عند هؤلاء نتائج باطلة خاطئة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام: 1]، وهم سذج يتصفون بالبله و «العبط» فى حربهم لهذا الدين ولرجاله، لأنهم فى الحقيقة يحاربون الله، ويقفون فى وجه نوره .. وهل يفعل هذا عاقل رشيد متزن؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) [التوبة: 32].
وإن الله يمكر بهم ويسخر بعقولهم، ويقذف فى قلوبهم اليأس من انتصارهم فى مواجهتهم لهذا الذين، إنهم يبذلون جهودا هائلة، وينفقون أموالا ضخمة، وهى ضائعة، ويحاربون فى معركة معروفة نتيجتها، فيا لطول حسرتهم وحزنهم، وليموتوا بغيظهم .. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) [الأنفال: 36 - 37].
(1/128)
________________________________________
- 15 - توسيع التفسير ليشمل السيرة وحياة الصحابة
قصر بعض الدارسين للقرآن والناظرين فيه التفسير فى زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام على مجال واحد من مجالاته وهو المجال النظرى، فصاروا يبحثون فى كتب الحديث وكتب التفسير بالمأثور، عن الروايات والأحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام والمتعلقة ببيان معنى كلمة قرآنية أو توضيح حكم قرآنى، واكتفوا بها فقط كنماذج لتفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام .. ثم توجهوا إلى أقوال الصحابة فى تفسير القرآن، وقصروها على بيان الصحابى لمعنى كلمة غريبة أو سبب نزول أو توضيح حكم أو تحديد ناسخ ومنسوخ أو غير ذلك .. وإذا نظرنا فى الحصيلة التى خرجوا بها من جمعهم لهذه الروايات والآثار فإنها ستكون قليلة وبخاصة إذا اعتمدنا ما صح سنده منها .. وهذه الروايات نجدها فى كتب الصحاح والسنن، وفى كتب التفسير بالمأثور وفى مقدمتها جامع البيان للطبرى، وتفسير القرآن العظيم لا بن كثير، والدر المنثور فى التفسير بالمأثور للسيوطى ..
إن التفسير فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام ليس مقصورا على الجانب النظرى، لأنهم هم لم يقصروه عليه، وكم نخسر لو قصرناه عليه ..
لقد كانوا أبصر بالقرآن منا، وأكثر إدراكا لأغراضه منا، وأشد تعلقا وارتباطا
(1/129)
________________________________________
به منا، وأعظم حرصا على أن يعيشوا به منا، ويحولوه من توجيهات نظرية إلى حقائق حياتية معاشة، ويكونوا الصورة العملية الواقعية الحية لنصوصه وآياته ..
إن التفسير زمن الرسول عليه السلام وأصحابه شمل جانبين: جانب نظرى وهو ما أشرنا إليه، وإلى قلته وضآلته بالقياس إلى الجانب الآخر ..
وهو الجانب العملى التطبيقى الواقعى .. لقد عاش رسول الله عليه الصلاة والسلام بالقرآن عمليا، وكان يحرص على أن يلتزم توجيهاته وأحكامه، وأن ينفذ أوامره
وواجباته، فكان هو بسيرته وحياته أول مفسر للقرآن الكريم .. ولهذا كم كانت السيدة عائشة رضى الله عنها حكيمة وذكية ونافذة البصر والبصيرة، عند ما كان جوابها على سؤال وجه إليها عن خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقالت: «كان خلقه القرآن»، وكأنها تعنى ما قلناه من أن سيرته وحياته وخلقه وسلوكه تفسير لتوجيهات وآيات القرآن .. وبهذا الفهم للتفسير لا بدّ أن ننظر إلى صلة الصحابة بالقرآن وإلى ممارستهم لحياتهم الواقعية اليومية، فقد كانوا جيلا قرآنيا فريدا يعيشون بالقرآن عمليا، وكان القرآن حاضرا متجددا معهم، ويمكن أن تستخرج من نصوصه صورة شبه متكاملة لحياة الصحابة ومستواهم الإيمانى، والتزامهم العملى، ووقوعهم أحيانا فى تقصيرات وأخطاء يسيرة عالجها القرآن فى وقتها .. إن أى ناظر فى كتب أسباب النزول وفى سيرة رسول الله عليه السلام، وفى مغازيه وجهاده، وفى الكتب التى تحدثت عن حياة الصحابة وطبقاتهم ومناقبهم .. سيقف على ثروة ضخمة لهؤلاء الكرام، يصدق عليها أنها تفسير عملى للقرآن الكريم .. فلماذا نستبعد كل هذه الثروة الغنية، ونكتفى بألفاظ وكلمات يسيرة منقولة عنهم فى تفسير القرآن؟ وكثير منها لم يصح سنده؟
(1/130)
________________________________________
فعلى القارئ المتدبر للقرآن أن يوسع التفسير، وأن يدخل فيه كل سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام ومغازيه، وشمائله وفضائله، وكل ما صح من حياة الصحابة بالقرآن، وجهودهم وجهادهم لأن يبقوا على القمم التى وضعهم عليها القرآن .. وعندها يستفيد هذا القارئ فائدة تفسيرية وتربوية وسلوكية وإيمانية وعملية ..
(1/131)
________________________________________
- 16 - الشعور بأنّ الآية موجّهة له
سبق وأن أشرنا فى آداب التلاوة إلى أن القارئ لا بدّ أن يأخذ القرآن على أنه موجه له هو، وأن الخطاب يعنيه هو .. وها نحن نورد هذا هنا لأهميته، ولحسن تدبر القرآن والتعامل معه وفقهه ..
وقبل حديثنا عنه نحب أن نورد كلام الإمام الغزالى رحمة الله فى الإحياء عنه «التخصيص: وهو أن يقدّر أنه المقصود بكل خطاب فى القرآن، فإن سمع أمرا أو نهيا قدّر أنه المنهى والمأمور، وإن سمع وعدا أو وعيدا فكمثل ذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود، وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه .. » إلى أن يقول: «وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد، فهذا القارئ الواحد مقصود، فماله ولسائر الناس، فليقدّر أنه المقصود، قال الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19]، قال محمد بن كعب القرظى: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله .. وإذا قدّر ذلك لم يتخذ قراءة القرآن عمله، بل يقرأه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذى كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه .. ولذلك قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده، فنتدبرها فى الصلوات، ونقف عليها فى الخطوات، وننفذها فى الطاعات والسنن المتبعات .. » [إحياء علوم الدين:
1/ 517 - 518 باختصار].
(1/132)
________________________________________
إن القارئ المؤمن مطالب أن ينظر إلى القرآن بهذا المنظار، وأن يتعامل معه على هذا الأساس، وأن يفتح كنوزه بهذا المفتاح .. ولو أن كل قارئ فعل هذا فسوف يخرج من تدبر القرآن بزاد عظيم، من الإيمان والالتزام والتنفيذ والعمل، وسيكون رجلا قرآنيا عمليا نافعا مؤثرا ..
إن مما يؤسف له فى صلة المسلمين المعاصرين بإسلامهم وقرآنهم وتعاملهم مع ربهم، أنهم يفعلون عكس هذه القاعدة .. إن الواحد منهم لا يشعر أنه هو المقصود أساسا بالأمر أو التوجيه، وأنه المطالب به، وأن شخصه بذاته معنى به بخاصة .. ولكنه يشعر أن الخطاب لفلان أو علان ..
إنه يلقي المسئولية عنه، ويلغى خصوصيته ليوجهها إلى غيره، إنه «يوزّع» الواجبات على غيره، بعد أن «يزحلقها» عنه، ولهذا لم يتفاعل معها ولم يسع لكى يلتزم هو بها ..
إذا قرأ آيات القصص قصرها على السابقين، وإذا قرأ آيات الخطاب والتكليف للرسول عليه الصلاة والسلام خصه هو بها، وإذا قرأ حادثة زمن الصحابة فهى لهم فقط .. وإذا سمع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهى تخاطب الصحابة أو مؤمنين فى العوالم الأخرى، آيات الزكاة والصدقة للأغنياء فقط، وآيات الحكم والالتزام والطاعة للحكام فقط، وآيات الجهاد والحرب للعسكريين فقط، وآيات الولاء والمحبة والنصرة للسياسيين فقط، وآيات الدعوة والبلاغ للشيوخ والعلماء فقط .. وهكذا .. وهكذا وإذا بهذا المسلم لم توجه له آية، ولم يطالب بحكم، ولم يكلف بواجب .. فإذا ما وصلت الآيات إلى الآخرين فإنهم سيفعلون مثل هذا، ويحرصون على أن يوجهوها لغيرهم ويزحلقوها عنهم .. فنرى القرآن موجها لأكوان أخرى، ولأقوام يوجدون فى عالم الأحلام والخيالات والأوهام ..
على القارئ البصير للقرآن أن يوقن أنه هو المقصود بالآية، وأنها
(1/133)
________________________________________
تعنيه هو، وتخصه هو، وتخاطبه هو، وتطالبه هو، وتحدثه هو .. فإذا قرأها فليفتح لها أجهزة التلقى والاستجابة ليلتزم بما فيها من توجيهات ..
(1/134)
________________________________________
- 17 - حسن التلقّى عن القرآن
القرآن كلام الله، والله هو الذى يعين القارئ له على أن يتلقى عنه، إذا ما سلك السبيل الذى بيّنه الله فاستحضر معه وسائل الفهم وأدوات التدبر، وإذا ما طهر نفسه من الموانع والحجب والأكنة، التى تحجب عنه القرآن وإيحاءاته ..
على القارئ أن يوقن أنّ فهم القرآن إنما هو من نعم الله عليه، ومن منه وأفضاله .. وأن هذا الفهم والتلقى والتدبر والتفسير إنما هو فتوحات من الله عز وجل، يفتح بها
على من يشاء من عباده، عند ما يكونون (أهلا) لهذه الفتوحات، ووسطا صالحا لهذه الفيوضات، إن الفهم والتدبر والتفسير نور من الله سبحانه، ونور الله لن يصل إلى قلب مغطى بالحجب والموانع، وأنها هدايا من الله ورحمة منه، وهدايا الله لا يصلح لها العصاة، ورحمة الله لن تفتح لها قلوبهم ..
ونورد للقارئ قول أبى طالب الطبرى فى أوائل تفسيره- الذى سجله له السيوطي فى الإتقان- فى شروط المفسر وآدابه، على اعتبار أنها تصلح شروطا وآدابا للمتدبر للقرآن المتعامل معه المتلقى عنه، تضمن له إن راعاها حسن التدبر والتعامل والتلقى .. قال: «اعلم أن من شرطه صحة الاعتقاد أولا، ولزوم سنة الدين، فإن من كان مغموصا عليه فى دينه
(1/135)
________________________________________
لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين، ثم لا يؤتمن فى الدين على الإخبار من عالم فكيف يؤتمن فى الإخبار عن أسرار الله تعالى، ولأنه لا يؤمن- إن كان متهما بالإلحاد- أن يبغى الفتنة، ويغر الناس بليّه وخداعه .. » إلى أن يقول: «ومن شروطه صحة المقصد فيما يقول ليلقى التسديد، فقد قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] وإنما يخلص له القصد إذا زهد فى الدنيا، لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى غرض يصده عن صواب قصده، ويفسد عليه تمام عمله .. » [الإتقان للسيوطى: 2/ 176].
ولقد سبق أن تحدثنا عن مفتاح ضرورى للتعامل مع القرآن، وهو دخول القارئ عالم القرآن بدون مقررات سابقة، وهو مرتبط بهذا الأساس الذى نقرره هنا. فهناك اشترطنا له حسن المدخل لعالم القرآن وحسن الاستعداد له وحسن الوصول إليه، وهنا نشترط له حسن البقاء معه، وحسن التلقى عنه، وحسن التعرض لأنواره، وحسن الحياة مع فتوحات الله ورحماته وفيوضاته فيه. وهذا كله لا يتحقق إلّا بصحة الاعتقاد أولا ثم صحة المقصد والغاية ثانيا .. إن الأهواء والبدع والضلالات والانحرافات حجب وموانع على قلوب أصحابها، وإن المنكرات والمحرمات والمعاصي والذنوب حجب وموانع كذلك. وإن فساد المقصد وسوء الباعث و «دنيوية النية وتجاريتها» فى التعامل مع القرآن كذلك. فلا بدّ من الإخلاص لله والإنابة إليه والاستعانة به والتلقى عنه ليستفيد ويفيد .. عليه أن لا يفسر أو يفهم القرآن حسب معلوماته السابقة التى تخالف توجيهات القرآن، ولا حسب أهوائه وميوله ورغباته التى لا يقرها القرآن .. وإنما يسعى إلى فهم مراد الله سبحانه من كلامه وأخذه والتعامل معه والالتزام به، إنه من المرفوض أن يستغل أناس القرآن، وأن يتعاملوا معه تعاملا مصلحيا نفعيا
(1/136)
________________________________________
تجاريا، وأن يوظفوه لدنياهم وأهوائهم وشهواتهم، وأن يقيدوا نصوصه بمعلوماتهم ومعارفهم المخالفة له .. إن هؤلاء محجبون عن القرآن، مخطئون فى التعامل معه.
(1/137)
________________________________________
- 18 - تسجيل الخواطر والمعانى لحظة ورودها
عند ما يعيش القارئ مع القرآن بكل كيانه، ويتلقاه بكافة أجهزة التلقى والاستجابة عنده، سيأخذ عن القرآن الكثير من المعانى والإيحاءات، وترد على ذهنه وشعوره الخواطر واللطائف واللفتات والدلالات، وسيتذوق مذاقات، وسيجد راحة وسعادة، وسيتقلب فى أفياء رحمة الله ونعمته ..
عندها سيعرف معنى الحياة، وسيجد طعم السعادة، ويستروح الطمأنينة واليقين ..
وهذا الذى يجده ويستشعره ويعيشه قد يزول وينتهى إذا ما أقبل على آيات أخرى، لأنه سيجد عندها معانى جديدة، وسيتلقى عنها مذاقات جديدة، وقد يزول وينتهى إذا غادر ظلال القرآن وأقبل على الدنيا بشواغلها وصوارفها، وقد يزول وينتهى إذا أزله الشيطان إلى المعصية أو الغفلة أو الشهوة. ولذلك نوجه القارئ إلى أن يسجل ما يعيشه أولا بأول، وأن يقيد خواطره ولفتاته ولطائفه لحظة ورودها، وأن يقتنص هذه المعانى والحقائق قبل أن ينساها أو يصرف عنها .. وعندها سيحصل على سعادتين اثنتين: السعادة الغامرة فى أن يعيشها بكيانه ويتذوقها بمشاعره، وينفعل لها
(1/138)
________________________________________
بأحاسيسه، وترتد عنده إلى مذاقات وحقائق معاشة .. والسعادة الثانية فى أن يحتفظ بها ويحرص عليها ويشعر بغناه بها، وثروته منها .. فى أن يجعلها كنزا من كنوزه الثمينة العتيقة، ورصيدا وافرا من علمه ومعارفه وحقائقه ويقينياته، ومعينا ثرّا معطاء يعود إليه عند ما يحتاجه ليمده بالزاد والوقود والثقة والإيمان والثبات ..
ننصح القارئ أن يكون إلى جانبه أوراقه أثناء التلاوة، وأن يسجل فيها كل ما يجده، وأن لا يكون همه- وبخاصة عند أدائه لورد التدبر الذى أشرنا إليه، أن ينتهى من الآية أو الآيات بأقصر الأوقات .. إن حرصه على تقصير الوقت قد يكون مانعا من تدبره للقرآن، وإن «الكم» القرآنى وحرصه على تكثيره قد يكون مانعا كذلك، فلا يلتفت إلى مقدار ما قرأ وما تدبر، ولا يلتفت إلى الوقت الذى أمضاه فيه، فكم من الأوقات أمضاها الصحابة والعلماء والمتدبرون للقرآن فى تدبر آية من الآيات، وترديدها ساعات وساعات قد تستغرق الليل بطوله، رغم حرصهم على أوقاتهم وشعورهم بأهميتها وقيمتها وتحرجهم من أن يضيعوا لحظتها .. ومع ذلك جادوا بها من أجل التدبر والحياة فى ظلال القرآن، وقدموها له بسخاء وكرم ويقين ..
الوقت عند القارئ البصير خادم للقرآن وتابع له، يوظفه توظيفا نافعا، ويبذله بذلا كريما بسخاء، وبدون من أو أذى ..
وإذا ما سار القارئ فى يومه لعمله أو حاجته، أو ضرب فى الأرض لوظيفته، أو ساح فى ساعات نهاره، فماذا يشغل فكره ومشاعره أثناء سيره؟
وإلى أين سيرسل خطراته وخواطره وخياله؟ لا يجوز أن يخرجها عن عالم القرآن، بل يختار آية يعيشها بكيانه، ويرددها بمشاعره وحواسه، ويتلقى ظلالها وإيحاءاتها .. وعندها يحاول أن يسجل ما تلقيه إليه .. فإن لم يستطع أثناء سيره فليكن هذا أول ما يقوم به عند حلوله ونزوله ..
(1/139)
________________________________________
كذلك إذا قرأ القرآن فى صلاته بتدبر وانفعال ومعايشة، فكم سيرد عليه من معانيه وحقائقه ولطائفه؟ فإذا خرج من صلاته سجل ما وجده منها.
(1/140)
________________________________________
- 19 - التمكن من أساسيات علوم التفسير
وهذا شرط لا بدّ منه حتى تكون استنتاجات القارئ صحيحة واستدلالاته مقبولة، ونظراته صائبة، وتدبره فى القرآن علمى منهجى، ونتائجه يقينية جازمة قاطعة، وحتى يحسن التلقى عن القرآن وفهمه، وحتى لا يلوى أعناق النصوص إلى خطأ أو باطل أو يقوّلها ما لم تقله، أو يختلق لها ما ليس عندها ..
لقد وضع العلماء علوما ومعارف لخدمة القرآن وحسن تدبره وتفسيره، وهى علوم نظرية نافعة، وتعين على النتائج الصائبة ..
علوم اللغة ومباحثها وقضاياها، ومسائل النحو وموضوعاته، وأساليب البيان والبلاغة وضروبها وصورها وألوانها، ومباحث الأصول وفروعه، وقضايا الفقه وأحكامه .. ثم موضوعات علوم القرآن الهامة والضرورية لكل ناظر فى القرآن متدبر له مثل: أسباب النزول، وجو النزول، وزمان النزول، وملابسات النزول، والمكى والمدنى فى القرآن، والناسخ والمنسوخ فى القرآن، وأساليب البيان فى القرآن، والتصوير الفنى فى القرآن، وإعجاز القرآن، وبديع القرآن، وقصص القرآن، وأمثال القرآن، وأقسام القرآن، وأحكام القرآن، وجدل القرآن. وغير ذلك.
(1/141)
________________________________________
كل هذه العلوم والمعارف والمسائل والقضايا والمباحث، ضرورية للتعامل مع القرآن وتدبره والأخذ عنه، وعاصم يعصم القارئ من الخطأ والزلل- إذا صلحت نيته واستقامت حياته واستعاذ بمولاه ..
وقد يهول هذا بعض القارئين، فيشفقون منه ويستصعبونه، ويظنون أنفسهم غير مؤهلين ولا من أصحابه ولا قادرين عليه، ويقصرونه على العلماء المتخصصين فى دراسة القرآن وتفسيره، من أصحاب الألقاب الجامعية وحملة الشهادات العليا، والممارسين لرسالة التدريس والتعليم والتوجيه ..
وهذا وهم باطل وظن خادع، فالقرآن ليس موجّها لهذا الصنف من العلماء والمثقفين فقط، بل هو موجه أساسا لكل مسلم ومسلمة، حيث طولبوا بتلاوته والنظر فيه وتدبره .. وتحدثنا عن أهمية شعور القارئ بأنه هو المقصود أساسا بالخطاب القرآنى، فإذا ما حول هذا إلى المختصين فكم سيخسر؟؟ ..
ثم إن التمكن من أساسيات علوم التفسير والإلمام بموضوعات علوم القرآن ليس شاقا ولا مستحيلا، فنحن عند ما وجهنا القارئ إلى هذا المجال، لم نطلب منه أن يكون عالما متخصصا بكل موضوع من موضوعات القرآن وعلومه، ملما بكل دقائقه وتفصيلاته وجزئياته ولطائفه وشوارده .. بل عليه أن يترك هذه التفصيلات والتدقيقات لأهل الاختصاص، إنما طلبنا منه أن يعلم ما يحتاجه من هذه العلوم ويطلع على الضروري منها للتعامل مع القرآن، ويأخذ مجمل الموضوع بإيجاز واختصار يحقق الغاية .. ويمكنه أن يكتفى بدراسة كتاب واحد من كتب علوم القرآن التى تعرض هذه العلوم والمعارف والموضوعات بإيجاز قاصد مجمل
(1/142)
________________________________________
مفيد ..
ونحن على يقين بأن هذا القارئ عند ما يتذوق حلاوة هذه العلوم والموضوعات ويجد طعمها ولذتها، ويفرح ويسر بالمعانى واللطائف والإضافات التى حصلها بسببها، فإنه يسعى بهمة وشوق وحماس إلى التمكن منها والزيادة المتجددة على رصيده منها. ورفده دائما بلطائف وإشارات ونكات تثريه وتباركه، وكلما زادت مكتسباته من القرآن كلما زاد طلبه لهذه العلوم ورغبته فيها وإحاطته بمباحثها ..
(1/143)
________________________________________
- 20 - الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة
سبق أن تحدثنا عن أمر ضرورى للتعامل مع القرآن، والوقوف على معانيه وحقائقه وعلومه وكنوزه، وهو ملاحظة البعد الواقعى للآيات، كما تحدثنا عن أمر آخر ضرورى وهو «توسيع التفسير» وثالث وهو: «تحرير النصوص من قيود الزمان والمكان» .. وحتى ينجح القارئ البصير فى تحقيق تلك الأمور، وفى استعمال تلك المفاتيح، فلا بدّ أن يستعين بالعلوم والمعارف والثقافات الحديثة، وأن يلم منها بطرف موجز، وأن يطلع منها على مسائل وقضايا ذات ارتباط بآيات القرآن .. وذلك حتى يوظف هذه العلوم والمعارف فى خدمة النص القرآنى وتوسيعه وزيادة أبعاده ودلالاته ..
ومعلوم أن «الخلفية الثقافية» للقارئ وسيلة نافعة لتعامله مع القرآن، وأن حصيلته من المعارف والثقافات المعاصرة تعينه على سعة نظرته إلى الآية وتلقيه عنها وحياته بها .. ولا يتعارض هذا مع ما بيناه فى قاعدة سابقة من اشتراط دخوله عالم القرآن بدون مقررات سابقة، لأن اشتراط إلقاء المقررات والأفكار على عتبة القرآن حتى لا تحجبه عن تدبره أو تقوده إلى خطأ التعامل معه .. لا يعنى أن ينخلع القارئ من معلوماته وأن ينسلخ من ثقافاته، وأن يزيل علومه ومعارفه .. إن هذه كلها تضر إذا جعلها حاكمة على القرآن، فتحجب عنه أنواره، لكنها تنفع إذا جعلها خادمة للقرآن تابعة
(1/144)
________________________________________
له يستعين بها على توسيع معانيه وتكثيرها وزيادتها، عندها ستكون وسيلة نافعة وأداة طيعة .. وهذا ما نقصده منها هنا ..
على القارئ أن يلم بعلم «التاريخ» ومراحله وعصوره، وأن يستعين بذلك فى تفسير الآيات ذات البعد التاريخى والتوجيهات التاريخية، مثل قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) [آل عمران: 137]، وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج: 46].
وعليه أن يلم بعلم الفلك، ويستعين به فى فهم وتدبر الآيات ذات التوجيهات الفلكية، والتى تلفت الأنظار فى السماء وأفلاكها، كما فى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) [الأنعام: 97]، وفى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء: 12].
وأن يلم بالموضوعات العلمية المختلفة، كالطب وعلم الأجنة ليستعين به فى تدبر وتفسير مثل قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6]، وعلم البحار لقوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن: 19 - 22]، وعلم طبقات الأرض
(1/145)
________________________________________
لقوله تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) [فاطر: 27]. وعلم الفضاء لقوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) [الذاريات: 47]، وغير ذلك.
كما أن عليه أن يلم بمسائل علم النفس التحليلى الصائبة، وحالات النفس الإنسانية ومشاعرها وميولها، ليفسر بها تربص المعتدة وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]، ويدرك سر الأمر بقضاء عدتها فى بيت زوجها وإضافة البيت لها وهى المطلقة: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق: 1] وليفسر بها مراحل سقوط الساقط فى مصائد الشيطان واستجابته لزخارفه وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) [الأنعام: 113].
(1/146)
________________________________________
- 21 - العودة المتجددة للآيات والزيادة فى معانيها
القرآن غنى فى معانيه ودلالاته، والآيات تنشر على القارئ من معانيها ودلالاتها حسب حالته فى التعامل معها، ودرجة استعداده فى التلقى عنها ..
وهذا القرآن لا يعطى القارئ إذا كان قاعدا عن العمل به والحركة به والجهاد به، إنه لا يفتح كنوزه إلّا لمن يتحرك به، ولا ينشر ظلاله إلّا على من يقبل عليه، ولهذا لا بد للقارئ من سلوك الطريق المضمونة الصحيحة لفهمه والتعامل معه، واستخراج كنوزه ومعانيه وحقائقه ..
وما نريد بيانه هنا للقارئ أن عليه ملاحظة أن مكتسباته من القرآن، وثمرات رحلته معه، ونتائج حياته فى ظلاله، وحصيلته من علومه وحقائقه وتقريراته، تنمو وتزداد باستمرار، ويضاف إليها الجديد المفيد، والجزيل الجميل ..
وحتى يحقق هذا، لا بدّ من مراعاة قواعد الإقبال عليه واستخراج كنوزه ومفاتيح التعامل معه، ولا بدّ أن تكون له عودة للآيات التى عاشها.
يستخرج الجديد من معانيها، ويزيد رصيده السابق منها .. وأن يتبعها بعودة أخرى وثالثة ورابعة وهكذا، بمعنى أن تكون عودته للآيات متجددة مكررة، وأن تكون وقفاته أمامها وتأملاته فيها كذلك متجددة متكررة.
(1/147)
________________________________________
على القارئ أن يعيش القرآن، وأن تتجدد مذاقاته وحياته من الحياة به، وأن يكتشف المزيد والجديد من الحقائق المعاشة والمقررات الثابتة ..
عليه أن ينظر فى رصيده من هذه الحقائق والمعانى والمقررات، وأن يحرص على تنميتها وزيادتها، بدل أن تنقص وتضعف وتذوى وتتلاشي ..
إن القارئ فى هذا الأمر أمام إحدى حالات ثلاث:
الأولى: أن يكتشف أن رصيده من المعانى والتوجيهات القرآنية قد نقص عن السابق، وأن عودته الثانية للآية لا تقارب أو تدانى قراءته الأولى لها، وأن ما يجده الآن منها أقل بكثير مما وجده فى أول مرة، وأن ما حصله منه يتناقص ويتناقص، وهو فى طريقه إلى الزوال والنفاد .. فإذا كان كذلك فهو محجوب عن القرآن ولا بد أن يسعى إلى الحياة به من جديد.
الثانية: أن يكتشف أن رصيده كما هو لم يتغير بزيادة أو نقصان، وأن المعلومات بقيت عنده كما هى، وأنه عاجز عن أن يضيف إليها الجديد، أو أن يرفدها بالمفيد .. وهذا كذلك محجوب عن القرآن، وما سبق تحصيله منه تجمد وتحجر، وأنه قد أسن وتغير، وأنه محاصر فى زنزانة القعود والفتور والضعف والمعصية، ومعنى هذا أن حياة العلم والتدبر والفهم عنده جامدة، وأن حركته به متوقفة، وأن نموه العلمى والإيمانى بقى عند حالة واحدة عجز عن تجاوزها .. وعلى هذا القارئ أن يسعى إلى بث الحياة فى معلوماته ومكتسباته، وإلى أن يضيف إليها روحا جديدا ونورا جديدا ومعانى جديدة .. وذلك عن طريق توثيق صلته بالقرآن وحسن تعامله معه وإقباله عليه وتلقيه عنه ..
الثالثة: أن يكتشف أن رصيده قد ازداد، وأن هذه العودة الثانية
(1/148)
________________________________________
أو الرابعة قد أضافت له الجديد المفيد، وأمدته بالجزيل الجميل، وأنه يقف منه على معان جديدة لم يكن قد حصلها سابقا، وعلى حقائق وتقريرات وظلال لم يكن قد لاحظها أو عاشها .. فهذا هو الموفق فى صلته بالقرآن، وهو الحى بالقرآن، وهو المتحرك بالقرآن، وهو رجل القرآن .. إن رصيده القرآنى يتضاعف، وإن معلوماته تزداد، وإن صلته به تتوثق، وإن حياته به ومعه تنمو وتتجدد .. فليحمد الله على ذلك، وليسأل الله المزيد ..
(1/149)
________________________________________
- 22 - ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة
القرآن الكريم وحدة موضوعية متكاملة، ولو كان من عند غير الله لكان فيه اختلاف كبير، وهو كله متناسق جميل فى صياغته فى جمله وعباراته وكلماته، كما أنه متناسب مترابط فى موضوعاته ومعانيه، فالتناسب والتناسق والوحدة فى كل سورة من سوره، وفى كل درس من دروسها، وفى كل مقطع من مقاطعها، وفى كل آية من آياتها، وفى كل كلمة من كلماتها .. إنه بنيان قرآنى متماسك متناسق متصل معجز .. إنه أشبه ما يكون- من باب التقريب والتوضيح- بعمارة رائعة، يلحظ التناسق والانسجام فيها من بعيد، كما يدرك ذلك عند ما ينظر فى كل دور من أدوارها، وفى كل شقة من شقق ذلك الدور، وفى كل حجرة من حجرات تلك الشقة، وفى كل جدار من جدران الحجرة، وفى كل لبنة من لبنات الجدار .. وهكذا القرآن فى عمومه، ثم فى كل سورة منه، ثم فى كل درس من دروسه، ثم فى كل مقطع من مقاطعه، ثم فى كل آية من آيات المقطع، ثم فى كل كلمة من كلمات الآية ..
والقارئ البصير مطالب أن يلتفت إلى الوحدة الموضوعية للقرآن وللسورة منه، وأن يلحظ التناسق والتناسب والارتباط بين الدروس والمقاطع، وأن يتعامل مع السورة على أنها وحدة موضوعية متكاملة.
(1/150)
________________________________________
متجانسة، وأن يتعامل معها على أن لها شخصية مستقلة متميزة متفردة، شخصية تربط موضوعها الرئيسي بموضوعات دروسها ومقاطعها، بخيوط دقيقة متينة يلحظها المتدبر البصير ..
يقول سيد قطب: «ومن ثم يلحظ من يعيش فى ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حى مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص! ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة. تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقى خاص- إذا تغير فى ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة ..
وهذا طابع عام فى سور القرآن جميعا .. » [الظلال 1/ 28].
ويقول فى تقديمه لسورة الأعراف «إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة، وذات ملامح متميزة، وذات منهج خاص، وذات أسلوب معين، وذات مجال متخصص فى علاج هذا الموضوع الواحد، وهذه القضية الكبيرة .. إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص فى علاج هذا الموضع، وتحقيق هذه الغاية ..
إن الشأن فى سور القرآن- من هذه الوجهة- كالشأن فى نماذج البشر التى جعلها الله متميزة .. كلهم إنسان، وكلهم له خصائص الإنسانية، وكلهم له التكوين العضوى والوظيفى الإنسانى .. ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع .. نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح، وفيها الأغيار التى لا تجمعها إلّا الخصائص الإنسانية العامة ..
(1/151)
________________________________________
هكذا عدت أتصور سور القرآن، وهكذا عدت أحسها، وهكذا عدت أتعامل معها. بعد طول الصحبة، وطول الألفة، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته، وملامحه وسماته!» [الظلال 3/ 1243].
وعلى القارئ أن يسير مع القرآن كما سار سيد قطب، وأن يتعامل مع سوره كما تعامل سيد قطب، وأن يتخذ كل واحدة منها صديقا وحبيبا ومؤنسا وودودا كما فعل سيد قطب .. عندها سيقف على الشخصية المستقلة للسورة وسيحسن الربط بين آياتها وموضوعاتها، وسيلحظ الخيوط الدقيقة المتينة فيها، وسيتزود بزاد عظيم من معانيها وحقائقها.
(1/152)
________________________________________
- 23 - متابعة الاستعمال القرآنى للمصطلح الواحد
إن مصاحبة سور القرآن وآياته وكلماته ومصطلحاته شيقة لطيفة مؤنسة .. إنها تقود القارئ إلى رحلة شيقة لطيفة مؤنسة .. وتطلعه على ألوان وصور ونماذج من المعانى والحقائق والتقريرات والإيحاءات ..
وتوقفه أمام كنوز لا تنفد ومذاقات تتجدد ..
إن القرآن الكريم دقيق فى اختيار مفرداته واستعمال مصطلحاته، وعرض مفاهيمه وحقائقه .. وإنه ينوع صور استعمال المصطلح الواحد، ويبدع فى استخدامها، ويضيف معانى جديدة فى هذا السياق إلى ما قرره فى سياق سابق .. ويلقى فى كل مرة ظلالا خاصة، ويقدم للقارئ فى كل مرة مذاقات جديدة لذيذة ..
وإذا أراد القارئ أن يسعد ويحيا ويعيش بالقرآن فلا بد أن «يسلم» نفسه إليه، وأن يستسلم بين يديه، وأن «يمتع» مشاعره وحواسه وقلبه وعقله وكل كيانه فى رحلة قرآنية ممتعة، يعود منها بزاد ومدد عظيمين ..
إننا ندعوه إلى أن يتتبع استعمال القرآن للمصطلح الواحد، وأن يجمع صور وأساليب وألوان استخدامه له، وأن يلحظ ما أضافه إلى المرات السابقة .. عليه أن يسجل
مظاهر الاختلاف فى الاستعمال، وأن يقدمها
(1/153)
________________________________________
للناس .. لكنه لا يجوز أن يكتفى بتسجيل هذه المظاهر، وملاحظة هذه الظواهر .. بل لا بد أن يتبعها بخطوة أخرى «يعلل» فيها هذه الظواهر ويفسرها ويتفحصها، ويبين الحكم منها والأسرار التى فيها، والعبر والدلالات التى تؤخذ منها ..
وفى هذا الموضوع نقول: لقد لاحظ السابقون كثيرا من الظواهر فى أسلوب القرآن، فوقفوا عليها وسجلوها وقدموها للناس فأفادوهم فائدة عظمى، جزاهم الله خيرا .. لكن مما يلاحظ عليهم أنهم غالبا لم يقفوا أمام هذه الظواهر وقفة طويلة متأنية فاحصة متدبرة، ولم يحاولوا أن يعللوها وأن يفسروها، وأن يسجلوا الحكم فيها، وأن يبينوا الأسرار التى فيها، وأن يتحدثوا عن نكاتها ولطائفها .. ونحن بدورنا يجب أن نبنى على ما ذكروه، وأن نستكمل ما تركوه، وصدق من قال: «كم ترك الأول للآخر؟؟» ..
وحتى ننجح فى استخلاص ذلك من المصطلحات القرآنية لا بد أن نتتبعها فى أساليب القرآن، ثم نجمعها ونلاحظ الظاهرة التى توحى بها، ثم نعللها ونفسرها ونحاول إدراك الحكمة منها، وذلك بأن نسأل باستمرار «لماذا» لماذا وردت هكذا؟ وما هى الحكمة التى قد تبدو لنا؟ وما هو السر الذى قد نكشف عنه؟ وما هى الدلالة التى تؤخذ منها؟ ..
فمصطلح «الكفر» على سبيل المثال كثر استعماله فى القرآن الكريم فى عشرات المواضع، ولكن يلاحظ أنه استعمل عدة اشتقاقات للكلمة: من الفعل والمصدر واسم الفاعل والصفة المشبهة .. استعمله كفعل ماض مجرد، وماض مسند إلى تاء المتكلم وتاء المخاطب وتاء التأنيث والمخاطبين والمتكلمين والغائبين .. واستعمله فى حالة المضارعية.
مضارع مسند إلى مفرد متكلم، وإلى مخاطب مفرد، ومخاطبين جماعة.
ومسند إلى المتكلمين، وإلى الغائب والغائبين. وفعل أمر للمفرد وللجمع،
(1/154)
________________________________________
واستعمله ماضيا مبنيا للمجهول. وأما استعماله اسما فورد فى الصيغ التالية: كفر- كافر- كافرة- كفرة- كفار- كافرة- كفور (بالضم) - كفور (بالفتح) - كفارا كفارة- كفران .. فما هى الحكمة من كثرة هذه الاستعمالات وتعددها وتنوعها التى كادت أن تشمل كل اشتقاقات الكلمة؟
إن هذا يدرك عند النظر فى الآيات مجتمعة، والتعرض إلى دلالاتها متكاملة ..
(1/155)
________________________________________
- 24 - تجاوز الخلافات بين المفسّرين والعودة إلى معين القرآن
على القارئ أن لا يكون أسيرا لعصر خاص من عصور المسلمين، ولفهمه لآيات القرآن، ولا أسيرا لفرقة خاصة من فرق المسلمين فى فهمها للقرآن، ولا أسيرا لمذهب خاص من مذاهب المسلمين فى فهمه للقرآن، ولا أسيرا لمفسر خاص من المفسرين فى تفسيره للقرآن.
إن المفسرين السابقين بذلوا جهدهم فى تفسير القرآن، ومحاولة بيان مراد الله سبحانه من كلامه، وتفاوتت المعانى التى سجلوها، والإضافات التى قدموها، ونحن نشيد بهم ونترحم عليهم وندعو لهم ونقدرهم ونبجلهم .. لكن هذا شيء، وأن نبقى حتى فى أخطائهم فى تفسير القرآن- وكل المسلمين معرضون للخطأ باستثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم- شيء آخر.
لا يجوز أن نتابعهم فى أخطائهم، ولا فى خلافاتهم التى لا ضرورة لها فى غالب الأحيان ولا داعى لورودها، ولا ثمرة علمية نافعة منها، لا يجوز أن نتابعهم فى نقاشاتهم العديدة، ولا فى استدلالاتهم الكثيرة، ولا فى استنباطاتهم وترجيحاتهم وردودهم، ولا فى مجادلاتهم العقيمة. بل نقدم على تفاسيرهم ونتخير منها ما يصلح لنا ويناسبنا، ونأخذ منها ما يتفق مع النص القرآنى، وما يوحى به ويدل عليه، وما فيه من معنى مقبول، وإضافة
(1/156)
________________________________________
نافعة، وثمرة علمية، وعملية، وبعد تربوى توجيهى، وحاجة واقعية حياتية .. وما لم يكن كذلك نطلع عليه اطلاعا ثقافيا، ولا يكون له عندنا أكثر من المعنى التاريخى التراثى ..
لذلك على القارئ أن يتجاوز الخلافات المذهبية بين فرق المسلمين، والخلافات الكلامية بين رجال تلك الفرق، والخلافات البلاغية والنحوية والتاريخية والفقهية أيضا، وأن يعود إلى معين القرآن الصافى النزيه الثر الكريم .. وأن يغترف منه ويعب ويشرب ولا يرتوى، فمن يرتوى من معين القرآن؟ ومن يشبع من زاد القرآن؟ ومن يمل صحبة القرآن؟ ومن يستبدل بالقرآن وكنوزه وخيراته وأنواره كلام البشر وخلافاتهم ومشكلاتهم ومجادلاتهم؟
كيف نأخذ العقيدة من القرآن؟ الجواب عند القرآن، وليس عند رجال الفرق وعلماء الكلام، من معتزلة وخوارج وشيعة ومرجئة وأشاعرة وحنابلة وغير ذلك .. ماذا يقول القرآن عن رؤية الله فى الدنيا، وعن رؤية الكافرين لله يوم القيامة، وعن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة فى الجنة؟
يقبل القارئ عليه متجاوزا الخلافات العقيمة بين الفرق الإسلامية فيها ..
ما هى صفات الله وأسماؤه الواردة فى القرآن، نأخذها من القرآن، نأخذها من القرآن ونقول بها كلها، ولا يجوز أن نقصرها على خمس أو سبع أو عشر أو حتى عشرين صفة!! لأن القرآن ذكر أكثر من ذلك، ولا معنى اتصاف الله بها وكيفية ذلك .. يجب تجاوز هذا كله والالتفات إلى «الإيجابية الفاعلة» لصفات الله، التى تدبر وتقدر وتوجه
وتحصى وتراقب وتعلم .. والتى يخضع لها كل صغير وكبير فى هذا الوجود الكونى والحياة الإنسانية .. ثم ننتقل من هذا للالتفات إلى الآثار والمعانى والدروس والعبر، التى يستفيدها المؤمن من معرفته بصفات الله واطلاعه على القرآن
(1/157)
________________________________________
وهو يعرضها ويقررها .. ثم نعيش البعد التربوى الإيمانى لمعرفتنا بهذه الصفات، وما نستفيده منها فى زيادة الإيمان وحيوية الخشية واستمرار المراقبة وتقوية النفوس والسير فى الصراط المستقيم.
(1/158)
________________________________________
- 25 - معرفة الرجال بالحق
إن ما قررناه فى القاعدة السابقة يقود إلى هذا المفتاح والمقياس والميزان، إن قارئ القرآن عليه أن يتمتع «بملكة نقدية» أثناء نظره فى التفاسير واطلاعه على أقوال أصحابها .. فلا يقبل على كل ما فيها مهما كان، باسم احترام صاحبه وتوقيره، وباسم علم السابقين وفقههم وإدراكهم، ومن نحن حتى نرفض لهم شيئا، أو نرد لهم قولا؟
إننا لا نتحدث هنا عن احترام العالم المفسر وتوقيره، والنظر له بعين الإكبار والإجلال والتقدير، لأننا نعتقد أن هذه بدهية مقررة، تمثل حقيقة دائمة يجب استحضارها دائما، وعدم مفارقتها أو مخالفتها لحظة واحدة ..
وهى سبب أساسى للحصول على رحمة الله ونعمته فى التعليم والإدراك والتلقى، ومن فقد هذا السبب وتخلى عن هذا الشرط، فإنه محروم من هذه الفيوضات والفتوحات والمنح والعطايا الربانية .. فلا يجوز بحال أن يطيل القارئ لسانه على أحد العلماء السابقين، أو أن يقع فى علمه ودينه، ويتهمه فى نيته وعقيدته، ويجهله فى علمه وعقله وتفكيره، ويلغى كل نتاجه العلمى نتيجة لخطأ أو أخطاء وقع بها.
حديثنا هنا عن تعامل القارئ مع العالم المفسر- الذى يحكمه إجلاله وإكباره وتقديره واحترامه له- وهو أن يقرأ فى نتاجه قراءة فاحصة،
(1/159)
________________________________________
وأن ينظر فيه نظرة نافذة متوازنة، وأن يملك حاسة نقدية عادلة، وذلك بأن يعرض كلامه على الحق الأصيل المتمثل فى الكتاب والسنّة. وأن يزنه بميزانه ويقيسه بمقياسه، وأن يعرفه من خلاله، ويحكم عليه على هديه، فما وافق ذلك الحق قبله ورضيه وأخذ به ودعا لصاحبه، وما خالف ذلك الحق رفضه وألقاه، مع التقدير والاحترام والدعاء لصاحبه أيضا، وهذه النظرة تمثل الاتزان الإسلامى، والوسطية الإسلامية، والعدالة فى الأخذ والرد والسلب والإيجاب .. لأن أخذ كل ما صدر عن العالم بدون نظر أو تمحيص ظلم وجهل .. ورفض كل ما صدر عنه لخطأ غير مقصود وتجريحه واتهامه وتجهيله، ظلم وجهل كذلك، والقارئ البصير يتجرد عن الأمرين وينزه نفسه عنهما ..
كما أنه لا يقبل من قارئ أن يردد قولا ليس عليه دليل من القرآن أو السنّة، ويتبناه لأنه قال به أحد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. كأن يقول: هذا قول ابن مسعود رضى الله عنه، أو قول ابن عمر أو ابن عمرو رضى الله عنهم، أو قول ابن عباس رضى الله عنهما .. فقد تصح نسبة هذا القول إلى الصحابى أولا، وإذا صحت نسبته له فهل الصحابة معصومون؟
كلا. إنهم قد يخطئون وهم صحابة، وتبقى منزلتهم سامية. إن فهم الصحابة للقرآن تحكمه كذلك نصوص القرآن، فلا نقبل منهم ما تعارض مع القرآن- إن وجد- ولا نأخذ عنهم فى تفصيل ما أجمله القرآن وتبيين ما أبهمه، من أنباء الغيب وقصص السابقين، ما لم يصح عندنا أنه أخذ فى هذا عن المعصوم عليه الصلاة والسلام .. فكل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلّا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن يجب علينا أن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، وفهمهم تابع للنص محكوم به، وليس مقيدا له حاكما عليه ..
(1/160)
________________________________________
عند ما نطبق هذه القاعدة على نتاج السابقين فكم سنترك من أقوال؟
وكم سنلغى من صفحات؟ وكم سنرفض من تفصيلات وشروحات؟ وكم سنعدم من أساطير وخرافات وموضوعات؟ ..
(1/161)
________________________________________
- 26 - ترتيب الخطوات فى التعامل مع القرآن
عند ما يتعامل القارئ مع القرآن فلا بدّ أن يرتب خطوات هذا التعامل وأن يحدد المراحل ويبينها، فما هى الخطوة الأولى ثم التى تليها وهكذا؟
وبماذا يبدأ؟ وما هو المقدم وما هو المؤخر؟ .. وليحرص على أن تكون الخطوات متناسقة متتابعة متزنة، وأن تكون المراحل متدرجة متكاملة ..
الخطوة الأولى: يجب أن تكون فى استحضار الجو الإيمانى، ومعايشة الحالة الإيمانية التى سيتقدم بها للفهم والتدبر، ويستحضر فيوضات الله وفتوحاته عليه، وذلك بأن يراعى آداب التلاوة التى أشرنا إليها فى أول الكتاب.
الخطوة الثانية: هى إقباله على القرآن وتلاوته لآياته، فيبدأ به ويعيش فى ظلاله، ويتلقى عنه المعانى والحقائق والتقريرات والموحيات، وينفعل معه بكيانه الإنسانى كله .. وسيخرج من ذلك بحصيلة عظيمة وجنى وافر وكنز ثمين ..
الخطوة الثالثة: الاطلاع على تفسير مختصر لبيان كلمة غريبة أو تحديد سبب نزول أو الوقوف على معنى غامض، أو معرفة حكم خاص .. وهذا الاطلاع ليستعين بفهم العلماء السابقين، فيتضح له ما كان غامضا، ويبدو له ما كان خافيا، فيصوب نتيجة لذلك فهمه ويصححه،
(1/162)
________________________________________
أو يستدرك على نفسه، ويضيف إلى معلوماته ما غفل عنه .. فهذا الاطلاع للتوضيح أو التصويب أو الاستدراك ..
الخطوة الرابعة: الاطلاع على تفسير مطول يتوسع صاحبه فى مباحثه ويستطرد فى موضوعاته، ويعرض ألوانا مختلفة من المعارف والثقافات ..
فيتعامل معه القارئ- بملكته النقدية الواعية- ليثرى معلوماته ويزيد على معارفه وثقافته، ويعيش مع العلم لحظات وفترات مباركة .. وينمى ملكته العلمية وموهبته الاستنباطية ..
وننصح فى الخطوة الثالثة أن يبدأ ببيان معانى كلمات القرآن، وأجود كتاب فى هذا كبداية «كلمات القرآن تفسير وبيان» لحسنين مخلوف. ثم يطلع على تفسير معاصر يتحدث عن القضايا والمسائل والمشكلات المعاصرة ويتخصص فى المباحث المعاصرة .. ولن يجد القارئ هذا إلّا عند سيد قطب فى تفسيره الرائد «فى ظلال القرآن» الذى نراه وسيلة واجبة لفهم حى للقرآن، ونعتقد أن من أعرض عنه فسيحرم الكثير من معانى القرآن وحقائقه وتقريراته .. ثم يطلع على تفسير قديم متزن، وتفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير خير من يمثل هذا.
أما فى الخطوة الرابعة فننصح أن يقبل على تفسير إمام المفسرين على الاطلاق محمد بن جرير الطبرى- مع القراءة فيه بحذر شديد والتمتع بالملكة النقدية- ثم يقرأ ما طاب له من التفاسير الأخرى كتفاسير الرازى والنيسابورى والزمخشرى والقرطبى وأبى السعود والآلوسي والشوكانى ورشيد رضا فى المنار ..
إذا خلط القارئ بين المراحل وشوّش فى ترتيب الخطوات فسيقع فى خلط وتشويش وسيحرم الكثير من العطاء القرآنى الكريم.
(1/163)
________________________________________
ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا عند ما أجاب على سؤال وجه إليه عن أقرب الطرق لفهم كتاب الله، فقال: «قلبك، فقلب المؤمن ولا شك هو أفضل التفاسير لكتاب الله تبارك وتعالى .. وأقرب طرائق الفهم: أن يقرأ القارئ بتدبر وخشوع، وأن يستلهم الرشد والسداد، ويجمع شوارد فكره حين التلاوة .. وأن يلم مع ذلك بالسيرة النبوية المطهرة، ويعنى بنوع خاص بأسباب النزول وارتباطها بمواضعها من هذه السيرة، فسيجد فى ذلك أكبر العون على الفهم الصحيح السليم.
وإذا قرأ فى كتب التفسير بعد ذلك فللوقوف على معنى لفظ دق عليه، أو تركيب خفى أمامه معناه، أو استزادة من ثقافة تعينه على الفهم الصحيح لكتاب الله. فهى مساعدات للفهم .. والفهم بعد ذلك إشراق ينقدح ضوؤه فى صميم القلب» [مقدمات تفسير القرآن: 30].
(1/164)
________________________________________
- 27 - جنى الثمار العملية للتعامل مع القرآن
لا بدّ من الحضور الفاعل الحى المؤثر أثناء تلاوة القرآن وتدبره والتعامل معه بكافة مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، واستخدام كل أجهزة كيانه الإنسانى .. فلا يكون هدف القارئ من نظراته فى القرآن مجرد الأجر والثواب فهذا وارد وسيحصل عليه بإذن الله .. كما لا يكون هدفه «تثقيف» نفسه بثقافة قرآنية شاملة، وحشو ذهنه المجرد وعقله النظرى بألوان شيقة من المعرفة والثقافة، وزيادة رصيده من الثقافات والعلوم والمعارف .. وإن الوقوف عند الثقافة وحدها لا يولد عملا ولا التزاما ولا سلوكا سليما .. كل ما فى الأمر أنه يملأ عقله بهذه المعلومات، فتتحول إلى قضايا ومعلومات وثقافات نظرية، وتوضع هناك فى «خانة» المنطق الذهنى النظرى المجرد، وتتجمد فيه إلى أن تضعف فتزول وتتلاشى، أو تبقى مجمدة عاجزة عن الوصول إلى منافذ التوجيه والقيادة والتربية .. فترى هذا الإنسان يردد ما فى عقله من معلومات، وما فى ذهنه من ثقافات، ويتحدث عنها- بلباقة وفصاحة- ولكن أين هو فى شخصيته واستقامته مما يقول؟ وأين هو فى مسلكياته وحياته مما يبشر به؟ وأين هو فى ارتباطه وصلته بمن حوله مما يتحدث عنه؟
على القارئ أن يتلقى إيحاءات القرآن بمشاعره وأحاسيسه
(1/165)
________________________________________
وانفعالاته، أن يتلقاه معلومات وثقافات، وأن يتلقاه أفكارا وتصورات، وأن يتلقاه حقائق وبدهيات، وقيما حية، وتوجيهات حياتية، ومبادئ معاشة، وأوامر عملية ميدانية، ودليلا عمليا لحياته فى يومه ونهاره .. عليه أن يتلقاه بعقله وذهنه وخياله، وأن يتلقاه بفكره ووعيه وإدراكه، وأن يتلقاه بقلبه وروحه ووجدانه وضميره، وأن يتلقاه بشعوره وإحساسه وهمته وطاقته، وأن يصل بين كل الأجهزة فى كيانه، وأن ينسق بين ما تلقاه كل منها، وأن يجمع هذه الحصيلة مجتمعة، وأن يربط بينها بخيوط متينة دقيقة، وأن يحولها إلى برنامج يومى، وسلوك عملى، وحقائق معاشة، وإيمان قرآنى حى فاعل مؤثر .. وأن يقتدى فى ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها- كان خلقه القرآن، وأن يقتدى بأصحابه الكرام رضوان الله عليهم الذين كانوا يتلقون القرآن «تلقيا للتنفيذ» لينفذوه فور سماعه، وينظرون له نظرة الجندى فى الميدان إلى «الأمر اليومى» الصادر إليه، ليعمل به فور تلقيه. (كما يقول سيد قطب فى معالم فى الطريق:
17 - 20).
لذلك على القارئ أن يتمتع أثناء النظر فى القرآن بحضور كامل فاعل، وأن لا يشغله عن القرآن- وهو يتلوه- شاغل، أو يصرفه عنه صارف، أو يحول بينه وبين إيحاءاته وأنواره حجاب أو مانع، وأن يجمع على فهمه نفسه وهمته وفكره، ووجدانه وخياله وشعوره، وقلبه وعقله ووعيه ..
على القارئ أن لا يخلط بين الوسائل والغايات، وأن لا يجعل من الوسائل غايات، فكم سيخسر لو فعل ذلك! إن كل ما يستخدمه أثناء التلاوة لا يعدو أن يكون وسائل توصله إلى غاية واحدة محددة .. التلاوة، والتدبر، والنظر، وما يحصل عليه من حقائق ولطائف ومعلومات وتقريرات، وما ينقدح فى قلبه من أفهام ومبادئ وآراء، والاطلاع على
(1/166)
________________________________________
التفاسير، والحياة مع القرآن لحظات أو ساعات، هذه كلها لا يجوز أن تكون إلّا وسائل لغاية، ولا يمكن أن تكون بحد ذاتها غايات .. لأنه إن وقف عندها واكتفى بتحقيقها وتحصيلها، فلن يحيا بالقرآن ولن يعيش مع القرآن ولن يدرك كيفية التعامل مع القرآن! ..
ونحن نعلم أن من المسلمين من يكتفى بها، ويقعد عندها، ويجعلها هى الهدف المرجو والغاية المطلوبة، لكن هؤلاء لم يفهموا القرآن، ولم يعيشوا به!!.
المؤمن عند ما يصاحب القرآن فى رحلة شيقة ممتعة لا بد أن ينظر فى ما حصله فيها، ولا بد أن يقوّم هذه الرحلة، ويعرف كم ربح فيها، وكم استفاد منها، وكم جنى من ثمار مباركة دانية .. إن الثمار التى يرجوها لن تكون إلّا فى تحقيق الغاية التى حددها وطلبها .. وهو عند ما يكون قارئا سيسأل القرآن عن غايته، وعن غاية المؤمن من تلاوته، وسيجد فى القرآن الجواب الواضح البين، وقد سبق أن تحدثنا عن غاية القرآن فى الحياة عند حديثنا عن «الالتفات إلى الأهداف الأساسية للقرآن» و «ملاحظة المهمة العملية الحركية للقرآن» وغيرهما من مفاتيح التعامل مع القرآن ..
يحدد القرآن للمؤمن المتدبر الغاية من قراءته فيه وتعامله معه وتدبره له .. قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (27) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) [الزمر: 22 - 23].
إن الغاية المحددة هنا هى «الهدى» .. ذلك هدى الله يهدى به من
(1/167)
________________________________________
يشاء .. باعتبارها وردت خاتمة للآيتين اللتين تحددان كيفية تلاوة القرآن، وتصفان أحوال الذين يقومون بهما، وتسجل مظاهر التأثر والتغير والانفعال عليهم .. ثم تبين الثمرة لهذه التلاوة، وتحدد الغاية منها، وتدعو المؤمن إلى أن يلحظها، ويسعى إلى تحقيقها، ويتشوق إلى تلك الثمرة، ويحرص على أن يجنيها .. إنها «الهدى»، الهدى القرآنى .. هدى الله يهدى به من يشاء .. هدى مطلق شامل عام للفرد والمجتمع والأمة ..
وهناك آية أخرى تقرر غاية أخرى للتلاوة وهى قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ [الأنعام: 122] الحياة الحرة العزيزة الكريمة التى تليق بالمؤمن، الحياة السعيدة المباركة الهادية التى تبارك عمره وترفعه وتزكيه .. الحياة التى لا بدّ أن يجعلها غاية له من تلاوته، وثمرة له يجنيها من رحلته فيه، ونتيجة عملية يحققها من تعامله معه ..
هذه غاية التلاوة، وثمرة التعامل، ونتيجة التدبر، وكل ما سواها وسائل لتحقيقها .. القرآن هدى فكيف نهتدى بالقرآن؟ القرآن نور فكيف نستضيء بالقرآن؟ القرآن حياة فكيف نحيا بالقرآن؟ القرآن كنز فكيف نستفيد منه؟ القرآن صديق حبيب ودود فكيف نتعامل معه؟ القرآن شجرة باسقة مثمرة معطاءة خيرة فكيف نعيش فى ظلالها؟ ونستروح أفياءها ونجنى ثمارها التى لا حياة بدونها؟ هذه هى الغاية من التلاوة وهذه هى الثمرة من التدبر .. غاية تدعو السائرين إليها، وثمرة تحفز همهم إليها، وتوجه أشواقهم إليها .. ونرجو أن نكون من هؤلاء السعداء الموفقين، الذين يعيشون فى ظلال القرآن، ويحيون فى أفياء القرآن، ويجنون من ثمار القرآن، ويحققون غاية القرآن، ويحسنون التعامل مع القرآن، ويستخدمون المفاتيح الهادية لفتح كنوز القرآن .. والذين يقودهم القرآن فى الدنيا،
(1/168)
________________________________________
ويكون حجة لهم يوم القيامة، وشفيعا لهم يأخذ بأيديهم لدخول جنة الله بفضله وعفوه ورحمته .. والله الهادى إلى سواء السبيل .. والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/169)
________________________________________