المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سورة الواقعة ومنهجها في العقائد (دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)


hania
10-26-2019, 05:53 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: سورة الواقعة ومنهجها في العقائد (دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)
المؤلف: محمود محمد غريب: من علماء الأزهر الشريف والموجه الديني لشباب جامعة القاهرة
الناشر: دار التراث العربي - القاهرة
الطبعة: الثالثة - 1418 هـ - 1988 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: سورة الواقعة ومنهجها في العقائد
(دراسات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)
المؤلف: العلامة الشيخ / محمود غريب
الناشر: دار التراث العربي
الطبعة: الثالثة - 1418 هـ - 1988 م - القاهرة
تنبيه:
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
*************
لا تعرف الدنيا كتابا يحمل بين كل آية منه دليلا على نزوله من عند الله إلا القرآن. (المؤلف) .
(/)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) .
(1/9)
________________________________________
تقرير لجنة العلماء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عرضتُ أصولَ الكتاب على لجنة موقرة من علماء الأزهر الشريف بأوقاف المنطقة الجنوبية بسلطنة عمان.
وبعد قراءتهم لأصول الكتاب، وإبداء بعض الملاحظات القميِّة التي قمتُ بعلاجها، تكرمت اللجنة بهذا التقرير:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وسلام على النبي المصطفى، وبعد: فقد اطلعنا على كتاب سورة الواقعة ومنهجها في العقائد لفضيلة الشيخ محمود غريب - الطبعة الثانية - ولقد جاء الكتاب في وقت أحوج ما يكون الشباب المسلم إليه، لترسيخ العقيدة في نفوسهم، والكتاب يشرح السورة الكريمة، ويبين ما تهدف إليه.
ولقد بذل المؤلف الكثير من الجهد - مشكوراً - في تفنيد أراء المبطلين والرد على شبهة الملحدين، وسلك في ذلك مسلك حديثاً، في المحافظة على طابع الأسلوب القديم، وطرافة الموضوع.
وفضيلة المؤلف له باع طويل في التأليف، فقد ألَّفَ كثيراً من الكتب المفيدة النافعة، بأسلوبٍ سهلٍ ممتنعٍ، ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بأن يتقبل هذا العمل، وأن ينفع به البلاد والعباد
تحرير في 27/5 /1983
السابع عشر من شعبان 1403 هـ
رئيس اللجنة
فضيلة الشيخ / محمد محمود قاسم
مدير إدارة الدعوة الإسلامية بسوهاج
(1/9)
________________________________________
الجانب الموضوعى: الشيخ إسماعيل زمزم، واعظ أول القاهرة
والشيخ حامد أبوالسعود، واعظ أول الشرقية
الجانب الطبى: الدكتور سعيد المليجى
الجانب الزراعى: الخبير الزراى على حسن
الطبعة الثالثة راجعها الأستاذ محمد عطية سلمى
...
(1/10)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وسلام على النبي المصطفى، أما بعد.
الإلحاد مولود غير شرعى في بلادنا
لأن بلادنا عرفت الحق، والخير، والجمال، منذ فجرالتاريخ وبنت حضارتها، وثقافتها على عقيدة الإيمان بالله وبالبعث للاجسام.
، والدارس للحضارات القديمة في بلادينا يدرك أن الجانب الروحي هو الطاقة التي حركت فكرة بناء المعابد الضخمة والأهرام السامقة فلما جاء الإسلام لم تجد بلادنا غربة فكرية في ما جاء به، فسارعت إليه فبلادنا سبقت العالم إلى معرفة الحضارات الروحية وأنتفعت بها وصارت مسيرتنا الإيمانية في ضوء القرآن الكريم فلما تقدمت العلوم المادية. ونحن نبارك تقدمها حاول خصوم الإيمان أن يسخروا بريق العلم الحديث في سلب بلادنا أعز خصائصها الإيمانية حاولوا أن يربطو في أزهان الشباب بين التقدم العلمي والإلحاد بحجة أن بلادهم شقت طريقها للحضارة يوم أن تحررت من الأديان، ونسي هؤلاء الأفاكون أن طبيعة الأديان تختلف
(1/11)
________________________________________
فبلادهم تقدمت يوم تحررت من استبداد الكنيسة وسياط رجالها على ظهور العلماء.
أما بلاد الإسلام، فقد تأخرت عن المسيره منذ أن هجرت دينها الذي كان عصمة أمرها، ومجمع كلماتها، فطبائع الأديان تختلف.
حاولوا إقناع الشباب أن هجر الشعور الديني، وما يتبعه من انطلاقة حيوانية، هو حتمية العصر، وهذه المغالطة، يفضحها شيء واحد، وهو أن الحقائق العلمية التي وصل بها رجل الفضاء الأمريكي إلى القمر، هي نفسها التي وصل بها رجل الفضاء الروسي، لأن الحقائق العلمية واحدة.
ومع ذلك فالكل من البلدين ثقافته الخاصة به، التي يؤمن بها، ويدافع عنها، مع أن كلا الثقافتين يخالف الأخرى، ويناقضه. فأي تعارض بين لون الثقافة، وبين التسابق العلمي، والحقائق العلمية؟!
ولماذا يطلب من المسلم وحده أن يتنازل عن دينه، ثمنا لمشاركته في التسابق العلمي؟
واضح أنها مؤامرة على الإسلام، ومحاولة لإذلال المسلمين.
في وسط هذا الصراع، أقول بكل سقة:
إن الدين الإسلامي سيبقى في حياة المسلم، وفي عقله، يربطه بأمجاد هذه الأمة، ويضئ له الطريق، وسوف لا يزيدنا الكشف العلمي، إلا اقتناعا بقرآننا وتعظيما لخالقنا، واعتزازاً بتراثنا المجيد.
وبين يدى القارئ الكريم دراسة علمية متواضعة حول (سورة الواقعة ومنهجها في العقائد) حاولت خلالها أن أدارس السورة الكريمة، في ضوء جميع الآيات المشتركة معها في الموضوع.. إيمانا منا بأن مجموع آيات القرآن المنتشرة في السور المختلفه إذا اجتمعت، يكمل بعضها بعضا ويفسره
(1/12)
________________________________________
كما وضحت فيها منهج القرآن في التربية، والجدل، والمغيبات، والحقائق العلمية.
والله أسأل أن ينفع بها الشباب الباحث عن الحقيقة، أن يجعلها في صحيفة عملنا، إنه المستعان
المؤلف:
محمود غريب
ديوان البلاط السلطاني
بسلطنة عمان
(1/13)
________________________________________
الوحدة الموضوعية:
يعني هذا العنوان لونا جديدا من دراسة التفسير، هذا اللون، هو النظر إلى القرآن الكريم نظرة عامة، يبحث الدارس خلالها في كل آيات القرآن، ليستكمل الصورة الموضوعية.
وقد أكدت الدراسات المتتابعة، التي قام بها العلماء، أن مجموعة آيات القرآن الكريم في الموضوع الواحد يعطي صورة متكاملة للموضوع.
وهذا يفسر سر التكرر للمشاهد القرآنية.
وسور القرآن من ناحية (الوحدة موضوعية)
قسمان: قسم تعالج في السور أكثر من موضوع مع وجود وحدة الأسلوب، لا يستطيعها بشر.
لأن البشر إن أجاد الحديث في تخصص معين، فإن ذلك يقول دائما على حساب جهله بالتخصصات الأخرى، ومن يتحدث في كل تخصص، فهو أقدر الناس على أن يقول: لا شيء.
وقسم آخر تعالج في السور موضوعا واحدًا كسورة الواقعة، التي التزمت بموضوع البعث وما يؤيده من أدلة ومناقشات.
والآن مع السورة الكريمة، في دراسة موضوعية، والله الموفق.
(1/14)
________________________________________
منهج السورة الكريمة
تنقسم السورة الكريمة إلى مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة.
المقدمة:
من مطلع السورة إلى الآية رقم (6) منها.
وتذكر هذه الآيات التغيير الذي سيحدث في الكون، عند قيام الساعة.
الفصل الأول: يقسم الناس إلى أقسام ثلاثة هم: المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال.
ويبين جزاء كل فريق منهم، ويبدأ من الآية 7 إلى الآية 65.
الفصل الثاني:
يناقش المنكرين للبعث، ويلزمهم الحجة. ويستخدم في الجدال معهم، عناصر الطبيعة الواضحة: النطفة، الزرع، الماء، النار.
وهي أمور يدركها رجل البادية، وفي الوقت نفسه يقف الدارس أمامها عاجزا عن إدراك أسرارها، وهذا هو السر أن كتابا واحدا وهو القرآن يؤمن به العامة، ويحْتار الخواص في دراسته.
ويبدأ هذا الفصل الآية (57) وينتهي بالآية (74) الفصل الثالث:
يتحدث عن نزول القرآن الكريم من عند الله تعالى ويربط بين الكون والقرآن،
(1/15)
________________________________________
لأن الكون قرآن منثور، والقرآن كونٌ منظوم، وكلاهما يهدى إلى الله.
وثبات نزول القرآن هنا يؤكد هدف السورة وهو الإيمان بالبعث، وهذا الفصل من الآية 57 إلى الآية كنين 83.
الخاتمة:
ثم تأتى الخاتمة وهى ترد العجز على الصدر، وتقسم الناس مرة ثانية إلى أقسام ثلاثة، لتؤكد ما جاء في صدر السورة الكريمة.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) كأنها تقول: دع الجدل، وسبح باسم ربك العظيم.
هكذا تنسبك الآيات في السورة الكريمة انسباكا بارعاً. لتؤكد عظمة القرآن وإعجازه والله يقول الحق ويهدي وهو السبيل
(1/16)
________________________________________
المقدمة الكريمة
* حتمية الواقعة (عقليا)
* محكمة التاريخ عاجزة
* متى يبنون جنَّتَهم؟
* لمن هذه الجنة؟
* المسريحية ناقصة
* الضوابط. الضمير. التسامى.
* قانون العقوبات
* لا غنى عن هدى الله كما لا غنى عن رزقه.
(1/17)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ)
أطلق القرآن اسم الواقعة ضمن الأسماء التي أطلقها على يوم القيامة لأن حتمية وقوعها عقليه، واجتماعية، وأخلاقية، كما أنها حتمية دينية، وسوف أناقش هذه الجوانب في عمق وإيجاز.
الحتمية العقلية للقيامة:
لا خلاف بين العقلاء في أن المحسن والمسيء لا يستويان، لأن مكافأة المحسن، ومعاقبة المسيء، حتمية عقلية، تقرها الفطرة، ويسلم بها جميع العقلاء.
ونسأل: هل الدنيا من الناحية العقلية تعتبر دار عدل مطلق؟
الواقع: لا.. فنحن نرى كثيرا من المجرمين، ينجحون في ستر أفعالهم، فقد يصل بعضهم إلى التقدير والاحترام في الدنيا بينما يتموت المحسن، ولا ينال جزاء إحسانه (غالبا) ..
وقد تقيد الجرائم ضد مجهول أحيانا لعدم وصولنا إلى معرفة الفاعل..
إنَّ الدنيا ليست بدار عدل مطلق، لأن الجاني يموت، والمجني عليه يموت.. وإن اختلفت صور الموت وأسبابه.. المحسن يموت، المسيء يموت.. الظالم يموت، والمظلوم يموت..
فمتى يصدق قانون العدل المطلق الذي قلنا أنه حتمية عقلية؟
(1/19)
________________________________________
محكمة التاريخ:
قال الماديون: إن محكمة العدل المطلق هي (محكمة التاريخ) وما يترتب عليها من امتداح الأجيال للمحسن، ولعنها للمسيء. وهذا يكفي في الجزاء.
أقول: إن (محكمة التاريخ) قاصرة عن تحقيق العدل المطلق.
لأن التاريخ لا يحاكم إلا العظماء، والحكام.
فمن يحاكم بقية الناس؟!
وأسأل الماديين الملاحدة: هل يشعر الميت بمدح الناس له؟ أو بلعنهم إياه بعد موته؟
إن قالوا: لا، قلنا لهم: فما قيمة المحاكمة؟
قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياةَ لمن تنادي
وإن قالوا: إن الميت يشعر. فهم بذلك يهدمون نظريتهم، ويثبتون الحياة والشعور بعد الموت. (فمحكمة التاريخ) خرافة، وما أكثر الذين ظلمهم التاريخ.
جنة على الأرض:
قالوا: سنبني جنة على الأرض، نستغني بها عن جنة المؤمنين بالله.
تعجبت.. وقلت لهم. متى تبدأون البناء؟! إن كل شيء يسعد البشرية نباركة نحن المسلمين.
قالوا: إذا استطاع العلم أن ينتصر على الثلاثي المخيف: الفقر، والموت، والطبقية. فإنه بذلك سوف يبنى جنة على الأرض.. قلت لهم:
(1/20)
________________________________________
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر ... أجسام البغال وأحلام العصافير
متى ينتصر العلم على الفقر؟..
أن المذاهب المادية، نجحت نجاحا عظيما في إفقار الأغنياء، ولكنها لم تنجح فيه إغناء الفقراء..
وأسألهم: متى ينتصر العلم على الموت؟
إن العلم حتى الآن لا يعرف لماذا نموت.
وكل النظريات العلمية التي حاولت معرفة سبب الموت، لم تسلم من الطعون.
وإذا كان العلم لم يعرف حتى الآن ما هي الروح، فكيف يمكنه العمل على بقاءها؟!
إن المشاهد في جميع أوساط العلم أن كل (مليون شخص) يموت منهم (مليون شخص) وهي النسبة نفسها التي كانت في العصر الحجري.
وطبيب أمراض القلب الذي سافر لإلقاء بحوثه القيمة، في سبب الموت (بالسكتة القلبية) مات في وسط المؤتمر (بالسكتة القلبية) .
فمتى ينتصر العلم على الموت، ليقيم للماديين الملاحدة جنة الخلود على الأرض؟ ومتى يتحرر هذا العالم من خداع الشعارات؟
لمن هذه الجنة؟
ولو فرضنا أنهم نجحوا في إقامة المجتمع السعيد، والجنة المزعومة على الأرض.. من سيدخل فيها؟ ومن سينعم بها؟
هل سيدخلها الذين عصرها، وحضروا حفل افتتاحها فقط؟
أم ستدخلها كل الأجيال التي عذبها الفقر، والموت، والطبقية؟ ولكن أعمارهم لم تمهلهم ليسعدوا بهذه الجنة المزعومة.
(1/21)
________________________________________
وهل من العدل المطلق أن تعذب آلاف الأجيال بلا مقابل ليسعد جيل واحد وهو الجيل الذي حضر حفل افتتاح هذه الجنة؟..
إنَّ الاستخفاف بالعقل الجمعي، ومحاولة تنمية خيالات المراهقين للاستفادة منهم وترويج شعارات (الخبز للجميع) ، (إقامة المجتمع السعيد) ، (العامل سيد المجتمع) وغيرها من الشعارات الجوفاء التي تتلاشى عند التنفيذ، هو الذي مكان للفكر المادي في بلاد الله، وسوف تصحوا هذه الشعوب على صوت الحقيقة فتخمدها سياط الجلادين.. فالسياط وحدها هي التي تحمي دعاة المادية وتحاول تثبيت أقدامهم.
وبعد.. إن (محكمة التاريخ) لا تيقم مجتمع العدل المطلق، وجنة الماديين أوهام، وأحلام يقظة، فأين يتحقق العدل المطلق؟
احتمالات ثلاثة:
هناك احتمالات ثلاثة أذكرها بعد ضرب مثال بسيط..
لو شاهدنا مسرحية بوليسية ورأينا أن مجرما استطاع أن يقهر الناس، ويستولي على أموالهم، ويسفك دماءهم، ثم أُسدِل الستارُ على هذا المجرم، قبل أن يقع في يد العدالة.. فماذا يكون تفسيرنا لهذه المسرحية؟
لا شك أن أي تفسير لا يخرج عن واحد من ثلاثة:
1 - أن تكون هذه المسرحية هازلة تهدف إلى قتل الوقت فقط.
2 - تكون مسرحية عابثة، تهدف إلى إشاعة الجريمة.
3 - أن تكون المسرحية ناقصة، فينتظر المشاهدون فصلا آخر، ليعرفوا مصير المجرم، ويشاهدوا جزاءه.
(1/22)
________________________________________
الاحتمال الأول:
ذهب فلاسفة الغرب والشرق الملحد إلى الاحتمال الأول، وتصوروا أن الدنيا مسرحية هزلية.
وسبب هذا التصورت بأنها متكاملة، ولم يربطوا بينها وبين الآخرة.
ونحن المسلمون، نرفض هذا التصور، رفضاً مطلقاً، لأن إيماننا بكمال الله، يمنع من نسبة الهزل إليه سبحانه والقرآن الكريم قد وضح هذا الأمر، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)
فهو سبحانه ليس لاعبا بخلق الكون. ولو أراد مدبر الكون أن يعبث حاش لله فلن يعبث بمشاعرنا. لأنه خلق البشر، وخلق لهم المشاعر، ليتعرفوا على كرمه، فيعبدوه حبًّا، ويقدسوه إجلالا.
(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)
أي من عندنا، بعيدا عن مشاعركم، ومصائركم، ولكن الله سبحانه منزه عن ذلك علوا كبيراً، لذلك قال: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)
والآية الكريمة ترد على دعوة الذين يتصورون الدنيا مسرحية هازلة، أو مسرحية الفصل الواحد.
الاحتمال الثاني:
هل يستوي الظالم والمظلوم؟
الدارس للقرآن الكريم، يدرك أن استواء الظالم والمظلوم في الموت ليس اتحادا لمصيرهم. لأن الموت بداية لمحكمة العدل المطلق، قال تعالى:
(1/23)
________________________________________
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)
إن استواء الناس في الموت ليس هدما لقاعدة العدل المطلق ولكنه بداية لها.
إنَّ الله الذي خلق الناس إله عادل.
وإذا كانت موازين الدنيا ترفع النخال فوق الدقيق، فإن الله لن يجعل فاعل الخير، وفاعل الشر على حدٍّ سواء في الحياة والموت.
إنَّ في السماء محكمة عأدلة: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
الاحتمال الثالث:
إن احتمال نقص المسرحية فصلا، يتحقق فيه الجزاء العادل، وهو أقرب الاحتمالات، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)
وقال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)
إن الدنيا مسرحية ناقصة.. والآخرة هى الفصل المتمم، والأمل المنتظر، والحقيقة الواقعة.
السلوك والضوابط:
سلوك الناس بحاجة إلى ضوابط، تحفظ عليهم عفتهم وإنسانيتهم.
(1/24)
________________________________________
ولو درسنا سلوك الحيوان، لوجدنا أن الله سبحانه خلق له صمامات عضوية تحدد الحاجة، والإشباع. فأنثى الحيوان تستغنى عن الذكر بمجرد حدوث الحمل.
أما الإنسان فقد خلا تكوينه العضوي من مثل هذه الصمامات فلا بد من ضوابط عقلية، ومعنوية، وإلا كان الإنسان أحط درجة من الحيوان..
فما هى هذه الضوابط؟
هل يترك لنداء الضمير؟
أو يحاول التسامي الفلسفى؟
أو نتركه لقانون العقوبات؟
وسوف نناقش هذه الأمور الثلاثة في إيجاز..
الضمير البشري:
عرف الإسلام الضمير البشري، وقدر رسالته، في حياة الإنسان وأطلق عليه القرآن: (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)
وبلغ من شرفها، أن الله سبحانه أقسم بها في القرآن الكريم، قال تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)
ولكن الذي يعنينى هنا، هل يكفي الضمير البشري في زجر الإنسان؟ وهل يغني الضمير عن عقيدة البعث؟
قلت في كتابى (هذا نبيك يا ولدي) ص 23 ط 2: إن الدعوة إلى إحلال الضمير الأخلاقي، محل عقيدة البعث، فكرة ابتدعها علماء الاجتماع في أوروبا عندما ثارت أوروبا على الكنيسة، ورجالها، ولاحظوا أن الشباب ينطلق بلا ضوابط وأن مستقبله في خطر.
ولكن الضمير الأخلاقي مع أهميته لا يعني أبدا أن نستغني عن الآخرة، لأن الضمير الأخلاقي يتأثر في تكوينه بالبيئة التي يتربى فيها
(1/25)
________________________________________
كما يتأثر بلون الثقافة التي يلم بها صاحبه والمذهب الاقتصادي والاجتماعي الذي ينتمي إليه.
فالمسلم يتمزق من الأسى، عندما يتذكر لحظة ضعف في شبابه شرب فيها كأسا من الخمر بينما يشعر غيره بنشوة عندما يتذكر مثل هذا اليوم. لأنه تربى في مجتمع يبيح الخمر وكم يرتاح المسلم عندما يقسم تركة ميت، حسب الشريعة الإسلامية الغراء بينما يثور الشيوعي لمثل هذا العمل، لأنه يرى ذلك تفتيتاً للتركة، ويجهل هذا المادي أن الإسلام عندما حكم بتقسيم التركة وتفتيتها، أراد من كل وارث أن يستأنف العمل، لإعادة تكوينها، والأمم تبنيها الأيدي العاملة.
فالضمير البشري مع أهميته في حياتنا لا يغني عن رسالات الله، وعقيدة البعث.
وقد سيطرت فكرة الاكتفاء بالضمير الأخلاقي في العديد من مجالات التنمية حتى تسربت إلى الكثير من المساجد، فعشنا سنين طوال، لا نكاد نسمع ذكر الجنة والنار، في المواعظ والخطب، فقد قال لي أحد أساتذة الدين الإسلامي، بالجامعات العربية: أنه ناقش رسالة علمية في العقائد، فلم يجد فيها ذكرا للجنة والنار، وقد انعكس هذا الإهمال المتعمد على سلوك الكثير من المسلمين.. الذين نظموا أعمالهم في الدنيا بمعزل عن عقيدة الآخرة..
وعلي كل مصلح أن يعيد النظر فيما يقدم للشباب.
التسامي الفلسفي:
دعوة جديدة يُراد إحلالها محل عقيدة الآخرة، وأول ما يوجه لها من نقض أنها دعوة خاصة، فليس كل الناس فلاسفة. وقضية الحاجة إلى الضوابط السلوكية، قضية عامة.
من ناحية أخرى فنحن نرى نتائج الفلسفة المعاصرة أضل أتباعه وما هدي..
(1/26)
________________________________________
إن العالم حائر. وما زادته المبادئ الأرضية إلا بُعداً. لقد عجزت هذه المبادئ عن جمع أهل البيت الواحد على فكرة واحدة فكيف تجمع هذه المبادئ العالم الممزق وتوحد كلمته؟!
وأي الفلسفات المعاصرة يمكنها أن تضبط سلوك البشر؟
الشيوعية: ذئب يلبس ثوب حمل، فإذا دخل القطيع فعل به ما يريد، ولولا الجلادون من الحكام لماتت في المهد.
الوجودية. إثارة للأنية الفردية، وسلب لبقايا الفضيلة الدرونية: تفسير للنشأة بغير دليل.
والذين يدافعون عنها يعلمون ذلك، ولكنهم يؤمنون بها، لأن البديل الوحيد عنها هو الإيمان بالله خالقاً، وهم يكرهون الإيمان بالله.
الفرويدية: استقراء ناقص، درس فرويد بعض الشواذ، والمرضى، ثم وضع نظرية عامة روجها الإعلام العالمي، ليمكن للصهيونية في الأرض.
ولست بصدد تتبع هذه الفلسفات، فالدارس لها لا يختلف معي في أن نتاجها، أضل العالم، وما هدي.
فكيف يطلب منها وضع ضوابط سلوكية، يستغنى بها الناس عن عقيدة البعث والجزاء.
قانون العقوبات:
قانون العقوبات عاجز أيضا عن سَدِّ فراغ النفس، إذا خلت من الإيمان بالآخرة.. فالقانون يطبقه الحكام على الرعية، فأيُّ شيء يمنع الحاكم من فعل ما يريد؟
القانون وإن كان حازما فإنه لا يحاسب، ولا يعاقب، إلا من وقع تحت طائلته. بينما نرى كثير من الذين يجرمون، يجيدون خداع القانون، والإفلات من عقوبته.
والقانون يعاقب على الجرائم بعد وقوعها، أما عقيدة الإيمان فتعمل على منع الجرائم قبل وقوعها، فالحاجة إلى الإيمان اليوم
(1/27)
________________________________________
لا تقل عن حاجة الإنسانية إليه طوال التاريخ. ولم يغن عنه الضمير الأخلاقي، أو التسامي الفلسفي، أو قانون العقوبات شيئا.
إنَّ الناس بحاجة إلى هدى الله كحاجتهم إلى رزقه، وكل دعوة لإفراغ الدين من نفوس الناس، دعوة عاجزة، لأن التدين فطرة، والإيمان بالآخرة إيمان بالحقيقة المجردة..
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
(1/28)
________________________________________
حول فناء العالم
بعد أن بينت السورة الكريمة حتمية الوقعة، واشتراك الناس جميعا في التصديق بها، بعد وقوعها، وإعادتها لتقييم الناس على حسب جوهرهم بخفضها للظالمين، ورفعها للمؤمنين.
بعد هذا كله، بينت السورة الكريمة ما سيحدث في الكون من تغيير قبيل وقوعها.
قال تعالى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)
وبقيت آيات القرآن، تكمل الصورة الذهنية، وتؤكدها، فقد أَكَّدَ القرآن حتمية إلغاء النظام الذي يحكم سير الكواكب في السماء، مما ينشأ عنه سقوط الكواكب، قال تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) ،
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) ، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)
وأثبت القرآن أن الشمس تجري لمستقراً لها، إذا بلغته تتوقف: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)
وملايين الكواكب فوقنا تجري، ليس من العجيب أن يصطدم كوكب بآخر، فيهلك العالم، ولكن العجيب أنها لا تصطدم.
فعالم السماء مصيره الفناء، حتماً.
(1/29)
________________________________________
والأرض أقرب إلى الخراب لأنها جحيم مستعر، لا يحجب شرها عن الناس سوى قشرة أرضية رقيقة، إن تحركت كان الزلزال المدمِّر، وإن انشقت كانت البراكين.
والعالم أمام خطر الزلزال اليوم، كالطبيب الذي يشهد احتضار ولده، يريد أن يفعل أي شيء، ولكنه لا يستطيع فالسماء فوقنا تهددنا بالخطر، والأرض تحت أقدامنا أشد اشتعالا، ولولا تذليل الله لها، لهلك الكون.
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)
فسفينة الحياة في جو عاصف، وأمانها الوحيد بيد الله
وحده وهو سبحانه يَمُنُّ بالأمن.
رأي الفلاسفة:
عرفنا تأكيد القرآن لحتمية التغيير في الكون ونحبُّ أن نعرف رأي الفلاسفة في هذا التغيير..
يعتقد الفلاسفة بأزلية الكون، وأبديته..
فعقولهم مع سعتها لم تتصور إمكان حدوث فناء الكون، وبنوا على ذلك عقيدتهم.
يقول الإسكندر الأفرودسى تلميذ أرسطو:
ولما لم يكن يحيط بالفلك شيء آخر، ولا كان الزمان جاريا عليه، لم يجز أن يفسد الفلك (أي لا يجوز فناؤه) وقد سار الفلاسفة المسلمون أيضا على هذا الرأي وقد تصدى لهم الإمام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) وأبطل دعواهم،
(1/30)
________________________________________
فالقرآن عندما أَكَّدَ صيرورة العالم إلى فناء، خالف بلذلك منهج الفلاسفة، كما خالف التصور الجاهلي الذين استبعد حدوث الفناء للجبال الراسيات، فرد عليهم القرآن: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)
إن دعوة القرآن مستقلة عن كل فكر أرضي، لأنه منهج الله.
التصور العلمي لفناء العالم:
في كل يوم يقترب العلم من القرآن، لأن العلم يدرس الكون، والقرآن كلام من خلق الكون. وكلام الله وخلقه لا يختلفان.
وقد أَكَّدَ العلم الحديث حتمية الفناء للكون خصوصا بعد أن اكتشف قانون (الطاقة المتاحة) الذي أَكَّدَ أن الحرارة تنتقل من الأجسام الأكثر حرارة إلى الأجسام الأقل حرارة دون العكس.
ويلزم من هذا أن الشمس ستفقد حرارتها لا محالة ويفنى الكون كله عندما يفقد حرارة الشمس.
يقول الدكتور قاصر الزيدي:
والذي أكده القرآن منذ أربعة عشر قرنا من حتمية فناء العالم الحسي قد أصبح اليوم حقيقة علمية، لا تقبل الجدل.
ونقل مقالا طويلا عن مجلة (لوك) الأمريكية بعنوان (جارنا القمر ماضيه ومستقبله) جاء فيه: أن الفلكيين يقفون على حقيقة مقبضة وهى أن الفناء مكتوب على الأرض والقمر، والمنظومة الفلكية، بل حتى الشمس ومجموعتها، سوف تبدأ بالتوسع إلى أن تجرف القمر والأرض، وتتبخر
موادهما.
بين الحقائق العلمية والنظريات:
عندما نستأنس بذكر الحقائق العالمية، في مجال تفسير أو فهم القرآن فإننا نقصد من ذلك إلى أمرين:
(1/31)
________________________________________
أولا: أن نردَّ على خصوم البعث باللغة التي يطعنون بها عقيدتنا.
ثانيا: لنؤكد أن الحقائق العالمية، والآيات القرآنية، لا يختلفان لأن الكون خلقه، والقرآن كتابه، وكلام الله وخلقه لا يختلفان.
هذا بالنسبة للحقائق العالمية الثابتة..
أما النظريات العلمية، فهي موضع أخذ وردٍّ، فإن خالفت القرآن فسنتركها لحكم الزمن عليها وكم من نظريات هلَّل لها العلماء، ثم أبطلها الزمن.
هذا.. وإذا رأينا حقيقة علمية، تختلف مع آية قرآنية فيقينا أننا أخطأنا فهم الآية. وسوف نسهب في هذا الموضوع في الفصل الثالث.
بين منهجين:
قررت فيما سبق أن العلم يؤمن بنهاية العالم ولا ينكرها، وهو بهذا يتفق مع القرآن الكريم، ولكن منهج العلم في تقرير هذه الحقيقة يختلف عن منهج القرآن اختلافا واضحا ويمكن أن أوجز الخلاف من عدة وجوه..
أولا: العلم يؤمن بالنهاية البطيئة للكون، كفقد حرارة الشمس، أو الفقد المنتظم لسرعة الكواكب حتى تتوقف تماما، أما القرآن فيؤكد السرعة والمباغتة في مجيئها: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) .
(حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) .
ثانيا: العلم يؤمن بنهاية الكون، إيمانا رياضيا فقط. أما القرآن فقد ملأ بها عقول الناس، وعاطفتهم، وقدراتهم التصورية، ليجعل ذلك ضابطا لسلوكهم، ودافعا لهم إلى كل خير، قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)
(1/32)
________________________________________
ثالثا: العلم يؤمن بنهاية العالم فقط، أما قضية البعث بعد الفناء التي أكدها القرآن فلا يستطيع العلم أن يقرها، ولا أن ينكرها. لأن العلم يعمل في مجال المادة، ولا شأن له بما وراءها إثباتا أو نفيا أؤكد هذه الحقيقة ليعلم الشباب أن التشكيك في العقيدة باسم العلم، لون من الدجل الحديث.
والآن وبعد أن عرفنا موقف العلم والفلسفة من قضية نهاية العالم، نعود إلى سورة الواقعة.
قال تعالى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا)
إنا الذي يجري الأرض في الفضاء، سيرجها رجًّا يهلك كل شيء، (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ)
ثم يزلزلها زلزالا يخرج منها كل شيء.. (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا)
وقد عرفنا موقف العلم من الزلزال الأصغر، فكيف به أمام الزلزال الأكبر؟!
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)
(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)
تكرر ذكر الجبال في القرآن.. وحتى لا نخطئ فهم القرآن، فسوف أجمع آيات الجبال، وأرتبها ترتيبا يثبت أن كل آية تشير إلى مرحلة من مراحل مستقبل الجبال. حتى لا يتوهم أحدٌ وجود أي تعارض بين آيات القرآن.
المرحلة الأولى:
الرجفة من هول هذا اليوم.
قال تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)
المرحلة الثانية: مرحلة الدك.
قال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)
المرحلة الثالثة: ألنفش كالصوف، قال تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)
(1/33)
________________________________________
المرحلة الرابعة: مرحلة البس.
قال تعالى: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا)
والبس هو خلط الدقيق في السمن. ونتصوره هنا اختلاط الجبال بعد أن أصبحت عِهناً منفوشاً بذرات الكون الأخرى، ومياه البحار، فتصبح الجبال الراسيات كالهباء الذي يظهر في شعاع الشمس. ومع ضعفه يؤكد القرآن أنه (مبثوث) أي متفرق.
لقد نسفت الجبال، وبست في الكون، فأصبحت لا يرى فيها عوجا ولا أمْتا..
ويجوز أن يكون البسُّ بمعنى الدفع. من قولهم: بسست الغنم أي دفعتها.
المرحلة الخامسة: مرحلة السراب.
قال تعالى: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)
وغنى عن البيان أن السراب هو الشيء الذي لا حقيقة له ولا وجود.
وبهذه المرحلة تنتهي الجبال الراسيات، لأن مهمتها قد انتهت.
وكل هذه المراحل تتم في لحظة كما عرفنا: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)
آية الجبال في سورة النمل:
تتمة للموضوع، تبقى آية من سورة النمل، تحدثت عن الجبال وسيرها كالسحاب، وقد أخرتها عن آيات الجبال، لأنها تحتاج إلى دراسة عميقة.
قال تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)
اعتقد كثير من الدارسين أن الآية الكريمة مرحلة من مراحل الجبال يوم القيامة. واستدلوا على ذلك بأن الآية الكريمة وردت في حديث
(1/34)
________________________________________
القرآن عن الآخرة، كما استدلوا بمثل قوله تعالى: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)
وهذا الفهم صحيح، ويدفع أي إشكال في فهم الآية عن سلف الأمة راضي الله عنهم وعن كل الأجيال التي أعقبتهم، ممن لم يشاهدوا عهد الاكتشافات العلمية لدوران الأرض.
ولكن الذين عاصروا العلم الحديث، وهو يقرأ بعض أسرار الكون، ومنها دوران الأرض حول نفسها، وحول الشمس، يمكنهم إذا تدبروا ألفاظ الآية الكريمة، أن يفهموها فهما آخر، بلا تكلف، ولا تطويع للنص.
تدبر معي قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً)
ونحن في الدنيا ننظر إلى الجبال فنحسبها جامدة أما في الآخرة فتكون الجبال كالعهن المنفوش.. (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)
ومرور السحاب في الدنيا لأنه لا سحاب في الآخرة (1) .
- - - - - - - - - -
(1) ملامح سورة النمل التي ذكرت فيها الآية:
وإذا كان سير الجبال في الدنيا عجيبا، فإن سورة النمل التي ذكرت الآية الكريمة فيها هي سورة العجائب، لقد جاء فيها خبر سليمان مع الطير: (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)
وقصة الهدهد بتمامها يمكن أن تقرأها في السورة الكريمة، وهي عجيبة. وفي السورة حديث النملة مع سليمان (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا)
كما أن السورة الكريمة ذكرت قصة سليمان والعفريت: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)
ومن الأحداث العجيبة التي ذكرتها السورة الكريمة، خبر الرجل الذي عنده علم من الكتاب، وكيف استطاع أن ينقل عرش ملكة اليمن، في أقل من طرفة عين: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)
وأشارت السورة الكريمة إلى الجانب الحضاري، والعمراني في مملكة سليمان، عمران لم يشهد العالم مثله في أرقى دولة. فقد بنى قصرا على =
(1/35)
________________________________________
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
ومعلوم أن مروها في الدنيا كالسحاب، أمر يحتاج إلى صنع دقيق وصانع حكيم، لذلك وصف الصانع الحكيم نفسه سبحانه بقوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
والإتقان دليل آخر على ما قلته، لأن الجبال تهدم في الآخرة، والهدم لا يوصف بأنه صنع وإتقان.
والعجيب أن ابن قتيبة في القرن الرابع الهجري قد ذكر في كتابه (تأويل مشكل القرآن) ص 6 ما يؤيد هذا الرآى
- - - - - - - - - -
= أرضية من زجاج أملس ثم دعا ملكة سبأ إلى دخول القصر، فظنته لجة من ماء راقد، فكشفت عن ساقيها فأعلمها سليمان بالحقيقة: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
ومن الأمور العجيبة التي ذكرتها سورة النمل، أن الخاطئين من قوم لوط، حكموا على الأطهار من أهله بالخروج من القرية، وعللوا أمر الخروج بتعليل عجيب.
قال تعالى: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)
إن التطهر في المجتمع القذر جريمة، يعاقب عليها بالطرد وويل للشرفاء في غياب الفضيلة.
وفي السورة الكريمة جاء ذكر الدابة التي تخرج من الأرض عند قرب موعد الآخرة تكلم الناس معاتبة، ومسفهة لهم، قال تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)
فالسورة الكريمة سورة النمل كلها عجائب، والكون مشحون بأسرار لا يحيط بها علم البشر.
فإذا ذكرت آيات مرور الجبال كالسحاب فأي عجب في ذلك؟ إن مرور الجبال حقيقة كونية.
ولما كانت السورة الكريمة: تخبر بعجائب الأخبار، التي لم يألفها الناس في حياتهم اليومية نرى القرآن قد أكدا نزوله من عند الله مرتين، مرة في أول السورة
قال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)
وفي قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)
ومرة في آخرها، قال تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ)
(1/36)
________________________________________
قال رحمه الله: (.. فالجبال لكثرتها كأنها جامدة في رأي العين، وهى تسير سير السحاب وكل الجيش غص الفضاء به لكثرته، وبعد ما بين أطرافه، فقصر عنه البصر، فكأنه في حساب الناظر واقف، وهو يسير.)
فانظر إلى سبق ابن قتيبة لعلماء الدنيا بهذا الرأى.
إنَّ سير الجبال في الدنيا بحكم دوران الأرض، حقيقة علمية، ونحن لا نرى مانعا من الاستئناس بالحقائق العالمية في فهم القرآن كما قلنا وقد جاء ذكرها في سورة النمل، وهى سورة العجائب.
مصائر الناس
بعد أن بينت السورة الكريمة ملامح الانقلاب العظيم الذي سيغير كل شيء في الكون، بدأت السورة بعد ذلك بيان مصائر الناس.
ويبدأ بقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
قسمت السورة الكريمة الناس إلى أقسام ثلاثة:
وهم: السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال.
قسمت المؤمنين منهم إلى قسمين، وجعلت الكافرين قسما واحدا.
أما سورة فاطر فقد قسمت الناس إلى أربع درجات ثلاثة للمؤمنين، وواحدة للكفار.
قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)
والأصناف الثلاثة قد وسعتهم رحمة الله وهم في الجنة، مع تفاوت ما بين درجاتهم، لاستوائهم في الإيمان وميراث الكتاب، قال تعالى:
(1/37)
________________________________________
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)
فأهل الإيمان مع تفاوت أعمالهم، وسعتهم الجنة، والجنة درجات بل هى جنات دونها جنات، كما وضحت ذلك سورة الرحمن، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)
ثم قال القرآن بعد بيان نعيم الجنتين: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ)
وسيأتي تفصيل المقارنة بين الجنتين إن شاء الله..
همم الناس
من الناس من تقوى هممهم لإدرك الكمالات الإنسانية وليس لهم مكان سوى الصدارة.
وهؤلاء يقبلون على الله بثقلهم.
وتستريح أنفسهم بإرهاق أجسامهم.
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
هذا الطراز سجل القرآن عنهم أن جنوبهم تتجافى عن دفء الفراش: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ)
فيقضون أول الليل في العبادة: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
ومع قضاء الليل في العبادة يستغفرون الله في آخر الليل: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فكأنهم يستغفرون الله عما حدث من تقصير في عباداتهم.
لذلك قال العلماء (حسنات الأبرار سيئات المقربين) .
تراهم يسارعون إلى الخيرات، فهم يؤتون ما آتوا من صدقات وبرٍّ وقلوبهم وجلة، تخاف أن يرد الله عليهم صدقاتهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)
(1/38)
________________________________________
وهؤلاء لا يكتفون بما فرض الله عليهم من عبادات، بل يسارعون إلى النوافل والسنن، يتقربون بها إلى الله زلفى، كما يحرمون على أنفسهم بعض الحلال، مخافة الوقوع فيما فيه شبهة، عملا بقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - " فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ " رواه الجماعة.
وقد ذكر ابن الجوزية في كتابه القيم (صيد الخاطر. 36) كلمات عن شقاء أصحاب الهمم الكبيرة بما يسعد به العامة من الناس صور همته في طلب العلم، ومحاولة استقصائه، فقال: إني رجل حبب إلى العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبب إليَّ فن واحد منه، بل فنونه كلها.
ثم لا تقتصر همتى في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه.. والزمن لا يسع، والعمر أضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فتبقى بعض المطلوب حسرات..
ثم إن العلم دلنى على معرفة المعبود وحثنى على خدمته
ثم يصور الصراع النفسي الذي يعيشه بين طلب العلم وبين الرغبة في التفرغ للعبادة فيقول:
وصار يملكني أمر كالوجد كلما ذكرته، فعادت خلوتى في خدمتى له أحلى عندى من كل حلاوة..
فكلما ملت إلى الانقطاع عن الشواغل إلى الخلوة أي الخلوة للعبادة صاح بى العلم: أين تمضى؟.. أتعرض عنى وأنا سبب معرفتك به سبحانه؟
فقلت للعلم: إنما كنت دليلا. وبعد الوصول استغنيت عن الدليل.
قال.. هيهات كلما زدت من العلم زادت معرفتك بمحبوبك، وفهمت كيف يكون القرب منه
(1/39)
________________________________________
ودليل على ذلك. أنك تعلم غدا أنك اليوم في نقصان.
أو ما سمعت الله تعالى يقول لنبيه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)
وإن أردت القرب منه فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهى حالات الأنبياء عليهم السلام فقد آثروا تعليم الخلق على خلوة التعبد.
هكذا يعيش أصحاب الهمم العالية، والنفوس الكبيرة. بينما تنشغل الجموع من حولهم بالخوض في الحياة خوض الأطفال في الماء الراكد، لا يعرف أحدهم على أي شيء سينزل قدمه، لأن الماء تغطى الأرض، ولا يعرف أحدهم أين الطريق.
هؤلاء جماعة.
ولكن.. ليس كل الناس يقوون على الانتظام في هذا السباق فهمم الناس تختلف، واستعدادهم يتفاوت ولو تساوى الناس كلهم في الأولوية لفقدت الأولوية الصدارة.
لذلك جعل الله سبحانه عبادات الإسلام، ومحرماته على رتبتين..
الرتبة الأولى: تمثل الجانب الإلزامى، الذي يستطيعه كل إنسان، ولا يسع أي مسلم أن يقصر فيه.
أعنى بذلك إقامة الفرائض، واجتناب الكبائر.
الرتبة الثانية: من العبادات ما سبق أن بينته في سلوك المقربين، من إتيان النوافل، واجتناب ما فيه شبهة.
قال تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)
أما سورة النجم فقد ذكرت سبب مغفرة الله لهذه الجماعة. أنه علم الله سبحانه بتأثير المادة على سلوكنا، فنسبنا السماوى
(1/40)
________________________________________
يتسامى بنا نحو الفضائل والكمالات والأرض تجذبنا إليها، وتربطنا بها.
وتحد من كمالاتنا، فنحن في سراع دائم.
قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)
هذه همم الناس وطاقتهم والشريعة الإسلامية وسعت كل الناس، لأنها شريعة الله الذي خلق كل الناس، بعد هذه المقدمة يمكن أن نعرف المقربين، وأصحاب اليمين، أما أصحاب الشمال، فقد كفروا بالآخرة، وأنكروا البعث، فلم يجدوا في الآخرة بارداً ولا كريماً.
والآن.. مع هذه الآيات الكريمات ومع الفصل الأول من السورة الكريمة..
** ** **
(1/41)
________________________________________
الفصل الأول
* حتمية القيامة ومناقشة المنكرين.
* الكون يشهد.
* صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.
* نعيمٌ دونه نعيم.
* فرصة لمن فاته أن يكون من المقربين.
* عذاب من مصادر الراحة.
* دعوة واحدة تتكرر في كل العصور.
مع هذه المعانى نعيش هذه الصفحات
(1/43)
________________________________________
الفصل الأول
فى هذا الفصل الكريم من السورة يأتي الحديث عن أقسام الناس يوم القيامة ومصائرهم.
قال تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً) كل واحد مع أخيه زوج.
(فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)
قدم أصحاب الميمنة على المقربين لأنهم الأكثرون دائما ولأن المقربين لا يحتاجون إلى ترغيب لأنهم ذاقوا حلاوة الوصول إلى الله.
وأطلق القرآن عليهم اسم (أصحاب الميمنة) لمراعات مكانهم في ساحة الحساب ومكانتهم عند الله وعندما استقروا في الجنة، أطلق الله عليهم اسم أصحاب اليمين، لأن دخولهم الجنة أغنى عن ذكر المكان، فاكتفى بالمكانة، والعرب تتفائل باليمين، وتتشائم من الشمال كما أن أطلاق أصحاب اليمين عليهم وصف قرآنى يراد به وصفهم بالقوة لأن اليمين في اللغة العربية معناه القوة قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)
ومعنى (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي بالقوة.
فمعنى أصحاب اليمين أي الأقوياء في الحق.
والله يريد للحق رجالا يحملون رايته. ويقولون للباطل في كل صورة من صورة: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
إنَّ الله لا يريد من المخنثين أن يحموا دينه فالعقيدة قوة أن خالطت نفوس الرجال الأقوياء قال تعالى لموسى عليه السلام:
(1/45)
________________________________________
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)
وقال لبنى أسرائيل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)
وقال ليحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)
فأصحاب اليمين هم أصحاب القوة في الحق.
وإذا عرفنا أصحاب اليمين، أمكننا أن نعرف أصحاب الشمال فبضدها تتميز الأشياء.
إنهم ضعاف النفوس أمام رغباتهم..
ضعفت نفوسهم أمام تكاليف الإيمان. فكفروا.
وضعفت أمام ثمن الفضيلة، فاستسلموا للغرائز..
وضعفت أمام متطلبات الحرية، فاسترقتهم الأهواء..
وضعفوا أمام إغراء المنصب.. فنافقوا..
(وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ)
بعد أن تعرفنا على كل جماعة من الجماعات الثلاث، يحسن أن نعرف شيئا عن خصائص التركيب للجمل القرآنية.
أعاد القرآن المبتدأ بلفظه في موضع الخبر: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)
إشارة إلى أن كل وصف للنعيم لا يكفى لجمع أطراف الصورة في الذهن وذلك ليذهب العقل البشرى كل مذهب في التصور..
وكذلك الأمر مع أصحاب الشمال. (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
أجل.. السابقون إلى الخيرات، سابقون إلى الجنة.
وأسأل: هل المراد بالسبق هنا السبق الزمانى؟
أم المراد التسابق في مجال الخيرات؟
النص الكريم يحتمل المعنيين..
(1/46)
________________________________________
التسابق الزمانى:
رفع الله ذكرالسابقين إلى الإسلام، الذين تحملوا سياط الشرك، وصبروا لله، وجعل القرآن الحد الفاصل بين السابقين والمتأخرين، هو فتح مكة. لتتسع دائرة السبق الزمانى. ولأن من دخل في الإسلام بعد الفتح هم الطلقاء.
قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
ومع هذا كان عمر بن الخطاب يشعر أن السنوات الست التي سبقه بها أبو بكر إلى الإسلام تمثل سياطاً في ضمير عمر تدفعه إلى التسابق العملى، لقد كان عمر يبكى عندما يقرأ هذه الآية: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
التسابق العملى: مجال مفتوح إلى يوم القيامة.
مجال مفتوح أمام الجميع وقد ذكر القرآن الفائزين في مجال التسابق العملى.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
فالسبق هنا تسابق عملى.. يسع المجدين في كل عصر..
المقربون صنفان: مقربون عند الله لقضاء حاجات الناس، والاستغفار لهم، وهم المقربون من الملآئكة، قال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)
ومقربون في الجنة وهم من البشر وهؤلاء تخدمهم الملآئكة والغلمان المخلدون والحور العين.
والفارق بين المقامين كبير
(1/47)
________________________________________
إنَّ الوزير مقرب من الملك بمقدار قيامه بأعباء عمله، فقربه من الملك بمقدار تحمل المسؤلية.
أما ضيوف الملك فمقربون عنده للتكريم.
هذا.. ولله المثل الأعلى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)
من هم الأولون؟
هل هم أتباع الأنبياء السابقين؟
أم هم عظماء السلف من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
إنَّ عدد الأنبياء كبير ولكل نبى أتباع فيجوز أن تكون الكثرة الفائزة بالسبق من أتباع الأنبياء جميعا، والقلة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ويجوز أن تكون السلة الفائزة من الأولين السابقين إلى الإسلام ويكون السبق زمانيا، والقليل من خلف الأمة، لأن مرور الزمن وضعف النفوس , جعل عدد المقربين من خلف الأمة قليل.
نعيم المقربين:
ذكرت السورة الكريمة جانبا من نعيم المقربين، يظهر فيه الترف كما ذكرت نعيم أصحاب اليمين، وهو نعيم دون نعيم المقربين كما سنعرف من دراستنا، أما سورة الرحمن ففصلتْ الفارق بين النعيمين تفصيلا يحسن ذكره.
المقربون: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)
أصحاب اليمين: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)
فهما دون الجنتين السابقتين، وهذا ما يعلم لأول وهلة من النص الكريم
(1/48)
________________________________________
وفى صحيح البخاري عن أبى موسى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما.
وجنتان من ذهب أنيتهما ومن فيهما.
وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن"
المقربون: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) غصون صغيرة ندية.
أصحاب اليمين: (مُدْهَامَّتَانِ) خضرة تميل إلى السواد.
المقربون: (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) لغزارة مائهما.
أصحاب اليمين: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) والنضخ دون الجريان.
المقربون: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)
أصحاب اليمين: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)
المقربون: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ)
لم يذكر القرآن ظهر الفراش واكتفى بأن البطانة الداخلية من الحرير الغليظ وترك للعقل أن يتصور ظهر الفراش.
أصحاب اليمين: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)
والرفرف البسط، ولجمالها يتصور العقل أنها صنعت في المدينة الخيالية (مدينة عبقر) والعرب تنسب كل جميل إلى مدينة الجن عبقر ولم تزل التسمية مستعملة حتى اليوم فيقال فلان عبقرى أي من مدينة عبقر ولكن فرش المقربين لها ظاهر وباطن وبطائنها من إستبرق، ولم يذكر هذا الفراش لأصحاب اليمين.
المقربون: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)
ولجمالهن الخارق: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)
أصحاب اليمين: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)
صورة للنعيم البدوى يرمز لها القرآن بالخيام
(1/49)
________________________________________
وحتى اليوم نشاهد ملوك العرب وعظمائها يتركون القصور الشامخات ليعيشوا بعض أيامهم في رحبة الصحراء وخيامها.
والناس يفرون من بيوتهم في كل بلد إلى شواطئ البحار ليعيشوا بعيدا عن العمران والحضارة - أن القرآن يلمس نفوس الناس في تصويره للنعيم.
وذكرت سورة المطففين فارقاً جديدا بين النعيمين.
ذكرت أن في الجنة شرابا معبأ ومختوم عليه هذا الشراب رحيق خالص وختامه الذي ختم به مسك، هذا الشراب ممزوج من عين اسمها تسنيم.
ويمزج لهم على قدر درجتهم في الجنة ومعنى تسنيم أي عالية ومنه سنام الجمل.
أما المقربون فيشربون من تسنيم شرابا خالصا.
قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فللأبرار مزيج وللمقربين شراب خالص.
على أن جمال الوصف القرآني لا ينسينا أنه ليس بين الآخرة والدنيا إلا الأسماء فقط لذلك قال القرآن في سورة محمد عند حديثه عن الجنة: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)
وهذه الأنواع لا نعرف حقيقتها في الدنيا:
فنحن لا نعرف ماء لا يقبل الفساد ولا نعرف لبناً لا يتغير طعمه، ولا نعرف خمراً لا يصدعون عنها ولا يصدعون بها، ولكن القرآن حاول أن يوصلنا بما نعلم إلى ما لا نعلم.
وفى الحديث القدسى: "أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"
(1/50)
________________________________________
والقرآن يقول: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
والآن.. مع سورة الواقعة. (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ)
وقف بنا الحديث عند قوله تعالى: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ)
أي مرصعة بالجواهر، وفرشها: (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ)
وهي سرر مصفوفة: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ)
كما ذكرت سورة الطور. ووجوههم متقابلة دائمة، لأن قلوبهم قد صفت من الأحقاد: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
والله يجمعهم في درجة الأعلى منهم، متجاوزا عن الأدنى بفرق الدرجات: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)
ولدان مخلدون!.. إنَّ كل شيء في الجنة خالد، فما سر وصف الولدان بالخلود؟
الذي أفهمه أنهم مخلدون على صورة الولدان.
لا يصيبهم الشيب وهم مخلدون أي مقرطون بالذهب في آذانهم.
وسورة الدهر تبيِّنُ جانباً من أوصاف الولدان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)
(1/51)
________________________________________
(إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا)
لأن شعاع بعضهم ينعكس على بعض.
(وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) .. لأن نفوسهم نقشت بجلال الله الملك، وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت.
أما سورة الطور، فتضيف كلمة (لهم) ، كأنهم عبيد لسادتهم: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ)
ولكن ما فائدة الخدم في جنة قطوفها دانية؟
إنه التكريم فقط..
إنَّ الضيف يمد يده لكوب الماء، فيسارع صاحب البيت ويدفعه له.
أما أصل الولدان، فقد سكت القرآن عنه.
والغيب يقتصر فيه بما أخبر صاحب الغيب سبحانه وأيُّ حديث عن المغيبات، بلا سلطان إلهي، فهو ضياع للوقت، وسبب لانتشار الإسرائيليات ولا ثمرة منه في العقيدة ولا في السلوك.
الأكواب وما فيها من شراب:
في سورة الواقعة: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ)
وفي سورة الزخرف آية 17: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ)
وفي سورة الإنسان آية 16: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا)
ومجموع الآيات في موضوع الأكواب يعطينا هذه الحقائق فالأكواب من ذهب، وبعضها زجاج مصنوع من فضة، وإذا كانت
(1/52)
________________________________________
الدنيا لا تعرف زجاجا من فضة فإن القرآن قد أَكَّدَ وجود هذا النوع من الزجاج في الجنة، فقال تعالى: (مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا)
ثم ما يقول بعدها مؤكدا: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ)
ثم يزيد في التوكيد، فيذكر حالتهم النفسية عند رؤيتهم هذه القوارير فيقول: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) لأنهم لم يروا مثلها في الحياة الدنيا.
وفي الجنة يستوي الذهب والفضة، لأن ارتفاع قيمة الذهب في الدنيا سببه الندرة النسبية، أما هناك، فكل شيء مباح، وكل شيء موفور، هذه هي الأواني، فماذا في داخلها؟..
سورة الواقعة قالت إنَّ شرابها لا يصدعون عنه أي لا يتفرقون عنه لنفاده من قول العرب: تصدع البناء أي تفرقت أجزاءه.
ولا تنزف دماؤهم، ولا أموالهم بسببه: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ) (مِنْ مَعِينٍ)
أي من عين تجري. وسورة محمد أخبرت بأنها أنهار جارية.
قال تعالى: (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)
أما سورة الإنسان فتذكر المواد التي ركب منها هذا الشراب: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)
وشراب آخر ممزوج بالزنجبيل: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا)
وشراب من رحيق خالص، معبأ ومختوم، ختامه المسك: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ)
أما سورة الطور فتصور واقعهم من السعادة والمداعبة عند الشرب، فهم يتنازعون الكأس الواحدة يرفعها أحدهم إلى فمه، فيأخذها أخوه منه: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)
شرابها أبيض.. وهو اللذة ذاتها..
هذا ما تضيفه سورة الصافات: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)
ثم تضيف سورة الصافات أن هذا الشراب
(1/53)
________________________________________
لا يحدث أي فساد في العقل: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ)
والغَول بفتح الغين: هو الفساد الذي يصيب الإنسان فإذا أصاب العقل جعله يتخيل ما لا أصل له.
كما تصور العقل الجاهلي كائنا خرافيا أسماه الغُول بضم الغين.
بهذا تكمل الصورة للغلمان والأواني والشراب من كل جوانبها، وهذا سر التكرار في القرآن الكريم.
طعام أهل الجنة
تتبعت آيات القرآن في موضوع طعام أهل الجنة، فرأيت القرآن يؤكد على المعانى الآتية:
أولا: قدم القرآن الفاكهة على لحم الطير، مع أن السعادة في حياة الناس أن يقدموا اللحم على الفاكهة.
قد يكون هناك أسباب يدركها المتخصصون في علم الغذاء كقولهم: إنَّ المعدة تستفيد أكثر مما يدخلها أولا.
كما أن هذا الأسلوب يفيد الشبع الدائم: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)
ثانيا: أَكَّدَ القرآن الوفرة في الطعام ودوامه.
قال تعالى: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ)
فلا تقطع في موسم، ولا تمنع عنهم لغلو ثمنها، ولا لارتفاع أشجارها.
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ)
ودنو القطوف سببه ثقل الثمار، وتذليل الله لها: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) .
ثالثا: يلمس القرآن نفسية المسلم لمسا عجيبا، ففي مكة
(1/54)
________________________________________
حيث يعيش المسلمون في فقر، وقلة ذات يد نرى القرآن يسهب في الحديث عن الطعام.
أما في المدينة حيث فتح الله أبواب الرزق والرخاء على المسلمين يوجز القرآن الحديث عن الطعام.
قال تعالى: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) .
رابعا: يمزج القرآن بين الجانب المادي من النعيم، وهو الطعام والشراب، وبين الحديث عن الأمن النفسي:
(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) .
كما أَكَّدَ القرآن الكريم المطلق، ومزجه بالطعام: (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) .
إنَّ بعض الناس يساقون إلى الواجب من بطونهم.
ولا مانع من ترغيبهم في المكارم بإشباع رغباتهم في دار النعيم، وبعض الناس يضحون بأرواحهم من أجل المكارم ولكل في الجنة ما يشتهي من ألوان النعيم.
أزواج مطهرة
ثم تحدثت سورة الواقعة عن زوجات الجنة.
إنهن من الحور العين.. خلقهن الله خلقاً مستقلاً في الجنة.
والنوع الآخر هن زوجات الدنيا الصالحات.
وسوف ندارس كل نوع منهن من خلال آيات القرآن، لأن الغيب يقتصر فيه بما أخبر صاحب الغيب.
(1/55)
________________________________________
الحور العين:
جاء ذكر الحور العين في سورة الواقعة، والصافات، وسورة الرحمن.
أما سورة الواقعة، فتشبه الحور العين باللؤلؤ المكنون.
قال تعالى: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) .
أما سورة الصافات فتذكر أن الحور العين راضيات بأزواجهن قاصرات أنظارهن على رجالهن، وهن في صيانة أعراضهن كالبيض المحفوظ الذين لم تصل إليه يد عابثة قال تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)
وفي سورة الرحمن جاءت أوصاف جليلة للحور العين تكمل الصورة في الذهن. (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)
ثم جاء ذكر الحور العين مرة أخرى في مقام نعيم أصحاب اليمين، في قوله تعالى: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)
الحور: جمع حوراء، وهي شديدة البياض، قال القرطبي: يرى جسدها من تحت ثوبها (لفرط نورها) .
وقال الواحدى: أصل أحور أبيض، وعين حوراء: شديدة البياض، مع شدة سواد المقلة و (العين) جمع عيناء وهى عظيمة العينين من النساء.
والحسن - رضي الله عنه - يرى أن الحور العين من نساء الدنيا، بعد أن حسن الله خلقهن، وأعاد إليهن الشباب
وأبو هريرة رضى الله عنه يرى أنهن خلق جديد، خلقهن الله للجنة، فهن لسن من نساء الدنيا.
والنصوص القرآنية لم تتعرض لهذا الموضوع، ولكن ما روى من الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤكد أن الحور العين خلق جديد.
(1/56)
________________________________________
وقد استدل بعض الأذكياء على ذلك بقوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)
لأن نساء الدنيا لا ينطبق على مجموعهن هذا الوصف..
وإن انطبق على بعضهن.
ويكفى هذا الحديث عن الحور العين، وهو عطاء قرآنى وباقى أوصافهن نشاهدها في الجنة إن شاء الله.
زوجات الدنيا:
صالحات فُزْنَ وأزواجهن بالجنة والخلود، ودرجتهن عند الله أعلى من درجة الحور العين، لأن الفارق كبير بين مخدوم وخادم.
إنَّ زوجات الدنيا وصلن إلى الجنة بعد صراع وجهاد طويل، ولكن الحور خلقن في الجنة كأشجارها وثمارها.
والآن.. مع زوجات الدنيا الصالحات من وراء حجب الغيب.
سورة الواقعة: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ)
وإذا كان هذا التجديد والتحسين لأصحاب اليمين، فمثله وخير منه للمقربين من باب أولى.
(إِنْشَاءً) لا قبح فيه لصورهن، ولا أثر لمرور أحداث الدنيا عليهن.
يتساوين في الجمال بالحور العين، ويفضلن الحور بالسيادة.
روى ابن إدريس، عن ليث بن مجاهد، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، وعندها عجوز، فقال من هذه؟ فقالت عائشة: إحدى خالاتى،فقال: أما إنه لا يدخل الجنة عجوز، فدخل على العجوز ما شاء الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) خلقا آخر، يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، وأول من يكسى إبراهيم الخليل. ثم قرأ (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً)
إِنْشَاءً يظهر فيه ملامح الرضوان: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)
(1/57)
________________________________________
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) بكارة دائمة.
عربا جمع عروب. وهن المتحببات لأزواجهن المطيعات لهن.
الفصيحات بحبهن لأزواجهن، وأنشد لبيد:
وفي الحروج عروب غير فاحشة ... ربا الروادف يعشي دونها البصر
قال ابن القيم: فالله سبحانه جمع بين حسن صورهن، وحسن عشرتهن، وهذا غاية ما يطلب من المرأة.
إنَّ للكلمة الحلوة دور السحر في حياة الأزواج، والقرآن عندما يصف نساء الجنة بحسن العشرة فإنه يُعِدُّ نساءَ الدنيا لهذا الأمر العظيم. فالآية وعد وتربية.
وليت النساء المؤمنات يدربن أنفسهن على لغة الجنة. كالمهاجر يدرب نفسه على لغة مهجرة.
(أترابا) متساويات في السن.
لأول مرة تتساوى المرأة مع أمها، وجدتها في السن.
قال تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ) (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا)
فسورة الواقعة أكدت أربعة أوصاف:
1 - النشأة الجديدة التي تعالج ما تركة الدهر عليهن من آثار الحياة
2 - البكارة الدائمة
3 - حسن المعاشرة كما كان ذلك طبعهن في الدنيا
4 - تساويهن في السن، وثباتهن عليه، فلا يصيبهن الشيب
(1/58)
________________________________________
أما سورة البقر فتضيف إلى ذلك وصفهن بالطهر
والخلود: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
والطهر بهذا الإطلاق يشمل طهارة البدن والأخلاق.
فأخلاقهن طاهرة ولولا ذلك ما دخلن الجنة.
وأجسادهن طاهرة من الحيض لأنه لا حمل هنالك ولا ولادة.
وطاهرات كذلك من النجاسات. لأن طعام الجنة يهضم كله، فلا يترك الفضلات.
إنَّ مثل هذا التراث من الزوجات، تحرص النفس عليه كل الحرص، لذلك طمأن رب العالمين النفوس فقال: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
إن شعور الناس بحتمية الرحيل عن الدنيا يذهب بهجة كل شيء.
ولولا انشغال الإنسان عن هذا الشعور (الخانق) ما أدركنا في الدنيا شيئا جميلا.
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم ... وما خير عيش لا يكون بدائم
من هنا أَكَّدَ القرآن على قضية الخلود.. عند حديثه عن الزوجات المطهرات.
أما سورة آل عمران فتضم إلى طهر الزوجات: رضوان الله سبحانه لتجمع بذلك أطراف السعادة: (وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
والمرأة التي لا زوج لها في الجنة فالله وليها، يزوجها من الذين لا زوجة لهم. ومن لها أكثر من زوج في الجنة فهى لخيرهم خلقا كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1/59)
________________________________________
أما سورة الرعد فتذكر اجتماع الأسرة الطاهرة، وتبين حفاوة الملآئكة بهم، تكريما لجهادهم وصبرهم على تكاليف الحق.
إنَّ الملآئكة قد خلت عبادتهم من الصراع الداخلى، فهم يعبدون الله بما يوافق رغباتهم. بخلاف الإنسان، فإنه الكائن الوحيد الذي يعبد الله بعكس ما عليه رغباته.
ومن هنا كان الثواب والعقاب.
وقد أدركت الملآئكة هذا المعنى في عبادتنا فأكبرته. جاء في سورة الرعد: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ) .
وبعد إنَّ مجموع آيات القرآن في موضوع الزوجات الخالدات يؤكد أن النساء في الجنة نوعان.
النوع الأول: الحور العين.
النوع الثانى: زوجات الدنيا الصالحات بعد أن أعاد الله خلقهن وأنشأهن إنشاء جديداً يتناسب مع بقائهن في الجنة.
* بكارة دائمة.
* وشباب تتساوى فيه البنت مع أمِّها في السن.
* وفصاحة يعبرن بها عن حبهن لأزواجهن.
* ثم طهارة من الأنجاس والأرجاس.
وأكبر من كل شيء: رضوان من الله، وسلام عليهم من ملآئكة.
بهذا التكامل في العرض يحفظ القرآن على العقل البشرى استقامته في التصور للمغيبات، فلا يدخل عالم الغيب إلا بقنديل من صاحب الغيب. لأن صحة التصور ينشأ عنها رقى العقيدة.
(1/60)
________________________________________
ربط العمل بالجزاء
(جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ربط القرآن الكريم بين الجزاء والعمل.
وقد أَكَّدَ القرآن هذه الحقيقة، في كثير من الآيات قال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا)
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)
(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا)
(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) .
ولا تعارض بين ما قرره القرآن في كل آياته من ربط الأجر بالعمل وبين كرم الله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) .
وفى الموضوع عدة نقاط يجب أن نبينها:
أولا: الله سبحانه لا يقصر الأجر على النعيم، بل يشكر فاعل الخير على ما قدم.
قال تعالى: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا)
(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
(1/61)
________________________________________
(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ)
وشكر الله لهم هذا الجانب المعنوى من الجزاء الكريم بل هو أرقى هذا النعيم: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
ثانيا: يتسائل البعض؟ هل عظم الأجر، وشدة العقاب، تتناسب مع حجم العمل؟
أقول: لا.. إن الأجر هبة من الله لمن صدقت نيته في إطاعة أمره سبحانه وسيدنا إبراهيم الخليل، خير مثال لتجسيد هذا المعنى.
لقد امتثل لأمر الله بذبح ولده، فنسخ الله التكليف بمجرد أن حدث القبول، وقبل أن يحدث التنفيذ..
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)
وقد أخذ إبراهيم الأجر كاملا.
قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)
(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)
(الَّذِي وَفَّى) أي أتى بكل شيء وافيا. مع أن الذبح لم يتم، ولكن النية صادقة، والعزم موجود , والسنة المطهرة أخبرتنا بأن الله قد غفر لقاتل التسعة والتسعين، عندما صدق عزمه، ونصحت توبته.
ولا يمكن لأحد أن يقول أن التوبة التي تابها تساوى الجرائم التي ارتكبها. ولكنه كرم الله.
ومن ناحية العذاب فكل ذنب مرشح للتوبة , وإذا كان الشرك لا يغفره الله لمن مات عليه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)
ولا يقبل من المشركين عملهم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
(1/62)
________________________________________
فسبب ذلك أن الشرك خيانة عظمى، وخروج على قانون الكون العابد لله:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)
ومرتكب الخيانة العظمى لا يشفع له ماضيه.
إنَّ المشرك ضيع على نفسه فرصة الإيمان، والإيمان يجب ما قبله.
ولولا إصرار المشرك على كفره، لاستحق من العذاب بقدر عمره الذي عاشه فقط من باب السيئة بمثلها ولكن إصراره على الكفر، وعزمه على البقاء عليه لو عاش عمر الدنيا كلها، هو الذي خلده في النار.
فالنعيم كرم.
وجزاء الكفار عدل..
والخلود في الجنة والخلود في النار بسبب النية.
ثالثا: الدارس للقرآن الكريم يرى أن بعض الآيات القرآنية تنسب الفضل في دخول الجنة للمؤمنين.
بينما بعض الآيات الآخرى تؤكد أن دخولهم فيها محض فضل من الله سبحانه قال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ)
(أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) نسب الله الفضل للمؤمنين (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)
(1/63)
________________________________________
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
ومعلوم أن هذه الآيات وغيرها كثير ينسب الله الفضل فيها لأعمالهم.
وهناك آيات أخرى يتضرع المؤمنون فيها شاكرين لله سبحانه وينسبون فيها كل الفضل لله.
قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) .
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) .
فالآيتان الكريمتان تؤكدان أن الفضل كل الفضل لله. لأنه مكن لهم في الأرض، وأرسل الرسل، وهداهم إلى الطاعة.
فالمسألة من باب تبادل التحية بين الله سبحانه وبين ضيوفه في الجنة.
هم ينسبون كل الفضل له. وهذه حقيقة.
ويرد عليهم سبحانه بذكر الطيبات من أعمالهم.
وقد جمعت سورة الاعراف بين تحية المسلمين لله
وبين رد الله سبحانه عليهم قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) .
فرد عليهم سبحانه.
(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا هو الفهم الذي أرتاح له، والذى يتفق مع منهج تفسير القرآن للقرآن.
(1/64)
________________________________________
رابعا: ربط القرآن بين العمل والجزاء، هو القاعدة الإسلامية العامة التي يمكن أن نفهم في ضوئها ما ورد من أحاديث نبوية صحيحة، تقصر النجاة من النار على الإيمان وحده.
أخرج أبو داود، عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرمه الله على النار".
وعنه رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ (رواه أبو داود)
وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود
وهذه الأحاديث وأمثالها أجمع العلماء على أن ظاهرها غير مراد وقد أولها العلماء عدة تأويلات.
أولاً: قالوا أنها كانت قبل أن يشرع الله سبحانه فروع الشريعة.
وهذا التأويل لا أرتاح له، لأن عبادة بن الصامت من الأنصار، وقد دخل الإسلام بعد فرض الصلاة، وهى من الفروع كما نعلم.
ثانيا: يرى الإمام البخاري أن هذه الأحاديث تعنى أن يقول كلمة التوحيد، عند الموت، وقد تاب قبلها من المعاصى.
لأن ساعة الموت هى وقت الأمل لا وقت العمل.
وقد ذكر المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز، كلمة قَيِّمة في هذا الموضوع: قال: (قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث ذريعة إلى طرح التكاليف، وإبطال العمل، ظناً أن ترك الشرك كاف. وهذا يستلزم
(1/65)
________________________________________
طى الشريعة وإبطال الحدود وإن الترغيب في الطاعة
، والتحذير من المعصية لا تأثير له.
بل يقتضى الأخذ بظواهرها الانخلاع عن الدين، والانحلال من الشريعة.
ولكن الأحاديث إذا ثبتت صحتها، يجب ضم بعضها إلى بعض، لأنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل الحديث المطلق (كالأحاديث التي ذكرتها) على الحديث المقيد كالأحاديث التي تكلمت عن فروع الشريعة، ليحصل العمل لجميع ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والقرآن يربط بين العمل والجزاء كما أخبرتنا سورة الواقعة ليقطع بذلك أطماع الكافرين، وانحرافات أهل الكتاب، ولينشط الكسالى من المسلمين.
قال تعالى: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا) .
هذه في مقام الرد على المشركين. وإن كان اللفظ عامًّا
أما انحراف بعض أتباع الأديان وطمعهم في دخول الجنة بلا عمل فهذا شيء يرفضه القرآن.
فاليهود قالوا: نحن شعب الله المختار.
والنصارى قالوا: أبانا الذي في السماء.
فرد عليهم القرآن بقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) .
هذا.. ولم يجامل القرآن كسالى المسلمين الذين فرقوا بين الإيمان والصالحات من العمل. مع أن سنة القرآن الربط بينهما دائماً.
(1/66)
________________________________________
قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) .
إنَّ اعتناق الإسلام شرط لدخول (جامعة الازهر)
مثلا.. ولكن اعتناق الإسلام وإن حسنت درجته لا يكفى لتحقيق النجاح.
وقد توهم من قال: لا يضر مع الإيمان معصية. توهم وخالف منهج الله..
إنَّ الربط بين العمل والجزاء هو عدل الله المطلق. ثم لا حرج على فضله سبحانه.
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) .
جاء آدم إلى الدنيا ومعه (الكلمة) فأدركت الدنيا أبعاد هذا المخلوق في أداء ما خلق له من عمار الأرض.
لأنه بالكلمة سوف يقرأُ أسرار هذا الكون , فالكون كلمة قالها الله سبحانه فكان هذا الوجود كما أراده.
أدركت الدنيا أنَّ المخلوق الجديد سوف ينقل معارفه عن طريق الكلمة إلى الأجيال التي بعده. ليبدأ كل جيل من حيث انتهى سابقه.
فالكلمة حضارة. والكلمة عمران. والكلمة معارف. وليس ذلك لأحد سوى الإنسان.
أما غيره من الحيوان فإن استطاع أن يتقبل التعليم كحيوان السرك إلا إنه لا يستطيع أن ينقل معارفه المكتسبة إلى الجيل الثانى من ذريته.
جاء آدم إلى الأرض بنعمة البيان: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) .
وأصبح البيانُ شامة تميز هذا المخلوق في طريقه للهداية أو للضلال.
(1/67)
________________________________________
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)
فهو يستطيع أن يخاصم، وأن يطالب بحقه، وهو يبين حجته، ويجعل من نعمة البيان سلاحا ينصر به الحق أو يعتدى به على الآخرين، ظلت حياة الناس (كلمة) في كل عصر، فالكلمة كما يقول ابن القيم الجوزية: بيان للفكرة وإرشاد للحجة، وتبصرة وعبرة.
(الكلمة) فكرة في آية، ودلالة على رشد، وإرشاد من غى و (الكلمة) أمر بمصلحة، ونهى عن مفسدة وهداية إلى نور. إخراج من ظلمة، وزجر عن هوى، وجلاء لبصيرة، وإيضاح لبرهان، وتحقيق لحق، وإبطال لباطل.
هذه بطولة الكلم المؤمن والبيان الهادي.
أو قل: هذه صورة مجتمع الجنة كما صورها القرآن: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا)
ونفى سماع اللغو أعم من نفى قوله، فقد يتعفف الإنسان عن النطق باللغو ولكن يقع في مسامعه.
نفى سمعه يفيد نظافة المجتمع كله من اللغو.
والقرآن عندما يصف مجتمع الجنة فإنه يرسم المنهج لمجتمع المؤمنين في الدنيا. فمن عزم على الهجرة حاول أن يتخلق بأخلاق المهجر الذي سيأوي إليه. وهذه لمحة قرآنية في مجال التربية بعيدة عن الأوامر والنواهي، لثقلها على النفس:
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا)
(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً)
(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)
(1/68)
________________________________________
والطيب من القول تسبيح ودعاء. تسبيح يتلذذون به، فقد أدركوا حلاوة الإيمان. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
وحمدهم لله على، أنعمه التي لا حدود لها دليل على أصالة طبعهم ونبيل أخلاقهم (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)
هذه صورة لمجتمع الجنة: وقد تهيأ لها المؤمنون في الدنيا ودربوا أنفسهم عليها، حتى لا يجدوا غربة في الجنة.
لقد وصفهم الله في الدنيا بما وصفهم به في الجنة، قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)
كما وصف القرآن المؤمنين من أهل الكتاب في بنفس الوصف الذي وصف به المؤمنين من أمة القرآن.
ليبين أصالة الخلق في كل عصر: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)
وإذا تميز مجتمع الإيمان بالكلمة المؤمنة الطيبة فإن لمجتمع النفاق كلمة خبيثة، ولخصوم الإسلام فنون في حربه بالكلمة، بعد أن فشلت جميع الوسائل العسكرية في الحرب الصليبية.
يقول صاحب الظلال في تفسير قوله تعالى:
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)
قال: كالذين يتحدثون عن الغيب وهو أصل من أصول العقيدة حديث الاستهزاء.
والذين يتحدثون عن الزكاة وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار.
(1/69)
________________________________________
والذين يتحدثون عن الحياة والعفة وهي من مبادئ هذا الدين بوصفها من مبادئ المجتمعات الإقطاعية الزائلة.
والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار واستنكار.
والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظها وتحفظ عفتها بأنها أغلال.
والذي ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس، هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالي: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)
ومن هجومهم السافر على الإسلام يدعون الانتساب إليه: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)
وإذا كان القرآن قد أخبر أن أهل الكتاب يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم لأن هذه المعرفة لا تستهدف البحث عن الحقيقة، ولكنها تستهدف البحث عن نقاط القوة في هذا الدين، لمحاولة صرف الناس عنه بفنون من الكلمة في مجال الأدب والفن ووسائل الأعلام العالمية.
فهذا كاتب عربي كبير يغمز الشريعة الإسلامية فيقول: من الذي سيقطع يد السارق؟ هل الطبيب؟ أم الجزار؟
ويردُّ عليه الأستاذ عبد القادر عطا: إذا كان الطبيب هو الذي سيقطع يد السارق، فإن الجزار سيقطع لسان المارقين المتمردين.
ومنهم من يغمز المقدسات، ويسخر من ليلة القرآن ليلة القدر ويقول عنها باستخفاف إن الله سبحانه يقيم فيها (أوكزيونا) لعبادة بسعر الجملة أسهل وأرخص!..
(1/70)
________________________________________
هل هذا كلام يليق بالله سبحانه وبالليلة التي بدأ فيها نزول القرآن؟.. وإذا تحدث عن الشريعة اتهامها بعدم الصلاحية.. ويطالب بإلغائها باسم التطور فيقول إن الشريعة الإسلامية ليست صالحة لكل زمان ومكان، وإن الصحابة غيروا الأحكام التي شرعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسب تغير العرف والمصلحة، لظنهم أن الرسول لم يصدر حكمه إلا في ضوء الظروف القائمة.
كل هذا يقال وينشر في أوسع الصحف العربية، وكاتبه يحمل اسم من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبشِّرُ بدولة علمانية لا تؤمن بالله.
إنَّ تلاميذ الغرب في بلاد محمد - صلى الله عليه وسلم - يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.
يقول صاحب كتاب (الله والإنسان) :
والخير والشر خضعا لناموس التطور. فتغيرت معاني الرذيلة وتغيرت معاني الفضيلة. كانت المرأة رمزاً للشيطان، وكانت الغريزة الجنسية خطيئة تحمل المرأة وزرها وحدها، فأصبحت الغريزة الجنسية حالة (فسيولوجية) تنظم لصالح المجتمع ومسرة أفراده.
فانظر كيف يعبث أصحاب هذه الأقلام بالكلمة.
يهاجمون الحق ويصدون عن سبيل الله.
إنَّ القيم ثابتة ثبوت القوانين الكونية لأن الذي وضع القوانين الأخلاقية هو الذي قنن القوانين الكونية من جاذبية ومدٍّ وجزر.
قال تعالى في ثبوت القوانين الكونية:
(لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)
فقوانين الكون ثابتة، قال تعالى عن القونين الشرعية:
(لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)
فقوانين الشريعة ثابتة أيضا.
ومن الذي قال إنَّ المرأة رمز للشيطان؟
أي نص من نصوص الإسلام قال هذا؟
وإذا كان الكاتب يعني بذلك نصوص التوراة فلماذا أطلق كلامه ليغمز الإسلام؟
وأى جراءة جعلت هذا الكاتب يبيح الخطيئة باسم التطور؟
(1/71)
________________________________________
إنه الهدم لكل شيء حتى يفسحوا الطريق للعلمانية.
إنني أحمد الله أن نور الحق قد جذبه هذا الكاتب، فأصبح صاحب كتاب (الله والإنسان) من الدعاة إلى الحق وفَّقه الله بعد أن كان ملحداً.
وناهيك بما وقع نظري عليه الآن وأنا أراجع هذه الصفحات لإعادة طبعها. فقد نشرت جريدة أخبار اليوم القاهرية في 19/11/1988 أن الكاتب الهندي سلمان رشدي صاحب كتاب (قصائد شيطانية) الذي صادره (راجيف غندى) وأمر بمنع تداوله ولكن هذا الكتاب قد حصل على أكبر جائزة في الأدب ببريطانيا.
هكذا يُكافأ من يسيء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويجند الإعلام العالمي في رفع اسمه، بينما يقبر أصحاب المواهب الكبيرة إن ثبت ولاؤهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
(إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)
والسلام كلمة، ولكنها وسعت الدنيا بالخير.
سلام عليكم من الله لو قسم على العالمين لوسعهم.
لقد سلم الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء فقسم النبي هذا السلام على كل عباد الله الصالحين.
إنَّ سلام الله على المؤمنين سلم وسلامة.
سلم من أهوال الحياة ومخاطرها وشقائها، وسلامة من خزي الآخرة وعذبها. (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)
ويظل سلام الله عليهم من كل المخاوف حتى تودعهم الملائكة بقولهم: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
ويتلقاهم ربهم بسلام الخلود، بسلام لا نهاية لأبعاده النفسية أو الخارجية: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)
(1/72)
________________________________________
وبعد. إنَّ التصوير القرآني لنعيم المقربين يهدف إلى رسم منهج للتربية يغنى هذه الأمة عن (تسول) مناهج التربية من الشرق أو الغرب لأن تسول الغنى ذلٌّ وعارٌ.
***
أصحاب اليمين ونعيمهم
بعد أن بينت السورة الكريمة نعيم المقربين وملامح الترف فيه بدأت الحديث عن أصحاب اليمين ونعيمهم , قال تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) .
أصحاب اليمين هم أصحاب القوة في الحق، وقد أطلق على القسم اسم (اليمين) لأنه يقوى الكلام. ومنه قوله تعالى: (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ)
أى عن القوة في الدين.
وقد ورد في الشعر استخدام اليمين بمعنى القوة:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمن
قال الفراء: أي بالقوة.
وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتى بيمينى
وتستعمل اليمين في لغة العرب بمعنى التبجيل والتعظيم.
يقال: فلان عندنا باليمين، أي بالمحل الجليل.
(1/73)
________________________________________
ومنه قول الشاعر:
أقول لناقتى إذا بلغتنى ... لقد أصبحت عندى باليمين.
أى بالمحل الرفيع.
واليمين هو الجهة التي تقبل جهة الشمال.
ومن باب الاجتهاد فقط أقول ربما كانت (جنة أصحاب اليمين) على يمين عرش الرحمن..
وهذا مجرد اجتهاد في فهم اللفظة القرآنية، لم اهتد لدليل عليه..
وربما لأنهم يتسلمون كتبهم بأيديهم اليمنى..
(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ)
كانوا أقوى في الدنيا.. لذلك قالوا للباطل في كل عصر.
(إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ)
وقالوا لفرعون (أي عصر) : وطاغية كل زمان: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
كانوا أقوى من أنفسهم، فقهروا شهوتهم، وهذبوا رغباتهم..
والنفس كالدابة. إن علوتها حملتك، وإن علتك قتلتك..
إنَّ قوتهم أورثتهم عز الدنيا والآخرة: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
بين المقربين وأصحاب اليمين:
عرفنا من سير المقربين، أنهم عاشوا مع الله بغير خلق، ليخلصوا عبادتهم لله.
(1/74)
________________________________________
وعاشوا مع الناس بغير نفس، ليخلصوا أنفسهم من الأنانية، وعاشوا مع أنفسهم في دوام مراقبة لله.
نطقوا بالشهادتين، بناء عن مشاهدتهم لعظمة الله.
وصلوا لله، فكانت تكبيرة الإحرام ساترا بينهم
وبين الدنيا.
وصاموا عن التفكير في غير الله، وهو صوم خصوص الخصوص.. كما سماه الإمام الغزالي
فرحوا بما أنفقوا في سبيل الله، أكثر من فرحهم بما أبقوا في أيديهم.
وخافوا أن تُرَدَّ عليهم طاعتُهم أكثر من خوفنا من معاصينا: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
ولكن ليس كل الناس يقوى على هذا السبق.
ليس كل الناس يستطيع أن يصل إلى فناء مادته، ليشهد حقيقة بقائه.
من هنا كان مقام أصحاب اليمين تفضلا من الله على من صدقت نيتهم وقصرت هممهم.
وكثيرا من أصحاب النفوس الكبيرة، والعزائم القوية، يحول بينهم وبين السبق، شظف العيش، وقلة ذات اليد.
ونحن نرى الطالب النابه الزكى، قد يحول بينه وبين تحصيل الأولية انشغاله ببعض الأعمال، التي يستعين بها طالب العلم.
قال الشاعر:
كم طوى الفقر نفوسا لو رعت ... منبتا خصبا لكانت جوهرا
ومن هنا كان مقام أصحاب اليمين، محض فضل من الله، لمن فاته مقام المقربين.
والآن.. مع نعيم أصحاب اليمين.
قال تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ)
(1/75)
________________________________________
تفسير الآيات:
السدر هو شجر صغير الورق.
وسدر الجنة مخضود، لا شوك فيه، ولأمر ما خلق الله عند باب جنة المأوى، شجرة سدر هى سدرة المنتهى قال تعالى: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)
(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح: شجر كبير الورق كشجر الموز.
قال القرطبى: هو شجر الموز.
قال الزجاج: هو كل شجر كبير الورق عظيم الشوك، أما شجر الجنة فلا شوك فيه.
والمنضود: المنظم المرتب، والقرآن قد ذكر في نعيمهم أصغر الأشجار ورقا وأكبرها ورقا. ليشمل كل ما بينهما من أنواع. والتعبير بقوله تعالى (فى سدر) يفيد أن النعيم يحيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف.
(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) إنه ظل العرش.
والجنة لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا، ولكن القرآن يلمس نفسية رجل البادية الذي يسارع إلى الظل وينعم به، والظل الممدود أمنية للجميع.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)
(هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ)
(وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)
بذكر الماء المسكوب لوفرته تتم السعادة.
وقد تقدم الحديث عن الماء والشراب في نعيم المقربين، كما تقدم الحديث عن الطعام والفاكهة والزوجات الخالدات
(1/76)
________________________________________
وإذا كان المقربون (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)
فإن أصحاب اليمين بفضل الله ورحمته.
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)
أصحاب الشمال وجزاؤهم:
بعد أن بينت السورة الكريمة جزاء المقربين وأصحاب اليمين شرعت في بيان أصحاب الشمال قال تعالى:
(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ)
لم يأت التعبير هنا على منهج القرآن في الإيجاز، فلم يقل إنهم في النار. بهذا الإيجاز الذي تعودناه في الأسلوب القرآني ولكن قال: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ)
فما سر هذا الإسهاب؟
إنَّ القرآن أتى على مواطن الراحة والبرد وهى الهواء والماء والظل.
وأخبر أنها مصادر التعذيب ليقطع عليهم كل أمل.. فالهواء سموم.
والسموم: هو الهواء السام الذي يدخل من مسام الجلد فيهلك صاحبه مع أن الناس يلتمسون الراحة في الهواء البارد.
والماء.. مصدر الحياة والراحة ومنظره يذهب الحزن ولكن الله جعله حميم ليعذبهم به: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)
(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)
(1/77)
________________________________________
وفوق الشرب منها يصب عليهم الحميم.
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ)
بقى أمامهم أمل واحد لقد انعقد أملهم على الظل فتلاشى الأمل قبل وصولهم فالظل هناك: (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ)
إنَّ ظل النار: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ)
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)
ولذلك ينتهى كل أمل ويبقى التسليم المطلق: (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ)
ثم تذكر السورة الكريمة أسباب العذاب.
وقد سبق أن ناقشت معكم حجم العمل وحجم الجزاء , وانتهينا إلى أن النعيم فضل والعذاب عدل.
والآن مع أسباب العذاب كما ذكرتها سورة الواقعة.
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)
والترف في حد ذاته نعمة. والمال خير. ولكن الإنسان كنود يحارب الله بنعمه ومنذ عهد نوح - عليه السلام - والمترفون زعماء المعارضة للحق: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)
الإصرار على الشرك:
أعظم ما يقع فيه الإنسان أن يخطئ مع الله , وأعظم من ذلك أن يصر على الذنب.
لقد قال العلماء لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار.
(1/78)
________________________________________
فكيف إذا كان الإصرار على الشرك وهو الخيانة العظمى التي لا تغفر ولا ينفع معه طاعة.
إنَّ جزاء المعصية بمثلها وكان مقتضى ذلك أن يعذبهم الله على قدر عمرهم الذي أشركوا فيه. ولكن إصرارهم على الشرك، وعزمهم على البقاء فيه، مهما امتدت أعمارهم، هو سبب خلودهم في الجحيم.
قال تعالى: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ)
وقد أطلق القرآن على الشرك اسم (الحِنْث)
لأنه نقض لعهد الله على الفطرة الإنسانية.
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي)
هذا العهد الذي صرح به القرآن في قوله تعالى:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)
وهذا العهد سيبقى في ضمائر الموحدين إلى أن نلقى الله.
وكانوا يقولون: (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)
منذ عهد نوح عليه السلام وقضية الإيمان بالبعث هى العقبة أمام العقول الصغيرة التي لا ترقى إلى إدراك قدرة الله.
فقد أثارها العقل القديم في عهد نوح - عليه السلام -.
قال تعالى: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)
ويمتد هذا المنطق إلى كل جاهلية في أي عصر. ليؤكد أن ملاحدة اليوم يعيشون على فتات موائد الإلحاد القديم.
وإن اختلف الثوب الذي يظهر فيه هذا الضلال.
(1/79)
________________________________________
وهذا الأمر يفرض علينا أن نذكر أهم شبههم ثم نذكر ردود القرآن عليها.
إنَّ أدلة القرآن نقلية من جهة الثبوت , عقلية من ناحية الدلالة , فهى تجمع بين نوعى الدليل العقلى والنقلى.
شبهات الملاحدة ورد القرآن عليها:
لكل عصر فكر ولكن شبهة الملاحدة واحدة في كل عصر.
قد تشابه منطقهم , لتشابه قلوبهم.
قالوا الأجسام تفنى بعد الموت فالبعث يستلزم الايجاد من العدم.
فرد عليهم القرآن بذكر النشأة الأولى قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
والخلق الأول (خلق إبداع)
والخلق الثانى (خلق إرجاع)
وخلق الإرجاع أهون من خلق الإبداع في تصور العقل البشرى لذلك قال تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)
أما بالنسبة لحقيقة قدرته تعالى فكل شيء عنده سواء لأنه يقول للشئ كن فيكون.
لذلك ختمت الآية بقوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
من النطفة إلى البعث:
إن القرآن الكريم يربط دائما بين الحديث عن الأجنَّة والحديث عن البعث لأن تكوين الجنين في بطن الأم صورة من تكوين أجسادنا في رحم الأرض.
قال تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ)
(1/80)
________________________________________
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)
وفى كل مرة يتحدث القرآن فيها عن الأجنَّة، فإنه يربط بينها وبين البعث، لأن خلق الإبداع هو أقوى دليل على خلق الإرجاع.
بين الطعام والبعث:
وقد لاحظنا أن القرآن الكريم يربط بين الحديث عن الطعام وبين البعث.
قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)
(كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) : انتقال من الطعام إلى البعث ونرى هذا في سورة النبأ (آية 14) وما بعدها.
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)
ثم قال بعدها: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)
وبعدها في ترتيب المصحف سورة النازعات.
قال تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)
ثم قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى)
ذكر القيامة بعد ذكر الماء والمرعى.
وتليها سورة عبس.
قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)
ثم عدد أنواع الطعام: (حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ)
فى كل هذه السور يتحدث القرآن عن الطعام , ثم ينتقل إلى الحديث عن البعث.
والعلاقة بينهما هامة جليلة.
فالطعام الذي نأكله لا حياة فيه فإذا تمَّ هضمه تحول إلى خلايا حيَّةً يتكون منها الجسم وهذه صورة ملموسة لتحويل الكائنات الميتة إلى خلايا تنبض بالحياة. وهو معنى قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)
(1/81)
________________________________________
فأيُّ صعوبة في الإيمان بالبعث والشواهد تتكرر في داخلنا كل لحظة لتؤكد هذا الاعتقاد.
شبهة تداخل الأجسام:
قالوا: إن الأجسام تتحلل وتتداخل في بعضها وتختلط بالأرض ويصعب فرزها لإعادتها. فكيف تبعث الأجسام؟
والقرآن قد حكى شبهتهم في سورة السجدة ثم رد عليها.
قال تعالى: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)
وختام الآية بقوله: (هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)
يؤكد أن هذا التشكيك سببه عمى بصيرتهم عن إدراك قوة الله.
على أنَّ الإمامَ أبا حامد الغزالي، لا يرى مانعا من القول بأن الله سيخلق أجسام جديدة. يخلقها الله يوم القيامة ليضع فيها النفس التي عاشت في الدنيا والنفس هى مجال الإدراك وبها الشعور.
ولكن القرآن دفع الشبهة من أصلها عندما روى لنا قصة إبراهيم والطير , قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)
(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)
(قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
فالطيور ذبحها إبراهيم عليه السلام ثم خلط لحمها بعظمها ووزعها على الجبال ثم دعاهن إليه فأتين سعيا لم تختلط ريشة من ريش نوع بنوع آخر ولا منقار نوع بمنقار نوع آخر.
(1/82)
________________________________________
واختار سبحانه الطيور بالذات لشدة نفورها عادة من الإنسان , فحضورها إليه طائعة أبلغ في الدلالة (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)
هذا المقطع القرآني لم يتكرر في القرآن.
فهو لم يرد في كل القرآن سوى مرة واحدة وذلك عندما جاء رجل مشرك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم قطعة عظام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له هل يستطيع ربك أن يحيى هذه بعد موتها؟ مستكثراً على الله أن يعيد الأجسام , بعد اختلاطها بالأرض.
فنزل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)
فيعلم ما تنقص الأرض منه ويعلم مصير كل جزئية من الكون.
يعلم ذرات من يحرق بالنار ويجمعه.
ويعلم ما يأكله السمك من أجسام الغرقى ويجمعه.
ويعلم مصير كل عنصر تحلل , وأصبح غذاء للنبات. لأن كل ذرة خلق.
وهو بكل خلق عليم.
فالقرآن الكريم قد تتبع كل شبهة أثارها خصوم العقيدة وأجاب عنها. لينفض عن عقيدة البعث أدران المبطلين.
وفى سورة الواقعة سجل القرآن ما يدور في نفوس المعارضين , الذين استكثروا على الله إحياء آبائهم الذين طال عهدهم بالتراب وإحيائهم بعد موتهم. فرد عليهم القرآن بأن إحياء الأولين والآخرين أمام قدرة الله سواء.
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)
(1/83)
________________________________________
قدم القرآن بعث آبائهم على بعثهم لتحقير شبهتهم ثم أثبت سبحانه أن الأولين والآخرين سيجمعهم الله في يوم مقدر معلوم.
وإذا كان جمع الناس في مكان واحد لا تتسع له عقول المنكرين فقد أَكَّدَ القرآن ذلك.
قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ)
إنَّ الله لا ينسى أحداً من خلقه لأنه بكل خلق عليم وإحياء الناس جميعا عند الله كإحياء النفس الواحدة..
(مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ)
وقد عالجت القصة القرآنية موضوع البعث عندما ذكرت قصة الرجل الذي قتله بنى اسرآئيل واختلفوا في قاتله، فأمرهم أن يذبحوا بقرة، ويضربوه ببعضها، فأحياه الله.. والقصة بتمامها في سورة البقرة (آية 67 وما بعدها) . وقصة الرجل الذي مرَّ على قرية وهى خاوية على عروشها. سورة البقرة (آية 259) .
وتحويل عصا موسى إلى حيَّة تسعى صورة لإحياء الموتى.
بل لخلق الحياة في الجماد.
وقد أسهبت في هذا الموضوع في كتابى (تريبة القرآن يا ولدى) بما يغنى عن الإعادة.
ثم واصلت السورة الكريمة الحديث عن عذابهم بعد أن أكدت عودتهم.
قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ
الدِّينِ)
(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ)
وشجر الزقوم ليس معروفاً في الدنيا..
(1/84)
________________________________________
ولكن التسمية شاقة على الحنجرة عند النطق بها فتوحى هذه المشقة بصورة الشجرة في النفس.
والتزقم، هو البلع بصعوبة، لكره المبلوع..
وقد جاءت آيات أخرى في مواضع مختلفة في القرآن توضح الأمر.
قال تعالى في سورة الصافات: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)
ويجب أن نقف قليلا عند هذه الآية الكريمة، لنسجل بعض المعانى..
شجرة الزقوم فتنة للظالمين.. (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ)
وقد أكدت سورة الإسراء هذا المعنى في قوله تعالى:
(وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)
فالرؤيا هى الإسراء والمعراج , والشجرة الملعونة في القرآن هى شجرة الزقوم , ووجه الفتنة فيهما أن الأمرين لا يصدق بهما إلا عقل مؤمن.
أما أصحاب العقول الصغيرة من الملاحدة فيصعب عليهم الإيمان بإسراء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصعب عليهم التصديق بوجود شجرة في قاع جهنم.
وقد ذكرت في كتابى (حتى لا نخطئ فهم القرآن) الجزء الثالث: أن بعض الكائنات الدقيقة يمكنها أن تعيش في جو شديد الحرارة يصل إلى (150) درجة وهذه الدرجة أعلى من درجة انصهار بعض المعادن , كالرصاص والقصدير , وفى الوقت نفسه يمكنها أن تحافظ على حياتها في درجة برودة (الصفر المطلق) أي في حوالى (273) درجة تحت الصفر فهى تتحمل فرق مناخ:
= 150+273= 423 درجة.
(1/85)
________________________________________
فكيف يصدقون هذا؟.. ويصدقون من أخبار العلم أعجب من هذا , ثم يتطاولون على الله؟ (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)
فى القبح , وهذا تشبيه بالتخيل , لأن القارئ لم يشهد رؤوس الشياطين ولكن النفس تشبه الشيء القبيح برؤوس الشياطين , والشيء الجميل بالملاك مع أنهم لم يروا الملآئكة.
وقد وصف النسوة يوسف عليه السلام بأنه ملك كريم , قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)
(فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)
امتلاء البطن من هذا الطعام لون جديد من العذاب. لأنه طعام تفرض عليهم الخزنة أن يأكلوه كما يفرض عليهم الجوع ذلك. فإذا وصل هذا الطعام إلى معدتهم , فسورة الدخان توضح ما يحدث فيها.. (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)
أما سورة الحاقة فتخبر عن طعام أسمته (غسلين) .
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ)
والغسلين حفظنا الله جميعا منه هو ما يسيل من غسل الجروح من قيح وصديد فهو على وزن فعلين من الغسل. كما قال الآلوسى.
وسورة الغاشية ذكرت (الضريع) قال تعالى: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)
والضريع شوك ترعاه الإبل رطبا وتعلفه يابساً , وما أشد يبوسته في النار. فالأطعمة في النار ثلاثة.
ولكل فريق ما يستحقه من طعام , فمنهم آكل الزقوم , ومنهم آكل الغسلين، ومنهم آكل الضريع
(1/86)
________________________________________
قال تعالى: (لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)
ومع هذه الأوصاف الشديدة للطعام فإنهم يأكلون فيملؤن بطونهم مما يلجئهم إلى شرب الماء , يلتمسون فيه إطفاء النار , فإذا هو حميم.
ومع ذلك فهم يشربون شرب الهيم.
والهيم مرض يصيب الجمال فتشرب ولا تشبع وتظل تشرب حتى تنفجر وتموت.
قال تعالى: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ)
والهيم: أيضاً الأرض ذات الرمال لا تحتفظ بالماء ولو سكب فوقها. ومع كل هذا البلاء فالملآئكة تسخر منهم من تضاعف آلامهم. (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)
فما قيمة كل متاع الدنيا بجوار هذا العذاب؟
لا خير في لذة يعقبها نار.
حقيقة الجزاء بين الدين والفلسفة
اتفقت الأديان جميعا على عقيدة الجزاء. وإن اختلفت في تفصيل هذا الإيمان. لأن الترغيب بالجنة , والترهيب من العذاب هو الضابط الصحيح لسلوك كل المتدينين.
ومن قبل الأديان ومن بعدها , آمن الفلاسفة بعقيدة الجزاء وحتميته.
لأن الفلاسفة يؤمنون بحتمية العدل المطلق , ولم يجدوه في الدنيا , فآمنوا بمرحلة يتحقق فيها هذا اللون من الكمال. ولأنهم آمنوا بالنفس واعتبرها أفلاطون جوهراً بسيطاً غير مركب , فهى لا تقبل التجزئة , ولا الفساد.
ومن هنا آمن الفلاسفة القدامى بخلود النفس.
وامتد الإيمان بخلود النفس إلى الفلاسفة المحدثين عندما آمن (كانت) بخلود النفس , بناء على مذهبه في فلسفة الأخلاق , فالواجب عنده فطرة.
والله الذي غرس هذا الواجب في الفطرة البشرية , لا يسوى بين من أدى تكاليف هذا الواجب ومن قصَّر فيه
(1/87)
________________________________________
خصوصاً وأنهم آمنوا بحتمية العدل المطلق.
فمسألة الحياة بعد الموت مسألة عقلية، وليست مجرد اعتقاد متوارث.
ومع اتفاق الفلاسفة وأتباع الأديان في الإيمان بالجزاء إلا أن صورة الإيمان تختلف فأصحاب الديانات السماوية جميعا يؤمنون بالجزاء المحسوس، مع إيمانهم بالجزاء المعنوى، وقد توهم بعض المستشرقين عندما ادعى أن القرآن وحده هو الذي جسد النعيم والعذاب. واعتبر هذا الجزاء من نبع التصور البدوى. لينفى نزول القرآن من عند الله.
وقد تصدى لهذه الدعوة الباطلة المرحوم عباس محمود العقاد، وأثبت أن كل الديانات السماوية تؤمن بالجزاء المحسوس. ونقل رحمه الله عديد من نصوص العهد القديم، والجديد تثبت مادية الجزاء.
قال رحمه الله:
فالأنبياء والقديسون، في جميع الأديان الكتابية، قد تمثلوا النعيم المحسوس , في رضوان الله ووضعوه على هذه الصفة في كتب العهد القديم والعهد الجديد , وفى كتب التراتيل , والدعوات.
ففى العهد القديم يصف (أشعياء) يوم الرضوان في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر (أشعياء) فيقول
(يضع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن.
وليمة خمر على دردى سمائن , ودردى مصفى , ويفنى من هذا الجبل وجه النقاب , النقاب الذي على كل الشعوب , والغطاء المغطى به كل الأمم يبلغ الموت إلى الأبد , ويمسح السيد الرب الدموع من كل الوجود) .
فالعهد القديم يؤمن بالجزاء المحسوس. كما صور لنا هذا النص.
ثم ساق رحمه الله نصوصا أخرى من العهد الجديد تثبت الجزاء المحسوس.
يقول يوحنا الإلهي - في الإصحاح العشرين: متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه , ويخرج ليضل الأمم , الذين في جميع زوايا الأرض , (يأجوج ومأجوج) وعددهم مثل البحر.. فنزلت
(1/88)
________________________________________
نار من عند الله من السماء وأكلتهم.. وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت.. وكل من لم يجد مكتوبا في سفر الحياة. طرح في بحيرة النار.
وكانت آمال النعيم المحسوس تساور القدسين في صدر المسيحية , فضلا عن عامة العباد بين غمار الدهماء ومن أشهر هؤلاء الأقطاب المعدودين رجل عاش في سوريا في القرن الرابع الميلادى وترك بعده تراتيل مقروءة يتغنى بها طلاب النعيم.
وهو القديس (أفريم) الذي يقول في أحد هذه التراتيل (ورأيت مساكن الصالحين رأيتهم يقطر منهم العطر , ويفوح منهم العبير. تزينهم صفائر الفاكهة والريحان , وكل من عف عن خمر الدنيا تعطشت إليه خمور الفردوس، وكل من عف عن الشهوات تلقته الحسان. في صور طهور)
فأتباع الأديان السماوية جميعا يؤمنون بالنعيم المحسوس.
فليس بدعا من القول ما سجل القرآن من نعيم وعقاب محسوس. ولم ينفرد القرآن بذلك كما ادعى المستشرقون.
إنَّ التعبير بالمحسوسات كما جاء في القرآن تعبير يفهمه الخواص والعوام.
أما التعبير بالمعانى المجردة والحقائق المثالية , فلغة يفهمها الخواص فقط.
ومعلوم أن كل الناس ليسوا فلاسفة.
الجانب المعنوى من الجزاء:
اهتم القرآن الكريم بالجانب المعنوى من الجزاء كما اهتم بالجانب الحسى منه.
وذلك لأن القرآن يخاطب العامة والخاصة بالآية الواحدة.
ولكل من الجماعتين تصوره الخاص به.
وسوف نوجز بعض أنواع النعيم الغير محسوس. أو النعيم المعنوى في القرآن الكريم.
(1/89)
________________________________________
رضوان الله:
الشعور برضوان الله عليهم يتضائل أمامه كل شعور بالنعيم , لأنهم أدركوا حقيقة القرب. وزال عنهم حجاب الغفلة.
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
إنَّ من عرف ربه. وعاش في معيته يدرك الأبعاد النفسية لرضوان الله عليه. ويدرك كيف يصغر كل نعيم محسوس أمام هذا الرضوان.
لقد قضى المؤمنون حياتهم ينشدون هذا الرضوان. وتسابق الأنبياء لنيله. فموسى عليه السلام تعجل في ترك قومه حتى عاتبه الله على عجلته. من أجل الحصول على رضوان ربه: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)
وسليمان عليه السلام عندما أدرك حديث النملة تبسم ضاحكا من قولها.
ثم استدار يطلب من الله أن يوفقه لعمل يرضيه سبحانه شكرا له على موفور نعمه: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)
وإذا كان كثير من الناس يسعى في كل اتجاه لأرضاء من يملكون كلمة مسموعة , أو جاها نافعا لدنياهم. ففقير يعتز بفقير. (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)
أما الذين أدركوا حقيقة التوحيد، وآمنوا بالقدرة الكبيرة المدبرة للكون، وتوكلوا على الله حق التوكل، فقد أيقنوا أن كل شيء يصدر عن الله يصدر لحكمة. وإن غابت عنا.
أيقنوا أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه.
وأن ما نضيق به من صنوف القدر ما هو إلا وجه لعملة الوجه الثانى لها
(1/90)
________________________________________
هو الخير وأنهم لو علموا الغيب لاختاروا الواقع فبلاء يوسف عليه السلام أوصله لرئاسة خزائن الأرض..
آمنوا بالله مدبر الأمر , فسرهم كل ما يأتيهم
من عند الله.. وهذا معنى رضاهم عن الله
أما رضى الله عنهم فهو أعلى درجات العطاء كما أسلفنا
. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)
هذا.. وليس بعد الرضى درجة. إذ لوكان بعده درجة أعلى منه ما وقف وعد الله لنبيه عند حد قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)
الأمن والسكينة:
كل نعيم يخلوا من الأمن فهو سراب. لأن النفس لا تجمع شعورين متناقضين في لحظة واحدة أبدا، وكلما زاد النعيم مع فقد الشعور بالأمن زاد الخوف فمالك الملايين يكبر خوفه بمقدار ما يملك , لذلك من الله على المؤمنين بنعمة الأمن في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)
ويتجلى هذا الأمن في دار النعيم , حيث تتسع الملكية لكل مرغوب فيه , وكلما اتسعت الملكية زادت الحاجة إلى الأمن.. كما قلنا.
(إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)
(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
(1/91)
________________________________________
فالأمن النفسى , ورضوان الله. أكبر من كل نعيم محسوس.
ذهاب الأحزان:
نعيم الجنة مصحوب بالشعور النفسى بدوام هذا النعيم..
وسبق أن قلت: إنَّ اتساع الملكية في الدنيا يولد الخوف من زوالها.
وهذا الشعور ينقص الإحساس بالسعادة.
أما في الآخرة فسعة الملكية مصحوبة بالأمان على دوامها. فهم لا يحزنون بفقد ما يملكون. ولا يحزنون لموت عزيز عليهم، لأنه لا موت في الآخرة..
ولا يحزنون ببعد حبيب عنهم: (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) ولا يحزنون فيها لأن مصائب الدنيا كانت فتنة لهم. والجنة لا امتحان فيها..
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)
(فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
وقد أدركوا عظم نعمه سبحانه وشكروا له إحسانه..
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)
فالشعور بالرضوان , والأمن النفسى , والنظر إلى وجهه سبحانه وشكر الله لهم , وتحية ملآئكته.
كل هذا يمثل بعض النعيم المعنوى. وناهيك بإصلاح بالهم: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)
(1/92)
________________________________________
الحسنى وزيادة:
ومن النعيم المعنوى ما يرمز إليه قوله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
فقرة العين نعيم معنوى.. وكل ما نعلم من أخبار الجنة واقعها خير منه فقد أعدَّ الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر , كما جاء , في الحديث القدسى وعندما نتابع دراستنا لسور القرآن الكريم يتجلى لنا بعض مشاهد الحسنى والزيادة التي وعد الله بها عباده..
سورة النجم (آية 31) : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)
سورة الرحمن (آية 60) : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)
أما سورة النساء (آية 172) , فتؤكد الجزاء بالحسنى ثم تبين الزيادة.
قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)
وسورة يونس (آية 26) تؤكد هذه الزيادة في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
ولعل الزيادة هنا هى مضاعفة الأجر عشر مرات إلى سبعمائة ضعف كما توضح هذا مجموعة السور والأحاديث..
وإن كانت الأحاديث الصحيحة تفسر هذه الزيادة بأنها رؤية الله سبحانه..
يقول صاحب المنار: وقد وردت أحاديث صحيحة بطرق عديدة أن هذه الزيادة هى النظر إلى وجهه سبحانه.
وهو أعلى مراتب الكمال الروحانى الذي يصل إليه المتقون المحسنون العارفون في الآخرة
(1/93)
________________________________________
وفى سورة القيامة قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
وفى سورة المطففين جاء قوله سبحانه: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)
كما جاء في السورة الكريمة أيضا: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)
وقد وردت أحاديث صحيحة تثبت الرؤيا لله سبحانه في الآخرة.
من ذلك ما رواه البخاري في كتاب التفسير عن أبى موسى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب أنيتهما ومن فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن".
كما روى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه أن الناس قالوا: يا رسول الله.. هل نرى ربنا يوم القيامة؟
قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: (فإنكم ترون ربكم كذلك)
وقد رويت أحاديث صحيحة السند تؤكد رؤية الله سبحانه منها قوله - صلى الله عليه وسلم - إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة التمام (1) .
__________
(1) موضوع رؤية الله سبحانه في الجنة من الموضوعات التي طال فيها الجدل والاختلاف منذ أن نشأة الفرق والطوائف. بل إن الخلاف فيها سبق نشأة الفرق. فقد خالفت السيدة عائشة - رضى الله عنها - جمهور الصحابة في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء كما روى عن مجاهد تأويل آيات الاثبات. وقد صحح الإمام الحافظ بن حجر اسناد الكلام إلى مجاهد =
(1/94)
________________________________________
.....................
- - - - - - - - - -
= وعليه فالخلاف حول جواز الرؤية أو منعها بدأ قبل نشأة المذاهب والطوائف.
ويلزم من هذا أن يعلم أصحاب كل رأى أن المخالفين لهم في هذه المسألة لهم عذرهم. وذلك حتى لا يتاجر بعض الناس بالخلافات ليفرق الأمة ويمزق ما بقى من نسيج وحدتها.
هذا النسيج الذي يذكرنى بقول الشاعر:
المرأ يجمع والزمان يفرق ... ويظل يرقع والخطوب تمزق
إنَّ موضوع رؤية الله سبحانه ليس من أصول الاعتقاد.
فلم نسمع أن أحد من الصحابة دعى غيره للإسلام وبين له ضرورة الإيمان بالتوحيد وبنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - - وبأن المؤمن سيرى ربه في الجنة.
ولو كانت الرؤية من أصول الاعتقاد لأنزل الله فيها آية لا تحتمل التأويل كما جاء في التوحيد وأركان العقيدة الأخرى.
لكل من المؤيدين للرؤية والمعارضين لها أدلة لا يصعب على المخالفين تأويلها. وتأويل آية من القرآن تأويل تقبله اللغة العربية أمر جائز شرعا وارد عن سلف الأمة. بل إن بعض العلماء جعل من أدلة مخالفيه أدلة لدعواه. (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)
من أدلة المانعين لرؤية الله سبحانه قوله جل ذكره: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
كما استدلوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام عندما طلب رؤية الله سبحانه: (قَالَ لَنْ تَرَانِي)
ولم يكتف المنكرون بصريح آيات النفى , بل حاولوا تأويل أدلة المخالفين لهم.
ففى قوله تعالى: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) , قالوا (ينظرون) من الإنتظار , وليست من النظر. وفسروا الآية بأنهم ينتظرون ثواب الله سبحانه. ولم يقف المثبتون للرؤية مكتوفى الأيدى.. فقد حاولوا تأويل آيات المخالفين لهم. حتى الآيات الصريحة في النفى , فقد حاولوا تأويلها. يقول صاحب تفسير المنار جـ 9 صـ 136 في قوله تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
(1/95)
________________________________________
.........................
- - - - - - - - - -
= يقول الإدراك معناه الإحاطة. ونفى الإدراك يستلزم إثبات نوع من الرؤية لا إدراك فيه.
أقول: إن الإدراك وهو الإحاطة أعم من مجرد الرؤية.
فقد تحدث الرؤية ولا يحدث الإدراك.
وقد حكى القرآن أن بنى إسرائيل عندما تبعهم فرعون وأصبح في دائرة نظرهم: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) .
فأنت ترى أن الرؤية قد حدثت: (تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) . ولكن الإدراك قد امتنع.
فالرؤية كالأكل. والإدراك كالشبع. فقد يحدث الأكل ولا يحدث الشبع. وعلى هذا فنفى الإدراك لا يلزم منه نفى الرؤية. أما قولهم أن كلمة (ناظرة) من الانتظار وليست من النظر. فكلام لا يصدق بهذا الإطلاق.
فقد جاء في القرآن الكريم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) , (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ)
وواضح من الآيتين أن كلمة (ينظرون) بمعنى ينتظرون.
أما قوله تعالى في سورة المطففين: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) .
كيف نفسرها بقولنا: على الأرائك ينتظرون؟
إنهم في وسط هذا النعيم الذي يحيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف , فماذا ينتظرون؟
وإن قال أحد المفسرين للآية الكريمة: إنهم ينتظرون ثواب الله.
قلت له: إن الجنة كلها ثواب من الله.
قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) .
إنَّ الجنة كلها ثواب من الله - كما وضحت الآية الكريمة.
وإنَّ فضل الله يغمرهم من كل جانب. فماذا ينتظرون؟
(1/96)
________________________________________
وبعد أن الله حدد كل جزئية من أصول العقيدة بما يحفظ على الأمة وحدتها.
وموضوع الرؤية إثباتا أو نفيا ليس من أصول العقيدة.
ولن نُسأل عنه أمام الله. فعلينا أن نعطيه قدرة فقط وغدا إن شاء الله سيجمع الله المنكرين والمثبتين في جنته. ونتركهم هناك.. (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)
حتمية الثنائية:
على أن التصور الإسلامى لعقيدة البعث والجزاء لا يتم إلا بالتصور المحسوس والمعنوى معا وذلك لأن تغليب جانب من الجانبين المادى والروحانى ينحدر بالحقيقة الإيمانية عن قمتها..
إنَّ تصور النعيم المحسوس وحده يحول بين أصحاب الهمم الكبيرة وبين الاقتناع بالعقيدة.
وقد روى عن رابعة العدوية قولها: نحن إذاً صغار حتى نفرح بالفاكهة ولحم الطير , قالت هذا عندما سمعت قوله تعالى: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)
والشبلي من المتصوفة عندما سمع قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) عندما سمعها صاح وقال: فأين الذين يريدون وجه الله؟..
وكان يقول عندما يسمع قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا)
ظاهرها الإنعام وباطنها الامتحان لينظر سبحانه من يعش لله ومن يعش لحظ نفسه.
(1/97)
________________________________________
عقيدة الفلاسفة:
أما الفلاسفة فقد بالغوا في الجانب المعنوى , مبالغة أوصلتهم إلى أنكار بعث الأجسام , وتأويل آياته. فالنعيم عندهم عقلى فقط , والذى ينعم أو يعذب هو النفس.
قالوا: إن تلذذ النفس بعد مفارقة البدن ليس من نوع تلذذها قبل مفارقته. لأن النفس قبل مفارقة البدن مشغولة بالعوائق البدنية والموانع الدنيوية , وقد زالت الموانع بعد المفارقة , وغير خاف أن التلذذ بالشئ بعد زوال المانع يكون أشد منه عند وجود المانع. وشبهوا العلاقة بين اللذتين بشم رائحة الطعام وأكله , بل أشد.
موقفهم من العبادات:
على أنهم لم ينكروا دور العبادات والنسك في تطهير النفس وترفعها عن الرزائل.
وجعلوا جزاء ذلك أن تتصل النفس بعد مفارقتها للبدن ببعض الأجرام الفلكية , فتتلذذ لذة تشبه لذةَ النائم إذا أكل أو نكح في منامه - لأن ذلك في منامه يفوق لذته في اليقظة. هذا بالنسبة للنعيم.
أما النفس التي انكبت على الاعتقادات الفاسدة فإنها تجد من الألم ما يزيد ويربوا على حالها الأول , لاستحكام نقيض الحق في جوهرها.
أما نفوس الأطفال والمجانين , فيعتقد الفلاسفة , حرمانها من النعيم , لأنها لا تدرك اللذة العقلية.
فالفلاسفة بالغوا في الجانب العقلى وأهملوا الحساب البدنى.
حشر الأبدان:
أما حشر الأبدان فإنهم قضوا باستحالته , وعللوا ذلك بعلل واهية , نذكرها ثم نرد عليها.
(1/98)
________________________________________
أولاً: قالوا إن ذلك يفضى إلى القول بوجود أبعاد وامتدادات لا نهاية لها وذلك إذا قلنا أن الأجسام لا تتناهى.
أقول: وهذا الزعم باطل:
لأن الفلاسفة يقولون بقدم العالم أي بعدم وجود أول لهذا الكون:
ومعنى ذلك أنهم يؤمنون بوجود أبعاد زمانية لا تتناهى في القدم.
كما يؤمنون بأن المادة لا تفنى. فهم يؤمنون بوجود أجسام لا تتناهى , ومع أن عقيدتهم في قدم العالم وبقائه عقيدة فاسدة إلا أن مسلَّمات الخصم وهى لازم قولهم تبطل دعواهم.
ثانيا: قالوا أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقى ترابا. بل لا بد أن تمتزج العناصر امتزاجا يضاهى النطفة. فالخشب والحديد لا يكونان إنسان إلا إذا تحولت إلى لحم وعظم. ومهما استعد البدن لقبول النفس فلا بد من محاكاة الجسد الأصل.
رد الإمام الغزالي عليهم:
وقد رد الإمام الغزالي رحمه الله على هذا القول بأن النفس باقية بجوهرها , بعد فناء الجسد دلت على ذلك نصص القرآن الكثيرة , قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
فالنفس باقية.
ومادامت النفس قائمة فيمكن أن ترد إلى أي بدن. سواء أكان هذا البدن من مادة البدن الأول أم من غير مادته. أم من مادة جديدة استأنف الله خلقها. لأن الإنسان إنسان بالنفس , لا بالبدن , فأجزاء البدن تتبدل من صغر إلى كبر ومع تغير الجسم فهو ذلك الإنسان بعينه.
أقول: وكلامهم مردود لخلق آدم من طين. وتحويل هذا الطين إلى خلق آخر يقبل تدبير النفس.
وقد صرح القرآن بأن قدرة الله على إعادتهم لا علاقة لها بنوع المادة التي صاروا إليها , ما دام الخلق يتم بمجرد تعلق قدرة الله في الإيجاد.
(1/99)
________________________________________
قال تعالى: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا)
بل أكثر من هذا دلالة على قدرة الله , أن الله أَكَّدَ في القرآن قدرته على إعادة بصمات الأصابع على ما كانت عليه في الدنيا مع أن كل إنسان تختلف بصماته عن بصمات كل الناس في الدنيا.
قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) .
ابن رشد يعترف:
اعترف ابن رشد الفيلسوف - بأن الشرائع في الأصل مبدأ للسلوك الحسن في الحياة , وللعمل الصالح , وأن أسلوب المعاد في كل الشرائع أفضل من الفلسفة , في حث جمهور الناس على ذلك. ثم قال ابن رشد: أن جعل المعاد روحانيا وجسمانيا معاً كما جاء في الإسلام أفضل , وإن كان ذلك مخالفاًَ لرأى الفلاسفة لأنه أكثر حث لجمهور الناس على التمسك بالفضائل , وعلى العمل الصالح.
فابن رشد يهتم في حديثه عن المعاد بالغاية القصوى , وهى عامل التهذيب , وهو لم يتعرض فلسفيا ً للمعاد نفسه , بل العجيب أنه ادعى أن الفلاسفة لم يثبت عنهم إنكار بعث الأجسام , وهذا مجرد دفاع لا يؤيده الواقع , ودعوى لا يؤيدها الدليل
(1/100)
________________________________________
الفصل الثانى
أولاً:
* الحيوان المنوى معجزة.
* لماذا السائل القلوى؟
* عروس تتنتظر.
* من خلية إلى إنسان.
* الغدة النخامية تكفى.
* لا تقتلوا هذا الضيف.
* لماذا نموت؟
* هذا أو الدمار.
ثانيا:
* مقاصد القرآن في النبات.
* (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)
* دورة النتروجين.
* الوسيط السحرى.
* (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا)
* صيدلية نباتية.
* قشر البصل أعظم دليل.
* رسالة إلى مرضى السكر.
* الثوم طبيب.
* بعض الطعام حساب.
* تسول الغنى جريمة
(1/101)
________________________________________
القرآن يستدل بالطبيعة على البعث
استخدم القرآن مظاهر الطبيعة المحسوسة في مقام الدليل على البعث لأن مشاهد الطبيعة يمكن إدراكها في كل البيئات، وارطبات الإنسان بها دائم، مع كل تطور حضارى. وجانب الاستدلال في هذا المقام مرتبط بقاعدة خلق الإبداع، وخلق الإرجاع التي سبق ذكرها وقد قدم القرآن لهذا الاستدلال بثلاثة أصول:
الأصل الأول: هو إيمان المشركين بالخالقية. مع إنكارهم التوحيد فقط.
قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)
والآيات الكريمات تليت على المشركين , ولم ينكروا مضمونها.
فهم يعترفون بالخالقية لله , لأن أحد من شركائهم لم يتصور العقل مهما كان انحطاطه أنه خلق الكون..
لقد كان المشركون يقولون في تلبيتهم حول البيت. لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك , تملكه وما ملك.
وقد وصف الله أكثرهم بعدم العقل , لأنهم يعترفون بأن الله يحيي الأرض بعد موتها ,ثم يشكون في قدرته على البعث. مع أن الخلق الأول , دليل على الخلق الثانى.
الأصل الثانى: أن الله سبحانه خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(1/103)
________________________________________
إنَّ كل عمل يحدثه الخلق يتم بجهودهم ,أما أفعال الله , فتتم بمجرد تعلق ارادته بالإيجاد. لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون.
فالله سبحانه لم يعيه خلق الكون. ولم تعجزه النشأة الآخرة.
وقد صحح القرآن بهذه الآية الكريمة , وأمثالها. ما جاء في التوراة التي بين أيدينا من أن الله تعب من خلق السموات في ستة أيام. فاستراح في اليوم السابع.
جاء في سفر التكوين (2 - 1 - 3) فأكملت السموات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله , وبارك اليوم السابع وقدسه لأن فيه استراح.
الأصل الثالث: أَكَّدَ القرآن الكريم أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.
قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
ثم ذكر بعدها ما يؤكد حتمية قانون (العدل المطلق) الذي لم يتحقق في الدنيا فلابد أن يتحقق في الآخرة.
قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)
إنَّ الذي خلق السموات والأرض لم يعى بخلقهن. قادر على أن يخلق مثلهن وأن يبعث من في القبور. لأن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس.
قال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا)
إن خلق الإبدع أعظم دليل على خلق الإرجاع..
(1/104)
________________________________________
لأنَّ جمع الجزئيات المتفرقة من جسم الإنسان , أهون من تحويل العدم إلى وجود فسبحان من أوجدنا من العدم.
والآن مع سورة الواقعة في مسيرتها:
(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ)
ما سر هذا التقرير؟
إن المشركين في مكة لم ينكروا الخلق الأول. فما سر تقرير الإنسانية بعقيدة الخالقية؟.. كأن القرآن يخاطب البشرية الحائرة اليوم , بين أوهام النظريات , وضلال التفسيرات المادية المعاصرة.
وللموضوع قصة طويلة بدأت في القرن السابع عشر ولم يسدل الستار عليها حتى الآن ويحسن أن أوجزها حفاظاً على عقيدة الشباب المسلم.
بداية الصراع:
آمنت الكنيسة الأوربية بفلسفة أرسطو في تفسير الكون واعتبرتها ديناً.
لذلك فزع رجال الكنيسة عندما اكتشف العالم (كوبر نيكس) مركز الأرض ودورنها حول الشمس لأن الأرض لم تصبح مركز الكون كما كانت عقيدتهم.
والخطب يسير. وكان يمكن للمسألة أن تمر خصوصاً وأنها لم تصطدم مع قاعدة دينية ولا مع نص إنجيلى بل العكس صحيح.
فكان يمكن لرجال الكنيسة أن يعتبروا هذا الكشف العلمي آية من آيات الله. ولكن الجمود الفكرى عند رجال الكنيسة أوجد هذا الصراع.
وإذا كان رجال الكنيسة قد جانبهم الصواب فإن العلماء أيضاً قد ضلوا الطريق إلى الرشاد. عندما نظروا إلى عقائد الدين نظرة تجارية.
لقد تصوروا أن رجال الدين وحدهم هم الذين يجنون ثمرة العقائد الدينية فأعلنوا الإلحاد باسم العلم حتى لا تجنى الكنيسة ثمار
(1/105)
________________________________________
إيمان الشعوب. وهذه حماقة فحقائق الأشياء ثابتة , والعلم بها متحقق , وستار الإلحاد كثوب النفاق يشف دائماً عما تحته.
إنَّ العلم ليس كافرا ولكن ورثة الأحقاد عمتهم.
فلما جاء عصر الحقائق المجردة بدأ العلماء يشكون في الإلحاد ويقتربون من الإيمان.
كما أخطأ العلماء عندما حملوا الدين أخطاء رجال الكنيسة مع أنهم لو عقلوا الأمر لعلموا أن الدين كمال مطلق يأخذ كل إنسان منه على قدر استطاعته ومن يغمض عينيه دون النور يضير بعينيه ولا يضير النور.
والخطأ الثالث الذي وقع فيه العلماء أنهم أعطوا لأنفسهم الحق في أن يفسروا النشأة الأولى تفسير لا يسانده دليل معتمدين على الأيام أن تقيم الدليل وتنتهى حيرتهم. فكانت النظريات المتعددة والمتلاحقة , تلك النظريات التي انتهت (بالدارونية) . ومنذ أكثر من قرن والعلماء يسبحون في الأرض وينحتون الجبال باحثين عن (المستحاثات) التي تؤيد نظريتهم. ولا نسبق الأحداث فسوف نعيش مع النظرية.
الدارونية في الميزان:
لم يكن من مقاصد هذا الكتاب مناقشة مثل هذه النظريات وليس من تخصصى , ولكن هذا لا يمنع من إلقاء الضوء على هذا الموضوع بمقدار ما يتعارض مع عقيدة الخلق الذاتى للإنسان , فحماية هذا الدين فريضة. وإذا كانت نظرية داروين هى النظرية القائمة الآن فإن ما قبلها من النظريات قد مات في مهده. حتى نظرية دارون فقد ولدت ميتة ولكن إصرار العلماء على بقائها ومصلحة الغرب في نشرها قد أدخلها معمل التحنيط.
إنَّ إصرار العلماء عليها سببه أن البديل الوحيد عنها هو الإيمان بالله وهم كما قلت يكرهون الإيمان بالله
(1/106)
________________________________________
الوليد الميت:
الدارس لكتاب أصل الأنواع لدارون يدرك أن صاحب النظرية نفسه لم يثق بها.. يقول (دارون) : إنى لأشك بأن اعتراضات كثيرة قد خطرت ببال القراء , وبعض هذه الاعتراضات خطيرة إلى حد أنى حتى اليوم لا أفكر فيها إلى واعترضتنى هزة.
وأعلن أن الأدلة سوف توجد في يوم من الأيام , فالأدلة على نظريته في علم الغيب.. وهذا يكفى لنقل النظرية من تفسير علمى إلى فلسفة. لأن العلم العملى لا يؤمن بالمغيبات.
وقد جمع أحد العلماء العبارات التي تفيد الريب وعدم الثقة من كتاب (دارون) نفسه مثل قوله: قد نستطيع أن نقول , قد يمكن القول , المرء يبحث ليفهم لا ليثبت.
جمع هذه العبارات فوجدها أكثر من ثمان مائة جملة , حتى قال العالم (كلوتز) رئيس فرع العلوم بإحدى جامعات لندن: إنَّ الاعتقاد بالتطور يحتاج إلى كثير من السذاجة.
مناقشة أصول النظرية:
قامت النظرية على أساس محاولة وضع تفسير للحياة أي تفسير بشرط استبعاد عقيدة الخلق الذاتى.
وقد حاول بعض المثقفين في بلاد الإسلام أن يجمع بين عقيدة الخالقية والتطور. وهذا نوع من النفاق الحديث أو الجهل بأحد الأمرين - الدين أو التطور - إنْ أحسنَّا الظنَّ.
فالأصل الأول لهذه النظريات هو قيام الحياة في المادة الجامدة وتكوين خلية حيَّة بعوامل المصادفة العمياء. ثم بدأت هذه الخليَّة في التطور بـ (قانون الاصتفاء الطبيعى)
كما قال دارون , أو بقانون (توريث الصفات المكتسبة) كما قال مَن قبله. فالدافع للنظرية والفكرة التي قامت عليها فكرة إلحاديَّة.
ويجب على شبابنا أن يقف طويلا عند هذه النقطة إذا أراد الحكم على هذه النظريات
(1/107)
________________________________________
أو مناقشة أصحابها. فالقنص فنون ومعرفة نقاط الضعف في فكر الخصم أقرب طريق للوصول إلى الحقيقة.
إننا لا نبتغى الجدل. ولكن إذا تحتم أي سلاح للزود عن الإسلام ففى العرين أسود. صدق فيهم قول الشاعر:
كم أبرزوا للعالمين حقيقة ... كانت لها حجب الخديعة ساتره
ولأنهم يوم النضال غضافر ... ورؤوسهم حملت عقول عباقره.
شاهد من أهلها:
إن الداروينية بكل أجهزتها لم تستطع أن تبين علميا كيف بدأت الحياة في الخليَّة الأولى فضلا عن إثبات ذلك. ومعنى هذا أن كل ما بنى على خيال علمى فهو خيال.
جاء في الموسوعة العالمية لعام 1966 ما يلى: (يجب ألا ينخدع أحد إلى حد يؤكد فيه بأن التطور ظاهرة مفهومة
(ويقول الأستاذ) كلارك: (من المؤسف أن تكون كل الأجوبة التي طرحت لمعرفة أصل الإنسان تقوم على دلائل غير مباشرة وأكثرها يقوم على فرضيات) .
ووصل الأمر بالعالم الفسيولوجى (تهميسيان) بعد أن تفرغ سنوات طوال لدراسة التطور أن يقول: (إن العلماء الذين يؤكدون على أن التطور واقع علمى هم منافقون وأن ما يرونه من أحداث إنما هو من الشعوذات التي ابتدعت ولا تحتوى على نقطة واحدة من الحقيقة لأن النظرية كما يقول خليط من الأحاجى وشعوذة الارقام) .
هل تأتى الحياة من الجماد؟
الدارس للخلية الحيَّة وأسرارها يرى البون بين الجماد والأحياء وكل معامل الدنيا لم تستطع أن تصنع نواة تمر أو بذرة برتقال: من التي نلقيها في مزابلنا
(1/108)
________________________________________
ولأمر ما عرفنا الله بنفسة بأنه فالق الحب والنوى وهو أهون شيء علينا لم تصل معامل الأرض جميعا إلى صنع مثله , فضلا عن أن تصنع خلية عصبية معقدة.
جاء في كتاب السفرة الواسعة أن العالم الألمانى (فون برتالانفى) قال: (إن الإلمام بتفصيل النظام الفيزيائى الكيماوى لأبسط خلية يفوق طاقتنا) ..
هذه لغة الحقائق العلمية بعد أكثر من قرن فكيف يتصور عقل علمى حدوث هذه الكائنات الحيَّة بالمصادفة العمياء.
مع الخليَّة من قريب:
الخلية هى سرُّ الحياة المعجز والمحير , ومع صغرها المتناهى تتكون من جدار يشبه الغرفة وبداخله سائل تستقر فيه النواة، والنواة هى سُّر حياة الخليَّة وداخل النواة نواة أخرى تسمى (النوية) تصغير نواة - والغرفة والسائل والنواة والنوية يبلغ وزنها واحد من مليار من الجرام وللغرفة باب وعليه بواب يدخل في الخليَّة ما يشاء مما تحتاج إليه الخليَّة ويرفض السماح لمن يضرها أو لا تحتاج إليه ولا يخضع هذا الاختيار لحجم الذرات التي ترغب في الدخول فهو يسمح من دون استأذان لذرة (البوتاس) بينما يمنع بكل إصرار أن يفتح الباب لذرات معدن (الصديوم والكلور) مع أن ذرة البوتاس أكبر من الذرات الممنوعة ولا يسمح بدخول المواد (البروتينية) بينما يسمح بدخول المواد السكرية ويرحب بها.
فتركيب الخليَّة ونظام دخولها وسر نواتها نظام معجز بديع يتهافت أمام عظمته كل قول بالمصادفة العمياء.. التي بنى علماء التطور عليها مدار فلسفتهم.
(1/109)
________________________________________
مع الخليَّة مرة أخرى:
والخلية تتكون من مجموعة عناصر خمسة هى:
الكربون , والهيدروجين , والنيتروجين , والأكسجين , والكبريت. وهذه الخمسة أساسية في جميع الخلايا وهناك عناصر أخرى.
واختيار هذه العناصر من مجموع العناصر الموجودة في الكون وهى تزيد عن المائة تمَّ بعلم واسع واختيار دقيق.
وقول الداروينية.. أن الخليَّة الحيَّة الأولى وجدت بالمصادفة يقتله قانون المصادفة نفسه وقد درس العالم الرياضى (تتشار بوجين جواى) محاولة استفاء العناصر الخمسة من مجموع العناصر في قانون الصدفة ووجد أن الأمر يحتاج إلى إجراء عدة تجارب يبلغ عدها (10×10) وحاصل الضرب يضرب في نفسه 60 مرة ليصير الناتج (10) بجوارها مائة وستون صفر , وهذا رقم لا يوصف ولا يمكن النطق به فأيُّ عقل يُسوِّغ هذا الهراء.
هذا من ناحية اختيار العناصر الخمسة من بين مجموع العناصر.
إنَّ أي خلل في ترتيب العناصر يقلبها سماً بدلاً من أن تصبح مادة للحياة (راجع الإسلام يتحدى) .
ولا يفوتنا أن العلماء قدروا عمر الأرض وذلك بحساب المدة اللازمة لمادة اليورنيوم لتفقد إشعاعها وتصير نوعاً من الرصاص فوجدوا أن هذا العمر لا يكفى لتحويل العناصر الخمسة الميتة إلى مادة حيَّة عن طريق المصادفة فقد قدروا المدة اللازمة لتكوين مادة البرروتين بحسب فعل المصادفة إلى سنوات يبلغ عددها الرقم 10 أمامه 243 صفر من بلايين السنين.
وهذا الرقم الخيالى يكبر عمر الأرض آلاف المرات.
لقد أراحنا الإيمان من هذه الأوهام عندما آمنا بالله خالقاً لكل شيء.. (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ)
(1/110)
________________________________________
بعد هذه العجالة عن الخليَّة الحيَّة نتابع رحلتها وهى تتكاثر لتصبح إنساناً سوياً وسوف نعرف ذلك عند دراستنا لقوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) إن شاء الله..
وإذا ثبت تهافت الداروينية في تصور الطريقة التي تكونت بها الخليَّة الأولى فتهافتها في إثبات دعوى التطور من باب أولى.
فالانتخاب يقتضى القدرة على المقارنة ثم الاختيار والطبيعة بمجموعها غير عاقلة حتى المخ البشرى وهو أرقى أنواع المادة فقد ثبت علميا أنه شيء , والعقل البشرى شيء آخر.
فالتفكير والتخيل والتصور ليس عملاً مادياً. فكيف تتخير المادة وهى غير عاقلة؟
قانون الاصطفاء الطبيعى:
يدعى علماء التطور أن الطبيعة تلجأُ إلى الانتخاب وتحتفظ بالانتقال النافع وتنفى الانتقلات الضارة وبهذه الصورة يتحول الكائن الحى إلى نوع رفيع واعتبروا هذا القانون هو الدليل الوحيد على آليَّة التطور مع أنه افتراض وليس بدليل.
وقد قام عالم التطور المتعصب (سير جيمس غرى) في كتابه (العلم اليوم)
قال: فعلينا إما أن نقبل الاصطفاء الطبيعى كدليل وحيد على آليَّة التطور وأن نقبل بأن فيه قسطاً كبيراً من الخيال , وإما أن نعترف بأن الاصطفاء الطبيعى يقوم على أساس الانتقال العرضى الذي يأتي اتفاقاً وأن نعطى للمصادفة دوراً أكثر أهمية في هذا الميدان.
ونعتبر التطورالعضوى نوعاً من (اليناصيب الطبيعى) فإنه يبدوا من الغرابة بمكان أن تكون أوراق هذا اليناصيب الرابحة بهذا القدر من الكثرة ومع هذا فإني أقول: أنْ ليس هناك ما يثبت أن رأيي خير من غيره من الآراء.
وقد أعجبنى وأنا أكتب هذا الفصل، قول (جان روستان) فى
(1/111)
________________________________________
رفض تأثير الوراثة على التطور , قال: (إني لا أستطيع أن أفكر فقط بأن هفوات الوراثة هذه قد استطاعت حتى مع مساعدة (الاصطفاء الطبيعى) وحتى بفضل المدة الطويلة التي احتاجها تطور الحياة بأن نصنع هذا العالم الحيَّ. مع كل ما فيه من ثراء ولطافة في التكوين ومؤهلات عجيبة) .
فعلماء التطور أنفسهم يشكون في دليلهم الوحيد. وقانون الاصطفاء الطبيعى يمكن هدمه عقليا بسهولة.
قوانين الورثة:
هل يسمح (قانون الوراثة) بإنجاب نوع جديد من نوعين آخرين مع استمرار التناسل للنوع الجديد؟
إنَّ التجارب العلمية تؤكد أن (الأبغال) وهى ما يتولد من نوعين مختلفين كالفرس والحمار تحتفط بأحسن صفات النوعين ولكنها تكون عقيمة غالبا وما كان خصيباً من الأبغال. فإنه إذا استمر بالتلاقح فإنه ينتهى إلى العقم.
(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ)
فحقيقة التطور تفسير بلا دليل. اعتقدها العلماء في عصر التشكيك في الإيمان ليجدوا فيها بديلا عن عقيده الإيمان لأنهم كارهون الإيمان بالله.
ومضى قرن من الزمن بل ما يزيد على قرن والعلماء يسيحون في الأرض وينحتون الجبال ومع ذلك فمجموع أدلتهم لا تزيد عن (لا شيء) ..
تقول المجلة العلمية الأمريكية في عدد (تموز 1964.. إنَّ من الحكمة إلا نؤكد بأن الصلة بين الإنسان القردى وبين الإنسان تعتمد اليوم على شهادة المستحاثات بل أن ننتظر اكتشافات جديدة (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)
(1/112)
________________________________________
من هنا وهناك:
إصرار العلماء على وجود البديل لعقيدة الخلق الذاتى للكائنات الحيَّة أرهقهم كثيراً ومع ذلك لم يهتدوا، وألجأهم هذا الإصرار إلى التلفيق العلمي فهم يجمعون قطعة عظم من هنا وقطعة عظم من هناك ويحاولون لصقهما بأوهام واهية لا تلبس أن تتهاوى يقول (أيزلى) في مقال نشر بمجلة العلوم الأمريكية إننا لا نملك هيكلا ً عظمياً تاماً لقرد صغير ناهيك عن أن نجد هيكل لإنسان قديم ونحن عالة في معرفتنا بتاريخ تطور الإنسان الأول على قليل من العظام وعلى أسنان محطمة هذا بالاضافة إلى أن المستحاثات آتية من أماكن مختلفة متباعدة بعضها عن البعض الآخر الآف الكيلوا مترات وهى مبعثرة في طول وعرض القارات القديمة ولذلك فإننا ننتهى بهز رؤوسنا مقرين بالعجز وكأننا في تيه، وقد نسينا من أي طريق دخلنا..
أقول وكما أن هذه المستحاثات متفرقة ومتباعدة الأماكن فهي أيضاً متباينة الأزمان تبايناً واسعاً ففى المؤتمر الذي عقده علماء (الإنسان القردى) عام 1965 جاء في النشرة التي صدرت عن المؤتمر (إن جهلنا بشجرة نسب الإنسان ما زالت حتى اليوم جهلا عجيبا فهناك ما زالت ثغرات) .
ثم قالت النشرة: (منذ ما لا يقل عن ثلانين مليون سنة بدأت تظهر الصفات التي تميز بها الإنسان عن غيره من الحيوانات) ثم وضعوا جدولاً زمانياً للمستحاثات التي عثروا عليها فبعضها قدروا عمره بلاثين مليون سنة (رجماً بالغيب) وظلت فترة أحد عشر مليون سنة لم يعثروا على شيء فيها.
وقد تأسف صاحب كتاب (الإنسان الأول) فقال (ومن المؤسف أن تظل حتى الآن المرحلةُ الأولى من التطور الإنسانى سرًّا غامضاً) .
(1/113)
________________________________________
هذه آراء الداروينية وهى تؤكد أن النظرية كما قلت تفسير بلا دليل أما رأيُنا نحن المسلمين في المستحاثات التي عثروا عليها وفى الشبهة بين عظام الفقرات وفى غيرها مما تمسكوا به فهو أن التشابه بين المخلوقات يؤكد وحدة الخالق لا وحدة المخلوق.
إنَّ البرغوث صورة مصغرة من الفيل فهل الفيل كان برغوثاً؟
وما هى عوامل البقاء والانقراض؟
إذا كان البقاء للأقوى فقد انقرض بعض الحيونات كانت أضخم من الجمل وأقوى من الأسد بينما بقى الفيروس وحيد الخليَّة فأي قوة فيه حتى يبقى؟ وأي ضعف في ما انقرض؟
هل البقاء للأصلح؟
إن الطبيعة في مجموعها غير عاقلة فيكف تفرق بين الكائنات لتختار الأصلح، وإن قالوا إن الطبيعة تحافظ على نفسها.
قلنا لهم: ما سر الجمال في الورد وفى جناح الفراش , إن الجمال هو سر الله في الخلق.
لأن الطبيعة مادة والمادة غير عاقله وغير العاقل لا يتذوق الجمال فكيف يجود به في أبهر صورة؟
إن الله جميل وهو واهب الجمال للكون والحياة.
(نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ)
إن أي تفسير لنشأة الحياة يخالف ما أخبرنا به القرآن الكريم فهو دخول للغيب من دون إذنٍ من صاحب الغيب وإذا كان العلم التجريبى لا يؤمن بالمغيبات كما يدعون، فما سرُّ إيمانه بقضايا لم يحيطوا بها خبرا ولم تخضع لتجاربهم المعملية.
إنَّ هذا الجانب يؤكد أن نظرية التطور فلسفة شخصية وليست نظرية علمية والبون بين الفلسفة الشخصية والحقائق العلمية بون واسع.
(1/114)
________________________________________
وأيُّ مانع يا ترى أوقف بقية القردة عن التطور، لعلهم رفضوا ذلك بإصرار حتى يبتعدوا عن عالم الخداع والأحقاد.
إن الناس يسعهم الهزل إن فاتهم الجد.
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) ؟
بدأ القرآن يقيم الأدلة على البعث من عناصر الطبيعة الحيَّة لعموم هذه المظاهر في كل زمان ومكان وأسلوب القرآن هنا يفهمه العامة ويملأُ تصورهم بمظاهر قدرة الله بينما يفتح نافذة للعلماء على دراسة أسرار الله في الكون والإنسان فهو كتاب واحد يشبع العوام ويحير الخواص.. (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) ؟
قرأها رجل البادية منذ عصر نزول القرآن فأجاب بفطرته.. أنت الخالق سبحانك ويقرؤها رجال التخصص العلمي فتفرض عليهم أن يغوصوا في بحارها الزاخرة بالأسرار.
* يدرسون السائل المنوى
* والحيوان المنوى
* وبويضة المرأة
هذا على أن الضمير في قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) ؟
أى تخلقون ما تمنون أي النطفة ويدرسون الإخصاب ومراحل تكوين الجنين في قراره المكين إذا كان الضمير في قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) ؟
يعود على الجنين الذي يتكون من النطفة وهذه الدراسة الواسعة محلها كتب الإحياء والطب أمثال كتاب
* (الإنسان ذلك المجهول) الكسيس كاريل
* (أعرف جسدك) ترجمة العقيد ماجد العظمة
* (هذا الإنسان) للدكتور حبيب صادر
* (الخليَّة وعلم الجنين) للدكتور موفق شخاشيرو
(1/115)
________________________________________
وأهم الكتب التي استفدت منها في هذا الفصل (الطب محراب الإيمان) للدكتور خالص جلبى كانجو. وأنصح بقراءته لكشف آيات الله في جسم الإنسان وكتاب (الطاقة الإنسانية) للأستاذ أحمد حسين.
وإتماماً للفائدة وتعميقاً لفهم قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)
فسوف أوجز القول في بعض ما يتعلق بها من الناحية العلمية.
الحيوان المنوى
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) ؟
عندما يقرؤها رجل الطب ويعيش في رحابها يدور بخلده قدرة الله في خلق الحيوان المنوى إن حجمه متناهى في الصغر فالنطفة الواحدة تحتوى على قرابة أربع مائة مليون حيوان منوى. شعب كامل من أعظم شعوب العالم ومع ذلك لا يفوز من هذه الجموع سوى حيوان واحد وهو الأقوى والأسرع.
يصل هذا الفائز إلى الملكة المتوجة التي طال انتظارها له ليحمل لها كل خصائص الأب الوراثية فضلاً عما زود به من الهرمون الجنسى المذكر (التستومترون) والذى يحمل خصائص الرجولة العامة من نظام الشعر في جسد الرجل والذى يختلف عن توزيع الشعر في جسد المرأة ويقنع هذا الهرمون الحبال الصوتية بضرورة الغلظة حتى تغاير أصوات النساء ويؤثر على العضلات لتدخر البروتينات فيها حتى تشتد العضلات وتقسوا ويؤثر على عظام الصدر فتتسع وعظام الحوض فتضيق ثم يحدد بعد ذلك طبيعة المزاج النفسى فالحيوان المنوى مخلوق عجيب.
وزاد إعجابى بالحيوان المنوى وأنا أدرس كتاب " التنبؤ الوراثى " للدكتورين ظلت هارسنياى وريتشارد هوتن
فقد جاء فيه دراسة واسعة عن الأمراض الوراثية وكيف تنقل
(1/116)
________________________________________
العوامل الوراثية الأمراض عن طريق الحيوان المنوى إلى الأجيال الجديدة.
جاء فيه: فالعامل الوراثى قد يكون هو البندقية المعبأة ولكن ثمة عامل بيئي هو الذي يشد الزناد.
و (الجينا) نفسها تحوى سجل الماضي للجسم كما تحوى شفرة وخريطة لمستقبله.
وقد جاء فيه دراسة على المدمنين للكحل ومدى انتقال أمراض الإدمان إلى أبنائهم فقد ذكر أن فرصة إصابة أبناء المدمنين بالأمراض الناشأة عن الإدمان تزيد أربعة أضعاف تقريباً عن أبناء غير المدمنين.
وذكر أنه في تجربة قام بها عالمان هما شوكيت ورايزس على 304 من الرجال بعضهم من أبناء المدمنين وبعضهم من أبناء غير المدمنين فقد أعطى كل من المجموعتين مقدار واحداً من الكحل ثم اختبرت عينات من دم المجموعتين لمعرفة مدى تأثير مادة " الايسيتالدهيد" وهذه المادة يفرزها الجسم لتكسير الكحول النقى وهى عادة سامة وتضعف الجسم.
فقد تبين أن الأشخاص الذين انحدروا من عوائل لها صلة بالكحول قد تركزت فيهم مادة "الايسيتالدهيد" في الدم ضعف المقادير التي وجدت في الأشخاص العاديين.
هذا وقد ذكر المؤلفان التجارب التي أجريت للتحقق من تأثير المواد الكحولية على أعصاب أبناء المدمنين وعللوا ذلك بنقص في أحد الإنزيمات وهو الإنزيم الناقل (للكيتوليز) .
فما سر هذا المخلوق العجيب؟!!.
إن كل شعوب الأرض قد خلقت من حيونات منوية حجمها كحجم قرص واحد من الأسبرين.
فكم حجمك في عالم الحيونات المنوية؟
وهل يعلم الذين يدمونون الخمر أي بلاء يجرونه على أبنائهم؟
(1/117)
________________________________________
السائل المنوى:
عندما تنبه الأعصاب الحويصلة النووية وبعض الغدد الأخرى أمثال الغدد البصلية الاحليلية فإن هذه الغدد تتسارع إلى فرز هذا السائل الذي يسبح فيه الحيوان المنوى وهذا السائل ذو طبيعة قلوية وسر هذه المادة القلوية أن تؤمن الحيوان المنوى عند مروره في الطريق البولى حتى لا تؤذيه بقايا البول فضلا عن عملية التنظيف التي تقوم بها غدة البروستاتا لمجرى البول أثناء عملية الجماع وسرعة القذف تساعد على عدم وقوف السائل في الطريق الحامضى سواء عند الرجل أو عند المرأة.
هذا ما نعرفه عن نطفة الرجل ...
أما بويضة الأنثى فلا تخلوا من مثل هذه الأسرار فهى مزودة بهرمون المحبات وهو يحمل إلى الجنين الخصائص الأنثوية ويهيئها لما خلقت له فماذا يفعل هذا الهرمون؟..
زيادة شحم بدن المرأة وكبر الحوض وضيق عظام الصدر ونمو الثديين ونعومة الجلد ورقة الصوت ولين المزاج ويبقى الأمر بيد الله وحده في تغليب أحد الجنسين وتنشأة الجنين ذكراً أم أنثى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا)
هذا بعض ما تشير إليه الآية الكريمة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)
ونكتفى بهذا القدر من الحديث عن النطفة احتراما للتخصص.
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)
من المفسرين من قدر الضمير في قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)
أى تخلقون الجنين الناشئ عن النطفة. وكثير من آيات القرآن تكلمت
(1/118)
________________________________________
عن الأجنة ومراحل تكوينها ولست طبيباً حتى أتتبع تكوين الجنين من خلية واحدة إلى مائة بليون خلية كل خلية تؤدى ما خلقت له.
ولكن بعض الخواطر العلمية يمكن أن تتسع لها هذه الصفحات مع احترامى الدائم لدقة المتخصصين.
إنَّ انقسام الخليَّة الواحدة (البويضة الملقحة) إلى ملايين الخلايا المتخصصة أمر محير حقا.
فهى تصبح مجموعة من الألياف المتراصة لتكوين العضلات. وهى تصبح بنكرياس فتقوم بإفراز الأنسولين الذي ينظم السكر في الدم وهى تكون الغدة الدرقية فتفرز الهرمونات الحاثة على تنظيم الحرارة.
وهى تكون المعدة فتفرز العصارات الهاضمة التي تهضم الطعام ولا تهضم نفسها.
وتكون الأمعاء الدقيقة التي تقوم بالامتصاص.
وتكون كرات الدم الحمراء التي تحمل الأوكسجين إلى جميع الجسد.
أما أسرار الغدة النخامية التي تعتبر بجدارة (ملكة الغدد) فتحتاج إلى دراسة واسعة إنها تقوم بإفراز عشرة هرمونات هذه الهرمونات تحث كثير من الأعضاء على أداء وظائفها وتقوم بعملية التنسيق بين الأعضاء.
إنَّ الغدة النخامية بفصوصها الثلاثة تنظم عملية النمو للجسد وإفراز اللبن اللازم للإرضاع والذى يزداد تركيزاً كلما زادت حاجة الطفل وتنظيم الحياة الجنسية وما يلزمها من تكوين النطفة والبويضة وتنظيم عملية إدرار البول بما تتجلى فيه آيات الله (1) .
- - - - - - - - - -
(1) يفرز الجسد 183 لتراً من البول في اليوم الواحد وهذا المقدار إذا خرج من الجسد فسوف يلزم الإنسان أن يشرب مثل هذا القدر من الماء ويمكن أن ندرك خطورة هذا الأمر ولكن الله سبحانه كلف الغدة النخامية أن تفرز هرمون يفرض على الكلى أن تعيد النظر في هذا القدر من البول فتحتفظ للبدن بمقدار 181.5 لتراً من الماء وتخرج لتراً ونصف فقط وبذلك تقى الإنسان شراً مستطيراً ومن السهل أن يعلم القارئ الكريم أن هذا الرقم يأتي نتيجة دوران كمية الماء الموجودة في الجسم عدة مرات في اليوم الواحد.
(1/119)
________________________________________
وللغدة النخامية دور كبير في عملية الولادة فضلا عما تقوم به من تحريض الغدة الدرقية على اصطياد مادة اليود من الدم وصنع هرمونات الدرق. والعجيب أن هذه الغدة لا يزيد حجمها على واحد سم مكعب.
يا سبحان الله..
إنَّ الخليَّة الأولى تنقسم إلى خلايا تكون العين في الظلام لترى عندما تخرج إلى النور وتكون أذن يتم تكوينها في صمت الرحم لتسمع عندما تخرج إلى ضجيج الحياة.
وتكون كرات الدم البيضاء التي تعمل عمل الجيوش المدافعة عن الجسد ضد الجراثيم الداخلة إليه.
أما خلايا الأعصاب وخلايا المخ فلا يتسع لها إلا كتب التخصص لشدة تعقيدها: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) ؟
إنَّ القرآن العظيم لا يلفت عقول الناس إلا لأمر عظيم وقد يغيب سر ذلك عنا: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) ؟
تذكرنا هذه الآية الكريمة بأمرين جليلين يحسن الإشارة إليهما.
أولهما: أن الجسد غيور يطرد كل غريب عنه وكرات الدم البيضاء تخوض معركتها مع الجسم الغريب فإما أن تنتصر وإما أن تنتحر والصديد هو جثث كرات الدم البيضاء المنتحرة.
فما سر أن يقبل رحم المرأة (الحيوان المنوى) ويرحب به؟
لماذا لم يقتله كما يقتل كل جسم غريب؟
إن سر ذلك عند الله وحده.
ثانيهما: عندما يتم الإخصاب تبدأ رحلة الجنين في الرحم يكون الجنين خلية واحدة وبعد مدة الحمل يصل تكاثر الخليَّة إلى مائة بليون خلية.
(1/120)
________________________________________
فالزيادة مطردة حسب (قانون المتواليات الهندسية) (1) .
فما سر أن تتغير سرعة التكاثر بمجرد أن يخرج الجنين إلى الحياة؟
يقول الأستاذ أحمد حسين في كتابة (الطاقة الإنسانية) : لو استمرت هذه الزيادة بعد عملية الولادة بنفس المعدل التي عليه في داخل الرحم لبلغ حجم الرجل في الستين من عمره حجم الكرة الشمسية كلها.. (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
هذا.. وقد تتبعت كل آيات القرآن في موضوع النطفة وتكوين الجنين فرأيت أن القرآن يربط بين تكوين الجنين في الرحم وبين تكوين الأجساد في باطن الأرض.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) . (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) إلى قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)
(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى)
(قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)
وهكذا.. يربط القرآن بين النشأة الأولى في صورتها الأصلية - خلق آدم - وفى صورتها المتكررة من ناحية وبين النشأة الثانية
- - - - - - - - - -
(1) المتواليات الهندسية عبارة عن: 2 , 4، 16، 256، 65536 وهكذا تتكاثر الخلايا بهذه السرعة العجيبة حتى يعيد الله ضبطها عند خروج الجنين من بطن أمه.
(1/121)
________________________________________
للبعث والجزاء من ناحية أخرى ليدلل بخلق الإبداع عن خلق الإرجاع.. (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)
قال تعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) .
(نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)
نحن قدرنا بينكم الموت. فما حيلة الدنيا كلها. هذا قدرنا.. والذين لا يؤمنون بهذا القدر عليهم أن يفروا منه..
(فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
لماذا ينكرون وجود الله ثم يمدون رقابهم له ليقطعها؟
لماذا يسلمون أنفسهم للمرض وضيق العيش وللموت؟..
ليتهم عندما عجزوا من الفرار من الله حاولوا الفرار إليه.
إن الموت صغرهم أمام أنفسهم لأنه يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقذام.
كم دخل على الملوك بدون استئذان فأنساهم عروشهم وحجب عيونهم عن التيجان لا حيلة تدفعه ولا يستجيب لرجاء. (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)
صارع الإنسان طويلاً لدفع الأوبئة عن عالمة بحثاً عن البقاء.
وقد حقق الإنسان انتصار لا بأس به في هذا الميدان وجعل الأوبئة العامة كالنار التي تحت الرماد بعد أن كانت شبحاً ظاهراً مخيفاً.
أجل أصبحت الأوبئة كالنار تحت الرماد. تشتعل إذا أتحيت لها فرصه للظهور. وهل الأوبئة العامة هى الشبح الوحيد الذي يهدد الإنسان؟
هناك آلاف الأسباب والموت واحد.
من يصدق أن العلم الذي يصارع الأوبئة الجماعية يتسابق لإقامة مستعمرات من جراثيم هذه الأوبئة ليستخدمها في الحروب ضد الإنسان.
قنابل تصيب العدو بالحمى , والدوسنتاريا، والكوليرا، والدفتريا، والطاعون الدملى والرئوى، وحمى التيفود، والسل، والكساح، والجدرى، والتسمم
(1/122)
________________________________________
العلم الذي يبنى المستشفيات والمعامل العلاجية يصنع قنابل الجراثيم لقتل الأعداء والأعداء بشر - إنها حقيقة لابد أن تبقى ما بقى حيٌّ أي حيٍّ على الأرض هذه الحقيقة هى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)
وهل الأوبئة وحدها هى السبب في الموت؟
إن العالم يصبح ويمسى على تهديدات بالحروب النووية وحرب النجوم.
وإذا كانت التجربة الأولى لهذه الحرب في 6 اغسطس 1945 عنما أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية أول قنبلة ذرية فوق مدينة هيروشيما فقتلت في أول ثانية (145 ألف نسمة) وحولت مدينة كبيرة إلى خرائب فكيف بها اليوم؟
إن القنبلة النووية الآن وبعد أكثر من أربعين عاما على قنبلة هيروشيما تضاعف حجمها مرارا حتى أصبحت قنبلة هيروشيما بجوار قنابل اليوم كشمعة بجوار غابة تحترق.
وويل للعالم من حماقة نووية تدمر كل شيء أو خطأ حسابى ينتج عنه بلاء لا يبقي ولا يذر.
فالعلماء يتوقعون قتل 200 مليون نسمة في الأيام الأولى إن شب حرب نووي.
ومن يبقى من الموت سيحسد من مات.
أتذكر الآن قول زهير بن أبى سلمة عن الحرب في الجاهلية..
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميما ... وتضر إذا ضربتموها فتضرم
فهي في كل عصر ذميمة وتشتعل ناراً تحرق كل شيء.
إنَّ العلم الذي يحاول دفع الأوبئة الجماعية نراه يعد المخازن ليحتفظ بجراثيم الأوبئة الجماعية ووسائل الفتك النووى لتبقى حقيقة الحقائق..
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)
فهل يمكن أن يفروا من الله؟
إنَّ كل شيء في قبضته (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) .
فأولى بهم أن يفروا اليه. إن أوهام الماين تتهاوى.
(1/123)
________________________________________
فقد زعموا أنهم سيقيمون جنة على الأرض يستغنون بها عن جنة الله.
قالوا سنقيم هذه الجنة عندما ننتصر على الثلاثى المخيف الفقر والطبقية والموت..
ونسألهم: كانت نسبة الموت في المجتمعات البدائية 100% فكل مائة مات منهم مائة.
فكم ستكون النسبة (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) .
إنها نفس النسبة فكل مائة يموت منهم مائة. حتى مع انتصار الإنسان على الأوبئة وعموم السلم واكتشاف
(أكسير الحياة) الذي يعيد الشباب. ويطيل العمر. ويقهر الموت كما تصوره علماء الكيمياء من العرب مع كل هذا ستبقى النسبة الثابتة: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) .
لأن العلماء لم يعرفوا حتى الآن لماذا نموت.
هذا.. وكل تفسير لظاهرة الموت قاله العلماء المعمليون، قالوا أيضاً تفسيراً آخر ليس أحدهما أولى بالقبول من الثانى.
وكيف نعرف سر الموت ونحن لا نعرف حقيقة الروح؟!!.
وعندما لم يعرفوا سبب للموت يقولون.. مات بالسكتة القلبية. ولكن.. أي شيء أسكت القلب؟ ولماذا هذا الشخص بالذات؟ ولماذا هذه اللحظة بعينها؟..
تساؤلات كثيرة لم يعرف العلم المعملي لها جوابا.
إن القلب يعمل كبندول الساعة كل دقة سببها الدقة التي قبلها وهى سبب فيما بعدها.
فالدقة الثالثة سببها الثانية وهى سبب في الرابعة والدقة الثانية سببها الأولى وهى سبب في الثالثة.
فما سبب الدقة الأولى؟.
وقف طبيب القلب في بلد من بلاد الإلحاد حائراً عدة أعوام ثم فر إلى أمريكا واعتنق النصرانية وما دامت كل دقة تعمل بقانون (رد الفعل) للدقة السابقة فأيُّ قوة تدخلت ومنعت رد الفعل فجأة.. فتوقف القلب؟
ونسأل علماء المعامل والطب لماذا نموت؟
ومستر دارون حاول أن يضع تفسيراً لظاهرة الحياة
فأخفق، لماذا لم يشغل نفسه بالبحث عن سبب الموت؟
وسوف أترك مناقشة الماديين لأن جدلهم في الموت نقصان في عقولهم. وأخاطب الوجدان في لحظة يتنبه فيها الوجدان. وتتهيأ فيها النفس لقبول العظات
(1/124)
________________________________________
ويسبق الموت لحظة يسترجع فيها الإنسان ما قدم وما آخر بينما هو يعاني من سكرات الموت. يسترجع ما جمع من هنا وهناك وما قدمه من أيام عمره ثمناً لما جمع. ثم يحاول أن يؤجل الموت ساعة يصلح فيها ما يمكن إصلاحه ولو كلفته هذه الساعة أن يتنازل عن كل ما جمع.
ساعتها يرفض طلبه.. (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
أترى أن من اشترى سيارة بألف دينار ثم وقع في ضيق فرغب في بيعها بمائة دينار فقط فلم يجد من يشتريها.. أترى شراءها بألف كان شراء عادلاً؟!!
يبدوا إننا أضعنا كثيراً من ساعات أعمارنا وما جمعناه لا يساوي ما انفقناه من أيام العمر: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) .
نحن نلهوا والقدر جاد. نربح الدنيا ونخسر نفوسنا.
يلهينا الأمل فننسى دنو الأجل: (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) .
نعمر دنيانا ونخرب آخرتنا. لذلك نكره أن ننتقل من العمار إلى الخراب. حتى إذا جاءتنا سكرة الموت بالحق: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) .
وتحدد الطريق المحتوم: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) وابتعد الجميع مع وقوفهم بجواره (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) .
وفشلت كل المحاولات في دفع الكرب عنه. ساعتها يحاول لأول مرة أن يصلح ما بينه وبين الله. آه.. لو جئت قبل ذلك بساعة.. لوجدت الله غفوراً رحيماً.
يقابل آثامك بأضعافها مغفرة. ويفرح بك أكثر من فرح العقيم الوالد , والضال الواجد , والظمأن الوارد. يتوب عليك فينسى بدنك والبقاع وينسى حافظيك ما عملته من المعاصى حتى لا يشهد عليك أحدٌ أمامه سبحانه ولكنك جئت في الوقت الذي جاء فيه فرعون بعد أن أضاع دنياه في الظلم: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)
(1/125)
________________________________________
لو تاب الله ساعتها على فرعون لتاب عليك. ولكنك تأخرت كثيراً , تأخرت حتى أصبح عالم الغيب بالنسبة لك عالم شهادة: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
لقد كان الأجر نظير إيمانك بالغيب: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) .
ولكن تحويل عالم الغيب إلى عالم مشاهدة يبطل الجزاء (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)
إن الطالب إذا خرج من لجنة الامتحان وتسلم كتبه لا يستطيع أن يصحح أخطاء وقعت منه في ورقة الإجابة، لأن عالم الغيب العلمي قد أصبح عالم شهادة. (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) .
وكل عاص لله جاهل به. (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) .
وكل توبة قبل الغرغرة تعتبر من قريب (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)
لقد جئتَ متأخراً.. لأنك تحاول التوبة وهى العزم على فعل الصالحات.. بعد أن تيقنت من عجزك عن فعل أي خير.
صحيح أنك الآن نادم على ما فعلت ولكن الندم وحده لا يكفى.
فقد ندم قوم صالح بعد أن عقروا الناقة فلم يدفع عنهم هذا الندم العذاب: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ) .
لقد جئتَ متأخراً.. لأن الملآئكة قد أغلقت عند الحشرجة صحيفة عملك وأعدت بياناً بحالك وتهيأت لتوجيهك لمستقبلك (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)
(1/126)
________________________________________
وبعد: الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا.
وقد قدر الله الموت علينا وكل ما قدره الله كائن.
والذين يتوهمون حريتهم في كل شيء لأنهم لم يؤمنوا بالله عليه أن يفروا من الله ليثبتوا دعوتهم أو يفروا إلى الله وفى ذلك عزهم.
أما صراع الإنسان من أجل البقاء فسوف تظل الكلمة العليا لله وحده: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)
(وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) لا يفلت من الموت نكرة من الخلق ولا معرفة وجيوش الدنيا لا تحمى ملوكها من الموت ولا تحميهم البروج المشيدة: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) .
(عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)
تهديد شديد لهذه الأمة إن انحدرت عن رسالتها وانسلخت عن دورها في تصدير هدى الله إلى كل الأمم.
لقد اصطفاها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس هذه الخيرية مرهونة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ دين الله ولكن مستقبل الإسلام ليس متروكا لأهوائهم فالإسلام محفوظ بوعد الله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
فإن تخلت الأمة عن دورها تداعت عليها الأمم ورفع الله يد العون عنها واستخلف الله للحق من يحميه: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)
إن مستقبل هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها من خدمة للإسلام وجهاد في سبيله: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
والذين يأتي الله بهم ويختارهم لخلافتنا لابد أنهم أزكى منا وأطهر وأقوى على حمل عبء التبليغ (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)
(1/127)
________________________________________
لقد أقسم الله سبحانه بربوبيته للمشارق والمغارب ليؤكد أن الاستبدال سهل وميسور لأن الكل مربوب له سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
إن حماية الحق ليس حكراً على أمة دون أمة ولكنه تاج للأمة التي تتزين به. والله سبحانه قد سلب بنى إسرائيل هذا الشرف عندما نكصت على عقبيها واعتقدت أن النبوة لا يصلح لها إلا دم أبناء إسرائيل. فليس في عرف السماء أمة فوق الجميع ولا شعب مختار.
قال تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) ,
وقوله تعالى: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)
هى النشأة الآخرة التي لا نعلم عنها سوى ما أخبر القرآن وأخبر الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)
ثم عاد القرآن يذكرنا بالنشأة الأولى ويحض المؤمنين على التذكرة فالذكرى تنفع المؤمنين: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)
(1/128)
________________________________________
الدليل الثانى على إمكان البعث:
النبات تكوينه وخروجه.
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) .
بعد أن ساق القرآن الدليل الأول بالنطفة والجنين.
قدم الدليل الثانى على إمكان البعث وتكوين الأجساد في الأرض وهو الاستدلال بالنبات.
إن الأجساد تتكون في باطن الأرض ثم تنشق الأرض لخروجها , كما يتكون النبات في بطن الأرض ثم تنشق عنه (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)
وقد تتبعت آيات القرآن في موضوع النبات لاستكمال الصورة الذهنية للموضوع فرأيت أن القرآن قد ساق الحديث عن النبات لعدة مقاصد
...
مقاصد النبات في القرآن:
أولا: التشبيه:
استخدم القرآن النبات في موضوع التشبيه لترغيب النفوس في الإنفاق والكلمة الطيبة والحرص على حسن الخاتمة وتنفير النفس من النقائص وقد ورد ذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم نكتفى بذكر بعضها قال تعالى:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
(1/129)
________________________________________
يقول الحكيم الترمذى: "وهذا مثل للمصدق بالبعث المحتسب بالإيتاء يريد بها وجه الله من غير مَنٍّ ولا أذى".
والتعبير بقوله تعالى: (جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) سبق القرآن به علوم الزراعة الحديثة التي تفضل غرس البساتين في الأماكن المرتفعة لبعد جزور الشجر عن المياه الجوفية التي تصيب الجذور بالتعفن.
كما شبه القرآن الكلمة الطيبة (كلمة الشهادة) بشجرة طيبة أصلها ثابت في قلوب المؤمنين وفرعها يربطهم بالنسب السماوي، تؤتى أكلها كل حين عبادة وأفعال كثيرة لا يقدر عليها إلا من هذبته العقيدة وقومت سلوكه، والكلمة الخبيثة لا مدد لها ولا ظلال قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)
ثانياً: بيان نعمه سبحانه:
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ)
(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ)
ثالثا: لإقامة الدليل على عظمة الله وبيان آياته:
والقرآن يستخدم الحواس كوسيلة لتدبر العقل.
فالقرآن قد جعل النبات غذاء للبدن وللعقل معاً قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(1/130)
________________________________________
يقول الفخر الرازى: اعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهى نعم بالغة وإحسانات كاملة والكلام إذا كان دليلا من بعض الوجوه وكان إحسانا من سائر الوجوه كان تأثيره في القلب عظيماً.
رابعاً: ظهور الحياة في المادة التي يتوهم عدم الحياة فيها.
ومن مقاصد القرآن في موضوع النبات لفت نظر المتدبرين إلى وجود نوع من الحياة الساكنة في الحب والنوى.
ما كان أحد يوم نزول القرآن يتصور حياةً ما في مثل الحب والنوى.
وقد عرفنا الله بنفسه بأنه فالق الحب والنوى قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
خامساً: استخدم القرآن النبات لتأكيد التقدير في صنع الله سبحانه وأطلق القرآن على ذلك التقدير كلمة
(موزون) أي مقدر بقدر ما ينفع الناس:
قال تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)
قال الفخر الرازى: اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه:
أولها بالقول أن المراد به أنه مقدر بقدر الحاجة لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج الناس إليه وينتفعون به فينبت سبحانه في الأرض ذلك المقدار ولذلك أتبعه سبحانه بقوله: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) لأن ذلك بحسب الانتفاع بعينه.
سادساً: ساق القرآن الحديث عن النبات في مقام التمهيد لإقناع العقل بالبعث والتدليل عليه وهذا الجانب هو الذي يرتبط بموضوع السورة الكريمة
(1/131)
________________________________________
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)
والدارس لا يكاد يرى فارقا كبيرا بين عملية تكوين الجنين في الرحم التي سبق أن تكلمنا عنها وبين تكوين النبات في بطن الأرض فكلاهما دليل على عظمة الله.
فالخليَّةُ الحيَّة حيوانية كانت أو نباتية يتجلى فيها الإعجاز الإلهى.
إنَّ غذاء النبات في الأرض يحكى سر غذاء الجنين في رحم الأم.
ولا مانع من سوق كلمة سريعة عن تكوين النبات وغذائه تاركاً التفصيل لكتب التخصص ورجاله.
يد الله:
إن التربة غنية بعناصر الغذاء اللازم للنبات والشمس لازمة له أيضاً والغلاف الجوى يجود للنبات ولا يبخل.
ولكن عملية التغذية تتم بطريقة معقدة جداً فالتربة بها الأملاح المعدنية كالكلسيوم والبوتسيوم والمغنسيوم وغيرها. ولكن هذه العناصر لا يستطيع النبات أن يستفيد منها مباشرة لذلك خلقا الله سبحانه مصانع معقدة تحول هذه العناصر إلى غذاء للنبات سهل الهضم.
هذه المصانع الحيَّة يبلغ حجم كل مليون مصنع 1 سم متر مكعب إنها (البكتريا) بأنواعها المتعددة وعطاءاتها المختلفة وسوف أشير إلى بعضها ورسالته.
بكتريا التحلل موجودة في التربة وتقوم بتحليل المركبات العضوية المعقدة لتجعلها عناصر غذائية سهلة الهضم للنبات.
بكتريا التأزت:
وتتعامل مع النتروجين الموجود في الهواء بصورة غازية وتحوله إلى مركب عضوى يتغذى منه النبات فعنصر النتروجين الموجود في الهواء يشارك في غذاء النبات في التربة بواسطة بكتريا الأزوت
(1/132)
________________________________________
ثم يخرج هذا النتورجين مرة ثانية في الهواء الجوى فى
(العملية العكسية للتأزت) ثم يرجع إلى النبات. وهكذا..
بكتريا التكافلية: وهى هامة جداً في إيجاد عملية توازن بين دورة النتروجين الجوى الذي يتحول إلى مركبات نتروجينية معقدة داخل التربة وبين الأنواع الأخرى من البكتريا.
وليس هذا مجال التفصيل في هذا الموضوع ويمكن للدارس أن يرجع إلى كتب التخصص أمثال كتاب خصوبة الأراضى والتسميد للدكتور عبد المنعم بلبع.
(الباب الرابع)
وإذا كانت البركتريا بأنواعها تتعاون في إيجاد حل لمشكلة الغذاء المعقد الموجود داخل التربة فإن الطاقة الضوئية الصادرة من الشمس يستغلها النبات الأخضر في تكوين مركبات عضوية يستخدمها في الحصول على الطاقة اللازمة للعمليات الحيوية التي تدور بداخل جسم النبات ويتوقف ما ينتجه النبات من محصول ثمرى إلى حد كبير على مقدار ما يقوم به من عملية (التمثيل الضوئى) الذي تتكون منه المواد (الكربوهيدراتية) وهى أساس تكوين السكر فيما بعد بالنبات.
وضوء الشمس خلقه الله بمقدار فلو قل الضوء ينقص المحصول , ولو زاد الضوء يدمر مادة (الكلوروفيل) الأخضر بالورقة هذه المادة التي تتحكم في عملية التمثيل الضوئى وبالتالى يقل إنتاج المواد الكربوهيدراتية كما أن شدة الإضاءة تقفل الثغور التنفسية الموجودة على سطح الورقة , وذلك يمنع دخول ثانى أكسيد الكربون إلى داخل الورقة فينشأ عن ذلك أن يقل إنتاج المواد (الكربو هيدراتية) وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
إن غذاء النبات في بطن الأرض كغذاء الجنين في بطن الأم , الأب والزارع يضعان بذرة الجنين والنبات والله يتولى الرعاية والغذاء والإنماء، وبعد هذا الإيجاز العلمي لغذاء النبات يسأل كل عاقل نفسه
(1/133)
________________________________________
(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ؟
والآن نتابع الموضوع وننتقل إلى سورة يس.
أما سورة يس فتؤكد هذا المعنى عندما تخبر أن يد الله الكريمة هى التي تنبت الزرع وترعاه ويد الإنسان عاجزة عن الإنبات عجز الوالدين عن تخلق الجنين فال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)
أجل ما عملته أيديهم: ولكن عملته يد الله والذى أختارُ أن (ما) في قوله تعالى: (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) ما هنا نافية.
حتى عندما نعتبر (ما) اسم موصول لن نذهب بعيدا ً عما قلناه لأن الله هو الخالق للزرع والزارع.
قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)
إن الله ينبت ونحن نحصد وواجبنا شكر النعمة وتعظيم الخالق.
وتؤكد سورة النمل هذا الموضوع أيضاً.
قال تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)
فما كان لأي قوة من قوى البشر أن تنبت الشجر ولا حتى النواة.
حفظ الله للنبات:
ولا يقف فضله سبحانه على الإنبات بل يتعدى ذلك إلى نعمة الحفظ.
قال تعالى في سورة الوواقعة: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)
إن صراع العلم مع الآفات الزراعية يحدد قدرة الإنسان. لقد دخل العلم صراعاً طويلا مع الذباب فلم يستطع العلم أن يقتل آخر ذبابة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
(1/134)
________________________________________
إن حفظ النبات آية أخرى من آيات الله.
فلو أهلك الله نباتهم لظلوا يتفكهون بالحديث عن مصابهم باكين.
على ما أنفقوا من أموالهم على هذه الزروع: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) فهم مغرمون بما أنفقوا أي يلازمهم الحزن ملازمة الغريم لغريمه، ومحرومون من ثمار طالما انتظروها.
(لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ...
الماديون والنبات:
حارت المادية الحديثة في تفسير نشأة النبات، وتنوعه، حيرتها في تفسير نشأة الإنسان.
ولكن القرآن يخاطب العقل السليم بما يثبت التكامل في عالم النبات ويؤكد تهافت الملاحدة في قولهم بالمصادفة , وأكتفى هنا بذكر دليلين فقط على إثبات القصد وعدم المصادفة في عالم النبات..
الدليل الأول - التكامل:
الدارس لعطاء المملكة النباتية، وما تقدمه للإنسان، يرى أن النبات يقدم للإنسان الغذاء والكساء والدواء، حتى اللحم الحيوانى، الذي نأكله فأصله النبات، لأن الله حرم علينا أكل الحيوانات التي تتغذى على غير النبات، وحسبك من عطاء النبات أنه يقدم للإنسان السكر.
وإذا نقص السكر في دم الإنسان عن 50 ميللجرام في كل 100سم3 فإن المرءَ يشعر باضطراب ذهنى، وانزعاج , وإذا هبط أكثر إلى 40 ميللجرام أصيب المرءُ بالارتعاشات العضلية وإغفاء متزايد , فإذا زاد نقصان السكر تحدث عملية (الثبات السكرى) وهو حالة الغيبوبة
(1/135)
________________________________________
الكاملة وذلك لأن السكر هو الغذاء الأول للخلايا العصبية , بل هو الغذاء المفضل لها.
والنبات أهم مصادر الإنسان للسكر، ويمكن أن نعتبره المصدر الوحيد , لأن سكر اللبن أصله غذاء نباتى.
فالنبات يقدم لنا الغذاء كاملا، كما أن النبات يقدم لنا الكساء , فالقطن والكتان نبات , والحرير أصله من ورق التوت , والصوف والوبر نبت من غذاء نباتى.
قشر البصل:
واخترت من عطاء النبات " قشر البصل " وهل نعرف شيء أهون علينا من قشر البصل؟..
إنَّ عطاءه للإنسان عطاء كريم.
لقد أكدت الدراسة التي قام بها صديقنا الكريم الدكتور محمد عاطف سرحان. على قشر البصل.
أثبتت أن هذا القشر غنى بمادة " البكتين " إذ تصل نسبة هذه المادة إلى 40 % من وزن القشرة.
وهذه المادة فضلا عن دخولها في الصناعات الغذائية , فهى مادة علاجية عجيبة.
أولا: تؤثر على الدم في حالات النزيف الخارجى وتسبب تخسر الدم وإيقاف النزيف.
ثانيا: يمكن أن تتدخل في علاج " استطلاق البطن " ووقفه.
والعجيب في مادة " البكتين " كما يقول الدكتور محمد عاطف: أن المعدة إذا كانت مصابة بالتسمم فإن مادة (البكتين) يمكنها أن تقبض على السم فإذا حاولت المعدة أن تفرز أحماضها لتهضم هذه المادة , فإنها لا تهضم , وتظل قابضة على السم حتى تخرجه من المعدة , وينجوا الإنسان من التسمم.
يا سبحان الله..
هذا عطاء قشر البصل , فأي شيء في الكون أهون علينا منه؟
وهل يمكن لعاقل إذا غابت عنه هذه الحكمة من خلق شيء في الكون أن يدعى أنه خلق عبثا؟
تعالى الله عن لغوهم علوا ً كبيراً: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
(1/136)
________________________________________
والمسلم إذا غاب عنه شيء من حكمة الله في الخلق أو في الأمر سلم لله , واتهم نفسه بقصور النظر , يقيناً منه أن أفعال الله لا تخلوا من الحكمة.
...
ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن ما يقدمه لنا النبات من دواء وغذاء أن نتحدث عن بعض فوائد (البصل) بعد أن تحدثنا عن (قشر البصل) ..
لقد ذكر الأطباء: أن أكْلَ بصلة متوسطة الحجم كل يوم , يخفض كمية السكر في الدم عند المصابين بالبول السكرى , فالبصل يعمل عمل (الأنسولين) ويقلل عند مرضى السكر الشعور بجفاف الحلق , والشعور الدائم بالعطش.
كما أن أكل البصل الغض، يساعد على تطهير الجسم من أملاح الطعام , ويعيق نمو الجراثيم بجميع أنواعها , مثل جراثيم (التقيح في الدمامل) , وجراثيم (التيفوئيد في الأمعاء) . وجراثيم (الجهاز التناسلى) .
بل إن الأمر أعظم من ذلك وأخطر.
فبعض الأطباء يوصى مرضى (السرطان) بأكل بصلة مع كل وجبة من وجبات الطعام.
الثوم طبيب ماهر:
وذكر البصل يحتم علينا ذكر الثوم، كما أن الحديث عن عطاء النبات في مجال الدواء يحتم هذا، والثوم له استعملان , استعمال من الخارج لتسكين الآلام التي لا يعرف سببها مثل آلام (الروماتيزم) كما يستعمل أحيانا لتسكين آلام الأسنان , بوضع فص ثوم مهروس فوق الألم.
ويمكن علاج (الجرب) بدهن الجلد كله بمزيج من الثوم والشحم , عدة أيام , يعقبها حمَّام ساخن.
أما استعماله من الداخل فالثوم (مضاد حيوى نباتى) يقوِّي مناعة الجسم ويكسبه نشاطاً لذلك يوصى بأكله للوقاية من الأوبئة (كالتيفوس والكوليرا) ومن الثابت طبياً أنه يعوق نمو خلايا السرطان. كما دلت التجارب الطبية أيضا أن الثوم يقى إلى حد كبير من الإصابة بشلل الأطفال.
وللثوم فوائد علاجية أخرى.
فهو يفيد مرضى البول السكرى
(1/137)
________________________________________
كثيرا في وقايتهم من مضاعفات المرض.
كضعف الذاكرة أو فقدان الحس في الأطراف.
نتيجة لإصابة الأوعية الدموية باختلال الدورة الدموية فيها.
والثوم يحفظ ضغط الدم المتزايد في مرضى تصلب الشرايين والأعراض المرافقة له. كالدخوة والإمساك.
أما الذين يدمنون التدخين.
فمادة (النيكوتين) تسبب عملية تسمم مزمن في الدم , والثوم يعالج الاضطرابات الناتجة عن هذا التسمم، والثوم يعالج مرض تقيح اللثة , والذى يسبب سقوط الأسنان في سن مبكرة. والثوم يعالج جميع أنواع الإسهال المنتن مهما كانت أسبابه , يأكل المريض الثوم فيزيل العفونة ويتحسن الإسهال إلى أن يعود الخارج إلى حالته الطبيعية.
ومن تجربتى الخاصة أن الثوم يفيد كثيرا في حالات التهاب الأحبال الصوتية , وقد سافرت من بغداد إلى القاهرة للعلاج من هذا المرض ثم قرأت بحثا طويلا عن الثوم كمضاد حيوى نباتى فنفعنى الله (بزيت الثوم) ونفع كل ما أعرفهم به (المؤلف) .
إنَّ كلَّ نبات خلقه الله لحكمة.
وعطاء النبات للإنسان يؤكد القصد وعدم المصادفة فأي عاقل يمكن له أن يمسخ عقله ويقول: إن هذا العطاء المتنوع الشامل لكل أمراض الإنسان وقاية وعلاجاً يمكن أن يأتي عن طريق المصادفة العمياء , إن التكامل دليل القصد.
ومن الطريف في هذا المجال أن بعض النباتات خلقها الله على صورة العضو الذي تعالجه في جسم الإنسان كنبات الخلة.
الدليل الثانى - الجمال:
استخدم القرآن عنصر الجمال في النبات ليلفت النظر إلى الجانب المعنوى من منافعه.
قال تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) (1)
- - - - - - - - - -
(1) قال الزمخشرى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به وانظروا إلى حالة ينعه ونضجة كيف يعود شيئاً جامعاً للمنافع والملاذ. انظروا نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدرة ومدبرة وناقلة من حال إلى حال.
وقال الواحدى: نبه على هاتين الحالتين (الثمر والينع) وإن كان بينهما أحوال يقع بها الاعتبار لأنهما أغرب في الوقوع وأظهر في الاستدلال
(1/138)
________________________________________
(فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)
(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)
إن عنصر الجمال وحده قادر على إبطال كل تفسير قاله علماء النشوء والارتقاء من أن الطبيعة تصارع من أجل البقاء كما سبق وأن أوضحت، لأنها إنْ صارعت من أجل البقاء فما سر الجمال في الورد؟
وهل تهب الطبيعة الجمال وهى لا تتذوقه؟
* * *
القرآن يربط بين طعامنا والبعث:
القارئ للقرآن الكريم يلاحظ أن القرآن يربط بين الطعام الذي نأكله وبين الحديث عن البعث. فهو يتحدث عن الطعام ثم ينتقل إلى الحديث عن القيامة.
قال تعالى:
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
ثم ينتقل بلا فواصل إلى الحديث عن القيامة: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
وفى سورة ق جاء قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)
(1/139)
________________________________________
وفى سورة النبأ: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)
وفى سورة النازعآت: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى)
وفى سورة عبس: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
وهكذا في سور كثيرة من القرآن يأتي الحديث عن البعث عقب الحديث عن الطعام فما سر ذلك وأي علاقة بين الطعام والقيامة؟
أولا: تكوين النبات داخل الأرض ثم انشقاقها لخروجه صورة مصغرة لتكوين أجسامنا في الأرض تمهيداً لخروجها لفصل الحساب.
ثانياً: من الناحية النفسية:
يهدف القرآن إلى إنشاء عملية (المنعكس الشرطى) كما يسميه علماء النفس , بين مشاهدة النبات وتذكر الآخرة لأن هذا الارتباط الذهنى يقوم السلوك البشرى ويهذبه.
فكلما رأينا النعيم تذكرنا الآخرة.
إن الإنسان عندما يدخل محل للطعام ويعرض عليه صاحب المحل أنواع الطعام فإن الإنسان يتخير الأنواع التي يمكنه أن يدفع ثمنها لأنه يعلم أن عقب الطعام سيدفع الحساب.
وهذا هو المعنى الذي يهدف القرآن إليه.
إنَّ القرآنَ يريد أن يربي المسلم على أن بعد الطعام في الدنيا حساب في الآخرة: (وأيما لحم نبت من حرام فالنار أولى به)
ثالثا: يربط القرآن بين النبات والبعث لأن الطعام الذي نأكل ليس فيه حياة عند أكله فإذا تمَّ هضمُه تحول هذا الطعام الميت
(1/140)
________________________________________
إلى خلايا حيَّة وهذا بعض ما عناه القرآن بقوله تعالى:
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)
فالذى حول الطعام الميت إلى خلايا حيَّة هو الذي سيحول الأجسام الميتة إلى أحياء ينتشرون.
إنَّ القرآن يريد لهذه الأمة أن تظل في مقام الزيادة وهو يجاهد العقل البشرى ليكون محمديَّ السلوك ولا يترك القرآن فرصه لا يذكرنا فيها بلقاء الله والوقوف بين يديه فهو عندما نشرب يذكرنا بالله وعند الطعام يذكرنا بالله وعند النوم واليقظة يذكرنا بالله لقد استطاع لقرآن بهذا المنهج أن يربى أمة على حراسة الحق وصيانة الفضيلة.
ولست أدرى كيف سمحت أمة القرآن لنفسها أن تستورد مبادئ للتربية ومناهج لها من هنا وهناك.
وقد نسيت هذه الأمة أن تسول الغنى جريمة. وأن الله أعطانا من القرآن ما يكفى لهداية العالمين , وقد ضرب لذلك مثلا:
إن سفينة نفد ما عندها من الماء العذب فأرسلت إشارة لسفينة أخرى تسير بجوارها تطلب منها الماء العذب لإنقاذ من فيها. فردت عليها جارتها وقالت لها: أنت تسبحين في ماء عذب؟!!.
هذه أمة القرآن تطلب الهدى من الشرق والغرب وكتابها يهدى العالمين للتى هى أقوم.
فمتى تعود هذه الأمة إلى كتاب ربها وهديِ نبيها؟
إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها.
وبعد: فقد أثبتت دراستنا لمجموع آيات النبات في القرآن الكريم أن هذه الآيات تهدف إلى مقاصد متعددة منها ما يثبت العقيدة ومنها ما يهذب السلوك..
فآيات النبات في القرآن تهدف لعديد من المعانى:
* تصور قدرة الله على إنبات النبات والشجر. مؤكدة أن كل الدنيا , مهما بلغت من تقدم علمى , لن تقدر على صنع نواة من التمر , فضلا عن إنبات نخلة.
* تكوين النبات في الأرض صورة لتكوين الأجسام فيها إيذاناً بالبعث.
(1/141)
________________________________________
* يربط القرآن بين الطعام والبعث:
لأن الطعام الذي نأكله لا حياة فيه. فإذا تمَّ هضمه تحول إلى خلايا حيَّة. وهذه صورة لإخراج الحي من الميت فلماذا يشككون في البعث وهو يحدث داخلهم في كل يوم.
* من الناحية السلوكية فالربط بين الطعام والبعث يشعر المسلم بأن بعد الطعام حسابا شديداً بين يدى الله. فيتحرى الحلال ويتجنب الحرام من الأطعمة.
* استخدم القرآن النبات كمادة للتشبيه البلاغي في مجال الترغيب في السخاء.
قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)
* كما استخدم في دعوة الإنسان للحرص على حسن الخاتمة وعدم ابطال عمله.
قال تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
إنها صورة لمن قضى حياته كلها لخدمة دنياه فقط..
ثم خسر دنياه وخسر نفسه.
* وفى دعوة القرآن للبذل والجهاد استخدم صورة السنابل..
إنَّ الحبة الواحدة تصبح سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
* وناهيك بما قدمته سورة طه من تشبيه الزوجات الحسان في الدنيا بالزهرة. لبعث في نفوس تلاميذ القرآن أن متعة الدنيا كعمر الزهرة تفتن اليوم بجمالها وغداً يغزوها الذبول: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
(1/142)
________________________________________
هذا.. ولم تزل مقاصد القرآن في النبات تحتاج إلى مدارسة لقد أغنانا القرآن بأسلوبه السهل العميق واستخدامه لمظاهر الطبيعة الملموسة للجميع عن أساليب الفلسفة وحاول أن يوصلنا من أقرب طريق: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)
الدليل الثالث - نزول الماء من السحاب: قال تعالى:
(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)
ساق القرآن الدليل الثالث على البعث من عملية نزول الماء من السحاب لما يحدثه هذا الماء من حياة في الأرض وكما تعودنا سنتابع في حياء آيات الله سبحانه في الماء وأثره في حياتنا فحيثما وجدت الحياة فلا بد من وجود الماء لأن الماء سر الحياة فإذا جف الكائن الحي فقد الحياة فالماء يوجد في كل خلية حيَّة متحداً اتحاداً كيماوياً في هيولى الخليَّة كما يوجد متشربا لجزئياتها ومتدخلا في مسامها كما يتداخل في مسام الإسفنج وهو يمثل نسبة ثابتة في تكوين الخليَّة قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)
ولأمرٍ ما: جعل الله عرشه على الماء قبل خلق السماء والأرض قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)
وكان عرشه على الماء: وكان الماء على (لا شيء) .. لأن السموات والأرض لم تكن بعد قد خرجت عن الوجود.
لقد كان الماء محمولا على قدرة الله وليس لأحد من الناس أن يدخل نفسه في الغيب بدون إذن من صاحب الغيب فليس لنا أن نتحدث عن العرش ما هو ولا كيف كان. ولكن من حقنا أن نفهم من الآية الكريمة: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أن الماء مظهر لعظمته سبحانه وقد سبق أن فسرت آيات القرآن في موضوع الماء في كتابى (حتى لا نخطئ فهم القرآن) الجزء الثالث ويحسن أن أعيد ذكر بعضها هنا إتماماً للموضوع
(1/143)
________________________________________
وجانب التقدير في طبيعة الماء. يمكن للمتخصص في العلوم الكونية أن يتعرف على عظمة الله من خلال تركيب الماء من مادتين:
الأولى قابلة للاشتعال والثانية تساعد عليه فكيف مزج بينهما وخلق منها ما تطفئ النار؟ كما أنه يدرك مخالفة الماء في طبيعتها لأى سائل آخر بل لأى مادة في الكون.
فمن أوليات الخصائص المادية أن أي مادة تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة فأما الماء فإذا انخفضت درجة حرارته عن أربعة (فوق الصفر) فإنها تتمدد ويكبر حجمها فتقل كثافتها فيطفوا الجليد فوق سطح الماء الدافئ وهذه آية من أعظم آيات الله في الماء.
يقول البستانى صاحب دائرة المعارف: إن تمدد الماء البارد يسبب طفو الجليد فوق سطح الماء فيحفظ درجة حرارة الماء التي تحت الجليد فلا تنخفض عن أربعة فوق الصفر فيستمر جريانها تبقى الثروة المائية حيَّة لأنها تستطيع أن تتحمل هذه الدرجة.
فجانب التقدير في الماء جانب واضح وله دلالته فلو كانت مادة الماء كغيرها من المواد التي تنكمش بالبرودة لفقد العالم الثروة السمكية هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يحدث اصطدام السفن الكبيرة بالجبال الثلجية التي تتكون تحت سطح الماء ولا يمكن رؤيتها.. (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ
الْمُنْزِلُونَ)
مرة ثانية ننظر إلى آيات الله في الماء الذي نشربه أن الماء ثقيل ومع ثقله فهو سهل الهضم وسر ذلك أن الله مزج جزءاً من الهواء في الماء الذي نشربه بنسبة تتراوح بين 30 إلى 80 سم في اللتر الواحد من الماء وذلك حتى تتنفس الحيونات المائية وليصبح الماء سهل الهضم في المعدة. إذ لو خلا الماء من الهواء المذاب فيه لأحدث ثقلاً عظيما في المعدة وعسر هضم لا يطاق.
(1/144)
________________________________________
وكما أن الماء معدٌّ لسقى الإنسان ومركب بحيث يسهل هضمه فهو أيضا معد لإحياء الأرض وغذاء النبات.
لقد أَكَّدَ القرآن أن ماء المطر مبارك وربط بين بركة الماء وإنبات النبات: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)
وهذه البركة فسرها التحليل الكيماوي للماء بأنها كمية العناصر التي تمتزج بماء المطر وهى كمية قليلة من النشادر والأملاح الفلزية وحامض الكربونيك.
هذه النسبة ضرورة لغذاء النبات.
وهى بقدر فلو قلت ضعفت التربة وضعف النبات ولو زادت لاحترق النبات.
الماء الطهور:
قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)
الماء حياة للإنسان وللأرض والحيوان. ولكن القرآن هنا قدم إحياء الأرض وسقاية الحيوان على سقيا الإنسان لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم. ولأن الناس إذا ظفروا بما يكون سقياً لأرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقايتهم.
كما أشارت الآية الكريمة إلى إحياء الله للأرض بعد موتها وذلك بنزول الماء عليها وقد تكرر هذا في القرآن أثنتا عشرة مرة. لتثبيت هذا المعنى في الاذهان قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(1/145)
________________________________________
يقول الدكتور كاصر الزيدى: فالأرض الميتة الهامدة ينزل عليها الماء بأمر الله فإذا بها تستجيب لداعي الحياة فتنبت من الأصناف ما يبهج النفوس , فالماء والأرض يمثلان منظر الحياة المتجددة وسنة من سنن الله في الكون في إخراج شيء يسبب شيء، الماء كالرجل في علاقته بالأرض والأرض كالمرأة في استجابتها له وما ينبت منها أشبه بالنسل الذي يتولد من تزوج الرجل والمرأة وتشبيه الإحياء بالماء أيضا ليس بعيدا عن تكوين الإنسان الأول من التراب الذي لا حياة فيه ولكن القدرة الإلهي ة هى التي بثت فيه الحياة وخلقت فيه الروح فإذا هو بشر.
وهذه الصورة في إنبات النبات بالماء وطهوره متجدداً من طور إلى طور ليست بعيدة أيضاً عن نشوء الإنسان وتدرجه من نطفة إلى علقة إلى مضغة بقدرة الله ومشيئته هذه الصورة الحيَّة تدل على ما ورائها من القدرة المحركة لذلك كله ولقد ربط القرآن بين هذه الصورة الماثلة المتكررة وبين صورة أخرى في عالم الغيب وهى صورة البعث وإحياء الإنسان لملاقات ربه وما أعد له من ثواب أو عقاب قال تعالى: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)
بقدر حاجة الإنسان إلى الماء يكون التهديد من الله بزواله له وقع على النفس عظيم.
لقد هدد الله سبحانه في القرآن بأمرين:
أولا: بزوال الماء وتغويره في الأرض.
ثانيا: بجعل غذبه ملح أجاجا ً فتفسد حياة الناس قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)
إن نعم الحياة مرتبطة بالمنعم: وهذا التهديد يجعل الإنسان العاقل دائم الرجاء لله دائم الحرص على رضاه فالمعاصي تزيل النعم.
قال الزمخشرى: (عَلَى ذَهَابٍ بِهِ) لمن أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه وفيه إذان باقتدار الله وأنه لا يتعالى عليه شيء إذا أراده وهو
(1/146)
________________________________________
أعمق في التهديد من قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)
فعلى العباد أن يستعظموا النعمة بالماء ويقدروها بالشكر الدائم ويخافوا نفادها إذا لم تشكر.
التهديد الثانى:
قال تعالى: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)
تحويل الماء العذب إلى ملح أجاج ليس بالأمر الصعب لأن الله على كل شيء قدير والدراسات العلمية تؤكد أن تحويل الماء النازل من المطر يمكن أن يتحول إلى سائل كيماوى يهلك الحرث والنسل. فاحتكاك السحاب سالبه بوجبه يولد شرارة كهربية هذه الشرارة ينشأُ عنها إذابة جزء من الهواء في الماء النازل فيتكون (ثانى أكسيد النيتروجين) بنسبة تذوب في ماء المطر فتغذى النبات.
فلو شاء الله زيادة هذا الحامض في ماء المطر لأفسد هذا الماء حياة الناس
...
وبعد: إن العلاقة بين الماء والبعث تتجلى في نزول الماء على الأرض الميتة فتهتز وتربوا والماء آية من آيات الله ونعمة من نعمه وبمقدار الإنعام بما يشتد وقع التهديد بزوالها أو تحويلها حامضاً يهلك كل شيء وقد أخبر القرآن أن الله سبحانه إن رضي عن عباده ساق سحاب الخير والبركة اليهم قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)
وإن عضب على العبيد أهلكهم بالماء نفسه.
قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)
(1/147)
________________________________________
هذا ما حدث لقوم عاد وثمود كما أمطر الله مطر السوء على قوم لوط قال تعالى: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)
وقصة الطوفان معروفة فالصواعق سهم من سهام الله يوجهها إلى من يشاء إهلاكهم: قال تعالى: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ)
قال لى أحد الشباب: إن العلم صنع مانعات للصواعق لحماية المنشئات؟
قلت له: وهل يمكن أن نضع مانعات الصواعق على رؤوس الناس في الطرقات لحمايتهم؟!!.
إن الإنسان مع ضعفه يجادل في الله قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
فالماء نعمة وإن يشأ الله يجعله سلاحاً للدمار
...
مع الآية الكريمة وإطلاق المطر صناعيا:
(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)
وفى دراسة للدكتور موريس بوكاى للقرآن الكريم والكتاب المقدس يقول: بعد أن سمحت التكنولجيا بإطلاق المطر صناعيا أيمكن معارضة دعوى القرآن بطاقة البشر على إنتاج المطر؟
ليس الأمر كذلك، إذ يبدوا أنه لابد من الأخذ في الاعتبار بحدود إمكانيات الإنسان في هذا الميدان
(1/148)
________________________________________
ثم يقول: وقد كتب (م. أ. فاسى) مهندس عام الإرصاد الجوية في مقال (الهواطل) بدائرة معارف (أونيفر ساليس) كتب ما يلى: لا يمكن أبداً إسقاط المطر من سحاب لا يحتوي على سمات السحابة القابلة للهطول. كما لا يمكن إنزال المطر من سحابة لم تصل إلى درجة مناسبة من التطور أو النضج وبالتالى فإن الإنسان لا يستطيع أن يعجل بعملية الهطول مستعيناً في ذلك بالوسائل التقنية الملائمة.
ونزول المطر الصناعى مشروط بأن تكون الظروف الطبيعية ملائمة.
ولو كان الأمر غير هذا لما وجد الجفاف، ثم يختم (فاسى) مقاله بقوله: إن التحكم في المطر والتقس الجميل لم يزل حلماً.
ويفهم من كلام فاسى أن عملية المطر الصناعى كعملية (الطلق الصناعى) عند الوضع. إذ لا يمكن للجنين أن ينزل إلى الأرض حى سليماً إلا إذا تمت مدة حمله. وفنون الطب في عملية الولادة لا تنقض هذه القضية.
الدليل الرابع: الاستدلال بالنار
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
بعد أن ناقش القرآن المنكرين في موضوع النطفة والنبات والسحاب.
ساق التساؤل الاخير وجعل مادته هى النار.
إنَّ نار الدنيا تذكرة ومع أنها سبب الحضارة وارتبطت بكل تقدم عمرانى إلا أنها تهلك كل شيء. فهى نعمة ونقمة.
إنَّ الذين لا تؤلف النعمة قلوبهم ولا تهذب الشدائد سلوكهم تصلح معهم النار لأن آخر الدواء الكي , فهناك صنف من الناس لئيم الطبع , خبيث الطوية , إن جاع
(1/149)
________________________________________
سرق , وإن شبع زنا , صنف كنود يأكل خير الله فلا يشكر ويَعْثُ في الأرض فساداً ولا يتوب.
قال عنهم القرآن: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)
قال صاحب الظلال:
هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة والذين تنكبوا الطريق لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ولا الابتلاء بالنقمة. فإن أصابتهم النعمة حسبوا (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ)
وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ولم تستيقظ ضمائرهم ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر. ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون.
إنَّ التضرع والاستكانة عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله والشعور بأنه المرجع والملاذ أما حين يسدر الإنسان في غيه ويعمه في ضلاله فهو ميؤس منه لا يرجى له صلاح متروك لعذاب الله الذي يفاجئة فيسقط في يده ويبلس ويحتار وييئس من الخلاص.
(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)
(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) ؟..
إنَّ إخراج النار من شجر رطب أخضر آية على عظمة الله وقدرته.
وللعرب شجرتان أحدهما (المرخ) والآخرى (العفار) إذا أخذ منهما غصنان فحك أحدهما بالآخر تناثر شرر النار كأعواد الكبريت وقد جاء ذكر هذا الشجر في سورة يس في مقام مناقشة المنكرين للبعث.
(1/150)
________________________________________
قال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)
قال الزمخشرى: (ثم ذكرمن بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضاداته للماء وانتفائها به وهى الزناد التي توارى بها الأعراب وأكثرهم من (المرخ والعفار) وفى أمثالهم في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار , يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضرا وأن يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بإذن الله)
وقال الطبري: بين سبحانه أن من قدر على أن يجعل من الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نار حامية مع مضادت النار للرطوبة قادر على الإعادة والبعث. (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)
جعل لنا نار الدنيا تذكرة للعقلاء بنار الآخرة.
روى الإمام مالك عن أبى هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد"
وفى رواية البخاري ومسلم أن الصحابة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله: إن كانت لتكفى أي نار الدنيا فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذى نفسه بيده لقد فضلت عليها بتسع وستين جزء كلهن مثل حرها".
(وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)
للمقوين: للمسافرين في القواء وهو المكان الخالى والمنزل
(1/151)
________________________________________
القواء هو المنزل الذي لا ساكن فيه.
والمعدة القواء هى الخالية من الطعام.
قال الشاعر:
وإنى لأختار القوى طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم
والنار في الدنيا متاع لمن ينزل في الصحراء حيث لا مأوى وهى متاع لأصحاب البطون الخاوية تعوضهم عن الدفء الداخلى كما تساعد على صنع الطعام.
وقد خص القرآن المقوين بالذكر مع حاجة الجميع إليها لفرض حاجتهم.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) .
بعد أن ناقش القرآن الكريم العقل البشرى التفت إلى الفطرة وأمرها بالتسبيح على معنى: دع الجدل وسبح باسم ربك العظيم والمقصود هنا تنزيه ذاته تعالى عن كل ما لا يليق بها من أوهام الجاهليات القديمة والحديثة.
وقد فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الأمر أن المراد تسبيح ذاته , فكان يقول: سبحان ربى العظيم سبحان ربى الأعلى , ولم يقل الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله.
وسر نسبة التسبيح إلى اسم الله هنا أن الذكر والتسبيح في الحقيقة عملية قلبية فطلب القرآن تسبيح اسم الله وذكر اسم الله ليشترك اللسان مع القلب في هذه العبادة.
قال ابن القيم في تفسيره للآية الكريمة: فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلوا الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله لأن اللفظ لا يراد بنفسه.
وأنقل قول ابن تيمية رضى الله عنهما قال: أي سبح ناطقاً باسم ربك متكلما به , وكذا سبح ربك ذاكرا اسمه
(1/152)
________________________________________
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
الكون كله يسبح بحمد الله، فالذى لا يسبح من البشر كالمصباح المنطفئ في وسط المصابيح المشتعلة.
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)
فتسبيح البشر انسجام مع الكون وإرضاء لخالقه.
عن أبى هريرة رضى الله عنه. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" رواه البخاري ومسلم.
عن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأحب الكلام إلى الله"؟
قلت: أخبرنى يا رسول الله.
قال: "إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده" رواه مسلم.
وقد دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسجد فوجد حلقة من أصحابه فقال: (ما أجلسكم؟
قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا.
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟
قالوا: والله ما أجلسنا غير ذلك ,
قال: أما إني لا استحلفكم تهمة لكم , ولكنه أتانى جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله عز وجل يباهى بكم ملآئكته".
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
لأن التسبيح ينجي صاحبه في الشدائد , إن رصيد الناس من الخير لا يضيع عند الله وقد أَكَّدَ القرآن هذه الحقيقة عندما تكلم عن سبب نجاة يونس عليه السلام من بطن الحوت.
قال تعالى: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
(1/153)
________________________________________
فيونس عليه السلام قد نجاه الله ببركة رصيده من التسبيح والخير. وبهذا ينتهى الحديث عن الفصل الثانى من السورة الكريمة لنبدأ الفصل الثالث..
(1/154)
________________________________________
الفصل الثالث
وفيه دراسة علمية وعقلية حول نزول القرآن من عند الله.
* من الكون إلى القرآن.
* كتاب واحد ملأ حياة الأمة كلها في عصر الجمل وعصر الفضاء.
* إذا تكلم القرآن عن الماضي صدقه التاريخ. وإذا تكلم عن الكون صدقه العلم الحديث. وإذا تكلم عن الغيب صدقته الليالى والأيام.
* لماذا تركت قريش معرقة الجدل ولجأت إلى معركة السيف؟ مع أنها صاحبة البيان.
* لماذا نزل وعيد في أبي لهب وامرأته ولم ينزل وعيد في أبي سفيان وامرأته؟
* إذا كنت تعرف الكثير عن الخلايا المخلقة فماذا تعرف عن الخلايا غير المخلقة.
* منهج السيدة خديجة , وهرقل عظيم الروم في الاستدلال على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا الفصل دراسات أخرى.
(1/155)
________________________________________
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
بعد أن ساق القرآن الأدلة الأربعة من الجنين والنبات، والمطر، والنار
قدم دليلاً آخر على صدق البعث وهو القسم على أن هذا القرآن كريم وأنه منزل من عند الله. لأن نزول القرآن يلزم عنه صدق البعث.
وآيات القسم في القرآن كثيرة.
وقد أفردتها بالدراسة في الجزء الرابع من كتابى (حتى لا نخطئ فهم القرآن) ولا يفوتنا هنا أن نوجز القول عن آيات القسم التي تتعلق بموضوع السورة الكريمة.
القسم خطاب للفطرة:
وقع القسم على النفس كبير. خصوصا إذا كان هذا القسم قد صدر من عظيم.
والعرب بفطرتهم حتى المشركين منهم كانوا يؤمنون بعظمة الخالق وإن أخطأ بعضهم تصورها , بنسبة الشركاء له سبحانه لذلك تعجب أعرابيٌّ عندما سمع قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
تعجب الأعرابب وقال: من أغضب رب العرش حتى جعله يقسم؟
فالقسم يؤكد المعنى المقسم عليه في نفوس المخاطبين.
وقد أقسم سبحانه على صدق البعث.
قال تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) (1)
- - - - - - - - - -
(1) قال المرحوم الشيخ رشيد الخطيب الموصلى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) العرف ضد النكر , وهو قسم بآيات الله الهادية إلى العرف الذي لا نكرة فيه (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) الآيات المنذرة للمنكرين (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا)
الآيات الناشرة للنور والهداية (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) القرآن الذي أنزله الله ليفرق بين الحق والباطل (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) عذرا أو نذراً آيات الوعد والوعيد والعذر الفوز والنجاح , ومن المفسرين من فسر القسم بالرياح المرسلة ومنهم من فسره بالملآئكة والله أعلم
(1/157)
________________________________________
وأقسم سبحانه بمظاهر القيامة (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)
(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)
كما أقسم بالقيامة نفسها (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)
وقد أقسم الله سبحانه على حتيمية مجيء القيامة ليؤكد أمرها.
قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)
كل هذا ليؤكد عقيدة الجزاء ويوصلها إلى النفس بشتى الطرق وهذا بعض أغراض القسم في القرآن. (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
هنا يقسم الله بالكون على نزول القرآن من عند الله. لأن القرآن عند ما تستقر قضية نزوله من عند الله في القلب والعقل فإن النفس تطمأن للبعث.
وقد تكرر القسم بالكون على نزول القرآن من عند الله.
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)
والرسول الكريم في هذه الآيات هو ملك الوحي.
أما سورة الحاقة (38 إلى 43) فقد جائت فيها
آية جامعة لكل ما أقسم الله به في القرآن. لأن كل شيء أقسم الله سبحانه به إما مادى من شأنه أن تدركه الأبصار كالنجم والتين والزيتون والخيل العاديات في الجهاد , وإما غير مادى لا تدركه الأبصار.
(1/158)
________________________________________
كالقسم بذاته سبحانه وملآئكته. ولكنه في سورة الحاقة أقسم الله بما نبصر وبما لا نبصر.
فهو أشمل قسم في القرآن لأنه مع إيجازه جمع كل ما أقسم الله به قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
والرسول الكريم هنا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - كما تدل على ذلك بقية الآيات.
وعلى هذا فيمكن أن نفهم الآية الكريمة فهماً آخر.
إنَّ كفار مكة كانوا ينظرون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيرون فيه يتيم قريش ولا يرون فيه النبوة.
فأقسم سبحانه بما يبصرون من اليتيم الأمي وبما لا يبصرون من النبوة والوحى. تكريما لمنبته ونبوته , والله سبحانه عندما يقسم بالكون على نزول القرآن فإن ذلك يؤكد حقيقة كبيرة من حقائق العقيدة الإسلامية وهى أنه لا خلاف أبداً بين حقيقة كونية وآية قرآنية.
وأى خلاف بين حقيقة كونية وآية قرآنية سببه خطأنا في فهم القرآن.
لأن الذي خلق الكون هو الذي أنزل القرآن وكلام الله وخلقه لا يختلفان. (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
هذا بالنسبة للحقائق الكونية:
أما النظريات المفسرة للكون والحياة فإن اختلفت مع القرآن فسبب ذلك هو قصور البشر في فهم أسرار الكون , وما نجهله من أسرار الكون أضعاف ما نعرف.
إنَّ معجزة القرآن العلمية يمكن أن أوجزها في كلمة واحدة وهى: أنَّ العلم الحديث استطاع أن يخطأ أو يصوب كل تفسير
(1/159)
________________________________________
للكون قاله العلماء قديما ولكنه لم يستطع أن يخطأ تفسير واحداً للكون والحياة قاله القرآن: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
(فَلَا أُقْسِمُ) كلمة لا في اللغة العربية تزاد وتحذف.
تزاد لتقوية الكلام وتوكيده. نحو قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ)
(مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) : أى ليعلم.
وجاءت في الشعر العربى:
وتلحينى في اللهو أن لا أحبه ... وللهوى داع دائب غير غافل
فاللام تزاد للتوكيد. فهل (لا) في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ)
هل هى زائدة للتوكيد؟ أم نافية؟
وإذا كانت نافية فأي شيء نفته؟
قيل: هى نافية ومنفيها شيء تقدم الحديث عنه كثيراً في القرآن.
وهو عكس المقسم عليه. وإنما صح ذلك لأن القرآن كالسورة الواحدة. بمعنى أن المنفى بها هنا هو إنكار نزول القرآن من عند الله.
والمنفى بها في أول سورة القيامة (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)
هو مجموع شبه المنكرين للبعث فكأن الله يقول لكل شبه المنكرين: (لا) ثم يقول أقسم بيوم القيامة.
وذكر ابن هاشم أن منفيها (أقسم) .
وذلك على أن يكون أخباراً لا إنشاء.
قال واختاره الزمخشرى. قال: والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له.
(1/160)
________________________________________
بدليل قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
فكأنه قال: إن تعظيمه بالإقسام به كلا إعظام.
أي أنه يستحق إعظام فوق الإعظام.
وقيل إنها زائدة لمجرد التوكيد كقوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
والمعنى: ليعلم. ولا زائدة للإمعان في التوكيد
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
(بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) : التي أقسم بها لفْتَةٌ قرآنية لسرٍّ جديد من أسرار الكون , لم تكن الدنيا تعرف عنه أي شيء , عندما نزل هذا القرآن من عند الله.
لذلك قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
لكن الناس يومها لم تكن تعلم عنه أي شيء.
لأن دراسة مواقع النجوم لم تبدأ إلا في القرن الخامس عشر الميلادى.
وقد ذكر الشيخ نديم الجسر. في كتابه القيم (قصة الإيمان) : أن هناك علاقة رياضية ثابتة بين أبعاد النجوم هذه العلاقة تهدم كل قول بالمصادفة , فالمتواليات الهندسية للأرقام.. صفر - 3 - 6 - 12 - 24 - 48 - 96 - وهكذا.
لو أضفنا لكل عدد منها الرقم 4 ثم ضربنا حاصل الجمع في 9 مليون. فسوف نحصل على الأبعاد التي بين الشمس وكواكب المجموعة الشمسية مع فروق قليلة.
فمثلا: صفر + 4 = 4 × 9 مليون = 36 مليون.
وهذه هى المسافة بين الشمس وعطارد.
3+4= 7×9مليون =63 مليون وهذه هى المسافة بين الشمس والزهرة.
6+4=10×9مليون =90 مليون
(1/161)
________________________________________
المسافة بين الشمس والأرض
12+4 =16 × 9 مليون = 144 مليون وهذه هى المسافة بين الشمس والمريخ.
24+ 4 = 28 × 9 مليون = 252
وجدوا مجموعة كويكبات صغيرة تدور في الفراغ
48 +4 = 52 × 9 مليون = 468 مليون
متوسط المسافة بين الشمس والمشترى
96 + 4 = 100 × 9 مليون = 900 مليون
متوسط المسافة بين الشمس وزحل
192 + 4 = 196 × 9 مليون = 1764 مليون
متوسط المسافة بين الشمس وأورانوس
384 + 4 = 388 × 9 مليون = 3492 مليون
وهى متوسط المسافة بين نبتون والشمس
إنَّ العلاقة الثابتة بين مواقع النجوم تؤكد عظمة القرآن في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يقول الأستاذ على عبد العظيم في مقال نشر بمجلة
(الوعي الإسلامي) : ونحن نعلم أن المجموعة الشمسية بكواكبها التسع وأقمارها العديدة وما تضمه من مذنبات مثل مذنب (هالي) هى جزء من المجرة , وأن المجرة تضم نحو مائة ألف مليون مجموعة شمسية في كل منها كواكب عديدة وأقمار كثيرة ومذنبات وغبار كوني , وأن الكون الفسيح يضم نحو ألف مليون مجرة , وأقرب المجرات إلينا تبعد نحو سبعمائة ألف سنة ضوئية , والسنة الضوئية تقدر بما يقطعه الضوء من مسافات مقدارها ثلاث مائة ألف كيلوا في الثانية الواحدة.
(1/162)
________________________________________
وأقرب شمس إلينا هى (الفيا سينتيورى) وتبعد عنا نحو أربع سنوات ضوئية. فالكون مشحون بالمجرات والكواكب , وكل كوكب له مجاله الذي يسبح فيه. والعلماء يذكرون أمراً عجيبا في حركة الكوكب يذكرون أن المجرات بملاين الكواكب التابعة لها يتداخل بعضها في بعض وترقص الكواكب حول نفسها وحول كواكب المجرة الأصل وتظل هكذا حتى تخرج هذه المجرة من مجال جارتها تخرج ومعها كل كواكبها.
كل هذا ولا يصطدم كوكب بكوكب..
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ، لأن الذي تفضل به على عباده لهدايتهم اله كريم ورسول الوحي الذي أوصله إلى النبي ملك كريم. والنبي الذي تلقاه وبلغه للناس نبى كريم. والخلق الذي دعى إليه القرآن خلق كريم. ثم القرآن بعد كل هذا كتاب كريم لأنه يجود على كل دارس في ميدان تخصصه بعطاء , يبدأ من حيث ينتهى تخصص العلماء.
(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
فى كتاب مكنون في الملأ الاعلى , قبل نزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أشار القرآن إلى هذه المرحلة بقوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ)
ظل القرآن في لوح محفوظ لا يصل إليه علم البشر ولا يسعد بالنظر إليه سوى الملآئكة المقربون. وقد أكدت سورة عبس هذا المعنى.
قال تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ)
(1/163)
________________________________________
ولعل هذا سر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة , والذى يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه
أما قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
فقد كاد فقهاء المسلمين أن يجمعوا على أن مس المصحف لا يجوز إلا للمتوضئ.
ومن أجاز ذلك بغير وضوء أجازه للتعليم فقط.
أما للتعبد بتلاوته فلابد من الوضوء. لأن دراسة القرآن عند المسلمين أوجبت هذا الحكم.
ولكن الخلاف بين الفقهاء , يدور حول النقاط الآتية:
أولا: هل قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
هو مصدر الحكم في وجوب التطهر. أم هناك مصدر آخر أخذ منه الحكم؟
من استدل بالآية الكريمة على وجوب الوضوء اعترض عليه بأن لفظ الآية خبرى. وأن (لا) في قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
نافية وليست ناهية. لأنها لو كانت ناهية لجزم الفعل بعدها.
وأجاب أصحاب هذا الرأي بأن الآية الكريمة وإن كانت خبرية لفظاً إلا أنها إنشائية معنى.
فلفظها الخبر ومعناها النهى، وهذا النوع من الآيات موجود كثيرا في القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ)
فاللفظ خبرى والمعنى طلبى.
فمعنى الآية لا تنفقوا إلا ابتغاء مرضات الله.
ومنه أيضا قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)
والمعنى لا تسفكوا دمائكم فالمعنى نهى عن سفك الدماء وإن كان اللفظ خبرياً (1)
- - - - - - - - - -
(1) قصد بالتعبير بالجمل الخبرية عن المعانى الإنشائية هو الإشعار بسرعة استجابة المأمورين بالأمر. فكأن الله سبحانه قال لهم لا تنفقوا إلا ابتغاء مرضات الله , فاستجاب المؤمنون لأمره سبحانه فأخبر عن حالهم بعد الاستجابة بأنهم فعلا أصبحوا لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله.
وقد ورد هذا التعبير في السنة المطهرة في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" فاللفظ خبرى والمعنى النهى.
(1/164)
________________________________________
ولكن هذا الرد مع وجاهته لم يسلم من الاعتراض.
فقد اعترض بأن نقل الآية من معناها الخبرى إلى المعنى الإنشائى لا يجوز إلا لضرورةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي ولا ضرورة هنا.
ثانيا: أن سورة الواقعة مكية وموضوعها هو تقرير عقيدة البعث وإثبات نزول القرآن من عند الله , فلا يجوز صرفها عن موضوعها إلى حكم فرعى وهو مس المصحف.
وقد استدل ابن تيمية - رحمه الله - على الحكم الشرعي من وجه لطيف. فقال: إن الآية الكريمة تدل على الحكم من باب (الإشارة) فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أن المصحف المطهر في السماء لا يمسه إلا المطهرون فالمصحف الذي بين أيدينا كذلك ينبغى أن لا يمسه إلا طاهر.
وفى كتاب مدارج السالكين مناقشة لرأي ابن تيمية فقد نفى ابن القيم - غفر الله له - وجود أي علاقة بين الآية الكريمة وبين الحكم الشرعي , والرأي الذي عليه الجمهور أن الحكم الشرعي مستفاد من السنن وليس للآية دخل فيه.
لأن الآية الكريمة تتكلم عن (الكتاب المكنون) والقرآن جزء منه.
قال تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ)
قال الإمام مالك في الموطأ أحسن ما سمعت في تفسير الآية الكريمة: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
أنها مثل آية عبس التي ذكرتها , وعلى هذا فالحكم الشرعي مصدره السنة المطهرة.
فقد ذكر أصحاب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رسالة إلى أهل اليمن وجاء فيها:.. وألا يمس القرآن إلا طاهر
(1/165)
________________________________________
وقصة إسلام عمر بن الخطاب. يستأنس بها فقد منعته أخته من لمس المصحف حتى يتوضأ فالحكم ثابت بالسنة.
والآية لا علاقة لها بهذا الحكم , إلا بمقدار الإشارة كما قال ابن تيمية والمطهرون هم الملآئكة أما المؤمنون فمتطهرون قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)
(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)
فالآية تتحدث عن اللوح المحفوظ لأنه أقرب مذكور (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
وفى قراءة الجنب للقرآن خلاف بين العلماء.
بقي أن نعرف شيء من الأحكام الفقهية التي تتعلق بالآية الكريمة.
قراءة القرآن للجنب والحائض:
لا أعرف خلاف بين المذاهب الأربعة في تحريم قرآءة القرآن الكريم على الحائض والجنب إلا ما ذكره الإمام الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن بأن الإمام الشافعى أجاز قراءة القرآن الكريم للحائض إن خافت النسيان ثم قال الإمام الزركشي ما يفيد بأن هذا رأي قديم للشافعي رضى الله عنهما، وقد أجاز الأئمة رضوان الله عليهم للجنب أن يقراء من القرآن ما يجري على لسانه كالبسملة مع أنها من القرآن. ودعاء ركوب الدابة:
(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)
وأجاز المالكي أن يقراء الجنب آية أو أكثر ليستدل بها عن حكم شرعي أو يحصن نفسه من عدو.
وقد ذهب ابن عباس رضى الله عنهما إلى جواز قراءة القرآن الكريم للجنب. وقد ذكر ابن حجر أن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب
(1/166)
________________________________________
وذكر ابن حجر أن الحديث المنسوب إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - والذى يروى فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" ذكر ابن حجر أن هذا الحديث ضعيف من كل طرقه وتتبع الشوكاني في كتابه نيل الأوطار الأحاديث والآثار المروية في تحريم قراءة القرآن الكريم على الجنب وأخبر بضعفها , وأنها لا تصلح لتكون دليلا على تحريم شيء هو من أعظم العبادات يعنى قراءة القرآن وذلك كحديث على ابن أبي طالب كرم الله وجهه والذى يقول فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً.
فبعد أن ذكر الشوكاني أن هذا الحديث صححه الترمذى وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطنى والبيهقى وابن السكن بعد ذلك عاد الشوكانى ونقل عن الإمام الشافعى أن هذا الحديث لا يثبت عند المحققين من علماء الحديث وأن الإمام أحمد يوهن هذا الحديث.
وذكر الشوكانى حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيء) رواه الدارقطنى.
ثم قال الشوكاني في رد سند هذا الحديث أن فيه محمد ابن الفضل وهو متروك ومنسوب إلى الوضع.
وقال البيهقى: هذا الأثر ليس بالقوى.
ولعلك أيها القارئ الكريم قد أدركت شيء من أسباب اختلاف الأئمة - رضي الله عنهم - وهو الطريق الذي وصلنا بها الحديث.
فقد يصل الإمام بطريق يثق في رجاله وقد يصل امام آخر بطريق لا يثق في رجاله.
المهم أن الأئمة لم يتعمدوا الاختلافات
(1/167)
________________________________________
مس المصحف:
لا أعرف خلاف في موضوع كراهية مس المصحف للحائض والجنب إلا بغلاف وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد في كتابه (أسئلة طال حولها الجدل) إن مس المصحف للجنب يكرهه كراهية هى أقرب إلى التحريم منها للتنزيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهرا".
ثم يقول: ويمنعني من القول بالتحريم ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْخَنَسْ مِنْهُ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ) والذى منعني من القول بالتحريم أن عامة أهل العلم تسامح لأولاد الكُتَّاب بتشديد التاء بمس المصحف , والقراءة فيه على غير طهارة فلو كان التحريم جازماً لما تسامحوا بذلك , كما لم يتسامحوا معهم بالصلاة بغير وضوء. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
لا تعرف الدنيا كتابا يحمل بين كل آية منه دليلا على نزوله من عند الله إلا القرآن.
وسوف أذكر بعض الأدلة العقلية التي تثبت نزول القرآن من عند الله.
مع مراعاة العمق والإيجاز.
وسوف أقسم الأدلة إلى قسمين.
أدلة تتعلق بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأدلة تتعلق بالقرآن الكريم نفسه.
وإلى القارئ الكريم نبذة عن كل جانب.
فمن الأدلة التي تتعلق بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -
(1/168)
________________________________________
استدلال السيدة خديجة:
ذكرت في كتابى (هذا نبيك يا ولدي) أن السيدة خديجة - رضي الله عنها - أول من استدل بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - على نبوته.
فعندما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الوحي للمرة الأولى قال للسيدة خديجة زملينى.. دثرينى.
فلما ذهب عنه الروع وجائته البشرى من ورقة ابن نوفل قال للسيدة خديجة لقد خفت على نفسى.
عند ذلك دار في ذهن السيدة خديجة صورة سريعة لأخلاقه الفاضلة خلال خمسة عشر عاماً فقالت له: إنك لتصل الرحم , وتصدق الحديث , وتحمل الكل , وتكسب المعدوم , وتقري الضيف , وتعين على نوائب الدهر.
ثم جعلت من هذه المقدمات نتيجة خالدة وهى قولها والله لن يخزيك الله أبداً.
وأعدت نفسها للإيمان به.
وقدمت النتيجة على المقدمات لتعجيل البشرى.
فالسيدة خديجة هى أول من استدل بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - على نبوته.
ومن الذين اتبعوا هذا المنهج العظيم في الاستدلال , وإنْ لم يؤمن هرقل عندما استضاف أبا سفيان ابن حرب قبل إسلامه وسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وهذا نص الحديث في البخاري:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لَا قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ".
(1/169)
________________________________________
وقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
دليل على النبوة. نزلت لتسجل أخلاق النبي قبل البعثة لأن سورة القلم نزلت بعد سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)
فلا يتصور أن القرآن يعني بها أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة وإذا كانت أخلاقه قبل البعثة كما وصف القرآن فإن هذه الأخلاق قد رشحته للنبوة ولا شك أن أخلاقه بعد النبوة أكمل.
...
فالسيدة خديجة - رضى الله عنها - وهرقل ملك الروم كلاهما استدل بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - على نبوته.
وعلى هذا المنهج فقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
ترسم دليلا من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدق دعوته.
ومعلوم أن الآية الكريمة تتكلم عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته.
لأن سورة القلم نزلت بعد سورة اقرأ بأيام قلائل لا يمكن أن نتصور فيها حدوث تغير في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالله سبحانه يمدح أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته وهو الجانب الذي أهله للنبوة (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة على خلق عظيم فإنه بعد النبوة تمم مكارم الأخلاق.
والذى يعنينى هنا أن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - امتدحها القرآن ليقيم بذلك دليلا عقليا على نبوته.
فأول مبادئ الأخلاق هو الصدق، والصادق لا يكذب أهله.
(1/170)
________________________________________
الأميُّ الذي علم الدنيا:
أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحتاج إلى دليل..
ولولا افتراء المستشرقين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى دعوته لما كان لهذا الموضوع من البحث مكان.
فقد وصف القرآن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمية وصفاً صريحاً. وسمعه أهل الكتاب في عصره فلم يطعنوا في ذلك.
قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)
وقد أثبت القرآن أن أمية الرسول من شأنها أن تقطع كل قول للمبطلين لأن الأُمِّيّ لا يتحول وحده إلى معلم للدنيا.
قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)
ونحن لا ندعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلق أحداً من العلماء بالأديان فقد لقي راهبين هما بحيرى وورقة ابن نوفل. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في اللقائين وحده.
فيوم أن لقي بحيرى كان النبي صبياً وكان معه عمه وقال له بحيرى بعد أن تعرف على أوصاف النبوة في محمد - صلى الله عليه وسلم - قال له: ارجع بابن أخيك فإنى أخاف عليه يهود الشام أن يقتلوه.
والقصة إن قبلتها فهي دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن فيها بشارة بنبوته منذ صباه.
وإن رفضتها فرفضها دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه تسليم بأميته.
(1/171)
________________________________________
أما الراهب الثانى فهو ورقة بن نوفل. وعندما لقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الوحي قد نزل عليه بالفعل وانضم ورقة إلى أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لولا أنَّ أجلَه عاجله.
وكانت خديجة - رضى الله عنها - شاهدة لهذا اللقاء فكلا الراهبين بشر النبي بالرسالة. عندما تيقن كل منهما أن بشارات الكتب السابقة تنطبق عليه - صلى الله عليه وسلم - فلقائهما شهادة على نبوته وليس مغمزاً فيها.
وأي البراهين يمكن أن ينصب نفسه معلماً لرجل توسم فيه أن الله سيعلمه ويجعله نبياً.
والذى أعجب له أن المكذبين بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يكثرون الصياح بأنه التقى براهب في مكة يمت له بقرابة نسب فلابد أنه تعلم منه. ومع يقيننا تاريخياً بعدم جلوس النبي تلميذاً أمام أحد ومع افتقار رهبان الدنيا كلها لحقائق الوحي المحمدى. مع كل هذا نسألهم ألم تؤمنوا بأنبياء ولدوا في بيوت أنبياء وتعلموا من آبائهم ومع ذلك تتفقون معنا على نبوتهم.
إننا جميعاً نؤمن باسحاق وقد ولد وتربى في بيت إبراهيم عليهما السلام ونؤمن بيعقوب وقد تربى في بيت إسحاق وسليمان ولد وتربى في بيت داود ولم يقف البيت الذي ولدوا فيه مانعاً من الإيمان بهم صلى الله عليهم وسلم وأي البيئتين كان من الممكن أن تُعِدَّ بتشديد الدال رجلاً لزعامة قومه وقيادة أمته ووضع التشريعات لها.
البيئة التي تربى فيها موسى - عليه السلام - أم البيئة التي تربى فيها محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
ومع ذلك فنحن معكم نؤمن بأن شريعة موسى وحيٌ من الله
(1/172)
________________________________________
وليست اكتسابا من التربية في بيت الملك ولا شعورا عكسياً للمظالم التي عاناها شعب إسرائيل.
إذا لم تخش عاقبة الليالى ... ولم تستح فاصنع ما تشاء
...
وللمستشرقين فنون في حملات التشريق , تكلمت عنها في كتابى (هذا نبيك يا ولدي) وأكتفى هنا بنموذج واحد من كتاب (تاريخ الشعوب الإسلامية) لأنه واسع الانتشار ماكر المقاصد مترجم إلى اللغه العربية يقول كارل بروكلمان: إنَّ محمداً تعلم الدين الجديد من جماعة من أهل الكتاب كانت معارفهم محدودة بالكتاب المقدس.
من أي المصادر التاريخية استقى هذا الرأي؟
وما هى أسماء هذه الجماعة؟
وأي مصلحة لهم في أن يعلِّموا بتشديد اللام محمداً ويختبئوا وراء شخصه؟
ولماذا لم يقل أهل الكتاب عندما جادلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا؟
القرآن والكتب السابقة:
موقف القرآن من الكتب السابقة: هو موقف الأستاذ المصحح سواء في ذلك مجال الاعتقاد أو التشريع. ولست هنا بمتحدث عن الاختلافات العقائدية والتشريعية بين القرآن والكتب السابقة لأن مجال ذلك في كتب التخصص. ولكننى سوف أسوق نموذجين فقط لهذا التصحيح.
فى فترة التيه التي أصابت اليهود تكونت جماعة من أحبارهم أطلقوا على أنفسهم (الربانين) أحلوا ما شاءوا وحرموا ما أرادوا.
وادعوا أن الله يراقب ما يصدر عنهم من فتوى ويصحح لهم وأطلقوا على عملية المراقبة المزعومة (بث قول) هذه الجماعة أصدرت كتاب في الذبائح أطلقت عليه (هلكت شحيطا) أي علم الذبائح.
حرموا فيه لحم الذبيحة إذا وجدوا قلبها ملتصق بالظهر أو بأحد الجانبين. كما حرموا لحمها لو كانت رئتها بها ثقب
(1/173)
________________________________________
جاء القرآن الكريم في العهد المكي وبين المحرمات من الذبائح على بنى إسرائيل بينها من غير أن يدخل في جدال مع اليهود لأن العهد المكي خلا من الجدال معهم.
بينها لمجرد بيان سبب التحريم وهو ظلم اليهود لكن القرآن لم يتعرض لافتراء الربانيين ومزاعمهم فيما أحلُّوه وما حرَّموه.
وما دام القرآن المكي قد تحدث بأسلوب الحصر فإن ما ادَّعته (الجماعة الربانية) لا أصل له.
قال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
هذا بيان عام ثم بين القرآن ما حرم على اليهود وحدهم من الطيبات عقوبة لهم , قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ)
فاليهود يشتركون مع المسلمين في تحريم الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح للأصنام , وتنفرد اليهود بتحريم (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي كل حيوان قدمه غير مشقوق كالإبل والنعام والأوز والبط كما حرم عليهم شحم البقر والغنم إلا ما كان منه حول الأمعاء وما كان في الظهر وأما ما اختلط بعظم فحلال.
القرآنُ مصححٌ لقصص الأنبياء:
حاكمية القرآن على الكتب السابقة وهيمنته عليها تتجلى في موضوع له دور كبير في موكب الهداية.
ومعلوم للجميع أن عصر النبوات قد انتهى. ولكن حاجة الناس للهدى مستمرة , فمن أي مصدر يستقى الناس هدايتهم؟
الذى لا شك فيه أن سيرة الأنبياء والمرشدين تحكي لهم القدوة وترسم الطريق إلى الله.
وقد أمر القرآن أتباعه أن يقتدوا بأنبيائهم
(1/174)
________________________________________
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)
فبقاء سيرة الأنبياء عدم انقتاع الرسالات كأنه نبى لا يموت ولكن.. هل يفوت هذا الأمر الجليل على قيادات اليهود؟
إنَّ قيادة الشعوب المنحلة الهابطة أمر سهل وما دامت اليهود تخطط لقيادة العالم فلابد من خطة متكاملة لعزله عن الفضيلة وما دامت سيرة الأنبياء تمثل صورة المرشد الذي لا يموت فلا بد من طمس صورتهم وإخفاء جمالها.
إنَّ العالم الأعمى تسهل قيادته إلى الضياع.
من أجل ذلك كانت عملية تحريف قصص الأنبياء في التوراة التي بين أيدينا عملية مقصودة ليعيش العالم بلا قدوة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ليجترأ الناس على الفاحشة وهم آمنون من ثورة الضمير ما دام الأنبياء هم أسبق الناس إلى الفاحشة (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)
والآن مع التوراة في اتهاماتها الصاخبة للأنبياء، ثم مع القرآن وهو يصحح المسيرة وينصف الأنبياء
* نوح: والإصحاح رقم 9 إلى 18 من سفر التكوين "وابتدأ نوح فلاحاً في الأرض وغرس الكرم. وشرب من الخمر وسكر وانكشف في وسط مضربه. فنظر حام أبو كنعان سوأة أبيه"
* لوط: الإصحاح رقم 19 من سفر التكوين: "قالت ابنته الكبيرة لأختها تعالى نسقى أبانا خمرا وننضجع معه ونقي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة وأتت الكبرى وانضجعت مع أبيها وهكذا فعلت الصغرى فحملتا من أبيهما"
* هارون: الإصحاح 32 من سفر الخروج: "واجتمع القوم
(1/175)
________________________________________
إلى هارون وقالوا له قم فاصنع لنا آلهة تسير بين أيدينا: فقال لهم هارون: فكوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم واحضروها إليَّ"
ثم تقول التوراة: "فأخذه من أيديهم وجمعه في قالب وصنعه عجلاً حيًّا.
وقال هذه آلهتكم يا إسرائيل"
وتذكر التوراة أن موسى عندما حضر أمرهم أن يقتل كل منهم أخاه وصاحبه وقريبه فسقط منهم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل.
هذه بعض افتراءات التوراة على أنبياء الله سبحانه وقد صحح القرآن سيرتهم ووضعهم حيث يستحقون من الصدارة وحسن الذكر إبقاءً لدورهم في الهدى ونصرة للحق والآن مع القرآن الكريم:
(وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)
وفى سورة الأنبياء خمسة أوصاف وصف القرآن بها هذا النبي الكريم (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)
وفى سورة الصافات 133 (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)
هذا وقد نسب القرآن صنع العجل إلى السامري وحكى القرآن استنكار هارون لما انحدر إليه قومه (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)
إن القرآن مصحح لما وقع في التوراة من أخطاء سافرة في حق الأنبياء وفى غير هذا من الموضوعات التي لا بد من تصحيحها.
أما الأخطاء التي لا تضر مسيرة النور وعلاجها يحدث جدلا بلا ثمرة كالتواريخ والأرقام وتحديد الجهات التي بينتها التوراة، فالقرآن لا يجادل فيها اليهود.
قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)
(1/176)
________________________________________
فالرسول يبين ما لا بد من بيانه لتصحيح مسيرة الحق كأمور الاعتقاد والتشريع ويعف عما لا يفيد من الخلافات التي لا يتبعها عمل فهذا خلاف لا يتبعه، فالخوض فيه ضرب من عبادة الهوى التي نهينا عنها.
ومرة ثانية أقول: هل يمكن لحقائق القرآن التاريخية أن تكون مستمدة من أباطيل أهل الكتاب وأساطيرهم؟
إنَّ كتبهم بين أيدينا والحق أبلج.
وأهل الكتاب استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فما قال منصفهم سوى أن ما جاء به محمد وما جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة "النجاشى"
فمن أين استقى (كارل بروكلمان) صاحب تاريخ الشعوب الإسلامية والحداد اللبنانى افتراءاتهما؟
إن ادعاء المستشرقين والمبشرين وتلاميذهم: أن القرآن له أصل من الكتاب المقدس , هذا الادعاء يعنى شيئاً واحداً يعنى أنهم فتنوا بروعة القرآن فحاولوا أن يخلقوا نسباً بين كتبهم وبين هذا القرآن.
فكل يدَّعي وصلا لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك
ولو كان القرآن بحقائقه العلمية وأسلوبه المعجز من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتبهم التي بين أيدينا من عند الله للزم على هذا الزعم أن كتاب محمد أهدى من كتاب الله وأثبت أمام تحديات الزمن.
تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
موقف النبي من المغيبات:
تؤكد سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من نسبة الغيب لنفسه.
روى الإمام البخاري أن جويريات كن يضربن بالدف يذكرن آبائهن من شهداء بدر حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
(1/177)
________________________________________
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ.
وهذا الحديث مصداق لقوله تعالى:
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)
وقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ)
والنبي عندما يتبرأ من نسبة الغيب إلى نفسه ثم يأتي القرآن ويكشف عن غيب الماضي فيصدقه التاريخ ويكشف عن غيب الحاضر فيصدقه الواقع ويكشف عن غيب المستقبل فتصدقه الليالى والأيام , فإن مغيبات القرآن تثبت أنه من عند الله (1)
- - - - - - - - - -
(1) غيب الماضى. تكلم القرآن الكريم عن غيب الماضي البعيد عندما تكلم عن قصص الأولين.
وقد أَكَّدَ القرآن أن إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا القصص بشأنه أن يثبت للعقلاء أنَّ هذا القرآن منزل من عند الله.
فبعد قصة نوح قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)
فمن علَّم الأُميَّ؟
وبعد قصة يوسف جاء قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)
وبعد قصة موسى قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) , (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
وبعد قصة مريم قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)
والقرآن عندما يؤكد هذا المعنى في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يسوق من غيب الماضي دليلا على نزول القرآن من عند الله.
على أن هناك ملاحظة أخرى وهى أن معظم السور التي تضمنت قصصاً قرآنياً نراها تشير في مطلعها إلى هذا القرآن العظيم.
البقرة: فيها عديد من القصص.
مطلعها (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)
آل عمران: فيها قصة المسيح وأمه , مطلعها: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)
الأعراف: فيها عديد من القصص مطلعها: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)
يونس: فيها عديد من القصص مطلعها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)
هود: فيها عديد من القصص مطلعها: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)
يوسف: قصة يوسف مطلعها: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
وهكذا يمكنك أن تتابع سور القرآن الكريم.
(1/178)
________________________________________
حديث الإفك
وقد التزم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحفظ من دخول الغيب , إلا بإذن من صاحب الغيب حتى فيما يمس أسرته وحسبك من ذلك
(حادث الإفك) المفترَى على السيدة عائشة - رضي الله عنها -
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكنه أن يعلن براءة زوجته في أول لحظة ذكر فيها حديث الإفك.
وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدس عند المسلمين , وموضع قبولهم جميعا.
ومع ذلك فقد التزم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصمت , واستشار المقربين من أصحابه والملتصقات بها فذكروا جميعا في شأنها خيراً وهذا تصرف توحيه بشريته الكريمة.
ظل النبي هكذا حتى نزلت براءتها من السماء.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)
فلو كان القرآن من عند محمد لبرأ محمد زوجته من أول لحظة ذكر فيها حديث الإفك.
(1/179)
________________________________________
ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في وعد ربِّه:
لا يستطيع رئيس دولة مهما كان تقدمها أن يصرف حرَّاسَه عنه ويعلن أنه لن يموت إلا على فراشه.
والسنوات القليلة الماضية شهدت مصرع اثنين من رؤساء الدول وهما يسيران في حراسة غير عادية.
بل إن أحدهما قتل وهو يستعرض قواته في البر والجو وحراسه يحيطون به من بين يديه ومن خلفه. فكيف أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغنائه عن الحراس ثقة منه في وعد الله سبحانه؟
كان النبي يحرص وهو في بيته بالمدينة حتى نزل عليه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
عند ذلك أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة وجمع حراسه , وأمرهم أن ينصرفوا لأن الله تولى حراسته.
روى الترمذى والحاكم وابن أبي حاتم عن السيدة عائشة - رضى الله عنها - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس ليلا حتى نزل عليه قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال لهم
أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله.
لم ينتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى الصباح بل سرح حراسه بمجرد أن انفصل الوحي عنه.
كيف يبيت ليلة في حراسة البشر وقد تولى الله حراسته؟
لقد عاشت هذه الثقة في قلبه حتى لقي ربه على فراشة.
وروى الإمام أحمد في مسنده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ فَرَأَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَا وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ قَالَ فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ أَوْ الْعَصْرُ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ".
(1/180)
________________________________________
وفى بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل ضع السيف فوضعه في مكانه وعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. والعجيب أن هذه الحادثة كانت في الغزوة التي شرع الله فيها صلاة الخوف.
إنَّ قادة الأمم الحديثة والقديمة لا يستطيع أحدهم أن يصرح بأنه لن يموت إلا على فراشه أو يستطيع أن يصرف حراسه.
وقد لقي بعضهم مصرعه وهو في وسط قواته ومخابراته فأي ثقة هذه في وعد الله جعلت النبي يصرف الحراس حتى في أشد الغزوات خوفاً.
وقد صدقه الله وعده فأنطق له الشاة المسمومة:
ونص الحديث عند الدارميِّ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلاَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، فَأَهْدَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً، فَتَنَاوَلَ مِنْهَا وَتَنَاوَلَ مِنْهَا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، ثُمَّ رَفَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِى أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» .
أرأيت لو كان القرآن من عند محمد فكيف يثق به ويطلق حراسه ويموت كما أعلن على فراشه هذا هو غيب المستقبل ورب الكعبة.
والنبى إذا تحدث عن المستقبل صدقته الليالى والأيام.
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
بعد أن ذكرت الأدلة العقلية المتعلقة بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي تثبت نزول القرآن من عند الله..
نأتي إلى بيان بعض الأدلة المتعلقة بالقرآن الكريم وآياته.
ودراسة هذا الجانب تحتاج إلى كتب التخصص وسوف أذكر بعضها في نهاية البحث.
أسلوب القرآن
تحدى الله الدنيا أن تأتي بمثل هذا القرآن
ومع أن القرآن لم ينصب حاكما بينه وبين ما يمكن للدنيا أن
(1/181)
________________________________________
تتجه وتتركهم لضمائرهم إلا أن الدنيا لم تسطع أن تحاكى آية واحدة من القرآن.
وأعظم دليل على عجزهم هو لجوؤهم إلى الحرب التي أنفقوا فيها النفس والنفيس..
ولو استطاعوا خوض معركة كلامية متكافأة ما أشعلوا الحروب.
وإذا كان التحدى ممكنا بين الناس فإن تحدى القرآن من طراز آخر.
فالتاريخ لا يعرف رجلا يستطيع أن يتحدى بفنه كلَّ المتخصصين في الدنيا تحدياً يشمل عرض الأرض وطول الزمان إلى يوم القيامة ومع ذلك تعجز الدنيا عن محاكاة فَنِّه وتلجأ إلى حربه بالسلاح إنَّ ذلك لا يقدر عليه إلا الله ,
أما سرُّ الإعجاز القرآني فهو كَسِرِّ الرُّوح.
حاول العلماء القدامى والمحدثون أن يقفوا على سره فكانوا كمن انشغل بالجمال عن وضع تفسير له.
وقد حاولت أن اتتبع بالدراسة الجادة جهود العلماء في موضوع إعجاز القرآن فرأيت أن جهودهم كبيرة ولكن سر الإعجاز كان أكبر.. وأعجبنى قول سهل بن عبد الله قال: (كما أن الله لا نهاية له فكذلك كلام الله لا نهاية لفهمه , الله قديم فلا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم البشر)
وقد أعلن كبار العلماء قديما وحديثا ما يؤكد عجزهم عن إدراك هذا السر.
قال الباقلانى صاحب أول كتاب (فى إعجاز القرآن) إننى أهم بالآيات فيفتننى جمالها عن أسرار إعجازها.
ومن العلماء المعاصرين الذين كتبوا في إعجاز القرآن المرحوم مصطفى صادق الرافعي قال:
(1/182)
________________________________________
ولسنا ندعى أننا أشرفنا على الأمد ووافينا على معجزة الأبد لأن هذا الأمر ضيق كثير الالتواء لمن تلمس جوانبه واقتحم مصاعبه وما أشبه القرآن في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة وأخلقوا جوانبه بحثاً وتفتيشاً , ثم هو بعد ذلك لم يزل عندهم خلق جديداً , ومراماً بعيدا وصعباً شديداً.
ولفضيلة الأستاذ محمد الغزالي في هذا الموضوع:
"كنت كثير الطواف حول هذا الجمال البياني للقرآن الكريم لكننى كنت كالذي شغله الإعجاز بالجمال عن وضع تفسير له".
وهذا التحرج لم يمنع العلماء من محاولة التعرف على بعض أسرار الإعجاز القرآني وقسموا الإعجاز إلى أقسام ثلاثة
الإعجاز البياني
الإعجاز التشريعي
الإعجاز العلمي
وقد تخصص كثير من العلماء في دراسة كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة وحاولوا إظهار أسرارها وسوف أذكر بعض المصادر التي تفيد الدارس
...
الإعجاز البياني
ذكر المرحوم الشيخ عبد العظيم الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان) خصائص أسلوب القرآن فقال:
للقرآن الكريم في أسلوبه العجيب المخالف لجميع الأساليب البشرية خصائص عديدة نجملها فيما يلى:
(1/183)
________________________________________
الخاصية الأولى: مسحة القرآن اللفظية التي تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي.
الخاصية الثانية: إرضاؤه العامة والخاصة بمعنى أن الجميع يحسون حلاوته ويشعرون بجلاله.
الخاصية الثالثة: إرضاؤه العقل والعاطفة معاً فالقرآن يخاطب العقل والقلب ويجمع الحق والجمال معاً.
الخاصية الرابعة: جودة سبك القرآن وإحكام سرده فكأنه سبيكة واحدة تلعب بالعقول وتأخذ بالأبصار.
الخاصية الخامسة: براعته في تصريف القول وتفننه في ضروب الكلام بمعنى أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ شتى وطرق مختلفة وكلها رائعة فائقة.
الخاصية السادسة: جمع القرآن بين الإجمال والبيان.
الخاصية السابعة: الوفاء بالمعنى مع القصد في اللفظ
...
الإعجاز التشريعي
عندما ندرس هذا الجانب من إعجاز القرآن فلابد لنا من دراسة سابقة لأمرين.
أولا: للشريعة الإسلامية الغراء التي استطاعت الفصل بين الناس بالعدل المطلق في كل الأمم التي دخلت الإسلام طوال قرون تحكيم الشريعة كما وجدت الأمم ذات الحضارات القديمة فيها حلاًّ لكل مشاكلها
(1/184)
________________________________________
ثانيا: أن ندرس القوانين الوضعية التي يحتكم إليها العالم اليوم.
لنعرف عمق شريعة الإسلام وأصالته.
واعتقد أن أي مقارنة بين شريعة الله وبين قوانين الأرض فهى مقارنة ظالمة.
لأن الشريعة ثابتة منذ أن أنزلها الله أما القوانين فقد دخل عليها مئات التعديلات ومع ذلك فنحن نقبل المحاكمة والمقارنة.
وقد أفردت لهذا الموضوع الكتاب الرابع من (سلسلة يا ولدي) وعنوانه شريعة الله يا ولدي.
أهم خصائص شريعة القرآن:
أنها شريعة ثابتة الأحكام، ثبوت القوانين الكونية.
قال تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)
فقاونين الكون ثابتة.
قال تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)
فشريعة الله ثابتة.
(أ) الجانب الإلهي والجانب الاجتهادي:
احتوت الشريعة الإسلامية على جانبين (جانب إلهي وجانب اجتهادي) فالجانب الإلهي: هو الذي نص عليه القرآن نص لا يقبل التأويل. كقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
وما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما حرمه الله.
لأننا أخذنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن فأخذنا لفروع الشريعة منه أولى.
ولأن الله سبحانه أمرنا أن نأخذ كل ديننا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)
وهذا الجانب من الشريعة يأخذ حكم العقيدة في الثبوت ويكفر جاحده كما يكفر جاحد العقيدة تماما
أما الجانب الاجتهادي. فأصله من الكتاب والسنة إلا أن الله ترك للعلماء أن يجتهدوا في استخلاص الأحكام الشرعية من هذه النصوص. فأحكامه اجتهادية وهذا الجانب يقبل الأخذ منه والرد عليه بأدلة شرعية والأصل في هذا الجانب أن المسألة إذا دخلت فى
(1/185)
________________________________________
باب الخلافات الفقهية خرجت من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
بمعنى أن اجتهاد إمام ليس حجة على اجتهاد إمام آخر وهذا التقسيم بين أحكام الشريعة حفظ للشريعة أصالتها ووسع عطائها بحيث وسعت جميع مشكلات الناس طوال قرون الحكم بها.
ولم يزل عطاؤها خصباً.
(ب) شريعة القرآن حاكمة ومربية:
حرصت شريعة القرآن على تربية النفوس أكثر من حرصها على تأديب العصاة.
وقد ربَّت المسلم على أخلاق من شأنها أن تدفع الجريمة عن المجتمع وتمنع
وقوعها.
ويمكن إيجاز ذلك في كلمات.
ربَّى الإسلام المسلم على الإيمان بأن قضية الرزق وقضية الأجل مرتبطان. فمن استنفذ رزقه فقد استنفذ أجله.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ".
(ابن ماجة: 2135)
فالأجل محدود لا تستطيع كل الدنيا زيادته، والرزق كذلك وما دام الأمرُ مقدوراً فهذا يكفى لمنع المسلم من الجرائم الكبيرة. يكفى لمنعه من القتل , لأن العمر مقدور. فالقتل حماقة
يا من تدبر في الليالى مصرعا ... هل أنت ربٌّ تقطعُ الآجالَ
ومن نريد قتله إما أن يكون قد انتهى أجله فسوف يموت من غير قتل وإما أن يكون باقى الأجل فتسبب محاولتنا عداء بلا فائدة كما يمنع المسلم من السرقة أخلاقه التي تربى عليها وعقيدته التي آمن بها
(1/186)
________________________________________
* الرزق بيد الله: فإن عففت عنه في الحرام جاءك في الحلال.
ولن تموت قبل أن ينتهى رزقك.
* يد المسلم تعودت على دفع الصدقات طلباً لرضوان الله، ومن يعطى ما في يده لمرضات الله لا يسرق ما في يد الآخرين.
* متاع الدنيا قليل. لأنه ينتهى بأقرب الأجلين إما أن تذهب عنه وتتركه أو يذهب هو عنك ويتركك.
* نظر المسلم إلى نعمة الله التي أولاه إياها وشكرها فلا يشغله القليل المفقود عن الكثير الموجود.
والذين يسرقون هم الذين يشغلهم دائما القليل المفقود فيحاولون جمعه بأي طريق.
* ثم: وبعد كل هذه الوقايات يأتي دور الخوف من العقوبة فقطع يد السارق سوف يحوله إلى طاقة معطلة يلاحقه عارها في كل مجلس.
* هذا وكل نظام قضائي يعاقب المجرم فقط، أما شريعة الإسلام فتكافؤُ المطيع وتعاقب المجرم
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
فالشريعة الإسلامية حاكمة ومربية، مربية للمشاعر والوجدان وهى تحكم الناس من داخلهم وهذا نوع من إعجاز القرآن التشريعى خاصة وأنت تعلم أنها نزلت على رجل أُميٍّ لم يعرف هو ولا قومه النظم التشريعية من قبل هذا القرآن.
(ج) المساوات هى أساس شريعة الإيمان.
أكد الاستقراء للنظم والتشريعات أن الشريعة الإسلامية هى أول نظام نظر للإنسان نظرة إنسانية مجردة من كل اعتبار زائد على ذلك قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)
(1/187)
________________________________________
وهذه الآية الكريمة هى الأصل في كل الأحكام الشرعية التي يختلف فيها إنسان عن آخر سوء بالحرية والرق أو بالذكورة والأنوثة أو باختلاف المناصب والأديان وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - لجنازة.
فقيل إنها جنازة يهودي!
قال أوليست نفساً؟ (رواه البخاري)
وقد اخترت مثالاً واحداً من أمثلة الشريعة الغراء لإثبات هذا الأمر.
هذا المثال هو الدية في القتل الخطأ.
لأن كثير من القوانين الأرضية حتى اليوم تفرق بين الناس في قيمة التعويض الذي يصرف لأصحاب الوظائف الكبيرة والتعويض الذي يصرف للعمال والفقراء بينما حاجة الأسر الفقيرة عندما يصاب عائلها أشد من حاجة الأغنياء غالباً.
أما شريعة القرآن فقد ساوت بين كل الناس الغنى والفقير , الرجل والمرأة , المسلم والكتابى لاستوائهم جميعاً في البشرية وفى حرمة الدم (1) .
(د) التدرج في التشريع:
عرفنا أن شريعة القرآن حاكمة ومربية لذلك نهجت منهج التدرج في التشريع وهذا التدرج هو سر نجاحها في تربية الأمة.
وقد لاحظنا أن التدرج قد شمل تشريعات كثيرة فالصلاة فرضت مثنى مثنى فزيدة في الحضر وبقيت في السفر كما أخبرتنا السيدة عائشة - رضى الله عنها -.
والصوم بدأت مشروعيته بصوم أيام معدودات ثم شرع صوم رمضان بعد ذلك , وفى مجال الإنفاق شرعت الصدقة ثم فرضت الزكاة بعد أن تعودت النفوس على العناء
- - - - - - - - - -
(1) الرأي الذي اخترته في مساوات المسلم بالكتابى في القصاص والدية هو رأى أبي حنيفة - رحمه الله - وقد علل له الشيخ محمد أبو زهرة - عليه رحماتُ الله - بقوله: لأن دم غير المسلم كدم المسلم لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا فنحن ملزمون في التعويض بمثل ما نلزم به في قتلانا
(1/188)
________________________________________
ولكن تحريم الخمر بالتدرج الذي جاء به القرآن معجزة تشريعية , فقد اكتشف العلم الحديث منذ سنوات قلائل أن المخ يحتوى على مجموعة من الغدد تفرز مادة مهدئة للجسم بقدر حاجة الجسم إليها حتى قال العلماء سيأتى اليوم الذي لا يسمح فيه بيع المخ الحيوانى مع الرأس لأن شركات الأدوية ستحصل عليه لاستخراج هذه المادة منه وهذه الغدد تقلل من إنتاجها عندما يتعاطى الإنسان مادة مهدئة من الخارج.
ويظل الأمر هكذا كلما زادت الجرعة الخارجية يقل إفراز الغدد حتى يتوقف إنتاج الغدد تماما عند الإدمان لذلك كان علاج القرآن معجزة.
لأنه حرم الخمر على مراحل لينشط الغدد حتى يتم التوازن الداخلى فيتم الامتناع التام.
هذا ما أكده آخر الكشوف العلمية.
فهل يمكن لعاقل أن يقول إنَّ هذا القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ هذه الشريعة المتكاملة فاضت بها نفس رجل عاش حياته حتى الأربعين يرعى الغنم ويتاجر فيها.
إنَّ كل عاقل يحترم عقلَه لابد أن يشهد أن هذا القرآن منزل من عند الله
...
الإعجاز العلمي
إذا كان الإعجاز اللغوي هو العامل في هداية العرب أصحاب الفصاحة فإن الإعجاز العلمي هو اللغة العالمية في هذا العصر.
لأن الحقائق العلمية يسلم بها الجميع.
فالقرآن إن تحدث عن الكون صدقه العلم الحديث، ولا يمكن لعاقل أن يدَّعي أن نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - قد فاضت عليه وكشفت له أسرار الكون بهذه الدقة العجيبة.
ويمكن أن أُلخِّصَ الإعجازَ العلميَّ للقرآن الكريم في كلمة واحدة.
إنَّ العلم الحديث قد استطاع أنْ يُخَطِّأَ كلَّ تفسير للكون قاله العلماء قبل قرن واحد من الزمان
(1/189)
________________________________________
ولكن العلم الحديث لم يستطع أنْ يُخَطِّأَ آيةً واحدةً من القرآن الكريم.
فما سرُّ أن يقف العلم هذا الموقف من القرآن.
إنَّ الإجابة على هذا السؤال تفرض واحداً من أمرين:
إما أن يكون محمد هو الذي خلق هذا الكون وهو يتكلم عن شيء صنعه بيده وهذا رأى باطل بل مستحيل.
وإما أن يكون خالق الكون هو الذي علَّم محمداً - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن , فالقرآن منزل من عند الله.
التفسير العلمي بين المؤيدين والمعارضين:
مع أهمية الدور الذي يؤدية التفسير العلمي في كشف بعض أسرار القرآن فإن العلماء قد اختلفوا في قبوله ورفضه , فمنهم من رفض هذا التفسير واعتبره تكلفاً في فهم القرآن وتحميللً للآيات ما لا تحتمل وصرفاً للناس عن غاية القرآن الكريم وهدفه الكبير وهو الهداية والتشريع ومن الذين رفضوا هذا النوع من التفسير الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات.
ومن ناحية أخرى اقتنع بعض العلماء بهذا التفسير ودعوا إليه وأبلَوا فيه بلاءً حسناً.
من هؤلاء في القديم: الإمام الغزالي , وأبو فضل المرسي , والامام السيوطي (1)
- - - - - - - - - -
من الذين قبلوا التفسير العلمي الإمام الغزالي وقد عقد الفصل الخامس من كتابه (جواهرالقرآن) في الترويج لهذا النوع من التفسير.
وأكد أن القرآن يحتوي على علوم الطب والنجوم وهيئة العالم وهيئة بدن الحيوان وتشريح الأعضاء وغير ذلك من العلوم.
بل قال إن في الأماكن علوم أخرى لم تظهر إلى الوجود.
وإن كان في قوة الآدمي أن يصل إليها وهذه العلوم التي لم تظهر ليست أوائلها خارجة عن القرآن وبدأ الغزالي يعدد بعض العلوم ويذكر إشارة القرآن لها.
والإمام السيوطي نحى نخو الغزالي وقال: إن القرآن اشتمل على كل العلوم حتى قال: إن القرآن اشار إلى أن عمر النبى ثلاثة وستين سنة ودلَّل على ذلك بأن قوله تعالى:
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)
فى سورة المنافقون وهذه السورة هى السورة الثالثة والستون في ترتيب القرآن وهذا عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما أبو الفضل المرسي فقد توسع أكثر حتى لم يترك علم من علوم الدنيا والدين إلا واستشهد من القرآن عليه:
وهذا تكلف لا داعى له. لأن القرآن في غنى عنه
(1/190)
________________________________________
ومن المعاصرين
الشيخ الطنطاوي الجوهري في تفسيره العلمي الكبير. والأستاذ أحمد حنفي في كتابه (التفسير العلمي للآيات الكونية)
والأستاذ علي فكري في كتابه (القرآن ينبوع العلم والعرفان)
والأستاذ عبد الرازق نوفل في كتابه (القرآن والعلم الحديث) وغيرهم
وقد ذكرت في كتابي (حتى لا نخطئ فهم القرآن) الجزء الثالث أن الدارس للتفسير العلمي يجب أن يفرق بين النظريات العلمية والحقائق العلمية , فالنظريات العلمية إن وافقت القرآن بدون تطويع للآيات يمكن أن يستأنس بها في فهم القرآن.
أما إن خالفت القرآنَ فإن ذلك سببه هو جهل الإنسان بالكون وأسراره والذى نجهله من الكون أضعاف أضعاف ما نعرف عنه، أما الحقائق العلمية وهى الثابتة ثبوتاً يقينياً فلا مانع أبداً من استخدامها في فهم القرآن.
وإذا اختلفت حقيقة علمية مع آية قرآنية فسبب ذلك هو خطأ لدارس القرآن الكريم في فهم الآية لأن القرآن الكريم كلام الله والكون خلقه وكلام الله وخلقه لا يختلفان.
نماذج لمعطيات القرآن:
منهج العلماء في دراسة الكون (استقراء ناقص)
والاستقراء الناقص لا يعطي قوانين كلية صادقة، وهذا يجسد الدرو العظيم الذي قام به القرآن في إرشاد العلماء إلى القوانين
(1/191)
________________________________________
الكونية العامة التي لا يمكن لهم أن يصلوا إليها , فمنهج العلماء هو (الاستقراء الناقص) للكون كما قدمنا.
من هذه القوانين الكونية الكلية قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)
كل هذه قوانين كونية عامة أعطاها القرآن لعلماء الدراسات الكونية وترك لهم دراسة جزئيات الكون التي تخضع لتجاربهم ونحن على يقين أن آخر كلمة سيقولها العلماء بعد دراستهم للجزئيات الكونية: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)
هذه بعض القوانين الكونية للقرآن الكريم وقد شرحتها في الجزء الثالث من (حتى لا نخطئ فهم القرآن) ولا يتسع المجال هنا لإعادة شرحها
(1/192)
________________________________________
من الإعجاز العلمي موضوع الجنين في القرآن:
الإنسان كون رحب وعالم مجهول:
هذا ما قاله الطب الحديث بعد رحلته الطويلة في جسم الإنسان بالأشعة والتشريح.
فماذا كانت معارف الدنيا يوم نزول القرآن؟
لست ظالما للعقل البشرى؛ إذا قلت كانت معارف الدنيا لا شيء في وسط هذا الظلام العلمي نزل القرآن. نزل ليقيم للفضيلة أول دولة أخرجت للناس.
وليثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -
إذاً فلابد أن يحمل إلى الناس ما يثبت دعواه لكل مخاطب
وما دام القرآن قد أعلن أن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
إذاً فلابد أن يقدم نوعاً عالمياً من الإعجاز يدركه كل عاقل في أي زمان وأي مكان.
واللغة العلمية هى اللغة العالمية الوحيدة لأن الحقائق العلمية يتفق عليها الشرق والغرب معاً.
إذاً لابد أن يشتمل الإعجاز القرآني على هذه اللغة أعني لغة الحقائق العلمية وهذا ما سنظهر بعضه في هذا اللقاء.
النطفة الأمشاج:
أعلن القرآن الكريم أن الجنين يتكون من النطفة.
وأطلق عليها كلمة النطفة والماء الدافق والماء المهين
(1/193)
________________________________________
غير أنه في سورة الدهر ذكر النطفة الأمشاج وهى الخليط من الرجل والمرأة قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)
فالجنين في التصوير القرآني يتكون من الرجل والمرأة أعلن القرآن هذه الحقيقة بينما ظلت أوربا إلى أواخر القرن الثالث عشر ينقسم علماؤها إلى مدرستين.
المدرسة الأولى: يطلق عليها مدرسة (الأم العذراء) وهى تزعم أن الجنين يتكون من المرأة فقط ولا دخل لنطفة الرجل سوى رحم المرأة.
المدرسة الثانية:
وتزعم أن الجنين تكون من نطفة الرجل فقط ودور الأم هو الغذاء والرعاية ويتزعم هذه المدرسة العالم (سوا مردام) وظل الأمر كذلك حتى عام 1875 عندما اكتشف العالم (هير تويج) لأول مرة أن الفرخ يتكون من بيضة الدجاجة ونطفة الديك ثم توالت الاكتشافات
يا سبحان الله.. المسلمين يقرأون في صلاتهم: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)
والغرب حائر.
عندما أقرأ هذه الحقائق العلمية لا أزيد على قولى لا تعجبْ.. فالخالق يتكلم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
ثم يتكلم القرآن عن العلقة وهى وصول النطفة الأمشاج - النطفة المخصبة - إلى جدار الرحم الأعلى لأنه أنسب مكان لنمو الجنين. وتعلق النطفة بالرحم
(1/194)
________________________________________
قال تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)
والعلقة لا تعني قطعة الدم كما تصور المفسرون القدامى رضى الله عنهم ولكن العلقة هى النطفة الأمشاج بعد أن تقطع رحلتها الطويلة من أسفل الرحم حيث تم الإخصاب إلى أعلى جدار الرحم وتعلقها به حيث يتم تكوينها.
أما الدم الذي يحيط بها فهو وقاية تحميها في مرحلة الضعف الأولى غنيٌّ عن الذكر أن العلقة في الأيام الأولى لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولكن يمكن رؤية الدم المحيط بها مما جعل القدامى يقولون إنَّ العلقة هى قطعة الدم الجامدة المتعلقة بجدار الرحم.
ثم يتكلم القرآن عن المرحلة الثالثة وهى مرحلة المضغة وعندها سنقف طويلا لإبراز بعض ما قاله الطب حول المضغة والتي قسمها القرآن إلى مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة
فما هى المضغة؟ وماذا يعنى قوله تعالى: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)
ما هى المضغة المخلَّقة؟
وما هى المضغة الغير المخلَّقة؟
وماذا يريد القرآن أن يبين لنا؟
فى قوله تعالى: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)
قبل أن أبدأ الحديث أقول الله أعلم بمراده , ولكننا نحاول أن نفهم القرآن على قدر إدراكنا للحقائق العلمية وفهمنا للغة القرآن
المضغة: قال المفسرون القدامى:
إن تسميتها مضغة مراعاة لحجمها فقد أصبح حجم الجنين في حجم قطعة اللحم التي تمضغ , وفسرها الطب الحديث بما سجلته عدسات التصوير ودراسة السقط فقال إن المضغة كقطعة اللحم التي مضغها الإنسان ثم أخرجها من فمه وأثر الأسنان واضح فيها.
والتفسيران يجليان دقة العبارة القرآنية.
ولكن ما هى المضغة المخلَّقة وغير المخلَّقة؟
راجعت التفاسير وأدركت الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء رضى الله عنهم
(1/195)
________________________________________
لفهم الآية الكريمة والتفريق بين المضغة المخلَّقة وغير المخلَّقة ثم راجعت كتب الطب التي كتبت بالعربية وخرجت من دراستى بجانب جديد (على الأقل) جديد بالنسبة لي، فمن إعجاز القرآن أن كل جيل أعمل عقله وحاول فهمه فكان القرآن كريماً على كل جيل يجود عليهم في تخصصهم وقد اخترت إمامين جليلين وناقشت تفسيرهما , فالإمام القرطبي نقل عن السلف: أن المخلَّقة ما يتم تكوينها , وغير المخلَّقة ما يدفع بها الرحم (سقطاً) ولكنه استدرك على هذا الرأي أن الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى كل البشر ومحال أن يخاطب القرآن (السقط) من أجل ذلك رجح أن تكون المخلَّقة هى التي تم تصويرها في الرحم وغير المخلَّقة هى مرحلة ما قبل التصوير ولكننى أتحفظ من قبول هذا الرأي مع أن بعض الأطباء ذكروه في كتبهم وارتضاه بعضهم.
وسبب تحفظي أن غير المخلَّقة لو كانت مرحلة ما قبل التصوير والتشكيل لقدمها الله في الذكر على المخلَّقة لأنها سابقة عليها.
لذلك أرى ما قاله الفخر الرازي ورجحه أقرب إلى معنى الآية الكريمة , فقد ذكر أن المخلَّقة هى التي تشكلت أعضاءً كالعين والأذن وغير المخلَّقة هى ما بقيت لحماً هذا أشهر ما قاله علماؤنا رضى الله عنهم.
أما كلمة الطب الحديث فتكشف سرًّا من الإعجاز العلمي للقرآن لا يتصور عاقل أن مثله نبع من تصور بشر عاش في مكة في القرن السادس الميلادي.
اكتشف الطب الحديث أن الجنين منذ مرحلة المضغة تنقسم خلاياه إلى قسمين.
القسم الأول: يأخذ دوره الزمنى في التشكيل فيصبح عظماً ثم لحما وهكذا والقسم الثانى لا يأخذ دوره في التشكيل مع قدرته على التشكيل ويطلق عليه العلماء اسم الميزانيكمية وهذا القسم من
(1/196)
________________________________________
الخلايا يقوم بدور الاحطياط في الجسم كما يقول الدكتور (المزلى) في كتابه علم التشريح والنماء فالقسم الذي لا يتشكل وهو غير المخلق له دور كبير في حياة الإنسان فإذا حدث كسر في العظام فأعظم أطباء الدنيا لا يملك سوى وضع العظام في مكانه وشد الجبيرة عليه ويسلم الطب أمره لخالقه وهنا يصدر الأمر من الله إلى الخلايا غير المخلَّقة (الميزانيكمية) لتقوم بلحام العظم والجروح كذلك لا يملك الطب لحاملها وينتهى دوره عند شد الجرح ولصق بعضه ببعض وتعقيمه وتقوم الخلايا غير المخلقة بدورها الذي خلقت له.
إنَّ دور الخلايا (الميزانيكمية) وهى الخلايا غير المخلَّقة كبير في حياتنا فانظر كيف كشف القرآن أدقَّ أسرار الجنين ولا تعجب فالخالق يتكلم ولست طبيباً حتى أسهب في دور الخلايا غير المخلَّقة ولكننى تلميذ القرآن أبحث عن الحق في أي مجال لأنظر به إلى القرآن.
راجياً أن أتعرف على بعض أسراره , أما كون هذه القضية وأمثالها من إعجاز القرآن العلمي فذلك لأمرين.
الأمر الأول: هو أمية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمية قومه.
وإذا عاند بعض خصوم الإسلام وقالوا إنَّ محمداً درس التوراة والإنجيل فعليهم أن يثبتوا لنا من كتبهم مثل هذه الأسرار التي كشفها القرآن ووقف العلم الحديث أمامها خاشعاً.
والأمر الثانى: هو السبق الزمنى البعيد للقرآن فقد أعلن هذه الحقائق منذ أربعة عشر قرناً في الوقت الذي كانت الدنيا تطلق على (ضيف الرحم) اسم جنين والجنين والجنّ والجنَّة والجنينة والمجنون وجنَّ عليه الليل كلها كلمات تعني وتطلق على المستور من الأشياء
(1/197)
________________________________________
وبعد: فإن الإعجاز العلمي في القرآن في كلمة واحدة هو أن العلم الحديث استطاع أن يخطِّأَ كل تفسير للكون أو للإنسان قاله العلماء قبل قرن واحد من الزمن.
ولكن العلم الحديث لم يستطع أن يخطِّأَ آية واحدة قالها القرآن.
أشهد أن هذا القرآن منزلٌ من عند الله
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
إذا كانت المصانع العالمية تُعدُّ بضم التاء وتشديد الدال كتباً تشرح فيها أسرار الأجهزة التي تنتجها فالقرآن ولله المثل الأعلى هو كتاب الكون.
وبشيء من الإيجاز سألقي الضوء على هذا الموضوع تاركاً لكل عاقل أن يسأل نفسه , هل يمكن لرجل أميٍّ سجل التاريخ كل شيء من حياته حتى ما يتعلق بفراشه وزوجاته أن يفاجأَ الدنيا بعد بلوغه الأربعين بكتاب إن تكلم عن الماضي صدقه التاريخ، وإن تكلم عن الحاضر صدقته نتائج الأحداث وإن تكلم عن المستقبل صدقته الليالى والأيام، وإن تكلم عن الكون صدقه العلم الحديث؟
ثم يقال بعد ذلك إن هذا الكتاب من صنعه أو من نبع خواطره؟
والآن مع القرآن الكريم والحقائق العلمية:
أولا: أصل الكون
يقول العالمان (جينز وجامو) إن الكون كان في بدأ نشأته مملوءا بغاز موزع توزيع منتظماً ومنه خلق الكون هذا ما قاله العلم الحديث
(1/198)
________________________________________
والقرآن يقول (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)
ثانياً: وحدات عناصر الكون:
أثبت تحليل النيازك والشهب التي وردت إلى الأرض من الكواكب البعيدة كما أثبت تحليل قطع الحجارة التي أحضرها العلماء من القمر أن العناصر التي خلق منها الكون العلوي هى نفسها عناصر تكوين الأرض فمادة الكون واحدة قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)
ثالثاً: أصل الإنسان
أكد القرآن أن الإنسان خلق من تراب: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)
ومن ماء: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا)
فلما اختلط الماء بالتراب أصبح طيناً
(إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)
وقد أكدت الدراسات العلمية أن جسم الإنسان مركب من نفس العناصر الموجودة في الأرض جاء في كتاب (الطب محراب الإيمان) أن الإنسان (برميل) صغير من الماء مع عناصر معدنية أخرى يمكن أن نكون منها مسمار صغير من الحديد ورأس عود ثقاب من الكبريت وكمية من الكلس تعين على دهن الجدار وبعض العناصر الأخرى.
ثم قال وهو يتكون من عناصر التربة وأهمها المكونات العضوية التي يدخل في تركيبها الفحم والهيدروجين والأكسجين وكلها من عناصر الأرض وهذا ما أقره القرآن قبل أربعة عشر قرناً.
بل تكلم القرآن عن بعض الخصائص التشريحية في جسم الإنسان مما لم يكتشفه العلم إلا في هذا القرن من ذلك
(1/199)
________________________________________
حساسية الجلد:
شبكة الأعصاب تنتشر في جسم الإنسان كله ولكن أعصاب الحث تنتشر تحت الجلد بالذات ويوجد في الجسم جهاز ينظم الحرارة والبرودة والغدد العرقية مركز من مراكز التهوية للجسم ويوجد في جسم الإنسان العادى حوالى ثلاثة ملاين غدة تفرز العرق لتبريد الجسم عند الحر الشديد.
والعجيب أن الله صممها بحيث تسمح بخروج الماء (العَرَق من الجسد) ولا تسمح بعودته إليه، لأنها لو سمحت بدخول الماء من المسام لامتلأَ الجسم بالماء عندما يسبح الإنسان في البحر فلا يمكنه الخروج من الماء واكتشاف ظاهرة تخصص الجلد بالإحساس دون غيره وما تؤديه الغدة (الدرقية) من فرز مادة (التروكسين) وما تفرزه غدة (لب الكرز) من مادة (الأدرينالين) التي تنظم نشر الحرارة وما تقوم به الغدة (النخامية) من تنظيم وتوازن من لعمل الغدتين كل هذه الأمور حديثة الاكتشاف.
ولكن الثابت لنا أن القرآن أثبت اختصاص الجلد بالإحساس منذ أربعة عشر قرناً.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)
وعندما تشهد عليم السنتهم وايديهم وارجلهم نراهم يعاتبون الجلد وحده: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ؟
فهل كان محمدٌ طبيباً ماهراً استطاع أن يكشف مركز الحساسية في الجسم
(1/200)
________________________________________
ليخبر أن العذاب سينصب عليه حتى تحدث خصومة بينهم وبين جلودهم؟
أم أن الذي خلق الإنسان أوحى بهذا السر إلى نبيه؟
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
كل آية في القرآن تشهد أن هذا القرآن من عند الله وموضوع الإعجاز العلمي في القرآن لابد أن يدرس في كتبه الخاصة به والتي سبق أن ذكرتها فقد ألقيت فيه سلسلة من المحاضرات لطلاب جامعة القاهرة عام 1973
وطبعتها بالعربية والكردية يمكن الرجوع إليها.
وقد تعجب القرآن من الذين جحدوا بآيات الله مع أن قلوبهم على يقين من صدقه قال تعالى: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)
الكفر ظلم للفطرة وإهانة للعقل وقد اعتبرت السورة الكريمة إنكار نزول القرآن من عند الله مداهنة وطلاءً للقلوب بالأهواء حتى تحجبها عن الحق وهذا يعنى أن كفرهم مجرد مكابرة عن الهداية (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)
إن الإنسان كنود يأكل خير الله ويجحد شكره، ونعم الله لا تحصى وعطاؤه لا ينضب لذلك لامَهُم القرآن إذ جعلوا شكر رزقهم أنهم يكذبون بالله ويكفرون به وكان أولى بهم أن تسمر فيهم النعم شكرا وأن يؤمنوا بالله خالقاً
مع الغيب في القرآن مرة ثانية:
بعد أن تكلمت عن الإعجاز القرآني بجوانبه الثلاثة البياني والتشريعي والعلمي يحسن هنا أن أتكلم عن منهج آخر للاستدلال وهو أن القرآن الكريم
(1/201)
________________________________________
إن تكلم عن الماضي صدقه التاريخ، وإن تكلم عن الحاضر صدقته نتائج الأحداث، وإن تكلم عن المستقبل صدقته الليالى والأيام، وإن تكلم عن الكون صدقه العلم الحديث.
والذى نعرفه أن الغيب عنيد وكل من دخل الغيب بدون إذنٍ من صاحب الغيب سبحانه فإن الغيب يخطِّؤُه حتى ولو كان نبياً.
فيعقوب عليه السلام اجتهد مرتين في مسائل غيبية، المرة الأولى عندما عاد بنوه وقالوا له (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) عند ذلك قال يعقوب
(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)
قالها فأصاب حدسه وتخمينه، ومرة ثانية جائه بنوه وقالوا له: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)
عند ذلك اجتهد يعقوب ثم قال لهم: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)
ولكن اجتهاده في هذه المرة لم يوصله للحقيقة.
الغيب عنيدٌ، وكل من دخله بدون إذنٍ من صاحب الغيب سبحانه خطأه الغيب.
فما سر أن يأتي الغيب دائماً كما أخبر القرآن؟
هذا ما سنعيشه مع هذه الصفحات.
موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من المغيبات:
تؤكد سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من نسبة الغيب لنفسه.
روى الإمام البخاري أن جويريات كن يضربن بالدف يذكرن آبائهن من شهداء بدر حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ.
(1/202)
________________________________________
وهذا الحديث مصداق لقوله تعالى: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)
وقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ)
والنبى عندما يتبرأ من نسبة الغيب إلى نفسه ثم يأتي القرآن ويكشف عن غيب الماضي فيصدقه التاريخ ويكشف عن غيب الحاضر فيصدقه الواقع ويكشف عن غيب المستقبل فتصدقه الليالى والأيام , فإن مغيبات القرآن تثبت أنه من عند الله.
غيب الماضي:
ساق العلماء عديدا من الشواهد التي تؤيد تصديق ما جاء في القرآن من غيب الماضي واخترت قضية أَعتقدُ أنها لم تشتهر في هذا المجال مع أهميتها وقوة دلالتها، هذه القضية هى تحريف التوراة.
إنَّ القرآن الكريم يوم أن أعلن عن تحريف اليهود للتوراة لم تكن التوراة قد نقلت للعربية ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استمع إليها.
قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
قال قتادة رضى الله عنه: هم اليهود حرفوا كتاب الله وابتدعوا فيه وزعموا أنه من عند الله.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود وكانوا يزيدون في كتاب الله ما ليس منه وما لم ينزله الله.
يقول الدكتور محمد شامة: سواء كان المراد هو التحريف بالزيادة والنقص أو وضع لفظ مكان لفظ أو تحريف المعنى بأن يعلنوا معنا غير الذي تدل عليه الكلمات
(1/203)
________________________________________
وفى سورة آل عمران قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
فتحريف التوراة قضية أعلنها القرآن منذ أربعة عشر قرناً آمن المسلمون بها ولم يكن بين أيديهم سوى الثقة في من نزل عليه هذا القرآن , إن شعار المسلمين دائماً ما دام قال فقد صدق، وأنكر أهل الكتاب قضية التحريف ولم يكن لديهم وثيقة تؤيد دفاعهم عن كتابهم وظلت القضية للزمن وللأيام كلمة..
جاء في كتاب الأسس التاريخية للعقيدة اليهودية صـ 7: وعندما ذكر القرآن قبل زهاء أربعة عشر قرناً أنَّ اليهود قد حرَّفوا التوراةَ الأولى نجد الآن وبعد كل ما سمعنا وما نلمسه من البحث الدقيق والتقدم العلمي الكبير الذي سهل على علماء الآثار والمؤرخين عملهم نجد أن هذا الكلام يعني تحريف التوراة هو عين الحقيقة.
وإذا كان المؤلف وهو الأستاذ سامي سعيد الأحمد مسلماً فإن العلماء غير المسلمين قد أيدوا هذه الحقيقة القرآنية
* العالم الألمانى الدكتور (مور تكات) يقول أنه لا يمكن الاعتماد من الناحية العلمية على أساطير التوراة إذ برهنت كل الأبحاث الأثرية على عدم صحة أكثرها كما توجد أبحاث تبرهن على عكس هذه الأساطير
مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس 1960 جاء فيها ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته هو الذي كتب التوراة كلها أو حتى أنه أشرف على وضع النص الذي وضعه العديدون بعده، بل يجب القول بأن ازدياداً تدريجياً سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية.
* العلامة برتستد مؤلف فجرالضمير صـ 394 يقول: إن الكشوف
(1/204)
________________________________________
الأثرية الأخيرة قد غيرتْ موقفنا تغييراً جوهرياً.
حيث صار لدينا الآن الأصل (الهيروغليفى) المصري القديم الذي ترجمت ونشرت فقرات كاملة منها في كتاب (العهد القديم) العبراني.
ثم قال: إن المؤرخ (جوجر سمان) قد تعرف على المنهل المصري القديم الذي استقى منه المزمور رقم 104.
* المؤرخ الشهير ويلز: إن ثمة نصوصا من المصادر البابلية التي عثر عليها تعد مرجعا هاما لقصة " شمشوم " من قصص العهد القديم.
هكذا استطاع التقدم في علم الآثار أن يعيد نصوص التوراة إلى مصدرها فالسنوات التي عاشها اليهود في الأسر ببابل جعلتهم ينقلون ما تعلموه من البابلية وشريعة حمرابى إلى ثوراتهم وقد دفعهم إلى هذا التسول إن هزيمتهم على يد الملك البابلى (بختنصر) قد أحرقت خزائنهم وتوراتهم وقد كتبوا التوراة بعد أن فُقدتْ أربعمائة سنة كتبوها بعد أن سمح لهم بالعودة إلى أورشليم.
كتبوها مما تعلموه من بابل وما توارثوه من هدي الله في التوراة المفقودة.
* وقد كتب الدكتور أحمد سوسة فصلا كاملا عن نصوص التوراة وشريعة حمرابى ونظم جدولا في المقارنة بين الشريعتين صـ 437 ومعلوم أن شريعة حمرابى سابقة على مولد موسى بحوالى خمسمائة سنة.
* جاء في تفسير المنار جـ 10 صـ 348: أن العاهل الألمانى (غليوم الثانى) بعد أن تم اكتشاف شريعة حمرابى كتب لصديق له:إن هذا الكشف لا ينقص دينهم المبنى على أساس التوراة , وقال: لأن دينه مبنى على (الروح التي في التوراة) لا على نصوص التوراة. وتشريعاتها.
ثم قال: وإذا فندت المكتشفات الأثرية بعض التوراة , وذهبت بشيء من رونقها , ورونق الشعب المختار -
(1/205)
________________________________________
شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك لأن روح التوراة تبقى مهما يطرأ على ظاهرها من الاعتلال أو الاعتدال.
هذا الروح هو الله. ثم يختم الرسالة بقوله: إن الدين لم يكن من مستحدثات العلم فيختلف باختلاف نوع العلم والتاريخ.
...
وبعد: إن التقدم العلمي قد هزَّ التوراة التي بين أيدي الناس , كما يهزُّ الريحُ أغصانَ الشجر فيتساقط ورقها، بينما كشفت هذه الحقائق نفسها عن جواهر القرآن , وأضافت إلى أتباعه فكرة الإعجاز العلمي التي تزايد رصيدها بزيادة الحقائق العلمية المكتشفة.
لعلك أدركتَ كيف يحاول أصحاب البيت المنهار أن يتمسكوا بترايه فكلام العاهل الألمانى يصور هذا وقد تمسك أصحاب الرفاة بباطلهم وعملوا على إقامة دولة له , تحمل اسمه , وتضم أتباعه وتُبقِي فكرته بينما نامت أمة الحق في النور بل حاولت إطفاء النور لتنام نوماً عميقاً.
ناموا ولا تستيقظوا ... ما فاز إلا النُّومُ
* إن القرآن عندما كشف عن تحريف التوراة , كشف عن غيب أثبتت الاكتشافات الأثرية صدق ما قال , فالقرآن إذا تحدث عن الماضي صدقه التاريخ.
من غيب الماضي , بشارات التوراة والإنجيل بالنبى الأمي:
يفرض هذا الموضوع أن نسوق بعض المقدمات لتتجلى الحقائق القرآنية:
المقدمة الأولى: قصص الأنبياء مذكورة في التوراة ومع ذلك عندما حكاه القرآن للنبى - صلى الله عليه وسلم - اعتبره غيباً.
قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
وقوله تعالى: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ)
(1/206)
________________________________________
قوبل من قومه بعدم اعتراض لأن الأمة الوثنية لم تشغل نفسها بالنبوة ولا بأخبار الأنبياء وقد خلا الشعر الجاهلى - وهو قاموس المعارف العربية القديمة - من ذكر شيء عن هذا الموضوع.
المقدمة الثانية: موضوع البشارات موضوع خفي يحتاج إلى عمق في الفهم وتتبع دارسى.
وخفاؤه ليس على المسلمين وحدهم، ولكن علماء اليهود أيضا فقد بشرة التوراة بيحيى عليه السلام , وأطلقت عليه اسم (إيليا) ومع ذلك جاءهم يحيى فلم يعرفوه (1) .
جاء في الباب السابع عشر من إنجيل متى: أن تلاميذ السيد المسيح سألوه عن مجيء إيليا أولا - كما بشر بذلك الكتبة فأجاب يسوع وقال: إن إيليا يأتي أولاً , ويرد كل شيء ولكنى أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه , بل عملوا به كل ما أرادوا.
كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان وهو يحيى عليه السلام.
فيحيى بشرت به التوراة ومع ذلك لم يعرف تلاميذ المسيح أنه هو (إيليا) الذي بشرتْ به التوراة فوضح لهم المسيح ذلك.
بل إن غموض البشارة بالنبى يحيى وصل لدرجة أن يحيى لم يعلم أنه هو المراد بكلمة (إيليا) حتى بيَّن المسيحُ أنه هو.
فقد سأل الكهنة الملاويين - من علماء اليهود - سألوا (يحيى) هل أنت المسيح؟ قال لا.
هل أنت إيليا؟ قال لا.
هل أنت النبي , أي النبي الذي بشر به موسى؟ قال لا.
ولكن السيد المسيح أخبر أن يحيى هو إيليا - كما أسلفنا -
- - - - - - - - - -
(1) أخبر السيد المسيح بأن إيليا هو يحيى في الباب الحادى عشر من إنجيل متى قال عيسى وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي.
(1/207)
________________________________________
فالبشارات من شأنها أن تكون خفية , حتى على النبي يحيى نفسه. وعلى تلاميذ السيد المسيح فإذا كان هذا شأن البشارات بأنبياء بنى إسرائيل فكيف بالبشارات المحمدية - التي تعمد اليهود إخفاءها؟!!.
المقدمة الثالثة: جاء في سورة الأعراف , وهى سورة مكية أن اليهود والنصارى يجدون النبي الأُمِّيَّ - صلى الله عليه وسلم - مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)
ومعلوم أن القرآن المكي لم يسق مثل هذه الآيات الكريمة لمناقشة أهل الكتاب ولكنه ساقها لتقرير حقيقة غيبية وهى الكشف عن أصالة الإسلام في تاريخ الدعوات السابقة وارتباطه بها.
...
وبعد هذه المقدمات الثلاث يتبين لنا أن القرآن الكريم عندما أخبرنا بذكر النبي الأُمِّيِّ في التوراة والإنجيل ساق بذلك غيب من مغيبات الماضي في القرآن. لم تكن قريش تعرف عنه شيئاً ولا غيرها من المشركين.
وقد تكرر في القرآن المكي الحديث عن عن معرفة أهل الكتاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - ليعلم المشركين أن أهل الكتاب يعرفون محمداً - صلى الله عليه وسلم - من وحي دراستهم لكتبهم فهو صادق بشهادة من سبقه من الأنبياء قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
أعلن القرآن هذا الغيب ثم ترك للزمن أن يقرر صدق غيب القرآن ليقطع ألسنةَ المجادلين.
(1/208)
________________________________________
مواطن البشارات في التوراة:
موسى يخبر بأن الله سيصرف رضوانه عن بنى إسرائيل جاء ذلك في سفر التثنية إصحاح 32 أنَّ الله - سبحانه - أوحى لموسى - عليه السلام - "أحجب رضوانى عنهم لأنظر ما آخرتهم؛ إذ جيل متقلب بنون ليس أمين فيهم هم أسخطونى بغير قادر. أكادونى بهبائهم وأنا أغيرهم بغير قوم، بشعب ساقط أكيدهم".
يفهم من هذا النص أن الله سيصرف رضوانه عن بنى إسرائيل إلى شعب آخر.
مواطن النبوة الجديدة:
جاء في سفر التكوين إصحاح 21 من 17 - 21 قول موسى عليه السلام: إنَّ الله أتى من سنين وأشرق من السعر ولهم لمع من جبال فاران ومعه ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم.
فالنص السابق يشير إلى الدينات الكتابية الثلاثة (سنين) إشارة إلى دعوة موسى عليه السلام.
* (وأشرق من السعر) أي جبل ساعير إشارة إلى دعوة المسيح.
* (ولهم لمع من جبال فاران) نحن بحاجة إلى معرفة جبال فاران لنعرف إلى أي شيء ترمز. ولكن سفر التكوين إصحاح 21 - 17 يحكي قصة أمِّ إسماعيل وهى تسعى باحثة عن الماء لولدها تقول التوراة: "وجلى الله بصرها عند ظمأ ولدها فنظرت بئر ماء فذهبت إليه وملأت المزادة ماء وسقت الفتى فكان الله مع الفتى , وكبر وسكن في البرية وكان شديد القوس وسكن في برية فاران واتخذت له أمُّه امرأةً من أرض مصر.
ومعلوم أن إسماعيل سكن في مكة وأن البئر هو زمزم فبلاد فاران هى مكة المكرمة كما جاء في التوراة.
فالتوراة أكدت أمرين:
(1/209)
________________________________________
أولاً: أن الله سيصرف رضوانه عن بنى إسرائيل.
ثانياً: أن دين الله سيلمع من جبال فاران التي سكن فيها إسماعيل وشرب من البئر الذي نبع فيها وهى مكة.
أوصاف النبي الذي بشر به موسى - عليه السلام:
جاء في سفر الخروج 20 - 21 "نبيا أقمت لهم , من جملة إخوتهم ... مثلك...... وجعلت خطابي بفيه فيخاطبهم بكل ما أوصيه ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه الذى يخاطب به باسمى أنا أطالبه".
وهذا النص يجلى لنا بعض أوصاف هذا النبي - صلى الله عليه وسلم.
أولاً: من جملة إخوتهم فهو من بنى إسماعيل. وليس من بنى إسرائيل , لأنه لو كان من بنى إسرائيل لقال "منهم ".
ثانياً: قوله - تعالى - لموسى "مثلك ".
* أي صاحب شريعة مثلك.
* ويقاتل عدوه مثلما قاتلت عدوك.
* وقد صرحت التوراة في سفر التثنية 34 - 10 أن الله لم يبعث من بنى إسرائيل نبياً مثل موسى.
ثالثاً: وجعلت خطابي بفيه. لأنه أُميٌّ فكل نطقة وحي , لأنه لا ينطق عن الهوى.
رابعاً: فيخاطب بكل ما أوصيه , فلا يكتم شيئاً من وحي الله تقول السيدة عائشة - رضى الله عنها -: لو كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من الوحي لكتم آيات العتاب في سورة الأحزاب.
خامساً: ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه الذي يخاطب به باسمى أنا أطالبه.
وقد اقتص الله من أعدائه في بدر: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
(1/210)
________________________________________
هذه نصوص التوراة بعد أن نقلت إلى اللغة العربية وبعد أن تيقن كل دارس أن القرآن عندما أخبر بأن النبي الأُمِّيَّ مكتوب عندهم في التوراة أراد القرآن بذلك أن يكشف عن شيء من غيب الماضي فصدقته الليالى والأيام.
غيب المستقبل:
أكثر العلماء من دراسة غيب المستقبل في القرآن الكريم وتيسرت لديهم الأدلة عليه.
ففى طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدينة مهاجراً نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
ولما ازداد شوق النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا اليوم ورأى في المنام أنه يطوف بالبيت وحاول النبي عليه الصلاة والسلام أن يحقق الرؤيا , ومنعه المشركون , وجاء صلح الحديبية وعاد النبي إلى مكة ولم يطف بالبيت , جدد الله الوعد للنبى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)
وقد صدق الله وعده لنبيه - صلى الله عليه وسلم - - ودخل البيت معتمراً , ثم دخل مكة فاتحاً منتصراً: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)
وكل وعد في القرآن بانتصار هذا الدين والتمكين له غيب صدقته الليالى والأيام: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
ومما اشتهر بين الدارسين في غيب المستقبل مطلع سورة الروم
(1/211)
________________________________________
فقد كان لهزيمة الروم على يد الفرس وقعٌ أليم على نفوس المسلمين في مكة وفرح المشركون لنصر الفرس وفى وسط هذه المشاعر نزل قوله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
(غُلِبَتِ الرُّومُ) بالبناء للمجهول ولم يقل: غلبت الفرس الروم والدارس لتاريخ الرومان في هذه الفترة يدرك أن عوامل الهزيمة كانت من داخل قصور الروم ولم تكن من بطولات الفرس.
(وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ)
وعد بالنصر لم تكن ملوك الروم تحلم به. ولم يكن لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - سفارة تنقل الأخبار , وأجهزة عسكرية تحسب التوقعات.
وأكثر من مجرد الإخبار بالنصر أن القرآن حدد المدة من ثلاثة إلى تسعة أعوام حتى إن أبا بكر - رضي الله عنه - راهن أحد المشركين على صدق هذا الوعد ثقة في الله سبحانه - وأكثر من هذا قوله تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ)
هذه وحدها معجزة فقد ذكر صاحب (الإسلام يتحدى) أنه في اليوم الذي وصلت فيه الأخبار إلى المدينة حاملة بشارات نصر الروم كان المسلمون في عناق بسبب انتصارهم في بدر: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ) .
إنَّ القرآن إذا تحدث عن المستقبل صدقته الليالى والأيام.
...
هذه الآيات اشتهرت بين الدارسين في موضوع غيب القرآن وسوف أحاول أن أقدم نموذجاً لغيب القرآن في آية في سورة الأحزاب أتمم به الموضوع.
خاتم النبيين:
كانت بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هى الكلمة الأخيرة للسماء فقد تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ببعثته.
تمت كلمة ربك إلى كل الدنيا (صدقا) لأن كل الأدلة العقلية أثبتت نزول القرآن من عند الله
(1/212)
________________________________________
وتمت كلمة ربك - إلى كل الدنيا - (عدلاً) لأن الإسلام التزم بالوسطية بين الطرفين المتنافرين فالإلحاد ينكر وجود الله والشرك يعدد الآلهة.
فكلمة العدل هى التوحيد , وهى الوسط، والإلحاد ينكر النبوة , والنصرانية تُؤلِّه نبيها.
فالعدل هو: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)
تمت كلمة ربك - إلى كل الدنيا صدقا وعدلا.
فلابد من ختام النبوة بمن تمَّت على يديه كلمة ربك.
فالدنيا بعده بحاجة إلى تطبيق ما جاء به وتذكير الناس بكنوزه.
من هنا أعلن القرآن بيان خاتم النبوات:
(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)
ختم الله النبوات بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وختم النبوات يستلزم ختام الرسالات لأن كل رسول نبي، ومن عجز عن الحصول على مؤهل متوسط فيقيناً أنه لم يحصل على مؤهل أعلى فختم النبوات يفرض ختم ما هو أعلى منها وهو الرسالات من باب أولى.
أما جانب الغيب في هذا الأمر فهو أنه قد مَرَّ على نزول الآية الكريمة أربعة عشر قرناً ولم تثبت لأحد نبوة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وفى الآية الكريمة: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)
وفيها غيب آخر لقد نزلت هذه الآية في العام الخامس من الهجرة.
نزلت وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أعوام.
عاشها وهو متزوج من أكثر من امرأة كن صالحات للإنجاب.
وقد أنجب بعضهن قبل الزواج من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنجب النبي من قبل.
فماذا يحدث لو رُزقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية بأولاد وقدر الله لهم العيش وأصبحوا رجالاً.
وأيُّ حرج كان سيصيب المسلمين ويلجئهم إلى التأويل إن الله الذي أنزل القرآن علم أن محمداً سيلقاه ولا يترك من أعقابه أبناء يتعارض وجودهم مع ظاهر الآية الكريمة.
إن القرآن إذا تحدث عن المستقبل صدقته الليالى والأيام.
(1/213)
________________________________________
ومن غيب القرآن:
آيات الوعيد
تتبعت آيات الوعيد في القرآن الكريم. ودرست أسباب نزولها.
والذين نزلت فيهم هذه الآيات. وخرجت من دراستى بمعرفتى لسر من أسرار القرآن - الذي لا تنتهى عجائبه وسوف أوجز هذه الدراسة في سطور.
ثم أقدم النتيجة.
أقول: الذين حاربوا الإسلام وصدوا عن سبيله - في العهد المكي - كثيرون. وقد نزل وعيد من الله سبحانه في بعضهم ولم ينزل وعيد في الباقين , مع تساويهم في الجناية , بل لعل أحدهم أكثر جرما في حق الإسلام ومع ذلك لم ينزل فيه وعيد. فما سر ذلك؟
هذا ما سنعرفه من هذه الدراسة الموجزة.
النضر بن الحارث:
حارب الإسلام وسخر نفسه لعداء نبيه.
وبلغ من عدائه للإسلام , أنه كان يسافر إلى بلاد فارس. ليشترى أخبار الأكاثرة , وحكايات الأولين ويحدث بها الناس ويقولله لهم: إن محمداً يحدثكم عن " عاد وثمود " وأنا أحدثكم عن "رستم والأكاثرة " , يريد بهذا الحديث أن يصرف الناس عن سماع القرآن , وقد نزل فيه قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
وقد صرح القرآن بوعيده مرتين:
الوعيد الأول: في الآية الكريمة، في قوله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)
والنضر بن الحارث , واحد ممن توعدتهم الآية , لأنها نزلت فيه
(1/214)
________________________________________
والوعيد الثانى في قوله - سبحانه: (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
واستعمل القرآن كلمة البشرى هنا , سخرية به.
ويجوز أن يكون القرآن قد استعمل كلمة البشرى , في معناها الأصلى , وهو كل خبر يظهر أثره على بشرة الوجه سواء كان خيراً أم شرًّا ثم كثر استعمالها في الأخبار السارة , ومنه قوله تعالى: (قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ)
فالنضر بن الحارث , أجرم في حق الإسلام , فنزل وعيد بشأنه وعلم مصيره إلى الأبد.
عقبة بن أبي معيط:
أما عقبة بن معيط , فرجل إمعة. ضعيف الشخصية. سريع التقلب. أقام وليمة في بيته , ودعا إليها الناس. ودعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وليمته. وقدم الطعام وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام الطعام , ثم قال لعقبة لا آكل طعامك حتى تشهد بأني نبيٌّ. وشهد (عقبة) شهادة الحق. فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكاد الأمر أن يمر بسلام. لولا أن (أبي بن خلف) كان صديقا لعقبة وقد تخلف عن المأدبة لسفره.
فلما علم بإسلام عقبة غضب وأقسم باللات والعزى لا يدخل بيت عقبة بن معيط , حتى يرتد عن الإسلام , وسارع عقبة إلى الردة لإرضاء صاحبه.
وحزن النبي لكفره بعد الإسلام. فأنزل سبحانه وعيد في شأن (عقبة) قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)
لقد حدد القرآن مصير (عقبة بن معيط) في الآخرة فهو يعض على يديه ندامة. ولكن الندم في الآخرة لا يفيد.
(1/215)
________________________________________
الوليد بن المغيرة:
سمع القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - , فوقع القرآن في قلبه. واستحوذ على وجدانه. وسارع إلى قريش , يعلن رأيه بصراحة بأن القرآن له حلاوة. وعليه طلاوة , وأن أعلاه لمثمر. وأن أسفله لمغدق. وأنه ليعلوا وما يُعلى عليه , وما هو من قول البشر.
ولكن أبا جهل سارع إليه متباكيا , وقال: أفزعنى قول قريش: أن الوليد أسلم ليصيب من طعام محمد , وأبى بكر.
تحير الوليد , وأهمته نفسه , وارتد عن الإسلام , وقال عن القرآن: إنه سحر.
قالها لإرضاء قريش , وليحافظ على منزلته بينهم.
فأنزل الله فيه وعيد في القرآن إلى يوم القيامة قال تعالى:
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)
وهذا أشد وعيد في القرآن , لأن الله لا يشغله شيء عن شيء إلى قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)
سخرية أخرى فهو يأمِّله أنه سيخرج من النار , فيرهق نفسه في الصعود من الهاوية , ثم يعود فيهوي فيها , فيرهقه العذاب , ويرهقه الصعود. ثم ينكب في صقر - التي لا تبقى ولا تذر.
وفى سورة القلم. جاء وعيد جديد له: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)
شبهه القرآن بالفيل وفى قوله تعالى: (عَلَى الْخُرْطُومِ)
تحقير له , ووعده بوضع علامة الخزي على أنفه - والأنف موضع اعتزاز العربى , فهو يعرف في جهنم بهذه العلامة.
أبو لهب (عبد العزى بن عبد المطلب) وامرأته:
عندما جمع النبي الناس , ليعرض عليهم دعوته. قال له عمه (أبو لهب) تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟.
ومع أن هذا الحادث كان في أول عهد الدعوة. فقد نزل وعيد في شأن أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)
وانتهى أمر أبى لهب فالنار تنتظره لا محاله
(1/216)
________________________________________
أعلن القرآن هذا منذ الأيام الأولى للدعوة.
أما امرأته أروة بنت حرب فقد عادت الإسلام وباعت قلادتها لحرب نبيه فأبدلها الله بها حبلا من مسد في رقبتها.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)
وأروى بنت حرب شقيقة أبي سفيان بن حرب، حارب زوجها الإسلام وشقيقها حارب الإسلام أيضاً وزاد شقيقها أبو سفيان في العناد فتزعم جيوش الشرك وقلَّب بتشديد اللام القبائل على الإسلام.
أروى بنت حرب باعت قلادتها وحاربت الإسلام وهند بنت عتبة زوجة أبى سفيان أنفقت الغالى والرخيص في حرب الإسلام وحرضت على قتل حمزة رضى الله عنه وشقت بطنه ومضغت كبده.
فأبو سفيان وزوجه أخطر على الإسلام وأشد عناداً ولكن العجيب أن أبا لهب نزل في شأنه وعيد هو وامرأته، أما أبو سفيان وامرأتُه فلم ينزل فيهما قرآن.
الجريمة واحدة:
الأول نزل فيه وعيد لا يتخلف الثانى لم ينزل فيه وعيد , والوليد بن المغيرة حارب الإسلام، وخالد بن الوليد حارب الإسلام، وقاد جيوش الشرك يوم أُحُدٍ.
لماذا نزل الوعيد في الوالد ولم ينزل في الولد؟
لماذا نزل الوعيد في (أروى بنت حرب وزوجها) ولم ينزل في شقيقها أبى سفيان وزوجه؟
(1/217)
________________________________________
لماذا يشترك اثنان في جريمة واحدة هى حرب الإسلام فينزل الوعيد في واحد ويترك الثانى؟
إن سر الأمر كما فهمت من دراستى أن الذين علم الله أنهم سيموتون على الكفر مثل أبي لهب وامرأته والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وغيرهم أنزل الله فيهم وعيداً في القرآن الكريم أما الذين علم الله أن أعمارهم ستمتد حتى فتح مكة فسيحصلون على العفو العام بدخولهم الإسلام مع الطلقاء أو سيدخلون الإسلام قبل الفتح، كخالد بن الوليد، فلم ينزل الله في شأنهم وعيد.
ماذا عسى أن يحدث لو نزل وعيد في خالد بن الوليد بسبب ما أحدثه بالمسلمين يوم أحُد ثم أسلم خالد بعد ذلك؟
هل سينسخ هذا الخبر ويخبر القرآن بعد ذلك أنه فى الجنة؟
إن النسخ لا يدخل الأخبار لأن نسخ الخبر تكذيب له ومثل هذا لا يجوز على الله سبحانه.
إنَّ يوم أحُد من أيام الإسلام العصيبة ومع ذلك فلم ينزل فيه سوى عزاء للمسلمين قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ)
واكتفى القرآن بالعزاء ولم ينزل أي وعيد في خالد، مع أن القرآن أسهب في وعيد والده (الوليد بن المغيرة) كيف فرق القرآن بين مشرك سيموت على الكفر، ومشرك سيمتد عمره حتى يعتنق الإسلام.
إنَّ الإجابة الوحيدة على كل هذه التساؤلات هى قوله تعالى: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
(1/218)
________________________________________
الخاتمة الكريمة قال تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
تحدى الله الدنيا بأمرين
1 - تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزت الدنيا ولجأت إلى الحرب مع أن تكاليف الحرب باهظة فلو استطاعوا معركة الكلمة ما دخلوا معركة السيف.
2 - وتحدى الله الدنيا أن تعيد الروح إلى الجسد ومع كل التقدم الذي أحرزته الدنيا لم تزل ترفع يديها مسلمة أمام سلطان الموت , لم يزل الطبيب المتمكن من تخصصه يشاهد وحيده في ساعة الاحتضار فلا يملك سوى العبرات.
إنَّ التحدى القرآني نوع من المغيبات وقد أثبتت الدنيا صدق وعد الله: (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
وسوف أقسم البحث هنا إلى قسمين القسم الأول أناقش فيه أدلة وجود الروح , القسم الثانى أناقش ما أعلنته بعض أجهزة الإعلام العربى من قولهم إن العلماء قد نجحوا في تدمير بعض الكائنات ثم أعادت الحياة إليها فهم على أبواب إحياء الموتى!!
(1/219)
________________________________________
أدلة وجود الروح:
(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ)
أولا: لم يكن العقل البشرى بحاجة إلى التدليل على وجود الروح لأن حياة العاقل دليل على وجود الروح فيه ومن مات فقد صعدت روحه إلى خالقها هكذا بلا تفلسف ولا تدليل، لذلك لم يحاول الإمام الغزالي وهو يتكلم عن خلود الروح أن يتكلم عن أدلة وجودها.
أما الشيخ الرئيس ابن سينا فقد حاول أن يدلل على وجود الروح وأورد أدلة طويلة لإثباتها ولكن شأنها شأن أدلة اليونان الأخرى مجرد لعب بالكلمات يمكن لأي منكر لحقيقة الروح أن يقول عنها إنه أعاد الدعوة نفسها بكلمات أخرى.
وقد كتب ابن سينا قصيدته الشهيرة على الروح ومطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
حتى إذا قرب المسير عن الحمي ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت مفارقة لكل مخلف ... عنها حليف الدرب غير مشيع
سمعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وتعود عالمة بكل حقيقة ... في العالمين فخرقها لم يرقع.
(1/220)
________________________________________
ولكن القصيدة بل وفلسفته كلها لم تثبت وجود الروح , ولما يأس أبو بكر بن عبد الرحمن الكيسانى الأصم من إثبات وجود الروح أنكر وجودها وقال: لا أعرف إلا ما تشاهده حواسي.
وسبب عجزهم عن إثبات وجود الروح أن شدة الوضوح تسبب الخفاء وقد يعجز الإنسان عن رؤية أقرب شيء منه.
وفى أوروبا لم تنجح فلسفة أفلاطون وأرسطو في إثبات وجود الروح أمام الزحف المادى , حتى فلسفة ديكارت والتى قالت بالتوازن بين الروح والجسد لم تملأ حياة الرجل الأوروبى , وقد فسر (هارتلى) العمليات العقلية بأنها لا تتعدى أن تكون ذبذبة في الجهاز العصبى وبنى علماء النفس تفسيراتهم على هذا الأساس وقد مهدت نظريات علماء النفس لخطر كبير على الفكر الديني في أوروبا وتسرب دخانها القاتم إلى بلاد الإسلام في غيبة حراس الحق ولكن الإسلام وحده يستطيع أن يحفظ التوازن الإيمانى في العالم إذا أحسنا الدعوة إليه وسوف أحاول أن أقيم بعض الأدلة على وجود الروح.
الدليل الأول على وجود الروح:
كل إنسان يشعر بالماضى ويثق بأنه عاشه بآماله وآلامه، وأن الماضي يحكم كثيرا من تصرفاتنا في الحاضر وتطلعاتنا للمستقبل وأسأل نفسي:
هل أنا الذي عشت هذا الماضي فعلا؟
وهل أنا الذي كنت صانعا في مدينة الزقازيق وقضيت خمسة عشر عاماً
(1/221)
________________________________________
أعمل بيدى طوال النهار وأقضي الليل كله في القراءة حتى أتممت دراستى الجامعية؟
إن علماء الخلايا يقولون لي إن هذا الجسد لم يحمل هذه المصاعب , لأن الجسد الذي تحملها قد ماتت جميع خلاياه وتكون من الطعام جسدا آخر يعيش حاضره فقط ولا علاقة له بالماضى هذا ما يقوله الطب الحديث مؤكداً أن الجسد يتبدل كل عدة سنوات.
فشعور الإنسان بالماضي ويقينه أنه عاشه يؤكد وجود شيء في الإنسان يغاير الجسد فهل هذا الشعور سببه أن خلايا الأعصاب تولد مع الإنسان وتموت معه؟
كما قال علماء الخلايا , أم أن هناك سبباً آخر؟
مناقشة الاحتمال الأول:
يدرك الأطباء جيداً دور المخ في السيطرة على الأعصاب وخضوعها لأوامره ولكن الطب الحديث يقف خاشعاً أمام سر التفكير والإدراك والتخيل وتركيب الكلمات والجمل وربط هذه المعانى ببعضها بحيث يخرج الكلام منسجماً إن هذه القضايا يقف الطب أمامها من دون أي إجابة عليها يقول الدكتور خالص جلبى:
إنَّ الطب يقف حائراً حتى الآن عن الإجابة على هذه التساؤلات كيف يستخدم الإنسان الأسماء حتى يتفاهم مع غيره على الشيء الذي يريد؟ وكيف ينتقل هذا الأمر من عالم الماديات المحسوسة إلى عالم الروح والفكر حيث يتم التعبير بالأشياء المجردة , الحق يقال: إننا درسنا عموميات الطب من أوله حتى آخره ومع ذلك لم نستطع حتى الآن أن نفقه هذا السر كما أن الأطباء الذين يبحثون هذه القضايا يقفون مدهوشين أمام هذه الظاهرة الفذة العجيبة المحيرة , إن الفكر ظاهرة غير مفهومة وواضح من كلام الدكتور خالص جلبى أن الفكر من مسائل الروح وليس من مسائل المادة
(1/222)
________________________________________
وهذا هو رأى المحققين من العلماء الذين لم تُفقدهم النظرية المادية توازنهم العلمي.
وقد أعلن هذا الرأي من قبل الفيلسوف الفرنسى (برجسون) الذي كان من أوائل الذين تصدوا لدحض مادة الفكر عن طريق العمل والتجربة لا عن طريق الفلسفة التجريبية فقد راح خلال عشرين عام يلاحظ المصابين (بالأفزيا) أي مرض فقد الذاكرة والكلام فخرج من ملاحظاته بالحقائق القاطعة بأن العقل لا يمكن أن يكون عملية مادية على أي وجه من الوجوه وفى ذلك يقول يتفق حيث يكون الفساد الدماغي خطير وحيث تكون الذاكرة اللفظية مصابة إصابة بليغة أحيانا، أن ترجع الذاكرة فجأة وذلك على أثر تنبيه قوى بعض الشيء كالانفعال مثلا فهل يمكن أن يحدث ذلك لو كانت الذاكرة موضوعة في المادة الدماغية التي فسدت أو تلفت (الواقع أن الأمور تجري كما لو كان الدماغ يفيد من التذكير لا للاحتفاظ بها) .
على أن القول بأن التفكير لون من ألوان تفاعل المادة على صورة من الصور فهذا ما أثبت العلم التجريبي فساده وبطلانه حتى أصبح القول بمادية الفكر أو بأن العقل هو المخ من مظاهر الجهل والسوقية العلمية ذلك لأن كل تفاعل في المادة معناه حدوث تغير في طاقتها بالنقص أو الزيادة وقد أصبح للعلماء أجهزة دقيقة وحساسة إلى الحد الذي يجعلها قادرة على تسجيل حركه إلكترون واحد وقد أمكن أن يسجلوا بهذه الآلات التغيرات التي تطرأ على المخ عندما يقوم الإنسان بأى حركة مادية كتحريك أصبع أو ثنى ورقة كما سجلت هذه الآلات التغير الذي يطرأ على المخ عند حصول أي انفعال يطرأ على الإنسان الأمر الذي أثبت بطريقة جازمة أن جميع حركات الإنسان وانفعالاته هى تفاعلات مادية فعلا ولكنهم عندما حاولوا أن يقيسوا النشاط الفكري بنفس الأسلوب لم تسجل الآيات أي شيء الأمر الذي جعل الكثير من العلماء ينبذون الرأي القائل بأن المخ هو العقل
(1/223)
________________________________________
ثالثاً: علم الجراحة:
وإذا أمكن لبعض العلماء أن يقولوا: ربما نكتشف أجهزة أدق يمكنها أن تسجل التفكير والتصور , فإن التقدم الذي حدث في علم جراحة المخ , ينفى هذا القول. فقد أجريت عمليات جراحية لبعض المرضى في المخ , حيث استأصل فيها أجزاء هامة من أمخاخ المرضى , وقاموا وذاكرتهم كاملة , ويفكرون تفكيراً منتظماً.
فلو كانت خلايا المخ هى مخزون الذكريات لوجب أن تنقص الذاكرة بمقدار ما نقص من المادة المخية , لا أن تقوى الذاكرة وتتحسن.
ولو كان الفكر تفاعلات كيميائية لوجب أن يضعف بإنقاص المادة المتفاعلة لا أن يقوى التفكير.
وعلى هذا فالذاكرة والفكر والمخيلة مادة , وبناء على ذلك فإن وحدة الشعور الجامعة بين الماضي والحاضر. مع أن الجسم يتغير تغيراً كاملا كل عدة سنوات , يؤكد وجود الروح.
فالتفكير سر من أسرار الروح.
وناهيك بأن الذاكرة لو كانت مادة كما يدعي الماديون لاحتاج الإنسان إلى مخ حجمه يساوي حجم الكرة الأرضية كلها , لكى يتسع لمثل ما في مخ الرجل الذي بلغ الستين , وذلك لأن العين وحدها تصور , وتسجل , وتحتفظ كل ساعة بنصف مليون صورة , فكم صورة تحتفظ بها في الشهر؟ وكم صورة تحتفظ بها في العام؟ وهكذا.
والذاكرة تحتفظ بالأصوات. وكثيرا من الذين يعملون في الإذاعات نعرفهم عن طريق تمييز الذاكرة بين أصواتهم.
وتحتفظ الذاكرة بالروائح.
وقد يتذكر بعض الناس حفل عرسه. بمجرد أن يشم رائحة كان قد استعملها ليلة العرس , واللمس. تحتفظ به الذاكرة. والذوق كذلك.
فلو أردنا صنع عقل إلكترونى. يتسع لمثل ما في الذاكرة , لاحتجنا إلى عقل حجمه يساوي حجم الأرض كلها.
(1/224)
________________________________________
هذه أدلتنا على مغايرة العقل للمخ.
فهل يملك الماديون مثل هذه الأدلة على دعواهم؟
إن الإنكار يحتاج إلى تدليل عليه , كما أن الإثبات يحتاج إلى تدليل.
رابعاً: الدليل الثانى على وجود الروح:
الإلهام:
المعارف البشرية نوعان:
النوع الأول: معارف مكتسبة عن طريق الحواس.
وهذا النوع لا علاقة له بدراستنا.
النوع الثانى: معارف فطرية: وهى الأوليات العقلية المشتركة بين كل الناس. والتى لا يختلف فيها عاقلان.
وقد ذكر (ديكارت) من هذا النوع: معرفة الله , والنفس , والحركة.
لأن هذه مسلمات عنده , لم يمسها الشك عندما شك في كل شيء.
ومن هذه الحقائق عندنا , ارتباط الشيء بسببه وعدم وجود شيء من لا شيء. وأن الجزء أقل من الكل. وأوليات علم الرياضة , وبديهيات علم المنطق. وهكذا.
وتزويد العقل البشرى بهذه الأوليات الفطرية , هو سبب التفاهم المشترك بين الناس جميعا , وهو نوع من الهام الفطرة.
وإذا كانت المادية الحديثة قد أنكرت كل ما عساه أن يوصل إلى إثبات وجود الروح , فإن الماديين لا يمكنهم أن ينكروا الإلهام , فى
(1/225)
________________________________________
عالم الحيوان والطير والحشرات. فالنظام في عالم النحل. دليل على الإلهام. الذي صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)
والوحي هنا بمعنى إلهام الفطرة.
ومن المخزي حقاً. أن تدعي المادية الحديثة أن النحل قد توصل إلى هذا النظام عن طريق المحاولة والخطأ.
فقد جرب ملايين النظم حتى استقر على هذا النظام وتوارثه جيلا بعد جيل.
ونسأل الماديين:
إذا كنتم تقولون بأن العلم لا يؤمن إلا بما يرى.
فهل رأيتم النحل منذ ملايين السنين , وهو يحاول ويخطئ؟
أم أنكم رجعتم إلى الإيمان بالغيب؟
وإذا قلتم إن النحل توارث هذا النظام , فلماذا توقف النحل عند هذا النظام منذ آلاف السنين ولم يبحث عن نظام آخر خير منه.
وإذا قلتم إن النحل توارث هذا النظام , فمن علم
(ثعبان السمك) أن يشق آلاف الأميال فيأتى من كل بحار العالم إلى جزيرة معينة في الولايات المتحدة , ليضع بيضه ثم يرجع إلى البلد التي جاء منه وعندما يفقس البيض , يكرر هذه الرحلة فمَنْ أَلهمَهُ ضبطَ الطريق بلا خرائط ولا بوصلة.
...
والحشرة (سفكس) آية على الإلهام , فهى تموت بمجرد أن تضع البيض. ولكن أفراخها من الدلال بحيث لا تأكل إلا لحماً طازجاً , فمن سيرعاهم
بعد موت أمهم؟
ومن سيوفر لهم هذا اللحم الطازج؟
أطمئن.. فإن مقسم الأرزاق لم ينس أحداً.
إنَّ الحشرة (سفكس) بمجرد أن تعزم على وضع البيض , فإنها
(1/226)
________________________________________
تصطاد جرادة حيَّةً ... ثم تأتى بإبرتها على مخ الجرادة وتضغط عليها بشدة , وتستمر هكذا حتى تفقد الجرادة قدرتها على الحركة وتصاب بالشلل التام فتقوم الحشرة بعمل حفرة وتضع فيها الجرادة ثم تضع البيض فوقها , وتموت.. فإذا خرج البيض أفراخاً فإنهم يجدون طعامهم حيًّا طازجاً.
فهل يمكن أن نقول أن هذا التصرف العجيب ورثته الحشرة (سفكس) عن أمها؟!
لقد ولد يتيمة فألهمها الله سلوكها والنماذج كثيرة فقد ذكرت في كتاب (عقيدتك يا ولدي) بعضها ولا تفسير لها سوى الإلهام الذي عناه القرآن بقوله تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
وإذا ثبت الإلهام في عالم الطير والحشرات فكيف يجوز لعاقل أن ينكره في عالم الإنسان أو أن ينكر الإلهام مطلقاً.
إنَّ علماء النفس يجرون تجارب على الحيوان ثم يطبقون نتائجها على الإنسان ونحن هنا نناقشهم بلغتهم عندما نستدل بإلهام الحيوان والطير وعلى وجود الإلهام في حد ذاته والإلهام دليل على وجود الروح وعلى أن العقل غير المخ فالمخ شبكة الاتصال السلكية بين العقل والأعضاء والعقل هو الأمر الناهى , ويتصل المخ بالعقل دائماً اتصالا لا سلكيا فسبحان من دبر الكائنات وألهمها سلوكها.
(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
خامساً: الدليل الثالث على وجود الروح:
الرؤيا الصادقة: الأحلام والرؤيا عالم عجيب فنحن نعيش خلالها في عالم آخر له لغته الرمزية التي قد نعجز بعد اليقظة عن فهم أكثرها وقد حاول علماء النفس أن يفسروا ظاهرة الرؤيا والأحلام
(1/227)
________________________________________
تفسيراً يبعده عن الاعتقاد في الاتصالات بعالم الروح فقالوا إن السبب في الأحلام هو الشوق إلى لقاء الأعزاء الراحلين، أو تحقيق أملٍ فشلنا في تحقيقه في اليقظة، أو صراع الكبت مع الرغبات، أو ما يشبه هذا فتتجسد هذه الخواطر في غيبة الوعي، وربما عقَّد - القاف مشددة - علماء النفس المسألة مع بساطتها وقالوا إن الإلحاح في لقاء الموتى بالرؤيا وسيطرة هذه الأحلام على وجدان الحالم عقدة نفسية تحتاج إلى تحليل وعلاج.
ولكن تفسير علماء النفس للأحلام لايزيد عن كونه مجرد محاولة لتفسير ظاهرة إنسانية هذه المحاولة خاضعة للصواب والخطأ، وأعظم ما يؤخذ على علماء النفس هو عدم تفريقهم بين الرؤيا والأحلام، وعجزهم التام عن وضع تفسير لظاهرة الرؤيا الصادقة التي تأتى كفلق الصبح كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها (المبشِّرات) والقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً فرق بين الأحلام والرؤيا، فهو لا يستعمل كلمة حُلم إلا جمعاً (أحلام) ويربط بينهم وبين كلمة أضغاث قال تعالى: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ)
(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ)
والضغث كما جاء في المصباح المنير هو قبضة حشيش مختلط رطبها بيابسها ومنه قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)
فالأضغاث هو الجمع بين المختلط ويتناسب معه الأحلام بالجمع لأن النائم يرى تداخلاً وزحاماً ينسي بعضه بعضاً بسبب تداخل الأحلام واختلاطها
(1/228)
________________________________________
أما الرؤيا فلم ترد في القرآن إلا مفردة، ويراد بها الرؤيا الصادقة التي يكشف الله للنائم فيها بعض المغيبات فتتحقق هذه الرؤيا قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام:
(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)
وفى سورة الفتح جاء قوله تعالى عن الرؤيا التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - بشأن دخوله مكة: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)
وحياة الناس في كل عصر لا تخلوا من الرؤيا الصادقة، وهى ليست خاصة بالأنبياء فالملك في عهد يوسف والسجينان اللذان دخلا السجن معه، رأوا جميعاً رؤيا صادقة مع عدم إيمانهم، فحياة الناس لا تخلوا من الرؤيا الصادقة في كل عصر.
والتفسير الوحيد لظاهرة الرؤيا الصادقة هى اتصال الروح بعالم آخر تتطلع فيه على ما تراه.
وإلا فكيف تفرز المادة الصماء في حالة النوم وغيبة الوعي كشفاً غيبياً تصدقه الليالى والأيام؟
بعد أن ذكرت أن الرؤيا الصادقة لا علاقة لها بالصلاح والتقوى، أذكر بعض ما شاهدته من الرؤيا التي جاءت كفلق الصبح، لأنها أفادتني اليقين في هذا الموضوع وكما يقولون فما راءٍ كمن سمع.
* كنت في الموصل لإلقاء محاضرة، فرأيت في منامي أن أخي الحاج رشيد عبد الرازق الهجُّو، من رجال الأعمال ببغداد ينزل بسيارته في نهر الفرات ولكنه قد نجا والحمد لله، وأخبرته بهذه الرؤيا وبشرته بالنجاة.
وبعد أن رجعت معه إلى بغداد واصل أخي رحلته إلى البصرة وعند الأهوار انحرفت سيارته ونزلت به في الماء، وطافت مسافة بعيدة عن الشاطئ ومع ذلك نجاه الله، فكيف نفسر هذه الظاهرة؟
(1/229)
________________________________________
* ومن الموصل إلى مدينة الزقازيق وكنت طالبا بكلية أصول الدين، وجاءنى أحد الشباب كيف تحول العدم إلى وجود؟
ووعدنى أنه سيسألنى يوم الجمعة أمام الناس ونمت ليلتها، ورأيت أنني أُلقي محاضرةً، وسألنى هذا الشاب السؤال نفسه فكتب صفراً ثم صفراً ثم صفراً
وقلت للشاب: هذه الأصفار هل تساوي شيئا؟
قال لا , ثم كتبت (واحدا) عن يمين الأصفار وقلت له كم هذا الرقم؟
قال مائة قالت له إذاً هذا الواحد قد حول العدم إلى وجود، كذلك أنصبت قدرة الله الواحد الأحد على العدم فأصبح وجوداً واستيقظت من نومي، فهل تملك المادة الصماء في مرحلة الخمول مثل هذا العطاء؟
سادساً: أدلة أخرى:
وحتى لا يتسع البحث وتترامى أطرافه نوجز بعض الشواهد على وجود الروح في حياة الناس.
من ذلك ما يحدث من أمور خارقة للعادة ولا يمكن تفسيرها تفسيرا ًً مادياً وقد شاهدت بعيني، وشاهد معى كثير من شباب بغداد حلقة من حلقات " الدراويش " قام فيها أحد الشباب وأدخل سيفاً في بطنه وأخرجه من ظهره وقام شاب آخر وأدخل (عصا المكنسة) في بطنه وضغط عليها حتى خرجت من ظهره ثم أخرجها فالتأمَ الثقب الواسع ولم ينزف دماً بينما قام ثالث وحمل قرصاً من الحديد قد احمرَّ من شدة النار، ووضعه بين أسنانه، وطاف علينا به، فلم نحتمل حرارته من بعد متر أو أكثر.
هذا ما شاهدته بعيني، وشاهده معي بعض الأجلة العلماء
(1/230)
________________________________________
كما شاهدت في مدينة الزقازيق عشرات الجلسات للتنويم المغناطيسي، وكان الوسيط يقرأ لنا الصفحات من الكتاب الذي في أيدينا بمجرد أن يأمره الأستاذ المنوم بالقراءة ومعلوم أن الوسيط معصوب العينين عند القراءة.
وقد كتب الأستاذ أحمد حسين بحثاً طويلا عن هذه الظاهرة في كتابه (الطاقة الإنسانية) كما تكلم عنها العلامة الشيخ عبد العظيم الزرقانى في كتاب (مناهل العرفان) .
ومهما كان تفسير هذه الظاهرة، فهى دليل على وجود كائن آخر غير مادي وهو الروح الإنسانية أو أرواح أخرى، كالقرين مثلا ولا أذكر هذا المشهد لاستدل على مشروعية هذا العمل إسلامياً، لأن رأيي فيه إما كرامة إن كان الفاعل من أصحاب الكرمات , وإما استدراج إن كان الفاعل غير ملتزم بشرع الله قال تعالى: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)
ولكن أذكر هذه الحوادث هنا على أنها أمر مشاهد بالعين ولا يمكن تفسيره ماديًّا، فلو كانت الحياة مجرد تفاعلات مادية لخلت بطبيعة الحال من هذه الخوارق فقوانين المادة لا تختلف: (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
سابعاً: يدرك المتخصصون من العلماء أن هذا التحدى لم يزل قائماً إلى اليوم كما كان يوم نزول القرآن تماماً.
ولكن أجهزة الإعلام العالمية لها فنون في جذب أنظار الناس ولو على حساب الحقائق العلمية ذاتها، فقد استطاع العلماء تجميد بعض الكائنات فصورت بعض أجهزة العلماء بأنه وقوف على أبواب إحياء الموتى مع أن الأمر أهون من هذا بكثير
(1/231)
________________________________________
إنَّ كل ما حدث أنَّ العلماء قاموا بتجميد بعض البكتريا بالتبريد الشديد ثم أعادوا إليها النشاط بالتدفئة وهى في الحالتين لم تفقد الحياة.
إنَّ العلماء قد اكتشفوا بعض أنوع من البكتريا يمكنها أن تعيش في جو شديد الحرارة يصل إلى درجة 150 وهذه الدرجة أعلى من درجة انصهار بعض المعادن كالرصاص والقصدير، ووجدوا أن هذه البكتريا يمكنها أن تحافظ على حياتها في درجة من البرودة تصل إلى درجة الصفر المطلق أي حوالى 273 درجة تحت الصفر.
فلا الحرارة تقتلها ولا البرد يميتها فهى تستطيع أن تتحمل فرق حرارة يساوي 423 درجة وذلك لانتقالها من درجة 150 فوق الصفر إلى درجة 273 تحت الصفر هذه حقائق علمية كل ما حدث أن العلماء استطاعوا أن يجمدوا هذه المخلوقات في كبسولات وأن يحافظوا عليها في مجمدات تصل درجة برودتها إلى 196 درجة تحت الصفر ثم عملوا على اعادتها إلى جو دافئ فعاد النشاط إليها فلا العلماء أماتوا كائناً حياً ولاهم بعثوا ميتاً من الحياة.
ثامناً: تجربة أخرى:
معلوم أن الماء سر الحياة وأي كائن حي يفقد الماء يموت قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)
والماء يمثل 85 % من وزن الجسد الحى ولكن العلماء قد اكتشفوا بعض البكتريا وحيدة الخليَّة يمكنها أن تتحمل الظمأ إلى درجة تفقد معها 82 % من حجم الماء ومع ذلك تعيش فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت , أدرك العلماء
(1/232)
________________________________________
هذا فقاموا بتجارب على هذه الكائنات فأفقدوها الماء حتى أوشكت أن تجف ثم أعادوا إليها الماء فانبعث فيها النشاط.
فالتجربة لا تتعدى صيام بعض الكائنات ثم يعقبه أفطار وليست عملية موت يعقبه حياة كما حاولت بعض أجهزة الإعلام أن تصورها.
إنَّ الحقائق العلمية يجب أن توضع في حجمها الطبيعى فقط ولكن ويل للمعرفة من أشباه المتعلمين , وسوف تظل الحقائق العلمية المجردة تؤكد لكل عاقل أن هذا القرآن منزل من عند الله: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
تاسعاً: تفسير الآيات: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ)
أى النفس وقد أوشكت على فراق الجسم: (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ)
والخطاب لمن يقف بجوار الميت: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ)
فالله أقرب إليه بعلمه وملآئكتة التي حضرت خروج الروح، ولكن البشر لا يدركون قرب الله: (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ)
أي إن كنتم غير مربوبين لله مملوكين له: (تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
تعيدون الروح إلى الجسد قبل أن تصعد للعالم الآخر، ويصبح مصيرها مجهولاً: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
(1/233)
________________________________________
عاشراً: مرة ثانية تتحدث السورة الكريمة عن الأزواج الثلاثة، ولكن الحديث هنا يأتي بعد الحديث عن نهاية الإنسان وموته , بخلاف الحديث في أول السورة. فقد جاء بعد حديث القرآن عن نهاية العالم:
لذلك يحق لنا أن نفهم أن نهاية السورة تعنى تقسيم الناس في القبر إلى الأزواج الثلاثة، كما أن صدر الصورة قسم الناس في الآخرة إلى هذه الأقسام.
وسبب هذا الفهم هو اعتقادنا بعدم التكرار في القرآن - فالقرآن الكريم إذا كرر المشهد الواحد فلابد أن يضيف جديداً إلى الموضوع , بهذا التكرار.
إنَّ التكرار في القرآن بمثابة اللقطات المتعددة الجوانب للمشهد الواحد.
فإذا تكررت المشاهد , فبعضها يكمل بعضاً ويتممه.
الحادى عشر: قصة الروح:
الحياة في القبر مرحلة من مراحل الروح وهى مراحل أربع:
1 - مرحلة روحية مجردة كانت قبل خلق الأجسام
2 - مرحلة روحية بدنية. وهى مرحلة الدنيا
3 - مرحلة روحية مجردة. وهى البرزخ.
4 - مرحلة الخلود. وهى روحية بدنية.
وهذا التقسيم الرباعى لمراحل الروح يمكن أن نستأنس له بالآيات الكريمات:
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
والتراخى في العطف بـ (ثُمَّ) في قوله تعالى: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
ليس للإخبار عن مرحلة خامسة , ولكن التراخى هنا عبارة عن تأخير الحساب والجزاء. وطول زمن الوقوف والانتظار , كما ورد في حديث الشفاعة وغيره.
(1/234)
________________________________________
كما يمكن أن نستأنس بقوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)
فالمراحل أربع وبشيء من التفصيل عن كل مرحلة أقول:
المرحلة الأولى:
حياة للروح فقط: هى غيب وسوف نقتصر فيها على ما أخبر صاحب الغيب سبحانه قال تعالى:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)
وللعلماء في تفسير الآيتين ثلاثة مناهج:
المنهج الأول:
للعقلانين الذين يرجحون حكم العقل , ويؤولون النص إذا تعارض مع العقل. ومنهم المعتزلة. واخترت من كتبهم كتابين:
1 - تفسير الكاشف للعلامة الزمخشرى.
كتاب (متشابه القرآن) للقاضى عبد الجبار الهمداني.
جاء في الكشاف: ومعنى أخذ الذرية من ظهورهم إخراجها من أصلابهم نسلا , وإشهادهم على أنفسهم.
وقوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)
من باب التمثل والتخيل.
ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته , وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلال والهدى , فكأنه أشهدهم على أنفسهم.
وباب التمثيل واسع في كلام الله ورسوله.
وفى كلام العرب. ونظيره: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
(1/235)
________________________________________
ومنه أيضاً قوله تعالى: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)
هذا ما قاله الزمخشرى في تفسير الآية الكريمة.
أما كتاب متشابه القرآن فقد جاء فيه: لو كان كل ولد آدم في ظهره لوجب أن يكون ظهره في العِظَمِ بالحدِّ الذي قد علمنا خلافه ولأنه تعالى قد بين أنه يخلق الإنسان من نطفة , وأقل ما يخلق منه الإنسان ما يقع اسم النطفة عليه وقد علمنا أن ظهر آدم لم يشتمل على القدر الذي يخلق منه سائر ولده وواضح أن ما ساقه القاضى عبد الجبار من اعتراض مبنى على تصورهم بأن كل إنسان لابد أن يخلق من سائل منوى يساوي ما يقزفه الرجل في المرة الوحدة فمجموع ابناء آدم يحتاجون في تصوره إلى بحيرة منوية ولهم عذرهم ولو عرفوا عن الحيوان المنوى ما نعرفه نحن الآن لعلموا أن كل شعوب الأرض خلقت من حيوانات منوية حجمها يساوي نصف حجم قرص "الاسبرو " فساعتها فقط سوف يسلمون بالنص الكريم من غير تأويل
المنهج الثانى:
وهو ما عليه علماء التفسير بالمأثور واخترت من كتبهم:
1 - تفسير جامع البيان للإمام الطبري
2 - تفسير غرائب القرآن للنيسابوري
3 - التفسير الكبير للفخرالرازي
وسوف أوجز البيان حتى لا يتسع المقال.
درست الروايات الثلاثين التي ذكرها الإمام الطبري ويمكن عرض موجزها بدون تكرار في السطور الآتية.
* قال ابن عباس: أهبط الله آدم حين أهبط فمسح الله ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ثم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)
(1/236)
________________________________________
ورواية ثانية أضافت فيرون يومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم، وفى رواية عن ابن عباس أيضاً قال: وهى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وفى بعض الروايات أن الله أخذ على الأنبياء العهد: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)
كما روى الطبري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب أنه قال أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجسادها.
أما تفسير الإمام الرازي فقد ساق كعادته شبه العقلانين وحاول الرد على بعضها وترك الباقي بدون رد عليه، وللدارس أن يرجع إليه إن شاء.
لكنه في الجزء السابع صـ 18 عند تفيسره لقوله تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ)
قال واعلم أن قوله تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره قوله تعالى: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) .
ونقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفى عام) .
ثم قال: وحجة الفلاسفة على إثبات النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة.
...
أما تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري فقد ذكر قولاً نسبه لأحد العلماء قال: الأرواح البشرية موجودة قبل
(1/237)
________________________________________
الأبدان والإقرار بوجوده سبحانه من لوازم ذواتها وحقائقها وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب، وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكرة وربما لا تتذكر.
وبعد:
بدون تأويل للنصوص ولا توسع في الخيال يدخلنا ساحة الغيب بدون إذن من صاحب الغيب، فقد جمعت ما وقع تحت يدي من أراء العلماء عن المرحلة الأولى للروح عن عهد الله على الفطرة، ودور الأنبياء بعد ذلك أن يذكروا الناس بعهد الله عليهم: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
المرحلة الثانية: من قصة الروح (خادم الأميرة) :
لم يكن السلطان الحكيم ليرسل الأميرة العزيزة وحدها من غير أن يرسل معها خادما.
اختارَ لها الخادمَ، وأعدَّ لها الركب، وجعل الكلمة لها والرأي لها، والقيادة لها.
إنها مؤهلة لذلك فمعارفها مطلقة ونسبها شريف، فضلا عن استطاعتها القرب المطلق من السلطان الحكيم، فما رأى الجموع في الأميرة؟
هل يمكن أن يستفيدوا منها لتمنحهم طاقة لا تعرف الحدود ولتهب لهم الحياة؟
سار الركب كما يجب ولكن لم تمضى لحظات طوال حتى بدأ الخادم يشعر بنفسه ويتمرد على سيدته يتسائل من رأى الأميرة؟
ومن سمع صوتها؟
إنها أن تكلمت ... فبصوتى.
وإن صالحت أو خاصمت فبى وحدى.
فأنا كل شيء، وتطوع بعض الجموع بالنفاق وحاول تجنيد
(1/238)
________________________________________
كل شيء لخدمته وإشباع رغبته، فأرهقت الجموع نفسها ولم تنتهِ رغباته وكان لا بد للعقلاء أن يبحثوا عن الخلاص كان لابد أن يتسائلوا ما سر الخواء الروحى والأمراض العصبية والنفسية التي تعيش فيها الجموع؟
ألسنا حينما نوجه نشاطنا نحو غاية واحدة محددة فسوف نجعل وظائفنا العقلية والعضوية كاملة التناسق، لأن توحيد الرغبات وتوجيه العقل نحو غاية واحدة ينتج ضربا من السلام الداخلى " الكسيس كاريل ".
هكذا أدرك العقلاء من الجموع أن جهودهم لخدمة هذا الحارث قد مزقتهم داخليا وجعلت أمرهم فُرُطا: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)
ويقال هذا العنب فرطا إذا تفرقت حباته، والمسبحة للفرط هى التي قطع خيطها، والإنسان يصبح فرطا إذا توزع نفسياً وتمزقت اتجاهاته.
أجمع العقلاء على ضرورة الاتصال بالأميرة فساحتها هى المخرج الوحيد من سجن المادة، والطريق الأوحد للفرار من سياط الخادم.
وقبل أن أتكلم عن الأميرة وطاقاتها، يحسن أن أقول:
إنَّ الأميرة هى الروح، وخادمها هو الجسد وطاقات الروح لا حدود لها ولكن الحديث عنها لا يقوى كل قارئ على تصوره وتصديقه، والذى لم يأكل المانجو لو قرأ كتب الدنيا عنها فلن يتذوق طعمها، إن من ذاق عرف من خاض تجربة روحية واحدة فسوف يكف عن لوم المحبين.
إن هذه الصفحات من الكتاب يمكن أن أقول عنها للكبار فقط، فليس كل الناس يقوى على تصديقها والتكذيب بها لا يضر من كذَّب - بتشديد الذال - كنت في زيارة للأستاذ الدكتور أحمد عبد الستار الجواري وزير التربية والتعليم السابق بالعراق، فتجاذبنا أطراف الحديث عن الروح فقال لى: ذرت قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد رسمى وكان قائد الطائرة يرافقنا وكان شابًّا ملحدا، وعضوا في الحزب الشيوعى العراقى وفجأة رأيناه يسقط على الأرض أمام
(1/239)
________________________________________
قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشد ملابسه وينادى بعبارات يخنقها البكاء سلام عليك يا رسول الله، سلام عليك يا رسول الله.
ثم قال الدكتور الجواري إن المنطقة التي أمام قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - منطقة منزوعة الجاذبية وسألت نفسى هل كل من وقف أمام قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - شعر بهذه الإشراقة النورانية؟
ثبت في كتب السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أعلن عفوه عن الطلقاء يوم فتح مكة جاء رجل اسمه فضالة بن عمير الملوح الليثى وحدثته نفسه أن يطوف في الزحام ثم يطعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخنجره فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كنت تحدث به نفسك؟
قال لا شيء كنت أذكرُ الله تعالى فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له أستغفر الله لك، ثم وضع النبي يده على صدر فضالة، فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما وجدت على ظهر الأرض أحب إلى منه وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على صدر فضالة كما يضع أحدنا أسلاك الكهرباء على الباتري فتشحن وتضيء بعد ذلك المصابيح وللنبي، المثل الأعلى فهل كل إنسان عنده هذه القابلية هل كل إنسان يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده عليه يمكن أن يذيب أحقاده ويضيء قلبه إذاً لكان أمر الهداية ميسوراً ولكنها قابلية واستعداد روحانى.
إن الذين وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده عليهم كثيرون ولكن الذين شعروا بما أحدثته هذه اليد الشريفة في قلوبهم نفر قليل.
الذين يدخلون مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير ولكن الذين تحول هذه الزيارة حياتهم نفر قليل، وأقل منهم من يصدق هذه الحقائق، لأنها تتحدث بلغة الروح ومعارفنا عن الروح محدودة هذا وللروح طاقات عطائية كبيرة يحسن أن نوجز الحديث عن بعضها
(1/240)
________________________________________
الإمام الغزالي والكشف الروحي في مطلع الجزء الثالث من كتاب إحياء علوم الدين يرى القارئ دراسة متكاملة عن منهج الغزالي في المعرفة وإيمانه بالإلهام كمصدر أساسي لها عند المتصوفين، ويحاول الإمام الغزالي وضع تفسير لهذه الظاهرة، فيقول إن صفاء القلب وطهارته تجعل صورة من اللوح المحفوظ تنعكس على مرآة القلب فتنكشف للإنسان معارف لا حدود لها، ثم يقول فلكل معلوم حقيقة، وتلك الحقيقة صورة تنطبع في مرآة القلب وتتضح فيها. فيستغنى الصوفي بالمعارف الدينية عن الاشتغال بطلب العلم التلقيني.
الإمام المحقق ابن تيمية:
لم ينكر الإمام ابن تيمية هذا النوع من المعارف الروحية، فقد ذكر في كتابه مجموع الرسائل "فما كان من الخوارق من باب العلم فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيرة، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره، وتارة بأن يعلم ما لا يعلمه غيره، وحياً أو إلهاما أو إنزال علم ضرورى أو فراسة صادقة، ويسمى ذلك كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات".
ثم ذكر أمثلة لذلك:
منها الحادث الشهير الذي دار بين عمر بن الخطاب وسارية.
فقد نادى عمر وهو في بالمدينة يا سارية الجبل، فسمعه ساريه وهو على بعد آلاف الأميال، وكان ذلك سببا في نجاة المسلمين ونصرهم.
وقد تعدى الإيمان بالكشف علماء المسلمين إلى غيرهم، فهو ظاهرة إنسانية شغلت علماء الغرب كما شغلت علماء الإسلام، لأن الروح كالعقل قاسم مشترك بين البشر جميعا.
يقول (الدوس هكسلى) إنه لم يعد لنا مناص من الاعتراف بأن
(1/241)
________________________________________
بعض البشر مزود بالقدرة على استكشاف المجهول بطريقة خارجية عن نطاق الحواس، وجهلنا بالطريقة التي يتم بها هذا الاستشفاف لا يبرر إنكارنا له وقد ذكر الدكتور علي عبد الجليل راضي نموذجاً " للجلاء " البصرى وقع في المنيا 1759 ثم قال إن هذه الموهبة ليس لها أي علاقة بالتصوف أو الولاية إذ هى موهبة يتمتع بها بعض الناس.
ثم حاول الدكتور راضي وضع التفسيرات العلمية لهذه الظاهرة ثم واصل الدكتور راضي حديثه عن الجلاء البصرى والجلاء السمعى (التلبثة) ووصفها بأنها ظاهرة علمية لا جدال فيها وذكر زعمائها في الشرق والغرب ويختم المقال بقوله: إن الأبحاث التي قام بها العالم النفسي الروسي (فازليف) والذى أنشأ معمل لدراسة (التلبثة) في ليننجراد 1960 أدت هذه الأبحاث إلى تفكير الروس في تعليم رواد الفضاء كيفية استخدام (التلبثة) للاتصال مع الأرض في حالة تعطيل أجهزتهم اللاسلكية وهم في الفضاء
أما الجانب العملى للطاقات الروحية فهو جانب لا حدود له ولا داعى للتكلف في إنكاره فقد حكى القرآن الكريم نمازج منها , وحياة الناس شاهدت الكثير.
عرش ملكة سبأ:
لأمر ما أراد سليمان أن يحضر عرش الملكة قبل أن تحضر هى إليه.
وسأل سليمان جنوده قال: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) وكأن سليمان استبطأ العفريت فقال الذي عنده علم من الكتاب: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)
وقد أكثر المفسرون من ذكر
(1/242)
________________________________________
أسماء نسبوا إليها علم الكتاب، وأشهرها آصف بن برخيا أو سليمان أو جبريل عليه السلام.
وسواء كان الذي عنده علم من الكتاب هو جبريل أو سليمان أو آصف فلا يخرج عن كونه من فعل الروح، وهذا هو المقدار الذي يلزمنا هنا لأن المعجزة والكرامة كلاهما أمر خارق للعادة وكلاهما من عمل الروح.
وقد ذكر العلامة القرطبي تفسيرا لنقل العرش.
قال فيه: إن الله أعدم العرش في الشام وأعاد خلقه في مكان سليمان وهذا كلام وجيه، فالعلماء في عصرنا قد استطاعو تحويل المادة إلى طاقة عن طريق تحطيم الذرة فانعدمت صورتها، وهم يتصورن الآن محاولة تحويل الطاقة إلى مادة ليعيدوها أجسام كما كانت.
مريم والمخاض:
وعندما يتكلم القرآن عن مريم وهزها لجذع النخلة وهى تعاني آلام المخاض فإن القرآن يسوق لذلك دليلا جديداً على الطاقة الروحية.
تصور عشرين رجلا من أبطال كمال الأجسام يحاولون هز نخلة من جذعها هل يمكن أن يسقط التمر؟
فلو كانت النخلة مثمرة فعملية هز الجذع ممن أجائها المخاض ألجأها إليه كرامه.
أما إذا علمت أن السيد المسيح ولد في السابع من يناير علمت أن النخل يومها لا تمر فيه , وهذه كرامة أخرى لمريم (1)
- - - - - - - - - -
ادعت المعتزلة أن هذه معجزة لزكريا - عليه السلام - , وفى هذا تكلف , فزكريا - عليه السلام - لا علم له بما حدث وهى كرامة لمريم وإرهاص لعيسى - عليهما السلام.
(1/243)
________________________________________
الدعاء ... مظهر للروح:
كل مؤمن يلجأ بدعائة إلى من يعبده.
وقد توارثت البشرية فكرة الدعاء عندما أدركت جدواه، فالشيء الذي لا جدوى له ينقرض وينسى.
والسؤال هل الدعاء مجرد كلمات يرددها اللسان فتتحقق بها الآمال؟
الواقع غير هذا، فالدعاء المقبول هو نداء استغاثة يرسل عن طريق الروح ولابد فيه من الضرورة الدافعة إليه لأن الله سبحانه يجيب المضر إذا دعاه ولابد من الضرورة لأن الضرورة توقظ الروح وتسبب التركيز على الشيء الذي ندعوا به، فلا تتداخل أغراض أخرى في الدعاء تقلل من التركيز على وحدة الهدف.
والدعاء ليس كلمات يرددها لسان أو يرسلها قلب غافل، فالله سبحانه لا يستجيب من قلب غافل، ولأن الغفلة تتنافى مع شروط الدعاء - أعنى الضروة والتركيز - ولكن الدعاء استحضار لقوة الروح، ومحاولة لدفع الحاجة بأعلى قوة روحية، من هنا كانت دعوة المظلوم لا ترد يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين.
والشيء الذي يترك النفوس حائرة أن أكثر الذين يدعون في الشدائد يتوجهون بدعائهم لغير الله من قبور الأنبياء والصالحين والقديسين فما سر استجابة دعائهم؟
ربما يقال أنهم يتوجهون إلى الله عن طريق هؤلاء الصالحين فما الرأي في الذين يتوجهون في الدعاء إلى صنم بوذا، أو بقرة الهندوس، ومع ذلك يرفع دعائهم ويستجاب؟
إن أصناف الأميين في القرية يكتبون في الرسائل ما يريدون ويتركون كتاب العنوان يكتبه غيرهم ليصحح مسيرة الرسالة
(1/244)
________________________________________
والروح كذلك أنها تقوم بتصحيح البث للدعوات التي أخطأ أصحابها العنوان فتوجهوا بها إلى غير الله.
إنَّ الله وحده هو الذي يقدر على تحقيق الآمال، والله وحده هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)
المضطر: بهذا الإطلاق من كل قيد لأنه كريم.
إن الدعاء هو العبادة الوحيدة التي جعلت للناس قدرا عند الله، لأن الله يحب أن يُسأل - بضم الياء -
(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)
والدعاء ظاهرة إنسانية وأثر من أثار الروح، ومنذ خلق آدم والبشرية كلها تدعوا فيستجاب لها.
والسحر طاقة روحية أيضا، آمن به كل من آمن بالأديان وهو درجات ثلاث السحر , والطلسمات , الشعوذة , وقد فرق بن خلدون بين المسميات الثلاث في مقدمته.
ومقاصد السحر كما ذكرها الأستاذ أحمد حسين ثلاثة العلاج بالسحر ومحاولة إيقاع الأذى بالأعداء، ومحاولة الجمع بين اثنين أو التفريق بينهما بالسحر.
والعلم الحديث قد حل في نفوس الناس محل السحر، وما حققه العلم يزيد عن مجموع ما فعله السحر حتى لو اعتقدنا أن السحر حقيقة.
* والعلاج بالسحر في ضوء علم النفس تفسير واحد وهو تأثير الإيحاء على المريض ونجاح العلاج يتوقف على قابلية المريض للإيحاء، وإن كان هذا التفسير لا يصلح لظاهرة علاج طفل لا يدرك حركات الساحر، ولا يصلح فيه الإيحاء لصغره، كما لا يصح لتفسير التأثير على الغائب الذي لا يعلم بالسحر.
(1/245)
________________________________________
وظاهرة السحر كالتأثير بالعين شيء لا نستطيع تفسيره تفسيراً ماديا، ومحاولة إنكاره باسم العلم هروب من الميدان.
* أما تفسير ظاهرة القتل بالسحر فقد جاء الحديث عنها في كتاب " فن السحر " للأستاذ أحمد الشنتناوي , وكتاب تاريخ مصر القديم بريستد.
* أما الأثر الثالث للسحر، وهو محاولة إيجاء الحب بين اثنين فشائع ذلك بين العامة والخاصة في بلاد الشرق وفى أوروبا، وقد أشار القرآن الكريم إلى محاولة السحرة أن يفرقوا بين المرء وزوجه قال تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
ولصاحب الظلال كلمة قيمة في موضوع السحر، فبعد أن فسر الآية الكريمة السابقة قال: "وبعد: فلابد من كلمة هنا عن السحر وعما يفرق بين المرأ وزوجه مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله أنه ما يزال شاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد , لقد سمى بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها.
هذا (التلباثى) وهو التخاطر عن بعد ما هو؟
وكيف يتم؟
كيف يملك إنسان أن يخاطب إنسان على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت إنسان في العادة ولا بصره، فيتلقى عنه دون أن يقف بينهما الفواصل والأبعاد.
وهذا التنويم المغناطيسى ما هو؟
وكيف يتم؟
كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر فإذا أحدهما أوحى إلى الآخر، وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر كأنه يقرأ في كتاب مفتوح
(1/246)
________________________________________
إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها هو أنه أعطاها أسماء، ولكنه لم يقل قط ما هى ولم يقل قط كيف تتم؟
وثمة أمور كثيرة أخرى يمارى فيها العلم إما أنه لم يجمع منها مساهمات كافية للاعتراف بها، وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه هذه الأحلام التنبئية، وفرويد الذي يحاول أن ينكر كل قوى روحية لم يستطع إنكار وجودها كيف رأى رؤيا عن مستقبل مجهول ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟
وهذا الإحساس الخفي كيف أحسَّ أن أمراً سيحدث بعد قليل أو أن شخص ما قادم بعد قليل ثم يحدث ما توقعت على نحو من الإيحاء.
إنه من المكابرة في الواقع أن يقف الإنسان لينفى ببساطه مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشرى لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجوب بها هذه القوى.
وليس معنى هذا هو التسليم بكل الخرفات والجري وراء كل أسطورة، إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه الخوارق مرناً لا ينفى على الإطلاق، ولا يقبل على الإطلاق، وأن يسلم أن في الأمر شيئاً فوق طاقتة ويعرف حدوده ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه وحتى لا يتسع المجال ونخرج عن هدف دراستنا نوجز القول في بعض مظاهر الروح.
العلاج بقراءة القرآن:
وردت أحاديث متعددة عن حوادث متتكررة أن بعض الصحابة رضوان الله عنهم رقى بعض الملدوغين فقرأ عليه سورة الفاتحة فشفاه الله، وقد جاءت هذه الأحاديث الصحيحة في باب
(1/247)
________________________________________
جواز أخذ الأجر على قراءة القرآن , من ذلك ما رواه الإمام البخاري عن ابن عباس أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مروا بماء فيه لديغ فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال لهم هل فيكم من راق؟
فإن بالماء رجلاً لديغاً فنطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب.... الحديث
وقد روى البخاري أيضا عن أبى سعيد حديثاً آخر صرح فيه أن الصحابي اشترط أجراً على رقياه، لأن البلد الذي به اللديغ لم يقبل أن يضيفوهم.
يقول الحديث: فانطلق يتفل عليه أي على مكان اللدغ ويقرأ الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال , أي كأن المريض خرج من قيده فانطلق يمشى وما به قلبه أي مرض فلما ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل متعجباً وما يدريك أنها رقية.
ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أصبت، اقتسموا أي اقتسموا الأجر واضربوا لي سهما وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وغنيٌّ عن البيان أن الفاتحة نحفظها جميعاً، ولكن شيء آخر مع قداسة الكلمات هو الذي أحدث الشفاء وقد ذكر لنا أستاذنا كمال شلال - عليه رحماتُ الله - حادثة توضح ما أريد بيانه قال حدث أن وقع المسلمون في شدة فدعوا وكان فيهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقرأ الفاتحة فكشف الله كربتهم.
وتكرر هذا الأمر بعد وفاة عمر، فقرأ بعض الصحابة الفاتحة كما قراءها عمر من قبل، فقال عبد الله بن عمر هذه الفاتحة فأين عمر.
ولعل الدعاء للمريض من باب التداوي بالكلمة هو سر من أسرار الروح
(1/248)
________________________________________
المرحلة الثالثة من مراحل الروح (القبر)
سبق أن تكلمنا عن المرحلة الأولى من مراحل الروح وهى مرحلة (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقلنا إنها مرحلة روحية مجردة.
ثم تكلمنا عن مرحلة الدنيا وهى مرحلة روحية جسدية.
أما المرحلة السادسة من مراحل الروح فهى مرحلة البرزخ وهى مرحلة غيبية , والغيب يقتصر فيه على ما أخبر به صاحب الغيب سبحانه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -
وكلمة البرزخ معناها الحاجز بين الشيئين قال تعالى: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ)
والمراد من مرحلة البرزخ المدة ما بين الموت والبعث قال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
قال الزمخشرى: أي أمامهم حائل بينهم وبين الرجوع للدنيا وهو إقناط كلي لما علم لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
حياة البرزخ وما فيها من نعيم وعذاب ثابتة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة وهى جزء من الدار الآخرة وإن اختلفت عنها.
نعيم القبر:
تكلم القرآن الكريم عن مقام الشهداء في مرحلة البرزخ فقال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
وهذا المقطع الكريم من سورة آل عمران يصحح مفهوماً أخطأ بعض الناس تصوره، فهو ينفى مفهوم الموت عن الشهداء ويثبت لهم حياة عالية عند مليك مقتدر يرزقون فيها بغير حساب، فحق لهم الفرح وبقية الآيات تبين أن هذه الحياة في الدنيا فضلا عما سيكون لهم في الآخرة والدليل على أنها في الدنيا هو قوله تعالى بعدها:
(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ)
فهم في الجنة وإخوانهم لم يزالوا في الدنيا لم ينفصلوا عنها
(1/249)
________________________________________
وفى سورة يس جاء حديث القرآن عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى يطلب من قومه أن يتبعوا المرسلين فلما قتله قومه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)
فهو في الجنة وهو مع ذلك يتمنى لقومه أن يعلموا بأي شيء غفر الله له ليتبعوا سبيله، إن الله قد غفر له بسبب الدعوة إليه سبحانه وصبره على إيذائهم فالرجل في الجنة وقومه ما زالوا في الدنيا فذلك نعيم القبر وحياة البرزخ.
أما الأحاديث الشريفة التي تحدثت عن نعيم البرزخ فقد جاء في جزاء الشهداء ما رواه الإمام مسلم: (أن أرواح في حواصل طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل.. الحديث)
وفى غير الشهداء جاء حديث البراء بن عازب الذي رواه أبو داود وأحمد بن حنبل، وقد جاء فيه:
(وتعاد روحه إلى جسده أي تعاد بعد أن تصعد إلى السماء فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه فيقولان من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول ربى الله ودينى الإسلام فيقولان فما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول هو رسول الله.
فيقولان فما يدريك؟
فيقول جاءنا بالبيان من ربنا فآمنت به وصدقت.
ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)
قال فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدى فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وأروه منزله في الجنة، ويفسح له مد بصره ويمثل له عمله في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب، فيقول أبشر بما أعد الله لك أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم , ويسأله من أنت بشرك الله بالخير؟ فيقول أنا عملك الصالح
(1/250)
________________________________________
ثم ذكر قتادة: أنه يفسح له في قبره أربعون ذراعا.
وفى رواية مسلم سبعون ذراعا , ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون.
وفى رواية الترمذى يفسح له في قبره سبعين ذراعا ثم ينور فيه ثم يقال: نَمْ.
وفى رواية أبى داود: أن الملآئكة تنطلق به إلى بيت كان في النار ولكن الله عصمه رحمة فأبدله بيتاً في الجنة.
ولعل اختلاف الروايات يتناسب مع اختلاف درجات الناس في قبورهم. وواضح أن التصور الوحيد الذي يمكن أن يتسع لهذا النعيم هو التصور الروحي.
ومن حبس نفسه في تصور النعيم المادي يصعب عليه أن يتصور اتساع القبر ماديا , وامتلاء القبر خضرا وكساء للميت من الجنة - كما ورد أن اللذة الروحية تعدل كل لذات الدنيا المادية وتربوا عليها , والجسد قد يشعر بشيء من هذا النعيم حسب قانون البرزخ وهو من المغيبات.
ولا تعارض بين هذا الفهم وبين ما أوجبه الإسلام من إلقاء السلام على المقابر لأن الروح وهى في جنة المأوى تشعر بمن زار قبرها , وألقى عليها السلام. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور قبور شهداء أحُد , مع أنه أخبر أن أرواحهم في حواصل طير في السماء , تسبح في الجنة.
هذا ما فهمته من نعيم البرزخ , وهو تقريب للمعنى , كما صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن العمل الصالح يمثل له في صورة رجل حسن الوجه والثوب والرائحة , أما نعيم الآخرة - فهو نعيم روحانى ومحسوس في نفس الوقت كما سبق أن وضحت ذلك.
عذاب القبر. متى علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به:
يبدوا من دراسة الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوح إليه بعذاب القبر إلا في المدينة.
(1/251)
________________________________________
فقد حدث أن سألت امرأة يهودية السيدة عائشة - رضى الله عنها - فلما أعطتها، دعت لها أن يعيذها الله من عذاب القبر.
فسألت السيدة عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال النبي عائذا بالله من ذلك.
يقول ابن حجر استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله من فتنة القبر قبل أن يعلم بعذاب القبر.
ومعلوم أن الأصل في العقائد هو إخبار الوحي الصريح للنبى - صلى الله عليه وسلم - سواء كان الإخبار عن طريق آيات القرآن , أو عن طريق القاء المعنى في صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتيت القرآن ومثله معه (رواه أحمد)
وبعد حادثة اليهودية بعدة أيام أخبر الله نبيه بما يحدث في القبر.
تروى السيدة أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما - أنها أتت السيدة عائشة حين خسفت الشمس. فلما أنصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعنى لخطبة الكسوف - حمد الله وأثنى عليه , ثم قال ما من شيء لم أره إلا قد رئيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار , لقد أوحى إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل فتنة الدجال.
يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمت بهذا الرجل؟
فأما المؤمن فيقول: محمد رسول الله.
جاء بالبينات والهدى فأجبناه وأتبعناه , فيقال له: نم صالحاً. فقد علمت أن كنت لموقنا. (رواه البخاري)
... وتروى السيدة عائشة - رضى الله عنها - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر أي مرة أخرى فقال نعم عذاب القبر حق.
قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى صلاة إلا وتعوذ بالله من عذاب القبر. (رواه البخاري) .
...
(1/252)
________________________________________
وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن سعيد بن العاص عن عائشة - رضى الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات يوم نصف النهار , مشتملاً بثوب , محمرة عيناه. وهو ينادي بأعلى صوته: القبر كقطع الليل المظلم. أيها الناس.. لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيراً وضحكتم قليلا.
أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق.
ضم القبر:
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القبر يتسع لصاحبه حتى يبلغ سبعين زراعا. (رواية مسلم) ومعلوم أن المراد من هذه السعة ليس انتقالا لجدار القبر , ولكنها سعة الصدر , سعة روحية.
فلربما اتسع المضيق ... وربما ضاق الفضا
وكما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - سعة القبر في بيان النعيم , فقد قابل ذلك ببيان ضم القبر وضيقه على صاحبه في بيان عذاب القبر.
وأختار من أحاديث (ضم القبر) حديثين:
* الأول: عن الصحابي الجليل سعد بن معاذ - رضى الله عنه - الصحابي الذي اهتز عرش الرحمن له وفتحت أبواب السماء له , وحضر جنازته سبعون ألف ملك. الصحابي الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مناديله في الجنة: إن مناديل سعد بن معاذ خير من الدنيا وما فيها , ومع ذلك فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القبر ضمه ضمة ثم فرج عنه. (رواه النسائى) .
* الثانى: زينب ابنة النبي - رضى الله عنها - عندما ماتت وخرجوا بجنازتها حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نزل قبرها
(1/253)
________________________________________
عند دفنها وخرج منه ووجهه يلتمع. فسألوه عن سر ذلك فقال:
إنها كانت امرأة مسقاما - أي كثيرة المرض - فذكرت شدة الموت , وضغط القبر , فدعوت الله فخفف عنها.
سبب عذاب القبر للمؤمن:
وقد جاء في كتب الصحاح حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين يعذبان فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير. بلى إنه كبير.
أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة.
وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله (رواه البخاري واللفظ له)
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك فرصة لهداية هذه الأمة إلا واستفاد منها في توجيههم إليها.
والنميمة جريمة يعمل صاحبها في الظلام فينقل من طرف لآخر بقصد الإفساد.
أما عدم الاستتار من البول فيعنى عد الوقاية منه , وعدم التحفظ مما يصيب الثوب أو البدن.
والنميمة والبول كلاهما يتم في الخفاء , فناسبهما عذاب القبر , وهو كظلمة الليل.
القرآن وعذاب القبر:
سبق أن تحدثنا عن نعيم القبر , وقلنا إن القرآن قد أثبت نعيم القبر في آيات الشهداء وآيات الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى في سورة (يس) والآن ما موقف القرآن من عذاب القبر؟
تعددت إشارات القرآن عن عذاب القبر جاء ذلك في قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)
(1/254)
________________________________________
فقوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
يؤكد أن العذاب يبدأ بصعود أرواحهم , قبل أن يقبروا. فهو في القبر من باب أولى كما جاءت إشارة القرآن إلى عذاب القبر في قوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)
(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) .
اختلف المفسرون في المراد من العذاب الأول , هل هو فضيحة المنافقين أو المرض والبلاء , أو القتل والسبى ولكنهم لم يختلفوا في أن المراد من العذاب الثانى في الآية الكريمة هو عذاب القبر الذي يعقبه عذاب عظيم وهو عذاب الآخرة , أما قوله تعالى في آل فرعون:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
اعتبر العلماء هذه الآية هى الأصل في الاستدلال على عذاب القبر.
وفيها إشارة إلى ما ذهبنا إليه من أن قانون العذاب في القبر يختلف عن قانون الحياة الدنيا.
فلكل مرحلة قانونها. وآل فرعون (يعرضون) على النار في الدنيا. في مرحلة البرزخ - أما في الآخرة (فيدخلون) النار.
وفى خواطر فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى. أن عذاب القبر (عرض) للعذاب.
أما عذاب الآخرة (فدخول) في العذاب.
وفى تفسير الفخر الرازي: الغدو والعشي - كناية عن كل الأوقات. كقوله تعالى عن أهل الجنة: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)
كيف يكون القبر مرقدا؟
استدل الذين ينكرون عذاب القبر بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
(1/255)
________________________________________
قالوا: إن وصف القبر بأنه (مرقد) يتنافى مع وقوع العذاب فيه.
والواقع أن الكفار خرجوا من عذاب القبر فشاهدوا عذاب الآخرة فاعتبروا عذاب القبر كأنه (مرقدا) بالنسبة لعذاب الآخرة.
إنَّ عذاب الآخرة للروح وللجسد ولا نهاية له.
وعذاب الآخرة تبلى فيه السرائر ويفضح فيه ما في الصدور.
وبعد:
إن مرحلة البرزخ مرحلة غيبية. والغيب نقتصر فيه على ما أخبر صاحب الغيب.
ومرحلة البرزخ لها قانون خاص يختلف عن قانون الحياة الدنيا. ونحن في الدنيا نعلم أن لليقظة قانون وللنوم قانون. وما ذكرته من أن مرحلة البرزخ للروح فقط يجنبنا صعوبات كبيرة في التصور.
فكيف نتصور (سعة القبر) ماديا إلى منتهى البصر؟ لكن تصوره روحيا يتفق مع طبيعة الإسلام التي تحترم عقولنا. ويتفق مع طبيعة اللغة العربية التي تبيح الانتقال من المعنى الظاهر إلى المجاز اللغوي لقرينة مانعة من إرادة المعنى الظاهر. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)
يقول: دلت الآية على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ , وليس في الآية دليل على اتصال تألمها بالجسد في القبر.
وهذا بالاضافة إلى ما سبق أن ذكرناه من نعيم الجنة وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسبح في السماء , فدلالة هذه الأحاديث على الروحية واضحة ومع سبح الأرواح في الجنة.. فلم تنقطع صلتها بالأجساد.
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور شهداء أحُد في قبورهم , مع أنه أخبر أن أرواحهم تسبح في الجنة.
الله وحده يعلم سر هذه المرحلة ولكن الحياة هى حقيقة , وقد استراح صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قبلوا هذه الحقائق
(1/256)
________________________________________
بمجرد أن أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها , دون سؤال أو مناقشة في تفصيلها , ذلك لأنهم آمنوا بما هو أكبر منها , وهو إيمان بالآخرة , وما فيها من نعيم وعذاب للروح وللجسد.
وبعد:
فالروح أنت. وهى سرُّ حياتك , ومقياس عظمتك الروح جوهرة , والجسد صندوقٌ فاخرٌ يحميها فقط.
تحتاج إلى غذاء وغذاؤها التقوى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
ويلزمها كساء. ولباسها التقوى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)
نظافتها التوبة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)
تأنس بحبيبها سبحانه وتسعد بمعيته: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
الكلمات لا تقوى على نقل سرها , لأن الورق موصل رديء للحرارة الروحية. ولكن.. من ذاق عَرف.
من غلبت عليه يرهق جسده , فيشعر بلذة عالية.
ما سرُّ أن يحاول الحجيج العودة إلى بيت الله الحرام , مع ما يعانونه من مشقة؟
لقد أدوا الفريضة.
فما سرُّ الإصرار على العودة؟
إنَّ أحرص الناس على السفر للحج هم الذين سبق لهم أداء الحج.
والشباب الذين يسافرون في رحلات الدعوة إلى الله سلوهم عن المتعة التي يشعرون بها وهم ينتقلون من بلد إلى بلد.
(1/257)
________________________________________
إن صوت الروح يعلوا كل نداء.
يقول أحدهم: نحن نشعر بلذة لو شعر بها الملوك لحاربونا عليها بالسهام.
ونحن الآن حصيلتنا من المعارف الدينية موفورة. ولكن نعاني خواء روحياً.
ما سرُّ ذلك؟ ما سرُّ البرود الروحى عند كثير من المتدينين؟
هل السبب هو المنهج (البدوي) الذي يدرس به الإسلام للشباب.
إنَّ كثير من الدعاة انشغلوا بتصحيح الانحرافات الفكرية ومقاومة البدع.
عن تغذية الروح، فنتج جيل من الشباب المتدين تلمس في عقله الذكاء وفى علمه سعة , وفى قوله بلاغة , ولكنه بارد الأنفاس , بادي الجفوة , غليظ القلب.
وقد أدرك الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت أن الجانب العقلى وحده لا يكفى لبناء المسلم، بل لابد من العنصر الروحى.
إنَّ الخليل إبراهيم وولده اسماعيل - عليهما السلام - أدركا أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفى في إصلاح الأمم وإسعادها.
حتى يقترن بالتربية على الفضائل , والحمل على العمل الصالح عن طريق يوجب احترامه وتقديسه من القلب.
ويشعر الوجدان بقوته، فقال إبراهيم وإسماعيل:
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
فلابد من تعليم الكتاب والحكمة.
ولكن التزكية للنفس والعمل الدائم على تطهيرها ضرورة أكبر.
وقد استجاب الله لإبراهيم وأرسل نبينا - صلى الله عليه وسلم.
(1/258)
________________________________________
وجعل معجزته الأولى هى القرآن , والمعجزة الثانية نجاحه في تربية الأمة وتزكيتها: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
وقد صحح الله دعوة إبراهيم. وأعاد ترتيبها , فقدم
(التزكية) على تعليم الكتاب والحكمة.
إنَّ الأمة بحاجة إلى خبراء في التربية الروحية.
يعيدون الشباب إلى منهج الله.
إنَّ الله رغب المؤمنين بالجنة وهو سبحانه أعلم بالنفوس.
والنبى - صلى الله عليه وسلم - عندما أخذ العهد على من حضر بيعة العقبة الثانية أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، وأن ينصروا دعوته.
سأله أحدهم: فماذا لنا إن وفينا يارسول الله؟
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - -: الجنة.
وعدهم بالجنة، لأن الجنة بضاعة الأنبياء. لم يعدهم بالملك ولا الثراء. ولكن وعدهم بالجنة.
وقد أثمرت هذه التربية، فعندما نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
فقال عمير بن الحمام - وفى يده تمرات يأكلهن: قال: بخٍ، بخٍ.
أفما بينى وبين الجنة إلا أن يقتلوننى، ثم قذف بالتمرات من يده.
وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل.
لقد أدت عقيدة الجزاء دورها.
فالروح إن نعلي شأنها نحظَ بطاقات لا نهائية من الخير.
(1/259)
________________________________________
المرحلة الرابعة: البعث:
وهى مرحلة روحية جسدية , كمرحلة الدنيا , وقد سبق الحديث عنها.
قال تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)
والتزاوج هنا بمعنى عودة الأرواح إلى الأجسام.
هذه قصة الروح , كما فهمتها من القرآن الكريم.
المرلحة الأولى: روحية مجردة. والمرحلة الثالثة كذلك ,
المرحلة الثانية: جسدية روحية , والمرحلة الرابعة مثلها.
(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ)
لحظة الوداع:
إنسان يعاني سكرات الموت , وأهله من حوله , لا تستطيع أيديهم أن توصل له نفعاً , ولا أن تدفع عنه ضراً. يحسبون أنهم على مقربة منه. ولكن الله أقرب إليه ولكننا لا نبصر.
وهذا المشهد قد ذكرته في سورة القيامة , بصورة حركية , تتفق مع منهج السورة.
قال تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)
لحظة صعبة - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله أن يخفف عنه سكرات الموت - مع أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولكن الله هو أقرب إليه من كل الدنيا. لن يترك أحبابه يرسل اليهم الملآئكة بالبشارات الثلاث:
* لا تخافوا على أنفسكم , لأن الآخرة خير لكم من الأولى
* ولا تحزنوا على أولادكم , لأن الله لن يضيعكم.
* وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون بها فآمنتم وصدقتم قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
(1/260)
________________________________________
هذه بشاراتهم عند الموت. وبعد الموت لهم (رَوح) والرَّوح بفتح الراء , وسكون الواو , هو السعة , قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
فالروح هى السعة.
(وريحان) نبات طيب الرائحة في الدنيا. وهو في الآخرة أطيب.
وجنة نعيم , فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)
سلام لك يا محمد من أصحاب اليمين: أعترافاً منهم بما قدمت لهم ولم يقل القرآن عن المقربين: سلام لك منهم لأن المقربين يعيشون بجواره ويسمع سلامهم: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)
(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)
يعجل الله لهم العذاب قبل أن تصعد أرواحهم , قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)
وعندما يخرجون من قبورهم , ويشاهدون العذاب الأكبر , يقارنون بين عذاب القبر وعذاب الآخرة ويعتبرون عذاب القبر كأنه مرقد: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)
(1/261)
________________________________________
إن اعتبار القبر مرقداً لهم - مع ما فيه من هول , يؤكد فظاعة الجحيم.
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)
بعد أن ناقش القرآن المنكرين للبعث , وأقام لهم الأدلة العقلية والفطرية , أَكَّدَ القرآن بعد ذلك أن مضمون السورة الكريمة هو حق اليقين.
واليقين كما جاء في الرسالة القشيرية صـ 44 - هو العلم الذي لا يدخل صاحبه الريب على الإطلاق.
وقد عرفه علماء التوحيد بأنه: الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل , وهذا ما عناه الشيخ (زكريا الأنصاري) بقوله: هو إدراك الحقيقة على ما هى عليه.
وقد جمع الشيخ / محمد متولى الشعراوى: بين التعريفات القديمة , والحديثة فقال (اليقين هو استقرار العقيدة في بؤرة الشعور بحيث لا تطفو في هامش الشعور , طالباً للدليل مرة ثانية) .
ونتتبع آيات القرآن في هذا الموضوع , فنرى أن آيات القرآن الكريم قد استعملت اليقين في معنيين:
المعنى الأول:
هو الموت: قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)
وقال تعالى في سبب دخول المشركين النار:
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)
وتسمية الموت باليقين لحتمية وقوعه، فليس في الدنيا عاقل يشك في موته. وإن تناسى الكثير هذه الحقيقة في سلوكهم.
(1/262)
________________________________________
المعنى الثانى:
إن الموت ينقلنا إلى عالم اليقين , عندما نشاهد المغيبات بعين اليقين: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
وهناك.. يستوى الجميع في التصديق , فليس بعد عين اليقين دليل.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن هذا التصديق لا وزن له عند الله , إذا لم يسبق بإيمان في الدنيا.
قال تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)
وقال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)
قال قتادة: المؤمن أيقن في الدنيا فنفعه يقينه , والكافر أيقن في الآخرة حيث لا ينفع اليقين.
...
والقرآن الكريم قَسَّمَ اليقينَ إلى درجات ثلاث:
علم اليقين:
وهو ما نشأ عن إدراك عقلى للحقيقة. ودل عليه البرهان القاطع.
وتسميته (بعلم اليقين) من باب تكريم العقل.
عين اليقين:
وهو ما يولد في النفس من علم نتج المشاهدة.
قال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)
(1/263)
________________________________________
حق اليقين:
هو نيل الجزاء بالفعل.
وأضرب لذلك مثالا: عندما يعلن حاكم البلاد أنه سيكافئ الفائز الأول (بسيارة فاخرة) .
- فكل من يسمع هذا الخبر من مصدر موثوق به , يحصل عنده علم اليقين بمضمونه.
فإذا أحضر حاكم البلاد السيارة , وشاهد الناس جميعاً , يصبح عندهم (عين يقين) بوفاء الحاكم بوعده.
أما عندما تظهر نتيجة المسابقة , ويتسلم الفائز الأول السيارة , استلامها هو (حق اليقين) هذا.. (ولله المثل الاعلى) .
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
دع ... الجدل ... وسبح باسم ربك العظيم.
وقد مر الحديث عن الآية الكريمة.
...
بهذا يرسم القرآن الكريم منهجه في العقائد.
منهج يلمس جوانب النفس الثلاثة: العقل , والعاطفة , والمخيلة.
ويغذي كل جانب من هذه الجوانب , بحيث لا تطغى على الجوانب الأخرى ...
* ولا تعرف الدنيا منهجاً أشبع الجوانب الثلاثة بالقسطاس المستقيم إلا منهج القرآن.
* ولقد حاولت اليهودية أن تشبع المخيلة , فوقعت في التجسيد.
وصورت رب العرش رجلاً ينزل إلى بيت إبراهيم , ويسير معه , ويأكل عنده , وهكذا..
* والمسيحية: ألْغت العقلَ تماماً وقال مؤسسها (بولس)
(1/264)
________________________________________
"إن المسيح لم يرسلنى لأعمر بل لأبشر , لا بحكمة كلام , لئلا يتعطل صلب المسيح , لأنه مكتوب , سأبيد حكمة الحكماء , وأرفض فهم الفهماء"
وتساءل بولس:
- أين الحكيم؟
- أين الكاتب؟
- أين مباحث الدهر؟
- ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟
- لأنه إذا العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة.
- استحسن الله أن يخلص المؤمن بجهالة الكرازة.
ولكن الإسلام أشبع العقل بالبرهان الساطع , وأشبع المخيلة بما رسمه في بيان رائع لعالم السماء. والجزاء.
...
وبعد:
إن منهج تدريس العقائد يحتاج إلى مراجعة , وأودُّ أن يرجع المسلمون إلى قرآنهم وينتهجوا منهجه في خطاب العقل , ولمس القلب , وإشباع المخيلة.
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) .
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) .
(1/265)
________________________________________