المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري والرد عليها


hania
10-26-2019, 05:34 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري والرد عليها
المؤلف: عبد المحسن بن زبن بن متعب المطيري
الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(أصل الكتاب، رسالة من: عبد المحسن بن زبن بن متعب المطيري (المعيد بكلية الشريعة - جامعة الكويت) قُدمت إلى
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم، قسم الشريعة الإسلامية، تحت إشراف أ. د / إبراهيم عبد الرحيم، وقد نال بها المؤلف درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وذلك في العام 2003 م)
يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله (ويسلموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليما) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة.) (1)
وقال سبحانه:
{ ... وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] .
{ ... وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] .
{ ... وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] .
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( [النور:47-54] .
لذلك كله فلا يجوز لأحد كائنا من كان أن ينتقد كتاب الله
_________
(1) فتح القدير للشوكاني (1/573) .
(1/249)
________________________________________
أو يخالف مقتضاه:
قال تعالى: { ... وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] .
نعم لا يجوز لأحد أن يعقب على أحكام الله، وذلك أن الانتقاد والتعقيب إنما يكون بسبب أمور؛ إما أن المعقب والمنتقِد أعلم من المنتقَد، سواء كان أعلم على العموم أو بهذه المسألة بالذات التي أنتقد فيها، أو لا يكون أعلم ولكن المنتقَد غفل عن نقطة معينة في حكمه جانب فيها الصواب، فينبهه المنتقِد عليها.
وكل هذا منتفٍ بحق الله سبحانه، فلا أحد أعلم منه في كل الأمور جملة وتفصيلا،
والله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نسيان ولا غفلة:
{ ... لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه:52] .
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132] .
وقد الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ... } [النساء:105] .
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... } [النساء:64] .
إذن الغاية من إنزال الكتب أن يُتحاكم إليها، والغاية من إرسال الرسل طاعتها، فمن لم يحقق هذه الغايات فهو لم يؤمن أصلا بدين الإسلام، بل بكل الأديان، فما الدين إلا طاعة الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وما الإسلام إلا استسلام لله في تطبيق شرعه على نفسه ومجتمعه.
-الرد التفصيلي:
وأما زعم المستشرقين -تنمان وبروكر وفيكتور - أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر، فهذا باطل لوجوه:
(1/250)
________________________________________
1/القرآن أمر في كثير من الآيات بالنظر والتفكر والبحث:
فقد أمرهم الله تعالى بالنظر إلى كل العلوم، فأمر بالنظر إلى عالم النبات في قوله {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99] وقال سبحانه {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] ، وأمرهم بالنظر إلى علم الفلك في قوله {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] ، وفي علم الطب والتشريح قال {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] ،
وأمرهم بالنظر إلى علم التاريخ فقال تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] وقال {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20] ،
(1/251)
________________________________________
وفي علم الطبيعة والجغرافيا قال {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] ،
وأثنى الله تعالى على المفكرين والمتأملين لهذا الكون فقال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران:191] ، وأمر بالتفكر فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8] ، وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46] .
فالزعم أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر هو غاية في المناقضة لصريح القرآن.
2/الذي يعوق أتباعه عن النظر العقلي الحر هو من كان يظن أن في كتابه شيئا من الخطأ يتعارض مع العقل، أما والحال أن القرآن ليس فيه شيء من الخطأ أو الخلل فإنه أمر بل تحدى أن يجد الناس في القرآن شيئا يخالف ما عليه النظر العقلي الحر (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ، وقد ألف الإمام ابن تيمية -رحمه الله- كتاب (درء تعارض العقل والنقل) قرر فيه أنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح وأن الشرع لا يأتي بشيء تحيله العقول، ثم فند فيه كل زعم المعارضة بينهما.
(1/252)
________________________________________
-قول طه حسين (الباحث الناقد والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) ومثله قول نصر أبو زيد (منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب) :
فهذا الكلام في غاية من الخطورة مخالف لما عليه إجماع المسلمين، وكيف لا يفرق الناقد بين كتاب الله المنزه سبحانه عن كل خطأ ونقص وكتاب إنسان المجبول على الخطأ والنقص، وما الطعن في كتاب الله إلا طعنا في الله سبحانه إذ القرآن من كلام الله الذي هو صفة من صفاته، فهل يجوز الطعن في الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، لقد اتفقت الملل والأديان والشعوب والمذاهب أن الإله المستحق للعبادة هو الذي بلغ الكمال المطلق في كل شيء، فإن كان الإله كاملا فما يقوله كامل أيضا، وما هذه الدعوى إلا تمهيدا لتجريئ الناس على كتاب الله؛ فإذا كان يمكن نقده إذن يمكن مخالفته وعدم اتباعه، بل هذا ما صرح به طه حسين نفسه عندما قال-كما تقدم-: (إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة فالأمة تتجد بمعزل عن الدين) وكذا صرح بهذا نصر أبو زيد عندما قال (آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان) .
ونحن نسأل هؤلاء الذين يرون وجوب التحرر من سلطة النصوص
(1/253)
________________________________________
ويرون أن القوانين الدينية لم تعد تصلح كأساس للأخلاق والأحكام، ما هو الذي يصلح إذن كأساس للأخلاق والأحكام؟ هل هي شريعة الغاب في أفريقيا، أم شريعة الإباحية في أوروبا التي تبيح للرجل فعل الفاحشة حتى أرحام وعائلته وتبيح زواج المثلين والشذوذ الجنسي مع الحيوانات، فما هي القوانين الوضعية التي تصلح الآن كأساس للأخلاق والأحكام؟.
وقد علم الله تعالى أن كثيراً من الناس سوف يعارض حكم الله بعقله القاصر، فأمر بالصبر على حكمه وعدم التنازل لأي بشر في هذه القضية:
قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... } [الإنسان:24] وهذه الآية ذُكِرَتْ كثيرا في كتاب الله.
وقام بعض الطاعنين من المعاصرين بحيلة جديدة لإبطال النصوص، فأخذوا يبحثون في كتب أهل العلم عن مدخل يلجوا منه إلى إسقاط العمل بكتاب الله وإبطال النصوص، فوجدوا قاعدة من قواعد التفسير للعلماء فيها قولان، فأخذوا القول الضعيف منهما والمخالف لما عليه الجمهور؛ لأنهم ظنوا أنه يخدم أغراضهم، وهذه القاعدة هي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأخذوا بالرأي الآخر وهو: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وفهموا من هذه القاعدة فهما خاطئا؛ وهو أن كل نص يُخص الحكم بسببه ولا يتعدى فيه الحكم إلى غيره.
مع أن أصحاب القول المرجوح لم يقولوا هذا، بل رأوا أنه ما كان فيه نفس علة سبب النزول فله نفس الحكم من باب القياس الجلي، فالخلاف بين العلماء هو في الوقائع التي بمثل علة النص، هل تدخل
(1/254)
________________________________________
في النص بعمومه أم بالقياس، فهم لم يختلفوا في دخولها، وإنما اختلفوا في كيفية دخولها، فبعضهم قال: النص يشملها بعمومه. وبعضهم قال: لا يشملها النص، ولكن يقاس على المنصوص عليه.
وأما هؤلاء فقالوا: إن الحكم مقصور على سبب نزوله لا يتعداه إلى غيره بحال من الأحوال، لا نصا ولا قياسا، وشنوا حربا على قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) حتى قال المستشار العشماوي: إن قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) قد حدثت في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي) ، وهذا ما يدندن عليه نصر أبو زيد في كتابه
(مفهوم النص) كثيرا، ثم زادوا الطين بلة، فقالوا: والنصوص لا تفهم إلا بأسباب نزولها، فما لم يكن له سبب نزول معروف، فلا يجوز تطبيقه ولا العمل به، وبما أن أكثر النصوص من هذا الباب؛ إذن فيجب على الناس أن يجتهدوا في كل زمان في تشريع الأحكام التي تناسب عصرهم بقطع النظر عن القرآن، فهم يريدون تفريغ القرآن من محتواه وجعله أوعية فارغة، وقوالب لا معنى لها، أو لها معنى مقصور على عصر التنزيل فقط (1) .
ومِثْل هذا أيضا جارودي (2) الذي يرى أن القرآن موجه إلى
_________
(1) انظر في دراسة هذا الموضوع والرد على المخالفين فيه كتاب (أسباب النزول بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني) ، للدكتور محمد سالم محمد، القاهرة، ط1، 1996،وهو يريد بهذا الرد على نصر أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون الجزائري الذين تبنوا هذا الرأي ودافعوا عنه في مؤلفاتهم، وقد لخصته في هذه الصفحات.
(2) روجيه جارودي [1913 - على قيد الحياة] : مفكر فرنسي معروف، كان أحد كبار زعماء الحزب الشيوعى الفرنسى سابقاً، أعتنق النصرانية فى مرحلة الشباب، وفي عام 1933 أنضم إلي الحزب الشيوعي الفرنسي،، وفصل عنه عام 1970، وفي جنيف وتسمى بـ (رجاء جارودي) ، وكتب العديد من المؤلفات، ولكن كان لثقافته الشيوعية بقية آثار على فكره، فكان أحيانا يتخبط فى كتبه. [انظر: "فكر جارودي بين المادية والإسلام "، لعادل التل، ص 25، " قالوا عن الإسلام " ص 214]
(1/255)
________________________________________
شعب معين في تاريخ محدد (1) ، ويكفيك من شر سماعه، وحكاية كلام هؤلاء يكفي في بطلانه، وبيان بشاعته وخطورته على الدين، وقد تقدم في النصوص السابقة من الكتاب والسنة الرد عليهم، فيغني عن إعادته.
_________
(1) فكر جارودي بين المادية والإسلام (نقد كتابات روجيه جارودي في ضوء الكتاب والسنة) ، عادل التل، (ص:131) ، دار البينة، بيروت، ط2،1997.
(1/256)
________________________________________
المبحث الثاني: زعم عدم حفظه (النص القرآني)
المطلب الأول: شبهة أنه ليس هو القرآن الذي أنزل:
جاء في دائرة المعارف الإسلامية (1) : (الوحي الذي
_________
(1) أصدر المستشرقون هذا الكتاب منذ بضع عشرات من الأعوام بعدة لغات -الإنجليزية والفرنسية والألمانية- كموسوعة كاملة عن الإسلام دينا وتاريخا وحضارة وآدابا وعلوما واقتصادا وسياسة وأعلاما، وهي تقع في أربعة مجلدات ضخام، وبعد صدورها بفترة بدا لهم أن ينتزعوا من بين موادها المواد الخاصة بالدين وعلومه وأعلامه، ثم أصدروا ذلك في مجلد واحد بعنوان (مختصر دائرة المعارف الإسلامية) ، وفي هذا المجلد يجد القارئ خلاصة الفكر الاستشراقي فيما يخص ديننا ورجاله. انظر: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية، أضاليل وأباطيل للدكتور إبراهيم عوض، (ص:5) مكتبة البلد الأمين، القاهرة، الطبعة الأولى 1998، ومن منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بحث بعنوان (دراسة لتصحيح الأخطاء الواردة في الموسوعة الإسلامية) ، وللدكتور فضل حسن عباس رسالة بعنوان (قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية؛ نقد مطاعن ورد شبهات) ، دار البشير، الأردن، الطبعة الثانية1989.
(1/257)
________________________________________
كان الرسول (يتلقاه ليس هو القرآن الذي نقرؤه الآن، ذلك أن هذا الوحي قد أعيدت صياغته بحيث أخذ الشكل الحالي) (1) ، ثم ذكر الدليل على ذلك وهو أنه (لا يمكن التوفيق بين فكرة وجود أصل للقرآن محفوظ في السماء وما وقع في القرآن من نسخ) (2) .
ويقول صاحب كتاب الوحي الجديد: (إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل , بل إنه من المؤكد تاريخيا أنه قد ذهب جانب ليس بالقليل، ومن المستحيل إقامة البرهان على أنه طِبْقَ ما نطقت به شفتا محمد تماما , بل إنه في آيات عديدة منه اختلافات مدهشة، ولا يعرف إلا الله ما هو النص الصحيح) (3) .
ويقول: (إننا نعلم تماما بشهادة زيد بن ثابت، التي لا ريب فيها
_________
(1) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية، لإبراهيم عوض (ص:7) .
(2) المرجع السابق (ص:9) .
(3) الوحي الجديد (ص:44) ، نقلا عن كتاب مناقشات وردود، لمحمد فريد وجدي (ص:370) . وواضح من اسم الكتاب (الوحي الجديد) أنه ينكر وجود الوحي القديم.
(1/258)
________________________________________
أنه لم تدون جميع السور والآيات التي سمعت من فم محمد، بل إن كثيرا منها حفظ في صدور الناس، ومرت سنون عديدة قبل أن يؤمر زيد بتدوينها، نقلا عن ذاكرة أولئك القراء , فكيف تأمن على الحقيقة من ذاكرتهم؟) (1) .

المطلب الثاني: شبهة أنه زِيدَ (2) فيه ونُقِصَ , والرد عليها:
أولاً: في هذا المطلب نعرض للقول بأن أصل القرآن موجود، ولكنه زيد فيه أو نقص، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه الرافضة الاثنا عشرية , حيث نقلوا عن أئمتهم أن القرآن محرف وناقص ومبدل، وإنما فعلوا هذا حتى يثبتوا خلافة علي رضي الله عنه وآل بيته؛ فإذا اعترض عليهم معترض بأن هذه الولاية لم تذكر في القرآن , لا تصريحا ولا تلميحا ولا إشارة، كان الجواب: إن القرآن محرف ناقص (3) .
وتقول في دائرة المعارف الإسلامية: (القرآن لم يسجل كله عند نزوله، بل كثير من الوحي المتقدم النزول لم يسجل؛ لأن المسلمين لم يكونوا منتبهين لأهمية ما يتلوه الرسول (، فضاع كثير من القرآن) (4) .
وتشير دائرة المعارف أيضا إلى سقوط سورتين كاملتين من القرآن , وهما (سورة النورين) و (سورة الولاية) (5) . آخذين هذا الرأي من مذهب الشيعة الغلاة.
وفيها أيضا: (البعض ينكر الآيات التي يلعن فيها خصوم محمد) (6) .

وقال رحمانيوف: (إن الخوارج قد ألفت سورة يوسف، بينما زادت الشيعة سورة أخرى) (7) .
ويقول جولدتسهير (8) : (لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به , يقدم نصه في أقدم
_________
(1) المرجع السابق ص:371.
(2) وقد ألف الدكتور فضل حسن عباس- الأستاذ المشارك في الجامعة الأردنية، كلية الشريعة- كتابا بعنوان لطائف المنان ورائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن، تكلم فيه كلاما جيد عن قضية أن القرآن قد زيد فيه، ولكنه لم يتكلم عن موضوع النقص، والكتاب طبعته دار النور للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأول،1989.
(3) انظر كتاب الشيعة الاثنا عشرية وتحريف القرآن، لمحمد عبد الرحمن السيف، الطبعة الأولة 1998, لم يذكر عليه اسم الدار التي طبعته ولا مكان الطبع، وكتاب الشيعة والقرآن، لإحسان إلهي ظهير، مكتبة إدارة ترجمات السنة، لاهور باكستان، وكتاب (أيلتقي النقيضان) لمحمد مال الله، دار النفير، الكويت، الطبعة الأولى1421.
وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، د. ناصر بن عبد الله القفاري، الفصل الأول من الباب الأول بعنوان (اعتقادهم في القرآن) (1/123) .
وانظر من كتب الشيعة كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) للنوري الطبرسي، وقد طبع عدة طبعات، وكتاب لله ثم للتاريخ، لحسين الموسوي، وقد طبع عدة طبعات من غير ذكر للدار التي طبعته.
(4) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:14) .
(5) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:18) .
(6) المرجع السابق.
(7) انظر كتاب: الرد القرآني على كتيب"هل يمكن الاعتقاد بالقرآن" للسفير الروسي م. رحمانوف, لعبد الله كنون. (ص:22) دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى1982.
(8) تقدمت ترجمته ص 232
(1/259)
________________________________________
عصور تداوله , مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات، كما نجد في النص القرآني) (1) .
ونفى نولدكه الألماني (2) في كتابه (تاريخ القرآن) أن تكون فواتح السور من القرآن , مدعيا أنها رموز لمجموعات الصحف التي كانت عند المسلمين الأولين قبل أن يوجد المصحف العثماني، فمثلا حرف الميم كان رمزا لصحف المغيرة , والهاء لصحف أبي هريرة , والصاد لصحف سعد بن أبي وقاص , والنون عثمان؛ فهي-كما يزعم- إشارات لملكية الصحف , وقد تركت في مواضعها سهواً، ثم ألحقها طول الزمن بالقرآن فصارت قرآنا (3) .
وقال طه حسين -مقلدا المستشرقين-: (هناك موضوع آخر يجب أن أنبهكم إليه , وهو مسألة هذه الحروف العربية غير المفهومة التي تبتدئ بها بعض السور , مثل ألم، ألر، طس، كهيعص، حم، عسق ... إلخ، فهذه كلمات ربما قصد منها التعمية أو التهويل , أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف , أو هي رموز وضعت للتمييز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب، فمثلا (كهيعص) رمزاً لمصحف ابن مسعود، (حم عسق) رمزاً لمصحف ابن عباس (طس) رمزاً لمصحف ابن عمر، وهلم جرا، ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا) (4) .
_________
(1) انظر كتاب: القرآن والمستشرقون , لنقرة ص:40، عن كتاب القرآن والكتاب.
(2) تقدمت ترجمته ص (202)
(3) انظر بحث القرآن والمستشرقون , للدكتور التهامي نقرة (1/23) ،ضمن كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج.
(4) نقض مطاعن في القرآن الكريم، لمحمد أحمد عرفة، ص:7-8.
(1/260)
________________________________________
ويقول نصر أبو زيد: (لم ينج القرآن من عمليات المحو والإثبات) (1) .
ثانيا: الرد على هذه الشبهة:
1- دعوى أن القرآن تبدل كله لها اتصال وثيق بالشبهة التي تليها , ولكنها زادت في المبالغة والسذاجة حتى ادعت بأن القرآن كله قد تغير، مخالفين بذلك الإجماع التاريخي على حفظ القرآن منذ عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى يومنا هذا (2) ، وإليك بعض النصوص من منصفيهم -لا من كتبنا- على أن
_________
(1) قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، لعبد الصبور شاهين (ص:202) .
(2) من أساليب الغزو الفكري، لغنايم (ص:567) .
(1/261)
________________________________________
القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أنزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ ولم يتغير منه حرف لا زيادة ولا نقصا.
يقول لوبلوا (1) : (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر) (2) .
ويقول موير (3) : (إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حُفِظَ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر , بل نستطيع
أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها , والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة؛ فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم , يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل
_________
(1) لوبلوا: لم أجد له ترجمة، وإن كان واضحا من اسمه أنه فرنسي، وقد يكون هناك خطأ مطبعي في كتابة اسمه، فقد وجدت رجلا فرنسيا اسمه (ماري لوبان) وهو زعيم حزب الجبهة الوطنية، كان ضابطا في الجيش الفرنسي بالجزائر، وله عضوية بالبرلمان الأوروبي بمدينة سترازبورغ، حزبه ينمو لمطالبته بإخراج العرب من فرنسا، يتراوح عدد المصوتين له بين 8و11%، فلعله يكون هو مقصود الدكتور دراز لاسيما أن دراز أقام في فرنسا طويلا. (انظر: مجلة الهدى التونسة، العدد13) .
(2) انظر: كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عبد الله دراز، (ص:40) ، دار القلم، الكويت،1993.
(3) ليوأري موير (1895 - 1959) : ولد في بولندا , علام بولندا , عالم بالآثار الإسلامية , يهودي , هاجر إلي فلسطين عام (1921) ومات فيها , وتقلب في الجامعة العبرية بين مناصب كثيرة من مدرس في معهد الدراسات الشرقية ثم عميد المعهد ثم مدير للجامعة , وله مؤلفات كثيرة، انظر: "موسوعة المستشرقين ": ص 539.
(1/262)
________________________________________
الموجود معنا , والذي يرجع إلى الخليفة المكروب عثمان) (1) .
ويقول بلاشير (2) : (إن الفضل بعد الله يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان؛ لإسهامه قبل سنة 655م في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل، على مدى الأجيال القادمة) (3) .
2- هذه الشبهة الرد عليها متفرع من الرد على الشبه السابقة، فإن كان المخالف قد أقر بأن هذا القرآن ليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا نقله من غيره، بل هو من الله تعالى؛ فإن الله قال في هذا الكتاب: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ، فبما أن الله تكفل بحفظه، إذن لا يوجد مجال للطعن في بقائه؛ لأن هذا تكذيب لله تعالى.
3-يكفي في الرد على هذه الدعوى العارية عن مستند أن نطالبهم بالدليل، {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة::111] .
فالدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء
4- نرد عليهم بالواقع؛ فإن الواقع يُثْبِتُ إن القرآن لم يتغير منه شيء، فالتفاسير القديمة والكتب المؤلفة في الصدر الأول، والآثار المنقولة عن التابعين والصحابة ,والأحاديث المرفوعة للنبي (لم نجد فيها حرفا يغاير ما هو بين أيدينا الآن، بل يذكر فيها القرآن بنصه وحروفه وترتيبه، وكل من قام بمحاولة لتحريفه أو تغييره فُضِحَ وكُشِفَ وباءت حيلُه بالفشل.
_________
(1) مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عبد الله دراز، (ص:40) ، دار القلم، الكويت،1993.
(2) تقدمت ترجمته ص (9) .
(3) تاريخ الأدب العربي لبلاشير (2/22) عن كتاب قالوا عن الإسلام (ص:52) .
(1/263)
________________________________________
5-أجمع العلماء على أن ما بين دفتي المصحف هو كتاب الله الذي أنزل، وليس فيه نقص ولا زيادة (1) ، ولم تعتن أمة من الأمم بكتاب كاعتناء أمة الإسلام بكتاب الله (القرآن) ، فقد ألفت حوله من الكتب ما لا يحصى كثرة؛ في تفسيره وضبط حروفه وعلومه, وتفنيد الشبهات حوله, وقراءاته, وتجويده, وإعجازه, وبلاغته, وإعرابه ,ورسمه ,وأعداد كلماته, وحروفه، وغير ذلك (2) .
6- من الأدلة على سلامة نقله وحفظه من النقص، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكتم أي شيء حتى ما كان فيها معاتبة شديدة له؛ مثل قوله سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب:37] .
عَنْ مَسْرُوقٍ -رحمه الله- قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ, فسَأَلْتُ عَائِشَةَ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ (رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قُفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْتَ؛ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا (رَأَى رَبَّه, فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ , فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي, أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ,فَقَالَ:
_________
(1) انظر: شبهات حول القرآن (ص:49)
(2) انظر: مدخل إلى علم التفسير، أ. د. محمد بلتاجي (ص:7) .
(1/264)
________________________________________
«إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ , رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (.
قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ , فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ (كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ, فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ, الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ((1) .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو, فَجَعَلَ النَّبِيُّ (يَقُولُ: «اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» . قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ) (2) .
_________
(1) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: تفسير سورة النجم، رقم:4574، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى، رقم:177) واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم، رقم: 6984) .
(1/265)
________________________________________
7-أما كلام جولد تسيهر؛ فإننا نتساءل هل رأى جولد تسيهر كتب الشرائع السابقة في نصوصها الأصلية حتى تصح المقارنة والحكم؟.
وقد قال هو حين عرض للكلام عن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: (إن التلمود يقول بنزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد) (1) .
هذا وقال آرثر جفري (2) في تقديمه لكتاب المصاحف لأبي داود: (إن تاريخ التوراة والإنجيل , وصحة نسبتهما وحرفيتهما , أبعد ما يكون عن الصحة والوثوق) (3) .
8- وأما كلام طه حسين (فهي دعوى قد كفانا هو إبطالها لأنه يشك فيها ويردد وبين أمرين متناقضين، ثبوت أحدهما ينفي الآخر؛ فكونها قصد بها التهويل وإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف يقتضي أنه نطق بها الرسول وأنها كانت في عهده، وكونها رموزا وضعت لتميز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن يقتضي أنه لم ينطق بها الرسول ولا كانت في زمنه، ونقض القرآن لا يكون بهذا الشك والاضطراب والترديد بين أمور متناقضة، ولو علم الناقد أن الصحابة والتابعين كانوا يتشددون في تجريد المصحف من كل ما ليس قرآنا حتى أنهم امتنعوا من العجم والشكل وكتابة أسماء السور لاستحيا من أن يقول مثل هذا القول، ولعمري -إذا
_________
(1) القرآن والمستشرقون , لنقرة ص:40.
(2) آثر جفري: مستشرق استرالي عُين أستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت , ثم أستاذاً في جامعة كولومبيا , ثم أستاذاً للغات السامية في مدرسة اللغات الشرقية في القاهرة , له عدة مؤلفات منها تحقيق كتاب المصاحف لأبي داود , المفردات الأجنبية في القرآن , وغيرها (آراء المستشرق حول القرآن , د. نمر رضوان (1/143) .
(3) المرجع السابق.
(1/266)
________________________________________
كان شاكا أو مضطربا -فلم لا يأتي إلا بما هو طعن في القرآن، ولم لم يذكر ولو على سبيل الشك والترديد ما قاله المفسرون من أنها أسماء للسور أو جئ بها هكذا مسرودة ليعلمهم أن القرآن منظوم من هذه الحروف التي ينظمون من كلامهم فهو إذن من جنس ما ينطقون، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقي، ذلك لأن مواده ليست أعجمية بل هي من المواد التي ينظمون منها كلامهم وليست غريبة عنهم، فإذا عجزوا بعد فيعلموا أنه ليس من كلام البشر، بل هو من عند خالق القوى والقدر، وأنى لهذا الناقد أن يقول خيرا في الكتاب الكريم ولو على سبيل الشك وهو يريد نقضه وإبطاله) (1) .

المطلب الثالث: النسخ في القرآن:
موضوع النسخ في القرآن هذا من علوم القرآن الكبيرة التي أفردت بمؤلفات كثيرة، واستيعاب جميع أطراف هذا العلم يأخذ وقتا وجهدا وصفحات كثيرة، ولكني أردت في هذا المبحث أن أتكلم عن جانب واحد فقط من جوانبه وهو الطعن في القرآن من باب النسخ -الذي له اتصال وثيق بموضوع الرسالة-، وذلك أن النسخ في القرآن من الأبواب التي ولج منها الطاعنون للطعن في كتاب الله، ولو عرفوا حقيقته لعلموا أنه من محاسن القرآن لا من المطاعن فيه،
_________
(1) نقض مطاعن في القرآن، لمحمد عرفة (ص:79-81) .
(1/267)
________________________________________
فالنسخ له حِكَم كثيرة منها (1) :
1-التدرج في الأحكام على الأمة حتى لا تنفر ويسهل عليها تقبله، كما حصل في الخمر فقد تدرج القرآن فيه على مراحل؛ أولاها: الإشارة إلى أنه ليس من الرزق الحسن، كما في قوله تعالى {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ... } [النحل:67] ، والواو تقتضي المغايرة، ثم بيان أن فيه ضررا وشرا كبيرا من غير التعرض لمنعه كما في قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما..} [البقرة:219] ، ثم تحريمه في أوقات الصلاة كما في قوله سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ..} [النساء:43] .
ثم تحريمه تحريما تاما في كل الأوقات في سورة المائدة -التي هي من أواخر السور نزولا- في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ... } [المائدة:90] .
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... الْآيَةَ) ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنَ
_________
(1) انظر: آراء المستشرقين حول القرآن، لرضوان، (2/630) ، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/152) ، ومباحث في علوم القرآن للقطان ص:246، وغير ذلك.
(1/268)
________________________________________
لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا) (1) .
ومثل الخمر في هذا الميسر والفاحشة.
عن يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ: وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ: لِمَ قَالَ: لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ) (2) .
2-استخدام هذا الأسلوب في الدعوة، فالداعي يبدأ مع المدعو بالتدرج وتعليقه بالدار الآخرة وزرع الإيمان في قلبه، ثم يخبره بأحكام الإسلام شيئا فشيئا.
_________
(1) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة المائدة، رقم:3049) والنسائي (كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر،
رقم:5540) ، وأبو داود (كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر، رقم:3670) وصحح إسناده الألباني (انظر: صحيح سنن النسائي (3/1126) .
(2) أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، رقم:4707) .
(1/269)
________________________________________
3- بيان رحمة الله بهذه الأمة؛ فهو سبحانه يراعي أحوال الناس وعاداتهم ويتدرج معهم رحمة بهم حتى لا ينفروا من الإسلام، بل يحببهم به حتى يكونوا من أهله.
4-فيه دلالة على بعض صفات الله كالعلم فهو سبحانه عالم بأحوال الناس جملة وتفصيلا، وعالم بما يصلحهم وينفعهم والطريقة التي تصلح لهم، وفيه دلالة على صفة الحكمة والرحمة كما تقدم.
5-من الحكم التذكير بنعمة الله لاسيما في بعض أنواع النسخ الذي يكون فيها النسخ من أثقل إلى أسهل كما هو الحال في عدة المتوفاة عنها زوجها وغير ذلك.
6-ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه.
7-إرادة الخير بهذه الأمة، فإن النسخ إن كان إلى ما هو أخف ففيه سهولة ويسر، وإن كان إلى ما هو أثقل ففيه زيادة الثواب والأجر.
لهذا كان النسخ من محاسن القرآن لا من مطاعنه.
وقبل أن ندخل في الرد على الطعون التفصيلية لابد من ذكر بعض القواعد المهمة في هذا الباب، فمن ذلك:
1-النسخ يكون في الأحكام ولا يكون في الأخبار -كما توهم بعض المستشرقين (1) -، فجميع أخبار القرآن -من قصص السابقين وأمور الغيب وأحوال البرزخ وما يحصل في اليوم الآخر- لا يدخله النسخ
_________
(1) انظر: آراء المستشرقين حول القرآن االكريم وتفسيره لرضوان (2/630) .
(1/270)
________________________________________
أبدا، لأن نسخ الخبر يلزم تكذيب أحدهما، وهذا لا يكون في كتاب الله (1) .
2-النسخ إنما كان في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن القرآن لا ينسخ ولا يتغير ولا يتبدل، بل هو محفوظ بحفظ الله تعالى له {أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون} [الحجر:9] ، فلا يرجع في النسخ إلا لنقل صريح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخ كذا، مما له حكم الرفع (2) .
3-أقوال الأديان الثلاثة في النسخ:
(1-جائز عقلا وواقع سمعا، وعليه إجماع المسلمين، من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه، وعليه أيضا إجماع النصاري، ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إجماعهم، وركبوا رؤوسهم وهو كذلك رأي العيسوية، وهو طائفة من طوائف اليهود الثلاث.
2-أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا، وإليه جنح النصارى جميعا في هذا العصر، وتشيعوا له تشيعا ظهر في حملاتهم المتكررة على الإسلام، وفي طعنهم على هذا الدين القويم من هذا الطريق -طريق النسخ-، وبهذه الفرية -أيضا- يقول الشمعونية، وهم الطائفة الثانية من اليهود.
3-أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا، وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من اليهود، ويعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، ولكن على اضطراب في النقل عنه، وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظي إلا يكنه) (3) .
_________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (3/61) .
(2) انظر الإتقان للسيوطي (3/71) .
(3) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/147) ، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولي، 1995.
(1/271)
________________________________________
وأما الطعون في هذا الباب فهي كالتالي:
-ذهب بعض المستشرقين إلى أن النسخ يدل على وجود التحريف والتبديل في القرآن وأنه لم يحفظ (1) ، بل حصل فيه كثير من التغيير، فقد ثبت أن كثير من الآيات المنسوخة كانت تتلى بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، مثل حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ) (2) .
وبعضهم يرى أن النسخ حيلة ابتدعها المسلمون للخروج من مأزق التناقض بين الآيات (3) مثل آيات عدة المتوفاة وآيات المصابرة وآيات القبلة.

أولا: الردود:
1-النسخ موجود في الشرائع السابقة؛ فمن طعن في القرآن من هذا الباب فهو يطعن في جميع الشرائع المنزلة،
(فقد نسخت التوراة إباحة تزوج الأخوة والأخوات كما كان في عهد آدم عليه السلام، ونصها في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا لا تكشف عورتها"، ونسخ إباحة الجمع بين الأختين كما كان ذلك في عهد
_________
(1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني (2/136) ، الرد الجميل على المشككين في الإسلام، عبد المجيد صبح، (ص:80) ،دار المنارة للنشر والتوزيع، المنصورة، الطبعة الأولى 2001.
(2) أخرجه مسلم (كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، رقم:1452) .
(3) انظر: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره، لعمر رضوان (ص:628) .
(1/272)
________________________________________
يعقوب عليه السلام فإنه كان يجمع بين ليا وراحيل ابنتي خاله، وقصته مذكورة في سفر التكوين الإصحاح التاسع والعشرين، ودليل النسخ ما جاء في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر "ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها"، ونسخت إباحة أكل جميع الحيوانات كما كان في عهد نوح عليه السلام ففي سفر التكوين الإصحاح التاسع خطابا لنوح ونبيه "كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع "، ودليل النسخ ما جاء في سفر اللاويين، الإصحاح الحادي عشر من تحريم الجمل والأرنب والخنزير وغير ذلك، فهذا قليل من كثير مما نسخته التوراة من أحكام الشرائع السابقة.
وأما الإنجيل فقد نسخ إباحة الطلاق كما كان ذلك في الشريعة الموسوية بأي سبب كان زنا أو غيره، وإباحة تزوج المطلقة، ففي سفر التثنية الإصحاح الرابع والعشرين "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء كتب لها كتاب الطلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت ذهبت وصارت لرجل آخر"؛فحرم الإنجيل الطلاق إلا بعلة الزنا، وحرم تزوج المطلقة، ونص متى في ذلك الإصحاح الخامس "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب الطلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني "، ونسخ حرمة أكل الحيوانات التي كانت محرمة في شريعة موسى، وتقدمت الإشارة إلى بعضها ... ) (1) إلى أخر تلك النصوص.
2-أن النسخ من محاسن القرآن لا من مساوئه كما تقدم
_________
(1) فضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين، لعبد الله كنون الحسني، (ص:5-6) ، مطبعة رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1982، وانظر: مناهل العرفان (2/150)
(1/273)
________________________________________
في ذكر طرف من هذه الحكم، وأكثر ما يدندن عليه الطاعنون هو نسخ الحكم وبقاء التلاوة أو العكس وهي قضية نسخ التلاوة وبقاء الحكم، فيقولون: ما فائدة بقاء الآية إذا ذهب حكمها ونسخ، وكيف يقال إن هذه الآية نسخت وحكمها باق، ولم يعلموا أن لهذا حكما كثيرة، فمن حكم نسخ الحكم وبقاء التلاوة:
أ- التذكير بنعمة الله تعالى حيث إن غالب الآيات المنسوخة الحكم لا التلاوة فيها تخفيف على الأمة (1) مثل نسخ عدة المتوفاة من سنة إلى أربعة أشهر وعشرا، وفي الصحيحين قَالَتْ زَيْنَبُ سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ) قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ
غَيْرِهِ،
_________
(1) الإتقان للسيوطي (3/69) .
(1/274)
________________________________________
سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا) (1) .
ب- أن نسخ حكم الآية التكليفي لا يبطل كل الأحكام المتعلقة بالآية مثل الأجر لمن قرأها، فقارئها له ثواب التلاوة، وكذلك الاستفادة من الآية في الأحكام البلاغية والنحوية والتجويدية، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية فيها (2) .
3-أن العقل لا يمنع أن يقول الملك لرعيته: افعلوا كذا، وهو يقصد أن يهيئهم لأمر آخر، فإذا تهيئوا قال: افعلوا كذا، وكما يقول الطبيب لمدمن التدخين مثلا: قلل من شرب الدخان، فإذا تجاوز هذه المرحلة قال له: اقطع التدخين.
4-وأما حديث عائشة في مسلم (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ... ) فأجيب بعدة أجوبة:
أ-أن المقصود قارب الوفاة ولم يتوف بعد (3) .
ب- أن مقصود عائشة هو تأخر النسخ قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى إن بعض الصحابة لم يعلم بالنسخ فكان يقرأ بها بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) (4) وهذا هو المتبادر للذهن.
قال النووي رحمه الله: (وَقَوْلهَا: (فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّه (وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأ)
_________
(1) متفق عليه (البخاري: كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهرا وعشرا، رقم:5024، ومسلم: كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، رقم:1489) .
(2) انظر مناهل العرفان (2/153)
(3) نفحات من علوم القرآن، محمد أحمد معبد (ص:82) ،دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996.
(4) الإتقان لليسوطي (3/63) .
(1/275)
________________________________________
هُوَ بِضَمِّ الْيَاء مِنْ (يَقْرَأ) وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّسْخ بِخَمْس رَضَعَاتٍ تَأَخَّر إِنْزَالُهُ جِدًا حَتَى أَنْهُ (تُوفِي وَبَعْض النَّاس يَقْرَأ خَمْس رَضَعَات وَيَجْعَلهَا قُرْآنًا مَتْلُوًّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغهُ النَّسْخ لِقُرْبِ عَهْده فَلَمَّا بَلَغَهُمْ النَّسْخ بَعْد ذَلِكَ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُتْلَى. وَالنَّسْخ ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحَدهَا مَا نُسِخَ حُكْمه وَتِلَاوَته كَعَشْرِ رَضَعَات , وَالثَّانِي مَا نُسِخَتْ تِلَاوَته دُون حُكْمه كَخَمْسِ رَضَعَات وَالشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا , وَالثَّالِث مَا نُسِخَ حُكْمه وَبَقِيَتْ تِلَاوَته وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: (وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ (الْآيَة وَاَللَّه أَعْلَم) (1) .
وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فله حكم كثيرة منها (2) :
1-الابتلاء لمعرفة كمال اتباع الناس للنصوص، فالمؤمن كامل الإيمان يسلم، والمنافق يجادل،
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ يوم الجمعة فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ؛ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ
_________
(1) شرح مسلم للنووي (10/29) ، دار الفكر،
(2) انظر: مباحث في علوم القرآن (ص:246) ،والإتقان في علوم القرآن (3/72) ، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/152) .
(1/276)
________________________________________
آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ... ) (1) .
2-بيان فضل هذه الأمة؛ إذ بلغ من كمال اتباعها أنها تتبع حتى ما نسخ لفظة ولا تجده في المصحف،
قال السيوطي: (يظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شئ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام.) (2)
3-لنفرض جدلا أن هذه الأحكام التي نسخ لفظها لا يجوز العمل بها لأن ما نسخ لفظه فقد نسخ حكمه، فإن ثبوتها في السنة يكفي للعمل بها.
- وأما دعوى أن النسخ ابتدعه المسلمون للخروج من مأزق التناقض في الآيات فهذا كلام باطل لوجوه:
1-النسخ كان في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس مبتدعا بعده، وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يأذنون لأحد بالفتوى حتى يتعلم الناسخ والمنسوخ (3) .
2-بل إن النسخ موجود في كل الشرائع كما تقدم.
3-أن بعض الآيات تدل هي ذاتها على النسخ من غير تدخل من أحد مثل قوله تعالى في آيات المصابرة {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا..} [الأنفال:66] .
_________
(1) أخرجه البخاري (كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، رقم:6442) .
(2) الإتقان (3/72) .
(3) انظر مناهل العرفان (2/136) ، الإتقان في علوم القرآن (3/58) .
(1/277)
________________________________________
4-أن الآيات المنسوخة قد تم الإجماع على نسخها والأمة لا تجتمع على ضلالة.
5-أن الحكم على آية أو حديث بالنسخ له شروط شديدة لابد أن تتوفر حتى يحكم على هذا النص بالنسخ، فلا يمكن لأي أحد التلاعب في النصوص بحجة النسخ، فمن هذه الشروط (1) :
1-أن يكون النسخ حكما شرعيا.
2-أن يكون الناسخ دليلا شرعيا.
3-أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ.
4-أن يكون بين النصين تعارض حقيقي، فلا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بينهما.
5-أن النسخ لا يكون في الأخبار كما تقدم.
وبهذا يتضح مدى كون النسخ من محاسن القرآن ومفاخره بل لعلنا لا نبالغ إن قلنا إنه من إعجازه في أحيان كثيرة.
وقد جازف صاحب كتاب الرد الجميل على المشككين في الإسلام بإنكار النسخ في القرآن (2) محاولا بهذا الرد على من طعن في القرآن بسبب وجود النسخ،
_________
(1) انظر: مناهل العرفان (2/141) .
(2) انظر الكتاب ص:118.
(1/278)
________________________________________
وهذا خطأ بل النسخ موجود والرد على من طعن في القرآن بسبب النسخ واضح وقد تقدم وفيه مقنع لطالب الحق، وأما صاحب الهوى فإنه لا يقتنع ولو جئت له بأوضح الواضحات.
(1/279)
________________________________________
المبحث الثالث: اتهام القرآن بالتناقض
المطلب الأول: هل في القرآن تناقض حقيقي؟.
- أسباب وقوع التناقض من الشخص الواحد هي:
إما لقلة العلم, أو بسبب النسيان, أو اختلاف النفسية ,والطباع ,أو اختلاف الاجتهاد, أو الابتعاد عن الحق, أو للمصلحة الشخصية (1) ؛ وكل هذه الأسباب منتفية عنه تعالى فهو سبحانه عالم السر والنجوي, ولا يضل ولا ينسى, ولا يبدو له شيء لم يكن يعرفه حتى يغير اجتهاده, وهو الحق ولا يصدر منه إلا الحق, ولا يبلغ أحد من خلقه ضره فيضره ولا نفعه فينفعه.
_________
(1) انظر: أصول الجدل والمناظرة , د. حمد العثمان (ص 377) في مبحث (تناقص النظار) مكتبة ابن القيم , الكويت , طبعة 2001.
(1/280)
________________________________________
(وسئل الغزالي عن معنى قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مشترك بين معان, وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه , بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن؛ يقال هذا كلام مختلف.
أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف؛ أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا, أو هو مختلف النظم؛ فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف (1) ، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله تعالى منزه عن هذه الاختلافات؛ فإنه على منهاج واحد في النظم, مناسب أوله آخره ,وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة ,فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات؛ إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهاج النظم, ثم اختلاف في درجات الفصاحة, بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين, فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان, بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة؛ لأن الشعراء والفصحاء {في كل واد يهيمون} [سورة الشعراء] فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا, وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا, ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات؛ لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال, والإنسان تختلف أحواله ,فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الإنقباض, ولذلك تختلف أغراضه, فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى, فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه
_________
(1)
(1/281)
________________________________________
بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن ,فيتكلم على غرض واحد, وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشرا تختلف أحواله ,فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوُجِدَ فيه اختلاف كثير، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن, وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} [البقرة: 26] فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى, فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا, وهي أشد أنواع الاختلاف, والله أعلم) (1) .
وأما ادعاء معارضة القرآن للحقائق سواء كانت, شرعية, أو طبيعية, أو تاريخية، فإن سبب هذا الزعم, وقوع هؤلاء على بعض الإشارات التي فهموا منها أن هناك تعارضا, فتمسكوا بها وبدأوا يجمعون كلام كل متردية ونطيحة ,للنفخ في هذه الشبهة حتى يتم لديهم هذا الاتهام للقرآن بالتعارض مع الحقائق، وما علم هؤلاء أن الذي خلق الطبيعة وأنزل القرآن واحد وهو الله تعالى، وأن منزل القرآن والشريعة واحد وهو الله تعالى، وأن كل الحقائق التاريخية التي حصلت لنا وعرفناها عن طريق الكتب المتوارثة غابرا عن غابر, قد رآها الله تعالى معاينة وشاهدها حقيقة, ولم تنقل له كما هو الحال فينا عن طريق كتب.
إذن فقضية التعارض سواء كانت في الحقائق الشرعية ,أو الكونية, أو التاريخية أمر لا يمكن تصوره عقلا, وغير واقع أصلا، وكل ما ادعوا أنه متعارض قد تم الإجابة عليه.
_________
(1) البرهان للزركشي (2/54-56) .
(1/282)
________________________________________
وقد تقدم معنا في مبحث أسباب وقوع الإشكال كلاما نفيسا للإمام الزركشي والإمام الراغب الأصفهاني, في بيان وجه كل ما قيل أن فيه تناقضا.

المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض
وهذا الموضوع قد أكثر الطاعنون منه , بناء على القاعدة الجدلية أن التناقض علامة بطلان المذهب (1) ، ولكن كل ما زعموا فيه التناقض, فهو محض افتراء أو جهل، وقد تكلم العلماء قديما على هذا النوع من الطعون, وجمعوا كل ما قيل في ذلك, ورتبوها على حسب ترتيب سور المصحف وأجابوا على كل ما قيل في ذلك بل وعلى مالم يقل مما يُظن أن فيه إشكالا أو تناقضا، ومن هذه الكتب المؤلفة في هذا الفن:
1-"كتاب تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري (2) ، وهو أقدم كتاب وصل إلينا.
2-"كتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" له أيضا (3) .
3-"أضواء على متشابهات القرآن"، لخليل ياسين (4) ، في مجلدين.
_________
(1) انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين الجويني (ص:172) ، تحقيق د. فوقية حسين محمود، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة1979، وانظر آداب البحث والمناظرة، للأمين الشنقيطي (64) ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
(2) تحقيق السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية.
(3) تحقيق مروان العطية , ومحسن خرابة، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى1990.
(4) مكتبة الهلال، بيروت.
(1/283)
________________________________________
4-"باهر القرآن في معاني مشكل القرآن" لبيان الحق النيسابوري (1) ، في أربعة مجلدات.
5-"وضح البرهان في مشكلات القرآن" له أيضا (2) ، في مجلدين.
6-"تفسير آيات أَشِْكَلتْ" لابن تيمية (3) ، في جزأين.
8-"دفع إيهام الاضطراب"، لمحمد الأمين الشنقيطي (4) .
9-"مشكلات القرآن", لمحمد أنور شاه الكشميري (5) .
10-"الروض الريان في أسئلة القرآن"، لشرف الدين بن ريان (6) .
وغير ذلك من الكتب الكثيرة، التي لو جُمِعَ كل ما فيها لكان مجلدات كثيرة ,وإنما قَصَدتُ بذكر هذه الكتب بيان أن هذا الطعن قد قًُِتلَ بحثا, وأجيب عن كل ما قد قيل أو يمكن أن يقال فيه, ومع هذا لا زال أعداء الدين ينعقون بهذه الطعون ويرددونها، مما يدلك على عدم حرصهم على اتباع الحق, أو إنما القصد هو إضلال بسطاء المسلمين ممن لم يقرؤوا هذه الكتب، والله المستعان.
يقول جولدتسيهر (7) : (من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه
_________
(1) تحقيق سعاد بابقي، من مطبوعات جامعة أم القرى 1997.
(2) تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم , بيروت، الطبعة الأولى1990.
(3) تحقيق عبد العزيز الخليفة، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى1996.
(4) مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى1996.
(5) الناشر المجلس العلمي، في جوهانسبرك، الطبعة الثالثة 1998.
(6) تحقيق عبد الحليم السلفي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى1994.
(7) لاحظ هذا المستشرق اليهودي لا يكاد يمر طعن إلا ويسهم فيه، وللأسف يثني عليه الكثير من المعاصرين.
(1/284)
________________________________________
مذهبا عقيديا (1) موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرا، إلا آثار عامة نجد فيها -إذا بحثناها في تفاصيلها-أحيانا تعاليماً متناقضة) (2) .
وسنذكر إن شاء الله في هذا المبحث بعض ما ذكر من شبهات في هذا العصر (3) والجواب عليها بإذن الله.
الطائفة الأولي: طعون ذُكرت في كتاب "رد مفتريات على الإسلام"، لعبد الجليل شلبي، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية, وموقعة باسم الأسقف العام, ورئيس المجلس, والنائب العام البابوي تيموثاوس (4) ، والطعون التي ذكروها كالتالي:
1-في سورة يونس: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ
_________
(1) هكذا والفصيح عقديا.
(2) نمو العقيدة الإسلامية وتطورها، لجولدتسيهر، عن كتاب الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين، لشوقي أبوخليل (ص:64) .
(3) انظر: "رد مفتريات على الإسلام "، لعبد الجليل شلبي (ص:67-77) ، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، والرسالة الثانية جاءت بالبريد من استراليا في إحدى وعشرين صفحة، وموقعه باسم: المدعون العامون في محكمة الحقيقة.
وانظر أيضاً الرد على أسئلة (توني بولدروجوفاك) وتشكيكاته حول القرآن الكريم والنبي العظيم، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، والملحدون الجدد لجمال عبد الرحيم , وغير ذلك من الكتب الكثيرة.
(4) وقد ذكرت مع الطعن رد شلبي , وغالبا أزيد عليه ردوداً أخرى لم يذكرها وأنبه على ذلك بكلمة (قلتُ) .
(1/285)
________________________________________
لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... ( [يونس:15] , وفي سورة النحل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل:101] .
ففي الآية الأولى طُلب منه التبديل فرفض , والآية الثانية تم التبديل (1) .
والجواب (2) :
أن التبديل في الآية الأولىكان بطلبٍ من الكفار لرسوله (أن يأتي بقرآن جديد أو يبدل هذا القرآن ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لا أستطيع، فذلك كلام الله ينسخ منه سبحانه ما يشاء ويثبت ما يشاء، وأنا أتبع ما يوحى إليَّ نسخا أو إثباتا.
والآية الثانية تذكر أن الله سبحانه إذا نسخ حكما بحكم قال الكفار لمحمد: أنت مفتر في هذا القرآن؛ لأنك غيرت حكماً قررته من قبل، ثم تقرر الآية التالية أن ذلك من الله تعالى، نزله الله بواسطة جبريل روح القدس، ومحمد لا يغير.
فأي تناقض بين الآيتين! كلتاهما تثبت أن القرآن من عند الله, وأن محمداً (لا يستطيع أن يغير منه شيئاً.
2- الآية 106من سورة البقرة تُناقِضُ الآية 27 من سورة الكهف، والآية في سورة البقرة هي: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] والآية في سورة الكهف: {واتل ما أُيوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته..} [الكهف:27] .
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:67) .
(1/286)
________________________________________
فالآية الثانية تخبر أن كلمات الله لا تبدل، والأولى تخبر أنها تنسخ وتنسى، والنسخ نوع تبديل (1) .
الجواب (2) :
الآية الأولى تتحدث عن نسخ الأحكام وتغيير حكم بآخر، وهذا أمر لا بد منه في حال أمة جاهلية نقلها الإسلام تدريجيا إلى حال جديدة متكاملة، والآية الثانية تذكر أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يبدل كلماته، أو يرد حكما أنزله سبحانه، والطاعنون لم يفهموا النص فظنوه تناقضا، وكلتا الآيتين توضح أن الله وحده يمحو ما يشاء ويثبت، تماما كالآية السابقة قلتُ: التبديل يطلق على تبديل الأحكام ,وهذا سائغ، ويطلق على تبديل الأخبار, وهذا الذي لا يمكن في القرآن، فكل آية لها مورد (3) ، فالنسخ والتبديل يكونان في الأحكام لا الأخبار.
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:68) .
(3) الرد على النصراني في مطاعنه على القرآن، محمد رجب (ص:22) .
(1/287)
________________________________________
3- الآية 9 من سورة الحجر تناقض الآية 39 من سورة الرعد:
وآية الحجر هي: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ، وآية الرعد هي: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب..} [الرعد:39] ، يعني كيف يجتمع الحفظ مع المحو (1) ؟.
الجواب (2) :
آية الحجر تصف القرآن أنه تنزيل من الله تعالى, وأن الله حافظه من الزوال والتحريف، وصدق الله وصدق قرآنه، فالمسلمون بعد أربعة عشر قرنا يقرأون القرآن غضا طريا صريحا صحيحا كما أنزله الله تعالى، وكما قرأه محمد (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه، فأين كتاب موسى وأين وصاياه، وأين إنجيل عيسى؟ هذه كتب لم يحفظها الله تعالى فذهبت مع الأيام، والقرآن لم يضع منه شيء ولن يضيع.
وأما آية الرعد تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب؟
قلتُ: آية الرعد ليست في القرآن, بل المراد منها الصحف التي بيد الملائكة التي فيها مقادير الخلق، فإن الله تعالى يغيرها حسب مشيئته وحكمته، واختلف العلماء في ذلك ولكن كل الخلاف دائر في باب القدر (3) ، ولو سلمنا أن آية الرعد في القرآن، فإن المقصود بالمحو
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:68) .
(3) انظر تفسير فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، للإمام الشوكاني (3/89) ، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى،1994، وقد ذكر فيه ثلاثة عشر قولا، ليس فيها أن المقصود به محو القرآن.
(1/288)
________________________________________
والإثبات هو في وقت حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) , وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي (صلى الله عليه وسلم) ,فإن الله يحفظ القرآن ويصونه.
4- السجدة آية 5 - تناقض المعارج آية (4) :
وآية السجدة هي: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة:4] ، وآية المعارج هي: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج:4] ، يعني أن ألف سنة في الآية تناقض خمسين ألف سنة في الآية الأخرى (1) .
الجواب (2) :
إن الآية تصف يوم القيامة بالطول، وأنه في طوله يعدل ألف سنة مما يعدل الناس، ولا يراد منها إفادة التكثير، كما تقول لصاحبك كتبت لك خمسين خطابا، وترددت على بيتك عشرين مرة، واللغويون يقولون دائما: العدد لا مفهوم له.
فإذا وَصَفَت الآية الثانية هذا اليوم بأن مقداره خمسين ألف سنة فلا تناقض لأن كلا منهما تصفه بالطول، وقيل: وهذا اليوم يختلف مع الناس باختلاف مواقفهم وما يعانيه كل منهم، فقد يطول اليوم على شخص لشدة مشقته, ويقصر على آخر لعدم المشقة.
قلت: إن الآيتين ليستا على مورد واحد، بل الأولى تتحدث عن أمر لا تتحدث عنه الأخرى،
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:69) .
(1/289)
________________________________________
فالآية الأولى تتحدث عن مدة يوم معراج الأوامر ومدته ألف سنة (1) ، والثانية تتحدث عن يوم القيامة ومدته خمسين ألف سنة، كما هو ظاهر من السياق: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (*) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (*) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (*) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (*) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (*) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (*) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (*) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (*) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (*) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( [المعارج:1-10] ، وهو القول الراجح فقد ذكر ابن كثير أربعة أقوال في المراد من اليوم ومال إلى أن المراد به يوم القيامة (2) ، وهو الراجح بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ, فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ, فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ ,كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ, فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ... » (3) .
وقد ذكر العلماء أجوبة كثيرة وغالبها وجيه، وقد سُئل ابنُ عباس عن هذه الآية وأجاب عنها (4) ، ومع هذا لا زال هذا الإشكال يكرر إلى يومنا هذا.
_________
(1) فقد ذكر ابن كثير عن كثير من السلف أنهم قالوا: إن بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام، فنزول الملك وعروجه بالأمر مجموعه ألف سنة (3/457) .
(2) تفسير ابن كثير (4/418-420) .
(3) أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، رقم:987) .
(4) انظر تفسير ابن كثير (4/420) .
(1/290)
________________________________________
5- سورة البلد وسورة والتين:
سورة البلد جاء فيها: {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} [البلد:1-2] ، وسورة التين فيها: {والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين} [التين:1-3] ؛فكيف قال: لا أقسم بهذا البلد ثم أقسم به (1) ؟.

الجواب (2) :
فَهِمَ القومُ -وهم كما يدل أسلوبهم وكتابتهم علماء جدا في اللغة - أن (لا) في (لا أقسم) نافية، وهذا جهل بلغة العرب، وإنما تأتي لا في القسم توكيدا وهذا شائع في اللغة، كما في قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.. (أي أقسم بربك أنهم كذلك، وكما قال النابغة:
فَلاَ وَحًقَّ الَّذِي مَسَّحْتً كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيقً عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
وقول الآخر:
فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِبى وَلاَ لمِّا ِبهمْ أبَداً دَواءُ
وقول طرفه:
فَلاَ وَأَبِيكَ ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقال علماء اللغة: إن هذا القسم يفيد تعظيم المقسوم به، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى: {فلا اقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم} [الواقعة:75-77] ، وكقوله:
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:69) .
(1/291)
________________________________________
{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة:1-2] ، فهذه كلها أقسام وليس هذا من دقائق اللغة وإنما هو من أولياتها ولكن القوم لا يعلمون.
وإذا اعتبرت (لا) نافيه والجملة خبرية فهي مقيدة؛ أي لا أقسم به وأنت حل به، ولكن أقسم به وأنت غير حل به، فلا تناقض أيضاً.
6-قوله تعالى: {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون} [الزمر:44] ، مع قوله: {مالكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا تتذكرون} [السجدة:4] وقوله: {يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} [يونس:3] .
هذه الآيات متناقضة في رأي تيموثاوس (1) .
الجواب (2) :
الآيات الثلاث تذكر أن الله وحده هو المتصرف في خلقه، ولا يشفع عنده إلا من أذن له، لله وحده الشفاعة، لا شفيع من دونه ولا بغير إذنه.. فأي تناقض بين هذه الآيات؟ أليست الشفاعة في هذا كله لله وحده؟ أفلا تذكرون؟.
قلت: نفى الله تعالى الشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون في معبوداتهم، وأثبتها له وحد، ولمن يأذن له فيها، فهو سبحانه ينفيها في حال ويثبتها في حال آخر.
7-في سورة الواقعة جاء مرة: {ثلثة من الأولين وقليل من الآخرين} [الواقعة:13-14] ،
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71) .
(1/292)
________________________________________
ثم جاء مرة أخرى {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} [الواقعة:39-40] .
فهذا تناقض عند تيموثاوس ومجلسه (1) .
الجواب (2) :
والآية الأولى تتحدث عن السابقين المقربين، والثانية تتحدث عن أصحاب اليمين ... استفيقوا أيها الناقدون.
8- الحجر: آية 85: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ... (، تناقض بالتوبة:73 (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ... (.
ووجه التناقض فيما يرى القوم أن الآية الأولى أمرت بالصفح ,والثانية أمرت بالغلظة (3) .
الجواب (4) :
سورة الحجر مكية، وفي مكة لم يكن أذن بالقتال، والله تعالى يقول في آية الحجر أنه لم يخلق هذا الكون عبثا يفسد فيه من يفسد ويصلح من يصلح، بل الله جامع الناس بعد ذلك وجاز كلا بما فعل، فلا تحزن يا محمد لمخالفة القوم إياك ومعارضتهم دعوتك، وغدا تقوم الساعة فيجزون بسوئهم وتجزى بإحسانك، فأعرض عنهم حتى يأتي أمر الله.
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71) .
(3) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(4) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71) .
(1/293)
________________________________________
وسورة التوبة مدنية ,وتسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، قد نزلت في حج أبي بكر بالناس، وكان الجهاد قد شرع قبل ذلك، ويسمى هذا العام عام الوفود؛ إذ أخذت قبائل العرب تتوافد على المدينة يدخلون في دين الله أفواجا، ولم يبق بعدُ مسوغ لبقاء الكفار الذين يعبدون من دون الله أوثانا، ولا لبقاء المنافقين الذين يفشون أسرار المسلمين ويخدعونهم, ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيجب جهادهم لقطع قوم عن الكفر وآخرين عن النفاق ,كي يعيش الناس في جو نظيف ,خال من فساد العقيدة وفساد الأخلاق!
فأين التناقض؟
الناس جميعاً يفعلون هذا، يقول قائد الفرقة لجيشه: لا تضربوا. وبعد مدة يقول: اضربوا. ويقول المهندس الزراعي لفلاحيه: لا تزرعوا الآن. بعد شهر يقول: ازرعوا، وكُلَّ حِكْمَةْ.
قلتُ: ومن الأجوبة أن الآية الأولى المقصود بها حال الدعوة، والثانية حال الجهاد، فاختلف مورد كل آية، كما أن الوالد في حال نجاح ابنه يفرح ويحسن إليه بهدية، وفي حال رسوبه يغضب ويعاقبه، ولا يقال: إن هذا الوالد متناقض؛ لأنه مرة يفرح ومرة يغضب، ففرحه في مجال وغضبه في مجال آخر.
9- الأعراف أية 37: (حتى إذا أدركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا (، وفي الأعراف آية 17 يقول الشيطان لله تعالى: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (؛ هذا تناقض عظيم جدا عندهم، كبراء القوم أضلوهم، والشيطان قال إنه يضلهم. فمن
(1/294)
________________________________________
الذي يضل هل هو الشيطان أم الكبراء (1) ؟.
الجواب (2) :
وهل من التناقض أن يُضَلَّلَ الشخص من كثيرين؟ وأنتم أعضاء المجلس الملي، وجماعة المدعين أضلكم الشيطان, وأضلكم رؤساؤكم وأضللتم أنفسكم ,وأضلكم جهلكم، وأضلكم كتابكم، ولا تناقض في شيء من هذا.
10-الآية 275من البقرة وهي: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل البيع وحرم الربا (. والآية 29 من التوبة وهي: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (، هاتان الآيتان متناقضتان فيما يرى تيموثاوس ومجلسه، يقصدون أن الجزية مثل الربا (3) .
الجواب (4) :
ويبدوا أنهم أرادوا تكثير عدد الآيات؛ لأنهم ذكروا سورة والتين وسورة والبلد مرتين تكثير للعدد! وهل الجزية رِباً؟ هذا فهمهم ولا يفهمه سواهم.
قلت: شتان بينهما؛ فالربا لا يجوز أبدا سواء مع المسلم أو الكافر، وأما الجزية فهي ضريبة تجعل على الكفار مقابل حمايتهم
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر: رد مفتريات على الإسلام (ص:72) .
(3) انظر: المصدر السابق (ص:37) .
(4) انظر: المصدر السابق (ص:73) .
(1/295)
________________________________________
في ديار المسلمين، أو إبقائهم في الأرض التي يفتحها المسلمون مقابل هذا المال، ويراعى فيها سعة القوم وفقرهم ,ولا يجوز فيها التضييق عليهم.
11-الآية 65 من سورة الأنفال , وهي , (ياأيها النبيُّ حرض المؤمنين علي القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وأن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (تناقص الآية 48 من سورة الأحزاب , وهي (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل علي الله وكفي بالله وكيلاً (فزعموا أن هناك تضارباً بين الآيتين؛ إذ الآية الأولي تطلب من النبي (صلى الله عليه وسلم) تحريض المؤمنين وحثهم علي القتال , بل والتجلد لقتالهم فإن العشرين الصابرين منهم يقتلون مائتين , والمائة الصابرة يقتلون ألفاً من الذين كفروا , بينما الآية الثانية تطلب من النبي (صلى الله عليه وسلم) ألا يطيع الكافرين والمنافقين , وأن يدع أذاهم لا يقابلهم مثله ويكفيه التوكل على الله , فهو حسبه وكفى بالله وكيلاً ,فكيف يأمره في الأولى لتحريض على قتالهم بهذا الجَلَد ,ويأمره في الثانية بترك آذاهم , فظنوا هذا تناقضاً , فطاروا به فرحاً , واتخذوه حجراً يقذفون به كتاب الله (1) .
والجواب (2) :
ليس هناك أي تضارب , فالكافرون والمنافقون كانوا يؤذون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بألسنتهم وباختلاق أقوال عليه , فأمره الله بأن يدع أذاهم له , فهو سبحانه وتعالى يتولى رد كيدهم في نحرهم , ودحض افتراءاتهم على رسوله , فكفي بالله وكيلاً , فأمره في آية الأحزاب أن لا يقابل اللسان بالسنان ,
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:73) .
(1/296)
________________________________________
بينما أَمَرَه في شأن الكفار المحاربين أن يحرض المؤمنين على قتالهم , والتجلد لهم , فأمره الله سبحانه في آية الأنفال بمقابلة الَسَّنان بالسَّنان, فالحكمة تقتضي وضع السيف في موضعه واللين في موضعه , فلا تعارض إذن بين الآيتين.
وحتى مع التسليم بأن الأمر في سورة الأنفال يقابل الأمر في سورة الأحزاب , فإن هذا يناسب التدرج في تشريع القتال , علي حسب ما تقتضيه كل مرحلة من مراحل الدعوة من قوة وضعف, فلا تناقض.
12- الآية 20 من سورة آل عمران وهي: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (، تناقض الآية 89 من سورة النساء وهي: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (.
ووجه التناقض - فيما يرون -أن الآية الأولى ذكرت أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، والآية الثانية أمرته بقتال المنافقين وجهادهم، وبهذا نجد هؤلاء المساكين يدورون في حلقة مفرغة، يعيدون ما قالوا ثم يكررونه (1) .
الجواب (2) :
الآية الأولى -ومثلها كثير جدا -تقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إنك
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) الجواب: انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:75) .
(1/297)
________________________________________
لست مطالب بخلق الهداية في نفوسهم، ولكن الله يهدي من يشاء، وإنما عليك أن تبلغ رسالة الله، فمن آمن بها وأسلم فقد اهتدى، ومن تولى فحسابه على الله، وحسبك أنك بلغت الرسالة، ولست مكلفا بخلق الهداية.
والآية الثانية تتحدث عن المنافقين وموقفهم يشبه موقف (المدعين) والمجلس المِلَّيء المزعوم يتمنون أن يكفر المسلمين ككفرهم، وقد نهى المسلمون أن يتخذوا منهم أصدقاء حتى يهاجروا في سبيل الله، ولا تعني الهجرة في هذا المقام الانتقال من مكة إلى المدينة؛ إذ السورة مدنية والمنافقين كانوا بالمدينة، ولكن المراد بالهجرة طاعة الله تعالى وترك المحرمات، وهذا من معاني الهجرة, ومن معانيها أيضا الجهاد، وكان جماعة من المنافقين بقيادة عبد الله بن أُبي رجعوا قبل المعركة يوم أحد.
والقرآن ينهى المسلمين عن اتخاذهم أصدقاء؛ لأن ذلك تكريم لهم وإطلاع لهم على أسرار المسلمين، ادّعوا الإسلام وأعرضوا عن الدفاع عنه، وعاونوا أعداءه.
وليس في هذا خَلْقُ هداية في أنفسهم، وإنما التخلص منهم ومن شرورهم، والناس في كل أمة وفي كل عصر يقتلون الخونة.
فهل هذا تناقض؟ .
قلتُ: إن البلاغ أنواع، فبلاغ الكلمة وبلاغ المال وبلاغ الجهاد، فالجهاد إنما شرع لتبليغ دعوة الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، حتى يصل الإسلام إلى جميع نواح المعمورة.
13- الآية 108 من سورة الأنعام تناقض الآية 4 من سورة محمد: وآية الأنعام هي (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا
(1/298)
________________________________________
الله عدوا بغير علم.. (وآية سورة محمد هي: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها، ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم (.
ولعل وجه التناقض فيما يرون أن الآية الأولى نهت المسلمين عن سب الأصنام التي يعبدها المشركين، والآية الثانية حثتهم على الجهاد (1) ! .
الجواب (2) :
القوم واهمون ومتحاملون؛ فالآية الأولى مكية سَنَّتْ للمسلمين أدبا خُلقيا، فنهتهم عن شتم الأصنام وهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ولكن لو سبوها لسب الكفار الإله الخالق سبحانه عدوانا وجهلا؛ لأنهم لم يعرفوه ولم يعرفوا صفاته، هذا أدب أخلاقي رفيع، وها نحن نجري عليه، فالجماعة (المدعون) والمجلس الملي يسبون ويشتمون ويقذفون النبي الكريم بأشنع الألفاظ، ونحن نلتزم المنطق ونغضي عن شتائمهم، هذا لعلمنا أن الشتائم لا جدوى من ورائها، وأن الشَّتَّام يحط دائما من قدر نفسه، ولا ينال من قدر من شتمه شيئا.
والآية الرابعة من سورة محمد تبين جانبا من تعاليم الحرب، فتعلم المسلمين أنهم إذا قابلوا الكفار في المعركة فعليهم أن يوقعوا بهم الضرب، فإذا أثخنوهم قتالاً وهزموهم كان لهم بعد ذلك أن يمنوا على من يستحق المن, وأن يأخذوا الفدية ممن يستحق أن يفدى.
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:75) .
(1/299)
________________________________________
فليس في الآية إباحة لسب الأصنام، والآيتان قي وقتين مختلفين لكُلُّّ حُكْمُها على ما قدمنا.
قلت: ظَنَّ هؤلاء الجهالِ أنه طالما جاء النهيُ في سورة الأنعام عن سَبَّ أصنام الكفار, فمن باب أولى يجب الكفُّ عن قتالهم؛ إذ القتال وضرب الرقاب أعظم من السَّبَّ ,ولو كانت لهم عقول لأدركوا علة النهي عن سبَّ أصنام الكفار في نفس الآية , وهي أن سبَّ آلهتهم يُفضى إلي حَمْلِ المشركين علي سبَّ الله تعالى , وهم أجهلُ الناسِ بقدر الله , وليس للنهي في الآية أي علاقة بمرعاة مشاعر المشركين , ولكَنْ لضآلة عقولهم وسوء طَوَّيتيهم نظروا إلي صَدْرِ الآية فقط وتركوا باقيها , فزعموا أن في القرآن آية تنهي عن سبَّ أصنام المشركين لحفظ مشاعرهم , وآية أخرى تأمر بضرب رقابهم , ومن خلال هذا الزعم رموا القرآن بالتناقض , فسبحان الله أين عقول القوم؟ ‍!
14- الآية 127 من سورة النحل، وهي: (وأصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون.. (تناقض الآية: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:39 -40] .
يعني أن الآية الأولى تأمر بالصبر على الذي يصيبه من الناس، والآية الثانية تأمر بالانتصار من الذي يصبيه (1) .
والجواب (2) :
الآية الأولى مسبوقة بقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما
_________
(1) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37) .
(2) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:76) .
(1/300)
________________________________________
عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر.. (.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يُمَثَّلَ بعدد من المشركين, جزاء ما مَثَّلُوا بعمه حمزة في يوم أحد، فنهته الآية أن يزيد عما فعل بعمه، وبينت أن العفو أفضل.
وآيات الشورى تصف المؤمنين بأنهم إذا بغى عليهم أحد انتصروا لأنفسهم، وبينت كما بينت الآية الأولى أن جزاء السيئة يكون بقصاص مماثل، وأن من عفا وأصلح فإن الله تعالى يثيبه.
فالآيتان في مجرى واحد، كلتاهما تفضل العفو وتقيد العقوبة بالمماثلة!
ولا يتأتى للمسلمين أن ويُبغى عليهم ويقفوا مكتوفي الأيدي، بل عليهم أن ينتصروا لأنفسهم ممن بغى عليهم، ولكنهم مع هذا الانتصار لا يظلمون ,فما أروعه أدباً وأسماه سلوكاً.
وأنت تجد في الأناجيل أن المسيح يقول لتلاميذه: أحسنوا إلى أعدائكم وباركوا لاعنيكم. ومع هذا تجده يقول لليهود: يا أولاد الأفاعي، ترون القذاة (1) في أعين الناس ولا ترون الخشبة في أعينكم!
وليس في هذا الكلام بركة ولا إحسان، وإنما هو توبيخ وزجر، فلم لم يباركهم ويحسن إليهم؟. ثم نجد الذي يقول: أحسنوا إلى أعدائكم. والذي يقول: ما جئت لأنقض الناموس. يقول أيضاً: لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لأُلقي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها والكنة (2) ضد حماتها.
_________
(1) القذاة: -
(2) زوجة الابن.
(1/301)
________________________________________
والعهد القديم والعهد الجديد كلاهما مليء بالمناقضات والخرافات، وهي رسائل وكتب من صناعة قوم انتحلوا صفة القداسة، ومثل هذا لا يوازن به كلام القرآن المحكم؛ لأنه تنزيل من حكيمٍ حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصدق الله: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82] ولكن يتدبره من يفهمه، (إنما يذكر أولو الألباب) (1) .
الطائفة الثانية:
-وهذه رسالة أخرى وزعت على المراكز الإسلامية في أمريكا، موقعة باسم (توني بولدروجوفاك) ، وأجاب عنها الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق (2) ؛كما يلي:
15-السؤال أو الاعتراض الأول:
يقول السائل: كيف يمكن اعتبار القرآن قد أوحي إلى محمد، وفي نفس الوقت نجد أن محمدا (هو المتكلم في آيات عديدة كما في
_________
(1) انتهت إلى هنا الرسالتان اللتان تطعنان في القرآن؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، والرسالة الثانية جاءت بالبريد من استراليا في إحدى وعشرين صفحة، وموقعه باسم: المدعون العامون في محكمة الحقيقة، ورد عليهما عبد الجليل شلبي في كتاب (رد مفتريات على الإسلام) ، (ص:67-77) .
(2) وهي رسالة مكتوبة على الآلة الكاتبة ولم تطبع وتباع في المكاتب مصورة، وفي موقع الشيخ عبد الرحمن على الإنترنت (salafy.net) نسخة كاملة من هذه الرسالة، لذلك ذكرت كلامه من غير إحالة لعدم وجود النص مطبوعا، ولكني اجتهدت أن أوثق كل جواب له بذكر المراجع التي ذكر نحو ما قال.
(1/302)
________________________________________
سورة الفاتحة الآيات من 5، 7 -وهي: (إياك نعبد وإياك نستعين أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) ، وفي سورة البقرة الآيات 2 الآيات 105، 117، 163، وهي: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِن خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105] ، {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة:117] ، (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) ( [البقرة:163] . وكما في سورة 3 الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2، وفي سورة رقم 40 الآية 65 (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه (، والسورة رقم 43 الآيتان 88، 89؟.

والجواب (1) :
إن السائل لا يعرف أساليب اللغة العربية، ولا طرائق البلغاء في الكلام، ولا منهجهم في البيان، ومعلوم أن القرآن نزل بلغة العرب، وقد تحدى الله الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثله؛ بلاغة وفصاحة، وبيانا وحلاوة ,وبناء معجزا يستحيل الإتيان بكلام مثله في الحلاوة والبيان.
_________
(1) انظر: معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود (ص:93) .
(1/303)
________________________________________
ومن أساليب العرب في البيان أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم، وتارة بضمير الغائب، كأن يقول المتكلم: فعلت كذا وكذا، وذهبت، وآمرك يا فلان أن تفعل كذا، وتارة يقول عن نفسه أيضا: إن فلانا -يعني نفسه- يأمركم بكذا وكذا. وينهاكم عن كذا، ويحب منكم أن تفعلوا كذا. كأن يقول أمير أو ملك لشعبه وقومه وهو المتكلم: إن الأمير يطلب منكم كذا وكذا. وهو يشير بذلك أن أمره لهم من واقع أنه أمير أو ملك، وهذا أبلغ وأكمل من أن يقول لهم: إنني الملك وآمركم بكذا وكذا. فقوله: إن الملك يأمركم. أكثر بلاغة من قوله: إنني الملك وآمركم. وقد جاء القرآن بهذا النوع من البيان , كما في الآيات التي اعترض بها السائل فظن أن هذا لا يمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، نحو قوله تعالى في سورة البقرة: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (، وقوله في سورة آل عمران: (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق (فظن هذا الذي لا يعرف العربية أن الله لا يمكن أن يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب, وأنه كان لا بد وأن يقول: (نزلت عليك يا محمد الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه..) ونحو ذلك وهذا جهل بأساليب اللغة العربية، وموقعها في البيان والبلاغة، ولا شك أن خطاب الله هنا وكلامه عن نفسه بصيغة الغائب، أبلغ من لو قال سبحانه: ألم، أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم نزلت عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الآيات.
(1/304)
________________________________________
وعلى كل حال فهذا أسلوب من أساليب البلاغة في اللغة، والظن أن هذا يطعن في القرآن، وأنه ليس من عند الله, وإنما من عند الرسول ظن تافه ساذج في منتهى الركاكة والجهل.
وأما الالتفات (1) في الخطاب من الحضور إلى الغيبة والعكس، كأن يخاطب المخاطب بضميره فيقول: إنك فعلتَ كذا وكذا، ثم تخاطبه تارة أخرى بضمير الغائب, فتقول له: فعل فلان كذا وكذا وأنت تعنيه. فهذا كذلك أسلوب من أساليب البلاغة: كقوله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى (ولا شك أن النبي هو المقصود، ثم حول الله الخطاب إليه قائلا: (وما يدريك لعله يتزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ... (الآيات [عبس:1-4] .
وأما أن القرآن كتاب تعليم وتوجيه, فقد جاء ليعلم المسلمين ماذا يقولون في صلاتهم، وبماذا يدعون ربهم، فقد أنزل الله سورة (الفاتحة) لتكون دعاءً وصلاة للمسلمين يتلونها في كل ركعة, وفيها: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين (وهذا كلام الله عن نفسه سبحانه, يصف نفسه بهذه الصفات الجليلة العظيمة, ثم يعلم المسلمين أن يقولوا في صلاتهم ودعائهم هذا (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (. فهذه السورة تعليم وتوجيه من الرب سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين؛ ليصلوا ويدعوا بها في كل ركعة من ركعات صلاتهم، وفي هذه السورة من
_________
(1) انظر المعجم المفصل في علوم البلاغة، د. أحمد عكاوي (ص:208) ،دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992.
(1/305)
________________________________________
البلاغة والإعجاز والمعاني ما لا تسعه هذه الرسالة الموجزة، ولو أن عالما بالعربية تدبرها كفته إعجازا وشهادة أن هذا القرآن منزل من الله سبحانه وتعالى وليس من كلام بشر. والخلاصة من هذا السؤال أن صاحبه إنما أتى به من كونه لا يعلم العربية ولا أساليب البيان والفصاحة, وما أظن إلا أن معظم اللغات تعرف هذا اللون من التعبير, والذي يسمى بـ (الالتفات) أي التحول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، لمقاصد كثيرة؛ كتخفيف العتاب، أو توجيه النظر إلى البعيد ,أو استحضار المشهد، أو التعظيم، أو التحقير, ونحو ذلك من مقاصد البلغاء.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة (غافر:65) : (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (فهو خطاب لله سبحانه وتعالى عن نفسه بصيغة الغائب, وهو تعريف للعباد بذاته العلية جل وعلا، وقد قدمنا أن هذا أسلوب من أساليب العربية في الخطاب.
ومثل هذا أيضا ما اعترض به هذا الجاهل باللغة ,وهو قوله تعالى في (سورة الزخرف:87، 88، 89) : </span> (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (. فإن هذا جميعه من حديث الرب جل وعلا عن نفسه، وعن رسوله، وأن محمدا (كان إذا سأل المشركين عن خالق السماوات والأرض ,يعترفون أنه الله سبحانه وتعالى, فعَجَّبَ الله نبيه (من حال هؤلاء المشركين, الذين يعتقدون بأن الله خالق السماوات والأرض ثم لا يفردونه وحده بالعبادة، ولا يؤمنون بقدرته على إحيائهم بعد موتهم، ثم ذكر الله توجع رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) وشكاته من قومه , (وقيله (أي وهذا قول الرسول لربه (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (وعندئذ يأتيه الجواب وهو بمكة (فاصفح عنهم وقل
(1/306)
________________________________________
سلام (أي لا تعلن حربا عليهم الآن (فسوف يعلمون (ما يكون مآلهم في الدنيا من القتل بأيدي المؤمنين، ومآلهم في الآخرة من الخلود في النار أبد الآبدين.
وهذا الجاهل باللغة يظن أن قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (الآية، أن هذا من كلام محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وإذن فالقرآن لا يمكن أن يكون من كلام الله، ومثل هذا السخف لا يحتاج إلى رد, ولكن ماذا نفعل إذا كان هذا هو مستوى هؤلاء من العلم؟ ومع ذلك يعارضون القرآن، ويشككون في رسالة الإسلام.
السؤال الثاني ونصه كما يلي:
السورة 10 (الآية 3) ذكر بها أن خلق السماوات والأرض تم في ستة أيام , وفي السورة 41 (الآيات من 9 إلي 12) ذكر بها أن خلق الأرض تم في يومين, وخلق الله الأنهار والغابات ... إلخ في الأرض (بعد خلقها) في أربعة أيام، وأنه قد خلق السماوات في يومين، فالسورة 10 - فيما زعموا- تتناقض مع السورة 41 حيث إن ناتج جمع (2+4+2=8أيام) .
الجواب (1) :
هذا السؤال يتعلق بقوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق
_________
(1) انظر: درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز، للإمام الخطيب الإسكافي (ص:284) ، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 2002،وفتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لأبي يحيى الأنصاري (ص:504) ،بيروت، دار القرآن الكريم، الطبعة الأولى 1983،والرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم (ص:53) ، والانتصارات الإسلامية للطوفي (1/504) .
(1/307)
________________________________________
الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها.. ( [فصلت9-12] .
نعم بجمع هذه الأيام دون فهم وعلم يكون المجموع ثمانية, وقد ذكر الله في مواضع كثيرة من القرآن أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وما ظنه السائل تناقضا فليس بتناقض؛ فإن الأربعة أيام الأولى هي حصيلة جمع اثنين واثنين؛ فقد خلق الله الأرض خلقا أوَّليَّا في يومين, ثم جعل فيها الرواسي وهي الجبال ووضع فيها بركتها من الماء، والزرع، وما ذخره فيها من الأرزاق في يومين آخرين, فكانت أربعة أيام، فقول الله سبحانه وتعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (، هذه الأيام الأربعة هي حصيلة اليومين الأولين ويومين آخرين, فيكون المجموع أربعة, وليست هذه الأربعة هي أربعة أيام مستقلة أخرى زيادة على اليومين الأولين.. ومن هنا جاء الخطأ عند السائل, ثم إن الله خلق السماوات في يومين, فيكون المجموع ستة أيام بجمع أربعة واثنين ولا تناقض في القرآن بأي وجه من الوجوه ثم إن القرآن لو كان مفتريَّا كما يدعي السائل- فإن محمدا (لم يكن ليجهل مثلا أن اثنين وأربعة واثنين تساوي ثمانية, وأنه قال في مكان آخر من القرآن إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهل يتصور عاقل أن من يقدم على تزييف رسالة بهذا الحجم، وكتاب بهذه الصورة يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ, الذي لا يخطئه طفل في السنة الأولى الابتدائية؟! ل
(1/308)
________________________________________
اشك أن من ظن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) افترى هذا القرآن العظيم ,ثم وقع في مثل هذا الخطأ المزعوم, فهو من أحط الناس عقلا وفهما. والحال أن السائل لا يفهم لغة العرب, وأن عربيا فصيحا يمكن أن يقول: زرت أمريكا فتجولت في ولاية جورجيا في يومين، وأنهيت جولتي في ولاية فلوريدا في أربعة أيام ثم عدت إلى لندن لا شك أن هذا لم يمكث في أمريكا إلا أربعة أيام فقط وليس ستة أيام؛ لأنه قوله: في يومين في أربعة أيام. يعني يومين في جورجيا ويومين في فلوريدا. فقوله تعالى: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام (. أي بزيادة يومين عن اليومين الأولين.
قلتُ: وقد ذكر هذا الطعن ابن النغريلة اليهودي ورد عليه ابن حزم بنحوه (1) .
181818-18 1
418-السؤال الرابع هو السورة 21:الآية 76 ذكر بها أن نوحاً وأهل بيته قد نجوا من الفيضان يعني قوله تعالى:
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] ، ولكن السورة 11:الآيتان 42-43 ذكر بهما أن أحد أولاد نوح قد غرق؟ يعني قوله سبحانه: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:42-43]-
_________
(1) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص:52) .
(1/309)
________________________________________
الجواب (1) : إن الاستثناء أسلوب معروف في لغة العرب, فيذكر المتكلم المستثنى منه على وجه العموم, ثم يخرج منهم من أراد إخراجه. ويمكن أن يأتي الاستثناء منفصلا، ويمكن أن يأتي متصلا، وفي سورة الأنبياء قال الله تعالى عن نوح: (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (وقد بين سبحانه وتعالى المراد بأهله في آيات أخرى, وهو من آمن منهم فقط، حيث أخبر سبحانه وتعالى في سورة هود أنه قال لنوح: (احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (. فقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يحمل أهله معه إلا من سبق القول من الله بهلاكهم، وقد كان قد سبق في علم الله أن يهلك ابنه مع الهالكين؛ لأنه لم يكن مؤمنا، ولم يكتب الله لأحد النجاة مع نوح إلا أهل الإيمان فقط، وابنه لم يكن مؤمنا، وبالتالي فلا تناقض بين قوله تعالى في سورة الأنبياء أنه نجى نوحا وأهله، وبين ما جاء في سورة هود أنه أغرق ابن نوح؛ لأن ابن نوح لم يكن من أهله، كما قال تعالى لنوح لما سأله عن ابنه: (يا نوح إنه ليس من أهلك (. وبالتالي فلا تناقض بحمد الله في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
السؤال الخامس هو: هناك أخطاء نحوية في القرآن، فيوجد به جمل غير متكاملة، ولا تفهم تماما بدون إدخال بعض الكلمات الأخرى عليها (5:2) ،
_________
(1) انظر: معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود (ص:79) ،دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى 2000، وتفسير ابن كثير (3/185) .
(1/310)
________________________________________
(7:160-161.. إلخ) ، -يعني قوله سبحانه: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] ، (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) ( [الأعراف:160-161] ، إن ترتيب السور بالقرآن غير متصل تاريخيا أو منطقيا، فلا تشعر بوقت أو مكان. هناك شك في موضوعية تكامل القرآن؛ لأننا نجد أن أناثاً وأماكن غير محددة وأحداثاً وضعت معا في رؤية واحدة, وكأنهم جميعا كانوا يعيشون معا في نفس الزمان. وهذا يسبب مشاكل عديدة, واختلاط الأمر لكل من يحاول فهم القرآن كقطعة أدبية، لإعادة بناء حياة وتعاليم محمد بوسيلة مرتبة, فلا بد للفرد أن يقفز من سورة إلى أخرى في القرآن كله, ويترك الفرد بإحساس عدم التكامل وعدم الرضا؛ لأنه لم يحصل على القصة الكاملة, وهذا مضاد تماما للإنجيل الذي كتب فيما يزيد عن عدة آلاف السنين بما يزيد عن 40 مؤلفاً مختلفاً.
-الجواب (1) : إن صياغة هذا السؤال على هذا النحو يدل على أن كاتبه إما أنه لا يدرك شيئا من اللغات، عربية كانت أم غير عربية، أو أنه يعترض لمجرد الاعتراض, وتفصيل ذلك على هذا النحو:
_________
(1) انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، للشنقيطي (ص:5) .
(1/311)
________________________________________
(أ) الآية الخامسة من سورة البقرة وهي قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (يشير الله بقوله: (أولئك (على المذكورين قبل ذلك وهم المتقون الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بالقرآن، والكتب التي نزلت على الرسل قبل القرآن, ويؤمنون بالآخرة، وهؤلاء المذكورون قد عبر الله عنهم
بـ (أولئك (وهي اسم إشارة للبعيد تعظيما لشأنهم ورفعا لمنزلتهم (على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (ويبدو أن السائل ظن أن إشارة الله لهؤلاء المذكورين (بأولئك (- وهي صيغة إشارة للبعيد- أن هذا خطأ نحوي؛ إذ يعبر عن القريب بالبعيد، ولم يفهم أن هذا أسلوب بلاغي من أساليب العرب، وهي تعبيرهم بالإشارة بالبعيد للتعظيم والتهويل أحيانا، وللتقليل والتحقير أحيانا حسب السياق، ومرامي الكلام، وهنا عبر الله عن هؤلاء المتقين، الذين يتصفون بهذه الصفات بصيغة البعيد , وهي (أولئك (رفعا لشأنهم وإعلاء لمنزلتهم, ولا شك أن هذا أمر عظيم؛ لأن فيه إشارة ورفعة لهؤلاء المذكورين. ب) وأما قوله تعالى في سورة الأعراف: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما، وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [الأعراف: 16] واعتراض السائل هو كيف يقول تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (، ويتكلم بصيغة الخطاب وهو قبل ذلك قد تكلم عن بني
(1/312)
________________________________________
إسرائيل بصيغة الغائب، وأنه سبحانه قطعهم اثنتي عشرة أسباطا, وأنه قال لموسى كذا وكذا ومرة أخرى لا يفهم السائل أسلوب العربية، ولا بلاغة الخطاب، ويظن أن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب خلل في الأسلوب، وخطأ نحوي!! وهذا يدل على أنه لا يعرف نحوا، ولا بلاغة، ولا يدرك معنى للفصاحة ولا البيان. فهذه الآية في منتهى الإعجاز والبلاغة؛ فإن الله تحدث فيها عن بني إسرائيل وما صنع لهم من الخير والإحسان، وأنه ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، وبدلا من أن يقول: وقلت لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم.
أو وقال لهم موسى: إن الله يقول لكم: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (فإن الله حذف هذا وانتقل رأسا إلى القول دون ذكر القائل؛ لأن القائل معروف من السياق, وهو الرب تبارك وتعالى, ولا يمكن أن يفُهم أن القائل هو غير الرب جل وعلا, لأن القول هو (كلوا من طيبات ما رزقناكم (فمن سيقول هذا القول إلا الله؟ ومعلوم أن حذف ما يعلم جائز، بل ذكر المعلوم ضرورة حشو وزيادة لا داعي لها، والقرآن ينزه عن الحشو والزيادة. ويفهم كل من يعلم العربية أن قوله تعالى: (وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم (أن معنى ذلك وأنزلنا عليهم المن والسلوى وقلنا لهم: (كلوا من طيبات ما رزقناكم (فحذف (وقلنا لهم) ، أو (أمرنا موسى أن يقول لهم) لأن هذه زيادة لا داعي لها في السياق لأنها معلومة!! (ج) وأما قول السائل: إن ترتيب السور غير متصل تاريخيا أو منطقيا؛ حيث لا يفهم القارئ الوقت ولا المكان. فهذا كذلك من قصور علمه وفهمه، وبعده عن إدراك الإعجاز القرآني في ترتيب
(1/313)
________________________________________
المصحف، والوحدة الموضوعية في السورة، وهذا باب عظيم لا تسعه العجالةُ للرد على هذه الشبهات السخيفة. وقد كتب في هذا مجلدات ومجلدات قديما وحديثا، وأُحيل السائلَ على كتابٍ مختصرٍ حديثٍ, وهو كتاب "النبأ العظيم" للشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله, وأظنه مترجما إلى الإنجليزية. وهنا في هذه الآية من سورة الأعراف لا يسجل الله الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل من حيث كونها تاريخا وإنما يذكر إنعامه عليهم، ويسجل مخازيهم، ونكثهم لعهودهم وكفرانهم لنعمة الله سبحانه وتعالى. فهذه الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل وإن كانت متباعدة في الزمان, ولكنها ذُكِرتْ مجتمعة في الآية لتذكرهم بنعم الله على آبائهم, ثم جحودهم ونكرانهم.
(د) وأما قول السائل (توني بولدروجوفاك) : إن الإنجيل أفضل من القرآن من حيث الوحدة الموضوعية, والترتيب الزمني، وتسلسل الأحداث, فإن هذا مما يدل حقيقة وللأسف على تدني عقل السائل, وعدم تمييزه بين الكتاب المعجز المتناهي في البلاغة والعصمة والإحكام، وبين كتاب لم يسلم من التحريف والتبديل والتناقض، وهو أشبه بمذكرات يوميها كتبها تلاميذ أو تلاميذ تلاميذ المسيح عليه السلام من الذاكرة, معبرين فيها عن تصور شخصي لهم، وتفسير شخصي للأحداث التي نقلت أو رآها بعضهم، وقد اختلفوا في هذا النقل اختلافا كبيرا، وجاءت عباراتهم في كثير من الأحيان ركيكة متهالكة. ولا شك الإنجيل الحقيقي لم يكن كذلك, وإنما أتكلم عن الأناجيل الموجودة الآن بين أيدي النصارى, وهي مختلفة فيما بينها. ولا شك أن القرآن الكريم لم ينزل قط على طريقة الأناجيل المحرفة ,التي لا تعدو أن تكون- كما ذكرنا- مذكرات ويوميات لحياة
(1/314)
________________________________________
السيد المسيح عليه السلام، فيها كثير من الاختلاف والتناقض والتضاد, ومن ذلك ما ذكرناه آنفا، ومنها كذلك نسبة المسيح إلى عنصرية بغيضة تارة ,كالزعم أنه قال: إن خبز البنين لا يجوز أن يعطى للكلاب. وذلك عندما استغاثت به امرأة كنعانية أن يشفي ابنتها.
وقوله في مقام آخر: لا كرامة لنبي في بلده وتفضيله الأجناس الأخرى على لبني إسرائيل, وكذلك قوله: (لم أبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة وقوله في مقام آخر: اذهبوا واكرزوا بالإنجيل في العالم أجمع!! فتارة يدعي أنه مبعوث لنبي إسرائيل وتارة للعالم أجمع،
وكذلك قوله بوجوب التزام الشريعة كلها، ثم الادعاء أنه نسخ الشريعة كلها, وأباح للحواريين أن يأكلوا كل النجاسات والخبائث, وأن كل ما يدب على الأرض حلال لهم.. وهذا التناقض كثير في الإنجيل. وليس في الإنجيل قط ما يدل على أن الله تعالى أوحى شيئا, أو شرع شيئا, أو تكلم بنفسه كلاما مباشرا, بل هو رواية عن أعمال المسيح، أو خبر عن المسيح أنه يقول: قال: أبي كذا أو كذا. وليس في الإنجيل ما يدل على أن الله هو الذي يتكلم أو يخاطب عباده.
ومعلوم أن القرآن غير هذا تماما, فليس القرآن مذكرات ويوميات كتبها النبي (صلى الله عليه وسلم) ,أو كتبها الصحابة عن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما القرآن هو كلام الله المعجز الذي ليس للنبي فيه إلا التبليغ فقط (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي (. [ولا مجال بتاتا للمقارنة بين القرآن الكريم الكتاب العظيم الذي نزل تبيانا لكل شيء, فجمع الدين كله أصولا وفروعا, عقيدة وشريعة ,وأخلاقا وأمثالا ووعظا، وبين الأناجيل المحرفة المتناقضة التي لم تزد على كونها يوميات للسيد المسيح عليه السلام, يظهر فيها لكل ذي بصيرة التناقض والتزيد والتقول على الله بغير علم. -
(1/315)
________________________________________
السؤال السادس هو: هناك وجهات نظر متضاربة في ادعاء محمد النبوة؛ فالسورة (53: الآية10) يعني قوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) ( [النجم:10] ,ذكر بها أن الله نفسه أوحى إلى محمد. والسورة (16: 102، والسورة (26: الآيات من 192: 194) ، يعني قوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ( [النحل:102] ونحوها من الآيات-ذكر بها أن "روح القدس" نزلت إلى محمد, والسورة (15: الآية8) وهي قوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِين} [الحجر:8] ذكر بها أن الملائكة, وهم أكثر من واحد نزلوا إلى محمد والسورة (2: 97) يعني قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (
[البقرة:97] ؛ ذكر بها أن الملاك جبريل واحد فقط، لم يذكر في القرآن ولا في الأناجيل ما يقول أن "روح القدس" هي جبريل. -الجواب: قوله سبحانه وتعالى في سورة النجم (53:3-12) عن رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى (الآيات. فهذا وصف لجبريل الروح القدس الأمين, الذي نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) بحراء، وجاءه بالوحي من ربه، ولقد رآه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح مرتين: واحدة في مكة في بدء الوحي، وثانية عندما عرج بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء, كما جاء ذلك في حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيحين، وجبريل المذكور
(1/316)
________________________________________
في سورة النجم (53) ، هو نفسه الذي ذكره الله في سورة النحل (14) ، حيث يقول سبحانه وتعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ((16: 102) ، فقد سماه الله روحا؛ لأنه ينزل بما يحيي موات القلوب، وهو وحي الله إلى رسله، ووصفه بروح (القدس) أي المقدس المنزه عن الكذب أو الغش، فهو الذي قدسه الله ورفعه، وأعلى من شأنه عليه السلام. وأما ما ذكره الله في سورة الحجر الآية رقم 15,فإن الله لم يذكر فيها أن الملائكة نزلوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) بالوحي ,كما فهم هذا الجاهل حيث يقول: (والسورة رقم (15: 8) ذكر فيها أن الملائكة ,وهم أكثر من واحد نزلوا على محمد. وإنما الآيات هكذا (وقالوا (أي الكفار
(يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (فرد الله مقالة هؤلاء الكفار, الذين استعجلوا نزول الملائكة بالعذاب عليهم, وهو ما هددهم الله به إن أصروا على التكذيب, فقال تعالى: (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (أي إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق، وإنهم إذا نزلوا نزلوا بالعذاب عليهم, فمعنى ذلك أنهم غير ممهلين، والحال أن الله أمهلهم ليقيم الحجة عليهم، ولم يشأ سبحانه وتعالى أن يعجل العقوبة الماحية المستأصلة, لهم كما حدث للأمم السابقة، بل شاء الله أن يعاقبهم بالعقوبات التي لا تستأصلهم، فقد أنزل الملائكة في بدر وغيرها من معارك الرسول خزيا للكفار, ونصرا للرسول والمؤمنين.
وأما الآية 97من سورة البقرة فهي نص صريح في أن جبريل عليه السلام هو الذي أنزل القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى
(1/317)
________________________________________
وبشرى للمؤمنين (وهذا رد على اليهود الذين كرهوا جبريل، وأنه ينزل بحربهم وهلاكهم , فأخبرهم الله أن هذا الملاك هو ملاك الرب، وأنه هو الذي أنزل القرآن على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وقد وصف الله جبريل في القرآن بأنه روح القدس؛ أي الروح المقدسة, كما قال سبحانه وتعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق (. وقد قدمنا معنى روح القدس. <o:p></o:p></span> 22
22-السؤال السابع هو: هناك آراء متضاربة في كيفية خلق الإنسان؛ فالسورة (25: 54) -وهي: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]- يذكر بها أن الإنسان خلق من ماء، والسورة (36: 77,78) -وهي قوله {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] ؛ ذكر بها أنه خلق من نطفة, والسورة (37: 71,72) -يعني قوله: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (سورة ص الآية:71؛ذكر بها أنه خلق من طين، على الرغم من أن سجلات الحفريات لا تساند نظرية التطور. -والجواب (1) : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الكريم- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أنه بدأ خلق الإنسان بخلق أبي البشر آدم الذي خلقه من التراب، الذي أصبح طينا يعجنه بالماء، ثم حمأ مسنونا، أي طينا مخمرا، ثم سواه الله بأن خلقه بيديه سبحانه, ثم أصبح آدم وهو في صورته الطينية صلصالا كالفخار، وهو الطين إذا يبس وجف، ثم
_________
(1) انظر: معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود (ص:88) .
(1/318)
________________________________________
نفخ الله فيه الروح فأصبح بشرا حياَّ، ثم أمر الملائكة بالسجود له بعد أن أصبح كذلك , ثم خلق الله من أحد أضلاعه زوجته حواء- كما جاء ذلك في الحديث النبوي - فهي أنثى مخلوقة من عظام زوجها. والله يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، ثم لما عصى آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله أن يأكل منها، أهبطه الله إلى الأرض , ثم جعل الله تناسل آدم من اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، والعرب تسمي المني الذي يقذفه الرجل في رحم الأنثى ماء، وسماه الله في القرآن (ماء مهينا (. وكل ذلك موجود في القرآن الكريم. وهذا المسكين ظن أن هذه آراء متعارضة، وظن أن كل ذلك آراء متعارضة ,ولم يفهم أن خلق آدم لم يكن كخلق حواء فآدم خلق من الطين، وحواء خلقت من ضلع آدم، وأن كل إنسان خلق من أنثى وذكر من ماء مهين، وأن عيسى عليه السلام خلق من أنثى بلا ذكر، كما قال سبحانه وتعالى عن عيسى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران:] .
وكان تنوع خلق البشر على هذه الصور؛ ليبين الله لعباده قدرته الكاملة، فهو يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، وقد خلق الإنسان الأول آدم من طين من غير أنثى أو ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من اجتماع الذكر والأنثى، فسبحان من له القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة, وهذا كله يدل على الخلق المستقل للإنسان, وأنه لا ينتمي إلى حيوانات هذه الأرض، فالتطور- إن كان حقا- فهو إنما يكون في حيوانات وأحياء هذه الأرض فقط, وأما الإنسان فإنه خلق خلقا مستقلا في السماء، وإن كان الله قد خلقه من طين هذه الأرض, وهذا هو
(1/319)
________________________________________
الذي يؤيده العلم والنظر في الكون (1) .
الطائفة الثالثة: محاضرة عن تناقض القرآن ألقاها نصراني , ولم يذكر اسمه ولا مكان إلقائها وسجلت على شريط صوتي وكتب عليه: (تهادوا تحابوا) (الدال على الخير كفاعله) (الكلمة الطيبة صدقة) تلبيسا على عوام المسلمين حتى يروج بينهم، ولم يذكر فيه اسمه ولا مكان إلقائها،
وذكر فيه سبعة عشر شبهة، ومعظمها ذكرت سابقا، وابتعادا عن التكرار فسأذكر ما لم يقله أصحاب الرسالات السابقة:
23-الشبهة الأولى: قال: (مرة يقول محمد إن الجنة لليهود والنصارى والصابئين والمسلمين، ومرة يقول للمسلمين فقط: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ (2) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( [البقرة:62] ، ويقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] .
-الجواب (3) :
إن آية البقرة تتكلم عن اليهود والنصارى والصابئين قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فكل من آمن بنبيه وأطاعه فله الجنة، وأما بعد بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم)
_________
(1) وإلى هنا انتهت الرسالة، ورد الشيخ عبد الرحمن عليها.
(2) الصابئون كما قال (وهب بن منبه: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا. وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله. وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله, قال: ولم يؤمنوا برسول , فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم يعني في قولهم: لا إله إلا الله) (تفسير ابن كثير (1/104) ورجحه الإمام ابن كثير -رحمه الله-.
(3) انظر: الرد على النصراني في مطاعنع على القرآن، لمحمد عبد المنعم (ص:46) ، دار الشاطبي، الكويت، الطبعة الأولى،2002.
(1/320)
________________________________________
فقد نسخت شريعته الشرائع ونسخ دينه الأديان، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فهذا معنى الآية الأخرى، ويؤيد ذلك ما أخرجه (ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أهل دين كنت, معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر (الآية وقال السدي إن (الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا (الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي, بينا هو يحدث النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم , فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله (: «يا سلمان من أهل النار» فاشتد ذلك على سلمان , فأنزل الله هذه الآية ,فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة, وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى, كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ,ولم يتبع عيسى كان هالكا, وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم, وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) فمن لم يتبع محمدا (منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل, كان هالكا. قلت (1) : هذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر (- قال: فأنزل الله بعد ذلك:
(ومن يبتغ غير الإسلام دين فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
_________
(1) القائل ابن كثير , رحمه الله.
(1/321)
________________________________________
(فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا, إلا ما كان موافقا لشريعة محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد أن بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه ,فهو على هدى وسبيل ونجاة؛ فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، فلما بعث عيسى (وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ,فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، فلما بعث الله محمدا (خاتما للنبيين, ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ,وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ,وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا) (1) ،
ومن النصوص الصريحة في هذا الباب حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ:
«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ, يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (2) .
24-قال: (مرة نهى عن الفحشاء ومرة أمر بها، تناقض فظيع جدا، قال في الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] ، وقال في الإسراء: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ... } [الإسراء:16] .

الجواب:
من عدة أوجه:
1-الأمر يطلق في الشرع ويراد به الأمر الشرعي، والأمر
_________
(1) تفسير ابن كثير (1/103) بتصرف.
(2) أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا، رقم: 153) .
(1/322)
________________________________________
الكوني، والفرق بينهما، أن الأمر الشرعي لا يكون إلا فيما يحب سبحانه لكنه لا يلزم أن يتحقق، فالله تعالى يأمر بتطبيق شرعه, وهو يحب ذلك ,لكن الكثير من الدول لم تفعل، والأمر الكوني يكون فيما يحب وما لا يحب، ولكنه لازم الوقوع؛ فالشيطان مخلوق بأمر الله ,لكن الله تعالى لا يحبه، فالله لا يأمر بالفحشاء شرعا، لكنها تقع كونا، فإنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بأمر الله ومشيئته، ومن هذا الباب معنى آية الإسراء، فإذا قضى الله على قرية بالهلاك , فإنما كان هذا لانتشار الفسق والفحشاء والفجور فيها.
2- ولو سلمنا أن المراد هو الأمر الشرعي، فيكون هناك محذوف، والتقدير، أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها، يعنى فخرجوا عن طاعة الله.
3-القراءة الأخرى تبين معنى آخر وهي (أمَّرنا) أي جعلناهم أمراء، فأضلوا قومهم.
4-أَمَرَ في اللغة تأتي بمعنى كَثُرَ وظهر، أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ) (1) ، ومنه حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل وفيه قال أبو سفيان: (لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ؛ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ) (2) .
إذن معنى الآية أن كثرة المترفين الفاسقين في بلد وظهورهم نذير عذاب.
قال ابن كثير: (اختلف القراء في قراءة قوله (أمرنا
_________
(1) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها..، رقم:4711) .
(2) تقدم تخريجه ص:134، وأنه متفق عليه.
(1/323)
________________________________________
(فالمشهور قراءة التخفيف واختلف المفسرون في معناها؛ فقيل: معناه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا, كقوله تعالى: (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا (لأن الله لا يأمر بالفحشاء , وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. رواه ابن جريج عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا،
وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء. قلت: إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ (أمِّرْنا مترفيها) قال علي بن طلحة: عن ابن عباس قوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها ,فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب, وهو قوله: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها (الآية. وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والربيع بن أنس.
وقال العوفي عن ابن عباس: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (يقول: أكثرنا عددهم. وكذا قال عكرمة, والحسن ,والضحاك, وقتادة وعن مالك عن الزهري (أمرنا مترفيها (أكثرنا) (1) .
25- قال النصراني في الشريط المسجل:
(مرة ينهى عن النفاق ومرات أخرى يقر النفاق) ، فنهى عن النفاق في سورة النساء يقول: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) ( [النساء:138-139] ، وأقر النفاق في النحل بقوله: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] ،
_________
(1) تفسير ابن كثير (3/32) .
(1/324)
________________________________________
يعني في تصريح لكل إنسان أن يكذب إذا وقع في الأسر أو في أي مأزق، هذه نزلت في عمار بن ياسر الذي اعترف بالأصنام وكفر بالله وبمحمد, وقال: إن الذي ينكر الله وينافق الكافرين, وهو تحت الإكراه محلل له وليس عليه أي ذنب أو عقوبة, حاشا لله أن ينكر الإنسان إيمانه تحت الضغظ والإكراه) أهـ.
-الجواب:
الذي يظهر أن هذا النصراني يريد الاعتراض لمجرد الاعتراض والطعن، وإلا فالآيتان مختلفتان تماما كل واحدة منهما تتكلم عن أمر مستقل؛ فالآية الأولى تتكلم عن النفاق, وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والآية الثانية تتكلم عن المكره على الكفر، أي إبطان الإسلام وإظهار الكفر، وشتان بين المعنيين، فإبطان الكفر وإظهار الإيمان لا يجوز في ملة من الملل؛ لأنه كذب وتزوير وغش وهذا كله محرم عقلا، وأما إبطان الإيمان وإظهار الكفر في حال الإكراه الملجئ، من باب الحفظ على نفس المسلم، فهذا من محاسن شريعة الإسلام، ولا أدري هل يزعم هو أن دين النصارى لا يجوز فيه إظهار الكفر للضرورة؟ قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113] . والذي نراه الآن هو أن النصارى تؤيد اليهود تأييدا كاملا وتبرئهم من دم المسيح، بل وغيروا اسم كتابهم ليوافق اسم كتاب اليهود فسموا الإنجيل العهد الجديد، والتوراة العهد القديم، فهم - بالجملة- يظهرون لهم التأييد، ويبطنون لهم البغض ,ويرون أنهم ليسوا على شيء.
(1/325)
________________________________________
26-وقال:
(مرة حرم الخمر في الدنيا ومرة حلل الخمر في الآخرة، قال في المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ، وقال في المطففين: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:25,26] .
-الجواب:
1-أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، فقد يجوز هناك ما يحرم هنا، ثم إن في الآخرة لا يوجد تكاليف, بل تسقط كل التكاليف ,بل هي نعيم أبدي.
2-خمر الآخرة تختلف عن خمر الدنيا، فهي خالية من المنغصات والآفات التي في خمر الدنيا، فقال تعالى: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) [الواقعة:18، 19] ، وقال: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ( [الطور:22، 23] وقال: ( ... وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ... (.
فخمر الدنيا؛1- طعمه غير لذيذ 2-وتحدث لمن شربها الصداع 3-وتذهب بعقله 4-ويكثر عندها اللغو واللغط، بل لا تحلو إلا بكثرة اللغو 5-وتوقع الإنسان في الآثام العظام من دخول تحت اللعنة وارتكاب للمحظورات, فلا يمتنع عن شيء منها, وكيف يمتنع وهو لا عقل له، فهذه خمسة منغصات لخمر الدنيا نفاها الله عن خمر الآخرة، فالطعم لذة للشاربين، وهم لا يصدعون عنها ولاينزفون؛ أي لا تذهب
(1/326)
________________________________________
عقولهم ولا لغو عندها ولا أثم فيها. وقال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ( [الصافات: 45-47] ، وهذا الكأس من خمر الجنة، والمعين: الجاري الكثير، ولون هذه الخمر بيضاء أي حسنة المنظر، وهي ذات (لذة) ، والغول صداع في الرأس وقيل وجع في البطن وهي ليس فيها هذا ولا هذا، (ينزفون) أي لا يسكرون منها (1) ,فلا تذهب عقولهم, وتبقى لذتها.
لذلك من آثر خمر الدنيا على خمر الآخرة, فحري أن يحرمه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ,لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ» (2) .
27-وقال:
مرة يقول فرعون نجا، ومرة يقول فرعون غرق:
قال في يونس: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] ، وقال في الإسراء: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَعَهُ جَمِيعًا () [الإسراء:103] .
-الجواب:
وهذا ليس تناقضا كما هو واضح، بل فرعون مات غرقا، لكن الله تعالى أخرج جثته للناس لتكون لهم آية، وهذا مما لا يتوقع المرء أن يقع فيه أي لبس، ولكن هو الهوى الذي يلقي صاحبه في المهاوي،
_________
(1) التسهيل لابن جزئ (2/235) .
(2) متفق عليه (البخاري: كتاب الأشربة، باب قول الله (إنما الخمر والميسر …) ،رقم:5253، ومسلم: كتاب الأشربة، باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب، رقم:2003) .
(1/327)
________________________________________
ولا بأس أن ننقل بعض النقول عن السلف حتى يطمأن القلب:
(قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح, وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض - وهو المكان المرتفع- ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى (فاليوم ننجيك (أي نرفعك على نشز من الأرض (ببدنك (قال مجاهد: بجسدك. وقال الحسن: بجسم لا روح فيه. وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا؛ أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال أبو صخر: بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله أعلم، وقوله: (لتكون لمن خلفك آية (أي لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده, وأنه لا يقوم لغضبه شيء) (1) .
28-وقال:
مرة يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء. ومرات يقول: إن السماء خلقت قبل الأرض؛ قال في البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] ، وقال في النازعات: (أأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (*) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (*) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (*) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (*) أخرج منها ماءها مرعها ( [النازعات:27-30] .
الجواب:
هناك فرق بين الخلق والدحي، فخلق الأرض كان قبل السماء ,ث
_________
(1) تفسير ابن كثير (2/431) .
(1/328)
________________________________________
م خلقت السماء ,ثم دحيت الأرض، والدحي - على رأي ابن عباس وجماعة من السلف - هو إخراج الماء والمرعى، يعني أن الله تعالى خلق الأرض ككوكب، ثم خلق السماء وبقيتِ الأجرام، فلما انتهى من ذلك، بدأ يهيئ الأرض لأن تكون دار حياة للناس، فجعل فيها الماء والطعام (المرعى) (1) ، ومثل هذا كمثل رجل بنى بيتا من دورين , فبنى الدور الأول ثم بنى الثاني، ثم رجع إلى الأول ليكمل مرافقه ويمدد أسلاك الكهرباء فيه ,وغير ذلك من مستلزمات العيش، فهو بنى الدور الأول، ثم الدور الثاني , ثم رجع للأول ليهيئه للسكنى.

وقد سئل الأمام السيوطي عن هذه المسالة شعراً فقال السائل:
يا عالم العصر لا زالت أناملكم ... تهمي وجودكم نام مدى الزمن
لقد سمعت خصاما بين طائفة ... من الأفاضل أهل العلم واللسن
في الأرض هل خلقت قبل السماء وهل ... بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن
فمنهم قال إن الأرض منشأة ... بالخلق قبل السما قد جاء في السنن
ومنهم من أتى بالعكس مستندا ... إلى كلام إمام ماهر فطن
أوضح لنا ما خفى من مشكل وأبن ... نجاك ربك من وزر ومن محن
ثم الصلاة على المختار من مضر ... ماحي الضلالة هادي الخلق للسنن

فأجاب:
الحمد لله ذي الأفضال والمنن ... ثم الصلاة على المبعوث بالسنن
الأرض قد خلقت قبل السماء كما ... قد نصه الله في (حم) فاستبن
ولا ينافيه ما في النازعات أتى ... فدحوها غير ذاك الخلق للفطن
_________
(1) فتح القدير للشوكاني (5/374) .
(1/329)
________________________________________
فالحبر أعني ابن عباس أجاب بذا ... لما أتاه به قوم ذوو لسن
وابن السيوطي قد قال الجواب لكي ... ينجو من النار والآثام والفتن (1)

وهذا الاعتراض عرض على بعض الصحابة ,كابن عباس وغيره ,وأجاب عنه (2) ، وذكره ابن
النغريلة اليهودي , ورد عليه ابن حزم في القرن الرابع (3) ، ومع هذا لا زال يردد
إلى الآن.
29-وقال:
قال في سورة يونس: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَ كَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس:94] .
إذن محمد كان شاكا في الوحي الذي كان يأتيه وكان مرتابا، وهذه دعوة له أن يرجع إلى الكتاب المقدس.
الجواب:
ولا زالت سلسلة الجهل باللغة مستمرة، ويوضح ذلك ما يلي:
1-أسلوب الشرط من أساليب اللغة العربية، وله أدوات كثيرة منها (إن) (4) وهي حرف وجود لوجود، فمثلا لو قلت لك: إن كنت في البيت اتصل بي، أو إن كان عندك كتاب الألفية لابن مالك فأعطنيه، فهذا الأسلوب لا يستلزم أني في البيت أو أن الكتاب عندي.
_________
(1) الحاوي للفتاوي، لجلال الدين السيوطي (2/19) ، مكتبة السلام العالمية، القاهرة.
(2) انظر: فتح القدير (5/374) .
(3) انظر كتاب الرد على ابن النغريلة اليهودي، لابن حزم (ص:51) .
(4) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام (1/29) ، المكتبة العصرية، بيروت، ط1،1991.
(1/330)
________________________________________
فكذلك هنا، لا يستلزم من هذا الأسلوب أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) شاك، كما فهم النصراني، لذلك ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال «لا أشك ولا أسأل» (1) .
2-وقيل: إن هذا الخطاب للأمة، كما ورد في مواضع من القرآن (2) ، كقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ... } [الطلاق:1] وغيره كثير.
3-وذهب ابن حزم إلى أن (إن) هنا بمعنى (ما) أي: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك،
كقوله تعالى: {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف:188] وقوله: {إن نحن إلا بشر مثلكم} [إبراهيم:11] , قال: (لأن من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة, أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه, وينازع فيه أهل الأرض ,ويدين به أهل البلاد العظيمة, ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون, ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في دماغ هذا المجنون الجاهل (3)) (4) .
ثم إن معنى الآية: أن من أدلة صدق نبوتك يا محمد أن أهل الكتاب يعرفون ذلك ,فاسألهم حتى يطمأن قلبك. وليس معناها اترك دينك واتبع أهل الكتاب كما زعم النصراني (5) .
إلى غير ذلك من الطعون الباردة الساذجة ,التي يوردها المغرضون ,وما هي إلا كبيت العنكبوت، أو كالزبد الذي يعلو على الماء ثم يموت.
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مرسلا (انظر فتح القدير للشوكاني (2/489) .
(2) فتح القدير (2/487) .
(3) يعني ابن النغريلة اليهودي.
(4) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص:60) .
(5) هذه آخر الاعتراضات التي ذكرها النصراني في شريطه.
(1/331)
________________________________________
المبحث الرابع: اتهام القرآن بمعارضة الحقائق
المطلب الأول: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية:
-الطعن الأول: كيف تزعمون أن محمدا (اصطفاه الله للرسالة وهيئه, مع وصفه له بالضلال (1) ، فهو كقومه كان وثنيا، {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى:7] ؟
-الجواب:
1- (قيل إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في فلاة من
_________
(1) انظر كتاب: رد مفتريات على الإسلام، لشلبي، ص:38، عن رسالة المجلس الملي القبطي الأرثوذكس بالإسكندرية، دائرة المعارف البريطانية (ص:22) .
(1/332)
________________________________________
الأرض لا شجر معها سموها ضالة، فتهتدي بها على الطريق، فقال الله تعالى لنبيه: (ووجدك ضالا فهدى (أي وجدك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلي) (1) ، ومن هذا قول: (الحكمة ضالة المؤمن) .
أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع، وبعض المعاني اللغوية معنى جميل كما رأيت.
2-وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق. أي لم تعرفه (2) ، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم. يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع، فهو ضال بهذا المعنى, أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة.
قال الراغب: (الضلال ترك الطريق المستقيم؛ عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] ، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال في يعقوب: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] ، وقال أولاده: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] ، وقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] تنبيه أن ذلك منه سهو، وقوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ...
_________
(1) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي (ص:293) ، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية 1987.
(2) انظر لسان العرب (11/391)
(1/333)
________________________________________
( [البقرة:282] ، أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان، والضلال من وجه آخر ضربان؛ ضلال في العلوم النظرية ,كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ,ومعرفة النبوة ونحوهما, المشار إليهما بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، وضلال في العلوم العملية ,كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات) (1) ، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه، ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل (2) دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى، فقد أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (: أَنَّ النَّبِيَّ (لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ , قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ (الْوَحْيُ, فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ (سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا, ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ, وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ, وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ ,ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ. إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ) (3) .
وأخرج البخاري أيضا عَنْ ابْنِ عُمَرَ (: أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
_________
(1) المفردات (ص:510) .
(2) وهو أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، التقَى بالنبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يبعث، ومات قبل البعثة بخمس سنوات، وهو من الباحثين عن الدين الحق. (انظر ترجمته في الإصابة لابن حجر (2/613)) .
(3) أخرجه البخاري: (كتاب المناقب، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم:3614) .
(1/334)
________________________________________
نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ, فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ, فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي؟ فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ , اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ, وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, خَرَجَ, فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدكُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ, يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ، قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا (1) ،
وأخرج الإمام أحمد عَنْ نُفَيْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
_________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب حديث زيد بن عمرو، برقم:3616.
(1/335)
________________________________________
نُفَيْلٍ, عَنْ أَبِيهِ ,عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَكَّةَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَرَّ بِهِمَا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ, فَدَعَوَاهُ إِلَى سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: فَمَا رُئِيَ النَّبِيُّ (بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ , وَلَوْ أَدْرَكَكَ لَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ، فَأسْتَغْفِرْ لَهُ: قَالَ «نَعَمْ» فَاَسْتَغْفِرُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحِدَه) (1) ، وذكر ابن حجر في الإصابة أن الواقدي والفاكهي أخرجا بإسنادهما عن عامر بن ربيعة في حديث طويل , وفيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» (2) .
فزيد بن عمرو مع جهله بطريق العبادة, إلا أن فطرته دلته على وجود الله ,وعقله هداه إلى توحيد الله، فكان يعبد الله على حسب اجتهاده، فهو مع ضلاله عن طريق العبادة الصحيحة, إلا أنه كان معذروا لذلك أدخله الجنة، ومن هذا الباب معنى قوله تعالى:
(ووجدك ضالا فهدى (. أي ضالا عن طريق العبادة الصحيحة فدلك عليها له وإن كان عارفا بالله موحدا له.
3-ثم إننا نلزمهم بأمر وهو: هل هم يقولون هذا أيضا في موسى عندما قال عن نفسه, {فعلتها إذاً وأنا من الضالين} [الشعراء:20] .
4-ثم إننا لو تنزلنا لهم وسلمنا لهم بالمعنى الذي يريدون, فإن هذا لا يضره؛ فهو معذور بعدم العلم فهو إذ لم يضل عن علم بل ضل بغير علم , وهذا لا حرج عليه ولا مؤاخذة فيه، قال شيخ الإسلام ابن
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم:1651) وإسناده حسن.
(2) الإصابة (2/616) .
(1/336)
________________________________________
تيمية: (وأما وجوب كونه (قبل أن يبعث نبيا لم يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا) (1) .
ولكن الحرج كل الحرج فيمن يعرف العلم والهدى ثم يتركه ,كما هو حال اليهود والنصارى الذين يعرفون النبي (صلى الله عليه وسلم) كما يعرفون أبناءهم.
-الطعن الثاني: كيف سُحِرَ النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أن الله تعالى يذكر كلام الكفار, ووصفهم النبي بالمسحور في مقام الذم في قول الله على ألسنتهم: {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الفرقان:8] .
-الجواب:
هذا الشبهة تردد كثيرا، وللأسف يرددها كثيراً من المعاصرين من العلمانيين، ومن أصحاب المدرسة العقلية، وممن يعلم صلاحه ويظهر حبه للدين (2) .
-الجواب:
أولا: لابد - أولاً - أن نعرف أن حديث سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) ثابت في الصحيحين, وقد تقدم معنا النقل عن ابن الصلاح, وهو أن ما كان في الصحيحين قد تلقته الأمة بالقبول (3) ، ونص الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ (حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ
_________
(1) منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة والقدرية، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية (2/396) ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
(2) انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للرومي، (ص:347) .
(3) قال ابن القيم: وهو حديث ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته , وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة , والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله (وأيامه من المتكلمين. (التفسير القيم لابن القيم (ص:566) .
(1/337)
________________________________________
إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ -وفي رواية: وأنه يأتي أهله ولا يأتي- حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ, ثُمَّ قَالَ: «أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟» ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ, ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ -الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ- قَالَ: فِيمَا ذَا قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ (فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ ,فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَ هَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ,وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ: «لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي ,وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا» . وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ) (1) .
فظاهر من الحديث أن السحر كان في الأمور الدنيوية فهو يخيل إليه أنه أتى أهله ولكنه لم يفعل ويخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله (2) ، وأما الأمور الشرعية والوحي، فإنه محفوظ من الخطأ فيها, كما ثبت في النصوص الكثيرة، كقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3-4] . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
_________
(1) متفق عليه (البخاري: كتاب الطب، باب السحر، رقم:5433، ومسلم: كتاب السلام، باب السحر، رقم:2189) .
(2) ويرى الشيخ رشيد رضا أن هذا كان خاصا فقط في إتيانه أهله، وأنه معنى قول عائشة: كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يأتيه. كناية عن الجماع، كما جاء في تفسيره في الرواية الثانية. (انظر تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن، لمحمد رشيد رضا ص:137) .
(1/338)
________________________________________
كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ» (1) وغير ذلك من النصوص المتكاثرة.
قَالَ الْمَازِرِيّ: (أَنْكَرَ الْمُبْتَدِعَة هَذَا الْحَدِيث وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطّ مَنْصِب النُّبُوَّة وَيُشَكِّك فِيهَا، قَالُوا: وَكُلّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِل. وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيز هَذَا يَعْدَم الثِّقَة بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الشَّرَائِع إِذْ يُحْتَمَل عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيل وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ، وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، قَالَ الْمَازِرِيّ: وَهَذَا كُلّه مَرْدُود لِأَنَّ الدَّلِيل قَدْ قَامَ عَلَى صِدْق النَّبِيّ (فِيمَا يُبَلِّغهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى عِصْمَته فِي التَّبْلِيغ، وَالْمُعْجِزَات شَاهِدَات بِتَصْدِيقِهِ، فَتَجْوِيز مَا قَامَ الدَّلِيل عَلَى خِلَافه بَاطِل , وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِبَعْضِ الْأُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَث لِأَجْلِهَا وَلَا كَانَتْ الرِّسَالَة مِنْ أَجْلهَا, فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَة لِمَا يَعْتَرِض الْبَشَر كَالْأَمْرَاضِ، فَغَيْر بَعِيد أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ فِي أَمْر مِنْ أُمُور الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَة ,لَهُ مَعَ عِصْمَته عَنْ مِثْل ذَلِكَ فِي أُمُور الدِّين، قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْض النَّاس: إِنَّ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ
_________
(1) أخرجه أبو داود (كتاب العلم، باب في كتاب العلم، رقم:3646) والإمام أحمد في المسند (رقم:6474) والدارمي (المقدمة، باب من رخص في كتابة العلم، رقم:484) ، وهو صحيح؛ انظر: صحيح سنن أبي داود للألباني (2/695) رقم:3099.
(1/339)
________________________________________
(يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاته وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ , وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَع تَخَيُّله لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَام , فَلَا يَبْعُد أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَة. قُلْت (1) : وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة اِبْن عُيَيْنَةَ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَفْظه " حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاء وَلَا يَأْتِيهِنَّ ". وَفِي رِوَايَة الْحُمَيْدِيّ " أَنَّهُ يَأْتِي أَهْله وَلَا يَأْتِيهِمْ ". قُلْت: وَوَقَعَ فِي مُرْسَل عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْبٍ عِنْد اِبْن سَعْد " فَقَالَتْ أُخْت لَبِيد بْن الْأَعْصَم إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْر حَتَّى يَذْهَب عَقْله ".
قُلْت: فَوَقَعَ الشِّقّ الْأَوَّل (2) كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح. وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: لَا يَلْزَم مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْء وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَم بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَكُون مِنْ جِنْس الْخَاطِر يَخْطِر وَلاَ يَثْبُت، فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّة. وَقَالَ عِيَاض: وَيُؤَيِّد جَمِيع مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ فِي خَبَر مِنْ الْأَخْبَار أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ الْمُهَلَّب: صَوْن النَّبِيّ (مِنْ الشَّيَاطِين لَا يَمْنَع إِرَادَتهمْ كَيَدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيح أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِد عَلَيْهِ صَلَاته فَأَمْكَنَهُ اللَّه مِنْهُ، فَكَذَلِكَ السِّحْر مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَره مَا يُدْخِل نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّق بِالتَّبْلِيغِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْس مَا كَانَ يَنَالهُ مِنْ ضَرَر سَائِر الْأَمْرَاض مِنْ ضَعْف عَنْ الْكَلَام، أَوْ عَجْز عَنْ بَعْض الْفِعْل، أَوْ حُدُوث تَخَيُّل لَا
_________
(1) القائل ابن حجر , رحمه الله.
(2) يعني أنه أُخبر.
(1/340)
________________________________________
يَسْتَمِرّ، بَلْ يَزُول وَيُبْطِل اللَّه كَيْد الشَّيَاطِين) (1) .
ومثل هذا قوله تعالى عن موسى {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ، فسحر النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل سحر موسى (وهو أن يخيل إليه الشيء، فمن أنكر الحديث ماذا يقول عن هذه الآية؟
ونزيد من الأمر توضحاً فنقول السحر الذي أراده المشركون غير السحر الذي حصل للنبي (، فهم أرادوا المسحور يعني الذي يصل إلى حد الجنون والافتراء, وقول ما لا يعقل ودخول الجن في المسحور، وهذا لا شك أنه باطل في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأما سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) فهو من نوع التخيل الذي يحصل لأي إنسان يقظة ومناما، وهذا لا يضر في مقام النبوة.
-الطعن الثالث: كيف يسحر النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أن الشياطين لا تسلط على عباد الله الصالحين ,كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ( [النحل:99-100] ، فسحر النبي دليل أنه من الغاويين وأنه من الذين يتولون الشيطان (2) ؟.
الجواب:
السحر أنواع (3) :
1-سحر بالأدوية.
_________
(1) فتح الباري (10/237) .
(2) ذُكرت هذه الشبهة في غرفة النصارى في البالتوك على الإنترنت , للأسف ولم يجب عليها أحد من المسلمين.
(3) انظر فتح الباري (10/239) .
(1/341)
________________________________________
2-سحر لا حقيقة له بل هو خيال أو خفة يد.
3-سحر بالاستعانة بالشياطين.
إذن فليس كل أنواع السحر تسلط من الشياطين على المسحور، وذهب بعض العلماء إلى أن سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) من نوع الأدوية؛ قال ابن حجر: وَاسْتَدَلَّ اِبْن الْقَصَّار عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْس الْمَرَض بِقَوْلِهِ فِي آخِر الْحَدِيث: «فَأَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّه» . وَفِي الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ نَظَر , لَكِنْ يُؤَيِّد الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَة عَمْرَة عَنْ عَائِشَة عِنْد الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِل " فَكَانَ يَدُور وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعه " وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد اِبْن سَعْد: مَرِضَ النَّبِيّ (وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاء وَالطَّعَام وَالشَّرَاب، فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ..الْحَدِيث) (1) ،
ولو سلمنا أنه من النوع الشيطاني، فليس كل تعرض من الشيطان للإنسان معناه أنه ليس من عباد الله، وفرق كبير بين التعرض والمحارشة وبين التسلط، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ (يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (2) ، فكل صالح يتعرض له الشيطان، بل هذه وظيفته في الحياة، وهو أقسم على إغواء بني آدم. ولو سلمنا أن هذا من التسلط فإنه لفترة محدودة ,ثم بعد ذلك يذهبه الله تعالى, ويرجع المسلم إلى حاله الأولى؛
فهذا آدم عليه السلام أغواه
_________
(1) فتح الباري (10/238) .
(2) أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، رقم:2812) .
(1/342)
________________________________________
الشيطان حتى وقع في أكل الشجرة، وهذا موسى قتل نفسا بغير نفس فقال: {هذا من عمل الشيطان} [القصص: 15] ولا يقول أحد أن هذا من التسلط بمعنى التحكم والإغواء والتضليل، بل يبقى آدم وموسى من خير أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
-الطعن الرابع: (كيف يذكر في القرآن أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم -يعني من مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34]- مع أن هذا الدين اشتهر بالتشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله) (1) .
الجواب:
السجود نوعان؛ سجود تحية وإكرام, وسجود عبادة وإعظام، فسجود العبادة لا يجوز في جميع الملل وعند جميع الرسل، بل لا يسجد الإنسان إلا لله وحده وأما سجود التحية فهذا كان جائزا في شرع من قبلنا، كما حصل ليوسف عندما خر له أبواه وأخوته سجدا، فلم ينكر عليهم، ومن هذا الباب سجود الملائكة لآدم، وأما في شرعنا فقد نسخ سجود التحية، درأ للفتنة وسدا لأبواب الشرك وطرائقه.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ... } [يوسف: 100] : (وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان ,فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم , وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة) (2) .
_________
(1) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، للعقاد (ص276) ،المكتبة العصرية، بيروت.
(2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (9/174) .
(1/343)
________________________________________
على أن كثيراً من العلماء يقولون: إن السجود هنا المقصود به المعنى اللغوي للسجود، وهو عموم الانحناء والميل والاحترام, ولا يلزم منه أن يخر على الأرض (1) .

المطلب الثاني: دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية:
وقد أشعل أوار هذه الفتنة , وحمل رايتها محمد خلف الله في كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم "، وإن كان هو لم يبتدعها بل أخذها من المستشرقين ومنهم:
المستشرق الألماني هوروفيتش (2) (1874-1931) الذي تحتوى بحوثه القرآنية على طائفة كبيرة من الملاحظات والمعلومات، والجزء الأول من كتابه "مباحث قرآنية" يعالج النصوص القصصية في القرآن ويقسم كلامه إلى: عموميات وشكليات، أساطير رادعة ... إلخ.
_________
(1) انظر المرجع السابق، ومن وسائل الغزو الفكري، لأستاذنا الدكتور نبيل غنايم (ص:589) .
(2) هورفيس [1874-1931] مستشرق ألماني يهودي , تعلم في جامعة برلسين , وعين مدرساً فيها عام [1902] , واشتغل في الهند من 1907 إلى 1914 مدرساً للغة العربية في كلية عليكرة الإسلامية , كما اشتغل أميناً للنقوش الإسلامية في الحكومة الهندية البريطانية , وعاد إلى ألمانيا عام 1914 , وعين مدرساً للغات السامية في جامعة فرانكفورت حتى وفاته , كانت رسالته للدكتوراه عن كتاب المغازي للواقدي , وتولى تحقيق جزأين من " طبقات ابن سعد " وألف كتاب " مباحث قرآنية " وغيرها من المؤلفات. انظر: موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي (ص: 621) بتصرف واختصار , دار العلم للملايين , بيروت , الطبعة الثالثة , 1993.
(1/344)
________________________________________
والأستاذ بروكلمان (1) الذي أورد بعض العناوين البارزة لموضوعات كتبت في قصص القرآن وهي تاريخيا كما يلي:
1-الهجادة في قصص القرآن، بقلم سجبار، ليبزيج 1907م.
2-مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، بقلم سايدر سكاي، باريس، 1932م.
3-القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير وجريفنا ينخن، 1939م.
وبعد هذا نجد المستشرق المجري بيرانت هيللر (1857-1943م) يتخصص تقريبا في جزء من قصص القرآن , فينشر بحوثا في مجلة الفصول بعنوان:
1-قصة أهل الكهف، عام 1907.
2-عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، 1928م.
3-قصص القرآن، عالم الإسلام، 1934م (2) .
ثم جاء المعاصرون بعد ذلك - وللأسف من بني جلدتنا - ليكملوا المشوار , ونفذوا تلك الأباطيل بأقوال تنبأ عن سوء طوية وفساد قصد , تلك هي أقوالهم:
_________
(1) كارل بروكلمان [1868 - 1956] مستشرق ألماني مشهور , التحق بجامعة روستوك في 1886 , ودرس فيها العربية , وتتلمذ على نولدكة كثيراً , ونال الدكتوراه عام 1893 في برسلاو برسالة عن ابن الجوزي وكتابه تلقيح فهم أهل الآثار , وعن مؤلفاته المشهورة " تاريخ الأدب العربي " الذي ذكر فيه المخطوطات العربية وأماكن جودها , وهو في خمسة مجلدات , وبذل فيه جهوداً كبيرة ً , وكان يتقن إحدى عشرة لغة شرقية وست لغات غربية , وبلغت مؤلفاته (555) مؤلفاً. انظر موسوعة المستشرقين (ص 98) باختصار.
(2) انظر المستشرقون والدراسات الإسلامية، للدكتورمحمد حسين الصغير (74-75) ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
(1/345)
________________________________________
يقول طه حسين: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا أيضا , ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة وبالقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي) (1) .
ثم قام محمد خلف الله بجمع كل هذه المغالطات , وما أوردوه من شبه على هذه القضية وسود فيها كتابا من خمسمائة صفحة وسماه "الفن القصصي في القرآن الكريم" (2) ، ووافقه على هذا أمين الخولي وزوجته عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (3) .
قدم خلف الله مقدمة في بيان أن هناك فنا من الفنون , هو ما يسمى بالفن القصصي، وهذا الفن يُعتمد فيه على جمال الأسلوب , وترابط الفكرة مع الهدف النبيل من القصة، ولا يضير هذا الفن كون القصة ملفقة أو خيالية مادام أن الهدف نبيل والغاية نافعة، ثم بنى على هذه المقدمة أن قصص القرآن هي نوع من أنواع هذا
_________
(1) في الشعر الجاهلي لطه حسين (ص:26) عن كتاب منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص:447) .
(2) النسخة التي بين يدي من مطبوعات سينا للنشر، القاهرة، وهي الطبعة الرابعة 1999، وأما الطبعة الأولى فقد طبعت عام 1951.وقد أشرف على الرسالة أمين الخولي- زوج عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) - مقرا له على كل ما قال، وقد أحدثت هذه الرسالة ضجة مدوية في وقتها حيث تقدم الطالب محمد أحمد خلف الله عام 1947 في كلية الآداب بجامعة فؤاد رسالة للحصول على الدكتوراة عن "الفن القصصي في القرآن الكريم ", وقرر فيها أن القرآن يذكر أشياء لم تقع، وقد تم رفض الرسالة وفصل الطالب، انظر:"منهج المدرسة العقلية الحديثة للرومي"ص:445.وقد حرصت على مقابلته، فسألت عنه فعلمت أنه توفي قبل ثلاثة أعوام تقريبا، والعجيب أنه كان من المدافعين عن د. نصر حامد أبو زيد عندما أقيمت عليه قضية الردة.
(3) انظر" مدخل إلى علم التفسير"، للدكتور محمد بلتاجي ص:170.
(1/346)
________________________________________
الفن في جميع صفاته، لذلك فلا يلزم أن تكون كل قصة يذكرها القرآن قصة واقعية، ثم بعد ذلك أخذ يقرر هذه الدعوى بأن الكثير من القصص القرآنية ليست صحيحة تاريخا , بل التاريخ يخالفها.
وقد طرح خلف الله كلامه بكل جرأة , حتى إنه لم يجد ضيرا أن يقول ما قال الكفار {حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام:25]
قال خلف الله: (إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير) (1) .
وقال: (أصبح العقل الإسلامي غير ملزم بالإيمان برأي معين في هذه الأخبار الواردة في القصص القرآني؛ وذلك لأنها لم تُبلغ على أنها دين يتبع ... ومن هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل هذه الأخبار , أو يجهلها , أو يخالف فيها , أو ينكرها) (2) . ثم لم يقتصر على ذلك حتى قال: (ومن هنا يصبح من حقنا، أو من حق القرآن علينا، أن نفسح المجال أمام العقل ليبحث ويدقق، وليس عليه من بأس في أن ينتهي من هذه البحوث إلى ما يخالف هذه المسائل، ولن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن؛ لأن الله لم يرد تعليمنا التاريخ، ولأن القصص القرآني لم يقصد إلا إلى الموعظة والعبرة , وما شابهها من مقاصد وأغراض، إن المخالفة هنا لن تكون إلا مخالفة لما تتصوره البيئة ولما تعرفه عن التاريخ، ولم يقل قائل بأن ما تعرفه البيئة العربية عن التاريخ هو الحق والصدق، ولم يقل بأن المخالفة لما في أدمغة العرب من صور عن التاريخ هي الكفر
_________
(1) "الفن القصصي في القرآن الكريم "، لمحمد خلف الله (ص:209) .
(2) المرجع السابق ص:74.
(1/347)
________________________________________
والإلحاد، بل لعل هذه المخالفة واجبة حتى يكون تصحيح التاريخ وخلوه من الخيالات والأوهام) (1) .
فمخالفة القرآن عنده واجبة لأجل التاريخ، فتصحيح التاريخ عنده أهم من تصحيح القرآن.
فانظر إلى هذا الهذيان الذي تشمئز منه نفوس المسلمين وتقشعر منه جلودهم، ولست في مقام الرد على هذا الكتاب وكل مغالطاته، بل إنما أريد الرد على هذه القضية وهي دعوى معارضة القرآن للحقائق التاريخية، وسوف أقسم الرد على نوعين، ردود إجمالية ثم الردود التفصيلية، وإليك البيان (2) :

-الردود الإجمالية:
1-هذه الدعوى مخالفة لإجماع الأمة على أن كل القصص في القرآن إنما تحكي واقعا حقيقيا (3) .
2-هناك نصوص ترد هذه الدعوى , بل هي في محل النزاع ,كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111] ، قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ... } [الأعراف:62] ، وكقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] ، أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام (4) .
_________
(1) الفن القصصي ص:255.
(2) وقد استفدت أكثر هذا الرد من كتاب "مدخل إلى علم التفسير"، لأستاذنا الدكتور محمد بلتاجي، نشر مكتبة الشباب بالمنيرة، 1998.
(3) انظر "منهج المدرسة العقلية في التفسير"،للرومي ص:442.
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/167) .
(1/348)
________________________________________
كل ما في القرآن إما أخبار أو أحكام، فكل أخباره صدق وكل أحكامه عدل، ومن الأخبار قصص الأمم السابقة مع أنبيائها.
3-لا شك أن القصة من أهدافها العبرة , وأحيانا قد يختلق القاص القصة وينسخها من وحي خياله، لكن هذا ليس هو الكمال؛ فكون الراوي يأخذ العبرة من قصة واقعية هو الأكمل، والقرآن لا يأتي إلا بالكمال , كما قال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] ، وما كان لأحسن القصص أن تكون كذبا.
4- قال الدكتور بلتاجي: (إن الله تعالى -وهو القادر الحق - أعظم من أن يلجأ في كتابه المنزل -الذي أنزله لهداية الخلق جميعا - لاستخدام الباطل والأكاذيب ليجتذب بها العرب من معاصري نزوله إلى الإيمان , وهو يعلم أن هذا الكتاب سيؤمن به غيرهم في أزمنة وأمكنة أخرى، فما هي نسبة العرب الذين عاصروا نزول القرآن -وأتى بما عندهم من أساطير وأوهام كما زعموا- إلى من أسلم ويسلم في كل عصر ومكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهل يصح مثل هذا القول إلا بناء على عقيدة ترى أن الإسلام (دين محلي) , نزل إلى شبه الجزيرة في القرن السابع الميلادي , واجتذبهم إلى الإيمان بموافقته لما كان عندهم من أوهام وخيالات وأباطيل تخالف التاريخ الحق؟ وهل يعقل أن الله تعالى لم يعلم حال من سيؤمن بالقرآن من غير هؤلاء , ممن تتكشف لهم حقيقة هذه (الأوهام) - كما زعم أصحاب النظرية؟! وألا يقودنا القول بذلك إلى سؤال بالغ الأهمية هو: كيف يلجأ
(1/349)
________________________________________
الخالق - جل وعلا عما يقولون - إلى موافقة خيالات وأوهام العرب الجاهلين وقت نزوله، وهو القادر - بطريق القطع - على أن يصوغ كتابه المنزل من الحقائق المتفقة مع الواقع والتاريخ, التي تحدث أثرها من الموعظة والعبرة في نفس الوقت؟ وألا يشبه هذا الزعم الذي تتضمنه هذه النظرية أن يكون حيلة بشرية يلجأ إليها البشر الضعاف المحدودو القدرة والعلم في سبيل اجتذاب الناس إلى دعواتهم؟ أما أن يكون هذا أسلوباً إلهياً في تنزيل آخر الكتب المنزلة , فهذا ما لا يمكن أن تتصوره العقول من كل وجه) (1) .
5-دأب العلماء على أخذ الكثير من الأحكام الفقهية من القصص القرآنية مثل صحة أنكحة الكفار المأخوذ من قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ... } [القصص:9] ، وجواز كون المهر عملا مأخوذ من قوله تعالى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ... } [القصص:27] وغيرها، بل أخذوا منها أحكاما عقدية في أصول اعتقاد المسلمين، فإبطال القصص القرآنية يبطل الكثير من الأحكام؛ لأنه إذا كانت القصة مكذوبة فلا يجوز أخذ الأحكام منها، وهذا لم يقل به أحد.
6-يلزم من هذا القول أن الله تعالى لَبَّس على الناس بذكر هذه القصص المكذوبة في كتابه, الذي يزعم أنه محفوظ من الخطأ والريب والكذب، ويلزم منه أن القرآن صد الكثير من الناس عن الإسلام بسبب عدم مطابقة قصصه للواقع، بل هذا ما ادعاه خلف , حيث زعم أن التمسك بمقياس الصدق التاريخي في القصص القرآني خطر أي خطر
_________
(1) مدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي (ص:188) .
(1/350)
________________________________________
على النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى القرآن، بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة (1) .
7-قال الشيخ شلتوت: (وهذه الآراء -فضلا عما لها من نتائج سيئة - تذهب بقدسية القرآن من النفوس , وتزيل عنه روعة الحق , وتزلزل قضاياه في كل ما تناوله من عقائد وتشريع وأخبار ماضية وأحوال مستقبلة) (2) .
8-يقول تعالى: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 41 , 42] . فإذا كان المضمون التاريخي في القصص القرآني - كما يزعم خلف الله وأصحابه - باطل في الحقيقة , ونفس الأمر مطابقاً لما كان في نفوس المشركين أو غيرهم، ألا يكون هذا معارضاً معارضة صريحة لمضمون هذه الآية , التي تنفي إمكان أن يقتحم الباطل إليه من بين يديه ولا من خلفه؟ ، فإذا أضفنا إلى هذا قوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً (
[سورة الفرقان الآيات: 4 - 6] ، فهل يبقى هناك أي وجه لما ذكره خلف الله؟ من محاولة العبث بالعقول , ما يذكره خلف الله من أن نفي الافتراء هنا يتعلق بمصدر القرآن
_________
(1) الفن القصصي (ص:42) .
(2) تفسير القرآن الكريم، محمود شلتوت (ص:273) ، دار الشروق، الطبعة السادسة،1394هـ.
(1/351)
________________________________________
كله، لا بجزئياته! فهل يصح في منطق العقول حقاً أن ما ينطبق على الكل المجموع لا يندرج على جزئيات هذا الكل؟! . ومن العجب أن يثبت خلف الله في كلامه السابق أن في القرآن أساطير، والآية السابقة تحكي قول الذين كفروا في ذلك، ثم تعقب عليه بأن الذي أنزل هذا القرآن إنما هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، وفي هذا أبلغ بيان في نفي زعم الأسطورة عنه؛ لأن الذي يعلم حقائق الأمور في كل شيء , لا يجوز عليه أن يحكي في كتابه المنزل الأساطير والأباطيل على أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل , إنما يقع في هذا ناقصو العلم والمعرفة من البشر , الذين لا علم لهم بحقائق وأسرار الكون.
9-وهذا المعنى الأخير مصداق قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} [سورة النساء الآية 82] يعني - والله تعالى أعلم - لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً مع حقائق الأمور التاريخية والكونية، ولوجدوا فيه اختلافاً كثيرا بعضهم مع بعض، ولوجدوا فيه اختلافا كثيرا مع الفطرة البشرية، لكنه لما كان من عند الله فقد تجرد عن ذلك كله، فليس فيه أي اختلاف مع شيء من ذلك , لكن خلف الله وأصحابه يزعمون أن في قصصه اختلافا مع الحقائق التاريخية والكونية، فهل يستقيم مع هذا القول أن يكون فيما صدروا عنه من عند الله؟!.
10-وما قولهم في قوله تعالى: (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (
[سورة السجده الآيات:1-3] ، فرد على دعوى الافتراء بإثبات أنه هو الحق من الله، فهل يتمشى مع منطق العقل أو أساليب البيان أن يكون حقاً قد احتوى باطلاً؟ وهل يصدق عليه وصف الحق حينئذ؟.
(1/352)
________________________________________
11- وما قولهم في وصف القرآن - بما فيه من قصص - بأنه الحق كما في قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً} [سورة البقرة الآية: 119] وقوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} [سورة البقرة الآية: 252] ، وقوله: {نزل عليك الكتاب بالحق} [سورة آل عمران الآية: 3] وقوله: {إن هذا لهو القصص الحق} [سورة آل عمران 62] ، وقوله: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (
[سورة الأنعام الآية: 57] ، وقوله: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} [سورة الإسراء الآية: 105] ، وقوله: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} [سورة الكهف الآية: 13] ، وقوله: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [سورة الفرقان الآية: 33] ، وقوله: {نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون} [سورة القصص الآية: 3] ، وقوله: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [سورة الأحزاب الآية: 4] ، وقوله: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق} [سورة فاطر الآية: 31] ، وقوله: {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق} [سورة الزمر الآية: 41] ، وقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} [سورة الزمر الآية: 2] ، وقوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديثٍ بعد الله وآياته يؤمنون} [سورة الجاثية الآية: 6] ، وقوله: {وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم} [سورة محمد الآية: 2] ؟.
فقد أثبتت هذه الآيات كلها - وأمثالها في القرآن كثير - أن القرآن كله حق نزل من عند الله , وآياته كلها حق؛ وقصصه كلها حق؛ لأن الله تعالى لا يقص إلا الحق، وهو يقص علينا نبأ أهل الكهف بالحق، ونبأ موسى وفرعون بالحق، وكل ما قصه وأوحى به فهو الحق، لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وهو يهدي السبيل، ووحيه كله حق، وكتابه كله حق، لا يصل إليه الباطل والافتراء والكذب بأي وجه من الوجوه , كما
(1/353)
________________________________________
قال تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله (و (قل الله يهدي للحق (وليس الظن أو الوهم أو الافتراء من الحق (راجع يونس: 35 - 37) .. فأين في هذا كله ما يتيح لخلف الله وأصحابه الزعم بأن نفي الافتراء في هذه الآيات لا يلحق المواد الأدبية القصصية، ولا بما في هذه القصص من صور للأحداث والأشخاص؟ وهل إذا لَحِقَ الافتراء هذه الأمور - كما يزعمون - يصح إطلاق وصف الحق في الآيات السابقة؟ وهل استخلاص عبرة ينافي أن يكون القصص المستخلص منه حقاً؟ لقد أجابت عن هذا الزعم الباطل آخر آية في سورة يوسف , وهي قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (. فالعبرة المستخلصة من القصص القرآني , إنما تستخلص من قصص حق لا افتراء فيه ولا أسطورة.
12-وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (
[سورة يونس الآية: 32] ، فإذا كان كل ما في القرآن قد وصف بأنه هو الحق , فهل يستقيم بعد هذا أن يتضمن شيئاً ينسب إلى باطل أو ضلال , بمخالفته لحقيقة التاريخ أو الحقائق الكونية) (1) ؟.
13-إن عدم مطابقة ما في القرآن من وقائع تاريخية مع أحداث التاريخ , إما منشؤه عدم وجود هذه القصص في التاريخ أصلا , وإما
_________
(1) هذه الأدلة الخمسة ذكرها الدكتور بلتاجي في كتابه "مدخل إلى علم التفسير " (ص:194-197) .
(1/354)
________________________________________
منشؤه أن يكون في التاريخ شيء يعارضه؛ فإن كان الأول فإن عدم عثورنا عليه في التاريخ ليس دليلا على عدم وقوعه حقيقة , فعدم العلم ليس علما بالعدم، وأما إن كان الثاني فلا بد أن تكون هذه الحادثة حصل لها من النقل والتواتر والتثبت مثل ما حصل للقرآن حتى تعارضه , وهذا لا وجود له، وإلا فإننا نقدم ما في القرآن؛ لأنه أصح بشهادة الجميع.
14-هذه الدعوى تفتح الباب للطاعنين على مصراعيه، فإذا ثبت أن القرآن فيه أشياء مكذوبة ومفتراه , إذن كيف يتبع ويلزم به ويتحاكم إليه.
وأما الردود التفصيلية على الشبه التي ذكرها، فهي كالتالي:
-الطعن الأول: قوله تعالى عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: {ويكلم الناس في المهد} [آل عمران: 46] ، حيث روى الرازي عن اليهود والنصارى أنهم ينكرون أن عيسى تكلم في زمن الطفولة، ويحتجون بأن هذا لو حدث لكان من الوقائع العجيبة التي تنقل بالتواتر (1) .
-الطعن الثاني: وقوله تعالى: {وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً} [غافر 36] فالمدعو خلف الله يشير إلى ما رواه الرازي من قول اليهود: أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون , أن هامان ما كان موجوداً البتة في زمان موسى وفرعون، وإنما جاء بعدهما بزمن مديد (2) .
_________
(1) الفن القصصي لخلف الله، ص:25.
(2) السابق، ص:27.
(1/355)
________________________________________
-الجواب:
1-أن هذا الآيات تليت على اليهود في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) ,وكان فيهم العلماء والأحبار فلم ينكر أحد منهم هذا الأمر.
2-كيف يُحاكم القرآن المحفوظ بحفظ الله له بكتب أهل الكتاب , التي ملئت تحريفا وزيفا , بل طال التحريف عندهم كتبهم المقدسة، هذا لا يقبله عقل، ومثل هذا كمثل عالم كبير السن والقدر والاطلاع، تكلم في قضية، فقال له الناس: نحن نخالفك بهذا؛ لأن عندنا كتابا محرفا لا ندري من ألفه ملئ بالأخطاء يخالف ما تقول؟!!.
فإن كان هذا لا يجوز في حق البشر فكيف بخالق البشر،
يقول د. بلتاجي: (لو أن خلف الله يحاكم آيات القرآن الكريم إلى شيء يقيني لكان له وجه فيما يذكره، لكنه يحاكمها إلى التواريخ القديمة وما عند اليهود والنصارى عنها.. فما قوله فيما في هذه التواريخ القديمة من خرافات وأساطير وأوهام آمنت بها البشرية أجيالً طويلة، ثم تبين ضلالها وكذبها) (1) ؟.
3-دعوى أن هذا مطبق عليه عندهم منقوضة بما حصل من اليهود والنصارى في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) , من الإقرار عليه وعدم إنكاره، مع حرصهم الشديد على مخالفته في ما هو أقل من ذلك.
4- (إن الرازي لم يترك هذه الشبهة دون رد، وبالتالي لم يكن من الذين يقولون بها على سبيل الإيمان أو الاقتناع، فقد قال: أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة , وقالوا: إن كلام عيسى عليه السلام في المهد , إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان
_________
(1) مدخل إلى علم التفسير (ص:216) .
(1/356)
________________________________________
الحاضرون جمعاً قليلين، فالسامعون لذلك الكلام كان جمعاً قليلاً، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء.، وقال: والجواب أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها، واضطربت الأحوال والأدوار , فلم يبق على كلام أهل التاريخ اعتماد في هذا الباب، فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى) (1) .
5- (إن عدم تسجيل التاريخ البشري لواقعة تكلم عيسى في المهد لا يعتبر دليلاً قاطعاً لعدم حدوث ذلك، حتى يدعي أحد تكذيب القرآن في الإخبار به، ويصح ادعاؤه.
أما فيما يتصل بالتواريخ البشرية , فمما لاشك فيه أنها أهملت تسجيل كثير من الأحداث الفردية - مهما تكن أهميتها في ذاتها - حيث لم يتوفر لها من الشهادة الصادقة , وتوفر سبل الإذاعة، والنقل , والبقاء على مر العصور ما يكفل لها ذلك.
إذ يكفي أن تنقطع حلقة في هذه السلسة لتصبح الواقعة في حكم المجهول من الأجيال التالية، وعلى العكس من ذلك , فإن بعض الأوهام الكاذبة في ذاتها , قد يتوفر لها من ظروف إيمان بعض الناس بصحتها - بناء على بعض الشواهد والظواهر الخادعة - وتسجيلهم لها، ثم رعايتها بظروف تضمن إذاعتها وانتقالها عبر الأجيال - ما يجعلها تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وهي في أصلها أسطورة كاذبة لا نصيب لها من الحق. وقد تلعب يد التحريف والتجهيل والتعمية ببعض جوانب واقعة صحيحة في أصلها , فإذا بها قد جمعت في نهاية الأمر بين الحق والباطل في قصة واحدة ,هذا معروف مسجل عن أوهام التواريخ
_________
(1) مدخل إلى علم التفسير (ص:213) و (ص:217) .
(1/357)
________________________________________
وأخطائها، فهي تهمل، وتنسى، وتحرف، وتخدع، وتتوهم، وكل هذا يتضمنه ما يسمى بـ"التاريخ البشري"، وخاصة في عصور ما قبل التدوين المنظم , ذي الأساليب والإمكانات المنضبطة شيئاً ما. وإذا كان هذا ثابتاً لاشك فيه , فهل يقبل منطق البحث العلمي النزيه , أن يتخذ إغفال التواريخ القديمة لحادثة فردية , مثل كلام طفل في المهد , دليلاً قاطعاً على كذب الوحي في إخباره بها (1) ؟) .
6-إن فرعون موسى -من بين فراعنة مصر- ليس معروفا للمؤرخين بصورة قطعية متفق عليها، فإذا كان الأمر كذلك , فإن تحديد وزرائه ومعاونيه بالاستقصاء والحصر , أمر لا يمكن أن يدعيه على سبيل القطع مؤرخ يحترم عقله وعقول الناس (2) .
_________
(1) مدخل إلى علم التفسير (ص:214) .
(2) السابق ص:217.
(1/358)
________________________________________
-الطعن الثالث: قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] ، وقد علم أن بين مريم وهارون أكثر من خمسة عشر قرنا (1) .
-الجواب (2) :
1-أن هارون كان رجلا صالحا من بني إسرائيل , ينسب إليه كل من عرف بالإصلاح، والمراد: أنكِ كنتِ في الزهد والتقوى كهارون، فكيف صرت هكذا.
2-أن مريم من نسل هارون، فنسبت إليه كما يقال: يا أخا همدان، يا أخا العرب، يعني يا من نسله منهم، ومنه قوله تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ... } [الأحقاف:21]
_________
(1) الفن القصصي، ص:28.
(2) انظر مدخل إلى علم التفسير (ص:229) ودفاع عن القرآن ضد منتقديه، د. عبد الرحمن بدوي (ص:169) ، الدار العالمية للكتب والنشر.
(1/359)
________________________________________
ومن هذا الباب حديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) , إِذْ جَاءَ هُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ , ثُمَّ أَدْبَرَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «يَا أَخَا الْأَنْصَارِ كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟» ، فَقَالَ: صَالِحٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟» فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ , مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلَا خِفَافٌ (1) وَلَا قَلَانِسُ (2) وَلَا قُمُصٌ , نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ , فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ" (3) ، وهذا الجواب وجيه وقوي.
3-أن هارون كان رجلا مُعْلِناً بالفسق , فشبهت به.
4-هارون المقصود به هنا ليس هو هارون أخي موسى , بل هو أخ لمريم حقيقة فنسبت إليه، فقد عرض هذا الإشكال على النبي (صلى الله عليه وسلم) وأجاب عنه بهذا الجواب، فقد أخرج الإمام مسلم عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ (وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» (4) .
وهذا نص قاطع صحيح صريح في هذه القضية فلا محيد عنه (5) ،
_________
(1) الخفاف: جمع خف وهو مايلبس على الرجل من الجلد.
(2) القلانس: جمع قلنسوة، وهي من ملابس الرأس. لسان العرب (6/181) .
(3) أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، باب في عيادة المريض، رقم:925) .
(4) أخرجه مسلم (كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم , وبيان ما يستحب من الأسماء، رقم:2135)
(5) قال الدكتور عبد الرحمن بدوي بعد أن ذكر هذا الجواب: هذا الافتراض وإن كان غير مستحيل في ذاته , إلا أنه يفتقر إلى أي مستند آخر لإثباته. انظر: دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص:170) ، وذكر أن هذا الاحتمال لا دليل عليه وإنما أوجدته احتياجات القضية، (دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص:171) ، وقال: هذه المشكلة لم تثر في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) . دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص:180) ،وكنت أظنه في البداية لم يطلع على هذا الحديث , ولكنه قال في الخاتمة (ص:189) : وما ذكره مسلم والترمذي في موضوع الحوار الذي دار بين المغيرة الذي أرسله النبي إلى نجران وأهل تلك البلاد، هو في رأينا مختلق لتأييد أن هذا الاعتراض أجاب عنه النبي بنفسه. وهذا الكلام لاشك في بطلانه؛ فإنه؛ لم يضعف هذا الحديث أحد من أهل العلم , بل هو في أصح الكتب بعد كتاب الله وهو صحيح البخاري، وما المانع أن يعرض هذا الإشكال على النبي، لاسيما أن أهل نجران نصارى ويعرفون تاريخ عيسى ومريم.
(1/360)
________________________________________
قال الطوفي -رحمه الله-: (هذا سؤال قد كفانا جوابه صاحب الشريعة () (1) .
-الطعن الرابع: يقول: بانَ للعقل الإسلامي أن وداً وسُواعاً ويغوثَ ويعوقَ ونسراً كانت الأوثان التي تعبد في الجزيرة العربية زمن البعثة المحمدية، وعجز العقل الإسلامي عن أن يفهم الصلة بين هذه الأوثان وبين نوح عليه السلام حتى تجيء في قصته، فالدنيا خربت في زمن نوح بالطوفان , فكيف بقيت تلك الأصنام؟ (2) .
-الجواب:
نسأل: مَن قال إن الدنيا خربت؟ إنما هلك كل الناس إلا من كان في السفينة، وأما بقاء الأصنام وغيرها من الجمادات فهو غير مستبعد.
_________
(1) الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية، للطوفي (1/302) ،مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى 1999.
(2) الفن القصصي (ص:65) .
(1/361)
________________________________________
قال القرطبي: (عن ابن عباس: إن نوحا عليه السلام كان يحرس جسد آدم عليه السلام , على جبل بالهند, فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره, فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم، ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم , وإنما هو جسد , وأنا أصور لكم مثله تطوفون به. فصور لهم هذه الأصنام الخمسة، وحملهم على عبادتها, فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء, فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب) (1) .
-الطعن الخامس: سياق آيات قصة لوط في سورة الحِجْر , يخالف سياق نفس القصة في سورة هود وغيرها من السور:
ففي الحِجْر: (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) ( [الحجر:61-71] .
وأما في هود: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا
_________
(1) تفسير القرطبي (18/199) .
(1/362)
________________________________________
رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) ( [هود:77-81] ، ففي الحجر أخبروه أنهم رسل الله قبل أن يأتي قومه، وفي هود أخبروه بعد ذلك؟.
-الجواب:
لا شك أن سياق سورة هود هو سياق قصة لوط ,كما يدل عليه غيره من الآيات، ويدل عليه أيضا قوله في الحجر: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُْنتُمْ فَاعِلِينَ (فلو كان يعلم أنهم ملائكة لما قال هذا الكلام لقومه.
وليس في الحجر ما يدل على خلاف هذا، وكون الآيات قدمت كلام الملائكة مع أنه متأخر حدوثا , فهذا لا يضر لحكمة معينة، والواو لا تقتضي الترتيب، قال ابن كثير: (قوله: قال
(إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون (. وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله، كما قال في سورة هود , وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله , وعطف ذكر مجيء قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه) (1) .
-الطعن السادس: وذكر خلف الله أن في القرآن أساطير للأولين؛ ومثل لها بالذي مر على قرية وهو خاوية على عروشها، وقصة أهل الكهف، لأن ما فيها
_________
(1) تفسير ابن كثير (2/555) .
(1/363)
________________________________________
من أخبار الغيب لا يتفق مع مقاييس العقل (1) .
-الجواب:
1- تحكيم القرآن إلى العقل خطير جدا، لأن العقل أحيانا كثيرة يخطئ، فكيف يحاكم الكتاب المعصوم إلى ما هو كثير الخطأ، ثم عقول الناس تتفاوت؛ فهناك العبقري وهناك الأخرق، وبينهما مراتب كثيرة، فأي عقل من هذه المراتب نحاكم لها القرآن، ثم إذا وجدنا عقولا بمنزلة مقبولة لنقد القرآن؛ فما هو الحل عندما تختلف هذه العقول، لاشك إن هذا باب لو فتح لا يغلق.
2- قصة أهل الكهف يثبتها أهل الكتاب أيضا، بل إنما نزلت هذه الآيات بناء على استفسارهم عنها -كما تقدم- (2) ، والعادة أنهم لا يطعنون في كتبهم المقدسة -على خلاف بعض بني جلدتنا-، فالطعن في قصة تتابعت الكتب السماوية على إثباتها جرأة خطيرة.
3-هذه دعوى من غير دليل، وكل دعوى بلا دليل باطلة، لاسيما إذا كان القرآن يقرر خلاف هذه الدعوى.

-الطعن السابع: الطعن في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس والهدهد:
قال الإمام الرازي: (أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجود:
أحدها: أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء، وذلك يجر إلي السفسطة،
_________
(1) الفن القصصي (ص:180-181) .
(2) ص:214.
(1/364)
________________________________________
فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه، وكذلك القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات.
ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب.
وثانيها: أن سليمان عليه السلام كان بالشام، فكيف طار الهدد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه.
وثالثها: كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك المملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وأنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية، وكان تحت راية بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟.
ورابعها: من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالي ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافة إلي الشيطان وتزينه؟) (1) .
-الجواب:
قال الرازي في الجواب على ذلك:
(والجواب على الأول: أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع.
وعن البواقي: أن الإيمان بافتقار العالم إلي المختار يزيل هذه الشكوك) (2) .
(هذا ما رد به الرازي على هذه الطعون، وهو رد مجمل قاصر
_________
(1) مفاتيح الغيب 24/190-191
(2) مفاتيح الغيب 24/.91
(1/365)
________________________________________
يكاد يسلم - بعد هذه الطعون الفصلة - بالعجز على الرد المفصل القوي، مما يذكرنا بما قيل عن الرازي أنه - مع علمه وفضله - كان يذكر الطعون مفصلة ولا يورد معها - أحيانا - ما يكافئها من الجواب، مما فتح مجالا أمام متبعي الشبهات للاستدلال على طعونهم بما أورده الرازي ولم يفلح - مع كبير علمه - في الرد المقنع عليه.
والحقيقة أن هذه الطعون - التي عرض لها خلف الله في سياق نظريته السابقة - لا تقوم في مجموعها أو تفصيلاتها كمستند للطعن في شيء من القرآن الكريم، وسيكون ردنا عليها نقضاً لكل من يستدل بها وذلك على النحو التالي:
(أ) فيما يتصل بكلام الهدهد والنملة - فقد أصبح من المقطوع به الآن عند العلماء الذين يدرسون سلوك أنواع الطير والحيوان والحشرات، أن لكل منها لغة تقوم مقام اللغة المعهودة عند البشر، في التعبير ونقل الأحاسيس والمعارف، على نحو ما ماتزال تفاصيله مجهولة من البشر، لكن المقطوع به من شواهد كثيرة جداً أن لكل منها نوعاً من اللغة يتم به الأتصال بين أفراده، وقد سجل بعض العلماء تسجيلات صوتية لأنواع من الطيور في حالة الفزع نقلت إليهم - في غاية من الوضوح - هذه المشاعر والمعاني (1) .
فلم يعد يشك الآن في أن كل نوع من الأحياء له لغة خاصة بأفراده، وهذا أمر واضح لكل من يراقب سلوك الطيور والحشرات، بل إن بعض العلماء يذهبون إلى أن أنواع النبات هي الأخرى تملك لغة واتصالاً فيما بينها، على نحو ما - مما لا يتسع المجال لتقرير القول فيه، ولا يتطلبه.
_________
(1) وقد استخدم هذا تجريبيا في زجر الطير لاقط الحب عن أماكن هذه الحبوب باذاعة تسجيلات التحذير والفزع.
(1/366)
________________________________________
فما العجب بعد هذا من أن تتكلم النملة، ويتكلم الهدهد، بكلام يفهمه سليمان عليه السلام لأنه - كما ورد في القرآن الكريم - علم منطق الطير وأوتي من كل شيء (النمل 16) (1) ؟ أما أنهم تكلموا بكلام يدل على شيء من العقل فإن من يراقب سلوك الطير والحشرات فسوف يدرك بغاية من الوضوح أن سلوكهم يجرى على نظم من الوعى والتدبير والعمل من أجل غايات تهديهم إليها غرائزهم وفطرهم، وعلى المعاند في هذا أن يقراء شيء عن سلوك الحشرات والطيور في كتب العلم التجريبي، وسوف يذهله ما يقرأ، وعليه أن يراقب العمل والنطام في (مملكة النحل) أو في (عالم النمل وقراه التي ينشئها) .. وليس ذلك كله إلا مصدقاً لقوله تعالي {ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وقوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} [الأنعام: 38] ، وهو الذي تدل عليه بحق كافة مشاهدات العلماء المحققين. والمتشكك في ذلك إنما هو المستحق لسخرية الساخرين! فما العجب إذن في أن تتكلم نملة ويتكلم هدهد؟ وما العجب في أن يفهم عنهما من عرف لغة كل منهما؟
ولا يجر ذلك - كما زعم الملاحدة الطاعنون - إلي شيء من السفسطة التي ذكروها، فلم يقل القرآن الكريم بشيء من ذلك، إنما قال بما تدل عليه ملاحظة هذه الأنواع، وهو أن لها منطقاً، أما علم الهندسة، والنحو، والتكاليف، والمعجزات؛ فإنما هو من قول الملاحدة الذي يرد عليهم، لأننا لا نحمل القرآن الكريم إلا ما نطق به لا ما قام في أوهام الملاحدة.
_________
(1) والعلماء الآن يحاولون التعرف على منطق بعض الطير.
(1/367)
________________________________________
(ب) فيما يتصل بطيران الهدهد من الشام إلي اليمن، ثم الرجوع إلى الشام، فالذي ورد في القرآن الكريم عنه قوله تعالى: {فمكث غير بعيد..} [النمل: 22] ، وليس في القرآن الكريم تحديد أن الهدهد مكث " لحظة " كما يقول هؤلاء، ولا يفهم من " غير بعيد " في سياقها إلا مدة تكفي للطيران، وقد قرئت على صفحاء العرب من المشركين في عصر الرسالة - وهم أعلم باللغة، وكانوا يعرفون اليمن والشام - فما أثاروا - فيما علمنا - هذا الاعتراض، فعلم منه أن التعبير القرآني يخلوا عن دواعي اعتراض هؤلاء الملاحدة.
(ج) أنا كيف خفي على سليمان حال مملكة سبأ - فإن القرآن الكريم لم يصفه بأنه كان يعرف الغيب، وقد كان هذا غيبا بالنسبة إليه، وليس فيما وصف القرآن الكريم به سليمان عليه السلام إلا تسخير الرياح والشياطين وتعليم منطق الطير وإيتاء الملك الذي لا ينبغي لأحد بعده، لكن ليس فيه شيء من وصفه بعلم غير ما علمه الله له، فما العجب في أن تكون في الأرض أشياء وممالك كان سليمان - مع عظمة ما أعطاه الله له - يجهلها؟ إن القرآن الكريم لا يذكر شيئا عن أن سليمان - عليه السلام - كان ملك الدنيا كلها بأكملها - كما يزعم هؤلاء الطاعنون - ولعل مستندهم في هذا إنما هو بعض المبالغات الإسرائيلية التي لم يرد لها ذكر في الوحي القرآني.
أما إذا كان واحد منهم قد فهم ذلك من قوله تعالى: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} [النمل: 16] ، فهو لا يعرف شيئاً عن أساليب البيان العربية، لأن (من) هنا للتبعيض، وليس المعني أن كل الأنس - دون استثناء - كانوا تحت ملكه.
(1/368)
________________________________________
ولعل الذي جر الطاعنين إلي طعنهم ما ذكروه هم من أنه كان تحت راية ملكة سبأ اثنا عشر الف ملك تحت راية كل منهم مائة ألف ‍!
وليس في نصوص القرآن الكريم شيء من هذا مطلقاً، والعدد الذي ذكروه يجاوز بكثير جداً ما يمكن أن يكون موجوداً عندئذ من عدد السكان، وهو يذكرنا بما نقده ابن خلدون من مبالغات المؤرخين القدماء، وما حذر منه (فيكو) من غرور الأمم حين تكتب تارخها - فكيف تحمل هذه المبالغات على نصوص القرآن الكريم التي لم تعرض لها إطلاقاً؟
فلا عجب إذن أن يجهل سليمان - عليه السلام - أمر ملكة سباً مع كل ما أعطاه الله له، لأنه لم يعطه علم كل ما في الأرض، ولم تكن هناك اتصالات منتظمة بين المالك بحيث تعرف كل منها الأخرى، وتتصل بها على النحو الذي نعهده في عصرنا والذي حدث بعد ذلك بحكم التطور العمراني، ولم تكن الجن التي سخرت لسليمان - عليه السلام - أيضاً تعرف الغيب كما ورد في قوله تعالي: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} [سبأ: 14] .
(د) أما من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلي الشيطان وتزيينه؟ فإنما كان الهدهد من جند سليمان عليه السلام، والآيات تتكلم عن أمر (غيبي) لا يقاس على معرفة البشر الآن بأحوال الطير، وما المانع من أن تكون فطرة كافة المخلوقات عارفة بوجوب السجود لله تعالى وحده، وقد جاء في القرآن الكريم شاهداً بذلك قوله تعالى: (اولم يروا إلي ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون ولله يسجد ما في
(1/369)
________________________________________
السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( [النحل: 48-49] وقوله: {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] وقوله: {الم تر ان الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} [النور: 41] وقوله {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهم وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} [الإسراء: 44] ... فما العجب بعد هذا كله أن بكون الهدهد من جند سليمان - عليه السلام - عارفاً لوجوب السجود لله تعالى وحده منكراً السجود لغيره؟
إن القضية - فيما نري قضية إخبار عن الغيب لا تصل معرفة البشر التجريبية أو العقلية إلى شيء يستند إليه إنكار هذا الإخبار الذي يجاوز حدود هذه المعرفة، فالمؤمنون بالغيب وبصدق الوحي القرآني يؤمنون به، والمكذبون ينكرون بكل ما لا يقع منهم تحت حس مباشر أو تجربة مادية، لكنهم في مثل هذه القضايا الغيبية لا مستند لهم في إنكارهم إلا محض الشك والتكذيب وقياس الغائب على الشاهد وتحكيم عقولهم القاصرة فيما هو من علم الغيب، ... ولسنا نملك لهؤلاء وسيلة تحملهم على الإيمان بالغيب وعدم قياس الأمور فيه على علم الشهادة البشرية. {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الأخرة عذاب عظيم} [المائدة: 41] .
.... وبهذا يتبين لنا أنه ليس فيما ورد من قصة سليمان في سورة النمل ما يطعن في صحة شيء مما ورد في القرآن الكريم) (1) .
وقد ذكر خلف الله طعونا أخرى لكنها لا تدخل في موضوع (دعوى معارضة القرآن للحقائق التاريخية) ، لذلك لم أذكرها، وإن كان من رد على خلف الله ذكرها؛ لأني لا أرد على كتاب خلف الله، بل أرد على من زعم هذه الدعوى، وأغلب إشكالاته من باب تعارض
_________
(1) مدخل إلى علم التفسير (ص:236) .
(1/370)
________________________________________
الآيات بعضها مع بعض , وقد أجبنا على أكثرها في المطلب السابق.

المطلب الثالث: دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي:
من المطاعن على القرآن دعوى أنه يتعارض مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي الحديث، وعليه فإن القرآن ليس من كلام الله تعالى؛ لأن الله جل جلاله يعلم كل شيء، وقد ذكر الطاعنون لهذا أمثلة سيأتي ذكرها.
بادئ ذي بدأ لابد من وضع بعض القواعد لهذه المسألة:
1- لابد أن تكون هذه المعلومات التجريبية وصلت مرحلة الحقيقة العلمية المستقرة المتفق عليها (1) ، فلا يجوز أن نجادل القرآن بنظريات تفسيرية لبعض ظواهر الكون، أو أن القضية العلمية عبارة عن تجارب لم تصل إلى حد الحقيقة الثابتة القطعية، مثل نظرية أن أصل الإنسان قرد ثم مر بمراحل حتى وصل إلى هذا المستوى (2) ، التي تتعارض مع كون ابتداء خلق الناس كان من آدم الذي خلقه الله تعالى مرة واحدة من غير تدرج.
2-لابد أن يكون هذا التناقض من كل وجه بحيث لا يحتمل
_________
(1) انظر: التفسير والمفسرون، للذهبي (2/470) ، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الخامسة 1993، والمدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي ص: 208، وص: 26.
(2) انظر: مدخل إلى علم التفسير، أ. د. محمد بلتاجي حسن (ص: 203) ، حيث نقلها عن ميلر بروز (رئيس قسم لغات الشرق الأدنى) .
(1/371)
________________________________________
حمل اللفظ على معنى آخر، فإن دلالة القرآن الظنية المعنى مما يمكن حملها على عدة معان (1) ، ومن هذه المعاني معان لا تخالف العلم، مثل دعوى أن الأرض تدور حول الشمس، المناقض لقوله الله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن. . (فنسب فعل الدوران للشمس، وهذا غير صحيح؛ فإن اللفظ ليس قاطعا في هذا المعنى، بل إنه ابتدأ بقول: (وترى الشمس (أي أن هذا الأمر بالنسبة لرؤية الإنسان، وسياق الآية كما هو ظاهر ليس مقصودا في إثبات دوران الأرض حول الشمس أو العكس، فلا ينبغي تحميل النص ما لا يحتمل.
فإذا كانت المسألة في حقيقة علمية ثابتة، وهى تعارض نصا قرآنيا من كل وجه، فهنا تحصل المناقضة.
وكعادتنا نبدأ أولا بالردود الإجمالية ثم التفصيلية:
1-أن العلم والقرآن لا يمكن -عقلا- أن يتعارضا؛ وذلك لأن مصدرهما واحد وغايتهما واحدة، فمصدرها هو الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي خلق هذا الكون وما فيه من معارف وعلوم، وهو الذي شرع هذا الدين وما فيه من أخبار وأحكام، وما كان من الله فإنه لا يتناقض، (فالقرآن والكون - وهما مصدر الحقائق الدينية والعلمية - كلاهما من عند الله وصنعه، أنزل القرآن بالحق كما خلق الكون بالحق، فلا ينبغي للإنسان طلب الحق إلا فيهما، ومن ثم لا يتصور تصادم الحق مع نفسه) (2) .
_________
(1) التفسير والمفسرون (2/480) ، والمدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي ص: 26.
(2) اتجاهات التجديد في تفسير القرآن، للدكتور شريف، ص: 639.
(1/372)
________________________________________
ويتفقان أيضا في الغاية والهدف، وهو إسعاد البشرية وتذليل صعوبات الحياة، فما اتفق في المصدر والغاية لا يمكن أن يتعارضا فيما بين ذلك، فالعلم الصحيح لا يعارض القرآن، بل هما أخوان متعاونان (1) .
2-إن المنصفين من أهل الملل الأخرى شهدوا بأن القرآن لا يتعارض مع العلم أبدا.
يقول إبراهيم خليل: (يرتبط هذا النبي (صلى الله عليه وسلم) بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح -عليه السلام- في قوله عنه: (ويخبركم بأمور آتية) . وهذا الإعجاز هو القرآن الكريم، معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان، فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه؛ من طب وفلك وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ ... ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف. .) (2) ، وقال: (أعتقد يقينا أني لو كنت إنسانا وجوديا، لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس، وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه؛ لآمنت برب العزة والجبروت، خالق السماوات والأرض ولن أشرك به أحدا) (3) .
وقال بوتر: (عندما أكملت قراءة القرآن الكريم، غمرني شعور بأن هذا هو الحق، الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها، وإنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق
_________
(1) انظر: اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر، للدكتور شريف، ص: 628.
(2) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص: 47،48) .
(3) المرجع السابق (ص: 48) .
(1/373)
________________________________________
رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالاً للشك بأن هذه هي الحقيقة، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة) (1) .
وقال بوتر أيضا: (كيف استطاع محمد (صلى الله عليه وسلم) ، الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية، أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل) (2) .
وقال حتي: (إن أسلوب القرآن مختلف عن غيره، ثم إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه، هو إعجاز القرآن. . فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى) (3) .
ولقد ألف الدكتور مراد هوفمان -سفير ألمانيا السابق بالرباط- كتاب (الإسلام كبديل) (4) ، وفيه شهادات كثيرة على إعجاز القرآن وصدقه وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) وكمال التشريع.
ومن الذين تخصصوا في هذا المجال، وكان من أشد الناس عداوة للقرآن والرسول (الدكتور موريس بوكاي، وكان كلما جاءه مريض مسلم يحتاج إلى العلاج الجراحي، فإنه إذا أتم علاجه يقول له: ماذا تقول في القرآن، هل هو من الله أنزله على محمد أم من كلام محمد نسبه إلى الله افتراء عليه؟ فإذا أجاب المريض بأنه من الله، وأن محمدا (صادق، قال: أنا أعتقد أنه ليس من الله وأن محمدا ليس بصادق.
_________
(1) قالوا عن الإسلام (ص55) .
(2) قالوا عن الإسلام (ص55)
(3) قالوا عن الإسلام (ص58)
(4) من منشورات مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الثالثة، 2001.
(1/374)
________________________________________
وبقي على ذلك زمانا حتى جاءه الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية الراحل، يقول بوكاي: فعالجته جراحيا حتى شفي، فألقيت عليه نفس السؤال، فقال لي: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم مرارا وتأملته. فقال لي: بلغته أم بترجمة؟ فقلت: بالترجمة. فقال: إذن أنت تقلد المترجم، والمقلد لا علم له؛ إذ لم يطلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه، والمترجم ليس معصوما من الخطأ والتحريف عمدا، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية وتقرأ القرآن بها وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك الخاطئ هذا. قال: فتعجبت من جوابه، ووضعت يدي في يده وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن حتى أتعلم العربية، وذهبت من يومي إلى الجامعة الكبرى بباريس، وتعلمت اللغة العربية في سنتين، وأنا آخذ يوميا درسا حتى يوم عطلتي، ثم قرأت القرآن بإمعان، ووجدته الكتاب الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرفا ولا ينقص، وأما التوراة والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقها) (1) .
وكانت ثمرة هذه الدراسة العميقة للقرآن تأليف كتابه المشهور "التوراة والإنجيل والقرآن بمقياس العلم الحديث"، ومما قاله بوكاي في هذا الكتاب: (لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة بحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف - قبل هذه
_________
(1) مقال في مجلة السمو العدد الثاني (نوفمبر/2001) ، للدكتور وليد الطبطبائي بعنوان "الملك فيصل يدعو الجراح العالمي موريس بوكاي للإسلام"، في الصفحة الأخيرة، وذكر في المقدمة أن هذه القصة موجودة في كتاب "نوادر التاريخ" لصالح محمد الزمام.
(1/375)
________________________________________
الدراسة وعن طريق الترجمات - أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل، أما بالنسبة للعهد القديم، فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا، وأما بالنسبة للأناجيل، فإننا نجد نص إنجيل متى يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض) (1) .
- ثانيا: الرد التفصيلي:
1- لعل من أقدم الطعون في دعوى تعارض القرآن مع العلم التجريبي، ما ادعاه بعضهم من معارضة قوله تعالى عن العسل: {فيه شفاء للناس} [النحل: 69] .
قال القرطبي: (اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث، فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهِل فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام (2) ، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره
_________
(1) قالوا عن الإسلام (ص56) .
(2) يعني في حديث أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ (فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلًا) ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. متفق عليه (البخاري: كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، رقم: 5684، ومسلم: كتاب السلام، باب: التداوي بسقي العسل، رقم: 2217) .
(1/376)
________________________________________
بعقد نية وحسن طوية, فإنه يرى منفعته ويدرك بركته, كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل؛ حيث لم يقيد وأطلق. قال الإمام أبو عبد الله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة, منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات; والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها, وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية, فأما حبسها فضرر, فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) بشرب العسل، فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء، بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه (; فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه، فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتخريجه على ما يصح، إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب) (1) .
_________
(1) الجامع لأحكام القرآن (10/91)
(1/377)
________________________________________
وقد أجاب ابن حزم -رحمه الله- على ابن النغريلة اليهودي بأن كلمة (فيه شفاء) نكرة فلا تلزم العموم (1) ، وقد تقدم معنا كلام الأمام الداني (2) أن (ال) في كلمة (للناس) ليست للعموم بل للجنس.
وهذه هي الطعون العلمية التي ذكرها المجلس الملي النصراني ورد الدكتور شلبي عليها: -
2_ الأرض ثابتة لا تتحرك:
(جاء في سورة لقمان: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم (. وجاء هذا في سورة أخرى. . وقال ((رجال المجلس الملي)) : إن العلم يثبت أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل 24 ساعة فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة (3) ؟
الجواب: (معنى تميد تضطرب وتتزلزل، ولا يراد بالميدان مجرد حركة متزنة، والمصدر الثلاثي (فعلان) يأتي لإفادة هذا المعنى، مثل ميدان وغليان وثوران وجولان. . . وهكذا، والآية تذكر أن الله ثبت الأرض حتى يستطيع البشر أن يستقروا عليها في نومهم، ويزرعوا ويرعوا ماشيتهم، ولو كانت مضطربة ما استطاع الناس أن يطمئنوا عليها وأن يعملوا هذه الأعمال.
نحن ننام في الطائرة وفي القطار وفي السفينة، فإذا اضطرب واحد منها استيقظنا وشعرنا بالتعب، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئاً يسكنها لتثبت، ولا يعني تثبيته أنه يقف ولا يتحرك، بل أن ينقطع اضطرابه،
_________
(1) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص: 62) .
(2) رد مفتريات على الإسلام ص: 66.
(3) رد مفتريات على الإسلام (ص: 130)
(1/378)
________________________________________
وسيذكر القوم بعد معترضين على القرآن أنه ذكر (وكل في فلك يسبحون (، و (كل (كلمة تشمل الشمس وتوابعها من القمر والأرض والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل هذه الكواكب) (1) .
3_ الكواكب في حجم الحجارة:
(جاء في القرآن: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} [الملك:5] ، وجاء أيضاً: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} [الحجر:16-18] ، وقال رجال المجلس: إن القرآن جعل النجوم والكواكب في حجم الحجارة، ترمي بها الملائكة الشياطين، والعلم الحديث يثبت أن كل كوكب عالم ضخم.
والذي في الآية أن هناك أجساماً نارية تصيب الشياطين، ولم يذكر أن الشيطان يسقط عليه نجم أو أن الملائكة ترميه به، والعلم الحديث، ورواد الفضاء يتحدثون عن النيازك التي ترى في الفضاء الواسع مذنبات مضيئة، ومنها الناري الذي ينطفئ ويتفتت في سيره، وبعضها يصل إلى الأرض، وهي تشبه المقذوفات البركانية، والذين درسوا جغرافية فلكية يعرفون هذا، فهذه المقذوفات قطع تنفصل من الكواكب وتتحرك في الفضاء، خصوصاً إذا كان النجم أو الكوكب قريبا من الأرض، والله تعالى يصيب بها من يشاء ويحفظ بها من يشاء، وقد تكون قطعاً باردة ولكنها مضيئة كالقمر.
_________
(1) المصدر السابق (ص: 130) .
(1/379)
________________________________________
أما سمع نوابغ العصر أصحاب تيموثاوس أن الذين نزلوا على سطح القمر رأوا هناك جهات ساكنة نارها، وأخرى ملتهبة؟ وأنهم رأوا الأرض مشعة كما نرى نحن القمر؟ وأن الفضاء مليء بقطع نارية سابحة، ومنها ما يصل إلى الأرض؟) (1) .
4_ الفضاء سطح أملس قابل للسقوط وكذلك الأرض:
(ذلك لأنه جاء في القرآن {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق:12] ، وجاء: {والله الذي جعل لكم الأرض بساطاً} [نوح:19] ، وجاء: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:21] ، {الذي جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة:22] ، وجاء هذا ومثله في آيات أخرى، وخطؤه في نظر رجال المجلس أن الأرض كوكب واحد وليس سبعة، وكذلك السماء!
والآية الأولى جاءت في ختام سورة الطلاق، وهي تلفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى البالغة: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً (.
آية عجيبة رهيبة تبين ضآلة الإنسان في هذا الكون العظيم، ويقف غير واحد من الكتاب مذهولاً أمام التعبير، وأمام مدلوله، وأمام هذا الإعجاز القرآني.
_________
(1) رد مفتريات على الإسلام (ص: 132) .
(1/380)
________________________________________
ما هذه السماوات؟ وما هذه الأرضين؟ كل ينظر من زاوية خاصة، وكل يجد في الآية ما يبهره.
قد تكون السماء التي توصل علمنا إليها بكل ما فيها من كواكب ونجوم وأفلاك إحدى سماوات سبع، والكرة الأرضية التي نعيش عليها هي أيضاً كذلك! إن علم الفلك الحديث يؤيد هذا، ويذكر أن المجموعة الشمسية التي يتعلق بها عالمنا هذا ليست إلا واحدة من مجموعات أخرى لا يعلمها إلا الله الذي خلقها.
فهذا إعجاز قرآني؛ إذ لم يكن محمد يدرس فلكاً ولا يعرف شيئاً عن هذه المستكشفات الحديثة.
وفي اللغة العربية يذكر العدد لإرادة التكثير، ويعبرون عنه بأنه عدد لا مفهوم له، وهذا كما تقول لصديقك: زرتك ألف مرة ولم تزرني. فأنت لا تريد ألفاً بعدده، وإنما تريد زرتك مرات كثيرة، فإذا حملنا العدد في الآية هذا المحمل، فالمعنى أن الله خلق سماوات كثيرة وأرضين كثيرة، وهذا حق وواضح.
وقد يكون المراد بالسبع الأرضين أنواعا مختلفة من تربة الأرض، ويسمى كل نوع أرضاً، وهذا وهذا كما تقول: أصبح فلان ثرياً يملك أراضي كثيرة، والأرض أنواع بحسب تربتها وما بكل تربة من عناصر تكونت منها، بعضها رملي وبعضها جيري، وببعضها معادن حديدية وبالأخرى عناصر نحاسية وهكذا، كما قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} [فاطر:27] .
وقد يراد من أنواع الأرض ما تصلح لإنباته، فأرض بها غابات وأرض بها زهور، وثالثة قاحلة لا تنبت شيئاً.
وآية سورة البقرة: {الذي جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة:22] . .
(1/381)
________________________________________
ليست الوحيدة التي تذكر هذا في القرآن، بل هناك آيات أيضاً أخرى تذكر هذا، ومعنى (فراشا (: أي مبسوطة تحت أقدامنا، منبسطة كالفراش، ننام عليها ونمشي ونزرع، ونستقر أيضاً أنعامنا ومساكننا، ولو جعلها الله سبحانه وتعالى كثيرة التعاريج شديدة التحدب، ما استطعنا أن نستريح عليه، ولا أن نجري كل هذه الأعمال، فالآية تذكر نعمة من نعم الله علينا، وليس في هذا ما يفيد أن الأرض قابلة للسقوط!
وأما الآية التي في سورة الأنبياء، فقد جاءت ضمن آيات غاية في الروعة والإعجاز العلمي الفلكي، ولها يعجب الكثيرون كيف قرر القرآن هذه الحقائق منذ ذلك الزمن السحيق. فاقرأ قوله تعالى: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شي حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفاً محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس كلٌ في فلكٍ يسبحون} [الأنبياء:30-33] . كانت السماوات العديدة والأرض جزءاً واحداً، ففتقها الخالق وفصل بعضها عن بعض: تبارك الله، وصدق نبيه الكريم! ما كان ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى!!
في العصر الوسيط عصر الإظلام العقلي، والركود العلمي يقرر القرآن الكريم بحق أحدث النظريات العلمية، التي لم يهتد إليها العلم الحديث إلا من زمن قريب!
هذه الكواكب كلها بما فيها الأرض كانت قطعاً نارية، انفصلت من الشمس أثناء دورانها الأبدي الجبار، فتناثرت في الفضاء الذي لا يعلم مداه إلا الله، واستغرقت ملايين الأعوام وبلايينها حتى بردت
(1/382)
________________________________________
قشرتها الخارجية، وشق الله بها الأنهار والبحار، وأنزل عليها ماء الأمطار، فدبت بها بعد ملايين السنين أيضاً صور الحياة المختلفة من النباتات الدنيئة والطحالب، ثم الحيوانات المختلفة، منها ما انقرض ومنها ما بقي، هكذا جعل الله من الماء كل شيء حي، كل شيء من النباتات والطيور والديدان والحشرات والأفاعي والوحوش والأناسي، كلها من الماء وتقوم حياتها عليه.
هذا إبداع الله وخلقه، قدر سبحانه وهدى، ولم يأت شيء من أعماله بطريق المصادفة.
أما التوراة فتقول: (في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الأرض ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه) .
هكذا بدأ وأنشأ الله السماوات والأرض جميعاً دفعة واحدة، ولم يذكر شيء عن الماء.
تعبير ساذج وتفكير وثني، لا يفهم إلا الشيء المتجسد؛ أين كان الله إن كانت روحه ترف وتحوم حول الماء؟ أكان بلا روح، أم هو الذي تجسد فصار هذا الحيز الضئيل كالحمامة؟ خلق الكون كله وهو جزء صغير منه.
(وقال الله: ليكن نور. فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن) !
لم يكن يعرف أنه سيكون حسناً، ولكن لما ظهر له أعجبه. عمل من طريق الصدفة البحتة، وتجربة نجحت وجاءت بشيء جميل.
أهذه هي البلاغة؟! لا فصاحة تعبيرية ولا حقيقة علمية.
ونقرأ بقية هذه البداية فنجد: أن الله فصل بين النور والظلمة، وسمى النور نهاراً والظلمة ليلاً، وقال لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة. ودعا اليابسة أرضاً.
(1/383)
________________________________________
وهكذا يمضي سفر التكوين مضطرباً في الكلمات القليلة التي بدأ بها.
في البداية خلق السماوات والأرض وكانت الأرض خربة، وبعد ذلك خلق وسط الماء شيئاً جامداً أسماه أرضاً، وسمى بعضاً منه سماء.
وهل يؤيد هذا علم أو يتسع له عقل؟ خلق السماوات والأرض، ثم خلق شيئاً سماه أرضاً وسماء!
كانت الفكرة القديمة أن العالم كله ماء، وأن الأرض طافية فوق الماء كحبة العنب، وهو تفكير نشأ عن نظر محدود. وسفر التكوين وبقية الكتاب المقدس _أو الذي يسمى الكتاب المقدس _ من وضع بشري متأخر.
ومع اضطراب التعبير، وسقامة الأسلوب، ومخالفة المعنى لحقائق العلم يعجب تيموثاوس التقي الذكي به ويعيب القرآن.
{أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [سورة الأنبياء:30] .
{وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون} [سورة الأنبياء:32] . .
والسماء هي كل شيء نراه فوقنا، وفهم تيموثاوس أن السماء لا تكون إلا بمعنى الفضاء، وهو جهل فاضح، لقد كان العرب يقولون لمحمد (صلى الله عليه وسلم) أسقط السماء علينا كسفاً؛ أي قطعاً، فهل كانوا يعنون الفضاء؟
ونحن ننظر إلى الأعلى ليلاً ونهاراً فنرى الكواكب السابحة، لا نستطيع نحن ولا تستطيع الجن والإنس أن تغير من نظامها شيئاً، أو تعدل فيه أدنى تعديل؟ كما أننا لا نستطيع حتى الوصول إليه، لقد كان من أعاجيب العلم أن وصل الناس إلى أرض القمر، والقمر تابع
(1/384)
________________________________________
للأرض وكوكب ضئيل! فأين الجهد البشري من هذه الكواكب البعيدة الجبارة؟ وأين هي؟ وما مدى العلم بها؟
صدق الله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً () [سورة الاسراء:30] . (1) .
5-قرر القرآن أن جبل ((قاف)) يحيط بالأرض كلها
وذلك في أول سورة (ق) قي قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد (. وهذا خطأ؛ لأن العلم يبين أن أعلى قمة هيس (إفرست) (2) .
وهذه خرافة مصدرها كتاب اليهود! الذي يتحدث عن جبل قاف الخرافي.
أما القرآن فلم يذكر جبالاً ولا قمماً، والحرف (ق) أحد الحروف الكثيرة التي بدئت بها سور من القرآن مثل: ص، ن، حم، الر. . وهكذا.
ولكن الصيغة المادية البحتة التي تركتها التوراة المزيفة في ذهن القوم، وجهت ذهنهم هذا الاتجاه المادي البحت، وإذا كانت هذه خرافة منشؤها كتاب يهودي، فكيف يؤاخذ بها القرآن؟! إن كتب اليهود هي كتب المسيحيين، فليوجه القوم اللوم إلى أنفسهم، أما أن يكونوا هكذا جاهلين، ثم يحملون جهلهم على القرآن، فهذا ما لا يقبله غير عقولهم) (3) .
_________
(1) "رد مفتريات على الإسلام" (ص: 132-136)
(2) السابق (ص: 142) .
(3) "رد مفتريات على الإسلام" ص: 142.
(1/385)
________________________________________
وهذه طعون علمية أخرى من كلام المستشرقين، فيما ذكره الأستاذ ميلر بروز (رئيس قسم لغات الشرق الأدنى وآدابه، وأستاذ الفقه الديني الإنجيلي في جامعة ييل) في بحث له بعنوان: (مقترحات في موضوع العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام) (1) ، وقد أجاب عليها أستاذنا الدكتور بلتاجي على النحو التالي:
6-قال ميلر: (من الذائع المشهور أن النتائج التي وصل إليها العلم الحديث عن أصول العلم، تخالف كل المخالفة ما هو مقرر في الكتاب المقدس، وفي القرآن من أن الله خلق العالم في ستة أيام، صحيح أن القرآن يقرر أن يوما عند الله كألف سنة مما يعد الإنسان ولكن هذا لا يحل المعضلة؛ فإن فترة الزمان المتطاولة التي مر بها الكون في وجوده، لا يمكن أن تضغط في ستة آلاف أو ستة ملايين سنة) (2) .
الجواب:
(أ- الآيات التي أشار إليها ميلر بروز تقرر أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، لكنها لا تعرض لعمر الكون المخلوق منذ خلقه الله تعالى حتى يومنا هذا، لكن ميلر بروز في كلامه السابق يخلط بين الأمرين، مشيراً إلى (معضلة) لا وجود لها، حيث يتكلم عن (فترة الزمان المتطاولة التي مر بها الكون في وجوده، والتي لا يمكن أن تضغط في ستة آلاف أوستة ملايين سنة) ، فمال الآيات القرآنية التي يشير إليها وعمر الكون؟!
_________
(1) انظر: المدخل إلى علم التفسير، لأستاذنا الدكتور بلتاجي (ص: 203) .
(2) السابق (ص: 203) .
(1/386)
________________________________________
إنها تقرر فحسب الزمن الذي خلق الله تعالى فيه الكون، دون أن تعرض لما بعد الخلق من الزمن الذي مر على الكون المخلوق حتى يومنا هذا.
فالتناقض الذي يتكلم عنه هذا المستشرق إنما جاء نتيجة لخلطه بين الأمرين، وتحميل الآيات القرآنية غير ما تحمله من معنى. وذلك أمر غاية في الوضوح لكل من يراجع نصوص الآيات المشار إليها ثم يراجع كلام المستشرق عنها) (1) .
ب- إن ميلر بروز ـ أو غيره ـ لا يستطيع أن يعرض بشيء من التكذيب لما قررته هذه الآيات، من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش؛ لأن فعل الخلق وزمانه سبقا الوجود البشري، فلا يستطيع أحد إطلاقاً أن يزعم أنه شهد - بأي وسيلة - أو رصد كيفية خلق السماوات والأرض وزمانه، وعلم البشر المادي - بكافة فروعه - نشأ بعد أن تم الخلق، وليس هناك أمامه سبيل ما لمعرفة تفصيلات خلق السماوات والأرض وما بينهما - من حيث الزمان - إلا ما أخبر به الوحي الصادق عن الله تعالى في هذه الآيات، وفيما يتصل بها من أحاديث نبوية صحت روايتها عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يملك الإنسان - في علمه البشري وسيلة أخرى يسترجع بها كيفية الخلق أو زمانه ليقيس عليها ما ورد في الوحي، ومن هنا لا يستطيع العلم البشري بحال أن يصل في هذه القضية إلى شيء يستند عليه في تكذيب ما ورد في الوحي؛ لأن الوحي يحكي هنا عن أمر (غيبي) لم يشهد البشر ولا يصل إليه علمهم المادي بحال، كما قال تعالى: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً} [سورة الكهف:30] .
_________
(1) السابق (ص: 206) .
(1/387)
________________________________________
فكل زعم بمحاولة التشكيك في الله تعالى: خلق السماوات والأرض في ستة أيام زعم باطل بدءاً، يستوي في بطلانه مع دعوى الكفار القدماء، بأن الملائكة - الذين لم يشهدوا خلقهم أو يحيطوا بهم علماً - إناث، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون (.
أما ما يشير إليه ميلر بروز من (النتائج التي وصل إليها العلم الحديث عن أصول العالم) فليس في هذه النتائج - وهي محض فروض في ذاتها - ما يعرض لشيء عن مقدار الزمن الذي خلق الله فيه السماوات والأرض، وإن كان فيها تقديرات فرضية لعمر الكون المادي، وتلك قضية أخرى كما سبق أن قررنا) (1) .
7-قال ميلر: (الإنسان نفسه لم يخلقه الله دفعة واحدة منفصلا عن خلق الحيوان، ولكه جاء نتيجة لتطور طويل من الأشكال الدنيا للحياة، فكيف إذن نتغلب على هذا الإشكال) (2) .
(ج) أما ما يشير إليه ميلر بروز من نظرية النشوء والاتقاء لداروين في قوله: "إن الإنسان نفسه لم يخلقه الله في دفعة واحدة منفصلاً عن خلق الحيوان، ولكنه جاء لتطوير طويل من الأشكال الدنيا للحياة) ـ فإنما يشير في نظرية لم تكن في وقت من الأوقات حقيقة علمية قطعية يمكن أن تقاس عليها النصوص الدينية، فهي لم تزد في وقت ما ـ منذ قيل بها ـ عن أن تكون مجرد فرض لم يقم عليه أبداً دليل قاطع، أو قريب من القطع واليقين، ومنذ أعلنها داروين وجد لها معارضون من رجال العلم التجريبي؛ لأنه لم يقم أبداً دليل محسوس على صحتها،
_________
(1) المدخل إلى علم التفسير، ص: 207.
(2) السابق، ص: 203
(1/388)
________________________________________
وإنما هي فرض عقلي فسر به داروين بعض الظواهر والمشاهدات، لكن لم يرصد أحد من المؤمنين بها إطلاقاً تطوراً مادياً يقطع بصحتها، بل على العكس من ذلك فقد طالعتنا وكالات الأنباء في أكتوبر 1974م (شوال 1394هـ) أن أعضاء بعثة الآثار الفرنسية البريطانية، التي تقوم بسلسلة من الحفائر في إثيوبيا قد اكتشفوا بقايا هيكل عظمي لإنسان، يرجع تاريخها إلى حوالي أربعة ملايين سنة، وقال أعضاء البعثة إن هذا الكشف سيغير تماماً النظريات السابقة المعروفة عن أصل الإنسان (جريدة الأخبار القاهرية في 28/10/1974 ص1) .
ومما لاشك فيه أن أول ما يغيره هذا الكشف نظرية داروين، فهل يستقيم بعد هذا أن يطعن إنسان في صدق الوحي القرآني في الخلق، مستنداً إلى استنتاج فرضي لعالم طبيعي، لم يثبته هو أو غيره بصورة قاطعة، بل وجدت اكتشافات تطعن في صحته؟ ومن هنا لا تصلح هذه النظرية ـ على أي نحو ـ لتكون مقياساً تقاس عليه نصوص القرآن الكريم في الخلق.
ومنهجنا في كافة النظريات البعيدة عن وصف اليقين، هو أننا ننزه القرآن ابتداءً عن أن يقال في تأويله شيء يتصل بمحض الفروض والاستنتاجات القابلة للتغيير، بل الإلغاء أصلاً.
وبهذا يتبين أن كلام ميلر بروز وأمثاله عن (خلق الإنسان في تطور طويل من الأشكال الدنيا) ـ كقضية مسلم قطعاً بصحتها ـ شنشنة كاذبة تعرفها من هؤلاء وهي تقوم على جعل (الظنون والتصورات) حقائق قاطعة مسلماً بصحتها، وينبغي ألا يخدع هذا المنهج القائم على التعمية والتجهيل بحقائق الأمور - أحدًا من الباحثين الذين يحترمون عقولهم) (1) .
_________
(1) "المدخل إلى علم التفسير" (ص: 209) .
(1/389)
________________________________________
8- في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86] .
يقول خلف الله: (بان للعقل الإسلامي أن مسألة غروب الشمس في عين حمئة، لا يستقيم وما يعرف من حقائق هذا الكون) (1) .
-الجواب:
قد قدمنا أن لا يصح الأخذ بالألفاظ المحتملة وادعاء أنها تعارض العلم،
(فالتعبير القرآني المحكم المعجز يقول (وجدها تغرب) ولم يقل إنها تغرب؛ حتى يكون هذا تعبيرا عن الحقيقة الكونية المطلقة) (2) .
قال ابن كثير -رحمه الله-: (قوله: (وجدها تغرب في عين حمئة (أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه) (3) .
وقال القرطبي -رحمه الله-: (قال القفال: قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا، ووصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض، من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال:
_________
(1) الفن القصصي (ص/34) .
(2) مدخل إلى علم التفسير (ص: 233) .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/103) .
(1/390)
________________________________________
"وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا" ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم) (1) .
فالدعاء أن هذه الآية تعارض العلم لاشك أنه ادعاء باطل.
_________
(1) جامع أحكام القرآن للقرطبي (11/50) .
(1/391)
________________________________________
وهكذا؛ لو نظرت إلى معظم طعونهم في القرآن بدعوى معارضته للعلوم الحديثة، فإنها لا تكاد تخرج عن الضابطين الأوليين في هذا المبحث؛ إما أنها نظريات لم تصل حد الحقيقة المسلمة، أو تحميل لفظ القرآن ما لا يحتمل.
والله تعالى أعلى وأعلم.
والله سبحانه هو الموفق والهادي إلي سواء السبيل.
(1/396)
________________________________________
الخاتمة
لقد ظهر لي بعض النتائج والتوصيات بعد هذه الدراسة، وهي كالتالي:
1-أحسب أني أتيت بشيء جديد في هذه الرسالة , لا سيما في بعض المباحث , كأدلة صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) , والردود الإجمالية على كل طعن , وبعض الردود التفصيلية, وغير ذلك.
2-أغلب الطعونات تَكَفَّل القرآن بالرد عليها إجمالا.
3-الكثير من الطعون أجاب عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) تفصيلا.
4-الطاعنون يرددون الطعونات ويتناقلونها , ويتواصون بها , ويأخذها الرجل , عن الآخر ثم يعيد صياغتها مرة أخرى , معرضين عن أجوبة العلماء عليها , وضاربين بعرض الحائط تفنيد العلماء لها, وهذه علامة أهل الأهواء، وصدق الله إذ يقول: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. .} [فصلت: 43] .
5-يلاحظ أن هناك تقسيم للأدوار في الطعون، فيبدأ الأول بطعن , ثم الثاني بطعن آخر في زمان يليه وهكذا، وكل واحد منهم يبارك للآخر ويدافع عنه.
6-شؤم البدع والفرق الضالة على الإسلام , حيث فتحوا الباب للطاعنين، فتجدهم يستدلون بكلام الرافضة في إثبات تحريف القرآن، ويستدلون بكلام الصوفية بأن القرآن ليس واجب الاتباع؛ لأن له معاني أخرى غير المعان الظاهرة يسمونها العلم الباطن، ويستدلون بكلام المعتزلة في تقديم العقل على النقل.
(1/397)
________________________________________
7-الطاعنون العلمانيون، لم يكن طعنهم في القرآن مباشرا، وأما المستشرقون فقد كانوا يطعنون طعنا مباشرا في القرآن؛ لأنهم يعلمون خطورته في إذكاء روح التحدي في الأمة، وأما تلاميذهم من العلمانيين فقد كانوا أكثر ذكاء في الطعن , فهم يعلمون مكانة القرآن في نفوس المسلمين , ومدى إتقانه وإحكامه , فالطعن فيه مزلة مدحضة مسقطة للسمعة من أول الأمر، لذلك فقد كانت طعونهم تحوم حول الحمى.
8- لقد اتضح أن أكثر المستشرقين ليس فيهم من الاعتدال شيء ولا من الإنصاف، بل هم يغرون المسلمين بكثير من الكلام الجميل عن الإسلام؛ وذلك ليوصفوا بالاعتدال والإنصاف، فإذا فُتحتْ لهم الأبواب , وأصغت لهم الآذان , وذاب الحجاب , جاءت الطعون من كل حدب وصوب، كما هو الحال في جولدتزيهر وبلاشير وغيرهم (1) .
9-من أسخف الطعون الإستشراقية الطعون اللغوية، فهؤلاء المستشرقون الذين ظهروا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف سنة , يريدون أن يخبرونا أن القرآن فيه أخطاء لغوية أو نحوية، مع أنه عرض على فصحاء العرب وعلماء اللغة والنحاة واللغويين , ولم ينقم عليه أحد شيئا في لغته، فإذا بهؤلاء بعد هذه الأزمنة المتطاولة , والإجماع القطعي يخرجون لنا بهذه البائقة، التي أضحكت عليهم المجانين، فلا ينبغي التشاغل بالرد عليهم في هذا الباب , ولا إضاعة الأوقات على قوم يريدون أن يعلمونا لغتنا وهم لا يفقهون منها شيئا، وأغلب طعونهم هي عبارة عن ألفاظ مشتركة , أو ألفاظ عامة , أو غير ذلك من أنواع طرائق الكلام، وإنه ليصح لنا أن نتمثل بقول الشاعر:
_________
(1) وقد قرر هذه القضية أستاذنا الدكتور محمد إبراهيم شريف تقريرا شافيا في كتابه (اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر) ص: 730.
(1/398)
________________________________________
إِذَا وَصَفَ الطَّائِيَ بِالُبُخْلِ مَادِرُ (1) وعَيَّر قَسًا (2) بالفَهَاهَةِ باقِلُ (3)
وقال السُّهَى (4) للشَّمْسِ أًنْتِ خَفِيَّةٌ وقال الدُّجَى للصُّبْحِ لَونْكَ حَائِلُ
فيَا مَوْتُ زُرْ إنَّ الحياةَ ذَمِيمَةٌ ويا نَفْسُ جِدَّي إنَّ دَهْرَكِ هَازِلُ (5)
10-لا يألو أعداء الله جهداً في الطعن في هذا الدين، واستخدام كل الطرق لتنفير الناس منه, ولو كان في غايةٍ من الخسة
_________
(1) مارد: هو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة , اسمه مخارق , بلغ من بخله أن سقى إبله , فبقى في أسفل الحوض ماء قليل , فسلح فيه ومدر الحوض به , فسمى مادراُ وصار مضرب المثل عند العرب , فيقال: أبخل من مارد , انظر: مجمع الأمثال , للنيسابوري, تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد , دار المعرفة , بيروت (1/111) .
(2) هو قس بن ساعدة بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار الإيادي , كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم , وهو أول من كتب من فلان إلى فلان , وأول من أقر بالبعث من غير علم وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة وثمانين سنة , قال الأعشى: وأبلغ من قس. انظر: مجمع الأمثال , للنيسابوري , (1/111)
(3) باقل: هو رجل من إياد قال أبو عبيدة: باقل رجل من ربيعة بلغ من عيه أنه اشتري ظبياً بأحد عشر درهماً فمر بقوم، فقالوا له: بكم اشتريت الظبي فمد يديه، ودلع لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي، وكان تحت إبطه، وهو مضرب المثل في العي، فيقال: أعيا من باقل، انظر: مجمع الأمثال (1/111) .
(4) السُّهى: هو كوكب صغير خفي في نجوم بنات نعش. انظر: المستقصي في كلام العرب، للزمخشري (1/147) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1987م.
(5) ومعني الأبيات أنه إذا اختلت معايير الحكم على الأشياء؛ كأن عيَّر مادر - وهو مضرب المثل في البخل - حاتماً الطائي - وهو مضرب المثل في الكرم - بالبخل، وعيَّر باقلُ - وهو مضرب المثل في العي - قس بن ساعدة الإيادي - وهو مضرب المثل في الفصاحة - بالفهاهة، ورمى السُّهى الخفي الشمس بالخفاء، فإن الموت يصبح أحب إلي النفس من الحياة، فقد صارت ذميمة بغيضة، ويجب على النفس آنذاك أن تقابل هذا الهزل بالجد والعزم.
(1/399)
________________________________________
والدناءة، كما فعل لبيد بن الأعصم عندما سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) .
11-من المفارقات العجيبة أن يكون هؤلاء المتطفلون على ديننا , الطاعنون في كتاب ربنا، مرجعا لكثير من الكُتّاب الإسلاميين، وكأن الأمة الإسلامية عقمت أن تأتي بأمثال هؤلاء.
12- يجب التنبه والحذر من الأشخاص الذين يثني عليهم الطاعنون، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لمعرفتهم بقرب طريقتهم من طريقتهم، وليروجوا أسماءهم على البسطاء فيستمعوا لهم ويأخذوا عنهم.
13-لو جُمعت كل طعون المعاصرين على القرآن , لأنتج هذا أعظم أنواع الكفر بالدين، فلو أخذنا بقول إنه مأخوذ من اليهود والنصارى , وإنه زيد فيه ونقص , وإنه يجوز نقده , وإنه لا يجب العمل به , وإنه متناقض , وإن كل القصص التي فيه عبارة عن أساطير مكذوبة، لأدى هذا إلى نقض الدين كله من أصله؛ لأن الدين قائم على القرآن، والقرآن عبارة عن أخبار وأحكام، كما قال سبحانه: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا (أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فإذا كانت الأخبار مكذوبة والأحكام غير لازمة، فما فائدة نزول القرآن إذن؟!.
14-من الطعون الجديدة في هذا العصر تعارض القرآن مع العلوم التجريبية الحديثة، فلم يُتعرض لها إلا في هذا الزمن، بعد الاكتشافات العصرية الجديدة.
15-التوصية بكتابة مؤلَّف في طبقات المفسرين من القرن العاشر -حيث وقف الداودي- إلى عصر. الحاضر؛ لأنه لم يؤلف في هذا
(1/400)
________________________________________
المجال أحد، مع شدة الحاجة لمعرفة ما كتب في هذه العصور المتطاولة، ومعرفة تراجم مؤلفيها.
16-التوصية بتحقيق كتاب الرازي في التفسير "مفاتيح الغيب"، والرد على جميع ما يورده من الطعون، لأنه يورد الطعون بقوة ويجيب عليها -في الغالب- بضعف (1) ، أو كما قيل: يورد الطعن بنقد ويجيب بنسيئة، ثم يطبع كتاب " مفاتيح الغيب" طبعة جديدة مع وضع جميع هذه الردود في الحاشية عند كل تطعن، كما هو الحال في تفسير الزمخشري (الكشاف) حيث طبع مع رد ابن المنير الإسكندراني.
17-يقول الرافعي: خذ من زاعمي التحرر: الكذب في فلسفة المنفعة، والتسفل في شعاعة الغريزة، والوقاحة في زعم الحرية، والخطأ في علة الرأي، والإلحاد في حجة العلم (2) .
18-وأخيرا نقول لمن حاول الطعن في كتاب الله , أو في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , أو في شيء من دين الله: اعلم أنك بفعلك هذا قد جنيت على نفسك , وأوديت بها إلى مهاوي الردى , واعلم أن "هذا الدين متين" (3) "وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ " (4) ، فأشفق على نفسك
يا ناطِحَ الجَبَلِ الأَشَم بِرأْسِهِ ... أشفق عَلَى الرأس لاَ تُشْفِقْ عَلَى الجَبَلِ
وإنما مثل هؤلاء الطاعنين كوَعْلٍ غَرَّه قَرْنَاه, فرَأَى ذاتَ يومٍ صَخْرةً ضخمةً راسيةً شامخةً , فأراد أن يريها قوةَ قرنيه فنطحها بكل ما عنده من
_________
(1) اننظر المدخل إلى علم التفسير، أ. د. بلتاجي (ص: 222) .
(2) إعجاز القرآن لمحمد صادق الرافعي (ص: 10) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أنس (27318) حسنه الألباني في السلسة الضعيفة (5/501) رقم: 2480.
(4) أخرجه البخاري عن أبي هريرة (كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقم: 39) .
(1/401)
________________________________________
قوة , فتحطم قرناه وتفتتا، وأما الصخرة فما أحست من ذلك بشيء , قال الشاعر:
كناطِحٍ صَخْرةٍ يوماً ليُوهنُها ... فلَمْ يُضِرْها وأَوْهَى رَأْسَه الوَعْلُ
فالإسلام كالبحر الخضم , لا يضره من ألقى فيه بحجارة محاولا إيذاءه
ومَا يَضُرُ البَحْرَ أمْسَى راسياً ... إذا رَمَى إِليه صَبِي بحَجَرْ
وهكذا الدين دائما يخرج منتصرا، جعلنا الله - تعالى- من أنصاره، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك. (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/402)
________________________________________