المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قلب الإخوان .. محاكم تفتيش الجماعة


روضة الكتب
10-25-2019, 03:07 PM
تقديم
كان هذا الكتاب مفاجأة بالنسبة لنا، فحين قرأناه أدركنا أننا أمام ثروة من الأسرار الإخوانية المذهلة – ومن ينقلها لنا غير ثروت؟ - حيث أورد الكاتب حقائق ووقائع من "قلب الإخوان" حقائق غائبة عن جماعة الإخوان غابت عنها فغابت عنا ولم يعرفها الرأي العام، ووقائع رهيبة تدور حوادثها داخل هذه الجماعة التي تحولت من جماعة دعوية إلى جماعة سياسية ثم انتهت إلى معبد كهنوتي فكان رجال المعبد القطبي – نسبة إلى سيد قطب- كما يقول الكاتب هم السبب الفاعل في "قلب الإخوان" إلى وجهة أخرى لم تكن من أهداف مؤسس الجماعة حسن البنا.
أما المفاجأة الأخرى فكانت في الطريقة التي صاغ بها المؤلف كتابه، فقد استطاع بحسه الأدبي الراقي أن يحوّل أحداثاً قد تبدو جامدة إلى حياة صاخبة مشوقة ممتعة حتى أن القارئ ليتفاعل معها ومعه في كل حدث مر به أو عليه سرد الكاتب تجربته مع الإخوان في صورة أدبية بديعة ومشوقة هي أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية وحوّل تلك السنوات التي قضاها في جماعة الإخوان إلى نص أدبي وسياسي واجتماعي في آنٍ واحد جمع فيه بين الأدب المتمثل في لغته الراقية وصياغته المحكمة، كما عرفنا من خلاله ما يدور داخل أروقة أخطر جماعة سياسية مرت على مصر في الحقب الأخيرة ومدى تأثير هذه الجماعة في أفرادها وفي عموم الناس تأثيراً اجتماعياً ودينياً وسياسياً.
والآن نترك القارئ مع الكتاب ليقرأه على مهل ويقرأ سطوره ومابين السطور ويستمتع بلغته الأدبية وأحداثه

المشوقة ونحن على ثقة من أن أي متصفح لهذا الكتاب لن يتركه إلا بعد أن يفرغ منه تماماً ويتفرس وثائقه، ولكن هذا الكتاب سيعيش طويلاً في وجدان القارئ فصاحبه لم يكن يكتب بقدر ما كان ينزف من مشاعره، فنقل لنا بقلبه وقلمه صورة كاملة من "قلب الإخوان" ومن ينقلها غيره فقد كان يوماً ما في "قلب الإخوان".
الناشر

إهداء
بما أنه يجب أن يكون لكل كتاب إهداء فإن هذا الكتاب يجب أن أهديه لأحد، وليس هناك بالطبع أغلى من الأهل ولعل نفسي حدثتني بأن أهديه إلى روح أبي رحمه الله أو أهديه إلى أمي أطال الله في عمرها ومتعها بالصحة فقد كان لهما الدور الأكبر فيما وصلت إليه، ولعل نفسي حدثتني أيضاً بأن أهديه إلى أشقائي وزوجتي وأولادي مرام ويحيى... كل هذا حسن وأنا بالقطع أهدي لهم جميعاً هذا الكتاب، إلا أن هذا الكتاب الذي هو بضعة من نفسي وقطعة من أيام قضيتها في جماعة الإخوان المسلمين بحلوها ومرها لذلك فإنه من اللائق أن يكون إهدائي لأحد الإخوان، والذي يستحق هذا الإهداء قطعاً هو الشهيد حسن البنا رحمه الله مؤسس هذه الجماعة ولعله إن مد الله في عمره لأحدث طفرة في العمل الإسلامي ولكن كل شيء بقدر ومن بعده دخلت جماعة الإخوان في أزمات وأزمات أجادت وأخفقت وأظن أن البنا لو خرج من قبره الآن لقطب جبينه في وجه القطبيين الذين أخرجوا الجماعة من سياقها.. إليك يا إمام الإخوان إليك يا حسن البنا رحمك الله أهدي إليك هذا الكتاب.
المؤلف











الفصل الأول
في البدء كانت كلمة

"عندما ننظر إلى القمر في ليلة اكتماله فإن نوره سيستلب عيوننا ويخطب أفئدتنا إلا أننا لن ندرك تحت وطأة هذا النور أن القمر ما هو إلا جسم معتم شديد الظلام والوحشة كثير الصخور والحفر".
لكل شيء بداية... ولكل شيء نهاية.. الحضارات والأمم والجماعات تبدأ ثم تفنى... والكائنات تولد ثم تموت... هذه حقيقة كونية، وليس من شيء يسير تحت الشمس إلا وله دفقات قوة وعنفوان... وله خفقات ضعف ومرض ... هذه سنة الحياة، والإنسان الفرد الذي يدب على الأرض يحمل في مِزْوَده الفجور.. ويكنز في وعائه التقوى... هذا هو تقدير الله... أما الأمم أو الجماعات فإنها ليست أوعية فارغة.. إذ فيها بشر تستمد فتوتها وخبريتها منهم.. فإن أحسنوا أحسنت.. وإن شمخوا شمخت.. أما إذا أساءوا أساءت... وإذا تدنوا تدنت وعاشت بين الحفر... سيان كانت تلك الأمة أو الجماعة مسلمة أو غير ذلك.. هذه سنة الله في كونه قدّرها تقديراً.
أما البداية فكانت كلمة.. والكلمة ميراث أبينا آدم لنا.. ألم يتعلم الأسماء كلها من الله سبحانه وتعالى.. ومنه عرفنا وظائف الأشياء وتوارثناها في كل الحضارات... سماء... سحبت الشمس الماء من البحر فكانت من السحب، وكانت سحابة.. واحتوت السحابة على ماء.. وهطل الماء علينا.. فكانت سماء.
أما الكلمة فكانت إخوان.. إخـ وان.. دخلت الكلمة قلبي فخلبت لبي.. وقعت في روعي فتمثلتها سحابة ماء تسبح في سماء الدعوة.. تهطل علينا بالخير.. يكفي أن تقول "إخوان" لكي تدغدغ مشاعري.. تهبط على روحي كلمة "أخ" كما يهبط الوحي على النبي.. فالأخ هو جبري أخيه.. ينصحه ويصاحبه ويشد من أزره ولا يظلمه أبداً... رسمتُ كلمة "أخ" في مخيلتي فقرات حروف المروءة.. الإخوة مروءة... قرأت كلمة "إخوان" فتراءى لي الأنصار والمهاجرة إذ آخى بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.. الأخوة في الدين غلبت أخوة الدم.
وضعت الكتاب بجانبي ولكني وضعت الإخوان في قلبي، وأخذت أنهل من

معين الكتب كي أستزيد منهم وعنهم.. حبسهم عبد الناصر لخلاف سياسي... لعن الله السياسة.. عذبهم.. أعدمهم.. بكيت بحرقة وتعاطفت معهم، وتمنيت أن أعرفهم لأذود عنهم.
في الجامعة كان اللقاء الأول... هل تعرف سحر اللحظة الأولى؟ المرة الأولى دائماً هي أروع وأشجى وأعذب المرات، حيث يسبقها الغموض وتكتنفها الرهبة، وتخالطها رغبة جارفة في المعرفة.
ولعل مشاعر المرة الأولى قد ملكت زمام قلب جدي وسيدي آدم عندما رأى جدتي وسيدتي حواء تسعى بين يديه، وكأنني آدم عليه السلام اقتحمتني اللحظة الأولى عندما رأيت عمر التلمساني وبرفقته عبد المتعال الجابري وتخيلتهما أبي وجدي.. فشغفت بهما حباً... هؤلاء هم "الإخوان المسلمون" دعاة... فكانت الكلمة.. دعوة.
وعدت إلى الكلمة المسطورة في الكتاب.. أبحث عن الإخوان المسلمين.. ضحايا.. أبرياء لا شك في ذلك عندي.. فرية اسمها النظام الخاص والاغتيالات افتراها رجال الثورة واختلقها النظام الحاكم.. محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية... تمثيلية... ومحاكمات وإعدامات... بكيت كمداً واحترقت جفوني كرباً مما حدث لهم.
أردت المزيد فذهبت لمسجد عين الحياة واستمعت للشيخ عبد الحميد كشك وخرجت من عنده لمسجد الخلفاء الراشدين واستمعت لجمهرة من دعاة الإخوان.. الشيخ الغزالي بهرني.. الشيخ عبد الستار فتح الله أمتعني.. الشيخ سيد سابق علمني.. الشيخ القرضاوي سما بي... هؤلاء هم الإخوان المسلمون... فقهاء... فكانت الكلمة... فقه.
فتحت التلفاز فرأيت شاباً من الإخوان- غدا نجماً إخوانياً بعد ذاك- اسمه عبد المنعم أبو الفتوح وهو يحاور رئيس الدولة أنور السادات بجرأة فريدة.. فلم يهبه.. ولم يتتعتع في موقف تذل فيه أعناق الرجال.. ومن بعد رأيت شيخهم ومرشدهم التلمساني وهو يحاور السادات فيقول له: سأشكوك إلى الله... هكذا هم الإخوان قوة في الحق... فكانت الكلمة... قوة.. وكانت الكلمة... حق.
عدت إلى الجامعة و صادفت من ظننت أنهم إخوان.. كنت معم يداً بيد في كل الأنشطة إلا أنني كنت حراً طليقاً فلم يستوعبني أحدهم.

فرغت منهم إلى الكلمة وظللت زمناً في دائرتها لم أخرج منها.. كلمة أقرؤها.. وكلمة أسمعها... متيماً كنت أنا بالإخوان.
بعد الجامعة عملت بالمحاماة.. ولكن في مكتب أحد السياسيين الوفديين الكبار... محمد علوان.. سألته عن الإخوان فحدثني عن حسن البنا.. كان قد رآه فقال لي: (ألخصه في كلمتين.. عبقرية التأثير وعُلُوْ الهمة).
قلت له ولِمَ لم تدخل الإخوان فقال وهو يجتر الحكمة: (بسبب القيود التنظيمية التي تضعها الحركة وتسوس بها أفرادها، وأنا أبحث عن الحرية فلم أقبل أن أكبل نفسي بقيود التنظيمات الحديدية) فاستغربت كلمة أستاذي عن القيود التنظيمية والتنظيمات الحديدية وتكبيل الأفراد فقلت لنفسي: من لا يعرف الإخوان يبالغ، فكان نقد الآخرين للإخوان في عيني مبالغة وكانت الكلمة... أبرياء.
وبرفقة أستاذي محمد علوان جلست مع التلمساني فهش في وجهي وبش.. قال يوم رأيته: (نحن الإخوان ضد العنف.. ضد الاغتيالات.. كان النظام الخاصة كبوة.. ولكل جواد كبوة.. الإخوان لكل الأمة وليست لفريق بعينه.. سيكون الإخوان تياراً جارفاً يصب في نهر الأمة.. وسيخرج الإخوان من ضيق التنظيم إلى سعة الدعوة)... هؤلاء هم الإخوان... حكماء... فكانت الكلمة... حكمة.
ذات يوم عاد الشيخ عبد المتعال الجابري الداعية الإسلامي الزاهد من غربته في أمريكا فعدته في المشفى مع رفقة من شباب الإخوان، فقال له أحدهم وكأنه يطمئنه على ثبات الشباب وغيرتهم على الإخوان: ثلة الغوغاء تهاجم الإخوان وتنتقدهم لو كان الأمر لكم لطلبت منكم أن تحاكموهم.
ابتسم وقال له وقد أخذه الوهن على فراش المرض: على رسلك يا بني.. ومن نحن حتى نحاكم أو ندين، وهل نملك أن نتسلط على قلوب العباد... إنما نحن نُذكّر وليست لنا سيطرة على أحد.. نحن دعاة.. إنما يحاكم ويحقق ويدين في الحياة الدنيا من كان همهم الدنيا، ونحن طلاب آخرة.
هكذا هم الإخوان... دعاة لا قضاة.. فكانت الكلمة... رحمة.. وكانت الكلمة دعوة.
في البدء كانت كلمة.. ثم كلمة.. ثم كلمة.. ثم كلمة.. فتكونت دائرة من الكلمات.. دائرة ذهبية.. بدأت بالدعوة وانتهت بالدعوة... وبينهما قوة.. حق

.. فقه.. حكمة... براءة... رحمة.
وفي نقابة المحامين كانت لنا أيام.. جلستُ مع مختار نوح- الذي كان من نجوم الإخوان وقتها- وقرأت معه القرآن وسمعتُ منه واستمعتُ له... ومن بعدها صرتُ من الإخوان.
صرت أنا من الإخوان... وصار الإخوان مني.
وفي الإخوان نزفتُ نفسي.
وللإخوان نزفتُ نفسي.
وللإخوان سكبتُ نفسي.
وفي الإخوان نسيتُ نفسي... فتلاشيتُ.. كقطرة ماء تبخرت.
وحين يوم وقعت قطرة الماء من السحابة.. فتألمت.. ومن ألمها ستنبت خضرة.
وذات يوم عرفت قطرة الماء أن الضياء ينير الطريق ولكنه أحياناً يعمى البصر.
الجموح المستطير
"نحن نتعبد لله بأعمال النظام الخاص للإخوان المسلمين قبل الثورة".
نطقها المستشار مأمون الهضيبي على مهل وبصوته الرفيع الحاد وبنغمة خطابية حماسية مفعمة بالفخر والزهو والخيلاء، ثم نظر ذات اليمين وذات الشمال ليرى أثر كلماته ووقعها على الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة.. لحظتئذٍ ضجت القاعة بالتهليل والتكبير والتصفيق... نظرت إلى الوجوه التي تجاورني والتفت بوجهي للخلف فوجدت الفرحة قد استولت على مجامع القلوب وسيطرت على مشاعر الحاضرين.. ورغم أنني هتفت مُكبراً بلا وعي مني مع آلاف الإخوان الذين اكتظت بهم القاعة، وكأن الحالة الشعورية الجمعية التي خيّمت على الجميع احتوتني وامتدت إلى نفسيتي وسحبتني بداخلها، إلا أنني استغربت نفسي بعد ذاك وتعجبت من هتافي وكأن الذي هتف وكبَّر ليس أنا بل شخص غيري.
وبعد أكثر من ساعتين من الجدل والصخب وبعض من العلم والفقه والفهم انتهت المناظرة التي عقدها معرض القاهرة الدولي للكتاب في شتاء 1992 والتي دار موضوعها عن "مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية" وانصرف الجمهور الذي كان حاضراً بالآلاف إلى شأنه، إلا أنني مكثت وحيداً بالقرب من القاعة التي شهدت المناظرة أفكر في وقائعها وأحداثها.. لم يعجبني فكر

فرج فودة أحد أقطاب العلمانيين في مصر، إذ كان يبدو متحاملاً على تاريخ الإسلام والمسلمين، وكأن عينه كليلة لا ترى إلا السيئ... إلا أن مأمون الهضيبي عضو مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين- وقتئذٍ- لم يعجبني هو الآخر رغم أنني كنت أحمل له في قلبي ساعتئذٍ مشاعر مفعمة بالمحبة والتقدير- ... ففضلاً عن كونه عمل بالقضاء لفترات طويلة... والقضاء يعطي لمن جلس على مقعده نظرة شمولية وحيادية متوازنة... إلا أن طريقته في المناظرة كانت تحمل قدراً من التعالي والجفاء، ومنهجه في الجدل كان ذاتياً، وآية ذلك أنه ترك الحديث عن الإسلام كله فلم ينافح عن تاريخه ورجاله، وكان جل همه أن يدافع عن تاريخ الإخوان المسلمين ورجال النظام الخاص فيه الذين حملوا السلاح قبل الثورة ونفذوا العديد من عمليات الاغتيال!!... توقف عقلي عند دفاع المستشار مأمون عن رجال النظام الخاص فلم يستسغه... ولم تقع صيحته المدوية بتعبد الإخوان لله بالاغتيالات موقعاً حسناً في نفسي عندما استدبرت معناها.
وعن بُعد رأيت المهندس أسامة الغزاوي الذي كان يشغل في منتصف الثمانينات من القرن الماضي موقعاً قيادياً للإخوان المسلمين بمنطقة شرق القاهرة. وكان يزاملني في أسرتي الإخوانية بمنطقة الزيتون، إلا أنه لسبب لا أعلم تفصيلاته انقطع عن الإخوان، وتناهى إلى سمعي همساً من بعض الإخوة أنه قطع صلته بالجماعة تماماً بعد محاكمة إخوانية تعرّض لها.
ويبدو أنه رآني هو الآخر فعبر الطريق إليّ وتوجه ناحية الأريكة الخشبية التي كنت أجلس عليها وهو يبادرني بالسلام قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله.. أأنت في المناظرة هنا؟... ثم ضاحكني مداعباً وهو يقول: الآن عرفت لماذا ارتبك فرج فودة وهو يحاورهم يبدو أنه رآك فعرف أن القضاء قد حم.
قلت وأنا أبادله الضحكات: لا.. يبدو أنه رآك أنت فعرف أن رجال النظام الخاص للإخوان لا يزالون على قيد الحياة ويمتلكون مقاليد الأمور... بالمناسبة أريد أن أسألك سؤالاً مهماً.
قال وهو يستمر في مداعبته: سل تُعط.
- لماذا كان المستشار مأمون يدافع عن الاغتيالات التي نفذها النظام الخاص رغم أنه صاحب عقلية قانونية... نبت في بيت قضائي ووهب حياته للقضاء والدعوة!!

- يا عزيزي لا يفل الحديد إلا الحديد.. فرج فودة لا ينفع معه إلا هذا.
- ولكن هذه مناظرة لله ثم للتاريخ.
وليس من أجل عيون فرج فودة نخالف ما نعتقده.
- ما قاله المستشار سيصل حتماً إلى أجيال قادمة وسيكون مُعبّراً عن رأي الإخوان.
ذات يوم قال حسن البنا عن أفراد النظام الخاص الذين نفذوا عمليات اغتيال أنهم ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين.
أيأتي اليوم المستشار مأمون ليقول للعالم أجمع أننا نتعبد لله بأعمالهم (!)... كيف هذا وأيم الله (!).."
"لقد أثارت كلماته حيرتي وأدخلت الريبة في نفسي..".
"أي عبادة تلك التي قتلت مسلمين آمنين على أنفسهم!!..".
"في ليلة وضحاها وعلى لسان رجل القضاء الكبير يصبح قتل النقراشي رئيس وزراء مصر عبادة!!..".
"تنقلب المعايير رأساً على عقب من منطق المستشار ليصير قتل المستشار الخازندار عبادة!!.."
"وكمثل الساحر اللبيل الفطن أو الخطيب البليغ ذرب اللسان يقف المستشار عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان ليبدل الحقائق ويسحر أعين الناس وعقولهم... فتتحول عملية قتل سيد فايز الإخواني الذي نشأ في معية الجماعة ثم اختلف مع النظام الخاص إلى عبادة تتقرب بها إلى الله!!".
"حدثني يا أسامة.. أهذا هو التاريخ الذي سنعلمه للإخوان وللناس أجمعين؟".
"كيف سقط المستشار مأمون هذه السقطة وهو الذي رأيت فيه قيمة فكرية ودعوية سامقة" (!).
"ليست هذه منهجية الإخوان!! ... أتبدلت الأفكار؟ وسكنت أفكارنا التي درجنا عليها في مقابر أمواتنا من السابقين الأولين كالتلمساني وغيره؟".
قال أسامة وهو يبدي دهشته من كلامي المتدفق: هذا كلام كبير يا أستاذ.. أنا معك طبعاً في أن هذه عمليات إجرامية وليست تعبدية ولكن للضرورة أحكام.
قلت وأنا أبدي امتعاضي: ضرورة! أي ضرورة؟ قل لي بربك.. أهل

تؤيد تلك العمليات التي خرجت عن سياق الجماعة وأفكارها المعتدلة؟
سحب أسامة ابتسامة من داخله ووضعها على وجهه وهو يقول: أنت تعلم أني ضد أي عنف ولو تستر وراء الدين.. ولكني أقصد أن المستشار مأمون له ضروراته التي دفعته إلى هذا القول.
قلت معتداً: ضرورات!! ألا يحتاج هذا التبرير إلى شرح وتوضيح؟
أطال أسامة التفكير وتلفت بريبة إلى الناحية الأخرى ثم قال ببطء وكأنما يبحث عن الكلمات: سيكون لنا لقاء... سأنتظرك في الخميس القادم في شقتي التي تعرفها لأتحدث معك فيما غمض عليك.
* * *
يسكن أسامة الغزاوي في أول شارع طومانباي بحي الزيتون في أحد العقارات القريبة من قسم الشرطة.. وكان قد انضم إلى الإخوان المسلمين قبلي بسنوات ونشأت بينه وبين الحاج مصطفى مشهور- نائب المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها- صلات قوية، إذ كان الحاج مصطفى هو أول نقيب لأسرة ينخرط فيها أسامة عام 1980 (الأسرة هي البناء الإخواني القاعدي.. وتتكون من خمسة أو ستة أفراد يرأسهم شخص يُطلق عليه لقب النقيب.. وكل مجموعة أسر تشكل شُعبة، وكل مجموعة شُعب تشكل منطقة، وكل مجموعة مناطق تشكل محافظة) وبين بيت أسامة وبيت الحاج مصطفى بضع خطوات لا غير، أما أنا فقد كنت أسكن وقتها في آخر شارع طومانباي من ناحية "ميدان ابن الحكم" القريب من منطقة تجنيد القاهرة ولذلك جمعتني شعبة إخوانية واحدة مع أسامة ثم جمعتني معه أسرة إخوانية واحدة كان هو نقيبها.
كنت قد اعتدت سابقاً على الذهاب بشكل دوري إلى أسامة، فقد كانت معظم لقاءات الأسرة تعقد عنده، وأحياناً كنا نبيت بشقته في اليوم الذي تنعقد فيه الكتيبة الشهرية (الكتيبة هي لقاء شهري للشعبة يستمر للفجر ويشمل درساً دينياً وصلاة قيام)... إلا أن ذهابي إليه انقطع مذ ترددت الأنباء عن ترك أسامة للجماعة.... وقتها قام المسئولون في الشعبة بإعادة ترتيب الأسر من جديد وإعادة تصنيف الإخوة وتصنيف درجاتهم التنظيمية (أخ- أخ عامل- أخ مجاهد) خاصة وأن المحاكمة التي تم عقدها لأسامة استبان منها – وفقاً لما وصل إلينا- أن هناك حركة تمرد اشترك فيها بعض

الإخوة، وأن حركة التمرد هذه قادها اثنان من أفضل الإخوة هما المهندس أسامة الغزاوي والمهندس عمرو التلاوي، إلا أن أحداً لم يقل لنا ما هو هذا التمرد وما هي أسبابه!! اللهم إلا أنهما رفضا تنفيذ أمر إداري... ولم يفصح أحد لنا عن كنه هذا الأمر... وعندما سألت مسئول الشعبة عن حقيقة ما يتردد عن التمرد وعن الأمر الذي خالفه الأخان، قال لي وهو يرتدي ثياب الفقيه الحكيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ثم أردف قائلاً: ثق في القيادة دون أن تسأل!!... فأثرت الصمت وعدم تكرار السؤال تأدباً مع الرجل، إلا أن غياب أسامة عن الإخوان أحدث غصة في قلبي.. ودهشة في ضميري.. فقد كان تصوري أن الجماعة ينبغي أن تطلق طاقات الأخ وجهوده وأن توجهها لمسارها الصحيح لا أن تكبلها وتعطلها وتستنزفها في خلافات إدارية.. لم يستوعب قلبي أن أخاً يترك الجماعة بسبب اختلافه مع القيادات في قرارٍ ما!! أو رفضه تنفيذ قرار ما مهما كان شأن هذا القرار.. فنحن في دعوة ولسنا في شركة... ولكن تزداد حيرتي ويخاصم النوم جفوني حينما يتردد في خافقي صدى كلمات سمعتها من بعض الإخوة في كتيبة من الكتائب: (ينبغي أن يكون الأخ بين يدي مرشده أو نقيبه أو مسئوله كالميت بين يدي من يغسله بقلبه كيف يشاء).. نعم قد يكون هذا من باب المحبة.. أستوعب هذه المقولة في هذا الإطار وقد قرأتها من قبل لبعض الصوفية.. فهل يتم تطبيقها بشكل تنظيمي جاف؟!!.. وتزداد حيرتي.. أيهما على خطأ إذن.. الجماعة أم الأخ؟
كان الإخوة عقب ذلك يترحمون على أيام هذين الأخوين وعلى النشاط الدعوى الذي كانا يمارسانه ويبعثان من أجله الحيوية والنشاط في منطقة كانت في السابق تقع تحت سيطرة الجماعة الإسلامية من ناحية، وسيطرة الجمعية الشرعية من ناحية أخرى... ولكن يبدو أنه لا كرامة لأخ يترك الجماعة... فقد كانت تجابهنا- حين نذكرهم بفضل هذين الأخين- مقولة صلدة متدثرة بوشائج الإيمان: لا فضل لأخ على الجماعة مهما كان قدره، فالدعوى تسير بفضل الله بكم أو بغيركم، ولكن الفضل كل الفضل للجماعة على الأخ!!
في الموعد المحدد بعد صلاة المغرب كنت أجلس مع المهندس أسامة في حجرة الاستقبال بشقته السكنية متدثراً بمعطف شتوي بقيني قر الشتاء،

وأرتشف قدح الشاي الساخن وأنا أستعيد معه ذكرى أيام خلت ذهَبَتْ إلى عالم الذكريات... وسبقتنا إلى عالم البرزخ... أو إلى الدار الآخرة.. إلا أنها ما زالت مخبوءة في نفوسنا وضمائرنا فأصبحت بضعة من شخصياتنا وثقافتنا وأخلاقنا.. استروحت معه نفحات تلك الأوقات التي حفظنا فيها ما تيسر لنا من القرآن الكريم والحديث الشريف، وتذكرنا سوياً دروس المساجد التي كنا نحضرها لعلماء الأمة مثل الشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق والشيخ عبد اللطيف مشتهري والشيخ إبراهيم عزت والدكتور سليمان ربيع.. وكيف أننا كنا لا نُفرِّق في التلقي بين علماء خرجوا من رحم الإخوان وعلماء وهبوا أنفسهم للأمة بلا تحيز لجماعة عن أخرى.
وهنا تحول الحديث إلى وجهته الأصلية.. انتفضت شراييني وسرت قشعريرة في جسدي واحدودب ظهري وأنا أتحدث إليه بصورت مبحوب لا يكاد يُبين: أنتظر منك الإجابة يا صديقي عن سؤالي الذي طرحته عليك بعد مناظرة معرض الكتاب.. هل تذكره؟
قال بعد أن ارتسمت على وجهه مخائل الجدية: أذكهر ولا أنساه
.. ثم تحدث أسامة بما لم أتوقعه وبما هو أغرب من الخيال.
* * *











الفصل الثاني
أسامة الغزاوي يتحدث


"مرض الذئبة الحمراء هو مرض يصيب الجسم ينتج عن خلل في الجهاز المناعي يجعله بدلاً من أن يحمي جسده من البكتريا والفيروسات فإنه يهاجم الجسم الذي يحميه متصوراً أن هذا الجسم هو العدو الذي يجب أن تتم مواجهته.. يحدث هذا في الإنسان كما يحدث في الجماعات".
قال أسامة بصوت خافت: حدثني الشيخ عبد المتعال الجابري الذي كان يدرس لنا اللغة العربية في مدرسة ابن خلدون الثانوية بحلمية الزيتون وكان قد قضى أكثر من نصف عمره في السجون بحسب أنه كان من قيادات الإخوان فضلاً عن أنه كان رفيق درب للشيخ عمر التلمساني رحمه الله:... أنه بعد حرب أكتوبر عام 1973 وبعد أن دخل النصف الثاني من نوفمبر مات المستشار حسن الهضيبي مرشد الإخوان.. أفضى إلى ما قدم.. وكل نفس ذائقة الموت.. مات الرجل الذي خلف حسن البنا فكان مرشد المحنة كما يطلقون عليه، مات الرجل وترك فراغاً هائلاً في الجماعة.. مات وترك سفينة الإخوان تتلاعب بها الأمواج ولا ربان لها.. كان هذا الرجل يحمل في نفسه شيئاً من رجال النظام الخاص فقد كان يعتبر أنهم هم الذين أدخلوا الجماعة في محنة قاصمة باقعة، وتسببوا برعونتهم وجهلهم في حل جماعة الإخوان الذي أسر عن مقتل حسن البنا، لذلك كان أول قراراته التي أبرمها بعد أن تولى الأمر هو حل النظام الخاص وفصل عبد الرحمن السندي مسئول هذا النظام- الذي كان شاباً حدثاً مضمحل العلم والثقافة- وفصل بعض القادة الآخرين الذين يتبعون هذا الشاب ويأتمرون بأمره... وقام عقب ذلك بتعيين أحد رجاله مسئولاً عن نظام خاص جديد يدين له هو بالولاء والطاعة، فكان أن وضع على رأس الفريق الجديد "يوسف طلعت" الذي كان من المجاهدين في فلسطين... وعندما احتدم الخلاف بين النظام الخاص الجديد والنظام القديم قام أحدهم باغتيال سيد فايز الذي كان وقتها أحد المسئولين الجدد في النظام الخاص بتشكيله الجديد، وأشارت يد الشك والاحتمال إلى أحد أفارد النظام القديم الذي تم حله ولكن لم تتأكد الظنون.. وحدثت محنة الخلاف الأزلي بين الإخوان وحكومة الثورة ودخل الإخوان السجون، والتقى في الزنازين أفراد النظام الخاص جديدهم وقديمهم، ودخل معهم الشيخ سيد

قطب الذي كان قد هجر الشعر والأدب والنقد وتفرغ للكتابة عن الإسلام وتفسير القرآن وأطنب في ذكر تصوراته عن المجتمع الجاهلي بعقلية الشاعر الأديب لا بعقلية العالم الفقيه.. ثم جاءت فترة منتصف الستينات ودخل الإخوان مرة ثانية إلى السجون في قضية سيد قطب التي اتُهم فيها- مع آخرين- بمحاولة اغتيال عبد الناصر وقلب نظام الحكم.
وفي السجن التقى رجال النظام الخاص بسيد قطب وتلاميذه فكان الاتحاد وكان التلاحم، بل كان التماهي والتمازج، فقد كان رجال النظام الخاص يفتقدون إلى المرجعية الدينية التي تؤصل لهم عمليات الاغتيال وتبيحها لهم من الناحية الشرعية، إذ نفض الشيخ سيد سابق يده منهم وتركهم إلى غير رجعة وآمن أن في عقول بعضهم آفة، وبعد أن كانوا يطلقون عليه "مفتي الدماء" تبرأ منهم وقال قولته الشهيرة "نعم أنا أفتي في دم الحيض" فوجد النظام الخاص بغيته في الشيخ سيد قطب الذي استمد فكره من الشيخ "أبو الأعلى المودودي" الذي ولد وترعرع في ولاية حيدر آباد بالهند في مجتمع تتعدد فيه الديانات ويكثر فيه عبدة البقر والشجر والثعابين.. تأثر الشيخ سيد قطب بأبي الأعلى المودودي أيما تأثر ومنه أخذ فكرة "الحاكمية" حيث اعتبر أن المجتمع المصري يقوم على أسس جاهلية لعدم احتكامه لله سبحانه وتعالى في الحكم.. هذه الجاهلية التي تعتدي على سلطان الله في الأرض فتتحاكم إلى تشريعات وأنظمة وضعها تصور بشري محض كما في الآية القرآنية (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) بالمخالفة للآية القرآنية (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ومن هنا قام سيد قطب بوضع تصور حركي من خلال تقسيم المجتمع إلى فريقين.. مجتمع المسلمين والمجتمع الجاهلي.. وأوجب على المجتمع المسلم أن يتقوقع على نفسه في محضن إسلامي، ويعتزل المجتمع الجاهلي شعورياً وفقاً لقاعدة (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) لكي ينأى بنفسه عن شوائب الجاهلية وخشاشها، إلى أن يتمكن ويشتد ساعده من ناحية وتصبح عقيدته نقية خالصة من الأدران من ناحية أخرى، حينها يستطيع المجتمع المسلم المنعزل أن يفرض نفسه ويرفع رايته رغماً عن أنف الجاهليين.
وضع سيد قطب أفكاره هذه في كتابه معالم في الطريق وصاغها بطريقته الأدبية البديعة وبألفاظه الشاعرة المرهفة ودون أن يمر بها على عقلية العالم

الفقيه الأريب الفطن.. ومنه انطلقت تلك الأفكار إلى رجال التنظيم الخاص الذين استراحت ضمائرهم وهدأت أفئدتهم لتلك القسمة... مجتمع جاهلي حتى النخاع... ومجتمع إسلامي بلا انقطاع... وبتلك الفكرة تشرعنت عمليات الاغتيال التي قاموا بها، ومن خلالها أصبح اغتيال النقراشي والخازندار مواجهة مع المجتمع الجاهلي الذي يحارب مجتمع الإسلام، والذي هو في جاهليته أشد وطأة من تلك الجاهلية التي سبقت الإسلام، فكان من الطبيعي أن يلوذ رجال النظام الخاص بحياض الأديب الشاعر ويتدثرون بمعطفه.
كانت أفاكر سيد قطب منبتة الصلة عن منهج حسن البنا ومسلكه الدعوى.. ففكرة حسن البنا لا تقوم أبداً على جاهلية المجتمع بل تقوم على أن الناس ابتعدوا من خلال التطبيق عن منهج الإسلام وأن هذا الابتعاد لا يمس عقيدتهم ولا يخرجهم من الملة كما أنه لا يدخلهم في نسق جاهلي، وكل ما يحتاجون إليه هو الدعوة العلنية المفتوحة التي يجب أن تصل إلى الجميع حتى تستقيم أخلاقيات الناس وتتفاعل سلوكياتهم مع ما يدعو إليه الإسلام في المعاملات والعبادات دون أن نضع أهمية لضم أحد إلى التنظيم، فالتنظيم هنا يقوم بدور القائد الذي يدعو ويوجه لا بدور الوعاء الذي يضم ويحتوي.. ولا أخفيك سراً أن الخطأ الذي جر الربال على إخوان البنا هو إنشاء فرقة النظام الخاص التي كانت بمثابة الجسم الغريب عن الجماعة، وقد حكى لي الأستاذ فريد عبد الخالق أن حسن البنا تقابل معه بالقرب من كوبري قصر النيل قبل اغتياله وقال له مقولته الشهيرة "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أنشأت النظام الخاص".
أما فكرة سيد قطب من حيث الوسيلة فتقوم على الانتقاء والتجنيد والتجييش وذلك عن طريق استثمار الدعوة العلنية من أجل تكوين تنظيم سري شديد الإحكام عن طريق جذب الأنصار وضمهم لـ"ماكينة الدعوة" حتى تقوى تروسها وتصحب قادرة ذات يوم على مواجهة المجتمع الجاهلي.. وبهذا نستعيد بعضاً من قبس جيل الصحابة ذلك الجيل القرآني الفريد.. فإذا دعونا الناس وتركناهم في المجتمع الجاهلي ينهلون منه فسوف تذروهم رياح الجاهلية ويصبحون وقتها دماً يتدفق في شرايين تلك الجاهلية العرجاء، ونفت معيتهم مع الجاهليين في عضد المجتمع المسلم... كانت هذه هي

الأفكار التي التف حولها الجمع الفريد وبها قام الحلف المقدس بين النظام الخاص وتلاميذ سيد قطب.... كان هؤلاء هم "إخوان سيد قطب".
مات حسن الهضيبي عليه رحمة الله الذي كان قد أدرك خطورة هذا الحلف المقدس، وكان التلمساني وغيره قد نبهوا الهضيبي بخطورة هذه الأفكار ودقوا له ناقوس الخطر.. فالتقى الهضيبي ذات يوم وهو في مشفى السجن بسيد قطب فكان أن سأله: هل تُكفر المسلمين يا شيخ سيد... فنفى سيد قطب هذا الأمر وقال إنه غير مسئول عن فهم الناس لأفكاره على غير محلها وعلى غير مقصدها.. فلم يجد الهضيبي أمامه من بد إلا كتابة كتابه الوحيد "دعاة لا قضاة" لمواجهة حلف فريق النظام الخاص والقطبيين.. ولكن يبدو أن هذا الحلف سيشتد عوده ويقوى بنيانه فيما بعد.
وفي ليلة التحفت بظلام الأيام الأخيرة من شهر فبراير البارد من عام 1975 وبعد صلاة العشاء اجتمع فريق من النظام الخاص في بيت أحد سدنة هذا النظام وحراسه وهو الحاج أحمد حسانين في قليوب البلد، وكان صاحب الدار قد خرج من السجن منذ أسابيع خلت قبل هذا الاجتماع التاريخي مع آخر دفعة تالت الإفراج من الإخوان، بدا اللقاء وكأن الجمع يحتفلون بخروج ثلة ليس لها نظير من أركان التنظيم من سجنهم الذي احتضنتهم ما يقرب من العشرين عاماً.
وفي حجرة فقيرة في أثاثها ومحتوياتها تطل شرفتها على أرض زراعية شاسعة، جلس كل من مصطفى مشهور وكمال السنانيري وأحمد الملط وحسني عبد الباقي وخامسهم صاحب الدار احمد حسانين وهم يستدبرون تاريخهم مع الجماعة ورحلتهم في السجون وخطط المستقبل الذي يجب أن يكون.
كان قد مضى على وفاة المرشد الثاني حسن الهضيبي عام وعدة أشهر، وما زالت الجماعة بلا مرشد جديد إذ مات الهضيبي –الأب- دون أن يعيد تشكيل التنظيم ويحدد آلياته، اللهم إلا أنه التقى في الحج قبل وفاته ببعض المهاجرين من الإخوان وأخذ منهم البيعة... وبعث النشاط في أرواحهم، وتعاهدوا معه على إعادة تشكيل حركة الإخوان في البلاد التي يعملون فيها.
وبعد عودته إلى مصر انشغل الرجل بجمع الشمل مع من اختلف معهم من قبل مثل الشيخ محمد الغزالي الذي كان قد هاجم الهضيبي هجوماً ضارياً

في بداية الخمسينات واتهمه بأنه من عتاة الماسونيين!! وتعكر الماء بين الاثنين وتم فصل الشيخ الغزالي من جماعة الإخوان إلى غير رجعة وأخيراً تداعى العالمان العلمان للتسامح والتغافر وتم الصلح بينهما.
لم يمهل القدر حسن الهضيبي حتى يقوم بإعادة بناء الجماعة التي كانت قد تفككت وانمحت وتاه رجالها في البلاد يبحثون عن معايشهم، فعالجه الموت الذي هو نهاية كل حي.
كان الحاج مصطفى مشهور أكثر الجميع حماسة وحيوية في اجتمع قليوب الخطير، فقد اقترح أن يتم تعيين مكتب جديد للإرشاد من الحاضرين في الاجتماع... وأن يتم اختيار مرشد جديد خلفاً للمستشار حسن الهضيبي.. وهنا أصر الحاج أحمد حسانين على مبايعة الحاج مصطفى كي يكون مرشداً للإخوان إلا أن الحاج مصطفى رفض هذا الأمر تماماً واقترح أن يتم اختيار شخصية أخرى... شخصية لا يعرفها أحد ولكن يسهل من خلالها إعادة تشكيل الجماعة وفقاً لرؤية هذا الفريق، شخصية سينساها التاريخ ولن يعرف ملامحها... وكأن من ألف السرِّية واعتادها لا يأتلف إلا مع شخصية سرية!!
مفاجآت مذهلة
توقف أسامة الغزاوي عن الحديث، إذ كانت صلاة العشاء قد دخل وقتها، فخرجنا سوياً كي نصلي في مسجد العزيز بالله وهو من المساجد الشهيرة في المنطقة والتي وقعت تحت سيطرة التيار السلفي... وبعد الصلاة أخذنا نتجول على مهل يطول شارع طومانباي حيث استطرد أسامة قائلاً:
هل تعرف أسماء من تولى موقع المرشد العام للإخوان المسلمين وجلس متربعاً على سدة القيادة فيها؟ ستقول لي وأنت تقطب جبينك استنكاراً من السؤال: طبعاً أعرفهم.. فهم الشهيد حسن البنا والمستشار حسن الهضيبي ثم الأستاذ عمر التلمساني وأخيراً الأستاذ حامد أبو النصر.. لا يا عزيزي لقد تسرعت في الإجابة فأخفقت فيها... هناك مرشد آخر لا نعرفه ولا يعرفه أحد..".
غالبية الناس وغالبية الإخوان المسلمين لا يعرفون أنه بعد وفاة المستشار حسن الهضيبي بعام وفي هذا الاجتماع الذي حدثتك عن طرف منه وقع اختيار الحاضرين على المهندس حلمي عبد المجيد- الذي كان الساعد الأيمن

للمقاول الشهير عثمان أحمد عثمان وكان من الرعيل الأول للإخوان- ليكون مرشداً للجماعة.
وبعد يومين ذهب هؤلاء القوم إلى من وقع عليه الاختيار في بيته بالدقي وعرضوا عليه الأمر برمته، وقالوا له إن مسئولية الدعوة بل مسئولية الإسلام أصبحت معلقة في رقبته، وأنهم لا يقبلون بغيره بدلاً، فوافق الرجل إلا أنه اشترط شرطين لذلك أولهما أن تصدر موافقة بتنصيبه في هذا الموقع من الأعضاء الباقين على قيد الحياة من الهيئة التأسيسية من الإخوان وكان عددهم يزيد على الثلاثين بقليل، أما الشرط الثاني فهو أن يكون مرشداً سرياً لا يفصح عن اسمه أحد، على أن يظل قائماً بمهامه إلى حين إعادة تشكيل التنظيم ثم يترك موقعه لغيره... ولم يتحقق الشرط الأول بشكل كامل إذ لم تصدر بيعه أو موافقة إلا من عدد يزيد على عشرة أفراد بقليل فلم يحصل الرجل على شرعية، إلا أنه قبل على مضض أن يقوم بدوره المرسوم له حتى حين.
وبعد عام تقريباً من هذا اليوم قام بعض الإخوان في المملكة السعودية بتوزيع بيان على كل الإخوان في الأقطار العربية كان عنوانه (المرشد السري المجهول يقود الجماعة إلى المجهول) وظل هذا البيان التحريضي يجوب الأقطار العربية ويقع تحت يد الإخوان في كل البلاد بلا ملل ولا كلل فيحدث في نفوسهم مساحة من الامتعاض... وقد أورد المفكر الإخواني السابق عبد الله النفيسي خبر هذا البيان بحذافيره في كتابه الشهير "أوراق في النقد الذاتي" وقد تسبب هذا البيان في حالة قلق لأفراد النظام الخاص الذين يعرفون أن معظم الإخوان لا يرحبون بهم، فأسرعوا في نهايات عام 1976 إلى رجل حيي دمث الخلق عف اللسان من الذين شربوا الدعوة من حسن البنا هو عمر التلمساني وعرضوا عليه أن يتولى موقع المرشد وأن يعيد تشكيل مكتب الإرشاد من جديد، وكان التلمساني شخصية شديدة المرونة، وقد سمحت له مرونته أن يرتبط مع جميع الأطياف الإخوانية من أفراد النظام العام أو أفراد النظام الخاص بروابط قوية ووشائج متينة من المودة... فظنوا من فرط دماثة خلقه أنه رجل مهيض الجناح ضعيف التأثير وأنه سيكون مجرد واجهة، في حين سيتحركون هم من خلف الستار حيث سيتحكمون في مقاليد الأمور".
* * *

أعجزتني رواية أسامة الغزاوي عن النطق والتعقيب... يا لها من مفاجأة مذهلة.. أيعقل هذا؟ مرشد سري ولا يعرف عنه أحد شيئاً؟!! ... وي كأنني اكتشفت في هذا اليوم اكتشافاً مذهلاً تتحير منه الألباب وتتيه منه العقول.
استكمل أسامة روايته المدهشة قائلاً:
لعلك تعرف الأستاذ فريد عبد الخالق الذي كان من المقربين من حسن البنا، ولكن لعلك لا تعرف أن أفراد النظام الخاص كانوا من أحرص الناس على استبعاده من قيادة التنظيم هو والدكتور توفيق الشاوي القانوني الشهير والأستاذ عبد المتعال الجابري... أما الأول فقد جلس على ضفاف الجماعة يحضر في مناسباتها العامة دون أن تكون له صلة بالشأن الداخلي للجماعة، والثاني هجر الكل وسافر إلى المملكة السعودية وتفرغ لتأسيس مدارس إسلامية وكتابة مؤلفات عميقة في القانون والاقتصاد الإسلامي والشورى في الإسلام، أما الثالث فقد سافر إلى أمريكا حيث فر من رجال النظام الخاص ونذر نفسه للدعوة العلنية المفتوحة هناك في إحدى الولايات بأمريكا يرافقه في ذلك الدكتور حسان حتحوت الذي كان من التلاميذ النجباء لحسن البنا.
سادت فترة صمت طويلة بيننا إذ كنا ما زلنا نسير في الشارع الطويل في حين كان الليل قد دخل إلى نصفه الثاني دون أن نشعر بتوغله، وكنا قد اقتربنا من سيارتي فجلسنا فيها كي نحتمي بها من لسعة البرد وبعض قطرات من المطر غشيتنا.. وبعد أن أحكمنا إغلاق نوافذ السيارة أكمل الغزاوي.
كنت أجلس عند الأستاذ فريد عبد الخالق وسمعته وهو يدلي بحوار لأحد الصحفيين، فقال من ضمن ما قال: "ظن رجال النظام الخاص أنهم أحكموا السيطرة على الجماعة وبالفعل اشتكى لي الأستاذ عمر التلمساني من أنه أصدر أمراً ذات يوم، إلا أن هذا الأمر لم يتم تبليغه لأحد فاحتد الأستاذ عمر علي المسئول عن التبليغ وهو الأستاذ كمال السنانيري أحد رجال النظام الخاص الأقوياء وأحد رجال مصطفى مشهور الأمناء، وسأله عن الأسباب التي دعته إلى عدم تبليغ القرار، فقال السنانيري: لأن قيادة الإخوان لمتوافق على قرارك... فتعجب التلمساني وقال: وهل من قيادة غيري؟... فقال السنانيري: نعم... نحن القادة... مصطفى مشهور وأحمد

حسانين وحسني عبد الباقي وأنا... ثم قام السنانيري بدعوة أحد العاملين في مقر الدعوة وسأله أمام التلمساني قائلاً: لو أمرتك أمراً وأمرك بغيره المرشد فلمن ستطيع؟ فقال الرجل: لك طبعاً.
وهنا أيقن التلمساني أنه يجب أن يدفع في الجماعة دفقة من الشباب يؤمنون به وبأفكاره فكان عبد المنعم أبو الفتوح وأبو العلا ماضي وعصام العريان ومختار نوح وغيرهم.. ومن خلال هؤلاء الطلبة- وقتها- دخل جيل الشباب بالآلاف إلى مدينة الإخوان فكان هذا هو الإحياء الثاني للتنظيم، بيد أن أطياف الجماعة المختلفة اقتسمتهم فيما بينهم، فمنهم من تتلمذ على يد أفراد النظام الخاص وانضوى تحت راية أفكارهم، ومنهم من تتلمذ على يد التلمساني والمدنيين من شيوخ الجماعة وآمن بفكرهم وطريقتهم.. فريق مع عسكرة التنظيم وفريق مع مدنية الجماعة.
يقول الأستاذ فريد عبد الخالق: وقد طلب مني التلمساني أن أكون بجواره إلا أنني لم أستطع العمل مع هؤلاء.... من أجل ذلك قام التلمساني بفتح منافذ الجماعة لكل أفراد التيار الإسلامي... ومن أجل ذلك أيضاً قام باستدعاء بعض الطيور المهاجرة من الإخوان فأعاد إلى مصر في النصف الأول من الثمانينات المستشار مأمون الهضيبي رجل القانون المتمرس وابن المرشد الثاني وكان يعمل آنذاك مستشاراً قانونياً لوزير الداخلية السعودي، فأسند إليه إدارة بعض الملفات السياسية رغم اعتراض أفراد النظام الخاص عليه، فقد ظل الهضيبي الابن بعيداً عن الإخوان مدة عشر سنوات كاملة بعد- أن صدر ضده قرار بالفصل من الجماعة بعد مشكلة تنظيمية كبرى نشبت بينه والشيخ مناع القطان مسئول الإخوان بالمملكة والأب الروحي لهم هناك!!
كاد الهزيع المتبقي من الليل أن يلتقط أنفاسه الأخيرة ويحمل ظلامه ويرحل، وكانت قطرات المطر الخفيف قد انقطعت وكأنها تتأدب مع المصلين الذين سيبرحون دورهم عند الفجر للصلاة في المساجد فغادرنا السيارة لنذهب مترجلين إلى أحد المساجد استعداداً للصلاة... وغمرتني حينذاك رعشة برودة وأنا أحدث نفسي: ها هي المفاجأة الثانية التي لا يمكن أن يتوقعها أحد!! المستشار مأمون الهضيبي ابن المرشد الأسبق حسن الهضيبي تم فصله من الإخوان فتركهم لمدة عشر سنوات!! ليت شعري

أحقيقة هذه أم نحن في عالم العجائب الإخوانية؟".
أخذت أستزيد أسامة الغزاوي بشغف فقال:
كانت هذه هي القصة التي سمعتها من الأستاذ عبد المتعال الجابري كما قلت لك، وسمعت طرفها الآخر من الأستاذ فريق عبد الخالق، وقد حاولت الاستيثاق من الحاج مصطفى ذات يوم عن صحة خبر المرشد السري فلم يجبني وقال لي هذا علم لا ينفع.. لا تتحدث إلا فيما يعنيك.. إلا أنني كنت أتحرق شوقاً لاستجلاء غموض هذه القصة التي أخفتها القيادات عن الجميع وكأنها عورة ينبغي طمسها أو ذكرى بائدة يجب أن تكون نسياً منسياً!!..".
ذهبت إلى أخينا الدمث الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد الذي تعرفه فقال لي: كنت حاضراً في هذه الأيام ولكن المرشد السري لم يكن المهندس حلمي عبد المجيد بل كان الشيخ زكي وهو من شيوخ الإخوان الكبار وقتها، وتم اختياره ليدير دفة الجماعة إلى أن يتم اختيار مرشد جديد.. وردد مثل ذلك الدكتور السيد عبد الستار المليجي.
"وذكر أخونا الدكتور عصام العريان نجم الإخوان البازخ المثقف في لقاء خاص جمعه ببعض الإخوة أن المرشد السري لم يكن حلمي عبد المجيد.. بل كان الشيخ حسني عبد الباقي أحد سدنة التنظيم وأحد أهم قيادات النظام الخاص..".
بيد أن كبار الإخوة أجمعوا على أن أبو الفتوح والعريان والمليجي كانوا وقتها من صغار الشباب ولم يكن يسمح لهم بالاطلاع على تلكم الشئون، وأن المرشد السري كان هو حلمي عبد المجيد الذي خرج بعد ذلك من زمرة الجماعة ولم يظهر في أي مناسبة من مناسبتها.
دارت رأسي من تلك القصة الغريبة التي جعلتني عندما استمعت لها ما بين مندهش ومتعجب، إلا أن الحرارة التي كان يتحدث بها أسامة والاسترسال الذي حرك لسانه جعلا صدقه عندي لا مراء فيه.
كانت رسل الفجر قد بدأت في التجلي وظهر بعض المصلين وهم يغادرون دورهم في طريقهم إلى المساجد انتظاراً لآذان الفجر، وكنا قد قطعنا الشارع مرة أخرى وحديث الغزاوي المشوق لا ينتهي وكأن جعبته لا تنفد من الأسرار.
تدخلت في الحوار مستفهماً: نعود مرة أخرى إلى سؤالي الذي جرنا إلى

هذه القصة العجيبة.. تلك القصة التي لا أظن أن أحداً من شباب الإخوان يعرف تفصيلاتها أو يدرك مراميها ومغزاها والتي قطعاً تحتاج إلى بحث وتنقيب للوصول إلى كنهها... ولكن يظل سؤالي حائراً.. لماذا يا أخي قال المستشار مأمون الهضيبي في معرض الكتاب عبارته المؤلمة التي أظن أن فكره يرفضها؟ لماذا قال "نحن نتعبد لله بأعمال التنظيم الخاص قبل الثورة"؟!!
قال الغزاوي وقد أخذه التعب وظهر على صوته الإرهاق: عندما وضع المستشار مأمون الهضيبي قدمه على أرض الإخوان في مصر أدرك أن رجال التنظيم الخاص يسيطرون.. ولكنه وضع يده في يد بعض رجال الأستاذ عمر التلمساني ووثق صلته بالأستاذ صلاح شادي رحمه الله وكوّن معه لجنة سياسية ضموا إليها عدداً من المفكرين من غير الإخوان، وبعد أن مات الأستاذ التلمساني وجاء الأستاذ حامد أبو النصر أدرك الهضيبي الابن أن مقاليد الأمور آلت كلها إلى رجال التنظيم الخاص وأنه لن تكون له مكانة إلا إذا صانعهم ومالأهم فبدأ يتقرب إلى كبيرهم الحاج مصطفى مشهور، أما هم فقد نظروا إليه فوجدوه مستشاراً كبيراً مرهوب الجانب مكث سنوات من عمره قريباً من الحكام والملوك إذ كان كما قلت لك مستشاراً لوزير سعودي من آل سعود فسعدوا بصحبته واستناموا له خاصة وأنه أخذ يدافع عن أعمالهم قبل الثورة... ومن هنا فإن المستشار مأمون كان يفسح لنفسه مجالاً داخل الجماعة من خلال كلماته في معرض الكتاب عنهم ليسحب منهم أهم ملفات التنظيم كي يديرها بعقلية مدنية بعيداً عن الطريقة العسكرية الآلية التي أتقنوها ولم يعرفوا غيرها... وعن قريب سيصل هذا الرجل إلى بغيته إذ من السهل عليه أن يسيطر عليهم ويسوسهم بذكائه وحنكته ودهائه.
ولك أن تعلم أن المرشد السابق الأستاذ التلمساني وضع المستشار مأمون في لجنة سياسية بالإخوان هدفها وضع تصور لحزب مدني وكان معه في هذه اللجنة الأستاذ صلاح شادي ولكن يبدو أن المستشار مأمون عدل عن هذه الفكرة حالياً وتوقف عن المضي فيها بعد أن وجد أن رجال النظام الخاص يمقتونها ويبغضون من يطرحها وكأنه قتل أباهم لأنه في مخيلتهم لا تستقيم الجماعة في وجود حزب ولا يصلح الحزب مع جماعة... وقد قال لنا الحاج مصطفى مشهور ذات يوم ونحن نناقشه في جدوى عمل حزب سياسي

أن حسن البنا قال: إن الأحزاب مخالفة للشرع!!
وبعد وفاة الأستاذ التلمساني تم مناقشة فكرة الحزب في مكتب الإرشاد وقتها قال الحاج مصطفى: إن فكرة الأحزاب السياسية تخالف الإسلام وتدعو إلى التفرق وقد انبثقت الأحزاب من ثقافة الغرب الملحد ولن ندخل معهم جحر الضب ولكننا سنعيش في طهارة الجماعة (يقصد لن نستدرج لعمل حزب سياسي) ومن بعدها وضع المستشار مأمون برامج الأحزاب- التي تم إعدادها- في سلة مهملاات الجماعة حتى يكسب رضاء رجال النظام الخاص.
لا أعرف لماذا وقع في خلدي عندما استمعت إلى التبرير الذي ساقه الغزاوي قصة "تاييس" التي كتبها الروائي الفرنسي "أناتول فرانس" عن تاييس والراهب بافنوس.. ذهب بافنوس إلى تاييس كي يسحبها إلى دائرة الإيمان فخرج هو من دائرة الإيمان... فهل تتكرر القصة؟
أذن الفجر في نهاية الكلمة الأخيرة لأسامة وكنا على باب مسجد عاطف السادات ذلك المسجد الكبير الضخم القابع في الثلث الأخير من شارع طومانباي والذي كان في يوم من الأيام مجرد زاوية مقتطعة من مركز شباب طومانباي ثم أصبح بعد حرب 1973 مسجداً ضخماً وقد امتد إليه نفوذ التجمعات السلفية دون أن يكون لجماعة الإخوان أي وجود في أنشطته وبذلك سيطر السلفيون على الجامعين الكبيرين بالمنطقة كلها... مسجد العزيز بالله ومسجد عاطف السادات.
وبعد أن صلينا الفجر دعانا البعض إلى الجلوس في مقرأة متخصصة في تعليم أحكام تلاوة القرآن ولكننا اعتذرنا للإجهاد الذي سيطر علينا وانصرفنا وأقدامنا لا تكاد تحملنا إلا أن عقلي كان في أوج نشاطه وتوهجهه، ومن حالة الشبق المعرفي التي اعترتني قلت لأسامة الغزاوي ونحن في الطريق إلى بيته حيث تقف سيارتي: هل لك أن تخبرني عن سبب تركك للإخوان.. أو بالأحرى فصلك منها؟
قال والأسى يمتزج بابتسامته: جاء لنا أمر من مسئول المنطقة بخصوص انتخابات مجلس شورى الجماعة بوجوب أن يختار الأخ أسماءٌ معينة بذاتها دون غيرها وكان من ضمن هذه الأسماء الحاج مصطفى مشهور... والله يا أخي لو تركوا الأمر دون توجيه لاخترت هذه الأسماء، ولكنني أنا وآخرين

رفضنا تلك الشورى الزائفة وقلنا لبعض: رغم حبنا للحاج مصطفى إلا أننا لن نختاره، ولن نختار الأسماء التي أعطوها لنا، ولكن أحد الإخوة سامحه الله أفشى أمري، أنا وعمر التلاوي فتم التحقيق معنا ثم تم وقفنا لمدة عام... وإذ رفضنا هذا الظلم صدر قرار بفصلنا من الجماعة.
* * *
لم أستطع أن أخلد إلى النوم رغم تلك السهرة التاريخية، من بعد المغرب إلى ما بعد الفجر وحتى تباشير الصباح ونحن نستدعي ذلك التاريخ القريب للإخوان، وعندما آويت إلى فراشي تداعت الأفكار وتفاعلت في فؤادي فأقضت مضجعي ومنعتني من النوم.. ينبغي أن أسير في الجماعة وأنا أحمل مصباح ديوجين فيلسوف أثينا الشهير الذي كان يحمل مصباحه في وضح النهار يبحث به عن الحقيقة، ينبغي أن أحتفظ بعقلي لا أسلمه لأحد مهما كان قدره، فلم تصب الإنسانية بآفة كآفة تسليم العقول يعبث بها من يشاء، لقد أدركت من خلال ذاكرة أسامة الغزاوي أن الجماعة عندما تشعر أنها مهددة بالزوال فإنها تدافع عن نفسها عبر عدة وسائل، إذ تسعى أولاً إلى وأد أي حركات تجديدية داخلية ومحاربتها بشتى الطرق، كما أنها تسعى في ذات الوقت إلى الانكماش والتقوقع على ذاتها كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس بحيث تبقى بمعزل عن البناء الحضاري للمجتمع... أما طبيعتي فهي ضد العزلة والتقوقع والانعزال... أنا مع الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة... وما التنظيم إلا وسيلة فإن خاب في مسعاه فليذهب إلى ذمة التاريخ ولتكن الدعوة على أن يشاء الله.
بعد عصر يوم الجمعة الذي جاء ردف تلك السهرة الليلية المدهشة من بدايات عام 1992 قررت أن أدون في مفكرتي كل ما يمر بي في الجماعة من أحداث، وأن أدون أيضاً تلك الأحداث التي مرت بالجماعة وكنت قريباً منها أو التي مرت بمن سبقوني في الإخوان... وكان أول ما كتبته عن أيام الإخوان المسلمين في نقابة المحامين من بداية التجربة إلى تلك اللحظة التي أمسكت فيها بالقلم- ثم ما بعد ذلك مع توالي الأحداث-... تلك الأيام كانت ماثلة بين أيدينا والتي كنا نرتع فيها في أقدم نقابة مهنية ليس في مصر فحسب ولكن في العالم العربي كله.. أيام الإخوان في تلك النقابة العلمانية الليبرالية الصلدة... ويا لها من أيام.








الفصل الثالث
سفر التكوين

"عندما يتسلق الإنسانُ بدأبٍ وإصرار الجبلَ ليصل إلى القمةِ فإنه سيصل حتماً ولكن ينبغي عليه أن يعلمَ أن الغيوم والسحبَ تحيطُ بالقمةِ من كل جانب".
هامش: كتَبت هذه السطور في مفكرتي بدءاً من عام 1992، وبعد هذا التاريخ حدثت الكثير من الأحداث والوقائع وتبدلت أحوال البعض، ولذلك قمت بكتابة إضافات سأجعلها في موقعها المناسب ولكنني سأضعها بين قوسين لتمييزها عن النص الأصلي، إلا أنني اختصرت الذي دونته في مفكرتي وتجاوزت أحداثاً هامة حتى لا أستدرج القارئ إلى تفريعات ليس هنا مجال ذكرها.
كان ذلك قبل أن أدخل إلى الإخوان أو أنخرط في تنظيمهم، لم أكن أعرف – بحسب أنني كنت أنظر إلى جسم الإخوان من الخارج- حقيقة ما يدور داخل التنظيم، أما الآن فإنني أكاد أقسم أن الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله لم يكن يتصور أنه عندما أطلق شرارة بدء حركة الإخوان المسلمين في نقابة المحامين أن يؤول الأمر إلى ما وصل إليه الحال فيما بعد.
في بداية عام 1983 حينما أصبح الشتاء في عنفوانه، قام الأستاذ عمر التلمساني مرشد الإخوان آنذاك بدعوة عدد من أبناء الحركة الإسلامية من العاملين بالمحاماة كي يستأنس برأيهم في شأن وضع حجر الأساس للحركة الإسلامية بعمومها في نقابة المحامين، كان من بين الحضور عدد من قيادات الإخوان من غير المحامين وكان من بينهم أيضاً بعض شيوخ المحامين الذين انتسبوا للإخوان بشكل أو بآخر.
وبعد أن صلى الجميع الظهر خلف إمامهم وقائد دعوتم ومرشدهم عمر التلمساني، تحلّق الجمع حوله وقد توسطهم في الحجرة الرئيسية بمقر الدعوة – الإخوان- بالتوفيقية وأخذ الرجل- وهو المحامي الأريب- يستمع إلى الشباب والشيوخ.. يتفرس وجوههم ويبحث في قلوبهم ويقرأ تصوراتهم الحركية في الشأن الذي دعاهم إليه، إلا أنه أعرض بامتعاض عن كل ما استمع إليه إذ كان المتكلمون يتحدثون وكأنهم من أهل الكهف لا يدرون عن واقعهم شيئاً.
وعندما انتهى الجميع قام من آخر الصف شاب في نهاية العقد الثالث من عمره يطلب الكلمة... وعندما أذن له المرشد تكلم واحتد وشرح كل ما في

عقله وكانت كلماته تحمل قدراً من اللوم على جيل فشل في وضع أقدام الحركة الإسلامية في نقابة المحامين حتى أصبحت هذه النقابة قلعة من قلاع الأيديولوجيات الليبرالية واليسارية التي تقف في موقع المنافسة مع ما أطلق عليه الباحثون "الإسلام السياسي"، أثار كلام هذا الشاب سخط الكبار وإعجاب الشباب حتى أن المرشد التلمساني انتهره وطلب منه الجلوس، إلا أنه عند انصراف الجميع همس المرشد في أذن الشاب مختار نوح قائلاً: مُر عليّ في الغد.
لم تكن هذه اللفتة لتمر بسلام وبين الجالسين الحاج أحمد حسانين والدكتور أحمد الملط والشيخ حسني عبد الباقي أبناء النظام الخاص الذين استشعروا أن المرشد يسعى قدماً نحو اجتذاب شباب الإخوان إلى دائرته الخاصة التي تنشد الدعوة، بعيداً عن عيونهم ورقابتهم، وغلا ما الداعي أن يهمس في أذن هذا الشاب وهو يبتسم ابتسامة نافذة، فأوجسوا في أنفسهم خيفة وأضمروا في ضمائرهم شيئاً.
(صدرت تعليمات بعد ذلك إلى مسئولي المحافظات بعدم تنفيذ أي أمر يصدر بخصوص مختار نوح إلا بعد الحصول على موافقة من أحد هؤلاء، إلا أن المرشد التلمساني كان لهم بالمرصاد ومن بعد استطاع نوح التغلب على تلك المعوقات من خلال صلته الوطيدة بالمستشار مأمون الهضيبي إلى أن تغيرت الأحوال وسبحان من له الدوام).
في اليوم التالي كان التلمساني يستمع من مختار نوح إلى تصور حركي واستراتيجي كامل يسمح للحركة الإسلامية بعمومها- وليس الإخوان فحسب- بالولوج إلى نقابة المحامين تلك النقابة التي كانت الحلم للحركة الإسلامية... والأمل للإخوان المسلمين إلا أنها كانت عصية عليهم.
قال نوح للمرشد وهو ينظر تأدباً إلى الأرض: أرى يا فضيلة المرشد أنه ينبغي أن نقوم بتكوين صف واحد في نقابة المحامين ينضوي تحت رايته كل التيار الإسلامي.. الإخوان وغير الإخوان.. يمتد جغرافياً إلى كل القُطر بحيث يرتبط الجميع برباط عضوي، كما لا بد أن نقدم عملاً إسلامياً واضحاً ونعلن عن طموحاتنا وأنفسنا وشعارتنا بلا مواربة إذ لم نجن من المواربة التي كان السابقون يحرصون عليها إلا الفشل... ثم مد نوح يده للمرشد ببضع ورقات تحتوي على تصور حركي ومنهجي ثم استطرد: هذه الورقات

تحتوي على تصوري أقدمها لفضيلتكم حتى أحصل على رأيكم وتوجيهكم بشأنها.
مما لا شك فيه أن المرشد المستبصر تنفس الصعداء ثم ربت على كتف نوح وهو يقول له:
"أوافق على هذا التصور، إلا أنني أطلب منك أن يكون صفك باحثاً عن مصالح المحامين قبل غيرهم ولو كان غيرهم هم الإخوان".
أنت الآن مسئول عن تنفيذ تصوراتك وأفكارك وسأساعدك ما وسعني الجهد.
إعلم أنه ستقابلك العديد من المشاكل والصعوبات الجمة، لن تكون الصعوبات أو المشاكل التي أعنيها من المنافسين الذين ينتمون لتوجهات سياسية منافسة فهذه مقدور عليها، ولكن ستقوم عليك الحروب من أبناء جلدتك الفكرية.. أبناء مرجعيتك فاحذر منهم".
"إذا أردت أن تسلك طريقاً في الحركة ووجدت معارضة من أحد من الإخوان هدفها توقيفك وإحباطك فاضرب الصفح عنهم وقل لمن يعارضك: إنما أفعل ما أمرني به التلمساني".
كان المرشد على يقين من أن مشروعه الفكري الرامي إلى تحويل الجماعة إلى تيار دافق يسري في أوصال المجتمع ويضم كل أبناء الحركة الإسلامية سواء من انضم منهم للتنظيم أو من لم ينضم، لا فارق بينهما إلا بمقدار الإيمان والعمل سوف يلقى معارضة أكيدة من فريق يسعى بقضه وقضيضه نحو إحكام قبضته على عنق الجماعة، إذ كان هذا الفريق قد نشأ بعضه في حضن النظام الخاص وتحت رعاية عبد الرحمن السندي، وشرب بعضه الآخر من معين سيد قطب وكانوا سدنة معبده الفكري وأتباعه في قضية 1965، من أجل هذا كان المرشد حريصاً على تحذير نوح من أولاء بكلمات تحمل تلميحاً وتخفي تصريحاً أو تبطن أكثر مما تظهر.
* * *
لم ينصرم عام 1983 حتى جمع مختار نوح حوله من جيله عدداً من المحامين الذين يحملون عاطفة دينية مشبوبة... لم يكن منهم من ينتمي إلى الإخوان المسلمين إلا ستة نفر خمسة من المحامين أما السادس فقد كان طالباً في كلية الحقوق (سيكون بعض هؤلاء صاحب دور مؤثر في مسار

جماعة الإخوان في نقابة المحامين في مستقبل الأيام)، أما عن هؤلاء الستة فهم جمال تاج الدين (الذي أصبح نقابياً بارزاً فيما بعد كما أصبح صاحب مكانة إخوانية إلا أن مكانت هارتبطت – مداً أو جزراً- بمن هم على مقاعد الإدارة الإخوانية العليا، كما أن شخصيته الصدامية عطلته عن الترقي في مدارج الإخوان وأوقفت رحلة صعوده حتى حين)، وجمال فايز (الذي اختفى من الأحداث بعد ذلك بسنوات وترك جماعة الإخوان رغم النسب الذي ربطه بأحد كبار الإخوان الأوائل- الراحل محمد المسماري- والصلة العميقة التي كانت بينه وبين المرشد التلمساني)، ومحمد غريب (الذي دخل الإخوان عن طريق بوابة نوح وما لبث أن خط لنفسه طريقه في الإخوان وتراوحت رحلته الإخوانية ما بين الصعود والركود)، ومصطفى زهران (الذي كان راقصاً في فرقة رضا للفنون الشعبية وكان من المتوقع أن يكون أن يكون له الشأن الأكبر في تلك الفرقة الفنية التليدة وغذا به يغير مساره عندما التقى بنوح حيث ترك الفرقة الفنية ودخل إلى الفرقة الدينية – الإخوان المسلمين- وأصبح بعد ذلك من علامات البداية للإخوان في نقابة المحامين إلا أن الحال لا يدوم فسرعان ما تراجعت مكانته الإخوانية وتعرض لكثير من المشاكل داخل المحضن الإخواني حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى من ترك الجماعة على أن تم تسكينه في أسرة إخوانية تضم المشكوك في ولائهم فأصبح على الهامش بعد أن كان من القلب)، وأحمد ربيع (أحد أوائل من انضم من محافظة الجيزة للإخوان المسلمين وكانت تربطه بالحاج مصطفى مشهور رابطة قوية حيث دخل الإخوان عن طريقه في نهاية السبعينات ثم انقطع الحبل السري الذي كان يربطه بالحاج مصطفى بعد أن استوى عوده... وقد ترقى أحمد داخل الإخوان وأصبح في فترة من فتراته مسئولاً عن نشاط الأشبال في الإخوان وتمازج أحمد مع نوح وشرب منه وتعلم الكثير على يديه وبعد محنة نوح التي دخل فيها السجن عام 1999 ستصيب أحمد لعنة الإخوان بسبب قربه من نوح وسيتم تنحيته من كل مواقعه الإخوانية وسيصبح خالي الوفاض وأثراً بعد عين).
ثم طالب الحقوق وقتها سيد عبد العزيز الذي كان أحد شباب الإخوان في منطقة الزيتون وكان مقرباً من نوح حيث ظل منافحاً عنه وسنداً له (إلا أن السفر خارج البلاد للبحث عن الرزق أبعده لسنوات عن الجمع وعندما عاد من

سفره عاد بغير القلب الذي ذهب به)، ثم انضم إليهم بعد ذلك خالد بدوي الداعية الذي عُرف عنه أنه رقيق الحاشية دمث الخلق بشوش مبتسم يمتلك وهو يقرأ القرآن صوتاً خاشعاً مؤثراً يهز الأفئدة (وأصبح بعد ذلك من مختار نوح كهارون من موسى عليه السلام ومن بعد صار خالد عضواً شهيراً بمجلس نقابة المحامين وتم حبسه مع نوح في قضية عبد الحارث مدني عام 1994 ثم في قضية النقابيين عام 1999 وبذلك أصبح رفيقاً لمختار في سجنه كما كان رفيقاً له في العمل النقابي).
وبهذا العدد بدأ مختار نوح في تأسيس الصف الإسلامي حيث قام بالطواف في المحافظات والقرى كي يجمع أنصاراً من المحامين يعرض عليهم فكرته وتصوراته الإسلامية والحركية التي كان نبعها هو فكر الإخوان.... وبدأ العدد في التكاثر من حوله رغم المعوقات العديدة التي وضعها أمامه من أشار عليهم التلمساني.
كانت المشاكل تترى، والبيروقراطية تقف حائلاً دون انطلاقات هذا الشاب ولكأنما الذين يعوقونه ينتمون إلى جماعة أخرى وتنظيم آخر.... ولم يكن نوح يستطيع في كثير من الأحايين التغلب على تلك البيروقراطية إلا بالاتصال بالمرشد التلمساني حتى يأمر بفك تلك الطلاسم التنظيمية.
ورغم كل ذلك فقد كانت البداية برّاقة لامعة تخطف الأبصار، وقد ساهم في الزخم الذي صاحب البداية تلك الحالة المصرية الفريدة التي لم تتكرر كثيراً فقد كانت مصر – المتدينة أصلاً_ آنذاك في حالة شعورية فريدة من التدين والإقبال على الحركة الإسلامية التي اكتسبت ثقة الشارع بسبب حكمة وحصافة التلمساني، وبسبب العلماء والدعاة الذين انتشروا قبلها في مصر من خلال مساجدها ومنابرها وجامعاتها يصنعون مساحة تأثير غير مسبوقة ويمهدون الطريق لمن يجني الثمار.
لكل هذا ولغيره تكوّن في نقابة المحامين صف من المحامين يحملون خليطاً فكرياً وحركياً متناثراً إلا أنه تجمعهم مرجعية واحدة وعاطفة دينية مشبوبة، انتمى معظمهم إلى الإخوان المسلمين عن طريق نوح وظل البعض الآخر بغير انتماء تنظيمي.
كانت المشكلة الأساسية التي واجهت نوح ومجموعته هي تحت أي غطاء نقابي يعملون؟ إذ لم يكن التلمساني يحبذ لهم العمل في النقابة تحت راية

الإخوان بشكل فج، وإن لم يمانع بطبيعة الحال من أن تكون الراية التي يلتف من حولها المحامون هي راية إسلامية ذات شعارات إسلامية واضحة، كما أنهم يذكرون تلك الليلة التي اجتمعوا فيها مع القطب الإخواني الشهير الأستاذ فريد عبد الخالق في بيته حينها قال لهم بكلمات واضحة رقراقة: ينبغي وأنتم تمارسون عملكهم النقابي أن تقطعوا الحبل السُري بينكم وبين الإخوان، بل وينبغي أن تنتهي فترة فطامكم الإخواني... أنتم من المحامين وينبغي أن يكون عملكم لمصلحة المحامين قبل أي مصلحة أخرى... ولا ريب أن مثل هذه الأفكار قد ألقت بالأستاذ فريد عبد الخالق بعيداً عن المواقع القيادية في الجماعة رغم تاريخه الذي يضرب بجذوره في تربة الإخوان وصلته القوية بالمرشد التلمساني... وعلى نفس النهج نصحهم المفكر الإسلامي والقانوني العملاق الدكتور توفيق الشاوي (رحمه الله) الذي كان قد أبحر بعيداً عن التنظيم منذ أمد.
(ولعل لجوء نوح إلى أولاء الرجال يطلب منهم المشورة جعل فريق النظام الخاص يضع تحت اسمه ورسمه خطاً أحمراً ظل يصاحبه كظله فيما بعد).
تعددت مصادر الشورى وتنوعت وكان من رأي الأستاذ محمد هلال (وهو من كبار المحامين بالإخوان وأحد أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سناً وتولى موقع المرشد المؤقت عقب وفاة المرشد السابق مأمون الهضيبي وسيكون له دور مهم في الأحداث بالنسبة لي فيما بعد) أن يكون العمل تحت مظلة لجنة أو رابطة يطلقون عليها الصوت الإخواني أو ما شابه.. مما جعلهم يغوصون في حيرتهم.. تحت أي مظلة في نقابة المحامين نعمل؟.. هل تحت مظلة لجنة الحريات، أم تحت مظلة لجنة الشئون العربية أم أم أم؟ ولكن سرعان ما سينطلق ركب الإخوان إلى لجنة الشريعة الإسلامية التي ستصبح الناطق الرسمي للإخوان في النقابة... إلا أن الوصول إلى هذه اللجنة كان أشبه بالوصول إلى قمة إفرست، كنا نتصور لجنة الشريعة لقمة سائغة ولكن تصورنا هذا كان مستغرقاً في السذاجة... فقد كانت المفاجآت تنتظرنا.
* * *
كان أحمد الخواجة هو أول من أدرك في نقابة المحامين ملكات مختار نوح وقدراته الانتخابية التي من الممكن أن تفسح المجال للإخوان المسلمين في نقابة تتأبى على السيطرة الحزبية. فقبيل انتخابات المجلس التي أجريت في

مايو من عام 1985- عام المواجهة- توفي الأستاذ محمد المسماري المحامي وعضو مجلس نقابة المحامين المنصرم والذي ينتسب بصلة تماس أو انتساب- لجماعة الإخوان المسلمين فضلاً عن أنه كان من المقربين للنقيب الداهية أحمد الخواجة وللمرشد التلمساني في ذات الآن- وفي سرادق العزاء المهيب تقابل أحمد الخواجة مع مختار نوح وانتحى به جانباً ثم بدأ يُسر في أذنه كلمات: أنت شاب رائع وسيكون لك مستقبل إلا أنك تحفر نهايتك ونهاية جماعتك في النقابة بنفسك كان من المفترض أن تتعلم من المرحوم المسماري أهمية عدم رفع شعاراتكم الدينية.
قال له نوح وهو يمتطي جواد الثقة: المسماري رحمهالله أستاذي ولكن لكل مرحلة متطلباتها وقد أن أن نُعبّر عن أنفسنا وعن فكرنا ونحن نثق في ضمير المحامين.
فبادره الخواجة: اعلم يا مختار يا ابني أن الشعار الذي رفعته والذي تقولون فيه نعم نريدها إسلامية من شأنه أن يسقطك في الانتخابات، فنقابة المحامين نقابة علمانية وسوف يقف ضدك الناصريون والشيوعيون والمسيحيون والوفديون.. سيقف ضدك الجميع وسوف يقف ضدك الناصريون والشيوعيون والمسيحيون والوفديون.. سيقف ضدك الجميع وسوف يكون هذا كفيلاً بإسقاطك أنت وجماعتك.
إلا أن نوح أجابه بثقة وهو يتسربل بعباءة الجدية: أعلم هذا يا معالي النقيب ولكن لا تقلق فسوف أنجح نجاحاً غير مسبوق.
فقاطعه الخواجة في هدوء امتزج بقليل الحدّة: السنة الماضية يا مختار لم يستطع الإخوان إعلان شعارهم في انتخابات مجلس الشعب بل إنهم تحالفوا مع الوفد ودخلوا البرلمان من خلال معطف غير معطفهم وشعار غير شعارهم... صدقني فقد كنت حاضراً للتحالف من أوله لآخره وأنا الذي ذللت الصعاب التي واجهت هذا التحالف... أنا أحبكم يا بني وأحبك أنت على وجه الخصوص وأرى فيك شبابي.. ارجع للأستاذ التلمساني وقل له الخواجة نصحني بذلك وهو سيفهم قصدي.. فقد كان معي منذ لحظات يقدم واجب العزاء، ويا ليتك حضرت مبكراً ولحقت به حتى يكون كلامي هذا على مرمى حجر من أذنه.
قال مختار وهو يستمر في ثقته: هذا أمر محسوم يا معالي النقيب ولا مجال للجدال فيه.

وكأنما لم ييأس.. وبحميمية تميز بها الخواجة أمسك بيد نوح واقترب من أذنه هامساً وكأنه سيدلي له بسر خطير: مصر يا مختار لا تتحمل في هذه الأيام شعارات دينية... مصر ما صدقت أنها خرجت من دوامة التطرف.... أرجوكم لا تعيدوا هذه الأيام.... لو لم تنتبهوا فسيحدث في المستقبل القريب صدام لا محالة بينكم وبين النظام.. بل ستصطدمون بمؤسسات الدولة المدنية كلها.... وإذا فعل الإخوان فعلتك وأصروا على المواجهة والمغالبة بالشعار والأسلوب ستكون هذه هي بداية النهاية للإخوان ككل.. الأمر يحتاج إلى فطنة لا إلى شجاعة.
لم يأخذ أحد بنصيبحة الخواجة فقد اعتبرناها مناورة- وقد تكون كذلك- إلا أننا لم نفكر حتى في طرحها للنقاش، ولكننا فقط تناقلنا خبرها بزهو وانتشاء، فالخواجة بجلالة قدره يخشانا ويحاول أن يستقطبنا وكأننا المجهول المخيف، وقد زاد من شعورنا بالفخر تلك النتيجة التي أسفرت عنها الانتخابات.... فعلى غير ما توقعت القوى السياسية في مصر فاز مختار نوح بالمقعد الأول للشباب مزاحماً الكبار في عدد الأصوات ومتفوقاً بثلاثة أضعاف تقريباً على سامح عاشور الابن الروحي لأحمد الخواجة الذي فاز بالمقعد الثاني، وكان هذا الفوز هو قمة المفاجآت التي أذهلت أحمد الخواجة ومجلسه، ولكن يبدو أن الخواجة لم يستسلم... فقد دبر أمراً وأجرى اتفاقاً مع مجلسه سيكون هوالضربة الأولى للإخوان.
* * *
كان نوح قد جاب المحافظات والمراكز في جولاته الانتخابية وقد ساعدته هذه الجولات على اكتساب مزيد من الأنصار بل كانت هذه الجولات هي العامل الرئيسي في تكوين الصف الإخواني الكبير في نقابة المحامين فقد دخل إلى الإخوان من خلالها العشرات من المحامين واقترب من الإخوان بضع مئات يتحلقون حول نوح الذي ظهر كقائد منتصر استطاع فتح تلك النقابة الليبرالية التي كانت ذات يوم بعيدة المنال عن الحلم الإخواني.
وبدخول مختار نوح صاحب الثوب الإخواني للمجلس بدأت حقبة جديدة في نقابة المحامين وظهرت أمام نوح مظلة شرعية يعمل هو ومجموعته تحتها ومن خلالها هي مظلة لجنة الشريعة الإسلامية وهي إحدى لجان العمل النقابي في نقابة المحامين كان من ضمن أهدافها الرئيسية التي أنشئت من

أجلها تقنين الشريعة الإسلامية وعمل أبحاث شرعية وقانونية لهذا الغرض.
وبعد أن أقمنا الأفراح ابتهاجاً بهذا النجاح الذي اعتبرناه أسطورة من الأساطير، حتى أن النوم خاصم جفوننا أياماً من فرط السعادة – ولِمَ لا تعترينا الفرحة؟ وقد أصبح نوح هو الفارس الأول من فرسان الإخوان الذين ولجوا بالتنظيم إلى داخل النقابة كما يلج الجمل في سم الخياط.
أخذ بعضنا يتردد بشكل مستمر على مقر الإخوان المسلمين بالتوفيقية محاولاً لفت الأنظار إليه وكأنه يقول لكبار الإخوان: انظروا... نحن جيل الفتح... نحن الذين فتحنا نقابة المحامين.
ووقع في قلوبنا الظن أن النقابة قد حيزت لنا بلجانها ورجالها.. إلا أننا أفقنا من أحلامنا البلهنية عندما بدأ النقيب الخواجة في تنفيذ الأمر الذي دبره مع أعضاء مجلسه... فقد بدأ في دعم سامح عاشور بكل ما يملك من قوة.. في الوقت الذي أبعد فيه مختار نوح عن كل لجان النقابة بما فيها لجنة الشريعة الإسلامية!! وقتها أدركنا أن قوسنا لم يخرج من كبده بعد وأننا ما زلنا في بداية الطريق ولم تستو شجرتنا على سوقها.
وبدأت المواجهة بين تيار الليبرالية المصرية الذي ضم تحت معطفه كل التيارات السياسية.. والإخوان المسلمين الذين رفعوا شعار نعم نريدها إسلامية... وشعار من أجل نقابة يمنحها الإسلام صدق الوعود وتعيش بالإسلام ثبات الموقف.. صراع من أجل مسامحة تبتغيها جماعة الإخوان ومحاولة عنيدة من القوى الليبرالية بإغلاق الباب أمامهم وإقصائهم.. إلا أن الرياح أتت بما لم تشته السفن.
عودة الشيخ إلى التوفيقية
كانت الصورة توحي بمعركة... مجلس نقابة يرفض بكامله إعطاء نوح مساحة يمارس من خلالها أنشطته... يرفض تسليمه لجنة الشريعة الإسلامية... ونوح يعلن على المحامين كافة أنه هو مقرر ومسئول تلك اللجنة النقابية.. والصراع يحتدم.
وفي وسط هذه الأجواء عاد الحاج مصطفى مشهور من غربته التي قضى فيها خمس سنوات، كانت حاسته الثاقبة وفراسته الصائبة قد أرشدته إلى أن الرئيس السادات سيقوم بالقبض على النخب من كافة الأطياف السياسية فغادر البلاد قبل اعتقالات سبتمبر الشهيرة عام 1981، أخذ الحاج مصطفى

يجوب بلاد الله ويتقابل مع خلق الله حيث استضافته المراكز الإسلامية في أمريكا ولندن وشرع وقتها في إقامة التنظيم الدولي للإخوان ثم عاد قبل أن يرتد إلينا طرفنا- أو يرتد إليه طرفه- وكأنه لبث يوماً أو بعض يوم، عاد إلينا بعرش التنظيم الدولي الذي أنشأ بنيانه- أو أعاده للوجود- وأنشأ لائحته.
عاد عندما وجد أن الجو السياسي في مصر قد استطاب لأهلها من الإخوان وأمن كل واحد منهم على نفسه وماله، عاد الرجل من غربته ليجد المرشد التلمساني ححرضاً في نزعه الأخير، فأخذ يُقلّب ملفات الإخوان التنظيمية وأوراقها ويبسط نفوذه هنا وهناك، وكان أن وجد الإخوان قد قطعوا مسافة في النقابات المهنية وتوطدت أركانهم في الأطباء والمهندسين وبدأوا يظهرون في المحامين، فأوجس في نفسه خيفة أن يكون المرشد التلمساني قد جرى بهؤلاء بعيداً عن سطوة التنظيم، فأسرها في نفسه ولم يبدها إلا لرجاله العتاة الأقوياء.
وكان لابد أن تجري المقادير بما قدره الله فقد مات الأستاذ عمر التلمساني وأفضى إلى ما قدّم وبكاه من بكاه من الإخوان ومن غير الإخوان، واستراح لموته من استراح من الإخوان ومن غير الإخوان، وكأني سمعتُ- وقتها- الأستاذ فريد عبد الخالق الصديق الحميم للمرشد التلمساني وهو يقول لأحدهم مصطبراً بصوت غلفته رعشة الحزن: إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت المقادير وأنت مأزور.
وكأني سمعته أيضاً وهو يقول: إن أخشى ما أخشاه على الجماعة أن تقع في يد من لا يحسن تدبير أمرها فيقذف بها بعيداً عن منهج حسن البنا والتلمساني.
ولكني سمعتُ أيضاً آخراً وهو يقول لآخر وقد دان لهم موقع المرشد: "والله لنتلقفها كما نتلقف الكرة ولن ندعها تقع من بين أيدينا أبداً".
وأصبح الأستاذ حامد أبو النصر هو المرشد الرابع للإخوان المسلمين.
في أحد الأيام من شتاء 1987 انتحى الحاج مصطفى مشهور- بعد أن أصبح نائباً للمرشد أبو النصر- بمختار نوح وأحمد ربيع في حجرته المواجهة لصالة الاستقبال بمقر الإخوان بالتوفيقية (تلك الحجرة العتيقة التي شهدت أحداثاً جمة وكان المستشار مأمون الهضيبي يزامله فيها أحياناً)... كانت

الحجرة بسيطة المحتويات وكان الحاج مصطفى بصورته المعتادة التي لم تغيرها الأحداث ولحيته الخفيفة غير المنتظمة وطاقية رأسه البيضاء... يرتدي كعادته – صيفاً أو شتاءً- حُلة صيفةي رمادية اللون إلا أنه لبرودة الجو كان يرتدي تحتها رداءً من الصوف يقيه قر الشتاء ويحميه من نزلات الكحة الصدرية.
تنحنح الحاج مصطفى وقال وكأنه ينصح زائريه بصيغة أبوية آمرةٍ: ينبغي أن تكون حركتكم في نقابة المحامين خالصة للجماعة وحدها دون غيرها.
وقبل أن يرد عليه نوح أو يعقب استطرد الحاج مصطفى: ليس الأمر مجرد كلام ولكن أين العمل للدعوة؟ أين المقارئ التي ينبغي أن تكون هي حجر الأساس؟ أين المعسكرات الإسلامية؟ هذه هي النبتة التي منها ستنطلق الدعوة... ومن خلالها سيدخل إلى الإخوان الآلاف من المحامين وسيكون الفتح إن شاء الله.
قاطعه نوح وكأنه يستفهم: ولكن أين دور العمل النقابي المتمثل في الارتقاء بالمهنة وتقديم الخدمات للمحامين وإنشاء المشروعات النقابية؟
قال مصطفى مشهور وهو يخترق وجه نوح بنظراته النافذة: يستطيع أي واحد تقديم مثل هذه الأعمال النقابية لكن لن يستطيع غيركم تقديم العمل الإسلامي... أنتم رسل الدعوة في النقابة، ولذلك فليضع كل واحد منكم أمامه هذا الشعار لا تغادروه أبداً... في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء.. لا لحزب قد عملنا نحن للدين فداء... فليدم للدين مجده أو ترق فيه الدماء.
أكاد أقسم أن مختار نوح تأثر بهذه الأفكار وقتها، فقد أيقن أن فتح نقابة المحامين لن يكون إلا من خلال العمل الدعوي ولن تكون الدعوة إلا من خلال الإخوان وحدهم دون غيرهم ولن يكون الإخوان إلا بتنظيم محكم.. ولن يقبل الإخوان وجود أي حركة إسلامية منافسة مهما كان قدرها.. وعلى غير المتوقع ظهرت في سماء نقابة المحامين حركة إسلامية منافسة أثارت قلق الإخوان.
(ولكن التجربة أعطت لنوح بعد ذلك بُعداً فكرياً مختلفاً، بُعداً واسع الأفق عظيم الامتداد، ولكن لم يمهله أحد فقد تعرض نوح في مستقبل الأيام بسبب أفكاره لإقصاء وتجميد).

مناظرة بين الإخوة الأعداء
ذات صبح لأحد أيام عام 1988 انتشرت في حجرات المحامين بالمحاكم إعلانات عن تأسيس رابطة أطلقت على نفسها جماعة المحامين الإسلاميين، كان أفراد هذه الرابطة ممن ينتمون إلى تجمعات إسلامية مختلفة مثل الجهاد والجماعة الإسلامية، وكان بعضهم جذوره سلفية إلا أنهم كلهم يقفون موقف الاختلاف مع الإخوان المسلمين، وبدأت أنشطة تلك الرابطة تنهض وتظهر بصورة توحي وكأنها المنافس الإسلامي للجنة الشريعة الإسلامية... أو على وجه الدقة للإخوان المسلمين.. وظهر على رأس هذه الرابطة منتصر الزيات الذي كان قد بدأ خطواته الأولى في المحاماة بعد خروجه من السجن، ومحمود عبد الشافي وهو شخصية إسلامية معروفة بين المحامين ولها حضورها، وقمر موسى الذي كان أميراً للجماعة الإسلامية بكلية الحقوق بجامعة القاهخرة في السبعينات... وغيرهم.
أثارت هذه الرابطة قلق الإخوان وخوفهم... فأولئك المحامون ينتمون في الأصل إلى تجمعات حركية انتهجت العنف ودخل قادتهم السجون بعد اغتيال السادات وقد تصم تلك الرابطة بتاريخها المعروف كل التجمعات الإسلامية في النقابة – بما فيها الإخوان- بالعنف الذي كان قد استعدى ضده نفسية المصريين.. وغير هذا فإن تلك الرابطة بدت وفقاً لحركة رجالها وحضور بعضهم كمنافس صلب لجماعة ألإخوان بالنقابة، فبعد أن كان الإخوان هم وحدهم أصحاب هذه البضاعة ورجالها في نقابة المحامين، إذا ببعضهم يظهر ويقول لهم ونحن أيضاًنملك مثل بضاعتكم وسنرفع مثل شعاراتكم... لا تثريب علينا إن فعلنا ذلك، فلستم الوكلاء الحصريين للإسلام، ولن تكونوا.
ولذلك بدأت الحرب الخفية المستترة بين الأشقاء، وكانت الحرب تستعر نارها علناً في بعض الأحيان أمام الغادي والرائح من عامة المحامين.. إلا أن الغلبة كانت دائماً لفريق الإخوان، فقد كان فريق منتصر الزيات وقمر موسى يفتقد الحنكة السياسية والقدرة على إدارة المعارك إذ كان كل همهم في المحاكم وبين المحامين انتقاد جماعة الإخوان والحط من قدرهم وتسفيه أحلامهم، ومن ناحية أخرى كان مختار نوح قد قطع شوطاً كبيراً في دعم حركته وتجنيد الأنصار لجماعته في كل المحافظات فلم تُجْد انتقادات المحامين الإسلاميين ولم تفت في عضد الإخوان الذين ردوا على الهجوم

بهجوم وشككوا في نوايا المحامين الإسلاميين واثاروا الشبهات حولهم.
وعندما اشتد أوار الصراع الإسلامي واحتدمت المنافسة بدأ الوسطاء الطيبون من أصحاب النوايا الحسنة في الدتخل للتوفيق بينهما، فتم تحديد موعد للقاء قد يسفر عن مصالحة وقد ينتهي بقطيعة.
كان شتاء عام 1988 قد حمل متاعه واستعد للرحيل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقبل أن يهل الربيع استعد مقر جماعة الإخوان بشارع جول جمال بمنطقة الألف مسكن القابعة على أطارف شرق القاهرة لاستقبال ضيوف غير عاديين، كان عم خليل فرّاش المقر قد جهّز المقرمشات وشرائح متنوعة من المخبوزات وأدوات الشاي والينسون والقرفة ثم غادر المقر تنفيذاً للتعليمات التي تلقاها، وقبيل صلاة العشاء بلحظات بدأ بعض أفراد يتوافدون على المقر، كان مختار نوح ومعه خالد بدوي وجمال تاج أول الحاضرين، ودخلتُ إلى المقر عقبهم مباشرةً ومعي عبد السلام دياب (أحد المقربين من الإخوان وقتها) وسيد عبد العزيز فوجدناهم قد أقاموا صلاة العشاء فدخلنا في الجماعة ومن خلفنا اصطف عدد آخر كان قد دخل بعدنا، وبعد التسليم من الصلاة نظرنا خلفنا لنرى منتصر الزيات ومحمود عبد الشافي وقمر موسى وقد دخلوا معنا في صلاة الجماعة ومعهم بعض نفر من المحامين المنتمين لجماعتهم.
وبعد عبارات الترحيب والمودة الظاهرة التي كانت تخفي ترقباً بدأ مختار نوح الحديث قائلاً: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماًكثيراً... اليوم نجتمع لنضع حداً فاصلاً للانقسام الذي لا ينبغي أن يكون أبداً بيننا... وقبل أن يكمل حديثه قاطعه خالد بدوي وهو يقطب جبينه: لو سمحت يا أخ مختار أنا معترض على ما تقول.
فقال مختار مندهشاً: ولكني لم أقل شيئاً بعد.
بادره خالد: أنت قلت "انقسام بيننا" وليس بيننا انقسام فالإخوة من الجماعة الإسلامية من أحب الناس إلى قلوبنا، وأنا أُشهد الله سبحانه وتعالى وأُشهد الحاضرين أن أخي منتصر وأخي محمود وأخي قمر والإخوة

كلهم هم أحب الناس إلى قلبي.. ثم أطرق خالد إلى الأرض وقال وهو يكاد يهمس: ألم يقل الله سبحانه وتعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
ابتسم مختار وهو يقول: صدقت يا أخ خالد... ثم استدار للإخوة الحاضرين قائلاً وكأنه يشرح لهم: أخي خالد دائماً ما يُذكرنا بالله.. ثم استطرد: نعم.. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحب في الله جمعنا وآخى بيننا ولكنني أتحدث عن اختلاف العقول والأفهام وليس عن خلاف القلوب والأرواح... أكمل مختار نوح حديثه: أنا أدعوكم للانضمام إلى لجنة الشريعة الإسلامية... لو انضممتم إلينا سيشكل جمعنا قوة لا يستهان بها.
وهنا قال محمود عبد الشافي: يا أخ مختار.. يا أخ خالد.. أنا معكم فيما تقولون.. لو أصبحنا كياناً واحداً لأصبحنا قوة لا يستهان بها.. ولكن لماذا لا تنضمون أنتم لنا؟
وقبل أن يرد مختار نوح تدخل منتصر الزيات قائلاً: نحن واحد يا أخ مختار وأنت صاحب فضل علينا فلا ننسى دفاعك عنا وعن إخواننا في قضايا الجهاد والجماعة الإسلامية ومرافعاتك التي تعلمنا منها الكثير... لكن مسألة انضمامنا لكم مسألة فيها نظر فأنتم تتبعون الإخوان ولكم قيادات إخوانية ومرشد وتنظيم.. جميعهم على رأسنا من فوق ولكن نحن لا نتبعهم.. فإذا صدرت أوامر لكم منهم فأنتم ستلتزمون بها حتماً.. ولكننا قد نرى عكس هذه الأوامر فلا نتبعها وهنا سنتشرذم وسنختلف... ولذلك فالأولى أن تنضموا أنتم لنا وسنعطي لك يا مختار القيادة لو أردت.
فرد مختار وكأنه يتعجب: ولكن ما عندنا عندكم.. فأنتم لكم قيادات من غير المحامين.
وهنا تدخل قمر موسى منفعلاً: لا يا أخ مختار هذا ليس صحيحاً.. لا يوجد لنا قيادات من خارجنا لا داعي للمغالطة.
وقبل أن يحتدم الجدل دخل سيد عبد العزيز وهو يحمل الشاي والمقرمشات وشرائح الخبز المتنوعة وقال بطريقته التي يختلط فيها الجد بالهزل: "صلي على النبي أنت وهو وهو وهو أحضرت لكم طعاماً لم تروه في حياتكم من باب اطعم الفم تستحي العين وصلوا على النبي".
ضحك الجميع وانشغلوا بالشاي... وبعد أن رشف خالد بدوي رشفة من

كوبه قال موجهاً كلامه لمنتصر الزيات: على فكرة يا أخ منتصر كنت أتمنى أن تكون إمامنا في يصلاة العشاء اليوم ولكنك حضرت متأخراً بعد أن أقمنا الصلاة.
فقال سيد عبد العزيز ضاحكاً: بسيطة يا عم خالد نصلي العشاء مرة أخرى.. ها.. عندكم مانع أرفع الأذان والإقامة... ضحك منتصر الزيات ومحمود عبد الشافي من تعقيب سيد، ثم قال منتصر موجهاً الحديث لخالد بدوي: يا مولانا لقد استمتعنا بصوتك الشجي وتلاوتك المؤثرة التي أبكتنا والله أتمنى أن أصلي وراءك العمر كله.
فقال خالد وكأنه يستدرجه: هل كان من الممكن يا أخي الحبيب أن تدخل فتجدنا في صلاة الجماعة فتتركنا أنت ومن معك وتقيموا صلاة جماعة مستقلة وهناك جماعة قائمة؟
فأشار منتصر لقمر موسى ومحمود عبد الشافي وقال: يا عم خالد أنا ليس لي في الفقه عندك قمر موسى له صولات فقهية.
وهنا قال قمر موسى: ماذا تقصد يا أخ خالد؟
حينئذٍ أوشكتُ على التدخل في الحوار إلا أنني أحجمتُ وفضلتُ التريث، فالصورة التي كانت تخط ملامحها أمامي هي صورة جديرة بالتأمل والفحص والتنقيب، لا المداخلة والتعقيب، فها هم أبناء الحركة الإسلامية يجتمعون وقد غلّفهم الخلاف يبحثون أيهم يجلس في موضع الرئاسة، وأيهم يكون صاحب الاسم والشعار، ولكأنما كل حزب منهم بما لديهم فرحون، لا يقبل أحدهم أن يتنازل من أجل فكرته!! وكيف يتنازل والتنظيم عندنا جميعنا مقدّم على الفكرة!!. شردت بأفكاري بعيداً عن الجلسة ثم انتبهت على قول خالد بدوي وهو يُفصح عن غرضه من السؤال: الحقيقة نحن وأنتم نتعبد لله بهذا العمل ونحن جماعة بدأنا هذا العمل التعبدي قبلكم لذلك فمن الواجب أن تنضموا لجماعتنا لأنه لا يجوز شرعاً إقامة جماعة وهناك جماعة قائمة.
فبادره محمود عبد الشافي قائلاً: هذا قياس مع الفارق يا مولانا... فتدخل قمر موسى قائلاً بحدة: بل هو قياس فاسد... وإذا كان قياسك صحيحاً فإن جماعة الإخوان يكون وجودها مخالفاً للشرع لأن الجمعية الشرعية بدأت قبلها وأنصار السنة بدأت قبلها أيضاً.... وقبل أن يستكمل كلامه نظر فوجد عبد السلام دياب يشعل سيجارة، وكان دياب يدخن

بشراهة ولم تمنعه صلته بالإخوان من التوقف عن التدخين.. وعندما أشعل سيجارته استنكرها قمر موسى وقال بصوت حازم ولهجة توحي بأنه يتهم الإخوان بالترخص فيما لا يجوز الترخص فيه: لو سمحتم من أراد أن يشرب سجائر فليشربها خارج هذه الحجرة فهي حرامٌ حرام.. وأنا لا أطيقها فضلاً عن أن محمود عبد الشافي عنده حساسية بالصدر.
بهت عبد السلام دياب من كلمات قمر موسى وبان الإحراج الممتزج بالغضب على محياه وكادت الجلسة أن تنقلب لمعركة كلامية فقد خرج فريق المحامين الإسلاميين بها –ومعهم بعضنا- من سياق الفكرة والتنظيم والأولويات وجاسوا حول الدخان وتساهل الإخوان بصدده وشرب الكثير من الإخوان له بما فيهم التلمساني- رحمه الله-، وانتهت المناوشات بأن غادر دياب الحجرة مُغضباً فلم أرد تركه وحده بالخارج فخرجت معه وخرج معي سيد عبد العزيز وبعد دقائق انضم إلينا جمال تاج.. وأخذنا في الخارج نتجاذب أطراف الحديث نداعب بها عبد السلام ونتضاحك سوياً من حكايات وقفشات سيد عبد العزيز الذي كنا نطلق عليه "سيد عبد العزيز صاحب الفقه اللذيذ".
استمرت الجلسة بالداخل لأكثر من ساعة ثم فوجئنا بفريق الجماعة الإسلامية يخرجون وقد ارتسمت على وجوههم علامات الغضب وانصرفوا لا يلوون على شيء بعد أن ألقوا السلام بعبارات سريعة مقتضبة عابسة فعلمنا أن اللقاء قد فشل وأن الانقسام هو قدر التجمعات الإسلامية.
وبعد هذا اللقاء بعام تقريباً جرت وقائع اتحاد غريب الشأن بين هذين الفصيلين المختلفين... اتحاد واتفاق لم يحدث بعد ذلك أبداً.
الزلزال
آفة القديم –من جيل الأساتذة- أنه لا يتواصل مع الجديد، وآفة الجديد- من جيل التلاميذ- أنه منبت الصلة عن القديم، فلا هذا أعطى لذلك، ولا ذاك أخذ من هذا.. ولكن أستاذية النقيب الخواجة كانت تختلف عن غيرها.. فهي أستاذية من يريد أن يمتد عبر الزمن، ويخلد في التاريخ، والإنسان يمتد بعلمه أو بعمله أو بتلاميذه، وقد امتد أبو حنيفة عبر الزمن، ويخلد في التاريخ، والإنسان يمتد بعلمه أو بعمله أو بتلاميذه، وقد امتد أبو حنيفة عبر الزمن بعلمه وفقهه وتلاميذه، أما الليث بن سعد فقد انقطع رغم علمه وفقهه لأن تلاميذه لم يعتنوا بنقل علمه، والذي يؤثر عن الخواجة أنه كان مدرسة تصنع كل يوم

زعيماً سياسياً أو نقابياً فارهاً أو محامياً حاذقاً، كان هذا دأبه وديدنه وعلى امتداد عمره أخرجت مدرسته العشرات الذين أصبحوا بعد هذا أساتذة إلا أنهم لم ينهجوا منهج أستاذهم واقتصروا فقط على صناعة أنفسهم.
ورغم أستاذية الخواجة وانتماء تلاميذه له إلا أن هذه الأستاذية لم تكن له وجاءً من الخلافات التي لم تشهد نقابة المحامين مثيلاً لها.. فقد اشتد الصراع بين رجال حزب الوفد في مجلس النقابة، حيث وقف البعض في جانب الخواجة وهو يمارس سطوته النقابية تجاه الفريق الذي اختلف معه، ووقف البعض الآخر في جانب الفريق المختلف... ومع تتابع الأحداث استطاع أحمد الخواجة بعقليته التكتيكية اجتذاب معظم أعضاء المجلس لصفه بمن فيهم الشاب الحركي الناصري سامح عاشور، إلا أن مختار نوح الإخواني مكث غير بعيد يترقب الأحداث ويراقب الموقف دون أن ينحاز لطرف على حساب الطرف الآخر إذ أدرك أن الانحياز لأي من الطرفين فيه خسارة لا محالة.
وعلى حين غرة من فريق الخواجة استطاع الفريق المنافس أن يعقد جمعية عمومية سحبت الثقة من المجلس والنقيب، ومن الغريب أن الخواجة لم يعر هذه الجمعية اهتماماً رغم خطورتها!!.
وما إن بدأ فصل الربيع من عام 1989 يخط خطوطه الأولى ويبسط نفوذه على الكرة الأرضية، حتى أعلن أحمد الخواجة قراره بفتح باب الترشيح لدورة جديدة لمجلس النقابة قد تكون – في ظنه- دورة القضاء على المشاكل وأصحابها.
ثم كانت المفاجأة.... كان عدد من المحامين أعضاء جماعة المحامين الإسلاميين قد قدّموا أوراق ترشيحهم في هذه الانتخابات، وعندما تسارعت الأحداث إذا بوفد منهم يتجه صوب مكتب مختار نوح بحلمية الزيتون يطلبون منه النصيحة في شأن الانسحاب من الانتخابات أو الاستمرار فيها!! فكان للحاسة الانتخابية لمختار نوح الكلمة الفاصلة في هذا الشأن إذ قادته إلى تغليب قرار الانسحاب من هذه الانتخابات هو والمحامون الإسلاميون لشبهة البطلان التي أحاطتها بسبب سحب الثقة الذي حدث لهذا المجلس.
وكان هذا هو العمل الوحيد الذي اتفق فيه الصديقان اللدودان.. الإخوان والجماعة الإسلامية.

وأجريت الانتخابات بالفعل في منتصف العام وفيها نجح الخواجة كنقيب ونجح الألفة سامح عاشور كعضو في انتخابات شهد الجميع بالتزوير الفادح الذي تم فيها.
وبعد ثلاث سنوات عجاف غاب فيها الإخوان عن مجلس نقابة المحامين كتبت صحيفة هيرالد تربيون عنواناً رئيسياً "زلزال الإخوان يصيب مصر".
* * *
"هذا الولد قفُزاته واسعة ويبدو أنه فخور بنجوميته وزعامته ويجب أن يتم تحجيمه" كانت هذه هي كلمات الأستاذ محمد هلال عضو مكتب الإرشاد (وأحد أكبر الإخوان سناً في الوقت الحالي توفي الأستاذ هلال فيما بعد)، وهذا الولد الذي كان يقصده فهو مختار نوح.
كان عام 1991 يوشك على الرحيل، وكان بعض من قيادات الإخوان قد بدأوا في تضييق الخناق على نوح وتكبيل حركته، وظهر هذا التكبيل والتلجيم عندما سعى الحاج مصطفى مشهور، والدكتور محمود عزت (عضو مكتب الإرشاد ومن تلاميذ سيد قطب وكهنة معبد النظام الخاص وأحد أخطر قيادات الإخوان حالياً) والدكتور محمد حبيب (نائب المرشد في الوقت الحالي وهو المرشح الأول ليكون المرشد القادم وكان له الدور الأكبر مع آخرين في أحداث مذهلة حدثت فيما بعد) والأستاذ محمد هلال إلى استصدار قرار من مكتب الإرشاد يتضمن تشكيل لجنة برئاسة محامٍ مجهول من جيل كبار الإخوان اسمه محمد كمال كان يعمل في السابق محامياً بأحد المكاتب بدولة الكويت ليكون مسئولاً عن نشاط الإخوان في نقابة المحامين ورئيساً لهذه اللجنة التي كان من المقدّر لها أن تدير هذا النشاط وتُصرّف أموره، وصدر القرار بالفعل إلا أنهم جعلوا من نوح أحد أعضاء هذه اللجنة.. كان الكل يعلم أن الأستاذ محمد كمال لا خبرة له على الإطلاق في أي أمر يخص نقابة المحامين ولا حتى المحاماة في مصر، كان الرجل لا يعرف السباحة ولكنهم ألقوا به في بحر لجى إلا أنهم حذروه من الانسياق لمختار نوح أو الاستجابة لأفكاره، بيد أن هبوب ريح انتخابات 1992 جعلت محمد كمال رحمه الله بسند – تحت إشرافه- أمور الانتخابات لهذا الشاب الذي حير خصومه ونال لأسباب تنظيمية نقمة نفر من قياداته

فكان بين شقي الرحى... وليس من شك أن الباحث في شئون جماعة الإخوان سيدرك دون مشقة في البحث والتنقيب أنه بعد رحيل التلمساني بدأت الخطوب تتهادى على مهل على نوح.
* * *
قبل فتح باب الترشيح لانتخابات نقابة المحامين والتي تمت في سبتمبر 1992 انعقد اجتماع هام لقيادات الإخوان المسلمين على أعلى مستوى في مدينة الإسكندرية وقد ضم هذا الاجتماع قيادات قسم المهنيين للنظر ف يأمر هذه الانتخابات، وفي هذا الاجتماع العاصف اقترح مختار نوح أن يخوض الإخوان الانتخابات بقائمة لا يزيد عدد أفرادها على ستة أفراد لا غير وكانت حجته في ذلك أن نقابة المحامين قلعة من قلاع الليبرالية في مصر تختلف في تكوينها الفكري وجذورها التاريخية عن نقابتي الأطباء والمهندسين، وأن خوض الانتخابات بقائمة متخمة بالإخوان من شأنه أن يهدم المعبد على رؤوس الجميع.. إلا أن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح المشرف وقتها على قسم المهنيين بالإخوان ومعه المهندس أبو العلا ماضي رفضا هذا الرأي وأصرا على أن الفرصة مواتية لتحقيق نجاح ضخم في نقابة أغلقت أبوابها زمناً في وجه الإخوان المسلمين.
أما الأسماء التي طرحتها قيادات الإخوان لكي تترشح في نقابة المحامين ممثلة لهذه الحركة الإسلامية فقد كانت غريبة عجيبة، أولها أحمد سيف الإسلام حسن البنا الذي كان يحظى بتأييد مطلق من كل من الحاج أحمد حسنين رحمه الله والأستاذ محمد هلال، ورغم أن سيف الإسلام لم يكن يعمل بالمحاماة وكان يمارس التجارة وكل مؤهلاته أنه ابن مؤسس الجماعة، إلا أن ترشيحه في نقابة المحامين كان أمراً حتمياً عند البعض حيث أن هذا الرجل كان كثيراً ما يسبب مشاكل جمة لقيادات الإخوان فأرادوا أن يبعدوه عن أي موقع قيادي أو تنظيمي في الجماعة فأدخلوه إلى نقابة المحامين ليأمنوا جانبه بعد أن أبعدوه عن عضوية مكتب الإرشاد... وقد كان الترشيح لعضوية مجلس نقابة المحامين وسيلة لاسترضائه!!.
أما الثاني فقد كان مؤيداً من قسم المهنيين وهو محمد طوسون (الذي كان لا يعمل أيضاً بشكل حقيقي في المحاماة حيث كان يدير مع شقيقه معرضاً للسيارات في مدينة المنيا.. إلا أنه كان في السابق ضابط مباحث في

أحد مراكز المنيا حتى تم فصله من عمله وحبسه عشرة أشهر تقريباً من منتصف عام 1982 إلى قبيل منتصف عام 1983 وكان ذلك بسبب علاقته بالجماعة الإسلامية وبعد خروجه من السجن تنقل بين أكثر من تنظيم إسلامي حتى انتظم في سلك الإخوان في غضون عام 1986، ولأنه ينتمي إلى عائلة كبيرة في المنيا فقد دفعه الإخوان لانتخابات مجلس الشعب عام 1987 فأصبح عضواً بالبرلمان ثم تم دفعه إلى انتخابات مجلس نقابة المحامين لكي يكون اللجام الذي يكبح جماح نوح إذا ما اندفع بعيداً عن توجهات التنظيم وسيظهر لطوسون شأن فيما بعد).
وهكذا توالت الأسماء.. (والعجيب أن هذه الأسماء تم طرحها على اجتماع للجمعية العمومية لمحامي الإخوان في اجتماع لاحق بمقر الإخوان بشارع جول جمال بمنطقة الألف مسكن بالقاهرة إلا أنها لم تحظ بأي تأييد على الإطلاق حتى أن أحمد سيف الإسلام حسن البنا حصل على صوت واحد من مائتي صوت ولكن لم يلتفت أحد لرأي محامي الإخوان وكان السبب الذي ارتكنوا إليه في هذا الالتفات هو ما زعمه البعض- خاصةً أحمد سيف الإسلام- أن مختار نوح قام بتوجيه الأصوات الإخوانية وفقاً لما يشاء هواه ولذلك فقد أصبحت نتيجة التصويت ليست محل اعتبار). وتمت الانتخابات وفقاً لرؤية قسم المهنيين وبقائمة تضم عدداً لا علاقة له بالمحاماة.
ولأسباب كثيرة- ليس هنا مجال ذكرها- نجحت قائمة الإخوان بشكل أصاب العالم بذهول، فكان هذا هو الزلزال الذي أصاب القوى السياسية والنقابية التي تربعت زمناً على رأس العمل السياسي والنقابي.
كان هذا هو زلزال سبتمبر الذي جاء من بعده الزلزال الحقيقي في أكتوبر من نفس العام... (وفي الحقيقة كان هذا النجاح هو أول بداية انهيار جبل الجليد الإخواني في نقابة المحامين).
* * *
حلف الفضول
هل كان نوح مثل برومثيوس الإغريقي الذي أنشد نشيد النجاة قائلاً: سأعيش رغم ضراوة الأعداء كالنسر فوق القمة الشماء.. أما أنه كان مثل سيزيف في الأسطورة الإغريقية، حيث كان عقابه أن يرفع صخرة من القاع حتى قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ

من جديد، بلا نهاية!! فلتعلم أن مختار نوح ما زال يحمل الصخرة على كتفيه بإصرار غريب ليصعد بها إلى أعلى الجبل.. ولنعد إليه في عام 1996 حينما بدأ في حمل صخرة الجهاد ضد الحراسة التي مقتها المحامون وأنكروا الجرم الذي اقترفه الشانئون في حق نقابتهم.
كان بعض المحامين قد أحكموا أمرهم وخططوا ودبروا ثم أقاموا دعوى حراسة على النقابة وكان هدفهم إبعاد مختار نوح وفريقه عن مقاعدهم كأعضاء بالمجلس... وكان لهم ما أرادوا فقد تم فرض الحراسة على نقابة المحامين أقدم وأعرق نقابة مهنية في مصر.
حينها جمع نوح حوله نفراً من أصدقائه من الإخوان ومن خارج الإخوان ليزيح الحراسة عن كاهل النقابة... استخدم نوح كل الوسائل السياسية والقانونية والنقابية لتحقيق ما نريد، فقام – مثلاً- بطبع وتزيع مجلة نقابية أطلقنا عليها اسم "المحروسة" فضح فيها الحراسة وأسبابها، كما قام بتشكيل لجنة نقابية وسياسية أطلقنا عليها "لجنة المائة" تضم رموز المهنة وكان في مقدمتهم الأساتذة أحمد نبيل الهلالي وعبد المحسن شاشة- رحمهما الله- وهما من رموز اليسار المصري.. وكان في اللجنة أيضاً محمد علوان مساعد رئيس حزب الوفد وجمهرة من الرموز لها قيمتها ومؤهلاتها الفكرية والحركية، ومن عجب أن رموز المحامين الذين ينتمون للإخوان غابوا عن هذا النشاط ولم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل.. فلم نر محمد طوسون أو بهاء عبد الرحمن أو أسامة محمود أو أحمد سيف الإسلام حسن البنا أو جلال سعد أو غيرهم من أعضاء مجلس النقابة العامة من الإخوان... كما لم نر جمال تاج أو محمد غريب أو صبحي صالح (وهم من الرموز الإخوانية التي بدأت العمل في النقابة مع نوح)!!... وكانت من الأفكار التي وضعناها موضع التنفيذ إقامة دعوى قضائية بطلب إنهاء الحراسة إلا أننا وضعنا اسم محامية ناصرية هي الأستاذة فاطمة ربيع على صحيفة الدعوى كي نعطي الانطباع بأن كل القوى السياسية تناهض الحراسة.
وفي غمرة انهماكنا بمشكلة الحراسة توفي الأستاذ أحمد الخوجة نقيب المحامين رحمه الله.. توفي في العشر الأواخر من شهر ديسمبر من عام 1996 وكأنه يترك النقابة في شهر البرد رهناً للتجميد لتزيد البرودة في أوصالها المتيبسة.

لم يكن أمامنا بعد وفاة النقيب إلا البحث عن بديل يملك بعض مقوماته- فقد كنا نوقن أن هذا الرجل لن يتم تعويضه في سنوات مقبلة- وفي رحلة البحث عن البديل تراءى لنا من بعيد أحد نجوم المحاماة وأحد أساطينها الأفذاذ.. ظهر لنا في الأفق الأستاذ رجائي عطية الذي خطب ودنا فذهبنا إليه نعرض بضاعتنا ويعرض بضاعته... ولربما كان هذا اللقاء هو لقاء الأحلام أو لقاء السحاب.. فقد كنا نحلم بإنهاء الحراسة وعودة الشرعية عن طريق صلاته السياسية وعلاقته الحميمية بالنخبة الحاكمة.. وكان رجائي يحلم- بعد وفاة الخواجة- بتوسد كرسي النقيب ليجمع بين المجد المهني والمجد النقابي.
وقبل أن يرفع شهر مايو عن عام 1996 راية الاستسلام ويفسح الطريق لشهر يونيو جلسنا مع الأستاذ رجائي في لقاء حفته المودة حيث عرض ما لديه ووعدناه إن هو فعل فحتماً سنؤيده كنقيب للمحامين.. وفي اللقاء الثاني نقل لنا رسالة طمأنة من القيادة السياسية بأن الحراسة سيتم رفعها عن كاهل النقابة.. وبدأ رجائي في المفاوضة معنا على لسان الحكومة- أو دائرةٍ منها- وكان نوح بطبيعة الحال يعرض أمر هذه المفاوضات على مرشد الإخوان ومكتب الإرشاد وقد وجد صعوبة كبيرة في إقناع قيادات الجماعة بقبول تأييدنا لرجائي في مقابل صدور قرار من الجهات المختصة في الحكومة بإنهاء حالة الحراسة، ومن عجب وقف محمد طوسون وجمال تاج ضد تأييدنا لرجائي عطية إلا أننا دافعنا بكل قوة عن هذا الاختيار وكان لنا في النهاية ما أردنا ووافق الإخوان على الدخول في تحالف مع رجائي عطية.. تحالف نرفع فيه شعار "المشاركة لا المغالبة".
لا ريب أن الأستاذ رجائي أبدى فرحته بقرار الإخوان.. وأظن أنه أضمر في مكنون نفسه دهشته حين قال له خالد بدوي وهو يطرق إلى الأرض: وما هو الضمان الذي ستقدمه لنا يا أستاذنا.. كيف نضمن أنه لن يتم القبض علينا وحبسنا بعد انتهاء الحراسة؟
نظر إليه رجائي شذراً وهو يقول: ضمان! أي ضمان! ثم استرسل في لهجة حائرة: هل تريد أن أكتب لك شيكاً مثلاً!!
استمر خالد في إطراقه للأرض وحينها قال أحمد ربيع: بالطبع لا ولكننا نريد أن نُقسم معاً إن تم القبض علينا أو على أحدنا قبل الانتخابات أن تعلن انسحابك من هذه الانتخابات.. وبعد كلمات أحمد ربيع وضعنا

أيدينا على يد الأستاذ رجائي الذي أقسم بما طالبناه به، ثم قال خالد بدوي بعد القسم "الله على ما نقول وكيل" فردد الجميع خلفه "الله على ما نقول وكيل". تكررت وعود الأستاذ رجائي بقرب إنهاء الحراسة إلا أن وعوده لم تتحقق رغم أننا عقدنا مؤتمراً ألفياً له في فندق هيلتون رمسيس حضره أكثر من ألف محام وجلس على المنصة رموز من رجالات الدولة بجوار مختار نوح ورجائي عطية وأعلن نوح تأييد الإخوان لرجائي على منصب النقيب واعترف بخطأ الإخوان في الاستحواذ والسيطرة على مقاليد الأمور في النقابة وإقصاء القوى السياسية الأخرى، ورفع لأول مرة أمام الرأي العام شعار "المشاركة لا المغالبة".. ووعد رجائي بأن الحراسة آن لها أن تذهب أدراج الرياح وتحدث الجميع عن قرب تحقيق الحلم.. ولم يتحقق الحلم عن طريق رجائي ولا عن طريق صلاته السياسية ولم تتحقق وعوده المتكررة!!.
وبعد عامين صدر حكم – في القضية التي أقمناها باسم فاطمة ربيع- من إحدى المحاكم العليا بإنهاء الحراسة المفروضة على نقابة المحامين... ولم يكن رجائي صاحب الفضل، ولكأنما أراد الله أن يُنسب الفضل لأصحابه أولئك الذين جاهدوا وبذلوا وقدموا.
بعد صدور الحكم النهائي بأيام كنت أجلس في بيتي صباح يوم الجمعة الثالثة من شهر أغسطس عام 1999 منشغلاً بقراءة الصحف وغذا برنين الهاتف يقتحم خلوتي.. كان المتحدث هو الصديق عاطف عواد أحد أفراد الإخوان من المحامين وأحد المقربين من مختار نوح.. كان صوته مرتبكاً مضطرباً ثم ساق لي خبراً مزعجاً: تعرض مختار نوح لحادث مروع على طريق السويس وقد مات سائقه في الحادث وتحطمت سيارته تماماً.. أما مختار فقد تم نقله لإحدى مستشفيات مصر الجديدة في حالة حرجة.







الفصل الرابع
بوابة الأحزان

"عندما أغلقوا عليه الزنزانة اشتد صوت الألم بداخله، فرفع صوته حتى لا يسمعه.. وظل يرفعه ويرفعه حتى تمزقت خلاياه.. وحين ظن الناس أنه يتأوه من زنزانة صخرية الجدران أو من سجان صاحب سحنة غليظة أشار بيده إلى أخيه الذي جلس يأكل لحمه ويقتات على سيرته".
كراستي
هل يستطيع المرء أن يلخص أياماً مشحونة بالأحداث والوقائع في بضع سطور دون أن يترك شاردة أو واردة؟ هل في مكنة الإنسان أن يذكر كل وقائع أيامه بلا اختصار مخل أو تطويل ممل؟ لا ريب عندي أن هذا هو عين المشقة التي تنوء بحملها فصاحة الفصحاء.. وها هي كراستي أمامي.. تلك الكراسة التي دونت فيها كل شاردة وواردة مرت علينا في تلك الأيام البغيضة فهل أستطيع نقلها بكاملها.. إن أنا فعلت فسأجور على وقائع أخرى، وإن لم أفعل سأكون قد ظلمت نفسي وظلمت رجالاً أفذاذاً تركوا حياتهم وبيوتهم ومكاتبهم من أجل نصرة إخوان لهم شاء قدرهم أن يُحبسوا في تهمة سياسية.. ها هي كراستي تعيد لي ذكرى أيام مضت.. أيام لم نفكر فيها- أنا وبعض إخواني- في دنيا نصيبها أو تقدير يبديه لنا مرشد أو مسئول إخواني كبير، ولكن انصرف جل همنا لهؤلاء الذين يذهبون ضحية الخلاف السياسي الذي اشتد قيظه وحمى وطيسه بين الإخوان والنظام.. من يستخلصهم من محبسهم؟ من يعيدهم إلى أهاليهم؟
تتكدس عشرات الكراسات في خزانتي.. تلك الكراسات التي كانت وما زالت الصديق الوفي الذي أهرع إليه وأبثه أشجاني وأحزاني وأزف إليه أفراحي.. أكتب في حناياه ما مر بي وما مررت به.. وفي كل حين أعود إلى كراستي فأجدها مستودعاً لسري لم تبح به لأحد.. في أحد أجزاء كراستي وجدت الصفحات التالية فرأيت أن أنقلها هنا دون أن أبتسر أو أختصر منها أو أضيف لها لعلها تلقي الضوء على الأحداث التي عشتها وعشت فيها وقتئذٍ.
((ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت.. ثم ضاقت مرة أخرى... يبدو

أن هذا هو حال الدنيا تضيق الأمور علينا ثم تُفرج ثم تضيق... ولو دامت الدنيا على شيء ما بقي فيها شيء... قالها مختار نوح وهو يداري شهقة ألم أصابته ثم تقطعت أنفاسه وهو يقول: لم نكد نحصل على حكم بإنهاء الحراسة وقلنا كلنا فرجت وكنا نظنها لا تفرج حتى عاجلتني هذه الحادثة المؤلمة.. هل تصدق.. مات السائق إلى رحمة الله.. في طريق العين السخنة داهمتنا مقطورة ضخمة فحطمت السيارة وأصابت ضلوعي وساقي بالذي تراه الآن.. كل هذا يهون وتهون السيارة ولكن أن يموت السائق المسكين.. إيه.. رحمة الله عليه.
بادرته قائلاً وأنا أرتكز في وقفتي على كتف عاطف عواد الذي كان جالساً بجوار سرير مختار في غرفته بمستشفى بدر: هون عليك فهذا هو قدر الله، الحمد لله في السراء والضراء.. أتذكر يوم أن كنت تلقي خاطرة منذ سنوات عن الآية الكريمة (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فقد لفت نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يقل: إن بعد العسر يسرا.. ولكن معه.. يأتي العسر ويرافقه اليسر.. يسير في ركابه ولكننا قد لا نرى اليسر لأن العسر يعمي بصائرنا.
زفر نوح وهو يقول في توافق لفظي مع عاطف عواد: الحمد لله.
عاد نوح إلى الكلام مرة أخرى بعد أن طرد إحساس الألم من داخله: عرفت أن وزير العدل طعن على حكم إنهاء الحراسة أمام محكمة النقض وأظن أن الجلسة ستكون في غضون شهر سبتمبر القادم ويجب أن نستعد للجلسة بكل قوتنا.
قاطعه عاطف: لا تقلق فنحن لها يا عزيزي... لا تشغل بالك.
نظر نوح إلينا نظرة امتنان وظهرت على وجهه ابتسامة ثم قال: عرفت الجهات الأمنية أننا وراء قضية إنهاء الحراسة.. أرسلت محامياً من مكتبي ليتابع الجلسة الأخيرة من بعيد ونبهت عليه بعدم الحضور إلا أن الحماس دفعه إلى الحضور أمام هيئة المحكمة وإثبات اسمي في محضر الجلسة.. وطبعاً عرف الأمن.
رفعت كتفي علامة اللامبالاة وقلت بعدم اكتراث: لا يهم.. كانوا سيعلمون حتماً.. وأظن أنهم يعلمون قبل ذلك.. فالعصافير من حولنا في النقابة لا هم لها إلا تجميع الأخبار.

استكمل نوح وهو ينظر إلينا نظرة إصرار: المهم أن نكون على أهبة الاستعداد ومن الممكن أن تتفق مع الأستاذ رجائي عطية كي يحضر جلسة النقض ويجب عليه أن يجري مفاوضات مع الحكومة من أجل تنفيذ الحكم فقد وضعنا في موقف حرج عندما عجز عن إنهاء الحراسة بقرار سياسي.. آن له الآن أن يذهب لوزير العدل وينهى هذا الأمر.. ومن باب أولى يجب عليه أن يحضر في جلسة النقض.
اطمئن سنذهب إليه وسنتفق معه على حضور الجلسة معنا: قالها عاطف وهو يشير لي كي ننهي الزيارة حتى لا نثقل على الرجل.. وقبل أن نغادر غرفته التي ازدحمت بباقات الزهور قال وقد أغمض عينيه: أشعر أن هذه المحنة سيعقبها محن أخرى فقد رأى أحدهم رؤية لي كان تأويلها أنه ستمر بي ثلاث محن أدعو الله أن يثبتني فيها جميعاً.
اللهم آمين: قلنا أنا وعاطف ثم أردفت قائلاً: لا تجزع فكل أمر المسلم خير.. لا تفكر في أمر المستقبل فهو بيد الله ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج..
وبعد أن ودعنا خرجنا إلى الطريق ولسعات حر أغسطس تلفح وجوهنا.
أطوي صفحات كراستي ولكنني لا أستطيع أن أطوي تلك الأيام وأضعها في غيابة الجُب، فما زالت أحداث جمة من تلك الأحداث التي واجهتني حينها ماثلة حتى الآن أمام ناظري شاخصة أمام فؤادي، بل إن هذه الأحداث خلّفت أحداثاً وأحداثاً وأحدثت أثراً كبيراً في حياتي.. أثراً فارقاً لم يتصور خيالي أن أصل إليه، ولربما يضيق الخيال على اتساعه ورحابته وتفاجئنا النوازل بما لم يرد في الحسبان أو الخيال.. وحين أعود مرة أخرى إلى كراستي أجد في موضع آخر منها الصفحات التالية تتحدث معي وكأنها تحاورني وتذكرني بما حاولت أن أنساه.
((كان يوم الخميس الرابع عشر من أكتوبر من عام ألف وتسعمائة تسع وتسعين كئيباً من أوله، فلغير سبب ظاهر أصابتني حالة وجوم هي أقرب ما تكون إلى الاكتئاب رغم أنه لم يكن هناك ما يستدعي ضيق الصدر أو الوجوم بل إن الأسابيع الماضية كانت تحمل تباشير الخير... فقد كللت محكمة النقض جهودنا بالنجاح وأصدرت منذ أيام معدودات حكماً نهائياً قضى بوجوب إنهاء الحراسة المفروضة على نقابة المحامين ورفضت طعن الحكومة

بعد جلسة عاصفة حضرناها وحضر معنا فيها رجائي عطية، وبات تنفيذ الحكم مسألة وقت لا أكثر، ومن ناحية أخرى بدأنا في إعداد العدة من أجل الترتيب للانتخابات القادمة وكانت جهود الأستاذ رجائي عطية تمثلت في المفاوضة معنا بلسان الحكومة عن العدد الذي يجب أن نخوض الانتخابات به.. فالحكومة- وفقاً للأستاذ رجائي- تطالبنا بألا يزيد عدد المرشحين من الإخوان عن أربعة ونحن نحاول معه كي يصل العدد إلى ستة أو سبعة على أكثر تقدير.. ولم تكن المفاوضات قد أغلقت صفحاتها بعد.
مر نهار الرابع عشر من أكتوبر أو كاد وقبل الغروب بلحظات تصاعدت نغمات الهاتف المحمول لتخبرني أن إبراهيم بكري يطلبني وحين فتحت الخط جاء صوته مضطرباً: إلحق يا أستاذ ثروت.. تم القبض على مختار نوح وخالد بدوي وإبراهيم الرشيدي وآخرين من الإخوان قبل عصر اليوم.
أصابتني رعدة وجفل قلبي وأنا أقول في ذهول: نعم.. أين؟ .. ولم؟.. وكيف؟
- لا أعرف التفصيلات ولكن اتصلت بي منذ دقائق زوجة الأخ خالد بدوي لتخبرني بهذا الخبر.. حاولت هي الاتصال بك منذ لحظات ولكن يبدو أن هاتفك كان مغلقاً.
قلت له وأنا لا أكاد أُبين: هل تم القبض عليهم من بيوتهم؟
- لا.. كانوا في المعادي في لقاء.
بح صوتي وأنا أقول: وما الذي أوجد إبراهيم الرشيدي معهما ألم يكن مسافراً؟؟ أليس يعمل في الخارج الآن( ).
عاد صوت إبراهيم بكري الأجش يقتحم أذني مرة أخرى: هو في أجازة الآن.. كان من المفروض أن أكون معهم في لقاء سأحكي لك عنه عندما أقابلك ولكن الظروف منعتني من حضور هذا اللقاء.. أنا الآن ذاهب إلى بيت الأستاذ خالد بمدينة نصر.
قلت وأنا أتعجل إنهاء المكالمة: سأسبقك إلى هناك.
وعندما كانت سيارتي تسابق الطريق وتتحدى الزمن غير آبهة بشيء

تأرجحتُ بين المشاعر والأفكار مع تأرجح السيارة أثناء قفزها في الطريق.. كانت مشاعري تلطم قلبي وتزلزل كياني وتحيلني إلى قطعة ملتهبة من الثورة والغضب والحزن والكمد والكرب.. ولكأنما تجمعت الخطوب على فؤادي فأحالته أثراً بعد عين، وليت الأمر كان وقفاً على مشاعر بشرية مشروعة بثها الله في أفئدتنا حتى نواجه بها نوازل الأيام، إذ اقتحمتني أفكار أدخلتني إلى أتون من الحيرة.. كيف تم القبض على مختار وخالد وإبراهيم؟ وأين؟ ولماذا؟ ولِم لم يكن إبراهيم بكري معهم آنذاك؟ وما هي الظروف التي منعته فجأة من حضور لقاء يتصادف القبض على مختار فيه؟!... يا الله أيعقل هذا؟( ).
وفي بيت خالد بدوي عرفت القصة.. أخبرتني زوجته أنه ذهب برفقة مختار وإبراهيم الرشيدي إلى اجتماع في ضاحية المعادي.. اجتماع لقسم المهنيين في الإخوان المسلمين.. وكان قد تم الاتفاق على عقد هذا الاجتماع في مقر اتحاد المنظمات الهندسية للدول الإسلامية والتي يخضع مقرها في مصر لإشراف نقابة المهندسين.
وعند حضور إبراهيم بكري عرفنا منه أنه كان من المقرر أن يذهب معهم لهذا الاجتماع الذي كان سيناقش بعض الأمور التنظيمية الخاصة بانتخابات نقابة المحامين ورفع الحراسة عن باقي النقابات المهنية.
خرجت من بيت خالد وقد غامت الدنيا أمام ناظري، أغالب دفقة من البكاء خرجت منمكنون ذاتي وأرادت أن تجهش وتعلن عن نفسها إلا أنني كتمتها حتى حين، وحين دخلت مسجد موسى بن نصير انفردت بربي وأجهشت بالبكاء)).
محنة السجن
ويح قلبي ما زال يخفق حين تمر من أمامه تلك اللحظات الشجية، وكأنه يُلح عليّ من فرط خفقانه أن أتوقف الآن عن النقل من كراستي، فليس في طوق خافقي الذي محت الحُرَقُ أثره أن يستمر في استعادة تلك المشاعر الغضة

المشحونة بالشجن التي غرقت في لجتها آنذاك، إذ عندما أستعيد هذه الأيام تنساب الدموع برفق من عيني رغماً عني.
وإذ أخرج من لجة المشاعر أجدني أمام صفحات أخرى من كراستي تتحدث عن سبب الاجتماع التنظيمي الذي تم القبض عليهم فيه، فقد كان من المقرر أن يناقش هذا الاجتماع خطة الانتخابات والتحالفات التي أعددناها ووافقنا عليها في القسم.. وها هو ما تضمنته تلك الصفحات من كراستي.
((كانت محاور الخطة التي أعددناها والتي كان سيدور النقاش بشأنها في هذا الاجتماع تتلخص في عدد من المرشحين لا يزيد على ستة.. أما من حيث التحالفات فقد كانت تدور حول إفساح الطريق للقوى الوطنية المختلفة للتعبير عن نفسها عن طريق تحقيق شعار المشاركة لا المغالبة بشكل حقيقي لا يقف عند حد الشعار ولكن ينزل إلى أرض الواقع.
لم تكن هذه الخطة بطبيعة الحال ترضى الكثير من الإخوان، وكان أحمد سيف الإسلام حسن البنا من أكثر المعترضين عليها إذ أنها من الممكن أن تطيح بفرصه في الترشيح- بل إنها كانت ستطيح به بالفعل-؛ كما كان جمال تاج من أوائل الواقفين في صفوف المعارضة ضدها، وكان محمد طوسون بطبيعته المباحثية- كضابط مباحث سابق- يقف ضد هذه الخطة من طرف خفي إذ من الممكن في حالتطبيقها أن تطيح به هو الآخر وتمنعه من الترشيح لعضوية المجلس... كان أحدهم يرغب في تدمير هذه الخطة ووأدها.. ولم يكن في طوق أحد وقتها الوقوف ضد مختار نوح في إصراره على تنفيذ خطتنا وهو الذي يحظى بالتأييد المطلق من المستشار مأمون الهضيبي نائب المرشد – وقتها- وكانت مسألة عرض الخطة على قسم المهنيين مسألة شكلية فقد تم الحوار مسبقاً مع معظم أفراد قسم المهنيين وتهيئتهم لقبول الخطة وقبول أسماء المرشحين من الإخوان وكان أبرزهم بطبيعة الحال مختار نوح وخالد بدوي ولم يكن فيهم أحمد سيف الإسلام حسن البنا ابن المرشد الأول حسن البنا... وفي أثناء عرض مختار لخطة القسم قامت قوة من جهاز أمن الدولة بمداهمة الاجتماع والقبض على كل الإخوة.. والغريب أن جهاز أمن الدولة قام بالقبض على بعض الإخوة الذين كانوا قد غادروا الاجتماع مبكراً وإخوة لم يحضروا الاجتماع أصلاً.. إلا أنه أيضاً أغفل القبض على إخوة آخرين غادروا المكان منذ لحظات قليلة قبيل المداهمة وكانوا

تحت بصر الأمن!!)).
حتماً أعود إلى حديث المشاعر فصفحات كراستي مشحونة بها، وقد لا أدري أأقوم الآن بالنقل من كراسة أم أقوم بالنقل من فؤاد جهل بعضهم بعض ما فيه؟ وأنكروا البعض الآخر!! يقول الشعراء إن المتنبي مات حتف أنفه بسبب بيت من الشعر كتبه في الفخر، فحين لقى عدواً له هم بالفرار فقال له عدوه أتفر وأنت الذي قلت: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم.. فعاد إليه المتنبي فقاتله فقُتل.. أما مشاعري فهي التي أحيتني فيما بعد، فإذا كان الفخر في غير موضع يقتل حيناً فإن القلب ومشاعره فيموضعها تحيى في أحيان أخرى... وها أنذا أنقل من كراستي أحداثاً حاطتها المشاعر وتداخلت فيها.
((لكل إنسان نفسية تحب وتبغض.. ترضى وتسخط.. تستبشر وتجزع.. تحزن وتسعد.. تتوخى وتهرع.. وأظن أن المشاعر تنتاب الإنسان فرادى فمن العسير أن تتجمع المشاعر المتناقضة كلها في آنٍ واحد وفي لحظكة واحدة في نفس واحدة.. ولكن العسير حدث وانتابتني كل المشاعر المتناقضة في تلك اللحظة التي رأيت فيها مختار نوح وخالد بدوي وهما تحت الأصفاد قيد الحبس.. فبقدر ما كانت مشاعري تجاههما مشاعر حب ورضا.. وبقدر ما سعدت بصحبتهما واستبشرت بالخير دائماً حين كنت ألقاهما بقدر ما كرهت وسخطت وبغضت الظلم الذي وقع عليهما.
كان المشهد مؤلماً في مقر نيابة أمن الدولة بمصر الجديدة.. وكان الأكثر ألماً أن رأيت مختار وخالد ومن معهم من الإخوان وهم ينزلون من سيارة الترحيلات والأصفاد تكبل أياديهم والجند يدفعونهم صوب الباب الخلفي الذي يؤدي إلى حجرة الحجز، وإذا كان ألم الجسد يتلاشى حين تخديره فليس ألم النفس يقبل تخديراً أو تغييباً.. ورغم محاولاتي المضنية التي بذلتها من أجل إخفاء ملامح الألم والحزن التي كست وجهي إلا أنني فشلت.. فما معنى الابتسامة البلهاء التي ندت عني في حين أن ملامحي كانت مصلوبة على مذبح الألم، وكيف يذهب الحزن خلف السحاب والسحاب قد انسحب من وطأة الوجوم.
هوّن عليك يا فتى فما هي إلا أيام وسنعود إلى بيوتنا.. قالها نوح وهو يبث الطمأنينة في نفسه ونفسي ثم اتكأ على عصاه وهو يناولني معطفه قائلاً:

من فضلك خذ هذا المعطف الآن إلى بيتي.. ثم ضحك مسترسلاً: فهو ماركة عالمية من "بيير كاردان"... ولا تنسى أن تُحضر لي من البيت ملابس بيضاء لزوم السجن ولكن قل لهم ملابس السجن ماركة "إيف سان لوران"... وارتفعت ضحكته لتحلق في سماء الردهة الكبيرة بنيابة أمن الدولة بالدور الثاني التي تتفرع عنها حجرات السادة أعضاء النيابة.
كانت الردهة مليئة عن آخرها بالمحامين الذين تقاطروا من كل صوب وحدب وكان الكل تقريباً يلتف حول مختار الذي ظهر الإعياء عليه خاصةً وأن ظروفه الصحية بعد الحادث الذي وقع له من شهرين قد تأثرت بشكل كبير إلا أن معنوياته المرتفعة كانت تخفي هذا الإعياء عن عيون الجميع.. وحين تركت مختار ليتحدث إلى الجمع الذي التف حوله يسألهم عن رجائي عطية وأين هو؟ ولماذا لم يأت؟ سمعت بعضهم يقول إنه الآن في قرية "مارينا" بالساحل الشمالي وأن البعض أخبره بما حدث وأنه سيأتي غداً ولذلك يطلب من كل الإخوة المقبوض عليهم أن يمتنعوا عن الإجابة عن أسئلة النيابة ويحصرون أقوالهم في طلب التأجيل لحين حضور محاميهم الأستاذ رجائي... اقتربت من خالد بدوي وهو يمسح جبينه من قطرات الماء التي تخلفت من وضوئه وابتسمت وأنا أربت على كتفه حينها انفرجت أساريره عن ابتسامة عريضة وقال مداعباً إياي والبشاشة يخفق بها وجهه وتنبض بها شرايينه: أتذكر يوم أن كنت أضحك معك وأقول "ربنا ها يوديك الـ محكمة" .. هههه... اليوم ربنا ودّاني المحكمة.
بادلته الضحك وأنا أقول: ليست المحكمة.. ولكن النيابة.. نيابة أمن الدولة، أما المحكمة فندعو الله ألا تذهب إليها.
قال بسكينة: يا سيدي... لا تقلق ولا تحزن.. مشيناها خطىً كتبت علينا ومن كتبت عليه خطىً مشاها، كل شيء بقدر الله.. لا يقع في ملك الله إلا ما يريد.. هه.. هل تنازع في هذا؟ لا يقع في ملكه إلا ما يريد.. وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
سمعت صوت أحد المحامين وهو يقول: الأستاذ خالد بدوي مطلوب في الداخل لبدء التحقيق.
رافقته وأنا أقول له: سنطلب التأجيل لحين حضور رجائي غداً.. هل لديك خطة دفاع معينة.

سار إلى جانبي وهو يهمس: ليس لدينا إلا لا إله إلا الله.. سبحان الله وبحمده اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً.. ومن بعد ستكون التذكرة.. فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر.
وبدأت التحقيقات في اليوم التالي مباشرة وفي حضور الأستاذ رجائي وجمهرة من المحامين حيث تم تقسيم المتهمين بيننا فحضرت كل مجموعة من أخ من الإخوة وكان من نصيبي أن حضرت مع خالد بدوي ومختار نوح ثم تنقلت بين حجرات التحقيق فتارة أجلس في التحقيق الذي يدور مع الدكتور محمد بديع وتارةً أخرى أحضر في التحقيق مع إبراهيم الرشيدي وهكذا دواليك.. كانت التهمة التي واجهت بها النيابة الإخوة المقبوض عليهم هي الانتماء لتنظيم سري غير شرعي وتحريك هذا التنظيم وسط الجماهير بقصد التغلغل في منظمات المجتمع المدني، والتخطيط لخوض انتخابات النقابات المهنية ومنها نقابة المحامين، وقد تم القبض على المتهمين أثناء اجتماعهم التنظيمي الذي كان يجهز العدة لما سلف وبذلك- وفقاً لنيابة أمن الدولة- تكون الأدلة قد تجمعت على ارتكاب المتهمين إحدى الجرائم المعاقب عليها في قانون العقوبات... وقد شارك في القبض على المتهمين بعض رؤساء نيابة أمن الدولة إذ وردت تحريات مسبقة للمباحث تفيد تفصيلات هذا الاجتماع وظلت القوة التي رافقت النيابة كامنة بالقرب من مقر الاجتماع حتى حضر مختار نوح وخالد بدوي فتم مداهمة المكان والقبض على الجميع!! ولكأنما كانت الأجهزة الأمنية تنتظر الصيد الثمين لتنقض عليه وكان لها ما أرادت!! قررت النيابة حبس المتهمين خمسة عشر يوماً ويراعى لهم التجديد في الميعاد.. كان هذا هو القرار الذي أصدرته النيابة وفور صدوره نقلته- ومعي أحمد ربيع وغبراهيم بكري- للأستاذ رجائي عطية الذي لم يكن قد غادر مبنى النيابة بعد فأغمض عينيه وشهق شهيقاً عميقاً كأنما يلملم قواه وقال: لا ضير سأقابل النائب العام وسأنهي هذا الأمر برمته في جلسة التجديد القادمة.. اطمئنوا سيتم الإفراج عنهم لا ريب عندي في ذلك هذا وعد.
غادرنا الأستاذ رجائي عطية وذهب إلى شأنه فانصرفنا من بعده بعد أن ودعنا مختار وخالد إلا أننا انصرفنا إلى مكتب أحد المحامين من الإخوان حيث كنا- قسم المحامين في جماعة الإخوان- قد حددنا موعداً فيما بيننا للاجتماع من أجل تحديد الواجبات والمسئوليات في الفترة القادمة.

كان العدد الذي حضر الاجتماع كافياً لاتخاذ القرارات وإسناد المسئوليات، وكان أول المتحدثين هو محمد طوسون الذي طلب اختيار أحد أعضاء لجنة السبعة ليكون مسئولاً عن قسم المحامين، ونظراً لأن أحمد ربيع كان هو الأمين العام لتلك اللجنة فقد تم اختياره وفقاً للائحة ليكون هو المسئول المؤقت لحين خروج مختار و أن عليه وفقاً لهذا التكليف أن يدير القسم ومعه لجنة السبعة التي تشرف على القسم.
لم تكن الرئاسة حلم أحد منا ولم يفكر أحدنا فيها فقد كان حلمنا الأكبر هو خروج مختار وخالد إلى الحرية، وكانت وعود رجائي عطية بالإفراج عن الثلاثي مختار وخالد وإبراهيم الرشيدي أمراً يقينياً عندنا فلهجة الرجل وهو يتحدث في هذا الشأن كانت حاسمة وقاطعة لا ريب فيها.. ورغم ذلك اعترض محمد غريب على إسناد الرئاسة لأحمد ربيع وقال إنه يجب أن تتم انتخابات في القسم لتحديد الشخص الذي سيتولى الرئاسة بشكل مؤقت إلا أن طوسون قال له بحسم: يا أخ محمد يبدو أنك اعتقدت أن الرئاسة هنا ستكون بشكل دائم.. يا أخي اعلم أن أحمد سيكون في موضع المسئولية بشكل مؤقت ولن يستمر في موقعه هذا، وأدعو الله أن يخرج مختار سريعاً ليسترد مسئولياته أما مسألة الانتخابات هذه فتكون حين يكون الاختيار بشكل نهائي.
قال أحدهم موجهاً حديثه لأحمد ربيع: يا أستاذ أحمد ليست المسئولية تشريفاً ولكنها تكليف.. ومن أجل ذلك يا أخي الكريم يجب أن نتحرك على كل الأصعدة.. يجب أن نمارس ضغوطاً سياسية ونقابية تساعد الأستاذ رجائي على إنهاء هذا الأمر برمته والإفراج عن إخواننا.
بادر أحمد ربيع وكأنه فكر في هذا الأمر من قبل: أوافق على هذا ولذلك يجب أن نتصل بكل الأطياف السياسية والنقابية.. نتصل بخصومنا قبل أصدقائنا نتواصل مع الجميع وندعوهم لحضور جلسة التجديد القادمة.. لا

شك أن هذا الحضور سيشكل ضغطاً على الجهات المسئولة.
أمسكت طرف الخيط من أحمد: وفوق هذا ينبغي أن نعقد مؤتمرات يومية في محاكم القاهرة من أجل تثوير عموم المحامين وإثارة الحمية فيهم.. فمختار وخالد هذان اللذان وقفا وقفة تاريخية في موضوع عبد الحارث مدني وأشعلا ثورة داخل النقابة من أجل مقتل أحد المحامين يجب ألا ينساهما المحامون.. لا نريد الحشد الذي سيحضر جلسة التجديد حشداً نخبوياً فحسب ولكن نريده حشداً شعبياً جماهيرياً لعل الجهات المسئولة تعدل عن التصعيد وتفرج عنهم خوفاً من ثورة المحامين.. يجب أن نشعلها ثورة.
وأخذت الاقتراحات تتوالى وازدادت الحمية ونفر الحماس من عروقنا وأخذنا نضع تصورات لكيفية وضع الاقتراحات موضع التنفيذ، إلا أن هذا الحماس لم يخف شماتة ظهرت في عيون البعض.. فقد كان بعضهم يخفى في خبيئة نفسه فرحة غامرة بحبس مختار وخالد!! ولم تستطع كلماتهم المغلفة بجدية مصطنعة إخفاء تلك الشماتة التي قفزت من عيونهم وتفلتت من خلال ألسنتهم رغماً عنهم.. فإذا كان الشاعر أحمد رامي أخبرنا أن طالصب تفضحه عيونه" فإن الغل هو الآخر يخرج من عين صاحبه وينم عن أسراره الدفينة.
توالت المؤتمرات اليومية في محاكم القاهرة وفي غرفات واستراحات المحامين وفي مقر النقابة العامة.. ولا أظنني مغالياً إذا قلت أن هذه المؤتمرات أحدثت استنفاراً للمحامين من كل الجهات والتوجهات، وفي ذات الوقت قمنا بتشكيل فريق عمل كنت أحد أفراده ويضم محمد طوسون وأحمد ربيع وإبراهيم بكري وبهاء عبد الرحمن وكانت مهمة هذا الفريق الاتصال بكل الناشطين من القوى السياسية ومن النخب الوطنية من المحامين ومن غير المحامين والترتيب معهم من أجل دعمنا في قضيتنا.. قضية إخواننا المحبوسين.. واحر قلباه عليهم.
وجاء يوم تجديد الحبس وتجمهر خلق كثيرون أمام مقر النيابة وازدحمت ردهات النيابة بعشرات من المحامين.. وعشرات من الصحفيين.. وعشرات

من نشطاء حقوق الإنسان.. كان أحمد نبيل الهلالي يقف مع حمدين صباحي وبجوارهما منتصر الزيات ومعهم عبد العظيم المغربي من اتحاد المحامين العرب والدكتور إبراهيم صالح وأحمد عبد الحفيظ وكامل مندور وسيد شعبان وسامح عاشور.. الكل على قلب رجل واحد... الكل يتأهب تلك اللحظة التي سيدلي بدفاعه فيها عن مختار ومن معه... كانت كلمات الأستاذ رجائي الواثقة التي همس بها في أذاننا قبل بدء الجلسة تبعث قدراً من الاطمئنان في أفئدتنا وكأنها نبوءة: اطمئنوا فكل شيء على ما يرام واليوم سنحقق مبتغانا إن شاء الله.
توالت الأفكار على خاطري تمور بالمشاعر بعد إذ سمعت نبوءة رجائي... هل كانت نبوءة أم رجاءً؟ هل كان حلماً فخاطراً فاحتمالاً؟ وهل تتحقق النبوءة في زمن انقطعت فيه المعجزات؟ ليس من المستطاع أن يتحول الحلم إلى حقيقة بمجرد التمني.. وهل تؤخذ المطالب بالتمني أم أنها تؤخذ غلاباً... هل يصدقنا رجائي ويكون قد بذل جهداً سياسياً أم أنه يراهن على جهده القانوني؟! الكل يعلم أن مسألة القبض على تلك المجموعة لها جوانبها السياسية التي تقف على تخوم الجوانب القانونية فإلى أين سيذهب بنا رجائي؟
انقطع حبل أفكاري حين بدأت جلسة التجديد، وحين النداء على القضية ازدحمت غرفة التحقيق التي مثل فيها مختار حتى أننا جميعاً وقفنا متراصين كالموج المتلاطم إذ لا مكان يتسع لجلوس أحد وترافع يومها عن نوح أكثر من عشرين محامياً يتقدمهم رجائي عطية وكذلك كان الأمر بالنسبة لخالد بدوي... وبعد انتهاء المرافعات وقفنا في طرقات النيابة وقلوبنا تخفق بالرجاء وتنبض بالتمني ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.. خرج القرار باستمرار الحبس لمدة خمسة عشر يوماً أخرى، وحين بحثت عن رجائي لم أجده)).
((حين رأيت الدنيا من حولي يزداد ظلامها تحدثت مع أحمد ربيع وبهاء عبد الرحمن واتفقت معهما على أن نذهب إلى رجائي عطية في مكتبه لنقف على خبر يقيني بشأن الإفراج عن إخواننا، ونظراً لأن بهاء يرتبط مع رجائي بروابط عمل فقد طلبنا منه أن يحدد لنا موعداً وعلى الفور أنجز بهاء مهمته وحدد الموعد، وفي الموعد المتفق عليه ذهبنا جميعاً، وتصادف أن كان مع بهاء أخونا جمال برعي فذهب معنا.. وفي مكتبه الكائن بعمارة الإيموبيليا

بشارع شريف جلسنا نتحاور معه.. كان جمال برعي حاداً ومندفعاً مع رجائي وقال له بالحرف: أنت وعدتنا كثيراً يا أستاذ رجائي ويجب أن تبذل جهداً كبيراً من أجلنا هذه المرة ليس من أجلنا ولكن من أجلك أنت.. من أجل مشروعنا المشترك، حاولت أن أخفف من حدة كلمات جمال برعي فقلت لرجائي: أذكر أنني سمعت يوماً الدكتور القرضاوي وهو يتحدث عن العقلية الجمعية فقال إنه وهو بعد صغير اشترك في مظاهرة وعندما أمسك أحد المتظاهرين حجراً وقذف به واجهات المحلات فعل كل المتظاهرين مثل ذلك وكان من عجبه أن انحنى هو الآخر وأمسك مثل الجميع حجراً وفعل مثلما فعلوا.. وأنا أخاف أن يغضب أحد إخواننا من المحامين من استمرار حبس مختار وخالد فيمسك حجراً ويذفه على مشروعنا الذي بنيناه سوياً، وحينئذٍ أخاف أن يفعل مثله باقي الإخوان فيقفون ضدك في الانتخابات.. يجب يا أستاذنا الفاضل أن تبذل كل ما تستطيع.. نحن نحبك ونتمنى أن يقف كل صفنا معك.
فأجاب رجائي بأنه يبذل كل الجهد وأنه تحدث مع شخصيات سياسية كما تحدث مع النائب العام وأن أمر الإفراج تأخر ولم يحدث في الجلسة الماضية نظراً لأن تقرير خبير الأصوات عن التسجيلات الصوتية للحوارات التي كانت تدور بين المقبوض عليهم في الاجتماع التنظيمي لم يكن قد تم الانتهاء منه بعد وأنه حتماً سيتم الإفراج عنهم في الجلسة القادمة خاصة وأن تقرير الخبير على وشك الانتهاء.. ثم وجه رجائي حديثه لجمال برعي وقال له يا أخ جمال أنت في بني سويف ولا تعلم ما أفعله أنا من أجل مختار وخالد وغبراهيم الرشيدي، وبدلاً من أن تلومني أنا وجه اللوم لمختار وخالد.. أيعقل هذا يا جمال يا برعي!! ما الداعي لكي يحضر مختار اجتماعاً تنظيمياً في هذه الأيام؟!!
وهنا تدخل أحمد وقال: يا أستاذ رجائي هذا اجتماع لقسم المهنيين وكان يناقش أمر خطتنا الانتخابية.. كنا نريد أن نحصل منهم على موافقة نهائية بعدد المرشحين الذين سيمثلون الإخوان.
أكمل بهاء عبد الرحمن كلام أحمد وقال وهو يضحك ضحكته المعروفة عنه عموماً ربنا ستر كنت أنا وأحمد ربيع في طريقنا لحضور هذا الاجتماع لكن تم القبض عليهم قبل أن نذهب، أنا عن نفسي اختبأت عند مترو الأنفاق،

كانت مسئوليتك ستتضاعف لو تم القبض عليّ.
نظرنا إلى بهاء ونحن نزجره بعيوننا واضطررت إلى مقاطعته وقلت لرجائي: لو سمحت يا أستاذ رجائي لو يساعدك في مفاوضاتك أن ننسحب من هذه الانتخابات كلها بحيث لا يكون لنا فيها لا ناقة ولا جمل فسنفعل.
فوجئ رجائي بكلامي ويبدو أنه فهم منه أننا سننسحب وسنترك الانتخابات كلها بما يعني أننا لن نقف معه فكاد أن يقفز من مقعده وقال: لا لن تصل الأمور إلى مثل هذا أنا لا أقبل انسحابكم وسيخرج مختار حتماً.. في الجلسة القادمة سيخرج)).
إلى العسكرية
تحتاج هذه الفترة إلى كتاب مستقل يحكي ويغوص ويحلل، فلا يمكن أن تحيط بها هذه السطور أو تفصّل أحداثها أو تحلل لها ولكنها قد تستخرج أهم وقائعها لتبعث فيها الحياة من جديد فتبوح لنا بأسرار مخبوءة تكاتف الكثيرون على طمسها.. وإذ كنت أقلب باقي صفحات الكراسة وجدت هذه الفقرة الهامة لعلها تكون خير شاهد على ما حدث آنذاك، أو بالأحرى لعلها تلقي الضوء على أيام أراد لها البعض أن تذهب طي النسيان.
((نحن الآن في شهر نوفمبر من عام 1999 والأيام تمر بطيئة وكأنها لا تمر.. في هذه الأيام نسيت مكتبي ونسيت أعمالي، وغبت عن زوجتي وعن أبنائي قرة عيني مرام ويحيى، فأنا أعتبر نفسي في مهمة إسلامية.. وهل هناك أعلى قيمة من رجل يبتغي وجه الله في إخوانه فيكون لهم وجاءٌ من غوائل الأيام.. كان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.. أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.. وأنا أنصر أخي المظلوم.. أنا في عبادة مستمرة في هذه الأيام وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يأجرني عليها وتكون بابي إلى الجنة.. لا توجد بوادر تنبئ عن قرب الإفراج عن مختار وخالد وإبراهيم بل العكس هو الصحيح.. هل رجائي يصدقنا؟ أخاف من طريقته معنا.. أشعر أنه يصب الماء البارد على نارنا المشتعلة حتى نهدأ.. أنا أحب رجائي جداً وأحترمه كرجل قانون وكمفكر بارز وأتمنى أن يكون نقيباً للمحامين وأن يكون زوال الغمة على يديه.. يا رب كن معنا وساعد رجائي في سعيه وبارك له في هذا السعي واجعله في ميزان حسناته.
اليوم هو الخميس وقد حدث شيء غريب.. كنا في مؤتمر بمحكمة شمال

القاهرة.. ألقيت كلمة وسط عشرات من المحامين لدفعهم إلى اتخاذ موقف حاسم يعيد للمحاماة أيام مجدها.. ذكّرتهم بموقف مختار في حادثة مصرع المحامي عبد الحارث مدني وقلت لهم إما أن نكون أو نظل عشرات السنين تحت رحمة السلطة التنفيذية.. كان بعض المخبرين من جهاز أمن الدولة يجلسون وسط المحامين ويسجلون كل كبيرة وصغيرة وحين خرجت إلى موقف سيارات المحكمة لأركب سيارتي وجدت السايس عم "أبو زهرة" يسرع إلى السيارة ويفتح لي بابها وهو يهمس في أذني: يا أستاذ ثروت سلم لي على الأستاذ مختار فكلنا نحبه ولن ننساه وربنا يخفف عنه.. أستاذ ثروت أريد أن أنقل لك خبراً هاماً.
قلت له خير يا عم أبو زهرة؟
قال والتأثر بادياً عليه: أخبرني محمود الفقي مخبر أمن الدولة الذي كان يرصد مؤتمركم في المحكمة اليوم أن قراراً سيصدر اليوم بإحالة مختار وإخوانه إلى المحكمة العسكرية.
نظرت إلى "أبو زهرة" بفزع وقلت له غير معقول.. هذا تخريف، محمود الفقي كان يعبث بعقلك.. لا تصدقه.
وعندما ركبت سيارتي اتصلت هاتفياً بإبراهيم بكري وأخبرته بما أخبرني به أبو زهرة واتفقت معه على أن نذهب إلى رجائي في أي مكان يكون فيه، وعندما اتصلنا برجائي وجدناه في محكمة دار القضاء العالي فذهبت إليه وأنا أقود السيارة بسرعة جنونية.. وحين التقيناه أنا وإبراهيم أخبرته بما وصل لي من معلومات فنظر لي وكأنه ينظر إلى رجل في عقله خبل وقال بابتسامة: مخبر وسايس يا ثروت.. سايس سيارات يهذي فتصدقه!!.. كنا نجلس في استراحة المحامين وكان يجلس بجوارنا أحد الأصدقاء من المحامين من غير الإخوان اسمه أحمد حلمي فقال هذا الصديق لرجائي: لن نخسر شيئاً لو أجريت اتصالاتك لتسأل عن هذا الأمر.. افعل هذا حتى تطمئن قلوبنا.
فأمسك رجائي هاتفه المحمول وأجرى اتصالاً أمامنا ثم خرج من الاستراحة لينفرد بمكالمته وبعد هنيهة عاد إلينا وهو يبتسم ابتسامة عريضة وقال بصوت جهوري ليسمعه كل المحامين الذين كانوا يجلسون بجوارنا: لم يحدث شيء ولم ولن تكون هناك إحالة للمحكمة العسكرية وسيتم الإفراج عن

مختار وخالد وإبراهيم في الأسبوع القادم.. هذا خبر وليس أمنية.
وفي أول الليل عقدنا أنا وأحمد ربيع وإبراهيم بكري اجتماعاً مع محمد طوسون في أحد المقاهي بشارع الألفي بمنطقة وسط البلد حيث تناقشنا في كل الأحداث التي مرت بنا في هذا اليوم وأخبرناه بذلك الخبر المزعج الذي تسرب إلينا عن إحالة مختار ومن معه للمحكمة العسكرية وقلت له رد فعل رجائي فلم يعقب إلا بهمهمات وابتسامة ليس لها معنى ثم انتهى الاجتماع قبل منتصف الليل بقليل، وفي الطريق إلى بيتي قمت بشراء كل الصحف اليومية والمستقلة التي ستصدر صباح الجمعة والتي تخرج طبعاتها الأولى في الليل، وفي غرفة المعيشة جلست أقرأ الصحف وأنا أتحدث مع زوجتي تارة وأدعو الله بصوت مسموع تارة أخرى "يا رب يكون خبر إحالة إخواننا للمحكمة العسكرية خبراً غير صحيح" وعندما وقعت عيني على إحدى الصفحات الداخلية بجريدة الأهرام وقعت عيني على خبر صادم (إحالة قضية مختار نوح إلى المحكمة العسكرية).. أسكتتني الصدمة وحين سألتني زوجتي لماذا سكت قلت لها أنا الآن مثل ذلك التلميذ الذي أخذ يدعو الله قائلاً "يا رب تكون باريس عاصمة لبنان، وعندما سألته أمه لماذا تدعو الله هذا الدعاء قال لها لأنني أجبتها هكذا في الامتحان.. ونحن ما زلنا نصدق وعود الأستاذ رجائي رغم أنه صدر قرار بإحالة مختار ومن معه للمحكمة العسكرية، عرف هذا القرار السايس ومخبر أمن الدولة ولم يعرف به رجائي.. أظن أنهم يخدعونه.. ويحك يا يوم الخميس ففيك تم القبض عليهم وفيك تمت إحالتهم للمحكمة العسكرية)).
* * *
حين أستعيد ذكرى هذه الأيام يقفز الدم في شراييني قفزاً حتى يكاد وجهي يصطبغ باللون الأحمر، ولم لا وقد كانت كل لحظة من لحظات تلكم الأيام تحمل خبراً أو حدثاً.. أملاً أو إحباطاً.. خوفاً أو تهوراً.. وحين أمسك كراستي لأنقل منها أشعر كأن قلبي هو الذي يقلب صفحاتها فقد كانت هذه الكراسات بعضاً من نبضي ومكنون ذاتي، وحين أدلف إلى تلك الكراسة التي استودعتها أحداث المحاكمة العسكرية فإنني أستعيد معها سراجاً خافت الضوء من أحداث لما تزل بعض شفرات أسرارها في رحم الغيب... وإذ كنت على وشك أن أطوي بعض صفحات الكراسة لأذهب إلى

صفحات أخرى وقع نظري على سطور بهت مدادها ولكن أحداثها لم تبهت إذ ما زالت ماثلة في وجداني.. ولا أجدني في حاجة إلى كتابة مقدمة لهذه السطور ولكنني أنقلها هنا كما هي.
((نحن الآن في منتصف شهر نوفمبر، جلست لأكتب هذه الكلمات قبل منتصف الليل، أما في الصباح فقد كانت المحكمة العسكرية تنظر أمر تجديد حبس إخواننا من المحبوسين وكان الأستاذ رجائي عطية قد أخبرني وأخبر كل الإخوة أنه أجرى اتصالات وأنهم حتماً سيفرجون عن المحامين مختار وخالد وإبراهيم، وللأسف لم يتحقق وعده، هذا الرجل صادق، ليس عندي ذرة شك في أخلاقه فهو شخصية جديرة بالاحترام ولكنني أشعر أنه تنقصه الحنكة السياسية، ويبدو أن هناك بعض أفراد من المقربين من دوائر السلطة يكررون وعودهم له وهو لطيبته يصدقهم ولكن هل يجب أن نصدقهم أيضاً؟ بعد جلسة تجديد الحبس التي انتهت قبل صلاة الظهر وقف الأستاذ رجائي على باب المحكمة العسكرية بالحي العاشر وهو يبدي ألمه من قرار تجديد الحبس وكان يقف معه أحد المحامين من فريق عمله الانتخابي وهو الأستاذ "مصطفى محمود" المحامي الناصري وكان يقف معهما أيضاً أحد المحامين من أصدقائي، وبعد انصراف الأستاذ رجائي جاء لي صديقي الذي كان يقف معهما وأخبرني أن مصطفى محمود كان يخفف عن الأستاذ رجائي حزنه فقال له: (ولا يهمك يا أستاذ رجائي وحتى لو تم حبس مختار حبساً نهائياً فسوف يقف معك الإخوان والحذاء فوق رأسهم لأن منافسك هو سامح عاشور خصمهم التاريخي) ولما كنت لا أحب أن يكون الحذاء فوق رأسي فقد اصطحبت أحمد ربيع وإبراهيم بكري وذهبنا في أول الليل إلى مكتب رجائي وقلت له ما وصلني فأقر بحدوثه وقال إنه غير مسئول عن كلام مصطفى وأنه لا يقبل هذا الكلام ثم قال: حقك عليّ يا عم ثروت!! عدت إلى بيتي وأحاسيسي ثائرة ونفسيتي مهتاجة وحين هدأت أخذت أقرأ قصيدة هاشم الرفاعي "رسالة في ليلة التنفيذ" وقد هزتني أبياتها هزاً وقد امتزجت معها من أول بيت "الليل من حولي هدوء قاتل والذكريات تمور في وجداني" إلى البيت الذي قال فيه: أنا لست أدري هل ستُذكر قصتي أم سوف يعروها دجى النسيان ×× أم أنني سأكون في تاريخنا متآمراً أم هادم الأوثان... وبعد أن قرأت القصيدة فكرت في إخواني المحبوسين، كنت كأنني أنا

المحبوس لا هم، شعرت بالاختناق وكأن الهوا نفد من حولي ورغم محاولاتي إخفاء حالة الضيق والكدر التي انتابتني عن زوجتي إلا أنها شعرت بي فطلبت مني أن أعود لمصحفي وأقرأ بضع آيات من القرآن لعل الله يخفف عني ففعلت وقرأت واسترحت)).
عندما أتذكر تلك الأيام وأسترجع أحداثها أشعر وكأنها كانت حلماً من الأحلام، وكأنني كنت بين اليقظة والمنام.. أحقاً كان ما كان وحدث ما حدث؟ أفي تلك الحياة عشت ما سلف أم أنني كنت آنذاك في زمن آخر وفي دنيا أخرى؟ ولكنّي أفيء إلى يقظة فتحدثني نفسي أن أغلق صفحات كراستي، فاستعادة الأحداث وإن كانت لها قيمتها إلا أنها تنكأ جراحاً وتستعيد مواجع أرقتني وأسالت مدامعي.. تلك المواجع التي أردتها أن تذهب أدراج النسيان.. ولكن وكأن تلك الصفحات التي أردت وأدها والتي تحتوي على تاريخ كاد ينزوي، ترفض أن تنزوي، وها أنذا أعود إليها مرة أخرى فأجدني أمام ذلك الحدث الذي أفردت له جزءاً في الربع الأخير من تلك الكراسة.
((في اليوم التالي انعقد اجتماع للجمعية العمومية لمحامي الإخوان.. يحضر في هذه اللجنة رؤساء المكاتب الإدارية لمحامي الإخوان بالمحافظات وأعضاء لجنة السبعة المنوط بها إدارة المهنة.. جلسنا جميعاً في مكتب بهاء عبد الرحمن بمنطقة عابدين وكانت بنود الاجتماع تدور حول وجوب انتخاب لجنة من بيننا تدير أزمة حبس مختار نوح وإخوانه من المهنيين ولها أيضاً كامل الصلاحيات في إدارة انتخابات المحامين بحسب أن الانتخابات تعتبر جزءاً من الأزمة وسبباً في حبس مختار ومن معه، كنت في هذا اليوم أبدو شارد الذهن وفي الحقيقة أنني كنت أكاد لا أسمع كلمة واحدة مما قيلت، حتى أنني لم أشترك في الحوار الذي كان يدور بين الإخوة والتزمت الصمت طوال الجلسة وقد أثار صمتي دهشة أحمد ربيع وظن أنني مريض ولكنني كنت في أشد الحاجة إلى الانكفاء على نفسي وتدوير الأفكار في عقلي.. كنت أمارس مع نفسي عصفاً فكرياً.. وحين انتبهت وعدت من خلوتي النفسية وجدت الانتخابات قد بدأت ورغم أنني أعطيت صوتي لأحمد ربيع إلا أن أحمد أعطاني صوته وكانت النتيجة هي انتخابي بالإجماع- عدا صوتي- رئيساً للجنة وانتخاب عدد من الأعضاء معي هم أحمد ربيع وإبراهيم بكري وبهاء عبد الرحمن وجمال حنفي ممثلين للقاهرة وعدد آخر من الإخوة ممثلين

لبعض المحافظات.
وبعد أيام من هذا اللقاء كان من المقدَّر أننذهب للقاء المستشار مأمون الهضيبي لمناقشة خطة الانتخابات الجديدة وكنت قد تخلفت عن هذا اللقاء إلا أن الإخوة الذين حضروا وعلى رأسهم أحمد ربيع أخبروني أنه حدثت مشادة بين أحمد والمستشار الهضيبي وكان سبب هذه المشادة هو رغبة المستشار في ترشيح الأستاذ أحمد سيف الإسلام حسن البنا العضوية مجلس النقابة وتغيير الخطة من المشاركة إلى المغالبة وقد اعترض أحمد لأن أحمد سيف لم يحصل في الانتخابات الداخلية بيننا إلا على صوت واحد، وبعد هذا اللقاء صدر قرار من المستشار الهضيبي بعزل أحمد من رئاسة القسم وتعيين محمد طوسون بدلاً منه والاكتفاء بعضوية أحمد في لجنة الانتخابات.. وأصبح طوسون رئيساً للقسم.. وصرت أنا مسئولاً عن إدارة لجنة الأزمة ولجنة الانتخابات.
بدأنا عملنا في لجنة إدارة الأزمة.. كنا مجموعة من الرفاق.. اجتمعنا على عمل لله.. من أجل نصرة مظلوم.. تعاهدنا من أول لحظة أن يكون الإخلاص سبيلنا والمحبة زادنا والإخوة في الله هي صلتنا.. وكان أول تحرك لنا هو السعي لإقامة علاقات طيبة مع الإعلاميين والصحفيين وبالفعل تعرفت على عدد كبير من الصحفيين من الذين كانوا على خلاف مع الإخوان ولكني وجدتهم من أفضل الناس خلقاً بعد أن كنت أظن أنهم أكبر خصوم للحل الإسلامي، ومن عجبي أنني لاحظت أن هؤلاء قد يكونون أكثر تديناً وإيماناً من بعض الإخوان المسلمين، وكان أن أقمت صلات طيبة بالمسئولين في إذاعة لندن وغيرهم من الإعلاميين من كافة التوجهات، كان مظهرنا نحن أعضاء لجنة إدارة الأزمة شبيهاً بالمقاتلين في معركة حربية.. واصلنا الليل بالنهار وتحركنا على كافة الأصعدة وقمنا بتحريك الرأي العام بقوة ناحية التعاطف مع قضية النقابيين المحبوسين والمحالين للقضاء العسكري، وفي سبيل تحركاتي الإعلامية قمت بتجهيز ملف كامل لكل أخ من المحبوسين يحتوي على السيرة الذاتية له وبهذه الملفات وببعض بيانات نارية عقدنا مؤتمرات صحفية لدعم القضية إعلامياً... ولكن رغم كل ما بذلناه ما زال مختار محبوساً يرسف في أغلاله الكئيبة، وما زال خالد بعيداً عن بيته وأهله، وضاعت على إبراهيم الرشيدي فرصته في العودة لعمله في الخليج الذي

كان في أجازة منه)).
أقفز على الصفحات وأطوي بعضها وأتجاهل عشرات الأحداث والتفصيلات إذ لو تركت نفسي لها لأفردت لها كتاباً كاملاً- وقد أفعل ذات يوم- فهي أحداث جديرة بالتسجيل والرصد والتحليل، إلا أن آخر صفحات تلك الكراسة يستوقفني منها ويشد نظري تلك الفقرات.
((ليس هناك أشد وطأة على النفس من ظلم لا تستطيع دفعه، وليس هناك أشد على الإنسان من تنكرٍ له وقت محنته، وفي المحنة ظهرت معادن الناس وانكشفتْ معادن الإخوة، في أحد اللقاءات همس بعض الإخوان في أذني أن أحدهم سجد لله شكراً حين تم القبض على مختار وخالد، وكان أحدهم هذا من أكثر الأشخاص حرباً على إخوانه المحامين وفرحاً حين تم فرض الحراسة على نقابتنا، أما الشماتة فقد كانت بادية في عيون البعض تكاد تخرج لنا لسانها، وقد تقابلت مع الكثير من الإخوة الذين أعلم حسن طويتهم ولكن أحزنني منهم عدم المبالاة بما حدث وكأن من تم القبض عليهم لم يكونوا أخوة لهم.
اليوم كان قد انعقد اجتماع إخواني لمناقشة بعض ترتيبات المحكمة العسكرية وكيفية مواجهتها وقد شق عليّ كلمة خرجت من فم الأخ أسامة محمود حين قال لي: أنت مهتم بشكل مبالغ فيه بموضوع حبس مختار وخالد.. يا ثروت يجب أن تعلم أن الحبس في السجون هو معسكر من معسكرات الإخوان ولا ينبغي أبداً أن يشغلك بهذا الشكل.. نظرت إلى أسامة بخيبة أمل ولكنني لم أرد عليه.
عندما أتيحت الفرصة لزيارة الأخوة في محبسهم في سجن طرة لم أتركها فقد صرت الزائر الوحيد الذي يقوم بالزيارة كل يوم بحيث لم أفوت إلا أيام الجُمع والأجازات، وكانت هذه الزيارات فرصة سانحة نتناقش فيها في كل شيء يتعلق بالقضية سواء من حيث القانون أو من حيث السياسة، وعندما تم تحديد الجلسة الأولى التي ستبدأ فيها المحاكمة قمنا بتوزيع أنفسنا- كمحامين- على الأخوة المتهمين وكان من نصيبي بطبيعة الحال عبء المرافعة عن مختار وخالد وإبراهيم الرشيدي، أما رجائي عطية فقد اتفقنا معه على أن يترافع في الشق العام للقضية.
في أول جلسة من جلسات المحكمة العسكرية التي انعقدت هناك في

صحراء الهايكستب كانت الإجراءات الخاصة بدخول المحامين والأهالي تسير على قدمٍ وساق، وكانت هناك حالة ارتباك وتدافع فقد كان من المقرر أن نقدم بطاقات تحقيق الشخصية على البوابة وننتظر إلى أن تأتي لنا حافلة تابعة.
للقوات المسلحة فتقلنا إلى الداخل، ونظراً لحالة الزحام الشديد فقد توقفت الحافلات ورفضت نقل هذه الأعداد الغفيرة إلا إذا سمح رئيس المحكمة بذلك، وحين كنا ننتظر وصول موافقة رئيس المحكمة لمحت عن بُعد الأستاذ محمد علوان وكان معه الدكتور توفيق الشاوي( ). فذهبت إليهما مرحباً ومن أسف أن معظم الحاضرين لم يعرف الدكتور توفيق ولكنني عرفته فقد سبق وأن ذهبنا إليه مع مختار في الأيام الخوالي ثم بعد حبس مختار ذهبت إليه أستشيره وأستنبت منه الرأي السديد في كيفية مواجهة هذه القضية.. ونظراً لأن الرجل كان قد اقترب من الثمانين فقد طلبت منه أن يجلس في السيارة التي حضر فيها برفقة الأستاذ علوان، وعندما طالت الإجراءات انصرف علوان والشاوي وقبل أن يودعاني طلب مني الدكتور الشاوي أن أذهب إليه في بيته لأخبره بتفصيلات ما حدث في الجلسات ووعدته بأنني سأتصل به لأحدد معه موعداً أذهب إليه فيه)).
وفي صفحة أخيرة من تلك الكراسة كانت هذه الفقرة.
((يسكن الدكتور توفيق الشاوي في فيلته الأنيقة الرابضة على كورنيش النيل بالمعادي وإذا جلست في حجرة الصالون فستجد الحائط يزدان بعدة صور لأشخاص لهم تاريخهم، وكانت الصورة التي لفتت نظري هي صورة علاّمة القانون المرحوم عبد الرزاق السنهوري.. كنت قد ذهبت للدكتور الشاوي وفقاً لموعد اتفقنا عليه في اتصاف هاتفي وكنت قد استأذنته في أن أصطحب معي في هذا اللقاء الأخ أحمد ربيع وقد رحب الرجل أيما ترحيب.

وحين دخل الدكتور الشاوي علينا وجدني أتطلع لصورة السنهوري فقال لي بعد أن رحب بنا: هل تعلم أن السنهوري رحمه الله حصل على دكتوراه في فقه الخلافة، وكان قبلها قد حصل على دكتوراه في القيود التعاقدية على حرية العمل.. فقلت له: أنا أعلم عن رسالته في فقه الخلافة وأظن أنه كتبها بعد إلغاء دولة الخلافة الإسلامية وكانت رسالة رائدة.
وتدخل أحمد ربيع في الحوار وذكر أنه بهذه المثابة تكون هناك علاقة فكرية بين الشهيد حسن البنا والمرحوم السنهوري فهذا أنشأ تنظيماً ليستعيد الخلافة وذاك حصل على دكتوراه في فقه الخلافة.
وبعد أ ن شرحت للدكتور الشاوي تفصيلات قضية مختار التي أطلق عليها الإعلام "قضية النقابيين" وحكيت له عن مرافعة الأستاذ رجائي عطية والحادث الذي وقع له بعد مرافعته والشكوك التي دارت حول هذا الحادث وزيارتي له في المستشفى حيث التقيت هناك بشخصيات سياسية كبيرة، وحكيت له أيضاً عن تفصيلات مرافعتي عن مختار وخالد وإبراهيم الرشيدي التي استمرت أكثر من ثلاث ساعات وتحاورت معه في الدفوع القانونية التي أبديتها أثناء المرافعة وطلبت البراءة بناء عليها.. كما حكى أحمد ربيع عن مرافعته التي أبداها عن بعض الإخوة ودفوعه القانونية، واثناء حديث أحمد تطرق إلى الخلاف الذي كان قد نشأ بينه وبين المستشار الهضيبي وأسهب في أن المستشار الهضيبي أراد أن يتراجع عن الشورى التي أجريناها بخصوص عدم ترشيح أحمد سيف الإسلام حسن البنا وكانت حجته وقياسه في ذلك هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رفض قتل المنافقين وقال (حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه) فقال له أحمد (إن هذا قياساً فاسداً لأن القياس الصحيح هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) واسترسل أحمد شارحاً غضبة المستشار الهضيبي تجاهه والآثار التي ترتبت عليها، وهنا قال الدكتور توفيق الشاوي: رشد أي تنظيم أو جماعة أو مجتمع إنما يُستمد من عدة قيم هي الحرية والشورى والعدالة والمساواة واقرأ إن أردت ما كتبه أخي الدكتور سليم العوا عن هذه القيم في كتابه القيم في النظام السياسي للدولة

الإسلامية، وليس عندي شك أن قياس المستشار هنا قياساً فاسداً وقياسك هو الأصح وأنا ارى أن جماعة الإخوان تفقد بعض رشدها حين تضرب صفحاً عن الشورى والمساواة وقد عرفت تفصيلات الخلاف الذي شجر بينهم وبين مجموعة حزب الوسط وقد أفزعني رد فعل الجماعة غير المبرر.. جلس معي هنا أبو العلا ماضي ومعه مجموعة من إخوانه وقد وجدت فيهم نجابة وعمقاً ومن الخطأ أن تتسرب هذه الكفاءات من الجماعة.. للأسف جماعة الإخوان التي أحببناها تفقد رشدها شيئاً فشيئاً.
كانت هذه الكلمات غريبة على أذني فلأول مرة أسمع نقداً للجماعة من رجل له قيمته الفكرية والتاريخية في الجماعة وفي العمل الإسلامي، وحين قلت له: إن الإخوان حركة ربانية وأن الله سيحميها.. قال بهدوء: الإسلام دين رباني ولكن الأفراد بشر يصيبون ويخطئون.. الجماعة قد تزول ويخبو أثرها إن هي خالفت السنن الكونية.. ليس معنى أنها ترفع شعارات إسلامية أنها تكون قد حصلت على قداسة.. جماعة الإخوان ليست مقدسة.
وإذ شعرت أن الدكتور ظهر عليه الإرهاق قمنا بتوديعه وانصرفنا وعندما كنا في السيارة قلت لأحمد: هذا كلام لم نسمعه من أحد من الإخوان من قبل وهو يستأهل المناقشة.. فقال أحمد: والله لقد صدق الرجل يبدو أن جماعة الإخوان تفقد رشدها شيئاً فشيئاً ويبدو أننا سنرى أياماً حالكة.. المهم أن تنتهي المحاكمات العسكرية على خير.. هل ترى أنها ستنتهي على خير؟ قلت له: يبدو أننا ننتظر مفاجأة)).
وحين أمسكت الكراسة لأضعها في الخزانة تذكرت المفاجآت التي توالت علينا حينها.









الفصل الخامس
وراء الأكمة

"هناك من لا يستطيع أن يكون إلا نفسه، يمارس قناعاته حتى ولو خاصم من أجلها الدنيا، وهناك من يستطيع أن يكون غير نفسه يمارس طموحاته حتى ولو صادق من أجلها الشيطان، وكلاهما ممقوت ومرضي عنه في آنٍ واحد، فالأول ممقوت من الناس ومرضي عنه من الحق والثاني ممقوت من الحق ومرضي عنه من الناس".
انتهت المرافعات في القضية العسكرية للنقابيين، وقدم كل واحد من المحامين ما في جعبته من الأسانيد والدفوع القانونية، إلا أن وجوه المتهمين التي رسم القلق تجاعيده عليها كانت تشي بأن الأحكام ستصدر في غير صالحهم، ورغم الوعود الكثيرة التي قطعها المحامي الكبير رجائي عطية على نفسه مؤكداً أن مختار نوح ومعه خالد بدوي وثلة أخرى من المتهمين سيحصلون بالتأكيد على البراءة وأن باقي الأحكام ستكون مخففة لا ضير منها غلا أن أحداً لم يصدقه! فقد أيقنوا جميعاً أن الأستاذ رجائي فشل في الوصول إلى قرار سياسي بهذا الشأن وأنه إنما يمد حبل الرجاء طمعاً في استمرار مؤازرة الإخوان له في المعركة الانتخابية، كانت التوقعات التي خرجت من داخل السجن من قيادات الإخوان المحبوسين تؤكد أن الأحكام ستتراوح بين ثلاث وخمس سنوات وأن هناك من سيحصل على البراءة وقد أجمعوا على أن أصحاب البراءة هم إبراهيم الرشيدي ومحمد سعد عليوة ومن الممكن أن يضاف إليهم أحمد محمود حسن وأحمد أبو الأنوار، كانت تلك التوقعات سببها أن هؤلاء ليست لهم أهمية تنظيمية ولم يكن لهم تأثير حركي ولذلك لن يكون هناك أي أثر إذا ما حصلوا على البراءة فضلاً عن أن هذه القضايا لابد أن يحصل بعض المتهمين فيها على البراءة ولم يكن هناك غير هؤلاء ليتم إطلاق سراحهم.
وفي محاولة مني لاستقصاء ما يمكن أن يتساقط من أخبار ذهبت ومعي أحمد ربيع وإبراهيم بكري إلى مكتب الأستاذ رجائي عطية.
نستمطر منه الأخبار ونستشرف وجهه لعلنا نعرف من خلال قراءة الوجوه ما تخفي الصدور، إلا أن الإحباط كان بادياً على قسمات وجه المحامي الكبير.. وببراعته المعهودة أخفى إحباطه ببضع كلمات مبتسمات

مبتسرات ووضع على وجهه ستارة الاطمئنان التي أظهرت أكثر مما أخفت، وعندما خرجنا من اللقاء استقبلتنا عاصفة ترابية من عواصف خريف القاهرة الذي كان لا يزال يافعاً يبسط سيطرته ونفوذه على السماء والأرض فيحيلهما إلى كتلة رمادية جرداء، ويبدو أن العاصفة لم تهب من الشمال أو الشرق أو الجنوب إنما هبت من أفئدتنا وخرجت من مشاعرنا الثائرة الملتهبة بعد أن وقع في روعنا أن الريح ستأتي بما لا يسر السفن وأن وراء الأكمة ما وراءها. وتحددت جلسة النطق بالحكم وهناك في منطقة الهايكستب حيث الصحراء القاحلة وحيث مقر المحاكمة تقابلت منذ الصباح الباكر مع بعض الأهالي الذين تكبدوا مشقة الطريق خلال أشهر عديدة وحان الوقت الذي تصوروا فيه أنهم سيقطفون ثمار مشقتهم، لا ريب أن الألم فتت كبدي وشق قلبي إذ وجدت بعض زوجات المتهمين يتحدثن عن أن بناتهن الصغار قاموا بتعليق الزينة في بيوتهن ونثر الورود انتظاراً لخروج بعض من تسربت الأخبار بحتمية حصوله على البراءة، وأيقنت أن الإنسان يظل دائماً متعلقاً بحبل الأمل مشدوداً إلى واحة الرجاء لا يحيدعنها قيد أنملة حتى أنه ليصنع من أمله قصراً مشيداً شامخاً فإذا طلعت الحقيقة إذا بالأمل سراب وإذا بالرجاء حسرة وإذا بالقصر تذروه رياح الواقع، ولكن الواحد منا لا ينى يمسك حبل الأمل من جديد ويتعلق بأهداب الرجاء ويسكن في قصر التمني إذ لولا الأمل لسكن الإنسان حتماً في باطن الأرض وهجر سطحها.
خرج عم عيد كاتب الجلسة مصطنعاً كسوف البال ليخبرني أن المحكمة أرجأت النطق بالحكم لجلسة أخرى هي يوم التاسع عشر من نوفمبر وعندما أخبرت الأهالي والمحامين الموجودين بالتاريخ حتى انصرف الجميع وهم يمسكون بيد خيط الترقب والقلق إلا أنهم في ذات الوقت يقبضون باليد الأخرى على حبل الرجاء، وسمعت الزوجات وهن يتحدثن عن إصرارهن على ترك الزينة والورود في أماكنها في بيوتهن إلى أن يحين الموعد الجديد للحكم.
* * *
كان عام 2000 الميلادي قد استعد لمغادرة مداره حيث سيذهب إلى غير رجعة ولم يكن قد تبقى منه إلا عشرة أيام من نوفمبر وديسمبر بأكمله، أما العاما لهجري 1421 فقد كان يسعى حثيثاً للوصول إلى رمضان ولم يكن قد أدركه بعد، حينذاك أصدرت المحكمة العسكرية أحكامها التي كانت صدمة

لكثيرين رغم أنها كانت متوقعة.
امتنعت في هذا اليوم عن الذهاب للمحكمة العسكرية فقد كنت موقناً بصدور أحكام عقابية وذهبت إلى محكمة مصر الجديدة وقبيل الظهر هاتفني عبد المنعم عبد المقصود ليخبرني أن الأحكام صدرت في معظمها بالإدانة وأن ثلاث سنوات من الحبس شداد غلاظ كانت من نصيب مختار نوح وخالد بدوي ورافقهم في الثلاث سنوات كل من الدكتور محمد بشر ومدحت الحداد وعبد الله زين العابدين وهشام الصولي وسيد هيكل وأحمد شوقي عماشة وأحمد عبد الرحيم وعاطف السمري وإبراهيم السيد حسين وعبده البردويل أما إبراهيم الرشيدي ومعه أربعة هم أحمد محمود حسن وأحمد أبو الأنوار ومحمد سعد عليوة وعلي عبد الرحيم فقد نالوا البراءة... وأن هناك من طالته خمس سنوات هم الدكتور محمد بديع وسعد زغلول العشماوي وأحمد الحلواني، وسرعان ما توالت على هاتفي المحادثات التليفونية من إخوان مدينة نصر أو غيرها من المناطق ومن أهالي المتهمين الذين حالت ظروفهم بينهم وبين الذهاب للمحكمة لمعرفة تفصيلات الأحكام وكان ما يثير العجب أن الكل كان يستقبل الحكم وهو غير مصدق... كأنما صدّقت الأفئدة أن الكل سيخرج من هذه المحاكمة بلا إدانة، وكان ظنهم أنه إذا حدث وكانت هناك أحكام بالإدانة فإنها لن تتجاوز العام بما يعني خروج المتهمين من محبسهم لأنهم قضوا بالفعل في السجن عاماً وازدادوا شهراً.
استقبلت الحكم بفتور ظاهري إلا أنني عقدت العزم على تغيير الخريطة الانتخابية لنقابة المحامين.
مباحث أمن الدعوة
استقبلنا بدايات عام 2001 وكانت زياراتي للمحبوسين من الإخوان قد تباعدت وأصبحت تقريباً مرة أو مرتين في الشهر، فما يتاح للمحبوس احتياطياً قد لا يتاح للصادر ضده الحكم العقابي وإذا كان من حق المحامي أن يزور موكله أثناء المحاكمة بشكل دوري مستمر لإطلاعه على خطة الدفاع ومناقشته في تفصيلاتها إلا أن هذا الحق يتبخر فور صدور الحكم وتصبح زيارة المحامي لموكله خاضعة للوائح تكبح جماح هذه الزيارات، فبدت الأحوال داخل السجن- مع قلة الزيارات التي كانت تبعث قدراً من الحركة والحيوية- وكان قاطنيها هم فريق من العابدين داخل صومعة هادئة ساكنة

انقطعت علاقاتهم الدنيوية بمن هم خارج الصومعة.
أما خارج السجن فقد بدت الصورة مختلفة تمام الاختلاف فقد كان الكل يجري على قدم وساق في سباق انتخابات نقابة المحامين وكأننا في ماراثون لا ينتهي أو في مضمار خيل يقطع أنفاس المتسابقين، لم يكن المحامون وحدهم منشغلين بالانتخابات ولكن مصر كلها كانت تترقب وتنتظر المولود الجديد حيث كان في ظن البعض أن المخاض سيسفر عن مجلس قومي يبتعد فيه الإخوان عن سدة المجلس إلا أن البعض الآخر كان على يقين من أن قطار الإخوان ما زال يسير بقوة الدفع السابقة وأنه سينجح في الانتخابات لا محالة، إلا أن الكتهنات كلها تقريباً بخصوص منصب النقيب كانت تصب في مصلحة رجائي عطية، فها هو ذا المحامي الكبير يحظى بتأييد الإخوان المطلق رغم صدور أحكام بالإدانة في قضية النقابيين، كما أنه في ذات الوقت يحظى بتأييد الحكومة التي دفعته إلى هذه الانتخابات أو بالأحرى وافقته على فكرة خوضها، وفوق هذا وذاك فإنه حصدتأييداً واسعاً من العديد من المحامين من شتى الفصائل والتوجهات خلال جولاته الانتخابية، وكاد قمره أن يكتمل يوم الانتخابات، وفي الناحية الأخرى كان سامح عاشور يحاول لاهثاً أن يلحق برجائي عطية ويقترب من موكبه إلا أن المعادلة بدت شديدة الصعوبة رغم أن هناك دائرة من دوائر الحكم راهنت على الفتى عاشور ورأت أنه من الممكن أن يقوم بلجم حصان الإخوان في النقابة بسبب العداء التاريخي بينهما في حين أن رجائي لا يحمل هذا التاريخ من العداء فضلاً عن أنه كان محاميهم الأثير في قضية النقابيين وهناك تخوف إن نجح أن يضطر إلى سداد فاتورة نجاحه للإخوان مما يمكنهم من أروقة النقابة ويساعدهم على السيطرة على قرارها.
في خضم تلك الصورة المشحونة بالمنافسة الضارية المفعمة بالمشاعر المتناقضة حدثني تليفونياً عصام سلطان المحامي الذي كان في يوم من الأيام أحد قيادات الإخوان ثم شارك في ثورة فكرية وحركية على قيادات الإخوان ومنهجهم الحركي وأسهم مساهمة مؤثرة في توطيد دعائم حزب الوسط في المجتمع السياسي ولذلك نال نقمة الإخوان إذ يكفي أنه يمثل عنصراً انشقاقياً ومشروعاً فكرياً منافساً لحركة الإخوان ومزاحماً لها في وسطيتها.

استفهم مني عصام في المحادثة التليفونية عن إمكانية دعم سامح عاشور في انتخابات نقابة المحامين ضد رجائي عطية بحسب أن رجائي تنكب عنوعده الذي قطعه على نفسه من قبل، وبلا تردد وافقت على هذا الطلب وبعد دقائق معدودات عاود سلطان الاتصال حيث كان قد ضرب موعداً مع سامح عاشور في نفس اليوم في جروبي عدلي على أن يكون اللقاء في تمام الساعة العاشرة ليلاً، كانت الميزة التي تميز جروبي عدلي أنه بدءاً من الساعة العاشرة ليلاً يكون قليل الرواد خاصةً وأننا في فصل الشتاء مما يعطي لهذا اللقاء قدراً من السرية والخصوصية.
وفي الموعد المضروب سبقنا عصام سلطان إلى المكان أما أنا فقد ذهبت بعده بهنيهة وكان في رفقتي عاطف عواد الذي كان ما زال ملتحماً بالإخوان لم تنفصم عراه عنهم بعد رغم وسطيته، وخالد شقير الذي كان ما زال في قلب الإخوان عضواً عاملاً ومسئولاً عن شُعبة من شُعب مصر الجديدة، أما سامح عاشور فقد حضر بعدنا مباشرةً ومعه المحامي الناصري البورسعيدي ياسر حسن والذي كان مرشحاً للعضوية في هذه الانتخابات، والحق أن ياسر حسن كان هو كما علمت فيما بعد فاتحة الاتفاق إذ كان زميلاً لعصام سلطان في الجامعة وعضواً معه في اتحاد الطلاب، وقد سمحت أواصر الصداقة فيما بينهما أن يتحدثا سوياً بشأن الانتخابات المرتقبة وتطور النقاش فيما بينهما حتى قام ياسر حسن بالتنسيق بين عصام سلطان وسامح عاشور وكان من ناتج هذا التنسيق هذا اللقاء الذي ترتب عليه الانقلاب الكبير، ذلك الانقلاب الذي دخل سامح بمقتضاه إلى التاريخ بعدأن كاد يخرج من صفحات الواقع النقابي والسياسي.
استمرت الجلسة ساعة من الزمن وقد كنت حريصاً غاية الحرص بعد اللقاء على تدوين أحداثه وتفصيلاته ودقائقه في مفكرتي الخاصة حتى لا تقع أي شاردة من شوارده من ذاكرتي المثقلة بالأحداث أو من ذاكرة الحاضرين، وفي اللقاء عرض سامح عاشور علينا عروضاً كثيرة لكي نوافق على دعمه، وكان من عروضه أن يجعلنا بعد نجاحه عضواً بالأمانة العامة لاتحاد المحامين العرب ويجعل عاطف عواد المسئول الفعلي عن لجنة الشباب بالنقابة!! وعندما انهالت عروض سامح عاشور بدأب ذلك الغريق الذي وجد أمامه فجأة طوق نجاة بعد أن أيقن بالهلاك قلت له بوضوح: دعك يا عزيزي من

تلك الهدايا فما أنت بابا نويل وما نحن زمرة من الأطفال كل ما في الأمر أننا قد نوافق على دعمك دون مساومة أو مقايضة ولكننا نحتاج بعض الإيضاحات سنطرحها عليك وستجيب عليها فإن راقتنا إيضاحاتك سندعمك وإلا فلكل منا طريقه، وكان من البديهي أن يسألني عاشور عن كنه تلك الإيضاحات ولكنني أرجأته إلى جلسة أخرى حددت له موعدها ومكانها.
وكان اللقاء الثاني بعد ثلاث ليال في مكتب خالد شقير بمصر الجديدة، وقد غاب عن هذا اللقاء صديق مقرب مني ومقرب من الإخوان وهو عبد السلام دياب دون سبب- رغم أنه كان أحد الذين قاموا بالتنسيق بيني وبين سامح عاشور- إلا أنه ضم بعض شخصيات من الإخوان الذين كانوا من مختار نوح في البدايات وكانوا من أكثر الشخصيات تأثيراً في استمرار مسيرة الإخوان بنقابة المحامين وهم أحمد ربيع غزالي، ومصطفى زهران صاحب الصيت الذائع في العمل النقابي وأحد أشهر الشخصيات النقابية الإخوانية، فضلاً عن خالد شقير صاحب المكتب وعاطف عواد وعصام سلطان الإخواني السابق وأحد مؤسسي حزب الوسط، ومن الجيل الذي جاء عقب هؤلاء ضم اللقاء محمد عبد الفتاح المحامي الذي ينتمي إلى إخوان منطقة الشرابية وكان من القلائل في الإخوان ممن يحفظون القرآن الكريم وكانت له جلسات يقوم فيها بتدريس أحكام تلاوة القرآن للإخوان وكان فوق هذا خطيباً لمساجد عديدة يسيطر عليها الإخوان الأمر الذي أعطى له نفوذاً نفسياً ودينياً على قطاعات عديدة من المحامين الإخوان، وكان في اللقاء أيضاً أحمد حسن جمعة المحامي الإخواني والذي ينتمي إلى منطقة مصر الجديدة وهو شخصية حركية وفاعلة ومن الشخصيات صاحبة التأثير في أوساط شباب الإخوان إلا أنه ترك الإخوان بعد هذا اللقاء بعامين إلى غير رجعة، وجلس مستمعاً في اللقاء أحد المحامين العاملين في مكتب خالد شقير اسمه عليش وقد كان ينتمي بشكل هامشي للإخوان فقد كانت رتبته الإخوانية هي "مؤيد"، وضم اللقاء أيضاً ثلاثة من شباب الإخوان من المحامين الذين كانوا يحملون في نفوسهم وقلوبهم اعتراضات جمة على المنهج السياسي لجماعة الإخوان وموقفهم السلبي من القضية العسكرية التي ذهب نوح وآخرون ضحيتها، وكانت كلماتهم التي صدحوا بها في وجه بعض قيادات الإخوان وقتها هي: هل ذهب مختار نوح ومن معه ضحية المحكمة العسكرية

أم أنهم ذهبوا جميعهم ضحية الإخوان؟! ولأن لا شيء يبقى على حاله فقد عاد هؤلا الشباب بعد ذلك إلى حضن الجماعة بعد أن تم تشديد النكير عليهم وتضييق الخناق على حركتهم... وكل نفس لها وسعها.
ظل اللقاء مع سامح عاشور منعقداً لثلاث ساعات وكانت بدايته بضع كلمات قلتها عن سبب اللقاء وأهدافه واعتراضات البعض منا على شخص سامح عاشور وتاريخه وريبتنا من وعوده التي يوزعها علينا وعلى آخرين وشكوكنا حول قدراته النقابية، ثم تركت الحديث للحاضرين فانهال عليه مصطفى زهران وأحمد ربيع بوابل من الاتهامات منها أنه كان في تاريخه كله معادياً للإخوان وحجر عثرة في طريقها، وأبدى ربيع وزهران خشيتهما من أن يدير عاشور النقابة بعقلية ديكتاتور ويد مستبد- كما قال أحمد ربيع- ودافع عاشور عن نفسه ورفض اتهامه بمعاداة الإخوان بصورة مطلقة وإن لم ينكر اختلافه مع فريق منهم إلا أنه أبدى استعداده للتعاون المثمر مع أي فصيل مستنير يتبنى خطاباً عاقلاً ويقبل التعاون مع الآخر وأنه من أجل هذا يمند يده لفريق نوح الذي ذكر أنه أعقل الإسلاميين قاطبة، أما عن قدراته النقابية فقال وهو يتحسس الكلمات: يجب عليكم أن تمنحوني الفرصة لتحكموا على أدائي أولاً، ثم دخل عاشور سريعاً إلى منطقة الوعود وكاد أن يقسم أنه إن نجح نقيباً فسيعطي المساحة الأكبر في لجنة الشريعة الإسلامية لمصطفى زهران وأحمد ربيع وسيوافقهما على كل المشروعات النقابية التي سيقدمونها سواء كانت معسكرات أو رحلات أو ندوات، وحاول في عباراته أن يكون ليناً ناعماً كألين ما تكون الليونة إلا أن زهران وأحمد ربيع ظلا على هجومهما الضاري رغم كثرة وعود عاشور وتنوعها، والحق أنها كانت مواجهة حادة أخرج فيها كل واحد من فريق الإخوان ما في قلبه إلا أن سامح راوغ وناور ابتغاء كسب تأييد هذا الفريق، وكان عصام سلطان وعاطف عواد يتدخلان في كثير من الأحايين لترطيب الأجواء المشتعلة، وانتهى الجزء الأول من اللقاء على خير حيث بدأ فريقنا- وفقاً لاتفاق مسبق بيننا- يطرح عبارات مطمئنة لسامح، وهنا استطاع الرجل أن يلتقط أنفاسه بهدوء، وكان الجزء الثاني من اللقاء يدور حول كيفية دعم عاشور، وليس من شك أن الصعوبات الجمة التي كانت تواجه المساجين من الإخوان في محبسهم دفعتني إلى استثمار رغبة عاشور في النجاح كنقيب في تذليل تلك الصعوبات

عن طريق علاقات عاشور المتعددة فكان أن تحدثت عن ضرورة أن يقوم عاشور بدعم مختار نوح في سجنه بكافة الوسائل وطلبت منه أن يستخدم صلته بالأمن كي يتم توفير الراحة لنوح والذين معه في السجن، ثم أهمية أن يتم إظهار هذا الدعم بعد ذلك في كافة الأجهزة الإعلامية ونشرها على نطاق واسع في أوساط المحامين، وكان مما قلته وقتها: إن هذا التصرف من عاشور سيساعدنا جميعاً على اجتلاب الكثير من الأصوات الإخوانية وتوجيهها ناحيتك يا أستاذ سامح فضلاً عن أنه سيساعدنا على جر قاطرة المتعاطفين مع الإخوان والمتحمسين لنوح وتاريخه النقابي إلى اتجاهك وبغير هذا لن نستطيع أن نحرك كتلة أصوات الإخوان الجليدية ولو بمقدار خردلة، كما أننا لن نستطيع اجتذاب أصوات المتعاطفين التي من شأنها وحدها أن تغير نتيجة الانتخابات حتماً إلا بهذه الوسيلة.
لمعت عين عاشور من الفرحة ووعد بأن يقدم لنوح والآخرين في محبسهم ما تتحدث به الركبان، وانتهى اللقاء بعد أن اتفقنا على التواصل عبر الهاتف وأن ما لا يجب الإفصاح عنه عن طريق الهاتف سيكون توصيله عن طريق عبد السلام دياب الغائب عن اللقاء بغير عذر ودون سبب ظاهري رغم أنني علمت وقت اللقاء أن دياب كان مع عاشور في لقاء ما قبل حضوره إلينا ثم اعتذر له عن الحضور معه!!
ورغم أن اللقاء انتهى وفقاً لما نصبو إليه إلا أن قلبي لم يكن مستريحاً، فقد أحسست أن هناك شيئاً ما يدور في الخفاء لا أعلمه ولا أدري ما هو، لا شك أن غياب عبد السلام دياب عن اللقاء أصابني بالدهشة ذلك أنه كان أكبر المتحمسين للاتفاق مع عاشور وقد كان غيابه مثيراً للحنق والغيظ حتى لعاشور نفسه، كما أنه لم يكن في الترتيب أن يحضر معنا الأخ عليش المحامي الإخواني الذي يعمل بمكتب شقير وكان أثناء جلوسه يتحسس بين الفينة والفينة جيوب الجاكيت الذي يرتديه وكأنه يضع فيه شيئاً ثميناً.. ورغم أنني طردت الهواجس التي انتابتني إلا أن هواجسي لم تتوقع أبداً أن يكون اللقاء بكامله مسجلاً بالصوت، لم يدر بخلدي أن عليش كان جاسوساً إخوانياً رصد اللقاء وسجله ثم ذهب بالتسجيل إلى محمد طوسون، وكأن هناك في الإخوان من صنع جهازاً أمنياً يضارع مباحث أمن الدولة هو مباحث أمن الدعوة.

جستابو الإخوان
وقر في قلبي أن أخفي خبر تأييد مجموعتنا لعاشور عن مختار نوح ومجموعة الإخوة المحبوسين معه، فمن ناحية خشيت أن يقوم نوح بالتأثير على من هم معي ليلزمهم أدبياً بعكس اتجاهي، ومن ناحية أخرى خشيت مغبة هذا التأييد على مختار نوح فيسحب منه رصيده المتبقي داخل الإخوان، ونقلت لأحمد ربيع ما وقر في قلبي فصدّقني على رأيي واتفقنا معاً على كتم خبر هذا المشروع عن جميع الإخوة المسجونين، ولكن ما تم كتمه عن من هم في داخل السجون سرعان ما تسرب إلى من هم في قيادات التنظيم.
فوجئت عصر اليوم التالي للقاء سامح بأحد الإخوة من المحامين من منطقة شرق القاهرة يحضر إليّ في مكتبي يطلبني حثيثاً وكأن أنفاسه تكاد تتقطع وأخذ يلومني ويعاتبني عن ذلك الذي وصل غليهم فوقع عليهم- كما قال- وقع الصاعقة، واستطرد حزيناً بأن هناك من قص أثر لقائي بسامح وتنصت عليه وسجل – عن طريق جهاز التسجيل- تفصيلات كل شاردة وواردة فيه وحملها حملاً إلى أذن محمد طوسون الذي يزمع توصيلها إلى قيادات الإخوان إلا إذا ذهبت إليه مقدماً فروض الولاء والطاعة، وكان مما قاله أن ما حدث مني يدخل في باب خيانة القرار الإخواني وأن من قام بالتجسس قام بعمل مجيد للدفاع عن الدعوة ضد أعداء الدعوة إذ أن عملنا يصنف دعوياً بأنه إعلان بالعداء لا يقبل إلا الإقرار به والتطهر من خطاياه بالتوبة عند القيادات الإخوانية، وأضاف منهياً الحوار من جانبه أن ذلك الجاسوس قصاص الأثر – الذي رفض ذكر اسمه لي- فتح هاتفه المحمول في خط ساخن مع طوسون ليسمع ذلك الأخير في بث مباشر كل جوانب الحوار وأن طوسون هاله ما سمعه وأنه من هول هذا الاتفاق عقد العزم على أمور يصعب توقع نتائجها لأن فريقنا- كما قال الأخ- بما فعله قد شق عصا الطاعة، ورغم أن ما قاله لي ذلك الأخ بعث في نفسي مساحة رمادية من الحزن المغلف بالغضب من أولئك الذين يستحلون الحرام ويتجسسون ويرتكبون المعاصي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً بل وفي ظنهم أنهم يتقربون لله بمعصيتهم هذه التي يرونها كأنها أم الطاعات لأنها تحافظ على كيان التنظيم!! الذي أصبح عندهم مساوياً للإسلام وأكاد أسمعهم وهم يدندنون ليل نهار "أن المحافظة على التنظيم محافظة الإسلام لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

لم أرد على الأخ الذي كان حيرصاً في ظاهره على أن يعود بي إلى حظيرة الطاعة، ولم أعقب إلا بقولي (جزاك الله خيراً) ثم ختمتُ بإيماءة خفيفة وابتسامة حانقة انطلقت من حشاشات مشاعري التي أنبأتني بأن ما يحدث من الإخوان هو علامة فارقة في تاريخهم فقد انقلبوا من جماعة دعوية إلى مؤسسة أمنية تضارع الجستابو وأن هذا الانقلاب انطلق من قلب الجماعة فقلبهأ، وما سُمي القلب قلباً إلا لأنه يتقلب.
وعلى مدار الأيام السابقة على الانتخابات في مرحلتها الأولى وجدت أمراً عجباً، فقد أخذ عدد من الإخوان المحامين ممن لم تكن لهم سابق علاقة قوية بـ"محمد طوسون والذين معه" يترددون على مكتبي بشكل مستمر يطلبون مني النصح ويسألونني عن أشياء متعلقة بالانتخابات ويجادلونني في حق الإخوان في خوض الانتخابات مثلهم مثل أي فصيل سياسي، وكانت المناقشات تدور بيننا لساعات وأذكر أن هذه التجربة أهدت لي بعض الأفكار التي لم تكن قد تبلورت في صورتها النهائية بعد ومن هذه الأفكار قلت لأحد الإخوة في زيارة من تلكم الزيارات حيث جاء يسألني النصيحة: لا يجوز لجماعة دعوية مثل جماعة الإخوان أن تقدم العمل السياسي التنافسي على العمل الدعوي والعمل الإصلاحي إذ أن العمل السياسي التنافسي يتناقض مع تركيبة الجماعة الدعوية ويتضاد معها وقد ظهر في العقود الأخيرة أن الجماعة تقدم العمل السياسي التنافسي على العمل الدعوي وتهتم به أيما اهتمام.
فقال وهو يتصنع عدم الفهم: كيف ذلك أنا أرى أننا نقدم الدعوة على أي شيء آخر.
قاطعته قائلاً: صبراً يا أخي.. دلائل ما أقول كثيرة، أما الاهتمام بالعمل السياسي التنافسي على حساب العمل الدعوي، فقد أصبح الهم الأكبر الذي يؤرق الفاهمين داخل الجماعة.
قال الأخ: ولكن حسن البنا مارس السياسة.
قلت بأناة: إذا كان حسن البنا مارس العمل السياسي وخاض الانتخابات البرلمانية مرتين في الأربعينيات من القرن العشرين، إلا أنه أدرك مغبة تعريض الإخوان للعمل السياسي، وحاول قدر جهده أن يعيد الجماعة إلى حظيرة "الدعوة" الخالصة ولكن الجماعة لم تترك من وقتها فكرة مزاولة العمل

السياسي فاصطدموا عن طريق مرشدهم الثاني حسن الهضيبي برجال الثورة واعترفت الكثير من كتابات الإخوان بخطأ الهضيبي الأب في إدجارة الأزمة مع رجال الثورة، ثم إذ بحركة الإخوان في عهدها الجديد وخاصة من بداية عهد حامد أبو النصر تتحول إلى حزب سياسي تنافسي يحمل راية المواجهة الانتخابية ويعادي كل الفصائل والأحزاب السياسية القائمة.
قال الأخ وكأنه يناقش: ولكن كيف نترك الانتخابات؟ المواجهة الانتخابية في حد ذاتها دعوة.
قلت محاولاً إنهاء الحوار: فكرة المواجهة الانتخابية وإن كانت تصلح للأحزاب السياسية، إلا أن الإخوان كحركة "دعوة" "إصلاحية" رفضت أن تتحول إلى "حزب" في الوقت الذي صممت على "ممارسات الحزب" للسياسة فوقعت في تناقض واضح وهو التصميم على الثبات على شكل الجماعة ورفض شكل احلزب، إلا أنها سعت إلى الممارسة الحزبية، بما سيتتبعه هذا الأمر من خوض الانتخابات في جميع المجالات ومزاحمة الحكومات القائمة والأحزاب المختلفة مما يؤدي إلى تأليب هذه الحكومات والأحزاب على الإخوان، والإشكالية الكبرى التي تتفرع من هذا الخلط هو أننا بحسباننا أصحاب دعوة وأصحاب حركة إصلاحية نسعى دائماً إلى دعوة الناس للمنهج الوسطي للإسلام وإلى كسب ود الجماهير وإلى مخاطبة النخب السياسية والفكرية بما يقربهم من فكرة شمولية الإسلام ثم إذا بنا في الوقت نفسه نسعى إلى المنافسة الانتخابية معهم- بما تخلقه من عداوات- وهو ما يترتب عليه استنفار هذه القوى ضد الدعوة والحركة الإصلاحية، أنا لا أرفض خوض الإخوان الانتخابات بصفة مطلقة ولكن لماذا خوضها بأغلبية؟ وما الذي سنستفيده من تلك الأغلبية؟ ألا يكفي أن نخوض انتخابات نقابة المحامين مثلاً أو غيرها من الهيئات بعدد محدود لا يزيد على أربعة أفراد فنحقق بذلك معادلة الوجود بالمجلس وكسب ود الفئات السياسية أو النقابية المتنافسة ونبتعد نحن بذلك عن منافسة من ندعوهم؟
وهنا أبدى الأخ الزائر سخطه ورفضه التام لفكرة خوض الإخوان للانتخابات، فقلت له معلقاً على سخطه وحنقه:
من يريد خوض الانتخابات من الإخوان بأغلبية كأغلبية الإخوان حالياً في نقابة المحامين إما أنه جاهل لا يعلم أو أنه أحمق لا يفهم وفي كلتا الحالتين

فإنه لا يدرك مغبة عمله على الدعوة.
أما أنا فقد كنت سليم الطوية خالي البال عندما كنت أبدي هذه الأقوال، وكيف لا أكونهما وأنا أتعامل مع من يرفعون شعار (الرسول قدوتنا)؟ كنت لا أدرك وقتها مغبة أفكاري التي أطرحها للإخوان الذين كانوا يسألونني النصيحة فقد كانت هذه اللقاءات يتم تسجيلها وحملها لمحمد طوسون وكان طوسون بدوره يقدمها للمرشد ليوهمه أنني أقود حركة تحريضية ضد قائمة الإخوان في الانتخابات.
هبوب المشاكل
بدأت البشائر عندما اتصل بي الأستاذ فلاح سرور أحد القيادات الكبيرة للإخوان في منطقة مدينة نصر وطلب على غير عادته مقابلتي لأمر عاجل وبشكل فوري لأمر شديد الأهمية وبعد أن أغلقت الهاتف حدثتني نفسي أن ريح الجنوب آن لها أن تهب وتنذر بعواصفها العاتية. وحدث ما توقعته فقد أخبرني الأستاذ فلاح أن هناك شكوى مقدمة ضدي للمرشد الحاج مصطفى مشهور من محمد طوسون وأن الشكوى مؤيدة بالأدلة والمستندات والتسجيلات الصوتية.. واستطرد أن موضوع الشكوى هو تحريضي ضد قائمة الإخوان التي ارتضتها القيادات بالإضافة إلى اتفاقي مع سامح عاشور رغم أن تاريخ عاشور معادٍ للإخوان وأن هذا الاتفاق ينقض اتفاق الإخوان مع رجائي عطية وأن السمع والطاعة مقدمتان على ما سواهما لأن قيمة الفرد تكمن – وفقاً لما قال- في قدرته على السمع وطاعة القيادات.
قلت للأستاذ فلاح بعبارات مقتضبة مبرراتي التي دفعتني للاتفاق مع سامح عاشور وأكدت أن مسألة الاختيار يجب أن تخضع للقواعد الشرعية وأنني إذا رأيت أن اختيارات المحامين لابد من نقضها فليس هناك من قوة تحول بيني وبين هذا، وأكدت له أنني لم أحرض أحداً ضد قائمة الإخوان ولكنني فقط كنت أتحدث عن مبدأ خوض الانتخابات نفسه وجدواه وهذا من حقي، فلا سلطان لأحد على ما في قلبي، ورغم كلماتي الواضحة إلا أن الأستاذ فلاح أخذ يلح عليّ- بطيبة الأخ الذي يريد أن يبعدني عن المتاعب- في ترك الأمر كله بل ترك العمل مع المحامين والتفرغ للمنطقة لأن العمل مع المحامين في تقديره يجعل في القلب قسوة وقال إن الإخوان في حقيقة الأمر لا يعتبرون المحامين من الإخوة مهما كانت درجة الأخ منهم لأن المحاماة

تورث صاحبها جدلاً غير محبب ورغبة في الانتصار للرأي، وأنه لذلك يحتاج جهودي الدعوية في منطقة مدينة نصر لنرتقي بالعمل التنظيمي فيها وأنه سيسعى بكل قوته هو وإخوانه إلى وأد الشكوى في مهدها شرط أن أتفرغ له في المنطقة.
لم تترك كلمات الأستاذ فلاح أثراً في نفسي ولو بمقدار حصاة وتركته لأذهب إلى لقاء ببعض المحامين من المتعاطفين مع الإخوان وبعض المنتسبين الجدد للجماعة من إحدى المحافظات وكانت هذه اللقاءات تتم بشكل يومي مع قطاعات متنوعة من المحامين لخلق مساحة رفض في نفوسهم تجاه تأييد الأستاذ رجائي عطية ولتهيئة المناخ لسامح عاشور وكان أنصار موقفي يتزايدون يوماً بعد يوم خاصةً وأن صحيفة صوت الأمة نشرت قبل الانتخابات بأيام خبر قيام عاشور بحل المشاكل التي كانت تواجه مختار نوح والإخوان المسجونين معه في سجن مزرعة طرة والتي لم يستطع الأستاذ رجائي عطية التصدي لها أو حلها هو أو غيره.
وللمرة الثانية أتت ريح الجنوب –بعد تزايد الأنصار- بما لم يرد على بال وبما لم يحدث في تاريخ جماعة الإخوان من قبل.










الفصل السادس
إعلان الأحكام العرفية الإخوانية

"شتان بين من يطلب الحق فيخطئه وبين من يطلب الباطل فيصيبه.. الأول أخطأ والثاني أصاب، ولكن خطأ الأول صواب لأنه اجتهد للحق وصواب الثاني خطأ لأنه انتصر للباطل".
تمت انتخابات المحامين في مرحلتها الأولى وتأجلت أسبوعاً لعدم اكتمال الجمعية العمومية حيث قرر المستشار المشرف على الانتخابات تأجيلها ليوم 24/2/2001، وفي صباح اليوم التالي وجدت من يطرق باب بيتي... كان الطارق هو المهندس أحمد شوشة الذي كان في وقت سابق عضواً معي في أسرتي الإخوانية حينما كان مسئول منطقة مدينة نصر ثم أصبح فيما بعد مسئول قسم التربية داخل التنظيم عن محافظة القاهرة... أثارت زيارة أحمد شوشة لي دون سابق موعد دهشتي إذ كانت صلتي به قد تباعدت منذ فترة ليست بالقريبة خاصةً بعد أن شغلته مسئولياته التنظيمية التي تدرج إليها وصعد سلالمها درجة درجة ولم يعد هناك بالتالي متسع من الوقت للتواصل المباشر بيننا.
كان أحمد شوشة قيادة إخوانية بارعة في العمل التنظيمي ومتطلباته وبيروقراطيته وقد ارتبط بالمهندس خيرت الشاطر ارتباطاً وثيقاً مذ كان طالباً في كلية الهندسة جامعة المنصورة، وقتها كان خيرت الشاطر معيداً بهذه الكلية وكان قد بدأ يخطو إلى الوجهة الإسلامية، وبسبب براعة الشاطر وذكائه وثقافته فقد استطاع اجتذاب قطاع عريض من الطلبة إلى ناحيته وكان شوشة من هؤلاء الطلبة الذين تعلقوا بأهدابه، وتوثقت عرى أحمد شوشة بالإخوان خاصةً أن صلات ما قامت بينه وبين عدد من كبار الإخوان بمحافظة دمياط التي ينتمي إليها حيث ارتبط تنظيمياً بالحاج أسعد زهران مسئول الإخوان بهذه المحافظة التليدة إخوانياً، كما أنه- الحاج أسعد زهران- أحد القيادات التاريخية للجماعة وأحد أكثر المرتبطين تنظيمياً بالحاج مصطفى مشهور، وبعد أن التحق شوشة بالإخوان وسبر غورها أصبح من المرتبطين بالشاطر تنظيمياً خاصةً بعد أن جمعتهم منطقة واحدة هي منطقة مدينة نصر، وبعد أن أ صبح الشاطر ملء السمع والبصر وصاحب قرار داخل الإخوان أصبح أحمد شوة بدوره صاحب مواقع قيادية فيها فأصبح مثلاً مسئول منطقة مدينة نصر ثم مسئول قسم التربية عن محافظة

القاهرة.
أدركت من أول وهلة أن هذه الزيارة التي باغتني بها شوشة وراءها ما وراءها، فقلت في نفسي "وعند جهينة الخبر اليقين".
أخذ المهندس شوشة في حديثه معي يطيل في مقدمات أدركت منها أن هناك مستجدات من شأنها أن تعكر الماء حتماً ولكنني تركته يتحدث بلكنته الدمياطية المحببة دون أن أقاطعه حتى صك أذني بخبره الذي جاء من أجله: صدر قرار من المرشد يا أخي الحبيب بمنعك من الخروج من بيتك حتى تنتهي الانتخابات... وساد الصمت بيننا إذ سلب الذهول عقلي للحظة.. ثم ما لبثت الدهشة أن غلبتني حتى سيطرت على فؤادي ثم انقلبت الدهشة إلى ابتسامة وكادت الابتسامة أن تتحول إلى قهقهة كبيرة ترج حوائط البيت لولا أن غالبت نفسي وتحكمت في انفعالي واعتصمت بالصمت حتى لا تفضحني تلك القهقهات المكتومة، وفي الوقت الذي كنت فيه أغالب ضحكاتي كان المهندس شوشة ينظر إلى وجهي متفرساً عله يرى أثر الخبر الذي ألقاه على سمعي، وبعد فترة من الصمت استطرد المهندس شوشة قائلاً: أعلم يا أخي الحبيب أن هذا القرار ظالم وليس له سابقة في تاريخ الإخوان وأنا وكل إخوانك في مدينة نصر يرفضونه لكننا جميعاً لا نملك شيئاً إزاء هذا القرار ولا نستطيع إلا السمع والطاعة.. ثم أردف وكأنه يبرر القرار: ماذا نفعل في إخوانك من المحامين لقد أوصلوا للحاج مصطفى أنك كنت تحارب قائمة الإخوان، وقالوا له أن هذه الحرب من شأنها أن تؤثر في نجاحهم وأنت تعلم أن الحاج مصطفى مريض وليس في إمكانه أن يتحمل الإلحاح وتحت ضغط بعض الإخوة أصدر هذا القرار... وأكمل قائلاً: كلنا يعلم أن هناك في الإخوان من ارتكب موبقات تنجس البحر المتوسط ومع ذلك لم يصدر ضده مثل هذا القرار، ولكننا نريد هنا في منطقتنا أن نضرب المثل على الالتزام ونثبت لنا جميعاً المثل وستكون قدوتنا في السمع والطاعة وتنفذ هذا القرار خاصةً وأن مدته ستة أيام فقط... وكلنا يا أخي الحبيب يثق في أنك ستساعدنا بحسن طاعتك على أن نرد كيد إخوانك من المحامين.
واستطرد يشجعني على الطاعة: أذكر يا أخي أنني سمعت قولاً من أشياخي في الإخوان ظل ساكناً في فؤادي بل اتخذته دستور حياتي هو....

الأخ بين يدي مرشده كالميت بين يدي مغسله يقلبه كيف يشاء... وليدع الواحد منا رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه.
اختلطت في قلبي مشاعر متنوعة إذ فكرت أن أقول له مالي ومالكم... كيف طاوعني عقلي أن أنضم لجماعة هذا هو تفكير قائدها الأعلى؟!! راودتني نفسي أن أقول له قل لمرشدك أنه حوّل الجماعة إلى تنظيم خاص وأنه آن لي أن أمد قدمي لأترككم تنهلون من عسكريتكم التي قلبتم بها وجه الجماعة.. أفٍ لكم وما تتبعون... إلا أنني طردت كل ما اعتمل في فؤادي حيث حدثتني نفسي قائلة: فلأسايره للنهاية حتى أرى ما في جعبتهم... ثم قلت له بصوت خفيض وأنا أصطنع الهدوء: ولكنني أعمل يا أخي الكريم في المحاماة ولي مكتبي الذي يجب أن أذهب إليه يومياً وعندي العديد من القضايا التي يلزم أن أتابعها وأحضر جلساتها بنفسي وهذه القضايا هي محض مصالح لعامة ناس ارتبطت معهم بعقود والقرآن يحضنا على الوفاء بالعقود فالله سبحانه وتعالى قال لنا في كتابه الكريم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فكيف أنقطع عن هذا وكيف لا أذهب إلى عملي الذي هو مصدر دخلي وقوتي وقوت أولادي فذهابي فقط للمكتب يضمن لي دخلاً مالياً من الاستشارات أعتبره هو الأساس عندي؟ أيعقل هذا!!
احتار المهندس شوشة بطيبته المعهودة في الجواب ولكنه أمسك بالهاتف واتصل بالمهندس ممدوح الحسيني الذي كان وقتها مسئول منطقة مدينة نصر وطلب منه أن يستأذن الحاج مصطفى مشهور في أن أذهب فقط للمكتب ولجلساتي في المحكمة، إلا أن الحاج مصطفى مشهور لم يأذن رغم وجاهة الطلب إذ كان يتصرف وكأنه الحاكم والقائد الأعلى تجداه أحد الجنود الذين خالفوا قواعد العسكرية الصارمة.... وهنا عادت ذاكرتي القهقري عندما كنت أخطو قدماً في سلك الإخوان آناء وجودي بمنطقة الزيتون في النصف الثاني من الثمانينيات عندما تم التحقيق مع الأخ عمر التلاوي- وقد كان وقتها مسئولاً عن إحدى الشعب الإخوانية- لأنه تجرأ وخرج عن أوامر قيادات منطقة شرق القاهرة التي كانت تلزم الجميع بالتصويت للحاج مصطفى مشهور في انتخابات شورى الإخوان!! مع أن فلسفة الانتخابات تقوم على الاختيار الحر لا على التكليف والأمر وإلا فقد التصويت قيمته.. ونظراً لأن الأخ قد صدق أن التصويت يتم بشكل حر فقام بإعطاء صوته لآخر كان يرى

أنه يستحق أكثر من مصطفى مشهور فكانت الطامة الكبرى وتم وقفه لمدة عام وتجريده من درجته الإخوانية.
وتذكرت الأخ فوزي الجزار المحامي رحمه الله الذي كان شخصية إخوانية لها حضورها الطاغي والمؤثر في منطقة إمبابة وكان عضواً بمجلس نقابة المحامين الفرعية بالجيزة.. وحدث أن قامت زوجته في جلسة مع الأخوات بانتقاد تصريح سياسي للحاج مصطفى مشهور فوصل الانتقاد عن طريق الجاسوسات لقيادات الإخوان التي طلبت في أمر صارم تجرد من المشاعر من الأخ فوزي تطليق زوجته التي خرجت عن جادة الصواب وانتقدت الحاج مصطفى في جمع من الأخوات!! وعندما رفض الأخ ما طلبوه قامت الجماعة بفصله وحاربته في رزقه وأمرت كل الإخوان بسحب قضاياهم من مكتبه... (وبعد خمس سنوات مات فوزي الجزار كمداً يتجرع جحود الإخوة... وقد كان هذا الجحود عنده- كما قال لي قبيل وفاته- أشد قسوة عليه من مرض السرطان الذي نخر في جسده... ما زلت أذكره وهو يتجرع الحسرة في نزعه الأخير.. حينها قال لي وهو يغتصب ابتسامة مجهدة: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند... وبعدها بأيام فاضت نفسه).
توالت هذه الذكريات على خاطري أثناء مفاوضات الإخوة مع الحاج مصطفى مشهور... وأخيراً قبل الرجل أن أذهب للمحكمة فقط دون المكتب فقد أقنعوه أن عندي قضايا هامة يستحيل تركها فوافق بشرط أن يرافقني أحد الإخوة في الذهاب للمحكمة والإياب منها، وأذن الحاج أيضاً- رحمه الله- تكرمة منه أن أخرج من بيتي لصلاة الجماعة على أن يكون ذلك بالمسجد القريب من بيتي!!، ومن عجب أنني علمت فيما بعد أن قرار حظر الخروج ومنع التجول كان خلفه اثنان من العقليات الأكاديمية العلمية في الجماعة من المتخصصين في علم الجيولوجيا هما الدكتور محمد حبيب والدكتور رشاد بيومي أعضاء مكتب الإرشاد!! فهل للجيولوجيا وفروعها علاقة بهذا القرار العسكري!! هذا أمر ينبغي أن يخضع لتحليل وتنقيب.
لا شك أن هذا القرار العرفي وفقاً للناظر في تاريخ الجماعة هو أعجب وأغرب القرارات التي صدرت في تاريخ الإخوان، ومن قدر الله أن كان هذا القرار من نصيبي تلقفته كما أتلقف كرة ملتهبة من النار إلا أن هذه الكرة

النارية أكدت لي بما لا يدع مجالا صللشك أن الجماعة انقلبت إلى وجهها الذي كان مستتراً عني وعن كثيرين غيري، كنت قد دخلت الإخوان من أجل نهج دعوي دون أن أحفل ببعض مظاهر تنظيمية تحض على الطاعة إذ ظننت – كما ظن غيري- أن الفهم مقدم على الطاعة وأن الطاعة هي طاعة محبة لا طاعة عسكرة وأن العمل الدعوي يشفع طاعة منزوية في قاع الجماعة، ويكفي أن الدعوة تغلغلت في شرايين الجماعة إذ كان ظني أنها جماعة مدنية.. وأظن أنها كانت كذلك إلى أن سيطر عليها ذلك الفريق الذي قال عنه الدكتور السيد عبد الستار المليجي- القيادي الإخواني البارز- فيما بعد (إنهم مجموعة خطفت الجماعة)، قال عنهم المهندس أبو العلا ماضي (الإخوان طائرة تم خطفها من أفراد التنظيم الخاص).
كان إعلان الحكم العرفي الصادر بمنعي من التجول لمدة ستة أيام داعياً إلى تعقيب وتنويه المفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا في جريدة الأهرام إذ كتب يوم الاثنين الموافق 5/3/2008 وهو يحلل نتيجة انتخابات نقابة المحامين "وقد وقف تيار إسلامي كله بثقله.. وتنظيمه المحكم.. في أوساط المحامين يؤيد الأستاذ رجائي..، وحين تصرف بعض المحامين المنتسبين إليها في الجولة الأولى على غير مقتضى موقفها المعلن.. طُلِب منهم وامتثلوا!! أن يعتزلوا الناس كافة فيما بين جولتي الانتخابات، ويلزموا بيوتهم حتى لا يؤثر سلوكهم في موقف المحامين الآخرين من الجماعة نفسها".
أسرعت إلى الدكتور توفيق الشاوي أستشيره وأبثه لواعج نفسي وأحكي له ما حدث من جماعته أو بالأحرى ما حدث من جماعتنا، وكنت قد ذهبت إليه قبل وبعد انتهاء المحاكمات العسكرية عدة مرات ووجدت منه استنارة فريدة وحكمة با لغة وسعة أفق، إلا أنني انقطعت عنه منذ آخر زيارة لفترة طويلة لم أره فيها ولم أتحدث معه، وعندما تصاعد دخان الأحداث وصدر المنع من التجول تحرقت شوقاً لإخباره بالمستجدات حتى أن سيارتي كانت تستبق الزمن وأنا في الطريق إلى بيته وكأنها مثلي تتحرق شوق له، أنصت الدكتور بعمقه المعهود ثم قال: كاد الهلع أن يصيبني من هول ما سمعت.. يحدث الآن ما تخوفت منه يا بُني.. لقد تم عسكرة الجماعة رغماً عن أنفها.. ثم تمتم قائلاً بصوت مبحبوح: وكأنما لم يكن لدي شك أن الجماعة على يد

الحاج مصطفى ومن هم على شاكلته الفكرية في طريقها إلى العسكرة.. فهكذا نشأ الرجل وعلى هذا جُبل هو وهم.
قلت له وأنا أضغط على الحروف بصوت خفيض يكاد يرتعش من التوتر: ولكن ألا يوجد في الجماعة من يقف ضد هذه العسكرة؟ أليس فيهم رجل رشيد؟
قال الأستاذ وقد استصحب في قوله سنين خبرته وتجربته: لن يتمكن الإصلاحيون من الوصول إلى ما نصبو إليه إلا إذا حل جيل محل جيل وهذا أمر يصعب تحقيقه مع تلك المعادلة الفكرية التي اجتاحت قلب الجماعة... ليس في طوق أحد الآن أن يجري تعديلاً بالشكل التنظيمي المتعارف عليه... نحتاج يا بُني إلى ثورة تنظيمية وفكرية.. ثورة تعيد الجماعة إلى قلبها الأصلي.
قلت بشغف: أتقصد ثورة يقودها جيل الشباب من أجل أن يصل إلى المقاعد العليا.
قاطعني: ليس الشباب هنا مرحلة سنية ولكنه نمط في التفكير ومنهج وعقيدة.. فأولئك الذين نقصدهم غرسوا مفاهيمهم الدخيلة في عقول الأجيال الجديدة فأصبح الجديد كالقديم وكأنك تقلب الجورب على وجهه الآخر ولكنه ما زال هو هو نفس الجورب.
نظرت إلى برواز معلق على الحائط الأمامي يحتوي على صورة نادرة للشيخ حسن البنا وأطلت النظر فيها ثم قلت له: ألم يُنشئ حسن البنا ذلك النظام الخاص الذي أفرز تلك النوعية التي تقصدها والتي عسكرت الجماعة؟
قال الأستاذ: من الظلم لحسن البنا أن نجعله قديساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلقد أخطأ البنا في أشياء كثيرة إلا أن من كتب تاريخ الإخوان من جماعتنا كتبوه بعقلية المريد لا بعقلية الباحث لذلك تتكرر الأخطاء... البنا أخطأ لا شك في مسألة التنظيم الخاص وقد اعترف لي ولآخرين قبل موته بهذا الخطأ وقال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أنشأت النظام الخاص).
قاطعته بأدب: وأين يكمن الداء الآن يا أستاذي؟ لا أظن أن الجماعة فيها تدريبات عسكرية الآن.
عادت إليه الابتسامة وهو يقول: ليست العسكرة هي التدريب على السلاح

ولكن العسكرة نمط في التفكير وآلية في الإدارة وآيات العسكرة كثيرة.
قلت له وأنا أرشف الشاي: مثل ماذا؟
قال: دعك من قرار منعك من الخروج من بيتك فهذا كشف عن الداء العسكري الذي أحاط بالجماعة، ولكن قرار حظرك هذا لم ينشئه.. آيات العسكرة يا عزيزي تظهر قبل هذا وذاك في انعدام قنوات الشورى داخل الجماعة، واختفاء الحوار الجاد، وإفراغ الساحة الداخلية لمن يقدمون الولاء العاطفي فهؤلاء وحدهم هم أصحاب الحق في الترقي، مما منح الفرصة لنماذج انتهازية خالية من أي قدر من الكفاءة لكي يكون لها موقع الصدارة في الجماعة في كافة التشكيلات، وها هم أولاء يمنعونك من الخروج من بيتك لأنك اختلفت معهم في الرأي.
قلت مؤكداً: أرى أيضاً يا أستاذنا الحبيب أن الشكل التنظيمي يقترب من الأشكال العسكرية فعندنا قيادة وجنود، كتائب ومخيمات ومعسكرات، ومفاهيم ترفع من شأن الطاعة والثقة وكأننا جحافل من الأمن المركزي.. فهل الأمر بحاجة لهذه العسكرة؟ هل نحن في مواجهة مع استعمار؟ لسنا يا سيدي الأستاذ كتائب شبه عسكرية المفروض أننا جماعة مدنية دعوية فكرية ولن نحصد من العسكرة إلا القمع والمواجهات الأمنية والاستغراق في خصومات لا طائل من ورائها، ولم نعد قادرين على تحمل كلفتها الباهظة.
قال الأستاذ معقباً: لقد قال لهم المرحوم محمود عبد الحليم( ) مثل ما تقول الآن وكان جزاؤه الإبعاد عن أي موقع وكان التلمساني رحمه الله يؤمن بهذا ولكنهم أحكموا الخناق على الجماعة واستلبوها لأنفسهم، وأنا نفسي أين تراني؟ رغم تاريخي وسبقي في الجماعة إلا أنني أجلس في ضفة وهم يجلسون في ضفة أخرى وما ذلك إلا لأنني أؤمن بغير ما يؤمنون به... أنا صاحب عقلية مدنية وهم أصحاب عقلية عسكرية... وهنا اختنق صوته أو كاد وقال وهو يحاول أن يرفع صوته: ها هي الأيام تؤكد أن الجماعة قد تم خطفها وعسكرتها.

بعد انصرافي من عند الدكتور عقدت العزم على رفض قرار حظر التجول إذ ليس هناك مبرر يدعوني إلى قبول مثل هذا الاستبداد.. إلا أن اتجاه تفكيري تغير عندما أخبرني أحد أصدقائي من المحامين الإخوان عن أمر نوى أن يفعله محمد طوسون، فقلت في نفسي آن للرمح أن يرتد إليهم.... وفي المساء ذهبت للمهندس ممدوح الحسيني في مكتبه الهندسي بمدينة نصر وكان عنده وقتها المهندس أحمد شوشة وقلت لهما بعد أن أضمرت ما في نفسي: سأطيع القرار وسأنفذ ما طلبتما مني فاستبشرا خيراً وقبّلاني.
أصبحت في الإخوان من أهل الخطوة
كان صبح اليوم التالي قد أوشك على الرحيل حيث بدأ في سحب بساطه الذي تغلفه برودة محببة ولم تكن الشمس قد توسطت السماء بعد حينما أمسكت بالهاتف وحدثت المهندس ممدوح الحسيني:
أخي الكريم أريدك أن تمر عليّ بالبيت لأمر غاية في الخطورة.
- على الرحب والسعة أخي الحبيب سأمر عليك إن شاء الله قبل صلاة العصر ولك أن تتحدث معي بما شئت ثم سنذهب بعد حديثنا لصلاة العصر في مسجد موسى بن نصير القريب من بيتك إن شاء المولى عز وجل.
- جزاك الله خيراً.
وسرعان ما حضر المهندس الحسيني قبيل موعده المضروب يُبدي بحميمية واضحة ومحبة زائدة رغبته في الاستماع لما عندي.
نزح المهندس ممدوح الحسيني إلى مدينة نصر من منطقة حدائق القبة حيث كان مسئولاً عنها وما إنحل برحله إلى مدينة نصر حتى أصبح المسئول الأول عنها، وكان أميز ما يميز المهندس الحسيني أنه يحمل قدراً من العلم الشرعي فقد تخرج من هندسة عين شمس في أوائل السبعينيات، ثم سافر إلى المملكة السعودية للعمل وهناك التحق بالإخوان وعاد إلى مصر ليلتحق بعد ذلك بالأزهر الشريف ويتخصص في أحد العلوم الشرعية وبذلك جمع بين تخصصين.... الهندسة والعلوم الشرعية، ولم تمر أشهر على عودة الحاج مصطفى مشهور من خارج البلاد عام 1986 بعد خمس سنوات من الغربة حتى استطاع استقطاب العديد من الشباب إليه والذين كانوا معه بمثابة فرسان المعبد، كان المهندس ممدوح الحسيني هو أحد هؤلاء الفرسان

من الشباب الذين تقاطروا خلف مشهور يرفعون سيوفهم التنظيمية في مواجهة كل من يريد أن يقوّض أركانهم.
بعد عبارات الترحيب المعتادة قلت للمهندس الحسيني وأنا أقدم له كوب الشاي وقطعة الكيك: لقد عرفت من بعض إخواني من المحامين الإخوان أن محمد طوسون ومعه بعض الإخوة المحامين من فريقه سيقدمون عقيب الانتخابات شكوى جديدة ضدي للمرشد وسيدّعون فيها أنني خالفت قرار الحاج مصطفى المتضمن منعي من الخروج من بيتي وسيزعمون أنني خرجت وذهبت للنقابة يوم الانتخابات ووقفت أدعو ضد قائمة الإخوان!! فماذا ترى يا أخي؟
أمسك المهندس الحسيني كوب الشاي بيد مرتعشة وكأن رعشته تعبر عن ضجره من هذه القصة التي أقحمته فيها القيادات دون حول ولا قوة منه.... إلا أنه قال وهو يتصنع الحكمة: إنك تتحدث عن أمر مستقبلي في عالم الغيب حيث لا يستطيع أحد أن يجزم به ولا أن يؤكد وقوعه ولا أظنهم سيفعلون ذلك إلا إذا خالفت القرار بالفعل، هم في الأول والآخر إخوانك ولا يبتغون إلا صالح الدعوة فلماذا سيتعقبونك بالشكاوى؟ أراك مغالياً في توقعاتك يا أخي الحبيب.
قاطعته قائلاً: هذه ليست توقعات ولكنها معلومات.. ثم أردفت: ومع ذلك سأقترح عليك اقتراحاً.
- تفضل.
- أظن أن الشكوى التي أعرف يقيناً أنهم يعدون لها من الآن سيتم تقديمها للمرشد وستكون عن مخالفتي للقرار في يوم الانتخابات، والمسألة بسيطة يا أخي أقترح أن أقضي معك يوم الانتخابات في مكتبك الهندسي من الصباح باكراً وحتى آخر الليل حتى تكون شاهداً بعد الله سبحانه وتعالى على موضع وجودي في يوم الانتخابات، فإن تقدموا بشكوى سيتضح للجميع أنهم يكذبون كما يتنفسون، وقتها سأطلب حقي منكم جميعاً، وإن لم يتقدموا بشكوى كما تظن فلن نخسر شيئاً يكفيني شرف الوجود في معيتك في هذا اليوم.
لم يكن أمام المهندس الحسيني إلا أن يوافق على الفكرة فوراً إلا أنه أضاف اقتراحاً بأن أنوي الصيام في هذا اليوم وأكمل قائلاً: إن الصالحين

من عباد الله سبحانه وتعالى يحاربون المعاصي بالطاعات وما يحدث في نقابة المحامين بينكم الآن هو من أعلى المعاصي ولذلك يجب أن نتزود بالطاعة ثم استطرد: سنفطر معاً في هذا اليوم ثم نستمر في المكتب لصلاة العشاء على أن نصلي مع مجموعة من الإخوة سيحضرون لمكتبي آنذاك ثم سيمكثون معي بعد انصرافك لبعض شأنهم التنظيمي.
وأضاف أنه سيقوم بإبلاغ المرشد بخبر هذه الفكرة حتى يستأذن منه في خروجي من البيت يوم الانتخابات للمكوث معه إذ تقتضي القواعد أن يتم الحصول على موافقة المرشد لإضافة هذا الاستثناء.
كان لابد مما ليس منه بد، رغم أنني كنت قد عقدت العزم على أن أخفي الأخبار عن مختار نوح وعن باقي الإخوة في محبسهم إلا أن تطور الأحداث دفعني إلى كتابة خطاب يحتوي على كل التفصيلات كبيرها وصغيرها واستطعت بطريقتي الخاصة أن أرسل له هذا الخطاب بعيداً عن أعين الرقيب الأمني داخل السجن وقد احتوى خطابي على شرح تفصيلات قرار المرشد بمنعي من الخروج من البيت لأسبوع ثم شرحت مبررات قبولي للقرار وأضفت في نهاية الخطاب ذلك الذي انتويته بقضاء يوم الانتخابات في مكتب المهندسين ممدوح الحسيني وشرحت الأسباب التي دفعتني لاتخاذ هذا القرار.
وجاء يوم الانتخابات...
كان شهر فبراير في هذا العم يُعبّر عن فصل الشتاء خير تعبير وكأنه ممثله الشخصي ومندوبه السامي إلا أن يوم الرابع والعشرين منه كان كريماً كأجود الكرماء إذ لم يَرِد أن يخوض المحامون غمار انتخاباتهم في جو بارد فأرسل فبراير سراح أشعة الشمس في هذا اليوم ليصبح الجو دافئاً جوّاداً ولعل بعض دفئه انبثق من سخونة تلك الانتخابات التي اشتعل أوارها في نقابة المحامين.
وما إن ظهرت تباشير الصباح ترفل في السماء حتى أخذت مصحفي وذهبت إلى مكتب المهندس ممدوح الحسيني الذي لم يكن قد حضر بعد، وانشغلت بقراءة القرآن على أن حضر الرجل فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث ثم تركني وانخرط في أعماله أما أنا فقد شغلت وقتي طوال اليوم بقراءة القرآن، وعند أذان المغرب صلينا جماعة مع بعض الإخوة حيث شاركنا

بعضهم في طعام الإفطار وكان منهم الأخ صادق الشرقاوي الذي تم حبسه في وقت لاحق في القضية العسكرية التي حُبس فيها خيرت الشاطر والمعروفة بالقضية رقم 2 لسنة 2007، وبعد صلاة العشاء جاء الخبر اليقيني بأن الاقتراع في النقابة قد انتهى وأن لي أن أسترد حريتي وأن أغادر المكان فقد انتهت بانتهاء الاقتراع مدة الحظر وانقضى سبب منع التجول وأصبح من حقي أن أخرج كما أشاء وأمارس حياتي كما يحلو لي.
نجح سامح عاشور نقيباً للمحامين ونجحت قائمة الإخوان بأكملها!! فأصبح عاشور نقيباً بلا مجلس وأصبح المجلس مجلساً بلا نقيب فقد بدأ الشقاق بين الفريقين وكأنهما فريقان يختصمون.
وبعد يومين طلبني المهندس الحسيني حثيثاً واستسمحني في زيارته بمكتب فذهبت إليه بعد أن كنت قد وليتُ وجهي صوب مكتبي.
وما إن شاهدني أدخل عليه حتى بادرني قائلاً: حدث ما تخوفت منه.
- كيف ذلك.
تقدم طوسون ومعه آخرون من إخوانك بشكوى ضدك قدموها للحاج مصطفى مشهور.
- يا الله وماذا قالوا في شكواهم؟
الذي توقعته أنت... قالوا إنك خالفت القرار وخرجت من بيتك يوم الانتخابات وذهبت للنقابة ووقفت تدعو ضد قائمة الإخوان وأن بعض الإخوان حاولوا مناقشتك للعدول عن مسلكك إلا أنك رفضت الاستماع لهم.
-الحمد لله بهذا يا أخي الحبيب ظهر الحق عياناً بياناً وأظن أن الحاج مصطفى عرف يقيناً أن شكواهم كاذبة فقد كان يعلم أني في معيتك يومها.
قاطعني الرجل قائلاً: مهلاً يا أخي فهناك أكثر من ذلك.
- ما هو؟
لقد أحضروا شهوداً من الإخوان المحامين- أحدهم صار عضواً بمجلس النقابة- يشهدون أنهم رأوك في النقابة وناقشوك في أمر دعايتك ضدهم وقد شهد هؤلاء بهذا في حضرة الأستاذ مأمون الهضيبي نائب المرشد وأقسموا على صدق شهادتهم.
قلت ضاحكاً: لا أظن أنني من أهل الخطوة أو أن لي قدرة على الوجود في مكانين في آنٍ واحد فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل.

فبادلني الضحكات وقال في كلمات حاسمة: والله لن أتركهم وسيلقون غيا (وغيا هو وادٍ في قعر جهنم).
كان ظاهر الأمر يوحي بأن أمواج اليم العاتي قد سكنت إلا أنني لم أكن أعلم وقتها أن بحر الإخوان يخفي العجائب التي لا تنفد والتي لا يمكن أن ترد على قلب بشر.
الزيارة في العبارة
كان يوم الجمعة الذي جاء يتهادى بعد يوم الانتخابات يوماً غير عادي، فقد تم فتح أبواب سجن طرة لتدلف إلى داخله سيارة مرسيدس فضية اللون تحمل في داخلها شخصين يرتدي كل منهما نظارة سوداء، أما الشخص الأول الذي بدا طويل القامة مشرئب العنق ذا شعر رمادي فقد كان سامح عاشور الذي أصبح نقيباً للمحامين، وكان الشخص الثاني الذي بدا مكتنزاً بعض الشيء.. أبيض الوجه بحُمرة تداعبها خصلات شعر أشقر فقد كان عاطف عواد.
وقفت السيارة أمام سجن ملحق مزرعة طرة الذي يقضي فيه الإخوان عقوبة الحبس في قضية النقابيين، وأمام السجن كان في انتظارهما ضابط أمن الدولة الذي هش لاستقبالهما واحتفى حفاوة خاصة بنقيب المحامين الجديد ثم قادهما إلى داخل السجن من أجل زيارة خاصة شديدة الأهمية ليس من أجل موضوعها ولكن من أجل أصحابها فالزائر هو سامح عاشور نقيب المحامين وبرفقته عاطف عواد الإخواني السابق والوسطي الحالي أما المزور فهما مختار نوح وخالد بدوي وهما من هما، كان عاشور يحمل في يده علبة كبيرة تحتوي على تورتة قام بتقديمها لنوح وخالد بدوي احتفالاً منه بنجاحه العسير، ودار حوار طويل بينهم حكى فيه عاشور تفصيلات المعركة ودقائقها وكان خالد بدوي حريصاً في كلماته على أن يؤكد لسامح عاشور أنه لولا ثروت الخرباوي ومن معه لما نال عاشور نجاحاً أو فلاحاً، وعاشور بطبعه كان يقلل من أهمية دور هذا الفريق قائلاً: لقد منعوه يا مولانا من الخروج من بيته.
ولكأنما كان لسان حال عاشور يصرخ (إنما أوتيته على علم عندي) وكأن هذه العبارة هي سبب حضوره ليؤكد أنه غير مدين لأحد.

فبادره خالد بدوي بكلمات عربية فصيحة وهو يطرق إلى الأرض:
والله الذي نفسي بيده إن جهد ثروت الخرباوي وعاطف عواد ومن كان في ركابيهما كان هو الأمر الفارق في الانتخابات ولا يستطيع أحد أن ينكر ما تعرض له الخرباوي من مضايقات من أجل دعمك وقد كنت أنا وإخواني هنا في السجن ندعو له ونبارك عمله نحسبه من المخلصين والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً.
وظل خالد بدوي لا ينى يكرر مثل هذه الكلمات يرد بها على عبارة عاشور التي كانت هي السبب الباطني للزيارة رغم أن الواقع يثبت أن من في السجن لم يكن لهم أي شأن بالتفصيلات التي استجدت في المعركة فلم يكن لهم علاقة من قريب أو بعيد بوقوفي مع عاشور ضد رجائي عطية، بيد أن خالد بدوي كان يستهدف من باب التكتيك إفهام عاشور أنه لم ينجح إلا برعاية ودعم وأمر المساجين من الإخوان وأن ما صدر من ثروت الخرباوي كان بالاتفاق مع من هم فيداخل السجن لعل هذا التكتيك يؤتي أُكله ذات يوم في تنسيق نقابي أو توفيق بين الأطراف المتصارعة في النقابة إذ لابد أن يكون أحدهم رمانة للميزان أو من فريق الحمائم إذا كان هناك فريق الصقور، وكثيراً ما كنا نستخدم هذا التكتيك مع سامح عاشور في مرات لاحقة كما كنا نستخدمه مع غيره من الطامحين لكرسي العضوية... هكذا هي السياسة وهكذا هي دروبها وطرقها.
لم يكد خبر الزيارة يتسرب حتى اشتعلت الشعل.. فها هي النار تتأجج من جديد في قلب محمد طوسون الذي اعتبرها مؤامرة تضامت مع المؤامرة التي اختلقها خياله عن محاربتي لقائمة الإخوان، وظن الرجل أن مختار نوح يتفق وهو في سجنه مع سامح عاشور من أجل تشكيل هيئة هيئة المكتب لمجلس النقابة وهيئ له خياله أن هناك تدبيرات محكمة من أجل إبعاده عن أي موقع قيادي بالمجلس، واستمرأ ظنه وأعتقد أنني عرّاب هذا الاتفاق وأني كنت المرافق الثاني لعاشور في زيارته تلك (!).
وكأنهم أصبحوا كساعي البريد لا ينفك عن تكرار ما يفعله بشكل يومي بلا ملل ولا كلل زارني الأخ فلاح سرور وأنبأني أن طوسون قدم شكوى أخرى ضد وزاد في شكواه أنني اصطحبت سامح عاشور لزيارة مختار نوح في السجن!! وأنني كتبت مقالة في إحدى الصحف اتهمت فيها بعض قيادات

الإخوان بعقد محاكمات عسكرية لأفراد الجماعة.
ولم يكد ينتهي من قوله حتى بادرته قائلاً: هذا تخليط لا يليق ولا ينبغي للإخوان أبداً أن يستمعوا لمثل هذا الكلام وأنا أعجب من آذان الإخوان التي تصغي لهذا بل وتتوخاه.. أليس هناك في أمة الإسلام والمسلمين ما يستحق اهتمام الإخوان أكثر من القيل والقال الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعاد الأخ فلاح على مسمعي رجاءه الذي استحثني عليه من قبل أن أتفرغ له في المنطقة وفي هذه المرة قبلت... وكأن لسان حالي يقول "مرغم أخاك لا بطل".
استراحة المحارب
مع الامتداد العمراني هجرت منطقة التجمع الخامس الصحراء الجدباء واقتربت شغفاً من تخوم مدينة نصر، وقد ساعد الطريق الممهد الذي تم شقه يسار (مقابر مدينة نصر) على سهولة التنقل بين الحيين وكأنهما جسدان متدخلان في جسد واحد، ومع طفرة العمران انتقل الكثيرون من إخوان مدينة نصر بل شرق القاهرة كلها إلى منطقة التجمع وكان من المنتقلين ممدوح الحسيني مسئول مدينة نصر ونائبه رفعت الحواط بله بعض أعضاء مكتب الإرشاد وقتها مثل مهدي عاكف، وكان هؤلاء هم أول من حمل متاعه ورياشه وحط رحاله هناك، مما دعا قيادات شرق القاهرة في التنظيم إلى تحويل هذه المنطقة من الناحية الجغرافية التنظيمية إلى شعبة جديدة من شعب الإخوان المسلمين تتبع منطقة مدينة نصر إلى أن تقوى ويشتد عودها فتتحول إلى منطقة قائمة بذاتها في مستقبل الأيام.. وبدأت مدينة نصر تولي هذه الشعبة أهمية خاصة، ولا غرو فهي شعبة ستشهد سكن مهدي عاكف عضو مكتب الإرشاد الشهير – وقتها- عندما ينتهي من إتمام البناء الذي يشيده هناك... وستشهد أيضاً أموالاً سيبذرها التنظيم على الأراضي والعقارات وسينتظرون غلتها ذات يوم... وبعد أن تكوّن الشكل التنظيمي للشعبة رأى بعضهم أن تقوم شعبتنا بدعم هذه الشعبة الوليدة، واقترح فلاح سرور أن أقوم بصفتي رجل قانون بإلقاء سلسلة محاضرات قانونية في الكتائب الإخوانية التي كثر انعقادها في التجمع لتثقيف الإخوة بما لهم وما عليهم من الناحية القانونية إذا حُم الضقاء وقُبض عليهم اعتقالاً أو على ذمة قضية من قضايا الإخوان العديدة.. وأعددت بالفعل هذه المحاضرات

وجعلتها تدور حول التصرف الذي يجب أن يقوم به الأخ عند القبض عليه أو عند تفتيش منزله وحقوقه القانونية وما ينبغي عليه قوله أثناء تحقيقات النيابة معه أو أثناء استجوابه بمعرفة مباحث أمن الدولة، وكان يصاحبني في هذه المحاضرات الأخ ممدوح الحسيني بحسب أنه مسئول منطقة مدينة نصر كلها والأخ فلاح سرور، ثم قمت آناء ذلك بإدارة وترتيب عدة كتائب انعقد بعضها في بيت المهندس ممدوح الحسيني وكان المحاضر في إحداها الدكتور عبد المنعم تعيلب أحد قيادات الإخوان التاريخية وكان وقتها مسئول منطقة شرق القاهرة كلها أما موضوع المحاضرة فكان عن "تعظيم المحرمات"، لم يكن الأمر قاصراً على التجمع الخامس وأهله فقط فقد عقدت في بيتي عدة كتائب للإخوان حضر إحداها الدكتور سيد عسكر الذي كان وكيلاً للأزهر الشريف وأصبح فيما بعد عضواً بمجلس الشعب، وحضر في أخرى الأستاذ محمد عبد المنعم مسئول الإخوان وقتها بمحافظة الإسكندرية.... وفي ذات الوقت طلب مني بعض الإخوة في منطقة شبرا الخيمة إلقاء محاضرات عن تاريخ مصر الحديث وقد قمت بتوسيع نطاق هذه المحاضرات وتنقلت بها ومن أجلها إلى العديد من المناطق الإخوانية بالقاهرة والقليوبية، وانشغلت بمحاضراتي هذه عن المحامين ونسيت أيامهم ولكن يبدو أن هناك من ظل يتذكرني!! وعلى حين غرة من الدعة والهدوء عادت السفاسف من جديد.






الفصل السابع
مسجون في قلعة الإخوان

"وكأن عمر الإنسان سفينة استوت على الماء لا يملكها إلا من خلقها وبث فيها الحياة ولا يديرها ويوجه دفتها إلا صاحبها، وكأن قلب الإنسان كنز من المشاعر فإذا تألم تأوه وإذا تأوه عرف الناس ألمه لكنهم لن يشعروا بقدر الألم الذي يعانيه".
سجن ملحق مزرعة طرة هو أحد السجون التابعة لسجن طرة العمومي إلا أن له خصوصية تميزه عن باقي السجون وتجعله وكأنه آخر عنقود مصلحة السجون، فقد ظل قاصراً على استقبال المساجين السياسيين وعلى الأخص مساجين الإخوان المسلمين فضلاً عن المساجين من رجال الأعمال والشخصيات ذات الحيثية، أما من الناحية الإنشائية فهو عبارة عن مبنى فقير فقراً مدقعاً من الخارج بحيث أنه يخلو من أي ناحية جمالية معمارية إلا أنه أقرب شبهاً لفيلا سكنية أهملها أصحابها وفرّطوا في رونقها حتى أصبحت بالية المظهر... يتكون هذا المبنى العتيد من طابقين كل طابق به عشر حجرات – زنازين- ملحق بكل حجرة حمام خاص لها وتتسع الحجرة الواحدة لأخين بالكاد وقليل من حجراته يتسع لخمسة أفراد على أعلى تقدير... عندما تدخل إلى هذا السجن المنعزل للزيارة تقابلك حديقة كبيرة غنّاء ازدانت بعدد من الأشجار والمزروعات النادرة التي أضفت على المكان قدراً من الهدوء والثراء الجمالي.. ولك أن تعلم أن مساجين الإخوان- خاصةً هواة الزراعة منهم- قد ساهموا في زراعة العديد من النباتات في هذه الحديقة وكتب بعضهم اسمه على بعض الأشجار من باب "الذكرى الخالدة" كما قاموا بتحديث الحجرات وتبليطها ودهانها ومد حماماتها بالسخانات وتزويد حجراتها بأجهزة التليزيون كما أقاموا مكتبة كبيرة اقتنوا فيها العديد من ذخائر الكتب ونفائس المؤلفات، وقد اعتادت إدارة السجن على جعل هذا الملحق هو السجن المخصص للمساجين الذين صدرت ضدهم عقوبات، أما سجن المزرعة نفسه فهو الذي يستقبل المحبوسين احتياطياً.
كان نوح ومجموعته من الإخوان قد سيقوا من سجن الاستقبال بطرة- ذلك السجن الذي قضوا فيه فترة الحبس الاحتياطي- إلى سجن الملحق الذي استقر بهم المقام فيه منذ أشهر عقب صدور عقوبة الحبس ضدهم، ولم يكن من حظي بعد انتقالهم للملحق زيارة أي واحد منهم إلا مرة واحدة يتيمة

حيث زرت فيها مختار نوح وخالد بدوي، وقد أفصحتُ في تلك الزيارة لهما عن لواعج نفسي وشكوت جحوداً وقسوة كانت وكأنها دين الإخوة وديدنهم، وحكيت لهما باستفاضة عن تلك المواقف التي واجهتني من الإخوان خارج السجن وجعلتني أبدو في داخلي وكأنني سجين الإخوان المسجون في قلعة من قلاع التنظيم، وعكّرت الماء الذي كان يجري رائقاً رقراقاً بيني وبينهم. وأظهرت لي الوجه الخفي لبعض قيادات الجماعة- ذلك الوجه الذي ما فتئ هذا الفريق يخفيه عن الجميع ويرتدي من أجل إخفائه ألف قناع- ثم انقطعت الزيارات بعد ذلك لفترة إلى أن حدثت فجأة انفراجة في زياراتي للإخوة فقد استطعت زيارتهم بضع مرات في شهر يونيو من عام 2001 على غير العادة، وكأن هذه الزيارات كانت تعويضاً سخياً عن فترة الغياب... وكل شيء عنده بمقدار.
أصدقكم القول أن هذه الزيارات لم تكن مجردة من الأهداف والغايات، ولم يكن هدفها بث الشجون والمشاعر ومؤازرة الإخوة في محبسهم ودعم مشاعرهم ونفسياتهم فقط، ولكن كان مرامها في المقام الأول مناقشتهم في بعض دعاوى قضائية رأينا –أنا وهم- أن أقيمها لهم من أجل الإفراج عنهم.
كان أول الغيث الذي تصورنا أنه سيساعدنا هو صدور حكم من المحكمة الدستورية قضى بعدم دستورية نوعية من الجرائم التي كانت مؤثمة في قانون العقوبات وهي جرائم (الاتفاق الجنائي).. وكان يحدونا الأمل أن ينسحب أثر هذا الحكم الدستوري على القضية التي حُبس بموجبها الإخوة فيتم الإفراج عنهم.
وجاء بعد الحكم الدستوري ما يسمى "انقضاء نصف مخدة العقوبة"، وهذا الانقضاء يعطي الحق لرئيس الجمهورية في الإفراج عن المسجون إذا كان حسن السير والسلوك، وكنا نترقب مع هذين الأمرين مرور ثلاثة أرباع مدة العقوبة التي تعطي الحق للنائب العام في الإفراج عن المسجون وإنهاء العقوبة وفقاً لشروط تتوافر في حق الإخوة جميعهم، وكنت قد أعددت بحثاً قانونياً مطولاً عن هذا الحق واقترحت عليهم أن أقيم دعوى بخصوصه عندما يحين الحين ويأتي الأجل المحدد.
ولأن الزيارات كانت في مجملها قانونية ثقيلة الظل- إذ كانت المناقشات القانونية فيها تستغرقنا حتى يضجر منا ضابط السجن ويأخذ في التثاؤب-

فقد اقتصرتُ فيها على مقابلة مختار نوح وخالد بدوي بحسب أنهما محاميان وأننا جميعاً سنخوض في القانون، وبعد مناقشاتنا المستفيضة طلباً مني الإسراع في إقامة تلك الدعوى القضائية التي تمخضت عنها أفكارنا بطلب بالإفراج عنهم لعدم دستورية المادة التي تم حبسهم بمقتضاها، وطلبا أيضاً أن أقيم دعوى أخرى بطلب الإفراج عنهم لمرور نصف مدة الحبس، وكان خاتمة ما طلباه أن أضع اسم محمد طوسون على صحف تلك الدعاوى!! وكان هذا الطلب قد أثار امتعاضي إلا أنني وافقت عليه دون مناقشة، فهذه هي رغبة أصحاب القضية ولا بد أن لهما ضروراتهم... وأنهى مختار نوح جملة الطلبات قائلاً: لابد يا أخي العزيز أن تحصل على تصريح زيارة جديد لمقابلة كل مساجين الإخوان المحبوسين معنا حتى يكون هناك إقرار نهائي من الجميع يدفعك إلى أن تمضي قدماً في إقامة الدعوى الثالثة التي تتعلق بالإفراج وإطلاق السراح عندما يحين موعد انقضاء ثلاثة أرباع مدة العقوبة.
وبعد أن انتهت الزيارة وذهبت إلى حال سبيلي حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم يجر على خاطري أبداً.
طارق الفجر
في الهزيع الأخير من الليل حين سجى انتظاراً لرسل الشمس، وقبل أن يضع الظلام أوزاره ويهمد خلف قافلة النور، وقبيل أذان الفجر بهمسة انتفضت من نومي على طرق رتيب على باب بيتي، لم يكن الطرق ثقيلاً متواصلاً فينبئ عن طبيعة الزائر ولكنه كان خفيفاً رقيقاً يدل على أن صاحبه جاء على استحياء كأنه يكاد ينصرف إلى حيث جاء، وعندما فتحت الباب وأنا أفرك عيني وجدت أن الزائر هو الدكتور حسن عبد الحليم وهو أحد قيادات الإخوان المسلمين في المنطقة كما أنه في ذات الوقت نقيب أسرتي الإخوانية، وقد أثارت هذه الزيارة المفاجأة دهشتي واسترابتي التي وصلت إلى حد الجزع.
والدكتور حسن عبد الحليم صيدلاني من جيل الوسط يحمل قلباً رفيقاً ومشاعر مرهفة وعاطفة دينية مشبوبة وقد اشتهر بين أقرانه بالالتزام والجدية والدقة المفرطة في تنفيذ التعليمات التنظيمية، حيث يعتبر الكثيرون من

الإخوان- وفقاً للآلية والمناهج التي تربوا عليها- أن طاعة القيادات والثقة فيهم عبادة لله سبحانه وتعالى، وكان قد تعود لفترات على التواعد معي كي نلتقي في صلاة الفجر في أي من مساجد الحي، إلا أنه لم يحدث أبداً أن باغتني بزيارة في مثل هذا الوقت دون اتفاق مسبق.
ودون أن يدخل إلى الشقة طلب مني الزائر الإخواني أن أرتدي ثيابي فوراً حتى نلحق بصلاة الفجر جماعة في أحد المساجد باحلي، وفي سيارتي ونحن في الطريق إلى المسجد التزم الدكتور حسن بالصمت ولم ينبس ببنت شفة وانشغل بتلاوة أذكار الصباح حتى وصلنا إلى المسجد المنشود، كانت نفسي قد حدثتني ونحن في الطريق إلى المسجد أن هذه الزيارة تبطن أشياء أسرها الأخ حسن في نفسه ولم يبدها لي وقتها، وبالفعل صدق حدسي... فما أن انتهت الفريضة وفرغنا من ختام الصلاة حتى التفت الأخ إلى ناحيتي وقال لي وهو يكاد يهمس: يا أخ ثروت باعتباري نقيبك في الأسرة طلب مني الأخ ممدوح الحسيني أن أبلغك بأن هناك جلسة تحقيق ستنعقد معك صباح اليوم في مكتبه الساعة الثامنة صباحاً ويجب أن تكون حاضراً في الموعد المحدد للأهمية.
فقلت له وقد اعتراني العجب واعتورتني الدهشة: هكذا فجأة!! أليس من المفترض يا دكتور حسن أن يكون هناك تمهيد؟ أليس من العدل أن يتم إخطاري قبل التحقيق بوقت كاف؟ ثم يا أخي الحبيب ما هو موضع التحقيق؟ ثم استطردت وكأنما أحدث نفسي:
"من هذا الذي يملك أن يفتش في قلبي ويخترق ضميري ويحاسبني على ما أعتقد".
"أيملك أحدكم سفينة حياتي حتى يشاركني في إدارة قراري وتوجيه دفة أفكاري".
"ما هذه القسوة التي جُبل البعض عليها وكأن قلوبهم قدت من الحديد وغُلفت من الصخر".
"أليس فيهم رجل شديد، أم أننا شجعناهم عندما وضعنا بين أيديهم تلك السلطة المطلقة التي كبّلوا بها شرايين قلوبنا".
وضع نقيبي يده على كتفي وكأنما يحنو عليّ وقال بلطف زائد وقلة حيلة بادية: "أنا أتمنى يا أخي أن ينتهي الموضوع على خير ولكن اعذرني فمهمتي

مقصورة على إبلاغك بالموعد والمكان.
وقد تلقيت التكليف قبل أن آتي إليك بلحظات معدودات فليس لي في الأمر حيلة.
"ثق أن الجماعة كالأم الرءوم لن تخذلك، وإن خذلتك سنكون كلنا".
"لن يقبل أحدنا أن تتعرض لظلم وإن ظلموك فستكون الجماعة حينئذٍ قد هجرت خيريتها، وقتها سنهجرها ونغادرها إلى غير رجعة".
شكرته باقتضاب وانصرف هو إلى بعض إخوة من شعبتنا كانوا ينتظرونه عن قرب وانصرفت بدوري وأنا أحفر في ذاكرتي عن سبب دفعهم إلى إحالتي للتحقيق إلا أن يكون نبشاً منهم في الماضي القريب الذي لم يغادر قلوبهم وقبع منتظراً لحظة سانحة.
محكمة إخوانية
بحجرة مكتب المهندس ممدوح الحسيني حيث تتناثر الخرائط الهندسية وتختلط بكتيبات بها أذكار الصباح والمساء وكتب عن تاريخ الإخوان، في مقر شركته للمقاولات الكائنة في عقار شاهق بأحد الشوارع الرئيسية بالحي الثامن بمدينة نصر كانت المحاكمة وكانت المحكمة.... جلس الحاج جودة شعبان رئيس المحكمة بين العضوين ممدوح الحسيني عضو اليمين ومجدي عبد الله عضو اليسار... أما الحاج جودة فهو نائب رئيس منطقة شرق القاهرة وهي من أكثر المناطق الإخوانية اتساعاً وعدداً وأهمية، كما أنه أحد أفراد الرعيل الأول من الإخوان وكان قد حُبس في قضية "محاولة اغتيال عبد الناصر" عام 1954 المعروفة بحادث المنشية حيث خضع وقتها لمحاكمة عسكرية قذفت به في السجن سنين عديدة... فقد كان وقتها من رجال التنظيم الخاص.... وقد لبث في سجنه إلى بدايات السبعينيات حين أفرج عنه الرئيس السادات مع من تم الإفراج عنهم من الإخوان... وهو رجل في أواخر العقد الثامن من عمره، ضامر الوجه نحيل الجسد، نظارته الطبية ذات العدسات السميكة تغطي نصف وجهه تقريباً، له لحية خفيفة ويرتدي حُلة صيفية شاحبة اللون، يبدو من سيماه أنه لم ينل حظاً من التعليم- توقف عن التعليم قبل الابتدائية- وكان في مطلع شبابه وسابق أيامه قد انخرط في مهنة الصباغة كعامل بسيط إلى أن تم سجنه في منتصف

الخمسينيات ثم التحق بشركة الشريف للبلاستيك في منتصف السبعينيات بعد أن خرج من محبسه إلى أن خرج على المعاش... يظهر من حديثه ضحالة خلفيته الثقافية ومحدودية أفقه، أما عضو اليسار الأخ مجدي عبد الله فهو متوسط العمر متوسط الطول يميل جسده للامتلاء، يرتدي حُلة صيفية زرقاء تشبه الحُلة التي يرتديها أفراد الأمن في الشركات الخاصة والبنوك، لم يستطع استكمال تعليمه العالي فاكتفى بالحصول على شهادة فنية متوسطة، عمل لفترات في شركة الشريف للبلاستيك إلى أن تقوّض بنيانها فهجرها إلى مشروع خاص شاركه فيه بعض الإخوان، أما وقت المحاكمة فقد كان يشغل موقعاً قيادياً متميزاً في الجماعة تنوء به وبمسئوليته العصبة من الرجال أولى الفهم والإدراك وهو مسئول منطقة مصر الجديدة التي تضم صفوة الصفوة من الإخوان وزبدة مثقفيها، أما عضو اليمين فهو المهندس ممدوح الحسيني مسئول مدينة نصر.
عندما ألقيت عليهم السلام بابتسامة موجوعة عاتبت نفسي في داخلي أو بالأحرى عاتبتني نفسي وأوجعتني... كيف بالله عليك تقبل هذا العبث المقيت السخيف؟!!
أأنت مسلوب الإرادة إلى هذا الحد أم أنك تعودت على قيود سجانك حتى أصبح السجن هو الحياة؟!!
"أليس من الأكرم لك أن تنسحب من هذه اللعبة المهينة؟"
"قل لهم: لن ألعب وانصرف.. أو اتركهم في غيهم يعمهون".
"فك سلاسلهم التي قيدتك، فسلاسلهم التنظيمية لا قيمة لها فهي كقبض الريح أو كسارب خادع ساذج".
وعلى عكس ما دلّت عليهنفسي الثائرة جلست أمامهم هادئاً طيعاً لا حول لي ولا قوة، وكأن خضوع الإنسان للقيود والأغلال التي ألفها واستكان لها زمناً، يطمس فيه نزعة الحرية ويجعله سلس القياد، وهكذا يستطيع الطغاة قيادة شعوبهم.
هش الحاج جودة في وجهي وقام باهتمام زائد يستقبلني وتبعه أعضاء المحكمة الذين قبّلوا كتفي بمبالغة غير مفهومة، ثم دار حديث قصير بيننا عن أحوال الجو والزحام والمواصلات وأبدى الحاج جودة تبرمه من زيادة الأسعار، وما لبث الحديث أن انعطف حول نقابة المحامين وأحوالها

وانتخاباتها الفائتة ونجاح الإخوان فيها، وعند هذا الموضع قال الحاج جودة وهو يتعمد عدم النظر ناحيتي: ما هو موضوع خلافاتك يا أخي مع إخوانك في النقابة.
قلت له وأنا أنظر إلى موضع قدمي: هل هذا السؤال مجرد دردشة؟ أم أنه تحقيق أو محاكمة؟
قال وقد بدا عليه الانزعاج: محكمة ماذا والعياذ بالله، أنا في مقام أبيك وهؤلاء إخوانك ونحن نتحدث معك لأن هناك شكوى مقدمة ضدك، وأبوك الحاج مصطفى أمر بتشكيل لجنة لمتابعة هذا الأمر والوصول لوجه الحق فيه ونحن أعضاء هذه اللجنة.
قاطعته بابتسامة: يعني يا حاج جودة أنتم لكم سلطة توقيع جزاء على المخطئ.... هه؟
قال بثقة: نعم.
تابعت الحديث قائلاً: إذن أنتم محكمة.
تدخل الأخ مجدي عبد الله قائلاً: ولتكن محكمة يا أخي فما الضير في ذلك؟
قلت دون أن أنظر إليه: الحقيقة هناك قواعد للعدالة حض عليها الإسلام يجب أن تتبعها المحكمة.
فبادرني الحاج جودة: لا إله إلا الله... وهل نحن خالفنا الإسلام يا أخي الحبيب.
استطردت: ينبغي أن يتم إخطاري بالمحاكمة وموضوعها قبل الجلسة بوقتٍ كافٍ لأعد دفاعي فلا ينبغي أبداً مباغتة الشخص بمحاكمة لا يعرف أسبابها... وأكملت: ثم أننا تحدثنا باستفاضة من باب الدردشة والموّدة قبل البدء في المحاكمة عن الانتخابات في النقابة فإذا كانت المحاكمة ستتضمن تلك الانتخابات فإن حديثنا عنها باطل وهو في الشرع استدراج لا يجوز.
وهنا تدخل ممدوح الحسيني قائلاً: ليس استدراجاً يا أخي الحبيب يجب أن تحسن الظن في إخوانك.
قلت وكأنني أعاتبه: لا علاقة لحسن الظن بما أقول ولكنها قواعد عامة يجب أن تتبع.
فرد معقباً: عموماً يا أخي سنعطي لك الفرصة التي تريدها... خذ هذه

الورقة فهي تحتوي على موضوع الشكوى المقدمة ضدك وسنعقد غداً في ذات الموعد والمكان جلسة أخرى لاستكمال الموضوع وستكون هي الجلسة الختامية إن شاء الله.
خطفت نظرة سريعة متعجلة إلى الورقة فوقع نظري على عدة اتهامات، منها اتصالي بالمفكر الإسلامي دكتور سليم العوا وترددي على جمعية مصر للثقافة والحوار التي يرأسها، وصلتي بأعضاء حزب الوسط، ومخالفتي لقارر منعي من الخروج من بيتي الصادر من الحاج مصطفى... فاعترتني من جملة هذه الاتهامات دهشة تاريخية لا أظن أن أحداً اعترته مثلها من قبل إلا أنني تجاهلت ما قرأت وقلت: وأريد أيضاً أن تطلعني على ما قدمه أصحاب الشكوى من أدلة ضدي حتى أرد عليها وأفندها... فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
قال الحاج جودة متدخلاً: أما هذه فلن نستطيع.. ليس من حقك الإطلاع على أدلتهم... ولكن قل ما عندك وقدم ما لديك من أدلة... يكفي أن تعرف أنهم أحضروا شهوداً من الإخوان شهدوا ضدك أمامنا... وشهوداً من غير الإخوان كتبوا شهادتهم ووقعوا عليها.
قلت وقد تملكتني الدهشة: هذا لا يجوز يا أخي أبداً.... سماعك للشهود في غيابك يخالف قواعد الإسلام في المحاكمة... مبدأ مواجهة الأخصام ومواجهة الشهود من لزوميات المحاكمة العادلة... ثم من المفترض أن أرد على شهادة هؤلاء الشهود.. فكيف أرد على ما جهلت أصله وطبيعته وفحواه؟ هل هذه عدالة؟ وهل ما يحدث هنا له علاقة بالإسلام؟
قال الحاج جودة دون أن يرمش له جفن وقد نفد صبره: والله هذا هو ما عندنا وهذه تعليمات من الحاج مصطفى بنفسه ونحن لا نستطيع مخالفتها... جهز دفاعك وسننتظرك في الغد... ثم قام نصف قومة وهو يمد يده بالسلام وتبعه عضوا المحكمة.
وتركتهما وأنا أحاول أن أتنسم عبير الحرية فقد نازعتني نفسي أن لا أعود لهم مرة أخرى... ما أعظم الحرية.

عودة الطير إلى قفصه
الشقة التي يقطن فيها الدكتور حسن عبد الحليم الصيدلاني نقيب أسرتي في الإخوان تقع في الدور الأرضي في عقار قديم متهالك من العقارات التي شيدها أصحابها في بداية نشأة حي مدينة نصر، وقد شهدت هذه الشقة العديد والعديد من الكتائب واللقاءات الإخوانية وجلس معنا فيها أكبر قيادات الإخوان في مناسبات متنوعة، وفي حجرة المعيشة البسيطة التي تعوّد الدكتور حسن على استقبالنا فيها جلست قبالته أبحث عن كلمات مناسبة، كنت قد اعتزمتُ ترك الجماعة بشكل نهائي ورأيت أن ألقى على مسامعه ذلك الأمر الذي انتويته، وإذ كنت أبحث عن مدخل لائق للحديث بادرني وهو يقلّب السكر في كوب القرفة: على فكرة.. أنا معك في أنه يجب أن تعرف كل تفصيلات الشكوى وأدلة إخوانك التي قدموها ضدك... فإخفاء هذه الأدلة عنك ليس من العدل.. كما أنه تعجيز لك.
قلت متعجباً: هل عرفت؟
قال مؤكداً: نعم جلست مع ممدوح وعرفت تفصيلات ما حدث بينكم اليوم قلت وأنا أتناول منه كوب القرفة: وما رأيك؟
قال وهو يقلّب صفحات كتاب التقطه من على المنضدة متشاغلاً به: "هذا تهريج يا أخي".
"ما هذا الذي يحدث بين الإخوة؟"
"لما نُقَطع لحم بعض؟"
"يبدو أن الدنيا أخذتنا وغرّتنا!!".
"ما يحدث يرفضه كل صاحب قلب سليم".
ثم ناولني الكتاب الذي كان بيده قائلاً: هذا كتاب مدارج السالكين لابن القيم اقرؤه بإمعان لعله ينير أمامك الطريق ويفتح في قلبك مجالات للعفو عمن ظلمك.
قلت وقد استقر في فهمي أنه أدرك غايتي من زيارتي فأراد بكلماته هذه أن يقطع الطريق أمامي حتى لا أتخذ أي قرار يجمح بي خارج الجماعة: أشكرك... وقد أسامحهم وأعفو عنهم ليس في هذا من شك... ولكني أذكر تلك الكلمات التي قلتها لي عقب صلاة الفجر من أن الجماعة إذا سارت في

طريق الظلم تكون قد "فقدت خيريتها".. أظن أنه ثبت أن الجماعة تسير في طريق الظلم يا دكتور.
قال مهوناً من الأمر: يا ثروت يا "خويا" أنا وأنت وكلنا نرفض ما يحدث لكنها مجرد حالة فردية، لا تصلح للقياس عليها، أما الظلم الذي يُفقد الجماعة خيريتها فهو "الظلم إذا عم".؟
قاطعته بابتسامة مندهشة: ليست حالة فردية وليست حالتي فقط، أستطيع أن أحكي لك الآن عشرات الحالات في منطقة شرق القاهرة فقط لم تراع فيها الجماعة قواعد العدالة.... ثم انطلقت في الحديث حتى لا أدع له فرصة لمقاطعتي وكأنني لن أتوقف أبداً.
عندك أخونا الدكتور حمدي عبد العاطي الذي كان حاضراً في معسكر من معسكراتنا وأثناء حصة المشي قال لرفيقه في السير إن الحاج مصطفى مشهور يرتكب العديد من الأخطاء بسبب كبر السن وإذا بأخ كان يسير خلفه يتنصت على هذا الكلام ثم يقوم بإبلاغ "إخوانا فوق" بخبر هذا الذي قاله حمدي الذي هو محض رأي من حقه أن يبديه وتم عقب ذلك إحالة أخينا حمدي لتحقيق إخواني حيث حقق معه أحد الإخوة من المحامين من أعضاء مجلس النقابة ثم صدر القرار الذي تعلمه بتجريدي حمدي من موقعه كعضو في المكتب الإداري للشعبة عقاباً له على أنه قال رأياً... هل هذه خيرية؟"
"وتعرف أنت طبعاً خبر أخين من الإخوان من شرق القاهرة، ظلا شركاء لسنوات في شركة تجارية، وحدث أن قام أحدهما بسرقة نصيب الآخر في الشركة فاشتكاه المسروق للإخوة فقام الإخوة عقب الشكوى بإحالة الأمر لمحكمة إخوانية رأسها الدكتور عبد المنعم البربري أمين صندوق نقابة الأطباء وكان معه في هيئة المحكمة المرحوم مأمون ميسر المحامي الإخواني المعروف ومعهما أحد المحامين من أعضاء مجلس النقابة وأصدرت اللجنة قرارها بإدانة السارق إدانة صريحة قاطعة... إلا أن الأمر لم يرق لصهر السارق الذي يشغل موقعاً قيادياً كبيراً في منطقة شرق القاهرة- وهو رفيق عمر الحاج جودة وتابعه في المنطقة- فقام الإخوة بإلغاء هذا الحكم إرضاء للرجل وتشكيل محكمة أخرى برئاسة الحاج جودة وانتهت المحاكمة في حكمها الجديد إلى تعديل الحكم إلى أن الحسابات فقط غير منضبطة وأن السارق- لعدم ضبط الحسابات- أخذ ما ليس له من حق دون أن يعلم أن ما

أخذه ليس من حقه، وأنه يجب على الأخ المسروق أن "يستعوض الله" فيما أخذه السارق... وأن نتيجة الحكم ستظل سرية لن يتم نشرها على الإخوة لعدم المساس بسمعة السارق وعندما اعترض المسروق المجني عليه على هذا وقال: "سأستعوض الله بلا شك ولكن إذا صح أن تكون جلسات المحاكمة سرية إلا أن الحكم يجب أن يكون علنياً وهذا من قواعد العدالة في الإسلام، فلم يقبل الإخوة ذلك.. فما كان من الأخ المسروق المجني عليه المظلوم إلا أن هجر الإخوان إلى غير رجعة... هل هذا عدل؟
وعندما هم حسن أن يقاطعني استطردت دون أن ألتفت لمقاطعته "وأولئك الإخوة الذين احتكروا معارض السلع المعمرة بنقابة المهندسين بأمر مباشر من المرشد وليس بأمر مباشر من نقيب المهندسين فأصبحوا من أصحاب الملايين... هل هذه خبرية؟
وما حدث منا تجاه الإخوة مجموعة حزب الوسط وتلك الحرب غير العادلة التي وجهنا سهامها نحوهم حتى أن المستشار الهضيبي قال لنا في لقاء هنا بمدينة نصر: أنني أستطيع أن أجعلهم يسيرون في الشارع "بلابيص" هل هذا عدل؟
"والقرار الصادر من الحاج مصطفى مشهور باعتبار الدكتور السيد عبد الستار المليجي ليس من الإخوان لمجرد أنه عقد ندوة فكرية في مكتبه وقام أحد الحاضرين في الندوة من غير الإخوان بانتقاد سياسات الجماعة وانتقاد تصريحات الحاج مصطفى التي أطلقها فيما يتعلق بالجزية والأقباط فكان جزاء من أقام الندوة أن طردوه من الجماعة شر طردة بلا أخلاق وهو من هو في السبق والفضل حيث قدم للجماعة عمره كله... هل هذا عدل وهل تلك خيرية".
وكأنما أفرغت جزءاً من شحنتي فتوقفت عن الكلام ألتقط أنفاسي، وهنا تحدث حسن بهدوء قائلاً: أنا معك في كل ما قلت ومع ذلك فهي حالات فردية لأنني أستطيع أن أسرد عليك آلاف المواقف الطيبة للجماعة، وفي الفقه يا أخي طالما أن النجاسة لم تغير طعم أو لون الماء الطهور فهو طاهر، وأظن أن ما حدث لا يمكن أن ينجس هذه الجماعة أو يمس خيريتها رغم اعتراضنا عليه.
وضعتُ الكتاب جانباً وقلت وقد ارتفعت نبرة صوتي دون قصد مني: هذا

قياس مع الفارق يا دكتور، وحتى لو اتفقت مع قياسك جدلاً فإن الحنفيين يذهبون إلى أن هناك من النجاسات ما تنجس الماء الطاهر حتى ولو لم يتغير ولنه أو طعمه أو رائحته، ومع ذلك من قال إن الفساد لم يطغ وإن الظلم لم يعم؟.. يا عزيزي نحن في منطقة شرق القاهرة... هل تعرف ما معنى شرق القاهرة؟... ثم استطردت وأنا أضغط على الحروف بنبرة حادة: شرق القاهرة هي قلب الإخوان.... قلب الإخواااان... وما يحدث في القلب ينتقل إلى جسد الجماعة كله... ينتمي إلى شرق القاهرة القيادات التي تمسك خيوط الجماعة وتحركها كما تشاء.. يوجد معنا مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي ومهدي عاكف ومحمود عزت وخيرت الشاطر وعبد المنعم أبو الفتوح وحسن مالك وأحمد شوشة.
قال حسن بهدوئه المعتاد وهو يقاطعني: وأستطيع أنا أيضاً أن أكمل لك العد... فأنا أوافقك ولكن ما معنى هذا الاستدلال؟
قلت وقد انخفض صوتي: معناه أننا منطقة تحت الشمس، فلسنا في شعبة مختفية في دهاليز كفور ونجوع مصر لا يعلم أحد شيئاً عما يتم فيها... إذا أردت أن تعرف ما يحدث في الأطراف والأوصال فانظر إلى القلب.. ما يجري هنا من مظالم ومفاسد يتم تحت سمع وبصر قيادات الإخوان الكبيرة... ليس تحت سمعهم وبصرهم فقط ولكن بموجب أوامرهم أيضاً... كأمر منعي من الخروج من بيتي مثلاً أو أمر مقاطعة مجموعة الوسط وعدم إلقاء السلام عليهم وأمر طرد عبد الستار المليجي وغيرها من الأوامر التي تنضح من الظلم... هذا يدل يا سيدي على أن رأس السمكة فسد... والجماعة تفسد من رأسها كالسمكة.. فإذا فسد الرأس فسد الكل.. هذا يدل على أن الإخوان الذين وضعنا فيهم الأمل في الإصلاح يحتاجون إلى إصلاح... ثم قلت منفعلاً وأنا أنهي الحديث: يا رجال الإصلاح يا ملح البلد.. من يصلح الملح إذا الملح فسد؟
نظر لي الدكتور حسن وقد أصيب بخيبة أمل إلا أنه قال بإصرار دون أن ييأس: إذن فلنصلح معاً الملح ولنعد الماء إلى طهوريته... نحن نحتاجك ونحتاج عقلية مثل عقليتك لنصلح الجماعة... هل تقبل أن تترك جماعتك في يد من يفسدها؟
وكأنني أحدث نفسي قلت وقد أغرورقت عيني بالدموع: أخشى إن ظللنا

على وهم الإصلاح أن نستيقظ ذات يوم فنجد قطار الجماعة قد مضى بعيداً عنا وسار على قضبان الفساد ونحن لا نملك إلا أن يدهسنا القطار إن اعترضنا طريق فساده، وقتها سيرجمنا الركاب الذين يغمضون عيونهم عن الحقيقة، وسيظنون أننا نحارب الإسلام لأننا في نظرهم نقطع دابر جماعة تدعو للإسلام.
قال برفق وقد اغرورقت عيناه بالدموع كرجع لدموعي: لن يحدث هذا وسنكون معاً... إذا تركت الجماعة سأتركها معك.. فكن معنا الآن ولا تتركنا واحضر جلسة المحاكمة غداً ولن يستطيع أحد أن يفعل معك شيئاً.
قلت وقد تحولت دفة اقتناعي إلى وجهة لم أظنها: سأبقى وسأحضر.
وسبحان مقلب القلوب، خرجت من بيت حسن مفعماً بمشاعر متناقضة مضطربة تراوحت بين تلك الفرحة الطفولية التي تنتاب الفرد منا حين يمارس الجسارة والإقدام وهو يواجه الفساد وكأنه في مغامرة من المغامرات اللذيذة الشيقة.... وبين خوفي من المجهول الذي قد تتمخض عنه الأحداث.. إلا أن حب البقاء والمواجهة غلب على رغبة الخروج والخوف من المجهول، فتولد عندي إصرار بالبقاء في الجماعة ومواجهة طغمة الفاسدين، إلا أنني لم أكن أعلم ما أخفاه القدر من غرائب لا يتوقعها عقل أحد من الأسوياء.
استكمال المحاكمة الإخوانية
أمسك الحاج جودة بقارورة المسك وأشار لي إشارة تعني أن أقرب إليه يدي، وعندما قدمت له اليمنى دعك على ظهر كفي بتلك الكرة المستديرة التي تعلو القارورة فانساب عليه قدر من المسك.
- جزاك الله خيراً يا حاج وطيبك بطيب الجنة إن شاء الله.
- نحن وإياكم إن شاء الله.
ابتسم المهندس ممدوح الحسيني وهو يقول: ابسط يا عم لقد نلت بركة الحاج وهي بركة لو تعلم لا ينالها إلا المقربون.
تضاحك الجميع وشاركتهم ببضع ضحكات مغتصبة ثم ساد الصمت بيننا كأنهم يبحثون عن كلمات مناسبة يبدأون بها إلى أن فتح الله على المهندس ممدوح فقال وهو يغطي تثاؤبه بظهر كفه: أنا أرسلت من يحضر لنا طعام الإفطار... دقائق وسيحضر إن شاء الله.

فقال الحاج جودة: بالهناء والشفاء أنا صائم.
وبعد برهة يسيرة دخل أحد الإخوة من شعبتنا ممن يعملون في مكتب المهندس ممدوح وهو يحمل صينية عليها لفائف الطعمية والفول وعندما بدأنا في تناول الطعام ألح المهندس الحسيني على الحاج جودة كي يقطع صيامه ويشاركنا إفطارنا فأخذ الحاج جودة لقمة وقال مبتسماً: سأقطع صيامي وأشارككم من أجل الأخ ثروت فقط... ثم أردف: بسم الله.. اللهم بارك لنا في ما رزقتنا وقنا عذاب النار.... وبعد أن مضغ اللقمة وابتلعها بأناة أخذ ثلاث رشفات من كوب الماء ثم قال بابتسامة رضا: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين... ثم أردف وابتسامته تزداد اتساعاً: ثم جعلنا من الإخوان المسلمين.
ضحك المهندس ممدوح ضحكة إعجاب وقال: الله... الله عليك يا حاج... ثم استدار موجهاً الحديث لي: تعلّم يا أخ ثروت من عمنا الحاج.... نعمة هي أن نكون من الإخوان يجب أن نشكر الله عليها... نعمة هي أن نكون من إخواننا نسمع منهم ونطيعهم ونلين بين أيديهم.
ابتسمت دون أن أعقب... وبعد أن انتهينا من طعامنا دخل أحد الإخوة يحمل صينية عليها بضعة أكواب متنوعة ما بين الشاي والقرفة والينسون وبجوارهم قدح من اللبن لمن أراد أن يخلط شايه أو قرفته باللبن.... وبدأت جلسة المحاكمة.
قال الحاج جودة: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله... يا أستاذ ثروت..
أتسمح لي أن أبدأ في أسئلتي؟
- تفضل على الرحب والسعة.
- لماذا يا أخي خالفت قرار إخوانك بخصوص انتخابات نقابة المحامين التي جرت مؤخراً ووقفت مؤيداً لهذا الذي يدعى عاشور ضد الآخر الذي وقع عليه اختيار الإخوة... رجائي عطية، وكيف طاوعك قلبك أن تقف ضد قائمة إخوانك.
ابتسمت وأنا أغوص في أعماقي كي أستخرج طاقة الصبر من داخلي: ألست معي يا حاج أن الصوت في الانتخابات أمانة؟
أجاب الحاج جودة بصوته الخشن المرتعش: ليس في هذا شك يا أخي.

قلت مستطرداً: وشهادة أيضاً.
أومأ الرجل برأسه كعلامة بينّة منه على الموافقة فاستكملت كلامي: وهل يجوز لأحدنا أن يُملي على الآخر شهادته؟ أيجوز في حكم الشرع يا سيدي أن أطلب منك أن تشهد أمام القاضي شهادة معينة؟ أيجوز أن يتسلط أحدهم على قلبك وعقلك ويجبرك على شهادة يريدها..؟ ترى لو قلت لك اذهب للمحكمة واشهد بأن فلاناً ضرب فلاناً وأنت تحمل في جوانحك شهادة أخرى .. أتبيع دينك وقتئذٍ بدنيا غيرك؟
قال الحاج جودة مرتبكاً: ولكنها ليست شهادة كشهادة المحكمة... ثم نظر إلى المهندس ممدوح مستنجداً ثم قال: أليس كذلك يا ممدوح؟
تنحنح ممدوح وابتسم وقال متجاهلاً سؤال الحاج: أيعني هذا يا أستاذ أنك تشكك في اختيارات إخوانك؟
قلت بحسم: يا أخي أنا لا أشكك ولكن أتحدث عن الأصل.. بغض النظر عن التفصيلات... هذا أمر لا يجوز أن يكون محل مساءلة أو محاكمة منكم لي لأنها شهادة... وبالمناسبة هي شهادة بمعنى الكلمة يا حاج، فأنا أشهد أمام الله سبحانه وتعالى- باختياري هذا- أن فلاناً أصلح من فلاناً لهذا الموقع، والشهادة يا سيدي يملكها صاحبها.. ولا يحق لأحد من أهل الدنيا كائناً من كان أن يحاسبني على شهادتي تلك... فأنا أشهد عن نفسي ولا أشهد نيابة عن الإخوان (كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أما اختيارات الإخوان فيسأل عنها أصحابها... أنا أشهد أن فلاناً حفيظ عليم أو غير ذلك، ولا شأن لي بشهادة الآخرين فالله سيسألهم عنها، ولا يجوز لأحد أن يجبرني على أن أشهد بما يريد هو.. هذا ليس من الدين يا شيخنا.
زم ممدوح شفتيه ثم نظر إلى الحاج جودة كأنما يستحثه على الانتقال إلى سؤال آخر فتناول الحاج جودة كوب الماء ورشف منه رشفة ثم قال: شهد أحدهم أمامنا يا أخ ثروت أن الأخ مختار كان يحرضك على الوقوف ضد قائمة الإخوان من داخل سجنه وأنه اتفق معك على خط اسمها تصدير القلق فما ردك دام فضلك.
وقبل أن أجيب تدخل المهندس ممدوح قائلاً: "لماذا يقيم الأخ مختار الدنيا ولا يقعدها بسبب حبسه يا أخي؟"
إن أعجب فعجبي ممن يملأ الدنيا ضجيجاً عند حبسه.

"أهو أول من يُحبس من الإخوان... فليُحبس يا أخي هل ستتهدم الدنيا؟!!"
"ألا يعلم أن السجن هو معسكر من معسكرات الإخوان، وأن اسمه ما زال مكتوباً بالقلم الرصاص من لم يُحبس بعد من الإخوان؟"
تعجبت من تلك النبرة الهجومية التي أظهرت لي أن هناك من أفسد قلب هذا الرجل على أخيه المحبوس فتجاهلت هجومه ووجهت كلامي للحاج جودة: يشهد الله أن مختار لم يحرضني على الإخوان ومن شهد بذلك كذب، وهي شهادة زور وأتمنى أن أواجه شاهد الزور هذا ولكنني أظن أنه لن يقوى على مواجهتي... أما عن خطة تصدير القلق فهي خطة وضعها الإخوة كلهم في السجن وتستطيع يا حاج أن ترسل للسجن من يسأل الدكتور محمد بديع أو الدكتور محمد بشر في هذا الأمر وهما أعضاء مكتب إرشاد وأظن أن تلك الخطة من بنات أفكارهما مع باقي الإخوة الذين معهما في السجن.
فاستدار الحاج جودة إلى ناحية المهندس ممدوح وأشار له إشارة ذات مغزى ثم تحوّل بوجهه ناحيتي وهو يقول:
منذ متى وأنت تعرف الأخ سليم؟
قلت متخابثاً: الأخ سليم!! من هو الأخ سليم؟
قال مستنكراً: الأخ سليم العوا!!
وكأنني أصحح له قلت وأنا أقطب جبيني: آه.. تقصد الدكتور محمد سليم العوا... أعرفه منذ زمن فهو شخصية شهيرة فضلاً عن أنه من المحامين الكبار في مصر كما أنه مفكر إسلامي شهير وقد كان محامياً للإخوان في القضايا العسكرية عام 1995 وما بعدها وأظن أن إخواننا يلجئون إليه في الملمات.
تدخل المهندس ممدوح قائلاً: الحاج جودة يسأل عن صلتك أنت به؟
قلت متعجباً: صلتي به جيدة... ولكني لا أفهم مغزى السؤال!!.
أجاب المهندس ممدوح: يا أستاذ ثروت هناك أمران... الأمر الأول هو أن الأخ سليم العوا نشر مقالاً في جريدة الأهرام أشار فيه إلى قرار منعك من الخروج من بيتك.. فكيف عرف سر هذا القرار رغم أنه من الأسرار التنظيمية التي لا يجوز البوح بها أبداً؟ فهل أنت الذي أخبرته بهذا القرار؟ أما عن الأمر الثاني فهناك من أخبرنا أنك تتردد على محاضرات الخ سليم

في جمعية مصر للثقافة والحوار... ولذلك نريد أن نعرف منك صحة هذا الأمر.
أجبت وأنا أبدي تعجبي: أما عن الأمر الأول فأريد أن أسأل بدوري... هل قال لكم الدكتور سليم أنني أنا الذي أخبرته عن أمر منعي من الخروج من بيتي؟
قال الحاج جودة: لا لم يقل لنا ولم نسأله.
فقاطعه المهندس ممدوح موجهاً الحديث لي: ولكن منطق الأمور يقول إنك أنت الذي أخبرته... وإلا من الذي أخبره إذن؟
قلت مستفهماً: يعني هذا تخمين أو حدس اعتمد على منطقك أنت هه؟
قال: نعم.
قلت: أهل الممكن أن يكون أحد من الإخون ممن يرتبطون معه بصلة قوية قد أخبره؟... هل هذا وارد أم أنه مستحيل؟
فقال: وارد طبعاً... أنا قلت أن ما لدينا في هذا الشأن هو مجرد حدس.
قلت بحسم: وهل يجوز يا مولانا في هذا الموضع، موضع الحكم بين الناس، استخدام الظن أو الشك أو التأويل أو التخمين؟ (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً).
نظر لي الحاج جودة متفرساً ثم قال: يا أستاذ ثروت... أأنت قلت للأخ سليم أم لم تقل؟ ... هذا هو السؤال؟
خطر لي خاطر بعث في داخلي نوبة من الضحك تحكمتُ فيها وكتمتُها قبل أن تخرج إلى الحياة ثم قلت: أقسم بالله يا حاج جودة أنني لم أقل للأخ سليم شيئاً عن هذا القرار.
بدت الحيرة على وجه الحاج جودة وأخذ ينظر إلى يمينه تارة حيث المهندس ممدوح وإلى يساره تارة أخرى حيث الأستاذ مجدي وكأنما يستنجد بهما ثم قال وكأنه يتأكد: أنت أقسمت... هه؟
قلت: نعم أقسمت... ثم استطردت: وأنا صادق في قسمي.
حملق الحاج جودة في وجهي لبرهة كأنما يسبر غوري ثم قال: ننتقل للنقطة الثانية... هل تتردد على الجمعية الخاصة بالأخ سليم؟
قلت وكأنني أضيف إلى معلوماته: تقصد جمعية مصر للثقافة والحوار

طبعاً.
قال وهو يقدح زناد فكره: نعم هي.. أليس كذلك يا ممدوح... هي جمعية الحوار والثقافة بالقطع... أم هناك جمعية غيرها يا ممدوح.
قال ممدوح مؤكداً: طبعاً هي فلا يوجد غيرها.
قلت متباهياً: أنا عضو في هذه الجمعية وأحضر كل محاضرات الدكتور سليم وهو يعطينا محاضرات في الفقه والمذاهب الفقهية ويحدثنا عن المعتزلة والأشاعرة والشيعة وهي محاضرات رائعة ويا ليت الإخوان كلهم يحضرونها... أتمنى أن تزورنا فيها يا حاج جودة وأثق أنك ستستمتع أيما استمتاع.
قال الحاج جودة ممتعضاً وقد بدا الاستنكار على وجهه: معتزلة!!... أشاعرة!! ما لنا وهذه الأشياء يا بني.. هذه أشياء تفنن العقول... من أراد الدراسة فليذهب إلى الأزهر حيث العلم تماماً كما فعل المهندس ممدوح الحسيني... أخوك ممدوح لديه أضعاف العلم الذي عند سليم هذا... يا أخي خذ من ممدوح... خذ من إخوانك فهم ينهلون من معين البنا وما أدراك ما معين البنا ولا تأخذ أبداً من خارج الإخوان مهما كان قدر من ستأخذ منه.... ثم هل استأذنت من أحد قبل الذهاب لهذا الرجل؟
قلت وأنا أتلكأ في الإجابة: لا لم أستأذن فهذا محض نشاط من حقي أن أمارسه كما أشاء... فكما أذهب إلى النادي وإلى المصيف وإلى الـ
قاطعني قائلاً: يا أستاذ... ألا تعلم أن كل حركة من حركاتك يجب أن تكون تحت نظر الجماعة وموافقتها.. ألا تعلم أنك يجب أن تستأذن في كل شيء... ثم استدار لممدوح قائلاً: أهملتم التربية يا باشمهندس... وعاد بوجهه إلى ناحيتي مكملاً: ألا تعلم أن الأخ سليم هو الذي حرض مجموعة الوسط على الإخوان وأصبح محاميهم؟ فكيف تذهب غليه وقد فعل هذا!!
قلت وأنا أبدي اندهاشي: معقولة!! أفعل هذا؟
وبطريقة أقرب للاستنكار قال ممدوح الحسيني: أو لم تعلم هذا يا أخ ثروت... أو لم تسمع عنه أو لم تقرأ في الصحف عن رعاية سليم العوا لهؤلاء المطاريد؟ أو لم تعرف أن المستشار مأمون لا يحب هذا الرجل لأفعاله تلك؟
قلت بحسم: هذه موضوعات لا نتحدث فيها ولم يثرها أحد في الجمعية... كما أنني لا أهتم بتداعيات موضوع الوسط.. ثم أن مسألة حب المستشار

مأمون له أو عدم حبه هي من خبيئة نفسه... يا باشمهندس انا لا أعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور.. وحتى لو كان المستشار لا يحبه مالي أنا وهذا الموضوع؟
زم ممدوح شفتيه ثم قال: دعك من الحب والكره.. ثم استطرد مستفهماً: ولكن مجموعة الوسط أعضاء في الجمعية أليس كذلك؟
قلت: ليسوا أعضاء فقط ولكن أعضاء في مجلس الإدارة أيضاً هل في هذا شيء؟
وكأنما ظل الحاج جودة أن إجابتي هذه هي الحبل الذي التف حول عنقي.. وأنه آن الأوان لإنهاء المحاكمة باعتراف رسمي فتدخل موجهاً حديثه للمهندس ممدوح: إقرأ يا ممدوح الاتهام الثاني.
نظر ممدوح في ورقة أمامه وقال وكأنه ينطق قرار اتهام: توافرت أدلة في حق الأستاذ ثروت على أنه على صلة قوية بمجموعة حزب الوسط ويتردد عليهم بانتظام وذلك بالمخالفة لقرار الحاج مصطفى وقرار المستشار مأمون الهضيبي بمنع كل الإخوة من التواصل مع هؤلاء بأي صورة ومنع كل الإخوة من إلقاء السلام عليهم أو رد السلام إذا التقوا بهم قدراً في أي مكان بلا ترتيب مسبق.
نظر لي الحاج جودة من وراء نظارته متخابثاً ثم قال: ها... ماذا ستقول في هذه يا أستاذنا أظنك الآن قلت بفيك أنك تقابلهم في جمعيتكم وطبعاً تجلس معهم وتشاطرهم الحديث.
كانت نظرة الحاج جودة المشوبة بابتسامة نصر توحي أنه حاصرني وأنني لا محيص سأقع في حفرة سؤاله مهما حاولت النجاة.
لم أنتظر أو أتمهل في الإجابة فقد بادرته قائلاً: يا حاج جودة سؤالك يحتاج استفهاماً مني.
- استفهم كما تشاء.
- أولاً أريد أن أعرف متى صدر قرار الحاج مصطفى والمستشار مأمون، ومن الذي قام بإبلاغي به ممن هم أعلى مني في التسلسل التنظيمي ولهم على حق الطاعة؟.
- صدر منذ بداية الأزمة التي يعرفها الكل ولا يجهلها أحد.. وتم إبلاغ المناطق كلها به.

- عفواً يا حاج أنا أعرف كل تفصيلات الأزمة وأعرف غضبة إخواني على تلك المجموعة بل انعقدت كتيبة عندنا حضرها الأستاذ مسعود السبحي سكرتير المرشد وشدد النكير فيها على الوسط ورجاله وعاب عليهم خروجهم عن جادة الصواب وحكى لنا عن نزقهم وتشهيرهم بالجماعة في الصحف، والأكثر من هذا تقابلت ومعي بعض الإخوة مع المستشار مأمون وحكى لنا أمر هذا الانشقاق لكن لم يقل أحد شيئاً عن تلك المقاطعة.. فقط أخبروني عن أن الدكتور السيد عبد الستار المليجي ترك الإخوان إلا أننا يجب أن نقابله بالتوقير اللازم وهو ليس من مجموعة الوسط.. ولذلك أريد أن أعرف من الذي أبلغني بهذا القرار؟ في القانون يا حاج (لا عقوبة إلا بنص)... وفي الشريعة.. (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
التفت الحاج جودة للمهندس ممدوح قائلاً بنفاد صبر: ما الحكاية يا باشمهندس ألم تخبروا الإخوة بالقرار؟
قال ممدوح بصيغة التأكيد: لا طبعاً... الكل يعرف... فلقد طلبنا من كل مسئول شعبة إبلاغ شعبته.
وعلى الفور تناولت هاتفي المحمول وأعدت له بطاريته التي كنت قد انتزعتها لدواعي الأمن وناولت الجهاز لممدوح وأنا أقول له: اتصل بمسئول شعبتي وقت أزمتنا مع الوسط ودعه يحضر هنا ونقسم كلانا على ما إذا كان قد أبلغني أم لم يبلغني.
فقال ممدوح بل سأستفهم منه بطريقتي... انزع بطارية هاتفك مرة أخرى يا أخي.. ثم أمسك بورقة وقلم وكتب بضع كلمات وخرج مسرعاً من الحجرة وحين عاد بعد دقيقة قال موجهاً حديثه للحاج جودة: أرسلت أحد الإخوة من العاملين بمكتبي بورقة فيها هذا الاستفهام وسيحضر بالإجابة فوراً.
تنهد الحاج جودة وأخرج علبة دواء من جيبه وأخذ من العلبة حبة صغيرة وضعها تحت لسانه... فقال له المهندس ممدوح: أجهدناك يا حاج كان من المفروض أن يكتب لنا الأخ ثروت ردوده دون أخذ ورد ومناقشة وجدل لكن أظن أن المناقشة أفضل كي يستريح الأخ ويعلم أن العدل سيأخذ مجراه.. فلا تؤاخذنا.
قال الحاج جودة وهو يزدرد الكلام: لا أبداً هذا أفضل... لكن يا أخ ثروت لا داعي لتحبيكها... أنت بين إخوانك ولست في محكمة.. يعني لا

داعي لإصرارك في كل نقطة على أن تناقش وتسأل عن الأدلة وما إلى ذلك... "اجعل بساطك أحمدي وصلي على النبي وفضفض".
لم أرد عليه إلا بابتسامة غاضبة مقتضبة... فعقب المهندس ممدوح قائلاً: العمل يترك أثره على صاحبه ياحاج.. فالمهنة غلاّبة... والمحاماة تركت بصمتها على أخينا الحبيب... عمماً سنستريح إلى أن يأتي الرد.
شرد ذهني وأنا أنتظر في مكاني عودة الرسول وكأنني كنت في عالم آخر لا صلة له بهذا العالم أو كأنني في جب سحيق انقطع عن الدنيا وما فيها، وحين التفت بعيني وخرجت ببصري إلى العمارة المواجهة رأيت قفصاً للعصافير معلقاً في إحدى الشرفات، فعادت ذاكرتي القهقري حينما قال لنا المستشار مأمون الهضيبي عن مجموعة الوسط أنه يستطيع أن يجعلهم يسيرون في الطرقات "بلابيص"!! ترى لماذا كان الرجل متأكداً من سطوته واثقاً في تهديداته؟!!... ألأنه هو ومن سبقه من الآباء الأولين ممن كانوا على نهجه جعلوا من أعضاء الجماعة مجموعة من العصافير كتلك العصافير التي أرها الآن.. وأحكموا عليهم القفص... لو فتح أحدهم الآن هذا القفص للعصافير فإنها حتماً لن تغادر ولن تطير فقد أصبحت مهيضة الجناح... لن تستطيع الانطلاق فهي لم تعرف الحرية من قبل ولم تتعلم الطيران.. وإن غادرت وقعت وتهشمت، يبدو أنني لم أستطع الخروج من قفص الإخوان خوفاً من الحرية، لذلك عدتُ من جديد وأنا ألتحف حجة واهية كأنها ملاءة هواء.. علها تقنعني بالبقاء في ذلك القفص الذهبي الذي طرزوه بالإسلام وزينوه بالخلافة وأستاذية العالم فخلبوا لبي.. واستولوا على مشاعري... وهكذا وقع العصفور أسيراً في القفص، وقع حينما استلبوا مشاعره ودغدغوا عاطفته وأحاسيسه الغضة النقية؟ وإذ يدخل الواحد منا إلى القفص يصبح بَضعة منه... حيث يتزوج من الإخوان ويعمل عند أحد من الإخوان ولا يصادق إلا من الإخوان ويستأجر شقته أو يشتريها من أحد من الإخوان.. فيكون جاره إخوان وزميله في العمل إخوان وصهره إخوان وهلم جرا.. يعيش في دائرة من الإخوان لا يعرف غيرها... أنظر إلى ممدوح الحسيني نفسه... الذين يعملون عنده إخوان... والذين يقطنون في عمارته بالحي الثامن إخوان وعديله إخوان وجيرانه إخوان.... وهكذا الكل.. انفصلنا عن المجتمع وكأننا نعيش في جيتو.. لنا خصوصياتنا وأسرارنا

وقواعدنا... دولة داخل الدولة وليس تنظيماً في الدولة..!! لذلك صدقت يا هضيبي.. لو خرج عصفورك من القفص فإن أوامرك ستسري على الجميع... سنقاطعه ونزدريه وسنطرده من عمله وسيخاصمه جيرانه... لذلك سيمشي في الطرقات بلا غطاء فقد استتر بالإخوان زمناً ولم يعرف غيرهم وها هم يخلعونه.. ولكن.. ألستُ مختلفاً عن هؤلاء؟ فلماذا أراني مكبلاً في قفصهملا أستطيع مغادرته؟ لم أتزوج ابنة أو شقيقة أحد منهم.. وليس في مكتبي قضية من قضاياهم تغل لي مالاً اللهم إلا القضايا التطوعية التي أنفق عليها أو قضايا المجاملات التي أتورع عن تقاضي أتعابها.. ولم أسكن في عقاراتهم ولم أجاورهم ومعظم أصدقائي من خارج الإخوان.... هيا قم أيها الطير الجريح واقفز من قفصك وطر... أجنحتك قوية وستحملك... أنت ما جَرَعْتَ منهم إلا المشقة والأحزان وما أضافوا إليك إلا هذا القيد الذي يكبلك.. حتى أنك عندما كنت تبحر في طريق الدعوة كنت تخطب في المساجد بعيداً عنهم... طر واخرج من قفص التنظيم إلى سماء الدعوة فالطير لا يصدح بالغناء الشجي إلا وهو على الأغصان حراً..
أفقت من شرودي على صوت المهندس ممدوح الحسيني وهو يقول: صح النوم يا أستاذ ثروت.. فنظرت إليه مبتسماً وتحشرج صوتي وأنا أقول: لم أنم.. ثم تنحنحت.
فقال الحاج جودة وهو يتضاحك معي: هنيئاً لمن أخذ عقلك يا سيدي... فنحن نحدثك من دقيقة وأنت سارح في ملكوت الله.... لقد جاء الرسول بالرد يا أستاذنا.
قلت بصوت خشن يشبه صوت من أفاق من غيبوبة فوجد ريقه قد جف: وأنا أنتظر من يقرأ لي هذا الرد.
فأمسك المهندس ممدوح الورقة وأخذ يقرأ من خلال نظارة القراءة: بعد السلام عليكم... قمت بإبلاغ كل الشعبة بالقرار وكان ذلك في المعسكر السنوي للشعبة الذي تم في رأس البر عام 1996... نظر لي الحاج جودة وزفر زفرة كأنها مقدمة بركان بدأ في الغليان.. إلا أن المهندس ممدوح أكمل القراءة وهو يتلعثم: وللعلم لم يكن الأخ ثروت حاضراً في هذا المعسكر فلم يخبره أحد.. توقيع.. فلان الفلاني.
ابتلعني الحاج جودة بعيون حانقة ثم قال وهو يكاد يتميز من الغيظ: ولكن

ألم تعرف خبر هذا القرار من أي أخ من الإخوة؟
قلت بثقة: سمعت به من بعض الإخوة من عين شمس.. منطقتكم يا حاج جودة.
فغر المهندس ممدوح فاه من الدهشة ورفع الأستاذ مجدي حاجبيه بعد أن التزم الصمت طول الجلسة ثم قال وكأنه استغلق عليه الفهم: ها.. أنت عرفت إذن!! فلماذا الإنكار ووجع الدماغ والكلام عن لأدلة وما شابه... حرام عليك يا رجل.
ابتسمت ابتسامة عريضة وأنا أنظر ناحية الحاج جودة ثم قلت له بهدوء: يا حاج... أعطني عقلك دقيقة... لو جاء لك أخ تثق فيه من منطقة أخرى وليس لك عليه حق السمع والطاعة وقال لك إن الإخوان أصدروا أمراً للإخوة عندنا بعدم الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية أو المحليات... فهل ستنفذ هذا الأمر؟
قال وهو يغوص في تفكير عميق: لا طبعاً... يجب أن يتم إخطاري بالقرار رسمياً وفقاً للتسلسل التنظيمي.
قلت وأنا مازلت مصطحباً ابتسامتي أستخرج بها من داخلي ما تبقى في قلبي من الصبر: الله ينور عليك... هذه كتلك... أنظر يا حاج.. أنا رجل تنظيمي جداً.. إذا لم يأت لي القرار رسمياً ومن الشخص المنوط به إبلاغي فلن أنفذه أبداً حتى ولو أخبرني به المرشد شخصياً... نحن يا حاج في المنطقة تنظيميون للغاية هكذا تعلمنا وهكذا درجنا.
ضحك المهندس ممدوح الحسيني منهياً هذا الجزء من المحاكمة وهو يقول: عندك حق والله هذا كلام في الصميم.
أشار له الحاج جودة كي ينتقل للجزء الثالث من المحاكمة فلبس ممدوح نظارة القراءة وتلا من ورقه أمامه "خالف قرار الحاج مصطفى المتضمن منعه من الخروج من بيته أثناء انتخابات المحامين وخرج طوال يوم الانتخابات... وقد شهد عدد من الإخوة أمام المستشار مأمون أنهم شاهدوه وهو يحرّض المحامين ضد قائمة الإخوان في هذا اليوم.
وبعد أن تلا المهندس ممدوح الشق الثالث من قرار الاتهام خلع الحاج جودة نظارته الطبية وأخذ يمسح عدستها بطرف قميصه وهو يقول: ما رأيك يا أستاذ ثروت في هذا الكلام.

قلت وأنا أرفع كتفي وأمد شفتي وأقلّبهما: والله يا حاج أنا في قمة العجب والأسف والألم من وجود هذا الاتهام في هذا التحقيق إذ كان يجب على الإخوة التحلقيق مع من زعم هذا الأمر الكاذب ومعاتبته.. ومع ذلك فليجب المهندس ممدوح فإني أفوضه في الإجابة وأثق في دينه وخلقه... واستطردت بنبرة استولت عليها سحابة من الحزن: ولله الأمر من قبل ومن بعد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعندما هم المهندس ممدوح بالإجابة أسكته الحاج جودة وقال وقد بدا أنه تأثر من لهجتي: أعرف يا أخ ثروت... حكى لنا المهندس ممدوح أنك كنت عنده في هذا اليوم والحاج مصطفى يعلم هذا وقال أننا يجب أن نضع هذا الأمر في الاعتبار أثناء التحقيق معك... والله لنقتص لك أيها الأخ الكريم وسترى العجائب التي ستبهج خاطرك وتسعد قلبك... ولكن لي عتاب عليك.
قلت بمشاعر الابن المفعمة بالصدق والمتخمة بالحنان: اعتب كما تشاء يا حاج.
قال هامساً وكأنما يخشى أن تقع كلماته على أذن غريبة: هل يصح أن تكتب في الصحف منتقداً إخوانك؟... هل هذه أخلاقنا التي تربينا عليها؟ لقد كانت مقالاتك هذه جزءاً من التحقيق ولكننا أغفلناها حرصاً عليك وعلى وجودك بالجماعة.
قلت أبرئ نفسي: لم أنتقد الجماعة ولكن انتقدت بعض المحامين من الإخوان.
قال وكلامه يزداد همساً: الجزء يساوي الكل من انتقد البعض فقد انتقد الكل... اسمح لي يا أستاذ.. أنت أخطأت.
قلت وأنا أستدرجه لمنطقي: هل لديك شك يا حاج أنهم ظلموني ظلماً بيناً؟ لقد عاينت بنفسك ورأيت أنهم قدموا ضدي شكوى كاذبة تزعم أني خالفت قرار الحاج مصطفى وخرجت من بيتي... وليس من رأى كمن سمع... أليس هذا هو الظلم بعينه؟
- نعم يا بني... أوافقك.. هو الظلم بعينه، ولكنه لا يعطي لك الحق في نقد الجماعة جهراً.
- كيف هذا يا حاج بالله عليك.. إن الله يعطيني إذا ظلمت الحق فيما هو أعلى من النقد ألم يقل الله سبحانه وتعالى (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ

مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا).
- عموماً سيكون هذا محل نظر إن شاء الله والله ولي التوفيق.. سعدنا بك اليوم وأرجو أن تغفر لنا ولإخوانك وتسامحنا... صحبتك السلامة.
وقفت وقفة اطمئنان وسلمت عليهم جميعاً وقلت وأنا أهم بالانصراف: وعليكم السلام وأتمنى من الله أن تقيموا العدل.. ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.
- سترى العدل الذي لن تنساه أبداً وستشهد لنا إن شاء الله.
- ومتى سيصدر القرار إن شاء الله.
- سيصدر أقرب مما تتوقع فدع أمرك للذي لا يغفل ولا ينام.
خرجت إلى الطريق بعد أن أمضيت ثلاث ساعات كاملة أو أكثر قليلاً داخل محكمة الإخوان وكان الظهر قد اقترب فتوجهت إلى أقرب مسجد كي أصلي الضحى وأنتظر الظهر، دخلت المسجد وأنا أتحرق شوقاً لمعرفة الحكم الذي سيصدر من المحكمة الإخوانية وكانت نفسي تحدثني بأنني هزمت فلول الظلم لا محالة.