المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عمدة الرعاية بتحشية شرح الوقاية - جزء سابع


gogo
10-22-2019, 01:34 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: عمدة الرعاية بتحشية شرح الوقاية
المؤلف: الإمام محمد عبد الحي اللكنوي (ت1304هـ)
المحقق: الدكتور صلاح محمد أبو الحاج
الناشر: مركز العلماء العالمي للدراسات وتقنية المعلومات
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 10
[الكتاب مرقم ترقيماً آلياً للموسوعة غير مطابق للمطبوع]
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
عليه أداءُ ثُلُثيِّ الألفِ إلى المولَى، وسقطَ عنه ثُلُثُ الألف؛ لأنَّهُ قابلَ الألفَ بالرَّقبةِ شراءً، وبالبُضُعِ نكاحا، فسلِمَ له الرَّقبة دون البضع، فوَجَبَ حصَّةُ ما سَلِمَ له، ولم يجبْ حصَّةُ ما لم يسلمْ له.
(فلو نُكِحَتْ[(1)] فحصَّةُ مهرِها مهرُها في وجهيه)، هذا الذي ذَكَرَنا[(2)] إنِّما هو على تقديرِ الإباء، أمَّا إذا لم تأب ونُكِحَت، فمهرُها حصَّةُ مهرِ المثل من الألف، وهو ثُلُثُ الألفِ فيما فرضناه، وقولُهُ: في وجهيه: أي فيما لم يقلْ: عنِّي، وفيما قال: عنِّي.
__________
(1) قوله: فلو نكحت… الخ؛ قال في ((كشف الوقاية)): أي هذا الذي ذكرنا إنّما هو على تقدير الإباء، أمّا إذا لم تأبَ ونكحته فمهرُها حصّة مهرُ المثلِ من الألف، وهو ثلثُ الألف فيما فرضنا، قال في ((التبيين)): لو زوّجت نفسها منه في الوجهين لم يذكره في ((الجامع الصغير))، وجوابه: ما أصاب قيمتها سقطَ في الوجه الأوّل، وهو للمولى في الوجه الثاني، وما أصابَ مهرَ مثلها كان مهراً لها في الوجهين، ولو أعتقَ أمةً على أن تزوّجه نفسها فزوّجته نفسها كان لها مهرُ مثلها عند أبي حنيفةَ رح ومحمّد رح؛ لأنَّ العتقَ ليس بمال فلا يصلح مهراً، وعند أبي يوسفَ رحمه الله يجوزُ جعل العتق صداقاً؛ لأنّه عليه الصلاة والسلام أعتق صفيّة ونكحها، وجعلَ عتقها مهرها، قلنا: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بالنكاحِ بغير مهر، فإن أبت أن تزوّجه فعليها قيمتها في قولهم جميعاً. انتهى.
(2) قوله: هذا الذي ذكرنا؛ أي عتقها بلا وجوب شيءٍ على الآمر في الوجه الأوّل، وعتقها مع وجوبِ حصّة القيمة على الآمر، وسقوطِ حصّة مهر المثل.
(5/223)
________________________________________
بابُ التَّدبير والاستيلاد(1)[(2)]
__________
(1) غير موجودة في م.
(2) قوله: باب التدبير… الخ؛ لما فرغَ عن أنواعِ العتقِ الحاصل قبل الموتِ منجزاً أو معلَّقاً شرعَ في أنواعِ إيجابِ العتقِ الحاصل بعد الموت، ولمّا كان التدبيرُ والاستيلاد مشتركين في حصولِ العتق بهما بعد موتِ المولى جمعهما في بابٍ واحد، وقدّم التدبيرَ؛ لأنّه إيجابُ عتقٍ صريحاً، ولا كذلك الاستيلاد، ثمّ الاستيلاد لغة: طلبُ الولد، وشرعاً: عبارةٌ عن ادّعاء نسب ولدِ أمةٍ موطوءة من نفسه، ويطلق بذلك على الأمة أمّ الولد، وهو من الأسماءِ الغالبة، والتدبير لغة: النظرُ في عواقبِ الأمور، وشرعاً: إيجابُ العتقِ الحاصل بعد الموت بألفاظٍ تدلّ عليه، فكأنّ المولى ينظرُ إلى عاقبة أمره، فيخرج عبده من الرقيّة إلى الحريّة. كذا في ((النهاية)) وغيرها.
(5/224)
________________________________________
(مَن أُعتقَ عن(1) دُبُرٍ[(2)] مطلقاً بإذا متُّ[(3)] فأنت حرّ، أو أنت حرٌّ عن دُبُرٍ منِّي، أو أنتَ مدبَّرٌ، أو دَبَّرتُك، أو(4) إن متُّ إلى مئةِ سنة وغَلَبَ[(5)] موتُهُ قبلَها فمدبَّرٌ)، فقولُهُ: مَن أُعتق: مبتدأ، وخبرُهُ: مدبَّر.
__________
(1) في ق: على.
(2) قوله: عن دبر؛ الدبرُ بضمّتين وقد يخفّف الباءُ خلافَ القبل من كلّ شيء، ومنه يقال لآخر الأمر دبر، والمراد به دبرُ المولى؛ أي أعتقه بعده، وأمّا تعليقه بموتِ غيره فليس بتدبير بل تعليق. كذا في ((البحر)) نقلاً عن ((المبسوط)).
(3) قوله: بإذا متّ… الخ؛ قال في ((البدائع)): له ألفاظ، فقد يكون بصريحِ اللفظ، مثل أن يقول: أنت مدبّر أو دبّرتك، وقد يكون بلفظِ التحريرِ والإعتاق مثل: أنت حرّ بعد موتي، أو حرّرتك بعد موتي، أو أنت عتيقٌ أو معتق بعد موتي، وقد يكون بلفظِ اليمين بأن يقول: إن متّ فأنت حرّ، أو إذا متّ أو متى متّ أو متى ما متّ، أو إن حدث بي بحدث أو متى حدث بي حدث، وكذا إذا ذكرَ في هذه الألفاظِ مكانَ الموت الوفاة أو الهلاك، وقد يكون بلفظِ الوصيّة وهو أن يوصيَ لعبده بنفسه أو برقبته أو بعتقه أو بوصيّة يستحقّ من جملتها رقبته أو بعضها، نحو أن يقول: أوصيتك بنفسك أو رقبتك أو بعتقك، أو كلّ ما يعبّر به عن جميع البدن، وكذا لو قال: أوصيت لك بثلثِ مالي. انتهى.
(4) في م: و.
(5) قوله: وغلب؛ متعلّقٌ بالمثال الأخير، والواو حاليّة، والحاصل أنّه لو قيّد الموتَ بمدّة وكان الغالبُ حصولَ الموت قبلها بأن كان كبيرَ السنّ كأن يقول المولى وسنّه ثمانون سنة: إن متّ إلى مائة سنة يكون مدبّراً أيضاً.
(5/225)
________________________________________
واعلم أنَّه قال في ((الهداية))[(1)]: إنَّ التَّدبيرَ إثباتُ العتقِ عن دُبُر(2).
وإنِّما فسَّرَه بهذا رعايةً لموضعِ اشتقاقِ التَّدبير؛ فلهذا قال ((المتن)): مَن أُعْتِقَ عن دُبُر.
وإنِّما قال: مطلقاً؛ احتزازاً عن المقيَّد[(3)].
__________
(1) قوله: إنّه قال في ((الهداية))… الخ؛ عبارة ((الهداية)) في أوّل باب التدبير: إذا قال المولى لمملوكه: إذا متّ فأنت حرّ، وأنت حرّ عن دبرٍ مني، أو أنت مدبر، أو قد دبرتك، فقد صارَ مدبّراً؛ لأنَّ هذه ألفاظٌ صريح في التدبير، فإنّه إثباتُ العتقِ عن دبر. انتهت. ففسّر صاحب ((الهداية)) التدبير بقوله: إثباتُ العتقِ عن دبر رعايةً لموضعِ اشتقاق التدبير، فإنّه مأخوذ من الدبر، فأشار إليه المصنّف بقوله: من أعتق عن دبر… الخ.
(2) انتهى من ((الهداية))(2: 67). بتصرف يسير.
(3) قوله: احترازاً عن المقيّد؛ ظاهرُ كلام كثيرٍ من الفقهاء أنَّ المدبّر شرعاً إنّما هو المدبّر المطلق، وأمّا المقيّد فخارجٌ عن المدبّر شرعاً، ومنهم مَن قال: إنّ المدبّر مشتركٌ معنويّ بين المطلقِ والمقيّد، وأيّا ما كان فالأحكامُ المختصَّة بالمدبّر التي سيذكرها المصنّف رح من عدم جوازِ بيعه ونحوه إنّما هي للمطلقِ دون المقيّد، فلا بدّ من الاحترازِ عن المقيّد، فلذا زاد المصنّف قوله: مطلقاً.
(5/226)
________________________________________
فالمطلق: أن يُعلِّق[(1)] العتقَ بموتِ مطلق، أو مقيَّدٍ[(2)] بقيدٍ يكونُ الغالبُ وقوعَه.
والمقيَّد: أن يعلَّقَهُ بموتٍ مقيَّدٍ بقيدٍ لا يكونُ كذلك عادة، نحو: إن متُّ في مرضي هذا فهو حرّ.
__________
(1) قوله: أن يعلّق؛ مضارع مجهولٌ من التعليق، وما بعده نائب فاعله، ويحتمل أن يكون معروفاً، وفاعله الضميرُ الراجعُ إلى المولى، وما بعده مفعوله، وليس المرادُ بالتعليقِ معناه الحقيقيّ بل أعمّ منه.
(2) قوله: أو مقيّد؛ فالمدبّر المطلقُ على قسمين: أحدهما أن يكون العتقُ مضافاً إلى الموت مطلقاً من دون أن يقيّد بزمانٍ أو بحال، وثانيهما: أن يكون مضافاً إلى الموتِ المقيّد بقيدِ يكون غالبَ الوقوع، والمدبّر المقيّد ما يكون مخالفاً لهاتين الصورتين.
(5/227)
________________________________________
فقولُهُ: إن متُّ الى مئة سنة؛ وهو[(1)] ابنُ ثمانين سنةٍ مثلاً، وإن كان في الصُّورة مقيَّداً فهو في المعنى مطلقٌ[(2)]؛ لأنَّ الغالبَ أن يموتَ قبل هذه المدَّة.
فقولُهُ: إن متُّ الى مئةِ سنة؛ يكون بمَنْزلةِ قولِهِ: إن متّ، فيكون في حكمِ المطلق.
وقولُهُ: إن متُّ إلى مئةٍ سنةٍ تقديرُهُ[(3)]: إن متُّ في وقتٍ من هذا الزَّمان إلى مئةِ سنة.
__________
(1) قوله: وهو؛ أي والحالُ أنَّ المولى قائلُ ذلك الكلام عمره عند ذلك ثمانونَ سنةً مثلاً، فإنّ الظاهرَ أن مَن يكون عمره ثمانينَ لا يعيشُ إلى مئةَ سنةٍ من ذلك الوقت.
(2) قوله: وفي المعنى مطلق؛ قال في ((الهداية)): ومن المقيّد أن يقول: إن متّ إلى سنة أو عشرَ سنين لما ذكرنا، بخلاف ما إذا قال: إلى مائة سنة، ومثله لا يعيشُ إليه في الغالب؛ لأنّه كالكائن لا محالة. انتهى. واعترضَ عليه بأنّ كلامه هذا يناقض قوله في بحثِ نكاحِ المؤقّت من كتابِ النكاح، ولا فرقَ بين ما إذا طالت مدّة التأقيت أو قصرت؛ لأنّ التأقيت هو المعيّن لجهة المتعة، وقد وجد. انتهى. فإنّ كلامه هاهنا يقتضي أنَّ التقييدَ بقيدٍ يكونُ الغالب وقوعه في حكم الإطلاق، وكلامه هناك يدلّ على أنّه مقيّد، فيكون النكاح بقوله: نكحتك إلى مائة سنة مؤقَّتاً، وذكر قاضي خان وصاحب ((جوامع الفقه)) و((الينابيع)): أنَّ المقيّد بقيدٍ مطلقاً وإن كان غالبُ الوقوعِ مدبر ومقيّد، وهو موافقٌ لما ذكروه في بحث النكاح، وذكرَ جمعٌ منهم أنّ المختارَ هو أنّه مطلق، والتقييدُ بقيدٍ غالبِ الوقوعِ في حكم التأبيد، وأما ما ذكرَ في ((الهداية)) في بحثِ النكاحِ المؤقّت فهو مبني على الاحتياطِ في منعِ النكاح المؤقّت تقديماً للمحرم. كذا في ((البحر)) وغيره.
(3) قوله: تقديره؛ إنّما إحتاجَ إلى هذا التقدير؛ لئلا يتوهَّم أنَّ المراد موته بعمرِ مئة سنة متضمّنة لعمره الذي بلغَ إليه عند الكلام المذكور.
(5/228)
________________________________________
ثُمَّ شَرَعَ[(1)] في حكمِ المُدبَّر، فقال: (لا يباعُ ولا يوهب[(2)]، ويستخدم[(3)]، ويستأجر، والأمةُ توطأُ وتنكح): هذا عندنا(4)، وأمَّا عند الشَّافِعِيِّ(5) - رضي الله عنه - فيجوزُ انتقالُهُ[(6)
__________
(1) قوله: ثمّ شرع؛ أي بعد ما فرغَ المؤلّف عن ألفاظ التدبير أراد أن يشرعَ في حكمه.
(2) قوله: لا يباع ولا يوهب؛ ذكرهما على سبيل التمثيل، وإلا فكلّ تصرّفٍ لا يقعُ في الحرّ نحو الأمهارِ والرهن والوصيّة والبيع والشراء والهبة والصدقة يمتنعُ في المدبّر، وبالجملة لا يخرجُ المدبّر من الملكِ بوجهٍ من الوجوه إلا بالإعتاق والكتابة. كذا في ((الذخيرة)) و((البحر)).
(3) قوله: ويستخدم؛ عطف على قوله: لا يباع، لا على قوله: يباع، وبالجملة: هو ليس بداخلٍ تحت النفي، والحاصل: إنّه يجوزُ استخدامُ المدبّر واستئجاره وإيجاره وإنكاحه ووطئ المدبّر، والوجه فيه أنَّ ملكَ الرقبةِ باقٍ للمولى، فتجوزُ هذه الأشياء كما تجوزُ بسائر المماليك، وإنّما امتنع البيع ونحوه ممّا يخرجه عن ملكِه؛ لأنّ فيه إبطالاً لما استحقّه العبد من العتق بعد موت مولاه.
(4) لأ ملك المولى ثابت له، وبه تستفاد هذه التصرفات من غير إبطال حقّ العبد، وولد المدبّرة مدبّر. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 229).
(5) ينظر: ((التنبيه))(ص97)، و((المنهاج)) وشرحه ((مغني المحتاج))(3: 512).
(6) قوله: فيجوز انتقاله… الخ؛ حجّته حديثُ أصحابِ الكتب الستّة وغيرهم: إنّ رجلاً دبَّر غلاماً له وليس له مالٌ غيره، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((مَن يشتريه منيّ؟)) فاشتراه نعيم بن النحام، وأجاب أصحابنا عنه بحمله على المدبّر المقيّد، وبحمله على بيعِ الخدمة لا بيع الرقبة، وقد صرّح به أبو جعفر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما أذنَ في بيع خدمته، أخرجه الدارقطنيّ وحجّتنا حديث ابن عمرَ (رضي الله عنهم) مرفوعاً: ((المدبّر لا يباعُ ولا يوهب، وهو حرٌّ من ثلثِ المال))، أخرجه الدارقطنيّ وغيره، لكنّ سنده ضعيف، والأصحّ أنّه موقوفٌ على ابنِ عمرَ (رضي الله عنهم)، وفي المقام تفصيلٌ مذكورٌ في ((تخريج أحاديث الهداية)) للزيلعيّ وغيره.
(5/229)
________________________________________
] من ملكٍ إلى ملك.
(فإن ماتَ سيِّدُه عتقَ من ثُلُثِ مالِه[(1)]، وسعى في ثُلُثَيه إن لم يتركْ[(2)] غيرُه، وفي كلِّه[(3)] إن استغرقَ دينُه)؛ لأنَّه لمَّا كان إيجاباً بعد الموتِ[(4)] كان له حكمُ الوصية[(5)
__________
(1) قوله: من ثلثِ ماله؛ أي ثلث مال المولى الكائنِ عند موته، والأصلُ فيه أنَّ التدبير في حكمِ الوصيّة لكونه إيجاباً بعد الموت، ولا نفاذ للوصيّة إلا في ثلثِ مال الموصي، فإن كان ثلثَ مالِ المولى عند موته مقدارَ قيمةِ المدبّر أو أزيد منه؛ كأن يكون قيمةُ المدبر ثلاث مائة دراهم، وجميع ماله تسعُ مائة دراهم أو أزيدَ منه عتقَ المدبّر كلّه كما هو مقتضى إيجاب المولى، وإن كان المدبّر أكثر من ثلثِ ماله عتق منه بقدرِ الثلث، وسعى في الباقي، وإن لم يترك مالاً سوى العبدِ المدبّر عتقَ منه ثلثه وسعى في ثلثيه للورثة، وإن كان مستغرقاً بالدين بأن كان على المولى دينٌ بمقدارِ قيمةِ المدبّر، ولا مالَ له سواه سعى في كلّه؛ لتقدّم حقّ الدائن على إنفاذ الوصايا.
(2) قوله: إن لم يترك؛ أي إن لم يترك المولى مالاً غيره مدبّره، وهذا تقييد لقوله: ويسعى في ثلثيه، ويقيّد أيضاً بأن يكون للمولى وارثٌ لم يجزه، فإن لم يكن له وارثٌ أو كان وأجازَ عتقَ كلَّه، عتق كله على ما عرف في (كتاب الوصايا).
(3) قوله: وفي كلّه؛ أي يسعى المدبّر لأربابِ الديونِ إن لم يتركْ المولى غيره، واستغرق دينَه ماله في كلّ قيمته.
(4) قوله: لمّا كان إيجاباً بعد الموت؛ معنى كونه إيجاباً بعد الموتِ أنّه يظهرُ أثره، وهو تنجيزُ العتقِ بعد موته، فيجعلُ كأنّه أوجبَ في ذلك الوقت.
(5) قوله: كان له حكمُ الوصيّة، ولذا ذكرَ في الجوهرةِ النيّرة وغيرها أنّه لو قتل المدبّر سيّده سعى في كلّ قيمتِه للورثة، إذ لا وصيّة لقاتل، وهذا بخلافِ أمّ الولد، فإنّها لو قتلت سيّده عتقت ولا سعايةَ عليها؛ لأنَّ عتقها ليس بوصيّة، وأمّا المدبّر والمدبّرة فقتلهما سيّدهما ردّ للوصيّة.
(5/230)
________________________________________
].
(وبيعَ[(1)] إن قال له: إن متُّ في سفري، أو مرضى هذا، أو إلى سنة، أو نحوها ممَّا يمكنُ[(2)] غالباً، وعُتِقَ[(3)] إن وُجِدَ شَرْطُهُ كعتقٍ المُدبَّر): فقولُهُ: وبيع: أي صحَّ بيعُهُ، وكذا[(4)] جميعُ ما يوجبُ الانتقالَ من ملكِ إلى ملك، وقولُهُ: ممَّا يمكنُ غالباً: أي ممَّا لا يكونُ وقوعُه واجباً في الغالب، ذَكَرَ الإمكان وأرادَ التَّردُّد[(5)].
__________
(1) قوله: وبيع؛ بصيغة المجهول، يعني إن علّق عتقه بموتِه مقيّداً بقيدٍ لا يجبُ وقوعه غالباً لا يكون مدبَّراً، فيجوزُ بيعه وهبته وغير ذلك من التصرّفات، وذلك لأنَّ السببَ لم ينعقد في الحال؛ للتردّد في وقوعِ الموت على تلك الصفة، بخلاف ما إذا علَّق عتقَه بموته مطلقاً، فإنّه كائنٌ لا محالة، فينعقدُ سبباً في الحال، ويمتنع إخراجه من ملك إلى ملك.
(2) قوله: ممّا يمكن؛ أي من القيودِ التي يكون وقوعها ممكناً متردّداً بين أن يكون وبين أن لا يكون، لا غالب الوقوع، واحترزَ به عن قول للمولى وهو ابن ثمانينَ سنة مثلاً: إن متّ إلى مائة سنة فأنت حرّ، فإنّه يكون مدبّراً مطلقاً كما مرّ.
(3) قوله: وعتق؛ يعني عتقَ المدبّر المقيّد عن وجودِ شرطه كموتِه في ذلك السفرِ أو بذلك المرض، لا لأنّه مدبّر، بل لأنَّ عتقه معلّق بشرطٍ فتنجزُ عند وجود الشرطِ كما في سائر التعليقات.
(4) قوله: وكذا… الخ؛ إشارةٌ إلى أنّ ذكر البيع اتّفاقيّ وتمثيليّ.
(5) قوله: وأراد التردّد؛ لا مطلق الإمكان الذاتي، فإنّ وقوع القيد الذي يكون وقوعه غالبياً أيضاً ممكنٌ بالذات، مع أنَّ العتقَ المقيّد به مدبّر مطلق على ما مرّ تفصيله.
(5/231)
________________________________________
...(1)(وأمةٌ ولدَتْ[(2)] من سيِّدِها، أو من زوجٍ[(3)](4) فملَكَها [صارَت](5) أمَّ ولد، وحكمُها كالمُدبِّرة[(6)] إلاَّ أنَّها[(7)
__________
(1) في م زيادة باب الاستيلاد.
(2) قوله: ولدت؛ قال في ((البحر)): أطلقَ الولدَ فشملَ الولدَ الحيّ والميّت؛ لأنَّ الميّت ولد بدليل أنّه يتعلّق به أحكامُ الولادة، حتى تنقضي به العدّة، وتصيرُ به المرأةُ نفساء، وشمل السقطَ الذي استبانَ بعض خلقه، وإن لم يستبن شيءٌ منه لا تكون أمّ ولدٍ وإن ادّعاه.
(3) قوله: أو من زوج؛ صورته أن يتزوّج حرّ بأمةٍ لغيره، فيولد له منها ولدٌ، ثمّ يملك الزوج زوجته باشتراء أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، سواء كان ملكه ملك الكلّ أو ملك البعض، بأن يشتريها هو وآخر فتصيرُ أمّ ولدٍ للزوج، وتلزمه قيمةُ نصيبِ شريكه في صورة الشركة. كذا في ((البحر)).
(4) في ب و م: الزوج.
(5) زيادة من أ و ب و س و م.
(6) قوله: وحكمها كالمدبّرة؛ أي في عتقها بعد موت سيّدها، وعدمُ جواز إخراجها من ملكٍ إلى ملكٍ بالبيع ونحوه، والأصل فيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمارية القبطيّة، وهي أمته وأمّ ولده إبراهيم: ((أعتقها ولدها))، أخرجه ابن ماجه والبهيقيّ وغيرهما بسند ضعيف، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أيّما أمة ولدت من سيّدها فهي حرّة عن دبرْ منه))، أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطنيّ والحاكمُ والبيهقيّ بسندٍ ضعيف، وقد ثبتَ في ((سنن النسائي)) وابن ماجه والشافعيّ وغيرهما: إنّ الصحابةَ كانوا يبيعون أمّهات الأولاد، فمنعهم عمر رضي الله عنهم، واجتمع عليه رأيهم.
(7) قوله: إلا أنها …الخ؛ بيانٌ للفرق بين المدبّرة وبين المستولدة، وقد ذكر في ((الفتح)) و((البحر)) وغيرهما أنّ بينهما فرقاً من حيث أنَّ المستولدةَ لا تضمنُ بالغصب ولا بالإعتاق والبيع ولا تسعى لغريم، وتعتقُ من جميع المال، وإذا استولدَ أمّ ولدٍ مشتركةٍ لم يملك نصيب شريكه وقيمتها الثلث، ولا ينفذُ القضاء بجواز بيعها، وعليها العدّة بموتِ السيد أو إعتاقه ويثبت نسب ولدها بلا دعوى، ولا يصحّ تدبيرها، ويصحّ استيلادُ المدبَّرة، ولا يملك الحربيّ بيع أمّ ولده، ويملك بيع مدبّرته، ويصحّ استيلاده جارية ولده ولا يصحّ تدبيرها.
(5/232)
________________________________________
] تعتقُ عند موتِهِ من كلِّ مالِه، ولم تسعَ لدينِه، ولا(1) يثبتُ نسبُ ولدِها إلاَّ أن يُقِرَّ به، فإن أقرَّ فولدَتْ آخر يثبتُ نسبُه بلا دعوة، وانتفى[(2)] بنفيه).
اعلم أن الفراشَ: إمِّا ضعيف، أو(3) متوسط، أو قويّ.
فالضَّعيفُ: هي الأمةُ[(4)] فلا(5) يثبتُ نسبُ ولدِها إلاَّ بدعوةِ(6) [سيِّدِها][(7)](8)، فإذا ادَّعى صارَتْ أمَّ ولد، وهي الفراشُ المتوسط، ويثبتُ نسبُ ولدِها بلا دعوة؛ لكنَّه ينتفي بنفيه[(9)]، والفراشُ القويُّ هي المنكوحة، فيثبتُ نسبُ ولدِها بلا دعوة، ولا ينتفي بالنَّفي، بل يجبُ اللِّعان(10)
__________
(1) في ق: ولم.
(2) قوله: وانتفى… الخ؛ أي انتفى نسبه بنفيه عن نفسه.
(3) في م: وإما.
(4) قوله: هي الأمة؛ حمل الفراشَ على الأمة وغيرها؛ لكونِ الموطوءة مثل الشيء المفروش تحت الواطئ، فكانت كفراشِ الوطئ، وهو بالكسر ما يفرشُ ويبسط، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر محمولاً مبالغة.
(5) في م: التي لا، وص: و.
(6) في ص: دعوة.
(7) قوله: إلا بدعوةِ سيّدها؛ فإن لم يدعو وأنكر كونه منه، لم يثبت نسبه منه، وإن كان مقرّاً بوطئها وهو المرويّ عن ابن عبّاس وعمر وزيد بن ثابت وغيرهم على ما أخرجه الطحاويّ في ((شرح معاني الآثار))، والسرّ فيه أنّ وطئ الأمة يقصدُ به قضاء الشهوة دون الولد، فلا بدّ من دعوى السيّد، بخلافِ عقدِ النكاح فإنّه يقصدُ به الولد، فلا يحتاج إلى الدعوة، وبخلاف ما إذا أتت الأمةُ بولدٍ وادّعاه منه، فإنّه يعلم حينئذٍ أن مقصوده بوطئها هو الولد، فتشابه المنكوحة، فيثبتُ نسب ولدها الآخر من مولاه بلا دعوة.
(8) سقطت من ص.
(9) قوله: لكنّه ينتفي بنفيه؛ يعني لو نفى الولد الآخر من أمّ ولده، فقال: هو ليس منّي، انتفى نسبه منه من دونِ وجوب شيء، بخلاف نسبِ ولدِ المنكوحة، فإنّه لا ينتفي بنفيه، بل يجب أن يلاعنَ مع الزوجة، وبعد ذلك يلتحقُ الولدُ بأمّه كما مرّ ذكره غير مرّة.
(10) مرّ معنا سابقاً في باب ثبوت النسب من كتاب النكاح أن هناك فراش رابع أيضاً، وهو: فراش أقوى : كفراش معتدة البائن، فإن الولد لا ينتفي فيه أصلاً؛ لأن نفيه متوقف على اللعان وشرط اللعان الزوجية، ينظر: ((رد المحتار))(3: 549).ع.
(5/233)
________________________________________
[(1)].
(وأمُّ ولدِ النَّصرانيِّ[(2)] إذا أسلمَتْ تسعى[(3)] في قيمتِها[(4)]، وتعتقُ بعدها): أي بعد السِّعاية(5)
__________
(1) قوله: بل يجب اللعان؛ وهاهنا قسم رابع: وهو فراشٌ أقوى، وهو فراشُ المعتدّة عن بائن، فإنّه يثبتُ نسبُ ولدها منه إذا صلحت المدّة لذلك، ولا ينتفي بنفيه أصلاً؛ لعدمِ اللعان هناك، فإنّ من شروطِ اللعانِ قيامُ الزوجيّة، وقد ذكرَ هذه المسألةَ بحذافيرها فيما سبق.
(2) قوله: وأمّ ولد النصرانيّ؛ هذه قيدّ اتّفاقيّ فإنّ الحكمَ عامّ في أمّ ولد كلّ كافرٍ ذميّ، والحاصل: إنّ الكافرَ الذميّ إذا أسلمت أمّ ولده عرضَ عليه الإسلام، فإن أسلم بقيت أمّ ولدٍ له على حالها كما كانت، وإن لم يسلم سعت في قيمتها لمولاه، وعتقت بعد أداء مال السعاية، وعند زفر رح تعتقُ في الحال، والسعايةُ دينٌ عليها؛ لأنّ إزالةَ الذلّ عنها بعد ما أسلمت واجب، فإنّ بقاءَ المسلمة في ملكِ الكافر ذلّة، وهو بالبيعِ أو الإعتاق، وقد تعذّرَ البيعُ لعدمِ جوازِ بيع أمّ الولد، فتعيّن العتق، ونحن نقول: النظرُ من الجانبين؛ أي جانبُ النصرانيّ وجانب أمّ الولد في جعلها مكاتبة، فإنّه يندفعُ الذلّ عنها، لصيرورتها حرّةً يداً، والضررُ عن الذميّ لوصوله إلى بدلِ ملكه.
(3) قوله: تسعى؛ وحينئذٍ تكون مكاتبة، إلا أنّها لو عجزت لم تردّ إلى الرقّ، إذ لو ردّت للأعيدت مكاتبة؛ لقيام الموجب وهو إسلامها وكفرُ مولاها، ولو ماتَ المولى قبل أداءِ السعاية كلاً أو بعضاً عتقت مجّاناً لكونها أمّ ولد له، فإن قلت: القولُ بالسعاية على أمّ الولدِ قولُ بالتقوّم مع أنّ ماليّة أمّ الولد غير متقوّمة عند أبي حنيفة رح على ما مرّ ذكره، قلت: ماليّة أمّ الولد يعتقدها الذميّ متقوّمة فيعملُ به حسبما اعتقده. كذا في ((الهداية)) و((البناية)).
(4) قوله: في قيمتها؛ وهي ثلثُ قيمتها حالَ كونها قنّة كما مرّ ذكره سابقاً.
(5) لتعذر إبقائها في ملك المولى ويده بعد إسلامها وإصراره على الكفر فتخرج إلى الحرية بالسعاية،وهذا لأن ملك الذمي محترم فلا يمكن إزالته مجاناً. ينظر: ((المبسوط))(7: 168).
(5/234)
________________________________________
[(1)]، (إن عرضَ[(2)] عليه الإسلام فأَبى.
وهي بحالها، إن عرضَ فأسلم): أي تكون أمَّ ولدٍ له كما كانت.
(فإن(3) ادَّعى[(4)] ولدَ أمةٍ مشتركة): أي بين المدَّعي وبين آخرٍ[(5)] (يثبتُ(6) نسبُهُ منه، وهي أمُّ ولدِهِ وضَمِنَ[(7)] نصفَ قيمتِها، ونصفَ عقرِها(8) لا قيمةَ ولدِها): لأنَّه لمَّا استولدَ[(9)] الجاريةَ يثبتُ النَّسبُ في النِّصفِ لمصادفتِهِ ملكَه[(10)]، فيثبتُ في الباقي ضرورةَ أن النَّسبَ لا يتجزأ[(11)]؛ لأنَّ الولدَ لا
__________
(1) قوله: أي بعد السعاية؛ هي بالكسر، اسمٌ لمالٍ يجبُ عليه في عرفهم، وإن كان مصدراً فالمضاف محذوف؛ أي بعد أداء مال السعاية.
(2) قوله: إن عرض؛ أي إن عرضَ الإسلام على المولى الذميّ فأسلم فهي أمّ ولد له كما كانت؛ لفقدانِ ما يوجبُ تخليصها من يدِ مولاها.
(3) في ق: وإن.
(4) قوله: فإن ادّعى …الخ؛ يعني إن كانت أمةً مشتركةً بين رجلين، فجاءت بولدٍ فادّعاه أحدهما يثبتُ نسبه منه، وتصيرُ أمّ ولدٍ له، ويجبُ عليه أن يؤدّي إلى شريكه نصفَ قيمة الأمة ونصف عقرها، ولا تجبُ عليه قيمةُ ولدها الذي ادّعى نسبه من نفسه.
(5) قوله: وبين آخر؛ بشرط أن لا يكونَ الآخر ابناً له، فإنّه لو وطئ جاريةَ ابنه فجاءت بولدٍ فادّعاه الأب يثبتُ نسبة منه، وتصير أمّ ولدٍ له، وتجبُ على الأب للابنِ قيمةُ الأمة، وليس عليه عقرها. كذا في ((الهداية)).
(6) في ق: ثبت.
(7) قوله: وضمن؛ أي يجبُ على المدَّعي أن يؤدّي الضمانَ إلى شريكه، وهو نصفُ قيمة الجارية.
(8) العقر: هو مهر مثلها في الجمال: أي ما يرغب به في مثلها جمالاً فقط. ينظر: ((رد المحتار))(3: 40).
(9) قوله: لأنّه لمّا استولد؛ أي جعلَ الأمةَ المشتركةَ أمّ ولده بوطئها ودعوة ولدها.
(10) قوله: لمصادفته ملكه؛ لأنّه مالكٌ لنصفِ الجارية.
(11) قوله: لا يتجزّأ؛ بأن يثبتَ في بعض الولد دون بعض، وذلك لأنّ سببه وهو العلوق لا يتجزّأ إذ لا يمكن كون الولد من نطفتين.
(5/235)
________________________________________
يتعلَّقُ[(1)](2) من مائين، فيلزمُ تملُّك الباقي[(3)]، فيجبُ عليه نصفُ قيمتِها، وأيضاً نصفُ عقرها؛ لحرمةِ الوطءِ[(4)] بخلافِ وطءِ جاريةِ الابن، فإنَّ قولَهُ[(5)
__________
(1) قوله: لا يتعلّق من مائين؛ أي نطفتين، وإن كان يمكن أن يكون إحدى النطفتين معيّنة لتكوّن الجنين كما وردَ في ((موطأ محمّد)): إن امرأةً هلك عنها زوجها فاعتدّت أربعةَ أشهرٍ وعشراً ثمَّ تزوّجت حين حلّت، فمكثت عند زوجها أربعةَ أشهرٍ ونصف ثمَّ ولدت ولداً تامّاً، فجاء زوجها إلى عمرَ بن الخطاب فدعا عمرُ من نساءِ الجاهليّة قدماء فسألهنّ عن ذلك، فقالت امرأة منهنّ: أنا أخبرك، أمّا هذه المرأة هلك عنها زوجها حين حملت فأهريقت الدماء فحشف ولدها في بطنها، فلمّا أصابها الزوجُ الذي نكحته وأصابَ الولد الماء تحرّك الولدُ في بطنها فكبر، وصدّقها عمر بذلك، وفرّق بينهما وقال عمر: أما أنه لم يبلغني عنكما إلا خير وألحق الولد بالأوّل.
(2) في أ: ينعلق.
(3) قوله: فيلزم تملّك الباقي؛ أي يلزمُ لضرورةِ ثبوتِ النسب وعدم تجزئه أن يصيرَ الواطئ مالكاً نصيبَ صاحبه، وهو قابلُ للانتقالِ من ملكٍ إلى ملك، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ وجوب ضمانَ نصفِ القيمة ونصفِ العقر لا يختلفُ باليسارِ والإعسار؛ لأنّه ضمان تملّك، بخلاف ضمان الإعتاق؛ فإنّه لا يجبُ على المعسر، وقد مرّ تفصيله وإلى أنّ التملّك يكون يوم العلوق، فتعتبر القيمة والعقر في ذلك اليوم، صرّح به في ((الفتح)) وغيره.
(4) قوله: لحرمة الوطئ؛ وذلك لأنَّ الملكَ لا يثبتُ عقيب الاستيلاد بل معه من وقت العلوق، والعلوقُ بعد الوطئ، فيكون الوطئ مضافاً إلى نصيبِ شريكه، فيكون حراماً. كذا في ((غاية البيان)).
(5) قوله: فإن قوله… الخ؛ حاصله أنَّ الحديثَ الواردَ عن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم خطاباً لبعض المخاصمين مع أبيه: ((أنت ومالك لأبيك))، ليس المرادُ به ما هو الظاهر منه، وهو أنّ ما للابن ملكٌ للأب، وإنّه يحلّ له الانتفاعُ به مطلقاً كالانتفاعِ بمالكه بالبيعِ وسائر التصرّفات، يؤخذ ذلك من قوله: أنت، فإنّه يستلزمُ أن يكون الابنُ ملكاً للأب يجوزُ له بيعه، ولا يقول به عاقل، وأيضاً من قوله: مالك، فإنّ إضافةَ المالَ للابنِ المفيدة للتملّك والاختصاص ؟؟ وأنّه ليس بمملوكٍ لأبيه، فإنّه لا يمكن كونُ شيءٍ واحد مملوكاً تامّاً لماليكن في حالةٍ واحدة، بل المرادُ به حلّ الانتفاعِ به عند الحاجة، فإذا وطئ الأب جاريةَ ابنه صارت ملكاً له قبيل الوطئ، ليكون الوطئ حلالاً فلا يجبُ العقر؛ لأنّه لا يجبُ في الوطئ الحلال بل في الحرام، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الوطئ هاهنا وقعَ في ملك الغير، وتملّكه حصل بعده وهو وقت العلوق، ولا دليل يدلّ على حصولِ التملّك قبل الوطئ، فلهذا يجب العقر.
(5/236)
________________________________________
] - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت ومالك لأبيك))(1) لا يرادُ به المعنى الحقيقي، وهو أن يكونَ ملكاً للأب ضرورةَ كونِهِ ملكَ الابن يدلُ عليه قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت ومالك لأبيك)) فيرادُ به المعنى المجازي، وهو حلُّ الانتفاع[(2)]، فتصيرُ قبيل الوطءِ ملكاً للأب؛ ليكونَ الوطءُ حلالاً، فلا يجبُ[(3)] [عليه](4) العقر.
__________
(1) سبق تخريجه (ص ).
(2) قوله: وهو حلّ الانتفاع؛ أي كونُ انتفاعِ الأب بمالِ الابن حلالاً، وهذا لا يتصوّر إلا بأن يمتلّك الأب جارية ابنه قبيل الوطئ.
(3) قوله: فلا يجب العقر؛ أي على الأب، وكذا لا يجبُ عليه حدّ الزنا على ما سيأتي إن شاء الله تفصيله في (كتاب الحدود).
(4) زيادة من م.
(5/237)
________________________________________
وفي مسألتِنا وقعَ الوقاعُ[(1)] في محلٍّ بعضُهُ ملكُ الغير، ولا سبب لحلِّ الوطء[(2)] فيحرمُ، فيجبُ العقرُ[(3)]، والتَّملُّك[(4)] يثبتُ ضرورةَ ثبوتِ النَّسب منه، فيثبتُ قبيلَ العلوق، لكن بعد ابتداءِ الوطء، فلا يجبُ قيمةُ الولد[(5)].
__________
(1) قوله: وقع الوقاع؛ بكسر الواو بمعنى الجماع؛ أي وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة.
(2) قوله: ولا سبب لحلّ الوطئ؛ لعدمِ ورود دليلٍ يدلّ عليه، بخلاف وطئ جارية الابن؛ فإنّ الدليلَ هناك دالّ على حلّ الانتفاع.
(3) قوله: فيجب العقر؛ إذ الوطئ الحرامُ لا يخلو عن وجوبِ حدّ أو عقر على ما سيأتي في موضعه، ففيه لا يجبُ فيه الحدّ يجب العقر.
(4) قوله: والتملّك… الخ؛ فيه دفعٌ لما يقال: إنّه لمّا ثبتَ بالتقرير السابقِ أنَّ الواطئ يسير مالكاً لنصيبِ شريكه، فيكون الوطئ في ملكه، فكيف يصحّ الحكمُ بحرمته، وتقرير الدفع أنّ التملّك إنّما يثبتُ لضرورةِ ثبوتِ النسب، وهو إنّما يكون بالعلوقِ فيكون متأخّراً عن الوطئ فلا يكون ابتداءُ الوطئ إلا في ملك الغير.
(5) قوله: فلا يجبُ قيمةُ الولد؛ لأنّه علق حرّ الأصل، إذ النسب يستندُ إلى وقتِ العلوق، وعند ذلك يجبُ الضمان، فيحدثُ الولدُ على ملكه، ولم يعلق منه شيء على ملكِ شريكه.
(5/238)
________________________________________
(وإن ادَّعياه[(1)] معاً، فهو منهما[(2)][(3)])، خلافاً للشَّافِعيِّ - رضي الله عنه - فإن عنده يُرْجَعَ[(4)
__________
(1) قوله: وإن ادّعياه؛ قيّد بالمعية؛ لأنّه لو سبقَ أحدهما بالدعوى فالسابقُ أولى كائناً من كان، لعدمِ المزاحم، وكون المدّعي اثنين غير قيد عندهما، بل الحكمُ عامّ، وعند محمّد يثبتُ من ثلاثة لا أزيد، وعند زفر: من خمسة لا غير. كذا في ((الجوهرة)) وغيرها.
(2) قوله: فهو منهما؛ بشرط أن يكونا متساويين في الأوصاف، بأن يكونا مالكين أجنبيّين مسلمين أو ذميّين حرّين، فإن اختلفا قدَّم مَن يكونُ العلوق في ملكه، وقدّم الأب على ابن، ومسلم على ذميّ، وحرّ على عبد، ومرتدّ على ذميّ، وكتابيّ علي مجوسيّ، وتفصيله في ((الفتح)) وغيره.
(3) قوله: منهما؛ قال في ((الهداية)): النسبً وإن كان لا يتجزّأ لكن تتعلّق به أحكام متجزّئة، فما يقبلُ التجزئة يثبتُ في حقّهما على السويّة، وما لا يقبلها يثبتُ في حقّ كلّ واحد منهما كما كان، ليس معه غيره.
(4) قوله: يرجع… الخ؛ وجه ذلك أنّ إثباتَ النسبَ من شخصين متعذّر؛ لأنَّ الولدَ لا يختلق من مائين، فيعملُ بالشبهة ويرجعُ إلى قولِ القافة؛ أي الذين يدركون النسب، وأنّ هذا من هذا برؤيتهم آثار الأب في الابن، كيف لا وقد أخرج أصحابُ الكتبِ الستّة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلَ على عائشةَ رضي الله عنهم يوماً مسروراً وقال: ((أتدرين أنّ مجزز المدلجي دخلَ عليّ وعندي أسامة بن زيد، وزيد عليهما قطيفة، فقال: هذه أقدامٌ بعضها من بعض))، فلو كان الرجوعُ إلى قولِ القائفِ والعملِ بالشبه باطلاً لما سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبولِ مجزز القائف، ونحن نقول: إنّما سرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما أنّ الكفّار كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد متبنىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنّ أسامة كان أسود وزيد كان أبيض، وكان في قول القائف مقطعاً لطعنهم ولا يدل هذا على اعتبارِ قول القائفِ شرعاً في ثبوتِ النسب، وقد أخرج البيهقيّ أنَّ رجلين وطئا جاريةً في شهرٍ واحدٍ فجاءت بولدٍ فارتفعا إلى عمرَ فجعله عمر لهما يرثهما، ويرثانه، ومثله أخرجه الطحاويّ عن عليّ رضي الله عنهم. كذا في ((البناية)).
(5/239)
________________________________________
] إلى قولِ القائف، وهو الذي يتبعُ آثار الأباء في الأبناء، (وهي أمُّ ولدٍ لهما[(1)]، وعلى كلٍّ[(2)] نصفُ عقرِها، وتقاصَّا(3)[(4)]، ويرثُ[(5)] من كلٍّ إرثٍ ابن)؛ لأنَّ المقرَّ يؤاخذُ(6) بإقراره، (وورثا منه إرثَ أب)؛ لأنَّ الأبَ أحدُهما، لكنَّه غير معلومٍ فيوزَّعُ ميراثُ الأبِ عليهما.
__________
(1) قوله: وهي أمّ ولد لهما؛ قال في ((العناية)): يعني يخدمُ كلّ واحدٍ منهما يوماً كما كانت تفعله قبل ذلك؛ لأنّه لا تأثير لاستيلادِ في ملكِ الخدمة، وإذا مات أحدهما عتقت ولا ضمانَ لشريكه في تركةِ الميّت بالاتّفاق لوجود الرضاء منهما لعتقها عند الموت، ولا سعايةَ عليها في قولِ أبي حنيفة رح، وتسعى في نصفِ قيمتها للشريكِ الحيّ عندهما، ولو أعتقها أحدهما في حالِ حياته، لا ضمان على المعتق لشريكه، ولا سعايةَ في قولِ أبي حنيفة، وعندهما: يضمن إن كان موسراً وسعى إن كان معسراً.
(2) قوله: وعلى كلّ؛ أي يجبُ على كلّ واحدٍ من الشريكين المدّعيين نصفَ العقرِ للآخر لكون وطئه في ملك الآخر.
(3) لعدم فائدة الاشتغال بالاستيفاء إلا إذا كان نصيب أحدهما أكثر من نصيب الآخر فيأخذ منه الزيادة إذ المهر يجب لكل واحد منهما بقدر ملكه فيها بخلاف البنوة والإرث منه حيث يكون لهما على السواء لأن النسب لا يتجزأ وهو في الحقيقة لأحدهما فيكون بينهما على السواء لعدم الأولوية. ينظر: ((التبيين))(3: 106).
(4) قوله: وتقاصّا؛ أي تقاصّ الشريكان كلّ واحدٍ بماله على الآخر، فلا يؤدِّي أحدهما شيئاً إلى الآخر.
(5) قوله: ويرث؛ يعني يرثُ ذلك الولد من كلّ منهما إذا ماتَ ميراث ابن كامل؛ لأنّ كلّ واحدٍ أقرّ له بميراثه حيثُ أقرّ بالنسب، والإقرارُ حجّة في حقّ المقرّ، فيؤاخذُ بإقراره بخلاف ما إذا مات الابن، فإنّهما يرثان منه ميراث أب واحد؛ لاستوائهما في السبب.
(6) في م: يؤخذ.
(5/240)
________________________________________
(وإن ادَّعى ولدَ أمةِ مكاتَبهٍ(1)[(2)] لزِمَهُ عقرُها[(3)]، ونسبُ الولدِ وقيمتُه)؛ لأنَّه وطءٌ معتمداً على الملك، فيكون ولدُهُ ولدَ المغرور(4)[(5)]، وهو ثابتٌ النَّسب، وهو حرٌّ بالقيمة، (لا الأمية[(6)](7) ): أي لا تصيرُ الأمةُ أمَّ ولدٍ له إذ لا ملكَ له فيها حقيقة، (إن صدَّقَه(8) مكاتَبُهُ(9) ): أي إنِّما يثبتُ النَّسبُ إن
__________
(1) قيد بأمة المكاتَب؛ لأنه لو وطئ المكاتبة فجاءت بولد فادّعاه ثبت نسبه ولا يشترط تصديقها؛ لأن رقبتها مملوكة له بخلاف كسبها. ينظر: ((البحر))(4: 300).
(2) قوله: ولد أمةٍ مكاتبة؛ بأن كاتب عبداً أو اشترى المكاتبُ جاريةً فجاءت بولدٍ فادّعى مولى المكاتبُ به، ولو ادّعى ولدَ نفس مكاتبته لا يشترطُ تصديقها، بل خيّرت بين البقاءِ على كتابتها وأخذ عقرها وبين أن تعجزَ نفسها وتصيرَ أمّ ولد. كذا في ((النهر)).
(3) قوله: عقرها؛ أي وجبَ على المولى أمة مكاتبة، لأنّه لا يتقدّمه الملك؛ لأنَّ ما للمولى من حقّ الملكِ في إكساب المكاتب كافٍ لصحّة الاستيلاد، فكان الوطئ واقعاً في غير الملك وهو يستلزمُ الحدّ أو العقر، وقد سقط الحدّ بالشبهة فوجب العقر.
(4) هو ولد من تزوج أمة ظاناً أنّها حرّة فولده ثابت النَّسب منه، وأمُّه ليس بأمّ ولدٍ له ويكون الولدُ حرّاً بأداء قيمتِهِ إلى مولى الزوجة. ينظر: ((العمدة))(2: 229).
(5) قوله: ولد المغرور؛ وهو الذي تزوّج أمة ظاناً أنّها حرّة، فولده ثابت النَّسب منه، وأمُّه ليس بأمّ ولدٍ له، ويكون الولدُ حرّاً بأداء قيمتِهِ إلى مولى الزوجة.
(6) قوله: لا الأميّة؛ أي لا تصيرُ أمةِ المكاتبِ أمّ ولدٍ لمولاه؛ لعدمِ ملكه فيها حقيقة، فإن قلت: إذا لم تصرْ أمّ ولدٍ فكيفُ يثبتُ النسب، قلت: كونها أمّ ولدٍ موقوفٌ على كونها مملوكة للواطئ، وإذ ليس فليس، وثبوتُ النسبِ يكفي فيه ما له من حقّ الملك.
(7) في م: الأمة، وفي ق: الأمومية.
(8) في م: صدق.
(9) في ق: المكاتب.
(5/241)
________________________________________
صدَّقَ المكاتَبُ المولَى، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه - لا يشترطُ[(1)] تصديقُ المكاتَبِ المولَى، (وإلاَّ لا يثبتُ نسبُه إلاَّ إذا ملكَه[(2)] يوماً): أي إن لم يُصدِّقْ المكاتَبُ المولَى(3) لا يثبتُ النَّسب إلاَّ إذا ملكَ المولَى الولدَ يوماً(4). [والله أعلم](5).
__________
(1) قوله: لا يشترط؛ بل يثبتُ النسبُ بمجرّد دعوة المولى، كما في الأب، وذلك لأنَّ جاريةَ المكاتبِ كسبُ كسب المولى، كما أنّ جاريةَ الابنِ كسبُ كسب الأب، فيثبتُ النسب في الصورتين بلا اعتبارِ تصديقِ المالك وتكذيبه، ولنا أنَّ المولى لا يملكُ التصرّف في اكتسابِ المكاتب، ولا يمتلكه عند الحاجة، والأب يملكه، فلا يشترطُ تصديقُ الابن، ويشترطُ تصديق المكاتب.
(2) قوله: إلا إذا ملكه؛ أي لو ملكَ أبو الوالد الذي ادّعاه ولدَ الجاريةِ المذكورة يوماً ثبتَ نسبه منه من غير اعتبارِ تصديقِ العبد المكاتب؛ لزوالِ المانع وهو حقّ المكاتب.
(3) في م: والمولى.
(4) لقيام الموجب وزوال حق المكاتب. ينظر: ((البحر))(4: 300).
(5) زيادة من ف و ق.
(5/242)
________________________________________
كتابُ الأيمان[(1)]
__________
(1) قوله: كتاب الأيمان؛ أي هذا كتاب في بيان أحكام الأيمان، وهو بالفتحِ جميع يمين، وهو في الأصل بمعنى القوّة، ولذا سمّيت إحدى يدي الإنسانِ يميناً لزيادةِ قوّتها على الأخرى، وسمي الحلفً يميناً لإفادةِ القوّة على المخلوقَِ عليه من الفعل والترك، وكذا التعليق؛ لأنَّ تعليقَ المكروه للنفسِ على أمرٍ يفيدُ قوّة الامتناعِ عن ذلك الأمر، وتعليقُ المحبوبِ لها على ذلك يفيدُ الحملَ عليه، فكان يميناً، ولمّا اشتركَ كلّ واحدٍ من الطلاقِ والنكاح واليمين والعتاق في أنّ الهزل والإكراهُ لا يؤثّر فيها ذكرها متّصلة، إلا أنَّ النكاحَ أقربُ إلى العبادات، فاستحقّ التقديم، وعقبه بالطلاق؛ لأنّه رفعه، واختصّ العتاق عن اليمينِ بزيادةِ مناسبنه بالطلاقِ من جهة مشاركته إيّاه في معناه الذي هو الإسقاط، وفي لازمهِ الشرعيّ وهو السراية، فلذا قدّمه على اليمين. كذا في ((فتح التقدير)).
(5/243)
________________________________________
اليمينُ(1)[(2)] تقوي الخبرَ بذِكْرِ(3) الله، أو التَّعليق(4)[(5)
__________
(1) اليمين: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك. ينظر: ((التنوير))(3: 45).
(2) قوله: اليمين... الخ؛ قال في ((كشف الوقاية))، هي في اللغة: القوّة الجارحة، وفي الشرع: ذكر اسم الله أو صفته لتقوّى الخبر، وسمّي يميناً إمّا لاعتبارِ القوّة فيه على ما في ((الكفاية)) وغيرها، وإمّا لضربِ اليمين باليمين عند التحالف، على ما في ((المضمرات)) و((الصحاح))، وقسماً؛ لأنّه ميّز الفعلَ وجوداً وعدماً عن الاحتمالِ والتردّد فيه بالتأكيد، أخذاً من القسمة، وهو الإفرازُ والتمييز، ويطلقُ على المحلوف عليه للملابسة كما في قوله عليه السلام: ((مَن حلفَ على يمينٍ)). انتهى. وفي ((شرح الهروي)): اليمين نوعان: نوعٌ يعرفه أهل اللغةِ وهو ما يقصدُ به تعظيمُ المقسم به، وهم لا يخصّونه بالله، وأهل الشرعِ يخصّونه بالله من أسمائه وصفاته، وهو مشروعٌ بالكتابِ والسنّة، قال الله تعالى: ((تالله لأكيدنّ أصنامكم))، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((والله لأغزونّ قريشاً))، وبالإجماع فإنّ الصحابةَ كانوا يحلفون ويستحلفون، والنوع الآخر الشرطُ والجزاء، وهو يمينٌ عند الفقهاء؛ لأنّهُ تحصل به الوثيقةُ في العهد.
(3) في م: بذلك.
(4) التعليق: وهو تعليق الجزاء بالشرط نحو إن فعلت فكذا، أو إن لم أفعل فكذا، والمقصود منه تقوية عزم الحالف على الفعل أو الترك، وهذا ليس بيمين وضعاً، وإنما سمّي بها عند الفقهاء لحصول معنى اليمين به وهو الحمل أو المنع. ينظر: ((درر الحكام))(2: 38).
(5) قوله: أو التعليق عطف على قوله: الله أي بذكرِ التعليق، يعني ما يدلّ عليه، أو عطف على ذكر الله؛ أي تقويّ الخبر بالتعليق، قال أبو عصمة، مسعود بن محمّد الغجدواني في ((شرح تلخيص الجامع الكبير)): اعلم أنَّ تعليقَ الطلاقِ ونحوه يمينٌ خلافاً لداودِ الأصفهانيّ، وهذا لوردِ الشرع به والعرف، قال عليه السلام: ((ملعون مَن حلفَ بالطلاق))، ويقال: حلفَ فلانٌ بالطلاق، كما يقال حلفَ بالله.
(5/244)
________________________________________
](1)، (وهي(2) ثلاث): أي[(3)] الأيمانُ التَّي اعتبرَها الشَّرعُ ورتَّبَ عليها الأحكام ثلاث، وإنِّما قلنا هذا[(4)]؛ لأنَّ مطلقَ اليمينِ أكثرُ من الثَّلاث، كاليمينِ على الفعلِ الماضي صادقاً، وعَنَيْنَا بترتُّبِ الأحكامِ عليها ترتُّبِ المؤاخذةِ على الغَمُوس، وعدمِها على اللَّغو[(5)]، والكفارةِ على المنعقدة.
__________
(1) في م: العتق.
(2) في ت و ص و ق: هي.
(3) قوله: وهي؛ أي الأيمان المتعلّقة بذكرِ الله لا مطلقها، فإنّه لا يتصوّر حكمُ الغموس واللغو في الحلفِ بالطلاقِ ونحوه، فإنه يقع بهما الطلاق ونحوه، كذا ذكره العينيّ في ((شرح كنز الدقائق)) المسمّى بـ((رمز الحقائق)).
(4) **[ ]قوله: وإنّما قلنا هذا... الخ؛ يعني إنّما قيّدنا الأيمان بقولنا: التي اعتبرها الشرع ورتّب عليها الاحكام ولم نطلقها لانه لو اريد بمرجع الضمير في قوله وأي ثلث مطلق الايمان لم صح حمل تولد ثلث عليه لأن اقسام اليمين تزيد على ثلثه كما إذا حلف على فعل ماض صادقا أو حلف تحقق شيء اوعد مصادقا فان بهذا ليس بمفعولا بغموس ولا ينعقد ولما كان يرد عليه أن هذا أيضاً يترتب عليه الاحكام فان حكم مثل هذه اليمين انه لا مواخذة فيها والكفاءة وانه ليتحب تقليلها ولا ينبغي الحلق بالله بلا ضرورة فلا يخرج مثل هذا بعد ذلك التقييد أيضاً اشار إلى دفعه لقبوله وعنينا الخ وحاصلان المراد بترتيب الاحكام ترتب الاحكام التي سياتي ذكرها من ترتب الكفاءة والمواحدة في المنعقدة وعدهما في اللغو مع وجود الكذب وترتب لمؤاخذة فقط على الغموس ولاشك أن هذ الاحكام لا توجد في غير الاقسام الثلثية
(5) قوله علىاللغو يرد عليه أن هذا الحكم مترتب على اليمين الله على ماضا صادقا أيضاً فلا بد أن يزاد به ما يخرجه كما اشرنا إليه والاحسن يقر ترتب المواخذة والكفارة على المنقدةوعدمهما على اللغومع وجود ما يقتضيه أي الكذب وترتب المواخذة فقط على المغوس
(5/245)
________________________________________
(فحلفُهُ على فعلٍ أو تركٍ ماضٍ كاذباً عمداً غَموس[(1)])، يمكن[(2)] أن يرادَ بالفعلِ مصطلحُ أهلِ النحاة(3)، أو(4) مصطلحُ أهلِ الكلام(5)، وهو المصدرُ أعمُّ من أن يكون قائماً بالعقلاء، أو بالجمادات، نحو: واللهُ لقد هبتْ الرَّيح.
فإن قلتَ[(6)] إذا قيل: والله إن هذا حجر، كيف يصحُّ(7) أن يقالَ: هذا الحلفُ(8) على الفعل.
__________
(1) قوله غموس فعول من الغمس سمي به لانه تغمسه في ** ثم فانه كبيرة سواء قطعت به حق مسلم أو لا لحديث تجاري الكبائر الاشراك بالله وقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس كذا في النهر
(2) قوله يمكن الخ يرد عليه أن المقابلة الترك بالفعل تابى عن حمل الفعل على الفعل النحوي فالاولى أن يحمل الفعل على المعنى اللغوي
(3) في م: التجارة. ويرد عليه أنه مقابلة الفعل بالترك تأبى حمل الفعل على الفعل النحوي، فالأولى أن يحمل على المعنى اللغوي. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 230).
(4) في م: و.
(5) وفي مصطلح أهل الكلام إما أن يراد به ما هو بالاخبار فيأباه شموله فعل الجماد، وإما أن يراد التأثير فلا يشمل الانفعالات وكون الشيء حجراً مع أنه صرح بشموله فالأولى أن يراد الفعل الذي قال. ينظر: ((حاشية عصام الدين))(ق141/أ).
(6) قوله فان قلت الخ حاصل الايراد أن الحلف الكاذب قد يكون على غير فعل وتركه بل يتعلق بالنسب الخبرية الاسمية وحاصل الجواب انه متضمن لمعنى الفعل أو الترك
(7) في ص: يصلح.
(8) في ب و م: حلف.
(5/246)
________________________________________
قلتُ: يقدَّرُ[(1)](2) كلمةُ كان، أو يكون إن أريدَ في الزَّمانِ الماضي، أو المستقبل(3).
والمرادُ بالتَّرك: عدمُ الفعل.
وقولُهُ: كاذباً؛ حالٌ من الضَّميرِ في قولِهِ: فحلفُه.
ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمُ الغموسِ بقولِهِ: (يأثم به[(4)])(5).
__________
(1) قوله يقدر ليس المراد به التقدير لفظا فانه مما لا حاجة إليه بل الغرض أن نسبة شيء إلى شيء تتضمن معنى الكون وهو لايكون الا في احد الزمنة أو جميعها
(2) في ص: نقدر.
(3) المشهور في عبارة القوم أن الغموس حلف على فعل أو ترك ماض كاذبا عمداً، وقد صرح شراح ((الهداية)) وغيرهم: إن ذكر الفعل والمضي ليس بشرط بل هو بناء على الغالب، فلا حاجة إلى تكلّف ارتكبه صدر الشريعة حيث قال : فإن قلت إذا قيل : والله إن هذا حجر ... على أن اعتبار الماضي أو الاستقبال في هذا الحلف باطلٌ لتعيّن إرادة الحال. فتدبر. ينظر: ((درر الحكام))(2: 38).
(4) قوله يا ثم به فتلزمه التوبة والاستغفار ولا تجب الكفاءة لانها كبيرة محضة والكفاءة لا تجب في الكبائر المحصنة بل في الامور الدائرة بين الاباحة والحرمة كيف لا والكفاءة تتادى بالصوم وهو عبارة محصنة
(5) ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار؛ لأنه من الكبائر بالنص الصحيح. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 540).
(5/247)
________________________________________
ثُمَّ عطفَ على قولِهِ كاذباً، قوله: (أو(1) ظانَّاً[(2)] أنَّه حقّ، وهو ضدُّهُ لغو).
ثُمَّ بيَّنَ حكمُهُ بقولِه: (يرجى عفوه[(3)]).
__________
(1) في ت و ص و ق: و.
(2) قوله أو ظانا يعني حلفه على ماض ظانا انه صدق مطابق للواقع الحال انه ليس كذلك لغو وبهذا التفسير للغو منقول عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم اخرجه ابن الجرير وابن المنذر وعن عائشة اخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي وعن أبي سريرية اخرجه ابن جبر وروى النجاري وغيره عن عائشته أن اللغو كلام الرجل في بيته وفي المنزل لا والله ولا بلا والله من غير قصد اليمين وبه اخذ الشافعي وقد بسطت الكلام في هذا الباب في التعليق الممجد على موطى محمد فطالعه أن شئت
(3) قوله يرجى عفه ويعني الرجاء في هذه اليمين العفو لكون الحالف معذورا حيث حلف على ظن الصدق فلا مؤاخذة فيه والاكفارة قال في الهداية يمين له أن يحلف على امر ماض وهو يظن انه كما قال والامر بخلافه فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها ومن اللغو أن يقول والله انه لزيد وهو يضنه زيدا وانما هو عمر والاصل فيه قوله تعالى لا يؤاخكم الله باللغو في ايمانكم الاية اللا انه علقه بالرجاء لاختلاف في تفسيره انتهى قال في العناية أي سورة بيمين اللغو مختلف فيها وانما علق بالرجاء نفي المؤاخذة بالصورة التي ذكرها وذلك غير معلوم بالنص
(5/248)
________________________________________
ثُمَّ عطفَ على فعل، أو تركٍ قولَهُ: (وعلى آتٍ[(1)] منعقدة(2) )، الأحسنُ[(3)] أن يقال: وآت منعقدة(4) بلا كلمة: على؛ ليكونَ معطوفاً على ماض، فإنَّه إذا ذُكِرَ لفظُ على، يكونُ معطوفاً على فعل أو ترك، ثُمَّ لا بُدَّ[(5)] أن يقدَّرَ لقولِهِ: آت؛ موصوفٌ، وهو فعلٌ أو ترك، فيكونُ فيه إطنابٍ مع وجوبِ تقديرِ ما ليس بمذكور، ولو أسقط لفظة: على، حتَّى يكون عطفاً على ماض، ففيه إيجاز[(6)] بلا احتياجٍ [إلى](7) تقديرِ شيءٍ غيرِ ملفوظ.
__________
(1) قوله وعلى ات وهو اسم الفاعل من الايتان أي حلفه على فعل أو تركه مستقبل يسمى من منعقد الان عقد قلبه وربط عزمه به وهو المراد به بقوله تعالى في سورة البقرة ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وبقوله تعالى في سورة المائدة أن يؤاخذكم الله للغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته اطعام عشرة مساكين من اوسط ما تطعمون ابليتكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فان لم يجد فصيام ثلثة ايام ذلك كفارة ايمانكم إذا حلفتم واحفظوا ايمانكم
(2) في ج و س و ص و ق: منعقد.
(3) قوله الاحسن الخ اشار به إلى كون كلام المصنف أيضاً صحيحا لا باطلا أما بحذف موصوف كما سيذكره وأما بان يقال أن قوله على ات معطوف على قوله ماض باعادة الجر والداعي إلى اعداته بعد المعطوف عليه ذكرا
(4) في س و ص و ف: منعقد.
(5) قوله ثم لابد الخ حاصلة انه لما عطف قوله ات على قوله فعل وترك احتيج إلى موصوف ات وهو فعل أو ترك فيعلم بحذفه فيلزم رح التطويل مع تكلف الحذف ولو قال وات عطفا على ماض كان فيه اختصار مع عدم الحاجة إلى حذف شيء
(6) قوله ايجاز هو عبارة عن كون الكلام المؤدي للمقصود مختصرا ويقابله الاطناب وهو أن يكون الكلام زائدا على اصل المراد فان يساوي الكلام المعنى سمي بالمساواة وتفصيل هذه الثلثة في كتب علم المعاني والبيان
(7) زيادة من م.
(5/249)
________________________________________
فإنَّ قلتَ[(1)]: الحلفُ كما يكونُ على الماضي والآتي، يكونُ على الحالِ أيضاً، فلم لم يذكره، وهو من أي قسمٍ من أقسامِ الحلف.
__________
(1) قوله فان قلت الخ حاصل الايراد أن المصنف رح ذكر الحلف على مستقبل وسماه منعقدا وذكر الحلف على ماض وقسمه على قسمين فانه أن كان كذبا عمدا فهو غموس وأن كان كذبا ظانا انه صدق فهو لغو فصارت الاقسام التي تتصور فيها الحذث ثلثه وبقي هنا الحلف على الرنان الحال وهو الحد المشترك بين الماضي والمستقبل فلم يعلم انه من أي قسم من اقسام الحلف المذكورة ولو كان خارجا منها لزم عدم حصر الايمان في الثلثة فلم يذكره المصنف ولم يصرح بحكمه
(5/250)
________________________________________
قلتُ(1): إنِّما لم يذكرْهُ لمعنىً دقيق، وهو أن الكلامَ يحصلُ أوَّلاً[(2)] في النَّفس، فيعبَّرُ عنه باللَّسان، فالإخبارُ المتعلِّقُ بزمانِ الحالِ اذا حصلَ في النَّفس، فيعبَّرُ عنه باللِّسان[(3)
__________
(1) قال ملا خسرو بعد ذكر الشارح بطوله في ((درر الحكام))(2: 39): بل الصواب في الجواب أن يقال: لا وجه لهذا السؤال بعدما قال أولاً إن مطلق اليمين أكثر ن الثلاث، فتدبر. وفي ((المختار))(3: 285): الغموس: وهي الحلف على أمرٍ ماض أو حال يتعمد فيها الكذب فلا كفارة فيها.
(2) قوله يحصل أو لا أي قبل التكلم به ورح يسمى كلاما نفسيا وهو المراد في قول الشاعري أن الكلام لفي الفواد وانما هو جعل اللسان على الفواد دليلا وهذا غير المعنى الحاصل بالكلام بعد التكلم به فالكلام اللفظي يدل على الكلام النفسي وهو صورة إجمالية بسيطة حاصلة في هذا من يفصلها اللسان يتكلم الالفاظ الدالة عليها وأن شئت تفصيل هذا الكلام فارجع إلى كتب علم الكلام في بحث الكلام
(3) قوله فيعبر منه باللسان الخ حاصل الجواب على ما يفيد ظاهر كلام انه لابد في كل كلام من حصول معنى اجمالي اولا في النفس يعبر عنه بالالفاظ والزمان القضاء اليمين هو* اختتام التعبير فاذا حص معنى كلام اليمين في النفس اولافعبر عنه بالالفاظ كقوله الله اكتب يدايه الحال غير أن حكايته انما هو الزمان الذي هو من ابتداء تكلمه إلى انتهاء ****** حالا بالنسبة إلى زمان الانعقاد وماض لكون الزمان ** لا غير قار في الوجود فيكون انعقاد الحلف عليه على الماضي ويدخل في الصوة بقة النسبا وبالجملة الحلف على الحال حلف على الماضي حقيقة فيكون حكمه حكمه فلهذا لم يذكره المصنف على حدة ولا يخفى على الفطن أن هذا التقرير يقتضي أن لا يكون الحلف على الحال شيئا مغاير اللحلف على الماضي فلا يصلح وجها لعدم ذكر المصنف فان السؤال كان عن عدم الذكر بعد كونه شيئا معتبرا وايض هذه النكتة التي ذكرها انما يعتبرها ابل الحكمة لاابل العرف ومنى الايمان على العرف ابل العرف يحكمون بكون اللازمة ثلثة وبكون الحلف على الحال مغايرا لللف على الماضي والحكم الشرعي في هذا الباب يجري حب العرف فالاولى أن يقال انما لم يذكره المصنف لانه كالحلف على الماضي تقسيما وحلها ولك أن تحمل كلام الشارح على هذا وتجعل النكتة باعثة على عدم ذكره على حدة وأن كان معتبرا شرعا وعزفا رح فيكون معنى قوله فيكون الحف عليه الحلف على الماضي أن الحلف على الحال كالحلف على الماضي فاحفظ هذا فانه من سوانح الوقت
(5/251)
________________________________________
]، فإذا تمَّ التَّعبيرُ باللِّسانِ انعقدَ اليمين، فزمانُ الحالِ صارَ ماضياً بالنَّسبةِ إلى زمانِ انعقادِ اليمين، فإذا قال: كتبت [بالقلم](1) لا بُدَّ[(2)] من الكتابةِ قبل ابتداءِ التَّكلُّم، وإذا قال: سوف أكتبُ لا بُدَّ من الكتابةِ بعد الفراغِ من التَّكلُّم، بقي الزَّمانِ من ابتداءِ التَّكلُّمِ إلى آخره، فهو زمانُ الحالِ بحسبِ العرف[(3)]، وهو ماضٍ بالنسبةِ إلى آن الفراغ[(4)]، وهو [الآن الذي يكون فيها](5) انعقادَ اليمين فيكونُ الحلفُ عليه الحلفَ على الماضي.
__________
(1) زيادة من م.
(2) قوله لابد لانه حكاية عن كتابة واقعة قبل هذا الكلام ولابد في صدق القضية مطابقة الحاكية للحكم عنه أي مطابقة النسبة التامة الخبرية التي وردت في القضية بين المسند إليه والمسند بنسبيته إليه الخارجة عن هذا الكلام الواقعة في زمان دل عليه لفظ الحكاية ماضيا كان أو مستقبلا
(3) قوله بحسب العرف وهو الذي يكى عنه بصيغة الحال واشار به إلى أن تقسيم الزمان إلى الماضي والمستقبل والحال انما هو بحسب العرف والظاهر وأما بالنظر إلى التحقيق فهو قسمان ماض ومستقبل وبينهما أن مشتركة
(4) قوله إلى أن الفراغ الآن بعد الالف هو الحد الغير المتجزيء الفاصل بين الزننين وهو مبدأ بواحد من جزئيه ومنتهي للاخر كالنقطة بين الخطين
(5) في أ و ب و س و ص و ف: آن.
(5/252)
________________________________________
(وكَفَّرَ[(1)] فيه فقط[(2)] إن حنث): إنِّما قال: فقط؛ احتزازاً عن مذهبِ الشَّافِعيِّ(3)[(4)] - رضي الله عنه - من الكفارةِ في الغموس.
__________
(1) قوله وكفر فيه ماض من التكفير بمعنى اداء الكفاءة أي يجب على الحالف في المنعقدة اداء الكفاءة أي يجب على الحالف في المنعقدة اداء الكفاءة أن حثت
(2) قوله فقط يحتمل محملين اداهما أن يكون متعلقا بقوله كفر ويكون اشارة إلى أن في الحلف المنعقد الواجب الكفاءة فقط لا الاثم عند الحث فقد يكون الحث مستحبا أو واجبا فلا ياثم هذا انما تجب الكفاءة جزاء لتهك حرمة اسم الله يدل عليه قوله صلى الله ليه وسلم إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خير انها فأت بالذي هو خير وكفر عن يمينك له الفاظ مخرجة في الصحاح الستة وغيرها وانت تعلم ضعف هذا المحمل ولان مال إليه بعض الناظرين فان كثير أما يكون الخث ممنوعا شرعا في المنعقدة وهو ما إذا لم يكن غير المحلوف عليه خيرا فح يجب البر ويحرم أو يكره الخث وعند ذلك لمحقه الاثم بلا شبهة عند الخث بل القائل أن يقول الاصل في الحنث وهو الاثم وانما تخلف فيما تخلف لعارض وما فيها انه مرتبط بالضمير في قوله فيه وهذا هو الذي اختاره الشارح وعلى هذا يكون المعنى أن وجوب الكفاءة انما هو في المنعقدة فقط لا في القسمين الاخرين أي الغموس واللغو وانما اكتفى اشارح على ذكر الغموس لأن وجوب الكفاءة فيه مذهب الشافعي وأما وجوبه في اللغو مجرد احتمال لم يذهب إليه احد
(3) ينظر: ((أسنى المطالب))(4: 240)، و((مغني المحتاج))(4: 325)، وغيرهما.
(4) قوله عن مذهب الشافعي فانه قال بوجوب الكفاءة في الغموس أيضاً لاشتراكه بالمنعقد في الكذب العهدي وقد مر سابقا ما يدفعه
(5/253)
________________________________________
(ولو سهواً أو كرهاً: حلف أو حنث[(1)])، يعني تجب الكفار وإن كان الحلفُ بطريقِ السَّهو، أو بالإكراه خلافاً للشَّافِعِيِّ(2)[(3)] - رضي الله عنه -.
__________
(1) قوله حلف أو حنث يعني تجب الكفاءة في كل حال عند الحذث سواء كان كل واحد من الحلف أو الخث عمدا أو سهوا طوعا أو كرها بان ارمه رجل على أن يحلف أو على أن يخث فها مشتمل على صور ثلثه احد الخ أن يكون كل من الحلف والحنث سهوا أو كرها وثانيهما أن يكون الحلف سهوا لا وكرها والحنث عمدا وطوعا وثالثهما عكسه
(2) ينظر: ((التنبيه))(ص122)، و((تحفة المحتاج))(10: 3)، و((تحفة الحبيب))(4: 356)، وغيرها.
(3) قوله خلافا للشافعي فان عنده لا يجب الكفاءة في الناس والمكره عند الحلف أو عند الحنث لحديث انما الاعمال بالنيات وحديث ليس على تصور يمين اخرجه الدارقطني بسند ضعيف جداً كما ذكره ابن حجر في تلخيص الكبير والجواب عنه أن حديث المقهور مما لا يحتج به فان في سنده ضعفا وحديث انما الاعمال بالنيات محمول على توقف الثواب على النية كما مر لبحثه في كتاب الطحاويدة الرعاية في حل شرح الوقاية
(5/254)
________________________________________
وقال في ((الهداية)): القاصدُ في اليمين والمُكْرَهُ والنَّاسِ سواء(1)[(2)].
__________
(1) انتهى من ((الهداية))(72).
(2) قوله سواء استدلو للتسوية بحديث ثلث جدبين جد ويهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين فانه يثبت كون الهزل مثل الجد في باب اليمين فاذا انعقد اليمين بالهزل فلان ينعقد بالاكراه اولى لأن الهازل لا يقصد اجراء حكم ما يتلفظ به والمكره يقصده وأن كان باكراه الغير وأما السهو فهو مثل الهزل واعترض عليه بوجهين احداهما أن بهذا الحديث بذكر اليمين غير ثابت وانما الثابت ما اخرجه اصحاب الثمن الاربعة وحسنه الترمذي وصحه الحاكم النكاح والطلاق والرجعة وفي رواية ابن عدي العتاق بدل الرجعة كذا في شرح مختصر الوقاية لعلي القاري وثانيهما ما في الفتح لثبوت حديث اليمين لم يكن فيه دليل لأن المذكور فيه جعل الهزل باليمين حدا والهازل قاصد لليمين غير راض بحكمه فلا يعتبر عدم رضاه به شرعا بعد مباشرة السبب مختارا والناس لم يقصد شيئا اصلا ولم يدر ما صنع وكذا المخطيء لم يقصد قط التلفظ به بل شيء آخر فلا يكون الوارد في الهازل وارد في الناس الذي لم يقصد قط مباشرة السبب فلا يثبت في حقه نصا ولا قياسا انتهى
(5/255)
________________________________________
والمرادُ بالنَّاسي: السَّاهي(1)[(2)
__________
(1) جزم كثير باتحاد السهو والنسيان؛ لأن اللغة لا تفرق بيهما، وفرق بيهما كثير من العلماء، وفيه كلام لطيف يطول المقام لو ذكر، فيحسن للوقوف عليه الرجوع إلى ((التقرير والتحبير))(2: 177)، و((رد المحتار))(3: 49)، و((عمدة الرعاية))(2: 223)، وغيرها.
(2) قوله الساهي هنا ثلثة الفاظ السهو والنسيان والخطاء فالخطاء عبارة عن أن يجري اليمين على لسانه من غير قصد كما إذا اراد أن يقول سبحان اله فجرى على لسانه والله لا اصلح والخطاء في الحنث أن يقع منه الحنث خطاء كما إذا حلف لا يشرب الماء فدخل الماء في حلقة من غير قصد عند المضمضة والاولان متحدات لغة ويفرق بينهما اصطلاحا بان السهو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الخزانة فيحصل للكتاب التذكر بادني تنبيه والنسيان زوالها عن كليهما فحتاج ح في حصولها إلى سبب جديد وقيل النسيان عدم ذكر ما كان مذكورا والسهو غفاية عما كان مذكورا أو ما لم يكن مذكور فعل هذا النسيان اخص من السهو وقيل النسيان والغفلة عبارة عن زوال ادراك سابق إذا قصر زمان زواله فان طال فهو نسيان كذ في شرح تحرير الاصول لشمس الدين محمد المعروف بابن امير حاج الحلبي مؤلف حلبة المحلى شرح نية المصلح وغيره إذا عرفت هذا كله فاعلم انهم صرحوا بان الحلف والحنث خاطيا وساهي أو ناسيا كله سواء في وجوب الكفاءة بناء على أن الحكم يدر على السبب وهو التكلم بلفظ اليمين غاية ما في الباب أن يرتفع الاثم عن الساري والناس والخاطي في الحنث لأن الاثم منوط بالعمد يدل عليه حديث رفع عن امتي الخطاء والنسيان وم استكرهوا عليه اخرجه ابن ماجة وابن خيان والدارقطني والبيهقي والطبراني والحاكم وغيرهم بالفاظ متقاربة وحسن النووي في اربعينة اسناده وبه استدل الشافعي رحمه الله في عدم وقوع الطلاق والعتاق وعدم انعقاد اليمين بالخطاء والنسيان والاكراه واجاب عنه الجمهور بان المراد به رفع الاثم لا رفع غيره من الجزاء الاترب إلى أن الله اوجب على القاتل خطاء الكفاءة ونص اهل العلم على وجوب الضمان على من يتلف مال الغير سهوا أو نسيانا أو خطأ وبعد اللتيا واللتي نقول فسر كثير منهم الناسي الواقع في الهداية بانها هي وذلك أما كون السهو والنسيان متحدين لغة وأما لعدم تصور النسيان في الحلف ولا يخفي ما فيه فانه يمكن أن يحلف اولا بقوله والله لا احلف ثم ينسبه بالكليته فيحلف بشيء أو يغفل عنه سهو أو بالجملة يتصور كل من السهو والنسيان في ل من الحلف والحنث كما يتصور الخطاء في كل منهما فلا حاجة إلى تفسير الناسي والسباهي ومنهم من فسره بالخاطيء بناء على انه وقع في بعض نسخ الهداية الخاطي موضع الناسي والشارح تبع المفسرين الاولين ففير الناسي بالساهي ثم فسره بمن كلف من غير قصد وفيه ما فيه أما اولا فلما مر من عدم الاحتياج إلى تفسير الناس بالساهي بل الاولى ابقاؤه على معناه لا يقال تفسيره يبني على اتحادهما لغة لانا نقول فحينئذ لا حاجة إلى بيان المراد الا أن يقال السهو في معناه مستعمل كثيرا بخلاف النسيان فلذا فسره به أيضاً حاؤانا ثانيا فلان ما فسر به الساهي لا يناسب ما فسروه وصوره به بل الاوبى ادخال الحلف من غير قصد في الخطاء وصورة السهو في الحلف أن يحلف بان لا يحلف فيعرض له السهو عنه فيحلف بشيء سهوا لا أن يقال تعلق السهو أو النسيان به في هذه الصورة انما هو من جهة كونه حنثا للحلف السابق لا من جهة كونه يمينا وبهذا تتبين صحة الوجه الثاني الذي ذكرنا من وجهي تفسير الناسي بالساهي فافهم هذا المقام فانه من مزال لاقدام
(5/256)
________________________________________
]، وهو الذي حلفَ من غيرِ قصد، كما يقال: ألا تأتيتنا، فقال: بلى؛ والله، من غيرِ قصدِ اليمين.
وكذا إن كان الحنثُ بطرقِ السَّهو والإكراهُ تجب؛ لأنَّ الفعلَ الحقيقيَّ[(1)] لا يعدمُهُ السَّهو والإكراه، وكذا الإغماءُ والجنون، فتجبُ الكفارةُ بالحنثِ كيفما كان.
(والقسم بالله أو باسم من أسمائِه[(2)]: كالرَّحمن، والرَّحيم[(3)]، والحقّ(4)[(5)].
__________
(1) قوله لأن الفعل الحقيقي الخ حاصله أن وجوب الكفاءة تترتب شرعا على وجوج الحنث بفعله وهو لا ينعدم بكونه سهوا أو اكراها أو حالة الجنون أو حالة الاغماء فكلما يوجد الحنث بفعله يترتب عليه وجوب الكفاءة ولا ينافي ذلك عدم لزوم الاثم في بعض الصور وفيه اشارة إلى انه لو لم يوجد الحنث بفعله لا يجب عليه شيء كما إذا حلف لا يشرب الماء فصبه رجل في حلقه اكراها صرح به في النهر
(2) قوله أو باسم من اسمائه وهي تسع وتسعون على ما ورد به الحديث في جامع الترمذي وغيره بل هي ازيد منها على ما ورد في الروايات الاخر
(3) قوله كالرحمن ولرحيم اشار بذكر بما إلى انه يجوز أن يحلف باسم غير اسم الذات مختص به بان يكون عما لا يطلق على غيره وكالرحمن والقدير أو باسم غير مختص به كالرحيم والحكيم والعليم
(4) جميع أسماء الله تعالى في الحلف على السواء تعارف الناس للحلف بها أو لم يتعارفوا. ينظر: ((المحيط))(ص41).
(5) قوله والحق أي معرفا بالم وأما المنكر أي حقا والمضاف أي حق الله فسياتي انه ليس بيمين وفيه اختلاف المشايخ وتوضيحه على ما في البحر وغيره وأن الحق معرفا سواء اكان بالواو أو بالباء يمين اتفاقا كما في الخانية والظهرية وأما المنكر فبدون الواو أو الباء ليس بيمين عند الاكثره مع احدهما بيمين أن نوى وأما المضف فان كان بالباء فيمين اتفاقا لأن الناس يحلفون به وأن كان بالواو فعندهما وهو احدى الروايتن عن أبي يوسف رح ليس بيمين وعنه انه يبين لكونه متعارفا
(5/257)
________________________________________
أو بصفةٍ[(1)] يُحْلَفُ بها من صفاتِه: كعزَّةِ الله[(2)]، وجلالِه، وكبريائه، وعظمته، وقدرته.
لا بغيرِ اللهِ[(3)]: كالنَّبيّ، والقرآن[(4)]، والكعبة.
ولا بصفةٍ لا يُحْلَفُ بها عرفاً: كرحمتِه، وعلمه، ورضائه، وغضبه، وسخطه، وعذابه.
__________
(1) قوله أو بصفته قال في العناية المراد بالاسم به هنا لفظ دال على الذات الموصوفة كالرحمن والرحيم وبالصفة المصادر التي تحصل عن وصف الله كالرحمة والعلم والعزة
(2) قوله كعزة الله ذكر مشايخ العراق أن الحلف بصفات الذات يمين لا بصفات الفعل وذكر مشايخ ما وراء النهر أن الاعتبار للعرف فكل صفة يحلف بها عرف سواء كانت صفة الذات كالقدرة أو صفة الفعل كالخلق والترنليق يكون الحلف بها يمينا وما لا يحلف به عرفا سواء كان صفة الذات أو صفة الفعل لا يكون الحلف يمينا وهذا هو الصحيح كذا في شرح الكنز للزيلعي والبرهان شرح سواء سبب الرحمن
(3) قوله لا بغير الله بل يحرم الحلف بغير الله لحديث أن اله ينهاكم أن تحلفوا باباتكم فمن كان حالفا ليحلف باسراد ليسكت اخرجه الشيخان واصحب السنن الا النسائي من حديث ابن عمر والحاصل أن الحلف باسماء الله يمين بلا شبهة وفي الحلف بصفاته يعتبر العرف والحلف بغير الله ليس بيمين مطلقا
(4) قوله والقرآن قال في فتح القدير لا يخفي أن الحلف بالقرآن الآن متعارف فيكون يمينا انتهى وبناه على أن القران بمعنى كلام الله من صفاته تعالى فيعتبر فيه العرف كالحلف بكلام الله فمن مثل غير الاسماء وصفاته بالقرآن فكانه اراد به نفس المصحف فانه ليس من صفاته تعالى وأما القرآن سواء اريد به الكلام النفسي القديم أو الالفاظ والحروف الحادثة فهو من صفاته تعالى
(5/258)
________________________________________
وقولُهُ[(1)]: لعَمْرُ الله، وأيمُ الله، وعهدِ الله[(2)]، وميثاقِه.
وأقسم(3)[(4)]، وأحلف، وأشهد وإن لم يقلْ بالله.
وعليَّ نذر(5)[(6)]، أو يمين، أو عهد، وإن لم يضفْ إلى الله.
__________
(1) قوله وقوله الخ هذا مبتدأ خبره قوله فيما يأتي قسم وأما قول الشارح فيما ياتي أن المبتدأ هو قوله لعمر الله فلايخلو عن تسامح فان المبتدأ هو قوله لعمر الله لا قوله لعمر الله والعمر بفتح العين وضمه البقاء ولا يستعمل في القسم الا بالفتح لكونه محل التخفيف فالمعنى بقاء الله وهو مبتدأ وخبره محذوف لدلالة جواب القسم عليه أي لبقاء الله قسمي تد استعمل الله في كتابه هذا اللفظ في الحلف في سورة النحل حيث قال لعمرك انهم لفي سكرتهم يمهون وورد الحلف بايم الله في الحديث حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في شان بعض اصحابه وايم الله انه كان خليقا للامارة اخرجه البخاري
(2) قوله وعهد الله انما صار الحلف به قسما وكذا بالميثاق الذي هو بمعناه لقوله تعالى واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها
(3) الواو في هذا وما بعدهه للعطف لا للقسم؛ لأن الحالف يقول: أقسم لأفعلن. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 252).
(4) قوله واقسم هذه الافعال على صيغة المضارع وكذا على صيغة الماضي كحلف شهدت واقسمت مستعملة لليمين بحب اللغة والعرف فلا يحتاج فيها إلى قوله بالله ونحوه
(5) فإن نوى بلفظ النذر قربة لزمته وإلا لزمته الكفارة. ينظر: ((الدر المختار))(1: 54).
(6) قوله على نذران اراد به قربة لزمته نذرا وأن لم ينوبه لزوم قربة يكون يمينا اذاعلقه بشرط أي محلوف عليه
(5/259)
________________________________________
وإن فعلَ كذا فهو كافر، وإن لم يَكْفُرْ علَّقَهُ بماض أو آت، وسَوْكَنْدْ[(1)] ميخُورَمْ بَخُدَايْ(2) قسم[(3)]).
فقولُهُ: لعَمْرُ الله: مبتدأٌ، وقسمٌ: خبرُه، والمرادُ[(4)] بقاءُ الله، تقديره: لعمرُ اللهِ قسمي[(5)].
__________
(1) قوله سوكند بفتح السين وسكون الواو ثم كاف فارسية مفتوحة ثم نون ثم دال مهملة ساكنتان هو معنى القسم بالفارسية
(2) سَوْكَنْدْ ميخُورَمْ بَخْدَايْ: أي أحلف الآن بالله، بلسان فارس. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 545).
(3) قوله قسم أي يمين وهو لفتحتين من الاقسام وذكر أبو البقاء الكفوي في كلياته أن القسم اخص من الحلف واليمين فان اهل اللغة يلمسون بالقسم واليمين ما يقصد به تعظيم المقسم به الا امنهم لا يخصون ذلك بالله واهل الشرع يخصونه بالله واليمين الذي لا يعرفها اهل اللغة هو الشرط الجزاء إذ ليس فيه معنى التعظيم وسموه يمينا لما فيه من معنى اليمين وهو المنع أو الايجاب فان اليمين شرعا هو عقد يقوى به عزم الحالف على الفعل أو الترك وذكر أيضاً أن القسم قسمان ظاهر ومضمر وهو قسمان أيضاً قسم دلت عليه اللام نحو لتبلون في اموالكم وقسم دل عليه المعنى نحو وأن منكم الاوارد تقديره والله
(4) قوله والمرادان المراد من عمر الله بفتح العين أو بضمها والاول اشهر واكثر استعمالا في القسم بقاء الله وهو من الصفات الذاتية الالهية التي يجوز الحلف بهما مطلقا
(5) قوله قسمي فلهذا اخبر محذوف هو معناه اقسم بعمر الله حياته
(5/260)
________________________________________
وقولُهُ: وأيمُ اللهِ، قد قيل[(1)]: هو جمعُ يمين، حذفَتْ النُّون منه خفةً؛ لكثرةِ[(2)] استعماله، تقديرُهُ: أيمنُ اللهِ يميني، وقيل: هو من أدوات القسمِ كالواو.
وعهدِ اللهِ: بالجرِّ[(3)] بواسطةِ حرفِ القسم.
__________
(1) قوله قد قيل الخ اشار به إلى وقوع الخلاف فيه فعند النحاة الكوفيين هو ما خوذ من ايمن التزم بحذف نونه في القسم وايمن بفتح الهمزة وسكون الياء المثناة ** وضم الميم جمع يمين وعن البصريين معنى واهم الله والله فاتوا وللقسم كلمة ايم مسقاة موضوعة للحلف وقعت صلة
(2) قوله لكثرة آي لكثرة استعمال هذا اللفظ في القسم و كثرة الاستعمال من مقتضيات التخفيف ولذا حذفت همزة الوصل في بسم الله كتابة بخلاف اقرا باسم ربك ويطلب تفصيل هذا البحث من شرحي الميزان الصرف المسمى بالتبيان وهو اول تصانيع
(3) قوله بالجر اشار به إلى أن الواو في قول المصر وعهد الله وهكذا قوله وميثاقه قسميته وهو حكاية عن ضيغة القسم وفيه ما فيه أما لا فلأن الظاهر أن الواو في الموضوعينللعطف كما أن الواو في قوله واقسم واحلف واشهد وعلى نذرو أن فعل كذا **** للعطف فهذه القوال كلها معطوفة على قوله لعمر اله وأما ثانيا فلانه يمكن رفع عهد الله ونصيبه بحذف الخبر أو بتقدير اداة القسم
(5/261)
________________________________________
وقولُهُ: وإن لم يكفرْ، إنِّما قال هذا[(1)]؛ لأنَّه علَّقَ الكفرَ بالفعلِ المذكور، فيكون قسماً بسببِ التَّعليق، فعدمُ الكفرِ بذلك الفعلِ دلَّ(2) على عدمِ صحَّةِ التَّعليق[(3)]، فلا يصحُّ القسم، فعدمُ الكفرِ لمَّا أوهمَ عدمَ صحَّةِ القسم، فلدفعِ هذا الوهم، قال: إنَّه قسم وإن لم يكفر، وإنِّما يكون قسماً؛ لأنَّه لمَّا علَّقَ[(4)] الكفرَ بذلك [الفعل](5)، فقد حرَّمَ الفعل، وتحريمُ الحلالِ يمين[(6)
__________
(1) قوله انما قال هذا الخ حاصلة أن الحالفلما علق امرا بالكفر فقال أن فعلت هذا وأن لم افعل هذا فانا كافر وقال أن كنت فعلت هذا فانا كافر فانما يكون هو قسما بسبب التعليق بالكفر فيلزم أن يثبت الكفر على تقدير وجود المعلق عليه مع انهم صرحوا بعدم الكفر وهذا يدل على عدم صحة التعليق فلهذا صرح المصنف عدم الكفر بقوله وأن لم يكفر
(2) في م: تدل.
(3) قوله دل على عدم صحة التعليق إذ لو صح لثبت الكفر كما في سائر التعليقات حيث ينزل الجزاء بوجود الشرط
(4) قوله لانه لما علق الخ توضيحة انه لما علق الحالف الكفر على ذلك الفعل فقد جعل الشرط علما على الكفر فلا بد أن يعتقده واجبالامتناع فوجد معنى اليمين فصار قسما ونما لا يكفر لأن مجرد وارتكاب فعل جعلهعلما على الكفر ليس بكفر حقيقة
(5) سقطت من س و م.
(6) قوله بيمين يدل عليه قول الله تعالى خطابا لنبيه يا ايها النبي لم تحرم ما حل الله لك تبتغ مرضاها ازواجوالله غفور رحيمقد فرض الله لكم تحلله ايمانكم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حلف على ترك اكل العسل وقصته مروية في صحيح النجاري وغيره فهذه الاية دلت علىان تحريم يمين فيكون كل ما تضمنه يمينا وهذا كان قوله على نذر يمينا لأن النذر ايجاب المباح وهو يستلزم تحريم الحلال لأن ايجاب الفعل أو تركه يستلزم لتحريم ضده ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم من نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين اخرجه أبو داؤد وابن حاجته
(5/262)
________________________________________
].
وقولُهُ: علَّقُهُ بماض أو آت؛ أي لا يَكْفُر بهذا القولِ سواءٌ علَّقَ الكفرَ بفعلٍ ماض أو مستقبل، وعند البعض(1): إن علَّقَه بفعلٍ ماضٍ يَكْفُر؛ لأنَّ التَّعليقَ[(2)] بفعلٍ يُعْلَمُ أنَّه قد وقعَ تنجيزٌ(3)، لكنَّ الصَّحيحُ[(4)] أنَّه لا يَكْفُر إن كان يَعْلَمُ أنَّه يمين، فإن كان عنده أنَّه يَكْفُرُ بالحلفِ يَكْفُر فيهما[(5)
__________
(1) مثل محمد بن مقاتل، ولكن الأصح أنه إن كان الرجل عالماً يعرف أنه يمين لا يكفر في الماضي والمستقبل وإن كان جاهلاًن وعننده: أنه يكفر بالحلف يكفر في الماضي والمستقبل. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص143).
(2) قوله لأن التعليق يعني أن التعليق بما يعلم وقوعه تنجيز فاذا قال أن كنت فعلت كذا فانا كافر فان كان صدقا فلا كفر ولا مؤاخذة وأن كان كاذبا كفر لانه يصير كأنه انجز الكفر واثبته لنفسه ويدل عليه قوله صلى اله عليه وسلم من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال اخرجه النجاري ومسلم
(3) أي التعليق بما يعلم وقوعه تنجيز، فإذا قال: إن كنت فعلتُ كذا فأنا كافرٌ فإن كان صدقاً فلا كفر ولا مؤاخذة، وأن كان كاذباً كفر؛ لأنه يصيرُ كأنه أنجز الكفرَ وأثبته لنفسه. ينظر: ((العمدة))(2: 235).
(4) قوله لكن الصحيح الخ حاصله أن الصحيح انه لا يكفر بتعليقه على الكفر سواء علقه بماض أو بمستقبل أن كان فيه اعتقاده انه يمين لانه يقصد به مجرد الامتناع عن الشيء ومجرد توثيق غيره ولا يثبت الكفر ما دام اعتقاده راسخا فان كان في اعتقاده انه يكفر بالحلف به كاذبا أو يظن ذلك الفعل من موجوبات الكفر فحلف به كذا بكفر رح لا لمرد التعليق بالكفر بل لوجود الرضى بالكفر والرضى بالكفر كفر والظاهر أن حديث الصحيحيين فهو كما قال خرج مخرج الغالب فان الغالب ممن يحلف بمثل هذه الايمان أن يكون جاهلا لا يعرف الا لزوم الكفر على تقدير الحنث كذا في فتح القدير
(5) قوله فيهما أي في الغموس والمنعقدة كليهما أما الغموس ففي الحال وأما في المنعقدة فعند مباشرة الشرط في المستقبل وذلك لأن من قال أن فعلت كذا فانا كافر مراده الامتناع بالتعليق وعزمه عدم ارتكابه فليس فيه بالكفر في الحال وأما إذا باشر الفعل معتقدا انه يكفر بمباشرته فانه يكفر عند المباشرة لوجود الرضا بالكفر رح
(5/263)
________________________________________
].
(وحقاً(1)[(2)]، وحقُ الله(3)، وحرمتُه(4)، وسَوْكَنْدُ خُورَمْ بَخُدَاى(5)[(6)] يا(7) بطلاق زَنْ(8)[(9)]، وإن فعلَهُ فعليه غضبُه، أو(10) سخطُه، أو لعنتُه(11).(12)
__________
(1) إلا إذا أراد به اسم الله تعالى. ينظر: ((الدر المختار))(3: 57).
(2) قوله وحقا قال في المجتبي في قوله وحقا أو حقا اختلاف المشايخ والاكثر على انه ليس بيمين وحرمته بالضم اسم من الاحترام وحرمة الله ما لا يحل انتهاكه فهو في الحقيقة قسم بغير الله وكذا لا حلف بحرمة الا اله الا الله وبحق الرسول أو الايمان أو الصلاة ونحو ذلك
(3) واختار صاحب ((الاختيار))(3: 293) أن حق الله يمين؛ لأن الحلف به معتاد اعتبارً للعرف.
(4) اسم بمعنى الاحترام وحرمة الله ما لا يحل انتهاكه فهو في الحقيقة بغيره تعالى. ينظر: ((رد المحتار))(1: 57).
(5) لأنه وعد وليس بيمين. ينظر: ((الايضاح))(ق70/ب).
(6) قوله وسوكند خورم بخداي انما لا يكون يمينا لانه وعد كما أن قوله سوكند خوردة أم اخبار عن اليمين بخلاف قوله سوكندمي خورم فانه يمين كما مر لدلالته على الانشاء
(7) خطأ ملا خسرو في ((الدرر))(2: 41) صاحب ((الوقاية)) في لفظ: يا؛ وأنه يجب عليه لفظ: أو؛ بدلاً منها. وفي ((شرح أبي المكارم))(ق296): أنه الأحسن. ولكن عبد الحليم في ((حاشيته))(1: 335): بيَّن أن هذا وهم من ملا خسرو؛ لأن لفظة: يا؛ بالفارسية بمعنى: أو؛ في العربية.
(8) زَنْ: معناها المرأة أو الزوجة، وإنما لا يكون يميناً؛ لأنه حلفٌ بغير الله، ولا تعارف؛ ولهذا بمينه لا يكون. ينظر: ((العمدة))(2: 236).
(9) قوله يابطلاق زن بفتح الزاي المعجمة وسكون النون الفارسية الزوجة والمرأة وانما لا يكون يميناً لانه حلف بغير الله ولا تعارف ولهذا بعين لا يكون قوله أن فعلت كذا فعلى غضب الله ولعنته أو انا زان أو سارق ونحو ذلك يمينا لعدم التعاون
(10) في ج: و.
(11) العبارة في م: أو لعنته أو سخطه.
(12) لأنه يراد بها آثارها وهو النار؛ ولأن واحد من هذه الأمور لم يتعارف الحلف به. ينظر: ((كمال الدراية))(ق338).
(5/264)
________________________________________
أو أنا زان، أو سارق، أو شاربُ خمر، أو آكل رباً(1) لا.
وحروفُ القسم: الواو[(2)]، والباء، والتاء، وتضمر(3): كاللهِ[(4)] لأفعله[(5)](6).
__________
(1) أي لا يكون يميناً؛ لأنه لا أثر للتعليق في وجود هذه الأشياء. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق130/ب).
(2) قوله الواو الخ ذكر حرف القسم الكثيرة الاستعمال وهي الواو والباء والتاء قالوا ولا يدخل الا على المظهر والباء الموحدة تدخل على المظهر والمضهر كليهما والتاء المثناة الفوقية لا تدخل الا على لفظ الله ومن حروف القسم اللام المكسوة ولا تدخل الا على اسم الله في الامور العظام نحو لله ومنها بامحذوف الالف أو مع الالف مع وصل الف اللا وقطعهما ومنها الميم المكسورة أو المضمومة نحو م الله وجاء الفتح أيضاً كذا ذكره الرماحي في شرح التسهيل
(3) أي قد تضمر حروف القسم فيكون حلفاً؛ لأن حذف الحرف من عادة العرب إيجازاً. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 542).
(4) قوله كالله بالنصب بحذف الجار وايصال الفعل إليه أو بالجر بابقاء اثر المحذوف وجاز الرفع أيضاً
(5) قوله افعله هذا مجرد تصوير لاظهار الحرف الا بحلف في الاثبات لا يكون الا بحرف التاكيد وهو اللام والنون في المقسم عليه نحو والله لا فعلن كذا كذا في تنوير الابصار
(6) في أ و ت و ج و س و ص: أفعله.
(5/265)
________________________________________
وكفارتُهُ:[(1)] عتقُ رقبة[(2)]، أو إطعامُ عشرة مساكين[(3)]، كما مرَّ في الظِّهار[(4)]، أو كسوتُهم لكلٍّ[(5)] ثوبٌ يسترُ عامّةَ بدنِه، فلم يجزْ السَّراويل، فإن عجزَ عنها وقتَ الأداء): أي عجزَ عن الأشياءِ الثَّلاثة(6) وقت إرادة الأداء[(7)
__________
(1) قوله وكفارته اضافة الكفارة إلى الضمير الراجع إلى اليمين اضافة إلى الشرط فان السبب عندنا هو الحنث كما سياتي
(2) قوله عتق رقبة الاولى أن يقول نحر برقبة فانه لورث ذا رحم محرم منه فنوى عن الكفاءة لم يجبر كذا في النهر
(3) قوله عنترة مساكين أي تحقيقا أو تقديرا حتى لو اعطى مسكينا واحدا عشرة ايام كل يوم نصف جاز
(4) قوله كما مر في الظهاراي كالتحرير والاطعام المارين في كفاءة الظهار من كون الرقبة غير فانت جنس المنفعة ولا مستحقة للحرية بجهة من دون شرط الاسلام وفي الاطعام أما التمليك بمقدار الفطرة وأما الاباحة فعشيهم ويغدهم
(5) قوله لكل أي لكل مسكين ثوب سائر لاكثر بدنه فلا يكتفي بالقلنسوة فقط ولا للسراديل فقط بل يكفي مثل القميص
(6) في الثلاث.
(7) قوله وقت ارادة الاداء اشار إلى أن المصنف في قوله في وقت الاداء محذوف فان المعتبر في وجود الصوم هو العجز عن الكفارة المالية عند قصد اداء الكفارة لا عنده ولا قبله قبل الحنث أو بعده ولا بعد الاداء ولو حنث موسرا ثم اعسر جاز له الصوم وفي عكسه ولا عند الشافعي على العكس كذا اذكرها على الربلعي في شرح الكنز ولو وجب ماله لرجل وسلمه ثم صام ثم رجع في بيته اجزاه الصوم كذا في المجتبي والشرط هو العجز واستمراره إلى الفراغ من الصوم ولو نسى المال فصام لم يجز على الصحيح كما في المجتبي ولو صام المعتسر لو بين ثم اليسر ويسرا اختيارا أو غير اختياري كما إذا مات مورثه موثر لا يجوز له الصوم بل يتانف بالمال كفا في الخانية والاصل في هذه كله قوله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين من اوسط ما تطعمون ايليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة ايام فانه يعلم منه أن المعتبرفي وجوب الصوم هو العجز عن الاشياء الثلثة لا غيره وأن المعتبر استمراره وانما اعتبر وقت ارادة الاداء لانه وقت وجوب الاداء وباطلاق قوله تعالى فصيام ثلثة ايام استند الشافعي في جواز التفريق وعندنا يشترط التتابع لقراءة ابن مسعود فصيام ثلثة ايام ثلثا بعات وهذه قراءة مشبوهة الترضيحعند بحث حل المطلق على المقيد فان دخلا أي المطلق والمقيد على الحكم أي الصورة اتحاد الحادثة نحو فصيام ثلثة ايام مع قراءة ابن مسعود لوجوب التتابع وفي قراءة ابن مسعود الحكم وجوب صوم الجمع بينهما فان المطلق يوجب اجزاء غير المتتابع والمقيد يوجب عدم اجزائه انتهى في المثال اشارة الجواب عما يقال انكم حملتم المطلق وهو كفارة اليمين على المقيد في حادثة اخرى وهو كفارة الضهار والقتا حيث شرطتم التتابع في الصوم يعني انما حملناه على مقيد وارد في هذه الحادثة وهو قراءة ابن مسعود فانها مشهورة وبمثلها يزاد على الكتاب بخلاف قراءة أبي رض فعده من ايام اخرى متتابعة في قضاء رمضان فانهما شاذةلا يزاد بمثلها على النص والشافعي انما لم يشترط التتابع لانه لا عمل عنده بالقراءة غير المتواترة مشهورة كانت أو غير مشهورة انتهى
(5/266)
________________________________________
] (صامَ ثلاثةَ أيَّام ولاء[(1)
__________
(1) قوله وقت ارادة الاداء اشار إلى أن المصنف في قوله في وقت الاداء محذوف فان المعتبر في وجود الصوم هو العجز عن الكفارة المالية عند قصد اداء الكفارة لا عنده ولا قبله قبل الحنث أو بعده ولا بعد الاداء ولو حنث موسرا ثم اعسر جاز له الصوم وفي عكسه ولا عند الشافعي على العكس كذا اذكرها على الربلعي في شرح الكنز ولو وجب ماله لرجل وسلمه ثم صام ثم رجع في بيته اجزاه الصوم كذا في المجتبي والشرط هو العجز واستمراره إلى الفراغ من الصوم ولو نسى المال فصام لم يجز على الصحيح كما في المجتبي ولو صام المعتسر لو بين ثم اليسر ويسرا اختيارا أو غير اختياري كما إذا مات مورثه موثر لا يجوز له الصوم بل يتانف بالمال كفا في الخانية والاصل في هذه كله قوله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين من اوسط ما تطعمون ايليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة ايام فانه يعلم منه أن المعتبرفي وجوب الصوم هو العجز عن الاشياء الثلثة لا غيره وأن المعتبر استمراره وانما اعتبر وقت ارادة الاداء لانه وقت وجوب الاداء وباطلاق قوله تعالى فصيام ثلثة ايام استند الشافعي في جواز التفريق وعندنا يشترط التتابع لقراءة ابن مسعود فصيام ثلثة ايام ثلثا بعات وهذه قراءة مشبوهة الترضيحعند بحث حل المطلق على المقيد فان دخلا أي المطلق والمقيد على الحكم أي الصورة اتحاد الحادثة نحو فصيام ثلثة ايام مع قراءة ابن مسعود لوجوب التتابع وفي قراءة ابن مسعود الحكم وجوب صوم الجمع بينهما فان المطلق يوجب اجزاء غير المتتابع والمقيد يوجب عدم اجزائه انتهى في المثال اشارة الجواب عما يقال انكم حملتم المطلق وهو كفارة اليمين على المقيد في حادثة اخرى وهو كفارة الضهار والقتا حيث شرطتم التتابع في الصوم يعني انما حملناه على مقيد وارد في هذه الحادثة وهو قراءة ابن مسعود فانها مشهورة وبمثلها يزاد على الكتاب بخلاف قراءة أبي رض فعده من ايام اخرى متتابعة في قضاء رمضان فانهما شاذةلا يزاد بمثلها على النص والشافعي انما لم يشترط التتابع لانه لا عمل عنده بالقراءة غير المتواترة مشهورة كانت أو غير مشهورة انتهى
(5/267)
________________________________________
]، ولم يجزْ(1) بلا حنث)، التَّكفير قبل الحنثِ لا يجوزُ عندنا حتّى لو كَفَّرَ قبل الحنث، ثُمَّ حنثَ تَجِبَ الكفارةُ[(2)] خلافاً للشَّافِعِيِّ(3)[(4)
__________
(1) في أ و ب و س: تجز.
(2) قوله تجب الكفارة أي بالحنث ولا يجوزى عنها ما اداة قبل الحنث الا انه لا يسترد من المسكين ما دفع إليه قبل الحنث لوقوعه صدقة كذا في الهداية
(3) ينظر: ((الأم))(7: 66)، و((تحفة المحتاج))(10: 15)، و((نهاية المحتاج))(8: 181)، وغيرها.
(4) قوله خلافا للشافعي له طاهر رواية أبي دأود والبنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة إذا حلفت على يمين فرايت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ات بالذي هو خير واورد عليه بان طاهره يقتضي وجوب تقديم الكفارة على الحنث وهو خلاف المذهب بل لم يقل به احد ممن يعتد به فان الخلاف انما هو في جواز التفكير قبل الحنث واجزائه لا في وجوبه واجيب عنه بان وجوب التقديم منسوخ بالاجماع وبنسخ وجوب شيء لا ينتفع الجواز وهذا بطل جوازه أيضاً ولا يثبت الا بدليل اخر وليطلب تفصيل هذا البحث من نور الانوار شرح المنار وحواشيه للوائد العلام ادخله الله دار السلام المسماة بقمر الاقمار ثم أن المروي في الصحيحين عن عبد الرحمن بن صرمة هو لفظ فات الذي هو خير وكفر عن يمينك وفي رواية لابي دأود فكفر عن يمينك وائت بالذي هو خير وعند مسم من حديث أبي سريره مرفوعا من حلف على يمين فرآى غيرها خيرا منها فليات الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفي الصحيحين مرفوعا لا احلف عل يمين فاني غيرها خيرا منها الا اتيت الذي هو خير وكللت عن يميني فهذه الروايات الواردة بحرف الواو الموضوع للجمع المطلق من غير تقديم أو تاخير سواء ذكر التفكير مقدما أو مؤخرا لا ولا له لها على تقديم الكفارة على الحنث حجة لنا وكذا ما ورد في بعض الروايات فليأت بالذي هو خير وليكفر عن يمينه فتحمل كلمة ثم في الرواية السابقة على معنى الواو جمعا بين الروايات المختلفة
(5/268)
________________________________________
] - رضي الله عنه -، فعنده اليمينُ سببُ الكفارة[(1)]، والحنثُ شرطٌ وجوبِ الأداء، فيجوزُ التَّقديمُ عليه[(2)].
__________
(1) قوله سبب الكفارة أي سبب وجوبها فانها تضاف إلى اليمين قال الله تعالى ذلك كفارة ايمانكم إذا حلفتم وهذا اية السببية فان الواجيات تضاف إلى اسبابها حقيقة كما يقال كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الافطار وغير ذلك ونحن نقول أن السبب ما مفضيا إليه واليمين لا تكون مفضية إلى الكفارة بعد نقص اليمين ما حنث وانما اضيقت إليها لوجوبها بحنث بعد اليمين كما تضاف الكفارة إلى الصوم كذا في العناية والبناية
(2) قوله فيجوز التقديم عليه أي على الحنث لا على اليمين لجواز تقديم شيء على وجوب ادائه بعد ملك النصاب الذي هو سبب للوجوب ولايجوز تقديمه قبل ملك النصاب لانه تقديم على السبب وهو غير جئز اتفاقا
(5/269)
________________________________________
وعندنا: الحنثُ سببٌ؛ لأنَّ اليمينَ انعقدَتْ للبرّ[(1)]، والكفارةُ على تقديرِ الحنثِ [فلا يكونُ اليمينُ سبباً لها، فالحنثُ سبب، واليمينُ [شرط](2)، فلا يتقدَّم[(3)] على الحنث](4)، وخلافُ الشَّافِعِيِّ(5) - رضي الله عنه - في الكفارةِ الماليَّة[(6)
__________
(1) قوله للبر بكسرالباء للوحدة وتشديد الراء يقال بردت في القول واليمين ابر فيهما بروا إذا صدقت فيهما والحاصل أن انعقاد اليمين انما يكون بقصد البر واتيان ما حلف عليه وصدقه في حلفه وهو ** شرعا بقوله تعالى واحفظوا ايمانكم فلا تكون اليمين مفضية إلى الكفارة وانما المفضي إليها الحنث إذا وجد بعد اليمين فيكون هو السبب واليمين تكون شرطا للوجوب فلا يجوز تقديم الكفارة على الحنث لكونه تقديما على السبب
(2) سقط من ف، وفي م: شرطه.
(3) قوله فلا قدم أي الكفارة وهو أما مضارع مجهول من التقديم وأما مضارع معروف من التقدم بحذف احدى التائين
(4) سقطت من ص.
(5) أي خلاف الشافعي - رضي الله عنه - السابق في الكفارة بالمال؛ لأن من يكفر بالصوم لم يجز حتى يحنث، أما إن كفر بالمال فالأولى أن لا يكفر حتى يحنث فإن كفر قبل ان يحنث جاز. ينظر: ((التنبيه))(1: 125)، و((فتوحات الوهاب))(5: 296) وغيرهما.
(6) قوله في الكفارة المالية كالتحرير والاطعام والكسوة وأما الكفارة بالعبادات البدنية كالصوم فلا يجزى تقديمه على الحنث إذا لا يعقل افتراق الوجوب عن وجوب الاداء في العبادات البدنية قال التفتازافي في التلويح اعلم أن الوجوب في عرف الفقهاء على اختلاف عباراتهم في تفسيره يرجع إلى كون افعل بحيث يستحق تاركه الذم في العاجل والعقاب في الاجل فمن بينهما مذهب الشافعية إلى انه لا معنى له الا لزوم الاتيان بالفعل وانه لا معنى للوجوب بدون وجوب الاداء بمعنى الاتيان بالفعل اعم من الاداء والقضاء والاعادة وأما ** فذهب بعضهم الا انه لا فرق بين الوجوب ووجوب الاداء في العبادات البدنية حتى أن الشيخ ابا المعين بالغ في رده وانكاره فان الصوم مثلا انما هو الامسك عن قضاء شهوتين نهار الله فالامساك فعل العبد فاذا حصل الاداء ولو كانا متغايرين لكان الصائم فاعلا فعلين الامساك واداء الامساك وهذه مكابرة وأما الذاهبيون إلى الفرق فمنهم من اكتفى بالتمثيل ومنهم من حاول التحقيق فذهب صاحب الكشف إلى أن نفس الوجوب عبارة عن اشتغال الذمة بوجود الفعل الذهني ووجوب الاداء عبارة عن اخراج ذلك الفعل من العدم إلى الوجود الخارجي ولا شك في تغايرهما وكذا في المال اصل الوجوب لزوم مال تصهر في الذمة ووجوب الاداء اخراجه من العدم إلى الخارج هذا كلامه والظاهر أن اشتغال الذمة بوجود الفعل الذهني أو المالي المتصور مجرد عبارة إذ لا يصح أن يراد تصور من عليه الوجوب لحواز أن يكون غافلاً كالنائم والصبي ولا التصور في الجملة إذ لا معنى لاشتغال ذمة النائم والصبي بصلاة أو مال يوجد في ذهن زيد مثلا وذهب الصنف إلى أن نفس الوجوب هو اشتغال الذمة بفعل أو مال ووجوب الاداء لزوم تفريغ الذمة عما اشتغلت به انتهى لمخص أو تعلك تفطنت من هناك أن جمهور الشافعية ينكرون الفرق بين الوجوب ووجوب الاداء مطلقا في المالية والبدنية كليهما وبعض الحنفية ينكرون الفرق في البدنية دون المالية
(5/270)
________________________________________
]، فإنَّهُ يمكنُ أن يثبتَ نفسُ الوجوبِ لا وجوبِ الأداء كما في الثَّمن، فنفسُ وجوبِهِ يتعلَّقُ بالمال[(1)] ووجوبُ الأداءِ بالفعل(2).
__________
(1) قوله يتعلق بالمال بهذا فرق اعتباري بين الوجوب ووجوب الاداء في المال فنفس وجوبه متعلق بنفس المال فانه الواجب في الذمة وجوب الاداء متعلق بالفعل أي اداؤه والاوضح في الفرق ما ذكره الشارح في تنقيح الاصول بقوله بين نفس الوجوب ووجوب الاداء أن الاول هو اشتغال ذمة المكلف بالشيء والثاني هو لزوم تفريغ الذمة عما تعلق بها فلا بدله من سبق حق في الذمة فاذا اشترى شيئا يثبت الثمن في الذمة أما لزوم الاداء فعند المطالبة بناء على اصل الوجوب
(2) الفرق بين نفس الوجوب ووجوب الأداء: أن الأول هو اشتغال ذمة المكلف بالشيء، والثاني هو لزوم تفريغ الذمة عما تعلق بها فلا بدّ له من سبق حق في ذمته فإذا اشترى شيئا يثبت الثمن في الذمة، فثبوت الثمن في الذمة نفس الوجوب. أما لزوم الأداء فعند المطالبة بناءً على أصل الوجوب، وأيضا واجب على المغمى عليه والنائم والمريض والمسافر ولا أداء عليهم لعدم الخطاب، أما في الأولين فلأن خطاب من لا يفهم لغو، وأما في الأخيرين فلأنهما مخاطبان بالصوم في أيام أخر. ينظر: ((التوضيح))(1: 392).
(5/271)
________________________________________
قلنا: المالُ[(1)] غيرُ مقصودٍ في حقوقِ اللهِ تعالى، فالكفارةُ الماليَّة وغيرُ الماليَّة على السَّواء، علا أنّ نفسَ الوجوبِ ينفكُّ عن وجوبِ الأداء في العباداتِ البدنيَّة، فنفسُ الوجوبُ يتعلَّقُ بالهيئةِ الحاصلةِ للعبادات(2)، ووجوب الأداءِ يتعلَّقُ بإيقاعِ تلك الهيئة على ما[(3)
__________
(1) قوله المال الخ حاصله أن نفس المال لا يكون مقصودا في حقوق الله المتعلقة بالمال كالزكوة والكفاءة وغيرها وانما المقصود واداؤه كما أن المقصود في البدنية أيضاً هو اداء الفعل فالمالية والبدنية كلاهما هو اسيان فان لم يجز تقديم الكفاءة البدنية على الحنث بناء على أن وجوب لا ينفك عن وجوب الاداء لكون المقصود هناك الاداء لم يجز في المالية أيضاً لهذا الوجه بعينه
(2) في أ و ص و ف: للعبادة.
(3) قوله علا الخ علاوة على مر قال الشارح في التوضيح اعلم أن بعض العلماء لا يدركون الفرق بين نفس الوجوب وبين وجوب الاداء فيقولون أن الوجوب لا ينصرف الا إلى الفعل وهو الاداء فبالضرورة يكون نفس الوجوب هو وجوب الاداء ولله در من ابدع الفرق بينهما وما ادق نظره وما انتن حكمته وتحقيق ذلك أن الوقت لما كان سببا لوجوب الصلاة كان معناه انه لما حضر الوقت كان لازما أن توجد فيه بيئة مخصوصة وضعت لعبادة الله وهي الصلاة فلزوم وجود تلك البيئة عقيب السبب هو نفس الوجوب ثم الاداء هو ايقاع تلك الهيئة فوجوب الاداء هو لزوم ايقاع تلك الهئية وذلك مبني على الاول لأن السبب اوجب وجود تلك الهيئة لمناسبة بينهما فان المراد بالسبب الداعي ثم بواسطة هذا الوجوب يجب ايقاع لملكه الهئية فالوجوب الاول يتعلق بالهئية وهي الصلاة الثاني بادائها وقد يوجد الوجوب بدون وجوب الاداء كما في المريض والمسافر فان لزوم وجود الحالة التي هي الصوم حاصل لأن ذلك اللزوم باعتبار أن السبب واع إليه والمحل وهو المكلف صالح لهذا لو لم يحصل اللزوم لم يكن السبب سببا لكن لا يجب ايقاعه مع انه يجوز أن يكون واقعا واذا وجد البيع بثمن غير معين فالبيع مبادلة المال بالمال وقد ملكه المشتري المبيع فلابد أن يملكه البائع مالا على المشتري تحقيقا للمبادلة فهذا نفس الوجوب ثم لزوم اداء المال الواجب فرع على الاول فهو وجوب الاداء انتهى
(5/272)
________________________________________
] حقَّقناهُ في ((شرح التَّنقيح))(1).
(ومَن حلفَ على معصيةٍ كعدمِ الكلامِ مع أبويهِ(2) حنثَ[(3)] وكفَّر.
__________
(1) شرح التنقيح))(1: 284) وما بعدها.
(2) في ج و ت و ص و ف و ق: أبيه.
(3) قوله حنث هذا من فروع قاعدة من اتبع ببليتين يختارا هو نهما فان في الحنث تفويت البر إلى جابر وهو الكفاءة وفي البر ارتكاب للمعصية بلا جابر والحنث في مثل هذه الصورة يصير واجب لأن ارتكاب المعصية حرام ولو كان غير المحلوف عليه أو لي يكون الحنث مستحبا والاصل في هذا كله حديث فليكفر عن يمينه وليات بالذي هو خير كما مر ذكره فان كان المحلوف عليه اولى من غيره كقوله والله لاصلين الضحى اليوم وقوله والله لا آكل البصل كان البر اولى بل واجبا وكذا إذا كان المحلوف عليه وغيره متساويين كذا حققه ابن الهمام في فتح القدير
(5/273)
________________________________________
ولا كفارةَ في حلفِ كافر[(1)]، وإن حنثَ مسلماً.
__________
(1) قوله والكفارة في حلف الكافر يعني إذا حلف كافر على فعل أو ترك ثم حنث في حالة كفره أو اسلم أو حنث في اسلامه لا تجب الكفارة عليه والوجه في ذلك أن الكفارة عبادة من وجه ولذا تودي بالصوم والكافر ليس بابل للعبادة وأيضاً هو ليس بابل لليمين لانها تعقد لتعظيم الله كما هو ** وكفره ينافيه ويشهد له قول تعالى في سورة براءة وأن نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا اية الكفر انهم لا ايمان لهم فقوله لا ايمان لهم يدل إلى عدم اعتبار ايمان الكفار شرعا ووجوب الكفارة موقوف على اعتبارها وبهذا يندفع ما يقال أن سبب وجوب الكفارة عندنا هو الحنث لا اليمين فيبغي أن تجب كفارة حال اسلامه لوجود السبب في حال كونه صالحا لاداء كفارة وأن لم تجب عند كون الحنث في حال كفره وجه الدفع أن سبب الوجوب انما هو الحنث بعد اليمين المعتبرة شرعا ويمين الكافر غير معتبرة فلا ينعقد الحنث بعدها سببا لوجوب الكفارة وأن وجد حالة اسلامه فان قلت لو كان كذلك لزم أن لا يستحلف الكافر المدعى عليه عند القاضي ولم يعتبر نكوله قلت المقصود من تحليف المدعى عليه هو ظهور وجه الدعوى بحلفه أو بنكوله والكافر وأن لم يثبت في حقه شرعا اليمين المستعقب لحكمه لكنه في نفسه يعتقد تعظيم اسم الله وحرمة اليمين به كاذبا فيمتنع عنه فيحصل المقصود بالزامه ما ادعاه المدعي ومن هنا يظهر انه لو نذر الكافر قرب ثم اسلم لا يلزمه شيء لانه ليس من اهل النذر كما انه ليس من اهل اليمين لا يقال قد ثبت في صحيح البخاري أن عمر رض كان نذر حاله كفره باعتكاف يوم أو ليلة في المسجد الحرام فسال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له اوف بنذرك لانا نقول ذلك لا يدل على الوجوب بل على الاستحباب واكلام فيه كذا حققه في فتح والبناية وغيرهما
(5/274)
________________________________________
ومَن حرَّمَ[(1)] ملكَه[(2)] لا يحرم[(3)] وإن استباحه كَفَّر(4).
__________
(1) قوله ومن حرم ماض من التحريم والمراد به تنجيزه بان يقول هذا الشيء علي حرام ومنه قولها لزوجها انت علي حرام أو حرمتك على نفسي فلو طاوعنه في الجماع أو اكرهها كفرت كذا في المجتبي ولو علق اكرمة على نعل المخلوق عليه نحو أن يقول أن اكلت هذا الطعام فهو علي حرم فانه لا تلزمه الكفارة وذلك لأن في المنجز حرم على نفسه طعاما موجودا أما في المعلق فانه ما حرمه الا بعد الاكل لأن الجزاء انما ينزل عقيب الشرط وح لم يكن الطعام موجودا كذا في الخلاصة وغيرها وهذا الخلاف ما لو علق حرمته على غير فعل المحلوف عليه نحو أن كلمت زيدا فهذا الطعام علي حرام فانه كالمنجز
(2) قوله لملكه قيد به لترتيب عليه قوله لا يحرم يعني لا يحرم ذلك الشيء لكنه يكون يمينا فتجب الكفارة باستباحته معنى
(3) قوله لا يحرم أي بتحريمه هذا فان كان ذلك الشيء حراما فهو حرام عليه كما كان فان قال مال فلان على حرام يكون يمينا أيضاً الا أن يريد به الاخبار كذا في الخانية
(4) أي من حرم لى نفسه شيئاً مما يملكه لم يصرّ حراماً عليه وإن استباحه بمعاملته معاملة المباح كفر. ينظر: ((درر الحكام))(2: 42).
(5/275)
________________________________________
[ [وكلُّ حلٍّ عليَّ حرام فهو على الطَّعام والشَّراب، وقالوا: تطلق عرسُه(1)، وبه يفتى(2)](3)، كحلالٍ بروي حرام(4)، وهَرْجِهْ(5) بَدَسْت(6) رَاسْت(7) كِيْرم(8) بروي حرام للعرف(9) ](10) ) (11): أي وإن عاملَ به معاملةَ المباحِ[(12)] كفَّر؛ لأنَّ تحريمَ الحلال يمين[(13)]؛ لقولِهِ تعالى[(14)
__________
(1) في ج: امراته.
(2) قال ابن عابدين في ((رد المحتار))(3: 65): وبه افتى المتأخرون لا المتقدمون، وقد توقف البزدوي في ((مبسوطه)) في كون عرف الناس إرادة الطلاق به، فالاحتياط أن لا يخالف المتقدّمين. ومثله في ((الفتح))(5: 91)، و((البحر))(4: 319)، و((الشرنبلالية))(2: 42)و((منحة الخالق))(4: 319)، و((حاشية الشلبي))(3: 115)، وغيرها.
(3) زيادة من ص.
(4) حلال بروى حرام: معناه الحلال عليه حرم، أو حلال الله، أو حلال المسلمين. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 547).
(5) هَرْجِهْ: معناه كل شيء. ينظر: ((البناية))(5: 195).
(6) بَدَسْت: معناه بيدي. ينظر: ((البناية))(5: 195).
(7) رَاسْت: معناه اليمين، يعني اليمين بيدي. ينظر: ((البناية))(5: 195).
(8) كِيْرم: معناه عليّ. ينظر: ((البناية))(5: 195).
(9) في ((الهداية))(2: 76): الأظهر أنه يجعل طلاقاً من غير نية للعرف.
(10) زيادة من ت و ج و ف و ق. وذكرت في ف بعد قوله: فهو تحريم الحلال.
(11) قال صاحب ((الفتح))(5: 91): الحاصل أن المعتبر في انصراف هذه الألفاظ عربية أو فارسية إلى معنى بلا نية التعارف فيه فإن لم يتعارف سئل عن نيته. وفيما ينصرف بلا نية لو قال: أردت غيره لا يصدقه القاضي وفيما بينه وبين الله تعالى هو مصدق. اهـ.
(12) قوله عام به معاملة المباح بان استمتع به استمتاعا عرفيا فو قال لدراهم في يده هذه علي حرام فان اشترى بها حنث وأن تصدق بها أو سبها لم يحنث كذا في الفتح
(13) قوله يمين سوء كان التحريم بصيغة التحريم أو بغيرها
(14) قوله تعالى قال الشيخ معين الدين بن صفي الدين في تفسيره المسمى بجامع البيان يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك من العسل ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة انه عليه الصلاة والسلام كان يمكث عند زينب ويشرب علا فتواطيت انا وحفصت انا نقول له بخدمتك ريح مغافير فدخل على احدهما فقالت له ذلك فقال لابل شربت عسلا عند زينت ولك اعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك احدا وكان ينبغي بذلك مرضاة ازواجه فنزلت والمغافير شبيه بالصمغ لها رائحة كريهة تتبع مرضاة إزواجك والله غفور رحيم فلم يواخذك بما صدر منك وقدروي انه عليه السلام اصاب أم ابراهيم في بيت حفصة فعلمت فقالت أي رسول اله في بيتي وعلى فراشي فحرمها على نفسه وقال والله لا اطأها ولا يذكرى ذلك لاحد فذكرته لعايشة فعوتب في التحريم وام بالكفارة في اليمين ذكره كثير من السلف قد فرض شرع الله لكم تحلة ايمانكم تحليلها بالكفارة وهي ما ذكر في سورة المائدة انتهى
(5/276)
________________________________________
]: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}(1)، على[(2)] أن اليمينَ إن كان على فعلٍ وجوديّ، فهو إيجابُ المباح[(3)]، وإن كان على عدميّ، فهو تحريمُ الحلال(4).
__________
(1) التحريم، (2).
(2) قوله علا بمعنى العلاوة أو بنائية متعلقة بقوله تحريم الحلال يمين أي بناء على أن الخ وحاصله أن اليمين كان على فعل مباح كان يقول والله لا تصدقن في هذا اليوم فهو متضمن لا يجاب المباح لانه كان في سعة من تركه قبل اليمين فلوجب ذلك على نفسه بيمين وأن كان على عدمي نحوه والله لا اذهب إلى الموضوع الفلاني فهو متضمن لتحريم الحلال لأن قبل اليمين كان هو في سعة من فعله فمنعه يمينه ومن المعلوم أن ايجاب المباح يتضمن أيضاً تحريم الحلال وبالجملة فكل يمين لا يخلو عن تحريم الحلال
(3) قوله ايجاب المباح ليس المراد هنا ما يقابل الواجب والمندوب والحرام والمكروه أي ما يستوي فعله وتركه ثم عامل ما هو اعم منه فيشمل المندوب أيضاً
(4) أي إن اليمين إن كان على فعلٍ مباح كأن يقول: والله لأتصدقنَّ في هذا اليوم، فهو متضمن لإيجاب المباح؛ لأنه كان في سعة من تركه قبل اليمين، فأوجبه باليمين، وإن كان على عدميٍّ، نحو: والله لا أذهب إلى الموضوع الفلاني، فهو متضمن لتحريم الحلال؛ لأن قبل اليمين كان هو في سعة من فعله، فمنعه بمينه، ومن المعلوم أن ايجاب المباح يتضمن أيضاً تحريم الحلال، وبالجملة فكل يمين لا يخلو عن تحريم الحلال. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 240).
(5/277)
________________________________________
(ومَن نذرَ[(1)] مطلقاً): أي غيرُ معلَّقٍ بشرطٍ، نحو: للهِ عليَّ صومُ هذا اليوم، (أو معلَّقاً(2) بشرطٍ يريدُهُ[(3)] كـ: إن قدَّمَ غائبي، فوُجِدَ وَفَّى[(4)
__________
(1) قوله ومن نذر الخ لما كان النذر مشابها لليمين في أن في كل منهما ايجاب المباح وتحريم الحلال ذكره في باب الايمان ولذا تجب الكفارة على من قال على نذره ولم يسم قرية كما مر
(2) في ص و م: متعلقاً.
(3) قوله بشرط يريده قال في رد المختار انظر لو كان فاسقا يريد شرطا هو معصيت فعلق عليه كما في قول الشاعري على ما إذا ما زرت ليلى بخفية زيارة بيت الله رجلان حافيا فهل يقال إذا باشر الشرط يجب عليه المعلق أم لا ويظهر لي الوجوب لأن المنذور طاعة وقد علق وجويها على شرط فاذا حصل الشرط لزمته وأن كان الشرط معصية يحرم فعلها لأن هذه الطاعة غير حاملة على مباشرة المعصية بل بالعكس وتعريضا النذر صادق عليه ولذا صح النذر بقوله أن زنيت فلانة لكنه يتخير بينه وبين الكفارة اليمين لانه إذا كان لا يريده يصير فيه معنى اليمين فيتحيز بخلاف ما إذا أن يريده لفوات معنى اليمين فينبغي الجنا بلزوم المنذر فيه
(4) قوله وفي أي يجب عليه الوفء والايتان بما نذر به لقوله تعالى وليوفوا نذورهم وتشترط لصحة النذور ووجوب وفائه شروط بسطها صاحب البدائع والبحر والنهر وغيرها منها أن يكون النذر تقربا إلى الله تعالى فان النظر لغير الله حرام ولا يجب الوفاء به بل يحرم اكل المنذور لغيره وقد نص العلامة قاسم بن قطلوبغا في شرح درر البحار أن النذر الذي يقع من اكثر العوام للاموات كان يقول يا سيدي أن روغائي أو شفي مريض فلك من الذهب والفضة كذا ومن الثياب كذا والطعام أو الشمع والزيت كذا حرام وباطل لكونه نذر المخلوق وما يؤخذ من الشمع والزيت والدراهم والحلوا في ضرائح الاولياء تقربا اليهم حرام لا يحل اكله لا لغني ولا فقير ولا يجوز لخادم القبور اخذه ما لم يقصد الناذر التقرب إلى الله وذكر الولي الما هو لبيان محل صرف النذر وهو مستحقوه القاطنون برباط أو مسجد فح يحلاخذه لخدام ذلك الرباط والمقبرة الفقراء لا الاغنياء فان الغني ليس بمقرن للنرة منها أن لا يكون النذر بمعصية إذا كان حراما لعينه وليس فيه وجه قربة فان كانت فيها جهة قربة وكانت محرمة للغير انعقد النذر كنذر صوم يوم النحر فلو صامه خرج عن العهدة واتم والاحسن أن يفي بصوم يوم غيره كذا في الفتح ومنها أن لا يكون المنذور واجبا عليه قبل النذر فلو نذر حجة الاسلام أو صلاة الظهر ونحو ذلك لم يلزمه شيء غمرا ومنها أن لا يكون المنذور اكثر مما يملكه أو غير مملوكفلو قال لشاة غيره لله على أن اذبحها يوم النحر لم يصح النذر ومنها أن لا يكون مستحيل الوجود فلو نذر صوم امس أو اعتكافه لم يصح ومنها أن يكون المنذور من جنسه وجب شرعا فلا يلزم الناذر ما ليس من جنسه واجب بالنذر كما إذا انذر تشييع الخبازة ودخول المسجد ومنها أن يكون عبادة مقصودة فلا يلزم الوضوء وتكفين الميت والغسل ونحو ذلك بالنذر ومن هنا يظهر انه لا يلزم وفاء نذر العقاد ومجلس المولد كما تعورف من العوام في زماننا وفي المقام تفصيل ليس هذا موضعه وقد فرغنا عن قدر منه في رسالتي السعي المشكور في بحث زيارة سيد القبور قبر سيد اهل القبور صلى اله عليه واله وصحبه إلى يوم النشور
(5/278)
________________________________________
]، وبما لم يردْهُ كـ: إن زنيت،(1) وَفَّى أو كَفَّرَ[(2)] هو الصَّحيح)(3)
__________
(1) أي كإن زنيت فعليّ كذا.
(2) قوله وفي أو كفر يعني هو مخير بين الوفاء بالنذر واتيان المعلق وبين اداء كفاءة اليمين تفصيله على ما ذكره حسن الشربنلالي في رسالته تحفه التحرير واسعاف الناذر والغني والفقير بالتخيير بين الوفاء والتحرير أن النذر المعلق بما يقصد كونه الواجب فيه على تقدير حصول الشرط هو الوفاء والاتيان بالمنذور عينا الانعدام مع اليمين فيه لانه قصد اظهار الرغبة فيما جعله شرطا كقوله أن شفى الله مر يعني والمعلق بما لا يقصد كونه المذكور في ظاهر الرواية وجوب الوفاء فيه أيضاً لأن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجوده ولو نجز النذر عند وجود الكفارة لا تجزيه الكفاءة بل يجب الاتيان بالمنذور فكذا هذا وروى عن أبي حنيفة رح انه رجع عنه قبل موته بسبعة ايم إلى انه مخير بين الوفاء وبين التكفير وذلك لأن في الشرط الذي لا يريد كونه كقوله أن زنيت فعلى حجة أو صوم سنته كلامه يشتمل على معنى النذر واليمين جميعا أما معنى النذر فظاهر لوجود صيغة الالتزام وما معنى اليمين فلانه قصد به الامتناع عن ايجاد الشرط فكان مراده اني لا افعل هذا ولو فعلت فعلي كذا تنجيز بين أن يميل إلى جهة النذر فيفي وبين أن يميل إلى جهة اليمين فيكفر وعليه يحمل حديث كفارة النذر كفارة اليمين اخرجه اصحاب السنن وهذا التخيير في شرط لا يريد كونه وأن كان خلاف ظاهر الرواية فان ظاهر الرواية هو وجوب الوفء بالنذر مطلقا كان أو معلقا بشرط يريده أو بشرط لا يريده لكن ما ثبت رجوع الامام إليه افتى به جمع من المشايخ كالمصدر الشهيد وشمس الالمية السرخسي ومشايخ بلخ وبخار أو صححه في الهداية وقال في البزازية عليه الفتوى
(3) التخيير هو رواية النوادر، ولكنّه صح رجوع الإمام قبل وفاته بسبعة أيام عما نقل عنه في ظاهر الرواية من وجوب الوفاء سواءٌ علقه بشرط يريده أو بشرط لا يريده، وبه كان يفتى إسماعيل الزاهد، وهو اختيار السرخسي في ((المبسوط))(8: 136) لكثرة البلوى في زماننا، وقال صاحب ((الدرر))(2: 43): وبه يفتى، وفي ((التنوير))(3: 69): وهو المذهب. وقال صاحب ((مجمع الأنهر))(1: 548): وفي أكثر المعتبرات هذا هو المذهب الصحيح المفتى به.
(5/279)
________________________________________
إنِّما قال: هذا احتزازاً عن القولِ الآخر[(1)]، وهو وجوبُ الوفاءِ سواءٌ علَّقَهُ بشرطٍ يريدُه أو لا يريدُه، وإنِّما كان هذا صحيحاً؛ لأنَّه إذا علَّقه بشرطٍ لا يريدُه، ففيه معنى اليمين، وهو المنع، لكنَّه بظاهره نذر، فيتخيَّر(2).
__________
(1) قوله القول الاخر هذا هو ظاهر الرواية والتفصيل هو رواية النوادر وقد اخطأ صاحب البحر حيث ظن أن في رواية النوادر التخيير فيهما وذلك لما عرفت أن في الرواية النوادر التخيير فيهما وذلك لما عرفت أن في الشرط الذي يريده لم يرد التخيير مطلقا لا في النوادر ولا في الاصول الشرط الذي يريده لم يرد التخيير مطلقا لا في النوادر ولا في الاصول بل وجوب الوفاء فيه متفق عليه وانما اختلاف الروايتين في الشرط الذي لا يريد كونه بل يقصد الامتناع عنه
(2) في ف: فتخير، وفي م: فليتخير. أي فيتخيَّر بين الوفاء والكفارة. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 548).
(5/280)
________________________________________
أقول: إن كان الشَّرطُ[(1)] أمراً حراماً كـ: إن زنيت مثلاً، ينبغي أن لا يتخيَّر؛ لأنَّ التَّخييرَ تخفيف، والحرامُ لا يوجبُ
__________
(1) قوله أن كان الشرط الخ حاصله انه أن كام الشرط الذي لا يريد كونه امرا حراما أي ممنوعا شرعا سواء كان حراما قطعيا أو كمرولح تحريما كان زنيت أو أن شربت الخمر أو أن تركت الصلاة أو أن لعبت بالشطرنج فعلي صوم سنة ينبغي أن لا يتخير فيه عند الاتيان بالشرط بين الاتيان بالمنذور وبين اداء كفارة اليمين بل يجب عليه الوفاء لأن في التخيير تخفيفا وارتكاب الامر الممنوع لا يوجب التخفيف وفيه بحث من وجوه احدها انه قد يكون الوفاء اخف من اداء الكفارة فلا معنى لوجوب الوفاء مطلقا لتحصيل التشديد كقوله أن زنيت فعلى صوم يوم أو صلاة ركعتين قال اداء مثل هذا اخف من اداء الكفارة بكثير لاسيما إذا كان الناذر موسرا أو اجيب عنه بان اصل وضع التخيير في الشرع للتخفيف فلا يلزم الفعل الحرام وفيه نظر فان مجرد التحييز لا ينافي ارتكاب الحرام شرعا الا ترى إلى أن الحنث ممنوع شرعا وقد خير الشارع الحانث بين التحرير وبين الاطعام وبين الكسوة وثانيهما أن التخفيف انما هو التحييز الذي جعله الشارع لا التخيير الذي جعله العبد لنفسه فانه لو قال رجل أن زنيت فعلى تحرير رقبة أو طعام مسكين لكان يجزي منه اداء احدهما وههنا التحييز ثبت من العبد نفسه بكلامه المشتمل على معنى اليمين ومعنى النذر واجيب عنه بان عبارته لما كانت محتملة لالتزام الوفاء والكفارة ينبغي أن يرجح الشارع جانب الوفاء لئلا يكون تخفيف وفيه نر لانه ليس للشارع أن يلزم رجلا احد محتملي كلام العبد جزما مع وجود الاحتمال الاخر فان المرء انما يؤخذ حسبما ينطق به وثالثهما وهو الحل أن الممنوع انما هو كون الحرام موجبا للتخفيف وثبوته لوجه اخر لا يضر وهنا موجب للتحمير انما هو كون اللفظ محتملا لمعني اليمين والنذر وبالجملة ايراد الشارح باطل من اصله وأن افتخر به
(5/281)
________________________________________
التَّخفيف(1).
(ومَن وصلَ[(2)] إن شاءَ الله تعالى بحلفِهِ بطل[(3)])(4). [والله تعالى أعلم بالصواب](5).
بابُ الحلفِ بالفعل
[فصل اليمين في الدخول والسكنى]
__________
(1) ما اختاره الشارح ردّه صاحب ((الدرر))(1: 43) بقوله: ليس الموجب للتخفيف هو الحرام بل وجود دليل التخفيف؛ لان اللفظ لما كان نذر من وجه ويميناً من وجه لزم أن يعمل بمقتضى الوجهين ولم يجز اهدار أحدهما فلزم التخيير الموجب للتخفيف بالضرورة. وأقرَّه ابن عابدين في ((رد المحتار))(3: 69)، وأيضاً رد كلام الشارح ابن كمال باشا في ((الايضاح))(ق71/أ)، واللكنوي في ((عمدة الرعاية))(2: 241).
(2) قوله ومن وصل اترز به عما إذا قال بعد حلفه منفصلا أن شاء الله فانه لا يبطل به يمينه لأن الاستثناء انما يعمل متصلا لا منفصلا كما تقرر في كتب الاصول
(3) قوله بطل أي حلفه فلم يجب بره ولم تجب الكفارة بحنثه لعدم عقده جزما بل معلقا على مشيئة الله وهي غير معلومة واصلاحه بث من حلف فاستثنى فان شاء مضى وأن شاء تركه من غير حنث اخرجه النسائي والمراد بالاستثناء قوله أن شاء الله عل ما في سنن أبي داود ***
(4) بأن قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، فلا ينعقد: أي لا يحنث أصلاً فلا يكون يميناً. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص144).
(5) زيادة من ف.
(5/282)
________________________________________
(مَن حلفَ لا يدخلُ بيتاً يحنثُ[(1)] بدخولِ صُفّةً(2)[(3)] لا الكعبة[(4)
__________
(1) قوله: يحنث؛ الأصل في هذا الباب أنَّ مبنى الأيمان عندنا على العرفِ ما لم ينوِ محتملَ لفظه؛ لأنّ المتكلّم إنّما يتكلّم بالكلام العرفي، وعلى هذا الأصل يتفرّع فروعُ هذا الباب، وعند الشافعيّ مبنى الأيمان على الحقيقةِ اللغويّة، وعند مالك على الاستعمالِ القرآني. كذا في ((الفتح)).
(2) صُفّة: البيت، وجمعها صِفاف كقِفَافٍ في جمع قُفَّةٍ قِيَاس، وَالسَّمَاعُ الصُّفَّاتُ. ينظر: ((المغرب))(ص268). قال صاحب ((الهداية))(2: 76): لأنها تبنى للبيتوتة فيها في بعض الأوقات، فصار كالشتوي والصيفي. وقيل: هذا إذا كانت الصفة ذات حوائط أربعة، وهكذا كانت صفافهم. وقيل: الجواب مجرى على إطلاقه وهو الصحيح.
(3) قوله: صفّة؛ بضم الصاد، وتشديد الفاء، قال في ((الهداية)): لأنّه ينبئ للبيتوتة في بعضِ الأوقات، فصار كالشتويّ والصيفيّ، وقيل: هذا إذا كانت الصفّة ذات حوائطِ أربعة، وهكذا كانت صفافهم، وقيل: الجواب مجري على إطلاقه، وهو الصحيح. انتهى. وقال العينيّ في ((البناية)): الشتوي هو الذي يبنى لأن يباتَ فيه في الشتاء، والصيفيّ هو الذي يبني لأن يباتَ فيه في الصيف، فالشتويّ له جدران أربعة في واحدٍ منها باب، والصيفيّ له ثلاثة جدران، وهو الصفّة، وذكر في ((الفتح)): إن السقفَ ليس شرطاً في مسمّى البيت والدهيلز.
(4) قوله: لا الكعبة... الخ؛ أي لا يحنثُ بدخولِ الكعبة، وإن كان يطلقُ عليها بيتُ الله، قال الله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس}، وكذا لا يحنثُ بدخولِ المسجد، وإن كان يطلقُ عليه بيتُ الله، وقال الله في شأنِ المساجد: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} الآية، وذلك لأنَّ البيتَ عرفاً يفهم منه ما جعلَ وهيئ للبيتوتة أي النوم والسبات والقرار ليلاً فلا يتبادر*** الذهن من لفظ البيت إلى الكعبة والمسجد ولهذا بعينه لا يحنث بدخول بيعه وهو بكسر الباب الموحدة وفتح العين بينهما ياء مثناة تحتية ساكنة أي معبد النصارى ولهذا لدخول الكنسية وهي على وزن كريمة معبد اليهود وكذا بدخول الظلة وهو بضم الضاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة الساباط الذي يكون على الباب من سقف له جذوع اطرافها على جدار الباب واطرافها الاخر على جدار الجار المقابل وكذا بدخول والميز هو بكسر الدال المهملة وكسر اللام بينما باء ساكنة بعد اللام ياء مثناة تحتية ساكنة ثم زاي معجمة ما بين الباب والدار كذا في البحر والفتح
(5/283)
________________________________________
]، أو مسجد، أو بيعة(1)، أو كنيسة، أو دِهليز(2)، أو ظلّةِ باب دار(3)[(4)])؛ لأنَّ البيتَ موضعٌ أُعِدَّ للبيتوتة، فالصُّفَّةُ بيتٌ لا هذه المواضع. (كما في لا يدخلُ [داراً، فدخل](5) داراً خربة[(6)])، حيث لا يحنث.
__________
(1) البيعة: موضع صلاة النصارى وجمعها البيع وفي ديوان الأدب جعل كل واحد منهما للنصارى. ينظر: ((طلبة الطلبة))(ص93).
(2) دِهليز: وهو ما بين الباب والدار. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 261).
(3) ظلّة باب الدار: وهو التي تكون على باب الدار ولا يكون فوقها بناء وإذا كان على باب الدار تكون على السكة فلا تكون بيتاً فلا يحنث. ينظر: ((درر الحكام))(2: 45).
(4) قوله أو ظلت باب دار قال في المغرب قول الفقهاء ظلت الدار يريدون به السترة التي فوق الباب انتهى وفي زيادة لفظ باب الدار اشارة إلى أن الظلة لو كان دخل الدار يحنث بدخوله لانه مما يبات فيه وكذا إذا كان الدهليز كبير الحنث يصلح لأن يبات فيه قال في الفتح لأن مثله يعتاد بيتوتة للضيوف في بعض القرى وفي المدن يبيت فيه بعض الاتباع في بعض الاوقات والحاصل أن كل موضوع إذا اغلق الباب صاروا خلا لا يمكنه خروج من الدار له سعت تصلح للبيت تحنث بدخوله
(5) سقطت من م.
(6) قوله داراً خربة بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المهملة والمراد بها مالا بناء فيه فانه ذكر في مقابلة أن دخلها منهدمة صحراء وأنما تقع المقابلة بين المنكر والمعروف في الحكم إذا اتوا اراد في محل واحد دخل دارا خربة بعدما زال بعض حيطانه ولم تصر صحراء يحنث المنكر الا أن تكون له نية كذا في الفتح
(5/284)
________________________________________
(وفي هذه الدَّارِ[(1)] يحنثُ إن دخلَها منهدمةً صحراء، أو بعدما بُنِيت[(2)] أخرى(3)، أو وَقَفَ على سطحِها[(4)]، وقيل[(5)
__________
(1) قوله في هذه الدار الخ قال في شرح تلخيص الجامع الكبير أي لو قال والله لا ادخل هذه الدار المشار إليها فخرجت الدار حتى صارت صحراء فدخل عرصتها حنث لأن اسم الدار باق بعض خراب البناء فان الدار لغة هي العرصة واليمين إذا تعلقت باسم يبقى لبقاء ذلك الاسم ويزول بزواله ولا يعتبر فيه لم يتناوله الاسم من الاوصاف بخلاف المنكر إذ الغائب يعرف بالوصف أي بخلاف ما إذا قال والله لا ادخل واراد فانه لو دخل خرجه لا يحنث وهذا لأن الغائب يعرف بالوصف والمراد بالغاء ما لا يكون معينا يعني أن البناء وصف في الدار لأن قوام معنى الدار بالعرصة واسم الدار منكر والوصف في المنكر يكون للتعريف فكانه قال لا ادخل عرصة موصوفة بالبناء فاعتبر وصف البناء في الحنث وفي المعرف لا يحتاج إلى التعريف فكان الوصف لغوا فلم يتقيد به
(2) قوله أو بعدما بنيت أي إذا حلف لا ادخل هذه الدار فانهدمت ثم بنيت دار اخرى يحنث بالدخول فيها لأن الاسم باق بعد الانهدام وانما تبدل الوصف
(3) الفرق بينهما أن الدار اسم للعرصة حقيقة وعرفاً، والبناء فيها من التوابع والأوصاف إلا أن الوصف في الغائب معتبر، وفي الحاضر لغو فكأنه قال: لا أدخل هذه العرصة المبنية فيعلو الوصف مع الإشارة إذ الوصف للتعريف والإشارة أبلغ فيه. ينظر: ((رمز الحقائق))(1: 257).
(4) قوله أو وقف على سطحها يعني إذا حلف لا يدخل دار فصعد على سطحه من خارج ووقف هناك حنث هذا عند المتقدمين وذلك لأن الدار عبارة عن ما احاطت به الدائرة وهذا حاصل في علو الدار وسفلها وعند المتاخرين لا يحنث لأن السطح وأن كان من اجزاء الدار لكن لا يقال للقائم عليه والصاعد إليه انه دخل غرفا كذا في الفتح
(5) قوله وقيل الخ وكذا إذا ارتقى شجرة في الدار من خارج الدار أو حائط من حائط الدار حنث عند المتقدمين خلافا للمتاخرين كذا في البحر
(5/285)
________________________________________
]: في عرفنا لا يحنث به[(1)]): أي بالوقوف على السَّطح(2)، (كما لو جعلَتْ[(3)] مسجداً، أو حماماً، أو بستاناً، أو بيتاً(4)[(5)]، أو دخلها بعد هدمِ الحمام)، حيث لا يحنث؛ لأنَّها لم تبقَ داراً أصلاً[(6)].
__________
(1) قوله لا يحنث به أي في صورة الحلف بعدم الدخول
(2) في ((شرح ملا مسكين))(ص145): والمختار أن لا يحنث إن كان الحالف من بلاد العجم وعليه الفتوى، وإن كان من بلاد العرب يحنث، وهو جواب الأصل. اهـ. والحنث هو قول المتقدمين، مقابله قول المتأخرين. ينظر: ((فتح المعين))(2: 307).
(3) قوله كما لو جعلت الخ يعني لو حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت وبنى موضعها مسجد أو بستان أو بيت أو حمام وهو بالفتح وتشديد الميم بيت يبنى للغسل بالماء الحار أو غلب عليها الماء فدخلها لا يحنث لانها لا تسمى دار الحدوث اسم آخر لها فان انهدم الحمام ونحوه وصلح ذلك الموضع لبناء الدار فبنيت مرة اخرى لا يحنث بالدخول فيها أيضاً لانه عادلة اسم الدار لسبب جديد نزل منزلة الاسم الاخر كذا في الذخيرة
(4) لزوال الاسم بخلاف ما لو جعلت دار؛ لأن الاسم كان باقياً، وهي صحراء حتى يحنث بالدخول فيها. ينظر: ((رمز الحقائق))(2: 257).
(5) قوله أو بيتا الفرق بين الدار والبيت أن البيت اسم لما يبات فيه وهو أن يكون مسقفا محاطا بجدران من دون أن يكون له صحن فان كان فيه صحن وما يتعلق به فهو المنزل وأن كان فيه مع ذلك اصطبل ونحو ذلك فهو الدار
(6) قوله اصلا أما في صورة المسجد والحمام والبستان فظاهر لانه لا يقال لها دارا وأما في صورة بناء الدار الاخرى فلما في تلخيص الجامع الكبير أن العائد بصنع غير الاول قال شارحه أي الاسم العائد إلى الشيء بعدما زال بصنع جديد غير الاول لأن عود الاسم بسبب حادث غير السبب الاول واختلاف السبب يوجب اختلاف المسبب
(5/286)
________________________________________
(وكهذا البيت[(1)]، ودخله منهدماً صحراءً، أو بعدما بُنِي بيتاً آخر)؛ فإنَّه لا يحنثُ لزوالِ اسمِ البيت[(2)].
__________
(1) قوله كهذا البيت الخ وكذا في لا يدخل بيتنا لانه إذا اعتبر وصف البناء في المعرف ففي المنكر اولى والحاصل أن الدار يفرق بين معرفه ومنكره في انه عند حلفه بعدم الدخول فيه يحنث بالدخول فيه بعد أنهدامه من معرفة دون منكره والبيت لا فرق فيه بين المنكر والمعرف فاذا دخله وهو صحراء لا يحنث لزوال الاسم بزوال البناء قال الشاعري الدار دار وأن زالت حوائطها والبيت ليس بيت بعد تهديم كذا في البحر والذخيرة
(2) قوله كهذا البيت الخ وكذا في لا يدخل بيتنا لانه إذا اعتبر وصف البناء في المعرف ففي المنكر اولى والحاصل أن الدار يفرق بين معرفه ومنكره في انه عند حلفه بعدم الدخول فيه يحنث بالدخول فيه بعد أنهدامه من معرفة دون منكره والبيت لا فرق فيه بين المنكر والمعرف فاذا دخله وهو صحراء لا يحنث لزوال الاسم بزوال البناء قال الشاعري الدار دار وأن زالت حوائطها والبيت ليس بيت بعد تهديم كذا في البحر والذخيرة
(5/287)
________________________________________
واعلم[(1)] أنَّهم قالوا في لا يدخل هذه الدَّار فدخلَها منهدمة: إنَّه يحنث؛ لأنَّ اسمَ الدار يطلقُ(2) على الخَرِبة، فهذه العلَّةُ توجبُ الحنث في لا يدخلُ داراً، فدخلَ داراً خَرِبةً، ثُمَّ فرقُهم بأن الوصفَ في الحاضر لغو[(3)] فرقٌ واهٍ؛ لأنَّ معناهُ أنَّه إذا وُصِفَ المشارُ إليه بصفةٍ نحو: لا يكلِّمُ هذا الشَّاب(4)، فكلَّمَهُ شيخاً يحنث؛ لأنَّ الوصفَ[(5)
__________
(1) قوله واعلم الخ ايراد على ما ذكره من الفرق بين الدار المنكرة والدار المعرفة وحكمهمبالحنث بدخول در خربة في المعرفة دون المنكر وعلى ما ذكروه من الفرق بين الدار المعرفة والبيت المعرف حيث حكموا بالحنث بدخول الدار بعد انهدامها صحراء وعدم الحنث بدخول البيتبعد انهدامه
(2) العبارة في م: يطلق الدار.
(3) قوله لغو قال في تلخيص الجامع الكبير وشرحه فالوصف يراعى في الغائب جزما وفي الحاضر أن كان شرطا كان شرطا دخلت راكبة أو داعيا كدارك هذه أي فالاصل انه إذا كان في الكلام وصف فالموصوف أما أن يكون غائبا أي مبهما غير متعين أو حاضر أي متعينا فان كان غائبا فالوصف يراعى فيه قطعا بكل حال سواء كان الوصف داعيا إلى اليمين أو لم يكن وأن كان حاضر فان كان الوصف شرطا أي قيدا للفعل المسند إلى الحاضر كما في قوله أن دخلت الدار راكبة وقع حالا والحال قيد للفعل فيكون شرطا فيعتبر لأن ذات الموصوف وأن كان مستغنيا عنه لكنه لتقييد الفعل فلا يكون لغوا وكذا إذا كان الوصف داعيا إلى اليمين كما في قوله لا ادخل دارك هذه فان الوصف الدر وهو كونها منسوبة إلى المخاطب يصلح داعيا إلى اليمين لأن الدار قد تعادي لبعض صاحبها فيراعى هذا الوصف حتى لو باعها المخاطب ثم دخلها الحالف لم يحنث إذا لم يكن شرطا أو داعيا يكون لغوا لأن الحاضر لا يحتاج إلى التعريف حتى يحمل الوصف على التعريف وليس هنا معنى آخر يقتضي التقييد به فلغا انتهى
(4) في أ: بالشباب، وفي ص: بالشهاب.
(5) قوله اين الوصف الخ حاصل ايرادات الشارح أن تعليلهم بالحنث بدخول الدار المنهدمة في الدار المعرفة يقتضي الحنث في المنكرة أيضاً والفرق المبنى على عدم اعتبار الوصف في الحاضر واعتباره في الغائب ليس بصحيح لأن تلك الضابطة انما هي فيما إذا كان المشار ليه موصوفا بوصف كما إذا حلف لا اكلم هذا الشاب فيلغو وصف الشباب ويتعلق اليمين بذات الموصوف لما مر تقريره وفيما نحن فيه يعني لا ادخل هذه الدار ولا ادخل دارا لا وصف حتى يحكم بالغائه في المعرف دون المنكر فهذا أن ايراد وأن اورد بما الشارح عليهم والايراد الثالث المذكورة بقوله وثم هذا المعنى الخ حاصله انه لو تم تقرير الغاء الوصف واعتباره لزم الحنث في البيت المعرف أيضاً وعدمه في البيت المنكر لأن البيتوتة وصف فيلغو في الحاضر ويعتبر في الغائب فلا يصح فرقهم بين الدار المعرفة وبين البيت المعرف بالحنث في الاول في دخولها منهدمة وعدمه في دخوله منهدما وحاصل الايراد الرابع الذي اشار إليه بقوله ثم قالوا الخ انهم حكموا بعدم الحنث في لا يدخل هذه الدار بدخولها بعدماانهدمت وبنيت حماما وعللوه بانه لم يبق دارا مع أن الغاءهم الوصف الحاضر يقتضي أن يحنث به في هذه الصورة وقدر ومحمد بن فراموز الرومي الشهير بلا خسرو في الدرر شرح الغرر على الشارح واجاب عن ايراداته حيث قال بعد نقل عبارة الهداية في مسألة الدار لأن الدار اسم للعرصة عند العرب والعجم يقال دار عامرة ودار غامرة وقد شهدت اشعار العرب بذلك فالبناء وصف فيها غير أن الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر انتهت هذه عبارة الهداية وتحقيقها أن مراده بالوصف ليس صفة عرضية قائمة بجوهر كالشباب والشيخوخة هو نحوهما بل ما يتناولها ويتناوب جوهرا قائما بجواهر اخر يزيد قيامه به حسنا له وكمالا ويورث انتقاصه عنه قبحا له ونقصانا حتى فرقوا بين الوصف والقدر كما سياتي في اوائل البيوع بان الاول ما يورث تشقيصه ضر أن صلة والثاني ما لا يورثه وجعلوا ما يساوي الزرع في المزروعات وصفا وما يساوي الكيل في المكيلات قدرا واذا كانت الدار اسما للعرصة وكان البناء وصفا وكانت الدار منكرة كانت غائبة فيعتبر فيها البناء فاذا لم يوجد لم يحنث واذا كانت معرفة كانت حاضرة فلا يعتبر فيها واذا لم يوجد يحنت فاذا عرفت هذا فالعم أن ما صدر هنا من صدر الشريعة من الغرائب لانه خالف جمهور الايمة براي غير صائب أما اولا فلان قوله فهذه العلة توجب الخ ناش من الغفلة من قول صاحب الهداية غير أن الوصف في الحاضر لغو وأما ثانيا فلان قوله لأن معناه انه إذا وصف الخ ناش من الغفلة عن معنى الوصف وقد مر أن البناء وصف في الدار كما صرح في الهداية وأما ثالثا فلان قوله ثم هذا المعنى الخ غلط محض ناش من عدم التفرقة بين البيت والدار لانه كما عرفت عبارة عن امر زائد على الذات قائم به والبيتوتة ليست كذلك بل هي علة غائبة لبناية بخلاف الدار فان البناء زائد على الدار التي هي العرصة وأما رابعا فلان حاصل قوله ثم قالوا الخ أن الدار إذا كانت عبارة عن العرصة كان ينبغي أن يحنث فيما إذا بنيت حماما لوجود العرصة وجوفا سد لأن الدار يطلق على العرصة المجردة وعلى عرصة مع ما بنى عليها من بناء الدار فاما إذا بنى عليها من بناء غير الدار وتصرف فيها تصرفا يزول اسم الدار عنه عرفا فلا يكون دارا وكان هذا الفاضل لم ينظر في الفاظ الهداية وعباراته فضلا عن التامل والتفكير في عباراته انتهىكلامه
(5/288)
________________________________________
] بالشَّباب صارَ لغواً.
وفي قولِنا: لا يدخلُ هذه الدَّار، أو لا يدخلُ داراً، أين الوصفُ حتَّى يكون لغواً في أحدهما غيرَ(1) لغوٍ في الآخر.
ثُمَّ هذا المعنى يوجبُ الحنثَ في لا يدخلُ هذا البيت، وعدمَهُ في لا يدخلُ بيتاً إن دخلَهُ[(2)] منهدماً صحراء؛ لأنَّ البيتوتةَ وصفٌ فيلغو في المشارِ إليه، فزوالُ اسم البيت ينبغي أن لا يعتبرَ في المشارِ إليه.
ثُمَّ قالوا في: لا يدخلُ هذه الدَّار، فدخلَها بعدما بُنِيتْ حماماً أنَّه لا يحنثُ لأنَّه لم يبقَ داراً.
أقول[(3)]: لفظُ الدَّار في الدَّارِ المعمورةِ غالبُ الاستعمال، وقد يطلقُ أيضاً على المنهدمة، فإذا قيل: لا أدخلُ داراً، فالأولَى أن[(4)] يرادَ الدارُ المعمورة، وأيضاً وجوبُ[(5)] صرفِ المطلقِ إلى الكامل[(6)]، أوجَبَ إرادة المعمورة.
__________
(1) في أ و س: وغير.
(2) قوله أن دخله فيه لكل من الحنث في المعرف وعدمه في المنكر
(3) قوله اقول الخ لما كانت الوجوه التي ذكرها الفقهاء في هذا المقام مخدوشة عنده بوجوده ذكرها اراد تعليل المسائل بوجه ذكرها اراد تعليل المسائل بوجه اخر صاف عن الكدورة
(4) قوله فالاولى أن يراد لأن اللفظ يحمل على ما يستعمل فيه غالبا ما لم يصرف عنه صارف
(5) قوله وأيضاً وجوب الخ ظاهر هذا الدليل يخالف الدليل الاول من حيث أن الاول يثبت الاولوية وهذا الدليل يثبت وجوب حمل دار منكرة على المعمورة الا أن يقال المراد بالوجوب هو الوجوب الاستحساني فيوافق الاولوية أو يقال المراد بالاولوية الاولوية البالغة إلى حد الوجوب فيوافق الوجوب الاول اولى لأن صرف المطلق إلى الكامل ليس بواجب بحيث لا يصح خلافه وانما هو من المستحسنات التي يتبادر الذهن إليها
(6) قوله إلى الكامل أي إلى الفرد الكامل منه وهذا التبادر الذهن إليه ومن ثم حملوا قولهم من السنة كذا على السنة المؤكدة وقولهم هذا مكروه على المكروه تحريما وامثال هذه كثيرة
(5/289)
________________________________________
وإذا قيل: لا يدخلُ هذه الدَّار، فانهدمَ بناؤُها، فصحَّةُ[(1)] إطلاقِها على المنهدمةِ ترجَّحت[(2)] بالإشارة، فيحنثُ إن دخلَها منهدمة.
وإن بنيتَ داراً أُخرى يحنثُ بدخولِها.
__________
(1) قوله لهجة الخ حاصل الفرق بين الدار المنكرة وبين الدار المعرفة انه إذا قال لا احلف دارا حمل الدار فيه على المعمورة لكونها فردا كاملا للدار ولوكنها كثير الاستعمال فيها فلا يحنث أن دخلها منهدمة وأما المعرفة فلما كانت مشار إليها والاشارة انما تكون إلى الذوات مع قطع النظر عن غيرها فحملت على الدار المطلقة عمورة كانت أو منهدمة وذلك لأن اطلاق الدار على غير المعمورة صحيح بلا شبهة وأن كان هذا الاستعمال قليلا الحسبة إلى استعمالها في المعمورة وقد تزجح حلها على هذا المعنى بسبب الاشارة فيحنث أن دخلها منهدمة
(2) قوله ترجحت خير بقوله فصحة وضميره راجع إليها وفيه مسامحة لا تخفي فان الصحة الآن كما كانت لادخل للاشارة في ترجحها والاولى أن يقال فاطلاقها وحملها على المنهدمة ترجح بالاشارة
(5/290)
________________________________________
أمَّا لو جُعِلَتْ[(1)] حماماً، أو بستاناً، فلا يحنث؛ لأنَّه زالَ عنها[(2)] اسمُ الدَّار بالكليَّة.
__________
(1) قوله أما لو جعلت الخ شروع في وقع ما اشار إليه بقوله ثم قالوا الخ
(2) قوله زال عنها ببناء آخر غير بناء الدار فان الدار وأن كانت هي العرصة حقيقة لكن اطلاق الدار عليها ا نما يكون إذا كان فيها بناء الدار أو لم يكن فيها بناء اصلاً وأما إذا بني فيه بناء آخر غير بناء الدار كبناء المسجد والحمام والبستان وغير ذلك لا يطلق عليها عرفا اسم الدار ولا غالبا ولا قليلاً فلا يحنث بالدخول رح فان قلت فيلزم انه إذا انهدم الحمام وغيره وبنيت هناك دارا اخرى فدخل فيها حنث لوجود اطلاق اسم الدار رح قلت لما زال اسم الدار بالكلية ببناء آخر فبناء الدار بعده لا يوجب الحنث لحصول اطلاق اسم الدار رح لسبب جديد بعد تخلل مايزها فصار كانها دار اخرى غير الاولى التي حلف بعدم دخولها
(5/291)
________________________________________
وأمَّا البيتُ[(1)] فلا يطلقُ إلاَّ على موضعٍ أُعِدَّ[(2)] للبيتوتة، فإذا خَرِبَت[(3)]، لم يصحَّ إطلاقُ البيتِ عليه أصلاً، ولا يقال[(4)]: إنَّ البيتوتةَ وصف،
__________
(1) قوله وأما البيت الخ شروع في توجيه حكم البيت من عدم الحنث بعد كونه صحراء في المنكر والمعرف كليهما والاشارة إلى وجه الفرق بين البيت المعرف وبين الدار المعرفة
(2) قوله اعد بصيغة المجهول من الاعداد أي شيء وجعل محللاً للبيتوتة وهو لا يكون إلاَّ بأن يكون فيه بناء وبالجملة وهو ليس اسم لعرصة فقط ولا يستعمل في المنهدم لا غالباً ولا قليلاً بل يخص استعماله في ذات البناء بخلاف الدار فانها تطلق على المنهدمة ايضاً لكونها اسماً للعرصة حقيقة فلهذا افترق الحكم بين الدار المنكرة وبين المعرفة على ما مر تقديره واتحد الحكم في الحكم البيت المعرف والمنكر وهو عدم الحنث بدخوله منهدماً
(3) قوله فاذا خرب أي بالانهدام وصير ورثة عرصة خالية عن البناء أما لو هدم السقف فقط دون الحيطان فدخله حنثة في المعرف لعدم زوال اسم البيت عنه لا مكان للبيتوتة فيه كصفة أو نقول اسم البيت ثابت لهذه البقعة لاجل الحيطان والسقف جميعاً فإذا زال السقف فقد زال السقف من وجه دون وجه فلا تبطل اليمين بالشك وعلى قياس الاول يحنث في المنكر ايضاً لأن اسم البيت لم يزل وعلى قياس الثاني لا يحنث لانه بيت من وجه الحاجة بينهما لعقد اليمين فلا ينعقد عليه بالشك بخلاف المعين فان اليمين كانت منعقدة على هذه العين فلا تبطل بالشك كذا في الذخيرة
(4) قوله ولا يقال الخ ايراد على ما ثبت مما قبله من عدم الحنث في البيت بدخوله بعد انهدامه وحاصله انه قد تقرر عندهم أن الوصف في الحاضر لغو بمعنى انه يتعلق الحكم هناك بنفس ذات الحاضر مع قطع النظر عن الوصف ومن المعلوم أن البيتوتة وصف في البيت فينبغي أن يلغو في المعرف وتتعلق اليمين بنفس الذات مع قطع النظر عن هذا الوصف فيلزم الحنث بدخوله منهدماً ايضاً
(5/292)
________________________________________
والوصفُ في المشارِ إليه لغو؛ لأنَّ[(1)] البيتَ اسمُ جنسٍ مع أنَّه مشتقٌ من البيتوتة، وليس اسمَ صفةٍ كالشَّابِّ ونحوه، فاسمُ الإشارة إذا دَخَلَ في الصَّفات يكونُ الوصفُ لغواً، نحو: لا يكلُّم هذا الشَّابّ، فكلَّمَهُ شيخاً يحنث.
أمَّا إن دخلَ في أسماء الأجناس، وإن كانت مشتقَّة، نحو: واللهِ لا يشربُ هذا الخمر، فلا بُدَّ من بقاءِ حقيقتِها، حتَّى لو تخللَّ فشربَ لا يحنث، ولو حلفَ لا يشربُ هذا الخمرَ الحلو، فشربَ بعدما صارَ مُرَّاً يحنث، فاحفظ هذا البحث، فإنَّه مزلَّة الأقدام(2)[(3)].
__________
(1) قوله لأن علة لقوله لا يقال وجواب عنه وحاصله أن البيت وأن كان مشتقاً من البيتوتة لكنه اسم جنس وضع لما يبات فيه مع عزل النظر عن هذا الوصف والظابطة مذكورة انما هي في اسما الاوصاف لا في اسماء الاجناس والمعتبرة فيها هو بقاء الحقيقة وزوالها
(2) ما أورد الشارح من الحجّة هنا واعترض به على الفقهاء ردَّه ملا خسرو في ((درر الحكام))(2: 43)، وابن كمال باشا في ((الايضاح))(ق71/أ)، واللكنوي في ((عمدة الرعاية))(2: 243)، وأيّدوا الفقهاء بكلام طويل يطول المقام في إيراده.
(3) قوله فانه مزلة الاقدام ما صدق هذا القول من الشارح وما احسنه فقد عرفت انه قد زل في هذا البحث قدم الشارح بنفسه حيث اورد على الفقهاء ما لا يرد عليهم وظن ما هو الصحيح غلطاً ولسبب التسامح اليهم
(5/293)
________________________________________
(أو هذه الدَّار[(1)]، فوقفَ[(2)] في طاقِ بابٍ لو أُغُلِقَ كان خارحاً(3).
__________
(1) قوله أو هذه الدار الخ عطف على قوله هذا البيت أي لا يحنث إذا حلف لا يدخل هذه الدار بقوفوفه في طاق باب إلى عتبة التي بحيث لو اغلق باب الدار كانت العقبة خارجة؛ لأن مثل هذا يعد خارجاً من الدار فلا يكون الوقوف فيه دخولا ولو كانت بحيث لو أغلق الباب كانت داخلة حنث في حلفه لا يدخل ولو قال: لا أخرج من هذه الدار فوقف في العتبة العكس الحكم في الصورتين ففي الوجه الاول يحنث وفي الوجه الثاني لا يحنث كذا في البحر وغيره
(2) قوله فوقف أي بقدميه فلو وقف باحدى جليه على العتبة وادخل الاخرى فان استوى الجانبان أو كان الجانب الآخر اسفل لم يحنث وأن كان الجانب الداخل اسفل حنث لوجود الدخول وقيل لا يحنث مطلقا وهو الصحيح لأن الانفصال التام لايكون الا بالقدمين كذا في المحيط والظهرية
(3) أي لا يحنث ولو أدخل رأسه أو إحدى رجليه لم يحنث، أما لو أغلق الباب يكون داخلاً يحنث. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص145).
(5/294)
________________________________________
أو لا يسكنُها[(1)]، وهو ساكِنُها، أو لا يلبسُه، وهو لابسُه، أو(2) لا يركبُه، وهو راكبُه، فأخذَ في النُّقْلَة[(3)]، ونَزع[(4)] ونزل[(5)] بلا مكث): أي إذا حلفَ لا يسكنُ هذه الدَّار، وهو ساكنُها، فلا بُدَّ من أن يأخذَ في النَّقلِ بلا مكث(6)، حتَّى لو مكثَ ساعة يحنث[(7)]، وهذا[(8)] عندنا، وأمَّا عند زُفَرَ - رضي الله عنه - يحنث؛ لوجودِ السُّكْنى، وإن قلّ[(9)].
__________
(1) قوله أو لا يسكنها الخ ذكر في البحر ومنح الغفار وغيرهما أن دوام الركوب واللبس والسكن كالانشاء فلو حلف لا يركب الدابة حال ركوبها اولا يلبس هذا الثوب حال لبسه أو لا يسكن هذه الدار حال كونه فيها حنث لومكث ساعة لا دوام الخروج والتزوج والتطهير والضابطة أن ما يمتد فلدوامه حكم الابتداء، مالا فلا وهذا كله لو كان اليمين حال الدوام أي لو حلف قبله فلا فلو قال كلما ركبت فانت طالق أو فعلي ورسم ثم ركب ودام لزمه طلقة ودرهم ولو أن راكبا لزمه في كل ساعة يمكنه النزول فيها طلقة ودرهم وذكر في المحتبي أن في عرفنا لا يحنث الا في ابتداء الفعل في الفصول كلها وأن لم ينو
(2) في م: و.
(3) قوله في النقلة بضم النون وسكون القاف أي الانتقال من تلك الدار بعد حلفه بعدم المساكنة
(4) قوله ونزع إلى نزع ذلك اللباس عن بدنه في الفور في حلفه بانه لا يلبسه
(5) قوله ونزل أي عن الدابة بمجرد حلفه بعدم الركوب
(6) لأ إن أقام فيها يوماً أو أكثر يحنث في يمينه؛ لأن الدوام على السكنىله حكم الابتداء. ينظر: ((المحيط))(ص114).
(7) قوله يحنث قال في الهداية لأن هذه الافاعيل لها دوام بحدوث امثالها الايرى أن يضرب لمائدة يقال ركبت يوما ولبست يوما بخلاف الدخول لانه لا يقال دخلت يوما بمعنى المدة والتوقيت ولو نوي الابتداء الخالص يصدق لانه محتمل كلامه
(8) قوله هذا أي عدم الحنث إذا لم يمكث
(9) قوله وأن قل الواو وصلية يعني وجد السكنى وأن كان قليلا فيحنث
(5/295)
________________________________________
قلنا[(1)]: اليمينُ شُرِعَتْ للبرّ، فزمانُ تحصيلِ البرّ يكونُ مستثنىً، وكذا في لا يلبسُه، وهو لابسُه، ولا يركبُهُ وهو راكبُه.
(أو لا يدخلُ فقعدَ فيها)؛ فإنَّه لا يحنثُ به، فإنَّ الدُّخولَ هو الانتقالُ من الخارجِ إلى الدَّاخل، فلا يحنثُ بالمكث[(2)]، بخلافِ[(3)] السُّكْنَى و(4) اللُّبْس و(5) الرُّكُوب، فإنَّه في حالِ(6) المكثُ ساكن ولابسٌ وراكب، فمن قولنا[(7)](8): وقيل: في عرفنا لا يحنثُ... إلى هاهنا الحكمُ عدمُ الحنث.
__________
(1) قوله قلنا جواب عن قول زفر وحاصله أن اليمين انعقدت للبر وشرعت شرعا لأن ياتي بالمحلوف عليه فلابد من زمان يقدر فيه على تحصيل البر فهو مستثنى بضرورة فلو لزم الحنث بذلك القدر لزم تكليف ما لا يطاق
(2) قوله بالمكث اشار به إلى أن ذكر العقود في المتن اتفاقي فان الحكم كذلك في كل مكث سواء كان قعودا أو قياما أو اضطجاعا
(3) قوله بخلاف الخ حاصله أن المكث في السكني واللبس والركوب يطلق به الساكن واللالبس والراكب والمكث في البيت لا يطلق به الداخل فلذا لا يحنث بالمكث في مسألة الدخول ويحنث بالمكث في الركوب ونحوه
(4) في س: أو.
(5) في س: أو.
(6) في س: الحال.
(7) قوله فمن قولنا يعني أن اقول المصنف في مسألة الحنث بالوقوف على السطح في حلفه بعدم دخول الدار وقيل في عرفنا لا يحنث إلى مسألة العقود في حلفه عدم دخول الدار لبيان عدم الحنث فالحكم في المسائل المذكورة بعد ذلك القول إلى هنا عدم الحنث
(8) أي من قول المصنف - رضي الله عنه -، وقيل: في عرفنا لا يحنث أي في مسألة الوقوف على السطح إلى هاهنا حكم المسائل عدم الحنث.
(5/296)
________________________________________
(إلاَّ أن يخرجَ ثُمَّ يدخل) هذا استثناءٌ مفرَّغٌ[(1)](2) من قبيل الظَّرف(3)، فإنَّ قولَهُ: إلاَّ أن يخرج، معناهُ إلاَّ الخروج(4)، ثُمَّ المصدرُ يقعُ حيناً، نحو: آتيتك(5) خُفوقَ[(6)] النَّجم(7): أي وقتَ خُفوقِه، فتقديرُ الكلامِ ...(8) في قولِهِ: لا يدخلُ فقعد؛ لا يحنثُ في وقتٍ[(9)] إلاَّ وقتَ خروجِه، ثُمَّ دخولِه.
__________
(1) قوله استثناء مفرغ هو على صيغة اسم المفعول وهو ما حذف فيه المستثنى منه وحاصله أن قوله الا أن يخرج معناه الا لخروج لكون أن مصدرية تجعل ما بعدها بمعنى المصدر وهو ظرف فيكون معناه الا وقت الخروج ثم الدخول والمستثنى منه هو الاوقات
(2) الاستثناء المفرّغ: سمِّي مفرّغاً؛ لأن ما قبل إلا قد تفرّغ لطلب ما بعدها، ولم يشتغل عنه بالعمل فيما يقتضيه. ينظر: ((شرح ابن عقيل))(1: 603)، و((شرح قطر الندى))(ص247)، و((البهجة المرضية))(ص215)، وغيرها.
(3) في ص: الطرف.
(4) في م: بالخروج.
(5) في أ و س: آتيك.
(6) قوله خفوق بضم الخاء المعجمة بمعنى الغيبوبة والغروب يعني اتيك وقت غروب الكوكب
(7) خُفوق: المغيب والغرب، وخُفوق النجم: أي وقت خُفوق الثريا تجعله ظرفاً وهو مصدر. ينظر: ((اللسان))(10: 81).
(8) في ص و ف و م زيادة: ان.
(9) قوله في وقت لا يقال المستثنى منه لابد أن يكون عاما شاملا مستثنى وغيره ليصح كذلك وهنا ليس كذلك لانا نقول الوقت في قوله في وقت نكرة واقعة تحت النفي فكانه قال لا يحنث في كل وقت الا وقت خروجه ثم دخوله
(5/297)
________________________________________
(وفي لا يسكنُ[(1)] هذه الدَّار[(2)]، لا بُدَّ من خروجِهِ[(3)] بأهلِه[(4)] ومتاعِه[(5)] أجمع حتَّى يحنث بوتدٍ بقي): هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -.
وأمَّا عند أبي يوسف[(6)] - رضي الله عنه -، فيعتبرُ نقلُ الأكثر.
__________
(1) قوله وفي لا يسكن ولو حلف بقوله لا يقعد في هذه الدار فان كان ساكنا فيها فهو على السكنى والا فعلى العود حقيقة كذا في المحيط
(2) قوله هذه الدار وكذا لو حلف لا يسكن هذا البيت أو لا يسكن هذا المحلة بخلاف المصر والقرية كذا في الهداية
(3) قوله لابد من خروجخ قال في الهداية يعد ساكنا ببقاء اهله ومتاعه فيها عرفا فان السوقي عامة نهاره في السوق ويقول السكن سكة كذا
(4) قوله باهله المراهد بالاهل زوجته واولاده الذين معه وكل من كان ياويه لخدمته والقيام بمره كذا في البدائع
(5) قوله ومتاعه المتاع بالفتح ما يتمتع به ويستنفع به في بيته
(6) قوله وأما عند أبي يوسف الخ وجه قول أبي يوسف انه قد يتعذر نقل الكل فيعتبر الاكثر وللاكثر حكم الكل وقد مر وجه قول أبي حنيفة ووجه قول محمد رح أن الاعتبار في السكنى وعدم السكنى انما هو ما يقوم به السكنى فلا ضرر في بقاء ما وراء ذلك وقد اختلف المشايخ في ترجيح هذه الاقوال فرجح الفقيه أبو الليث قول أبي حنيفة واستثنى منه المشايخ ما لا يتأتى به السكنى كقطعة حصير وتد وذكر صاحب المحيط والفوائد الظهرية والكافي أن الفتوى على قول أبي يوسف ورجح في الهداية قول محمد بانه احسن وارفق وصرح في الفتح وغيره أن الفتوى عليه كذا في البحر وفيه أيضاً الافتاء بقوله الامام لانه احوط وأن كان غيره ارفق ورد عليه في النهر بانه ليس المدار الاعلى العرف ولاشك أن من خرج على نية ترك المكان وعدم العود إليه ونقل من امتعته ما يقوم به امر سكناه وهو على نية نقل الباقي يقال ليس ساكنا فيه بل انتقل منه وسكن في المكان الفلاني وبهذا يترجح قول محمد
(5/298)
________________________________________
وأمَّا عند محمَّد - رضي الله عنه - فيعتبرُ ما يقومُ به، كَدْخُدَائِيَّتِه[(1)](2)، قالوا: هذا أحسن، وأرفقُ بالنَّاس(3).
(بخلافِ[(4)] المصرِ والقرية)(5): فإنَّه [لا](6) يشترطُ[(7)] نقلُ الأهل والمتاع.
[فصل اليمين في الخروج والاتيان والركوب وغير ذلك]
__________
(1) قوله كدخدائية الكدخدائية بفتح الكاف وسكون الدال المهملة وضم الخاء المعجمة ثم دال مهملة بعدها الف بعدها بهمزة بعدها ياء ثناه تحتية مشددة بالفارسية خانه وارى
(2) في ب و س و م: كدخدائية. أي يعتبر نقل ما لا بد في البيت من آلات الاستعمال. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 552).
(3) اختلفت الفتوى على هذه الأقوال:
قول الإمام - رضي الله عنه - ، واختاره أصحاب المتون. وقال صاحب ((البحر))(4: 333): وعليه الفتوى؛ لأنه أحوط.
وقول أبي يوسف - رضي الله عنه -، قال صاحب ((المحيط))، و((الفوائد الظهيرية))، و((الكافي)): أن الفتوى عليه.
وقول محمد اختار صاحب ((الهداية))(2: 78)، والشارح، و((الفتح))(5: 107)، و((الدر المختار))(3: 77)، و((رد المحتار))(3: 77)، وقال العيني في ((رمز الحقائق))(1: 258): وعليه الفتوى.
(4) قوله بخلاف يعني إذا حلف لا يسكن هذا المصر أو هذه القرية يكفي في البر حينئذ أن يخرج بنفسه من دون اشتراط نقل الامتعة والاولاد ولكن يشترط فيه أن يون في نيته عدم العود
(5) بأن حلف أن لا يسكن هذا المصر أو هذه القرية ...
(6) سقطت من م.
(7) قوله بخلاف يعني إذا حلف لا يسكن هذا المصر أو هذه القرية يكفي في البر حينئذ أن يخرج بنفسه من دون اشتراط نقل الامتعة والاولاد ولكن يشترط فيه أن يون في نيته عدم العود
(5/299)
________________________________________
(وحنثَ[(1)] في لا يخرجُ لو حُمِل وأُخرج بأمره، لا إن أُخْرِجَ بلا أمرِه ...(2) مكرهاً[(3)] أو راضياً[(4)](5)، ومثله(6) لا يدخلُ أقساماً[(7)] وحكماً)، فالأقسامُ:
أن يخرجَ بأمرِه[(8)].
__________
(1) ءقوله وحنث الخ يعني لو حلف لا يخرج من هذا البيت أو هذا المسجد فحمله انسان واخرجه بامر الحالف حنث لأن فعل المامور مضاف إلى الامر فتحقق منه الخروج بخلاف ما لو اخرج بلا امره مكرما أو رضي لأن الانتقال بالامر لا بمجرد الرضاء
(2) في ب و س و م زيادة: اما.
(3) قوله كرها على صيغة اسم المفعول أي حال كون الحالف كرها أو راضيا قال ابن الهمام في الفتح المراد بالاخراج كرها هنا أن يحمله ويخرجه كارها لذلك لا الاكراه المعروف وهو أن يتوعد حتى يفعل فانه إذا تواعده فخرج بنفسه حنث لما عرف أن الاكراه لا يعدم الفعل عندنا
(4) قوله أو راضيا وهذا هو الاصح وقيل يحنث إذ حمله برضاه لا بامره لانه لما كان يقدر على الامتناع فلم يفعل صار كالامر مروجه الصحيح أن انتقال الفعل بالامر لا بمجردالرضى ولم يوجد الامر ولا الفعل منه فلا ينسب الفعل إليه ولو قيل أن الرضى ناقل دفع بفرع اتفاقي وهوما إذا امره أن يتلف ماله ففعل لا يتضمن المتلف لانتساب الاتلاف إلى المالك بالامر فلو اتلفه وهو ساكت ينظر ولم ينه ضمن بلا تفصيل لاحد بين كونه راضيا أولا كذا في الفتح
(5) أي لا يحنث؛ لأن الفعل لم ينتقل إليه لعدم الأمر، ولو كان راضياً بالخروج؛ لأن الانتقال يكون بالأمر لا بمجرد الخروج. ينظر: ((درر الحكام))(2: 47).
(6) أي من الحمل والادخال بالأمر أو بغيره مكرهاً أو راضياً، وأحكاماً من الحنث وعدمه. ينظر: ((در المحتار))(3: 79).
(7) قوله اقساما من الحمل والادخال بالامر و بغيره كرها أو راضيا
(8) قوله ن يخرج بامره الخ الاولى أن يقول أن يدخل بامره وأن يدخل بامره وأن يدخل بلا امره أما كرها أو اراضيا لأن المقصود ذكر اقسام الدخول.
(5/300)
________________________________________
وأن يخرجَ بلا أمرِه إمَّا مكرهاً أو راضياً.
والحكمُ(1) الحنثُ في الأوَّل، وعدمُهُ في الآخرين(2).
(ولا(3) في لا يخرجُ إلاَّ إلى جنازةٍ إن خرجَ إليها[(4)]، ثُمَّ إلى أمرٍ آخر[(5)]): فإنَّه لا يحنث؛ لأنَّ خروجَهُ لم يكن إلاَّ إلى الجنازة(6).
__________
(1) في م: فحكم.
(2) في ف: الآخريين.
(3) في ق: لا.
(4) قوله أن خرج إليها أي قاصد الخروج إلى الجنازة عند انفصاله من باب داره سواء مشى معها اولا لأن المستثنى هو الخروج على قصد الجنازة والخروج هو الانفصال من داخل إلى خارج ولا يلزم فيه الوصول إليها ليمشي معها أو يصلي عليها ولذا قال في البدائع لو قال أن خرجت الا إلى المسجد فاتت طالق فخرجت تريد المسجد ثم بدالها فذهبت لغير السمجد لم تطلق وذكر في البحر انه لو كان في منزل داره فخرج إلى صحتها ثم رجع لا يحنث ما لم يخرج من باب الدار لانه لا يعد خارجا في جنازة فلان ما دام في داره
(5) قوله ثم إلى امر آخر أي بعد الخروج إلى الجنازة خرج إلى امر آخر
(6) لأن الخروج هو الانفصال من الباطن إلى الظاهر، وهو موجود بالنسبة إلى الجنازة دون الأمر الآخر، فإن الموجود في حقّق الاتيان، وهو الوصول، وهو ليس بخروج،، والدوام على الخروج ليس بخروج أيضاً لعدم امتداده. ينظر: ((فتحب باب العناية))(2: 265).
(5/301)
________________________________________
(وحنثَ[(1)] في لا يخرجُ إلى مكَّة، فخرجَ يريدُها ورجع)؛ لأنَّ الخروجَ[(2)] إلى مكَّةَ قد تحقَّق(3)، (لا في لا يأتيها[(4)] حتَّى يدخلَها[(5)]): أي لو حَلَفَ أن لا يأتي مكَّةَ لا يحنثُ حتَّى يدخلَها، (وذهابُهُ كخروجِهِ في الأصحّ[(6)
__________
(1) قوله حنث لأن الشرط في الخروج وكذا في الذهاب والرواح النية عند الانفصال لا الوصول ويشترط في الاتيان والعيادة والزيارة الوصول إلى المنزل فلو حلف ليعودن فلانا أو ليزورنه فاتى بابه فلم يوزن له فرجع ولم يصل إليه لم يحنث وأن اتى بابه ولم يستاذن حنث ولو قال لا ياتي فلانا فهو على أن ياتي منزله أو حانوته لقيه أو لم يلقه وأن اتى مسجده م يحنث ولو قال لامراء أن صعدت هذا السطح فانت كذا فارتقت مرقاتين أو ثلثة فقيل يجب أن يكون فيه الخلاف في الذهاب وقال أبو الليث عندي انه لا يحنث فيه بالاتفاق كذا في الذخيرة
(2) قوله لأن الخروج الخ قال في الفتح قد قالوا انما يحنث إذا جاوز عمانه على قصدها كانه ضمن لفظ اخرج معنى اسافر للعلم بان المضي إليها سفر لن على هذ لو لم يكن بينه وبينها مدة سفر ينبغي أن يحنث بمجرد انفصال له من الدخول
(3) لوجود الخروج عن قصد مكّة وهو الشرط إذ الخروج هو الانفصال من الداخل إلى الخارج. ينظر: ((الهداية))(2: 78).
(4) قوله لا في آياتها أي لا يحنث إذا قال لآيات مكة إلاَّ بالوصول إليها والدخول فيها فان الاتيان يشترط الوصول وعليه وقوله تعد خطابا إلى موسى وهاء على نبينا عليهما الصلاة والسلام فاتياته أي فرون فقولا انا رسولا ربك الآية
(5) قوله حتى يدخلها ولهذا لو حلف لا تأتي امرأته عرس فلان فذهبت قبل العرس بحيث لا تعد عرفا انها اتت العرس بان كان ذلك قبل الشروع في مباديه ثم كانت العرس هناك لا يحنث كذا في الذخيرة
(6) قوله في الاصح لأن الذهاب عبارة عن مجرد الزوال والانتقال ولا يشترط فيه الوصول إلى قول ابراهيم على نبينا وعليه الف الصلاة وتسليم حين هاجر من بلدته اني ذاهب إلى ربي سيهدين فان الوصول هنا ليس في قدرته ومع ذلك نسب الذهاب إلى نفسه فدل ذلك على أن مجرد الانتقال والتوجه (الوصول)
(5/302)
________________________________________
]): أي لو حلفَ لا يذهبُ إلى مكَّة، فالأصحُّ أنَّه مثلُ لا(1) يخرجُ إلى مكَّة، وعند البعض: هو مثلُ لا يأتي(2)، والأوَّلُ أصحّ(3)؛ لقولِهِ تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}(4)، أي متوَّجِّهٌ إليه، وأمَّا الوصولُ فليس في وسعِه.
(وَ[فَى](5) ليأتيَّن مكَّة [ولم يأتِّها](6) لا يحنثُ(7) إلاَّ في آخرِ حياتِه[(8)])؛ لأنَّه حينئذٍ يتحقَّقُ عدمُ الإتيان(9).
__________
(1) في ص الا.
(2) فيشترط فيه الوصول، وصححه قاضي خان في ((فتاواه))، وصاحب ((الخلاصة)). ينظر: ((رد المحتار))(3: 80).
(3) وهو ما قاله صاحب ((الهداية))(2: 78)، ومشى عليه أصحاب المتون، مثل: المصنف، وصاحب ((الكنْز))(ص71)، و((التنوير))(3: 80).
(4) الصافات، (99).
(5) سقطت من ت.
(6) سقطت من ق.
(7) في ص و ق: حنث. وفي ت: تحنث.
(8) قوله الا في آخر حياته أي الجزء المتصل بموته لأن البر قبل ذلك مرجوه وكذا لو حلف الياتين فلانا لا يحنث الا بموت احدهما وهكذا في كل يمين مطلقة فكل فعل حلف أن يفعله في المستقبل ولم يقيده بوقت لم يحنث فيه حتى يقع الياس على البر مثل ليضربن زيد أو ليطلقن زوجته كذا في البحر
(9) لأن البر قبل الموت مرجو، لأن الحالف ما دام حياً مرجي وجود البرّ، وهو الاتيان فلا يحنث، فإن فقد تعذر شرط البر، وتحقق شرط الحنث، وهو ترك الاتيان، فيحنث في آخر جز من أجزاء حياته. ينظر: ((البناية))(5: 218).
(5/303)
________________________________________
(وحنثَ في ليأتينَّهُ غداً إن استطاعَ إن لم يأتِه[(1)] بلا مانعٍ كمرض(2) أو سلطان، ودُيِّنَ[(3)] بنيَّةِ(4) الحقيقية): أي إن قال: عنيت(5) الاستطاعةَ الحقيقيَّة(6): وهي القدرةُ التَّامة التَّي يجبُ(7) عندها صدورُ الفعل، فهي لا تكون إلاَّ مقارنةٍ للفعلِ يصدَّقُ[(8)] ديانةً لا قضاء[(9)
__________
(1) قوله أن لم ياته بلا مانع فانالاستطاعة محمولة على سلامة الالات ورفع الموانع فان وجد مانع معنوي أو حسي كالمرض والجنون وخوف سلطان ونحو ذلك فلم ياته لم يحنث لانه قيد الاتيان بالاستطاعة ولم توجد عند وجود المانع وكذا لا يحنث لو نسى اليمين كذا في البحر
(2) في م: المرض.
(3) قوله دين بصيغة المجهول أي صدق ديانة أي فيما بينه وبين الله أن قال اردت بالاستطاعة الاستطاعة الحقيقية فان الاستطاعة والقدر تطلق على معنيين على ما فصل في كتب الاصول إلى احدهما القدرة الحقيقية التي يكون الفعل معها معية زمانية وتتقدم عليها بالذات فقط لا بالزمان فانها علة تامة للفعل فلا يتخلف الفعل عنها وهذه القدرة ليست مدار تكليف العباد بالاحكام لانها لا تكون سابقة على الفعل حتى يكلف بها وثانيهما القدرة المكنة وتفسر بصحة الالات وسلامة الاسباب مع رفع الموانع وهذه هي التي كلف العباد بها لكونها متقدمة على الفعل وهي المقصودة من قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
(4) في ت و ج و ق: نية، وفي م: بنيته.
(5) في م: عينت.
(6) في س: الحقيقة. وهي القدرة الحقيقية التي يحدثها الله تعالى للعبد حال قصد اكتسابه الفعل، بعد سلامة الأسباب والآلات ولا تكون إلا مقارنة للفعل. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 266).
(7) في ف: تجب.
(8) قوله يصدق قال في الفتح فاذا لم يأته لعذر أو لغيره لا يحنث كانه قال لاتيك أن غلق اسد اتياني وهو إذا لم يأت لم يخلق اتيانه والاستطاعة المقارنة والالاتي
(9) قوله لاقضاء قال في الفتح وقيل يصدق قضاء لانه نوى حقيقة كلامه لأن اسم الاستطاعة يطلق بالاشتراك على كل من المعنيين والاول باوجه لانه وأن كان مشتركا بينهما لكن تعورف استعماله عند الاطلاق عن القرنية لاحد المعنيين بخصوصه فصار ظاهرا فيه بخصوصه فلا يصدقه القاضي بخلاف الظاهر
(5/304)
________________________________________
]؛ لأنَّها تطلقُ في العرفِ على سلامةِ الأسبابِ والآلات، فالمعنى الآخرُ خلافُ الظَّاهر، فلا يصدَّقُ قضاء.
(وشُرِطَ للبرّ في لا يخرجُ[(1)](2) إلاَّ[(3)] بإذنِه لكلِّ خروجٍ إذن)؛ لأنَّ تقديرَه لا يخرج(4) إلاَّ خروجاً ملصقاً بإذنِه، فالمستثنى هو الخروجُ الملصق بالإذن(5)، فما سواهُ[(6)] بقي في صدرِ الكلام.
__________
(1) قوله في لا تخرج بصيغة المؤنث الغائب وفي بعض النسخ لا يخرج بصيغة الغئب المذكور ويحتمل على الاول بان تكون صيغة المخاطب المذكر
(2) في أ و س و ق: تخرج.
(3) قوله الا خروجا ملصقا باذنه إلى أن هذه المسألة من فروع كون الباء حقيقية في الالصاق وهو تعليق الشيء بالشيء واتصاله به ولذا ذكرها علماء الاصول في بحث حروث المعاني عند ذكر معاني الباء
(4) في أ و س: تخرج.
(5) لأن الباء للغلصاق فكل خروج لا يكون كذلك كان داخلاً في اليمين وصار شرطاً للحنث، والحيلة في ذلك ان يقول لها: كلما أردت الخروج فقد أذنت لك، فإن قال ذلك ثم نهاها لم يعمل نهيه عند أبي يوسف خلافاً لمحمد. ينظر: ((رمز الحقائق))(1: 549).
(6) قوله فما سواه الخ قال في التلويح هو استثناء مفرغ فيجب أن يقدر له مستثنى منه عام مناسب له في جنسه ووصفه فيكون المعنى لا تخرج خروجا الا خروجا ملصقا باذني والنكرة في سياق النفي تتم فاذا اخرج منها بعض بقي ما عداه على حكم النفي فيكون هذا من قبيل لا آكل اكلا لأن المحذوف في حكم المذكور لا من قبيل لاآكل لما يسجى من أن الاكل لمدلول عليه بالفعل ليس بعام ولهذا لا تجوزنية تخصيه الا ترى إلى أن قولنا لا اتيك الا يوم الجمعة أو لاأتيك الا راكبا يفيد عموم الازمنة والاحوال مع الاتفاق على أن قولنا لاآتيك بدون الاستثناء لايفيد العموم في الازمان والاحوال فظهر أن ما ذكر في الكشف من أن الفعل يتناول المصدر لغة وهو نكرة في سياق النفي فتعم ليس كما ينبغي الخ
(5/305)
________________________________________
(لا في إلاَّ إن أَذِن): [أي](1) إن قال[(2)]: لا يخرجُ إلاَّ أن يأَذن، لا يشترطُ لكلِّ خروجٍ إذن؛ لأنَّ إلاَّ أن للغاية، مثل: إلى أن، فإذا أذن[(3)
__________
(1) سقطت من م.
(2) قوله أي أن قال الخ قال الشارح في التوضيح أي أن قال لا تخرج الا أن آذن لا يجب لل خروج اذن بل أن اذن مرة واحدة فخرج ثم خرج مرة اخرى بغير اذنه لا يحنث قالوا لأن أن مع الفعل بمعنى المصدر والاذن ليس من جنس الخروج فلا يمكن ارادة المعنى الحقيقي وهو الاستثناء فيكون مجازا عن الغاية والمناسبة بين الاستثناء والغاية ظاهرة فيكون المعنى إلى أن آذن فيكون الخروج ممنوعا إلى وقت وجود الاذن وقد وجد مرة فارتفع المنع اقول يمكن تقديره على وجه اخر وهو أن مع المضارع بمعنى المصدر والمصدر قد يقع حينا لسعة الكلام تقول اتيك خفوق النجم أي وقت خفوقه فيكون تقديره لا تخرج وقتا الا وقت اذني فيجب لكل خروج اذن ويمكن أن يجاب عنه على هذا التقدير يحنث أن خرج متوافر في بلا اذن وعلى التقدير الاول لا يحنث فلا يحنث بالشك انتهى كلامه وفي التلويح يقال أن يقول هناك وجه ثالث يقضي وجول الاذن لكل خروج وهو أن يكون على حذف الباء فيصير نميز له الا باذني وحذف حرف الجر مع أن وأن شك كثير وعند تعارض الوجهين الاولين يبقى هذا الوجه سالما عن المعارض واشر في المبسوط إلى الجواب بان قولنا الا خروجا باذني كلام مستقيم بخلاف قولنا الا خروجا أن آذن لكم فانه مختل لا يعرف له استعمال
(3) قوله فاذا اذن الخ اورد عليه بالنقض بقوله تعالى يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين اناه ولكن إذا ادعيتم فادخلوا فاذا طمعتم فانتشروا ولامستانسين لحديث أن ذلكم كان يؤدي النبي فيستحي منكم السد لا يستحي من الحث فان التقرير المذكور يقتضي أن لا يشترط لكل دخول في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم اذن بل يكفي الاذن مرة وهو خلاف الاجماع واجيب عنه بان اشتراط الاذن لكل دخول استفيد من قوله أن ذلكم كان يوزي النبي فقوله الا أن يؤذن لكم مصروف الظاهر بهذه القرنية فتقديره لا تدخلوا بيوت النبي وقتا الا وقت أن يؤذن لكم فليس الا أن هناك للغاية بل وقع أن يؤذن لكم ظرفا فاستثنى من النكرة الواقعة تحت النفي
(5/306)
________________________________________
] مرَّةً انتهى الحرمة، ويمكنُ[(1)] أن يرادَ إلاَّ وقت إذني بأن يجعلَ المصدرَ حيناً، فيجبُ لكلِّ خروجٍ إِذْن.
والجوابُ[(2)]: إنَّه أَذِنَ مرَّة، فخرَج، ثُمَّ خرجَ مرَّةً أُخرى بلا إذن، فعلى التَّأويل الأوَّل لا يحنث، وعلى الثَّاني يحنث، فلا يحنثُ بالشَّكّ.
__________
(1) قوله ويمكن الخ ايراد على ما سبق من أن الا أن للغاية مثل إلى أن وحاصله انه يحتمل أن يكون أن اذن ظرفا ويكون المستثنى مفرغا فيكون المستثنى منه نكرة داخلة تحت النفي ويكون التقدير لا تخرج وقتا الا وقت اذنى فيون المستثنى هو الخروج وقت الاذن ويبقى ما عداه تحت صدر للكلام على ما مر في قوله الا باذني وح يشترط في هذا القول للبر اذن لكل خروج ويلزم الحنث بخروجه مرة ثانية بلا اذن
(2) قوله والجواب الخ حاصله أن قوله لا تخرج الا أن اذن لما كان على تقدير كون الا أن فيه للغاية مفيدا لاشتراط الاذن مرة واحدة وعلى تقدير كون أن اذن حين يفيد الاشتراط كل مرة وقع الشك في اشتراطه بعد المرة الاولى فلا يثبت بالشك بخلاف قوله الا باذني فانه لا يحتمل غير المعنى الواحد
(5/307)
________________________________________
(وللحنث في إن خرجت، وإن ضربت [فأنت طالق](1) لمريدةِ[(2)] خروج، أو ضربِ عبدٍ فعلهما(3) فوراً[(4)](5) )(6)
__________
(1) زيادة من ب و س و م.
(2) قوله لمريدة الخ يعني إذا كانت المرأة قاصدة للخروج من البيت ومتهيأة له فقال له الزوج أن خرجت فانت طالق لو قال لها أن ضربت عبدك أو عبدي فانت طالق وهي مهيدة لضربة فيشترط في هاتين الصورتين وامثالهما الحنث وترتب الجزاء على الشرط فعل المحلوف عليه في الفور فان مكثت ثم ضربت وخرجت لا تطلق ومثل هذا ويسمى يمين الفور وهو في الاصل بمعنى غليان القدر يقال فارت ايقدر تفوز إذا غلت أو هو من فوران الغضب أي شدته استعير للسرعة وقد تفرد الامام أبو حنيفة باظهار هذا اليمين وكانت اليمين عندهم مطلقة موقتة وهذه مؤبدة لفظا موقتة معنى كذا في النهر وذكر في كتب الاصول أن القرنية في هذه اليمين للصرف عن اطلاقها هي القرنية الحالية فان قصد الحالف في مثل هذا يكون المنع عن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا المنع مطلقا فتتقيد اليمين به
(3) في م: فعليهما.
(4) قوله لمريدة الخ يعني إذا كانت المرأة قاصدة للخروج من البيت ومتهيأة له فقال له الزوج أن خرجت فانت طالق لو قال لها أن ضربت عبدك أو عبدي فانت طالق وهي مهيدة لضربة فيشترط في هاتين الصورتين وامثالهما الحنث وترتب الجزاء على الشرط فعل المحلوف عليه في الفور فان مكثت ثم ضربت وخرجت لا تطلق ومثل هذا ويسمى يمين الفوز وهو في الاصل بمعنى غليان القدر يقال فارت ايقدر تفوز إذا غلت أو هو من فوران الغضب أي شدته استعير للسرعة وقد تفرد الامام أبو حنيفة باظهار هذا اليمين وكانت اليمين عندهم مطلقة موقتة وهذه مؤبدة لفظا موقتة معنى كذا في النهر وذكر في كتب الاصول أن القرنية في هذه اليمين للصرف عن اطلاقها هي القرنية الحالية فان قصد الحالف في مثل هذا يكون المنع عن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا المنع مطلقا فتتقيد اليمين به
(5) في أ: فور.
(6) صورتها: لو ارادت المرأة الخروج فقال الزوج: إن خرجت، أو أرادت ضرب العبد فقال الزوج: إن ضربت فانت طالق، تقيد الحنث بالفعل فوراً، فلو لبثت ثم فعلت لا يحنث، وهذه تسمى يمين فور. وتفردّ أبو حنيفة رحمه الله بإظهاره . ووجهه: إن مراد المتكلم الردُّ عن تلك الضربة والخرجة عرفاً، ومبنى الأيمان عليه. ينظر: ((الهداية))(2: 79)، و((الدر المنتقى))(1: 555).
(5/308)
________________________________________
: أي شُرِطَ للحنثِ في إن خرجت، وإن ضربتِ فعلهما(1) فوراً.
(وفي إن تغديتُ[(2)] بعد أن يقال: تعال[(3)] تغدَّ معي[(4)]، تغديه معه[(5)]): أي شُرِطَ للحنثِ في إن تغديتُ تغديهِ معه(6).
__________
(1) في م: فعليهما.
(2) قوله في أن تغديت الخ يعني لو قال رجل إجل تعال تغد معي فقال المدعو أن تغديت فعبدي حر أو فامرأتي طالق يشترط في الحنث تغديه معه حتى لو تغدى في بيته لا معه لم يحنث لأن قرنية كونه جوابا لكلام الطالب ترجح كون الممنوع هو ذلك الفعل لا مطلقة بخلاف ما إذا ازاد معه قوله اليوم ونحوه فانه يحمل ح على انه كلام مستقلقال الشر في تنقيح الاصول اللفظ الذي ورد بعد سؤال أو حادثة أما أن لا يكون مستقلا أو يكون وح أما أن خرج مخرج الجواب قطعا أو الظاهر انه جواب مع احتمالالابتداء أو العكس نحو اليس لي عليك كذا فيقول بلى وكان لي عليك كذا فيقول نعم ونحوهما النبي صلى الله عليه وسلم فسجد وزنى ما غررفه فرحم ونحو تعال تغد معي فقال أن تغذيت فكذا من غير زيادة ونحو أن تغديت اليوم مع زيادة على قدر الواجب ففي الثلثة الاول يحمل على الجواب وفي الرابع يحمل على الابتداء عندنا حملا للزيادة على الافادة ولو قال عنيت الجواب صدق ديانة
(3) قوله تعال قال أبو البقاء الكفوي في كلياته تعال بفتح اللام امر بمعنى جيء واصله أن يقول من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطيء ثم كثر حتى استوى استحماله في الامكنة عالية كانت أو سافلة
(4) قوله تغد معي امر من التغدى بمعنى اكل الغذء وهو بالفتح اسم لما يؤكل من الصبح إلى الظهر
(5) قوله تغديه معه سواء اكان ذلك الطعام المدعو إليه أو غيره نعم لو قال الطالب تعال تغد معي هذا الطعام فقال أن تغديت فكذا تقيد الكلام بتغدي ذلك الطعام معه
(6) صورتها: لو قال رجل لآخر: تعال تغدَّ معي، فقال المدعو: إن تغديت فإمرأتي طالق يشترطُ في الحنث تغديه معه
(5/309)
________________________________________
(وكفى مطلقُ التَّغدي إن ضُمَّ اليوم): أي كفى للحنثِ مطلقُ التَّغدِّي إن قال: إن تغديتُ اليوم، فإنَّه لو كان[(1)] جواباً يكفي قولُهُ: إن تغديت، فلمَّا زادَ اليوم، عُلِمَ أنَّه كلامٌ مبتدأ[(2)]، فيحنثُ بمطلقِ التَّغدي في هذا اليوم، ولا يُشْتَرُطُ للحنثِ التَّغدِّي معه.
__________
(1) قوله فانه لو كان الخ اورد عليه بانه قد يكون لجواب ازيد من اصل المراد كقوله سيدنا موسى على نبينا وعليه السلام هي عصاي اتوكأ عليها وامش بها على غنمي ولي فيها مآرب اخرى في جواب قول الله تلك يمينك يا موسى واجيب عنه كما في الذخيرة العقبي بان كلمة ما تستعمل للسؤال عن الذات والسؤال عن الصفات وحيث وقعت في حيز السؤال اشتبه على موسى أن السؤال وقع عن الذات أو عن الصفات فجمع بينهما أو لا تخفى شخافته فان مثل هذا الا يشتبه على مثل موسى والحق أن اصل الجواب أن لا يزيد على اصل المراد وقد يعدل عنه لفادة وضرورة ولذا قالوا في أن تغديت اليوم لو نوى الجواب صدق وانما اطال موسى الكلام لا لما مر من الاشتباه بل ليطول الخطاب والكلام مع الله ويظهر احتياجه في رفع الحوائج إلى عصاه ولهذا يطال الكلام مع الاحباء وعند ذكر الاعراض
(2) قوله مبتدأ أي مستقل اريد الابتداء به غير متعلق بكلام الداعي ولو قال في هذه الصورة اني نويت الجواب دون الابتداء صدق ديانة أن احتمال كونه جوابا قائم لاقضاء لمخالفة الظاهر فلامية تخفيف عليه ولو قال أن تعذيت ونوى ما بين الفور والابد كاليوم أو الغد لم يصدق اصلا لأن النية انما تعمل في الملفوظ والحال لا تدل عليه فانتفى دلالة الحال ودلالة لمقال كما بحلف لا يتزوج النساء ونوي عد الاولاد ياكل طعاما ونوى لقمة أو قمتين لم يصح كذا في شرح تلخيص الجامع الكبير
(5/310)
________________________________________
(ومركبُ المأذونِ[(1)] ليس لمولاهُ في حقِّ الحلف[(2)](3) إلاَّ إذا لم يكنْ عليه دينٌ مستغرقٌ ونواه)(4)
__________
(1) قوله الماذون أي العبد الماذون له للتجارة وأما غير المأذون فيحنث في قوله لا يركب دابة فلان بركوب دابة عبده الغير المأذون إذا نواه اتفاقا ولو ركب دابة مكاتب لا يحنث لا لملكه لا يضاف إلى الموالي لا ذاتا وهذا كذا في المحيط
(2) قوله في حق الحلف يعني إذا حلف لا يركب على مركب فلان فركب مركب عبده الماذون فانه لا يحنث الا بشرطين احداهما أن ينوبه وثانيهما لأن لا يكون عليه دين مستغرق قوه مستغرق بكسر الراء أي دين مستغرق العبد بان يكون مساويا لقيمته
(3) في م: الحنث.
(4) أي يشترط لحنثه شرطان:
الول: أن ينويها.
والثاني: أن لا يكون عليه دين مسغرق، أما إن كان عليه دين مستغرق لا يحنث وإن نوى؛ لأنه لا ملك للمولى فيه. ينظر: ((رد المحتار))(3: 86).
(5/311)
________________________________________
: أي إن حلفَ لا يركبُ دابةَ زيد[(1)]، فركِبَ دابةَ عبدِه المأذون، فإن كان عليه دينٌ مستغرقٌ لرقبتِهِ وكسبِهِ لا يحنث[(2)]؛ لأنَّ هذه الدَّابةَ ليست لزيد، وإن لم يكنْ عليه دينٌ مستغرق[(3)]، فإن نوى بدابةِ زيدٍ دابتَهُ الخاصّة[(4)] لا يحنث، وإن نَوَى دابة هي ملكُ زيدٍ أعمُّ من أن يكونَ خاصةً له، أو تكونَ دابةُ عبدِه المأذون فحينئذٍ يحنث[(5)
__________
(1) قوله أي أن حلف لا يركب دابة زيد الخ اعلم انه وضع في الهداية وغيرها هذه المسألة في الدابة وغيره المصنف حيث اورد لفظ المركب تعميما للحكم فان الدابة اسم لما يدب على الارض مطلقا يختص في اليمين بما يركب الناس عليه عرفا كالفرس والحمار والبغل ولكن كان الحالف من اهل البدو والجمالين يدخل في حلف البعير أيضاً وأن كان من اهل الهند يدخل فيه الفيل أيضاً ذا في الفتح ومنح الغفار وبالجملة تختص الدبة بما يركب عليه غالبا من الدواب بحسب اختلاف العرف وفي الحلف بقوله لا يركب فلان يدخل غير الدواب أي كالسفينة وغيرها كما في الظهرية وقد غفل الشارح عن هذه النكتة التي اعتبرها المصنف في وضع المركب موضع الدابة ففسر كلامه بالتصوير في الدابة فاحفظ فانه من سوانح الوقت
(2) قوله لا يحنث أي وأن نوى لأن ملك العبد المديون بقدر قيمته ليس لمكا اصولي لا شرعا ولا عرفا
(3) قوله من مستغرق يشمل هذا ما إذا لم يكن عليه دين اصلا وما إذا كان عليه دين غير مستغرق لرقبته وكسبه
(4) قوله دابن الاصة أي الذي هو لملكه الخاص وكذا إذا لم ينو شيئا في انه نعيم من اضافة الدابة إليه وهي لاختصاص ملكه الخاص
(5) قوله فح يحنث لأن ملكه العبد الغير المديون بدين مستغرق للمولى لكنه مضاف إلى العبد عرفا وشرعا ولذا قال النبي صلى اله عليه وسلم من باع عبدا وله مال فماله للبائع الا أن يشترط المتباع اخرجه اصحاب الصحاح الستة فاذا نوي باضافة للدابة إلى زيد مطلق الملك اعم من أن يكون مضافا إليه فقط ويكون مضافا إلى غيره أيضاً دخل لملك العبد أيضاً
(5/312)
________________________________________
].
وقال: أبو يوسف - رضي الله عنه - يحنثُ في الوجوهِ كلِّها[(1)] إذا نواه.
وقال محمَّد - رضي الله عنه -: يحنثُ[(2)] وإن لم ينو.
[فصل اليمين في الأكل والشرب]
__________
(1) قوله يحنث في الوجوه كله أي فيما إذا لم يكن عليه دين أو كان دين مستغرق أو غير مستغرق
(2) قوله يحنث أي في الوجوه كلها لأن دابة العبد مملوك له لأن العبد وما في يده ملك لمولاه فلا يحتاج في دخوله في الحلف إلى النية وقد عرفت الجواب عنه وعنما ذكره أبو يوسف في اثناء التقرير السابق لتوجيه مذهب أبي حنيفة رح
(5/313)
________________________________________
(ويتقيَّدُ(1) الأكلُ[(2)] من هذه النَّخلةِ[(3)] بثمرِها[(4)])(5)؛ لأنَّ المعنىَ الحقيقيّ مهجور حسَّاً[(6)]، (وهذا البُرُّ بأكلِهِ قضماً[(7)])، هذا عند أبي حنيفة(8)
__________
(1) في ج و ف و ق: ويقيد، وت و ص: تقيد.
(2) قوله الاكل هو عبارة عن ايصال ما يحتمل المضغ بغية الجوف كخبز وفاكهة مضغ أو لم يمضغ كما إذا ابتلعه والشرب عبارة عن ايصال ما لا يحتمل المضغ من الادمات بغية إلى الجوف كماء وعسل غير جامد فلو حلف لاياكل ببقة حيث يبلعا وفي لا ياكل عينا لا يحنث بمصه ولو حلف لا ياكل هذا اللبن فاكله بخبز أو تمر حنث لأن المائع انما يسم مشروبا إذا تناوله وحده والا فهوماكول انما يسمى مشروبا إذا تناوله وحده والا فهو ماكول كذا في البدائع وتنوير الابصار
(3) قوله من هذه النخلة بالفتح شجر التمر وكذا من النخلة بدون هذه ومثله الكرم أي شجر العنب قال في التلويح حلف لا ياكل من هذه الشجرة فان نوى ما يحتمله الكلام فعلى ما نوى والا فان كانت الشجرة مما يؤكل كالديباس فعلى الحقيقة والا فان كانت مثمرة كالنخلة فعلى ثمرتها والا فعلى ثمنها كشجرة الخلاف
(4) قوله بثمرها بفتح التاء المثلثة والميم والمرد به ما يعم التمر فانه يحنث باكل الجمار للفي وهو شيء ابيض لين في راس النخلة ولا يحنث بما خرج منها بصنعة مالخل والدبس ونحوهمت
(5) وكذا دبسها غير المطبوخ؛ لأنه أضاف اليمين إلى ما لا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منها بلا صنع أحد تجوزاً باسم السبب، وهو النخلة في المسبب، وهو الخارج؛ لأنها سبب فيه لكن شرط أن لا يتغيَّرَ بصفة حادثة. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 556-557).
(6) قوله مهجورحسا أي متروك حسا فانه عنصر لا يؤكل حين النخلة فوجب حمله على المجاز وهو ما يتولد منها
(7) قوله قضما يقال قضمت الدابة تقصممه من باب تعب ومن باب ضرب أيضاً لغة كسرت باطراف الاسنان قال في الفتح وليس المرد حقيقة القضم بل أن ياكل باطراف الاسنان أو سطوحها
(8) حتى لو أكل من خبزه لا يحنث عنده.
(5/314)
________________________________________
- رضي الله عنه - خلافاً لهما، بناءً[(1)] على أن اللَّفْظَ إن كان له معنىً حقيقيٌّ مستعمل[(2)]، ومعنىً مجازيٌّ متعارف[(3)
__________
(1) قوله بناء يني هذا الخلاف مبني على خلاف آخر في مسألة متعلقة بالأصول قالت التفتازاني في التلويح الحقيقية إذا كانت مهجورة فالعمل بالمجاز اتفاقاً وإلا فان لم يصر المجاز متعارفا ي غالبا في التعامل عند بعض المشايخ وفي التفاهيم عند البعض فالعمل في الحقية اتفاقاً وإن صار متعارفا فعنده العبرة بالحقيقة لأن الاصل لا يترك الضرورة وعندها العبرة بالمجاز لأن المرجوع في مقابلة الراجح ساقط بمنزلة المهجور فيترك ضرورة وجابه أن غلبة استعمال المجاز لا تجعل الحقيقة مرجوحة لأن العلة لا تترجح بالزيادة من جنسها فيكون الاستعمال في حد التعارض وهذا مشعر بترجح المجاز المتعرف عندهما سواء كان عاماً متناولا للحقيقة اولا وفي كلام فخر الاسلام وغيره ما يدل على انه انما يترجح عندهما إذا تناول الحقيقة بعمومة كما في مسألة الحنطة حيث قالوا أن هذا الاختلاف مبني على اختلافهم في جهة خلفية المجاز فعندهما لما كانت الخلفية في الحكم كان حكم المجاز لعمومه حكم الحقيقة اولى وعنده لما كان في التكلم كان جعل الكلام عالما في معناه الحقيقي اولى انتهى
(2) قوله مستعمل *** عما إذا ترك استعماله في الحقيقي فانه رح المصير إلى المجاز اتفاقا كما مر سواء تعذر وهو ما لا يمكن الوصول إليه بمشقه كأكل النخلة فان معناه الحقيق هو اكل عينها متعذرا وكان ممكنا الا أن الناس هجروه وتركوه نحو لا يضع قدميه في دار فلان فان حقيقته أي وضع القدم حافيا متروك عندهم فانهم يريدون به الدخول
(3) قوله متعارف احترز به عما إذا لم يكن متعارفا فحينئذ المصير إلى الحقيقة اتفتقا قوه مجازا هذا عموم المجاز وهو أن يراد معنى مجاز يمثل المعنى الحقيقي أيضاً فان اكل باطن الحمطة أي لبها وما في داخل قشرها يعم اكل ما يتخذ منه كالخبز ونحوه واكل حين الحنطة المقلية
(5/315)
________________________________________
]، فأبو حنيفةَ - رضي الله عنه - يرجِّحُ المعنى الحقيقي، وهما يرجِّحان المعنى المجازي، فالمرادُ عندهما أكلُ باطنِه مجازاً، فيحنثُ بأكلِهِ سواءٌ كان بالقضم، أو غيرِه، فيعملانِ[(1)] بعمومِ المجاز.
(وهذا الدَّقيقُ[(2)] بأكلِ خبزِه(3)، فلا يحنثُ لو استفَّهُ(4) كما هو): أي يحنثُ بأكلِ ما يُتَّخذُ منه[(5)] كالخبزِ ونحوِه؛ لأنَّ المعنى الحقيقيّ مهجور، فيرادُ المجازي.
__________
(1) قوله فيعلمان الخ قال في الفتح هذا الخلاف إذ حلف على حنطة معينة أما لو حلف لا ياكل حنطة ينبغي أن يكون قوله كقولهما ذكره شيخ الاسلام ولا يخفى انه يحكم والدليل المذكور المتفق عليه ايراده في الكتب يعم للمعينة والمنكرة وهو أن عينها ما كول
(2) قوله وهذا الدقيق آي إذا حلف لا ياكل من هذا الدقيق وهو بالفارسية اراد أن يتقيد الحلف باكل كل ما يتخذ منه كالخبز والحلوى والعصيدةوغيرها لا لو استفه أي اكله سوفا لأن الحقيقة مهجورة فيعمل بالمجاز اتفاقا
(3) العبارة في ق: لا بأكل خبزه، وهذا الدقيق بأكل خبزه.
(4) في س: أشفه.
(5) قوله باكل ما يتخذ منه اشار به إلى أن ذكر الخبز في المتن اتفاقي وتمثيلي لا احترازي فان الحنث بكل ما يتخذ من الدقيق
(5/316)
________________________________________
(وأكلُ الشِّواء[(1)](2) باللَّحم [لا الباذنجان(3)، والجزر](4)، والطَّبيخِ[(5)] بما طُبِخَ من اللَّحم، والرَّأسِ[(6)] برأسٍ يُكْبَسُ في التَّنانير ويباعُ في مصره(7) )(8)، عملاً بالعرف، فإنَّ الأيمانَ مبنيَّةٌ عليه[(9)]، (والشَّحمِ[(10)] بشحمِ البطن(11)
__________
(1) قوله لأكل الشواء أي لو حلف لا يأكل شواء وهو بكسر الشين المعجمة بالفارسية بريان كردة شدة يتقيد الحلف باللحم المشوي اعتماداً على العرف فلا يحنث بأكل الباذنجان المشوي وهو بفتح الباء بعدها الف بعدها ذال معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم جيم ثم الف ثم نون يقال له بالهندية بيكن ولا يأكل الجزر المشوي وهو بفتحتين معرب كزر ويقال له بالهدية كاجر
(2) في ق: شواء.
(3) في ف و ق: بالباذنجان.
(4) سقطت من ج و ص.
(5) قوله والطبيخ الفرق بين الشواء والطبيخ أن الماء مؤخوذ من مفهوم الطبيخ فما يشوى بدون ماء فهو شواء لا طبيخ
(6) قوله والرأس يعني إذا حلف لا يأكل رأسا يتقيد ذلك بالرأس الذي يشوى ويطبخ في التنور ويباع في تلك البلدة في السوق فلا يحنث بأكل رأس العصافير
(7) في م: مصر.
(8) فلا يدخل رأس الجراد والعصفور ونحوهما تحته، وكان أبو حنيفة يقول أولاً يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم، ثم رجع فيه إلى رأس البقر والغنم خاصة، وعندهما في رأس الغنم خاصة. فعلم أنه اختلف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص147).
(9) قوله مبنية عليه أي على العرف وهذه قاعدة كلية تتفرع عليها فروع هذا الباب فيتقيد الحلف فيها بما يفهم من الالفاظ عرفا أو با يستعمل عرفا ولا يعتبر فيه المعنى اللغوي ولا الشرع
(10) قوله والشحم يعني إذا حلف لا يأكل الشحم يتقيد بشحم البطن وهو ما كان بدور اعلى الكرش وما بين المصارين شحم الامعاء هذا عنده وعندهما شحم الظهر ايضاً قال في البحر عن الاسيجابي أن يمتد به الشحم أي كلية فقولها اظهر وأن اريد به شحم اللحم فقوله اظهر
(11) شحم البطن: وهو ما كان مدوراً على الكرش، أما ما بين المصارين ونحوه فيسمَّى شحم الأمعاء. ينظر: ((حاشية الطحطاوي))(2: 352).
(5/317)
________________________________________
)، هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وأمَّا عندهما يتناولُ شحمَ الظَّهر، (والخبزِ[(1)] بخبز(2) البُرّ والشَّعيرِ لا خبزُ الأرزِ [ببلدةٍ(3) لا يعتادُ فيه][(4)](5)، والفاكهةِ[(6)] بالتُّفاح والمشمش[(7)]، والبطيخ[(8)]، لا العنب، والرُّمان[(9)]، والرُّطب، والقِثاء، والخيار): هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -،
__________
(1) قوله والخبز أي إذا حلف لا ي}كل خبزاً حمل ذلك على ما يتعارف اكله في ذلك البلد كخبز الحنطة والشعير لا خبز الذرة والدخن والارز
(2) في م: خبز.
(3) في ج و ص وف: بلد.
(4) قوله والخبز أي إذا حلف لا ي}كل خبزاً حمل ذلك على ما يتعارف اكله في ذلك البلد كخبز الحنطة والشعير لا خبز الذرة والدخن والارز
(5) في ت و ق: بالعراق.
(6) قوله والفاكهة قال في الهداية الاصل أن الفاكهة اسم لما يكتفي به قبل الطعام أو بعده أي يتنعم به زيادة على المعتاد والرطب واليابس فيه سواء بعد أن يكون التفكه به معتادا حتى لا يحنث بيابس البطيخ وهذا المعنى موجود في التفاح واخواته فيحنث بها غير موجود في القثاء والخيار لانهما من القبول بيعا واكلا وأما الحنث والرمان والرطبفيما يقولان أن معنى التفكير موجود فيهما فانهما اعز الفواكه بما يفوق التنعم بغيرها وابي حنيفة رح يقول هذه الاشياء مما يتغذى ويتداوى بها فلوجوب قصورا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء
(7) قوله والمشمس بكسر الميمين بينهما شين معجمة ساكنة وبعدهما ايضاً شين معجمة بالفارسية رردآلو
(8) قوله والبطيخ بكسر الباء الموحدة وتشديد الطاء المهملة المكسورة بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة ثم خاء معجمة بالفارسية خربزة
(9) قوله والرمان بضم الراء المهملة وتشديد الميم بالفارسية انار والرطب بضم الراء المهملة وفتح التاء المهملة خرمان ترو التمر اليابس منه والقثاء بكسر االقاف وتشديد الثاء المثلثة بالفارسية قفد وبالهندية كهيرا والخيار بالهندية ككرطى
(5/318)
________________________________________
وعندهما[(1)] العنب، والرُّمان، والرُّطب فاكهة.
(والشُّربُ[(2)] من نهرٍ بالكَرْعِ(3) منه، فلا يحنثُ لو شَرِبَ منه بإناء): هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، فإن: من؛ عنده لابتداءِ الغاية، وعندهما[(4)
__________
(1) قوله وعندهما ذكر في الفتح وغيره أن هذا الخلاف خلاف زمان لا خلاف برهان فان الامام لم يكن العنب والرطب والرمان فاكهة في زمانه وعدت منها في زمانهما
(2) قوله والشرب الخ يعني تقييد الحلف بعدم الشرب بقوله لا يشرب من هذا النهر أو من هذا البحر أو قال ذلك بدون هذا بالكرع بالكرع منه وهو بالفتح في الأصل الشرب بإدخال الاكارع بالهاء وهي من الانسان ما دون الركبة ومن الدواب ما دون الكعب وفان شرب منه بكفيه أو بشيء آخر فليس بكرع فيقال كرع في الاناء امال عنقه إليه فشرب منه بغية كذا في الصباح وذكر في البحر عن الظهيرية الكرع لا يكون الا بعد الغوض في الماء ليس بشرط فان الكرع يكون من الإناء أيضاً وهذا كله فيما يتأتى فيه الكرع فان حلف لا يشرب من هذه البير أو من هذا الحب يحنث بالشرب من مائه مطلقا سواء قال من البير أو من ماء البير لكون الحقيقة مهجورة حتى لو تكلف الكرع بان ينزل باسفل البير فيشرب منه بفيه لا يحنث لعدم العرف كذا في الفتح
(3) الكَرْعُ: تناول الماء بالفم من موضعه، يقال: كرع الرجل في الماء وفي الإناء إذا مدّ عنقه نحوه ليشربه. ينظر: ((المغرب))(ص406).
(4) قوله وعندهما الخ حاصلة أن من في قوله لا يشرب من هذا النهر للتبعيض عندهما فيكون المعنى لا يشرب البعض ماء النهر وهو اعم من أن يكون بالكرع أو بغيره وعنده لابتداء الغاية فالمعنى من كون الشرب مبتدا من ماء النهر وهذا لا يكون الا بالكرع وذكر في الهداية وحواشيها في توجيه الخلاف أن الشرب بالاناء هو المتعارف المفهوم فان المفهوم من قولنا فلان يشرب من دجلة الشرب بالاناء منها وقد مر أن المجاز المتعارف عندهما اولى من الحقيقة فاوله أن كلمة من للتبعيض وحقيقتة في االكرع وهي مستعملة فمنعت المصير إلى المجاز وأن كان متعارفا
(5/319)
________________________________________
] للتَّبعض: أي لا يشربُ من مائه(1)، (بخلافِ الحلفِ[(2)] من مائه(3).
__________
(1) وهذه المسألة مبنية على أن الأولى اعتبار الحقيقة المستعملة، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه -، أو المجاز المتعارف، وهو قولهما. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 271).
(2) قوله بخلاف الحلف من مائه أي إذا حلف لا يشرب من هذا النهر لا يتقد بالكرع بل يحنث بالشرب بالاناء اتفاقا لأن الماء الذي في الاناء منسوب إلى النهر
(3) لأنه شرب ماء مضافاً إلى دجلة فحنثَ ولو حلفَ لا يشربُ ماءً من دجلةَ ولا نيّة له فشربَهُ منها بإناء لم يحنث حتى يضع فاه في الدجلة؛ لأنه لما ذكر: من؛ وهي للتبعيض صارت اليمين على النهر، فلم يحنث إلا بالكرع، وإن حلف لا يشرب من هذا الجب فإن كان مملوءا فهو على الكرع لا غير عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -. ينظر: ((الجوهرة))(2: 202).
(5/320)
________________________________________
وتحليفُ الوالي[(1)] رجلاً؛ لِيُعْلِمَهُ بكلِّ داعرٍ(2) أتى [البلدة](3) بحالِ ولايته): أي يقيِّدُ تحليفَ الوالي رجلاً؛ ليُعْلِمَهُ بكل مفسدٍ أتى البلد(4) بحالِ ولايتِه(5).
__________
(1) قوله وتحليف الوالي أي الحاكم كالسلطان والقاضي ونحوهما يعني لو حلف الوالي رجلا ليخبره بكل مفسد اتى البلدة يتقيد هذا الحلف بحال ولايته وهذا التخصيص يثبت بدلالة الحال وهو العلم بان المقصود من هذا الاستحلاف زجره بما يدفع شره أو شر غيره بزجره لانه إذا انزجر واعر حال ولايته لانها حال قدرته على ذلك فلا يفيد فائدته بعد زوال ولايته وهو شرح الكنز للزيلعي ثم أن الحلف لو علم بالداعر ولم يعلمه به لم يحنث الا إذا مات هو أو المستحلف أو عزل لانه لا يحنث في اليمين المطلقة الا بالياس إذا إذا كانت موقتة فيحنث بمضي الوقت مع الامكان انتهى وهذا إذا لم تقم قرينة الفور والا فيلزم اخبار بفوز علمه به كما في النهر والبرح
(2) في ص: داعي.
(3) زيادة من س و م.
(4) في م: البلدة.
(5) لأن المقصودَ منه دفع شرّه، أو شرّ غيره بزجره فلا يفيد فائدته بعد زوال سلطنته، والزوال بالموت وكذا بالعزل. ينظر: ((الهداية))(2: 94).
(5/321)
________________________________________
(والضَّربُ، والكسوةُ، والكلامُ، والدُّخولُ عليه بالحياة[(1)
__________
(1) قوله بالحيوة تفصيله على ما في الهداية وشروحها وتنوير الابصار وشروحه غيرها أن كل فعل يختص بحالة الحيوة وهو كل فعل يلذويو لم ويغم ويسر ونحو ذلك يتقيد الحلف به بحالة الحيوة فلو حلف لا يضرب فلانا أو لا يسكوه ثوبا أو لا يدخل عليه أو يقبله أو لا يقتله اولا بكلمة تقيد الحلف بهذه الافعال بحيوة ذلك الرجل حتى لو ضربه أو قبله أو قتله أو دخل عليه أو كساه أو كلمه بعد موته لا يحنث ولو علق بها طلاقا أو عتقا لم يحنث ولم يقع ما علق عليه أن فعلها بعد موته أما الضرب فلانه اسم الفعل هو لم يتصل بالبدن أو استعمال الة التاديب لا يتحقق في الميت وأما الكسوة فلان التمليك معتبر في مفهومها ولهذا لو قال كسوتك هذا الثوب يكون هبة أو الميت ليس اهلا للتمليك وأما الدخول عليه فلان المراد به زيادته أو خدمته حتى لا يقال دخل على دابة أو حائط والميت لا يزار بل يزار قبره وأما التقبيل فلانه تراد به اللذة أو الشفقة وكل ذلك مفقود في الميت وأما القتل فكالضرب بل اولى منه وأما الكلام فلان المقصود منه الافهام وهو مفقود في الميت هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام ومن هنا نسب إلى ائمتنا الاعلام انهم ينكرون سماع الاموات وفهمهم وادراكهم وقد صرح به جمع من اصحاب الفتاوى من اصحابنا وايدوه بقوله تعالى انك لا تسمع الموتى واجابوا عن حديث ما انتم باسمع منه بانه روته عائشة رض وفي المقام ابحاث الاول فيما ذكروه في بحث الكسوة وهو انهم ذكروا انه لو نصب رجل شبكة فتعلق بها صيد بعد موته لملكه وهذا يدل على حصول الملك للميت واجيب عنه بانه مستند إلى وقت الحاة و نسب الشبكة وأيضاً هو ملك لا تمليك الثاني أن ما ذكروه من أن الايلام لا يتحقق في الميت مخالف للاحاديث الدالة على أن الميت يتاذى بما يتأذى منه الحي كما ذكره السيوط في كتايه شرح الصدور الثالث أن قولهم في باب الدخول أن زيارة الميت زيارة لقبره لا زيارة في المقبور يخالف قوله عليه السلام من جاءني نائرا لا تعمله حاجة الازيارتي كان حقا على أن اكون له شفيعا يوم القيامة واقوله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وسلم الدالة على أن الميت يتأنس بزائره ويجيب سلامه ويعرف من كان تبينه وبينه معرفة وهي كثيرة في كتب الحديث مروية الرابع أن قولهم في بحث الكلام يخالف الاحاديث الصحيحة الدالة على أن الميت يسمع سلام من يسلم عليه ويجيب السلام ويفهم كلام الاحياء وهي مروية في الصحيحين وغيرهما وأما رد عائشة رض بعض تلك الاحاديث فلم يعتد به جمهور الصحابة ومن بعدهم وأما قوله تعالى انك لا تسمع الموتى ففيه نفي الاسماع الا لسماع أن الصحيح أن المراد بالمولى هنالك موتى القلوب وهم الكفار لا الاموات العرفية وأن شئت تفصيل هذا البحث فارجع إلى رسالتي تذكرة الراشد برد تبصره الناقد ولو لا خوف التطويل ولا زدت هنا قدرا شرحي الكبير وبالجملة لم يدل دليل قوى على نفس سماع الميت وادركه وفهمه وتألمه ولا من السنة بل السنين الصحيحة الصريحة دالة على ثبوتها له والحق في هذا المقام أن هذا كله من تقريرات المشايخ وتوجيهاتهم وتكلفاتهم ولا عبرة بها حين مخالفتها للاحاديث الصحيحة وآثار الصحابة الصريحة وأما ايتما فهم بريؤن عن انكار هذه الامور وانما حكموا في الحلف بالضرب والكلام والدخول عليه ونحوها بعدم الحنثعند وجود هذه الاشياء بالميت لكون الايمان مبنية على العرف والعرف قاض على أن هذه الامور يراد بها اترباطها ما دام الحياة الا بعد الموت فالكلام بالميت وأن كان كلامه حقيقة ويوجد فيه الاسماع والافهام لكن العرف يحكم بان المراد في قوله لا اكلمك هو الكلام حالة خيانة وكذا الايلام وأن كان يتحقق في الميت لمن العرف قاض على أن المراد في قوله لاضربك هو ضربة به حيالا ضربة يتيا وبالجملة فالوجه في تقيد هذه الايمان هو حكم العرف لا ما ذكروه
(5/322)
________________________________________
]، لا الغسل[(1)]): أي إن حلفَ ليضربنَّ زيداً يُقيَّدَ بحالِ حياتِه، ولو حلفَ لأغسلنَّ زيداً لا يتقيَّدُ بحالِ حياتِه.
(والقريبُ[(2)] بما دونَ الشَّهْر): أي يقيِّدُ القريبَ بما دونَ الشَّهر (في ليقضينَّ دينَهُ إلى قريب، والشَّهْر بعيد(3).
__________
(1) قوله لا الغسل أي لا يتقيد الحلف بالغسل بحالة الحياة وكذا كل فعل شارك فيه الميت الحي كالحمل واللمس والباس الثوب ونحو ذلك
(2) قوله والقريب الخ يعني إذا حلف لاقضين دينه إلى قريب ونحو ذلك كقوله لكلامه إلى قريب فان نوي مدة معينة في القريب وكذا في البعيد فعلى ما نوى عليه بل ديانة فقط وأن لم ينوي شيء فالقريب يحمل على ما دون الشهر والبعيد على الشهر فما فوقه إلى الموت ولفظ العاجل والسريع كالقريب والاجل كالبعيد وهذا كله مبني على العرف فان ما دون الشهر قريب عرفا والشهر وما فوق البعيد عرفا
(3) فلو قضى تمام الشهر حنث وقبله بر؛ لأن الشهر وما زاد عليه يُعَدُّ في العرفِ بعيداً وما دونه يُعَدُّ قريباً؛ ولذا يقال عند بُعْدِ العهد ما لقيتك منذ شهر. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 581).
(5/323)
________________________________________
وما اصْطُبِغَ[(1)] به فإدام(2) وكذا الملحُ لا الشِّواء)(3): في ((المغرب))[(4)]: قال ابنُ الأَنْبَارِيِّ(5) - رضي الله عنه -:
__________
(1) قوله وما اصطبغ على صيغة المجهول من الاصطباغ وهو افتعال من الصبغ قال في الهداية لو حلف لاياتدم فكل شيء اصطبغ به أو أم والشوا ليس بادام والملح ادام وهذا عند أبي حنيفة رح وابي يوسف وقال محمد رح كل ما يوكل مع الخبز غالبا فهو ادام وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن الادام من المواومة وهي الموافقة وكل ما يوكل مع الخبز موافق له كاللحم والبيض ونحوه ولهما أن الادام ما يوكل تبعا والتبعية في الاختلاط حقيقة ليكون قائما به وفي أن لا يوكل كل الانفراد وحكما وتمام الموافقة في الامتزاج أيضاً والخل وغيره من المائعات لا يوكل وحدها بل يشرب والملح لا يوكل بانفراد عادة ولانه يذوب فيكون تبعا بخلاف اللحم وما يضاهيه لانه يوكل وحده الا أن ينويه لما فيه من التشديد والعنب والبطيخ ليس بادام هو الصحيح
(2) في م: فإنه إدام.
(3) أي لو حلف لا يأتدم فكل شيء اصطبغ به فهو إدام، والشواء ليس بإدام، والملح إدام، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي الله عنهم -، وقال محمد: كل ما يؤكل مع الخبز غالباً فهو إدام. ينظر: ((بداية المبتدي))(ص85).
(4) قوله في المغرب على وزن اسم الفاعل كمكرم من باب الافعال اسم كتاب لناصر الدين المطرزي وقد ذكرنا ترجمته في المقاومة
(5) وهو محمَّد بن القاسم بن محمَّد بن بشَّار بن الحَسَن بن بيان الأنباري، أبو بكر، قال ابن خَلكان: كان علامة وقته في الآداب، وأكثر النَّاس حفظاً لها، وكان صدوقاً ثقة ديناً خيِّراً من أهل السُنَّة، وقيل: إنه كان يحفظ مئة وعشرين تفسيراً للقرآن بأسانيدها، من مؤلفاته: ((الكافي)) في النحو، و((غريب الحديث))، و((الإيضاح في الوقف والابتداء))، (271-328هـ). ينظر: ((معجم الأدباء))(18: 307-313)، ((وفيات))(4: 341-343)، ((معجم المؤلفين))(3: 597).
(5/324)
________________________________________
الإدامُ ما يطيِّبُ الخبز ويصلحُه ويتلذَّذُ به الأكل، وهو يعمُّ المائع وغيرَ المائع، وأمَّا الصِّبغ(1) فمختصُّ(2) بالمائع(3)، وهو ما يُغْمَسُ فيه الخبز، ويلون به.
(ولا يحنثُ في لا يأكلُ من هذا البُسْر(4)[(5)] فأكلَ رطبة[(6)]، أو من هذا الرُّطب أو اللَّبن فأكلَ(7) تمراً أو شِيْرازاً[(8)](9)، أو(10) بُسْراً فأكلَ(11) رطباً): أي لا يحنثُ في لا يأكلُ بسراً فأكلَ رطباً، واعلم أنَّه لا فرقَ[(12)
__________
(1) في ب و م: الاصطباغ.
(2) في م: فيختص.
(3) انتهى من ((المغرب))(ص22). باختصار.
(4) البُسر: اسم لثمر النخل في مرتبته الرابعة من مراتبه الست، وهي: طلع، ثم خلال، ثم بلح، ثم بُسر، ثم رُطب ثم تمر. ينظر: ((الصحاح))(1: 92).
(5) قوله من هذا البسر بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة آخره راء مهملة جمع بسرة وهي اسم ثمر النخلة في المرتبة الرابعة من مراتبه الست يقال لها بالفارسية غور خرما واولها طلع ثم خلال بالفتح ثم بلح بفتح الباء الموحدة واللام آخره حاء مهملة ثم بسر ثم رطب ث تمر كذا يفهم من الصحاح وغيره.
(6) قوله فاكل رطبه الرطب بضم الراء المهمة وفتح الطاء المهملة آخره باء موحدة بالفارسية خرماى ترواكتمز بفتحتين خرماى خشة
(7) في س و ص و م: فاكله.
(8) قوله و شهرازاً اي فاكل شيرازا وهو نكسر الشين المعجمة بعدها ياء ثناة تحتية ساكنة بعدها راء مهملة ثم الف ثم زاي معجمة اللبن المستخرج ماؤه بحيث يصير كالفالووج الغليظ وهذا متعلق بحلفه بعدم اكل اللبن
(9) في ج شرازا. والشيراز وهو اللبن الرائب إذا استخرج منه ماؤه. ينظر: ((المغرب))(ص248).
(10) في م: و.
(11) في ج: فاكله.
(12) قوله ولا فرق الخ حاصله انه لا فرق بين حلفه لا ياكل من هذا البسر فاكل رطبا وبين حلفه لا ياكل رطبا فاكل بسرا في عدم الحنث والوجه في ذلك أن اليمين إذا انعقدت على غير موصوف بوصف يصير ذلك الوصف باعثا على اليمين ينزل منزلة اسم الجنس فذلك لا يحصل للحنث بعد تغيير الاوصاف وقس عليه الحلف بعدم أكل تمر أو تفصيل هذا أن اليمين أن انعقدت على اسم الجنس وأن كان مشتقاً، نحو: والله لا يشرب هذا الخمر لا بدّ من بقاء حقيقتها حتى لو تخللت الخمر فشرب لا يحنث ما مر ذكره واليمين أن انعقدت على موصوف بوصف داع إلى اليمين تقيد بذلك الوصف وأن لم يكن داعيا كان كاسم الجنس قال في تنوير الابصار وشرحه الدر المختار لا يحنث في حلفه لا ياكل من هذا البسر أو الرطب أو اللبن باكل رطبه تمره وشيرازه لأن هذه ضفات داعية إلى اليمين فتقيد بها بخلاف لا يكلم هذا التبعي أو هذا الشاب فكلمه بهد ما شاخ أو لا ياكل هذا الحمل ولد الشاة فاكله بعدما صار كبشا فانه يحنث لانها غير داعية والاصل أن المخلوق عليه اذا كان بصفة داعية إلى اليمين تقيد به في المعرف والمنكر فاذا زالت زالت اليمين وما لا يصلح داعية اعتبر في المنكر دون المعرف وفي المجتبي حلف لا يكلم هذا المجنون فبرأ أو هذا الكافر فاسلم لا يحنث لانها صفة داعية وفي لا يكلم رجلا فكلم صبيا حنث وقيل لاكلا يكلم رجلا فكلم صبيا حنث وقيل لاكلا يكلم صبيا وكلم وكلم بالغا لانه بعد البلوغ يدعى شابا وفتى إلى الثلثين فكهل إلى خمسين فشيخ
(5/325)
________________________________________
] بين قولِنا: لا يأكلُ من هذا البُسْر فأكلَهُ رطباً، وبين قولنا: لا يأكلُ بُسْراً فأكلَ رطباً، بناءً[(1)] على أن البُسْرَ والرَّطبَ من أسماءِ الأجناس، فإذا صارَ رطباً، صارَ ماهيةً أُخرى كما [بيَّنا](2) في لا يدخل بيتاً(3).(4)
__________
(1) قوله بنا تعال في الذخيرة الصحيح انه لا يحنث في الرطب أو العنب إذا صار تمرا اوزبيبا لانه اسم لهذه الذوات فالرطوبة التي فيها فاذا اكله بعد الجفاف فقد اكل بعض ما عقد اليمين عليه بخلاف الصبي بعد ما شاخ أو اكمل بعدها صار كبشا فانه لم ينقص بل زاد والزيادة لا تمنع الحنث وهذا الفرق هو الصحيح وعليه الاعتماد
(2) زيادة من أ و س و ص و ف.
(3) ص ).
(4) مرّ عند مسألة لا يدخل بيتاً؛ عدم قبول العلماء بما علّل به الشارح، وهنا كذلك، قال ملا خسرو في ((الدرر))(2: 50)في تعليل ذلك: لأن هذه صفات داعية إلى اليمين، وقد صرح في ((الكافي)) وغيره: إن الصفة في المعين لغو إلاّ إذا كانت داعية إلى اليمين كما في مسألة الرطب إذ ربما يضره الرطب لا التمر، والفرق بين المسألتين أن صفة البسرة وصفة الرطبة وجدتا ثمة في المعين وكان مقتضى قولهم الصفة في المعين لغوٌ أن تكون لغواً، لكنها لم تلغ لكون الصفة داعية إلى اليمين وهاهنا وجدت في المنكر والصفة فيه معتبرة.اهـ.
(5/326)
________________________________________
(أو لحماً[(1)] فأكلَ سمكاً)(2): أي لا يحنثُ في لا يأكلُ لحماً فأكل سمكاً، (أو لحماً أو شحماً فأكلَ أليةً[(3)]، ولا في لا يشتري رُطباً فاشترى كِباسةَ(4)[(5)] بُسْرٍ فيها رُطب(6).
__________
(1) قوله اولهما يعني لو حلف لا ياكل لحلالا يحنث باكل لحم السمك لأن لحم السمك وأن سمى لحما في القرآن حيث قال تعالى تاكلون منه طريا لكنه لا يعد لحما في العرف بل هو ليس بلحم حقيقة أيضاً لأن اللحم منشأة من الدم ولادم في السمك لسكونه في الماء نعم يحنث باكل لحم الغنم والبقر والجاموس ونوحها بل بلحم خنزير أو انسان أيضاً لانه لحم حقيقة وعرفا وأن كان حراما وكذا إذا اكل كبد أو كبشا كذا في الهداية وغيرها
(2) لأن اللحم ما يتولّد من الدم وليس في السمك دم، ومطلق الاسم يتناول الكامل، وكذلك من حيث العرف لا يستعمل السمك استعمال اللحم في اتخاذ الباحات منه، وبائع السمك لا يسمى لحَّاماً، والعرف في اليمين معتبر، إلاّ أن يكون نوى السمك، فحينئذ تعمل نيته؛ لأنه لحم من وجه. ينظر: ((المبسوط))(8: 176).
(3) قوله فاكل إلية بفتح الهمزة قال في المصباح قال ابن السكيت وجماعة لا تكسر الهمزة ولا يقال والجمع اليات كسجدة وسجدات والتثنية اليان بحذف الهاء على خلاف القياس وانما لا يحنث باكل الالية لانها ليست بلحم ولا شحم عرفا بل هي نوع ثالث
(4) كِباسة: عنقود النخل، والجمع كبائس. ينظر: ((البحر))(4: 487).
(5) قوله كباسة بكسر الكاف ثم باء موحدة والسين المهملة العذق الذي من التمر بمنزلة العنقود من العنب بالفارسية خوشة خربا
(6) لأن البيع يصادفه جملةً فيكون القليل تابعاً للكثير ولهذا بائعه لا يسمى بائع الرطب. ينظر: ((التبيين))(3: 126).
(5/327)
________________________________________
وحنثَ لو حلفَ لا يأكلُ رطباً أو بُسْراً أو ولا بُسْراً فأكل مُذنِّباً[(1)]): أي حلفَ لا يأكلُ رطباً فأكل مُذنَّباً، أو حَلَفَ لا يأكلُ بُسْراً فأكل مُذنِّباً، أو حلفَ لا يأكلُ رطباً ولا بسراً فأكلَ مُذنِّباً حنثَ هذا عند أبي حنيفةَ[(2)] - رضي الله عنه -؛ لأنَّ المُذَنِّبَ بعضُهُ رَطب وبعضُه بُسْر، فمَن أكلَهُ [أكل](3) الرَّطب[(4)] والبُسْر.
وقال في ((الهداية)): إن عندهما[(5)] إذا حلفَ لا يأكلُ رطباً لا يحنث بالبُسْر المُذنَّب، وإذا حلفَ لا يأكلُ بسراً لا يحنثُ بالرَّطب المُذنِّب(6).
__________
(1) قوله مذنبا على صيغة اسم الفاعل من التذنيب وجاء في استعمال الفقهاء بفتح النون أيضاً يقال ذنبت البسرة إذا حمرت من ذنبه
(2) قوله عند أبي حنيفة رح قال في الهداية وقالا لا يحنث في الرطب بالبسر المذنب ولا في البسر بالرطب المذنب لأن الرطب المذنب يسمى رطبا والبسر المذنب يسمى بسرا فصار كما إذا كان اليمين على الشراء وله أن الرطب المذنب ما يكون في ذنبه قليل بسر والبسر المذنب على عكسه فيكون آكله اكل البسر والرطب وكل واحد مقصود في الاكل بخلاف الشراء لانه يصادف الجملة فيتبع القليل فيه الكثير انتهى وفي البناية ذكر في الايضاح والمبسوط والاسرار وشروح الجامعين قول محمد رح مع أبي حنيفة رح في انه يحنث انتهى وفي فتح القدير هذا بناء على انعقاد اليمين على الحقيقة لا العرف والا فالرطب الذي فيه بقعة بسر لا يقال لآكله آكل بسر في العرف فكان قول أبي يوسف رحمه الله اق
(3) سقطت من م.
(4) قوله اكل البسر فيحنث في الحلف معهم اكل الرطب والحلف بعدم اكل البسر والحلف بعدم اكلهما بوجود اكل البسر والرطب كليهما في اكل المذنب
(5) قوله أن عندهما هذا هو حاصل عبارة الهداية وقد نقلناها سابقا
(6) انتهى من ((الهداية))(2: 80)، بتصرف.
(5/328)
________________________________________
وقد قال في ((المغرب))[(1)]: البُسْر المُذنِّب: وقد ذَنَّبَ إذا بدأ له الإرطابُ من قبلِ ذَنَبِه، وهو ما سَفِلَ من جانبِ المِقْمَعِ(2) والعِلاَقة(3)[(4)].
__________
(1) قوله وقد قالفي المغرب الخ عبارته بكذا بسر مذنب بكسر النون أي مع التشديد وقد ذنب إذا بدأ الارطاب من قبل ذنبه وهو ما سفل من جانب القمع والعلاقة انتهى
(2) وقع في النسخ: القمع، والمثبت من ((المغرب)). وقِمَعُ البُسْرة: ما يلتزق بها حول عِلاقتها. ينظر: ((المغرب))(ص394).
(3) انتهى من ((المغرب))(ص178).
(4) قوله من جانب القمع والعلاقة القمع بكسر القاف وسكون الميم آخره يمين مهملة وجاء بفتح الميم أيضاً اسم لما على التمر والبسر من الوعاء لهما والعلاقة بكسر العين عود الكباسة ويقال له العرجون أيضاً
(5/329)
________________________________________
ولا شكَّ أنَّ الإرطابَ ليس إلاَّ من جانبٍ واحد، وهو الذي ليس عليه القِمَع والعِلاقة، فهذا الجانبُ هو الذًّنب، إذا عرفتَ هذا[(1)] فكيفَ يصحُّ ما قال في ((الهداية)): إنَّ الرُّطبَ المُذنِّب ما يكون في ذنبِهِ قليلُ بسر، والبسرُ المُذنِّبُ على العكس(2): أي ما في ذنبِهِ قليلُ رطب.
__________
(1) قوله إذا عرفت هذا الخ الغرض منه الايرد على قول صاحب الهداية في توجيه قول أبي حنيفة رح أن الرطب المذنب ما يكون في ذنبه قليل بسر والبسر المذنب على عكسه بانه يخالف ما نقحه صاحب المغرب قال الشارح الهروي ثم أن البسر المذنبما بدأ فيه للارطاب من قبل ذنبه إلى من الطرف الذي لا يكون متصلا بالنخل ولا يوجد الرطب المذنب بحيث يبدأ البسورة من ذلك الطرف نقلا وعقلا فان الحرارة اثرت في ذلك الطرف اشد تأثير ولهذا يكون احلى والطف فما وقع في الهداية من أن الرطب المذنب ما في ذنبه قليل له بسر والبسر المذنب على عكسه يحتاج إلى تكلف في العكس ثم يطلق في عرف العجم الراس على ما يطلق في عرف العرب الذنب هكذا في جميع الفواكه والبطيخ وعنقود العنب وفي الكافي البسر المذنب ما يكون اكثره بسر أو شيء قليل منه رطب والرطب المذنب ما يكون اكثره رطبا وشيء قليل منه بسر انتهى
(2) انتهى من ((الهداية))(2: 80).
(5/330)
________________________________________
فأقول[(1)]: أصنافُ التَّمر التي رأيناها من تمرِ بغدادَ[(2)] وفارسَ وكَرمانَ(3) يبدأُ إرطابُها من الجانبِ(4) الذي ليس عليه القِمَع، ففي غيرِ هذه البلادِ إن كان ابتداءُ الإرطاب من طرفِ القِمَع، فما قال صاحب ((الهداية)) يكون صحيحاً.
__________
(1) قوله فاقول الغرض منه توجيه كلام صاحب الهدايةوتصحيحه
(2) قوله من تمر بغداد بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة بعدها والان مهملتان بينهما الف وهو اسم لمدة عظيمة تسمى بدار السلام ووجه تسميتها به أن بغ اسم ضم كان لهم وداد بالفارسية بمعنى العطية ويقال له بغداذ بالذال المعجمة في الاخر وبغد أن بالنون في آخره ومنهم من قال أن بغ بمعنى البستان وداد اسم رجل كذا في كتب الانساب لابي سعد السمعاني وفيه أيضاً الفارسي نسبة إلى فارس بفتح الفاء بعدها الالف والراء المكسورة في ىخر بلسين المهملةاسم لعدة من المدن الكبيرة من الاقاليم المعروفة وداء مملكتها شيراز انتهى وفيه أيضاً الكرماني بسر الكاف وقيل بفتحها وسكون الراء المهملة وفي آخرها الون هذه النسبو إلى بلاد الشتا يسمى بجميعها كرمان وقيل هو بفتح الكاف وهو الصحيح غير انه اشتهر بكسرها انتهى
(3) كَرْمان: بفتح الكاف، وقيل: بالكسر، والفتح هو الصحيح، ولاية كبيرة تحتوي على عدة بلاد وقرى ومدن واسعة، بين فارس ومكران وسجستان وخراسان، وهي بلاد كثيرة النخل والزرع والمواشي والضرع تشبه بالبصرة في كثرة التمور وجودتها وسعة الخيرات. ينظر: ((معجم البلدان))(4: 454). ((الجواهر))(4: 297). ((الفوائد))(ص157).
(4) في ص: جانب.
(5/331)
________________________________________
وإن لم يكنْ الإرطاب من جانبِ القمع، فوجْهُ صحَّتِهِ أنَّ الرُّطبَ المُذنِّبَ ما يكون أكثرُهُ رطباً، والبُسْرُ المُذَنِّبُ ما يكون أكثرُهُ بُسْراً، ثُمَّ لمَّا كان البُسْرُ من طرفِ القِمَعِ فرأسُ البُسْرِ ما يلي القِمَع، وذنبُهُ الطَّرفُ الآخر، ولمَّا كان الرُّطَبُ هو الطَّرف الآخر، فرأسُ الرَّطبِ طرفُهُ الجار، وذنبُهُ طرفُ القِمَع، فهذا وجهُ صحَّتِه.
(أو لا يأكلُ لحماً فأكلَ كبداً[(1)] أو كرشاً أو لحمَ خنزيرٍ أو إنسان): قيل: لا يحنثُ بأكلِ الكبدِ والكرشِ في عرفِنا(2)[(3)]؛ لأنَّهما في عرفِنا لم يعدَّا لحماً، وأمَّا لحمُ الخنزير والإنسانِ فهما لحمٌ حقيقةً[(4)
__________
(1) قوله فاكل كبدا أو كرشا الكبد بفتح الكاف وكسر الهاء الموحدة بالفارسية جكر والكرش بفتح الكاف وسكون الراء المهملة وبكسرها أيضاً بالفارسية شكنبء ستور ومثلها القلب والرية والطحال وغيرها فيحنث باكلها في لا ياكل لحما قال في البحر في الخلاصة لو حلف لا ياكل لحما فال شيئا من البطون كالكبد والطحال يجنث في عرف اهل الكوفة وفي عرفنا لا يحنث وهكذا في المحيط والمجتبي ولا يخفى انه لا يسمى لحما في عرف اهل مصر أيضاً فعلم أن ما في المختصر أي الكنز يبني على عرف اهل الكوفة وأن ذلك يختلف باختلاف العرف انتهى
(2) وفي ((الشرنبلالية))(1: 51): هو الصحيح كما في ((البرهان)).
(3) قوله في عرفنا أي عرف العجم ومنه يعلم مراد اسم من قولهم في الايمان انها مبنية على العرف عرف أي بلد كان في أي وكان كان فلذلك تختلف الاحكام بحسب اختلاف الازمان والامكنة ولذا قالوا انه يحنث في لا ياكل خبزا ياكل خبز الارز في بلدة يعاد اهلها اكله ويحنث الحالف الخوارزي باكل لحم السمك في لا ياكل لحما لانه يسمى لحما في عرف اهل خوارزم
(4) قوله فهما لحم حقيقة وأن كان اكلها حراما للمنجاسة والكرامة والاولى أن يقول فهما لحمان عرفا فان مبنى الايمان على العرف لا على الحقيقة ويرد عليه أن لفظ لا آكل لحما لا ينصرف عرفا إلى لحم الانسان والخنزير وأن كان في العرف يسمى لحما كما في لا يركب دابة فلان فان العرف اعتبر في ركب والمتبادر منه ركوب الانواع الثلثة أي الحمار والبغل والفرس وأن كان لفظ دابة في العرف يشمل غيرها أيضاً كالابل والبقر فقد تقيد الركوب المحلوف عليه والعرف ولذا نقل العتابي خلاف ما هنا فقال قيل الحالف إذا كان مسلما ينبغي أن لا يحنث لأن اكله ليس بمتعارف ويبني الايمان على العرف وهو الصحيح وفي الكافي وعليه الفتوى كذا حققه في فتح القدير ويؤيده ما في الذخيرة وغيرها انه لا يحنث في لا ياكل لحما باكل اللحم الني لانه عقد يمينه على ما يؤكل عادة فينصرف إلى المعتاد وهو الاكل بعد الطبخ
(5/332)
________________________________________
] فيحنثُ بهما.
(والغداءُ[(1)] الأكلُ[(2)] من طلوعِ الفجرِ[(3)] إلى الظُّهر[(4)]، والعشاءُ منه إلى نصفِ اللَّيل(5)[(6)]، والسَّحور[(7)] منه إلى الفجر(8).
__________
(1) قوله والغداء الاولى أن يقول بدله التغدي وبدل العشاء النعثي فان الغداء بالفتح اسم لما يؤكل من الفجر إلى الزوال والعشاء بالفتح اسم لما يوكل منه إلى نصف اليل ومنه قوله عليه الصلاة والسلام إذا حضر العشاء والعشاء بالكسر إلى صلاة العشاء فابدؤا العشاء والتغدي والتعشي مصدران بمعنى الاكل في الموقتين المذكورين وقال في الفتح انه تساهل معروف المعنى لا يعترض به
(2) قوله الاكل أي المترادف فلو اكل القمتين ثم فصل بزمن يعد فاصلا ثم اكل لقميتين لا يسمى تغديا والمعتبر في التغدي والتعشي اكل ما يقصد بالشبع عادة وتعبر عادة اهل كل بلدة في حقهم ويشترط أن يكون الغداء والعشاء اكثر من نصف الشبع كذا في الهداية وحواشيها
(3) قوله الفجر بل الصبح الصادق وفي الخلاصة من طلوع الشمس قال صاحب البحر وينبغي اعتماده للعرف
(4) قوله إلى الظهر اي إلى اول وقته وهو زوال الشمس
(5) وفي عرف مصر والشام ما يؤكل من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى يسمّى فطوراً، والعشاءُ ما بعد صلاة العصر، فيعمل بعرفهم. ينظر: ((الدر المختار))(3: 96).
(6) قوله منه إلى نصف الليل أي من زوال الشمس إلى نصف الليل ولذا تسمى صلاة الظهر والعصر صلاة العشى كما ورد في الحديث في الصحيحين
(7) قوله والمسحور هو بالفتح اسم لما يؤكل وقت السحر وهو السدس الاخير من الليل وبالضم مصدر بمعنى اكل الطعام في ذلك الوقت وقد قريء بهما لمسحور في حديث تسحرا فان في السحور بركة
(8) والغداء والعشاء ما يقصد به الشبع عرفاً، ويعتبر في حقّ أهل كلّ بلد عادتهم حتى لو حلف لا يتغدى لا يحنث باللبن والتمر إلا إذا كان بدوياً. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص148).
(5/333)
________________________________________
وفي إن لبست، أو أكلت، أو شربت، ونوى عيناً لم يُصَدَّقْ أصلاً[(1)])(2): [أي](3) [إن](4) نَوَى ثوباً معيَّناً، أو طعاماً معيَّناً، أو شراباً معيَّناً لم يُصدَّقْ قضاءً، ولا ديانة؛ لأنَّ المنفي ماهيةُ اللُّبْس[(5)]، ولا دلالةَ له على الثَّوب إلاَّ اقتضاءً[(6)]، والمقتضَى[(7)
__________
(1) قوله لم يصدق اصلا أي لاقضاء ولا ديانة فيترتب الجزاء كالطلاق والعتاق على اكل مطلق وشرب مطلق ولبس مطلق
(2) لأن النية إنما تصح في الملفوظ والثوب وما يضاهيه غير مذكور تنصيصاً والمُقْتَضَى لا عموم له فلغت نية التخصيص فيه. ينظر: ((الهداية))(2: 82).
(3) سقطت من ص.
(4) سقطت من أ و ب و س و ف.
(5) قوله لأن المنفي ماهية اللبس فان لبست مشتق من اللبس الموضوع فلمامية لا الفردن وكذا الشرب والاكل ولما كان اليمين للمنع هنا كان مطلق اللبس واخويه منفيا فان المعنى لا اللبس فان لبست فعبدي خر قس عليه اخويه
(6) قوله الاقتضاء أي على سبيل الاقتضاء فانه محتاج إليه لتصحيح المنطوق لعدم تصور اللبس بدون وأن الملبوس والاكل بدون الماكول والشرب بدون المشروب هكذا ذكروا والتحقيق على ما في الفتح أن هذا ليس من المقتضى لانها يقدر لتصحيح المنطوق بان يكون الكلام كذبا فان الرفع الخطاء والنسيان أو غير صحيح شرعا كاعتق عبدك عني وقوله لا اكل خال عن ذلك نعم المفعول أي الماكول من ضروريات وجود الاكل ومثله ليس من المقتضى بل من حذف المفعول اقتصارا والا لزم أن يكون كل كلام مقتضى إذ لابد أن يستدعي مكانا وزمانا وحيث كان هذا المصدر ضروريا للفعل لا يصح تخصيصه وأن عم لوقوعه في سياق النفي فان من ضرورة ثبوت الفعل المنفي ثبوت المصدر العام بدون ثبوت التصرف فيه فان عمومه ضرورة تحقق الفعل في النفي فلا يقبل التخصيص
(7) قوله والمقتضى لا عموم له قال في التلويح على لفظ اسم المفعول أي الازم المتقدم الذي اقتضاه الكلام تصحيحا له إذا كان تحته افراد لا يجب اثبات جميعها لأن الضرورة ترتفع باثبات فرد فلا دلالة له على اثبات ما ورائه ولان العموم من عوارض اللفظ والمقتضى معنى لا لفظ انتهى قول فلا يصح فيه نية التخصيص لأن التخصيص فرع العموم فيحث لاعموم لا تخصيص واذا لم تصح نيته لم يصدق لاقضاء ولا ديانة قال الشارح رح في تنقيح الاصول فان قيل يقدر اكلا وهو مصدر ثابت لغة فيصير كقوله لا اكل اكلا قلنا امصدر الثابت لغة هو الدال على المامية لا على الافراد بخلاف قوله الاكل اكلا فان اكلا نكرة في سياق النفي وهي عامة فيجوز تخصيصه بالنية فان قيل إذا لم تكن عامة ينبغي أن لا يحنث بكل اكل قلنا انما يحنث لانه من ربح تحت ماهية الاكل لا لأن الفظ يدل على جميع الافراد فان قيل أن قيل لا يساكن فلانه ونوى في بيت واحد تصح نيته والبيت ثابت اقتضاء قلنا انما تصح نيته لأن المساكنة نوعان قاصرة وهي أن يكون في دار واحدة وكاملة وهي هذه فنوى الكامل انتهى
(5/334)
________________________________________
] لا عمومَ له، فلا يصحُّ فيه نيَّةُ التَّخصيص.
(ولو ضمَّ[(1)] ثوباً(2)، أو طعاماً، أو شراباً[(3)] دِين): أي صُدِّقَ دِيانةً[(4)] لا قضاءً؛ لأنَّ اللَّفظَ عامّ، فنيَّةُ التَّخصيصِ[(5)] خلافُ الظَّاهر، فلا يُصَدَّقُ في القضاء.
__________
(1) قوله ولو ضم أي لو قال أن لبست ثوبا ونوى ثوبا معينا أو قال أن اكلت طعاما ونوى طعاما معينا أو قال أن شربت ونوى شربا معينا صدق ديانة لانه ذكر اللفظ العام فان
(2) أي لو قال: إن لبست ثوباً ونوى ثوباً معيَّناً...
(3) قوله ثوبا وطعاما وشرابا نكرة في سياق الشرط فتعم النكرة تحت النفي لأن الحلف في الشرط المثبت يكون على نفيه ولما صار عاما صحت فيه نية التخصيص والاصل أن نية التخصيص انما تعمل في الملفوظ العام لا في غير الملفوظ
(4) قوله صدق ديانة لاقضاء فيسلمه المفتي ولا يسلمه القاضي لأن المفتي انما يفتي بحسب ما ينويه المستفتي والقاضي انما يحكم بالظاهر ولا يسلم ما هو خلاف الظاهر لاسيما فيما فيه تخفيف لمكان التهمة
(5) قوله فنية التخصيص وأما تخصيص العام بالعرف فيصدق فيه في باب الايمان قضاء أيضاً على ما مر بحثه في المسائل السابقة
(5/335)
________________________________________
(وتصوَّرُ[(1)] البِرِّ شرطُ صحَّةِ الحلفِ خلافاً لأبي يوسف - رضي الله عنه -، فمَن حلفَ لأشربنَّ ماءَ هذا الكوزِ اليوم، ولا ماءَ فيه، أو كان فصبَّ في يومِهِ لا يحنث)(2)، اعلم أنّ إمكانَ البِرِّ شرطُ صحَّةِ الحلفِ عند أبي حنيفةَ ومحمَّد - رضي الله عنهم - سواءٌ كان باللهِ تعالى، أو بالطَّلاق، أو بالعتاق، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - ليس بشرط، فإن حَلَفَ: واللهِ لأشربنَّ الماءَ الذي في هذا الكوزِ اليوم[(3)]، ولا ماءَ فيه[(4)]، أو حلفَ إن لم أشربْ الماءَ الذي في هذا الكوزِ اليوم فامرأتُهُ طالق، ولاماءَ لا يحنثُ عندهما، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه - يحنث[(5)
__________
(1) قوله وتصور مبتدأ خبره قوله شرط صحه يحلف والمراد التصور الامكان لا مجرد التصور الدهني الذي يوجد في المستحيلات أيضاً وحاصله أن الشرط في صحة الحلف ابتداء بقاء سواء كان حلفا بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق ونحوهما أن يمكن اكبر فان لم يكن مكانا لم ينعقد اليمين يمينا فلا تجب الكفاءة بالحنث فيهدة
(2) لاستحالة البرِّ، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلاأن البرّ في المؤقت يجب أن يكون في آخر الوقت، وهو مستحيل فيه، ويحنث عند أبي يوسف - رضي الله عنه - في آخر جزء من أجزاء ذلك اليوم، حتى تجب عليه الكفارة إذا مضى ذلك اليوم. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 278).
(3) قوله اليوم هذا بطريق التمثيل والاتفاق والمراد كل وقت معين من يوم أو جمعة أو شهر
(4) قوله ولا ماء فيه أي في الواقع سواء علم عدمه وقت الحلف أو لم يعلم وذر الاسبيجاني أن عدم الحنث إذا لم يعلم عدم الماء فاما إذا علم تقع يمينه على ما يخلقه الله فيه وقد تحقق العدم فيحنث وصحح الزيلعي في شرح الكنز عدم الحنث مطلقا لأن ما يحدث في الكوز غير المحلوف عليه لأن المحلوف عليه هو الماء المظروف في الكوز وقت الحلف وأن الحادث بعد
(5) قوله يحنث لأن البر وأن لم يكن ممكنا لكن امكن اتقون بانعقاده موجبا للبر على وجه يظهر في حق الخلف وهو الكفارة ولهما انه لابد من تصور الاصل لينعقد في حق الخلف فاذا لم يتصور الاصل لا ينعقد في حق الخلف كذا في البناية
(5/336)
________________________________________
]، وإن حلفَ وكان(1) فيه ماءٌ فاريقَ في اليوم، فالحكمُ ما ذُكِرَ[(2)].
__________
(1) في فكان.
(2) قوله فالحكم على ما ذكر يعني تنعقد اليمين عند أبي يوسف رح ويظهر ذلك في وجوب الكفارة لعدم امكان البر وعندهما لا تنعقد اليمين لعدم امكان البر فلا تج الكفارة بالحنث وذلك لأن امكان البر شرط لابتدء اليمين وبقائها أيضاً واذا لا امكان فلا بقاء فان قلت البر متصور في صورة الاراقة لأن الاعادة ممكنة قلت أن البر انما يجب في هذه الصورة في آخر جزء من اجزاء اليوم بحيث لا يسع فيه غيره فلا تمكن اعادة الماء في الكوز وشربه في ذلك الزمان كذا في العناية
(5/337)
________________________________________
(وإن أطلقَ[(1)](2) فكذا في الأوَّلِ[(3)] دون الثَّاني): أي إن لم يقلْ اليوم لا يحنثُ فيما لم يكن في الكوزِ ماءٌ عندهما خلافاً لأبى يوسف - رضي الله عنه -، وإن كان فصُبَّ يحنثُ إجماعاً؛ وذلك لأنَّه إذا لم يكن في الكوزِ ماء، فالبِرُّ غيرُ ممكنٌ[(4)] سواءٌ ذكرَ اليوم أو لا، وإن كان فيه ماءٌ فإن ذكرَ اليوم، فالبِرُّ إنِّما يجبُ عليه[(5)] في الجزءِ الأخير من اليوم، فإذا صُبَّ[(6)] لم يكن البِرُّ متصوَّراً.
__________
(1) قوله وأن اطلق أي لم يقيد حلفه باليوم وقال لاشربن الماء الذي في هذا الكوز أو قال أن لم اشرب الماء الذي في هذا الكوز فامرأته طالق
(2) في ق: أطلقت.
(3) قوله فكذا في الاول أي في الوجه الاول وهو ما إذا لم يكن في الكوز ماء فيحنث عند أبي يوسف رحمه الله ولا يحنث عندهما بخلاف الثاني أي ما إذا كان فيه ماء فاريق فانه يحنث عندهما أيضاً قال في الهداية فابو يوسف رح فرق بين المطلق والموقت ووجه الفرق أن التاقيت للتوسعة فلا يجب الفعل الا في آخر الوقت فلا يحنث قبله وفي المطلق يجب البر كما فرغ وقد عجز فيحنث في الحال وهما قد فرقا بينهما ووجه الفرق أن في المطلق يجب البر كما فرغ فاذا فات البر بفوات ما عقد عليه اليمين يحنث في يمينه كما إذا مات الحالف والماء باق أما في الموقت فيجب البر في لجزء الاخير من الوقت وعند ذلك لم تبق محلية البر لعدم التصور فلا يجب البر فيه وتبطل اليمين كما إذا عقده ابتداء في هذه الحالة انتهى
(4) قوله فالبر غير ممكن لعدم وجود الماء في الكوز فلا تنعقد اليمين فلا يوجد الحنث الموجب للكفارة
(5) قوله انما يجب عليه الخ وذلك لانه لما وقته بوقت يفضل عنه صار موسعا فلا يجب عليه الا في الجزء الاخير منه كما في سائر الموقتات الموسعة
(6) قوله فاذا صب أي قبل تمام اليوم وغيره من الوقت الذي عينه
(5/338)
________________________________________
وإن لم يذكرْ اليوم، فالبِرُّ[(1)] إنِّما يجبُ عليه إذا فرغَ من التَّكلُّم، لكن موسعاً بشرطِ أن لا يفوتَهُ في مدَّةِ عُمْرِه، والبِرُّ متصوَّرٌ عند الفراغِ من التَّكلُّم فانعقد اليمين، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - يحنثُ في الكلّ[(2)]، ففي المؤقتِ بعد مضيِّ الوقت، وفي غيرِ المؤقتِ يحنثُ في الحال.
__________
(1) قوله فالبر الخ اعترض عليه في الفتح بان وجوبه في الحال بمجرد فراغه من التكلم أن كان بمعنى تعينه حتى يحنث في ثاني الحال فهو ليس بصحيح وأن كان بمعنى الوجوب الموسع إلى الموقت فيحنث في آخر جزء من الحياة فاليمين الموقتى كذلك لانه لا يحنث لا في آخر جزء من الوقت الذي ذكره فذلك الجزء بمنزلة آخر جزء من الحياة فلاي معنى تبطل اليمين عند أخر جزء من الوقت في الموقتى ولم تبطل عند أخر جزء من الحياة في المطلقة واجاب عنه في النهر بان الحالف في الموقتى لم يلزم نفسه بالفعل الا في آخر الوقت بخلاف المطلقة لانه فائدة في التاخير وقال الشيخ امين في رد المحتار انت خبير بانه غير دافع مع استلزامه وجوب البر في المطلقة على فور الحلف والا فلا فرق ويظهر لي الجواب بان المقيدة لما كان لها غاية معلومة لم يتعين الفعل الا في آخر وقتها فاذا فات المحل فقد فات قبل الوجوب فتبطل ولا يحنث لعدم امكان البر وقت تعينه أما المطلقة فغايتها آخر جزء من الحياة وذلك الوقت لا يمكن البر فيه ولا خلفه وهو الكفارة فيبقي في الاثم فيتعيين الوجوب قبله ولا ترجيح لوقت دون آخر فلزم الوجوب عقب الحلف موسعا بشرط عدم الفوات فاذا فات المحل ظهر أن الوجوب كان مضيقا من اول اوقات الامكان ونظيره ما قرروه في لقول بوجوب الحج موسعا
(2) قوله في الكل أي في الصور الاربعة ذكر اليوم أو لا لم ين الماء فيه أو كان فيه فاريق
(5/339)
________________________________________
(وفي ليصعدَنَّ السَّماء[(1)]، أو ليقلبنَّ[(2)] هذا الحجرَّ ذهباً، أو ليقتلنَّ فلاناً عالماً[(3)] بموتِهِ انعقدَ [اليمينُ][(4)](5) لتصوَّرِ البِرّ، وحنثَ[(6)] للعجز، وإن لم يعلمْهُ[(7)] فلا)(8)، وفيه خلافِ زُفر - رضي الله عنه -، فعنده لا ينعقدُ اليمين؛ لكون البِرِّ مستحيلاً [(9)
__________
(1) قوله وفي ليصعدن السماء الخ ومثله أن لم امس السماء بخلاف قوله أن تركت من السماء فعبدي حرفان الشرط هو الترك وهو غير موجود في غير المقدور عادة وعدم المس يتحقق فيه كذا في المحيط وفي شرح الجامع الكبير قال الكرخي إذا حلف أن يفعل ما لا يقدر عليه كقوله لاصعد السماءفو اثم
(2) قوله أو ليقبلن مضارع من التقليب ليجعلن هذا الحجر ذهبا
(3) قوله عالما أي حال كون الحالف عالما أن فلا ناقد مات قبل هذا الكلام
(4) قوله انعقد اليمين قال في العناية انما كان كذلك لأن ايجاب العبد معتبر بايجاب الله وايجاب الله يعتمد التصور دون القدرة فيما له خلف الا يرى أن الصوم واجب على الشيخ الفاني ولم يكن له قدرة لا مكان للتصور والخلف فكذلك هنا حنث عقيب وجود البر فوجب الكفاءة للعجز الثابت عادة كما وجب الفدية هناك عقيب وجوب الصوم
(5) زيادة من أ و ب و س و م.
(6) قوله وحنث أي في حال أن كان اليمين مطلقا وبعد مضي الوقت أن كانت مقيدة بالوقت
(7) قوله وأن لم يعلم أي وأن لم يعلم موت فلان قبل حلفه فقال لا تمكن فلأنا وقد كان مات قبله لا ينعقد اليمين وتجب الكفارة
(8) أما إذا وقت فقال: لأصعدنَّ غداً لم يحنث حتى بمضي ذلك الوقت، حتى لو مات قبله لا كفارة عليه إذ لا حنث. ينظر: ((الفتح))(5: 141).
(9) قوله مستحيلا عادة فان صعود السماء تقليب الحجر ذهبا وقتل الميت مستحيل عادة فكان كالمستحيل حقيقة فلا تنعقد اليمين كما لم تنعقد في مسالأة الكوز والجواب عنه انه مبني انعقاد اليمين على أن كان المحلوف عليه ذاتا لا على أن كونه عادة فوله ممكنا أي في ذاتها غير ممتنعة في ذاتها أي أن الملائكة تصعد السماء كل يوم وقد صعد عليه سيدنا عيسى ع وسيدنا ادريس ع ونبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كما ذكر الله في كتابه ولو لا أن كانهم في نفسه لم يوجد في مخلوق وتقليب الحجر ذهبا ممكن بتحويل الله واهل صنعة الكيميا يفعلون ذلك ولا دليل على عدم امكانه وكذا قتل الميت ممكن بان يخلق الله فيه الحياة بعد موته وقد وقع ذلك غير مرة
(5/340)
________________________________________
]عادة.
قلنا: هذه الأمورُ ممكنةٌ في ذاتِها، فيكفي هذا لإنعقادِ اليمين، ويحنثُ في الحالِ[(1)] بلا توقُّفٍ إلى زمانِ الموتِ للعجزِ[(2)] عادة.
وإنِّما قلنا [عالماً] بموتِه؛ لأنَّه حينئذٍ[(3)] يرادُ قتلَهُ بعد إحياءِ اللهِ تعالى، وهو ممكنٌ غيرُ واقع، فينعقدُ اليمين، ويحنثُ في الحال.
أمّا إذا لم يكنْ عالماً بموتِه، فالمرادُ القتلُ المتعارف[(4)]، ولمَّا كان ميِّتاً كان القتلُ المتعارفُ ممتنعاً، فصارَ كمسألةِ الكوز[(5)].
__________
(1) قوله في الحال المراد به ما قبل الموت فيدخل فيه المطلق والمقيد فقد ذكرنا الفرق بينهما
(2) قوله للعجز عادة علة للحنث في الحال والحاصل انه تنعقد اليمين لا مكان للمحلوف عليه في ذاته ويحنث للعجز العادي بخلاف مسألة الكوز فان المحلوف عليه هناك غير ممكن في ذاته فلا تنعقد اليمين ويحنث في آخر جزء من حياته في بعض الصور على ما مر تفصيله
(3) قوله لانه رح أي حينما علم بموته ومع ذلك حلف بقتله يكون حلفه على قتله بعد الحياة الثانية وهو ممكن ذاتا مستحيل عادة فتنعقد اليمين لامكان الذاتي وتجنب الكفارة للعجز العادي
(4) قوله لانه رح أي حينما علم بموته ومع ذلك حلف بقتله يكون حلفه على قتله بعد الحياة الثانية وهو ممكن ذاتا مستحيل عادة فتنعقد اليمين لامكان الذاتي وتجنب الكفارة للعجز العادي
(5) قوله فصار كمسألة الكوز تشبيه في عدم الحنث لعدم التصور لا في التفصيل بين العالم وبين غيره لأن الاصح عدم التفصيل هنالك فان حنث العالم هنا لكون البر متصورا على ما ذكرنا أما في الكوز فلو خلق الله فيه الماء لا يكون عين الماء الذي انعقد عليه اليمين فلا يتصور البر اصلاً كذا في شرح الجامع الكبير
(5/341)
________________________________________
(ومدُّ شعرِها[(1)]، وخنقُها، وعضُها، كضربِها(2).
[فصل اليمين في لبس الثياب وغير ذلك]
وقطنٌ ملَكَهُ[(3)](4) بعد إن لَبِسْتُ(5) من غزلِك فهديّ، فغزلَتْهُ ونُسِجَ ولَبِسَ(6) هديّ): قطنٌ: مبتدأ، وهديٌّ: خبرُه، ومعنى الهديُّ ما يُهْدَى إلى مكَّة للتَّصدُّق، وعندهما إن كان القطنُ ملكَهُ[(7)] يوم الحلف، فغزلَتْهُ ونُسِجَ ولَبِسَ يجبُ أن يُهْدَى إلى مكَّة، وإن لم يكنْ القطنُ ملكه يومَ الحلفِ لا[(8)
__________
(1) قوله وقد شعرها هذا اختصار لقول صاحب الهداية ومن حنث لا يضرب امرأة فمد شعرها أو خنقها أو عضها حنث لانه اسم لفعل هو لم وقد تحقق الايلام وقيل لا يحنث في حال الملاعبة لانه يسمى ممزحة لا ضربها.
(2) أي لو حلف لا يضربها ففعل بها هذه الأشياء يحنث؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم وقد تحقق. ينظر: ((التبيين))(3: 158).
(3) قوله ملكه الجملة صفة لقوله قطن وبه جاز وقوع النكرة مبتدأ وقوله بعد متعلق بملكه وحاصله انه قال حائك لزوجة أن لبست من غزلك أي مغزولك فهو بدى فملك قن بعد الحلف بالشراء أو غيره فغزلت زوجته ذلك القطن ونسج الحالف ذلك العزل ولبس يجب عليه أن يهديه إلى مكة قال في الفتح معنى الهدى هنا ما يتصدق به بمكة لانه اسم لما يهدي إليها فان كان نذر هدى شاة أو بدنة انما يخرجه عن العهدة ذبحه في اكرم والتصديق به هناك فلا يجزيه ابدا قيم ولن نذر ثوبا جاز التصديق في مكة بعينه أو بقيمته ولو نذر ابداء ما لم ينقل كابداء دار ونحوهما فهو نذر بقيمتها
(4) في ت و ج و ف و ق: ملك.
(5) في س: ليست.
(6) في أ و س: ليس.
(7) قوله لمكه بكسر الميم مصدر بمعنى المملوك أو هو صيغة ماض
(8) قوله لا وذلك لأن النذر انما يصح في الملك أو مضافا إلى سبب الملك ولم يوجد لأن اللبس وغزل المرأة ليسا من اسباب لمكه فلا يصح اليمين في حق القطن المشتري بعد الحلف ولان غزل المرأة عادة يكون من قطن الزوج والمعتاد هو المراد فصار كانه قال من قطني أو من قطن سالمكله والغزل من قطن الزوج سبب لملك الزوج لما غزلته كذا في العناية
(5/342)
________________________________________
].
(وخاتمُ ذهبٍ حليٌّ[(1)] لا خاتمُ فضَّة(2)[(3)]، وعندهما[(4)]: عقدٌ لؤلؤٍ لم يرصَّعْ[(5)] حليّ، وبه يُفْتَى(6).
__________
(1) قوله حلى بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بالفارسية زيور وحاصله انه إذا حلف لا يلبس حليا فلبس خاتم فضة لم يحنث وأن لبس خاتم ذهب حنث ووجه الفرق أن خاتم ذهب حلى لا خاتم فضة عرفا وشرعا ولذا ابيح استعمال خاتم الفضة للرجال ولم يبح استعمال خاتم الذهب لم كذا في البناية
(2) أي في حلفه لا يلبس حلياً يحنث بلبس خاتم ذهب ...
(3) قوله لا خاتم فضة الا إذا كان مصوغا على هيئة خواتم النساء فح يحنث كذا ذكره الزيلعي
(4) قوله وعندهما الخ يعني إذا حلف لا يلبس حليا فلبس عقد وغير مرصع لم يحنث عنده لانه لا يتحلى به عرفا الا مرصعا ويبني الايمان على العرف وعندهما يحث لانه حلى حقيقة حتى سمي به في قوله تعالى في وصف اهل الجنة يحلون فيا من اساور من ذهب ولؤلؤ وقيل هذا اختلاف عصر وزمان كذا في الهداية
(5) قوله لم يرصع بصيغة المجهول من الترصيع بمضي التركيب احترازا عما إذا كان مرصعا بالذهب والفضة فانه يحنث بلبسه اتفاقا لانه حلى عرفا
(6) لأن التحلي به على الانفراد معتاد، والمعتبر في اليمين العرف لا الحقيقة، ولعل هذا اختلاف عصر وزمان لا حجة وبرهان، فكان في زمانه لا يتحلّى به إلا مرصعاً. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 280).
(5/343)
________________________________________
ومَن حلفَ لا ينامُ[(1)] على هذا الفراش، فنامَ على قِرامٍ(2)[(3)] فوقَهُ حنث، لا مَن جعلَ فوقَه فراشاً آخر)؛ لأنَّ القِرامَ تبعٌ للفراشِ لا الفراشُ الآخر[(4)].
__________
(1) قوله لا ينام وكذا لا يعقد ولا يضطجع ونحو ذلك قوله على هذا الفراش بكسر الفاء ما يفرش على الارض وغيرها للجلوس عليه ومثله على هذا اللبساط وهذا الحصير
(2) قرام: ستر رقيق. ينظر: ((المصباح المنير))(ص500).
(3) قوله على قرام بكسر القاف بالفارسية بردة باريك وبرؤه منقش
(4) قوله لا الفراش الآخر فان الشيء لا يتبع مثله فالنائم على فراش لا يعد عرفا نائما على فراش آخر والنائم على قرام فوق الفراش يعد نائما عليه عرفا
(5/344)
________________________________________
(أو حلفَ[(1)] لا يجلسُ على الأرض، فجلسَ على بساط، أو حصيرٍ [فوقَه](2) )، حيث لا يحنث؛ لأنَّه لم يجلسْ على الأرض، (ولو حالَ بينَه وبينَها لباسَهُ حنث)؛ لأنَّه جلسَ على الأرضِ ولباسَه تبعٌ[(3)] له، (كمَن حلفَ[(4)] لا يجلسُ على هذا السَّرير[(5)]، فجلسَ على بساطٍ فوقَه)؛ لأنَّ الجلوسَ على هذا السَّريرِ لا يعتادُ بدون أن يُجْعَلَ عليه بساط، فالجلوسُ على البساطِ جلوسٌ على السَّرير. (بخلاف جلوسِهِ على سريرٍ آخر فوقَه، فإنَّ الجلوسَ على السَّرير الآخرِ لا يكونُ جلوساً على ذلك السَّرير.
__________
(1) قوله أو حلف الخ يعني إذا حلف لا يجلس على الأرض لا يحنث بالجلوس على بساط أو حصير فوق الارض لانه يعد جلوسا على الأرض عرفاً ومثله إذا جلس على خشب أو جلد مما ذلك وغير ذلك مما يحول بينه وبين الارض ولو حلف لا يشمي على الارض فمشي عليها بنعل أو خفة حنث وأن مشي على بساط الارض لا يحنث كذا في البحر
(2) سقطت من ت و ق، وفي ت: لا يحنث.
(3) قوله ولباس تبع فلا يعد مثل ذلك حائلا بين الجالس وبين الارض
(4) قوله كمن حلف الخ يعني يجنث بالجلوس على البساط المبسوط على السرير في حلفه بقوله لا يجلس على هذا السرير لأن الجلوس على البساط جلوس على السرير عرفا بخلاف ما لو حلف لا ينام على الواح هذا السرير أو الواح هذه السفينة ففرش عليها فراشا فانه لا يحنث لانه لم ينم على الالواح كما لا يحنث على سرير آخر فوق ذلك السرير
(5) قوله هذا السرير آه ولو اطلق السرير ولم يعين حنث بالجلوس على السرير فوق سرير ايضاً
(5/345)
________________________________________
ولا يفعلَهُ يقعُ على الأبد[(1)] [(2)]، ويفعلُهُ على مرَّة)(3)، اعلم أنَّ قولَهُ: لا يفعلَ هذا في العرفِ سلبٌ لقولِهِ: يفعلُهُ، وقولُهُ: يفعلُهُ واقعٌ على مرَّة[(4)
__________
(1) قوله يقع على الابد قيل في تفصيل المقام أن اليمين على فعل الشي أو تركه كالتكلم والاكل والمسافرة نحوها وعدهما لا يخلو أما أن يكون موقته بوقت كيوم وشهرا ومطلقة فان كان الثاني فهو مذكور في المتن فان كان على الترك تركه ابداً وأن كان على الفعل بر بفعله مرة على أي وجه كان ناسيا أو عائداً مختاراً أو مكره أو بطريق التوكيل لأن الفعل مشتمل على مصدره اشتمال الكل على الجزء وهو منكر لعدم الحاجة إلى التعريف والنكرة في سياق النفي نعم فيوجب عموم الامتناع وفي الاثبات يخص فان فعله في صورة النفي حنث وأن فعل في صورة الاثبات مرة وانما يحنث بوقوع الياس عنه وذلك بموت الحالف أو بفوت محل الفعل أن كان الأول فهو غير مذكور في المتن فلا يحنث فيه قبل مضي الوقت وأن وقع اليأس بفموته أو بفوت المحل لأن الوقت مانع من الانحلال إذ لو انحل قبل مضي الوقت لم يكن للتقيد فائدة كذا في كشف الوقاية
(2) قوله على الابد بفتحتين بمعنى الدوام الاستقبالي ففي أي وقت فعله حنث ولو نوى يوما أو يومين نحو ذلك لم يصدق ديانة أيضاً كذا في الذخيرة
(3) يعني إذا قال: والله لا أفعل كذا وجب ان لا يفعله ابداً؛ لأنه في المعنى نكرة في سياق النفي، ويفعله يقع على مرّة؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات. ينظر: ((درر الحكام))(2: 54).
(4) قوله واقع على مرة لأن الفعل يقتضي مصدراً منكرا فقوله لا اكلم زيداً مثلاً معناه لا يصدر منه معه كلام والنكرة في الاثبات تخص فيبر بفعله مرة ولما كانت النكرة تعم في موضوع النفي صار قوله لا يفعله واقعا على الابد كذا في غاية البيان ويرد عليه أن عموم النكرة تحت النفي انما يكون بالنسبة إلى افرادها لا بالنسبة إلى الازمان فالاحسن أن يقال لا يفعله نفي لذلك الفعل مطلقا من دون تقييد دون شيء فيعم الامتناع عنه ضرورة عموم النفي كذا في البحر قولع بعلي المشي هو عبارة عن السير على الاقدام من دون ركوب وهذه المسألة وأن كانت من مسائل النذر لوجوب صيغة الالتزام به لكن النذر لما كان يحتمل اليمين كما مر ذكره في هذا البحث
(5/346)
________________________________________
]، فقولُهُ: لا يفعلَهُ يكونُ للأبد.
[فصل اليمين في الحج والصلاة والصوم]
(وبعَلَيَّ المَشْيُ إلى بيتِ اللهِ تعالى[(1)]، أو إلى الكعبة، يجبُ حجّ أو عمرةٌ[(2)] مشياً[(3)]، ودمٌّ[(4)] إن ركب، ولا شيءَ بعَلَيَّ الخروج، أو الذَّهاب إلى بيت الله تعالى، أو المشيُ إلى الحرم)، هذا[(5)
__________
(1) قوله إلى بيت الله المراد به إذا اطلق الكعبة واضاف البيت إلى الله للتشريف ولهذا المعنى يقال للمسجد بيت الله ولسيدنا عيسى على نبينا وعليه السلام روح الله وكلمته ولنور نبينا صلى الله عليه وسلم انه خلق من نور الله أو انه نور من نور الله وليس معناه ما تتسارع إليه افهام العوام من أن الله تعالى اخذ قبضة من ذاته التي هي نور بحث وجعله نور حبيبه بحيث تكون الذات الالهية مادة للذات المحمدية تعالى الله عن ذلك
(2) قوله يجب الحج أو عمرة لانه عتوف ايجاب احد النسكن هذا اللفظ فصار فيه مجازا لغويا وحقيقة عرفية مثل ما لو قال على جح أو عمرة والا فالقياس أن لا يجب شيء لانه التزم ما ليس بقربة مقصودة ولا واجبة وهي المشي كذا في الفتح
(3) قوله شيا أي من بلدة قال في النهر أن لم يكن بمكة لزمة الشيء من بيته على الراجح لا من حيث يحرم من الميقات والخلا فيما إذا لم يحرم من بيته فان بيته احرم منه لزمه المشي منه اتفاقا وأن كان بمكة واراد أن يجعل الذي لزمه حجا فانه يحرم من الحرم ويخرج إلى عرفات ماشيا إلى أن يطوف طواف الزيارة وأن اراد اسقاطه بعمرة فعليه أن يخرج إلى الحل ويحرم منه وهل يليد المشي في زمانه فيه خلاف والوجه يقضي انه لزمه إذا الحاج يلزمه المشي من بلدته مه انه ليس محرما بل ذا سبب إلى محل الاحرام ينحرم منه فكذا هذا انتهى
(4) قوله ودم أي يجب دم أن ركب في جميع الاوقات أو في اكثرها لادخاله النقص وقد مر بحث وجواب الدماء في كتاب
(5) قوله هذا أي عدم وجوب شيء في على المشي إلى اكرم وأما عدم وجوب شيء فيما قبله فاتفاقي وكذا في قوله على المشي إلى الصفاء والمروة
(5/347)
________________________________________
] عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وأمَّا عند أبي يوسفَ[(1)] ومحمَّد - رضي الله عنهم - فيلزمه(2) حجّ، أو عُمْرةٌ مشياً، (أو المسجدِ(3) الحرام، أو الصَّفا و(4)المروة(5).
ولا يُعْتَقُ[(6)] عبدٌ قيل له: إن لم أحجَّ العامَ فأنت حرّ، فشهدا(7) بنحرِه(8) بكوفة(9) )، هذا عند [أبي حنيفة و](10) أبي يوسف - رضي الله عنهم -، وأمَّا عند محمَّد - رضي الله عنه - يعتق؛ لأنَّه قامَتْ شهادتُهما على أمرٍ معلوم، وهو التَّضحيةُ بكوفة، ومن ضرورتِه عدمُ الحجّ، وهو شرطُ العتق.
__________
(1) قوله وأما عند أبي يوسف الخ الاولى أن يذكر هذا الاختلاف بعد قوله المسجد الحرام لوجود الخلاف فيه أيضاً ووجه قولهما أن الحرم الشامل على الكعبة وكذا المسجد الحرام فصار ذكرهما كذكره بخلاف الصفا والمروة لانهما انفصلا عنه وله أن التزام الاحرام هذه العبارة غير متعارف كذا في الهداية وذكر في الفتح وغيره أن هذا الخلاف خلاف عصر وزمان
(2) في ص و ف و م: فيلزم.
(3) في م: أو المسجد أو المسجد الحرام.
(4) في أ و ب و س و ف: أو.
(5) لأن التزام الحجّ والعمرة بهذه الألفاظ غير متعارف عنده خلافاً لهما. ينظر: ((الهداية))(2: 91).
(6) قوله لا يعتق الخ يعني لو قال المولى أن لم احج في هذه السنة فانت حر ثم ادعى انه حج فيها وأنكره العبد واتى بشاهدين يشهد انه نحرا ضحية يوم نحر بكوفة لا تقبل هذه الشهادة ولا يعتق العبد عندها خلافا لمحمد رح هذه شهادة النفي حاصلة أي الشهادة انما هي لاثبات شيء ولا تقبل الشهادة على النفي وهنا قامت الشهادة على نفي الحج في هذا العام فلا تقبل فان قلت الشهادة هنا قامت على امر وجودي وهو التضحية بكوفة مثلا فيلزم أن تقبل قلت هي شهادة بلا مطالب فان المدعي انما مدعاة اثبات انه لم يحج العام لا اثبات التضحية بكوفة ولا عبرة بالشهادة بدون الدعوى
(7) في م: شهدا.
(8) في س: بنحوه، وفي ف: بنحره.
(9) في ف و ق: الكوفة.
(10) سقطت من م.
(5/348)
________________________________________
وقالا(1): هذا(2) شهادةٌ على النَّفيّ، [والشَّهادةُ على النَّفي غيرُ مقبولة](3).
فنقول[(4)](5): النَّفيُّ الذي يحيطُ به علمُ الشَّاهد، هو مثلُ الإثبات على ما بُيِّنَ[(6)] في أصولِ الفقة(7) في
__________
(1) في م: وقال.
(2) أ و ف: هذه.
(3) زيادة من ب و س و ف و م.
(4) قوله فنقول الخ هذا رد على دليلهما وترجيح لمذهب محمد وحاصله أن عدم قبول الشهادة على النفي مطلقا غير صحيح بل النفي الذي يحيط به علم الشاهد مثل الاثبات فتقبل الشهادة عليه وروى صلى دليلهما أيضاً بما في المبسوط بان الشهادة على النفي تقبل في الشروط حتى لو قال لعبده أن لم تدخل الدار اليوم فانت حر فشهد انه لم يدخلها قبلت ويقضي بعتقه ومن المعلوم أن ما نحن فيه مثله فيلزم قبول الشهادة هنا أيضاً واجيب عنه بانها انما لا تقبل هناك لانها قامت على امر معاين وهو كونه خارج البيت فيثبت النفي ضمن أو لعترض عليه في الفتح بان العبد كما لا حق له في التضحية لا حق له في الخروج فاذا كان مناط القبول كون المشهود به امر أو وجوديا متضمنا للمدعي به كذلك يجب قبول شهادة التضحية المتضمنة للنفي فقول محمد اوجه انتهى
(5) في س: فتقول، وفي ب و ف: فيقول.
(6) قوله على ما بين الخ قال الشارح في تنقيح الاصول أما إذا كان احدهما مثبتا والاخر نافيا فان كان النفي يعرف بالدليل كن مثل الاثبات وأن كان لا يعرف به بل بناء على العدم الاصلي فالمثبت اولى لما قلنا في المحرم والمبيح وأن احتمل الوجهين ينظر فيه وعلى هذا الاصل يتفرع الشهادة على النفي انتهى
(7) في س: النفقة. قال الشارح في ((التنقيح)) في (باب المعارضة والرجيح) (2: 218): وأما إذا كان أحدهما مثبتاً والآخر نافياً فإن كان النفي يعرف بالدليل كان مثل الإثبات وإن كان لا يعرف به بل بناءً على العدم الأصلي فالمثبت، أولى لما قلنا في المحرم والمبيح وإن احتمل الوجهين ينظر فيه... وعلى هذا الأصل يتفرع الشهادة على النفي.اهـ.
(5/349)
________________________________________
التَّرجيح(1).
(وحنثَ[(2)] بصومِ ساعةٍ بنيَّةٍ[(3)](4) في لا يصوم، لا لو ضم(5) يوماً، أو صوماً حتَّى يتمَّ يوماً[(6)])(7)؛ فإن قلتَ[(8)] الصَّومُ الشَّرعيّ، هو صومُ
__________
(1) ظاهر ما ذكره الشارح يقتضي ترجيح قول محمد - رضي الله عنه -، وقد قال عنه ابن الهمام في ((الفتح))(5: 186): أوجه.
(2) قوله وحنث الخ يعني إذا قال لا يصوم بدون ذكر لفظ اليوم أو الصوم فصام ساعة بنية الصوم حنث سواء اتم صومه أو افطر بوجود شرطه وهو الصوم الشرعي إذ هو الامساك عن المفطرات على قصد التقرب وقد وجد تمام حقيقة وما زاد على أو في امساكه في وقته فهو تكرار للشرط ولهذا يقال عرفا وشرعا لمن لا يتم صومه صام فافطر كذا في الفتح
(3) قوله بنية احتراز عما إذا لم ينو الصوم وامسك بلا نية فانه لا يسمى صائما لا شرعا ولا عرفا فلا يحنث
(4) في ص و ق: بنيته.
(5) العبارة في م: كما لو صمت.
(6) قوله حتى يتم يوما أي يحنث بعد تمام صوم يوم لا قبله لانه مطلق فينصرف إلى الكامل في صوما وأما فييوم فظاهر لأن اليوم يراد به النهار بتمامه إذا ذكر معه ما يمتد فان قلت المصدر مذكور بذكر الفعل فلا فرق بين حلفه لا يصوم ولا يصوم يوما فينبغي أن لا يحنث في الاول الا بيوم لانا نقول الثابت في ضمن الفعل ضروري لا يظهر اثره في غير تحقق الفعل بخلاف الصريح فانه اختياري يترتب عليه حكم المطلق فيوجب الكمال كذا في الفتح
(7) لأنه لو ضمّ يوماً يكون صريحاً في تقدير المدة، وفي ضمّ صوماً أكَّد الصوم فينصرف إلى الكامل وهو الصوم المعتبر شرعاً. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 283).
(8) قوله فان قلت الخ ايراد على ما مر من الحنث بصوم ساعة في لا يصوم وحاصله انه قد تقرر في مقره أن الحقيقة الشرعة مقدمة على الحقيقة اللغوية ومن المعلوم أن الصوم شرعا هو صوم اليوم وأن كان في صفة يطلق على صوم ساعة أيضاً فينبغي أن لا يحنث في لا يصوم الا بعد تمام اليوم حملا له على معناه الشرعي
(5/350)
________________________________________
اليوم، واللَّفظُ إذا كان له معنى لغويّ، ومعنى شرعيٌّ يحملُ على المعنى الشَّرعيّ[(1)].
قلت[(2)]: الشَّرعُ قد أطلقَهُ على ما دونَ اليوم في قولِهِ تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامِ إِلَى اللَّيْل}(3)، فالصَّومُ التَّام صومُ يوم، فإذا قال: لا أصومُ يوماً، أو لا أصومُ صوماً، يرادُ به الصَّومُ التَّام.
__________
(1) قوله يحمل على المعنى الشرعي ولهذا حمل قوله تعال اقيموا الصلاة واتو الزكوة وغيرهما على المعاني الشرعية دون اللغوية
(2) قوله قلت جواب عن الايراد وحاصله أن صوم ساعة أيضاً صوم شرعي غاية الامر أن المفروض هو صوم تمام اليوم ولا يلزم منه أن لا يكون ما دونه صوما شرعا
(3) البقرة، (187).
(5/351)
________________________________________
(وبركعةٍ[(1)] في لا يصلِّي لا بما دونَها، ولم ضَمَّ صلاة فبشفعٍ[(2)] لا بأقلّ(3).
وبولدٍ ميِّتٍ[(4)] في: إن وَلَدْت فأنت كذا.
__________
(1) قوله بركعة تمامها بنفس السجود أي وضع الجبهة على الارض ن غير توقف على رفع الرأس والوجه فيه أن الصلاة عبارة عن افعال مختلفة فما لم يات بها لا تسمى صلاة بخلاف الصوم فانه ركن واحد ويتكرر بالجزء الثاني فان قلت العقدة من اركان الصلاة ولا توجد في ركعة واحدة فيجب أن لا يحنث بها لعدم وجود تمام حقيقتها قلت الاركان الحقيقية هي القراءة والقيام والركوع والسجود والقعدة ركن زائد وجب المختم فلا يعتبر في الحنث كذا في الفتح***
(2) قوله: فبشفع؛ أي فيحنث بشفعٍ وأقلّه ركعتان لا بأقلّ منهما؛ لأنّه لمّا زادَ لفظُ صلاة حملَ على الكامل، والكاملُ من الصلاة هوالشفع، وما دونَ ذلك صلاة بتيراء، وهل يتوقّف حنثه على قعودِه قدرَ التشهد بعد الركعتين، اختلفوا فيه: فذكرَ في ((العناية)): إنّه يتوقّف عليه؛ لأنَّ الصلاةَ لا تعتبرُ شرعاً بدونه، وصلاةُ الركعتينِ عبارةٌ عن صلاةٍ تامّة، وتمامها شرعاً لا يكون إلا بالقعدة، وذكرَ في ((الفتح)): إنّ الأظهرَ أنّه إن عقدَ يمينه على مجرَّدِ الفعلِ يحنثُ قبل القعدة، لما مرّ من أنّها ركنٌ زائد، وإن عقدها على الفرضِ كصلاةِ الصبح أو ركعتي الفجرِ ينبغي أن لا يحنثَ حتى يقعد.
(3) في ب و س و م: بأقله.
(4) قوله: وبولد ميّت... الخ؛ يعني يحنثُ بولد ولدَ ميتاً في قوله لزوجته: إن ولدت فأنت طالق، أو لأمته: إن ولدت فأنت حرّة؛ لأنَّ مطلقَ الولادة موجود، وولادةُ الولدِ الميت أيضاً ولادةٌ شرعاً وعرفاً.
(5/352)
________________________________________
وعُتِقَ الحيُّ[(1)] في: إن ولدت فهو حرّ، إن ولدتِ ميِّتاً ثُمَّ حيَّاً)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وأمَّا عندهما فلا يعتق؛ لأنَّ اليمينَ انحلَّت[(2)] بولادةِ الميِّت.
قلنا: لم تنحلّ(3)؛ لأنَّ قولَهُ: إن ولدت؛ المرادُ به الحيُّ[(4)] بقرينةِ قولِهِ: فهو حرّ؛ لأنَّ الميِّت لا يمكنُ حريَّتُه[(5)].
__________
(1) قوله: وعتق الحيّ... الخ؛ يعني إذا قال: إن ولدتِ ولداً فذلك الولدُ حرّ، فولدت ميتاً، ثمّ حيَّاً يعتقُ الحيّ، ولا تنحلّ اليمينُ بولادةِ الميّت؛ لأنَّ قوله: فهو حرّ قرينةٌ مقيّدة للولادةِ بولادة الحيّ لعدمِ إمكانِ حريّة الميّت.
(2) قوله: انحلّت؛ لأنَّ اليمينَ تنحلّ بوجودِ الشرط، وهو هاهنا مطلقُ الولادة، وقد وجدَ في ولادةِ الميّت، فلم يبقَ لليمين أثرٌ بعد ذلك ليحكمَ بعتقِ الولد الثاني، وجوابه: إنّا لا نسلّم أنَّ المرادَ بالولادةِ هاهنا مطلقها، بل المرادُ ولادة الحيّ بقرينةِ حكمِ حريّة الولدِ المختصّ بالحيّ، فلا تنحلّ اليمينُ بولادةِ الميت، بخلافِ قوله: إن ولدتِ فأنت حرّة، فإنّه لا قرينةَ هناك تخصّ الولادةِ بولادة الحيّ.
(3) في أ: يتحل.
(4) قوله: المراد به الحيّ؛ ضميرُ به راجعٌ إلى قوله: إن ولدت، والمضاف محذوف؛ أي ولادةُ الحيّ، أو يقال: ضميرُه راجعٌ إلى المولود، المفهوم من قوله: ولدت.
(5) قوله: لا يمكن حريّته؛ أي جعله حرَّاً؛ لأنَّ الحريّة فرعُ وجودِ الرقيّة، ولا رقيّة بعد الموت، فلا حريّة.
(5/353)
________________________________________
(وفي: ليقضينَّ دينَهُ اليوم، وقضاهُ زيوفاً[(1)]، أو نبهرجة[(2)]، أو مستَحَقَّة(3)[(4)]، أو باعَه به[(5)] شيئاً وقبضَه بَرّ[(6)
__________
(1) قوله: زيوفاً؛ بضمِ الزاي المعجمة، جمع زيف، كفلس وفلوس، وهي المغشوشةُ التي يتجوّز بها التجّار، ويردّها بيت المال، ولفظُ الزيافةِ غير عربيّ، وإنّما هو من استعمالِ الفقهاء. كذا في ((النهر)) و((الفتح))، وفي ((كليّات)) أبي البقاء: الزيفُ هو الدرهمُ الذي خلطَ به نحاسٌ أو غيره، ففاقت صفةُ الجودةِ فيردّه بيتُ المالِ لا التجّار. انتهى.
(2) قوله: أو بنهرجة؛ بفتح النون، وفتح الباء الموحدة، بعدها باء ساكنة، ثمّ راءٌ مهملة مفتوحة، ثمّ جيم، هو لفظ غير عربيّ، وأصله بنهرة، وهو الخطّ، أي خطّ هذه الدراهمِ من الفضّة أقلّ، ولذا يردّها التجار أي المستقصي منهم، والمسهل منهم يقبلها. كذا في ((النهر)).
(3) مسَتَحَقَّة: أي أثبت الغير أنها حقَّه. ينظر: ((رد المحتار))(3: 133).
(4) قوله: أو مستحقة؛ على صيغةِ اسم المفعول من الاستحقاق؛ أي التي استحقّها رجل بأن ادّعى أنها ملكه.
(5) قوله: أو باعه به؛ أي بالدين، يعني باعَ المديونُ الحالفُ بذلك الدَّين الذي حلفَ بقضائه شيئاً واشتراهُ الدائنُ بعوضِ دينه وقبضه.
(6) قوله: بر؛ أي صار بارَّاً في هذه الصورِ لا حانثاً؛ أمّا في صورةِ الزيوفِ والنبهرجة فلأنّهما من جنسِ الدراهم؛ لكونِ الفضّة غالبةً فيهما على الغشّ، والحكمُ للغالب، ولهذا لو تجوّز بهما في بيعِ السلم والصرف جاز، ولو لم تكن من جنسِ الدراهم كان هذا استبدالاً وذا لا يجوزُ في الصرفِ والسلم، وهذا بخلافِ الستوقة والرصاص، فإنّهما لا يعدّان من جنس الدراهم، ولهذا لا يجوزُ التجوّز بهما في بيعِ الصرفِ والسلم، فلا يكون قضاؤها قضاءً لدينه، فيصيرُ حانثاً، وأمّا في صورةِ قضاءِ الدراهم المستحقّة، فلأنّها دراهمُ حقيقة، وكونها مستحقّة لا يمنعُ القضاء؛ لأنَّ قبضَ المستحقّة موقوف، حتى لو أجازَ مستحقّها جازَ القضاءُ بها، وأمّا في صورةِ البيعِ ونحوه ممّا تحصلُ به المقاصّة؛ فلأنّ الديونَ تقضي بأمثالها، وقضاءُ المبيع بعوضِ الدين قضاءٌ له، وذكرُ القبضِ فيه تبعاً لما ذكرَه محمّد رح اتّفاقيّ؛ لأنَّ البرّ وقضاء الدين يحصلُ بمجرّد البيع، حتى لو هلكَ المبيعُ قبل القبضِ انفسخ البيع، وعاد الدّين، وإنّما نصّ على القبضِ ليتقّرر الدّين على ربّ الدّين، فتحصلُ المقاصّة، وهذا بخلافِ ما إذا وهب الدائن الدين للمديون، فإنّه لا يبرأ الحالفُ فيه؛ لأنَّ الهبةَ إسقاطٌ لا مقاصّة، فلم يوجد القضاء. كذا في شروح ((الجامع الكبير)).
(5/354)
________________________________________
]، ولو كان سَتُّوقة، أو رصاصاً، أو وهبه(1) له لا)(2)، سيجيءُ في مسائلَ شتى[(3)] من (كتاب القضاء)(4): إن الزَّيف ما يردُّهُ بيتُ المال، والنَّبهرجةُ ما يردُّه[(5)] التُّجار، والسَّتُّوقة ما غلبَ غُشُّه، فالزَّيفُ(6) والنَّبهرجةُ ما يكون الفضّةُ غالبةً على الغشِّ حتى يكون من جنسِ الدَّراهم، لكن يُرَدُّ(7) للغشّ.
وفي ((المغرب)) قيل: الزَّيفُ(8) دون النَّبهرجة(9) في الرَّداءة؛ لأنَّه يردُّهُ بيتُ المال، والنَّبهرجة(10) ما يردُّهُ التُّجار(11).
__________
(1) في ب و س و م: وهب.
(2) أي لا يبرأ، أما الستوقة والرصاص فلأنهما ليسا من جنس الدراهم حتى لا يجوزُ التَّجوز بهما في الصرف والسلم، وأما الهبة فلعدم المقاصّة. ينظر: ((درر الحكام))(2: 56).
(3) قوله: في مسائل شتّى؛ بفتح الشين المعجمة، وتشديد التاء المثنّاة الفوقيّة المفتوحة، جمع شتيت؛ أي متفرّقة، وقد جرت عادتهم في آخرِ الكتابِ أو البابِ ذكر مسائلَ متفرّقة متعلّقة به، وتسميتهم لها بمسائلَ متفرّقة أو مسائل شتّى.
(4) ص ).
(5) قوله: ما يردّه؛ فهي أدونُ من الزيوف، فإنّ التجَّار متسامحون في أخذِ ما لا يتسامح فيه بيتُ المال.
(6) في ف: فالزيوف.
(7) في م: ترد.
(8) في ف: فالزيوف.
(9) وقع في ((المغرب)): البهرج، والمثبت من النسخ.
(10) وقع في ((المغرب)): البهرج، والمثبت من النسخ.
(11) انتهى من ((المغرب))(ص215)، بتصرف يسير.
(5/355)
________________________________________
(وفي: لا يقبضُ دينه درهماً دون درهمٍ[(1)] حنث بقبضِ كلِّه متفرِّقاً، لا ببعضِه دون باقيه(2)[(3)]، أو كلِّه[(4)](5) بوزنينِ لم يتخلْلهما إلاَّ عمل الوزن(6).
__________
(1) قوله: درهماً دون درهم؛ أي لا يقبضه حال كونِ درهم منه مخالفاً لدرهمٍ آخرَ في كونه غير مقبوض؛ أي لا يقبضه متفرّقاً بل جملة، فالجموع في تأويلِ حالٍ مشتقّة، فهو مثل: ((يداً بيد)) أي متقابضين. كذا في ((رد المحتار)).
(2) فلا يحنث ما دام على المديون منه شيء، ولو قيّد باليوم لم يحنث؛ لان الشرط أخذ الكل في اليوم متفرّقاً. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 582).
(3) قوله: لا ببعضه دون باقيه؛ أي لا يحنثُ بمجرّد قبضِ البعض، بل يتوقّف حنثه على قبضِ باقيه، فإذا قبضه حنث، وذلك لأنّه أضافَ القبضَ المتفرّق إلى كلّ الدّين حيث قال: ديني، وهو اسمٌ للمجموع، ولا يصدقُ قبضُ الكلّ متفرّقاً إلا بعد قبضِ الكلّ لا يقبضُ البعض، فلو قال: من ديني، حنثَ بقبض البعض؛ لأنَّ شرطَ الحنث هاهنا قبضُ البعضِ من الدين متفرِّقاً، ولو قيّد باليومِ فقبض البعض فيه متفرّقاً، أو لم يقبضْ شيئاً لم يحنث؛ لأنَّ الشرطَ أخذه متفرّقاً ولم يوجد. كذا في ((الفتح)) و((البحر)).
(4) قوله: أو كلّه؛ عطفٌ على قوله: بعضه؛ أي لا يحنثُ بقبض كلّه متفرّقاً بتفرّق ضروري؛ لأنّه لا يعدّ تفرّقاً عرفاً، كأن يقبضه كلّه بوزنين لم يفصلْ بينهما بشيء، فإنّه ما دام في عملِ الوزنِ لا يسمّى متفرّقاً.
(5) العبارة في ف: دون أو باقيه كله.
(6) لأنه لا يعد تقريقاً عرفاً ما دام في عمل الوزن، وهذا إذا لم يتشاغل بين الوزنين بعم آخر. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 582).
(5/356)
________________________________________
ولا في: إن كان لي إلاَّ مئةً فكذا(1)، ولا يملكُ إلاَّ خمسين[(2)])، هذا بناءً على أن الاستثناءَ عندنا[(3)
__________
(1) أي فأمرأةٍ طالق طالقٌ مثلاً.
(2) قوله: ولا يملك إلا خمسين؛ أي والحالُ أنّه ليس في ملكِهِ إلا خمسون، والمرادُ به أنّه يملكُ أقلّ من المائة، وكذا الحالُ إذا كان مالكاً للمائة بالطريق الأولى، والوجه في ذلك أنَّ غرضَ القائلِ بهذا الكلام نفيُ الزيادةِ على المائة، لا نفي القلّة فلا يحنثُ إذا كان مالكاً للمائة أو أقلّ منها، فإن كان مالكاً للزيادةِ حنثَ لو كانت الزيادةُ من جنسِ ما تجبُ فيه الزكاة كالنقدين والسائمةِ وعروضِ التجارة، وإن قلت: الزيادةُ ولو كانت من غيرِه لم يحنث؛ لأنَّ المستثنى منه عرفاً هو المالُ لا الدراهم، ومطلقُ المالِ ينصرفُ إلى ما تجبُ فيه الزكاة، كما لو قال: والله ليس لي مال، أو قال: مالي في المساكين صدقة، وهذا بخلافِ ما لو أوصى بثلثِ ماله أو استأمنَ الحربيّ على ماله، حيث يعمّ جميعَ الأموال؛ لأنَّ الوصيّة خلافه كالميراث، ومقصودُ الحربيّ الغنيّة له بماله. كذا في ((شرح تلخيص الجامع الكبير)).
(3) قوله: عندنا؛ قال أبو البقاء الكوفيّ في ((كليّاته)): الاستثناءُ من النفي إثبات، كقولك: ليس له على شيءٌ إلا عشر، فتلزمه عشرة ،وبالعكسِ كقولك له: عليّ عشرة إلا خمسة، فتلزمه خمسة، هذا عند الشافعيّن فقال أبو حنيفة: الاستثناء تكلّم بالباقي بعد الثنايا، بمعنى أنّه استخراجٌ صوريّ وبيانٌ معنويّ، إذ المستثنى لم يرد أوّلاً، نحو قوله تعالى: {فلبث فيهم الف سنة الا خمسين عاماً} والمرادُ تسعمائة سنة، قال البرماويّ: ما قاله الشافعيّ رح موافقٌ لقول سيبويه والبصربّين وهو مذهب الجمهور، وما قال أبو حنيفةَ موافقٌ لقولِ نحاةِ الكوفة؛ لأنّه كوفيّ، وأمّا الإجماعَ المنعقدَ على أنَّ لا الله إلا الله يفيدُ التوحيد، ولو من الدهري، وذلك لا يحصلُ إلا بالإثباتِ بعد النفي، فالجواب: إنّ إفادةَ كلمةَ التوحيدِ الإثباتُ بعد النفي بالعرف الشرعيّ، وكلامنا في الوضعِ اللغويّ. انتهى.
(5/357)
________________________________________
] تكلَّم بالباقي بعد الثُّنيا(1)، وليس الاستثناء من النَّفي إثباتاً، فإن قولَهُ: إن كان لي إلاَّ مئةً فكذا معناهُ ليس لي إلاَّ مئةً، فهو لنفي ما فوق المئة(2)[(3)]، وأمَّا إثباتُ المئةِ فغيرُ لازمٍ عندنا[(4)].
__________
(1) أي بما بقي من المستثنى منه بعد الاستثناء. ينظر: ((العناية))(4: 142).
(2) فإن صدرَ الكلام أي المستثنى منه، وهو المال تناول المائةَ وما فوقَها، والاستثناء دلّ على نفي ما عدا المستثنى، فكأنه قال: لا أملك ما فوق المئة فإن كنت مالكاً له فكذا. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 265).
(3) قوله: فهو لنفي ما فوق المئة؛ فإنَّ صدرَ الكلامَ أي المستثنى منه، وهو المالُ تناولَ المئةَ وما فوقَها، والاستثناء دلّ على نفي ما عدا المستثنى، فكأنّه قال: لا أملك ما فوق المئة، فإن كنت مالكاً له فكذا.
(4) قوله: فغير لازمٍ عندنا؛ فلا يضرّ ملكُ الأقل، فلا يحنثُ بملكِ الأقلّ كما لا يحنثُ بملك المائة.
(5/358)
________________________________________
(ولا في: لا يشمُّ[(1)] ريحاناً[(2)] إن شمَّ ورداً، أو ياسميناً)؛ لأنَّ الرَّيحانَ ما لا ساقَ له، والوردُ والياسمين لهما ساق، (والبنفسجُ[(3)] والوردُ على الورق)(4): أي ورقُ الوردِ دون أعجاز الوردِ التي عليها الورق.
باب الحلف(5) بالقول(6)
[فصل اليمين في الكلام والبيع والشراء والتزوج وغير ذلك]
__________
(1) قوله: لا يشم؛ بفتح الياءِ والشين المعجمة، وتشديد الميم، من: شممتُ الطيب، بكسر الميم في الماضي، وجاء في لغةٍ فتح الميم في الماضي وضمّها في المضارع. كذا في ((النهر)).
(2) قوله: ريحاناً؛ قيل: هو ما طابَ ريحه من النبات، وقيل: هو ما لساقه رائحةٌ طيّبة كالورد، وقيل: هو ما لا ساقَ له من البقول، ممّ‍ا له رائحة مستلذة، والمدارُ في ذلك على العرف، ولذا قالوا: يحنث في لا يشتري بنفسجاً أو ورداً بشراء ورقمها، لا بشراءِ وهنهما. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: والنفسج؛ بفتح الباءِ الموحَّدة والنون، وسكون الفاء، وفتح السين المهملة، آخره جيم معرب بنفشه.
(4) أي يقعان على ورقهما، فلو حلف أن لا يشتري بنفسجاً أو ورداً يقع على الورق. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص153).
(5) في ت و ج و س و ص و ف: حلف.
(6) في ت و ص و ف و ق: القول. وفي س: بالقبول.
(5/359)
________________________________________
(وحنثَ في: [حلفَ](1) لا يكلِّمُهُ إن كلَّمَه نائماً بشرطِ إيقاظِه[(2)].
__________
(1) سقطت من ق، وفي م: حلفه.
(2) قوله: بشرط إيقاظه؛ أي ذلك النائم، وكثيرٌ من المشايخِ لم يشترطوا الإيقاظ، ووجّهوه على ما في ((النهاية)): إنّ التكلّم عبارةٌ عن استماعه كلامه، كما في تكلمه نفسه، فإنّه عبارةٌ عن إسماعِ نفسه، إلا أنَّ إسماع الغيرِ أمرٌ باطنٌ لا يوقف عليه، فأقيمَ السببُ المؤدّي إليه مقامه، فهو أن يكون بحيث لو أصغى إليه إذنه، ولا يكون به مانع من السماع لسمع، ودار الحكم معه، وسقطَ اعتبارُ حقيقة الإسماع، والمختارُ أنّه لو ايقظه حنث، وإلا لا؛ لأنّه إذا لم يتنبّه كان كما إذا ناداه من بعيد، وهو بحيث لا يسمعُ صوته.
(5/360)
________________________________________
وفي:[(1)] إلاَّ بإذنه[(2)]): أي وحنثَ في: حلفَ(3) لا يكلِّمُهُ إلاَّ بإذنه، (إن أذنَ(4) ولم يعلمْ به[(5)] فكلَّمه)؛ لأنَّ الإذنَ إعلام، فإن أذنَ ولم يعلمْ، فهذا لا يكون إذناً، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه - لا يحنثُ؛ لأنَّ الإذنَ هو الإطلاق(6)[(7)].
__________
(1) قوله: وفي؛ عطفٌ على قوله: في حلفَ لا يكلّمه... الخ؛ وكذا نظائره الآتية، وقوله: الآتي وبفعل وكيله... الخ.
(2) قوله: إلا بإذنه؛ ولو قال: إلا برضاه، فرضى المحلوفُ عليه بالاستثناء، ولم يعلمه الحالفُ لا يحنثُ اتّفاقاً، واستشهدَ به أبو يوسفَ فيما نحن فيه، فقال: لا يحنثُ في صورةِ الإذن أيضاً إذا لم يعلمه الحالف، ونحن نقول: الرضا يتمّ بالراضي، ولا يتوقّف وجودَه على علمِ الغير، فلا يحنثُ بوجودِه علمَ أو لم يعلم، بخلافِ الإذن، فإنّه مشتقٌّ من الأذانِ الذي بمعنى الإعلام، أو من الوقوعِ في الإذن، وكلّ ذلك لا يتحقّق إلا بالسماع، وما في حكمه، فما لم يصل خبرُ الإذن إلى الحالفِ لا يسمّى ذلك إذناً. كذا في ((النهاية)) و((العناية)).
(3) في م: حلفه.
(4) في ق: أذنه.
(5) قوله: ولم يعلم به؛ فيه إشارةٌ إلى أنّه لا يكتفي بمجرّد السماع، بل لا بدّ معه من العلم، حتى لو خاطبه بلغةٍ لا يفهمهما لا يعتبرُ ذلك، وإلى أنَّ السماعَ ليس بواجبٍ في حصولِ الإذن، بل يكفي العلمُ وبه لو بالكتابةِ أو الإشارة.
(6) أي إجازة وإباحه وهو يتمُّ بالإذن كالرضاء. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 266).
(7) قوله: هو الإطلاق؛ أي إجازة وإباحه، وهو يتمُّ بالإذن كالرضاء وقد مرّ الفرقُ بينهما.
(5/361)
________________________________________
(وفي: لا يكلِّم صاحبَ هذا الثَّوب[(1)] فباعَه فكلَّمَه.
وفي: لا يكلِّمُ[(2)] هذا الشَّابَّ فكلَّمَه شيخاً)؛ لأنَّ الوصفَ المذكورَ لا يصلحُ مانعاً[(3)] من التَّكلُّم فيرادُ الذَّات.
__________
(1) قوله: وفي لا يكلّم صاحب هذا الثوب... الخ؛ يعني لو قال: لا أكلّم صاحب هذا الثوب فباعَ ذلك الرجلُ ذلك الثوبَ وكلّمه الحالفُ بعد ذلك حنث؛ لأنَّ الإضافةَ للتعريف، والوصفُ لغو إذا لم يكن باعثاً على اليمينِ كما مرّ، ومن المعلومِ أنَّ الإنسان لا يعادي بمعنى كونه مالكاً لثوبِ خاصّ، فصار كأنّه قال: لا أكلّم هذا الرجل، فتعلّقت يمينُهُ بذاته، ولذا لو كلّم المشتري لذلكِ الثوب لم يحنث، وإن صار صاحبُ ذلك الثوب، ومثله صاحب هذه الدار، وصاحب هذا المكان، ونحو ذلك.
(2) قوله: وفي لا يكلّم؛ يعني إذا حلفَ لا يكلّم هذا الشابّ فكلّم ذلك الرجلَ زمانَ شيخوخته حنث، وكذا في لا يكلّم هذا الصبيّ فكلَّمه بعدما صار شابَّاً أو شيخاً حنثَ لما مرّ من أنّ الوصفَ في الحاضرِ لغوٌ إذا لم يكن داعياً إلى اليمين، ونحوه الحلفُ بقوله: لا يأكل من لحم هذا الحمل، وهو بفتحتين ولدُ الشاة، فأكله بعدما صارَ كبشاً حلف؛ لأنَّ هذه الصفاتُ غير داعيةٍ إلى اليمين، فإنّ وصفَ الصبا أو الشابّ لا دخلَ له في امتناعِ تكلّمه، وكذا وصفُ الصغرِ في الحمل، وهذا كلّه إذا لم ينوي الحالفُ شيئاً، فإن كان حالفَ عرف عدم طيب لحم الحملِ ما دامَ حملاً، فحلفَ بعدم أكله من حيث كونه مضرّاً أو عرفَ من الصبيّ سوء أدب وجهل، فحلفَ بعدمِ الكلام معه، أو عرفَ أنَّ الكلامَ مع الشابّ ما دامَ شابّاً يضرّ في دينه أو دنياه، فامتنعَ منه تحملُ هذه الأيمانُ على مدّة بقاءِ تلك الأوصاف. كذا حقّقه في ((الفتح)).
(3) قوله: لا يصلح مانعاً... الخ؛ أشار به إلى ضابطةٍ مرّ ذكرها غير مرّة، وهي أنَّ الوصفَ إذا كان باعثاً على اليمينِ كان معتبراً، وإذا لم يكن باعثاً صار لغواً.
(5/362)
________________________________________
(وفي: هذا حرٌّ إن بعتُه أو اشتريتُه إن عقدَ[(1)] بالخيار[(2)]): أي إذا قال: إن بعتَهُ فهو حرّ، فباعَهُ على أنَّه بالخيار يعتق؛ لأنَّه لم يخرجْ عن ملكِه[(3)]، وقد وُجِدَ الشَّرط، وهو البيع(4)، ولو قال: إن اشتريتُه، فهو حرٌّ فشراهُ على أنّه بالخيار عُتِق.
أمَّا على أصلِهما؛ فلأنَّه دخلَ في ملكِ المشتري.
وأمَّا على أصلِ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ فلأنَّه علَّقَ العتقَ[(5)] بالشِّراء، فكأنَّه قال بعد الشِّراء بالخيار، فهو حرٌّ فيعتق.
__________
(1) قوله: إن عقد؛ أي باعَ أو اشترى بالخيار، وأمّا إذا عقدَ عقداً باتّاً، ففي صورةِ البيع لا يعتقُ لزوالِ العبد عن ملكه بمجرّد البيع، و((لا عتقَ في ما لا يملكُ ابن آدم)) بنصّ الحديث، وفي صورةِ الشراءِ يعتقُ لوجودِ الشراءِ والملك. كذا في ((العناية)) وغيرها.
(2) قوله: بالخيار؛ أي خيار الشرط ثلاثة أيّام فما دونها، وحكمه أنّه يمنعُ خروجَ المبيع إن كان الخيارُ للبائعِ اتّفاقاً، وإن كان للمشتري لا يمنعُ خروجه عن ملكِ البائعِ اتّفاقاً، وهل يمنع دخوله في ملكِ المشتري، فيه خلاف: فعنده يمنع، وعندهما لا، وستطَّلع على تفصيلِ هذا البحثِ في موضعِه من (كتاب البيوع) إن شاء الله تعالى.
(3) قوله: لم يخرج عن ملكه؛ بناءً على أنَّ خيارَ البائع يمنعُ خروجه عن ملكه.
(4) أما إن باعه بيعاً لازماً أو باطلاً لم يعتق، أما في الباتّ فلأنه كما تمّ البيع زال الملك والجزاء لا ينْزل في غير الملك. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 287).
(5) قوله: فلأنّه علّق العتق... الخ؛ حاصله أنّه علَّق العتقَ بالشراء، حيث قال: إن اشتريه فهو حرّ، والمعلّق كالمنجزِ بعد وجودِ الشرط، ولو نجزَ العتقُ بعد الشراءِ بالخيار يثبت الملك سابقاً عليه بفسخِ الخيار، فكذا هذا.
(5/363)
________________________________________
(وفي: إن لم أبعْه فكذا، فأعتق أو دَبَّر[(1)]): أي قال: إن لم أبعْهُ فكذا: أي امرأتُهُ طالق، فاعتقَه أو دَبَّرَه طَلُقَتْ امرأتُه؛ لأنَّ الشَّرطَ وهو عدمُ البيعِ قد تحقَّق[(2)].
__________
(1) قوله: فأعتقَ أو دبّر؛ أي أعتقَ الحالفُ ذلك العبدَ أو الأمةَ أو جعلَه مدبَّراً، قال في ((العناية)): هذا في إعتاقِ العبد ظاهر، وأمّا في التدبيرِ والأمةِ فلا بدّ من بيان؛ لأنَّ المدبَّر يجوزُ بيعه إذا قضى القاضي بجوازِ بيعه، والأمة يجوزٌ أن ترتدّ، فتسبى بعد اللحاقِ بدار الحرب، وذلك أن يقال: بيعُ المدبّر لا يجوز، فالظاهرُ أنَّ المسلمَ لا يقدمُ عليه، فإن أقدم فالظاهر أنّ القاضي لا يقدمُ على القضاءِ بما لا يجوز، ومع ذلك فالأصلُ عدم ما يحدث، فكان عدم فواتِ المحليّة بناءً على جوازِ القضاءِ ببيعِه مخالفاً للظاهرِ من كلّ وجه، فلا يكون معتبراً، وأمّا الأمة فإنّ من مشايخنا مَن قال: لا تطلقُ امرأته في التعليقِ بعدمِ بيعها باعتبار هذا الاحتمال، والصحيحُ أنّها تطلق؛ لأنّه إنّما عقدَ يمينه على البيعِ باعتبارِ هذا الملك، وقد انتهى ذلك الملكُ بالإعتاقِ والتدبير.
(2) قوله: قد تحقّق؛ لأنَّ اليمين وإن كانت مطلقةً غير مقيّدة بوقتٍ لكن انتهى ذلك بفواتِ المحليّة، فإنّ بعد العتقِ والتدبيرِ لا يتصوّر بيعه؛ لخروجه عن ملكه في الأوّل، واستحقاقه العتق في الثاني.
(5/364)
________________________________________
(وبفعلِ وكيلِه [(1)] في حلفِ النِّكاح[(2)]، والطَّلاق[(3)]، والخلع، والعتق، والكتابة، والصُّلْحِ عن دمٍ عمد[(4)
__________
(1) قوله: وكيله؛ الأولى أن يقول: مأموره، فإنّه اعترضَ في ((البحر)) على قول صاحب ((الكنْز)): فعل وكيلِه بأنّ الاستقراضَ لا يصحّ التوكيل به، وأجابَ عنه في ((النهر)) بأنّه إنّما خصّ الوكيلَ لتعلّم الرسالةِ منه بالطريقِ الأولى، وقال القهستانيّ: يمكنُ أن يحملُ على ما هو متعارفٌ من تسميةِ الرسولِ بالاستقراضِ وكيلاً، كما إذا قال المستقرض: وكَّلتك أن تستقرضَ لي من فلانٍ كذا درهماً، وقال الوكيلُ للمقرض: إن فلاناً يستقرضُ منك كذا.
(2) قوله: في حلف النكاح؛ ولو قال: لا أتزوّج، فزوّجه وكيله حنث، كما إذا تزوّج بنفسه، وأمّا في الحلفِ بالإنكاح، فقال في ((المختار)) و((شرحه)): حلفَ لا يتزوّج عبده أو أمته يحنثُ بالتوكيل والإجازة؛ لأنّ ذلك مضافٌ إليه متوقّفٌ على إرادتِه لملكه وولايته، وكذا في ابنه وبنته الصغيرين لولايته عليهما، وفي الكبيرين لا يحنث إلا بالمباشرة؛ لعدمِ ولايته عليهما، فهو كالأجنبيّ عنهما، فيتعلّق بحقيقةِ الفعل.
(3) قوله: والطلاق... الخ؛ كأن يقول: لا يطلّق زوجته، فطلّق وكيله يحنث، كما يحنثُ بتطليقِ نفسه، وكذا إذا قال: لا يخالعُ امرأته فخالعها وكليهما، وكذا لو قال: لا يعتقُ عبده أو أمته فأعتقه وكيله، وكذا إذا قال: لا يكاتبُ عبده فكاتبه وكيله، وكذا إذا قال القاتل: لا يصلح ورثةَ المقتولِ عمداً، أو قال الوارث: لا يصالحُ القاتل، ففعله وكيله، أو قال: لا يهب أو لا يتصدّق، أو لا يقرض، أو لا يستقرض، أو لا يودع، أو لا يستودع، أو لا يعير، أو لا يستعير، أو لا يذبح، أو لا يضرب العبد، أو لا يقضي الدَّين، أو لا يقبضه من المديون، أو لا يبني البيت، أو لا يخيط ثوباً، أو لا يلبس أحداً ثوباً، أو هذا الثوب، أو لا يحملُ لزيدٍ متاعاً ففعلَ وكيله هذه الأمور حنثَ كما يحنثُ بفعل نفسه.
(4) قوله: عن دم عمد؛ احترزَ به عن الصلحِ عن دم غير عمد، كالقتلِ خطأ؛ لأنّه صلحٌ عن مال، فلا يحنثُ فيه بفعل الوكيل، كالبيعِ على ما سيذكره المصنّف.
(5/365)
________________________________________
]، والهبة[(1)]، والصَّدقة، والقرض، والاستقراض(2)، والايداع، والاستيداع، والإعارة، [والاستعارة](3)، والذَّبح، وضربِ العبد[(4)](5)، وقضاءِ الدَّين، وقبضِه، والبناء، والخياطة[(6)]، والكسوة[(7)]، والحمل[(8)])(9)
__________
(1) قوله: والهبة؛ أي بلا عوض؛ أمّا إذا كان بشرطِ العوض أو بالعوض فإنّه لا يحنث فيه بفعلِ وكيله؛ لأنّه كالبيع، فإنّ الهبةَ بشرطِ العوض بيعٌ انتهاء، وبالعوض بيعٌ ابتداءً وانتهاءً على ما ستطّلع عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
(2) أي إن أخرج الوكيل الكلام مخرج الرسالة وإلا فلا حنث. ينظر: ((رد المحتار))(3: 118).
(3) سقطت من م.
(4) قوله: وضرب العبد؛ احترزَ به عن ضربِ الولد على ما سيأتي، وضربُ الزوجة قيل من قبيلِ ضرب العبد، وقيل: من قبيل ضرب الولد، وينبغي ترجيحُ الثاني. كذا في ((البحر)).
(5) في ق: الغلام.
(6) قوله: والبناء والخياطة؛ سواء كان يحسنُ ذلك أو لا، وكذا الاختتانُ وحلقُ الرأسِ وقلع الأضراس ونحو ذلك من الأفعالِ التي لا يليها الإنسانُ بنفسه عادة، أو لا يمكنه فعله إلا بمشقّة عظيمة.
(7) قوله: والكسوة؛ وليس منها التكفين وإعارة الثوب، فلو كفّنه بعد موته أو أعاره ثوباً لا يحنث؛ لأنّه لا يسمّى كسوة. كذا في ((الفتاوى السراجيّة)).
(8) قوله: والحمل؛ اكتفى المصنّف على هذه الأمور، ويلحقُ بها غيرها، كالهدمِ والقطع والقتلِ والشركة، كما في ((الوهبانيّة))، وتسليمُ الشفعة والإذن كما في ((الخانية))، والنفقة والوقف والأضحية والحبس والتعزير بالنسبة إلى القاضي، والوصية والحوالة والكفالة والطبخ والكنس وغيرها. كذا في ((البحر)) وغيره.
(9) يعني حلف أن لا يفعل هذه الأفعال فوكّل بها غيره ففعل حنث؛ لأن الفعل ينتقل إلى الآمر، وإن قال الحالف في التزوج والطلاق ونحوها نويت أن لا أفعل بنفسي صدق ديانة لا قضاء، وفي ضرب العبد وذبح الشاة لو نوى أن لا يلي ذلك بنفسه صدق ديانة وقضاء. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق136/أ).
(5/366)
________________________________________
؛ فإنَّ الوكيلَ في هذه العقودِ سفيرٌ محضٌ[(1)] حتى أن الحقوقَ ترجعُ إلى الآمر، فكأنَّ الآمر فعلَ بنفسِه.
(لا في حلفِ البيع[(2)]، والشِّراء، والإجارة، والاستئجار(3)، والصُّلحِ عن مال[(4)]، والخصومة، والقسمة، وضربِ الولد[(5)])؛ لأنَّ العقدَ صدرَ من الوكيلِ حتَّى أنَّ الحقوقَ[(6)] ترجعُ إليه، ولم
__________
(1) قوله: سفير محض؛ فيحتاج إلى التصريحِ باسم الآمر، حتى لو لم يذكره بوجهٍ من الوجوه وقعَ العقدُ عن المأمور.
(2) قوله: لا في حلف البيع... الخ؛ ومثله الهبة بعوض، والسلم والإقالةُ ونحو ذلك، فلا يحنثُ بفعلِ وكيله هذه الأشياء؛ لأنّها ممّا يباشرُ بنفسه بها، والوكيلُ يضيفها إلى نفسه، فلم يكن فعلُهُ كفعلِ الآمر.
(3) في ت و ق: الاستجارة.
(4) قوله: عن مال؛ ينبغي أن يقيّد بما إذا كان مع الإقرار؛ فإنّه معاوضةٌ حينئذٍ، وأمّا الصلحُ عن إنكارٍ فالوكيلُ فيه سفيرٌ محض، فيحنثُ فيه بفعلِ وكيله، وهذا إذا كان الحالفُ هو المدّعي عليه؛ لأنَّ الصلحَ عن إقرارٍ في حكم البيع، وإمّا عن إنكارٍ أو سكوت، فهو في حقّه فداءُ يمين، فيكون الوكيلُ من جانبه سفيراً محضاً، بخلاف ما إذا كان الحالفُ بعدم الصلح هو المدّعي، فإنّه لا يحنثُ بفعل وكيله مطلقاً. كذا في ((البحر)).
(5) قوله: الولد؛ أي الكبير؛ فإنّ الصغيرَ يملك الأب ضربه، فيملكُ التفويض، فينبغي أن يحنثَ بفعل وكيله كالقاضي والسلطان والمحتسب؛ فإنّه يحنثُ بفعل وكيلهم بضربِ مَن يحلّ لم ضربه. كذا في ((الخانية)) وغيرها.
(6) قوله: حتى أنّ الحقوق؛ أي حقوقُ هذه المعاملات كلّها ترجعُ إلى الوكيل، فيطالبُ هو بها، كتسليمِ الثمنِ والبيع في البيع، وقس عليه غيره، والضابطةُ في هذا المقامِ أنَّ كلّ عبدٍ يضيفُه الوكيلُ إلى الموكّل ترجعُ إلى الموكّل، وكلّ عقدٍ يضيفه إلى نفسه ولا يحتاج فيه إلى ذكرِ الموكّل ترجعُ حقوقه إلى الوكيل، وستطّلع على تفصيله في (كتاب الوكالة) إن شاء الله تعالى.
(5/367)
________________________________________
يصدرْ من الموكِّل فلا يحنث، والفرقُ[(1)] بين ضربِ العبدِ وضربِ الولد: إن الضَّرب فعلٌ حسيٌّ لا ينتقلُ من أحدٍ إلى آخر، إلاَّ إذا صحَّ التَّوكيل، وصحَّةُ التَّوكيلِ يكون في الأموال، فيصحُّ في العبدِ دون الولد.
__________
(1) قوله: والفرق... الخ؛ حاصله: إنّه إنّما فرّق بين ضربِ العبدِ وضربِ الولد، حيث يحنثُ بفعلِ وكيله في الأوّل دون الثاني أنَّ الضربَ لا ينسبُ إلا إلى مَن باشرَ به، ولا ينتقل ضربُ أحدٍ إلى آخر إلا إذا صحّ التوكيل، والتوكيل يصحّ في الأموال، فيصحّ بضربِ العبد؛ لأنّه مالٌ من الأموال، كبيعه وشرائه دون ضربِ الولد؛ لأنّه ليس بمال، وفيه بحث، أمّا أوّلاً فلأنّ تخصيصَ التوكيلِ بالأموالِ غير صحيح لصحّته في النكاحِ والطلاقِ ونحوهما، وأمّا ثانياً فلأنّ الأبَ يملكُ ضربَ ابنه للتأديب، فيملك أن يأمرَ به الغير كما حكموا في القاضي والمحتسبِ والسلطان من أنّهم يملكون أمرَ الغيرِ بضربِ مَن يملكونَ ضربَه، فالصحيحُ في الفرقِ أن يقال: إنّ منفعةَ ضربِ الولد إلى الولد وهو التأدّب فلا يضافُ ضربه إلى الأب إذا لم يكن مباشراً، و أمّا ضربُ العبدِ فمنفعته تعودُ إلى المولى، وهي الامتثالُ بأوامرِ المولى، فيضاف الفعل إليه، وإن لم يباشره بنفسه.
(5/368)
________________________________________
(و[لا](1) في: لا يتكلَّمُ[(2)] فقرأ القرآن، أو سبَّح، أو هلَّل، أو كبَّر في الصَّلاة[(3)](4)، أو خارجها): هذا عندنا فإنَّه لا يسمَّى متكلِّماً عرفاً وشرعاً[(5)]، وعند الشَّافِعِيِّ(6) - رضي الله عنه - يحنث، وهو القياس[(7)]؛ لأنَّه كلامٌ حقيقة.
__________
(1) سقطت من ق.
(2) قوله: ولا في لا يتكلّم... الخ؛ يعني إذا حلفَ لا يتكلّم فقرأ القرآن أو الأذكارَ المأثورةَ كالأدعيةِ أو غيرها أو صلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم أو سبّح أي قال: سبحان الله ونحوه، أو هلّل؛ أي قال: لا إله الا الله ونحوه، أو كبّر أي قال: الله اكبر ونحوه، أو حوقل: أي قال: لا حولَ ولا قوّة إلا بالله، أو حمدل أي قال: الحمد لله ونحوه لا يحنث؛ لأنَّ هذه وإن كانت من الكلامِ لغةً لكن لا يسمّى بمثلِ ذلك متكلّماً عرفاً، فإنّ المتكلّم عرفاً مَن يخاطبُ الناسَ ويتكلّم بما يخاطب به الناس.
(3) قوله: في الصلاة؛ متعلّق بكلّ من الأفعالِ المذكورة؛ أي سواء كانت هذه الأفعال؛ أي قراءةُ القرآنِ والتسبيح وغيرهما في الصلاة أو خارج الصلاة.
(4) في ت و ق: صلاته.
(5) قوله: وشرعاً؛ بدليل أنّه نهى في الأحاديث عن التكلّم في الصلاة، وأبحيت هذه الأمور فيها، وأبيحت هذه الأمورُ في مواقع كره فيها الكلام، كحالة الوضوء ونحوها.
(6) المذكور في كتب الشافعية خلاف ذلك وهو أنه لا يحنث، ينظر: ((التنبيه))(ص124)، و((الغرر البهية))(5: 204)، و((حاشتيا قليوبي وعميرة))(4: 285)، و((حاشية البجيرمي))(4: 331)، غيرها.
(7) قوله: القياس؛ أي ببادئ النظر وظاهر الرأي، وإلا فالاستحسانُ يقتضي عدمَ الحنث.
(5/369)
________________________________________
(ويوم أكلِّمُه على الملوين[(1)]): قال لامرأته: أنت طالق يوم أكلِّم فلاناً، فهو على اللَّيل والنَّهار، لمَّا مرَّ في (باب إيقاع الطلاق): إن اليوم[(2)] إذا قُرِنَ بفعلٍ غيرُ ممتد يرادُ به مطلقُ الوقت، (وصحَّ نيَّةُ النَّهار)؛ لأنَّهُ مستعملٌ فيه أيضاً، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه - يصدقُ ديانةً لا قضاء؛ لأنَّه خلافُ المتعارف[(3)]. (وليلةَ أكلِّمُه على اللَّيل[(4)].
__________
(1) قوله: على الملوين؛ بفتحات تثنية لملا، والمرادُ بهما الليلُ والنهار.
(2) قوله: إنّ اليوم؛ أي لفظُ اليومِ وإن كان حقيقةً في النهار خاصّة، لكنّه إذا اتَّصلَ بفعلٍ لا يمتدّ يحملُ على مطلقِ الوقت، وقد مرّ تفصيله في شرحِ باب إيقاعِ الطلاقِ بما لا مزيدَ عليه فلترجع إليه.
(3) قوله: لأنّه خلاف المتعارف؛ يرد عليه إنّ استعمالَ اليوم في النهار خاصّة متعارف، بل هو الموضوعُ له حقيقة، فكيف الحكمُ عليه بعدم التعارف، والجواب عنه: إنّ استعماله في النهار حين اقترانه بفعلٍ غير ممتدّ غير متعارف.
(4) قوله: على الليل؛ فلا يحنث إذا كلّمه نهاراً؛ لأنَّ الليلةَ لا تستعمل في النهار، وفي مطلق الوقت، سواء قرنت بفعلٍ ممتد أو بغير ممتد.
(5/370)
________________________________________
وإلاَّ أن للغاية[(1)] كحتَّى[(2)]، ففي: إن كلَّمْتُه إلاَّ أن يقدمَ زيد، أو حتَّى حنثَ إن كلَّمَه[(3)] قبلَ قدومِه، [لا [إن كلَّمَه](4) بعدَه(5)](6).
__________
(1) قوله: للغاية؛ هذا إذا كان مع الشرط، ولو قال: امرأته طالق إلا أن يقدم زيد، لم يكن إلا أن للغاية بل للشرط؛ لأنّها إنّما تكون للغايةِ فيما يحتملُ التأقيت، والطلاقُ لا يحتمله، فتكون فيه للشرط، وهو مشتملٌ على معنى النفي؛ لأنّه جعلَ القدوم رافعاً للطلاق، فلا تطلقُ بقدومه بل بموته.
(2) قوله: كحتى؛ كونها للغايةِ ظاهر، وأمّا إلا أن فلأنّ الاستثناءَ وإن كان هو الأصلُ فيها إلا أنّها تستعارُ للشرط والغاية عند تعذّره لمناسبة، وهي أنّ حكمَ كلّ واحدٍ منهما يخالفُ ما بعده. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: حنث إن كلّمه؛ وإن ماتَ الذي أسند إليه القدوم سقطت اليمين؛ لأنَّ الممنوعَ عنه كلامٌ ينتهي بالقدوم، ولم يبقَ بعد موته متصوّر الوجود، فسقطت اليمين، وفيه خلافُ أبي يوسف بناءً على أصله إنّ التصوّر ليس بشرط، فعند سقوطِ يتأبّد اليمين عنده. كذا في ((الهداية)).
(4) سقطت من ت.
(5) في ب: بعد.
(6) زيادة من ب و ت و س و ق و م.
(5/371)
________________________________________
وفي: لا يكلِّمُ عبدَه(1)[(2)
__________
(1) أي عبد فلان، أو عبد نفسه. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 290).
(2) قوله: وفي: لا يكلّم عبده... الخ؛ قال أبو القاسم أحمد العتابيّ في ((شرح الزيادات)): أصل البابِ أنَّ اليمينَ متى عقدت بإضافةِ ملك، بأن عقدت على عينٍ مملوكٍ لفلان إن لم يكن العينُ مشاراً إليه يشترطُ للحنثِ قيامُ الملك وقت وجود الشرط بالإجماع، وإن كان ذلك العين مشاراً إليه فكذلك عند أبي حنيفةَ وأبي يوسف، وعند محمّد رح لا يشترطُ بقاء الملك وقت الشرط، وتتعلّق اليمينُ بالمشار إليه، وعندهما يتعلّق بالملكِ والمشار إليه جميعاً، قال محمّد: إذا حلفَ لا يأكلُ طعامَ فلان هذا، أو لا يدخلُ دار فلان هذا، أو لا يركب دابّة فلان، أو لا يلبس ثوب فلان هذا، أو لا يكلّم عبدَ فلان هذا، فباع فلانٌ المحلوف عليه، ثمَّ فعلَ الحالفُ ما ذكرنا لم يحنثْ عندهما؛ لأنَّ شرطَ الحنثِ الفعل في عينٍ مملوكٍ لفلان ولم يوجد، وعند محمّد يحنث؛ لأنَّ الإضافةَ تلغو عند الإشارة؛ لكونِ الإشارةِ أبلغُ في التعريف، وهما قالا: إنّما تلغو الإضافةُ إذا لم يكن فيها فائدةٌ أخرى؛ لجوازِ أن يكون الحامل له على اليمين غيظاً لحقّه من المالك، فيعتبران جميعاً، ولو اشترى فلانٌ ثوباً آخر أو عبداً آخر أو داراً أخرى ففعله الحالف، ففي المعيّن المشارُ إليه لا يحنثُ بالإجماع، وفي غير المعيّن يحنث، لكن في الدار روي عن أبي يوسف أنّه لا يحنث في المستحدث لملك؛ لأنّ الملكَ لا يستحدثُ فيها عادة، بخلاف المنقول، وعندهما يحنث عملاً بإطلاقِ اللفظ، وإن كانت الإضافةُ إضافةَ تعريف، بأن حلفَ لا يكلّم صديقَ فلان، أو زوجة فلان إن لم يكن مشاراً إليه تشترطُ الصداقةُ والزوجيّة وقتَ الشرط عند أبي حنيفة، وعند محمّد يتناولُ زوجةً وصديقاً كانا وقت اليمين، فتتعلّق اليمينُ بالزوجة والصديق وقت اليمين بعينهما، كالمشار إليه؛ لأنَّ الإضافةَ للتعريف المحض، ولو كان مشاراً إليه تتعلّق اليمينُ بالمشارِ إليه بالإجماع، حتى لو أبانَ زوجته أو عادى صديقه ثمَّ كلّمه يحنث؛ لأنَّ الإضافةَ للتعريف المحض، فتعتبرُ الإشارةُ دون الإضافة. انتهى.
(5/372)
________________________________________
]، أو امرأته، أو صديقَه[(1)](2)، أو لا يدخلَ دارَه إن زالَتْ[(3)] إضافتُه، وكلَّمَه(4) لا يحنثُ[(5)] في العبد أشارَ إليه بهذا أو لا، وفي غيرِه إن أشارَ بهذا حنثَ وإلاَّ فلا): حلفَ لا يكلِّمُ عبدَ فلان، أو حلفَ لا يكلِّم عبدَ فلانٍ هذا، فزالت إضافتُه: أي لم يبقَ عبداً له، فكلَّمَهُ لا يحنث.
أمَّا إذا لم يشرْ فظاهر، وإن أشارَ فلأنّ العبدَ لسقوطِ مَنْزلتِه لا يعادى لذاتِه، بل لمعنى في المضافِ إليه، فالإضافةُ تكونُ معتبرة، فإذا زالَتْ لا يحنث.
وإن حلفَ لا يكلِّمُ صديقَ فلان، أو قال صديقَ فلانٍ هذا، أو حلفَ لا يدخلَ دارَ فلان، أو قال: دارَ فلانٍ هذه، فلم يبقَ الصَّداقة وباعَ الدَّار، فكلَّمَه ودخلَ الدَّار.
ففي صورةِ عدمِ الإشارة لا يحنث؛ لأنَّ الإضافةَ[(6)] معتبرة.
__________
(1) قوله: أو صديقه؛ بفتح الصاد المهملة، وكسر الدال المهملة على وزن فعيل، بالفارسيّة: دوست.
(2) العبارة في أ و ب وس و م: أو صديقه أو امراته.
(3) قوله: إن زالت؛ بأن طلَّق امرأته أو أعتق عبده أو عادى صديقه أو باع داره.
(4) في ت: فكلمه، وفي ص و ق: كلم.
(5) قوله: لا يحنث؛ قال في ((الهداية))؛ لأنّه عقدَ يمينه على فعلٍ واقعٍ في محلٍّ مضافٍ إلى فلان، إمّا إضافةُ ملكٍ أو إضافةُ نسبةٍ ولم يوجد، فلا يحنث هذا في إضافةِ الملك بالاتّفاق، وفي إضافةِ النسبةِ عند محمّد يحنث، كالمرأة والصديق، قال في ((الزيادات)): إنّ هذه الإضافةَ للتعريف؛ لأنَّ المرأةَ والصديق مقصودان بالجهران فلا يشترطُ دوامها، فيتعلَّق الحكم بعينه، كما في الإشارة، ووجه ما ذكرَ هاهنا وهو روايةُ ((الجامع الصغير)): إنّه لا يحتملُ أن يكون غرضه هجرانه لأجلِ المضاف إليه، ولهذا لم يعيّنه فلا يحنثُ بعد زوال الإضافةِ بالشكّ.
(6) قوله: لأنّ الإضافة؛ أي إضافة الدار والصديق إلى فلانٍ معتبرة، فلا يحنث إذا كلّمه أو دخلها بعد ما زالت هذه الإضافة.
(5/373)
________________________________________
وفي صورةِ الإشارة يحنث؛ لأنَّ هذه الأشياءَ يمكن أن تهجرَ لذاتِها[(1)]، فإذا كانت الذَّات معتبرة، كان الوصف وهو كونُهُ مضافاً إلى فلانٍ في الحاضرِ لغواً[(2)].
__________
(1) قوله: يمكن أن تهجر لذاتها؛ أي تترك وتعادى مع قطعِ النظر عن كونها منسوبة إلى فلان، بخلافِ العبد؛ فإنّه لسقوط رتبته لا يعادى لذاته بل لغيره، فتكون الإضافهُ هناك معتبرةً في المشارِ إليه أيضاً.
(2) قوله: لغواً؛ لما مرّ غير مرّة أنَّ الوصفَ في الحاضرِ لغو، لا سيّما إذا لم يكن داعياً إلى اليمين.
(5/374)
________________________________________
(وحين وزمان[(1)] بلا نيةٍ نصفُ سنةٍ نُكِّر[(2)]، أو عُرِّف)(3): لقولِهِ تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}(4)، (ومعها[(5)] ما نوى.
__________
(1) قوله: وحين وزمان؛ يعني إذا حلفَ لا أكلمه الحينَ أو الزمان، أو حيناً أو زماناً أو لأصومنّ الحين، أو حينا، أو الزمان، أو زماناً، فإن نوى بكلّ منهما معرَّفاً كان أو منكراً مقداراً معيّناً صحّت نيته، وصدق في قوله؛ لأنَّ الحينَ والزمان موضوعٌ للقدرِ المشترك بين القليلِ والكثير، فيصدّق فيما يحملُ كلامه عليه، وإن لم تكن له نيّة فهما يحملان على ستّة أشهر، يعتبرُ ذلك من وقت اليمين، ووجهه: إنّ الحينَ قد يطلق على ساعة؛ كقوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}، وعلى أربعين سنة، كما قالوا في تفسيرِ قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، وعلى ستّة أشهر، كما قال ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى: {الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين باذن ربها}، إنّها مدّة ما بين أن يخرجَ الطلعُ إلى أن يصيرَ رطباً، فعند عدمِ النيّة ينصرفُ إليه؛ لأنّه الوسط. كذا في ((الفتح)).
(2) قوله: نكّر؛ مجهول من التنكير، كقرينة مجهولٍ من التعريف؛ أي أطلقَ كلّ من الحين والزمان منكراً أو معرّفاً.
(3) أي لو قال لا أكلمه حيناً أو زماناً، أو قال: لا أكلمه الحين أو الزمان.
(4) إبراهيم، (25).
(5) قوله: ومعها؛ أي مع النيّة يحملُ على ما نوى، ((فلكلّ امرئ ما نوى))، كما ورد به الحديثُ في ((صحح البخاري)).
(5/375)
________________________________________
والدَّهر[(1)] لم يدرِ مُنَكَّراً)(2) قال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه -: لا أدري ما الدهر[(3)]، وعندهما:
__________
(1) قوله: والدهر... الخ؛ قال في ((شرح تلخيص الجامع الكبير))، قال أبو يوسف ومحمّد لو قال: إن صمت دهراً ولم تكن له نيّة حنثَ بصومِ ستّة أشهرٍ في عمره مجتمعاً أو متفرّقاً؛ لأنّه يستعملُ استعمالَ الحين، يقال: لم أرَ فلاناً منذ دهرٍ ومنذ حين، فيكون له حكمه، ورأى أبو حنيفة التوقّف؛ لأنَّ مقاديرَ الأسامي واللّغات لا تثبتُ إلا توقيفاً، ولم يرد نصّ من الشرعِ في تقديره، ولا فسّره أحدٌ من أهلِ اللغة، فوجب التوقّف لعدم الموقف؛ لأنَّ الخوضَ بالمقايسة فيما طريقة التوقّف باطل.
(2) يعني إذا لم تكن له نية. ينظر: ((الشرنبلالية))(2: 59).
(3) قوله: لا أدري ما الدهر؛ أي ما يراد به في قوله: لا أكلّمه دهراً، وقد توقّف في غير هذه المسألةِ من المسائل، منها: في الدابةِ التي لا تأكل إلا العذرة متى يطيبُ لحمها، واختلفوا فيه: فقيل بعد ثلاثة أيّام، وقيل: سبعة، ومنها: الكلبُ متى يصيرُ معلّماً للصيد، ففوّضه إلى المبتلى به، وقيل: بترك أكله الصيدَ ثلاث مرّات، ومنها وقت الختان، واختلفوا فيه، فقيل: هو حين يبلغ الصبيّ عشراً، وقيل: سبعاً، وقيل: اثنا عشر، ومنها الخنثى المشكل إذا بالَ من فرجيه، وعندهما يعتبرُ الأكثر، ومنها: سؤر الحمار توقّف في طهوريّته، ومنها: هل الملائكة أفضل أم الأنبياء، وقال غيره: خواصّ البشرِ أفضلُ من الملائكة، ومنها: مستقرّ أطفالِ المشركين، وقال غيره: هم في الجنة، ومنها: نقشُ جدار المسجد من ماله، وقال غيره: يجوز لضرورة، ومنها: ثوابُ الجنّ بالطاعاتِ يوم القيامة كالإنسِ أم لا، كذا ذكره الشربنلاليّ وغيره، وهذا كلّه دالٌ على غايةِ ورعه واحتياطه وتقواه وديانته، ومن هاهنا بطلَ قولُ مَن يتفوّه بأنّ أبا حنيفةَ كان من أصحابِ الرأي، وأنّه كان يبادرُ بالقياس، ويقدّمه على الكتاب والسنّة، حاشاه من ذلك.
(5/376)
________________________________________
نصف سنة، مثل: لا أكلِّمُه حيناً، (وللأبدِ معرفاً.
وأيَّام منكَّرةً ثلاثة[(1)]، وأيَّامٌ كثيرةٌ، والأيَّامُ، والشُّهورُ، [والسُّنونُ](2) عشرةٌ(3)[(4)].
[فصل في اليمين في العتق والطلاق]
وفي أوَّلِ عبدٍ اشتريتُهُ حرٌّ إن اشترى عبداً عُتِق): أي لا يحتاجُ لأوَّلِيَّتِه إلى شراءِ عبدٍ آخر.
__________
(1) قوله: ثلاثة؛ ففي قوله: لا أكلّمه أياماً يحنثُ بتكلّمه فيها، لا في ما بعدها؛ لأنّه أقلّ الجمع ما لم يوصف بالكثرة، والأقلّ متيقّن، فيحملُ الكلامُ عليه ما لم يصرفْ عنه صارف.
(2) سقطت من ت و ق.
(3) يعني إذا قال لعبده إن خدمتني أياماً كثيرةً فأنت حرّ فهي عند أبي حنيفة عشرة أيام؛ لأنه أكثر ما يتناوله اسم الأيام، وقالا: سبعة أيام، وإن حلف لا يكلمه الأيام فعلى عشرة، وإن حلف لا يكلمه الشهور فعلى عشرة أشهر. ينظر: ((درر الحكام))(2: 59).
(4) قوله: عشرة؛ أي من كلّ صنف؛ لأنّه أكثر ما يذكرُ بلفظ الجمعن فإنّ التمييزَ بعد عشرة يكون مفرداً نحو أحد عشرَ يوماً، ومثله لفظ الأزمنةِ والأحايين والدهور، وهذا كلّه عنده، وقالا: في لفظ الأيّام وأيّام كثيرة سبعة، والشهور اثنا عشر، وما عداهما للأبد. كذا ذكره الزيلعيّ.
(5/377)
________________________________________
(وإن اشترى عبدين، ثُمَّ آخر، فلا أصلاً)؛ لأنَّ الأوَّلَ فردٌ[(1)] لا يكونُ غيرُهُ من جنسِهِ سابقاً[(2)] عليه، ولا مقارناً له[(3)]، ولم يوجد.
__________
(1) قوله: فردّ... الخ؛ هذا التعريفُ أولى ممّا اشتهرَ أنّ الأوّل اسمٌ لفردِ سابق، والآخر لفرد لاحق؛ لأنّه يوهمُ وجودَ لاحقٍ في كون السابقِ سابقاً مع أنّه غير شرط.
(2) قوله: لا يكون غيره من جنسه؛ احترازٌ عن كونِ غير ما هو من جنسه سابقاً، فإنّه لا يضرّ في كون السابق سابقاً، وكذا لا يضرّ في كونِ اللاحقِ لاحقاً كون غيره من غير جنسه بعده ألا ترى إلى أنّهم أجمعوا على أنّ أوّل الأنبياء سيّدنا آدم مع تقدّم غيره عليه من غير جنسه، وآخر الأنبياء نبيّنا صلى الله عليه وسلم مع تأخير غيره من جنسه.
(3) قوله: ولا مقارناً له؛ فإنذه لو كان غيره مقارناً له لم يكن كلّ واحدٍ منهما أولاً حقيقياً، وبهذا علمَ أنّ التنوينَ في قوله: فرد للوحدة.
(5/378)
________________________________________
(فإن ضَمَّ: وحدَهُ؛[(1)] عُتِقَ الثَّالث): أي قال: أوَّلُ عبدٍ اشتريتُهُ وحدَهُ حرّ، فاشترى عبدين، ثُمَّ آخر عُتِقَ الثَّالث؛ لأنَّه أوَّلَ عبدٍ شراهُ وحدَه.
__________
(1) قوله: وحده؛ ولو قال: أوّل عبدٍ اشتريه واحداً، فاشترى عبدين ثمَّ اشترى واحداً لا يعتقُ الثالث؛ لاحتمالِ أن يكون واحداً حالاً من العبدِ أو المولى فلا يعتقُ بالشكّ، بخلافِ كلمة: وحده، كذا نقلَ عن شمس الأئمّة، وذكر شارحُ ((تلخيص الجامع الكبير))، وقاضي خان في ((شرح الجامع الصغير)): إنّ الواحدَ يقتضي الانفرادَ في الذات، ووحده الانفراد في الفعل المقرون به، ألا ترى إلى أنّه لو قال: في الدار رجل واحدٌ كان صادقاً إذا كان معه صبيّ أو امرأة، بخلافِ في الدارِ رجلٌ وحده، فإنّه كاذبٌ في هذه الصورة، فإذا قال: أوّل عبدٍ اشتريه واحداً لا يعتق الثالثُ لكونه حالاً مؤكّدة لم تفدْ غير ما أفاده لفظ أوّل؛ فإاّن مفاده الفرديّة والسبق، ومفادها التفرّد، وأمّا إذا قال: وحده، فقد أضافَ العتقَ إلى أوّل عبدٍ لا يشاركه غيره في التملّك، والثالث بهذه الصفة، وإن عني بقوله واحداً معنى التوحّد صدّق ديانةً وقضاءً لما فيه من التغليظ، فيكونُ الشرط حينئذٍ التفرّد والسبق في حالةِ التملّك.
(5/379)
________________________________________
(وفي: آخرِ عبدٍ[(1)] إن اشترى عبداً فمات لم يعتق): قال: آخر عبدٍ اشتريتُهُ حرٌ(2) فاشترى(3) عبداً فماتَ المشتري، لا يعتق هذا، ولا يتوَّهَم[(4)] أنَّه إذا ماتَ يكون ذلك العبدُ آخر، لأنَّ الآخرَ لا بُدَّ له من أوَّل، ولم يوجد.
__________
(1) قوله: وفي آخر عبد؛ هو بمدّ الهمزة، وبكسر الخاء المعجمة، بمعنى الفرد اللاحق، وأمّا الآخرُ بفتحِ الخاء المعجمةِ فيطلقُ على كلّ من السابقِ واللاحق، فإنّ كلاً منهما آخرُ بالنسبةِ إلى غيره، قال في ((الفتح)): هذه المسألةُ مع التي تقدّمت تحقّق أنّ المعتبرَ في تحقّق الآخريّة وجودُ سابقِ بالفعل، وفي الأوّليّة عدمُ تقدّم غيره لا وجودَ آخر متأخّر عنه.
(2) في م: حرقا.
(3) في م: اشترى.
(4) قوله: ولا يتوهّم... الخ؛ حاصلُ التوهّم أنّه إذا ماتَ الحالفُ بعد شراءِ عبد ينبغي أن يعتقَ ذلك العبدُ لكونه آخراً لعدمِ وجود شراءِ عبدٍ بعده، وحاصل الدفع: إنّه لا يكفي في الآخريّة مجرّد عدم كون غيره من جنسه بعده، بل لا بدّ مع ذلك سبقُ ما هو من جنسِهِ عليه، وهو مفقودٌ فيما نحن فيه.
(5/380)
________________________________________
(فإن اشترى عبداً، ثُمَّ آخر، ثُمَّ ماتَ[(1)] عُتِقَ الآخرُ يومَ شرى[(2)] من كلِّ مالِه، وعندهما يوم مات من [ثلثِ ماله](3))؛ لأنَّ الآخريَّةَ[(4)
__________
(1) قوله: ثمّ مات؛ أي الحالف، قال في ((البحر)): قيّد به لأنّه لا يعلمُ أنّ الثاني آخر إلا بموتِ المولى؛ لجواز أن يشتري غيره، فيكون هو الآخر. انهتى. وهذا إذا كان الحلفُ متناولاً لغير هذين العبدينِ أيضاً، كما في قوله: آخر عبد اشتريه حرّ، فإنّه لو قال مشيراً إلى العبدين: آخر ما اشتريه منهما حرّ عتقَ مَن اشتراه آخراً، وإن لم يمتْ المولى لاتّصافه بالآخريّة في الحال ، كما لو قال لامرأتين: آخرُ امرأةٍ أتزوّجها منكما طالق، فتزوج إحداهما ثمّ الأخرى طلّقت الثانية في الحالِ لاتّصافها بالآخريّة في الحال، فإنّ اليمينَ لم تتناول غيرها. كذا في ((شرح تلخيص الجامع الكبير)).
(2) قوله: يوم شرى؛ أي يحكم بعد موتِ الحالف المثبت لآخريّة آخرهما شراءَ بعتقه يوم اشتراه، ولمّا كان ذلك الزمانُ زمانَ الصحّة كان معتقاً من كلّ ماله، ولو زادت قيمته على ثلثِ ماله؛ لأنّ اقتصارَ العتقِ على ثلثِ المال إنّما هو في العتقِ عند الموت لا قبله، ولهذا: لمّا قال أبو يوسفَ ومحمّد بعتقِه يوم الموتِ قالا بعتقِه من ثلثِ ماله، فلا يعتقُ كلّه إن زادت قيمته على ثلثِ مال المولى.
(3) في أ و ت و ف و ق: ثلثه.
(4) قوله: لأنّ الآخريّة... الخ؛ حاصله: إنّ صفةَ الآخريّة إنّما تحققّت بعدمِ شراءِ المولى غيره بعده، وهو لا يثبتُ إلا بموتِ الحالف على ما مرّ، فكان الشرط وهو وصف الآخريّة متحقّقاً عند الموت، فيقتصرُ العتقُ على زمانِ الموت، والجواب عنه من قبلِ أبي حنيفةَ: إنّ اتّصافه بالآخريّة إنّما هو من وقت الشراء، وإنّما الموتُ معرّف، وذلك لأنّه لمّا اشترى الثاني بعد الأوّل وجدت صفة الآخريّة فيه، لكنّه لمّا كانت بعرضة أن تزولَ لجوازِ أن يشتريَ المولى عبداً آخر بعده لم يحكمْ بعتقِه ما لم يتقيّن بعد موت المولى تقرّرت صفة الآخريّة فيه من حين الشراء.***
(5/381)
________________________________________
] تحقَّقت بالموت، فيعتقُ عند الموتِ من ثُلُثِ مالِه، وله: إنَّ بالموتِ تبيَّنَ أنَّه كان آخراً عند الشِّراء، فيعتقُ في ذلك الوقت، (ولا يصيرُ الزَّوجُ فاراً[(1)] لو عَلَّقَ الثَّلاث به خلافاً لهما) والضَّميرُ في: به؛ يرجعُ إلى الآخر.
وصورةُ المسألة: رجلٌ قال: آخرُ امرأةٍ أتزوجُها طالقٌ ثلاثاً، فتزوَّجَ امرأة، ثُمَّ أُخرى، ثُمَّ مات، طُلِّقَت عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - عند التَّزوُّجِ فلا يصيرُ فاراً، فلا ترثُ عنده، وعندهما: تطلَّقُ عند الموت، فيصيرُ فاراً فترث.
__________
(1) قوله فارا على صيغة اسم الفاعل من الفرار وقد مر بحث طلاق الفار في موضعه من كتاب الطلاق وحاصل هذه المسألة انه اذا قال آخر امرأة اتزوجها طالق ثلثا فتزوج امرأة ثم تزوج اخرى ثم مات الزوج المعلق طلقت الزوجة الثانية اتفاقا لوجود صفة الآخرية فيها بموت الزوج وانما الخلاف هنا في ان الطلاق هل يقع عليها عند موت المولى او لحكيم عند ذلك بوقوعه حين تزوجها فعندهما تطلق عند الموت كما كان العتق في المسألة السابقة عند الموت والطلاق عند الموت يصير به الزوج فارا وترث زوجة من تركته وعنده تطلق من حين التزوج فلا يصير الزوج به فارا فلا ترث منه وتظهر ثمرة الخلاف في وجوب المهر ايضا والعدة فعنده ان كان دخل بها يجب عليه لها مهر بالدخول بالشبهة ونصف مهر مسمى بالطلاق قبل الدخول وعدتها بالحيض بلا حداد وعندهما لها مهر واحد وعدتها ابعد الاجلين من عدة الطلاق والوفاة كذا في البحر
(5/382)
________________________________________
(وبكلِّ عبدٍ بشَّرني بكذا فهو حرّ، عُتِقَ أوَّلُ[(1)] ثلاثةٍ بشَّروهُ متفرِّقين، والكلُّ[(2)] إن بشَّروه معاً(3)[(4)].
__________
(1) قوله عتق اول الخ اعلم ان البشارة بالكسر على ما في تنوير الابصار وشرحه منح الغفار وغيرهما اسم لخبر سارا في موجب للمسرة صادق ليس للمبشرية علم فخرج بقيد السار الخبر انصار فليس هو ببشارة عرفا وان كان لغة لفظ البشارة يعمهما وعليه ورد قوله تعالى فبشرهم بعذاب اليم وبقيد الصدق خرج الخبر الكاذب فانه وان كان يظهر به الفرح والسرور في بشرة الوجه باعتبار الظاهر لكنه يزول عند ظهور خلافه فلا يعتبر وبقيد عدم علم المبشر به خرج الخبر السار بعد خبر فان المبشر انما يسمى عرفان من يخبر بالخبر السار اول مرة ومن يخبر ثانيا يسمى مخبر الا مبشر او على هذا بناء هذه المسألة فانه اذا قال كل عبد بشربي بكذا فهو حر فبشره كل واحد من عبيده الثلثة او الزائدة عليها عتق اولهم خبرا لان البشارة انما هي الخبر الاول دون ما بعده وان بشروه معاً عتق كلهم لصدق المبشر على كل منهم وبناه على ان لفظ كل اذا دخل على النكرة يكون لعموم ما دخل عليه وعمومه على سبيل الانفراد اي يراد به كل واحد مع قطع النظر عن غيره بخلاف لفظ الجميع كما فصله الشارح في التنقيح وشرحه التوضيح في بحث الفاظ العام
(2) قوله والكل لان اجتماعهم لا يقدح في كون كل منهم مبشرا بدليل قوله تعالى في قصة تبشير الملائكة سيدنا ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والتسليم فبشروه بغلام عليم
(3) لتحققها من الكل بدليل: {فَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}[الذاريات: 28]. ينظر: ((الدر المختار))(3: 113).
(4) قوله ان بشروه معاً سواء كانت البشارة بالكتاب او بالرسالة او بالمشافهة وان ارسل عبد عبدا يبشر المولى فان ذكر الرسالة عتق المرسل فقط والا عتق الرسول فقط كذا في البحر
(5/383)
________________________________________
وسقطَ[(1)](2) بشراءِ أبيه(3) لكفارته[(4)](5) هي): أي الكفارة، هذا عندنا، وأمَّا عند زُفر والشَّافِعِيِّ(6) - رضي الله عنهم - لا تسقط(7)، فالحاصلُ أنّ النيَّةَ لا بُدَّ أن تكونَ مقارنةً لعلَّةِ العتق[(8)]، فهما جعلا القرابةَ علَّةَ العتق، والملك[(9)] شرطاً،
__________
(1) قوله وتسقط الخ هذه المسألة وان كان الاليق ذكرها في بحث كفارة اليمين أو كفارة الظهار لكن ذكروها هنا لمناسبة تعليق العتق بالشراء فانه يمين ولذا ذكر في الهداية قبيل هذه المسألة مسألة ما لو قال ان اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينة لم يجزه عن الكفار ووجهه بما حاصله ان شرط الخروج عن عمدة التكفير قران نية التكفير بعلة العتق وهي اليمين هنا ولم يوجد وانما وجد عند الشراء وبشرط العتق لا علته فلا يكون مفيدا حتى لو كانت النية مقارنة لليمين اجزاه عن الكفارة كذا في العناية
(2) في أ و ف: وتسقط، وفي ت: ويسقط.
(3) وكذا كلّ رحم محرم منه.
(4) قوله لكفارته اي كفارة كانت ككفارة اليمين وكفارة الظهار وكفارة القتل خطأ
(5) في ق: للكفارة.
(6) ينظر: ((المنهاج)(3: 361)، و((تحفة الحبيب))(4: 20)، و((المحلي))(4: 23)، وغيرها.
(7) في ب و م: يسقط.
(8) قوله مقارنة لعلة العتق بشرط أن تكون العلة اختيارية كشراء القريب وان يكون رق المعتق كاملا وعلى هذه القاعدة تتفرع عدم عف اجزاء العتق عن الكفارة في صورة اليمين كما مر آنفا تفصيله وسيذكره المهم والشارح وعدم عف اجزاء عتق او الولد على ما سيأتي وعدم عف اجزاء عتق ذي رحم محرم عليه بملكه بالارث فان العلة هناك جبرية لا اختيارية لما تقرر في موضعه ان الارث جبرته لا يسقط بالاسقاط
(9) قوله علة العتق والملك وذلك لان الشراء اثبات الملك والاعتاق ازالته وبينهما منافاة فلا يكون الشراء علة للعتق بل هو شرط والعلة القرابة المحرمية فاذا شرى القريب بنية الكفارة لم يجز عنها لعدم اقتران النية بالعلة بل بالشرط
(5/384)
________________________________________
ونحن جعلنا على العكس[(1)]؛ لأنَّ الشَّرعَ جعلَ شراءَ القريب إعتاقاً؛ فإذا اشترى أباهُ بنيَّةِ الكفارة كانت النِيَّةِ مقارنةً لعلَّةِ العتق، وعندهما لا حيث جَعلا القرابةَ علَّة(2)[(3)].
(لا بشراءِ[(4)] عبدٍ حلفَ بعتقِه): أي قال: إن اشتريتُ هذا العبدَ فهو حرّ، فشراهُ بنيَّةِ الكفارة لا تسقطُ الكفارة؛ لأنَّ علَّةَ العتق اليمين، والشِّراءُ شرطٌ [له](5)، فلا تكون(6) النِيَّةُ مقارنةً للعلَّة.
__________
(1) قوله على العكس فعندهما شراء القريب علة للعتق والقرابة شرط يدل عليه حديث لن يجزي ولد والده الا ان يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه اخرجه مسلم واصحاب السنن واليه اشار الشارح بقوله لان الشرع جعل شراء القريب اعتاقا فان قلت قد عطف في الحديث الاعتاق على الشراء بحرف الفاء المقتضى للتراخي ولو بلا مهملة فلا يدل على ان الاعتاق هو الشراء قلت هو مثل قولهم سقاه فارواه اي بذلك الفعل لا بغيره كذا في شروح الهداية.
(2) فأن الملكَ عندهما شرط والنية ليست مقارنة إلا بالشرط لا بالعلّة فلا تفيد في الإجزاء عن الكفارة. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 273).
(3) قوله علة فان الملك عندهما شرط والنية ليست مقارنة الا بالشرط لا بالعلة فلا تفيد في الاجزاء عن الكفارة
(4) قوله لا بشراء اي لا تسقط الكفارة بالشراء عبد علق عتقه بالشراء قبله فان علة العتق في هذه الصورة هي الحلف السابق والشرط هو الشراء والنية انما قارنت الشراء فلا تفيد في اجزاء الكفارة لان الشرط فيه تقارن النية مع علة العتق
(5) زيادة من أ.
(6) في ف: يكون.
(5/385)
________________________________________
يَرِدُ عليه[(1)]: إنَّه قد ذُكِرَ في أصولِ الفقة أنّ التَّعليقَ عندنا يمنعُ العِلِّيَّة، فإذا وُجِدَ الشَّرطُ يصيرُ المعلَّقُ(2) علَّة حينئذٍ، فتكونُ النِيَّةُ مقارنةً لعلَّة العتق(3).
__________
(1) قوله يرد عليه الخ حاصل الايراد انه قد ثبت في اصول الفقه ان التعليق عندنا يمنع العلية يعني كون الجزاء علة بحكمه مثلا في قولنا ان دخلت الدار فانت طالق يمنع التعليق كون قوله انت طالق علة لوقوع الطلاق فلولا التعليق لكان انت طالق علة له ووقع الطلاق فالتعليق بالشرط منعه من كونه علة وعند وجود الشرط يصير الجزاء علة فيكون قوله انت طالق علة لوقوع الطلاق عند دخول الدار اذا تقرء هذا فنقول لما علق التعتق بالشراء وقال ان اشتريته فهو حر لم يكن اليمين علة بل منع هو كون هو حر علة لعتقه وانما ينعقد علة عند وجود الشرط وهو الشراء ونية الكفارة مقارنة للشراء فتكون مقارنة للعلة من حيث علة نعم لو ثبت انه يجب ان تكون النية مقارنة لذات العلة ايضا اندفع الاشكال والجواب عنه على ما اشار اليه في الكافي ان ذات العلة انما هي هو حر لكن لا تظهر عليه عند التعليق بل عند وجود الشرط فعند وجود الشرط يضاف الحكم الى العلة السابقة فصار كانه علة من قبل ولاية عند ذلك ومن هنا صرحوا بانه يضمن عند الرجوع شهود التعليق دون شهود وجود الشرط وصرحوا ايضا باشتراط الا يليه عند اليمين لا عند الشرط
(2) في س: المطلق.
(3) أجاب عن هذا الإيراد ابن كمال باشا في ((الإيضاح))(ق75/أ): بأنه ذكر في الأصول أيضاً أن المعتبر مقارنة النية لذات العلة لا لوصف العلية ولذلك شرطوا الأهلية حال التعليق لا حال وجود الشرط التي هو زمان حدوث العلية , واللازم من منع التعليق العلية قبل وجود الشرط مقارنة النية للعلية لا مقارنتها لذات العلة.
(5/386)
________________________________________
(ومستولَّدةٍ[(1)] بنكاحٍ عُلِّقَ عتقُها عن كفارتِه بشرائِها): قولُهُ: ومستولدةٍ [بالجر](2) عطفٌ على عبد: أي ولا(3) بشراءِ مستولَّدة.
وصورتُها: أن يقولَ لأمةٍ استولدَها بالنِّكاح إن اشتريتُك فأنت حرَّةٌ عن كفارةِ يميني، فاشتراها تعتقُ لوجودِ الشَّرط(4)، ولا يجزئُهُ عن الكفارة؛ لأنَّ حرِّيَّتَها مستحقَّةٌ بالاستيلاد، [ولا يضافُ إلى اليمينِ من كلِّ وجه](5).
__________
(1) قوله ومستولدة على صيغة اسم المفعول من الاستسلاد اي التي جعلت ام ولد بنكاح بان نكح امة غيره وولدة منه ولدا فصارت ام ولده بالنكاح وانما لا يكون عتقها مجزيا عن الكفارة لنقصان رقها فانها استحقت العتق بالاستيلاد ولهذا لا يجزي اعتاقها عن الكفارة منجزا ايضا فشراؤه بعد ما علق عتقها بشرائها يكون اعتاقاً من وجه دون وجه فلا يجزى عن الكفارة بخلاف شراء القريب فان الرق فيه كامل وهو اعتاق من كل وجه لانه لم يثبت له قبل الشراء اعتاق من وجه كذا في الفتح.
(2) زيادة من أ.
(3) في س و م: لا.
(4) في م: الشروط.
(5) زيادة من ب و م.
(5/387)
________________________________________
(وتعتقُ بإن تسريتُ أمةً[(1)] فهي حرَّةٌ مَن تسراها[(2)] وهي ملكُهُ يومَ حلف، لا مَن شراها[(3)] فتسرَّاها)؛ لأنَّ هذه الأمةَ لم تكنْ في ملكِهِ زمانَ الحلف، ولم يضفْ عتقَها إلى الملك أو سببِه، وفيه خلافُ زُفر[(4)] - رضي الله عنه -.
__________
(1) قوله بان تسريبت امة معنى التسري بتشديد الراء المهملة على وزن التفعل اتخاذ الامة سرية وهو بضم السين المهملة وتشديد الراء المهملة على وزن فعلية منسوب الى السر بكسر السين المهملة وتشديد الراء بمعنى الاخفاء وعلى الجماع من اللزوم الاخفاء به وانما ضمت سين السرية لان الابنية قد تتغير في النسبة كما يقال للمعمر دهري بضم الدال المهملة نسبة الى الدهر بفتح الدال بمعنى الزمان كذا في العناية وحاصل المسألة انه اذا قال ان تسريت امة فهي حرة تعتق منها من اتخذها سرية وكانت مملوكة له عند الحلف لا من اشتراها بعد الحلف فتسراها
(2) قوله من تسراها فاعل لقوله تعتق ولما كان من عبارة عن مترانث الفعل المسند اليه ووجه عتقها ان الحلف انعقد في حقها لمصادفته الملك وذلك لان الامة منكرة في الشرط فيتناول كل جارية على الانفراد
(3) قوله شراها ذكر الشراء اتفاقي فان الحكم كذلك فيمن ملكها بعد الحلف بغير الشراء من اسباب الملك
(4) قوله خلاف زفر فانه يقول التسري لا يصح الا في الملك فكان ذكره ذكر الملك فصار كما اذا قال قال لاجنبية ان طلقتك فعبدي حر يصير التزوج مذكورا ولنا ان الملك يصير مذكورا ضرورة صحة التسري وهو شرط فيتقدم بقدره فلا يظهر في حق صحة الجزاء وهو الحرية وفي مسألة الطلاق انما يظهر في حق الشرط دون الجزاء حتى لو قال ان طلقتك فانت طالق ثلث فتزوجها او طلقها لا تطلق ثلثا فهذه وزان مسألتنا كذا في الهداية
(5/388)
________________________________________
(وبكلِّ مملوكٍ لي حرٌّ أمهاتُ أولادِه[(1)]، ومدبَّرُوه، وعبيدوه(2) لا مكاتبوه إلاَّ بنيِّتِهم)؛ لأنَّه لا يملكُهم يداً.
(وبهذا حرّ أو هذا وهذا لعبيدِه، [عُتِقُ](3) ثالِثهم وخُيِّرَ في الأولين كالطَّلاق)، كأنَّه قال[(4)
__________
(1) قوله امهات اولاده فان الملك في ام الولد والمدبر والعبد والامة كامل وان كان الرق في ام الولد والمدبر ناقصا لاستحقاقهما العتق بخلاف المكاتب فان الملك فيه ناقص لانه مملوك رقبة لابد الاستقاله بالتصرف فلا يدخل في اطلاق قوله مملوك الا اذا نوى
(2) في م: عبده.
(3) سقطت من ت و ص و ف و ق.
(4) قوله كان قال الخ قال الشارح في التوضيح يمكن ان يكون معناه هذا حر وهذان فيخير بين الاول والاخيرين لكن حمله على قولنا احدهما حر وهذا اولى بوجهين الاول انه في يكون تقديره احدهما حر وهذا حر وعلى فلك الوجه يكون تقديره هذا حر وهذان جان ولفظ حر مذكور في المعطوف عليه لا لفط حر فالاولى ان يضمر في المعطوف ما هو مذكور في المعطوف عليه والثاني ان قوله وهذا مغير لمعنى قوله هذا حر ثم قوله وهذا غير مغير لما قبله لان الواو للتشريك فيقتضي وجود الاول فيتوقف اول الكلام على المغير لا على ما ليس بمغير فيثبت التخيير بين الأول والثاني بلا توقف على الثالث فصار معناه احدهما حر ثم قوله وهذا يكون عطفا على احدهما وهذان الوجهان تفرد به خاطري انهى وفي التلويح لقائل ان يقول على الوجه عف الاول لا لمسلم ان التقدير هذا حر وهذان حران بل يزاحم وهذا حر وهذا حر و؟؟ يكون المقدر مثل الملفوظ وانما يلزم ما ذكره لو كان ذكر الثاني والثالث بلفظ التثنية لا يقال تلزم كثرة الحفذ لانا نقول مشترك الالزام اذ التقدير فيما هو المختار هذا حرا وهذا حر وهذا حر تكميلا للجمل الناقصة بتقدير مثل لان الحرية القائمة بكل تغاير الحرية القائمة بالآخر ولو سلم فمعارض بالقرب وكون المعطوف عليه مذكورا صريحا وعف على الوجه الثاني لا نسلم ان قوله وهذا ليس بمغير لما قبله قوله لان الواو للتشريك فيقتضي وجود الاول قلنا لا ينافي التغير هنا بل يوجبه فانه اذا لم يكن هذا التشريك كان له ان يختار الثاني وحده وبعد تشريك الثالث مع الثاني بعطفه عليه ليس له ذلك بل يجب اختيار الاول وحده او الاخيرين جميعا واذا كان مغيراً توقف اول الكلام على آخره ولم تثبت حرية احد الاولين انتهى
(5/389)
________________________________________
]: أحدُهما حرٌّ وهذا.
فإن قلتَ: بل هو كقوله: هذا حرٌّ أو هذان.
قلتَ: قد أجبتُ عنه في ((شرح التنقيح)) بجوابين(1)، فإن شئت فطالِعْه.
__________
(1) الوجهان هما كما ذكر الشارح في ((التوضيح))(1: 207-208):
الأول: أنه حينئذ يكون تقديره أحدهما حرّ وهذا حرّ وعلى ذلك الوجه يكون تقديره هذا حر أو هذان حران ولفظ حرّ مذكور في المعطوف عليه لا لفظ حران فالأولى أن يضمر في المعطوف ما هو مذكور في المعطوف عليه.
والثاني: إن قوله أو هذا مغير لمعنى قوله: هذا حر ثم قوله وهذا غير مغيّر لما قبله؛ لأن الواو للتشريك فيقتضي وجود الأول فيتوقَّفُ أول الكلام على المغيّر لا على ما ليس بمغيّر، فيثبت التخيير بين الأول والثاني بلا توقف على الثالث فصار معناه أحدهما حر ثم قوله وهذا يكون عطفا على أحدهما وهذان الوجهان تفرد بهما خاطري.اهـ.
(5/390)
________________________________________
(ولامٌ دخلَ[(1)] على فعل يقعُ من غيرِه[(2)]: كبيع، وشراء، وإجازة، وخياطة، وصباغة[(3)]، وبناء، اقتضى(4) أمرَهَ[(5)] ليَخُصَّه (6) به(7)[(8)]، فلم يحنثْ في: إن بعتُ لك ثوباً إن باعَه بلا أمرِهِ[(9)] ملكَهُ أوَّ لا[(10)
__________
(1) قوله ولام دخل الخ هو مبتدأ وخبره قوله يقتضي وفي بعض النسخ اقتضى وجملة دخل صفة للام وقوله يقع من غير صفة لفعل والمراد بدخولها عليه قربها منه بان تقع متوسطة بين الفعل ومفعوله كان بعت لك ثوبا وآحترز به اما لو تاخرت عن المفعول كان بعت ثوبا لك لان المتوسطة متعلقة بالفعل لقربها منه لا على انها صلة له لانه يتعدى الى مفعولين بنفسه مثل بعت زيدا ثوبا
(2) قوله يقع من غيره يعني تجري فيه النيابة واحترز به عن فعل لا تجري فيه النيابة على ما سيأتي تفصيله
(3) قوله وصياغة بالياء المثناة التحتية ومثله الصياغة بالياء الموحدة 0
(4) في أ و ب و س و م: يقتضى.
(5) قوله امره اي امر الغير فهو مصدر مضاف الى فاعله والمضاف مفعول الفعل مقدم عليه ومفعول الامر محذوف وهو الحالف
(6) في م: ليخلصه.
(7) أي بذلك الغير؛ لأن وضع اللم للاختصاص، وهو لا يتحقق هنا إلا بالأمر المفيد للتوكيل. ينظر: ((درر الحكام))(2: 60).
(8) قوله ليخصه به اي ليخص الحالف ذلك الغير المخاطب بالفعل المعطوف عليه وقيل اي ليفيد اللام اختصاص ذلك الفعل به اي بذلك الغير.
(9) قوله بلا امره قيده في البحر بان يكون امره بان يفعله لنفسه لقول صاحب الظهيرية لو امره ان يشتري لابنه الصغير ثوبا لا يحنث وفي النهر مقتضى التوجيه يعني بكونها للاختصاص حنثه اذا كان الشراء لاجله الا ترى ان امره ببيع مال غيره موجب لحنثه غير مقيد بكونه له
(10) قوله ملكه او لا اي سواء كان ذلك الثوب ملكاً للمخاطب او لم يكن ملكا له ووجه ذلك ان الحالف لم يجعل الثوب مختصا بالمخاطب حيث لم يقل ثوبا لك او ثوبك بل جعل البيع مختصاً به فيقتضي اختصاصه به لا اختصاص الثوب به
(5/391)
________________________________________
]): أرادَ بدخولِهِ على فعل[(1)] تعلُّقُهُ به، ففي قولِه: إن بعتُ لك ثوباً فعبدُهُ(2) حرّ، فاللامُ متعلِّق بالبيع، فيقتضي اختصاصَ البيعِ بالمخاطب، والفعلُ لا يختصُ بغيرِ الفاعل إلا بالأمر[(3)](4): أي التَّوكيل، ولهذا اقتضى الأمر.
__________
(1) قوله اراد بدخوله على فعل تعلقه به يشير الى انه ليس المراد بدخوله على فعل ما هو ظاهره فاز لا يتصور دخول اللام عليه ولا كونه للصلة به المراد به تعلقه به قوله فاللام بكذا في النسخ والاولى بل الصواب حذف الفاء قوله اختصاص البيع بالمخاطب اذا للام للاختصاص فانها تضيف متعلقهما وهو الفعل لمدخولها وهو كاف الخطاب فتفيد ان المخاطب مختص بالفعل وكونه مختصا به يفيدان لا يستفاد اطلاق فعله الا من جهته وذلك يكون بامره واذا باع بامره كان بيعه اياه من اجله وهي لام التعليل فصار المحلوف عليه ان لا يبيعه من اجله فاذا دس المخاطب ثوبه بلا علمه فباعه لم يكن باعه من اجله لان ذلك لا يتصور الا بالعلم بامره به ويلزم من هذا ان لا يكون لا في الافعال التي تجري فيه النيابة كذا في الفتح
(2) في س: فعنده.
(3) قوله الا بالامر قال في شرح تلخيص الجامع الكبير لو قال لزيد ان بعت لك ثوبا فعبدي حر ولا نية له فدفع يد ثوبا لرجل ليدفعه للحالف ليبيعه فدفعه وقال بعه لي ولم يعلم الحالف انه ثوب زيد لم يحنث لان اللم في بعت لك لاختصاص الفعل يزيد وذلك انما يكون بامره الحالف او بعلم الحالف انه باعه لاجله سواء كان الثوب لزيد او لغيره انتهى وهذا يفيد ان خصوص الامر غير شرط بل يكفي في حنثه قصده البيع لاجله سواء كان بامره او لا قال في البحر وهذا مما يجب حفظه فان الظاهر كلامهم هنا يخالفه مع انه الحكم
(4) في م: امر.
(5/392)
________________________________________
(وإن دخلَ على عين[(1)] أو فعلٍ لا يقعُ عن غيرِه: كأكل، وشرب، ودخول، وضربِ الولد[(2)]، اقتضى ملكَه[(3)]، فحنثَ في: إن بعتُ ثوباً لك إن باعَ ثوبَهُ بلا أمرِه): هذا نظيرُ [دخولِ[(4)] اللام على العين](5)، وهو الثَّوب[(6)
__________
(1) قوله على عين المراد به الذات بقرينة مقابلته مع الفعل وخلاصة المرام ان الفعل اما ان يكون مما يحتمل النيابة او لا وعلى كل تقدير فدخول اللام اما على الفعل او على مفعوله وهو العين فان دخلت على فعل يحتمل النيابة عن الغير اقتضت اختصاص الفعل بالمخاطب على ما مر ذكره وان دخلت على فعل لا يحتمل النيابة بان لا يجري فيه التوكيل كالاكل والشرب ونحوهما او دخلت على العين مطلقا سواء كانت الفعل من القسم الاول او من القسم الثاني كان بعت ثوبا لك وان اكلت طعاما لك اقتضت ملك العين للمخاطب سواء كان الفعل بامره او بغيره
(2) قوله وضرب الولد واما ضرب العبد فيحتمل النيابة فيكون من القسم الاول ولهذا لو حلف لا يضرب عبده فامر غيره بضربه حنث لان المنفعة تعود اليه كذا في العناية
(3) قوله اقتضى ملكله اي كون العين ملوكا للمخاطب فيحنث بفعله سواء كان بامره او بغير امره لان الفعل اذا لم يحتمل النيابة لم يكن انتقاله الى غير الفاعل فيكون الامر وعدمه سواء فتعين ان يكون اللام لاختصاص العين صونا للكلام عن الالغاء كذا في العناية 0
(4) قوله نظير الدخول المراد بالنظير المثال لا معناه المتعارف
(5) العبارة في أ و ص و ف: الدخول على العين.
(6) قوله وهو الثوب فان معنى ثوبا لك ثوبا موصوفا بكونه لك فان قلت يمكن تعلقها بالفعل على هذا التقدير ايضا قلت هب ولذا لو نواه صح كما صرح به في فتح القدير لكن لما كانت في هذه الصورة اقرب الى الاسم يعني الثوب بالنسبة الى الفعل اقتضته اضافة الاسم الى مدخولها اي كاف المخاطب فان القرب من اسباب الترجيح ولذا اذا توسطت تعلقت بالفعل لقربه كما مر مع انه يصح هناك ايضا جعلها حالا من الاسم المتاخر كذا في الفتح
(5/393)
________________________________________
].
أمَّا نظيرُ دخولِه: على فعلٍ لا يقعُ عن غيرِه، فقولُهُ: إن أكلتُ لك طعاماً[(1)]، أو شربتُ لك شراباً، اقتضى أن يكونَ الطَّعامُ أو الشَّرابُ ملكُ المخاطب، كما في قولِهِ: إن أكلتُ طعاماً لك، فإنَّه وإن كان متعلِّقاً بالأكلِ صورة، فهو في المعنى[(2)] متعلقٌ بالطَّعام.
وأمَّا ضربُ الولدِ نحو: إن ضربتُ لك الولدَ فعبدُهُ حرّ، فاقتضاءُ الملكِ فيه غيرُ ممكن [إلاَّ أن](3) يرادَ بالملكِ الاختصاص.
__________
(1) قوله ان اكلت لك طعاما بتقديم اللام على الاسم فان الاكل لا يحتمل النيابة فلا يصح جعلها لملك الفعل للمخاطب فصار تقدمها على الاسم كتاخرها عنه
(2) قوله في المعنى فان المعنى على كلا التقديرين طعاما موصوفا بكونه لكل اي مملوك.
(3) في م: لان.
(5/394)
________________________________________
(وفي: كلِّ عرسٍ[(1)] لي، فكذا بعد قولِ عرسِهِ: نكحْتَ عليّ، طَلُقَتْ هي، وصحَّ نيَّةُ غيرها ديانة)(2) فإنَّه قال(3) هذا الكلام إرضاءً لها، فيكونُ المرادُ غيرُها لا هي، لكنَّ هذا خلافُ الظَّاهر؛ لأنَّ كلاً كلمةُ العموم[(4)]، فلا يصدَّقُ قضاء.
__________
(1) قوله وفي كل عرس بكسر العين المهملة بمعنى الزوجة يعني اذا قالت الزوجة لزوجها نحكت على امرأة اخرى فقال الزوج كل عرس لي طالق يقع الطلاق على كل زوجة من ازواجه عند ذلك حتى المحلفة ايضا يعني الزوجة التي صارت باعثه بحلفه وعن ابي يوسف لا تطلق هي لانه اخرجه جوابا فينطبق عليه ولان غرضه ارضاؤها وهو بطلاق غيرها فيتقيد به ولذا لو نوى غير المحلفة صدق عندها ايضا لكن لاقضاء لكونه خلاف الظاهر بل ديانة وذكر في شرح التخليص عن البزدوي ان الفتوى على ما روى عن ابي يوسف انه لا تطلق المحلفة وذكر في الذخيرة عن بعض المتاخرين نقل عن شمس الايمة تحسينه انه ينبغي ان يحكم الحال فان جرى بينهما قبل ذلك خصومة تدل على انه قال ذلك على سبيل الغضب يقع الطلاق عليها ايضا والا فلا
(2) صورتها: إن مَن قالت امرأته: تزوجت عليّ، فقال: كل امرأة لي طالق تطلق امراته. ينظر: ((فتح باب العناية))(2: 295).
(3) في ب و س و م: يقال.
(4) قوله لان كلا كلمة العمون فتشمل كل فرد من افرادها دخلت عليه ما لم تدل قرينة على التخصيص كما اذا قال رجل الك امرأة غير هذه المرأة فقال كل امرأة لي فهي طالق فانه لا تطلق في هذه الصورة هذه المرأة لان قوله غير هذه المرأة لا يحتمل هذه المرأة فلم تدخل تحت كلمة كل كذا في الذخيرة
(5/395)
________________________________________
كتاب الحدود[(1)]
(الحدُّ: عقوبةٌ[(2)] مقدَّرةٌ[(3)] يجبُ[(4)] حقَّاً[(5)] لله تعالى، فلا تعزير، ولا قصاص حد).
أمَّا التَّعزير؛ فلعدمِ التَّقدير.
وأمَّا القصاص؛ فلأنَّهُ حقُّ وليِّ القصاص.
__________
(1) قوله: كتاب الحدود؛ لمّا فرغ عن الأيمان وكفّارتها الدائرةِ بين العبادة والعقوبة، شرعَ في أجزية العقوباتِ المحضة، والحدودُ بالضمّ جمع حدّ، بفتح الحاء المهملة، وتشديد الدال المهملة، وهو لغة: المنع، ومنه سمّي البوّاب والسجّان حداً، والمنعً الأوّل من الدخولِ في البيت، والثاني من خروجِ المسجون من السجن، وسمّي معرّف الماهيّات حدّاً لمنعه من الخروج والدخول، وحدودُ الدار نهاياتها، لمنعها من دخولِ ملكِ الغير فيها، وخروج بعضها إليه. كذا في ((الفتح)).
(2) قوله: عقوبة؛ هي اسمٌ لجزاءِ الإثمِ بالضربِ أو القطعِ أو الرجمِ أو القتل أو نحوها، تسمّى به لأنه يتلو الذنب، من: تعقّبه إذا تبعه، وهذا كالجنس، وما بعده كالفصل.
(3) قوله: مقدّرة؛ على صيغةِ اسم المفعول من التقدير؛ أي لها مقدارٌ خاصّ، واحترزَ به عن التعزيز، فإنّه ليس بمقدَّرٍ شرعاً، فقد يكون بالضربِ وبالحبسِ وبالقتل، وبغير ذلك حسبما يراه الإمام، والتعزيزُ بضربِ الأسواطِ وإن كان مقدَّراً على ما سيأتي، فإنّ أقلّه ثلاثة وأكثره تسعةً وثلاثون سوطاً، لكن ما بين الأقلّ والأكثر ليس بمقدّر، بل هو مفوّض إلى رأي الإمام. كذا في ((البحر)).
(4) قوله: يجب؛ أي زجراً للمرتكبِ على فعله، وعبرةً لغيره، فهي تمنعُ الغير عن ارتكاب مثله، والمرتكب عن العود إليه، وهل الحدود مطهّرة لمَن أقيمت عليه أم لا يطهرُ بدونِ التوبة، الصحيحُ عندنا هو الثاني.
(5) قوله: حقّاً لله؛ فإنّها شرعت لمصلحةٍ تعودُ إلى كافّة الناس، وفيه احترازٌ عن القصاص، فإنّه وجبَ حقَّاً للعبد، ولذا يجري العفو فيه دون الحدود.
(5/396)
________________________________________
(والزِّنا[(1)]: وطءٌ[(2)] في قُبِلٍ[(3)] خالٍ[(4)] عن ملكٍ وشبهته)؛ كمعتدةٍ البائن أو الثَّلاث.
(ويثبتُ بشهادةِ أربعةٍ[(5)] بالزِّنا لا بوطء أو جماع، فيسألُهم الإمامُ عنه، ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ ومتى زنى؟ وبمَن زنى؟).
__________
(1) قوله: والزنى؛ هو بسكرِ الزاي المعجمة، وبالقصر في لغةِ أهل الحجاز، فيكتب بالياء، والمدّ في لغة أهل نجد، فيكتب بالألف، وقدّم الكلام؛ لأنّه لصيانةِ النسلِ ولكثرة وقوعِ سببه مع شدّة عقوبته. كذا في ((الفتح)) و((النهر)).
(2) قوله: وطئ... الخ؛ هذا هو حدّ الزنى لغة، وهو المعنى الشرعيّ له، لكن زادَ الشرعُ في وجوبِ الحدّ بالزنا قيوداً كأن يكون الواطئ مكلَّفاً ناطقاً طائعاً، وكان القبلُ مشتهاة على ما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
(3) قوله: في قبل؛ بضمتين بمعنى فرجِ المرأة، واحترزَ به عن الوطئ في الدبر، فإنّه ليس بزنى إجماعاً، وإن كان حدّه حدّ الزنى عند جمعٍ من الصحابة فمن بعدهم.
(4) قوله: خال؛ صفةٌ لقبل؛ أي خالٍ عن ملكِ يمينه، وملك نكاحه، وعن شبهةِ الملكين، واحترزَ به عن وطئ زوجته، ووطئ أمته، ووطئ جاريةِ مكاتبه أو عبده الماذون، ووطئ التي تزوّجها بلا شهود، ووطئ أمة نكحها بغيرِ إذن مولاها.
(5) قوله: بشهادة أربعة؛ أي رجال، فإنّه لا شهادةَ للنساءِ في الحدود على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في (كتاب الشهادات)، والأصل فيه قوله تعالى: {واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن اربعة منكم}.
(5/397)
________________________________________
أمَّا السُّؤالُ عن الماهيَّة(1)؛ فلأنَّ بعضَ النَّاسِ[(2)] يطلقونَه على كلِّ وطءٍ حرام، وأيضاً[(3)]: قد أطلقَهُ الشَّارعُ على غيرِ هذا الفعل، نحو: ((العينان تزينان))(4)[(5)
__________
(1) أي عن حقيقة، كما في تعريفه.
(2) قوله: فلأنّ بعض الناس... الخ؛ يعني أنّهم يستعملون الزنى على كلّ وطئ حرام، مع أنّ الوطئ الحرام أعمّ من الزنا، فإنّ الوطئ حالةَ الحيضِ حرام وليس بزنى، ووطئ التي فيها شبهةُ الملكِ أو شبهة النكاح حرام، مع أنّه ليس بزنى، فلا بدّ أن يستفسرَ الحاكمُ الشهودَ عند شهادتهم بأنّه زنى: عن ماهيّة الزنى، ليعرف أنّهم لم يطلقوا الزنى على بعضِ أنواعِ الوطئ الحرام، ممّا ليس بزنى.
(3) قوله: وأيضاً... الخ؛ وجه ثانٍ للسؤال عن ماهيّة الزنى، وحاصله: إنّه وردَ في الشرعِ إطلاقُ الزنى على غيرِ هذا الفعل الموجبِ للحدّ، فلا بدّ أن يستفسرَ الشهودَ عن المراد بالزنى، ليعلم أنّهم لم يريدوا بالزنى ما ليس بموجبٍ للحدّ.
(4) من حديث أبي هريرة، وبهذا اللفظ في ((صحيح ابن حبان))(10: 267)، و((مسند الربيع))(1: 249)، و((مسند البزار))(5: 333)، و((مسند أحمد))(1: 412)، و((مسند إسحاق بن راهويه))(1: 116)، و((مسند أبي يعلى))(9: 246)، و((المعجم الكبير))(9: 134)، وورد بلفظ: (إن الله كتب على بن آدم حظَّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه) في ((صحيح البخاري))(2: 229)، و((صحيح مسلم))(4: 2047)، وغيرهما.
(5) قوله: نحو العينان... الخ؛ هذا الحديث أخرجه أحمد في ((مسنده))، والطبرانيّ في ((معجمه الكبير))، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني))، وفي رواية مسلمٍ عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((كتب على ابن آدمَ نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان، زناهما النظر، والإذنانُ زناهما الاستماع، واللسانُ زناه الكلام، واليدان زناها البطش، والرجل زناها الحفا، والقلب يهوى ويتمّنى، ويصدقُ ذلك الفرج ويكذّبه))، وفي رواية أبي داود عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((لكلّ ابن آدم حظّه من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، والإذنان زناهما الاستماع، واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفمُ يزني فزناه القبل))، وفي روايةِ البيهقيّ: ((إنّ الله تعالى كتبَ على ابن آدمَ حظّه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه))، ووردَ إطلاقُ الزنا على السحاق أيضاً، ففهي ((شعب الأيمان)) للبيهقيّ مرفوعاً: ((سحاقُ النساءِ زناً بينهنّ)).
(5/398)
________________________________________
].
وأمَّا عن الكيفيَّة[(1)]؛ فلأنَّه قد يقعُ الوطءُ من غيرِ[(2)] إلتقاءِ الختانين.
وأمَّا عن أين؟؛ فلأنَّ الزِّنا في دارِ الحربِ لا يوجبُ الحدّ[(3)].
وأمَّا عن متى؛ فلأنَّ التَّقادُمَ[(4)] لا يوجبُ الحدّ.
وأمَّا عن المزنيَّة؛ فلأنَّه قد يكون في وطءها شبهة؟
__________
(1) قوله: وأمّا عن الكيفيّة... الخ؛ السؤالُ عن الكيفيّة والأين ومحلّ الزنا، ليعلم أنّ هذا الفعلَ الخاصّ المشهود به قد تحقّقت فيه الماهيّة الشرعيّة.
(2) قوله: قد يقعُ الوطئ من غير... الخ؛ وذلك بأنّ يتماسّ الفرجان من غير ولوج، فالسؤالُ عن الكيفيّة لدفعِ توهّم أن الشهودَ رأوا تماسّ الفرجين، فشهدوا بالزنى.
(3) قوله: لا يوجبُ الحدّ؛ لأنّ تلكَ الدارِ ليس بدارِ إقامة الحدود، فلا يكون الزنى هناك موجباً لإجراء الحدّ، لا في تلك الدارِ ولا في دار الإسلام على ما سيأتي.
(4) قوله: فلأنّ التقادم؛ أي طولَ زمانه، ويجيء حدّه إن شاء الله.
(5/399)
________________________________________
(فإن بيَّنوه[(1)]: وقالوا[(2)]: رأيناهُ وَطِئها في فرجِها، كالميلِ في المُكْحُلة، وعُدِّلوا[(3)] سرَّاً(4) وعلاناً(5)، حُكِمَ به[(6)]).
__________
(1) قوله: فإنّ بيّنوه؛ أي المذكورُ من الأوجه المسؤول عنها.
(2) قوله: وقالوا؛ هو زيادة بيان احتيالاً لدرءِ الحدود، وقيل: هو تفسير لقوله: بيّنوه وفيه ما فيه0
(3) قوله: وعدلوا؛ بصيغة المجهول من التعديل، وسيجيء ذكر التعديلِ في (كتاب الشهادات) إن شاء الله، وأشارَ به إنَّ شهادةَ المستورِ غير مقبولةٍ في الحدود، بل لا بدّ هاهنها من تعديلِ الشهودِ سرَّاً وعلانية، وصورةُ التعديلِ سرَّاً أن يبعثَ القاضي بأسماءِ الشهودِ إلى المعدّل بكتابٍ فيه أسماؤهم وأنسابهم ومحالّهم وسوقهم، حتى يعرفَ المعدّل ذلك، فيكتب تحتَ اسم مَن كان عدلاً: عدلٌ جائزُ الشهادة، ومَن لم يكن عدلاً لا يكتب تحتَ اسمِه شيئاً، أو يكتب: الله يعلم، وصورةُ التعديلِ علانيةً أن يجمعَ القاضي بين المعدّل والشاهد، فيقول المعدّل: هذا هو الذي عدّلته. كذا في ((البناية)).
(4) وهو أن يبعث ورقة فيها أسماؤهم وأسماء محلتهم على وجه يتميَّزُ كلٌّ منهم لمن يعرفه فيكتبُ تحت اسمه هو عدل مقبول الشهادة. ينظر: ((الشرنبلالية))(2: 62).
(5) في أ و ج و ص و م: علانية. وهي أن يجمع بين المعدل والشاهد فيقول هذا هو الذي عدلته. ينظر: ((الفتح))(5: 217).
(6) قوله: حكم به؛ أي بثبوتِ الزنا، بحيث يترتّب عليه وجوبُ الحدّ، وفيه إشارةٌ إلى أنّ إقامةَ الحدودِ إلى الحاكم لا إلى غيره.
(5/400)
________________________________________
ثُمَّ عطفَ على قولِهِ: بشهادةِ أربعة؛ قولَهُ: (وبإقراره أربعاً[(1)]): أي أربعةَ مرَّات، (في أربعةِ مجالسٍ(2)[(3)
__________
(1) قوله: أربعاً؛ أصل ذلك أنّ ماعزَ الأسلميّ - رضي الله عنهم -، لما أقرّ عند رسولِ الله بالزنى فأعرضَ عنه رسولُ الله حتى أقرّ به أربعَ مرّات، أخرجه أبو داود وغيره، ويشترطُ في كونِ الإفرادِ مثبتاً أن يكون المقرّ صاحياً، فلا يعتبرُ إقرارُ السكران، وأن يكون الإقرارُ صريحاً، فلا يعتبرُ إقرارُ الأخرس بكتابةٍ أو إشارة، وأن لا يكذب المقرّ الآخر، فلو أقرّ أنّه زنى بفلانةٍ وكذّبته هي لا يجبُ عليه الحدّ، وأن لا يظهرَ كذبه بكونه مجبوباًن وكونها رتقاء. كذا في ((البحر)) وغيره، والأصلُ في هذا كلّه أنّ الحدودَ تدرءُ بالشبهات على ما سيأتي، فيحتالُ لدفعهما مهما أمكن، ولذا اعتبرَ في بابِ ثبوتِ الزناء شهادةُ أربعِ رجال، والإقرارُ أربع مرّات، ولذا استحبّ للحاكمِ التلقين على ما سيأتي.
(2) أي من مجالس المقرّ، وقيل: الإمام، والأول هو الصحيح. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 586).
(3) قوله: في أربعة مجالس؛ فلو أقرّ أربعاً في مجلسٍ واحدٍ كان بمنْزلةِ إقرارٍ واحد، وهل المعتبرُ اختلافُ مجالسِ المقرّ أو اختلافُ مجالس الحاكم، فيه قولان: والأوّل أصحّ، والأصل فيه حديثُ قصّة ماعزٍ فإنّه روى ابن حبّان في ((صحيحه)): إنّه طرده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات إلى أن أقرّ مرّة رابعةً فأقامَ عليه الحدّ، وفي السنن: إنّه أقرّ فأعرضَ رسولُ الله صلعم فجاءَ ماعزُ من الشقِ الآخر فأقرّ فأعرض، فأتى الشقّ الآخر، وهكذا إلى أن أقرّ أربع مرّات، وفي ((صحيح مسلم)): عن بريدة: كنت جالساً عند النبيّ صلعم إذ جاء ماعز بن مالك فقال: إنّي زينت، وأنا اريد أن تطهّرني، فقال له عليه السلام: ارجع فلمّا كان من الغدِ أتاهُ أيضاً فاعترفَ عنده بالزنا، فقال له: ارجع، ثمَّ عادَ الثالثةَ فاعترفَ بالزنا، ثمَّ رجعَ الرابعةَ فاعترف، فحفرَ له حفرةً فجعلَ فيها إلى صدره، ثمَّ أمرَ الناس فرجموه.
(5/401)
________________________________________
] ردَّهُ كلَّ مرَّة، ثُمَّ سأله(1) كما مرّ)(2)، اعلم أنَّ في قولِهِ: ردَّهُ كلَّ مرَّةٍ؛ تسامح؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ الإمامَ يردُّهُ أربعَ مرَّات، وليس كذلك[(3)]، بل الإمامُ يردُّه ثلاثةُ مرَّات، فإذا أقرَّ مرَّةً رابعةً لا يردُّه، بل يقبلُه، فيسأله(4) كما مرَّ[(5)] [من](6) قَبْل(7)، إلاَّ[(8)] في السُّؤال عن متى؛ لأنَّه إنِّما يسألُ عنه احترازاً(9) عن التَّقادُم، وهو يمنعُ الشَّهادة لا الإقرار، وقيل: يسأل عن متى أيضاً؛ لإحتمالِه في زمانِ الصَّبى.
__________
(1) في ب و ت و ج و م: يسأله.
(2) أي في الصورة التي سبقت قبل أسطر.
(3) قوله: وليس كذلك؛ فإنّ الإقرارَ مرّة رابعة موجبٌ للحدّ كما تواردت عليه روايات قصَّة ماعز في الصحاح والسنن، وفي رواية أحمد واسحق بن راهوية، و((مصنّف)) ابن أبي شيبةَ - رضي الله عنه -: عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: أتى ماعز بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم فاعترفَ وأنا عنده مرّة فردّه، ثمّ جاءَ فاعترفَ عنده الثانية فردّه، ثمّ جاءَ فاعترفَ عنده الثالثة فردّه، قال: فقلت له: إن اعترفتَ الرابعةَ رجمك.
(4) في في م: فليسأله.
(5) قوله: كما مرّ؛ فيسأله ما هو، وكيف هو، وأين هو، وبمَن زنى، ومتى زنى.
(6) سقطت من ب و س و ص.
(7) في ب: قيل. والعبارة في س: كما مر قبل قيل.
(8) قوله: إلا في السؤال؛ استثناءٌ من قوله: كما مرّ، وحاصله: إنّه قال بعضُ المشايخ: إنّه لا حاجةَ في صورةِ الإقرار عن سؤالِ متى؛ لأنّ فائدةَ السؤالِ دفعَ ظهور التقادم، فإنّ التقادمَ يمنعُ وجوبَ الحدّ، وهذا في الشهادة، وفي صورةِ الإقرارِ على ما سيأتي تفصيله، والأصحّ أنّه يسألُ في صورة الإقرارِ أيضاً عن متى؛ لاحتمالِ كون الزنا في زمانِ صباه، ومثلُه لا يوجبُ الحد، فلا بدّ من السؤالِ ليندفعَ هذا الاحتمال.
(9) في م: احتراز.
(5/402)
________________________________________
فإن بيَّنَ[(1)] حُبِّبَ[(2)] تلقينُهُ برجوعِهِ(3): بلعلَّك لمست، أو قبَّلت، أو وَطِئت بشبهة، فإن رَجَعَ[(4)] قبل حدِّه، أو في وسطِه خُلِّيَ[(5)
__________
(1) قوله: بيّن؛ أي بيّن المقرّ ما سئلَ عنه من الماهيّة والكيفيّة والزمان والمكان وتعيّن المزنيّة.
(2) قوله: حبّب؛ بصيغة المجهولِ من التحبيب، يعني يستحبّ للحاكمِ أن يلقّن المقرّ بما يرجعُ عن إقراره، ويخاطبه بكلماتٍ مشيرةٍ إلى رجوعه، وذلك لأنّ الحدودَ تحتالُ لدفعها، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز بعد إقراره مرَّات: ((أبك جنون، قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم))، أخرجه البخاريّ ومسلم، وفي رواية لمسلمٍ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إقرارِه اربعاً: ((فلعلّك، قال: لا والله إنّه قد زنى)) وفي روايةِ النسائيّ وأبي داود وأحمد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز: ((إنّك قد قلتها أربع مرات فيمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم))، وفي روايةِ الحاكم في ((المستدرك))، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعلك قبَّلتها، قال: لا، قال: لعلّك مسستها؟ قال: لا، قال: ففعلت بها كذا وكذا، قال: نعم))، وفي ((صحيح البخاري)): قال له: ((لعلّك قبلت أو غمزتَ أو نظرت؟ قال: لا، قال: أفنكتها؟ قال: نعم)).
(3) في ت و ج و ص و ق: رجوعه.
(4) قوله: فإن رجع؛ أي المقرّ عن إقراره قولاً أو فعلاً، أمّا قولاً فبأن يقول: كذبتُ في إقراري أو يقول: ما أقررت بالزنا، وأمّا فعلاً فبهربه عند رجمه، وكذا يصحّ رجوعه عن الإقرارِ بإحصانه. كذا في ((البحر)) و((الخانية)).
(5) قوله: خلّى؛ بصيغة المجهول من التخلية، أي لم يحدّ بالكليّة إن رجعَ قبل حدّه ولم يحدّ باقيه إن رجعَ بعد الشروعِ في حدّه، وذلك لقولِ بريدة: كنّا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدّث أنّه لو جلسَ ماعزٌ في رحلِهِ بعد اعترافِهِ ثلاث مرّات لم يطلبه، أخرجه مسلم، وعند أبي داود والنسائيّ قال: ((كنّا أصحابَ رسول الله نتحدَّث أنّ الغامديّة وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما))، وفي روايةٍ لأحمد وأبي داود والنسائيّ أنّه لما رجمَ ماعز ووجدَ مسّ الحجارةِ خرجَ يشتدّ، فلقيه عبد الله بن أنيس، فنَزعَ له بوطيف بعيرٍ فقتله، وذكرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال: هلاّ تركتموه لعلّه يتوبُ فيتوبُ الله عليه)).
(5/403)
________________________________________
] وإلاَّ حدّ.
[فصل في كيفية الحد وإقامته]
وهو للمحصَن[(1)]: أي لحرٍّ[(2)
__________
(1) قوله: للمحصن؛ بفتح الصاد المهملة وبكسرها، قال أبو البقاءِ الكفويّ في ((كليّاته)): الإحصان: العفّة، وتحصينُ النفسِ في الوقوع في الحرام، كما في قوله تعالى: {والذين يرمونَ المحصنات} الآية، والتزويجُ كما في قوله تعالى: {فإذا أحصنّ}، والحريّة كما في قوله تعالى: {نصفُ ما على المحصنات من العذاب}، والإصابةُ في النكاحِ كما في قوله تعالى: {محصنين غير مسافحين}، والمحصنُ من الأحرفِ التي جاءَ الفاعلُ منها على مفعل، بفتح العين، وإن كان قياسُ اسمِ الفاعلِ في باب الأفعال أن يجيءَ بالكسر، واسم المفعول بالفتح، إلا ما شذّ، ومنه المسهب: من أسهب؛ أي أكثر وأطنب في الكلام، والمفلج: من أفلج؛ أي أفلس، والإحصانُ عبارةٌ من اجتماعِ سبعة أشياء: البلوغ، والعقل، والحريّة، والنكاح الصحيح، والدخول، وكون كلّ واحدٍ من الزوجين مثل الآخر في صفةِ الإحصانِ والإسلام، وعند الشافعيّ رح: الإسلامُ ليس بشرطٍ للإحصان، وكذا عند أبي يوسف في رواية، كما في ((كفاية المنتهي)).
(2) قوله: أي لحرّ... الخ؛ وجه اشتراطِ الحريّة أنّه لا رجمَ على غيرِ الحرّ، يدلّ عليه قوله تعالى: {فإذا أحصنّ}؛ أي الإماء، أي تزوّجن، {فإن اتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}؛ أي نصف ما على الحرائر، والعذابُ على الحرائرِ والأحرار على نوعين: أحدهما الجلدُ مائة سوط، وهو المذكور في قوله تعالى في سورة النور: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رافة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}، وثانيهما: الرجمُ للمحصن وهو المذكور في قوله تعالى في سورةِ الإحزاب إذا زنى الشيخ والشيخوخة فارجموهما التبة نكالا من الله والله عزيز حكيم، وفي رواية زيادة: بما قضيا من اللذة، بعد قوله: البتة، وهذه الآيةُ منسوخةَ التلاوة، كما أخرجه أبو عبيد والحاكم وغيرهما، وأخرج البخاريّ ومالك في ((موطأ))، ومن طريقهِ محمّد في ((موطأه)) عن عمرَ بن الخطَّاب أنّه قال في خطبته في آخرِ حياته: إيّاكم أن تهلكوا عن آيةِ الرجمِ أن يقولَ قائل: لا نجدُ حدّين في كتابِ الله، فقد رجمَ رسولُ الله ورجمنا، وإنّي والذي نفسي بيده لولا أن يقولَ الناس زادَ عمرُ في كتابِ الله لكتبتها: الشيخ والشيخوخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنّا قد قرأناها، وروى مالكٌ أيضاً عنه: قال الرجمُ في كتابِ اللهِ حقّ على مَن زنى إذا أحصن من الرجالِ والنساء إذا قامت عليه البيّنة، أو كان الحبل أو الاعتراف، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلّ دمُ امرأ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانٍ فإنّه يرجم، ورجلٌ خرجَ محارباً لله ورسوله، فإنّه يقتلُ أو يصلب أو ينفى من الأرض، ورجلٌ قتلَ نفساً فإنّه يقتل بها))، أخرجه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه والنسائيّ وغيرهم من طرقٍ مختلفةٍ بألفاظٍ متقاربة، وبالجملة: ثبتَ الرجمُ على المحصنِ بالقرآنِ والأحاديث المتكثّرة وآثار الصحابة، بل وقعَ عليه الإجماع، ومن المعلومِ أنّ الرجمَ ممّا لا يمكنُ تنصيفه، وإنّما القابلُ له هو الجلد، ولذا أجمعوا على أنّ حدَّ العبد والأمةِ خمسونَ سوطاً، فعلم بإشارةِ آيةِ التنصيفِ أنّ الرجمَ مختصٌّ بالأحرار، وأمّا اشتراطُ كونِهِ مكلّفاً؛ أي عاقلاً غير مجنون، بالغاً غير صبيّ، فلأنّ الحدودَ كلّها مرفوعة، بل جميعُ التكاليفِ الشرعيّة عن المجنون والصبيّ لحديث: ((رفعَ القلمُ عن ثلا:ث عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبيّ حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ))، أخرجه الترمذيّ وغيره، وأمّا اشتراطُ الإسلامِ فلحديث: ((مَن أشركَ باللهِ فليس بمحصن))، أخرجه اسحق بن راهويه في ((مسنده)) عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه الدارقطنيّ في ((سننه)) وقال: الصوابُ إنّه موقوف، وأخرجَ الدارقطنيّ وابن عديّ عن كعب بن مالك أنّه أرادَ أن يتزوّج يهوديّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتزوّجها فإنّها لا تحصنك)) وسنده ضعيف، ويعارضه ما أخرجه مالكٌ والشيخان، وأصحابُ السننِ وغيرهم من قصّة إقامةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّ الرجمِ على اليهوديّ واليهوديّة، فإنّه صريحٌ في أنّ الإسلامِ في الإحصانِ ليس بشرط، وقد أجابوا عنه بأجوبةٍ أكثرها ضعيفة، وأحسنها ما نقّحه ابنُ الهمامِ من أنّ هذا الحديثَ دلّ على عدمِ اشتراطِ الإسلام في الإحصان، والحديثُ السابقُ القوليّ دلّ على اشتراطه، والقولُ مقدّم على الفعلِ إلا أنّه موقوفٌ على ثبوتِ القول، مرفوعاً بسندٍ صحيح، وقد بسطتُ الكلام في هذا المرامِ في ((التعليق الممجّد على موطأ محمّد))، فليراجع.
(5/404)
________________________________________
] مكلَّفٍ مسلمٍ و(1)طئَ[(2)] بنكاحٍ صحيح[(3)]، وهما[(4)] بصفةِ الإحصان(5) ): أي وَطِئَ حال كونِهما(6) بصفةِ الإحصان: أي الأمورُ[(7)] التي يثبتُ بها الإحصان ما عدا الوطئ، كانت حاصلةً قبيل هذا الوطئ، فإذا وُجِدَ الوطءُ تَمَّ(8) جميعُ ما يثبتُ بها الإحصان، فقولُهُ: وهو للمحصن: مبتدأ[(9)]، وخبرُهُ قولُه: (رجمُهُ(10)
__________
(1) في س: أو.
(2) قوله: وطئ؛ أي بنفسِ الايلاج وإن لم ينْزل. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: بنكاحٍ صحيح؛ احترازٌ عن النكاحِ الفاسد، كالنكاحِ بلا شهود؛ فإنّه لا يكون به محصناً، والشرطُ صحّته حالَ الدخول، حتى لو وطئ في نكاحٍ موقوفٍ على الإجازة ثمّ أجازت العقد أو وليّ الصغيرةِ لا يكون بهذا الوطئ محصناً.
(4) قوله: وهما؛ أي الواطئ والموطوءة فلو زنت أمة بحرٍّ أو عبدٍ بحرَّة فلا إحصان، وكذا لو زنى بمسلمةٍ ذمّي ثمّ أسلم، لا يرجم، ثم إنّ بقاءَ النكاحِ ليس بشرطٍ لبقاءِ الإحصان، حتى لو وطئ بنكاحٍ صحيح في عمرِه مرَّة ثمَّ طلَّق وزنى رجم، كلّما زني. كذا في ((الدرر شرح الغرر)).
(5) وحصول الوطء بنكاح صحيح شرطٌ لحصول صفة الإحصان ولا يجب بقاؤه لبقاء الإحصان حتى لو تزوَّج في عُمُره مرّة بنكاح صحيح ودخل بها، ثم زال النكاح وبقي مجرداً وزنى يجب عليه الرجم. ينظر: ((درر الحكام))(2: 63).
(6) أي الزوجين، بأن توفَّرت في كلٍّ منهما الشروط السابقة.
(7) قوله: أي الأمور... الخ؛ أشار بهذا التفسير إلى دفعِ ما يتوهَّم من أنَّ الإحصانَ موقوفٌ على وطئ بنكاحٍ صحيح، فيوجدُ بعد الوطئ، فكيف يتصوّر كونهما محصنين حالة الوطئ، كما يفيده كلامُ المصنّف رح لكونِ الحالِ وذي الحال مقارنين زماناً.
(8) في م: ثم.
(9) قوله: مبتدأ؛ فيه مسامحةٌ لا تخفى، فإنّ المبتدأ إنّما هو الضمير، وقوله: للمحصن، من متعلّقاته، لكنَّ مثلَ هذه المسامحةِ لا يضرّ في أصلِ المقصود، وقد مرّ نظيره في باب التيمّم من (كتاب الطهارة).
(10) في ق: رجم.
(5/405)
________________________________________
في فِضاءٍ[(1)] حتى يموت[(2)] يبدأُ به[(3)
__________
(1) قوله: في فضاء؛ بكسر الفاء: هو الصحراء، والمكان الواسع، وأصلُه رجمَ ماعز في المصلّى كما وردَ في الصحيحين وغيرهما، وكان المصلّى إذ ذاكَ فضاءً واسعاً، والسرّ فيه أنَّ المكانَ الواسع أمكن لرجمه، وأبعدُ من احتمالِ أن يصيبَ بعض الراجمين بعضاً.
(2) قوله: حتى يموت؛ أشار به إلى أنَّ المقصودَ قتلَه بطريقِ الرجمِ لا مطلق الرجم كما شهدت به الأحاديث الصحيحة المرويّة في الصحاح، ويتفرّع عليه ما ذكر في ((البحر)) و((المحيط)) وغيرها: إنّه لو رجمه محرمه لا يحرمُ عن الميراث، نعم ينبغي له أن لا يقصد قتله؛ لأنّ بغيرِه كفاية، ويتفرّع عليه أيضاً أنّه لو قتلَ الزاني الواجبَ رجمه شخص أو فقأ عينه بعد القضاءِ بالرجم، فدمه هدر، لا قصاصَ على القاتل إن كان قتله عمداً، ولا دية إن كان خطأ، وينبغي أن يعزّر لافتياته على الإمام. كذا في ((النهر)).
(3) قوله: يبدأ به؛ أي يرجمه أوّلاً شهودُ زناه، ولو بحصاةٍ صغيرة، لأنّهم قد يتجاسرون على أداء الشهادة ثم يستعظمون المباشرة فيرجعون، ففيه احتيالٌ لدرءِ الحد، وهو مطلوب. كذا في ((المحيط))، وأصله ما أخرجه ابن أبي شبيةَ في ((مصنَّفه)): إنّ عليّاً كان إذا شهده عند الشهود على الزناء، أمرَ الشهود أن يرجموا ثمَّ يرجمه الناس، وإذا كان بإقرارٍ بدأ هو فرجمَ ثمّ رجم الناس، وهذه البدايةُ واجبة، كما في ((الذخيرة))، وذكرها في غيرها بلفظِ الشرط، وكذا رجمُ الإمامِ في صورةِ الشهادةِ بعد رجم الشهود، وفي صورةِ الإقرار ابتداء، فلو امتنعَ الإمامُ عن الرجمِ لايحل للقوم رجمه لعلمهم بفوات شرطِ الرجم، ويرد عليه: إنّه مخالفٌ لرجمِ ماعزَ - رضي الله عنهم - في زمانِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث لم يحضره النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه بنفسه على ما شهدت به الروايات السابقة، ومَن ثمّ ذكر ابن كمال الروميّ في ((إيضاحِ الإصلاح)): إنّ حضورَ الإمام ليس بلازم، وأقرّه في ((النهر الفائق))، وأجابَ عنه ابن الهمامِ في ((الفتح)): بأنّ حقيقةَ ما دلّ عليه قول عليّ - رضي الله عنهم - هو أنّه يجب على الإمامِ أمرُ الشهودِ بالابتداءِ احتيالا؛ً لثبوتِ دلالة الرجوع وعدمه، وأن يبتدئ هو في صورةِ الإقرار، لينكشفَ للناسِ عدمُ تساهله في بعض شروطِ القضاء والحدّ، فإذا امتنعَ ظهرت إمارةُ الرجوع، وامتنعَ الحدّ لظهور الشبهة، وهذا منتفٍ في حقّه صلى الله عليه وسلم فلم يكن عدم رجمه دليلاً على سقوطِ الحد.
(5/406)
________________________________________
] شهودُه، فإن أبوا، أو غابوا، أو ماتوا سقط[(1)]، ثُمَّ الإمام، ثُمَّ النَّاس[(2)].
__________
(1) قوله: سقط؛ أي حدّ الرجم؛ لأنّ الشرطَ هو بدايةُ الشهود، على أنّ في صورةِ غيبوبتهم يحتملُ رجوعهم عن الشهادة، وفي صورةِ موتِهم انتفت الشهادة، والشرطُ بقاؤها إلى وقتِ الرجم، وفي صورة إبائهم عن الرجم الأمر أظهر، لكن لا يحدّون حدّ القذف بالإباء؛ لأنّه ليس صريحاً في الرجوع، فيكفي في سقوطِ حدّ الزاني، ولا يكفي في إقامةِ حدّ القذف عليهم. كذا في ((الفتح))، و((كذا يسقط الحدّ عن الزاني إن خرجَ بعض شهوده عن المية الشهادة بفسق أو عمى أو خرس أو قذف. كذا في ((منح الغفّار)).
(2) قوله: ثمّ الناس؛ أشار به إلى أنّه ينبغي الرجمُ في محضرٍ من الناس، ولذا استحبّ كونه في الفضاء، ويشهد له قوله تعالى: {وليشهد عذابهما}؛ أي الزاني والزانية، {طائفة من المؤمنين}، قال الحسن: الطائفة عشرة، أخرجه عبد بن حميد، وقال الزهريّ: الطائفة الثلاثة فصاعداً، أخرجه ابن جرير، وأخرج عن مجاهد قال: الطائفةُ الثلاثة فصاعداً، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذرِ وابن أبي حاتم عن قتادة قال: أمر الله أن يشهدَ عذابهما طائفةٌ من المؤمنين، قال: ليس ذلك للتفضيح، وإنما ذلك ليدعوا الله لهما بالتوبةِ والرحمة.
(5/407)
________________________________________
وفي المقرِّ يبدأُ الإمام[(1)]، ثُمَّ النَّاس، وغُسِلَ[(2)] وكُفِنَ وصُلِّيَ عليه.
__________
(1) قوله: يبدأ الإمام؛ لما ثبتَ في سننِ أبي داود وغيره أنّه رجمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المرأة الغامديّة بحصاة، وكانت أقرّت بالزنا: ثمَّ قال للناس: ((ارموا واتّقوا الوجه))، وأخرج البيهقيّ عن عليّ - رضي الله عنهم - أنّه قال: ((أيّها الناس، أيّما امرأة جيء بها وبها حبلٌ أو اعترفت، فالإمامُ أوّل مَن يرجم، ثمّ الناس، ثمّ رجمها، ثم أمرهم، فرجم صف، ثمّ صف، ثمّ صف))، وفي روايةٍ لأحمد عنه أنه قال: ((لو كان شهد على هذه أحد لكان أوّل مَن يرى الشاهد يشهد، ثمّ يتبع شهادته حجره، ولكنها أقرّت، فأنا أوّل مَن يرمي ؟؟؟؟ بالحجر، ثمّ رماها الناس، وورد في ((مصنّف ابن أبي شبية)) عنه: ((الزنا زنان، زنا السرّ، وزنا العلانية، فزنا السرّ أن تشهدَ الشهودُ فيكونُ الشهود أوّل مَن يرمي، ثمّ الإمامُ ثمّ الناس، وزنا العلانية أن يظهرَ الحبلُ أو الاعتراف، فيكون الإمامُ أوّل مَن يرمي))، ووردَ عنه في ((سنن البيهقيّ)) أنّه أمرَ الراجمينَ أن يصفّوا كصفّ الصلاةِ صفَّاً خلف صفّ، لئلا يصيبَ بعضهم بعضاً.
(2) قوله: وغسّل؛ أي غسّل المرجومُ كغسلِ سائرِ الأمواتِ وكفّن كتكفينهم، وصلّى على جنازته، والأصل فيه قولُ عليّ - رضي الله عنهم - بعدما رجمَ امرأة: افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم، أخرجه البيهقيّ في ((سننه))، وقد وردَ في ((صحيح مسلم)) والسننِ الأربعة: إنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على الامرأة الجهنيّة الغامديّة التي اعترفت بالزنا، ووردَ في ((صحيح البخاري)): إنّه صلى الله عليه وسلم صلّى على ماعز.
(5/408)
________________________________________
ولغيرِ المحصنِ جلدُهُ مئةً وسطاً[(1)] بسوطٍ لا ثمرةَ له).
__________
(1) قوله: وسطاً؛ أي سوطاً متوسّطاً بين الجارحِ وبين غير المؤلم، بأن يكون مؤلماً غير جارح، ولو كان المجلودُ ضعيفَ الخلقةِ فخيفَ هلاكه يجلدُ جلداً ضعيفاً يحتمله. كذا في ((الفتح))، والأصلُ في هذا البابِ ما أخرجه ابن أبي شيبة في ((مصنّفه)) عن أنسٍ أنه قال: كان يؤمرُ في زمانِ عمرَ - رضي الله عنهم - بالسوطِ فتقطع ثمرته ثمّ يدقّ بين حجرين حتى يلين، ثمّ يضربُ به، وأخرج عبدُ الرزّاق في ((مصنّفه)): إن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إني أصبتُ حدَّاً فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوطٍ شديدٍ له ثمرة، فقال: سوطٌ دون هذا، فأتى بسوطٍ فقال: سوط فوق هذا، فأتى بسوطٍ بين سوطين، فقال هذا فأمر به فجلد.
(5/409)
________________________________________
في ((المغرب)): الثَّمرة: العَذَبَةُ وهي ذَنَبُه(1)، وقيل: العُقْدة[(2)]، قال: والأَوَّلُ أصحّ(3).
وفي ((الصِّحاح)): ثمرة السِّياط: عُقَدُ أطرافِها(4).
__________
(1) أي طرفه.
(2) قوله: وقيل: العقدة؛ بالضم بالفارسية: كَره، هذا هو المشهورُ في تفسيرِ الثمرة، ورجّح في المغربِ أنّ الثمرةَ ذنبُ السوط، وهو بفتحتين، ومثله العذبة بفتحات، بالفارسية: رشته تازيانه، وذكر في ((الفتح)): إنّه روى عن أنسٍ أنه كان يؤمرُ بالسوطِ فتقطعُ ثمرتُهُ ثمّ يدقّ بين حجرين حتى يلين، ثمّ يضربُ به، فالمرادُ أن لا يضرب، وفي طرفِهِ يبس، لأنّه يجرح، فكيف إذا كان فيه عقدة، والحاصلُ أنّه يتجنّب كلّ من الثمرةِ بمعنى العقدة، وبمعنى الفرعُ الذي يصير به ذنبين تعميماً للمشتركِ في النفي، ولو تجوز بالثمرةِ فيما يشاكل العقدة ليعمّ المجاز ما هو يابسُ الطرفِ على ما ذكرنا لكان أولى؛ فإنّه لا يضربُ بمثلِه حتى يدقّ رأسه، فيصير متوسّطاً. انتهى ملخّصاً.
(3) انتهى من ((المغرب))(ص62-63)، وعبارته: وثمرة السوط: مستعارة من واحدة ثمر الشجر وهي عذبته وذنبه وطرفه، وفي ((المجمل)) ثمر السياط عقد أطرافها، ومنه: يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له يعني العقدة/ والأول أصح لما ذكر الطحاوي أن علياً - رضي الله عنه - جلد الوليد بسوط له طرفان، وفي رواية: له ذنبان أربعين جلدة فكانت الضربة ضربتين.اهـ.
(4) انتهى من ((الصحاح))(1: 161).
(5/410)
________________________________________
(ويُنْزَعُ(1) ثيابُهُ إلاَّ الإزار[(2)]، ويُفَرَّقُ[(3)](4) على بدنِه إلاَّ رأسَه، ووجَهُ، وفرجَه قائماً[(5)] في كلِّ حدٍّ بلا مدّ[(6)]): أي من غيرِ أن يلقى على الأرض ويمَدَّ رجلاه.
وقيل: أن يمدَّ الضَّارب يدَهُ فوقَ رأسِه.
وقيل: أن يمدَّ السَّوطَ على العضوِ بعد الضَّرب(7).
__________
(1) في أ و ت و ص و ق: ينزع.
(2) قوله: إلا الإزار؛ لأنّ في نزعِهِ كشفُ العورة وهو حرام.
(3) قوله: ويفرّق؛ بصيغة المجهول من التفريق؛ أي يفرّق الجلدُ ويضربُ بأسواطٍ في مواضعَ متفرّقة من بدنه؛ لأنّ جمعَه في موضعٍ واحدٍ قد يؤدّي إلى الهلاك، ولهذا الوجهَ بعينه استثنى الوجهَ والرأسَ والفرج، قال علي رض لجلاّد: اضرب، وأعطِ كلّ عضوٍ حقّه، واتقَّ الوجه والمذاكير، أخرجه ابن أبي شيبةَ وعبد الرزَّاق وسعيد بن منصور، وفي الصحيحين مرفوعاً: ((إذا ضربَ أحدكم فليتّق الوجه))، واستثنى بعض المشايخ الصدر أيضاً، وفيه نظر: بل الصدرُ من المحال، والضربُ بالسوطِ المتوسّط عدداً يسيراً لا يقتل في البطن فكيف بالصدر. كذا في ((الفتح)).
(4) في ت و ج و ق: يفرق.
(5) قوله: قائماً؛ أي حال كونِ المحدودِ قائماً، قال عليّ - رضي الله عنه -: يضربُ الرجلُ قائماً، والمرأةُ قاعدة في الحدود، أخرجه عبد الرزاق.
(6) قوله: بلا مدّ؛ أي بلا مدّ المجلود على الأرض، أو بلا مدّ السوط، بأن يرفعه الضاربُ فوق رأسه أو بأن يمدّه على جسدِ المضروبِ بعد وقوعِه عليه، وفيه زيادةُ ألم، قال في ((الفتح)): وكلّ ذلك لا يفعل.
(7) قال صاحب ((الهداية))(2: 97): وذلك كله لا يفعل؛ لأن زيادة على المستحقّ.
(5/411)
________________________________________
(وللعبدِ[(1)] نصفُها، ولا يحدُّهُ سيِّدُه بلا إذنِ الإمام): هذا عندنا خلافاً للشَّافِعِيِّ(2)[(3)] -
__________
(1) قوله: وللعبد؛ الأصلُ فيه ما مرّ من قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، نزلت في الإماء، وشملت العبدَ أيضاً؛ لاشتراكهما في الرقّ المنقصِ للنعمة، ولعقوباتِ الجنايات، وقد ثبتَ عن عمرَ في ((الموطأ)) أنّه جلدَ العبيدَ خمسين، وإنّما خصَّ ذكرَ الإماءِ في الآية؛ لكثرةِ أسبابِ السفاح فيهنّ، وغلبة شهوتهنّ، وهذا هو النكتةُ في تقديمِ ذكرِ الزانيةِ على الزاني في قوله تعالى: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}، وقدّم ذكرَ الرجلِ في آيةِ السرقة، وهي قوله تعالى: {السارق والسارقة فاقطعوا ايديهما}؛ لأنّ مبنى السرقة على الاختفاء، واتّخاذاً يحصل، ومثله في الرجال أكثر بالنسبةِ إلى النساء، على أنّ شاهدَ الوجودِ أيضاً يشهدُ بكثرةِ السرقةِ في الرجال، وكثرةُ الزنى في النساء، فقدّم في كلّ من الآيتين ما هو أكثر وقوعاً، ولهذه النكتةُ قدَّمَ ذكرَ الرجلَ في آيةِ الرجم؛ لأنّ الزنى بعد الإحصانِ في الرجلِ أكثرُ بالنسبةِ إلى النساء.
(2) ينظر: ((المنهاج)) وشروحه: ((مغني المحتاج))(4: 152)، و((تحفة المحتاج))(9: 116)، و((نهاية المحتاج))(7: 433)، وغيرها.
(3) قوله: خلافاً للشافعيّ رح؛ له أنّ للسيّد ولايةٌ كاملةٌ على عبدِهِ وأمته، فتجوزُ له إقامةَ الحدودِ كما تجوزُ له إقامةُ التعزيز، ومثله روي عن بعضِ الصحابةِ أنّه جلدَ عبده، كما في ((الموطأ))، ولنا أنّ الحدَّ حقّ الله تعالى، ولذا لا يسقطُ بإسقاطِ العبد، فيستوفيه مَن هو نائب عن الشرع، وهو الإمامُ أو نائبه، بخلاف التعزير، فإنّه حقّ العبد. كذا في ((الهداية))، ويشهدُ لمذهبنا قولُ الحسنِ البصريّ: أربعٌ إلى السلطان: الصلاة والزكاة والحدود والقصاص، أخرجه ابن أبي شيبة، وعن عطاء الخراساني قال: إلى السلطان: الزكاة والجمعةُ والحدود.
(5/412)
________________________________________
رضي الله عنه -.
(ولا يُنْزَعُ[(1)] ثيابُها إلاَّ الفرو والحشو، وتحدُّ جالسة.
وجازَ الحفرُ لها(2)[(3)] لا له[(4)].
__________
(1) قوله: ولا ينْزع... الخ؛ الوجه فيه أنّ في تجريدها كشفُ العورة، والفردُ وهو بفتحِ الفاءِ وسكون الراء المهملة بالفارسية: يوستين، والحشو على وزنِهِ بالفارسية: جامئه ينبه دار لمّا كانا مانعين عن وصولِ الألمِ إلى جسدِ المضروب، والستر حاصلٌ بدونهما لزمَ نزعهما.
(2) أي للرجم.
(3) قوله: وجاز الحفر لها؛ أشار بذكرِ الجوازِ إلى أنه ليس بواجب، فإنّ الغرضَ من الحفرِ حصولُ الستر، وهو حاصلٌ بثيابها، لكن لمّا كان فيه السترُ الزائدُ استحبّ الحفرُ لها إلى صدرها، وقد ثبتَ ذلك في ((صحيح مسلم)) في رجمِ الغامدية في الزمانِ النبويّ صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ ثبتَ نحوه عند أحمدٍ والبيهقيّ.
(4) قوله: لا له؛ أي لا يحفرُ للرجل؛ لعدمِ الحاجة إليه، ويؤيّده قول أبي سعيد الخدريّ، لمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم برجمِ ماعز: خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما أوثقناه ولا حفرنا، ولكنَّه قامَ للناسِ فرميناه بالعظامِ والمدرِ والخزف، فاشتد واشتددنا خلفه، حتى أتى عرضَ الحرَّة فرميناه بجلاميدِ الحرّة حتى سكت. أخرجه مسلم، ويخالفه ما أخرجه مسلمٌ ايضاً من روايةِ بريدة: إنّه حفرَ له حفرةٌ إلى صدره.
(5/413)
________________________________________
ولا جمعَ بين جلد ورجم[(1)](2)، ولا [بين](3) جلدٍ ونفي[(4)] إلاَّ سياسة[(5)
__________
(1) قوله: ولا جمعَ بين جلد ورجم؛ أي لا يجمعُ بين الجلد والرجمِ للزاني المحصن، بل يكتفي بالرجم، به وردت الأخبار، فقد ثبتتَ في الصحاحِ والسننِ قصّة رجمِ ماعز، وقصّة رجمِ المرأة الغامديّة، وقصّة رجم امرأةٍ زنى بها أجير زوجها، ولم يروِ الجلد في أحدها، وهذا كلّه يبيّن أنّ المرادَ بالزاني والزانية في آيةِ الجلد هو غيرُ المحصن، وإن كان إطلاقُ الآيةِ ليشملَ المحصن أيضاً، ويخالفه روايةُ عبادةُ بن الصّامت مرفوعاً: ((البكر بالبكر، جلد مائة، ونفي سنة، والثيّب بالثيّب جلدُ مائة، والرجم))، أخرجه مسلم، وقد نصّ الجازمي في كتاب ((الناسخ والمنسوخ))، والمنذريّ في ((مختصره)): إنّه منسوخ، بدليل أنّ رواةَ قصَّة الرجمِ في حديث العسيف؛ أي الأجير وغيره متأخرو الإسلام.
(2) العبارة في ق: رجم وجلد.
(3) زيادة من أ و م.
(4) قوله: ولا بين جلدٍ ونفي؛ أي لا يجمع للزاني الغير المحصن بين جلدٍ ونفي سنة، وهو أن يخرجَ من ذلك البلدِ إلى سنة، لينزجر بذلك؛ لأنّ حدّ غير المحصنِ مذكورٌ في الآية، واكتفى فيها على الجلد، ولو كان النفيّ داخلاً في الحدّ لذكرَ في الآيةِ بالضرورة.
(5) قوله: إلا سياسة؛ هي مصدرُ ساسَ الوالي الرعيّة: أمرهم ونهاهم، وحاصلها استصلاحُ الخلقِ بإرشادهمِ إلى الطريقِ المنجي، وحسنُ التدبير، وعرَّفها بعضهم بأنّها تغليظُ جنايةٍ لها حكمٌ شرعيّ حسماً لمادّةِ الفساد، وفي ((البحر)): ظاهرُ كلامهم أنّ السياسةَ هي فعلُ شيءٍ من الحاكمِ لمصلحةٍ يراها، وإن لم يرد بذلك الفعلِ دليلٌ جزئيّ، وقال الحمويّ: السياسةُ شرع مغلّظ، وهي نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها، وسياسةٌ عادلة، تخرجُ الحقّ من الظالم، وتدفعُ كثيراً من المظالم، وتردعُ أهلَ الفساد، وتوصلُ إلى المقاصدِ الشرعيّة، فالشريعةُ توجبُ المصيرَ إليها، والاعتمادُ في ظهورِ الحقّ عليها.
(5/414)
________________________________________
]): هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ(1)[(2)] - رضي الله عنه - يجمعُ في البكرِ بين الجلدِ والنَّفي، وهو تغريبُ عام[(3)
__________
(1) ينظر: ((الأم))(6: 114)، و((حاشيتا قليوبي وعميرة))(4: 182)، و((فتوحات الوهاب))(5: 132)، وغيرها.
(2) قوله: وعند الشافعي... الخ؛ له حديث عبادة الذي مرّ ذكره في بحثِ الجمعِ بين الرجم والجلد، ويوافقه ما أخرجه البخاريّ: إنّ رسولَ الله قضى فيمَن زنا ولم يحصن بنفي عام، وبإقامةِ الحدّ عليه، وأجاب الجمهورُ بأنّ حديثَ عبادة منسوخٌ كما مرّ، والحديثُ المذكور حاكمٌ بأنَّ النفيَ ليس بداخلٍ في الحدّ الواجب بقرينة عطفِهِ عليه، فهو محمولٌ على أنّه فعلَه زجراً وسياسة، وعليه يحملُ ما روى الترمذيّ وغيره: إنّ أبا بكر - رضي الله عنهم - وعمر - رضي الله عنهم - جلدا الزاني وغرّبا سنة، ويؤيّده قول عليّ: كفى بالنفي فتنة، أخرجه عبد الرزاق وأخرج أيضاً عن عمرَ أنّه غرّب ربيعةَ بن أميّة بن خلفٍ في الشراب، فلحق بهرقل وتنصّر، فقال عمر - رضي الله عنهم -: لا أغرّب بعده مسلماً، وبالجملة: لا شبهةَ في ثبوتِ التغريبِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبارِ أصحابه قولاً وفعلاً، لكن لا دلالةَ لرواياته على أنّه جزءُ الحد، حتى يكون الجلدُ وحده بعض الحدّ، فالأولى أن يجعلَ الحدّ هو الجلد وحده كما دلّت عليه الآية، ويجعلُ النفيُ الثابتُ بالسنن تعزيزاً وسياسة، ولو حملَ عليها حديث الجمع بين الرجمِ والجلدِ للزاني المحصن أيضاً لم يكن فيه بعد، فبطلَ قول المتعصّبين: إنّ الحنفيّة خالفوا الأحاديث الصحيحية الواردةَ في التغريب، وظهر أنّ الحنفيّة قد عملوا في هذا الباب بكلّ من الآية والسنّة، ووفّروا حظ كلّ منهما على ما يناسبه، ومَن ظنّ أنّ النفيَ جزءُ الحد، وأنّ المذكورَ في الآية بعض الحدّ فليأتِ بدليلٍ صريحٍ يدلّ على ذلك، ودونه خرط القتاد.
(3) قوله: وهو تغريب عام؛ يريد به أنّ النفي وتغريبُ عامٍ المذكورُ في رواياتِ الحديث معناهما واحد، وهو الإخراجُ من بلدته إلى غيرها، وتفسيرُ النفي في هذا المقام بالحبس كما ذكره بعض المشايخ خطأ، نعم قد فسّر به النفيُ الواردُ في آيةِ حدّ قطّاع الطريق، وهي قوله تعالى: {إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف او ينفوا من الارض.
(5/415)
________________________________________
].
(ويرجمُ مريضٌ[(1)] زنى، ولا يجلدُ حتَّى يبرأ.
وحاملٌ زَنَت تُرْجَمُ حين وضعَت(2)[(3)
__________
(1) قوله: ويرجم مريض؛ لأنّ المقصودَ بالرجم إهلاكه، فلا يقدرُ رجمه في مرضه، بل يعين على المقصود، بخلاف الجلد، فإنّه ليس الغرضُ فيه الإهلاك بل مجرّد الزجر والإيلام، وفي جلدِ المريض احتمالُ لهلاكه، فيوقف جلده إلى أن يصحّ، ويزول سقمه وضعفه.
(2) لأن جنينها لا يستحق الرجم لعدم الجناية منه، وتحبس حتى تلد إن ثبت زناها بالشهادة، ولا تحبس إن ثبت بالإقرار. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 212).
(3) قوله: ترجم حين وضعت؛ لا قبل الوضع، ولا تجلد قبل الوضع كيلا يؤدّي إلى هلاكِ الولد؛ لأنّه نفس محترمة، لا جريمة منه، نعم تحبسُ إلى أن تلدَ إن كان الحدّ ثابتاً بالبيّنة، كيلا تهرب، بخلاف الإقرار، فإنّ المقرّة لا تحبس؛ لأنّ الرجوعَ عن الإقرار معتبر، فلا يفيد الحبس. كذا في ((الهداية)) و((الفتح))، والأصل في هذا الباب حديثُ الغامديّة، وقد اختلفتِ الروايةُ فيه، قال الزيلعيّ في ((تخريج أحاديث الهداية)): في ((صحيح مسلم)): عن يسير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت الغامديّة فقالت: يا رسول الله، إنّي زنيت فطهّرني، وإنّه ردّها، فلمّا كان الغدُ قالت: يا رسولَ الله لعلّك تريدُ أن تردّني كما رددتَ ماعزاً، فوالله إنّي لحبلى، فقال: أمّا لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبيّ في يدِه كسرة خبز، فقالت يا رسول الله، قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفعَ الصبيّ إلى رجلٍ من المسلمين، ثم أمرَ بها فحفرَ لها إلى صدرها، وأمرَ الناس فرجموها، وأخرجه أيضاً عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه، فذكره قال: ويحك ارجعي فاستغفري الله، وتولى إليه، قالت: أراكَ تريدُ أن ترددني كما رددتُ ماعزاً، قال: وما ذاك، قالت إنّها حبلى من الزنا، قال: أنت، قالت: نعم، فقال لها: اذهبي حتى تضعي ما في بطنك، قال: فكفّلها رجلٌ من الأنصار، ثمّ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعتِ الغامدية، قال: إذاً لا نرجمها وندعُ ولدها صغيراً ليس له مَن يرضعه، فقال رجلٌ من الأنصار: فقال: انى رضاعه، قال: فرجمها، وفي هذا ما يقتضي أنّه رجمها حين وضعت، وفي الأوّل ما يقتضي أنّه تركها حتى فطمت ولدها، ولكنّ الأوّل فيه يسير بن المهاجر وفيه مقال، ويتقوّى الثاني بروايةِ عمران بن حصين، أخرجها مسلمٌ أيضاً، وفيها: إنّه عليه السلام رجمها بعد أن وضعت، وقال بعضهم: يحتملُ أن يكونا امرأتين: إحداهما وجدَ لولدها كفيل، والأخرى لم يوجدْ لولدها كفيل، فوجب أمها لها حتى يستغنيَ ولدها. انتهى.
(5/416)
________________________________________
]، وتجلدُ بعد النِّفاس[(1)]).
بابُ [الوطء الذي يوجب](2) الحدَّ أو لا
(الشُّبهةُ[(3)] دارئةُ[(4)] للحدّ).
__________
(1) قوله: بعد النفاس؛ أي بعد انقطاعه؛ لأنّه نوعُ مرض، فينتظرُ إلى أن تبرأ منه.
قوله حين وضعت الا اذا لم يكن للمولود من يربيه فتمهل حتى يستغني ولدها وهذه رواية عن الامام اختارها صاحب المختار وحسنها في النهر.
(2) في ت و س و ص و ق و ف: وطء يوجب.
(3) قوله: الشبهة؛ هي بالضمّ ما يشبه الثابت، وليس بثابت في نفس الأمر.
(4) قوله: دارئة؛ اسمُ فاعل من الدرء بالفتح، بمعنى الدفع، والأصلُ في هذا الباب حديث: ((ادرؤا الحدود بالشبهات))، أخرجه الإمامُ أبو حنيفة عن مقسم عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما في ((مسند أبي حنيفة)) الذي جمعه الخصفكي، والمسندُ الذي جمعه الخوارزميّ وغيرهما، وفي روايةِ الدارقطنيّ والبيهقيّ عن عليٍّ مرفوعا: ادرؤا الحدود، ولا ينبغي للإمامِ أن يعطّل الحدود، وفي رواية ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً: ادفعوا الحدودَ عن عبادِ الله ما وجدتّم له مدفعاً، وفي رواية ابن أبي شيبة والترمذيّ والحاكم والبيهقيّ عن عائشةَ مرفوعاً: ادرؤا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتّم للمسلمِ مخرجاً فخلّوا سبيله، فإنّ الإمام لأن يخطيء في العفوِ خيرٌ له من أن يخطيء في العقوبة، وفي البابِ آثارٌ كثيرةٌ بسطّتها في رسالتي: ((القول الجازم بسقوطِ الحدّ بنكاح المحارم))، وهي رسالةٌ فريدةٌ في بابها، مَن شاءَ الاطّلاع على نفائسَ شريفة فليطالعها.
(5/417)
________________________________________
اعلم أن الشُّبهةَ ضربان[(1)]:
في الفعل.
وفي المحل[(2)].
__________
(1) قوله: ضربان؛ أي قسمان، وهناك قسمٌ ثالثٌ مسمّى بشبهةِ العقد عند أبي حنيفة، وإنّما لم يذكرها لأنّها ليست اتّفاقيّة، فإنّ أبا يوسفَ رح ومحمّداً لم يجعلا النكاحَ شبهةً يسقطُ بها الحد على ما سيأتي إن شاء الله تفصيله، ويحتمل أن يكون عدمَ ذكرها لإدراجها في أحد القسمين، فإنّ منهم مَن أدرجَ شبهةَ العقد في شبهة الفعل، ومنهم مَن أدرجها في شبهةِ المحلّ.
(2) قوله: في الفعل وفي المحل؛ الشبهةُ في المحلّ؛ أي محلّ الوطئ وهو الموطؤة، وتسمّى شبهةً حكميّة، وشبهةٌ في الملك أيضاً، هي أن يقومَ هناكَ دليلٌ نافٍ للحرمةِ في المحلّ في نفسِ الأمرِ من غير توقّف على ظنّ الجاني واعتقاده، فيورثُ ذلك اشتباهاً، ولو كان خفيفاً ركيكاً في حرمةِ المحلّ، والشبهةُ في الفعلِ هي أن يكون وقعَ للواطئ اشتباهٌ في حرمةِ الفعل؛ أي نفسُ الوطئ، واشتبه عليه كونه محرَّماً من دون أن يكون اشتباهُ حلّ الملك، بل حرمةُ المحلّ تكون قطعيّة؛ لعدمِ وجودِ دليل يورث شبهة في حلّه، ولهذا لا يحدّ فيه مَن ظنّ حلّه أو ادّعى ظنّه به، ويحدّ به غيره؛ لأنّ هذه الشبهةَ تقتصرُ على مَن وجدت به، ويحد إن قال: علمت أنّها حرام، بخلافِ الشبهةِ الأولى، وإن شئتَ التفصيل في هذا البحثِ الجليل، فارجع إلى رسالتي: ((القول الجازم بسقوط الحد بنكاح المحارم)).
(5/418)
________________________________________
فشرعَ في الضَّربِ الأَوَّل بقولهِ: (وهي في الفعل: تثبتُ(1) بظنِّ غيرِ الدَّليلِ[(2)] دليلاً(3)، فلا يحدُّ الجاني إن ظنَّ[(4)] أنَّها تحلُّ له في وطءِ أمةِ أحدِ أبويه[(5)]، وعرسِه[(6)]، وسيِّدِه، والمُرْتَهِنِّ[(7)
__________
(1) في أ و ب و ت وج و س: يثبت.
(2) قوله: بظنّ غير الدليل؛ أي ظنّ ما ليس دليلاً على الحلّ دليلاً، فهذه الشبهةُ تتحقَّق في حقّ مَن اشتبه عليه الحلّ والحرمة، إذ لا دليلَ في السمعِ يفيدُ الحلّ، بل ظنّ غيرِ الدليلِ دليلاً، كما يظنّ أن جاريةَ زوجته تحلّ له، لظنّه أنّه استخدام، واستخدامها حلال، فلا بدّ من الظنّ، وإلا فلا شبهة أصلاً، لفرضِ أن لا دليلَ أصلاً لتثبت الشبهةُ في نفس الأمر، فلو لم يكن ظنّه الحلّ ثابتاً لم تكن شبهة أصلاً. كذا في ((الفتح)).
(3) وهي تحقق في حقّ من اشتبه عليه لا مَن لم يشتبه عليه ولا بُدَّ من الظنّ ليتحقق الاشتباه: كقوم سقوا خمراً يحدُّ مَن علم منهم أنه خمر لا مَن لا يعلم. ينظر: ((درر الحكام))(2: 64).
(4) قوله: إن ظنّ؛ أشار به إلى أنّ نفيَ الحدّ هاهنا مشروطٌ بظنّ الحلّ، فإنّ هذا الظنّ هو الشبهة، فلو لم يظنّ لم توجدْ شبهةٌ أصلاً، بخلافِ شبهةِ المحلّ، فإنّ الشبهةَ هناك جاءت من دليلٍ دالٍّ على حلّ المحل، فلا يحتاجُ هناك إلى ظنّ الحل، ثمّ المعتبرُ في هذا البابِ هو دعوى الظن، وإن لم يحصل له الظنّ في الواقع، ولو ادّعاه أحدهما فقط لم يحدّا حتى يقرَّا جميعاً بعلمهما بالحرمة. كذا في ((النهر)).
(5) قوله: وطئ امة أحد أبويه؛ وإن علو، كوطئ أمة أمّ الأمّ وأمةِ الجدّ إلى غير ذلك، إذا ظنّ أنّها تحلّ له.
(6) قوله: وعرسه؛ بالكسر؛ أي زوجته، وهو معطوفٌ على قوله: أحد أبويه، وكذا قوله: وسيّده؛ أي أمةُ زوجته، وأمةُ سيّده.
(7) قوله: والمرتهن؛ هذا معطوفٌ على قوله: أمة؛ أي وطئ المرتهنُ الأمةَ ... المرهونة، ولا يخفى ما في هذا العطف من الاختلال، فإنّ المعطوفَ عليه مفعولٌ للمضاف؛ أي وطئ، والمعطوف فاعلٌ له، ومفعوله المرهونة، ولو قال: ومرهونة لكان أولى.
(5/419)
________________________________________
] المرهونةَ في الأصحّ، والمعتدَّةِ بثلاث، وبطلاقِ على مال، وبإعتاقِ أمِّ ولدِه).
اعلم أنَّ اتصالَ الأملاكِ[(1)] بين الأصولِ والفروع، قد يوهمُ[(2)] أنَّ للابنِ ولايةَ وطءِ جاريةِ الأب[(3)]، كما في العكس.
__________
(1) قوله: اتّصال الأملاك... الخ؛ هذا وجهٌ لسقوطِ الحدّ بوطئ أمةِ أحد أبويه، وحاصله أنّ الأملاك بين الأصولِ كالأبِ والأمّ وأصولهما، وبين الفروعِ كالأبناءِ وأبنائهم متّصلة، وبينهم انبساطٌ تامّ، بحيث لا يمنعُ أحد الفريقين الآخرَ عن التصرّف في ملكه، وهذا الاتّصال يصيرُ منشأ للاشتباه، وظنّ أنّ للابنِ ولايةُ وطئ جارية الاب، كما أن للأبِ ولايةُ جاريةِ الابن، على ما سيأتي، فيسقطُ الحدّ إذا حصلَ له هذا الظنّ، وإن قال: علمت أنّه حرامٌ حدّ.
(2) قوله: قد يوهم؛ مضارعٌ معروفٌ من الإيهام، بمعنى الإيقاع في الوهمِ أي الذهن.
(3) قوله: جارية الأب، ولو زنى بامرأةِ الأبِ أو الجدّ حدّ، وإن قال: ظننتُ أنّها تحلّ لي كما في ((الخانية))؛ لأنّ هذا الظنّ لا يستندُ إلى دليلٍ ضعيفٍ أيضاً، ومجرّد جهلِ الأحكامِ الشرعيّة لا يعذرُ به الجاني. قوله في الاصح متعلق بمسألة وطي المرهونة واشار به الى خلاف فيه وسنذكره ان شاء الله تعالى.
(5/420)
________________________________________
وغنى[(1)] الزَّوجِ بمالِ الزَّوجةِ المستفادُ من قولِهِ تعالى: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى}(2): أي بمالِ خديجةَ - رضي الله عنه -، قد يورثُ شبهةَ كونِ مالِ الزَّوجةِ ملكاً للزَّوج.
واحتاجُ[(3)] العبيدِ إلى أموالِ الموالي(4) إذ ليس لهم مال، ينتفعونُ(5) به مع كمالِ الانبساطِ بين مماليكِ مولى واحدٍ مع أنهم معذورون بالجهلِ مظنَّةً لاعتقادِهم حلَّ وطء إماء(6) الموالي(7).
__________
(1) قوله: وغنى... الخ؛ هذا وجهٌ لسقوطِ الحدّ بوطئ جاريةِ زوجته، وحاصله: إنّه قد ينسبُ غنى الزوجة إلى الزوج، ويعدّ الزوجُ غنيّاً بمالِ الزوجة، ألا ترى إلى أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمّا تزوَّج خديجةَ بمكَّة وهي أوّل زوجاته، وكان رسول الله إذ ذاكَ غيرُ غنيّ بنفسه، أنزلَ الله في بيانِ امتنانه عليه سورة: {والضحى}، وقال فيه: {الم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى}، فنسبَ الله غنى زوجتِه إليه، لمّا حصلت له به قوّة التصرّف، لما بين الزوجينِ من الانبساط، فهذا يورثُ الشبهة في حلّ وطئ الزوجة.
(2) الضحى، (8).
(3) قوله: واحتياج... الخ؛ هذا وجهٌ لسقوط الحدّ بوطئ أمةِ سيّده، وحاصلُه إنّ العبيدَ محتاجونُ إلى أموالِ المولى، وليس لهم أموالٌ ينتفعون به، فإنّ كلّ ما للعبدِ ملكٌ للمولى، وبين العبيدِ ومواليهم، وبين مماليكهم الآخرين انبساطٌ تامّ، وهذا كلّه يمكن أن يكون منشأً لظنِّ العبدِ حلّ وطئ أمةِ سيّده، كيف لا والعبيدُ لعدمِ تفرّغهم لتحصيلِ المسائلِ لاشتغالهم بخدمةِ مواليهم لا يستبعدُ منهم وقوعُ مثل هذه الشبهة.
(4) في ب و م: المولى.
(5) في في ص: ينتفقون، وفي م: فينتفعون.
(6) في ص: إمامه.
(7) في ب و س و م: المولى.
(5/421)
________________________________________
ومالكيَّةُ[(1)] المُرْتَهنِّ للمرهونةِ ملكَ يد، قد توهمُ حلَّ وطءِ المرهونة[(2)].
__________
(1) قوله: ومالكيّة... الخ؛ هذا وجهٌ لسقوطِ الحدّ بوطئ المرهونة، قال في ((العناية)): إذا قال المرتهنُ ظننتُ أنّها تحلّ لي لا يحدّ على روايةِ (كتاب الحدود)، وعلى روايةِ (كتاب الرهن): لا يجبُ الحدّ سواءً ادّعى أنّها تحلّ له أو لم يدّع؛ لأنّه وطئ جاريةً انعقدَ له فيها سببُ الملك، فلا يجبُ عليه الحدّ، اشبته أو لم يشتبه، وإنّما قلنا: انعقدَ له فيها سببُ الملك؛ لأنّه بالهلاكِ يصيرُ مستوفياً حقّه من وقتِ الرهن، فقد انعقدَ له سببُ الملكِ في الحال، وتحصلُ حقيقةُ الملكِ عند الهلاك، ووجه ما ذكره في (كتاب الحدود) هو أنّ عقدَ الرهنِ عقدٌ لا يفيدُ ملكَ المتعةِ بحالٍ، فقيامه لا يورثُ شبهةً حكميّة، فإنّ هاهنا إنّما يملكُ المرتهنُ ماليّة المرهونِ عند الهلاك، وملكُ المالِ بعد الهلاك لا يفيدُ ملكَ المتعة في حالٍ من الأحوال. انتهى. وفي ((البحر)): الحاصلُ أنّه إذا ظنَّ الحلّ فلا حدّ باتِّفاقِ الروايتين، والخلافُ فيما إذا علمَ الحرمة، والأصحّ وجوبه.
(2) قوله: حلّ وطئ المرهونة؛ ذكر في ((الهداية)): إنّ المستعيرَ للرهنِ كالمرتهن، يعني الذي استعارَ أمةً من مالكها ليرهنها لو وطئها ظانّاً الحلّ لا يحدّ، ووجهه: إنّه إذا استعارَ شيئاً ليرهنه هكذا، فهلكَ عند المرتهن صار المرتهنُ مستوفياً دينه، ووجبَ مثلُ الدينِ للمعير على المستعير؛ لأنّه صار قابضاً دينه بالرهن، فإذا غرم للمعيرِ صارَ مالكاً له، فكان بمنْزلةِ المرتهن.
(5/422)
________________________________________
وبقاءُ أثرِ النِّكاح[(1)]، وهو العدَّة، لا يبعدُ أن يصيرَ سبباً؛ لأن يشتبَه عليه حلُّ وطءِ المعتدَّةِ(2) بثلاث[(3)]، والمعتدَّةِ(4) بطلاقِ على مال[(5)
__________
(1) قوله: وبقاءُ أثرِ النكاح... الخ؛ وجهٌ لسقوطِ الحدّ بوطئ المعتدَّات المذكورة، وحاصله: إنّ المعتدّة لمّا كان أثرُ النكاحِ فيها باقياً وهو العدّة، وكذا أثرُ أموميّة الولدِ بعد الإعتاق باقٍ، صار ذلك منشأً لظنّ حلّ وطئها، فلا يحدّ إلا إذا علمَ الحرمة.
(2) في ص: والمعيدة.
(3) قوله: بثلاث؛ قال في ((البحر)): أطلقَ الثلاث فشملَ ما إذا أوقعها جملةً أو متفرّقاً، ولا اعتبارَ بخلافِ مَن أنكرَ وقوعَ الجملة؛ لكونِهِ مخالفاً للقطع، كذا ذكره الشارحون، وفيه نظر، لما في ((صحيح مسلم)) من أنّ الطلاقَ الثلاث كان واحداً في زمنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وصدرٍ من خلافةِ عمرَ - رضي الله عنهم -، حتى أمضى عمرُ على الناسِ الثلاث، وإن كان العلماءُ قد أجابوا عنه، وأوّلوه فليسَ الدليلُ على وقوعِ الثلاث جملةً بكلمةٍ واحدةٍ قطعيّاً، فإن قيل: العلماءُ قد أجمعوا عليه، قلنا: قد خالفَ أهلُ الظاهرِ في ذلك، فينبغي أن لا يحدّ، وإن علمَ الحرمةَ والدليل عليها، ذكر في ((الهداية)) من (كتاب النكاح) في فصل المحرّمات: إنّ الحدّ لا يجب بوطئ المطلَّقةِ طلاقاً بائناً واحداً أو ثلاثاً مع العلمِ بالحرمة، على إشارةِ (كتاب الصلاة)، وعلى عبارةِ (كتاب الحدود)) يجب؛ لأنّ الملكَ قد زالَ في حقّ المحلّ، فيتحقّق الزنا. انتهى. وينبغي أن تحملُ إشارةُ كتابِ الصلاة على ما إذا أقعها بكلمةٍ واحدة، وعبارةُ (كتاب الحدود) على ما إذا أوقعها متفرّقاً، كما ذكرَ توقيفاً بينهما. انتهى. ولتطلب زيادةُ التفصيلِ من رسالتي: ((القول الجازم بسقوط الحدّ بنكاح المحارم)).
(4) في ص: والمعيدة.
(5) قوله: بطلاقٍ على مال؛ فإن كان الطلاقُ بلا مالٍ فإن كان رجعيَّاً، فمعتدّته يحلّ الوطئ بها، وإن كان بائناً بألفاظِ الكناياتِ فسيجيء أنّه من شبهةِ المحلّ، وذكرَ في ((النهر)): إنّ في حكمِ المطلَّقة على مال المختلعة على مال، فلو كان خلعاً خالياً عن المالِ كان من شبهةِ المحلّ.
(5/423)
________________________________________
]، والمعتدَّةِ(1) بالإعتاق(2) حال كونِها أم(3) ولده.
ثُمَّ شرعَ في الضَّربِ الثَّاني من(4) الشُّبهةِ بقولِه: (وفي المحلّ: بقيامِ[(5)] دلٍيل (6)
__________
(1) في أ: والمعتد. وفي ص: والمعيدة.
(2) في ف و م: باعتاق.
(3) في م: مم.
(4) في م: دن.
(5) قوله: بقيام؛ يعني يوجدُ هناكَ دليلٌ من الأدلّة الشرعيّة دالٌّ على حلّ المزنية عليه، ولهذا تسمّى هذه الشبهةُ حكميّة؛ أي ثابتةٌ بحكمِ الشرع، فلا يحدّ الزاني في صورةِ وجودها، وإن قال: علمتُ بالحرمةِ لوجودِ الشبهةِ مع قطعِ النظر عن ظنّه، بخلاف ما مرّ من شبهةِ الفعل، فإنّه هناك لا يوجدُ دليلٌ على حالِ الموطوءة، وإنّما يشتبهُ عليه حلّ الوطئ لوجهٍ من الوجوه، وبالجملة: في شبهةِ المحلّ يوجد دليلٌ ينفي حرمةَ الموطوءة على الواطئ، ويثبتُ حليّتها، ولو كان ذلك الدليلُ ضعيفاً، وفي شبهةِ الفعلِ لا أثر لذلك، وإنّما يوجدُ دليلٌ يورثُ شبهةً في حرمةِ الوطي، ويصيرُ باعثاً لظنّه، فوضحَ الفرقُ بينهما، واندفعَ ما يتوهّم أنَّ ظنّه هناك أيضاً مستندٌ إلى دليلٍ ينفي الحرمةَ ويوهمُ الحلّ، فالشبهتان متساويتان، وجهِ الاندفاعِ أنّ هناكَ الدليلُ لا يدلّ على حليّة المحلّ، بل هو يورثُ شبهةً في حلّ فعله، بخلافِ شبهةِ المحلّ، وعلى هذا بنيَ الفرقُ بينهما بثبوتِ النسبِ في شبهةِ المحلِّ إن ادّعاه الواطئ الزاني؛ أي نسبَ المولودَ من وطئه، وعدمِ ثبوتِه في شبهةِ الفعلِ على ما سيذكرُهُ المصنّف رح، وذلك لأنّ النسبَ ممّا يحتاطُ في إثباته على ما مرَ تفصيله في بابه، فلمّا كان المحلّ محلّ اشتباه؛ لقيام دليلٍ نافٍ للحرمة، لزم أن يثبتَ النسبُ إذا ادّعاه الواطئ، بخلافِ صورةِ الشبهةِ في الفعل، فإنّ الفعلَ هناك تمحّضَ زنا، إذ لا حقّ له في المحلّ؛ لعدمِ دليلٍ يدلّ على حلّه، وثبوتُ النسبِ فرعٌ لثبوت ملكه في المحل، وإنّما يسقطُ الحد لعارضِ اشتباه عرض له، وهو لا يكفي في ثبوت النسب.
(6) في م: أفليل.
(5/424)
________________________________________
نافٍ للحرمةِ ذاتاً، فلم يحدّ وإن أقرَّ(1) بحرمَتِها عليه في: وطءِ أمةِ ابنِه[(2)]، ومعتدَّةِ(3) الكنايات[(4)]، والبائعِ[(5)] المبيعة، والزَّوجِ[(6)] الممهورة قبل تسليمِها(7)
__________
(1) في م: الور.
(2) قوله: أمة ابنه؛ وكذا ابنُ ابنه وإن سفل، وإن كان ابنه حيَّاً، وكذا أمةُ بناته وإن سفلن، فلو قال المصنّف رح: ولده موضع ابنه لكان أولى؛ لشموله البنت أيضاً.
(3) في ج و م: المعتدة.
(4) قوله: ومعتدّة الكنايات؛ عطفٌ على قوله: أمةُ ابنه؛ أي لا يحدّ بوطئ المطلّقة بالكناياتِ في عدّتها، وإن نوى بها ثلاثاً فلا يحدّ بوطئها، وإن أقرّ بحرمتها؛ لأنّ دليلَ المخالفِ قائم، وإن كان غيرُ معمولٍ به عندنا ومثله، وطئ المختلعةِ بلا مال، سواءً كان بلفظِ الخلعِ أو بغيره، فلو كان الخلعُ بمالٍ لم يكن من هذا القسم، بل من قسمِ الشبهةِ في الفعل، كما مرّ ذكره، فلا ينتفي عنه الحدّ إلا إذا ظنّ الحلّ، كما في المطلّقة ثلاثاً؛ لأنّه لم يقلْ أحد أنّ المختلعةَ على مالٍ تقعُ فرقتها طلاقاً رجعيّاً، وإنّما اختلفتِ الصحابةُ في كونها فسخاً أو طلاقاً بائناً، فالحرمةُ هناكَ ثابتةٌ على كلّ حال. كذا حقّقه في ((الفتح)).
(5) قوله: والبائع؛ هذا عطفٌ مختلّ كما مرّ نظيره، فإنّه معطوفٌ على أمةِ ابنه، والمعطوفُ عليه مفعول، والمعطوف فاعلٌ للمصدرِ المضافِ إلى الوطئ، والحاصلُ أنّه لا يحدّ البائعُ بوطئ المبيعة قبلَ تسليمها إلى المشتري، وأمّا بعد تسليمها إليه فلا شبهةَ في حلّ المحلّ ولا في حلّ الفعل، فيحدّ نعم إن كان البيعُ فاسداً لا يحدّ بوطئها بعد التسليمِ أيضاً؛ لأنّ له حقّ الفسخِ فله حقّ الملك. كذا في ((البحر)).
(6) قوله: والزوج؛ يعني وطءُ الزوج أمته التي جعلَها مهرَ النكاح زوجته قبل تسليمها إلى الزوجة، بخلاف ما بعد تسليمها، فإن وطئها حينئذٍ وطئ أمةَ الزوجة، فيكون من بابِ شبهةِ الفعلِ على ما مرّ.
(7) يعني وَطء الزوجِ أمتَه التي جعلها مهر نكاح زوجته قبل تسليمها. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 285).
(5/425)
________________________________________
، والمشتركة[(1)]).
__________
(1) قوله: والمشتركة؛ يعني لا يحدّ أحدُ الشركاءِ بوطئ الأمةِ المشتركةِ بينهم، ومثله وطئ جاريةِ مكاتبه وعبده المأذون له، وعليه دينٌ محيطٌ بماله ورقبته؛ لأنّ له حقَّاً في كسبِ عبده، فكان شبهةً في حقّه، وأمّا غير المديون فأمته على ملكِ سيّده، ومثله وطئ أحد الغانمين جاريةً من الغنيمة قبل القسمة، ووطئ البائعُ أو المشتري الأمةَ المبيعةَ بخيار الشرط للمشتري؛ لأنّ المبيعَ لم يخرج عن ملكِ البائعِ بالكليّة، ومثله وطئ أمته التي هي أخته رضاعاً، وأمته المجوسيّة، وهناك صورٌ أخر أيضاً مبسوطةٌ في ((الفتح)) و((البحر)) و((التبيين)) وغيرها، وقد ذكرتُ كثيراً منها في رسالتي ((القول الجازم)) فلتطالع.
(5/426)
________________________________________
الدَّليلُ النَّافي للحرمة قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -[(1)]: ((أنت ومالك لأبيك))(2)[(3)
__________
(1) قوله: قوله عليه السلام؛ هذا في وطئ أمة اولاده، فإنّ هذا الحديثَ يدلُّ بظاهرِه على أنّ ملكَ الابن ملك الأب، وأنّه يحلّ للأب التصرّف فيه، والجدّ في حكمِ الأب وإن علا، وقد مرّ ما هو المقصودُ من هذا الحديث في باب التدبير والاستيلاد قبيل (كتاب الأيمان) فتذكّره.
(2) سبق تخريجه (ص ).
(3) قوله: أنت ومالك لابيك؛ قد مرّ ذكر من أخرجه منا في (باب التدبير والاستيلاد) وفي (باب النفقة) قبيل (كتاب العتاق)، وفي روايتِه قصّة قد وعدنا هناك بيانها هاهنا، وهي ما أخرجه البيهقيّ في ((دلائل النبوة)) والطبرانيّ في ((معجمه الصغير)) و((الاوسط)): عن جابرٍ قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله: إبي أخذ مالي، فقال: فاذهب فأتني بأبيك، فنَزَل جبريلٌ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله عزّ وجل يقرئك السلام، ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلمّا جاءَ الشيخُ قال له: ما بالُ ابنك يشكوك، تريدُ أن تأخذَ ماله، فقال: يا رسولَ الله هل أنفقته إلا على عمّاته وخالاته أو على نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ايه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك، ما سمعته أذناك))، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزالُ الله يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي، فقال: قل وأنا أسمع، فقال: قلت:
غدوتك مولوداً وأمنتك يافعاً

لقل بما أجني عليك وتنهلُ

إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبتِ

لسقمك إلا ساهراً أتململُ

كأنّي أنا المطروقُ دونك بالذي

طرقت به دوني فعينيّ تهملُ

تخافت الردى نفسي عليك وإنّها

لتعلمُ أنّ الموتَ وقتٌ مؤجّلُ

فلمّا بلغتُ السنّ والغاية التي

إليها مدى ما كنت فيها أومّلُ

جعلت جزائي غلظة وفظاطة

كأنك أنت المنعمُ المتفضّلُ

فليتك إذ لم ترعَ حقّ أبوّتي

فعلت كما الجارُ المجاورُ يفعلُ

تراه معدّاً للخلافِ كأنّه

يرد على أهل الصوابِ موكّلُ

قال فحينئذٍ أخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: ((أنت ومالك لأبيك)).
(5/427)
________________________________________
] وقولُ بعضِ الصَّحابةِ(1)[(2)] - رضي الله عنهم -: إن الكنايات رواجع.
وكونُ المبيعةِ[(3)] في يدِ البائع بحيث لو هَلَكَت(4) ينتقضُ البيعُ دليلُ الملك.
__________
(1) مثل: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - كما في ((سنن البيهقي الكبير))(7: 343)، و((مصنف ابن أبي شيبة))(4: 93)، و((مصنف عبد الرزاق))(6: 356)، وينظر: ((نصب الراية))(3: 333-335)، و((الدراية))(2: 101)، وغيرها.
(2) قوله: وقول بعضُ الصحابة... الخ؛ هذا في وطئ معتدّة الكنايات، فإنّه روى عبدُ الرزّاق عن عمر وابن مسعود: إن اختارت زوجها فلا شيءَ عليه، وإن اختارت نفسها فهي واحدة، وله عليها الرجعة، وهذا في قوله لها: جعلت أمرك بيدك، ومثله أخرجه محمّد رح في كتاب ((الآثار))، وروى عبد الرزاقِ عن عمر في: الخلية والبرية، هي واحدة، وهو أحقّ بها، ومثله روى عبد الرزاقِ عن جابرٍ - رضي الله عنه - والشافعيّ في ((مسنده)) عن زيد، وعبد الرزاق عن ابن عمر مثله في: أمرك بيدك، وفي الباب آثارٌ وأخبار مبسوطةٌ في ((تخريج أحاديث الهداية)) للزيلعيّ وغيره، والحاصل: إنّه لمّا وردت آثارٌ وأخبارٌ دالّةٌ على أن ألفاظ الكنايات تقع بها طلقات رجعية أورث ذلك شبهةً في حلّ الموطؤة، وإن لم تمكن تلك الآثارُ معمولاً بها عندنا، فلا يحدّ الواطئ بوطئها.
(3) قوله: وكون المبيعة... الخ؛ هذا متعلّق بوطئ البائع الأمةَ المبيعةَ قبل تسليمها إلى المشتري، وحاصله: إنَّ المبيعةَ قبل التسليمِ وإن لم يكن في ملكِ المشتري، لكنَّ ملكَ يدَه باقٍ، وهلاكه قبل التسليمِ يفسخ البيع على ما تقرَّر في موضعه، فهذا يورثُ شبهةً في حلّ المحل.
(4) في ب و م: هلك.
(5/428)
________________________________________
وكونُ المهرِ[(1)] صلة(2): أي غيرُ مقابلٍ بمالٍ دليلُ عدمِ زوالِ الملكِ كالهبة.
والملكُ[(3)] في الجاريةِ المشتركةِ دليلُ حلِّ الوطء.
فمعنى قولُهُ: نافٍ للحرمةٍ ذاتاً؛ أنَّا لو نظرنا[(4)] عن المانع يكون منافياً للحرمة(5).
__________
(1) قوله: وكون المهر... الخ؛ حاصله: إنّ المهرَ صلة، لا بمعنى أنّه ليسَ بمقابلٍ بشيء، كما يكون في التبرّعات المحضة، بل بمعنى أنّه غيرُ مقابلٍ بمال، فإنّه بعوضِ منافعِ البضع، وهي ليست بمال، ولذا أطلق اللهُ تعالى على المهور: نحلة، وهي بالكسرِ العطية حيث قال في سورةِ النساء: {وآتوا النساءَ صدقاتهنّ نحلة، فإن طبنَ لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه هنيئاً مرئياً}، وهذا يورثُ شبهةَ حلّ المحل قبل التسليم؛ لأنّ التبرّعات لا تفيدُ الملكَ قبل القبضِ كالهبةِ والصدقةِ على ما تقرَّر في موضعه.
(2) أي إنه ليس بمقابل بشيء كما يكون في التبرُّعات المحضة، بل بمعنى إنه غير مقابل بمال فإنه بعوض منافع البضع وهي ليست بمال. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 285)
(3) قوله: والملك... الخ؛ حاصلُهُ إنّ الجاريةَ المشتركةَ لمّا كان في ملكِ كلّ واحدٍ من الشركاءِ دلّ ذلك على حلّها، فأورثَ ذلك شبهةً في وطئها.
(4) قوله: إنّا لو نظرنا... الخ؛ حاصله: إنّه يكتفي لثبوتِ الشبهةِ الحكميّة قيامُ دليلٍ يدلّ على الحلّ وينفي الحرمة، مع قطع النظر عن الموانع، ومع قطعِ النظر عن الدلائلِ الأخر، فإنّ الشبهةَ ليست عبارةً إلا عمّا يشبهُ الثابت، فلا يضرّ كونَ ذلك الدليلِ النافي للحرمةِ معارضاً بدلائلٍ أخر مرجّحة، ولا ثبوتَ الحرمةِ بالنظر إلى الموانعِ الأخر.
(5) أي إذا نظرنا إلى الدليل مع قطع النظر عن المانع يكون منافياً، ولا يتوقف على ظن الجاني واعتقاده. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 594).
(5/429)
________________________________________
(فإن ادَّعى النَّسبَ[(1)] يثبتُ في هذه[(2)] لا في الأُولَى): أي في شبهةِ المحلِّ لا في شبهةِ الفعل.
__________
(1) قوله: فإن ادّعى النسب؛ أي إن ادّعى الواطئ الزاني نسبَ المولود من وطئه، وأمّا إذا لم يدَّعِ فلا يثبت النسب.
(2) قوله: في هذه؛ أي شبهةُ المحلّ، ويستثنى منه وطئ الجدّ جاريةَ ابنِ ابنه في حياةِ ابنه، فإنّه لا يثبتُ به النسب وإن ادّعاه؛ لأنّ الجدّ لا يتملّكها حالَ حياة الأب، نعم إن صدّقه ابنُ الابنِ عتقَ لزعمه أنّه عمّه، وما في ((النهاية)) من أنّه يثبتُ نسبُهُ في هذهِ الصورة أيضاً فغلط، كذا في ((فتح القدير))، وكذا يستثنى من صورِ شبهةِ الفعل بالمطلّقة ثلاثاً، فإنّه يثبتُ النسبُ بوطئها بالشرطِ المذكورِ في موضعه، وهو أن تلدَ لأقلّ من سنتين، وبعد سنتين أيضاً بالدعوة، وكذا المختلعة والمطلّقة بعوض. كذا في ((النهاية))، ويستثنى أيضاً وطئ مَن زفّت إليه، وقال النساءُ: هي زوجتك، ولم تكن كذلك، فإنّه يثبتُ النسبُ فيه إذا ادّعاه، وهذا إذا جعلت هذه الصورةُ من صورِ الشبهةِ في الفعل. كذا في ((البحر)).
(5/430)
________________________________________
(وحدَّ بوطء أمةِ أخيه، وعمِّه[(1)]، وأجنبيةٍ[(2)] وجدَها[(3)] على فراشِه، وإن [كان](4) هو أعمى(5)،
__________
(1) قوله: بوطئ أمة أخيه وعمّه، وكذا وطئ أمةِ غير الأصولِ والفروع، كالخالِ والعمّةِ والخالة وأولادهم، وذلك لأنّه ليسَ هنا دليلٌ يدلّ على حلّ المحل، فلم توجد شبهةٌ في المحلّ، وليس بينه وبين أقاربه غير الأصولِ والفروعِ كمالُ انبساطٍ واختلاط، بحيث يورثُ شبهةً في الفعل، فدعوى ظنّه الحلّ لا تعتبر، نعم إن قال: لم أعلم أنّ الزنى حرامٌ لم يحدّ. كذا في ((الفتح)).
(2) قوله: وأجنبيّة عطفٌ على قوله: أمة أخيه، قال في ((الهداية)): مَن وجدَ امرأةً على فراشِه فوطئها فعليه الحدّ؛ لأنّه لا اشتباهَ بعد طولِ الصحبة، فلم يكن الظنّ مستنداً إلى دليل، وهذا لأنّه قد ينامُ على فراشه غيرها من المحارمِ التي في بيتها، وكذا إذا كان أعمى، لأنّه يمكنُهُ التمييزُ بالسؤالِ وغيره، إلا إذا كان دعاها فأجابته أجنبيّة وقالت: أنا زوجتك فواقعها؛ لأنّ الإخبارَ دليل انتهى.
(3) قوله: وجدها؛ الجملةُ صفةٌ لأجنبيّة، وإطلاقه مشيرٌ إلى أنّ الحكمَ متَّحد في ما إذا كان ذلك ليلاً وفيما إذا كان ذلك نهاراً، وهذا هو الذي عليه المتونِ وأكثرُ الشروح، وفي ((الظهيريّة)): رجلٌ وجدَ في بيتِه امرأة في ليلةِ ظلماءَ فغشيها، وقال: ظننتُ أنّها امرأتي لا حدّ عليه، ولو كان نهاراً يحدّ، وفي ((الحاوي)): عن زفر رح عن أبي حنيفة رح فيمَن وجدَ في حجامته أو بيته امرأةٌ فقال: ظننتُ أنّها امرأتي إن كان نهاراً يحدّ، وإن كان ليلاً لا يحدّ، وعن يعقوب عن أبي حنيفةَ رح: إنّ عليه الحدّ ليلاً كان أو نهاراً، قال أبو الليث رح: وبرواية زفر رح نأخذ.
(4) زيادة من ب و س و م.
(5) لتمييزه بالسؤال إلا إذا دعاها فأجابته قائلة: أنا زوجتك، أو أنا فلانة باسم زوجته فواقعها؛ لأن الإخبار دليل شرعي حتى لو أجابته بالفعل أو بنعم حد. ينظر: ((الدر المختار))(3: 154).
(5/431)
________________________________________
وذميَّةٍ[(1)] زَنَى بها حربي، وذميُّ[(2)] زنى بحربية، لا الحربيُّ والحربيَّة[(3)]): يعني ... (4) الدَّاخلين دارنا بأمان؛ وذلك[(5)] لأنه إن كان هذا في دارِ الحربِ لا يجبُ الحدّ.
وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - يحدُّون جميعاً.
__________
(1) قوله: وذميّة؛ يعني إذا زنى حربيّ مستأمن دخلَ دارنا بأمانٍ بذميّة حدّت المزنيّة.
(2) قوله: وذميّ؛ يعني حدّ ذميّ زنى بحربيّة متسأمنة دخلت دارنا بأمان.
(3) قوله: لا الحربيّ والحربيّة؛ أي لا يحدّ الحربيّ الزاني في الصورةِ الأولى، ولا الحربيّة المزنيّة في الصورةِ الثانية، ويمكن أن يكون معناهُ إنّه إذا زنى الحربيّ المستأمنُ بالحربيّة المستأمنةِ لا يحدّان، وعدمُ حدّ الحربيّ والحربيّة في الصورتينِ السابقتين فهمَ من تخصيصِ إسنادِ الحدّ إلى الذميّ والذميّة، والحاصل: إنّه لا حدّ على الحربيّ والحربيّة المستأمنين عند أبي حنيفة رح.
(4) في م زيادة: إن.
(5) قوله: وذلك؛ بيانٌ لوجهِ إرادةِ المستأمنين من الحربيّ والحربيّة، وحاصله: إنّه إنّما أردنا ذلك؛ لأنّه إن كان هذا؛ أي زني الحربيّ بالذميّة، وزنى الذميّ بالحربيّة في دارِ الحربِ لا يجبُ الحدّ باتّفاقِ أئمّتنا، فإنّ الزني في دارِ الحربِ لا يوجبُ الحدّ، وإن كان الزاني والمزنيّة مسلمين، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
(5/432)
________________________________________
وعند محمَّد[(1)] - رضي الله عنه - إن زنى الحربيُّ لا يحدّ.
__________
(1) قوله: وعند محمّد إن زنى الحربيّ؛ أي بذميّة لا يحدّ لا الزاني ولا المزنيّة، وإن زنى الذميّ بحربيّة حدّ الذمي، وهو قولُ أبي يوسفَ رح أوّلاً، وقوله الآخر هو أنّهم يحدّون جميعاً، ووجهه: إنّ المستأمنَ التزمَ أحكامنا مدّة مقامِه في دارنا في المعاملات، كما أنّ الذميّ التزمها مدَّة عمر، ومن التزمَ أحكامنا تجري عليه العقوبات، فيحدّ الحربيّ والحربيّة أيضاً كالذميّ والذميّة، ولهذا يحدّ الحربيّ المستأمن حدّ القذف، ويقتلُ قصاصاً اتّفاقاً، ولأبي حنيفةَ ومحمّد: إنّ الحربيَّ ما دخلَ دارنا للقرار، بل لحاجةٍ كالتِّجارةِ ونحوها، فلم يصر من أهل دارنا كالذمي، وإنّما التزمَ من الأحكامِ ما يرجعُ إلى تحصيلِ مقصوده، وهو ما يتعلّق بحقوقِ العباد والقصاص، وحدّ القذفِ من حقوقُ العباد، فيؤاخذ به، وأمّا حدّ الزناء فهو من حقوقِ الله تعالى فلا يقامُ عليه، بخلاف الذميّ فإنّه التزمَ القرارَ في دارنا، فصارَ كالمسلم، ثمّ إنّ محمَّداً يقول: إنّ الأصلَ في بابِ الزنى هو فعلُ الرجل، والمرأةُ تابعة، ولذا يسمّى هو زانياً وواطئاً، وهي موطؤةٌ ومزنيّة، وتسميتها بالزانية مجاز، كالراضية بمعنى المرضية، ففي صورةِ زنى الحربيّ بالذميّة لمَّا سقطَ الحدّ عن الأصل لما ذكرنا سقطَ عن التبع، ولا كذلك العكس، فإنّ امتناعَ شيءٍ في حقّ التبعِ لا يوجب الامتناعَ في حقّ الأصلّ، فيحدّ الذميّ الزاني بالحربيّة، وإن لم تحدّ الحربيّة لما ذكرنا، والجواب عنه من قبلِ أبي حنيفة: إنّ فعلَ الحربيّ المستأمن بزناء بالضرورة، والتمكينُ من فعلِ هو زناء موجبٌ للحدّ، فلمّا مكَّنت الذميّة نفسها لزناءِ الحربيّ وجبَ عليها الحدّ بالتمكين، وإن لم يحدّ الذمي، هذا توضيحُ ما ذكرَه صاحب ((الهداية)) في حججهم.
(5/433)
________________________________________
وقولُهُ: وذميَّةٌ عطفٌ على الضَّميرِ المستترِ في حدّ، وهذا[(1)] جائزٌ لوجودِ الفاصلة.
(ولا مَن وَطِئ[(2)] أجنبيةً زُفَتْ إليه، وقُلْنَ[(3)
__________
(1) قوله: وهذا... الخ؛ دفعٌ لما يقال: إنّ العطفَ على ضميرِ الرفعِ المتَّصلِ ليس بجائزٍ عند النحاة، فكيف ارتكبه المصنّف، وحاصلُ الدفع: إنّ عدمَ الجواز إنّما هو إذا لم توجدْ الفاصلةُ بين المعطوف والمعطوف عليه، وأمّا عند وجودها فهو جائز.
(2) قوله: ولا مَن وطئ... الخ؛ هذه الصورةُ جعلها الزيلعيّ وغيره من صورِ شبهةِ الفعل، وذكرَ في ((الفتح)): إنّ الأوجه أنّها من صورِ شبهةِ المحل؛ لأنّ قولهنّ: هي زوجتك، دليلٌ شرعيّ مبيحٌ للوطئ لقبولِ قولِ الواحدِ في المعاملات، ولذا حلّ وطئ مَن قالت: أرسلني مولاي هديّة إليك، ثم قال: والحقّ أنه شبهة اشتباه؛ أي شبهةُ الفعل؛ لأنّ الدليلَ المعتبرَ ما يقتضي ثبوتَ الملك، لا ما يطلق شرعاً مجرّد الوطئ. انتهى ملخَّصاً.
(3) قوله: وقلن؛ إخبارُ الجمعِ ليس بقيد، فإنّ خبرَ الواحد كان في كلّ ما يعملُ فيه بقول النساء، كذا في ((البحر))، ثمّ إخبارُ النساءِ غير شرطٍ لسقوطِ الحدّ، بل مجرّد الزفافِ يورثُ شبهةً على ما يدلّ عليه ما في ((الخانية)): رجلٌ زفَّت إليه غيرُ امرأته ولم يكن رآها قبل ذلك فوطئها، كان عليه المهرُ ولا حدّ عليه. انتهى. وفي ((كافي الحاكم الشهيد)): رجلٌ تزوّج فزفَّت إليه أخرى فوطئها لا حدّ عليه ولا على قاذفه، رجلٌ فجر بامرأة ثمَّ قال: حسبتها امرأتي، قال: عليه الحدّ، وليست هذه كالأولى؛ لأنّ الزفافَ شبهة، ألا ترى أنّها إذا جاءت بولدٍ ثبتَ نسبه، وإن جاءت هذه التي فجرَ بها بولدٍ لم يثبتْ نسبه منه. انتهى. والظاهرُ أنّ إخبارَ النساءِ بكونها عرساً له إنّما يكون شرطاً لسقوطِ الحدّ إذا لم تقم قرينةٌ ظاهرةٌ تدلّ على كونها عرساً، كما إذا تزوّج امرأةً ولم تزفّ إليها، ثم أدخلت عليه أجنبيّة ولم يدرِ أنّها هي التي عقدَ عليها أو غيرها، فأخبرت امرأةٌ بأنّها امرأته فوطئها لا تحدّ. كذا نقَّحه في ((رد المحتار)) وهو تنقيحٌ حسن.
(5/434)
________________________________________
]: هي عرسُك، وعليه مهرُها[(1)]، ومَحْرَمَةً[(2)
__________
(1) قوله: وعليه مهرها؛ فإن الوطئ لا يخلو عن وجوبِ حدّ أو لزومِ عقر، وهو مهرُ المثل، فإذا سقطَ الحدّ للشبهةِ لزمَ المهر.
(2) قوله: ومحرمة نكحها؛ عطف على قوله: أجنبيّة؛ أي لا يحدّ مَن وطئ محرمةً من محارمه كالأمّ والخالةِ والأخت، بعدما نكحها، وهذا المسألةُ قد طعنَ بها جمعٌ من الشيعةِ ومن يتشبّه بهم من أهلِ السنة على أبي حنيفةَ رح وشهّر بعضهم: إنّ وطئ المحارمُ ونكاحهنّ حلالٌ عند الحنفيّة، ومنهم مَن قال: إنّه خالفَ فيه الأحاديث الصحيحة، ولا عجبَ من الشيعةِ فإنّهم قد طعنوا من غيرِ مبالاةٍ على أكبر من أبي حنيفة يعني الصحابة، فما بالك بأبي حنيفة، إنّما العجبَ ممّن تشبّه بهم في اللعنِ والطعن، وسلكَ مسلكهم في الهمزِ واللمز، وهم من أهلِ السنّة، بل عدّوا أنفسهم من متّبعي الكتابِ والسنّة، فطعنوا على الإمام الهمام أبي حنيفة رح في هذه المسألة طعناً تجاوز عن الحدّ، وردّوا عليه بأقبح الردّ من غير فهم مداركه والتأمّل في دلائله، وقد ألّفت في هذهِ المسألةِ رسالةً سمّيتها: ((القول الجازم بسقوطِ الحدّ بنكاح المحارم)) شيّدت فيها مذهبه بالمعقولِ والمنقول، وأيّدتُ فيها كلامه بالأصول، ودفعتُ تشكيكاتَ المشكّكين على وجهٍ يقصمُ ظهورَ المتعنّتين، وذكرت ما يتعلّق بها من الخلافِ والفروع مع الجوابِ عن المطاعنِ والجروح، فإن شئتَ الاطَّلاعَ فارجعْ إليها، فإنّها نفيسة في بابها، لا نظيرَ لها في أبحاثهاً، ولنذكر نبذاً من المطاعنِ المشهورةِ فيما بين العوامّ مع الجوابِ عنها على ما يرتضيه الأعلام، فاعلم إنَّ من جملةِ مطاعنهم أنّ إسقاطَ الحدّ بوطئ المحارمِ بعد نكاحهنّ مستلزمٌ لحلّ هذا الفعلِ الشنيع، وعدمُ لزومِ إثمٍ وملامة على مرتكبِ هذا القبيح، وهذا طعنٌ باطلٌ عند كلّ فاضل، فإنّ سقوطَ الحدّ أمرٌ آخر، وحلّ الفعلِ أمرٌ آخر، ولا يلزمُ من سقوطِ الحدّ في وطئ حلّه، كيف فإنّ الحدّ يدرأ بالشبهات على ما ثبتَ ذلك بالأخبارِ والآثارِ الثابتة بروايةِ الثقات، ولذا حكمَ أبو حنيفةَ أيضاً في واطئ المحارمِ بعد نكاحهنّ بأنّه يعزَّر، ويوجعُ عقوبةً، كما صرَّح به في ((الهداية)) وغيرها، ومثلها قولهم: لمّا لم يجب الحدّ بوطئ المحارمِ دلّ ذلك على أنّه لا يجبُ فيه شيءٌ من العقوبة، وهذا قولٌ باطلٌ فإنّ الحدّ ليس عبارةً عن كلّ جزاءِ عقوبة، بل هو عبارةٌ عن عقوبةٍ مقدّرة تجبُ حقّاً لله تعالى، فمعنى قولهم: يسقطُ الحدّ بوطئ كذا وكذا إنّه لا يجبُ عليه الجزاءُ المقدّر للزاني، وهو الرجمُ أو الجلد؛ لعروضِ شبهةٍ أسقطته، لا أنّه لا يجبُ شيءٌ من العقوبة، ألا ترى إلى أنّ شربَ الدمِ وأكل الخنْزيرِ ونحوهما من المحرّماتِ مع كونها أشدّ من الزنى لا حدّ فيها مع وجوبِ التعزيزِ فيها.
ومنها قولهم: إنّ أبا حنيفةَ خالفَ كتابَ الله في هذه المسألةِ فإنّ الكتابَ حكمَ بحرمةِ نكاحِ المحرمات، وحكمَ بوجوبِ الحدود على مَن زنى، وهو طعنٌ مردود؛ لأنّ أبا حنيفةَ لم يقلْ بحلّ وطئ المحارمِ أو بحلّ نكاحهنّ، ولم يقلْ بعدمِ وجوبِ الحدّ على الزاني، حتى يكون مخالفاً لكتابِ الله، بل قال بسقوطِ حدّ الزنى عن واطئ المحارم بعد نكاحهنّ؛ لكونِ النكاحِ شبهةٌ في الحلّ، ((والحدودُ تدرأ بالشبهات))، بنصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وأصحابه، ومع ذلك قال بوجوبِ التعزيزِ حسبما يراهُ الإمامِ على ذلك المتمرّد الخبيث الذي يطأ محارمه بعد النكاح.
ومنها قولهم: إنّ أبا حنيفةَ خالفَ في هذا البابِ الأحاديث الصريحة، فأخرجَ الحاكمُ وصحّحه من حديثِ ابن عبّاس مرفوعاً: ((مَن وقعَ على ذاتِ محرمٍ فاقتلوه))، ومثله رواه الترمذيّ بسندٍ ضعيف، وابن ماجه مع زيادة: ((ومَن وقعَ على بهيمةٍ فاقتلوه واقتلوا البهيمة))، وأخرجَ عبد الرزَّاق وابن أبي شيبةَ والحاكمُ وصحّحه، والبيهقيّ عن البراءِ قال: لقيت خالي ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تزوَّج امرأةَ أبيه من بعده فأمرني أن أضربَ عنقه وآخذ ماله، ومثله أخرجه الطحاويّ وأبو داودَ وغيرهما، والجواب عنه: إنّ القتلَ أو ضربَ العنقِ أو أخذَ المالِ المذكورُ في هذه الرواياتِ ليس حدّاً للزنى، يدل عليه أنّها تدلّ بعمومها وإطلاقها على وجوبِ قتلِ كلّ مَن وقع على محرم، مع أنّ الرجمَ مختصّ بالمحصنِ إجماعاً، وأيضاً وردَ في بعض الروايات القتلُ بتزوَّج ذات محرم، مع أنّ التزوَّج ليس بزنى اتّفاقاً، وأيضاً وردَ في بعضها الأمرُ بأخذ المال، وهو ليس جزاءً للزنى اتّفاقاً، وأيضاً حدّ الزنى إنّما هو الرجم والجلد مع التغريب أو بدونه اتّفاقاً، والقتلُ المأمور به في هذه الأحاديث هو غير الجلد، وهو ظاهر، وغير الرجم لا يكون بضربِ العنقِ وقطع الرأس، وبالجملة: فهذا الذي أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما هو تعزيزٌ وسياسة، وهذا ممّا لا ينكرُه أبو حنيفة، إنّما يقولُ بسقوطِ حدّ الزنى عمَّن نكحَ بمحرم ووطئه إلا بعدمِ وجوب تعزيز عليه، بل يجب عنده على الإمامِ أن يقيمَ على مثل هذا الخبيث تعزيزاً حسبما يراه على حسب تمردّه بأخذِ المالِ أو ضرب العنق أو نحو ذلك.
فإن قلت: الوطئ بالمحارمِ بدونِ النكاح موجبٌ للحدّ اتّفاقاً، فكيف لا يوجبه بعد النكاح، وهو شناعةٌ أخرى.
قلت: هذا ليس بمستبعدٍ عند أربابِ النقل والعقل، فإنّ الوطئ بدون النكاحِ لا شبهة فيه، والنكاح يورث شبهة.
فإن قلت: النكاحُ بالمحارمِ فاسدٌ قطعاً، فكيف يورث شبهة.
قلت: لا استبعاد في ذلك؛ فإنّ الشبهةَ عبارةٌ عمّا يشبهُ الثابت وليس بثابت.
فإن قلت: هذه شبهة ركيكة.
قلت: هب، ولكن حديث: ((ادرؤا الحدودَ بالشبهات)) لم يفرّق بين شبهةٍ وشبهة، فشبهة كونها منكوحة كافٍ وإن كانت ضعيفة، ونظيره ما روى مالكٌ والشافعيّ وغيرهما: إنّ عمرَ بن الخطَّاب ضربَ الذي نكحَ امرأةً في عدَّتها من طلاقِ زوجها الأوّل، وضربها أيضاً وفرّق بينهما، مع أنّ النكاحَ في العدَّة حرامٌ بنصّ الكتاب، وفاسدٌ شرعاً، لكن لمَّا أورثَ ذلك شبهةً أسقط عمرُ بن الخطّابِ عنهما حدّ الزنى، وضربهما سياسة.
فان قلت: لو كانت الشبهةُ بالعقدِ ثابتةً لوجبت العدّة وثبتَ النسبُ في نكاحِ المحارم.
قلت: منعَ بعضُ أصحابنا عدم وجوبُ العدَّة، وعدمَ ثبوتِ النسب، بناء على أنّ العقد يورث شبهة في حلّ المحل، وفي شبهةِ المحلّ يثبتُ النسب كما ذكره العينيّ وغيره، ولو سلّم عدم وجوبِ العدة وعدم ثبوتِ النسب كما هو رأي بعضُ المشايخ، نقول: مبنى وجوبِ العدّة وثبوتِ النسبِ على ثبوتِ حلّ المحل، ولو من وجه، وهاهنا لا حلّ للمحل؛ أي المحارم أصلاً، والمرادُ بالحلّ أن يكون الواطئ على حالٍ لا يلامُ بالوطئ، وأمّا سقوطُ الحدّ فهو لمجرّد عروضِ شبهة بوجود ما يحلّل الوطئ، وهو النكاحُ الموضوعُ لحلّ الاستمتاع، ولو كانت شبهةً ركيكة، وبهذا يعلمُ أنّ الحدَّ يسقطُ بالنكاحِ مطلقاً، وإن قال: علمتَ أنّه حرام، صرَّح به في ((الهداية)).
(5/435)
________________________________________
](1) نكحَها)(2) عطفٌ على قوله: أجنبية؛ وهذا عند أبي حنيفةَ[(3)] - رضي الله عنه - فإنَّه جعلَ النِّكاحَ[(4)
__________
(1) في ت و ج و ص و ف و ق: محرماً.
(2) أفرد الإمام اللكنوي تألفياً خاصّة سماها ((القول الجازم بسقوط الحد بنكاح المحارم)) في مسألة نكاح المحرمة، وبسط فيها الأدلة، ودفع الشبهات والاعتراضات التي ترد على الإمام الأعظم - رضي الله عنه -.
(3) قوله: عند أبي حنيفة رح؛ وبه قال سفيان الثوريّ كما أخرجه الطحاويّ في ((شرح معاني الآثار))، وعندهما وعند الأئمّة الثلاثة: يحدّ الواطئ بالمحارمِ بعد النكاح إذا كان عالماً بالحرمة؛ لأنّه عقد لم يصادف محلّه، فيلغو كما إذا أضيفَ إلى الذكور، وله إنّ العقدَ صادفَ محلّه؛ لأنّ محلَ التصرّف ما يقبلُ مقصوده، والأنثى من بناتِ آدمٍ قابلةٌ للتوالد، وهو المقصود، فكان ينبغي أن ينعقدَ في حقّ جميع الأحكام إلا أنّه تقاعد عن إفادة حقيقةِ الحلّ، فيورث الشبهة؛ لأنّ الشبهةَ ما يشبهُ الثابت، وليس بثابت، كذا في ((الهداية))، وفي ((البحر)) أخذاً من ((فتح القدير)): حاصلُ الخلافِ أنّ هذا العقد هل يوجبُ شبهةً أم لا؟ ومداره على أنّه هل وردَ على محلّه أم لا، فعند الإمامِ وردَ على ما هو محلّه؛ لأنّ المحليّة ليستِ بقبولِ الحلّ، بل بقبولِ المقاصد من العقد، وهو ثابت، ولذا صحَّ من غيرِه العقدَ عليها، وعندهما: لا؛ لأنّ محلَّ العقد ما يقبلُ حكمه، وهو الحلّ، وهذه من المحرَّمات في سائرِ الأحوال، فكان الثابتُ صورةُ العقدِ لا انعقاده، وقد أخذ الفقيه أبو الليث بقولهما، وقال في ((الواقعات)): ونحن نأخذ به أيضاً، وفي ((الخلاصة)): الفتوى على قولهما، ووجه ترجيحه أنّ تحقّق الشبهةَ يقتضي تحقّق الحلّ من وجه؛ لأنّ الشبهةَ لا محالة شبهةُ المحلّ، لكن حلَّها ليس بثابتٍ من وجه. انتهى ملخصاً.
(4) قوله: فإنّه جعلَ النكاحَ شبهة؛ أي مطلقاً، فلا يحدّ بالوطئ بعد تزوَّج محارمه، وكذا تزوَّج منكوحة الغير، ومعتدّته، ومطلّقة الثلاث، وكذا نكاحُ الخامسةِ في عدَّة الرابعة، ونكاحُ إختِ الزوجةِ في عدّتها، ونكاح المجوسيّة، والأمة على الحرة، ونكاحُ العبد أو الأمة بلا إذن المولى، والنكاح بغير شهود، ففي كلّ هذا لا يجبُ الحدّ عنده، وإن قال: علمتُ أنّه حرام، وعندهما: لا يحدّ وإن قال: إنّه حرام في كلّ نكاحٍ مختلفٍ في صحّته وفساده، كالنكاح بغير شهود، والنكاح بغير وليّ، ونكاح المتعة، والمؤقّت، وأمّا النكاحُ المتَّفقُ على حرمته فلا يسقطُ الحدّ عندهما إذا أقرّ بالحرمة، وقيل: قولهما بعدمِ سقوطِ الحدّ عند الإقرارِ بالحرمة ليس مطلقاً، بل في نكاحِ امرأةٍ محرّمة على التأبيد، وإن شئتَ زيادةَ التفصيلِ فارجع إلى ((القول الجازم)) وفيما ذكرناه هنا كفايةٌ للعالمِ الفاهم.
(5/436)
________________________________________
] شُبْهةً في درءِ الحدّ، (أو بهيمة[(1)]، أو أَتَى[(2)] في دُبُر): هذا عند ابي حنيفةَ - رضي الله عنه -.
__________
(1) قوله: أو بهيمة؛ عطف على أجنبيّة؛ أي لا حدّ على مَن وطئ حيواناً كالشاةِ والبقر ونحوهما؛ لأنّه ليس بزنى، لا لغةً ولا شرعاً، ولا هو في معناه في كونه باعثاً لفسادِ الفراش وضياع الولد، نعم يجب على الإمامِ أن يعزّره تعزيراً يصلح له، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أتى البهيمةَ فاقتلوه واقتلوا البهيمةَ معه))، أخرجه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم، والحكمةُ في قتلِ البهيمةِ قطعُ التحدّث بفعلِ الواطئ.
(2) قوله: أو أتى؛ عطفٌ على قوله: مَن وطئ؛ أي لا يحدّ مَن عَمِلَ عملَ قوم سيّدنا لوط، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أن يأتيَ دبرَ المرأة أو الرجل، نعم يجبُ عليه التعزيرُ البليغ، يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من وجدتموه يعملَ عملَ قومِ لوطٍ فاقتلوا الفاعل والمفعول به))، أخرجه أصحابُ السننِ الأربعة وأحمد وعبد الرزَّاق وابن أبي الدينا والدارقطنيّ والبيهقيّ والحاكم وصحّحه، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا والبيهقيّ، عن ابن عبَّاس أنّه سئل: ما حدّ اللواطة، قال: ينظر أعلى بناءٍ بالقريةِ فيلقي منه منكَّساً، ثمّ يتبعِ بالحجارة، وأخرجَ الواقديّ في ((كتاب الردة)): إنَّ أبا بكرٍ الصدّيق أمرَ بإحراقِه بالنّار.
(5/437)
________________________________________
أمَّا عندهما[(1)] وعند الشَّافِعِيِّ(2) - رضي الله عنهم - في أحدِ قوليه يحدُّ حدَّ الزِّنا؛ لأنَّه في معنى الزِّنا[(3)
__________
(1) قوله: وعندهما...الخ؛ روى نحوه عن عليّ أنّه رجمَ لوطيّاً؛ أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا والبيهقيّ، ومثله روى عندهم عن الحسنِ البصريّ وإبراهيم النخعيّ، ويشهدُ له من المرفوعِ حديثُ ابن ماجه والحاكم بلفظ: ((مَن عَمِلَ عملَ قومَ لوطٍ فارجموا الفاعل والمفعول به))، وهو عند أبي حنيفةَ رح محمولٌ على السياسةِ بدليلِ عدمِ الفصلِ بين المحصنِ وبين غير المحصن، ولو كان الإتيان الدبر زنى بوجب الفصل بينهما، ثمّ عندها: إنّما يحدّ إذا فعل ذلك بالأجانب، فإن أتى في دبرِ عبدِه أو أمته أو زوجته لم يحدّ بل يعزّر.
(2) ينظر: ((التنبيه))(ص148)، ((المنهاج))(4: 144)، وغيرهما.
(3) قوله: لأنّه في معنى الزنى؛ أشار به إلى أنَّ وجوبَ الحدّ عندهما في اللواطة، بدلالةِ نصّ وردَ في الزنى لا بالقياس، فاندفعَ ما أوردَ عليهما أنَّ الحدودَ لا تثبت بالقياس، وحاصل كلامهما: إنَّ المعنى الذي يفهم من نصّ وردَ في الزنى قضاءُ الشهوةِ بسفحِ الماءِ في محلٍّ محرّم ومشتهى، وهذا موجودٌ في اللواطة، بل زيادة لأنّها في الحرمة، وسفحُ الماءَ فوقه، فإنّ حرمتها لا تزولُ أبداً، وفيه تضييعُ الماءِ على وجهٍ لا يخلق منه الولد، والإيرادُ عليه من وجوه:
أحدها: إنّ المعتبرَ في دلالةِ النصّ هو كون المعنى الذي لأجله الحكم بحيثُ يفهمه كلّ مَن يعرفُ اللغة، وما نحنُ فيه ليس كذلك.
وثانيها: إنّا لا نسلِّم أنّ المعنى الذي لأجله وجبَ الحدّ في الزنى، هو ما ذكر، بل هو قضاءُ الشهوةِ في محلّ مشتهى محرّم، مع هلاكِ البشر وإفسادِ الفراش واشتباهِ النسب، وهذا غيرُ موجودٍ في اللواطة، وموجودٌ في الزنى، فإنّ فيه هلاكُ البشر؛ لأنّ ولدَ الزنا هالكٌ حكماً، وفيه إفسادُ الفراش؛ أي فراش الزوج.

وثالثها: إنّ تضييعَ الماءِ قاصرٌ في الحرمة، فلا يوجبُ الحدّ، ألا ترى أنّه قد يحلّ بالعزل.
ورابعها: إنّ الشهوةَ في الزنى من الطرفين، لميلانِ طبعهما إليه، بخلافِ اللواطة، فإنّ الشهوةَ فيها من جانبِ الفاعلِ فقط، والمفعولُ يمتنعُ عنها بطبعه، على ما هو مقتضى الجبلةِ السليمة، فيكون الزنى أغلبُ وجوداً وأسرعَ حصولاً، فيكون إلى الزاجرِ أحوج.
وخامسها: إنّ حرمةَ اللواطةِ وإن كانت أشدّ من حرمةِ الزنى، ولذا لا تحلّ أبداً، لكنّها لا تنفعُ في إيجاب الحدّ؛ لأنّ زيادةَ بعضِ أجزاءِ علّة الحكم في شيءٌ مع نقصانٍ في البعض، كالشهوةِ وسفحِ البعض، وانتفاءِ البعض كهلاكِ البشرِ وإفسادِ الفراش، واشتباهُ النسبِ لا يوجبُ ثبوتَ الحكم فيه، ألا ترى إلى أنّ شربَ البولِ فوق شربِ الخمر في الحرمة، مع أنّه لا يوجبُ الحدّ، هذا توضيحُ ما في ((التنقيح)) وشرحه ((التوضيح))، وحاشية ((التلويح)).
(5/438)
________________________________________
]؛ لأنَّه قضاءُ الشَّهوةِ في محلٍ مشتهىً على سبيلِ الكمالِ على وجهٍ تمحضَ حرماً[(1)].
وله: أنَّه ليس بزنا، فإنَّ الصَّحابةَ - رضي الله عنه - عنهم اختلفوا في موجبه(2): من الإحراق، وهدم الجدار، والتَّنكيس من مكان مرتفعٍ باتّباعِ الأحجار[(3)]، فعند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - يعزَّرُ بأمثالِ هذه الأمور[(4)].
__________
(1) قوله: تمحّض حراماً، فقد وردت أحاديثٌ كثيرةٌ بحرمةِ إتيانِ الدبر، كحديث: ((اقتلوا الفاعل والمفعول به)) على ما مرَّ ذكره، وحديث: ((إنّ الذي يأتي في دبرها ـ أي المرأة ـ لا ينظرُ الله إليه يوم القيامة))، أخرجَه أبو داود والنسائيّ وابن ماجه وأحمد وابن أبي شيبة والبيهقيّ وغيرهم، وحديث: ((ملعون من أتى امرأةً في دبرها))، أخرجه أبو داود والنسائيّ وأحمد وغيرهم.
(2) فذهب أبو بكر وخالد بن الوليد - رضي الله عنهم - إلى الأحراق، وابن عباس إلى التنكيس، كما في ((مصنفه))(5: 497)، و((سنن البيهقي الكبير))(8: 232).
(3) قوله: باتّباع الأحجار؛ مأخذه أنّ قومَ لوطٍ أهلكوا بذلك، حيث حملتُ قراهم ونكّست بهم، وأمطرت عليهم حجارة.
(4) قوله: بأمثال هذه الأمور؛ من هدمِ الجدار والتنكيسِ والإحراق والحبس إلى أن يتوب، بل لو اعتاد اللواطةَ قتلَ سياسة. كذا في ((البحر)).
(5/439)
________________________________________
(أو زنى في دارٍ الحرب أو بغيٍ)(1)، هذا عندنا خلافاً للشَّافِعِيّ(2)[(3)] - رضي الله عنه -.
(ولا بزنا غيرِ مكلَّفٍ بمكلَّفةٍ أصلاً): أي لا على هذا، ولا على هذه، وعند زُفر والشَّافِعِيِّ(4) - رضي الله عنه - تحدّ هي[(5)]، (وفي عكسِهِ حدَّ هو فقط.
__________
(1) أي في غير معسكر الخليفة أو أمير المصر بأن خرج من عسكر من له ولاية إقامة الحدود فدخل دار الحرب وزنى ثم عاد، أو كان مع أمير سرية أو أمير عسكر فزنى ثمة أو كان تاجرا أو أسيراً، أما لو زنى وهو مع عسكر من له ولاية إقامة الحد فإنه يحد بخلاف أمير العسكر أو السرية؛ لأنه إنما فوض لهما تدبير الحرب لا إقامة الحدود وولاية الإمام منقطعة ثمة. ينظر: ((الفتح))(5: 167).
(2) ينظر: ((مغني المحتاج))(4: 150).
(3) قوله: خلافاً للشافعيّ رح؛ له إنّه التزمَ بإسلامه جميعَ أحكامه أينما كان، ولنا: إنّ المقصودَ هو الإنزجار، وولايةُ الإمام الذي إليه إقامةُ الحدودِ منقطعةٌ في دارِ الحرب ودار البغي، فيخلو الوجوبُ عن الفائدة، ولمّا لم ينعقدْ فعله موجباً لم يجبْ عليه الحدّ بعدما خرجَ أيضاً، ويؤيّده قولُ زيدِ بن ثابت: لا تقامُ الحدودُ في دارِ الحرب مخافةَ أن يلحقَ بأهلها، أخرجه البيهقيّ.
(4) ينظر: ((مغني المحتاج))(4: 147)، و((تحفة المحتاج))(9: 109)، و((تحفة الحبيب))(4: 173)، وغيرها.
(5) قوله: تحدّ هي؛ لأنّ العذرَ من جانبه لا يوجبُ سقوطَ الحدّ من جانبها، كما أنّ العذر من جانبها لا يسقطُ الحدّ عنه؛ لأنّ كلاً منهما مؤاخذٌ بفعله، ونحن نقول: إنّ فعلَ الزناء يتحقّق من الرجلِ والمرأة، إنّما هي محلّ الفعل، فيتعلّق الحدّ في حقّها بالتمكينِ من قبيحِ الزناء، وهو فعلٌ مَن هو مخاطب بالكفّ عنه، وفعل الصبيّ والمجنونِ ليس بهذه المثابة. كذا في ((الهداية)).
(5/440)
________________________________________
ولا إن أقرَّ[(1)] واحدٌ به، والآخرُ بنكاح.
وفي قتلِ أمةٍ بزنا يجبُ الحدّ[(2)] والقيمة(3).
والخلفيةُ[(4)] لا يحدّ)؛ لأنَّه صاحبُ الحقِّ نيابةً عن الله تعالى، (ويُقْتَصُّ ويؤخذُ بالمال)(5)؛ لأنَّ مَن له الحقُّ هو الوارثُ والمالك. [والله أعلم](6).
باب شهادة(7) الزنا والرجوع عنها[(8)]
__________
(1) قوله: ولا إن أقرّ؛ يعني لو أقرّ الزاني أو الزانية بالزنى وقال الآخر: كان الوطئ بالتزوّج سقطَ الحدّ عنهما؛ لأنّ خبرَ النكاحِ يحتملُ الصدق، فأورثَ ذلك شبهة، ويجبُ المهر تعظيماً له لحقّ البضع. كذا في ((الهداية)).
(2) قوله: يجب الحدّ والقيمة؛ لأنّه جنى جنايتين، فيؤخذ بكلّ منهما.
(3) أي من زنا بجارية فقتلها، يجد الحد والقيمة؛ لأنه جنى جنايتين، فيأخذ على كل واحد منهما حكمه. ينظر: (شرح ابن ملك))(ق140/أ).
(4) قوله: والخليفة؛ هو الإمامُ الذي ليس فوقَه إمام، قال في ((الهداية)): لأنّ الحدودَ حقّ الله وإقامتها إليه لا إلى غيره، ولا يمكنه أن يقيمَه على نفسه؛ لأنّه لا يفيد، بخلاف حقوقِ العباد؛ لأنّه يستوفيه وليّ الحقّ إمّا بتمكينه إيّاه أو بالاستعانةِ بمنعةِ المسلمين، والقصاص والأموال منها.
(5) اي كل شيء يصنعه الإمام فلا حد عليه إلا القصاص فإنه يؤخذ به وبالأموال؛ لأنه يستوفيه ولي الحقّ إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين. ينظر: ((الهداية))(2: 105).
(6) زيادة من ق.
(7) في م: الشهادة على.
(8) قوله: بابُ شهادةِ الزنا، لمّا كان ثبوتُ الزنى بالبيّنة أو بالإقرار، وكان ثبوته بالبيّنة نادراً، وكان في شهادةِ الشهودِ تفصيل، عقدَ له باباً على حدة.
(5/441)
________________________________________
(مَن شَهِدَ بحدٍّ[(1)] متقادِّمٍ[(2)] قريباً من إمامِهِ(3)[(4)] لم تقبلْ[(5)] إلاَّ في [حدِّ](6) قذف)؛ فإنَّ حدَّ القذفِ فيه حقُّ العبدِ
__________
(1) قوله: بحدّ؛ فيه تساهل؛ فإنّ المشهودَ به ما هو سببُ الحدّ كالزنى والسرقة وشرب المسكر ونحوها، لا نفسُ الحد، فالمعنى مَن شهدَ بما هو سبب الحدّ.
(2) قوله: متقادم؛ اسمُ فاعلٍ من التقادم، وهو صفةٌ لما هو سببُ الحدّ، يعني شهدَ بزنى ونحوه وقد قدم وطالَ زمانه.
(3) أي حال كون الشاهد قريباً من إمامِهِ الذي يشهد عنده، يعني لم يمنعه مانع كمرض أو بعد مسافة أو خوف طريق أو نحو ذلك مما يكون موجباً لإمتناعة من أداء الشهادة في الفور. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 290)، و((ذخيرة العقبى))(ص280).
(4) قوله: قريباً من إمامه؛ أي حالَ كونِ الشاهدِ قريباً من إمامِهِ الذي يشهد عنده، يعني لم يمنعه مانع كمرضٍ أو بعد مسافةٍ أو خوف طريقٍ أو نحو ذلك ممّا يكون موجباً لامتناعه من أداءِ الشهادة في الفور.
(5) قوله: لم تقبل؛ قال في ((الهداية)): الأصلُ أنّ الحدودَ الخالصةَ حقَّاً لله تبطلُ بالتقادم، خلافاً للشافعيّ هو يعتبرها بحقوقِ العبادِ وبالإقرارِ الذي هو إحدى الحجَّتين، ولنا: إنّ الشاهدَ مخيّر بين الحسبتين من أداءِ الشهادة والستر، فالتأخير إن كان لاختيارِ السترِ فالإقدامُ على الأداءِ بعد ذلك لضغينة هجية أو لعداوة حركته فيتّهم فيها، وإنّ كان التأخيرُ لا للسترِ يصيرُ آثماً فاسقاً، فتيقنّا بالمانعِ بخلاف الإقرار؛ لأنّ الإنسانَ لا يعادي نفسه، فحدّ الزناء وشربُ الخمر والسرقة خالصُ حقّ الله، حتى يصحّ الرجوعُ عنها بعد الإقرار، فيكون التقادمُ مانعاً، وحدُّ القذفِ فيه حقّ العبد لما فيه من دفعِ العارِ عنه، ولهذا لا يصحّ الرجوعُ عنه بعد الإقرار، والتقادم غير مانعٍ في حقوق العباد؛ لأنّ الدعوى شرطٌ فيه فيحملُ تأخيرهم على انعدامِ الدَّعوى فلا يوجبُ تفسيقهم.
(6) زيادة م: ق.
(5/442)
________________________________________
وهو$لا يسقطُ بالتَّقادُم.
(وضَمِنَ السَّرقة[(1)]): أي إن شهدوا بالسَّرقة المتقادمة يثبتُ الضَّمان(2)؛ لأنَّهُ حقُّ العبد، وهو لا يسقطُ بالتَّقادُم[(3)]، وعند الشَّافِعِيِّ(4) - رضي الله عنه - تقبل.
(وإن(5) أقرَّ به حدّ): أي [إن](6) أقرَّ بالحدِّ المتقادمِ حدُّ إلاَّ في الشُّرب على ما يأتي؛ لأنَّ المانعَ[(7)] من قَبولِ الشَّهادة أنَّه قد هيَّجتُهُ على الشَّهادةِ عداوةٌ حادثة، وهذا المعنى لا يوجدُ في الإقرار.
__________
(1) قوله: وضمن السرقة؛ أي إذا ثبتت السرقةُ المتقادمةُ بالشهادةِ لم يحدّ السارق، لكن يجبُ على السارقِ ضمانُ المالِ المسروقِ لمالك المال، قال في ((البحر)): قولهم: بضمانِ المال، مع تصريحهم بوجود التّهمةِ في شهادتهم مع التقادم مشكل؛ لأنّه لا شهادةَ للمتّهم ولو بالمال، إلا أن يقال: إنّها غيرُ محقّقة وإنّما الموجودُ الشبهة.
(2) ويسقط الحد للتقادم.
(3) قوله: وهو لا يسقطُ بالتقادم؛ فإنّ في حقّ العبدِ يشترطُ الدعوى وتأخيرُ الشهادةِ لتأخير الدعوى لا يوجب فسقاً، وينبغي أنّهم لو أخّروا الشَّهادة لا لتأخيرِ الدَّعوى أن لا تقبلَ في حقّ المال أيضاً. كذا في ((الفتح)).
(4) ينظر: ((الأم))(7: 59).
(5) في ت و ج و ق: ولو.
(6) سقطت من م.
(7) قوله: لأنّ المانع؛ دليل لقوله: حدّ، يعني إنّما لا تقبلُ الشهادةُ بحدٍّ متقادمٍ لاحتمالِ أنَّ الشاهدَ قد حدثت بينه وبين الشهود عليه عداوة، فشهدَ عليه بما يوجبُ الحدّ، وهذا مفقودٌ في الإقرار، فإنّ المرءَ لا يعادي نفسه، فيؤخذُ بإقراره، وإن كان بعد مدَّة من ارتكابه.
(5/443)
________________________________________
(وتقادمُ الشُّربِ[(1)] بزوالِ الرِّيح، ولغيرِهِ[(2)] بمضيِّ شهر(3)، فإن شهدوا بزنا، وهي غائبةٌ حُدَّ[(4)]، وبسرقةٍ من غائبٍ[(5)] لا)؛ لشرطيَّة الدَّعوى في السَّرقةِ[(6)] دون الزِّنا على ما يأتي
__________
(1) قوله: وتقادم الشرب؛ يعني في شربِ المسكرِ إذا شهدوا بعد زوالِ الرائحة من فيّ الشارب لم تقبل.
(2) قوله: ولغيره؛ أي غيرِ الشرب من الزنا والسرقة وغيرهما، يكون بمضيّ الشهر متقادماً، قال في ((البحر)): اعلم أنّ التقادمَ عند الإمامِ مفوَّض إلى رأي القاضي في كلّ عصر، لكنَّ الأصحّ ما عن محمَّد أنّه مقدَّر بشهر، وهو مرويّ عنهما أيضاً، وقد اعتبرَه محمَّد في شربِ الخمرِ أيضاً، وعندهما: وهو مقدَّرٌ بزوالِ الرائحة.
(3) هذا هو المروي عن أبي يوسف ومحمد - رضي الله عنهم -، وقيل ستة أشهر، وغليه أشار الطحاوي أيضاً، وعن أبي حنيفة أنه مفوض إلى رأي القاضي، والأول أصح، وحده في الشرب الخمر أو السكر بغيرها انقطاع الرائحة خلافاً لمحمد هو يجعله كغيره من الحدود. ينظر: ((رمز الحقائق))(1: 683).
(4) قوله: حدّ... الخ؛ وجه الفرقِ أنّ بالغيبةِ ينعدمُ الدعوى، وهي شرطٌ في السرقةِ دون الزناء، فإن قلت: عند غيبوبة المزنية احتمالُ دعواها الشبهة قائم فيجبُ أن لا يحدّ، قلت: هذا ليس وجوداً للشبهةِ ليسقط بها الحدّ، بل وجودها موهوم، فتكون شبهةُ الشبهة، والمعتبرُ في (باب سقوط الحدود) هو الشبهةُ لا ما هو النازلُ عنها.
(5) قوله: وبسرقة مّن غائب؛ أي شهدوا بأنّه سرقَ مالَ فلانٍ وهو غائبٌ عن ذلكَ المقام.
(6) قوله: لشرطيّة الدعوى في السرقة، يرد عليه أنّه لو كانت الدعوى شرطاً في السرقة لزمَ أن يحدّ في شهادةِ السرقةِ المتقادمة، وجوابه على ما يفهم من ((الهداية)) وحواشيها: إنَّ اشتراطَ الدعوى في السرقةِ إنّما هي لثبوتِ المالِ لا لإقامةِ الحدّ؛ لأنّه خالصُ حقّ الله تعالى، فيسقط الحدّ بالشهادة بالسرقة المتقادمة، ويجب المال.
(5/444)
________________________________________
الفرقُ في (كتابِ السَّرقة)(1) إن شاء الله تعالى.
(ولو اختلفَ[(2)] أربعةٌ في زاويتي بيت، أو أقرَّ[(3)] بزنا وجَهِلَها حدّ)، إذ التَّوفيق[(4)] ممكنٌ[(5)
__________
(1) ص ).
(2) قوله: ولو اختلف... الخ؛ يعني لو شهدت أربعة شهودٍ بزناه، واختلفوا في زاويتي بيتٍ واحد، فقال اثنان: زنى بها في تلكَ الزاوية، وقال آخران: في زاوية أخرى، قبلت شهادتهم وأقيمَ الحدُّ على الزاني، وهذا استحسان، والقياسُ أن لا يحدّ لاختلافِ المكان حقيقة، وباختلافِ المكانِ يختلفُ الفعل، فلم يتمّ نصاب الشهادة على فعلٍ واحد، ووجه الاستحسانِ على ما في ((الهداية)) وغيرها: إنّ التوفيقَ ممكنٌ بأن يكون ابتداءُ فعل الزنى في زاوية، وانتهاؤه في زاويةٍ أخرى بالحركةِ والاضطراب، وبأن يكون الزنى واقعاً في وسطِ البيت، فيحسبه مَن في المقدَّم في المقدَّم، ومَن في المؤخّر في المؤخّر، فيشهد ّكل حسبما ظنّه.
(3) قوله: أو أقرّ؛ يعني أقرّ الزاني بالزنى، وقال: لا أعلم أو لا أعرفُ المزنيّة فيحدّ في هذه الصورة، ولا يضرّ جهلُ المزنيّة؛ لأنّه لا يخفي عليه مَن له فيها شبهة، فلو كانت امرأته أو أمّ ولده أو كان الأمرُ مشتبهاً عليه، لم يقرّ بذلك؛ لأنّ الإنسان كما لا يقرّ على نفسه كاذباً لا يقرّ على نفسه حالَ الاشتباه أيضاً، فلمّا أقر بالزنى كان فرع علمه أنّها لم تشتبه عليه، فيكون معنى قوله: لم أعرفها؛ أي باسمها ونسبها، ولكن علمت أنّها أجنبيّة، وهذا بخلافِ الشاهد، فإنّه يجوزُ أن يشهدَ على مَن تشبته عليه، فلا يكون قولُ الشاهد: لا أعرفها موجباً للحدّ. كذا في ((الفتح)).
(4) قوله: إذ التوفيق؛ هذا التوفيقُ ونحوه إنّما يتيسّر في بيتٍ صغير جدَّاً كما أشرنا إليه، وكذا وضع الغزيّ في ((تنوير الأبصار)): المسألة فيه، فإنّه لو كان كبيراً لا يتيسّر فيه هذا التوفيق لم تقبل الشهادة.
(5) قوله ممكن؛ لا يقال: هذا توفيق لإقامةِ الحدّ والواجبُ درؤه لأنّا نقول: مثلُ هذا التوفيق مشروع صيانةً للقضاء عن التعطيل، كيف وفي شهادةِ أربعة جامعة لشرائطها يحتملُ أن يكون ما رآه واحدٌ في وقت وما رآه آخر في وقتٍ آخر، لكنّه يحملُ على الاتّحاد، وإن لم ينصّوا عليه. كذا في ((الفتح)).
(5/445)
________________________________________
] بأن يكونَ ابتداءُ الفعلِ في زاويةٍ وانتهاؤهُ في أُخرى، وجَهْلُ المُقِرُّ[(1)] لا يضرُّهُ إذ لو كانت امرأتُهُ أو أمُّ ولدِهِ لا يخفى عليه[(2)].
(فإن شهدوا كذلك، أو اختلفوا في طوعِها[(3)]، أو بلدِ زناه، أو اتَّفق[(4)] حجَّتاهُ في وقتِه واختلفا في بلدِه، أو شهدوا بزنا وهي بكر[(5)]، أو هم فسقة[(6)]، أو [هم](7) شهودٌ(8) [على شهود][(9)](10) لم يحدّ أحد، وإن شَهِدَ الأصولُ أيضا بعدهم[(11)]).
واعلم(12) أن في هذه الصُّور لا يحدُّ أحدٌ لا المشهودُ عليهما بالزِّنا، ولا الشُّهودُ بسببِ القذف.
__________
(1) قوله: وجهل المقر؛ هذه إضافة إلى الفاعل، ومفعوله: المزنية، وهذا متعلّق بالمسألة الثانية.
(2) قوله: لا يخفى عليه الصواب؛ لم تخفَ عليه لأنّ كلمةَ لو لانتفاءِ الجزاءِ بسبب انتفاءِ الشرط في الزمانِ الماضي، وأمثالُ هذه المساهلاتِ اللفظيّة كثيرةٌ في عباراتِ الشارح في هذا الشرح، وفي ((التوضيح)) ومتنه ((التنقيح))، ولكن لمّا كان المقصودُ واضحاً أعرضنا عن ذكرها في هذه الحاشية إلا نادراً.
(3) قوله: في طوعها؛ بالفتح مقابل الإكراه؛ أي اختلفَ الشهود في رضى الموطؤة.
(4) قوله: أو اتّفق؛ يعني اتّفقت الشهودُ الأربعةُ على وقتِ الزنى وغيره واختلفوا في بلده.
(5) قوله: بكر؛ وكذا لو علمَ أنّها رتقاء أو قرناء، لا يمكن الجماعُ بها.
(6) قوله: فسقة؛ بفتحات، جمعُ فاسق، كطلبة جمع طالب، يعني إنّ الشهودَ فاسقون غير مقبولي الشهادة.
(7) زيادة من أ و س.
(8) في ج: شهدوا، وفي م: شهودهم.
(9) قوله: أو هم شهود على شهود؛ صورته: أن لا يحضرَ شهودُ الزنا الذين شاهدوا الزنى بأعينهم مجلسَ الحاكم لعذر، فيشهدوا على شهادتهم غيرَهم، فشهدوا عند الحاكم على شهادتهم.
(10) سقطت من ب.
(11) قوله: بعدهم؛ أي بعدِ شهادة الفروع، أي الشهود على الشهود.
(12) في في ب و ف و م: اعلم.
(5/446)
________________________________________
فقولُهُ: وإن(1) شهدوا كذلك؛ أي[(2)] شهدوا وجَهِلُوا الموطوءةَ لا حدَّ على المشهودِ عليه؛ لاحتمالِ[(3)] أن تكونَ المرأةُ زوجتَهُ أو أمتَه، ولا على الشُّهود؛ لوجودِ أربعةِ شهداء.
وإن شهدَ أربعة، وقال: إثنان منها[(4)] كانت طائعةً، وإثنان منها: كانت مكرهة، فلا حدَّ عليهما عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -.
وعندهما: يحدُّ الرَّجلُ[(5)] لاتفاقِ الأربعةِ على زناه لا المرأة[(6)]؛ للاختلاف في طوعِها.
__________
(1) في أ: فإن.
(2) قوله: أي؛ إشارة إلى أنّ قوله: كذلك إشارةٌ إلى ما دلَّ عليه قوله وجهلها.
(3) قوله: لاحتمال... الخ؛ لو قال: لاحتمالِ أن يكون له فيها شبهة لكان أولى.
(4) قوله: منها؛ الأولى في الموضعين: منهم، ولعلَّ التأنيثَ نظراً إلى أنّ الشهودَ جمع، وهو في حكم التأنيث، أو نظراً إلى لفظ أربعة، والحاصل: إنّه شهدَ اثنانِ بأنّ المرأة كانت طائعة أي راضيةً بفعله، وقال آخران لم تكن طائعة، بل أكرهها الرجل.
(5) قوله: يحدّ الرجل؛ فإنّ الشهودَ شهدوا بزناه طائعاً، بل زادَ اثنانٌ منهم جنايةً أخرى وهي الإكراه.
(6) قوله: لا المرأة؛ أي لا تحدّ المرأة؛ لأنّ رضاها شرطُ تحقّق الموجبَ في حقّها، ولم يثبت لاختلافهما.
(5/447)
________________________________________
وله[(1)]: إن الفعلَ المشهودَ به إن كان واحداً فبعضُهم كاذب؛ لأنَّ الفعلَ الواحدَ لا يكونُ بطوعِها وكرها[(2)]، وإن لم يكن واحد، فلا نصابَ[(3)] للشَّهادة على كلِّ منهما، ولا يحدُّ[(4)] الشُّهُود؛ لوجودِ العدد.
__________
(1) قوله: وله... الخ؛ حاصله: إنّه لمّا اختلفتِ الشهودُ اختلفَ المشهود به؛ لأنّ الزنا فعلٌ واحدٌ يقوم بالرجل والمرأة، وكلّ فعلٍ واحدٍ يقوم بهما لا يتَّصفُ بوصفتين متضادّين، وهؤلاء أثبتوا له وصفين متضادّين، فإنّ الطوعَ يوجبُ اشتراكهما في الزنا، والكره يوجبُ انفرادَ الرجلِ به واجتماعهما متعذّر، فكان كلّ واحدٍ منهما خلافَ الآخر، فاختلفَ المشهود به، ولم يتمّ على كلّ منهما نصاب الشهادة. كذا في ((العناية)).
(2) قوله: لا يكون بطوعها وكرهها؛ يردُ عليه أنّه يجوزُ أن يكون بعضه بالطوعِ وبعضه بالكره، فأمكن التوفيق ولم يلزم كذبُ بعضهم، ويجاب عنه بأنّ الاعتبارَ لأوّل الفعلِ في الطوع والكره، فإذا انعقدَ موجباً للحدّ لا ينقلبُ غير موجبٍ للحدّ، وكذا بالعكس.
(3) قوله: فلا نصاب؛ لأنّ الاثنينَ شهدا بطوعها، واثنان بكرهها فكانت على كلّ فعلٍ شهادةُ اثنين، ونصابُ الشهادةِ في باب الزنى أربعة، فلم يثبت واحدٌ من الفعلين، فلم يجب الحدّ لا عليه ولا عليها.
(4) قوله: ولا يحدّ الشهود؛ أي لا يقامُ على الشهودِ حدّ القذف؛ لأنّ نصابَ الشهادةِ تامّ، وإن لم تقبل لوجودِ الاختلاف، وحدّ القذفِ إنّما يجبُ إذا لم يتمّ نصابُ الشهادة، يدلّ عليه قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}.
(5/448)
________________________________________
وإن شَهِدَ أربعةٌ بزناه، واختلفوا في بلدِ زناه[(1)]، فلا حدَّ عليهما لما مرّ[(2)]، ولا على الشُّهُودِ خلافاً لزُفر[(3)] - رضي الله عنه -؛ لوجودِ العدد.
__________
(1) قوله: واختلفوا في بلد زنائه؛ فقال اثنان منهم: زنى بالبصرة مثلاً، وقال آخران: زنى بدمشق مثلاً.
(2) قوله: لما مرّ؛ أي لاختلافِ المشهود به فإنّ الفعلَ يختلفُ باختلافِ المكان، فإن كان واحداً فبعضهم كاذب؛ لأنّ الفعلَ الواحدَ لا يوجدُ في ٍوقت واحدٍ في مكانين، وإن لم يكن واحداً فلا نصابً للشَّهادة على كلّ منهما.
(3) قوله: خلافاً لزفر؛ فإنّه يقولُ بوجوبِ حدّ القذف على الشهود في هذه الصورة؛ لأنّ شهادتهم لمّا لم تقبل لنقصانِ العدد صارَ كلامهم قذفاً، ولنا أنّ الأربعةَ شهدوا مع كونهم أهلاً للشهادة على زناءِ واحد صورة نظراً إلى اتّحاد النسبةِ الحاصلةِ منهم، واتّحاد المرأة، وإنّما جاءَ الاختلافُ بذكرِ المكان، فتثبت شبهةُ اتّحاد المشهود به، ونصابُ الشهادةِ عليه تامّ، ومثلُ هذه الشبهة تدرأ عنهم حدّ القذف. كذا في ((النهاية)).
(5/449)
________________________________________
وإن شَهِدَ أربعةٌ بزناهُ في وقتٍ معيَّن(1)، وأربعةٌ أُخرى بزناه في ذلك الوقتِ في بلدٍ آخر، فلا حدَّ عليهما[(2)]؛ لأنَّ شهادةَ أحدِ الفريقينِ مردودةٌ؛ لتيقُّنِ كذبِه، ولا رجحان[(3)] لإحدهما فيردُّ الجميع، ولا على الشُّهُود؛ لاحتمالِ[(4)
__________
(1) اختلفت أنه المسألة التي سبقتها أنه بعد أن اكتمل نصاب الشهادة في كل واحد من الفريقين يشترط أن يذكروا وقتاً واحداً؛ للتيقن بكذب أحد الفريقين. ينظر: ((رمز الحقائق))(1: 254).
(2) قوله: فلا حدّ عليهما؛ أي على الرجلِ والمرأة؛ لأنّ كذبَ أحد الفريقين متيقّن لعدمِ إمكانِ صدور فعلٍ واحدٍ من رجلٍ واحدٍ في وقتٍ واحد في مكانين متباعدين، فلم يثبتْ الزنى بشهادة أحدهما.
(3) قوله: ولا رجحان؛ يعني ليس في أحدِ الفريقين ما يرجّح قبوله على الآخر، وفيه احترازٌ عمّا لو لم توجدْ في أحد الفريقين شرائطُ قبولِ الشهادة، ووجدت في الآخر، فحينئذٍ تقبلُ شهادة الفريق المجتمعة لصفات القبولِ وتردّ شهادة الآخر.
(4) قوله: لاحتمال صدق أحد الفريقين؛ الأولى أن يقول: لاحتمالِ صدقِ كلّ من الفريقين، كما في ((الهداية))، والحاصل: إنّ صدقَ كلّ من الفريقينِ محتمل، وكذب أحدهما لا يعينه متيقن، فلتيقّن كذبِ أحدهما درء الحدّ عن الرجلِ والمرأة، ولاحتمالِ صدقِ كلّ منهما درء الحدّ عن الشهود الثمانية؛ لأنّ حدّ القذف إنّما يقام إذا لم يثبت الزناء ولم توجد شبهة، وهاهنا شبهةُ الزناءِ قائمةٌ لاحتمالِ صدقِ الشهود، فإن قلت: كيف يجتمعُ احتمالُ صدقِ كلّ منهما مع تيقّن كذب أحدهما، بل لا يكون هاهنا إلا احتمالُ صدقِ أحدهما، قلت: تيقّن الكذبِ متعلّق بأحدهما لا بعينه، وهو لا يضرّ في وجودِ احتمالِ الصدق في كلّ منهما على انفراده، وإنّ ما يضرّ احتمالُ صدقِ مجموعهما، ويمكن أن يقال: إنّ صدقَ كلّ منهما وإن كان محتملاً، لكنَّ وجودَ احتمال الصدق في أحدهما لا بعينه أيضاً كافٍ لدرءِ الحدّ عن الشهود، فلذلك اكتفى عليه الشارح، فافهم هذا فإنّه مع أكثر ما مرّ وما يأتي في هذا البحثِ من سوانحِ الوقت.
(5/450)
________________________________________
] صدقِ أحدِ الفريقين.
يردُّ عليه[(1)]: أنّه يحتملُ أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما كاذباً، والظَّاهرُ هذا لما مرَّ من تيقُّنِ كذبِ أحدِهما وعدمُ رجحان أحدِهما، فيكون صدقُ أحدهما محتملاً احتمالاً بعيداً، ثُمَّ على تقديرِ صدقِ أحدِهما يحتملُ أن يكونَ الصَّادقُ هذا الفريقَ المعيَّن أو ذلك الفريق، ففي صدقِ كلِّ واحدٍ احتمال الاحتمال، وهو شبهةُ الشُّبهة، فلا اعتبارَ لها.
__________
(1) قوله: يردُ عليه... الخ؛ إيرادُ على ما ذكره وجهاً لسقوطِ الحدّ عن الشهود، وحاصله: إنّه قد مرّ أنّ كذبَ أحد الفريقين متيقّن مع عدمِ الرجحان، واحتمالُ كذبِ كلّ منهما أيضاً قائم، فاحتمالُ صدقِ أحدهما احتمالٌ بعيد، ومع ذلك فبعد احتمالِ صدقِ أحدهما يحتملُ أن يكون الصادقُ هذا الفريق أو الفريق الآخر، فيكون في صدقِ كلّ منهما احتمالُ الاحتمال، ومثله لا يعتبرُ في هذا الباب، فإنّ الحدودَ إنّما تسقط بوجودِ الشبهةِ لا بشبهةِ الشبهة، وأنتَ تعلمُ ما في هذا من السخافة، وذلك لأنّ احتمالَ كذبِ كلّ منهما منفيّ بالشرع؛ لأنّه جعلَ الشارعُ صدقَ الشاهد العدل في حكمِ المقطوع به، ولم يعتبرْ احتمالُ كذبه، وإنّما عرضَ في ما نحن فيه تيقّن كذب أحدهما لعارض، فلا يزيلُ ذلك قطعُ الصدق في أحدهما، وإنّما يصيرُ شبهة في التعيين، فلا توجدُ شبهةُ الشبهة على أن قوله والظاهر هذا باطل، فإنّ كذبَ كلّ منهما ليس بالظاهرِ بوجهٍ من الوجوه، وما ذكره من الدليلِ لا يثبته؛ لأنّ تيقّن كذب أحدهما مع عدمِ الرجحانِ لا يثبت كون كذب كل منهما ظاهراً.
(5/451)
________________________________________
فأقول[(1)]: وإنِّما لا يحدُّ الشُّهود؛ لوجودِ أربعةِ شهداء، فشهادةُ كلُّ فريقٍ إن لم توجبْ حداً على المشهودِ عليه، فلا أقلَّ من[(2)] أن توجبَ تهمةً يندرئُ بها[(3)] الحدُّ عن الفريقِ الآخر.
__________
(1) قوله: فأقول... الخ؛ تقريرٌ لسقوطِ الحدّ عن الفريقين بوجهٍ آخر، بحيث لا يردُ عليه شيء، وحاصله: إنّه قد وجدَ نصابَ الشهادة هاهنا في كلّ جانب، فشهادةُ كلّ فريقٍ توجبُ تهمةَ الزنا، وبوجودِ التهمةِ يندفعُ حدّ القذفِ عن الفريق الآخر.
(2) قوله: فلا أقلّ من... الخ؛ أورد عليه بأنّ إيجاب التهمة فرعُ احتمالِ الاحتمال، وقد أسقطه عن درجة الاعتبار، وأجيب عنه بأنّ احتمالَ الاحتمال في صدق معيّن، لكن صدق أحد الفريقين هو الاحتمال، ويكفي للتهمة ذلك.
(3) قوله: يندرئ بها... الخ؛ ولدرءِ الحد عن الشهودِ وجوه أخر أيضاً، منها: إنّ الظاهرَ صدّق الشهود، والكذب خلاف الظاهر، فيتقدّر بقدر الضرورة.
ومنها: إنّ الثابتَ بشهادة الفريقين الزناءُ المطلق، وإقامةُ حدّ القذف مشروطة بقذفِ الزناء المعيّن، ولم يثبت. ومنها: إنّه قامَ الدليلُ المثبت للزناء ذاتاً وإنّما امتنعَ ثبوته لعارض فأورثَ ذلك شبهة سقطَ الحدّ بها عنهم.
(5/452)
________________________________________
وإن نظرَتْ[(1)] امراةٌ [واحدةٌ](2)، فقالت: هي بكرٌ تثبتُ(3) بشهادتِها البكارة، فيندرئ حدُّ الزِّنا، ولا يثبتُ حدُّ القذفِ(4) بشرطيَّةِ الرِّجال(5)[(6)].
وإذا كانوا فسقةً يندرئُ الحدّ، ولا يحدُّ الشُّهود؛ لأنَّ(7) الفسقةَ أهلُ الشَّهادة(8)[(9)]، فوجدتْ شهادةُ الأربعة.
__________
(1) قوله: وإن نظرت... الخ؛ يعني شهدوا بأنّه زنى بفلانة، فنظرت امرأةُ تلك المزنيّة، وقالت: هي باكرة فحينئذٍ يسقطُ الحدّ عنهما؛ لوجود الشبهة، فإنّ البكارةَ لا تجتمعُ مع الزنى، وقولُ المرأةِ الواحدة حجّة في هذا الباب.
(2) سقطت ص و ف.
(3) في ص و ف: يثبت.
(4) أي على الشهود.
(5) أي تشترط في ثبوت القذف الموجب للحد شهادة الرجال، وههنا البكارة تثبت بقول النساء. ينظر: ((العمدة))(2: 294).
(6) قوله: لشرطيّة الرجال، يعني تشترطُ في ثبوت القذفِ الموجبِ للحدّ شهادةُ الرجال، وهاهنا البكارة تثبتُ بقول النساء.
(7) في م: ولان.
(8) أي أهل الأداء والتحمل، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق؛ ولهذا لو قضى القاضي بشهادة فاسق ينفذ عندنا، ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا، وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت شبهة عدم الزنا فلهذا امتنع الحدّان. ينظر: ((الهداية))(2: 107).
(9) قوله: أهل الشهادة... الخ؛ قال في ((الهداية)): لأنّ الفاسقَ من أهل الأداء والتحمّل، وإن كان في أدائه نوعُ قصورٍ لتهمةِ الفسق، ولهذا لو قضى القاضي بشهادةِ فاسقٍ ينفذُ عندنا، فيثبتُ بشهادتهم شبهةُ الزناء، وباعتبارِ قصورٍ في الأداءِ لتهمة الفسق يثبت شبهة عدم الزناء، فلهذا امتنع الحدّان، وسيأتي فيه خلاف الشافعيّ بناءً على أصله إنّ الفاسقَ ليس من أهلِ الشهادة، فهو كالعبد عنده.
(5/453)
________________________________________
وإن كانوا[(1)] شهوداً على شهودٍ(2) لم(3) يحدّ[(4)](5)؛ لأنَّ(6) في شهادتهم زيادةَ شبهة[(7)]؛ لأنَّ الكلامَ إذا تداولَتْهُ الألسنةُ[(8)] يتطرَّق[(9)](10) اليه زيادةٌ ونقصان، ثُمَّ[(11)
__________
(1) قوله: وإن كانوا؛ أي الشهود الشاهدون بحضرةِ الحاكمِ شهوداً على شهود الزناء بأن يقول كلّ منهم: أشهدَ أنّ فلاناً أشهدني على شهادته هكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك، وهذا عند تعذّر حضورِ الأصول بموتٍ أو مرضٍ أو سفر، فإنّه لا تقبلُ الشهادةُ على الشهادة عند قدرةِ الأصولِ على أداء الشهادة على ما ثبتَ تقريره في (كتاب الشهادات).
(2) أي الشهود الشاهدون بحضرة الحاكم شهوداً على شهود الزنا بأن يقول كل منهم: أشهد أن فلاناً أشهدني على شهادته هكذا، وقال لي: إشهد على شهادتي بذلك، وهذا عند تعذُّر حضور الأصول بموت أو مرض أو سفر، فإنه لا تقبلُ الشهادة على الشهادة عند قدرة الأصول على الأداء الشهادة. ينظر: ((العمدة))(1: 294).
(3) في ص: لا.
(4) قوله: لم يحد؛ أي الرجلُ والمرأة، وكذا لا يحدّ الشهود لا الفروع؛ لأنّهم حاكون للقذف، وحكاية القذف ليست بقذف، وكذا لا يحدّ الأصولُ بالطريق الأولى.
(5) في س و م: يجد. وفي ص: حد.
(6) في ص: لا.
(7) قوله: زيادة شبهة؛ هذه الإضافة بيانيّة؛ أي زيادة هي مشبهة، فإنّه لا شبهةَ في شهادةِ الأصول حتى يقال إنّ في شهادةِ الفروعِ شبهةٌ زائدة، ويمكن أن يقال: إنّ المراد أنّ في أداءِ شهادةِ الفروع عند الحاكم شبهةٌ زائدة، ونفسُ الشبهةِ ثبت بإشهادِ الأصولِ في غير مجلس الحاكم.
(8) قوله: إذا تداولته الألسنة؛ بفتح الهمزة وسكون اللام وسكون السين المهملة، جمع اللسان.
(9) قوله: يتطرّق؛ مضارع من التطرّق، بالفارسية: راه كَرفتن، والحاصل: إنّ الكلامَ الواحدَ إذا صدر من ألسنةٍ مختلفةٍ وقعَ فيه شيءٌ من التغيّر زيادةً أو نقصاناً.
(10) في س: بتطرق، وفي م: بطرق.
(11) قوله: ثم؛ أي بعدما شهدَ الفروعُ إن حضر الأصولُ فشهدوا عند الحاكم بذلك الزنا.
(5/454)
________________________________________
] إن جاءَ الأصولُ فشهدوا على ذلك الزِّنا بعينِه بعد شهادةِ الفروع، لم يحدَّ أيضاً؛ لأنَّ[(1)] شهادتَهم قد رُدَّتْ من وجهٍ بردِّ فروعِهم، والشَّهادةُ[(2)] إذا ردَّتْ مرَّةً في حادثةٍ لا تقبلُ فيها أبداً، وهذا ضعيفٌ(3)[(4)]؛ لأنَّ ردَّ شهادتِهم لمعنىً يختصُ
__________
(1) قوله: لأنّ... الخ؛ حاصله أنّه لمّا ردّت شهادةُ الفروعِ لما مرّ من وجودِ الشبهةِ لم تقبلْ شهادةُ الأصولِ بعد ذلك في تلكَ الواقعة؛ لأنّ ردَّ شهادةَ الفروعِ ردّ لشهادةِ الأصولِ من وجهٍ لاتّحاد شهادتهما، وقد تقرّر في مقرّه أنّ الشهادةَ إذا ردّت في حادثةٍ مرّة لا تقبلُ مرّة أخرى في تلك الحادثة.
(2) قوله: والشهادة... الخ؛ يردُ عليه أنّه يستلزمُ عدمَ قبولِ شهادةِ الأصولِ في الأموالِ وغيرها بعدما ردّت شهادةُ الفروعِ لفسقهم ونحو ذلك، وليس كذلك، وأجيبَ عنه بأنّ ردَّ شهادةَ الفروعِ ليس رداً لشهادة الفروعِ حقيقة بل شبهة، فيعتبرُ في بابِ الحدود التي تندرئ بالشبهات، لا في باب الأموالِ وغيرها.
(3) لم يرتض ابن كمال باشا في ((الايضاح))(ق78/أ)، واللكنوي في ((عمدة الرعاية))(2: 295) تضعيف الشارح لما ذكره الفقهاء من الحجّة وما احتجّ به، وسكت عن ذلك ملا خسرو في ((الدرر))(2: 68)، ويظهر أن لكلامه وجه حجة.
(4) قوله: وهذا ضعيف... الخ؛ إيرادٌ على ما وجَّهه به ردّ شهادةِ الأصول، وحاصله: إنّه لا وجهَ لردّ شهادتهم؛ لأنّ ردَّ شهادةِ الفروعِ لوجهٍ يختصّ بهم، وهو تطرّق الشبهةِ بتداولِ الألسنة ذلك الكلام، وهذا المعنى لا يوجدُ في شهادةِ الأصول، ولا يخفى على الفطنِ ما في هذا الإيرادِ من الضعف؛ لأنّه لمَّا جعلَ الموجّه ردّ شهادة الفروع ردّ شهادة الفروع من وجه لزمَ منه مع ضمّ مقدّمة ثانية، وهي عدمُ قبولِ شهادةِ مردودة مرّة أخرى عدمَ قبولِ شهادة الأصولِ قطعاً، ولم يقل: الموجّه إنّ شهادةَ الأصول لمّا ردّت ردّت به شهادةُ الفروع حتى يردّ عليه ما أورده.
(5/455)
________________________________________
بها لا يسري إلى الأصول؛ لعدم ذلك المعنى في شهادتِهم.
ويمكن أن يقال[(1)]: إنِّما تردُّ شهادةُ الأصولِ لأنَّهم سعوا[(2)] إلى إثباتِ الزِّنا بأمرٍ غير مشروع، فلا تكون شهادتُهم حسبةً لله تعالى، بل سعياً الى إشاعةِ الفاحشةِ لعداوةٍ أو نحوِها، فتردُّ شهادتُهم(3)؛ لهذه التَّهمة.
__________
(1) قوله: ويمكن أن يقال... الخ؛ لظنّ الشارح أنّ الوجه الذي ذكروه ضعيفٌ عدلَ عنه إلى التوجيه الآخر، ولا يخفى أنّه لو تمّ لدلّ على عدمِ قبولِ شهادة شهود الزنى إذا أشاعوا ذلك في غيرِ مجلسِ القاضي والتزامه بعيد.
(2) قوله: لأنّهم سعوا... الخ؛ فيه إنّ الإشهادَ على الشهادةِ إنّما يعتبرُ إذا تعذّر حضورُ الأصل في مجلس القضاء، فلا يكون الإشهادُ على شهادةِ الزنى عند ذلك سعياً إلى إشاعةِ الفاحشة، ولا مخبراً عن العداوة.
(3) العبارة في : شهاد شهادتهم.
(5/456)
________________________________________
(وإن(1) شهدوا[(2)] عمياناً(3)، أو محدودين في قذفٍ[(4)](5) أو ثلاثة[(6)]، أو أحدُهم محدود، أو عبدٌ(7)، أو وُجِدَ[(8)] كذا(9) بعد الحدّ(10) حدوا)؛ لعدم أهليَّةِ الشَّهادة[(11)
__________
(1) في ت و ج و ق: فان.
(2) قوله: وإن شهدوا... الخ؛ حاصلُ هذه الصورِ أنّه إذا شهدَ بالزناءِ مَن لا أهليّة له للشهادةِ كالأعمى والمحدودِ في القذف، والعبد والمجنون والكافر ونحو ذلك لم يحدّ المشهود عليه؛ لأنّه لا تثبتُ بشهادتهم المال، فكيف يثبتُ بها الحدّ فانقلبت شهادتهم قذفاً، فيقامُ عليهم الحدّ، وهذا الحكمُ عامّ في ما إذا كان كلّ شاهدٍ ممّن لا أهل له، وفيما إذا كان بعض الشهداءِ ممّن لا أهل له، فإن قلت: إذا لم تكن الأهليّة في البعضِ يجبُ أن لا يقام الحدّ إلا عليه، قلت: لمّا لم يكن بعضُ الشهودِ أهلا فشهادةُ الباقيين مع الأهلية غير مثبتة للزناء؛ لعدم النصاب فصار كلامُ كلّ منهما قذفاً، فيحدّ كل منهم.
(3) في ت و ف و ق: عمياً.
(4) قوله: أو محدودين في قذف؛ بأن كانوا قذفوا أحداً فحدّ واحداً بقذف، وسيأتي أنّ المحدودَ في قذف لا تقبل له شهادة أبداً وإن تابَ وعمل عملاً صالحاً.
(5) في ت و ج و ف و ق: بقذف.
(6) قوله: أو ثلاثة؛ أي كانت الشهداءُ ثلاثة.
(7) العبارة في ت و ج و ف و ق: أو أحدهم عبد أو محدود.
(8) قوله: أو وجد... الخ؛ يعني شهدَ أربعة على رجلٍ بالزناء، فضرب بشهادتهم ثمَّ وجد أحدهم عبداً أو محدوداً في قذفٍ أو صبيّاً أو نحو ذلك أقيم عليهم الحدّ؛ لكونهم قذفة؛ لعدمِ تمام نصاب الشهادة.
(9) في ق: كذلك.
(10) أي إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم، ثم وجد أحدُهم عبداً، أو محدوداً في قذف ... الخ أقيم عليهم الحدّ؛ لكونهم قذفة لعدم تمام نصاب الشهادة.
(11) قوله: لعدمِ أهليّة الشهادة؛ هذا في صورةِ كونهم عمياناً أو محدودين في قذف ونحو ذلك، فإن قلت: قد مرّ أنّ الشهودَ لو كانوا فسقة لم يحدّوا مع أنّ الفاسقَ أيضاً ليس بأهلٍ للشهادة، قلت: قد مرّ أنّ الأهليّة في الفاسق ليست بمفقودةٍ مطلقاً، فإنّ الفاسقَ في نفسِه أهلٌ للشهادةِ تحمّلاً وأداءً، نعم في أدائه نوع قصور، بخلاف ما نحن فيه.
(5/457)
________________________________________
]، أو عدمِ النِّصاب[(1)]، فيجبُ الحدُّ لقولِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ[(2)] ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}(3) الآية.
(وأرشُ(4)[(5)] جرحِ جلدِهِ هَدْر(6)، وديةُ رجمِهِ في بيتِ المال): أي شهدَ الشُّهودُ بالزِّنا، والزَّاني غيرُ محصن فجلدَ، فجرَحَهُ الجلدُ، ثُمَّ ظهرَ أحدُ الشُّهودِ عبداً، أو محدوداً في قذف، فأرش الجلدِ هَدْرٌ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -.
وقالا: في بيتِ المال؛ لأنَّ[(7)] فعلَ الجلاَّدِ ينتقلُ إلى القاضي، وهو عاملٌ للمسلمين، فالغرامةُ في مالِ المسلمين.
__________
(1) قوله: أو عدم النصاب؛ هذا في صورةِ كونِ الشهداء ثلاثة، وفي صورةِ كون أحدهم غير أهلٍ للشهادة، وفي صورة ظهورِ بعضهم غير أهلٍ بعد الحدّ.
(2) قوله: المحصنات؛ بفتح الصاد المهملة؛ أي النساء العفائف الغافلات عن الفواحش.
(3) النور، (4).
(4) أَرْشُ الجراحة: ديتُها، والجمع أروش. ينظر: ((المصباح المنير))(ص12).
(5) قوله: وأرش؛ بفتح الهمزة: الدية، والهدر: بالفتح بمعنى الباطل، بالفارسيّة: رايكَان، وكذا إذا ماتَ المجلود من الضربِ فتجبُ ديةُ النفسِ في بيت المال عندها إذا ظهرَ بعض الشهودِ عبداً أو محدوداً في قذف أو أعمى، وعند أبي حنيفةَ لا يجب شيء. كذا في ((العناية)).
(6) هَدْرٌ دمه: أي باطل . ينظر: ((طلبة الطلبة))(ص148).
(7) قوله: لأنّ... الخ؛ حاصله: إنّ الجرحَ إنّما حصلَ بسبب الجلد، وهو وإن كان فعل الجلاد لكنّه منتقل إلى القاضي؛ لأنّه جلدَه بأمر القاضي، والقاضي عاملٌ للمسلمين، فتكون الغرامةُ الحاصلةُ بفعلِه في مال المسلمين، وموضعه بيت المال.
(5/458)
________________________________________
وله: إنَّ الفعلَ الجارحَ[(1)] لا ينتقلُ إلى القاضي؛ لأنَّه لم يأمرْ بالجرح[(2)]، فيقتصرُ على الجلاَّد، ثُمَّ هو[(3)] لا يضمن[(4)]؛ لئلا(5) يمتنعَ النَّاسُ عن الإقامةِ مخافةً للغرامة.
__________
(1) قوله: الفعل الجارح؛ بالتوصيف أي الفعل الذي جرحه، وفي بعض النسخ: فعل الجارح بالإضافة،، فالمراد بالجارح هو الجلاد، وبفعله جرحه.
(2) قوله: لأنّه لم يأمرِ بالجرح؛ حاصله: إنّ الواجبَ هو الجلد، وهو ضربٌ مؤلم غير خارجٍ ولا مهلك، وأمرُ القاضي إنّما يتعلّق بما هو الواجب، ولا يقع الجلد جارحاً إلا لمعنى في الضارب، وهو قلّة اهتمامه فيقتصرُ ذلك الفعلُ على الجلاد، ولا ينتقل إلى القاضي لتجب الغرامةُ في بيت المال.
(3) قوله: ثمّ هو... الخ؛ دفعُ دخلٍ مقدّر، تقريرُ الدخلِ أنّه لمّا اقتصرُ الفعلُ الجارحُ على الجلاّد وجب أن يضمنَ الجلاّد، وإن لم يجب الزمانُ على القاضيِ أو في بيت المال، وحاصلُ الدفع إنّ الزمانَ لا يجبُ على الجلاّد مطلقاً، كيلا يمتنعَ الناسُ عن إقامةِ هذا الحدّ لخوفِ وجوبِ الغرامة عليهم.
(4) قوله: لا يضمن؛ هذا هو الصحيح كما في ((الهداية))، قال في ((العناية)): يعني في الصحيح من الرواية، وذكر في ((مبسوط فخرِ الإسلام)): لو قال قائل: يجبُ الضمانُ على الجلاّد، فله وجه؛ لأنّه ليس بمأمورٍ بهذا الوجه؛ لأنّه أمر بضربٍ مؤلمٍ لا جارحٍ ولا كاسر ولا قاتل، فإذا وجّه منه الضرب على هذا الوجوه وقعَ فعله تعدّياً، فيجب عليه الضمان.
(5) في أ و ص و ف: كيلا.
(5/459)
________________________________________
وإن شهدوا والزَّاني محصنٌ فَرُجِم، ثُمَّ ظَهَرَ أحدُهم عبداً، أو نحوَه فديَّةُ الرَّجمِ في بيتِ المال[(1)].
(وأيٌّ[(2)] رَجَعَ من الأربعةِ [بعد رَجْمٍ(3)](4) حدّ): أي حدَّ الرَّاجع فقط حدَّ القذف.
__________
(1) قوله: في بيت المال؛ هذا اتّفاقيّ، ووجهه أنّ الرجمَ مضافٌ إلى شهادتهم، فيضمنون بالرجوع، وعند عدمِ الرجوعِ يجبُ في بيتِ المال؛ لأنّ رجمه مضافٌ إلى أمر القاضي، وهو عامل للمسلمين، فتجب الغرامة في مالهم، بخلاف الجلد، فإنّ المأمور به هناك هو الجلدُ الغير الجارح، فالفعل الجارح لا ينتقلُ إلى القاضي بل يقتصرُ على الجلاّد.
(2) قوله: وأيّ؛ بفتح الهمزة وتشديد الياء، أي أيّ الشهود الأربعة رجعَ عن شهادتِه بعدما رجمَ المشهود عليه، فقال: كذبتُ في شهادتي، أقيم على ذلك الراجع حدّ القذف فقط؛ لأنّه صارَ قاذفاً، ولا حدّ على الباقين لعدمِ صدورِ القذف عنهم؛ لبقائهم على شهادتهم.
(3) في ج: الرجم.
(4) سقطت من ق.
(5/460)
________________________________________
وعند زُفر - رضي الله عنه - لا يحدّ(1)؛ لأنَّه[(2)] إن كان قاذفٌ حيَ فقد(3) سقطَ بالموت(4)، وإن قاذفَ ميِّت، فهو مرجومٌ بحكمِ القاضي(5)
__________
(1) حاصل الاستلال والجواب: أن زفر - رضي الله عنه - قال: لا يجب الحدّ على الراجع؛ ولأنه لو وجب، إما أن يجب بالقذف قبل الرجم ولا سبيل إليه؛ لأن من قذف حيَّاً، ثم مات المقذوف لا يحدّ القاذف لكونه لا يورث، أو بالقذف بعد الرجم فلا سبيل إليه أيضاً؛ لأن المرجوم لا يحد قاذفه لكونه مرجوماً بحكم الحاكم فيكون شبهة فصار كما لو قذفه غيره، ولنا أن كلامه ليس بقذف للحال؛ ولأنه انعقد شهادة ووقع الحكم به بهذا الوصف لكنه عند الرجوع ينقلب قذفاً؛ لأنه فسخ لشهادته به بعد الوجود فينفسخ ما ينبني عليه وهو القضاء فيكون قذفاً للحال، وهو محض في زعمه فيحد بخلاف ما إذا قذفه غيره؛ ولأنه مرجوم بحكم الحاكم ولم يوجد فسخ الشهادة في حقه؛ لأن زعم الراجع يعتبر في حقه لا في حق غيره. ينظر: ((التبيين))3: 192).
(2) قوله: لأنّه... الخ؛ حاصله أنّ الراجعَ وإن صار قاذفاً برجوعِه لكن لا يخلو إما أن يكون قاذفاً، فالمرجومُ في حياته قبل رجمه بناءً على أنّ بالرجوع أخبرَ أنّه كذبَ في شهادةِ نسبته إلى الزنا، وكان ذلك في حياته، فيكون قاذفاً عند ذلك، وإمّا أن يكون قاذفاً للمرجوم بعد مماته بالرجم، بناءً على أنّ القذفَ ثبت بالرجوعِ وهو بعد موته، وعلى كلّ تقدير: فلا وجهَ لإقامةِ حدّ القذفِ على الراجع، أمّا على الأوّل فلأنّ حدّ القذفِ يسقطُ بموتِ المقذوف، ولا يورثُ عنه على ما تقرّر في موضعه، وأمّا على الثاني فلأنّ المقذوفَ مرجومٌ بحكمِ القاضي بزناه، وهو إن لم يسقط الإحصان فلا أقلّ من أن يورث شبهة، والحدّ يبطل بالشبهة.
(3) في م: فقربه.
(4) لأن حد القذف لا يوؤث؛ لأن الغالب فيه حق الله تعالى فيورث شبهة. ينظر: ((الفتح))(5: 293).
(5) وذلك إن لم يسقط الإحصان، فلا أقلّ من إيراث الشبهة والحدّ يسقط بها. ينظر: ((العناية))(5: 293).
(5/461)
________________________________________
، فلا يجبُ الحدّ[(1)].
قلنا[(2)]: هو قاذفُ ميِّت؛ لأنَّ شهادتَهُ بالرُّجوع انقلبتَ قذفاً، فصارَ قاذفاً بعد الموت، ولم يبقى مرجوماً بحكمِ القاضي؛ لانفساخِ الحكمِ بانفساخِ الحجَّة.
__________
(1) قوله: فلا يجب الحد؛ هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها بدله: ويورث ذلك شبهة فلا يجب الحدّ لعدم الإحصان. انتهى.
(2) قوله: قلنا... الخ؛ جوابٌ عن دليل زفر من قبل أئمّتنا الثلاثة، وحاصله أنّا نختار الشقّ الثاني، وهو أنّ الراجعَ قاذف مرجوم بعد موته، وكونه مرجوماً بحكمِ القاضي كان موقوفاً على الشهادة، وإذ قد بطلت برجوعِ الشاهدِ انفسخَ حكمُ القاضي من أصله، فلم يبقَ المرجومُ مرجوماً بحكم القاضي، فلم يبطل الإحصان ولم تعرض شبهةٌ تسقط الحدّ.
(5/462)
________________________________________
(وغَرِمَ[(1)] رُبْعَ الدِّيّة(2) ): هذا عندنا، وعند الشَّافِعيِّ(3) - رضي الله عنه - يقتصُّ بناءً أصلِهِ[(4)] في شهودِ القصاص، كما قال في الدِّيات[(5)].
(وقبلَهُ[(6)] حدُّوا فقط): أيٌّ رجعَ من الأربعةِ حدَّ جميعُ الشُّهودِ حدَّ القذف، ولا يحدُّ المشهودِ عليه.
__________
(1) قوله: وعزم اي وجب على الراجع ان يضمن ربع دية النفس فان رجعوا كلهم وجبت عليهم الدية كاملة.
(2) في ت و ج و ق: ديته. وفي ف: دية.
(3) ينظر: ((الأم))(8: 368)، و((مغني المحتاج))(4: 45)، وغيرهما.
(4) قوله: بناءً على أصله... الخ؛ فإنّ شهودَ القتل عمداً الموجب للقصاص إذا رجعوا بعدما قتل المشهود عليه، فعند الشافعيّ يجبُ عليهم القصاص، وعندنا الدية، فكذا هاهنا فإنّ الرجمَ في حكم القتل.
(5) قوله: كما قال في الديات؛ ظاهره أنّ هذه المسألةَ ذكرها المصنّف في بحثِ الديات، وهو حوالةٌ غير صحيحة، فإنّه لا أثرَ لهذهِ المسألةَ لا في المتنِ ولا في الشرح في (كتاب الديات)، نعم لها ذكرٌ في (كتاب الشهادة) في فصل منعقد لذكرِ مسائل الرجوع عنها، حيث قال المصنّف رح هناك: وفي القصاص الديةُ فقط، وقال الشارح: أي إذا شهدا أنّ زيداً قتلَ عمراً فاقتصّ زيد، ثمّ رجعا تجبُ الدية عندنا، وعند الشافعيّ يقتصّ. انتهى. وقد وقع الخطأ في هذا المقامِ عن صاحب ((الهداية)) في الحوالةِ إلى (كتاب الديات) أيضاً، فطالعها إن شئت، ولنا توجيهٌ يحفظُ به كلام الشارحِ هاهنا عن الخطأ، وهو أن يقال: ضميرُ قال راجعٌ إلى الشافعيّ لا إلى المصنّف، ويكون المقصودُ أنّ الشافعيّ ذكر أصله المذكور في بحث الديات.
(6) قوله: وقبله؛ يعني لو شهدوا بالزّنى على رجلٍ وهو محصن ولم يرجمْ حتى رجعَ واحدٌ منهم عن شهادته سواءً كان ذلك بعد قضاءِ القاضي بالرجمِ أو بعده أقيمَ حدّ القذف على الجميع لا على المشهود به؛ لعدم ثبوت الزنى.
(5/463)
________________________________________
فإن كان الرُّجُوع بعد الحكم، فعند محمَّدٍ - رضي الله عنه - حدَّ الرَّاجع فقط[(1)]، ولا يحدُّ الباقون؛ لتأكُّدِ شهادتِهم بالقضاء.
قلنا: ينفسخ(2) القضاء.
وإن كان الرُّجوع قبل الحكم، فعند زُفر - رضي الله عنه - حدَّ الرَّاجع فقط[(3)].
__________
(1) قوله: حدّ الراجع فقط؛ لأنّ الشهادةَ تأكّدت بقضاءِ القاضي بالرجم، فلا تنفسخُ إلا في حقّ الراجع، كما إذا رجعَ واحدٌ بعد إمضاءِ الحدّ على ما مر، وبهذا التقريرِ الذي ذكرَه في ((الهداية)) وغيرها يظهرُ أنّه لا يفيدُ ما ذكره الشارحُ في الجوابِ من قبلهما: إنّه انفسخَ القضاء، يعني لمّا رجعَ الشاهدُ انفسخَ القضاء بالرجم، فلم يوجدْ تأكّد شهادتهم بالقضاء، وذلك لأنّ محمّداً لا ينكرُ انفساخ القضاء، وإنّما يجعلُ الانفساخَ مقتصراً في حقّ الراجع، وقد أجابَ صاحبُ ((الهداية)) من قبلهما بما توضيحه أنّ إمضاءَ الحدّ أيضاً من القضاء، فرجوعه قبل الإمضاء رجوع قبل القضاء وفي الرجوع قبل القضاء يحدّ الكلّ عند محمّد أيضاً، فكذا هاهنا.
(2) في أ و ص و ف: انفسخ.
(3) قوله: حدّ الراجع فقط؛ لأنّه صار قاذفاً بالرجوع، ولا يصدق على غيره، فلا يحدّ غيره برجوعه، ونحن نقول: إنّ كلامهم في الأصلِ قذفٌ صريح، وإنّما يصيرُ شهادةً باتّصال القضاء به، فإذا لم يتَّصل به القضاء بقي قذفاً فيحدّون جميعاً.
(5/464)
________________________________________
ولا شيءَ[(1)] على خامسٍ رجع، فإن رجعَ آخرُ حدّا[(2)]، أو غرما[(3)] رُبعَ ديته[(4)](5) )؛ فإنَّ المسألةَ فيما إذا كان الرُّجوع بعد الرَّجم[(6)]، والمعتبرُ بقاءُ مَن بقي، لا رجوعُ مَن رجع، وقد بقي ثلاثةُ أرباع النِّصاب.
__________
(1) قوله: ولا شيء؛ يعني إن شهدَ خمسة رجال بزنى رجلٍ ثمّ رجع بعد رجمه واحدٌ منهم لا يجب شيءٌ على الأربعة، لا الدية ولا الحدّ؛ لأنّه بقيَ مَن يبقي بشهادته كلّ الحقّ، وهو شهادة الأربعة.
(2) قوله: حدّ؛ أي الراجعان حدّ القذف؛ لأنّه لم يبقَ من الشهودِ مَن يتمّ به الحجّة، وانفسخت الشهادةُ في حقّهما بالرجوع، فيحدّان كما مرّ.
(3) قوله: وغرما؛ أي وجبَ على الراجعين ربعَ ديةِ المرجوم؛ لأنّه بقي مَن يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحقّ، وهم ثلاثة شهود، وأصله أنّ المعتبرَ في بابِ الشهادةِ والرجوع بقاءُ مَن بقيَ لا رجوعُ مَن رجع، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله في (كتاب الشهادة).
(4) قوله: ربع دية؛ فإن رجعَ الثالثُ ضمنَ الربع وحدّ، ولو رجعَ الخمسة غرموا كلّ الديةِ أخماساً وحدّوا جميعاً. كذا في ((النهر)).
(5) في ق: الدية.
(6) قوله: بعد الرجم؛ وأمّا الرجوعُ قبل الرجمِ فقد مرّ أنّه يسقطُ عنه الرجم إذا لم يبقَ نصابُ الشهادة وحدّ حدّ القذف كلّ مَن رجع.
(5/465)
________________________________________
(وضَمِنَ الدِّيَّةَ مَن قتلَ[(1)] المأمورَ برجمِه): أي أُمِرَ بالرَّجم فقتلَهُ بطريقِ آخر[(2)]، (أو زكَّى[(3)] شهودَ الزِّنا(4) فرُجِم، فظهروا عبيداً، أو كفاراً فيهما): أي في مسألة القتل والتَّزكيَّة، والضَّمان على المزكِّين[(5)
__________
(1) قوله: مَن قتل... الخ؛ يعني إذا شهدَ أربعة على رجلٍ بالزنى فأمرَ القاضي برجمه، فضرب رجل آخر عنقه، ثمّ علمَ أن الشهودَ كانوا عبيداً أو كفَّاراً فعلى القاتلِ الدية، والقياس أن يجبَ القصاص؛ لأنّه قتلَ نفساً معصومةً بغير حقّ، ووجه الاستحسانِ أنّ القضاءَ بالرجمِ صحيحٌ ظاهراً عند القتل، فأورثَ ذلك شبهة أسقطت القصاص، فإن قتله قبل القضاءِ وجبَ القصاص. كذا في ((الهداية)).
(2) قوله: بطريق آخر؛ فإن قتله بذلك الطريق؛ أي الرجم فلا شيء عليه.
(3) قوله: أو زكّى؛ ماضٍ من التزكية، وهو معطوفٌ على قتل، وهي عبارةٌ عن وصفِ الشهود بأنّهم أهلٌ للشهادة، والحاصل: إنّه شهدَ أربعةٌ بزنى على رجلٍ، وزكّى المزكّي الشهودَ فأمرَ القاضي برجمِه فرجمَ ثمَّ ظهرَ أنّهم عبيد أو كفّار، فعلى المزكّي الدية، ويشترطُ لوجوبِ الضمانِ على المزكّي أمران أحدهما: أن يكون أخبرَ بحريّة الشهودِ وإسلامهم، فإن قال: علمت أنّهم عدولٌ ثمّ ظهر أنّهم عبيد، لم يضمن اتّفاقاً؛ لأنّها ليست بتزكية، والاكتفاءُ بهذا القدرِ من خطأ القاضي، وثانيهما: أن يرجعَ المزكّي عن تزكيته قائلاً: تعمّدت الكذب، فإن قال: أخطأت أو استمرّ على تزكيته فلا شيء عليه. كذا في ((الفتح))، وبهذا يظهرُ ما في عبارة المتنِ من القصور، حيث اكتفى على ذكرِ الظهور.
(4) في ت و ج و ص و ف و ق: زنا.
(5) قوله: على المزكين؛ اللام للجنس؛ ليبطلَ بالجمعيّة، فإنّه لا يشترطُ في التزكية العدد، ولذا أفرد المصنّف رح صيغة زكّى، وذلك لأنّ الشهادةَ إنّما تصيرُ حجّة عالمةً بالتزكية، فكانت التزكية في معنى علّة العلّة، فيضافُ الحكم إليها عند تعذّر إضافته إلى العلّة، وبه يسقط ما قالاه من أنَّ المزكّي أثنى على الشهودِ خيراً وليس كلامه مثبتاً للزنى، وإنّما المثبتُ هو قولُ الشهود، فلا يجبُ عليه شيء عند رجوعِه من ذلك الثناء. كذا في حواشي ((الهداية)).
(5/466)
________________________________________
] في قولِ أبي حنيفة - رضي الله عنه -.
وعندهما: لا ضمانَ عليهم، بل في بيتِ المال.
(وبيتُ المال إن لم يزكَّ[(1)] فرُجِم): أي ضَمِنَ بيتُ المالِ إذا شهدَ الشُّهودُ بالرَّجم، فلم يزكَّوا فرُجِم، فظهروا عبيداً، أو نحو ذلك.
(وإن(2) شهدوا بزنا، وأقرَّوا بنظرهم عمداً قُبِلَت[(3)]): أي شهادتُهم(4)؛ لأنَّه يباحُ لهم النَّظرُ لتحمَّلِ الشَّهادة[(5)].
__________
(1) قوله: إن لم يزكّ؛ بصيغة المجهول؛ أي إن لم تفعل التزكية وقبلَ القاضي شهادةَ الشهود فأمر بالرجمِ فرجمَ فظهرَ بعدَه أنّ الشهودَ كلّهم أو بعضهم لم يكونوا ممّن تقبلُ شهادته، فحينئذٍ ديته في بيتِ المال؛ لأنّ الرجمَ كان بأمرِ القاضي، فينتقلُ فعلُ الراجمين إليه، والقاضي عاملٌ للمسلمين، فالديةُ على ما لهم لا على الراجمين؛ لأنّ فعلهم منتقلٌ إلى الآمر، ولا على القاضي؛ لأنّ الحاكمَ لا يضمنُ بنفسه فيما يفعل للمسلمين.
(2) في ت و ج و ق: فان.
(3) قوله: قبلت؛ إلا إذا قالوا: تعمّدنا النظرَ إلى العورةِ للتلذّذ فحينئذٍ لا تقبلُ لفسقهم. كذا في ((الفتح)).
(4) أما لو قالوا تعمدنا النظر للتلذذ لا تقل إجماعاً؛ لفسقهم. ينظر: ((البناية))(5: 457).
(5) قوله: لتحمل الشهادة؛ يعني نظرَ الشهودُ لهذا الغرض إلى عورتي الزانيين ليتحمّلوا الشهادة ويؤدّوها إلى الحاكم مباح، فلا يعرضُ لهم الفسخ به، ومثله نظرُ القابلةِ والخافضة والختان والطبيب إذا كان المرضُ بموضعٍ لا يحلّ النظر إليه، وكذا يجوزُ النظرُ إلى العورةِ عند الاحتقان، وروية البكارةِ في العنّة، والردّ بالعيب. كذا في ((الفتح)).
(5/467)
________________________________________
(وزانٍ[(1)] أنكرَ وطءَ عرسِه، وقد وَلَدَتْ منه[(2)]، أو شَهِدَ بإحصانِه رجلٌ وامرأتان رُجِم)(3): هذا عندنا خلافاً لزُفرَ والشَّافِعِيِّ(4) - رضي الله عنهم -، وزُفَر - رضي الله عنه - جعلَ الإحصانَ شرطاً في معنى العلَّة(5)
__________
(1) قوله: وزانٍ؛ مبتدأ خبره قوله: رجم، وجملة: أنكر وطئ عرسه صفةٌ لزان، قال في ((الهداية)): إذا شهدَ أربعة على رجلٍ بالزناء فأنكر الإحصان، وله امرأةٌ قد ولدت منه؛ فإنّه يرجم، معناه أن ينكرَ الدخولَ بعد وجودِ سائر الشرائط؛ لأنّ الحكمَ بثباتِ النسب منه حكمٌ بالدخولِ عليه، ولهذا لو طلّقها يعقبُ الرجعةَ والإحصانِ يثبتُ بمثله، فإن لم تكنْ ولدت منه وشهدَ عليه بالإحصانِ رجلٌ وامرأتان رجمَ خلافاً لزفرَ والشافعيّ، فالشافعيّ مرّ على أصلِه إنّ شهادتهنّ غير مقبولةٍ في غير الأموال، وزفر يقول: إنّه شرطٌ في معنى العلّة؛ لأنّ الجنايةَ تتغلّظ عنده، فيضافُ الحكمُ إليه، فأشبه حقيقةَ العلّة، فلا تقبلُ شهادةُ النساء فيه، فصار كما إذا شهدَ ذميّان على ذميّ زنى عبده المسلم أنّه أعتقه قبل الزناء، فلا تقبل لما ذكرنا، ولنا: إنّ الإحصان عبارةٌ عن الخصالِ الحميدة، وإنّها مانعةٌ من الزناء، فلا يكون في معنى العلّة، وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه العلّة، بخلافِ ما ذكر؛ لأنّ العتقَ يثبتُ بشهادتهما، وإنّما لا يثبتُ بسبقِ التاريخِ لأنّه ينكرُهُ المسلمُ أو يتضرّر به المسلم.
(2) قوله: ولدت منه؛ أي زوجته قبل الزنى، وكذا لو ولدت بعد الزنى لدونِ ستّة أشهر، فإنّه يثبتُ نسبه فيجعلُ واطئاً.
(3) وكيفية الشهادة أن يقول الشهود تزوّج امرأة وجامعها أو باضعها، ولو قالوا دخل بها يكفي عندهما خلافاً لمحمد - رضي الله عنه -. ينظر: ((رمز الحقائق))(1: 686).
(4) ينظر: ((الأم))(5: 315)، وغيرها.
(5) حاصلة إن الإحصان وإن كان شرطاً للرجم لكنَّه في معنى العلّة كالزاني فكما لا تقبلُ شهادةُ النّساء في إثبات العلّة لا تقبل فيه أيضاً. ويجاب عنه: الإحصان ليش بشرطاً له فضلا عن أن يكون فيه معنى العلة؛ لأن الشرط ما يتوقف الحكم على وجوده بعد السبب ولا يتوقف وجوب الرجم على وجود إحصان يحدث بعد الزنا، فإن الزاني بذلك الإحصان لا يرجم إجماعاً وإن صار محصناً بعد الزنا، بل الإحصان إذا ثبت كن معرفاً لحكم الزنا، وهو وجوب الرجم وما للمعرف حكم العلة بوجه ما فصار كما لو شهدوا به في غير هذه الحالة. ينظر: ((كشف الرموز))(1: 358).
(5/468)
________________________________________
[(1)] فلا تقبلُ فيه شهادةُ النِّساء. [والله أعلم بالصواب](2).
بابُ حدُّ الشُّرب[(3)]
__________
(1) قوله: شرطاً في معنى العلّة؛ حاصله: إنّ الإحصانَ وإن كان شرطاً للرجمِ لكنّه في معنى العلّة، كالزنى، فكما لا تقبلُ شهادةُ النساءِ في إثباتِ العلّة لا تقبلُ فيه أيضاً، ونحن نقول: إنّ الإحصانَ ليس في معنى العلّة، فإنّ العلَّة ما تكون مفضيةً إلى المعلول، والإحصانُ ليس كذلك.
(2) زيادة من ف.
(3) قوله: باب حدّ الشرب؛ بضم الشين؛ أي شربُ المسكر، وهو يختصّ بالمائعات، فإنّ تناولَ المسكراتِ الغير السيّالة كالأفيون ونحوه، يقال له: الأكل لا الشرب، ولهذا قالوا: لا يحدّ بالسكرِ منه بل يعزّر.
(5/469)
________________________________________
هو كحدِّ القذف[(1)] ثمانونَ سوطاً للحرّ، ونصفُها[(2)
__________
(1) قوله: هو كحدّ القذف؛ شبّهه به؛ لأنّ حدَ القذفِ ثبتَ بالقرآن، وحدّ الشرب أصله ثبتَ بالأحاديث المرفوعة، وتقديرُهُ ثبتَ باتّفاق الصحابة، فأخرجَ ابن ماجه وأبو داود والنسائيّ مرفوعاً: ((إذا سكرَ فاجلدوه، ثمّ إن سكرَ فاجلدوه، ثمّ إن سكرَ فاجلدوه، فإن عادَ الرابعةَ فاقتلوه))، ومثله أخرجه ابن حبّان في ((صحيحه))، وعبد الرزّاق في ((مصنّفه))، والحاكمُ في ((مستدركه)) وقال: صحيحٌ على شرطِ الشيخين، وفي البابِ أخبار كثيرةٌ مبسوطةٌ في ((تخريج أحاديثِ الهداية)) للزيلعيّ، والأمرُ بالقتلِ في المرّة الرابعة قيل: إنّه منسوخٌ وقيل: إنّه باقٍ سياسة، وهو الأصح، وفي ((صحيح البخاريّ)) عن السائب: كنا نؤتي بالشاربِ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرة أبي بكر - رضي الله عنهم - وصدر من خلافةِ عمر - رضي الله عنهم - فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخرَ إمرةِ عمرَ فجلدَ أربعينَ حتى إذا عتوا وفسقوا جلدَ ثمانين، وفي ((صحيح مسلم)) عن أنس: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جلدَ في الخمرِ بالجريد والنعال، ثمَّ جلد أبو بكرَ أربعين، فلمّا كان عمرُ ودنى الناس من الريفِ والقرى، قال: ما ترونَ في جلدِ الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلَه كأخفّ الحدودِ فجلدَ عمر ثمانينَ سوطاً، وفي ((موطأ مالك)): إنّ عمرَ استشارَ في الخمر، فقال له عليّ بن أبي طالب: نرى أن تجلدَه ثمانين، فإنّه إذا شربَ سكر، وإذا سكرَ هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فاجعله حدّ الفرية، فجلدَ عمر ثمانين، ومثله أخرجه الحاكم وصحّحه، وعبد الرزاق والدارقطنيّ وغيرهم، وتفصيل هذا البحث ليطلب من ((التعليق الممجّد على موطأ محمّد)).
(2) قوله: ونصفها؛ أي أربعون سوطاً، كما في حدّ القذف، قال الزهريّ: إنّ عليّاً - رضي الله عنه - وعمرَ - رضي الله عنه - وعثمان - رضي الله عنه - وابن عامر - رضي الله عنه - جلدوا عبيدَهم في الخمرِ نصفَ حدّ الحرّ في الخمر، أخرجه مالك في ((الموطأ)) وأخرج أيضاً عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أدركت عثمانَ بن عفّان والخلفاء هلمّ جرّا، فما رأيتُ أحداً ضربَ عبداً في قريةٍ أكثر من أربعين.
(5/470)
________________________________________
] للعبدِ بشربِ[(1)] الخمر[(2)] ولو قطرة.
فمَن أُخِذَ بريحِها وإن زالَت[(3)]؛ لبعدِ الطَّريق، أو سكرانَ[(4)] زائلَ العقلِ(5) بنبيذِ التَّمر[(6)]، وأقرَّ به[(7)
__________
(1) قوله: بشرب؛ إذا كان الشرب من غير اضطرارٍ كحالةِ مخمصة، وغير إكراه، وكان الشاربُ مسلماً مكلّفاً ناطقاً غير أخرس. كذا في ((البحر)) وغيره.
(2) قوله: الخمر؛ هو التي من ماء العنب إذا غلا واشتدّ وقذفَ بالزبد وما سواه من الأشربة لا يحدّ بشربِ قطرةٍ منه، بل إذا سكرَ منه، وسيأتي تفصيله في (كتاب الأشربة).
(3) قوله: وإن زالت؛ الضميرُ إلى الريح، وتأنيثه لكونهِ مؤنّثاً سماعيّاً، يعني: وإن زالت الرائحةُ لبعدِ الطريقِ إلى الحاكم، قال في ((الهداية)): فإن أخذه الشهودُ وريحها يوجدُ منه أو هو سكران ذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام، فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حدّ في قولهم جميعاً؛ لأنّ هذا عذرٌ كبعدِ المسافة في حدّ الزناء، والشاهدُ لا يأثهم به في مثله.
(4) قوله: أو سكران؛ أي أخذ الشارب وهو سكران زالَ عقله بشربِ غيرِ الخمر، ففيه إشارةٌ إلى أنّ المعتبرَ في الخمرِ هو وجودُ الريح، وإن لم يوجد السكر، وفي غيره: السكر، فلا يحدّ بشرب المقدارِ الغير المسكر.
(5) أي لا يعرف الرجل من المرأة، ولا الأرض من السماء، وقالا: هو من يهذي ويخلط جدّه بهزله ولا يستقر على شيء في صواب وخطأ، وإليه مال أكثر المشايخ. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص158).
(6) قوله: نبيذ التمر؛ أي بشربِ نبيذِ التمر، وهو أن يلقيَ تمر في ماءٍ إلى أن تخرجَ فيه حلاوته ويشتدّ، وذكره اتّفاقيّ، وإلا فالحكمُ كذلك في نبيذِ الزبيب والعسل، ونحو ذلك من المائعاتِ المسكرة، نعم لو سكرَ بما يباحُ شربه لا يحدّ، ذكرَه الزيلعيّ.
(7) قوله: وأقر؛ في بعض النسخ: أو أقرّ، وهو ليس بصحيح، فإنّ الأخذَ بوجودِ الرائحةِ في الخمر، وبحالةِ السكرِ في غيره لا يكفي في وجوبِ الحدّ، حتى يقرّ به الشاربُ أو تشهدُ عليه الشهود.
(5/471)
________________________________________
] مرَّة(1)[(2)]): أي بشربِ الخمر، أو بالسَّكرِ بالنَّبيذ[(3)]، (أو شَهِدَ[(4)] به رجلان[(5)]، وعُلِمَ شربُهُ طوعاً[(6)] يحدُّ صاحياً[(7)
__________
(1) أي صاحياً؛ لأن إقرار السكران بالشرب لا يعتبر لقوة احتمال الكذب في كلامه، فلا يعتبر فيما يندرئ بالشبهة. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 225).
(2) قوله: مرّة؛ هذا عندهما، وعند أبي يوسفَ يشترطُ الإقرارُ مرَّتين.
(3) قوله: أي بشربِ الخمر؛ أو بالسكرِ بالنبيذ، هو بالضمّ، مصدرٌ معطوفٌ على الشرب، وهو أيضاً مصدر، واعترضَ عليه بأنّ الإقرارَ بالسكرِ بالنبيذ لا يجوزُ حالَ السكر لعدم اعتبار إقرارِ السكران على ما سيأتي، ولا بعد زوالِ السكر تتقادمُ كما صرّحوا به، فالأولى أن يرجعَ ضمير به إلى شربِ الخمر فقط، وأجيب عنه بأنَّ الإقرارَ بالسكرِ يعتبرُ بعد زوالِه في بعضِ الصور، كما إذا أخذ سكران فذهبوا به إلى مصر فيه الإمام، فزالَ سكره لبعدِ الطريق.
(4) قوله: أو شهد؛ عطفٌ على قوله: أقرّ والحاصل أنَّ الأخذَ حال سكره أو وجودَ الرائحة لا يوجب الحدّ، ما لم ينضم معه إقراره أو شهادة الشهود، والشهادةُ بكلّ منهما أي شرب الخمر والسكر من غيره مقيّدة بوجودِ الرائحة، فلا بدّ مع شهادتهما بالشربِ أن يثبتَ عند الحاكم أنّ الريحَ قائمٌ حال الشهادة، وهو بأن يشهدا به وبالشربِ أو به فقط، فيأمر القاضي باستنكاهه. كذا في ((الفتح)).
(5) قوله: رجلان؛ أشار به إلى عدمِ اعتبارِ شهادة المرأة، إذ لا اعتبارَ لشهادتهنّ فيما يندرئ بالشبهات، ولا بدّ للإمامِ أن يسألَ الشهودَ عن الماهيّة والكيفيّة والمكان والزمان على ما مرّ في حدّ الزنى.
(6) قوله: طوعاً؛ بفتح الطاء المهملة؛ أي بلا إكراه، فلو شربَه مكرهاً سقطَ عنه الحدّ، كما في حدّ الزنى.
(7) قوله: صاحيا اسم فاعل من الصحو هو ضد السكر بالفارسية هوشيارى اي يحد في حال الصحو لا في حال كونه سكران لان الحد شرع زاجرا ولا يتصور ذلك حالة السكر.
(5/472)
________________________________________
].
فإن أقرَّ به[(1)]، أو شهدا(2) عليه بعد زوالِ الرَّيح، أو تقيئَها[(3)]، أو وُجِدَ ريحُها[(4)] منه): أي عُلِمَ الشُّربُ بأن تقيئَها، أو وُجِدَ ريحُ الخمرِ منه بلا إقرار أو شهادة، (أو رجعَ[(5)] عن إقرار شُرْبِ الخمر، أو السُّكر[(6)
__________
(1) قوله: فإن أقرّ... الخ؛ إنّما لا يحدّ المقرّ بشربِ الخمر وغيره بعد زوالِ الريح، والذي ثبتَ شربه بالشهادة بعد زوالِ الريح؛ لأنّ التقادمَ يمنعُ قبولَ الشهادة والإقرار، وفيه خلافٌ على ما ذكرَ في ((الهداية)) وغيرها، وهو أنّ التقادمَ وإن كان مانعاً من قبولِ الشهادةِ اتّفاقاً لكنّه عند محمّد مقدّر بالزمان، وهو الشهرُ كما في بابِ الزنى، وعندهما: يقدّر بزوالِ الرائحة؛ لأنّ قيامَ الأثرِ من أقوىِ الدلالاتِ على الشرب، وإنّما يصارُ إلى التقدير بالزمانِ عند تعذّر اعتبارِ ما هو أقوى منه، وأمّا الإقرارُ فالتقادم لا يبطله عند محمّد كما في حدّ الزنى، وعندها يبطله.
(2) في ج و ق: شهد.
(3) قوله: أو تقيّأها؛ يعني تقيّأ الشاربُ فخرجَ في قيئه خمر أو غيره من المسكرات، ولم يقرّ به ولم يشهد به أحد، وإنّما لا يحدّ لاحتمالِ أن يكون شربه مكرهاً، واحتمالُ أن يكون تصوّر شيء آخر في معدته بصورة الخمر ونحوه.
(4) قوله: أو وجدَ ريحها؛ أي ريحَ الخمر، وكذا غيره من المسكرات، فإنّ الرائحةَ تشتبه بالرائحة، وقد تفسدُ رائحةَ الأشياءَ الطيّبة، فلا يكفي وجودَ الرائحة للحدّ.
(5) قوله: أو رجع؛ فإنّه إذا أقرّ بشربِ الخمرِ أو غيره ثمّ رجعَ عن إقراره يسقطُ عنه الحدّ كما في باب الزنى؛ لوقوع الشبهة.
(6) قوله: أو السكر؛ عطفٌ على الخمر، وهو بفتحتين عصيرُ الرطب إذا اشتدّ، وقيل: هو نقيع التمر إذا غلى واشتدّ، وتخصيصهُ بالذكرِ لكونِه غالباً في بلادهم، والحكمُ عامّ، ويمكن أن يكون مصدراً بضمّ السين، ويكون معطوفاً على شربِ الخمر، ويكون المعنى رجوعٌ عن إقرارِ السكر، أو يكون معطوفاً على الخمر، ويكون المصدر بمعنى اسمِ الفاعل؛ أي شرب المقدار المسكر.
(5/473)
________________________________________
]، أو أقرَّ سكرانٌ[(1)] لا).
اعلم أنَّ في الإقرارِ بعد زوالِ الرِّيح لا يحدُّ خلافاً لمحمَّد - رضي الله عنه -، فإنَّ التَّقادُم عنده لا يمنعُ الإقرار كما في سائرِ الحدود.
وإنِّما لا يحدُّ عندهما؛ لأنَّ حدَّ الشُّربِ إنِّما يثبتُ بإجماعِ الصَّحابة - رضي الله عنهم -[(2)]، وبدون رأي ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - لا يتمُّ الإجماع[(3)]، وقد قال: فإن وجدتُم[(4)] رائحةَ الخمر فاجلدوه(5)
__________
(1) قوله: أو أقرّ سكران، فإنّ الإقرارَ حالةَ زوالِ عقله فيه شبهة، فيندفع به الحدّ.
(2) قوله: الصحابة - رضي الله عنهم -؛ قال أبو البقاء الكفويّ في ((كلياته)): الصحابةُ في الأصل مصدرٌ أطلق على أصحابِ الرسول لكنّها أخصّ من الأصحاب؛ لكونها بغلبةِ الاستعمالِ في أصحابِ الرسولِ كالعلم لهم، ولهذا نسب‍َ الصحابيّ إليها.
(3) قوله: لا يتم الإجماع؛ إذ الإجماعُ عبارةٌ عن اتّفاق مجتهدي عصرٍ على أمرٍ شرعيّ، وابن مسعود من أعاظمِ المجتهدين، فخلافُه يكون خارقاً للإجماع.
(4) قوله: فإن وجدتم... الخ؛ هكذا ذكره في ((الهداية)) ولم يجده المخرّجون، نعم ثبتَ في ((مصنّف عبد الرزاق))، و((معجم الطبرانيّ)) و((مسند اسحق بن راهويه)): إنّ رجلاً جاءَ بابنِ أخٍ له إلى ابن مسعود سكرانَ فأمر باستنكاهه، فلمّا وجدوا منه الرائحةَ أمرّ بالحد، وفي ((صحيح البخاري)) و((مسلم)) عنه: أمرَ جلد مَن وجدَ منه رائحة الخمر، ومثله روى الدارقطنيّ عن عمر - رضي الله عنه - .
(5) بهذا اللفظ لم يجده مخرِّجوا أحاديث ((الهداية)) كصاحب ((نصب الراية))(3: 349)، و((الدراية))(2: 105)، و((البناية))(5: 465)، ولكن روي عنه في ((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 524)، و((مصنف عبد الرزاق))(7: 371): أنه جاءه رجل من المسلمين بابن أخ له، فقال له: يا أبا عبد الرحمن إن ابن أخي وجدته سكرانا، فقال عبد الله ترتروه ومزمزوه واستنكهوه فترتروه واستنكهوه فوجد سكراناً فرفع إلى السجن فلمَّا كان الغد جئت وجيء به. وفي ((صحيح مسلم))(1: 551)، واللفظ له، و((صحيح البخاري))(4: 1912) عن ابن مسعود، قال كنت بحمص، فقال لي بعض القوم اقرأ علينا فقرأت عليهم سورة يوسف، قال فقال رجل من القوم والله ما هكذا أُنْزلت قال قلت: ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أحسنت فبينما أنا أكلِّمه إذ وجدت منه ريح الخمر، قال فقلت: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب لا تبرح حتى أجلدك، قال فجلدته الحدّ.
(5/474)
________________________________________
. فبدونِ الرَّائحةِ لا يحدُّ عنده[(1)]، فلا إجماع، فلا دليلَ على وجوبِ الحدّ.
__________
(1) قوله: لا يحدّ عنده؛ يرد عليه أنّ عدمَ الحدّ عند عدمِ الرائحةِ لا يفهمُ من قول ابن مسعود: فإن وجدتم رائحةَ الخمرِ فاجلدوه، إلا بطريقِ مفهوم الشرط، حتى يكون معناه: إن لم تجدوا رائحةَ الخمر فلا تجلدوا، ومفهومُ الشرطِ بل مفهومُ المخالفة بجميعِ أنواعه غير معتبرٌ عندنا كما تقرّر في كتب الأصول، فلا يفهمُ من كلامه هذا إلا الجلدَ عند وجودِ الرائحةِ لا عدمه عند عدمها، فلا يصحّ قولهم: إنّ بدونِ الرائحةِ لا يحدّ عنده، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: إنّ عدمَ المشروطِ عند عدمِ الشرط وإن لم يكن مفهوماً من النصّ لكنّه عدم أصليّ، فإنّ الأصلَ في الأشياءِ العدم، فعدمُ الحدّ عند عدمِ الرائحةِ عدمٌ أصليّ، وهو مخلّ في انعقادِ الإجماع، وثانيهما: إنّه إذا لم توجدِ الرائحةُ لم يوجد من ابن مسعود القولُ بوجوب الحد، فإذا لم يثبت منه قولٌ عند العدمِ لم يثبت الإجماع، ثمّ هذا كلّه موقوفٌ على ثبوتِ قول ابن مسعود، وقد مرّ ما فيه، وعلى تقديرِ ثبوته يردُ عليه أنّه معارضٌ لإطلاقِ حديث: ((من شرب الخمر فاجلدوه))، والأولى أن يقال في هذا المقام: إنّ الثابتَ من جميعِ الأخبارِ والآثارِ هو إقامةُ الحدّ على شاربِ الخمرِ عند وجود الرائحة، ولم تثبت من روايةِ إقامةِ الحدّ على شاربِ الخمرِ عند عدمِ الرائحة، فلا تجزى عليه بدون إقامةِ دليلٍ يدلّ عليه مع ورود حديث: ((ادرؤا الحدودَ بالشبهات)) فاحفظْ هذا كلّه، فإنّه من سوانح الوقت.
(5/475)
________________________________________
واعلم أنَّ السَّكرَ[(1)] عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - في حقِّ وجوبِ الحدِّ أن لا يعرفَ شيئاً حتَّى الأرضَ من السَّماء، وفي حقِّ حرمةِ الأشربةِ أن يهذي(2).
وعندها: أن يهذي(3) مطلقاً[(4)]، وإليه مالَ أكثرُ المشايخ(5).
وعنده الشَّافِعِيِّ(6) - رضي الله عنه - أن يظهرَ[(7)] أثرُهُ في مشيه وحركاتِه وأطرافه.
__________
(1) قوله: واعلم أنّ السكر... الخ؛ لمّا كانت مراتبُ السكرِ متفاوتةً اشترطَ الإمامُ في باب وجوب الحدّ أقصاه، وهو أن لا يعرفَ شيئاً دون شيء، ولا يميّز بين الرجلِ والمرأة؛ لأنّ الاحتياطَ في بابِ الحدود لازمٌ أخذا من حديثِ: ((درء الحدود بالشبهات))، ووافقهما في بابِ الحرمة من الأشربةِ المسكرة غير الخمر، فاعتبر كونه بحيث يختلطُ الكلام، وقولهما: يختارُ للفتوى؛ لضعفِ دليل قول الإمام. كذا في ((الفتح)).
(2) في ب و س: يهدي، وفي م: يهتذي.
(3) في ب و س: يهدي، وفي م: يهتذي.
(4) قوله: مطلقاً؛ أي في بابِ الحرمةِ وفي بابِ وجوبِ الحدّ كليهما، والمعتبرُ الهذيان غالباً، فلو كان نصفَ كلامه مستقيماً ونصفه مختلطاً فليس بسكران. كذا في ((البحر)).
(5) وفي ((تنوير الأبصار))(ص103): ويختار للفتوى.
(6) قال الشافعي في ((الأم))(1: 88) في (كتاب الصلاة): هو الذي لا يعقل ما يقول. وقال النووي في ((المجموع))(2: 25) في (كتاب الطهارة): قال أصحابنا: السكر الناقض: هو الذي لا ييقى معه شعور دون أوائل النشوة.
(7) قوله: أن يظهرَ أثره؛ أي يظهر أثرُ السكرِ في مشيه وغيره، بأن يكون مشيه مختلفاً وحركاته مضطربة وأطرافه؛ أي اعضاؤه مستوحشة.
(5/476)
________________________________________
(ولو ارتدَّ(1)[(2)] هو لا تحرمُ عليه عرسُه): اعلم أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّة كصحَّةِ الإقرار، والطَّلاق، والعتاق، جاريةً عليه[(3)] زجراً له[(4)]، لكن ارتدادَه[(5)] لا يثبت، لأنَّه أمرٌ حقيقيٌّ اعتقاديٌّ لا حكميّ، فعند عدمِ العقل لا يثبتُ اعتقادُ الكفر، ولمَّا لم يصحَّ ارتدادُهُ لا يثبتُ توابعُه كفسخِ النِّكاح.
(ونُزِعَ[(6)] ثَوْبُه، وفُرِّقَ جلدُه): كما [مرَّ](7) في الزِّنا(8).
__________
(1) أي لو ارتدّ السكران لم يصح ولم يحكم به. ينظر: ((الدر المختار))(3: 165).
(2) قوله: ولو ارتدّ هو؛ يعني لو أجرى السكرانَ حالةَ سكره كلمةَ الكفرِ لا يحكمٌ بارتداده، فلا تحرمُ عليه زوجته، ولا يجب قتله؛ لأنّ الكفرَ من بابِ الاعتقادِ أو الاستخفاف، ولا اعتقاد للسكران ولا استخفاف؛ لأنّهما فرعُ قيامِ الإدراك. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: جارية عليه؛ فإنّه لو أقرّ حالةَ سكرِه بشيءٍ أخذ بإقراره، ولو طلّق وقعَ طلاقه، ولو أعتقَ عبده وقعَ عتقه.
(4) قوله: زجراً له؛ أشارَ به إلى أنّ إجراءَ الأحكامِ الشرعيّة على السكرانِ إنّما هو زجريّ، حيث ارتكبَ ما لا يجوزُ شرعاً، وسيجيء تفصيل هذه المباحث في موضعِه إن شاء الله تعالى.
(5) قوله: لكنّ ارتداده... الخ؛ ذكر في ((الأشباه)) وغيره: إنّ حكمَ السكرانِ من محرم كالصاحي إلا في سبعِ مسائلَ لا تصحّ ردّته ولا إقراره بالحدودِ الخالصة، ولا إشهاده على شهادةِ نفسه، ولا تزويجه الصغير بأكثرَ من مهر المثل، أو الصغيرَ بأقلّ، ولا تطليقه زوجته من وكّله بتطليقها حالةَ صحوه، ولا بيعه متاعَ من وكّله بالبيعِ صاحياً، ولا ردّ الغاصب عليه ما غصبه منه قبل سكره، وفي بعض هذه المسائل اختلافٌ ذكره الحمويّ وغيره.
(6) قوله: ونزعَ... الخ؛ أي ينْزع ثوبَ المجلودِ عند الجلدِ ويفرّق جلده على أعضائه، ولا يجمعُ في موضعٍ واحدٍ خشيةَ الهلاك على ما مرّ تفصيله في باب الزنى.
(7) زيادة من م.
(8) ص ).
(5/477)
________________________________________
باب حد القذف[(1)]
(مَن قذفَ محصناً: أي حُرَّاً[(2)] مكلَّفاً مسلماً عفيفاً عن الزِّنا، بصريحِه[(3)]، أو بزنأتَ في الجبل[(4)]): معناهُ: زنيتَ في الجبل، فإنَّه كما جاءَ
__________
(1) قوله: باب حدّ القذف؛ هو بفتحتين لغة: الرمي، وشرعاً: الرميّ بالزنى، وحدّه كحدّ الشرب كميّة وثبوتاً، فيثبتُ برجلين يسألهما الإمامُ عن ماهيّته وكيفيّته.
(2) قوله: أي حرّ... الخ؛ قال في ((الهداية)): الإحصانُ أن يكون المقذوفُ حرَّاً عاقلاً بالغاً مسلماً عفيفاً عن فعل الزنا، أمّا الحريّة فلأنّه يطلقُ عليه اسمُ الإحصان، قال الله تعالى: {فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب}؛ أي الحرائر، والعقلُ والبلوغ لأنّ العارَ لا يلحقُ بالصبيّ والمجنونّ؛ لعدمِ تحقّق فعل الزنا منهما، والإسلامُ لقوله عليه السلام: ((مَن أشركَ بالله فليس بمحصن))، والعفّة؛ لأنّ غيرَ العفيف لا يلحقه العار، وكذا القاذفُ صادقٌ فيه.
(3) قوله: بصريحه؛ أي بصريح الزنى، نحو: أنت زانٍ وزنيت، ونحو ذلك، ومنه قوله: أنت أزنى من فلان، أو أزنى الناس أو أزنى منيّ على ما في ((الظهيرية)): ومنه لفظ النيك، قاله ابن ملكَ في ((شرح المنار)) وصاحب ((المغرب))، ولو قال: يا زاني بالهمز المرفوعة، ذكر في ((الأصل)): إنّه إذا قال: عنيت به الصعود على شيءٍ أنّه لا يصدّق ويحدّ من غير ذكرِ خلاف؛ لأنّه نوى ما لا يحتمله لفظه؛ لأنّ هذه الكلمة مع الهمزةِ إنّما يرادُ بها الصعودُ إذا ذكرَ مقروناً بمحلّ الصعود، يقال: زاني الحبل وزاني السطح، إمّا غير مقرونٍ بمحلّ الصعود، فإنّما يرادُ به الزنى، إلا أنّ العربَ قد تهمزُ اللين، وقد تلين الهمزة. كذا في ((المحيط)).
(4) قوله: في الجبل؛ وكذا لو قال: زنيتُ في الجبل اتّفاقاً، وكذا لو حذفَ الجبل في صورةِ الهمزة كما مرّ، وذكر في ((الخانية)): فيه أيضاً خلافُ محمّد رح، ولو قال: على الجبل، قيل: لا يحدّ والأوجه أنّه يحدّ. كذا في ((الفتح)).
(5/478)
________________________________________
ناقصاً جاءَ مهموزاً أيضاً.
وعند محمَّد - رضي الله عنه - لا يحدّ؛ لأنَّ المهموزَ[(1)] هو الصُّعود، أو مشترك، والشُّبهة دارئةٌ للحدّ.
قلنا[(2)]: حالةُ الغضبِ تُرِجِّح ذلك.
(أو لست لأبيك[(3)]، أو لست بابنِ فلانٍ أبيه[(4)] في غضب[(5)]): أي قال: لستُ بابنِ زيدٍ الذي هو [أبو](6) المقذوف.
فقولُهُ: أبيه؛ لفظُ المصنِّف - رضي الله عنه - لا لفظُ القاذف[(7)].
__________
(1) قوله: لأنّ المهموز؛ يعني إنّ الزناءَ بالهمزةِ لغة: الصعودُ على شيء، وقيل: مشتركٌ بين الصعود وبين الزنى المتعارف، فلا يكون صريحاً ولا كالصريح في القذف.
(2) قوله: قلنا؛ جوابٌ عن قولِ محمّد رح من قبلهما، وحاصله: إنّ الزناءَ بالهمزةِ وإن كان بمعنى الصعودِ لكن حالةَ الغضبِ ترجّح إرادةَ المعنى المتعارف.
(3) قوله: أو لست لأبيك؛ ولو قال: لست لأمك، أاو لست لأبويكَ لا يحدّ؛ لكونه صادقاً في الأوّل، بناءً على أنّ النسبَ ليس إلى الأم، وليس فيه انتسابُ الزنى إلى أمّه لأنّ ولدَ الزنى يكون للأم، وفي الثاني أيضاً نفي الزنى؛ لأنّ نفيَ الولادة نفيٌ للوطئ. كذا في ((البحر)).
(4) قوله: أبيه؛ بشرط أن يكون معروفاً، ويكون هو يدّعي له، فلو نفاه عن شخصٍ معيّن غير أبيه فلا حدّ، وكذا لا حدّ في قوله: لست من ولادةِ فلان، بخلاف ما لو قال: لست من ولدِ فلان أو لست لأب، أو لم يلدك أبوك، فإنّه يحدّ. كذا في ((الظهيرية)).
(5) قوله: في غضب؛ لأنّ حالةَ الغضب ترجح إرادةَ السبّ والشتم، وأمّا في غير الغضبِ فيحمل زنأت في الجبل على معنى الصعود، وكذا: لست لأبيك ولست بابنَ فلان يحتمل العتاب، بمعنى: إنّك لست على طريقته وفضله.
(6) في ف: اب، سقطت من م.
(7) قوله: لا لفظ القاذف؛ فإنّ القاذفَ يتلفّظ باسم أبيه وينفي المقذوف عنه.
(5/479)
________________________________________
وقولُهُ: في غضب؛ يتعلَّقُ بالألفاظِ الثَّلاثة، ولست لأبيك[(1)] في غيرِ الغضبِ يحتملُ المعاتبة.
(أو بيا(2) ابن الزَّانية[(3)] لمَن[(4)] أمُّه ميِّتٌ محصنةٌ حدَّ[(5)] إن طَلَبَ هو[(6)])، ليس المرادُ أن الطَّلبُ مقصورٌ على المخاطب، فإنَّه إن طلبَ أبوها حدّ أيضاً.
__________
(1) قوله: ولست لأبيك، لا وجه لتخصيصِه بالذكر، فإن: لست بابن فلانٍ أيضاً كذلك .
(2) في ق: يا.
(4) قوله: لمن؛ أي قال: يا ابن الزانية، نداء لمَن ماتت أمّه وهي محصنة، ولو ناداه وأمّه حيّة ثمّ أتت يسقط الحدّ بموت المقذوف، قال في ((الهداية)): لا يطالبُ بحدّ القذف للميّت إلا مَن يقعُ القدح في نسبِه بقذفه، وهو الوالد والولد؛ لأنّ العارَ يلتحق به؛ لمكان الجزئيّة، فيكون القذفُ متناولاً له معنى. انتهى. ولو كانت أمّه غير محصنة فلا حدّ، إذ لا حدّ بقذف غير المحصن، وهذا القيدُ معتبرٌ في الصورتين السابقتين أيضاً، أي لست لأبيك، ولست بابن فلان، فإنّ المقذوفَ هناك أيضاً أمّه.
(5) قوله: حدّ؛ بصيغة المجهول، جزاءً لقوله: مَن قذفَ محصناً... الخ.
(6) قوله: إن طلب هو؛ أي المقذوف؛ لأنّ فيه حقّ المقذوف، فيشترط طلبه، والحكم عامّ فيما إذا كان المقذوفُ حاضراً أو غائباً، وفيما إذا قذفه بأمره؛ لأنّ حقّ الله فيه غالب، ولذا لا يسقطُ بالعفو.
قوله من قذف سواء كان القذف بالعربية او بغيرها من الالسنة.
(5/480)
________________________________________
(لا بلستَ[(1)] بابن فلانٍ جدُّه(2)، أو(3) بنسبة(4) إليه(5)[(6)]، أو إلى خالِه، أو عمِّه أو رابِّه[(7)
__________
(1) قوله: لا بلست... الخ؛ أي لا يحدّ بقوله لرجل: لست بابن فلان، وذكرَ اسم جدّه؛ لكونه صادقاً فيه، فإنّه ليس مخلوقاً من مائه، واعترضَ عليه بأنّ في نفيه عن الأب احتمالُ المجازِ قائم، وهو نفيُ المشابهة، فجعلوا حالةَ الغضبِ قرينة على إرادةِ المعنى الحقيقيّ، فينبغي أن تكون حالة الغضب هاهنا مرجّحة لنفي كونه أباً أعلى له، بأن لا يكون أبوه مخلوقاً من مائه، بل زنت جدّته، وأجيبَ عنه بأنّ في نفيه عن الأبِ قذفاً صريحاً على معناه الحقيقيّ، وحالةُ الغضبِ تنفي احتمالَ المجاز، وهو المعاتبةُ بنفي المشابهة في العادات بخلاف نفيه عن جدّه، فإنّ معناه الحقيقيّ ليس قذفاً، فلا تجعلُ حالةُ الغضبِ مرجّحة لإرادةِ المعنى المجازيّ.
(2) أي قال: لست ابن فلان، وذكر اسم جدّه؛ لأنه صادق في نفيه. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 605).
(3) في أ و ص و ف و ق: و.
(4) في ت و ف: نسبة.
(5) أي قال: أنت ابن فلان وذكر اسم جدّه، أو خاله أو عمه أو رابّه؛ لأن كلاً منهم يسمّى أباً مجازاً. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 605).
(6) قوله: وبنسبته اليه؛ أي إلى الجدّ، بأن يقول: أنت ابن فلان، فيذكر اسم جدّه؛ لأنّ الجدّ يسمّي أباً مجازاً، فلا يكون قذفاً، وكذا يطلقُ الأبُ على العمّ أيضاً، كذا في قوله تعالى حكايةً عن قولِ بني يعقوب لوالدِهم يعقوب: {نعبدُ إلهك وآله آبائك إبراهيمَ واسماعيل واسحقَ}، مع أنّ اسماعيلَ كان عمَّاً ليعقوبَ على نبيّنا وعليهم الصلاة والسلام، وكذا يطلقُ الأبُ على الخال، كما في حديث: ((الخال والد مَن لا والدَ له))، أخرجه الديلميّ، فلا يكون بنسبته إليهم قاذفاً. كذا في ((الفتح)).
(7) قوله: أو رابّه؛ بتشديد الباء الموحدّة على صيغة اسم الفاعل، ومعناه الحقيقيّ هو زوجُ الأمّ، وقد يطلق على مطلقِ المربيّ؛ أي الذي يربّيه ويحفظه.
(5/481)
________________________________________
]): أي[(1)] زوجُ أمِّه، فالجدُّ(2) أبُ مجازاً(3)، فلو نفى أبوتَه(4) لا يحدّ(5)، وكذا لو نسبَه إليه، وهكذا الخالُ والعمُّ والرَّابّ.
(وقوله: يا ابن ماءِ السَّماء(6)، ويا نَبَطي(7)[(8)] لعربيّ): إذ لا يرادُ بهما نفي النَّسب، بل التَّشبيه فيما يوصفان به.
__________
(1) قوله: وقوله؛ أي لا يحدّ بقوله: يا ابن ماء السماء، فإنّه يرادُ به التشبيه في الجودِ والسماحة، إذ ماء السماء لقبُ عامر بن حارثة الأزدي، وكان في وقتِ القحطِ يقيمُ ماله مقامَ القطر، فلقّبوه بماء السماء عطاءً وجوداً، فإن قلت حالة الغضب تأبى عن إرادةِ التشبيه، قلت: لمّا لم يعهدْ استعماله لنفي النسبِ يمكن أن يجعلَ المرادُ به في حالةِ الغضب التهكّم به عليه كما أنّ قوله لعربي: لستَ بعربيّ، لمّا لم يستعملْ للنفيّ يحمل في حالةِ الغضبِ على نفيه بنفي الشجاعةِ والسخاء. كذا في ((الفتح)).
(2) في م: والجد.
(3) في ب و م: مجاز.
(4) في ب: أبويه، وفي م: ابويته.
(5) في س: يجد.
(6) فإن في ظاهره نفي كونه ابناً لأبيه وليس المراد ذلك، بل التشبيه في الجود والسماحة والصفا. ينظر: ((درر الحكام))(2: 72).
(7) نَبَطي: جمعه النَّبَط: جيل من الناس كان ينْزلون سواد العراق، ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامّهم. ينظر: ((المصباح))(2: 911).
(8) قوله: ويا نبطي؛ النبطيّ منسوب إلى نَبَط، وهو بتفحتين جيلٌ من الناسِ كانوا ينْزلونَ سوادَ العراق، ثمّ استعملَ في أخلاطِ الناس وعوامّهم، وجمعها أنباط، كأسباب جمع سبب، والواحد نباطيّ، بفتح النون وضمّها. كذا في ((المصباح)).
(5/482)
________________________________________
(والطَّلبُ بقذفِ(1) الميِّتِ[(2)] للوالد[(3)]، والولد، وولدِه[(4)]، ولو محروماً)، هذا عندنا.
وأمَّا(5) عند الشَّافِعِيِّ(6) - رضي الله عنه -، فحقُّ الطَّلبِ لكلِّ وارث، فإن حدَّ القذفِ يورَّثُ عنده[(7)].
وعندنا[(8)]: لا بل يثبتُ لمن يلحقُ به العارِ بنفي النَّسب.
وقولُهُ: وولدُهُ يشمل ولدَ البنتِ عندهما(9) خلافاً لمحمَّد[(10)]- رضي الله عنه -.
__________
(1) في ص: يقذف.
(2) قوله: بقذف الميّت؛ وأمّا الحيّ المقذوف فالطَّلب إليه لا إلى غيره من أقاربه، وإن كان المقذوفُ غائباً.
(3) قوله: للوالد؛ وكذا الجدّ وإن علا، وكذا الأمّ فتطالبُ بقذفِ ولدها، ولا حقّ لغيرِ الأصول وغير الفروع كالأخ والعمّ والعمّة والخال والمولى وغيرهم، ولا لأبِ الأمِ وأمّ الأم أيضاً. كذا في ((الفتح)).
(4) قوله: وولده؛ أي ولد الولد، كابن الابن، وابن البنت، وبنت البنت، وبنت الابن، وإن سفلوا.
(5) في ص: وا.
(6) ينظر: ((التنبيه))(ص149).
(7) قوله: يورث عنده؛ أي ينتقلُ من المورثِ إلى الوارث على طريقِ الورثة عند الشافعيّ، فيكون حقّ الطلب لكلّ وارث.
(8) قوله: وعندنا؛ لا يعني عندنا لا يورث حدّ القذف على ما يجيء عن قريب، بل يثبت لمَن يعرضه العار بسبب قذفه بنفي النسب، وإن هو إلا الأصول والفروع، فطلبهم بعد موتِ المقذوف ليس بطريقِ الخلافة بل بطريق الأصالة.
(9) في أ و ص و ف: عندنا.
(10) قوله: خلافاً لمحمّد؛ له أنّ ولدَ البنت ينسبُ إلى أبيه لا إلى أمّه، فلا يلحقه الشين بزناءِ أب أمّه، ولهما أنّ النسبَ وإن كان إلى الأب، لكن الولد يكون نجيبَ الطرفين عند شرافةِ الأبوين، فعند كون الأم غير شريفةٍ تفوتُ الكرامة، فيلحقُ العارُ بولد البنت أيضاً.
(5/483)
________________________________________
وقولُهُ: ولو محروماً، كولدِ الولدِ[(1)] مع وجودِ الولد، والكافر، والعبد، خلافاً لزُفر[(2)] - رضي الله عنه -، وكالقاتل.
(ولا يطالبُ[(3)] أحدٌ سيِّدَه[(4)] وأباهُ بقذفِ أُمِّه(5)[(6)].
__________
(1) قوله: كولد الولد... الخ؛ الحاصل إنّ كون مَن له حقّ الطلبِ محجوباً بوجود وارثٍ أعلى منه، كولد الولد؛ أي ابن الابنِ مع وجودِ الابن وكالجدّ وجدّه وإن علا، ومع وجود الأب، أو محروماً بوجود أحد أسباب الحرمان، كالرقّ والكفر لا يسقطُ عنه حقّ الطلب، فإنّ ذلك للحوق العار، وهو لا يبطل بالحرمان عن الإرث، وفي كلام الشارح إشارةٌ إلى أنّ المرادَ بالمحروم في قول المصنّف: ولو محروماً أعمّ من الحرمانِ والحجب لا ما يقابل الحجب.
(2) قوله: خلافاً لزفر؛ ظاهر كلامِه حيث أوردَ خلافَ زفر بين ذكرِ القاتل وبين ذكرِ الكافر، والعبد والمحجوب يقتضي عدم خلافِه في القاتل، ووجودِ خلافة في العبد والكافر والمحجوب، والذي يفهم من ((الهداية)): إن خلافه في المحجوب.
(3) قوله: ولا يطالب... الخ؛ يعني إذا قذفَ السيّد أمّ عبده فليس له أن يطالبَه بحدّ القذف، وكذا لو قذف الرجلُ أمّ ابنه فليس للابن أن يطالبه بحدّ القذف؛ لأنّ في طلبه إبانة لهما، وقد أمروا بإكرامهما حتى روي أنّه لا يقادُ الوالد بالولد، ولا السيد بالعبد.
(4) قوله: سيّده؛ هذا الضمير وكذا الضمير مَن يليه راجعٌ إلى أحد كضمير أمّه.
(5) لأنهما لا يعاقبان بسببهما حتى سقط القصاص بقتلهما. ينظر: ((رمز الحقائق))(1: 289).
(6) قوله: بقذف أمّه؛ إضافة إلى المفعول؛ أي قذف السيد أو الأب أمّه.
(5/484)
________________________________________
وليس فيه إرثٌ وعفوٌ(1)[(2)] واعتياضٌ عنه): هذا عندنا[(3)
__________
(1) أي لو عفا المقذوف فلا حدّ لا لصحة العفو بل لترك الطلب حتى لو عاد وطلب حد. ينظر: ((الدر المختار))(3: 173).
(2) قوله: وعفو؛ ليس المراد بعدمِ العفو فيه أنّه لو عفا المقذوفُ أقام الحاكمُ الحدّ على القاذف، فإنّ الإقامةَ فرعُ طلبه، وإذ عفا ولم يطلبْ فلا إقامة، بل معناه: إنّه لو عفا فعفوه لغو، حتى لو خاصمَ بعده فله ذلك.
(3) قوله: هذا عندنا... الخ؛ قال في ((الهداية)): لا خلافَ في أنّ فيه حقّ الشرع وحقّ العبد، فإنّه شرعَ لدفعِ العارِ عن المقذوف، وهو الذي ينتفعُ به على الخصوص، فمن هذا الوجه حقّ العبد، ثمّ إنّه شرعَ زاجراً ومنه سمّى حدّا والمقصود من شرعِ الزاجر إخلاءُ العالمِ عن الفساد، وهذا آية حقّ الشرع، وبكلّ ذلك تشهد الأحكام، وإذا تعارضت الجهتانِ فالشافعيّ مالَ إلى تغليب حقّ العبد تقديماً لحقّ العبد، باعتبارِ حاجته وغناء الشرع، ونحن سرنا إلى تغليبِ حقّ الشرع؛ لأنّ ما للعبد من الحقّ يتولاه مولاه؛ أي الله تعالى، فيصيرُ حقّ العبد مرعياً به، ولا كذلك عكسهه؛ لأنّه لا ولايةَ للعبدِ في استيفاءِ حقوق الشرع لا نيابة، وهذا هو الأصل المشهورُ الذي تتفرّع عليه الفروع المختلف فيها منها: الإرث إذ الإرثُ يجري في حقوقِ العباد لا في حقوق الشرع، ومنها: العفو؛ فإنّه لا يصحّ عفو المقذوفِ عندنا، ويصحّ عنده، ومنها: إنّه لا يجوزُ الاعتياض عنه ويجري فيه التداخل، وعنده: لا يجري. انتهى. ولا يخفى ما في توجيه قولنا من السخافة، فإنّه يستلزمُ أن لا يكون حقّ العبدِ غالباً فيما اجتمعَ فيه الحقّان أصلاً، وهو خلافُ الأصولِ وخلاف المنقول؛ فإنّ القصاصَ ممّا اجتمع فيه حقّ الله وحقّ العبد مع كونِ حقّ العبد غالباً فيه اتّفاقاً، ولذا عدل الشارح عنه إلى وجهٍ آخر بقوله: لأنّ حقَّ العبدِ وهو دفعُ العار... الخ، وحاصله: إنّ حقَّ العبدِ في حدّ القذفِ إنّما هو دفعُ العار، فإنّه إنّما فوض إليه الطلبَ لدفعِ العار عنه بلحوق الشين في نسبه، وحصولُ العارِ في الزنى إنمّا هو لكونِه محرَّماً شرعاً، فإنّه لو لم يكن حراماً لم يلحق به عار، وبالجملة: فلحوقُ العارِ بالقذفِ إنّما هو أمرٌ شرعيّ لا طبعيّ، فيكون حقّ العبد فيه أيضاً راجعاً إلى حقّ الله تعالى، فإن قلت: لو كان لحوقُ العارِ للتحريمِ للزمِ كون ارتكابِ كلّ حرامٍ موجباً للعار، وليس كذلك عقلاً ونقلاً، قلت: ليس إنّ نفس الحرمة كافٍ لحصولِ العار، متى يلزم ما ألزم بل الفرض إنّ هذا الفعلَ الذي يحصلُ به العار لو كان حلالاً لم يحصل به عار.
(5/485)
________________________________________
].
وعند الشَّافِعِيِّ(1) - رضي الله عنه - يجري فيه الإرث، ونحوه؛ بناءً على أنَّ حقَّ العبدِ فيه غالب[(2)]؛ بناءً على الأصلِ المشهور[(3)]، وهو(4): إنَّ حقَّ العبدِ يغلبُ على حقِّ اللهِ تعالى إذا اجتمعا؛ لاحتياجِ العبد، واستغناءِ اللهِ تعالى.
ونحن نُغلِّبُ فيه حقَّ اللهِ تعالى؛ لأنَّ حقَّ العبدِ هو رفعِ العارِ راجعٌ إلى حقِّ اللهِ تعالى أيضاً؛ لأنَّ النِّسبةَ إلى الزِّنا إنِّما تكونُ سبباً للعار؛ لأنَّ اللهَ تعالى حرَّمَه.
(فإن(5) قال: يا زاني، فردَّهُ بـ: لا بل أنت حُدَّا[(6)].
__________
(1) ينظر: ((التنبيه))(ص149).
(2) قوله: غالب؛ ومن أصحابنا أيضاً مَن قال بهذا كصدر الاسلام أبي اليسر البزدويّ؛ لأنّ كثيراً من الأحكام تدلّ عليه، منها: بأنّه يستوفى بالبيّنة بعد تقادمِ العهد، ولا يعملُ فيه الرجوعُ عن الإقرار، ولا يستوفي إلا بخصومةِ المقذوف. كذا في ((النهاية)).
(3) قوله: بناءً على الأصلِ المشهور؛ أشار به إلى أنّ هذا الأصلَ متّفق عليه بيننا وبين الشافعيّ، وإنّما وقع الخلافُ هاهنا بسبب الخلافِ في أنّ حقَّ العبد ها هنا راجعٌ إلى حقّ الله أو هو حقّ مستقلّ.
(4) في م: هو.
(5) في ج و ق: وإن.
(6) قوله: حدّاً؛ يعني لو قال الرجل: يا زاني أو أنت زاني، أو نحو ذلك، فقال ذلك الرجل: لا، بل أنت وجبَ الحد عليهما؛ لأنّ معنى قوله: بل أنت، بل أنت زانٍ؛ لأنّ كلمةَ بل كلمةُ عطفٍ يستدرك بها الغلط، فيصير الخبرُ المذكور في الأوّل مذكوراً في الثاني، فيصيرُ كلّ منهما قاذفاً للآخر، فإن قلت: قد صرّحوا بأنّه لو قال لأحد: يا خبيث ونحو ذلك من ألفاظٍ يجبُ فيها التعزير، فقال: لا بل أنت لم يعزّر، فما وجهُ الفرق؟ قلت: وجهه إنّ التعزيرَ حقّ العباد، فإذا تشاتما تساويا فلا تعزير على أحدٍ منها، بخلافِ القذف، فإنّ فيه حقّ الله، فلا يلزمُ من تساويهما سقوطُ الحدّ.
(5/486)
________________________________________
ولو قال[(1)]: لعرسِه [يا زانية](2)، فردَّتْ به حدَّتْ ولا لعان)؛ لأنَّها قذفَت الزَّوج فتحدّ، وقذفُه[(3)] إيَّاها لا يوجبُ الحدّ، بل اللِّعان، وهي لم تبقَ أهلاً للعان(4)، [ثُمَّ[(5)] لا بُدَّ من تقديمِ الحدّ؛ [لأنَّه أقوى](6)؛ لأنَّه إن قُدِمَ يسقطُ اللِّعان؛ لأنَّها لم تبقَ أهلاً له، وإن قُدِمَ اللِّعان لا يسقطُ الحدّ، وإذا وَجَبَ تقديمُهُ يقدَّم، ويسقطُ اللِّعان](7).
__________
(1) قوله: ولو قال؛ أي الزوجُ بشرطِ أن يكون من أهل الشهادة؛ لأنّ مَن ليس أهلاً لها لا يوجبُ قذفه لزوجته لعاناً بل حدَّاً على ما مرّ في بابه.
(2) زيادة من أ و ب و س و م.
(3) قوله: وقذفه؛ يعني قذفَ الزوج زوجته بالزنى لا توجب حدّ القذف بل اللّعان على ما مرّ في باب اللّعان، وإنّما سقطَ اللعانُ هاهنا لأنّه لمّا حدث حدّ القذفِ لم تبقَ أهلاً للعانِ لأنّه شهادة، ولا شهادةَ للمحدود في القذف.
(4) في س: لللعان.
(5) قوله: ثمّ... الخ؛ جوابٌ عمّا يقال: لمَ قدّم حدّها حتى سقطَ اللّعان، مع أنّه لو قدّم اللعانَ لا يسقطُ حدّ القذف عنها؛ لأنّ حدّ القذف يجري على الملاعنة، وحاصل الجواب: إنّ اللعانَ في معنى الحدّ، والحدّان إذا اجتمعا وفي تقديم أحدهما إسقاط الآخر، وجبَ تقديمه احتيالاً للدرء، وهاهنا: إن قدّم اللعانَ لا يسقطُ الحدّ، وإن قدّم الحدّ يسقطُ اللعان، فوجب تقديمُ الحدّ.
(6) زيادة من أ و ب و س.
(7) سقطت من ص و ف.
(5/487)
________________________________________
(وبزنيتُ(1) بك[(2)] هدراً[(3)]): أي قال: لزوجتِه يا زانية، فردَّت بقولِها: زنيتُ بك هدراً؛ لأنَّ قولَ المرأةِ[(4)]:
يحتملُ أن يكونَ تصديقاً له: يعني زنيتُ بك قبل النِّكاح.
__________
(1) في م: وزنيت.
(2) قوله: بك؛ وكذا معك ونحوه، ولو لم يأتِ بصيغة الخطاب، بل قال: زنيت لا يحدّ هو؛ لأنّها صدّقته، ولو أجابته بما ليس فيه لفظ الخطاب بل قال: أنت أزنى مني ونحو ذلك حدّت هي؛ لوجودِ القذف منها، ولو قال لأجنبيّة: يا زانية، فردّته بقوله: زنيت بك حدّت دونه؛ لتصديقها. كذا في ((منح الغفّار)) و((الخانيّة)).
(3) قوله: هدراً؛ الضميرُ إلى القولين؛ أي قولُ الزوجِ يا زانية ونحوه، وقولُ الزوجةِ في جوابه: زنيت بك، يعني بطلَ القولان ولم يوجب قولُ الزوج اللعان، ولا قول الزوجةِ الحدّ.
(4) قوله: لأنّ قولَ المرأة... الخ؛ حاصله: إن قولها: زنيت بك في جواب قوله: يا زانية، يحتمل أن يكون تصديقاً لقوله، فيكون معناه: زنيت بك قبل النكاح، إذ لا يمكن أن يكون الوطئ بعد النكاح زناء وحينئذٍ يسقطُ عنها دعوى اللعان، إذ لا لعانَ بعد تصديق الزوجة قول الزوج، ويحتمل أن يكون ردَّاً عليه، فيكون الغرضُ منه أنّي ما مكّنت نفسي من غيرك، فإن كان هذا زنى فذلك وحينئذٍ يسقطُ عنها الحد، فلمّا كان كلامها محتملاً للمعنيين وقعَ الشكّ فيبطلُ الحدّ واللعان كلاهما.
(5/488)
________________________________________
ويحتملُ أن يكونَ ردَّاً[(1)]: يعني إن وُجِدَ منِّي زناً، فهو ليس إلاَّ تمكيني إيِّاك[(2)]؛ لأني ما مكنتُ غيرَك، وتمكيني إيِّاك ليس بزنا، فلا يكونُ لها دعوى اللِّعان؛ لاحتمالِ المعنى الأَوَّل، ولا حدَّ عليها لاحتمال المعنى الثَّاني.
(ولاعَن[(3)] إن أقرَّ بولدٍ فنفى، وحدَّ إن عكس(4) )؛ لأنَّ النَّسبَ يثبتُ بإقرارِه، ثُمَّ بالنَّفي يصيرُ قاذفاً، فيجبُ(5) اللِّعان، أمَّا إن نفاه، ثُمَّ أقرَّ به، فقد أكذبَ نفسَه، فيجبُ الحدّ، (والولدان له): أي وَلَدٌ أقرَّ به، ثُمَّ نفاه، وولدٌ نفاه، ثُمَّ أقرَّ به، يثبتُ نسبُهما لا اقرارُه.
__________
(1) قوله: ويحتمل أن يكون ردّاً؛ فإن قالت: زنيت بك قبل أن أتزوجك، حدّت. كذا في ((النهر)).
(2) قوله: فهو ليس إلا تمكيني اياك، فيكون إطلاقُ الزناءِ عليه مع كونه حلالاً لمجرّد المشاكلة، كما في قوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم}، وقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، فإنّ من العلوم أنّ جزاءَ الاعتداءِ ليس باعتداء، وجزاء السيئة ليس بسيئة.
(3) قوله: ولاعن... الخ؛ يعني إن أقرّ بولدِه من زوجته ثمَّ نفى نسبه عن نفسه وجبَ العان، لأنّ النفي يصيرُ موجباً للقذف، وإن أنكرَ أوّلاً ثمّ أقرّ بالنسب قبل اللعانِ وجب عليه الحدّ؛ لأنّه لمّا أكذب نفسه بإقرار النسبِ بطل اللعان الذي كان وجبَ بنفي الولد؛ لأنّه ضروري صيّر إليه ضرورةَ التكاذب بين الزوجين، فكان خلفاً عن الحدّ، فإذا بطل صيّر إلى الأصل، وفي الصورتين يكون الولدُ ولده لإقراره به سابقاً أو لاحقاً، فإنّ قلت: سببُ اللعان كان نفيُ الولد، فلمّا لم ينتفِ الولدُ يجب أن لا يجريَ اللعان بينهما؛ لأنّ في بطلان المتضمّن بطلان المتضمّن، قلت: اللعان يصحّ بدون قطع النسب أيضاً، كما يصحّ بدون الولد. كذا في ((النهاية)).
(4) في ق: نفاه.
(5) في م: يجبز
(5/489)
________________________________________
(ولا شيءَ[(1)] بليس بابني، ولا بابنك)(2)؛ لأنَّه نفي[(3)] الولادة، ولا يجبُ به شيء.
(ولا حدَّ بقذفِ[(4)] مَن لها وَلَدٌ لا أبَ له، أو لاعَنت بولد[(5)])، إنِّما قال: بولد؛ لأنَّها لو لاعَنت بدونِ الولد فبقذفِها يجبُ الحدّ[(6)]، والفرقُ بينَهما أنَّه وُجِدَ في الأَوَّلِ إمارةُ الزِّنى، وهو الولدُ[(7)] المنفي، ولم توجد بالثَّاني.
__________
(1) قوله: ولا شيء؛ أي لا حدّ ولا لعان؛ لأنّه لم يقذفها بالزناءِ بل أنكر الولادة، وبه لا يصيرُ قاذفاً.
(2) لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقيناً لجواز أن يكون الولدُ من غيره بوطءٍ عن شبهة لا عن زنا بأن زوَّجت نفسها من غيره. ينظر: ((التبيين))(3: 16).
(3) قوله: نفى؛ بصيغة الماضي المعروف، فما بعده مفعوله، وفاعله الضميرُ الراجعُ إلى الزوج، وإليه يرجع ضمير؛ لأنّه ويمكن أن يكون مصدراً مضافاً إلى ما بعده، فضمير لأنّه راجعٌ إلى القول السابق.
(4) قوله: ولا حدّ بقذف... الخ؛ يعني إن كانت امراة لها ولد لا يعرف له أب في بلدِ القاذف، فقذفها رجلٌ لا يحدّ؛ لأنَّ وجودَ الولد من غير أبٍ دليل الزنى، ففاتت العفّة التي هي شرطُ الإحصان الذي هو شرطُ وجوب الحدّ.
(5) قوله: أو لاعنت بولد؛ سواء كان الولدُ حيّاً أو ميتاً عند القذف، وهذا معطوف على قوله: لها ولد.
(6) قوله: فبقذفها يجب الحدّ؛ لأنّه لم توجدْ فيها إمارةُ الزنى، فلم تفت العفّة الموجبةُ للحدّ.
(7) قوله: وهي الولد؛ قال في ((البحر)) هذا إذا قطعَ القاضي نسبَ الولد وألحقه بأمّه وبقي اللعان، فلو لاعنت بولدٍ ولم يقطع القاضي نسبه أو بطلَ اللعان بإكذاب الزوج نفسه ثمَّ قذفَها رجلٌ وجبَ الحدّ.
(5/490)
________________________________________
(ولا بقذفِ مَن وَطِئ[(1)
__________
(1) قوله: ولا بقذف مَن وطئ... الخ؛ قال في ((الهداية)): الأصل فيه: إنّ مَن وطئ وطئاً حراماً بعينه لا يجبُ الحدّ بقذفه؛ لأنّ الزناء هو الوطئ المحرّم لعينه، وإن كان محرّماً لغيره يحدّ؛ لأنّه ليس بزنا، فالوطي في غيرِ الملك من كلّ وجهٍ أو من وجهٍ حرامٌ لعينه، وكذا الوطئ في الملكِ والحرمة مؤبّ‍دة، فإن كانت الحرمةُ مؤقّتة فالحرمةُ لغيره، وأبو حنيفةَ رحمه الله تعالى يشترطُ أن تكون الحرمةُ المؤبّدة ثابتةٌ بالإجماعِ أو بالحديثِ المشهور؛ لتكون ثابتةً من غير تردّد. انتهى.

وفي ((النهاية)): اعلم أنّ الحرمةَ على وجهين: أحدهما حرامٌ لعينه، وذلك ينشأ من شيئين: أحدهما الوطئ في غير الملك، إمّا من كلّ وجهٍ كوطئ الأجنبيّة أو من وجهٍ كوطئ الجاريةِ المشتركةِ بينه وبين آخر، والثاني: بوطئ المرأةِ التي هي حرامٌ عليه على سبيلِ التأبيد، وإن كان في ملكِهِ كوطئ أمته وهي أخته من الرضاع فلا يجبُ حدّ قاذفه، وما سواهما من الوطئ فمن قبيلِ ما هو حرام لغيره، كوطئ أمته المجوسيّة، وبمثله لا يسقطُ الإحصان.
(5/491)
________________________________________
] حراماً لعينِه، كواطءٍ في غيرِ ملكٍ من كلِّ وجه، ومن وجهٍ[(1)] كأمةٍ مشتركة، أو وطءِ مملوكةٍ حَرُمَتْ أبداً[(2)]: كالأمةِ(3) التي هي أختُهُُ رضاعاً(4).
__________
(1) قوله: أو من وجه؛ أي وطئ ما هو غير مملوكٍ له من وجه، مملوك له من وجه، كما في صور الشركة.
(2) قوله: حرمت أبداً؛ بأن لا يمكن زوالُ حرمتها في وقتٍ من الأوقات، وعند الكرخيّ يحدّ قاذفه لقيامِ الملك، فصار كوطئ أمته المجوسيّة، ووجه الصحيح: إنّ الحرمةَ في المجوسيّة ونحوها يمكن ارتفاعها، فكانت مؤقّته، بخلافِ حرمة الرضاع، فلم يكن المحلّ قابلاً للحلّ أصلاً، فكيف يجعل حراماً لغيره. كذا في ((الفتح)).
(3) في أ و ت و ص: كامته. وفي ف: كامة.
(4) لفوات العفة وهي شرط الإحصان، ولأن القاذف صادق؛ لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه، وإن كان محرما لغيره يحد؛ لأنه ليس بزنا، فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه، وكذا الوطء في الملك، والحرمة مؤبدة. ينظر: ((الهداية))(2: 114).
(5/492)
________________________________________
ولا بقذفِ مَن زَنَت في كفرِها[(1)]، ومكاتَبٍ[(2)] ماتَ عن وفاء): أي لا حدَّ بقذفِ مكاتَبٍ ماتَ وتركَ مالاً يفي ببدلِ الكتابة؛ لأنَّ الحدَّ إنِّما يجبُ بقذفِ الحرّ، وفي حريَّةِ هذا المكاتَبِ اختلافُ الصَّحابة(3) - رضي الله عنهم -.
__________
(1) قوله: ولا بقذف مَن زنت في كفرها؛ إطلاقه يشملُ الحربيّ والذميّ، وما إذا كان الزنى في دارِ الحربِ أو في دار الإسلام، وما إذا قال له: زنيت، وأطلق، ثمّ أثبتَ أنّه زنى في كفره، أو قال له: زنيت حال الكفر، فهو كما قال المعتق: زنيت وأنت عبد. كذا في ((البحر)).
(2) قوله: ومكاتب؛ عطف على قوله: مَن زنت، يعني لا يحدّ بقذفِ مكاتب ماتَ قبل أن يؤدّيَ بدل الكتابة، وترك ما لا يفي أداء ما كوتبَ عليه؛ لأنّ الصحابةَ اختلفوا في حريّة مثل هذا المكاتب، فمنهم مَن قال: إنّه حرّ في آخرِ جزءٍ من حياته، ومنهم مَن قال: إنّه عبدٌ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله في (كتاب المكاتب) فكونه حرّاً صارَ مشكوكاً ومختلفاً فيه، فيسقطُ الحدّ عن قاذفه، فإنّه لا حدّ إلا بقذفِ مَن هو حرّ قطعاً.
(3) قال بعضهم: مات حراً، وهو مذهب علي عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، وقال بعضهم: مات عبداً، وهو مذهب زيد بن ثابت. ينظر: ((البناية))(5: 510).
(5/493)
________________________________________
(وحدَّ بقذفٍ مَن وَطَأ حراماً[(1)] لغيرِه كوطء عرسِه حائضاً، أو وطء مملوكةٍ حَرُمَت مؤقَّتةً: كأمةٍ مجوسيَّة[(2)]، أو مكاتبة(3) )؛ فإن حرمةَ الأُولَى مؤقتةٌ إلى زمانِ الإسلام، والثَّانيةِ إلى زمانِ العجز.
وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - وطء المكاتبةِ يسقطُ الإحصان[(4)].
__________
(1) قوله: حراماً لغيره؛ أي وطئ وطئاً هو حرامٌ لغيره، كالوطئ حالةَ الحيضِ والنفاس، فإنّه محرّم لعلّة الأذى، لا لفواتِ ملكٍ أو نقصانٍ فيه، ومثله وطئ الزوجةِ التي ظاهرَ منها قبل أداءِ كفّارة الظهار، والصائمة صوم فرض.
(2) قوله كأمةٍ مجوسيّة؛ ومثلها الأمة المزوّجة والمشتراة شراءً فاسداً؛ لأنّ الشراءَ الفاسدَ يوجبُ الملك، بخلافِ النكاح الفاسد؛ فإنّ الملكَ لا يثبتُ فيه، فلذا لا يسقطُ إحصانه بالوطئ فيه، فلا يحدّ قاذفه. كذا في ((الفتح)).
(3) في ت و ج و ق: مكاتبته.
(4) قوله: يسقط الإحصان؛ وهو قول زفر رح؛ لأنّ الملكَ زائلٌ في حقّ الوطئ، ولهذا يلزمه العقرُ بالوطئ، ونحن نقول: ملكُ الذاتِ باق، والحرمةُ لغيره، إذ هي مؤقّتة إلى فسخ الكتابة. كذا في ((الهداية)).
(5/494)
________________________________________
(كمجوسيٍّ[(1)] نكحَ أُمَّه، فأسلم، ومستأمنٌ[(2)] قذفَ مسلماً [هنا](3) ): أي حدُّ[(4)] بقذفِ مجوسيِّ كذا، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - خلافاً لهما، فإنَّ عنده لنكاحِ المحارمِ حكمُ الصِّحَّةِ فيما بينهم خلافاً لهما.
وقوله(5): ومستأمنٌ؛ بالرَّفعِ عطفٌ على الضَّميرِ المستترِ في: حدّ.
__________
(1) قوله: كمجوسيّ... الخ؛ يعني قذفَ رجلٌ كان مجوسيَّاً، فنكحَ في حالِ كفرِهِ بأمّه أو أخته أو غيرهما من المحارمِ بناءً على أنّ المجوسَ يجوّزون النكاحَ بالمحارمِ ثمّ أسلم، فيحدّ القاذف عنده؛ لأنّ نكاحَ المحارم في حالِ الكفر صحيحٌ عنده، بناء على اعتقادهم، وعندهما: لا صحّة له، فلا حدّ بقذفه، وقد مرّ تفصيل هذا الخلاف في باب النكاح الرقيق والكافر من (كتاب النكاح).
(2) قوله: ومستأمن؛ أي كافرٌ حربيّ دخل دارنا بأمان، وإنّما يحدّ حدّ القذف؛ لأنّه التزمَ إيفاءَ حقوق العباد، وحدّ القذف فيه حقّ العبد، بخلافِ حدّ الزناء والسرقة، فإنّ حقّ الله فيه غالب، فلا يحد بهما المستأمن، وأمّا الذميّ فيحدّ في الكلّ إلا في الخمر. كذا في ((غاية البيان))، وفي ((السراجية)): إذا اعتقدوا حرمةَ الخمرِ كانوا كالمسلمين، وفيها أيضاً: لو سرقَ الذميّ أو زنى فأسلم إن ثبتَ بإقراره أو بشهادةِ المسلمين حدّ وإن بشهادةِ أهل الذمّة لا. انتهى.
(3) سقطت ص و ق، وفي ب و م: هذا، وفي ف: هاهنا. أي في دار الإسلام؛ لأن فيه حق العبد، وقد التزم ايفاء حقوق العباد. ينظر: ((درر الحكام))(2: 74).
(4) قوله: أي حدّ؛ أشار به إلى أنّ في قوله: كمجوسيّ تشبيه لمَن وطئ حرام لغيره به في أنّ قذفهما يوجب الحدّ.
(5) في م: قوله.
(5/495)
________________________________________
(وكفى حدُّ[(1)](2) لجنايات(3) إن اتَّحد جنسَها، فإن اختلفَ لا): هذا عندنا.
__________
(1) قوله: وكفى؛ حدّ التنوين فيه للوحدة؛أي حدّ واحد، والحاصل: إنّه إذا ارتكبَ رجلٌ جناياتٍ متعدّدة موجبةً للحدّ، فلا يخلو إما أن تكون مختلفةً الجنس كما إذا زنى وسرقَ وشرب الخمر وقذفَ محصنا، وإمّا أن تكون متحددة الجنس، كما إذا قذفَ مراراً أو زنى فعلى الأوّل يقامُ عليه حدّ كلّ من الجناياتِ على حدة، ولا يكتفي بحدّ واحد؛ لأنّ المقصودَ من كلّ واحدٍ غير المقصود من الآخر، والزجرُ الحاصلُ يحد لا يحصل يحد آخر، فلا يمكن التداخل، وعلى الثاني يقامُ عليه حدّ واحد، كما إذا قذفَ مراراً، سواءً اتّحد المقذوفُ أو تعدّد، وسواء كان تعدّد القذفِ بكلمةٍ أم بكلمات، في يومٍ أم أيّام، وفي ((المحيط)) و((التبيين)): لو ضربَ للزنى أو للشربِ بعض الحدّ فهربَ ثمّ زنى أو شربَ ثانياً حدَّ حداً مستأنفاً، ولو كان ذلك في القذف، فإن حضرَ الأوّل والثاني جميعاً أو الأوّل كمل الأوّل، ولا شيء للثاني للتداخل، وإن حضرَ الثاني وحدَه يحدّ حدَّاً مستقبلاً للثاني، ويبطل الأول؛ لعدم دعواه. انتهى. وفي ((التبيين)): أيضاً، قذفه فحدّ ثم قذفه لم يحدّ ثانياً؛ لأنّ المقصودَ وهو إظهارُ كذبه ورفعُ العار بالأوّل حصل. انتهى.
وفي ((الفتح)): لو قذفَ شخصاً فحدّ به ثم قذفه بعين ذلك الزنى، بأن قال: أنا باقٍ على نسبتي إليه الزنى الذي نسبته إليه، لا يحدّ ثانياً، أمّا لو قذفه بزنى آخر حدّ به. انتهى.
(2) في ق: احد.
(3) في ت و ج و ف و ق: بجنايات.
(5/496)
________________________________________
وعند الشَّافِعِيِّ(1) - رضي الله عنه - إن اختلفَ المقذوف، أو المقذوفُ به، وهو الزِّنا، كما إذا قذفَ زيداً وعمراً، أو قذفَ زيداً بزنا [ثُمَّ بزنا](2) آخر لا يتداخل[(3)]، أمَّا إذا قذفَ زيداً بزنا واحد، وكرَّر هذا القذفَ يتداخل، وهذا بناءً[(4)] على أنَّ حقَّ العبدِ فيه غالبٍ عنده.
وأمَّا عندنا لمَّا كان حقُّ اللهِ تعالى غالباً يتداخلُ إذ المقصودُ الانزجار، أمَّا إذا اختلف(5) الجنايات، فالمقصودُ من كلِّ واحدٍ غيرَ مقصودٍ من الآخر[(6)]، فلا يتداخل.
فصلُ [في](7) التَّعزيز[(8)
__________
(1) في كتب الشافعية: لا يتكرر الحد بتكرر القذف ولو صرح فيه بزنا آخر، أو قصد به الاستئناف، أو غاير بين الألفاظ لاتحاد المقذوف، وإن قذفه فحد ثم قذفه ثانياً بذلك الزنا عزر. ينظر: ((التنبيه))(ص149)، و((أسنى المطالب))(3: 382)، و((فتوحات الوهاب))(4: 431)، وغيرها.
(2) سقطت من م.
(3) قوله: لا يتداخل؛ وعندنا: يتداخلُ في الصورتين، كما يقتضيه إطلاقُ المتن، وقد مرّ الخلاف بين مشايخنا أيضا في الصورة الثانية.
(4) قوله: وهذا بناء... الخ؛ يعني الخلافُ بيننا وبين الشافعيّ مبنيّ على أنّ حقَّ العبدَ غالبٌ في حدّ القذف عنده، وعندنا حقّ الله غالب وقد مر تفصيله.
(5) في س: اختلفت.
(6) قوله: غير المقصود من الآخر؛ ...الكفاية فحدّ الزنا لصيانة الأنساب، وحدّ السرقة لصيانة الأموال، وحدّ الشرب لصيانة العقول، وحدّ القذف لصيانة الأعراض فلا تتداخل.
(7) زيادة من ف و ق.
(8) قوله؛ فصل التعزير؛ لمّا ذكرَ العقوبات المقدّرة شرعَ في غير المقدّرة، والتعزير لغة: التأديب مطلقاً بضرب وغيره دون الحد أو أكثرَ منه، وشرعاً: هو تأديب جزاء الفعل هو محظور شرعاً، والفرق بين التعزير والحدّ على ما في ((نصاب الاحتساب)) و((التاتارخانيّة)) وغيرهما بوجوه: أحدها: إنّ الحدّ مقدّر شرعاً، والتعزيرُ مفوّض إلى رأي الإمام.

وثانيها: إنّ الحدّ يندرأ بالشبهة، والتعزيرُ يجب معها.
وثالثها: إنّ الحدّ لا يجب على الصبيّ، والتعزير شرع عليه.
والرابع: إن الحدّ يوجد في الذميّ، ويطلق الحدّ عليه، وتأديبه لا يسمّى تعزيراً بل عقوبة.
والخامس: إنّ الحدّ مختص بالإمام، والتعزير يقيمه الزوجُ والمولى وكلّ مَن رأى أحداً يباشر المعصية.
والسادس: إنّ الرجوع يعمل في الحدّ لا في التعزير.
والسابع: إنّه يحبسُ المشهود عليه حتى يسألَ عن الشهود في الحدّ لا في التعزير.
والثامن: إنّ الحدّ لا تجوزُ الشفاعة فيه بخلاف التعزير.
والتاسع: إنّ الحدّ يسقط بالتقادم دون التعزير.
والعاشر: إنّ الحدّ لا يجوزُ للإمام تركه بخلاف التعزير.
وفي ((البحر)): أجمعت الأمة على وجوب التعزير في كبيرة لا توجب الحّد، وكلّ مَن ارتكب معصية ليس فيها حدّ مقدر، وثبت عليه عند الحاكم فإنّه يجب فيه التعزير. انتهى.
وفي ((السراجيّة)): من وطئ بشبهة عزّر. انتهى.
وفي ((الذخيرة)): إن كان الفعل من جنس ما يجب به الحدّ ولم يجب لمانع وعارض يبلغُ التعزير أقصى غاياته، وإن كان من جنسِ ما لا يجب فيه الحدّ لا يبلغ أقصى غاياته، ولكنّه مفوّض إلى رأي الإمام. انتهى.
وفي ((نصاب الاحتساب)): التعزير واجبٌ كالحد؛ لأنّه جزاء فعل هو محظور، فيكون واجباً بخلاف التأديب؛ لأنّه غير واجب بل مباح. انتهى.
(5/497)
________________________________________
]
وهو تأديبٌ دون الحدّ[(1)
__________
(1) قوله: تأديب دون الحدّ؛ اعلم أنّ التعزيرَ على أنواع على ما فصّلتها في رسالتي ((القول الجازم في سقوط الحدّ بنكاح المحارم))، فقد يكون بالصفع على العنق، وبفرك الأذن، وبنظر القاضي له بوجه عبوس، وبشتم غير القذف، وبالحبس، وبالنفي، وبالقتل، وبالضرب وبغير ذلك، فإن اقتضى رأي القاضي الضربَ في واقعة فحينئذٍ ينبغي له أن ينقصه من مقدار أدنى الحدود، وهو أربعون سوطاً لضارب الخمر. كذا حقّقه في ((فتح القدير)).
وذكر جمعٌ من المشايخ التعزيرَ بالقتل في مواضع حيث قالوا: إنَّ للإمامِ قتلَ مَن سرق مراراً سياسة، ومَن تكرّر منه الخنق مراراً، والساحرُ إذا تكرّر من السحر، والزنديق، ومعتاد اللواطة، ومن سبّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر منه وهو ذميّ، وصرّحوا أيضاً بأنَّ مَن وجدَ مع زوجته رجلاً يزني له قتلهما، وأمثال هذه كثيرة.
وصرّحوا في ((الخلاصة)) و((الظهيرية)) بجواز التعزير بأخذ المال وبإحراقِ البيت ونحو ذلك، إذا عرفت هذا فاعرف أنَّ قولَ الشارح: تأديب دون الحد وهكذا قاله غيره لا يستقيم أن يكون تعريفاً للتعزيرِ لغة، لما عرفت أنّه لغة عبارةٌ عن مطلق التأديب، ولا يصحّ كونه تعريفاً شرعيّاً وإن اختاره صاحب ((الدر المختار))، ولا كونه حكماً للتعزير لما عرفت آنفاً أنَّ التعزيرَ شرعاً قد يكون أشدّ من الحدّ أيضاً إذا رأى الإمامُ المصلحةُ أيضاً، فلا بدّ أن يجعلَ حكماً لنوعٍ خاصّ من التعزير، وهو التعزير بالضرب.

وبالجملة: فالكلام لا يخلو عن مسامحة، فاحفظ هذا فإنّه من السوانح التي قلّ مَن يطّلع عليها.
(5/498)
________________________________________
]، وأصلُهُ من العزر، بمعنى الرَّدِّ والرَّدع، (أكثرُهُ تسعةٌ وثلاثونَ سوطاً، وأقلُّه ثلاث[(1)]): لأنَّ التَّعزيرَ ينبغي أن لا يبلغَ الحدّ[(2)]، وأقلُّ الحدِّ أربعون[(3)]، وهي حدُّ العبدِ في القذف والشُّرب، وأبو يوسف - رضي الله عنه - اعتبرَ حدَّ الأحرار، وهوثمانون، ونقصَ عنها سوطاً في رواية، وخمسةٌ في رواية.
__________
(1) قوله: وأقله ثلاثة؛ لأنّ ما دونها لا يقع به الزجر، وقيل: إنّ الأدنى غير مقدّر بل على ما يراه الإمام زجراً، وهو يختلف باختلاف الأشخاص.
(2) قوله: أن لا يبلغ الحدّ؛ لحديث: ((مَن بلغَ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين))، أخرجه محمّد بن الحسن في كتاب ((الآثار)) والبيهقي.
(3) قوله: أربعون؛ قال في ((العناية)): هذا هو الحقّ؛ لأنّ مَن اعتبرَ حدّ الأحرار فقد بلغ حدّاً، وهو حدّ العبد، والتنكير في الحديث ينافيه.
(5/499)
________________________________________
(وصحَّ حبسُهُ[(1)] مع ضربِه، [وضربُهُ](2) أشدّ[(3)](4)، ثُمَّ للزِّنا(5)، ثُمَّ للشُّرب، ثُمَّ للقذف): قالوا: ليحصلَ الانْزجار[(6)] بالتَّعزير، وحدُّ الزِّنا[(7)] ثابتٌ بالنَّص، وحدُّ الشَّرب ثَبَتَ بإجماع الصَّحابة - رضي الله عنهم -، وسببُهُ متيقَّن، وسببُ حدِّ القذفِ محتمل؛ لاحتمالِ الصَّدق[(8)].
__________
(1) قوله: وصحّ حبسه؛ يعني إن رأى الإمام أن يضمّ إلى الضربِ في التعزير الحبس فعل ذلك؛ لأنّ الحبسَ يصلح تعزيراً بانفراده، ولا بأس بجمعِ نوعي التعزير، وعليه حملَ ما ورد في باب الزاني المحصن أنّه يجلد ثمّ يرجم كما مرّ ذكره.
(2) سقطت من ب و م.
(3) قوله: أشد؛ أي وصفاً من جميع الضربات في الحدود، وبعده ضرب جلد الزنا، وبعده ضرب الشارب، وبعده ضرب القاذف.
(4) اي ضرب التعزيز أشد من ضرب الحدود؛ لأن ضرب التعزير خفِّف من الكمية فلا يخفَّف من حيث الكيفية؛ لئلا يؤدّي إلى فوت المقصود الذي هو الزجر بالكلية. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 223).
(5) أي ضرب الزنا أشد من الباقي ...
(6) قوله: ليحصل الانزجار؛ فإنّ التعزيرَ نقصٌ من الحدّ عدداً، فلو خفّف وصفاً أيضاً لما حصل انزجارُ العاصي فيفوت المقصود من إقامة التعزير.
(7) قوله: وحدّ الزنا... الخ؛ الحاصل أنّ حدّ الزنا ثابت بالكتاب وهو آية: {الزاني والزانية...}الخ. في سورة النور، فيكون ضربه أشدّ من ضرب حدّ الشربِ الثابت بإجماع الصحابة لا بالنصّ، ولما كان سببه متيقناً وسبب حدّ القذف محتملاً، جعله ضربه أشدّ من ضربِ حدّ القذف.
(8) قوله: لاحتمالِ الصدق؛ يعني يحتملُ كونُ القاذفِ صادقاً في قذفه، فإن قلت: لو كان صادقاً لأقامَ البيّنة على ما يدّعيه، قلت: هذا لا يدلّ على تيقّن كذبه؛ لاحتمالِ أن يكون شهوده غابوا وأبوا عن أداء الشهادة.
(5/500)
________________________________________
أقول[(1)
__________
(1) قوله: أقول... الخ؛ إيرادٌ على ما علّلوا به الترتيب بوجهين: أحدهما إنّ حدّ القذفِ ثابتٌ بنصّ الكتاب، بخلافِ حدّ الشرب، فإنّه لم يدلّ عليه نصّ، وثانيهما: إنّ حدّ الشربِ قيسَ على حدّ القذفِ كما مرّ ذكره، ومن المعلومِ أنّ ما ثبتَ بالنصّ وهو مقيسٌ عليه أرجح، وأقوى بالنسبة إلى ما لم يدلّ عليه نصّ بل ثبتَ بالقياس، ويردّ عليه من وجوه: أكثرها ممّا خطرَ ببالي في هذا الحين، الأوّل: إنّ حدَ الشربِ أيضاً ثبتَ بالنصّ وهو حديث: ((مَن شربَ الخمر فاجلدوه)) إلى غير ذلك من الأحاديث على ما مرّ ذكر بعضها، وجوابه من وجهين: أحدهما: إنّ المرادَ بالنصّ نصّ الكتاب، فلا ينافيه ثبوتُ حدّ الشربِ بالحديث، وفيه: ضيف ظاهر؛ فإن قوله: قيسَ صريحٌ في أنّه ثابتٌ بالقياسِ لا نصّ فيه من الكتابِ والسنّة، إذ لا حاجةَ إلى القياسِ بعد ورودِ الكتاب والسنّة، وثانيهما: إنّ المرادَ بحدّ الشربِ هاهنا هو المقدارُ المعيّن، فإنّ ثبوتَ حدّ الشربِ بأصله، وإن كان بالنسبةِ المرفوعةِ لكن تقديره ثبتَ بالقياس، والثاني: إنّ حدّ الشرب لم يثبت بالقياس بل بإجماعِ الصحابة، نعم سند الإجماعِ هو القياس، وقد ثبت في موضعه إنّ الحكمَ يستندُ إلى الإجماعِ لا إلى سنده، والثالث: إنَّ بعدَ تسليم ثبوتِه بالقياسِ لا يخفى إنّ لحدّ الشرب مرجّحات على حدّ القذف منها ما مرّ إنّ حدّ الشرب متيقّن، وسببُ حدّ القذف محتمل.
ومنها: إنّ شاربَ المسكرِ قلّما يخلو من القذف، فيصير كلّ شاربٍ جامعاً بين الشربِ والقذف غالباً، فتتحقّق من الشاربِ جنايتان، ومن القاذفِ جنايةٌ واحدة.
ومنها: إنّ حدّ الشرب ثابتٌ بالإجماعِ وبالقياس على حدّ القذف، وحدّ الشرب مخالفٌ للقياس.

وبالجملة: فبالنظر إلى هذه المرجّحات حكموا بجعلِ ضربِ حدّ الشرب أشدّ من ضربِ حدّ القذف، على أنّ القذفَ سوى الضرب عقوبة أخرى أيضاً، وهي عدمُ قبولِ شهادة القاذف أبداً، كما دلّ عليه النصّ، فناسب أن يجعلَ ضربه أخفّ؛ لئلا يلزمَ التغليظُ الشديد، بخلاف حدّ الشرب، فليس للشربِ جزاءٌ سوى الجلد، فناسب تشديده.
(5/501)
________________________________________
]: حدُّ القذفِ ثابتٌ بالنّص، وهو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةٍ}، وحدُّ الشُّربِ قيسَ على حدِّ القذف(1).
__________
(1) ردّ ملا خسرو في ((درر الحكام))(2: 75)، وابن كمال باشا في ((الايضاح))(ق80/أ)، واللكنوي في ((عمدة الرعاية))(2: 309) على اعتراض الشارح، فقال ملا خسرو: جناية الشرب مقطوع بها وجناية القذف لا؛ لاحتمال كون القاذف صادقاً في قذفه وعجزه عن إقامة البينة لا يدل على كذبه لاحتمال غيبة شهوده أو آبائهم عن أدائها؛ ولأن شارب الخمر قلَّما يخلو عن القذف فيصير كل شارب جامعاً بين الشرب والقذف فيتحقق منه جنايتان ومن القاذف جناية واحدة؛ فلهذا كان ضربه أخف من ضرب الشارب وإن كان منصوصا عليه، فاضمحل ما قال صدر الشريعة؛ لأن حدّ الشرب لم يثبت بالقياس، بل بإجماع الصحابة غايته أن سندَ الإجماع هو القياس، وقد تقرر في الأصول أن الحكم يستند إلى الإجماع لا بسنده.اهـ.
(5/502)
________________________________________
(وعزِّر[(1)](2) بقذفِ[(3)] مملوك، أو كافرٍ بزنا، و[بقذف](4) مسلماً[(5)](6) بيا فاسق[(7)]، يا كافر(8)[(9)
__________
(1) قوله: وعزّر؛ مجهول من التعزير، والضمير إلى القاذف، وفيه إشارةٌ إلى أنّ إقامةَ التعزيرِ واجبة.
(2) في م: عزر.
(3) قوله: بقذف؛ الأولى أن يقول: بشتمٍ ليعمّ ما سيأتي من قوله لمسلم: يا فاسق، وغير ذلك، فإنّ القذفَ يطلقُ شرعاً على الرمي بالزنى لا على مطلق الشتم.
(4) زيادة من ق.
(5) قوله: ومسلم؛ عطف على قوله: مملوك؛ أي عزّرِ بشتمِ مسلمٍ بأحدٍ من الألفاظِ الآتية، وقيد المسلم اتّفاقيّ؛ فإنّ شتمَ الذميّ أيضاً يوجبُ التعزير. كذا في ((الفتح))، وذكر في ((القنية)): قال ليهوديّ أو نصرانيّ أو مجوسيّ: يا كافر يأثم إن شقّ عليه، ومقتضاه أنّه يعزّر لارتكابِه الإثم. كذا في ((البحر)).
(6) في م: مسبا.
(7) قوله: بيا فاسق؛ الفسق لغة: الخروج، وشرعاً: يطلقُ على الخروجِ عن الطاعة، فيشملُ الكافر أيضاً، وكثيراً ما يطلقُ على غير الكافر ممّن يرتكبُ الكبائرِ أو يدمنُ بالصغائر، ومثله الفجور، وفي ذكر يا فاجرٍ بعد ذكر يا فاسق إشارةٌ إلى تغايرها؛ فإنّ الفاجرَ في عرفِ الشرعِ يطلقُ على الكافرِ وعلى الزاني، وكثيراً ما يطلقُ على كثيرِ الخصامِ والمنازعة، ثمّ الشتمُ بالفسقِ ونحوه إنّما يوجبُ التعزيرَ إذا لم يكن المقذوفُ معلومَ الفسقِ قبل ذلك. كذا في ((الفتح)).
(8) وهل يكفر باطلاق الكفر على المسلم، المختار: إنه إن أراد الشتم لا يكفر، وإن اعتقد دينه كفراً كفر؛ لان اعتقاد دين الاسلام كفراً كفر كذا في ((الذخيرة)). ينظر: ((العمدة))(2: 309).
(9) قوله: يا كافر؛ وهل يكفرُ بإطلاقِ الكفرِ على المسلم، المختار إنّه إن أرادَ الشتم لا يكفر، وإن اعتقد دينه كفراً كفر؛ لأنّ اعتقادَ دينِ الإسلامِ كفراً كفر. كذا في ((الذخيرة))، وفي إطلاقه إشارةٌ إلى أنّه يستحقّ التعزيرَ بمجرّد هذا اللفظ، وقيل: لا يعزّر ما لم يقل: كافرٌ بالله؛ لاحتمالِ أن يريدَ به الكافر بالطاغوت أو الكافرِ من كفران النعمة، ولا يخفي أن قرينة حالِ السبّ والغضبِ تقطعُ هذا الاحتمال.
(5/503)
________________________________________
]، يا خبيث[(1)]، يا سارق، يا فاجر، يا مخنَّث[(2)]، يا خائن[(3)]، يا لوطي[(4)](5)، يا زنديق[(6)]، يا لصّ[(7)
__________
(1) قوله: يا خبيث؛ من الخباثة، هو ضدّ الطيب، وكثيراً ما يطلقُ على المؤذي والشرير والمنافق.
(2) قوله: يا مخنّث؛ اسم مفعول من التخنيث، يقال: خنّثه فتخنّث، أي عطفه فتعطّف، وهو من خلقته خلقةُ النساءِ في حركاتِه وسكناتِه وكلامِه، فإن كان ذلك خلقياً فليس بمذموم وإن كان يتكلّف فهو الذي يعدّ شتماً، وجاء كسر النون أيضاً على صيغة اسم الفاعل، وقيل: هو مرادفٌ لمن يرتكب اللواطة.
(3) قوله: يا خائن؛ هو الذي يخون فيما يده من الأمانات.
(4) قوله: يا لوطي؛ قيل يسأل عنه، فإن أراد إنّه من قومِ لوطٍ على نبيّنا وعليه السلام لا يعزّر، وإن أراد أنّه يعملُ عملهم من الإتيانِ في الدّبر فاعلاً أو مفعولاً عزّر عنده، وعندهما: حدّ كما يحدّ مرتكبُ هذا الفعل عندهما، والصحيحُ تعزيره، ولو في غضبٍ أو هزل. كذا في ((الفتح)).
(5) في ق: بالوطئ.
(6) قوله: يا زنديق؛ بكسر الزاي المعجمة وكسرِ الدال المهملة، بينما نون ساكنة، وبعدهما ياء مثناة تحتيّة ساكنة، ثم قاف، فارسيّ معرّب أصله: زنده أو زندي، والراجحُ هو الأوّل، وهو نسبة إلى زند، وهو اسمُ كتابٍ أظهره مزدك، رئيس الفرقة المزدكيّة، من الكفّار الثنويّة القائلين بتعدّد الآله في زمنِ كسرى قباد فنسب إليه أصحابه، وقد قتله كسرى نوشيروان وما نقله المطرزيّ في ((المغرب)): إنّ أصله زنده؛ أي يقول بدوام الدهر، فمبنيّ على عدم الفرق بين الدهري وبين الزنديق، كذا حقّقه أحمد بن سليمن الروميّ الشهير بابن كمال باشا، مؤلّف ((الايضاح والاصلاح)) في رسالة ألّفها في تحقيقِ معنى الزنديق، ولمّا كان دين الزنادقة خارجاً عن الأديان السماويّة كلّها، سمّى العربُ كلّ مَن خرجَ عن الأديان السماويّة زنديقاً، ويعبّر عنه بالفارسيّة: بي دين.
(7) قوله: يا لص؛ بكسر اللام، وتشديد الصاد المهملة، وجاء فتح اللام أيضاً السارق بين السارقية.
(5/504)
________________________________________
]، يا ديُّوث[(1)]، يا قَرطبان(2)[(3)]، يا شاربُ الخمر، يا آكل الرِّبا، يا ابنَ القَحبة[(4)]، يا ابنَ الفاجرة، أنت[(5)] تأوي اللُّصوص[(6)]، أنت تأوي الزَّواني، يا مَن يلعبُ بالصِّبيان[(7)]، يا حرامٌ زاده، لا بيا حمار، يا
__________
(1) قوله: يا ديوث؛ بفتح الدال المهملة، وتشديد الياء المثنّاة التحتيّة المضمونة، ثمّ واو ساكنة، ثمّ تاء مثلّثة، قال الزيلعيّ: هو الذي يرى مع امرأتِه أو محرمه رجلاً فيدعه خالياً بها، وقيل: هو المتسبّب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح، وقيل: هو الذي يبعثُ امرأته مع غلامٍ بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة، أو يأذن لهما بالدخولِ عليها في غيبته.
(2) الدّيُّوث والقرطبان: هو الذي يرى مع امرأته أو مع محرمه رجلاً أجنبياً فيدعه خالياً بها. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق143/أ).
(3) قوله: يا قرطبان؛ بفتح القاف، وفتح الطاء المهملة، بينهما راء مهملة ساكنة، معرّب: قلتبان، قيل: هو والديوث مترادفان، وقيل: الديوث مَن لا غيرة له ممن يدخل على امرأته، والقرطبان هو الذي يعرف مَن يزني بامرأته ويسكت، وقيل: هو الذي يدخلُ الرجل على امرأته ليصيب منه مالاً.
(4) قوله: يا ابن القحبة؛ أشار به إلى أنّه إذا شتم أصله عزّر بطلب الولد، كيا ابن الفاسق، يا ابن الكافر ونحو ذلك، وعلم منه أنّه لو قال لامرأة: يا قحبة عزّر بالطريق الأولى.
(5) قوله: أنت، تغيير العنوان في هذين اللفظين مجرّد تفنّن، وإلا فالحكم لا يختلف في جميع الألفاظ الشتمية في أنه أبرزها بصورة الندا أو بصورة الخبر، سواء كان على طريقة الخطاب كأنت كذا أو على طريقة الغيبوبة كفلان كذا، أو هو كذا.
(6) قوله: تأوى اللصوص؛ وفي بعض الكتب مأوى اللصوص، ومأوى الزواني، وهو الذي تجتمع عنده السارقون والزناة ويختلطون معه اختلاط الأحباب.
(7) قوله: يا مَن يلعب بالصبيان؛ أي مع الأطفال، وهو يطلق عرفاً على من يأتي بالأطفال الفعل القبيح.
(5/505)
________________________________________
خِنْزير[(1)]، يا كلب، يا تيس[(2)]، يا قرد[(3)]، يا حجَّام، يا ابنُهُ وأبوه[(4)] ليس كذلك(5)، يا مؤاجِر، يا بغَّا، يا ناكَس، يا ضُحْكَة، يا سُخْرة.
ومَن[(6)] حدَّ أو عزِّر فماتَ هُدِرَ دَمُه.
ولو عَزَّرَ[(7)] زوجٌ عرسَه لا[(8)])(9).
__________
(1) قوله: يا خنْزير؛ بكسر الخاء المعجمة، وكسر الزاي المعجمة، بينهما نون ساكنة، ثمّ ياء مثنّاة تحتيّة ساكنة، ثم راءٌ مهملة، بالفارسية: خوك.
(2) قوله: يا تيس؛ بفتح التاء المثناة الفوقيّة، وسكون الياء المثناة التحتيّة، آخره سينٌ مهملة، بالفارسية: بزد شتى، وهو معروفٌ بكثرةِ النزولِ على الأنثى، يقال في المثل: هو أغلم من تيس.
(3) قوله: يا قرد؛ بكسر القاف، وفتح الراء المهملة، آخره دال مهملة، بالفارسية: بوزينه.
(4) قوله: وأبوه؛ الواو حاليّة، يعني قال لرجل: يا ابن الحجّام، والحال: إنّ أباه ليس كذلك.
(5) في ج و ف و ق: كذا.
(6) قوله: ومَن حدّ؛ بصيغة المجهول؛ أي مَن حدّه الإمام أو عزَّره فماتَ فدمُه هدرٌ لا يجب به شيءٌ لا على الإمام، ولا على الجلاّد، والمعزّر بأمره.
(7) قوله: ولو عزّر؛ قالوا: يعزّر المولى أمته، والزوجُ زوجته على تركِها الزينة الشرعيّة، وتركها غسل الجنابة، وعلى الخروج من المنْزل، وعلى تركِ الإجابة إلى الفراش، وعلى تركِ الصلاة، كما في ((المجتبي)) وغيره.
(8) قوله: لا؛ أي لا يكون دمها هدراً بل تجب دتيها على الزوج؛ لأنّ تأديبه مباح، فيتقيّد بوصف السلامة. كذا في ((منح الغفّار)).
(9) أي عزّر زوجه لترك الزينة أو لترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه أو ترك الصلاة أو ترك الغسل من الجنابة، أو للخروج من البيت فماتت فإن دمها لا يكون هدر، وتجب عليه الدية. ينظر: ((شرح ملا مسكين))(ص160).
(5/506)
________________________________________
قيل: القَحبةُ مَن يكونُ [لها](1) همَّة(2) الزِّنا، فلا يحدّ[(3)].
أقول[(4)]: القَحبةُ[(5)
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ و س و ص و ف: همته، وفي ب: همه.
(3) قوله: فلا يحدّ؛ لأنّ قصد الزنى أمرٌ غير فعل الزنى، فلا يكون إطلاق القحبة قذفاً بالزنى، فلا يحدّ.
(4) قوله: أقول... الخ؛ إيرادٌ على ما ذكروه من عدمِ الحدّ بالشتمِ بالقحبة، وبابن القحبة، بأنّ القحبةَ أفحشُ من الزانيةِ عرفاً، فإنّ الزانيةَ قد تركتب الزنى سرّاً، ولا يطلق لفظُ القحبةُ عليها، وإنّما يطلقُ على مَن ترتكبه جهراً وعلانيةً أو تأخذُ عليه أجرة، ولذا ذكرَ في ((الظهيريّة)) و((جامع المضمرات)) وغيرها وجوب الحدّ بشتمِ القحبة، واستظهره الغزيّ مؤلّف ((تنوير الأبصار)) في شرحه ((منح الغفّار))، وذلك لأنّ القحبةَ صار حقيقةً عرفيّة بمعنى الزانية، فهو قذفٌ بصريحِ الزنى، وأجيب عنه بأنّ القحبةَ لمّا كانت تجاهرُ بالزنى بالأجرةِ سقط الحدّ عنها عند الإمام؛ لوجود شبهة العقد، قال في ((فتح القدير)): ومن شبهةِ العقد ما إذا استأجرها ليزني بها، ففعل لا حدّ عليه، ويعزّر، وقالا: هما والشافعي ومالك وأحمد يحدّ؛ لأنّ عقدَ الإجارة لا يستباحُ به البضع، فصارَ كما لو استأجرها للطبخِ ونحوه من الأعمالِ ثمّ زنى بها، فإنّه يحدّ اتّفاقا، وله: إنّ المستوفى بالزنى المنفعة، وهي المعقودُ عليه بالإجارة، لكنّه في حكمِ العين، فبالنظرِ إلى الحقيقةِ محلّ عقد الإجارة فأورثَ شبهةً بخلافِ الاستئجار للطبخ ونحوه؛ لأنّ العقدَ لم يضف إلى المستوفى بالوطئ، والعقدُ المضافُ إلى محلّ يورثُ الشبهة فيه لا في محلٍّ آخر. انتهى. ولمّا سقطَ الحدّ عن القحبة بفعلها سقطَ الحدّ عمّن يشتمُ بهذا اللّفظ؛ لأنّ النسبةَ بفعلٍ لا يوجبُ الحدّ لا يوجبُ حدّ القذف، وفي هذا الجواب نظر، فإنّ القحبةَ لا تلتزمُ عقد الإجارةِ التي يسقط به الحدّ عند الإمام.
(5) قوله: القحبة؛ هو مأخوذٌ من القحاب، وهو السفال، وكانت الزانيةُ في العربِ إذا مرَّ بها رجلٌ سفلت يقضي منها حاجته، فسميّت الزانيةُ لهذا قحبة.
(5/507)
________________________________________
] في العرفِ أفحشُ من الزَّانية، [لأن الزَّانية](1) قد تفعلُ(2) [سرَّاً وتأنف منه، والقَحبة مَن تجاهرُ به بالأجرة.
والفاجرة[(3)] تكون بكلِّ](4) معصيَّةٍ فلا حدّ به.
ولفظ؛ حرامٌ زاده؛ معناهُ المتولِّدُ من الوطءِ الحرام، وهو أعمُّ من الزِّنا[(5)] كالواطءِ حالةَ الحيض، لكن في العرفِ[(6)] لا يرادُ ذلك، بل يرادُ وَلَدُ الزِّنا، وكثيراً ما يرادُ [به](7) بالجُرْبُزَ[(8)] الخِبّ(9)، فلهذا لا يجبُ الحدّ.
والمُؤاجِرُ: يستعملُ فيمَن يؤاجِرُ أهلَه للزِّنا، لكن معناهُ الحقيقي[(10)] المتعارف، لا يؤذن بالزِّنا، يقال: أجَّرتُ الأجيرَ مؤاجرة، إذا جعلَتْ[(11)] له على فعلِهِ أجرة.
__________
(1) سقطت من ص و م.
(2) في ص: يفعل.
(3) قوله: والفاجرة؛ بيانٌ لعدمِ وجوبِ الحدّ بالشتمِ بالفاجرة وابن الفاجرة، وحاصله: إنّ الفاجرةَ تكون بكلّ معصية، فإنّ الفجورَ بمعنى الفسق، ولا يختصّ هو بالزنى، فلا يكون الشتمُ به قذفاً بالزنى.
(4) سقطت من م.
(5) قوله: وهو أعمّ من الزنا؛ فإنّ الزنا أخصّ من الوطئ الحرام، فإنّ وطئ الزوجةِ حالةَ الحيض والنفاس حرّم وليس بزنى، فلا يكون هذا القول قذفاً بالزنى فلا يحدّ به.
(6) قوله: لكن في العرف؛ أشار به إلى أنّه ينبغي أن يحدّ بالشتمِ بهذا اللفظ؛ لأنّهم يستعملونه في ولدِ الزنى، لكن لمّا كان كثيراً ما يطلقون هذا اللفظ ويريدون به الخدّاع اللئيم، فلذا لا يحدّ به.
(7) سقطت من ص و م.
(8) قوله: الجربز؛ بضم الجيم، وسكون الراء المهملة، وضم الباء الموحّدة، آخره زاي معجمة، هو الخبّ: وهو بكسر الخاء المعجمة، وتشديد الباء الموحدة: الخدّاع اللئيم.
(9) الجُرْبُز الخِبّ: الخداع اللئيم. ينظر: ((العمدة))(2: 311).
(10) قوله: لكنّ معناه الحقيقي؛ بيانٌ لعدمِ وجوب الحدّ بقوله: يا مؤاجر.
(11) قوله: إذا جعلت؛ بصيغة الخطاب، وهو متعلّق بقوله: يقال، وقوله: آجرت بصيغة المتكلم.
(5/508)
________________________________________
ولفظ بَغَّا[(1)]: من شتمِ العوام[(2)]، يتفهوَّهون به، ولا يعرفونُ ما يقولون.
والضُّحْكَةُ[(3)] بوزنِ الصُّفْرةِ: مَن يَضْحَكُ عليه النَّاس، وبوزنِ الهَمْزة: مَن يَضْحَكُ على النَّاس، وكذا السُّخْرَةُ[(4)] ونحوه.
واعلم أنّ الألفاظَ الدَّالةَ على القبائحِ لا تعدُّ ولا تحصى، فالواجب أن يُذْكَرَ لها ضابطٌ[(5)](6) يعرفُ به[(7)] أحكامُ جميعها.
__________
(1) قوله: بغا؛ بفتح الباء الموحدة، وتشديد الغين المعجمة، ومثله: باغا، وكأنه انتزعَ من البغاء. كذا في ((المغرب)).
(2) قوله: من شتم العوامّ؛ قيل هو بمعنى المابون؛ أي من به علّة الابنة، وهو الذي لا يقدرُ على ترك أن يؤتى في دبره لدودة ونحوها. كذا في ((المغرب))، قال في ((البحر)): وينبغي أن يجبَ التعزيرَ فيه اتّفاقاً؛ لأنّه ألحق الشينَ به لعدمِ ظهور الكذب فيه، وصرّح في ((الظهيرية)) لوجوبِ التعزيرِ في: يا معفوج، وهو المأتي في الدبر، وفي ((النهر)): إنّه يعزّر في عرفنا في: يا مؤاجر، وفي: ولد الحرام، وفي: بغا.
(3) قوله: والضحكة بضم الضاد المعجمة، وسكون الحاء المهملة.
(4) قوله: السخرة؛ بضمّ السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة.
(5) قوله: ضابطة؛ أي قاعدة كليّة ينضبط بها أحكامُ الجزئيّات، ومثل هذه الضابطة يسمّى قانوناً وقاعدة.
(6) في أ: ضابطة.
(7) قوله: يعرف به؛ الضمير راجعٌ إلى الضابطة، وتذكيره باعتبارِ المذكور، وفي بعضِ النسخ: ضابط، فلا حاجةَ إلى التأويل.
(5/509)
________________________________________
فأقول: قد عرفت أن نسبةَ المحصنِ[(1)] إلى الزِّنا توجبُ حدَّ القذف، فنسبةُ غيرِ المحصنِ[(2)] كالعبد والكافر إليه لا توجبُ الحدَّ؛ لإنحطاطِ درجتِهما، بل توجِبُ التَّعزير[(3)]؛ لإشاعةِ الفاحشة.
ونسبةُ المحصنِ إلى غيرِ الزِّنا لا توجبُ حدَّ القذف، فهل توجبُ التَّعزيرُ أم لا؟
__________
(1) قوله: نسبة المحصن؛ إضافةُ النسبةِ إلى المحصن نسبةٌ إلى المفعول.
(2) قوله: فنسبةُ غير المحصن؛ أشارَ به إلى أنَّ ذكرَ المملوك والكافر في المتنِ اتّفاقيّ، فإنّ الحكمَ في كلّ غيرِ محصنٍ كالمملوك والكافر والمجنون والصبيّ وغير العفيف عن الزنى كذلك.
(3) قوله: بل توجب التعزير؛ ويبلغُ به غاية؛ أي تسعة وثلاثين سوطاً، كما لو أصابَ من أجنبيّة كلّ محرم غير جماع، أو أخذَ السارق بعد جمعهِ للمتاعِ قبل إخراجه، وفيما عدا هذه المواضعِ الثلاثة لا يبلغُ غاية التعزير. كذا في ((البحر))، وذكر في ((الدرر)): قيل تاركُ الصلاة يعزرُ ويضربُ حتى يسيلَ منه الدم، وفي ((الخانية)): من وطئ غلاماً يشدّ أشدّ التعزير.
(5/510)
________________________________________
فإن نسبَه إلى: فعلٍ اختياري[(1)] يحرمُ في الشَّرع[(2)]، ويعدّ[(3)]ُ عاراً في العرف، يجبُ التَّعزير[(4)]، وإلاَّ[(5)] لا إلاَّ أن يكونَ
__________
(1) قوله: إلى فعلٍّ اختياري؛ أي فعل صادرٍ عنه باختياره، كقوله: أنت خائن، وهو الذي يخونُ في ما يده من الأمانات، وأنت مباحيّ، وهو مَن يعتقدُ أنّ الأفعال كلّها مباحة، وأنت عواني: وهو الساعي إلى الحكّام بالناسِ ظلماً، وأنت منافق، وهو قسمان: منافق اعتقاديّ، وهو مَن يظهرُ الإيمانَ بلسانِه ويسرّ الكفرَ بقلبه، ومنافقٌ عمليّ، وهو مَن يعملُ عملَ أهل النفاقِ كتركِ جماعة الصلوات والفجور والمشاتمة عند المابحثة، وخلف الوعد، واعتياد الكذب، ونحو ذلك على ما وردتْ به الأخبار، وأنت رافضيّ وأنت خارجيّ وأنت مبتدع وأنت وهَّابي؛ أي منسوبٌ إلى محمّد بن عبد الوهَّاب النجديّ صاحب الفتاوى الزائغةّ، وأنت يهوديّ، وأنت نصرانيّ، وأنت كافر، وأنت ساحر، وأنت مقامر، وأنت مابون إلى غير ذلك ممّا بسطه شرّاح ((الهداية)) وأصحاب الفتاوي وغيرهم.
(2) قوله: يحرم؛ في الشرعِ المرادُ بالحرمةِ أعمّ من الحرمةِ الاصطلاحيّة، وهي أن يثبتَ كونه ممنوعاً بدليلٍ قطعّ، بحيث يكون منكره كافراً، فيشملُ المكروه وغيره.
(3) قوله: ويعدّ؛ بصيغة المجهول، من العدّ؛ أي يكون ذلك الفعلُ بحيث يعدّه أهل العرفِ عاراً، ويطعنون على مرتكبه.
(4) قوله: يجب التعزير؛ بشرط أن لا يكون ذلك الرجلُ موصوفاً بتلك الصفة، ومشتهراً بها، فمَن اشتهر بالفسقِ لا يعزّر مَن يقول له: يا فاسق، وقسْ عليه جميع الأمثلة، والوجه في ذلك أنّ التعزيرَ إنّما يجبُ حقّاً له؛ لكونِ الشاتمِ ألحق به شيناً وعاراً، وهو مفقودٌ في صورةِ اشتهارِه بذلك الوصف.
(5) قوله: وإلا؛ أي وإن لم توجد الأمور الثلاثة؛ أي كون الفعلِ اختياريّاً، وكونه ممنوعاً شرعاً، وكونه ممّا يعدّ عاراً، وهذا أعمّ مَن لا يوجد فيه واحد من الأمورِ الثلاثة، وممّا يوجدُ فيه بعض دون بعض.
(5/511)
________________________________________
تحقيراً للأشراف[(1)](2).
وإنِّما قلنا: إلى فعلٍ اختياري؛ احترازاً عن الأمورِ الخِلْقيَّة[(3)]، فلا تعزيرَ في: يا حمار[(4)]؛ لأنَّ معناهُ الحقيقي غيرُ مراد، بل معناهُ المجازي، كالبليد[(5)]ِ مثلاً، وهو أمرٌ خِلْقي، وكذا: القردُ: يرادُ به قبيحُ الصُّورة، والكلبُ: يرادُ به سيءُ الخلق، إلاَّ أنَّ يقالَ لإنسانٍ شريفٍ النَّفسِ كعالم، أو علويّ[(6)]، أو رجلٍ صالح، فإنِّهم أهلُ الإكرام[(7)]، فيعزَّرُ بإهانتهم[(8)
__________
(1) قوله: للأشراف؛ المرادُ بالشريفِ مَن كان كريمَ النفس، حسن الطبع، فيدخلُ فيه مَن له شرافةُ النسب، كالساداتِ والعلويّة، ومَن له شرافةُ العلمِ كالفقهاء، ومَن ليس له أحد الشرفين المذكورين إلا أنّه حسنُ الطبعِ كريم الأخلاق.
(2) في م: الاشراف.
(3) قوله: الخلقية؛ بكسر الخاء المعجمة، نسبة إلى الخلقة؛ أي الأمورُ التي تكون في خلقةِ الإنسانِ بإذن خالقه، وليس لاكتسابه فيها دخل.
(4) قوله: في يا حمار؛ وكذا في نحو: يا ثور، يا بقر، يا حيّة ونحو ذلك؛ لظهور كذبه، والأصل أنّ كلّ سبّ عاد شينه إلى السابّ؛ فإنّه لا يعزّر، فإن عادَ الشين فيه إلى المسبوبِ عزّر. كذا في ((البحر))، وبه يعلم: إنّه لو أرادَ بقوله: يا حمار ونحوه معناهُ الحقيقيّ لم يعزّر أيضاً؛ لظهورِ كذبه، فيعود شينه إليه لا إلى المسبوب.
(5) قوله: كالبليد؛ فعيل من البلادة، بمعنى الحمق وقلّة الفطنة.
(6) قوله: كعالم أو علوي؛ بفتحين أي مَن هو من أولاد سيّدنا عليّ رض؛ أي من فاطمةِ رض، وهو المعروفُ بالسيّد في عرفنا، أو من غيرها من أزواجه، وقيل: هذا اللفظُ خاصّ بمَن هو من أولاده من غيرها.
(7) قوله: أهل الأكرام؛ أي مستحقّون له، فإنّا إمرنا بأن ننْزلَ الناسَ على منازلهم، ونعظّم أهل الشرافة العلميّة أو النسبيّة.
(8) قوله: بإهانتم؛ يشير به إلى أنّه لا كفرَ في إهانةِ العلماءِ وغيرهم من أهل الإكرام، وذكر في بعضِ الفتاوى أنّ إهانةَ العلماءِ كفر، ومحمله ما إذا أهانه من حيث علمه.
(5/512)
________________________________________
](1) بخلاف الأرذال[(2)] إذ يتفوَّهون بأمثالِ هذه الكلماتِ كثيراً، ولا يبالون من أن يقالَ لهم.
__________
(1) العبارة في م: فاهانتهم توجبه.
(2) قوله: بخلاف الأرذال؛ بفتح الهمزة، جمع رذيل، وهو مَن ليست له شرافةٌ بوجهٍ من الوجوه، وهذا التفصيل؛ أي التعزيرُ بإطلاقِ هذه الألفاظِ الدالّة على المعائبِ الخلقيّة إذا كان المسبوب من الأشراف، وعدم التعزير إذا كان من غيرهم، هو الذي اختاره في ((الهداية)) و((الكافي)) وغيرهما، وظاهر الرواية هو عدم التعزير بهذه الألفاظِ مطلقاً، ومختارُ بعض المشايخِ هو التعزيرُ مطلقاً بها، وأيّده بعضهم بما تقرَّر في مقرّه إن كلّ مَن ارتكبَ منكراً أو آذى مسلماً بغيرِ حقّ بقولٍ أو فعلٍ أو إشارةٍ يلزمه التعزيز، وأنتَ تعلمُ ما فيه، فإنّ الأراذلَ والسوقيّة الخالين عن شرافةِ الحسبِ والنسب والعلم والعمل لا يتأذّون بمثلِ هذه الكلمات، فكيف يجب التعزيزُ بإطلاقِ هذه الكلمات في حقّهم.
(5/513)
________________________________________
وإنِّما قلنا: يحرمُ في الشَّرع؛ احترازاً عن أفعال اختياريَّةٍ لا تحرمُ في الشَّرعِ مع أنَّه يعدُّ عاراً في العرف(1)، كالحجَّام[(2)] ونحوه[(3)]، يرادُ به دنيءُ الهِمَّة(4)، وكذلك بالفارسيَّة يا ناكَس: إن قيلَ للأشراف عزِّر[(5)]، ولغيرهم لا، ألاَّ ترى أن السُّوقيَّة[(6)]، لا يبالونَ بأفعالٍ فيها الخسَّةُ والدَّناءة.
__________
(1) في أ: الغرف.
(2) قوله: كالحجّام؛ فإنّ الحجامةَ ليست كسباً ممنوعاً، فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجمَ وأعطى الحجّام أجره، كما وردَ في الصحاحِ والسنن، ولو كان ممنوعاً لم يفعلْ ذلك.
(3) قوله: ونحوه؛ كالحائكِ في عرفنا، مع أنّ الحياكة ليست من الأكساب الخبيثة شرعاً، وكثيراً ما يريدون به الحماقةَ وسخافة الفهم، حتى قيل: الحائك إذا صلّى ركعتين انتظرَ الوحي.
(4) العبارة في م: دنيء في الهمة.
(5) قوله: عزّر؛ للحوقِ الشين بهم بمثل هذا اللفظ.
(6) قوله: أنّ السوقية؛ بضم السين المهملة؛ أي مَن يسكنون في السّوق أو يحضرون فيه كثيراً.
(5/514)
________________________________________
وإنِّما قلنا: يعدُّ عاراً في العرف؛ احترازاً[(1)] عن أفعالِ اختياريَّةٍ تحرمُ شرعاً، ولا يعدّ(2) عاراً في العرف، كلعبِ النَّردّ(3)[(4)]، والغناء(5)
__________
(1) قوله: احترازاً... الخ؛ فإنّ هذه الأفعال لمّا لم تكن موجبةً للعارِ عرفاً وإن كانت ممنوعةً شرعاً لا يلحقُ بالسبّ بها ؟؟؟؟ للمسبوب، فلا يعزّر السابّ بها.
(2) في م: تعد.
(3) النرد: فص أو فصوص من نحو عظم أو خشب فيها نقط تطرح على لوح فيه بيوت لكل نقطة بيت يعرف بها كيفية اللعب. ينظر: ((الفتاوى الفقهية الكبرى))(4: 352).
(4) قوله: كلعب النرد؛ فقد وردَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((مَن لعبَ بنردٍ أو نردشير فقد عصى الله ورسوله))، أخرجه أبو داود وابن حبّان وغيرهما، وفي رواية لأبي داود ومسلم وابن ماجه: ((مَن لعبَ بالنردِ وكأنّما غمسَ يده في لحمِ خنْزيرٍ ودمه))، وفي رواية أحمد وأبي يعلى والبيهقيّ: ((مثلُ الذي يلعب بالنرد ثمّ يقول يصلّي مثل الذي يتوضّأ بالقيحِ ودمِ الخنْزير))، وفي الباب أخبارٌ أخرُ أيضاً بسطها الحافظ عبد العظيم المنذريّ في كتاب ((الترغيب والترهيب))، وابن حجر المكيّ الهيتميّ في كتابه ((الزواجر عن اقترافِ الكبائر))، ومثله: اللعب بالشطرنج على رأي أكثرِ العلماء القائلين بحرمته، ومنهم أصحابنا الحنفيّة خلافاً للشافعيّة فإنّهم قائلون بحلّه إلا إذا اقترنَ به قمار أو إخراج صلاة عن وقتها أو سباب أو نحوها كما فصّله الدميريّ في ((حياة الحيوان)) عنه ذكر العقرب، وليطلب من هناك تفصيل واضعِ النرد والشطرنج وكيفيّتهما وسنذكر نبذاً من كيفيّتهما عن قريب إن شاء الله تعالى.
(5) قال اللكنوي في ((عمدة الرعاية))(2: 313): والحق انه لا وجه لحرمة الغناء مطلقاً بل هو حرام اذا اقترن به غيره من الحرمات كالآلات اللهو من الطبل وغيرها مما يضرب عند الغناء إلا الدف، فان المعازف أي المزامير كلها حرام إلا الدف، بذلك وردت الاخبار، ولا عبرة لقول من حرم الدف أيضاً، أو مطلق الغناء، وكذا لا عبرة لقول من أباح جميع المزامير كائناً مَن كان فانه لا قول لأحد بعد ورود الأحاديث الصحيحة الدالة على حرمة جميع المزامير إلا الدف. اهـ. وللعلامة عبد الغني النابلسي رسالة في المسألة مسمَّاة بـ((إيضاح الدلالات في سماع الآلات))، لطيفة في بابها.
(5/515)
________________________________________
[(1)]، وأعمالِ الدِّيوان في زماننا(2)[(3)].
__________
(1) قوله: والغناء؛ بكسر الغين المعجمة وبالمد، بالفارسية: سرود، وهو عطفٌ على قوله: لعب النرد، وهو مشير إلى حرمةِ مطلقِ الغناء، وبه صرّح بعضُ مشايخنا، وقد اختلفَ في هذه المسألة اختلافاً فاحشاً، فمن مشدّد ومن تساهل، والحقّ أنّه لا وجهَ لحرمةِ الغناء مطلقاً، بل هو حرامٌ إذا اقترنَ به غيره من الحرّمات كالآلات اللهو من الطبلِ والكوبةِ والبربط وغيرها ممّا يضربُ عند الغناء إلا الدفّ، فإنّ المعازفَ أي المزامير كلّها حرام، إلا الدفّ، بذلك وردت الأخبار، ولا عبرةَ لقولِ مَن حرّم الدفَّ أيضاً أو مطلق الغناء، وكذا لا عبرةَ لقولِ من أباحَ جميعَ المزاميرِ كائناً مَن كان، فإنّه لا قولَ لأحدٍ بعد ورود الأحاديثِ الصحيحة الدالّة على حرمة جميعِ المزاميرِ إلا الدفّ، وللتفصيلِ موضعٌ آخر.
(2) لأن هذه الاعمال في أزماننا لا تخلو عن ظلم وإتلاف حقوق وإفساد ونحو ذلك من الأمور المحرمة شرعاً بخلاف الأزمنة السابقة فان تلك الاعمال كانت فيها صالحة. ينظر: ((العمدة))(2: 313).
(3) قوله: في زماننا؛ قيّد به لأنّ هذه الأعمالَ في زماننا لا تخلو عن ظلمٍ وإتلاف حقوق، وإفساد ونحو ذلك من الأمورِ المحرّمة شرعاً، بخلافِ الأزمنةِ السابقة، فإن تلك الأعمال كانت فيها صالحة.
(5/516)
________________________________________
ثُمَّ كيفيَّةُ التَّعزيرِ وكميَّتُهُ يفوَّضانِ[(1)] إلى رأي الإمامِ[(2)] فيراعى عِظَمَ[(3)] الجنايةِ وصغرَها، وحالَ القائلِ[(4)] والمقولِ فيه[(5)](6). [ والله أعلم](7).
__________
(1) قوله: يفوّضان... الخ؛ قال الزيلعيّ في ((شرح الكنْز)): ليس في التعزيرِ شيءٌ مقدّر، وإنّما هو مفوّض إلى رأي الإمام على ما تقتضي جنايتهم، فإنّ العقوبةَ فيه تختلفُ باختلافِ الجناية، فينبغي أن يبلغَ غايةَ التعزيرِ في الكبيرة، كما إذا أصابَ من الأجنبيّة كلّ محرّم سوى الجماع، أو جمعَ السارقُ المتاع في الدار ولم يخرجه، وكذا ينظرُ في أحوالهم، فإنّ من الناسِ من ينْزجرُ باليسير، ومنهم مَن لا ينزجرُ إلا بالكثير. انتهى. وذكرَ في ((النهاية)) و((الدرر)): إنّ التعزيرَ على أربع مراتب: تعزيرُ أشرفُ الأشراف وهم العلماء والعلويّة بالإعلام، بأن يقول القاضي له: بلغني أنّك تفعل كذا فينزجرُ به، وتعزيرُ الأشراف وهم نحو الدهَّاقين؛ أي رؤساء القرية والتجّار وأربابِ الأموال بالإعلام، والجرّ إلى بابِ القاضي والخصومة في ذلك، وتعزير الأوساطِ بالجرّ والحبس، وتعزيرُ الأخسّاء بهذا كلّه وبالضرب.
(2) قوله: رأي الإمام؛ أي السلطان والقاضي وغيرهما ممّن له حقّ التعزير.
(3) قوله: عظم؛ بكسر العين المهملة، وفتح الضاد المعجمة، ومثله الصغر: بكسر الصاد المهملة، وفتح الغين المعجمة.
(4) قوله: وحال القائل؛ من كونه شريفاً يتنبّه بأدنى التنبيه، أو خبيثاً شريراً، مصرّاً على قوله أو فعله أو غير مصرّ.
(5) قوله: والمقول فيه؛ أي حال الذي قيل فيه ذلك القول، بل هو شريفُ يغار ممّا قيل فيه، ولو كان خفيفاً، أو هو رذيل لا يبالي بما قيل أو يقال.
(6) أي إن كان القاذف ذا مروءة وعظ، وإن كان دون ذلك حبس، وإن كان شتاماً ضرب وحبس، وكذا المقذوف إذ كان من العلماء والسادات والأبرار يعزر بقذفهم كل واحد من الأشرار. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص190).
(7) زيادة من ف.
(5/517)
________________________________________
كتابُ السَّرقة(1)[(2)]
(ركنُها: الأخذُ خُفْية[(3)].
__________
(1) السرقة: هي أخذ مال الغير على سبيل الخفية والاستسرار ابتداءً وانتهاءً. ينظر: ((المحيط))(ص279).
(2) قوله: كتاب السرقة؛ هو لغة: بمعنى أخذ الشّيء من الغير خفية، وشرعاً: أخذ مال معتبر من حرزٍ أجنبيّ لا شبهة فيه خفية، وهو قاصدٌ للحفظ في نومه أو غيبته، وأخذُ الشّيء من الغير وهو حاضرٌ يقظان قاصد حفظه يسمّى طرا، وفاعله يقال: الطرار. كذا في ((كليّات أبي البقاء)) وغيره.
وذكر في ((القاموس)) وغيره: إنّ السّرقةَ مصدرٌ لسَرَقَ يَسْرِق، من باب ضَرَب، وهو بفتح السّين المهملة، وكسر الرّاء المهملة، وجاءَ بضمّ السّين، وسكون الرّاء، وجاء أيضاً سَرَق: بفتح السّين، وفتح الراء، وبفتح السّين وكسر الرّاء، وبفتح السّين وسكون الرّاء، والسّرقة: بفتح السين وسكون الرّاء، وبضمّ السّين مع سكون الراء، وبفتح السّين مع كسر الرّاء: اسم، وقد جرت عادةُ الفقهاء بذكر بحث السرقة بعنوان الكتاب، واعترضَ عليه بأنّ حدّ السّرقة كغيره من الحدود، فلمَ لم يدرجوه في كتاب الحدود؟ ولم لم يعنونوه بالباب، كما فعلوا في حدّ الزّنى وغيره.
وأجيب عنه: بأنّ بحث السّرقة لمّا كان متضمّناً للضمان أيضاً أفردوا له كتاباً، ثمّ السّرقة على نوعين: سرقةٌ صغرى؛ وهي المتبادرة عند إطلاقِ السّرقة.
وسرقة كبرى؛ وهي المسمّاة بقطعِ الطّريق، ويعتبرُ في كلِّ منهما أخذ المال خفية، لكن في الصّغرى عن عين المالك أو مَن يقوم مقامه كالمودع والمستعير، وفي الكبرى عن عين الإمام الملتزمِ حفظ حقوق المسلمين وبلادهم. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: خفية؛ بضم الخاء المعجمة، وكسرها، يعني: بقصد الاختفاء عن عين المسروق منه، فلو أخذه مغالبة أو نهباً فليس بسرقة.
(6/5)
________________________________________
ومحلها: مالٌ محرزٌ[(1)
__________
(1) قوله: مال محرز… الخ؛ خرج بقيد المال أخذ ما ليس بمال، فهو ليس بسرقة، والحرز بصيغة المفعول من الإحراز، أي المحفوظ الذي يقصدُ المالك حفظه عن الغير، واحترز به عن أخذ ما ليس بمحرز، واحترز بقيد المملوكِ عن أخذ ما ليس بمملوكٍ لأحد؛ كأخذِ أثمار أشجار الصّحاري، والقول الجامع في حدّ السّرقة التي يجب بها القطع هو ما ذكره الغزيّ في ((تنوير الأبصار)): إنّها أخذُ مكلّفٍ ناطقٍ بصيرٍ عشرةُ دراهم جياداً، ومقدارها: مقصودة ظاهرةُ الأخذ، خفية من صاحب يد صحيحة، ممّا لا يتسارع إليه الفساد في دار العدل من حرزٍ لا شبهةَ فيه ولا تأويل، واحترز بقيد المكلّف عن أخذ غير المكلّف كالصّبيّ والمجنون، فلا قطع عليهما، إذ مدار جميع التّكاليف على كونه مكلّفاً، وبقيد النّاطق عن الأخرس، فلا يقطع الأخرس؛ لاحتمال نطقه بشبهة، وبقيد البصير عن الأعمى، وإنّما لا يقطعُ لجهله بمال غيره.
وزاد في ((البحر)) هنا قيداً آخر وهو: كونه صاحب يدٍ يسرى ورجلٍ يمنى صحيحتين، وبقيد عشرة دراهم عن سرقة ما دونها، فلا قطعَ بسرقةِ ما دون النّصاب، وهو عندنا مقدارُ عشرة دراهم، وبقيد الجياد عن سرقة الزّيوف أو النّبهرجة أو الستوقة، فلا قطعَ فيها، وبقيد مقصودة عمّا لو سرقَ ثوباً قيمته دون عشرة، وفيه دينار أو دراهم مصرورة فلا قطع فيها، إلا إذا كان وعاء لها حادة، وبقيد: ظاهرة الإخراج عمّا لو ابتلع ديناراً في الحرز وخرج لم يقطع، وبقيد الخفية عن الأخذ إغارة ومغالبة، وبقيد كون المسروق منه صاحبَ يدٍ صحيحة عن السّرقة من السّارق، فإنّه لا قطع فيها، وبقوله: ممّا لا يتسارعُ إليه الفسادِ عن سرقة ما يفسدُ في زمانٍ قليل، فإنّه لا قطع فيها، وبقوله: في دار العدل، عن السّرقة في دار البغي أو دار الحرب، وبقوله: من حرز، عن السّرقة من غير حرز، وبقوله: لا شبهة فيه ولا تأويل، عن السّرقة مع شبهة أو تاويل.

هذا خلاصة ما ذكره صاحب ((البحر)) و((الفتح)) و((البدائع)) وغيرها. وزيد أيضاً قيد كون المال متقوّماً مطلقاً، أي عند أهل كلّ دين، فلا قطع بسرقة خمر مسلم.
(6/6)
________________________________________
] مملوك، وهو شرط[(1)])؛ فإنَّ[(2)] محلَّ الفعلِ شرطٌ للفعلِ لكونِه خارجاً عنه محتاجاً إليه.
(ونصابُها[(3)]: قدرُ عشرةِ دراهمَ[(4)
__________
(1) قوله: وهو شرط؛ أي كون المسروقِ مالاً محرزاً مملوكاً شرطٌ لفعل السّرقة حيث لا تحقّق السّرقة شرعاً إلا به.
(2) قوله: فإن… الخ؛ تعليل لكونه شرطاً، وظاهره أنّ نفس المحلّ شرط، أو يقال: كون المحل موصوفاً بتلك الصّفات شرطٌ كما أشرنا إليه.
وحاصله أنّ محلّ الفعل يكون خارجاً عن الفعل، ويكون الفعلُ محتاجاً إليه، فيكون شرطاً له.
فإن قلت: نفسُ كون الشّيء خارجاً محتاجاً إليه لا يكفي لكونه شرطاً؛ فإنّ هذا القدر يوجد في السّبب أيضاً.
قلت: السّببُ يكون مفضياً إلى الفعل، ذا تأثير في إيجاده في الجملة، والشّرطُ ما لا يكون مفضياً، ومن المعلوم أنّ محلّ الفعل لا يكون مفضياً إليه، فلا يكون إلا شرطاً، ولظهور هذا الأمر لم يذكره الشّارح، فاندفعَ ما أورد عليه بأنّ تعليله يثبتُ أعمّ من المدّعى.
(3) قوله: ونصابها؛ أي المقدار الذي يجبُ القطعُ فيه، وفي ما فوقه، ولا يجب فيما دونه.
(4) قوله: قدر عشرة دراهم؛ أشار به إلى أنّ المعتبر من الفضّة هو عشرة دراهم، ومن غيرها مقدارها، والأصلُ فيه حديث: ((لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم))، أخرجه عبد الرزّاق في ((مصنّفه)) عن ابن مسعودٍ مرفوعاً.
ومثله روى الطّبرانيّ وأحمد في ((مسنده))، واسحق بن راهويه، وابن أبي شيبة وغيرهم، وأخرج الطّحاويّ في ((شرح معاني الآثار)) عن ابن عبّاس، وعبد الله بن عمرو بن العاص: كان قيمة المجنّ الذي قطع فيه رسولُ الله عشرةُ دراهم.
وأخرج عن أيمن قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أدنى ما يقطع فيه السّارق ثمن المجن))، قال: وكان يقوم يومئذٍ بدينار.

وأخرج عن أمّ أيمن قالت: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا تقطعُ يد السّارق إلا في جحفة، وقوّمت على عهد رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم ديناراً أو عشرة دراهم.
ومثله أخرجه النّسائي وأبو داود والحاكم عن ابن عباس، وأخرج النسائيّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان ثمنُ المجنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشرةُ دراهم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن رجلٍ من مزنية مرفوعاً: ما بلغَ ثمنُ المجنّ قطعت يدُ صاحبه، وكان ثمنُ المجنّ عشرة دراهم.
وفي الباب أخبار أخر أوردناها في ((التّعليق الممجّد على موطّأ محمّد)).
واعترض هنا لوجوه: الأول: إن أخبار التّقدير بعشرة دراهمٍ أسانيدها ضعيفة، فلا ينبغي أن يعتبرَ هنا.
وجوابه: إنّه ليست جميع أسانيد جميعِ هذه الأخبار ضعيفة، مع أنّ الضّعف ينجبرُ بكثرة الطّرق.
الثّاني: إنّ هذه أخبار آحاد، وتقييدُ مطلقُ الكتاب، يعني قوله تعالى: {الساّرق والسارقة فاقطعوا ايديهما} بها، خلافُ الأصول.
وجوابه: إنّ الآيةَ وإن كانت مطلقةً دالّةٌ على وجوب القطعِ في مطلق السّرقة، وبه قالت الظّاهريّة، إلا أنّه قد ثبتَ تقييدها بما تواترَ من الأحاديث، فإنّ الأحاديث الدّالة على أنّه لا يقطعُ في كلّ سرقة، بل له نصابٌ بلغت مبلغَ التّواتر، وإن كان خصوص الأحاديث الواردةِ في التّقديرِ بالعشرة أو بما دونها آحاداً .
بالجملة؛ ليس هاهنا تقييدُ القطع بالظنيّ، ونسخُ الإطلاق القرآنيّ بأخبار آحاد، بل تقييدُ القطع بالقطعيّ، فإنّ القدرَ المشتركَ من الأحاديثِ الدّالّة على التّقييدِ متواتر.
الثّالث: إنّ أخبار التّقدير بالعشرةِ معارضة بما هو أصحّ منها، فقد أخرج مالك والبخاريّ ومسلم وغيرهم، عن ابن عمر رضي الله عنه: ((إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع في ثمنِ مجنّ قيمتُهُ ثلاثةُ دراهم)).
وأخرج البخاريّ ومسلمُ أيضاً مرفوعاً: ((لا يقطع السّارق إلاّ في ربعِ دينار)).
وفي الباب أخبارٌ كثيرةٌ مخرّجة في السُّنن والمسانيد، وبها احتجّ الشّافعيّ رحمه الله، ومالك رحمه الله وغيرهما.
وجوابه: من وجهين: أحدهما: إنّ الأحاديثَ لمّا تعارضت في مقدارِ ما يقطعُ فيه السّارق، أخذنا بالأكثرِ المتيقّن، وتركنا الأقل الغير المتيقّن.
وثانيهما: إنّ أخبار التّقديرِ بالعشرة وإن كان أكثرها ضعيفاً أورثت شبهةً في وجوبِ القطعِ في أقلّ من عشرة، وقد ثبتَ درءُ الحدودِ بالشُّبهاتِ على ما مرّ فدرءنا الحدّ عمّن سرقَ أقلّ من العشرة، وأوجبناه على مَن سرقها أو ما فوقها، وبهذا ظهرَ لك دفعُ ما طعنَ به العوامّ على الحنفيّة من أنّهم تركوا في هذا البابِ العملَ بأحاديثِ الصّحيحيْن، وهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله، وأخذوا بأخبارٍ ضعيفة، فاحفظْ هذا فإنّه ينفعك في الدّينا وفي الآخرة.
(6/7)
________________________________________
][(1)] مضروبة[(2)]).
اعلم أن المالَ المذكورَ مقدَّرٌ بالنِّصاب، وهو مقدارُ عشرةِ دراهمَ مضروبةٍ من فضة(3).
وعند الشَّافِعِيِّ(4) - رضي الله عنه - ربعُ دينارِ ذهب.
وعند مالكٍ(5) - رضي الله عنه - ثلاثهِ دراهم.
(وحكمُها: القطع.
__________
(1) قوله: دراهم؛ والمعتبرُ في الدّراهم وزنُ سبعةِ مثاقيل على ما مرّ تحقيقُهُ في (كتاب الزّكاة)؛ لأنّه المتعارف في عامّة البلاد، واستقرّ عليه الأمر من عهد عمر رضي الله عنه. كذا في ((البناية)).
(2) قوله: مضروبة؛ هذا في ظاهرِ الرّواية، وفي روايةِ الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: المضروب وغيره سواء.
وجه الأوّل وهو الأصحّ كما في ((الهداية)) وغيرها: إنّ حديث النّصابِ وردَ بلفظِ الدّرهم، واسمُ الدّرهمِ يطلقُ على المضروبِ عرفاً، ويؤيّدُه أنّ شروطَ العقوباتِ تراعى على صفة الكمالِ رعايةً لكمالِ الجناية، فلو سرقَ عشرة تبراً قيمتها أنقصُ من عشرةٍ مضروبة، لا يجب القطع، ولهذا شرطوا في الدّراهم الجودةِ كما مرّ.
(3) 4.116غم الدرهم ×10= 21.16غم.
(4) ينظر: ((الأم))(6: 158)، و((المنهاج))(4: 158)، و((الغرر البهية))(5: 90)، وغيرها.
(5) ينظر: ((المدونة))(4: 534)، و((المنتقى شرح الموطأ))(7: 156)، و((الفواكه الدواني))(2: 214)، وغيرها.
(6/8)
________________________________________
فإن سرقَ مكلَّفٌ[(1)] حرٌّ أو عبدٌ[(2)] قدرَ النِّصاب محرزاً بلا شُبْهة)، احترازٌ عمَّا يكونُ في الحرز شبهة، كما إذا سرقَ من بيتِ ذي رحمٍ محرم[(3)]، (بمكانٍ[(4)]: كبيت، أو صندوق، أو بحافظ كجالسٍ في طريق أو مسجدٍ عندَهُ ماله(5)، وأقرَّ بها مرَّة[(6)])، هذا[(7)] عند أبي حنيفة ومحمَّد - رضي الله عنهم -، وعند أبي يوسفَ[(8)] - رضي الله عنه - لا بدَّ أن يقرَّ مرَّتين قياساً على الزِّنا[(9)
__________
(1) قوله: مكلّف؛ احترز به عن الصّبيّ والمجنون، فإنّ العقوبة لا تقامُ عليهما لعدمِ الجناية منهما.
(2) قوله: حر أوعبد؛ قال في ((الهداية)): العبد والحرّ في القطعِ سواء؛ لأنّ النّصّ لم يفصل، ولأنّ التّنصيف متعذّر فيتكامل؛ صيانةً لأموال النّاس.
(3) قوله: كما إذا سرق من بيت ذي رحمٍ محرم؛ سواء سرق مال ذي رحمٍ محرم، أو مال غيره من بيتِهِ فلا قطعِ فيه؛ لوجودِ الشّبهةِ الدّارئة للحدّ في الحرز، لوجودِ الإذنِ بالدّخول في بيتِهِ من ذي رحمٍ محرمٍ منه، لا سيّما إذا كانت بينهما قرابةُ الولاد.
(4) قوله: بمكان؛ تتعلّقُ بقولِه: محرزاً، قال في ((البحر)): الحرزُ على قسمين: حرزٌ بنفسِهِ وهو كلّ بقعةٍ معدّةٍ للإحرازِ ممنوعٌ عن الدّخول فيها إلا بإذنٍ كالدُّورِ والحوانيت والخيم والخزائن والصّناديق أو بغيره، وهو كلُّ مكانٍ غير معدٍّ للإحراز، فيه حافظ كالمساجد والطّرق والصّحراء.
(5) في ج و ق: مال. أي الجالس عند ماله في الطريق أو في المسجد.
(6) قوله: مرّة؛ متعلِّقٌ بقولِهِ: أقرّ؛ وحاصلُهُ إن الإقرار بالسرقة يكفي لإقامة الحدّ.
(7) قوله: هذا؛ إشارةٌ إلى قوله: وأقرّ بها مرّة.
(8) قوله: وعند أبي يوسف؛ هذا قولُهُ الأوّل، ويروي عنه أنّه يشترطُ كون الإقرارين في مجلسين مختلفين، وذكر بشر رجوعَ أبي يوسف إلى قولِهما. كذا في ((البناية)).
(9) قوله: قياساً على الزنا؛ فإنه يشترطُ فيه الإقرارُ أربع مرّات كما تشترط أربعة شهود.
(6/9)
________________________________________
]، فإنَّ كلَّ إقرارٍ بمثابةِ شاهدٍ واحد.
قلنا[(1)]: إنِّما يشترطُ الأربعةُ في الزِّنا بالنَّصِّ على خلافِ القياس، وفيما سواهُ بقيَ على الأصل، وهو أن المرءَ مؤاخذٌ(2) بإقرارِه.
(أو شهدَ رجلان[(3)]، وسألَهما الأمامُ كيف هي؟ وما هي؟ ومتى؟ وأين هي؟ وكم هي؟ وممَّن سرق؟ [فإن](4) بيَّناها قطع)(5).
__________
(1) قوله: قلنا… الخ؛ جوابٌ عن قولِ أبي يوسف رح من قبلِهما، وحاصله إن مقتضى القياس في الزنا أيضاً أن يعتبرَ الإقرارُ مرَّة واحدة، فاشتراطُ الأربع فيه بالنصّ الوارد فيه على خلاف القياس فلا يقاس عليه غيره.
(2) في س: وأخد، وفي م: مؤخذ.
(3) قوله: أو شهد رجلان؛ عطفٌ على قوله: وأقرَّ بها، وأشار بذكر الرجلين إلى أن لا يشترطُ فيه أن يشهدَ أربعةٌ وإنما ذلك في حدِّ الزنا فحسب، وفيما سواه من الحقوقِ يكتفي بشهادةِ اثنين. وإلى أنه لا تقبل في هذا الباب شهادة النساء على ما سيأتي ذكره إن شاء الله في (كتاب الشهادات)، وذكر في ((كافي الحاكم)) وغيرِه: إنّه لو شهدَ بالسرقة رجل وامرأتان لم تقبل ذلك للقطع، وتقبل في حقِّ المال، وكذا الشهادة على الشهادة.
(4) في أ و ب و ت و ج و س و ص و ف و ق: و.
(5) أي الشاهدان، أما المقرُّ فيسأل عن الكل إلا الزمان؛ لأن التقادم لا يمنع الإقرار. ينظر: ((الدر المنتقى))(1: 615).
(6/10)
________________________________________
سألَ[(1)](2) عمَّا هي؟ لأنَّه ربِّما[(3)] يتوَّهم أنَّه لا يحتاجُ إلى الخفية، كما في السِّرقة الكبرى[(4)]: أي قطعِ الطَّريق.
وعن كيف كانت هذه السَّرقة؟ ليعلمَ[(5)] أنَّه أخرجَ أو ناولَ مَن هو خارج.
وعن متى كانت؟ ليعلم أنَّها متقادمةٌ أم لا[(6)].
وعن أين كانت؟ أي في دارِ الإسلام أو دار الحرب[(7)]؟
__________
(1) قوله: يسأل؛ بصيغة المعروف، والضميرُ إلى الإمام أو بصيغة المجهول.
(2) في ف و م: سأل.
(3) قوله: لأنه ربما..الخ؛ ذكر للسؤال عن الماهية أموراً، منها: دفع أن ما يراد غير الذي يوجب الحدّ، فقد تطلق السرقة على استراق السمع، وقد تطلق على السرقة في الصلاة، وهي أن يؤديها ناقصة، وقد تطلق على الانتحال في التصانيف، وقد تطلق على قطع الطريق.
(4) قوله: كما في السرقة الكبرى؛ ظاهره أنه لا يعتبرُ قيد الخفية في حدِّ قطع الطريق، وقد ذكرنا سابقاً عن ((فتح القدير)) ما يخالفه، والأولى أن يرادَ بالخفية هاهنا الخفيةُ عن عين المالك، فلا يخالف ما مرّ.
(5) قوله: إنّه؛ أي أخرجَه السارقُ بنفسه من الحرز أو أعطى المسروق رجلاً، هو خارج.
(6) قوله: ليعلم إنها متقاومة أم لا؛ فلا يحدُّ إن كانت السرقةُ متقادمة، واعتراض عليه بأن الشاهدَ في تأخير الشهادة هاهنا غيرُ متَّهم؛ لأنها لا تقبلُ بدون الدعوى، فينبغي أن لا يسأل فيما إذا ثبتَ بالبيَّنة، كما لا يسأل فيما إذا ثبتَ الإقرار، فإن التقادمَ لا يمنع صحّةَ الإقرار.
وأجيب عنه: بأن الدعوى شرطٌ للمال دون القطع، فالتقادم يمنعُ القطع لا المال. كذا في ((النهاية)).
(7) قوله: أي في دار الاسلام أو دار الحرب؛ فإن عُلِمَ أنّها كانت في دار الحرب فلا قطع.
(6/11)
________________________________________
وكم هي ترجعُ إلى السَّرقة؟ والمرادُ المسروقُ[(1)] قيسألُ عن الكميَّة؛ ليعلمَ أنّ المسروقَ كان نصاباً أم لا.
وممَّن سرق؟ ليعلم أنَّه من ذي رحمٍ محرمٍ أم لا.
(فإن شاركَ جمعٌ فيها[(2)]، وأصاب كلاً): أي كلُّ واحد[(3)]، (قدرَ نصابٍ[(4)
__________
(1) قوله: والمراد المسروق؛ فإن السرقةَ قد تطلقُ على المسروقِ كالخلقِ بمعنى المخلوق، وإنّما احتاجَ إلى هذا المراد؛ لأن السرقةَ بالمعنى المصدري فعلٌ لا يوصفُ بالكميّة.
(2) قوله: فإن شارك جمع فيها؛ المرادُ بالجمع ما فوقَ الواحد، فإنّ الحكمَ في الاثنين كذلك/ والمرادُ بالمشاركةِ المشاركةُ في الدخول في الحرزِ بقرينة قوله: وإن أخذَ بعضُهم بالواو الوصلية: أي وإن لأخذ المالَ المسروقَ، وأخرجه من الحرز بعضهم ولم يشتركوا فيه، فلو دخلَ بعضُهم واشتركوا بعد ذلك في فعل السرقة لا يقطع إلا الداخل إن عرف بعينه، وإن لم يعرف عزِّروا كلّهم، وأيَّد حبسهم إلى أن تظهر توبَتُهم. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: أي كل واحد؛ أشار به إلى أن التنوين في المتن عوضٌ عن المضاف إليه.
(4) قوله: قدر نصاب؛ قال في ((الجوهرة النيرة)): فلو أصابه أقلّ لم يقطع بل يضمن ما أصابه من ذلك. انتهى.
وأورد عليه: بأنه إذا قتل جمعٌ واحدٌ يقتلُ كلُّهم وإن لم يوجد من كلٍّ منهم القتل كلاً، فلكذلك ينبغي في السرقة بالتشارك أن يقطعَ كلٌّ منهم، وإن لم يصب كاملاً منهم قدر النصاب.
وأجيب عنه: بأن القصاصَ متعلِّقٌ بإخراج الروح، وهو غيرٌ متجزئ، فيضافُ إلى كلٍّ منهم كاملاً بخلاف السرقة
(6/12)
________________________________________
] قطعوا[(1)]، وإن أخذَ بعضُهم)(2): أي مع أنَّ الأخذَ(3) صدرَ(4) من بعضِهم فقط.
[باب ما يقطع به وما لا يقطع]
__________
(1) قوله: قطعوا؛ هذا استحسانٌ، والقياسٌ أن يقطعَ الحاملُ وحدَه، وبه قال زفرٌ والأئمة الثلاثة، وجه الاستحسان: إن السرقةَ مبدؤها الدخولُ في الحرز، وقد وُجِدَ من الجميعِ فوجبَ قطعُ الكلِّ سداً لباب الفسادز كذا في ((الفتح)).
(2) أي سواء خرجوا معه، أو بعده في فوره، أو خرج هو بعدهم في فورهم. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 241).
(3) العبارة في ف: أي وإن كان الأخذ.
(4) في العبارة في م: أنه صدر الأخذ.
(6/13)
________________________________________
(وقطعَ(1) بالسَّاج(2)[(3)]، والقنا(4)، والآبنوس(5)، والصَّندل(6)، والفُصُوص الخضر(7)، والياقوت، والزَّبَرْجَد، واللؤلؤ(8)، والإناء والباب[(9)
__________
(1) في م: قطع.
(2) السَّاج: شجرٌ يعظم جداً، قالوا ولا ينبت إلا ببلاد الهند. ينظر: ((المغرب))(ص237).
(3) قوله: بالساج… الخ؛ الساجُ خشبٌ معروفٌ، وهو معرّبُ سال، قال الزَّمَخْشَرِيُّ، هو خشبٌ أسود رزين يجلب من بلادِ الهند، ولا تكادُ الأرض تبليه، وقال بعضُهم: السَّاجُ يشبه الآبنوس، وهو أقلُّ سواداً منه، والآبنوس بمدِّ الهمزة، وفتح الباء الموحدة، وضم النون بعد الواو سين مهملة، وقيل: بضم الباء أيضاً: خشبٌ معروفٌ اسمُه بالعربية: ساسم كجعفر، والقنا: بفتح القاف مقصوراً: جمعُ قناة، وهي خشبةُ الرمح، والصندلُ على وزن جعفر: شجر طيِّبُ الرائحة معروف، والفصوصُ: بالضم: جمع فصِّ الخاتم: بفتح الفاء وتشديد الصاد المهملة بالفارسية: نكَنيئه أنكَشتري، والتقييد بالخضر، وهو بالضم جمع الأخضر اتّفاقي، فإن الحكمَ متحدٌ في جميع الألوان.
(4) القنا: جمع قناة، وهي خشبة الرمح. ينظر: ((البناية))(ص5: 554).
(5) الآبنوس: شجر كقطعة حجر على رأسه نبت أخضر وخشبه صلب جداً لا يقف على الماء بل يرسب وهو أشبه خشب بالحجر. ينظر: ((عجائب المخلوقات))(2: 4).
(6) الصندل: شجر طيب الرائحة معروف. ينظر: ((المصباح))(ص336).
(7) الفُصُوص: جمع فصّ الخاتم، والتقييد بالخضر اتفاقي، فإن الحكم متحدّ في جميع الألوان. ينظر: ((العمدة))(2: 317).
(8) لأنها من أعزّ الأموال وأنفسها ولا توجد مباحة الأصل بصورتها في دار الإسلام غير مرغوب فيها فصارت كالذهب والفضة. ينظر: ((الهداية))(2: 121).
(9) قوله: والباب؛ المرادُ به البابُ الذي هو غيرُ مركَّب بالجدار، بل هو محرزٌ، وأمّا إذا كانت مركبةً في الجدارِ فقلعَها وأخذها فإنّه لا يقطع؛ لأن القطعَ إنّما هو في المحرز لا في غير المحرز، وإن كان يحرزُ به على ما سيأتي.
(6/14)
________________________________________
] متخذين[(1)](2) من خشب(3) )؛ إنِّما عدَّت[(4)] هذه الأشياء؛ لأنَّها من جنسِ الخشب، والحجرِ المباحينِ في الصحاري[(5)] والجبال، فيتوَّهم أنَّه(6) لا قطعَ فيها.
__________
(1) قوله: متخذين؛ حالٌ من الباب والإناء، وأشارَ به إلى أنه لو كانا متخذين من غير الخشب ممَّا لا يوجد مباح الأصل، فالقطع بالطريق الأولى.
(2) في م: المتخذين.
(3) في س و م: الخشب.
(4) قوله: إنما عدّت… الخ؛ دفعٌ لِمَا يقال: لِمَ ذكر المصنِّف هذه الأشياء مع عدم الاحتياج إليه بعدما ذكر أن محلَّ السرقة المالُ المحرزُ المملوك، وحاصلُه: إن هذه الأشياء من جنس الخشب والحجر، وهما ممَّا يوجد في دار الإسلام مباح الأصل، ولا قطع فيها، فيكون مظنَّة أن يتوهَّمَ أن لا قطعَ في هذه الأشياء أيضاً، ولدفع هذا الوهم احتيج إلى عدِّها.
(5) قولهك في الصحارى؛ بفتح الصاد المهملة، في الآخر ألف مقصورة: جمع الصحراء بالفارسية: بيابان.
(6) في أ و ص و ف: ان.
(6/15)
________________________________________
(لا بتافِهٍ[(1)] يوجدُ مباحاً في دارنا: كخشب[(2)]، وحشيش، وقصب[(3)]، وسمك[(4)]، وصيد[(5)]، وزِرْنِيخ(6)[(7)]، ومَغَرَة(8)[(9)]، ونُّورة[(10)]، ولا بما يفسدُ[(11)] سريعاً، كلبن، ولحم، وفاكهةٍ رطبة[(12)
__________
(1) قوله: لا بتافه؛ أي لا يقطعُ بسرقة شيء تافه، وعلى زنةِ فاعل، بمعنى حقير، وهو ما يوجدُ جنسه مباح الأصل في دار الاسلام، ولم يحدث فيه صنعة متقوِّمة، وليس هو بمرغوبٍ فيه، فأما بعد إحداث الصنعة، فيقطعُ لسرقته كسرقة الإناء والباب المتخذين من خشب، وكذا يقطعُ في المرغوب فيه، نحو: المعادن من الذهب والفضة واليواقيت واللآلي ونحوها. كذا في حواشي ((الهداية)).
(2) قوله: كخشب، وكذا: الأشنان، والفحم، والملح، والخزف. كذا في ((المجتبى)).
(3) قوله: وقصب؛ بفتحتين بالفارسية: ني/ وهو ما تتخذ منه الأقلام ونحوه، ويستثنى منه قصب السكر، وهو بالفارسية ينشكر، ويقال له: قصب الحبيب. فيقطعُ بسرقتِهِ لكونه أعز مرغوباً فيه.
(4) قوله: وسمك؛ طرياً كان أو يابساً مليحا.
(5) قوله: وصيد؛ قال ابنُ كمال: هو الحيوان الممتنع المتوحِّش بأصل خلقتِهِ، إمّا بقوائمه، أو بجناحيه، فالسمك ليس منه.
(6) الزِّرنيخ: حجر معروف، وله أنواع كثيرة، منه: أبيض، وأحمر، وأصفر. ينظر: ((تاج العروس))(7: 263).
(7) قوله: وزرنيخ؛ بكسر الزاي المعجمة، وسكون الراء المهملة بعدها نون مكسورة، بعدها ياء مثناة تحتيّة آخره خاء معجمة: هرتال.
(8) مَغَرَة: طين أحمر. ينظر: ((المصباح))(ص576).
(9) قوله: ومغرة؛ بفتح الميم، ثم غين مهملة ساكنة، ثم راء مهملة: الطين الأحمر.
(10) قوله: ونورة؛ بضم النون، وقيل: بالفتح بالفارسية: جونهء قلعي، وقيل: هو ما يستعملُ لإزالة الشعر من الجسد.
(11) قوله: ولا بما يفسد؛ أي لا يقطع بسرقة شيءٍ يفسدُ في الزمان القليل: أي يخرج عن أن يكون منتفعاً به.
(12) قوله: فاكهة رطبة؛ كالسفرجل، والرمان، والتفاح، ونحوها، وأمّا اليابسةُ فيقطع بسرقِتها إذا كانت محرزة.
(6/16)
________________________________________
]، وتمرٍ(1) على شجر[(2)]، وبطيخ[(3)]): هذا عند أبي حنيفة ومحمَّد - رضي الله عنهم -.
وأمَّا عند أبي يوسف - رضي الله عنه - يُقْطَعُ في كلِّ شيءٍ إلاَّ في الطِّين[(4)]، والتُّراب، والسِّرقين.
وعند الشَّافِعيِّ(5) - رضي الله عنه - لا يمنعُ القطعُ كون الشَّيءِ مباحَ الأصلِ كالحطب، ولا كونُه رطباً، كالفواكِه، ولا كونُه متعرِّضاً(6) للفسادِ كالمرقة.
ولنا[(7)
__________
(1) في ت و ج و ق: ثمر.
(2) قوله: وتمر على شجر؛ لعدم وجود الحرز فيه، ولو كان الشجر في حرز، وهو بالتاء المثناة الفوقانية على ما في أكثر النسخ، والأولى ما في بعض النسخ، وثمر بالثاء المثلثة.
(3) قوله: بطيخ؛ بكسر الباء الموحدة، وكسر الطاء المهملة المشددة، بالفارسية: خربزه.
(4) قوله: إلا في الطّين والتّراب، الفرق بينهما أنّ الطّين يطلقُ على ترابٍ مخلوطٍ بالماء مبلول، فارسيته: كَل دخاك نمناك، والتّرابُ أعمّ منه، والمرادُ به هاهنا ما يقابلُهُ بقرينةِ المقابلة، والسِّرقين بكسرِ السّين المهملة، وكسر القاف، بينهما راء مهملة ساكنة، معرّب: سركَين.
قال العينيُّ في ((البناية)): عن أبي يوسفَ في ((نوادر هشام)): إنّه قال: أنا أقطعُ من كلِّ شيء سرق إلا في التّراب والسّرقين، قال في ((شرح الأقطع)): وهو قول الشافعي رحمه الله، وزعم أصحابه في الماء والتّراب وجهين، وروى عن أبي يوسف رحمه الله في ((الهارونيّات)): أقطعُ من كلِّ شيءٍ إلا في الخشب.
(5) ينظر: ((الغرر البهية))(5: 90)، و((مغني المحتاج))(4: 162)، وغيرهما.
(6) في م: معترضا.
(7) قوله: ولنا… الخ؛ اعلم أنّه قد وردت أحاديث مرفوعةٌ وموقوفةٌ دلّت بمجموعها على مذهبنا، فمن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت: ((لم تكن يد السّارقِ تقطعُ على عهد رسولِ الله صلّى الله عليه وسلم في الشّيء التّافه، ولم تقطعْ في أدنى من ثمن جحفة أو ترس)).

ومثله رواه عبد الرّزاقِ في ((مصنّفه))، واسحق بن راهويه في ((مسنده))، كذا ذكره الزّيلعيّ وغيره.
ومن ذلك قول عثمان رضي الله عنه: لا قطعَ في الطّير، أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرّزاق، وأخرجَ ابن أبي شيبة عن السائب بن يزيد: ما رأيتُ أحداً قطعَ في الطّير.
وأخرجَ البيهقيّ عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: ليس على سارقِ الحمام قطع.
وقد ذكر صاحب ((الهداية)) والشّارحُ تقليداً به حديث: ((لا قطع في الطّير))، مرفوعاً، ولم يوجد إنّما هو موقوفٌ على الصّحابة، وهو كافٍ في الباب.
ومن ذلك حديث: ((لا قطعَ في ثمرٍ ولا كَثَر))، وهو بفتحتين: الجمار، ويقال له: شحم النخل، أخرجَهُ التّرمذيّ وابن أبي شيبة، ومالك، والنّسائيّ، وأبو داود، وأحمد، والدّارمي، واسحق بن راهويه وغيرهم، وذكرَ الشّارحُ بدلَ الكَثَر: الشجر، ولم يوجد مرفوعاً.
ومن ذلك حديث: ((إني لا أقطع في الطّعام))، أخرجه أبو داود في ((المراسيل)) مرفوعاً، ومثله رواهُ عبدُ الرّزاقِ وابن أبي شيبة: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتي برجلٍ سرق طعاماً فلم يقطعه، قال سفيانُ الثّوري، أحد رواته: هو الطّعام الذي يفسدُ من نهاره كالثّريد واللّحم، وذكر صاحب ((الهداية)) هذا الحديث بلفظ: ((لا قطعَ في الطّعام))، ولم يجده مخرّجو أحاديثه.
(6/17)
________________________________________
]: قول عائشةَ - رضي الله عنه -: ((كانت اليدُ لا تقطعُ في عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشَّيءِ التَّافه))(1) أي الحقير.
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا قطعَ في الطَّير))(2).
وقولَهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا قطعَ في ثمرٍ[(3)] ولا شجر))(4).
__________
(1) في ((مسند أبي عوانة))(4: 114)، و((سنن البيهقي الكبرى))(8: 255)، ورجَّح البيهقي أنه من كلام عروة، و((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 476)، و((مسند ابن راهويه))(2: 231)، و((شعب الإيمان))(1: 267)، وينظر: ((تلخيص الحبير))(3: 74)، و((نصب الراية))(3: 360)، وغيرها.
(2) في ((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 522): عن يزيد بن خصيفة، قال: أتي عمر بن عبد العزيز برجل سرق طيراً فاستفتى في ذلك السائب بن يزيد فقال: ما رأيت أحداً قطع في الطير وما عليه في ذلك قطع فتركه عمر بن عبد العزيز ولم يقطعه. وفي ((سنن البيهقي الكبير))(8: 263): عن أبي الدرداء، قال: ليس على سارق الحمام قطع. وهذا إنما أراد في الطير والحمام المرسلة في غير حرز. وينظر: ((الدراية))(2: 109).
(3) قوله: في ثمر؛ بالثّاء المثلّثة، والمراد به المعلّق على الشّجر، يدلّ عليه ما أخرجَه أبو داود والنّسائيّ وابن ماجة، عن عبدِ الله بن عمرو أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم سئل عن الثّمر المعلّق فقال: ((من أصاب فيه من ذي حاجة غير متّخذ خبيئة فلا شيء عليه، ومَن سرق منه شيئاً بعد أن يؤدّيه الجرين فبلغَ ثمن المجنّ فعليه القطع)).
(4) عن رافع بن خديج في ((موطأ مالك))(2: 831)، و((سنن الترمذي))(4: 52)، و((سنن ابن ماجه))(5: 865)، و((صحيح ابن حبان))(1: 317)، و((المنتقى))(1: 201)، و((سنن الدارمي))(2: 228)، وغيرها، وينظر: ((الدراية))(2: 109)، و((خلاصة البدر))(2: 312)، وغيرهما.
(6/18)
________________________________________
(وزرعٍ لم يحصد[(1)])؛ لعدمِ الحرز.
(ولا في أشربةِ[(2)] مطربة، وآلاتِ لهو[(3)]، وصليبٍ[(4)] من ذهب، أو فضة، أو شطرنج، ونرد[(5)
__________
(1) قوله: لم يحصد؛ مجهولٌ من الحصاد بالفتح وهو: قطع الزّرع، يعني لا يقطع بسرقة زرعٍ لم يبلغْ الحصاد؛ لعدم وجود الحرز، فإذا حصد وأحرز، ففي سرقته القطع، والأصل في هذا الباب هو ما مرّ من الأحاديث.
(2) قوله: الأشربة؛ هو بفتح الهمزة، وكسر الرّاء المهملة، بينهما شين معجمة ساكنة، جمع الشّراب، بمعنى ما يشرب، والمطربة على صيغة اسم الفاعل من الإطراب، والمرادُ المسكرة، فإنّ الطّربَ عبارةٌ عن خفّة العقلِ من شدّة حزنٍ وجزع، أو شدّة سرورٍ توجبُ صدورَ ما لا يصدرُ من العاقل، وليس قيدُ الطّربِ احترازيّاً؛ فإنّه لا قطع في سرقةِ الأشربةِ مطلقاً، أمّا إذا لم تكن مطربةً فلكونها ممّا يتسارعُ إليه الفساد، وأمّا إذا كانت مطربةً فلهذا الوجهِ أيضاً، ولاحتمال أن يناولَ السّارقُ الآخذَ للإراق، فيكون أخذها من بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر، لا من باب السّرقة، ووجودُ هذا الاحتمال يسقطُ الحدّ؛ لأنّ الحدودَ تدرأ بأدنى شبهة.
(3) قوله: وآلات لهو؛ أي التي تستعمل في مجالسِ اللّهو والغناء كالطَّبلِ والطّنبور وغير ذلك، ولو كان طبل الغزاة؛ لأنّ صلاحيّة اللّهو صارت مشبهة، والوجه أنّ آلات اللّهو غير متقوّمة عندهما حتى لا يضمنَ متلفها، وعنده وإن كان يجبُ الضّمان على المتلفِ لكن في أخذها شبهةُ النّهي عن المنكر، والشّبهة دارئةٌ للحدّ. كذا في ((الفتح)) وغيره.
(4) قوله: وصليب؛ على وزن فعيل، وهو بهيئة خطّين متقاطعين تصوّره النّصارى وتعبده وتظنّ أنّه هيئةُ الصّليبِ الذي صلبَ عليه سيّدنا عيسى على نبيّنا وعليه السّلام، وقد كذبوا فيما زعموا، {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم}، {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه}.
(5) قوله: وشطرنج ونرد؛ هو وإن كان داخلاً في آلات اللهو لكن ذكرَهما توضيحاً وتصريحاً؛ ولأن أكثر ما يتبادرَ من آلاتِ اللهوِ هو المزاميرُ، قال صلاح الدين خليل الصفدي في ((غيث الأدب المسجم شرح لايمة العجم)) عند شرح:
إن العلى حدَّثتني وهي صادقة

فيما تحدِّث أنَّ العزَّ في النقل

لك في لفظ الشطرنج: لغتان: بالشين المعجمة، وهو الأفصح؛ لأنه مأخوذ من الشطر؛ لأنَّ كلَّ لاعبٍ له شطرٌ من القِطَع، وبالسين المهملة؛ لأنه مأخوذ من تسطير الرقعة بيوتاً، وإن ألحقتَه بأوزانِ العربيّة كسرت أولَه، والصحيحُ أن هذه اللفظةَ عجمية، وأصله: شش رنكَ: معناه ستّة ألوان، وكثيرٌ من الناسِ يغلطون في الصولي، وهو أبو بكر محمّد بن يحيى بن عبد الله بن عبّاس بن محمّد بن صول، ويزعمُ أنّه واضع الشطرنج لِمَا ضُرِبَ به المثلُ فيه، والصحيحُ أنّ واضعَه صصه بن داهر الهندي، وكان أردشير بن بابك أوَّل ملوك الفرس الأخيرة قد وضعَ النرد؛ ولذلك قيل له نردشير، وجعله مثالاً للدنيا وأهلها، افتخرت به الفرس، وكان ملك الهند يومئذ بلهيت، فوضع له صصه الشطرنج. انتهى ملخصاً.
(6/19)
________________________________________
])؛ لأنَّه يقولُ[(1)] أخذتُه للإراقةِ والكسر[(2)].
(وبابُ مسجد[(3)])(4)؛ لعدمِ الاحرازِ خلافاً للشَّافِعِيِّ(5) - رضي الله عنه -، (ومصحف[(6)])؛ لأنَّه يقولُ أخذتُهُ للقراءة خلافاً لأبي يوسف والشَّافِعِيّ(7) - رضي الله عنهم -، (وصبيٍّ[(8)] حرّ)؛ لأنَّه ليس بمال، (ولو محلَّيَيْن[(9)
__________
(1) قوله: يقول؛ أي يحتملُ أن يقولَ ذلك، فإن وجودَ قوله ليس بشرط للدرء.
(2) قوله: والكسر؛ هذا مرتبطٌ بآلات اللهو والصليب والشطرنج والنرد.
(3) قوله: وباب مسجد؛ وكذا سارقُ باب كلّ دار لعدم الحرز، وكذا سارق نعال المصلين من المسجد، وكذا ستار الكعبة. كذا في ((البحر)).
(4) وكذا سارق باب كل دار ، وسارق نعال المصلين من المسجد، وأستار الكعبة. كذا في ((البحر))(5: 59)، و((العمدة))(2: 319).
(5) ينظر: ((المنهاج))(4: 163)، وشرحه ((تحفة المحتاج))(9: 133)، وغيرهما.
(6) قوله: ومصحف؛ بفتح الحاء المهملة، وتثليث الميم والضم أشهر، كما في ((المصباح))، وهو ما كتب فيه القرآن، والوجه في عدم القطع، هو وجود الشبهة الدرئة للحد؛ لأنه يحتمل أن يقولَ أخذته لأن اقرأَ منه القرآن، وأمّا الكتب العلمية، فإن كانت شرعيّة فأخذُها كأخذ آلات اللهو.
(7) في ((حاشيتا قليوبي وعميرة))(4: 187) يعتبر القطع في المصحف إذا بلغت قيمته ربع دينار ذهب، وفي ((تحفة المحتاج))(9: 132)، و((التجريد لنفع العبيد))(4: 220)، و((فتوحات الوهاب))(5: 141): لا قطع بسرق مصحف وقف للقراءة في المسجد.
(8) قوله: وصبيّ: أي لا قطع بسرقة صبيٍّ حرٍّ لعدم كونه مالاً، وكذا البالغُ الحرُّ بالطريق الأولى، وأمَّا سرقة العبد فتوجب القطع إذا كان صغيراً، ولا توجب إذا كان كبيراً؛ لأن العبدَ مالٌ غيرَ أنّ أخذَ الكبير ليس بسرقة، بل غضب أو خداع على ما سيأتي، والمراد بالكبير هناك المميز الذي يعبِّر عن نفسه بالغاً كان أو غير بالغ، وبالصغير خلافه. كذا في ((البحر)).
(9) قوله: ولو محليين؛ هذا اللفظُ في بعض النسخ باليائين، والصوابُ ما في بعض النسخ محلين بالياء الواحدة: أي لا قطع بسرقةِ المصحف والصبيّ، ولو كان عليهما حليةُ ذهب، أو فضة.
(6/20)
________________________________________
])، يرجعُ إلى المصحف والصَّبيّ، فإن الحِليةَ تبعٌ[(1)].
وعند أبي يوسف - رضي الله عنه - إن بلغَتْ الحليةُ النِّصابَ يقطع.
(وعبدٌ ودفترٌ(2)[(3)] إلاَّ الصَّغير، ودفترُ الحساب)؛ لأنَّ أخذَ العبدَ الكبيرِ يكونُ غصباً أو(4) خداعاً لا سرقة، والمقصودُ من الدَّفتر ما فيه، وهو ليس بمال، وأما دفترُ الحساب فالمقصودُ منه المال[(5)]، وهو لا يسرقُ لفائدةٍ غيرَ ماليَّة.
__________
(1) قوله: تبع؛ فحيث لم يجب القطعُ في سرقةِ الأصل لم يجب بالتبع.
(2) أي سواء كان فيه علم الشريعة أو الشعر أو اللغة؛ لأن المقصود من دفاتر هذه الأشياء ما فيها، وهو ليس بمال. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 244).
(3) قوله: ودفتر؛ هو بالفتح، وقد يكسر: جماعة الصحف المضمومة، والحاصلُ أنه لا قطعَ بسرقةٍ عبدٍ إلا إذا كان صغيراً، فإن أخذَ العبدُ الكبيرُ إن كان أخذُه قهراً فهو غصب، وإن أخذه بحلية، فهو خداع، وكلٌّ منهما ليس بسرقة، وكذا: لا قطع بسرقة دفتر؛ لأن المقصودَ من أخذها هو معرفةُ ما كتب فيه، لا نفس أوراق القرطاس، وهو ليس بمال إلاَّ إذا كان دفتر الحساب، فإنّ المقصود من أخذِه المالُ الذي كَتَبَ حاسبَه فيه.
(4) في م: و.
(5) قوله: المال؛ لأنّ الغرضَ من أخذه هو أخذُ المال، فمَن كتبَ اسمه فيه مثلاً.
(6/21)
________________________________________
(ولا في كلب، وفهد[(1)]، وخيانة(2)[(3)
__________
(1) قوله: ولا في كلبٍ وفهد؛ أي لا يقطعُ بسرقة كلبٍ وفهدٍ مملوكين لرجل؛ لأن جنس هذين الحيونين يوجبُ مباحاً في دار الاسلام، فيدخلُ في التافه، وأيضاً: اختلفوا في ماليّة الكلب، فعند الشافعي وأحمد ومالك في روايةٍ لا مالية؛ ولهذا لم يجوِّزوا بيعه، وعند أبي حنيفة وصاحبيه وإبراهيم النخعي يجوزُ بيعُ الكلابِ التي ينتفع بها، وهو دليلُ المالية، وهذا الاختلافُ أورث شبهةً في المالية، فاسقطت الحدّ. كذا في ((البناية)).
(2) خيانة: وهي ان يخون المودع فيما في يده من الشيء المأمون. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 319).
(3) قوله: وخيانة؛ أي لا قطعَ في الخيانة، وهي أن يخونَ المودعُ فيما في يده من مال المودع، فإن الخيانةَ غيرُ السرقة كما أن الانتهابَ والاختلاسَ ليس بداخلٍ في السرقةٍ فلا قطع بهما أيضاً؛ لحديث: ((ليس على خائنٍ ولا منتهبٍ ولا مختلسٍ قطع))، أخرجَه التِّرْمِذِيُّ وحسَّنه وابنُ ماجه والنَّسائيُّ وأبو داود وابنُ حبَّان في ((صحيحه))، والطبرانيُّ في ((معجمه الأوسط))، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)).
فان قلت: قد روى مسلمٌ عن عائشة: ((إن امرأةً مخزوميةً كانت تستعيرُ المتاعَ وتحجدُه فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقطعِ يدِها))، وهذا يدلُّ على ثبوتِ القطع في الخيانة، وبه قال أحمد.

قلت: قد ثبتَ في رواية أخرى لمسلم ورواياتِ أصحابِ السنن والبُخاري أن تلك المرأة كانت سرقَت فلذلك قطعَ يدَها لا لمجرَّد الخيانةِ في الأمانة.
(6/22)
________________________________________
]، وخَلْس(1)، ونَهْب(2)[(3)]، ونَبْش[(4)
__________
(1) خَلْس: وهو أن يأخذ من اليد بسرعة جهراً. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 618).
(2) نَهْب: وهو أن يأخذ على وجه العلانية قهراً من ظاهر بلدة أو قرية. ينظر: ((درر الحكام))(2: 80).
(3) قوله: وخَلس ونَهب؛ الفرق بينهما أن قيدَ السرعةِ معتبرٌ في الأول دون الثاني، وقيدَ القهرِ معتبرٌ في الثاني دون الأوّل، فأنّهم فسَّروا الخَلْس: وهو بفتح الخاء المعجمة، وسكون اللام، آخره سين مهمله: بأخذ شيء جهراً سرعةً، وفسَّروا النهب: ووزنُهُ وزنُ الخَلْس أخذ الشيءَ على وجهٍ العلانيةِ قهراً، وكلٌّ منهما ليس بسرقة؛ لعدم وجود الأخذ خفيةً فيهما كما أن الخيانةَ ليست بسرقةٍ لعدم وجودِ الأخذِ من الحرزِ فيهما كما أن الخيانةَ ليست بسرقةٍ لعدم وجودِ الأخذ من الحرزِ فيها.
(4) قوله: ونبش؛ النَّبش بالفتح: أخذ كفنِ الميِّت بعد الدفن، وعدمُ القطع في النبش مذهب أبي حنيفة ومحمّد سواء كان القبر في بيت مقفل أو في مفازة، وسواء كان المأخوذ من القبر هو كفنُ الميِّتِ أو غيره، والوجه في ذلك النبش ليس بسرقٍ لفوات الحرز، فإن الميِّت لا يحرزُ نفسه، والقبرُ ليس بمحلٍّ للحرز؛ ولأن الشبهةَ تمكَّنَت في الملك إذ لا ملكَ للميِّت حقيقةً ولا للوارث لتقدُّم حاجةِ الميِّت من التجهيز والتكفين على حقِّ الورثة. كذا في حواشي ((الهداية))، ويؤيِّدُهُ قول ابن عباس ليس على النَّباش قطعٌ. أخرجه ابنُ أبي شيبةَ، وأخرج أيضاً عن الزُّهْرِيُّ قال: أُتي مروانُ بقوم يختفون: أي ينبشون القبور فضربَهم ونفاهم والصحابةُ متوافرون. وأخرجه عبدُ الرزاق، وزاد: وطوفَ بهم، وفي روايةٍ لابن أبي شيبةَ عن الزُّهُرِيِّ قال: أُخذ نباشٌ في زمانِ معاوية، وكان مروانٌ على المدينة، فسأل من يحضر من الصحابة والفقهاء، فأجمع رأيهم على أن يضرب ويطاف به، وذهبَ أبو يوسف والشافعيُّ إلى وجوب قطع النباش وسلفهما في ذلك ابن الزبير، فإنه قطعَ نباشاً، أخرجَه البُخاري في ((التاريخ))، وثبت مثلُه عن عمر أخرجه عبد الرزَّاق أيضاً، ومعهما حديث: ((من نبش قطعناه))، وأخرجَه البَيْهَقِيُّ مرفوعاً، وإنكارُ صاحب ((الهداية)) عن كونه مرفوعاً ليس بشيء، كما أن ذكره الحديث المرفوع بلفظ: ((لا قطع على المختفي)) لا يعبأُ به.
والجوابُ من قبل أبي حنيفة عن حديث: ((مَن نبش قطعناه)):
أوّلاً: بأن في سنده من يجهل حاله فلا يعتبر به.
وثانيا: بأنه محمولٌ على السياسة، ويؤيِّدُه أنه وردَ في بعضِ الرِّوايات مع تلك الجملة: ((ومن غرق ؟؟؟))، وبالجملة ليس في الباب حديث مرفوع يروي بسندٍ يحتجُّ به يدلُّ على قطع النباش أو عدم قطعه، واختلاف الصحابة فيه مبنيٌّ على أن النبشَ هل هو سرقة أم لا؟
فمَن ظنَّ أنه سرقةٌ أفتى بالقطع، ومَن ظنَّ أنه ليس بسرقةٍ لاختلالِ الحرزِ والملكِ أفتى بعدم القطعِ إلا سياسةً، ولعل الحقَّ يدورُ حولَه ما لم يثبت عن صاحب الشريعة بسندٍ يحتجُّ به خلافَه.
ويردُ في هذا المقام أن الطرَّ، وهو أخذ مال الغير، وهو يقظانٌ حاضرٌ قاصدٌ لحفظِهِ بضربِ غفلةٍ منه أيضاً ليس بسرقةٍ، كما أن النبشَ ليس بسرقة، فما بالهم حكموا بقطع يد الطرار دون النباش؟
والجواب عنه: على ما بسطَه ابنُ ملك في ((شرح المنار)) وغيرُه من الأصوليين: إن آيةَ السرقةِ التي فيها حكمُ القطعِ ظاهرةٌ فيما وضعَ له السارقُ خفيةً في حقِّ الطَّرار والنَّباش، فنظرنا في أن الخفاءَ فيهما لمزيةٍ أو نقصان، فظهرَ لنا أن الخفاءَ في حقِّ الطرار لزيادة، فإن الطرارَ وإن كان غيرُ السرقة لكن فيه زيادة على السرقة، فإنَّ السارقَ يأخذُ خفيةً، والطرار يأخذ علانيةً بنوع غفلة، وإن الخفاءَ في حقِّ النباش؛ لنقصان؛ لأنّ النبشَ أدون من السرقة، فأوجبنا القطع بالطرّ دون النبش بناءً على أن الحكمَ إذا ثبتَ للأدنى ثبت للأعلى بالطريق الأولى ولا عكس.
(6/23)
________________________________________
]، ومالِ عامَّة[(1)])، كمالِ بيتٍ المال.
__________
(1) قوله: ومال عامة؛ بالإضافة أي لا قطع بسرقةِ مالٍ فيه حقُّ عامةِ الناس؛ لأن لكلِّ إنسان فيه حقُّ من وجه، فيورث ذلك شبهةً اسقطت الحدَّ، وقد أخرج ابنُ أبي شيبة: إن رجلاً سرق من بيتِ المال، فكتب فيه سعدٌ إلى عمر، فقال: ما من أحد إلاّ وله فيه حقّ لا قطع عليه، وأخرجَ عبدُ الرزاق أن عليّاً: أتى برجلٍ سرقَ من المغنم، فقال: له فيه نصيب، وهو كائنٌ فلم يقطعه. وفي ((سنن ابن ماجه)): إن عبداً سرقَ من الخمس، فلم يقطعه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((مال الله يسرق بعضَه بعضاً)).
ومن هاهنا يعلمُ وجه عدم القطع بسرقةٍ مالٍ مشتركٍ بين السارق وبين ذي اليد، وبعدمه بسرقة مال الوقف، وبسرقة مثل حقّه ممَّن له عليه حقّ.
(6/24)
________________________________________
(ومالٍ له فيه شركة، ومثل حقِّه[(1)] حالاً[(2)]، أو مؤجلاً): أي إن كان له على آخرَ دراهمَ سواءٌ كانت حالّة، أو مؤجَّلة فسَرَقَ مثلَها، (ولو بمزيد[(3)])؛ لأنَّه بمقدارِ حقَّه يصيرُ شريكاً [فيه](4).
(وما قُطِعَ فيه، وهو بحاله[(5)]): أي لا يقطعُ بسرقةٍ شيءٍ قطعَ فيه مرَّة، ثُمَّ وصلَ إلى مالكِه، ثُمَّ سرقَهُ والحالُ أنَّه لم يتغيَّرُ عن حالِه، وهذا عندنا.
__________
(1) قوله: ومثل حقّه؛ أي مثلُه ظاهراً وإن اختلف قدراً وصفةً كما إذا سرق ما زادَ على حقِّه أو سرقَ في الدين المؤجَّل، والمثليّةُ أعمُّ من أن تكون حقيقةً أو حكماً، فإن كانت له دراهمٌ فسرقَ دنانير، أو بالعكس لا يقطع؛ لأن النقدين جنسٌ واحدٌ حكماً بخلافِ العرض، فإنه جنسٌ آخرٌ من كلِّ وجه، ومنه الحلي؛ لأنه بسبب ما فيه من الصياغة التحق بالعرض. كذا في ((البحر))، وغيره.
(2) قوله: حالاً؛ أي سواء كان حقُّه حالاً أو مؤجلاً؛ لأن التأجيلَ لتأخير المطالبة، والحقُّ ثابتٌ كاملاً، وإن لم يلزمْ الإعطاءِ في الحال، كما في الدين الحال. كذا في ((الفتح)).
(3) قوله: ولو بمزيد؛ الواو وصلية: أي ولو كانت السرقة ممَّن له حقٌّ عليه بأزيد من حقِّه؛ لأنه بمقدار حقِّه يصير شريكاً له، وكذا إذا سرقَ أجودَ من حقِّه، وهذا كلُّه في السرقة من غريمه، فإن سرقَ من غريمِ أبيه أو غريم ولده الكبير بقطع.
(4) زيادة من أ.
(5) قوله: بحال؛ أمّا لو تغيَّر قطعَ ثانياً كما في ((المجتبى))، ولو تغيَّر لا بالذات، بل السبب كما إذا باعَه المالكُ من السارق، ثمَّ اشتراه منه فسرقَه قطع ثانياً عند مشاريخ بخارا، وقال مشايخ العراق: لا يقطع.
(6/25)
________________________________________
وأمَّا عند أبي يوسفَ والشَّافِعِيِّ رحمه الله تقطع؛ لقولِهِ[(1)
__________
(1) قوله: لقوله؛ هذا الحديثُ أخرجَه الدَّارَقُطْنِيّ في ((سننه)) بسند فيه الواقديّ، وهو متكلَّمٌ فيه مروفوعاً: ((إذا سرق السارقُ فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عادَ فاقطعوا يده، فإن عادَ فاقطعوا رجله))، وأخرجَ أبو داود جيء بسارقٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنّما سرق، قال: فاقطعوه فقطع، ثمّ جيء به الثانية فقال: اقتلوه فقالوا: يا رسول الله إنّما سرق، فقال: اقطعوه فقطع، وهكذا في الثالثة والرابعة، وفي الخامسة قال: اقتلوه، قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه وألقيناه في البئر، ورمينا عليه الحجارة))، وفي سندِه ضعفٌ، والحديثُ منكرٌ قاله النَّسائيُّ، وأخرجَه الدَّارَقُطْنِيُّ من طرق كلُّها ضعيفة، وأبو نُعَيْم في ((حلية الأولياء)) بلفظ مَن سرق متاعاً: ((فاقطعوا يدَه، فإن سرق فاقطعوا رجلَه، فإن سرق فاقطعوا يدَه، فإن سرَق فاقطعوا رجلَه، فإن سرقَ فاضربوا عنقه)) وضعَّفَه أبو نُعَيْم، وفي البابِ رواياتٌ أُخر دالّة على قطع القوائم الأربع من السارق وعلى قتلِه في الخامسة كلُّها ضعيفةٌ كما بسطَه الزَّيْلَعِيُّ في ((تخريج أحاديث الهداية))، وابنُ حجر في ((تخريج أحاديث الهداية))، فهذه الأحاديث استدلَّ الشافعي رحمه الله بما وردَ منها بلفظ: العود؛ على أن السارق إذا عادَ إلى سرقةِ ذلك الشيء الذي سرقَه أوَّلاً، وقطع فيه قطع فيه ثانياً، وشيَّدوا مذهبَه بأن القطعَ إنّما هو جزاءُ السرقة، وهي متعدِّدة فيكون القطعُ متكرراً، ولا ينافي توحُّدَ الشيء المسروق تعدُّد فعل السرقة.

والجواب من قبل أبي حنيفة رحمه الله: إن الأحاديث التي استندَ بها في هذا البابِ كلُّها ضعيفةٌ، وعلى تقديرِ صحَّتِها نقول: المرادُ العود إلى السرقة لا إلى المسروق، وهو الظاهر الذي تتبادر إليه الأفهام الصحيحة.
(6/26)
________________________________________
] - صلى الله عليه وسلم -: ((فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوه))(1).
ولنا: إن عصمةَ[(2)
__________
(1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجلَه، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله) في ((سنن الدارقطني))(3: 181)، قال الزيعلي في ((نصب الراية))(3: 3: 368،372) فيه سنده الواقدي، وفيه مقال.
(2) قوله: إن عصمةَ… الخ؛ قال ابنُ ملك في ((شرح المنار)) عند قولِ مؤلِّف ((المنار)) في (بحث الخاصّ): وبطلان عصمةِ المسروق بقوله تعالى: {جزاء} لا بقوله: {فاقطعوا}، اعلم أن القطع في السرقة مع الضمان لا يجتمعان عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يجتمعان لأنهما مختلفان حكماً؛ لأن الضمانَ يجبر المحلّ، والقطعُ للزجر وسبباً؛ لأن سببَ القطع الجناية على حقِّ الله، وسبب الآخر الجنايةُ على حقِّ الغير، ومحلاً؛ لأنَّ محلَّ أحدهما اليد، ومحلّ الآخر الذمة، فمن قال: القطعُ موجبٌ لانتفاءِ الضمان؛ لقوله عليه السلام: {لا غرم على السارق بعدما قطعت يمينه} لم يكن عاملاً بهذا الخاص، وهو قوله تعالى: {فاقطعوا} فإن الآيتَ لا تببيء عن إبطال العصمة، فأشار المصنِّفُ رحمه الله إلى جوابه بقوله: وبطلان... الخ؛ يعني سقوطُ عصمة المال ثبت بإشارة قوله: جزاء؛ لأن الجزاءَ في الإطلاقات الشرعيّة إذا استعملَ في العقوبات يرادُ بها ما يجبُ حقَّا لله تعالى في مقابلةِ فعل العبد؛ ولأن الجزاءَ مصدرٌ جزى بمعنى: كفى، وهو يدلُّ على أن القطعَ جزاءٌ كاملٌ للسرقة، ولا يكون ذلك إلا بكمالِ الجناية، وهي إنّما تكملُ إذا كانت واقعةً على حقِّ الله؛ لأنها جنايةٌ من جميع الوجوه، والجنايةُ على حقِّ العبدِ جنايةٌ من وجه؛ لأنه مباحٌ نظراً إلى ذاته، وإنّما حرم حفظاً له على المالك، فوجبَ نقلُ العصمة إلى الله ليكون حراماً؛ لعينه، فلو بقيت العصمةُ في المال من جهةِ العبدِ لا يكون حراماً لعينه.

فإن قلت: لو انتقلت العصمةُ إلى الله يلزم أن لا يقطع كما في سرقة الخمر.
قلنا: من شرط القطع أن يكون المال معصوماً قبل السرقة حقّاً للعبد، والخمر ليس كذلك، وليس من ضرورة انتقال العصمة انتقال الملك إلى الله؛ لأنه لو انتقلَ إليه لصارَ مباحاً، وامتنع القطع، فالمسروقُ مملوكٌ لمالكِه؛ ولهذا لو وجده قائماً بعينه، فله استرداده، وانتقال العصمة دون الملك مشروعٌ كالعصير إذا تخمَّرَ يبقى مملوكاً ولا يبقى معصوماً.
(6/27)
________________________________________
] المسروقِ قد سقطتَ[(1)] على ما يأتي في مسألة: القطعِ مع الضَّمان(2)، ثُمَّ إذا عادَ[(3)] المسروقُ إلى مالكِه، فالعصمةُ وإن عادَتْ فشبهةُ سقوطِها أَسْقَطَت[(4)] القطع.
وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((فَإنْ عَادَ)): أي إلى السَّرقة[(5)
__________
(1) قوله: سقطت؛ أي عند السرقة قال ابنُ ملك في ((شرح المنار)): العصمةُ تنتقلُ حال إنعقاد السرقة، ولكن إنَّما يتقرَّرُ هذا إذا قطعت يده؛ لأن ما يجب حقّاً لله تمامه بالاستيفاء، فإذا قطع تبيَّنَ أن الحرمةَ كانت لله، فلا يجبُ الضمان، وفي ((المبسوط)): سقوطُ الضمان في الحكم، أما فيما بينه وبين الله، فيبقى بالضمان فيما روي عن محمَّد، وإن لم يقطع تبيَّنَ أنّها كانت للعبد فيجب الضمان.
(2) ص ).
(3) قوله: ثمّ إذا عاد؛ بأخذه من السارق على ما هو الحكم حين قيام المسروق بعينِه أو بالشراءِ ممَّن باع منه السارق أو بوجهٍ آخر.
(4) قوله: أسقطت؛ فإن الحدود تدرأ بشبهة، ولو ركيكة على ما مرَّ، وهاهنا شبهةُ سقوط العصمة قائمة، فتكون سرقته كسرقةِ شيء غير معصوم.
(5) قوله: أي إلى السرقة؛ يرد عليه أن العود إلى السرقة مطلقٌ فيشملُ العودَ إلى سرقةِ ذلك الشيء أيضاً، فلا يفيدُ الحلِّ على هذا المعنى، ولا يضرُّ الشافعي رحمه الله.

والجواب عنه: إن هذه الصورة تستنثى من إطلاقه لا يقال: يلزمُ منه إبطال إطلاق السنة بمجرد الرأي؛ لأنّا نقول ليس دليلُ سقوط العصمة مجرّد رأي، بل مأخذه الكتاب والسنة.
(6/28)
________________________________________
] لا إلى المسروق، لئلا يعارضَ[(1)] دليلَ سقوطِ العصمةِ علا[(2)] أنَّه مطعون، طعنَهُ الطَّحَاوِي(3) - رضي الله عنه -.
__________
(1) قوله: لئلا يعارض… الخ؛ يعني إنّما حملنا العودَ المذكورَ في الحديث على العود إلى السرقة لا العود إلى المسروق؛ لئلا يكون الحديثُ معارضاً؛ لدليل يدلُّ على سقوطِ العصمةِ عند السرقة، لا يقال: دليلُ سقوط العصمة مجرَّد رأي من أصحاب الرأي، فما معنى اعتبار معارضته بقول صاحب الشرع؛ لأنا نقول: كلا؛ فإن دليلَ سقوطِ العصمةِ مستندٌ إلى الحديث الوارد في (باب الضمان عن السارق) على ما يأتي إن شاء اله تعالى، وإلى إشارة نصِّ آية القطع على ما مرَّ ذكرُهُ، فوجب أن يحملَ حديثُ العودِ على معنى لا يخالفُ غيرَه من الأدلّة، فإن الجمعَ بين الأدلة مهما أمكن من الواجبات الشرعية، والأخذ بظاهر دليل واحد من غير نظرٍ إلى ما يخالفُه ويعارضُه بعيد من شأن أرباب الفهم.
(2) قوله :علا؛ علاوةً على ما مرّ، وحاصله: إن الحديث المذكور الذي استند به الشافعيُّ رحمه الله في هذا الباب ضعيفٌ طعن عليه الطحاويُّ وغيرُه، قال ابنُ الهُمام في ((فتح القدير)): هنا طرقٌ كثيرةٌ متعدّدة لم تسلم من الطعن؛ ولذا قال الطحاوي: تتبعنا هذه الآثار فلم نجد له أصلاً.
(3) بقوله: قد تتبعنا هذه الآثار فلم نجد لشيء منها أصلا. ينظر: ((المبسوط))(9: 167)، و((البناية))(5: 589).
(6/29)
________________________________________
(وإن تغيَّرَ فسرقَ قُطِعَ ثانياً، كغزلٍ[(1)] قُطِع فيه، فنُسِجَ فسرق(2).
ولا إن سرقَ من ذي رحمٍ محرمٍ منه[(3)])، سواءٌ كان[(4)] المالُ ماله، أو مالُ أجنبيٍّ للشُّبهة في الحرز، (وبخلاف ماله من بيتِ غيرِه)؛ فإنه إذا سرق مال ذي رحم محرم من بيت أجنبيٍّ يقطع؛ لوجود الحرز.
__________
(1) قوله: كغزل؛ يعني سرق غزلاً، فقطعت يدُه، ثمّ وصلَ ذلك الغزل إلى مالكه فنسجَه ثوباً، ثمّ سرق ذلك السارق ذلك المنسوج قطع ثانياً؛ لأن المنسوجَ غير الغزل، فليست هذه السرقة سرقةُ الشيء السارق، فلا شبهة توجب سقوط الحدّ.
(2) لأنه صار بالتغيير كعين أخرى حتى تبدل اسمه ويملكه الغاصب به، وكذا في كل عين فرد على المالك فأحدث فيه صنعة لو أحدثه الغاصب في المغصوب انقطع حق المالك. ينظر: ((جامع الرموز))(2: 304).
(3) قوله: من ذي رحم محرم منه؛ احترزَ به عن السرقة من بيتِ ذي رحم غير محرم: كابن العم، وعن السرقة من بيت محرم غير ذي رحم: كأمّ الزوجة، والمراد بالمحرم: المحرم النسبي، فلو محرميته برضاع قطع كابن عمّ، هو أخ رضاعاً. كذا قال العَيْنِيُّ في ((شرح الكَنْز)).
(4) قوله: سواء كان؛ أشار به إلى أن المرادَ بالسرقةِ من ذي رحم محرم: السرقةُ من عنده، ومن بيتِه لا سرقة ماله، فإنه لو سرق مال غيرِه من بيتِه لم يقطع أيضاً؛ لوجود الدليل المسقط للحدّ، وهو وجودُ الشبهة في الحرز، فإن الانبساط بينه وبين ذي رحم محرم، والدخول بغير إذن كيفما شاء مخلٌّ بكمال الحرز، وقال محمد في ((الموطأ)): كيف يكون عليه القطع فيما سرق من أخته أو أخيه أو عمّته أو خالته، وهو لو كان محتاجاً زمناً، أو صغيراً، أو كانت محتاجة أجبر على نفقتِهم، فكان لهم في مالِه نصيب، فكيف يقطعُ مَن سرق ممَّن له في ماله نصيب‍‍‍؟
(6/30)
________________________________________
(ومالِ مرضعِتِه[(1)](2) ): سواءٌ سُرِقَ من بيتِها، أو من بيتِ غيرها، فإنَّه يُقْطِعُ خلافاً لأبي يوسف - رضي الله عنه -؛ لأنَّ الرِّضاعَ قلَّما يشتهر فلا انبساط، ولا يكفي الإذنُ بالدُّخُول شرعاً، فإنَّه متحقِّقٌ في الأختِ رضاعاً مع أنَّه يقطع.
(ولا من زوجٍ[(3)] وعرس ولو من[(4)] حرزٍ خاص له)؛ إنِّما قال هذا؛ لأنَّ فيه خلافَ الشَّافِعِيِّ(5)[(6)] - رضي الله عنه -.
__________
(1) قوله: ومال مرضعة؛ خصَّها بالذكر لردِّ قول أبي يوسف رحمه الله، وإلا فالحكمُ عامٌّ في كلِّ مَن به قرابة الرضاع، قال في ((الهداية)): إن سرق مَن أمِّه من الرضاعة قطع، وعن أبي يوسف: لا يقطع؛ لأنّه يدخلُ عليها من غير استئذان وحشمة بخلاف الأخت رضاعاً؛ لانعدام هذا المعنى عادةً فيها، وجه الظاهر: إنه لا قرابة، والمحرمية بدونها لا تحترم كما إذا ثبتت بالزنا والتقبيل بشهوة، وأقرب من ذلك الأخت من الرضاعة؛ وهذا لأن الراضع قلَّمَا يشتهرُ فلا بسوطة تحرزاً عن موقفِ التهمةِ بخلاف النسب.
(2) في ب و س و م: مرضعة.
(3) قوله: ولا من زوج؛ أي لا تقطعُ يد الزوجة بسرقةٍ من زوجِها، ولا تقطع يد الزوج بالسرقة من زوجته؛ لأنّ كمالَ الانبساط الذي بينهما، والإذن العادي لانتفاع كلٍّ منها في مال الآخر، والدخول بلا إذن مخلٌّ بالحرز الكامل.
(4) قوله: ولو من… الخ؛ الواو وصلية، وضمير له راجعٌ إلى كلٍّ من الزوج والعرس: أي ولو كان أخذ كلٍّ منهما من حرزٍ خاصٍّ للآخر بأن يكون المالُ في بيت آخر لا يسكنان فيه.
(5) ينظر: ((تحفة المحتاج))(9: 131)، و((مغني المحتاج))(4: 162)، وغيرهما.
(6) قوله: خلاف الشافعي؛ قال العَيْنِيُّ في ((البناية)) له فيه ثلاثة أقوال: في قولٍ يقطع، وبه قال مالكٌ وأحمد. والثاني: لا يقطع، كقولنا وقولِ أحمد، والثالث: يقطعُ الزوجُ بسرقةِ مال زوجتِه، ولا تقطعُ الزوجة بسرقةِ مال الزوج.
(6/31)
________________________________________
(ولا من سيِّدِه أو عرسِه[(1)]، أو زوجِ سيِّدتِه، ولا من مكاتَبِه[(2)]، ومضيِّفِه(3)[(4)]، ومَغْنَم(5)، وحمام[(6)]، وبيتٍ أُذنِ في دخولِه)؛ فإن كان[(7)
__________
(1) قوله: أو عرسه؛ الضميرُ راجعٌ إلى السيد: أي لا يقطع يد السارق، بالسرقة من مولاه، أو من زوجةِ مولاه، أو من زوجِ سيّدته، والعبدُ في هذا ملحقٌ بالمولى حتى لا يقطعَ في سرقة لا يقطع فيها المولى كالسرقةِ من أقارب المولى وغيرِهم؛ لأنه مأذونٌ له عادة في بيتِ هؤلاء؛ لإقامة المصالح. كذا في ((البحر)).
(2) قوله: ولا من مكاتَبة؛ بفتح التاء: أي لا يقطع المولى بالسرقة من مال مكاتِبه؛ لأن له حقّاً في إكسابه، وكلُّ سارق سرق ما له حقٌّ فيه لا يقطع، وعليه يتفرَّعُ عدم القطع بالسرقة من المغنم، ومن بيت المال.
(3) يشمل ما إذا سرق من البيت الذي أضافه فيه، أو من غيره من تلك الدار التي أذن له في دخولها، وهو مقفل أو في صندوق مقفل؛ لأن الدار مع جميع بيوتها حرز واحد، فبالإذن في الدار اختل الحرز فيكون فعله خيانة لا سرقة. ينظر: ((مجمع الأنهر))(1: 681).
(4) قوله: ومضيّفه؛ أي لا يقطعُ السارقُ الضيفَ بالسرقة ممَّن هو ضيف له؛ لوجود الإذن بالدخول المخلّ بالحرز؛ ولهذا لا يقطع بالسرقة من ختنه، وصهره، وامرأةِ أبيه، وزوج بنته، وابن امرأته، وأبويها. كذا في ((كافي الحاكم)) وغيره.
(5) للشبهة؛ لأن له فيه نصيباً.
(6) قوله: وحَمَّام؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم الأولى: أي لا يقطع بسرقة من حَمَّام؛ لأنه أذن فيه بالدخول، وكلُّ بيتٍ أذن فيه للدخول، فالسرقة منه غير موجبةً للقطع لاختلال الحرز: كحوانيت التجار، والخانات، ولو سرق من حَمَّام، أو خان، أو رباط، أو حوانيت التجار وبابها مغلق يقطع، وإن كان نهاراً في الأصح. كذا في ((الحاوي))، و((المجتبى)).
(7) قوله: فإن كان… الخ؛ يشيرُ به إلى أن عدم القطع إنّما هو إذا سرقَ في وقت الإذن لا مطلقاً، وكذا هو مختصٌّ بالمأذون فإنه لو أذن لقوم مخصوصين، فدخل غيرُهم وسرقَ ينبغي أن يقطعز كذا في ((البحر)).
(6/32)
________________________________________
] الإذنُ نهاراً(1)، فسرقَ ليلاً يقطع(2).
واعلم[(3)] أنَّ الحرزَ بالحافظِ لا اعتبارَ له عند وجودِ الحرزِ بالمكان، فإذا سُرِقَ في الحمامِ شيءٌ، وله حافظٌ فلا قطع[(4)]؛ لأنَّ الحمامَ حرز، وقد(5) أختلَ [الحرز](6) بالأذن(7) بالدُّخول، ولا اعتبارَ بالحافظِ فيه، فلا قطعَ بخلافِ الحافظِ في المسجد، فإنَّ المسجدَ ليس بحرز[(8)]، فاعتبرَ الحافظ.
__________
(1) في م: بنهار.
(2) في س يقع.
(3) قوله: واعلم… الخ؛ قال في ((الهداية)): الحرزُ على نوعين: حرز لمعنى فيه: كالبيوت والدور، وحرز بالحافظ: قال العبد الضعيف: الحرزُ لا بُدَّ منه؛ لأنّ الاستسرارَ لا يتحقَّق دونه، ثمّ هو قد يكون بالمكان، وهو المكان المعدّ لاحراز الامتعةِ: كالدورِ والبيوتِ والصندوقِ والحانوتِ، وقد يكون بالحافظ كمَن جلس في الطريق، أو في المسجد وعنده متاعه، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سرق رداءَ صفوان من تحت رأسِه وهو نائمٌ في المسجد))، وفي الحرز بالمكان لا يعتبر الاحرازُ بالحافظ، وهو الصحيح؛ لأنه محرزٌ بدونه، وهو البيت وإن لم يكن له باب، أو كان وهو مفتوح حتى يقطعَ السارق منه؛ لأنّ البناءَ لقصد الاحراز إلا أنه لا يجبُ القطع إلا بالاخراج منه؛ لقيام يده قبله بخلاف المحرزِ بالحافظ حيث يجب القطعُ فيه كما أخذ لزوال يد المالك بمجرّد الأخذ، فتتمُّ السرقةُ ولا فرقَ بين أن يكون الحافظُ مستيقظاً أو نائماً والمتاعُ تحته أو عنده، هو الصحيح؛ لأنه يعدُّ النائم عند متاعه حافظاً له في العادة.
(4) قوله: فلا قطع؛ هذه هو المفتى به، وظاهرُ المذهب، وقيل: يقطع عنده لا عندها. كذا في ((الفتح)).
(5) في م: قد.
(6) زيادة من ف.
(7) في م: باذن.
(8) قوله: ليس بحرز؛ لأن المسجدَ لم يبنَ لإحرازِ الأموال إنّما بني لذكر الله والعبادةِ بخلاف الحَمَّام.
(6/33)
________________________________________
(أو سرقَ شيئاً[(1)] ولم يخرجْهُ من الدَّار، أو دخلَ بيتاً وناولَ مَن هو خارج)(2)، هذا عندنا، وأمَّا عند أبي يوسف والشَّافِعِيِّ(3) - رضي الله عنهم - إن أخرجَ يدَه، وناولَ غيرَهُ فعليه القطع، وإن أدخلَ[(4)
__________
(1) قوله: أو سرق… الخ؛ حاصل أنه لو دخل بيتاً فسرقَ شيئاً، ولم يخرجه من الدار لا يجبُ القطع، وكذا إذا لم يخرجه بنفسه بل أعطاه غيرَه، وهو خارجٌ عن الدار فلا يقطع أحدُهما، أمّا الخارجُ فلعدم دخوله في البيت، وأمّا الداخلُ فلعدم إخراجه بنفسِه فلم تتمَّ السرقةُ من واحد منهما.
(2) إذ لا قطع عليهما؛ لأن الأول لم يخرج لاعتراض يد معتبرة على المال قبل خروجه، والثاني لم يهتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد. ينظر: ((درر الحكام))(2: 81).
(3) ينظر: ((التجريد لنفع العبيد))(4: 224)، و((مغني المحتاج))(4: 172)، و((فتوحات الوهاب))(5: 148)، والتفصيل المذكور في ((الذخيرة)) موجود في كتب الشافعية.
(4) قوله: وإن أدخل… الخ؛ حاصله أنه إن أخرجَ الداخلُ يده من البيت، وأعطاه الخارج فالقطعُ على الداخلِ لوجودِ الإخراج منه، وإن أدخل الخارجُ يدَه في البيت، فأعطاه الداخل وأخرجه الخارجُ فالقطعُ على الخارج؛ لوجودِ الإخراج منه.

والجواب عنه: إن الذي نقبَ ودخلَ وأخذ لم يوجد منه الإخراج في صورة المناولة؛ لاعتراض يدٍ معتبرةٍ على المال قبل خروجه، والذي تناول وهو خارجٌ سواء أدخل يده أو لم يدخل لم يوجد منه هتك الحرز، فكيف يجبُ القطعُ عليهما. كذا في ((الهداية)).
(6/34)
________________________________________
] الآخرُ يدَه، وناول(1) فأخذَهُ فعليه القطع. وفي ((الذَّخيرة))(2): إن وضعَ[(3)] فيما بين الدَّاخلِ والخارج، فأخذَ الآخر، ففي روايةٍ: لا يقطع، وفي رواية: يقطع يدهما.
(أو نقب[(4)] بيتاً فأدخلَ يدَهُ فيه، وأخذ شيئاً): هذا عندنا، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - يقطعُ كما في الصُّندوق[(5)].
__________
(1) في أ: وناوله.
(2) الذخيرة البرهانية))(ق198/ب).
(3) قوله: إن وضعَ يعني إن دخلَ فأخذ ووضعَ المسروق فيما بينَه وبين الخارج فأخذَه الآخر، ففي رواية: يقطعُ يدهما لوجود السرقةِ منهما، وفي رواية: لا يقطع يد واحد منهما؛ لعدم وجود تمام السرقة من أحدهما على ما مرّ.
(4) قوله: أو نقب… الخ؛ يعني إذا نقبَ بيتاً فأدخل يدَه من ذلك النقب، وهو خارجٌ عن البيت وأخذَ مالاً لم يقطع عندنا، وكذا إذا دخلَ من النقب، أو غيره وأخذ المالَ ووضعَه في النقب، ثمّ خرجَ وأخذَه فإنه لا يقطع على الصحيح على ما في ((الفتح)) وغيره؛ لأنه لم يتحقَّق منه إخراج المال خفية قبل خروجه، وبعد خروجه لَمَّا أخذ من النقب لم يأخذه عن حرز فضاء، كما إذا أدخل يده من النقب وأخذ، وهذا بخلاف ما إذا نقب ودخل فأخذ شيئاً وألقاه في الطريق بحيث يراه، ثم خرجَ فأخذه فإنه يقطع؛ لأن الرميَّ حيلةٌ يعتادها السراق، إمّا لتعسّر الخروج مع المتاع، أو لتمكُّن الدفع والفرار، فيعتبرُ الكلُّ فعلاً واحداً. كذا في ((شرح الكَنْز)) للزَّيْلَعِيّ.
(5) قوله: كما في الصندوق، فإنّه إذا أدخل يدَه في صندوقِ الصيرفيِّ فأخذ منه شيئاً قطع اتفاقاً.
(6/35)
________________________________________
قلنا[(1)]: ليس بهتكٍ حرزٍ على الكمال بخلافِ الصُّندوق؛ لأنَّ الممكنَ ليس إلاَّ هذا(2).
(أو طَرَّ(3) صُرَّةً[(4)] خارجةً من كمِّ غيرِه)، هذا يشملُ(5) ما إذا كانت الصُّرَّةُ غيرَ الكمّ، أو نفسَ الكمّ بأن جعلَ الدَّراهم في الكمِّ وربطَها من خارج، فبقي موضعُ الدَّراهم ـ وهو شيءٌ من الكمِّ ـ خارجُ(6) ما في الكمّ، فإذا طَرَّ لا يجبُ القطع.
واعلم أنَّه إذا كانت الصُّرَّةُ نفسَ الكمِّ يأتي بأربع صور؛ لأنَّه [إمِّا أن](7) جعلَ(8) الدَّراهمَ في داخلِ الكمّ والرِّباط من خارج، أو جعلَها على خارجِ الكمّ والرِّباط من داخل[(9)].
__________
(1) قوله: قلنا… الخ؛ حاصله: إن القطعَ إنّما يجب إذا وجد هتك الحرزِ على الكمال تحرزاً عن شبهةِ العدم، وهو بالدخول، وقد أمكن اعتبارُه فيما نحن فيه، بل هو المعتاد بخلاف الأخذ من الصندوق، فإن الممكن المعتاد فيه هو الأخذُ منه بإدخال اليدِ دون الدخول فافترقا.
(2) أي هتك الحرز على سبيل الكمال شرط؛ لأن به تتكامل الجناية، ولا يتكامل الهتك فيما يتصوَّر فيه الدخولُ إلا بالدخول ولم يوجد، بخلاف الأخذ من الصندوق؛ لأنّ هتكها بالدخول متعذر، فكان الأخذ بإدخال اليد فيها هتكاً متكاملاً فيقطع. ينظر: ((البدائع))(7: 66).
(3) الطَّرُّ: الشق والقطع من حد دخل: أي يشق أو يقطع ثوباً فيأخذ منه مالا . ينظر: ((طلبة الطلبة))(ص78).
(4) قوله: أو طَرَّ صرّة… الخ؛ الطَّرَّ بفتح الطاء المهملة، وتشديد الراء المهملة: الشق والقطع. والصُرّة: بضم الصاد المهملة، وتشديد الراء المهملة: الخرقة التي تشدُّ فيها الدراهم، وهذه المسألةُ ترشد إلى أن ما ذكره الأصوليون في بحث الخفي: إن الطرّار تقطع يده كالسارق دون النباش ليس على إطلاقه، بل هو خاصّ ببعض صور الطَرّ.
(5) في م: يشتمل.
(6) في ف: خارجا.
(7) في ص: لما.
(8) في م: يجعل.
(9) قوله: من داخل؛ أي من الجانبِ الداخل من الكمّ الذي يكون ملاصقاً ببشرة اليد.
(6/36)
________________________________________
وعلى التَّقديرينِ إمِّا أن طرَّ أو حلَّ[(1)] الرِّباط:
فإن[(2)] طرَّ والرِّباطُ من خارجٍ فلا قطع[(3)]، وهو ما مرّ قبل التَّقسيم.
وإن طرَّ والرِّباط من داخل، وذلك بأن يدخلَ يدَهُ في الكمّ، فيقطعُ موضعَ الدَّراهم، فيخرجَ الدَّراهم مع الطَّرف، فأخذَ الدَّراهمَ من الكمّ، فيقطعُ للأخذِ من الحرز.
وإن حلَّ[(4)] الرِّباط، وهو خارجٌ قطع؛ لأنَّه إذا حلَّ الرِّباط يبقي الدَّراهمُ في الكمّ، فلا بُدَّ أن يدخلَ يدَهُ في الكمّ، فيأخذَ الدَّراهم.
__________
(1) قوله: أو حلّ الحلّ؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد اللام: بالفارسية: كشادن، والحاصل: إنه على التقديرين: أي تقدير كون الدراهم داخل الكمّ والرباط من خارج، وتقدير كون الدراهم خارج الكمّ والرباط من داخل لا يخلو: إمّا أن يطرّ الطرار: أي يشقُّ ويقطعُ تلك الصُرّة، فيأخذ تلك الدراهم، وإما أن يحلّ الرباط فيأخذها من غير شقّ.
(2) قوله: فإن؛ شروعٌ في حكمِ كلٍّ من الصور الأربع بعد تمهيدها.
(3) قوله: فلا قطع؛ لأن الرباطَ في هذه الصورة من خارج، فبالطرّ يؤخذُ أخذ الدراهم من الخارج الظاهر، ولا يوجد هتكُ الحرز بخلاف الصورة التي تليها، فإن الرباط هناك من داخل، فبالطرِّ يتحقَّق الأخذ من الحرز وهتك، وهو الكمّ.
(4) قوله: وإن حلّ… الخ؛ قال في ((الهداية)): ولو كان مكان الطرر حلّ الرباط، ثم الأخذ في الوجهين ينعكس الجواب لإنعكاس العلّة. انتهى. قال في ((النهاية)): يعني فيما إذا حلّ من خارج يقطع؛ لأنه لَمَّا حلَّ الرباط الذي كان من خارج، وقعت الدارهم في الكمّ، فاحتاج في أخذ الدراهم إلى إدخال اليد في الكمّ، فيجبُ القطعُ، وأمّا إذا كان حلُّ الرباط من داخل، فإنّه لا يقطع؛ لأنه لَمَّا حلَّ الرباط من خارج بقيت الدراهمُ خارجَ الكم، فلم يهتِك الحرز، وهو نظير من نقبَ وأدخل يده فأخرج شيئاً.
(6/37)
________________________________________
وإن حلَّ الرِّباط وهو داخلٌ لا يقطع؛ لأنَّه أدخلَ يدَهُ في الكمِّ فحلَّ الرِّباط، فيبقى الدَّراهم خارجَ الكمّ، فأخذها من خارج.
وعند أبي يوسفَ[(1)] - رضي الله عنه - يقطعُ في الوجوهِ كلِّها؛ لأنَّ الكمَّ حرز.
__________
(1) قوله: وعند أبي يوسف… الخ؛ قال في ((الهداية)): عن أبي يوسف: إنه يقطع على كلّ حال؛ لأنه محرزٌ إمّا بالكمّ أو بصاحبه.
قلنا: الحرزُ هو الكمُّ؛ لأنه يعتمدُه، وإنّما قصده قطع المسافة، أو الاستراحة فأشبه الجوالق. انتهى. قال في ((النهاية)): أي لأن صاحبَ المال يعتمدُ على الكمِّ في حفظِ المالِ لا قيام نفسه عند المال: كالبيتِ إذا أحرزَ به المال، فإنّه محرزٌ بالبيت دون الصاحب، وقصد صاحبُ الكمّ من وجودِه عند المال ليس حفظُ المال، بل لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون هو في حالة المشي، أو في غيرِها فإن كان في حالةِ المشي، فمقصودُه قطعُ المسافة لا حفط المال، وإن كان في غيرِ حالةُ المشي فمقصوده الاستراحة فقط، والمقصودُ هو المعتبرُ في هذا الباب، ألا ترى أن مَن شقَّ الجوالق الذي على إبل، فأخذ الدراهم منها يقطع؛ لأن صاحبَ الجوالق اعتمدَ عليها حرزاً، ومَن سرقَ الجوالق بما فيه، والجوالقُ على إبل لا يقطع؛ لأن السائقَ أو القائد إنّما يقصدُ بفعلِهِ قطعَ المسافةِ والسوقَ لا الحفظ فلم يصر الجوالق مقصود والحرز.
(6/38)
________________________________________
(أو سرقَ جملاً من قِطار(1)[(2)]، أو حِمْلاً[(3)]، وقُطِعَ إن حفظَهُ(4) ربُّهُ)؛ فإن القائدَ[(5)]، والسَّائقَ، والرَّاكبَ لا يقصدونَ إلاَّ قطعَ المسافةِ دون الحفظ، حتَّى لو كان هناك حافظ[(6)] قُطِعَ سارق الجمل والحِمْل، (أو نام عليه[(7)
__________
(1) قِطار: وهو الإبل على نسق واحد، من قَطَرَ الإبل تقطيراً: أي جعلها قطاراً بعضُها على أثر بعض. ينظر: ((طلبة الطلبة))(ص198).
(2) قوله: من قِطار؛ بكسر القاف وقد أخطأ صاحب ((الدر المختار)) حيث ضبطَه بفتح القاف، وهو عبارةٌ عن الإبل التي تكون على نسقٍ واحد.
(3) قوله: أو حملاً؛ أي الحمل الذي على الإبل، أو غيرِه من الدواب، قال في ((غياث اللغات)): حمل: بفتح أوّل، وسكون ثاني: برد اشتن: وبمعنى: بارشكم وباري كه بر كَردن برداء ندو بالكسر بادي كه بريشت يا برسر كشند.
(4) في ب و م: حفظ.
(5) قوله: فإن القائد… الخ؛ علّة لعدمِ القطعِ بسرقةِ الجملِ من القطار، وبسرقةِ الحمل، ودفعٌ لِمَا يتوهَّمُ من أنه كيف لا يقطع مع وجود الحافظ، وهو الراكب على الإبل، أو القائد هو الذي يقودُ الدابة، بأخذ الزمام ونحوه وهو قدّامُها، والسائق هو الذي يسوقُها من خلف.
(6) قوله: حافظ؛ أي غيرٍ من ذكرٍ، ولو كان الحافظُ هو الراعي اختلفوا فيه: فقيل: يقطع، وكثير من المشايخ أفتوا بقول البَقَّالي من أنه لا يقطع؛ لأن الراعي لم يقصد حفظَ الدواب من السرّاق بخلافِ غيرِهِ. كذا في ((النهر))، وغيره.
(7) قوله: أو نام عليه؛ أشار به إلى أن النوم على حمل يكفي للحفظ، وهذا من المسائل التي ذكروا أن النائم فيها حكمه حكم اليقظان، وقد سردها صاحبُ ((الأشباه والنظائر))، وأصله ما ورد: ((إن صفوان بن أمية رضى الله عنه نام في المسجد وجعل رداءه تحت رأسه فسرقه سارق فأتى به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده))، أخرجه مالك في ((الموطأ))، وأبو داود، والنَّسَائِيُّ، وابنُ ماجه، وغيرهم، ويطلب تفصيله من ((التعليق الممجد على موطا محمد)).
(6/39)
________________________________________
])؛ فإن النَّومَ على الحِمْل، أو بقربٍ منه حفظٌ له.
(أو شقَّ[(1)] الحِمْل(2) وأخذَ منه[(3)] شيئاً(4) )؛ فإنّ الجُوالِقَ(5)[(6)] حرز.
(أو أدخلَ يدَهُ[(7)] في صندوقِ[(8)] غيرِه، أو كمِّه، أو جيبه(9)[(10)])، المرادُ إدخالُ اليدِ في الكمّ؛ للأخذ[(11)] لا لحلِّ الرِّباط، كما مرّ(12).
__________
(1) قوله: أو شقّ؛ أي شقّ حملاً فأخذ ما فيه، وإنما يقطع؛ لأن صاحبَ المال اعتمد الجوالق، فكان هاتكاً للحرز بخلاف ما إذا أخذ الجوالقَ بما فيه، ومثله: ما إذا سرق شيئاً من الفسطاط قطع، وان سرق نفس الفسطاط لا. كذا في ((البحر)).
(2) لأن صاحب المال اعتمد الجوالق فكان هاتكاً للحرز بخلاف ما إذا أخذ الجولق بما فيه. ينظر: ((البحر))(5: 66).
(3) قوله: وأخذ منه؛ أي أخرج منه بيده، فإن خرجَ بنفسه ثمّ أخذه فلا قطع.
(4) قيد بالأخذ من الحمل؛ لأنه إذا لم يأخذ منه بالذات بل أخذ من الأرض ما سقط منه بسب شقه لا يقطع؛ لأن لم يأخذ من الحرز. ينظر: ((رد المحتار))(3: 205).
(5) الجُوالِق: وعاءٌ من صوف أو شعر أو غيرهما، وهو عند العامة: شُوال. ينظر: ((المعجم الوسيط))(ص148).
(6) قوله: فإن الجُوالق: بضم الجيم، مع فتح اللام وكسرها، وبكسر الجيم واللام: هو الوعاء المعروفُ الذي توضع فيها الأمتعة.
(7) قوله: أو أدخل يده؛ وكذا لو أدخل شيئاً آخر يعلق بالمتاع.
(8) قوله: في صندوق؛ بضم الصاد المهملة، وقد تفتحُ: جمعه صناديق: كعصفور وعصافير. كذا في ((القاموس))، وفي ((المصباح)) إن الفتح عامي.
(9) الجيب في العرف يطلق على ما يشق من الثوب بجانب لتحفظ فيه الدراهم ونحوها. ينظر: ((العمدة))(2: 326).
(10) قوله: أو جيبه؛ جيب القميص ونحوه؛ بالفتح طوقُه بالفارسية: كَريبان، وفي العرف يطلقُ على ما يشقُّ من الثوب بجانبٍ لتحفظ فيه الدراهم ونحوها.
(11) قوله: للأخذ؛ سواءٌ كان ربطُه أو لم يربطه.
(12) أي قبل أسطر.
(6/40)
________________________________________
(أو أخرجَ من مَقْصُورةٍ(1) دارٍ[(2)] فيها[(3)] مقاصيرَ إلى صحنِها(4)، أو سرقَ ربَّ مَقْصَورةٍ من أُخرى فيها)، أرادَ موضعاً كمدرسة، أو نحوها فيها حجراتٍ يسكنُ في كلِّ منها إنسانٌ لا تعلَّقَ له[(5)] بالحجرةِ(6) التي يسكنُ(7) فيها غيرُه، لا كالدَّار[(8)] التي صاحبَها واحد، وبيوتُها مشغولةٌ بمتاعِهِ وخدامِه، وبينهم انبساط.
(أو ألقى شيئاً[(9)] من حرزٍ في الطَّريق، ثُمَّ أخذَه، أو حملَه على حمار فساقَه وأخرجَه من الحرز)، هذا عندنا.
__________
(1) مقصورة الدار: حجرة من حجرها، ومقصورة المسجد: مقام الإمام. ينظر: ((المغرب))(ص385).
(2) قوله: من مقصورة دار؛ هو مفردُ المقاصير، وهي الحجرات والبيوت بلسان أهل الكوفة. كذا في ((البناية)).
(3) قوله: فيها؛ أي في مقصورتِهِ التي هي مسكنُه، والحاصلُ أنه إذا أخرج من إحدى المقاصير إلى صحنِ الدار، أو إلى مقصورةٍ أخرى قطع؛ لأن كلَّ مقصورة باعتبارِ ساكِنها حرزٌ على حدّة، فيوجد الإخراج من الحرز.
(4) أي حجر ومنازل وفي كل مقصورة مكان يستغني به أهله عن الانتفاع بصحن الدار وإنما ينتفعون به انتفاع السكة فيكون إخراجه إليه كإخراجه إلى السكة لأن كل مقصورة حرز على حدة إذ لكل مقصورة باب وغلق على حدة،، ومال كل واحد محرز بمقصورته، فكانت المنازل بمَنْزلة دور في محلّة، وإن كانت صغيرة بحيث لا يستغني أهل المنازل عن الانتفاع بصحن الدار بل ينتفعون به انتفاع المنازل فهي بمَنْزلة مكان واحد فلا يقطع. ينظر: ((التبيين))(3: 222-223).
(5) قوله: لا تعلق له… : أي لا يحتاجُ في الانتفاعِ وقضاءِ حوائجِهِ الضروريّةِ إلى حجرةٍ أخرى ولا إلى صحنِ الدار.
(6) في م: بالحجر.
(7) في ف: سكن.
(8) قوله: كالدار؛ فإن السرقةَ منها لا توجبُ القطع بمجرّد الإخراج إلى الصحن، أو إلى حجرةٍ أخرى لِمَا مرّ.
(9) قوله: ألقى شيئاً؛ أي أخذ شيئاً من الحرز وألقاه في الطريق ثمّ خرجَ وأخذه.
(6/41)
________________________________________
وأمَّا عند الشَّافِعِيِّ(1) - رضي الله عنه - يقطعُ(2) سواءٌ أخذَه أو تركَه[(3)] في الطَّريق.
وعند زُفر - رضي الله عنه - لا قطعَ في الإلقاء[(4)](5) ولا في الحمل، فإنَّ الإلقاءَ ليس بإخراجٍ كمناولةِ مَن هو خارج، وكما إذا ألقي ولم يأخذ.
__________
(1) ينظر: ((المحلي))(4: 196)، و((تحفة المحتاج))(9: 146)، و((نهاية المحتاج))(9: 459)، وغيرها.
(2) في م: لا يقطع.
(3) قوله: سواء أخذه أو تركه؛ لأنّه قد وُجِدَ منه الإخراجُ من الحرز، ونحن نقول: إذا خرجَ ولم يأخذه، فهو مضيّعٌ لا سارق، ولا قطع على مضيِّع المال، ومتلفه، كما لو أخذ مال رجل وألقاه في البحر، أو أتلفه بوجه آخر.
(4) قوله: لا قطع في الإلقاء ولا في الحمل؛ أمّا عدمُ القطع في الإلقاء؛ فلأن الإلقاء ليس بإخراج؛ ولهذا لا يقطعُ إذا ألقاه في الطريق وذهبَ ولم يأخذه، ولا إذا ناولَ الخارج على ما مرّ تفصيله، وأمَّا عدم القطعُ في الحمل؛ فلأنّه لم يوجد منه الإخراج، بل من الدابة.
(5) العبارة في ف: لا في الإلقاء.
(6/42)
________________________________________
قلنا[(1)]: إذا لم يَطْرَأْ(2) عليه يدٌ حقيقةً(3) كان في حكمِ يدِه، فتَمَّ بالأخذِ بعد الخروج، بخلاف مسألتي المناولة وعدم الأخذ(4).
وفي مسألة الحملِ(5) سير(6) الدَّابة يضافُ إليه(7).
فصل [كيفة القطع، وإثباته](8)
__________
(1) قوله: قلنا… الخ؛ جواب عن قولِ زفر رحمه الله بحيث يتضمَّن الجوابَ عن قول الشافعي، والحاصلُ أنه فرَّقَ بين هذه المسألة وبين مسألةِ المناولة، فإن طرأان اليد الأخرى هنا أبطل نسبة الأخذ إليه، فأسقط القطع بخلاف ما نحن فيه، فإنه وإن ألقاه في الطريق، لكنّه لم تطرأ يدٌ أخرى عليه، فإذا أخذه تمّ منه فعل السرقة، بخلاف ما إذا تركه، ولم يأخذه فإنه تضييع، وأمّا مسألةُ الحملِ فسيرُ الدابة يضافُ إليه فيكونُ هو الآخذ.
(2) في ف: يطر.
(3) العبارة في م: يد غيره حقيقة. وفي س: للحقيقة.
(4) حاصله أن الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة المناولة: أن طروء اليد الأخرى هنا أبطل نسبة الأخذ إليه، فاسقط القطع بخلاف ما نحن فيه فإنه وإن ألقاه في الطريق لكنّه لم تطرأ يدٌ أخرى عليه، فإذا أخذه تَمَّ منه فعل السرقة بخلاف ما إذا تركه ولم يأخذه فإنه تضييع. ينظر: ((عمدة الرعاية))(2: 327).
(5) في ب: الجمل.
(6) في أ و ص: وسير.
(7) لسوقه إيّاه؛ لأن الحمار لو خرج بنفسه لا يقطع السارق؛ لأن للبهيمة اختياراً. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 250).
(8) زيادة من ق.
(6/43)
________________________________________
(يقطعُ يمينُ السَّارق[(1)] من زندِه(2)[(3)] وتحسم(4)[(5)]، ثُمَّ رجلُه اليُسرى[(6)
__________
(1) قوله: يقطع يمين السارق… الخ؛ أمّا القطعُ فثابتٌ بنصّ قوله تعالى: {السارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسب نكالاً من الله}، وأمّا تخصيصُ اليمين فلأحاديث وردت بذلك ولقراءة عبد الله بن مسعود: {فاقطعوا ايمانهما} وهي قراءة مشهورةٌ أخرجَها البَيْهَقِيُّ وغيرُه جازَت بها الزيادةُ على الكتاب، وتقييد إطلاقه، فاندفع ما أورد أن هذا النسخ إطلاق الكتاب بأخبار الآحاد، وهو لا يجوز عندنا.
(2) الزند: عظمات الساعد. ينظر: ((المغرب))(ص211).
(3) قوله: من زنده؛ الزندُ بالفتح مفصلُ طرفِ الذراعِ في الكف واليد، وإن كانت مشتملةً من الكفِّ إلى الإبط لكن لَمّا كان قد تطلقُ على المجموع، وقد تطلقُ من الأصابع إلى المرافق كما في آية الوضوء، وقد تطلقُ من الأصابع إلى الزند، وكان هذ <هذا> لأقلّ متيّقناً أخذ به، فإن العقوباتَ إنّما يؤخذُ فيها بالمتيّقن، وقد تأيّد ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّه قطعَ يد السارق من المفصل)) أخرجه ابنُ أبي شيبةَ في ((مصنّفه))، وابنُ عدَيّ في ((الكامل))، والدَّارَقُطْنِيُّ في ((سننه))، ولأبي الشيخ في ((كتاب الحدود)) عن ابن عمر: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يقطعون السارقَ من المفصل)).
(4) أي كواه لكي لا يسيل دمه. ينظر: ((القاموس))(4: 98).
(5) قوله: وتحسم؛ أي تلك اليد المقطوعة، والحسمُ الكيُّ بحديدةٍ محمَّاة، وقيل: الكيُّ بزيتٍ مغليٍّ ونحوه؛ وهذا لئلا يسيل دمه فيؤدي إلى التلف، وقد ((أمر به النبي صلى الله عليه وسلم)) أخرجَه الحاكمُ في ((المستدرك)) وصحَّحه، والدَّارَقُطْنِيُّ وأبو داود في ((المراسيل))، وعبدُ الرزاق وغيرُهم.
(6) قوله: ثمّ رجله اليسرى… الخ؛ الأصلُ في هذا الباب ما أخرجه محمّد في ((كتاب الآثار)) بسند جيد عن علي رضي الله عنه: قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنه السجن حتى يحدثَ خيراً، إني استحيي من الله أن ادعه ليس له يدٌ يأكل بها، ويستنج بها، ورِجل يمشي عليها. وأخرج عبد الرزاق عن الشعبي: كان عليٌّ لا يقطعُ إلا اليدَ والرجل، وإن سرقَ بعد ذلك سجنَه، ويقول: إنّي لاستحي من الله أن لا ادع له يداً يأكل بها، ويستنبح. وفي روايةِ ابنُ أبي شيبة: كان عليٌّ لا يزيدُ على أن يقطع السارق يداً ورجلاً، فإذا أتي به بعد ذلك، قال: إنّي لاستحي من الله أن أدعه لا يتطهر لصلاته، ولكن احبسوه. وفي روايةٍ لابن أبي شيبه: إن ابنَ عبّاس كتب إلى نجدة الحروري بمثل قول عليّ وإن عمرَ استشارهم في سارق فاجمعوا على مثل قولِ عليّ. وفي روايةٍ له عن عمر، قال: إذا سرق فاقطعوا يده، ثمّ إن عاد فاقطعوا رجلَه ولا تقطعوا يده الأخرى وذروه يأكل بها، ويستنج بها، ولكن احبسوه عن المسلمين.
(6/44)
________________________________________
] إن عاد، فإن عادَ ثالثاً [لا](1) ويسجن(2) حتى يتوب)، إمَّا السِّجن(3) فقط، وإمِّا مع التَّعزير عند بعضِ مشايخنا، وعند الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه - يقطعُ يدُهُ اليسرى، ثُمَّ رجلُهُ اليمنى(4)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سرقَ فاقطعوه، فإن عادَ فاقطعوه، فإن عاد فاقطعوه))(5).
ومذهبُنا مأثور(6) عن عليّ(7) - رضي الله عنه -، ولو كان[(8)] الحديثَ صحيحاً لما خالفَه، ولما أخذَ الصَّحابةُ بقولِه، والطَّحَاوِي قد طعنَ في الحديث[(9)
__________
(1) سقطت من م.
(2) في ص و ف و ق: وسجن، وفي م: يسجن.
(3) في م: يسجن.
(4) في م: اليمين.
(5) سبق تخريجه (ص ).
(6) في ص: ما نقل.
(7) قال الشعبي وغيره: كان علي - رضي الله عنه - يقول: إذا سرق السارق مراراً قطعت يده ورجله، ثم إن عاد استودعته السجن. وقال الزهري: انتهى أبو بكر في قطع السارق إلى اليد والرجل. وقال مكحول: إن عمر - رضي الله عنه - قال : إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى وذروه يأكل بها الطعام ويستنجي بها من الغائط، ولكن احبسوه عن المسلمين. في ((مصنف ابن أبي شيبة))(6: 483)، و((مصنف عبد الرزاق))(10: 186). وينظر: ((نصب الراية))(3: 374)، و((الدراية))(2: 112).
(8) قوله: ولو كان… الخ؛ قال في ((فتح القدير)) في ((المبسوط)) الحديث غير صحيح، ولئن سلم يحمل على الانتساخ؛ لأنه كان في الابتداءِ تغليظٌ في الحدود كقطعِ أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم. انتهى. ثمّ قال في ((الفتح)) بعد نقل ما مرّ عن عمر وعليٍّ وابنِ عباس إن هذا قد ثبتَ ثبوتاً لا مردَّ له وبعيدٌ أن يقطعَ النبي صلى الله عليه وسلم السارقُ أربعةً ثُمّ يقتلُه، ولا يعلمه مثل عليٍّ وعمر وابنٍ عبّاس من الصحابة الملازمين له، ولو غابوا لا بُدّ من علمِهم عادةً، فاتباع علي رضي الله عنه إما لضعف ما مرَّ أو لعلمِه بأن ذلك ليس حدّاً مستمراً بل من رأي الإمام.
(9) قوله: قد طعنَ في الحديث؛ حيث قال: تتبعنا هذه الآثار فلم نجد لها أصلاً، وقد مرَّ أن أخبارَ القطع أربع مرّات لم تثبت بسند محتجّ به.
(6/45)
________________________________________