المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التهذيب المقنع في إختصار الشرح الممتع - جزء ثاني


gogo
10-22-2019, 11:21 AM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : التهذيب المقنع في إختصار الشرح الممتع
كتبه: أحمد بن محمد خليل
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
سلطنة عمان في 24 / ربيع الأول / 1426 هـ
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
ولا فَرْقَ بين أن تقامَ الصَّلاةُ وأنت في المسجدِ أو في بيتِكَ، مع وجوب الجماعةِ عليك. وعلى هذا؛ فلو سمعتَ الإقامةَ وأنت في بيتِك، وقلتَ: سأصلِّي سُنَّةَ الفجرِ؛ لأنَّ الفجرَ تطول فيها القِراءةُ؛ وبيتي قريبٌ مِن المسجدِ؛ ويمكنني أن أدركَ الركعةَ الأولى، فإنَّ ذلك لا يجوزُ لعمومِ الحديثِ: "إذا أُقيمت الصَّلاةُ" ، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامةَ فامشوا إلى الصَّلاةِ" ، فقوله: "فامشوا" أمْرٌ، وبناءً على ذلك: لا فَرْقَ بين أن تُقامَ الصَّلاةُ وأنت في المسجدِ، وبين أن تُقامَ وأنت في بيتِك، فمتى سمعتَ الإقامةَ وأنت في الركعة الأُولى _ على ما اخترناه من الأقوال فاقْطَعْهَا واذهبْ، وإن كنت في الثانية فأتمَّها خفيفةً، هذا ما لم تخشَ فواتَ الجماعةِ؛ لأنك إذا كنتَ خارجَ المسجدِ رُبَّما تخشى فواتَ الجماعةِ؛ ولو كنت في الركعة الثانية، فحينئذٍ اقْطَعْها؛ لأنَّ صلاةَ الجماعةِ واجبةٌ والنافلةُ نَفْلٌ.
وقولُ المؤلِّفِ: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، مرادُه إذا كنتَ تريدُ أنْ تصلِّيَ مع هذا الإمامِ، أما إذا كنتَ لا تريدُ أنْ تصلِّيَ معه، فلا حَرَجَ عليك أن تتنفَّلَ، فلو كان بجوارِكَ مسجدان وسمعتَ إقامةَ أحدِهما، وأردت أن تصلِّيَ الرَّاتبةَ؛ لتصلِّيَ في المسجدِ الثاني؛ فلا حَرَجَ عليك.
قوله: "ومن كبّر قبل سلام إمامه لحق الجماعة" .أي: إذا كَبَّرَ المأمومُ قبلَ سلامِ إمامه التَّسليمةَ الأُولى، فإنه يدركُ الجماعةَ إدراكاً تاماً. والقول الثاني : أنَّه لا يدركُ الجماعةَ إلا بإدراكِ ركعة كاملة. وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية .
(1/344)
________________________________________
وينبني على هذا: أنك لو أتيتَ إلى مسجدٍ والإمامُ قد رَفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ في الركعةِ الأخيرةِ، وأنت تعلمُ أنك ستدركُ مسجداً آخر مِن أول الصَّلاةِ، أو ستدرِكُ ركعةً في المسجدِ الثَّاني فإننا نقول لك: لا تدخل مع هذه الجماعةِ؛ لأنَّك سوف تدرك جماعةً إدراكاً تاماً في مسجدٍ آخر، أما على كلامِ المؤلِّفِ فادْخُلْ مع الإمامِ؛ لأنك سوف تدركُ الجماعةَ ما دمتَ قد أدركتَ تكبيرةَ الإحرامِ قبلَ تسليمةِ الإمامِ الأُولى.
قوله: "وإن لحقه راكعا, دخل معه في الركعة ً" أي: لَحِقَ المأمومُ الإمامَ راكعاً دخَلَ معه في الرَّكعةِ، ويكون قد أدركَ الرَّكعةَ.
قوله: "وأجزأته التحريمة" أي: تكبيرةُ الإحرامِ وأجزأته عن تكبيرةِ الرُّكوعِ، فيكبِّرُ مرَّةً واحدة وهو قائمٌ، ثم يركعُ بدون تكبير. والقول الثاني في المسألة : أنه يجبُ أن يكبِّر للرُّكوعِ. ولكن هنا أمْرٌ يجبُ أن يُتفَطَّنُ له، وهو أنَّه لا بُدَّ أنْ يكبِّرَ للإحرامِ قائماً منتصباً قبل أنْ يهويَ؛ لأنَّه لو هَوى في حالِ التكبيرِ لكان قد أتى بتكبيرةِ الإحرامِ غير قائمٍ وتكبيرةُ الإحرامِ لا بُدَّ أن يكونَ فيها قائماً.
(1/345)
________________________________________
قوله: "ولا قراءة على مأموم" أي: لا يجب على المأموم أن يقرأَ مع الإِمامِ لا في صلاة السِّرِّ ولا في صلاة الجهرِ. وأن المأموم لو وقف ساكتاً في كل الركعات فصلاته صحيحة, وهذا قول ضعيف جداً. والقول الثاني : وجوبها على المأمومِ في كلِّ الصلواتِ السريةِ والجهريَّةِ، وهذا مقابلٌ للقولِ الأولِ. والقول الثالث : أنها تجبُ على المأمومِ في الصَّلاةِ السريَّةِ دون الجهرية، وهذا القولُ اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابن تيمية . والقولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ على المأمومِ في الصَّلاةِ السِّريَّةِ والجهريَّةِ، ولا تسقطُ إلا إذا أدركَ الإمامَ راكعاً، أو أدركَه قائماً، ولم يدرك أنْ يكملَ الفاتحةَ حتى رَكَعَ الإمامُ، ففي هذه الحالِ تسَقطُ عنه .
مسألة : سَبَق إذا أدركَ الإمامَ راكعاً فإنَّ الماتنَ صَرَّحَ بأنه يكبِّرُ للإحرام؛ وتجزئُه عن تكبيرةِ الرُّكوع ، وأنه لو كَبَّرَ للرُّكوعِ لكان أفضلَ، لكن إذا أدركَهُ في غيرِ الرُّكوعِ، مثل أنْ يدركَ الإمامَ وهو جالسٌ، أو يدركِهُ بعدَ الرَّفْعِ مِن الرُّكوعِ، أو يدرِكَهُ وهو ساجدٌ فهنا يُكبِّرُ للإحرامِ، لكن هل يُكبِّرُ مرَّةً ثانية أو لا يُكبِّرُ؟ الجواب : هذا موضعُ خِلافٍ بين العلماءِ: القول الأول : أنه يَنحطُّ بلا تكبير. (و) القول الثاني : أنه يَنحطُّ بتكبيرٍ. والذي نَرى في هذه المسألةِ أنَّ الاحتياطَ أن يكبِّرَ. ولكن مع هذا نقولُ: لو كَبَّرَ الإنسانُ فلا حَرَجَ، وإن تَرَكَ فلا حَرَجَ ونجعلُ الخِيَارَ للإنسانِ؛ لأنه ليس هناك دليلٌ واضحٌ للتَّفريقِ بين الرُّكوعِ وغيرِه.
قوله: "ويستحب في إسرار إمامه وسكوته" أي: يُستحبُّ للمأمومِ قراءةُ الفاتحةِ وغيرِها. "في إسرارِ إمامِهِ" وهذا في الصَّلاةِ السِّريَّةِ. " وسكوته" وهذا في الصَّلاة الجَهريَّةِ.
(1/346)
________________________________________
فما هي السكتاتُ في الصَّلاةِ الجهرية. الجواب : السَّكتاتُ: قبلَ الفاتحةِ في الرَّكعةِ الأُولى، وبينها وبين قراءة السُّورةِ في الرَّكعةِ الأُولى والثانية، وقبلَ الرُّكوعِ قليلاً في الرَّكعة الأُولى والثانية . فإذا سَكَتَ الإمامَ في هذه المواضع؛ فإنَّه يقرأُ استحباباً لا وجوباً، وإذا سَكَتَ لعارضٍ، مثل: أن يُصابَ بسُعَالٍ أو عُطَاسٍ، يقرأ: لأنَّ الإمامَ لا يقرأُ.
تنبيه: قولنا: يستحبُّ للمأمومِ قراءةُ الفاتحةِ وغيرِها، مبنيٌّ على كلامِ المؤلِّفِ، وقد سَبَقَ أنَّ قِراءةَ الفاتحةِ على المأمومِ رُكْنٌ لا بُدَّ منه فيقرؤها ولو كان الإمامُ يقرأ .
قوله: "وإذا لم يسمعه لبعد" أي: ويستحبُّ أنْ يقرأَ إِذا لم يسمعْ الإمامَ لبُعْدٍ مثل: أن يكون المسجدُ كبيراً، وليس هناك مُكَبِّرُ صوتٍ فيقرأ المأمومُ إذا لم يسمعْ قراءةَ الإمامِ حتى غيرَ الفاتحةِ، ولا يسكتُ؛ لأنَّه ليس في الصَّلاةِ سكوتٌ.
قوله: "لا لطرش" الطَّرشُ: الصَّممُ، أي: لا إنْ كان لا يسمعُ لصَمَمٍ، لأنَّه إذا قرأ لصَمَمٍ غالباً أشغل الذي حولَه عن استماعِه لقراءةِ إمامِهِ.
والحاصل : أنه إذا لم يسمعْ لمانعٍ خاصٍّ به وهو الصَّمَمُ؛ فإنَّه لا يقرأُ، اللَّهُمَّ إلا لو قُدِّرَ أنَّ كُلَّ المأمومين طُرْشٌ، فحينئذٍ يقرأُ؛ لأنَّه في هذه الحالِ لن يُشوِّشَ على أحدٍ . وإن كان لا يسمع الإمام لمانع عامٍّ كالبعد والضجَّة, كما لو كان حول المسجد ورش تشتغل فإنه يقرأ.
(1/347)
________________________________________
قوله: "ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه" أي: أنَّ المأمومَ يقرأْ الاستفتاحَ، ويقرأُ التعوُّذَ فيما يجهرُ فيه الإمامُ، وظاهرُ كلامِهِ : أنه يفعلُ ذلك، وإنْ كان يسمعُ قِراءةَ الإمامِ، وهذا اختيارُ بعضِ أهلِ العِلْم. ولكن هذا القولُ فيه نَظَرٌ ظاهر. والصَّوابُ: أنَّه لا يستفتحُ ولا يستعيذُ فيما يجهرُ فيه الإمامُ. وعلى هذا؛ فإذا دخلتَ مع إمامٍ وقد انتهى مِن قراءةِ الفاتحةِ، وهو يقرأُ السُّورةَ التي بعدَ الفاتحةِ، فإنَّه يسقطُ عنك الاستفتاحُ، وتقرأُ الفاتحةَ على القولِ الرَّاجحِ وتتعوَّذُ؛ لأنَّ التعوّذَ تابعٌ للقِراءةِ.
قوله: "ومَن رَكَعَ، أو سَجَدَ قبل إمامِهِ فعليه أن يرفع ليأتي به بعده" . "من" أي: أيَّ مأمومٍ رَكَعَ أو سَجَدَ قبلَ إمامِهِ فيجب عليه أن يَرْفَعَ. أي: يرجعُ مِن رُكوعِه إنْ كان راكعاً أو سجودِه إنْ كان ساجداً ليأتيَ به بعده. (و)القول الثاني في المسألة : أنَّه إذا رَكَعَ أو سَجَدَ قبلَ إِمامِهِ عامداً فصلاتُهُ باطلةٌ، سواءٌ رَجَعَ فأتى به بعدَ الإِمامِ أم لا. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، وهذا هو الذي يقتضيه كلامُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل في "رسالة الصلاة" وقال: كيف نقولُ: صلاتُهُ صحيحةٌ وهو آثمٌ؟!فعليه أنْ يستأنفَ الصَّلاةَ.
قوله: "فإن لم يفعل عمداً بطلت" أي: لو رَكَعَ أو سَجَدَ عمداً قبلَ الإمامِ، ولم يرجعْ حتى لَحِقَهُ الإمامُ فإنَّ صلاتَه تبطلُ.
فصار إذا سَبَقَ إلى الرُّكنِ على القولِ الرَّاجحِ بطلتْ صلاتُه إذا كان عالماً متعمِّداً، وعلى كلامِ المؤلِّف لا تبطل، ولكن يرجعُ ليأتيَ به بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ متعمِّداً بطلتْ صلاتُهُ. وإنْ لم يفعلْ سهواً أو جهلاً فصلاتُهُ صحيحةٌ أي: رَكَعَ قبلَ الإمامِ وهو لا يعرفُ أنَّ هذا حرامٌ، ولا يعرفُ أنَّه يجبُ عليه الرجوعُ حتى لَحِقَهُ الإِمامُ فصلاتُه صحيحةٌ.
(1/348)
________________________________________
قوله: "وإن ركع ورفع قبل إمامه عالماً عمداً بطلت" ، أي: إنْ رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ ركوعِ إمامِهِ؛ بطلتْ صلاتُهُ؛ لأنَّه سَبَقَ الإِمامَ برُكنِ الرُّكوعِ، ولا يُعَدُّ سابقاً بالرّكنِ حتى ينتقلَ منه إلى الرُّكنِ الذي يليه، فلو رَكَعَ ولَحِقَهُ الإِمامُ في الرُّكوعِ فلا يُعَدُّ سابقاً للإمامِ برُكنٍ، بل نقول: إنَّه سَبَقَ الإِمامَ إلى الرُّكنِ، فإنَّ الرُّكنَ الذي يدركه فيه الإمامُ لا يُعَدُّ سابقاً به، بل سابقاً إليه.
قوله: "وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط" ، أي: إذا رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ إمامِهِ جاهلاً أو ناسياً بطلت الرَّكعةُ التي حصلَ فيها هذا السَّبْقُ فقط، فيلزمُه قضاؤها بعد سلامِ الإمامِ.
والحاصل : أنه إذا سَبَق برُكنِ الرُّكوعِ بأن رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ أن يركعَ الإمامُ، فإن كان عمداً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جهلاً أو نسياناً بطلتْ الرَّكعةُ فقط؛ لأنَّه لم يقتدِ بإمامِهِ في هذا الرُّكوعِ، فصار كمَن لم يدركْهُ ففاتته الرَّكعةُ، لكن إنْ أتى بذلك بعدَ إمامِهِ صحَّت ركعتُه.
قوله: "وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي، ويصلّي تلك الركعة قضاء" . أي: إنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قبل رُكوعِ إمامِهِ، ثم سَجَدَ قبلَ رَفْعِهِ بطلتْ صلاتُه؛ لأنه سَبَقَ الإمامَ برُكنينِ، لكن التمثيلُ بالركوعِ فيه شيءٌ مِن النَّظرِ، وذلك لأنَّ هذه المسألة هي القسم الثالث، وهي السَّبْقُ بالرُّكنينِ وهو إنما يكون في غيرِ الرُّكوعِ، وهذا القسم له حالان:
الأول : أن يكون عالماً ذاكراً فتبطلُ صلاتُه.
الثاني : أن يكون جاهلاً أو ناسياً فتبطلُ ركعته، إلا أنْ يأتيَ بذلك بعد إمامِهِ.
وخلاصةُ أحوالِ السَّبقِ كما يلي:
1 - السَّبْقُ إلى الرُّكنِ. 2 - السَّبْقُ برُكنِ الرُّكوعِ.
3 - السَّبْقُ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ. 4 - السَّبْقُ برُكنينِ غيرِ الرُّكوعِ.
(1/349)
________________________________________
وخلاصةُ الكلام في سَبْقِ المأمومِ إمامَه أنَّه في جميعِ أقسامِهِ حرامٌ، أما مِن حيث بُطلان الصَّلاةِ به فهو أقسام: الأول : أن يكون السَّبْقُ إلى تكبيرة الإحرامِ، بأن يكبِّرَ للإحرامِ قبلَ إمامِهِ أو معه، فلا تنعقدُ صلاةُ المأمومِ حينئذٍ، فيلزمُه أن يكبِّرَ بعدَ تكبيرةِ إمامِهِ، فإن لم يفعلْ فعليه إعادةُ الصَّلاةِ.
الثاني : أن يكون السَّبْقُ إلى رُكْنٍ، مثل: أن يركَعَ قبلَ إمامِه أو يسجدَ قبلَه، فيلزمُه أن يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلت صلاتُهُ، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاتُه صحيحةٌ.
الثالث : أنْ يكونَ السَّبْقُ برُكنِ الرُّكوعِ، مثل: أن يركعَ ويرفعَ قبلَ أنْ يركعَ إمامُه، فإن كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلتْ الرَّكعةُ فقط؛ إلا أن يأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ.
الرابع : أن يكون السَّبْقُ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ، مثل: أن يسجدَ ويرفعَ قبلَ أنْ يسجدَ إمامُه، فيلزمُه أنْ يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة.
الخامس : أن يكون السَّبْقُ برُكنين، مثل: أن يسجدَ ويرفعَ قبلَ سجودِ إمامِهِ، ثم يسجدَ الثانيةَ قبلَ رَفْعِ إمامِهِ مِن السَّجدةِ الأولى، أو يسجدَ ويرفعَ ويسجدَ الثانيةَ قبلَ سجودِ إمامِهِ، فإنْ كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً بطلتْ ركعتُه فقط؛ إلا أنْ يأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ.
هذه خلاصةُ أحكامِ السَّبقِ على المشهورِ مِن المذهبِ. والصَّحيحُ: أنَّه متى سَبَقَ إمامَه عالماً ذاكراً فصلاتُه باطلةٌ بكلِّ أقسامِ السَّبقِ، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاتُه صحيحةٌ؛ إلا أنْ يزولَ عذره قبل أنْ يدرِكَهُ الإمامُ، فإنه يلزمُه الرجوعُ ليأتيَ بما سَبَقَ فيه بعدَ إمامِه، فإن لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإلا فلا.
(1/350)
________________________________________
وبمناسبة الكلام على السَّبْقِ إلى الرُّكنِ أو بالرُّكنِ نذكر أحوالَ المأمومِ مع إمامِهِ، فالمأمومُ مع إمامِهِ له أحوالٌ أربعٌ: 1- سَبْقٌ. 2- تَخَلُّفٌ. 3- موافقةٌ. 4- متابعةٌ.
الاول: السَّبْقُ : وعرفنا أنه محرَّمٌ ومِن الكبائرِ بدلالةِ السُّنَّةِ.
الثاني: التَّخلُّفُ : والتَّخلُّفُ عن الإِمامِ نوعان: 1- تخلُّفٌ لعذرٍ. 2- وتخلُّفٌ لغير عذرٍ. فالنوع الأول : أن يكون لعذرٍ، فإنَّه يأتي بما تخلَّفَ به، ويتابعُ الإمامَ ولا حَرَجَ عليه، حتى وإنْ كان رُكناً كاملاً أو رُكنين، فلو أن شخصاً سَها وغَفَلَ، أو لم يسمعْ إمامَه حتى سبقَه الإمامُ برُكنٍ أو رُكنين، فإنه يأتي بما تخلَّفَ به، ويتابعُ إمامَه، إلا أن يصلَ الإمامُ إلى المكان الذي هو فيه؛ فإنَّه لا يأتي به ويبقى مع الإِمامِ، وتصحُّ له ركعةٌ واحدةٌ ملفَّقةٌ مِن ركعتي إمامهِ الرَّكعةِ التي تخلَّفَ فيها والرَّكعةِ التي وصلَ إليها الإِمامُ. وهو في مكانِهِ. مثال ذلك: رَجُلٌ يصلِّي مع الإِمامِ، والإِمامُ رَكَعَ، ورَفَعَ، وسَجَدَ، وجَلَسَ، وسَجَدَ الثانيةَ، ورَفَعَ حتى وَقَفَ، والمأمومُ لم يسمعْ "المُكبِّرَ" إلا في الرَّكعةِ الثانيةِ؛ لانقطاعِ الكهرباء مثلاً، ولنفرضْ أنه في الجمعة، فكان يسمعُ الإِمامَ يقرأُ الفاتحةَ، ثم انقطعَ الكهرباءُ فأتمَّ الإِمامُ الركعةَ الأُولى، وقامَ وهو يظنُّ أنَّ الإِمامَ لم يركعْ في الأُولى فسمعَه يقرأ )هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) (الغاشية:1) فنقول: تبقى مع الإِمامِ وتكونُ ركعةُ الإِمامِ الثانيةِ لك بقية الركعة الأولى فإذا سلَّمَ الإِمامُ فاقضِ الركعةَ الثانيةَ، قال أهلُ العِلمِ: وبذلك يكون للمأمومِ ركعةٌ ملفَّقةٌ مِن ركعتي إمامِهِ؛ لأَنه ائتَمَّ بإمامه في الأُولى وفي الثانية. فإن عَلِمَ بتخلُّفِهِ قبلَ أن يصلَ الإِمامُ إلى مكانِهِ فإنَّه يقضيه ويتابعُ إمامَه، مثاله: رَجُلٌ قائمٌ مع الإِمامِ فرَكَعَ
(1/351)
________________________________________
الإِمامُ وهو لم يسمعْ الرُّكوعَ، فلما قال الإِمامُ: "سَمِعَ اللهُ لمَن حمِدَه" سَمِعَ التسميعَ، فنقول له: اركعْ وارفعْ، وتابعْ إمامَك، وتكون مدركاً للركعةِ؛ لأن التخلُّفَ هنا لعُذرٍ.
النوع الثاني : التخلُّف لغيرِ عُذرٍ. إما أن يكون تخلُّفاً في الرُّكنِ، أو تخلُّفاً برُكنٍ. فالتخلُّفُ في الرُّكنِ معناه: أن تتأخَّر عن المتابعةِ، لكن تدركُ الإِمامُ في الرُّكنِ الذي انتقل إليه، مثل: أن يركعَ الإِمامُ وقد بقيَ عليك آيةٌ أو آيتان مِن السُّورةِ، وبقيتَ قائماً تكملُ ما بقي عليك، لكنك ركعتَ وأدركتَ الإِمامَ في الرُّكوعِ، فالرَّكعةُ هنا صحيحةٌ، لكن الفعلُ مخالفٌ للسُّنَّةِ؛ لأنَّ المشروعَ أن تَشْرَعَ في الرُّكوعِ من حين أن يصلَ إمامك إلى الرُّكوعِ، ولا تتخلَّف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رَكَعَ فاركعوا" . والتخلُّفُ بالرُّكنِ معناه: أنَّ الإِمامَ يسبقك برُكنٍ، أي: أن يركَعَ ويرفعَ قبل أن تركعَ. فالفقهاءُ رحمهم الله يقولون: إنَّ التخلُّفَ كالسَّبْقِ، فإذا تخلَّفتَ بالرُّكوعِ فصلاتُك باطلةٌ كما لو سبقته به، وإنْ تخلَّفتَ بالسُّجودِ فصلاتُك على ما قال الفقهاءُ صحيحةٌ؛ لأنه تَخلُّفٌ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ. ولكن القولُ الراجحُ حسب ما رجَّحنَا في السَّبْقِ: أنَّه إذا تخلَّفَ عنه برُكنٍ لغيرِ عُذرٍ فصلاتُه باطلةٌ، سواءٌ كان الرُّكنُ ركوعاً أم غير ركوع. وعلى هذا؛ لو أنَّ الإِمامَ رَفَعَ مِن السجدةِ الأولى، وكان هذا المأمومُ يدعو اللهَ في السُّجودِ فبقيَ يدعو اللهَ حتى سجدَ الإِمامُ السجدةَ الثانيةَ فصلاتُه باطلةٌ؛ لأنه تخلُّفٌ بركنٍ، وإذا سبقه الإِمامُ بركنٍ فأين المتابعة؟
الثالث: الموافقة: والموافقةُ: إما في الأقوالِ، وإما في الأفعال، فهي قسمان:
(1/352)
________________________________________
القسم الأول : الموافقةُ في الأقوالِ فلا تضرُّ إلا في تكبيرةِ الإِحرامِ والسلامِ. أما في تكبيرةِ الإِحرامِ؛ فإنك لو كَبَّرتَ قبلَ أن يُتمَّ الإِمامُ تكبيرةَ الإِحرام لم تنعقدْ صلاتُك أصلاً؛ لأنه لا بُدَّ أن تأتيَ بتكبيرةِ الإِحرامِ بعد انتهاءِ الإِمامِ منها نهائياً. وأما الموافقةُ بالسَّلام، فقال العلماءُ: إنه يُكره أن تسلِّمَ مع إمامِك التسليمةَ الأُولى والثانية، وأما إذا سلَّمت التسليمةَ الأولى بعدَ التسليمة الأولى، والتسليمةَ الثانية بعد التسليمةِ الثانية، فإنَّ هذا لا بأس به، لكن الأفضل أن لا تسلِّمَ إلا بعد التسليمتين.
وأما بقيةُ الأقوالِ: فلا يؤثِّرُ أن توافق الإِمامَ، أو تتقدَّم عليه، أو تتأخَّرَ عنه، فلو فُرِضَ أنك تسمعُ الإِمامَ يتشهَّدُ، وسبقتَه أنت بالتشهُّدِ، فهذا لا يضرُّ لأن السَّبْقَ بالأقوالِ ما عدا التَّحريمةِ والتسَّليمِ ليس بمؤثرٍ ولا يضرُّ، وكذلك أيضاً لو سبقتَه بالفاتحة فقرأت: { ولا الضالين} [الفاتحة] وهو يقرأ: {إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة] في صلاةِ الظُّهرِ مثلاً، لأنه يُشرعُ للإِمامِ في صلاةِ الظُّهر والعصرِ أن يُسمِعَ النَّاسَ الآيةَ أحياناً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلُ .
القسم الثاني: الموافقةُ في الأفعالِ وهي مكروهةٌ، وقيل: إنها خِلافُ السُّنَّةِ، ولكن الأقربُ الكراهةُ. مثال الموافقة: لما قالَ الإِمامُ: "الله أكبر" للرُّكوعِ، وشَرَعَ في الهوي هويتَ أنت والإِمامُ سواء، فهذا مكروهٌ.
(1/353)
________________________________________
الرابع: المتابعة: المتابعة هي السُّنَّةُ، ومعناها: أن يَشْرَعَ الإنسانُ في أفعالِ الصَّلاةِ فَوْرَ شروعِ إمامِهِ، لكن بدون موافقةٍ. فمثلاً: إذا رَكَعَ تركع؛ وإنْ لم تكملْ القراءةَ المستحبَّةَ، ولو بقيَ عليك آيةٌ، لكونها توجب التخلُّفَ فلا تكملها، وفي السُّجودِ إذا رفعَ مِن السجودِ تابعْ الإِمامَ، فكونك تتابعُه أفضلُ من كونك تبقى ساجداً تدعو الله؛ لأنَّ صلاتَك ارتبطت بالإِمامِ، وأنت الآن مأمورٌ بمتابعةِ إمامِكِ.
مسألة : إذا أُقيمت الصَّلاةُ، وكبَّرَ الإِمامُ، وقرأَ الفاتحةَ، ولم يدخلْ رَجُلٌ مع الإِمامِ، وقال: إذا ركعَ الإِمامُ قُمْتُ وركعتُ، فبقيَ في مكانِهِ، أو بقيَ رجُلانِ يتحدَّثان، ولما ركَع الإِمامُ قاما فركعا معه. فهل نقول: إن هذا يوجب أن تكون صلاتُه باطلةٌ؛ لأنَّه لم يقرأ الفاتحةَ، أو نقول: إنَّ هذا مسبوقٌ أدركَ الرُّكوعَ، فتصحُّ صلاتُه؛ لأنَّه قبل أن يدخلَ في الصَّلاةِ غيرُ مطالبٍ بقراءةِ الفاتحةِ؟ الجواب : أنا أَميلُ إلى أنَّه ما دامَ لم يدخلْ في الصَّلاةِ؛ فإنَّه لا يلزمُه حكمُ الصَّلاةِ، لكن نقول: أنتَ أخطأتَ وفَوَّتَ على نفسِك خيراً كثيراً.
قوله: "ويسنّ للإِمام التخفيف" .أي: أنْ يُخفِّفَ للناسِ، والتَّخفيفُ المطلوبُ مِن الإِمامِ ينقسم إلى قسمين: 1 - تخفيفٍ لازم. 2 - تخفيفٍ عارضٍ، وكلاهما مِن السُّنَّةِ.
أما التَّخفيفُ اللازمُ، فألا يتجاوز الإنسانُ ما جاءتْ به السُّنَّةُ، فإن جاوزَ ما جاءت به السُّنَّةُ، فهو مُطوِّلٌ. وأما العارض ، فهو أن يكون هناك سببٌ يقتضي الإِيجازَ عمَّا جاءت به السُّنَّةُ ، أي : أن يُخفِّفَ أكثر مما جاءت به السُّنَّةُ.
(1/354)
________________________________________
قوله: "مع الإِتمام". ظاهره: أن الإِتمام سنّة في حق الإِمام، والإِتمام هو: موافقة السنّة، وليس المراد بالإِتمام أن يقتصر على أدنى الواجب، بل موافقة السنّة هو الإِتمام، ولكن إذا نظرنا في الأدلة تبين لنا أن التخفيف الموافق للسنة في حق الإمام واجب.
ولهذا؛ فإنَّ القولَ الذي تؤيُّده الأدلَّة: أنَّ التطويلَ الزائدَ على السُّنَّةِ حرامٌ؛ لأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام غَضِبَ لذلك. وأيضاً: كلامُ المؤلِّفِ يدلُّ على أن الإِتمامَ سُنَّةٌ، وفي هذا شيء مِن النَّظرِ؛ وذلك لأَنَّ الإِمامَ يتصرَّفُ لغيره، والواجبُ على مَن تصرَّفَ لغيره أن يفعلَ ما هو أحسنُ، أمّا مَن تصرَّفَ لنفسهِ فيفعل ما يشاء مما يُباح له. فإذا كنتُ أصلِّي لنفسي، واقتصرتُ على الواجبِ في الأركان والواجبات، فإنَّ لي ذلك، لكن إذا كنتُ إماماً فليس لي ذلك؛ لأنَّه يجب أن أصلِّي الصَّلاةَ المطابقةَ للسُّنَّةِ بقَدْرِ المستطاعِ؛ لأنني لا أتصرَّفُ لنفسي، لكن لو فُرِضَ أنَّ المأمومين محصورون، وقالوا: يا فلان، عَجِّلْ بنا؛ لنا شُغلٌ، فحينئذٍ له أن يقتصرَ على أدنى الواجبِ؛ لأنَّ المأمومين أذِنوا له في ذلك، فكما أنَّه لو صَلَّى كلُّ واحدٍ منهم على انفرادٍ لكان له أن يقتصرَ على الواجبِ، فكذلك إذا أذِنوا لإِمامِهم، فالتخفيف الذي يُؤذن به ما وافقَ السُّنَّة، لا ما وافقَ أهواءَ النّاسِ. فلا ينبغي للإِمام أنْ يطيعَ بعضَ المأمومين في مخالفة السُّنَّةِ، لأنَّ اتِّباعَ السُّنَّةِ رحمة، إنما لو حصل عارضٌ يقتضي التَّخفيفَ فحينئذٍ يُخفِّفُ؛ لأنَّ هذا مِن السُّنَّةِ، أما الشيءُ اللازمُ الدائمُ فإننا نفعلُ فيه السُّنَّةَ.
قوله: "وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية" ، أي: ويُسَنُّ أيضاً أنْ يطوِّلَ الركعةَ الأُولى أكثر مِن الثانيةِ؛ لأنَّ هذا هو السُّنَّةُ. إلا أنَّ العُلماءَ استثنوا مسألتين:
(1/355)
________________________________________
المسألة الأولى : إذا كان الفرقُ يسيراً، فلا حَرج مثل "سبح" و"الغاشية" في يوم الجمعة وفي يوم العيد، فإن "الغاشية" أطول، لكن الطُّولَ يسير.
المسألة الثانية : الوجه الثاني في صلاة الخوف. فالإِمامُ في الركعةِ الثانيةِ كان وقوفُه أطول مِن وقوفِه في الركعةِ الأُولى، لكن هكذا جاءت به السُّنَّةُ مِن أجل مراعاةِ الطائفةِ الثانيةِ.
قوله: "ويستحبُّ انتظار داخل ما لم يشق على مأموم". الانتظارُ يشمَلُ ثلاثةَ أشياء:
1 _ انتظار قبل الدُّخولِ في الصَّلاةِ.
2 _ انتظار في الرُّكوعِ، ولا سيَّما في آخر ركعة.
3 _ انتظار فيما لا تُدرك فيه الركعة، مثل: السُّجود.
أما الأول : وهو انتظارُ الدَّاخلِ قبل الشروعِ في الصَّلاةِ، فهذا ليس بسُنَّة، بل السُّنّة:ُ تقديمُ الصَّلاةِ التي يُسَنُّ تقديمُها، وأما ما يُسَنُّ تأخيرُه مِن الصَّلوات وهي العشاء؛ فهنا يُراعي الدَّاخلين.
الثاني : انتظاره في الرُّكوع، مثل: أن يكون الإِمامُ راكعاً، فأحسَّ بداخلٍ في المسجدِ، فلينتظرْ قليلاً حتى يُدركَ هذا الدَّاخلُ الرَّكعةَ، فهنا يكون للقولِ باستحبابِ الانتظارِ وَجْهٌ، ولا سيما إذا كانت الرَّكعةُ هي الأخيرةُ، مِن أجل أنْ يدركَ الجماعةَ. لكن؛ بشرطِ أن لا يَشُقَّ على المأمومين.
(1/356)
________________________________________
الثالث : انتظار الدَّاخلِ في رُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ، أي: في رُكنٍ لا يُدركُ فيه الرَّكعةَ ولا يُحسبُ له، فهذا نوعان: النوع الأول : ما تحصُلُ به فائدةٌ. (و) النوع الثاني : ما ليس فيه فائدةٌ، إلا أن يشاركَ الإِمامُ فيما اجتمع معه فيه. مثال النوع الأول : إذا دخلَ في التشهُّدِ الأخيرِ، فهنا الانتظارُ حَسَنٌ؛ لأنَّ فيه فائدةً، وهي: أنه يدركُ صلاةَ الجماعةِ عند بعضِ أهلِ العِلمِ، فقد مرَّ بنا قولُ المؤلِّفِ: "مَن كبَّرَ قبل سلامِ إمامِهِ لَحِقَ الجماعةَ" . وأيضاً: فيه فائدة؛ حتى على القولِ بعدمِ إدراكِ الجماعةِ؛ لأنَّ إدراكَ هذا الجُزءِ خيرٌ مِن عدمِهِ فهو مستفيدٌ. ومثال النوع الثاني : ما ليس فيه فائدة في إدراكِ الجماعةِ؛ إلا مجرد المتابعة للإِمام، مثل: أن يكون ساجداً في الرَّكعةِ الثالثة في الرُّباعيةِ فأحسَّ بداخلٍ، فهنا لا يُستحبُّ الانتظار. وذهبَ بعضُ أهلِ العِلمِ: إلى أنَّه لا ينتظرُ الدَّاخلَ مطلقاً، حتى وإنْ كان دخولُه في الرُّكوعِ في الركعةِ الأخيرةِ الذي تُدركُ به الجماعةُ. ولكن؛ الصحيحُ: ما سَبَقَ تفصيلُه.
قوله: "وإذا استأذنت المرأةُ إلى المسجد كره منعها" . "إذا استأذنت" أي: طلبت الإذنَ و"المرأة" يُرادُ بها البالغةُ، وقد يُرادُ بها الأنثى، وإنْ لم تكن بالغةً، ولكن؛ الأكثرُ أنَّ المرأةَ كالرَّجُلِ؛ إنما تُطلق على البالغةِ، كما أنَّ الرَّجُلَ يُطلقُ على البالغِ، فإذا طَلبت الإذنَ مِن وليِّ أمرِها، فإن كانت ذاتَ زوجٍ فوَليُّ أمرِها زوجُها، ولا ولايةَ لأبيها ولا لأخيها ولا لعمِّها مع وجودِ الزَّوجِ.
وقوله: "إلى المسجد" أي: لحضورِ صلاةِ الجماعةِ، فإنَّه يُكره له أن يمنَعَها، والكراهةُ في كلام الفقهاءِ: كراهةُ التنزيهِ التي يستحقُّ عليها الثوابَ عند التَّرْكِ، ولا يُعاقب عليها عند الفِعْلِ.
(1/357)
________________________________________
والدليلُ: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ" وفيه إشارةٌ إلى توبيخِ المانعِ، لأنَّ الأَمَةَ ليست أَمَتَكَ، والمسجدُ ليس بيتَكَ، بل هو مسجدُ الله، فإذا طلبتْ أَمَةُ اللهِ بيتَ اللهِ فكيف تمنعُها؟ ولأنَّه مَنع مَن لا حَقَّ له عليها في المَنْعِ منه، وهو المسجد. وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ هذا الحديث نهيٌ، والأصلُ في النَّهيِ التحريمُ، وعلى هذا؛ فيحرمُ على الوَليِ أنْ يمنعَ المرأةَ إذا أرادت الذِّهابَ إلى المسجدِ لتصلِّي مع المسلمين، وهذا القول هو الصَّحيحُ. لكن؛ إذا تغيَّرَ الزَّمانُ فينبغي للإِنسانِ أن يُقْنِعَ أهلَه بعَدَمِ الخروجِ، حتى لا يخرجوا، ويَسْلَمَ هو مِن ارتكابِ النَّهْيِ الذي نَهَى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "إذا استأذنت المرأة" يشمَلُ الشَّابةَ والعجوزَ، والحسناءَ والقبيحةَ.
وقوله: "إلى المسجد" يدلُّ على أنَّها لو استأذنت لغير ذلك فله منعُها، فلو استأذنت أن تخرجَ إلى المدرسةِ فلزوجها أنْ يمنعَها، إلا أن يكون مشروطاً عليه عند العقدِ، وكذلك لو أرادت أن تخرجَ إلى السُّوقِ فله أنْ يمنعَها.
وقولنا: له أنْ يمنعَها، أي: ليس حراماً عليه، ولكن؛ ينظرُ إلى المصلحةِ، فقد لا يكونُ مِن المصلحةِ أنْ يمنعَها، وقد تكون المصلحةُ في منعِها.
وقوله: "إلى المسجد" أي: للصَّلاةِ، أما لو ذهبت إلى المسجدِ للفُرْجَةِ على بنائِهِ، أو لِتحضُرَ محاضرةً في المسجدِ فله أن يمنعَها.
( وكذلك ) يجوزُ للوَليِّ إذا أرادت المرأةُ أنْ تخرجَ متطيِّبةً أن يمنعَها، بل يجب أنْ يمنعَها في هذه الحالِ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تشهد صلاةَ العشاءِ إذا كانت متطيِّبةً، وكذلك لو خرجت متبرجةً بثيابِ زينةٍ أو بنعالٍ صرَّارةٍ أو ذاتِ عَقِبٍ طويلٍ، أو ما أشبه ذلك؛ فله أنْ يمنعَها قياساً على منعِها مِن الخروج متطيِّبةً.
(1/358)
________________________________________
قوله: "وبيتها خير لها" يُستثنى مِن ذلك: الخروجُ لصلاةِ العيدِ، فإنَّ الخروجَ لصلاةِ العيدِ للنِّساءِ سُنَّةٌ، ولكن يجب أن تخرجَ غيرَ متبرِّجةٍ بزينةٍ ولا متطيِّبة، بل تخرجُ بسكينةٍ ووقارٍ، وبدون رَفْعِ صوتٍ أو ضَحِكٍ إلى زميلتِها، وبدون مِشيةٍ كمِشيةِ الرَّجُلِ، بل تكون مشيتُها مشيةَ أُنثى، مِشيةَ حياءٍ وخَجَلٍ ووقارٍ.
فصل
قوله: "الأولى بالإِمامة الأقرأ العالم فقه صلاته" هل المرادُ بالأقرأ الأجودُ قِراءةً، وهو الذي تكون قراءتُه تامَّةً، يُخرِجُ الحروفَ مِن مخارِجِها، ويأتي بها على أكملِ وجهٍ، أو المرادُ بالأقرأ الأكثرُ قراءةً؟ الجواب: المراد : الأجودُ قِراءةً، أي: الذي يقرؤه قراءةً مجوَّدةً، وليس المراد التجويد الذي يُعرف الآن بما فيه مِن الغنَّةِ والمدَّاتِ ونحوها، فليس بشرطٍ أن يتغنَّى بالقرآن، وأن يحسِّنَ به صوتَه، وإن كان الأحسنُ صوتاً أَولى، لكنه ليس بشرط.
وقوله: "العالم فقه صلاته" أي: الذي يعلم فِقْهَ الصَّلاةِ، بحيث لو طرأَ عليه عارضٌ في صلاتِهِ مِن سهوٍ أو غيرِه تمكَّنَ مِن تطبيقِهِ على الأحكامِ الشرعيَّةِ. فلو وُجِدَ أقرأ؛ ولكن لا يَعلمُ فِقْهَ الصَّلاةِ، فلا يَعرفُ مِن أحكامِ الصَّلاةِ إلا ما يعرِفُهُ عامَّةُ الناسِ مِن القراءةِ والرُّكوعِ والسُّجودِ، فهو أَولَى مِن العالمِ فِقْه صلاتِهِ. ودليلُ ذلك: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهُم لكتابِ اللهِ" . وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى خِلافِ ما يفيده كلامُ المؤلِّفِ، وهو أَنَّه إذا اجتمعَ أقرأُ وقارىءٌ فَقِيهٌ ، قُدِّمَ القارىءُ الفقيهُ ، على الأقرأ غير الأفقه ، وهذا القول هو الرَّاجحُ. وهذا في ابتداء الإمامة، أي: لو حَضَرَ جماعةٌ، وأرادوا أن يقدِّموا أحدَهم، أما إذا كان للمسجدِ إمامٌ راتبٌ فهو أَولى بكلِّ حالٍ ما دام لا يوجدُ فيه مانعٌ يمنعُ إمامتَه.
(1/359)
________________________________________
قوله: "ثم الأفقه" أي: إذا اجتمعَ قارئان متساويان في القِراءةِ، لكن أحدُهما أَفْقَهُ ، فإنَّه يقدِّمُ الأفقهَ ، وهذا لا إشكالَ فيه.
قوله: "ثم الأسنّ" أي: الأكبرُ سناً.
قوله: "ثم الأشرف" ، أي: الأشرفُ نَسَباً، ( وهذا ماقرره المؤلف ). والصَّحيحُ إسقاطُ هذه المرتبةِ، أعني: الأشرفيَّةَ، وأنَّه لا تأثير لها في باب إمامةِ الصَّلاةِ.
قوله: "ثم الأقدم هجرة,ثم الأتقى" .المراتبُ على ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ سِتٌّ: الأقرأُ، ثم الأَفْقَهُ، ثم الأَسَنُّ، ثم الأشرفُ، ثم الأقدمُ هِجرةً، ثم الأتقى. والصَّحيحُ: ما دَلَّ عليه الحديثُ الصحيحُ وهي خمسٌ: الأقرأُ، فالأعلمُ بالسُّنَّةِ، فالأقدم هِجرةً، فالأقدمُ إسلاماً، فالأكبرُ سِنًّا. أما التقوى: فهي صِفةٌ يجبُ أن تُراعى بلا شَكٍّ في كُلِّ هؤلاء، ولا اعتبارَ لأشرفيَّة.
قوله: "ثم من قرع" أي: إذا استوى في هذه المراتبِ كلِّها رَجُلان؛ فإنَّنا في هذه الحال نستعملُ القُرْعَةَ، فمَن غَلَبَ في القُرعةِ فهو أحقُّ .
قوله: "وساكن البيت وإمام المسجد أحق" . أي: ساكنُ البيتِ أحقُّ مِن الضَّيفِ.
مسألة : إذا اجتمعَ مالكُ البيتِ ومستأجرُ البيتِ، فالمستأجرُ أَولى: لأنَّ المستأجرَ مالكُ المنفعةِ، فهو أحقُّ بانتفاعِهِ في هذا البيتِ.
وقوله: "وإمام المسجد أحق" أي: أنَّ إمامَ المسجدِ أحقُّ مِن غيرِه، حتى وإنْ وُجِدَ مَن هو أقرأُ، فلو أنَّ إمامَ المسجدِ كان قارئاً يقرأ القرآن على وَجْهٍ تحصُلُ به براءةُ الذِّمَّةِ، وحضرَ رَجُلٌ عالمٌ قارىءٌ فقيه، فالأَولى إمامُ المسجدِ.
قوله: "إلا من ذي سلطان" أي: أنَّ ذا السُّلطانِ، مقدَّمٌ على إمامِ المسجدِ، والسُّلطانُ هو الإِمامُ الأعظمُ، فلو أنَّ الإِمامَ الأعظمَ حَضَرَ إلى المسجدِ، فهو أَولى مِن إمامِ المسجدِ بالإِمامةِ.
(1/360)
________________________________________
قوله: "وحُرٌّ، وحاضر، ومقيم, وبصير, ومختون, ومَن له ثياب أَولى مِن ضِدِّهم " . أي أن الحُرُّ أَولى مِن العبدُ الرَّقيقُ الذي يُباع ويُشترى، والحاضرة أولى من البدوي, والمقيم أَولى مِن المسافر، والبصير أَولى مِن الأعمى, والمختون أَولى مِن الأقلفِ, ومَن عليه ثيابٌ سترُها أكملُ، أَولى ممَّن عليه ثيابٌ يسترُ بها قَدْرَ الواجبِ.
وفُهِمَ مِن قولِ المؤلِّفِ: " ومَن له ثياب أَولى مِن ضِدِّهم" أنَّ هؤلاء المذكورين السِّتَّة تصحُّ إمامتُهم؛ لأنَّ "الأَولى" تدلُّ على الاختيارِ ، ولكن الأَولى العكسُ.
قوله: "ولا تصحُّ خلف فاسق" .شرع المؤلف في بيان مَن لا تصحُّ إمامتُهُ إما مطلقاً أو بمَن هو أكملُ منه. فقال الفاسق لا تصح إمامته,( وهذا أحد القولين في المسألة ) ، والقول الثاني: أنَّ الصلاةَ تصحُّ خلفَ الفاسقِ، ولو كان ظاهرُ الفسق. وهذا القولُ لا يَسَعُ الناسَ اليومَ إلا هو؛ لأننا لو طبَّقنا القولَ الأولَ على الناسِ؛ ما وجدنا إماماً يصلحُ للإِمامة إلا نادراً. إذاً؛ فالقولُ الرَّاجحُ: صحَّةُ الصَّلاةُ خلفَ الفاسقِ، فالرَّجلُ إذا صَلَّى خلفَ شخصٍ حالق لحيتَه أو شارب الدُّخان أو آكل الربا أو زانٍ، أو سارق فصلاته صحيحة، لكن يُقدَّمُ أخَفُّ الفاسقين على أشدِّهما، فيُقدَّم مَن يُقصِّرُ من لحيته على حالِقها.
قوله: " ككافر" أي: كما لا تصحُّ خلفَ الكافرِ. فلو فُرضَ أنَّ شخصاً صلَّى خلفَ رَجُلٍ، ولم يعلَمْ أنه كافرٌ إلا بعدَ الصَّلاةِ فهل تلزمُه إعادةُ الصَّلاةِ أو لا؟ الجواب: مِن العلماءِ مَن قال: إنه لا يعيدُ الصَّلاةَ؛ لأنَّه معذورٌ. ومِنهم مَن قال: بل يعيدُ الصَّلاةَ. (و) القولُ الراجحُ: أنه إن كان جاهلاً فإن صلاتَه صحيحةٌ.
قوله: "ولا امرأة" ، أي: لا تصحُّ صلاةُ الرَّجُلِ خلفَ امرأةٍ.
(1/361)
________________________________________
قوله: "ولا خنثى للرجال" أي: ولا تصح صلاةُ الرَّجُلِ خلفَ الخُنثى. والخُنثى هو: الذي لا يُعْلَمُ أَذكرٌ هو أم أنثى.
وفُهِمَ مِن قولِ المؤلِّفِ: "ولا امرأة وخنثى للرجال" أنه يصحُّ أن تكون المرأةُ إماماً للمرأةِ، والخُنثى يصحُّ أن يكون إماماً للمرأة؛ لأنه إما مثلُها أو أعلى منها. لكن؛ هل يصحُّ أن تكون المرأةُ إماماً للخُنثى؟ الجواب: لا؛ لاحتمالِ أن يكون ذَكَراً.
قوله: "ولا صبي لبالغ" أي: لا تصحُّ إمامةٌ مِن صبيٍّ لبالغٍ. والصَّبيُّ: مَن دونَ البلوغِ، والبالغُ مَن بَلَغَ، وهذا ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ . (و) القول الثاني: أنَّ صلاةَ البالغِ خلفَ الصَّبيِّ صحيحةٌ. ( وهو الراجح ).
قوله: "ولا أخرس" أي: ولا تصحُّ إمامةُ الأخرسِ. وظاهرُ كلامِهِ حتى بمثلِه، والأخرسُ: هو الذي لا يستطيعُ النُّطقَ، ( وهذا ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ ). والراجحُ: أنَّ إمامةَ الأخرسِ تصحُّ بمثلِه وبمَن ليس بأخرس؛ لأنَّ القاعدةَ عندنا: أنَّ كلَّ مَن صحَّتْ صلاتُه صحَّتْ إمامتُه. لكن مع ذلك لا ينبغي أن يكون إماماً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يَؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ" وهذا لا يقرأ، لكن بالنسبة للصِّحَّةِ فالصحيحُ، أنَّها تصحُّ.
قوله: "ولا عاجز عن ركوع أو سجود, أو قعود أو قيام, إلا إمام الحي المرجو زوال علته" المؤلِّفَ أفادنا بهذه العبارات أنَّ مَن عَجِزَ عن رُكنِ القيامِ والقعودِ والركوعِ والسجودِ لا تصحُّ إمامتُه إلا بمثلِه، إلا القيامَ فتصحُّ إمامةُ العاجزِ عن القيامِ بقادرٍ عليه بشرطين:
1 _أنْ يكون العاجزُ عن القيام إمامَ الحَيِّ.
(1/362)
________________________________________
2 _أنْ تكون عِلَّتُه مرجوةَ الزَّوالِ، مثل: أن يطرأ عليه وَجَعٌ يُرجى زوالُه في ظهرِه أو بركبتِه، فهنا يصحُّ أن يؤمَّ لأهلِ الحَيِّ وإنْ كان عاجزاً عن القيامِ.وهذا هو المذهب. والصحيحُ: أننا نصلِّي خلفَ العاجزِ عن القيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقعودِ. وهذا القولُ هو اختيارُ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية .
( مسألة ): إذا رَكَعَ بالإِيماءِ فهل نركعُ بالإِيماءِ؟ أو نركعُ ركوعاً تاماً؟ الظاهر: أننا نركعُ ركوعاً تامًّا؛ وذلك لأنَّ إيماءَ العاجزِ عن الرُّكوعِ لا يغيرُ هيئةَ القيامِ إلا بالانحناءِ، بخلافِ القيامِ مع القعودِ. وكذلك في العَجْزِ عن السُّجودِ يسجدُ المأموم سجوداً تاماً. وكذا العاجزُ عن القعودِ، نصلِّي خلفَه مع قُدرتِنا على القعودِ، كما لو كان مريضاً لا يستطيع القعودَ ويصلِّي على جنبِه. ولكن هل نضطجعُ؟ الجواب: لا، لأنَّ الأمرَ بموافقةِ الإِمامِ إنَّما جاءَ في القعودِ والقيامِ، وعلى هذا؛ فنصلِّي جلوساً وهو مضطجعٌ، وكذلك لو عَجَزَ عن القعودِ بين السجدتين مثلاً، أو عن القعودِ في التشهُّدِ فإننا نصلِّي خلفَه.
قوله: "ويصلون" الضَّميرِ يعودُ على أهلِ الحَيِّ.
قوله: "وراءه" أي: وراءَ إمامِ الحَيِّ الجالسِ.
قوله: "جلوساً ندباً" حال مِن فاعل يصلُّون.
(1/363)
________________________________________
قوله: "ندباً" أي: أنَّ هذا الحكمَ نَدْبٌ، وليس بواجبٍ، والنَّدْبُ السُّنَّةُ، أي: فالسُّنَّةُ أن يصلُّوا خلفَه جلوساً. وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الصَّلاةَ خلفَه يجبُ أن تكون قعوداً. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، أنَّ الإِمامَ إذا صلَّى قاعداً وَجَبَ على المأمومين أن يصلُّوا قعوداً، فإن صلُّوا قياماً فصلاتُهم باطلةٌ. وذهبَ كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ إلى أنَّ الإِمامَ إذا صَلَّى قاعداً وَجَبَ على المأمومين القادرين على القيامِ أن يصلُّوا قياماً. فإنْ صلُّوا قعوداً بطلتْ صلاتُهم. ( وذهب ) الإمام أحمد: أن إذا صلّى الإِمامُ بالمأمومين قاعداً مِن أولِ الصَّلاةِ فليصلُّوا قعوداً، وإن صَلَّى بهم قائماً ثم أصابته عِلَّةٌ فجَلَسَ فإنَّهم يصلُّون قياماً، وبهذا يحصُلُ الجَمْعُ بين الدليلين, وهذا لاشك أنه جمع حسن وواضح.
قوله: "فإن ابتدأ" الضمير يعود على الإِمامِ.
قوله: "بهم" الضميرُ يعودُ على الجماعةِ.
قوله: "ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً" أي أصابتْهُ عِلَّةٌ فَجَلَسَ، فإنهم يصلّون خلفَه قياماً وجوباً.
قوله: "وتصح خلف من به سلس البول بمثله" ( إذا ) صلى من به سلس البول مأموماً بإمامٍ سليمٍ مِن هذا المرضِ صحيحةٌ، و( كذلك ) إذا صلى إماماً بمصابٍ بهذا المرضِ فإن صلاته صحيحةٌ. ( أما ) إذا صلى إماماً بمَن هو سليمٌ مِن هذا المرضِ, فإن صلاته وصلاةُ المأمومِ باطلةٌ لا تصحُّ, وهذا مفهوم كلام المؤلف. ( ولكن ) الصحيحُ في هذا: أن إمامةَ مَن به سَلَسُ البولِ صحيحةٌ بمثْلِهِ وبصحيحٍ سليمٍ.
قوله: "ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك." .هاتان مسألتان:
المسألة الأولى: الصلاةُ خلفَ المُحدثِ فتصحُّ بشرطِ أن يكونَ الإِمامُ والمأمومُ جاهلين بذلك حتى تتمَّ الصلاةُ. فإن انتهت الصَّلاةِ فهنا لايعيد المأمومون صلاتهم, والإمام يعيد الصلاة. فإن علم أنه محدث في أثناء الصلاة فإنه تبطل صلاة الإمام والمأمومين.
(1/364)
________________________________________
فإن علم واحدٌ من المأمومين؛ والباقون لم يعلموا؛ لا الإمام ولا بقية المأمومين, بطلت صلاتهم جميعاً؛ لقول المؤلف:<< فإن جهل هو والمأموم حت انقضت صحت لمأموم وحده >>. أي: بحيث لا يعلم أحدٌ من المأمومين أنه على غير وضوء, فإن علم واحدٌ ولو في أثناء الصلاة بطلت صلاة الجميع. والصحيح في هذه المسألة: أنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ بكُلِّ حالٍ، إلا مَن عَلِمَ أنَّ الإِمامَ مُحدِثٌ.
المسألة الثانية: الصلاةُ خلفَ المتنجِّس، وقد جَعَلَ المؤلِّفُ حكمها كحكم الصَّلاةِ خلفَ المحدث. فإذا صَلَّى الإِمامُ بنجاسةٍ يجهلُها هو والمأمومُ، ولم يعلمْ بها حتى انتهتِ الصَّلاةُ، فإنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ؛ لأنَّهم معذورون بالجهلِ، وأما الإِمامُ فلا تصحُّ صلاتُه فيجبُ أن يغسلَ النجاسةَ التي في ثوبِهِ أو على بدنِهِ، ثم يعيدُ الصَّلاةَ؛ لأنَّ مِن شَرْطِ صحَّةِ الصَّلاةِ اجتنابَ النجاسةِ. والقاعدةُ: أنه إذا تخلَّفَ الشرطُ تخلَّفَ المشروطُ. فإنْ عَلِمَ في أثناءِ الصَّلاةِ وَجَبَ عليه أن يستأنفَ الصَّلاةَ هو والمأمومون بعد إزالةِ النجاسةِ. هذا هو الذي يقتضيه كلام المؤلِّفِ. والقولُ الصَّحيحُ في هذه المسألةِ: أنه إذا جَهِلَ الإِمامُ النجاسةَ هو والمأمومُ حتى انقضتِ الصَّلاةُ فصلاتُهم جميعاً صحيحةٌ, وإنْ عَلِمَ الإِمامُ في أثناءِ الصَّلاةِ بالنجاسةِ، فإنْ كان يمكنه إزالتها أزالها، وإنْ كان لا يمكنه انصرفَ، وأتمَّ المأمومون صلاتَهم.
قوله: "ولا إمامة الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة" ، أي: لا تصحُّ إمامةُ الأُمِّي. والأُمِّيُّ لُغةً: مَنْ لا يقرأ ولا يكتبُ . (و) في الاصطلاح هنا: مَن لا يُحسنُ الفاتحةَ، يعني: لا يُحسنُ قراءتَها لا حِفظاً ولا في المصحفِ، ولو كان يقرأ كُلَّ القرآنِ ولا يُحسنُ الفاتحةَ فهو أُمّيّ.
(1/365)
________________________________________
قوله: "أو يدغم فيها ما لا يدغم" أي: يُدغِمُ في الفاتحةِ ما لا يُدْغَمُ. والإِدغامُ عند العلماءِ: كبير، وصغير. فإذا أدغمتَ حرفاً بمثلِهِ فهذا إدغامٌ صغيرٌ. وإذا أدغمتَ حَرْفاً بما يقاربه، فهو إدغامٌ كبيرٌ. وإذا أدغمتَ حَرْفاً بما لا يقارِبُه ولا يماثِلُه، فهو غَلَطٌ.
قوله: "أو يبدل حرفاً" أي: يُبدل حرفاً بحرفٍ، وهو الألتغُ، مثل: أنْ يُبدِلَ الرَّاءَ باللام، أي: يجعلَ الرَّاءَ لاماً فيقول: "الحمدُ لله لَبِّ العالمين" فهذا أُمِّيٌّ؛ لأنه أبدلَ حرفاً مِن الفاتحة بغيرِه. ويُستثنى مِن هذه المسألةِ: إبدالُ الضَّادِ ظاءً فإنَّه معفوٌّ عنه على القولِ الرَّاجحِ وهو المذهبُ.
قوله: "أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى" أي: يَلْحَنَ في الفاتحةِ لحناً يُحيلُ المعنى. واللَّحنُ: تغييرُ الحركات، سواءٌ كان تغييراً صرفياً أو نحوياً، فإن كان يغيِّرُ المعنى، فإن المُغيِّرَ أُمِّيٌّ، وإنْ كان لا يغيِّرُه فليس بأُمِّيٍّ، وليس معنى ذلك جوازُ قِراءةِ الفاتحةِ ملحونةً؛ فإنَّه لا يجوز أنْ يَلْحَنَ ولو كان لا يُحيلُ المعنى، لكن المرادُ صِحَّةُ الإِمامةِ.
قوله: "إلا بمثله" أي: إذا صَلَّى أُمِّيٌّ لا يَعرفُ الفاتحةَ بأُمِّيٍّ مثله فصلاتُه صحيحةٌ لمساواتِه له في النَّقْصِ، ولو صَلَّى أُمِّيٌّ بقارئ فإنَّه لا يَصحُّ، وهذا هو المذهبُ. والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أنه يَصحُّ أن يكون الأُمِّيُّ إماماً للقارئ، لكن ينبغي أنْ نتجنَّبَها.
قوله: "وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته" أي: إنْ قَدِرَ الأُمِّيُّ على إصلاح اللَّحنِ الذي يُحيلُ المعنى ولم يُصلِحْهُ فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وإن لم يَقْدِرْ فصلاتُه صحيحةٌ دون إمامتِه إلا بمثلِه. ولكن الصحيحُ: أنَّها تصحُّ إمامتُه في هذه الحالِ.
(1/366)
________________________________________
قوله: "وتكره إمامةُ اللَّحَّان" واللَّحَّانُ: كثيرُ اللَّحْنِ، والمرادُ في غيرِ الفاتحةِ، فإنْ كان في الفاتحةِ وأحَالَ المعنى صارَ أُمِّيًّا لا تَصِحُّ إمامتُه على المذهبِ، لكن إذا كان كثيرَ اللَّحْنِ في غيرِ الفاتحةِ فإمامتُه صحيحةٌ، إلا أنَّها تُكره.
قوله: "والفأفاء" يعني تُكره إمامةُ الفَأْفَاء: وهو الذي يُكرِّرُ الفاءَ، أي: إذا نَطَقَ بالفاءِ كرَّرها.
قوله: "والتمتام" وهو مَن يُكرِّرُ التاءَ، ومِن النَّاسِ مَن يُكرِّرُ الواو أو غيرها. وعلى كُلٍّ؛ فالذي يُكرِّرُ الحروفَ تُكرَه إمامتُه مِن أجلِ زيادةِ الحَرْفِ، ولكن لو أمَّ النَّاسَ فإمامتُه صحيحةٌ.
قوله: "ومن لا يفصح ببعض الحروف" أي: يخفيها بعضَ الشيءِ، وليس المرادُ أنَّه يُسقِطُها؛ لأنه إذا أسقطَها فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ إذا كان في الفاتحة لنُقصانِها، أما إذا كان يَذكرُها، ولكن بدون إفصاحٍ؛ فإنَّ إمامتَه مكروهةٌ.
ولم يذكرِ المؤلِّفُ كراهةَ إمامةِ مَن لا يقرأُ بالتَّجويدِ؛ لأنَّه لا تُكره القِراءةُ بغيرِ التَّجويدِ. والتَّجويدُ مِن بابِ تحسين الصَّوتِ بالقرآنِ، وليس بواجبٍ، إنْ قرأَ به الإِنسانُ لتحسينِ صوتِه فهذا حَسَنٌ، وإنْ لم يقرأْ به فلا حَرَجَ عليه ولم يفته شيءٌ يأثم بتركِهِ، بل إنَّ شيخَ الإِسلامِ ذمَّ أولئك القومَ الذين يعتنون باللَّفظِ، ورُبَّما يكرِّرونَ الكلمةَ مرَّتين أو ثلاثاً مِن أجل أن ينطِقُوا بها على قواعد التَّجويدِ، ويَغْفُلُونَ عن المعنى وتدبُّرِ القرآنِ.
قوله: "وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن" أي: يُكرَه أنْ يؤمَّ أجنبيةً فأكثر. والأجنبيةُ مَن ليست مِن مَحارِمِهِ. وكلامُ المؤلِّف يحتاجُ إلى تفصيل: فإذا كانت أجنبيةٌ وحدَها، ( فإننا ) نقول: إذا خَلا بها فإنَّه يحرُمُ عليه أن يَؤمَّها, وإن كانت إمامته لإمرأتين فأكثر، فالصحيح: أنه لا يكره, إلا إذا خَافَ الفِتنةَ، فإنْ خَافَ الفِتنةَ فإنَّه حرامٌ.
(1/367)
________________________________________
وعُلِمَ مِن قوله: "لا رجل معهنَّ" أنَّه لو كان معهنَّ رَجُلٌ فلا كراهةَ وهو ظاهرٌ.
قوله: "أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق" أي: يُكره أنْ يَؤمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحَقٍّ.
وقوله: "أكثرهم يكرهه بحق", أفادنا المؤلِّفُ: أنَّه لو كان الأقلُّ يكرهه، فلا عبرةَ به. وأفادنا قوله: "بِحَقٍّ" أنَّهم لو كرهوه بغير حَقٍّ، مثل: لو كرهوه لأنَّه يَحْرِصُ على اتِّباعِ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ فيقرأ بهم السُّورَ المسنونةَ، ويُصلِّي بهم صلاةً متأنيةً، فإن إمامتَه فيهم لا تُكره؛ لأنَّهم كرهوه بغيرِ حَقٍّ فلا عِبرةَ بكراهتهم. لكن؛ ظاهرُ الحديثِ الكراهةُ مطلقاً، وهذا أصح.
قوله: "وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما" . نَص المؤلِّفُ على وَلَدِ الزِّنا والجُنديِّ؛ لأنَّ بعضَ العلماءِ كَرِهَ إمامَتهما. ولكن؛ لا وَجْهَ للكراهةِِ.
قوله: "ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه" أي : تَصحُّ إمامةُ مَن يؤدِّي الصَّلاةَ بمَن يقضيها، أي: أنَّ المؤدِّي هو الإِمامُ، والمأمومُ هو الذي يقضي فتصِحُّ. وعكسُ ذلك؛ أنْ يؤمَّ مَن يقضي الصَّلاةَ بمَن يؤدِّيها فيكون الإِمامُ هو الذي يقضي، والمأمومُ هو الذي يؤدِّي.
قوله: "لا مفترض بمتنفل" أي: لا يصحُّ ائتمامُ مفترضٍ بمُتنفِّلِ، فلا يجوزُ أنْ يكون الإِمامُ متنفِّلا والمأمومُ مفترضاً. وهذاأحدُ القولين ( في هذه المسألة ). والقول الثاني في المسألة: أن صلاةَ المفترضِ خلفَ المتنفلِ صحيحةٌ. وهذا هو القولُ الرَّاجحُ بلا شَكٍّ، وهو اختيارُ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية.
(1/368)
________________________________________
قوله: "ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها" أي: ولا يصحُّ ائتمامُ مَن يصلّي الظُّهرَ بمَن يصلِّي العصرَ، أو غيرها. يعني: مِن الصلوات الرباعية وذلك لاخْتلافِ نِيَّةِ الصَّلاتين, هذا هو المذهب. ولا يُستثنى مِن ذلك إلا المسبوقُ في صلاةِ الجمعةِ إذا أدركَ أقلَّ مِن رَكعة؛ فإنَّه في هذه الحالِ يدخلُ مع الإِمامِ بنيَّةِ الظُّهرِ، والإِمامُ يصلِّي الجُمعةَ. (و) القول الثاني: أنَّه يَصِحُّ أن يأتمَّ مَن يصلِّي الظُّهرَ بمَن يصلِّي العَصرَ، ومَن يصلِّي العَصرَ بمَن يصلِّي الظُّهرَ، ولا بأسَ بهذا. وعلى هذا القول؛ إذا صَلَّى صلاةً أكثر مِن صلاةِ الإِمام فلا إشكال في المسألةِ.
لكن إذا صلَّى صلاة أقلُّ مِن صلاةِ الإِمامِ, كأن يصَلَّى المغربَ خلف مَن يصلِّي العشاءَ, فهل يدخل معه أم لا ؟ الجواب: نعم، يدخلُ معه في القولِ الرَّاجحِ، وأنه يجوزُ أن يصلِّيَ المغربَ خلفَ مَن يصلِّي العشاءَ، وهذه تقعُ كثيراً، فإنْ أدركَ الإِمامَ في الثانية فما بعدَها فلا إشكال، لأنه يتابعُ إمامَه ويُسلِّمُ معه، وإنْ دَخَلَ في الثالثةِ أتى بعدَه بركعةٍ، وإن دَخَلَ في الرابعةِ أتى بركعتين، لكن إنْ دَخَلَ في الأولى فإنَّه يَلزمُه إذا قامَ الإِمامُ إلى الرابعةِ أنْ يجلسَ ولا يقوم.
ولكن إذا جَلَسَ هل ينوي الانفرادَ ويُسلِّمُ، أو ينتظرُ الإِمامَ؟ الجواب: هو مخيّرٌ، لكننا نستحبُّ له أن ينويَ الانفرادَ ويسلِّمُ، إذا كان يمكنه أن يدركَ ما بقيَ مِن صلاةِ العشاءِ مع الإِمامِ؛ مِن أجلِ أنْ يُدركَ صلاةَ الجماعةِ في العشاءِ.
فصلٌ
قوله: "يقف المأمومون خلف الإِمام" المأمومون: جمع، وأقلُّ الجَمْعِ في باب الجماعة اثنان ، فيقفُ الاثنان فأكثر خلفَ الإِمامِ.
(1/369)
________________________________________
قوله: "ويصحُّ معه عن يمينه أو جانبيه" .أي: ويَصِحُّ أن يقفوا معه، أي: يصح أن يقفوا مع الإِمامِ عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أن يكون المأمومان فأكثر عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أحدهما عن يمينِه والثاني عن شمالِه، وهذا أفضلُ مِن أن يكونوا عن يمينِه فقط.
قوله: "لا قدّامه" ، أي: لا يَصِحُّ أن يَقِفَ المأمومون قُدَّام الإِمام، فإن وَقَفَوا قُدَّامه فصلاتُهم باطلةٌ. وقال بعضُ أهل العِلْمِ: إنَّ الصَّلاةَ لا تبطلُ ، وإلى هذا ذهبَ الإِمامُ مالكٌ . وتوسَّطَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّة ، وقال: إنَّه إذا دَعَتِ الضَّرورةُ إلى ذلك صحَّت صلاةُ المأمومِ قُدَّامَ الإِمامِ، وإلا فلا. والضَّرورةُ تدعو إلى ذلك في أيَّامِ الجُمعة، أو في أيَّامِ الحَجِّ في المساجدِ العاديةِ، فإنَّ الأسواقَ تمتلئُ ويصلِّي الناسُ أمامَ الإِمامِ. وهذا القولُ وَسَطٌ بين القولين، وغالباً ما يكون القولُ الوسطُ هو الرَّاجح؛ لأنَّه يأخذُ بدليلِ هؤلاءِ ودليلِ هؤلاء.
قوله: "ولا عن يساره" أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ إنْ وَقَفَ عن يسارِ الإِمامِ، لكن بشرط خُلوِّ يمينِه ، هذا تقريرُ كلامِ المؤلِّفِ. وأكثرُ أهلِ العِلْمِ يقولون بصحَّةِ الصَّلاةِ عن يسار الإِمامِ مع خُلُوِّ يمينِهِ، وأنَّ كون المأمومِ الواحدِ عن يمين الإِمامِ إنَّما هو على سبيلِ الأفضليَّةِ، لا على سبيلِ الوجوبِ. واختار هذا القولَ شيخُنا عبدُ الرَّحمن بن سَعدي - رحمه الله -. وهذا القولُ قولٌ جيدٌ جداً، وهو أرجحُ مِن القولِ ببطلانِ صلاتِه عن يسارِه مع خلوِّ يمينِه.
قوله: "ولا الفذ خلفه" أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ الواحدِ خلفَ الإمام. وأمَّا الإمامُ ففيه تفصيلٌ: إنْ بقيَ على نيِّةِ الإمامةِ لم تَصِحَّ صلاتُه؛ لأنَّه نوى الإمامةَ وليس معه أحدٌ، وإنْ نوى الانفرادَ فصلاته صحيحةٌ.
(1/370)
________________________________________
قوله: "أو خلفَ الصف" أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ خلفَ الصَّفِّ؛ لأنَّه منفردٌ وهو المذهب، وهو مِن المفردات.وذهبَ أكثرُ أهلِ العِلمِ وهو رواية عن أحمد : إلى صِحَّة الصَّلاةِ منفرداً خلفَ الصَّفِّ، لعُذرٍ أو لغيرِ عُذر، ولو كان في الصَّفِّ سَعَةٌ. وقال بعضُ العلماءِ: في ذلك تفصيلٌ، فإنْ كان لعذرٍ صَحَّت الصَّلاةُ، وإنْ لم يكن لعُذر لم تَصِحَّ الصَّلاةُ. فإذا جاء المصلِّي ووَجَدَ الصَّفَّ قد تَمَّ فإنَّه لا مكان له في الصَّفِّ، وحينئذٍ يكون انفرادُه لعُذرٍ فتصِحُّ صلاتُه، وهذا القولُ وسطٌ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية ، وشيخِنا عبد الرحمن بن سَعدي. وهو الصَّوابُ.
مسألة: ما هو الانفراد المبطل للصَّلاة؟ الجواب: الانفرادُ المبطلُ للصَّلاةِ أنْ يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ ولم يدخل مع المسبوقِ أحدٌ، فإنْ دَخَلَ معه أحدٌ قبل أن يرفعَ الإِمامُ رأسَه مِن الرُّكوعِ، أو انفتح مكانٌ في الصَّفِّ فدخلَ فيه قبل أن يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ، فإنَّه في هذه الحالِ يزول عن الفرديَّة.
قوله: "إلا أن يكون امرأة" الضَّميرُ يعودُ على الفَذِّ، أي: إلا أن يكون الفَذُّ امرأة خلفَ رَجُلٍ، أو خلفَ الصَّفِّ أيضاً، فإنَّ صلاتَها تَصِحُّ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن تكون المرأةُ تصلِّي مع جماعةِ رِجالٍ أو مع جماعةِ نساءٍ، ولكن هذا الظَّاهرُ ليس بمرادِه، بل إنَّ المرأةَ مع جماعةِ النساءِ كالرَّجُلِ مع جماعةِ الرِّجَالِ، أي: لا يَصِحُّ أن تَقِفَ خلفَ إمامتها، ولا خلفَ صَفِّ نساءٍ، بل إذا كُنَّ نساءً فإنَّ المرأةَ يجبُ أن تكون في الصَّفِّ، ولا تَصِحُّ صلاتُها منفردةً خلفَ الصَّفِّ ولا خلفَ إمامةِ النِّساءِ.
قوله: "وإمامة النساء تقف في صفهنّ" أي: إذا صَلَّى النِّساءُ جماعةً فإنَّ إمامتَهن تَقِفُ في صفِّهنَّ.
(1/371)
________________________________________
إذاً؛ يُستثنى مِن تقدُّمِ الإِمام مسألتان: إمامةُ النساءِ، وإمامُ العُراةِ، أما إمامةُ النساء فتكون بينهنَّ على سبيل الاستحباب، وأما إمامُ العُراة فيكون بينهم على سبيل الوجوبِ إلا إذا كانوا عُمياً أو في ظُلمة فإنه يتقدَّمُ.
قوله: "ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء" . "يليه" أي: يلي الإِمامَ في الصَّفِّ إذا اجتمعَ رجالٌ ونساءٌ صغارٌ أو كبارٌ. الرجال البالغون, ثم الصبيانُ، ثم النساءُ في الخلفِ. وهذا ما لم يمنع مانعٌ، فإنْ مَنَعَ منه مانعٌ بحيث لو جُمعَ الصبيانُ بعضُهم إلى بعضٍ لحصلَ بذلك لعبٌ وتشويشٌ، فحينئذٍ لا نجمعُ الصبيانَ بعضَهم إلى بعضٍ, ( ولكن ) نعملُ كما قال بعضُ العلماءِ: بأنْ نجعلَ بين كُلِّ صبيين بالغاً مِن الرِّجالِ فَيَصفُّ رَجُلٌ بالغٌ يليه صبيٌّ، ثم رَجُلٌ ثم صبيٌّ، ثم رَجُلٌ، ثم صبيٌّ؛ لأنَّ ذلك أضبطُ وأبعدُ عن التشويشِ، وهذا وإنْ كان يستلزمُ أنْ يتأخَّرَ بعضُ الرِّجالِ إلى الصَّفِّ الثاني أو الثالثِ حسب كثرة الصبيان؛ فإنَّه يحصُلُ به فائدةٌ، وهي الخشوعُ في الصَّلاةِ وعدمُ التشويشِ.
وهذا الذي ذكرنا في تقديم الرِّجالِ، ثم الصبيان، ثم النساء، إنَّما هو في ابتداءِ الأمرِ، أما إذا سَبَقَ المفضولُ إلى المكان الفاضلِ؛ بأنْ جاءَ الصَّبيُّ مبكِّراً وتقدَّمَ وصار في الصَّفِّ الأولِ، فإن القولَ الرَّاجحَ الذي اختاره بعضُ أهلِ العِلم ومنهم جَدُّ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو مَجْدُ الدِّين عبد السلام أنه لا يُقامُ المفضولُ مِن مكانِ.
(1/372)
________________________________________
قوله: "كجنائزهم" أي: كما يرتَّبون في جنائزِهم، فإذا اجتمعَ جنائزٌ مِن هؤلاءِ الأجناسِ: الرِّجال والصبيان والنساء، فإنَّهم يُقدَّمونَ على هذا الترتيبِ مما يلي ( القرب ) من الإِمام: الرِّجال، ثم الصبيان، ثم النساء، ونضعُ رأسَ الرَّجُلِ بحذاء وَسَطِ الأُنثى, فإنْ عَكَسَ وَجَعَلَ النساءَ مما يلي الإِمامَ والرِّجال مِن خَلفِهنَّ فإنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا الترتيبَ على سبيلِ الأفضليَّةِ لا على سبيلِ الوجوبِ.
قوله: "ومن لم يقف معه إلا كافر" .شرعَ المؤلِّفُ في ذِكْرِ المنفردِ حُكماً، بعد أنْ ذَكَرَ المنفردَ حِسًّا فقال: "ومَن لم يقف..." إلخ، أي: لو أنَّ رَجُلاً وَقَفَ خلفَ الصَّفِّ ومعه كافر فهو فَذٌّ، أي: منفردٌ حُكماً؛ لأنَّ اصطفافَ الكافرِ معه كعدمِهِ؛ لأنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، فلا تَصِحُّ مصافتُه. وهذا مع العِلم، ولكن إذا كان يَجهلُ أنَّ الواقف معه كافرٌ فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وفي هذا نَظَرٌ، بل المُتعيِّنُ أنَّه إذا وَقَفَ معه كافرٌ لا يعلمُ بكفرِه، فإنَّ صلاتَه صحيحةٌ، وأما إذا عَلِمَ بكفرِه فالمذهبُ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ؛ لأنه فَذٌّ، وعلى القولِ الذي رجَّحنا، نقول: إنَّه إذا كان الصَّفُّ تامًّا فصلاتُه صحيحةٌ، لأنَّ صلاةَ الفَذِّ خلفَ الصَّفِّ مع تمامِهِ صحيحةٌ ، أما إذا لم يكن تامًّا وقد عَلِمَ بكفرِه فصلاتُه باطلةٌ.
قوله: "أو امرأة" أي: لم يقفْ معه إلا امرأةٌ فهو فَذٌّ، لأنَّ المرأةَ ليست مِن أهلِ المُصافَّةِ للرِّجالِ، فإنْ وقفتْ امرأةٌ مع رَجُلين، فهل تَصِحُّ صلاتُهما وصلاتُها؟ الجواب: نعم، الصَّلاةُ صحيحةٌ، ولا سيما مع الضَّرورةِ كما يحدثُ ذلك في أيام مواسم الحَجِّ في المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبويِّ، ولكن في هذه الحالِ إذا أحسست بشيءٍ مِن قُربِ المرأةِ منك وَجَبَ عليك الانفصال.
(1/373)
________________________________________
مسألة: إذا كانت المرأةُ أمامَ الرَّجُلِ. مثاله: أن يكون صَفُّ رِجالٍ خلفَ صَفِّ نساءٍ فتصِحُّ الصَّلاةُ، ولهذا قال الفقهاء: "صَفٌّ تامٌّ مِن نساءٍ لا يمنعُ اقتداءَ مَن خلفِهنّ مِن الرِّجالِ".
قوله: "أو من علم حدثه أحدهما" أي: الواقف والموقوف معه، مثاله: دَخَلَ رَجُلان المسجدَ فوجدا الصَّفَّ الأولَ تامَّاً فقاما خلفَ الصَّفِّ، وأحدُهما مُحدثٌ يعلمُ حَدَثَ نفسِه، والآخرُ على طهارةٍ ولا يعلمُ أنَّ صاحبَه مُحدثٌ، فالصَّلاةُ على كلامِ المؤلِّفِ غيرُ صحيحةٍ. ولكن؛ الصحيحُ في هذه المسألة: أن الثاني الذي ليس بمحدثٍ صلاته صحيحة؛ إذا كان لا يعلم بحدثِ صاحبِه، لكن لو عَلِمَ أن صاحبَه مُحدثٌ فهو فَذٌّ .
قوله: "أو صبي في فرض ففذ" أي: ومَن لم يقفْ معه إلا صبيٌّ في فَرْضٍ فهو فَذٌّ. والمرادُ بالصبيِّ هنا: مَن لم يَبلغْ.
وقوله: "في فرض" خَرَجَ به ما لو وَقَفَ معه الصَّبيُّ في نَفْلٍ, ( وهذا ما قرره المؤلف ). والرَّاجحُ: أنَّ مَن وَقَفَ معه صبيٌّ فليس فَذَّاً لا في الفريضة ولا في النَّفْلِ، وصلاتُه صحيحةٌ.
قوله: "ومَن وَجَدَ فرجة دخلها" "الفرجة" هي الخَلَلُ في الصَّفِّ، أي: مكاناً ليس فيه أحدٌ. وقوله: دخلها أي: وَجَب عليه دخولها؛ إذا لم يكن معه أحدٌ يَصفُّ معه، فإنْ كان معه أحد يصف معه، فإن كان واحداً، قاما جميعاً خلف الصف، وإن كانا اثنين فأكثر دخل في الفرجة. وإذا وَجَدَ فُرجةً قد تهيَّأ لها شخصٌ ليدخلَها، فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنه يدخلُها، ويكون التفريط مِن المتخلِّفِ عنها، وهذا يقعُ كثيراً فتأتي مثلاً فتجدُ في الصَّفِّ الأول فُرجةً؛ لكن خلفَها شخصٌ يتنفَّلُ وتنفُّلُه خلفَها يقتضي أنه متهيِّئٌ لدخولِها فلك أن تتقدَّمَ فيها. وهذا الذي هو ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ حَقٌّ لا شَكَّ فيه، ولكن إذا خشيتَ فِتنةً أو عداوةً أو بغضاءً فاتركها.
(1/374)
________________________________________
قوله: "وإلا عن يمين الإِمام" . أي: إذا لم يَجدْ فُرجةً فإنَّه يقفُ عن يمينِ الإِمامِ , هكذا مُقتضى كلامِ المؤلِّفِ . ( ونحن ) نرى: أنَّ وقوفَ أحدٍ إلى جانبِ الإِمامِ في مثل هذه الصُّورة مِن البِدَعِ التي لم تَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم. نعم؛ إذا كان لا يوجدُ مكان في المسجد إلا مقدار صَفَّين، الصَّفُّ الأول فيه الإِمامُ، والصَّفُّ الثاني فيه المأمومون، ودَخَلَ رَجُلٌ ولم يجد مكاناً إلا يمين الإِمام، فهنا نقول: هذا محلُّ ضرورة، ولا بأس أنْ يقفَ إلى جَنْبِ الإِمامِ.
فإذا قلنا بأنَّه لا يقفُ عن يمينِ الإِمامِ؛ فماذا يعملُ؟ فالجواب: أنه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ وحدَه، وأنَّ صلاتَه صحيحةٌ على القول الرَّاجحِ.
قوله: "فإن لم يمكنه فله أن ينبه مَن يقوم معه" أي: إذا لم يمكنه أن يتقدَّم إلى الإِمام ويصلِّي إلى جانبه، مثل: أن يكون الإِمامُ في مكانٍ ضيِّقٍ كطاقِ القِبْلةِ أي: المِحْراب فلا يمكن أنْ يصفَّ فيه أكثرُ مِن واحدٍ، فهنا: لا يتمكَّن أن يقفَ عن يمينِ الإِمامِ.
"فله" أي: لهذا الرَّجُلِ أن يُنبِّه مَن يقومُ معه، فيقول: يا فلان تأخَّرْ جزاك الله خيراً لِتُصلِّيَ معي، ولكن يُكره أن يجذِبَه بدون أن ينبِّهه. وهل يلزم المُنَبَّه أن يتأخَّر مع هذا الرَّجُلِ؟ قالوا: يلزمه أنْ يتأخَّر معه مِن أجل أن يصحِّحَ صلاةَ صاحبِه. ( هذا تقرير المؤلف ). والصَّحيحُ ( كما سبق ): أنَّه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ منفرداً متابعاً للإِمامِ .
(1/375)
________________________________________
قوله: "فإن صلّى فذاً ركعة لم تصح, وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف, أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت" .ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يكون ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذرٍ. لكن؛ المذهبُ في هذه المسألة خِلافُ ما مشى عليه المؤلِّفُ، وهو: أنه إنْ كان لغيرِ عُذرٍ فَرَفَع الإِمامُ مِن الركوع قبل أنْ تزولَ فَذِّيَّتُه فصلاتُه غيرُ صحيحةٌ، وإنْ زالت فَذِّيَّتُه قبل الرَّفْعِ مِن الركوعِ فصلاتُه صحيحة، هذا إذا كان لغير عُذرٍ، أما إذا كان لعُذر فهو كما قال المؤلِّفُ: العبرةُ بسجودِ الإِمامِ. والصَّحيحُ: أنه إذا كان لعُذرٍ فصلاتُه صحيحةٌ.
فصل
قوله: "يصح اقتداء المأموم بالإِمام في المسجد, وإن لم يره ولا من وراءه إذا سمع التكبير" أي: يصِحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ في المسجد الواحد ولو كانت بينهما مسافاتٍ ، وسواء رأى الإِمامَ والمأمومين أو لم يرَه. يسمعِ التكبير إما منه أو ممن يبلِّغُ عنه. فإن كان خارجه فيقول المؤلِّفُ:
قوله: "وكذا خارجه إن رأى الإِمام أو المأمومين" أي: وكذا يصحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ إذا كان خارجَ المسجدِ بشرطِ أنْ يَرى الإِمامَ أو المأمومين، إما في كل الصلاة أو في بعضها مع سماع التكبير. وظاهرُ كلام المؤلِّفِ : أنَّه لا يُشترط اتِّصالُ الصُّفوفِ، وما ذكر المؤلف هو المذهب. والقول الثاني: وهو الذي مشى عليه صاحبُ "المقنع": أنَّه لا بُدَّ مِن اتِّصالِ الصُّفوفِ، وأنَّه لا يَصِحُّ اقتداءُ مَن كان خارجَ المسجدِ إلا إذا كانت الصُّفوفُ متَّصلةً ، فإنْ لم تكن متَّصِلة فإنَّ الصَّلاة لا تَصِحُّ.وهذا القولُ هو الصَّحيح. فإذا امتلأ المسجدُ واتَّصلتِ الصُّفوف وصَلَّى النَّاسُ بالأسواقِ وعلى عتبة الدَّكاكين فلا بأس به.
قوله: "وتصح خلف إمام عالٍ عنهم" أي: عن المأمومين.
(1/376)
________________________________________
قوله: "ويُكره إذا كان العلوُّ ذِراعاً فأكثر" .أي: يُكره إذا كان الإِمامُ عالياً على المأموم ذِراعاً فأكثر. ( وهذا احد القولين في المسألة ). والقول الثاني: أنَّه لا يُكره علوُّ الإِمامِ مطلقاً. وقيَّدَ بعضُ العلماءِ هذه المسألةَ بما إذا كان الإِمامُ غيرَ مُنفردٍ بمكانِه، فإذا كان معه أحدٌ فإنه لا يُكره؛ ولو زادَ على الذِّراع؛ لأنَّ الإِمامَ لم ينفردْ بمكانِه، وهذا لا شَكَّ أنَّه قولٌ وجيهٌ؛ لأنه إنِ انفردَ الإِمامُ بمكانٍ؛ والمأمومُ بمكانٍ آخر؛ فأين صلاةُ الجماعةِ والاجتماع؟
مسألة: لو كان المأمومُ في مكان أعلى فلا يُكره، فإذا كان الإِمامُ هو الذي في الأسفل، كأن يكون في الخَلوة مثلاً، وفيه أناسٌ يصلُّون فوقَه فلا حَرَجَ ولا كراهة.
قوله: "كإمامته في الطاق" أي: كما يُكره دخول الإِمامِ في الطَّاق، والمراد بالطَّاقِ: طاقُ القِبْلة الذي يُسمَّى "المِحراب"، فيُكره؛ لآثارٍ وَرَدت عن الصحابة ؛ ولأنه إذا دَخَلَ في الطَّاق استتر عن بعض المأمومين فلا يَرَونه لو أخطأ في القيام أو الرُّكوع أو السُّجود فلهذا يُكره، ولكن إذا كان لحاجة مثل: أن تكون الجماعةُ كثيرةً؛ واحتاج الإِمامُ إلى أن يتقدَّمَ حتى يكون في الطَّاقِ فإنه لا بأس به. أما إذا كان الإِمامُ في باب الطَّاقِ، ولم يدخل فيه، ولم يتغيَّب عن النَّاس، وكان محلُّ سجودِه في الطَّاق، فلا بأس به.
ويمكن أن يُؤخذ مِن كلام المؤلِّف: أنَّ هذا الطَّاق الذي هو المِحراب ليس بمكروه وهو كذلك، فاتخاذ المحراب ليس بمكروه، وإن كان بعضُ العلماء استحبَّه؛ لما فيه مِن الدلالة على القِبْلة، وعلى مكانِ الإِمامِ. وبعضُهم كَرِهَه، وقال: إنَّه غيرُ معروف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والصَّحيحُ: أنَّه مباحٌ، فلا نأمرُ به ولا ننهى عنه، والقول بأنه مستحبٌّ أقربُ إلى الصَّوابِ مِن القول بأنه مكروه.
(1/377)
________________________________________
قوله: "وتطوعه موضع المكتوبة" أي: يكره تطوُّع الإِمام في موضع المكتوبة، أي: في المكان الذي صلَّى فيه المكتوبةَ.وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يتطوَّع في هذا المكان قبل الصَّلاة أو بعدَها، وهذا غير مراد بل المراد بعد الصلاة. أمَّا المأموم؛ فإنه لا يُكره له أن يتطوَّع في موضع المكتوبة . لكن؛ ذكروا أنَّ الأفضلَ أن يَفْصِلَ بين الفرضِ وسُنَّتِهِ بكلامٍ أو انتقال مِن موضعه .
قوله: "إلا من حاجة". مثال الحاجة: أن يريدَ الإِمامُ أن يتطوَّعَ لكن وَجَدَ الصُّفوفَ كلَّها تامَّةً ليس فيها مكان ولا يتيسَّر أن يصلِّي في بيتِه أو في مكانٍ آخر، فحينئذٍ يكون محتاجاً إلى أن يتطوَّع في موضع المكتوبة.
قوله: "وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة" أي: يُكره للإِمام أنْ يُطيلَ قعودَه بعد السَّلام مستقبلَ القِبْلة، بل يخفِّف، ويجلسَ بقَدْرِ ما يقول: "أستغفرُ الله - ثلاث مرات - اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ" ثم ينصرفُ: هذه هي السُّنَّةُ. وابتداءُ الانصرافِ مِن اليسار أو مِن اليمين كُلُّ ذلك وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "فإن كان ثَمَّ نساء لبث قليلاًًًً؛ لينصرفن" .أي: ( إن كان ) في المسجدِ نساءٌ, لبث ( الإمام ) مستقبلَ القِبْلة قليلاً؛ حتى ينصرف النساء قبل الرِّجال. وذلك لأن الرِّجالَ إذا انصرفوا قبلَ انصرافِ النِّساءِ لَزِمَ مِن هذا اختلاطُ الرِّجالِ بالنِّساءِ، وهذا مِن أسبابِ الفتنة.
قوله: "يكره وقوفهم بين السواري " أي وقوفُ المأمومين. (و) السواري: أي: الأعمدة.
(1/378)
________________________________________
قوله: "إذا قطعن الصفوف" اشترط المؤلِّفُ للكراهةِ أن تقطع الصفوف.ومقدار القطع؟ قيَّده بعضُهم بثلاثة أذرع، فقال: إذا كانت السَّاريةُ ثلاثةَ أذرعٍ فإنها تقطع الصَّفَّ، وما دونها لا يقطعُ الصَّفُّ. وقال بعضُ العلماء: بمقدار قيام ثلاثة رِجالٍ،ومقدار قيامٍ ثلاثة رجال أقل مِن ثلاثةِ أذرع، وقيل: المعتبر العُرف وهوظاهر كلام المؤلِّفِ،وأما السَّواري التي دون ذلك فهي صغيرة لا تقطعُ الصُّفوفَ، ولا سيَّما إذا تباعدَ ما بينها. وعلى هذا؛ فلا يُكره الوقوفُ بينها، ومتى صارت السَّواري على حَدٍّ يُكره الوقوفُ بينها فإنَّ ذلك مشروطٌ بعدمِ الحاجةِ، فإنْ احتيجَ إلى ذلك بأن كانت الجماعةُ كثيرة والمسجدُ ضيقاً فإن ذلك لا بأس به من أجلِ الحاجةِ.
فصل
قوله: "يعذر بترك جمعة وجماعة مريض" هذا نوعٌ مِن الأعذارِ. والمراد به: المَرض الذي يَلحق المريضَ منه مشقَّة لو ذَهَبَ يصلِّي وهذا هو النَّوعُ الأول.
قوله: "ومدافع أحد الأخبثين" هذا نوعٌ ثان يُعذر فيه بتركِ الجُمعة والجَماعة.
و"مدافع" تَدلُّ على أنَّ الإِنسانَ يتكلَّفُ دَفْعَ أحد الأخبثين. والأخبثان: هما البولُ والغائطُ، ويَلحقُ بهما الرِّيحُ.
قوله: "ومن بحضرة طعام محتاج إليه" هذا نوعٌ ثالثٌ فيُعذر بتَرْكِ جُمُعَةٍ وجماعةٍ مَن كان بحضْرَةِ طعامٍ، أي: حَضَرَ عنده طعامٌ وهو محتاجٌ إليه، لكن بشرط أن يكون متمكِّناً مِن تناولِه. ولا بُدَّ أيضاً مِن قيد آخر، وهو أنْ لا يجعلَ ذلك عادةً بحيث لا يُقَدَّم العشاءُ إلا إذا قاربت إقامةُ الصَّلاةِ، لأنه إذا اتَّخذَ هذا عادةً فقد تَعمَّدَ أن يَدَعَ الصَّلاةَ، لكن إذا حصلَ هذا بغير اتِّخاذِه عادةً فإنه يبدأ بالطَّعامِ الذي حَضَرَ، سواءٌ كان عشاء أم غداء.
وهل الأكلُ بمقدارِ ما تنكسِرُ نهمتُك، أو لك أنْ تشبعَ؟ نقول: لك أنْ تشبعَ
(1/379)
________________________________________
قوله: "وخائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضرر فيه" هذا نوعٌ رابعٌ مما يُعذر فيه بتَرْكِ الجُمعةِ والجماعةِ، أي: إذا كان عنده مال يَخشى إذا ذَهَبَ عنه أن يُسرقَ، أو معه دابةٌ يَخشى لو ذهبَ للصَّلاةِ أن تنفلتَ الدَّابةُ وتضيع، فهو في هذه الحال معذورٌ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ؛ لأنَّه لو ذَهَبَ وصَلَّى فإن قلبَه سيكون منشغلاً بهذا المال الذي يَخافُ ضياعه.
وكذلك إذا كان يَخشى مِن فواتِه بأن يكون قد أضاعَ دابَّته، وقيل له: إنَّ دابَّتك في المكان الفلاني؛ وحضرتِ الصَّلاةُ، وخَشيَ إنْ ذهب يُصلِّي الجُمعةَ أو الجماعةَ أنْ تذهبَ الدَّابةُ عن المكان الذي قيل إنَّها فيه، فهذا خائفٌ مِن فواتِه، فله أنْ يتركَ الصَّلاةَ، ويذهب إلى مالِه ليدرِكَه. ومِن ذلك أيضاً: لو كان يخشى مِن ضَررٍ فيه، كإنسان وَضَعَ الخُبزَ بالتنورِ، فأُقيمت الصَّلاةُ، فإنْ ذهبَ يُصلِّي احترقَ الخبزُ؛ فله أن يَدَعَ صلاةَ الجماعة مِن أجلِ أن لا يفوتَ مالُه بالاحتراق.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين المالِ الخطير والمال الصَّغيرِ الذي لا يُعتبر شيئاً؛ لأنه أطلق فقال: "مِن ضياع ماله" وقد يُقال: إنَّه يُفرَّقُ بين المالِ الخطير الذي له شأن، وبين المال القليل في صلاة الجُمعةِ خاصَّة؛ لأنَّ صلاةَ الجُمعة إذا فاتت فيها الجماعةُ لا تُعادُ وإنَّما يُصلَّى بدلها ظُهراً، وغير الجُمعةِ إذا فاتت فيها الجماعةُ يصلِّيها كما هي.
قوله: "أو موت قريبه" هذا نوعٌ خامسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، أنْ يخشى مِن موتِ قريبِه وهو غيرُ حاضرٍ، أي: أنَّه في سياق الموتِ فيخشى أن يموت وهو غيرُ حاضرٍ وأحبَّ أنْ يبقى عندَه ليلقِّنه الشَّهادةَ، وما أشبه ذلك، فهذا عُذر.
(1/380)
________________________________________
قوله: "أو على نفسه من ضرر" هذا نوعٌ سادسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرِكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، وهو: أن يَخشى على نفسِه مِن الأمور التي ذكرها المؤلِّفِ، مِن ضَررٍ بأن كان عند بيتِه كلبٌ عقورٌ، وخَافَ إنْ خَرَجَ أنْ يعقِره الكلبُ، فله أنْ يصلِّيَ في بيتِه ولا حَرَجَ عليه.
وقوله: "أو سلطان" يعني: إِذا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ مثل: أنْ يطلبَه ويبحث عنه أميرٌ ظالمٌ له، وخافَ إن خَرَجَ أن يمسكَه ويحبسَه أو يغرِّمه مالاً أو يؤذيه، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّ في ذلك ضرراً عليه، أما إذا كان السلطانُ يأخذُه بحقٍّ فليس له أن يتخلَّفَ عن الجماعةِ ولا الجُمُعةِ، لأنَّه إذا تخلَّفَ أسقط حقّين: حَقَّ الله في الجماعةِ والجُمُعةِ، والحَقَّ الذي يطلبه به السلطانُ.
قوله: "أو ملازمة غريم ولا شيء معه" هذا نوعٌ سابعٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ: بأن كان له غريمٌ يطالبُه ويلازِمُه، وليس عنده فلوسٌ، فهذا عُذْرٌ؛ وذلك لما يلحَقَه مِن الأذيَّةِ لملازمةِ الغريمِ له، فإنْ كان معه شيءٌ يستطيع أن يوفي به فليس له الحَقُّ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّه إذا تركهما في هذه الحال أسقطَ حَقَّين: حَقَّ اللهِ في الجماعة والجُمُعةِ، وحَقَّ الآدميِّ في الوفاءِ.
مسألة: إذا كان عليه دينٌ مؤجَّلٌ، لكن غريمه لازَمه فهل له أن يتخلَّفَ؟ الجواب: ينظر؛ فإن كانت السُّلطةُ قويةٌ بحيث لو اشتكاه على السُّلطة لمنعته منه، فهو غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ له الحَقُّ أن يُقدِّمَ الشَّكوى إلى السُّلطةِ، أما إذا كانت السُّلطةُ ليست قويةً، أو أنها تحابي الرَّجُلَ فلا تمنعه مِن ملازمةِ غريمه، فهذا عُذرٌ بلا شَكٍّ.
(1/381)
________________________________________
قوله: "أو من فوات رفقة" هذا نوعٌ ثامنٌ من أعذار تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، إذا كان يخشى من فوات الرُّفْقةِ، ولا فَرْقَ بين أن يكون السَّفرُ سفرَ طاعةٍ أو سفراً مباحاً.
قوله: "أو غلبة نعاس" هذا نوعٌ تاسعٌ من أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة؛ إذا غلبه النُّعاسُ فإنه يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. مثال ذلك: رجل متعبٌ بسبب عَمَلٍ أو سَفَرٍ فأخذه فله أن ينامَ حتى يأخذَ ما يزولُ به النُّعاسُ ثم يُصلِّي براحةٍ.
قوله: "أو أذى بمطر أو وحل" هذا نوعٌ عاشرٌ مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. فإذا خافَ الأذى بمطرٍ أو وَحْلٍ، أي: إذا كانت السَّماءُ تمطرُ، وإذا خَرَجَ للجُمُعةِ أو الجماعةِ تأذَّى بالمطرِ فهو معذورٌ.
والأذيَّة بالمطرِ أن يتأذَّى في بَلِّ ثيابه أو ببرودة الجَوِّ، أو ما أشبه ذلك، وكذلك لو خاف التأذِّي بوَحْلٍ، وكان النَّاسُ في الأول يعانون مِن الوحلِ؛ لأن الأسواقَ طين تربصُ مع المطر فيحصُلُ فيها الوَحْلُ والزَّلَقُ، فيتعبُ الإِنسانُ في الحضور إلى المسجدِ، فإذا حصلَ هذا فهو معذورٌ،
وأما في وقتنا الحاضرِ فإن الوَحْلَ لا يحصُل به تأذٍّ لأنَّ الأسواقَ مزفَّتة، وليس فيها طين، وغاية ما هنالك أن تجدَ في بعض المواضع المنخفضة مطراً متجمِّعاً، وهذا لا يتأذَّى به الإِنسانُ لا بثيابه ولا بقدميه، فالعُذرُ في مثل هذه الحال إنما يكون بنزولِ المطرِ فإذا توقَّفَ المطرُ فلا عُذر، لكن في بعض القُرى التي لم تُزفَّت يكون العُذرُ موجوداً، ولهذا كان منادي الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي في الليلةِ الباردةِ أو المطيرة: ألا صَلُّوا في الرِّحالِ" .
وفُهِمَ مِن قوله: "أو أذًى بمطرٍ" أنه إذا لم يتأذَّ به بأن كان مطراً خفيفاً فإنَّه لا عُذر له، بل يجب عليه الحضورُ، وما أصابه مِن المشقَّةِ اليسيرةِ فإنه يُثابُ عليها.
(1/382)
________________________________________
قوله: "وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة" هذا نوعٌ حادي عشر مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، وهو الرِّيحُ، بشروط:
الأول: أن تكون الرِّيحُ باردةً؛ لأنَّ الرِّيحَ السَّاخنةَ ليس فيها أذًى ولا مشقَّة.
الثاني: كونها شديدةً؛ لأنَّ الرِّيحَ الخفيفةَ لا مشقَّةَ فيها ولا أذًى، ولو كانت باردةً، فإذا كانت الرِّياحُ باردةً وشديدةً فهي عُذرٌ بلا شَكٍّ؛ لأنَّها تؤلم أشدَّ مِن ألم المطرِ.
الثالث: أن تكونَ في ليلةٍ مظلمةٍ: وهذا الشرطُ ليس عليه دليلٌ . والصحيح: أنه إذا وُجِدت ريحٌ باردةٌ شديدةٌ تشُقُّ على النَّاسِ فإنَّه عُذر في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعة، وهو أَولى مِن العُذرِ للتأذِّي مِن المطر، ويَعرفُ ذلك مَن قاساه.
مسألة: هل يُعذرُ الإِنسانُ بتطويل الإِمامِ؟ الجواب: يُعذرُ بتطويلِ الإِمامِ إذا كان طولاً زائداً عن السُّنَّةِ، وإذا لم يوجد مسجدٌ آخر سَقَطَ عنه وجوبُ الجَماعة.
مسألة: هل يُعذرُ بسرعة الإِمام؟ الجواب: أنَّ هذا مِن بابِ أَولى أن يكون عُذراً مِن تطويلِ الإِمامِ، فإذا كان إمامُ المسجدِ يُسْرِعُ إسراعاً لا يتمكَّنُ به الإِنسانُ مِن فِعْلِ الواجبِ، فإنَّه معذورٌ بتَرْكِ الجماعةِ في هذا المسجدِ، لكن؛ إن وُجِدَ مسجدٌ آخرٌ تُقامُ فيه الجماعةُ وجبت عليه الجماعةُ في المسجدِ الثاني.
مسألة: إذا كان الإِمامُ فاسقاً بحَلْقِ لحيتِه، أو شُرْبِ الدُّخَّان، أو إسبالِ ثوب، فهل هذا عُذر في تَرْكِ الجماعةِ؟ الجواب: إنْ قلنا بأنَّ الصَّلاةَ خلفَه لا تَصِحُّ كما هو المذهب فهو عُذرٌ، وأما إذا قلنا بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَه وهو الصَّحيح فإنَّ ذلك ليس بعُذرٍ.
مسألة: إذا كان الإِنسانُ مجرماً، وخافَ إن خَرَجَ أن تمسِكَه الشرطةُ، فهل هو عُذرٌ؟ الجواب: ليس بعُذرٍ؛ لأنَّه حَقٌّ عليه، أما إذا كان مظلوماً فإنَّه عُذرٌ.
(1/383)
________________________________________
مسألة: إذا كان في طريقِه إلى المسجدِ منكراتٌ كتبرُّجِ النِّساءِ، وشُرْبِ الخَمْر، وشُرْبِ الدُّخَّان، وما أشبه ذلك، فهل هذا عُذر؟ الجواب: ليس بعذر فيخرجُ، وينهى عن المنكرِ ما استطاع، فإن انتهى النَّاسُ فله ولهم، وإن لم ينتهوا فله وعليهم.
مسألة: إذا طرأت هذه الأعذارُ في أثناءِ الصَّلاةِ، فمثلاً: في أثناءِ الصَّلاةِ أصابه مدافعةُ الأخبثين؛ فله أنْ ينفردَ ويتمَّ صلاتَه إلا إذا كان لا يستفيدُ بانفرادِه شيئاً، بمعنى أن الإِمام يخفِّفُ تخفيفاً بقَدْرِ الواجبِ، ففي هذه الحال لو انفردَ لم يستفدْ شيئاً؛ إذ لا يمكن أن يخفِّفَ أكثر مِن تخفيفِ الإِمامِ. وهل له أن يقطعَ الصَّلاة؟
الجواب: نعم، له أنْ يقطعَ الصَّلاةَ؛ إذا كان لا يمكنه أن يكمِلها على الوجه المطلوبِ منه، إلا إذا كان لا يستفيدُ مِن قطعِها شيئاً؛ فإنه لا يقطعها، مثاله: لو سمعَ الغريمَ يدعوه في أثناءِ الصَّلاةِ، ففي هذه الحال لو انصرفَ لأمسكَه، فلا يستفيد بقطعِ الصَّلاةِ شيئاً؛ فلا يقطعها.
(1/384)
________________________________________
مسألة: هل هذه الأعذارُ عُذرٌ في إخراج الصَّلاةِ عن وقتِها؟ الجواب: ليست عُذراً، فعلى الإِنسان أن يصلِّيها في الوقت على أيِّ حالٍ كانت، إلا أنَّ بعضَ أهلِ العِلم قال: إنَّ مدافعةَ الأخبثين عُذرٌ في إخراجِ الصَّلاةِ عن وقتِها؛ وذلك لأنَّ حَبْسَ الأخبثينِ، يكون به ضررٌ على الإِنسانِ، وبعضُ النَّاسِ أيضاً يَحسُّ إذا حبس الأخبثين، ولا سيما البول بخفقان شديدٍ في القلب فيخشى على نفسه منه، ولكننا نقول: إذا كانت هذه الأعذارُ في الصَّلاة الأُولى التي تُجمع لما بعدَها، فإن هذه الأعذار تُبيحُ الجَمْعَ، وهذه فائدةٌ مهمَّةٌ، فالأعذارُ التي تُبيحُ تَرْكَ الجُمُعةِ والجَماعةِ تُبيحُ الجَمْعَ. وحينئذٍ إذا حصلت لك في وقتِ الصَّلاةِ الأُولى فتنوي الجَمْعَ، وتؤخِّرُ الصَّلاةَ إلى وقتِ الثانيةِ؛ لعمومِ حديث عبد الله بن عبَّاس "جَمَعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ بين الظُّهرِ والعصرِ، وبين المغربِ والعشاءِ مِن غير خوفٍ ولا مطرٍ، قالوا: ماذا أرادَ بذلك؟ قال: أرادَ أن لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ" أي: أنْ لا يَلحقها الحَرَجُ في تَرْكِ الجَمْعِ.
مسألة: الآكلُ للبصلِ؛ هل يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؟ وهل يجوزُ له أنْ يأكلَ البصلَ أم لا؟ الجواب: إنْ قَصَدَ بأكلِ البصلِ أنْ لا يُصلِّيَ مع الجماعةِ فهذا حرامٌ ويأثمُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة، أما إذا قَصَدَ بأكلِهِ البصلَ التمتُّعَ به وأنَّه يشتهيه، فليس بحرامٍ. وأما بالنسبة لحضُورِه المسجدَ؛ فلا يحضُرُ، لا لأنه معذورٌ، بل دفعاً لأذيَّتِهِ.
(1/385)
________________________________________
مسألة: إذا كان فيه بَخْرٌ، أي: رائحةٌ منتنةٌ في الفَمِ، أو في الأنفِ أو غيرهما تؤذي المصلِّين، فإنَّه لا يحضرُ دفعاً لأذيَّتِه، لكن هذا ليس كآكلِ البصلِ؛ لأنَّ آكلَ البصلِ فَعَلَ ما يتأذَّى به النَّاسُ باختيارِه، وهذا ليس باختيارِه، وقد نقول: إنَّ هذا الرَّجُلَ يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لأنَّه تخلَّفَ بغير اختيارِه فهو معذورٌ. وقد نقول: إنه لا يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لكنه لا يأثمُ، كما أنَّ الحائضَ تتركُ الصَّلاةَ بأمره اللهِ ومع ذلك لا يُكتب لها أجرُ الصَّلاةِ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ تَرْكَها للصَّلاةِ نقصاً في دينِها .
مسألة: مَن شَرِبَ دُخَّاناً وفيه رائحةٌ مزعجةٌ تؤذي النَّاسَ، فإنَّه لا يَحِلُّ له أنْ يؤذيهم، وهذا لعلَّه يكون فيه فائدةٌ، وهي أنَّ هذا الرَّجُلَ الذي يشربُ الدُّخَّانَ لما رأى نفسَه محروماً مِن صلاةِ الجماعةِ يكون سبباً في توبته منه وهذه مصلحة.
مسألة: مَن فيه جروحٌ منتنةٌ، وهذا في الزَّمنِ الماضي؛ لعدم وجودِ المستشفيات، فله أن يتخلَّفَ عن الجُمُعةِ والجَماعةِ، ولكن لا نقول: إنه عُذرٌ كعُذرٍ المريض وشبهه، إلا إذا كان يتأخَّرُ عن صلاةِ الجماعةِ خوفاً مِن ازديادِ ألمِ الجُرحِ، لأنَّ الرَّوائحَ أحياناً تؤثِّرُ على الجُروحِ وتزيدها وَجَعاً، فهذا يكون معذوراً، ويدخل في قسم المريض.
باب أهل الأعذار
قوله: "تلزم المريض الصلاة" .أي: الصَّلاة المفروضةُِ.
وقوله: "قائماً" أي: واقفاً، وظاهره: أنه ولو كان مثل الرَّاكعِ، أو كان معتمداً على عصا أو جدارٍ أو عمودٍ أو إنسانٍ، فمتى أمكنه أن يكون قائماً وَجَبَ عليه على أيِّ صِفةٍ كان. ولكن؛ لا يجزئ القيامُ باعتمادٍ تامٍ مع القدرةِ على عدمِه، والاعتمادُ التامُّ هو الذي لو أُزيل العُمدةُ لسقط المعتمدُ.
قوله: "فإن لم يستطع" ، أي: إن لم يكن في طوعِهِ القيامُ، وذلك بأن يعجزَ عنه فإنَّه يصلِّي قاعداً.
(1/386)
________________________________________
وقوله: "فإن لم يستطع" ظاهره: أنه لا يُبيحُ القعودَ إلا العجزُ، وأما المشقَّةُ فلا تُبيح القعودَ. ولكن؛ الصَّحيحُ: أنَّ المشقَّةَ تُبيحُ القعودَ، فإذا شَقَّ عليه القيامُ صلَّى قاعداً. وضَّابطُ للمشقَّةِ: هو ما زالَ به الخشوع؛ والخشوعُ هو: حضورُ القلبِ والطُّمأنينةُ، فإذا كان إذا قامَ قَلِقَ قلقاً عظيماً ولم يطمئنَّ، وتجده يتمنَّى أن يصلِ إلى آخر الفاتحةِ ليركعَ مِن شدَّةِ تحمُّلهِ، فهذا قد شَقَّ عليه القيامُ فيصلي قاعداً.
وقوله: "فقاعداً" أي: جالساً، ولكن؛ كيف يجلسُ؟ يجلس متربِّعاً على أليتيه، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه. والتربُّع سُنَّةٌ، فلو صَلَّى مفترشاً، فلا بأسَ، ولو صَلَّى محتبياً فلا بأس. وإذا كان في حالِ الرُّكوعِ قال بعضُهم: إنه يكون مفترِشاً، والصَّحيح: أنه يكون متربِّعاً.
قوله: "فإن عجز فعلى جنبه " .وأي الجنبين يكون عليه، نقول: هو مخيَّرٌ على الجَنْبِ الأيمن أو على الأيسر. والأفضل:ُ أن يفعلَ ما هو أيسرُ له، فإن كان الأيسرُ أن يكون على جَنْبِهِ الأيسر فهو أفضل، وإن كان بالعكس فهو أفضلُ، فإن تساوى الجنبان فالجنب الأيمن أفضل.
قوله: "فإن صلى" أي: المريض.
قوله: "مستلقياً" أي: على ظهره.
قوله: "ورجلاه إلى القبلة صح" أي: صَحَّ هذا الفعلُ، أي: مع قدرته على الجنب، لكنه خِلافُ السُّنَّةِ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه يَصِحُّ مع القُدرة على الجَنْبِ. والقول الثاني: أنه لا يَصِحُّ مع القُدرةِ على الجَنْبِ, وهذا القول هو الرَّاجحُ.
(1/387)
________________________________________
فصار ترتيبُ صلاةِ المريضِ كما يلي: يصلِّي قائماً، فإنْ لم يستطعْ فقاعداً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ، فإنْ لم يستطع فمستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ، فهذه هي المرتبةُ الرابعةُ على القولِ الرَّاجحِ، أما على كلامِ المؤلِّفِ فإنَّها في مرتبة الصَّلاةِ على الجَنْبِ فتدخلُ في المرتبة الثالثة لكنها مفضولةٌ. والصَّحيحُ: أنَّها مرتبة رابعةٌ مستقلَّةٌ، لا تَصِحُّ إلا عند العجزِ عن المرتبةِ الثالثةِ.
قوله: "ويومئ راكعاً وساجداً, ويخفضه عن الركوع" .قوله: "ويومئ" أي: المريض المصلِّي جالساً راكعاً وساجداً، أي: في حالِ الرُّكوعِ والسُّجودِ ويخفضه، أي: السجود عن الركوع، أي: يجعل السُّجودَ أخفضَ، وهذا فيما إذا عَجَزَ عن السُّجُودِ، أما إذا قَدِرَ عليه فيومئ بالرُّكوعِ ويسجد، هذا إذا كان جالساً.
فإن كان مضطجعاً على الجنبِ فإنَّه يومئ بالرُّكوعِ والسُّجودِ، ولكن كيف الإِيماءُ؟ هل إيماءٌ بالرأسِ إلى الأرضِ بحيث يكون كالملتفت، أو إيماء بالرأس إلى الصدر؟ الجواب: أنه إيماءٌ بالرأسِ إلى الصدرِ؛ لأنَّ الإِيماءَ إلى الأرضِ فيه نوعُ التفاتٍ عن القِبلةِ، بخلاف الإِيماءِ إلى الصدرِ، فإن الاتجاه باقٍ إلى القِبْلة، فيومئُ في حال الاضطجاعِ إلى صَدْرِه قليلاً في الركوع، ويومئُ أكثرَ في السُّجودِ.
قوله: "فإن عجز أومأ بعينه" يعني: إذا صار لا يستطيعُ أنْ يومئَ بالرأسِ فيومئُ بالعينِ، فإذا أرادَ أنْ يركعَ أغمضَ عينيه يسيراً، ثم إذا قال: "سَمِعَ اللهُ لمَن حمِده" فتح عينيه، فإذا سَجَدَ أغمضهما أكثر. والصحيح: أنه لا يومئ بها.
(1/388)
________________________________________
وفي هذه المسألة ثلاثةُ أقوال: القول الأول: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ يومئُ بعينِه. (و) القول الثاني: تسقطُ عنه الأفعالُ، من دونِ الأقوالِ. (و) القول الثالث: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، يعني: لا تجبُ عليه الصَّلاةُ أصلاً، وهذا القولُ اختيارُ شيخ الإِسلام ابن تيمية . والرَّاجحُ مِن هذه الأقوال الثلاثة: أنه تسقطُ عنه الأفعالُ فقط؛ لأنها هي التي كان عاجزاً عنها، وأما الأقوالُ فإنَّها لا تسقطُ عنه، لأنه قادرٌ عليها.
فإن عَجَزَ عن القولِ والفعلِ بحيث يكون الرَّجُلُ مشلولاً ولا يتكلَّم، فماذا يصنع؟ الجواب: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، وتبقى النِّيةُ، فينوي أنَّه في صلاةٍ، وينوي القراءةَ، وينوي الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ. هذا هو الرَّاجحُ؛ لأن الصَّلاةَ أقوالٌ وأفعالٌ بنيَّةٍ، فإذا سقطت أقوالُها وأفعالُها بالعجزِ عنها بقيت النِّيةُ. والمذهب في هذه المسألة أصحُّ مِن كلامِ شيخِ الإِسلامِ ابن تيمية ، حيث قالوا: لا تسقطُ الصَّلاةُ ما دام العقلُ ثابتاً، فما دام العقلُ ثابتاً فيجبُ عليه مِن الصَّلاةِ ما يقدِرُ عليه منها.
تنبيه: بعض العامة يقولون: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ أومأَ بالإِصبعِ، فينصب الأصبعَ حالَ القيام ويحنيه قليلاً حالَ الركوعِ ويضمُّه حالَ السُّجودِ ، وهذا لا أصلَ له، ولم تأتِ به السُّنَّةُ، ولم يقلْه أهلُ العِلمِ.
قوله: "فإن قَدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر" إن قَدِرَ المريضُ في أثناءِ الصَّلاةِ على فِعْلٍ كان عاجزاً عنه انتقل إليه. مثاله: رَجُلٌ مريضٌ عَجَزَ عن القيامِ فشرعَ في الصَّلاةِ قاعداً، وفي أثناءِ الصَّلاةِ وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فنقول له: قُمْ, وبالعكس فإذا كان في أول الصَّلاةِ نشيطاً فَشَرَعَ في الصَّلاةِ قائماً، ثم تعبَ فجلسَ، نقول: لا بأسَ ( بذلك ) .
مسألتان:
(1/389)
________________________________________
المسألة الأولى: لو أتمَّ قراءةَ الفاتحةِ وهو قائمٌ مِن القعودِ في حالِ نهوضِه فهل يجزئه؟ مثاله: مريضٌ يصلِّي قاعداً، فلما وَصَلَ إلى قوله تعالى: { )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فقام، وفي أثناء قيامه قرأ: { )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)
المسألة الثانية: لو أتمَّها وهو عاجزٌ عن القيامِ حالَ هبوطِه فهل يجزئه؟ مثاله: إنسانٌ يصلِّي قائماً، وفي أثناء القيامِ لما وَصَلَ إلى قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تعب فنزلَ، وفي أثناء نزوله قرأ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
قال الفقهاء: أما في المسألة الأُولى فلا تجزئِه. وأما في المسألة الثانية فتجزئه. ولكن؛ لو قيل: إنَّ قولَه تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] يشمَلُ الصُّورةَ الأُولى؛ لأنَّ الرَّجُلَ الذي قَدِرَ في أثناء الجلوسِ على القيامِ، نهوضُه هذا هو غايةُ قدرتِه، فإذا كان نهوضُه غايةَ قدرتِه، فقد قرأ الفاتحةَ في الحال التي هي قدرتُه فتجزئه، وهذا أقربُ ، ولكن احتياطاً لهذا الأمر نقول: إذا قدرتَ على القيامِ فاسكت لا تقرأ حتى تستتمَّ قائماً ثم أكمل.
(1/390)
________________________________________
قوله: "وإن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً، وبسجود قاعداً" أي: إنْ قَدِرَ المريضُ على القيامِ، لكن لا يستطيع الركوعَ، إما لمرضٍ في ظهرِه، وإما لوجعٍ في رأسِه، وإما لعمليةٍ في عينه، أو لغير ذلك، ففي هذه الحال نقول له: صَلِّ قائماً وأومئ بالرُّكوعِ قائماً. وكذلك إذا كان يستطيعُ أنْ يجلسَ؛ لكن لا يستطيع أن يسجدَ نقول: اجلسْ وأومئْ بالسُّجودِ، وهذا يحتاجُ الإِنسانُ إليه في الطائرةِ إذا كان السفرُ طويلاً وحان وقتُ الصَّلاةِ، وليس في الطائرةِ مكان مخصَّصٌ للصَّلاةِ، فإنه يصلِّي في مكانِه قائماً؛ بدون اعتماد إذا صارت الطائرةُ مستويةً، وليس فيها اهتزازٌ وإلا فيتمسَّكُ بالكرسي الذي أمامَه، لكن يومئ بالرُّكوعِ قَدْرَ ما يمكن. والظاهر: أنه لا يستطيع السُّجودَ حسب الطائرات التي نعرفُ، فنقول: اجلسْ على الكرسيِّ، ثم أومئْ إيماءً بالسُّجودِ. فمَن لم يقدِرْ على الرُّكوعِ أومأ به قائماً، ومَن لم يقدِرْ على السُّجودِ أومأ به جالساً.
مسألة: إذا كان لا يستطيعُ السُّجودَ على الجبهة فقط؛ لأنَّ فيها جروحاً لا يتمكَّنُ أن يمسَّ بها الأرض، لكن يقدِرُ باليدين وبالركبتين فماذا يصنع؟
الجواب: نأخذ بالقاعدة: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فيضعُ يديه على الأرضِ ويدنو مِن الأرضِ بقَدْرِ استطاعتِه.وأما قولُ مَن قال مِن العلماءِ: إنَّه إذا عَجَزَ عن السُّجودِ بالجبهة لم يلزمه بغيرِها، فهذا قول ضعيفٌ. ولو فَرَضْنا أنه لا يستطيعُ أن يسجدَ أبداً، بمعنى: لا يستطيعُ أن يحني ظهرَه إطلاقاً فحينئذ لا يلزمه أن يضعَ يديه على الأرضِ؛ لأنه لا يقرب مِن هيئةِ السُّجودِ، أما لو كان يستطيعُ أنْ يدنوَ مِن الأرضِ حتى يكون كهيئة السَّاجدِ، فهنا يجب عليه أنْ يسجدَ، ويُقرِّبَ جبهتَه مِن الأرضِ ما استطاعَ.
(1/391)
________________________________________
مسألة: رَجُلٌ مريضٌ يقول: إنْ ذهبتُ إلى المسجدِ لم أستطعْ القيامَ؛ لأني أَصِلُ إلى المسجدِ وأنا متعبٌ فلا أستطيعُ القيامَ، وإن صلَّيتُ في بيتي صلَّيت قائماً؛ لأني لم أتعبْ ولم تحصُلْ عليَّ مشقَّةٌ. وأيضاً: ربَّما يطوِّلُ الإِمامُ تطويلاً يشقُّ عليَّ، وفي بيتي أصلِّي كما شئتُ، فهل نقول: يجبُ عليك أن تذهبَ إلى المسجدِ ثم تصلِّي ما استطعتَ. أو نقول: يجبُ عليك أن تصلِّي في بيتِك؛ لأنَّ القيامَ رُكنٌ وصلاةُ الجماعةِ واجبة، أو نقول: تخيَّر؛ لأنَّه تعارضَ واجبان؟
( الجواب ) : للعلماء فيها ثلاثة أقوال: فمِن العلماءِ مَن قال: إنه يُخيَّر لتعارض الواجبين، واجب الجماعة، وواجب القيام وليس أحدهما أولى بالترجيح مِن الآخر. ومنهم مَن قال: يقدِّم القيامَ، فيصلِّي في بيتِه قائماً؛ لأنَّ القيامَ رُكْنٌ بالاتفاقِ. ومنهم مَن قال: يجب أن يحضر إلى المسجدِ، ثم يصلِّي قائماً إن استطاعَ، وإلا صَلَّى جالساً؛ لأنَّه مأمورٌ بإجابة النِّداء، والنِّداءُ سابقٌ على الصَّلاةِ فيأتي بالسَّابق فإذا وَصَلَ إلى المسجدِ، فإن قَدِرَ صَلَّى قائماً وإلا فلا، وأيضاً: ربَّما يَظنُّ أنه إذا ذهبَ إلى المسجدِ لا يستطيعُ القيامَ، ثم يمدُّه الله بنشاطٍ ويستطيعُ القيامَ. والذي أميلُ إليه ولكن ليس ميلاً كبيراً هو أنَّه يجب عليه حضورُ المسجد, فإن قَدِرَ على القيام فذاك، وإنْ لم يقدِرْ فقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] .
قوله: "ولمريض الصلاة مستلقياً" .يعني: مستلقياً على ظهرِه, واللام هنا للإِباحة.
قوله: "مع القدرة على القيام" أي: هو قادر أن يقومَ.
قوله: "بقول طبيب مسلم" اشترط المؤلِّف لجواز الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام أنْ يكون عن قولِ طبيبٍ مسلمٍ فهذان شرطان: أن يكون طبيباً، وأن يكون مسلماً.
(1/392)
________________________________________
وعُلِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لو أمرَه بذلك غيرُ طبيب، يعني: أمرَه إنسانٌ عادي مِن الناس، قال له: أظنُّ أنك إذا قمت تصلِّي قائماً فإن ذلك يضرُّك. فلا يرجع إلى قوله، ولكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه إذا عَلِمَ بالتجربة أن مثل هذا المرض يضرُّ المريضَ إذا صلَّى قائماً فإنه يعمل بقول شخص مجرِّبٍ.
وعُلم من كلامه أيضاً أنه لو أمره بذلك غير مسلم لم يأخذ بقوله لأنَّ هذه أمانة، وغير المسلم ليس بأمين. وذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً.وهذا هو القول الراجح.
قوله: "ولا تصح صلاته قاعداً في السفينة وهو قادر على القيام" أي: الفريضة، لأن النافلة تصح قاعداً مع القدرة على القيام في السفينة وغيرها، وذلك لأن السفينة ليست كالراحلة، لأن السفينة يمكن للإِنسان أن يصلّي فيها قائماً ويركع ويسجد لاتساع المكان، فإذا كان يمكنه وجب عليه أن يصلّي قائماً، وإذا كان لا يمكنه إما لكون الرياح عاصفة والسفينة غير مستقرة فإنه يصلّي جالساً، وإما لكون سقف السفينة قصيراً فإنه يصلّي جالساً، ولكن سبق أنه إذا أمكن أن يقف ولو كراكع وجب عليه .
قوله: "ويصح الفرض على الراحلة" يعني: البعير أو الحمار أو الفرس أو نحو ذلك.
قوله: "خشية التأذي" أطلق المؤلف فيعم التأذي بأي شيء سواء بوحل أو مطر أو غير ذلك، فالمهم أنه يتأذى لو صلّى على الأرض ولا يستقر في صلاته فله أن يصلّي على الراحلة، وقيد المؤلف الصلاة بكونها فرضاً، لأن النفل على الراحلة جائز، سواء خشي التأذي أم لم يخش.
وقوله: "يصح الفرض على الراحلة خشية التأذي" لم يذكر المؤلف شيئاً عن استقبال القبلة، وعن الركوع وعن السجود، فنقول: يجب أن يستقبل القبلة في جميع الصلاة؛ لأنه قادر عليه إذ يمكنه أن يتوقف في السير ويوجه الراحلة إلى القبلة ويصلِّي.
(1/393)
________________________________________
أما الركوع والسجود فيومئ بالركوع والسجود، لأنه لا يستطيع، والقيام أولى، هذا على الرواحل التي يعرفها العلماء رحمهم الله، وهي الإِبل والحمير والخيل والبغال وشبهها، لكن الراحلة اليوم تختلف فالراحلة اليوم سيارات، وبعض السيارات كالسفن يستطيع الإِنسان أن يصلي فيها قائماً راكعاً ساجداً متجهاً إلى القبلة، فهل يقال: إنه لا يصلّي على هذه الرواحل إلا بشرط التأذي بالنزول؟ أو نقول إذا أمكنه أن يأتي بالواجب فيها فله أن يصلي؟ الجواب: الثاني، لو كانت السيارة أتوبيساً كبيراً، وفيها مكان واسع للصلاة والإِنسان يستطيع أن يصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فلا حرج عليه أن يصلّي؛ لأن هذه السيارات كالسفينة تماماً، لكن الغالب أنها صغار، أو نقل جماعي كله كراسي، لكن إن أمكن فهو كغيره، وفي الطائرات إذا كان يمكنه أن يصلّي قائماً وجب أن يصلّي إلى القبلة قائماً ويركع ويسجد إلى القبلة، وإذا لم يمكنه فإن كانت الطائرة تصل إلى المطار قبل خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل إلى الأرض، فإن كان لا يمكن أن تصل إلى المطار قبل خروج الوقت، فإن كانت هذه الصلاة مما تجمع إلى ما بعدها كالظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، فإنه ينتظر حتى يهبط على الأرض فيصلّيهما جمع تأخير، وإذا كانت الصلاة لا تجمع لما بعدها صلّى على الطائرة على حسب حاله، ولكن إذا قدرنا أن الطائرة فيها مكان متسع يتسع للإِنسان ليصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فهل يجوز أن يصلِّي الصلاة قبل أن يهبط إلى المطار؟ فالجواب: يجوز. واستدلَّ في "الرَّوض" بقول يعلى بن مُرَّةَ: أنَّهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر، فانتهوا إلى مَضِيقٍ، فحضرتِ الصَّلاةُ، فَمُطِرُوا، السَّماءُ من فَوقِهِم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فأذَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلتِه، وأقامَ، فتقدَّمَ على راحلتِه فصلَّى بهم، يُومِئُ إيماءً، يجعلُ السجودَ
(1/394)
________________________________________
أخفضَ من الركوعِ.رواه أحمد والترمذي وقال: العمل عليه عند أهل العلم. وفي هذا الحديث أنهم يصلّون جماعة، وعلى هذا فيتقدم الإِمام عليهم حتى في الرواحل؛ لأن هذا هو السنّة في موقف الإِمام.
قال في "الروض": "وكذا إن خاف انقطاعاً عن رفقة في نزوله، أو على نفسه، أو عجزاً عن ركوب إن نزل وعليه الاستقبال وما يقدر عليه". أي: إذا خاف انقطاعاً عن رفقته يصلِّي على الراحلة ولو مع الأمن، لأن الإِنسان إذا انقطع عن رفقته فلربما يضيع، وربما يحصُل له مرض أو نوم أو ما أشبه ذلك فيتضرر، فإذا قال: إن نزلت على الأرض وبركت البعير وصليت فاتت الرفقة، وعجزت عن اللحاق بهم، وإن صلّيت على بعيري فإني أدركهم نقول له: صلِّ على البعير .
قوله: "لا للمرض" .يعني: لا تصح الفريضة على الراحلة للمرض، لأن المريض يمكنه أن ينيخ الراحلة وينزل على الأرض ويصلِّي، ولكن إذا علمنا أن هذا المريض لو نزل لم يستطع الركوب؛ لأنه ليس عنده من يركبه، وهذا قد يقع فيصلِّي على الراحلة، لأن هذا أعظم من التأذي بالمطر وأخطر.
فقول المؤلف: "لا للمرض" ليس على إطلاقه بل نقول: لا للمرض إذا كان يمكنه أن ينزل ثم يركب على الراحلة، أما إذا كان لا يمكنه فله أن يصلِّي على الراحلة للمرض، لأن ذلك أشد من الوحل وشبهه.
فصل
لما ذكر المؤلف العذر بالمرض أعقبه بذكر العذر بالسفر فقال: "من سافر سفراً مباحاً" .قوله: "سفراً مباحاً" هذا هو الشرط الأول للقصر, وخرج به المحرم والمكروه، وعلى هذا فلو سافر الإِنسان سفراً محرماً لم يبح له القصر. وقال بعض العلماء: لا قصر إلا في سفر الطاعة كالحج والعمرة. وذهب الإِمام أبو حنيفة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجماعة كثيرة من العلماء؛ إلى أنه لا يشترط الإِباحة لجواز القصر وأن الإِنسان يجوز أن يقصر حتى في السفر المحرم، وهذا القول قول قوي.
(1/395)
________________________________________
قوله: "أربعة برد" هذا هو الشرط الثاني من شروط القصر. والبرد: جمع بريد، والبريد نصف يوم، فتكون أربعة برد يومين. وقدّروه بثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلاً، هذا هو مسافة القصر فهو مقدر بالمسافة، والميل المعروف = كيلو وستمائة متر. وأما في الزمن فقالوا: إن مسيرته يومان قاصدان بسير الإِبل المحملة، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء. والصحيح: أنه لا حد للسفر بالمسافة، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف.
مسألة: إن أشكل هل هذا سفر عرفاً أو لا؟ نقول: الاحتياط أن تتم؛ لأن الأصل هو الإِقامة حتى نتحقق أنه يسمى سفراً.
قوله: "سنّ له قصر رباعيةٍ ركعتين" .أفادنا المؤلف بقوله: "من سافر" أنه لا يمكن قصر بدون سفر حتى لو كان الإِنسان في أشد المرض، فإنه لا يقصر.فالمرض والشغل والتعب لا يمكن أن يكونا سبباً للقصر.
وقوله: "سنّ له قصر رباعية" أفادنا المؤلف أن القصر سنّة، وهذا موضع خلاف، فعلى ما قال المؤلف إن القصر سنّة لو أتم لم يأثم، ولا يوصف بأن عمله مكروه. وقال بعض أهل العلم: إن الإِتمام مكروه وهذا القول اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية ، وهو قول قوي، بل لعله أقوى الأقوال. وقال بعض أهل العلم: إن القصر واجب، وأن من أتم فهو آثم. والذي يترجح لي وليس ترجحاً كبيراً هو أن الإِتمام مكروه وليس بحرام، وأن من أتم فإنه لا يكون عاصياً.
قوله: "إذا فارق عامر قريته" .المفارقة: ليس المراد بها أن يغيب عن قريته؛ لأنها ربما لا تغيب عن نظره إلا بعد مسافة طويلة، وقد ذكر أن زرقاء اليمامة تبصر من مسيرة ثلاثة أيام، بل المراد بالمفارقة: المفارقة البدنية، لا المفارقة البصرية، أي: أن يتجاوز البيوت، ولو بمقدار ذراع، فإذا خرج من مسامتة البيوت ولو بمقدار ذراع فإنه يعتبر مفارقاً.
(1/396)
________________________________________
وقوله: "عامر قريته" لم يقل بيوت قريته؛ لأنه قد يكون هناك بيوت قديمة في أطراف البلد هجرت وتركت ولم تسكن، فهذه لا عبرة بها، بل العبرة بالعامر من القرية، فإذا قدر أن هذه القرية كانت معمورة كلها، ثم نزح أهلها إلى جانب آخر وهجرت البيوت من هذا الجانب فلم يبق فيها سكان فالعبرة بالعامر، فإن كان في القرية بيوت عامرة ثم بيوت خربة ثم بيوت عامرة، فالعبرة بمفارقة البيوت العامرة الثانية وإن كان يتخللها بيوت غير عامرة.
وقوله: "إذا فارق عامر قريته" أضافها إلى نفسه ليفيد أن المراد قريته التي يسكنها، فلو فرض أن هناك قريتين متجاورتين، ولو لم يكن بينهما إلا ذراع أو أقل، فإن العبرة بمفارقة قريته هو، وإن لم يفارق القرية الثانية الملاصقة أو المجاورة.
قوله: "أو خيام قومه" أي: إذا كانوا يسكنون الخيام فالعبرة بمفارقة الخيام، فإذا فارق الخيام حل له القصر، وعلم من كلامه : أنه لا يجوز أن يقصر ما دام في قريته ولو كان عازماً على السفر ولو كان مرتحلاً، ولو كان راكباً يمشي بين البيوت، فإنه لا يقصر حتى يبرز.
مسألة: إذا كان في القصيم وخرج إلى المطار، هل يقصر في المطار؟ الجواب: نعم يقصر؛ لأنه فارق عامر قريته فجميع القرى التي حول المطار منفصلة عنه، أما من كان من سكان المطار؛ فإنه لا يقصر في المطار، لأنه لم يفارق عامر قريته.
مسألة: وهل له أن يفطر في المطار؟ الجواب: نعم له أن يفطر، فلو أراد أن يسافر في رمضان وخرج وبقي في المطار ينتظر الطائرة، وأقصد بذلك مطار القصيم فإنه يفطر، لأنه فارق عامر قريته، ولو قدر أن الطائرة لم تقلع ولم يحصل السفر ذلك اليوم، هل يعيد الصلاة التي كان قصرها؟ الجواب: لا، لأنه أتى بها بأمر الله موافقة لشرعه، فتكون مقبولة.
مسألة: وهل يلزمه إذا لم تأتِ الطائرة ورجع إلى بلده بعد أن أفطر الإِمساك؟ فيه قولان لأهل العلم. والصحيح: أنه لا يلزمه.
(1/397)
________________________________________
مسألة: رجل سافر من أجل أن يترخص فهل يترخص؟ الجواب: لا، لأن السفر حرام حينئذ، ولأنه يعاقب بنقيض قصده فكل من أراد التحيُّل على إسقاط الواجب أو فعل المحرم عوقب بنقيض قصده فلا يسقط عنه الواجب ولا يحل له المحرم.
مسألة: إنسان خرج من بلده يتمشّى فهبت رياح أضلته عن الطريق، فصار تائهاً يطلب الطريق، ولم يهتدِ إليه، فهل يقصر الصلاة؟. الجواب: لا يقصر، لأنه لم ينو مسافة القصر وقد يهتدي إلى الطريق قبل بلوغ المسافة، وكذلك من خرج لطلب بعير شارد لا يقصر؛ لأنه لم ينوِ المسافة. ولكن الصحيح: أنه يقصر لأنه على سفر.
قوله: "وإن أحرم حضراً ثم سافر" .إلخ تضمن كلامه عدة مسائل يجب فيها الإِتمام:
المسألة الأولى: أحرم ثم سافر، يعني دخل في الصلاة، فالدخول في الصلاة يعتبر إحراماً، ولهذا نسمي التكبيرة الأولى تكبيرة الإِحرام، فهذا رجل كبر للإِحرام وهو مقيم ثم سافر، كما لو كان في سفينة تجري في نهر يشق البلد وكانت راسية فكبّر للصلاة، ثم مشت السفينة ففارقت البلد وهو في أثناء الصلاة فيلزمه أن يتم؛ لأنه ابتداء الصلاة في حال يلزمه إتمامها، فلزمه الإِتمام.
قوله: "أو في سفر ثم أقام" .هذه هي المسألة الثانية: أي: أحرم للصلاة في سفر ثم أقام، عكس المسألة الأولى، كما لو كانت السفينة مقبلة على البلد والنهر قد شق البلد فكبّر للإِحرام وهو في السفينة قبل أن يدخل البلد، ثم دخل البلد فيلزمه الإِتمام هذا هو المذهب. والراجح: أنه لا يلزمه الإِتمام لأنه ابتدأ الصلاة في حال يجوز له فيها القصر فكان له استدامة ذلك ولا دليل بيّناً على وجوب الإِتمام.
قوله << أوذكر صلاة حضر في سفر >> .هذه هي المسألة الثالثة: مثاله: رجل مسافر، وفي أثناء السفر ذكر أنه لم يصل الظهر في الحضر فإنه يصلي أربعاً.
(1/398)
________________________________________
قوله: "أو عكسها" .هذه هي المسألة الرابعة: مثال ذلك: رجل وصل إلى بلده ثم ذكر أنه لم يصل الظهر في السفر، فيلزمه أن يصلي أربعاً،.هذا هو المذهب، ولكن القول الراجح خلافه، وأنه إذا ذكر صلاة سفر في حضر صلاها قصراً.
قوله: "أو ائتم بمقيم" .هذه هي المسألة الخامسة : إذا ائتم المسافر بمقيم فإنه يتم.
مسألة: إذا أدرك المسافر من صلاة الإِمام ركعة في الصلاة الرباعية فبكم يأتي؟ الجواب: يأتي بثلاث، وإن أدرك ركعتين أتى بركعتين، وإن أدرك ثلاثاً أتى بركعة، وإن أدرك التشهد أتى بأربع؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم فأتموا".
قوله: "أو بمن يشك فيه". هذه هي المسألة السادسة: إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو مسافر أو مقيم، وهذا إنما يكون في محل يكثر فيه المسافرون، كالمطار مثلاً، ففيه مقيمون، وفيه مسافرون أحياناً يكونون بعلامة وأحياناً بلا علامة، فإن كانوا بعلامة فالأمر ظاهر، وإن لم تكن علامة لزمه الإِتمام للشك في جواز القصر. وظاهر كلامه لزوم الإِتمام وإن تبين أن الإِمام مسافر. والقول الراجح: عندي أنه لا يلزمه الإِتمام في هذه الصورة لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، ولا يلزمه الإِتمام خلف الإِمام إلا إذا أتم الإِمام وهنا لم يتم الإِمام.
ولو قال حينما رأى إماماً يصلي بالناس في مكان يجمع بين مسافرين ومقيمين: إن أتمّ إمامي أتممت وإن قصر قصرت، صح وإن كان معلقاً؛ لأن هذا التعليق يطابق الواقع، فإن إمامه إن قصر ففرضه هو القصر، وإن أتم ففرضه الإِتمام، وليس هذا من باب الشك، وإنما هو من باب تعليق الفعل بأسبابه، وسبب الإِتمام هنا إتمام الإِمام والقصر هو الأصل.
(1/399)
________________________________________
قوله: "أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها". هذه هي المسألة السابعة: يعني: أن المسافر أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، كما إذا ائتمّ بمقيم فقد أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، فإذا فسدت بحدث أو غيره ثم أعادها فإنه يلزمه الإِتمام، لأن هذه الصلاة إعادة لصلاة يجب إتمامها، فيلزمه أن يصلي أربعاً. ولكن هذا غير مسلم به؛ وذلك لأن الصلاة الأولى التي شرع فيها إنما يلزمه إتمامها تبعاً لإِمامه لا من حيث الأصل، وبعد أن فسدت زالت التبعية فلا يلزمه إلا صلاة مقصورة، وهذا التعليل أقوى من التعليل الذي ذكروه رحمهم الله، فيكون هذا أرجح إن لم يمنع منه إجماع، أي: أنه إذا أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها في حال يجوز له القصر، فإنه لا يلزمه الإِتمام.
مسألة: لو دخل وقت الصلاة وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل وقت الصلاة وهو في السفر ثم دخل بلده فإنه يتم اعتباراً بحال فعل الصلاة.
قوله: "أو لم ينوِ القصر عند إحرامها". هذه هي المسألة الثامنة: إذا لم ينو القصر عند إحرامها، يعني: دخل في صلاة الظهر وهو مسافر، لكن نوى صلاة الظهر، ولم يستحضر تلك الساعة أن ينويها ركعتين، فهنا يقول المؤلف: يلزمه أن يتم، وهذه المسألة لها ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن ينوي الإِتمام.
الصورة الثانية: أن ينوي القصر.
الصورة الثالثة: أن ينسى فلا ينوي قصراً ولا إتماماً.
(1/400)
________________________________________
فإذا نوى الإِتمام لزمه الإِتمام على رأي من يرى جواز إتمام المسافر. وإذا نوى القصر قصر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" . وإذا لم ينوِ القصر ولا الإِتمام؛ فالمذهب أنه يتم ، وعللوا ذلك : أن الأصل وجوب الإِتمام ، فإذا لم ينوِ القصر لزمه الأصل ؛ وهو الإِتمام . والقول الثاني في المسألة:أنه يقصر وإن لم ينوِ القصر، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، وهذا يقع كثيراً يكبّر الإِنسان في الصلاة الرباعية، وهو مسافر ولا يخطر على باله القصر، لكن بعدما يكبّر ويقرأ الفاتحة أو يركع أو ما أشبه ذلك يذكر أنه مسافر فينوي القصر، فعلى المذهب يجب عليه الإِتمام. والصحيح: أنه لا يلزمه الإِتمام، بل يقصر؛ لأنه الأصل، وكما أن المقيم لا يلزمه نية الإِتمام، كذا المسافر لا يلزمه نية القصر.
قوله: "أو شك في نيته". هذه هي المسألة التاسعة: إذا شك في نية القصر، يعني: شك هل نوى القصر أم لم ينوِ؟ فيلزمه الإِتمام، وهذه المسألة غير المسألة الأولى، فالأولى جزم بأنه لم ينوِ، والثانية شك هل نوى أم لا؟ فالمذهب أنه يلزمه الإِتمام. والصحيح: أنه يقصر ولا يلزمه الإِتمام.
قوله: "أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام". هذه هي المسألة العاشرة: فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أيام في أي مكان كان، سواء نوى الإِقامة في البر أو نوى الإِقامة في البلد، فيلزمه أن يتم.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف التي كثرت فيها الأقوال فزادت على عشرين قولاً لأهل العلم، وسبب ذلك أنه ليس فيها دليل فاصل يقطع النزاع، فلهذا اضطربت فيها أقوال أهل العلم، فأقوال المذاهب المتبوعة هي:
(1/401)
________________________________________
أولاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله: كما سبق أنه إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام انقطع حكم السفر في حقه ولزمه الإِتمام، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛ لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان، وهذا غير مستوطن، وبناء على هذا القول ينقسم الناس إلى: مسافر، ومستوطن، ومقيم غير مستوطن. فالمسافر أحكام السفر في حقه ثابتة.والمستوطن أحكام الاستيطان في حقه ثابتة، ولا يستثنى من هذا شيء. والمقيم غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه وتنتفي من وجه آخر، لكن هذا التقسيم يقول شيخ الإِسلام: إنه ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا السنّة.
ثانياً: مذهب الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الإِتمام، لكن لا يحسب منها يوم الدخول، ويوم الخروج وعلى هذا تكون الأيام ستة، يوم الدخول، ويوم الخروج، وأربعة أيام بينها.
ثالثاً: مذهب أبي حنيفة: إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً أتم، وإن نوى دونها قصر.
وفيها أيضاً مذاهب أخرى فردية، مثل ما ذهب إليه ابن عباس بأنه إذا نوى إقامة تسعة عشر يوماً قصر، وما زاد فإنه لا يقصر. ولكن إذا رجعنا إلى ما يقتضيه ظاهر الكتاب والسنّة وجدنا أن القول الذي اختاره شيخ الإِسلام هو القول الصحيح، وهو أن المسافر مسافر، سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها. وعلى هذا فنقول: إن القول الراجح: ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية من أن المسافر مسافر ما لم ينوِ واحداً من أمرين:
1 - الإِقامة المطلقة. 2 - أو الاستيطان.
(1/402)
________________________________________
والفرق: أن المستوطن نوى أن يتخذ هذا البلد وطناً، والإِقامة المطلقة أنه يأتي لهذا البلد ويرى أن الحركة فيه كبيرة، أو طلب العلم فيه قوي فينوي الإِقامة مطلقاً بدون أن يقيدها بزمن أو بعمل، لكن نيته أنه مقيم لأن البلد أعجبه إما بكثرة العلم وإما بقوة التجارة أو لأنه إنسان موظف تابع للحكومة وضعته كالسفراء مثلاً، فالأصل في هذا عدم السفر؛ لأنه نوى الإِقامة فنقول: ينقطع حكم السفر في حقه. أما من قيد الإِقامة بعمل ينتهي أو بزمن ينتهي فهذا مسافر، ولا تتخلف أحكام السفر عنه. ولنا في هذا رسالة بيّنّا فيها من اختار هذا القول من العلماء أمثال: شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وعلى كل حال نحن لا نعرف الحق بكثرة الرجال، وإنما نعرف الحق بموافقة الكتاب والسنّة.
قوله: "أو ملاحاً" الملاح قائد السفينة.
قوله: "معه أهله" أي: مصاحبون له.
قوله: "لا ينوي الإِقامة ببلد" يعني: لا ببلد المغادرة، ولا ببلد الوصول، فهذا يجب عليه أن يتم؛ لأن بلده سفينته.
وعلم من قول المؤلف: "معه أهله" أنه لو كان أهله في بلد فإنه مسافر ولو طالت مدته في السفر. وعلم منه أيضاً: أنه لو كان له نية الإِقامة في بلد فإنه يقصر إذا غادره؛ لأنه مسافر، فمثلاً: إذا كان ملاحاً في سفينة وأهله في جدة، لكنه يروح يجوب البحار كالمحيط الهندي والهادي، ويأتي بعد شهر أو شهرين إلى جدة فهذا مسافر؛ لأنه ليس معه أهل، بل له بلد يأوي إليه. وكذلك أيضاً: لو فرض أن الملاح ينوي الإِقامة في بلد فهذا نقول له: إنك مسافر إذا فارقته، لأن لك بلداً معيناً عيّنته للإِقامة.
(1/403)
________________________________________
ومثل ذلك أصحاب سيارات الأجرة الذين دائماً في البر نقول: إن كان أهلهم معهم ولا ينوون الإِقامة ببلد فهم غير مسافرين لا يقصرون ولا يفطرون في رمضان، وإن كان لهم أهل في بلد فإنهم إذا غادروا بلد أهلهم فهم مسافرون يفطرون ويقصرون، وكذلك لو لم يكن لهم أهل لكنهم ينوون الإِقامة في بلد يعتبرونه مثواهم ومأواهم، فهم مسافرون حتى يرجعوا إلى البلد الذي نووا أنه مأواهم. فإذا قال قائل: هؤلاء الملاحون أو السائقون لسيارات الأجرة دائماً في سفر، فإذا قلنا: أنتم مسافرون لكم الفطر فمتى يصومون؟ نقول: يمكن أن يصوموا في سفرهم في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة وباردة، فالصوم فيها لا يشق، كذلك لو قدموا إلى بلدهم في رمضان فإنه يلزمهم الصوم ما داموا في بلدهم. فإن قدموا في أثناء اليوم إلى بلدهم ففي لزوم الإِمساك عليهم قولان لأهل العلم، هما روايتان عن الإِمام أحمد . والصحيح: أنه لا يلزمهم الإِمساك، بخلاف من أفطر أول النهار لغير عذر فإنه يلزمه الإِمساك ولا يقول أفسدت صومي فآكل وأشرب، بل نقول: أنت انتهكت حرمة اليوم فيلزمك الإِمساك.
ومثل ذلك أيضاً: لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك.
مسألة: من أفطر لإنقاذ معصوم هل يلزمه الإِمساك بقية اليوم كمَن رأى شخصاً غرق في الماء ولا يستطيع أن ينجيه من الغرق إلا إذا أفطر بأكل أو شرب فأفطر ثم أنقذه وأنجاه؟ الجواب: لا يلزمه على القول الراجح؛ لأنه أفطر بسبب مباح. بخلاف الرجل الذي بلغ في أثناء اليوم فإنه يلزمه الإِمساك. والفرق بين هذه المسألة والمسائل التي قبلها: أن المسائل التي قبلها زال فيها المانع، وهذه وجد سبب الوجوب، فإذا وجد سبب الوجوب في أثناء النهار لزمه الإِمساك، كالصغير يبلغ، والمجنون يعقل والكافر يسلم، وفي المسألة خلاف لكن الصحيح: وجوب الإِمساك ولا يقضي اليوم.
(1/404)
________________________________________
قوله: "وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما" يعني: رجل في بلد يريد أن يسافر إلى بلد آخر، وللبلد هذا طريقان: أحدهما بعيد، والثاني قريب، أي: أن أحدهما يبلغ المسافة، والآخر لا يبلغها، فسلك أبعدهما فإنه يقصر، لأنه يصدق عليه أنه مسافر سفر قصر، ولكن لو فرض أنه تعمد أن يسلك الطريق الأبعد في رمضان من أجل أن يفطر فهنا نقول له: لا يجوز لك الفطر؛ لأنه يمكنك أن تسلك طريقاً قصيراً بدون فطر، هذا هو الظاهر ومع ذلك ففي النفس من هذا شيء.
قوله: "أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر" . مثاله: سافر إلى العمرة وصلّى بغير وضوء ناسياً، ولما رجع من العمرة سافر إلى المدينة وفي أثناء سفره إلى المدينة ذكر أنه صلّى في سفره للعمرة صلاة بغير وضوء، فنقول: يصلّيها قصراً؛ لأن الصلاة وجبت في السفر أداءً وقضاءً، وكذلك لو نسيها في سفر العمرة، ثم ذكرها في سفر زيارة المدينة فإنه يقصر، لأن هذه الصلاة سفرية أداءً وقضاءً. وإن ذكر صلاة سفر في حضر أو صلاة حضر في سفر فقد سبق الكلام فيها.
وإن ذكر صلاة حضر في حضر فإنه يصلّي أربعاً، وعلى هذا فللمسألة أربع صور:
1 _ ذكر صلاة سفر في سفر، يقصر.
2 _ ذكر صلاة حضر في حضر، يتم.
3 _ ذكر صلاة سفر في حضر، يقصر على الصحيح.
4 _ ذكر صلاة حضر في سفر، يتم.
قوله: "وإن حبس" أي: منع من السفر.
قوله: "ولم ينوِ إقامة" أي: لم ينوِ أن يبقى مدة محددة فإنه يقصر ولو طالت المدة.
وقول المؤلف: "حبس" لم يبيّن نوع الحبس فيشمل: من حبس ظلماً، ومن حبس بحق، ومن حبس بعدو، ومن حبس بمرض، ومن حبس في تغيرات جوية، ومن حبس بخوف على نفسه، فمن منع السفر بأي سبب كان فإنه يقصر.
وقوله: "ولم ينوِ إقامة" هذا شرط لا بد منه، فإن نوى إقامة مطلقة لا إقامة ينتظر بها زوال المانع فإنه يتم.
قوله: "أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة" أي: لم ينوِ إقامة مطلقة.
(1/405)
________________________________________
قوله: "قصر أبداً" ولو بقي طول عمره فإنه يقصر، لأنه إنما نوى الإِقامة من أجل هذه الحاجة، ولم ينوِ إقامة مطلقة، وهناك فرق بين شخص ينوي الإِقامة المطلقة وشخص آخر ينوي الإِقامة المقيدة، فالذي ينوي الإِقامة المقيدة لا يعد مستوطناً، والذي ينوي الإِقامة المطلقة يعد مستوطناً.
فالإِقامة المطلقة: أن ينوي أنه مقيم ما لم يوجد سبب يقتضي مغادرته، ومن ذلك سفراء الدول، فلا شك أن الأصل أن إقامتهم مطلقة لا يرتحلون إلا إذا أمروا بذلك، وعلى هذا فيلزمهم الإِتمام، ويلزمهم الصوم في رمضان، ولا يزيدون عن يوم وليلة في مسح الخفين؛ لأن إقامتهم مطلقة، فهم في حكم المستوطنين، وكذلك أيضاً الذين يسافرون إلى بلد يرتزقون فيها هؤلاء إقامتهم مطلقة، لأنهم يقولون: سنبقى ما دام رزقنا مستمراً.
والإِقامة المقيدة: تارة تقيد بزمن، وتارة تقيد بعمل. فالمقيد بزمن سبق لنا أن المشهور من المذهب أنه إذا نوى أكثر من أربعة أيام يتم ودونها يقصر، وكما سبق بيان الخلاف فيها أيضاً . والمقيدة بعمل يقصر فيها أبداً ولو طالت المدة، ومن ذلك لو سافر للعلاج ولا يدري متى ينتهي، فإنه يقصر أبداً حتى لو غلب على ظنه أنه سيطول، لأنه ينتظر هذه الحاجة، وهذا هو عمدة من قال: إنه لا حد للإِقامة؛ لأنهم يقولون: ما دام الحامل له على الإِقامة هي الحاجة، فلا فرق في الحقيقة بين أن يحدد أو لا يحدد، فهو مقيم لشيء ينتظره متى انتهى منه رجع إلى بلده.
وقوله: "قصر أبداً" هذا هو المشهور من المذهب. وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أقام وانتهت المدة المحددة لانقطاع حكم السفر فإنه يجب عليه الإِتمام، وعليه فإذا أقام لحاجة لا يدري متى تنقضي وانتهت أربعة الأيام لزمه الإِتمام. والأول قول الجمهور حتى إن ابن المنذر حكى الإِجماع عليه وأنه لا يلزمه الإِتمام ما دام ينتظر انتهاء الحاجة.
فصلٌ
قوله: "فصل" يعني: في الجمع بين الصلاتين.
(1/406)
________________________________________
قوله: "يجُوزُ الجمع" التعبير بكلمة "يجوز" يحتمل أن يريد المؤلف : أنه لا يمنع.ويحتمل أنه يريد الإِباحة. والمعروف من المذهب أن الجمع جائز، وليس بمستحب، بل إن تركه أفضل، فهو رخصة، وتركه أفضل للخلاف في جوازه، فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الجمع إلا بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة. والصحيح: أن الجمع سنّة إذا وجد سببه.
قوله: "بين الظهرين, وبين العشاءين في وقت إحداهما ". أي الأولى أو الثانية.
واعلم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فإن شئت فاجمع في وقت الأولى أو في الثانية أو في الوقت الذي بينهما، وأما ظن بعض العامة أنه لا يجمع إلا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، أو آخر وقت المغرب وأول وقت العشاء فلا أصل له.
قوله: "في سفر قصر" هذا أحد الأسباب المبيحة للجمع، وهو سفر القصر.
وظاهر كلامه أنه يجوز الجمع للمسافر سواء كان نازلاً أم سائراً، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء. فمنهم من يقول: إنه لا يجوز الجمع للمسافر إلا إذا كان سائراً لا إذا كان نازلاً. والقول الثاني: أنه يجوز الجمع للمسافر، سواء كان نازلاً أم سائراً. والصحيح: أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.
قوله: "ولمريض يلحقه بتركه مشقة" أي: يجوز الجمع لمريض يلحقه بترك الجمع مشقة أي تعب وإعياء، أيَّ مرض كان، سواء كان صداعاً في الرأس، أو وجعاً في الظهر، أو في البطن، أو في الجلد، أو في غير ذلك، فمتى لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ولهذا قال المؤلف: "ولمريض يلحقه بتركه مشقة".
(1/407)
________________________________________
وفهم من قول المؤلف: أنه لو لم يلحقه مشقة، فإنه لا يجوز له الجمع وهو كذلك. فإذا قال قائل: ما مثال المشقة؟ قلنا: المشقة أن يتأثر بالقيام والقعود إذا فرق الصلاتين، أو كان يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة.. والمشقات متعددة. فحاصل القاعدة فيه: أنه كلما لحق الإِنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضراً وسفراً.
قوله: "وبين العشائين" أي: بين المغرب والعشاء، للأعذار التالية:
الأول: قوله: "لمطر يبل الثياب" يعني: إذا كان هناك مطر يبل الثياب لكثرته وغزارته، فإنه يجوز الجمع بين العشائين، فإن كان مطراً قليلاً لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز. فإن قيل: ما ضابط البلل؟ فالجواب: هو الذي إذا عصر الثوب تقاطر منه الماء.
الثاني: قوله: "ووحل" الوحل: الزلق والطين؛ فإذا كانت الأسواق قد ربصت من المطر فإنه يجوز الجمع، وإن لم يكن المطر ينزل، وذلك لأن الوحل والطين، يشق على الناس أن يمشوا عليه.
وعلم من قوله: بين العشائين أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأسباب وهو المذهب. والراجح أنه جائز لهذه الأسباب وغيرها بين الظهرين والعشائين عند وجود المشقة بترك الجمع، كما يفيده حديث ابن عباس .
الثالث: قوله: "وريح شديدة باردة" اشترط المؤلف شرطين للريح:
1 _ أن تكون شديدة. 2 _ وأن تكون باردة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشترط أن تكون في ليلة مظلمة، بل يجوز الجمع للريح الشديدة الباردة في الليلة المقمرة أيضاً.
فإذا قال قائل: ما هو حد الشدة والبرودة؟ فالجواب على ذلك: أن يقال: المراد بالريح الشديدة ما خرج عن العادة، وأما الريح المعتادة فإنها لا تبيح الجمع، ولو كانت باردة، والمراد بالبرودة ما تشق على الناس.
(1/408)
________________________________________
فإن قال قائل: إذا اشتد البرد دون الريح هل يباح الجمع؟ قلنا: لا لأن شدة البرد بدون الريح يمكن أن يتوقاه الإِنسان بكثرة الثياب، لكن إذا كان هناك ريح مع شدة البرد فإنها تدخل في الثياب، ولو كان هناك ريح شديدة بدون برد فلا جمع؛ لأن الرياح الشديدة بدون برد ليس فيها مشقة، لكن لو فرض أن هذه الرياح الشديدة تحمل تراباً يتأثر به الإِنسان ويشق عليه، فإنها تدخل في القاعدة العامة، وهي المشقة، وحينئذٍ يجوز الجمع.
فأسباب الجمع هي: السفر، والمرض، والمطر، والوحل، والريح الشديدة الباردة، ولكن لا تنحصر في هذه الأسباب الخمسة، بل هذه الخمسة التي ذكرها المؤلف كالتمثيل لقاعدة عامة وهي: المشقة، ولهذا يجوز الجمع للمستحاضة بين الظهرين، وبين العشائين لمشقة الوضوء عليها لكل صلاة، ويجوز الجمع أيضاً للإِنسان إذا كان في سفر وكان الماء بعيداً عنه، ويشق عليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ لكل صلاة، حتى وإن قلنا بعدم جواز الجمع في السفر للنازل، وذلك لمشقة الوضوء عليه لكل صلاة.
مسألة: هل من لازم جواز الجمع جواز القصر؟ الجواب: لا، فقد يجوز الجمع ولا يجوز القصر، وقد يجوز القصر ولا يجوز الجمع على رأي من يرى أن الجمع لا يجوز للمسافر النازل فلا تلازم بينهما.
قوله: "ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط" يعني: يجوز الجمع بين العشائين للمطر، ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت سقف. وقال بعض العلماء: إذا كان يصلّي في بيته فإنه لا يجوز أن يجمع لأجل المطر، وكذا إذا كان المسجد طريقه تحت ساباط. والساباط: السقف أي: لو أن الشارع أو السوق الذي يؤدي إلى المسجد طريقه مسقوف بساباط، فإنه لا يجوز له أن يجمع لأنه لا مشقة عليه في الذهاب إلى المسجد. والراجح: أنه يجوز أن يجمع ولو كان طريقه إلى المسجد تحت ساباط لأنه يستفيد الصلاة مع الجماعة. وأما الصلاة في البيت فلها صور:
(1/409)
________________________________________
الأولى: أن يكون معذوراً بترك الجماعة لمرض أو مطر ونحوهما. فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز له الجمع.
الثانية: أن يصلي في بيته بلا عذر وظاهر كلام المؤلف أنها كالأولى.
الثالثة: أن لا يكون يدعو مدعواً لحضور الجماعة كالأنثى فيحتمل أن يكون كلام المؤلف شاملاً لها ويحتمل أن لا يكون شاملاً لها فلا تجمع لأنها ليست من أهل الجماعة.
والراجح: أنه لا يجوز الجمع في هذه الصور الثلاث. فمراد المؤلف في قوله: "ولو صلّى في بيته، أو في مسجد طريقه تحت ساباط"، إذا كان من أهل الجماعة ويصلّي معهم فلا حرج أن يجمع مع الناس؛ لئلا تفوته صلاة الجماعة.
قوله: "والأفضل فعل الأرفق به من تأخير وتقديم" أي: الأفضل لمن يباح له الجمع فعل الأرفق به من تأخير وتقديم، فإن كان التأخير أرفق فليؤخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم.
مسألة: الجمع في المطر هل الأفضل التقديم أو التأخير؟ الأفضل التقديم؛ لأنه أرفق بالناس، ولهذا تجد الناس كلهم في المطر لا يجمعون إلا جمع تقديم. هذا إذا قلنا: إن الجمع للمطر خاص في العشائين. أما إذا قلنا بأنه عام في العشائين والظهرين، فإن الأرفق قد يكون بالتأخير.
قوله: "فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها" إذا جمع في وقت الأولى اشترط ثلاثة شروط:
الشرط الأول: نية الجمع عند إحرامها وهذا مبني على اشتراط نية القصر للمسافر. والصحيح: أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، وأن له أن ينوي الجمع ولو بعد سلامه من الأولى، ولو عند إحرامه في الثانية ما دام السبب موجوداً. مثال ذلك: لو أن الإِنسان كان مسافراً وغابت الشمس، ثم شرع في صلاة المغرب بدون نية الجمع، لكن في أثناء الصلاة طرأ عليه أن يجمع فعلى المذهب لا يجوز، وعلى القول الصحيح يجوز، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية . ومثال آخر: لو سلم من صلاة المغرب ثم نزل مطر، يبيح الجمع جاز له الجمع.
(1/410)
________________________________________
قوله: "ولا يفرق بينهما إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف" هذا هو الشرط الثاني: وهو الموالاة بين الصلاتين ، أي: أن تكون الصلاتان متواليتين لا يفصل بينهما إلا بشيء يسير بمقدار إقامة؛ لأن الإِقامة الثانية لا بد منها، ووضوء خفيف؛ لأن الإِنسان ربما يحتاج إلى الوضوء بين الصلاتين فسومح في ذلك.
قوله: "يبطل براتبة بينهما" أي: يبطل الجمع بصلاة راتبة. بين الصلاة الأولى والثانية، أي: لو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم، فلما صلّى المغرب صلّى راتبة المغرب، أو فريضة العصر التي نساها أو تطوع، فإنه لا جمع حينئذٍ لوجود الفصل بينهما بصلاة.
مسألة: لو فصل بينهما بفريضة، فبعد أن صلّى المغرب ذكر أنه صلّى العصر بلا وضوء فصلّى العصر، فلا جمع؛ لأنه إذا بطل الجمع بالراتبة التابعة للصلاة المجموعة فبطلانه بصلاة أجنبية من باب أولى. واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين .وقد ذكر نصوصاً عن الإِمام أحمد تدل على ما ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديماً كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيراً كما سيأتي، والأحوط : أن لا يجمع إذا لم يوالِ بينهما، ولكن رأي شيخ الإِسلام له قوة.
مسألة: رجل سافر بالطائرة، والمطار خارج البلد، وركب الطائرة، فأخذت دورة فمرت من فوق وهو يصلّي فهل يلزمه الإِتمام؛ لأن الهواء تابع للقرار؟ الجواب: الظاهر لي: أنه لا يلزمه الإِتمام؛ لأن هذا المرور مرور سفر عابر، وليس مرور استقرار وانتهاء سفر، ثم إن المدة في الغالب تكون وجيزة.
قوله: "وأن يكون العذر" إلى آخره أي: العذر المبيح للجمع. وهذا هو الشرط الثالث.
(1/411)
________________________________________
قوله: "موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى" أي: افتتاح الصلاتين الأولى والثانية، وعند سلام الأولى، وذلك لأن افتتاح الأولى محل النية وقد سبق أنه يشترط في الجمع نيته عند تكبيرة الإِحرام ، فإذا كان يشترط نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام لزم من هذا الشرط أن يشترط وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام ، وقد سبق أن القول الصحيح: عدم اشتراط نية الجمع عند تكبيرة الإحرام.
وعلى ذلك لا يشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى، فلو لم ينزل المطر مثلاً إلا في أثناء الصلاة فإنه يصح الجمع على الصحيح، بل لو لم ينزل إلا بعد تمام الصلاة الأولى أي: كانت السماء مغيمة ولم ينزل المطر، وبعد أن انتهت الصلاة الأولى نزل المطر، فالصحيح أن الجمع جائز بناء على هذا القول. وعند شيخ الإِسلام: لا تشترط الموالاة أيضاً كما سبق ؛ وذلك لأن العذر المبيح للجمع إذا وجد جعل الوقتين وقتاً واحداً، فاندمج وقت الثانية في وقت الأولى وصار الإِنسان إذا فعل الأولى في أول الوقت، والثانية في آخر الوقت فلا بأس، وبناء على هذا القول يكون الشرط وجود العذر فقط، فإذا وجد العذر جاز الجمع سواء كان العذر مرضاً أو سفراً أو مطراً أو ريحاً شديدة باردة أو غير ذلك مما يكون في ترك الجمع معه مشقة.
(1/412)
________________________________________
بقي الشرط الرابع وهو الترتيب، فيشترط الترتيب بأن يبدأ بالأولى ثم بالثانية . ولكن لو نسي الإِنسان أو جهل أو حضر قوماً يصلّون العشاء وهو قد نوى جمع التأخير، ثم صلّى معهم العشاء ثم المغرب، فهل يسقط الترتيب في هذه الأحوال أو لا يسقط؟ المشهور عند فقهائنا رحمهم الله: أنه لا يسقط، وإن كانوا يسقطونه بالنسيان في قضاء الفوائت ، لكنهم هنا لا يسقطونه، ويجعلون الفرق أن الجمع أداء، والقضاء قضاء، فالأول في وقته والثاني خارج وقته، وبناء على هذا لو أن الإِنسان قدم الثانية على الأولى سهواً أو جهلاً أو لإِدراك الجماعة أو لغير ذلك من الأسباب، فإن الجمع لا يصح فماذا يصنع في هذه الحال؟ الجواب: الصلاة التي صلاها أولاً، لم تصح فرضاً، ويلزمه إعادتها. مثال ذلك: رجل كان ناوياً جمع تأخير، ثم دخل المسجد ووجد ناساً يصلّون العشاء فدخل معهم بنية العشاء، ولما انتهى من العشاء صلّى المغرب، نقول: صلاة العشاء لا تصح؛ لأنه قدمها على المغرب، والترتيب شرط فيصلّي العشاء مرة ثانية والمغرب صحيحة، ومعنى قولنا: لا تصح، أي: لا تصح فرضاً تبرأ به الذمة، ولكنها تكون نفلاً يثاب عليه.
وفيه شرط خامس: أن لا تكون صلاة الجمعة، فإنّه لا يصح أن يجمع إليها العصر. ولكن لو قال قائل: أنا أريد أن أنوي الجمعة ظهراً؛ لأني مسافر وصلاة الظهر في حقي ركعتان يعني على قدر الجمعة؟ فنقول: هذه النية لا تصح على قول من يقول: إنه يشترط اتفاق نية الإِمام والمأموم. أما على القول الراجح: أن نية الإِمام والمأموم لا يضر الاختلاف بينهما فإنه يصح، ولكننا نقول: لا تنوها ظهراً؛ لأنك إذا نويتها ظهراً حرمت نفسك أجر الجمعة وأجر الجمعة أكبر بكثير من أجر الظهر، فكيف تحرم نفسك أجر الجمعة، من أجل الجمع؟ والأمر يسير: اُتْرُك العصر حتى يدخل وقتها ثم صلّها.
(1/413)
________________________________________
والصحيح: اشتراط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية. وهل يشترط أن يكون موجوداً إلى انتهاء الثانية؟ الجواب: لا. فلو فرض أن الجمع كان لمطر، وأن المطر استمر إلى أن صلّوا ركعتين من العشاء ثم توقف، ولم يكن هناك وحل؛ لأن الأسواق مفروشة بالزفت، فلا يبطل الجمع؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية، ومثل ذلك: لو أن الإِنسان جمع لمرض وفي أثناء الصلاة الثانية ارتفع عنه المرض، فإن الجمع لا يبطل؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية.
قوله: "وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى" أي: إذا نوى الجمع في وقت الثانية، فيشترط أن ينوي الجمع في وقت الأولى، لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر إلا بنية الجمع حيث جاز، فلا بد من نية الجمع قبل خروج وقت الأولى.
قوله: "إن لم يضق عن فعلها" أي: إن لم يضق وقت الأولى عن فعلها، فإن ضاق عن فعلها لم يصح الجمع. فنقول: صلِّ الصلاة الآن حسب ما أدركت من وقتها واستغفر الله عن التأخير، وسيدخل وقت الثانية قبل تمام صلاتك فصلها ولكن لا على أنه جمع، بل على أنه أداء في أول الوقت.
(1/414)
________________________________________
قوله: "واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية" أي: يشترط لصحة الجمع أن يستمر العذر إلى دخول الثانية فإن لم يستمر فالجمع حرام. وهذا هو الشرط الثاني لجمع التأخير. مثاله: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى فلا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال فيجب أن يصلّيها في وقتها، وهذه مسألة تشكل على كثير من الناس، فكثير منهم ينوي جمع التأخير، ويقدم بلده قبل أن يخرج وقت الأولى فلا يصلّيها؛ لأنه نوى الجمع وهذا خطأ، بل الواجب أن يصليها في وقتها فإذا دخل وقت الثانية صلّاها، إلا أن يكون مجهداً يشق عليه انتظار دخول الثانية لاحتياجه إلى النوم مثلاً، فيجوز له الجمع حينئذ للمشقة لا للسفر. ولكن هل يصلّيها أربعاً أو يصلّيها ركعتين؟ الجواب: يصلّيها أربعاً؛ لأن علة القصر السفر وقد زال.
في قوله: "واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية" ولم يذكر الموالاة إشارة إلى عدم اشتراط الموالاة؛ لأن الموالاة في جمع التأخير ليست بشرط فلو أنه جمع جمع تأخير، ودخل وقت الثانية وصلّى الأولى، وبقي ساعة أو ساعتين ثم صلّى الثانية، فالجمع صحيح؛ لأن الموالاة شرط في جمع التقديم، وليست شرطاً في جمع التأخير.وهذا هو المشهور من المذهب. وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة شرط في جمع التأخير كالتقديم. وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة ليست شرطاً لا في التقديم ولا في التأخير، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
مسألة: رجل مسافر ونوى جمع التأخير وخرج وقت الأولى، وهو في السفر وقدم البلد في وقت الثانية فله الجمع؛ لأنه سوف يصلّي الأولى ثم يصلّي الثانية، لكن لا يقصر؛ لأنه انتهى مبيح القصر وهو السفر.
فصلٌ
(1/415)
________________________________________
قوله: "فصل: وصلاة الخوف" . إلخ، هذا العذر الثالث من الأعذار، فالعذر الأول: السفر، والثاني: المرض ونحوه، والثالث: الخوف، أي: الخوف من العدو أي عدو كان، آدمياً أو سبعاً، مثل: أن يكون في أرض مسبعة فيحتاج إلى صلاة الخوف، لأنه ليس بشرط أن يكون العدو من بني آدم، بل أي عدو كان يخاف الإِنسان على نفسه منه، فإنها تشرع له صلاة الخوف.
قوله: "صحّت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة" أي: وردت في السنّة بصفاتٍ وهي ستة أوجه، أو سبعة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول المؤلف: "كلها جائزة" ظاهره: أن كل صفة منها تجوز في أي موضع، ولكن قد نقول: إن هذه الصفات من الصلاة لا يجوز نوع منها إلا في موضعه الذي صلّاها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ونذكر صفتين منها: الصفة الأولى: ما يوافق ظاهر القرآن، وهي: أن يقسم قائد الجيش جيشه إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أمام العدو، لئلا يهجم، فيصلّي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم أي: نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم، والإِمام لا يزال قائماً، ثم إذا أتموا لأنفسهم ذهبوا ووقفوا مكان الطائفة الثانية أمام العدو، وجاءت الطائفة الثانية ودخلت مع الإِمام في الركعة الثانية، وفي هذه الحال يطيل الإِمام الركعة الثانية أكثر من الأولى لتدركه الطائفة الثانية، وهذه مستثناة مما سبق في باب صلاة الجماعة : أنه يسنّ تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، فتدخل الطائفة الثانية مع الإِمام فيصلّي بهم الركعة التي بقيت، ثم يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد قامت هذه الطائفة من السجود رأساً وأكملت الركعة التي بقيت وأدركت الإِمام في التشهد فيسلم بهم.
(1/416)
________________________________________
الصفة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فإن الإِمام يصفهم صفين ويبتدئ بهم الصلاة جميعاً، ويركع بهم جميعاً ويرفع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول فقط ويبقى الصف الثاني قائماً يحرس، فإذا قام قام معه الصف الأول ثم سجد الصف المؤخر، فإذا قاموا تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم صلّى بهم الركعة الثانية قام بهم جميعاً وركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف المقدم الذي كان في الركعة الأولى هو المؤخر، فإذا جلس للتشهد سجد الصف المؤخر، فإذا جلسوا للتشهد سلم الإِمام بهم جميعاً، وهذه لا يمكن أن تكون إلا إذا كان العدو في جهة القبلة.
تنبيه: ظاهر كلام المؤلف أن الصفة الأولى جائزة وإن كان العدو في جهة القبلة، ولكن الصحيح: أنها لا تجوز في هذه الحال، وذلك لأن الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة، لأنهم إذا كان العدو في جهة القبلة فلا ضرورة إلى أن ينقسموا إلى قسمين قسم يصلّي معه وقسم وجاه العدو.
أما بقية الصفات فمذكورة في الكتب المطولة ونحن نقتصر على هاتين الصفتين.
ولكن إذا قال قائل: لو فرض أن الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر؛ لأن الوسائل الحربية والأسلحة اختلفت؟ فنقول: إذا دعت الضرورة إلى الصلاة في وقت يخاف فيه من العدو، فإنهم يصلّون صلاة أقرب ما تكون إلى الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتأتى، لقول الله تعالى: {فإتقوا الله ما إستطعتم } [التغابن: 16] .
(1/417)
________________________________________
مسألة: إذا اشتد الخوف فهل يجوز أن تؤخر الصلاة عن الوقت؟ في هذا خلاف بين العلماء: فمنهم من يقول: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، ولو اشتد الخوف، بل يصلّون هاربين وطالبين إلى القبلة، وإلى غيرها يومئون بالركوع والسجود. ومنهم من قال: يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إذا اشتد الخوف، بحيث لا يمكن أن يتدبر الإِنسان ما يقول أو يفعل، أي: إذا كان يمكن أن يتدبر ما يقول أو يفعل في الصلاة فليصل على أي حال.
لكن إذا كانت السهام والرصاص تأتيه من كل جانب ولا يمكن أن يستقر قلبه ولا يدري ما يقول، ففي هذه الحال يجوز تأخير الصلاة، وهذا مبني على "تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في غزوة الأحزاب" ، هل هو منسوخ أو مُحْكَمْ؟ والصحيح: أنه محكم إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك، بمعنى أن الناس لا يقر لهم قرار، وهذا في الحقيقة لا ندركه ونحن في هذا المكان، وإنما يدركه من كان في ميدان المعركة، فلا بأس أن تؤخر الصلاة إلى وقت الصلاة الأخرى، أما إذا كانت صلاة جمع فالمسألة لا إشكال فيها، كتأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء، وأما إذا كانت لا تجمع إلى الأخرى كالعشاء إلى الفجر والفجر إلى الظهر والعصر إلى المغرب، فهذا محل الخلاف.
وذكر في الروض: أنه يشترط لجواز صلاة الخوف أن يكون القتال مباحاً، والقتال المباح: هو قتال الكفار أو قتال المدافعة . أما قتال الهجوم على من لا يحل قتاله فإن ذلك لا يجيز صلاة الخوف، بل نقول لمن قاتل على هذا الوجه: يجب عليك أن تكف عن القتال. والقتال المباح أنواع: قتال الكفار، وقتال المدافعة، وقتال من تركوا صلاة العيد، أو الأذان أو الإِقامة، وغير ذلك من شعائر الإِسلام الظاهرة، وقتال الطائفة المعتدية فيما إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين .
(1/418)
________________________________________
قوله: "ويستحب أن يحمل" أفاد أن حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب وهذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم. والصحيح: أن حمل السلاح واجب، لأن الله أمر به. قال العلماء: وفي هذه الحال لو فرض أن السلاح متلوث بدم نجس فإنه يجوز حمله للضرورة، ولا إعادة عليه، وهو كذلك.
قوله: "في صلاتها" ، أي: صلاة الخوف.
قوله: "ما يدفع به عن نفسه" يفيد أنه لا يحمل سلاحاً هجومياً، بل يحمل سلاحاً دفاعياً، لأنه مشغول في صلاته عن مهاجمة عدوه، لكنه مأمور أن يتخذ من السلاح الدفاعي ما يدفع به عن نفسه.
قوله: "ولا يشغله" يفهم منه أنه لا يحمل سلاحاً يشغله عن الصلاة، لأنه إذا حمل ما يشغله عن الصلاة زال خشوعه، وأهم شيء في الصلاة الخشوع، فهو لبُّ الصلاة وروحها، فاشترط المؤلف في حمل السلاح شرطين:
1 - أن يكون دفاعياً فقط .
2 - ألّا يشغله .
قوله: "كسيف ونحوه" أي: كالسكين، والرمح القصير، وفي وقتنا كالمسدس.
باب صلاة الجمعة
قوله: " تلزم كل ذكر" ، الضمير يعود على صلاة الجمعة، أي: تلزم صلاة الجمعة كل من اتصف بالشروط الآتية: الأول: كونه ذكراً فخرج به الأنثى والخنثى، فلا تلزمهم صلاة الجمعة.
قوله: "حر" ، هذا هو الشرط الثاني. وضد الحر العبد، والمراد بالعبد المملوك، ولو كان أحمر، أو قبلياً، فالعبد لا تلزمه الجمعة ، وقال بعض العلماء: (إنه) تلزمه الجمعة. وقال (آخرون) : إذا أذن له سيده لزمته؛ لأنه لا عذر له؛ لزوال العلة التي هي سبب منع الوجوب، وإن لم يأذن له لم تلزمه. وهذا القول قول وسط بين قول من يلزمه الجمعة مطلقاً، وقول من لا يلزمه مطلقاً، ووجهه قوي جداً .
(1/419)
________________________________________
والعجيب أن الذين قالوا: إن الجمعة لا تجب على العبد قالوا: إن الجماعة تجب عليه، وعندي أنه لو صح حديث طارق أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى العبد لكان عدم وجوب الجماعة من باب أولى؛ لأن الجماعة تكرر خمس مرات، فإذا أسقط عنه ما يجب في الأسبوع مرة فما يجب في اليوم خمس مرات من باب أولى، وإذا أوجبنا عليه الجماعة فالجمعة من باب أولى.
قوله: "مكلف" ، هذا هو الشرط الثالث ، والمكلف عند العلماء من جمع وصفين: أحدهما: البلوغ. والثاني: العقل. ولكن الصغير تصح منه والمجنون لاتصح منه .
قوله: "مسلم" ، هذا هو الشرط الرابع. وضده الكافر، فالكافر لا تجب عليه الجمعة، بل ولا تصح منه.
قوله: "مستوطن" ، هذا هو الشرط الخامس. وضد المستوطن المسافر والمقيم. فالمسافر لا جمعة عليه. أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مرَّ إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة. وقالت الظاهرية: إن المسافر تلزمه الجمعة.
(1/420)
________________________________________
وبناء على هذا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مستوطن ، ( و ) مسافر , ( و ) مقيم لا مسافر ولا مستوطن. مثال ذلك: رجل وصل إلى بلد، ونوى أن يقيم فيها أكثر من أربعة أيامٍ، هذا ليس مستوطناً؛ لأنه لم يتخذ هذا البلد وطناً، وليس مسافراً؛ لأنه نوى إقامة تقطع السفر فهو مقيم، فإن أقيمت الجمعة في البلد بأناس مستوطنين لزمته، وإن لم تقم لم تلزمه، وبناء على هذا لو وُجِدَ جماعة مسلمون سافروا إلى بلاد كفر، وهم مائة رجل يريدون أن يدرسوا فيها لمدة خمس سنوات أو ست أو عشر، فإن الجمعة لا تلزمهم، بل ولا تصح منهم لو صلوا جمعة؛ لأنه لا بد من استيطان، وهؤلاء ليسوا بمستوطنين، فلا تصح منهم الجمعة، ولا تلزمهم، لكن لو وجد في هذه القرية أربعون مستوطناً لزمت الجمعة الأربعين، ثم تلزم هؤلاء تبعاً لغيرهم، هذا هو تقرير المذهب؛ وعليه يكون من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام مسافراً من بعض الوجوه غير مسافر من بعض الوجوه فيلزمه إتمام الصلاة، ولا يترخص برخص السفر؛ لانقطاع حكم السفر في حقه، ولا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها ولا يكمل به العدد المشروط، ولكن تلزمه الجمعة إذا أقيمت، وهذا تناقض. ولهذا كان الصحيح أن حكم السفر لا ينقطع في حقه، وأنه يصح أن يكون إماماً وخطيباً في الجمعة، ويكمل به العدد المشروط.
قوله: "ببناء" , أي بوطن مبني، ولم يبين المؤلف بأي شيء بني، فيشمل ما بني بالحجر، والمدر، والإِسمنت، والخشب، وغيرها، وهو يحترز بذلك مما لو كانوا أهل خيام كأهل البادية، فإنه لا جمعة عليهم؛ لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الجمعة مع أنهم مستوطنون في أماكنهم؛ لكونها ليست ببناء، ولهذا إذا ظعنوا عن هذا الموطن ظعنوا ببيوتهم، ولم يبق لها أثر؛ لأنها خيام.
(1/421)
________________________________________
قوله: "اسمه واحد، ولو تفرق" ، أي: أن يكون مستوطناً ببناء، اسم هذا البناء واحد، مثل: مكة، المدينة، عنيزة، بريدة، الرياض، المهم أن يكون اسمه واحداً، حتى لو تباعد، وتفرق بأن صارت الأحياء بينها مزارع، لكن يشملها اسم واحد، فإنه يعتبر وطناً واحداً، وبلداً واحداً ، (وهذا هو المذهب) , وقال بعض العلماء: لو تفرق، وفرقت بينه المزارع، فليس بوطن واحد، وعلى هذا القول يكون كل حي وحده مستقلاً. ولكن الصحيح أنه ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد.
قوله: "ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ", هذا الشرط السادس أي: ليس بين الإنسان وبين المسجد أكثر من فرسخ، والفرسخ: أنه ثلاثة أميال، والميل: اثنا عشر ألف ذراع، فعلى هذا لا يلزم الشخص الذي يكون بينه وبين البلد أكثر من فرسخ جمعة، هذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه، ولو كان بينه وبين المسجد فراسخ.
فإن قال قائل: ما الدليل على التقييد بالفرسخ؟ فالجواب: يقولون الغالب أن من كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ فالغالب أنه لا يسمع النداء، مع أن بعض العلماء قدَّره بالأذان ، والدليل الذي دلت عليه السنة هو سماع الأذان.
وقوله: "ولا تجب على مسافر سفر قصر" ، أي: سفراً يحل فيه القصر، فلا تجب عليه، لكن تجب عليه بغيره كما سبق، [ومعنى ذلك أنها إن أقيمت الجمعة وجبت عليه وإلا فلا.
قوله: "ولا على عبد ولا امرأة" ، لأن من شرط الوجوب أن يكون حراً ذكراً.
(1/422)
________________________________________
قوله: "ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به" ، أي: المسافر سفر قصر، والعبيد، والنساء، من حضر الجمعة منهم، وصلى مع الإمام أجزأته جمعة. ولم تنعقد به جمعة.( ومعنى ) لم تنعقد به ، أي: لم تنعقد بواحد من هؤلاء، ومعنى لم تنعقد به أي: لا يحسب من العدد المعتبر؛ لأنهم ليسوا من أهل الوجوب.
قوله: "ولم يصح أن يؤم فيها" ، أي لا يصح أن يكون أحد من هؤلاء إماماً في الجمعة. والراجح : أن المرأة كما قال المؤلف لا يصح أن تكون خطيباً، ولا أن تكون إماماً، ولا تحسب من الأربعين. وأما العبد والمسافر، فالصحيح أنها تنعقد بهما، ويصح أن يكونا أئمة فيها وخطباء أيضاً .
قوله: "ومن سقطت عنه" ، أي الجمعة.
قوله: "لعذر" كمرض.
قوله: "وجبت عليه وانعقدت به" ، يعني إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به؛ لأنه من أهل الوجوب، لكن سقط عنه الحضور للعذر، فإذا حضر ثبت الوجوب. مثال ذلك: مريض سقطت عنه الجمعة من أجل المرض، ولكنه تحمل المشقة وحضر إلى الجمعة، فإنها تنعقد به، فيحسب من الأربعين ويصح أن يكون إماماً، وأن يخطب فيها. وكذا الخائف: تسقط عنه الجمعة، لكنه إذا حضرها تلزمه وتنعقد به، ويصح أن يكون إماماً فيها.
(1/423)
________________________________________
قوله: "ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح" ، أي: من صلى الظهر وهو ممن يلزمه الحضور، فإن صلاته لا تصح، وتأمل قول المؤلف: "ممن عليه حضور الجمعة" ولم يقل: ممن تجب عليه الجمعة، وذلك من أجل أن يكون كلامه شاملاً للذي تجب عليه بنفسه، والذي تجب عليه بغيره . مثال ذلك: مسافر حلَّ بلداً تقام فيه الجمعة ، وأذِّن لصلاة الجمعة، فهذا عليه الحضور، وليست واجبة عليه بنفسه ، بل بغيره ، فإذا صلى هذا المسافر قبل صلاة الإمام فإن صلاته لا تصح؛ لأنه فعل ما لم يؤمر به ، وترك ما أمر به. ( مسألة : ) رجل في أقصى البلد، - ويعلم أنه لو ذهب لم يدرك الجمعة - فصلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فلا تصح على مقتضى كلام المؤلف. وقيل: له أن يصلي الظهر إذا علم أنه لن يدرك الجمعة؛ لأنه في هذه الحال لا يلزمه السعي إليها، فلا فائدة في الانتظار.
قوله: "وتصح ممن لا تجب عليه" ، أي: تصح الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة ، وإن لم يُصلِّ الإمام . مثال ذلك : مريض مرضاً تسقط به عنه الجمعة صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فتصح؛ لأنه لا تلزمه الجمعة . مثال آخر: لو صلّت امرأة الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة صحت؛ لأن الجمعة لا تلزمها.
(1/424)
________________________________________
قوله: "والأفضل حتى يصلي الإمام" ، أي: أن الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام، وعلى هذا نقول للنساء: الأفضل في يوم الجمعة ألا تصلين الظهر حتى يصلي الإمام. قالوا: ربما يزول عذره فيدرك صلاة الجمعة، وإذا كان هذا هو التعليل، فإنه لا ينطبق على النساء؛ إذ إن النساء لا يمكن أن يزول عذرهن، فالمرأة امرأة، وعليه فنقول للمرأة: الأفضل أن تصلي الظهر في أول الوقت، ولو قبل صلاة الإمام؛ لأن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخر الوقت، وحينئذٍ نقول: إذا كان من لا تلزمه الجمعة ممن يرجى أن يزول عذره ويدركها، فالأفضل أن ينتظر، وإذا كان ممن لا يرجى أن يزول عذره فالأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها؛ لأن الأفضل في الصلوات تقديمها في أول الوقت إلا ما استثني بالدليل.
قوله: "ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال" ، السفر: فاعل يجوز، أي: لا يجوز السفر في يوم الجمعة بعد الزوال لمن تلزمه، سواء كانت تلزمه بنفسه، أو بغيره؛ وذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق، والغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام فيؤذن للجمعة وتصلى، فيحرم أن يسافر. (و) المؤلف علق الحكم بالزوال. والأَوْلَى: أن يعلق الحكم بما علقه الله به وهو النداء إلى الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال، ولا يأتي إلا بعد الزوال بساعة، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام، لذلك نقول: المعتبر النداء.
ويفهم من قول المؤلف: "بعد الزوال" أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز وهو كذلك؛ وذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به، فجاز له أن يسافر قبل الزوال. لكن بعض العلماء كرهه، وقال: لئلا يفوت على نفسه فضل الجمعة ، ويستثنى من تحريم السفر مسألتان:
الأولى: إذا خاف فوات الرفقة.
الثانية: إذا كان يمكنه أن يأتي بها في طريقه.
(1/425)
________________________________________
مسألة: هل مثل ذلك خوف إقلاع الطائرة؟ الجواب: نعم، فلو فرض أن الطائرة ستقلع في وقت صلاة الجمعة، ولو جلس ينتظر فاتته، فهو معذور وله أن يسافر ولو بعد الزوال.
فصل
قوله: "يشترط لصحتها شروط" ، فإذا فقد واحد من الشروط لم تصح الجمعة.
قوله: "ليس منها إذن الإمام" ، إذا قال العلماء: (إمام) فهو صاحب أعلى سلطة في البلد، سواء سمي إماماً أو خليفة أو أميراً أو رئيساً أو شيخاً أو غير ذلك. أي: لو صلى الناس بدون إذن الإِمام فصلاتهم صحيحة.
فإذا قال قائل: لماذا نص المؤلف على نفي هذا الشرط، مع أن السكوت عنه يقتضي انتفاءه؟ فالجواب: لأن في ذلك خِلافاً، فالمذهب: لا يشترط إذن الإمام. وقال بعض العلماء: لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام ، والإمام إذا استؤذن يجب عليه أن يأذن، ولا يحل له أن يمنع، فلو فرض أنه امتنع ومنعهم من إقامة الجمعة مع وجوبها فحينئذٍ يسقط استئذانه. ولو قيل بالتفصيل، وهو: أن إقامة الجمعة في البلد لا يشترط لها إذن الإمام، وأنه إذا تمت الشروط وجب إقامتها، سواء أذن أم لم يأذن، وأما تعدد الجمعة فيشترط له إذن الإمام؛ لئلا يتلاعب الناس في تعدد الجمع، فلو قيل بهذا القول لكان له وجه، والعمل عليه عندنا لا تقام الجمعة إلا بعد مراجعة دار الإفتاء، وهذا القول لا شك أنه قول وسط يضبط الناس .
قوله: "أحدها الوقت" ، هذا هو الشرط الأول . والصلاة قبل الوقت في الجمعة وغيرها لا تصح؛ لأنه في غير الجمعة نقول: لم يدخل الوقت، وفي الجمعة نقول: ليست في الوقت، والصلاة بعد خروج الوقت في غير الجمعة صحيحة إما مطلقاً، وإما لعذر على القول الراجح، وصلاة الجمعة بعد الوقت لا تصح مطلقاً. فلو خرج الوقت ولم يصل ولو لعذر كالنسيان والنوم، فإنه لا يصلي الجمعة، بل يصلي ظهراً
(1/426)
________________________________________
قوله: "وأوله أول وقت صلاة العيد" ، أول وقت صلاة الجمعة بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح أي: قدر رمح، والرمح حوالي متر، فلنا أن نصليها من حين أن ترتفع الشمس قدر رمح. والقول بأن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال هو المذهب، وهو من المفردات. (و) القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. (و) القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة. ولا تصح في أول النهار ، وهذا القول هو الراجح , والأفضل على القول بأنها تصح لا تصح في أول النهار في السادسة، أن تكون بعد الزوال وفاقاً لأكثر العلماء.
قوله: "وآخره آخر وقت صلاة الظهر" ، أي آخر وقت صلاة الجمعة، آخر وقت صلاة الظهر، وذلك إذا كان ظل الشيء كطوله بعد فيء الزوال.
قوله: "فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة" ، أي: إن خرج وقت الجمعة قبل أن يدركوا تكبيرة الإحرام في الوقت فإنهم يصلون ظهراً، لأن الوقت قد فات، فإن الوقت لا يدرك إلا بتكبيرة الإحرام، فمن فاتته تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت فقد فاته الوقت، وهذا الذي مشى عليه المؤلف مبني على أن الإدراك يكون بتكبيرة الإحرام. والصحيح: أن الإدراك لا يكون إلا بركعةوعلى هذا فنقول: إن خرج وقتها قبل إدراك ركعة قبل خروجه فإنهم يصلون ظهراً.
(1/427)
________________________________________
قوله: "الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها" ، يعني أن الشرط الثاني لصحة الجمعة حضور أربعين، والمراد حضورهم الخطبتين والصلاة، (( وهذا هو المذهب )). (و) القول الثاني: أنه لا بد من اثني عشر رجلاً من أهل الوجوب. (و) القول الثالث: أنه يشترط أربعة رجال ، وهذا مذهب أبي حنيفة. (و) القول الرابع: أنه يشترط أن يكونوا ثلاثة: خطيب ومستمعان ، وهذا القول قوي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية . (و) القول الخامس: أن الجمعة تجب على اثنين فما فوق ، وهذا مذهب أهل الظاهر، واختاره الشوكاني في شرح المنتقى، وهو قول قوي، لكن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح ، وهناك أقوال أخرى. وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجب عليهم، وعلى هذا فإذا كانت هذه القرية فيها مائة طالب، وليس فيها من مواطنيها إلا ثلاثة فتجب على الثلاثة بأنفسهم، وعلى الآخرين بغيرهم، وإذا كان فيها مواطنان ومائة مسافر مقيم لا تجب عليهم.
مسألة: إذا حضر تسعة وثلاثون، والإمام يرى أن الواجب أربعون، والتسعة والثلاثون يرون أن الواجب ثلاثة فنقول: الإمام لا يصلي بهم، ويصلي واحد من هؤلاء الذين لا يرون الأربعين، ثم يلزم الإمام أن يصلي؛ لأنها أقيمت صلاة الجمعة. وإذا كان بالعكس الإمام لا يرى العدد أربعين، والتسعة والثلاثون يرون العدد أربعين فلا يصلون جمعة؛ لأن التسعة والثلاثين يقولون: نحن لن نصلي فيبقى واحد، فلا تنعقد به الجمعة فيصلون ظهراً .
قوله: "الثالث أن يكونوا بقرية مستوطنين" ، أي: يشترط لصحة صلاة الجمعة أن يكون العدد المشروط مستوطنين بقرية، وهذا هو الشرط الثالث لصحة صلاة الجمعة، فإن كانوا في خيام كالبادية، فإنه لا جمعة عليهم، ولا تصح منهم الجمعة. والمراد بالقرية: المدينة سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
(1/428)
________________________________________
وقوله: "مستوطنين" ، أي: لا بد أن يكونوا مستوطنين، أي: متخذيها وطناً، سواء كانت وطنهم الأول أم وطنهم الثاني، فالمهاجرون من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اتخذوا المدينة وطناً ثانياً. وضد المستوطن: المسافر والمقيم، فالمسافر هو الذي على جناح سفر مرَّ في البلد، ليقضي حاجة ويمشي، والمقيم من أقام يوماً أو ثلاثة أيام، أو خمسة أيام، أو أكثر لشغل ثم يرجع، ومن أقام بقرية وهو عازم على السفر، فهل هو مقيم أو مسافر؟ الجواب: شيخ الإسلام يرى أنه مسافر، ويقول: ليس في الكتاب ولا في السنة تقسيم الناس إلى مستوطن ومقيم ومسافر، وليس فيهما إلا مسافر ومستوطن، والمستوطن هو المقيم.
قوله: "وتصح" أي: الجمعة.
قوله: "فيما قارب البنيان من الصحراء" . ، أي: إن أهل القرية لو أقاموا الجمعة خارج البلد في مكان قريب، فإنها تصح، فلا يشترط أن تكون في نفس البلد، بشرط أن يكون الموضع قريباً، مثل: مصلى العيد يكون في الصحراء من البلد؛ لأنّهم في الحقيقة لم يخرجوا من القرية.
وقول المؤلف - -: "فيما قارب البنيان من الصحراء" يفهم منه أن ما كان بعيداً لا تصحُّ فيه الجمعة، أي: لو أن أهل القرية خرجوا في نزهة بعيداً عن البلد، وأقاموا الجمعة هناك في مكان النزهة البعيد عن البلد، فإنها لا تجزئ؛ لأنهم انفصلوا عن البلد.
فإذا قال قائل: هل القرب هنا محدد بالعرف أو محدد بالمسافة؟ فالجواب: أن العلماء إذا أطلقوا الشيء، ولم يحددوه يرجع في ذلك إلى العرف، وقال بعض العلماء: لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في البنيان فلو خرجوا قريباً من البنيان فإنها لا تجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلف هو الصحيح .
(1/429)
________________________________________
قوله: "فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً" ، "نقصوا" الضمير يعود على العدد المشترط أي: إن نقصوا واحداً فأكثر استأنفوا ظهراً، (و) كلام المؤلف ليس على إطلاقه، بل نقيده بما إذا لم تمكن إعادتها جمعة. فإذا كان الوقت متسعاَ لإعادتها جمعة فإنه يلزمهم إقامتها جمعة ، وقال بعض العلماء: بل يتمونها جمعة. وقال (آخرون:) أنهم إن نقصوا بعد أن أتموا الركعة الأولى أتموا جمعة، فإذا كان النقص في الركعة الثانية فما بعد أتموا جمعة، وإن نقصوا في الركعة الأولى استأنفوا ظهراً ما لم يمكن إعادتها جمعة، وهذا اختيار الموفق ، وهذا القول هو الراجح.
قوله: "ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة" "مع الإمام" أي: إمام الجمعة.
"منها" أي: الجمعة.
"ركعة" أي: ركعة تامة بسجدتيها أتمها جمعة.
قوله: "وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً" ، أي: بأن جاء بعد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية فهنا لم يدرك ركعة فيتمها ظهراً.
(1/430)
________________________________________
قوله: "إذا كان نوى الظهر" أي: يشترط لإتمامها ظهراً أن ينوي الظهر، وأن يكون وقتها قد دخل، وإنما أضفنا هذا الشرط؛ لأن فيه احتمالاً أن تُصلَّى الجمعة قبل الزوال، فإن لم ينو الظهر بأن دخل مع الإمام بنية الجمعة؛ لأنه يظن أن هذه هي الركعة الأولى، ثم تبين أنها الركعة الأخيرة، فعلى كلام المؤلف يتمها نفلاً؛ لأنه لم ينو الظهر. (و) القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة، فتبين أنه لم يدرك ركعة، فلينوها ظهراً بعد سلام الإمام، وهذا هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، خصوصاً العامة؛ لأن العامي ولو علم أنها الركعة الثانية وقد فاته ركوعها، فإنه سينوي الجمعة، ثم إذا سلم الإمام، فمن العامة من يتمها جمعة أيضاً، ومنهم من يتمها ظهراً، لكن لا ينوي الظهر إلا بعد أن يسلم الإمام، وهذا القول هو الصحيح ، وفي هذه المسألة قد تنخرم القاعدة التي يقال فيها: (إن الانتقال من معين إلى معين يبطل الأول، ولا ينعقد الثاني به). ولكن نقول: هذه المسألة يمكن أن تستثنى من القاعدة بناء على أن الظهر بدل عن الجمعة إذا فاتت فهي فرع لها، وهو لم ينتقل من شيء مغاير من كل وجه.
(1/431)
________________________________________
مسألة مهمة تعتري الناس في أيام موسم الحج والعمرة في المسجد الحرام وهي: ما إذا زحم الإنسان عن السجود. قال في الروض: "ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله". مثاله: إنسان دخل مع إمام الجمعة، لكن الناس متضايقون، فلما أراد السجود ما وجد مكاناً يسجد فيه، نقول: يجب عليك أن تسجد على ظهر إنسان، أو على رجله. وقال بعض العلماء: إذا زحم فإنه ينتظر حتى يقوم الناس، ثم يسجد، ويكون التخلف هنا عن الإمام لعذر. وقال بعض العلماء: يومئ إيماء أي: يجلس ويومئ بالسجود إيماء؛ لأن الإيماء في السجود قد جاءت به السنة عند التعذر بخلاف التخلف عن الإمام فإنه لم يأت إلا لعذر، وهذا القول أرجح، ويليه القول بأنه ينتظر، ثم يسجد، بعد الإمام، وأما القول بأنه يسجد على ظهر إنسان أو رجله فإنه ضعيف. قال في الروض: "وإن أحرم، ثم زحم، وأخرج عن الصف فصلى فذاً لم تصح" أي: لو أنه زحم، وعجز عن أن يطيق الوقوف في الصف حتى خرج، فإنه على المذهب لا تصح صلاته؛ لأنه فذ. والصحيح: أن صلاته تصح؛ لأنه معذور في الفذية. فإذا كان قد صلى الركعة الأولى في الصف فإنه إذا زحم حتى خرج من الصف ينوي الانفراد ويتمها جمعة؛ لأنه أدرك ركعة كاملة فيتمها جمعة هذا على المذهب، والقول الراجح أنه يتمها جمعة مع الإمام؛ لأن انفراده هنا للعذر.
قوله: "ويشترط تقدم خطبتين" ، أي: يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وهذا هو الشرط الرابع ، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح.
(1/432)
________________________________________
قوله: "من شرط صحتهما: حمد الله، والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية ، والوصية بتقوى الله عز وجل" ، أي: أن الخطبتين لهما شروط لا تصحان بدونها، ذكر منها المؤلف: "حمد الله" ، وهذا هو الشرط الأول بأن يحمد الله بأي صيغة. فيقول: اللهم صلِّ على محمد، أو اللهم صل على أحمد، أو اللهم صل على العاقب، أو اللهم صل على الحاشر، أو اللهم صل على خاتم النبيين، أو المرسل إلى الناس أجمعين. (و) قال بعض العلماء: ولا بد أن يصلى عليه باسم مُظهر، فإن صلى عليه مضمراً لا مظهراً لم تصح، كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتفياً بذلك، ولكن هذا غير صحيح فإن المضمر يحل محل المظهر متى علم مرجعه.
الشرط الثاني: الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أي: أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بأي اسم من أسمائه أو صفة تختص به .
الشرط الثالث: قراءة آية فأكثر من كتاب الله، فإن لم يقرأ آية لم تصح الخطبة، ولكن يشترط في الآية أن تستقل بمعنى، فإن لم تستقل بمعنى لم تجزئ، فلو قرأ { ثم نظر} [المدثر] فلا تستقل بمعنى، من الذي نظر؟ لا يعلم. فلا تجزئ .
الشرط الرابع: الوصية بتقوى الله عز وجل.( بأي صغة ) ، فإن أتى بمعنى التقوى دون لفظها بأن قال: يا أيها الناس افعلوا أوامر الله، واتركوا نواهي الله فيصح.
الشرط الخامس: أن يحضر الخطبتين العدد المشترط، فلا بد أن يحضر أربعون من أهل وجوبها، فإن حضر الخطبة عشرون، ثم لما أقيمت الصلاة قبل أن يشرع في الصلاة تموا أربعين، فإنه لا تجزئ الخطبتان، وعليه إعادتهما.ولو حضر أربعون نصف الخطبة لم يجزئ. والصحيح: أن تقدير العدد بأربعين ليس بصواب كما سبق، لكننا إذا قلنا يشترط حضور ثلاثة صار لا بد من حضور الثلاثة.
(1/433)
________________________________________
وهناك شروط أخرى تضاف إلى ماذكره المؤلف: الشرط السادس: أن تكون الخطبتان بعد دخول الوقت، فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح الخطبتان، ثم لا تصح الجمعة بعد ذلك.
وقال بعض أهل العلم : إن الشرط الأساسي في الخطبة أن تشتمل على الموعظة المرققة للقلوب ، المفيدة للحاضرين ، وأن الحمد لله ، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقراءة آية ، كله من كمال الخطبة. ( وليس من شروطها ) ، ولكن هذا القول وإن كان له حظ من النظر لا ينبغي للإنسان أن يعمل به إذا كان أهل البلد يرون القول الأول الذي مشى عليه المؤلف؛ لأنه لو ترك هذه الشروط التي ذكرها المؤلف لوقع الناس في حرج، وصار كلٌّ يخرج من الجمعة، وهو يرى أنه لم يصل الجمعة، وإذا أتيت بهذه الشروط لم تقع في محرم، ومراعاة الناس في أمر ليس بحرام هو مما جاءت به الشريعة.
قوله: "ولا يشترط لهما الطهارة" أي: لا يشترط للخطبتين أن يكون على طهارة، فلو خطب وهو محدث فالخطبة صحيحة؛ لأنها ذكر وليست صلاة. و( لكن ) إذا خطب وهو جنب ففيه مشكلتان:
المشكلة الأولى: اللبث في المسجد، وزوالها أن يقال: إنه يتوضأ فتزول المشكلة بهذا الوضوء.
المشكلة الثانية: قراءة القرآن وهو جنب، والمذهب أن قراءة الآية شرط لصحة الخطبة، وقراءة الجنب للقرآن حرام، فكيف تصح هذه القراءة ، (ولكن الصحيح: أنه تصح قراءة الآية من القرآن وهو جنب مع الإثم.) وقد سبق أن بعض أهل العلم لا يشترط قراءة آية، وعليه لا يرد هذا الإشكال أصلاً.
قوله: "ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة" أي: لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، فلو خطب رجل وصلى آخر فهما صحيحتان، والصلاة صحيحة. لكن هل يشترط أن يتولاهما واحد، أو يجوز أن يخطب الخطبة الأولى واحد والثانية آخر؟ الجواب: يجوز، أي: لا يشترط أن يتولاهما واحد، فلو خطب رجل، وخطب الثانية رجل آخر صح.
(1/434)
________________________________________
( ولكن هل يشترط أن يتولى الخطبة الواحدة واحد؟ أي: لو أن رجلاً خطب الخطبة الأولى في أولها، وفي أثنائها تذكر أنه على غير وضوء مثلاً فنزل، ثم قام آخر وأتم الخطبة، لم أر حتى الآن من تكلم عليها، ولكنهم ذكروا في الأذان أنه لا يصح من رجلين أي: لا يصح أن يؤذن الإنسان أول الأذان، ثم يكمله الآخر؛ لأنه عبادة واحدة، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة، ويكمل الثاني الركعة الثانية، فكذلك لا يصح أن يؤذن شخص أول الأذان ويكمله آخر، أما الخطبة فقد يقال: إنها كالأذان أي: لا بد أن يتولى الخطبة الواحدة واحد، فلا تصح من اثنين، سواء لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر فالظاهر أن الأمر واضح؛ لأن هذا شيء من التلاعب. وإذا كان لعذر مثل: أن يذكر الذي بدأ الخطبة أنه على غير وضوء، ثم ينزل ليتوضأ، فهنا نقول: الأحوط : أن يبدأ الثاني الخطبة من جديد، حتى لا تكون عبادة واحدة من شخصين.
مسألة: هل يشترط أن يكون العدد الحاضر لهما هو العدد الحاضر للصلاة. مثلاً: بأن خطب بأربعين، ثم خرج الأربعون، وجاء أربعون غيرهم وصلوا الجمعة. فالجواب: أنه يشترط؛ لأنه لا بد أن يحضروا الخطبتين والصلاة.
مسألة: لم يذكر صاحب المتن ما يبطل الخطبتين، لكن ذكر الشارح في الروض أنهما تبطلان بالكلام المحرم، أي: لو أن الخطيب في أثناء الخطبة تكلم كلاماً محرماً، كقذف أو لعن، أو ما أشبه ذلك، فإنها تبطل؛ لأن ذلك ينافي مقتضى الخطبة. فالمقصود بالخطبة وعظ الناس وزجرهم عن الحرام، فإذا كان الخطيب نفسه يفعل الحرام فإنها تبطل.
(1/435)
________________________________________
مسألة: لم يذكر الماتن أيضاً هل يشترط أن تكون الخطبتان باللغة العربية أم لا؟ والجواب: إن كان يخطب في عرب، فلا بد أن تكون بالعربية، وإن كان يخطب في غير عرب، فقال بعض العلماء: لا بد أن يخطب أولاً بالعربية، ثم يخطب بلغة القوم الذين عنده. وقال آخرون: لا يشترط أن يخطب بالعربية، بل يجب أن يخطب بلغة القوم الذين يخطب فيهم، وهذا هو الصحيح , لكن إذا مرَّ بالآية فلا بد أن تكون بالعربية؛ لأن القرآن لا يجوز أن يغير عن اللغة العربية.
قوله: "ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال " أي: من سنن الخطبتين أن يخطب على منبر فإذا لم يوجد منبر، خطب على موضع مرتفع، ولو كومة من التراب، من أجل أن يبرز أمام الناس، ولأن ذلك أبلغ في الصوت، وأبلغ في التلقي عن الخطيب؛ لأن من يُشَاهَدُ يتلقى منه أكثر.
قال العلماء: ينبغي أن يكون المنبر على يمين مستقبل القبلة في المحراب كما هو معمول به الآن؛ من أجل أن الإمام إذا نزل منه ينفتل عن يمينه.
قوله: "ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم" أي: يسن إذا صعد المنبر أن يتجه إلى المأمومين، ويسلم عليهم ، وهذا التسليم العام. أما الخاص فإنه إذا دخل المسجد سلم على من يمر عليه أولاً.
قوله: "ثم يجلس إلى فراغ الأذان" ، أي: يسن إذا سلم على المأمومين أن يجلس حتى يفرغ المؤذن، وفي هذه الحال يتابع المؤذن على أذانه ، وكذلك المأمومون يجيبون المؤذن .
قوله: "ويجلس بين الخطبتين" أي: يسن أن يجلس بين الخطبتين. وعلى هذا يكون للخطيب جلستان: الأولى عند شروع المؤذن في الأذان، والثانية بين الخطبتين.
قوله: "ويخطب قائماً" أي: يسن أن يخطب قائماً.
(1/436)
________________________________________
قوله: "ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا" أي: يسن أن يعتمد حال الخطبة على سيف، أو قوس، أو عصا. واستدلوا بحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحته نظر ، وعلى تقدير صحته قال ابن القيم: إنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء. ووجه ذلك: أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا.
قوله: "ويقصد تلقاء وجهه" أي: يسن للخطيب أن يتجه تلقاء وجهه، فلا يتجه لليمين أو لليسار، بل يكون أمام الناس.
فإن قال قائل: هل من السنة أن يلتفت يميناً وشمالاً؟ فالجواب: أن هذا ليس من السنة فيما يظهر، وأن الخطيب يقصد تلقاء وجهه، ومن أراده التفت إليه.
وهل من السنّة أن يحرك يديه عند الانفعال؟ الجواب: ليس من السنّة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك، لكن يشير في الخطبة بأصبعه عند الدعاء. أما الخطبة التي هي غير خطبة الجمعة فقد نقول: إنه من المستحسن أن الإنسان يتحرك بحركات تناسب الجمل التي يتكلم بها .
قوله: "ويقصر الخطبة" أي: يسن أن يجعلها قصيرة, وهي علامة ودليل على فقهه، وأنه يراعي أحوال الناس، وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك، فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي .
قوله: "ويدعو للمسلمين" أي: يسن أيضاً في الخطبة أن يدعو للمسلمين الرعية والرعاة.
(1/437)
________________________________________
ولكن قد يقول قائل: (( هل هناك )) دليل خاص في سنية هذا الدعاء ؟ ( فالجواب ) : لقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة" ، فإن صح هذا الحديث فهو أصل في الموضوع، وحينئذٍ لنا أن نقول: إن الدعاء سنّة، أما إذا لم يصح فنقول: إن الدعاء جائز، وحينئذٍ لا يتخذ سنّة راتبة يواظب عليه؛ لأنه إذا اتخذ سنّة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنّة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه.
فصل
قوله: "والجمعة ركعتان يسن أن يقرأ جهراً " ، قوله: "يسن أن يقرأ جهراً" ، يؤخذ منه أنه لو قرأ سراً لصحّت الصلاة، لكن الأفضل الجهر.
قوله: "في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين" أي: يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وله أن يقرأ بـ{سبح } و{الغاشية } ثبت ذلك أيضاً في صحيح مسلم ، فالسنة: أن يقرأ مرة بهذا، ومرة بهذا، وعلى الإنسان أن يراعي أحوال الناس ، فإذا علمنا أن الأيسر على المصلين أن نقرأ بسبّح والغاشية، وذلك في شدة البرد والصيف، فالأفضل أن نقرأ بهما، وأما في الأيام المعتدلة الجو فينبغي أن يقرأ بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً؛ لئلا تهجر السنّة.
قوله: "وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة" أي: تحرم إقامة صلاة الجمعة في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، ( وهذا ما ذهب إليه ) الإمام أحمد ،( أي: )أن صلاة الجمعة يجوز تعددها للحاجة. ولكن مع الأسف الآن أصبح كثير من بلاد المسلمين لا يفرقون بين الجمعة وصلاة الظهر، أي: أن الجمعة تقام في كل مسجد، فتفرقت الأمة، وصار الناس يقيمون صلاة الجمعة، وكأنها صلاة ظهر، وهذا لا شك أنه خلاف مقصد الشرع وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جزم المؤلف بتحريم إقامتها في أكثر من موضع في البلد.
(1/438)
________________________________________
وقوله: "إلا لحاجة" ، والمراد بالحاجة هنا: ما يشبه الضرورة؛ لأن هناك ضرورة وحاجة، والفرق بين الحاجة والضرورة: أن الحاجة: هي التي يكون بها الكمال. والضرورة: هي التي يندفع بها الضرر. (و) مثال الحاجة: إذا ضاق المسجد عن أهله، ولم يمكن توسيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يصلوا في الصيف في الشمس، ولا في المطر في أيام الشتاء. وكذا إذا تباعدت أقطار البلد، وصار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة، لكن في عصرنا الآن ليس هناك حاجة من جهة البعد، بل هناك حاجة من جهة الضيق؛ لأن الذين يأتون بالسيارات من أماكن بعيدة يحتاجون إلى مواقف، وقد لا يجدون مواقف، لكن إذا كان هناك مواقف، أو كانت السيارات قليلة فإنه يجب على الإنسان أن يحضر ولو بعيداً، ويقال للقريبين: لا تأتوا بالسيارات؛ لأجل أن يفسحوا المجال لمن كانوا بعيدين.
ومن الحاجة أيضاً: أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات، يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح.
قوله: "فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام" ، أي: صلوا الجمعة في موضعين فأكثر بلا حاجة فالصحيحة ما باشرها الإمام وأذن فيها، وإذا قال العلماء: "الإمام" فمرادهم من له أعلى سلطة في الدولة.
قوله: "أو أذن فيها" ، أي: إن لم يباشرها، مثل: أن يكون بلد الإمام في محل آخر وهذا البلد الذي فيه تعدد الجمعة لم يكن فيه الإمام حاضراً، لكنه قال: أذنت لكم أن تقيموا جمعتين فأكثر،.
(1/439)
________________________________________
قوله: "فإن استوتا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة" ، فإن استوتا، أي: الجمعتان في إذن أو عدمه بأن يكون الإمام قد أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً. فإن أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً فالثانية باطلة على ما يقتضيه كلام المؤلف. والمراد بالثانية ما تأخرت عن الأخرى بتكبيرة الإحرام، وإن كانت الأخرى أسبق منها إنشاء. وقال بعض العلماء: المعتبر السبق زمناً، فالتي قد أنشئت أولاً فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى. وهذا القول هو الصحيح .
قوله: "وإن وقعتا معاً" أي: إن وقعتا معاً بطلتا معاً، فمثلاً إذا كنا نحن نستمع إلى المسجد الشمالي والمسجد الجنوبي فقال إمام كل مسجد منهما: "الله أكبر" في نفس الوقت فنقول لهم: صلاتكم جميعاً باطلة ، وعلى هذا يلزم الجميع إعادتها جمعة في مكان واحد مع بقاء الوقت، وإلا صلوا ظهراً. وعلى القول الذي رجحناه نقول: أهل المسجد الشمالي صحت جمعتهم، وأهل المسجد الجنوبي لم تصح جمعتهم؛ لأن الجمعة في الشمالي هي الأولى إنشاءً.
قوله: "أو جهلت الأولى بطلتا" أي: لو أقيمت جمعتان بلا حاجة، واستوتا في إذن الإمام وعدمه. وجهلت الأولى منهما، ولم يعلم أيهما أسبق بتكبيرة الإحرام بطلتا أي: الجمعتان، ولزمهم صلاة الظهر، ولا يصح استعمال القرعة هنا؛ لأنها عبادة، وهنا تلزمهم صلاة الظهر، ولا تصح إعادتها جمعة.
(1/440)
________________________________________
قوله: "وأقل السنّة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست" ، شرع المؤلف في بيان السنن التوابع للجمعة، فأقلها ركعتان, وأكثرها ست ، لأنه ورد عن عبد الله بن عمر بإسناد صححه العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ستاً، ( وكذلك ) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأربع .فصارت السنة بعد الجمعة، إما ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، ولكن هل هذا مما وردت به السنة على وجوه متنوعة، أو على أحوال متنوعة، فيه أقوال: القول الأول: أنها على أحوال متنوعة. وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيقال: إن صليت راتبة الجمعة في المسجد فصل أربعاً، وإن صليتها في البيت فصل ركعتين.(و) القول الثاني: أنها متنوعة على وجوه فصلِّ أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.(و) القول الثالث: أنها أربع ركعات مطلقاً. والأولى للإنسان - فيما أظنه راجحاً - أن يصلي أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين. أما الست فإن حديث ابن عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان يفعلها". لكن الذي في الصحيحين أنه كان يصلي ركعتين، ويمكن أن يستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته ركعتين، وأمر من صلى الجمعة أن يصلي بعدها أربعاً، فهذه ست ركعات: أربع بقوله وركعتان بفعله، وفيه تأمل.
وعُلم من قول المؤلف: "أقل السنة بعد الجمعة ركعتان" أنه ليس للجمعة سنّة قبلها، وهو كذلك، فيصلي ما شاء بغير قصد عدد، فيصلي ركعتين أو ما شاء، لكن إذا دخل الإمام أمسك.
فإن قال قائل: هل تختارون لي إذا جئت يوم الجمعة أن أشغل وقتي بالصلاة، أو أشغل وقتي بقراءة القرآن؟
(1/441)
________________________________________
فالجواب: نرى أن ركعتين لا بد منهما، وهما تحية المسجد، وما عدا ذلك ينظر الإنسان ما هو أرجح له، فإذا كنت في مسجد يزدحم فيه الناس، ويكثر المترددون بين يديك، فالظاهر أن قراءة القرآن أخشع لقلب الإنسان وأفيد، وإذا كنت في مكان سالم من التشويش، فلا شك أن الصلاة أفضل من القراءة؛ لأن الصلاة تجمع قراءة وذكراً ودعاء وقياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، فهي روضة من رياض العبادات فهي أفضل.
قوله: "ويسن أن يغتسل" ، قوله: "يسن أن يغتسل" أي: أنه إذا اغتسل ليوم الجمعة فهو أفضل، وإن لم يغتسل فلا إثم عليه.
وقول المؤلف: "يسن أن يغتسل" لم يبيّن متى يكون الاغتسال. فقال بعضهم: إن أول وقته من آخر الليل. وقال آخرون: بل من طلوع الفجر؛ لأن النهار لا يدخل إلا بطلوع الفجر. وقال آخرون: بل من طلوع الشمس ، وهذا أحوط الأقوال الثلاثة .
وقوله: "يسن أن يغتسل" ، لم يبيّن من الذي يغتسل، هل هم الرجال أو النساء؟ والسنّة تدل على أن الاغتسال خاص بمن يأتي إلى الجمعة ، وعلى هذا فالنساء لا يسنّ لهن الاغتسال، وكذلك من لا يحضر لصلاة الجمعة لعذر، فإنه لا يسنّ له أن يغتسل للجمعة.
وقول المؤلف: "يسنّ أن يغتسل" هو المذهب، وعليه جمهور العلماء. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاغتسال واجب. وهذا القول هو الصحيح. (وهو) الذي نراه وندين الله به ، ونحافظ عليه ، وأنه لا يسقط إلا لعدم الماء، أو للضرر باستعمال الماء، ولم يأت حديث صحيح أن الوضوء كاف .
مسألة: بقي أن يقال: إذا لم يجد الماء، أو تضرر باستعماله.. فهل يتيمم لهذا الغسل، أو نقول: إنه واجب سقط بعدم القدرة عليه؟ الجواب أن نقول: الثاني، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - -، ويقول شيخ الإسلام: جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها فإنه لا يتيمم عنها؛ لأن التيمم إنما شرع للحدث.
قوله: "وتقدم" ، أي: سبق ذكر استحباب الغسل ليوم الجمعة.
(1/442)
________________________________________
قوله: "ويتنظف" أي: ويسنّ أن يتنظف ، والتنظّف أمر زائد على الاغتسال، فالتنظّف بقطع الرائحة الكريهة وأسبابها، فمن أسباب الرائحة الكريهة الشعور والأظفار التي أمر الشارع بإزالتها، وعلى هذا فيسنّ حلق العانة، ونتف الإبط، وحف الشارب، وتقليم الأظفار، لكن من المعلوم أن هذا لا يكون في كل جمعة، فقد لا يجد الإنسان شيئاً يزيله، من هذه الأمور الأربعة، وقد وقّت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء الأربعة ألا تزيد على أربعين يوماً ، وقد قال الفقهاء: إن حف الشارب في كل جمعة.
قوله: "ويتطيّب" أي: ويسنّ أيضاً أن يتطيّب، كما جاءت به السنة ، بأي طيب سواء من الدهن أو من البخور، في ثيابه وفي بدنه.
قوله: "ويلبس أحسن ثيابه" أي: ويسنّ لبس أحسن ثيابه. قال في الروض: "وأفضلها البياض، ويعتم، ويرتدي" أي: أفضلها البياض، ولا شك أن أفضل الثياب للرجال البياض، لكن أحياناً لا يجد الإنسان البياض مناسباً للوقت، مثل: أيام الشتاء فإنه يندر أن تجد ثياباً بيضاء تناسب الوقت، فهنا نقول: ارفق بنفسك، ويمكن أن تلبس ثياباً متعددة، ويكون الأعلى هو الأبيض.
قوله: "ويعتم" أي: يلبس العمامة. والعمامة: هي ما يطوى على الرأس، ويكور عليه. والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يلبس العمامة، ويمسح عليها ، ولكن هل لباسه إياها كان تعبداً، أو لباسه إياها؛ لأنها عُرف؟ الجواب: الثاني هو الصحيح، واتباع العرف في اللباس هو السنة ما لم يكن حراماً؛ لأنّا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما لبس ما يلبسه الناس، والإنسان لو خالف ما يلبسه الناس لكانت ثيابه ثياب شهرة.
قوله: "ويرتدي" أي: يلبس الرداء، وظاهر كلام المؤلف: ولو كان عليه قميص وهذا فيه نظر. لكن بدل الرداء عندنا المشلح، وأكثر الناس اليوم لا يلبسونه، ولو لبسه الإنسان أمام الناس لاستنكروه، بينما كانوا في الأول يستنكرون من لا يلبسه.
(1/443)
________________________________________
قوله: "ويبكّر إليها" أي: يسنّ أن يبكّر إلى الجمعة.
قوله: "ماشياً" ، أي: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشياً على قدميه. ولكن لو كان منزله بعيداً، أو كان ضعيفاً أو مريضاً، واحتاج إلى الركوب، فكونه يرفق بنفسه أولى من أن يشق عليها.
قوله: "ويدنو من الإمام" ، وهذا أيضاً من السنّة أن يدنو من الإمام. ودليل ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" ، ولما رأى قوماً تأخروا في المسجد عن التقدم قال: "لا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم الله" ، فأقل أحواله أن يكون التأخّر عن الأول فالأول مكروه؛ لأن مثل هذا التعبير يعد وعيداً من النبي عليه الصلاة والسلام.
مسألة: دلّت السنّة على أن يمين الصف أفضل من اليسار، والمراد عند التقارب، أو التساوي، وأما مع البعد فقد دلّت السنّة على أن اليسار الأقرب أفضل. وطرف الصف الأول من اليمين أو اليسار أفضل من الصف الثاني، وإن كان خلف الإمام. ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتراصون، ويتمون الأول فالأول" .وعلى هذا فنكمل الأول فالأول، فالأول قبل الثاني، والثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع... وهكذا.
قوله: "ويقرأ سورة الكهف في يومها" ، أي: يسنّ أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، وجاء في بعض الأحاديث أن من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنته ، وفي بعض روايات الحديث: "من آخر الكهف" ، والجمع بينهما: أن يحتاط الإنسان فيقرأ عشراً من أولها، وعشراً من آخرها.
قوله: "ويكثر الدعاء، ويكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " أي: يسن أن يكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.
(1/444)
________________________________________
قوله: "ولا يتخطى رقاب الناس" ، النفي يحتمل أنه للكراهة، ويحتمل أنه للتحريم، وهذه المسألة خلافية، فالمشهور من المذهب أن تخطي الرقاب مكروه. والصحيح: أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة وغيرها.
قوله: "إلا أن يكون إماماً" أي: فإن كان إماماً، فلا بأس أن يتخطى؛ لأن مكانه متقدم، ولكن بشرط أن لا يمكن الوصول إلى مكانه إلا بالتخطي، فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط بأن كان في مقدم المسجد باب يدخل منه الإمام، فإنه كغيره في التخطي.
قوله: "أو إلى فرجة" أي: مكان متسع في الصفوف المقدمة، فإن كان هناك فرجة، فلا بأس أن يتخطى إليها. ولكن الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة، لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس.
قوله: "وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه" أي: يحرم أن يقيم غيره من المكان الذي كان جالساً فيه ويجلس مكانه. وهذا قيد أغلبي؛ ( فلو ) أقام غيره لا ليجلس في مكانه فقال: قم عن هذا ولم يجلس فيه كان حراماً.
قوله: "إلا من قدم صاحباً له في موضع يحفظه له" أي: إلا شخصاً قدم صاحباً له في موضع يحفظه له، مثل: أن يقول لشخص ما: يا فلان أنا عندي شغل، ولا ينتهي إلا عند مجيء الإمام، فاذهب واجلس في مكان لي في الصف الأول. فإذا فعل وجلس في الصف الأول فله أن يقيمه؛ لأن هذا الذي أقيم وكيل له ونائب عنه. وظاهر كلام المؤلف أن هذا العمل جائز، وفي هذا نظر لما يلي:
أولاً: أن هذا النائب لم يتقدم لنفسه، وربما يراه أحد فيظنه عمل عملاً صالحاً، وليس كذلك.
ثانياً: أن في هذا تحايلاً على حجز الأماكن الفاضلة لمن لم يتقدم، والأماكن الفاضلة أحق الناس بها من سبق إليها.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحرم أن يقيم غيره، ولو كان صغيراً. والمذهب أنه يجوز أن يقيم الصغير، ويجلس مكانه، ولكن الصحيح: أنه لا يجوز أن يقيم الصغير.
(1/445)
________________________________________
وفي الروض يقول: "وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل، لا قبوله، وليس لغير المُؤْثَر سبقه" . مثاله: أن تكون في الصف الأول، فأردت أن تتأخر إكراماً لشخص حضر ليجلس في مكانك، فيقول صاحب الروض: إن هذا مكروه. والصحيح في هذه المسألة: أن إيثار غيره إذا كان فيه مصلحة كالتأليف فلا يكره، مثل: لو كان الأمير يعتاد أن يكون في هذا المكان من الصف الأول وقمت فيه، ثم حضر الأمير، وتخلفت عنه، وآثرت به الأمير فلا بأس، بل ربما يكون أفضل من عدم الإيثار.
وما دمنا في الإيثار فإنه ينبغي أن نتكلم عليه فنقول: الإيثار أقسام هي:
-1 الإيثار بالواجب: حرام. 2 - الإيثار بالمستحب: مكروه.
-3 الإيثار بالمباح: مطلوب. 4 - الإيثار بالمحرم: حرام على المؤثِر والمؤثَر.
مثال الإيثار بالواجب : رجل عنده ماء لا يكفي إلا لوضوء رجل واحد، وهو يحتاج إلى وضوء، وصاحبه يحتاج إلى وضوء، فهنا لا يجوز أن يؤثره بالماء ويتيمم هو؛ لأن استعمال الماء واجب عليه وهو قادر، ولا يمكن أن يسقط عن نفسه الواجب من أجل أن يؤثر غيره به.
ومثال الإيثار بالمستحب : الإيثار بالمكان الفاضل كما لو آثر غيره بالصف الأول فهذا غايته أن نقول: إنه مكروه، أو خلاف الأولى.
ومثال الإيثار بالمباح : أن يؤثر شخصاً بطعام يشتهيه وليس مضطراً إليه، وهذا محمود.
وقوله: "لا قبوله" أي: لا يكره قبول الإيثار، فلو قلت لشخص: تقدم في مكاني في الصف الأول، فإنه لا يكره له أن يقبل ويتقدم.
وقوله: "وليس لغير المؤثر سبقه" ، أي: لا يحل لغير المؤثر - بفتح التاء - سبقه، أي سبق المؤثر. مثاله: لو آثر زيد عمراً بمكانه فسبق إليه بكر، فإنه لا يحل ذلك لبكر؛ لأن زيداً إنما آثر عمراً.
(1/446)
________________________________________
قوله: "وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة" ، يعني أن رفع المصلى الذي وضعه صاحبه ليصلي عليه ثم انصرف حرام، و"المصلى": ما يصلى عليه، مثل: السجادة. وصورة المسألة: رجل وضع سجادته في الصف، وخرج من المسجد فلا يجوز أن ترفع هذا المصلى.( والتعليل لذلك ) : أن هذا المصلى نائب عن صاحبه، قائم مقامه، فكما أنك لا تقيم الرجل من مكانه فتجلس فيه، فكذلك لا ترفع مصلاه.
ومقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان ، وهذا هو المذهب. ولكن الصحيح في هذه المسألة: أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش؛ لأن القاعدة: ما كان وضعه بغير حق فرفعه حق ، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح ، وإذا علم الله من نيتك أنه لولا هذا المصلى المفروش لكنت في مكانه، فإن الله قد يثيبك ثواب المتقدمين؛ لأنك إنما تركت هذا المكان المتقدم من أجل العذر.
وقوله: "ما لم تحضر الصلاة" أي: فإن حضرت الصلاة بإقامتها فلنا رفعه. لكن هل لنا أن نصلي عليه بدون رفع؟ الجواب: ليس لنا أن نصلي عليه بدون رفع؛ لأن هذا مال غيرنا، وليس لنا أن ننتفع بمال غيرنا بدون إذنه، ولكن نرفعه.
مسألة: يستثنى من القول الراجح من تحريم وضع المصلى؛ ما إذا كان الإنسان في المسجد، فله أن يضع مصلى بالصف الأول، أو أي شيء يدل على الحجز، ثم يذهب في أطراف المسجد لينام، أو لأجل أن يقرأ قرآناً، أو يراجع كتاباً، فهنا له الحق؛ لأنه ما زال في المسجد، لكن إذا اتصلت الصفوف لزمه الرجوع إلى مكانه؛ لئلا يتخطى رقاب الناس.
(1/447)
________________________________________
وكذلك يستثنى أيضاً ما ذكره المؤلف: بقوله: "ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به" ، فإذا حجز الإنسان المكان، وخرج من المسجد لعارض لحقه، ثم عاد إليه فهو أحق به، والعارض الذي يلحقه مثل أن يحتاج للوضوء، أو أصيب بأي شيء اضطره إلى الخروج، فإنه يخرج، وإذا عاد فهو أحق به.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلاً فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه. وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقياً، وهذا القول أصح ، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائباً فإنه يرفع.
مسألة: لو فرض أنه رجع قريباً أو بعيداً على قولنا: إنه ما دام العذر فهو معذور ، ووجد في مكانه أحداً فأبى أن يقوم، فحصل نزاع، فالواجب أن يدرأ النزاع وله أجر، ويطلب مكاناً آخر إلا إذا أمكن أن يفسح الناس بأن كان الصف فيه شيء من السعة، فهنا يقول: افسحوا . أن تحية المسجد واجبة
قوله: "ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما " ، ذهب كثير من أهل العلم: إلى أن تحية المسجد واجبة، والذي ترجح عندي أخيراً أن تحية المسجد سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
وقال بعض العلماء: تسن تحية المسجد لكل داخل مسجد إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف لمن دخل ليطوف، فإنه يستغنى بالطواف عن الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد الحرام لطواف العمرة والحج لم يصل ركعتين، أما من دخل ليصلي، أو ليستمع إلى علم أو ليقرأ القرآن، أو ما أشبه ذلك فإن المسجد الحرام كغيره من المساجد تحيته ركعتان .
قوله: "ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه" ، إذا قيل: لا يجوز فهي عند العلماء بمعنى يحرم، وعلى هذا فالكلام والإمام يخطب حرام.
وقوله: "إلا له" أي: للإمام. وقوله: "أو لمن يكلمه" ، أي: لمن يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.
(1/448)
________________________________________
قوله: "لمصلحة" قيد للمسألتين جميعاً، وهما من يكلم الإمام أو يكلمه الإمام، فلا يجوز للإمام أن يتكلم كلاماً بلا مصلحة، فلا بد أن يكون لمصلحة تتعلق بالصلاة، أو بغيرها مما يحسن الكلام فيه، وأما لو تكلم الإمام لغير مصلحة، فإنه لا يجوز. وإذا كان لحاجة فإنه يجوز من باب أولى، فمن الحاجة أن يخفى على المستمعين معنى جملة في الخطبة فيسأل أحدهم عنه، ومن الحاجة أيضاً أن يخطئ الخطيب في آية خطأ يحيل المعنى، مثل: أن يسقط جملة من الآية، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى.
والمصلحة دون الحاجة، فمن المصلحة مثلاً إذا اختل صوت مكبر الصوت فللإمام أن يتكلم، ويقول للمهندس: انظر إلى مكبر الصوت ما الذي أخله؟ وكذلك من يكلم الإمام للمصلحة والحاجة يجوز له ذلك.
مسألتان: الأولى: إذا عطس المأموم يوم الجمعة فإنه يحمد الله خفية، فإن جهر بذلك فسمعه من حوله فلا يجوز لهم أن يشمِّتوه.
الثانية: إذا عطس الإمام وحمد الله جهراً فهل يجب على من سمعه أن يشمِّته؟ الجواب: على القول بأنه يجب أن يشمِّته كل من سمعه كما قال ابن القيم، فالظاهر أنه إن سكت الإمام من أجل العطاس فلا بأس أن يشمَّت، وإن لم يسكت فلا؛ لأن الخطبة قائمة. والذي أراه في هذه المسألة أنه ينبغي للإمام أن يحمد سراً حتى لا يوقع الناس في الحرج، فإن حمد جهراً فإن استمر في الخطبة فلا يشمت؛ لأجل ألا يشغل عن استماع الخطبة، وإلا فلا بأس].
(1/449)
________________________________________
قوله: "ويجوز قبل الخطبة وبعدها" أي: يجوز الكلام قبل الخطبة، وبعد الخطبة، ولو بعد حضور الخطيب، ولو بعد الأذان ما دام لم يشرع في الخطبة، ويجوز كذلك بعد انتهاء الخطبة، وسواء كان ذلك بعد انتهاء الخطبة الأولى، أو بعد انتهاء الخطبة الثانية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد الحكم بما إذا كان الإمام يخطب، والمقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، ولكن ليس هذا الجواز على حد سواء؛ لأن الإنسان لو شرع يتكلم قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة، فربما يستمر به الأمر حتى يتكلم والإمام يخطب، فالأفضل عدم الكلام؛ لئلا يستمر به الكلام والإمام يخطب.
مسألة: بعض الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا شرع الإمام في الدعاء في حال الخطبة يجوز الكلام؛ لأن الدعاء ليس من أركان الخطبة، ( وهذا ) القول ضعيف, والصحيح: أنه ما دام الإمام يخطب، سواء في أركان الخطبة، أو فيما بعدها فالكلام حرام.
باب صلاة العيدين
ليس في الإسلام عيد سوى هذه الأعياد الثلاثة: الفطر، والأضحى، والجمعة, وكل من أقام عيداً لأي مناسبة، سواء كانت هذه المناسبة انتصاراً للمسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو انتصاراً لهم فيما بعد، أو انتصار قومية فإنه مبتدع.
مسألة: أسبوع المساجد والشجرة ونحوهما مما يقام ما القول فيها؟ أما أسبوع المساجد فبدعة؛ لأنه يقام باسم الدين ورفع شأن المساجد، فيكون عبادة تحتاج إقامته إلى دليل، ولا دليل لذلك. وأما أسبوع الشجرة فالظاهر أنه لا يقام على أنه عبادة، فهو أهون، ومع ذلك لا نراه. وأما أسبوع أو مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذا ليس عيداً؛ لأنه لا يتكرر، وفائدته واضحة وهي جمع المعلومات عن حياة هذا الشيخ ومؤلفاته، فحصل فيها نفع كبير.
مسألة: الحفلات التي تقام عند تخرُّج الطلبة، أو عند حفظ القرآن لا تدخل في اتخاذها عيداً لأمرين:
الأول: أنها لا تتكرر بالنسبة لهؤلاء الذين احتفل بهم.
(1/450)
________________________________________
الثاني: أن لها مناسبة حاضرة، وليست أمراً ماضياً.
قوله: "وهي فرض كفاية" ، أفاد المؤلف أنها فرض، وهذا القول الأول في المسألة. (و) القول الثاني: أنها سنّة، وهذا مذهب مالك والشافعي. (و) القول الثالث: أنها فرض عين على كل أحد، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يصلوا صلاة العيد، ومن تخلف فهو آثم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.، وهذا عندي أقرب الأقوال وهو الراجح.
قوله: "إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام" أي: إذا ترك صلاة العيد أهل بلد فإن الإمام يقاتلهم، أي: إن لم يفعلوها، فإذا علم الإمام أن هؤلاء تركوها، ودعاهم إلى فعلها، ولكنهم أصروا على الترك، فإنه يجب عليه أن يقاتلهم حتى يصلوا. والمسألة فيها شيء من النظر.
مسألة: وإن ترك صلاة عيد من ليسوا أَهْلَ بلدٍ أي: جماعة في البر، وهم قريبون من المدينة، فإنهم لا يقاتلون؛ لأنها إنما تجب على أهل القرى والأمصار كالجمعة، أما البدو الرحّل وما أشبههم فلا تقام فيهم صلاة العيد كما لا تقام فيهم صلاة الجمعة. ولا يجوز أن يقاتلهم إلا الإمام أو نائبه.
قوله: "ووقتها كصلاة الضحى"، أي: صلاة العيد وقتها كوقت صلاة الضحى، ومعلوم أن صلاة الضحى تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريباً .
قوله: "وآخره الزوال" أي: آخر وقت العيد زوال الشمس عن كبد السماء.
قوله: "فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد" أي: فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال فإنهم لا يصلون، وإنما يصلون من الغد في وقت صلاة العيد.
والصلوات تنقسم في قضائها إلى أقسام:
الأول: ما يقضى على صفته إذا فات وقته من حين زوال العذر الشرعي، مثل الصلوات الخمس إذا فاتت، فإنك تقضيها بعد زوال العذر، فإن كان العذر نوماً فتقضيها إذا استيقظت، وإن كان نسياناً قضيتها إذا ذكرت
(1/451)
________________________________________
الثاني: ما لا يقضى إذا فات كالجمعة، فإن خرج وقتها قبل أن يصليها الناس لم يقضوها وصلوا ظهراً، وإن فاتت الإنسان مع الجماعة فهو لا يقضيها أيضاً، وإنما يصلي بدلها ظهراً.
الثالث: ما لا يقضى إذا فات وقته إلا في وقته من اليوم الثاني، وهو صلاة العيد، فإنها لا تقضى في يومها، وإنما تقضى في وقتها من الغد.
الرابع: ما لا يقضى أصلاً كصلاة الكسوف، فلو لم يعلموا إلا بعد انجلاء الكسوف لم يقضوا، وهكذا نقول: كل صلاة ذات سبب إذا فات سببها لا تقضى.
قوله: "وتسن في صحراء" ، أي: يسن إقامتها في الصحراء خارج البلد، وينبغي أن تكون قريبة؛ لئلا يشق على الناس.
قوله: "وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر" ، أي: ويسنّ تقديم صلاة الأضحى، وعكسه الفطر، أي: تأخير صلاة الفطر.
قوله: "وأكله قبلها" ، أي: يسن أكل الإنسان قبل صلاة عيد الفطر.
قوله: "وعكسه في الأضحى إن ضحى" أي: عكس الأكل، وهو ترك الأكل في الأضحى، فلا يأكل قبل صلاة الأضحى حتى يضحي.
وقوله: "إن ضحى" ، فُهم منه أنه إذا لم يكن لديه أضحية فإنه لا يشرع له الإمساك عن الأكل قبل الصلاة، بل هو بالخيار، فلو أكل قبل أن يخرج إلى الصلاة فإننا لا نقول له: إنك خالفت السنّة.
قوله: "وتكره في الجامع بلا عذر" أي: تكره إقامة صلاة العيد في جامع البلد بلا عذر. وظاهر كلام المؤلف أنها تكره في الجامع، سواء في مكة، أو المدينة، أو غيرهما من البلاد. أما في المدينة فظاهر أن المدينة كغيرها، يسنّ لأهل المدينة أن يخرجوا إلى الصحراء، ويصلوا العيد، هذا هو الأفضل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ويكره أن يصلوا في المسجد النبوي إلا لعذر، لكن ما زال الناس من قديم الزمان يصلون العيد في المسجد النبوي. (و) أما في مكة فلا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الذين تولوا مكة كانوا يخرجون عن المسجد الحرام، ولهذا استثنى في "الروض المربع" مكة المشرفة.
(1/452)
________________________________________
وقوله: "بلا عذر" ، أفادنا - - أنه إذا صلوا في الجامع لعذر فلا كراهة. والعذر مثل: المطر، والرياح الشديدة، والخوف كما لو كان هناك خوف لا يستطيعون أن يخرجوا معه عن البلد.
قوله: "ويسنّ تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح" ، أي: يسنّ أن يبكّر المأموم إلى صلاة العيد من بعد صلاة الفجر، أو من بعد طلوع الشمس إذا كان المصلى قريباً.
وقوله: "ماشياً" ، أي: يسنّ أن يخرج ماشياً، لا على سيارة، ولا على حمار، ولا على فرس، ولا على بعير، ولكن إذا كان هناك عذر كبعد المصلى، أو مرض في الإنسان، أو ما أشبه ذلك، فلا حرج أن يخرج إليها راكباً.
قوله: "وتأخر إمام إلى وقت الصلاة" أي: يسنّ أن يتأخر الإمام إلى وقت الصلاة.
وكذلك نقول في الجمعة: إن السنّة للإمام أن يتأخر، وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة" ، فهؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم.
قوله: "على أحسن هيئة" ، أي: يسنّ أن يخرج على أحسن هيئة، وهذا يشمل الإمام والمأموم، في لباسه وفي هيئته كأن يحف الشارب، ويقلّم الأظفار، ويتنظّف، ويلبس أحسن ثيابه. وهذا يختلف باختلاف الناس.
قوله: "إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه" أي: ينبغي أن يخرج المعتكف في ثياب اعتكافه، ولو كانت غير نظيفة، وهذا القول في غاية الضعف ، والصحيح: أن المعتكف كغيره يخرج إلى صلاة العيد متنظّفاً لابساً أحسن ثيابه.
قوله: "ومن شرطها" ، أي: من شرط صلاة العيد.
قوله: "استيطان" ، أي: أن تقام في جماعة مستوطنين، فخرج بذلك المسافرون والمقيمون؛ لأن الناس على المشهور من المذهب ثلاثة أقسام:
-1 مسافر 2 - مقيم. 3- مستوطن
(1/453)
________________________________________
فالمسافرون لا يشرع في حقهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأما المقيمون فكذلك على المذهب؛ لأنهم ليسوا من أهل إقامة الجمعة فلا يكونون من أهل إقامة العيد. فلو فرضنا أن جماعة تبلغ مائتين في بلد غير إسلامي، وكانوا قد أقاموا للدراسة لا للاستيطان، وصادفهم العيد فإنهم لا يقيمون صلاة العيد؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، ولكن في هذا القول نظراً، ولهذا كان الناس الآن على خلاف هذا القول، فالذين أقاموا للدراسة في بلاد الكفر التي لا تقام فيها صلاة العيد يقيمون الجمعة، ويقيمون صلاة العيد، ويرون أنهم لو تخلفوا عن ذلك لكان في هذا مطعن عليهم في أنهم لا يقيمون شعائر دينهم في مناسباتها.
قوله: "وعدد الجمعة" أي: ومن شرطها أيضاً عدد الجمعة، وعدد الجمعة على المشهور من المذهب أربعون رجلاً من المستوطنين أيضاً، وقد سبق لنا أن القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثة، فهذا يبنى على ذاك، فلا بد من عدد يبلغون ثلاثة، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم، فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد، أما الثلاثة فيقيمونها.
قوله: "لا إذن إمام" أي: لا يشترط إذن الإمام لإقامة صلاة العيد ، وقد سبق لنا في الجمعة أنه ينبغي أن يشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضاً نقول فيه ما نقول في الجمعة.
(1/454)
________________________________________
قوله: "ويسنّ أن يرجع من طريق آخر" ، أي: يسن إذا خرج من طريق لصلاة العيد أن يرجع من طريق آخر اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعدَّى بعضهم هذا الحكم إلى الجمعة، وقالوا: يسنّ أن يأتي إلى الجمعة من طريق، ويرجع من طريق أخرى. وعدَّى بعض العلماء هذا الحكم إلى سائر الصلوات، فقال: يسنّ أن يأتي للصلاة من طريق، ويرجع من طريق آخر. وقال بعض العلماء: يسنّ لكل من قصد أمراً مشروعاً أن يذهب من طريق، ويرجع من طريق آخر. والصواب: مع من يرى أن مخالفة الطريق خاصةٌ بصلاة العيدين فقط، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - .
قوله: "ويصليها ركعتين قبل الخطبة" ، أي: يصلى صلاة العيد ركعتين قبل الخطبة، فلا يقدم الخطبة على الصلاة.
قوله: "يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً" ، أي: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبّر ست تكبيرات ، ثم يستعيذ ويقرأ .
قوله: "وفي الثانية قبل القراءة خمساً" ، أي: يكبّر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، ليست منها تكبيرة القيام . والدليل على هذه التكبيرات الزوائد: أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك وإسناده حسن كما قال في الروض، ولكن لو أنه خالف فجعلها خمساً في الأولى والثانية، أو سبعاً في الأولى والثانية حسب ما ورد عن الصحابة، فقد قال الإمام أحمد : اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز، أي: أن الإمام أحمد يرى أن الأمر في هذا واسع، وأن الإنسان لو كبّر على غير هذا الوجه مما جاء عن الصحابة، فإنه لا بأس به، وهذه جادة مذهب الإمام أحمد نفسه أنه يرى أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل قاطع، فإنه كله يكون جائزاً؛ لأنه يعظم كلام الصحابة ويحترمه، فيقول: إذا لم يكن هناك نص فاصل يمنع من أحد الأقوال فإن الأمر في هذا واسع .
(1/455)
________________________________________
قوله: "يرفع يديه مع كل تكبيرة" ، أما تكبيرة الإحرام، فلا شك أنه يرفع يديه عندها ، وأما بقية التكبيرات فهي موضع خلاف بين العلماء: فالقول الأول: يرفع يديه. (و) القول الثاني: لا يرفع يديه. والصواب: أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفي تكبيرات الجنازة أيضاً.
قوله: "ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلّم تسليماً كثيراً." ، أي: ويقول بين كل تكبيرة وأخرى: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً... إلخ. وهذا الذكر يحتاج إلى نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نص في ذلك. وقال بعض العلماء: يكبّر بدون أن يذكر بينهما ذكراً. وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسع، إن ذكر ذكراً فهو على خير، وإن كبّر بدون ذكر، فهو على خير.
قوله: "وإن أحب قال غير ذلك" ، أي: أن الأمر واسع، إن أحب قال غير ذلك، وإن أحب أن لا يقول شيئاً فلا بأس، المهم أن يكبّر التكبيرات الزوائد.
قوله: "ثم يقرأ جهراً" ، أي: يقرأ الفاتحة وما بعدها من السور جهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، وهكذا كان يقرأ جهراً في كل صلاة جامعة، كما جهر في صلاة الجمعة، وجهر في صلاة الكسوف؛ لأنها جامعة، وكذلك في الاستسقاء.
قوله: "في الأولى بعد الفاتحة بسبّح، وبالغاشية في الثانية" ، و ( هذا ثابت ) عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه أنه كان يقرأ في الأولى بـ{ ق والقرآن المجيد}، وفي الثانية بـ{إقتربت الساعة وإنشق القمر } ، ولهذا ينبغي للإمام إظهاراً للسنّة وإحياء لها، أن يقرأ مرة بهذا، ومرةً بهذا، ولكن يراعي الظروف.
قوله: "فإذا سلم خطب خطبتين" ، أي: إذا سلم الإمام من الصلاة يخطب خطبتين، وإن خطب غيره فلا بأس كالجمعة، فيجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر.
(1/456)
________________________________________
وقوله: "خطبتين" هذا ما مشى عليه الفقهاء - رحمهم الله - أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر، ظاهره أنه كان يخطب خطبتين ، ومن نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة ، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن وهذا احتمال. ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن ولكن أراد أن يخصهنّ بخصيصة، ولهذا ذكرهنّ ووعظهنّ بأشياء خاصة بهنّ.
قوله: "كخطبتي الجمعة" ، أي: يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام، لا في وجوب الحضور، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها ، وأما خطبتا العيد فلا يجب الحضور إليهما؛ بل للإنسان أن ينصرف من بعد الصلاة فوراً لكن الأفضل أن يبقى ، وإذا بقي حرم عليه الكلام. وقال بعض أهل العلم: لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين؛ لأنه لو وجب الإنصات لوجب الحضور، ولحرم الانصراف، فكما كان الانصراف جائزاً، وكان الحضور غير واجب، فالاستماع ليس بواجب. ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حرم الكلام من أجل التشويش، لا من أجل الاستماع، وبناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه؛ لأنه لا يشوش على أحد. وأما على القول الذي مشى عليه المؤلف: فالاستماع واجب ما دام حاضراً.
قوله: "يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع" ، يعني: يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متتابعات والخطبة الثانية بسبع تكبيرات متتابعات. وقال بعض العلماء: إنه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، فيجمع بين التكبير والحمد.
(1/457)
________________________________________
قوله: "يحثهم" الفاعل الخطيب، والمفعول به يعود على الناس، أي: يحث الناس.
قوله: "على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون " أي: يحث الخطيب الناس على صدقة الفطر، ويبيّن لهم ما يخرجون، فيبيّن لهم النوعية والقدر والصفة . هكذا ذكر المؤلف أنه يبيّن زكاة الفطر في خطبة العيد، ولكن الصواب: أنه يبين ذلك في خطبة آخر جمعة من رمضان، ويبين في خطبة العيد حكم تأخير صدقة الفطر عن صلاة العيد.
قوله: "ويرغبهم في الأضحى في الأضحية." ، أي: يرغِّب الناس في خطبة عيد الأضحى في الأضحية، ويبيّن لهم فضلها، وأجرها وثوابه وما يتعلق بها.
قوله: "ويبيّن لهم حكمها" ، يعني: هل هي سنّة أو واجبة، وكذلك يبيّن لهم ما يضحَّى به، وهو ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم. ويبيّن لهم أيضاً مقدار السن مما يضحّى .
قوله: "والتكبيرات الزوائد " الزوائد أي: على الواجبة في الصلاة، وهي في الركعة الأولى ست على ما مشى عليه المؤلف، وفي الثانية خمس.
قوله: "والذكر بينها" سواء في ذلك ما ذكره المؤلف من قوله: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً..." إلخ، أو أي ذكر آخر يقوله الإنسان من عند نفسه هو سنّة. وقد سبق البحث في كونه سنّة أو ليس بسنة.
قوله: "والخطبتان سنّة" ، يعني: أن خطبتي العيد سنّة. ولو قال أحد بوجوب الخطبة، أو الخطبتين في العيدين لكان قولاً متوجهاً .
قوله: "ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها" ، أي: يكره لمن حضر صلاة العيد أن يتطوع بنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضعها، أي: موضع صلاة العيد، فيكره التنفل قبل الصلاة أو بعدها في الموضع، أما في بيته فلا كراهة.
(1/458)
________________________________________
وقول المؤلف: "يكره" ، ظاهره أنه مكروه للإمام وغير الإمام ، وقال بعض العلماء: إن الصلاة غير مكروهة في مصلى العيد لا قبل الصلاة ولا بعدها ، وهذا مذهب الشافعي في هذه المسألة ، وهو الصواب. وقال بعض العلماء: تكره الصلاة بعدها لا قبلها؛ [لأن المشروع أن ينصرف. وقال بعض العلماء: تكره قبلها لا بعدها. وبعض العلماء قال: يكره للإمام دون المأموم، وهذا قول للشافعي، أعني التفريق بين الإمام وغيره. والصحيح أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها، فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنّة أن تصلي، فقد يقال: إن بقاء الإنسان يكبّر الله قبل الصلاة أفضل، إظهاراً للتكبير والشعيرة، وهذا في النفل المطلق.
وأما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقا , لأن مصلى العيد مسجد له أحكام المساجد، وأنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأنه لا نهي عنهما بلا إشكال، وأما أن يتنفل بعدهما فنقول: لا بأس به، لكن الأفضل للإمام أن يبادر بصلاة العيد إن كان قد دخل وقتها لئلا يحبس الناس، وأما المأموم فالأفضل له إذا صلى تحية المسجد أن يتفرغ للتكبير والذكر.
والسنّة للإمام أن لا يأتي إلا عند الصلاة، وينصرف إذا انتهت فلا يتطوع قبلها ولا بعدها اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما المأموم فالأفضل له أن يتقدم ليحصل له فضل انتظار الصلاة.
قوله: "ويسنّ لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها". هذا هو المذهب أن قضاءها سنّة، وأن الأفضل أن يكون على صفتها. وعلى هذا فلو ترك القضاء فلا إثم عليه. ولو قضاها كراتبة من الرواتب فجائز؛ لأن كونها على صفتها على سبيل الأفضلية وليس بواجب. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.
(1/459)
________________________________________
فإن قال قائل: أليست الجمعة ذات اجتماع على وجه معين، ومع ذلك تقضى؟ فالجواب: الجمعة لا تقضى، وإنما يصلى فرض الوقت، وهو الظهر، وصلاة العيد أيضاً نقول: فات الاجتماع فلا تقضى، وليس لهذا الوقت فرض، ولا سنّة أيضاً. فهي صلاة شُرعت على هذا الوجه، فإن أدركها الإنسان على هذا الوجه صلاها، وإلا فلا.
وبناءً على هذا القول يتضح أن الذين في البيوت لا يصلونها، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يخرجوا إليها، وأمر النساء العواتق، وذوات الخدور، وحتى الحيَّض أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين ، ولم يقل: ومن تخلف فليصلِّ في بيته.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقضيها فإن كنا مصيبين فهذا هو المطلوب، وإن كنا غير مصيبين فإننا مجتهدون؟ فالجواب: نعم، الإنسان إذا اجتهد وفعل العبادة على اجتهاد فله أجر على اجتهاده وعلى فعله أيضاً، لكن إذا تبيّنت السنّة، فلا تمكن مخالفتها.
قوله: "ويسنّ التكبير المطلق في ليلتي العيدين" ، أي: يسنّ التكبير المطلق أي المشروع في كل وقت للرجال والنساء والصغار والكبار في البيوت والأسواق والمساجد وغيرها إلا في الأماكن التي ليست محلاً لذكر الله تعالى.
وأفادنا المؤلف أن التكبير ينقسم إلى قسمين:- مطلق. و مقيد.
فالمطلق سبق القول فيه. والمقيد هو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
وقوله: "في ليلتي العيدين" ، أي: عيدي الفطر والأضحى وذلك من غروب الشمس، فإذا غابت الشمس آخر يوم من رمضان سنّ التكبير المطلق من الغروب إلى أن تفرغ الخطبة، لكن إذا جاءت الصلاة فسيصلي الإنسان ويستمع الخطبة بعد ذلك. ولهذا قال بعض العلماء: من الغروب إلى أن يكبّر الإمام للصلاة.
ولم يفصح المؤلف بحكم الجهر والإسرار في هذا التكبير ولكن نقول: إن السنّة أن يجهر به إظهاراً للشعيرة، لكن النساء يكبرن سراً إلا إذا لم يكن حولهن رجال فلا حرج في الجهر.
(1/460)
________________________________________
قوله: "وفي فطر آكد" ، أي: التكبير في عيد الفطر آكد من التكبير في عيد الأضحى، وقال بعض العلماء: إن التكبير في الأضحى أوكد. (( والصواب: أن )) كل واحد منهما أوكد من الثاني من وجه؛ فمن جهة أن تكبير الفطر مذكور في القرآن يكون أوكد، ومن جهة أن التكبير في عيد الأضحى متفق عليه، وأنَّ فيه تكبيراً مقيداً يقدم على أذكار الصلاة، يكون من هذه الناحية أوكد.
قوله: "وفي كل عشر ذي الحجة" ، أي: ويسنّ التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة. وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر اليوم التاسع، وسميت عشراً، وهي تسع من باب التغليب.
واختلف في محل هذا التكبير المقيد، هل هو قبل الاستغفار وقبل "اللهم أنت السلام ومنك السلام"، أو بعدهما؟ فقال بعض العلماء: يكون قبلهما ، فإذا سلم الإمام وانصرف، كبّر رافعاً صوته حسب ما سيذكر المؤلف، ثم يستغفر ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام". والصحيح: أن الاستغفار، وقول: "اللهم أنت السلام" مقدم .
قوله: "والمقيد عقب كل فريضة في جماعة" ، أفادنا المؤلف أن المقيد يختص بالفرائض، وهي الصلوات الخمس، والجمعة؛ لقوله: "عقب كل فريضة" ، وعلى هذا فالنافلة لا يسنّ بعدها تكبير مقيد.
وأفادنا قوله: "في جماعة" أنه لو صلاها منفرداً، فلا يسن له التكبير المقيد. وكذا النساء في بيوتهن لا يسن لهن تكبير مقيد؛ لأنهن غالباً لا يصلين جماعة. والإنسان الذي تفوته الصلاة في الجماعة ويصليها منفرداً لا يسنّ له أن يكبر التكبير المقيد. وكذلك قيدوا ذلك بالمؤداة فخرج به المقضية. فالشروط ثلاثة:
-1 أن تكون الصلاة فريضة.
-2 أن تكون جماعة.
-3 أن تكون مؤداة.
(1/461)
________________________________________
فلو صلى وحده، أو صلى نافلة، أو صلى قضاءً لم يشرع له التكبير المقيد، حتى ولو كانوا جماعة. وقال بعض العلماء: إن التكبير المقيّد سنّة لكل مصلٍّ، فريضة كانت الصلاة أو نافلة، مؤداة أو مقضية، للرجال وللنساء في البيوت. والقول الأول أخص، وهذا أعم. وقال بعض العلماء: إنَّه سنّة في الفرائض، مؤداة كانت أم مقضية، انفراداً كانت أو جماعة، دون النوافل. والمسألة إذا رأيت اختلاف العلماء رحمهم الله فيها بدون أن يذكروا نصاً فاصلاً فإننا نقول: الأمر في هذا واسع. فإن كبّر بعد صلاته منفرداً فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن الأمر في هذا واسع والحمد لله.
قوله: "من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق". ، بيّن المؤلف في هذا وقت ابتداء التكبير المقيد، فابتداؤه من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، فيكبّر ثلاثاً وعشرين صلاة. والتكبير باعتبار التقييد والإطلاق على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما فيه تكبير مطلق فقط.
الثاني: ما فيه تكبير مقيد فقط.
الثالث: ما اجتمع فيه الأمران المقيد والمطلق.
فالتكبير المطلق: في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى في عشر ذي الحجة إلى أن ينتهي الإمام من خطبته. ويجتمع المقيد والمطلق من فجر يوم عرفة إلى أن تنتهي خطبة صلاة العيد يوم النحر. والتكبير المقيد: من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق. والصحيح في هذه المسألة: أن التكبير المطلق في عيد الأضحى ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
والصواب: أن أيام التشريق ويوم النحر فيها ذكر مطلق، كما أن فيها ذكراً مقيداً. وعلى هذا فالتكبير ينقسم إلى قسمين فقط:
-1 مطلق. -2 مطلق ومقيد.
فالمطلق: ليلة عيد الفطر، وعشر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة. والمطلق والمقيد: من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
(1/462)
________________________________________
قوله: "وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد" ، أي: إن نسي التكبير المقيد، فالضمير هنا يعود على بعض مرجعه؛ لأن مرجعه يعود على التكبير، لكن المراد بعض التكبير وهو المقيد، أي: إن نسي التكبير المقيد بعد الصلاة قضاه، فلو أنه لما سلم من صلاته استغفر، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" وسبّح ناسياً التكبير، فنقول: يقضيه إلا في ثلاث أحوال:
-1 ما لم يحدث.
-2 أن يخرج من المسجد.
-3 أن يطول الفصل. ( وهذا ماقرره المؤلف ). والراجح : أن هذا التكبير المقيد يسقط بطول الفصل . أما الحدث وخروجه من المسجد، فإنه لايسقط بهما إلا إذا طال الفصل . فإن لم يطل الفصل فإن التكبير لايسقط .
قوله: "ولا يسن عقب صلاة عيد" الضمير يعود على التكبير المقيد؛ لأننا نتكلم عن المقيد، فلو صلى العيد، وقال: أريد أن أكبِّر، قلنا: لا تكبر؛ لأنه إذا سلم الإمام من صلاة العيد قام إلى الخطبة وتفرغ الناس للاستماع والإنصات، ولا يكبرون.
قوله: "وصفته شَفْعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" . ، هذه المسألة - أي: صفة التكبير - فيها أقوال ثلاثة لأهل العلم:
الأول: أنه شفع كما قال المؤلف: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" .
الثاني: أنه وتر، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
الثالث: أنه وتر في الأولى، شفع في الثانية، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
والمسألة ليس فيها نص يفصل بين المتنازعين من أهل العلم، وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة، إن شئت فكبر شفعاً، وإن شئت فكبر وتراً، وإن شئت وتراً في الأولى وشفعاً في الثانية.
(1/463)
________________________________________
مسألة: قال في الروض: "ولا بأس بقوله لغيره: تقبّل الله منا ومنك كالجواب" ، أي: في العيد، لا بأس أن يقول لغيره: تقبّل الله منّا ومنك، أو عيد مبارك، أو تقبّل الله صيامك وقيامك، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا ورد من فعل بعض الصحابة وليس فيه محذور.
باب صلاة الكسوف
الكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه. والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: "انحجاب ضوء أحد النيرين" ، أي: الشمس أو القمر "بسبب غير معتاد" .
مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟ الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها. ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.
ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟ فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.
مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" ، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.
(1/464)
________________________________________
قوله: "تسن جماعة، وفرادى" ، أفادنا المؤلف بقوله: "تسن" أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا ، هذا وهو المشهور عند العلماء. وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة . وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف. فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب. وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.
وقوله: "جماعة وفرادى" ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى. أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع.
قوله: "إذا كسف أحد النيرين" ، أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.
قوله: "ركعتين يقرأ في الأولى جهراً" ، بيَّن المؤلف في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.
قوله: "بعد الفاتحة سورة طويلة"، لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام .
قوله: "ثم يركع طويلاً" أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً. وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.
(1/465)
________________________________________
فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟ فالجواب: يكرر التسبيح "سبحان ربي العظيم"، "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، "سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.
قوله: "ثم يرفع" ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.
قوله: "ويسمع ويحمد " ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده، (و) يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.
قوله: "ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى" ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة. لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟ الجواب: جاء في الحديث "دون الأولى" ، فينظر إلى هذا الدون. والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.
قوله: "ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول" ، ونقول هنا في قوله: "دون الأول" كما قلنا في القراءة.
قوله: "ثم يرفع" أي: ويسمع ويحمد.وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام،بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع .
قوله: "ثم يسجد سجدتين طويلتين" ، أي: بقدر الركوع. وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما. والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.
(1/466)
________________________________________
قوله: "ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل" أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى. ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟ الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.
قوله: "ثم يتشهد ويسلم" ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة. وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان. وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.
قوله: "فإن تجلى الكسوف فيها" أي: كسوف الشمس، أو القمر. وقوله: "فيها" أي: في الصلاة. ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.
قوله: "أتمها خفيفة" ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق. فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.
مسائل: الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟ الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.
الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى.
الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟ الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.
(1/467)
________________________________________
قوله: "وإن غابت الشمس كاسفة" ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.
مسائل: الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب. ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر.
الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.
الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.
الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.
قوله: "أو طلعت والقمر خاسف" ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟ الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع. فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.
مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟ الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: "أو طلعت والقمر خاسف" إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي. والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.
(1/468)
________________________________________
قوله: "أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل" ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة: القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة. (و) القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف، (و) القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وهو الراجح.
مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟ الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.
قوله: "وإن أتى" ، أي: المصلي.
قوله: "في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز" ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة"، أخرجه مسلم ، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط" ، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط. وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.
(1/469)
________________________________________
ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب: "أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات" ، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى. وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.
مسائل: الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟ يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.
الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟ الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها. وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع. وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها. والقول الصحيح الأول.
الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟ والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء: القول الأول: أنها لا تعاد. (و) القول الثاني: أنها تعاد على صفتها. (و) القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين. وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.
(1/470)
________________________________________
الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال: "الصلاة جامعة" مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا. وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان. وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين "الصلاة جامعة". لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف .
باب صلاة الإستسقاء
قوله: "إذا أجدبت الأرض" ، أي: خلت من النبات، وضده الإخصاب إذا أخصبت، أي: ظهر نباتها وكثر.
قوله: "وقحط المطر"، أي: امتنع، ولم ينزل، ولا شك أنه يكون في ذلك ضرر عظيم على أصحاب المواشي، وعلى الآدميين أيضاً، فلهذا صارت صلاة الاستسقاء في هذه الحال سنة مؤكدة.
قوله: "إذا أجدبت الأرض وقحط المطر" ، ظاهره ولو كان ذلك في غير أرضهم. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستسقي إلا لأرضه وما حولها مما يتضرر به البلد، أما ما كان بعيداً فإنه لا يضرهم، وإن كان يضر غيرهم، ما لم يأمر به الإمام فتصلى.
والاستسقاء الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد على أوجه متعددة ، وليس لازماً أن تكون على الصفة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام أي: طلب السُقيا، فللناس أن يستسقوا في صلواتهم، فإذا سجد الإنسان دعا الله، وإذا قام من الليل دعا الله عز وجل.
قوله: "صلوها جماعة وفرادى" ، أي: صلاة الاستسقاء وستأتي صفتها، والأفضل أن تكون جماعة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/471)
________________________________________
قوله: "وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد" . ، وعلى هذا فتسنّ في الصحراء؛ لأن صلاة العيد تسنّ في الصحراء. ويكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، ويقرأ بسبّح والغاشية .ولكنها تخالف العيد في أنها سنّة، والعيد فرض كفاية.
قوله: "وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم ، وترك التشاحن، والصيام والصدقة " ، يحتمل أن يريد به الإمام الذي يصلي بهم صلاة الاستسقاء، ويحتمل أن يراد به الإمام الأعظم وهو السلطان ، والمعنى الأول أقرب.
قوله: " والصيام" ، أي: يأمرهم أن يصوموا. قال بعض العلماء: يأمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرج في اليوم الثالث. وقال بعضهم: يجعل الاستسقاء يوم اثنين أو خميس ، هكذا قال المؤلف . ولكن في هذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الاستسقاء لم يأمر أصحابه أن يصوموا.
أما ما ذكره المؤلف أولاً من التوبة من المعاصي، والخروج من المظالم فهذه مناسبة، لكن الصيام طاعة تحتاج إلى إثباتها بدليل، وإذا كان الأمر قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أصحابه بالصيام، فلا وجه للأمر به. لكن نقول: لو اختار يوم الاثنين ولم يجعله سنة راتبة دائماً من أجل أن يصادف صيام بعض الناس، لو قيل بهذا لم يكن فيه بأس. لكن كوننا نجعله سنة راتبة لا يكون الاستسقاء إلا في يوم الاثنين، أو نأمر الناس بالصوم، فهذا فيه نظر.
قوله: "ويعدهم يوماً يخرجون فيه" . أي: يقول: سنخرج في يوم كذا، ويحسن أيضاً أن يعيِّن الزمن من هذا اليوم فيقول: في ساعة كذا؛ ليتأهبوا على وجه ليس فيه ضرر عليهم.
(1/472)
________________________________________
قوله: "ويتنظف، ولا يتطيب" ، وعللوا ذلك: بأنه يوم استكانة وخضوع، والطيب يشرح النفس ، ويجعلها تنبسط أكثر، والمطلوب في هذا اليوم الاستكانة والخضوع . وهذا أيضاً مما في النفس منه شيء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الطيب، وكان يحب الطيب، ولا يمنع إذا تطيب الإنسان أن يكون متخشعاً مستكيناً لله - عز وجل -، ولهذا لو أراد الإِنسان أن يدعو الله بغير هذه الحال، لا نقول: الأفضل ألا تطيب من أجل أن تكون مستكيناً لله.
قوله: "ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً" ، هذه أوصاف تدل على أن الإنسان لا يخرج في فرح وسرور؛ لأن المقام لا يقتضيه.
قوله: "ومعه أهل الدين والصلاح، والشيوخ، والصبيان المميزون " ، لأن هؤلاء أقرب إلى إجابة الدعوة .
قال في الروض : "وأبيح التوسل بالصالحين" ، وهذه عبارة على إطلاقها فيها نظر، ولكنهم يريدون بذلك - رحمهم الله -: التوسل بدعاء الصالحين؛ لأن دعاء الصالحين أقرب إلى الإجابة من دعاء غير الصالحين. والتوسل بدعاء الصالحين مقيد بعدم الفتنة؛ بأن يكون دعاؤه سبباً لفتنته هو، أو لفتنة غيره، فإن خيف من ذلك ترك. وأما التوسل بالصالحين بذواتهم فهذا لا يجوز .
قوله: "وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا" ، أهل الذمة هم: الذين بَقُوا في بلادنا، وأعطيناهم العهد والميثاق على حمايتهم ونصرتهم بشرط أن يبذلوا الجزية. فإذا طلب أهل الذمة أن يستسقوا بأنفسهم منفردين عن المسلمين بالمكان لا باليوم، فإنه لا بأس به، (أما إذا طلبوا أن) ينفردوا بيوم، فإننا (نمنعهم) ولا نوافقهم؛ لأنه ربما ينزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه فيكون في ذلك فتنة، ويقال: هم على حق. ومثل ذلك أهل البدع، لو أن أهل البدع طلبوا منَّا أن ينفردوا بمكان أُذِن لهم، فإن طلبوا أن ينفردوا بزمان منعناهم؛ لأنه إذا منعنا أهل الذمة مع ظهور كفرهم فمنعنا لأهل البدع من باب أولى.
(1/473)
________________________________________
مسألة: هل أهل الذمة كل كافر عقدنا معه الذمة، أو يختص بجنس معين من الكفار؟ الجواب: المذهب: أنه يختص بجنس معين من الكفار، وهم ثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس. والصحيح: أنه عام لكل كافر أبى الإِسلام، ورضخ للجزية، فإننا نعقد معه الذمة .
قوله: "فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة" , أفادنا أن الخطبة تكون بعد الصلاة كالعيد، ولكن قد ثبتت السنة أن الخطبة تكون قبل الصلاة ، كما جاءت السنة بأنها تكون بعد الصلاة . وعلى هذا فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة، وبعدها ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين، فإما أن يخطب قبل، وإما أن يخطب بعد.
قوله: "يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد" ، سبق أن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير على المشهور من المذهب، وأن في المسألة خلافاً، فمن العلماء من قال: يفتتحها بالحمد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع خطبه وهكذا في خطبة الاستسقاء. بل لو قال قائل: إن خطبة الاستسقاء تُبدأ بالحمد بخلاف خطبة العيد لكان متوجهاً.
قوله: "ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به " الاستغفار هو: طلب المغفرة، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إننا نستغفرك، وما أشبه ذلك. وقوله: "وقراءة الآيات التي فيها الأمر به" أي: مثل قوله تعالى: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) .
(1/474)
________________________________________
قوله: "ويرفع يديه، فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: يرفع الإمام يديه ، وكذلك المستمعون يرفعون أيديهم . وينبغي في هذا الرفع أن يبالغ فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبالغ فيه حتى يُرى بياض إبطيه، ولا يرى البياض إلا مع الرفع الشديد حتى إنه جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل ظهورهما نحو السماء" . واختلف العلماء في تأويله: فقال بعض العلماء: يجعل ظهورهما نحو السماء. وقال بعض العلماء: بل رفعهما رفعاً شديداً حتى كان الرائي يرى ظهورهما نحو السماء؛ لأنه إذا رفع رفعاً شديداً صارت ظهورهما نحو السماء. وهذا هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية ، وذلك لأن الرافع يديه عند الدعاء يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره.
قوله: "ومنه: اللهم اسقنا غيثاً مغيثا إلى آخره ً" . قوله: "إلى آخره" يعني آخر الدعاء، وذكره في "الروض المربع" فقال: "هنيئاً مريئاً، غدقاً مجللاً، عاماً سَحًّا، طبقاً دائماً، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين" .
مسألة: يسن على المذهب: أن يقلب رداءه في أثناء الخطبة، ويستقبل القبلة ويدعو. وقال بعض العلماء: إنما يكون القلب بعد الدعاء؛ تفاؤلاً بأن الله أجاب الدعاء، وأنه سيقلب الحال من الشدة إلى الرخاء.
قوله: "وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله" ، الضمير يعود على الناس، أي: إن سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذه الحال لكانوا مبتدعين؛ لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السُقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم .
(1/475)
________________________________________
قوله: "وينادى الصلاة جامعة" ، ( أي ) : إذا جاء وقت صلاة الاستسقاء، وارتفعت الشمس قيد رمح يُنادى: الصلاةُ جامعة؛ ليحضر الناس؛ قياساً على صلاة الكسوف. والمذهب: يرون أنه ينادى للكسوف، والعيد، والاستسقاء. ولكن ما ذكره الأصحاب في المناداة للعيد، والاستسقاء، ضعيف جداً .
قوله: "وليس من شرطها إذن الإِمام" ، أي: ليس من شرط إقامتها أن يأذن الإِمام بذلك، بل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض خرج الناس وصلوا، ولو صلى كل بلد وحده لم يخرجوا عن السنة. بل لو وجد السبب، وقال الإِمام: لا تصلوا، فإن في منعه إياهم نظراً؛ لأنه وجد السبب فلا ينبغي أن يمنعهم، ولكن حسب العُرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإِمام. اللهم إلا أن يكون قوم من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها، وإن كان أهل البلد لم يقيموها.
قوله: "ويسن أن يقف في أول المطر" ، قوله: "أن يقف" ، أي: أن يقف قائماً أول ما ينزل المطر.
قوله: "وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر" ، أي: متاعه الذي في بيته، أو في خيمته إن كان في البر، وكذلك ثيابه يخرجها؛ لأن هذا روي عن ابن عباس . والثابت من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه" ، أي: رفعه حتى يصيب المطر بدنه، ويقول: "إنه كان حديث عهد بربه" . وهذه السنّة ثابتة في الصحيح، وعليه فيقوم الإِنسان ويخرج شيئاً من بدنه إما من ساقه، أو من ذراعه، أو من رأسه حتى يصيبه المطر اتباعاً لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: "وإذا زادت المياه وخيف منها سنّ أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا اللهمّ على الظراب, والآكام, وبطون الأودية, ومنابت الشجر, ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به الآية" " ، أي: إذا زادت مياه السماء أي: الأمطار، ومثل ذلك لو زادت مياه الأنهار على وجه يُخشى منه، فإنه يسنّ أن يقول هذا الذكر.
(1/476)
________________________________________
وقوله: "ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به" ، هذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنها مناسبة. فإذا قالها الإِنسان لا على سبيل السنية فلا بأس، أما إذا قالها على أنها سنة فلا.
قوله: " الآية" ، أي: إلى آخر الآية، أي: أكمل الآية. وإكمال الآية: ) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا).
كتاب الجنائز

مسائل: الأولى: هل يُسْأَلُ المريض كيف يصلي وكيف يتطهر، أو نقول: إن هذا من باب التدخل فيما لا يعني؟ الجواب: الذي نرى أنه إن كان المريض من ذوي العلم الذين يعرفون، فلا حاجة أن تذكره ، وأما إذا كان من العامة الجُهال فهنا يحسن أن يبين له.
الثانية: هل يؤمر المرضى بالتداوي؛ أو يؤمرون بعدم التداوي، أم في ذلك تفصيل؟ الجواب: قال بعض العلماء: ترك التداوي أفضل ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان. وقال بعض العلماء: بل يسنّ التداوي. وقال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما علم أو غلب على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل. وقال بعض العلماء: إنه يجب التداوي إذا ظُن نفعه. والأقرب أن يقال ما يلي:
- أن ما عُلم، أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه، فهو واجب.
- أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.
- أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي الإِنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر.
الثالثة: التداوي بالمحرم لا يجوز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم .
الرابعة: استطباب غير المسلمين لا يجوز إلا بشرطين: الأول: الحاجة إليهم.
الثاني: الأمن من مكرهم . فإذا احتاج الناس إليهم وأمنوا منهم فلا بأس.
(1/477)
________________________________________
قوله: "تسنّ عيادة المريض" ، ( المراد بالمريض الذي يعاد هو : ) من مرض مرضاً يحبسه عن الخروج مع الناس، فأما إذا كان لا يحبسه فإنه لا يحتاج إلى عيادة؛ لأنه يشهد الناس ويشهدونه، إلا إذا علم أن هذا الرجل يخرج إلى السوق أو إلى المسجد بمشقة شديدة، ولم يصادفه حين خروجه، وأنه بعد ذلك يبقى في بيته، فهنا نقول: عيادته مشروعة. ( و ) إذا كان لايحتاج إلى عيادة فلا يمنع ذلك أن نسأل عن حاله .
وأما المصاب بالمرض فإن كان غير مسلم فلا يعاد، إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك بحيث نعوده لنعرض عليه الإِسلام، فهنا تشرع عيادته إما وجوباً وإما استحباباً . وأما الفاجر من المسلمين أعني الفاسق بكبيرة من الكبائر أو بصغيرة من الصغائر وأصر عليها، ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنا نعوده من أجل أن نعرض عليه التوبة ونرجو منه التوبة، فعيادته مشروعة إما وجوباً وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده، وقد يقال: بل عيادته مشروعة ما دام أنه لم يخرج من وصف الإِيمان أو الإِسلام.
وقوله: "تسنّ" ظاهره أنَّه سنة في حق جميع الناس، ولكن ليس هذا على إطلاقه؛ فإن عيادة المريض إذا تعينت براً أو صلة رحم صارت واجبة لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة، أما من لا يعد ترك عيادته عقوقاً أو قطيعة فإن المؤلف يقول: إنه سنة. وقال بعض العلماء: إنه واجب كفائي أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم، وهذا هو الصحيح.
قوله: "تسنّ عيادة المريض" ولم يبيِّن المؤلف في أي وقت يعاد المريض، ولم يبيّن هل يتحدث عنده، ويتأخر في المقام، أو لا يتحدث، ويتعجل في الانصراف؟ فنقول: عدم ذكرها أحسن، ( لأن ) الصحيح في ذلك أنه يرجع إلى ما تقتضيه حال المريض ومصلحته، ولا نقيدها بزمن ولا بقاء ، بل نقول : إن هذه ترجع إلى أحوال الناس، وهي تختلف بحسب حال المريض.
مسألة: الاتصال بالهاتف لا يغني عن العيادة؛ لا سيما مع القرابة، أما إن كان بعيداً يحتاج لسفر فتغني.
(1/478)
________________________________________
قوله: "وتذكيره التوبة والوصية" ، أي: ويسنّ أن يذكره التوبة والوصية، فالتوبة من المعاصي والمظالم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحق الله - عز وجل -، أو بحقوق العباد، ويؤكد على حقوق العباد. ويذكره أيضاً الوصية. وأهم شيء أن يوصي بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق العباد، فقد يكون عليه زكاة لم يؤدها، وقد يكون عليه حج لم يؤده، وقد يكون عليه كفارة، وقد يكون عليه ديون للناس فيذكر بالوصية بهذا. ويذكر بوصية التطوع، فيقال: لو أوصيت بشيء من مالك في وجوه الخير تنتفع به، وأحسن ما يوصي به للأقارب غير الوارثين؛ لأن الذي يترجّح عندي: أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة.
وظاهر كلام المؤلف: يدل على أنه يذكر بذلك، سواء كان المرض مخوفاً أو غير مخوف، وسواء كان المريض يرتاع بذلك أو لا. وقال بعض العلماء: لا يذكره بذلك إلا إذا كان مرضه مخوفاً. وفصل بعضهم فقال: أما التوبة فيذكره بها مطلقاً، ولو كان المرض غير مخوف؛ لأن التوبة مطلوبة في كل حال، والوصية لا يذكره بها إلا إذا كان المرض مخوفاً. والذي يظهر لي : أنه يذكره مطلقاً ما لم يخف عليه؛ وذلك لأن التوبة مشروعة في كل وقت، والوصية كذلك.
قوله: "وإذا نزل به" ، أي: نزل به الملك لقبض روحه، والملك الذي يقبض الروح هو ملك واحد يسمى "ملك الموت ، وتسميته بعزرائيل لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من أخبار بني إسرائيل، ولم يثبت من أسماء الملائكة إلا خمسة أسماء، وهي: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، فهذه هي الأسماء الثابتة فيمن يتولون أعمال العباد، فأما منكر ونكير اللّذان يسألان الميت في قبره، فقد أنكرهما كثير من أهل العلم، ولكن وردت فيهما آثار.
(1/479)
________________________________________
قوله: "سُنَّ تعاهد بلّ حلقه بماء أو شراب" ، أي: يسن أن يتعاهد الإِنسان بلَّ حلق المحتضَر بماء أو شراب، ولكن ليس بالماء الكثير؛ لأن الماء الكثير ربما يشرقه ويتضرر به، ولكن بماء قليل نقط تنقط بحلقه، وذلك من أجل أن يسهل عليه النطق بالشهادة؛ لأن المقام مقام رأفة بهذا المريض الذي بين يديك، فاسلك كل طريق يكون به أرفق.
وقول المؤلف: "بماء أو شراب" الماء معروف، والشراب: ما سوى الماء مثل العصير أو شبهه، المهم الشيء الذي يصل إلى حلقه ويبلّه.
قوله: "وتندّى شفتاه بقطنة" ، أي: أن الحاضر ينبغي له مع تنقيط الماء في حلق المحتضَر أن يندي شفتيه بقطنة؛ لأن الشفة يابسة، والحلق يابس فيحتاجان إلى تندية.
قوله: "وتلقينه لا إله إلا الله مرة" ، أي: تعليمه إياها كما يلقن التلميذ. وهل يقولها بلفظ الأمر، فيقول: قل: "لا إله إلا الله" أو يقولها بدون لفظ الأمر بأن يذكر الله عنده حتى يسمعه؟ الجواب: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإن كان المريض قوياً يتحمل، أو كان كافراً فإنه يؤمر فيقال: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك.وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنه لا يؤمر، وإنما يذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكر.
قوله: "تلقينه لا إله إلا الله" ولم يقل: محمداً رسول الله؛ لأن هذا هو الذي ورد فيه الحديث: "لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة" . ولو جمع بين الشهادتين؛ فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يمنع هذا من أن يكون آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" ؛ لأن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة تابع لما قبلها ومتممٌ له، فلا يعاد تلقينه، وظاهر الأدلة أنه لا يكفي قول المحتضَر: أشهد أن محمداً رسول الله، بل لا بد أن يقول: لا إله إلا الله.
(1/480)
________________________________________
قوله: "ولم يزد على ثلاث" أي: لم يلقنه أكثر من ثلاث؛ لأنه لو زاد على ذلك ضجر.
قوله: "إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق"., إلا أن يتكلم" الفاعل المريض المحتضَر، فإذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنه يعيد تلقينه، لكن برفق كالأول.
قوله: "ويقرأ عنده { يس } " ، أي: يقرأ القارئ عند المحتضَر سورة {يس } لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم يس~" ، هذا الحديث مختلف فيه، وفيه مقال، ومن كان عنده هذا الحديث حسناً أخذ به.
وهل يقرؤها سراً أو جهراً، أو في ذلك تفصيل؟ الجواب: قوله: "اقرؤوا على موتاكم" ، يقتضي أن تكون قراءتها جهراً، ولا سيما إذا قلنا: إن العلة تشويق الميت لما يسمعه في هذه السورة، ولكن إذا كان يخشى على المريض من الانزعاج، وأنه إذا سمع القارئ يقرأ سورة {يس }، أو كان في شك في كون الإِنسان في النزع فلا يرفع صوته بها ، فإذا عرف أنه في سياق الموت فإنه يقرؤها بصوت مرتفع، ولا حرج في هذا، لأن الرجل يُحْتَضَر. وهذه القراءة لا يكون معها نفث على المحتضَر؛ لأنه لم يرد.
(1/481)
________________________________________
قوله: "ويوجّهه إلى القبلة" أي: من حضر الميت يوجّه الميت إلى القبلة، أي: يجعل وجهه نحو القبلة، وذلك أن المحتضَر إما أن يستدبر القبلة، أو يكون رأسه نحو القبلة أو بالعكس، أو يستقبلها، والأخيرة أفضل الأحوال. وهذا يقتضي أن يكون على جنبه الأيمن، أو الأيسر حسب ما هو متيسر؛ لأن المجلس الذي يستقبل فيه الإنسان القبلة هو أفضل المجالس، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشرف مجالسكم ما استقبلتم به القبلة" ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً" ، وهذا يشمل الميت المحتضر والميت بعد دفنه في القبر، وكلا الحديثين ضعيف، لكن يشهد له ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة - - أن البراء بن معرور أوصى عند موته أن يستقبل به القبلة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصاب الفطرة" . فهذا يشهد للحديثين السابقين، وإلا فإن الذي يظهر من عمل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة أنهم لا يتقصدون أن يوجّه المحتضَر إلى القبلة، ومن ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته حيث مات في حجر عائشة، ولم يُذْكر أنها استقبلت به القبلة ، وإنما هذه الأحاديث، وإن كانت ضعيفة فربما تصل إلى درجة الحسن فتكون مقبولة.
قوله: "فإذا مات سنّ تغميضه" ، كل ما تقدم من الكلام محله قبل الموت، فإذا مات فإنه تشرع في حق الميت أمور: أولها: تغميض الميت.
قوله: "وشد لحييه" ، هذا هو الأمر الثاني مما يفعل بالميت، وهو: شد لحييه، أي: ربطهما، واللحيان: هما العظمان اللذان هما منبت الأسنان فليشدهما بحبل،أو بخيط، أو بلفافة؛ لأنه إذا لم يربطهما فربما ينفتح الفم، فإذا شدهما وبرد الميت بقي مشدوداً .
قوله: "وتليين مفاصله" ، هذا هو الأمر الثالث، وهو: تليين مفاصل الميت، أي: أن يحاول تليينها، والمراد مفاصل اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد، ثم العضد إلى الجنب ثم يردهما.
(1/482)
________________________________________
وكذلك مفاصل الرجلين: بأن يرد الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى البطن، ثم يردهما قبل أن يبرد؛ لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه وصعب تغسيله ، وهذا ( والذي قبله ) لا أعلم فيه سنّة، لكن دليله نظري. وهو ما فيه من تليين مفاصل الميت وهذه مصلحة، ولكن يجب أن تليّن برفق، وليس بشدة؛ لأن الميت محل الرفق والرحمة.
قوله: "وخلع ثيابه وستره بثوب " ، هذا هو الأمر الرابع والخامس،؛ وهو: خلع ثياب الميت، و ستره بثوب يكون شاملاً للبدن كله.
قوله: "ووضع حديدة على بطنه" هذا هو الأمر السادس، وهو وضع حديدة على بطن الميت أي: يسن أيضاً أن يوضع على بطنه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة. واستدلوا على هذا: بأثر فيه نظر، وبنظر فيه عِلة ، وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا، وهو أن يوضع في ثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه، وإذا وضع في الثلاجة فإنه لا ينتفخ، لأنه يبقى بارداً فلا يحصل الانتفاخ في بطنه.
قوله: "ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه" هذا هو الأمر السابع، وهو: وضع الميت على سرير الغسل، أي: ينبغي أن يبادر في رفعه عن الأرض؛ لئلا تأتيه الهوام، ولعل ذكر الفقهاء - رحمهم الله لذلك؛ لكثرة الهوام في البيوت في زمانهم فلهذا قالوا: ينبغي أن يبادر فيرفع على سرير الغسل.
وقوله: "متوجهاً" ، أي: إلى القبلة لأن هذا أفضل، ولا أعلم في هذا دليلاً من السنة.
وقوله: "منحدراً نحو رجليه" أي: يكون رأسه أعلى من رجليه.
قوله: "وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة" ، هذا هو الأمر الثامن ، وهو: الإسراع في تجهيز الميت.
(1/483)
________________________________________
وقوله: "إن مات غير فجأة" ، فإن مات فجأة فإنه لا يسن الإِسراع بتجهيزه؛ لاحتمال أن تكون غشية لا موتاً . وهذا الذي ذكره العلماء - رحمهم الله - قبل أن يتقدم الطب، أما الآن فإنه يمكن أن يحكم عليه أنه مات بسرعة؛ لأن لديهم وسائل قوية تدل على موت المريض. لكن إذا لم يكن هناك وسائل فإن الواجب الانتظار إلى أن نتيقن موته. وبهذا التقرير نعلم خطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه، وأحياناً يكون أقاربه خارج المملكة في أوربا أو غيرها، فينتظرون به يوماً، أو يوماً وليلة من أجل حضور الأقارب، وهذا في الحقيقة جناية على الميت. ( وكذلك ) قبل أن يصلي عليه . أما إذا أخر مثلاً لساعة أو ساعتين أو نحوهما، من أجل كثرة الجمع فلا بأس بذلك، كما لو مات بأول النهار وأخرناه إلى الظهر؛ ليحضر الناس، أو إلى صلاة الجمعة إذا كان في صباح الجمعة؛ ليكثر المصلون عليه، فهذا لا بأس به
قال في الروض: "يعرف موته بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه" ، فهذه أربع علامات يعلم بها الموت، وهي علامات حسية بدون آلات، لكن الآن لدى الأطباء آلات تدل على الموت دون هذه العلامات.
قوله: "وإنفاذِ وصيته" ، أي: وإسراع إنفاذ وصيته، أما إنفاذ وصيته فهو واجب، لكن إسراع الإِنفاذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب فللإِسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع فلإِسراع الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع. قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن, ( وكذلك ) قبل أن يصلى عليه ويدفن، هذه هي السنة.
قوله: "ويجب الإِسراع في قضاء دينه" ، أي دين الميت، سواء كان هذا الدَّين لله، أو للآدمي. فيجب الإِسراع بها بحسب الإمكان، فتأخيرها حرام.
فصل
(1/484)
________________________________________
قوله: "غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه فرض كفاية" . , هذه الأربع كلها فرض كفاية، وفرض الكفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يوجد إلا واحد صار في حقه فرض عين.
وقول المؤلف: "دفنه فرض كفاية" ، وما يتوقف عليه الدفن فرض كفاية أيضاً، وكذلك ما تتوقف الصلاة عليه فرض كفاية، فحمله من بيته إلى المصلى فرض كفاية، وحمله من المصلى إلى المقبرة فرض كفاية؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
فإذا قال قائل: إذا كانت هذه الأشياء تحتاج إلى مال، فمن أين يؤخذ هذا المال، فالغسل - مثلاً - يحتاج إلى مال، والكفن يحتاج إلى مال، والدفن يحتاج إلى مال، والحمل قد يحتاج إلى مال؟ فالجواب: أنه يكون أولاً من تركة الميت، ثم على من تلزمه نفقته، فإن لم يمكن فعلى عموم المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
قوله: "وأولى الناس بغسله وصيه" ، أي: لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت؟ قلنا: أولى الناس بغسله وصيه، أي: الذي أوصى أن يغسله.
واستفدنا من قول المؤلف: "وصيه" أنه يجوز للميت أن يوصي ألَّا يغسله إلا فلان .
قوله: "ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ، هنا قدموا ولاية الأصول على ولاية الفروع، وفي باب الميراث قدموا الفروع على الأصول، وفي ولاية النكاح قدموا الأصول على الفروع؛ فلو كان للشخص الميت أب وابن ولم يوص أن يغسله أحد، فالأولى الأب.
وقوله: "ثم جده" ، أي: من قبل الأب. وقوله: "ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ، أي: بعد الأب والجد الأبناء، وإن نزلوا، ثم الإِخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا، ثم الولاء على هذا الترتيب، ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة، فأما عند عدم المشاحة كما هو الواقع في عصرنا اليوم، فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن، فتجد الميت يموت وهناك أناس مستعدون لتغسيله، فيذهب إليهم فيغسلونه.
قوله: "ثم ذوو أرحامه" ، أي: أصحاب الرحم.
(1/485)
________________________________________
قوله: "وأنثى وصيتها" ، كما قلنا فيما سبق بالنسبة للرجل.
قوله: "ثم القربى فالقربى من نسائها" ، ولم يقل: ثم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأن النساء ليس فيهن عصبة إلا بالغير أو مع الغير، ولهذا قال: "القربى فالقربى من نسائها" وعلى هذا نقول: الأولى بتغسيل المرأة إذا ماتت: وصيتها، ثم أمها وإن علت، ثم ابنتها وإن نزلت، ثم أختها من أب أو أم أو الشقيقة، ثم عماتها، فخالاتها، إلى آخره.
قوله: "ولكل من الزوجين غسل صاحبه" أي: تغسيله، فالزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت، والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات.
مسألة: لو مات زوج عن زوجته الحامل، ثم وضعت الحمل قبل أن يغسل فهل لها تغسيله؟ الجواب: ليس لها ذلك؛ لأنها بانت منه حيث إنها انقضت عدتها قبل أن يغسل فصارت أجنبية منه.
قوله: "وكذا سيد مع سُرِّيَته" المراد: مع أمته، ولو لم تكن سُرِّيته، فلو قدر أنها مملوكة، لكن لم يتسرها أي: لم يجامعها، ثم مات فلها أن تغسله، وله أن يغسلها.
قوله: "ولرجل وامرأة غسل من له سبع سنين فقط" ، أي: من ذكر أو أنثى ، فإذا ماتت طفلة لها أقل من سبع سنوات فلأبيها أن يغسلها، وإذا مات طفل له أقل من سبع سنوات فلأمه أن تغسله، فإن ماتت طفلة لها سبع سنوات فأكثر فليس لأبيها أن يغسلها؛ لأنه لا يغسل الرجل المرأة، ولا المرأة الرجل إلا في الزوجين، والمالك وأمته.
قوله: "وإن مات رجل بين نسوة" ، أي إن مات رجل بين نسوة، وكذا من له سبع سنين فأكثر فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة له أو أمة، فإن كان معهن زوجة أو أمة فإنها تغسله كما سبق، أما إذا لم يكن معهن زوجة ولا أمة فإنه لا يغسل، وإذا كان معهن بنته أو أُمُّه فإنهما لا تغسِّلانه.
قوله: "أو عكسه" أي: أو حصل عكسه؛ بأن ماتت امرأة بين رجال، فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً.
(1/486)
________________________________________
قوله: "يُمِّمت كخنثى مشكل" ، أفادنا المؤلف بقوله: "يممت" أنه متى تعذر غسل الميت فإنه ييمم، وتعذره له صور منها: أولاً: هاتان الصورتان: أن تموت امرأة بين رجال ليس معهم من يصح أن يغسلها، أو رجل بين نساء، ليس فيهن من يصح أن تغسله.
ثانياً: إذا كان الميت خنثى مشكلاً كما ذكر المؤلف.
ثالثاً: لو عدم الماء بأن مات ميت في البر، وليس عندنا ماء فإنه ييمم.
رابعاً: لو تعذر تغسيله لكونه محترقاً؛ فإنه ييمم.
وقال بعض العلماء: إن من تعذر غسله لا ييمم. وهذا هو الراجح , وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيممه .
قوله: "ويحرم أن يغسل مسلم كافراً، أو يدفنه، بل يوارى لعدم" ، وكذلك يحرم أن يكفنه، أو يتبع جِنَازته.
وقوله: "أو يدفنه" المراد: يحرم أن يدفنه كدفن المسلم، ولهذا قال: "بل يوارى لعدم" ، ومعنى يوارى: يغطى بالتراب، سواء حفرنا له حفرة ورمسناه بها رمساً، أو ألقيناه على ظهر الأرض وردمنا عليه تراباً؛ لكن الأول أحسن.
وقوله: "بل يوارى لعدم" أي يجب مواراة الكافر، ويشمل ذلك ما إذا وُوري بالتراب، أو وُوري بقعر بئر، أو نحوها .
وقوله: "لعدم" ، أي: لعدم من يواريه، فإن وجد من يقوم بهذا من أقاربه فإنه لا يحل للمسلم أن يساعدهم في هذا، بل يكل الأمر إليهم.
قوله: "وإذا أخذ في غسله ستر عورته" ، قوله: "في غسله" أي: في تغسيله.
وقوله: "ستر عورته" وجوباً وهذا فيمن له سبع سنين فأكثر. والعورة بالنسبة للرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك بالنسبة للمرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة، وعلى هذا فيجرد الميت من كل شيء إلا مما بين السرة والركبة إن كان رجلاً فهو بالنسبة للرجال، وإن كانت امرأة، بالنسبة للنساء..
قوله: "وجرَّده" ، أي: جرَّده من ثيابه فيستر عورته أولاً، ويلف عليها لفافة، ثم يجرده من ثيابه.
قوله: "وستره عن العيون" ، أي: ينبغي أن يستره عن العيون، وهذا غير ستر العورة؛ لأن ستر العورة واجب، وهذا مستحب.
(1/487)
________________________________________
قوله: "ويكره لغير معين في غسله حضوره" ., حضوره" نائب الفاعل أي: يكره أن يحضره شخص إلا من احتيج إليه لمعونته.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يحضر ولو كان من أقاربه، مثل أن يكون أباه أو ابنه، أو ما أشبه ذلك، لأنه لا حاجة إليه.
قوله: "ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، ويعصر بطنه برفق" ، أي: بعد أن يجرده ويستر عورته يرفع رأسه إلى قرب الجلوس أي: رفعاً بيّناً، ويعصر بطنه برفق؛ لأجل أن يخرج منه ما كان متهيئاً للخروج . أما الحامل فإنها لا يعصر بطنها؛ لئلا يسقط الجنين.
وقوله: "ويكثر صب الماء حينئذٍ" ، أي: حين يعصر البطن؛ لأجل إزالة ما يخرج من بطنه حينئذٍ.
قوله: "ثم يلف على يده خرقة فينجّيه" ، أي: أنه إذا فعل ما ذكر من رفع رأسه وعصر بطنه، وخرج ما كان مستعداً للخروج، يلف على يده خرقة، وإذا كان هناك قفازان كما هو الآن متوفر - ولله الحمد - فإنه يلبس قفازين، ثم ينجّيه أي: ينجّي الميت فيغسل فرجه مما خرج منه، ومما كان قد خرج قبل وفاته، ولكنه لم يستنج منه، فينجيه بها.
قوله: "ولا يحل مس عورة من له سبع سنين" ، أي: يجب أن يضع هذه الخرقة إذا كان الميت له سبع سنين فأكثر، فأما إذا كان دون ذلك فله أن ينجيه مباشرة.
قوله: "ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة" ، هذه غير الخرقة الأولى، فالأولى واجبة إذا كان له سبع سنين فأكثر؛ لئلا يمس عورته، وهذه خرقة ثانية جديدة غير الأولى يضعها على يده؛ لأجل أن يكون ذلك أنقى للميت؛ لأنه إذا دلكه بالخرقة كان أنقى له مما لو دلكه بيده، فيستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة .
قوله: "ثم يوضئه ندباً .وليس على سبيل الوجوب بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، فقال: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ، ولم يقل: وضئوه، فدل على أن الوضوء ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب.
(1/488)
________________________________________
قوله: "ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه" ، أي: لا يدخل الماء في فيه بدل المضمضة، ولا في أنفه بدلاً عن الاستنشاق .
قوله: "ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظّفهما" ، وهذا يقوم مقام المضمضة، والاستنشاق. وقوله: "يدخل إصبعيه" ، أي: ملفوفاً عليهما خرقة، وهي الخرقة التي كان يمس بشرته بها فيدخل إصبعيه في فمه ويمسح أسنانه، ويكون ذلك برفق، وكذلك يدخلهما في منخريه فينظّفهما برفق أيضاً.
قوله: "ولا يدخلهما الماء" ، لأنه لو أدخل فمه الماء نزل إلى بطنه، ولو أدخله إلى منخريه كذلك نزل إلى بطنه فيحرك ما كان ساكناً، ويغني عن ذلك ما ذكره المؤلف أن يجعل خرقة مبلولة فينظّف بها أنفه وأسنانه وبقية فمه.
قوله: "ثم ينوي غسله" ثم للترتيب، والنية بمعنى القصد.
وظاهر كلام المؤلف أن النية تكون بعد عمل ما سبق من الاستنجاء والتوضئة، ولكن هذا فيه نظر، بل النية تتقدم الفعل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ، ولعل هذه نية أخرى ينوي بها عموم الغسل؛ لأن ما سبق لا بد أن يكون بنية.
قوله: "ويسمّي" أي: يقول باسم الله، وهذا أيضاً فيه نظر؛ لأن التسمية تكون بعد الاستنجاء قبل أن يوضئه، كما هي الحال في طهارة الحي.
قوله: "ويغسل برغوة السّدر رأسه ولحيته فقط" . أفادنا المؤلف أنه لا بد أن يعد الغاسل سدراً يدقه ويضعه في إناء فيه ماء، ثم يضربه بيديه حتى يكون له رغوة، وهذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما الثفل الباقي فإنه يغسل به سائر الجسد.
قوله: "ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر, ثم كلّه ثلاثاً " ، فيغسل الشق الأيمن، ثم الأيسر. (ثم كلّه ثلاثاً).
قوله: "يُمر في كل مرة يده على بطنه" ، من أجل أن يخرج ما كان متهيئاً للخروج، وعلى هذا فإنه يعصر بطنه أربع مرات، المرة الأولى التي قبل الاستنجاء عندما يرفع رأسه إلى قرب الجلوس، وثلاث مرات عند غسله.
(1/489)
________________________________________
قوله: "فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى" ، أي: إن لم ينق الميت بثلاث، فإنه يزيد حتى ينقى؛ لأن المقصود بذلك تطهيره.
قوله: "ولو جاوز السبع" أي: زاد عليها، وتعداها. لكن ينبغي قطع الغسل على وتر، فلو نقى بأربع زاد خامسة.
قوله: "ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً" ، والكافور: طيب معروف أبيض يشبه الشب يدق، ويجعل في الإناء الذي يغسل به آخر غسلة.
قوله: "والماء الحار والإشنان والخلال يستعمل إذا احتيج إليه" ، الأفضل: أن نغسل الميت بماء بارد، ولكن إذا احتجنا إلى الماء الحار، مثل: أن تكون عليه أوساخ كثيرة متراكمة فإننا نستعمله، ولكن ليس الحار الشديد الحرارة الذي يؤثر على الجلد برخاوة بالغة، ولكنه حار ليكون أنقى من البارد، ويسخن بأي وقود سواء بالكهرباء، أو بالغاز، أو بالحطب، أو بغير ذلك، وعند عوامنا يقولون: إنه لا يسخن الماء الذي يغسل به الميت إلا بسعف النخل فقط، وغير ذلك لا يسخن به، وهذا لا أصل له، بل يسخن بما تحصل به السخونة.
وقوله: "والإِشنان" والإشنان شجر معروف ينبت في البر يؤخذ وييبس ويدق، ويكون من جنس الرمل حبيبات تغسل به الثياب، ويغسل الإِنسان به جلده من أجل النظافة. والإِشنان يستعمل عند الحاجة للتنظيف؛ لأنه قد يكون على الجلد أوساخ أو دهون لا يزيلها الماء وحده فيزيلها الإِشنان، فإن لم يحتج إليه فلا يستعمله.
وهل مثل ذلك الصابون؟ الجواب: نعم الصابون مثل الإِشنان، بل هو أقوى منه تنظيفاً، فإذا استعمل الصابون من أجل إزالة الوسخ، فلا حرج فيه.
وهل يستعمل مع الصابون ليفة؟ الجواب: لا؛ لأن الليفة تشطب الجلد، وربما هذا الذي يغسله من شدة الحرص على التنظيف يفركه بشدة فيتأثر الجلد، فيكفي أن يمسح باليد.
وقوله: "والخلال يستعمل إذا احتيج إليه" ، أي: خلال الأسنان، إذا كان بأسنانه طعام فإنه يستعمل؛ لأن في ذلك تنظيفاً لأسنانه.
(1/490)
________________________________________
قوله: "ويقص شاربه، ويقلّم أظفاره، ولا يسرح شعره، ثم ينشف بثوب" . خصال الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط.
أما الختان: فلا يستعمل مع الميت، بل هو حرام , وأما الشارب والأظفار: فتؤخذ إذا طالت، فإذا كانت عادية، أو كان الميت أخذها عن قرب فإنها لا تؤخذ، بل تبقى على ما هي عليه. وأما الإِبط: فكذلك، إن كثر فإنه يؤخذ، وإلا يبقى على ما هو عليه. وأما العانة: إذا طالت وكثرت فإنها تؤخذ. وقال بعض العلماء: إنها لا تؤخذ؛ لما في ذلك من كشف العورة بخلاف الإبط والأظفار، ولكن الأولى أن تؤخذ إذا كانت كثيرة، وكشف العورة هنا للحاجة.
وقوله: "ولا يسرح شعره" ، أي: أن الغاسل لا يسرح شعر الميت؛ لأن هذا يؤدي إلى تقطع الشعر بالتسريح والمشط.
وقوله: "ثم ينشف بثوب" ، أي: بعد أن يغسل يستحب أن ينشف؛ لأنه إذا بقي رطباً عند التكفين أثر ذلك في الكفن، فالأفضل أن ينشف بثوب.
قوله: "ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها" ، أي: يجعل شعر المرأة ضفائر ثلاثاً، ويسدل من ورائها.
مسألة: ما حكم أسنان الذهب وغيرها مما ركبه الإنسان في حياته هل تدفن معه أم تخلع؟ الجواب: أما ما لا قيمة له فلا بأس أن يدفن معه كالأسنان من غير الذهب والفضة والأنف من غير الذهب، وأما ما كان له قيمة فإنه يؤخذ إلا إذا كان يخشى منه المُثلة، كما لو كان السن لو أخذناه صارت المُثلة فإنه يبقى معه. ثم إن شاء الورثة بعد أن يفنى الميت أن يحفروا القبر ويأخذوا الذهب فلهم ذلك.
قوله: "وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطن" ، أي: خرج من الميت شيء من بول، أو غائط، أو دم، أو ما أشبه ذلك حُشي بقطن، أي سُد بالقطن من أجل أن يتوقف.
قوله: "فإن لم يستمسك فبطين حر" ، الطين الحر: الذي ليس مخلوطاً بالرمل أي: بطين قوي؛ لأن الطين القوي يسد الخارج، واختاروا الطين، لأنه أقرب إلى طبيعة الإنسان؛ حيث إن الإنسان خلق منه، وسيعاد إليه
(1/491)
________________________________________
قوله: "ثم يغسل المحل ويوضأ" ، يغسل المحل أي: الذي أصابه ما خرج، فيغسل للتنظيف وإزالة النجاسة إن كان نجساً، ثم يوضأ.
قوله: "وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل" ، أي: إن خرج شيء بعد التكفين لم يعد الغسل .
قال الفقهاء - رحمهم الله - وهو من اجتهادهم -: "إذا خرج قبل السبع وجب غسل المحل وإعادة الغسل، وإن خرج بعد السبع وجب غسل المحل والوضوء، وإن خرج بعد التكفين لم يجب غسل المحل ولا إعادة الوضوء" ، فله ثلاثة أحوال.
قوله: "ومحرم ميت كحيّ" ، أي: في أحكامه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ، فدل ذلك على أنه باق على إحرامه، وإذا كان كذلك فهو كالحي.
قوله: "يغسل بماءٍ وسدر" ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ؛ ولأن استعمال السدر للمحرم ليس بحرام، بل هو جائز.
قوله: "ولا يقرّب طيباً" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تحنطوه" ؛ ولأن المحرم ممنوع من الطيب.
قوله: "ولا يلبس ذكرٌ مخيطاً" ، أي: لا يلبس الذكر قميصاً أو سراويل أو عمامة أو غيرها مما يحرم على الحي.
قوله: "ولا يغطى رأسه" ، أي: لا يغطى رأسه، بل يبقى مكشوفاً ، ولكن لا بأس أن يظلل بشمسية أو شبهها، كما يفعل بالمحرم الحي، أما التغطية باللف عليه، فهذا لا يجوز. وأما وجهه فإنه يغطى، لأنه جائز حال الإحرام في الحياة فجاز بعد الوفاة، وأما رواية "ولا وجهه" في حديث الذي وقصته راحلته فشاذة.
قوله: "ولا وجه أُنثى" ، أي: لو ماتت أُنثى محرمة فإن وجهها لا يغطى، وهذا إن لم يُمر بها حول رجال أجانب، فإن مُر بها حول رجال أجانب فإن وجهها يستر، كما لو كانت حية. وأما رأسها فيغطى؛ لأنه يجب تغطيته حال الحياة في الإحرام وغيره.
(1/492)
________________________________________
وظاهر كلام المؤلف اجتناب هذه الأشياء حتى بعد التحلل الأول، ولعله غير مراد؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يحرم عليه إلا النساء فقط، وعلى هذا يصنع به كما يصنع بالمتحلل تحللاً أولاً، ويمكن أن يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ؛ لأنه إذا شرع في التحلل الأول انقطعت التلبية؛ لأنها تنقطع عند رمي جمرة العقبة.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ، دليل على أنه لا يُقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضةً خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه يقضى عنه ما بقي من النسك إذا كان الحج فريضة.
قوله: "ولا يغسل شهيد ومقتول ظلماً. لا" نافية، والنفي يحتمل الكراهة ويحتمل التحريم، ولهذا اختلف أصحابنا - رحمهم الله -، هل تغسيل الشهيد حرام أو مكروه؟ فقال بعضهم: إنه مكروه. وقال بعضهم: إنه حرام. والصحيح: أنه حرام .
وقوله: "شهيد" المراد به هنا: شهيد المعركة الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. أما من قاتل لوطنية أو قومية أو عصبية فليس بشهيد ولو قتل، لكن من قاتل حماية لوطنه الإسلامي من أجل أنه وطنٌ إسلاميٌ فقد قاتل لحماية الدين، فيكون من هذا الوجه في سبيل الله، ولهذا يجب أن نبيّن لإخواننا في الجيش أنهم إنما يتأهبون للقتال لا دفاعاً عن وطنهم من أجل أنه وطنهم، ولكن من أجل أنه وطن إسلامي يقاتلون لحماية الإسلام حتى يكونوا عند الموت شهداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" . فالذي قاتل حمية نقول له: لماذا تقاتل حمية؟ هل هو حدب على قومك، أو رغبة في بقاء الإسلام في بلادك؟ إن قال بالأول فليس بشهيد، وإن قال بالثاني فهو شهيد، كما لو قال: أقاتل حدباً على قومي، ليبقى الإسلام في بلادي.
(1/493)
________________________________________
وقوله: "ومقتول ظلماً" ، أي: المقتول ظلماً لا يغسل أيضاً؛ لأن المقتول ظلماً شهيد . والصحيح : أن المقتول ظلماً يغسل كغيره من الناس.
(و) الصحيح ( أيظا ) : أن جميع الموتى من المسلمين يغسلون ويكفّنون ويصلّى عليهم إلا شهداء المعركة فقط، فهؤلاء لا يغسلون، ولا يكفّنون، ولا يصلّى عليهم.
قوله: "إلا أن يكون جنباً " ، أي: إلا أن يكون الشهيد جنباً؛ فإن كان الشهيد جنباً فإنه يغسل، وكذلك لو استشهدت امرأة أو قتلت ظلماً على المذهب، وكانت حائضاً ولم تغتسل من الحيض، فإنها كذلك تغسل، هذا ما ذهب إليه المؤلف. ولكن الصحيح: أنه لا يغسل، سواء أكان جنباً أم غير جنب .
قوله: "ويدفن في ثيابه" ، أي: يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها.
قوله: "بعد نزع السلاح والجلود عنه" ، أي: إذا كان معه جلود مثل: سير ربط به إزاره أو رداءه، أو ما أشبه ذلك، أو معه سلاح قد حمله فإنه ينزع منه؛ لأن هذا لا يدخل في الثياب .
قوله: "وإن سُلبها كفن بغيرها" ، الضمير "ها" في قوله: "سُلبها" مفعول ثانٍ يعود على الثياب، ومعنى سلبه إياها: أن تؤخذ منه. مثل: أن يأخذها العدو ويدعه عارياً، كفن بغيرها وجوباً؛ لأنه لا بد من التكفين للميت.
قوله: "ولا يصلى عليه" ، أي: لا يصلي عليه أحد من الناس لا الإمام ولا غير الإمام .
قوله: "وإن سقط عن دابته" ، أي: إن سقط الشهيد عن دابته بغير فعل العدو، غسل وصلي عليه. فإن سقط عن دابته بفعل العدو فمات من ذلك فإنه يكون شهيداً لا يغسل كما سبق.
قوله: "أو وجد ميتاً ولا أثر به" ، أي: ليس به أثر جراحة، ولا خنق، ولا ضرب، ووجد ميتاً فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
(1/494)
________________________________________
وقول المؤلف: "ولا أثر به" يخرج به ما لو وجد به أثر مثل: جرح، أو خنق، أو ضرب أي ضربات مميتة، فإنه يحكم بالظاهر هنا، وهو أن الذي فعل به ذلك العدو، وعلى هذا يكون شهيداً لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وكذا إذا علمنا أنه مات بفعل العدو ولا أثر به كما لو استعمل الغازات. واستثنى بعضهم من الأثر: الدم من الأنف، أو الفم، أو القبل، أو الدبر، قال: لأن هذا قد يقع ممن مات موتاً طبيعياً، فلا يدل على أن العدو هو الذي فعل به هذا، ولكن كلام المؤلف يدل على العموم فمتى وجد به أثر يحتمل أنه من فعل العدو فهو شهيد.
قوله: "أو حُمل فأكل" ، أي: من أرض المعركة فأكل، ثم مات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ولو علمنا أنه مات متأثراً بجراحه؛ لأن كونه يأكل يدل على أن فيه حياة مستقرة؛ إذ إن الذي في حكم الميت لا يأكل.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكل ومات ولم يطل الفصل فإنه يغسل. وقال بعض الفقهاء: لا يغسل إذا لم يطل الفصل؛ لأنه قد يأكل بدون شعور وهو في النزع,
وقول المؤلف: "أو حُمل فأكل" ظاهره: أنه إذا لم يحمل فأكل، ثم مات فإنه شهيد لا يغسل، وعبارة بعض الفقهاء: "أو جرح فأكل" ، وهذه العبارة الأخيرة أعم مما إذا حمل أم لم يحمل.والأقرب: أنه إذا أكل سواء حمل، أم لم يحمل، فإن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة فيغسل ويكفن.
قوله: "أو طال بقاؤه عُرفاً غسل وصلي عليه" ، أي: ليس مقدراً بزمان شرعاً بل إذا طال بقاؤه وعرف أنه ليس في سياق الموت فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه. والذي يترجح عندي أنه إذا بقي متأثراً كتأثر المُحتضَر أنه لا يغسل، أما إذا بقي متألماً لكن بقي معه عقله فإنه يغسل ويصلى عليه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو شرب فإن ذلك لا يسقط حكم الشهادة، وهذا هو اختيار مجد الدين ابن تيمية - وهو عبد السلام جد شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ لأن الإنسان قد يشرب، وهو في سياق الموت بخلاف الأكل، فكلام الماتن تابع لكلام المجد رحمه الله.
(1/495)
________________________________________
قوله: "والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه" , "السِّقط" : المراد به: الحمل إذا سقط من بطن أمه. فإذا بلغ أربعة أشهر من بدء الحمل، أي: إذا تم له أربعة أشهر، وليس المعنى إذا دخل الشهر الرابع. والمراد بالأشهر هنا: الأشهر الهلالية. وأما الأشهر الاصطلاحية التي هي أشهر النصارى ومن تابعهم، فهذه لا أصل لها شرعاً ولا قدراً.
قوله: "غسل وصلي عليه" أي: وكفن، ودفن، فالمؤلف طوى ذكر الكفن والدفن؛ لأنه معلوم.
وإنما قيده ببلوغ أربعة أشهر؛ لأنه قبل ذلك ليس بإنسان، إذ لا يكون إنساناً حتى يمضي عليه أربعة أشهر. وعلى هذا فهو قبل هذه المدة يكون جماداً قطعة لحم يدفن في أي مكان بدون تغسيل، وتكفين، وصلاة، لكن بعد أربعة أشهر يكون إنساناً ، فيعامل معاملة من مات بعد خروجه.
قال العلماء: ويسمى؛ لأن هذا السقط يبعث يوم القيامة، فلا بد أن يسمى؛ لأن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، فيسمى حتى يدعى باسمه يوم القيامة. فإن شك فيه هل هو ذكر أو أنثى؟ - وهو بعيد - لكن ربما يقع، فإنه يسمى باسم صالح للذكر والأنثى مثل هبة الله، أو عطية الله، أو نحلة الله، وما أشبه ذلك. أما إذا كان ذكراً فيسمى باسم الذكور كعبد لله، وإن كان أنثى يسمى بأسماء الإناث كزينب، وفاطمة.
قوله: "ومن تعذر غسله يُمم" ، أي: من امتنع غسله، أي: تغسيله، فإنه ييمم. وكيفية التيميم: أنه يضرب الحي يديه على الأرض، ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه. ويكون التعذر: إما بعدم الماء، وإما بتعذر استعماله في هذا الميت بأن يكون الميت قد تمزق، أو يكون محترقاً لا يمكن مسه إلا بتمزيق جلده فهنا ييمم؛ لأن تغسيل الميت طهارة مأمور بها، فإذا تعذر تطهيره بالماء عدلنا إلى بدله وهو التراب. وقيل: بأنه لا ييمم إذا تعذر غسله , وهذا هو الراجح. وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيميمه.
(1/496)
________________________________________
قوله: "وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً" ، أي: على غاسل الميت ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسناً، فربما يرى منه ما ليس بحسن، إما من الناحية الجسدية، وإما من الناحية المعنوية.
قال العلماء: إلا إذا كان صاحب بدعة، وداعية إلى بدعته ورآه على وجهٍ مكروه، فإنه ينبغي أن يبين ذلك حتى يحذر الناس من دعوته إلى البدعة؛ لأن الناس إذا علموا أن خاتمته على هذه الحال، فإنهم ينفرون من منهجه وطريقه، وهذا القول لا شك قول جيد وحسن؛ لما فيه من درء المفسدة التي تحصل باتباع هذا المبتدع الداعية، وكذا لو كان صاحب مبدأ هدّام كالبعثيين والحداثيين.
وذكر في الروض كلاماً حسناً فقال: "فيلزمه ستر الشر، لا إظهار الخير" ، أي: ستر الشر واجب، وإظهار الخير ليس بواجب، ولكنه حسن ومطلوب لما فيه من إحسان الظن بالميت، والترحم عليه، ولا سيما إذا كان صاحب خير.
وقال: "ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء" ، أي: بالنسبة للأموات نرجو للمحسن رحمة الله، ونخاف على المسيء، وخوفنا على المسيء يستلزم أن ندعو الله له، إذا لم تكن إساءته مخرجة إلى الكفر.
فإذا مات الإنسان وهو معروف بالمعاصي التي لا توصل إلى الكفر، فإننا نخاف عليه، ولكننا ندعو الله له بالمغفرة والعفو؛ لأنه محتاج إلى ذلك.
وقال: "ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: بالجنة أو بالنار، والشهادة بالجنة أو بالنار على نوعين:
النوع الأول: شهادة للجنس، أي: يشهد بالجنة لكل مؤمن ولكل متق ، وكذلك نشهد لكل كافر أنه في النار.
النوع الثاني: شهادة للعين أي: أن تشهد لشخص بعينه، فلا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/497)
________________________________________
وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية من اتفقت الأمة أو جُلُّ الأمة على الثناء عليه. مثل: الأئمة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: لمَّا مرَّت جنازة وأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". لكن ليست شهادتنا لهم بالجنة، كشهادتنا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم.
فصل
قوله: "يجب تكفينه" الكفن: ما يكفن به الميت من ثياب أو غيرها.وحكم تكفين الميت فرض كفاية .
قوله: "في ماله" ، أي: في مال الميت. ولو فرض أن هناك جهة مسؤولة ملتزمة بذلك، فلا حرج أن نكفنه منها إلا إذا أوصى الميت بعدم ذلك، بأن قال: كفنوني من مالي، فإنه لا يجوز أن نكفنه من الأكفان العامة، سواء كانت من جهة حكومية، أو من جهة خاصة.
قوله: "مقدماً على دَين" ، الدَّين: هو كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة بيت، أو دكان، أو قرض، أو صداق، أو عوض خلع، وإن كان العامة لا يطلقون الدين إلا على ثمن المبيع لأجل، فهذا عرف ليس موافقاً لإطلاقه الشرعي.
قوله: "وغيره" يعني: الوصية، والإرث. فالتكفين مقدم على كل شيء، وعموم قول المؤلف: "مقدماً على دين" يشمل ما إذا كان الدين فيه رهن أو لا، وعلى هذا فلو خلف الرجل شاة ليس له غيرها مرهونة بدين عليه، ولم نجد كفناً إلا إذا بعنا هذه الشاة واشترينا بقيمتها كفناً فتباع، ونشتري له كفناً؛ لأن الكفن مما تتعلق به حاجة الشخص خاصة، فيقدم على كل شيء وكذا لو أوصى بها.
قوله: "فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته" ، أي: إن لم نجد له مالاً، فعلى من تلزمه نفقته.
وإذا وجدنا ثوباً قد لبسه الميت وغترة، فهل نكفنه بهما أو لا بد أن نكفنه باللفائف؟ الجواب: إذا كانت ثيابه تقوم بالواجب، فإننا لا نلزم الناس أن يكفنوه ما دام في ماله - ولو ثيابه التي عليه - ما يكفي.
(1/498)
________________________________________
قوله: "من تلزمه نفقته" ، أي: الميت حال حياته، وهم الأصول والفروع، فتجب نفقة الوالدين والأولاد بكل حال سواء كانوا وارثين أم لا، وعلى هذا فتجب نفقة الجد على ابن ابنه، وإن لم يكن وارثاً لوجود الابن، أي: وإن كان محجوباً بالابن، وابن البنت تجب نفقته وإن لم يكن وارثاً، وعليه فيجب كفنه على جده من قبل أمه. أما غير الأصول والفروع، فلا تجب النفقة، إلا على من كان وارثاً بفرض أو تعصيب.
مسألة: الأخ هل يجب أن ينفق على أخيه؟ الجواب: إن كان لأخيه أولاد فإنه لا يلزمه أن ينفق عليه؛ لأنه محجوب بهم، وإن لم يكن له أولاد وجب أن ينفق عليه؛ لأنه وارث. هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمقام هنا لا يقتضي البسط والترجيح.
قوله: "إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته" ، أي: لو ماتت امرأة، ولم نجد وراءها شيئاً تكفن منه، وزوجها موسر، فإنه لا يلزمه أن يكفنها. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. والقول الثاني: أنه يلزمه أن يكفّن امرأته. وهذا القول أرجح، ومحل النزاع إذا كان موسراً. فإن لم يوجد من تلزمه النفقة، أو وجد وكان فقيراً ففي بيت المال، فإن لم يوجد بيت مال منتظم فعلى من علم بحاله من المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
مسألة: لو مات الزوج وكان فقيراً، وكانت الزوجة غنية، فلا يلزمها قيمة الكفن؛ وذهب ابن حزم إلى أنه يلزمها ذلك.
قوله: "ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض" ، فإن كفن بغير الأبيض جاز، وإن كفن بلفافة واحدة جاز أيضاً.
قوله: "تجمّر" أي: تبخر،، ولكن ترش أولاً بماء، ثم تبخر؛ من أجل أن يعلق الدخان فيها.
قوله: "ثم تبسط بعضها فوق بعض" ، أي: تمد الأولى على الأرض، ثم الثانية، ثم الثالثة.
قوله: "ويجعل الحنوط فيما بينها" ، الحنوط: أخلاط من الطيب تصنع للأموات.
قوله: "ثم يوضع عليها مستلقياً" ، أي: على اللفائف مستلقياً.
(1/499)
________________________________________
قوله: "ويجعل منه في قطن بين أَليتيه" ، أي: من الحنوط في قطن بين أَليتيه، فيؤتى بهذا الطيب فيجعل منه ما بين الأكفان الثلاثة، ونأخذ منه بقطنة نجعلها بين أليتيه.
قوله: "ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان" ، أي: فوق الحنوط الذي يوضع في القطن، والتبان هو: السروال القصير الذي ليس له أكمام.
قوله: "تجمع أليتيه ومثانته" أي: الخرقة المشقوقة، فيؤتى بخرقة مشقوقة الطرف من أجل أن يمكن إدارتها على الفخذين جميعاً، ثم تشد، ومعنى تشد، أي: تربط لتجمع بين أليتيه ومثانته. إذاً تكون على السوءتين؛ لأنه لا يمكن أن تجمع المثانة مع الأليتين إلا إذا كانت ساترة لهما، وهذا من تمام الستر.
قوله: "ويجعل الباقي على منافذ وجهه، ومواضع سجوده" أي: الباقي من الحنوط الذي وضع في القطن يجعل على منافذ وجهه، وهي: العينان، والمنخران، والشفتان. وفي الروض زيادة: "الأذنين" ، مع أن الأذنين من الرأس، لكنهما لقربهما من الوجه تلحقان به. وكل هذا على سبيل الاستحباب من العلماء، أي: وضع الحنوط في هذه الأماكن، أما الحنوط من حيث أصله فقد جاءت به السنّة.
قوله: "وإن طيب كله فحسن" ، أي: إن طيب الميت كله فحسن؛ لأنه يكون أطيب، لكن ينبغي أن يطيب بطيب ليس حاراً؛ لأن الحار ربما يمزق البدن، بل يكون بارداً، وهذا لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن فعله بعض الصحابة .
(1/500)
________________________________________
قوله: "ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم الثانية، والثالثة كذلك" ، أي: نرد طرف اللفافة العليا وهي التي تلي الميت على شقه الأيمن، ثم نرد طرفها من الجانب الأيسر على اللفافة التي جاءت من قبل اليمين، نفعل بالأولى هكذا، ثم نفعل بالثانية كذلك، ثم بالثالثة كذلك. وإنما قال المؤلف هذا لئلا يظن الظان أننا نرد طرف اللفائف الثلاث مرة واحدة، بمعنى أن نجمع الثلاث ونردها على الجانب الأيمن، ثم نرد الثلاث على الجانب الأيسر، فأولاً أكمل رد اللفافة الأولى، فترد الطرف الذي يلي يمين الميت، ثم الطرف الذي يلي يساره، ثم الثانية، ثم الثالثة على نفس الطريقة.
قوله: "ويجعل أكثر الفاضل على رأسه" ، أي: إذا كان الكفن طويلاً، فليجعل الفاضل من جهة رأسه، أي: يرده على رأسه، وإذا كان يتحمل الرأس والرجلين فلا حرج، ويكون هذا أيضاً أثبت للكفن.
قوله: "ثم يعقدها" ، أي: يعقد اللفائف. والحكمة من عقدها لئلا تنتشر وتتفرق.
أما بالنسبة لعدد العقد فيفعل ما يحتاج إليه، ومن المعلوم أنّ أقل ما يحتاج إليه هو عقدتان، عند الرأس، وعند الرجلين، وقد يحتاج إلى عقدتين أو ثلاث في الوسط، وأما أنه لا بد أن تكون سبع عقد فهذا لا أعلم له أصلاً
قوله: "وتحل في القبر" استدل في الروض "بأثر عن ابن مسعود قال: "إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد ولأن الميت ينتفخ في القبر فإذا كان مشدوداً بهذه العقد تمزق. ولو فرض أنه نُسي أن تحل، ثم ذكروا عن قرب، فإن القبر ينبش من أجل أن تحل هذه العقد.
وقال في الروض: "وكره تخريق اللفائف" ؛ لأنه إفساد لها.
إذا قال قائل: إذا خرقتها لم تستره؟ فنقول: لا، بل تستره فخرق مثلاً العليا، ثم خرق التي تحتها من جهة أخرى لا تقابل الخرق الذي في العليا، ثم الثالثة كذلك.
(2/1)
________________________________________
وإنما ذكر صاحب الروض هذا؛ لأن بعض أهل العلم قال: إذا خيف من النباش فإنها تخرق اللفائف؛ لأنه كان هناك سُرَّاقٌ يأتون إلى المقابر ينبشونها ويأخذون الأكفان، فقال هؤلاء: إذا خفت من هؤلاء فخرق اللفائف؛ لكي تفسدها عليهم، كما خرق الخضر السفينة؛ لئلا يأخذها الملك الظالم. لكن الفقهاء المتأخرين قالوا: لا تخرق.
قوله: "وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز" . , القميص: هو الذي نلبسه، أي: الدرع ذو الأكمام. والمئزر: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن. واللفافة: عامة. أي: إذا كفن في هذه فلا بأس، ولكن غالب ما يكفن به الناس اليوم اللفائف الثلاث؛ لأن القميص يحتاج إلى خياطة ومدة أو إلى تجهيز أقمصة تكون مهيئة عند الذين يغسلون الموتى ويكفّنونهم.
قوله: "وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين" . , الإِزار: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن. والخمار: ما يغطى به الرأس. والقميص: الدرع ذو الأكمام. واللفافتان: يعمان جميع الجسد. وقد جاء في هذا حديث مرفوع ، إلا أن في إسناده نظراً؛ لأن فيه راوياً مجهولاً، ولهذا قال بعض العلماء: إن المرأة تكفن فيما يكفن به الرجل، أي: في ثلاثة أثواب يلف بعضها على بعض. وهذا القول - إذا لم يصح الحديث - هو الأصح. وعلى هذا فنقول: إن ثبت الحديث بتكفين المرأة في هذه الأثواب الخمسة فهو كذلك، وإن لم يثبت فالأصل تساوي الرجال والنساء في جميع الأحكام، إلا ما دلّ عليه الدليل.
قوله: "والواجب ثوب يستر جميعه" ، أي: الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع الميت.
وقول المؤلف: "يستر جميعه" يدل على أنه لا بد أن يكون هذا الثوب صفيقاً بحيث لا ترى من ورائه البشرة، فإن رئيت من ورائه البشرة فإنه لا يكفي.
(2/2)
________________________________________
فإذا لم يوجد شيء، مثل: أن يحترق بثيابه، ولم يوجد ثياب يكفن بها، فإنه يكفن بحشيش أو نحوه يوضع على بدنه ويلف عليه حزائم، فإن لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه؛ لعموم قول الله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] .
فصل
قوله: "السنّة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسطها" ، هذا مابيبنه المؤلف , والصحيح : أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره , ويقف عند وسط المرأة. والوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة مستحب، فلو وقف عند الرجلين أجزأ، ولكن لو لم يكن الميت بين يدي الإمام لم يجزئ.
وقوله: "أن يقوم الإمام عند صدره" ، يفهم منه أن هذه الصلاة كغيرها من الصلوات يكون الإمام هو المتقدم والمأمومون خلفه، وقد جرت عادة كثير من الناس اليوم أن يقوم مع الإمام الذين قربوا الجنازة إلى الإِمام، فيقومون عن يمينه غالباً دون يساره، وأحياناً عن يمينه وعن يساره، وكل هذا خلاف السنة. بل السنّة أن يتقدم الإمام، وأما الذين قدموا الجنازة إلى الإمام، فإن كان لهم محل في الصف الأول صفوا في الصف الأول، وإن لم يكن لهم محل صفوا بين الإمام وبين الصف الأول من أجل أن يتميز الإمام بمكانه، ويكون أمام المأمومين، ثم إن قدر أن المكان ضيق لم يتسع لوقوف الإمام وصف خلفه فإنهم يصفون عن يمينه وعن شماله وليس عن اليمين فقط؛ لأن صف المأمومين كلهم عن يمين الإمام خلاف السنّة أيضاً.
تنبيه: لا يشترط أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام، فيجوز أن يكون عن يسار الإمام ويمينه. خلافاً لما يعتقد بعض العامة من أنه لا بد أن يكون عن يمينه.
قوله: "ويكبّر أربعاً" , التكبيرات عند الفقهاء هنا كلها أركان؛ لأنها بمنزلة الركعات، فكل تكبيرة عن ركعة.-.
قوله: "يقرأ في الأولى بعد التعوّذ الفاتحة" ، أي: في التكبيرة الأولى بعد التعوّذ، أي: بعد قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقرأ الفاتحة.والفاتحة في صلاة الجنازة ركن.
(2/3)
________________________________________
وعُلم من كلامه أنه لا استفتاح فيها. وقال بعض أهل العلم: بل يستفتح .
قوله: "ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهّد" ، أي: يصلي في التكبيرة الثانية "كالتشهّد" أي: كما يصلي عليه في التشهّد. وإن اقتصر على قوله: "اللهم صلّ على محمد" كفى كما يكفي ذلك في التشهّد.
قوله: "ويدعو في الثالثة" أي: في التكبيرة الثالثة يدعو بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يعرفه، فإن لم يكن يعرفه فبأي دعاء دعا جاز، إلا أنه يخلص الدعاء للميت، أي: يخصه بالدعاء. والدعاء للميت: عام، وخاص، وقد ذكرهما المؤلف ، فبدأ بالدعاء العام أوّلاً.
قوله: "فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأُنثانا , إنك تعلم منقلبنا ومثوانا , وأنت على كل شيء قدير " ، قوله: " انك على كل شيء قدير" تتمة للدعاء، ولكنها من زيادات بعض الفقهاء؛ لأنها لم ترد في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفه عليهما" ، هذه الصيغة لم ترد، والوارد: "اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" .
مسألة: الدعاء الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمحافظة عليه من الدعاء غير الوارد، وإن كان الأمر واسعاً.
قوله: "اللهم اغفر له وارحمه , واعف عنه وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار ، اللهم اغفر له وافسح له في قبره ونور له فيه" ، هذا الدعاء الخاص، وبدأ بالدعاء العام؛ لأنه أشمل، أما الخاص فهو خاص بالميت.
قوله: "ونقه من الذنوب والخطايا " ، الوارد في الحديث، "ونقه من الخطايا" . فقط.
(2/4)
________________________________________
وقوله: "من الذنوب" ، لو صح الحديث بلفظ: "الذنوب والخطايا" كما أورده المؤلف. لقلنا: الذنوب: الصغائر، والخطايا: الكبائر. ولكن الحديث ورد بلفظ "الخطايا" فقط. وبناء عليه نقول: "الخطايا" هنا تشمل: الصغائر، والكبائر.
وقوله: "اللهم اغفر له" الضمير للمفرد المذكر، فإذا كان الميت أنثى، فهل نقول: اللهم اغفر له، أو نقول: اللهم اغفر لها بالتأنيث؟ الجواب: بالتأنيث؛ لأن ضمير الأنثى يكون مؤنثاً، فنقول: اللهم اغفر لها وارحمها، وعافها، واعف عنها..... إلى آخر الدعاء. وإن كان المقدم اثنين تقول: اللهم اغفر لهما... وإن كانوا جماعة تقول: اللهم اغفر لهم. وإن كن جماعة إناث تقول: اللهم اغفر لهن. وإن كانوا من الذكور والإناث، فيغلب جانب الذكورية، فتقول: اللهم اغفر لهم، فالضمير يكون على حسب من يدعى له. وإن كان الإنسان لا يدري هل المقدم ذكر أو أنثى، فهل يؤنِّث الضمير أو يذكِّرُه؟. الجواب: يجوز هذا وهذا، باعتبار القصد، فإن قلت: اللهم اغفر له، أي: لهذا الشخص، أو للميت، وإن قلت: اللهم اغفر لها، أي: لهذه الجنازة.
قوله: "وإن كان صغيراً قال : اللهم اجعله ذخراً لوالديه ، وفرطاً وأجراً، و شفيعاً و مجاباً , اللهم ثقل به موازينهما , وأعظم به أجورهما , وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم , وقه برحمتك عذاب الجحيم " ، هذا فيه بيان صيغة الدعاء للصغير إذا صلي عليه.
ولكن هل ثبت هذا الدعاء بهذه الصيغة للصغير؟ الجواب: لا، لم يثبت بهذه الصيغة للصغير، ولكن ورد أنه يصلى عليه، ويدعى له، ويدعى لوالديه . ولكن العلماء - رحمهم الله - استحسنوا هذا الدعاء.
قوله: "ويقف بعد الرابعة قليلاً" أي: يقف قليلاً؛ ليتميز التكبير من السلام، أو من أجل أن يتراد إليه نفسه.
(2/5)
________________________________________
وقوله: "يقف قليلاً" ظاهره أنه لا يدعو، وهو أحد الأقوال في المسألة. واختار بعض الأصحاب - رحمهم الله - أنه يدعو بقوله: "اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله" . وقال بعضهم يدعو بقوله: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" . والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبداً إلا لسبب كالاستماع لقراءة الإمام، ونحو ذلك.
قوله: "ويسلم واحدة عن يمينه" وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس، لكن عن اليمين أفضل.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يسن الزيادة على تسليمة واحدة وهو المذهب. والصحيح: أنه لا بأس أن يسلم مرة ثانية؛ لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك إذا سلم الإمام تسليمة واحدة فللمأموم أن يسلم تسليمتين لأنه لا يتحقق به المخالفة.
قوله: "ويرفع يديه مع كل تكبيرة" ، "ويرفع" الضمير يعود على المصلي، أي : يرفع يديه مع كل تكبيرة على صفة ما يرفعهما في صلاة الفريضة.
وقوله: "مع كل تكبيرة" ، هذا هو القول الصحيح.
قوله: "وواجبها: قيام" أي: ما يجب فيها.
فقوله: "وواجبها" ليس قسيم أركانها؛ لأن هذا الذي ذكره المؤلف أركانها.
وقوله: "قيام" ، أي: واجب إذا كانت فريضة، وعلى هذا فإذا أعيدت صلاة الجنازة مرة ثانية كان القيام في المرة الثانية سنة، وليس بواجب؛ لأن الصلاة المعادة ليست فريضة.
قوله: "وتكبيرات أربع" أي: أركان؛ لأن كل تكبيرة منها كالركعة. وقوله: "أربعٌ" أي: لا تقل عن أربع، وله الزيادة إلى خمس، وإلى ست، وإلى سبع، وإلى ثمان، وإلى تسع كل هذا ورد.
(2/6)
________________________________________
مسألة: إذا كبرنا خمساً، فماذا نقول بعد الرابعة والخامسة؟ الجواب: لا أعلم في هذا سنة، لكنني إذا أردت أن أكبر خمساً جعلت بعد الثالثة الدعاء العام، وبعد الرابعة الدعاء الخاص بالميت، وما بعد الخامسة ) رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
قوله: "والفاتحة" ، قراءة الفاتحة ركن. ولا وجه لمن قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
وإذا انتهى المأموم من قراءة الفاتحة قبل تكبير الإمام للثانية فإنه يقرأ سورة أخرى؛ لأن ذلك قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: من واجبات الصلاة على الميت، وهو ركن على المشهور من المذهب، وهو مبني على القول بركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات. أما إذا قلنا: بأنها ليست ركناً في الصلوات فهي هنا ليست بركن، لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لها شأن .
قوله: "ودعوة للميت" ، هذا من الأركان أيضاً.
قوله: "والسلام" أي: ركن، لكنه يكفي فيه تسليمة واحدة، كما سبق ذكره.
والترتيب بين أركان صلاة الجنازة واجب فيبدأ بالفاتحة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء؛ فلا يقدم بعضها على بعض. وكذلك تكميل التكبيرات الأربع؛ فإن سلم من ثنتين ساهياً أكمل مع القرب، وأعاد مع البعد.
قوله: "ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" ، أي على صفة ما فاته . ويستفاد من قول المؤلف: "شيء من التكبير" ، أن التكبيرة بمنزلة الركعة.
(2/7)
________________________________________
مسألة: إذا دخل مع الإمام في التكبيرة الثالثة هل يقرأ الفاتحة، أو يدعو للميت؛ لأن هذا مكان الدعاء؟ الجواب: الظاهر لي: أنه يدعو للميت، حتى على القول بأن أول ما يدركه المسبوق أول صلاته، فينبغي في صلاة الجنازة أن يتابع الإمام فيما هو فيه؛ لأننا لو قلنا لهذا الذي أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة: اقرأ الفاتحة، ثم كبر الإمام للرابعة، وقلنا: صلِّ على النبي ثم حملت الجنازة فاته الدعاء له.
وقول المؤلف: "ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" ، ظاهره: الوجوب. وظاهره أيضاً: أنه يقضيه، سواء أخشي حمل الجنازة أم لم يخش.ولكن قيده الأصحاب - رحمهم الله - فقالوا: "ما لم يخش رفعها" ، أي: إذا خشي الرفع تابع وسلَّم. والغالب في جنائزنا أنها ترفع ولا يتأخرون فيها حتى يقضي الناس، وعلى هذا فيتابع التكبير ويسلِّم. ومع هذا قالوا: "وله أن يسلم مع الإمام" ؛ لأن الفرض سقط بصلاة الإمام، فما بعد صلاة الإمام يعتبر نافلة، والنافلة يجوز قطعها. وقيل: بل يقضيها على صفتها.
إذاً أحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث حالات:
الأولى: أن يمكنه قضاء ما فات قبل أن تحمل الجنازة فهنا يقضي، ولا إشكال فيه .
الثانية: أن يخشى من رفعها فيتابع التكبير، وإن لم يدع إلا دعاء قليلاً للميت.
الثالثة: أن يسلم مع الإمام، ويسقط عنه ما بقي من التكبير. وعلته: أن الفرض سقط بصلاة الإمام، فكان ما بقي مخيراً فيه. ومع هذا فليس هناك نص صحيح صريح في الموضوع؛ أعني سَلَامَهُ مَعَ الإمام، أو متابعته التكبير بدون دعاء، لكنَّهُ اجتهاد من أهل العلم رحمهم الله.
قوله: "ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر" ، أي: يصلي على القبر إن كانت دفنت، وإلا صلى عليها ولا ينتظر؛ لأن الصلاة على القبر إنما تكون للضرورة إذا لم يمكن حضور الميت بين يديه.
(2/8)
________________________________________
مسائل: الأولى: يصلى على القبر صلاة الجنازة المعروفة، إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت أنثى وقف عند وسط القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة.
الثانية: لو سقط شخص في بئر ولم نستطع إخراجه، فيصلى عليه فيها ثم تطم البئر، ويسقط تغسيله، وتكفينه لعدم القدرة على ذلك.
الثالثة: إذا اجتمعت عدة قبور لم يصل عليها؛ فإن كانت كلها بين يديه فيصلى عليها جميعاً صلاة واحدة. وإلا فيصلى على كل قبر.
قوله: "وعلى غائب بالنية" ، لأن الغائب ليس بين يديه حتى ينوي الصلاة على شيء مشاهد، ولكن يصلي بالنية. وقوله: "غائب" أي: غائب عن البلد، ولو دون المسافة، أما من في البلد فلا يشرع أن يصلي عليه صلاة الغائب، بل المشروع أن يخرج إلى قبره ليصلي عليه.
قوله: "إلى شهر" ، أي: يصلى على الغائب، وعلى القبر إلى نهاية شهر. (( وهذا هو المذهب )) , والصحيح: أنه يُصلى على الغائب، ولو بعد شهر، ونصلي على القبر أيضاً ولو بعد الشهر. إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة. مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.
(2/9)
________________________________________
وقوله: "وعلى غائب" أطلق فيشمل كل غائب؛ رجلاً كان أو امرأة، شريفاً أو وضيعاً، قريباً أو بعيداً، فتصلي على كل غائب. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة: القول الأول: أنه يصلى على كل غائب، ولو صلى عليه آلاف الناس. (و) القول الثاني: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه غناء للمسلمين، أي: منفعة، كعالم نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، فيصلى عليه شكراً له ورداً لجميله، وتشجيعاً لغيره أن يفعل مثل فعله. وهذا قول وسط اختاره كثير من علمائنا المعاصرين وغير المعاصرين. (و) القول الثالث: لا يصلى على الغائب إلا على من لم يصلَّ عليه. حتى وإن كان كبيراً في علمه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، فإنه لا يصلى عليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .وهذا القول أقرب إلى الصواب .
قوله: "ولا يصلي الإمام على الغال" ، إذا أطلق الفقهاء الإمام فالمراد به: الإمام الأعظم، أي: رئيس الدولة فلا يصلي على الغال. والغال: هو من كتم شيئاً مما غنمه في الجهاد. ( وهذا ) من كبائر الذنوب.
قوله: "ولا على قاتل نفسه" ، أي: لا يصلي الإمام على قاتل نفسه نكالاً لمن بقي بعده؛ لأن قاتل نفسه - والعياذ بالله - أتى كبيرة من كبائر الذنوب.
ولكن هل يصلي عليه بقية الناس؟
الجواب: نعم، يصلي عليه ، وعلى الغال بقية الناس.
ولو قال قائل: أفلا ينبغي أن يعدى هذا الحكم إلى أمير كل قرية أو قاضيها أو مفتيها، أي من يحصل بامتناعه النكال، هل يتعدى الحكم إليهم؟
فالجواب: نعم يتعدى الحكم إليهم، فكل من في امتناعه عن الصلاة نكال فإنه يسن له أن لا يصلي على الغال، ولا على قاتل نفسه.
مسألة: هل يلحق بالغال، وقاتل النفس من هو مثلهم، أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلاً؟
(2/10)
________________________________________
الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق. والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه. وهذا هو الصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه.
مسألة: إذا وجد بعض ميت فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟ الجواب: إن كان الموجود جملة الميت؛ بأن وجدنا رجُلاً بلا أعضاء فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإن كان الموجود عضواً من الأعضاء؛ فإن كان قد صلي على جملة الميت فلا يصلى عليه، وإن كان لم يُصلَّ عليه فإنه يصلى على هذا الجزء الموجود.
قوله: "ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد" ، أي: لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، وإنما قال: "لا بأس" رداً لقول من يقول: تكره الصلاة على الأموات في المساجد . والصحيح: أنه لا بأس بذلك ، ولا نقول: إنه يخشى من الميت على المسجد، إلا إذا كان هناك قضية خاصة بأن يكون الميت مات بحادث، والدم لا زال ينزف منه، فهذا نمنع أن يصلى عليه في المسجد؛ لأنه يلوثه.

فصل
قوله: "يسن التربيع في حمله" ، التربيع في حمل الميت سنة، وصفة التربيع: أن يأخذ بجميع أعمدة النعش. هذا ما اختاره أصحابنا رحمهم الله.
(2/11)
________________________________________
قوله: "ويباح بين العمودين" ، هذا بيان حكم الحمل بين العمودين. وقال بعض العلماء: يسن أن يحمل بين العمودين، أي: بأن يكون أحد العمودين على كتفه الأيمن والآخر على كتفه الأيسر، هذا إذا كان النعش صغيراً، أما إذا كان واسعاً فيجعل عموداً على يده اليمنى، وعموداً على يده اليسرى, والذي يظهر لي في هذا: أن الأمر واسع، وأنه ينبغي أن يفعل ما هو أسهل، ولا يكلف نفسه، فقد يكون التربيع صعباً أحياناً، فيما إذا كثر المشيعون فيشق على نفسه وعلى غيره. وأما الحمل بين العمودين فهو شاق أيضاً، اللهم إلا إذا كان هناك عمودان يلتقيان عن قرب، بحيث يكون كل عمود على عاتقٍ، فيمكن أن يكون سهلاً. هذا إذا كان الميت محمولاً على نعش، وإن كان صغيراً فيحمل بين الأيدي إذا كان لا يشق.
مسألة: هل ينبغي أن يوضع على النعش "مِكَبَّة" أو لا؟ والمكبة مثل الخيمة أعواد مقوسة توضع على النعش، ويوضع عليها سترٌ. الجواب: إن كانت أنثى فنعم، وقد استحبه كثير من العلماء؛ لأن ذلك أستر لها. أما الرجل فلا يسن فيه هذا، بل يبقى كما هو عليه؛ لأنه فيه فائدة، وهي: قوة الاتعاظ إذا شاهده من كان معه بالأمس جثة على هذا السرير، وإن ستر بعباءة كما هو معمول به عندنا فلا بأس.
قوله: "ويسن الإسراع بها" أي: يستحب ، إلا أن يخشى من تمزق الجنازة كما لو كان محترقاً، فيعمل ما يزول به هذا المحذور. وليس المراد بالإسراع الخبب العظيم، كما يفعل بعض الناس، فإن هذا يتعب المشيعين، وقد ينزل من الميت شيء فيلوث الكفن، لارتخاء أعصابه، وأيضاً التباطؤ الشديد خلاف السنة؛ ولهذا قال في الروض: "الإسراع بها دون الخبب"، والخَبَب: الإسراع الشديد. قال الفقهاء مفسرين للإسراع المشروع: "بحيث لا يمشي مشيته المعتادة .وهذا الإسراع على سبيل الاستحباب ، ولم نَرَ أحداً قال بالوجوب.
(2/12)
________________________________________
قوله: "وكون المشاة أمامها والركبان خلفها" ، أي: ينبغي إذا كان المشيعون مختلفين ما بين راكب وماش أن يكون المشاة أمامها، والركبان خلفها. وأما السيارات فإن الأولى أن تكون أمام الجنازة؛ لأنها إذا كانت خلف الناس أزعجتهم.
مسألة: حمل الجنازة بالسيارة لا ينبغي إلا لعذر كبعد المقبرة، أو وجود رياح، أو أمطار، أو خوف، ونحو ذلك؛ لأن الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنة؛ ولأنه أدعى للاتعاظ والخشوع.
قوله: "ويكره جلوس تابعها حتى توضع" ، أي: أن المشيع لا يجلس حتى توضع الجنازة.
قوله: "ويسجى قبر امرأة فقط" , أي: يغطى قبر المرأة فقط عند إدخالها القبر من أجل ألا ترى المرأة، وذلك أستر لها. وقوله: "فقط" ليخرج قبر الرجل، فإنه لا يسجى.
مسألة: كيف يُدخل الميت القبر؟ الجواب؛ يدخل من عند رجليه، فيؤتى بالميت من عند رجلي القبر، ثم يدخل رأسه سلاً في القبر، هذا هو الأفضل .والطريقة الثانية: أن يؤتى بالميت من قبل القبر ويوضع فيه بدون سل، وهذا أيضاً جائز، وعليه عمل الناس اليوم، فإن أمكنت الصفة الأولى فهي الأفضل، وإن لم تمكن فإن ذلك مجزئ.
قوله: "واللحد أفضل من الشق" ، أي: القبر إذا كان لحداً فهو أفضل. واللحد: أن يحفر للميت في قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليوضع فيها، ويجوز من جهة خلف القبلة، لكنها من جهة القبلة أفضل؛ وسمي لحداً، لأنه مائل من جانب القبر.
قوله: "أفضل من الشق" ، الشق: أن يحفر للميت في وسط القبر حفرة. ولكن إذا احتيج إلى الشق فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية.
وعلم من قوله: "اللحد أفضل من الشق" أن الشق جائز، وهو كذلك، ولكنه خلاف الأفضل.
(2/13)
________________________________________
مسألة: هل يحفر بطول قامة الرجل، أو نصف الرجل، أو أقل، أو أكثر؟ الجواب: التعميق سنة، فيعمق في الحفر، والواجب: ما يمنع السباع أن تأكله، والرائحة أن تخرج منه، هذا أقل ما يجب، وإن زاد في الحفر، فهو أفضل وأكمل لكن بلا حد. وبعضهم حده بأن يكون بطول القامة وهذا قد يكون شاقاً على الناس .
قوله: "ويقول مدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله" ، أي: يقول مدخله عند وضعه بالقبر .
ولكن من الذي يتولى إدخاله؟ الجواب: إن كان له وصي، أي: قال قبل موته: فلان يتولى دفني فإننا نأخذ بوصيته، وإن لم يكن له وصي فنبدأ بأقاربه إذا كانوا يحسنون الدفن، وإن لم يكن له أقارب، أو كانوا لا يحسنون الدفن، أو لا يريدون أن ينزلوا في القبر، فأي واحد من الناس. ولا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها، فيجوز أن ينزلها شخص، ولو كان أجنبياً.
قوله: "ويضعه في لحده على شقه الأيمن" ، ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية أن يكون على الشق الأيمن.
قوله: "مستقبل القبلة" أي: وجوباً . فإن وضعه على جنبه الأيسر مستقبل القبلة، فإنه جائز، لكن الأفضل أن يكون على الجنب الأيمن. ولم يذكر المؤلف أنه يضع تحته وسادة كلبنة، أو حجر، فظاهر كلامه أنه لا يسن، وهذا هو الظاهر عن السلف. واستحب بعض العلماء: أن يوضع له وسادة لبنة صغيرة ليست كبيرة.
ثم إن المؤلف لم يذكر أنه يكشف شيء من وجهه، وعلى هذا فلا يسن أن يكشف شيء من وجه الميت، بل يدفن ملفوفاً بأكفانه، وهذا رأي كثير من العلماء. وقال بعض العلماء: إنه يكشف عن خده الأيمن ليباشر الأرض. فأما كشف الوجه كله فلا أصل له.
مسألة: يسن لمن حضر الدفن أن يحثو ثلاث حثيات لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
مسألة: تلقين الميت بعد الدفن لم يصح الحديث فيه فيكون من البدع.
قوله: "ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً" ، أي: السنة أن يرفع القبر عن الأرض .
(2/14)
________________________________________
وقوله: "قدر شبر" . الشبر: ما بين رأس الخنصر والإبهام، عند فتح الكف، ومعلوم أن المسألة تقريبية؛ لأن الناس يختلفون في كبر اليد وصغرها . والغالب: أن التراب الذي يعاد إلى القبر أنه يرتفع بمقدار الشبر، وقد يزيد قليلاً، وقد ينقص قليلاً.
واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يرفع قبره بل يسوى بالأرض خوفاً عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.
وقوله: "مسنماً" أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنَّم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.
قوله: "ويكره تجصيصه" أي: أن يوضع فوقه جص.
قوله: "والبناء" عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. والاقتصار على الكراهة في هاتين المسألتين فيه نظر. والصحيح: أن تجصيصها والبناء عليها حرام.
قوله: "والكتابة" أي: على القبر، سواء كتب على الحجر المنصوب عليه، أو كتب على نفس القبر.
وظاهر كلام المؤلف: أن الكتابة مكروهة، ولو كانت بقدر الحاجة، أي حاجة بيان صاحب القبر؛ درءاً للمفسدة. وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي: المراد بالكتابة: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من كتابات المدح والثناء؛ لأن هذه هي التي يكون بها المحظور، أما التي بقدر الإعلام، فإنها لا تكره.
قوله: "والجلوس والوطء عليه" ، أي: الجلوس على القبر مكروه - وعلى كلام المؤلف - كراهة تنزيه. والصواب : أنه محرم.
قوله: "والاتكاء إليه" ، أي: ( يكره ) أن يتكئ على القبر فيجعله كالوسادة له .
قوله: "ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة" ، أي: يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر، سواءٌ كانا رجلين أم امرأتين أم رجلاً وامرأة. ولا فرق بين أن يكون الدفن في زمن واحد بأن يؤتى بجنازتين وتدفنا في القبر، أو أن تدفن إحدى الجنازتين اليوم والثانية غداً.
(2/15)
________________________________________
قوله: "إلا لضرورة" ، وذلك بأن يكثر الموتى، ويقل من يدفنهم، ففي هذه الحال لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد. وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة دفن أكثر من اثنين كراهة تنزيه. وذهب آخرون: إلى أن إفراد كل ميت في قبره أفضل، والجمع ليس بمكروه ولا محرم. والراجح عندي - والله أعلم - القول الوسط، وهو الكراهة كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.
قوله: "ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب" ، أي: إذا جاز دفن اثنين فأكثر في القبر الواحد، فإن الأفضل أن يجعل بينهما حاجز من تراب ليكونا كأنهما منفصلان، ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية.
قوله: "ولا تكره القراءة على القبر" ، القراءة على القبر لا تكره، ولها صفتان:
الصفة الأولى: أن يقرأ على القبر، كأنما يقرأ على مريض.
الصفة الثانية: أن يقرأ على القبر أي عند القبر؛ ليسمع صاحب القبر فيستأنس به.
فيقول المؤلف: إن هذا غير مكروه. ولكن الصحيح: أن القراءة على القبر مكروهة، سواء كان ذلك عند الدفن أو بعد الدفن.
مسألة مهمة: قراءة (يس) على الميت بعد دفنه بدعة، ولا يصح الاستدلال لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم يس" ؛ لأنه لا فائدة من القراءة عليه وهو ميت، وإنما يستفيد الشخص من القراءة عليه ما دامت روحه في جسده، ولأن الميت محتاج للدعاء له؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من حضر الميت أن يدعو له، وقال: "فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" .
قوله: "وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك" ، هذه قاعدة في إهداء القُرب للغير، هل هو جائز، وهل ينفع الغير أو لا ينفع؟
(2/16)
________________________________________
وقول المؤلف: "أي قربة" لم يخصصها بالقربة المالية ولا بالبدنية بل أطلق. فإن كان ميتاً ففعل الطاعة عنه قد يكون متوجهاً؛ لأن الميت محتاج ولا يمكنه العمل، لكن إن كان حياً قادراً على أن يقوم بهذا العمل ففي ذلك نظر.
(( مسألة )) : هل عمل العامة اليوم على صواب؟ وعمل العامة أنهم لا يعملون شيئاً إلا جعلوه لوالديهم، وأعمامهم، وأخوالهم، وما أشبه ذلك، حتى في رمضان يقرؤون القرآن وأول ختمة للأم؛ والثانية للأب، والثالثة للجدة، والرابعة للجد، والخامسة للعم، والسادسة للعمة، والسابعة للخال، والثامنة للخالة، فهذا غلط ليس من هدي السلف. وكذلك في مكة يعتمرون، الأولى له، واليوم الثاني لأمه، والثالث لأبيه، والرابع لجده. حتى إن بعض الناس يفتيهم، ويقول: لا بأس أن تكرر العمرة كل يوم إذا لم تكن لنفسك.
ونحن لا ننكر أن الميت ينتفع، لكن ننكر أن تكون المسألة بهذا الإفراط، فكل شيء يجعل للأموات!! حتى إنني حُدثت حديثاً عجباً، وهو أنه إذا قُدم الغداء أفاضوا عليه أيديهم وقالوا: اللهم اجعل ثوابه لفلان، والعشاء كذلك، فلم يبق شيء من الأعمال الصالحة إلا جعلوه لهم، وكل هذا من البدع.
قوله: "وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم" ، ظاهر كلام المؤلف: أن صنع الطعام لأهل الميت سنة مطلقاً، ولكن السنة تدل على أنه ليس بسنة مطلقاً، وإنما هو سنة لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة لقوله: "فقد أتاهم ما يشغلهم" ، والإنسان إذا أصيب بمصيبة عظيمة انغلق ذهنه وفكره ولم يصنع شيئاً. فظاهر التعليل: أنه إذا لم يأتهم ما يشغلهم فلا يسن أن يصنع لهم. ومع ذلك غلا بعض الناس في هذه المسألة غلواً عظيماً لا سيما في أطراف البلاد، حتى إنهم إذا مات الميت يرسلون الهدايا من الخرفان الكثيرة لأهل الميت، ثم إن أهل الميت يطبخونها للناس، ويدعون الناس إليها فتجد البيت الذي أصيب أهله كأنه بيت عرس. وهذا لا شك أنه من البدع المنكرة
(2/17)
________________________________________
قوله: "ويكره لهم فعله للناس" ، أي: صنع الطعام مكروه لأهل الميت، أي: أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه؛ لأن الصحابة - - "كانوا يعدون صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة" .
فصل
قوله: "تسن زيارة القبور" ، القبور: جمع قبر، وليس الجمع مراداً، بل تسن الزيارة ولو كان قبراً واحداً. فلو أن شخصاً مات في فلاة من الأرض، ومررنا به، وعرجنا على قبره لنزوره فلا بأس به .
قوله: "إلا لنساء" ، فليست بسنة، وفي المسألة خمسة أقوال: فقيل: إنها سنة للنساء، كالرجال. وقيل: تكره. وقيل: تباح. وقيل: تحرم. وقيل: من الكبائر. والمشهور من المذهب عند الحنابلة: أنها تكره، والكراهة عندهم للتنزيه، أي لو زارت المرأة القبور، فإنه لا إثم عليها. والصحيح: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب.
واستثنى الأصحاب من فقهاء الحنابلة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه، وقالوا: إن زيارة النساء لهذه القبور الثلاثة لا بأس بها. والذي يترجح عندي: أنه لا استثناء .
قوله: "ويقول إذا زارها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم, ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم " ، قوله: "إذا زارها" ، أي: قصد زيارتها وخرج إليها، أو مر بها مروراً قاصداً غيرها.
قوله: "وتسن تعزية المصاب بالميت" ، والتعزية: هي: التقوية، بمعنى: تقوية المصاب على تحمل المصيبة، وذلك بأن تورد له من الأدعية، والنصوص الواردة في فضيلة الصبر ما يجعله يتسلى وينسى المصيبة، لا أن تأتي إليه لتثير أحزانه مثل: أن تأتي لتعزيه بابنه، فتقول - مثلاً -: هذا ولد شاب صالح، فكيف يأخذه الموت، وما أشبه ذلك من الكلام.
(2/18)
________________________________________
قوله: "تعزية المصاب" : ولم يقل: تعزية القريب؛ من أجل الطرد والعكس، فكل مصاب ولو بعيداً فإنه يعزى وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزِّه، ومن لم يصب فلا تعزه. مثال ذلك: إذا قدرنا أن هناك ولداً شريراً قد آذى أباه وأهله، ثم مات، وإذا وَجْهُ أبيه تبرق أساريره، ويقول: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهذا لا يعزى، مع أن الناس يجعلون العلة في التعزية القرابة، وهذا غلط. فالعلة هي: المصيبة. ولهذا قال العلماء: إذا أصيب الإنسان ونسي مصيبته لطول الزمن، فإننا لا نعزيه؛ لأننا إذا عزيناه بعد طول الزمن، فهذا يعني أننا جددنا عليه المصيبة والحزن.
قوله: "ويجوز البكاء على الميت" ، أي : البكاء الذي تمليه الطبيعة، ولا يتكلفه الإنسان، فأما البكاء المتكلف فأخشى أن يكون من النياحة التي يحمل عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه .
"يعذب" : أي: في القبر، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، إذ كيف يعذب الإنسان على عمل غيره وقد قال الله تعالى: ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ث)(الزمر: من الآية7)؛ وأحسن الأجوبة فيها هو : أن التعذيب هنا ليس تعذيب عقوبة، ولكنه تعذيب ملل وشبهه، ولا يلزم من التعذيب الذي من هذا النوع أن يكون عقوبة، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" ، مع أن المسافر لا يعاقب، لكنه يهتم للشيء ويتألم به، فهكذا الميت يُعلم ببكاء أهله عليه فيتألم ويتعذب رحمة بهم، وكونهم يبكون عليه، وليس هذا من باب العقوبة.
مسألة: هل يجوز للمصاب أن يحد على الميت بأن يترك تجارته أو ثياب الزينة، أو الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل إلا الزوجة، فإنه يجب عليها أن تحد مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلا إلى وضع الحمل إن كانت حاملا .
(2/19)
________________________________________
مسألة: هل يجوز أن يحد في أمر يلحقه أو عائلته به ضرر، مثل: أن يكون رجلاً متجراً، لو عطل التجارة لتضررت كفايته؟ الجواب: لا، هذا ليس مباحاً، بل هو إما مكروه، وإما محرم.
قوله: "ويحرم الندب" ، الندب: هو تعداد محاسن الميت بحرف الندبة وهو "وا" فيقول: واسيداه، وامن يأتي لنا بالطعام والشراب، وامن يخرج بنا إلى النزهة، وامن يفعل كذا وكذا.
قوله: "والنياحة" وهي: أن يبكي، ويندب برنة تشبه نوح الحمام؛ لأن هذا يشعر بأن هذا المصاب متسخط من قضاء الله وقدره.
قوله: "وشق الثوب" ، فيحرم شق الثوب، كما يجري من بعض المصابين، فيشقون ثيابهم إما من أسفل، وإما من فوق؛ إشارة إلى أنه عجز عن تحمل الصبر على هذه المصيبة.
قوله: "ولطم الخد" ، أي يحرم لطم الخد، وهو أن يلطم المصاب خد نفسه؛ لأن بعض المصابين من شدة إصابته يأخذ بلطم نفسه، فيضرب الخد الأيمن، ثم الأيسر، ثم الأيمن، ثم الأيسر، وهكذا. وكذلك أيضاً لو لطم غير الخد، بأن لطم الرأس، أو ضرب برأسه الجدار، وما أشبه ذلك فكل هذا من المحرم.
قوله: "ونحوه" ، مثل: نتف الشعر، فيأخذ بشعر رأسه وينتفه. ومثل أن يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وما أشبهه؛ لأنهذا كله يدل تسخطه من المصيبة .
(2/20)
________________________________________