المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح زاد المستقنع - جزء سادس


gogo
10-22-2019, 10:01 AM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: شرح زاد المستقنع
المؤلف: أحمد بن محمد بن حسن بن إبراهيم الخليل
عدد الأجزاء: 6
[الكتاب مرقم آليا]
فالإقالة عند المؤلف – رحمه الله -: فسخ، وفي هذه المسالة خلاف بين الفقهاء كثير وطويل لكثرة ما ينبني على هذه المسألة من فروع.
= فذهب الحنابلة إلى أن الإقالة فسخ يعني: وليست بيعاً جديداً، وأظنكم تعرفون معنى الإقالة مون حيث المعنى العام، فمعنى الإقالة هي: أن يبيع زيد على عمرو بيعاً ثم يندم عمرو ويطلب الإقالة من البائع بأن ترجع السلعة إلى البائع والثمن إلى المشتري.
وذكر الفقهاء رحمهم الله أسبابً كثيرة لا تعنينا للإقالة، أسباب ندم المشتري، فمن أسباب ندمه: أن يظهر له أن السعر مرتفع، ومن أسباب ندمه أن تكون له حاجه في هذه السلعة ثم بعد البيع تنتهي حاجته من السلعة قبل أن يستمتع بها فيريد أن يرد السلعة، ونحن في الحقيقة لا يعنينا ما هي الأسباب التي تجعل المشتري يطلب الإقالة.
إذاً: القول الأول: أن الإقالة فسخ وهو مذهب الحنابلة وليست ببيع.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأمر الأول: أن الإقالة في لغة العرب هي الرفع والرفع يعني فسخ العقد لا إنشاء بيعاً جديداً.
- والأمر الثاني: أن البيع أخذ مسمى خاصاً والإقالة أخذت مسمى خاصاً واختلاف الأسماء يدل على اختلاف الحقائق.
= القول الثاني: وهو مذهب المالكية. أن الإقالة بيع جديد، فيشترط لها ما يشترط للبيع، واستثنى المالكية من ذلك صورة واحدة وهي: إذا لم يمكن تحقيق الإقالة باعتبارها بيع فنعتبرها فسخ.
مثال: ما لا يمكن. أن يرجع في مكيل مطعوم قبل القبض ونحن أخذنا أن المكيل قبل القبض لا يجوز بيعه وهم يعتبرون الإقالة بيع ففي هذه الصورة لن يمكن للبائع أن يقيل المشتري فيقولون نعتبرها فسخاً ويقيله.
دليل المالكية:
- المالكية يقولون: أن الإقالة هي عبارة عن مبادلة مال بمال، وهذه حقيقة البيع.
= القول الثالث: أن الإقالة فسخ بالنسبة للمتعاقدين، بيع بالنسبة للأجنبي. وهذا مذهب الأحناف وهو من أعجب الأقوال.
الدليل:
- قالوا: أما الدليل على أنها بالنسبة للمتعاقدين فسخ: فما استدل به الحنابلة وهو: أن الإقالة رفع فليست ببيع جديد.
(3/482)
________________________________________
- وأما أنها بيع بالنسبة للأجنبي فلأن حقيقة الإقالة مبادلة مال بمال فنعتبرها كذلك بالنسبة للأجنبي لئلا تضيع حق الأجنبي في هذه المبادلة كما في الشفعة، فإذا اعتبرها الإقالة بيع بالنسبة للأجنبي تمكن من استخدام حقه في الشفعة، وإذا اعتبرناها فسخاً بالنسبة للأجنبي لم يتمكن من الشفعة لأن الشفعة تتعلق بالبيع ولا تتعلق بالفسخ.
ولا يخفى إن شاء الله أن هذا قول بعيد جداً من الصواب إذ لا يمكن أن نحكم على عقد واحد بأنه في حق المتعاقدين فسخ وفي حق الأجنبي بيع فهذا لا يمكن أن يقع في الشرع لأن العقد الواحد له حقيقة واحدة. فبالغ الأحناف باستخدام العقل في مثل هذه المسألة حتى خرجوا عن المعقول، إذ لا يعقل أن نحكم على عقد واحد بتخريجين فقيهيين.
الراجح والله أعلم مذهب الحنابلة وهو أنها فسخ لأن هذا هو حقيقة العقد، لأن مقصود كل من البائع والمشتري في الإقالة رفع العقد لا إنشاء عقد جديد.
* * مسألة/ وإذا قلنا إن الإقالة فسخ فهل هي فسخ للعقد من أصله أو فسخ للعقد من حينه؟
اختلف الحنابلة في هذا اختلافاً كثيراً والأقرب والله أعلم الذي مال إليه أيضاً شيخ الإسلام أن الإقالة فسخ للعقد من حينه لا من أصله، يعني: فسخ للعقد من حين اتفق والطرفان على الفسخ، بينما على القول الآخر إذا فسخا العقد تبين أنه مفسوخ من أصل العقد، وتقدم معنا الفرق بين المسألتين مراراً،، فإذا باع زيد على عمرو سيارة وطلب المشتري الفسخ بعد يوم من إجراء العقد، فعلى القول بأنها فسخ.
للعقد من أصله يكون العقد انفسخ من متى؟: من اليوم الأول يعني من الأمس، وعلى القول بأن الإقالة فسخ من حينه يكون العقد انتهى من يوم الفسخ، وإذا جرى العقد الآن وطلب الفسخ الآن – جرى العقد في الساعة الخامسة وجرت الإقالة في الساعة الخامسة واتفق الطرفان، فهل هناك فرق بين القولين؟
لا. لا يوجد فرق، لأن وقت الإقالة وأصل العقد صار واحداً.
(3/483)
________________________________________
تبين الآن معنا أن الإقالة فسخ فسيذكر المؤلف – رحمه الله – فروعاً تنبني على القول بأن الإقالة فسخ وأحب أن أشير إلى أن الشيخ الفقيه الكبير ابن رجب ذكر في القواعد أمثلة وفروعاً وفوائد كثيرة تنبني على القول بأن الإقالة فسخ أو أنها بيع، فالإمام أحمد عنه في هذه المسألة روايتان: الرواية الأولى: أنها فسخ، والرواية الثانية: أنها بيع.
فيذكر الأمثلة الفقهية ثم يقول على الرواية الأولى: تجوز، وعلى الرواية الثانية: لا تجوز، وذكر لهذا الخلاف فروعاً كثيرة، فمن المفيد جداً لطالب العلم أن يراجعها، فإنته ينمي ملكة الطالب الفقهية على التطبيق فيما اختلف فيه أهل العلم.
-
قال – رحمه الله -: في بيان بعض الفروع وكأنه اختار بعض المهمة:
- تجوز قبل قبض المبيع.
هذا هو الفرع الأول: أن الإقالة تجوز قبل قبض المبيع حتى في الأعيان التي لا يجوز أن تباع إلا بعد القبض، لماذا؟
لأن اشتراط القبض إنما هو في البيع، ونحن نفترض أنم الإقالة ليست بيعاً وإنما فسخ، ولذلك يجوز كما قال المؤلف – رحمه الله -: قبل قبض المبيع.
الفرع الثاني:
- قال – رحمه الله -:
- بمثل الثمن.
يعني: تجوز الإقالة بمثل الثمن تماماً بلا زيادة ولا نقصان فإن زاد أو نقص فالعقد ليس بصحيح.
الدليل:
- الدليل على هذا: أن الإقالة عقد موضوع للإرفاق والإحسان برد البيع فإذا زاد في الثمن خرجت عن موضوعها.
= القول الثاني: وهذا القول لا يحفظ عن الإمام أحمد نصاً ولكن أومأ إليه إيماء كما قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – أما نصاً فليس عن الإمام أحمد نص في الجواز.
ما هو القول الثاني؟
القول الثاني: أنه تجوز الإقالة بأكثر من الثمن حتى إذا اعتبرنا الإقالة فسخاً.
واستدلوا على هذا:
- بأن الزيادة في الثمن تقابل النقص الحاصل برد السلعة.
وأريد أن أنبه هنا إلى مسألة: وهي: أن المسائل المترتبة على كون الإقالة فسخ أو بيع لا تأتي في مسألة بمثل الثمن.
ما معنى هذا الكلام؟
عن الإمام أحمد رواية أنه: فسخ، وعنه أنها: بيع.
فعلى القول بأنها فسخ: لا يوجد في المذهب قول بجواز الزيادة في الثمن.
وعلى القول بأنها بيع ففي المذهب قولين في جواز زيادة الثمن، وما هي فائدة هذا الكلام؟
(3/484)
________________________________________
فائدة هذا الكلام: أنه إذا اخترت أنت أنه فسخ فلا يوجد في المذهب قول بجواز الزيادة على الثمن، وإنما يوجد قول إذا اخترت أنها: بيع.
ولذلك يخطئ من يظن أنه يوجد خلاف حتى على القول بالفسخ، لكن كما أشرت في أول الخلاف أشار ابن رجب إلى أن الإمام أحمد أومأ في بعض فتاويه أنه يجوز الزيادة على القول بأنها فسخ، ولولا هذه الإيماءة لم يوجد أحد يقول بجواز الزيادة على القول بأنها فسخ.
على كل حال الآن الخلاف ثابت وهو ما أومأ إليه الإمام أحمد.
والراجح إن شاء الله: جواز الزيادة بعني: تجوز الإقالة بثمن المثل أو بأكثر إنما هو على القول بأنها فسخ وأما إذا كانت بيع فلا إشكال مطلقاً في جواز الزيادة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا خيار فيها.
يعني: لا يثبت الخيار في الإقالة.
ومقصود المؤلف - رحمه الله - ب (الخيار) هنا: جميع أنواع الخيارات: فليس فيها خيار مجلس ولا شرط ولا عيب ولا أي نوع من أنواع الخيارات، لأن الخيارات تثبت تبعاً للعقود التي فيها معاوضات والإقالة ليست من عقود المعاوضات يل هي من عقود الفسوخ فلا تثبت فيها الخيارات.
= والقول الثاني: أنه يثبت في الإقالة خيار واحد فقط وهو خيار العيب، فإذا رد المشتري السلعة على البائع ثم تبين للبائع أن فيها عيباً حادثاً ثبت له الخيار وله أن يرد الإقالة.
وهذا القول الثاني هو الصحيح: لأن البائع إنما رضي بالإقالة إحساناً للمشتري فلا يناسب مع ذلك أن يلزمه بالسلعة المعيبة، وليس هذا من مقتضى عدل الشرع.
فهذا القول الثاني إن شاء الله هو الصحيح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا شفعة.
يعني ولا تثبت الشفعة في عقد الإقالة: لأن الشفعة تثبت في المعاوضات طرف أجنبي يستحق الشفعة ولا تثبت في العقود التي ليست من عقود المعاوضات فلا شفعة بالإقالة.
وهذا كله مرتب على القول: بأن الإقالة فسخ.
* * مسألة / أخيرة في هذا الباب، إقالة الإقالة أيضاً مستحبة، وتأخذ أحكام الإقالة، فإذا أقاله ثم طلب البائع من المشتري أن يقيله من إقالته فالإقالة الثانية أيضاً مستحبة وهي فسخ وتأخذ الأحكام السابقة.

باب الربا والصرف
- ثم قال - رحمه الله -:
- باب الربا والصرف.
الربا في اللغة الزيادة.
(3/485)
________________________________________
وفي الشرع: الزيادة أو النسأ في أشياء مخصوصة.
وقوله: (والصرف).
الصرف: هو بيع النقد بالنقد.
وفي هذا الباب من الإشكال نظير ما في الباب السابق وقد صرح الشيخ الحافظ الفقيه المفسر ابن كثير بأن هذا الباب من أشكل أبواب البيوع، وصرح غيره من الفقهاء بأن في هذا الباب إشكالاً وخفاء.
- قال - رحمه الله -:
- يحرم: ربا الفضل.
الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: (وأحل البيع وحرم الربا).
ومن السنة: أحاديث كثيرة: منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عد الربا من السبع الموبقات. وهذا إيغال في التحريم.
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن في الربا آكله وموكله وكاتبه وشاهديه.
وأحاديث كثيرة في السنة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف يدل على أن الربا من أكبر الكبائر في الشرع.
* * مسألة / وكان في القرن الأول خلاف في ربا الفضل ثم استقر الأمر على تحريم ربا الفضل كتحريم ربا النسيئة، واعتبر كثير من الفقهاء هذا الخلاف منتهياً وأن الإجماع استقر على تحريمه، واعتبر بعض الفقهاء أن الإجماع غير صحيح وأن الخلاف موجود، وبكل حال:
الصحيح والذي عليه الجماهير: أن ربا الفضل محرم للنصوص الصريحة الصحيحة الثابتة التي لا مجال لمخالفتها وروي عن المخالف وهو ابن عباس - رضي الله عنه - أنه رجع. وروي أنه لم يرجع فروي عنه الأمران، لكن في الحقيقة هذه المسألة لا طائل من بحثها واستقر الأمر عند المذاهب الأربعة وفقهاء المسلمين السبعة والفقهاء المتبعين كالأوزاعي والثوري ومن لهم إتباع ولو كانوا انقرضوا وابن حزم وغيره إلى أنه استقر الأمر على أن ربا الفضل محرم كتحريم ربا النسيئة.
(3/486)
________________________________________
شرح كتاب البيع الدرس رقم (15)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنت تكلمت في الدرس السابق عن أول باب الربا وتقدم معنا تعريف الربا والصرف وحكم الربا وتوفقنا على قول المؤلف - رحمه الله -: (يحرم: ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه) ومن هنا بداية الشرح إن شاء الله.
- فقوله - رحمه الله -:
- في مكيل وموزون.
إشارة من المؤلف - رحمه الله - لعلة تحريم ربا الفضل ليتمكن الطالب من معرفة الأموال الربوية في الشرع.
والأصل في هذا الباب حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد)
هذا الحديث هو أصل الأموال الربوية.
وسنأخذ في هذا الحديث عدة مباحث:
- المبحث الأول: أن الأعيان الستة المذكورة في الحديث هي من الأموال الربوبية بإجماع العلماء بلا مخالف.
- ثانياً: ما عدا هذه الأعيان الستة المذكورة في الحديث انقسم العلماء في إلى قسمين:
- منهم من يرى أن هذه الأعيان اعتبرت من الربا لعلة أرادها الشارع فقاس عليها كل الأموال التي تشبهها في العلة.
- ومنهم من رأى أن الأموال الربوية هي فقط هذه الأموال الستة المذكورة في الحديث.
فتحصل معنا الآن أن هذه المسألة اختلفوا فيها على قولين:

= القول الأول: القياس والأخذ بالعلل والمعاني وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة وعامة فقهاء المسلمين والجم الغفير من السلف والخلف.
واستدل هؤلاء بأدلة:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) فقوله - صلى الله عليه وسلم - (الطعام) إشارة إلى أن المعدودات في الحديث لا يقصد الاقتصار عليها.
- الدليل الثاني للجاهير: بأن المعلوم والمعهود في الشرع اعتبار العلل والمعاني التي على وفقها جاء الشرع وتعدية الحكم إلى كل ما تنطبق فيه المعاني الموجودة في النص.
= القول الثاني: أن الأموال الربوية هي فقط الأعيان الستة.
- لأن الشارع الحكيم لو أراد تعدية الحكم إلى غير هذه الأموال الستة لقال " الربا في الموزوزنات والمكيلات " ولم يعدد الأعيان.
(3/487)
________________________________________
وإلى هذا ذهب الظاهرية واختاره من علماء المعاني والقياس ابن عقيل من الظاهرية والصنعاني من شراح الأحاديث.
والراجح إن شاء الله القول الأول: لأن المعهود في الشرع التعويل على العلل والمعاني والقياس. ولأن الشارع كثيراً ما يعلق الحكم بأسماء ونعديه إلى ما يشبه هذه الأسماء من المعاني.
- المسألة الثالثة: اتفق الذين يرون تعدية الحكم إلى غير هذه الأصناف الستة – هؤلاء اتفقوا على أن الأموال الربوية المذكورة في الحديث تنقسم إلى فئتين:
- الفئة الأولى: الأثمان: وهي الذهب والفضة.
- والفئة الثانية: بقية الأعيان الأربعة: البر والشعير والتمر والملح.
واتفقوا على أن لكل فئة الفئتين علة خاصة، ثم اختلفوا في تحديد علة الفئة الأولى علة الفئة الثانية إلى أقوال:
نبدأ أولاً بعلة الربا في الذهب والفضة.
اختلف العلماء في علة الربا في الذهب والفضة إلى أقوال:
= القول الأول: وهو المذهب وأيضاً مذهب الأحناف. أن العلة هي الوزن، فكل الموزونات يحرم فيها التفاضل، كالحديد والحرير والنحاس والرصاص وكل شيء يوزن فلا يجوز أن نبيع كيلوا حديد بكيلوين.
واستدلوا:
- بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (مثلاً بمثل، سواء بسواء) فاشترط المثلية والتساوي وهي لا تعلم إلا بالوزن فدل ذلك على أنها علة الحكم.
وأجيب عن هذا الدليل: بأن هذا الدليل غير مضطرد، ويشترط في العلة أن تضطرد.
دليل عدم الأضطراد: جواز بيع الموزونات بالذهب والفضة فيجوز أن نبيع ذهب بحديد ولو متفاضلاً ولو مؤخراً، فدل هذا على ضعف هذا التعليل.
= القول الثاني: أن العلة هي غلبة الثمنية وهي على تختص – عند هؤلاء – بجوهر الذهب والفضة فلا تتعداه إلى غيرهما من المعادن، وهذا مذهب الشافعية.
واستدلوا على هذا:
- بأن الذهب والفضة لهما صفات لا توجد في غيرهما من الأعيان.
وعلى هذا القول: لا يجري الربا في الفلوس ولا في الأوراق النقدية لأن الحكم يختص بعين الذهب والفضة.
= القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد وقول للمالكية واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم وعدد كبير من المحققين: أن العلة هي مطلق الثمنية لا غلبة الثمنية.
(3/488)
________________________________________
وعلى هذا القول يتعدى الحكم إلى كل ما هو أو ما اعتبر أو ما اتخذ ثمناً للأشياء، فيدخل الأوراق النقدية والفلوس وكل ما اتخذ ثمناً للأشياء.
واستدل هؤلاء بأمرين:
- الأمر الأول: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما ذكر الذهب والفضة لأنهما أثمان الأشياء.
- والأمر الثاني: أن المعنى يدل على هذا القول لأنه يجب أن تكون أثمان الأشياء ثابتة القيمة لا تباع ولا تشترى ولا تزيد ولا تنقص لأنه بها تعرف قيم الأشياء، فإذا كانت تزيد وتنقص لم يمكن أن نعرف أقيام الأشياء.
مثال موضح: لو أن الريال صار يباع ويشترى فتارة بريالين وتارة بثلاثة وتارة بريال ثم قيل: كم قيمة هذا البيت؟ أو كم قيمة هذا الإناء؟ مثلاً: فقيل: بريال فهنا يحصل إشكال: ماذا تقصد بريال: الريال الذي قيمته ريالين أو الريال الذي قيمته ثلاثة أو الريال الذي قيمته ريال. فيختل ميزان قيم الأشياء، فدل ذلك على أن كل ما هو ثمن للأشياء يجب أن تبقى قيمته ثابتة.
وفي الحقيقة هذا الدليل هو الدليل المعول عليه في رجحان القول الثالث.
وعلى هذا القول الثالث تدخل معنا الأوراق النقدية والفلوس وكل ما وضع ثمناً للأشياء.
وعلى هذا القول الثالث العمل في باب الربا وفي باب الزكاة، لأنه إذا قيل أن الأوراق النقدية لا تدخل في الأموال الربوية فإنها كذلك لا تجب فيها الزكاة لأن الزكاة والربا كلاهما معلق بمسمى الذهب والفضة وهذه الثمرة تدل على ضعف قول الشافعية بأن الذهب والفضة يجري فيهما لذات معدنها.
الخلاصة: أن الراجح إن شاء الله هو القول الأخير وكما قلت عليه العمل وتدل عليه المعاني العامة في الشريعة.
ولا يخفى عليكم أن الصنفان الأولان: الذهب والفضة من الموزونات والأربعة المكيلات.
ثانياً: علة الربا في الأنصاف الأربعة.
اختلف الفقهاء في علة الربا في الأصناف الأربعة:
= فذهب الحنابلة والأحناف أيضاً إلى أن علة الربا الكيل فقط ولا يشترط معه أن يكون مطعوماً فكل مكيل فيه الربا سواء كان مطعوماً كالبر والشعير أو ليس بمطعوم كالأشنان، فكل مكيل فهو يجري فيه الربا فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً.
واستدل هؤلاء: وهم الحنابلة والأحناف.
(3/489)
________________________________________
- بقريب مما استدلوا به في مسألة علة الذهب والفضة وهو أن الحديث نص على التساوي وهو يعرف بالكيل.
والجواب على هذا الاستدلال: أن الحديث وإن نص على التساوي ففيه أيضاً معنى الطعام ويدل على ذلك ويؤكده قوله – صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل سواء بسواء) فهذا الحديث دليل على اعتبار هذا المعنى وهو وجود الطعم أي أن يؤكل.
= القول الثاني: وهو مذهب الشافعية أن العلة في الأصناف الأربعة الاقتياب والادخار، يعني: يشترطون أن يكون مدخراً مقتاتاً.
واستدلوا على هذا:
- بأن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث تشتمل على المعنيين أنها قوتاً ومدخرة فاعتبرنا المعنى الموجود في النص.
وإلى هذا القول ذهب ابن القيم – رحمه الله -.
والجواب عليه: أن النص ذكر ما يدخر ويقتات وما لا يدخر ولا يقتات. فمما لا يقتات: الملح، فالملح لا يعتبر من القوت وهو مذكور في الحديث، ومما لا يدخر: بعض أنواع التمر وهو النوع الذي يؤكل رطباً ولا يدخر تمراً يابساً فهذا النوع من التمر لا يدخر ومع ذلك نص الحديث على أن فيه ربا.

= القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله – واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية أن العلة هي: الطعم مع الكيل أو الوزن.
واستدل هؤلاء:
بأن هذا في هذا القول جمع بين أدلة المذاهب الأخرى ففيه اعتبار الطعم وفيه اعتبار الكيل.
هذه هي الأقوال وكما سمعت: القول الثالث ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكني وجدت للشيخ قولاً آخر في الفتاوى غير هذا القول فيكون له في المسألة قولان:
= وهذا القول هو: أن علة الربا هي الطعم مع الاقتيات وما يصلحه، وإنما قال الشيخ – رحمه الله -: (وما يصلحه) ليدخل معنى الملح لأن الملح يتخذ لإصلاح المطعومات التي تتخذ قوتاً بل إن غالب تفريعات شيخ الإسلام – رحمه الله – ترجع لهذه العلة لا للعلة المذكورة في القول الثالث.
(3/490)
________________________________________
وأقوى الأقوال: القول الثالث والرابع، أن العلة: إما أن تكون الطعم مع الكيل أو الوزن أو تكون الطعم مع أن يتخذ قوتاً، وإن كان القول الأخير أظهر فيما يبدو لي، لأن الأعيان المذكورة في الحديث تجمع هذه الصفات وإذا كانت العلة خفية العلة من أجلها جعل الشارع هذه الأموال ربوية ليست ظاهرة ظهوراً بيناً فالواجب أن نأخذ جميع الصفات الموجودة ومن أبرز الصفات الموجودة في المطعومات الأربع أنها قوت للناس يقتاتون فاعتبار هذا الوصف في الحقيقة جيد وسليم ولو كان فيه قول يقول أن العلة هي الطعم مع الكيل والوزن والقوت لكان قولاً قوياً جداً لكني لم أقف على أحد صرح بأن العلة مرتبة من جميع صفات الأموال الأربع لكن لو قيل به لكان قولاً وجيهاً جداً ورجحانه بين في ذلك.
وعلى طريقة شيخ الإسلام الذي يقول: يجوز أن نأخذ بعض هذا القول وبعض هذا القول ولا نكون بذلك خرجنا عن الأقوال يكون هذا القول الخامس هو الراجح.
وبهذا نضيق نطاق الربا تماماً لأنه لا يوجد الربا إلا حيث توجد جميع الصفات وبهذا يستطيع طالب العلم الآن أن يعرف ما هي الأموال الربوية في تطبيق العلة أياً كانت العلة على الأموال الموجودة في تعاملات الناس فيعرف هل هي من الربا أو ليست من الربا.
فإذا قيل لك: هل يجوز بيع النحاس بالنحاس متفاضلاً؟
فستقول: - أما عند الحنابلة فلا لأن العلة عندهم هي الوزن.
- وأما على القول الراجح: فنعم. لأن العلة هي الثمنية وليست موجودة في النحاس.
إذاً هكذا يستطيع الإنسان أن يطبق العلل.
-
ثم قال – رحمه الله -:
- يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه.
سيبين المؤلف – رحمه الله – ما مقصود الفقهاء بقولهم: (بجنسه) لكن الذي يعنينا الآن أنه إذا بيع ربوي بجنسه فإنه يحرم التفاضل فلا يجوز أن نبيع كيلو ذهب بكليوين، ولا كيلو فضة بكيلوين، وهكذا. ولا يجوز أن نبيع صاع بصاعين ولا صاع بر بصاعين وإنما يحب أن نبيع صاعاً بصاع وهو المقصود بالتساوي.
والدليل على ذلك: ما تقدم معنا من قوله: (مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد) فهذا الحديث نص على أنه يجب أن نبيع الأعيان الربوية متساوية.
(3/491)
________________________________________
وتقدم معنا في الدرس السابق أن البحث إنما هو في: ربا الفضل وسيخصص المؤلف - رحمه الله - فصلاً مستقلاً لربا النسيئة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويجب فيه الحلول والقبض.
مقصود المؤلف - رحمه الله - أنه إذا اتحد الجنس فإنه يجب مع التساوي: الحلول والتقابض فمع اتحاد الجنس واتحاد العلة لابد من الحلول والتقابض ولابد من التساوي.
وإذا قال الإنسان: اتحاد الجنس فإنه لا يحتاج مع ذلك أن يقول اتحاد العلة لأنه إذا كان الجنس واحد فنحن لسنا بحاجة إلى أن نعرف العلة لأنه هو جنس واحد والجنس في المثال المذكور - مثلاً - الذهب فلا يجوز أن نبيع الذهب إلا بشرطين:
- التساوي.
- والتقابض.
والقسمة هنا في هذه المسألة رباعية لأن عندنا جنس وعندنا علة يخرج الإنسان منهما أربعة أنواع وسيأتينا حكم كل نوع، يعني:
- إذا اتفق الجنس اختلفت العلة.
- إذا اختلفت العلة اتفق الجنس.
- إذا اختلفا كلاهما.
- إذا اتفقا كلاهما.
وسيأتي في كلام المؤلف - رحمه الله - حكم كل قسم.
-
ثم قال - رحمه الله -:
- ولا بياع: مكيل بجنسه إلا كيلاً، ولا موزون بجنسه إلا وزناً.
لما بين المؤلف - رحمه الله - وجوب التساوي إذا باع ربوياً بجنسه وأنه يحرم التفاضل بين كيفية معرفة التساوي وهو: أن هذا التساوي الواجب يجب أن يعتبر بمقياسه أو بمعياره الشرعي.
ومعياره الشرعي هو: أن المكيل لا يباع إلا بالكيل، والموزون لا يباع إلا بالوزن.
فلا يجوز أن نبيع المكيلات بالوزن، ولا يجوز أن نبيع الموزونات بالكيل.
السبب: السبب أن الشارع اعتبر تساوي المكيلات بالكيل واعتبر تساوي الموزونات بالوزن فلا يجوز أن ننقل أحدهما للآخر.
ولا يخفى عليك أن المعتبر في الكيل هو الحجم والمعتبر في الوزن هو الثقل، فقد يتساوي الشيئان كيلاً ويختلفان في الوزن، وقد يحصل العكس.
الدليل على ذلك - على اعتبار الوزن في الموزونات والكيل في المكيلات، الدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وزناً بوزن سواء بسواء) وهذا الحديث في مسلم، فقوله: (وزنا بوزن) نص على أن أداة معرفة التساوي هي الوزن وليست الكيل.
وأما في المكيلات فالدليل عليه:
(3/492)
________________________________________
- قوله – صلى الله عليه وسلم -: (البر بالبر كيلاً بكيل).
فهذا دليل على أن المعيار الشرعي في معرفة تساوي المكيلات هو الكيل لا الوزن.
واستثنى شيخ الإسلام – رحمه الله – من هذه القاعدة الأعيان التي لا تختلف بالوزن والكيل يعني: إن كلتها وتساوت أو وزنتها وتساوت فالأمر واحد، ومثل على ذلك: بالمائعات، فإذا أراد الإنسان أن يبيع ويشتري زيتاً بزيت فإن شاء وزناً وإن شاء كيلاً لأن الأمر سيان لا يختلف في الوزن والكيل بالنسبة للمائعات، وهذا القول من حيث النظر صحيح.
لكن لو أن البائع احتاط واكتفى بالمعيار الشرعي المذكور في الأحاديث لكان أولى.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ولا بعضه ببعض جزافاً.
لا يجوز أن نبيع الربويات بعضها ببعض جزافاً.
- لأن القاعدة الشرعية المتفق عليها أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل والعلم بالتفاضل فالجهل بالتساوي.
إذاً الجهل بالعلم كالعلم بالتفاضل والعلم بالتفاضل محرم بنص الأحاديث السابقة فلا يجوز أن نبيع جزافاً لعدم العلم بالتساوي.
- ثم قال – رحمه الله -:
- وإن اختلف الجنس: جازت الثلاثة.
المقصود بالثلاثة: الكيل والوزن والجزاف.
فإذا اختلف الجنس فإنه يجوز التفاضل، وإذا جاز التفاضل جاز لنا أن نبيع المكيلات وزناً والموزونات كيلاً وأن نبيع الجميع جزافاً، لأن التحديد بالكيل والوزن والمنع من الجزاف إنما هو لاشتراط التساوي، فإذا سقط في اختلاف الجنس سقط المعيار الشرعي تبعاً له. فإذا باع الإنسان الذهب بالفضة: هنا اختلف الجنس، فيجوز أن نبيع الذهب بالفضة كيلاً وزناً بزيادة أو بنقص أو جزافاً.
وإذا باع الإنسان البر بالشعير فكذلك يجوز أن يبيع بالوزن وبالكيل وبالجزاف لأن التساوي لا يشترط.
ثم انتقل – رحمه الله – إلى بيان الجنس المذكور في الأحكام.
- فقال - رحمه الله -:
- والجنس: ماله اسم خاص يشمل أنواعاً كبر ونحوه.
الجنس هو: الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها.
بينما النوع هو: الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها.
فالنوع: تحت الجنس.
فالبر تحته أنواع. والتمر جنس أنواع: كالسكري والبرحي وغيره من أنواع التمر.
الذهب جنس تحته أنواع لأن لكل نوع من الذهب بحسب البلدان والجودة اسم خاص فتحته أنواع.
(3/493)
________________________________________
أما النوع فهو الذي يشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، فإذا كان عند زيد بر وعند عمرو بر فهذا البر: جنس تحته أنواع:
التمر: جنس تحته أنواع.
يقول الشارح ابن أبي عمرو: أن النوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، فإذا كان عند عمرو تمر سكري وعند خالد تمر سكري فهذه مختلفة: بأنواعها، يعني: بأشخاصها، فهذا التمر غير هذا التمر وإن كان الجميع من نوع واحد فهي تختلف لكن لا باعتبار الحقيقة وإنما باعتبار ذاتها يعني باعتبار شخصها.
مثال آخر: الحيوان جنس تحته أنواع: الإنسان والبقر والغنم هذا عند أهل المنطق هكذا، الحيوان جنس تحته أنواع.
إذاً الإنسان بالنسبة للحيوان: نوع. وهو يختلف بأشخاصه فعمرو غير زيد خالد والجميع يعتبر من نوع واحد وهو الإنسان، إذاً: الآن عرفنا المقصود بالجنس.
ففي الأموال الربوية كل واحد من الستة يعتبر: جنس. فالذهب: جنس، والفضة: جنس، والشعير: جنس والبر: جنس، والتمر: جنس، والملح: جنس.
فإذا قيل: لا يباع الشيء بجنسه إلا متساوياً مع القبض والحلول: يعني: ما نبيع الذهب ولا البر بالبر ... إلخ.
إذاً عرفنا معنى قول المؤلف – رحمه الله -: (والجنس ماله اسم خاص أنواعاً كبر ونحوه).
- ثم قال – رحمه الله -:
- وفروع الأجناس أجناس.
فروع الأجناس أيضاً هي أجناس، لأنها تتبع الأصل فإذا كان الأصل جنسا ًفالفرع تابع للأصل فهو أيضاً جنس.
لما قرر المؤلف – رحمه الله – هذه القاعدة وهي أن فروع الأجنس أجناس مثل لها:
- فقال – رحمه الله -:
- كالأدِقة:
الأدقة: جمع دقيق.
فدقيق البر: جنس. ودقيق الشعير: جنس. لماذا؟
لأن فروع الأجناس أجناس.
فدقيق البر فرع عن البر، ودقيق الشعير فرع عن الشعير، فهي أجناس كأصولها.
- ثم قال – رحمه الله -:
- والأخباز.
فخبز البر جنس، وخير الشعير: جنس، وهي جنس بالنسبي لغيرها لا بالنسبة لأصلها.
فلا يجوز أن نبيع خبز البر بالبر إلا متساوياً.
ولا يجوز أن نبيع خبز الشعير بالشعير إلا متساوياً.
فهي أجناس (صحيح) لكن لا بالنسبة إلى أصولها وإنما بالنسبة لغيرها.
فهل خبز البر جنس بالنسبة للشعير؟ نعم. خبر البر جنس بالنسبة للشعير.
وهل دقيق البر جنس بالنسبة لعبيط التمر؟ نعم. صحيح.
(3/494)
________________________________________
وهل عبيط التمر جنس بالنسبة للتمر؟ لا. لأن الشيء لا يكون جنس بالنسبة لأصله.
إذاً عرفنا أن فروع الأجناس أجناس إلا بالنسبة لأصولها.
-
ثم قال – رحمه الله -:
- والأدهان.
الأدهان نفس الشيء، نفس القاعدة.
فدهن السمسم يختلف عن دهن العود وإن اتفقا في الاسم فكل منعهما يسمى دهناً، لكن ينظر إلى أصله ففروع الأجناس أجناس، فدهن السمسم جنس ودهن العود جنس وكل دهن جنس – مستقل – بالنسبة لأصله، يعين: أن دهن السمسم لما كان دهناً ناتجاً عن السمسم فهو أصل بينما دهن العود ناتج عن العود فهو أصل لكن لا بالنسبة لأصله.
فهو جنس بالنسبة لأصله لغيره لكن ليس الجنس بالنسبة لأصله فهل يجوز أن نبيع دهن السمسم بالسمسم؟ لا. لا يجوز إلا بشرط التساوي.
إذاً: القاعدة التي ذكرناها في الأدقة والأخباز هي نفسها في الأدهان.
- ثم قال – رحمه الله -:
- واللحم أجناس باختلاف أصوله.
وفي الحقيقة لو طبقت القاعدة السابقة لعرفت هذا الحكم، فهو يقول: أن اللحم بالنسبة لأجناسه أصول، فلحم الماعز: أصل، ولحم البقر: أصل. ولحم الإبل: أصل، ولحم الدجاج: أصل.
فاللحوم أجناس بالنسبة لأصولها.
فهل يجوز أن أبيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم البقر؟
يجوز.
وهل يجب التقابض؟
نعم يجب التقابض. وهذا سيأتينا في ربا النسيئة.
إذاً يجب التقابض لكن يجوز التفاضل لأن فروع اللحم تعتبر أجناساً مختلفة إلا أنهم قالوا: أن الضأن والماعزم جنس واحد والقبر والجواميس جنس واحد.
أما بالنسبة لباقي اللحوم فكل لحم بالنسبة إلى أصله جنس مستقل.
إذاً هذا معنى قول المؤلف – رحمه الله -: (واللحم أجناس باختلاف أصوله).
-
ثم قال – رحمه الله -:
- وكذا اللبن:
كذلك اللبن أجناس بالنسبة لأصوله.
فلبن الماعز جنس ولبن البقر جنس ولبن الإبل جنس، ولبن كل ما يشرب جنس من المطعومات المباحة شرعاً.
بينما لبن الأتان مثلاً – هل هو جنس مستقل أو هو تابع لغيره؟ هو جنس لكنه لا يدخل معنا لأنه لا يجوز شربه.
فلا يجوز أن نبيع كيلو من حليب البقر بكيلو من حليب الأتان لا لعلة الربا وإنما لعلة أخرى وهي: أنه تقدم معنا أن من شروط المبيع أن يكون مباح النفع، إذاً هو ممنوع لهذه الجهة.
- ثم قال – رحمه الله -:
(3/495)
________________________________________
- والشحم والكبد أجناس.
لما بين – رحمه الله – اللحوم بالنسبة للحيوانات أراد أن يبين أجزاء الحيوان الواحد، فهو يقول – رحمه الله – اللحم والشحم والكبد كل واحد منهن جنس مستقل، فيجوز أن نبيع كيلو لحم بعشرة كيلو شحم، ويجوز أن نبيع كيلو من الكبد بكيلوين من الشحم، لماذا؟ لأن اللحم والكبد والشحم كل واحد منها جنس مستقل، ما الدليل؟ قالوا: الدليل على هذا أن كلاً من هذه الأشياء يستقل باسم وحقيقة مختلفة، فدل ذلك على أن كل واحد منها يستقل بجنس بالنسبة للآخر.
وهذا صحيح.
وهذا كله: على القول بأن اللحم من الأموال الربوية.
وأما على القول بأنه لابد أن يكون المال الربوي، لابد: يشترط فيه القوت، فهل يعتبر اللحم ربوياً أو ليس من الربويات؟ ليس من الربويات، إلا في مكان يقتاته الناس، والمقصود بالقوت: يعني: أن يكون قوتاً يأكل منه جميع الناس ويشتركون فيه، فهو الآن عندنا ليس بقوت لكن قد يكون من الأقوات في البلاد الباردة فاللحم يعتبر قوتاً ووجبة أساسية.
-
ثم قال – رحمه الله -:
- ولا يصح: بيع لحم بحيوان من جنسه، ويصح: بغير جنسه.
هذه المسألة هي مسألة حكم بيع اللحم بالحيوان.
= فالحنابلة يقولون: أنه يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا كان مكن غير جنسه.
فإذا أردت أن تبيع لحم غنم ببقرة، فهل يجوز أو لا يجوز؟ جائز، لأنه بغير جنسه.
وإذا أردت أن تبيع لحم غنم بماعز فإنه لا يجوز لأنه بجنسه.
وستأتينا الأدلة بالأقوال.
= القول الثاني: أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً بدون تفصيل.
واستدل هؤلاء بدليلين:
- الأول: مرسل سعيد بن المسيب: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – (نهى عن بيع اللحم بالحيوان).
ومر معنا مراراً أن مراسيل سعيد من المسيب من أصح المراسيل، وأثنى عليها الأئمة ثناءً كثيراً.
- الثاني: أنه روي عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أنه كره بيع اللحم بالحيوان، وعقب الإمام الشافعي على هذا الأثر بقوله: ولا أعلم خلافاً عن غيره، فظاهر عبارة الشافعي أنه لا يوجد خلاف عن الصحابة أو بين الصحابة عن غير أبي بكر بالمنع. وبعبارة أوضح: لم يخالف أبو بكر أحد من الصحابة.
(3/496)
________________________________________
= القول الثالث: التفصيل، وهو: إن كان المقصود من بيع اللحم بالحيوان: اللحم فلا يجوز.
وإن كان المقصود ببيع اللحم بالحيوان غير اللحم: يعني: الحيوان. فيجوز.
مثاله: إذا باع الإنسان لحم الإبل بفرس: فإنه معلوم أن مقصوده الفرس لأن الفرس عادة تتخذ لا للحم وإنما للركوب، فهنا يجوز لأنه لا يقصد اللحم.
أما إذا باع لحماً بحيوان يقصد للحم فلا يجوز للنصوص العامة.
وظهر من القول الأخير أنهم لا يفرقون بين قضية بجنسها وبغير جنسها لم يتطرقوا إليها وإنما جعلوا الضابط: قصد اللحم وعدمه.
وهذا القول الأخير اختيار شيخ الإسلام واختيار ابن القيم – رحمهما الله -.
فإذاً عرفنا الآن الأقوال الثلاثة في المسالة وحجة كل قول.

-
قال – رحمه الله -:
- ولا يجوز: بيع حب بدقيقه.
لا يجوز أن نبيع الحب بالدقيق.
- لأن الدقيق يأخذ من المكيال مكاناً أكبر من الحبوب فتفوت المساواة وهي واجبة.
= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله – اختارها من المحققين ابن قاضي الجبل وهو أنه يجوز بيع الحب بدقيقه لأن غاية ما هنالك أنه بيع حب بحب مكسر لكن لا يباع على القول بالجواز إلا وزناً لأن التساوي متعذر كيلاً.
وهذا القول هو الصواب إن شاء الله.
وتقدم معنا أن المعتبر في المساواة كل شيء بالمعيار الشرعي، والبر معياره الشرعي الكيل، وإنما خرجنا عن المعيار الشرعي لسبب وهو أن التساوي لا يمكن تحصيله بالكيل ولذلك خرجنا عنه إلى الوزن.
وهذا إن شاء الله أقرب.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ولا سويقه.
يعني: ولا يجوز أن نبيع الحب بسويقه، والسويق هو: دقيق البر يحمص مع السمن والزيت.
فهذا لا يجوز أن يباع والعلة أن النار تعقد وتنقص الدقيق فلا تحصل المساواة، ونحن نقول: إن كل شيء يباع بجنسه من الأموال الربوية لابد في من المساواة.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ولا نيئه بمطبوخه.
يعني: ولا يجوز أن نبيع النيء بالمطبوخ كأن يبيع الإنسان الحنطة بالهريسة، فالحنطة حب نيء والهريسة مطبوخة.
وسبب المنع: عدم معرفة التساوي لأن الماء الذي في الطبخ يزيد من الوزن مما يجعل التساوي متعذر.
- ثم قال – رحمه الله -:
- وأصله بعصيره.
يعني: ولا يجوز أن نبيع أصل الشيء بعصيره.
(3/497)
________________________________________
فلا يجوز أن نبيع زيتون بزيت زيتون.
لأنه لا يمكن التحقق من التساوي.
-
ثم قال – رحمه الله -:
- وخالصه بمشوبه.
يعني: ولا يجوز أن نبيع الخالص بالشوب.
فلا يجوز أن نبيع صاع بر بصاع بر مشوب بشعير. لأن التساوي غير متحقق الآن.
ويستثنى من ذلك: إذا كان الشعير يسير جداً لا يؤبه له، فإذا كان يسيراً لا يؤبه له: فهو جائز.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ورطبه بيابسه.
فلا يجوز أن نبيع العنب بالزبيب ولا الرطب بالتمر.
لأنه لا يحصل التساوي.
فهذه المسائل التي سردها المؤلف – رحمه الله – العلة فيها واحدة وهي: أنا لا نأمن من التفاضل وهو محرم.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ويجوز: بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة.
يجوز أن نبيع دقيق الشيء بدقيقه، لأن التساوي حاصل الآن بشرط: أن يتساويا في النعومة.
((الأذان)).
بشرط أن يتساويا في النعومة، لأنهما إذا لم يتساويا في النعومة أخذ الحب غير المطحون تماماً حيزاً أكثر من المطحون فلم تحصل المساواة المشترطة شرعاً.
إذاً إذا استوى الدقيق مع الدقيق نعومة جاز لأنا نأمن عدم التفاضل لتساويهما في مقدرا الطحن.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ومطبوخه بمطبوخه.
يعني: ويجوز بيع المطبوخ بالمطبوخ كسمن بسمن مطبوخ.
فيجوز أن نبيع مطبوخ الربوي بمطبوحه.
لنفس العلة: أنه إذا تساويا في الطبخ ثم كيلا وتساويا في الكيل أمنا المساواة وأنها مساواة حقيقة.
-
ثم قال – رحمه الله -:
- وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف.
أو في الرطوبة: فالمهم أن يستويا في الصفة.
ولكن بالنسبة للخبز تكون المساواة بالوزن لا بالكيل أيضاً كما في المسألة السابقة لأنه تتعذر المساواة بالكيل فنصر إلى الوزن. ونستطيع أن نقول هذه قاعدة أن المكيلات إذا لم نتمكن من مساواتها ببعضها كيلاً جاز لنا حينئذ فقط أن نصير إلى الوزن.
ثم قال – رحمه الله -:
وعصيره بعصيره.
يعني: عصير ربوي بعصير ربوي كزيت زيتون بزيت زيتون أو زيت سمسم بزيت سمسم فيجوز لنا أن نبيع العصير بالعصير لأن المساواة حينئذ متحققة.
وتقدم معنا أن على مذهب شيخ الإسلام بالنسبة للمائعات يجوز أن نحقق المساواة بالكيل أو بالوزن.
- ثم قال – رحمه الله -:
- ورطبه برطبه.
(3/498)
________________________________________
يجوز أن نبيع رطب الربوي برطبه كأن نبيع العنب بالعنب أو الرطب بالرطب لأن المساواة متحققة لتساويهما في الصفة وإن وجد اختلاف يسير فهو لا ينظر إليه، يعني: قد يكون الرطب من بعض بشيء يسير فهذا لا ينظر إليه.
أما إذا كان الفرق بينهما شيء واضح وكبير فلا يجوز، فلابد أن يكون مستوى الرطوبة متقارب أو متساوي.
- ثم قال - رحمه الله =:
- ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما.
هذه مسألة مد عجوة ودرهم وتحتاج إلى وقت طويل ...
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...
(3/499)
________________________________________
شرح كتاب البيع الدرس رقم (16)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
شرع المؤلف - رحمه الله - ببيان مسألة مشهورة والحاجة إليها كثيرة وصور وقوعها في المعاملات المعاصرة أيضاً كثيرة وهي مسألة كما أشرت بالأمس: مد عجوة ودرهم.
- يقول - رحمه الله -:
- ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما.
شملت عبارة المؤلف - رحمه الله - صوراً:
ـ الصورة الأولى: أن يبيع مد عجوة ودرهم بدرهمين.
ـ الثانية: مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم.
ـ الثالثة: مد عجوة ودرهم بمدين.
وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ومعه أو معهما من غير جنسهما)
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة وهو: أن يبيع الإنسان ربوي بربوي ومعه أو معهما من غير جنسهما كما في الأمثلة الثلاثة:
اختلفوا في هذه المسألة: هل هي من مسائل الربا فلا تجوز أو ليست كذلك فتجوز:
= فالحنابلة يرون: أنها لا تجوز.
واستدلوا على هذا:
- بالحديث الصحيح: أن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: اشتريت يوم خيبر قلادة من خرز باثني عشر ديناراً قال ففصلتها - هكذا شدد بالتشديد في مسلم - فوجدت فيها يعني بعد الفصل اثني عشر ديناراً فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لا. إلا أن تفصل)
(3/500)
________________________________________
قال الحنابلة هذا الحديث صريح بمنع مسألة مد عجوة ودرهم. لأنه اشترى دنانير بقلادة فيها خرز وفيها دنانير ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - منها فدل ذلك على أن هذه المسألة لا تجوز.
وكما ترون: النص معهم واضح وهذا الحديث في البخاري ومسلم وله روايات خارج الصحيحين.
= القول الثاني: أنها تجوز بشرط: أن يكون الذي معه غير مقصود.
واستدلوا على هذا:
- بأنه إذا كان غير مقصود فإنه يثبت تبعاً ملا يثبت استقلالاً وليس هو مقصوداً بالثمن.
وهذا القول: رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهو أحد اختياري شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -.
وهذا القول ضعيف: لأن حديث فضالة في بعض رواياته أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لما أبطل عليه البيع إنما أردت الخرز. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا. إلا أن تميز بين هذا وهذا)
فالحديث يدل على أنه وإن قصد غيره فإن المعاملة لا تخرج عن أن تكون ربوية.
= القول الثالث: يجوز بشروط: ـ الشرط الأول: أن لا تكون المعاملة حيلة على الربا. ـ والثاني: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره. أو يكون مع كل منهما من غير جنسهما.
وهذا مذهب الأحناف وهو القول الثاني لشيخ الإسلام بن تيمية.
واستدلوا على هذا:
- بأن في حديث فضالة - في آخره - ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً. فقالوا: لما كانت القلادة فيها أكثر من القيمة المفردة منع منه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستدلوا على هذا:
- بأنه إذا باع مد عجوة ودرهم بدرهمين فإن الدرهم مقابل للدرهم والدرهم الآخر مقابل للمد ولا ربا في ذلك. وهذا معنى قوله: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره.
باقي علينا أن نبين مثالاً لقول أصحاب هذا الاتجاه أن لا يكون حيلة على الربا - صورة الحيلة المشهورة: أن يبيع كيس فيه مائة دينار بمائتي دينار ويقول: المائة دينار مقابل مائة دينار والمائة دينار الأخرى مقابل الكيس.
هذه حيلة على الربا.
فإذا كان الذي تعامل بمسألة مد عجوة ودرهم يريد التحايل على الربا فلا يجوز ولو كان المفرد أكثر. كما في المثال.
(4/1)
________________________________________
بقي علينا أخيراً: مثال يوضح الفرق بين القول الثاني والقول الثالث. أما القول الأول فهو يمنع مطلقاً فلا نحتاج إلى أمثلة للتوضيح. لكن نحتاج التوضيح للفرق بين الثاني والثالث:
فإذا باع الإنسان سيفاً فيه - في مقبضه أو في حليته - ذهب مقداره دينار: بدينار:
= فعلى القول الثاني: جائز. لأن مقصوده السيف لا الذهب. وهو يقول: إذا كان غير مقصود الذي معه فيجوز.

= وعلى القول الثالث: لا يجوز لأنهم يشترطون أن يكون المفرد أكثر.
/ إذا اشترى سيفاً فيه ذهب زنته دينار بدينارين. فما الحكم؟
يجوز على جميع الأقوال إلا القول الأول.
إذاً: هكذا نطبق القضية.
أخيراً: أشير إلى شرط ضروري وقد لا يتنبه إليه كثير من طلبة العلم وهو: أن أصحاب القول الثالث يشترطون مع ذلك أن ينقسم الثمن على أجزاء المبيع بالتساوي.
مثال ذلك/ إذا اشتريت مد عجوة ودرهم بدرهمين فالعملية جائزة بشرط أن يكون قيمة المد عجوة قيمته في السوق: درهم. لينقسم الثمن على المثمن فيكون درهم مقابل درهم ودرهم مقابل مد عجوة. لكن إذا اشترى مد عجوة ودرهم بعشرة دراهم. الآن: أليس المفرد أكثر؟ بلى. هو أكثر. لكن مع ذلك: لا تجوز هذه الصورة حتى على القول الثاني: لأن الثمن لا ينقسم. فبالتالي سيكون مقابل الدرهم أكثر من درهم ومقابل مد عجوة قيمته.
إذاً هذا الشرط لابد من اعتباره وتحقيقه لتجوز المعاملة.
الراجح والله أعلم: وهو رجحان ليس بقوي ولا ببين ولا ظاهر لكنه أرجح من الأقوال الأخرى وهو القول الثالث. والسبب في أن هذا القول رجحانه ليس قوياً السبب في ذلك: أن حديث فضالة عام لم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل له كم كان في القلادة وكم كان معك ولم يأت في الحديث إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما منع لأجل أن الدراهم أو الدنانير التي في القلادة كانت أكثر من الدنانير التي دفعها فضالة وإنما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يفصل فيشتري الخرز بالدنانير ويشتري الدنانير بدنانير مساوية لها. لذلك أقول أن هذا القول راجح وجيد لكن رجحانه ليس برجحان قوي.
ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسائل تشبه مسألة بيع مد عجوة ودرهم. ولكن تختلف أحيانا عنه في الحكم.
(4/2)
________________________________________
- قال - رحمه الله -:
- ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى.
يعني: ولا يجوز أن يبيع الإنسان تمر ليس فيه نوى بتمر فيه نوى.
التعليل:
- كل هذا الباب يرجع إلى العلة الأصلية في ربا الفضل وهي: الزيادة يعني: عدم التساوي. لأن التمر الذي فيه نوى أثقل من التمر الذي ليس فيه نوى كما أنه يأخذ من المكيال أكثر مما يأخذ الآخر.
فلأجل عدم التساوي منع منه الفقهاء.
- قال - رحمه الله -:
- ويباع النوى بتمر فيه نوى.
إذا باع نوى دفعه ثمناً لتمر فيه نوى فالبيع صحيح.
- لأن النوى الذي في التمر لا يقصد. وليس له حظ من الثمن. فجازت المعاملة لأنه اشترى بالنوى تمر.
وهل التمر من الأموال الربوية عند بعض العلل أو عند كل العلل؟
بالأمس ذكرنا: أن الأصناف الستة مجمع عليها ما يحتاج تقول هل ينطبق عليها علة أوم ما ينطبق عليها علة.
فإذاً قول القائل أن التمر ربوي بجميع العلل خطأ لأن التمر ربوي بالنص بغض النظر عن العلل.
إذاً: إذا باع النوى بتمر فيه نوى: جاز. والتعليل: - أن النوى الذي في التمر غير مقصود.
ثم ذكر - رحمه الله - مسألة أخرى هي نفس هذه المسألة:
- فقال - رحمه الله -:
- ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف.
يجوز أن نبيع لبن وصوف مقابل شاة فيها أيضاً لبن وصوف.
والتعليل هو التعليل السابق وهو:
- أن اللبن والصوف الذي في الشاة غير مقصود. ليس له حظ من الثمن. وإنما هو أراد أن يدفع اللبن لتحصيل الشاة. وما فيها من صوف أو لبن فهو تابع غير مقصود والتابع غير المقصود لا يؤثر في الحكم.
نرجع قليلاً إلى مسألة: التمر الذي فيه نوى والتمر الذي ليس فيه نوى.
التمر التساوي التساوي فيه بالكيل أو بالوزن؟
بالكيل.
إذا كان بالكيل: فالحجم الذي سيأخذه التمر الذي ليس فيه نوى هو نفس الحجم الذي سيأخذه التمر الذي فيه نوى. ما وجه عدم التساوي؟
((ونحن نقول العبرة بالكيل والوزن ليس موجوداً الآن وغير معتبر.))
نقول: ان التمر الذي ليس فيه نوى أكثر من التمر الذي فيه نوى. ولو شغل نفس الحيز من الكيل.
لكن في الواقع التمر الذي ليس فيه نوى أكثر من التمر الذي فيه نوى. لأن النواة تشغل حيزاً من التمرة بينما هذا الحيز مملوء بالتمر بالتمر الذي ليس فيه نوى.
(4/3)
________________________________________
إذاً: هذا هو وجه عدم التساوي.
ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة أخرى ختم بها الفصل:
- فقال - رحمه الله -:
- ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لما بين المؤلف - رحمه الله - أنه يجب أن نبيع المكيلات كيلاً والموزونات وزناً أراد أن يبين كيف نعرف هل هذا الشيء المطعوم يوزن أو يكال؟ هل هذا من الموزونات أو من المكيلات؟
فبين أن العبرة بذلك أي العبرة باعتبار الأشياء موزونة أو مكيلة هو عرف الحجاز فقط.
فالكيل: كيل المدينة.
والوزن وزن مكة.
فإذاً في الكيل والوزن نرجع إلى عرف الحجاز. لكن بالنسبة للكيل نرجع إلى المدينة وبالنسبة للوزن نرجع إلى مكة.
الدليل: قالوا الدليل على هذا:
- حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المكيال مكيال المدينة والوزن وزن مكة.
وهذا الحديث صححه عدد من الأئمة منهم ابن حبان ومنهم وعليه العمدة الدارقطني فهو حديث ثابت إن شاء الله.
والحديث يدل على أن اعتبار الأشياء موزونة أو مكيلة إنما هو في عرف أهل احجاز.
فلو صار الناس اليوم يزنون أشياء كانت تكال في مكة فهي مكيلة في عرف أهل مكة ولا نعتبر الوزن.
شيء كان يباع عداً فأصبح يباع وزناً فماذا نعتبره؟ الوزن. من أبرز الأمثلة فيه: التفاح والبرتقال.
صرح الحنابلة أنها معدودة وأنها لا ربا فيها لأنها ليست من الموزونات واليوم هي تباع بالوزن بينما كانت تباع بالعد.
إذاً - نحن نقول - لا عبرة ببيع الناس اليوم لها وزناً وليست من الأموال الربوية هذا إذا أردنا أن نفرع على مذهب الحنابلة الذين يقولون العلة هي الوزن.
إذاً المؤلف - رحمه الله - يقول هنا: (ومرد الكيل عرف المدينة. والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -
والسبب في جعله الكيل للمدينة: أنهم أهل زراعة والكيل يعتد بما يكون عندهم مكيلاً لا في مكة. بينما أهل مكة أهل تجارة فاعتبر فيهم الوزن.
وهذا التعليل لتوضيح الحديث وإلا الاعتماد على الحديث.
- قال - رحمه الله -:
- وما لا عرف له هناك: اعتبر عرفه في موضعه.
الأشياء التي ليس لها عرف في مكة ولا في المدينة نعتبر عرفها في موضعها.
والدليل على ذلك:
(4/4)
________________________________________
- أن القاعدة الشرعية أن ما لم يرد محدداً في الشرع فنرجع في تحديده إلى العرف. وهذا لم يحدد في الشرع. فنرجع في تحديده إلى العرف.
= والقول الثاني: وهو وجه عند الحنابلة. أن ما لا يوجد في المدينة ومكة فإنا نرجع إلى شبيهه ونظيره مما يوجد في مكة والمدينة فنقيس عليه.
فنقول هذا الشيء ما هو أقرب الأشياء إليه في مكة موزوناً أو مكيلاً أو في المدينة؟ فإذا عرفنا أخذ حكمه.
قال الشيخ الفقيه ابن قدامه: وهذا القول: أقيس.
قلت وهو صحيح. يعني: كلامه وجيه جداً.
وجه أن هذا القول أقيس. أن عادة المتفقهين أن ما فيه نص يقاس عليه وهذه المسألة فيها نص وهي أنه اعتبر عرف المدينة ومكة هو العرف الشرعي فنقيس على ما في المدينة ومكة.
وهذا وجه كون هذا القول الثاني في مذهب الحنابلة أقيس على حد تعبير ابن قدامه.
وهذا القول الثاني صحيح أرجح وأقوى وما مال إليه ابن قدامة صحيح.
فننظر إلى أقرب الأشياء. فإذا لم نجد شيئاً مشابهاً ولا قريباً يأخذ نفس الصفات فإنا نرجع حينئذ إلى عرف المدينة الذي وجد فيه هذا الأمر.
ومن وجهة نظري أنه كلما أمكن تقليل مسألة الرجوع إلى الأعراف لكان أولى لأن الرجوع إلى الأعراف في كثير من المسائل لا ينضط.
فإذا أمكن الفقيه أن يجتهد في تحديد حد مأخوذ من النصوص الشرعية لا من الأعراف فهو دائماً أضبط وأسهل تطبيقاً بكثير. كما تقدم معنا في مسألة حد السفر.
وبهذا انتهى الكلام عن ربا الفضل. وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى ربا النسيئة.

فصل
[في أحكام ربا النسيئة]
- فقال - رحمه الله -:
- فصل. ويحرم: ربا النسيئة.
أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين في هذا الفصل أحكاماً متعلقة بالنسيئة.
- يقول - رحمه الله -:
- ويحرم ربا النسيئة.
النسيئة في لغة العرب هو التأخير. النسأ أو النساء هو: التأخير.
وينقسم ربا النسيئة إلى قسمين:
ـ القسم الأول: ربا البيوع. يعني: ربا النسيئة في البيوع. وهذا القسم هو الذي سيتكلم عنه المؤلف - رحمه الله - ويفصل فيه ويبين أحكامه.
ـ القسم الثاني: ربا القروض. وهو اشتراط زيادة مقدرة في القرض.
وعند كثير من الفقهاء اصطلحوا على أن ربا القروض يسمى ربا النسيئة وربا البيوع يسمى ربا النسأ أو النساء.
(4/5)
________________________________________
وهو اصطلاح وتسمية ليس له أثر على الأحكام الشرعية.
إذاً: عرفنا الآن أن ربا النسيئة ينقسم إلى هذين القسمين وأن المؤلف - رحمه الله - سيتكلم عن القسم الأول أما القسم الثاني فسيخصص له باباً كاملاً هو باب القرض.
- قال - رحمه الله -:
- يحرم ربا النسيئة.
ربا النسيئة محرم بالإجماع بلا خلاف وهو أشد تحريماً من ربا الفضل وهو الربا الجلي وهو ربا الجاهلية فهو الربا المقصود بالربا وهو كما قلت لكم محرم بالإجماع وأيضاً بالنص.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الربا في النسيئة)
- ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة: (فإذت اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)
فهذه النصوص والإجماعات دالة على تحريم الربا مع النص الأصلي: (وأحل الله البيع وحرم الربا) فهو أول ما يدخل في النص.
-
يقول - رحمه الله -:
- في بيع كل جنسين اتفقا في علة الربا.
كل جنسين اتفقا في علة الربا فلا يجوز فيهما التأخير فإن أخر فقد وقع في ربا النسيئة.
ونحن ذكرنا أن الأصناف الربوية تنقسم إلى قسمين: - الذهب والفضة. ولهما علة.
والأصناف الأربعة ولها علة.
وأن هذا القدر مجمع عليه بين الفقهاء أن لكل من الفئتين علة مستقلة لكن اختلفوا في تحديد العلة.
إذاً كل جنسين لهما علة واحدة في باب ربا الفضل يحرم فيهما التأخير فلا يجوز أن نبيع ذهب بفضة مع التأخير. لماذا؟ لأن كلاً من الذهب والفضة لهما نفس العلة.
ولا يجوز أن نبيع على القول الصحيح: ريال بجنيهين مع التأخير.
ولا يجوز أن نبيع ريال بدينار. وهل يجوز أن نبيع ريال سعودي بريال آخر - عماني - مثلاً -؟ هل هما جنسان أو جنس؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم) فهل يجوز أن نبيع ريال بريالين؟ يجوز بشرط التقابض دون التساوي. يعني جنسين. وهذا صحيح. ولو اتفقا في المسمى لأنه لا عبرة بالاسم وإنما العبرة في الحقيقة. وفي الحقيقة أن هذا الريال يختلف عن ذاك الريال.
إذاً:
- يقول - رحمه الله -:
- يحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل الفضل ليس أحدهما نقداً.
المقصود بالنقد هنا: الذهب والفضة وما قيس عليهما عند من يقيس.
(4/6)
________________________________________
فإذا كان أحد العوضين هو الذهب أو الفضة فإنه يجوز التأخير. يعني: مع الأعيان الأخرى. مع غير الذهب والفضة.
المثال الموضح/ هل يجوز ان نشتري الحديد بالذهب مؤجلاً؟ نحن نتملم على وفق مذهب الحنابلة؟ الحديد ربوي. وهل له نفس العلة التي للذهب؟ نعم. العلة فيهما هي الوزن. مع ذلك يجوز لأن المؤلف - رحمه الله - يقول: يجوز إذا كان أحد العوضين هو أحد النقدين فإنه يجوز التأخير.
فيجوز أن يشتري بالذهب حديداً مؤخراً ويجوز أن يشتري بالفضة حديداً مؤخراً.
لكن لا يجوز أن يشتري بالذهب فضة ولا بالفضة ذهب.

الدليل الذي دل على استثناء النقدين في الموزونات بالتأخير: هو:
- أحاديث السلم.
لأنه لولا الجواز لانسد باب السلم كما قال الفقهاء. والسلم لا يمكن أن ينسد بابه والنبي - صلى الله عليه وسلم - فتحه بقوله: (في وزن معلوم). فقوله: (في وزن معلوم) دليل على أنه يجوز أن نبيع ونشتري الموزونات بالذهب والفضة سلم وهذا يقتضي التأخير فدل على أن بيع الموزونات بالذهب والفضة يجوز ولو مع التأخير.
ولذلك نحن نشتري بالعملة النقدية الأمتعة والقمح والدقيق والأموال الربوية مؤخراً. مع أنها أموال ربوية والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لكن مع ذلك يجوز لهذه العلة وهي الأحاديث الدالة على جواز السلم دالة أيضاً على جميع المعاملات التي فيها تأخير ولو على غير وجه السلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- كالمكيلين والموزونين.
هذا تمثيل للمنع.
المكيلين: كبر بشعير.
فهذا لا يجوز التأخير فيه.
بل يجب أن يكون يداً بيد. لماذا؟ لأن كلاً من البر والشعير ينتمي إلى زمرة واحدة ذات علة واحدة.
والموزونين: كالنحاس والحديد. فلا يجوز أن نبيع نحاس بحديد إلا يداً بيد.
وهل نقول في الموزونات: وكا الذهب والفضة؟ نعم نقول وكالذهب والفضة.
لكن نقول: كالذهب والحديد؟ لأنه إذا كان أحد البدلين نقد فإنه يجوز.
إذاً عرفنا الآن المثال على المكيلين والمثال على الموزونين.
- قال - رحمه الله -:
- وإن تفرقا قبل القبض: بطل.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)
(4/7)
________________________________________
فدل هذا هلى أن البيع مع التأخير الذي ليس فيه تقابض باطل لأنه فاسد بمقتضى الحديث.
فهذه العبارة في الحقفيقة هي تصريح بالحكم الذي ينتج عن قوله يحرم. يعني: ان هذا التحريم وهذا النهي نهي إلى الفساد.
-
قال - رحمه الله -:
- وإن باع مكيلاً بموزون: جاز التفرق قبل القبض والنساءُ.
وإن باع مكيلاً بموزون جاز البيع بلا شروط: لا التساوي ولا التقابض.
لماذا؟
لأن الجنس والعلة اختلفت.
نحن ذكرنا لكم التقسيم الرباعي. نرجع الآن إلى التوضيح وهي: الجنس والعلة.
ـ القسم الأول: إذا اتفقا في الجنس والعلة. مثل/ ذهب بذهب. فحينئذ يشترط التساوي والتقابض.
ـ القسم الثاني: إذا اتفق في العلة واختلفا في الجنس. فيشترط التقابض فقط. ومثاله/ ذهب بفضة.
ـ القسم الثالث: إذا اختلفا في الجنس والعلة. كبيع ذهب بشعير. فلا التقابض ولا التساوي.
ـ القسم الرابع: أن يتفقا في الجنس ويختلفا في العلة. وهذا القسم غير موجود وغير متصور. كيف يتفقا بالجنس ويختلفا في العلة هما جنسهما واحد فكيف يختلفا في العلة.
ولعل هذا من الأمثلة التي تدل على أنه لا يمكن استنتاج تقسيم رباعي من كل ثنائين. فليس أي ثنائين يمكن أن نستنتج منهما رباعي فالآن عندنا جنس وعلة لا نستطيع أن نخرج منهما أربع أنواع بل نخرج منهما ثلاثة أنواع لأنه إذا اتفقا الجنس ذهب وذهب فلا يمكن أن تختلف العلة. وبر وبر فلا يمكن ان تختلف العلة ومستحيل.
إذاً: التقسيم الأخير هذا غير واقع ولا متصور أصلاً.
وعرفنا بهذا التقسيم كيفية بيع الربويات من حيث التساوي ومن حيث القبض.
- قال - رحمه الله -:
- وما لا كيل فيه ولا وزن، كالثياب والحيوان: يجوز فيه النساءُ.
مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة - يريد أن يقول: والأموال التي ليست من الأموال الربوية يجوز فيها التأخير والتفاضل.
ولو أنه عبر بهذا التعبير لكان كالقاعدة وأوضح من ان يقول: وما لا كيل فيه ولا وزن: كالثياب والحيوان.
لو قال والأموال التي ليست ربوية.
لأن ما لا كيل فيه ولا وزن لا ربا فيه لأن العلة عند الحنابلة هي الكيل والوزن فقط.

-
ثم قال - رحمه الله -:
- كالثياب والحيوان.
الثياب ليست ربوية.
والحيوان الحي ليس بربوي.
(4/8)
________________________________________
لأنه لا مكيل ولا موزون.
فيجوز أن يبيع الإنسان ثوب بثوبين.
ويجوز أن يبيع ثوب بثوبين إلى أجل.
ويجوز أن يبيع حيوان بحيوانين إلى أجل وحال.
والدليل على مسألة بيع الحيوان بالذات:
- حديث ابن عمر الصحيح المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ البعير إلى قلائص الصدقة ببعيرين.
فكان يأخذ من الشخص بعير فإذا جاءت الصدقات أعطاه بعيرين مع الاتفاق المسبق.
فهذا دليل على أن الحيوانات ليس فيها ربا. سواء كان المقصود من الحيوان اللحم أو الزينة أو الركوب أو أي شيء مما يقصد من الحيوانات فإنه يبقى مالاً ليس بروي لا موزون ولا مكيل.
فإن قيل/ اليوم بعض الثيران الصغيرة تباع بالوزن. وهو حي.
فالجواب ماتقدم: أنه لا عبرة ما تعارف عليه الناس مما يخرج عن عرف أهل المدينة وأهل مكة.
- قال - رحمه الله -:
- ولا يجوز بيع الدين بالدين.
بيع الدين بالدين محرم وهو من الربا.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الكاليء بالكاليء. والكاليء هو المؤخر فلا يجوز أن نبيع مؤخر بمؤخر.
- الوجه الثاني: الإجماع. فإن الإمام أحمد - رحمه الله - سأل عن هذا الحديث: (بيع الكاليء بالكاليء) فقال: الحديث ضعيف وهو مجمع عليه. يعني: أن إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت ولكن المعنى الذي فيه محل إجماع. ولا أعلم أنه يوجد مخالف في هذه المسألة إلا بعض المعاصرين مما ينبغي أن لا يعول على قولهم لمخالفة الإجماع السابق المحكم.
مثال هذه المسألة:/ إذا اشترى الإنسان بخمسة أريل ثوب واتفقوا على تأخير تسليم الثوب وتأخير تسليم الثمن فحينئذ يكون من بيع الدين بالدين لأن كلاً من العوض والمعوض كلاهما مؤخر.
فهذا لا يجوز وهو مجمع على بطلانه.
أما إن كان أحد العوضين سواء كان الثوب أو الثمن مسلم في مجلس العقد فإن العقد صحيح.
(4/9)
________________________________________
((السلم سياتينا أنه يشترط فيه تسليم الثمن في مجلس العقد، الاستصناع سيأتينا: الاستصناع والتوريد مستثنى من هذه القاعدة لأدلة أخرى لأنه بالتوريد الثمن والمثمن مؤخر وفي الاستصناع الثمن والمثمن مؤخر لكن في الاستصناع المنظور إليه الصنعة لأن ما يوجده المستصنع يأتي بالتدريج شيئاً فشيئاً فهو بالإجار أشبه منه ببيع الدين بالدين. فيما عدا الاستصناع والتوريد المسألة مجمع عليها أنها لا تجوز أما الاستصناع والتوريد اففيه خلاف لعله ياتينا في السلم.
على كل حال الاستصناع والتوريد الأقرب جوازه وأنه خارج عن هذه القاعدة.

فصل
[في أحكام الصرف]
- قال - رحمه الله -:
-[فصل) ومتى افترق المتصارفان.
هذا الفصل في الصرف.
والصرف له معنى في اللغة وله معنى في الاصطلاح.
فمعناه في اللغة: منتشر وله عدة معاني لكن هذه المعاني تعود إلى رجوع الشيء.
ويمكن أن نقول تسهيلاً: أن معنى الصرف في لغة العرب إبدال الشيء بغيره.
ومقصودي بأن هذا معناه في لغة العرب يعني: الذي يعنينا في هذا الباب. وإلا له معاني كثيرة.
وأما معنى الصرف في الاصطلاح: فهو بيع نقد بنقد من جنسه أو من غير حنسه.
هذا التعريف هو تعريف للجماهير: الأئمة الثلاثة وجماهير الفقهاء.
وذهب مالك إلا: أنه إن بيع بجنسه فهو مراطلة.
وإن بيع بغير جنسه فهو صرف.
فإذا بعت ذهب بذهب: فاسمه عند الجمهور: صرف.
واسمه عند المالكية: مراطلة.
وإن بعت ذهب بفضةفاسمه عند كل أهل العلم: صرف.
ولا يظهر لي أن هذا الاختلاف في التسمية له أي أثر في الأحكام. إنما هي تسميه.
- قال - رحمه الله -:
- ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض: بطل العقد فيما لم يقبض.
إذا افترقوا قبل التقابض بطل العقد.
والدليل على هذا:
- ما أخرجه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بيع الذهب بالفضة ربا إلا هاء وهاء). وهذا نص في الصرف صريح جداً وهو أخص من حديث عبادة الذي فيه: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا يداً بيد) وإن كان هذا الحديث دليل ونص إلا أن هذا الحديث أكثر تنصيصاً على أحكام الصرف.
- الدليل الثاني: الإجماع. فإن هذه المسألة محل إجماع. أنه إذا باع النقد بالنقد لابد من التقابض.
-
(4/10)
________________________________________
يقول - رحمه الله -:
- قبل قبض الكل أو البعض: بطل العقد فيما لم يقبض.
أشار - رحمه الله - إلى أنه إن تفرقوا قبل قبض كل الثمن بطل العقد برمته.
وإن تفرقوا قبل قبض بعض الثمن بطل فيما لم يقبض وصح فيما قبض.
فإذا اشتريت أنا عشرين درهماً بدينارين: سلمته دينار وأخرت الدينار الآخر وأخذت العشرين درهم فالحكم أنه يصح في المقبوض وهو عشرة دراهم ويبطل في الذي لم يقبض وهو العشرة الأخرى.
وتصحيح هذه المسألة مفرع على مسألة تفريق الصفقة التي تقدمت معنا - فعلى القول بصحة تف ريق الصفقة تكون هذه المعاملة صحيحة وعلى القول ببطلان الصفقة وعدم تفريقها يكون البيع برمته باطل.
وتقدم معنا أن الصحيح صحة تفريق الصفقة بناء عليه نقول أيضاً يصح هذا البيع فيما قبض ويبطل فيما لم يقبض.
- قال - رحمه الله -:
- ومتى افترقا.
لم يبين المؤلف - رحمه الله - حد هذا الافتراق ولا شروطه ولا صفته والسبب في ذلك: ان هذا الافتراق كالافتراق الذي ذكر في خيار المجلس بكل تفاصيلة.
فإذاً الافتراق هنا إنما هو افتراف بالأبدان لا بالأقوال. وهو يتعلق أكثر ما يتعلق بالمكان.
فإذا أعطيتك عشرة وأخذت منك عشرة بعد ساعتين ونحن في مكان واحد فالصرف صحيح.
فكلمة التأخير هنا في باب الصرف ليست مقصودة بقدر ما هو أن يسلم العوض والمعوض في نفس المجلس ولو مع التأخير ماداموا في نفس المجلس. لأن هذا الذي تعطيه كلمة الافتراق.
هكذا قرر الفقهاء مع العلم أن الأحاديث فيها إشارة إلى خلاف هذا وأن المقصودالتسليم الفوري المباشر لأنه يقول: (هاء وهاء) يعني: خذ وأعط. وأصرح منه: (إلا يداً بيد) فكأنه لابد أن يعطي وياخذ.
لكن في الحقيقة القول بأن الأمر مربوط بالمجلس أرفق بالناس وعليه الجماهير بل إني لم أقف على خلاف في أن المقصود بالافتراق هو الافتراق في المجلس.
والمحاذير التي منع من أجلها التأخير في الصرف لا توجد في هذه الصورة.
فالأقرب إن شاء الله أن المقصود في المجلس فما داموا في المجلس فلو أخروا لوقت طويل فإنه الصرف صحيح.
(4/11)
________________________________________
وفي مسألة/ لا تظن أن إيطال الصرف أمره يسير يعني: لا تقول: إبطال الصرف أمر سهل لأنا إذا أبطلنا الصرف نقول لهم تصارفوا من جديد هذا غير صحيح لا سيما في وقتنا هذا إذ قد تختلف القيمة اختلاف كثير جداً في وقت قصير في ساعات أو في دقائق.
فإذا اشتريت بالأريل دولار أمريكي ثم بطل الصرف وأردنا أن نعيد الصرف بعد ساعتين ربما يرتفع ارتفاعاًً عظيماً جداً فيحصل اختلاف بين المتبايعين.
فليس الأمر سهلاً بالنسبة لإبطال الصرف تقول يتصارفان من جديد بل هو أعظم من البيع لأن ثبات أسعار السلع أكثر من ثبات أسعار العملات. ومن هذه الجهة فقط يكون اصرف أصعب.
- قال - رحمه الله -:
- والدراهم والدنانير: تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل.
يعني: إذا اشترى الإنسان لعة بهذه الدنانير المعينة التي أشار إليها فإن هذه الدنانير تتعين وتكون هي الثمن ولا يجوز أن يبدل هذه الدراهم ولا هذه الدنانير.
العلة: استدل الجمهور على ذلك:
- بأن هذه الدراهم أو الدنانير هي أحد عوضي العقد وعوض العقد لا يجوز تبديله قياساً على السلع. ولذلك قالوا: إن الدراهم والدنانير تتعين.
وهذا مذهب الجماهير: الأئمة الثلاثة لم يخالف إلا الأحناف.
((الأذان))
نتم هذه المسألة:
= القول الثاني للأحناف. أن الدراهم والدنانير لا تتعين إن عينت في العقد بل يجوز أن يبدلها ولا تأخذ أحكام المعينات.
واستدلوا على هذا:
- بأنه يجوز إطلاق الدراهم والدنانير بلا تعيين فإذا كان يجوز أن تطلق بلا تعيين كذلك يجوز أن تبدل إذا عينت.
فيقول الأحناف نحن نستطيع أن نشتري بلا تعيين. حينئذ تكون مطلقة. فقالوا كذلك إذا عينتها فلتكن مطلقة كما إذا لم تعينها لأنه في الأصل نستطيع ان لا نعين.
وإذا تأملت في الحقيقة تجد أن هذا الدليل وجيه جداَ.
وجه قوة هذا الدليل أن هذا الدليل يبين الفرق بين الدراهم والدنانير والسلع.
نحن نقول في السلعة لابد أن تعين من شروط صحة البيع العلم بالمبيع بينما الدراهم والدنانير لايجب أن تعين إنما يجب أن يعين مقدارها أما ذاتها فى يجب أن تعين.
فهي في الحقيقة من هذه الجهة تختلف عن السلع فيجوز أن لا تحدد ولا تعين بخلاف السلع يجب أن تحدد وتعين.
(4/12)
________________________________________
ففي قول الأحناف قوة في الحقيقة ووجاهة وتتأكد جداً قوى هذا القول في الورقيات لأنه وإن اختلف الدينار والدرهم في القديم ضربه وزنته وجودته وكونه مغشوش أو غير مغشوش كل هذه الأمور غير موجودة في الأوراق النقدية.
مع ذلك لو أراد البائع أو المشتري أن يشترط تحديد وتعيين أحد الأوراق النقدية بذاتها لغرض فيها فإنه يجب أن لا تبدل وتتعين بالتعيين حتى لو رجحنا قول الأحناف.
المثال المشهور/ لغرض البائع في تحديد الأوراق النقدية: أن لا يريد إلا فئة معينة. هو لا يريد إلا مقابل فئة معينة. يريد فئة مائة يريد فئة خمسمائة فئة أقل أو أكثر وله غرض صحيح في طلبه لهذه الفئة فلا يجوز أن اقول اشتريت منك هذا الشيء بخمسمائة ونعين خمسمائة من فئة ورقة واحدة ثم آتي بخمسمائة من فئة خمس ورقات.
في هذه الصورة وجيه قول الجمهور وهي انها تتعين.
أما إذا لم يوجد أي مبرر ولا سبب فقول الأحناف وجيه في الحقيقة وقوي ويتأكد في الأوراق النقدية.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
(4/13)
________________________________________
شرح كتاب البيع الدرس رقم (17)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قبل أن نبدأ هذا الدرس هو آخر درس في الفصل الثالث وتتوقف الدروس بعد هذا الدرس إن شاء الله. ويكون أول درس هو أول يوم في الفصل الثاني بالنسبة لهذه السنة الدراسية والفصل الرابع بالنسبة للدورة.
- قال - رحمه الله -:
- وإن وجدها مغصوبة: بطل.
يعني: إذا صارف وكان أحد العوضين يعني أحد النقدين مغصوباً فإن المصارفة تبطل.
لأنا تبينا أنه صارف على غير ماله وإذا باع الإنسان أو اشترى بغير ماله فإن العقد باطل.
والسبب في البطلان هنا: مبني على ان النقود تتعين.
فإذا صارف ريال بريال والمشتري غصب الريال فالعقد باطل ولا نقول تأتي بريال بدل الريال بل نقول العقد باطل.
- قال - رحمه الله:
- ومعيبة من جنسها: أمسك أو رد.
يعني: إذا صارف الإنسان بنقد معيب. فالحكم:
(4/14)
________________________________________
= عند الحنابلة: كما قال المؤلف - رحمه الله -: (أمسك أو رد).
والواقع أن الإنسان إذا صارف بنقد معيب ينقسم الأمر إلى قسمين اشار إليهما الماتن حين قال هنا: (ومعيبة من جنسها)
فالصرف المعيب ينقسم إلى قسمين:
ـ أن يكون معيباً من جنسه.
ـ أن يكون معيباً من غير جنسه.
ـ * القسم الأول هو الذي أشار إليه المؤلف - رحمه الله - وهو أن يكون معيباً بجنسه. كأن يبيع دينارا صحيحاً سليماص بدينار معيب إما بان يكون أبيضاً أو خشناً أو أي عيب لكن في جنس هذا المعدن يعني في جنس الدينار.
فحينئذ المشتري مخير بين أمرين: ـ إما أن يمسك. ـ وإما أن يرد.
فإن اختار الإمساك: ففي ثبوت الأرش له تفصيل وهو ينقسم إلى قسمين: ـ إما أن يكون صارف نقداً بجنسه فحينئذ لا يبثت الارش لأن الارش يؤدي إلى الزيادة ونحن نقول: ان مبادلة الشيء بجنسه لا يجوز فيه التقابض.
ـ الثاني: أن يصارف بغير جنسه كان يصارف درهم بدينار ثم يتبين أن الدينار مغشوش بجنسه أو معيب بجنسه فحينئذ يجوز الأرش لكن بشرط أن يتم التسليم في مجلس العقد.
لأن مصارفة الذهب بالفضة يشترط فيها التقابض.
وبهذا عرفنا حكم المصارفة بنقد معيب إذا كان العيب من جنس النقد.
ـ * القسم الثاني: أن يكون من غير جنسه. كأن يوضع في الدينار نحاس. يخلط مع الدينار نحاس فحينئذ يبطل العقد لأنا تبينا أنه عقد على غير المسمى في العقد فهو أبدل دينار بدرهم والواقع أن هذا الدينار ليس ديناراً وإنما دينار فيه نحاس. فيبطل العقد من أصله.
وبهذا عرفنا كامل الحكم فيما إذا صارف بنقد معيب ولعل المؤلف - رحمه الله - اقتصر على ذكر العيب الذي من الجنس لأن العيب الذي ليس من الجنس حكمه قريب من حكم المسألة السابقة وهي المغصوب وهو ان العقد يبطل. لكن في المغصوب يبطل: لأن الثمن ليس ملكاً للمصارف وهنا يبطل لان العوض أصبح يختلف عن المسمى أثناء العقد.
- ثم قال - رحمه الله:
- ويحرم الربا: بين المسلم والحربي.
= ذهب جماهير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل العلم إلى أن الربا محرم حتى بين المسلم والحربي. فذهب إليه أحمد ومالك والشافعي وجمهور وجملة فقهاء المسلمين.
واستدلوا على هذا:
(4/15)
________________________________________
- بأن النصوص الدالة على ىحرين الربا عامة مطلقة لم تخصص أن يعامل الإنسان حربياً أو غير حربي.
= والقول الثاني: أن المسلم إذا عامل الحربي لكن بشرط أن تكون المعاملة في دار الحرب فإنه يجوز الربا.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: أن مال الحربي هو برمته مباح فالزيادة في المعاملة من باب أولى فهو في الحقيقة أخذه لأن مال الحربي مباح ولم يأخذه بعقد ربوي.
- الدليل الثاني: مرسل عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب). وهذا الحديث ضعفه أهل العلم وممن ضعفه من الأمة الإمام الشافعي.
والراجح إن شاء الله القول الأول. لأن إباحة مال الحربي لا تعني أن يؤخذ بطريق محرم والربا الذي اكتسبه محرم بالنصوص الصريحة.
-
ثم قال - رحمه الله:
- وبين المسلمين مطلقاً، بدار إسلام أو حرب.
يعني: ويحرم التعامل بين المسلمين بالربا ولو كانوا في دار حرب أما في دار الإسلام فهي محل إجماع كما تقدم معنا.
وأيضاً في دار الحرب هي محرمة لأنه إذا حرم على الإنسان أن يرابي مع المسلم الحربي فمن باب أولى أن يرابي مع المسلم فهو محرم ولا يجوز.
وبهذا كمل باب الربا إن شاء الله نسأل الله أن تكونوا فهمتم ما فيه من مسائل وننتقل إلى باب أسهل بكثير من باب الربا وهو باب بيع الأصوال والثمار.

باب بيع الأصول والثمار
- قال - رحمه الله -:
- باب بيع الأصول والثمار.
قوله: (باب بيع الأصول). الأصل هو ما يتفرع عنه غيره.
والمقصود به هنا في هذا الباب الدور والاراضي والشجر. هي الأصول.
وقوله: (والثمار) الثمار اصطلاحاً: هي ما تحمله الأشجار. فهذا هو المقصود بالثمار في الاصطلاح.
وإنما نص على الثمر مع أن الشجر داخل في كلمة الأصول لأن الإنسان قد يبيع الثمرة بلا أصلها كما سيأتينا ولذلك نص عليها في الباب.
- قال - رحمه الله -:
- إذا باع داراً شمل: أرضها وبناءها وسقفها.
بدأ المؤلف - رحمه الله - في بيان الأمور التي تدخل في عقد شراء الدار.
وبدأ بهذه الثلاثة لأنها من أولى ما يدخل في شراء الدار.
فيدخل في شراء الدار البناء والسقف والأرض.
(4/16)
________________________________________
وهذه الأشياء تدخل في شراء الدار بالإجماع لم يخالف في هذا أحدمن أهل العلم.
ودليل هذا الإجماع:
- أن هذه الثلاثة تدخل دخولاً أولياً في مسمى الدار.
فهذه الثلاثة لا إشكال فيها إن شاء الله.
- ثم قال - رحمه الله:
- والباب المنصوب، والسّلم.
يعني: ويدخل في العقد على الدار: كل باب منصوب والسلم.
ودليل دخول هذه الأشياء في الدار:
- أن هذه الأشياء متصلة بالدار ولا تتم المصلحة من الدار إلا بها.
ومفهوم قول المؤلف - رحمه الله - الباب المنصوب: أن الباب الذي لم ينصب في الجدار ويركب وإنما موضوع في ناحية من البيت إما مخزن أو لأي غرض آخر فإنه لا يدخل في مسمى العقد إنما الذي يدخل في مسمى العقد الباب المنصوب المركب أثناء إجراء العقد.
إذاً: عرفنا الآن حكم خمسة أشياء: - الأرض. - والبناء. - والسقف. - والباب. - والسلم.
-
قال - رحمه الله -:
- والرّف المسمورين.
يعني: السلم والرف المسمورين.
فيشترط لدخول السلم والرف أن يكون مسموراً وبعبارة أخرى أوسع أن يكون مثبتاً في الدار بمسمار أو بغيره أو بأي شيء. المهم أن يكون مثبتاً في الجدار.
فإذا كانت هذه الأشياء مثبتة في الدار فهي داخلة في مسمى العقد وهي: داخلة في هذا المبيع وهو الدار.
- يقول - رحمه الله -:
- والخابية المدفونة.
الخابية: هي وعاء كبير من الطين يوضع فيه عادة السمن أو الدهن وقليلاً الماء.
ويكون مدفوناً تحت الأرض في عادة المتقدمين.
عرفنا الآن أن شرط السلم والرف أن يكون مسموراً.
فإن كان موضوعاَ فهو من أملاك المشتري أو البائع؟ البائع.
والخابية شرطها آخر وهي: أن تكون مدفونة.
فإن لم تكن مدفونة وإنما موضوعة بجانب البيت فهي تبع للبائع.
التعليل على دخول السلم والرف والخابية:
- أنها متصلة بالدار لمصلحتها فشملها العقد.
- ثم قال - رحمه الله:
- دون ما هو مودع فيها: من كنز وحجر.
الكنز هو المال المدفون.
وبطبيعة الخال لا نقول هنا من أيام الجاهلية بل نقول الكنز المدفون ويقصد بكلمة الكنز المدفون. يعني: من قبل مالك البيت الأول.
والحجر: معروف. لكن الأقرب أن الحنابلة يقصدون بالحجر الأحجار التي لها قيمة ووزن ومرغوبة.
(4/17)
________________________________________
فالكنز والحجر المدفون ليس داخلاً في البيع وهو من أملاك البائع لأنه موضوع في الأرض بقصد استخراجه.
فليس متصلاً بالبيت اتصالاً ثابتاً دائماً وإنما متصل به على وجه أخذه بعد فترة.
فالكنز والحجر ولو نسيه البائع فهو لا يدخل في العقد وله أن يرجع ويستخرج الكنز أي ماله الذي دفنه والحجر ويأخذه معه.
وقولهم: (الكنز والحجر) إنما هو على سبيل التمثيل. ومثل به لأن غالب ما يدفن عند الأقدمين هو هذا إما الكنز أو حجر.
لكن لو افترضنا أنه دفن أي شيء آخر فإنه له ولو نسيه ورجع بعد فترة فهو له يستخرجه لأنه لم يدخل في مسمى العقد.
لما بين المؤلف - رحمه الله - أحكام المتصلات من الأعيان الموجودة في البيت وهي تنقسم كما مر معنا إلى قسمين: متصل: داخل في العقد. ومتصل غير داخل بالعقد - كما مر معنا الآن. انتقل إلى المفصلات:
- فقال - رحمه الله -:
- ومنفصل منها: كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح.
المنفصلات لا تدخل في العقد.
ومثل لها المؤلف - رحمه الله -: بالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش والمفاتيح.
هذه الأشياء منفصلة عن الدار فلا تدخل في مسمى العقد لأنها لا تدخل في مسمى الدار وليست متصلة بها فهي ملك للبائع.
وهذه الاعيان التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - بعضها لا إشكال فيه وهو محل إجماع كالفرش والحبل والدلو والبكرة. هذه الأشيا محل إجماع.
لكن بعض هذه الأشياء التي مثل بها المؤلف - رحمه الله - محل خلاف وليست محل اتفاق.
منها: ـ المفتاح. فالمفتاح في الحقيقة فيه خلاف داخل المذهب وخارج المذهب.
= فالحنابلة يرون أنه لا يدخل في مسمى الدار وأنه لا يدخل تبعاً لذلك في مسمى العقد لأنه منفصل عن الدار.
= والقول الثاني: أن المفتاح داخل في مسمى العقد.
- لأن مصالح الدار لا تتم إلا به.
- ولأن التسليم الذي هو القبض يتم في الدور بتسليم المفتاح. فلذلك اعتبروها داخلة في مسمى العقد ويجب على البائع أن يسلم هذه الفاتيح إلى المشتري.
وكما ترون هذا القول هو القول الصحيح.
* * مسألة/ ذكرها الحنابلة وهي مفيدة ليقاس عليها كا ما هو من جنسها.
نحن الآن ذكرنا المتصلات والقسم الثاني: المنفصلات.
(4/18)
________________________________________
المسألة هي في القسم الثالث: وهي الذي بعضه متصل وبعضه منفصل. مثل حجر الرحا.
حجر الرحا قاعدته متصلة مربوطة في الأرض مثبتة وعلويه ينزع.
= فالحنابلة يقولون: قاعدة الرحا تبع البيت وغطاء الرحا تبع البائع يعني: لا يدخل في العقد.
لماذا؟
- لأن أصلها متصل ثابت وأعلاها منفصل. والقاعدة عند الحنابلة: التفريق بين المتصل والمنفصل.
= والقول الثاني: أن هذه الأعيان التي تنقسم إلى متصل ومنفصل أنها داخلة في مسمى البيع وهي تبع للبيت.
- لأن الجزء المثبت منها لا ينتفع به إلا بالجزء المتحرك.
وهذا القول الثاني كما ترى قوي وسديد وواضح جداً وهو أن كل شيء يثبت في البيت فالجزء المنفصل منه تبع له وهو داخل في مسمى العقد.
ثم بعد ذلك نقول: بعد أن فصَّل المؤلف - رحمه الله - في الأعيان التي تدخل في مسمى الدار:
أقول: أن هذه الأمور ترجع إلا العرف. والأعراف حاكمة على عقود الناس.
فإذا دلَّ العرف على أن هذه الأشياء داخلة في مسمى العقد فتدخل وإذا لم يدل فإنها لا تدخل.
وإنما ينتفع بكلام الفقهاء وتعليلاتهم واستدلالاتهم بالأشياء التي ليس فيها عرف أو الأشياء التي اختلفت فيها الأعراف حينئذ ننتفع من هذه التفصيلات بتقرير ما ذكره الفقهاء.
فمثلاً/ من الأشياء التي انتهى الخلاف فيها ولم يعد له وجود مطلقاً مسألة المفتاح والقفل. هل [يوجد] أحد من المعاصرين يمكن أن أن يقول أن المفتاح والقفل ليس داخل في مسمى البيت؟ لا يمكن أبداً. فإذاً دلت هذه المسألة على أن العرف في كثير من البيوع حاكم. إذا كان العرف واضح وجلي وليس فيه تردد ولا اختلاف.
كذلك هذه مشمولات المبيع نرجع فيها إلى الاعراف سواء في الدور أن في الأراضي التي ليست بساتين أو في الأراضي التي هي بساتين.
فمثلاً/ اليوم بيع المزارع جرى العرف أنه لا يشمل بهيمة الأنعام التي فيها.
لكن جرى العرف أنه يشمل الأحواش ولو كانت من أشياء منفصلة متحركة كالشبك مثلاً: جرى العرف أن ما في المزرعة من شبوك وأحواش مسورة أنها داخلة في مسمى العقد دون ما فيها من بهيمة الأنعام ودون ما في هذه الأحواش من أعلاف. فكل هذه الأمور لا تدخل بينما الأحواش تدخل.
(4/19)
________________________________________
هذه أمثلة تبين أن المرجع في دخول بعض الأشياء وخروجه هو العرف.
-
قال - رحمه الله -:
- وإن باع أرضاً ولو لم يقل: ((بِحُقُوقِهَا)) شمل: غرسها وبناءها.
إذا باع أرضاً فإما أن يقول: اشتريت هذه الأرض بحقوقها.
أو يقول: اشتريت هذه الأرض ولم يقيد ذلك بحقوقها.
ـ فإن قال: اشتريت هذه الأرض بحقوقها: دخلت بالإجماع. والحقوق مثل ما ذكره المؤلف - رحمه الله: الغرس والبناء.
ويجب أن تلاحظ أنا نتكلم عن شراء الأرض بينما لو أنه شرى البناء لدخلت الأرض بلا خلاف. لكن إذا اشترى الأرض نحن الآن نحتاج إلى الكلام في حكمها.
فإذا اشترى الأرض: ـ فإن قال بحقوقها دخلت الأشجار والبنيان بالإجماع.
ـ وإذا قال اشتريت الأرض وسكت ففيه خلاف:
= القول الأول: أنه إذا اشترى الأرض دخلت الحقوق في الأرض ولو لم ينص عليها في العقد.
استدلوا على هذا:
- بأنه إذا اشترى الأرض ونص على حقوقها دخلت بلا خلاف فكذلك إذا لم ينص على حقوقها. لأن النص على حقوقهالا كشف لنا أنها داخلة.
= والقول الثاني: أنه إذا اشترى أرضاً فيها غرس وبناء فيها شجر وبناء فإن الشجر والبناء لا يدخل في مسمى الأرض.
واستدلوا على هذا:
- بأن كلمة الأرض تطلق على غير الغرس والبناء فالغرس والبناء لم يدخل في مسمى العقد فلا يشمله العقد.
والراجح: القول الأول: وهو كما ترى مذهب الحنابلة: أنه إذا اشترى أرضاً شمل الغرس والبناء ولو لم يقل بحقوقها.
وهذه المسألة من أمثلة المسألة السابقة وهي أن العرف أنهى الخلاف الفقهي.
فاليوم إذا اشترى الإنسان أرضاً: هل يمكن أن يطالب الإنسان بالشجر الذي فيها؟
يدخل الشجر والبناء وكل ما على الأرض بلا جدل ولا نقاش بل يحتاج إذا أراد أن يقلع الشجر أن يشترط ذلك في العقد. من الذي يحتاج أن يشترط؟ البائع. إذا أراد أن يحمل معه الغرس يحتاج إلى اشتراط.
فإذا كان البائع هو الذي يحتاج إلى اشتراط صار دخوله في ملك المشتري بديهي وأولوي.
إذاً: هذا أيضاً من أمثلة أن العرف أنهى الخلاف الفقهي.
-
قال - رحمه الله -:
- وإن كان فيها زرع كبر وشعير: فلبائع مبقى.
ما زال المؤلف - رحمه الله - في بيان الأشياء الموجودة على الأرض.
(4/20)
________________________________________
فإذا كان فيها زرع وهذا الزرع يحصد مرة واحدة: كالبر والشعير فإنه ملك لمن؟ للبائع.
إذا كانت هذه الأشياء تؤخذ مرة واحدة فهي للبائع بالإجماع بلا خلاف.
ويلحق بالزرع الذي يحصد مرة واحدة كل ما يلقط مرة واحدة مثل/ الجزر والبصل والثوم. هذا يلقط: مرة واحدة. فهو يشبه حصاد القمح والبر والشعير.
فهذه الأشياء التي تؤخذ مرة واحدة هل للبائع بالإجماع لماذا؟
- قالوا: لأن هذه الأشياء توضع في الأرض بقصد أخذها فهي كالفرش بالنسبة لبيع الدور.
وهذا أمر واضح جداً وهي كما قال المؤلف - رحمه الله -: للبائع بلا إشكال. فإنه ما أودعها إلا ليأخذها.
ثم انتقل إلى نوع آخر:
- فقال - رحمه الله -:
- وإن كان يُجَزُّ أو يلقط مراراً: فأُصوله للمشتري. والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع: للبائع.
الذي يجز مراراً: كالرطبة. الذي يسمى البرسيم.
والذي يلقط مراراً: كالقثاء. وكل ما يلقط أكثر من مرة.
فهذه حكمها يختلف وفيه تفصيل:
ـ فأصول الشجر للمشتري واللقطة الظاهرة للبائع.
لكن يشترط أن يجز هذه اللقطة الظاهرة فوراً. لئلا تختلط مع ما ينبت بالتدريج ولا يمكن التمييز بين ما هو للمشتري وما هو للبائع.
الدليل: أن اللقطة الظاهرة للبائع: قالوا: أن الدليل:
- أن اللقطة الظاهرة تشبه الثمر بعد التأبير. والثمر بعد التأبير ملك للبائع. ولما كانت هذه اللقطة الظاهرة تشبها أخذت نفس الحكم.
وأما الدليل على أن أصل الشجر للمشتري:
- فلأنه أصل ثابت تابع للأرض.

فعرفنا الآن أن الشيخ - رحمه الله - قسم ما ينبت في الأرض إلى ثلاثة أقسام:
ـ القسم الأول: الأصول الثابتة من الشجر وأصول النباتات التي تثمر مراراً فهذه للمشتري.
ـ والقسم الثاني: ما يلقط مرة واحدة فهذا للبائع.
ـ والقسم الثالث: بين القسمين فأصوله للمشتري ولقطته الظاهرة للبائع.
وفي هذا التقسيم أروع ما يكون من العدل والإنصاف للمشتري والبائع وإعطاء كل واحد منهما ما يستحقه بعد إجراء العقد.
- قال - رحمه الله -:
- وإن اشترط المشتري ذلك: صح.
يعني: كل ما قلنا إنه للبائع: إن اشترطه المشتري فهو لمن؟ للمشتري.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم.
(4/21)
________________________________________
فإن قيل: كيف يصح اشتراط اللقطة وهي مجهولة إذا لا يعرف كمية هذه اللقطة ولا العدد ولا الجودة ولا النوعية ولا يعرف عنها شيء؟ فكيف نجوز استثناء شيئاً مجهولاً؟
فالجواب: أن استثناء المجهول إذا كان تبعاً لأصله المعلوم وليس هو المقصود بالذات فهو جائز.
فهذه الأشياء دخلت تبعاً للأرض فالجهالة فيها مغتفرة.

فصل
[في بيع الثمار وما يتعلق به]
- قال - رحمه الله -:
- فصل.
ذكرت لكم أن المؤلف - رحمه الله - عقد هذا الباب لبيان أحكام بيع الدور والأراضي وهذا انتهينا منه في الفصل السابق.
ولبيان أحكام الثمار وهذا عقد له هذا الفصل اللاحق.
- يقول - رحمه الله -:
- ومن باع نخلاً تشقق طلعه: فلبائع مبقى إلى الجذاذ إلاّ أن يشترطه مشترٍ.
إذا باع الإنسان النخل فاختلف الفقهاء في حكم الثمرة التي فيه واختلفوا إلى أربعة أقوال:
= القول الأول: وهو المذهب. وهو: إن كان البيع تم والطلع تشقق فالثمرة للبائع وإلا فهو للمشتري.
والطلع: هو الوعاء الذي يكون في التمر قبل أن ينضج وأن يظهر.
فإذا تشقق وخرجت الثمرة الصغيرة منه فهو ملك للبائع.
قال الحنابلة: سواء تشقق بنفسه أو بصنع الآدمي: (أو شقه الآدمي) ليلقحه.
وسواء تم العقد قبل التلقيح أو بعد التلقيح.
فمناط ملك البائع لها عند الحنابلة هو: تشقق الطلع.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأن الحكم بكون الثمرة للبائع أو للمشتؤي مرتبط بظهور الثمرة. وظهور الثمرة إنما يكون بعد تشقق الطلع.
فجعلنا المناط هو تشقق الطلع.
= القول الثاني: أن البيع إذا تم والثمرة مؤبرة يعني ملقحه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري.
واستدلوا على هذا:
- بالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ولاشك في صحته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلاً بعد أن يؤبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع). فهذا الحديث نص في تعليق الحكم بالتأبير لا بالتشقق.
فقالوا: أن الحكم يناط بالتأبير متابعة للحديث.
وأجاب الحنابلة: بأن المقصود بالحديث أي بالتأبير في الحديث: يعني: معرفة طلوع الثمرة. لا حقيقة التأبير. وطلوع الثمرة يتبين بتشقق الطلع.
وأجاب أصحاب القول الثاني: بأن هذا التأويل صرف للحديث عن ظاهره بلا دليل يؤيد هذا الصرف.
(4/22)
________________________________________
= القول الثالث: أن الإنسان إذا باع النخل فالثمرة للبائع مطلقاً. مطلقاً بدون تفصيل.
واستدل هؤلاء:
- بالقياس على بيع الأرض ومعها الزرع.
وتقدم معنا: أن الإنسان إذا باع الأرض وفيها زرع فالزرع لمن؟ للبائع. فيه تفصيل أو بدون تفصيل؟ بدون تفصيل: إذا كان زرعاً يؤخذ مرة واحدة.
فقالوا: كذلك ثمرة النخيل أو ثمرة الأشجار.
= القول الأخير: وهو الرابع: أنه للمشتري مطلقاً.
واستدلوا:
- بأن هذه الثمرة تابعة للشجرة والشجرة ملك للمشتري.
وأحظ الأقوال بالنص هو القول الثاني.
إذاً: إذا الآن الإنسان باع نخلاً فيه ثمرة وسئلت وقيل لك: لمن تكون الثمرة؟ فالجواب: على القول الراجح: ـ إن كانت مؤبرة فهي للبائع. ـ وإذا كانت على وشك أن تخرف فهي للبائع لأنها حينئذ تكون [مؤبرة]
أنا ذكرت لكم أن الراجح هو القول الراجح هو القول الثاني. وأحب أن أنبه إلى شيء: القول الأول: قوي جداً. وهو المذهب مع أن القول الثاني هو الراجح. لماذا؟ وجه قوة القول الأول: أنك ستلاحظ في مسائل ستأتينا الآن وفي الدروس السابقة أن كثيراً من الفقهاء يعولون على خروج الثمرة في أحكام كثيرة. فيربطون الحكم أياً كان كما سيأتينا بخروج الثمرة مما يدل على أن ظهور الثمرة في الحقيقة يصلح لربط الحكم به بدليل ربطه به في مسائل كثيرة بعضها محل إجماع. مما يدل على أن نظرة الحنابلة نظرة قوية وليست بعيدة. بدليل أن الذين يرجحون القول الثاني وهو مسألة التأبير يضطرون إلى تعليق الحكم في مسائل أخرى.
أمر آخر: الحنابلة يعرفون الحديث وإمامهم رواه في المسند: يعرفون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلاً بعد أن تؤبر ... ) مع ذلك لم يربطوا الحكم بالتأبير وإنما ربطوه بظهور الثمرة نظراً للأصول الأخرى العامة.
غرضي من هذا: أن تعرفأن ترجيح قول من الأقوال كما مر علينا مراراً لا يعني أبداً الاستخفاف بقول آخر: اللهم إلا - لا يعني: الاستخفاف مطلقاً لكن قد يعني تضعيف بعض الأقوال تضعيفاً شديداً إذا صادمت النصوص.
(4/23)
________________________________________
[ ..... ]- كأن السائل قال: ما وجه الترجيح؟ -] (النص: يعني: مع وجود هذه العلل التي ذكرت والمعاني لكن ما دام في المسألة نص لا يمكن للإنسان أن يخرج عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - ربطها بالتأبير كما أنأصحاب هذا القول أيدوا قولهمى بأشياء تشبه ما أيد به أصحاب القول الأول قولهم: منها ومن أقواها: أن نظرة البائع للثمرة بعد التابير تختلف تماماً عن نظرته لها قبل التأبير لأن بعد التأبير يكون البائع قد تعب عليها وأبَّرَهَا وتشوف إلى ثمرتها فناسب أن يربط الحكم به.
ذكروا هذا وأنا أرى أن هذا جيد ولكن لا يكفي لولا الحديث لكان القول الأول وجيه جداً وهو أنا نربط القضية بظهوره لكن ما دام موجود حديث صحيح نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يربط الحكم بالتأبير فليس للإنسان أن يخرج عنه).
- ثم قال - رحمه الله:
- مبقى إلى الجذاذ.
يجب على المشتري الجديد أن يبقي الثمرة إلى الجذاذ.
وليس له أن يأخذ أجراً على هذه التبقية لأنها تبقية مستحقة للبائع بأصل العقد. فليس له - أي: للمشتري - أن يأخذ عليها أجراً.
وقوله - رحمه الله -: (إلى الجذاذ). المقصود بالجذاذ: يعني: إلى ما جرت به العادة من اكتمال الثمرة وبلوغها الحلاوة التي يصلح معها أن تقطف. لا إلى الجذاذ ولو تأخر هذا ليس بمقصود لكن عبروا بالجذاذ لأن الجذاذ غالباً يتوافق مع اكتمال نضج الثمرة.
فإذا بلغت الثمرة كمالها الأول وصارت صالحة للأكل بحلاوة معتادة فإنه يجب على البائع أن يقطف الثمرة فوراً ولو كان الإبقاء فيه صلاح زائد للثمرة بل يقول: يجب أن تقطف.
((الأذان))
- ثم قال - رحمه الله:
- إلاّ أن يشترطه مشترٍ.
إذا اشترط المشتري فهو له ولو بعد التأبير أو بعد التشقق.
- لصريح الحديث: (إلا أن يشترطه المبتاع) يعني: المشتري.
فإذا اشترطه صار ملكاً له بالشرط.
- ثم قال - رحمه الله:
- وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره.
(وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره) فالحكم فيها: كالتفصيل السابق؟ ـ إن اشتراها بعد ظهور الثمرة فهو: للبائع. ـ وإن اشتراها قبل ظهور الثمرة فهو: للمشتري.
فالحكم هنا معلق بالتأبير أو بظهور الثمرة؟ بظهور الثمرة مطلقاً.
(4/24)
________________________________________
إذاً: في الأشجار الأخرى التي غير النخيل: الحكم يعلق بظهور الثمرة.
-
ثم قال - رحمه الله:
- وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح.
(نوره) يعني: زهرته. يعنيك والثمرة التي زهرت من هذه الزهرة إذا كانت ظهرت فهي ملك للبائع وإن كان ( ... - كلمة غير واضحة - ... ) قبل ظهورها فهي ملك للمشتري.
فالحكم في الشجر وما يظهر ثماره من خىل زهوره حكم واحد.
- ثم قال - رحمه الله:
- وما خرج من أكمامه كالورد والقطن.
(الكم) هو الغلاف الذي يغلف الثمرة أو ما يخرج من النبات.
فإن كان خرج من أكمامه فهو للبائع وإن كان لم يخرج من أكمامه فهو للمشتري.
ومن الشجر الذي يخرج ثمره من أكمامه: النخيل. فالنخيل داخلة دخولاً أولياً بهذه العبارة ولكنه - رحمه الله - أراد أن يؤصل أن كل ثمرة تخرج من الأكمام أي من غلافها إن كانت خرجت فهي للبائع وإن كانت لم تخرج فهي للمشتري.
- قال - رحمه الله -:
- وما قبل ذلك والورق: فلمشتر.
يعني: ما قبل هذه الحدود: التشقق وظهور الثمرة. إذا تم العقد قبل التشقق وقبل ظهور الثمرة فهو: ملك للمشتري لمفهوم الحديث.
فالحديث نص على التفريق بين التأبير وعدمه.
ويستفاد منه التفريق بين ظهور الثمرة وعدم ظهوره.
- ثم قال - رحمه الله:
- الورق.
الورق والأغصان وكل ما في الشجرة عدا الثمر: ملك للمشتري بلا خلاف وإنما الخلاف والتفصيل في الثمر.
وإنما أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين وينص على هذا الحكم.
هذا ما تيسر والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

-[نهاية المذكرة .. وبه تنتهي دروس الفصل الأول من السنة الثانية من هذه الدورة المباركة والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .. وله الحمد في الأولى والآخرة .. ]
- أبو أسامة/ محمد بن مقبل بن رحيل الوهبي الحربي
(4/25)
________________________________________
الدرس: (18) من البيع

(تابع) باب بيع الأصول والثمار
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- قال - رحمه الله:
- ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، ولا زرع قبل اشتداد حبه.
أفاد المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع الثمرة أو الزرع إلا بعد بدو صلاح الثمر واشتداد الحب.
وقد دل على هذا الحكم - وهو تحريم البيع قبل بدو الصلاح واشتداد الحب:
- السنة الصحيحة الصريحة:
ـ فجاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع.
ـ وجاء أيضاً في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحب حتى يشتد، نهى البائع والمشتري.
فهذه الأحاديث صريحة في المنع من بيع الثمار قبل بدو صلاحها أو الحب قبل أن يشتد.
وهذا الحكم المتقرر يستثنى منه صور:
- الصورة الأولى: أن يبيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعاً لأصله، أي: أن يبيع الأصل وفيه ثمر لم يبد صلاحه: فحينئذ يجوز بيع الثمر في هذه الصورة ولو لم يبد صلاحه ما دام تبعاً للأصل، والأصل هنا - كما تعلمون - في الثمار الشجرة، وفي الزرع الأرض.
والدليل الدال على جواز البيع في هذه الصورة:
- القاعدة التي تقرر العمل بها عند الفقهاء وهي قولهم: ((يثبت تبعاً ما لا يثبتع استقلالاً))
- وقولهم: ((التابع تابع)) وهو نفس المعنى.
ودل على صحة هذه القاعدة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من باع عبداً وله مال فماله لسيده إلا أن يشترط المشتري). فهذا المال إنما صح بيعه لأنه تبع للعبد.
وستأتينا هذه المسألة وسيفصل المؤلف - رحمه الله - في بعض الأحكام الخاصة بهذه المسألة.
- الصورة الثانية: - التي تستثنى من الحكم: أن يبيع الزرع أو الثمر لمالك الأصل. استثنى الحنابلة هذه الصورة ورأوا أن هذا جائز.
(4/26)
________________________________________
صورة المسألة: أن يعطي إنسان إنساناً أرضاً مزارعة على النصف من الثمر، ففي هذا المثال الأرض لمالك الأرض والزرع بعضه لمالك الأرض وبعضه للمزارع.
ففي هذه الصورة يجوز للمزارع أن يبيع الحب قبل أن يشتد، لكن لمن؟ لمالك الأصل وهو في هذه الصورة: الأرض. نفس الشيء بالنسبة للثمر لكن في الثمر سيكون المثال مساقاة لا مزارعة، فإذا دفع أحد أرضه ليقوم على الشحر الذي فيها سواء كانت شجر نخل أو عنب أو غيره من أنواع الفواكه والثمار فنفس الشيء يجوز لمالك الثمر أن يبيع هذا الثمر قبل أن يبدو صلاحه لمالك الأصل، والأصل في مثال المساقاة هو: الشجر. هو الشجر لا الأرض.
فالأصل في المساقاة هو الشجر والأصل في المزارعة هو: الأرض.
فإذا قيل مالك الأصل يعني: مالك الشجر أو مالك الأرض.
= والقول الثاني: في هذه الصورة المستثناة: أنه لا يجوز. لا يجوز بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه ولو لمالك الأصل.
واستدل أصحاب هذا القول:
- بعموم النهي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ولم يستثن أن يكون البيع لمالك الأصل أو لغيره.
وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله وهو المتوافق مع النص.
إذاً يستثنى من هذا الحكم العام الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: يستثنى مسألتان:
- الأولى: الاستثناء فيها صحيح.
- والثانية: الاستثناء فيها مرجوح.
- ثم قال - رحمه الله:
- ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل.
مراد المؤلف - رحمه الله - في هذه المسألة أن يبين: أن ما يؤخذ تباعاً إما بالجز كالنعناع والرطبة ونحوه أو باللقط كالقثاء والخيار والباذنجان ونحوه. أن ما يؤخذ بهذه الطريقة تباعاً لا يجوز بيعه ما لم يوجد منه تبعاً لما وجد.
وقول المؤلف - رحمه الله -: ولا رطبة وبقل ... إلى آخره يعني: ولا يجوز أن نبيع نحو رطبة وبقل لم يوجد مع ما وجد منه، وإنما يجوز أن نبيع اللقطة الظاهرة فقط دون التي لم توجد.
وإلى هذا الحكم ذهب الجماهير وأشدهم في المنع الإمام الشافعي - رحمه الله -.
واستدل أصحاب هذا القول في المنع من بيع ما لم يوجد مع ما وجد من هذه الأشياء التي تجز أو تلقط:
(4/27)
________________________________________
- بأن ما لم يوجد يقاس في المنع على الثمار التي لم يبدو صلاحها. فإذا كان الشارع يمنع من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فكيف بالثمرة التي لم توجد.
- ثانياً: ثالوا: إن عقد البيع الذي يقع على الثمرة الموجودة أو اللقطة والجزة الموجودة لا يتناول ما لم يوجد فما لم يوجد هو ملك للبائع. ما زظال ملكاً للبائع.
وبناءً على هذا: سيختلط ما يملكه البائع مع ما يملكه المشتري ولا يمكن التمييز بينهما ليستلم المشتري حقه.
= القول الثاني: وهو مذهب المالكية واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم: أن بيع ما هذه صفته جائز. فللمزارع أن يبيع جميع نتاج ما يلقط الظاهر منه والذي لم يظهر.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن تمييز الجديد من هذه الثمار عن القديم عسر جداً.
فالجمهور يقولون: وقع العقد على هذا الموجود من اللقطة الحاضرة المنظورة والمالكية يقولون: هذا الموجود يعسر أن نميزه عما ينتج من الثمار بعد ذلك، التمييز بينهما عسر جداً, والشرع لا يأتي بأحكام يصعب العمل بها.
- الثاني: أن حبس أوله على آخره - حبس أول هذا الملقوط على آخره يؤدي إلى فساده.
مثال هذا: نقول للمزارع الذي نبت عنده خيار لا يجوز لك أن تبيع جميع الثمار بل تبيع اللقطة الظاهرة ثم اللقطة التي تليها أو تنتظر إلى أن يستتم خروج الخيار فتبيع الجميع المنظور.
فالمالكية يقولون: إذا قلتم للمزارع انتظر حتى تخرج جميع الثمرة أدى هذا إلى حبس أوله على آخره فيفسد الأول قبل أن يستتم خروج الأخير.
وما ذكره المالكية من حيث العمل أرجح. فيجوز للإنسان أن يبيع جميع ثمار هذه الثمرة الذي وجد والذي لم يوجد صفقة واحدة ولا حرج عليه.
واليوم العمل بهذا قليل لأن غالب المزارعين يبيع في السوق: لقطة فلقطة. ولا يبيع جميع الموجود في زمن واحد، غالب المزارعين الآن على هذا عملهم.
- ثم قال - رحمه الله:
- دون الأصل.
يعني: أنه يمنع من بيع هذه الأشياء إذا كانت مستقلة أما إذا بيعت مع الأصل فهو جائز.
- قياساً على بيع الشجرة بثمارها.
فتحصل معنا:
ـأن بيع الناتج من الثمار لقطة فلقطة جائز.
ـ وبيع الناتج جميعه ما وجد وما لم يوجد لا يجوز على المذهب.
(4/28)
________________________________________
ـ وبيع نفس النبتة: أصل الشجرة مع ما يظهر منها: جائز.
ولذلك نقول للمزارع بدل أن ترتكب مخالفة لقول الجماهير لا تبع اللقطات، لا تقول أبيع عليك الخيار وإنما يقول: الشجرة بما فيها من ثمار، أو البقلة، البقلة يعني: التي تنتج الخيار والقثاء ونحوه بما فيها من ثمار.
إذاً هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (دون الأصل)
- ثم قال - رحمه الله:
- إلاّ بشرط القطع في الحال.
يعني: أنه يجوز أن يبيع الإنسان الثمر قبل بدو الصلاح بشرط أن يقطع البائع الثمرة حالاً. يعني: فور الشراء.
وهذا الحكم: محل إجماع من الفقهاء لا إشكال فيه. أن الإنسان إذا اشترى ما لم يبدو صلاحه بشرط القطع فهو جائز والبيع صحيح.
تعليل الجواز:
- أن الشارع إنما نهى عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح خشية التلف وإصابة العاهة بهذه الثمار.
وإذا اشترط الإنسان أن يقطع الثمرة حالاً أمنا العاهة لأنه سيقطع الآن.
لكن يشترط لصحة هذه المعاملة أن تكون هذه الثمرة المقطوعة فيها نفع: كأن تكون طعاماً للدواب أو ينتفع بها بأي شيء، المهم أن تكون مشتملة على نفع معلوم.
والدليل على هذا:
- ما تقدم معنا في شروط البيع أن من شروط البيع أن يكون المبيع له نفع مباح.
- ثم قال - رحمه الله:
- أو جزة جزة أو لقطة لقطة.
يعني: يجوز بيع ما يظهر تباعاً مما يلقط أو يجز إذا باعه جزة جزة ولقطة لقطة.
- لأنه إذا باعه لقطة لقطة أو جزة جزة فلا جهالة ولا ضرر ولا غرر ولا أي شيء يسبب المنع.
ولذلك الجواز محل إجماع ولم يخالف أحد من أهل العلم في جواز بيع ما يلقط أو يجز جزة جزة ولقطة لقطة. فهو ولله الحمد محل إجماع.
- ثم قال - رحمه الله:
- والحصاد واللقاط على المشتري.
تحصيل المبيع من هذه الثمار وما يلقط وما يجز من واجبات المشتري.
التعليل على أنه من واجبات المشتري:
- أن نقل المبيع وتخليصه من البائع من مهام المشتري، لأن البائع ليس عليه إلا التسليم والتسليم في مثل هذه الثمار يحصل بالتخلية.
فإذا خلا البائع بين المشتري وبين الثمار وجب على المشتري هو بنفسه أن يأخذ هذه الثمرة وهذا الحكم وهو أنه يجب على المشتري هو أن يحصل السلعة محل إجماع.
(4/29)
________________________________________
واليوم العمل على هذا، فإذا اشترى الإنسان تمراً أو عنباً أو غيره من المنتوجات فالعمل على أنه هو الذي يحصل هذه الثمار، ولو ترتب على هذا أن يدفع المشتري المبالغ لتحصيل هذه الثمار.
- ثم قال - رحمه الله:
- وإن باعه مطلقاً.
قوله: (وإن باعه) الضمير يعود على الثمار التي لم يبدو صلاحها.
وإن باع الثمار التي لم يبدو صلاحها مطلقاً: مطلقاً يعني: بدون شرط الإبقاء ولا الجز أو القطع. فإن البيع في هذه الصورة باطل.
والدليل على بطلانه:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وهذا باع ثمرة قبل أن يبدو صلاحها ولا يوجد في العقد شرط القطع. والثمار التي لم يبدو صلاحها إنما يجوز أن تباع بهذا الشرط فإذا لم يوجد دل هذا على بطلان العقد.
= والقول الثاني: أن العقد صحيح.
- لأن العقد على ثمار لم يبدو صلاحها ينصرف إلى القطع تصحيحاً للعقد.
وإلى هذا ذهب الأحناف. وقولهم غاية في الضعف ومذهب الجماهير إن شاء الله هو الصحيح، وهو أنه إذا أجرى العقد بلا شرط القطع فإن العقد باطل.
وكما قلت لك يترتب على البطلان أن يأخذ المشتري الثمن وترجع الثمرة إلى البائع.
- ثم قال - رحمه الله:
- أو بشرط الإبقاء.
إذا اشترى الإنسان ثمر لم يبدو صلاحها بشرط الإبقاء فمعلوم أن البيع باطل: بالنص والإجماع.
فإنه معارضة صريحة للسنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها.
فإذا اشترى ثمرة قبل أن يبدو صلاحها واشترط الإبقاء صار العقد باطلاً بلا إشكال.

- ثم قال - رحمه الله:
- أو اشترى ثمراً لم يبدُ صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا.
إذا اشترى ثمراً لم يبدو صلاحها واشترط القطع فتقدم معنا أن هذا العقد صحيح.
فإذا ترك المشتري الثمرة حتى بدا صلاحها فحينئذ يصبح العقد عند الحنابلة باطلاً.
واستدل الحنابلة على هذا بدليلين:
- الأول: أن المنع والإبطال لمنع الحيلة إذ قد يحتال الإنسان على شراء ثمرة قبل أن يبدو صلاحها بأن يشترط القطع ثم يترك الثمرة حتى يبدو صلاحها فاتخذ هذا الحكم حيلة للوصول إلى المحرم.
(4/30)
________________________________________
- الدليل الثاني: أن هذا العمل يصدق عليه النهي لأن هذا الرجل اشترى ثمرة قبل أن يبدو صلاحها ولم يقطع فدخل في عموم النهي.
وإلى هذا القول - الذي هو المذهب ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - وفي هذا دليل على أن الشيخ - رحمه الله - له عنية خاصة وواضحة في قضية سد الذرائع وأنه يطبق هذا في الأحكام الشرعية.
= القول الثاني في هذه المسألة: أن العقد لا يبطل، بل يشترك البائع والمشتري في الزيادة. والزياة في هذه المسألة هي الفرق بين قيمة الثمرة وقت العقد ووقت الأخذ.
فإذا افترضنا أنه اشترى ثمرة نخلة قبل بدو الصلاح بمائة ريال وتركها حتى بدا الصلاح فلما بدا صلاح الشجرة ارتفع سعر الثمرة إلى أن أصبخ بخمسمائة ريال وهذا على أقل تقدير لأنه دائماً سيكون الفرق بين سعر الثمرة قبل بدو الصلاح وبعده كبير جداً. فالآن الفرق بين السعرين كم؟ أربعمائة فيشترك البائع والمشتري في هذه الزيادة.
واستدل أصحاب هذا القول:
- أن غاية ما هنالك أن هذا المبيع اختلط بغيره وهي الزيادة الحاصلة ببدو الصلاح واختلاط المبيع بغيره لا يؤدي إلى فساد العقد. كما لو اشترى الإنسان صبرة طعام وانكب عليها صبرة أخرى فإن هذا لا يؤدي إلى فساد العقد بل نفرز نصيب البائع من المشتري.
والقول الثاني: وجيه وقوي. فإن قيل: أليس مبدأ سد الذرائع والمنع من الحيل مبدأ نحفوظ ودلت عليه النصوص؟
فالجواب: صحيح ولابد من الاهتمام بهذا المبدأ والعمل على وفقه وفهمه من طالب العلم. لكن في هذه المسألة لم نمكن المشتري من تحقيق غرضه. ولذلك لم ينتفع من ترك هذه الثمرة إلى أن بدا الصلاح. وكل عمل أدى إلى إبطال ما احتال عليه الإنسان فقد أذهب ثمرة هذه الحيلة.
فنحن نقول الآن: بدل أن نبطل هذا العقد والشارع لا يتشوف إلى إبطال عقود المسلمين نبطل الحيلة بأن نمنع المشتري من أن يأخذ جميسع الزيادة فنقسمها بين المشتري والبائع.
على أن قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في الحقيقة أيضاً فيه قوة. لكن يظهر لي الآن أن القول الثاني أوجه.
- ثم قال - رحمه الله:
- أو جزة أو لقطة فنمتا.
تقدم معنا: أن ما يجز ويلقط لا يجوز أن يباع على المذهب إلا جزة جزة أوة لقطة لقطة.
(4/31)
________________________________________
فإذا اشترى ما يباع على هذه الكيفية: جزة جزة ولقطة لقطة، وتركها حتى نمت فالحكم تفصيلاً وخلافاً كالمسألة السابقة تماماً.
فالمذهب يرون أنه باطل ويستدلون بنفس الأدلة السابقة.
والقول الثاني: الصحة وأنهم يقتسمون الزيادة وقد عرفت كيف نحدد الزيادة في مثل هذه الثمار.
وأما على القول الراجح أنه يجوز أخذ ما يلقط وما يجز جملة واحدة ما وجد وما لم يوجد. فهذه المسألة لا تتصور أصلاً على القول الراجح وإنما تتصور على مذهب الحنابلة.
- ثم قال - رحمه الله:
- أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها.
إذا اشترى ما بدا صلاحه: يعني: وتركه حتى وجدت ثمرة أخرى واختلطت مع الأولى التي اشتراها بعد أن بدا صلاحها فحينئذ ينقسم الحكم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يتميز الجديد من القديم فحينئذ لا إشكال مطلقاً فللبائع ما اشترى لأن ما ظهر بعد ذلك متميز عن السابق الذي وقع عليه العقد.
- القسم الثاني: أن لا يتميز ما ظهر مع ما وقع عليه العقد. فحينئذ يبطل العقد على ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله -: لأن السلعة اختلطت بغيرها على وجه لا يمكن تمييزه فيرجع المشتري بالثمن والبائع بالثمرة.
= والقول الثاني: أن العقد لا يبطل بل يأخذ كل من البائع والمشتري ثمرته التي تميزت فإن تتميز فإنهما يصطلحان على معرفة ما لكل واحد.
وفي هذه الصورة نضطر إلى الصلح فلا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بالصلح فنقول للبائع والمشتري: اصطلحا.
واستدل أصحاب هذا القول بما تقدم معنا أن غاية ما هنالك أن تختلط السلعة بغيرها واختلاط السلع بغيرها لا يؤدي إلى فساد العقد كما أن الحيلة في هذه المسألة بعيدة جداً بل قد لا تتصور أن يتخذها الإنسان حيلة لأنه اشترى بعد بدو الصلاح.
لذلك الراجح إن شاء الله في هذه المسألة الثانية بوضوح الجواز. وأن العقد صحيح ويصطلح البائع والمشتري إذا لم تتميز الثمرة الأولى من الثانية.
أما إذا تميزت فلا إشكال.
والصحة هي مذهب الحنابلة الاصطلاحي فالمؤلف - رحمه الله - في هذه المسألة خالف المذهب الاصطلاحي.
قالمذهب هو الصواب خلافاً لما ذكره المؤلف - رحمه الله -.
- ثم قال - رحمه الله:
- أو عرية فأثمرت: بطل.
(4/32)
________________________________________
إذا اشترى عرية وتقدم معنا ذكر العرايا. وهو أن يشتري الإنسان الرطب برؤوس النخل بشروط معروفة.
فإذا اشترى الإنسان الرطب في رؤوس النخل ثم تركها حتى أثمرت فيكون البيع باطل.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأن الشارع الحكيم إنما أجاز بيع العرايا للحاجة فلما تركها الفقير الذي هو المشتري تبينا أنه ليس بحاجة فإذا لم يكن بحاجة بطل البيع.
وتقدم معنا الآن أكثر من مرة أن بطلان البيع يعني: أن يرجع المشتري بالثمن ويرجع البائع بالثمرة.
= القول الثاني: أن المشتري إذا ترك الرطب فيث رؤوس التخل حتى أثمر فالبيع صحيح ولا يبطل.
- لأن تركه الثمر في رؤوس النخل لا يعني أن حاجته انتفت فقد يترك هذا التمر لسبب أو لآخر.
- وأيضاً تقاس هذه المسألة على مسألة أخرى وهي ما إذا أخذ الرطب جنى الرطب ثم تركه في البيت إلى أن أصبح تمراً ولم يأكله وهو رطب.
ففي هذه المسألة الثانية لا يبطل البيع بالإجماع فنقيس مسألتنا - مسألة الكتاب - على هذه المسألة.
وهذا القول هو الصواب إن شاء الله ولا نبطل العقد بمجرد أن المشتري المحتاج ترم الثمرة على رؤس التخل.
- ثم قال - رحمه الله:
- بطل والكل للبائع.
بطل: ترجع إلى المسائل السابقة جميعاً من قوله: (وإن باعه ... )
ففي كل هذه المسائل يبطل البيع.
(والكل للبائع) يعني: وكل الثمرة للبائع في مسألة إذا بدا الصلاح واختلط بغيره وفي مسألة إذا نمتا الملقوط والمجزوز وفي مسألة إذا اختلط بغيره وإذا بدا صلاحه قبل أن يبدو ثم بدا صلاحه.
في هذه المسائل الثلاث الجميع: يعني: كل الثمرة للبائع.
وتقدم معنا الخلاف في كل واحدة من هذه المسائل لكن على القول بالبطلان فالكل يكون للبائع.
- ثم قال - رحمه الله:
- وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة واشتد الحب: جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية.
إذا بدا الصلاح في الثمر واشتد الحب جاز البيع بالإجماع لكن إذا باع فله صور:
- الصور الأولى: أن يبيع ما بدا صلاحه بشرط القطع. فهذا جائز بالإجماع لأنه إذا جاز أن يبيع ما لم يبدو صلاحه بشرط القطع فكيف بما بدا صلاحه.
(4/33)
________________________________________
- الصورة الثانية: أن يبيع ما بدا صلاحه بشرط التبقية. وهذا أيضاً جائز وصحيح عند الجماهير والجم الغفير من أهل العلم فللمشتري أن يبقي الثمرة التي اشتراها بعد أن بدا الصلاح.
واستدل الجماهير على هذا الحكم:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وعلل ذلك بخشية إصابة الثمرة بعاهة أو أن تتلف فدل هذا التعليل على أن الأصل ان البائع إنما يشتري ليبقي وأن شرائه لإبقاء الثمرة جائز لأنه لو كان الشراء دائماً للقطع لم يحتج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النهي عن شراء الثمرة قبل أن يبدو صلاحها لأن القطع ليس معه عاهه.
وهذا القول الذي هو مذهب الجماهير هو الصواب إن شاء الله ولسنا في الحقيقة بحاجة لذكر خلاف الأحناف في هذه المسألة لقوة مذهب الجماهير وتوافقه مع ظاهر الحديث الدال على النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
- ثم قال - رحمه الله:
- وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ.
ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المشتري له أن يبقي الثمرة إلى الحصاد والجذاذ: يعني: إلى وقت الحصاد والجذاذ. وليس له أن يبقي الثمرة إلى ما بعد ذلك. أن إبقاء الثمرة إلى ما بعد وقت الجذاذ والحصاد فيه تعدي على حق البائع.
ولا يجوز بناء على هذا للمشتري أن يبقي الثمرة بعد وقت الحصاد والجذاذ إلا بإذن البائع وإلا فإبقائه محرم.
ولا يقصد الفقهاء بقولهم إلى الحصاد والجذاذ يعني إلى أول وقت الحصاد والجذاذ بل إلى ما تبقى الثمرة عادة. وبعد ذلك لا يجوز له أن يبقي الثمرة إلا بإذن البائع.
- ثم قال - رحمه الله:
- ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك، وإن تضرر الأصل.
يلزم البائع السقي إن احتاجت الثمرة إلى السقي.
وتعليل ذلك:
- أنه يجب على البائع أن يسلم الثمرة كاملة ولا يمكن أن تسلم الثمرة كاملة إلا بإتمام السقي.
- يقول - رحمه الله:
- وإن تضرر الأصل.
يعني: حتى لو ترتب على السقي تضرر الأصل وهو الأرض في الزرع والشجرة في الثمر.
- لأن البائع دخل على هذا الأساس.
أي: دخل على أن يؤدي الثمرة كاملة وهذا لا يتم إلا بالسقي. فإذا كان السقي يسبب ضرراً على الأصل فيجب عليه مع ذلك أن يسقي.
(4/34)
________________________________________
وهذا هو الحكم الشرعي الواضح لكن من مكارم الأخلاق بالنسبة للمشتري إذا كان السقي يؤدي إلى تضرر الأرض أو الشجرة أن يبادر في جني الثمرة لكي لا تتضرر الشجرة ولا تتضرر الأرض التي سيزرع فيها السنة القادمة هذا لاشك أنه من مكارم الأخلاق وأنه ينبغي أن يبادر بالجني ما دام الجني لا يؤثر عليه ولا يضره في مكاسبه.
- ثم قال - رحمه الله:
- وإن تلفت بآفة سماوية: رجع على البائع.
(وإن تلفت) يقصد بقوله: (وإن تلفت): يعني: الثمار.
ومقصود الفقهاء بقولهم: (وإن تلفت) يعني قبل أوان الجذاذ.
أما إن تلفت بعد أوان الجذاذ فهذا من تفريق المشتري وهو الذي يضمن هذا النقص أو التلف.
إذاً: البحث الآن في ما إذا تلفت قبل أوان الجذاذ.
- يقول - رحمه الله -:
- بآفة سماوية.
الآفة السماوية هي كل ما يصيب الزروع والثمار مما لا صنع للآدمي فيه كالحر الشديد والبرد الشديد والجراد والنار ونحو هذه الأشياء.
ويلحق بالآفة السماوية ما للآدمي فيه صنع ممن لا يمكن تضمينه كما إذا أفسدت الجيوش والدروع أو قطاع الطرق أو اللصوص ممن لا يمكن تضمينهم فهو أيضاً يلحق بأحكام الآفة السماوية.
- يقول - رحمه الله -:
- رجع على البائع.
يعني: ان الجوائح إذا أصابت الثمار قبل أوان الجذاذ فإن الضمان يكون على البائع.
وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم وتمسكوا بالنصوص الصريحة الصحيحة الدالة على هذا الحكم.
- منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح.
- ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ابتعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحه فلا تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق.
وهذه الأحاديث في الصحيح وهي صريحة جداً برفع الجوائح.

= القول الثاني: أن الثمرة إذا تلفت مطلقاً: من مال المشتري ولا يضمن البائع شيئاً ولا توضع الجوائح.
واستدل هؤلاء:
(4/35)
________________________________________
- بما ثبت أيضاً في الصحيح أن رجلاً طلب من أخيه أن يضع عنه أو أن يرفع العقد فحلف البائع أن لا يفعل فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من الذي يتألى على الله أن لا يصنع معروفاً وفي رواية أن لا يفعل خيراً. فقال الرجل: أنا يا رسول الله وله ما شاء - رجع لما أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقال: وله ما شاء. وفي رواية: له أي ذلك أحب.
قالوا: فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع الجوائح ولم يأمره أمراً ملزماً بأن يقيله وإنما الرجل من نفسه هو الذي وضع هذه الجائحة.
والجواب على هذا الحديث: أنه حديث صحيح لكن الاستدلال فيه خطأ لأنه ليس للجوائح أي ذكر في الحديث.
وهكذا كل الذي استدل به أصحاب هذا القول ليس فيه تعرض للجوائح. بينما أدلة أصحاب القول الأول صريحة بوضع الجوائح.
لذلك نقول: الراجح بلا إشكال إن شاء الله هو أن الجوائج توضع. ومعنى وضع الجوائح يعني أن السلعة إذا أصيبت بآفة فمن ضمان البائع. هذا إذا كانت الجائحة قبل أوان الجذاذ.
- ثم قال - رحمه الله:
- وإن أتلفه آدمي: خير مشتر بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف.
قوله: (وإن أتلفه آدمي) يعني: بذلك الآدمي الذي يمكن تضمينه.
فإذا أتلف الثمار آدمي يمكن تضمينه فليست من مسائل الجوائح.
وإذا لم تكن من مسائل الجوائح فلها حكم آخر. وهو الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: خير المشتري بين الفسخ وأخذ جميع الثمن وبين الإمضاء ومطالبة المتلف. يخير المشتري بين الأمرين.
وبطبيعة الحال أن المشتري سيختار: الأحسن فإذا ارتفعت الثمار فسيختار الإمضاء وإذا نقصت قيمة الثمار فسيختار الفسخ.
إذاً هذا هو الحكم فيما إذا أتلفه الآدمي.
التعليل في أن إتلاف الآدمي ليس من الجوائح التي توضع: تعليل هذا الحكم:
- أنه في هذه الصورة يوجد من يمكن تضمينه فخرجت عن مسائل الجوائح.

- ثم قال - رحمه الله:
- وصلاح بعض الشجرة: صلاح لها.
لما ربط المؤلف - رحمه الله - كثيراً من الأحكام بمسألة صلاح الثمرة أراد أن يبين الأحكام المتعلقة بالصلاح.
- فقال - رحمه الله:
- صلاح بعض الشجرة: صلاح لها.
(4/36)
________________________________________
فإذا صلح بعض الشجرة ولو ربطة واحدة من التمر فهذا يعتبر صلاح لجميع الشجرة فيجوز أن يبيع جميع الثمرة التي في الشجرة وهذا الحكم بالإجماع. ولله الحمد.
إذا صلح بعض الشجرة فهو صلاح لجميع الشجرة فله الشجرة كاملة ولو لم يصلح إلا بعضها.
- ثم قال - رحمه الله:
- ولسائر النوع الذي في البستان.
صلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائلا النوع الذي في البستان ولو لم يصلح من هذا النوع كله الذي في البستان إلا حبة واحدة إلا تمرة واحدة. مثلاً: إذا افترضنا أن الشجر هو ( ..... ). (لعلها: النخيل).
وقول المؤلف هنا: (ولسائر النوع الذي في البستان). أفاد أمرين:
- الأمر الأول: أن صلاح النوع الواحد لا يعتبر صلاحاً لجنس هذا النوع كله بل للنوع الواحد فقط.
- الثاني: وهو منصوص المؤلف - رحمه الله -: أن صلاح شجرة واحدة صلاح لجميع النوع.
المثال الذي يوضح هذا: إذاكان في البستان نخيل بعضه النخيل الذي يسمى سكري. وبعضه النخيل الذي يسمى برحي. فإذا صلح بعض شجرة من السكري فصلاح بعض هذه الشجرة صلاح لها ولجميع السكري الموجود في هذا البستان لأنه صلاح لها ولجميع النوع الواحد لكن لا يعتبر صلاح للبرحي لأن صلاح النوع لا يتعبر صلاحا لجميع الجنس.
* * مسائل مهمة تتعلق بهذه المسألة:
ـ الأولى: أن صلاح النوع في بستان لا يعتبر صلاح للنوع في كل البساتين بل يعتبر كل بستان بحسبه.
- الثانية: أن بيع ما لم يبدو صلاحه من النوع الذي بدا صلاح بعضه يجوز إذا كان صفقة واحدة. أما إذا باع الشجرة التي لم يبدو صلاحها مستقلة فإنه لا يجوز ولو بدا صلاح بعض نوع هذا الشجر.
المثال الموضح: إذا بدا صلاح شجرة واحدة من السكري وفي البستان عشرة أشجار من النخل فإن باع هذه النخيل جملية صفقة واحدة جاز ولو كان بعضها لم يبدو صلاحه. لكن إن باع واحدة من هذه الشجر واختار ما لم يبدو منها الصلاح فإنه لا يجوز أن تفرد بالبيع ولم يبدو صلاحها.
هذا مذهب الحنابلة.

= القول الثاني: أنه يجوز أن تفرد بالبيع إلحاقاً لها بما بدا صلاحه وإن لم تبع معه. ((الأذان))
والراجح مذهب الحنابلة.
(4/37)
________________________________________
والتعليل: أن القاعدة التي أخذناها آنفاً أنه: ((يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً)) وإذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة فإن هذه الثمرة التي لم يبدو صلاحها إنما يكون يجوز أن تباع تبعاً لما بدا صلاحها لا استقلالاً فهذه القاعدة دلت على رجحان مذهب الحنابلة وتقدم معنا أن هذه القاعدة صحيحة ومقررة عند الفقهاء وبناء عليه نقول ما ذهب إليه الحنابلة هو إن شاء الله الصواب.
وقبل أن نتجاوز مسألة صلاح بعض الشجر صلاح له وسائر النوع الذي في البستان. نحن قلنا الآن أنه صلاح لها ولسائر النوع لا لسائر الجنس. لكنا لم نذكر الخلاف في هذه المسألة:
الآن عرفنا أن الحنابلة يرون أن يرون أنه صلاح لها ولسائر النوع لا لسائر الجنس.
علل الحنابلة ذلك:
- بأن صلاح ما بين الجنسين متباعد بخلاف صلاح النوع الواحد.
= والقول الثاني: أن صلاح النوع صلاح لكل الجنس فإذا صلحت نخلة واحدة في البستان فهو صلاح لها ولكل النخل مهما اختلفت أنواعه. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. وهو قول عند الحنابلة.
واستدل أصحاب هذا القول:
- بأنه في باب الزكاة نضم الأنواع المختلفة والأجناس المختلفة من التمر بعضها إلى بعض في تكميل النصاب فكذلك هنا نضم بعضها إلى بعض في جواز البيع. قياساً على ضمها في النصاب.
- والدليل الثاني لهم: أن اعتبار بدو الصلاح في كل جنس فيه مشقة لأن صاحب البستان يريد أن يبيع ثمرة البستان بأكملها.
والراجح والله أعلم مذهب الجمهور ولا أرى أن اختيار شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي.
والسبب في ذلك: أن صلاح ما بين الجنسين متباعد ففي بعض النخيل يتباعد ذلك إلى أن يقرب من ثلاثة أسابيع أو نحو هذه المدة فإلحاق بعضها إلى بعض ليس بصحيح.
ثم قياس الزكاة على صلاح الثمر قياس مع الفارق لأن مقصود الزكاة تحقيق الغنى وهو يتحقق في أي جنس بينما هنا المقصود التحقق من بدو الصلاح وقرب بعضها من بعض وهذا لا يتحقق بالأجناس.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(4/38)
________________________________________
الدرس: (19) من البيع
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(ناقص من أوله) ... وهذا الذي يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبينه بقوله: (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر). وسيبين المؤلف - رحمه الله - ببعض التفصيل كيفيك بدو الصلاح في الثمار. واختار - رحمه الله - من الثمار النخل والعنب لكثرة الحاجة إليهما، وكثرة البيوع في ثمار هاتين الشجرتين.
ثم سيذكر القاعدة العامة في بدو الصلاح في الثمار.
ـ فنبدأ بالنخيل: المؤلف - رحمه الله - يقول: أن بدو الصلاح في ثمر النخيل أن يحمر أو أن يصفر.
فإذا احمر الذي من شأنه أن يحمر وإذا اصفر الذي من شأنه أن يصفر بحسب تنوع النخيل فقد بدا صلاحه وجاز بيعه.
والدليل على ذلك:
- حديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن بيع ثمار النخل حتى يصفر أو يحمر - وفي لفظ: يصفار أو يحمر.
فهذا الحديث نص على الضابط في كيفية بدو الصلاح في ثمر النخل.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى العنب:
- فقال - رحمه الله -:
- وفي العنب أن يتموه حلواً.
العنب ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: العنب الذي ينضج بأن يسود. فهذا بدو الصلاح فيه أن يسود. ولا يجوز أن يباع قبل أن يسود للحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: نهى عن بيع العنب حتى يسود.
وهذا الحديث - أي: النهي عن بيع العنب حتى يسود - حديث ضعيف، أعله الأئمة كالبيهقي والدارقطني. وصححه المتأخرون. والصواب أنه ضعيف. لكن معنى هذا الحديث صحيح. وأنه لا يجوز أن يباع العنب الذي من شأنه أن يسود إذا نضج إلا إذا اسود ولو كان الحديث ضعيفاً لأن المعنى العام والنصوص الأخرى الدالة على اشتراط بدو الصلاح في الثمر تدل على صحة معنى هذا الحديث.
وهناك فرق كبير - ويجب أن يتنبه إليه الطالب - بين إثبات اللفظ المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإثبات صحة المعنى المذكور في الحديث الضعيف فإن إثبات صحة المعنى المذكور في الحديث الضعيف لا يقتضي أبداً تصحيح اللفظ منسوباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4/39)
________________________________________
وهذه المسألة مع وضوحها وبساطة فهمها إلا أن كثيراً من المتأخرين يقع فيها وذلك بأن يصحح الأحاديث الضعيفة لأن معناها تشهد له الأحاديث العامة، ومنها هذا الحديث، فهذا الحديث صحيح فإن الأحاديث الأخرى تشهد لمعناه، لكن من حيث الصناعة الإسنادية لا يثبت مرفوعاً منسوباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- القسم الثاني: العنب الذي يتم نضجه بدون أن يسود وهو العنب الأبيض. وبدو الصلاح فيه أن يتموه حلواً.
ومعنى قوله - رحمه الله -: (يتموه) يعني يتصف بصفتين:
- أن يلين.
- ويبدو فيه الماء الحلو.
فإن اتصف بهاتين الصفتين فقد تموه حلوا وجاز بيعه. إذاً هذان قسمان لنضج العنب.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وفي بقية الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله.
هذه القاعدة العامة في ضابط بدو الصلاح. هو: أن يطيب أكله. ودليل هذه القاعدة العامة:
- الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر حتى يطيب ويظهر نضجه.
فهذا الحديث هو في الحقيقة متنه قاعدة وهو أن الضابط العام في بدو الصلاح هو أن يطيب ويظهر نضجه ويصلح للأكل. فهذه هي القاعدة العامة في كل شيء.
والضوابط التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - في مسألة النخل والعنب ما هي إلا أمثلة لهذه القاعدة العامة.
ومن المعلوم أن الثمار تختلف اختلافاً بيناً في النضج:
- فمن الثمار ما ينضج وهو صغير ويطيب أكله ولا ينتظر فيه أن يستتم نماؤه، مثل: الخيار. فالخيار يؤكل صغيراً.
- ومن الثمار من لا يستتم ولا يطيب إلا بعد فترة طويلة وبعد أن يكبر. وغالب الثمار هكذا: كالموز وكل الفواكه فهي لا تطيب إلا بعد مضي فترة يستتم فيها اكتمال الموز والحجم والطعم.
إذاً هذه هي القاعدة العامة. إذا طاب وأمكن أكله وتم نضجه جاز بيعه وهو يختلف اختلافاً كبيراً بيناً بين ثمرة إلى أخرى.
ومن الفقهاء من استطرد جداً في الكلام عن كل فاكهة وعن كل ثمرة وعن كل نبتة كيف يتم نضجها وهذا تطويل بلا فائدة لأن القاعدة العامة تغني عن الاستطراد الطويل وإنما تخدم القاعدة العامة بالأمثلة الموضحة فقط.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ومن باع عبداً له مال: فماله لبائعه إلاّ أن يشترطه المشتري.
(4/40)
________________________________________
إذا باع الإنسان العبد ومع العبد مال - أي نوع من المال سواء كان من النقدين أو من الأموال الأخرى من العروض، فإن هذا المال للبائع بلا شرط فهو للبائع من حيث الأصل إلا أن يشترطه المشتري.
والدليل على هذا:
- نص صحيح جاء في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من اشترى عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
فهذا الحديث نص في المسألة وهو أن يكون للبائع ولا يدخل ضمن العقد الذي تم بينه وبين صاحب المال.
ثم استثنى المؤلف - رحمه الله - من هذا الحكم العام مسألة:
- فقال - رحمه الله -:
- فإن كان قصده المال: اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلاّ فلا.
هذا كالاستثناء من قول المؤلف - رحمه الله - إلا أن يشترطه المشتري. فإن معنى قول المؤلف - رحمه الله - (إلا أن يشترطه المشتري) يعني: فحينئذ يجوز ويكون تبعاً للمبيع ولا يراعي فيه شروط البيع.
فإذا اشترط المشتري المال الذي مع العبد دخل في العقد ولا يراعى فيه أي شرط لأنه دخل ضمناً في العقد.
لما قرر المؤلف - رحمه الله - هذا المفهوم أراد أن يستثني من هذا الحكم بقوله هنا: (فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا).إذا كان قصد المشتري العبد والمال الذي مع العبد فحينئذ يشترط في المال شروط البيع، جميع شروط البيع. وإنما نص المؤلف - رحمه الله - على شرط من شروط البيع وهو قوله: (اشترط علمه) لأنه أهم الشروط حينئذ.
فيشترط في المال الذي مع العبد إذا قصده المشتري وأراده أن يعلم عن هذا المال وعن ماهية هذا المال ويشترط مع هذا الشرط جميع شروط البيع بما في ذلك انتفاء الربا بحيث لا يكون بين الثمن الذي سيدفعه المشتري والمال الذي مع العبد ربا - بحيث لا يكون بينهما ربا.
الخلاصة أنه يشترط فيه جميع شروط البيع.
التعليل: تعليل ذلك:
- أنه مال مقصود أشبه ما لو اشترى العبد ومالاً آخر.
فلو اشترى الإنسان العبد والمزرعة صار كل من العبد والمزرعة مقصود يشترط فيه شروط البيع.
فإذاً اتضح الآن التفصيل في حكم المال الذي مع العبد.
(4/41)
________________________________________
بناء على هذا: إذا اشترى الإنسان عبداً في جيبه مائة ريال وكان المشتري لا يقصد هذه المائة ريال ولم يعلم بها لكن قال للبائع أنا أشتري العبد وأشترط أن المبالغ التي في جيبه تكون ضمن البيع. فهل البيع صحيح أو فاسد؟
صحيح. مع أنه لا يعرف الآن لا يعرف كم في جيب العبد لكن هذا المال الذي في جيب العبد غير مقصود ولذلك جاز بيعه بدون اشتراط شروط البيع اأخرى ومنها العلم بالمبيع.
وبالعكس لو أن هذا العبد معه مال مقصود والمشتري قال: أنا أريد العبد وأريد المال الذي معه قصداً فحينئذ لابد أن تستكمل شروط البيع في هذا المال الذي مع العبد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري.
لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم المال الذي مع العبد انتقل إلى حكم ثياب العبد. فقسم الثياب إلى قسمين:
- القسم الأول: الثياب التي تلبس في العادة.
- والقسم الثاني: الثياب التي تتخذ للزينة والتجمل.
* فالثياب التي تلبس في العادة: وضابطها: ما يلبسه العبد عند البائع في غالب أحواله. فهذه الثياب تدخل ضمن العقد بلا اشتراط.
* القسم الثاني: الثياب التي يلبسها العبد للتجمل والتزين في مناسبات معينة: فهذه ليست ضمن العقد وهي ملك للبائع.
الدليل على أنها ليست ضمن العقد: من وجهين:
- الوجه الأول: عموم الحديث السابق. فإن هذا مال - الثياب نوع من الأموال والحديث دل على أن المال الذي مع العبد يبقى للبائع.
- الوجه الثاني: أنه جرت العادة في الاكتفاء بثياب المهنة.
* * مسألة/ ليس من الثياب ولا يدخل ضمن هذا التفصيل ما تلبسه الجارية من الزينة بل ما تلبسه الجارية من الزينة كله للبائع بلا تفصيل إلا أن يشترط المبتاع كما قلنا في القاعدة الأولى.
إذاً الزينة التي على الجارية لا تدخل ضمن هذا التفصيل ولو كانت ملبوسة وهذا التفصيل يختص باللباس. وإنما نص المؤلف - رحمه الله - على اللباس لأنه قد يتوهم القارئ للمسألة أن كل ما على العبد يدخل ضمن العقد ولم ينص على الأموال الأخرى لأن الأموال الأخرى الحكم فيها واضح. فإذا كان بيد العبد دابة وباعه. فهل هي للبائع أو للمشتري؟ للبائع. والأمر فيها واضح.
(4/42)
________________________________________
وإذا كان في يده سيارة أو بيت أو دكان أو مزرعة: فهذه الأمور كلها الأمر فيها واضح. أنها تبع أو ملك للبائع لكن لما وجد بعض الإشكال في اللباس نص عليه المؤلف - رحمه الله - بياناً وإيضاحاً.

وبهذا انتهى ولله الحمد هذا الباب: باب بيع الأصول والثمار. وندخل في الباب الذي يليه وهو باب السلم.
باب السلم
- قال - رحمه الله -:
- باب السلم.
السلم والسلف في لغة العرب واحد. إلا أن السلم لغة أهل الحجاز. والسلف لغة أهل العراق. السلم هي لغة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه من أهل الحجاز.
وسمي السلم سلماً لتسليم رب المال المال في مجلس العقد. وسمي السلف سلفاً. لتقديم رأس المال في مجلس العقد.
هذا ما يتعلق بمعنى السلف والسلم لغة. وأما اصطلاحاً:
- فقال المؤلف رحمه الله:
- وهو: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد.
ذكر الحنابلة تعريفات كثيرة للسلم. اختار منها صاحب كتاب المطلع على أبواب المقنع هذا التعريف الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - واختار هذا التعريف من الحنابلة المرداوي ثم جاء المؤلف - رحمه الله - واختار ما اختاره المرداوي وتكرر معنا أن الشيخ - رحمه الله - يميل في كثير من الأحيان إلى التعريفات التي يميل إليها المرداوي وهو والمرداوي وصاحب المطلع أصابوا في اختيار هذا التعريف فإن هذا التعريف من أوضح وأسلم التعريفات وأبسطها في الدلالة على معنى السلم.
- يقول - رحمه الله -:
- وهو عقد على موصوف في الذمة.
قوله: (وهو عقد). السلم عقد مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. فقوله: (وهو عقد) دل على أنه من العقود. وهو من العقود المشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... } [البقرة/282] ودين السلم من جملة الديون الداخلة في مفهوم الآية.
(4/43)
________________________________________
- وأما السنة: فأحاديث كثيرة: - من أصحها حديث ابن عباس وهو عمدة الباب وسيأتينا ويعول عليه في كثير من الفروع في السلم وهو قوله - رضي الله عنه -: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة والناتس يسلفون فيها في الثمار السنتين والثلاث) وفي لفظ: (السنة والسنتين). لكن لفظ السنتين والثلاث هو الذي في البخاري - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (منن أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
هذا الحديث عمدة وأصل في هذا الباب كما سيأتينا الاستشهاد والاستدلال بألفظه مراراً وتكراراً.
وأجمعت الأمة في الجملة على مشروعية السلم.

- قال - رحمه الله -:
- وهو عقد على موصوف في الذمة.
خرج بذلك: المعين. فإن المعين لا يعقد عليه في عقد السلم وإنما يعقد عليه في عقد البيع.
وقوله: (على موصوف في الذمة). الذمة هي: وصف يصير به المكلف أهلاً للإلزام والالتزام.
فالذمة لا تكون إلا لمن يعقل وهو مكلف. فالمسجد لا ذمة له: فهو لا يبيع ولا يشتري ولا يقترض ولا يرهن ولا يفعل ما يفعله المكلفون.
فإذاً الذمة هي هذا الوصف الذي من اتصف به من المكلفين أصبح أهلاً أن يلتزم وأن يلزم.
فخرج به: الصبي والمجنون وكل من لم يكلف.
- قال - رحمه الله -:
- مؤجل.
خرج بقوله: (مؤجل) الحال.
وقوله: (عقد على موصوف في الذمة) لا تغني عن قوله: (حال). كما قد يتبادر إلى ذهن بعض من يقرأ الكتاب. فقد يكون الشيء موصوف في الذمة. وهو ليس مؤجلاً بل حال. فإذاً السلم لابد أن يكون مؤجلاً.
وهذا القيد سيذكره المؤلف - رحمه الله - في الشروط بالتفصيل وهو محل عناية من الفقهاء لكن الذي يعنينا الآن أن كلمة مؤجل تخرج الحال.
- ثم قال - رحمه الله -:
- بثمن مقبوض بمجلس العقد.
لابد في السلم أن يكون مقبوضاً في مجلس العقد. وسيأتينا تفصيل هذا الشرط. والذي يعنينا هنا أن بعض الفقهاء قالوا أن هذه الجملة إدخالها في التعريف خطأ.
والسبب: أن هذا الحكم من شروط السلم وليس من حقيقته.
ومن العلماء الذين رجحوا أن إدخال هذه الجملة في التعريف خطأ: ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - فهو يرى أيضاً أن هذا من الشروط ولا يدخل في حقيقة السلم.
(4/44)
________________________________________
ومع ذلك مهما يكن من أمر أقول: أن وجود هذا القيد مفيد للغاية لأنه وإن لم يكن من حقيقة السلم إلا أنه يبين السلم على الوجه الأكمل.
والمقصود من التعريف هو أن يعرف الإنسان الشيء المعرف على وجحه يتضح به المراد. وإلا فإن حقيقة السلم هي: عقد على موصوف في الذمة مؤجل. وأما تسليم رأس المال في المجلس فهو من الشروط.
لكن كما قلت لك أن وجود هذا القيد مما يتمم من معرفة السلم.

صورة السلم المبسطة قبل أن ندخل في الأحكام:
* * صورة السلم: أن يقول شخص لآخر: خذ مائة ريال الآن على أن تعطيني مائة صاع من القمح بعد سنة.
فقوله: (عقد على موصوف في الذمة). الموصوف في الذمة في المثال هو: مائة صاع من القمح. (بثمن مقبوض في مجلس العقد) الثمن في المثال هو المائة ريال.
هذه هي صورة السلم العامة وهناك بعض التفصيلات ستأتي أثناء مدارسة مسائل هذا الباب.
وعقد السلم بالنسبة للمعاملات المعاصرة مهم جداً هو وعقد القرض والشركة وبعض الأبواب التي ستأتينا بعد هذا الباب لكثرة الحاجة إليها من جهة ولكثرة التخريج عليها من جهة أخرى.
فكثير من العقود المعاصرة تخرج على عقد السلم. فمن المهم لطالب العلم أن يفهم باستيعاب باب السلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويصح: بألفاظ البيع.
يعني: أنه لو عقد السلم بلفظ البيغ لصح.
تعليل ذلك:
- أن السلم نوع من البيوع والفرق بينه وبين البيع هو فقط في أنه جاز فيه بمقتضى السنة بيع المعدوم.
وإلا فهو والبيع شيء واحد فهو نوع من البيوع لكنه نوع خاص بشروط خاصة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والسلم والسلف.
يعني: ويجوز أن يعقد هذا العقد بلفظ السلم أو بلفظ السلف وهذا صحيح لأن السلم والسلف هما تقديم رأس المال وتأخير العوض وهذا حقيقة السلم لأن السلم والسلفهو ما ذكرت لك من تقديم رأس المال وتأخير العوض وهذا حقيقة السلم.
فإذاً يجوز أن نعقد هذا العقد بلفظ البيع أو السلم أو السلف.
وهذه المسألة الحاجة إليها يسيرة لأنه تقدم معنا أن العقود يجوز أن تعقد بأي لفظ يدل عليها.

ثم شرع المؤلف - رحمه الله - بالشروط:
- فقال - رحمه الله -:
- بشروط سبعة.
(4/45)
________________________________________
ـ قوله: (بشروط سبعة) يعني: مضافة إلى شروط البيع السابقة فيجب أن تتحقق في السلم الشروط العامة في البيع وهذه الشروط الخاصة.
وسيمر بك أن بعض هذه الشروط الخاصة تتوافق مع الشروط العامة في المعنى العام. مثل: شرط العلم بالمسلم فيه هذا يتوافق مع شرط العلم بالمبيع لكنه نص عليه هنا لأن فيه مزيد تفصيل ولأن معرفة السلعة في السلم تختلف عن معرفة السلعة في البيع الحاضر في البيع المعين.
بدأ المؤلف - رحمه الله - بأهم الشروط:
- فقال - رحمه الله -:
- أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع.
في الحقيقة سيتبين لك من خلال هذا الشرط ما هي الأعيان التي يجوز السلم فيها وما هي الأعيان التي لا يجوز السلم فيها وهو مبحث مهم جداً.
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- انضباط صفاته.
المقصود بقوله: (صفاته) كل الصفات التي يختلف فيها الثمن اختلافاً ظاهراً.
وانضباط الصفات في المبيع في السلم محل اتفاق لحديث ابن عباس السابق وهو نص بقوله: (في كيل معلوم ووزن معلوم).
ولأنه لو لم تضبط الصفات التي يختلف فيها الثمن لأدى هذا الاختلاف إلى التنازع عند تسليم المبيع.
وعلم من قول المؤلف - رحمه الله - أنه لابد أن تعرف الصفات التي يختلف فيها الثمن اختلافاً ظاهراً أنه لا يجب أن تعرف الصفات التي لا تؤثر على الثمن أو تؤثر فيه لكن تأثيراً يسيراً.
فهذه لا يجب أن تذكر في العقد لأن الإلزام بها فيه مشقة وعنت ولأنه ليس لها أثر على الثمن إلا أثر يسير وهو معفو عنه في العقود.
مثاله: لو قال: أسلمت إليك مائة ريال على أن تعطيني مائة صاع من التمر الأحمر.
فالتمر الأحمر الآن يأتي على درجات يعني: درجات في الحمرة وهي تختلف فبيان درجات الحمرة ليس بواجب لأن هذا لا يؤثر تأثيراً ظاهراً على الثمن.
أما في القديم فليس له أي أثر حسب ما فهمت من كبار السن أن لون التمرة ودرجة الحمرة والصفرة فيها ليس له أي أثر على قيمة التمر.
أما اليوم - فدرجة الصفرة والحمرة هل لها أثر على ثمن التمر؟ أو ليس لها أثر؟
(4/46)
________________________________________
- لها أثر كبير جداً لا سيما في بعض الأنواع. فإذاً هذا المثال إنما هو في التمر الذي ليس لدرجة الحمرة أثر على الثمن. أما في الأنواع التي له أثر على الثمن فلابد أن يبين.
الخلاصة: أن كل صفة لها تأثير بالغ في الثمن يجب أن تذكر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- انضباط صفاته بمكيل.
المكيل: كالحبوب والثمار والمائعات.
قوله هنا: (انضباط صفاته بمكيل) تجوز في العبارة - بدل أن نقول خطأ - وصحة العبارة أن يقول: (انضباط صفاته كالمكيل) لأن انضباط الصفات لا يكون بالكيل وإنما يكون بذكر صفات إضافية.
فإذا قال أسلمت إليك في خمسين صاع من التمر. هل انضبط التمر الآن؟ مع موجود الكيل - هل انضبط؟ أو لا بد من ذكر صفات هذا التمر؟ لابد من ذكر صفات هذا التمر.
فقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (بمكيل) عرفنا أن الأسلم فيها: (كمكيل).فالمكيلات من الأعيان التي تنضبط في الصفات.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وموزون.
الموزون كالحرير والصوف.
ومن المعادن كالنحاس والذهب والفضة.
فكل هذه الأشياء من الموزونات وهي تنضبط بالصفة.
إجراء عقد السلم في المكيلات والموزونات: محل جواز باتفاق أهل العلم.
لأنها تنضبط بالصفات فلا إشكال في أن ن ( .... ) (((لم تتبين لي))) ... المكيلات والموزونات.
- قال - رحمه الله -:
- ومذروع.
المذروع: كالثياب والخيوط.
فهذه يجوز السلم فيها لأنها تنضبط بالصفات.
والمذروعات حكي فيها الإجماع أنه يجوز فيها السلم فقالوا المكيل والموزون والمذروع.
لكن الصواب أن المكيل والموزون هو الذي محل إجماع.
والمذروع يعني: اتفاق من الجماهير وخالف فيه بعض الفقهاء ولكن الصواب أنه ينضبط بالصفة.

بعد أن ذكر - رحمه الله - الأشياء التي يجوز فيها السلم انتقل إلى الأشياء التي لا يجوز فيها السلم عند الحنابلة:
- فقال - رحمه الله -:
- وأما المعدود المختلف كالفواكه ..
المعدودات تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: ما لا تختلف آحاده اختلافاً ظاهراً. كالبيض والجوز. فهذه الأشياء من المعدودات لكن آحادها لا تختلف اختلافاً بيناً. فهذا ذهب الجماهير - وحكي إجماعاً - حكاه بعض الفقهاء إجماعاً - جواز السلم فيها.
(4/47)
________________________________________
- القسم الثاني: من المعدودات: ما تختلف آحادها اختلافاً ظاهراً مؤثراً في السعر.
وهذا القسم - الثاني - هو الذي ذكر المؤلف - رحمه الله - أمثلته:
- فقال - رحمه الله -:
- كالفواكه والبقول.
(الفواكه). كالرمان والخوخ والبرتقال والتفاح.
(والبقول). البقول: كالبصل والثوم وكل نبات ليس له ساق.
الفواكه والبقول: لا يجوز السلم فيها عند الحنابلة أنها من المعدودات التي تختلف آحادها اختلافاً ظاهراً مؤثراً في السعر. وهذا الاختلاف يمنع انضباط الصفات. فإذا أسلمت في برتقال. فالبرتقال منه الكبير ومنه الصغير وتختلف صفاته بما يمنع من السلم.
إذاً نحن الآن نتكلم عن المعدودات التي تتفاوت وإنما الفواكه والبقول أمثلة. وعرفنا الآن قول الحنابلة ودليلهم.
= القول الثاني: جواز السلم في المعدودات.
واستدل هؤلاء:
- بأنه يمكن أن تضبط صفتها بأحد أمرين: - الأمر الأول: تحديد الحجم: صغراً وكبراً. - أن تربط بالوزن. فإذا ربطت بالوزن أمكن أن تضبط الصفة.
وهي الآن في وقتنا هذا لا تباع إلا وزناً.
وهذا القول الثاني عليه العمل وهو إن شاء الله الأقرب لمقاصد الشرع.
وكما أن الإنسان يسلم في التمر بالإجماع مع أن التمر منه الكبير والصغير والحلو وما دون ذلك وتختلف صفاته بعض الاختلاف إلا أنه مع ذلك جاز فيه السلم فكذلك في الفواكه ولا فرق بأن تضبط بصفات معينة من حيث الحجم أو من حيث الحجم أو من حيث التنظير.
ما معنى التنظير؟
أن يقول له: في مثل هذه ويشير إلى فاكهة منظورة موجودة فيقول أسلمت إليك في مثل هذه.
فكل هذه الطرق الثلاث يمكن بها ضبط الصفات.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والجلود والرؤوس.
الجلود والرؤوس لا يصح السلم فيها.
- أما الجلود فلأنها تختلف اختلافاً كثيراً متفاوتاً يؤثر على السعر بما لا يمكن ضبط صفته.
- وأما الرؤوس فلأن غالبها من العظام واللحم فيها قليل. ولأنها لا تباع وزناً.
= القول الثاني: جواز السلم في الرؤوس والجلود.
واستدل القائلون بالجواز:
- على أن الرأس يجوز السلم فيه: أن الرأس عبارة عن لحم وعظم. يجوز بيعه فيجوز السلم فيه كالسلم في اللحم مع العظم.
(4/48)
________________________________________
والذي يظهر لي في مسألة الرؤوس أن مذهب الحنابلة أقرب لأن اللحم مع العظم يمكن ضبطه بالوزن ويعرف عادة ويقدر من قبل أهل المعرفة. أما اللحم الذي في الرأس فهو يتفاوت تفاوتاً كثيراً ويتنوع وضبطه في الحقيقة فيه صعوبة بخلاف ضبط اللحم مع العظم فيه سهولة يمكن ضبطه بالوزن. لكن الرأس لا يوزن ولا يعرف مقدار الذي فيه بالوزن. فعلى كل حال الأقرب بالنسبة للرأس فيما يظهر لي الآن عدم جواز السلم فيه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والأواني المختلفة الرؤوس، والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس.
هذه الأشياء حكمها واحد: الأواني المختلفة الرؤوس، والقماقم والأسطال. هذه ثلاثة أواني لا يجوز السلم فيها.
تعليل الحنابلة: علل الحنابلة ذلك:
- بأنها تختلف اختلافاً ظاهراً في الحجم وفي جودة الاستعمال. بما لا يمكن ضبطه بالوصف.
وقوله: (القماقم) تطلق على أحد شيئين: - الشيء الأول: آنية خاصة يستخدمها أهل العطارة. - وتطلق أيضاً على آنية تستخدم في تسخين الماء. فتطلق على هذا وهذا.
= القول الثاني في هذه الأواني: جواز السلم فيها وذلك بأن تضبط بالوصف من حيث الحجم لأنها إنما تختلف من هذه الحيثية.
وهذا الخلاف لا يخفاكم أنه خلاف يتصور في القديم أما في وقتنا هذا فإنه لا ينبغي أن يكون هناك خلاف في جواز السلم في الأواني.
لماذا؟ لأنها أصبحت تصنع بدقة وبمواصفات ثابتة بما يستطيع معه الإنسان أن يحضر ما يريد من الأواني ويسلم فيها.
ففي وقتنا هذا لا إشكال أبداً في جواز السلم في الأواني لانضباطها ودقة التصنيع. نعم في القديم وربما لو رأى أحدكم الأواني القديمة للاحظ الاختلاف البين الذي بين الآنيتين وإن تشابهتا في الأداء والعمل. لكن في وقتنا هذا لا يتصور هذا الاختلاف.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والجواهر.
الجواهر: كالدر والعقيق واللؤلؤ وكل ما يستخرج من البحار مما يطلق عليه أنه من الجواهر: فهذا لا يجوز السلم فيه لأنه يختلف في عدة نواحي: فيختلف أولاً: في الحجم وله دور كبير في الثمن. ويختلف في جودة الاستدارة وله أثر كبير في الثمن. ويختلف في جودة الإضاءة وله أثر كبير في الثمن.
لهذا كله رأى الحنابلة أنه لا يجوز السلم في الجواهر.
(4/49)
________________________________________
= والقول الثاني: جواز السلم فيها. وذلك بأن تضبط الصفات الثلاث فيذكر الحجم والاستدارة ولو على سبيل التقريب.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والحامل من الحيوان.
الحوامل من الحيوان لا يجوز السلم فيها.
وفي الحقيقة المؤلف - رحمه الله - سيتكلم قريباً عن حكم السلم في الحيوان ولو أنه أخر الكلام عن الحيوان الحامل إلى حكم الحيوان لكان أنسب.
والذي جعله يقدم ذكر الحيوان الحامل أنه من قسم الممنوعات بينما الحيوان من الأقسام التي يجوز فيها السلم.
على كل حال: الحيوان الحامل عند الحنابلة لا يجوز السلم فيه وذلك لأن وصف الحيوان الحامل لا يمكن أن يتم على الوجه المطلوب إلا بوصف الحمل والحمل مجهول.
= القول الثاني: جواز السلم في الحيوان الحامل.
واستدلوا على هذا:
- بأن الحيوان الحامل جائز كما تقدم معنا في كتاب البيوع. والسلم نوع من البيوع كما أن الحمل الذي في البطن يثبت تبعاً ولا يثبت استقلالاً.
وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله. إلا في حالة واحدة إذا كان الحمل الذي في البطن مقصود. فإذا كان مقصوداً فالسلم فيه لا يجوز وهو محرم أنه مجهول وكثيراً لا سيما في وقتنا هذا وفي القديم ما يكون الحمل مقصود بأن يكون من فحل معين مقصود تمدح صفاته.
الخلاصة: أن الحيوان الحامل عند الحنابلة لا يجوز السلم فيه ويجوز على القول الصحيح إلا إذا كان الحمل مقصوداً. فإذا كان الحمل مقصوداً فإنه لا يجوز السلم فيه.

- ثم قال - رحمه الله -:
- وكل مغشوش.
لا يجوز السلم في المغشوشات. في أي سلعة كانت. من النقود أو من الأعيان.
والسبب أن الغش الذي في هذه السلعة يمنع من معرفة صفاتها المعرفة التامة. ومن شروط صحة السلم: معرفة صفة المسلم فيه.
نسينا أن نبين لكم في أول الباب مسميات ستتكرر معنا فنذكرها الآن:
- المسلم: هو المشتري. - والمسلم إليه: هو البائع. - والمسلم فيه: هي السلعة.
فرب المال هو: المسلم. ورب السلعة: المسلم إليه. والسلعة: هي المسلم فيها. إذاً هذه هي أركان السلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وما يجمع أخلاطاً غير متميزة كالغالية والمعاجين.
(4/50)
________________________________________
ما يجمع أخلاطاً غير متميزة لا يجوز السلم فيه. ومثل المؤلف - رحمه الله - لهذا: بالغالية: وهي أخلاط من طيب.
والمعاجين: وهي ما يتداوى بها ويقصد المؤلف - رحمه الله - المركبات التي تركب من أكثر من عنصر سواء ليتداوي بها أو ليفعل بها أشياء أخرى.
هذه الأشياء التي اختلطت اختلاطاً غير متميز لا يجوز السلم فيها أنه لا يمكن وصف كل نوع من الأخلاط وصفاً دقيقاً لكونها اختلطت على وجه غير متميز وهذا صحيح.
الغالية مثلاً: لا يعرف إذا كانت قد أعدت من خمسة أنواع من الطيب لا يمكن أن نعرف صفات كل واحدة من هذه الأنواع بعد الخلط أنها اختلطت اختلاطاً غير متميز.
فإن افترضنا وجود آلة تستطيع أن تميز بدقة نسبة ونوع وصفة الأخلاط الغير متميزة فحينئذ جاز السلم.
وهذا قد يتصور في وقتنا المعاصر مع وجود الآلات الحديثة. أما في القديم فلا يتصور.
- قال - رحمه الله -
- فلا يصح السلم فيه.
راجع إلا جميع المذكورات بعد قول المؤلف - رحمه الله -: (وأما المعدود المختلف).
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - فيما يصح السلم فيه. وقبل أن ندخل فيما يصح السلم فيه: تبين معنا مما سبق أن القاعدة العامة للسلم أن كا ما يمكن أن يضبط بالصفة يجوز أن يسلم فيه.
وهذه القاعدة قاعدة متقنة جداً وسهل بها الفقهاء أحكام المسلم فيه من حيث ما يجوز وما لا يجوز أن يسلم فيه الإنسان. فكل ما يمكن أن يضبط في الصفة يجوز فيه السلم.
وهذه القاعدة توفر على طالب العلم جهداً كثيراً في تعداد ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز.
ومع ذلك لما انتهى المؤلف - رحمه الله - من ما لا يجوز انتقل إلى ما يجوز.
- فقال - رحمه الله -:
- ويصح: في الحيوان.
الحيوان: اختلف فيه السلف والخلف والصحابة وكثير من الفقهاء في جواز السلم فيه أو عدمه.
= فالحنابلة يرون جواز السلم فيه. ومنهم الإمام أحمد. وهو من أئمة العلماء.
استدل الحنابلة على ذلك:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً ورد رباعياً.
ففي هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - اقترض حيواناً.
- الدليل الثاني: أنه يمكن ضبط الحيوان باصفات التي يختلف فيها الثمن.)) الأذان ((.
(4/51)
________________________________________
= القول الثاني: في هذه المسألة: أن السلم في الحيوان لا يجوز.
واستدل هؤلاء بدليلين:
- الأول: أنه روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كره السلم في الحيوان.
- الثاني: أن ضبط وصف الحيوان متعذر أو صعب. لأنه إما أن تبالغ في اوصف وتستطرد في الوصف لينضبط وحينئذ يتعذر وجود الحيوان.
أو تقتصر على قدر معين من الوصف وحينئذ لا يكفي في الانضباط.
فإذا قلت: أنا أريد جمل صفته أن طول الرقبة كذا وشكل الظهر كذا والوجه كذا والقوائم كذا، يعني: استقصى الإنسان في الوصف فحينئذ إذا جاء وحل وقت السلم قد لا تجد بعيراً بهذا الوصف الدقيق ويتعذر إيجاده. وإن تذكر الأوصاف لم ينضبط بالوصف.
الراجح: ذكرت لكم مراراً وتكراراً أن أي مسألة يختلف فيها الصحابة فهي مسألة فيها صعوبة وإشكال - دائماً وأبداً قاعدة - فإن الصحابة - رضي الله عنهم - مع ما رزقهم الله من الفقه والفهم لا يختلفون إلا في مسأة فيها إشكال.
مع ذلك الأقرب والله أعلم جواز السلم في الحيوان. واختار هذا القول من المحققين ابن المنذر - رحمه الله -.
فإن قلت: لماذا لم يأخذ الإمام أحمد - رحمه الله - بأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أن قاعدة الإمام - رحمه الله - الأخذ بآثار الصحابة؟
فالجواب: من وجهين:
- الوجه الأول: أنا ذكرنا أن هذه المسألة اختلف فيها الصحابة.
- الوجه الثاني: أن مع أصحاب القول الأول نص أثري. والإمام أحمد - رحمه الله - لا ينظر آثار الصحابة ما دام في الباب حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- قال - رحمه الله -:
- والثياب المنسوجة من نوعين.
الثياب المنسوجة من نوعين: يجوز السلم فيها إذا كانت متميزة كأن ينسج الثوب من القطن والحرير فحينئذ يجوز لأنها متميزة يمكن أن تضبط بالوصف.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وما خلطه غير مقصود: كالجبن.
تقدم معنا أن ما خلطه مقصود وغير متميز لا يجوز السلم فيه.
هنا يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين ما خلطه غير متميز لكنه ليس بمقصود.
- فيقول - رحمه الله -:
- كالجبن.
مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (كالجبن) يعني: كالإنفحة التي في الجبن.
ولو أن المؤلف - رحمه الله - بين هذا لكان أوضح.
(4/52)
________________________________________
إذاً المثال: الإنفحة التي في الجبن. وإنما قال المؤلف - رحمه الله -: (كالجبن) لأن الجبن في وقته لا يمكن أن يتكون إلا إذا وضعت فيه الإنفحة.
والإنفحة هي: عصارة تؤخذ من معدة الجدي توضع على الجبن حتى يتجمد ويصفو ويطيب أكله.
فهذا الإنفحة يسيرة وغير مقصودة ولمصلحة الجبن. فاتصفت بهذه الصفات الثلاث فلم تؤثر لما اختلطت ولم تُمَيَّز، لم تؤثر مع أنها اختلطت ولم تميز.
- قال - رحمه الله -:
- وخل التمر.
يقصد بخل التمر: يعني: الذي فيه الماء. فخل التمر الذي فيه الماء له نفس الحكم ولنفس العلل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والسكنجبين.
هذا مرمب من السكر والخل. فهذا يوضع فيه حياناً ماء فهو أيضاً يجوز السلم فيه لأن ما وضع فيه وإن كان غير مقصود وإن كان غير متميز إلا أنه غير مقصود.
فهذه ثلاث أمثلة لما خلطه غير مقصود يجوز فيها السلم وتوقفنا على الشرط الثاني.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(4/53)
________________________________________
الدرس: (20) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- قال - رحمه الله -:
- الثاني: ذكر الجنس والنوع.
الشرط الثاني من شروط صحة السلم: معرفة المسلم به. فهذا من شروط صحة السلم: بالإجماع.
تعليل ذلك:
- أن المسلم فيه أحد العوضين فوجب أن يعرف.
- وكذلك: أن العلم بالمبيع من شروط صحة البيع والسلم نوع من البيوع كما تقدم معنا مراراً.
إذاً تبين معنا أن هذا الشرط محل اتفاق. لما قرر المؤلف - رحمه الله - الشرط بدأ بالتفصيل:
- فقال - رحمه الله -:
- ذكر الجنس والنوع.
هذه هي الأمور التي يعرف بها المسلم فيه. وهو المبيع كما تقدم معنا. ذكر الجنس وذكر النوع.
ذكر الجنس والنوع والقدر كما سيأتينا بعد قليل: واجب بالإجماع.
فإذا أراد أن يسلم في شيء من الثمار أو في غيرها فلابد أن يذكر الجنس والنوع.
فيقول: أسلمت في تمر. وهذا جنس. ونوعه: سكري - مثلاً وهذا هو النوع.
(4/54)
________________________________________
ومن الفقهاء من قال: أنه لا حاجة لذكر الجنس مع ذكر النوع. لأن ذكر النوع يغني عن ذكر الجنس.
على كل حال بيان جنسه وقدره أمر متفق على وجوبه كذلك أيضاً القدر وسيأتينا مصرحاً به في كلام المؤلف - رحمه الله -.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً.
يعني: ويجب في بيان المسلم فيه أن يبين كل وصف يختلف فيه الثمن اختلافاً ظاهراً وهذا تقدم معنا بيان (( ... ))
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجب على العاقدين: المسلم والمسلم إليه بيان جميع صفات المسلم فيه بل يجب فقط بيان الصفات التي يختلف بها الثمن.
ما عدا هذا من الصفات التي لا يختلف فيها الثمن فإنه لا يجب على العاقدين أن يذكراها في العقد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وحداثته وقدمه.
يجب أن يبين حداثة وقدم المسلم فيه.
تعليل ذلك:
- أن الثمن يختلف باختلاف الحداثة والقدم.
فيجب أن يقول: حديث أو قديم. لكن كلمة حديث وقديم: كلمة واسعة مطاطة ولا تكفي في بيان الحداثة والقدم. فيجب أن يقيد الحداثة والقدم بحسب السلعة.
ففي مثال التمر: يجب أن يقول: من تمر هذه السنة أو من تمر السنة السابقة أو من تمر التي قبلها. فلابد أن يبين ميزان الحداثة والقدم.
فإن شرطه قديماً ولم يبين: = فالحنابلة يرون في هذه الصورة أن المسلم إليه له أن يأتي بأي نوع من التمر قديم من السنة السابقة أو من التي قبلها أو من التي قبلها لأن الجميع يصدق عليه أنه قديم ولم يبين في العقد مقدار القدم.
فالحنابلة يرون أنه يجوز أن يأتي بأي تمر قديم من أي سنة.
والحقيقة لم أطلع على خلاف - وقد راجعت المسألة على عجل - لم أطلع على خلاف في هذه الصورة وهي: ما إذا شرط قديماً ولم يبين مقدار القدم.
لكن الحنابلة يرون أن المسلم إليه له أن يأتي بأي ثمن قديم ولو كان من عشر سنوات.
ولو كان يوجد قول آخر يقول أن تحديد المسلم فيه بالقدم بدون ضابط لا يوجد أصلاً وأنه يجب أن يحدد مدى قدمه وحداثتة لكان هذا القول في الحقيقة متوجه ويمنع من النزاع لا سيما وأنه يوجد فرق كبير بين القديم جداً والذي صنع في السنة السابقة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يصح شرط: الأردأ أو الأجود.
(4/55)
________________________________________
لا يجوز أن يشرط الأردأ أو الأجود. والسبب أن هذا الشرط يوقع في الاختلاف إذ ما من جيد إلا ويوجد أجود منه. وما من سيء إلا ويوجد أسوأ منه.
وإذا كان هذا الشرط يوقع في التنازع والاختلاف فهو عكس المطلوب من شروط السلم وهي: انضباطه بما يقع في الاختلاف.
= والقول الثاني: أنه يجوز شرط الأردأ دون الأجود.
- لأنه إذا شرط الأردأ وأتى بأحسن مما ظنه المسلم فقد جاءه بخير مما سبقه فعليه أن يقبل.
فيجوز أن يشترط في العقد أن يأتي بالأردأ ويكون شرط صحيح لأنه مهما أتى فهو خير مما وقع العقد عليه.

- ثم قال - رحمه الله -:
- بل جيد ورديء.
يعني: بل يجوز أن يشترط أن يكون جيداً ورديئاً.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز ان يكون جيداً أو رديئاً.
والصواب عند الحنابلة أنه يجب أن يشترط أنه جيد أو رديء.
بمعنى أنه يجب أن يبين الجودة والرداءة. فهي من شروط بيان المسلم فيه التي تضاف إلى الجنس والقدر والنوع التي سبق الكلام عنها.
= والقول الثاني: أنه لا يجب أن نذكر الجيد ولا الرديء.
لماذا؟
- قالوا: لأن الصفات التي يختلف الثمن باختلافها مغنيه عن وصفه بأنه جيد أو رديء.
وهذا صحيح بلا إشكال. ولا معنى لكلمة جيد ولا معنى لكلمة رديء. - أَيُّ: معنى أن تقول سآتيك بتمر جيد. أي معنى لهذه الكلمة.
لأن الصفات السابقة التي يجب أن تبين لا ختلاف الثمن لا ختلافها تغني عن كلمة جيد وعن كلمة رديء. كما أن كلمة جيد ورديء كلمة لا تفيد في الحقيقة تصوراً دقيقاً للسلعة محل العقد.
فالصواب إن شاء الله أنه لا يجب أن يبين الجودة والرداءة أثناء عقد السلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن جاء بما شرط أو أجود منه.
فإن جاء بما شرط أو أجود منه: وجب على المسلم أن يقبل هذه السلعة.
- لأنه جاءه بما عقد عليه وزيادة فوجب أن يقبل.
= والقول الثاني: أنه لا يجب أن يقبل بل له أن يمتنع وأن يطالب بمثل ما شرط في العقد تماماً.
- لأنه قد يدخل على المسلم إذا قبل الضرر والمنة.
(4/56)
________________________________________
والصواب: أنه يجب أن يقبل إلا إذا ترتب على ذلك ضرر. ولا نقول: لا يجب لأنه قد يترتب ضرر بل نقول: يجب إلا إذا ترتب ضرر. لأن الأصل أنه لا ضرر على الإنسان بأن يقبل السلعة الأجود من التي شرطت من العقد. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أن رد المسلم للمسلم فيه يضر المسلم إليه. فربما يجتهد في توفير هذا النوع من السلعة فإذا ردها المسلم ربما لا يتمكن من إحضار السلعة المطابقة لصفات العقد فيدخل الضرر على المسلم إليه.
والشرع جاء بالتوسط ومراعاة طرفي العقد.
فنقول: القول الوسط: أنه يجب أن يقبل إلا إذا ترتب ضرر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- من نوعه.
يعني: أنه يجب عند الحنابلة: أن يقبل إذا أتى بخير مما شرط إذا كان من نوعه. فإن لم يكن من نوعه فإنه لا يجب أن يقبل لكن يجوز.
فإذا أسلم في تمر سكري وأتاه ببرحي فحينئذ - هل يجب أو يجوز أن يقبل؟ يجوز.
وإذا شرط في السلم سكري وأتى بسكري أجود مما شرط؟ فإنه يجب. .
تلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - بين الحكم إذا أتى بنفس النوع ولم يبين الحكم إذا أتى بجنس آخر كما إذا أسلم في تمر وأحضر قمحاً وهذا سيذكره المؤلف - رحمه الله - في آخر الفصل لأنه مسألة تكثر الحاجة إليها.
إذاً عرفنا الآن الحكم إذا أتى بنوع .... من نفس النوع أو إذا أتى بسلعة أجود لكن من نفس النوع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه.
المحل هو: وقت حلول القبض. أو وقت حلول الأجل.
إذا كان الاتفاق أن يحضر المسلم فيه في أول يوم من شهر صفر - مثلاً - وهو أتى بالمسلم فيه في منتصف شهر محرم.
فهو الآن أتى به قبل محله يعني: قبل وقت حلوله.
= فعلى المذهب: يجب أن يقبل وجوباً. إلا في صورة واحدة إذا ترتب على القبول ضرر كأن يأتي بفاكهة تفسد قبل حلول الأجل. فحينئذ لا يجب عليه أن يقبل وإلا فإنه يجب عليه القبول.
= والقول الثاني: أنه لا يجب عليه أن يقبل ولو بلا ضرر. وهذا مذهب المالكية. أنه إذا أتي بالسلعة قبل الوقت فلا يجب على المسلم أن يقبل ولو بدون ضرر.
(4/57)
________________________________________
ويظهر لي والله أعلم أن مذهب المالكية أصح وأنا لا نلزم المسلم أن يقبل السلعة ولو بدون ضرر ما دام الإتفاق والعقد على أن يأتي بالسلعة في وقت محدد فإنه يجب أن نلتزم بهذا العقد.
والحنابلة يقولون. أن تقديم المسلم فيه قبل وقته يقاس على الإتيان بسلعة أجود من المتفق عليه. فتقديم الأجل كرفع النوعية عندهم.
والصواب أن هذه المسألة لا تقاس على تلك. لأن تلك نفع محض. فإنه أتى بسلعة خير مما اتفق عليها.
أما تقديم الأجل فليس بنفع محض بل ربما يكون نفعاً وربما يكون لا نفع ولا ضرر إنما هو تقديم للسلعة عن وقتها وغالباً سيقع ضرر على المسلم لو قبل لأنه يكون قد رتب أموره على أساس أن السلعة ستأتي في وقت معين وتصرف في وقت معين.
على كل حال. الأقرب والله أعلم مذهب المالكية وهو أنه لا يجب على المسلم مطلقاً أن يقبل إذا أتي بسلعة قبل محلها.
انتهى المؤلف - رحمه الله - من الشرط الثاني وما زال في الشروط المتعلقة بالمسلم فيه:
- قال - رحمه الله -:
- الثالث: ذكر قدره.
الثالث من شروط المسلم فيه: ذكر القدر. تقدم معنا قريباً أن ذكر القدر أمر مجمع عليه.
لأنه لا يمكن أن يتميز المسلم فيه إلا بذكر قدره وإلا وقع في نزاع له أول وليس له آخر. لأن جهالة القدر أعظم أحياناًَ من جهالة الصفة. إذاً: هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ذكر قدره)
- قال - رحمه الله -:
- بكيل أو وزن أو ذرع يعلم.
معرفة القدر تكون بأي مقدار يعرف به مقادير السلع: كيل، وزن، عد، ذرع. بأي طريقة يعرف بها المقدار.
فإن بين قدره بالكيل والوزن فقد بينه بإجماع الفقهاء، فقد تم البيان بإجماع الفقهاء من أهل المعاني والظاهرية وغيرهم. بإجماع الفقهاء. إن بينه بالكيل والوزن.
وأما إن بينه بغير الكيل والوزن كأن يبينه بالعد أو بالذرع أو بأي وسيلة تبين مقدار السلعة فكذلك ذهب الجماهير جميع أهل العلم ما عدا ابن حزم إلى أنه كافي في بيان المقدار.
وقالوا إنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الكيل والوزن في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - لأن السلع غالباً ما تقاس بهذه الموازين في العهد النبوي.
(4/58)
________________________________________
وذهب ابن حزم إلى أن السلم إذا قدر بغير الكيل والوزن فهو باطل لأن الكيل والوزن هو المذكور في حديث ابن عباس فلا نخرج عن الكيل والوزن في بيان مقدار المسلم إليه. وهو قول غاية في الضعف ولا ينظر إليه في الحقيقة عند تأملك له فستجد أنه كذلك لا عبرة به ولا وزن له.
- ثم قال - رحمه الله -:
- يعلم.
يعني: يجب إذا أردت أن تبين مقدار المسلم فيه أن تستعمل وحدة معلومة.
فمثلاً - إذا قال شخص بعدت أو أسلمت في التمر خمسين صاعاً بصاع زيد. وصاع زيد مجهول لا يتساوى مع صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مع صاع الناس وهو مجهول.
فهذا بينه في كيل ووزن لكنه كيل ووزن لا يعلم لأن صاع زيد مجهول لا يعلمه الناس.
فيجب إذا أراد الإنسان أن يبين أن يذكر وحدة معلومة للعاقدين.
وهذا الشرط يحتاج إليه في القديم كثيراً لاختلاف الأصواع أحياناً بين البلدان بل داخل البلد الواحدة قد تختلف.
أما اليوم فوحدات القياس متساوية في العالم تقريباً. فيكفي أن تقول أي وحدة من الوحدات المعروفة ولا يشترط أن تعين أنها وحدة البلد الفلاني أو غيره لا تحاد الأمر في وقتنا هذا.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً: لم يصح.
هذه المسألة من مفردات الحنابلة.
واستدلوا - رحمهم الله - على هذا الحكم:
- بأن السلم فيه مبيع يجب معرفة قدره فوجب الرجوع إلى القدر الشرعي وهو الكيل والوزن في العهد النبوي.
هكذا استدل الحنابلة - رحمهم الله -.
= والقول الثاني: للجماهير: الأئمة الثلاثة وغيرهم من أهل العلم ذهبوا إلى أنه يجوز أن يسلم في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً.
واستدلوا على هذا:
- بأن المقصود في باب السلم هو معرفة المقدار وهذا يحصل سواء بالوزن لما يكال أو بالكيل لما يوزن.
(4/59)
________________________________________
وهذا القول الثاني أرجح وأقوى ونحن نقول أن مفردات الحنابلة في الغالب مسائل راجحة وقوية لأن الإمام أحمد - رحمه الله - لا يتفرد إلا بموجب صحيح ودليل قوي. لكن قد يشذ عن هذه القاعدة بعض المسائل التي لا يكون الراجح فيها مع الإمام أحمد - رحمه الله - ومن ذلك هذه المسألة التي معنا فقول الحنابلة فيها ضعيف في الحقيقة وبعيد من حيث التعليل وأيضاً فيه مشقة على الناس.
- ثم قال - رحمه الله -:
- الرابع: ذكر أجل معلوم.
يشترط في السلم أن يكون مؤجلاً. فإن كان حالاً بطل.
فإن قال: أسلمت إليك بخمسين صاعاً من التمر تسلمها لي الآن فهو باطل.
= وإلى هذا ذهب الجمهور: بطلان السلم الحال هو مذهب الجمهور.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: (إلى أجل معلوم). فأشار النص إلى أنه يتحتم وجود الأجل في عقد السلم.
- الدليل الثاني: أن عقد السلم اغتفرت فيه بعض الواجبات لأجل الرفق بالناس والرفق إنما يحصل مع وجود الأجل لا بدونه.

= القول الثاني: للإمام الشافعي واختاره شيخ الإسلام بن تيمية - رحمهما الله - أنه يجوز السلم الحال.
استدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: أن السلم الحال أبعد عن الغرر من السلم المؤجل. وإذا جاز المؤجل مع أن الغرر فيه أظهر فيجوز المعجل من باب أولى.
- الدليل الثاني: أن السلم الحال غاية ما يكون بيع فلنصححه بيعاً.
الراجح: والله أعلم مذهب الجمهور. واختيار الشافعية وشيخ الإسلام في هذه المسألة فيه ضعف.
سبب الترجيح: نحن نقول أنه يجوز في السلم العقد على معدوم فإذا صححتم السلم حالاً وجعلتموه بمثابة البيع يلزم من ذلك جواز العقد في البيع على المعدوم وهذا لا يجوز.
شيخ الإسلام - رحمه الله - تنبه لهذه المشكلة فقال في الاختيارات يجوز السلم الحال إذا كانت السلعة موجودة حتى يخرج من هذا الإشكال.
وأنا أقول لا يزال الإشكال موجوداً ولا يخرج منه بقوله: (بشرط أن يكون السلم حالاً) لماذا؟ لأن العلماء أجمعوا على جواز السلم في المعدوم فإذا اشترطت أنت في هذه الصورة أن يكون السلم على الموجود لم يصبح من السلم.
(4/60)
________________________________________
وقول الشافعية: (فليكن بيعاً) نعم نقول فليكن بيعاً ولا يكون سلماً فالسلم شيء والبيع شيء آخر.
السلم له شروطه ومواصفاته وأحكامه الخاصة ومن أبرزها جواز بيع المعدوم والبيع له شروطه الخاصة ومن أبرزها عدم جواز بيع المعدوم.
فنقول: السلم الشرعي يجب أن يكون مؤجلاً. فإن أسلم حالاً فالبيع باطل.
قد تكون ثمرة الخلاف ليست كبيرة. لماذا؟ لأنه إذا أسلم حالاًوأبطلنا العقد. فماذا يصنع؟ يبيع بيع المعينات.
لكن الخلاف في الحقيقة مهم لتصور المسألة. فإنه يساعد على تصور المسائل والفروق بين العقود بشكل جيد.
إذاً الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه يشترط في بيع السلم الأجل.
- يقول - رحمه الله -:
- الرابع: ذكر أجل معلوم. له وقع في الثمن.
يشترط في الأجل أن يكون معلوماً. لأنه إذا لم يكن معلوماً وقع المتعاقدان في الغرر والجهالة.
والشرط الثاني للأجل: أن يكون له وقع في الثمن.
معنى قول الفقهاء: (له وقع في الثمن). أي: أثر في زيادته. فلابد أن يكون في الأجل له وقع في الثمن.
فإن أسلم في وقت قصير كأن يقول أسلمت في يومين أو أسلمت في ثلاثة أيام فهذه المدة ليس لها وقع في الثمن. السلم بناء على ذلك باطل لبطلان الأجل.

= القول الثاني: أنه لا يشترط في الأجل أن يكون له وقع في الثمن بل يجوز ولو كان الوقت قصيراً.
وانتصر لهذا ابن حزم - رحمه الله - وقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إلى أجل معلوم) ولم يقل إلى أجل طويل معلوم ولا إلى أجل قصير معلوم وإنما قال: (إلى أجل) وأطلق. هذا الدليل الأول.
- الدليل الثاني: أن المقصود من السلم إيقاع الرفق بالمتعاقدين. وهذا قد يقع حتى في الوقت القصير.
لذلك الراجح إن شاء الله أنته يجب أن يكون مؤجلاً لكن لا يشترط في هذا الأجل أن يكون له وقع في الثمن بل أي مدة من الزمن يحصل بها الإرفاق فهي كافية.
وبالغ ابن حزم فقال: ولو ساعة.
نحن نقول الساعة لا يحصل بها إرفاق لكن اليوم واليومين والثلاثة لا شك أنه يحصل بها إرفاق ويتسنى للمسلم إليه تجهيز المسلم فيه.
(4/61)
________________________________________
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - الشرط الرابع ذكر محترزاته فما سيذكره من المسائل الثلاث هي موزعة على الشرط الرابع.
- قال - رحمه الله -:
- فلا يصح: حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ ولا إلى يوم.
قوله: (فلا يصح: حالاً) يرجع إلى قوله: (ذكر أجل)
وقوله: (ولا إلى الحصاد والجذاذ) يرجع إلى قوله: (معلوم)
وقوله: (ولا إلى يوم) يرجع إلى (وقع في الثمن)
مسألة (حالاً) هذه كما تقدم معنا أن اىلسلم الحال باطل عند جماهير الفقهاء وتقدم معنا الآن الخلاف.
قوله: (ولا إلى الحصاد والجذاذ) لا يصح السلم إلى الحصاد ولا إلى الجذاذ.
= هذا مذهب الحنابلة.
وعللوا ذلك بأمرين:
- الأمر الأول: أنه روي عن ابن عباس أنه كره تأجيل السلم إلى الحصاد والجذاذ.
- الثاني: أن تأجيله إلى الحصاد والجذاذ أمر مجهول لا ينضبط إذ الحصاد والجذاذ يبعد ويقرب.
= القول الثاني: جواز تأجيل السلم إلى الحصاد والجذاذ.
واستدلوا أيضاً على الجواز: أي استدل القائلون بالجواز بأمرين:
- الأمر الأول: أن الحصاد والجذاذ يعرف بالعرف والعاد واختلافه يسير.
- والأمر الثاني: أن ابن عمر - رضي الله عنه - يشتري ويبيع إلى العطاء. فيؤخذ منه جواز التأجيل إلى الجذاذ والحصاد.
الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة. لماذا؟
لأن الجذاذ والحصاد أحياناً يطول وتمتد فترته ولاشك أن مثل هذا يوقع الخلاف والنزاع. ثم الأمر سهل نقول لهم: اضبطوا ذلك بوقت يعني بتاريخ بدل أن تدخلوا في متاهة الجذاذ والحصاد أذكروا تاريخاً محدداً يحصل فيه التسليم. وبهذا نكون رجحنا مذهب ابن عباس على مذهب ابن عمر على أن ابن عمر لم يرو عنه التصريح بجواز السلم إلى الجذاذ وإنما روي عنه ما يفهم منه الجواز وهو أنه يبيع ويشتري إلى العطاء بينما ابن عباس روي عنه التصريح أنه يكره أن يحد الإنسان الأمر بالجذاذ والحصاد.
فالأقرب والله أعلم ضبطاً للعقد مذهب الحنابلة.
- قوله - رحمه الله -:
- ولا إلى يوم.
تعليله ظاهر:
- لأنه ليس له وقع في الثمن.
ثم لما قرر هذا الحكم وهو الأجل استثنى مسألة مهمة:
- فقال - رحمه الله -:
- إلاّ في شيء يأخذه منه كل يوم: كخبز ولحم ونحوهما.
(4/62)
________________________________________
هذه المسألة مستثناة من اشتراط: أن الأجل ليس بمعلوم، واستثناء بالنسبة للسلع التي تستلف في الأيام الأولى من قضية له وقع في الثمن.
صورة المسألة/ أن يقول الإنسان لصاحب البقالة هذه مائة ريال أأخذ منتك كل يوم خبزاً أو أأخذ منك كل يوم لحماً.
فالآن صورة السلم موجودة لأنه يوجد رأس المال الذي قبض في مجلس العقد وهو مائة ريال والمسلم فيه وهي السلع التي يأخذها تباعاً.
والشرط الذي اختل في هذه الصورة هو شرط معلومية الأجل وأن يكون له وقع في الثمن كما تقدم معنا.
فهذه الصورة جائزة.
واستدلوا على جوازها بأمرين:
- الأمر الأول: أن الحاجة ماسة إليها وداعية إلى المعاملة بها. لاسيما في القديم، ولا سيما إلى الآن في بعض البلدان الحاجة ماسة لمثل هذا العمل. إما لحاجة المسلم أو لأنه أخرق والأخرق من مصلحته أن يقدم ثمن السلع التي سيستلمها مقدماً ويستلم السلع تباعاً لأن المبلغ لو بقي في يده فإنه سيتلفه في غير طائل.
إذاً: الدليل الأول هو الحاجة.
- العلة الثانية: أنه إذا جاز الشيء إلى أجل جاز إلى أجلين وثلاثة ولا فرق.
تبين معنا الآن أن هذه المسألة هي مسألة الإسلام في جنس إلى أجلين.
والإسلام في جنس إلى أجلين سيذكر المؤلف - رحمه الله - في الشرط السادس الذي سيأتينا إن شاء الله تفصيلاً عنه وسنأخذ هناك الفرق بين المسألة التي ستأتي وهذه المسألة.
والذي يعنينا الآن جواز هذه الصورة وأن سبب الجواز ما ذكرته لك من التعليلين.
لكن يشترط لجواز هذه المعاملة أن تكون الأجزاء معلومة بأن يقول: كل يوم آخذ كيلو لحم. أو نصف كيلو لحم. المهم يبين جزءاً كل يوم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء.
المحقق - وفقه الله - فتح الحاء والصواب: مَحِلِّهِ. بكسر الحاء وهذا يبدو أنه سهو لأنه هو ضبطها ضبطاً صحيحاً فيما تقدم وقبل محله.
فتصلح الفتحة إلى كسرة.
يشترط لصحة السلم: أن يوجد المسلم فيه في محله غالباً.
يعني: يشترط لصحة السلم أن يغلب وجود هذه السلعة في وقت حلول الأجل.
فإذا أسلم في رطب في الشتاء فالسلم باطل لأن الرطب لا يوجد في الشتاء واختل هذا الشرط وهو أن يوجد غالباً.
(4/63)
________________________________________
فإذا أراد أن يؤجل فعليه أن يضع أجلاً توجد فيه السلعة غالباً.
وهذا الشرط متفق عليه وصحيح بلا إشكال لأنه لا يمكن إتمام العقد وتسليم المسلم فيه إلا بأن يكون غالب الوجود في وقت محله.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومكان الوفاء.
يعني ويجب أن يوجد غالباً في مكان الوفاء.
فإن غلب على الظن عدم وجوده في مكان الوفاء فإن السلم باطل.
إذاً يجب أن نراعي في الأجل الزمان والمكان.
أما مثال الزمان: فتقدم أن يسلم في الرطب في الشتاء فهذا باطل.
المكان: كأن يسلم في مكان محاصر لا تدخله سلعة معينة ولو كانت توجد في ذلك الزمن لكن لا توجد في ذلك المكان فهذا السلم باطل لأنه يغلب عدم وجود هذه السلعة في هذا المكان كما قلت لك كالمكان المحاصر.
هذا معنى كلام المؤلف - رحمه الله -: (ومكان الوفاء). وإذا قرأت عبارة المؤلف - رحمه الله - تفهم منها هذا المعنى ببساطة وهو معنى وجيه وقيد جيد.
الشيخ منصور في شرحه في الروض فهم من هذا الكلام فهماً آخر فقال: (معنى في مكان الوفاء) يعني: أنه لا يجوز أن نسلم في ثمرة بستان معين. ولا في نتاج فحل معين. فحمل العبارة على هذا المعنى.
ويظهر لي أن ما حمله الشيخ منصور - رحمه الله - على هذا المعنى بعيد وأن سياق المؤلف - رحمه الله - سهل وواضح ومراد لكن لعله حمله على هذا الحمل لأن هذه العبارة لم تذكر في غالب كتب الحنابلة.
لكن مع ذلك أقول هذا الفهم الذي ذكرته لك أولاً وشرح العبارة بهذا المعنى هو الصحيح وهو المتبادر إلى الذهن.
نأتي مع ذلك إلى مسألة: السلم في بستان معين. وفي نتاج فحل معين التي ذكرها الشيخ منصور.
ذهب الجماهير وحكي إجماعاً أنه لا يجوز للإنسان أن يشترط ثمرة بستان معين.
- لأن ثمرة هذا البستان المعين معرضة للتلف فإذا تلفت لم يمكن للمسلم إليه أن يأتي بالمسلم فيه.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن يسلم في ثمرة بستان معين بشرط أن يكون السلم بعد بدو الصلاح.
والصحيح إن شاء الله أنه لا يجوز السلم في ثمرة بستان معين مطلقاً لأن هذا فيه غرر ولأن فيه مخاطرة ولأنه لا حاجة لتخصيص ثمرة بستان معين.
(4/64)
________________________________________
فإذا كان الإنسان يرغب بمواصفات ثمرة بستان معين فالحل: أن يذكر هذه المواصفات ولا يذكر أنها من بستان معين.
فالأقرب وحكي إجماعاً وربما المخالف فيه نفر قليل من أهل العلم - بأنه لا يجوز أن يسلم في شيء معين. لا في ثمرة بستان ولا في نتاج فحل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- لا وقت العقد.
يعني: أنه لا يشترط أن يوجد المسلم فيه في وقت العقد.
والدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل المكدينة على السلم في السنتين والثلاث ومن المعلوم أن الثمرة في السنتين والثلاث تنقطع.
فدل هذا على أنه لا يشترط وجود الثمرة من حين العقد إلى وقت التسليم.
- الدليل الثاني: أن اشتراط وجود الثمرة من حين العقد إلى وقت التسليم يمنع الإرفاق الموجود في السلم. إنما أردنا الأجل ليتمكن من تحصيل هذه السلعة. فإذا اشترطنا وجود هذه السلعة من حين العقد إلى التسليم فأين الإرفاق حينئذ الحاصل بتأجيل الثمن.
فالأقرب هو أنه لا يجب أن توجد السلعة في وقت العقد.
وهذا مذهب الجماهير فلم يخالف في هذه المسأل إلا الأحناف. وقولهم في هذه المسألة ضعيف جداً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن تعذر أو بعضه: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض.
(إن تعذر) يعني المسلم فيه. (فله) يعني: المسلم.
إذا تعذر المسلم فيه: إما أن لا تحمل الشجرة ثماراً لأي سبب من الأسباب أو أن تصاب بآفة أو أن يتغيب المسلم إليه أو لأي سبب من الأسباب تعذر تسليم المسلم فيه. (فله) أي للمسلم الخيار بين: الفسخ والصبر.
وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (فله الصبر أو فسخ الكل) يعني فهو مخير بين أن يصبر وبين أن يفسخ.
ومفهوم عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه إذا تلفت الثمرة فإن العقد لا يبطل. ولو تلفت الثمرة. وعللوا ذلك:
- بأن بقاء الثمرة ليس من شروط صحة السلم. بل نخير المسلم إذا تلفلت الثمرة بين أن يصبر إلى أن يتمكن المسلم إليه من إحضار الثمرة أو يفسخ.
= والقول الثاني: أن عقد السلم بمجرد تلف السلعة يبطل.
- لأن السلعة هي محل العقد. فإذا تلفت بطل العقد.
(4/65)
________________________________________
والراجح مذهب الحنابلة. وهو أن العقد لا يبطل وسبب الترجيح أن بطلان العقد بتلف السلعة إنما هو في بيوع الأعيان أما في البيوع التي تثبت في الذمة فإن تلف السلعة لا يؤدي إلى تلف العقد لأن السلعة ثابتة في الذمة فتلفت أو لم تتلف فهي ثابتة في الذمة. ولهذا لا إشكال إن شاء الله في أن الأقرب للصواب مذهب الحنابلة وهو أن العقد لا يبطل.
- يقول - رحمه الله -:
- الصبر أو فسخ الكل أو البعض.
الخلاف في البعض كالخلاف في الكل. يخير بين الصبر أو الفسخ.
= والقول الثاني: أن العقد يبطل.
إلا أنه في مسألة البعض من الفقهاء من قال إذا تلف البعض فإما أن يفسخ في الكل أو يصبر على الكل.
والصواب أن حكم البعض كحكم الكل. فما وجد يستلمه الإنسان وما تلف فالمسلم مخير بين الصبر أو الفسخ.
ثم لما بين أنه مخير بين الصبر أو الفسخ انتقل إلى الحكم فيما إذا اختار الفسخ.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه.
يعني: فإذا اختار الفسخ فإنه يأخذ الثمن الموجود إن بقي موجوداً أو مثله إن كان مثلياً أو قيمته إن كان من القيميات. إذاً إما أن يكون نفس الثمن موجود فيأخذه وإلا أن يكون الثمن غير موجوداً لكنه من المثليات فيأخذ مثله أو نرجع إلى القيمة في القيميات. إذاً الحكم مفصل على هذا النحو فيما إذا اختار الفسخ.
ولم يبين المؤلف - رحمه الله - ماذا يحصل إذا اختار الصبر لأنه إذا اختار الصبر فالأمر واضح.
يصبر إلى أن يأتي المسلم إليه بالسلعة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق.
السادس من شروط الثمن لا من شروط المسلم فيه: أن يقبض الثمن تاماً في مجلس العقد.
اتفق الفقهاء كلهم على وجوب تسليم وتقديم الثمن.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف) قالوا معنى قوله: (فليسلف) يعني: فليعط.
- واستدلوا: بأن الإرفاق إنما يحصل بتقديم الثمن.
هذا محل اتفاق.
إلا أن المالكية فقط يجوزون التأخير لمدة ثلاثة أيام.
وقالوا: أن هذه المدة يسيرة ولا تمنع الإرفاق.
والراجح مذهب الجماهير أنته لا يجوز تأخير قبض الثمن لأي مدة بل يجب أن يقبض في مجلس العقد.
(4/66)
________________________________________
ويترتب على الخلاف بين الجمهور والمالكية مسألة أخرى وهي: ثبوت الخيار وعدمه.
فاخيار ثابت على قول المالكية لأنه إذا أجل الثلاثة أيام أمكنه أن يشترط الخيار مدة هذه الثلاثة أيام.
والخيار لا يثبت في عقد السلم عند الجمهور لأنه يجب أن يكون با ... ) في مجلس العقد.
وإذا كنا نرجح مذهب الجمهور وأنه لا يجوز تأخير ثلاثة أيام فتبعاً لذلك نرجح أنه لا خيار في السلم. بل يقع لازماً.
لأنه كيف يشترط الخيار والقبض لازم وواجب.
- يقول - رحمه الله -:
- السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق.
إذاً يجب أن يقبض ويجب أن يكون معلوماً قدره ووصفه. الثمن الذي يسلم في مجلس العقد ينقسم إلى قسمين:
- إما أن يكون الثمن في الذمة.
- وإما أن يكون معيناً.
فإن كان في الذمة: فيجب بالإجماع بيان القدر والوصف.
القسم الثاني: أن يكون معيناً فإذا كان معيناً: = فذهب الحنابلة إلى وجوب معرفة القدر والوصف: فيجب أن تقول خمسين ريال سعودي: القدر خمسين والوصف ريال سعودي.
قالوا: - لأن الثمن لا يعلم على الوجه المطلوب إلا بذلك.
- ولأن الثمن يجب أن يعلم قياساً على السلعة ونحن قررنا فيما سبق أن السلعة المسلم فيها يجب أن تكون معلومة.
= القول الثاني: أنه يجب معرفة القدر دون الوصف.
= والقول الثالث: أنه لا يجب أن يعلم لا القدر ولا الوصف وإنما نكتفي بالمشاهدة فقط.
- قالوا: لأن المشاهدة مغنية عن معرفة القدر والوصف.
وفي الحقيقة: بالنسبة لي أنا لا ينتهي عجبي من هذا القول: يعني: أتعجب من أن يقال بعدم وجوب معرفة القدر والوصف قول عجيب وإن كان قال به أئمة ربما كبار لكن أنت إذا تأملت كيف ينضبط العقد بدون معرفة القدر والوصف. لا يمكن أن ينضبط. ووقوع الخلاف أمر لاشك فيه. هذا أمر.
الأمر الآخر نحن نقول إذا بطل العقد فإنه يجب الفسخ وقررنا في الدرس السابق أن كل ما قلنا يبطل العقد فثمرة ذلك أن يرجع المشتري بالثمن والمسلم إليه بالمسلم فيه. فكيف يرجع؟ بماذا يرجع؟ ربما يقول: كنت سلمت لك مبلغاً كبيراً أو صغيراً وإذا كان الثمن ليس من النقدين بل من العروض يختلفون في مقدار هذا العرض إلى آخره من الخلاف والنزاع.
(4/67)
________________________________________
ففي الحقيقة تعجبت من هذا القول ومن وجهى نظري أن مذهب الحنابلة لاشك أنه أرجح وأضبط وأقرب لقواعد البعد عن الشقاق في المعاملات المالية. وأي كفاية في المشاهدة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن قبض البعض ثم افترقا: بطل فيما عداه.
إذا قبض البعض ثم قبل أن يقبض الباقي افترقا صح في المقبوض وبطل في الذي لم يقبض.
وهذا مبني على مسألة سابقة تقدمت معنا وهي مسألة تفريق الصفقة.
فتقدم معنا أن تفريق الصفقة صحيح وأنه على مذهب الحنابلة يجوز أن يفرق الصفقة ومعنى تفريق الصفقة أن يصح العقد في بعض السلع ويبطل في بعضها. كذلك هنا نقول: يصح في القبوض ويبطل فيما لم يقبض.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه: صح إن بين كل جنس وثمنه وقسط كل أجل.
يقول - رحمه الله -: (إن أسلم في جنس إلى أجلين).
صورة المسألة: أن يسلم في خمسين صاع من التمر يسلم بعضه في محرم وبعضه في رجب.
فهو أسلم في جنس إلى أجلين. فهذه الصورة جائزة عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا:
- بجنس ما استدلوا به في المسألة السابقة وهي أنه إذا جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وثلاثة وأربعة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إلى أجل معلوم. فثبت جواز الأجل فيثبت جواز الأجلين.
(((الآذان))).

لكن يصح لجواز السلم في جنس إلى أجلين أن يبين أمرين:
- الأول: قسط كل أجل.
- والثاني: ثمن كل قسط.
فيقول: أسلمت إليك في خمسين أو في مائة صاع من التمر خمسين منها في محرم وخمسين منها في صفر. قيمة الخمسين الأولى كذا من المئة ريال وقيمة الخمسين الثانية كذا من المائة ريال فلابد أن يبين قسط كل أجل ويبين ثمن كل قسط.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأن الأجل الأبعد له قسط أكبر من الثمن. فيجب أن يبين حتى إذا فسخ العقد أمكن الرجوع بكل قسط بقيمته.
= القول الثاني: أنه لا يشترط أن يبين لا قسط ولا قيمة كل أجل. فإن تعذر إيفاء بعض هذا الجنس في أحد الأجلين سقط من الثمن بقدر ما يسقط من المسلم فيه. فإذا افترضنا أنه لم يتمكن من تسليم نصف المسلم فيه فإنه يسقط من الثمن النصف أيضاً. وإلى هذا يميل ابن قدامة - رحمه الله -.
(4/68)
________________________________________
لكن الأقرب مذهب الحنابلة. لأنه لا سيما في وقتنا هذا للأجل وقع عظيم في الثمن - اليوم في بيوع السلم الأجل له وقع كبير في السلم فيجب أن تبين قيمة كل قسط من البضاعة موزعة على الآجال حتى إذا تخلفت بعض البضاعة في بعض الآجال أمكن معرفة ثمنها وخصمه من قيمة السلعة أما إذا ترك الأمر هكذا أن نصف السلعة تساوي نصف الثمن فهذا يؤدي إلى الاختلاف بلا شك.
- يقول - رحمه الله -:
- (أو عكسه).
يعني: أسلم في جنسين إلى أجل.
إذا أسلم في جنسين إلى أجل فهو أيضاً يجوز.
صورته أن يسلم في بر وقمح إلى محرم فالآن في جنسين إلى أجل.
بين المؤلف - رحمه الله - شرط صحة هذا البيع:
- فقال - رحمه الله -:
- صح إن بين كل جنس وثمنه.
يعني: صح.
في الواقع: العبارة أسهل إذا قلنا صح إذا بين ثمن كل جنس.
فإذا بين ثمن كل جنس فإنه صحيح.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين.
(4/69)
________________________________________
الدرس: (21) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- قال - رحمه الله -:
- السابع: أن يسلم في الذمة.
(السابع) يعني من شروط السلم. (أن يسلم في الذمة)
- ثم قال - رحمه الله - موضحاً هذا الشرط:
- فلا يصح في عين.
بناء على أنه يجب أن يكون في الذمة لا يصح في عين.
علل الحنابلة هذا الحكم:
- بأن السلم في المعين قد يفضي إلى بطلال السلم بتلف هذا المعين. بخلاف الذي في الذمة فإنه لا يبطل.
= وقال بعض الفقهاء: لا حاجة لهذا الشرط.
- لأن اشتراط الأجل يغني عنه.
والأقرب فيما يظهر لي أن هذا الشرط شرط صحيح ومعتبر: لأن شرط الأجل لا يغني عن شرط عدم التعيين إذ قد يسلم في عين معينة بشيء معين مؤجلاً. فإنه تقدم معنا أن السلم يجوز فيه أن يكون بسعة ليست مملوكة للمسلم إليه وقت العقد. لهذا أقول أن هذا الشرط صحيح ولا يغني عنه شرط آخر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويجب الوفاء في موضع العقد.
(4/70)
________________________________________
قوله: (ويجب الوفاء في موضع العقد) يعني: أنه لا يشترط بيان موضع التسليم في العقد.
- لأن موضع التسليم هو موضع العقد عند الحنابلة.
ويستثنى من ذلك إذا كان موضع العقد لا يمكن التسليم فيه كأن يتم العقد في البر أو في البحر أو في الجو. فإن هذه الأماكن ليست موضعاً لتسليم المسلم فيه حينئذ لابد من تعيين موضعاً لتسليم السلعة.
فإذاً عرفنا الآن: أنه لا يجب عند الحنابلة تحديد موضع التسليم.
= القول اثاني: أنه يجب أن يحدد موضع التسليم مطلقاً.
- دفعاً للخلاف حول موضع إقباض المسلم فيه.
= والقول الثالث: أنه يجب في صورة واحدة وهي: ما إذا كان لحمله مؤونة. يعني: لحمله تكلفة مالية.
والصواب إن شاء الله مع تفصيل الحنابلة وهو: أنه لا يجب ذكر موضع تسليم المسلم فيه إلا إذا اقتضى الحال ذلك. فحينئذ لابد من بيان موضع التسليم.
والدليل على رجحان هذا القول:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس لم يحدد موضع تسليم السلعة وإنما اشترط الكيل والوزن والأجل فقط.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويصح شرطه في غيره.
أي مع عدم وجوب ذكره: أي: موضع التسليم في العقد إلا أنه يجوز اشتراط موضع التسليم.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم).
فإن اشترط مكاناً معيناً للتسليم سواء كان موضع العقد أو غيره وجب التقيد به.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن عقدا ببر أو بحر: شرطاه.
يعني: وإن تم العقد في البر أو في البحر: (شرطاه) أي شرطا موضع التسليم.
وتعليل ذلك:
- تعذر التسليم في هذه المواضع.
وتقدم معنا بيان ما يتعلق بموضع التسليم.
وكان من الأنسب أن تكون هذه العبارة تبع لقوله: (ويجب الوقاء في موضع العقد) ولا يفصل بينهما في قضية اشتراط أن يسلم السلعة في غير محل العقد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يصح بيع المسلم فيه: قبل قبضه.
= ذهب الجمهور من أهل اعلم إلى أنه لا يصح بيع المسلم فيه بل حكي إجماعاً. ولا يجوز عند الجماهير بيع المسلم فيه لا للمسلم إليه ولا لغيره ولا بمثل الثمن ولا بأكثر ولا بأقل.
واستدل الجماهير على هذا بدليلين:
(4/71)
________________________________________
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وهذا المسلم فيه لم يقبض.
- الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن والمسلم فيه إذا باعه المسلم قبل قبضه فقد باعه قبل أن يدخل في ضمانه وربح فيه قبل أن يضمنه فوقع في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= القول الثاني: وهو في الجملة مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم - وسيأتينا بعض القيود على مسألة اختيار ابن القيم - لكن في الجملة اختار هذا القول هؤلاء.
وهو: جواز بيع المسلم فيه إلى المسلم إليه وإلى غيره لكن بمثل الثمن أو أقل ولا يجوز بأكثر.
واستدل هؤلاء بدليلين:
- الأول: أن الأصل في المعاملات الحل.
- الثاني: ما صح عن ابن عباس أنه قال: إذا أسلفت في شيء ولم تأخذ فخذ عوضاً وفي رواية: عرضاً - عنه بأنقص منه ولا تربح مرتين.
فهذا الأثر الثابت عن ابن عباس فيه جواز بيع المسلم فيه.
لكن اشترط القائلون بالجواز شرطاً: هذه الشروط مروية عن القائلين بالجواز: عن الإمام أحمد وذكرها أيضاً ابن القيم وغيره.
- الشرط الأول: ان لا يربح. - كما تقدم. أن لا يربح إذا باع المسلم فيه.
- الثاني: التقابض إذا كان بينهما ربا.
- أن لا يجعله رأس مال لسلم آخر. لئلا يربح فيه مرتين ولئلا يكون من قلب الدين.
وفي الحقيقة إذا تأملت تجد أنه لا حاجة للشرط الثالث لأن الشرط الأول أن لا يربح فيه وإذا جعله رأس مال لسلم آخر فسيربح فيه لكن هكذا ذكر الفقهاء هذه الشرط.
الراجح إن شاء الله: أنه يجوز بيع المسلم فيه إلى المسلم إليه فقط دون غيره.
والدليل على ذلك:
- أن أثر ابن عباس فيه جواز بيع المسلم فيه إلى المسلم إليه فقط.
وممن فهم هذا الفهم في أثر ابن عباس: ابن القيم فهو يقول: وابن عباس لم يجز بيع السلم إلى لمن هو عليه.
ويظهر لي من سياق كلام ابن القيم أنه أيضاً يميل إلى هذا القول وهو الجواز لكن إلى المسلم إليه فقط دون غيره.
فهذا القول إن شاء الله هو الراجح.
(4/72)
________________________________________
ولا يغيب عن ذهنك أبداً أن القول بالمنع حكي إجماعاً. يعني يغني أن نقول الجماهير أن نقول: حكي إجماعاً فغالب السلف وفقهاء المسلمين على المنع ولذلك الورع والاحتياط يتوجه جداً في مثل هذه المسألة.
المسائل التالية مبنية في الغالب على مسألة البيع.

- يقول - رحمه الله -:
- ولا هبته.
يعني: ولا يجوز أن يهب المسلم المسلم إليه لأحد.
واستدلوا على ذلك:
- بالقياس على البيع. لأن في كل منهما تمليك.
وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن الذمعب لا يجوز هبة المسلم فيه لا للمسلم إليه ولا لغيره.
والصواب أن الحنابلة يجيزون هبة المسلم فيه للمسلم إليه ولا يجيزونها لغيره.
واستدلوا على هذا: يعني: على الجواز:
- بأن هبة السلم للمسلم إليه هو في الحقيقة إسقاط وإبراء وليس معاوضة. وإذا كان إسقاطاً وإبراءً جاز.
= والقول الثاني: في أصل المسألة: جواز الهبة للمسلم إليه ولغيره.
- لأنه لا دليل على المنع.
- ولأن الهبة ليست من عقود المعاوضات التي يتشدد في شروطها بل هي من عقود التبرعات فإذا قال المسلم لرجل وهبتك السلم الذي لي عند فلان فأي محظور في هذا إذ ليس هذا من باب المعاوضات التي يشترط لها القبض والعلم وعدم الجهالة والغرر وإنما هي من باب التبرعات.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا الحوالة به.
ذكرنا أن قوله: (ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه) وأن ما بعده من المسائل مبنية على المسألة في البيع.
هنا نقول: (ولا الحوالة به) يعني: ولا أن نحيل المسلم إليه السلم إلى رجل آخر.
صورة المسألة: أن يقول المسلم إليه للمسلم: أحلتك بالسلم (بالدين الذي علي) الذي علي على فلان فأحال المسلم إلى رجل آخر.
وذكرنا سابقاً أن المسلم هو: المشتري. والمسلم إليه: هو المدين البائع.
وكا قلت: هذه المسائل مبنية على البيع.
لذلك عللوا المنع:
- بأن هذه الحوالة إنما هي نقل للملك فمنع كالبيع.
وإذا كان الدليل مبني على مسألة منع البيع فقد تقدم معنا أن البيع جائز وإذا كان البيع جائزاً فكذلك الحوالة به جائزة.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا عليه.
يعني: ولا يجوز احوالة بالمسلم فيه على شخص آخر.
(4/73)
________________________________________
صورة المسألة: أن يقول المسلم: أحلتك بالدين الذي لي على فلان لتأخذه. المسلم يقول لرجل يطلبه دين: أحلتك بديني على المسلم إليه المدين لي بكذا وكذا.
ولتبسيط المسألة: الحوالة به. المحيل هو: المسلم إليه. والحوالة عليه: المحيل هو: المسلم. وبهذا تتضح وتكون متوافقة.
بقينا في الدليل:
دليل الحنابلة على الصورة الثانية وهي إذا أحالها عليه:
- قالوا: أن من شروط الحوالة أن تكون على دين مستقر ودين السلم ليس ديناً مستقراً. لأنه تقدم معنا أنه إذا عجز المسلم إليه فالمسلم بالخيار بين الفسخ والصبر. فصار ديناً ليس مستقراً.
= والقول الثاني: أن السلم به والسلم عليه جائز.
- لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحيل على مليء فليحتل.
فهذا النص يتناول دين السلم وغيره من الديون.
وهذا البحث في الحقيقة من صميم مباحث الحوالة وسيأتينا في الحوالة شروط الحوالة وأن منها على دين مستقر وماقشة هذه المسألة. والذي يعنينا الآن أن الحوالة بالسلم عليه: يعني: بدين السلم عليه: جائزة لعموم الحديث.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا أخذ عوضه.
يعني: ولا يجوز أن يأخذ المسلم عوضاً عن دين السلم.
وأخذ العوض عن دين السلم هو البيع.
ولما كان أخذ العوض عن دين السلم هو البيع: لزم من هذا أن يبين الحنابلة مالفرق بين قولهم هنا: (ولا أخذ عوضه) وبين بيع المسلم إليه. لابد أن يبين الحنابلة لأنهم هم الذين ذكروا هذه الألفاظ.
وجدنا أن بعض الحنابلة بين الفرق لكن من أحسن من بين الفرق رجل كتب حاشية على شرح المنتهى فبين الفرق: فقال: الفرق بين أخذ العوض والبيع هو أنه المقصود في أخذ العوض أن يكون من غير النقدين ولغير المسلم إليه. فإذا أسلم في قمح فلما حل الأجل أخذ بدله شعيراً قهل هذامن بيع السلم أو من أخذ عوضه عليه؟ من أخذ العوض. وإذا باعه بخمسين ديناراً فهو من بيع السلم.
هكذا فرقوا بين اللفظين. وإلا في الحقيقة فهو بيع.
ولذلك الخلاف السابق في البيع ينطبق على الخلاف في الحوالة في مبادلة دين السلم بشيء من غير النقدين وتقدم معنا أن الصواب صحته إلا لغير المسلم إليه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يصح الرهن والكفيل به.
(4/74)
________________________________________
لا يصح الرهن والكفيل بالمسلم فيه.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأنه إذا أخذ المسلم فيه من ثمن الرهن أو من ذمة الكفيل فقد صرف السلم في غير ما هو متفق عليه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره).
= والقول الثاني: أن أخذ الرهن والكفيل بالمسلم فيه جائز ولا حرج فيه.
واستدلوا بأمرين:
- الأمر الأول: عموم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة .. } [البقرة/283].
والآية تشمل دين السلم ودين القروض وكل أنواع الديون ودين البيوع هو أي دين يكون في ذمة الإنسان فهي عامة تمل دين السلم وغيره.
- والأمر الثاني: أن الحديث ضعيف لا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والأصل في المعاملات الحل وتوثقة الديون جاء به الشرع والسلم من جملة الديون.
لذلك الأقرب إن شاء الله جواز أخذ الرهن والكفيل وهذا مذهب الجمهور.
إلا أن الإشكال فقط في هذه المسألة: أن المنع روي عن بعض الصحابة: كره بعض الصحابة أخذ الرهن والكفيل في دين السلم. وكأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم رأو أن أخذ الرهن والكفيل يتنافى مع المبدأ الذي شرع من أجله السلم وهو الرفق بالناس. لأن هذا العقد كله لم يشرع إلا رفقاً بالناس وتوسعة عليهم فإذا أخذ الرهن أو الكفيل صار في هذا ضيق لأن الرهن معناه حبس عين ينتفع بها الإنسان ولا يمكن أن يبيعها أو يشتريها.
يبدو لي أن هذا مأخذ الصحابة.
لكن على كل حال ما دامت الآية عامة والقةل بالجواز مذهب الجماهير من أئمة المسلمين فهو الأقرب إن شاء الله.
وإن رأى الإنسان أن لا يأخذ رهناً ولا كفيلاً لأجل هذه الآثار فقد احتاط لدينه.

وبهذا انتهى باب السلم وننتقل إن شاء الله إلى باب القرض.
باب القرض
- قال - رحمه الله -:
- باب القرض.
القرض في لغة العرب: القطع.
وفي الاصطلاح الفقهي: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
- قال - رحمه الله -:
- وهو مندوب.
القرض مشروع بالسنة والإجماع.
- أما السنة: فإنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض بكراً.
- وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على مشروعية القرض وجوازه.
وقوله: (وهو مندوب). يعني: للمقرض.
(4/75)
________________________________________
وفهم من هذا: أن الإنسان إذا طلب منه قرض وامتنع فإنه لم يترك واجباً ولا إثم عليه.
وهذا صحيح بالإجماع.
فالقرض مندوب وليس بواجب. ولا إثم ولا تثريب على من امتنع من الإقراض، إلا أن الإقراض مندوب ومحبوب إلى الشارع.
والدليل على أن الإقراض محبوب:
- حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً مرتين إلا كان كصدقة مرة). وهذا الحديث فيه خلاف في صحته.
والأقرب والله أعلم: أنه موقوف على ابن مسعود وممن رجح الوقف الإمام الدارقطني والبيهقي. لكن مع ذلك أقول أن هذا الحديث له حكم الرفع وأن ابن مسعود - رضي الله عنه - لا يقول مثل هذا الحكم التوقيفي إلا عن خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإذاً وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع.
واستدلوا على أن القرض مندوب بدليل آخر:
- وهو: أن من يقترض فإنه غالباً محتاج لأنه لن يشغل ذمته إلا وهو محتاج.
واستدلوا على أنه مندوب:
- أنه خير من الصدقة من وجه وهو: أنه يلحق طالب الصدقة غضاضة ولا يلحق طالب الدين أو القرض غضاضة.
* * مسألة/ طلب القرض ليس من المسألة المكروهة. كيف وقد اقترض النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وما يصح بيعه: صح قرضه.
= ذهب الحنابلة والظاهرية إلى أنه كل ما صح بيعه صح قرضه.
ونحن نتحدث الآن عن موضوع مهم وهو ما هي الأشياء التي يجوز أن تقرض.
إذاً الحنابلة والظاهرية هم أوسع المذاهب: فهم يرون أن كل عين يجوز أن تباع يجوز أن تقرض ولو لم يجز السلم فيها.
= القول الثاني في هذه المسألة المهمة: أنه لا يجوز إلا قرض ما يجوز السلم فيه.
واستدلوا على هذا:
- بأن ما لا يجوز السلم فيه لا يمكن أن يضبط فيكون الوفاء به صعب.
وإلى هذا ذهب الشافعية. لكن الشافعية اضطروا أن يستثنوا بعض الأشياء: فقالوا: يجوز فيها القرض ولا يجوز فيها السلم. وهذا الاستثناء يشير إلى ضعف في هذا القول.
= والقول الثالث: وهو أضيق الأقوال: أنه لا يجوز قرض إلا المثليات دون القيميات. ستأتينا ما هي المثليات والقيميات. وهذا القول ضيق جداً وضيق بمعنى الكلمة.
واستدلوا على هذا:
(4/76)
________________________________________
- بأن القيميات يقع التنازع عند تقييمها لسداد القرض فنكتفي بالمثليات.
والصواب إن شاء الله مع الحنابلة والظاهرية: لعموم قوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة/282].والآية عامة. - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً وهو عند أصحاب هذا القول من القيميات وليس من المثليات. فالأقرب إن شاء الله جواز اقتراض كل ما يجوز بيعه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ بني آدم.
= ذهب الجماهير إلى المنع من اقتراض بني آدم.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأول: تكريمهم.
- الثاني: أن اقتراض بني آدم قد يؤدي إلى وطء الجارية المحرمة. فإذا إقترض جارية لغيره ربما يطأ هذه الجارية فيكون زنا.
= والقول الثاني: جواز اقتراض الذكور دون الإناث.
= والقول الثالث: جواز إقتراض الذكور والإناث بشرط أن تكون الإناث من محارم المقترض.
= والقول الرابع: الجواز مطلقاً. بلا شرط ولا قيد وهذا الذي نصره ابن حزم.
فهذه أربعة أقوال لكن هذه الأربعة أقوال لا تدل على شدة الخلاف: لأن الجماهير على المنع - جماهير أهل العلم على المنع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويملك بقبضه.
المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين متى يملك الإنسان القبض.
فقال: (يملك بقبضه) يعني: ولا يملك قبل ذلك. ولو تم العقد فإن الملك لا يكون إلا بالقبض.
= القول الثاني: أن الملك يكون بالعقد ولو لم يقبض.
واستدل هؤلاء وهم المالكية:
- بأن العقود في الشرع يملك المعقود عليه فيها بمجرد العقد قبل القرض.
فالإنسان إذا باع سيارة فامشتري ملك السيارة حتى قبل القبض ولو بقيت السلعة عند البائع.
أما مسألة: هل يبيع أو لا يبيع والضمان؟ هذه مسائل أخرى لكن ملك السلعة انتقل بمجرد العقد.
وهذا القول - الثاني - أضيق من القول الأول.
= القول الثالث - وهو أضيق الأقوال وأشقها: أن القرض لا يملك إلا بالانتفاع به على جهى الاستهلاك بالبيع أو بالأكل أو بغيره.
يعني: لابد أن ينتفع ولابد أن يكون الانتفاع على وجه الاستهلاك.
وهذا غاية في التضييق.
الراجح: يظهر لي في هذه المسألة المهمة التي كثيراً ما ينبني عليها فروع ويكون حل النزاع بمعرفة حكم هذا القرض من حيث الملك.
(4/77)
________________________________________
الذي يظهر لي أن القرض لا يملك إلا بالقبض.
تعليل ذلك: ذكر بعض الفقهاء تعليلاً لطيفاً جداً: وهو قوله: أن القرض عقد يشتمل على معنى المعاوضة والتبرع. فهو معاوضة لأنه سيأخذ بدله وهو تبرع لأنه إرفاق بالمقترض. إلا أن جانب الإرفاق والتبرع فيه يغلب جانب المعاوضة.
وإذا كان جانب التبرع به يغلب جانب [[المعاوضة]] فمن المعلوم أن الاشياء المتبرع بها كالهدية والصدقة والهبة لا تملك إلا بالقبض.
وهو في الحقيقة تعليل فقهي عميق من وجة نظري.
فالأقرب إن شاء الله أنه لا يملك إلا بالقبض ولا يملك قبل ذلك ولو تم العقد.

- ثم قال - رحمه الله -:
- فلا يلزم رد عينه.
هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة.
يعني: فإذا كان الملك يتم بالقبض فإنه بعد ذلك لا يملك طلب بعين القرض. لأنه أصبح مملوكاً لمن؟ للمقترض.
ولأن عقد القرض لازم للمقرض. جائز من جهة المقترض. عكس ما قد يتصوره بعض الناس.
صورة المسألة: إذا أقرض زيد عمرو ألف ريال. متى يملك عمرو الألف؟ إذا قبضه.
فإذا قبض عمرو الألف وأصبحت بيده مقبوضة فإن زيد لا يملك الرجوع في القرض. فلو قال: رجعت في القرض. يعني: في عين القرض فإنه لا يملك. وإنما له البدل.
فهذا عين المال المملوكة المقبوضة للمقترض لا يملك المقرض إلزامه بردها بل يملك البدل كما سيأتينا فقط. فهو من هذه الجهة ملزم لا يستطيع أن يرجع المقرض.
لكنه جائز للمقترض فلو قال المقترض: إذا أردت أن ترجع في القرض فهذا عين مبلغك.
قد لا يظهر ثمرة كبيرة للخلاف إذا كان القرض مبالغ نقدية لكن يظهر الفرق الكبير لو كان القرض على أعيان لها قيم مالية فإن الأعيان تختلف فبعضها أجود من بعض.
فلو أراد المقرض أن يرجع فللمقترض أن يقول: لا. لك البدل.
- ثم قال - رحمه الله -: مكملاً لهذا الحكم.
- بل يثبت بدله.
إذاً إذا اقترض الإنسان شيئاً فإن الذي يثبت في ذمته: بدل القرض. وسيأتينا بالتفصيل في كلام المؤلف - رحمه الله - ماذا يرد المقترض؟
- ثم قال - رحمه الله -:
- في ذمته حالاً ولو أجله.
= ذهب كثير من الفقهاء - الجمهور: إلى أن الدين يقع حالاً ولو أجل في العقد. وذكروا أيضاً أنه يقع حالاً ولو سلم أقساطاً. وهذا عجيب.
(4/78)
________________________________________
يعني: لو أن إنساناً يقرض إنساناً كل فترة مائة ريال ألف ريال فهذا القرض أقرض جملة واحدة أو أقساط؟ أقساط. فالفقهاء يقولون إذا أقرض أقساط فإن له أن يطالب بجميع المبلغ دفعة واحدة ولا يتأجل وإلى هذا ذهب الجماهير.
واستدلوا على هذا:
- بأن التأجيل تبرع والتبرع دائماً لا يلزم.

= والقول الثاني: أنه إذا أجل في العقد وجب التأجيل ولزم للمقرض.
وإلى هذا ذهب المالكية واختاره شيخ الاسلام بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم.
واستدلوا على هذا:
- بالنصوص العامة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والشروط. وهذا من جملة العقود والشروط.
= وذهب بعض الفقهاء إلى أن القرض يتأجل ولو لم يؤجل لكن إذا لم يؤجل فإنه يتأجل فقط إلى وقت عرفي يمكن أن ينتفع المقترض من المبلغ به.
فإذا أقرض زيد عمراً ولم يشترط أجلاً فعند هؤلاء يجب أن ينتظر المقرض إلى أن يمضي وقت يمكن في العرف ان ينتفع المقترض من المال.
وفي الحقيقة هذا القول - الأخير - هو الأقرب إن شاء الله: لأن عقد القرض عقد من العقود التي كما تقدم فيها شائبة المعاوضة وفيها شائبة التبرع لكن أي نفع للمقترض إذا أخذ منه القرض بعد ساعة من القرض؟ أي نفع في هذا القرض؟
لكن مع ذلك الجماهير وغالب أهل العم لا يرون انه يتأجل لا سيما بدون شرط ولو طرفة عين ولا ساعة بل متى طالبه لزمه أن يسدد.
الخلاصة: المسألة التي تهمنا الآن: أنه إذا أجل القرض فالجمهور يرون أنه لا يتأجل والمالكية يرون أنه يلزمه الأجل ويلزم بالانتظار إلى حلول الأجل وأن هذا القول هو الذي تدل عليه النصوص.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن رده المقترض: لزم قبوله.
يعني: فإن رد المقترض عين القرض لزمه أي: لزم المقرض أن يقبله. بشرط: أن لا يتعيب ولا ينقص.
وسواء ارتفع سعره أو انخفض فإن هذا لا ينظر إليه.
وهذا الحكم في المثليات أما المتقومات فيجب أن يرد القيمة.
إذاً إذا رد المقترض القرض بعينه لم ينقفص ولم يتعيب فيجب وجوباً على المقرض أن يقبله ولو انخفض سعره.
فإذا اقترض خمسين صاعاً من القمح وكان قيمتها خمسون درهماً ثم رده هو بعينه وأصبح سعره يوم الرد أربعين درهماً فيجب وجوباً أن يقبل. أنه رد له عين ماله بلا نقص.
(4/79)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن كانت مكسرة أو فلوساً، فمنع السلطان المعاملة بها: فله القيمة وقت القرض.
يعني: وإن أقرضه دراهم مكسرة أو أقره فلوساً ثم منع السلطان من التعامل بالدراهم المكسرة والفلوس فحينئذ يجب أن يرد القيمة. وسيأتينا القيمة هل هي يوم القرض أو يوم الرد أو يوم الابطال؟
الدليل:
- قالوا: أن إبطال السلطان للتعامل بالدراهم المكسرة وبالفلوس هو إبطال لماليتها فهو كما لو تلفت وهي لو تلفت لم يجز أن يرجع فيها.
وهذا صحيح ولا إشكال في ذلك: إذا أقرضه دراهم مكسرة كان الناس يتعاملون بها ثم أبطل السلطان العمل بها فإن إبطال السلطان يعني أن هذه الأشياء ليس لها قيمة مالة مطلقاً في عرف الناس: فكيف نلزم المقرض المحسن أن يقبل هذا الرد؟
لكن المؤلف - رحمه الله - يقول: (فله القيمة وقت القرض).
إذا جاء في كلام الفقهاء: (وقت القرض) فيعني: يوم القرض. وقول بعض الفقهاء: (يوم القرض) أوضح وأدق.
= فالحنابلة يرون أنه يجب عليه أن يدفع القيمة يوم القرض.
فإذا كانت قيمة الفلوس يوم اقرض مائة درهم وقيمة الفلوس يوم الإبطال خمسين درهماً فالواجب: مائة. لأن الواجب هو يوم القرض.
لماذا؟ قال الحنابلة: لأنها وجبت - يعني: هذه الفلوس في المثال - في ذمته في ذلك اليوم.
= والقول الثاني: أنها تجب يوم الإبطال فننظر لليوم الذي أبطل فيه السلطان العمل بهذه الفلوس وندفع تلك القيمة.
واستدل هؤلاء:
- بأن الواجب في ذمة المقترض إلى يوم الإبطال: الفلوس أو قيمة الفلوس؟ (نحن نقول: متى تجب القيمة في الفلوس؟ إذا أبطلها السلطان) معنى هذا أنه قبل إبطال السلطان فالواجب الفلوس لأن الفلوس مثلية.
إذاً: مرة أخرى - نقول: هل الواجب في ذمة المقترض إلى يوم الإبطال الفلوس أو قيمة الفلوس؟ الفلوس.
ثم يوم الإبطال صار الواجب في ذمته القيمة.
فهم يقولون نأخذ باقيمة يوم الإبطال لأنها أصبحت في ذمته في ذلك اليوم وقبل ذلك كانت الفلوس هي التي في ذمته.
أي القولين أرجح؟ طبعاً: القول الثالث أنه يوم الرد وهذا ضعيف ضعيف فقهاً ونظراً لكن الإشكال في أنه هل الواجب ذمة المقترض يوم الإبطال أو يوم القرض؟
(4/80)
________________________________________
فيها إشكال في الحقيقة وتردد لأنه إذا ألزمناه بأن يدفع قيمة الفلوس يوم الإبطال ففي هذا نوع من الغضاضة على المقرض والمقرض محسن وهو أعطاه الفلوس - يعني: قيمتها يوم الإقراض مثلاً: مائة. فكيف نلزمه في يوم الإبطال بخمسين فقط. ومن جهة أخرى أن الذي ثبت في ذمة المقترض هو قيمة هذه الفلوس يوم الإبطال فقط لا يوم القرض لأنها إلى يوم الإبطال والواجب في ذمته هو الفلوس فقط. ففيها عندي نوع تردد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويرد المثل في المثليات والقيمة في غيرها.
هذا المبحث يتعلق بما هو الواجب على المقترض إذا أراد أن يرد فبين المؤلف - رحمه الله - أن الواجب أن يرد المثل في المثليات والقيمة في القيميات. وهذا يستدعي أن نعرف بالضبط ما هي المثليات وما هي القيميات؟
وهذا البحث وهو تحديد مفهوم المثليات: محل خلاف. لكن من الأشياء المفيدة أن تعرف الآن أن الخلاف في المثليات فقط: أنه كلما عرفت المثليات فالقيميات ما سواها.
إذاً الخلاف في الحقيقة في المثليات وتبعاً للخلاف في المثليات يكون الخلاف في القيميات.
= فالحنابلة يرون: أن المثليات هو: كل مكيل وموزن يصح السلم فيه ولا صنعة مباحة فيه.
مثال المثليات عند الحنابلة: الحديد. فالحديد موزون ويصح السلم فيه وليس فيه صنعة مباحة.
فإذا أخذنا الحديد وصنعنا منه أواني خرج عن أن يكون من المثليات وأصبح من القيميات لأنه صار فيه صنعة.
وكذلك الذهب وكذلك الفضة وكل المعادن.
وكذلك كل مكيل أو موزون من الحبوب التي يمكن أن تصنع لتكون خبزاً أو غير ذلك مما يؤكل لا على هيئة الحبوب.
= القول الثاني: أن المثليات هي كل ما لا تختلف آحاده اختلافاً تختلف به أقيامها.
ولا نحتاج أن نقول القيميات لا في القول الأول ولا في القول الثاني لأن القيميات هي ما عدا ذلك على القول الأول وعلى القول الثاني.
= القول الثالث: أن المثليات هي كل ماله شبيه أو نظير أو مثيل ولو لم يتطابق معه تماماً.
وإلى هذا القول ذهب بعض الفقهاء ونصره من المتأخرين شيخ مشائخنا الشيخ السعدي - رحمه الله -.
واستدل على هذا بأدلة:
(4/81)
________________________________________
- الأول: أن عائشة رضي الله عنها لما كسرت آنية أختها من أمهات المؤمنين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إناء بإناء) مع أن الإناء على مقتضى تعريف الحنابلة: قيمي. ومع ذلك جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلي.
- وقال أيضاً: في الحديث نفسه: (إناء بإناء وطعام بطعام) والطعام بعد الصنع والطبخ يصبح أيضاً قيمي.
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً.
وهذا القول الثالث مع قلة القائلين به من الفقهاء إلا أنه ظاهر القوة بسبب الأدلة التي استدل بها من الأحاديث المرفوعة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحول بين الإنسان وبين ترجيحه قلة القائلين به. بل هو في الحقيقة قول قوي وأيضاً فيه تيسير كبير على المتعاملين بالقروض. على أنه قلما يحتاج الإنسان لهذه المباحث. لماذا؟ لأن غالب القروض إنما هي في النقود.
هل سمعتم قروض في غير النقود؟ قل. يوجد لكن قليل جداً.
ولذلك قد لا يحتاج الإنسان لا سيما في وقتنا هذا إلى كثير من هذه البحوث.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً.
لما قرر المؤلف - رحمه الله - أن الواجب في المثليات: المثل.
قال: (فإن أعوز) يعني فإن لم يستطع المقترض أن ياتي بالمثلي لأي سبب من الأسباب فالواجب حينئذ في ذمته القيمة.
وقول المؤلف - رحمه الله -: (فالقيمة إذاً) يعني يوم الإعواز. فننظر يوم الإعواز كم قيمة هذا المثلي وندفع للمقرض قيمة ما أقرضه.
وهذه المسألة ترجح أي قول من الأقوال السابقة في مسألة إذا أبطل السلطان العمل بالفلوس أو الدراهم المكسرة؟ أنه يوم يوم الإبطال أو يوم القرض؟ في الحقيقة هو يؤيد يوم الإبطال لأن يوم الإبطال مثل يوم الإعواز.
وهذا يؤيد نوعاً ما رجحان المسألة الأولى مع بقاء الإشكال فيها.
المهم أن الواجب القيمة يوم الإعواز ينظر في قيمته وتدفع للمقرض.
((الأذان)).
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويحرم: كل شرط جر نفعاً.
أي: للمقرض. أما الشروط التي تجر النفع للمقترض في من الإحسان.
إذاً كل شرط يجر نفعاً للمقرض فهو محرم. وهو الذي يسميه الفقهاء ربا القروض.
بخلاف ربا البيوع الذي تقدم معنا في بيع الأعيان هذا يسمى ربا القروض.
(4/82)
________________________________________
الدليل: استدل العلماء رحمهم الله على تحريم هذه الزيادة وأنها من الربا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: الإجماع. فإن هذه المسألة ولله الحمد مجل إجماع لم يختلف فيها فقهاء المسلمين.
- الثاني: استدلوا بآثار صحيحة في البخاري وغيره عن علماء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلها تدل على أن القرض إذا جر نفعاً فهو ربا.
- أخيراً استدلوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) وهذا الحديث فيه ضعف لكن معناه صحيح.
إذاً هذه هي القاعدة: أنه لا يجوز اشتراط نفع سواء كان هذا النفع أعيان أو منافع.
وسواء كان هذا النفع مشروط شرطاً صريحاً أو تواطئوا عليه بلا شرط في العقد. وذلك لعموم الأدلة الدالة على المنع من الزيادة.
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - القاعدة العامة وهي تحريم كل قرض جر نفعاً بدأ بالمستثنيات.
- فقال - رحمه الله -:
- وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود أو هدية بعد الوفاء: جاز.
(وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود) إذا بدأ بالنفع الزائد بلا شرط فهو جائز لكن بشرط أن يكون بعد القضاء.
فإن بدأه بدون شرط قبل القضاء فإنه سيأتينا حكمه وماذا يصنع المقرض.
قال: (أو أعطاه أجود) يعني: بلا شرط. ولا نحتاج هنا أن نقول بعد القضاء لأنه إذا أعطاه أجود فقد قضاه.
والدليل على جواز هذه المسألة والتي قبلها:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكراً ورد رباعاً خياراً وقال: (خيركم أحسنكم قضاء).
فهذا دليل على أنه إذا حصلت الزيادة بلا شرط ولا مواطئة وبعد القضاء فإنه جائز ولا حرج فيه.
ونتوقف عند هذا الحد والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...
(4/83)
________________________________________
الدرس: (22) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا الكلام عن القرض الذي جر نفعاً والأدلة التي تدل على تحريم القرض الذي جر نفعاً وأنه من ربا القروض. وكما هي عادة الفقهاء يقررون الحكم ثم يذكرون ما يستثنى من هذا الحكم فذكر المؤلف - رحمه الله - مسائل تستثنى من هذا الحكم.
- يقول - رحمه الله -:
- وإن بدأ به بلا شرط أو أعطاه أجود أو هدية بعد الوفاء: جاز.
هذه ثلاث مسائل:
- المسألة الأولى: أن يبدأ بإعطاء النفع بلا شرط.
- والثانية: أن يقضيه خير مما اعطاه بلا شرط.
- الثالثة: أن يهديه.
دل كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا أعطاه النفع أو الهدية أو رد أجود مما اقترض فإنه جائز بشرطين:
ـ الشرط الأول: أن يكون بعد الوفاء.
ـ والشرط الثاني: أن يكون بلا شرط.
فإذا أعطاه هذه الأمور بلا شرط وبعد الوفاء: جاز بلا إشكال.
الدليل على ذلك:
- أن إعطاء المقرض هذه الأمور بعد الوفاء لم تصبح بسبب القرض. بل صارت إعطاء مبتدأ به. والمحرم هو ما يأخذه المقرض بسبب القرض.
ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم الإعطاء والإهداء والنفع بين إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه: يعني: لما بين حكم هذه الأشياء بعد الوفاء أراد أن يبين تفصيل حكم هذه الأشياء قبل الوفاء.
ذكرت لكم أن الدليل أن إعطاء هذه الأشياء بعد القرض يصبح ليس سببه القرض وتعرفون الدليل الثاني ذكرناه لكم في الدرس السابق وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقترض بكراً ورد رباعياً خياراً وقال: (خيركم أحسنكم قضاء). فهذا دليل على أن ((القضاء)) بعد الوفاء لا إشكال فيه.
إذاً دل على هذا دليل من التعليل وهو دليل مهم ومفيد لأنه ((يكشف)) مسائل أخرى ودليل من السنة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به: لم يجز.
إذا أعطاه هدية أو نفعاً قبل الوفاء فينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن لا تكون العادة بينهما جرت بالتهادي. فحينئذ يصبح محرماً ويدخل في الحكم السابق وهو ربا القروض.
- القسم الثاني: أن تكون العادة جرت بينهما بالإهداء والتبادل فهو جائز ولا حرج فيه.
استدل الحنابلة على هذا التفصيل:
- بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجاز التهادي بينهما إذا جرت العادة بذلك.
(4/84)
________________________________________
وهذا الحديث إسناده ضعيف. ولكن معناه صحيح. والذي دل على صحة معناه أن الصحابة أفتوا بمقتضاه.
وتقدم معنا أن إفتاء الصحابة بمقتضى دليل شرعي وإن لم يجعله بمنزلة المرفوع إلا أنه يقويه ويجعل الاستدلال به مقبولاً إذا انضاف إلى هذه الفتاوى.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه.
هذا استثناء من الاستثناء. يعني: لا يجوز للمقترض أن يدفع للمقرض هدية قبل الوفاء إذا لم تجر العادة بينهما إلا إذا نوى أن يحتسبه من دينه أو أن يكافأة عليه وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على هاتين المسألتين. يعني: على جوزا الأخذ. إذا نوى أن يحتسبها من الدين أو أن يكافأه عنها.
والدليل على هذا الاستثناء:
- فتاوى الصحابة. فقد نقل عن أكثر من صحابي - رضي الله عنهم - أنهم أفتوا من أخذ هدية ممن أقرضه لم تجر العادة بينهما به أن يحتسبه من الدين.
فإذا اقترض منه عشرة آلاف وأهداه هدية قيمتها خمسة آلاف صار القرض: خمسة آلاف.
وإذا اقترض منه عشرة آلاف وأعطاه هدية بمبلغ خمسة آلاف ولم يرد أن يحسمها من الدين فأعطاه هدية بخمسة آلاف فكذلك أيضاً هو جائز.
* * مسألة/ إذا قلنا بجوز أخذ الهدية التي لم تجر العادة بها مع نية احتسابه من الدين أو المكافأة: فهل الأفضل مع الجواز أن يأخذ أو أن لا يأخذ؟
الجواب: أنه لا يوجد قاعدة عامة لهذه المسألة. فكونه يأخذ أو لا يأخذ هذا يخضع لملابسات الأحوال، وطبيعة العلاقة بين المقرض والمقترض، والمقصود من الهدية ... إلى آخره. فأحياناً يرى الإنسان أنه من الأنسب أن يقبل ويكافيء. وأحياناً يرى من الأنسب أن لا يقبل مطلقاً.

* * مسألة/ إذا قبل بنية المكافأة أو احتسابه من الدين: فهل الأفضل أن يحتسبه من الدين أو أن يكافيء؟
هذه المسألة تشبه المسألة السابقة وهي أنها تخضع للملابسات والأحوال إلا أني أقول: أن الغالب أن المكافأة خير من خصمها من الدين. لأن في خصم الهدية المهداة من الدين غضاضة على المقترض واضحة بينما المكافأة وإهدائه هدية أخرى قد لا يجد ىمقترض في نفسه غضاضة من قبول الهدية ممن استقرض منه.
(4/85)
________________________________________
فالأولى والأحود غالباً أن يكافيء لا أن يخصم أن الخصم من القرض دائماً ما يشعر بشيء من النقص.
فالأولى العدول عنه إلى الإهداء مقابل الهدية التي أخذها من المقترض.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر: لزمته.
المقصود (بالبلد الآخر) يعني: غير بلد القرض.
فإذا اقترض زيد من عمرو بالرياض عشرة آلاف وطالبه عمرو بها في مكة وهي أثمان يعني: من النقدين فإنه يلزم (عمرو) أن يسدد القرض ولو في غير بلد الاقتراض وهو في المثال (مكة) يلزمه لزوماً ويجب عليه وجوباً.
واستدل الحنابلة على هذا الحكم:
- بأنه يمكنه السداد بم لا ضرر عليه فيه. فإذا أمكن السداد ولا ضرر عليه لزمه أن يسدد.
* * مسألة/ ويلحق بالأثمان كل ما ليس لنقله مؤونة. فيأخذ نفس الحكم. أي: يلزم المقترض أن يسدد القرض ولو في غير بلد القرض الذي تم عقد القرض فيه بنفس السبب وهو أنه يمكنه الوفاء بلا ضرر عليه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وفيما لحمله مؤونة: قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص.
يعني: (وفيما لحمله مؤونة) لا يلزمه أن يسدد القرض.
فإذا اقترض شيئاً لحمله مؤونة وطالبه بها في غير بلد القرض لم يلزم المقترض أن يرد القرض.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأمر الأول: أن في هذا جر نفع للمقترض. لأنه سيكسب أجرة النقل.
- الثاني: أنه ليس في النصوص الشرعية ما يلزم المقترض نقل القرض من بلد لبلد ولو لم يكن بلا مؤونة.
وإنما ألزمناه في الصورة الأولى لأنه لا ضرر عليه وذمته مشغولة.
* * مسألة/ يقول المؤلف - رحمه الله -: (وفيما لحمله مؤونة قيمته) يعني: لما تبين أنه لا يلزمه السداد بين أنه يلزمه قيمة هذا القرض. فيلزم المقترض أن يعطي المقرض قيمة القرض في بلد القرض ما لم تكن القيمة في بلد القرض أكثر. سيأتينا أن المؤلف - رحمه الله - وهم في قوله أنقص.
المهم الآن أن تفهموا الصورة ثم نرجع إلى عبارات المؤلف - رحمه الله -.
(4/86)
________________________________________
إذا اقترض زيد من عمرو خمسة آصع من القمح في الرياض ثم طلبها منه في مكة: فنحن قررنا الآن أنه لا يجب على المقترض أن يوفي هذه الآصع في مكة لأن لحملها مؤونة. كن يجب عليه أن يعطي المقرض قيمة هذه الخمسة آصع ويشترط لهذا الوجوب أن تكون قيمة هذه الخمسة آصع في بلد المقرض ليست أكثر من قيمتها في بلد الإداء.
فإن كانت القيمة في بلد القرض أكثر من قيمتها في بلد الأداء فالواجب عليه أن يعطيه القيمة يشتري بها القرض.
صورة المسألة/ إنسان - كما قلت - اقترض خمسة آصع في الرياض قيمتها مائة ريال فطالبه بها في مكة وقيمتها في مكة خمسون ريالاً فالآن يجب على المقترض أن يدفع القيمة في بلد القرض أو في بلد السداد؟ في بلد السداد. لماذا؟ لأن في بلد السداد أرخص فيذهب ويشتري بخمسين ريالاً خمسة آصع ويسدد. بدل أن يعطيه مائة ريال.
فإذا كانت قيمة الآصع في الرياض مائة ريال وقيمتها في مكة مائة وخمسين ريالاً: فالواجب عليه كم؟ مائة ريال. وهي قيمة القرض في بلد القرض لا في بلد الأداء.
وإذا فهمت المثال فستفهم أن قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (إلا أن تكون ببلد القرض أنقص) خطأ لأنها إذا كانت في بلد القرض أنقص فهو من مصلحة المقترض.
ولعل صواب العبارة وكأنه سيكتب المؤلف - رحمه الله -: إن كانت في بلد القرض أنقص. بدون النفي.
على كل حال بغض النظر عن عبارة المؤلف عرفنا الآن الحكم.
إذاً: يتلخص الحكم: - في أنه إذا طلبه قرضاً لحمله مؤونة: فإنه لا يجب عليه أن يوفي ويجب عليه أن يعطي القيمة: ـ إن كانت القيمة في بلد القرض أنقص. أو بعبارة أوضح: (إن لم تكن في بلد القرض أكثر). فإن كانت أكثر فإنه لا يلزمه قيمة ويلزمه القيمة في بلد السداد. هذا ما يتعلق بالسداد. ومن المعلوم كما أشرت مراراً أن غالب القروض الآن من الأثمان ليست مما لحمله مؤونة. وهذا التفصيل إنما هو فيما لحمله مؤونة فقط.
وبهذا انتهينا من باب القرض وننتقل إلى باب الرهن.
وقبل أن ننتقل إلى باب الرهن أريد أن أشير إلى أن القرض ينقسم إلى قسمين من حيثية غير الحيثيات التي ذكرنا تقسيمها الآن: وهذا التقسيم مفيد ليتصور بعض الأحكام:
(4/87)
________________________________________
- القسم الأول للقرض: القرض الحقيقي. وهو: القرض الذي ذكرت تعريفه في أول الباب وتنصرف إليه عبارات الفقهاء.
- القسم الثاني: القرض الحكمي. وهو القرض الذي يثبت في الذمة بسبب النفقة على البهيمة أو على الإنسان مع نية الرجوع. فهذه انفقة تثبت في ذمة المنفق عليه إذا نوى المنفق الرجوع وتصبح في حكم القرض لكنها من القروض الحكمية. يعني: انها أخذت حكم القرض وإن لم تكن في الحقيقة من القروض الني تدخل ضمن التعريف الاصطلاحي الذي ذكره الفقهاء للقروض.
وبهذا يستطيع الإنسان أن يعرف أن مدلول القرض في الشرع أوسع مما يقع في ذهن الطالب أنه فقط إعطاء مال لينتفع به ويرد غيره.

وبهذا انتهى الباب ولله الحمد ونبدأ بباب الرهن.
باب الرهن
- يقول - رحمه الله -:
- باب الرهن.
الرهن في لغة العرب هو: الثبوت والدوام.
هذا هو المعنى الأصلي. وأي معنى آخر يذكر لهذه الكلمة وينسب أنه معنى لغوي فهو في الحقيقة راجع إلى هذا المعنى. فالمعنى الأصلي هو هذا وكل ما عداه ليس من المعاني الأصلية وإنما من المعاني المتفرعة عن هذا المعنى الأصلي وهو: الثبوت والدوام.
وأما في الاصطلاح: فهو توثقة دين بعين يتستوفى منها أو من ثمنها.
صورة الرهن: حتى نفرع عليه المسائل التي يذكرها المؤلف - رحمه الله -: صورة الرهن: أن يقترض زيد من عمرو مائة ريال ويأخذ منه رهناً بها عشرة آصع من القمح.
فالرهن في المثال هو القمح.
والغرض منه كما في التعريف استيفاء الدين منه أو من ثمنه.
علم من قولنا: (منه) أنه إنما يستوفى منه إذا كان من نفس الجنس. وإذا كان من جنس آخر فيستوفى من ثمنه.
فإذا اقترض قمحاً ورهنه قمحاً آخر فهل يستوفى منه أو من ثمنه؟ يستوفى منه.
وإذا اقترض ألف ريال ورهنه سيارة فمن ماذا؟ من الثمن.
والرهن مشروع بالكتاب والسنة والإجماع - ولله الحمد. ولا إشكال فيه.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة/283] وهو نص في المقصود.
- وأما السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض من يهودي ورهنه درعه - صلى الله عليه وسلم -.
- وأما الإجماع: فحكاه غير واحد من أهل العلم.
وما زال عمل المسلمين عليه.
(4/88)
________________________________________
إنما وقع الخلاف فقط في مسألة: هل الرهن يتعلق بالسفر والحضر أو يتعلق بالسفر فقط؟ وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة خلاف ضعيف:
= فذهب الجماهير الأئمة الأربعة وعامة فقهاء المسلمين وعليه عمل الناس إلى أن الرهن مشروع في الحضر والسفر ولا تفريق بينهما.
= وذهب مجاهد فقط وهو من أئمة السلف - رحمه الله - إلى أن الرهن لا يكون إلا في السفر فقط. واستدل: - بالآية. (وإن كنتم على سفر فلم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة) فقوله: (وإن كنتم على سفر) صفة تقيد الحكم عنده.

والصواب مع الجماهير بلا شك لأمرين:
- الأمر الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن وهو في المدينة. فهو لم يكن على سفر - صلى الله عليه وسلم -.
- الثاني: أن هذا القيد خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن يحتاج الإنسان إلى توثقة الدين بالرهن في السفر لأنه قد لا يجد من يشهده على الدين أو لا يجد ما يكتب به الدين. وأما في الحضر فقد لا يحتاج إلى هذا. هذا في القديم أما اليوم فالحاجة إلى الرهن كبيرة جداً وتتعدى إثبات الدين إلى الوثوق بأداء المدين بالدين. فالحاجة إليه اليوم كبيرة جداً وقصره على السفر فيه تضييق على الناس وهذا على كل حال القول أشبه ما يكون بالقول المهجور.
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - يبين الأشياء التي يجوز أن ترهن:
- فقال - رحمه الله -:
- يصح في كل عين: يجوز بيعها.
هذه قاعدة الباب: أنه يجوز رهن كل عين يجوز أن تباع.
واستدلوا على هذا:
- بأن المقصود من الرهن هو: استيفاء الدين عند عجز المدين عن السداد أو امتناعه. وهذه الحكمة تتحقق في كل عين يجوز أن تباع.
وظاهر قول المؤلف - رحمه الله -: (في كل عين) أنه لا يجب أن نجعل الدين والمنافع رهناً بل لا يرهن إلا العين فقط. وهذا مذهب الحنابلة: أن الرهن لا يقع إلا على العين دون الدين والمنافع.
واستدلوا على هذا:
- بأن الوارد في السنة رهن الأعيان دون المنافع والديون فنقتصر على مورد النص.
= القول الثاني: أنه يجوز أن نجعل المنافع والديون رهناً.
(4/89)
________________________________________
وعللوا ذلك: - بان المقصود من الرهن يتحقق في رهن المنافع ورهن الديون. فإذا كان المدين يملك منفعة معينة - يملك منفعة عين دون رقبتها. فبالإمكان أن يرهن هذه المنفعة. ويستوفى الدين من قيمة هذه المنفعة.
وكما ترى في الحقيقة لا إشكال في رجحان القول الثاني فهو ظاهر وقوي.
إلا انه لا ينبغي أن نجعل الديون والمنافع رهناً لأن هذا يدخل الدائن والمدين في متهاة المطالبة بالدين الآخر والاختلاف والتنازع.
بينما إذا رهنت عين معلومة حاضرة صار هذا أبعد عن التنازع وأقرب إلى إيفاء الديون.
فقول الجمهور من حيث الواقع العملي والتطبيق قوي وجيد. والقول الثاني من حيث الدليل اتفصيلي وجيه جداً كما ترى.
- ثم قال - رحمه الله -:
- حتى المكاتب.
يعني: حتى المكاتب: العبد الذي كوتب من سيده يجوز أن يجعل رهناً.
والتعليل واضح:
- وهو أنه يجوز أن يباع فجاز أن يرهن. وكل ما جاز أن يباع جاز أن يرهن.
فإن أتم المكاتب الأقساط التي عليه وأصبح حراً لا يباع صار ثمنه هو الرهن. وتسدد الديون من هذا الثمن الذي يكون محل المكاتب.
وكون قيمة المكاتب تقع محله رهناً هذا بلا إذن من الراهن بل مباشرة تكون مكان العبد المكاتب الذي كان رهناً. وليس للراهن الخيار: لأن قيمة العبد المكاتب بدله فتكون هي الرهن.
وبهذا نخرج من الجهالة والغرر التي قد تكون موجود في المكاتب حين يستكمل الأقساط ويصبح حراً.
إذاً: إذا قيل لك: كيف تصحح أن يكون المكاتب رهناً وهو ربما أصبح من الأحرار فلا يجوز أن يباع.
فالجواب: أنه إذا أصبح حراً صارت قيمته مكانه.
- ثم قال - رحمه الله -: مبيناً وقت الرهن.
- مع الحق.
يعني: يجوز أن نعقد الرهن مع عقد البيع. فيقول: بعتك هذه السيارة إلى شهرين بشرط أن ترهنني هذا البيت.
وهذا المثال مثال صحيح لأن اليوم بعض السيارات أغلى من بعض البيوت - مع الأسف - ولا يقال أن امثال غير منطقي لأن اليوم بعض السيارات أغلا من بعض البيوت وإن كان ليس من العقل أن يشتري الإنسان سيارة باهضة الثمن وهو لا يملك بيتاً كما يفعله بعض الناس اليوم. فهذا لاشك أنه من سوء التدبير.
لكن المثال صحيح.
هذا عقد الرهن مع العقد.
ومع الحق يعني: مع العقد.
(4/90)
________________________________________
وانتم تعلمون أن الرهن عقد مضاف لعقد البيع. - الرهن عقد آخر مع عقد البيع. فهو عقد يحتاج إلى إيجلب وقبول وشروط وعاقدان ... إلى آخره.
فعقد الرهن مع عقد البيع الذي يسبب الحق جائز. وهو جائز باتفاق الأئمة الأربعة.

- قال - رحمه الله -:
- وبعده.
يعني: ويجوز عقد الرهن بعد الحق - بعد ثبوت الحق.
وصورته/ أن يبيع عليه بيتاً ثمن مؤجل ثم بعد ثبوت الثمن في ذمة المشتري يقول البائع وأريد رهناً بهذا البيت.
فهذا الرهن تم بعد العقد أو مع العقد؟
بعد العقد. يعني: بعد ثبوت الحق في ذمة المدين وهذا جائز بالإجماع بل هو المقصود من الرهن.
ودليل جواز مع الإجماع:
- أن قيمة المؤجل أصبحت ثابتة في ذمة المدين وإذا كانت ثابتة في ذمة المدين احتاجت إلى توثقة بالرهن.
وأنا أريد أن تنتبهوا إلى هذا التعليل حتى تفهموا المقصود من الرهن.
إذاً إذا أخذ رهنا بعد ثبوت الحق يعني: بعد وقوع العقد فهو جائز بالإجماع. لأنه بعد العقد أصبح الثمن ثابتاً في ذمة المدين فأصبح يحتاج إلى توثقة.
وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق أي قبل إجراء العقد لأنه يقول: (مع الحق وبعده) ولم يقل: (وقبله). وهذا:
= مذهب الحنابلة: أن عقد الرهن لا يصح قبل ثبوت الحق.
واستدلوا على هذا:
- بأن الرهن يقصد منه الاستيثاق من الدين ولا دين هنا.
= والقول الثاني: صحة وقوع الرهن قبل ثبوت الحق. يعني: قبل وقوع العقد.
واستدلوا على هذا:
- بالقياس على الضمان. لأن الضمان يكون قبل ثبوت الحق في ذمة المدين.
- واستدلوا على هذا: بأن الأصل في المعاملات الحل.
- واستدلوا على هذا أيضاً: بأنه لا ضرر من إثبات الرهن قبل الحق فإن وجد الحق نفع الرهن وإن لم يوجد الحق لم يضر الرهن.
وهذا القول الثاني هو الراجح. على أن هذه المسألة لا تكاد تقع في الواقع. لأنه لا حاجة إليها.
وإذا كان البائع يريد الاستيثاق التام فيجعل الرهن مع الحق. فإذاً لا حاجة ماسة لإيقاع الرهن قبل العقد.
لما بين المؤلف - رحمه الله - الأعيان التي يجوز أن تجعل رهناً انتقل لبيان الديون التي يجوز أن نأخذ عليها رهناً: أو بعبارة أدق: (الحقوق التي يجوز أن نأخذ عليها رهناً).
(4/91)
________________________________________
- فيقول - رحمه الله -:
- بدين ثابت.
فسرت لما يؤخذ عليه الرهن شرطين:
- الشرط الأول: أن يكون ديناً.
- والشرط الثاني: ان يكون هذا الدين ثابتاً.
نبدأ بالشرط الأول: = يشترط فقهاء الحنابلة لصحة الرهن أن يؤخذ مقابل دين. فلا يجوز أن نأخذ الرهن مقابل عين ولا منفعة.
ـ مثال العين: - العارية.
- ومثاله الثاني: وهو الأهم: ثمن المبيع المعين.
= فالحنابلة يرون: أن الرهن لا يؤخذ إلا عن شيء ثابت في الذمة. ما عدا هذا لا يؤخذ عليه رهن.
واستدلوا على هذا:
- بأن الدين الثابت في الذمة هو الذي يحتاج إلى توثيق وما عداه فليس بحاجة إلى توثيق.
- واستدلوا: بأن الآية في الدين - الآية التي دلت على مشروعية الرهن إنما هي في الدين فنبقي فيما ورد فيه النص فقط.
= والقول الثاني: جواز أخذ الرهن على الأعيان والديون على حد سواء.
- لأن الإنسان كما يحتاج إلى توثقة الدين لاستيفاء حقه من الرهن فإنه يحتاج إلى التوثقة من رجوع العين ووصولها إليه. فالحكمة التي شرع من أجلها الرهن موجودة في الأعيان والمنافع.
مثال المسألة/ إذا قال زيد لعمرو: أعرني سيارتك. فقال عمرو: أنا أعيرك السيارة بشرط أن ترهنني رهناً حتى أستوثق من إرجاع السيارة سليمة ليست معيبة.
= فعند الحنابلة: الرهن باطل. - لأنه على شيء ليس في الذمة.
= وعلى القول الثاني: الرهن صحيح وهو لازم ويؤخذ منه الحق عند عدم رد العارية.
ففي الحقيقة هذا الخلاف مهم ومفيد وقد يحتاج إليه الإنسان. والقول الثاني فيه أرجح.
ونحمل النصوص - كما تقدم معنا - أنها خرجت مخرج الغالب - لأن الغالب أن الإنسان يحتاج إلى توثقة الديون لا الأعيان.
ـ الشرط الثاني: أن يكون بدين. فلا يصح على دين غير ثابت.
والدين الثابت/ هو الدين الذي ثبت في الذمة وليس عرضةً للسقوط.
فمن أمثلة الدين غير الثابت: دين المكاتبة. لأن العبد يستطيع أن يعجز نفسه ويرجع إلى العبودية.
(4/92)
________________________________________
ومن أمثلة الدين غير الثابت: الجعل قبل أن يبدأ في العمل.: إذا جعل جعلاً لمن صنع عملاً معيناً فقبل أن يبدأ العامل بالعمل فهذا الدين وهو الجعل عرضة للسقوط وذلك بأن لا يبدأ بالعمل. لأنه كما سيأتينا اعقد بين من يجعل جعلاً لعمل وبين العامل عقد جائز وليس بلازم. فهذه الديون لا يصح: = عند المذهب أخذ الرهن عليها.
- لأنها هي بنفسها عرضة للسقوط فكيف نستوثق منها بالرهن؟
= والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الرهن بالدين الغير مستقر. فإن استقر انتفعنا من الرهن وإن لم يستقر رجع الرهن إلى صاحبه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويلزم: في حق الراهن فقط.
الراهن: هو المدين.
والمرتهن هو: الدائن.
والرهن: هي العين التي يراد استيفاء الدين منها.
إذاً لابد أن نفهم الآن الراهن والمرتهن لأنه سيتكرر معنا.
فالراهن هو الذي ذمته مشغولة).
يقول رحمه الله: (يلزم في حق الراهن فقط) يعني: دون المرتهن.
ويلزم في حق الراهن: - لأنه ثبت بحق الغير فهو لازم في حق الراهن حفظاً لحق المرتهن.
ومعنى أنه لازم: يعني: أن الراهن لا يستطيع فسخ الرهن ولا إلغاء هذا العقد ولا ما يترتب على هذا الأمر.
وسيأتينا متى يلزم؟ وماذا يترتب من الأعمال على اللزوم.
إنما الذي يعنينا الآن في عبارة المؤلف - رحمه الله - هنا: أنه لازم في حق الراهن فقط.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويصح: رهن المشاع.
ويصح رهن المشاع:
= عند الجماهير من أهل العلم.
- لأن المشاع يجوز أن يباع وكل ما جاز أن يباع جاز أن يرهن.
وفي المسألة خلاف ضعيف لا نشتغل به. فالجماهير على جواز رهن المشاع والآن عليه العمل وكثيراً ما يرهن المشلع اليوم لأن المشاع يمكن بيعه وتمييزه عن الذي معه سواء كان أرض أو بيت أو شيء يمكن أن يباع لسداد الدين.
ولما كانت القاعدة أن كل ما جاز بيعه جاز رهنه والمشاع يجوز أن يباع لذلك الجماهير جوزوا رهنه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويجوز: رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره.
في الحقيقة العبارة تكون أسهل وأوضح لو أن المؤلف - رحمه الله - يقو: (ويجوز رهن المبيع على ثمنه وغيره إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً).
فتكون أوضح. فإدخال الاستثناء في وسط الجملة يصعب فهمها.
(4/93)
________________________________________
نقول في شرح الجملة:
يجوز للإنسان أن يرهن المبيع على: - ثمنه. - وعلى غيره.
والمقصود: (بغيره) يعني على دين آخر سابق. سواء قبض الثمن أو لم يقبض في مسألة: (على غيره).
صورة المسألة/ أن يشتري زيد من عمرو سيارة فيحبس عمرو السيارة إلى أن يسدد المشتري الثمن.
أو يسدد المشتري الثمن ومع ذلك يحبس البائع السيارة لأن له على زيد ثمن آخر - دين آخر. فيمسك السيارة كرهن إلى أن يسدد قيمة الدين الآخر. حتى لو سدد قيمة السيارة إذا كان هناك دين آخر فله أن يمسك السلعة على هذا الثمن.
الدليل على الجواز:
- أن هذا المبيع يجوز بيعه فجاز رهنه. ولو قبل القبض.
وأنتم تعلمون أننا نتحدث الآن عن المبيع من غير المكيل والموزون.
أو بعبارة أخرى: (عن المبيع الذي لا يحتاج إلى قبض).
إذاً انتهينا من هذا القسم عند الحنابلة. أنه إذا باع ما لا يحتاج إلى قبض يعني: غير المكيل والموزون عند الحنابلة فإنه يجوز أن يحبسه على ثمنه وعلى غيره ولو قبل القبض.
- القسم الثاني: المبيع من المكيل والموزون.
فهذا لا يجوز رهنه على ثمنه - لا يجوز حبسه على ثمنه.
لماذا؟ لأنه لا يجوز أن يباع. فالمكيل والموزون قبل القبض لا يجوز أن يباع.
فإذاً: المكيل والموزون قبل القبض لا يجوز حبسه على ثمنه. لماذا؟ لأنه لا يجوز أن يباع إلا بعد القبض ونحن نقول لا يجوز أن نرهن إلا ما يجوز أن يباع.
= القول الثاني في المكيل والموزون: جواز حبسه على ثمنه ولو قبل القبض.
واستدل هؤلاء على هذا الحكم:
- بأن بقاء المبيع عادة في يد البائع قبل القبض يسير وينتقل إلى المشتري وهذا البقاء اليسير لا يتنافى مع حكمة الرهن.
(استدلوا: بأن بقاء الرهن أو المبيع في يد البائع عادة يبقى وقت يسير هذا الوقت اليسير لا يتنافى مع حكمة الرهن.)
إذا باع الإنسان عيناً لا يجوز أن تباع إلا بعد القبض. فنحن نقول للمشتري لا يجوز لك أن تبيع العين إلا بعد القبض لأنه نهي عن بيع الطعام قبل قبضه ولئلا يقع في نفس البائع عليك حرج إذا كسبت أنت في هذه السلعة.
إذاً: واضح الآن أن تحريم بيع السلعة قبل القبض أمر محكم وأدلته واضحة.
(4/94)
________________________________________
لكن إذا رهن هذه العين قبل أن يقبضها فبقاء السلعة هذا الوقت القصير في يد البائع لا يتعارض مع الرهن لأن الرهن مؤجل. - الدين مؤجل - وبالتأكيد خلال هذه الفترة ستنتقل العين من يد البائع إلى يد المشتري فتصبح رهناً يجوز بيعه. ولهذا نقول: الراجح إن شاء الله القول الثاني.
* * مسألة/ علم من قوله: (لا يجوز بيع المكيل والموزون) انه على القول الراجح لا يجوز رهن كل ما لا يجوز بيعه قبل القبض هذا عند الحنابلة ولا نقصر الحكم على المكيل والموزون.
ونحن لن ندخل في هذه المسألة لأنه تقدم معنا الخلاف في الأشياء التي تحتاج إلى استيفاء وقبض والأشياء التي لا تحتاج فتنزل ذلك الخلاف على هذه المسألة.
* * المسألة الثانية/ علم من هذا الخلاف كله أنه لا حرج مطلقاً في رهن أو حبس المبيع على ثمنه وغيره بعد القبض - فبعد القبض لا إشكال. وبلا تفصيل - يجوز بلا تفصيل - حتى قال المرداوي في الإنصاف: يجوز بعد القبض بلا نزاع. يعني: في المذهب. إذاًَ عرفنا الآن حكم حبس المبيع على ثمنه: بعد القبض وقبل القبض.
- بعد القبض: يجوز بلا نزاع وبلا تفصيل.
- وقبل القبض: يجوز على التفصيل والخلاف الذي ذكرته لك.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وما لا يجوز بيعه: لا يصح رهنه.
وفي الحقيقة هذه العبارة مستفادة من العبارة الأولى: أن كل ما يجوز بيعه يجوز رهنه. لكن المؤلف - رحمه الله - أراد أن يبين الحكم صريحاً حتى يكون أوضح للقاريء. (فكل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه).
الأشياء التي لا يجوز أن تباع ينبغي أن تكون معلومة لك من خلال: شروط البيع. فإذا فهم الإنسان شروط البيع عرف جميع الأعيان اتي لا يجوز أن تباع.
- فالكلب مثلاً: لا يجوز أن يرهن. - آلات المعازف: لا يجوز أن ترهن. - أم الولد: لا يجوز أن ترهن.
فكل ما لا يجوز أن يباع لا يجوز أن يرهن.
التعليل: - قالوا: أن ما لا يجوز أن يباع لا تتحقق حكمة الرهن منه. لأن المراد استيفاء القرض من ثمنه وهذا لا يباع. فكيف سنستوفي من ثمنه. وهذا أمر واضح ودليله واضح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما، بدون شرط القطع.
(4/95)
________________________________________
تقدم معنا أن الفقهاء جميعاً إذا قرروا حكماً أعقبوه بالاستثناء. فهذا يستثنى من الحكم السابق العام .. ((الأذان)).
استثنى الحنابلة من الحكم السابق وهو عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه: الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو الصلاح: لا يجوز أن يباعا. ومع ذلك جوز الحنابلة أن يجعلا رهناً. مع العلم أنه لا يجوز أن يباع.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأمر الأول: أن النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إنما هو خشية إصابة العاهة والعيوب. وهذا الأمر مفقود في مسألتنا فلا نخشى إصابة العاهة ولا إصابته العاهة فإنه لا يضر في مسألة الرهن.
- الثاني: قالوا: أنه إذا أصيبت اثمار والحبوب قبل بدو صلاحها بعاهة وأصبحت غير صالحة للبيع لم يخسر المرتهن شيئاً لأن الرهن بقي في ذمة الراهن. ولم يسقط منه شيء. فلا جهالة ولا غرر ولا ضرر على المرتهن ولهذا صححوا هذا العقد.
واستثناء الثمرة قبل بدو صلاحها والزرع قبل أن يشتد: استثنء صحيح. لأنه في الحقيقة لا يتعارض مع الحكمة من الرهن. ولأن عادة وقت الرهن الأجل طويل فبإمكانه أن يتبين من صلاحية الثمرة للبيع أو عدمه.
وأما قول المؤلف - رحمه الله -: (بدون شرط القطع). فلا يريد أنه إذا كان مع شرط القطع فلا يجوز. بل معنى العبارة: حتى ولو بدون شرط القطع. أما مع شرط القطع فيجوز رهنه بالإجماع. لماذا؟ لأنه يجوز أن يباع. ولذلك لو قال المؤلف - رحمه الله -: (ولو بدون شرط القطع) لكان أوضح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يلزم الرهن: إلاّ بالقبض.
= ذهب الجماهير إلى أن عقد الرهن لا يلزم من قبل المرتهن إلا بقبض المرتهن له. أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن فإنه يصبح جائزاً فللراهن أن يفسخ الرهن أي ساعة شاء. وهذه المسألة غاية في الأهمية.
إذاً لا يلزم الرهن إلا بقبض المرتهن له. فإن بقي بيد الراهن فالعقد جائز وليس بلازم.
استدلوا على هذا: - بالآية فإن الله تعالى يقول: (فرهان مقبوضة). فنصت الآية على اشتراط القبض. ومعلوم أن قوله مقبوضة يعني: من المرتهن.
واستدلوا على هذا: - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رهن الدرع عند اليهودي أقبضه إياه.
فدل الكتاب والسنة على هذا الشرط.
(4/96)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه يلزم ولو بقي في يد الراهن.
واستدلوا على هذا: - بأن الغرض من الرهن يتحقق ولو بقي في يد الراهن.
- وبأن الناس بحاجة إلى أن يبقى الرهن بيد الراهن وعلى هذا عملهم.
نكتفي بهذا ... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ....
(4/97)
________________________________________
الدرس: (23) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن شاء الله في آخر الدرس سنشرح قوله - رحمه الله -: (بدين ثابت) لأن بعض الإخوة لم يفهم معنى هذه العبارة من المؤلف - رحمه الله -.
- يقول - رحمه الله -:
- ولا يلزم الرهن: إلاّ بالقبض.
تكلمنا بالأمس عن هذه المسألة وذكرنا وجهة نظر الجماهير وأدلتهم.
= والقول الثاني في هذه المسألة: أن الرهن يلزم بالعقد. ولا ينفسخ إلا بإذن المرتهن بمجرد العقد ولو لم يقبض.
واستدل هؤلاء على هذا الحكم:
- بقياس عقد الرهن على عقد البيع. فإن عقد البيع يلزم بالعقد ولو لم يقبض. كما تقدم معنا.
إذا تم العقد في البيع لزم ولزم البائع أن يسلم السلعة والمشتري أن يسلم الثمن. ولو لم يكن هناك قبض فقاسوا عقد الرهن على عقد البيع.
واستدلوا على ذلك أيضاً:
- بأن عمل الناس على هذا فإنهم يرهنون أمتعتهم وتبقى في أيديهم.
وتقدم معنا بالأمس أن الأثر الأهم لهذه المسألة هو: أن الرهن قبل القبض عند الجماهير غير لازم. ومعنى: (غير لازم) أن للراهن أن يفسخ الرهن ويجوز له أن يلغي هذا العقد باعتبار أنه لم يقبض: أي: أن الرهن لم يقبض إلى الآن.
هذه المسألة فيها إشكال: وشيخ الإسلام يرى رجحان قول الجماهير فهو يقول: أن الفائدة من الرهن لا تتحقق على الوجه المطلوب إلا إذا انتقل الرهن إلى يد المرتهن ليتمكن من استيفاء الحق بعد عجز المدين عن السداد.
وما ذكره - رحمه الله - قوي.
وكذلك أصحاب القول الثاني يستدلون بأن عمل النس على بقاء الرهن بيد [الراهن] وبقاء انتفاعه به.
(4/98)
________________________________________
ففي الحقيقة في المسألة نوع من الإشكال بالنسبة لي ولا يظهر لي رجحان قول من الأقوال رجحاناً بيناً إلا أن هذه المسألة والحاجة إليها خفت في زماننا هذا. فبإمكاننا أن نرجح القول الثاني الذي يجعل الرهن لازماً بمجرد العقد.
لماذا؟
لأنه في هذه الأيام أصبح التوثيق في الأوراق فبمجرد ما يختم على الصك أصبح مرهونا بقي البيت في يد المدين أو لم يبق انتقل أو لم ينتقل وبمجرد ما ترهن السيارة تصبح مرهونة أين ما كانت السيارة في يد الدائن أو المدين وبهذا صارت فائدة قليلة بالنسبة لوقتنا هذا.
وإذا أمكن توثيق الدين بلا انتقال العين إلى المرتهن يعني مع بقاء العين في يد الراهن وانتفاعه منها فهذا لاشك أرجح لأنه يتحقق الاستيثاق من الرهن ويتحقق أيضاً بقاء الرهن في يد الراهن: يعني: المدين.
ولذلك نحن نقول: الراجح إن شاء الله في وقتنا هذا القول الثاني.
أما من حيث أصل المسألة بدون النظر إلى ملابسات الواقع المعاصر ففيها إشكال وقول الجمهور وجيه وهو أرجح عندي لكن كما قلت لكم رجحانه ليس رجحاناً بيناً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- واستدامته شرط.
يعني: من شروط اللزوم استدامت القبض.
- لأنهم قالوا: نقيس الاستدامة على الابتداء فإذا كان الابتداء لابد فيه من القبض فالاستدامة لابد فيها من القبض.
وبه علمت أن هذه المسألة مبنية على المسألة السابقة. فما ترجح في تلك المسألة فرجحه في هذه المسألة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن أخرجه إلى الراهن باختياره: زال لزومه.
(فإن أخرجه) يعني: فإن أخرج المرتهن الرهن إلى الراهن باختياره زال لزومه.
- لأن علة اللزوم عند الحنابلة القبض فإذا زال القبض باختيار المرتهن زال اللزوم تبعاً له.
وبعد ذلك يجوز للراهن أن يفسخ العقد وأن يتصرف في العين المرهونة كيف شاء.
وعلكنا من قول المؤلف - رحمه الله - هنا: (باختياره) أنه لو زال الرهن بغير اختياره فإنه يبقى لازماً ولا ينفك ولو زال عن يد المرتهن فهي عين مرهونة.
(4/99)
________________________________________
وعلنا من قول المؤلف - رحمه الله -: (فإن زال الرهن باختيار المرتهن) أن هذا الزوال عام سواء كان زوال بإرجاع العين إلى الراهن أو بتأجير العين إلى الراهن أو بإعارة العين إلى الراهن أياً كانت صورة الإرجاع ما دامت باختيار المرتهن فإن الرهن يصبح غير لازم.
ولا يخفى عليك أيضاً أن هذه المسألة مبنية على مسألة القبض.
ولهذا قلت لك في الدرس السابق أن مسألة متى يلزم الرهن: مسألة مهمة من جهتين:
- من جهة ما يترتب عليها من مسائل.
- ومن جهة الواقع وحاجة الناس إليها.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن رده إليه: عاد لزومه إليه.
يعني: فإن رد الراهن العين إلى المرتهن عاد اللزوم.
والتعليل:
- هو ذات التعليل السابق وهو أنه يلزم من القبض اللزوم ويلزم من عدم القبض عدم اللزوم عند الحنابلة.
فإذاً تعليل هذه المسألة هو عكس تعليل المسألة السابقة.
فعاد اللزوم لوجود القبض.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه: بغير إذن الآخر.
يقول - رحمه الله - أنه لا ينفذ تصرف واحد منهما بغير إذن الآخر.
المقصودبـ: (بواحد منهما). الراهن والمرتهن.
والمقصود بـ: (التصرف). أي: أي تصرف مالي كأن يؤجر العين.
فالمؤلف - رحمه الله - يشترط لتصرف أي منهما بالعيم رضا اجميع فإذا رضي الراهن ولم يرض المرتهن لم يجز التصرف وأصبح ملغياً وإذا رضي المرتهن ولم يرض الراهن فكذلك.
ـ أما اشتراط رضا الراهن فمعلوم لأن الراهن هو المالك وليس لأحد أن ستصرف في ملك غيره إلا بإذنه وإن كانت مرهونة فهي مازالت في ملك الراهن فلابد من إذن الراهن.
ـ أما اشتراط رضا المرتهن فلأجل أن لا يضيع حقه بتصرف الراهن.
هذا هو: = مذهب الحنابلة. فإن لم يرض أحدهما أو لم يرض كلاهما بقي الرهن معطلاً فلابد للتصرف فيه من رضا الاثنين.
= والقول الثاني: هو أنه يجوز أن يستصرف الراهن خاصة ولو لم يرض المرتهن بشرط أن لا يؤدي تصرف الراهن إلى إنقاض مالية العين بما يضر بالدين.
فما دام سيتصرف تصرفاً لا يضر بالعين المرهونة ولا ينقص من قيمتها المالية فإنه يجوز له أن يتصرف ولو لم يأذن المرتهن.
والتعليل: ظاهر:
(4/100)
________________________________________
- لأن هذه العين ملك للراهن وهذا التصرف لا يؤدي إلى الإخلال بحق المرتهن فلأي شيء نمنع.
المثال الذي يوضح المسألة/ إذا كان الرهن بيتاً يؤجر فقام المرتهن بتأجيره بمبلغ مائة ألف ريال. وهذا التأجير لا يخل أو لا يضر بمالية البيت مطلقاً.
فإذا كان الدين مائة ألف وقيمة البيت خمسمائة ألف وأجره بمائة ألف فإن هذا الأجار مهما كان لن يخفض قيمة البيت بل إنه في وقتنا هذا إذا كان البيت مؤجراً فإن هذا من أسباب ارتفاع قيمة البيت.
ففي هذه الصورة عند الحنابلة لا يجوز أن يؤجر ولو لم يضر بالمرتهن.
وعلى القول الثاني: يجوز أن يؤجر ولا ننظر لإذن المرتهن.
وهذا القول الثاني كما قلت لكم هو الصواب.
المثال العكس/ أن يؤجر هذا البيت تأجيراً ينقص من مالية العين. مثل/ أن يؤجر السيارة لشخص يسير بها في طرق سيئة وهو لا يحسن القيادة. فهذا لاشك ينقص من مالية السيارة.
ولذلك من الأشياء التي يسأل عنها من أراد أن يشتري سيارة من هو الذي كانم يستعمل هذه السيارة؟ فإن كان إنساناً يعرف بحسن القيادة والهدوء صار هذا من أسباب زيادة مالية وقيمة السيارة وإن كان العكس: كان العكس.
فمثل هذه الصورة لا نسمح للراهن أن يؤجر السيارة بهذه الصفة التي تسبب نقص مالية العين.
وكما ترى هذا القول وجيه وهو إن شاء اله الراجح والمتوافق مع مقاصد الشرع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ عتق الراهن: فإنه يصح مع الإثم. وتؤخذ قيمته رهناً مكانه.
استثنى المؤلف - رحمه الله - من الحكم العام وهو المنع من التصرف إلا بإذن الاثنين: العتق.
فإذا قام الراهن بعتق العبد الذي وضع رهناً. فالحكم:
= عند الحنابلة: أن العتق صحيح مع التحريم.
فالراهن آثم والعتق صحيح.
ـ أما التحريم:
- فلأنه اعتدي على حق المرتهن.
ـ وأما التصحيح:
- فلأن الشارع سبحانه وتعالى متشوف للعتق.
- ولأن العتق فيه سراية وتغليب مما يدل على قوة هذا الحكم. لأنه إذا اتصف العقد بالسراية والتغليب صار دليلاً على قوة الحكم.
ومعنى: (السراية) أنه لو أعتق بعضه عتق كله.
ومعنى: (التغليب) أنه لو أعتق عبداً ولم يحدد باسم ولا وصف عتق جميع العبيد.
فهذا من باب التغليب والأول من باب السراية.
(4/101)
________________________________________
وإذا صححنا العتق فإن قيمة العبد تكون مكان العبد فنلزم الراهن الذي أعتق العبد بأن يسلم المرتهن قيمة هذا العبد لتكون رهناً بدل هذا العبد الذي أعتق.
هذا هو مذهب الحنابلة وتفصيل المذهب ودليل المذهب.
=والقول الثاني: أن العتق لا يقع في هذه الصورة وهو محرم وباطل.
- لأن في العتق في هذه الصورة اعتداء على حق المرتهن والشارع الحكيم متشوف إلى العتق الذي ليس فيه اعتداء فنبطل العتق ويبقى العبد مرهوناً ولو أعتقه السيد ويصبح من التصرفات اللاغية.
وهذا الثاني هو القول الصحيح إن شاء الله.
- قال - رحمه الله -:
- ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه: ملحق به.
نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية ملحق بالرهن.
ومعنى أنه ملحق بالرهن يعني: أنه يبقى مع الرهن ويباع مع الرهن.
- لأنه متفرع عن أصل مرهون فتبعه في الحكم.
هذا هو مذهب الحنابلة.
واعلم قبل أن نذكر القول الثاني: أن نماء الرهن المتصل به تبع للرهن: بالإجماع. لأنه لا يمكن أن ينفك عن الرهن.
مثال النماء المتصل/ السمن. أو تعلم صنعة. أو تعلم علم محمود.
فمثل هذه الأشياء لا يمكن أن تنفك عن الرهن فهي تبع للرهن بالإجماع.
إذاً: القول الثاني ينحصر في النماء المنفصل.
عرفنا أن مذهب الحنابلة والجماهير أن النماء المنفصل تبع للعين المرهونة للتعليل السابق.
= القول الثاني: أن النماء المنفصل ليس تبعاً للعين المرهونة بل يرجع للراهن.
وهذا مذهب الإمام الشافعي.
ودليل هذا القول:
- أن المرتهن رضي بعين الرهن رهناً بلا زيادة.
- وأيضاً نماء هذه العين هو في الحقيقة ملك للراهن لأن العين هي أيضاً ملك للراهن. والأصل أن ملك الإنسان له أن يتصرف فيه بماء يشاء وإنما منعنا التصرف في العين المرهونة لأنها مرهونة.
القول الأول: مذهب الجماهير وعليه العمل في كثير من البلدان.
القول الثاني هو مذهب الشافعي وهو فيما يظهر لي أرجح من مذهب الجمهور وومن نصره ابن المنذر - رحمه الله - فإنه يرى أن النماء المنفصل ليس تبعاً للعين.
(4/102)
________________________________________
وهذا الذي يظهر لي أن النماء المنفصل ليس تبعاً للعين المرهونة لأنه ملك للراهن ولا يوجد دليل يمنع الراهن من أن ينتفع بهذا النماء المتصل وأما الاستيثاق من الدين فهو حصل بالعين المرهونة.
يستثنى من هذا صورة واحدة: إذا كان هذا النماء المنفصل يؤدي إلى مالية العين المرهونة ففي هذه الصورة لاشك ان النماء المنفصل ينبغي أن يبقى مع العين حتى تكون العين مع نمائها المتصل كافية في سداد الدين.
فإذا رهن شاة حاملة وفي أثناء الرهن ولدت هذه الشاة وهذه الولادة سببت ضرراً للشاة - أي ضرر جسماني - أدى هذا الضرر إلى نقصان مالية هذه الشاة.
فنقول: هذا الولد الذي ولدته الشاة تبع لها لأن الشاة أصبحت لا تفي بالدين.
أما فيما عدا هذه الصورة فالراجح مذهب الشافعية واختيار ابن المنذر ومن أبرز أمثلته الأجار فالأجار الآن لا يضر بالعين كما تقدم معنا.
فإذا أجر البيت المرهون فالأجار ليس تبعاً للبيت ولا يحبس كما يحبس البيت وإنما هو من حقوق الراهن على القول الصحيح ينتفع بع كيف شاء.
- قال - رحمه الله -:
- وكسبه وأرش الجناية عليه: ملحق به.
كسبه وأرش الجناية عليه هو والمسألة السابقة واحد: النماء والكسب والأرش مسألة واحدة والخلاف الذي ذكرت ينطبق على الجميع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومؤونته على الراهن وكفنه وأُجرة مخزنه.
= ذهب الجماهير إلى أن النفقة والمؤونة التي تصرف على العين المرهونة تحتسب على الراهن هو الذي ينفق على العين المرهونة.
واستدلوا على هذا:
- بأن هذه العين المرهونة ملك للراهن والأصل أنه يجب على الإنسان أن ينفق على ملكه.
واستدلوا أيضاً:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه) والحديث كما ترى نص في المسألة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (عليه غرمه). فكل النفقات التي تترتب على بقاء الرهن عند المرتهن الذي يقوم بدفعها هو الراهن الأكل والشرب والسكن والكسوة والتخزين وكل ما يتعلق بهذه الأمور إنما هو على الراهن.
(4/103)
________________________________________
هذا الحديث المهم في باب الرهن محل خلاف بين الأئمة: فذهب بعض الأئمة إلى أنه معلول بالإرسال وأنه لا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن ذهب إلى هذا الإمام أبو داود وابن القطان والدارقطني وغيرهم من أئمة المسلمين.
وذهب بعض الأئمة إلى أنه يثبت مرفوعاً متصلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن ذهب إلى هذا من الأئمة عدا المتأخرين الإمام الدارقطني. فأنت تلاحظ أن الدارقطني تارة يرى أنه موصول وتارة يرى أنه مرسل.
فاختلف قوله - رحمه الله - في هذا الحديث.
أما قوله الذي هو بالإعلال فذكره في العلل. وأما الحكم عليه بالصحة والاتصال فذكره في السنن فقد عقب هذا الحديث بقوله إسناد جيد متصل ومن المعلوم لكل طالب علم: أن كلام الإمام الدراقطني في العلل أمتن وأعمق وأهم من كلامه في السنن لأن العلل مخصص للكلام على الطرق والأسانيد والعلل وأما السنن فهو مخصص لجمع الأحاديث. وقيل مخصص لجمع الأحاديث الضعيفة كأنه أراد أن يجمع الأحاديث الضعيفة.
وأياً كان فكلامه في العلل الذي يتوافق مع كلام الحافظ أبي داود وغيره هو الصحيح وهو مقدم على كلامه في السنن.
وهذا الحديث وإن كان مرسلاً إلا أنه يصلح للاستدلال وما زال أهل العلم يستدلون به ويستشهدون به لأنه مرسل وتعضده النصوص وتعضده فتاوى الصحابة.
- قال - رحمه الله -:
- وهو أمانة في يد المرتهن، إن تلف من غير تعد منه: فلا شيء عليه.
الرهن أمانة في يد المرتهن.
وقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه) هذا ثمرة كون العين أمانة.
فالحكم الآن: أن الرهن أمانة في يد المرتهن لا يضمنه إلا إذا تعدى أو فرط.
وهذا مذهب الجماهير.
واستدلوا على هذا بأمور:
- الأمر الأول: أن رفع الضمان عن المرتهن إذا تلفت العين بغير تعد ولا تفريط مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
- الثاني: الحديث الذي تقدم معنا وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وعليه غرمه).
(4/104)
________________________________________
= القول الثاني: أنه إذا تلفت العين في عين المرتهن فهي من ضمان المرتهن لكن بأدنى القيمتين من قيمته أو قدر الدين. (القول الثاني أنه إذا تلف فهو من ضمان المرتهن لكن بشرط أن يضمن بأدنى القيمتين من قيمته أو قدر الدين).
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأمر الأول: أن هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
- الثاني: استدلوا بمرسل لعطاء - رضي الله عنه - أن رجلاً رهن عند رجل فرساً فنفقت فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذهب دينك) فجعل الدين في مقابل الرهن الذي تلف.
= القول الثالث: أن العين إذا تلفت عند المرتهن فهي مضمونة مطلقاً ولو كانت بأكثر من الدين.
وهذا من عجائب الأقوال في الحقيقة.
فأصحاب هذا القول يضمنون المرتهن قيمة الرهن التالف ولو كانت القيمة أكثر من الدين. فبموت الرهن الذي قيمته أكثر من الدين انقلبت الآية فأصبح المدين دائناً والدائن مديناً.
مع العلم أن هذا الرجل لم يأخذ هذه العين إلا لاستيثاق الدين فصار الاستيثاق وسيلة لوقوع المرتهن في دين آخر.
وهذا من وجهة نظري غاية في الضعف والبعد عن أصول الشرع وعن المنطق.
كيف نجعل المرتهن الذي أخذ العين رهناً لإيفاء الدين ينقلب إلى مدين ونحن نتكلم الآن كما تعلمون عن التلف الذي بغير تعد ولا تفريط.
لأن تلف العين مع التعدي والتفريط عند المرتهن هي من ضمان المرتهن بالإجماع لأنه تعدى وفرط.
فالخلاف الذي سمعت كله فيما إذا تلفت العين بغير ولا تفريط.
والراجح والله أعلم القول الأول وأنه لا ضمان مطلقاً لا بقيمة الدين ولا بأقل ولا بأكثر.
أولاً: لأن هذا الحديث المرسل الذي تقدم معنا صالح للاحتجاج كما قلت لك.
ثانياً: لأ الآثار عن الصحابة مختلفة فرأي علي - رضي الله عنه - يختلف عن رأي عمر بن الخطاب إن صح عن عمر - رضي الله عنه -. وأخشى أن عمر - رضي الله عنه - أفتى في قضية معينة لها ملابسات معينة.
أما أن هذا يكون رأياً من أمير المؤمنين عمر فمن وجهة نظري أنه بعيد.
على كل حال هو ينسب إلى عمر - رضي الله عنه -.
(4/105)
________________________________________
وثالثاً: أن أثر عطاء هذا مرسل ومراسيل عطاء ضعيفة. أضف إلى هذا كله أن عطاء كان يفتي بخلاف هذا الأثر الذي يرويه وهذا مما يوهن الأثر.
فالراجح والله أعلم مذهب الحنابلة وهو القول الأول.

- قال - رحمه الله -:
- ولا يسقط بهلاكه: شيء من دينه.
هذا قول مفرع على المسألة السابقة.
فإذا اعتمدنا أن المرتهن لا يضمن فغنه لا يسقط من دينه شيء ولو تلف الرهن ويكون كله من ضمان الراهن.
ودليل ذلك:
- أن الدين ما زال باقياً في ذمة الراهن ولو تلفت العين المرهونة.
فإذاً لا يسقط منه شيء مطلقاً وإنما يبقى كما هو ويرجع يطالب الراهن بدينه مرة أخرى.
وهذا معنى: (لا يسقط بهلاكه شيء من دينه) وهو كما قلت مفرع على المسألة السابقة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن تلف بعضه: فباقيه رهن بجميع الدين.
(وإن تلف بعضه) يعني: وإن تلف بعض الرهن فباقيه رهن بالدين.
وهذا بلا نزاع وهو معلوم لأنه إذا كانت العين كاملة رهناً فإذا تلف بعضها فبقاء ما بقي منها في حكم الرهن من باب أولى.
فإذا رهنه قطيع شياة يتكون من خمسين رأس من الغنم ومات نصف هذا القطيع فالباقي يبقى أو يرجع ينفك عنه الرهن؟ يبقى.
وهذا لا إشكال فيه لكن أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين الحكم.
- قال - رحمه الله -:
- ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين.
المقصود من هذه العبارة أنه إذا قام المدين بسداد بعض الدين الذي فيه رهن فإنه لا يفنك من الرهن بقدر ما قضى من الدين بل يبقى جميع الرهن كما هو رهناً على باقي الدين.
واستدلوا على هذا:
- بأنه جميع أجزاء الرهن مرتبطة بالدين حتى ينقضي كله فسداد بعض الدين لا يسبب انفكاك بعض أجزاء الرهن لأن جميع الأجزاء مرتبطة.
وهذا عكس ما يفهمه بعض الناس أنه كلما قضى شيئاً من الدين انفك بعض الرهن بل الحكم كما سمعت.

- قال - رحمه الله -:
- وتجوز الزيادة فيه دون دينه.
(تجوز الزيادة فيه) يعني: في الرهن.
فإذا افترضنا أن زيداً اقترض من عمرو خمسين ألفاً ووضع عنده سيارة رهناً ثم أتى بسيارة أخرى لتكون مع الرهن الأول فأصبح الرهن يتكون من سيارتين وقد كان سيارة واحدة.
فهذا زيادة في الرهن أو في الدين؟ هذا زيادة في الرهن.
(4/106)
________________________________________
وهو صحيح بالإجماع: لأن الحكمة التي من أجلها شرع الرهن تتأكد إذا زيد. ولذلك أجمعوا على هذا الحكم لوضوحه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وتجوز الزيادة فيه دون دينه.
لا لا تجوز الزيادة في دين الرهن ولو رضي الراهن والمرتهن.
صورة المسألة/ إذا اقترض زيد من عمرو ورهنه كتاباً. ثم أراد أن يقترض مائة ريال أخرى وقال: اجعل الرهن الأول رهناً للدين الأول والثاني.
فهذا زيادة في الدين أو في الرهن؟ زيادة في الدين مع بقاء الرهن بدون تغيير.
هذا لا يجوز: = عند الحنابلة. ويصبح الدين الثاني ديناً مرسلاً لا رهن فيه لأن الرهن الثاني باطل.
استدلوا على هذا الحكم:
- الدليل الأول: قالوا: إن الرهن مرتبط بكل جزء منه بالدين الأول. ولهذا فهو لا يتسع للدين الثاني.
ومعلوم أن الرهن إذا كان مرتبط بكل جزء من أجزائه فكيف تشغله بدين آخر.
= والقول الثاني: جواز زيادة الدين في الرهن الواحد إذا رضي المرتهن ورضي الراهن.
فلابد من رضا الكرتهن ورضا الراهن.
الدليل على هذا: استدلوا على هذا:
- بأنه إذا أمكن كل من الراهن والمرتهن أن يرفع العقد من أصله فكيف بالزيادة فيه.
الراهن والمرتهن ألا يستطيع أن يبطل الرهن من أصله فكيف بالزيادة فيه؟! نجوز لهما إبطال الرهن من أصله ولا نجوز لهما الزيادة فيه.
هذا نوع من التناقض.
ولذلك فالراجح هو القول الثاني.
واليوم الناس عملهم على هذا - أقصد عمل الناس لا الحكم الشرعي - لا سيما إذا كان الرهن يفي بالدين الأول وبالدين الثاني فحينئذ لا إشكال مطلقاً.
- قال - رحمه الله -:
- وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما.
صورة المسألة/ إذا استدان من رجلين وجعل عندهما رهناً واحداً ثم قضى أحدهما دون الآخر انفك في نصيبه.
فإذا استدان عمرو من زيد وخالد ورهن زيد وخالد عيناً واحدة ثم قضى خالد انفك الرهن في نصيبه.
التعليل:
- أن العقد مع خالد والعقد مع زيد كل منهما يعتبر عقداً منفرداً فإذا قضى دينه انفك في نصيبه.
- قال - رحمه الله -:
- أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما: انفك في نصيبه.
(4/107)
________________________________________
صورة المسألة/ إذا استدان رجلان من شخص واحد ورهناه عيناً مشتركة بينهما. فإذا كان عمرو وزيد يملكان جميعاً سيارة واحدة واقترضا من خالد ورهناه هذه السيارة التي هي ملك لهما فإذا قضاه أحدهما انفك في نصيبه.
فإذا قضاه زيد ولم يقضه عمرو انفك في نصيبه أو قضاه عمرو ولم يقضه زيد انفك في نصيبه.
والتعليل هو ذات التعليل السابق:
- أنا ننزل الرهن كأنه عقدين منفصلين فينفك العقد الأول دون العقد الثاني.
- قال - رحمه الله -:
- ومتى حل الدين وامتنع من وفائه، فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه: باعه ووفى الدين.
إذا حل الدين وجب على المدين أن يقضي سواء وثق الدين برهن أو لم يوثق.
فإن أخر فهو آثم ومماطل وظالم فيجب عليه أن يبادر بسداد الدين.
فإن لم يسدد الدين فإن كان أذن للمرتهن ببيع العين فإن المرتهن يقوم ببيع العين مباشرة وسداد الدين بثمنها.
والمؤلف - رحمه الله - يريد بهذه العبارة أن المرتهن لا يحتاج إلى تجديد إذن آخر بل الإذن الأول في البيع عند حلول الأجل وعد السداد كافي في البيع حينئذ فيقوم المرتهن بالبيع مباشرة.
تعليل هذا الحكم:
- أن هذا هو المقصود من الرهن وهو استيفاء الدين.
ونحن نقول أن هذا الحكم إنما هو فيما إذا لم يسدد المدين الدين الذي عليه بعد حلول الأجل فحينئذ يقوم المرتهن بالبيع ويسدد.
هذا إذا كان الراهن أذن للمرتهن بالبيع بأن قال له إذا حل الأجل ولم أسدد فبع العين التي هي مرهونة وخذ دينك منها حينئذ يبيع مباشرة.

- قال - رحمه الله -:
- وإلاّ أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن.
هو في الحقيقة من حيث النضيد وصف الجمل كان ينبغي أن تكون عبارة: (أو بيع الرهن) في نفس السطر الذي فيه: (وإلا أجبره الحكم).
فالمعنى: (إلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن).
إذا لم يأذن الراهن للمرتهن ببيع الرهن فإنه لا يجوز للمرتهن أن يبيع الدين ولو لم يف ولو لم يقض المدين الدين.
لكن حينئذ يجب على الحاكم إما أن يتولى إجبار المدين على السداد أو إجباره على بيع العين.
تعليل هذا:
(4/108)
________________________________________
- أن الحاكم منوط به إرجاع حقوق الناس إليهم وهنا تعلقت الحقوق وبقيت بلا سداد فوجب عليه أن يقوم بواجبه وهو سداد أو إيفاء الحقوق إلى أصحابها.
هذا هو التعليل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن لم يفعل: باعه الحاكم ووفى دينه.
فإن لم يفعل أي لم يسدد الدين ولم يبع العين المرهونة قام الحاكم ببيع العين وسداد الدائن دينه.
تعليل هذا:
- أن هذا الحق وجب على المدين ولم يقم وكل حق لم يقم به صاحبه قام به الحاكم يعني: من الحقوق الواجبة التي تتعلق بالأموال.
وهذه قاعدة: كل حق واجب وواجب مالي امتنع صاحبه عن القيام به وجب على الحاكم أن يقوم به.
أما الحقوق غير المالية فهذه لها أحكام أخرى.
فبر الوالدين: واجب. لكنه ليس من الواجبات المالية فلا يقوم الحاكم مقام العاق في بر الوالدين. لكن إما أن يعزره .. المهم بحث آخر والذي يعنينا الآن الحقوق المالية.
وبهذا انتهى الفصل الأول من باب الرهن وننتقل إلى الفصل الثاني.

فصل
[فيمن يكون الرهن عنده]
- قال - رحمه الله -:
- ويكون عند من اتفقا عليه.
إذا اتفق كل من الراهن والمرتهن على دفع العين إلى رجل عدل: جاز. وصار هذا الرجل العدل وكيلاً عن المرتهن أو الراهن؟
سؤال يبين جواب هذه: العين عند الحنابلة يجب أن تكون عند من؟
عند: المرتهن فالذي يقبضها هو وكيل المرتهن أو الراهن؟ وكيل المرتهن وليس وكيلاً عن الراهن. الراهن مالك فلا أحد وكيلاً عنه.
لكن هون وكيل عن المرتهن لأن الحنابلة يفتضون أن العين يجب أن تكون عند المرتهن فالعدل هو في الحقيقة وكيل عن المرتهن.
فإذا ارتضى الراهن والمرتهن أن تكون بيد شخص آخر طرف ثالث عدل جاز ولا حرج لأنه يجوز للإنسان أن يوكل غيره في القبض فيجوز للمرتهن أن يوكل غيره في قبض العين المرهونة.
= القول الثاني: أنه يجب أن تكون عند المرتهن ولا يجوز أن تدفع لشخص ثالث.
- لقوله تعالى: (فرهان مقبوضة).
والراجح القول الأول بلا تردد وليست هذه المسألة كمسألة أنه يلزم بالقبض وأنه يجب أن يكون القبض عن المرتهن بل هنا رجحان المسألة بين وواضح لأن باب الوكالة مشروع وإذا وكل المرتهن شخصاً آخر رضي به الراهن فأي حرج بهذه المسألة.
- قال - رحمه الله -:
(4/109)
________________________________________
- وإن أذن له في البيع: لم يبع إلاّ بنقد البلد.
يعني: وإن أذنا للعدل بالبيع باع.
فهم من عبارة المؤلف - رحمه الله - أن العدل لا يجوز له أن يبيع إلا بإذن الراهن والمرتهن.
فإن باع بدون إذنهما لا سيما الراهن فالبيع باطل. لأنه لم يخول بالبيع فتصرفه فضولي باطل.
ولا نقول هذا التصرف الفضولي يصح إذا أذن المرتهن أو الراهن. لماذا؟ لأنا نفترض المسألة إذا لم يأذن الراهن ولا المرتهن.

- ثم قال - رحمه الله -:
- لم يبع إلا بنقد البلد.
إذا أذن للعدل فإنه لا يجوز له أن يبيع إلا بنقد البلد خاصة دون نقد غيره من البلاد.
علل الحنابلة هذا: - بأن الحظ الأوفر للدائن يكون بذلك. أي: بأن يبيع بنقد البلد.
فإن كان في البلد أكثر من جنس تتداول جميعاً في وقت واحد. فجيب أن يبيع بجنس الدين.
وإن كان جنس الدين لا يوجد في البلد فيجب أن يبيع بالأصلح.
هكذا قرر العلماء هذا الحكم وأنه يجب أن يبيع بنقد البلد.
وعللوا ذلك: - بأنه أنفع وأحظ للمدين تبعاً لذلك للدائن.
أقول أنا: أن تعليل الحنابلة وغيرهم من الفهاء بأن هذا الحكم إنما وجب لأنه أحظ ينبغي أن ينبني على هذا أن نقول: إذا كان غير نقد البلد أحظ فلا بأس أن يبيع به.
وهذا لم يقل به الحنابلة كأنهم يفترضون دائماً أن نقد البلد أحظ للدائن والمدين ولكن اليوم قد يكون نقد غير البلد في بعض الأوقات أحظ للدائن والمدين.
وانطلاقاً من تعليل الفقهاء له أن يبيع بغير نقد البلد وليس للراهن أن يعترض ولا للمرتهن أن يعترض على هذا العدل إذا باع. فإذا افترضنا أنه إذا باع البيت بالريال السعودي كانت قيمة البيت: مائة ألف.
وإذا باع بالدولار: ثم قام ببيع الدولار بعد ذلك: صارت قيمة البيت: مائة وخمسين ألفا.
فالأحظ الآن بنقد البلد أو بغير نقد البلد؟ بغير نقد البلد.
فانطلاقاً من تعليلهم نقول لك أن تبيع بغير نقد البلد إذا استوثقت أن غير نقد البلد أصلح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن قبض الثمن فتلف في يده: فمن ضمان الراهن.
إذا قبض هذا العدل الثمن ثم تلف في يده من غير تعد ولا تفريط فهو من ضمان الراهن.
لماذا؟ - قالوا: لأن هذه العين الملك للراهن ولا علاقة للمرتهن بها مطلقاً والضمان دائماً تبع للملك.
(4/110)
________________________________________
واستدلوا أيضاً: - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وعليه غرمه).
= القول الثاني: أنه إذا تلف أي الثمن في يد العدل فهو من ضمان المرتهن.
واستدلوا على هذا:
- أن البيع إنما تم لمصلحة المرتهن فالبيع إنما هو لسداد الدين الذي هو للمرتهن.
لذلك نقول الضمان عليك أيها المرتهن.

ما تقولون في هذا القول؟
في الشرع الضمان لازم للوكالة: هل هناك علاقو بين الوكالة والضمان؟ ليس هناك أي علاقة بين الضمان والوكالة إنما العلاقة بين الملك والضمان.
أنا أقول: أن هذا القول غاية في السقوط من وجهة نظري والضعف.
لماذا؟ - كيف نلزم المرتهن بضمان قيمة المبيع ولا علاقة له بالأمر مطلقاً ولم يتعد ولم يفرط العدل.
نعم المرتهن أذن للعدل أن يبيع لكن مع ذلك أذن له الراهن.
ثم هذه العين المرهونة ملك للراهن. أي علاقة بين المرتهن وبين الضمان في مثل هذه الصورة.
فهو قول بعيد جداً لهذه الأسباب التي ذكرت لك.
ولذلك نقول: مذهب الجماهير من فقهاء المسلمين أن الضمان على الراهن هو القول الصحيح والمتوافق إن شاء الله مع العدل.
- قال - رحمه الله -:
- وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة، ولم يكن بحضور الراهن: ضمن كوكيل.
إذا ادعى أنه سلم المال إلى المرتهن يعني: قيمة العين المبيعة وهي الرهن ولكن بلا شروط ولا قرائن تدل على صدق قوله وأنكر المرتهن فهو من ضمانه يعني: فهو من ضمان المرتهن ولا العدل؟ الآن عدل باع السلعة وقبض الثمن وادعى أنه أقبض المرتهن لكن لم يشهد ولا توجد بينة تدل على أنه أقبض المرتهن والمرتهن أنكر فالضمان على العدل. لماذا؟
- لأنه فرط في حفظ حقه.
- ولأن الأصل أن القول قول المنكر.
فالقول هنا قول المرتهن لأن هذا العدل مفرط.
يقول - رحمه الله - هنا: (كوكيل). يعني: وهذا الحكم نفسه في الوكيل. فإذا سلم الوكيل الدين إلى الدائن ولم يشهد ولا توجد دلائل ولا قرائن تدل على صدقه فهو الضامن.
فإذا أعطى زيد عمرو مال وقال: وكلتك أن تؤدي هذا المال إلى خالد الذي هو الدائن وأقبضه بلا إشهاد ولا بينة ثم أنكر خالد وهو الدائن فالضمان هنا على من؟
على الموكل. يعني: على الوكيل.
لماذا؟ - لأنه فرط ولم يستوثق في التسليم.
(4/111)
________________________________________
وهذا صحيح وهذا قد يقع كثيراً. على الأقل الدائن قد ينسى أنه أخذ القرض نسياناً لا إنكاراً للحق فحينئذ نقول: يجب أن تقوم بسداد الدين يعني: الموكل والعدل لأنك فرطت في حفظ حقك.
- قال - رحمه الله -:
- وإن شرط أن لا يبيعه إذا حلّ الدين، أو إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلاّ فالرهن له: لم يصح الشرط وحده.
ـ وإن شرط أن لا يبيعه إذا حل الدين: فالشرط باطل والرهن صحيح.
الشرط باطل: لماذا؟ - لأنه ينافي مقتضى العقد والغرض الذي من أجله شرع فإن الغرض من الرهن سداد الدين فإذا شرط أن يسدد الدين منه صار الشرط باطلاً والعقد صحيحاً. هذه الصورة الأولى.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو إن جاءه بحقه وقت كذا وإلا فالرهن له.
فالشرط باطل والعقد صحيح. يعني: عقد الرهن.
صورة المسألة: قال له: إن سددت لك الدين في يوم كذا وكذا وإلا فالرهن لك.
هذه الصورة الشرط باطل والعقد صحيح. ونقوم بييع الرهن وسداد الدين ولا يملك المرتهن هذا الرهن؟
لماذا؟ - قال الحنابلة: لأن الإمام أحمد فسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من صاحبه) بهذه الصورة. بأن يقول إنسان للدائن: إن قضيتك وإلا فالرهن لك.
فهذال دليل بطلان الشرط.
وأما دليل صحة العقد:
- فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط بقوله: (لا يغلق الرهن من صاحبه) ولم يبطل الرهن. لأنه قال: (له غنمه وعليه غرمه). فأبقى العقد صحيحاً وأبطل الشرط.
فنحن كذلك نبطل الشرط ونبقي العقد.
= القول الثاني: أن هذه الصورة صحيحة ومشروعة ونافذة وتصبح العين ملكاً للمرتهن بمجرد حلول الأجل.
قال أصحاب هذا القول: والإمام أحمد - رحمه الله - نفسه عمل هذه المعاملة فإنه وضع رهناً وقال لصاحب الدكان: إن جئتك وإلا فهي لك ... ((الأذان)).
فالقول الثاني صحة هذا العقد وأن الإمام أحمد - رحمه الله - عمل به.
واستدلوا على هذا:
- بأن الأصل في المعاملات الحل.
- وبأن هذا الشرط لا ينافي مقتضى الرهن بل يحقق مقتضى الرهن.
وأجابوا عن الحديث: بأن حملوا الحديث على ما إذا لم يشترط أما إذا اشترط فلا بأس فحملوا الحديث على هذا المعنى.
(4/112)
________________________________________
وهذا القول الثاني هو الصواب إن شاء الله ولا ضرر على الراهن لأن الراهن إذا رأى أن قيمة الرهن تفوق قيمة الدين فسيبادر بأخذ الرهن وبيعه وسداد الدائن أو أن يسدد الدائن من ماله ويأخذ العين التي هي مرهونة لأن ثمنها أكبر من ثمن الدين.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويقبل قول راهن: في قدر الدين والرهن ورده.
يقبل قول الرهن في قول الدين. أي: الذي ارتبط به الرهن.
فإذا قال الراهن: أعطيتك هذا الرهن بألف ريال وقال المرتهن بل أعطيتني هذا الرهن بألفي ريال فالقول قول من؟ الراهن. فيكون الرهن مرتبط بالألف فقط.
لماذا؟ - لأن الراهن منكر للزيادة فالأصل عدم ارتباطه بالرهن.
لأن الأصل عدم الرهن أو وجود الرهن؟ عدم الرهن.
فإذا كان الأصل عدمه فالأصل أيضاً عدمه فيما لم يقر به الراهن.
= والقول الثاني في هذه المسألة: أن القول قول المرتهن بشرط أن لا يدعي ديناً أكثر من قيمة الرهن.
واستدلوا على هذا:
- بأن الرهن إنما يقصد منه الاستيثاق من الدين وأن يقوم مقام الشهود والكتابة.
ولهذا يجب أن يؤدي الغرض منه بشمول جميع الدين. لأنهم في هذه الصورة لم يختلفوا في الدين وإنما اختلفوا في القدر الذي ربط بالرهن من الدين.
وفي الحقيقة يبدو لي رجحان القول الأول: لأن معهم أصلاً قوياً وهو أن الأصل عدم وقوع الرهن وعدم ارتباطه بهذا الدين.
وينبني على المسألة ثمرة كبيرة فإذا صار مرتبطاً بالدين الفلاني وبدين آخر مختلف فيه: فعند الحنابلة إذا سدد الدين الأول انفك الرهن. وعلى القول الثاني: لا ينفك الرهن حتى يسدد جميع الدين.
فيترتب على هذا الخلاف بقاء أو انفكاك الرهن.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والرهن.
يعني: إذا اختلفوا في العين المرهونة فقال المرتهن رهنتني هذا البيت بل رهنتط هذه السيارة فقالول قول من؟ الراهن.
- لأن الأصل عدم الرهن.
فنقر ما يقره الراهن فقط.
وهذا صحيح. لأن جانب الراهن في هذه المسألة قوي ويستثنى من هذا إذا دلت القرائن والملابسات أنه لا يمكن أن يكون قول الراهن صحيح.
مثال ذلك/ أن يكون الدين يبلغ مليون ريال فيقول الراهن رهنتك هذا الكتاب ويقول المرتهن بل رهنتني هذا البيت. هل يمكن أن يقبل المرتهن بكتاب مقابل مليون ريال؟
(4/113)
________________________________________
هذه صورة واضحة وعلى القاضي إذا حصل خلاف أن يراعي الملابسات وما يحتف به من قرائن.
- قال - رحمه الله -:
- ورده.
ويقبل قول الراهن في الرد.
فإذا قال الراهن لم ترد إلي الرهن وقال المرتهن بل رددت الرهن إليك فالقول قول من؟ قول الراهن.
- لأن الأصل عدم الرد.
فنلزم المرتهن بأن يأتي بالعين محل الرهن إذا أنكر الراهن أنه قبلها وقبضها.
وبهذه المسأل نختم درس اليوم ... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ....
(4/114)
________________________________________
الدرس: (24) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- قال - رحمه الله -:
- وكونه عصيراً لا خمراً.
يعني: ويقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً.
والمقصود بهذه المسألة: إذا اشترط الدائن رهناً معيناً وهو العصير فقال أقرضك على أن ترهنني هذا العصير ثم لما قبض المرتهن العصير رجع إلى الراهن وقال: العصير خمر وليس بعصير.
فالقول في هذه المسألة: فول الراهن.
وعلل الحنابلة بذلك:
- بأنه ينبني على قول المرتهن فساد العقد وينبني على قول الراهن صحة العقد والأصل في العقود الشرعية الصحة ولذلك غلبنا قول من قوله يصحح العقد. وهو في هذه الصورة من؟ الراهن.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أقر أنه ملك غيره .... : قبل على نفسه.
إذا أقر الراهن أن هذه العين المرهونة هي في الواقع ملك لغيره. لغير من؟ لغير الراهن.
كأن يزعم أنه باعها أو وهبها أو أهداها فهو الآن أقر بأن العين ليست ملكاً له.
فالحكم:
= عند الحنابلة: أنه يقبل قوله في حق نفسه لا في حق المرتهن.
فنقول هذه العين أصبحت من أملاك المقر له هذا بالنسبة للراهنلكن لا يقبل إقراره في حق المرتهن وينبني على عدم القبول أن تبقى العين رهناً ثم إذا انفك الرهن رجع إلى الراهن أو إلى المقر له؟ رجعت العين إلى المقر له.
(4/115)
________________________________________
إذاً هذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (قبل على نفسه دون المرتهن). أي: أنه تصبح العين ملك للمقر له ولكن يتبقى رهناً في يد المرتهن إلى أن يسدد القرض وينفك الرهن.

* * مسألة/ تفرض نفسها: وهي ما إذا لم يسدد ثم باع المرتهن الرهن فما الحكم؟ الحكم: أنه يلزم الراهن أن يعطي المقر له قيمة هذه العين.
ولاشك أنك تلحظ الآن أن الشارع الحكيم قوى جانب المرتهن وهذا من أسرار وحكم التشريع.
لأن المقصود من الرهن هو توثيق حق الدائن وكل ما يتعارض مع هذا القصد فهو ملغي.
وانظر كيف مكن الشارع - إذا كان هذا القول هو الراجح - كيف مكن الشارع المرتهن أن يبيع العين التي نحكم شرعاً أنها لغير الراهن.
لكن مع ذلك مكنه من البيع كل ذلك لزيادة استيثاق الدائن بحقه - أي ليتمكن من الحصول على حقه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو أنه جنى.
يعني: وإذا أقر الراهن أن العبد المرهون جنى قبل على نفسه دون المرتهن.
والعبد إذا جنى فإن الجناية تتعلق برقبته عند الفقهاء.
ومعنى أنها تتعلق برقبته: أنه لابد أن يدفع هو للمجني عليه أو تدفع قيمته للمجني عليه.
إذاً: تعلقت الجناية برقبة العبد.
فإذا أقر الراهن أن هذا العبد المرهون جنى قبل في حق نفسه دون حق المرتهن كما تقدم في المسألة السابقة تماماً.
فنقول: يبقى العبد تحت الرهن فإذا انفك الرهن سلم العبد لمن؟ للمجني عليه. كما قلنا في المسألة السابقة تماماً.
= القول الثاني: في مسألة العبد: أن إقرار الراهن يقبل عليه وعلى المرتهن. ويدفع العبد مباشرة لصاحب الجناية.
واستدلوا على هذا:
- بأن إقرار الراهن الآن لا يتضمن محاولة الاحتيال. لأنه أقر بما يخرج العبد عن ملكه. فنقبل هذا الإقرار مطلقاً.
والقول الراجح القول الأول. أنه كذلك في هذه الصورة تبقى عيناً مرهونة لاستيفاء المرتهن دينه منها.
- قوله - رحمه الله -:
- وحكم بإقراره بعد فكه.
يعني: بمسألة الإقرار بانتقال الملك وفي مسألة الإقرار بجناية العبد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ أن يصدقه المرتهن.
إذا صدقه المرتهن صح إقراره في حق نفسه وفي حق المرتهن وانفك الرهن وسلمت العين لصاحبها الذي أقرت له به.
وتعليل ذلك:
(4/116)
________________________________________
- أن المرتهن اعترف بما يبطل الرهن فينفك بسبب اعتراف المرتهن.
فصل
[الانتفاع بالرهن وما يتعلق بذلك]
- قال - رحمه الله -:
- (فصل) وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب: بقدر نفقته بلا إذن.
= الحنابلة يرون: أن ما يركب ويحلب ينتفع منه ركوباًَ وحلباً لكن بقدر النفقة.
ولتوضيح المسألة نقول/ الرهن ينقسم إلى قسمين:
ـ حيوان.
ـ وغيره.
والحويان ينقسم إلى قسمين: مركوب. أو محلوب. وغيره.
ولا يمكن أن يخرج الرهن عن هذه القسمة.
هل يمكن أن يخرج؟ هل يوجد قسم غير هذه الأقسام؟ لا يوجد.
لأنا نقول حيوان أو غيره وغيره هذه شملت كل شيء.
نبدأ بالقسم الأول:
ـ الحيوان المركوب المحلوب وهو مسألتنا التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -:
فهذه المسألة: = ذهب الحنابلة فيها إلى أنه له أن يركب ويحلب بالنفقة.
ومعنى: بالنفقة: أي بمقدار النفقة.
فإذا أخذنا الركوب مثلاً: فنقول: إذا أنفقت فلتركب بما يساوي أجرته مائة.
فإن زادت النفقة على الركوب رجع المرتهن على الراهن.
وإن زاد الركوب على النفقة رجع الراهن على المرتهن.
هذا معنى قول الحنابلة: (بنفقته).
وهذه المسألة من المفردات انفرد بها الحنابلة عن مذهب الأئمة الثلاثة.
استدل الحنابلة:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الرهن يركب بنفقته ويشرب بنفقته) وعلى الذي يركب ويشرب النفقة.
وهذا الحديث صحيح ثابت.
والإمام أحمد - رحمه الله - أخذ بهذا الحديث الثابت واستدل به كما هو شأنه - رحمه الله - الاستدلال بالأحاديث الصحيحة ولو خالف الجمهور.
= القول الثاني: للجماهير. أنه لا يجوز أن ينتفع بالرهن مطلقاً ولو أنفق.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن الرهن ملك للراهن فلا نمكن المرتهن من الانتفاع بملك غيره.
واستدلوا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (له غنمه وعليه غرمه). والمقصود بالحديث: الرهن.
والجواب على هذا الحديث: أن هذا الحديث وهذا التعليل صحيح ونحن نوافق عليه لكنه عام ودليلنا خاص والخاص دائماً مقدم العام.
فهذه أدلة صحيحة إلا في هذه المسألة التي فيها نص صريح ظاهر معناه لا إشكال فيه.
(4/117)
________________________________________
ولهذا نحن نقول أجاد الحنابلة في هذه المسألة ووفقوا إلى اتباع النص الصحيح إن شاء الله وقولهم هو الراجح.
ـ القسم الثاني: الحيوان الذي لا يركب ولا يحلب. مثل: الغزال.
- الحنابلة مثلوا بالعبد والأمة لأن الإنسان عند الفقهاء هو حيوان ناطق فلا يجوز أن تقول للإنسان حيوان مطلقاً لكن يجوز أن تقول حيوان ناطق.
فإن قلت حيوان مطلقاً وجب عليك تعزير وإن قلت حيوان ناطق فلا شيء عليك لأن كلامك صحيح.
لكن يوجد هناك مثال ظهر لي: وهو: ذكر الماعز. يركب؟ لا. يحلب؟ لا. يؤكل؟ هذا لا يعنينا وكما قلت ربما يمثل بالغزال.
فهذا القسم: = عند الحنابلة: ( .... غير واضح) لا ينتفع منه مطلقاً.
والأدلة التي استدل بها على أنه لا ينتفع به مطلقاً هي الأدلة السابقة التي استدل بها أصحاب القول الثاني.
ـ القسم الأخير: ما عدا الحيوان مما ليس له مؤونة كالبيوت والأراضي والسيارات ونحوها. فهذه أيضاً لا يجوز للمرتهن أن ينتفع منها بأي شيء.
وأيضاً: الدليل على ذلك: الأدلة السابقة.
من الخلاف السابق يتضح لنا أن الحنابلة يخصصون الحكم فقط بما يركب ويحلب فقط خاص جداً.
أي عين لا تركب ولا تحلب فإن الحكم لا يتناولها - صرحوا بهذا أنه حكم خاص بهذه الأعيان التي تركب أو تحلب.
ويظهر لي أنا والله أعلم بعد تأمل هذه المسألة وتأمل النص الوارد فيها أن الحكم ينبغي أن يربط بالنفقة فكل ما تنفق عليه يجوز لك أن تنتفع به وكل ما لا تنفق عليه لا يجوز أن تنتفع به.
هذا ما يظهر لي تأمل النص لأن النص علل بالنفقة.
فلو قيل بهذا القول فهو في الحقيقة متوجه جداً وأما ذكر الركوب والحلب في الحديث فلأنها غالب الانتفاعات في الهد النبوي. ولأن ما عداها غالباً لا يحتاج إلى نفقة. لكن إذا تصورنا أن هناك عين مرهونة تحتاج إلى نفقو فإنه للمرتهن إذا أنفق أن ينتفع وهذا يتوافق مع تعليل النص.
- ثم قال - رحمه الله -:
- بلا إذن.
يعني: أن هذا الحكم السابق وهو انتفاع المرتهن بالرهن المركوب والمحلوب يجوز بلا إذن ومقصودهم بلا إذن أي سواء تمكن المرتهن من أخذ الإذن من الراهن أو لم يتمكن.
وسواء تمكن من أخذ النفقة أو لم يتمكن.
وسواء بذل الراهن النفقة أو لم يبذل النفقة.
(4/118)
________________________________________
في جميع الصور للمرتهن أن ينتفع من الرهن الذي يركب ويحلب بعد أن يدفع نفقته فهذا هون معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (بلا إذن).
- قال - رحمه الله -:
- وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه: لم يرجع.
إذا أنفق المرتهن على الراهن بغير إذن الراهن فإنه لا يرجع. ويكون من المتبرعين.
والمسألة تنقسم إلى أقسام:
ـ القسم الأول: أن ينفق بنية الرجوع مع استئذان الراهن. فهذا لا إشكال أنه يرجع.
ـ القسم الثاني: أن ينفق بغير نية الرجوع يعني: بنية التبرع. فهذا لا إشكال أنه لا يرجع.
ـ القسم الثالث: وهو مسألتنا التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -:أن يتوي الرجوع ولكن لا يستأذن.
= فالحنابلة يرون أنه في هذه الصورة الثالثة أنه لا يرجع على الراهن بما أنفق.
- لأنه لم يستأذن وهو بذلك فرط وإذا فرط فهو يتحمل تبعت هذا التفريط. وكا ينبغي عليه أن يستأذن قبل أن ينفق على هذه العين المرهونة.
= القول الثاني: في هذه المسألة/ أن له أن يرجع إذا نوى الرجوع ولو لم يستأذن من الراهن إذا لم يمكنه الاستئذان. وكذلك إذا أمكنه. مطلقاً. بخلاف قول المؤلف - رحمه الله - إذا لم يمكنه.
واستدل أصحاب هذا القول:
- بأن الله تعالى أمر بإيتاء المرضعة أجرها ولم يشترط إذن المرتضع يعني: والد الطفل. بل أمر تعالى بأنه إذا حصل الرضاع حصلت الأجرة ولم يتطرق لقضية الإذن. ... هذا من الكتاب.
واستدلوا من الأثر:
- بأن جماعة من التجار في عهد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - اشتروا جماعة من الأسارى فأمر أمير المؤمنين بأن يفك الأسارى وأن يعطى التجار حقوقهم وأموالهم.
ففي هذه الصورة لم يستأذن التجار ومع ذلك رد أمير المؤمنين إليهم ما أنفقوه.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام وابن القيم وقعدوا لهذه المسائل جميعاً قاعدة واحدة وهي: (أن كل من أدى عن غيره واجباً جاز له الرجوع).ىفهي قاعدة مريحة لطالب العلم.
والنفقة هنا واجبة لأنه يجب أن يحافظ على حياة المنفق عليه. وكذلك افتكاك الأسير واجب على المسلم - واجب وجوباً متحتماً.
فإذا فك أسيراً فإنه له أن يرجع على الأسير بما افتكه به لأنه أدى عن غيره واجباً. قاعدة.
المهم أن كل كل من أدى عن غيره واجباً فله أن يرجع عليه به.
(4/119)
________________________________________
المؤلف - رحمه الله - يقول: (بغير إذن الراهن مع إمكانه). ومفهوم هذه العبارة: وهي: (مع إمكانه) صرح به في العبارة الثانية:
- بقوله - رحمه الله -:
- وإن تعذر: رجع ولو لم يستأذن الحاكم.
(وإن تعذر) يعني وإن لم يمكن أن يستأذن (رجع ولو لم يستأذن الحاكم).
إذا لم يمكن للمرتهن أن يسأذن من الراهن فحينئذ له أن يرجع على الراهن عند الحنابلة أيضاً: لأنه لم يتمكن من الرجوع.
وله أن يرجع (ولو لم يستأذن الحاكم): لأنه عمل عملاً فيه إرفاق بالراهن فليس من العدل منعه من النفقة.
وأما إذا لم يتمكن من استئذان الراهن ولكنه استأذن الحاكم فله الرجوع بالإجماع.
إذاً: الخلاف فيما إذا لم يستأذن الحاكم.
- قال - رحمه الله -:
- وكذا وديعة ودواب مستأجرة هرب ربها.
يعني: وكذا إذا أنفق على وديعة أو على دواب مستأجرة هرب ربها فله الرجوع.
- لأنه إذا هرب ربها فلن يتمكن من الاستئذان. فله أن يرجع بما أنفق كالمسألة السابقة تماماً.
فإن استأذن من الحاكم رجع بالإجماع وإن لم يستأذن رجع عند الحنابلة وهو القول الصحيح.
- قال - رحمه الله -:
- ولو خرب الرهن فعمره بلا إذن: رجع بآلته فقط.
معنى كلام المؤلف - رحمه الله -: أن المرتهن إذا قام بإلاح الرهن وعمارة الرهن بلا إذن فإنه لا يرجع على الراهن مطلقاً. وهذا رواية واحدة عن الإمام أحمد لم يختلفوا عنه في هذا الحكم.
لماذا؟ - لأن عمارة الرهن من جهة لا تجب على الراهن ومن جهة أخرى ليست من النفقات الواجبة لأن الرهن لو بقي بلا عمارة لن يهلك كما في الحيوانات.
ونحن نقول أن الإنسان يتحمل عن غيره ما أداه إذا كان واجباً وهنا هذا ليس من الواجبات.
ولذلك نقول: ليس له أن يرجع على الراهن بقيمة عمارة الرهن لأن هذا العمل ليس بواجب على الرهن.
= والقول الثاني: أن له الرجوع مطلقاً.
- لأن عمارة الرهن من مصالح الرهن ومما يزيد من الإستيثاق من أداء الدين. ب
= والقول الثالث: أنه يرجع إذا كان ترك الرهن بلا عمارة ينقص ماليته عن وفاء الدين.
(4/120)
________________________________________
فإذا خرب الرهن وصارت قيمته بعد الخراب خمسين ألف ريال والدين مائة ألف ريال. فعلى هذا القول للمرتهن أن يعمر هذا الرهن إلى أن تبلغ قيمته مائة ألف ريال حسب الدين المذكور في المثال وله أن يرجع بما قام به على الراهن في هذه الصورة فقط.
وهذا القول مال إليه الحافظ بن رجب وأيضاً قواه وجوده المرداوي في الإنصاف وهو كما ترى من القوة بمكان.
قول قوي ووجيه جداً.
فنحن نسمح للمرتهن أن يعمر (ال .. ) في هذه الصورة فقط.
لكن في الحقيقة يجب فيما يبدو لي في مسألة تعمير الرهن أن يستأذن الحاكم وأن يكون هذا التعمير بإشراف الحاكم.
لماذا؟ - لأن التعمير يتفاوت تفاوتاً كبيراً من حيث مواد البناء والأيدي العاملة وقيمة هذه الأشياء فربما يحصل نزاع كبير بين المرتهن والراهن في كيفية تعمير الرهن.
فالواجب أن يكون هذا تحت مظلة القاضي حتى يحكم بحكم متوسط مناسب لا فيه شطط على الراهن ولا نقص بالنسبة للمرتهن.
قوله - رحمه الله -: (رجع بآلته فقط) يعني رجع بأعيان آلته فقط كالخشب والحديد الذي وضعه في هذا التعمير. أما ما عداه من المواد كالطين والبلوك والاسمنت والماء فإنه لا يرجع بها.
هذا على مذهب الحنابلة.
إذاً الحنابلة لا يرجع مطلقاً إلا بهذه الأشياء.
وعلى القول الثالث يرجع بما صرف إذا تحقق الشرط الذي ذكرناه في القول الثالث.
أما القول الثاني فهو ضعيف جداً. لأنه لا معنى لتسليط المرتهن على بناء الرهن وتكليف الراهن أموال ونفقات البناء وكل ذلك ليس له علاقة بالاستيثاق من الدين.

وبهذا انتهينا من باب الرهن وننتقل بعون إلى باب الضمان.
باب الضمان
- قال - رحمه الله -:
- باب الضمان.
الضمان مشتق في لغة العرب من الضم. لأن ذمة الضامن تضم إلى ذمة المضمون عنه في الوفاء بالدين.
وقيل مشتق من التضمين. لأن الدين ضمن في ذمة الضامن.
وأما في الاصطلاح: فهو التزام جائز التصرف ما وجب على غيره في ذمته.
مع بقائه في ذمة المضمون عنه. هذه عبارة ذكرها بعضهم وهي توضح وإن كانت مفهومة. من المعلوم أن الدين لم ينتقل من ذمة إلى ذمة وإنما اشتركت ذمتان في تحمله.
(4/121)
________________________________________
إذاً: عرفنا الآن معنى الضمان. الضمان هو: أن يتحمل الإنسان في ذمته ما على غيره من المال وتصبح ذمة الضامن والمضمون عنه مشغولة بالدين.
والضمان مشروع ولله الحمد بالكتاب والسنة والإجماع وحاجة الناس إليه ماسة.
ـ أما الكتاب فقوله: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم). والزعيم هو الغارم كما قال ابن عباس.
ـ وأما من السنة فما صح في البخاري وله ألفاظ في السنن والمسانيد أن رجلاً مات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه وكفنوه وأتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه فقام ليصلي عليه فلما هم بالصلاة قال هل عليه من دين قالوا: نعم. قال - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على صاحبكم. فقام أبو قتادة وقال: الدين علي يا رسول الله. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى. وله ألفاظ كثيرة في السنة. لكن هذا اللفظ الذي ذكرت هو أقرب الألفاز إلى لفظ الإمام البخاري إذ ليس فيه زيادات وإنما فيه فقط أن أبا قتادة تحمل الدين في ذمته.
ـ وأما الإجماع فأجمعوا في الجملة على مشروعية الضمان.
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- لا يصح إلاّ من جائز التصرف.
يعني: الضمان من العقود التي لا تصح إلا من جائز التصرف.
وعلة ذلك:
- أنه من جملة التبرعات المالية والتبرعات المالية لا تصح إلا من جائز التصرف.
ولهذا نقول ليس لغير المكلف أن يضمن ديناً لأحد مطلقاً وضمانه باطل.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ولرب الحق: مطالبة من شاء منهما في الحياة.
(لرب الحق) يعني: الدائن. أن يطالب الضامن أو المضمون عنه. هو بالخيار ويستطيع أن يطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه. واستدل الحنابلة على هذا الحكم:
- بحديث وتعليل.
ـ أما الحديث: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الزعيم غارم) هذا الحديث إسناده جيد إن شاء الله.
ـ وأما التعليل فقالوا: أن حقيقة الضمان إشغال ذمة الضامن والمضمون عنه بالدين وإذا كانت ذمته مشغولة بالدين جازت مطالبته.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه.
واستدلوا على هذا:
(4/122)
________________________________________
- بأن المقصود من الضمان لا إشغال ذمة الضمان في الحقيقة وإنما توثقة الدين. وإذا كان المقصود توثقة الدين فإنه بناء على ذلك لا يجوز أن يطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه.
واستدلوا على هذا أيضاً: - بأن الضامن محسن ومتبرع وليس من المناسب أن نجازي المحسن بمطالبته وإشغاله.
وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله ومال إليه ابن القيم وهو كما ترى قوي ووجيه. فلا يجوز للدائن أن يطالب - على هذا القول - يحرم عليه أن يطالب الضامن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه.
وأما عند الحنابلة فله أن يطالب من شاء منهما.
ومن المعلوم الآن أن عمل الناس على عدم مطالبة الضامن إذا أمكنه أن يطالب المضمون عنه - معلوم هذا - كما أنه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أن لا يطالب الضامن المتبرع المحسن مع إمكانية مطالبة المضمون عنه.
- قال - رحمه الله -:
- والموت.
يعني: أنه يجوز أن يطال بالدين في الحياة وبعد الممات وله أن يطالب الضامن والمضمون عنه.
والمضمون عنه هو: المدين الأصلي.
واستدلوا على هذا: - بالأدلة السابقة.
= والقول الثاني: أن الضامن إذا ضمن ميتاً فإن الدائن ليس له أن يطالب إلا الحي دون الميت - يعني: إلا الضامن دون المضون عنه. ومن المعلوم أن المقصود بمطالبة الميت يعني مطالبته في التركة.
واستدلوا على هذا:
- بأنه في مسند الإمام أحمد في ألفاظ حديث أبي قتادة أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (وبرئ منهما). يعني: الميت.
فقالوا: إذا برئ الميت فإن البرئ لا يجوز أن يطالب.
وفي الحقيقة لم أجد وقتاً لمراجعة إسناد الزيادة التي في مسند الإمام أحمد - رحمه الله - وإن كان يغلب على ظني أنها ضعيفة.
والسبب في ذلك: أن هذه اللفظة تحمل حكماً فقهياً مهماً والغالب أن البخاري لا يدع الألفاظ المهمة مع صحتها وإنما يدعها: إما لأنها شاذة أو منكرة.
لكن هذا القدر الذي ذكرت لا يكفي لتضعيف الحديث لكنه إشارة وعلامة وقرينة مع البحث في إسناده ورجاله.
على كل حال لم أجد وقتاً لمراجعة هذه اللفظة ولكن يغلب على ظني أنها ضعيفة.
(4/123)
________________________________________
ولذلك أنا أرى أن الراجح القول الأول وهو مذهب الحنابلة وأنه للضامن أن يطالب من التركة بما سدده عن الميت وهذا من مكافأته على إحسانه ولا نقول للدائن ليس له أن يطالب أصحاب التركة بل نقول له أن يطالب أصحاب التركة وأما الضامن فهو ضمن الدين عن الميت إما بتحقيق مصلحة معينة مثل قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لغيرها من المصالح.
المهم أنه محسن ولا نجعل إحسانه سبباً في انتقال الدين من ذمة المدين إلى ذمة الضامن بسبب أنه ضمن رجلاً ميتاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن برئت ذمة المضمون عنه: برئ ذمة الضامن.
هذا الحكم بالإجماع. إذا برئت ذمة المضمون عنه وهو المدين الأصلي برئت ذمة الضامن بلا إشكال.
وأما التعليل الفقهي لهذا فهو:
- أن الضامن فرع عن أصل فإذا برئ الأصل أيضاً برئ الفرع.
وهذا صحيح ولا يستقل الفرع بحكم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- لا عكسه.
فإذا برئت ذمة الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه.
لماذا؟
- لأنه إذا سقط الفرع فإنه لا يلزم من ذلك سقوط الأصل. هذا من حيث التعليل.
- ولأن ذمة المدين ما زالت مشغولة لأن الدين لم يقض.
وأما لاصورة براءة الضامن/ فهي الصورة القريبة: أن يقول الدائن سامحتك في الضمان وأسقطته عنك. لأن الضمان من حقوق: الدائن. والإنسان له أن يسقط حقه. فإذا أسقط حقه عن الضامن فيبقى الدين في ذمة المدين الذي هو المضمون عنه.
وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (لا عكسه).

- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه.
- وهذا مذهب الجماهير: فللإنسان أن يضمن شخصاً لا يعرفه مطلقاً ولا يعرف أمانته ولا سداده ولا يعرف عنه أي شيء. وضمانه صحيح ومعتبر شرعاً وتصبح ذمته مشغولة بالدين كما أن ذمة المدين مشغولة بالدين.
واستدل الجمهور على هذا:
- بأنه في حديث أبي قتادة لم يذكر أنه - رضي الله عنه - كان يعرف الميت لأن الميت جاء ملفوفاً ولم يذكر في الحديث أنه - رضي الله عنه - كان يعرف هذا الميت. وضمنه وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمانه.
= والقول الثاني: أنه لا بد من معرفة المضمون عنه - يعني: لابد أن يعرف الضامن الضمون عنه ليرى إن كان أهلاً للضمان أو لا.
(4/124)
________________________________________
أي القولين أليق بحقيقة الضمان؟
ـ القول: ( .. الأول) لأنه تبرع. لأن هذا العقد من عقود التبرعات وطبيعة عقود التبرعات لا يلزم فيها معرفة المتبرَعْ له. لأنه تبرع. فإذاً: قول الجماهير في هذه المسألة هو الصحيح.
* * مسألة/ لا يشترط رضا المضمون عنه بالإجماع.
فإذا قال شخص: أنا ضمنت فلان فليس له أن يقول: لا أسمح لك أن تضمن لي. فليس له ذلك: بالإجماع: لأن في هذا الضمان توثقة دين بلا مضرة ولا عتب على المدين.
وهنا لا نجد الفقهاء يذكرون مسألة: المنة. لم يذكروا مسألة المنة. إما لأنهم لا يرون أن في الضمان منة أو لم يتبين لي لماذا لم يذكروا مسألة المنة في هذه المسألة - في مسألة أنه لا يشترط رضا المضمون عنه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا له.
يعني: ولا يشترط معرفة المضمون له.
وحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - في الدلالة على عدم معرفة المضمون له أقوى أو في الدلالة على عدم معرفة المضمون عنه؟ ـ يظهر لي: له. لأنه لم يذكر من هو الدائن مطلقاًَ في الحديث بينما ربما يكون أبو قتادة يعرف هذا الميت باعتبار أن المدينة صغيرة والأموات فيها يعرفون لكن أن لا يعرف من المضمون له فهذا أقوى في الحديث.
وهذا أيضاً مذهب الجماهير.
= والقول الثاني: أن معرفة المضمون له شرط.
وتعليل ذلك: - أنه لن يتمكن من الوفاء إلا إذا عرف المضمون له.
والراجح القول الأول. فنقول: إذا أجري عقد الضمان وهو لا يعرف الآن المضمون له فالعقد صحيح. ثم بعد ذلك يبحث عن المضمون له. لكن بالعقد عند إنشائه صحيح ولازم وتام وأصبحت ذمته مشغولة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- بل رضى الضامن.
الضامن متبرع ونحن نقول أنه لا يمكن أن نأخذ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه فلابد لنأخذ الضمان أو لنوجب الضمان على شخص أن يرضى.
وأنتم تعلمون أن الضمان من العقود التي تؤول للمال. ما معنى تؤول للمال؟ يعني: إذا لم يتمكن الضمون عنه من السداد من الذي سيسدد؟ الضامن.
فإذاً: هو يؤول لمال. فلابد من رضا الضامن وهذا أيضاً محل إجماع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويصح ضمان المجهول: إذا آل إلى العلم.
وهنا نرى أن الحنابلة توسعوا في الضمان: لا يعرف الضمون عنه ولا المضمون له ولا المضمون.
(4/125)
________________________________________
إذاً: لا يشترط أن يكون المضمون معلوماً بل يجوز أن تضمن ديناً مجهولاً.
واستدلوا على هذا - الجماهير:
- بالآية: (ولمن جاء به حمل بعير) وحمل البعير مجهول. ووجه الجهالة: أن حمل البعير يختلف باختلاف البعير. فبعضها تحمل حملاً كثيراً وبعضها تحمل حملاً قليلاً.
إذاً: حمل البعير يختلف باختلاف البعير والإبل تختلف اختلافاً كثيراً.
فدلت الآية على أنه لا يشترط أن يكون معلوماً.
لكن اشترط الحنابلة: أن يؤول إلى علم. بأن يسأل عن قدر الدين بعد ذلك. بأن يتمكن الضامن من معرفة قدر الدين. أما أن يضمن ديناً ((لن) (لم)) يتمكن من معرفته فهذا لا يجوز وهو في صميم الغرر والجهالة.
لكن إذا تمكن بعد ذلك من معرفته فهو جائز.
ومن المعلوم أن غالب الديون يتمكن الإنسان من معرفتها بعد إجراء عقد الضمان.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز ضمان المجهول مطلقاً.
- لأن ضمان المجهول فيه غرر وجهالة ويفضي إلى النزاع والاختلاف إذا تبين أن الدين قيمته مرتفعة.
- ولأن الضامن قد يضمن ديناً هو لا يستطيع سداده. - الضامن نفسه لا يستطيع سداده.
والراجح: في الحقيقة فيه إشكال.
أصحاب القول الأول معهم الآية والآية ظاهرة في الجهالة. فعلاً حمل البعير غير معلوم مطلقاً ولا نقول: إن جهالته يسيرة لا سيما في القديم لأنه قد يحمل آصع كثيرة وقد يحمل آصع قليلة.
من جهة أخرى من حيث الواقع العملي: إقرار الضمان بالمجهولات أمر يفضي غالباً إلى الشقاق والنزاع الكثير.
ولكن ولله الحمد قد لا نحتاج إلى الترجيح كثيراً في هذه المسألة لأنه قلَّ أن يضمن شخص ديناً لا يعرفه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والعواري والمغصوب والمقبوض بسوم.
هذه الأعيان الثلاثة يجمعها وصف واحد وهي التي يسميها الفقهاء الأعيان المضمونة.
ولذلك كان من الأنسب فيما أرى أن يقول المؤلف - رحمه الله -: (ويضح ضمان الأعيان المضمونة) حتى يشمل ما ذكره وغيره.
فإذا هذه الأشياء تسمى الأعيان المضمونة ويصح أن يضمن الإنسان الأعيان المضمونة.
فإذا ضمن الأعيان المضمونة فهو بالخيار: إما أن يحضر العين أو يحضر قيمة العين إذا تلفت.
لكن نحتاج إلى أن نقف مع الأعيان المضمونة التي مثل بها المؤلف - رحمه الله -:
(4/126)
________________________________________
المثال الأول/ (العواري). العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة. ولهذا صح أن يمثل بها المؤلف. وصح أن تسمى من الأعيان المضمونة.
وستأتينا هذه المسألة وهي: هل العارية مضمونة مطلقاً أو بالتعدي والتفريط؟ في باب العارية وسيخصص المؤلف - رحمه الله - باباً كاملاً لأحكام العارية.
/ وقوله - رحمه الله -: (والمغصوب). المغصوب: مضمون مطلقاً. وسيخصص المؤلف - رحمه الله - باباً للغصب وهو من أهم الكتب لا سيما في وقتنا هذا - سيأتينا الكلام لماذا هو مهم؟
المهم أن المغصوب مضمون مطلقاً: وهذا بالإجماع. وستأتينا المسألة في باب الغصب.
/ وقوله - رحمه الله -: (والمقبوض بسوم) المقبوض بسوم أطلق المؤلف - رحمه الله - أنه من الأعيان المضمونة وهو في الحقيقة فيه تفصيل حتى عند الحنابلة. فنقول: المقبوض بسوم له ثلاثة صور:
ـ الصورة الأولى: المقبوض بعد السوم والقطع بالثمن.
يعني: ساومه وانتهوا إلى ثمن معين اتفقوا عليه. فإذا قبضه على هذا الأساس ليريه أهله أو ليريه من أراد ممن سيستفيد فهو مضمون عند الحنابلة.
ـ الصورة الثانية: أن يقبضه بعد السوم بلا قطع للثمن - يعني: ساومه ولم ينتهوا إلى ثمن معين يتفقوا عليه.
فقال: سأقبضه - لنفس الشيء - لعرضه على أهله أو على من سيشاوره في السلعة.
في هذه الصورة أيضاً هو مضمون عند الحنابلة.
ومعنى أنه: (مضمون) يعني: انه من الأعيان المضمونة والأعيان المضمونة هي التي تضمن ولو بلا تعد ولا تفريط.
ـ الصورة الثالثة: أن يقبضه بلا سوم ولا قطع.
يعني: بمجرد ما رأى السلعة وقبل أن يساومه بالثمن طلب منه أن يقبضها ليريها أهله أو من يريد أن يشاوره.
ففي الصورة الثالثة: لا ضمان حتى عند الحنابلة.
= والقول الثاني: في المقبوض بسوم في صوره الثلاث أنه لا يضمن مطلقاً.
- أولاً: لأن هذه السلعة ما زالت في ملك البائع ولو انقطع الثمن ما دام العقد لم يتم.
- ثانياً: لأن يد القابض على وجه السوم يد أمانة فهو مؤتمن على هذه العين. والمؤتمن لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.
بناء على هذا: إذا أخذ الإنسان سلعة داخل المحل ليقلبها وينظر فيها وسقطت من يده وانكسرت. فهل هي مضمونة عند الحنابلة؟
غير مضمونة.
(4/127)
________________________________________
لماذا؟ - لأنه لم يحصل لا سوم ولا قطع.
أما إذا أخذها - وهذه الصورة تحصل كثيراً ويظن كثير من الناس أنها من ضمان المشتري لأنها سقطت من يده وهي في الحقيقة ليست من ضمان المشتري إلا إذا فرط أو تعدى.
إذا دخلت أنت وأولادك إلى محل فيه زجاج فقام أحد الأطفال بكسر أحد الزجاجات فهل هي من ضمان البائع أو المشتري؟
- المشتري. لماذا؟ لأنه فرط.
كذلك في الصورة الأولى: إذا أخذ الإنسان شيئاً ثميناً وصار يعبث به ويحركه يميناً وشمالاً كما يفعل بعض السفهاء ويلقيه في الهواء ثم يقبضه ثم سقط فهو من ضمان من؟
فهو من ضمان هذا المتلاعب.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وعهدة المبيع.
(عهدة المبيع) يقصد بها: ضمان الثمن للبائع أو المشتري.
((الأذان)).
(عهدة المبيع) هو ضمان الثمن للبائع وللمشتري. أو للبائع أو المشتري.
ـ فأما ضمانه للبائع: ففيما إذا تبين أن السلعة معيبة. فحينئذ يضمن الثمن للمشتري فيما إذا تبين أن السلعة معيبة.
ـ وأما ضمان الثمن للبائع فهو فيما إذا لم يقبضه أو قبضه وتبين أنه مغشوش فإذاً عهدة المبيع تتصور بالنسبة للبائع وأيضاً بالنسبة للمشتري وهي تتعلق كما قال الفقهاء بالثمن.

- قال - رحمه الله -:
- لا ضمان الأمانات بل التعدي فيها.
أي: لا يجوز ولا يصح ضمان الأمانات. بل يضمن التعدي فيها.
فلا يجوز ولا يصح أن نضمن الأمانات.
- لأن الأمانة في الوضع الشرعي غير مضمونة على صاحبها الأصلي وهو الذي وضع يده عليها فكيف تكون مضمونة للضامن الفرعي إذا كانت ليست مضمونة على الأصل فكيف تكون مضمونة على الفرع.
ولذلك نقول: لا يصح الضمان ولا يلزم منه أن يؤدي الامن شيئاً للمضمون عنه لأنه فاسد شرعاً.
يقول - رحمه الله -: (بل التعدي) يعني: بل يجوز أن يضمن التعدي في الأمانات.
فإذا قال: أنا أضمن فلان أنه إن تعدى في هذه الأمانة فأنا ضامن قيمة هذا الذي تعدى عليه.
فهذا صحيح لأن التعدي في الأمانات يوجب انشغال الذمة بقيمة الذي تعدى عليه فصح حينئذ أن يضمن.
إذاً: الأمانات لا يجوز أن تضمن هي بنفسها لكن يضمن التعدي.
فصل
- قال - رحمه الله -:
- (فصل) وتصح الكفالة.
(4/128)
________________________________________
تميز فقهاء الحنابلة بأنهم فرقوا بين الكفالة والضمان وأما في غالب المذاهب الفقهية فالضمان والكفالة شيء واحد لكن الحنابلة فرقوا بينهما.
وجعلوا الضمان يتعلق بالذمة المالية والكفالة تتعلق ببدن المدين.
لذلك نحن نقول تعريف الكفالة عند الحنابلة: هي التزام الرشيد إحضار بدن من عليه دين أو الأعيان المضمونة.
يعني: يلتزم إحضار بدن من عليه دين أو إحضار الأعيان المضمونة.
وهو مشروع وحكي فيه الإجماع.
ودليل المشروعية:
- أن حاجة الناس تمس إليه فإن كثيراً من الناس لا يريد أن يضمن ضماناً مالياً لكن تطيب نفسه بالضمان البدني. فلما صارت حاجة الناس مشتدة إليه أجازه الشارع وإذن به.
ولا يوجد فيما أعلم دليل صحيح يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة لكن جميع أدلة الضمان استدل بها الفقهاء على مشروعية الكفالة من حيث أن كلاً منهما عقد توثيق.
ذاك بالمال وهذا بالبدن.

- يقول - رحمه الله -:
- بكل عين مضمونة.
يعني: يجوز الكفالة بكل عين مضمونة.
ونحن الآن تقدم معنى قريباً الأعيان المضمونة. وما هي؟ وذكر بعض الأمثلة لها.
لكن هل مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: الأعيان (المضمونة) أو بعبارة: (بكل عين مضمونة) يعني: ببدن كل من يده على العين المضمونة أو بالعين الضمونة نفسها.
هذا فيه خلاف عند الحنابلة:
= فصاحب منتهى الإرادات - كما ترون: يرى أن صواب العبارة: (ببدن من يده على العين المضمونة) وأن الكفالة لا تتعلق بنفس العين المضمونة وإنما تتعلق بالبدن.
= والقول الثاني: أن عبارة المؤلف - رحمه الله - صحيحة وأن الكفالة ترد على بدن المدين وعلى الأعيان المضمونة. فإن استطاع أن يأتي بالعين المضمونة أو يأتي بثمنها إذا تلفت. وبهذا القول الثاني نعلم أن مفهوم الكفالة قربت جداً من مفهوم الضمان.
وإلى هذا القول ذهب عدد من فقهاء الحنابلة وهو أن عبارة المؤلف صحيحة وأنه عليه ان يحضر الأعيان المضمونة نفسها.
وهذا القول أرجح فيما أرى.
وسيأتينا إن شاء الله سبب الرجحان في الدرس القادم والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد ...
(4/129)
________________________________________
الدرس: (25) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنا في الدرس السابق أخذنا بداية الفصل المتعلق بالكفالة وتقدم معنا تعريف الكفالة وأنها التزام رشيد إحضار بدن من عليه دين أو الأعيان المضمونة. وبينا أيضاً مشروعية الكفالة.
- وتوقفنا عند قول المؤلف - رحمه الله -:
- بكل عين مضمونة.
وقلت إن الشارح - رحمه الله - الشيخ منصور أدخل على عبارة الماتن كلمة: إحضار بدن من بيده الأعيان الضمونة.
وعلل ذلك:
- بأن الواجب هو إحضار بدن من عليه الأعيان الضمونة لا ذات الأعيان المضمونة وأنه يحكم بناء على هذا على عبارة المؤلف - رحمه الله - بالقصور.
وقلت إن القول الثاني: أن عبارة المؤلف صحيحة ولا قصور فيها وأن الكفيل عليه أن يحضر الأعيان المضمونة ذاتها وصرح بهذا المعنى الثاني وهو أنه يحضر ذات الأعيان المضمونة لا بدن من هي بيده عدد من الحنابلة.
وقال بعض الحنابلة مستدلاً لهذا القول:
- أن إحضار الأعيان الضمونة أولى بالجواز والمشروعية من إحضار بدن من عليه دين.
وعلل ذلك بقوله: أن إحضار بدن من عليه دين هو ذريعة للوصول للحق يعني: وسيلة - بينما الكفالة بذات الأعيان المضمونة هو في الحقيقة إحضار لذات الحق وإحضار المقصود أولى بالجواز من إحضار ذريعة المقصود.
وهذا القول الثاني وهو أن قول المؤلف - رحمه الله -:: (وتصح الكفالة بكل عين مضمونة) أنه على ظاهره وأنه يكفل إحضار ذوات الأعيان المضمونة.
هذا القول هو الصحيح. وكما قلت لك صرح به عدد من الحنابلة.
فإن استطاع أن يحضر الأعيان المضمونة فهذا المطلوب وإلا فعليه أن يحضر قيمة هذه الأعيان المضمونة.
وبذلك عرفنا أن عبارة المؤلف - رحمه الله - إن شاء الله صحيحة ولا غبار عليها وهي أقرب إلى التعليل الفقهي من حملها على البدن.
وسيأتينا في نفس هذا الباب من المسائل ما يؤكد أن المعنى المقصود هو إحضار الأعيان المضمونة لابدن من بيده الأعيان المضمونة.
- يقول - رحمه الله -:
- وببدن من عليه دين.
(4/130)
________________________________________
يعني: وتصح وتشرع الكفالة بإحضار بدن من عليه دين.
- لأن الدين حق مالي واجب فجازت الكفالة على إحضار بدن من هو عليه. قياساً على الضمان.
وتقدم معنا أن كثيراً من العلماء يستدلون بأدلة الضمان على مسئل الكفالة لأن المعنى واحد إلا أن هذا يضمن المال وهذا يضمن البدن.
وإحضار بدن من عليه الحق هو المقصود الأصلي للكفالة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- لا حد.
أي: لا تصلح ولا تشرع الكفالة بإحضار بدن من عليه حد.
ـ سواء كان هذا الحد لله: كإقامة الحد على شارب الخمر.
ـ أو كانت حداً لحق الآدمي: كحد القذف.
الجميع لا يجوز الكفالة به.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا كفالة في حد.
وهذا الحديث حديث منكر وممن حكم بنكارته الإمام الحافظ البيهقي وهو كذلك فإن في إسناده رجلاً كثير المنكرات.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا قصاص.
يعني: ولا تصح الكفالة ببدن من عليه قصاص.
واستدل أيضاً الحنابلة على هذا الحكم:
- بأن الكفيل إذا تخلف من عليه القصاص لن يفي بما عليه فإن الحدود لا تقام إلا على من اقترف الجريمة ...
إذاً: لن ننتفع من كفالته بشيء جيث لن يقام الحد إلا على من تعدى حدود الله.
وإذا كانا لن ننتفع من الكفالة بشيء فهي لا تشرع.
= والقول الثاني: - في مسألة الحد والقصاص:
أنه يشرع الكفالة بالحد والقصاص مطلقاً. والغرض منها هو إحضار بدن من عليه الحد والقصاص.
= والقول الثالث: أن الكفالة تشرع في القصاص وفي الحد الذي هو حق الآدمي فقط دون الحد الذي هو لحق الله.
والأقرب إن شاء اله المذهب أنه لا تشرع الكفالة لا بحد ولا بقصاص.
- قال - رحمه الله -:
- ويعتبر رضى الكفيل.
يعني: ويشترط لصحة لكفالة أن يرضى الكفيل.
وهذا بالاتفاق.
- لأنه لا يلزم الإنسان حقاً إلا برضاه.
- ولأنه لا يمكن إلزام أحد بكفالة أحد وتحمل تبعت إحضار بدنه إلا وقد رضي بذلك.
ولوضوح هذه المسألة اتفقوا عليها.
- قال - رحمه الله -:
- لا مكفول به.
في هذه العبارة مسألتان:
ـ المسألة الأولى: أن بعض أهل العلم انتقد عبارة المؤلف: (لا مكفول به) وقال الكفول به هو الدين وصواب العبارة: (لا مكفول). يعني: لا يشترط رضى المكفول.
(4/131)
________________________________________
والصواب أن العبارة صحيحة ولم أقف على أحد من الحنابلة عبَّر بغير هذا التعبير فكلهم يعبر بالمكفول به. هذا من جهة.
من جهة أخرى: كلمة المكفول به: صحيحة. لأن المكفول به في الواقع في الكفالة هو بدن من عليه دين لا الدين نفسه.
إذاً: المكفول به: إذا تأملت فستجد أنه فعلاً هو البدن وهو المكفول.
فإذاً كلمة المكفول به: تساوي كلمة المكفول والمعنى صحيح التعبيرين. وبهذا التعبير عبر كل الحنابلة.
فهو تعبير صحيح من حيث النقل عن الحنابلة ومن حيث المعنى.
ـ المسألة الثانية: أنه لا يشترط رضى المكفول.
فإذا كفل شخص شخصاً عند آخر فالكفالة صحيحة ولو سخط المكفول.
واستدلوا على هذا:
- بالقياس على الضمان.
= والقول الثاني: أنه يشترط رضى المكفول فإن لم يرض لم تصح الكفالة.
واستدل أصحاب هذا القول على قوهم:
- بأن موضوع الكفالة إحضار بدن المكفول فإذا لم يرض المكفول لن يتمكن الكافل من إحضاره فإذا لم يحضره لم يحصل المقصود.
والصواب أنه لا يشترط رضاه ما دام الكافل رضي أن كفل مع علمه بعدم رضى المكفول وإلتزامه إحضاره فهذا شيء إليه وعليه إما أن يحضر المكفول أو إذا عجز - كما سيأتينا - يضمن الدين.
فما دام رضي بهذا الحكم فليس للمكفول حق أن يرضى أن يسخط.
- قال - رحمه الله -:
- فإن مات.
يعني: المكفول. قال في آخر العبارة: بريء الكفيل. ولن يلزمه بعد ذلك شيء لاضمان البدن ولا ضمان المال.
واستدل الحنابلة على هذا: - بأن المكفول لا يستطيع الحضور وحضوره متعذر فإذا سقط حضور الأصل فكيف بالفرع الذي يلوم بإحضار هذا الأصل الذي لا يستطيع الحضور. فالميت لا يمكن لأحد أن يلزمه بالحضور في مجلس الحكم أو الحضور لأداء الدين لأنه ميت. وإذا كان لا نلزم المكفول فكيف نلزم الكافل.
= والقول الثاني: التفصيل:
ـ إن كان الكافل توانى وتساهل إلى أن مات المكفول وجب عليه أن يلتزم الحق ولا يسقط ولا يبرأ.
ـ وإلا فإنه يبرأ.
= والقول الثالث: أن الكافل إذا مات المكفول لا يبرأ مطلقاً بل عايه أن يلتزم الحق.
(4/132)
________________________________________
وعللوا هذا: - بأن الدائن إنما رضي بأن يقرض هذا الشخص لوجود الكفيل فإذا مات الكفيل لا يذهب حق الدائن وإنما يلزم الكافل بأداء الحق لأن الدين بني عليه. يعني: لأن المقرض إنما أقرض بناء على وجود الكفيل.
وهذا القول الأخير هو الصحيح وممن اختاره من المحققين شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -. وهو قول عند التأمل تجد أنه قول قوي.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو تلفت العين بفعل اللَّه تعالى.
يقصد المؤلف - رحمه الله - بقوله: (تلفت العين) يعني: العين المضمونة.
فإذا تلفت العين المضمونة بفعل الله فحكم المسألة كحكم لو مات المكفول تماماً خلافاً وأدلة وترجيح.
وهذه هي المسألة التي قلت لك أنها تؤكد أن المؤلف - رحمه الله - أراد في صدر اباب الكفالة بذات الأعيان لا ببدن من عليه أعيان مضمونة. لأنه الآن هنا أوجب إحضار نفس العين إذا تلفت بغير فعل الله كما هو مفهوم العبارة فدلت هذه العبارة على أنه يريد ذات الأعيان المضمونة لا بدن من عليه ضمان الأعيان المضمونة. فهذا يؤكد صحة ما تقدم إن شاء الله.
وقوله - رحمه الله -: (أو تفلت العين بفعل الله) مفهوم العبارة أنها إذا تلفت فعل الآدمي فإن الكافل لا يبرأ. - لأنه إنما أقيم لمثل هذا. يعني طلب كافل لمثل هذا: حتى لا يذهب حق المكفول له.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو سلم نفسه: بريء الكفيل.
يعني: أو سلم المكفول نفسه للمكفول له فحينئذ يبرأ الكفيل.
- كما أنه لو سدد المدين الدين بريء الضامن فكذلك هنا لأن موضوع الكفالة هنا البدن فإذا سُلِّم بريء الكفيل.

وبهذا انتهى الفصل الخاص بالكفالة وننتقل إلى باب الحوالة.
باب الحوالة
- قال - رحمه الله -:
- باب الحوالة.
الحوالة: مشتقة في لغة العرب من النقل والتحويل. وهي في اصطلاح الفقهاء نقل الحق من ذمة إلى ذمة أخرى.
والحوالة مشروعة بالسنة والإجماع.
ـ أما السنة فما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع). وهذا الحديث صريح في الحوالة.
(4/133)
________________________________________
ودلت عليه الآثار فإن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل بالحوالة منهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -. وغيره من الصحابة. وإنما ذكرته لأنه من الخلفاء الراشدين.
وأما الإجماع فقد أجمعوا في الجملة على مشروعية الحوالة وإن اختلفوا في بعض الصور لكن في الجملة هي مشروعة بإجماع الفقهاء.
* * مسألة/ والصواب أن الحوالة ليست من بيع الدين بالدين وإنما هي من جنس استيفاء الحق فهي بذلك من عقود الإرفاق وليست من عقود المعاوضات.
والقول بأنها من البيوع قول ضعيف: يعني: من المعاوضات، بل هي من عقود الإرفاق إن شاء الله والمقصود منها استيفاء الحق فقط فليس موضوع الحوالة الربح ولا المعاوضة ولا الاستزادة إنما فقط استيفاء الحق.
وهذه القاعدة مهمة جداً لأنا سنحتاج إليها في كثير من مسائل الترجيح لأن الإنسان إذا أراد أن يرجح يحتاج أن يرجع إلى أصل ينطلق و [ ... ] منه في مسائل الفقه. فالأصل في هذا الباب هو كما قلت لكم أنه استفياء الحق.
- يقول - رحمه الله -:
- لا تصح.
مقصوده: لا تصح الحوالة إلى بثلاثة شروط، إن فقد شرط منها بطلت الحوالة.
وربما لو صرح الشيخ بهذا المعنى لكان أوضح فلو قال: لا تصح إلا بثلاثة شروط لكان أوضح.
- قال - رحمه الله -:
- إلاّ على دين مستقر.
هذا هو الشرط الأول: أن الحوالة لا تصح إلا على دين مستقر.
واستدلوا على هذا:
- بأن موضوع الحوالة نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فإذا لم يكن الدين ثابتاً في ذمة المحال عليه لم تصح الحوالة أن المحال عليه ربما أبطل الدين.
ومثلوا على هذا: بدين المكاتبة. فإن المكاتب له أن يبطل المكاتبة فلا يصح أن نحيل على دين المكاتبة.
ومثلوا على ذلك: أيضاً: بثمن المبيع في زمن الخيار فهذا أيضاً غير مستقر إذ ربما اختار الفسخ أحدهما أو كلاهما.
فإذاً: الدين المستقر هو الدين الذي لا يكون عرضة للسقوط بل هو ثابت وكل دين عرضة للسقوط فهو دين غير مستقر. وهذا الشرط صحيح. فلا يصح أن نحيل إلا على دين ثابت مستقر.
- يقول - رحمه الله -:
- ولا يعتبر استقرار المحال فيه.
(4/134)
________________________________________
يعني لا يعتبر أن يكون الدين المحال مستقراً. فإذا اشترى شخص من آخر سلعة بثمن معين واشترط الخيار فله أن يحيل بهذا الدين على دين آخر ثابت. (أن يحيل بثمن هذه السلعة التي هي في زمن الخيار على دين آخر مستقر).
لأن الدين المحال لا يشترط أن يكون مستقراً.
واستدلوا على هذا:
- أن المدين له أن يدفع هذا الدين ابتداء فله أن يحيل به.
ومعنى: (له أن يدفع هذا الدين ابتداء) أن هذا الثمن غير المستقر يملك المشتري أن يدفعه وإن كان في زمن الخيار.
فإذا كان يملك أن يدفعه في زمن الخيار فيملك أن يحيل به على دين آخر مستقر. وهذا أيضاً حكم صحيح.
ثم بدأ - رحمه الله - بالشرط الثاني:
- فقال - رحمه الله -:
- ويشترط: اتفاق الدينين.
يشترط اتفاق الدينين. ودليل ذلك في الجملة:
- أن موضوع الحوالة نقل الحق من ذمة إلى ذمة ولنقل هذا الحق من ذمة إلى ذمة لابد أن يتساوى الحقان في الصفات.
والمؤلف - رحمه الله - فصَّل في هذا الشرط:
- فقال - رحمه الله -:
- ويشترط اتفاق الدينين جنساً.
يشترط أن يكون جنس الدين المحال والمحال عليه: واحداً.
فلا يجوز أن نحيل بالذهب على الفضة.
ولا بالفضة على الذهب.
ولا بالقمح على الشعير.
وبالشعير على التمر.
وهكذا. يجب أن يكون الجنس متحداً.
دليل هذا الشرط:
- أنه إذا اختلف الجنس خرج عن كونه من عقود الإرفاق إلى عقود المعاوضات لأنه إذا اختلف الجنس لابد أن نراعي الثمن فصارت معاوضة ونحن نقول أن الحوالة من عقود الإرفاق.
فهذا الشرط وهو اشتراط اتفاق الجنس: صحيح.
- يقول - رحمه الله -:
- ووصفاً.
يعني: ويشترط أن يكون وصف كلٍ من الدين المحال والمحال عليه: متحداً.
والمقصود بالوصف هنا: كما صرح كثير من الحنابلة: الجودة والرداءة وهو في الحقيقة معنىً أعم من الجودة والرداءة لكن الغالب أن يكون هذا المقصود.
بناء على هذا: لا يجوز أن نحيل بصحاح على مكسة.
فإذا كان مطلوب من الشخص مائة درهم صحيحة لا يجوز أن نحيل هذا الدين على شخص آخر يطلب منه مائة درهم مكسرة.
ولا يجوز أن نحيل مغشوش على سليم ولا بسليم على مغشوش.
ولا يجوز أن نحيل قمحاً سليماً جيداً من إنتاج هذه السنة على قمح قديم فاسد.
وهكذا.
(4/135)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه يجوز اختلاف الصفة إذا كان المحال عليه أجود.
يعني: إذا كان من صالح المحال.
استدلوا على هذا:
- أن هذا لا يعدو أن يكون تبرعاً من المحيل. والتبرع إنما هو بالزيادة. بزيادة الحسن في الصفة.
= والقول الثالث: الجواز مطلقاً. سواء كان الدين المحال أو المحال عليه أجود أو أردأ فالجميع جائز. بشرط رضا الجميع: المحيل والمحال عليه.
واستدل أصحاب هذا القول:
- بأنه لا حرج ولا ضرر شرعي من إحالة الرديء على الجيد أو الجيد على الرديء ما دام المحال رضي والمحيل رضي. فإنه ليس في هذا العقد جهالة ولا ضرر ولا ربا ولا قمار ولا أي مانع شرعي.
والقول الأخير أجود لأن المنع من المعاملات يحتاج إلى دليل واضح. فالأصل فيه الحل.
ثم الناس قد يحتاجون إلى هذا العمل بكثرة بأن نحيل شيئاً جيداً على رديء أو رديء على جيد لغرض أو لآخر.
فالأقرب إن شاء الله الجواز.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ووقتاً.
المقصود بالوقت: أن يستويا في التأجيل والتعجيل.
وذلك بأن يكون الدين المحال والدين المحال عليه كلاهما مؤجل أو كلاهما معجل.
= والقول الثاني: الجواز إذا كان الدين المحال عليه معجل.
فيجوز للإنسان أن يحيل ديناً مؤجلاً على دين معجل.
= والقول الثالث: الجواز مطلقاً.
وإذا تأملت فستجد أن اخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف من مسألة الصفة.
لماذا؟ لأن التأجيل والتعجيل من جملة الصفات وإنما نصوا عليه لأنه مهم.
ولهذا تجد أن الخلاف متقارب جداً.
قبل أن نتجاوز مسألة التأجيل هو كما قلت لكم والقول في الخلاف في المسألتين واحد والأقرب القول الأخير.
إلا أنه فقط من خلال البحث لم أجد من العلماء المتقدمين سوى المعاصرين من قال بالجواز مطلقاً في مسألة التأجيل والتعجيل.
بحثت عن قائل من المتقدمين - حسب ما تيسر من الوقت - ولم أجد هذا القول إلا للمعاصرين.
فيحتاج فقط أن يتثبت الإنسان أن لا تكون المسألة محل اتفاق فإن كان فيه هناك خلاف فالراجح القول الأخير.
- يقول - رحمه الله -:
- وقدراً.
يعني: ويشترط لصحة الحوالة اتفاق الدينين في القدر فلا يجوز أن نحيل بخمسة على ستة.
(4/136)
________________________________________
- لأنا إذا أحلنا خمسة على ستة صارت المسألة معاوضة وصار المحال يكسب على المحيل وموضوع الحوالة أن لا كسب فيها إنما استيفاء فقط.
وهذا القول صحيح أو وهذا الشرط صحيح. أنه يجب أن يتساوى [ ... ].
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يؤثر الفاضل.
مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه لا يؤثر أن:
ـ تحيل بعض الدين على دين مساوي.
ـ أو تحيل الدين على بعض الدين الذي في ذمة الآخر.
مثال الصورة الأولى: أن يحيل الإنسان بخمسة على خمسة من عشرة.
فإذا كان زيد مطلوب خمسة آلاف وهو يطلب عمرو عشرة آلاف فأحال الشخص الذي يطلبه خمسة آلاف على خمسة من العشرة التي عند زيد فلا بأس.
- لأن الفاضل وهي الخمسة الأخرى لا تؤثر في العقد.
كذلك العكس/ لو أحال بخمسة من عشرة على خمسة.
بأن يكزم زيد مطلوباً عشرة آلاف وهو يطلب عمرو خمسة آلاف فأحال الدائن بخمسة من العشرة على الخمسة التي عند زيد فلا حرج.
- لأن زيادة الدين لا تؤثر أيضاً في صحة الحوالة.
وهذا معلوم لكن المؤلف - رحمه الله - أراد أن يبين أن الفاضل لا يؤثر على الباقي.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإذا صحت: نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبريء المحيل.
إذا استوفت الحوالة الشروط اللازمة للصحة نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه لاولا يرجع الحق مطلقاً ولو تعذر إيفاء المحال عليه بالدين أو أفلس أو مات أو ماطل. فإنه لا يرجع المحال على المحيل مطلقاً متى استوفت الشروط.
وإلى هذا القول ذهب الجماهير - الجماهير من الفقهاء ذهبوا إلى أنه إذا استوفت الشروط فإنه ليس للمحال أن يرجع على المحيل مطلقاً ولو تعذر استيفاء الحق.
واستدلوا على هذا بأدلة:
من أقواها:
- الحديث: فقالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره فقال: (إذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل).
والأمر في (فليحتل) للوجوب. وهذه خارج الصحيحين.
وفي اللفظ الآخر - في الصحيحين -: (من أتبع على مليء فليتبع).
هذا الدليل الأول.
- الدليل الثاني: أنه روي عن علي بن أبي طالب أنه رأى أن لا يرجع المحال على المحال عليه.
(4/137)
________________________________________
فقد أحال رجلاً - هو - رضي الله عنه - يطلبه على رجل آخر فمات المحال عليه فرجع الدائن إلى علي فلم يقبل رجوعه - رضي الله عنه -.
- الثالث: قالوا: أن الحوالة مشتقة من النقل فهي تنقل الحق من ذمة إلى ذمة. والمنقول لا يعود.

= القول الثاني: أن المحال له أن يرجع إذا تعذر استيفاء الحق بإعسار أو موت. وهذا مذهب الأحناف.
واستدلوا على هذا:
- بأن المقصود من الحوالة الإرفاق بالاستيفاء فإذا لم يحصل الاستيفاء بموت أو إفلاس أو مماطلة لم يحصل الغرض من الحوالة وجاز له الرجوع.
هذه المسألة من مهمات الباب - من أهم مسائل الباب.
= القول الثالث: أن له الرجوع مطلقاً.
واستدل أصحاب هذا القول:
- بأن الحوالة ليست إلا إذن بالاستيفاء من المحال عليه فقط ولذا فللمحال أن يرجع على المحيل.
فكأنه أذن له بأن يستوفي حقه من المحال عليه فإذا أراد أن يرجع: يرجع.
والأصل أن ذمة المحيل ما زالت مشغولة بالدين.
أي الأقوال أرجح؟ (مناقشة مع الطلاب في أيه القول الراجح .... ) ... شيخ الإسلام يرجح القول الثالث. وهو في الحقيقة عند التأمل والتأني أقرب.
لماذا؟ لأنا نحمل الحديث على أن الأمر فيه للإستحباب وإلا لم يكن هناك في الحقيقة جواب واضح على الحديث إلا أن نحمله على الاستحباب. فإذا حملناه على الاستحباب جاز لنا أن نقول فعلاً الحوالة ليست إلا إذنٌ في الاستيفاء.
وحمل الحديث على الاستحباب مذهب الجماهير بل حكي إجماعاً ولكن الإجماع ليس بصحيح فإن الإمام أحمد - رحمه الله - والإمام ابن حزم - رحمه الله - حملوه على الوجوب.
لكن يبدو أن الأقرب حمله على الاستحباب وأن هذا الأمر إنما هو لبيان أنه ينبغي للمحال إذا كان المحال عليه [مريض أن يحتل] ((هكذا فهمتها من التسجيل)).
أما أثر علي - رضي الله عنه - يحتاج أولاً إلى التثبت من صحته.
ثانياً: أثر علي هنا يصطدم مع الأصول العامة والأصول العامة هي أن الأصل بقاء الدين في ذمة المدين وأن مال الإنسان محفوظ.
والأصول العامة التي تدل على أن مال الإنسان محفوظ تدل على رجحان هذا القول [الثاني] لأنا نرجح بأصول دلت عليها النصوص.
(4/138)
________________________________________
وطريقة الإمام أحمد - رحمه الله - أن الأصل الثابت الذي دل عليه نص لا يترك لفتوى صحابي على أني أكاد أقطع أن بين الصحابة خلاف في هذه المسألة لكن يحتاج ربما الإنسان إلى توسع في البحث لننظر هل خالف الإمام علي أحد أو لا؟
وإلا كما ذكرت يتحرج الإنسان في الحقيقة من مخالفة هذا الأثر لولا وجود هذه الملابسات.
- يقول - رحمه الله -:
- ويعتبر رضاه.
هذا هو الشرط الثالث.
يعني: رضا المحيل.
- لأن المحيل لا يلزم بقضاء الدين الذي عليه من دين آخر له إلا برضاه.
وإذا كان هذا هو الشرط الثالث علمت أن المؤلف في الحقيقة قدم وأخر. لأنه يقول: (وإذا صحت) وهذه العبارة يؤتى بها بعد إتمام الشروط. فلو أخر قوله وإذا صحت إلى بعد (ويعتبر رضاه) لكان من حيث الترتيب الفقهي أوجه.
- قال - رحمه الله -:
- لا رضى المحال عليه.
يعني: لا يشترط رضى المحال عليه.
وهذا مذهب الجماهير.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في الحديث رضى المحال عليه.
- ولأن المحيل إذا أحال على المحال عليه فكأنه وكَّل شخصاً ليقبض دينه وهذا جائز بالإجماع بلى رضى المحال عليه.
=والقول الثاني: أنه يشترط رضى المحال عليه.
- لئلا يحيل عليه رجلاً رجلاً شرساً سيء الأخلاق صعب المطالبة.
فيقول المحال عليه للمحيل لا أرضى أن تحيل علي فلاناً فإنه صعب والمعاملة معه عسرة وقد أتأذى من مطالبته ... إلى آخره. وهذا مذهب الأحناف. وهذا القول ضعيف. لأنا نقول للمحال عليه لئلا تتأذى أدِّ ما عليك لأن ذمته مشغولة بالحق فلا يعتذر بسوء المعاملة.
- قال - رحمه الله -:
- ولا رضى المحتال على مليء.
يعني: لا يشترط رضى المحتال بشرط أن تكون الحوالة على مليء.
فإذا أحيل على مليء وجب عليه أن يحتال. وانتقل الحق بغير إرادته من ذمة المدين الأصلي إلى ذمة المحال عليه.
استدب الحنابلة والجمهور على هذا:
- بالحديث. وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) والأمر في الحديث للوجوب عند الحنابلة.

واستدلوا على هذا أيضاً:
- بأن للمحيل أن يوكل من يقبض عنه بلا رضاه وله أن يوكل من يسدد عنه بلا رضاه فكأنه وكل المحال عليه بسداد الدين.
(4/139)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه يشترط رضى المحال. وأنه إذا أحيل على رجل لا يرضاه ولو كان مليئاً فإنه لا يلزمه.
- لأن الإحالة قد تدخل الضرر على المحال وإن كان المحال عليه مليء.
فبعض الناس قد يسدد مباشرة ولكن مع الإيذاء فهو إذا سدد بلا تأخير فهو مليء لكن قد يؤذي مع هذا التسديد يؤذي كما هو معلوم من أمثلة كثيرة.
وهذا القول الثاني في الحقيقة هو الصحيح والدائن محسن فكيف نلزم الدائن بأن يحتال أو بأن يذهب ويحال إلى رجل سيء الأخلاق وإن كان مليئاً.
لاشك في ما يظهر لي بعد التأمل أنه لا يلزمه ولا يجب عليه وله أن يمتنع من الإحالة.
وإن كان عامة العلماء والجمع الغفير منهم على القول الأول.
لكن هذا القول الثاني في الحقيقة وجيه وقوي.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن بان مفلساً ولم يكن رضي: رجع به.
مقصود المؤلف - رحمه الله - إذا لم يرض المحال بالحوالة ثم بعد أن أحيل تبين أن المحال عليه مفلس: رجع على المحيل. وهذا الحكم بالإجماع.
إذا لم يرض ثم تبين أن المحال عليه مفلس رجع بالإجماع.
وهذا الحكم في هذه المسألة هو حكم لصورة من هذه المسألة.
فهذه المسألة لها صور:
ـ الصورة الأولى: هي التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - وذكرتها لك.
ـ الصورة الثانية: أن يحال برضاه - أن يرضى بالحوالة - ولكنه لم يشترط أن يكون المحال عليه مليئاً ثم تبين أنه معسر.
((الأذان)).
إذاً: الصورة الثانية إذا رضي المحال بالإحالة ولم يشترط أن يكون المحال عليه موسراً ثم تبين أنه معسراً أو مماطلاً.
= فعند الحنابلة: لا يرجع. ويبرأ المحيل.
واستدلوا على هذا:
- بأن المحال فرَّط ولم يشترط الملاءة - أو الغنى أو اليسار.
= والرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه له الرجوع إذا تبين أنه مماطل أو معسر.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بأن يتبع إذا كان مليئاً وقد تبين أنه ليس ملئياً.
والقول الثاني هو الصحيح إن شاء الله لأنه هو الذي يدل عليه الحديث.
ـ الصورة الثالثة والأخيرة: أن يحال بالدين مع اشتراط المحيل غنى المحال عليه.
الذي اشترط هو المحيل. يعني: قال أحيلك على زيد وأشرط لك أنه مليء.
(4/140)
________________________________________
ثم إذا تبين أنه ليس بمليء رجع: عند الحنابلة وعند غيرهم.
- لأن الشرط تخلف. والمسلمون على شروطهم.
- يقول - رحمه الله -:
- ومن أُحيل بثمن مبيع ... فبان البيع باطلاً: فلا حوالة.
إذا أحيل بثمن مبيع ثم بان البيع باطلاً فلا حوالة. صورة المسألة/
أن يحيل المشتري البائع بقيمة الثمن على شخص ثالث. مدين للمشتري ثم تبين أن البيع باطل بأن كان المبيع ملكاً لشخص آخر غير البائع أو تبين أن المبيع - أنه خمر أو خنزير أو كل عين لا يصح العقد عليها حينئذ لا حوالة.
يعني: تبطل الحوالة.
وعللوا ذلك: - بأن الحوالة تمت على ثمن المبيع وهنا لا يوجد ثمن للمبيع لأنه لا يوجد بيع أصلاً.
- يقول - رحمه الله -:
- أو أُحيل به عليه.
صورة المسألة/ أن يحيل البائع على المشتري بثمن السلعة بدين سابق عليه.
في الصورة الأولى: من المحيل؟ المشتري.
في الصورة الثانية: المحيل من؟ البائع.
والإحالة في الصورتين على ثمن السلعة.
ثم إذا تبين أن البيع باطل للأسباب السابقة فلا حوالة.
وهذا الحكم صحيح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإذا فسخ البيع: لم تبطل.
إذا فسخ البيع: يعني: لخيار أو لعيب أو لتدليس فإن الحوالة لا تبطل بل تبقى صحيحة.
وظاهر كلام الشيخ المؤلف - رحمه الله - أن الحوالة إذا فسد البيع صحيحة قبل القبض وبعد القبض.
والصواب أن في المسألة تفصيلاً.
في الصورة الأولى أن يحيل ......... ((أقيمت الصلاة ... انتهى الدرس)).
(4/141)
________________________________________
الدرس: (26) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا في الدرس السابق في الكلام عن الحوالة إذا أحال البائع المشتري وتبين أن البيع باطل ورأي الحنابلة في هذه المسألة وكنا توقفنا على المسألة الأخرى وهي: إذا تبين أن البيع فاسد وليس بباطل والحنابلة يفرقون بين أن يتبين أن البيع باطل أو يتبين أنه فسخ بالفساد.
فيما يتعلق بالبطلان: تقدم معنا.
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- وإذا فسخ البيع: لم تبطل.
(4/142)
________________________________________
يعني: وإذا فسخ البيع بسبب من الأسباب الموجبة للفسخ: كالعيب أو الخيار أو أي سبب يوجب الفسخ وأشهرها العيب والخيار.
فإذا فسخ البائع والمشتري العقد وقد أحال المشتري البائع بالثمن فإنه عند الحنابلة: تصح الحوالة مطلقاً.
ومعنى: (مطلقاً) أي: قبل وبعد القبض.
وفي الحقيقة المسألة فيها تفصيل.
وللمسألة صورتان:
- الصورة الأولى: أن يكون بعد القبض. صورة المسألة: أن يحيل المشتري البائع بالثمن على طرف ثالث ويقبض البائع الثمن من المحال عليه. فيتم القبض ففي هذه الصورة: الحوالة صحيحة قولاً واحداً عند الحنابلة بلا خلاف لأن القبض تم وصح.
وإذا صح القبض وتم ترتبت عليه آثاره.
- الصورة الثانية: أن يكون ذلك أي: الفسخ قبل القبض. مثل/ أن يحيل البائع أم أن يحيل المشتري البائع بالثمن وقبل أن يقبض البائع من المحال إليه الثمن: انفسخ العقد بعيب أو بخيار أو لأس سبب من أيباب الفسخ.
فالحنابلة يصححون الحوالة حتى قبل القبض. فالحكم عند الحنابلة قبل وبعد واحد.
ويستدل الحنابلة على هذا: أي تصحيح الحوالة ولو قبل القبض:
- بأن هذه الحوالة: حوالة صحيحة استوفت الشروط فصحت ولزمت وانتقل الحق تماماً من ذمة المشتري إلى ذمة المحال عليه. وصار المشتري بريء الذمة والمسألة بين البائع والمحال عليه.
= القول الثاني: أن الحوالة قبل القبض لا تصح. وعلى هذا لا يبرأ المحيل وهو المشتري. ويخرج البائع لا دائناً ولا مديناً لأن العقد انفسخ ورجع الثمن.
ويرجع المشتري يطالب المحال عليه كما كان قبل العقد.
وإلى هذا ذهب عدد من المحققين من الحنابلة وهذا القول هو الصحيح: أنه قبل القبض لا تصح الحوالة لأنا تبينا أن لا ثمن ولا عقد.
وإذا كانت العلة في بطلال الحوالة في مسألة بطلان البيع أنه تبينا أن لا ثمن على المشتري كذلك هنا تبينا أن لا ثمن وإن اختلف السبب إلا أن النتيجة واحدة وهي أنه لا ثمن.
فتلخص معنا الآن:
أن الحوالة تصح في صورة واحدة وهي ما إذا قبض الثمن.
- يقول - رحمه الله -:
- ولهما أن يحيلا.
يعني: وللمحال أن يرجع فيحيل مرة أخرى لتبرأ ذمته.
فإذا أحال المشتري البائع ثم تبينا البطلان فللبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه.
(4/143)
________________________________________
يعني: يرجع الوضع كما كان.
وهذا التقرير من الحنابلة يدل على رجحان القول بأنه إذا انفسخ البيع فلا حوالة وإلا ما معنى أن نصحح الحوالة ثم نقول: يرجع كل ما كان على وضعه الأول بأن يحيل من أحيل عليه مرة أخرى.
إذاً صارت النتيجة واحدة سيقوم البائع بإحالة المشتري على من أحاله المشتري عليه.
إذاً النتيجة واحدة.
وهذا يدل كما قلت - إن شاء الله - على رجحان بطلان الحوالة فيما إذا لم يقبض الثمن.

وبهذا انتهى باب الحوالة وننتقل إن شاء الله إلى باب الصلح.
باب الصلح
- قال - رحمه الله -:
- باب الصلح.
الصلح في لغة العرب: اسم بمعنى المصالحة.
ويقصد بالمصالحة ضد المنازعة والمخاصمة.
وقيل أنه رفع المنازعة.
والاختلاف لفظي.
وأما في الاصطلاح: فإن الصلح: عقد يرفع المنازعة برضا الطرفين.
والصلح: مشروع بالكتاب والسنة.
- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير.} [النساء/128] والشاهد قوله تعالى: (والصلح خير).
- وأما من السنة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين).
- وأيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من غرماء جابر - رضي الله عنه - أن يضعوا عنه من الدين صلحاً.
والصلح عند فقهاء المسلمين له أنواع:
- صلح بين الأزواج.
- وصلح بين الكفار والمسلمين.
- وصلح بين أهل العدل وأهل البغي.
وهذه الأنواع كلها لا تقصد بهذا الباب فلكل منها باب مستقل وسيأتي.
إنما الذي يقصد هنا: الصلح في الأموال: فهو باب معقود خاصة للصلح في الأموال.
والصلح: أي على أموال: إلى قسمين:
- صلح على إنكار.
- وصلح على إقرار.
وبدء المؤلف - رحمه الله - بالقسم الأول: وهو الصلح على إقرار وأخر الكلام عن الصلح على إنكار.

- فقال - رحمه الله -:
- إذا أقر له بدين أو عين فأسقط، أو وهب البعض وترك الباقي: صح إن لم يكن شرطاه، وممن لا يصح تبرعه.
قوله - رحمه الله -: (إذا أقر له بدين) كما قلت لك بدء بالصلح على إقرار.
والصلح على إقرار: أيضاً هو ينقسم على قسمين:
- القسم الأول: الصلح على غير الجنس. يعني: على غير جنس الحق.
- والقسم الثاني: صلح على جنس الحق.
(4/144)
________________________________________
نبدأ بالقسم الأول: لأنه أقل القسمين أحكاماً وهو واضح.
ـ القسم الأول هو: الصلح على غير جنس الحق.
وصورته/ أن يدعي زيد على عمرو سيارة فيقر له عمرو بها ويصالحه عنها ببيت.
فجنس الحق المدعى به الآن هو: السيارة.
وصالحه على غير جنسها وهو: البيت.
وهذا القسم صحيح بالاتفاق وهو بيع يلزم له ليصح جميع شروط البيع.
والدليل على هذا:
- أن صورة المسألة الحقيقية مبادلة عين بعين. أو معاوضة عين بعين وهذه حقيقة البيع.
ـ القسم الثاني: المصالحة على جنس العين المدعى به وهو الذي ذكره المؤلف:
- فيقول - رحمه الله -:
- إذا أقر له بدين أو عين فأسقط، أو وهب البعض وترك الباقي: صح إن لم يكن شرطاه، وممن لا يصح تبرعه.
(إذا أقر له بدين) يعني: إذا أقر له بدين معلوم. فأسقط حقه: صح. وسيأتينا دليل الصحة.
وحقيقة الإسقاط في الدين: إبراء. هو عقد إبراء.
فالصلح هنا: حقيقته الإبراء.
الثاني: (أو عين) يعني: إذا أقر له بعين وصالحه على بعضها.
كأن يقول: أقر لك بخمسين صاعاً من القمح ويصطلحا على أن للمقر ربعها.
فهذا أيضاً كما سياتينا صحيح.
وحقيقة هذا العقد: أنه عقد هبة.
ومعنى أنه عقد هبة: أنه تشترط فيه شرط الهبة التي ستأتينا في باب الهبة والعطايا.
إذاً حقيقة العقد الأول أنه: إبراء.
وحقيقة العقد الثاني أنه: هبة.

- ثم قال - رحمه الله -:
- فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي: صح.
يعني: صح هذا العقد.
والدليل على صحة هذا العقد من النص ومن المعقول:
- أما من النص: فحديث جابر - رضي الله عنه - فإنه ثبت في الصحيح: ان جابر - رضي الله عنه - اشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين الذي عليه وكان تمراً فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من غرمائه أن يضعوا عنه فأبوا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر: اجعل كل تمر عندك على حدة: أي كل نوع منه على حدة فجعل جابر - رضي الله عنه - العجوة على حدة وعذق زيد على حدة فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعلى التمر ثم قال يا جابر: كل للقوم فصار جابر - رحمه الله - يكيل للناس ويقضي الناس كلهم فلما قضى الناس جميعاً نظر فإذا التمر لم ينقص شيئاً. - اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
(4/145)
________________________________________
فهذا الحديث عظيم وفيه فوائد كثيرة:
- منها: أنه لا حرج على الرجل الشريف كبير القدر أن يدخل في صلح مالي. فهذا لا حرج فيه ولا غضاضة ولا يقال: لا ينبغي لمثله الدخول في العقود المالية فهذا جابر - رضي الله عنه - دخل.
- ومنها: أنه لا حرج على الرجل الشريف أن يتولى بعض أمور أصحابه. فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقسم التمر وكيف يكيل للناس وجلس أثناء قضاء الناس حوائجهم.
- ومنها: - وهو أيضاً مفيد ومهم - أنه لا حرج على المطلوب إذا رفض ولو كان الطالب كبير القدر لأن الحقوق المالية أساسها يرجع إلى الرضا. فلا حرج على الإنسان أن يرفض إذا لم ير أن هذا مناسباً له. ولهذا ليس في الحديث مطلقاً أي إشارة إلى لوم هؤلاء الذين كانوا يطلبون جابر لما أبوا أن يجيبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا ينفي أن يكون أنه من المروءة وحسن الخلق إجابة الرجل الذي له قدر في الإسلام لكن لو لم يجب فلا حرج ولا لوم على من رد طلبه فهذا هو الدليل من النص.
- وأما الدليل من المعقول:
- فهو أن حقيقة هذا الصلح: إما أن يكون إبراء أو هبة وللإنسان أن يهب أو أن يبرئ ما شاء من ماله ما دام جائز التصرف.

- ثم قال - رحمه الله -:
- صح إن لم يكن شرطاه، ولا يصح ممن لا يصح تبرعه.
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - هذا الحكم ذكر شروط هذا الحكم وذكر شرطين:
- الشرط الأول: أن لا يكون هذا الصلح على سبيل الاشتراط. وتلاحظ أن عبارة المؤلف - رحمه الله -: (شرطاه) وأطلق. فهو يتناول المُقِرْ والمُقَرّ له.
- فالمُقَرّ له: شرطه أن يقول: وهبتك نصف ما لي على أن تقر لي به.
فإذا وقع العقد بهذا الشرط: فالصلح باطل. - لأن المقر له صالح عن ماله ببعضه ففيه هضم لحقه.
- النوع الثاني: أن يكون المشترط: المُقِر. كأن يقول: لا أقر لك حتى تعطيني نصفه. فهذا الصلح بهذا الشرط أيضاً باطل.
وهو أقبح من الأول: لأنه من أكل أموال الناي بالباطل. إذ يجب عليه أن يقر بلا عوض.
- الشرط الثاني: الذي ذكره المؤلف. هو: أن يكون الإقرار ممن يصح تبرعه.
(4/146)
________________________________________
- لأن حقيقة هذا النوع: تبرع. والتبرع لا يكون إلا ممن يجوز تبرعه. فلا يجوز لولي اليتيم أن يصالح هذا الصلح ولا لولي الوقف ولا للمضارب المؤتمن ولا لكل من لا يجوز له أن يتبرع.
واستثنى الفقهاء من هذا الحكم: استثناء لطيف مفيد وهو: أن يدور الأمر بين أن يصالح ويكسب البعض أو أن لا يصالح ويخسر الكل.
فإذا دار الأمر بين أن يخسر الكل بلا صلحأو يكسب البعض مع الصلح جاز له أن يصالح لأن حقيقة هذا الصلح من حظ المصالح عنه. وهو مثلاً: اليتيم أو الوقف حسب صور من لا يجوز له أن يتبرع.
أما ما عدا هذه الصورة المستثناة فإنه لا يجوز له أن يصالح على هذا الوجه.
إذاً يقول المؤلف - رحمه الله -: (إذا لم يكن شرطاً .... إلى آخره: بقي الشرط الثالث لم يذكره المؤلف - رحمه الله - وهو: (أن هذا الصلح: أن لا يكون بلفظ الصلح.
السبب: أن هذا فيه أيضاً هضم للمقر له لأنه صالح عن ماله ببعضه. فالتعليل هو نفس التعليل السابق.
إذاً: تعليل اشتراط هذا الشرط هو كتعليل اشتراط أن لا يشترط المقر له نصف ما عليه - السابق.
= والقول الثاني: أنه يصح بلفظ الصلح وبأي لفظ بشرط أن يكون المعنى المراد معلوماً. ومعنى المراد هنا: إما هبة أو إبراء.
فإذا عرف المقصود صح العقد بلفظ الصلح أو بأي لفظ كان.
لأنه تقدم معنا أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني فاللفظ ليس هو الذي تنبني عليه الأحكام وإنما المعاني.

- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه: صح الإسقاط فقط.
وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه: صح الإسقاط دون الوضع / فإذا كان زيد يطلب عمرو مائة ألف فوضع بعضه وأجل باقيه فقال: أبرأتك من خمسين وأجلت لك خمسين. صح الإسقاط دون التأجيل.
أما الإسقاط فهو يصح: لأنه إبراء. وللمكلف الرشيد البالغ العاقل أن يبرأ من شاء لأن هذا من التصرفات المالية التي يؤذن بها لمن جاز تصرفه.
وأما التأجيل فلأن قاعدة المذهب كما تقدم معنا في كتاب القرض أن الحال لا يؤجل. أي شيء حال فإنه لا يمكن أن يتأجل بالشرط والعقد.
فهذه المسألة مبنية تماماً على المسألة السابقة التي هي تأجيل القرض.
(4/147)
________________________________________
وأخذنا الخلاف هناك في هذه المسألة وأن الأقرب إن شاء الله أن المؤجل إذا أشترط تأجيله صح ولزم.
إذاً: عرفنا الآن أن:
= القول الثاني: صحة الإسقاط والتأجيل.
- لما تقدم من الخلاف في تأجيل القرض.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً ... لم يصح.
هذه المسألة هي المسألة التي تسمى مسألة:""ضع وتعجل"".
وهي مسألة مهمة وحاجة الناس إليها كثيرة.
حكم المسألة/ اتفق الأئمة الأربعة وجماهير الفقهاء على أن:""ضع وتعجل"" لا تجوز.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن هذا مروي عن عمر وابنه - رضي الله عنهما -. وهذا في الحقيقة محل الإشكال - كما سيأتينا.
- الدليل الثاني: أن حقيقة العقد معاوضة عن الأجل - عن التأجيل أو التعجيل. والتأجيل والتعجيل لا يباع ويشترى.
- الدليل الثالث: أن هذا الوضع مقابل الأجل وهو حقيقة الربا.
هذه أدلة الجماهير.

= القول الثاني: أن:""ضع وتأجل"" صحيح وجائز وليس من الربا في شيء.
وهو مذهب لبعض الفقهاء نصره بقوة شيخ الإسلام وابن القيم.
واستدلوا بأدلة:
- الدليل الأول: أن الجواز صح عن ابن عباس صريحاً فقد ثبت أنه أفتى بصحة مسألة:""ضع وتأجل"". وفتواه - رحمه الله - أصرح من فتوى غيره من الصحابة.
- الثاني: أن المسألة تشتمل على إسقاط وتعجيل. والإسقاط مفرداً يصح والتعجيل مفرداً يصح فإذا اجتمعا صحا.
إذاً يقولون أن العقد يشتمل على إسقاط وتعجيل والإسقاط مفرداً تقدم معنا أنه صحيح والتعجيل أيضاً أكثر من أنه صحيح إذ الحنابلة لا يرون التعأجيل أصلاً فقالوا إذا جمعنا بينهما صحا لأنه مكون من أمرين جائزين.
وهذا الدليل ضعيف: لأنه اجتمع من الإسقاط والتعجيل صورة ثالثة ولأنه هذه الطريقة - طريقة التلفيق بين الأحكام ليست بصحيحة.
- الدليل الثالث: أن حقيقة هذا العقد عكس الربا ففي الربا تأجيل وزيادة وفي هذا العقد إسقاط وتعجيل. فأين التأجيل مع الزيادة من الإسقاط مع التعجيل. فهما عكس بعض فهو ليس من الربا لا صورة ولا حقيقة.
والأقرب والله أعلم الجواز: باعتبار أن الصحابة اختلفوا وباعتبار أن هذا الدليل الذي ذكره ابن القيم وهو أن حقيقة الصورة عكس الربا تماماً دليل وجيه عند التأمل.
(4/148)
________________________________________
وكما قلت: مراراً: هذه المسألة لاشك ولا ريب أنها محل تورع واحتياط وأنه إذا لم يتورع من أراد أن يتورع في المعاملات المالية في مثل:""ضع وتعجل"" فأين سيتورع؟ كيف وعامة فقهاء المسلمين على هذا القول وروي عن أكثر من صحابي. ففي الحقيقة هي محل تورع وشبهة.
لكن من حيث الأدلة نستطيع أن نقول أن القول الثاني: أرجح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو بالعكس.
يقصد بقوله: (أو بالعكس) المسألة السابقة: إذا صالحه عن الحال ببعضه مؤجلاً تماماً.
تقدم معنا هذه الصورة وأن الحنابلة يقولون: يصح الإسقاط دون التأجيل.
وأن الصواب صحة الإسقاط والتأجيل.
وهو في الحقيقة: محض تعاون من الدائن مع المدين: لأنه أرفقه في شيئين: - التأجيل. - والإسقاط.
فهو في الحقيقة: إرفاق منه لا يمنع.

- ثم قال - رحمه الله -:
- أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه.
صورة المسألة / أن يقول: لا أقر لك بهذا البيت إلا إذا أبحتني الانتفاع به سنة.
فالصلح باطل.
فإن أسكنه البيت فهو تبرع محض له أن يخرجه متى شاء.
= والقول الثاني: أنه لا فرق بين هذه المسألة وبين الإبراء والهبة في المسألة الأولى. إذا أقر له بدين أو عين صححنا الإبراء والهبة كذلك هنا نصحح هذا الصلح ونشترط فيه ما اشترطنا في الصورة الأولى.: أن لا يكون بشرط من المقر ولا من المقر له وأن يكون من جائز التصرف.
فالأقرب صحة هذه المسألة ولا فرق بين أن يكون الصلح على عقار أو دار وبين أن يكون على عين تقسم أو على دين في الذمة لا فرق أبداً بين الصورتين ففي كل منهما إبراء أو هبة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو يبني له فوقه غرفة.
يعني: يقول: لا أقر لك بالبيت إلا إذا بنيت لي فوقه غرفة.
ففي المسألة الأولى اشترط منفعة وفي المسألة الثانية اشترط ملك عين وهي الغرفة.
والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة اماماً من حيث قول الحنابلة والقول الثاني وأيضاً من حيث الراجح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية.
يعني: رجل صالح رجلاً آخر على أن يقر له بالعبودية: فقال: أعطيك مائة ألف صلحاً وتقر بأنك عبداً لي.
فهذا الصلح باطل.
لأمرين:
(4/149)
________________________________________
- الأمر الأول: أنه لا يجوز للإنسان أن يرق نفسه. وليس هذا باختياره. بل الحر حر شرعاً والعبد عبد شرعاً.
- الثاني: أن هذا محرم على المقر له. لأنه من أكل أموال الناس بالباطل.

- ثم قال - رحمه الله -:
- أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض: لم يصح.
(أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض: لم يصح.) أي: هذا الصلح. - لم يصح هذا الصلح: أيضاً لأمرين:
- الأمر الأول: أنه لا يجوز للمرأة أن تهب نفسها مقابل عوض مالي بل المرأة لا تحل للرجل إلا بعقد شرعي لا بعوض مالي.
- الثاني: لأن المقر له لا يجوز له أن يطلب فرجاً محرماً.
فهذا الصلح لا يصح وهو باطل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن بذلاهما له صلحاً عن دعواه: صح.
أي: بذل كل من العبد والمرأة العوضين له أي: للمقر له صلحاً: جاز.
جاز: من جهة المقر له. ومن جهة: المقر.
أما من جهة المقر: وهو العبد - إذا افترضنا أن المقر الآن هو ليصالح - أما من جهة المقر وهو العبد والزوجة فلأنهما يدفعان الخصومة عن أنفسهما. وهذا مطلب شرعي صحيح.
وأما من جهة المقر له: فلأنه لا يخرج عن أن يكون معاوضة عما يعتقد أنه ملك له.
فهذه العبارة من المؤلف - رحمه الله -: نحمل على ما إذا اعتقد المقر له أن هذا الرجل فعلاً عبد من عبيده وأن هذه المرأة فعلاً زوجة. فيكون ما يأخذه عن العبد عوض وما يأخذه عن الزوجة خلع.
ويجوز للرجل أن يعاوض عن ماله أو أن يخالع زوجته.
إذاً: يصح أن يبذله له - يصح العقد وما يأخذه كل منهما فهو جائز.
فإن كان المقر له يعلم أنه كاذب وأن الرجل ليس بعبد له وأن المرأة ليست بزوجة له فما يأخذه محرم وهو من أكل المال بالباطل وما يدفعه العبد والمرأة صحيح لأنهما أرادا تخليص أنفسهما.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن قال: ((أَقِرْ لِي بِدَيْنِي وَأُعْطِيْكَ مِنْهُ كَذَا)) ففعل: صح الإقرار لا الصلح "
- أما الإقرار فيصح: لأنه أقر بحقه عليه: فإقراره واجب عليه.
- وأما الصلح فهو باطل: لأنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ عوضاً على أمر واجب عليه.
ونحن فررنا أن إقراره بهذا الحق واجب فكيف يأخذ على واجب مالاً.
إذاً: لا يجوز للإ؟ نسان أن يقول: أقر لي بديني وأعطيك منه كذا: لا يجوز هذا.
(4/150)
________________________________________
وبهذا انتهى القسم الأول وهو: الصلح على إقرار.
وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثاني: الصلح على إنكار.
فصل
[القسم الثاني: الصلح على إنكار]
- فقال - رحمه الله -:
- (فصل) ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله، ثم صالح بمال: صح.
يقول - رحمه الله -: ((فصل) ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر) يعني: ثم صالح عليه صح الصلح.
وهذا كما قلن الصلح على إنكار.
ونزلزا الساكت منزلة المنكر: لأنه لم يقر والإنسان إما أن يقر أو أن ينكر. فهو لم يقر فهو منكر.
وهذا الصلح: أي: على إنكار: جائز عند جماهير أهل العلم. الإمام أحمد والإمام مالك والإمام أبو حنيفة كلهم يصححونه وجمهور السلف.
واستدلوا على تصحيح هذا الصلح:
- بعموم قول النبي ثم قال - رحمه الله -:: (الصلج جائز بين المسلمين). فهو عام يتناول الصلح على إقرار ويتناول الصلح على إنكار.
- وكذلك: عموم الآية وهي: قوله: (والصلح خير). يعني بكل أنواعه.
= والقول الثاني: وهو مذهب الإمام الشافعي: أن الصلح على إنكار لا يصح.
واستدل على هذا:
- بأنه كيف يصالح على أمر لم يثبت له. فهو كما لو باع شيئاً لا يملكه. لأنا نفترض أن المقر عليه: أنكر. إذاً: لم يثبت الحق إلى الآن للمدعي فكيف يصالح على أمر لم يثبت له يقول الإمام الشافعي. هذا من أكل أموال الناس بالباطل.
والجواب على هذا الدليل القوي: أن المدعي يصالح عن أمر يعتقد أنه ملكاً له. هو لم يثبت قضاء لكنه هو يعتقد أنه من أملاكه. فصالح عليه بناء على هذا الأصل. وأن المدعى عليه فإنه يصالح لدفع الخصومة عن نفسه والشرع لا يمنع الإنسان عن أن يدفع الخصومة والوضاعة عن نفسه.
فإن من الناس من يحب أن يفتدي ذهابه إلى المجكمة أو اليمين بحضرة القاضي أو في حضرة المحكم بكب ما يملك لا يحب أن يدخل باليمين: إما لأنه لا يحب أن يخاطر بدينه كما فعل ابن عمر - رضي الله عنه - فإنه امتنع عن اليمين مع علمه بصدق نفسه تورعاً. أو لأنه لا يريد أنه من أشراف الناس أن يبذل اليمين أو يدخل مجلس القاضي وهذه الأمور يقرها الشارع فلا حرج للإنسان أن يمتنع عن مثل هذا.
(4/151)
________________________________________
إذاً: تبين أن المدعي والمدعى عليه لهم علل صحيحة في إجراء الصلح ولو كان على إنكار.
إذاً فالراجح إن شاء الله مذهب الجماهير.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله.
يعني: وهو يجهل الدين الذي أنكره أو الدين الذي سكت عنه.
إذا كان يجهل ثبوته: صح الصلح على إنكاره. لأن الأصل براءة الذمة.
بين المؤلف - رحمه الله - الآن لنا الحكم فيما إذا كان يجهل الدين الذي أنكره أو الدين الذي سكت عنه: فما الحكم فيما لو علم أنه بريء ولا دين عليه؟ وبين المؤلف - رحمه الله - الحكم فيما لو كان يجهل. فما الحكم لو كان يعلم أنه بريء؟
/ زيد ادعى على عمرو. وعمرو أنكر. قلنا له: أنت الآن تنكر هذه الدعوى. قال: نعم أنا أنكرها. أنا أجهل أن زيد يطلبني شيء.
نقول: هذا الصلح صحيح. لأنه يجهل. والأصل براءة الذمة.
/ لو كان زيد يعلم أن عمرو لا يطلبه. ما يجهل - يعلم: من باب أولى. ولذلك لم يذكرها المؤلف - رحمه الله - أنه إذا كان في الجهل ففي العلم من باب أولى.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ثم صالح بمال: صح.
على الخلاف السابق بين الجماهير والشافعية.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وهو للمدعي: بيع.
يعني: والصلح على إنكار بالنسبة للمدعي بيع.
ومعنى أنه بيع: يشترط له جميع شروط البيع.
/ فإذا لدعى عمرة على زيد سيارة وأنكر زيد ثم تصالح على أن يعطيه عن السيارة عشرة آلاف صلحا. فحقيقة هذا العقد أنه بيع يشترط
له شروط البيع.
فإن كان صرقاً: اشترطنا له شروط الصرف.
فهو بيع من كل وجه.
وسيفرع المؤلف - رحمه الله - على هذا الحكم.

- قال - رحمه الله -:
- يرد معيبه ويفسخ الصلح.
يعني: إذا صالحه على عين: وأخذها صلحاً عن العين التي ادعاها ثم تبين أن في الثمن عيباً فله الرد وله الفسخ وله القبول مع الأرش كما تقدم معنا في مسألة الرد بالعيب.
فإذا ادعى عليه السيارة وصالحه بخمسين صاع من البر فهذا العقد حكمه حكم البيع. والثمن في المثال هو: الخمسين صاعاً. فإذا تبين أن في الخمسين صاعاً عيب فيه تسويس في خراب خفيف الوزن. أي عيب من عيوب القمح.
فللمدعي الآن أن يرد بالعيب ويفسخ وله أن يقبل ويأخذ الأرش.
لماذا؟ لأنه من عقود البيع.
(4/152)
________________________________________
ويستثنى من هذا: صورة مهمة ولطيفة جداً من الحنابلة - من الحنابلة وغيرهم من الفقهاء:
/ وهي أنه إذا وقع الصلح على بعض العين المدعاة فلا خيار عيب له ولا فسخ. لماذا؟
- الصورة/ إذا صالحة على بعض اعين المدعاة - في المثال السابق - أخذ عن السيارة قمح - فإن صالحه على بعض العين المدعاة فقال: أنا أدعي عليك: خمسين صاعاً من القمح فصالحه على نصفها وأخذها فلما وصل إلى البيت وجد أنه معيب.
فهنا ليس له الرد بالعيب. لماذا؟
لأنه في هذه الصورة إنما أخذ ماله وهل يرد الإنسان ماله بالعيب. لأنه هو يدعي أن هذا القمح ملكاً له.
فحينئذ نقول: إذا وجدته معيباً فليس لك الخيار.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويؤخذ منه بشفعة.
وهذا أيضاً مبني على أن العقد من عقود البيع.
فإذا صالحه عن السيارة ببيت هذا البيت ملك للمدعى عليه ومعه شريك: فالآن هو صالحه على بعض البيت والبيت ملك للمدعى عليه ونصفه ملك لشخص ثالث.
فإذا وهبناه أو أعطيناه المدعي وشفَّع شريك المدعى عليه: صحت الشفعة. لأنا نعتبر أن العقد عقد بيع.
وماذا يترتب على هذا؟ أن ننزع البيت من المدعي ونعطيه: المشفِّع.
وبذلك يكون موضوع الصلح انتهى فلابد من صلح جديد على عوض يتراضاه الطرفان.
إذاً: له أن يشفع: شريك المدعى عليه: له أن يشفع لأن هذا يعتبر عقد بيع وعقد البيع فيه التشفيع.

- ثم قال - رحمه الله -:
- وللآخر: إبراء فلا رد ولا شفعة.
(وللآخر: إبراء) يعني: ويعتبر الصلح بالنسبة للآخر: إبراء.
وجه ذلك: أن غاية ما حصل أن بقيت السلعة التي يعتقد أنها ملكه في يده. - أن السلعة التي بقيت معه تعتبر ملكه بقي في يده.
لماذا؟ لأن المدعى عليه ينكر أن تكون هذه السلعة للمدعي ويعتبرها له.
فإذاً العقد بالنسبة له عقد إبراء.
- يقول - رحمه الله -:
- فلا رد.
/ صورة المسألة/ إذا ادعى زيد على عمرو أن هذه السيارة له/ المدعى عليه: عمرو. فصالحه عمرو عن السيارة بمائة ألف. لما ركب السيارة وجدها معيبة. نقول: ليس لك الرد بالعيب.
لماذا؟ لأن هذه السيارة ملكك ولم تعاوض عنها عقد معاوضة للمدعي. فهي ملكك بقيت في يدك. فليس لك الرد.
- يقول - رحمه الله -:
- ولا شفعة.
(4/153)
________________________________________
كذلك ليس في هذه العين شفعة لأنها ملكه بقيت في يده.
/ صورة المسألة/ أن يدعي زيد على عمرو نصف البيت الذي هو فيه. ونصفه يكون لمن؟ لشخص آخر. ثم يصالح عمرو زيد على البيت الذي هو فيه الآن ويعطيه ثمناً له خمسين ألفاً. فهل لشريك زيد أن يُشَفِّع؟
((الآن: زيد يسكن في بيت له نصفه. ادعى عمرو عليه أن هذا البيت ملكاً له - يعني لعمرو - صالحه زيد فقال: هذا البيت لي وأنا صأصالحك عنه بخمسين ألف ريال. تم الصلح. لما علم جار زيد أنه وقع صلح قال أنا سأشَفِّع وآخذ هذا البيت منك.) ( ..... ) لأنه بقي في ملكه. والشفعة إنما تكون في أي عقد؟ في عقد البيع. يعني: عند انتقال السلعة أو شقص العقار إلى شخص آخر. هنا لا يوجد انتقال أنه يعتقد أن ملكه ما زال باقياً في يده.
وهذا قد يتوهم بعض الناس أن له الشفعة في مثل هذه الصورة.
والصواب: أن العقد عقد إبراء.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن كذب أحدهما: لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام.
(وإن كذب أحدهما) سواء كان المدعي أو المدعى عليه فما أخذه محرم عليه.
((الأذان))

- يقول - رحمه الله -:
- وإن كذب أحدهما: لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام.
وهذا يشمل إذا كان الكاذب المدعي أو كان الكاذب المدعى عليه.
وإذا كان كاذباً فالعقد والصلح والتسليم والاستلام في الظاهر وفي معاملات الناس: صحيح ونافذ. وأما في الباطن: فهو محرم على الكاذب.
وذلك لأن الكاذب أخذ مال غيره بغير حق. وأكل مال الناس بالباطل محرم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يصح: بعوض عن حد سرقة وقذف.
يعني: معنى المسألة/ أنه لا يجوز أن يصالح إنسان سارقاً أو قاذفاً أوشارباً للخمر أو زانياً على أن لا يرفعه للسلطان بعوض معلوم متفق عليه.
هذا الصلح: باطل.
فإذا وجده سكراناً أو يزني أو سمعه يقذف وأراد أن يرفعه إلى السلطان. فقال: اترك رفعي إلى السلطان وأعطيك كذا وكذا. لا ترفعني إلى السلطان وأعطيك كذا وكذا.
فهذا الصلح باطل. بل ومحرم.
لأمور:
- الأمر الأول: أن الرفع إلى السلطان ليس من الحقوق التي يأخذ الإنسان عنها عوضاً.
- ثانياً: أن هذا من المصالحة على حقوق الله. وموضوع الصلح هو ما يقع بين العباد في حقوقهم.
(4/154)
________________________________________
- وثالثاً: لأن هذا الصلح لو صححناه لأصبح وسيلة لتعطيل الحدود.
وذكر بعض الفقهاء ضابطاً مريحاً لطالب العلم: وهو: ((أن الصلح إنما يجوز عن الحقوق التي يجوز الاعتياض عنها فقط)). مثال ذلك/ القصاص حق يجوز الاعتياض عنه: بأخذ الدية.
فيجوز أن تصالح عن القصاص بأخذ عوض كالدية أو أقل أو أكثر.
وممن ذهب إلى جواز أخذ أكثر من الدية بالذات في القصاص عدد من الصحابة منهم الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم -.
القصاص من الحقوق التي يجوز الاعتياض عنها.
مثال ثان/ بدل العين المتلفة. أليست من الحقوق التي يجوز الاعتياض عنها؟ بدل العين أو المبيع المعيب: فيجوز الاعتياض عنه.
كل هذه الأمور يجوز الصلح عنها أما حدود الله فهي ليست مما يجوز الاعتياض عنه فلا يجوز الصلح فيه.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا حق شفعة.
حق الشفعة: وحق الخيار: لا يجوز الاعتياض عنه.
- أما حق الشفعة فهو موضوع. يعني: فالمنع منه: لأنه موضوع لدفع الضرر بالشراكة. فإذا رضي بالصلح تبين أنه لا ضرر عليه فسقط حقه. ((أما الشفعة فلأنها موضوعة لدفع الضرر الحاصل بالاشتراك فإذا رضي الشريك بالصلح تبين أن لا ضرر عليه فسقط حقه)).
وإذا سقط حقه وبطل العوض لا يرجع للشفعة.
= والقول الثاني: أن المصالحة عن حق الشفعة صحيح لأن حق الشفعة من الحقوق المالية. يعني: من الحقوق التي تؤول للمال فيصح أخذ العوض عنها.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...
(4/155)
________________________________________
الدرس: (27) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- ولا حق شفعة.
تقدم معنا الكلام عن الشفعة والخيار وذكر الخلاف في الشفعة والخيار.
إذاً: قوله: (ولا حق شفعة ولا خيار) ذكرنا الخلاف والراجح جواز الحق في الشفعة: يعني: جواز الصلح بعوض عن حق الشفعة وحق الخيار.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وترك شهادة.
(4/156)
________________________________________
معنى قوله: (وترك شهادة). يعني: ولا يصح أن يصالح على ترك شهادة سواء كانت الشهادة لإثبات حق من حقوق الله أو إثبات حق من حقوق العباد.
صورة المسألة/ أن يقول رجل لمن يشهد عليه: (لا تشهد علي بوجوب الزكاة ولك كذا وكذا). هذا بالنسبة لحق الله.
وبالنسبة لحق العبادة أن يقول: (لا تشهد علي بثبات الدين ولك كذا وكذا).
فهذا الصلح على ترك الشهادة: محرم. لأنه صلح يؤدي إلى محرم. لأن كتم الشهادة التي توصل الحق إلى أصحابه: محرم.
فالصلح على محرم: محرم.
ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).
- يقول - رحمه الله -:
- وتسقط الشفعة والحد.
أي: أن مذهب الحنابلة أنه مع إبطال الصلح على حق الشفعة إلا أنه مع ذلك يسقط حقه في الشفعة لأنه كما تقدم معنا لما صالح تبينا أنه لم يتضرر من المشاركة فسقط حقه في الشفعة.
وهذا مبني على ما تقدم من أن الحنابلة يرون أنه لا يصح الصلح على الشفعة.
= وعلى القول الثاني: الذي تقدم وهو صحة الصلح على الشفعة لا نحتاج إلى مسألة يسقط أو لا يسقط حقه من الشفعة لأنا نصحح الصلح أصلاً.
يقول: (ويسقط الحد). يقصد بالحد هنا: حد القذف.
وفي الحقيقة لو صرح بهذا لكان هو الأحسن والأسلم إذ مقصود الحنابلة بسقوط الحد سقوط حد القذف فقط.
وسقوط حد القذف في هذه المسألة مبني على مسألة أخرى وهي: هل القذف من حقوق الله أو من حقوق الآدمي: أي: من حقوق المقذوف؟
فإن كان من حقوق الله لم يسقط ولو صالح عليه.
وإن كان من حقوق الآدمي: سقط إذا صالح عليه.
لأنا تبينا أنه رضي بالتنازل عن حقه في إقامة حد القذف على قاذفه. والحق إليه، فلما أسقطه سقط.
إذاً: الحنابلة يسقطون الشفعة والحد مع إبطال الصلح. إلا أن الصلح الذي تم صار علامة وقرينة على أن صاحب الشفعة وصاحب الحد تنازلوا عن حقوقهم.
و [ ..... ] بهذا انتهى الكلام عن الصلح وانتقل المؤلف - رحمه الله - ليتكلم عن أحكام الجوار بين الجارين بداية من قوله: (وإن حصل ... إلى آخره).
- قال - رحمه الله -:
- وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره: أزاله.
(4/157)
________________________________________
عبر المؤلف - رحمه الله - بقوله: (إن حصل). ليشمل ما إذا وجد الغصن بلا فعل من الجار بأن يمتد وينمو إلى أن يصل إلى هواء جاره أو بفعله بأن يوجه الأغصان إلى بيت الجار: فيشمل الجميع.
والغالب أن حصول الأغصان في بيت الجار يكون بغير فعل مالك الشجرة.
فالمؤلف - رحمه الله - يقول: إذا حصل ووجدت الأغصان في بيت الجار فإنه يجب على الجار أن يزيل هذا الضرر بإبعاد الغصن.
والدليل على هذا:
- أن الهواء بالنسبة للجار ملك له ولا يجوز للإنسان أن ينتفع بملك غيره إلا بإذنه.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله -: أن الجار صاحب الشجرة لا يجب عليه إزالة الغصن إلا إذا طلب منه جاره ذلك فإن سكت فإنه لا يجب على الجار أن يزيل الغصن ولو تأذى جاره ولو رأى أنه متأذي.
إنما يجب في صورة واحدة ونهي: ما إذا طلب الجار منه ذلك.
والصحيح أن الإنسان إذا رأى أغصان شجرته آذت جاره فإنه يجب عليه وجوباً أن يزيل هذا الضرر ولو بلا طلب من الجار.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالجار فكيف بالإضرار به.
- وثانياً: لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). والضرر منفي ويجب أن يرفع ولو بلا طلب من المتضرر.
فالأقرب والله اعلم أنه يجب عليه أن يبادر بإزالة الضرر إذا علم أن الأغصان تضر. وإذا رأى أو ظن أن الأغصان وإن وجدت في بيت جاره فإنها لا تضره فإنه والحالة هذه لا يجب عليه أن يزيل الأغصان إلا بطلب الجار.
والمؤلف - رحمه الله - يقول: (في هواء غيره أو قراره) يعني: إذا امتدت الأغصان في الهواء فوصلت إلى هواء الجار أو دبت على الأرض ووصلت إلى أرض الجار ففي الصورتين يجب عليه وجوباً أن يزيل الضرر إذا طلبه جاره.
وعلى القول الثاني: يجب أن يبادر بإزالة الضرر متى علم بوجوده ولو بلا طلب من الجار.
إذاً: يستوي الأمر بين أن تكون الأغصان في الهواء أو يدب دبيباً على الأرض فالأمر واحد.
المهم أو قاعدة المسألة: أنه لا يجوز الانتفاع بملك الغير إلا بإذنه. سواء كان الهواء أو الأرض.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن أبى: لواه إن أمكن، وإلاّ فله قطعه.
إن أبى: يعني: صاحب الأغصان.
لواه: يعني: صاحب الهواء.
وأرجعه إلى بيت صاحب الشجرة.
(4/158)
________________________________________
فإن لم يندفع قطعه.
وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (إن أمكن وإلا فله قطعه).
حكم المسألة/ أنه إذا أبى الجار مالك الشجرة أن يزيل ضرر الأغصان فللجار مالك الهواء أن يزيل هذا الضرر لكن يجب عليه وجوباً أن يتدرج في إزالة الضرر.
فإن أمكن إزالة الضرر بمجرد اللي والإبعاد: فيجب أن يقتصر على ذلك.
فإن قطعه مع إمكان إزالته باللي: ضمنه.
وإن لم يمكن إزالته مطلقاً إلا بالقطع: فله أن يقطعه ولا ضمان عليه.
لأن حكم هذه المسألة كحكم دفع الصائل. وهذه الشجرة كالصائل على ملك جاره.
وسيأتينا أن دفع اصائل يجب أن يتم بالتدريج: يبدأ بالأهون فالأهون. عكس ما يفعله بعض الناس: التدريج عنده أن يبدأ بالأصعب وهذا لا يجوز وهو يضمن ولو تأذى إذا بدأ بالأعلى: ضمن.
ولاحظ عدالة الشرع إذ أن صاحب الشجرة أبى أن يزيلها ومع ذلك نلزم المتضرر أن يدفع الضرر بالتدريج مع ان المالك للأغصان أبى أن يزيل الضرر.
لكن مع ذلك يجب أن يزيله بالتدريج فإن تعدى مرحله قبل أخرى ضمن.
وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجب على المالك بنفسه أن يزيل الضرر لأن المؤلف - رحمه الله - أسند إزالة الضرر إلى مالك الهواء.
وعلل الحنابلة ذلك: أي: عدم وجوب إزالة الأغصان على المالك:
- بأن هذا الامتداد والنمو حصل بغير فعله. فلم يجب عليه إزالته.
بناء عليه: فللجار أن يقول لجاره: إن تأذيت بالأغصان فأنت تصرف بها إزالة أو قطعاً أو لياً أو ربطاً .. إلى آخره. ولا يجب على المالك أن يزيل هو.
إذا تضررت فأزله أنت لأن نمو هذه الأشجار بغير إرادتي.
هذا هو مذهب الحنابلة فعلاً ولا يجب عليه هو أن يزيل ولا أن يحظر من يقلم الأشجار ولو تضرر الجار.
= والقول الثاني: انه يجب على المالك أن يزيل.
- لأنه وإن كان بغير فعله إلا أنه نماء ملكه. فوجب عليه هو أن يزيله.
ويترتب على هذا الخلاف نفقة الإزالة إذ قد تكون نفقة الإزالة مرتفعة فيما إذا كانت الأشجار كثيرة.
والراجح إن شاء الله: القول الثاني.
* * مسألة/ تتعلق بهذا الحكم وهي: أنه يجوز أن يتصالح الجاران على ثمن لإبقاء الأغصان. كأن يقول: ادفع لي كذا وكذا وأسمح بامتداد الأغصان.
وهو صلح جائز ولا حرج فيه.
(4/159)
________________________________________
وأشبه ما يكون بالإجارة. كأنه اجره الهواء. والهوار تبع للقرار كما تقدم معنا.
* * مسألة/ ولهم أن يتصالحوا على الثمرة بجزء معلوم. كأن يقول: دع الأغصان كما هي. وما فيها من ثمرة: لك نصفه ولي نصفه.
فإن قيل: كيف يصح هذا الصلح والثمرة مجهولة: إذ قد تكون ثمرة هذا الجزء من الشجرة كثيرة وقد تكون قليلة وقد لا تنبت الشجرة.؟
فالجواب: أن هذا الصلح هو في الحقيقة من باب تبادل المنافع لا من باب البيع الذي يشترط فيه العوض والعلم ونفي الجهالة.
كأنه قال: لي هوائك ولك الثمرة.
فهو من باب تبادل المنافع لا أكثر. فجازت فيه الجهالة.

ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى موضوع آخر:
- فقال - رحمه الله -:
- ويجوز في الدرب النافذ: فتح الأبواب للإستطراق.
الدرب النافذ هو: الدرب المفتوح الذي لا ينغلق على مجموعة معينة من الجيران.
هذا هو الدرب النافذ.
المؤلف - رحمه الله - يقول: (ويجوز في الدرب النافذ: فتح الأبواب للإستطراق) يجوز للإنسان إذا كان بيته على درب نافذ لا على درب مغلق أن يفتح ما شاء من الأبواب وأن يستطرق هذا الطريق. يعني: يجعله طريقاً له في دخوله وخروجه.
والدليل على جواز هذا:
- أن هذا الطريق ملك لجميع المسلمين وهو من جملة المسلمين فجاز له أن ينتفع ويرتفق به. لأن الطريق المفتوح لا يعتبر ملك للبيوت التي عليه. وإنما هو ملك لجميع المسلمين لأنه مفتوح. فيمر من عند هذا الطريق من بيته على الطريق ومن بيته في مكان آخر.
بخلاف الطريق المغلق كما سيأتينا فإنه لا يمر به غالباً إلا أصحاب البيوت. أليس كذلك؟!
إذ يقل أو يندر أو لا يوجد أن يمر إنسان من طريق مسدود ليس له فيه بيت.
فإن قيل: ربما جاء للزيارة: فهذا نادر لا حكم له.
إذاً الخلاصة أن الطريق المفتوح للجميع يجوز للإنسان إذا كان بيته عليه أن يفتح باباً وأن يستطرق فيدخل ويخرج وينتفع بالطريق لأنه من جملة المسلمين الذين يملكون هذا الطريق.
ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألة أخرى تتعلق أيضاً بالطريق المفتوح.
- فقال - رحمه الله -:
- لا إخراج روشن وساباط.
يعني: لا يجوز أن في الدرب المفتوح إخراج الروشن والساباط.
(4/160)
________________________________________
الروشن: هو الشرفة التي تبنى لها القواعد في أصل جدار البيت وتمتد إلى الخارج.
ويظهر لي أنها أشبه ما تكون في وقتنا الحاضر بالبلكونة.
وأما الساباط: فهو ما يشغل جميع الهواء ويتكيء على البيتين.
وهذا في القديم كثير جداً.
وفي الحديث: لا يوجد. فما نرى الساباط الآن في البيوت المسلحة لكن لو دخلت أحد الأحيار القديمة فستجد الساباط وهو البناء الذي يمتد بين البيتين فإنه كثير جداً.

= الحنابلة يرون: أنه لا يجوز للإنسان أن يضع هذين الشيئين في الطريق المفتوح الممتد.
واستدلوا على هذا:
- بقولهم: أن هذه الطريق ملك لجميع المسلمين ولا يجوز للإنسان أن ينتفع بملك غيره إلا بإذنه.
فالإرتفاق بالطريق ببناء هذين البنائين: محرم واعتداء على حقوق المسلمين.
= والقول الثاني: أن بناء الساباط والروشن أو الشرفة أو الجناح: جائز. بشرط أن لا يؤذي المارة.
واستدلوا على هذا:
- بأن الانتفاع بهذا الملك يشبه استطراق الطريق. فإذا جاز له أن يستطرق الطريق جاز له أن يبني الشرفة والساباط.
- واستدلوا على هذا: بأن الناس في حاجة شديدة إلى مثل هذين: أي الشرفة والساباط.
- واستدلوا على هذا: بأن الانتفاع مع اشتراط عدم الضرر لا محظور فيه.
وهذا القول الثاني: يظهر والله أعلم أنه أرجح كما أن العمل في القديم عليه فتجد الرواشن والساباطات تملأ الشوارع. فالعمل عليه والأظهر إن شاء الله أنه جائز.
* * مسألة/ فإن أذن الحاكم جاز بلا شكال لأن الحاكم يمثل المسلمين فإذنه كإذنهم.
بناء على هذا: إذا أخذ الإنسان إذناً من البلدية يخرج من منزله شرفة تمتد إلى وسط الطريق فإن هذا العمل لا بأس به. بشرط: أن لا يؤذي. ولذلك ما نراه الآن أحياناً من وجود الجسر بين بنائين يمر من فوق في الطريق المفتوح لا حرج فيه ما دام لا يؤذي. ويمكن أن تمر من تحته حتى السيارات المحملة بالأشياء الكثيرة. فما دام أنه لا يؤذي فإنه جائز لا سيما وأنه لا يبنى اليوم إلا بإذن من البلديات وهي تمثل ولي الأمر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ودكة.
الدكة: بناء مسطح يتخذ للجلوس بجوار جدار البيت. والدكة: لا تجوز عند الحنابلة. بل حكي الإجماع على تحريمها.
واستدلوا على هذا:
(4/161)
________________________________________
- بأنها تؤذي وتضر المارة ضرراً ظاهراً وتضيق الطريق.
فإن قيل: ما الفرق بين الدكة وبين اتخاذ الناس المجالس وقد أذنت السنة به بشروطه؟ ما الفرق بين أن يجلس الإنسان على حافة الطريق وبين أن يتخذ دكة؟ الجواب: الفرق بينهما: أن الدكة دائمة ومستقرة والجلوس عارض ويزول. وفرق بين ما يدوم وما يزول.
وهذا القول الذي حكي الإجماع عليه: صحيح والدكة مؤذية بلا إشكال وتضيق الطريق وهي دائمة وضررها من حيث تضييق الطريق أمر ظاهر جداً ولعله لهذا أجمع عليه بخلاف الروشن والساباط فإنه لا يؤذي ولا يضيق الطريق فإن الإنسان يمر من تحته. بل إن له بعض الأحيان منافع إذ قد يستظل الإنسان به من حر الشمس أو من نزول المطر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وميزاب.
أي: ولا يجوز للإنسان أن يجعل الميزاب ممتداً إلى الطريق المفتوح النافذ.
والمنع من اتخاذ الميزاب من مفردات الحنابلة. وكذلك الروشن والساباط من مفردات الحنابلة.
استدل الحنابلة على المنع من اتخاذ الميزاب بأدلة:
- الدليل الأول: أنه يؤذي المارة بخروج الماء عليهم. ويؤذي المارة بجعل الطريق طيناً.
- واستدلوا على هذا أيضاً: بأنه انتفاع بملك غيره بلا إذنه.
فعلى هذا يجب على صاحب البيت أن يجعل مخرج المياه إلى الداخل لا إلى الخارج.
= والقول الثاني: أن اتخاذ الميزاب جائز ولا حرج فيه بل قال شيخ الإسلام: هو السنة. أي: اتخاذه. لوجوده في العهد النبوي.
واستدلوا على الجواز أيضاً:
- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر على دار العباس وفيها ميزاب فقال العباس لعمر - رضي الله عنه - أتقلعه وقد وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر - رضي الله عنه - والله لا تضعه إلا على ظهري. - رضي الله عنه وأرضاه - فصعد على ظهره ووضع الميزاب في مكانه.
فهذا دليل من وجهين: - الوجه الأول: أن الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- الوجه الثاني: أنه معتاد في العصر النبوي.
وهذا الأثر لا يصح. ولا أظن أن عمر بن اخطاب يجهل مثل هذه السنة وهي مشهورة.
الراجح: القول الثاني: وهو جواز وضع الميزاب.
ومما يدل على رجحان هذا القول أن وضع الماء إلى الداخل مؤذي جداً ويسبب الضرر على أهل البيت.
(4/162)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يفعل ذلك في ملك جار.
الإشارة بقوله - رحمه الله -: (ذلك) إلى وضع هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -: الساباط والروشن والميزاب والدكة. فليس له أن يجعل هذه الأشياء في ملك جاره.
وهذا صحيح: لأن ملك اجار ملكاً خاصاً ولا يجوز للإنسان أن ينتفع بالملك الخاص إلا بإذن صاحبه.
فلا يجوز أن يبني البلكونة خارجة عن حدود أرضه ولا أن يجعل الميزاب إلى جاره لأن هذه الأراضي أموال خاصة لا يجوز للنسان أن ينتفع منها بشيء إلا بإذن صاحبها.
وهذا الحكم ثابت ولو كان الجار لم يبني إلى الآن ولا يتضرر بسقوط الماء عليه لأن الإنسان حر في ملكه تضرر أو لم يتضرر.
فلا يجوز أن يفعل ذلك إلا بإذن جاره.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ودرب مشترك: بلا إذن المستحق.
انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى النوع الثاني من الطرق وهو الدرب المشترك.
ويمكن أن تقول: الدرب غير النافذ لأنه يلزم من كونه غير نافذ أن يكون مشتركاً بين البيوت التي عليه.
فهذا الدرب لا يجوز أيضاً أن يضع الإنسان فيه الروشن أو الساباط ولا الميزاب ولا أن يضع دكة بجوار بابه.
هذه أربعة أبنية لا تجوز عند الحنابلة لا في الدرب النافذ ولا في الدرب غير النافذ.
نحن الآن في الدرب غير النافذ.
لا يجوز وضع هذه الأشياء لأن الدرب النافذ ملك لأصحاب البيوت التي تطل عليه فقط غلا يجوز أن نفعل ذلك إلا بإذنهم فإذا أذنوا وهم أصحاب الحق: جاز وإلا فلا. لأنه من الانتفاع في ملك الغير بغير إذنه.
= القول الثاني: الجواز.
واستدلوا أيضاً:
- بأن لصاحب البيت أن ينتفع بالطريق استطراقاً وجلوساً فكذلك أن يبني هذه الأبنية.
ويشترط على هذا القول: أن لا تضر بأصحاب الطريق. سواء كان هذا الضرر معهوداً أو غير معهود. فلا يجوز إذا كانت هذه الأبنية تضر أن تبنى.
والخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف في المسألة السابقة إلا أن الجواز في مسألة الطريق النافذ أقوى من الجواز في مسألة الطريق غير النافذ. لماذا؟ لأن أصحاب الطريق غير النافذ أخص من أصحاب الطريق النافذ. - لأن أصحاب الطريق غير النافذ هم فقط أصحاب البيوت التي على الطريق.
(4/163)
________________________________________
وأما أصحاب الطريق النافذ فهو جميع المسلمين ومنهم صاحب هذا الروشن أو الساباط.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وليس له وضع خشبه على حائط جاره: إلاّ عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلاّ به.
أفاد المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز للجار أن يضع خشبه على جدار جاره بشروط.
- الشرط الأول: أن لا يكون في الوضع ضرر على الجدار. وهذا الشرط محل إجماع.
- الشرط الثاني: أن يكون بحال الضرورة لوضع خشبه على جدار جاره. فإن لم يكن بحال ضرورة وإنما حاجة فقط فإنه لا يجوز.
ومثل المؤلف - رحمه الله - على الضرورة بأن لا يستطيع تسقيف الغرفة إلا بوضع الخشب على جدار الجار.
ومن المعلوم أن تسقيف الغرفة ضرورة لأنه لا يمكن للإنسان أن يعيش في غرفة مفتوحة الغما.

واستدل الحنابلة على هذا الحكم:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره). والحديث نص في المسألة.
= القول الثاني: أنه لا يجوز مطلقاً أن يضع الإنسان خشبه على جدار جاره ملطقاً.
- لأن جدار الجار ملك خاص لا يجوز الانتفاع به إلا بإذنه.
= القول الثالث: أنه يجوز وضع الخشب على جدار الجار ولو للحاجة بلا ضرورة.
فيكون الشرط عند أصحاب القول الثالث عدم الضرر فقط.
ما هو دليلهم؟
- الحديث السابق: وجه الاستدلال: الإطلاق. فهو وجه الاستدلال فإن الحديث عام: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره) فلم يخصص بحال الضرورة أو حال الحاجة أو سوى ذلك.
فاشتراط الضرورة لا دليل عليه. وإلى هذا القول: ذهب ابن عقيل من الحنابلة.
وهو في الحقيقة من وجهة نظري هو الراجح: لأن الحديث عام وتخصيصه بلا مخصص لا معنى له.
وما دمنا نشترط أن لا يكون هناك ضرر على الجار فبأي حق يمنع.
* * مسألة/ على القول بأنه للجار أن يضع خشبه على جدار جاره - على هذا القول - له أن يضع ولو لم يأذن الجار ولو امتنع وعلى الحاكم أن يجبره.
* * مسألة/ لو حكم حاكم - يعني: قاضي - بعدم جواز وضع الخشب على جدار الجار فللقاضي الآخر إذا عرضت عليه أن ينقض الحكم وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على ذلك.
والسبب أنه خالف بذلك حديثاً صريحاً صحيحاً.
وإذا خالف حكمه حديثاً صريحاً صحيحاً وجب نقضه.
(4/164)
________________________________________
ونحن لا نقول ينقض مباشرة لكن نقول إذا عرضت القضية على قاض آخر فله أن ينقض الحكم السابق لمخالفته لصريح السنة.
* * مسألة/ على القول بجواز وضع الخشب على جدار الجار لا يلزم الجار بإنشاء جدار آخر في منزله لوضع الخشب عليه ولو أمكن.
إذاً تبين الآن أن الراجح هو: جواز وضع الخشب على الجدار إما في حال الضرورة الحاجة على حسب الخلاف.
كيف نجيب على دليل أصحاب القول الثاني: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
تقدمت معنا قاعدة مفيدة في الترجيح: ((أن الدليل الخاص بالمسألة مقدم على الدليل العام ولو كان الدليل العام صحيحاً ومتوجهاً)). لكن ما دام في المسألة دليل خاص فلا ننظر إلى الأدلة العامة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وكذلك المسجد وغيره.
يعني: والحكم في وضع الخشب على جدار المسجد كالحكم في وضعه على جدار الجار تماماً. بالتفصيل السابق.
فيجوز أن يضع بالشروط التي ذكرها الحنابلة.
= وعن الإمام أحمد - رحمه الله - رواية ثانية أنه لا يجوز وضع الخشب على جدار المسجد وإن جاز وضعه على جدار الجار.
واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - بأن الحديث نص على جدار الجار ولم يذكر جدار المسجد.
واختار هذه الرواية: من الحنابلة أبو بكر: وهو من كبار الحنابلة وله ترجمة ممتعة لو رجعتم إليها لكان مفيداً.
والراجح: القول الأول: وهو أن المسجد كغيره.
والمرجح لهذا القول: أن حقوق الله يدخل فيها المسامحة أكثر من حقوق العباد لكرمه وفضله.
فإذا جاز في جدار الآدمي ففي جدار الوقف من باب أولى.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره، فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه: أُجبر عليه.
ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
- المسألة الأولى: إذا انهدم الجدار الذي بني بين الجارين وهو ملك لهما. يعني: ملك مشترك.
فإذا انهدم وطلب أحدهما من الآخر أن يشتركا في البناء والترميم وجب وجوباً على الآخر أن يجيب.
وهذه المسألة أيضاً من مفردات الحنابلة.
واستدلوا على هذا الحكم:
- بأن ترك بناء الجدار يؤدي إلى الإضرار وهو ملك لهما فوجب عليهما أن يشتركا في بنائه.
= القول الثاني: أنا لا نجبر الجار على بناء الجدار.
(4/165)
________________________________________
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن الإنسان لا يلزم بتعمير ملكه. فلا يلزم يتعمير ما ملكه مع غيره.
- الثاني: أن الإنسان لا يلزم بالنفقة على غير المحترم. ويقصدون بالمحترم: الذي له نفس. يهلك إذا لم ينفق عليه.
وإذا لم يجب عليه فلا يجوز أن نلزمه بغير واجب.
وإلى هذا ذهب ابن قدامة. فمال إلى أنه لا يلزم. إذا لم يرد بناء جدار لايلزم.
أي القولين أرجح؟ في الحقيقة تتجاذب المسألة أدلة قوية لكن الراجح فيما يبدو لي: أنه لا يلزم إذا أبدى عذراً صحيحاً ويلزم بدون ذلك.
فإذا أبدى عذراً واضحاً لم نلزمه وإذا امتنع إضراراً ألزمناه.
وهذا القول وسط لا ضرر عليه إذا امتنع بسبب وجيه ولا نلزمه بعد ذلك وإذا اعتذر بعذر غير وجيه نلزمه.
وفي الغالب الذي يتولى تقدير عذر الممتنع هو: القاضي بلا شك. ليخرج من الخلاف بين الأشخاص ويفصل القاضي بين الخصوم.
- المسألة الثانية: إذا خيف ضرره.
إذا خيف ضرر الجدار بأن ينهدم وجب على كل منهما إقامة الجدار والنفقة عليه. وهذا لا إشكال فيه. لأن بقاء الجدار مع خوف الانهدام فيه ضرر ظاهر.
والهلاك بسقوط الجدار على الإنسان غالب.
فيجب وجوباً النفقة عليه إذا خيف ضرره.
فإذا انهدم رجعنا إلى المسألة السابقة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وكذا النهر والدولاب والقناة.
يعني: والحكم نفسه إذا تهدم الدولاب أو القناة أو النهر وطلب أحد الشريكين من الآخر أن يصلحها وجب على الجميع الاشتراك في الإصلاح.
والنهر: هو الماء الجاري الذي يشتط منه للمزارع أي من النهر الكبير. فهذا النهر الصغير يسمى أيضاً نهراً.
والدولاب: هي آلة تستعمل في إخراج الماء إما عن طريق الإدارة بالحيوانات أو بالماء.
والقناة: حسب ما يقول الحنابلة: هي الآبار التي تحفر متقاربة يخرج الماء منها على سطح الأرض.
هكذا فسر الحنابلة القناة مع أن الذي يتبادر إلى الذهن من كلمة القناة أنها قناة ممتدة لتوصيل الماء.
لكن هم يرون أنها الآبار.
فهذه الأشياء إذا انهدمت وتعطلت وجب على الشريكين الاشتراك في إصلاحها.
والقول بوجوب إصلاح مثل هذه الأشياء - الثلاثة الأخيرة - أوجه وأوجب من القول بوجوب إصلاح الجدار.
(4/166)
________________________________________
لأن هذه الأشياء إذا تعطلت مات الزرع. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا ضرر ولا ضرار). وأي ضرر أعظم من أن يترك الإنسان زرعه الذي تعب عليه طوال السنة بلا سقي فيموت ويخسر ما استدان في إقامته.
فيجب في الحقيقة. والقول بالوجوب متوجه جداً في مثل هذه الأشياء.
نفس الشيء: اليوم لو اشترك الجاران بالمزرعة بحفر بئر ووضع الماكينة التي تخرج الماء فخربت فيجب وجوباً عند الحنابلة وهو القول الأقرب أن يشترك في إصلاحها وسقي الماء بها لأن تركها فيه ضرر ظاهر.

وبهذا انتهى باب الصلح وندخل إن شاء الله في باب الحجر .. ((الأذان)).
باب الحجر
- قال - رحمه الله -:
- باب الحجر.
الحجر في اللغة: المنع والتضييق.
وغالب استخدامات الحجر عند الفقهاء في الحجر الحسي كما سيأتينا وهو المنع من البيع والشراء.
والعوام اليوم يستخدمون الحجر في الحجر المعنوي. وفي الحقيقة لم يتبين لي هل لغة تستخدم في الحجر الحسي والمعنوي. يعني: في المنع سواء كان منعاً حسياً أو معنوياً. أو لا تستخدم إلا في الحسي. لم يتبين لي من كتب اللغة ما يفيد هذا الأمر إنما العوام يستخدمونها اليوم.
فإذا حصل نقاش ومناظرة يستخدمون كلمة حجره. يعني: منعه وضيق عليه. فهي من جهة المعنى صحيحة لكن هل تستخدم أو لا.
وشرعاً: الحجر هو منع الإنسان من التصرف بماله.
وأصل المشروعية: قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء .. } [النساء/5].
وينقسم الحجر إلى قسمين:
- لحظ النفس. كالحجر على الصغير أو السفيه أو المجنون.
- والحجر لحظ الغير. كالحجر على المفلس أو على المريض إذا تبرع بأكثر من الثلث وهو لحظ الورثة.
نكتفي بهذا .. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ...
(4/167)
________________________________________
الدرس: (28) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا أن الحجر له قسمان:
- محجور لحظ نفسه.
- ومحجور لحظ غيره.
فالمؤلف - رحمه الله - بدأ بالكلام عن المحجور لحظ غيره: لأنه الأكثر وقوعاً والحاجة إليه أكثر. كما أن ضياع الأموال بالنسبة للمحجور عليه لحظ غيره أكثر منها بالنسبة للمحجور عليه لحظ نفسه.
وسيبين المؤلف - رحمه الله - أنواع المدين المحجور عليه لحظ نفسه.
وسيأتينا اقتصاراً حتى تتصور المسأة أنها ثلاثة أقسام. وأن الذي يحجر عليه منها قسم واحد - سيأتينا:
- فالقسم الأول: - إجمالاً -: هو الذي لا يستطيع أن يوفي الدين.
- القسم الثاني: هو الذي يستطيع أن يوفي الدين.
- القسم الثالث: هو الذي يستطيع أن يوفي بعض الدين.
فقسمة المدين هنا ثلاثية. وسيأتينا الآن حكم كل واحد من هؤلاء الأقسام.
فالقسم الأول:
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه: لم يطالب به.
هذا هو القسم الأول: الذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه وهو المسمى عند الفقهاء بالمعسر.
فهذا لا يملك ما يؤدي به أي شيء من الدين.
ولاحظ عبارة المؤلف - رحمه الله -: (على وفاء شيء من دينه) يعني: لا يستطيع أن يوفي أي شيء من دينه فهو معسر وحكمه في الشرع: أنه لا يطالب.
ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: (لم يطالب به). إذاً المعسر لا يجوز أن نطالبه.
- لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة/280] فأمر الله بإنظاره إلى أنى يتيسر له ما يسد به الدين.
وحكم مطالبته وهو معسر: محرم. والطالب: آثم. لأمرين:
- أولاً: لأنه خالف الآية.
- وثانياً: لأنه آذى أخاه المسلم فإن هذا الشخص لا يستطيع أن يسدد فلا تزيده المطالبة إلا إحراجاً ومضرة.
ولا يجوز أن يحجر عليه: وهذا الذي يهمنا - ولهذا:
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- وحرم حبسه.
فلا يطالب ولا يحبس ولا يحجر عليه.
وكل هذه المسائل مبنية على المسألة الأولى وهي: أنه لا يجوز أن يطالب. فمن لا يجوز أن يطالب لا يجوز أن يحبس ولا يجوز تبعاً لهذا أن يحجر عليه.
لأن أول مراحل المعاملة مع المدين: الطلب.
فإذا لم يجز أن نطلب: سقط كل ما بعد الطلب من الحبس والحجر.
إذاً: المعسر لا يطالب ولا يحجر عليه ولا يحبس.
(4/168)
________________________________________
ومن وجهة نظري لو أن المؤلف - رحمه الله - صرح أنه لا يحجر عليه وإن كان مفهوماً من كلامه لكن لما كان الباب مخصص للحجر وهو لبيان حكم الحجر بالذات كان من امناسب أن يقول ولا يحجر عليه. وهو أهم من الحبس في مثل هذا السياق لأنه إذا لم يحجر عليه فمن باب أولى: لم يحبس.
ثم انتقل إلى القسم الثاني:
- فقال - رحمه الله -:
- ومن ماله قدر دينه ..
إذا كان عنده من المال ما يفي بالدين أو عنده ما يزيد عن الدين فهذا هو القسم الثاني وسيبين المؤلف - رحمه الله - الأحكام التي تترتب على مقدرة الإنسان على وفاء الدين.
- فيقول - رحمه الله -:
- لم يحجر عليه.
هنا صرح بالحكم: فقال: (لم يحجر عليه).
والدليل أنه لا يحجر عليه:
- أنه لا حاجة للحجر لأنه يستطيع وفاء الدين بما عنده من مال. - (أنه لا حاجة للحجر في مثل صورة هذا المدين لأنه يستطيع أن يوفي بما عنده من مال.
فلا يجوز أن نحجر عليه ولو بطلب الغرماء.
لكن سيبين المؤلف - رحمه الله - الأحكام التي تترتب على القدرة:
- فيقول - رحمه الله -:
- وأمر بوفائه.
- المرحلة الأولى للمدين القادر على الإيفاء: ليس أن يؤمر بوفائه: المرحلة الأولى: أن يوفي هو وجوباً. فإن لم يفعل فإنه آثم.
- المرحلة الثانية: أن يأمره الحاكم بوفاء الدين. فحينئذ يجب عليه هو أن يمتثل ويجب على الحاكم أن يأمره بالوفاء.
ودليل هذين الحكمين: يعني: أنه يجب أن يبادر بالوفاء وأنه يجب أن يأمره الحاكم إذا لم يفي:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم). والظلم محرم في جميع الشرائع السماوية وبالأخص في شريعتنا فهو من الأخلاق المحرمة بالإجماع.
المهم هذا هو الدليل على أنه يجب أن يفي ثم إذا لم يفعل فيجب على الحاكم أن يطلبه. وأفاد الحديث أن مطل الغني محرم: لأنه ظلم.
بقينا في:
* * مسألة/ وهي مهمة: متى يعتبر من يستطيع أداء الدين مماطل:
= عند الحنابلة: يعتبر مماطلاًَ إذا طولب بالدين ولم يسدد فحينئذ نعتبره مماطلاً. فبمجرد ما يمتنع عن سداد الدين فنقول: أنت مماطل. لأنك تستطيع ولم تفعل وهذا حقيقة المماطلة.
(4/169)
________________________________________
ويحتمل أن نقول: أن المماطلة يرجع فيها إلى العرف: فالانتظار يوم أو يومين أو الانتظار إلى مجيء مبلغ مالي للمدين معين سياتي بعد فترة لا يعتبر من المماطلة.
لكن إذا طالت القضية وأعطى موعداً أكثر من مرة فمع أنه يستطيع أن يوفي في المرة الأولى فحينئذ نعتبره مماطل.
الذي يريد أن أقوله: أنه لا نعتبره مماطل من أول مرة كما هو رأي الحنابلة: أنه إذا طولب ولم يسدد فهو مماطل. أقول أنه لو رجع في تحديد المماطل إلى العرف لكان أولى فإن الناس لا يعتبرون الإنسان مماطلاً بالرفض من أول مرة لا سيما إذا كان عنده سبب وجيه. ثم انتقل إلى المرحلة الأخرى: إذا لم يفي.
- فقال - رحمه الله -:
- فإن أبى: حبس بطلب ربه.
إن أبى هذا المستطيع وفاء الدين فإنه يحبس. لكنه لا يحبس إلا بطلب صاحب الدين لأنه من حقوق صاحب الدين وليس من الولايات العامة التي يفعلها الحاكم بلا طلب من صاحب الحق بل هو حق خاص إنما يحبس إذا طلب.
وحبس المدين إذا لم يوف ما عليه: مذهب الجماهير من السلف والخلف.
وأول من حبس على الدين شريح - رحمه الله - ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي يحبسون وإنما كانت الطريقة في العهد النبوي والقرون المفضلة أن يلازم الدائن المدين إلى أن يفي بما عليه ولم يكونوا يحبسون.
لكن من المعلوم أنه بعدما كثرت أقضية الناس وخف دينهم في وقت شريح وهو في وقت مبكر احتاج الحاكم أن يحبس وأصبح أداء الحقوق يكاد يتعذر عند المماطلين بدون الحبس. فالحبس مشروع.
والدليل على مشروعيته مع عمل السلف الصالح به:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته).
فالعقوبة هي الحبس ونحوه.
وأما العرض: فهو أنه يجوز للدائن إذا ماطله المدين - يجوز له ولا حرج عليه أن يقول للمدين الواجد: يا ظالم يا باغي يا معتدي ولا حرج عليه. لأن هذا الذي امتنع من أداء الدين أحل عرضه الدائن بمقتضى الشرع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن أصر.
أي فغن أصر بعد الحبس فإنه يعزر إما بالضرب أو بالتشهير أو بما يراه الحاكم مناسباً لحال هذا المعتدي.
(4/170)
________________________________________
وظاهر ترتيب المؤلف - رحمه الله - أن الحاكم ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ بالحبس ثم بعد ذلك تتدرج العقوبات.
والصحيح أن للحاكم أن يبدأ بغير عقوبة الحبس: إذا رأى أن غير عقوبة الحبس كالتشهير أبلغ وأزجر لهذا المدين المماطل فيبدأ مباشرة بالتشهير.
وإن رأى أن الضرب أبلغ في حقه ضربه ولم يحبسه.
وإن رأى أن الحبس هو المفيد في مثل حاله.
وإن رأى أن يجمع عليه بين الحبس والضرب والتشهير وغيرها من العقوبات التعزيرية فله ذلك.
إذاً: ما هي القاعدة؟ القاعدة: ((أن يعزره بما يجعل هذا المدين يسدد ما عليه)) حسب ما يرى من مصلحة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولم يبع ماله: باعه الحاكم وقضاه.
فإن لم تنفع تلك العقوبات فإنه يقوم الحاكم ببيع مال المدين وإيفاء الدائن حقه.
وتولي الحاكم بيع ما للمدين الغني: مذهب الجماهير.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كثر الدين على معاذ حجر عليه وباع ماله.
- والدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب لما كثرت الدون على أحد الحجاج من الصحابة خطب في الناس وقال من كان له دين على فلان فليبكر غداً فإنا بائعوا متاعه.
وهذان الأثران المرفوع والموقوف ضعيفان لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن عمر - رضي الله عنه -.
- الدليل الثالث: أن بيع المدين ماله ليوفي الدائن واجب عليه. وتقدمت معنا قاعدة: (أنه إذا وجب على الإنسان واجب ولم يقم به قام به الحاكم)) تقدمتن معنا مراراً فهنا كذلك نقول: هذا واجب على المدين لم يقم به قام به الحاكم مكانه.
- والدليل الرابع: لأن لا تضيع أموال الناس.
فإذاً إذا لم يمتثل المدين بعد هذه العقوبات التعزيرية قام الحاكم ببيع المال ووفاء الدين.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز للحاكم أن يبيع المال بل يجبر مالك السلعة على أن يبيعها هو ويسدد الدائن.
- لأنه ليس للحاكم أن يتصرف في ملك غيره بغير إذنه.
(4/171)
________________________________________
وهذا القول غاية في الضعف من وجهة نظري أنه يؤدي إلى ضياع حقوق الناس ثم إن هذه القاعدة العامة لا يصلح الاستدلال بها على مسألة خاصة وهي في المماطل لأن المماطل حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه أنه ظالم فلا يمكن ان ننزل عليه قاعدة حفظ المال الخاص للمسلم.
فالراجح وهو مذهب عامة الأمة أن الحاكم يتولى البيع إذا لم يوف المدين الغني.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يطالب بمؤجل.
يعني: ولا يطالب المدين بدين مؤجل. وعلة ذلك:
- أن الدين المؤجل لا يلزمه أدائه فكيف نطالبه بما لا يلزمه أدائه. فالإنسان لا يطالب بما لم يلزمه إنما يطالب بما لزمه. وهذا لا إشكال فيه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً: وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم.
بدأ المؤلف - رحمه الله - بالقسم الثالث وهو كما قلت: من ماله يفي ببعض دينه.
وهذا القسم في الحقيقة هو المقصود بالباب. وإنما ذكر المؤلف - رحمه الله - القسم الأول والثاني لكتمل صور الأحكام.
فمن لا يفي ماله بكل دينه وجب على الحاكم أن يحجر عليه لكن لا يجوز أن يحجر عليه إلا بطلب الغرماء أو بطلب بعضهم.
فإن لم يطلب أحد من الغرماء حرم على الحاكم أن يحجر عليه لأن هذا الحجر لحق خاص وليس لسلطة عامة فيتوقف على مطالبة صاحب الحق الخاص. فإن لم يطالبوا فإنه لا يجوز أن يحجر عليه.
والقول بوجوب الحجر على المدبن الذي يفي ماله ببعض الدين أيضاً مذهب الجماهير.
واستدلوا على هذا بثلاثة أمور:
- الأمر الأول: حديث معاذ السابق.
- والأمر الثاني: حديث عمر السابق.
- والأمر الثالث: أن ترك الحجر عليه يؤدي إلى ضياع أموال الناس إذ قد يتصرف فيها بما يفوت الحظ على الدائنين.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يحجر عليه.
- لأنه رجل بالغ مكلف جائز التصرف فلا يجوز أن يحجر عليه وإنما يطالب بالسداد كما يطالب من ماله يفي بالدين كالقسم الثاني.
= والقول الثالث: أن من كان ماله ينقص عن الدين فإنه يعتبر في حكم المحجور عليع من حين ينقص المال ولو بلا حكم حاكم.
بناء عليه: لا تنفذ تصرفاته كما سياتينا.
(4/172)
________________________________________
إذاً: القول الثالث: أن من نقص ماله عن دينه أصبح في حكم المحجور عليه ولو بلا حكم حاكم مباشرة من حين ينقص لا تنظر تصرفاته. وهذا رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام بن تيمية.
واستدل على هذا:
- بأن تمكينه في مثل هذه الحالة من التصرف يؤدي إلى الإضرار بالمدين. والشرع جاء بقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار).
أما العمل فهو على المذهب الأول ولا أحد يبطل تصرفات الناس بدون حكم الحاكم.
وأما من حيث النظر والتأمل ففي الحقيقة القول الثالث هو الصحيح.
وسبب الترجيح: أن هذا القول يتوافق مع مقصود الشارع من الحجر. لأن مقصود الشارع من الحجر تمكين المدين من أداء الديون لأصحابها بلا تفريط ولا إضاعه وهذا يتحقق أكثر مع القول الثالث.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويستحب إظهاره.
يعني: ويستحب إظهار وإشهار أن هذا المدين محجور عليه.
- ليمتنع الناس من معاملته. لئلا تؤدي المعاملة إلى ضياع أموالهم.
ويستحب أيضاً: الإشهاد. فيشهد عليه أنه محجور عليه.
والحكمة في ذلك: أنه لو تغير القاضي فإن القاضي الآخر لا يحتاج إلى حكم جديد وليعرف الدائن القاضي الجديد بالشهود أن هذا المدين محجور عليه.
وهذا كله لا نحتاج إليه في وقتنا لأن الحجر على الإنسان يثبت الآن بالأوراق. لكن الإشهار مهم وضروري حتى لو كان عن طريق إشهاره في وسائل الإعلام العامة كالجرائد إلا أنه ينبغي للقاضي أن يعتبر حال المدين.
فإن ظن أنه مماطل ومسرف ولا يحسن التصرف وربما دخل في معاملات جديدة بادر في الإشهار.
وإن علم أنه رجل أمين لكن ظروف التجارة هي التي أدت به إلى الإفلاس فإنه ينبغي أن يرفق به إلى ان يتمكن من سداد الدين.
فالقاضي في الحقيقة له مجال واسع في النظر واعتبار حال المدين.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا ينفذ تصرفه في ماله: بعد الحجر ولا إقراره عليه.
هذه الأحكام هي في الحقيقة ثمرة للحجر.
فمن أعظم ثمرات الحجر بل هي المقصودة منه: أن لا ينفذ تصرفه في ماله. فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يتصرف أي تصرف في ماله.
واستدل الحنابلة على منعه من تصرفه بدليلين:
(4/173)
________________________________________
- الدليل الأول: القياس على الرهن. لأنه في الرهن يمنه الراهن من التصرف بالرهن ليضمن الدائن حقه من الرهن فنقيس عليه أموال المحجور عليه وهو قياس صحيح ووجيه.
- الدليل الثاني: أنه بالحجر على أموال المدين تعلق حق الغرماء بها - يعني: بأعيانها. وإذا تعلق حق الغرماء بها لم يجز التصرف بها.
وهذا صحيح بل هو ثمرة الحجر - فثمرة احجر أن لا يتصرف في ماله.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا إقراره عليه.
يعني: ولا يقبل إقراره على ماله الحاضر المشاهد.
فلو أقر أنه وهب هذه السيارة لزيد لم يقبل.
ولو أقر أنه أعطى ثمرة هذا العام لعمرو لم يقبل.
ويصبح إقراره ملغياً.
* * مسألة/ ظاهركلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يقبل إقراره حتى لو أقر بالدين.
يعني: حتى لو أقرل بدين لشخص آخر.
= وهذا هو المذهب: أنه إذا أقر بدين لشخص آخر فإنه لا يقبل.
واستدل الحنابلة على هذا الحكم:
- بالأدلة السابقة.
= والقول الثاني: أنه إذا أقر بدين فإنه يقبل ويشارك المقر له الغرماء بمال المدين.
واستدل أصحاب هذا القول:
- بأن هذا الدين دين ثبت بإقرار فيقاس على ما لو ثبت ببينه. والدين إذا ثبت ببينة دخل في مال المدين وشارك الغرماء بلا إشكال.
إذاً: نقيس الدين الذي ثبت بالإقرار على الدين الذي ثبت ببينة.
ورجح هذا القول: ابن المنذر. وانتصر له.
والراجح والله أعلم: أنه يقبل إقراره ويدخل المقر له مع الغرماء بشرط: أن لا تدل القرائن والأحوال على أنه أرد الإضرار بالغرماء والهروب من سداد الدين. وبهذا نجمع بين القول الثاني والقول الأول.
* * / فإذا قال المدين أن هذه الآصع الموجودة في مخزني دين سلم لزيد.
= فعند الحنابلة: الحكم أن زيد لا يدخل مع الغرماء أصلاً وإنما يقتسم الغرماء جميع المال.
= وعند ابن المنذر: يدخل معهم ولا يأخذ هذا المال لكن يكون أسوة الغرماء.
= وعلى القول الثالث: كذلك كما قال ابن المنذر إلا إذا تبين أنه أراد الهروب من سداد الدين كاملاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده: رجع فيه إن جهل حجره وإلاّ فلا.
يقول: (ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده: رجع فيه)
(4/174)
________________________________________
إذا باعه أو أقرضه شيئاً بعد الحجر رجع فيه. يعني: رجع بعين ماله. ولا يكون أسوة الغرماء بل يرجع بعين ماله يأخذه.
واستدل الحنابلة على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من وجد عين ماله فهو أحق به).
- والدليل الثاني: أن هذه المعاملة لا تصح أنا نقول: أن المجور عليه بعد الحجر لا تنفذ تصرفاته فهذه السلعة في الحقيقة لا زالت ملكاً للبائع. إذاً لا إشكال.
مفهوم قول المؤلف - رحمه الله -: (بعده) أنه إذا كان قبله فإنه لا يرجع.
وهذا المفهوم غير مراد بل إذا كان قبله أو بعده فإنه يرجع.
فإذا باع زيد على عمرو سيارة قبل الحجر ثم بعد مضي خمسة أيام من البيع حجر عليه فإن صاحب السيارة يعني: البائع له أن يأخذ هذه السيارة بذاتها.
الدليل: (من وجد عين ماله فهو أحق به).والحديث عام. سواء كان العقد تم قبل الحجر أو بعد الحجر.
إذاً لماذا نص المؤلف - رحمه الله - على قوله: (بعده). الجواب: ليبين فقط أن العقد إذا تم بعد الحجر فإنه لا يرجع إلا إذا كان جاهل لأن هذا الشرط يختص بما إذا كان بعد العقد أما قبل العقد فلا يتصور أن نقول هل هو جاهل بكونه محجوراً عليه أو عالم بكونه محجور عليه.
إذاً: الخلاصة: أن وجد عين متاعه الذي باعه قبل الحجر رجع مطلقاً.
والذي وجد عين متاعه الذي باعه بعد الحجر رجع بشرط أن يجهل أن هذا الرجل محجور عليه. فإن كان يعلم أنه محجور عليه فإنه لا يرجع.
والتعليل: أنه دخل على بصيرة وبينه وعلم بحال هذا المحجور عليه.
لهذا نص المؤلف - رحمه الله - على قوله: (بعده).
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن تصرف في ذمته .. صح.
يعني: إذا تصرف هذا المحجور عليه في ذمته لا بعين ماله: صح.
تصرفه في ذمته: كأن يشتري بثمن مؤجل. فالثمن المؤجل ثابت في ذمته.
المثال الثاني: أن يضمن ديناً لشخص آخر فهذا الضمان في ذمته.
فتصرف المحجور عليه لحق غيره في ذمته: صحيح.
وعرفنا الآن ما معنى في ذمته؟ وما صورة في ذمته؟
التعليل: - عللوا ذلك: بأن الحجر يتعلق بماله لا بذمته.
- ولأنه رجل رشيد جائز التصرف فجاز له أن يتصرف في ذمته.
وهذا صحيح: أن له أن يتصرف في ذمته كيف شاء.
(4/175)
________________________________________
بناء على هذا: إذا تصرف المدين في ذمته فإن الشخص الدائن الجديد لا يدخل مع الغرماء سواء كان يعلم أن هذا الرجل محجور عليه أو لا يعلم أنه محجور عليه. - علم أو لم يعلم.
لأنه إن علم فقد فرط وإن لم يعلم فقد جهل شيئاً مشهوراً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو أقر بدين.
يعني: أنه إذا أقر بدين في ذمته فإنه يصح.
إذاً ما الفرق بين إذا أقر بدين هنا وإذا أقر في المسألة السابقة؟
هذا الذي صححوه في ذمته. والذي منعوه في عينه المشاهد المعلوم الموجود.
إذاً إذا أقر بدين صحوأصبحت ذمته مشغولة بهذا الدين. وإقراره صحيح. وسيأتينا ماذا يصنع بعد ذلك.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو جناية توجب قوداً أو مالاً: صح.
الجناية: إما أن توجب قوداً أو توجب مالاً.
فهي توجب القود: إذا أمكن الاقتصاص. - إذا أمكن أن يقتص منه بلا زيادة: صار المصير إلى الجناية.
وإذا لم يمكن أن يقتص منه إلا مع حيف وزيادة فإنه ينتقل إلى المال.
وينتقل إلى المال في صورة ثالثة وهي/ إذا وجبت عليه الجناية لكن اختار المجني عليه الدية - دية العضو فحينئذ يصبح انتقلت المسألة من القصاص إلى الدية يعني: إلى مال.
إذاً: المؤلف - رحمه الله - يقول: (إذا أقر بجناية توجب القود أو توجب المال) صح اعترافه وأخذ بهذا الإقرار.
لكن عند الحنابلة إذا أقر لا يكون أسوة الغرماء.
= والقول الثاني: أن المدين المحجور عليه إذا جنى جناية توجب دية فإن المجني عليه يدخل مع الغرماء.
- لأنه لا تهمة في مثل هذه الصورة إذ ليس من المعقول أن يذهب ويقطع يد رجل آخر ليقر بأنه جنى عليه لينقص الغرماء فهذا غير معقول.
فإذاً يدخل المجني عليه مع الغرماء ولو كانت الجناية بعد الحجر.
وعلل أصحاب هذا القل قولهم:
- بأن هذا حق ثابت لا تهمة فيه ولم يؤخره مستحقه.
وهذا صحيح والكلام سليم جداً.
فإذاً لا نؤخر المجني عليه ونقول أنت لا تدخل مع الغرماء بل يدخل معهم ويكون أسوة الغرماء.
- يقول - رحمه الله -:
- ويطالب به بعد فك الحجر عنه.
يطالب بما التزمه في ذمته بعد فك الحجر عنه.
تعليل هذا: - أنه حق ثابت. وإنما أخر للحجر. فإذا زال الحجر طولب بهذا الدين.
وهذا صحيح بلا إشكال.
- ثم قال - رحمه الله -:
(4/176)
________________________________________
- ويبيع الحاكم ماله. ويقسم ثمنه.
وهذا = مذهب الحنابلة: أن المحجور عليه يقوم الحاكم ببيع ماله وتقسيمه على الغرماء ستأتينا كيفية التقسيم.
استدل الجمهور على هذا الحكم:
- أنه يباع ويقسم بالأدلة السابقة.: أولاً: حديث معاذ. وثانياً: أثر عمر - رضي الله عنه -.
- وثالثاً: وهو المهم: أن هذا هو الغرض وهو المقصود من الحجر. إذ لم يحجر عليه إلا ليباع ويوفى الدائنون حقهم.
إذاً استدلوا يثلاثة أشياء: الأثرين والمعنى: وهو: أنه إنما يقصد ويراد الحجر هذا الأمر.
فيقوم الحاكم ببيع ماله.
* * مسألة/ قال شيخ الإسلام: ولا يجوز أن يبيع الحاكم متاع المدين إلا بثمن المثل أو أكثر وإلا فإنه لا يباع.
بناء عليه: لا يجوز أن يستعجل وأن يجلب السلعة في أي سوق مهما كانت جودة السوق ويبيع بثمن أقل من المثل. فحينئذ يكون التصرف غير صحيح.
وما ذكره شيخ الإسلام وغيره من الحنابلة صحيح وفيه من العدل ما لا يخفى.
فنقول: يجب أن يجتهد في بيعه بثمن المثل.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه.
إذا باع وحصل المال فإنه يجب أن يقسم بقدر الديون.
لكن يجل قبل ذلك: قبل أن يقسم المال: يجب أن يعطي صاحب الرهن قيمة الرهن إذا كانت أقل من الدين أو قيمة الدين.
فصاحب الرهن يقدم على باقي الغرماء.
مثال ذلك/ إذا كان المدين عنده سيارة وبيت ومزرعة وأرض هذه أربعة أشياء .. ((الأذان)) ..
إذا كان عنده - كما قلت - سيارة ومزرعة وأرض مثلاً وأحد الدائنين رهن السيارة. فباع القاضي جميع الأملاك وقيمة السيارة مائة ألف. ودين هذا الرجل الذي هو المرتهن مائة ألف: وقيمة جميع السلع مجتمعة خمسمائة ألف فأول ما نبدأ: نعطي هذا المرتهن كم؟ ((مائة ألف)) ولايشترك مع باقي الغرماء.
فإن كانت قيمة السيارة في هذا المثال تسعين ألف فماذا نصنع؟ نعطية التسعين ألفاً ويدخل بالعشرة أسوة الغرماء.
فإن كانت قيمة السيارة مائة وعشرة: يأخذ المائة والعشرة ترجع إلى الغرماء.
إذاً: يقدم صاحب الرهن.
ثم بعد ذلك نقسم المال على باقي الغرماء.
وطريقة القسم:
أن ننسب قيمة المال المباع إلى الدين. وهل سيكون الدين أكثر أو المال المباع؟
(4/177)
________________________________________
دائماً الدين أكثر لأنا نحن نتكلم عن القسم الثالث.
ننسبها فنعطي كل واحد بقدر نسبته - فنعطي كل واحد بقدر هذه النسبة.
مثال ذلك: رجل بيع متاعه كله فصار المتاع بعشرة آلاف ريال. ويطلب هذا الرجل اثنان واحد منهما يطلبه ستة عشر ألف ريال. وواحد يطلبه أربعة آلاف ريال. كم الدين؟ عشرين. ننسب المال إلى الدين: عشرة إلى عشرين: النصف. فكم نعطي صاحب الستة عشر ألف؟ ((ثمانية)) والأربعة: ((ألفين)).
إذاً كل واحد يدخل عليه النقص بمقدار دينه. وفي هذا عدل عظيم.
إذاً هكذا طريق قسمة التركة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يحل مؤجل بفلس.
يعني إذا كان على هذا المفلس دين مؤجل فإنه إذا حكم بإفلاسه لا يحل الدين.
لماذا؟ لأن التأجيل حق من حقوقه لا يسقط بفلس إذ الفلس ليس من مسقطات الأجل فيبقى المؤجل مؤجلاً. وليس للدائن صاحب الدين المؤجل إذا رأى أنه أفلس أن يأتي ويطالب بتعجيل دفع الدين له خشية أن تنتهي أموال هذا المدين. وهذا واضح لا إشكال فيه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا بموت: إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء.
يعني: ولا يحل الدين إذا مات المدين.
فإذا مات المدين فإن الدين يبقى مؤجلاً.
وعلة ذلك:
- أن الدين من جملة الحقوق التي تورث فالورثة ورثوا عن واىلدهم المدين المتوفى حق التأجيل.
= والقول الثاني: أنه يحل الأجل بمجرد الموت.
والقول بعدم حلوله - الأول الذي هو المذهب - من المفردات.
وهذا القول الثاني: هو قول الجمهور أنه بمجرد الموت يحل الأجل.
استدلوا على هذا:
- بأنه في العادة الغالبة إذا مات المدين اقتسم الورثة الدين وبقي الدائن بلا مال.
يقول المؤلف - رحمه الله -:
إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء.
يشرط لعدم تعجيل الدين أن يوثق الرهن فيقوم الورثة بتوثيق الدين برهن أوكفيل.
فإن لم يوثقوه تعجل الدين.
نكتفي بهذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
(4/178)
________________________________________
الدرس: (29) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس أن المفلس الذي عليه دين مؤجل لا يسقط الأجل بالفلس ومعنى هذا أن حقه بالتأجيل يبقى.
وعللنا ذلك: - بأن الفلس ليس من مسقطات الأجل.
- الصورة الثانية/ موت المدين. فإذا مات المدين الذي دينه مؤجل فإنه لا يسقط الأجل بموته عند الحنابلة.
وذكرنا القول الثاني: وهو أنه يسقط بموته.
وعلل الذين أسقطوه إسقاطه: - بخشية ضياع حقوقه بسبب توزيع التركة.
إلى هنا توقفنا بالأمس.
وبهذا عرفنا أن مذهب الحنابلة أنه لا يسقط إلا أنهم اشترطوا لهذا شرطاً فقالوا: إن وثق ورثته برهن أو كفيل ملئ.
يعني: إن وثق الورثة الدين برهن أو كفيل مليء لم يسقط الأجل وإلا فإنه يسقط.
ويشترط في الرهن - في هذا الرهن الذي يوثقون به الدين -: أن يكون بقدر أقل من الدين أو التركة.
فإذا افترضنا أن التركة كلها: خمسين ألف ريال وأبوهم مدين بمائة ألف ريال. كم يجب أن يكون قيمة الرهن؟ خمسين. لأنا نحن نقول بالأقل من قيمة الدين أو التركة.
بمعنى: أنه لا يجب على الورثة أن يقيموا رهناً بجميع الدين إذا كان الدين أكثر من التركة. فإن كان الدين أقل من التركة فيلزمهم أن يقيموا رهناً بجميع الدين. فإذا حققوا هذا الشرط فإن الأجل لا يسقط. وإن فات الشرط سقط وحل الأجل.
فإذا رفض الورثة إقامة الرهن أو الكفيل المليء حل الأجل ووجب عليهم دفع الدين مباشرة.
وفي هذه الحالة تأتينا مسألة وهي: إذا افترضنا أنهم لم يوفوا بالشرط - أو لم يقوموا بالشرط - وحل الأجل فهل يأخذ الدائن كامل المبلغ ولو كان فيه زيادة بسبب التأجيل؟ أو نخصم منخ بقدر التأجيل الذي سقط؟
صورة المسألة/ إذا كان المورث اشترى سيارة قيمتها حالة بمائة: اشتراها بمائة وخمسين بسبب التأجيل ثم مات. ولم يأت الورثة برهن ولا بكفيل مليء قلنا أنه يحل الدين. فهل على الورثة أن يعطوه كامل المبلغ: مائة وخمسين أو يعطوه قيمة السيارة بثمنها الحال لأن الأجل سقط؟
= عند الحنابلة: يعطونه كامل المبلغ ولا يسقطون من قيمة الثمن ما يقابل الأجل.
= والقول الثاني: أنه يسقط بقدر الأجل. وإلى هذا ذهب عدد من محققي الحنابلة المتقدمين وهو مقتضى العدل.
- لأنه لما سقط الأجل يقتضي أن يخصم من الثمن ما يقابل هذا الأجل.
(4/179)
________________________________________
هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى سبقت معنا: وهي: ضع وتعجل.
فمن يرجح في مسألة ضع وتعجل أنها تصح ينبغي هنا أن يضع من الدين ما يقابل التعجيل.
وإذا كانت مبنية على هذه المسألة فتقدم معنا أن الراجح إن شاء الله أن ضع وتعجل: صحيح ومشروع وليس في ربا.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن ظهر غريم بعد القسمة: رجع على الغرماء بقسطه.
إذا ظهر غريم لم يكن موجوداً أثناء القسمة فإنه يرجع على الغرماء بقسمه كأنه موجود حال القسمة.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأنه لو وجد حال القسم لأخذ معهم فكذلك إذا جاء بعد القسم. لأن حقه لا يسقط بتغيبه.
= والقول الثاني: أنه يسقط وينتظر أن يوفيه الورثة ولا يدخل مع الغرماء فيما اقتسموه.
- لأنه لم يحضر.
والصواب القول الأول وهو المذهب. لأن تعغيب الرجل لا يعني سقوط حقه. سواء تغيب بعذر أو بغير عذر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يفك حجره إلاّ حاكم.
معنى هذه العبارة: أن المحجور عليه لا فيك حجره بمجرد قسمة المال. وإنما لابد من أن يفك الحجر الحاكم.
وعلل الحنابلة هذا: - بأنه حجر تم بأمر الحاكم فلا يفك إلا بأمره.
= والقول الثاني: أنه بمجرد قسمة المال يفك الحجر.
وعللوا هذا:
- بأن الحجر إنما وقع لغرض قسمة ماله بين الغرماء. فإذا قسم زال سبب الحجر فزال معه الحجر. لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
والراجح هو القول الأول وهو المذهب وممن رجحه من المحققين الشيخ الفقيه ابن قدامة.
وسبب الترجيح: أن فك الحجر عن المفلس يحتاج إلى نظر وتأمل من الحاكم ليتأكد من أن ماله فرغ ولم يبق من ماله ما يمكن أن يباع.
وهذه القضية تحتاج إلى نظر واجتهاد والحاكم هو أهل هذا النظر والاجتهاد.
فالصواب أنه لا يفك بمجرد بيع المال وإنما ينتظر إلى أن يصدر الحاكم أمراً بفك الحجر عنه بعد أن يتأكد من أنه لا مال زائد عنده.

فصل
[في المحجور عليه لحَظِّه]
- ثم قال - رحمه الله -:
- فصل.
هذا الفصل خصصه المؤلف - رحمه الله - للكلام عن المحجور عليه لحظ نفسه.
وكما تقدم أخره لأن المحجور عليه لحق غيره أكثر الأحكام تتعلق به وهو الأهم.
والمحجور عليه لحظ نفسه ثلاثة:
- الصغير.
- والمجنون.
- والسفيه.
(4/180)
________________________________________
هؤلاء هم من يحجر عليهم لحق أنفسهم.
- قال - رحمه الله -:
- ويحجر على السفيه.
فالسفيه هو: من يسيء تدبير المال.
وسيأتينا بالتفصيل في كلام المؤلف - رحمه الله - كتى يرتفع وصف السفه عن من لا يجيد تصريف المال لكن هذا هو تعريفه العام. كل شخص لا يحسن تصريف ماله فهو سفيه.
* * مسألة/ وذهب الأئمة الأربعة كلهم إلى من ينفق ماله في المعاصي والمحرمات فهو سفيه يحجر عليه.
وذهب الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي إلا أن من أنفق ماله في الطاعات كالصدقات والقربات فإنه ليس من السفه ولا يحجر عليه مهما أنفق.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أنفق في وجوه البر ما يخرج به عن الإنفاق المعهود المعروف فإنه يعتبر سفه.
والصواب أنه ليس بسفه: يعني: الصواب مع الأئمة الثلاثة إن شاء الله.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والصغير.
الصغير هو من لم يبغ. وسيأتينا أيضاً في كلام المؤلف - رحمه الله - متى يبلغ الإنسان.
- يقول - رحمه الله -:
- والمجنون.
المجنون هو فاقد العقل. هؤلاء الثلاثة يحجر عليهم لحظ أنفسهم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- لحظهم.
قوله: (لحظهم) يعني أنه يحجر عليهم لمصلحتهم. والدليل على أنه يحجر عليهم:
- قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء/5].
- والدليل الثاني: أن تركهم وما يشاؤون من التصرف فيه إضاعة لأموالهم. ولا يجوز للمسلم أن يمكن موليه من إضاعة المال.
فهذا هو الدليل على أنه يحجر على الصغير. ونحن نحتاج دائماً في مثل هذه الأحكام إلى أدلة ليس من السهل أن تحجر على رجل بالغ رشيد إلا بدليل واضح إذا كان سفيهاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومن أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً: رجع بعينه.
إذا عامل هؤلاء الثلاثة رجل ببيعهم أو إقرارهم فإنه إذا بقيت العين كما هي لم تتلف يرجع بعين ماله.
والسبب في ذلك:
- أن ماله ما زال على ملكه لأن تصرفاتهم فاسده. فيرجع بعين ماله.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أتلفوه لم يضمنوا.
يعني: وإن أتلف السفيه أو الصغير أو المجنون المال الذي أعطاهم إياه هذا الرجل الراشد ولو هلى سبيل السبيل فإنه يضمن هو ولا يضمنون. فيكون الضمان عليه فتذهب هذه العين المتلفة سدى عليه.
(4/181)
________________________________________
وعلل الحنابلة هذا:
- بأنه هو سلطهم على ماله برضاه فضمن ولم يضمنوا.
= والقول الثاني: أنهم جميعاً يضمنون السفيه والمجنون والصبي.
- لأنهم أتلفوا ماله فوجب عليهم الضمان.
والصواب مع الحنابلة. وأنه هو الذي فرط إذ عامل من يوصف بالجنون أو بالصغر أو بالسفه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويلزمهم: أرش الجناية.
يعني: أن هؤلاء إذا جنوا جناية على نفس أو طرف فإنهم يضمنون.
وعلل الحنابلة ذلك:
- بأن المجني عليه لا خيار له ولا تفريط منه فلزم هؤلاء أن يضمنوا.
وهذا صحيح ولا أظن أن فيه خلافاًَ.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وضمان مال من لم يدفعه إليهم.
يعني وعليهم أن يضمنوا المال الذي لم يدفع إليهم. كأن يأخذوه غصباً أو اختلاساً أو من غير علم المالك أو عبثاً ففي هذه الحال يضمن هؤلاء - الأطفال أو المجانين أو السفهاء - المال.
- لأنهم أخذوا مال المسلم بغير رضاه ولا تفريط منه فوجب أن يضمنوا.
بناء على هذه المسألة: ما يتلفه الصبيان في المحلات أو في الولائم أو في الأماكن العامة فهو مضمون عليهم. ما دام صاحب الملك لم يمكنهم منه.
أما إذا مكنهم منه بأن قال صاحب المحل للطفل خذ هذا الشيء وانظر إليه أو إلعب به ما دمت في المحل ثم تلف فلا ضمان.
لأن هذا المالك مكنه من المال برضاه وسلطهم عليه بإرادته.
أما إن أخذ الطفل شيئاً يعبث به فانكسر منه فهو مضمون لأن صاحب المال لم يمكن هذا الطفل من هذه الأموال.
بل إنا نلحظ دائماً أن أصحاب المحلات إما بمنطوقهم أو بمكتوبهم أنهم لا يسمحون للأطفال بالعبث في الأشياء الموجودة داخل المحل.
فهذا يرفع الضمان عن صاحب المحل مطلقاً ويجعله على الطفل دائماً.
والضامن في هذا الاتلاف هو الطفل لا الأب لأن الطفل له ذمة مستقلة ولأنه هو المتلف وليس الأب. ولكل واحد من الأب والطفل ذمة مستقلة.
لكن من المعروف وحسن التصرف أن يضمن الأب المال. باعبار أن هذا الطفل ليس له من المال ما يؤدي به هذا الضمان.
فإن لم يضمن الأب بقيت القيمة في ذمة الصبي إلى أن يحصل المال. فعليه أن ينتبه إذا بلغ ليسدد ما عليه من إتلافات.
(4/182)
________________________________________
ولهذا نقول: من الخطأ البين أن يترك الأب الطفل بدون سداد لهذه الأموال ويجعل ذمته مشغوله إلى البلوغ وغالباً سوف ينسى الطفل ما عليه.
وليعلم أنه إذا بلغ فإن ذمته الآن مشغولة.
نعم إذا كان ناسياً فلا إثم عليه لكن الذمة مشغولة. فينبغي أن لا يتساهل أولياء الأطفال في مسألة الاتلافات لا في زيارة الأقارب ولا في دخول المحلات ولا في المكث في الأماكن العامة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن تم لصغير خمس عشرة سنة.
بدأ المؤلف - رحمه الله - في بيان االأشياء التي يتم بها بلوغ الطفل.
- فقال: - رحمه الله -:
- وإن تم لصغير خمس عشرة سنة.
حكم ببلوغه. فيصبح بالغاً. والدليل على أن بلوغ هذا السن يصبح به الطفل بالغاً:
- الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وله أربع عشرة سنة فلم يره - أو فلم يجزه - وعرض عليه وله خمس عشرة سنة فأجازه - صلى الله عليه وسلم -.
فتفريقه - صلى الله عليه وسلم - بين سنين دليل على أنه انتقل من مرحلة إلى مرحلة.
= وذهب بعض العلماء إلى أن سن البلوغ سبع عشرة سنة.
= وبعضهم قال: ثمانية عشرة سنة.
= وبعضهم قال: تسع عشرة سنة.
وهذه الأقوال الثلاثة للمذاهب الفقهية عدا الحنابلة. وهذه الأقوال ضعيفة جداً.
ولا تعتمد إلى أي تحديد منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي محض تخمينات ومن العجائب أن القول الثالث: وهو تسع عشرة سنة مذهب الظاهرية. الظاهرية دائماً مع النصوص وفي هذه المسألة اخترعوا هذا القول الذي ليس له زمام ولا خطام إذ لا يقوم على أي دليل منقول ولا معقول وإنما زعم ابن حزم أن هذا أكثر ما قيل وهذا التعليل لا يصح للتمسك.
فالراجح بإذن الله والواضح الرجحان هو مذهب الحنابلة ولو لم يكن معنا إلا أنه تقدير عن التبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذه هي العلامة الأولى للبلوغ.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو نبت حول قبله شعر خشن.
العلامة الثانية للبلوغ أن ينبت في قبله شعر خشن.
فاشترط المؤلف - رحمه الله - شروطاً:
(4/183)
________________________________________
- أولاً: أن يكون هذا النابت في القبل فإن نبتت له لحية قبل ذلك فما يزال صغيراً لم يبلغ. ولا ينظر لنبات الشعور الأخرى كشعر الإبط. إنما يعول فقط على شعر العانة.
- ثانياً: أن يكون هذا الشعر الذي نبت على العانة خشناً. فإن كان ناعماً فليس من علامات البلوغ.
واستدل الحنابلة على كون هذا من علامات البلوغ:
- بحديث سعد بن معاذ - رضي الله عنه - أنه حكم على بني قريظة بأن يقتلوا وتسبى ذراريهم ثم أمر بالكشف عن ذراريهم فمن أنبت قتل ومن لا لم يقتل. فجعل - رضي الله عنه - الضابط في بلوغ الذراري وعدمه هو الإنبات.
ولما حكم صدقه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أر (( ... ))).
فدل هذا الحديث على أن هذه من علامات البلوغ التي تنقل الإنسان من الذراري والصغار إلى الكبار الذين يقتلون في هذا الحكم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو أنزل.
هذه العلامة الثالثة.
والإنزال هو خروج المني بشهوة من نائم أو مستيقظ ذكراً كان أو أنثى متزوجاً أو لم يتزوج.
وكون الإنزال من علامات البلوغ: محل إجماع.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو عقل مجنون ورشدا.
لما بين علامات البلوغ وهي التي تنقل الطفل من الصغر إلى أن يكون بالغاً ذكر المسألة الثانية وهي: (عقل مجنون).
يعني: رجع إليه عقله.
اشترط للبلوغ والعقل شرطاً آخر فقال - رحمه الله -: (ورشدا). أي: أنته لابد مع البلوغ والعقل من الرشد والرشد هو حسن التصرف بالمال عكس السفه.
وكما قلت سيخصص المؤلف - رحمه الله - كلاماً طويلاً عن حد الرشد.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو رشد سفيه: زال حجرهم بلا قضاء.
إذاً اشترط المؤلف - رحمه الله -: البلوغ والعقل مع الرشد.
فإذا توفرت هذه الأمور/ البلوغ والعقل مع الرشد فقد خرج عن الحجر.
والمؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين أنهم ينفكون عن الحجر بلا حكم حاكم.
- ولهذا: يقول - رحمه الله -:
- زال حجرهم بلا قضاء.
يعني: بلا حكم حاكم.
نأخذ هؤلاء واحداً واحداً:
- بالنسبة للأول وهو الصبي إذا بلغ: فإنه يرفع عنه الحجر بلا حكم حاكم.
= وهذا مذهب الحنابلة.
- لأنه حجر عليه بسبب الصغر وقد زال فيزول الحجر.
وهذا لا إشكال فيه.
(4/184)
________________________________________
- الثاني: المجنون. فالمجنون أيضاً الحنابلة يرون أنه يزول الحجر عنه بمجرد رجوع العقلب إليه.
واستدلوا:
- بجنس الدليل السابق. وهو أنه إنما حجر عليه لجنونه فلما زال الجنون زال الحجر.
= والقول الثاني: أن المجنون لا يزال حجره بمجرد العقل.
- لأن بلوغه الرشد يحتاج إلى اجتهاد من الحاكم فلا يفك إلا به أي: بالحاكم.
والراجح: مذهب الحنابلة وهو: أنه يزول الحجر بمجرد العقل ولا نحتاج إلى حكم حاكم.
- الثالث: والأخير هو: من حجر عليه لسفهه.
فإذا رشد وزال السفه انفك عنه الحجر بلا قضاء: عند الحنابلة.
= والقول الثاني: أن السفيه لا يفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أنه حكم عليه بالحجر بحكم حاكم فلا يرفع إلا بحكم حاكم.
- الثاني: أن انتقال الرجل من السفاهة إلى الرشد يحتاج إلى نظر وتأمل وتحقق. ولا يكتفى فيه بظاهر أعماله وأقواله وتصرفاته.
وهذا هو الصحيح إن شاء الله بالنسبة للسفيه فلا ينفك إلا بحكم حاكم لأنه لا يحجر عليه إلا بحكم حاكم.
فتلخص معنا أنهم ثلاثة: اثنان بمجرد البلوغ والعقل ينفك عنهما الحجر. والثالث هو السفيه لا ينفك إلا بحكم حاكم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وتزيد الجارية في البلوغ: بالحيض.
وتزيد على الصبي بالحيض. فإذا حاضت فقد بلغت.
وهذا بالإجماع: - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار. فربط التكليف بالحيض. فدل على أنه علامة عليه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن حملت: حكم ببلوغها.
وإن حملت حكم ببلوغها ولو لم يسقط حيض.
واستدلوا على هذا:
- بأن الحمل علامة على الإنزال ونحن نقول الإنزال من علامات البلوغ.
ودليل أنه علامة على الإنزال أي الحمل:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن المولود يخلف من ماء الرجل وماء المرأة.
فإذاً لم يوجد إلا بعد وجود ماء المرأة وهو الإنزال.
فإذا حملت فقد ببلغت ولو لم يتقدم ذلك حيض ولا إنزال.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا ينفك قبل شروطه.
لا ينفك الحجر. أي: في الحجر لحظ نفسه. إلا بعد اكتمال الشروط. والشروط هي البلوغ والعقل مع الرشد.
(4/185)
________________________________________
هذه هي الشروط فكل إنسان بالغ عاقل راشد ليس بسفيه فإنه لا حجر عليه ولا نفك الحجر إلا بتحقق هذه الشروط ولو كبر سنه. ولو أصبح شيخاً كبيراً. ولو كان من أعقل الناس فيما عدا الأموات لأن الحجر هنا يتعلق بالمال.
فما دام سفيهاً لا يحسن التصرف في أمواله فإنه يحجر عليه مهما بلغ لأن الشرط لم يتحقق وهو: الرشد.
وهذه السألة نظرية جداً يعني: أن يكون عاقلاً من أحسن الناس تصرفاً في كل شيء إلا المال فهذا لا يكاد يقع لكن لو وقع فهذا حكمه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والرشد: الصلاح في المال.
بدأ المؤلف - رحمه الله - في بيان حد الرشد النافي للسفاهة فيقول: (هو الصلاح في المال) فمن أصلح ماله وأجاد التصرف فيه فهو رشيد.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الرشد هو الصلاح في المال دون الدين. فلو كان من الصالحين في المال دون الدين فهو رشيد في هذا الباب. وإن لم يكن رشيداً في حقيقة أمره.
لكن نحن الآن يعنينا مسألة/ حكم الأموال.
فإذا وجد رجل سفيه في الدين يتساهل في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي بر الوالدين لكنه حسن التصرف في المال فهو عند الحنابلة في هذا الباب رشيد - فهو رشيد.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بقوله: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء/6] وأن ابن عباس فسر هذا بحسن التصرف في المال. فنص ابن عباس على المال. وهذا الأثر فيه ضعف.
= القول الثاني: أن الرشد لا يكون إلا بالصلاح في المال والدين.
- لأن السفيه في الدين لا يؤمن أن يبذر في المعاصي.
والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أنه لا يشترط الصلاح لافي الدين لأن المقصود هنا بحث الصلاح في المال وأما فساد دينه فيعاقب ويزجر من باب آخر. أما أن يحجر عليه فليس في الأدلة ما يدل عليه.
ثم ما زال عمل المسلمين على وجود سفهاء في الدين لكنهم من الراشدين في المال. ومع ذلك لم يحجر عليهم على مر العصور واختلاف القضاة والحكام فالأدلة الشرعية مع الاستئناس بعمل المسلمين يدل على رجحان القول الأول.
إذاً نقول أن الراجح هو أن الصلاح هو الرشد في المال فقط لا في الدين.
ثم مع كون المؤلف - رحمه الله - بين الصلاح والرشد بماذا يكون فصل نوعاً ما في هذه المسألة:
(4/186)
________________________________________
- فيقول - رحمه الله -:
- بأن يتصرف مراراً: فلا يغبن غالباً ولا يبذل ماله في حرام أو في غير فائدة.
الصلاح يحصل في الحقيقة بتحقق هذه الثلاثة العناصر.
ـ العنصر الأول: أن يتصرف بالمال ولا يغبن. لكن يشترط أن لا يغبن غبناً فاحشاً. أما الغبن اليسير فلا حرج.
وفي الحقيقة كان يتعين على المؤلف - رحمه الله - أن يقول: (غبناً فاحشاً). لأن هذا من صميم الحكم وليس من الزيادات أو الشروط أو الشروح.
المهم أن العنصر الأول أن يتصرف في البيع والشراء ولا يغبن غبناً فاحشاً.
ـ الثاني: أن يتصرف ولا يبذل ماله في المحرمات. والمحرمات: كل عمل حرمه الله. كأن يشتري الخمر أو يلعب القمار أو يشتري آلة اللهو أو يشتري ما يستمع به: آلة الغناء أو يسافر بقصد ارتكاب المحرمات أو يأخذ المال بقصد الربا به أو يستعمله في أي محرم.
وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله -: (ولا يبذل ماله في حرام).
ـ والعنصر الثالث: أن لا يبذله في غير فائدة. فيشترط للصلاح في المال أن لا يكون من الذين يبذلون أموالهم في غير فائدة. من ذلك: أن يشتري الشيء التافه بالمال العظيم. فهذا من الذين يبذلون أموالهم في غير فائدة.
علم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن شراء الطعام والشراب والمسكن وما يتنقل عليه ليس من السفه والإسراف ولو زاد. ما لم يبلغ حداً معيناً سيذكره المؤلف - رحمه الله - لكن الأصل أن توسع الإنسان في الطيبات ليس من الإسراف ولا من الأشياء التي يحجر عليه بسببها.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يدفع إليه: حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به
(ولا يدفع إليه) يعني إلى الصغير ماله إلا بعد الاختبار.
فإذا اختبرناه وتبين صلاحه ورشده دفعنا إليه ماله.
والمؤلف - رحمه الله -: يقول: (بما يليق به). لأن اختبار كل واحد يختلف عن الآخر: فالصبي مثلاً يختبر بأن يعطى ما يبيع ويشتري به ويقلبه في الأسواق وننظر هل يغبن غبناً فاحشاً أو لا؟ وهل يشتري ما لا يناسب شرائه أولا؟ وينظر في تصرفه.
(4/187)
________________________________________
ويعطى الشخص الذي ليس من عادته البيع والشراء أو من طبقة لم تعتد البيع والشراء يعطي مصروفه الخاص وينظر ماذا يعمل بهذا المصروف فإن أجاد العمل بالمصروف وأجاد توزيعه على حاجاته الأساسية حكم برشده.
وتعطى المرأة ما تعطى عادة ربة المنزل وننظر في تصرف المرأة في هذا المال في داخل المنزل وشراء حاجات المنزل وما يحتاجه وتصريف الخدم من النساء وما يتعلق بهذه الأمور.
الخلاصة: أن كل واحد يعطى بحسب طبيعة وضعه وينظر في تصرفه فإن تصرف تصرفاً حسناً حكمنا بأنه رشيد.
- وقول المؤلف - رحمه الله -:
- قبل بلوغه.
فيه دليل على أن الأختبار قبل البلوغ لا بعد البلوغ ولا ننتظر إلى أن يبلغ ثم نختبره.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء/6] فأمر بالابتلاء وسماهم يتامى فهو ابتلاء قبل البلوغ لأنه بعد البلوغ لا يسمى يتيماً.
- الثاني: أنه يلزم من تأخير الابتلاء الحجر على بالغ رشيد. ولا يح [كم] على بالغ رشيد. وجه ذلك: أنه إذا أخر الاختبار فسيمكث فترة من الوقت وهي مدة الاختبار والطفل محجور عليه فهو في هذا الوقت محجور عليه وهو رشيد وبالغ ونحن نقول لا يجوز الحجر على البالغ الرشيد.= والقول الثاني: أنه يختبر وهي رواية عن الإمام أحمد - يختبر بعد البلوغ.
والصواب إن شاء الله الرواية الأولى. وهي المذهب.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ووليهم حال الحجر: الأب ثم وصيه ثم الحاكم.
بدأ المؤلف - رحمه الله - ببيان الأولياء فيقول - رحمه الله -: ووليهم حال الحجر: الأب.
الأب هو الولي ولا ينازعه في الولاية أحد أبداً.
والدليل على تقديم الأب من وجهين:
- الوجه الأول: كمال شفقة الأب وحسن نظره للابن.
- الوجه الثاني: القياس على النكاح.
وفهم من هذه الأدلة أن الأب إذا لم يكن كامل الشفقة فإنه لا يكون الأحق بالولاية. كأن يكون مسرفاً أو شارباً للخمر أو صاحب قمار ويأخذ أموال اليتامى في ذلك. فحينئذ لا يكون هو صاحب ولاية لأنا نعلل تقديمه في الولاية: نعلل هذا بأنه كامل الشفقة. وهذا معدوم الشفقة.
فالولاية ليست له في هذه الحال. أما لمن تكون؟ فسيأتينا.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ثم وصيه.
(4/188)
________________________________________
الولي في المرتبة الثانية: الوصي الذي أوصى به الأب.
واستدلوا على هذا:
- بأنه نائب الأب فهو يقاس على وكيله في الحياة.
فإذاً: الولي بالمرتبة الأولى: الأب. ثم في المرتبة الثانية: الوصي.
ثم في المرتبة الثالثة:
- قال - رحمه الله -:
- ثم الحاكم.
قوله: (ثم الحاكم). فهو في المرتبة الثالثة لأن الولاية انقطعت من جهة القرابة فانتقلت إلى الحاكم.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الترتيب هكذا: الأب ثم الوصي ثم الحاكم. وأنه لا مدخل للجد في الولاية ولا للأم في الولاية ولا للعصبات كالأخ والعم في الولاية. هؤلاء لا مدخل لهم في الولاية مطلقاً وإنما نقول: الأب ثم الوصي ثم الحاكم.
استدل الحنابلة على هذا التريب: - بأن الجد ...
((الأذان)).
إذاً: تبين معنا أن الجد والأقارب والعصبات لا ولاية لهم.
واستدلوا على عدم دخول الجد في الولاية:
- بأن الجد يدلي بالأب فهو كالأخ. فكل منهما يدلي بالأب والأخ لا ولاية له.
واستدلوا على عدم ولاية الأخ:
- بأن هذه الولاية مالية تحتاج إلى كمال الشفقة ويخشى فيها من الخيانة. فلا [[يسلط]] عليها الأخ.
= والقول الثاني: أن الولاية بعد الأب للجد وهو مقدم على الوصي ومقدم على الحاكم. بشرط أن يكون أهلاً للولاية أميناً يحسن التصرف.
وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختيار ابن قاضي الجبل والمرداوي وهو قول قوي.
= والقول الثالث: أن للجد والأم والعصبات ولاية كلهم. يقدم الأكثر شفقة ونصحاً وحسن تصرف.
وهذا ليس رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وإنما هو قول عند الحنابلة واختاره شيخ الإسلام بن تيمية.
والراجح إن شاء الله أنه بعد الأب نختار الأصلح من هؤلاء الذي يقوم بمال الصبي على الوجه الأكمل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يتصرف لأحدهم وليه إلاّ بالأحظ.
لا يتصرف الولي إلا في حدود مصلحة مال اليتيم.
فلا يجوز له أن يهدي ولا أن يتبرع ولا أن يعطي كما لا يجوز له أن يزيد في النفقة ولو بطلب اليتيم.
- لعموم قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن).
فإذاً ليس له أن يفعل هذه الأمور.
/ فإن أهدى أو تبرع أو زاد في النفقة أو أنفق على من لا تلزم اليتيم النفقة عليه: ضمن وجوباً.
(4/189)
________________________________________
- لأنه وإن كان أميناً إلا أنه تعدى. والأمين إذا تعدى يضمن.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويتجر له مجاناً.
فهم من العبارة أمرين:
- الأمر الأول: أن الأحسن والأولى أن يتجر الولي بمال اليتيم وأن لا يتركه جامداً.
وهو مذهب الجماهير من السلف والخلف.
واستدلوا على هذا:
- بأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة).
= وذهب الحسن البصري فقط من السلف إلى أنه ينبغي تجميد المال وأن لا يتجر به.
ولعله - رحمه الله - خشي من ضياع المال.
والصواب مع الجمهور لكن يشترط أن لا يضع المال إلا في مكان أمين من حيث المتجر به وأمين من حيث المستقبل التجاري للمال. أن لا يضعه في مشاريع خاسرة.
فإذا تحققت الشروط فقولا الحنابلة: مقدم وهو الصواب إن شاء الله.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...
(4/190)
________________________________________
الدرس: (30) من البيع (1)

- قال - رحمه الله - (ويتجر له مجاناً).
معنى هذه العبارة , أنه إذا اتجر لمن هو وليٌ عليه , فإنّ هذا الإتجار يكون مجاناً , أي فلا يأخذ نسبة المشاعة من الربح ولايأخذ أيضاً أجراً على عمله , بل يتجر مجاناً , واستدلوا على هذا بأنه من مهامه القيام على مال موليه ومن القيام عليه الإتجار.
القول الثاني: أنه يتجر به وله نسبة مشاعة من الربح , واستدلوا على هذا بأنه إذا أعطى غيره وأعطاه نسبة مشاعة صح , فإذا اتجر هو وأخذ نسبة مشاعة صح أيضاً.
القول الثالث: أنه لايأخذ نسبة مشاعة وإنما يأخذ أجرة واستدلوا على هذا بالقياس على أخذ عمال الزكاة الأجرة , فهم يأخذون الأجرة على تقسيم الزكاة. وهذا الأخير وهو أنه يأخذ أجراً, ولايأخذ نسبة مشاعة من الربح. إختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهوأعدل الأقوال.
- ثم قال - رحمه الله - (وله دفع ماله مضاربة بجزء من الربح).
__________
(1) - ملاحظة: هذا الدرس قام بكتابته أحد الإخوة - جزاه الله خيراً.
(4/191)
________________________________________
أي ولوليّ الصبيّ ونحوه أن يدفع ماله لمن يتجر به وان يعطي من اتجر به جزءاً مشاعاً معلوماً من الربح , والدليل على هذا أنّ عائشة - رضي الله عنها - فعلت أعطت مال ابي بكر لمن يتجر به , ولأنّ هذا العمل من القيام على مال الصغير , ومن رعاية مصالحه فجاز.
وهذا لا إشكال فيه. تقدم معنا الخلاف في مسألة هل الأولى أن يتجر بمال الصبيّ ونحوه أو أن يتركه بلا اتجار تقدم معنا أنه لم يخالف من السلف إلاّ الحسن فقط. وأنّ الراجح إن شاء الله أنه يتجر بشرط أن يضعه في مجال مأمون وفي يد مأمونة.
- قال - رحمه الله - (ويأكل الوليٌ الفقير من مال موليّه).
يريد المؤلف أن يبيّن حكم أخذ الولي من مال الصبي ونحوه. وهذه المسألة لها صورتان:
الصورة الأولى" أن يفرض الحاكم أجراً معلوماً , فإذا فرض الحاكم له أجراً معلوماً , جاز أن يأخذ بالإجماع ولو كان غنياً , مادام أخذ بفرض الحاكم له.
الصورة الثانية" ألاّ يفرض له الحاكم فعلى المذهب لايأخذ إلاّ إذا كان فقيراً , فإن كان غنياً لم يجز له أن يأخذ.
والقول الثاني: أنّ له أن يأخذ وإن كان غنياً , لأنه يأخذ مقابل عمله , ومن يأخذ مقابل عمله فإنه لايشترط أن يكون فقيراً.
والراجح مذهب الحنابلة. لقوله تعالى {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} [النساء/1] فالآية نصّ مع الحنابلة, أنّ الغنيّ يستعفف والفقير يأكل بالمعروف ومادامت الآية فرّقت بين الغني والفقير فلا يسع الإنسان الخروج عنها. فإذا تقررّ أنّ الفقير يأخذ مع حاجته سيبيّن المؤلف ماذا يأخذ.
- قال - رحمه الله - (الأقل من كفايته أو أجرته مجاناً).
ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجاناً , الحنابلة يرون أنه يأخذ الأقل من كفايته وأجرته فإن كان الأقل الأجرة أخذ وإن كان الأقل الكفاية أخذ , مثال ذلك /إذا كانت كفاية هذا الرجل يعني المبلغ الذي يكفيه ويكفي مؤنته مائة ريال وأجرة مثله للقيام بمال الصبي خمسين ريال , فكم سيأخذ مع أنه لاتقوم بكفايته لكن هو يأخذ الأقل من أجرته وكفايته.
(4/192)
________________________________________
استدل الحنابلة على هذا بأنّ ولي الصغير يأخذ بسببين: العمل والحاجة , فهو لايأخذ مقابل العمل وحده, ولايأخذ مقابل الحاجة وحدها وإنما يأخذ مقابل الاثنين في آن واحد , وإذا كان كذلك فلايأخذ إلاّ إذا وجدت العمل والحاجة. وهذا يدل على أنه يأخذ الأقل من كفايته أو أجرته.
القول الثاني: أنه يأخذ أجرته كاملة , لأنّ الأخذ مقابل العمل فقط , والصحيح المذهب , وهو إختيار شيخ الإسلام. فإذا تبيّن أنه يأخذ بسببين , لابسبب واحد ولابد أن تتصور هذه المسألة, لأنه ينبني عليها مسائل أخرى فلابد أن يتضح في ذهنك الآن أنه يأخذ
بسببين لابسبب واحد , والسببان هما الحاجة والعمل.
- قال - رحمه الله - (مجاناً).
يقصدون بها أنه يأخذ ثم إذا أيسر وحسن حاله مادياً فإنه لايجب عليه أن يعيد ما أخذ من اليتيم أو من الصغير المحجور عليه.
واستدلوا على هذا بأنه يأخذ مقابل عمله ومقابل حاجته , ومن أخذ مقابل عمله فإنه لايردّ ما أخذ إذا أيسر.
والقول الثاني: أنه إذا أخذ من مال اليتيم ثم أيسر, يردّ كل ما أخذ من النفقة , لأنّ إنما أذِنّ له بالأخذ لحاجته , ومن أخذ لحاجته ردّ إذا أيسر , والراجح المذهب لايلزمه أن يرجع ما أخذه. والدليل أنّ الله سبحانه تعالى قال [فليأكل بالمعروف] ولم يذكر شرطاً سوى ذلك ولم تشر الآية من قريب أوبعيد إلى أنه إذا أيسر عاد بالمال. إذا تقرر هذا الحكم تبيّن معنا مسألة أخرى , وهي إذا كان يأخذ مقابل العمل والحاجة, أيهما أغلب على حاله؟ لأنه مارّد لو كان يأخذ مقابل الحاجة لغلبّنا قول الذين يقولون يردّ , لكن لما لم يردّ عرفنا أنّ الغالب على عقده أنه يأخذ مقابل عمله , لكن هذا لايعني أنه يأخذ مقابل العمل فقط بل هو يأخذ مقابل العمل والحاجة.
مالدليل على أنه يأخذ مقابل العمل والحاجة , وليس مقابل العمل فقط؟ لأنّ الآية اشترطت لأخذه الحاجة إذاً هو يأخذ مقابل حاجته فدلت الآية مع الأصل الأول على أنه يأخذ مقابل العمل والحاجة , ودلّت في نفس الوقت على العمل غالب على العقد.
- قال - رحمه الله - (ويقبل قول الوليُ , والحاكم بعد فك الحجر في النفقة).
(4/193)
________________________________________
هذه المسألة والمسائل التالية ترجع إلى أصل واحد , إذا عرفه الإنسان عرف حكم كل مسألة من المسائل التالية.
وهذا الأصل هو أنه إذا أدعى اليتيم على الولي ما يؤدي إلى الضمان , أو ادعى تفريطاً, فالقول قول الولي , فإن كان الولي هو الحاكم فالقول قوله بلا يمين , وإن كان الولي غير الحاكم فالقول قوله لكن مع اليمين. إذاً القاعدة أنّ اليتيم إذا ادعى على الولي ما يوجب الضمان أو ادعى عليه التعدّي والتفريط , فالقول قول من؟ الولي. فإن كان هو الحاكم فالقول قوله بلا يمين , وإن كان سواه فالقول قوله لكن مع اليمين. هذه قاعدة وكل المسائل التالية تندرج تحت هذه القاعدة , الدليل على ذلك أنّ الولي يده يد أمانة وهو محسن ومن كانت يده يد أمانة , فإنه لا يضمّن والقول قوله.
ثانياً" أنّ القول بتضمينه يؤدي إلى إمتناع الناس الأكفاء العدول عن القيام على أموال اليتامى , وهذه مفسدة وضرر. الآن تمهدت
معنا القاعدة ننظر في الأمثلة.
- يقول الشيخ - رحمه الله - (ويقبل قول الوليُ , والحاكم بعد فك الحجر في النفقة).
فإذا ادعى اليتيم أنه لم ينفق. وادعى الولي أنه أنفق , أو ادعى اليتيم أنه لم ينفق القدر الواجب , وادعى الولي أنه أنفق على الوجه المطلوب. فالقول قول الولي , ولايطالب ببيّنة , وهذا معنى قولنا القول قوله , وإنما يطالب فقط بماذا؟ باليمين. هذه هي المسألة الأولى.
- قال - رحمه الله - (والضرورة).
يعني ويقبل قول الولي إذا ادعى أنه باع البيت للضرورة , فإذا اختلف هو واليتيم , وقال اليتيم بل بيع البيت بلا ضرورة , وقال الولي أن البيت لم يبع إلاّ بسبب الضرورة كالحاجة إلى النفقة الملحة فالقول قول الولي. فهمنا من هذه العبارة أنه لايجوز لولي اليتيم أن يبيع شيئاً من أملاك اليتيم إلاّ للضرورة. فإن باع بلا ضرورة ولو بثمن المثل ضمن ,
(4/194)
________________________________________
والقول الثاني: أنّ ولي اليتيم له أن يبيع بالمصلحة ولو بلا ضرورة , لأنه قائم على مال اليتيم بما يصلحه , والبيع لمصلحة مما يصلح مال اليتيم. وهذا القول الثاني لاشك إن شاء الله أنه الراجح وعليه العمل. ولايقتصر البيع على الضرورة, بل إذا رأى المصلحة بأن يباع باع. مثال ذلك/ إذا كان ترميم البيت ليصبح للآجار يستغرق أموال اليتيم , ثم بعد ذلك يؤجر بمبلغ زهيد. فالمصلحة هنا البيع ولاتوجد ضرورة , لأنّ اليتيم له أموال يمكن أن ينفق عليه منها , فإذاً في هذا المثال البيع للمصلحة وليس للضرورة ولاشك أنه الأقرب يباع , لأنّ بيعه في هذه الصورة من مصالح اليتيم. المهم الراجح إن شاء الله هو أنه يريد أن يبيع إذا وجدت المصلحة ولو لغير
ضرورة.
- يقول - رحمه الله - (والغبطة).
أيضاً هذه المسألة اشتملت على مسألتين: الأولى. جواز البيع للغبطة , بخلاف المسألة السابقة. وجواز البيع مع وجود الغبطة قال عنه المرداوي بلا نزاع يعني في المذهب , وربما يكون بلا نزاع عند جميع أهل العلم , لأنّ هذا في صميم مصلحة اليتيم.
والغبطة / هي أن يبيع بأكثر من ثمن المثل بكثير, بزيادة كثيرة نحو النصف أوالثلث. ومن الغبطة أن يبيع خشية الإنهدام أو التلف.
عرفنا الآن أنّ الولي إذا باع أثاثاً أو متاعاً لليتيم غبطة جاز بلا نزاع. نأتي إلى المسألة التي هي تعنينا الآن وهي أنه إذا اختلف اليتيم والولي هل باع غبطة , أو باع بلا غبطة فالقول قول من؟ قول الولي. لأنّ قوله قول مؤتمن فيصدق بيمينه
- ثم قال - رحمه الله - (والتلف).
يعني إذا تلفت العين , وتنازع اليتيم والولي , هل تلفت بتعدّي أوتفريط؟ أو اختلفوا في كون العين تلفت أو لم تتلف. فهاتان صورتان فالقول في جميع هذه قول الولي. ومن المعلوم أنه إذا ادعى أنّ العين تلفت فهو سيدعي تبعاً لذلك أنها تلفت بغير تعدّي ولاتفريط.
(4/195)
________________________________________
لكن هاتان صورتان. فإذا قال اليتيم لم تتلف وإنما أكلها الولي وهي محسوبة عليه. أو قال لم تتلف وإنما اخذها الولي إلى حيث لايعلم وأشبه هذه الدعاوى فالقول قول الولي , كذلك إذا أقرّ اليتيم أنها تلفت لكن زعم أنه بتعدّي أوتفريط من الولي فالقول قول الولي لأنه يده يد أمانة وهو محسن كما تقدم معنا. قبل أن ننتقل إلى مسألة دفع المال لأنها تختلف نوعاً ما عن المسائل السابقة ,يشترط في جميع المسائل السابقة , وهي النفقة والضرورة والغبطة والتلف. أربع أو خمس مسائل, يشترط ألاّ يدعي شيئاً يكذبه الواقع.
فإذا ادعى شيئاً لايقبل ويكذبه الواقع صار يجب عليه أن يثبت دعواه ببيّنة , ولانكتفي منه باليمين , لأنّ ظاهر الحال يكذب دعواه.
مثال/ إذا تلفت الثمار جميعاً كل ثمرة في البستان تلفت زعم الولي أنّ كل ما في البستان من ثمار تلف يقصد ثمار السنة التي انتهت.
ثم إذا قيل له كيف تم ذلك. قال أنه في السنة السابقة هجم جراد عظيم على البلد وأكل هذه الثمار , حينئذ إذا لم يكن معروفاً عند جميع الناس , أنه وجدت آفة الجراد , يلزم أن يقيم بيّنة على وجود الجراد , فإن لم يقم بيّنة على وجوده ضمن جميع الثمار , لأنّ دعواه يكذبها الواقع. من الأمثلة المعاصرة والتي قد تقع أن يحتاج الولي إلى بيع البيت, بيت اليتيم فلنقل للضرورة عند الحنابلة ثم لما باعه قيل له بكم بعت البيت فقال بعت البيت بخمسين ألف , وحرّج عليه ولم يأت أو لم يحصل البيت تحت الحراج إلاّ على هذا المقدار.
ولما نظرنا وجدنا أنّ البيت قيمته السوقية نحو مليون ريال, حينئذ نرضى أنّ هذا الحراج لم يكن موجوداً أصلاً , لأنه كيف يتم الحراج على بيت قيمته مليون ولايشترى إلاّ بخمسين ألف. لأنّ عادة التجار وأصحاب العقار أن يتنازعوا على البيوت التي فيها حراج لغلبة الظن في نزول سعرها بسبب الحراج ,فأين هم عن هذا البيت الذي نقص فيه هذا الثمن العظيم من مليون إلى خمسين ألف. هنا نقول فإما أن تأتي ببيّنة أنك أقمت حراجاً معتبراً معلناً مع وجود أهل الإختصاص , وإلاّ فتضمن الفرق بين القيمتين. هذه الأمثلة المقصود منها أن تتصور الشرط. وإلاّ القاعدة العامة أن يدعي ما يكذبه الواقع.
(4/196)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله - (ودفع المال).
المقصود بدفع المال أن يتنازع اليتيم والولي , في دفع المال فيقول الولي دفعت المال إلى اليتيم كاملاً , وقبضه قبضاً صحيحاً , ويقول اليتيم لم أقبض شيئاً , ولم يدفع إليّ المال , فالقول عند الحنابلة قول من؟ الولي. لأنّ يده يد أمانة.
والقول الثاني: أنّ القول قول اليتيم في مسألة دفع المال. واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول" أنه في هذه المسألة بالذات الأصل عدم القبض.
الدليل الثاني" أنّ الولي فرط , والمفرط يضمن , ووجه التفريط أنه لم يشهد. والله تعالى يقول {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} [النساء/5] فأمر بالإشهاد عند دفع المال فخالف ففرط. والقول الثاني هو الصحيح. لأنه فرط في عدم الإشهاد المأمور به في الآية , وهذا الدليل هو الذي يرجح القول , وإلاّ قضية أنّ الأصل عدم الدفع دليل ضعيف لأنّ الأصل عدم التلف أيضاً. ليس الأصل في الأعيان التلف الأصل في الأعيان عدم التلف , فإذاً المرجح هو في الحقيقة التفريط.
- قال - رحمه الله - (وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له).
إذا استدان العبد من الناس أموالهم , وهذا الإقتراض كان بإذن السيد. فالسيد يضمن ما على العبد , ويطالب به من الدائن , والسبب في ذلك , أنه لما أذن له غرّ الناس به , وإذا غرّهم ضمن.
- قال - رحمه الله - (وإلاّ ففي رقبته).
وإلاّ يكن اقترض بإذن السيد ففي رقبة العبد. يعني تتعلّق الديون برقبة العبد ولاشأن للسيد بهذه الديون مطلقاً , فإذا تعلّقت الديون رقبة العبد فالسيد مخير بين أمرين: إما أن يبيع العبد ويقضي للناس , أو أن يفتدي العبد , فإذا اختار افتداء العبد فعليه أن يفتدي العبد بالأقل من قيمته أو الدين أو بالأكثر؟ الجواب بالأقل.
صورة ذلك / أن يكون العبد استدان مائة ألف وقيمة العبد إذا بيع خمسون ألف , فكم يجب على السيد أن يدفع؟ خمسين ألف.
إذا كانت الديون خمسين ألف , وقيمة العبد مائة ألف فكم يجب على السيد أن يدفع؟ خمسين ألف. والباقي للسيد. لاشأن للدائن به
(4/197)
________________________________________
الصورة/ عبد استدان خمسين غألف ريال , بدون إذن السيد فتعلّق الدين برقبته , فاختار السيد أن يفتديه. فالآن قيمة العبد مائة ألف وقيمة الدين خمسين ألف , فإذا باع السيد العبد سيقضي الدائن بخمسين ألف , ويتبقى معه خمسين ألف فتكون له. المقصود أنه يفتدي العبد بالأقل من الدين أو قيمة العبد.
المثال الموضح لقضية الأقل , هو المثال الأول وإنما المثال الثاني للتوضيح ذكرته , المثال الأول وهو أن تكون قيمة العبد أقل من الدين حينئذ نقول إذا أراد السيد أن يفتدي العبد فإنه يدفع فقط قيمة العبد, وإن لم تكفي الدين.
إذاً يفتديه إذا اختار الإفتداء بالأقل من القيمة أو الدين.
القول الثاني: أنه لاشأن للسيد بدين العبد ولو بلا إذنه , ويتعلق الدين برقبة وذمة العبد, بل صواب العبارة يتعلق بذمة العبد. فإذا عتق وأيسر الزمناه بالسداد , إذاً القول الثاني أنّ العبد إذا استدان بلا إذن السيد تعلق الدين بذمته لابرقبته , فإذا عتق وأيسر الزمناه بماذا؟ بالسداد. واستدلوا على هذا بأنه تصرف من العبد لم يأذن به السيد, فيبقى في ذمته إلى أن يتمكن من السداد. وهذا القول ضعيف جداً لأنه يؤدي إلى ضياع أموال المسلمين. إذ بناء على ذلك يقوم العبد بالإقتراض مراراً وتكراراً , وتكون هذه الديون معلقة بماذا؟ بذمته وينتفع السيد من هذه الأموال لأنه سيتسلط عليها , لأنّها أموال العبد وبهذا تضيع أموال الناس. ومتى يعتق العبد ثم متى يكون عنده يسار ومال حتى يسدد الناس هذا غاية في البعد , وليس الغالب على الرقيق العتق. وإنما الغالب أن يستمر , المهم هذا القول الأخير ضعيف جداً. والمذهب هو الراجح إن شاء الله.
- قال - رحمه الله - (كاستيداعه وأرش جنايته , وقيمة متلفه).
(4/198)
________________________________________
أي أنّ هذه المسائل الثلاث حكمها ما إذا استدان بلا إذن السيد , فتتعلق الجنايات والأروش والودائع برقبة العبد , ونفعل فيها كما فعلنا في المسألة السابقة تماماً , نخيِر السيد بين البيع والإفتداء على ماتقدم بنفس التفصيل تماماً , إذاً هذه المسائل الثلاث استيداعه وأرش جنايته وقيمة متلفه. حكمها حكم ماذا؟ حكم القروض التي تمت بلا إذن السيد. فالحكم متفق لما تقدم ذكره , وتقدم معنا أن قوله كا استيداعه مبني على أنّ الحنابلة يرون الوديعة مضمونة , وسيأتينا في باب الوديعة حكم ضمان الوديعة. وبهذا انتهينا من الحجر.

باب الوكالة
- يقول الشيخ - رحمه الله - باب الوكالة.
الوكالة في اللغة العربية /اسم من التوكيل , ولها في لغة العرب معنيان لاتخرج باقي الاشتقاقات عنهما في ما يظهر لي. الأول" الحفظ فالوكيل على الشيء هو الحفيظ.
والثاني" الإعتماد والتفويض. فتوكيل شخص لشخص ما هو في الحقيقة اعتماد وتفويض إليه بالأعمال. وهي مع الله من أعظم وأجل العبادات , بل نقل عن شيخ الإسلام أنه قال تأملت فلم أرى أنفع من طلب إعانة الله على عبادته. وهذا صحيح لأنه إذا طلب الإنسان إعانة الله على رضاه وعبادته حصل المقصود , وأماّ من العبد يعني الوكيل فهي برّ وإحسان.
وإن كانت بأجرة فهي بر وإحسان من الموكّل , وإن كانت بأجرة مع حاجة الوكيل والموكّل فلا بر ولا إحسان من الجميع كل واحد بحاجة الآخر.
وأما في الشرع /فهي استنابة جائز التصرف فيما يجوز فيه التوكيل , أو فيما تجوز فيه النيابة. وبعضهم يقول استنابة الغير وهو أخصر وأوضح. لكن استخدام كلمة جائز التصرف يعطي دلالة على أنّ الوكيل لابد أن يكون جائز التصرف.
وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
أماّ الكتاب فقوله {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} [التوبة/60] والعامل على الزكاة موكل سواء كان بأجرة أو مجاناً. وأماّ من السنة فأحاديث كثيرة أوضحها حديث عروة بن جعد - رضي الله عنه - في البخاري أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً وأمره أن يشتري شاة. فهذا توكيل محض. وأماّ الإجماع فحكاه غير واحد من أهل العلم. وهو أنهم أجمعوا على مشروعيتها بالجملة.
(4/199)
________________________________________
- قال - رحمه الله - (تصح بكل قول يدل على الإذن).
أي أنّ الوكالة عقد من العقود يحتاج إلى ايجاب وقبول , ولايتم إلاّ بايجاب وقبول لكن الوكالة تصح عند الحنابلة بكل قول يدل عليه فلا يشترط أن يقول وكلتك , فلو قال اعتمد عليك في انجاز العمل أو فوضت إليك اتمام العمل , أو قم بصنع كذا وكذا , بأيّ عبارة تدل على المقصود يصح عقد الوكالة ويكون هذا ايجاب. ولماّ بيّن الشيخ الإيجاب انتقل إلى القبول.

- قال - رحمه الله - (ويصح القبول على الفور والتراخي).
يجوز أن يقبل فوراً ويجوز أن يقبل متراخياً , فإذا قبل فوراً جاز بالإجماع , كأن يقول وكلتك فيقول قبلت. أويقول وكلتك في صنع كذا وكذا فيشرع في العمل مباشرة , أما على التراخي فله صور:
الصورة الأولى" أن يقول الموكِل للموكل وكلتك وأنت غائب قبل شهر, فيقول قبلت يعني الوكيل. فالآن الإيجاب صدر قبل كم؟ شهر. والقبول بعد شهر.
الصورة الثانية" أن يقول وكلتك في بناء البيت. والوكيل حاضر ولايقبل ثم بعد سنة يقبل ويبدأ ببناء البيت. ففي الصورة الأولى لم يعلم الموكل بالإيجاب أصلاً إلاّ بعد شهر , وفي الصورة الثانية علم ولكنه لم يقبل إلاّ متراخياً بعد سنة مثلاً. الجميع جائز عند الحنابلة. لأنّ التوكيل عبارة عن إذن في التصرف فمادام الإذن قائماً جاز أن يقبل في أيّ وقت , والصحيح أنّ هذا يرجع للعرف فإن كان العرف يدل على أنه إن بدأ بالعمل بعد الإيجاب مباشرة , وإلاّ فهو منتقل فليس له أن يقبل بعد مدة ثم يشرع في العمل.
والعرف يدل على أنه غالباً إذا لم يقبل مباشرة فإنه ليس له أن يقوم بما وكل به, فليس من المقبول في الأعراف المعاصرة أن أقول لشخص وكلتك في بيع هذه السيارة ثم لايبدي ايجاباً ولارفضاً ثم بعد خمسة أشهر بدون علم الموكِل يأتي بمشتري ويقول هذه السيارة أنا موكل ببيعها ويبيعها عليه ويأتي بحامل السيارات ويحمل السيارة ويذهب, هذا غير مقبول في العرف مطلقاً, بل يرى الموكِل أنّ الموكل لماّ لم يبدي ايجاباً ولاقبولاً ولارفضاً, فإنه انتهى التوكيل بعد مفارقة المجلس. إذاً الراجح نرجع في هذا إلى العرف. فإن دلّ العرف على الإستمرار وإلاّ فهو ملغي.
(4/200)
________________________________________
- قال - رحمه الله - (بكل قول أو فعل دال عليه).
يعني يصح القبول بكل قول أو فعل يدل على القبول لأنه ليس في نصوص الكتاب ولا السنة ما يدل على تحديد ألفاظ معيّنة بالقبول فما دام قبل صح القبول وتم العقد بأيّ لفظ كان لعدم وجود الدليل الشرعي على التحديد.
قال - رحمه الله - (ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه).
بدأ الشيخ المؤلف في مسائل مهمة بعد أن انتهينا من قضية الإيجاب والقبول , بدأ بمسألة متى يجوز للإنسان أن يُوكل ومتى يجوز له أن يتوكل , فيقول من له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه.
من له التصرف في شيء يعني بنفسه , كل إنسان يجوز له أن يتصرف هذا التصرف فله أن يوكل غيره به وله أن يقبل توكيل غيره له الدليل على هذا. أنّ من لا يملك التصرف في نفسه , لايملك أن ينيب غيره فيه , وهذا صحيح بناء على هذه القاعدة الجميلة عند الحنابلة تعرف أنت الآن إذا قيل لك هل يجوز للمحجور عليه لسفه أن يوكل غيره في البيع والشراء لماذا؟ لأنه هو يملك التصرف حيث تقدم معنا أنّ تصرفه باطل. هل يجوز للعبد أن يوكل غيره في بيع متاع سيده؟ لأنه هو لا يملك. إذا اتضح الآن من خلال هذه الأمثلة معنى القاعدة وهي قاعدة جميلة تريح الإنسان في قضية من هو الشخص الذي أو الموضوع الذي يجوز أن نتوكل أو أن نوكل فيه.
- قال - رحمه الله - (ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود).
يجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود , يجوز أن يوكل في جميع أنواع العقود , واستدل الحنابلة على هذا , بدليل وتعليل:
الدليل" حديث عروة بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكله في عقد البيع , ونحن نقيس على عقد البيع كل العقود الأخرى المضاربة والشركة والإجارة ,. وعقد النكاح وكل العقود التي تتعلق بحق الآدمي , إذاً الدليل هو هذا الحديث ونحن نقيس على مافيه من توكيل في البيع سائر العقود الأخرى.
(4/201)
________________________________________
الدليل الثاني" وهو دليل صحيح أنّ الحاجة تدعوا إلى هذا وأحياناً الضرورة. وكل عمل تمس الحاجة إليه والضرورة فإنّ الشارع لايمنع منه. وهذه قاعدة من قواعد شيخ الإسلام. لكن يبقى علينا تحقيق هل هذا مما تدعوا له الحاجة أو لا. لكن القاعدة لاشك فيها أنّ كل عمل تدعوا إليه الحاجة أو الضرورة فإنّ الشارع لايمنع منه. إذاً عرفنا الآن يقول ويجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود عرفنا أنّ هذه العبارة تدل على جواز البيع وقيس عليه عقود المعاوضات وتدل على جواز عقود النكاح وما يتعلق به.
- ثم قال - رحمه الله - (والفسوخ).
الفسوخ كالخلع والإقالة , فالخلع فسخ عند الحنابلة والإقالة فسخ وتقدمت معنا , وأنه هو الراجح إن شاء الله أنّ الإقالة فسخ وليست ببيع جديد.
- يقول - رحمه الله - (والعتق والطلاق).
العتق هو تحريررقبة الآدمي من العبودية , والطلاق سيأتينا , الدليل على هذه العقود الثلاثة الفسوخ والعتق والطلاق , هو أنه إذا جاز التوكيل في إنشاء هذه العقود ففي فسخها من باب أولى. لأنّ الإنشاء في الشرع أعظم من الفسخ. فالفسخ أسهل من الإنشاء ولهذا إنشاء عقد النكاح يحتاج إلى شروط وولي وشهود ومهر ويحتاج إلى أشياء كثيرة ليتم , الطلاق لايحتاج إلى أيّ شيء, فأيهما أسهل إنشاء النكاح أوفسخه؟ إذاً جاز الإنشاء فالفسخ من باب أولى.
- قال - رحمه الله - (والرجعة).
الرجعة إعادة المطلقة الرجعية إلى عصمة الرجل. تجوز يعني يجوز التوكيل فيها , يجوز أن يقول زيد لعمرو وكلتك في مراجعة زوجتي لماذا؟ قالوا قياساً على البيع , ولأنّ الحاجة تدعوا إليه , لكن ربما يقال ما وجه الحاجة لأنّ الإنسان يستطيع أن يراجع بلا شهود وبلا حضور الزوجة وبلا حضور الولي فما الفائدة في أن يقول لغيره وكلتك في مراجعة زوجتي , الفائدة وهي موجودة كثيراً أن يريد أن تتم هذه المراجعة في حضرة ولي الزوجة وفي حضرة شهود ليثبت هذا الأمر , وهذه مصلحة مندوبة إليها في الشرع , إذاً توجد حاجة. وبهذا شمل الشيخ - رحمه الله - تقريباً جميع أنواع العقود.

- قال - رحمه الله - (وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه).
(4/202)
________________________________________
يعني ويجوز أن يوكل الإنسان غيره في تملك المباحات , فيقول له وكلتك أن تأتي لي بحطب , أوبحشيش من البَر. وهذا هو مذهب الحنابلة واستدلوا على هذا بأنّ الإحتطاب وجز الحشيش من وسائل التملك المباحة , التي لاتتعيّن على المتملّك فجازت الإنابة فيها وهذا صحيح الإحتطاب وسيلة من وسائل التملك , كما أنّ الشراء وسيلة من وسائل التملك , كما أنّ الهبة وسيلة من وسائل التملك. فإذا كان الإحتطاب من وسائل التملك جاز أن يوكل غيره فيه.
والقول الثاني: أنه لايصح التوكيل في تملك المباحات , بناء عليه يكون الحطب للمحتطب , لا للموكل , واستدلوا على هذا بأنه كيف يسوغ للإنسان أن يوكل غيره في تملك عين لم يتملكها هو بعد , وإلى هذا القول الثاني مال الشيخ المرداوي. ورأى أنّ التوكيل في المباحات غير صحيح , والراجح إن شاء الله في تصوري بلا تردد المذهب. والسبب أنّ هذا عقد معاوضة مباحة لا ضررفيه وفيه نفع للطرفين فأيّ مانع منه , أيّ شيء يمنع هذا , ثم قد يكون في هذا التوكيل مصلحة واضحة جداً. مثل أن يريد المُوكَل أن يبُرالموكِل ومثل أن يريد الموكِل أن يبُر الموكَل , وذلك إذا كان الناس يثقون في الموكِل دون الموكَل. حينئذ يكون الموكِل هو الذي برَ الموكَل فالراجح إنشاء الله جواز ذلك.
- قال - رحمه الله - (لا الظهار).
بدأ في الأشياء - رحمه الله - التي لا يجوز التوكيل فيها , قال ولا الظهار يعني ولا يجوز للإنسان أن يوكل غيره في أن يظاهر من زوجته لماذا؟ لأنه هو لا يملك هذا التصرف لأنه محرم , ومن لا يملك التصرف لايملك أن ينيب غيره فيه , هذا التعليل فقهي أما لماذا لايملك التصرف فلأنه جور وقول بهتان , وحرمه الله ورسوله.
- يقول الشيخ - رحمه الله - (واللعان).
لا يجوز أن يوكل شخص شخصاً آخر في أن يلاعن زوجته , فيما لو احتاج إلى اللعان , نسأل الله العافية والسلامة , فلا يجوز أن يقول وكلتك أن تلاعن زوجتي , لماذا؟ لأنّ اللعان يمين, والأيمان كما سيأتينا لا يجوز التوكيل فيها.
- يقول - رحمه الله - (والأيمان).
(4/203)
________________________________________
يعني لا يجوز للإنسان أن يوكل غيره في الأيمان , بأن يقول وكلتك أن تحلف عني , تعليل قالوا أنّ الأيمان تتعلق بعين الشخص وتتعلق بذاته فهي من هذه الجهة تشبه العبادات البدنية المحضة. فلا تجوز الوكالة فيها. وبعد أن عرفنا حكم الظهار واللعان والأيمان. سيتبيّن لنا أنّ الترتيب فيه خلل , أين الخلل؟ الأيمان قبل اللعان , لأنّ اللعان المنع منه مبني على المنع من الأيمان.

- قال - رحمه الله - (وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات).
رجع الشيخ إلى مايجوز فيه التوكيل , فيقول وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات , يعني ويجوز للإنسان أن يوكل غيره في كل حق تدخله النيابة من العبادات , لكن بقي علينا أن نعرف ما هي العبادات التي تدخلها النيابة , والعبادات التي لاتدخلها النيابة.
العبادات التي تدخلها النيابة / هي العبادت المالية كالزكاة والصدقات والكفارات ونحوها ,وكذلك العبادات المالية البدنية كالحج والعمرة , وأما العبادات التي لا تدخلها النيابة البدنية, القسمة ثلاثية إما أن تكون عبادة مالية, أو مالية بدنية, أو بدنية. فالبدنية لا يجوز فيها التوكيل , فلا يجوز لأحد أن يوكل غيره أن يصلي عنه الظهر أو أن يصوم عنه رمضان ونحو ذلك , إذاً العبادات البدنية لا يجوز التوكيل فيها , أما المالية والمالية البدنية فيجوز.
بقينا في مسألة الدليل على الحكم وهوجواز التوكيل في العبادات , لأنّ الأصل في العبادة أن يقوم الإنسان بها بنفسه , الدليل على الجواز فيما يجوز فيه التوكيل ,أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوكل السعاة والجباة في جلب الزكاة , فدل على أنّ هذه العبادة يجوزالتوكيل فيها.
- قال - رحمه الله - (والحدود إثباتها واستيفائها).
يعني ويجوز للإمام أن يوكل غيره في أمرين. في إثبات الحد واستيفائه, فإذا وكل غيره بذلك جاز ويعتبر أقام حدود الله , الدليل على جواز ذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنس (واغد يا أنيس إلى إمرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) فقوله فإن اعترفت هذا توكيل في الإثبات , وقوله فارجمها توكيل في استيفاء الحد , والحديث نصّ في جواز ذلك.
- قال - رحمه الله - (وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه).
(4/204)
________________________________________
ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه , ومقصود الحنابلة , أي فيما جرى العرف أن يقوم به بنفسه , حينئذ لا يجوز له أن يوكل , واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول أنّ الوكالة أمانة , فيجب أن يقوم بما عليه بنفسه.
الثاني" أنّ إذن الموكِل لم يتناول أن يوكل غيره فلا يجوز أن يخرج عن حدود الإذن.
والقول الثاني: أنه يجوز أن يوكل غيره , واستدلوا على هذا بتعليل وهو قولهم أنه أي الموكل لما ملك التصرف ملك أن يوكل فيه كالمالك الأصلي. والأقرب أنه يرجع في ذلك إلى العرف. فإن لم يوجد عرف فالصحيح المذهب أنه لايوكل غيره , لأنّ للموكل نظر في إختيار الموكَل , فإذا وكل غيره أسقط هذا النظر.
- يقول - رحمه الله - (إلاَّ أن يجعل إليه).
يعني إلاّ أن يأذن الموكِل للموكَل أن يوكل غيره , فإذا أذن جاز بإجماع أهل العلم بلا خلاف. كما أنه إذا اشترط عليه ألاّ يوكل حرم عليه بالإجماع بلا خلاف بين أهل العلم , إذاً في صورة إذا أذن أو إذا نصّ على المنع لا إشكال وإنما الإشكال والخلاف إذا أطلق ولم يحدد.

- قال - رحمه الله - (والوكالة عقد جائز تبطل: بفسخ أحدهما).
الوكالة عقد جائز وليست من العقود اللازمة, بلا نزاع عند الحنابلة واستدلوا على هذا بأنّ عبارة عن إذن في التصرف , والإذن يصح رفعه. وهذا صحيح. أنها عقد جائز وليست بعقد لازم , يقول تبطل بفسخ أحدهما, هذا من ثمرة أنه عقد جائز فإذا فسخه انفسخ سواء من الموكِل أو الموكَل , لكن سيأتينا مايترتب على الفسخ بلا علم الموكَل , وهي مسألة مهمة.
- يقول - رحمه الله - (وموته).
اتفق الأئمة على أنه إذا مات الموكِل انفسخ عقد الوكالة , هذا إذا علم الموكَل بموته , الإتفاق إذا علم الموكَل بموته, أما إذا لم يعلم فهي المسألة التي ستأتي بعد هذا , والله أعلم ..
(4/205)
________________________________________
الدرس: (31) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس أن الوكالة تبطل بأمور: ذكرنا منها أمس اثنين:
- الأول: بفسخ أحدهما. - والثاني: بموته.
تقدم معنا أن بطلان الوكالة بالموت محل إجماع. بشرط أن يعلم بموت الموكل.
فإن لم يعلم فسيأتينا إن شاء الله - اليوم - الحكم.
- يقول - رحمه الله -:
- وعزل الوكيل.
يعني: وتبطل الوكالة بعزل الموكل للوكيل.
فإن علم الوكيل بالعزل: بطلت إجماعاً. كما أنه إذا علم بموت الموكل: بطلت إجماعاً.
وإن لم يعلم الوكيل بعزله أو بموت الموكل ففيه خلاف:
= فعلى المذهب: تبطل أيضاً. ولهذا تجد أن عبارة المؤلف - رحمه الله - مطلقة لم تقيد بالعلم أو عدمه.
واستدل الحنابلة على بطلان الوكالة ولو لم يعلم:
- بأن هذا - وهو إبطال أو عزل الموكل للوكيل فسخ للعقد مع من لا يشترط رضاه. فلا يشترط علمه كالطلاق.
معنى هذا: أن الوكيل لا يشترط أن يرضى بعزل الموكل له. وكل عقد لا يشترط رضا أحد طرفيه فلا يشترط علمه كما في الطلاق. فللزوج أن يطلق زوجته بلا رضاها فكذلك بلا علمها.
= والقول الثاني: أنه يشترط العلم بالموت والعزل. فإن لم يعلم الوكيل فكل تصرفاته قبل العلم صحيحة.
واستدل هؤلاء:
- بأن في إمضاء العزل بلا علم المعزول - وهو الوكيل - ضرر بالغ على الوكيل وعلى البائع أو المشتري الذي تعامل معه إذ قد يشتري الطعام فيؤكل أو يشتري الجارية فتوطأ فإذا أبطلنا العقد دخل الضرر على الوكيل وعلى البائع.
وهذا القول الثاني هو الراجح. وأنه يجب على الموكل إذا أراد أن يعزل أن يخبر الوكيل بأنه عزله حتى لا يقدم على تصرف بعد العزل فيقع البائع والوكيل والموكل في إشكال.
فإذاً: الراجح إن شاء الله هو ما ذكرت لك.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وحجر السفيه.
يعني وتبطل الوكالة إذا أصبح الوكيل سفيهاً وحجرنا عليه.
- لأنه خرج بذلك عن أهلية التصرف.
وتقدم معنا: القاعدة المهمة: (وهي أن من لا يتصرف لنفسه لا يتصرف لغيره).
وعلم من قول المؤلف - رحمه الله -: (لسفه) أن من حجر عليه لفلس فلا تبطل الوكالة.
لأن من حجر عليه بفلس ما زالت أهلية التصرف فيه كاملة وصحيحة فيما عدا الأموال المعينة التي بيده فقط.
ولهذا تقدم معنا جواز تصرف المحجور عليه لفلس في ذمته.
فإذاً هو ما زال من أهل التصرف المعتبر والمصحح شرعاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
(4/206)
________________________________________
- ومن وكل في بيع أو شراء: لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده.
ضبطها المحقق: (وَكَّلَ) والصواب: (وُكِّلَ). فتعدل.
من وُكِّلَ في بيع أو شراء لم يجز له أن يبيع ولا أن يشتري مع ولده ولا مع نفسه - أو مع نفسه ولا مع ولده - ولا يجوز كذلك أن يتعامل كل من لا تقبل شهادته له.
إذاً إذا وكل الإنسان ببيع سلعة مثلاً فإنه لا يجوز أن يبيع لا على نفسه ولا على ولده ولا على كل من لا تقبل شهادته له.
الدليل:
- أنه إذا باع على نفسه تنافى الغرضان.
ومعنى هذا: أنه في هذه الصورة إما أن يراعي مصلحة نفسه لأنه هو المشتري أو يراعي مصلحة موكله لأنه ائتمنه على بيع السلعة. وكيف سيراعي الأمرين في وقت واحد.
- الدليل الثاني: أن هذا التصرف محل تهمة.
- الدليل الثالث: أنه ينافي مقتضى إطلاق التوكيل. لأن التوكيل المطلق ينصرف إلى البيع على غير نفسه.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن يبيع على نفسه أو على ولده أو على أخيه أو على أبيه أو على كل من لا تقبل شهادته له بشرطين:
- الشرط الأول: أن يزيد على الثمن في بيع المزايدة.
- الشرط الثاني: أن يتولى النداء غيره.
والراجح: المذهب. ولا يجوز أن يبيع أو يشتري إلا بإذن خاص مسبق من الموكل لتبادر التهمة إلى من فعل ذلك.
ولهذا تجد أن من يبيع أو يشتري على نفسه من مال موكله يحب أن لا يعلم الموكل أنه قام بهذا العمل مما يدل على أنه إثم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يبيع بعرض.
يعني: لا يجوز إذا وكل في بيع سلعة أن يبيعها مقابل عرض بل يشترط أن يكون البيع مقابل النقد.
وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم.
واستدلوا على هذا: - بأن الموكل إنما وكله في البيع المعروف. والبيع المعروف: ما يكون بالنقد.
= والقول الثاني: أن له أن يبيع بما شاء من نقد أو عرض.
واستدلوا على هذا: - بأنه وكله في البيع والبيع بعرض: بيع. فدخل مطلق التوكيل.
والراجح: الأول. لأن المتبادر في التوكيل ببيع السلع أن تكون بالنقد فلا يجوز مطلقاً أن يبيع بعرض إلا بإذن خاص من الموكل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا نساء.
يعني: ولا يجوز أن يبيع بثمن مؤجل.
(4/207)
________________________________________
والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً. من حيث القائلين والأدلة والترجيح. فلا حاجة لإعادة القول.
بناء على هذا: لا يجوز لمن أعطي سلعة أن يبيعها أن يبيع بثمن مؤجل ولو كان بأكثر من ثمن المثل بأضعاف مضاعفة ولو كان فيه الحظ لصاحب السلعة لأن التأجيل في حد ذاته يعتبر خروجاً عن البيع المعروف وفي مضرة لا سيما لمن أراد المال نقداً لينتفع به في الحال. فإنه في هذه الصورة لا ينتفع من المؤجل مهما بلغت قيمة المؤجل وزيادته على ثمن الحال.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا بغير نقد البلد.
لما تقدم: من أن إطلاق التوكيل ينصرف إلى نقد البلد.
وإذا أراد أن يبيع بغير نقد البلد فعليه أن يستأذن.
بناء على هذا: لا يجوز لمن كان في السعودية ووكل في بيع سيارة أو سلعة أن يبيع بغير الريال السعودي ولو كان من غير السعوديين. لأن النقد في هذا البلد ينصرف عند إطلاق التوكيل إلى هذه العملة.
وإذا أراد أن يبيع أو يشتري بغير هذه العملة فإنه يستأذن من الموكل.
وكذلك إذا كان في مصر فلا يجوز إلا بالجنيه. وإذا كان في الأردن فلا يجوز إلا بالدينار وهكذا بحسب كل عملة بلد.
كما أن الموكل إذا باع بغير نقد البلد ربما تعذر صرف هذه العملة وربما صرفت بثمن منخفض مما يؤدي إلى النزاع والتشاحن فلا يجوز البيع إلا بنقد البلد.

- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن باع بدون ثمن المثل، أو دون ما قدره له ... صح وعليه النقص.
= فالحنابلة يرون: أن البيع صحيح. وسيأتينا دليلهم.
لكن مع ذلك على الوكيل أن يضمن النقص.
واستدلوا على هذا:
- بأن من وكل في البيع فإن المتبادر إلى الذهن أن يبيع بمثل ثمن المثل لا بأقل.
ورأى الحنابلة أنه يتجاوز عن النقص اليسير الذي يتغابن الناس بمثله وما عداه فإن الوكيل يضمن النقص.
واختلفوا في كيفية تحديد النقص.
ـ فذهب أكثر الحنابلة: إلى أنه الفرق بين قيمة المثل وثمن البيع.
ـ والقول الثاني: أنه الفرق ... بين ما يتغابن به الناس وما لا يتغابن به الناس.
وغالباً ما سيكون الفرق بين القولين: يسير.
= القول الثاني: صحت البيع ولا يضمن الوكيل شيئاً من النقص.
(4/208)
________________________________________
- لأنه وكله في البيع وهو باع. ولا يستغرب في عرف الأسواق أن تباع الساعة بأقل من ثمن المثل.
= القول الثالث: أن حكم البيع حكم بيع الفضولي فإن أجازه الموكل وإلا لم يصح.
واستدل هؤلاء:
- بأنه باع بيعاً لم يؤذن له فيه. ومن تصرف تصرفاًَ لم يؤذن له فيه فحكمه حكم بيع الفضولي.
وهذا القول الأخير هو الصحيح إن شاء الله.
تنبيه:/ تقدم معنا أن الحنابلة يتجاوزون عن الغبن اليسير الذي يتغابن به الناس في مسألة بيعه بمثل ثمن المثل. لكنهم لا يتجاوزون هذا التجاوز إذا خالف وباع بغير ما حدده البائع.
وأنت تلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - ذكر مسألتين: ـ المسألة الأولى: بدون ثمن المثل. ـ والمسألة الثانية: بدون ما قدره له الموكل.
فالخلاف في المسألتين واحد.
الفرق فقط في أن الحنابلة يتجاوزون عن الغبن اليسير في الأولى ولا يتجاوزون عن أي مقدار في الثانية. لأن مخالفة تحديد الموكل مخالفة صريحة للإذن في التوكيل.
ولذلك لم يتجاوزوا مطلقاً في المسألة الثانية. ولو كان الفارق يسيراً بل عليه أن يدفع الفارق: أي: الوكيل.

- ثم قال - رحمه الله -:
- أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له.
أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو بأكثر مما قدره له. عكس الصورة السابقة: الصورة السابقة توكيل في البيع والصورة الثانية توكيل في الشراء.
فإذا قال له: اشتري لي سيارة وأعطاه مواصفات السيارة وكان ثمن المثل فيها مائة ألف واشتراها بمائة وعشرين ألفاً فهذا المقدار مما لا يتغابن به الناس فعليه أن يضمن النقص عند الحنابلة.
ولو قال له: خذ هذا المبلغ - أو اشتري لي سيارة بالمبلغ الفلاني ولو لم يعطه إياه وخالف فإنه يضمن الفرق سواء صار الفرق كبيراً أو صغيراً.
إذاً التفصيل في هذه المسألة كالتفصيل في المسألة السابقة تماماً بلا اختلاف.
- قوله - رحمه الله -:
- صح.
صححوا البيع وتقدم معنا الخلاف في المسألة وقررنا أنهم يصححون البيع ويلزمونه بالفرق وأخذنا دليل الإلزام بالفرق.
لكن نريد الآن أن نأخذ دليل صحة البيع.
فقالوا دليل صحة البيع:
- أن من جاز له أن يبيع بثمن المثل جاز له أن يبيع بأقل وبأكثر وإنما نلزمه بالفرق فقط.
- يقول - رحمه الله -:
(4/209)
________________________________________
- وضمن النقص.
يعني: بالبيع.
- قال - رحمه الله -:
- والزيادة.
يعني: في الشراء.
إذاً بهذا تم ما يتعلق بمسألة إذا اشترى أو باع وخالف في ثمن المثل أو خالف ما حدده الموكل. وهذا كثير بين الناش. يقول له: اشتري لي الغرض الفلاني فيما بين السعر هذا أو السعر هذا. يحدد له الأدنى والأعلى ثم أحياناً يخالف الوكيل - وأحياناً نصحاً للموكل - لأنه رأى فرصة ينبغي استغلالها. لكن مع ذلك إذا صنع هذا العمل فعليه أن يضمن النقص عند الحنابلة.
وتقدم أن الراجح أن حكم بيعه حكم بيع الفضولي.

- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن باع بأزيد .. صح.
وإن باع بأزيد صح البيع.
- لأنه زاده خيراً وثمناً.
فيصح البيع ولا إشكال.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو قال: ((بِعْ بِكَذَا مُؤَجَّلاً)) فباع به حالاً.
أو قال: ((بِعْ بِكَذَا مُؤَجَّلاً)) فباع به حالاً: صح البيع.
- لأنه نفع ظاهر للبائع.
فإذا قال له: بع هذه السيارة بمائة ألف مؤجلة واستطاع الوكيل ان يبيع بمائة ألف حالة. فهذا فيه زيادة خير لمن؟ للبائع الذي هو الموكل. فالبيع صحيح.
وسيأتينا دليل المسائل الثلاث.
المسألة الثالثة:
- قال - رحمه الله -:
- أو ((اشْتَرْ بِكَذَا حَالاً)) فاشترى به مؤجلاً، ولا ضرر فيهما: صح وإلاّ فلا.
أو قال: اشْتَر لي بِكَذَا حَالاً فاشترى له به مؤجلاً. فإذا قال له اشتر لي سيارة بمائة ألف حالة واستطاع بفطنته وخبرته أن يشتريها بمائة ألف مؤجلة فهذا التأجيل زيادة نفع للمشتري الذي هو في هذه الصورة: الموكل.
فهنا البيع صحيح.
- لأنه زاده خيراً.
لكن استثنى المؤلف - رحمه الله - في المسائل الثلاث عدم وجود الضرر كما سيأتينا:
الدليل على صحة هذه البيوع:
- حديث عروة بن الجعد. فإنه زاد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً بأن اشترى الشاة بدينار ثم باعه بدينارين. واشترى بأحدهما شاة فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بديناره وشاة. وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا زيادة خير وفضل للموكل فدل الحديث على صحة البيع في المسائل الثلاث.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا ضرر فيهما: صح وإلا فلا.
(4/210)
________________________________________
ظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن الضرر يستثنى في المسألة الثانية والثالثة فقط. إذ لا يتصور الضرر في المسألة الأولى.
فإذا صار في هذا البيع ضرراً على البائع أو ضرراً على المشتري في المسألة الثانية والثالثة فإن البيع لا يصح.
والضرر يتصور جداً في المسألتين:
* * فإذا قال له: بع هذه السلعة مؤجلة وباعها حالة بنفس الثمن ربما دخل الضرر على البائع بسبب أنه لا يريد أن يكون في يده نقود مجتمعة لأنه معتاد على إتلاف النقد فهو يريد أن يبيع مؤجلاً ليأتيه الثمن مقسطاً ويستطيع أن يصرف منه في أطول فترة ممكنة. فهذا فيه مضرة ظاهرة.
فإذا وجدت المضرة فإن البيع لا يصح.
هذا ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله -.
= والقول الثاني: أن البيع صحيح. ويضمن الوكيا الاختلاف - ما نقول النقص ولا الزيادة - ولكن نقول الاختلاف.
وتكون هذه المسألة حكمها حكم المسألة السابقة تماماً: إذا اشترى بأكثر مما حدد له أو بأكثر من ثمن المثل.
فالخلاف في تلك المسألة يأتينا في هذه المسألة تماماً.
وهذا القول الثاني - أن حكم هذه المسألة هو حكم المسألة السابقة: هو المذهب.
أي أن الحنابلة لا يبطلون البيع وإنما يعاملونه معاملة المسألة السابقة: يلزمونه بالنقص أو الزيادة أو الاختلاف مع تصحيح العقد.
وهذا القول الثاني هو الصحيح.
وبهذا نكون انتهينا من الفصل الأول من باب الوكالة. ثم ننتقل إلى الفصل الثاني.

فصل
[في ما يلزم الموكل والوكيل]
- قال - رحمه الله -:
- وإن اشترى ما يعلم عيبه: لزمه إن لم يرض موكله.
إذا اشترى الوكيل سلعة يعلم أن فيها عيباً.
فالحكم أن السلعة تلزم هذا الوكيل.
ومعنى أنها تلزم الوكيل: أي لا يستطيع أن يردها عن البائع ولا يستطيع أن يلزم بها الموكل.
أما الرد على البائع: فلا يستطيع أن يفعل ذلك: لأنه اشترى على علم بالعيب. ومن اشترى على علم بالعيب سقط عنه خيار العيب.
ولا يستطيع أن يلزم بها الموكل: لأنه إنما أمره بشراء سلعة سليمة. وهو اشترى سلعة معيبة وهو عالم.
- يقول - رحمه الله -:
- إن لم يرض موكله.
فإن رضي الموكل بالسلعة مع وجود العيب فيها: صح. وصار هو المالك مباشرة. ولا نحتاج أن نجري عقداً آخر - جديد - بين الوكيل والموكل.
(4/211)
________________________________________
والسبب في ذلك: أنه إنما اشترى في الأصل لمن؟ للموكل. فلما رضي وقبل دخلت في ملكه مباشرة.
وبهذا عرفنا أحكام شراء السلعة المعيبة مع العلم بالعيب.
وقلما إن شاء الله أن يقع مثل هذا من الموكل وربما وقع إذا رأة أن مصلحة الموكل تقتضي شراء السلعة ولو كانت معيبة: إما لندرة هذه السلعة أو لانخفاض الثمن مع إمكان إصلاح هذا العيب. حينئذ في هذه الصورة ليس من المروءة أن يرد الموكل تصرف الوكيل. فإن رد فهذا حق من حقوقه وله شرعاً أن يرد مهما كانت نية الوكيل صالحة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن جهل: رده.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الوكيل له أن يرد السلعة.
- لأنه يقوم مقام الموكل. والموكل له أن يرد بالعيب فللوكيل أن يرد بالعيب.
فإذا رده هو أو الوكيل: صح الرد وبرئت ذمة الموكل والوكيل.
وعلم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الوكيل إذا اشترى سلعة معيبة لا يعلم بعيبها فالعقد صحيح. لكنه يملك خيار (((البيع))) [[كذا: ولعلها: العيب]]. وله أن يرد هو أو الموكل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ووكيل البيع: يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة.
الوكيل في البيع مخول شرعاً في تسليم السلعة دون استلام الثمن.
فإذا وكل زيد عمرا ببيع سلعة معينة فلعمرو أن يبيع السلعة وأن يسلم السلعة للمشتري. لكن ليس له عند الحنابلة أن يقبض الثمن.
واستثنى الحنابلة من هذا الصورة إذا علم من واقع الحال أنه وكله بتسليم السلعة وقبض الثمن. كأن يكون المشتري في سوق يخرج عنه إلى خارج البلد مما يعني عدم إمكانية أخذ الثمن بعد ذلك.
فإذا دلت القرائن على أنه وكله بتسليم سلعة وقبض الثمن ولم يقبض الثمن فهو مفرط وعليه الضمان.
((مرة أخرى:: تقرير مذهب الحنابلة: أن الوكيل إذا وكل في بيع سلعة فهو من صلاحياته أن يبيع السلعة أي أن يجري العقد وأن ((يطبق)) المشتري السلعة لكن ليس له أن يأخذ الثمن، إلا في حالة واحدة: إذا دلت القرائن على أن الموكل أراد منه قبض الثمن - كما في المثال الذي ذكرت - فإن لم يفعل فهو مفرط وعليه الضمان)).
الدليل على هذا التفصيل:
ـ قالوا: أما أن على الوكيل تسليم السلعة فدليل ذلك:
(4/212)
________________________________________
- أنه وكله بالبيع. والبيع لا يتم إلا بذلك. أي: لا يتم إلا بتسليم السلعة. فصار من أعمال الوكيل بمقتضى الوكالة: تسليم السلعة.
ـ أما أنه لا يستلم الثمن:
- فلأنه ربما كان الموكل يأمنه على تسليم السعة ولا يأمنه على قبض الثمن. فلا يجوز له أن يقبض الثمن.
= القول الثاني: - وهو أضيق من هذا القول - أن الوكيل ليس له أن يقبض الثمن مطلقاً إلا بالإذن الصريح ولو دلت القرائن على أن له أن يقبض الثمن. فإن قبضه بغير إذن صريح فهو متعد.
= والقول الثالث: أن له أن يقبض الثمن إذا دلت الأعراف والقرائن على أن مثله يقبض الثمن.
وهذا القول الأخير هو الصحيح إن شاء الله. وفيما أفهم من أعراف اليوم أن من السلع من جرى العرف أن الوكيل يقبض مباشرة لا سيما مع زهادة المبيع.
ومن السلع ما جرى العرف أنه لا يقبض الثمن لا سيما إذا كان الثمن مرتفعاً جداً فحينئذ ليس له أن يقبض.
المهم أنه حسب العرف.

- ثم قال - رحمه الله -:
- ويسلم وكيل الشراء: الثمن.
فإذا وكل خص شخصاً أن يشتري وأعطاه الثمن فإنه يسلم الثمن للبائع. لكن ليس له أن يقبض: السلعة.
وله أن يسلم الثمن لأن مقتضى الشراء تسليم الثمن ولا يتم إلا بذلك.
فصححنا تسليم الثمن.
وليس له أن يقبض السلعة: لما تقدم معنا في المسألة السابقة.
ولا يخفى عليكم إن شاء الله أن الخلاف واحد.
والمسألتان هما: - شراء الوكيل. - وبيع الوكيل. شراء الوكيل: يعني: قبضه السلعة. وبيع الوكيل: قبضه الثمن.
عاتان المسألتان الخلاف فيهما: واحد.
- قال - رحمه الله -:
- فلو أخره بلا عذر وتلف: ضمنه.
يعني: إذا أعطى زيد مبلغاً من المل ليشتري. فأخر عمرو تسليم المبلغ بعد إتمام العقد. فإنه يضمن.
والسبب في ضمانه أنه مفرط.
وتقدم معنا أن التفريط ترك ما يجب.
والتعدي فعل ما لا يجوز.
وأنهما من أسباب ضمان اليد الأمينة, فكل يد حكمنا عليها بأنها يد أمانة تضمن في التعدي والتفريط.
أيهما أشد: التعدي أو التفريط؟
التعدي: لأن التعدي فيه فعل موجب. يعني هو تقدم وتعدى.
أما التفريط فهو فعل: سالب. فهو ترك فقط ما يجب عليه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً.
فإن وكله ببيع فاسد فباع صحيحاً: فالبيع باطل.
(4/213)
________________________________________
مثاله: إذا قال له اشتر لي خمراً أو خنزيراً أو آلة لهو. ثم اشترى حصاناً أو بقرة أو شاة فالبيع فاسد.
سبب الفساد: أنه وكله في شيء واشترى شيئاً آخر فهو فعل فعلاً لم يؤذن له فيه.
فإذاً إذا وكل أحد أحداً في بيع فاسد فالبيع فاسد مطلقاً سواء اشترى ما وكل به أو اشترى شيئاً آخر صحيحاً. لأنه إن اشترى ما وكل به فقد اشترى شيئاً فاسداً فالبيع باطل.
وإن اشترى غيره فالبيع باطل أيضاً عند الحنابلة لماذا؟ لأنه فعل ما لم يؤذن له فيه.

= القول الثاني: أن البيع صحيح.
- لأنه إذا وكله في شراء فاسد فالصحيح من باب أولى.
والصحيح: المذهب: لأن عقد البيع والتوكيل يقوم على مبدأ الرضا والرضا معتبر. ونحن نلوم الموكل على أنه وكله بشراء فاسد لكن نحفظ له حقه في أن لا يشترى له إلا ما يرضاه.
بهذا تعلم أن الحنابلة توازنوا جداً في هذه المسألة مع العلم أنه قد يتبادر إلى الذهن أن التوازن هو تصحيح شراء ما يصح شرائه. والواقع أن الحنابلة هم الذين توازنوا بإبطال البيع مطلقاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو وكله في كل قليل وكثير.
إذا وكله في كل قليل أو كثير فالوكالة باطلة. وما ينبني عليها من تصرفات أيضاً باطلة.
صورة المسألة:/ أن يقول: وكلتك في كل قليل أو كثير من شؤوني. وكالة مطلقة مفتوحة.
فشملت الوكالة: أن يشتري ويبيع في جميع أملاكه. ان يوقف جميع أملاكه. أن يعتق جميع عبيده. ان يطلق جميع نسائه. أن يتزوج له أربع نسوة .. أليس كذلك!؟ أليست هذه العقود تقدم أنه يدخلها الوكالة وهو أعطاه وكالة مفتوحة تماماً.
دليل البطلان:
- أن هذا العقد يتصف بالغرر الفاحش والضرر الكبير. وأحد العبارتين لا يغني عن الآخر. أحياناً يكون في العقد غرر ولا يكون فيه ضرر. لكن هذا العقد فيه غرر وفيه ضرر. وفيما أفهم أن كتاب العدل اليوم لا يمضون هذه الوكالة وهذا من حسن التصرف لأنه قد يأخذ الإنسان أحياناً الحماس والعاطفة والمحبة لشخص فيقوم بتوكيله هذه الوكالة المفتوحة ثم يندم بعد ذلك أشد الندم.
فما يفعله اليوم كتاب العدل من الامتناع عن التوكيل بهذه الصفة هو عين المصلحة.
- قال - رحمه الله -:
- أو شراء ما شاء.
إذا وكله في شراء ما شاء فالوكالة باطلة ولا تصح.
(4/214)
________________________________________
وصورة المسألة/ أن يقول وكلتك في شراء شيء: إذهب إلى السوق واشتري لي شيئاً. ماهو الشيء؟ لم يحدد العين لا من حيث الجنس ولا من حيث العين.
فالوكالة باطلة. لأن في هذا أيضا غرر كبير وقد يكون فيه ضرر وقد لا يكون. بحسب ما يشتري.
إذاً: نقول في هذا العقد غرر ظاهر واضح.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الجامع المانع: نهى عن الغرر.

- قال - رحمه الله -:
- أو عيناً بما شاء ولم يعين: لم يصح.
أي طلب منه أو وكله أن يشتري له شيئاً معيناً. ولذلك يقول: (عيناً) أي حدد الذي حدد الذي يشتريه - العين التي تشتري. لكنه لم يحدد الثمن فقال إشتر هذه العين بما شئت.
فالعقد باطل ولا يصح.
- لأنه ربما زاد في الثمن في هذه السلعة زيادة فاحشة مما يدخل الضرر والنزاع بين الاثنين: الموكل. والوكيل.
هكذا قرر الحنابلة حكم هذه المسألة.
وفي الحقيقة الضرر في هذه المسألة أخف من الضرر في المسألة السابقة. ومن الضرر في المسألة التي قبلها. لأنه في الغالب الموكل لا يقول لأحد اشتر لي هذه السلعة مهما بلغت إلا وهو يتصور نطاق ثمن هذه السلعة لا سيما إذا كانت منخفضة السعر.
ولا يريد أن يحدد ثمناً لئلا تفوته السلعة مع أن الاختلاف يسير. فمثلاً: لا يريد أن يقول: اشتر لي هذه السلعة بمائة ريال ثم تباع بمائة وريال. هو يريد أن يخرج من هذا المأزق فيقول: اشتر لي هذه السلعة وهو يعلن أن هذه السلعى لن تزيد عن حد معين مهما كان. وسعر هذه السلعة معروف في السوق.
فالمنع من هذه الصورة - بالذات: الذي ذكرت - فيه نظر. إلا أنه مع ذلك تحتاج المسألة إلى ضبط. فلو يقال: أن التوكيل في شراء عين بلا تحديد السعر يجوز في المحقرات والأشياء اليسيرة. ويمنع في الأشياء الكبيرة: لكان هذا القول متوافق إن شاء الله مع الشرع وفيه فسحة للناس وبعد عن التضييق عليهم وفي نفس الوقت بعد عن الأضرار الشرعية من وجود الغرر أو وجود الضرر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والوكيل في الخصومة لا يقبض.
معنى العبارة: أنه إذا وكل شخص شخصاً في الخصومة فليس من صلاحياته أن يقبض بعد انتهاء الخصومة.
استدل الحنابلة على هذا:
(4/215)
________________________________________
- بأن الإنسان قد يوكل غيره في الخصومة لكونه يتقن الخصومة ويعرف البينات والأدلة. ولكن لا يريد منه أن يقبض. لأحد سببين: ـ السبب الأول: أنه لا يأتمنه على ثمن العين محل الخصومة. ـ والسبب الثاني: يخشى أن يموت الخصم فتنتقل العين إلى الورثة وهو يحب بقاء العين مع الورثة ولا يريد التضييق على الورثة. فهو لهذين الأمرين وكله في الخصومة دون القبض.
= والقول الثاني: أنه إذا وكله في الخصومة ودلت القرائن والأعراف على أن مثله يقبض فإنه يقبض.
وربط هذه المسائل بالأعراف هو الصحيح.
لأنه ليس في النصوص وصف تفصيلي للأحكام فنرجع إلى عرف الناس إذ سيتعامل الناس غالباً على وفق العرف.
- قال - رحمه الله -:
- والعكس بالعكس.
فإذا وكله في القبض فله أن يخاصم.
واستدلوا على هذا:
- بأن القبض لا يتم إلا بالخصومة.
((الأذان)).
إذاً يقول المؤلف - رحمه الله -: والعكس بالعكس.
فإذا وكله بالقبض ملك الخصومة.
واستدلوا على هذا:
- أن القبض لا يتم إلا بالخصومة. يعني: إلا بعد الخصومة.
وبهذا فرق الحنابلة بين هذه المسألة والمسألة السابقة.
= القول الثاني: أنه إذا وكله في القبض فإن هذا لا يعتبر توكيلاً بالخصومة إلا إذا علم الموكل من دلالة الحال أن القبض لن يكون إلا بعد خصومة. كأن يعلم الموكل أن المدين مماطل أو جاحد أو يتهرب فحينئذ إذا وكله في القبض فهو توكيل في الخصومة.
وهذا القول الثاني هو الصحيح. أن التوكيل بالقبض ليس توكيلاً بالخصومة مطلقاً. بل ربما كره الموكل أن يخاصم الوكيل الدائن وقال له: إنما وكلتك بالقبض فقط.
فهذا القول الثاني: هو الصحيح وهو أقوى من المذهب. وعليه عمل الناس. إذ ليس التوكيل في القبض توكيل مباشر بالخصومة. هذا أمر ظاهر.
- ثم قال - رحمه الله -:
- و ((اقْبِضْ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ)) لا يقبض من ورثته.
يعني: وإذا قال الموكل للموكل اقبض حقي من زيد. فهذا ليس توكيلاً بقبض الحق من الورثة.
- لأنه إنما وكله بقبض الحق من زيد ونص عليه. فلا تتجاوز الوكالة زيد.
- ولأنه رما كره أن يطالب الورثة بالدين بعد موت المدين.
= والقول الثاني: أن التوكيل بالقبض من زيد توكيل بالقبض من ورثته.
(4/216)
________________________________________
وعلى هذا العمل. أنه إذا وكل شخص بمطالبة زيد ثم مات فله أن يطالب الورثة. وهذا القول هو الصحيح.
وعلى الموكل إذا أراد من الوكيل أن لا يطالب أن يبين ذلك في الوكالة. لأن هذا خلاف المعهود وخلاف العرف.

- ثم قال - رحمه الله -:
- إلاّ أن يقول: ((الَّذِي قَبْلَهُ)).
أي: إلا أن يقول الموكل اقبض ديني الذي قبل زيد. يعني: الذي عند زيد.
- لأن هذا اللفظ يتناول ما إذا كان الدين عند زيد أو عند الورثة لأنه يريد أن يقبض الدين الذي قبل هذا الشخص. وهذا يتساوى فيه المدين والورثة.
ففرق الحنابلة بين العبارتين. لأن العبارة الثانية: تركز على الدين. والعبارة الأولى: تركز على قبضه من زيد.
فالحنابلة عندهم دقة في ألفاظ التوكيل لأنه سبق معنا أنه عقد من العقود المعتبرة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يضمن وكيل الإيداع: إذا لم يشهد.
يعني: إذا وكل زيد عمراً أن يودع هذه السلعة عند آخر. فأودعها ولم يشهد. فإن الوكيل لا يضمن ولو ترك الإشهاد.
استدل الحنابلة على هذا:
- بأن هذا الإشهاد لا فائدة منه. لأن المودَع لا يضمن مطلقاً.
- ولأن قول المودَع مقبول دائماً.
= والقول الثاني: أن الوكيل إذا أودع ولم يشهد فهو ضامن.
واستدلوا على هذا:
- بأن هذا الاشهاد ينتفع منه فيما إذا نسي المودَع. فإذا نسي المودَع وكان المودِع أشهد نفعت الشهادة.
وهذا القول الثاني هو الصحيح. والمذهب في هذه المسألة: ضعيف. ففي ترك الإشهاد تفريط ظاهر.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابة أجمعين ...
(4/217)
________________________________________
الدرس: (32) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- قال - رحمه الله -:
- (فصل).
هذا الفصل عقده المؤلف - رحمه الله - لبيان غالب أحكام الضمان بين الوكيل والموكل. ولذلك بدأ بقاعدة الباب:
- فقال - رحمه الله -:
- والوكيل أمين: لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط.
هذه هي القاعدة أن الوكيل: أمين لا يضمن إلا بالتفريط.
= وعند الحنابلة لا يضمن إلا بالتفريط ولو كان وكيلاً بأجرة أو بجعل. فعدم الضمان مطلقاً ما لم يفرط.
واستدلوا على هذا:
- بأنه - أي الوكيل - يقوم مقام المالك., والتلف في يد المالك لا يوجب ضماناً لأنه تلف في يد المالك فكذلك التلف في يد الوكيل. وهذا التعليل صحيح. وهذا هو تعليل القول بأن يده يد أمانة.
- قال - رحمه الله -:
- إلا بلا تفريط.
يعني: أو تعدي. وإنما اقتصر على التفريط لأنه أقل من التعدي. فإذا كان يضمن بالتفريط فبالتعدي من باب أولى. ولذلك اقتصر عليه المؤلف - رحمه الله -.
قبل أن نتجاوز المسألة السابقة: هذا الحكم المذكور فيها هو قاعدة الأعيان المقبوضة بيد أمانة: كالأب والوصي والمضارب والشريك. وكل من يده يد أمانة. فهي في الحقيقة قاعدة تشمل جميع الذين تعتبر أيديهم يد أمانة وهذا الحكم ينطبق عليهم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويقبل قوله في نفيه والهلاك مع يمينه.
يعني: ويقبل قول الوكيل في نفي التفريط والتعدي. ويقبل قوله أيضاً في التلف.
فإذا ادعى الوكيل أنها تلفت وادعى الموكل أنها باقية. فالقول قول الوكيل.
واستدلوا على هذا بأمور: - الأمر الأول: أن يده يد أمانة.
- الأمر الثاني: أنا لو ألزمنا الوكيل بالبينة لكنا ألزمناه بأمر يتعذر ولأدى هذا إلى انقطاع يد الأمانة في تعامل الناس. (لأنا لو ألزمناه بالبينة لألزمناه بأمر يتعذر غالباً ولأدى ذلك إلى انقطاع يد الأمانة في تعامل الناس).
- الأمر الثالث: أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
فهذه الأدلة مجتمعة تدل على قوة ما ذهب إليه الحنابلة. وهو: أن قوله مقبول في نفي التعدي والتفريط وفي وجود التلف.
- يقول - رحمه الله -:
- مع يمينه.
يعني: أنه يقبل لكن مع اليمين. لأمرين:
- الأول: الحديث: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وهو منكر الآن فعليه اليمين.
- الثاني: احتمال صدق الموكل.
* * مسألة/ فإن اختلف الوكيل والموكل في رد السلعة أو الثمن إلى الموكل:
= فعند الحنابلة أيضاً القول قول الوكيل بشرط أن يكون وكيلاً مجاناً. فإن كان وكيلاً بأجرة فالقول قول الموكل.
واستدلوا على هذا:
- بأنه إذا كان وكيلاً بأجرة فقد قبض المال لمصلحة نفسه فضمن.
(4/218)
________________________________________
= والقول الثاني: أن القول قول الوكيل مطلقاً.
- لأنه وإن أخذ أجرة فما زالت يده يد أمانة. كالمضارب. فالمضارب يأخذ كما سيأتينا مقابل عمله - ولا نقول أجره وإنما هو جزء من الربح - مع ذلك يده يد أمانة ولا يضمن.
والأقرب والله اعلم ان الوكيل لا يضمن ولو كان بأجره مطلقاً. فإن هذا هو المتوافق مع حقيقة وضع الوكيل ولا يخرجه عن ذلك أنه يأخذ أجرة مقابل عمله.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو: لم يلزمه دفعه إن صدقه.
يعني: إذا ادعى شخص أنه وكيل لزيد في القبض من عمرو وصدقه عمرو فإنه لا يلزم عمرو أن يعطيه الدين.
وعلم من المثال أن الدائن زيد والمدين عمرو.
إذاً: إذا ادعى أنه وكيل زيد في قبض الدين وصدقه عمرو فإنه لا يلزمه مع أنه مصدق أن يدفع إليه ماله.
التعليل: - قالوا: التعليل أنه ربما أنكر زيد فرجع الحق في ذمته. يعني في ذمة المدين. وهو عمرو في المثال.
واستثنى الحنابلة من هذا الحكم ما إذا أتى ببينة على أنه وكيل لزيد فحينئذ يلزم عمرو أن يدفع له الدين لأنه لا توجد تبعه على عمرو مهما حصل لأنه أثبت الأمر ببينة.
إذاً عرفنا الآن أنه إذا صدقه لا يلزمه أن يعطيه.
= والقول الثاني: أنه إذا ادعى أنه وكيل لزيد وصدقه عمرو فيجب أن يعطيه - يجب أن يقبضه الدين.
- لأنه صدقه.
والراجح: المذهب. لأن المدين قد يصدق أنه وكيل لزيد لكنه لا يثق بزيد فيحتمل أن ينكر وإن كان فعلاً أرسل هذا الوكيل. ولهذا لا يلزمه وإن صدق.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا اليمين إن كذبه.
يعني: ولا يلزم عمرو في المثال اليمين إن كذب وكيل زيد.
لماذا؟ - قالوا: لأن هذا اليمين لا فائدة منها. وجه ذلك: أن الفائدة من اليمين في جميع الدعاوى القضاء عليه حين النكول. وفي هذه الصورة إذا نكل عن اليمين فسنقضي عليه بأن الوكيل صادق.
وتقدم معنا أنه إذا صدقه لا يلزم أن يعطيه الدين.
(4/219)
________________________________________
فإذاً لا فائدة من اليمين. وهذا صحيح لأن الفائدة دائماً في الدعاوى من اليمين القضاء بالنكول. وهنا إذا قضينا عليه بالنكول فغاية ما هنالك أن نقول: جكمنا عليك بأنك مصدق للوكيل وإذا صدقه أيضاً لا يلزمه أن يدفع إليه الدين لأنه تقدم أنه إذا صدقه لا يلزم أن يعطيه الدين.
فإذاً تبين معنا أن ما ذكره الحنابلة: صحيح. أنه لا يلزمه اليمين وذلك لأنه لا فائدة منها في هذا المقام.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة: حلف وضمنه عمرو.
(فإن دفعه) يعني: فإن دفع المدين وهو عمرو في المثال الدين إلى وكيل زيد بعد أن صدقه ثم أنكر زيد أنه وكَّل هذا الشخص فحينئذ يترتب على هذا حكمان:
ـ الأول: أن يحلف زيد.
ـ الثاني: إذا حلف زيد: ضمن عمرو جميع المال.
فيرجع زيد على عمرو ويطالبه بالدين. وليس لعمرو أن يطالب هذا الوكيل بالدين. لماذا؟
- لأنه صدقه فهو أمين والقول قوله وهو يعتبر - أي: الوكيل - زيد هو الظالم.
(مرة أخرى: إذا دفع عمرو وهو المدين: الدين إلى وكيل زيد ثم أنكر زيد أنه وكل أحداً في قبض الدين. حينئذ نقول: على زيد اليمين. وعلى عمرو الضمان مطلقاً. فيرجع زيد وهو الدائن على عمرو بالدين الذي كان في ذمته لأنه ما زال في ذمته وليس لعمرو وهو المدين أن يرجع على من زعم أنه وكيل عن زيد. لماذا؟
لأنه صدقه فأصبح أميناً - لأن عمرو صدقه فأصبح هذا الوكيل أميناً والأمين لا يطالب بالضمان. وهو يعتبر أن زيداً هو الظالم.
فعمرو الآن في المثال يعتقد أن زيد كذب وأنه ظلم هذا الوكيل. لماذا؟ لأنه صدق الوكيل.
وهذا صحيح. لأنه لا مجال للرجوع على عمرو لأنه ينكر التوكيل ولا مجال للرجوع على الوكيل لأنه لم يكذب. فبقي الدين كما هو.
وهذه المسألة - المسألة الثانية - مما يقوي قول الحنابلة في المسألة السابقة اتي قد يستغربها البعض. فنقول وإن صدقه فله أن لا يدفع الدين. لأنه سيترتب على دفع الدين المسألة الثانية.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن كان المدفوع وديعة: أخذها.
(وإن كان المدفوع وديعة) يعني: وليس ديناً ثابتاً في الذمة. وهذا هو الفرق بين المسألتين.
ويوجد فرق آخر سيأتينا.
(4/220)
________________________________________
إذاً: إذا كان المدفوع وديعة وليس ديناً كما في المسألة السابقة.
يقول - رحمه الله -: (أخذها). يعني أخذها ربها ممن هي بيده سواء كانت بيد الوكيل الذي زعم أنه وكيل أو بقيت في يد المودع.
إذاً: يأخذها ممن هي بيده وهذا الحكم لا إشكال فيه.
- قال - رحمه الله -:
- فإن تلفت ضمّن أيهما شاء.
إن تلفت الوديعة فللمودع أن يضمن أياً منهما.
ـ فإن شاء ضمن المودع.
ـ وإن شاء ضمن مدعي الوكالة.
التعليل:
- قالوا: أما المودع: فلأنه فرط حيث دفع الوديعة بغير إذن شرعي فيلزمه الضمان.
- وأما الموكل فإنه يضمن لأنه استلم ما لا يستحق.
وبهذا عرفنا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الدين الذي في الذمة والفرق هو أنه في المسألة الثانية له أن يضمن أيهما شاء وفي المسألة الأولى: لا يضمن إلا المدين. - يعني: عمرو في المثال.
وهذا هو الفرق بين المسألتين.
وبهذا انتهى الكلام ولله الحمد على الوكالة وننتقل إلى باب مهم وهو الشركة.

باب الشركة
- يقول - رحمه الله -:
- باب الشركة.
الشركة معناها في لغة العرب: الاختلاط.
ومعنى شارك غيره: يعني: دخل معه في عمل أو في غيره.
هذا معنى المشاركة.
والمؤلف - رحمه الله - على غير عادته عرف الشركة مع أنه لا يعرف في العادة.
- يقول - رحمه الله -:
- وهي: اجتماع في استحقاق أو تصرف.
عرف المؤلف - رحمه الله - الشركة مع أنه ليس من عادته التعريف ولعل السبب أن الشركة لها خمسة أنواع كما سيأتينا.
فذكر التعريف في بداية الباب يغني عن تكراره في الأنواع الخمسة.
أو لعله عرف الشركة لأهميتها وليتصور القارئ معناها.
أو عرف الشركة لا لسبب واضح.
يقول - رحمه الله -: (هي: اجتماع في استحقاق أو تصرف).
دل تعريف المؤلف - رحمه الله - على أن للبيع نوعين:
ـ النوع الأول: الشركة في المال - أو تسمى الشركة في الملك. أو تسمى شركة الأملاك.
ونقول الشركة في المال ولا نقول شركة الأموال وإنما نقول الشركة في المال. أو شركة الأملاك.
وهو الذي دل عليه المؤلف - رحمه الله -: (اجتماع في استحقاق).
ومعنى شركة التملك: أن يشترك اثنان في ملك عين بأي سبب شرعي.
سواء كان السبب شراء أو هبة أو إرث أو أي سبب شرعي لتملك الأعيان.
وهذا هو النوع الأول.
(4/221)
________________________________________
وهذا النوع غير مراد في الباب مطلقاً ولن يتحدث عنه المؤلف أبداً لكنه يذكر للتفريق بين أنواع الشركة.
ـ أما النوع الثاني: فهو شركة العقود وهو الذي عبر عنه المؤلف - رحمه الله - بقوله: (تصرف).
شركة العقود هي اجتماع في تصرف.
والمقصود بالتصرف نحو أن يبيع أن يستأجر أو أن يضارب على تفصيل سيأتينا.
هذا هو المقصود بالتصرف.
ما هو الفرق بين النوعين؟
إذا لاحظت ودققت ستجد أن الفرق بن النوعين هو في وجود العقد في الثاني وعدم وجوده في الأول. ففي الأول لا يوجد عقد.
في الثاني: لا توجد الشركة إلا من خلال عقد.
وهذا هو روح الفرق بين النوعين.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وهي أنواع، فشركة عنان.
النوع الأول: شركة عنان.
والعنان مشتقة في لغة العرب من: (عَنَّ الأمر) لأنه عَنَّ لكل واحد منهما أن يشارك صاحبه.
وقيل: مشتقة من: عنان الفرس.
ووجه الاشتقاق أن كل واحد من الشريكين يتصرف بنصيب شريكه كما يتصرف الفارس بعنان الفرس.
والراجح: الاشتقاق الثاني.
والسبب: السبب في ترجيح هذا الاشتقاق من وجهين:
ـ الوجه الأول: أن هذا الاشتقاق اختاره الإمام الكسائي والأصمعي. وهما إماما هدى في اللغة ولقولهما ثقل. لا سيما الكسائي.
ـ الثاني: أن المعنى الثاني: أخص بشركة العنان بالذات من المعنى الأول. لأن الأول. فيه أنه عَنَّ لهما وكونه يعرض للإنسان أن يشارك غيره هذا موجود في جميع أنواع الشركات.
وإنما الشيء الخاص هو المعنى الثاني.
وأما في الاصطلاح فتكفل المؤلف بالبيان:
- فيقول - رحمه الله -:
- أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم.
تعريف شركة العنان: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم.
ففي شركة العنان مال وبدن.
وقول المؤلف - رحمه الله - (بدنان). لا يريد التقييد وإنما يقصد التمثيل يعني ولو أكثر. ولو كان المشتركون أكثر من اثنين ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
وقوله: (بماليهما المعلوم). عرفنا من كلام المؤلف أنه لابد أن يكون المال معلوماً.
فإن لم يكن معلوماً: بطلت الشركة.
والسبب في ذلك: أن الاشتراك بمال مجهول يؤدي إلى الغرر والاختلاف والجهالة.
(4/222)
________________________________________
والسبب الثاني: أن الاشتراك بمال مجهول يمنع الرجوع عند فسخ الشركة لأنه لا يعرف ما لكل واحد من مال حتى يرجع بماله بعد فسخ الشركة. وهذا لا إشكال فيه.
أن الاشتراك بمال مجهول لا تصح معه الشركة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولو متفاوتاً.
يعني: يجوز الاشتراك بالمال ولو كان المال متفاوتاً. بأن يحضر أحدهما أكثر مما يحضر الآخر.
فإذا تفاوت المال جازت الشركة.
- لأنه لا دليل على اشتراط تساوي المالين.
- ثم يقول - رحمه الله -:
- ليعملا فيه ببدنيهما.
لابد في شركة العنان أن يعمل كل من الطرفين ولا يجوز أن يعمل أحدهما.
- لأن مبناها على الاشتراك في المال والبدن.
واسنثنى الحنابلة صورة واحدة ففيها يجوز أن يعمل أحدهما دون الآخر وهذه الصورة هي: أن يشترط مع ذلك أن يكون للعامل ربح أكثر من الآخر ليكون الربح الزائد مقابل العمل.
وإذا صححنا هذه الشركة التي يعمل فيها واحد مع وجود مالين فتخريجها الصحيح أنها عنان ومضاربة.
أما أنها عنان: فلأن المال من الاثنين.
وأما أنها مضاربة فلأن العمل من واحد فليست هي عنان من كل وجه ولا مضاربة من كل وجه بل هي عنان ومضاربة.
فيما عدا هذه الصورة لا يجوز أن يتولى العمل أحدهما دون الآخر عند الحنابلة.
= والقول الثاني: النه يجوز مطلقاً. سواء كان الربح أكثر له أو لم يكن.
فيجوز أن يشارك زبد وعمرو من كل واحد منهما مائة ألف والذي يعمل بالمال عمرو والربح مناصفة بينهما.
فهذه الصورة التي ذكرت صحيحة على القول الثاني باطلة عند الحنابلة.
والصحيح: الجواز. لأنه لا دليل على المنع ولأن مبنى المعاملات على الرضا فما دام الرضا موجوداً مع عدم وجود غرر ولا جهالة ولا ربا فلا يوجد ما يمنع.
وقد يكون السبب في هذا: شهرة صاحب المال الأول أو استشارته أحياناً أو إرادة العانل نفع صاحب المال. أياً كان السبب فلا يوجد مانع شرعي.
وهذا كما قلت هذا القول هو الراجح إن شاء الله.

- قال - رحمه الله -:
- فينفذ تصرف كل منهما فيهما: بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه.
ينفذ تصرف كل واحد منهما في نصيبه بحكم الملك وهذه لا تحتاج إلى تعليق لأنه يتصرف في ملكه وهذا أمر ظاهر.
وفي نصيب شريكه بعقد الوكالة.
(4/223)
________________________________________
وهذا يفيد أموراً:
ـ الأمر الأول: أن مبنى الشركة على الوكالة.
ـ الثاني: - وهو مفرع من الأول - أن مبنى الشركة على الأمانة.
ـ الأمر الثالث: أن لكل واحد منهما أن يتصرف في المالين بمجرد العقد ولو قبل اختلاط المال.
ـ الأمر الرابع: وهو مهم. أن كل ما يشترى بعد العقد فهو ملك للجميع. وكل ما يتلف بعد العقد فهو من ضمان الجميع. ولو كان مال أحدهما قبل العقد.
وهذه المسائل تعتبر كالقواعد في الشركات.
وسيأتينا أن المؤلف - رحمه الله - وغيره بعد شركة العنان يبدأون بالإحالة على أحكام العنان والمضاربة لأن الأحكام متفقة.
المهم هذه أربع مسائل هي كالقواعد لمسألة الشركة.
لم نذكر الدليل على المسألة - السابقة - الأصل وهي أنه يتصرف في ملك شريكه بالوكالة.
الدليل على هذا:
- أن كل واحد من الشريكين أذن لصاحبه في التصرف. والإذن في التصرف هو حقيقة الوكالة.
نحن تقدم معنا أن الوكالة إذن في التصرف.
إذاً: نقول نحن: لما أذن كل واحد منهما لأخيه بالتصرف فهذه هي حقيقة الوكالة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ويشترط (1) أن يكون رأس المال: من النقدين المضروبين.
يشترط لصحة الشركة: ـ أن تكون في النقدين المضروبين. فلا يصح أن يشتركا في عروض.
استدل الحنابلة على هذا بأمرين:
- الأول: أن النقود هي قيم الأشياء. فهي موضوع الشركة.
- الثاني: أن الاشتراك بالعروض يؤدي إلى الاختلاف والتنازع. لأن الاشتراك فيها مبني على تقدير القيمةوتقدير القيمة فيه اختلاف وتفاوت.
والقاعدة الشرعية: أن المعاملات المالية التي تؤدي إلى التنازع يمنع منها الشارع.

= والقول الثاني: جواز الاشتراك بكل أنواع المال. من نقد وعرض وغيره ومنفعة وغيرها.
واستدلوا على هذا:
- بأن الأصل في المعاملات الحل.
- وبأن المفسدة المذكورة من قبل أصحاب القول الأول تندفع بتقدير قيمة العرض من قبل من يرض به الشريكان وتكون الشركة مبنية على القيمة لا على العرض.
مثال ذلك/ إذا اشترك كل واحد منهما بسيارة - كل واحد أحضر سيارة - إذا أردنا إجراء العقد نقول:
كم قيمة سيارة زيد؟ قالوا خمسين.
كم قيمة سيارة عمرو؟ قالوا سبعين.
مبلغ الشركة كم؟ مائة وعشرين.
(4/224)
________________________________________
لزيد خمسين ولعمرة سبعين. ولا ننظر بعد إتمام العقد إلى العرض. إلى السيارة.
وبهذا نخرج من إشكال الاختلاف.
وهذا القول هو الصحيح. وعليه العمل من قديم وحديث. إذ قد لا يجد الناس نقداً يشتركون فيه لكن يجدا عرضاً يشتركان فيه والربح بينهما مناصفة.
- قال - رحمه الله -:
- ولو مغشوشين يسيراً.
يعني: ويعفى الغش اليسير في النقدين.
وعلة ذلك:
- أن الغش اليسير يصعب ويتعذر التحرز منه فعفي عنه لأن المشقة في الشرع تجلب التيسير ولو شرطنا على المتشاركين أن لا يشتركوا إلا بنقود خالصة لا غش فيها لأدى هذا إلى تضييق الشركة.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه إذا كان الغش كثيراً فإنه لا يجوز وهو كذلك لأنه إذا كثر الغش وجدت الجهالة في النقدين وتقدم معنا أن الجهالة تمنع عقد الشركة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- (2) وأن يشترطا لكل منهما: جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً.
يعني: ويشترط لصحة الشركة أن يشترط لكل واحد من الشريكين ربحاً وأن يكون هذا الربح مشاعاً معلوماً.
مثال ذلك/ أن يقول لأحدهما الربع وللآخر ثلاثة أرباع.
أو أن يقول لأحدهما النصف وللآخر النصف.
فالنصف والربع في الأمثلة جزء معلوم ولكنه مشاع.
فهم من إطلاق عبارة المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز التفاوت في الجزء المشاع ولو مع التساوي في قدر المال.
فإذا أخرج زيد خمسين وعمرو خمسين فيجوز أن نشترط لعمرو سبعين في المائة.
وفهم من إطلاق كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز أن نشترط الأكثر للأقل يعني: يجوز أن نشترط الربح الأكثر لمن ماله أقل.
لأن هذا مفهوم من إطلاق عبارة المؤلف - رحمه الله -. وهذا صحيح. إذ لا يوجد في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه يجب أن يكون الربح المشترط متناسباً مع قدر المال. لأنه قد يكون أحدهما أحذق بالعمل من الآخر وأقدر على تصريف الأمور فيشترط ربحاً زائداً ولو كان ماله أقل من مال صاحبه.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن لم يذكرا الربح أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً أو دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين: لم تصح.
يقول - رحمه الله -: (فإن لم يذكرا الربح) يعني: بطلت الشركة.
(4/225)
________________________________________
وينبني على البطلان: أن يكون لكل واحد منهما ربح ماله وأجرة مثله مخصوماً منها أجرة تشغيل ماله.
إذاً ينبني على هذا - كما قلت -: أن يكون لكل واحد ربح ماله وأجرة مثله لكن يخصم من أجرة المثل ما يقابل العمل في ماله. وينبني على هذا: أنه لا يضمن أي منهما مال الآخر لأنا حكمنا على الشركة بالفساد.
دليل الفساد إذا لم يذكرا ربحاً:
- استدلوا على هذا: بأن المقصود الأساس من الشركة الربح. فإذا أهمل بطلت الشركة.
وهذا الحكم: صحيح إلا إذا دل العرف على أن الشريكين إذا لم يذكرا الربح فالأصل أنه بينهما مناصفة. إذا كان العرف يدل على هذا فالشركة صحيحة والحكم أنه بينهما مناصفة.
قال - رحمه الله -: (أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً). كأن يقول: لك جزء من الربح ولي الباقي: فهذه الشركة فاسدة.
لأنه كما تقدم المقصود من هذا العمل الربح. فإذا أهمل بطلت الشركة.
وهذا مع أن العقل يستبعد وقوعه بين الناس إلا أنه يقع الآن كثيراً فيقول: فلنشترك وسأعطيك بعض الربح.
هذا هو الربح المجهول. فالشركة بناء على هذا باطلة. والحكم كما تقدم. كل واحد يأخذ ربح ماله.
يقول - رحمه الله -: (أو دراهم معلومة). لاشتراط الدراهم المعلومة: صورتان.
ـ الصورة الأولى: أن يقول: لك الربع - يعني: من الربح - وعشرين درهماً.
أو يقول: لك عشرون درهماً.
يعني: سواء كانت الدراهم المعلومة مع وجود نسبة مشاعة أو بدون وجود نسبة مشاعة في الكل الشرط باطل والشركة باطلة.
السبب: السبب: أنه ربما أن هذه الشركة لم تربح إلا هذه العشرين دينار. فيدخل الضيم والنقص على الآخر وربما ربحت الشركة ربحاً كبيراً جداً فيدخل النقص والضيم على من اشترط له دراهم معلومة.
قال - رحمه الله -: (أو ربح أحد الثوبين: لم تصح) أو اشترط ربح أحد الثوبين أو أحدى السفرتين أو جزءاً معيناً من البضاعة كما يحصل أحياناً ففي الكل: لا يجوز والشرط والعقد فاسد.
والتعليل: هو ما تقدم. إذ ربما لا يربح إلا في إحدى السفرتين دون الأخرى وربما لا يربح إلا في أحد الثوبين دون الآخر.
فالتعليل في المسائل هذه واحد.
(4/226)
________________________________________
وهذا: - أي تحديد ربح أحدهما بأس نوع من أنواع التحديد - من أشهر القوادح في الشركات ولو استمرأة بعض الناس فهو عقد باطل مخالف لمقتضى الشرع وخالف لموضوع الشركة.
ما هو موضوع الشركة؟ موضوع الشركة: الاشتراك المشاع في الأرباح.
فهذا الشرط في الحقيقة يتعارض ويناقض الأصل المقصود من الشركة. ولو كان كما قلت كثير من الناس يرى أنه لا بأس به وقد يتعامل بمقتضاه وهو باطل ومبطل للشركة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة.
يعني: ويشترط فيها أن يكون الربح جزءاً مشاعاً.
ولا يجوز في المساقاة ولا المزارعة أن يختار جزءاً معيناً من المزرعة يكون نتاجه له.
وسيخصص المؤلف - رحمه الله - باباً مستقلاً للمساقاة والمزارعة.
والمساقاة والمزارعة والمضاربة حكمها واحد وهو أنه يشترط أن يكون فيها جزءاً مشاعاً وكما قلت المساقاة والمزارعة سيفرد لها المؤلف - رحمه الله - باباً مستقلاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
- والوضيعة: على قدر المال.
الوضيعة: هي الخسارة. والمؤلف - رحمه الله - يقول: أنها على قدر المال. يعني: تحسب بالنسبة فلكل منهما من الخسارة بقدر ماله.
فمن دفع ثلاثة أرباع المال: فعليه من الخيارة ثلاثة أرباع. ومن دفع الربع فعليه الربع.
وإذا كان المال مناصفة فالخسارة أيضاً مناصفة.
وهذا الحكم وهو أن الخسارة على قدر المال مطلقة مهما كان سبب الخسارة.
سواء كان سبب الخسارة أن تنقص أسعار السلع أو كان سبب الخسارة أن تتلف السلع فالأمر واحد.
فالخسارة على قدر المال.
وهذا الحكم بالإجماع أن الخسارة على قدر المالين.
فلا يجوز أبداً أن يقول: فلنشترك ولنعمل فإن كانت خسارة فهي علي. هذا الشرط باطل
لا يجوز - كما يصنعه بعض الناس - أن يقول فلنشترك وندخل في هذه المتاجرة فإن وجدت الخسارة فهي علي ومن مالي. هذا الشرط باطل فإذا وجدت الخسارة فهي على قدر المالين.
وهذا الشرط مهم في الحقيقة: والسبب أنه إيضاً كثيراً ما يقع الإخلال فيه من المشتركين.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يشترط: خلط المالين.
= ذهب الأئمة الثلاثة: أحمد ومالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يشترط خلط المالين.
(4/227)
________________________________________
ومعنى هذا: أن الشركة تبدأ وتنفذ بمجرد العقد ولكل منهما أن يتصرف بعد العقد مباشرة.
= وذهب الإمام الشافعي: إلى أنه يشترط لصحة الشركة خلط المالين قبل التصرف.
فعند الإمام الشافعي تضييق في هذا الباب.
وإذا قيل عند فلان تضييق في مسألة فإن هذا لا يعني أن قوله مرجوح.
التضييق والتوسيع تتبع فيه النصوص. الذي يدل على أن قول أحدهم مرجوح وجود الحرج والمشقة أما التضييق فليس من أسباب الترجيح.
((الأذان)).
والراجح قول الأئمة الثلاثة. الدليل:
الدليل أن المقصود من الشركة هي الإذن بالتصرف بتقليب المال لتحقيق الربح وهذا يتحقق مع الخلط وبدونه.
وأنا نبهت مراراً إلى كيفية الاستفادة من الأصل المقرر في الترجيح. هنا نستفيد من الأصل: نحن نقول أن موضوع الشركة والأصل من مشروعيتها هو الإذن في التصرف والمقصود من التصرف تحقيق الربح وهذا يكون مع الخلط وبدونه فإذا تحقق الأصل المقصود من الشركة مع الخلط وبدونه دل على رجحان قول الأئمة الثلاثة. لا سيما ونحن نبطل الشركة التي لا يراعى فيها شروط الربح ونعلل ذلك بأن الربح هو المقصود من الشركة.
وبهذا استطعنا أن نسخر معرفة المقاصد في الترجيح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا كونهما من جنس واحد.
ولا يشترط أن يكون المالان من جنس واحد فيجوز أن يأتي أحدهما بدراهم والآخر بدنانير أو أحدهما بريالات والآخر بجنيهات.
= وذهب الإمام الشافعي إلى أنه يشترط اتحاد النقدين. فلابد أن يحضر كل منهما نقداً متحداً.
وهذه المسألة مبنية على المسألة السابقة وهي مسألة الاختلاط.
فإذا كان الراجح أنه لا يجوز الخلط فالراجح أنه لا يشترط اتحاد النقدين.
وبهذا انتهى الكلام عن شركة العنان. وننتقل إلى المضاربة.
فصل
- قال - رحمه الله -:
-) فصل) الثاني: المضاربة لمتجر به ببعض ربحه.
المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض.
والضرب في الأرض هو المشي فيها بقصد السفر.
والمضاربة مشروعة بالإجماع وبالسنة التقريرية وبالآثار الصحيحة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ـ أما الإجماع. فحكاه غير واحد من أهل العلم.
ـ أما السنة التقريرية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء والناس يتعاملون بالمضاربة وأقرهم على ذلك.
(4/228)
________________________________________
ـ وأما الآثار الصحيحة: فثبت أن عمر - رضي الله عنه - وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وعائشة كلهم عامل بالمضاربة.
ولا شك إن شاء الله في أنه مشروع لهذه الأدلة القوية.
وإن وقع خلاف في بعض صوره. وإنما الكلام على أصل المشروعية.
يقول - رحمه الله -: (المضاربة لمتجر به ببعض ربحه) أي: أن المضاربة هي دفع المال لمن يتجر به ببعض ربحه.
وقول المؤلف - رحمه الله - هنا: (ببعض ربحه) أي: أنه لابد من تقدير نصيب العامل. يشترط لصحة المضاربة أن يقدر نصيب العامل فإن لم يقدر لم تصح المصاربة.
الدليل على هذا:
- أن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط فإذا لم يشترط لم يصر له ربحاً وفسدت المضاربة.
وقاعدة الحنابلة أن أي مضاربة تفسد تنقلب إلى عقد الإجارة ويعطى المضارب أجرة المثل.
= والقول الثاني: أن له ربح المثل. ولو قلنا بفساد المضاربة.
وهذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو مقتضى العدل لأنه عمل على أساس أن له ربحاً لا على أن له أجره ..
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(4/229)
________________________________________
الدرس: (33) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالأمس توقفنا عند مسألة أن الحنابلة يرون أنه لابد من أن يفرض للعامل في المضاربة نصيباً محدداً وأنه من شروط صحة المضاربة.
وأخذنا دليلهم على هذا الشرط وتطرقنا لمسألة الأصل في المضاربة الفاسدة. ومذهب الحنابلة في هذا الأصل والقول الثاني.
وانتهينا من هذا كله.
اليوم نبدأ بتكميل المسألة: فنقول:
= القول الثاني: انه إذا لم يذكر نصيباً للمضارب فالأصل أن الربح بينهما نصفين ولا تبطل المضاربة.
والدليل على ذلك:
- أنهما عقدا عقد مضاربة وأطلقا فانصرف إلى المناصفة.
فصل
- وقوله - رحمه الله -:
- (المضاربة لمتجر به ببعض ربحه).
قوله: (ببعض ربحه) يدخل فيه: مسألة/ وهي: إذا قال: خذ هذا المال واتجر به والربح كله لي: فالعقد صحيح. وهو إبضاع.
(4/230)
________________________________________
والإبضاع هو: دفع لاالمال لمن يعمل به مجاناً.
وإن قال: (خذ هذا المال واتجر به والربح كله لك). فالعقد: صحيح. والعقد: عقد قرض.
وإن قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح لك) أو قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح لي) فهو عقد: فاسد.
- لأنه جمع بين عقد المضاربة والقرض والأصل في المضاربة الاشتراك في الربح.
والفرق بين المسألتين:
ـ في اللفظ فقط.
ففي الأول يقول: (خذ هذا المال واتجر به والربح لك) لم يذكر كلمة مضاربة.
وفي الثانية يقول: (خذ هذا المال مضاربة واتجر به والربح لك).
= والقول الثاني: أنه إذا قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح لك أولي) فالعقد: صحيح. ولا يفسد بذلك.
- لأن العبرة في العقود بالمعاني والقصود لا بالألفاظ والمباني.
فإذا عرفنا أن قصده أن يكون العقد قرضاً أو إبضاع صححنا العقد ولو مع وجود كلمة مضاربة نظراً للمعنى وإهمالاً للفظ.
وهذا القول الثاني هو الصحيح. إن شاء الله. بناء عليه: صار حكم المسألة واحد سواء قال: مضاربة أو لم يقل: مضاربة والتفريق على المذهب وهو ضعيف.
- ثم قال - رحمه الله -:
- فإن قال: ((وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا)) فنصفان.
إذا قال: (خذ هذا المال مضاربة والربح بيننا) فهو مناصفة.
والدليل على هذا: - أنه أضاف الربح إليهما ولا يوجد في اللفظ مرجح لأحدهما فاقتسماه على التساوي.
وهذا صحيح: فإذا قال: الربح بيننا انصرف إلى المناصفة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن قال: ((وَلِي أَوْ لَكَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهِ أَوْ ثُلُثُهُ)) صح والباقي للآخر.
إن قال رب المال: خذ هذا المال مضاربة وثلث الربح لي. فللعامل ثلثاه.
وإن قال العكس فالعكس.
وتعليل ذلك: - أن الربح حق منحصر في هما فإذا بين نصيب أحدهما صار الباقي للآخر.
وقال بعض الحنابلة: إذا قال: خذ هذا المال مضاربة والربع لي - يعني لرب المال -: فهي فاسدة. لأنه لم يسم نصيب العامل ونحن نقول لابد من تسمية نصيب العامل.
والصواب أنه صحيح وأنه في الواقع سمى نصيب العامل: لأن نصيب العامل هو: المتبقي.
* * مسألة/ فإن قال: خذ هذا المال ونصف الربح لك وربعه لي. كم الباقي؟ ربع. فهو عند الحنابلة: لرب المال. فالذي لم يسمى لرب المال.
(4/231)
________________________________________
وعللوا ذلك: - بأن العامل ليس له إلا ما شرط له. فما لم يشرط فهو مباشرة لرب المال.
هكذا قال الحنابلة.
ولو قيل: أن هذا الشرط يبطل العقد لأنه يؤدي إلى النزاع وإلى جهالة الربح وجهالة الربح تخل بمقصود الشركة وما يخل بمقصود الشركة يؤدي إلى البطلان. فلو قيل بهذا لكان هو المتوجه.
لكن الحنابلة بنوا هذا على أصل صحيح عندهم وهو: أن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط فكل شيء لم يشرط له فهو لرب المال.

- قال - رحمه الله -:
- وإن اختلفا لمن المشروط: فلعامل.
في هذه المسألة: اتفقوا على الجزء المشروط يعني: على تسمية الجزء المشروط فاتفقوا على أن المشروط هو النصف لكن اختلفوا لمن هذا الجزء المشروط؟ = فعند الحنابلة: أن الجزء المشروط للعامل.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: أن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط. فالأصل أن الشرط في حق العامل.
- الدليل الثاني: أن العامل يختلف ربحه تبعاً لقة وكثرة العمل بينما رب المال لا يختلف لأن رأس المال ثابت. وما يختلف ربحه هو الذي يحتاج إلى اشتراط. وهو العامل. وهذه المسألة قد تكون قليلة الوقوع.
* * المسألة الثانية/ وهي التي محل إشكال: أن يختلفوا في مقدار الجزء المشروط. وهذا هو الإشكال. وهو الذي يقع. فيقول رب المال: اشترطت لك الربع فقط.
ويقول العامل: بل اشترط لي: النصف. وهنا تقع المشكلة الحقيقية.
ولو أن المؤلف - رحمه الله - ذكر هذه المسألة الثانية وترك المسألة التي ذكرها لكان أنفع.
حكمها:
= عند الحنابلة: إذا اختلفوا في مقدار الجزء المشروط واتفقوا لمن هو؟ فالقول قول رب المال.
واستدلوا على هذا: - بأنه منكر للزيادة ومنكر الزيادة القول قوله.
= القول الثاني: وفيه تفصيل: قالوا: إذا اختلفا فالقول قول من يوافق العرف والعادة في مثل هذه المضاربة إن كان رب المال أو العامل.
فإن كان قول رب المال والعامل الجميع يوافق العرف والعادة واختلفوا أيضاً فالقول قول العامل.
- لأن المال بيده والربح من إنتاجه فقدم قوله.
(4/232)
________________________________________
وهذا التفصيل الجميل هو مذهب المالكية. وهو الراجح إن شاء الله. فنرجع إلى العرف إذا اختلفا ولا نقدم قول أحد على أحد فإن وافق العرف القولين لرب المال والعامل قدمنا قول العامل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وكذا مساقاة ومزارعة.
يعني في المسألتين السابقتين.
إذا اختلفوا في الجزء المشروط من الثمر في المساقاة أو من الزرع في المزارعة فهو للعامل.
وإن اختلفا في مقدار الجزء المشروط فالقول قول رب الأرض في مسأة المساقاة والمزراعة. نقول رب الأرض ولا نقول رب المال إذ لا يوجد مال كما سياتينا.
والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً بلا زيادة ولا نقص والراجح فيها هو الراجح في تلك.
- قال - رحمه الله -:
- ولا يضارب بمال لآخر: إن أضر الأول ولم يرض.
في هذه المسألة تفصيل:
ـ إذا ضارب العامل لرجل آخر بلا مضرة بالأول أو معها لكن برضى رب المال الأول: جاز بالإجماع.
ولهذا لو أن المؤلف - رحمه الله - استبدل الواو بأو لكن أنسب للحكم لأنه هو في الواقع يجوز إذا لم يضر أو رضي ولا نشترط أن لا لا يضر وأن يرضى.
المهم: إذا ضارب لرجل آخر بلا مضرة أو معها برضى الأول: جاز بالإجماع.
ـ وإذا ضارب لرجل آخر مع المضرة بلا رضى الأول: فإنه لا يجوز: = عند الحنابلة.
وهو منصوص الإمام أحمد - رحمه الله -. هذه المسألة من المسائل التي تبناها الإمام أحمد شخصياً وأفتى فيها مراراً.
الدليل: - قالوا: الدليل: أن مبنى الشركة على تحقيق الربح والسعي في تكميله واستغاله بمضاربة أخرى يضر بهذا المقصود.
- واستدلوا أيضاً: بأن منافع العامل مستحقة بالعقد الأول.
= والقول الثاني: وهو مذهب الجماهير: أن العامل له أن يعمل بالمضاربة مع رجل آخر بشرط: أن لا ينص في العقد الأول على المنع من ذلك.
واستدلوا على هذا: - بأن عقد المضاربة لا يستلزم استغراق منافع المضارب كلها بل هو عقد على عمل معين.
وهذا القول هو الصحيح. إذ ليس في الأدلة شيء واضح يدل على تحريم عمل المضارب بمضاربة أخرى.
لكن نقول أن ما ذهب إليه اإمام أحمد - رحمه الله - وجيه فيما إذا تبين لنا أن العقد الثاني أخل وأضر بالعقد الأول. فلرب المال الأول أن يمنع الثاني من المضاربة.
(4/233)
________________________________________
والأحوط في الحقيقة أن يكون هتاك شرط في العقد الأول فحينئذ يصبح لا يجوز له ان يضارب عند جميع الفقهاء.
عرفنا الآن أن الحنابلة يرون أنه لا يجوز أن يضارب فإن ضارب فقد بين المؤلف - رحمه الله - ماذا يفعل بالربح:
- قال - رحمه الله -:
- فإن فعل: رد حصته في الشركة.
يعني: فإن خالف وضارب لرجل آخر وحصل ربح فإن نصيب رب المال الثاني يبقى له حتى عند الجنابلة ونصيب المضارب من المضاربة الثانية يرد في الشركة الأولى ويدخل في أرباحها فيقتسمه هو ورب المال الأول على ما اتفقا عليه.
واستدلوا على هذا: - بما تقدم: انه عمل - أي المضارب - لرجل آخر في وقت مستحق بالعقد الأول. فصارت المنافع والأرباح للعقد الأول.
ونحن الآن نناقش داخل مذهب الحنابلة - التفريع على مذهب الحنابلة.
= والقول الثاني: على القول بالمنع. أن الربح لا يشاركه رب المال الأول فيه فهو للمضارب كاملاً مع الإثم.
وعللوا هذا: ((وهذا مبدأ مهم لطالب العلم))
- بأن الإنسان لا يستحق الربح أبداً في الشركات إلا بأحد أمرين مال أو عمل.
وفي هذه الصورة ليس من رب المال الأول لا مال ولا عمل فلا يستحق الربح.
وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام بن تيمية واختيار تلميذه النجيب ابن قاضي الجبل واختيار عدد من المحققين.
وهو بلا شك: إن شاء الله، الراجح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- ولا يقسم مع بقاء العقد إلاّ باتفاقهما.
الربح لا يجوز أن يقسم مع بقاء العقد - ولاحظ أن هذه عبارة دقيقة من المؤلف - رحمه الله - - الربح لا يملك أحد الشريكين أن يجبر الآخر على قسمته مع بقاء العبد. وإنما يشترط رضى الطرفين.
فما دام العقد موجوداً لم يفسخ فليس لأحدهما أن يلزم الآخر بتقسيم الأرباح ولو ظهرت أرباح كبيرة. إنما يجوز أن يقسم في حال واحدة إذا رضي كل منهما.
الدليل: الدليل على ذلك:
- أنه من جهة رب المال له أن يمتنع لأن الربح في حقه وقاية لرأس المال. وأما من جهة العامل فلأنه ربما قسم الربح ثم صارت خسارة فألزم برد ما أخذ فوقع في حرج. فليس لأحدهما أن يجبر الآخر.
(4/234)
________________________________________
ونحن نقول مع بقاء العقد. لأنه تقدم معنا أن شركة المضاربة شركة: جائزة. لكل منهما أن يفسخ العقد. فلا نقول ما دام العقد لم يفسخ يجب أن لا يقسم الربح إلا برضا الجميع فإذا اختار أحدهما فسخ العقد فحينئذ سياتينا أنه يقسم الربح بطريقة معينة.
إذاً: عرفنا الآن أنه لا يمكن القسمة إلا برضى الجميع.
قوله - رحمه الله -: (إلا باتفاقهما) وهذا معلوم وعلته الفقهية: أن الحق لا يخرج عنهما. وإذا كان الحق لا يخرج عنهما جاز برضى الطرفين.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف.
فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الحكم قبل التصرف يختلف عنه بعد التصرف وإن كان لم يذكر الحكم قبل التصرف.
فالحكم قبل التصرف: أنه إذا تلف كل المال بطل عقد الشركة من أساسه. وإذا تلف بعض المال بطلت الشركة في هذا الجزء التالف. لأنه إذا بطل المال لم يعد هناك رأس مال لتقليبه في التجارة. فانفسخ عقد المضاربة.
هذا الحكم فيما إذا كان قبل التصرف.
- يقول - رحمه الله -:
- وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف. أو خسر: جبر من الربح.
يجب أن تجبر الخسارة من الربح ولا يجوز للعامل أن يأخذ الربح مع وجود خسارة.
وعلل الفقهاء هذا بتعليل جميل جداً:
- فقالوا: الربح اسم للمال الذي يأتي بعد رأس المال. فإذا لم يأت رأس المال فليس هناك ربح والعامل إنما له جزء من الربح لا من رأس المال.
وتبين معنا أنه لا ربح لأن الربح في الشرع هو ما يأتي بعد رجوع رأس المال. وهذا في الحقيقة لفتة جيدة وقوية وفيها ترك للمسميات التي تغر طالب العلم. لأنه قد يسمى عند الناس ربح وإن لم يرجع رأس المال وهو في الحقيقة ليس بربح. وإنما ما زال الذي يأتي هو رأس المال.
- قال - رحمه الله -:
- قبل قسمته أو تنضيضه.
(4/235)
________________________________________
أريد أن أنبه إلى مسألة:/ ما ذكره الفقهار من قضية أنه لا يقسم الربح إلا بعد عدم وجود خسارة هذا الحكم يستوي فيه أن تكون الخسارة في صفقة واحدة والربح في صفقة أخرى أو الخسارة والربح في صفقة واحدة فكل ذلك ما دام العقد موجوداً. فما دام العقد وهو عقد المضاربة موجوداً فلا ربح وإن كانت الخسارة من صفقة والربح من صفقة أخرى. فكل ذلك - كما قلت - ما دام العقد موجوداً لا كما يتصور البعض أن لكل صفقة حسابها الخاص فهذا خطأ بل الصفقات كلها حسابها واحد ما دام العقد موجوداً.
- يقول - رحمه الله -:
- قبل قسمته.
يعني: يجب أن نسدد رأس المال قبل قسمة الأرباح. ومقصود المؤلف - رحمه الله - هنا قبل القسمة مع انتهاء العقد ومع بقائه.
فالقسمة تنقسم إلى نوعين:
ـ قسمة قبل انتهاء العقد. فالقسمة التي قبل انتهاء العقد لا تجوز ولا تعتبر ملكاً تاماً. (وقولي لا تجوز يعني: لا تمضى). فإذا قسموا مع وجود العقد ثم حصلت خسارة فإنا نرجع على من أخذ الربح وهذا معنى قولي فيما تقدم أنه سواء كان الربح والخسارة في صفقة أوم في صفقتين.
ـ النوع الثاني: ان تكون القسمة بعد انتهاء العقد. فإذا كانت القسمة بعد انتهاء العقد فإنه لا شأن للأرباح المقبوضة بالخسائر التي تأتي بعد ذلك ولو بنفس رأس المال ولو من قبل نفس المضارب ورب المال.
إذاً القسمة: إذا قيل لك القسمة فالفقسمة لفظ مطلق يجب أن تستفصل هل هي قسمة مع بقاء العقد أو قسمة انتهاء العقد.
فالقسمة قبل انتهاء العقد لا تعتبر قسمة حقيقية ونرجع على القابض إن حصلت خسارة.
وبعد العقد لا نرجع.
- يقول المؤلف - رحمه الله -:
- أو تنضيضه.
التنضيض هو عملية تحويل السلع إلى النقود.
والتنضيض ينقسم إلى قسمين:
ـ إما أن يكون تنضيض مع محاسبة. ـ أو تنضيض بلا محاسبة.
والمقصود بالمحاسبة: معرفة نصيب كل واحد من الطرفين.
- - فإن كان التنضيض بعد المحاسبة فهو كالقسمة تماماً - فحكمه حكم القسمة -. فتنقسم إلى: ـ ما بعد العقد. ـ وما قبل العقد.
- - وإن كان قبل: فلا حكم له. لأن التنضيض بدون محاسبة لا يعرف به أصلاً نصيب كل واحد ولا ربح كل واحد.
إذاً: عرفنا الآن القسمة وأنواعها. والتنضيض وأنواعه.
(4/236)
________________________________________
والذي يهمنا الآن أن التنضيض مع المحاسبة حكمه حكم القسمة.
وبهذا نتهينا من الباب - من الفصل المخصص للمضاربة.
والمؤلف - رحمه الله - خصص فصلاً كاملاً للمضاربة لأهميته ولكثرة وقوعه. وستلاحظ أنه في الفصل الثاني أدرج النوع الثالث والرابع والخامس بفصل زاحد لقلة المباحث وقلة الوقوع.
فصل
- قال - رحمه الله -:
- (الثالث) شركة الوجوه.
الثالث من أنواع الشركات: شركة الوجوه.
والوجه: معناه الجاه. يعني: إذا قيل شارك بوجهه يعني: بجاهه.
وسياتينا معنى الجاه.
وشركة الوجوه مشروعة.
والدليل على مشروعيتها:
- الأدلة العامة الدالة على مشروعية الشركة من حيث هي.
وسيبين المؤلف - رحمه الله - معناها.

- قال - رحمه الله -:
- أن يشتريا في ذمتيهما بجاههما فما ربحا فبينهما.
هذه هي شركة الوجوه.
ومعناها: أن يشتريا بذمتيهما وما كان من ربح فهو بينهما.
فعرفنا من ذلك: أنه ليس في شركة الوجوه مال. وإنما يكون الشراء في الذمة.
وعرفنا كذلك: أن مبنى شركة الوجوه على عقدين:
1 - الوكالة.
2 - والكفالة.
فحقيقة شركة الوجوه هي انها مكونة من عقدين: - عقد الوكالة. - وعقد الكفالة.
إذاً: تبين معنا الآن حقيقة هذه الشركة ومعناها وهي أن يشترك اثنان في اقتراض مال أو سلع والاتجار به وما يكون من ربح فهو بينهما.
- يقول - رحمه الله -:
- في ذمتيهما بجاهيهما.
الجاه في الاصطلاح هو المكانة والقدر والرفعة.
وطلبها: طلب الجاه والمكانه من مفسدات القلوب.
وإذا حصلت بلا طلب وتاجر بها يعني بذمته - لا أقصد تاجر بها يعني: يتاجر بجاهه - لكن إذا تاجر معتمداً على جاهه وأخذ الأموال في ذمته فتصرفه صحيح ولا لوم عليه.
عرفنا الآن إذاً وتصورنا ما هي شركة الوجوه.
- قال - رحمه الله -:
- فما ربحا فبينهما.
يعني على حسب ما شرطاه.
وليس مقصود المؤلف - رحمه الله -: (بينهما) بدون ضابط ولكن حسب ما شرطاه.
- قال - رحمه الله -:
- وكل واحد منهما: وكيل صاحبه.
يعني: في شراء نصيبه.
فما يشتريه هو في الواقع وكيل عن شريكه فيه.
لكن هو وكيل عن شريكه في نصف ما يشتري.
والنصف الآخر يشتريه بالأصالة.
إذاً هذا الجزء الأول وهو أنه وكيل.

- قال - رحمه الله -:
- وكفيل عنه بالثمن.
(4/237)
________________________________________
وكفيل عنه بالثمن كاملاً وليس بنصف الثمن.
- لأن مبنى شركة الوجوه على الضمان. فإذا اشترى فقد ضمن الثمن كاملاً وشريكه ضمن الثمن كاملاً.
إذاً: هو وكيل بالنصف ولكنه ضمين بكامل الثمن.
- قال - رحمه الله -:
- والملك: بينهما على ما شرطاه.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم).
ومعنى هذه العبارة: أنهما إذا اشتريا سلعاً بذمتهما وبجاههما فالملك بينهما على ما شرطاه ولا يقال لكل واحد ملك ما اشتراه.
فإذا اشترك زيد وعمره شركة وجوه واشترى زيد بذمته بيتاً يقدر بمائة ألف. واشترى عمرو بذمته بيتاً يقدر بخمسين ألف.
المجموع: مائة وخمسين. ونصفه: خمسة وسبعون. زيد في المثال اشترى البيت الذي قيمة مائة ألف ومع ذلك لا يملك منه إلا النصف وكذلك الآخر.
ولو اشترطوا لزيد ثلاثة أرباع أو أربعة أخماس أوحسب ما اشترطاه فإن الشرط صحيح ويكون أربعة أخماس هذه السلع المجتمعة للمشترط له والخمس للآخر. ولا ننظر أبداً ماذا اشترى هذا أو ماذا اشترى الآخر.
- قال - رحمه الله -:
- والوضيعة: على قدر ملكيهما.
وهذا مبنى على المسألة السابقة.
الوضيعة على قدر المال في جميع الشركات. وبالإجماع.
حتى في المضاربة التي فيها المال من طرف واحد الوضيعة على المال لأن المال هنا من طرف واحد.
فإذاً: قاعدة الشركات المجمع عليها أن الوضيعة على قدر المال.
- قال - رحمه الله -:
- والربح: على ما شرطاه.
الربح على ما شرطاه: قياساً على شركة العنان.
والوضيعة أيضاً قياساً على شركة العنان.
تقدم معنا أن شركة العنان سيبنى عليها أحكام شركات أخرى فهنا نقول الوضيعة والربح حكمهما حكم العنان.
فالوضيعة على قدر المال والربح حسب ما اتفقا.
- قال - رحمه الله -:
- (الرابع) شركة الأبدان.
شركة الأبدان. هي: أيضاً من الشركات التي تكون بلا مال.
وتنقسم إلى قسمين:
ـ القسم الأول - من شركة الأبدان -: أن يشتركا في تقبل عمل في الذمة.
ـ القسم الثاني: أن يشتركا فيما يملكان من العمل المباح. كالاحتطاب مثلاً.
مثال القسم الأول: أن يشتركا في بناء جدار في ذمتهما ويكون الربح مقسوماً بينهما.
(4/238)
________________________________________
مثال القسم الثاني: أن يقول كل ما اكتسبنا من عملنا المباح فهو بيننا. فلو فرضنا أنهما اشتركا في الصيد وأحدهما صاد مائة طير والآخر صاد طيراً واحداً فهما شركاء في المجموع يقسم بينهما بالسوية أو حسب ما اتفقا.
وشركة الأبدان مشروعة عند الحنابلة.
واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - بنفسه على مشروعية شركة الأبدان:
- بالحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه اشترك يوم بدر هو وسعد وعمار في الغنيمة قال: فلم أجيء أنا وعملا بشيء وجاء سعد بأسيرين. فهم رضي الله عنهم وأرضاهم اشتركوا شركة أبدان وهي من النوع: الثاني.
فدل الحديث على مشروعية هذه الشركة. وهذا الحديث صحيح وثابت ولا يعل بالانقطاع لأن أبا عبيد حفيد بن مسعود وإن لم يسمع إلا أنه سمع من ثقات اهل بيته كما قال علي بن المديني وابن رجب وغيرهم. المهم هذا الحديث صحيح ثابت.
= القول الثاني: أنها شركة غير مشروعة.
- لأن الشركة تبنى على المال ولا مال في هذه الشركة.
والراجح مذهب الحنابلة.
وقبل أن نكمل شركة الأبدان نسينا مسألة مهمة جداً في المضاربة/ مهمة جداً وودت أن المؤلف - رحمه الله - ذكرها.
* * المسألة هي/ متى يملك المضارب الربح؟
اتفق الفقهاء كلهم على أن المضارب - العامل - لا يملك الربح ملكاً مستقراً إلا بعد القسمة. والمقصود بالقسمة هنا: التي تكون بعد العقد. إذاً هذه المسألة متفق عليها.

واختلفوا في زمن ملك الربح قبل ذلك:
= فالحنابلة يرون أنه يملك بمجرد الظهور. فإذا ظهر الربح ملكه العامل.
واستدلوا على هذا:
- بأن عقد المضاربة قام على أنه للمضارب جزء من الربح مشروط. فإذا وجد الربح وجد الشرط فملك المال.
= القول الثاني: أنه لا يملك إلا بعد القسمة.
واستدلوا على هذا:
- بأن الربح هو في الحقيقة وقاية لرأس المال وتمليك العامل إياه يفوت هذا المقصود.
والراجح بإذن الله مذهب الحنابلة.
والجواب على دليل القول الثاني: أن تمليك المضارب لا يفوت هذا المقصود لأنه إذا حصل خسارة نرجع على العامل ونأخذ منه ما أخذ. أو نقول: - وهو الجواب الثاني - نملك العامل المال بلا قسمة.
ثمرة الخلاف: ثمرة الخلاف ثمرة كبيرة جداً:
(4/239)
________________________________________
- الثمرة الأولى: إذا وطيء العامل جارية من مال الشركة: ـ فإن قلنا يملك صارت أم ولد له. ـ وإن قلنا لا يملك صارت من باقي أموال الشركة ليست ملكاً للعامل.
- وإذا اشترى العامل من مال الشركة من يعتق عليه كأن يشتري أباه أو أخاه أو نحوهما: ـ فعلى القول الأول: إذا ظهر ربح في الشركة: عتق. ـ وعلى القول الثاني: يبقى عبداً لأن المضارب - العامل - لا يملك من المال شيئاً ولو بعد الربح.
فبين القولين فرق واضح جداً.
وكما قلت إن شاء الله الواضح القول الأول.
نرجع إلى مسائل شركة الأبدان.
- قال - رحمه الله -:
- أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما.
يعني: حسب الاتفاق.
أن يشتركا في الربح حسب الاتفاق.
ودل كلام المؤلف - رحمه الله - على أن شركة الأبدان صحيحة سواء اتفقت الصنائع أو اختلفت. أي: سواء اشترك نجاران أو نجار وحداد.
فالشركة صحيحة ولا يشترط اتفاق الصنعة.
وسيأتينا ما العمل إذا لم يستطع النجار إكمال العمل والحداد لا يعرف النجارة. سيأتينا ما الحكم.
- قال - رحمه الله -:
- فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله.
إذا تقبل أحدهما العمل لزم الاثنين الاتمام.
ودخل وجوب إكمال العمل في ذمة كل منهما.
والدليل:
- أن مبنى هذه الشركة على الضمان. لأنهما يتقبلان العمل بالذمة.
فكل واحد من الشريكين مطالب بإتمام العمل. بمقتضى عقد الشركة.
= والقول الثاني: أنه لا يلزم من لم يجر العقد إتمام العمل ولو كان شريكاً. فإذا اشترك نجار وحداد وعقد النجار مع شخص على عمل ولم يتمه لم يلزم الحداد إتمام العمل.
استدلوا على هذا:
- بالقياس: فقالوا: الشركة إذا كانت موضوعة في ما يكتسبان بأبدانهما من الملك المباح فإنه لا يلزم أحدهما بإكمال العمل. فكذلك هنا.
فإذا اشترك زيد وعمرو على أن ما يكتسبان من الاحتطاب بينهما وأحدهما لم يحتطب لم نلزمه بالاحتطاب لأنه عمل مباح. فكذلك هنا
والصواب مع الحنابلة وبين الصورتين فرق ظاهر. فما هو الفرق؟
الفرق: في الصورة الأولى انشغلت الذمة بما التزماه جميعاً.
وفي الصورة الثانية لا يوجد انشغال للذمة من الأصل.
فالراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وتصح: في الإحتشاش والإحتطاب وسائر المباحات.
(4/240)
________________________________________
يعني: تصح الشركة في كل عمل مباح.
ومثل بمثالين: - الاحتشاش. - والاحتطاب.
فكل عمل مباح يجوز أن يشتركا فيه.
مفهوم عبارة المؤلف - رحمه الله - أن كل عمل محرم فيحرم الاشتراك فيه. وهو كذلك إجماعاً.
ودليل جواز الاشتراك في كل عمل مباح:
- حديث ابن مسعود السابق. ففيه الاشتراك في عمل مباح.

- قال - رحمه الله -:
- وإن مرض أحدهما: فالكسب بينهما.
وإن مرض أحدهما وأتم العمل الآخر فالكسب بينهما وإن لم يعمل الآخر.
تعليل ذلك: - أن هذا الكسب سببه الالتزام في الذمة. والالتزام في الذمة صدر من الاثنين فيجب أن يقتسما الربح بينهما.
ومذهب الحنابلة سواء امتنع أحدهما لعذر أو لغير عذر. والسبب كما قلت لك أنه حتى إذا امتنع لغير عذر فإن سبب الربح هو الالتزام في الذمة وهو صادر منهما.
= والقول الثاني: أنه إذا امتنع عن العمل بغير عذر فالكسب للعامل كله.
- لأن الربح يستحق بالالتزام في الذمة والعمل معاً. والعمل لم يوجد ممن لم يعمل. ((الأذان)).
والخلاف في هذه المسألة قوي لأن لكل من القولين وجهة نظر قوية.
ولم أر عند الحنابلة خلاف أن الربح بينهما - لم يمر علي في كتب الحنابلة أنهم ذكروا خلافاً في هذه المسألة.
لكن القول الثاني أيضاً وجيه وهو أنه لم يعمل بلا عذر فلا يستحق الربح.
أقول: الذي يظهر لي بوضوح قول ثالث لم أر أحداً قال به فإن قيل به فهو في الحقيقة فيه العدل وهو أن نقول:
- إذا امتنع الشريك عن العمل بلا عذر أخذ نصف الربح المقرر له.
وجهه أنا نقول أن هذا الربح يستحق بأمرين: - العمل. - والالتزام في الذمة.
الالتزام في الذمة وقع منه فهو ملتزم في الذمة. ولو لم يتم الأول العمل لطولب هو بالعمل وهذا يجب أن تلاحظه - يعني هو ليس خالياً تماماً هو مطالب وذمته مشغوله ولذلك أعطاه الحنابلة الربح كاملاً.
فنقول: بما أنه يستحق بالأمرين ووجد منه أحد الأمرين فله تبعاً لذلك: نصف الربح.
فإن قيل بهذا القول فهو في الحقيقة قول فيه عدل من وجهة نظري.
- قال - رحمه الله -:
- وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه: لزمه.
إذا طالب الصحيح المريض أن يقيم مقامه رجلاً آخر ليعمل معه لزمه. أي: لزم المريض أن يقيم رجلاً مكانه.
(4/241)
________________________________________
تعليل ذلك: - أن مبنى هذه الشركة - أي: شركة الأبدان - على الاشتراك في العمل بالبدن فإذا لم يفم بما عليه وجب عليه البديل. وهذه قاعدة شرعية. كل إنسان عليه أن يقوم بالواجب أو ببديل الواجب.
فنجن نقول الآن إما أن تقوم بالعمل أو تأتي بمن يقوم بالعمل بدلك.
فإن امتنع فللمضارب الآخر فسخ الشركة.
ومعلوم أن قولهم له فسخ الشركة يعني أنه من الأسباب الوجيهة في فسخ الشركة وإلا تقدم معنا أن الشركة من العقود الجائزة وله أن يفسخ بسبب وبدون سبب.
لكن إذا وجد هذا السبب تأكد حقه في الفسخ وصار وجيها.
- قال - رحمه الله -:
- (الخامس) شركة المفاوضة.
المفاوضة معناها العام في اللغة الاشتراك في كل شيء.
أما الاشتقاق فهو من كلمة فوَّضَ والتفويض هو: إسناد التصرف إلى شخص آخر.
والمفاوضة لها نوعان ذكر المرلف - رحمه الله - النوع الأول والنوع الثاني.
- قال - رحمه الله -:
- أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة.
هذا هو النوع الأول من أنواع الشركة وهو أن يفوض كل منهما صاحبه في كل أنواع الشركة.
فيفوضه في شركة المضاربة والعنان والوجوه والأبدان.
فشركة المفاوضة على هذا تشمل جميع أنواع الشركات.
وشركة المفاوضة صحيحة ومشوعة عند الحنابلة.
استدلوا على هذا:
- بأن شركة المفاوضة تجمع أنواع الشركات وكل واحد منها جائز فإذا جمعت فهي جائزة أيضاً. لأن ما يتركب من الجائز: جائز.
= والقول الثاني: أنها شركة باطلة وغير مشروعة.
- لأنه يدخل فيها الغرر والجهالة لسعة نطاق التوكيل.
والراجح مذهب الحنابلة لأنه لا يوجد دليل واضح على المنع والغرر منفي بتحديدها بأنواع الشركة الموجودة بأنواع الشركات المسماة في الفقه الإسلامي.
- قال - رحمه الله -:
- والربح: على ما شرطاه، والوضيعة: بقدر المال.
تقدم معنى: أن الربح على ما شرطاه. والوضيعة على قدر رأس المال في جميع الشركات وأن دليل ذلك: القياس على شركة العنان.
فالوضيعة على قدر المال والربح على قدر الاتفاق.
ونقف على القسم الثاني والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ....
(4/242)
________________________________________
الدرس: (34) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنا في آخر درس تحدثنا عن الخامس من أنواع لشركات وهو شركة المفاوضة وأخذنا النوع الأول منه وانتهينا منه وتوقفنا على النوع الثاني. والنوع الثاني: يبدأ من قول المؤلف - رحمه الله -: (فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادرين).
النوع الثاني من شركة المفاوضة هو: أن يدخلا في الشركة كل كسب نادر لهما أو غرامة نادرة عليهما.
فالكسب النادر: كاللقطة. فإنه يندر أن يجد الإنسان لقطه. وكذلك الميراث. وكذلك الهبة. هذه الأمور نادرة.
فإذا اشتركا على هذا الكسب النادر فهي في الشرع شركة مفاوضة.
النوع الثاني من القسم الثاني: أن يشتركا على غرامة نادرة. مثل: أرش جناية. فإن هذا نادر ما يقع. نادراً ما يقع أن يصيب الإنسان شخصاً بجناية ويجب عليه الأرش.
ففي النوع الأول: اشتركا في المغنم. وفي النوع الثاني: اشتركا في المغرم.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه: فسدت.
كذلك الاشتراك في ضمان الغصب له نفس الحكم السابق وهو أنه يعتبر من شركة المفاوضة.
= الحنابلة يرون: أن هذه شركة غير صحيحة. ولذلك يقول - رحمه الله -: (فسدت).
وعرفنا الآن ما هي هذه الشركة.
إذاً: الشركة أن يشتركا في المغنم أو في المغرم لكن الذين وصفا بالندرة.
فالحنابلة يرون ان هذه الشركة فاسدة.
عللو ذلك: - بأن في الاشتراك بهذا النوع غرر وجهالة إذ قد يجب عليه ضمان أرش أو غصب بمبلغ مرتفع جداً ولا يستطيع الشريك أن يساهم معه في سداد هذا المبلغ وفي المقابل أيضاً قد يكسب كسباً نادراً كبيراً مرتفعاً في وقت قصير فلا تسمح نفسه بأن يشاركه معه فيه أحد. ففي المغنم وفي المغرم يوجد غرر وجهالة تؤدي غالباً إلى المنازعة. ولهذا رأوا رحمهم الله أنها فاسدة. وما ذكره الحنابلة صحيح ودائماً العموميات في المعاملات تؤدي إلى المخاصمات في كل مغنم في كل مغرم إلى استخدام ألفاظ العموم (كل) دائماً يدخل الشريكين في متاهات.
(4/243)
________________________________________
وبهذا عرفنا أن شركة المفاوضة تنقسم إلى قسمين وان القسم الأول منها صحيح وأن القسم الثاني منها باطل.

باب المساقاة
- قال - رحمه الله -:
- باب المساقاة.
المساقاة في لغة العرب: مشتقة من السقي.
وسميت هذه المعاملة بهذا الاسم لأن أشق أعمال المساقي في الحجاز السقي لكثرة حاجة الشجر إلى الماء وصعوبة تحصيل الماء.
وهذا المعنى يختص بالحجار.
وفي غيره من الأماكن قد لا يكون سقي الشجر هو أصعب الأعمال. قد يكون هو أسهل الأعمال وفي صور كثيرة لا يسقس أصلاً وإنمات يتكفل المطر بسقي النبات ويكون عمله في جانب آخر.
وهذا لا يعنينا في الأحكام الشرعية ولكن نحن نتحدث الآن من الاشتقاق وأن هذا الاشتقاق شيء أو معنى يختص بأهل الحجاز.
- يقول - رحمه الله -:
- باب المساقاة.
المساقاة هي: دفع شجر لمن يقوم عليه بجزء من الثمر.
وله صور ولكن هذا معناه العام.
إذاً صورة المساقاة - حتى تتصور هذه المعاملة قبل أن ندخل في الأحكام - هي أن يعطي الإنسان الذي يملك البستان الشجر كالنخل - مثلاً - إلى شخص آخر ليقوم هذا الشخص بسقي النخل والقيام عليه ومراعاته وإصلاحه إلى أن يثمر فتكون الثمرة بينهما حسب الاتفاق.
يعني: بجزء من الثمر متفق عليه.
إذاً هذه هي المساقاة وما زال الناس من القديم إلى يومنا هذا يعملون بها وإن كانت في هذه الأيام خفت باعتبار أن الإنسان أصبح يستطيع أن يستأجر عمالاً بدل أن يساقي على جزء من الثمرة.
لكن في القديم كانت الحاجة إليها ماسة جداً وعمل الناس عليها كثير.

- يقول - رحمه الله -:
- تصح.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن المساقاة صحيحة وجائزة ومشروعة.
وإلى هذا ذهب الجماهير من السلف والتابعين وتابعوهم والفقهاء السبعة وعامة علماء الأمة. بل حكي إجماعاً. على أنها معاملة مشروعة صحيحة.
واستدلوا - رحمهم الله -:
- بما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.
واستدلوا أيضاً:
- بأن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - عملوا بها. وكذلك عامة الصحابة.
واستدلوا على هذا الحكم:
- بأن الحاجة تدعو إليها.
(4/244)
________________________________________
= والقول الثاني: وهو للأحناف فقط: أن هذه المعاملة لا تصح. فذهبوا إلى إبطال المساقاة.
واستدلوا على هذا:
- بحديث رافع - رضي الله عنه - وهو صحيح - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها على الربع أو الثلث). قالوا: والحديث صريح في النهي عن المساقاة والمزارعة.
ولو كانت نسبة الربح مشاعة لقوا في الحديث: (الربع أو الثلث).
والراجح إن شاء الله مذهب الجماهير بلا إشكال مطلقاً إن شاء الله. وسبب الترجيح أن هذا الحديث بينت الروايات الأخرى له وأحاديث أخرى ختلف في المخرج عن هذا الحديث كل هذه الروايات والأحاديث بينت أن النهي في هذه الحديث إنما هو نهي خاص وهو عن أن يشترط لنفسه جزءاً معيناً من البستان.
كأن يشترط أن له ما على الجداول لجودة ما يخرج فيه أو ما يخرج في المكان المشمس لجودة ما يخرج فيه أو أي بقعة من البستان.
فنحمل هذا الحديث على هذا المعنى والذي سوغ حمله على ذلك أن الروايات الأخرى لنفس الحديث تبين هذا المعنى.
إذاً الراجح إن شاء الله هو القول الأول.

- يقول - رحمه الله -:
- على شجر له ثمر.
يعني: تجوز المساقاة لكن لابد أن تكون على شجر ولابد أن يكون هذا الشجر له ثمر.
فهم من كلام المؤلف - رحمه الله -: أن الشجر الذي ليس له ثمر لا تصح المساقاة فيه.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله -: أن غير الشجر كالمقاثي والخضروات لا تجوز المساقاة عليها.
وإنما فقط الشجر الذي له ثمر.
فالشجر يخرج ما عداه.
والثمر يخرج الشجر الذي ليس له ثمر.
وهذا هو مذهب الحنابلة. واستدلوا على هذا:
- بأن الدليل الدال على الجواز جاء في النخل فقط وهو شجر وله ثمر فنبقى مع هذا الحديث ولا نتجاوزه إلى أنواع أخرى من النباتات.
هكذا قرر الحنابلة.
= والقول الثاني: أن المساقاة تجوز على كل ما فيه منفعة للمتعاملين من شجر له ثمر أو ليس له ثمر أو من نباتات لا تعتبر من الأشجار كالمقاثي ونحوها.
واستدل أصحاب هذا القول على قولهم:
(4/245)
________________________________________
- بأن الشارع الحكيم إنما أجاز للمساقاة نظراً لحاجة الناس والحاجة موجودة في الشجر الذي لا يثمر والحكم في الشرع يدور نع علته وجوداً وعدماً. فما دامت الحاجة موجود فالحكم موجود.
واستدلوا على ذلك:
- بأن تخصيص بعض أفراد العام بحكم لا يقتضي تخصيصه بالحكم.
فكون حديث خيبر نص على جواز المساقاة في النخل لا يعني منع المساقاة في غيره من الأشجار.
وهذا القول الثاني هو الراجح وهو إن شاء الله المتوافق مع قواعد الشرع والمقاصد العامة.
- قال - رحمه الله -:
- وعلى ثمرة موجودة.
يعني: وتجوز المساقاة على الثمرة بعد طلوعها ويكون المقصود بالمساقاة رعاية الثمرة والقيام عليها وتنميتها وحفظها من الآفات.
واستدلوا على جواز المساقاة على الثمر الموجود:
- بأنه إذا جازت المساقاة على الثمر المعدوم كما في قصة خيبر ففي الموجود من باب أولى.
وهذا صحيح.
- قال - رحمه الله -:
- وعلى شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر: بجزء من الثمرة.
ذكر المؤلف - رحمه الله - الشجر قبل أن يغرس: ليغرس. وبعد أن غرس قبل أن يثمر. وبعد أن غرس وبعد أن يثمر.
فذكر المراحل الثلاث للشجرة.
المرحلة الأخيرة هيي أن: يساقي على شجر لم يغرس فيقوم بغرسه والعناية به إلى أن يثمر بجزء معلوم مشاع من الثمرة.
استدلوا على الجواز بدليلين:
- الدليل الأول: أن هذا العمل عمل معلوم مباح فجاز العقد عليه.
- الدليل الثاني: القياس على الشجر المغروس الذي يساقى عليه إلى أن يثمر.
سؤال: لماذا نقيس على الشجر المغروس. لماذا أصبحت أولى. فكأنها هي الأصل؟
لأنها المذكورة في الحديث - لأن هذه الصورة دل النص على جوازها فنحن نقيس على حكم دل النص على جوازه.
ولهذا السبب ذاته قدم المؤلف - رحمه الله - الحكم على الشجر الذي يساقى إلى أن يثمر وإلا فإن المنطق أن تكون أول مسألة الذي لم يغرس ثم الذي غرس ولم يثمر ثم الذي غرس وأثمر.
لكنه خالف هذا الترتيب ليقدم ما ذكر في الحديث.
إذاً تجوز هذه المعاملة.
لكن اشترط الحنابلة لجواز هذه المعاملة أن يكون الشجر من رب الأرض.
فإن كان من العامل فإنه لا يجوز.
= والقول الثاني: جواز أن يكون الشجر من العامل.
(4/246)
________________________________________
وهذا القول الثاني هو الراجح واختصرنا في هذه المسألة لأنها ستأتينا في المزارعة وهي أصلاً في المزارعة.
إنما يعنينا الآن أن نعرف أنه عند الحنابلة: يشترط أن يكون الغرس - يعني الشجر - من رب الأرض لا من العامل. والقول الثاني أنه يجوز من العامل.
وهذا القول الثاني هو الصحيح.
من المعلوم أن غالب عمل الناس على المذهب. [بمعنى] هل صاحب الأرض سيكلف العامل بأن يأتي بالنخل؟ أو هو الذي يعطيه النخل ويقول له: اغرس النخل؟ حتى يبقى النخل ملكاً لصاحب الأرض.
إذاً: هذا الخلاف الفقهي قد لا يكون له رصيد كبير في الواقع. في الواقع دائماً يكون الغرس من رب الأرض حتى يبقى الشجر في الأرض ملكاً له.

- قال - رحمه الله -:
- وهي عقد جائز.
هذه المسألة انفرد بها الحنابلة: أن المساقاة من العقود الجائزة.
ولا أظن اني بحاجة إلى بيان ما معنى أن يكون العقد جائز؟ يعني: أنه له الفسخ متى شاء.
= الحنابلة يرون: أن عقد المساقاة من العقود الجائزة وهو من مفردات الحنابلة. رحمهم الله.
واستدلوا على هذا الحكم:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود خيبر نقركم فيها ما نشاء.
يعني: نبقيكم في خيبر إلى الوقت الذي ناء ثم نخرجكم منها.
وجه الاستدلال؟ وجه الاستدلال من هذا الحديث أن المساقاة لو كانت من العقود اللازمة لم يطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم العقد ولوقته بوقت محدد. لأن العقود اللازمة تحتاج إلى تحديد فلما لم يحدد عرفنا أن المساقاة من العقود الجائزة.
ويصدق هذا ويؤكده أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخرجهم. كأنه فسخ المساقاة وأخرجهم وهذا يدل أيضاً على أنها من العقود الجائزة.
- الدليل الثاني: قالوا: أن المساقاة أشبه ما تكون بالمضاربة وإذا كانت تشبه المضاربة تأخذ حكمها من حيث الجواز.
= القول الثاني: وهو مذهب الجماهير أن عقد المساقاة من العقود اللازمة.
واستدلوا أيضاً بدليلين:
- الدليل الأول: القياس على عقد الإيجار. كأن رب الأرض استأجر العامل وإذا كان عقد المساقاة يشبه الإجارة فالإجارة من العقود اللازمة - كما سيأتينا.
واستدلوا على هذا:
(4/247)
________________________________________
- بأن القول بأن المساقاة من العقود الجائزة يفضي إلى مفسدة وهذه المفسدة هي أن يفسخ رب الأرض المعاملة قبيل أخذ الثمرة فيذهب نصيب العامل من الثمرة.
هذه المسألة لاشك أنها من المسائل المشكلة والمهمة جداً وعمل الناس على أنها من العقود اللازمة لأن المزارع والعامل كل منهما يتضرر لو قيل بأنه جائز.
هذا من حيث الواقع.
نأتي إلى الترجيح. الترجيح بين القولين: فأيهما أرجح؟
في الحقيقة المسألة فيها إشكال. لكن يظهر لي مع ذلك مع شيء من الوضوح أنها: جائزة وليست لازمة.
والدليل المرجح: النص والتعليل فكل من الدليلين المذكورين للحنابلة في الحقيقة قوي: لأنك إذا تأملت ستجد أن هذا العقد أقرب إلى المضاربة منه إلى الإيجار.
ما هو الدليل على أن هذا العقد أقرب إلى المضاربة من الإيجار؟
الدليل على هذا: أن من الأمور الحاكمة في العقود والموضحة لحقيقتها بالدرجة الأولى: كيفية توزيع الأرباح - ولا يحسن أن نقول أرباح يعني: - كيفية الحصول على مقابل العوض. تجد أن كيفية الحصول على المقابل يتشابه مع المضاربة. لأنها نسبة مشاعة من الأرباح بينهما الإجارة مبلغ مقطوع.
وهذا التشابه في الوارد مقابل العمل يجعل المساقاة أقرب إلى المضاربة.
وفي الحقيقة هذا هو الذي أوجد بالنسبة لي أنا الترجيح أنه جائز وأن قول الإمام أحمد - رحمه الله - هذا أرجح.
- قال - رحمه الله -:
- فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة: فللعامل الأُجرة.
بين المؤلف - رحمه الله - حكم الفسخ قبل ظهور الثمرة. ولم يبين حكم القفسخ بعد ظهور الثمرة.
فحكم الفسخ بعد ظهور الثمرة أنه لا فسخ بل يلزم العامل بالاتمام ورب الأرض أيضاً بالإتمام.
وظاهر كلام بعض الحنابلة - ألسنا نقول أن عقد المساقاة من العقود الجائزة فكيف يقول الحنابلة أنه بعد ظهور الثمرة لا فسخ.؟ ظاهر كلام بعض الحنابلة: أن الفسخ صحيح فإذا فسخا انفسخ العقد لكن مع الفسخ نلزم العامل بالاتمام ورب الأرض بالصبر.
(4/248)
________________________________________
وفي الحقيقة إذا قلنا بالفسخ مع الإلزام بالاتمام أصبح الفسخ لا معنى له. (إذاً أصبح الفسخ لا معنى له إذا كنت ستلزم العامل بالاتمام ورب الأرض) لكن من وجهى نظري أن المخرج من هذا أن نقول أن عقد المساقاة عقد جائز لكن قد يعرض للجائز ما يجعله لازماً.
كما تقدم معنا في الوكالة فالوكالة عقد جائز لكن لا تنفسخ قبل علم الموكل بسبب عارض وهذا العارض هو الضرر الداخل على الموكل والمشتري.
كذلك نحن نقول هنا الأصل في المساقاة كما أنه بالاتفاق عقد الوكالة عقد الوكالة جائز مع ذلك في بعض الصور صار لازم فكذلك هنا نقول هو جائز لكن العكس يصبح في بعض الصور لازم.
هذا الذي يظهر لي من وجه الجواب.
أما كونه يصبح لازماً بعد ظهور الثمرة فهذا صحيح ولا أظن عالماً يخالف في هذا لأنه بعد ظهور الثمرة تعلق حق العامل بها ورب الأرض بها. كلاهما: لا العامل يجوز له أن ينصرف ولا رب الأرض.
فإذا قال العامل أنا لا أريد جزئي من الثمرة نقول ولو كنت لا تريد جزئك من الثمرة يجب أن تبقى وأن تكمل عملك إلى أن يحصل لرب الأرض جزئه من الثمرة. وكذلك يقال لرب الأرض.
- قال - رحمه الله -:
- فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة: فللعامل الأُجرة.
تبين معنا حكم بعد.
والآن نبين الحكم قبل:
إذا فسخ رب الأرض قبل فعليه أجرة عمل العامل من حين تم العقد إلى أن تم الفسخ.
تعليل ذلك:
- أن رب الأرض هو الذي تسبب في فسخ العقد ولولاه لاستحق العامل الثمرة. هذا الوجه الأول.
- الوجه الثاني: أنه مهما يكن من أمر فإن ظهور الثمرة بعد ذلك للعامل فيه دور. فاستحق العوض على هذا الدور.
إذاً استدلوا بدليلين وكلامهم صحيح.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن فسخها هو: فلا شيء له؟
يعني: وإن فسخ العامل المساقاة فلا شيء له.
- لأنه رضي بإسقاط حقه.
وهذه العبارة تحمل على قبل أو بعد ظهور الثمرة؟
قبل. أما بعد فتبين معنا أنه لا يجوز له أصلاً أن يترك العمل.
وقولنا: أن يترك العمل أدق من أن نقول لا يجوز أن يفسخ.
- قال - رحمه الله -:
- ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة.
انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى بيان عمل كل واحد من رب الأرض والعامل وبدأ بالعامل لأن عمله هو الأكثر.
(4/249)
________________________________________
والعامل عليه جل العمل.
وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن العمل كله المحدد من نصيب العامل وأنه لا يجوز أن يشترط على رب الأرض أي عمل.
إذاً: اتفق الأئمة الأربعة على أن العمل يلزم به من؟ العامل وأنه لا يجوز أن نشترط على رب الأرض أي نوع من أنواع العمل.
والسبب في ذلك: أن اشتراط جزءاً من العمل على رب الأرض ينافي موضوع المساقاة فإن موضوع المساقاة أن تكون الأرض من رب الأرض وأن يكون العمل من العامل.
لكن المؤلف - رحمه الله - يريد بعد أن قرر أن العمل على العامل يريد أن يضبط ما هي الأعمال التني تجب على العامل.
- يقول - رحمه الله -:
- كل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها.
كل ما فيه صلاح الثمرة وزيادة الثمرة فهو من مهام العامل.
وهذا ضابط مريح.
هناك ضابط آخر: يقرب أكثر. يقول: كل ما يتكرر كل سنة فهو من مهمام العامل وما يعمل مرة واحدة فهو من مهام رب الأرض.
وهذا يعطي انطباعاً وتصوراً أوضح عن أعمال العامل.
وهناك ضابط ثالث يقول: أنه كل ما دل العرف على أنه من أعمال العامل فهو من أعماله. وإلا فهو على رب الأرض.
وهذه الأقوال ليست أقوالاً متناقضة بل أقوال متقابة ويصدق بعضها بعضاً وتكمل المعنى.
فالذي يتكرر كل سنة هو نفسه الذي يعرف في العرف أو وجد العرف على أنه من أعمال العامل.
ومع ذلك أرلد المؤلف - رحمه الله - أن يزيد الأمر وضوحاً بالتعداد:
- فقال - رحمه الله -:
- من حرث.
الحرث من مهام العامل بلا إشكال. وبالإجماع.
والبقر الذي يحرث به عند الحنابلة على العامل.
- لأن الحرث وآلته من مهام العامل.
وهذا يقتضي اليوم أن آلات الحرث على العامل.
لكن العرف اليوم أن السيارة الكبيرة التي تحرث الأرض تكون عادة موجودة في المزرعة.
فإن تقبل العامل أرض المساقاة وليس فيها آلة حرث: فعند الحنابلة: الملزم بآلة الحرث هو العامل لأن هذا من مهامة الأساسية.
- يقول - رحمه الله -:
- وسقي.
يعني: وعليه أن يسقي الشجر وهذا واضح.
- يقول - رحمه الله -:
- وزِبار.
الزبار هو: تقليم الأغصان الميتة بالنسبة للعنب والسعف الميت بالنسبة للشجر.
وهو بقاعدة عامة: أخذ ما يحسن أخذه من الشجر. سواء كانت عنباً أو كان نخلاً.
- قال - رحمه الله -:
- وتلقيح.
(4/250)
________________________________________
التلقيح على العامل: عليه هو أن يلقح الشجر.
إذا كانت من الأنواع التي تلقح وإذا كانت من الأنواع التي لا تلقح فليس من عمل لا رب الأرض ولا العامل لكن تلاحظ أن اتجاه المؤلف - رحمه الله - في الكلام عن النخيل. كأنه يغلب عليه الكلام عن النخيل لأن غالب المساقاة على النخيل ولأن النص إنما جاء في النخيل.
- قال - رحمه الله -:
- وتشميس. وإصلاح موضعه.
يعني: عليه أن يشمس ما يناسب تشميسه.
وعليه أن يصلح موضع التشميس بأن يمنع الآفات عنه والدواب وأن يجعله في مكان ظاهر للشمس ... إلى آخره.
- قال - رحمه الله -:
- وطرق الماء.
يعني وعليه إصلاح طرق الماء.
يجب على العامل إصلاح طرق الماء بأن يسهل وصول الماء إلى أماكنه من الشجر.
اليوم التمديدات التي تعمل في المزارع تكلف مبالغ طائلة في الحقيقة ولا أعرف العرف في هذا: هل إذا استأجر الإنسان مزرعة عليه هو أن ياتي بالتمديدات أو على رب الأرض أن تكون موجودة يعني لا أعرف العرف لكن يبدو لي أن مثل هذا الأمر لما كان باهض الثمن أصبح اليوم لابد من الاتفاق المسبق عليه.
وهذا يؤكد القول الثالث: وهو أن المسألة ترجع إلى أعراف الناس ونما يتعارفوه بينهم في الأعمال المنوطة بكل من العامل ورب الأرض.
- يقول - رحمه الله -:
- وحصاد.
عليه الحصاد.
عليه أن يحصد ما يناسب الحصاد وعليه أن ينقي أخواض الجر من النباتات الصغيرة التي تفسد على الشجرةو طلعها وثمرتها.

- قال - رحمه الله -:
- ونحوه.
يعني ونحو هذه الأعمال اتي جرى العرف بأنها من العامل.
من أبرز الأعمال التي تكون على العامل: - حفظ الثمرة بعد مزجها إلى أوان التقسيم فهذا من أعمال العامل. وإن أخل أو فرط أو تعدى فيضمن.
فلا تنتهي مهمة العامل بنضج الثمرة وصلاحيتها للأكل أو للبيع بل مهامه تستمر إلى أن يتم التقسيم.
* * مسألة/ لم يذكر المؤلف - رحمه الله - الجذاذ وهو أمر مهم جداً.
= عند الحنابلة: أن الجذاذ ليس على العامل وليس على رب الأرض بل على كل منهما أن يجذ نصيبه.
فمعنى هذا: أن العلاقة انتهت إذا حان أوان الجذاذ. فيمكن رب الأرض ويقول هذا لك وهذا لي وانتهت مهمة العامل.
فعلى كل منهما أن يحذ نصيبه.
(4/251)
________________________________________
= والقول الثاني: أنها من مهام العامل وأنه لا يترك العمل إلا بعد إيصال الثمرة إلى رب الأرض. مجنية من الشجرة.
من حيث الدليل والتعليل والنظرة الفقهية الراجح مذهب الحنابلة.
وجه ذلك: أن مهمام العامل تتعلق بتنمية الثمرة وإصلاحها إذا تم هذا الهدف انتهت مهمة العامل. والجذاذ ليس من إصلاح الشجرة ولا من القيام عليها ولا من تنمية الثمرة وإنما هو أخذ للثمرة فقط.
فمن حيث الدليل الأقرب مذهب الحنابلة وهو أنه ليس من أعمال العامل بل كل واحد منهما يأخذ نصيبه.
لكن بالنسبة للواقع فإني أرى أنه يجب - يكاد يقرب من الوجوب - الاتفاق المسبق على جني الثمر.
وجه ذلك: أن تحصيل التمر من الشجر اليوم أصبح يكلف مبالغ طائلة جداً وإذا كان يكلف هذه المبالغ فيجب أن يكون هناك اتفاق مسبق على هذا القضية حتى لا يكون هناك اختلاف فإن لم يكن اتفاق فكما قلت لكم أرى أن مذهب الحنابلة أرجح.
انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان ما يلزم العامل ولاحظت أنه ختم الأعمال بقوله: (ونحوها) فإذاً هو لا يريد الحصر وإنما يريد التمثيل.
- قال - رحمه الله -:
- وعلى رب المال ما يصلحه: كسد حائط وإجراء الأنهار والدولاب ونحوه.
أيضاً أعمال رب الأرض لها ضابط ولو أنه ذكره - رحمه الله - كما ذكر ضابط العامل لكان أحسن وأوضح.
الضابط بالنسبة لرب الأرض: أن عليه كل ما فيه حفظ الأصل. فأي عمل يتعلق بحفظ الأصل فهو من أعمال فما ذكره المؤلف - رحمه الله - من سد الحائط فهذه من اعمال رب الأرض لأن هذا يتعلق بحفظ الأصل. - أصل الملك.
- قال - رحمه الله -:
- وإجراء الأنهار والدولاب.
يعني أن على رب الأرض كل آلة تأتي بالماء.
أو بعبارة أخرى: على رب الأرض تحصيل الماء.
ولذلك كمل قلنا أن الحرث يقتضي أن البقر على العامل هنا نقول أن الحيوانات التي تدير الدولاب من مهام رب الأرض.
قياساً عليه نقول: الآلات الحديثة لإخراج الماء - الدينمو والمواطير والمكائن التي تخرج الماء وما يتبعها من مواسير ونحوه هو من مهام رب الأرض وهذا لا إشكال فيه لا من حيث العرق ولا من حيث النظرة الفقهية لأن العامل لا مصلحة له بأن يؤسس في تامزرعة لإخراج الماء وهو سيمكث فيها سنة.
(4/252)
________________________________________
إذاً كل ما من أنه تحصيل الماء فهو من مهام رب الأرض.
والقاعدة العامة هي التي ذكرت لك وهي: أن عليه كل ما فيه حفظ الأصل.
فصل
[في أحكام المزارعة]
- فقال - رحمه الله -:
- (فصل)
انتهى المؤلف - رحمه الله - من المساقاة وانتقل لقرينتها وهي المزارعة.
والمزارعة هي دفع الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع من الزرع.
فيقول رب الأرض للعامل: دونك هذه الأرض ازرعها قمحاً أو شعيراً أو غيره. وما يخرج من هذا الزرع فهو بيني وبينك مناصفة.
= ذهب الجماعير إلى مشروعية المزارعة.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر - كما تقدم معنا - بشطر ما يخرج منها - من ثمر أو زرع.
فهو أيضاً ساقاهم وزارعهم - صلى الله عليه وسلم -.
واستدلوا على هذا:
- بما أثر عن غير واحد من السلف أنهم قالوا: ما من بيت في المدينة المنورة إلى وزارع أهله.
واستدلوا على هذا أيضاً:
- بأن عمر - رضي الله عنه - وعلي وابن مسعود وغيرهم تعاملوا بالمزارعة.
= والقول الثاني: ان المزارعة لا تشرع.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: ما جاء في الصحيح: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة. والمحاقلة هي المزارعة.
- والدليل الثاني: الحديث الذي تقدم معنا: من كان له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكريها أخاه بالثلث أو بالربع.
والراجح في هذه المسألة هو الراجح في المسألة السابقة وهو أن المعاملة مشروعة عمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وأما الأحاديث الناهية فتحمل على صورة خاصة منهي عنها وهي المزارعة على جزء معلوم من الأرض.
- قال - رحمه الله -:
- وتصح المزارعة: بجزء معلوم النسبة مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل، والباقي للآخر.
قوله - رحمه الله -: (بجزء معلوم النسبة) يعني: مشاعاً. بجزء مشاع معلوم النسبة. وكأنه - رحمه الله - اكتفى ببيان أن هذه الأجزاء تكون دائماً مشاعة وإلا لابد أن يعلم أن الجزء المعلوم النسبة لابد أن يكون مشاعاً.
فلو أخذ ربع الأرض المحدد لبطلت بالإجماع. لو أخذ الربع الشمالي أو الشرقي أو الربع الذي في الوسط وعينه وحدده لبطلت.
لكن يجب أن يأخذ جزءاً مشاعاً.
(4/253)
________________________________________
لكن المؤلف - رحمه الله - ترك كلمة مشاع لأنه بيينها في المعاملات السابقة.
قوله - رحمه الله -: (مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر) يعني أنه إذا شرط لأحدهما فالباقي للآخر ولا نحتاج إلى تسميته.
ودليل ذلك:
- أن الحق لا يخرج عنهما فإذا حدد نصيب أحدهما فالباقي للآخر.

- قال - رحمه الله -:
- ولا يشترط: كون البذر والغراس من رب الأرض، وعليه عمل الناس.
= ذهب الحنابلة إلى أنه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض بل يجوز أن يكون من العامل.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من الزرع ولم يذكر اشتراط أن يكون البذر منه - صلى الله عليه وسلم -.
- الدليل الثاني: أنه جاء في النص ما يدل على أن البذر من اليهود - وهو قول الراوي: عن عمله - صلى الله عليه وسلم -: بشطر ما يخرج منها يعتملوها بأموالهم.
فدل هذا على أنهم زرعوها بأموالهم.
- الدليل [الثاني]: ما صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر وإن جاءوا هم بالبذر فله كذا كذا.
فدل الحديث على جواز أن يكون البذر من رب الأرض أو من العامل لأن عمر - رضي الله عنه - جوَّز الأمرين.
- الدليل [الثالث]: أن الحاجة تدعو إلى ذلك. إذ يكون العامل لديه البذر ورب الأرض ليس لديه بذر.
= القول الثاني: أنه يشترط لصحة المزارعة أن يكون البذر من رب الأرض.
واستدلوا على هذا:
- بأن المزارعة والمساقاة تشبه المضاربه ونحن نشترط في المضاربة أن يكون المال من رب المال. فكذلك في المزارعة تكون الأرض والبذر من رب الأرض وإنما يكون من العامل شيء واحد فقط وهو العمل.
والجواب على هذا الدليل: أن هناك فرقاً واضحاً بين المال في المضاربة والبذر في المزارعة لأن المال في المضاربة يعود إلى صاحبه وهو رب المال بينما البذر لا يعود إلى صاحبه. والراجح القول الأول ...
((الأذان))
- قوله - رحمه الله -:
- والغراس.
الغراس هو دفع شجر لمن يغرسه بجزء من الشجر لا من الثمر.
وهذا هو الفرق بين الغراس والمساقاة.
(4/254)
________________________________________
الخلاف في الغراس كالخلاف في المزارعة تماماً من حيث اشتراط كون الغرس من رب الأرض أو العامل.
وتقدم أن الراجح أنه يجوز أن يكون البذر من أيهما فكذلك يجوز أن يكون الغراس من رب الأرض أو من العامل.
إذاً لا نحتاج إلى إعادة الخلاف في الغراس بعد أن عرفنا ماهو.

باب الإجارة.
- قال - رحمه الله -:
- باب الإجارة
الإجارة من أنفع العقود التي من الله سبحانه وتعالى بها على المسلمين وفيها توعة على الناس عظيمة جداً وهي من محاسن التشريع وكذلك المزراعة والمساقاة إلا أن الحاجة للإجارة أشد وأكثر.
الإجارة مشتقة من الأجر والأحر معناه في لغة العرب: العوض.
حقيقة الإجارة هي أنها بيع منافع كما أن حقيقة البيع هو أنه بيع أعيان.
فالفرق بينهما فقط في أن هذا بيع أعيان وهذا بيع منافع.
وأما تعريفها في الشرع في: بذل العوض في منفعة معلومة أو عمل معلوم.
وهذا التعريف من أخصر التعريفات وأكثرها دلالة على المراد وأكثرها وضوحاً.
والإجارة من العقود المشروعة بإجماع المسلمين لم يخالف فيه أحد. ودل عليه الكتاب والسنة.
- أما الكتاب فقوله تعالى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فسمى هذا العوض أجر وذلك دال على عقد الإجارة.
- وأما من السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: عن ربه تبارك وتعالى: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) قال: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطيه أجره).
وأما الإجماع فهو محكي من أكثر من واحد من أهل العلم.
إذاً عرفنا الآن حقيقة الإجارة في اللغة وفي الشرع والحقيقة الفقهية للإجارة لأن هذا سنحتاج إليه في مسائل كثيرة والأجلة الدالة على مشروعيته.
- يقول - رحمه الله -:
- تصح بثلاثة شروط. (أحدها) معرفة المنفعة.
معرفة المنفعة: من شروط الإجارة المتفق عليها.
ودليل اشتراط معرفة المنفعة أن المنفعة في عقد الإجارة هي المعقود عليه كما أن العين في عقد البيع هو المعقود عليه.
فيجب أن نعرف هذا المعقود عليه أي المنفعة كما يجب أن نعرف العين المعقود عليها.
وهذا الحكم كما قلت لكم بالإجماع. يعني: اشتراط معرفةو المنفعة.
- يقول - رحمه الله -:
- كسكنى دار وخدمة آدمي وتعليم علم.
تحصل المعرفة بأحد أمرين: - الأمر الأول: العرف.
ونكتفي بهذا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ...
(4/255)
________________________________________
الدرس: (35) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالأمس أخذنا أول باب الإجارة وأخذنا التعريف والمشروعية وتوقفنا عند الشروط وتوقفنا عند الشرط الأول وهو: معرفة المنفعة. وأخذنا الدليل على اشتراط هذا الشرط لصحة الإجارة.
وتوقفنا على مسألة وهي: بماذا تحصل المعرفة؟
تحصل المعرفة بأحد طريقين:
- الطريق الأول: العرف.
وهذا الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - في الأمثلة فقوله: (كسكنى دار وخدمة آدمي وتعليم علم) فهذه المنافع تعرف بالعرف.
والمنفعة التي تعرف بالعرف نكتفي بمعرفتها بالعرف ولا نشترط الوصف.
- الطريق الثاني: الوصف. وهو الذي لم يذكر له المؤلف - رحمه الله - مثالاً ومن المعلوم أنه نوع الأمثلة بحسب الطرق لكان أسلم.
مثاله: بناء الجدار. فإذا استأجر رجلاً ليبني له جداراً فهذه المنفعة يشترط فيها الوصف بأن يقول جدار: مكانه كذا وبناءه من المادة الفلانية وطوله كذا وعرضه كذا ويصفه بما يتبين معه المنفعة المطلوبة.
إذاً: تبين لنا الآن كيف نعرف المنفعة في الإجارة وأنها بأحد طريقين: - العرف. وهو الأكثر. - والوصف. وهو الأقل.
- قال - رحمه الله -:
- (الثاني) معرفة الأجرة.
الشرط الثاني: معرفة الأجرة.
والدليل على هذا الشرط من ثلاثة أوجه:
- الوجه الأول: الإجماع.
- والوجه الثاني: القياس على البيع.
- والوجه الثالث: (وهو الأول في الحقيقة) أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن استئجار الأجير إلا بمعرفة أجرته.
وهذا الحديث اختلفوا في رفعه ووقفه وذهب الشيخ الحافظ أبو زرعة إلى أن الحديث موقوف على ابن مسعود ولم يصحح رفعه.
(4/256)
________________________________________
(وأقترح عليكم مراجعة كلام الشيخ في علل ابن أبي حاتم يمكن يكون في خمسة أسطر فقط أو أقل ولكن مفيد حتى تعرف طريقة الإمام أبو زرعة وأبو حاتم في تعليل هذا الحديث وسيكون ذهنك مشدوداً أكثر لما تقرأ في حديث يتعلق بموضوعنا).
إذاً: ذهب أبو زرعة إلى أن الحديث موقوف على ابن مسعود. قلت ويظهر لي والله أعلم وبوضوح أنه موقوف ولكن يظهر لي أنه مما لا مجال للرأي فيه.
وإذا صح أنه لا مجال للرأي فيه أخذ حكم المرفوع.
وعلى كل حال هو دليل صحيح سواء حكمنا بوقفه مع الحكم عليه بالرفع أو حكمنا عليه بوقفه واعتبرناه فتوى من ابن مسعود والدليل إن شاء الله يصلح أن يتمسك به الإنسان.
* * مسألة/ معرفة الأجرة تحصل بما يحصل به معرفة الثمن في البيع. فالمباحث التي ذكرناها في الثمن في البيع تأتي معنا في الأجرة في عقد الإجارة. فما تحصل به المعرفة هناك تحصل به المعرفة هنا.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وتصح في الأجير.
لما قرر المؤلف - رحمه الله - أن معرفة الأجرة شرط من شروط صحة الإجارة بدأ في الاستثناء كما هي العادة.
لأن الفقهاء - رحمهم الله - يقررون الحكم ثم يذكرون المسائل المستثناة.
ـ المسألة الأولى: أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته. أي يجوز أن يستأجر الإنسان العامل بطعامه وكسوته أي وليس من الجهالة. يعني: في الأجرة.
استدل الحنابلة على هذا:
- بأن أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن مسعود استأجروا الأجير بطعامه وكسوته.
فدل على أن هذا مشروع وليس بقادح في شرط معرفة الأجرة.
ـ المسألة الثانية:
- يقول - رحمه الله -:
- والظئر.
الظئر: هي المرضع سواء كانت هي الأم أو سواها.
والدليل على صحة هذا الحكم:
- قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فجعل مقابل الإرضاع الرزق والكسوة بالمعروف.
فدل هذا الدليل على صحة استثناء الظئر.
- قال - رحمه الله -:
- بطعامهما وكسوتهما.
يشترط بالنسبة للظئر - يشترط لصحة الحكم: معرفة المدة.
وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز استئجار الأجير والظئر بالطعام والكسوة فقط.
فلا يجوز استئجار الدابة بعلفها.
ولا السيارة بالنزين والزيت.
ولا أي شيء آخر إلا مسألة الأجير والظئر.
(4/257)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه يجوز استئجار كل ما يشبه الأجير والظئر.
قيجوز أن يستأجر الدابة بعلفها.
- لأن دليل الجواز لم يقصر الحكم على هذين النوعين بدليل تعدية الصحابة الحكم من الظئر إلى الأجير.
فدل على أنهم رأوا علة الحكم وقاسوا عليه ما يشبهه.
فنقول: كل ما يشبه هذه المسألة صحيح والحاجة داعية إليه.
ونصر هذا القول ابن القيم - رحمه الله - وبين قوة هذا القول وأنه لا فرق بين استئجار الدابة بالطعام وبين استئجار المرأة للإرضاع بالكسوة والطعام وأن المسألة واحدة.
- قال - رحمه الله -:
- وإن دخل حماماً أو سفينة أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطاً بلا عقد: صح بأجرة العادة.
هذه المسائل المجموعة كلها لها حكم واحد: وهي: أنه يصح العقد ولو بلا لفظ وإنما بمجرد العمل.
هذا القاسم المشترك بين هذه المسائل الأربع.
واستدلوا على هذا الحكم: أي: على صحة الإجارة في هذه المسائل بمجرد العمل ولو بلا لفظ:
- بأن العرف قام مقام التصريح في تصحيح وثتبيت هذه العقود.
- يقول - رحمه الله -:
- وإن دخل حماماً.
الحمام هو المكان المخصص لاغتسال الناس. وهو موجود في البلدان قديماً في الشام ومصر والعراق وفي كل مكان والآن انحصر ولا يوجد أبداً فيما أعلم إلا في الشام - هكذا فهمت من بعض الناس أنه لا يوجد إلا في هذه المدينة فقط.
وكانت هذه الحمامات أماكن عامة يشترك فيها الناس والغرض منها الاغتسال بأجرة معلومة.
فإذا دخل الإنسان هذا الحمام وفوراً بدأ بالاغتسال وانتفع بما في الحمام من ماء حار وصابون وآلات بدون أن يعقد مع صاحب الحمام فالعقد صحيح ولو بلا لفظ.
- لأن العرف جار على تصحيح العقد بمجرد الاغتسال.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو سفينة.
يعني: إذا ركب الإنسان في السفينة لنقله من شاطيء إلى شاطيء بلا عقد مع رب السفينة فإن العقد صحيح بمجرد الركوب.
- لأنه وضع نفسه لنقل الناس فدل العرف على تصحيح عقده بمجرد الركوب.
ولا يخفى عليكم أنه تستوي بعض المواصلات الحديثة في هذا الحكم مع رب السفينة مثل لو ركب القطار فإنه لا يوجد عقد مطلقاً وإنما يدفع التذكرة مثل لو ركب مع أصحاب التكاسي بلا كلام فكذلك نفس الحكم.
(4/258)
________________________________________
إذاً: كل ما جرى العرف على أنه يستأجر فالعمل والركوب معه صحيح.
- يقول - رحمه الله -:
- أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطاً ..
إذا أعطى ثوبه قصاراً ليغسله أو خياطاص ليخيطه بلا عقد لفظي: صح.
- لأنهم وضعوا أنفسهم لهذا العمل. أي: ليغسلوا ثياب الناس وليخيطوا ثياب الناس.
واليوم العمل على هذا تجد الإنسان يدخل ويعطي ثيابه الغسال بلا عقد بينه (يعني: بلا عقد لفظي). اكتفاءً بدلالة العرف.
فهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - بلا عقد. يعني: في المسائل السابقة: (صح بأجرة العادة).
فإذا اختلفوا في الأجرة فالعقد صحيح والمرجع في تحديدها إلى العرف.
- قال - رحمه الله -:
- (الثالث) الإباحة في العين.
يشترط في صحة الإجارة أن تكون العين مباحة النفع مطلقاً.
ومعنى: (مطلقاً) أي: لا في حال الضرورة ولا في حال الحاجة.
مثال للضرورة/ آنية الذهب. فآنية الذهب اتخاذها محرم ويجوز عند الضرورة.
مثال الحاجة/ الكلب. الكلب محرم اقتناؤه والانتفاع به. إلا في حال الحاجة. ففي حال الحاجة يجوز اقتناء الكلب للراعي أو للسقي أو للحراسة ولا يجوز في غير حال الحاجة.
وما أبيح في حال الضرورة أو في حال الحاجة فإنه لا يتعبر مباحاً إباحة مطلقة فلا يجوز بناء على ذلك أن يستأجر لأنه يشترط فيما يستأجر أن يكون مباحاً إباحة مطلقة.
وهذه الأعيان ليست مباحة إباحة مطلقة.
بعبارة أخرى: إذا قيل لك: ما حكم استئجار الكلب للحراسة؟
فالجواب: أنه استئجار الكلب للحراسة لا يجوز لأنه لا يجوز أن نستأجر إلا مباح النفع إباحة مطلقة والكلب يباح إباحة خاصة للحاجة.
إذاً عرفنا الآن مذهب الحنابلة ووجهة نظرهم في الأعيان التي يجوز أن تستأجر والتي لا يجوز.
الدليل على ذلك:
- قوله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) واستئجار الممنوع من التعاون على الإثم والعدوان.
= والقول الثاني: إباحة استئجار ما يباح نفعه في حال الحاجة أو الضرورة في حال الحاجة أو الضرورة. - في وقت إباحته. وهذا القول وجه عند الحنابلة ورجحه صراحة ابن حزم - رحمه الله -.
استدل هؤلاء:
(4/259)
________________________________________
- أن هذه الأعيان في حال الحاجة تصبح منافعها مباحة. ونحن نقول: يشترط في العين أن تكون مباحة النفع وهذه مباحة النفع حين الاستئجار.
وهذا القول وجيه وقوي وراجح لأنه ينظر إلى العلة في المنع.
بناء على هذا: ما حكم استئجار الكلب للزينة؟
لا يجوز بالإجماع.
ما حكم استئجار الكلب للرعي؟
يحرم عند الحنابلة.
ويجوز على القول الثاني.
ما حكم استئجار الرجل للحرير للبس؟
لا يجوز.
وما حكمه إذا أراده لأن فيه حكة أو مرض؟
يجوز عند غير الحنابلة.
إذاً: تصورنا هذه المسألة وهي مسألة كثيرة الحاجة إليها فكثيرة هي الأعيان التي تباح في حال وتمنع في حال.
فالآن عرفنا هل يجوز أن نستأجر هذه الأعيان أو لا يجوز؟
-
قال - رحمه الله -:
- فلا تصح على نفع محرم: كالزنا والزمر والغناء وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر.
لا يجوز بالإجماع استئجار العين لعمل محرم.
لدليلين: - الأول: قوله تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
- والدليل الثاني: وهو دليل فقهي يحتاج إليه الإنسان في كثير من التعليلات - يعني: على منواله - التعليل يقول الفقهاء: ((أن المنفعة المحرمة المطلوب شرعاً إبطالها وإتلافها واستئجارها عكس هذا المطلوب. طبيعي أن حكم استئجار المحرمات ظاهر للعامي والعالم. لكن هذا التعليل يساعد في معرفة مسائل أخرى ويدرب الذهن على كيفية تعليلات الفقهاء للأحكام الفقهية التفصيلية.
نأتي للأمثلة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.
- قال - رحمه الله -:
- كالزنا.
لا يجوز الاستئجار لمعصية الزنى بالإجماع. والمال المكتسب في هذا العمل سحت وهو من أكل المال بالباطل. وأمره أوضح من أن يبين.
- قال - رحمه الله -:
- والزمر.
الزمر. هو استخدام آلة المزمار. فلا يجوز استئجار من يستخدم أو استئجار نفس الآلة للاستخدام وهذا الاستئجار محرم وهو سحت ومن أكل المال بالباطل نسأل الله العافية والسلامة.
ولو أن المؤلف - رحمه الله - قال بدل الزمر: (وآلة الطرب) لكان أجمل وأوسع لأن هذا الحكم لا يختص بالمزمار وإنما يتناول جميع آلات الطرب فكلها محرمة وتحريمها مغلظ.
- قال - رحمه الله -:
- والغناء.
المقصود بالغناء هنا أحد أمرين:
(4/260)
________________________________________
- إما الغناء المصاحب لآلات اللهو والطرب. فهذا محرم عند جماهير السلف والخلف والخلاف فيه شاذ ولا عبرة به. وذلك لوضوح النصوص الصريحة وفتاوى الصحابة الواضحة ولاشك في أن الغناء محرم وأن الخلاف فيه شاذ.
- القسم الثاني من الغناء: الغناء الذي لا يصاحب آلات اللهو ويكون محرماً لما فيه من الألفاظ المحرمة.

- قال - رحمه الله -:
- وجعل داره كنيسة.
لا يجوز تأجير من أراد أن يتخذ الدار كنيسة في بلاد المسلمين. وهو محرم.
وتقدم معنا في كتاب الجهاد الإجماع على تحريم إنشاء الكنائس في بلاد المسلمين. - نحن نتحدث عن إنشاء الكنائس فهذا محرم بالإجماع.
بناء عليه: لا يجوز أن نؤجر الدار لشخص يريد أن يتخذها كنيسة وذلك للإجماع على التحريم ولأن في هذا تمكين لهم بالشرك لأن الكنائس تتخذ للشرك والتثليث.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو لبيع الخمر.
لا يجوز أن نستأجر آلة لبيع الخمر أو لنقل الخمر.
والأجرة محرمة. لأن في هذا أعظم إعانة على المنكر وهو شرب الخمر.
بناء على هذا: لا يجوز للإنسان إذا كان في غير بلاد المسلمين أن يتقبل العقود التي فيها نقل للخمور.
وروي عن بعض الأئمة أنه إذا كان ينقل الخمر للذمي فلا بأس.
وأنا أنزه هذا الإمام عن أن تروى عنه هذه الفتوى وأعتقد جازماً كما قال بعض الفقهاء المتأخرين أنها فتوى خطأ - يعني: منسوبة إليه خطأ. لأن نقل الخمر للمسلم والذمي هو كذلك من الإعانة على المعصية لأنا نرى أن المسلم والذمي كلاهما لا يجوز له أن يشرب الخمر.
على كل حال نقل الخمر محرم والأجرة عليه فاسدة.
- قال - رحمه الله -:
- وتصح: إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه.
تصح إجارة الحائط لوضع أطراف الخشب عليه.
- لأن هذا النفع نفع معلوم.
ولكن يتشرط لصحة استئجار الحائط معرفة المدة.
وظن بعض الفقهاء أنه لا يشترط عند الحنابلة معرفة المدة في وضع الخشب على جدار الحائط والواقع أنها تشترط.
وصرح بهذا الحكم غير واحد من الحنابلة: أنه يشترط لصحة هذه الإجارة معرفة مدة استئجار الحائط لوضع الخشب فيه.
والمؤلف - رحمه الله - مقصوده باستئجار الحائط لوضع الخشب فيه: أي: في الحالات التي لا يجب على الجار أن يبذل جداره لجاره.
(4/261)
________________________________________
فإن وجب عليه فإنه يحرم عليه أخذ الأجرة.
- قال - رحمه الله -:
- ولا تؤجر المرأة نفسها: بغير إذن زوجها.
لا يجوز للمرأة أن تؤجر نفسها بغير إذن زوجها بل يشترط لصحة العقد إذن الزوج.
وتعليل ذلك:
- أن في تأجير المرأة نفسها للغير تفويت لحقوق الزوج وتفويت لمصالحه فلا يجوز إذن.
وعلم من تعليل الحنابلة وغيرهم من الفقهاء: أنها إذا أجرت نفسها على وجه لا تخل به بحقوق الزوج فإنه لا يشترط رضى الزوج.
فإذا أبرمت عقد إجارة لعمل شيء داخل المنزل لا يفوت حقوق وحظوظ الزوج فإنه لا يشترط رضا الزوج والمال ملكها لها أن تتصرف فيه كما شاءت.
تبين معنا الآن أن طلب الزوجة الوظيفة خارج البيت إما للتدريس وإما وظيفة في أي دائرة أخرى أنه يشترط فيه رضى الزوج لأنه لا يمكن ان تخرج للتدريس أو للعمل أو لأي عمل آخر طيلة الصباح إلا مع تفويت لبعض حقوق الزوج إما فيما يتعلق بالبيت أو فيما يتعلق بالأولاد أو فيما يتعلق بالزوج نفسه.
فإذاً يشترط للعمل الخارجي أن يرضى الزوج. أما العمل الداخلي فهو ينقسم إلى قسمين:
- إن كان يضر بحقوق الزوج فإنه لابد من رضاه.
- وإن كان لا يضر فإنه لا يشترط رضاه.
فصل
[في أحكام العين المؤجرة]
- قال - رحمه الله -:
- فصل.
- ويشترط في العين المؤجرة (1) معرفتها برؤية أو صفة: في غير الدار ونحوها.
عقد المؤلف - رحمه الله - هذا الفصل لبيان شروط العين المؤجرة وهي خمسة.
وهذا نظير ما تقدم معنا في البيع. حيث تحدث أولاً عن الثمن ثم تحدث عن السلعة كذلك هنا تحدث عن الأجرة ثم سيتحدث عن العين المؤجرة.
الشرط الأول: معرفة العين المؤجرة. والمعرفة تحصل بأحد طريقين:
- إما الرؤية.
- أو الصفة.
فتشترط الرؤية في كل عين لا يمكن أن توصف وصفاً دقيقاً. ونكتفي بالوصف في كل عين يمكن أن توصف وصفاً دقيقاً.
ولذلك: عبارة المؤلف - رحمه الله - معناها: - لاحظ معي - (معرفتها برؤية.) انتهى الكلام (أو صفة: في غير الدار ونحوها)
- ((معرفتها برؤية.) ثم تتوقف (أو صفة: في غير الدار ونحوها)) - يعني: أنه في الدار ونحوها لا نكتفي بالوصف وإنما نشترط مع لذك الرؤية لأنه لا يمكن أن توصف.
(4/262)
________________________________________
إذاً: في غير الدار ونحوها يعود إلى الصفة أو الرؤية؟ يعود إلى الصفة.
إذا عرفنا - قبل أن نذكر القول الثاني - أن مذهب الحنابلة هو: أنه يشترط في العين المؤجرة أن تعرف برؤية أو بصفة وعرفنا متى نشترط الرؤية.
وأنه إذا أجرت بغير معرفة من خلال الرؤية أو الصفى فالعقد باطل. لأن معرفة العين المؤجرة: شرط.
= القول الثاني: أنه لا يشترط لا الرؤية ولا الصفة ثم إذا رأى المستأجر العين فهو بالخيار إن شاء أمضى العقد وإن شاء رده.
وهذا القول الثاني هو الراجح وتقدمت المسألة في شروط المبيع.
بقينا في مسألة/ دل كلام المؤلف - رحمه الله - أن البيت ونحوه مما لا يعرف بالصفة. وهذا صحيح. إذا أراد الإنسان أن يستأجر بيتاً فإنه لايمكن أن يكتفي بالصفة مهما وصف البيت وصفاً دقيقاً.
وهذا الحكم أنه لا يكفي بالنسبة لمعرفة الإنسان للبيت الوصف. يدل عليه الشرع. ويدل عليه الواقع.
ولهذا تجد - أنت نفسك - أنه يوصف لك مكان للسكن وصفاً دقيقاً مبالغاً فيه ثم إذا حضر الإنسان للبيت وجد أن معرفته للبيت تختلف تماماً عن الوصف, وهذا مشاهد ومجرب.
فقول الحنابلة: أن البيت من الأعيان التي لا يكتفي فيها بالوصف: صحيح. ولابد من الرؤية هذا على القول الأول.
وعلى القول أنه لا يشترط لا الرؤية ولا الصفة والإنسان بالخيار له أن يجري العقد ثم إذا أجراه ورأى البيت فهو بالخيار.
-
قال - رحمه الله -:
- (2) وأن يعقد على نفعها دون أجزائها.
يشترط في العين المؤجرة أن ينتفع بها بلا إتلاف.
أي: ينتفع بنفعها من غير إتلاف للأجزاء.
إذاً القاعدة أنه لا يصح أن نستأجر ما لا ينتفع به إلا بإتلافه.
الدليل:
- قالوا الدليل: أن عقد الإجارة يقع على المنفعة والانتفاع بالأجزاء انتفاع بالعين لا بالمنفعة.
وهذه المسألة وهي أنه يشترط أن يحصل العقد على نفع العين لا على أجزائها صحيح في الجملة.
وسيأتينا في أفراد المسائل الخلاف في بعضها من المسائل التي تندرج تحت هذه القاعدة.
- قال - رحمه الله -:
- فلا تصح: إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله.
هاتان مسألتان:
ـ المسألة الأولى/ أن يستأجر الطعام ليأكله أو الشمع ليشعله.
= فعند الحنابلة: العقد باطل.
(4/263)
________________________________________
- لأن العقد وقع على أجزاء العين لا على نفعها.
ولهذا تجد أن المؤلف - رحمه الله - يقول في عبارته: (فلا) يعني: ان الحكم مترتب على القاعدة السابقة.
= القول الثاني: انه يجوز أن يستأجر الشمع ليشعله بأن يقول كل أوقية بدرهم.
ويعتبر العقد حينئذ عقد معاوضة غير لازم.
فلا هو بيع ولا هو إجارة.
فليس من باب الإجارات ولا من باب البيوع. بل بينهما: عقد معاوضة لكن غير لازم.
قال أصحاب هذا القول: وليس في الشرع ما يمنع من تصحيح هذا العقد. وليس من باب الإجارات.
وهذا القول مصرع في أكثر من موضع شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله -.
ولعلك تلاحظ دائماً أن الشيخ - رحمه الله - ينحى إلى نحو معرفة حقيقة العقد دون التعلق بالاسم. رحظ الآن هنا: يقول: هذا ليس من باب الإجارات ولا من باب البيع وإنما هو عقد بينهما.
وتقدم معنا نظير هذا في كتاب الأراضي التي غنهما المسلمون وأوقفها ولاة الأمر وهو أن الشيخ جعلها بين حكمين.
وهذا كثير عند شيخ الإسلام يحاول أن يعرف حقيقة العقد ويعطيه الحكم المناسب.
هذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله.
لكن أيضاً أقول - لعلك لاحظت شيء - وهو: أن هذا العقد اعتبره الشيخ ليس من باب [الإجارة] إذاً صحيح أن الإجارة لا يعقد فيها على الأجزاء.
يعني: حتى على القول الثاني ونحن نرجح القول الثاني ونرى أن كلام شيخ الإسلام قوي إلا أنا نقول في نفس الوقت أنه دليل أن كلام الحنابلة صحيح لأنه حتى شيخ الإسلام - رحمه الله - أخرجه عن عقد الإجارة.
ويجب أن تلاحظ هذ.
إذاً: قاعدة الحنابلة ما زالت صحيحة لأن الشيخ لم يصحح ويبقيه داخل الإجارة وإنما صححه وأخرجه عن باب الإجارة. إذاً: قاعدة الحنابلة ما زالت صحيحة.
- قال - رحمه الله -:
- ولا حيوان ليأخذ لبنه.
ولا يجوز استئجار الحيوان لأخذ اللبن.
- لأن العقد حينئذ يكون على أجزاء من العين المعقود عليها وهو اللبن.
فاللبن ليس من منافع الحيوان وإنما من أجزاء الحيوان.
إذاً هو مبني على القاعدة السابقة.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نستأحر الحيوان لنأخذ منه اللبن.
واستدل أصحاب هذا القول بدليلين:
(4/264)
________________________________________
- الدليل الأول: القياس على الظئر. تقدم معنا أن الحنابلة يصححون استئجار المرأة لإرضاع الصبي بطعامها وكسوتها.
- الدليل الثاني: أن الأعيان التي تستخلف شيئاً فشيئاً استئجارها ألصق بالإجارة منه في البيوع وتجويزها أقيس.
وجه ذلك: أنه في الإجارة الإنسان تأتيه المنافع تبعاً - تستخلف المنافع تبعاً. ينتفع اليوم ثم غداً .... إلى آخره.
فهو لا يحصل على المنافع في يوم واحد وإنما تأتيه المنافع تباعاً بخلاف البيع. فأنت إذا اشتريت شيء تحصل على المبيع جملة واحدة.
إذاً: هذا العقد ألصق بالإجارات منه في البيوع.
وبناء على هذا: قرر شيخ الإسلام قاعدة وأن كل شيء تأتي منافعه تباعاً شيئاً فشيئاً فهو جائز وهو أقرب إلى الإجارة منه إلى البيوع.
- قال - رحمه الله -:
- إلاّ في الظئر.
يعني: فيجوز لأنه تقدم معنا جواز استئجار الظئر.

- قال - رحمه الله -:
- ونقع البئر وماء الأرض: يدخلان تبعاً.
يعني: للأرض.
فيجوز للإنسان إذا استأجر أرضاً وفيها بئر أو ماء فيجوز للإنسان أن يستأجره بما فيه من منافع.
- لأن القاعدة تقول: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يجوز للإنسان أن يستأجر البئر على سبيل الاستقلال.
لماذا؟ لأنه ينتفع بأجزاء المستأجر لا بنفعه - على قاعدة الحنابلة.
= والقول الثاني: جواز استئجار البئر.
- لأن البئر كذلك منافعه تأتي تباعاً وتستخلف. فاليوم يخرج الماء ثم غداً ثم بعد غد .. إلى آخره. فمنافعه تستخلف.
* * مسألة/ ما حكم أن يستأحر الإنسان جالون ماء لينتفع بالماء الذي فيه؟
لا يجوز. لأن المنفعة في هذه الصورة لا تستخلف.
إذاً: عرفنا الآن ماذا يقصد شيخ الإسلام وكيف نطبق الحكم على المسائل المختلفة.
- قال - رحمه الله -:
- (3) والقدرة على التسليم.
يشترط لصحة استئجار العين: القدرة على تسليم العين.
وهذا الشرط محل إجماع.
وهو مقيس على المسألة التي تقدمت في البيوع وهو القدرة على تسليم المبيع.
وأي فائدة في استئجار عين لا يمكن أن تسلم.
- قال - رحمه الله -:
- فلا تصح إجارة الآبق والشارد.
ولا المغصوب ونحو هذه المسائل:
- لأنه لا يمكن أن يسلم.
(4/265)
________________________________________
وتقدم معنا في البيوع أنه تستثنى مسألة/ وهي: إجارة هذه الأعيان للقادر على تحصيلها.
فكما استثنينا في البيوع كذلك في الإجارة.
فإذا أجر عبده الشارد لمن يستطيع أن يحضره. فلا بأس.
ومن أجر داره المغصوبة لمن يستطيع أن يستخلصها فلا بأس.

- قال - رحمه الله -:
- (4) واشتمال العين على المنفعة.
يشترط أن يكون في العين اشتمال العين على المنفعة.
فإن استأجر عيناً لا منفعى فيها فالعقد باطل.
الدليل: - قالوا: الدليل على ذلك. أن العقد وقع على المنفعة. ولا يمكن تحصيل المنفعة مما لا نفع فيه.
وهذا أيضاً تعليل جميل. وإن كان واضحاً لا يحتاج إلى دليل لكنه من حيث الصنعة الفقهية تعليل جميل.
إذاً: نقول إنه لا يجوز تأجير ما لا نفع فيه. لأنه لا يمكن تحصيل النفع مما لا نفع فيه.
ثم ضرب المؤلف - رحمه الله - أمثلة:
- فقال - رحمه الله -:
- فلا تصح: إجارة بهيمة زمنة للحمل.
عرفنا من المثال: أن قول المؤلف - رحمه الله -: واشتمال العين على المنفعة. عرفنا من المثال: أن المقصود على المنفعة المعقود عليها لا على أي منفعة وإنما على المنفعة المعقود عليها.
وهو أراد بيان ذلك من خلال المثال.
فهل يجوز أن يستأجر الإنسان - يقول المؤلف (البهيمة الزمنة) والغرض منه أن تحمل المتاع؟
لا. لأن المنفعة المعقود عليها غير موجودة لأنها لا تستطيع أن تحمل.
لكن هل يجوز أن يستأجر البهيمة الزمنة لأخذ اللبن منها؟
يجوز. لأن المنفعة المعقود عليها موجودة.
- يقول - رحمه الله -:
- ولا أرض لا تنبت للزرع.
يعني: ولا يجوز أن تستأجر أرضاً لا تنبت لتزرع فيها.
- لأن هذه العين المستأجرة لا نفع فيها. أي: النفع المعقود عليه.
فإذا أراد أن يستأجر الأرض التي لا تنبت للبناء: صحت الإجارة.
- قال - رحمه الله -:
- وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها.
يشترط أن تكون المنفعة المعقود عليها للمؤجر أو مأذون له فيها.
تعليل ذلك: - أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف إلا في ملكه أو فيما وكل فيه.
وتقدم معنا خلاف في نظير هذه المسألة وهو: تصرف الفضولي.
فنقول هنا كذلك: إذا تصرف نصرفاً فضولياً وأجر منزل غيره فإن أجاز المالك صحت الإجارة وإلا فلا.
- قال - رحمه الله -:
(4/266)
________________________________________
- وتجوز إجارة العين: لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضرراً.
تجوز إجارة العين المستأجرة ..
((الأذان)) ..
(4/267)
________________________________________
إذاً: الحنابلة يرون أنه يجوز للإنسان أن يؤجر ما استأجر. بشرط: أن لا يكون المستأجر الثاني أكثر ضرراً من الأول.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يجوز للمستأجر أن يؤجر بمثل أو بأكثر من الثمن الذي استأجر به.
وهو كذلك. وهو مذهب الحنابلة: أنه يجوز أن يستأجر بمثل أو بأكثر.
الدليل:
استدل الحنابلة:
- بأنه ملك المنفعة ومن ملك المنفعة جاز له أن يتصرف فيها.
= القول الثاني: أنه لا يجوز للإنسان أن يؤجر ما استأجر. فإن فعل فإن العقد باطل.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن.
والجواب على هذا الاستدلال: أنه لم يرح فيما لم يضمن بل ربح فيما ضمن لأن منفعة البيت دخلت في ضمانه ولو أنه لم ينتفع بالبيت مثلاً إلى انتهاء وقت الإجار لضاعت عليه هذه المنفعة.
فهي أيضاً من ضمانه.
* * مسألة/ يجوز للمستأجر أن يؤجر قبل القبض وبعد القبض.
وجه ذلك: أن المنافع المستأجرة تدخل في ضمان المستأجر مباشرة ولو قبل القبض بخلاف البيع فإن السلعة لا تدخل في ضمان المشتري إلا بعد القبض. فاختلفت الإجارة عن البيع في هذه المسألة.
فتحصل معنا أنه الراجح جواز تأجير المستأجر بأكثر أو بمثل الثمن قبل أو بعد القبض.
فالأمر واسع عند الحنابلة في هذه المسألة ومذهبهم هو الصحيح إن شاء الله.
- قال - رحمه الله -:
- وتصح إجارة الوقف.
تصح إجارة الوقف من الموقوف عليه.
- لأنه ملك المنفعة. ومن ملك المنفعة جاز له أن يتصرف فيها.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخرى:
- فقال - رحمه الله -
- فإن مات المؤجر فانتقل إلى من بعده: لم تنفسخ.
يعني: إذا مات الموقوف عليه وانتقل الوقف إلى من بعده لم تنفسخ.
وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنها لم تنفسخ مطلقاً.
والمذهب بخلاف هذا الإطلاق.
المذهب فيه تفصيل وهو كالتالي:
(4/268)
________________________________________
ـ إن كان المؤجر هو الناظر سواء كان الناظر أجنبياً أو هو الموقوف عليه لكنه هو الناظر فإنه إذا أجر ومات لم تنفسخ الإجارة لأنه تصرفه هنا بموجب الولاية ومن تصرف بموجب الولاية فإن من بعده لا ينقض تصرفه.
ـ وإن كان المؤجر هو الموقوف عليه - المستحق - فإنه إذا مات انفسخت الإجارة. لماذا؟ قالوا: لأنه تبين أنه أجر ملكه وملك غيره.
فإن الوقت بعد الموقوف عليه الأول ملك للموقوف عليه الثاني.
= والقول الثاني: أنها لا تنفسخ مطلقاً يعني كما ذكر المؤلف - رحمه الله -.
والذي يظهر لي أن الراجح هو القول الثاني وهو أنها لا تنفسخ مطلقاً. والسبب: أنه سيأتينا أن عقد الإجارة لا ينتقض بموت أحجد العاقدين. ولم أر خلافاً - أو فارقاً بين هذه المسألة بعد التأمل والمسألة التي ستأتينا في موت أحد العاقدين.
(4/269)
________________________________________
الدرس: (36) من البيع

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس حكم ما إذا مات الموقوف عليه الذي أجر وأن ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنها لا تنفسخ.
وذكرنا ما يتعلق بهذه المسألة.
- ثم يقول - رحمه الله -:
- وللثاني حصته من الأجرة.
يعني: أن من انتقل الوقف إليه له حصته من الأجرة. وهي التي تبدأ من الوقف ..... فحينئذ يرجع على الورثة.
- ثم قال - رحمه الله -:
- وإن أجر الدار ونحوها مدة معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها: صح وإن استأجرها لعمل ... إلى آخره.
المؤلف - رحمه الله - بدأ ببيان أن العين المؤجرة لا تخرج إما أن تؤجر على مدة أو أن تؤجر على عمل.
فاستئجار البيت على مدة. واستئجار العامل على عمل.
واستئجار العامل لعمل كذلك: إما أن يحدد بمدة أو أن يحدد بالمعمول فيه كأن يقول: احرث هذه الأرض من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر. حددت بالمدة.
النوع الثاني: أن يقول: احرث هذه الأرض من هنا إلى هنا. ولم يحدد له وقتاً. فحينئذ صارت الأجرة على المعمول فيه.
(4/270)
________________________________________
نبدأ بالمدة كما بدأ المؤلف - رحمه الله - بالمدة.
- قال - رحمه الله -:
- وإن أجر الدار ونحوها مدة معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها: صح.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أن الحنابلة يرون جواز التأجير لمدة طويلة. ولو طالت جداً بشرطين:
- أن تكون المدة معلومة.
- وأن يغلب على الظن بقاء العين في هذه المدة.
إذا تحقق الشرطان فإن الحنابلة لا يرون بأساً من طول مدة الإجارة مهما طالت.
واستدلوا على هذا: - بأن الإجارة لمدة طويلة لا تخرج عن مفهوم الإجارة فهي نفع معلوم في مدة معلومة فتندرج ضمن النصوص الدالة على مشروعية الإجارة.
= والقول الثاني: أنه لا تجوز الإجارة لمدة طويلة.
ثم اختلف أصحاب هذا القول في تحديد المدة التي يجوز أن تؤجر الدار ونحوها إليها. واضطربوا اضطراباً لا ضابط له وأشبه ما تكون أقوالهم بالتحكم بلا دليل.
ـ فمنهم من يقول: سنة.
ـ ومنهم من يقول: ثلاث سنوات.
وهذا تحكم بلا دليل واضطراب ضابط القول علامة على ضعفه.
بناء على هذا: نقول الراجح إن شاء الله: مذهب الحنابلة.
واليوم أصبحت التأجير لمدة طويلة من أبرز عناصر التجارة لأنه لا يستطيع أن ينتفع من المستأجر إلا إذا كانت المدة طويلة.
- وقول المؤلف - رحمه الله -:
- وإن استأجر داراً أونحوها.
لا يريد المؤلف - رحمه الله - تخصيص الحكم الدار بل له أن يستأجر آدمياً لمدة طويلة. كأن يستأجر خادماً لمدة عشرين سنة. فلا حرج.
وإنما نص على الدار لأن الغالب في استئجار المدد الطويلة أن تكون في الدور فلذلك نص عليها وإلا لو استأجر الإنسان سيارة أو آدمي أو دابة وتحقق الشرطان فلا بأس.
فإن استأجر حماراً لمدة مائة سنة: جاز أو منع؟ منع. لأنه لا يغلب على الظن بقاء هذا الشيء إليه.
وإ استأجر سيارة لمدة قرن؟ لا يجوز. وهكذا.
كذلك إذا لم يحدد: قال استأجرت منك هذه الدار مدة طويلة:
= فعند الحنابلة وغير الحنابلة العقد باطل.
في الحقيقة أجاد الحنابلة في أحكام الإجارة من وجهة نظري عندهم في نفس الوقت انضباط وتوسيع.
انهينا من المدة وانتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الاستئجار على العمل.

- فيقول - رحمه الله -:
(4/271)
________________________________________
- وإن استأجرها لعمل كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث أو دياس زرع، أو من يدلّه على طريق: اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف.
العبارة تكون أوضح إذا قلت: (وإن استأجرها لعمل اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف). فحينئذ ذكر الحكم والضابط.
إذاً: إذا استأجر العين لعمل معين اشترط: أن يضبط هذا العمل. وأن يعرف معرفة دقيقة.
والدليل على هذا:
- أنه تقدم معنا أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات. وعقود المعاوضات يجب أن يكون طرفي العوض معلوماً محدداً. وهنا الطرف المال والطرف الآخر العمل. فيجب أن يكون العمل واضحاً محدداً منضبطاً بصفات لا تختلف من المستأجر إلى المؤجر أو من المؤجر إلى المستأجر.
إذاً: يجب أن يضبط هذا العمل ضبطاً دقيقاً.
ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - بعد القاعدة الأمثلة:
- فيقول - رحمه الله -:
- كدابة لركوب إلى موضع معين.
إذا استأجر دابة يجب أن يبين هل استأجر الدابة ليركب هو أو ليحمل عليها متاعاً آخر.
ويجب أن يبين إلى أين سيذهب بها.
وإذا بين إلى أي مكان سيذهب بها فيجب أن يبين وعورة الطريق من عدمها إذا كان المؤجر لا يعرف الطريق.
والخلاصة: يجب أن يبين كل كا يتعلق بهذا النقل.
- قال - رحمه الله -:
- أو بقر لحرث.
إذا استأجر البقر للحرث فبديهي أنه من أول الأشياء التي يجب أن تعلم: المساحة. كم سيحرث من الأرض؟
ثم إذا عرف يجب أن يعرف قساوة الأرض أو كون الأرض سهلة. بعد المكان من مكان الاستئجار وقربه وسهولة القيام بمنافع الدابة عند الحري وعدمه.
المهم يجب أن يبين كل ما يتعلق بهذا الأمر.
- قال - رحمه الله -:
- أو دياس زرع.
إذا أراد أن يستأجر لدياس زرع يبين أول مايبين: الكمية.
إذاً رقم واحد في البيان أن يبين كمية الزرع لأنه عليه المعول.
ثم يبين المكان الذي فيه دياسه وسهولته ووعورته وكون الزرع حديث الحصاد أو قديم الحصاد. ويبين كل ماله أثر في العمل.
- ثم قال - رحمه الله -:
- أو من يدله على الطريق.
إذا استأجر من يدله على الطريق: إما أن يدله بالوصف.
(4/272)
________________________________________