المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح زاد المستقنع - جزء ثالث


gogo
10-22-2019, 09:58 AM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: شرح زاد المستقنع
المؤلف: أحمد بن محمد بن حسن بن إبراهيم الخليل
عدد الأجزاء: 6
[الكتاب مرقم آليا]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذه المسألة وهي: ترتيب الأجناس الثلاثة الرجال والنساء والصبيان إذا اجتمعوا تقدم أني ذكرت (فيها) القول الأول وبينت تقسيم الحنابلة وغير الحنابلة لهم.
وهو على وجه الإجمال والإيجاز وتقدم:
أنه: إما أن يحضروا جميعاً - أي الرجال والنساء والصبيان -.
أو يحضروا متفاوتين.
فإن حضروا جميعاً في وقت واحد فالترتيب كما قال المؤلف: يكون الرجال في المقدمة ويليهم الصبيان ثم يليهم النساء.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى).
- ولأنه لو عرض للإمام عارض فإن وجود الرجال العارفين بالأحكام خلفه أدعى لتكميل النقص.
والقسم الثاني: إذا حضر الصبيان قبل الرجال:
= فعند الحنابلة أيضاً يقدم الرجال ويؤخر الصبيان - أي: يرجعون من مكانهم في الصف الأول إلى الصف الثاني - وهذا هو مذهب الحنابلة.
وتقدم معنا أنهم استدلوا بدليلين:
الدليل السابق: وهو عموم (ليليني منكم) وهذا يشمل ما إذا حضر الرجال أولاً أو حضر الصبيان أولاً.
واستدلوا أيضاً بأن أبي بن كعب - رضي الله عنه - حضر متأخراً ونظر في وجوه الصف الأول فرأى صبياً فأخره وقال: عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا أن يليه الكبار أو أولي الأحلام.
فاستدل هؤلاء بهذين الدليلين. وهذا كله تقدم.
ثم نقول:

= والقول الثاني: في هذه المسألة - في القسم الثاني -:
أنه إذا حضر الصبي قبل الرجل فإنه يبقى في مكانه وهو أحق به من الرجل.
وإلى هذا مال الشيخ الفقيه ابن مفلح رحمه الله وغيره من المحققين.
واستدلوا: بأدلة:
الأول: أن الصحابي الجليل عمرو بن سلمة - رضي الله عنه - جعله قومه إماماً ولأن يكون في الصف الأول أولى من أن يكون إماماً.
الثاني: استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس).
والثالث: أن في إبعاد الصبي تنفيراً له عن الصلاة.
وهذا القول هو الصواب بشرط أن لا يغلب على الصف الأول الصبيان - بأن لا يكونوا أغلبية.
فإن كان في الصف الأول صبي أو اثنان أو أكثر فإنه لا يجوز لأحد أن يقوم بتأخيرهم عن مكانهم في الصف الأول إلى الصف الثاني.
(2/93)
________________________________________
تنبيه: قول الفقهاء: الرجال ثم الصبيان ثم النساء. لا يعني هذا أن نجعل جميع الصبيان في الصف الذي يلي الرجال لأنه سيترتب على هذا بلا شك أن يعبث الصبيان وأن يفسدوا الصلاة على المصلين لكن لعل مقصود الفقهاء أن الصف الأول يكون فيه الرجال ثم يتخلل الصبيان الصفوف بعد ذلك وإلا بلا شك لو جعلنا جميع الصبيان في الصف الأخير بعد الرجال لصار في المسجد من اللغط والتشويش شيءٌ لا يعلمه إلا الله كيف وهم الآن يشوشون على الناس وهم متفرقون فكيف إذا اجتمعوا وخلا لهم لجو.
إذاً يجب أن لا نأخذ كلام الفقهاء أخذاً جامداً وإنما يُعْلَم أنهم رحمهم الله يدورون مع المصالح وليس من المصلحة أن يبقى الصبيان مجتمعين في الصف الأخير.
• قال رحمه الله:
ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء.
تكلمنا عن الرجال والصبيان.
أما النساء فلا إشكال ولا نزاع أنهن يكن بعد الرجال والصبيان.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير صفوف النساء آخرها).
ولما تقدم معنا من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صف إماماً وجعل خلفه أنس واليتيم وفي الصف الثالث أم سليم. فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الصبيان.
وهذا المقدار لا شك فيه ولا نزاع فيه بين الفقهاء ولله الحمد.

ثم قال رحمه الله:
كجنائزهم.
يعني أن هذا الترتيب يكون في صفوف الصلاة في الفرائض وأيضاً في الجنائز في موضعين:
في صلاة الجنازة: فيكون المقدم مما يلي الإمام الرجال ثم يليه الصبيان ثم يليه النساء.
وأيضاً هذا الترتيب يكون في القبور ففي القبور يكون التقديم مما يلي القبلة عكس الإمام فيكون أو ميت يلي القبلة رجل ثم يليه الصبي ثم تليه المرأة وسيأتينا تفصيل ذلك وهل يجوز أن يقبر في القبر أكثر من ميت أو لا؟ لكن في الحال التي يجوز فيها أن يقبر في القبر أكثر من ميت فيرتبون كترتيبهم في صلاة الجماعة وكترتيبهم في صلاة الجنازة.
ثم بدأ المؤلف بمجموعة مسائل يعتبر من صلى فيها فذَّاً:
• فقال رحمه الله:
ومن لم يقف معه - إلاّ كافر ... ففذ.
أي إذا لم يقف مع الرجل إلا رجل آخر كافر فهو فَذٌّ.
(2/94)
________________________________________
ومعلوم أن الحنابلة يرون أن صلاة الفذ باطلة والسبب في ذلك أن وجود الكافر كعدمه إذ أن مصافة الكافر لا تصح بالإجماع.
وهذا الحكم وهو: أنه إذا صف مع رجل كافر فهو يعتبر فذاً أجمع عليه أهل العلم إذا كان مع العلم. يعني إذا كان من صف مع الكافر يعلم أنه صف مع كافر فهذا محل إجماع ولا يفعل مثل ذلك إلا متلاعب.
القسم الثاني: أن لا يعلم المأموم أن مصافه كافر لأي سبب من الأسباب.
= فالجماهير أيضاً يرون أن صلاته كصلاة الفذ. أي أنها لا تصح.
= والقول الثاني: أن صلاته صحيحة لأنه معذور بعدم العلك بكون من صافه كافر.
وهذا القول الثاني: أقرب لأن من صاف الكافر وهو لا يعلم معذور والله سبحانه وتعالى وضع الإثم والجناح عن المعذور. وهو من جنس الخطأ المعفو عنه شرعاً.
وقل ما يقع مثل هذا إلا في أحوال المرتد ففي حالات المرتد قد يقع أن يصاف الإنسان مرتداً وهو لا يعلم أنه من المرتدين فحينئذ حكمه عند الجمهور أنه كالفذ والقول الثاني أن صلاته صحيحة.
• قال رحمه الله:
أو امرأة.
أي إذا لم يقف مع الرجل إلا امرأة واحدة فحكمه حكم صلاة المنفرد.
والتعليل:
أن المرأة ليست من أهل المصافة.
لأنها لا تصح إمامتها فلا تصح مصافتها.
= والقول الثاني: أن صلاته صحيحة ولا يعتبر منفرداً لأنه صلى مع من يصلي الفريضة صحيحة فالمرأة تصلي الفريضة صحيحة.
ونحن نتكلم الآن عن مسألة: هل تصح الصلاة؟ وهل يعتبر منفرداً أو لا؟ فلسنا نتكلم عن حكم أن تصف المرأة بجوار الرجل فهذه مسألة أخرى.
لكن الكلام الآن عن إذا صفت المرأة وقلنا أن مصافة المرأة مع الرجل مكروهة أو محرمة فيبقى النظر هل الصلاة صحيحة؟ أو لا؟.
= فعند الحنابلة يعتبر منفرداً وصلاته باطلة. لأن مصافة المرأة لا تصح لا لأنها وقفت بجانبه امرأة.
= والقول الثاني: أن صلاته صحيحة لأنه وقف بجانب من صحت صلاته.
وفي الحقيقة أنا أميل إلى مذهب الحنابلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثين جعل المرأة خلف الصف فكأنه لا يصح للمرأة وقوف بجانب الرجل أي أنها لا تنفي عنه الانفراد.
(2/95)
________________________________________
بناءً على هذا ما نراه أحياناً في المسجد الحرام من أن بعض الناس يتأخر عن الصفوف ويصلي بجوار زوجته فهذا عند الحنابلة صلاته لا تصح لأنه بغض النظر هل المرأة من محارمه أو لا؟ وهل يجوز أن تقف بجانبه أو لا؟ فإن مصافة المرأة غير معتبرة عند الحنابلة فيعتبر كأنه صلى منفرداً ومن صلى منفرداً فصلاته باطلة.
وعرفنا القول الثاني.
المسألة الأخرى: إذا وقفت المرأة بجوار عدد من الرجال فالآن زالت مسألة الانفراد فنبقى في: هل تصح صلاتها وصلاتهم أولا؟
= عند الحنابلة تصح صلاتها وصلاتهم بهذه الصورة الثانية وهي ما إذا وقفت امرأة بجانب عدد من الرجال فهنا زال الانفراد وعليه رأى الحنابلة أن صلاتهم صحيحة.
واستدلوا على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وبجواره عائشة رضي الله عنها في غرفته وكانت تقف بجواره وهي ليست في عباده فلأن نصحح صلاة الرجل إذا وقفت بجواره امرأة للعبادة من باب أولى.
هكذا استدلوا وما ذكروه يعتبر صحيحاً فإذا صلت المرأة بجوار عدد من الرجال فصلاتها وصلاتهم صحيحة أن الانفراد زال وكون المرأة تقف بجوار الرجل فهذا لا يؤدي إلى بطلان الصلاة.
• ثم قال رحمه الله:
ومن لم يقف معه إلا .. من علم حدثه أحدهما .. ففذ.
إذا وقف رجلان أحدهما محدث فعبارة المؤلف دلت على أنه يندرج تحت هذه المسألة عدة صور:
الصورة الأولى: أن يعلم كل منهما حدث أحدهما: فحينئذ تبطل صلاة الإثنين:
- أما المحدث فلأنه محدث.
- وأما الآخر فلأنه صلى منفرداً عالماً.
الصورة الثانية: أن يجهل كل منهما حدث المحدث: فالحكم أن صلاة المحدث باطلة - بلا إشكال - وصلاة من معه: = عند الحنابلة أيضاً باطلة لأنه: صلى بجوار من لم تصح صلاته.
= والقول الثاني: أنه في هذه الصورة صلاته صحيحة. والسبب أنه معذور إذ لا يعلم أن من بجواره محدث.
الصورة الثالثة: أن يعلم المحدث بحدثه دون من بجواره فحكمها: نفس حكم الصورة السابقة تماماً.
= فعند الحنابلة يرون أن صلاته ليست بصحيحة.
= والقول الثاني: أن صلاته صحيحة للعذر إذ الإنسان يعذر بكونه لا يعلم أن من بجواره محدث.
الصورة الرابعة: إذا علم غير المحدث دون المحدث ففي هذه الصورة تبطل صلاة الإثنين:
(2/96)
________________________________________
- أما المحدث فلأنه محدث.
- وأما من علم فلأنه صلى منفرداً عمداً.
ويتصور ذلك:
أن يعلم أن من بجواره أحدث ثم ينسى المحدث ويبقى الآخر متذكراً فحينئذ صار أحدهما يعلم والمحدث لا يعلم.
وهناك صورة أخرى: أن يأتي المحدث بناقض للوضوء يجهل أنه من نواقض الوضوء ويعلم الآخر أنه من نواقض الوضوء: يعني: المتفق عليها فحينئذ تصح هذه الصورة الرابعة وعلمنا أن حكمها بطلان صلاة الاثنين.

ثم قال رحمه الله:
أو صبي - في فرض: ففذ.
يعني أن من صلى بجوار صبي في فرض فإنه يعتبر منفرداً وصلاته باطلة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف).
= وهذه المسألة من مفردات مذهب الحنابلة.
ودليلهم: قالوا: أن الصبي لا تصح إمامته في الفريضة فلا تصح مصافته. فكأن القاعدة عندهم أن من لا تصح إمامته لا تصح مصافته.
والرد على هذا الدليل: من وجهين:
الوجه الأول: ما تقدم معنا أن الصواب أن الصبي تصح إمامته.
الوجه الثاني: أن هذه القاعدة منقوضة بصور كثيرة حتى عند الحنابلة: منها: الأخرس فإن إمامته لا تصح لكن هل تصح مصافته؟ نعم بالإجماع حتى عند الحنابلة فهذه الصورة تخرق عليهم هذه القاعدة ففي الحقيقة مذهب الحنابلة في هذه المسألة ضعيف.
= القول الثاني: أنه تصح مصافة الصبي في الفريضة والنافلة.
والدليل ما تقدم معنا من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه صاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر لما صلى هو بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلت أمه خلفهما.
ففي هذا الحديث أن أنساً - رضي الله عنه - صف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصافته.
فإن قيل: أن هذا في النفل.
فالجواب: أن القاعدة الصحيحة تقول: أن ما صح في النفل صح في الفرض إلا بدليل خاص يستثني الفريضة أو يستثني النافلة وإلا فالأصل تساوي الفريضة والنافلة في جميع الأحكام.
وبهذا نعلم أن مصافة الصبي على الصواب صحيحة ولا يعتبر من صاف الصبي منفرداً.
نأتي إلى مسألة أخرى وهي: إذا أردنا أن نقرر مذهب الحنابلة ونقول: أن مصافة الصبي لا تصح: ماذا يصنع من لم يجد إلا صبياً؟
قالوا: عليه:
(2/97)
________________________________________
أن يصف هو والصبي عن يمين الإمام فإن صف هو والصبي خلف الإمام بطلت صلاته.
أو يصف هو والصبي أحدهما عن يمين الإمام والآخر عن يساره.
وبهذا تخلصوا من قضية أن يصلي منفرداً وكذلك تخلصوا من قضية أن يصلي - مثلاً - الصبي بغير جماعة فالآن هم صلوا جماعة وانتفت الفردية وأنه صلى منفرداً خلف الصف.

ثم قال رحمه الله:
ومن وجد فرجة: دخلها.

لما قرر المؤلف رحمه الله أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة أراد أن يبين ماذا يصنع من جاء فوجد الصف قد امتلأ. لأنه إن صلى خلف الصف منفرداً بطلت صلاته فاحتاج إلى تصرف شرعي يقضي على هذه المشكلة.

فرتب المؤلف رحمه الله الحل على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يجد فرجة في أثناء الصف (واعلم أن هذا الترتيب مقصود بمعنى أنه لا يوجد انتقال إلى مرتبة قبل التأكد من عدم وجود المرتبة التي قبلها فمن وجد فرجه فإنه لا يذهب ليصلي عن يمين الإمام ومن وجد مكاناً عن يمين الإمام فإنه لا يجوز له أن يجذب أحداً من الصف).

إذاً قال:
ومن وجد فرجة دخلها:
الفرجة هي المكان الفارغ في الصف والمكان الفارغ في الصف يعتبر خللاً فإذا جاء الإنسان ووجد فرجة فإنه يدخل في هذا الصف لأمرين:
الأمر الأول: أن لا يصلي منفرداً.
والأمر الثاني أن يسد هذا الخلل.
والدليل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتسوية الصفوف وسد الخلل وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تصفون كما تصف الملائكة قالوا يارسول الله كيف تصف الملائكة؟ قال: يعبون الصف الأول فالأول).
فلأجل هذا الحديث ولغيره من الأحاديث الكثيرة التي بلغت حد الشهرة والتي فيها الأمر بتسوية الصفوف وسد الخلل قلنا لمن جاء والصف فيه خلل أنه يدخ ويسد هذا الخلل.

وهذه المرحلة لا إشكال فيها أنه: إذا جاء ووجد فتحة أو فرجة أو خللاً في الصف فإنه يدخل في هذا الصف.

ثم قال رحمه الله:
وإلاّ عن يمين الإمام.
يعني: وإلا يجد فرجة فإنه يصف عن يمين الإمام.
فإذا لم يجد مكاناً في الصف فإنه يتخطى الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام ويقف عن يمين الإمام.
(2/98)
________________________________________
الدليل: قالوا: الدليل على هذا العمل أن يمين الإمام موقف إذا لم يكن إلا مأموم واحد فيكون موقفاً إذا لم يجد المأموم الواحد مكاناً في الصفوف.
ولأنه إن لم يفعل هذا صلى منفرداً وأدى هذا إلى بطلان صلاته.
= والقول الثاني: أنه لا يتقدم ليصلي عن يمين الإمام. وسيأتينا ماذا يصنع؟
لكن نحب الآن أن نقرر فقط أنه ليس من الحلول أن يتقدم ويصلي بجوار الإمام.
والسبب من عدة أوجه:
أولاً: أن هذا لا يعلم أنه حدث في العهد النبوي إلا مرة واحدة لها حكم خاص وهو حينما أوتي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر أو صلاة العصر وكان يؤم الناس أبو بكر - رضي الله عنه - فتخطي الرقاب ووضعوه بجوار أبي بكر - رضي الله عنه - وهنا لا يقاس عليها لأنهم لما وضعوه بجوار أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - صار هو الإمام - صلى الله عليه وسلم -.
إذا هذه الحال الفريدة في العصر النبوي لا يقاس عليها لأن من تخطى الصفوف صار هو الإمام - صلى الله عليه وسلم -.
فيما عدا هذا لا يحفظ أن حداً تقدم وصلى بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بجوار أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم مع العلم أن المسجد النبوي صغير ويمتلئ.
الثاني: أن الشارع الحكيم نهى في النصوص الصريحة عن تخطي الرقاب ولم يستثن ما إذا كانت الصفوف ممتلئة ولا يجد من دخل المسجد مكاناً فيها بل النصوص جاءت عامة في النهي عن تخطي الرقاب لما فيه من الأذى والتشويش وذهاب الخشوع بالنسبة للمأمومين.
الثالث: أن بقاء الإمام منفرداً بالإمام يقوي ويهيئ مسألة المتابعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
إذاً هذا العمل فيه نظر ولا يندب لمن دخل المسجد أن يفعل هذا الفعل وهو تخطي الناس ليقف عن يمين الإمام ولو لم يجد مكاناً في الصفوف.

ثم قال رحمه الله:
فإن لم يمكنه: فله أن ينبه من يقوم معه.
إذا لم يمكن أن يتخطى ويقف بجوار الإمام ولم يجد فرجة فالحل عند الحنابلة أن ينبه بعض المأمومين ويكون تنبيههم له بأحد طريقتين:
إما بالإشارة بأن يؤشر له بأن يرجع معه.
أو بالكلام بأن يقول تأخر يا فلان.
(2/99)
________________________________________
وعلم من كلام المؤلف أنه لا يستحب أن يجذبه جذباً وإنما ينبهه فإن رجع وإلا تركه.
وأما الجذب فهو محرم عند الحنابلة. وقيل هو مكروه. وقيل هو مباح.
وهذا العمل أيضاً فيه نظر كالعمل السابق.
ووجه هذا النظر - وجه تضعيف هذا العمل:
أن يجذب أو أن ينبه من يرجع معه: أن في هذا اعتداء على موقف المأموم.
والأمر الثاني: القاعدة المشهورة المتقررة: أنه لا يستحب للإنسان أن يتبرع بالقرب فإذا كانت المسألة منافسة على قرب وطاعة لله فإنه لا يندب للإنسان أن يتنازل أو يتبرع لغيره.
فهذه القاعدة الشرعية تتناقض مع أن نقرر أنه يندب للإنسان أو عليه أن ينبه من يرجع إلى الخلف.
إذاً إذا كان تخطي الرقاب إلى الإمام لا يشرع وأيضاً تنبيه بعض المأمومين ليرجع لا يشرع فالحل هو ما تقدم معنا وهو أن يصلي منفرداً وتصح صلاته حينئذ للعذر وتقدم معنا تقرير هذا القول وأن صلاة المنفرد خلف الصف إذا كان لعذر والعذر هو أن لا يوجد مكاناً مطلقاً في الصف أن صلاته والحالة هذه صحيحة لوجود العذر ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
• ثم قال رحمه الله:
فإن صلى فذاً ركعة: لم تصح.
ذكر الشارح أن في هذا تكرار لأنه تقدم معنا أن من صلى فذَّاً ركعة فإن صلاته لا تصح عند قول المؤلف رحمه الله: ولا الفذ خلف الصف.
وفيما أرى أن هذا ليس بتكرار وإنما ذكره المؤلف رحمه الله ليبين الحد الذي تبطل فيه الصلاة ويؤخذ من قوله: ركعة.
أي: أن من صلى منفرداً خلف الصف فإن صلاته تبطل بشرط: أن لا يجد فرجة ولا يأتي أحد ليصف معه قبل ن تفوته الركعة.
إذاً إذا ركع الإمام ورفع قبل أن يجد فرجة في الصف وقبل أن يأتي أحد آخر ليصف معه فحينئذ بطلت الصلاة.
فإن جاء أحد قبل ذلك فصلاته صحيحة معنى قول المؤلف: فإن صلى فذاً ركعة.
أي إن أدرك الركعة مع غيره صحت صلاته وإن أدرك الركعة منفرداً بطلت صلاته فلعل المؤلف رحمه الله أراد أن يبين هذا القيد وهذا الشرط لبطلان الصلاة.
إذاًَ ليست المسألة كما يفهم بعض الناس أنه بمجرد التكبير وبقائه وقتاً معيناً منفرداً خلف الصف أنه بهذا المقدار تبطل الصلاة وإنما لا تبطل الصلاة حتى تفوته الركعة.
(2/100)
________________________________________
• ثم قال رحمه الله:
وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام: صحت.
يعني: وإلا فلا.
إذاً: إذا ركع قبل أن يدخل في الصف ثم دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل أن يسجد الإمام صحت صلاته وإلا فصلاته باطلة لكن يجب أن نقيد كلام المؤلف حتى عند الحنابلة بقيد وهو: أن يفعل هذا الفعل لعذر.
يعني لو أن المؤلف قال: وإن ركع فذاً لعذر ثم دخل ... الخ لصحت العبارة.
إذاً يجب أن نقيد هذه العبارة بأن هذا يصح إذا كان بسبب عذر عرض لهذا الذي ركع قبل أن يدخل في الصف.
والعذر كأن لا يجد مكاناً أو يخشى فوات الركعة.
فإن فعل هذا الفعل لغير عذر فإنه إن دخل في الصف أو وقف معه آخر قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع صحت وإلا فلا.
إذاً خلاصة المذهب: إذا أردنا أن نبين المذهب فيمن ركع قبل أن يدخل في الصف نقول:
إن ركع قبل أن يدخل في الصف:
ـ فإن كان لعذر فإنه ينتظر إلى أن يسجد الإمام فإن دخل معه آخر أو وجد مكاناً في الصف قبل أن يسجد الإمام صحت صلاته وإلا بطلت.
ـ وإن كان فعل هذا الفعل لغير عذر فإن أدرك الإمام مع آخر ووجد فرجة في الصف قبل أن يرفع رأسه من الركوع صحت وإلا فلا.
يعني أن الحنابلة يقولون أنه إذا كان فعل هذا الفعل لعذر يعطونه مساحة أكبر ينتظرون إلى أن يسجد الإمام وإن كان فعل هذا لغير عذر فلا يعطونه وقتاً طويلاً وإنما يقولون: إن رفع الإمام قبل أن يدخل معه أحد أو أن يدخل في الصف فصلاته باطلة.

= والقول الثاني: أنه إذا فعل هذا الفعل أي:
- إن ركع قبل أن يصل للصف لعذر والعذر هنا - في القول الثاني - هو: اكتمال الصف فقط. فإن صلاته صحيحة ولو لم يدخل في الصف ولو لم يأت أحد معه ولو استمر إلى آخر الصلاة لأنه بعذر.
- وإن فعل هذا الفعل لغير عذر فإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل المأموم في الصف أو أن يأتي معه آخر بطلت صلاته. وإن أدركه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع بأن دخل معه أحد أو دخل هو في الصف فصحت صلاته.
(2/101)
________________________________________
((الدرس الثاني: بعد العشاء))
فصل
[في أحكام الاقتداء]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
تقدم معنا الكلام عهن آخر مسألة في الفصل الذي عقده المؤلف للوقوف ونبدأ بالفصل الذي يليه وهو تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام من جهة المكان.
• قال رحمه الله:
(فصل)
المؤلف رحمه الله عقد هذا الفصل كما قلت للكلام عن تأثير المكان الذي يجتمع فيه الإمام والمأموم والبعد والقرب بين الإمام والمأموم تأثير ذلك على صلاة الجماعة أي على صحة الاقتداء أو عدم صحة الاقتداء.
واقتداء المأموم بالإمام ينقسم إلى قسمين:
إما أن يكون في المسجد.
أو خارج المسجد.
بدأ المؤلف بالقسم الأول:
• فقال رحمه الله:
يصح اقتداء المأموم بالإمام: في المسجد وإن لم يره. ولا من وراءَه إذا سمع التكبير.
إذا اجتمع المأموم والإمام في مسجد واحد صح الإقتداء ولو لم يره ولو كان بينهما حائل ولو لم تتصل الصفوف.
وقوله رحمه الله: (في المسجد) يشمل أن يكون المأموم في ساحة المسجد أو في سطح المسجد أو في بدرون المسجد أو في أي مكان داخل حدود المسجد. فما دام موجود في المسجد فإنه يصح الاقتداء ولو كان بعيداً ولم تتصل الصفوف ولمخ يره.
وإنما اشترط المؤلف شرطاً واحداً وهو أن يسمع الصوت والأحسن أن نقول: يشترط إمكان الاقتداء. أن يمكنه أن يقتدي به لأن هذا العبارة أشمل وأوضح.
إذاً يشترط للمأموم الذي يقتدي بالإمام داخل المسجد شرط واحد وهو إمكانية الاقتداء فقط.
بناء على هذا
- لو صلى الإمام مع خمسة صفوف في صدر المسجد في المحراب وصلى خمسة رجال في آخر المسجد منفردين فصلاتهم صحيحة.
- ولو صلى رجلان في ساحة المسجد أو في سطح المسجد وبقيت الجماعة كلهم بجوار الإمام صحت صلاة الرجلين.
الدليل: أن المسجد وضع شرعاً للجماعة فمن كان فيه صح اقتدائه.
ونحن كما قلت مراراً نتكلم عن مسائل معينة فنحن نتكلم الآن عن صحة الاقتداء وصحة الجماعة ولسنا نتكلم عن حكم أن يتأخر خمسة منفردين في آخر المسجد فإنه هذا مكروه بالاتفاق وهو خلاف السنة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوترة - وهي اجتماع المأمومين في صفوف متتالية متراصة مع قربهم للإمام.
فمن يصلي خلف المسجد منفرداً فلا شك أنه خالف السنة ووقع في المكروه.
لكن نحن نتكلم عن مسألة صحت الصلاة.
(2/102)
________________________________________
وهذا الحكم بالإجماع أي أن صلاته صحيحة بالإجماع لكونه في داخل المسجد.
ثم لما انتهى المؤلف من تقرير حكم الاقتداء داخل المسجد انتقل إلى حكم الاقتداء خارج المسجد:
• فقال رحمه الله:
وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين.
إذا كان المأموم خارج المسجد أو كان الإمام والمأموم كلاهما خارج المسجد هاتان مسألتان لهما نفس الحكم فإنه يصح اقتداء المأموم بالإمام ما دام يراه ويمكن له أن يقتدي به.
إذاً عند الحنابلة أن شرط صحة الاقتداء لمن كان خارج المسجد بمن كان داخل المسجد هو فقط شرط واحد أن يراه مع إمكانية الإقتداء فقط.
ولم يشترطوا في الرؤية أن يراه في جميع الصلاة بل لو رآه في بعض الصلاة دون بعض كأن يراه قائماً ولا يراه راكعاً أو يراه راكعاً وقائماً ولا يراه ساجداً صحت الصلاة أيضاً.
فالشرط عند الحنابلة الرؤية فقط مع إمكانية الاقتداء وهذا الشرط موجود حتى لمن كان داخل المسجد فهو شرط لا يتعلق بمسألة من اقتدى وهو خارج المسجد.
الدليل: استدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في حجرته وكان الجدار قصيراً فرآه أناس فقاموا يصلون بصلاته.
وظاهر الحال أنهم يرونه - صلى الله عليه وسلم - قائماً ولا يرونه راكعاً ولا ساجداً.
ففي هذا الحديث صح الاقتداء مع كون الإمام في مكان والمأموم بمكان آخر.

= والقول الثاني: وهو اختيار ابن قدامة رحمه الله أنه يشترط اتصال الصفوف فإن اتصلت الصفوف صح الاقتداء وإلا فلا.
واستدلوا على هذا:
- بأن تجويز صلاة المأموم خارج المسجد مع عدم اتصال الصفوف قد يؤدي إلى تعطيل المساجد إذ يصلي كل إنسان في حانوته أو في مكانه وهو يرى الإمام ولا يذهب إلى المسجد.
ثانياً: أن خارج المسجد لم يعد لصلاة الجماعة التي ترتبط صلاة بعضهم ببعض وإنما الذي أعد لذلك المسجد فقط ولا نقول لم أن خارج المسجد لم يعد للصلاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فكل الأراضي مكان للصلاة لكن نقول ليس مكاناً لصلاة الجماعة التي ترتبط صلاة بعضهم ببعض مع الإمام.
(2/103)
________________________________________
والجواب عن - (حديث عائشة) - أن الصواب أن هذه الحجرة كانت داخل المسجد وليس مراد عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث غرفة عائشة أو بيت عائشة رضي الله عنها وهذا ما تدل عليه روايات صحيح البخاري الأخرى.
وهذا ما رجحه أيضاً الحافظ بن رجب.
ومن الفقهاء من قال بل هي حجرة عائشة - والذي أراد أنه قول ضعيف وبعيد من حيث المعنى والروايات.
أما من حيث الروايات فروايات البخاري تبين أنه مكان في المسجد سبق أن اتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجره.
وأما من حيث المعنى فإنه يبعد أن ينظر الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال حجرة عائشة يصلي فإن هذا يؤدي إلى أن الحجرة مكشوفة بحيث يرى الناس صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرون ما يفعل في البيت وهذا لا يتأتى.
وهذا القول الثاني هو الصواب - الذي رجحه ابن قدامة رحمه الله - وأنه يشترط لصحة المأموم خارج المسجد اتصال الصفوف.
== مسألة: هل يقتضي مذهب الحنابلة صحت صلاة من يرى الإمام في التلفاز أو من يرى الإمام من مكان بعيد في مسكنه؟ أو لا يقتضي؟.
الجواب: من الفقهاء من رأى أن قول الحنابلة بصحة صلاة المأموم مع الإمام بمجرد الرؤية يقتضي صحت الصلاة خلف التلفاز في الصلاة المباشرة ومن كان بعيداً عن المسجد ويراه وهو في بيته.
= والذي أراه أن هذا القول لا يقتضي ذلك.
السبب: أنهم نصوا أن من الشروط بالإضافة إلى الرؤية أن لا يكون بين المأموم والمسجد نهر جارٍ تجري فيه السفن ولا طريق يستطرق.
وبين من يرى الإمام في التلفاز والمسجد الذي تقام فيه الصلاة أنهر وأودية وطرق وكل ما تشاء من الفواصل والحجوزات. (أليس كذلك؟!.
وكذلك من يصلي قريب من أيضا المسجد في بيته فإن الغالب عليه أن يكون بينه وبين المسجد أقل ما يقال طريق مسلوك.
فالذي أراه أن هذا القول لا يقتضي صحت الصلاة خلف هذه الأشياء مع البعد إنما يرى الحنابلة أو يريدون إذا كان الإنسان في مكانه في حانوته والمسجد أمامه وليس بينهما طريق وهو يرى الإمام سواء من خلال الباب أو النافذة أو من أي منفذ فإنه والحالة هذه يصح أن يقتدي بالإمام ولو لم تتصل الصفوف ويصلي في مكانه والإمام في مكانه.
(2/104)
________________________________________
وبهذا يمكن أنه نرفع ما يترتب على هذا القول من مؤاخذات كبيرة أو ضعف شديد بالنسبة لمذهب الحنابلة.
على أنا نقول أن الراجح والأظهر ظهوراً قوياً أنه لا بد من اتصال الصفوف إذا أراد الإنسان أن يصلي خارج المسجد.
(فائدة: قال شيخ الاسلام: إن صلى مع اتصال الصفوف صحت صلاته باتفاق الأئمة).
وهذا مفيد بحيث لا يعرض الإنسان صلاته للبطلان.
• ثم قال رحمه الله:
وتصح خلف إمام عالٍ عنهم. ويكره: إذا كان العلو ذراعاً فأكثر.
أفادنا المؤلف أن الصلاة خلف الإمام العالي صحيحة وهي تكره بشرط واحد وهو أن يكون علوه ذراه فأكثر فإن كان علوه أقل من ذراع صحت بلا كراهة.
نحتاج أدلة لكل هذا التفصيل:
أما دليل الصحة والكراهة فواحد وهو أن عماراً - رضي الله عنه - صلى بقومه على دكَّه فأخذ بيده حذيفة - رضي الله عنه - وأنزله ثم بعد الصلاة قال: (ألم تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يؤم الرجل القوم وهو أعلى منهم).
وهذا الحديث دليل على أمرين:
الأول: الكراهة.
والثاني: الصحة.
ووجه دليله على الصحة أنه لم يستأنف وإنما استمر في صلاته - رضي الله عنه -.
وهذا الحديث الذي يظهر لي أنه ضعيف ومن المعاصرين من يحسنه لكن الأقرب أنه ضعيف لا تقوم به حجة.
الدليل الثاني: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كانوا يكرهون ذلك أي أن يصلي الإمام وهو مرتفع عن المأمومين.
فهذان أثران عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم لهم مخالف أن ارتفاع الإمام مكروه مع صحت الصلاة.
وأما الدليل على أنه إن صلى لأقل من ذراع انتفت الكراهة فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه أنه صلى على المنبر ليعلم الناس الصلاة. ومعلوم أنه لا يمكن أن نتصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكراهة.
فدل هذا الحديث أنه إن كان ارتفاعه أقل من ذراع صحت بلا كراهة.
وأما الدليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الصلاة صلى في الدرجة الأولى وهذا هو الذي يدل على أنه أقل من ذراع الدليل على ذلك هو أنه إنما صلى ليعلم الناس وهو سيحتاج إلى الركوع والسجود على الأرض ومن المعلوم أن الأنسب لذلك أن يقف على الدرجة الأولى ليتمكن من ذلك بسهولة.
(2/105)
________________________________________
إذاً الحديث ليس فيه نص أنه صلى على الدرجة الأولى لكن يغلب على الظن أنه صلى الدرجة الأولى.

= والقول الثاني: أن من صلى مرتفعاً بقصد تعليم الناس صحت صلاته بلا كراهة بغير قيد من جهة الارتفاع.
وهذا مذهب الشافعية واستدلوا بالحديث السابق وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى مرتفعاً.

=والقول الثالث: وهو رواية أنها تصح مطلقاً بلا كراهة.
والراجح: مذهب الشافعية. أنه إن كان للتعليم صحت بلا كراهة وإلا صحت مع الكراهة لأن أثر ابن مسعود صحيح وكذلك أثر عمار وحذيفة يظهر من حيث الأسانيد أنه ضعيف لكنه يتقوى بأثر ابن مسعود أو على أقل التقدير يمكن الاستئناس به وإلا فهو ضعيف لا يثبت عن الصحابيين رضي الله عنهما.
إذاً بهذا عرفنا حكم ارتفاع الإمام وعرفنا أن الفقهاء ينظرون لمدى الارتفاع إذا كان الارتفاع كثيراً صار مكروهاً وإلا صار جائزاً.

ثم قال رحمه الله:
كإمامته في الطاق.
إمامة الإمام في الطاق مكروهة.
والمقصود بالطاق: المحراب.
ودليل الكراهة:
أن ابن مسعود - رضي الله عنه - وروي عن غيره من الصحابة كرهوا ذلك.
الدليل الثاني: أن صلاة الإمام في المحراب تمنع من كمال الاقتداء لأن المأمومين لن يروه ومعلوم أن الرؤية تكمل الاقتداء.
ويشترط لتحقق الكراهة عند الحنابلة أن لا تكون صلاته لحاجة فإن كان صلى في المحراب لحاجة كضيق المكان صحت بلا كراهة.
ويشترط أيضاً أن لا يروه فإن صلى في المحراب مع رؤية المأمومين له أيضاً تصح بلا كراهة.
إذاً يشترط للكراهة شرطان.
هذا حكم الصلاة في المحراب.
وأنا أرى أن كلامهم وجيه وأن دخول الإمام في المحراب من غير حاجة يؤدي إلى عدم اقتداء المأمومين بالشكل المطلوب.
نأتي إلى مسألة أخرى: وهي حكم اتخاذ المحراب. وكثير من الإخوان يخلط بين المسألتين فيخلط بين اتخاذ المحراب والصلاة. لأن عبارات العلماء في اتخاذ المحراب قد تكون شديدة أحياناً لكن عباراتهم في الصلاة بالمحراب أهون لأنه وجد محراباً فصلى فيه.
وحكم اتخاذ المحراب اختلفوا فيه وتشعبت الأقوال - ونحن لا نريد الدخول في هذه المسألة لأنه ليست من هذا الباب ولذلك لا حظ أن المؤلف تكلم عن حكم الصلاة فقط ولم يتحدث عن اتخاذ المحراب.
(2/106)
________________________________________
= القول الأول: أن اتخاذ المحراب بدعة محدثة وهو محرم لأنه لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= القول الثاني: أن اتخاذ المحراب مستحب. ولا حظ أن هذا رواية عن الإمام أحمد. واستدل بأن في اتخاذ المحراب تتحقق مصالح عديدة منها: معرفة القبلة.
= والقول الثالث: أن اتخاذ المحراب مباح ولا يعبد به وإنما هو وسيلة لتسهيل الإمامة ومعرفة القبلة.
في الحقيقة من جهة الترجيح المسألة فيها إشكال. ووجه الإشكال: أنه من حيث التأصيل قد يقول الإنسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لم يتخذوا المحاريب وهم أعلم الناس بما ينفع الناس والمحراب المسجد والمسجد بيت العبادة في الإسلام فإحداث شيء في مثل هذا البيت هو من أحداث مالم يأذن به الله وهذا يقوى وتدل عليه الأصول العامة.
من جهة أخرى ما زال المسلمون يضعون المحاريب وممن كره المحاريب ابن مسعود - رضي الله عنه - ونفهم من كراهيته - رضي الله عنه - لها أنها موجودة عهده وإن كنت لم أنظر في إسناد أثر ابن مسعود لكن على فرض صحته فإنه يدل على أن المحاريب وجدت من عهد الصحابة وأنها لم تنكر بينهم على وجه الجملة وإنما أنكرها ابن مسعود وابن مسعود - رضي الله عنه - له نظرة عميقة في البدع ولذلك نكر من البدع أكثر مما أنكره غيره - رضي الله عنه - ولكن لم ينقل عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة ما نقل عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.
ثم أيضاً تتابعت الأمة الإسلامية من القرن الثاني إلى يومنا هذا على وضع المحاريب فتأثيم الناس والحكم على عملهم بأنه بدعة طوال هذه القرون قد ما يقوى عليه الإنسان.
ولذلك ربما نقول أن مذهب الحنابلة وهو أنه مباح قد يكون فيه توسط ونظر بين من يشدد في المحاريب ومن يترخص فيها ويجعلها مستحبة.
لا سيما وأن رجلاً مثل الإمام أحمد روي عنه استحبابها فهذا يجعل الإنسان يتوقف في الحكم ببدعيتها والنهي عنها وتحريم بنائها.
هذا ما ظهر في مسألة اتخاذ المحاريب.
• ثم قال رحمه الله:
وتطوعه موضع المكتوبة.
الآن الحديث عن الإمام من قوله وتصح خلف إمام عال صار الكلام عن الإمام.
(2/107)
________________________________________
فتطوع الإمام في الموضع الذي صلى فيه المكتوبة مكروه لأمرين:
الأمر الأول: أنه يؤدي إلى الالتباس والتشابه بين الفريضة والنافلة.
والثاني: أنه قد يظن بعض المأمومين أنه قام لأنه نسي ركعة.
الثالث: أنه روي عن المغيرة وعن غيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يصلي الإمام حيث أم الناس.
= والقول الثاني: أن صلاة الإمام في مكانه الذي صلى به بالناس تطوعه جائز بلا كراهة.
وأجابوا عن الأدلة: أنها جميعاًً ضعيفة وممن أشار إلى ضعف جمع الأحاديث الإمام أحمد لأنه قال: لم يثبت فيه إلا عن علي - يعني هذا معنى كلامه ليست هذه عبارته.
فإذا كان الإمام أحمد يقول أنه ليس في الباب إلا أثر عن علي - رضي الله عنه - دل على أنه يرى أن حديث المغيرة - رضي الله عنه - وغيره حديث ضعيف.
وحكم بعض الحفاظ على أفراد هذه الأحاديث بالضعف إما للانقطاع أو للجهالة.
الخلاصة: أن أحاديث نهي الإمام أن يتطوع في مكانه الذي صلى فيه بالناس ضعيفة كلها فإذاً الصلاة صحيحة بلا كراهة.
ولا يستهين الإنسان بهذا البحث لأن أهل العلم يعتنون بقضية الكراهة فإن بعض الناس لا يرى وزناً لأن الأمر مكروه أو الفعل مكروه أو غير مكروه لكن الأئمة يعتنون بهذا لأنهم لا يقدمون على المكروه لا سيما إذا تعلق بركن الدين وهو الصلاة.
• قوله رحمه الله:
إلاّ من حاجة.
هذ الاستثناء يرجع إلى مسألتين:
المسألة الأولى: تطوع الإمام في مكان المكتوبة.
المسألة الثانية: صلاته في الطاق أو في المحراب.
فلاستثناء يرجع إلى المسألتين جميعاً وهو أن الكراهة تزول إذا كان هناك حاجة والحاجة في الغالب وأثر ما يمثل الفقهاء به هو ضيق المكان.
فإذا صلى الإمام بالناس ثم أراد أن يتطوع ولم يجد مكاناً لضيق المكان فإنه والحالة هذه يصلي في مكانه بلا كراهة لوجود الحاجة.
• ثم قال رحمه الله:
وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة.
يعني: ويكره للإمام أن يطيل الجلوس بعد السلام مستقبل القبلة.
(2/108)
________________________________________
وجهه: أن هذا خلاف السنة. فإنه ثبتت الأحاديث صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم من الصلاة لم يزد على الاستغفار ثلاثاً وقوله تباركت ياذا الجلال والإكرام. ثم ينصرف تارة عن اليمين وتارة عن الشمال.
إذاً بقائه أكثر من هذا المقدار ومن الذكر الوارد وهو الاستغفار وقوله: اللهم أنت السلام ... الخ. مكروه لأنه مخالف للسنة الصريحة.
وهو مكروه لسبب آخر وهو أن في هذا مشقة على المأمومين لأنه جاء في الحديث نهي المأموم أن يقوم قبل أن ينصرف الإمام. ومعنى انصراف الإمام: أن يلتفت إلى المأمومين.
إذاً هو مكروه لأمرين:
- مخالفة السنة.
- والإشفاق على المأمومين.
• ثم قال رحمه الله:
فإن كان ثمّ نساء: لبث قليلاً لينصرفن.
إذا كان معه نساء فالسنة في حقه أن يلبث قليلاً قبل أن يقوم والغرض من ذلك أن ينصرف النساء.
والدليل: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا صلى مكث قليلاً - أي قبل أن يقوم. وقال الزهري رحمه الله: ولا نعلم ذلك إلا لأجل النساء.
وسبق أن علقنا على كلمات الزهري التي يعلق بها على السنة وأن لها ثقلاً عند أهل العلم وسبب ذلك.
• ثم قال رحمه الله:
ويكره: وقوفهم بين السواري إذا قطعن.
الصلاة بين السواري تحتاج إلى إيضاح بعض المقدمات قبل أن ندخل في نفس المسألة:
الأمر الأول - في هذه المسألة: أنه لا يكره بالإجماع أن يصلي بين السواري عند وجود الحاجة.
الأمر الثاني: أنه لا يكره للإمام ولا للمنفرد أن يصلي بين السواري لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة صلى بين ساريتين فلا تتعلق الكراهة أصلاً بالإمام والمنفرد.
نأتي إلى المأموم:
= الحنابلة يرون أن المأموم يكره له أن يصلي بين السواري.
واستدلوا على هذا:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بين السواري.
والدليل الثاني: أن الصلاة بين السواري تؤدي إلى انقطاع الصفوف.
(2/109)
________________________________________
وقبل أن نذكر القول الثاني يضاف إلى ما يشبه تحرير النزاع نقول: الأمر الثالث: أنه لا يوجد قائل بالتحريم بين أهل العلم فكلهم على الكراهة خلافاً لما يشعر به بعض الباحثين كأنه يميل إلى التحريم فإن العلماء لم يذكروا التحريم فيما وقفت عليه مطلقاً وإنما كلهم على أنه يكره.
= القول الثاني: أن الصلاة بين السواري جائزة بلا كراهة مطلقاً.
وممن رجح هذا القول ابن المنذر رحمه الله.
واستدل على هذا بأمرين:
الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بين ساريتين والأصل أنه لافرق بين المنفرد والإمام والمأموم.

الثاني: أنه لا يثبت في هذا الباب خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وممن أشار إلى هذا ابن المنذر نفسه فإنه أشار إلى عدم ثبوت شيء في هذا الباب.
وإذا لم يأت عن النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - حديث فيه النهي عن الصلاة بين السواري فبأي شيء نحكم على صلاة من صلى بين السواري بلا حاجة بأنه فعل مكروهاً.
وهذا القول الثاني قوي جداً في الحقيقة ووجيه ولكن يشكل عليه أنه روي عن بعض الصحابة أنه كره الصلاة بين السواري لكن مع ذلك لا يظهر لي أنه يكره الصلاة بين السواري.
فمثل هذا الأمر الذي يحتاج إليه الناس كثيراً لا سيما في السابق فإنه في السابق الأبنية تحتاج إلى عدد من الأعمدة والبناء الذي لايعتمد على وجود عدد كبير من الأعمدة إنما حصل أخيراً مع التقدم أما في السابق فكانت الأعمدة كثيرة ولذلك إذا دخلت مسجداً مبنياً من الطين فستجد أن عدد الأعمدة كثير جداً.
فالحكم على صلاة الناس بالكراهة إذا صلوا بين الأعمدة بلا حاجة يحتاج إلى دليل.
فالأقرب والله أعلم أنه لا يكره وإن احتاط الإنسان لنفسه بأن لا يصلي إلا لحاجة صار هذا جيد بسبب أنه احتاط لصلاته أن لا يصلي مع الكراهة التي توجد عند الحنابلة وغيرهم ويعتمدون فيها على أحاديث صححت من قبل بعض المعاصرين وفيه آثار فمجموع هذه الأمور تؤدي إلى الاحتياط.
أما من حيث البحث العلمي فالأقرب عدم الكراهة.
والله أعلى وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...

انتهى الدرس،،،
(2/110)
________________________________________
فصل
[في الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله.
لما أنهى المؤلف الكلام عن ما يتعلق بصلاة الجماعة من حيث حكمها بحد ذاتها وما يتعلق بالمأمومين والإمام والأماكن التي ترتبط بها صلاة المأمومين بالإمام انتقل بعد ذلك انتقالاً منطقياً إلى ما يعذر فيه الإنسان لترك صلاة الجماعة أو الجمعة وذكر عدداً كبيراً من الأعذار إذا فهمها الإنسان استطاع بإذن الله أن يعرف حكم غيرها لأنه إذا فهم هذه الأعذار استطاع أن يعرف قاعدة الشارع في وزن الأمور التي أباح الشارع الحكيم فيها للمسلم في أن لا يحضر الجماعة. والتي لا يعذر فيها المسلم.
وبدأ بالعذر المتفق عليه الذي لا يختلف فيه المسلمون:
• فقال رحمه الله:
ويعذر بترك جمعة وجماعة: مريض.
المريض يعذر بترك الجمعة والجماعة لعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما تقدم معنا - لما سقط عن فرسه صلى في بيته وترك الجمعة والجماعة. وهذا دليل على أن الإنسان إذا مرض جاز له ترك الجمعة والجماعة.
- الدليل الثاني: الإجماع. فقد أجمع العلماء على أن من كان مريضاً فإنه يجوز له أن يترك الجمعة والجماعة.
وقول المؤلف رحمه الله: (المرض) يشمل:
- أن يكون مريضاً بحيث لا يستطيع أن يحضر الصلاة.
- ويشمل أن يخشى زيادة المرض.
- ويشمل أن يخشى بطء البرء.
- ويشمل على الصحيح - إن شاء الله - خشية حدوث المرض يعني: لو كان الإنسان سليماً أو معافى ولكنه يخشى إن خرج أن يصاب بمرض فإنه حينئذ أيضاً يجوز له أن يترك صلاة الجماعة.
ومن المعلوم أن مقصود الفقهاء بخشية حدوث المرض أو خشية زيادة المرض أو تأخر الشفاء أن تكون خشيةً حقيقيةً متوقعةً متصورة.
أما إن كانت مظنونة لا أصل لها فإنه لا يجوز له أن يترك صلاة الجماعة.
والعذر بالمرض لا إشكال فيه.
• ثم قال رحمه الله:
ومدافع أحد الأخبثين.
(2/111)
________________________________________
إذا كان الإنسان يدافع الأخبثين ودار الأمر بين أن يدرك الجماعة أو يدفع الأخبثين بأن يقضي الحاجة فإنه يجوز إذا كانت هذه حالته أن يترك صلاة الجماعة ويقضي حاجته ثم يصلي بعد ذلك ولو منفرداً أو أو مع الجماعة الثانية التي أقيمت بعد الإمام الراتب.

والدليل على هذا:
- ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين).
وهذا الدليل نص في مسألة أنه يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة إذا حصل عنده مدافعة للأخبثين وهما: البول والغائط.

ومن هنا نعلم أن ما يفعله كثير من الناس إذا حضر للمسجد متأخراً ودار الأمر بين أن يدرك الركعة الأخيرة وبين أن يذهب إلى دورات المياه لقضاء حاجته فإنك تجد بعض الناس يذهب للصلاة وإن كان يدافع أحد الأخبثين وهذا الذهاب خطأ شرعاً وهو مخالف للنصوص.

وأما هل تصح صلاته أو لا تصح صلاته؟ فهذا تقدم معنا في مباحث شروط الصلاة وذكرنا التفصيل فيمن صلى وهو يدافع الأخبثين والأقوال في حكم صلاته وأنها ثلاثة طرفان ووسط .. إلخ هذا تقدم معنا.
إنما الكلام الآن أنه يعذر بترك الجماعة.
وأيضاً مدافعة أحد الأخبثين أمرها واضح وظاهر.

ثم قال - رحمه الله -:
ومن بحضرة طعام محتاج إليه.
اشترط المؤلف - رحمه الله - لجواز ترك الجماعة شرطين:
ــ الأول: أن يحضر الطعام.
ــ والثاني: أن يكون محتاجاً إليه.
والدليل على أنه إذا تحققت هذه الشروط جاز للإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة:
- حديث عائشة المتقدم.
- وأيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حضر العشاء فابدأوا به قبل صلاة المغرب ولا يعجل أحدكم عن عشائه).
فهذا نص في تقديم تناول العشاء على صلاة المغرب وغير صلاة المغرب كصلاة المغرب.
وأيضاً دليل على أنه لا بد من حضور الطعام لأنه يقول: إذا حضر العشاء.
أما إذا كان يعد ولا ينتفع الإنسان من انتظاره فإنه يجب عليه أن يصلي الجماعة.
وفي هذه المسألة بعض المسائل الأخرى - يعني: وفي مسألة العذر بحضور الطعام مسائل أخرى نذكر أهم هذه المسائل:
(2/112)
________________________________________
ــ المسألة الأولى: نص الإمام أحمد على أنه إذا حضر الطعام فإنه يأكل منه حتى يشبع ولا يجب عليه أن يأكل فقط ما يسد به رمقه بل يأكل حتى يشبع.
واستدل الحنابلة على هذا بدليلين:
- الأول: ما تقدم معنا: وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يعجل عن عشائه).
- والثاني: أن الإنسان إذا أكل ما يسد الرمق وبقيت نفسه متعلقه بالطعام ثم خرج إلى الصلاة فإن هذا من أكبر أسباب قلة الخشوع وذهاب الحضور أثناء أداء الصلاة.
والشارع الحكيم إنما أجاز التخلف عن صلاة الجماعة عند حضور الطعام لمقاصد من أهمها: تكميل الخشوع. فلذلك نقول: يأكل حتى ينتهي من الطعام.
ــ المسألة الثانية: هذا العذر يكون عذراً شرعاً إذا حصل اتفاقاً أما إن حصل على سبيل الترتيب والدوام فإنه لا يصبح من الأعذار ويأثم من جلس لتناول الطعام وترك صلاة الجماعة إذا كان يرتب لهذا الأمر يومياً أو اعتاد عليه.
وإنما يكون عذراً شرعياً إذا حصل اتفاقاً.
ــ المسألة الثالثة والأخيرة: إذا حضر الطعام وليس للإنسان به حاجة فإنه يجب أن يقوم للصلاة ولو كان يأكل ما دام أنه لا يشعر في نفسه حاجة وانجذاب إلى هذا الطعام.
والدليل على ذلك:
- ما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس يأكل من كتف شاة ثم دعي إلى الصلاة فوضع الطعان وقام إلى الصلاة.
فحمل العلماء - رحمهم الله - هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن به حاجة إلى الطعام.
جمعاً بين النصوص لأنه هو - صلى الله عليه وسلم - قال إذا حضر العشاء فابدأوا به قبل الصلاة ثم نراه هنا يقدم الصلاة على الطعام فإذا أردنا أن نجمع بين النصين نقول: لم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حاجة إلى الطعام في هذا الحديث.
إذاً هذه بعض المسائل التي تتعلق بمسألة حضور الطعام قبل الصلاة.
(2/113)
________________________________________
بناء على هذه الضوابط والمسائل ما يفعله بعض الناس برمضان من وضع جميع الطعام قبل الصلاة فكل ما لديهم من طعام يضعه قبل الصلاة فحكم هذا إن كان يستطيع يتناول هذا الطعام ويدرك الصلاة فهو جائز وإن كان يترتب على هذا فوات صلاة المغرب يومياً فإنه آثم بترك صلاة المغرب ولو حضر الطعام ولو كان يشتهيه لأنه صار يرتب يومياً لمدة ثلاثين يوماً أنه سيترك صلاة المغرب بل نقول تأكل ما يكفي للنشاط وسد الرمق ثم تصلي مع الجماعة وإنما يكون تناول الطعام عذر إذا وقع اتفاقاً كما ذكرت.
• ثم قال - رحمه الله - في العذر الرابع:
وخائف: من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه.
إذا خاف الإنسان من ضياع المال أو فواته أو أن يتضرر هذا المال أي ماله جاز له حينئذ أن يترك صلاة الجماعة.
والدليل على ذلك:
- ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر قيل ما العذر يا رسول الله قال: الخوف أو المرض.
وهذا الحديث تقدم معنا أن الصواب فيه أنه موقوف على ابن عباس.
وإذا كان موقزفاً على ابن عباس فهو كذلك عذر لأنه فتوى عن صحابي ليس لها معارض تتوافق مع أصول الشرع.

وهناك دليل آخر على أن للإنسان أن يترك صلاة الجماعة إذا خشي على ماله:
- وهو أن الشارع الحكيم أجاز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة كما سيأتينا غذا خشي من الطين أو المطر والتضرر بفقد المال أكبر من التضرر بالطين والمرض وهذا بإجماع الناس.
فكون الإنسان يتضرر بنوع مطر كما سيأتينا حده أو بتلوث بالطين هذا أسهل من أن يفقد ماله أو أن يفقد شيئاً له قيمة واعتبار من ماله.
وإذا كان الشارع عذر بما هو أخف فلا شك أنه سيعذر بما هو أعلى.
إذاً: إذا خشي الإنسان على ماله فإن له أن يترك صلاة الجماعة.
وذكر العلماء أمثلة لهذا الخوف:
- منها: الخباز إذا وضع الخبز في الفرن وخشي أن يحترق لو ذهب.
- والطباخ: إذا أقام القدر على النار وخشي أن يحترق إذا ذهب.
- والحطاب إذا خشي أن يسرق الحطب.
وما شابه هذه الأمثلة.
ويمكن أن يقاس عليها بالنسبة لواقعنا المعاصر أشياء حديثة من ذلك مثلاً:
(2/114)
________________________________________
- لو كانوا يشتغلون بالبناء والصبة (ما يسمونه الصبة) وترتب على الذهاب للمسجد فساد للصبة أو تحجر الصبة أو فساد ترتيبها على الأرض.
فإنه لا شك أن هذا من ضياع المال الذي أجاز الفقهاء لصاحبه ترك صلاة الجماعة.
ولذلك ينبغي على المنكر أن ينكر على من ترك الصلاة جماعة أن يعرف هل هو معذور أولا؟
نعم. الغالب على الناس اليوم التهاون في صلاة الجماعة وتركها لسبب غير وجيه أو لا لسبب أصلاً لكن مع ذلك يجب على الإنسان قبل أن ينكر أن يعرف هل هذا الذي ينكر عليه تجب عليه أصلاً صلاة الجماعة أو هو ممن عذر الله سبحانه وتعالى بأحد الأعذار التي سنذكر أو بنظيرها.
إذاً: الخلاصة أن الخائف على ماله عموما يعذر.

ثم قال - رحمه الله -:
أو موت قريبه.
يعني: إذا خشي الإنسان أنه إن ذهب لصلاة الجماعة مات قريبه. فإنه يجوز له والحالة هذه أن يبقى عند هذا المريض ولا يذهب لصلاة الجماعة.
واستدلوا على هذا الحكم بدليلين:
- الأول: أن الصحابي الجليل ابن عمر - رضي الله عنه - استصرخ سعيد بن زيد وهو خارج المدينة فجائه وترك الجمعة. استصرخ يعني: طلب النجدة من سعيد بن زيد فجائه وترك الجمعة وكان عند ابن عمر رجل مريض أو امرأة مريضة.
- الثاني: أن هذا محل إجماع. فقد أجمع العلماء على أن من خشي موت قريبه فإنه يجوز له أن يترك صلاة الجماعة.
وهذا أمر بدهي أنه إذا ترتب على ذهاب الإنسان موت المريض القريب له فإنه يجوز له أن يترك الصلاة ويصلي في البيت.
قال الفقهاء: وكذلك لو خشي موت رفيقه لا قريبه. يعني: حتى لو لم يكن القريب وإنما الصديق والرفيق الذي يجلس بجواره فالحكم كذلك.
قال الفقهاء: كذلك التمريض ولو لم يخش من الموت وإنما خشي من الضرر إن ذهب وترك المريض وكان هو الذي يمرض هذا المريض فإنه يجوز له أن يترك صلاة الجماعة وأن يجلس عند هذا المريض.
وبالنسبة للتمريض يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة ليمرض قريبه بشرط أن لا يجد وسيلة لتفادي هذا الأمر.
فإذا أمكن - مثلاً - أن يجلس عند هذا المريض أحد أهل الدار أو أحد من خارج الدار ليذهب هذا الإنسان ليصلي الجماعة ويرجع فإنه يجب عليه أن يؤمن من يقوم مقامه أثناء أداء صلاة الجماعة.
(2/115)
________________________________________
أما إذا لم يوجد إلا هذا الشخص وهذا يكثر قديماً أن لا يوجد من يمرض الإنسان إلا قريبه أو ابنه أو أخوه فإنه يجوز له أن يجلس عند هذا المريض.
ومن غير المقبول ما يفعله بعض الناس يجلس يمرض المريض ويخرج للدوام ثم يرجع وباقي الصلوات يكون يمرض فالذي مكنك من الخروج لأداء الدوام الرسمي الصباحي يمكنك أيضاً من وجود من يقوم مقامك في الصلوات الخمس ما عدا الظهر يعني لو قلنا الأربع ما عدا الظهر لأنه سيكون في الدوام فأيضاً يمكنه أن يوجد من يقوم مقامه ليذهب يصلي هو مع الجماعة.
لكن على كل حال الضابط أنه إذا لم يستطع أن يوجد أحداً يقوم مقامه ليذهب هو للصلاة ممن لا تجب عليهم الصلوات فإنه يجوز له أن يجلس عند هذا المريض وهو معذور ولا إثم عليه وصلاته إن شاء الله في البيت صحيحة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو على نفسه من ضرر.
يعني خشي على إن خرج أن يتضرر. كأن يتربص به أحد ليؤذيه. أو أن يوجد في الطرقات حيوانات مفترسة كما قد يوجد في بعض الذئاب أو الأسود قديماً في بعض القرى النائية.
المهم: هذه أمثلة إذا ترتب على خروج الإنسان ضرر فإنه يجوز أن يجلس في بيته ويصلي ولا يخرج لصلاة الجماعة.
ومن أشهر أمثلة الضرر: أن يكون في البلد حرب. فإذا كان في البلد حرب لا سيما إذا كانت داخلية أي في داخل المدينة فإنه لا شك أن خروج الإنسان لا سيما في الليل يترتب عليه ضرر فقد يقتل أو يجرح أو يؤسر ... إلخ.
فإذا كان الوضع كذلك فإنه يجوز له أن يبقى في البيت ويصلي ولا حرج عليه.
والدليل على هذا:
- جميع ما تقدم. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) يشمل العذر في صلاة الجماعة وكون الشارع الحكيم يعذر بالمطر والبرد فهذا الضرر من باب أولى.
فقياس أولوي بالنسبة إذا خشي على نفسه الضرر.

وكما قلت فيما سبق أقول الآن: مقصود الفقهاء بالضرر الضرر الذي يقدره المكلف ويستحق البقاء في البيت أما الضرر اليسير فإنه لا يوجب الجلوس في البيت.
(2/116)
________________________________________
فمثلاً: لو كان إذا خرج إلى الصلاة قد يؤذيه بعض الصبيان فإن الصبيا أحياناً يؤذون المارة إلى المساجد. هذا ضرر لكنه ضرر لا يستوجب ترك صلاة الجماعة إنما الضرر الذي يستوجب ترك صلاة الجماعة هو المؤذي الملحق بالأذى الظاهر في البدن أو في المال فهذا هو الذي يعذر الإنسان إذا ترك صلاة الجماعة من أجله.

ثم قال - رحمه الله -:
أو سلطان.
يعني: إذا خشي إذا خرج لصلاة الجماعة أن يؤذيه السلطان إما بحبس أو بضرب أو بأخذ للمال وهذه أشهر ثلاث أمثلة. إما بالضرب أو بالحبس أو بأخذ المال فإنه يجوز له أن يبقى في بيته تفادياً لهذا الضرر.
لكن اشترط الفقهاء في هذا العذر شرط وهو: أن يكون إيذاء السلطان بظلم فإن كان بحق حرم عليه أن يترك صلاة الجماعة.
فمثلاً: لو كان هذا الإنسان يسرق أموال الناس وإن خرج مسكه السلطان فإنه يجب عليه وجوباً أن يخرج وأن يصلي ولو ترتب على ذلك أن يقع في أيدي السلطات لأن مسكه حينئذ بحق وهو الذي اعتدى على أموال أو أعراض الناس.
المهم أنه يشترط لهذا العذر أن يكون إيذاء السلطان بظلم فإن كان بظلم جاز له أن يبقى في بيته.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو ملازمة غريم ولا شيء معه.
يعني: إذا خشي أنه إذا خرج لصلاة الجماعة لزمه الغريم يعني الدائن.
لزمه وصار يتنقل معه حيث تنقل ويطالبه بالدين.
إذا خشي من هذا الأمر فإنه يجوز له أن يصلي في البيت.
لكن بشرط: أن لا يكون مع هذا المدين شيء يؤدي به الدين.
وبعبارة أخرى: أن يكون معسراً أو مفلساً.
فإذا كان معسراً أو مفلساً ولا شيء معه جاز له أن يبقى في البيت ويترك صلاة الجماعة.
- لأنه إذا خرج ولزمه هذا الدائن صار في هذه الملازمة ضرراً ظاهراً وإحراجاً بين الناس وقد تؤدي هذه الملازمة إلى الحبس لأنه قد يلزمه بالذهاب إلى القاضي أو إلى الشرطة ويترتب على ذلك الحبس.
إذاً: إذا لم يكن مع المدين شيء بأن كان مفلساً معسراً جاز له أن يصلي في البيت.
الدليل على هذا:
- أن ملازمة الفقير المعسر حرام لا تجوز حتى من قبل الدائن. لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة/280] فأوجب الله سبحانه وتعالى أن يُنْظَر وأن يمهل.
(2/117)
________________________________________
إذاً ملازمة الفقير أصلاً محرمة. كذلك حبس الفقير محرم.
فإذا كان خروجه سيترتب عليه وقوع المحرم جاز له دفعاً للضرر أن يبقى في بيته ويصلي الفرائض فيه.
إذاً: الدليل أن ملازمة وحبس الفقير محرم.
وإذا ترتب على خروجه هذا المحرم جاز له أن يصلي في بيته.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو من فوات رفقته.
أي: أنه لو خشي إذا صلى الجماعة أن تفوته الرفقة.
يعني: أن يسافروا ويتركوه. هذا معنى فوات الرفقة. فهو خاص بالسفر. فإنه حينئذ يجوز له أن يصلي في غير الجماعة.
واشترطوا لهذا شرطاً: وهو أن يكون السفر مباحاً فإن كان محرماً حرم عليه أن يترك صلاة الجماعة.
والدليل على هذا:
- أن في ذهاب الرفقة وتركه ضرراً ظاهراً لا سيما في القديم فإنه في القديم يكون السفر جماعياً ولا يكون السفر أفراداً وإنما يكون جماعياً لرد الضرر الحاصل في الطريق إما من اعتداء اللصوص أو السباع أو من العطش أو من الجوع فإذا كانوا جماعة أمكن أن يتعاونوا في دفع هذا الضرر فإذا تخلف عنهم وقع عليه الضرر وهو احتمال كبير أي وقوع الضرر عليه.
وفي عصرنا اليوم كذلك ك يعني لو كان هناك رفقة يستعدون للسفر في سيارة واحدة وترتب على بقائه وصلاته مع الجماعة أن يذهبوا ويتركوه فإن في هذا ضرر لا شك لأنه قد لا يستطيع السفر بمفردة أو قد يتضرر ثم مع ذلك إذا صلى مع الجماعة وهو يعلم أن له رفقة ينتظرونه وربما ذهبوا وتركوه صلى وهو مشوش الذهن بعيد كل البعد عن الخشوع وحضور القلب.
فهذا إن شاء الله من الأعذار.
ونحن نتكلم الآن عن أن هذا الشخص الذي أراد أن يصلي مع الجماعة وله رفقة ينتظرونه وسيذهبون إن صلى فهو معذور ولا نتكلم عن الرفقة - لسنا نتكلم عن الرفقة لأن هؤلاء المجموعة عملهم محرم لأنه يجب عليهم أن يصلوا صلاة الجماعة إذا سمعوا النداء ولو كانوا على وشك السفر.
فكل إنسان سمع النداء يجب أن يؤدي هذه الصلاة التي نودي لها في جماعة سواء كان في هذا المسجد أو في غيره.
المهم ما دام سمع النداء فيجب أن يصلي مع جماعة المسلمين في أي مسجد.
(2/118)
________________________________________
لكن: وإن كان عمل هؤلاء المجموعة محرم وهو أنهم سيذهبون ويتركون صلاة الجماعة ويصلون فرادى أو في مسجد خارج البلد بلا جماعة لكن باتلنسبة لهذا الشخص الذي سيذهبون ويتركونه هو معذور بهذا العمل وله أن يسافر معهم.

ثم قال - رحمه الله -:
أو غلبة نعاس.
يعني: إذا غلب الإنسان النعاس وسيطر على ذهنه النوم فإنه يجوز له أن يترك صلاة الجماعة.
وذكر الفقهاء - رحمهم الله - شرط لهذا وهو: أن يخشى فوات الصلاة والجماعة.
يعني: يخشى لو انتظر ليصلي مع الجماعة أن ينام بسبب النعاس ثم يؤدي هذا إلى ترك الصلاة والجماعة.
أي: إخراج الصلاة عن وقتها وبطبيعة الحال فوات صلاة الجماعة.
إذا خشي من هذا جاز له ترك صلاة الجماعة.
ظاهر عبارة الحنابلة: أنه في هذه الصورة يعذر. أما إذا صار معه نعاس شديد لا يخشى معه فوات الجماعة ولكن يشق عليه أن يصلي مع الجماعة - يشق عليه مشقة ظاهرة أن ينتظر ويصلي مع الجماعة أنه في هذه الصورة يجب أن يصلي مع الجماعة. هذا ظاهر عبارة الحنابلة لأنهم خصوه بمن خشي فوات الصلاة والجماعة فقط. هذا الشخض الذي إن انتظر ربما فاتته الصلاة والجماعة لأنه سينام مع غلبة النعاس هذا فقط الذي يعذر بترك صلاة الجماعة.
هذا ظاهر عبارتهم.
والصواب: أن عذر غلبة النعاس يشمل الصورتين: - أن يخشى فوات الصلاة والجماعة. وهو مراد الحنابلة.
- وأن يشق عليه مشقة ظاهرة زائدة أن ينتظر صلاة الجماعة. لأنه إن انتظر ولو ضمن إدراك الجماعة فإنه سيصلي مع غلبة النعاس والتعب والبعد كل البعد عن الخشوع واستحضار مقاصد الصلاة ومعاني الأذكار أثناء أداء الصلاة وهذا كله بعيد عن إرادة الشارع أي أن الشارع الحكيم من مقاصده أن يؤدي المكلف الصلاة كاملة بحضور وخشوع واستحضار لمعاني الأذكار التي تكون في السجود والركوع والقيام.
فإن شاء الله هذا العذر يشمل الصورتين.
ونقول كذلك: على أن يحصل هذا اتفاقاً.
أما أن يرتب الإنسان وقته على أن يكون صلاة العصر دائما متعباً يغلب عليه النعاس لا يدري ما يقول إن صلى هذا لا يجوز يجب أن يرتب أموره بحيث يستطيع أن يؤدي الصلاة على الوجه الأكمل.

ثم قال - رحمه الله -:
أو أذى بمطر ووحل.
يعني: أو حصل له أذى بمطر أو وحل.
(2/119)
________________________________________
إذا تأذى الإنسان بالمطر أو بالوحل جاز له أن يترك صلاة الجماعة.
- لحديث ابن عمر في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في الليلة الباردة أو المطيرة: صلوا في رحالكم.
أو: كلمة أو هذا لفظ البخاري.
وأما في الليلة الباردة والمطيرة هذا لفظ خارج البخاري.
المهم أنه في صحيح البخاري: في الليلة الباردة أو المطيرة.
واستدلوا أيضاً:
- بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه أمر المؤذن أن يقول صلوا في رحالكم في ليلة موحلة ممطرة فلما سئل قال خشيت أن تخرجوا فتتأذوا من الطين والوحل. وهذا حديث صحيح أيضاًَ ثابت.
واستدلوا أيضاً:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عام الفتح أمطرت على أصحابه - صلى الله عليه وسلم - مطراً لم يبل أسفل نعالهم فقال لهم صلوا في رحالكم وهذا أيضاً إسناده حسن إن شاء الله.
فدلت هذه الأحاديث على أن نزول المطر أو وجود الطين في الأرض سبب من أسباب العذر في الخروج لصلاة الجماعة.
وضبط الفقهاء الوحل أو الطين: بما يتأذى به الإنسان في بدنه أو ثوبه.
أما إن كان طين يسير لا يضر وبإمكان الإنسان أن يتفاداه فإن هذا لايعتبر من الأعذار التي توجب ترك الجماعة.
وضبطوا المطر كما سيأتينا أيضاً: بما يبل الثياب.
فإذا نزل مطر يبل الثياب فإنه يجوز ترك صلاة الجماعة.
بناء على هذا: إذا نزل مطر يبل الثياب لكن لا يؤذي أذية ظاهره فأحيناً ينزل مطر يبل الثياب لكن لا يؤذي أذية ظاهرة.
فعند الفقهاء يجوز والحالة هذه أن يترك صلاة الجماعة.
ومن العلماء من قال: بل يجب مع كونه يبل الثياب أن يؤذي بحيث إذا خرج الإنسان تضرر وتأذى.

ويظهر لي: والله أعلم: أن مذهب الحنابلة: أنه يشترط أن يبل الثياب فقط صحيح لأنه يظهر من النصوص أن الشارع الحكيم يعذر بجنس المطر ولا أقصد بأي مطر لكن أقصد أنه يعذر بجنس المطر الذي يبل الثياب.
بدليل هذا الحديث الذي تقدم معنا في قصة الفتح وهو أنهم مطروا مطراً لا يبل أسفل النعال وأنتم تعلمون أن الطرق في القديم كانت كلها من تراب وأن المطر إذا نزل مباشرة تصبح الأرض قريبة من الطين إذا كان المطر يسيراً.
يعني: لا بد أن تتأثر الأرض ولو بالمطر اليسير.
(2/120)
________________________________________
وإذا تأثرت الأرض ولو بالمطر اليسير فلا بد أن تتأثر النعال.
وهذا المطر الذي نزل عليهم - رضي الله عنهم - هم يقولون أنه لم يبل أسفل النعال فيظهر والله أعلم مع جمع القرائن وما كانت عليه أراضيهم أنه كان مطراً قليلاً.
فمن مجموع هذه الأمور يظهر والله أعلم أن الشارع يعذر بالمطر ما دام أنه يبل الثياب ويحصل به أذى ولو لم يكن أذىً كبيراً.
أما إذا نزل مطر لا يبل الثياب ولا يؤذي وإنما يشجع على الخروج من البيت فإنه إن ترك صلاة الجماعة في هذه الصورة فقد ارتكب محرماً.
صلاته صحيحة لكنه آثم بتركه الصلاة بما لا يسوغ شرعاً ترك الصلاة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة.
العذر الأخير: الريح.
لكن يشترط في الريح هذه الشروط الثلاثة:
- أن تكون باردة.
- وأن تكون شديدة.
- وأن تكون في ليلة مظلمة.
إذاً لابد من ثلاثة شروط. باردة وشديدة وفي ليلة مظلمة.
فإن كانت الريح ساخنة دافئة: فإنها ليست عذراً في ترك صلاة الجماعة.
وإن كانت ريحاً باردة لكنها تهب بهدوء وليست شديدة: فكذلك ليست بعذر.
وإن كانت ريحاً باردة شديدة في النهار فليست بعذر.
إذاً: لابد من تحقق هذه الشروط الثلاثة.
نبدأ بالشرط الأول: أن تكون الريح باردة. هذا لا شك أنه شرط صحيح.
أما الريح الساخنة فإنها لا تؤذي فبإمكان الإنسان أن يخرج ولا يتأذى بها.
إذاً عذا الشرط الأول: بادرة. وهو صحيح ولذلك يقول ابن عمر - رضي الله عنه -: في الليلة الباردة أو المطيرة.
الشرط الثاني: أن تكون هذه الرياح شديدة.
وقوله: (شديدة) على خلاف مذهب الحنابلة يعني أن المؤلف - رحمه الله - خالف المذهب في هذه المسألة وهي اشتراط أن تكون شديدة.
= فالمذهب: لا يشترطون أن تكون شديدة بل يكفي أن تكون باردة.
والمذهب الذي هو خلاف ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هو الصواب إذا لا لا يشترط في الريح أن تكون شديدة لأنه لم يشترط في الحديث أن تكون شديدة أو أن تكون قوية. هذا شيء.
(2/121)
________________________________________
الشيء الآخر: أن الريح الباردة ولو هبت بهدوء فإنها مؤذية ولو لم تكن شديدة. نعم الشديدة أكثر أذىً ويتضرر بها الإنسان تضرراً شديداً لكن كذلك الريح الباردة ولو هبت بهدوؤ فإنها تسبب ضرراً واضحاً وتأذياً للإنسان.
فإذا: لا يشترط أن تكون شديدة وإنما فقط أن تكون باردة.
نأتي إلى الشرط الثالث وهو: في ليلة مظلمة.
يشترط أن تكون ليلة ويشترط في هذه الليلة أن تكون مظلمة.
استدلوا على هذا الشرط:
- بقول ابن عمر - رضي الله عنه -: في الليلة الباردة. فنص على أن الريح تكون عذراً في الليل فقط.
واستدلوا على ذلك أيضاً:
- بأن الريح إذا كانت في النهار فإنها لا تؤذي كما إذا كانت في الليل.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون في الليل بل يجوز أن يترك صلاة الجماعة ولو كانت في النهار.
- لأن الريح الباردة ولو هبت في النهار فإنها مؤذية وتضر بدن الإنسان والشارع الحكيم يقول: (لاضرر ولا ضرار). وقد عذر بالطين وعذر بالمطر اليسير فما بالك بالريح الباردة ولو كانت في النهار.
فالأقرب إن شاء الله أن الليل لا يشترط وأنه لو هبت في النهار فإنه عذر لترك صلاة الجماعة.
مسألة / لم يذكر المؤلف - رحمه الله - البرد. يعني: لو أنه أصبح الجو بارداً من غير ريح فما الحكم؟
الأقرب والله أعلم أنه إذا كان الجو بارداً فإنه يجوز للإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة بشرط أن تكون هذه البرودة خارجة عن البرودة المعتادة وإلا فإنه من المعلوم أن الشتاء كله يكون الجو فيه بارد.
فهل يقول قائل بأنه من حين أن يدخل الشتاء إلى أن يخرج يجوز للإنسان أن يترك صلاة الجماعة؟ هذا لا يقول به قائل.
لكن نحن نقول إذا كان البرد خارج عن العادة. وهذا يقع وربما تذكر أنه في شتاءنا هذا يمر اليوم أو اليومان يكون البرد فيهما خارج عن العادة ومؤذي وهو أشد إيذاء من الطين بلا إشكال.
ثم ابن عمر - رضي الله عنه - يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الباردة. هل ذكر الريح؟ لا لم يذكر الريح. إنما قال: في الليلة الباردة.
إذاً وجود البرد بحد ذاته الذي يعتبر غير معتاد هو في الحقيقة عذر.
(2/122)
________________________________________
لكن العلماء - رحمهم الله - لم يذكروا البرد. لماذا؟ لأنه في الغالب الأعم أنه لا يوجد برد شديد إلا مع ريح فيندر تماماً أن تجد الجو بارد جداً ومؤذي وخارج عن العادة بدون ريح لأن الريح التي تهب مثلاً عندنا في نجد من جهة الشمال هي التي أصلاً تسبب البرودة. ولذلك لم يذكروها ففي الحقيقة الخلاف قد يكون لا طائل تحته لكن أحياناً يوجد برد بلا ريح فإذا وجد هذا البرد الشديد بلا لاريح جاز للإنسان أن يتخلف عن صلاة الجماعة.
وبهذا العذر أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن الأعذار التي إذا وقعت جاز للمكلف أن يترك صلاة الجماعة.

باب صلاة أهل الأعذار
• ثم قال - رحمه الله -:
باب صلاة أهل الأعذار.
يعني: باب يبين فيه كيف يصلي المعذور.
والمعذور هو: المريض.
• يقول - رحمه الله -:
تلزم المريض: الصلاة قائماً.
إذا أطاق المريض أن يصلي قائماً وجب عليه أن يصلي قائماً بالإجماع. بلا خلاف.
- أولاً: لأن القيام ركن وهو يستطيع أن يؤديه.
- ثانياً: لحديث عمران بن حصين وهو في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب).
فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة قائماً مع أن عمران - رضي الله عنه - سأله عن صلاة المريض.
في الحديث عمران - رضي الله عنه - قال: أخبرني يارسوال الله عن الصلاة هو لم يقل في الحديث أخبرني عن صلاة المريض وإنما قال أخبرني عن الصلاة لكن الشراح فيما أعلم كلهم قالوا معنى أخبرني عن الصلاة يعني عن صلاة المريض. لأمرين:
- الأول: أن عمران كان مريضاً. كان فيه بواسير حين سأل - رضي الله عنه -.
- الثاني: أن الجواب: لا يمكن أن يكون جواباً عن الصلاة عموماً وإنما هو جواب يتعلق بالمريض لأنه هو الذي لا يستطيع أن يصلي قائماً.
ولهذا حمل الفقهاء - رحمهم الله - قوله: أخبرني عن الصلاة يعني عن صلاة المريض.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن لم يستطع فقاعداً.
إذا لم يستطع فيصلي قاعداً بالإجماع.
- لأنه لم يستطع أن يصلي. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فإن لم تستطع فقاعداً).

والصواب: قاعداً. تنقسم إلى قسمين:
(2/123)
________________________________________
ــ القسم الأول: أن لا يطيق أن يصلي قاعداً. فلو قام لسقط. فهذا يصلي قاعداً بإجماع الفقهاء - رحمهم الله - بلا خلاف.
- لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تستطع فصلي قاعداً).
ــ القسم الثاني: أن يطيق ولكن مع مشقة ظاهرة. فهذا يصلي قاعداً أيضاً. لدليلين: - ولا يمكن أن نستدل هنا بحديث عمران لأن حديث عمران يقول: فإن لم تستطع وضابط الاستطاعة هو محل الخلاف الآن.
(إذاً: مرة أخرى: القسم الثاني: أذا كان يستطيع لكن مع مشقة ظاهرة. فإنه يصلي أيضاً قاعداً).
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سقط عن الفرس وجحش جنبه أو شقه الأيمن: يعني انقشع عنه جلده: صلى جالساً. والظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستطيع أن يصلي قائماً ولكن مع مشقة ومع ذلك صلى الفروض والنوافل جالساً - صلى الله عليه وسلم -.
هذا دليل.
- الدليل الثاني: أنه إن صلى قائماً مع المشقة ذهب عنه الخشوع.
- الدليل الثالث: جميع النصوص التي ترفع الحرج في الشرع.
لكن مع ذلك نحتاج إلى ضابط:
= فمن الذين ضبطوها إمام الحرمين من الشافعية فضبط عدم القدرة بأنه إن قام ذهب عنه الخشوع. لأنه ينشغل بهذا المرض.
فإذا حصل هذا الضابط جاز له الجلوس.
= والقول الثاني: أنه لا يصلي قاعداً إلا إذا لم يتمكن من القيام لدنياه. وهذه رواية عن الإمام أحمد.
معنى هذا: أنه من غير المقبول ما يفعله بعض الناس: يصنع كل شيء يذهب للدوام ويقوم ويجلس وإذا جاءت الصلاة قال: ما أسطتيع أن أصلي قائماً.
كيف تستطيع تقوم لدنياك؟ وتذهب وتأتي وتفعل كل هذه الأعمال ثم إذا جائت الصلاة بالذات صرت لا تستطيع.
إذاً هذا معنى قول الإمام أحمد: إذا كان لا يستطيع أن يقوم لدنياه جاز له أن يصلي جالساً.
(2/124)
________________________________________
ومع وجاهة هذا القول إلا أن القول الأول: أضبط وأنا نقول له أنت مُدَيَّن وهذا أمر يرجع بينك وبين الرب سبحانه وتعالى فإن كنت إذا صليت قائماً ذهب عنك الخشوع وانشغلت بهذا المرض ولم تعد تستحضر الصلاة على الوجه الذي ينبغي جاز لك حينئذ أن تجلس ولا يشترط أن يكون الإنسان إن قام سقط فهذا غير مراد على هذا القول وإنما يجوز له أن يصلي جالساً في هذه الحالة أيضاً وهي ذهاب الخشوع.
إذاً القول الأول هو الصواب إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن عجز فعلى جنبه.
يعني إن عجز عن الصلاة قاعداً فإنه يصلي على جنبه.
- لحديث عمران (فعلى جنب). ويكون وجهه حينئذ إلى القبلة.
وليس رأسه إلى القبلة: إذا صلى على جنب فيكون وجهه إلى القبلة كما يصنع بالميت في القبر لا كما يفهم بعض الناس أنه يضع رأسه إلى القبلة وإنما يضع وجهه.
= فمن الفقهاء من قال: يصلي على جنبه الأيمن.
= ومنهم من قال: يصلي على أي الجنبين شاء. (((الأذان))).
بعد الأذان قال الشارح - حفظه الله -:
فقط نكمل هذه المسألة: إذاً إما أن يصلي عن يمينه على قول أو هو مخير بين الجوانب على قول.
والصواب أن المريض يصلي حسب ما يتيسر له.
فإن تساوت الأمور من حيث المرض فالأفضل أن يصلي على يمينه.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن في شأنه. ولا شك أن هذا من أعظم الشؤون وهو الصلاة. أو على أي جنب يصلي.
والله أعلم.
انتهى الدرس،،،
(2/125)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله.

غير موجود ...
(2/126)
________________________________________
فصل
[أحكام قصر الصلاة]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
ذكرت في الدرس السابق أن مسألة تحديد المسافة التي إذا قطعها المسافر جاز له أن يقصر وأن يترخص بأحكام السفر أنها مسألة فيها إشكال وتداخلت أقوال الفقهاء فيها وذكرت:
= القول الأول وهو مذهب الجمهور.
والقول الثاني: وهو مذهب الظاهرية وليس معهم ابن حزم ورجحت أنه ثلاثة (فراسخ) احتياطاً وأن الثلاثة فراسخ تساوي بالكيلو المعاصر ستة عشر كيلو.
= القول الثالث: وهو مذهب الأحناف الذي اشتهروا به وهو أن المسافة مسيرة ثلاثة أيام. وهي تساوي بالكيلو = مائة وثلاثة وثلاثون تقريباً = 133ك. وهذا التحديد هو أطول تحديد عند الفقهاء.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على المرأة التي تقطع مسيرة ثلاثة أيام أنها مسافرة لقوله: (تسافر).
والجواب على هذا الاستدلال: أن هذا الحديث في الصحيحين وفي رواية في الصحيح: (تسافر مسيرة يومين) وفي رواية في الصحيح أيضاً: (تسافر مسيرة يوم) وفي رواية خارج الصحيحين وهي في السنن: (تسافر مسيرة أو سير بريد).
فلما خرت ألفاظ الحديث مختلفة دَلَّ ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد التحديد أي: لا يقصد أن ما دون الثلاثة أيام أنه لا يسمى سفراً.
= القول الرابع: أن المرجع في ذلك إلى العرف لأن الله سبحانه وتعالى أطلق السفر في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق السفر في سنته ولم يأت عنهما تحديد للمسافة وتحديد ما أطلقه الشارع لا يجوز.
ثم المسافات وتحديدها ومقدارها ليس معروفاً للناس وإنما يعرفه أهل الاختصاص فقط لا سيما في القديم.
وهذا القول اختيار شيخ الاسلام وابن القيم ونسب عند بعض المعاصرين خطأ لابن حزم - فالصواب أن هذا ليس قولاً لابن حزم.
(2/127)
________________________________________
عرفنا هذا القول وفي ضمنه دليله وهو أن التحديد ليس موجوداً في الكتاب والسنة والقاعدة التي اتفق عليها الفقهاء أن كل لفظ جاء في الشرع ليس له حد لافي اللغة ولا في الشرع فإنه يرجع في تحديده إلى العرف.
فالسفر جاء مطلقاً في الشرع ولم يحدد فنرجع في تحديده إلى العرف.
= القول الخامس: أنه ميل فقط وهذا هو مذهب ابن حزم والميل يساوي كيلوين فقط.
واستدل ابن حزم بأن الشارع الحكيم ربط أحكام السفر على السفر وأقل ما جاء في الشرع أنه ميل فإنه صح عن ابن عمر رضي الله عنه وهو من أهل اللغة - يقول ابن حزم - الذين يرجع إلى أقوالهم أنه سمى الخروج ميل سفراً فهذا أقل ما جاءنا فنتمسك به.
= القول السادس: أن المسافة بريد وهذا اختيار شيخ الاسلام لو قلنا بالتحديد بالمسافة فيقول أننا لو أردنا التحديد بالمسافة لحددنا ببريد.
وهو يساوي تقريباً اثنين وعشرين كيلو.
الدليل: قال: الشارع سمى قطع مسافة بريد قطعاً في حديثين:
- الحديث الأول: وهو الأصح. ما ثبت في الصحيحين وفي غيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في عرفة وقصره صلى الله عليه وسلم في عرفة قصر سفر هو ومن معه من أهل مكة والفاكهي يقول - في أخبار مكة - بين مكة وعرفة بريد.
- الحديث الثاني: الذي سمى فيه الشارع قطع مسافة بريد سفراً ما تقدم معنا الآن: (لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسافة بريد) فسمى مسافة البريد سفراً.
ولا شك بعد أن سمعتم هذه الأقوال منسوبة لكبار أهل العلم أنكم عرفتم أن في المسألة إشكال ويظهر الإشكال جلياً من التفاوت الكبير بين مائة وثلاثة وثلاثين كيلو إلى اثنين كيلو مروراً بثمانين واثنين وسبعين وثمان وثمانين واثنين وعشرين ... إلى آخره ...
الراجح:
الحقيقة كما قلت أن المسألة مشكلة.

- أما اختيار شيخ الاسلام وابن القيم فهو قول لا يكاد ينضبط ويشكل جداً في التطبيق لا سيما مع سهولة المواصلات في عصرنا هذا مما يختلط معه تماماً ما يسمى سفراً وما يسمى خروجاً بلا سفر.
- ثانياً: أقوى الأقوال فيما يظهر لي من جهة الأدلة القول الأخير وهو البريد لأن الإنسان يطمأن إلى أن الشارع بنفسه سمى قطع هذه المسافة سفراً.
وقلت لكم هذا اختيار شيخ الاسلام إذا قلنا بالتحديد بالمسافة.
لكن كونه يقال إذا خرج الإنسان وقطع مسافة اثنين وعشرين كيلو يصبح مسافراً أيضاً أقل ما نقول أنه قد يتردد الإنسان بالجزم به مع أنه لا شك أن أهل مكة لما خرجوا إلى عرفة قصروا لأنهم قطعوا مسافة بريد.
فمن الجهة العلمية هو قوي جداً وهو أقوى مما رجحه ابن حزم بقوله: ميل فإن اختيار الميل ضعيف جداً وسيأتينا الآن.
(2/128)
________________________________________
واعتقد أن الذي يسع الإنسان ولو على سبيل التقليد ولا بأس بالتقليد إذا تاربت الأدلة - هو مذهب الجمهور فنقول من قطع ثمانين أو ثمان وثمانين كيلو أنه يتعبر مسافراً وتنضبط القضية ولا يشكل على الناس أي قضية بعد أن حددت لهم الأمر بالمسافة.
ومن المفيد أن تستحضر أثناء دراسة مسألة تحديد السفر بالمسافات أن الصحابة كلهم حددوا بالمسافة وإن اختلفوا في مقدارها.
فأنس رضي الله عنه تقدم معنا أنه حددها بثلاثة فراسخ وابن عمر رضي الله عنه مشهور عنه التحديد بأكثر من حد وابن عباس رضي الله عنه فكلهم حددوا بالمسافة ولم يرو عن أحد منهم التحديد بغير المسافة. وشيخ الاسلام يقول: أن تحديد الصحابة بالمسافة مع اختلافهم واختلاف الرجل الواحد منهم دليل على أنهم كانوا يفتون كل شخص بحسب حاله أي أنهم يرجعون إلى العرف. ونحن نقول: أن هذا التخريج لفتاوى الصحابة قد يكون مقبولاً لكن مع ذلك نحن نعلم قطعاً أنهم اتفقوا على التحديد بالمسافة ربما رجوعاً إلى العرف وربما لأمر آخر لكن في الخلاصة والنتيجة نهم حددوا بالمسافة وعليه نحن نقلد الصحابة رضي الله عنهم ونحدد بالمسافة.
ويبقى أي المسافات نختار فكما قلت لكم الاحتياط والأضمن مذهب الجمهور - الشافعية والمالكية والحنابلة - والأقوى دليلاً أن يكون الإنسان إذا قطع اثنين وعشرين كيلو أنه يعتبر مسافراً.
هذا ثانياً.

- وثالثاً: شيخ الاسلام رحمه الله لا يريد أبداً بقوله العرف قصر المسافة. يعني: أنه لا يريد أن من قطع - مثلاً - تسعين كيلو قد لا يكون مسافراً أو من قطع سبعين كيلو قد لا يكون مسافراً بل يريد رحمه الله أقل من ذلك لا كما فهمه بعض الناس أن قول شيخ الاسلام يقلل المسافة التي حددها الجمهور الدليل على لذلك أن شيخ الاسلام رحمه الله نفسه في الفتاوى يقول: عبارة معناها: والمرجع في السفر إلى ما تعارف عليه الناس أنه سفراً كخروج أهل مكة إلى عرفة.
وأخذنا أن بين مكة وعرفة مسافة بريد فهو رحمه الله يريد أن يقصر المسافة التي حددها الجمهور هو يقول: أنتم تقولون أن الإنسان لا يسمى مسافراً حتى يقطع مسيرة أربعة برد وهو يقول بل يكفي أن يقطع بريداً واحداً ليكون مسافراً.
(2/129)
________________________________________
فمن الخطأ التضييق على الناس بناء على قول شيخ الاسلام لأنه لا يريد هو التضييق هو يريد أن العلماء - الآخرون - ضيقوا وحددوا مسافة طويلة لا يعتبر الإنسان مسافراً إلى إذا قطع هذه المسافة.
هذا ثالثاً: كل هذا في الترجيح حتى يتصور الإنسان معالم المسألة.
- رابعاً: قول ابن حزم ضعيف والسبب في ضعفه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قباء كل سبت كما في الصحيح وقباء على مسافة ميل من المدينة.
أضف إلى هذا أن من كان حول المدينة ممن يبعد عنها ميل كأهل قباء وغيرهم كانوا أيضاً يدخلون إلى المدينة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصر إذا ذهب إلى قباء ولا الذين خارج المدينة على بعد ميل يقصرون إذا دخلوا المدينة.
فتبين أن هذا الحد ليس بصحيح.
المسألة الأخيرة: هل من خرج إلى النزهة يعتبر مسافراً؟
الجواب: عن الإمام أحمد روايتان:
- الأولى: أنه يعتبر مسافراً. لأنه خرج عن بلدته وقطع مسافة فلا يخرج عن مسمى السفر.
- الثانية: أن من خرج في نزهة فإنه لا يسمى مسافراً لأنه لم يخرج لما فيه غرض ومصلحة مفيدة.
والأقرب: الرواية الأولى إذ لا دليل على اشتراط أن يكون الخارج خرج لغرض صحيح ثم أرأيت لو خرج يتنزه لمسافة ألف كيلو فهل يعتبر مسافراً؟ الجواب: مسافر بالإجماع فلا أحد يعتبر أن من قطع ألف كيلو أنه ليس بمسافر مع أنه خرج يتنزه وطول وقصر المسافة لا يؤثر في الأحكام.

بعد هذه الجولة في هذه المسألة المهمة التي تمس حاجة الناس جداً إليها وإلى معرفة ضوابطها نخلص إلى أن قول الجمهور يعتبر من أحوط وأحسن الأقوال وأسهلها تطبيقاً وأن الإنسان إذا قطع هذه المسافة وخرج فإنه يعتبر مسافراً وأن القول بأنه إذا قطع اثنين وعشرين كيلو خارجاً عن البلد أنه يعتبر مسافراً قول قوي جداً ويسنده نصان صحيحان في تسمية من قطع هذه المسافة مسافراً في الشرع ويترخص ويأخذ أحكام السفر ولكن أرجع وأقول بأن قول الجمهور أحوط وأولى ومن المسائل المهعمة ما ذكرت لكم أن قول شيخ الاسلام بالتحديد بالعرف لا يقصد منه التضييق في مسألة السفر وإنما يقصد منه التوسيع وأن من خرج أصبح مسافراً وإن لم يقطع هذه المسافة التي حددها الجمهور.
(2/130)
________________________________________
أما مذهب الحنفية فهو من أضعف الأقوال لأنه اعتمد على نص لا يقصد منه أبداً تحديد من يعتبر مسافراً ومن لا يعتبر مسافراً في الشرع.
ثم إنه فيه مشقة إذ لا يعتبر الإنسان مسافراً إلا إذا قطع مسيرة ثلاثة أيام وهذه مسافة طويلة يشق على الناس تحقيقها إذا اشترطنا عليهم أنهم لا يكونوا مسافرين إلا بقطع مسافة مائة وثلاث وثلاثين كيلو فهذا فيه مشقو وبعد وليس له أصل واضح والحديث الذي ذكروه روي يومين وروي يوم وروي أقل: بريد.
- إذاً عرفنا الآن أن من سافر تسعين كيلو فبإجماع الأمة ما عدا الأحناف فإنه يعتبر مسافراً فكل فقهاء المسلمين من الصحابة ومن تبعهم والفقهاء السبعة ومن بعدهم عندهم من قطع تسعين كيلو يعتبر مسافراً وحتى شيخ الاسلام وإن كان يضبطه بالعرف فلا شك أنه عنده يعتبر مسافراً بل من قطع بريداً عنده يعتبر مسافراً.
وأما اختياره هو نفسه رحمه الله في مسألة العرف فهذا بالتجربة والعمل لا يمكن ضبطه فتختلف أعراف الناس وتختلف عادات الناس ويسميه البعض مسافر والبعض لا يسميه مسافراً مما يدخل معه الفقيه بإشكال له أول وليس له آخر وقد أشار شيخنا رحمه الله - ابن عثيمين - وإن كان يرجح القول بالعرف أن هذا القول لا ينضبط وأنه مشكل جداً وذكره في أكثر من مناسبة وذكر أن قول الجمهور منضبط وإن كان لا يفتي به لكنه رحمه الله أقر بهذا أن مذهب شيخ الإسلام لا ينضبط وأن مذهب الجمهور سهل التطبيق ومنضبط عند الفتوى.

ثم قال رحمه الله:
من سافر سفراً مباحاً أربعة برد: سن له قصر الرباعية ركعتين.
القصر مشروع بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
لكن اختلفوا في حكمه:
= فذهب الجماهير الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والشافعي إلى أن القصر سنة وليس بواجب.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- منها قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ورفح الجناح يدل على أن العمل ليس بواجب.
(2/131)
________________________________________
- واستدلوا بحديث يعلى بن أمية أنه سأل عمر بن الخطاب عن هذه الآية ({وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم}) فقال فقد أمنا فكيف نقصر فقال عمر رضي الله عنه عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم).
فقوله صدقة يدل على أنه سنة وليس بواجب.
- واستدلوا بأن عثمان رضي الله عنه صح عنه وعائشة وابن عمر وابن مسعود وغيرهم من الصحابة أتموا.
- واستدلوا بأن الصحابة كلهم أتم خلف عثمان في منى.
- واستدلوا بما أفتى به الصحابة أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم ولو كانت صلاة السفر ركعتين فقط لكانت كصلاة الفجر لا يجوز أن يزيد فيها الإنسان.
وفي بعض هذه الأدلة مناقشات لكن مجموعها لا سيما الآثار والأدلة الأخيرة التي ذكرت تعتبر قوية جداً.
= والقول الثاني: للأحناف والظاهرية أن القصر واجب فإن أتم أعاد.
واستدلوا: بحديث عائشة الصحيح أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر).
فقولها رضي الله عنها: فرضت. دليل على أن الركعتين فرض.
وأجابوا عن هذا الأثر بأجوبة كثيرة:
- منها أنه صح عن عائشة أنها أتمت.
- ومنها أن هذا قول لعائشة لا يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومنها أن هذا الحديث حديث شاذ مخالف لظاهر القرآن. ووجه مخالفته لظاهر القرآن أن القرأن دل على أن الأربع هي الأصل {لاجناح عليكم أن تقصروا} وحديث عائشة دل على أن الركعتين هي الأصل فهذا مخالف لظاهر القرآن.
والدليل الثاني: للقائلين بالوجوب حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين والحضر أربع وفي الخوف ركعة).
والجواب عن هذا الحديث: أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجب أن يصلي الإنسان في الخوف ركعة واحدة فكذلك في السفر.
وفي الحقيقة الأجوبة على أثر عائشة وأثر ابن عباس كلها ضعيفة وكلها ممكن أن تناقش مناقشة قوية جداً ولا تثبت الأجوبة عند المناقشة
(2/132)
________________________________________
الراجح: مع ذلك الراجح قول الجمهور للآثار لأن نعلم قطعاً أن الصحابة صلوا أحياناً أربعاً ونعلم أن جمهور الصحابة صلوا خلف عثمان رضي الله عنه أربعاً ولو كانت فريضة صلاة السفر ركعتين لأنكروا على عثمان لأنه كما يكون كما لو زاد في الظهر ركعة فصارت خمساً فهذا التصرف من الصحابة دليل على أنه لا يجب.
وهناك دليل في الحقيقة قوي للجمهور ومن الممكن أن نستدل به وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه أتم في صلاة الخوف فإنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم صلى بالركعة الثانية ركعتين فصارت له أربع ولهم ركعتين فهذا يستدل به أنه يجوز أن يتم (((والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أبداً أنه أتم في السفر إلا في صورة واحدة وقد تكون محل أخذ وعطاء وهي هذه الصورة - صلاة الخوف))).
وعلى كل حال: القول بالوجوب ليس بقوي.
= القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أن الإتمام مكروه وهو راجع لقول الجمهور أنه يسن القصر والإتمام من فعله فهو مكروه وهذا اختيار شيخ الاسلام وبه تجتمع الأدلة.
إذاً الراجح إن شاء الله أن لا يجب على الإنسان أن يقصر لكنه إن أتم من غير أن يكون خلف مقيم فقد فعل مكروهاً ولا ينبغي أبداً لطالب العلم ولا للمسلم أبداً أن يتم إذا لم يكن خلف مقيم لأن هذا فيهخ مخالفة صريحة جداً للسنة وابن مسعود لما أتم عثمان قال إما لله وإنا إليه راجعون وهي كلمة تقال عند المصائب فاعتبر هذا الفعل من المصائب لأنه مخالفة صريحة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أبو بكر وعمر.
فالراجح الثالث وهو داخل في الثاني أنه مكروه.

ثم قال رحمه الله.
إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه.

يريد المؤلف رحمه الله أن يبين متى يبدأ الإنسان بأحكام السفر إذا كان يريد أن يقطع مسافة القصر. وهي عند الحنايلة أربعة برد.

يقول: إذا فارق عامر قريته: فإذا خرج الإنسان عن حدود المدينة العامرة بالسكن جاز له أن يترخص برخص السفر.
- فإن كانت أطراف المدينة خرابات ليس فيها ساكن جاز له أن يبدأ بأحكام السفر من حين يفارق عامر القرية وإن لم يفارق هذه البيوت الخربة.
(2/133)
________________________________________
- وإن كان في أطراف البلد مزارع لا تسكن - وهذا قيد ضروري - وإنما يخرج إليها الناس ويرجعون جاز له أن يترخص بأحكام السفر إذا فارق عامر القرية وإن لم يفارق هذه المزارع الملحقة بالبلد.
فإذاً الضابط هو: عامر القرية.

الدليل: - الأول: أن السفر في اللغة لا يطلق إلا على من ظعن وخرج عن بيته وقريته لأنه بذلك يسفر أي يصبح ظاهراً لا تحده البنيان.

ذو القعدة الثاني: أنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة أسفاره أنه قصر بالمدينة قبل أن يخرج.
ذو القعدة
= والقول الثاني: أن من عزم على السفر وأراد أن يقطع مسافة القصر جاز له أن يترخص من بيته. فيفطر ويقصر ويجمع ويخرج.

واستدلوا على هذا:
- بأنه روي عن اثنين من الصحابة أنهم فعلوا ذلك.
- ولأنه من حين نوى السفر فإنه يصدق عليه اسم المسافر.
والصواب القول الأول: وهو مذهب الجماهير من الصحابة ومن بعدهم. أنه لا ترخص إلا إذا فارق عامر قريته.
• قال رحمه الله:
أو خيام قومه.
إذا فارق خيام القوم أي تجاوز الخيام إذا كان من سكان البادية جاز له بمجرد المفارقة أن يبدأ بأحكام السفر.
= مسألة: فإن كان سفره عن طريق البحر فينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يركب السفينة ويسافر لا ماحاذياً للشاطيء
(فالإنسان الذي يخرج من جده ويريد اليمن فإنه يكون محاذياً للشاطيء بينما إذا أراد أن يذهب إلى مصر فإنه يجعل جده في ظهره ولا يحاذي الشاطيء).
فإن كان يسافر محاذياً للشاطيء فإنه لا يترخص حتى يفارق عامر القرية فينظر عن شماله إذا كان الشاطيء عن شماله فإذا فارق عامر القرية بدأ بأحكام السفر.
وإن سافر لا محاذياً للشاطيء فإن كان ينتقل من الشاطيء إلى سفينة السفر - التي سيسافر عليها - بمركب صغير فبمجرد مغادرة هذا المركب فإنه يعتبر مسافراً.
وإذا كان يركب السفينة التي يريد أن يسافر عليها ابتداءً فإنه بمجرد أن ينفصل عن الشاطيء فإنه يعتبر مسافراً. ولا يشترط أن يقطع مسافة يصبح بعدها لا يرى المدينة فهذا ليس له علاقة بالسفر وإنما بمجرد ما ينطلق من الشاطيء إذا كان ركب سفينة سيسافر عليها هي فإنه يعتبر مسافراً.
(2/134)
________________________________________
= أما الجو فليس له علاقة إما أن يكون المطار في البلد كالمطار القديم للرياض أو أن يكون المطار خارج البلد كالمطار الحديث للرياض.
فإن كان في مطار داهل البلد فإنه لا يترخص حتى تقلع الطائرة.
وإن كان في مطار بعيد فمن حين أن يخرج من مدينته إلى المطار فإنه يعتبر مسافراً ويترخص برخص السفر.
• ثم قال رحمه الله:
وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام ... أتم.
- إذا أحرم الإنسان حضراً ثم سافر ومثاله: أن يركب في السفينة وهي على الشاطيء ويكبر ثم لما كبر انطلقت السفينة فهو أحرم مقيماً ثم سافر.
- وإن أحرم مسافراً ثم أقام فالعكس تماماً. فقبيل وصول السفينة كبر فهو مسافر ثم وصلت إلى المدينة فهو الآن في الحضر.
في الصورتين عند الحنابلة يتم.
الدليل: أنه اجتمع في حقه مبيح وحاضر أو اجتمع في حقه سبب القصر والإتمام فغلبنا الإحتياط وهو الإتمام أو غلبنا الحاضر وهو الإتمام.
ولو قيل:
- إذا أحرم مسافراً ثم أقام يتم.
- وإذا أحرم مقيماً ثم سافر فيقصر. لكان قولاً قوياً ولكني لم أقف عليه لأن هذا في الحقيقة هو المتوافق مع قواعد الشرع ...... الآذان ....
- - بعد الآذان قال حفظه الله:
فقط نريد إتمام هذه المسألة: أقول: لو قيل بهذا القول لكان قولاً متوجهاً.
والتعليل: أن الشارع دائماً يحكم على الإنسان بحسب حاله. فالحال التي يتلبس بها فإنه يأخذ أحكامها.
وقد أخذنا نظير هذا عند الفقهاء في من مسح مسافراً ثم أقام ومن مسح مقيماً ثم سافر.
فنلاحظ في القول الراجح دائماً أن الإنسان يعطى بحسب حكمه.
فمثلاً - لو أفطر الإنسان بعد غروب الشمس ثم أقعلت الطائرة ورأى الشمس فالآن حاله أنه يفطر فيبقى مستمراً على الإفطار لأن حاله الشرعي أنه مفطر بينما لو تقلع الطائرة قبل أن تغرب الشمس بقليل ويستمر في رؤية الشمس فإنه يستمر صائماً إلى أن تغيب عليه الشمس.
فالمنظر للإنسان هو بحسب حاله.
كذلك نقول هنا: هو الآن أحرم بالصلاة مقيماً ولكنه صار مسافراً فتصدق عليه أحكام السفر ولو أحرم مقيماً وكذلك العكس.
(2/135)
________________________________________
فلو قيل بهذا القول - وبحثت عن قائل من الفقهاء - ولم أجد وإن كنت أتوقع أنه يوجد مع التوسع في البحث لكن نقول إن قيل بهذا القول فهو قول قوي جداً ومتوجه.
فإذا كبر الإنسان وهذا يحصل أحياناً ثم فوجيء بأن السفينة تحركت فنقول أقصر الصلاة لأنك الآن أصبحت مسافراً.

انتهى الدرس،،،
(2/136)
________________________________________
تابع: فصل أحكام قصر الصلاة
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
• يقول المؤلف رحمه الله:
أو ذكر صلاة حضر في سفر.
أي فإنه يتم إذا نسي الإنسان صلاة الحضر ولم يتذكرها إلا وهو في السفر فإنه عند الحنابلة يتم بل عند الجمهور يتم بل حكي إجماعاً أنه يتم، لأن الصلاة التي وجبت في ذمته واستقرت صلاة حضر فيجب أن يؤديها كما وجبت في ذمته فيصليها ولو كان في سفر أربعاً.
والمسألة قلت لكم أنه حكي فيها الإجماع لكن فيها خلاف.
= فالقول الثاني: لابن حزم أنه يصليها قصراً باعتبار أنه الآن مسافر.
والصواب مع الجماهير وهو أنه يصليها صلاة حضر لأنها هي التي وجبت في ذمتها.
• ثم قال رحمه الله:
أو عكسها
يعني من ذكر صلاة سفر في حضر فإنه أيضاً عند الجمهور يجب عليه أن يتم.
واستدلوا على ذلك: بأن القصر من رخص السفر وقد زال هذا السبب فهو الآن في حضر.
= القول الثاني: أنه يقصر ولو ذكرها في حضر لدليلين:
الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها). أي: فليصل ذات الصلاة والصلاة المنسية الآن صلاة سفر.
الثاني: أن الصلاة التي وجبت في ذمته وجبت مقصورة فلا يجب عليه أكثر من ذلك.
وهذا القول - الثاني - هو الصواب. فإذا تذكر الإنسان وهو في الحضر أنه نسي صلاة سفر فإنه يصليها ركعتين.
وهذه المسألة تدل على قوة ووجاهة القول السابق فيمن أحرم سفراً ثم دخل المدينة أو العكس من أحرم حضراً ثم سافر.
فهنا القول الثاني جعله باعتبار واقع وحقيقة الإنسان وأن الصلاة وجبت عليه أثناء السفر فلم يوجبوا عليه أكثر من ذلك وقلت أنه الراجح وهو يتوافق مع ما استظهرته في المسألة السابقة.
(2/137)
________________________________________
• ثم قال رحمه الله:
أو ائتم بمقيم.
أي يجب على المسافر إذا ائتم بمقيم أن يتم وهذا مذهب الأئمة الثلاثة الحنابلة والأحناف والشافعية.
واستدلوا على هذا بأدلة:
الدليل الأول: بأن رجلاً من التابعين سأل ابن عباس رضي الله عنهما: مالنا إذا صلينا خلف المقيم نتم ونحن على سفر؟ فقال: تلك سنة أبي القاسم.
الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
الدليل الثالث: فتاوى الصحابة منهم: ابن عمر وابن عباس فقد أفتوا المسافر الذي يأتم بمقيم أن يتم.
= القول الثاني: في هذه المسألة: وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الاسلام بن تيمية: أن المسافر إذا ائتم بمقيم فإنه يصلي أربعاً إذا أدرك ركعة فأكثر وإلا فإنه يقصر.
واستدلوا على ذلك:
بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) والمسافر الذي لم يدرك ركعة مع المقيم لم يدرك الصلاة والواجب في حقه أو المسنون على الخلاف السابق أن يصلي ركعتين باعتباره مسافراً.
وهذا القول - الثاني - هو القول الراجح. فإذا لم تدرك مع المقيم ولا ركعة أو إذا لم تدرك إلا أقل من ركعة فإنك تصلي ركعتين لأن هذه هي السنة في حق المسافر وهذا المسافر الذب ائتم بالمقيم لم يدرك الصلاة معه.
وفي المسألة أقوال أخرى لكن ذكرت أقوى قولين منها.
• ثم قال رحمه الله:
أو بمن يشك فيه.
أي إذا ائتم المسافر بإمام يشك هل هو مسافر فإن الواجب عليه أن يتم بناء على أن من صلى خلف مقيم فيجب عليه أن يتم فإذا شك فإنه يتم احتياطاً وخروجاً من بطلان صلاته.
فإذا قال المسافر المؤتم: إن قَصَر قَصَرتُ وإن أَتَمَّ أَتْمَمَتُ صحت صلاته حتى عند الحنابلة.
إذاً في الحقيقة إذا أدرك المأموم الصلاة مع الإمام من أولها فلا إشكال لأنه يقول: إن قصر قصرت وإن أتم أتممت.
لكن الإشكال إذا صلى مع الإمام في أثناء الصلاة فحينئذ إما أن يتبين أنه مسافر أو مقيم.
فإن تبين أنه مسافر فسيقصر فإذا أدرك معه ركعة فسيأتي بركعة في الظهر مثلاً.
وإن دخل مع الإمام في أثناء الصلاة وهو مسافر فأيضاً لا إشكال لأنه أذا أدرك ركعة فسيأتي بثلاث في الظهر مثلاً.
(2/138)
________________________________________
لكن الإشكال في الحقيقة إذا دخل وهو لا يدري هل الإمام مقيم أو مسافر ولم يدرك الصلاة من الأول حتى يعلقها لأنه إذا سلم الإمام فإنه لا يدري هل الإمام صلى ركعتين أو صلى أربعاً فحينئذٍ نقول إن وجدت قرائن تدل على أن الإمام مسافر أو مقيم عمل بهذه القرائن ولا حرج عليه وغالباً ما تكون القرائن في مساجد الطرقات أو مساجد المطارات أو مساجد القطارات.
يعني المساجد التي في أماكن السفر.
وإذا لم توجد قرينة مطلقاً فالمذهب أنه يتم وهذا هو الصواب أنه يتم لأنه إذا صلى خلف مقيم وقصر بطلت صلاته.
فخروجاً من هذا الخلاف وتصحيحاً لصلاته نقول إذا شككت ولم يترجح عندك مرجح أو لم يوجد قرينة ترجح أنه مقيم أو مسافر فإنك تتم.

• ثم قال رحمه الله:
أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها.
إذا أحرم المسافر بصلاة يلزمه إتمامها ثم فسدت لأي سبب من الأسباب التي تفسد الصلاة فإنه إذا أراد أن يعيد هذه الصلاة فإنه يجبل عليه أن يتم.
مثالها: كأن يقتدي مسافر بمقيم ففي هذه الصورة يجب عليه أن يتم فلو فسدت الصلاة - صلاة المأموم أثناء صلاة الجماعة فإنه إذا أراد أن يعيد هذه الصلاة فيجب عليه أن يصلي أربعاً وهو مذهب الجمهور.
= والقول الثاني: - في هذه المسألة - أنه إذا فسدت عليه في حال يجب عليه أن يتمها ثم أرادأن يصليها مرة أخرى فإنه يصليها قصراً.
التعليل؟ التعليل: أنه إنما وجب عليه أن يتم لأنه يصلي وراء مقيم وقد زال هذا السبب فيزول حكمه فنقول الآن صل صلاة مسافر.
وهذا مذهب الأحناف وهو الأوجه والأقوى.

ثم قال رحمه الله:
أو لم ينوِ القصر عند إحرامها.
أفادنا المؤلف أنه يجب على المسافر إذا أراد أن يقصر أن ينوي أنه يريد القصر قبل أن يحرم بالصلاة.
فإن لم ينو قبل دخوله في الصلاة فإنه لا يجوز له أن يقصر.
الدليل على ذلك: أن المصلي إذا أراد أن يصلي ولم ينو شيئاً فإن الأصل الإتمام فتنصرف النية إلى الإتمام. أي: فكأنه نوى الإتمام.

= والقول الثاني: أنه لا يشترط لمن أراد أن يقصر الصلاة أن ينو قبل أن يحرم فلو ذهل أو نسي ولم ينو إلا بعد أن كبر جاز له أن يصلي قصراً.
لدليلين:
الأول: أن الأصل في صلاة المسافر القصر عكس ما قاله الحنابلة.
(2/139)
________________________________________
الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا خرج بأصحابه وأراد أن يقصر قصر بلا تنبيه إلى نية القصر ولو كانت النية واجبة وشرط لصحة القصر لبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقصر لينووا القصر.
ثالثاً: لا دليل على اشتراط هذا الشرط. والأصل في العبادات التوقيف حتى يأتي دليل.

• ثم قال رحمه الله:
أو شك في نيته.
يعني أن المسافر إذا أراد أن يصلي وشك هل نوى القصر أو لم ينو فالواجب عليه عند الحنابلة أن يتم.
والتعليل؟
التعليل: أن الشك في النية يعني بطلانها لأن الأصل عدم النية.
وكما هو ظاهر فإن هذا الحكم مبني على الحكم السابق وهو اشتراط النية للقصر وتقدم معنا أن الصواب أنه لا يشترط أن ينوي القصر فإذا شك فإنه يقصر لأنه إذا لم ينو أصلاً يقصر فضلاً عن مسألة إذا شك هل نوى أو لم ينو.

ثم قال رحمه الله:
أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
يشترط عند الحنابلة أن لا ينوي المسافر إذا أقام في البلد الذي سافر إليه الإقامة أكثر من أربعة أيام.
فإن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام وجب عليه أن يتم فمن شروط القصر أن لا ينوي أكثر من أربعة أيام.
وهذا معنى المؤلف رحمه الله هنا: أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام إلى أن قال: لزمه أن يتم.
أما إن نوى إقامة أربعة أيام فيجوز له أن يقصر لكن إن نوى أكثر من أربعة أيام وجب عليه أن يتم.
وهذا مذهب الجماهير أحمد ومالك والشافعي.
إلا أن الفرق بين أحمد ومالك والشافعي:
أن أحمد يحتسب عليه يوم الدخول والخروج.
والشافعي ومالك لا يحتسبون على المسافر يوم الدخول والخروج.
ففي الحقيقة بناء على هذا كأن مذهب المالكية والشافعية ستة أيام ومذهب الحنابلة أربعة لكن هو ينسب للجمهور على أن ينبه أن يومي الدخول والخروج يحتسبان عند أحمد ولا يحتسبان عند مالك والشافعي.
(2/140)
________________________________________
وما قلته لكم في مسألة المسافة التي يشترط أن يقطعها المسافر لتثبت له أحكام السفر أقوله هنا: وهي أنها مسألة كثر فيها الاختلاف والاضطراب وتشعبت فيها الأقوال جداً وبلغت الأقوال عدداً كبيراً واختلفت الأدلة واختلفت الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عن الفقهاء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي في الإشكال تشبه تلك المسألة.
إذاًَ هذا هو مذهب الجمهور وهو أنه تحد المدة التي إذا جلسها صار مقيماً بأكثر من أربعة أيام فإن جلي أربعة فأقل فهو مسافر فإن جلس أكثر من أربعة فهو مقيم لا يترخص برخص السفر.
استدلوا على ذلك بأدلة منها:
الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن للمهاجر أن يبقى في مكة أكثر من ثلاثة أيام فقالوا: جعل بقائه في مكة ثلاثة أيام لا يخرجه عن السفر وأكثر من ذلك يجعله من المقيمين: والجواب عليه: من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا الحديث لا يتعلق مطلقاً بأحكام السفر وإنما يتحدث عن أحكام الهجرة فمن هاجر من بلد ثم رجع إليه فلا يجوز له أن يبقى فيه أكثر من ثلاثة أيام أو نقول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لهم أن يبقوا في مكة بعد أن هاجروا منها أكثر من ثلاثة أيام.
- الوجه الثاني: أن الحديث فيه ثلاثة أيام والجمهور يقولون أربعة أيام.
الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دخل في صبيحة اليوم الرابع وجلس في الأبطح اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وفي اليوم الثامن صلى الفجر وبعد الصلاة خرج إلى منى فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام هذا المدة وهو يعلم أنه سيجلس أربعة أيام قطعاً لأنه جاء في اليوم الرابع ويعلم أن لن يذهب إلى منى إلا في اليوم الثامن فمع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه سيبقى أربعة أيام ظل يقصر الصلاة فدل ذلك على أن هذه المدة يقصر فيها المسافر الصلاة وما عداها يرجع إلى الأصل وهو الإتمام.
والجواب عليه من وجوه كثيرة والاستدلال به ضعيف لكن نأخذ بعض هذه الوجوه:
(2/141)
________________________________________
- الوجه الأول: أن نقول لهم ما قاله شيخ الاسلام من أين لكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قدم صبيحة الثالث لن يقصر في اليوم الثامن فليس في النص ما يدل على هذا مطلقاً بل وقع الأمر اتفاقاً.
- الوجه الثاني: وهو أقوى من الوجه الأول: أن عدداً كبيراً من الحجاج جاءوا إلى مكة قبل اليوم الرابع في اليوم الثاني والثالث والأول .. إلى آخره ومع ذلك لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم من قدم قبل اليوم الرابع فليتم الصلاة لأنه سيجلس أكثر من أربعة أيام.
- الوجه الثالث والأخير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة جلس تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ومن المعلوم أن دخول الفاتح والأمير إلى مصر من الأمصار يحتاج لكي يبقى في هذه المدينة يرتب الأمور ويقرر الشئون الإدارية في هذا البلد المفتوح ويرسل الجيوش إلى النواحي القريبة والمدن والقرى أن مثل هذا يحتاج أكثر من أربعة أيام فنحن نعلم قطعاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل فاتحاً يعلم أنه سيجلس أكثر من أربعة أيام لأن مثل هذا الأعمال التي كان ينوي أن يقوم بها لا يمكن أن تقضى في أربعة أيام.
فإذاً الاستدلال بهذا الحديث في الحقيقة فيه ضعف ولا يدل أبداً على مقصود الجمهور.
= القول الثاني: أن المسافر إذا جلس خمسة عشر يوماً فإنه يترخص وأما إن جلس أكثر فلا يترخص وهو مذهب الأحناف.
واستدلوا: بالأثر المشهور عن ابن عباس أنه قال: إذا دخلت بلداً وفي نفسك أن تقيم فيه خمسة عشر يوماً فاقصر وإن كنت تقيم أكثر فأتم.
فحدد ابن عباس في هذا الأثر المدة التي تنقل المسافر من أحكام السفر إلى الإقامة بخمسة عشر يوماً.
والجواب عليه:
- أنه روي عن عباس خلاف ذلك.
- وأنه يخالف ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جلس تسعة عشر يوماً في مكة
= القول الثالث: مذهب الظاهرية أنه إن جلس عشرين يوماً قصر وإلا يتم.
دليله: قالوا: أكثر ما جاء في السنة مكثه - صلى الله عليه وسلم - في تبوك عشرين يوماً ولم يأت في السنة أكثر من عشرين يوماً فنتمسك بأكثر ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2/142)
________________________________________
= القول الرابع - والأخير -: أنه لا حد لأقل مدة يمكثها المسافر بل ما دام في السفر فإنه يأخذ أحكام المسافر وإن طالت المدة وإن جلس شهوراً وإن جلس سنين.
لأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس على قسمين مستوطن ومسافر فما دام الإنسان مسافراً لم يرجع إلى وطنه وبيته فله أن يترخص برخص السفر وإن طالت المدة.
واستدلوا على ذلك: - بأن الشارع الحكيم ربط أحكام السفر بالسفر وأطلق ولم يحدد مدة إذا تجاوزها الإنسان انقطعت عنه أحكام السفر وإذا لم يحدد الشارع حداً للمدة صار تحديدها تحكماً لا يجوز.
وهذا القول اختاره شيخ الاسلام ونصره وكذلك ابن القيم ونصره أيضاً وهو القول الراجح.
= بقينا في مسألة أثارها بعض الباحثين: وكثر أيضاً الكلام فيها وهي:
هل يعتبر من جاء للعمل الطويل أو للدراسة الطويلة هل يعتبر من المسافرين أو لا يعتبر؟
= فمن الفقهاء من قال: مادام جاء للدراسة أو للعمل وسيرجع إذا انتهى من عمله فهو مسافر يترخص برخص السفر وإن طال مقامه. وإلى هذا ذهب شيخنا - ابن عثيمين - رحمه الله ونصره برسالة موجودة وذكر أدلة كثيرة من الآثار والنقل والعقل والقياس ... إلى آخره.
= والقول الثاني - في هذه المسألة - أن من جاء لعمل أو لدراسة وأخذ منزلاً وبيتاً وزوجة واستقر وأقام فإنه لا يعتبر مسافراً في هذه الحالة لأنه انقطعت عنه أحكام السفر وأصبح مقيماً وإلى هذا ذهب عدد من الباحثين.
والراجح والله أعلم ما اختاره شيخنا.
وسبب الترجيح: أن هناك مجموعة من الآثار لا أرى أن الجواب عليها سديد أو لم أقف على جواب عنها يكون واضحاً - آثار عن الصحابة توافق قول شيخنا ولم أر أن الذين بحثوا هذه المسألة أجابوا عنها بما يكفي على أقل تقدير نذكر منها بعض الآثار: -
(2/143)
________________________________________
الأثر الأول: ما صح عن أنس - رضي الله عنه - بإسناد صحيح أو حسن - أنه مكث والياً على الخراج أي للجباية لمدة سنتين وقصر الصلاة وقال أردت السنة. فهذا الأثر فيه أن أنس ذهب وولي على الأموال لاستخرج الخراج في هذه المنطقة التي ولي عليها وبقي فيها لمدة سنتين وهو يقصر ومن المعلوم أن أنس - رضي الله عنه - في مدة إقامته في تلك البلدة اتخذ مكاناً للجلوس وأعد ما يحتاج إليه لمكثه هذا الفترة الطويلة. نعم. لا أذكر أن في الأثر أنه مثلاً نقل معه أهله أو لم ينقلهم ولكن هذا لا يؤثر في الحكم فما دام بقي لمدة سنتين يقصر الصلاة وهو يعلم أنه سيبقى هذه المدة الطويلة والياً على هذه المنطقة في عمل محدد فأرى أنه تصبح حاله حال المسافرين المعاصرين للعمل أو للدراسة أو للعلاج إذا كان العلاج طويلاً.
الأثر الثاني: أن أبا المنهال وهو من تلاميذ ابن عباس سأل ابن عباس أنه يأتي إلى المدينة ويبقى حولاً لا يريد السفر فقال له ابن عباس صل ركعتين. فهذا التابعي بقي في المدينة لمدة سنة ومن خلال السؤال تعلم أنه يعلم أنه سيبقى سنة لأنه يسأل عن ابن عباس عن هذا الأمر وهو أنه سبيقى في المدينة لمدة سنة بل إنه اعتاد على هذا فهو يسأل عن أمر اعتاده وهو أنه يقدم إلى المدينة ويجلس فيها سنة ومع ذلك أمره أن يصلي سنة.
الأثر الأخير: مسروق وهو من كبار تلاميذ ابن مسعود ولي أيضاً في منطقة السلسلة وهي منطقة في مدينة واسط وواسط تقع بين الكوفة والبصرة - هذه المنطقة السلسة هي في مدينة واسط هكذا فهمت من الذين تكلموا عن البلدان - بقي في هذه المنطقة لمدة سنتين يقصر الصلاة وأيضاً لما سأل قال أردت السنة وولي أيضاً فيها لأخذ جباية الأموال من المعشرات والزكاة ومن يمر بهذه المنطقة من أصحاب السفن والجمال فالمهم أنه كلف بعمل في هذه المنطقة.
(2/144)
________________________________________
ففي الباب آثار وذكرت ثلاثة منها وقد ذكر عبد الرزاق قي مصنفه وابن أبي شيبة عدداً من الآثار وذكر ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار في مسند عمر ومسند علي عدداً من الآثار ربما لو تفرغ لها الإنسان وجمع الآثار المشابهة لهذه الآثار لجاءت عدداً لا بأس به من الآثار التي عن الصحابة التي بقوا فيها مدداً طويلة يقصرون الصلاة لأنهم عازمون على الرجوع إلى بلد الإقامة.
إذاً الخلاصة أن هذه الآثار تجعل الإنسان يرجح القول القائل بأنه وإن بقي مدة طويلة للدراسة أو للعمل فما دام عازماً على الرجوع ويعتبر نفسه مسافراًَ أنه يترخص برخص السفر وإذا أراد الإنسان أن يحتاط في هذه المسألة والخلاف فيها قوي جداً ووجهة نظر القائلين بأنه إذا أخذ مكاناً وزوجة وتأهل يتم وأن أحكام السفر انقطعت عنه فليس بالمسافر قولهم قوي ووجيه ولكن من حيث الدليل يظهر لي أن الأقرب للآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يترخص برخص السفر.
• ثم قال رحمه الله:
أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد: لزمه أن يتم.
إذا كان الإنسان ملاحاً في سفينة فإنه يتم بشرطين:
أن تكون السفينة هي بيته.
وأن يكون معه أهله.
فإذا كانت السفينة هي بيته ومعه أهله فهذا في الحقيقة لا يعتبر مسافراً بل مقيم لأنه لا يوجد بيت يرجع إليه فهو ليس بظاعن وإنما مقيم.
فإذا انطبق الشرطان وجب عليه أن يتم ولا يجوز له أن يترخص ولا في أثناء تنقله من المدن من مدينة إلى مدينة فإنه يبقى مسافراً.
= والقول الثاني: وهو للشافعية أن الملاح الذي اتخذ السفينة بيتاً ومعه فيها أهله يقصر الصلاة لأنه وإن اتخذها بيتاً ومعه أهله فهو مسافر يقطع المسافات ذهاباً وإياباً ولا يستقر ببلد معين ولا يمكن أن نعتبر السفينة هي موطن نهائي لهذا الملاح.
والصواب مع الجمهور لأن هذا الملاح لا يعتبر مسافراً فهو في بيته وبين أهله ولا ينتظر رجوعاً فليس له مكان يرجع إليه وإنما هذا هو مكانه.
لكن السؤال: هذا الملاح إذا قررنا أن سفينته بيته إذا نزل إلى المدينة التي خرج منها هل يقصر؟
(2/145)
________________________________________
الجواب: في الحقيقة المسألة مشكلة ولم أر الفقهاء ذكروها لكن ذكرتها من باب المدارسة فقط ويظهر لي أنه إذا اعتبرنا أن سفينته هي البيت الذي يسكن فيه ومنعناه من الترخص فإنه إذا رجع لمدة يوم أو يومين لأخذ أغراض ولو كان لمدينته التي كانت هي مدينته فإنه يترخص لأنه من الظلم له أن نعتبره في السفينة مقيم ونعتبره أيضاً في المدينة التي نزل إليها مقيماً أيضاًَ بل نجعله في هذه المدينة مسافراً وفي السفينة مقيم فهذا يتوافق مع ما قرره الفقهاء من أن السفينة هي مكان الإقامة الدائمة بالنسبة له فإذاً إذا نزل فيعتبر مسافر ولو كانت مدينته الأصلية.

ثم قال رحمه الله:
وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما .... قصر.
إذا كان للمسافر طريقان فينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون كل من الطريقين مسافة قصر فحينئذ يقصر إذا سلك أياً من الطريقين بالإجماع.
القسم الثاني: إذا كان أحد الطريقين مسافة قصر والآخر دون ذلك فهذا ينقسم إلى قسمين:
إما أن يسلك الأطول لغرض صحيح كأن يكون الأطول أكثر أماناًَ أو أجود طريقاًَ أو أكثر خدمات أو لأي غرض صحيح فحينئذ لا إشكال أيضاً أنه يقصر.
الصورة الثانية: أنه سلك الأطول وليس له غرض إلا ليقصر فاختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
= القول الأول: أنه يقصر لأنه مسافر سفراً مباحاً طويلاً فانطبق عليه التعريف.
= القول الثاني: أنه لا يقصر لأنه سلك الأطول لا لغرض صحيح وإنما لمجرد القصر.
والأقرب والله أعلم أنه يقصر وإن لم يسلك هذا الطريق إلا ليقصر.
(2/146)
________________________________________
وكثير من إخواننا طلاب العلم يخلط بين هذه المسألة وبين مسألة من سافر ليقصر فإنها مسألة أخرى ليس لها علاقة في بحثنا وستأتينا فمن سافر ليقصر أو من سافر ليفطر فهذه مسألة أخرى سيأتينا أن الصواب أنه لا يقصر ولا يفطر لكن هذا الرجل سيسافر يعني لا لأجل قصر ولا للفطر يعني على كل حال سيسافر لكنه اختار الطريق الأطول ليترخص فقط وإلا هو سيسافر. ففي مثل هذه الصورة لا أرى مانعاً من القصر والله سبحانه وتعالى أجاز له أن يقصر وإذا أراد أن يسلك طريقاًَ ليترخص برخصة جعلها الله سبحانه وتعالى للطريق الطويل فأي مانع من هذا ولا أرى أنها تتعارض مع قاعدة الحيل لأنه يصدق عليه أنه سلك طريقاً يجوز معه القصر.
• ثم قال رحمه الله:
أو ذكر صلاة سفر في آخر: قصر.
إذا نسي الإنسان صلاة الظهر في أثناء سفره إلى الرياض مثلاً ثم رجع إلى مدينته ثم سافر إلى مكة وفي مكة تذكر أنه نسي صلاة الظهر حين كان مسافراً في الرياض فإنه يقصر ولا إشكال.
الدليل: أنها حين الوجوب وحين الأداء كانت في السفر فلا إشكال أنه يقصر حتى عند الحنابلة وذلك لوضوح الأمر لأنه صلاها ووجبت عليه في السفر.

ثم قال رحمه الله:
وإن حبس ولم ينو إقامة .... قصر أبداً.
إذا حبس ولم ينو الإقامة في هذا المكان الذي حبس فيه فإنه يقصر أبداً.
أمثلة الحبس:
الأول: كأن تتعطل السيارة وليس له وسيلة للانتقال إلا هي فهو الآن محبوس على سيارته في هذه المدينة ينتظر إتمام إصلاح هذه السيارة ويخرج.
المثال الثاني: أن يحبس ظلماًَ يمسك في هذا البلد ويدخل في السجن ظلماً فهو الآن ليس له قصد في الإقامة ولكنه محبوس فيها فهذا المسافر يقصر أبداً.
والدليل على ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنه لما ذهب غازياً مجاهداً في أذربيجان حبسهم الثلج لم يستطيعوا الدخول ولا الخروج وبقي الثلج لمدة ستة أشهر فلما ذهب وماع خرج - رضي الله عنه -. في هذه الستة أشهر كان يقصر الصلاة.
فإذاً لا إشكال في هذه الصورة أنه إذا حبس الإنسان بغير إرادته فإنه يقصر ولو بقي مدة طويلة.
• ثم قال رحمه الله:
أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة: قصر أبداً.
إذا بقي الإنسان في البلد لقضاء حاجة ثم الخروج بعد ذلك فهو ينقسم إلى قسمين:
(2/147)
________________________________________
القسم الأول: أن لا يعلم أنهال تنتهي بعد أربعة أيام يقول: لا أدري أتستغرق أربعة أيام أو أقل ففي هذه الصورة يقصر بالإجماع وإن بقي مدة طويلة.
القسم الثاني أن يعلم أن حاجته لا تنقضي إلا بأكثر من أربعة أيام فحينئذ نرجع للخلاف السابق وهو: = عند الحنابلة إذا كان سيبقى أكثر من أربعة أيام يتم على الخلاف السابق في مسألة تحديد المدة التي إذا تجاوزها الإنسان انتقل من أحكام السفر إلى أحكام الإقامة فإذا نقول إذا علم أنها لن تنقضي إلا بأكثر من أربعة أيام ففيها الخلاف السابق. والراجح يبقى وإن طالت المدة فإذا قدم الإنسان إلى بلد من البلدان لقضاء حاجة أي نوع من أنواع الحاجات سواء تتعلق بالنظام الإداري أو بزواجه أو بتجارته أو تتعلق بأهله فإنه يقصر وإن بقي أشهراً أو أكثر من ذلك.

فصل
[الجمع بين الصلاتين]
• ثم قال رحمه الله:
(فصل) يجوز الجمع.
يريد المؤلف أن يتكلم في هذا الفصل عن أحكام الجمع سواء كان للسفر أو للمطر أو للمرض وهي الأعذار الثلاثة التي ذكرت لكم أنها الأعذار التي تبيح الجمع.
• يقول رحمه الله:
يجوز
قوله: يجوز. يعني فلا يكره ولا يستحب لكن مع ذلك نص الحنابلة على أنه خلاف الأولى إلا جمعي عرفة ومزدلفة فهو سنة ومستحب.
وإذا أردنا أن نلخص مذهب الحنابلة فإنهم يقولون الجمع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: جمعي عرفة ومزدلفة فهذا مستحب.
القسيم الثاني: باقي أنواع الجمع فهذا يجوز بلا كراهة ولا استحباب وهو خلاف الأولى.
وعللوا كونه خلاف الأولى: بأنه محل خلاف - خروجاً من الخلاف.
= القول الثاني: في هذه المسألة وهو رواية عن أحمد أن الأفضل الجمع عند وجود شرطه.
= والقول الثالث: وهو اختيار شيخ الاسلام أن الجمع يرجع إلى الحاجة فإن وجدت فالأفضل الجمع وإن لم توجد فالأفضل أن لا يجمع سواء كان مسافراً أو مقيماً.
إذاً هذا معنى قول المؤلف رحمه الله:
يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين: في وقت إحداهما في سفر قصر.
إذاً المؤلف رحمه الله يتكلم عن عذر السفر وسيتكلم عن عذر المطر ثم عن عذر المرض.

يقول رحمه الله:
في سفر قصر.
(2/148)
________________________________________
الجمع في السفر حكمه عند الحنابلة أنه يجوز وهذه المسألة أيضاً فيها خلاف متشعب لكنه أقل من الخلاف في المسألتين السابقتين التي أشرت إلى شدة الخلاف فيهما.
فنقول:
=ذهب الجماهير من السلف والخلف إلى جواز الجمع تقديماً وتأخيراً سائراً ونازلاً إذا وجد الشرط وهو مسافة القصر.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
الدليل الأول منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في عرفة جمع تقديم وفي مزدلفة جمع تأخير وقد كان في عرفة ومزدلفة نازلاً فهذا الحديث دل على الجمع بالنسبة للنازل والجمع تقديم وتأخير.
الدليل الثاني: صح عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر بعد زوال الشمس أخر الظهر إلى العصر وصلاهما جميعاً وهذا جمع تأخير وإذا سافر بعد زوال الشمس فإنه يصلي الظهر ثم يركب ولم يذكر العصر.
الدليل الثالث: - الأخير - حديث أبي جحيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان نازلاً قريباً من مكة خرج في الهاجرة فصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً. وهذا الحديث صحيح.
نقول ظاهر هذا الحديث أنه جمع تقديم حتى الفقهاء لم يرو أنه نص.
إذاً هذا أدلة الجمهور وهي كما نرى أدلة قوية وسديدة.
= القول الثاني: للمالكية: أنه لا يجوز الجمع في السفر إلا لمن كان على ظهر سير فقط أما النازل فإنه لا يجوز له أن يجمع.
واستدلوا على ذلك:
بما صح عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير. يعني إذا كان سائراً.
والجواب عليه: أن ابن عمر لم ينف الجمع للنازل وإذا لم يذكره ابن عمر فقد ذكره غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بينوا أنه كان يجمع نازلاً.
= القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد وتبناه ابن حزم أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم.
واستدل على ذلك بأدلة منها:
أنه لم يصح حديث في جمع التقديم. وأما حديث معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في تبوك جمع تقديم فهو حديث معلول ضعفه الأئمة.
(2/149)
________________________________________
والدليل الثاني: قال: أن أنس - رضي الله عنه - نص على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع جمع التأخير دون جمع التقديم لأنه قال: إذا زالت الشمس قبل أن يسافر صلى الظهر فقط ولم يصل العصر بينما نص أنس على أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر بعد الزوال فإنه يجمع الظهر إلى العصر جمع تأخير.
= القول الرابع - الأخير: أنه لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في عرفة ومزدلفة وهو مذهب الأحناف الذي اشتهروا به.
والدليل: أن أحاديث ونصوص المواقيت محكمة ومعلومة من الدين بالضرورة فلا تترك لظواهر النصوص.
فإذا قيل لهم: كيف تجيبون عن الأدلة الكثيرة للجمهور التي فيها الجمع صراحة؟
قالوا: الجمع في هذه الأحاديث يحمل على الجمع الصوري والجمع الصور هو أن نؤخر الصلاة الأولى ونقدم الصلاة الثانية ونصلي كل منهما في وقته المحدد شرعاً.
وهذا المذهب للأحناف ظاهر الضعف جداً وكما قال كثير من المحققين المتقدمين أن مذهب الأحناف يزيد من الصعوبة على المسافر ويضاعف المشقة ووجه ذلك:
أن على المسافر أن يتحرى آخر وقت الظهر ويتحرى أو وقت العصر فصار في هذا من المشقةأضعاف مما لو قيل له صل كل صلاة في وقتها بدون تحري لدقة متى يخرج هذا الوقت ومتى يدخل الوقت الثاني لأنه سيصلي الظهر قريب جداً من خروج وقته لأجل أن أصلي العصر بمجرد دخول وقت العصر فهو مذهب غريب وضعيف وفيه الحقيقة مصادمة ظاهرة للنصوص المتكاثرة التي فيها الجمع جمعاً واضحاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه فمصادمة مثل هذه النصوص من الأحناف أمر غير صحيح ودليل على ضعف قولهم في هذه المسألة.
والراجح مذهب الجمهور مع قوة مذهب ابن حزم.
لذلك لا ينبغي للإنسان أن يجمع جمع تقديم بلا حاجة بل يجعله جمع تأخير فإن جمع التأخير مجمع على جوازه إلا عند الأحناف بينما جمع التقديم فهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجوز دع عنك مذهب الظاهرية.
المهم نقول: الراجح إن شاء الله والأقرب للأدلة بوضوح مذهب الجماهير وهو جواز الجمع تقديم وتأخير نازلاً سائراً إلا أنه ينبغي مراعاة جمع التقديم أن لا يفعل إلا عند الحاجة لقوة ما استدل به ابن حزم.

ثم قال رحمه الله:
ولمريض يلحقه بتركه مشقة.
(2/150)
________________________________________
أي ويجوز للمريض أن يجمع إذا كان في تركه للجمع مشقة أو إذا لحقه بترك الجمع مشقة.
= وإلى جواز جمع المريض المحتاج للجمع ذهب الجماهير.
واستدلوا:
بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع من غير خوف ولا مطر وفي رواية من غير خوف ولا سفر والروايتان في صحيح مسلم.
قالوا فلم يبق إلا المرض لأنه نفي الخوف والمرض والسفر فلم يبق إلا المرض.
وهناك وجه آخر للاستدلال: وهو أن ابن عباس لما سأل: لم صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. والمريض الذي يحتاج إلى الجمع إذا لم يجمع وقع في الحرج.
الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - روي عنه أنه أجاز للمستحاضة أن تجمع إذا هي اغتسلت وتقدم معنا أن الاستحاضة نوع من أنواع المرض.
الدليل الثالث: العمومات الدالة على رفع الحرج والمشقة عن الأمة.
= القول الثاني: للشافعية: أنه لا يجوز جمع المريض أبداً. فلا يجوزون جمع المريض.
استدلوا:
- بأن نصوص المواقيت محفوظة متواترة محكمة فلا نتركها لظواهر النصوص الأخرى ....... ((الآذان))
انتهى الدرس،،،
(2/151)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في الدرس السابق تكلمت عن مسألة حكم جمع المريض وذكرت الخلاف وأظن أني لم أذكر الراجح. والراجح من القولين جواز الجمع للمرض لما تقدم من أدلة وهو مذهب الحنابلة والمالكية وهو الذي تدل عليه النصوص من جهة وقواعد الشرع من جهة أخرى.
ثم بدأ المؤلف بعذر آخر وهو المطر:
• فقال رحمه الله:
وبين العشائين: لمطر.
أي ويجوز للإنسان أن يجمع بين صلاة المغرب والعشاء بعذر المطر.
= وإلى هذا ذهب الجماهير من السلف والخلف والفقهاء السبعة وأغلب أئمة المسلمين إلى أنه يجوز أن يجمع بعذر المطر بشرطه الآتي.
واستدلوا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن ابن عباس رضي الله عنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا مطر) فنص على أن المطر من أسباب الجمع وهذا الحديث في صحيح مسلم.
(2/152)
________________________________________
- الدليل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا للمطر بل حكي إجماع الصحابة على جواز الجمع للمطر.
- الدليل الثالث: أن في نزول المطر تأذي الناس ووقوع المشقة وفي الجمع رفع لهذه المشقة والمشقة عند أهل العلم تجلب التيسير.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز الجمع لأجل المطر لأنه ليس في النصوص المرفوعة ما يدل على ذلك ولأن نصوص التوقيت محكمة فلا يجوز الخروج عنها لظواهر نصوص أخرى.
والصواب الذي يتعين القول بجواز الجمع للمطر بشرطه لانتشاره بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم أراد المؤلف أن يبين شرط هذا الجمع:
• فقال رحمه الله:
وبين العشائين لمطر يبل الثياب.
يشترط في المطر الذي يجوز أن نجمع الصلاة لأجله شرطان:
- الأول: المشقة أن تحصل المشقة بوجود هذا المطر.
- الثاني: أن يبل الثياب. التعليل: أن المطر الذي تحصل معه المشقة هو ما يبل الثياب. واختلفوا في ضبط ما تحصل به المشقة على قولين:
= القول الأول: أن المطر الذي يجوز معه الجمع هو المطر الذي يحتاج معه أواسط الناس إلى تغطية الرأس فنأخذ المتوسط من الناس الذي يغطي رأسه عند قدر من المطر فبه تحصل المشقة ويجوز الجمع ولا ننظر لمن إحساسه ضعيف ممن لا يتأثر بالمطر ولو كثر ولا ننظر إيضاً لمن كان شديد الحساسية بحيث يبادر إلى تغطية رأسه بأدنى مطر.
= والقول الثاني - في ضابط ذلك -: هو ما يبل الثياب بحيث إذا عصرت قطرت ماءً.
والواقع أنه ليس بين هذه الأقوال تعارض فهي كلها تقرب المعنى وتبين المقصود وهو أن تحصل مشقة بنزول هذا المطر وتضبط بمثل هذه الضوابط إما تغطية الرأس أو عصر الثياب بحيث يخرج منها ماء بسبب المطر.
فإذا حصلت هذه الأشياء أو بعضها جاز أن نجمع الصلاة وتقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم جمعوا لمطر أصابهم في الفتح لم يبل أسافل نعالهم وهذا يدل على أن المشقة إذا حصلت بأي قدر بالنسبة للناس فإنها تجوز الجمع.
عرفنا من قول المؤلف: لمطر يبل الثياب. أن المطر الخفيف لا يجوز معه الجمع وأن الطل - الذي يسمى الطل أو الندى لا يجوز معه الجمع لأنه لا يشق.
(2/153)
________________________________________
فإن قيل: أحياناً ينزل كالندى من غير مطر وتبتل الثياب منه كما يحصل في الرطوبة فهل هذا موجب للجمع؟
- الجواب: أن هذا لا يوجب الجمع إلا إذا كان هذا الندى والطل يسبب وجود الطين في الأرض فحينئذ يجوز الجمع لمعنىً آخر لكن من حيث هو. لو فرضنا أنه في بلد مرصوف بحيث لا يوجد طين فإنه لا يجوز والحالة هذه الجمع لأن هذا القدر من المطر لا يشق على الناس إنما الذي يشق هو نزول المطر المتتابع الذي يبل الثياب أما الطل والمطر الخفيف فإنه لا يجوز الجمع وعرفت الآن كيف تفرق بين المطر الخفيف والمطر الذي يجوز معه الجمع.
وقوله: (بين العشائين):
= هذا مذهب الجمهور أنه لا يجوز الجمع في المطر إلا في صلاة العشائين أي المغرب والعشاء.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأمر الأول: أن الآثار المروية عن الصحابة والتابعين فيها الجمع بين العشائين.
- والأمر الثاني: أن المشقة إنما تكون في الجمع بين العشائين دون الظهرين.
= والقول الثاني: جواز الجمع بين العشائين والظهرين.
دليل ذلك: - أن الجمع إنما جاز لدفع المشقة فإذا وجدت المشقة في الليل أو في النهار ثبت الحكم.
- الدليل الثاني: عموم حديث ابن عباس رضي الله عنه: (من غير خوف ولا مطر) فلم يقيد ذلك بكونه في الليل أو في النهار.
نعم. لا شك أن المطر في الليل أكثر مشقة منه في النهار لكن هذا القدر لا يوجب منع الجمع في النهار ما دام المطر يسبب مشقة.
• ثم قال رحمه الله:
ولوَحْل.
أي ويجوز الجمع بمجرد الوحل. فبمجرد ما يوجد وحل ولو بدون مطر فيجوز الجمع.
الدليل:
- قاالوا الدليل على ذلك: أن المشقة الحاصلة بالطين والوحل والتي تلحق النعال والثياب وربما البدن تشبه أو ربما أكثر من المشقة الحاصلة بالمطر الذي يبل الثياب والشارع الحكيم لا يفرق بين أمرين متساويين.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز الجمع إلا بالمطر خاصة دون الوحَل.
- لأن الرخصة جاءت بالمطر خاصة.
- ولأن نصوص الأوقات محكمة متواترة.
(2/154)
________________________________________
والصواب مع القول الأول وهو مذهب الحنابلة فإذا وجد الطين والوَحَل جاز الجمع بل ربما أحياناً - كما قال الحنابلة - تكون المشقة الحاصلة بالطين والوحل أكثر من المشقة الحاصلة بمجرد هطول المطر وهذا يلاحظه كل أنسان إذا خرج وكانت الأرض مليئة بالماء فإنه يتأذى بهذا الماء ربما أكثر من المطر فما بالك مع هذا الماء طين ووحل فلا شك أن المشقة ظاهرة جداً مع نزول أو وجود هذا الوحل وربما تعرض الإنسان للسقوط أو الاتساخ بسبب هذا المطر وربما كان رجلاً شريفاً فتأذى غاية الأذى لا من اتساخ ثيابه بقدر ما وقع به من إحراج ولذلك يروى أن الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله دعي إلى وليمة وكان معه بعض الوجهاء وكانت السماء ممطرة فلما خرجوا من هذه الوليمة خرج قبل الشيخ عبد الرحمن رجل من الوجهاء والشرفاء وكان يتقدمه في المطر والطين ثم حصل أن هذا الشخص زلق وسقط في الطين فتأذى هذا الرجل فمن حكمة وحسن خلق الشيخ عبد الرحمن أنه بمجرد ما رآه سقط سلك طريقاً آخرؤ مباشرة حتى لا يمر من عند هذا الرجل فيشعر بالإحراج لمشاهدة الشبخ له أثناء السقوط فهذا من حسن خلق الشيخ وهو يبين أيضاً أن الوحل فيه مشقة.
• ثم قال رحمه الله:
وريح شديدة باردة.
الريح الشديدة الباردة يجوز معها الجمع والخلاف في الريح الشديدة الباردة كالخلاف تماماً أدلة وتعليلاً في الوحل فما قيل هناك يقال هنا في الأقوال والترجيح والتعليل.
وتبين من هذا أن الراجح أنه يجوز الجمع في الريح الشديدة الباردة لأنه يتأذى بها الإنسان مثل أو أكثر من المطر.
• ثم قال رحمه الله:
ولو صلى في بيته أو في مسجدٍ طريقه تحت ساباط.
يجوز للإنسان أن يجمع في المطر ولو صلى في بيته.
ويجوز له أن يجمع ولو كان بين بيته والمسجد سقفاً يقيه من المطر.
إذاً يجوز الجمع في هاتين الصورتين مع انتفاء المشقة.
والدليل:
- قالوا: الدليل على هذا قاعدة مشهورة: ((وهي أن الرخصة التي سببها المشقة تَعُم)) وذكروا أمثله لهذه القاعدة نذكر منها مثالين:
- المثال الأول: أن الترخص في السفر بالقصر والإفطار سببه المشقة ومع ذلك يجوز بالإجماع أن يقصر ويفطر ولو لم يشعر بمشقة.
(2/155)
________________________________________
- المثال الثاني: أن الشارع الحكيم إنما أجاز عقد السلم - الذي سيأتينا في كتاب البيوع - لدفع حاجة الناس ومع ذلك يجوز بالإجماع أن يتعاطى الإنسان عقد السلم ولو بلى حاجة فدل ذلك على أن الشارع الحكيم إذا قرر حكماً بناءًَ على المشقة فإنه يعم ولو في غير صور المشقة.
= والقول الثاني: أنه إذا كان سيصلي في بيته أو بينه وبين المسجد سقفاً يقيه أذى المطر فإنه لا يجوز له أن يجمع.
والتعليل: لأن الجمع إنما جاز للمشقة وهي منتفية هنا. والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
= والقول الثالث - في هذه المسألة - هو: أنه يجوز لكل من كان المطر سبباً في فوات صلاة الجماعة عليه أن يجمع ولو لم يتأذى بالمطر.
فمثلاً: الرجل الذي بين بيته والمسحد سقفاً يقيه من أذى المطر إن لم يصل مع الجماعة ويجمع معهم فاتته صلاة الجماعة أليس كذلك؟!
فإذا كانت صلاة الجماعة ستفوته فإنه يجوز له أن يجمع ولو لم يتأذى بالمطر لتحصيل فائدة الصلاة مع المسلمين في المسجد.
وهذا القول الأخير هو الراجح. لأنه في الحقيقة به تجتمع الأدلة.
وبناءً عليه:
- نقول: من صلى في بيته لعذر لا يجوز له أن يجمع ولو كان المطر أشد ما يكون خلافاً لمذهب الحنابلة.
- وأيضاً نقول: المرأة لا يجوز لها أن تجمع في بيتها ولو كان المطر أشد ما يكون.
وكل من لن يصلي مع الجماعة لا يجوز له أن يجمع إنما يجمع من كان سيخرج لصلاة الجماعة ويتأذى أو كان عدم الجمع يسبب فوات الجماعة عليه. وهذا واضح وفي الحقيقة هذا قول متوسط وهو قول للحنابلة وهو قول - إن شاء الله - وجيه وتجتمع به الأدلة.
• ثم قال رحمه الله:
والأفضل: فعل الأرفق به من تقديم وتأخير.
المؤلف رحمه الله - الآن - يريد أن يذكر أحكام عامة تشمل الجمع سواء كان يتعلق بجمع السفر أو بجمع المرض أو بجمع المطر.
فهو يقول: أن الأفضل بالنسبة لجمع التقديم والتأخير أن يفعل الأرفق به.
ونحن نريد أن نفصل:
* فنبدأ بالجمع في السفر فنقول: في الجمع للسفر الأفضل أن يفعل الأرفق به سواء كان جمع تقديم أو تأخير.
والدليل على هذا كما يلي:
(2/156)
________________________________________
- الأول: حديث معاذ رضي الله عنه في تبوك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تارة يجمع جمع تقديم وتارة يجمع جمع تأخير حسب الأرفق له والموافق لحاله في السفر وتقدم معنا أن هذا الحديث معلول.
- الثاني: أن الجمع إنما شرع أصلاً لدفع المشقة ويتم دفع المشقة على الوجه المطلوب بأن يجمع حسب الأرفق به تقديماً وتأخيراً.
- الثالث: حديث أنس رضي الله عنه الذي تقدم معنا فإنه يدل بعمومه على أن الإنسان يفعل الأرفق لأنه كان إذا سافر قبل زوال الشمس جَمَعَ جَمْعَ تأخير.
لماذا يجمع جمع تأخير؟
لأنه سافر قبل دخول وقت الظهر.
- أيضاً هناك دليل أخير وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة جمع تقديم وفي مزدلفة جمع تأخير. وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأن جمعه جمع تقديم في عرفه أرفق به ليتسنى له الدعاء والابتهال والانقطاع إلى الله. وجَمَعَ جَمْعَ تأخير لأنه أرفق به حيث سيتأخر مع الزحام إلى أن يصل إلى مزدلفة.
وهذا القول بالنسبة للسفر هو الصحيح: أن الأفضل أن يجمع على حسب ما يوافق الأرفق له.
ويمكن أن تفهموا أن:
= القول الثاني: أن جمع التقديم برمته لا يجوز فقد تقدم معنا حكم الجمع تقديماً وتأخيراً وأن أحد الأقوال عدم جواز جمع التقديم وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن حزم فعندهم لا يقولون الأفضل حسب الأرفق لأن جمع التقديم أصلاً لا يجوز وإنما يقولون يتعين أن تجمع جمع تأخير.
هذا بالنسبة لتفصيل الكلام في السفر.
* وأما الكلام في المرض فكالكلام في السفر تماماً.
* بقينا في جمع المطر. جمع المطر: الصواب أن السنة المستفيضة المعروفة عن السلف أنهم كانوا يجمعون جمع تقديم لأن جمع المطر إنما يكون أرفق إذا كان جمع تقديم حتى يصلي الإنسان ويبقى في بيته.
إذاً بالنسبة للمطر السنة المستفيضة أن يجمع جمع تقديم لكن لو فرضنا أن جمع التنأخير بالنسبة لجماعة معينة أرفق في صورة من الصور فلا مانع وإن كان كون السلف كلهم يجمعون في المطر جمع تقديم يدل على أنه لا ينبغي أبداً أن يؤخر جماعة المسجد الصلاة إلى الصلاة الثانية لأنه خلاف اتلمشهور عن السلف ولسبب آخر وهون: أنهم ربما يؤخرون الصلاة وينقطع العذر بأن يتوقف المطر.
(2/157)
________________________________________
فالخلاصة نقول:
- أنه لا ينبغي في جمع المطر إلا أن يكون جمع تقديم.
- ويجوز إذا تبين بوضوح أنه يحصل مشقة بجمع التقديم أن يكون الجمع جمع تأخير لكن الأولى والأفضل والموافق لما روي عن السلف أن يكون جمع تقديم.

ثم قال رحمه الله:
فإن جمع في وقت الأُولى اشترط (1) نية الجمع .... الى آخره.
المؤلف رحمه الله سيختم هذا الفصل ببيان شروط جمع التقديم وبيان شروط جمع التأخير.
• قال رحمه الله:
فإن جمع في وقت الأُولى اشترط نية الجمع عند إحرامها.
أي: يشترط لجمع التقديم:
- أن ينوي أنه سيجمع
- ويشترط في هذه النية أن تكون عند الإحرام بالأولى منهما.
إذاً: يشترط أن ينوي ويشترط أن تكون النية متى؟ عند الإحرام بهما.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). فإذا أراد أن يجمع فيشترط أن ينوي أنه سيجمع.
فإن كبر للأولى وهو لم ينو أن يجمع الثانية إليها لم يجز له أن يجمع لتخلف الشرط وهو: النية. وأن تكون النية عند الإحرام بالأولى.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن يجمع ولو ينو عند إحرامه بالأولى.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع يأصحابه في السفر ولم ينقل عنه أنه أمرهم أن ينووا قبل الإحرام بالأولى.
- ولأن الإلزام بهذا الشرط يوقع المشقة على من أراد أن يجمع والجمع إنما شرع لرفع المشقة.
وهذا القول - الثاني - اختيار شيخ الاسلام رحمه الله وهو الصواب - إن شاء الله -.
• ثم قال رحمه الله: - مبيناً الشرط الثاني:
ولا يفرق بينهما.
هذا هو الشرط الثاني من شروط جمع التقديم وهو: الموالاة. فإن لم يوالي بين المجموعتين بأن أخر الثانية لم يصح الجمع.
= وهذا مذهب الجماهير.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع قط إلا موالياً بين الأولى والثانية.
- الدليل الثاني: أن معنى الجمع هو الضم وإلحاق الثانية بالأولى مع عدم التفريق ومع التفريق يتخلف هذا المعنى.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط الموالاة في جمع التقديم بل لو صلى الأولى ثم بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث صلى الثانية جاز.
(2/158)
________________________________________
وهذا مذهب لبعض الفقهاء واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله واستدل على ذلك بدليلين:
- الأول: أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أبداً اشتراط الموالاة في جمع التقديم.
- الثاني: أن في اشتراط هذا الشرط مشقة لأنه يجب على من أراد أن يجمع أن يراعي أن تكون الثانية بعد الأولى مباشرة. وسيأتينا الحد في التفريق في كلام المؤلف.
وما اختاره شيخ الاسلام في هذه المسألة فيما يظهر لي ضعيف: - أما قوله لم يأت نص بل جميع النصوص التي فيها جمع النبي صلى الله عليه وسلم يصلح أن تكون دليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولما أراد أن يجمع لم يفرق ولا في صلاة واحدة ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم على الموالاة دليل على أنها شرط كما قلنا في الوضوء في المضمضة والاستنشاق وكما قلنا لما قررنا أنه لا يجب على الإنسان أن يتوضأ في كل صلاة إذا كان على طهارة وأن الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة صلى الصلوات بوضوء واحد ولما سأله عمر رضي الله عنه قال: عمداً صنعت لتعلموا أنه ليس بواجب. - هذا معنى الحديث - فهذه النصوص تدل على أن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على شيء معين دليل على اشتراطه لذلك أن مذهب شيخ الاسلام ضعيف ولا أقول أن مذهب الجمهور أحوط بل أقول أنه أرجح دليلاً بالإضافة إلى أنه أحوط ويمكن أن نقول:
= قول ثالث: وهو أن الموالاة شرط يسقط عند الحاجة والعذر - كما نقول في كثير من الشروط منها الموالاة في الوضوء أنها شرط لصحة الوضوء وتسقط عند الحاجة كذلك نقول هنا أن الموالاة في جمع التقديم شرط لا يصح الجمع إلا به إلا عند الحاجة من صور الحاجة: أن يصلي الإنسان الظهر ولا ينوي الجمع ولا يصلي بعدها العصر وهو مسافر - مثلاً - ثم بعد مضي ساعة أو مضي ساعتين تطرأ عليه حاجة بأن يحتاج أن يجمع ولا ينتظر إلى دخول وقت العصر فهو الآن لم يجمع ثم طرأ له عذر يلجأه إلى الجمع فنقول لك الآن أن تجمع.
إذاً: ما هي الصورة التي لا يجوز فيها الجمع؟
(2/159)
________________________________________
- الصورة أن يصلي الظهر ثم يجلسفي بيته وهو مسافر ثم بعد ساعة يعن له لا لسبب أن يصلي العصر فنقول صلاة العصر الآن باطلة لأنه يشترط لصحة الجمع الموالاة.
هذا القول هو الراجح في الحقيقة ويتوافق مع مذهب الجمهور لكن مع الأخذ بهذا القيد وهو أنه يجوز فقط عند الحاجة والعذر.
• ثم قال رحمه الله - مبيناً القدر الذي تحصل به الموالاة:
إلاّ بمقدار إقامة ووضوء خفيف.
يعهني يجوز أن يفصل بين الصلاتين بهذا المقدار: بقدر إقامة ووضوء بشرط أن تكون الإقامة والوضوء خفيفين.
الدليل على ذلك:
- قالوا: الدليل على هذا أنه أمر يسير والأمر اليسير لا يقطع الموالاة.
بناء عليه قال الحنابلة: أن كل فاصل يسير أيضاً لا يضر:
- فلو صلى الأولى ثم تكلم بكلام يسير ثم صلى الثانية صحت الصلاة
- ولو صلى الأولى ثم ذهب يمشي مشياً يسيراً لأي غرض ثم صلى الثانية صحت الصلاة.
إذاً يكون قول المؤلف: (بقدر إقامة ووضوء خفيف) من باب التمثيل ويكون الضابط: أن يفصل بينهما بفاصل يسير.
ومقدار اليسير: بقدر الوضوء والإقامة الخفيف.
= والقول الثاني: أن الضابط العرف. وإلى هذا مال ابن قدامة رحمه الله وقال: أن الصواب في التفريق بين الصلاتين العرف فمع اعتبر طويلاً فهو طويل وما اعتبر قصيراً فهو قصير.
وهذا الضابط هو الصواب. وهو قريب من الضابط الأول. فإنه في العرف لو ذهب ليقيم إقامة خفيفة أو ذهب ليتوضأ وضوءً خفيفاً اعتبر في العرف شيئاً يسيراً.
• ثم قال رحمه الله:
ويبطل براتبة بينهما.
أي لو صلى الظهر لعذر المطر - مثلاً - ثم صلى راتبة الظهر ثم صلى العصر نقول صلاة العصر الآن باطلة لأنك فصلت بينهما براتبة.
وظاهر كلام المؤلف أن الراتبة تقطع الموالاة ولو كانت قصيرة لأنه يقول: ويبطل براتبة. أي راتبة كانت. سواء كانت طويلة أو قصيرة.
= وهذا هو المذهب: أنها تبطل ولو براتبة قصيرة.
= والقول الثاني: أنه إن صلى الراتبة بينهما صحت الموالاة.
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن صلاة الراتبة إذا كانت قصيرة لا تعتبر تفريقاً.
- الثاني: أن الراتبة ملحقة بالصلاة وهي تبع لها فلا تؤدي إلى قطع الموالاة.
(2/160)
________________________________________
وهذا القول الثاني: هو القول الصواب. أن القطع براتبة قصيرة لا يؤدي إلى قطع الموالاة.
* - فإن صلى بين الصلاتين نفلاً مطلقاً أو فريضة أخرى منسية وأطال. فإنه تنقطع الموالاة بلا إشكال عند القائلين باشتراط الموالاة وهم الجماهير.
يقول رحمه الله: - مبيناً الشرط الثالث والأخير لجمع التقديم:
وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأُولى.
يشترط لصحة الجمع أن يكون العذر سواء كان السفر أو المرض أو المطر موجوداً في ثلاث مواضع:
يقول:
1 - 2 - عند افتتاحهما.
3 - وسلام الأولى.
يعني:
1 - عند تكبيرة الإحرام من الأولى.
2 - وعند السلام من الأولى.
3 - وعند تكبيرة الإحرام من الثانية.
فإن تخلف العذر في أي من هذا المواضع الثلاثة لم يجز الجمع.
الدليل:
- قالوا: - أما عند افتتاح الأولى فلأنه وقت النية.
- وأما افتتاح الثانية فلأنه هو وقت الجمع فيجب أن يوجد فيه العذر - ونحن نتكلم عن جمع التقديم لأن المؤلف سيخصص كلاماً آخر عن جمع التأخير.
(ملاحظة: (((قال الشيخ حفظه: في جواب سائل عن دليل اشتراط أن يكون العذر موجودا عند السلام من الأولى: قال ((لم يذكروا له دليلاً والراجح أنه لا يشترط فلم يذكروا له تعليلاً واضحاً))). ذكره حفظه الله عند الكلام عن شروط جمع التأخير وقدمته هنا لمناسبته))
= والقول الثاني: أنه لا يشترط وجود العذر إلا عند افتتاح الثانية فقط.
والدليل:
- أن الجمع إنما جاز لهذا العذر سواء كان السفر أو المطر أو المرض.
فإذا وجد العذر جاز الجمع ولو لم ينو عند التكبيرة الأولى لما تقدم معنا أن النية عند افتتاح الأولى ليس بشرط.
بناء عليه: - إذا صلو المغرب والسماء صحو ثم قبيل السلام من المغرب أو بعده بقليل هطل مطر بغزارة من ما يتفق عليه الفقهاء أنه من الأمطار التي تسبب الجمع فما حكم الجمع في هذه الصورة.
= عند الحنابلة: لا يجوز. لأن العذر لم يكن موجوداً عند افتتاح الأولى.
= وعلى القول الراجح: يجوز.
وعلى هذا فقس:
- فلو أن إنساناً صلى المغرب ثم لما سلم مرض فجأة سقط واعتل لأي سبب من الأسباب:
= فعند الحنابلة. يجب أن يصلي العشاء في وقتها.
= وعلى القول الراجح: يجوز له أن يجمع.
(2/161)
________________________________________
إذاً عرفنا الآن: ثمرة الخلاف وأن ثمرة كبيرة في الحقيقة.,
ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام عن شروط جمع التأخير:
• فقال رحمه الله:
وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأُولى إن لم يضق عن فعلها.
إذا أراد الإنسان أن يجمع جمع تأخير فحينئذ يشترط له شرطان فقط: - بخلاف جمع التقديم فإنه يشترط له ثلاثة شروط -.
- الشرط الأول: لجمع التأخير: نية الجمع في وقت الأولى بشرط أن توجد هذه النية قبل أن يضيق عن فعلها.
إذاً شرط جمع التأخير أن ينوي الجمع عند افتتاح الأولى ويشترط أن تكون هذه النية فيما بين دخول الوقت إلى أن يبقى مقدار ما يصلي الفريضة.
مثلاً: - إذا أراد أن يجمع العصر مع الظهر جمع تأخير يشترط لجواز جمع التأخير: -
- أن ينوي في وقت الأولى أنه سيجمع جمع تأخير.
- وأن ينوي قبل أن يضيق وقت الأولى.
مثاله:
- رجل سيجمع العصر مع الظهر ولم ينو فلما بقي ليخرج وقت الظهر خمس دقائق وهي لا تكفي للصلاة نوى فنقول النية باطلة.
- رجل آخر نوى أن يجمع جمع تأخير فلما بقي على خروج وقت صلاة الظهر ربع ساعة نوى. فنقول الآن: (((يصح))).
- رجل نوى بمجرد دخول وقت صلاة الظهر أنه سيجمع فنقول: جمعك جمع صحيح.
فعرفنا الآن ما معنى هذا الشرط.
التعليل:
- قالوا: أنه لا يجوز له أصلاً أن يؤخر الصلاة الأولى عن وقتها إلا بنية الجمع فإن أخرها فهو آثم.
وأما اشتراط أن ينوي قبل أن يضيق وقت الأولى عنها فلأنه إذا ضاق وقت الأولى عنها صار التأخير حينئذ محرم وسبق معنا ((أن الرخص لا تناط بالمعاصي)).

ولماذا هو محرم؟ لأننا قررنا أنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر وقت الأولى عن وقتها الفاضل إلى وقت الضرورة إلا مع نية الجمع. فإذا أخر إلى ضيق الوقت بدون نية الجمع فقط ارتكب محرماً.
= والقول الثاني: أن له أن يؤخر إلى أن يبقى من الوقت ما يدرك به الصلاة. وهو على القول الراجح أن يدرك ركعة.
والصواب مع مذهب الحنابلة - وهو القول الأول - لأنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة إلى أن لا يبقى منها إلا مقدار ركعة فلا يجوز له أن يفعل هذا فإن فعل فهو آثم.
• ثم قال رحمه الله:
واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية.
(2/162)
________________________________________
يجب أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية لأن هذا العذر هو سبب الجواز.
- فإذا دخل وقت صلاة الظهر ومرض الإنسان ونوى أنه سيجمع فلما انتصف وقت صلاة الظهر شفي هل يجوز له أن يجمع؟ بعبارة أخرى: هل يجوز له أن يؤخر صلاة الظهر إلى صلاة العصر؟
لا يجوز. لماذا؟
لأن العذر قد زال.
فائدة ذكروها: أنه لا يشترط بالإجماع أن يبقى العذر بعد دخول وقت الثانية.
فمثلاً: إنسان جمع لعذر المرض - جمع الظهر إلى العصر - فلما دخل وقت صلاة العصر شفي فهل نقول يحرم أن تجمع؟ أو أنت آثم بالجمع؟
الجواب: لا. بالإجماع يجوز له أنه يجمع وجمعه شرعي. لا نقول أنه الآن ليس له إلا هذا. يعني: لا نقول أنه هو لا يستطيع أن يصلي الآن إلا جمع لأن وقت صلاة الظهر خرج فهذا ليس بصحيح بل نقوب جمعك شرعي.
إذاً ما هي الثمرة؟ الثمرة هي: أن صلاته تعتبر أداء وليست قضاء. لأن استمرار العذر إنما يشترط إلى دخول وقت الثانية ثم إذا دخل وقت الثانية إن زال أو بقي لا يؤثر على جواز الجمع.
وبهذا انتهى الكلام عن الجمع وتبين أن للجمع ثلاثة أعذار:
1 - السفر. وهو أغلب وأكثر الأسباب وقوعاً.
2 - ثم المطر.
3 - ثم المرض.
والمطر أكثر وقوعاً من المرض باعتبار أن المطر يعم جميع الناس والمرض يخص بعض الناس دون بعض.
فترتيب المؤلف ترتيب منطقي.
وقبل أن ننتهي: تبين معنا من خلال كلام المؤلف أن الموالاة لا تشترط في جمع التأخير. لأننا لا حظنا أن المؤلف اشترط في جمع التقديم ولم يشترط في جمع التأخير.
بناء عليه: لو جمع الإنسان جمع تأخير ثم صلى الظهر فهل يجب عليه أن يصلي العصر مباشرة؟
الجواب: لا. لا يجب.
= وهذا هو مذهب الحنابلة: وهو أن الموالاة لا تشترط في جمنع التأخير.
والسبب: أن الثانية مهما أخرها إنما تقع أداء لأنها وزاقعة في وقتها.
وهذا صحيح: أن الموالاة لا تشترط في جمع التأخير.

فصل
[صلاة الخوف]
ثم بدأ المؤلف بالعذر الأخير من صلاة أهل الأعذار وهو الخوف.

• فقال رحمه الله:
(فصل) وصلاة الخوف:

صلاة الخوف: يعني الصلاة التي سببها الخوف.
والمقصود بالخوف هنا: - إما أن يكون خوفاً من العدو وهو الغالب والأكثر وقوعاً.
- أو يكون خوفاً من غير العدو.
(2/163)
________________________________________
فلا يشترط أن يكون الخوف من عدو. فلو خافغ من لصوص أو قطاع طرق أو من سباع أو من أي مؤذي وأمكن أن يتفادى الأذى بصلاة الخوف جاز له أن يصلي صلاة الخوف.
فإذاً صلاة الخوف لا تختص بالحرب وإنما تشمل جميع أنواع الخوف. ولكنها يكثر وقوعها في وقت الحروب.

• وقوله رحمه الله:
وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أجمعت الأمة على أن صلاةو الخوف مشروعة بالكتاب والسنة وأن مشروعيتها محفوظة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم وصلاها هو وأصحابه والسلف الصالح وما زال المسلمون يصلون صلاة الخوف فهو إجماع محفوظ محكم لا إشكال فيه ولله الحمد.

يقول رحمه الله:
صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة.
أفادنا المؤلف رحمه الله أن لصلاة الخوف صور وصفات متعددة. قال الإمام أحمد صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أوستة وفي رواية عنه هو رحمه الله: من ستة أوجه أوسبعة.
يعني أنها ثيتت في السنة بستة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا التنوع في صلاة الخوف راجع إلى أحوال الحرب. فتارة تصلح هذه الصفة وتارة تصلح الصفة الأخرى بحسب مكان العدو وبحسب القبلة وبحسب ملابسات المعركة.
وذكر العلماء رحمهم الله صفات كثيرة لصلاة الخوف. ونحن سنذكر بعض الصفات وسنختار الصفات التي اختارها الإمام أحمد رحمهخ الله والتي اتفق عليها البخاري ومسلم والتس يكثر وقوعها بين الناس.
- فالصفة الأولى: من صفات صلاة الخوف - ما جاء في حديث سهل رضي الله عنه وهو في البخاري ومسلم. وهي الصفة التي اختارها الإمام أحمد مع تجويز جميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن من طريقة الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة المحدثين من السلف أنهم يأخذون بجميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات ولا يختارون صفة واحدة من بين تلك الصفات بمعنى: المنع من باقي الصفات ولكنهم يختارون واحدة من تلك الصفات على سبيل التفضيل والتقديم لا على سبيل التعيين.
فالصفة الأولى: أن يكون العدو ليس في جهة القبلة ....... (((الآذان)))

انتهى الدرس،،،
(2/164)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا مسألة صلاة الخوف وتعريفها ومشروعيتها وأنها بقيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبقي علينا إتمام الكلام عن صفات صلاة الخوف.
وقبل الدخول قبل الدخول في صفات صلاة الخوف أقول يحسن أن نبين مسألة وهي: -
= أن السبب في جواز صلاة الخوف هو: الخوف لا السفر.
بناء على هذا يجوز أن يؤديها الإنسان في الحضو وهذا باتفاق الأئمة الأربعة رحمهم الله لكنهم اتفقوا أنهم إذا صلااها في الحضر فإنه يصليها أربعاً.
ثم تقدم معنا أنها رويت على صفات وأن الإمام أحمد قال ست أو سبع صفات وأن جميع الصفات ثابتة بإسناد صحيح يجوز أن يصلي الإنسان على وفقها وأن الإمام أحمد اختار الصفة التي جاءت في حديث سهل وهي الموافقة لظاهر القرآن.
فنقول:
- الصفة الأولى: من صفات صلاة الخوف هي: هذه الصفة وهي التي جاءت في حديث سهل واختارها الإمام أحمد
وهي تختص بما إذا كان العدو في غير جهة القبلة.
فإذا أراد الإمام أو القائد أن يصلي فإنه يقسم الجيش إلى فرقتين: - فرقة تقوم بإزاء العدو يعني تجاه العدو وفرقة تصلي مع الإمام.
فيصلي الإمام في الفرقة التي معه ركعة بالتكبير والركوع والسجود ثم إذا قام الإمام إلى الثانية بقي واقفاً وأتمت الفرقة التي معه لنفسها الصلاة وسلمت وذهبت إلى مكان الفرقة التي تجاه العدو ووقفت هي تجاه العدو وحضرت الفرؤقة الثانية وصلت مع الإمام الركعة الثانية ثم إذا جلس الإمام - إذا صلى الركعة الثانية بركوعها وسجودها وجلس قامت هذه الفرقة وأتت بركعة والإمام جالس ثم إذا انتهت من الركعة الثانية سلموا مع الإمام.
- الصورة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة: (الصفة السابقة ثابتة في الصحيحين والصفة هذه التي سأذكرها أيضاً ثابتة في الصحيحين).
(2/165)
________________________________________
وطريقة هذه الصفة: أن يقسم الإمام أيضاً الجيش إلى قسمين ويجعل كل قسم في صف فيمنع في هذه الصفة أن يكون الجيش كله في صف واحد ولو كان الجيش قليلاً بل لا تتم الصفة إلا إذا جعل الجيش نصفين كل نصف في صف.
فيكبر الإمام ويكبر الصف الأول والثاني ويقرأ ويركع الإمام بالصف الأول والثاني ثم يقوم فإذا قام من الركوع ثبت أصحاب الصف الثاني وسجد أصحاب الصف الأول مع الإمام ثم إذا انتهوا من الركعة الأولى كاملة وقاموا أتى الصف الثاني بالسجدة يعني أتوا ببقية الركعة فيسجدون سجدتين ويقومون فإذا قاموا تبادل الصف الأول مع الصف الثاني ثم صلوا بنفس الطريقة التي صلوا بها الركعة الأولى.
وهذه الطريقة كما تلاحظون إنما تنفع إذا كان العدو في اتجاه القبلة.
- الصفة الثالثة: أن يصلي الإمام بالفرقة الأولى ركعتين ثم تذهب وتأتي الثانية ويصلي بهم ركعتين فتمون للإمام أربع وللمأمومين لكل فرقة ركعتين.
- الصفة الرابعة: أن يصلي الإمام بكل فرقة صلاة كاملة. يصلي بهؤلاء ركعتين كاملتين ويسلم وينصرفون ثم تأتي الفرقة الثانية ويصلي بهم الإمام ركعتين كاملتين ومعلوم أن الفريضة بالنسبة للإمام هي الأولى والثانية بالنسبة للإمام نافلة.
هذه أبرز أربع صفات صلاها النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه بإسناد صحيح أنه صلاها.
ثَمَّت صفات فيها خلاف نأخذ منها واحدة وهي:
- أن يصلي الإمام بالفرقة الأولى ركعة واحدة ثم يذهبوا ولا يقضوا ثم يصلي الإمام بالفرقة الثانية ركعة واحدة ويسلم ولا يقضوا فصار أن كل فرقة صلت ركعةواحدة والإمام صلى ركعتين.
هذه الصفة جاءت في حديث ابن عباس واختلف الفقهاء:
= فصحح ابن القيم هذا الحديث وأخذ به.
=وذهب الجماهير إلى أنه لا يجوز أن يصلي الإنسان ولا في الخوف ركعة واحدة.
وحمل الجمهور حديث ابن عباس على أنهم أتموا وهذا الحمل لا يتوافق مع ما في الروايات من التصريح بأنهم لم يقضوا. ففي الروايات التصريح أنهم صلوا ركعة ولم يقضوا.
(2/166)
________________________________________
ويؤيد هذه الصفة ما تقدم معنا من حديث ابن عباس أنه قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر أربعاً وصلا السفر ركعتين وصلاة الخوف ركعة) فهذا يؤيد أن ابن عباس فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعة واحدة له ركعتين ولهم واحدة.
والأقرب أنه إذا صح حديث ابن عباس أن هذه صفة ثابتة وأنه يجوز للإنسان أن يصلي أحياناً بهم على هذه الصفة ويكتفوا بركعة واحدة.
انتهت الآن الصفات.
وليس في النصوص ولا في الآثار فيما أعلم كيفية صلاة الخوف إذا كانت الصلاة صلاة المغرب لكن الفقهاء بينوا كيفية الصلاة إذا كانت صلاة المغرب فقالوا:
- يصلي الإمام بالفرقة الأولى ركعة واحدة ثم يتمون لأنفسهم ويذهبون ويصلي بالفرقة الثانية ركعتين.
قالوا: إنما فضلنا الفرقة الثانية على الفرقة الأولى لأن الأولى أدركت تكبيرة التحريم مع الإمام وابتداء الصلاة ففضلناها.
ومن الفقهاء من قال: بل الصواب على العكس تصلي الأولى ركعتين ثم تذهب وتأتي الثانية وتصلي ركعة.
والصواب أن الأمر في صلاة المغرب واسع إن شاء الإمام أن يصلي بالفرقة الأولى ركعة أو ركعتين ولكن يبين لهم أنه سيصلي بهم ركعة أو ركعتين ثم يصلي بالفرقة الثانية ما بقي من الصلاة.
فيما عدا المغرب الأمر واضح في النصوص وإنما جاءت النصوص بركعتين لأن غالب صلاة الخوف بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت في سفر ولم يصل في الحضر صلاة خوف وإنما صلااها في السفر.
وبهذا تمت الصفات وعرفنا أنها خمس إذا صححنا حديث ابن عباس.
• ثم قال رحمه الله:
ويستحب أن يحمل معه في صلاتها: من السلاح ما يدفع به عن نفسه، ولا يثقله كسيف ونحوه.
يستحب للمقاتل الذي يصلي صلاة الخوف أن يحمل السلاح لكن يشترط في هذا السلاح أن يكون سلاحاً خفيفاً يؤدي الغرض للدفاع فقط.
فإن حمل سلاحاً ثقيلاً كرهت الصلاة وصحت. وعلة الكراهة أن السلاح الثقيل يمنع من كمال الصلاة.
إذاً عرفنا الآن حكم حمل السلاح الخفيف وحكم حمنل السلاح الثقيل.
= القول الثاني: أن حمل السلاح الخفيف واجب.
- لأن الله سبحانه وتعالى أمر بحمل السلاح والأصل في الأمر الوجوب.
(2/167)
________________________________________
وأجا الجمهور عنه هذا الدليل: أن اله سبحانه وتعالى إنما أمرهم بأخذ السلاح تخفيفاً عليهم ودفعاً للحرج فيما لو هجم عليهم العدو.
والقول بالوجوب وجيه لأن الله سبحانه وتعالى وإ؟ ن كان أمر بالحمل تخفيفاً لكن أيضاً دفع الضرر عن المسلمين متوجه ولازم ولو أنهم تهاونوا بهذا الأمر لأدى ذلك إلى ذهاب الأنفس.
- مسألة: فإن كان المقاتل مريضاً أو له عذر آخر كالمطر لم يجب له حمل السلام باتفاق أهل العلم.

باب صلاة الجمعة
• قال رحمه الله:
باب صلاة الجمعة.
يعني باب تبين فيه ألأحكام التي تتعلق بصلاة الجمعة.
والجمعة: لغة مشتقة من: الجمع الذي هو الاجتماع الذي هو ضد التفرق.
وفي الاصطلاح: لقب لفريضة تؤدى في الاسبوع مرة واحدة ركعتين بشروط مخصوصة يوم الجمعة.
هكذا عرفوها وهي ولله الحمد واضحة لكل مسلم فضلاً عن طالب العلم.
وصلاة الجمعة مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يخالف في هذا عالم أنها مشروعة مندوب إليها.
ويوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع كما أن يوم عرفة أو يوم النحر على الخلاف هو أفضل أيام السنة.
واختلف العلماء في سبب تسمية يوم الجمعة بهذا الاسم على أقوال كثيرة أصح هذه الأقوال:
- أنه جمع فيه خلق آدم.
سبب الترجيح: أنه روي في هذا المعنى حديث إسناده حسن.
وكانت تسمى في الجاهلية العروبة.
ومما ينبغي أن يفهمه طالب العلن أن صلاة الجمعة صلاة مستقلة ليست هي صلاة الظهر فلها أحكام مستقلة وصفات وشروط خاصة.
• قال رحمه الله:
تلزم: كل ذكر.
صلاة الجمعة فرض عين وإلى هذا ذهب الجمهور بل حكي إجماعاً.
ونسب القول بأن صلاة الجمعة فرض كفاية إلى الشذوذ والخروج عن الجماعة.
والصواب بلا شك أن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم وأن الخلاف فيها لا يشبه الخلاف في صلاة الجماعة كما يتوهمه البعض بل صلاة الجمعة فرض عين هلى كل مسلم بإجماع الفقهاء إلا من شذ.
قال: تلزم كل ذكر: يعني ولا تلزم المرأة. وكون صلاة الجمعة لا تلزم المرأة محل إجماع وإن شئت أن نقول اشتراط الذكورية لوجوب الجمعة محل إجماع لأن المرأة ليست من أهل الجماعة.
(2/168)
________________________________________
والمرأة لا يجب عليها صلاة الجمعة ولا تنعقد بها مستقلة فلو اجتمع خمسون من النساء وأرادوا أن يصلوا الجمعة منفردات فصلاة الجمعة بالنسبة لهم باطلة ويجب أن يصلوا ظهراً.
فاشتراط الذكورية شرط وجوب وشرط انعقاد بالنسبة للمنفردات.
• ثم قال رحمه الله:
حر.
المؤلف رحمه الله في سياق بيان شروط الوجوب.
- فالشرط الأول للوجوب الذكورية.
- والشرط الثاني: الحرية.

= ذهب الجمهور إلى أن العبد لا تجب عليه الجمعة. واستدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: أن العبد محبوس على سيده ومنافعه لسيده فالوقت ملك لسيده.
- والدليل الثاني: وهو حديث طارق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة: العبد المملوك والمرأة والصبي والمريض)
وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء. سبب التضعيف أن الحافظ أبي داود ذكر أن طارق رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه. فقالوا الحديث ضعيف.

=القول الثاني: أن الحديث صحيح لأن غاية ما هنالك أن يكون مرسل صحابي ومراسيل الصحابة حجة وقد حكي الإجماع على ذلك.
والصواب والله أعلم أن هذا الحديث ثابت وممن صحح هذا الحديث الحافظ البيهقي وكفى به إماماً رحمه الله.
ومن ذهب إلى تضعيفه من المعاصرين أو من المتقدمين فقوله ليس بصواب فإن هذا الحديث ثابت ولو كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه يجزم بنسبة هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومراسيل الصحابة حجة بلا شك.

= القول الثاني: أن الصلاىة تجب على العبد لأن الله سبحانه وتعالى أمر بها بلفظ عام يشمل العبد وغير العبد وقالوا أن حديث طارق ضعيف.
وإلى هذا ذهبت الظاهرية واختاره الشيخ ابن سعدي.

والصواب مع الجمهور وهو أن صلاة الجمعة لا تجب على العبد وعدم وجوبها على العبد مذهب الأئمة الأربعة فضلاً عن الجمهور وهو الصواب إن شاء الله لصحة الحديث.

ثم قال رحمه الله:
مكلف مسلم.
يشترط لوجوب صلاة الجمعة أن يكون الإنسان مسلم بالغ عاقل وهي شروط التكليف.
والدليل على اشتراط هذا الشرط من ثلاثة أوجه:
- الأول: الإجماع. فقد أجمعوا على أنه شرط لصحة صلاة الجمعة.
(2/169)
________________________________________
- الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة .. )
- الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله .. ) ثم أمره بفروع الإسلام.
= وذهب بعض الفقهاء إلى أن ذكر هذه الشروط في صلاة الجمعة ليس بصحيح. يعني: ينبغي أن لا تذكر.
والتعليل: - أن القاعدة تقول: ((أن شرط الشيء هو ما يختص به)) أو بعبارةو أخرى: ((لا يعتبر الشيء شرطاً في شيء إلا إذا اختص به)) وهذه الشروط شرط لكل العبادات فأي عبادة لا تصح إلا بهذه الشروط فإذاً هي لا تختص بصلاة الجمعة.
وهذه القاعدة صحيحة تماماً ولهذا نقول من لم يذكر هذه الشروط مع شروط الجمعة من الفقهاء أصاب لا لأنها ليست شروطاً ولكن لأنها لا تختص بالجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق.
يشترط لوجوب الجمعة أن يكون الإنسان مستوطناً وألأن يكون هذا الاستيطان ببناء ولو تفرق لكن لا بد أن يكون ببناء.
فإن استوطنوا بخيام أو ببيوت الشعر لم تجب عليهم.
مسألة تحديد نوع البناء والمكان الذي يشترط لصحة الجمعة سيأتينا في شروط الصحة والانعقاد فلا نطيل فيه.
لكن نبقى في شرط الاستيطان يقسم الحنابلة الناس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: - مستوطن: وهو من نوى الإقامة الأبدية في هذا المكان بحيث لا ينزح عنه صيفاً ولا شتاءً.
الثاني: - مقيم: وهو من مكث في مدينة ناوياً أكثر من أربعة أيام.
الثالث: - المسافر: وهو من مكث في مدينة أقل من أربعة أيام.
نأتي إلى الأحكام:
- المستوطن: تجب عليه بالإجماع بشروطها.
- والمقيم: تجب عليه بغيره لا بنفسه.
- والمسافر لا تجب عليه لا بغيره ولا بنفسه.
إذاً لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة حكم خاص.
فالمستوطن تجب عليه والمقيم تجب عليه بغيره لا بنفسه والمسافر لا تجب عليه لا بغيره ولا بنفسه.
يناءً على هذا:
- من قدم إلى مدينة الرياض ناوياً أن يقيم فيها يوم وهو يوم الجمعة وأذن لصلاة الجمعة فعند الحنابلة لا تجب عليه لأنه مسافر.
- فإن كان الإقامة أكثر من أربعة أيام فنقول:
- إن أقيمت الجمعة من مستوطنين فيجب عليك أن تصلي معهم وهذا معنى قولهم تجب عليه بغيره لا بنفسه.
(2/170)
________________________________________
- وإن لم تقم صلاة الجمعة لم يجب عليك أن تقيمها أنت ولا من معك من المسافرين ولو كانوا يبلغون أربعين.
والمستوطن أمره واضح.
= والقول الثاني: أن الناس ينقسمون إلى قسمين فقط:
- مستوطن.
- ومسافر.
وأن المسافر: تجب عليه تبعاً لغيره مطلقاً. فإذا أقيمت وجب عليه أن يحضر وأن يصلي فإن لم يفعل فهو آثم.
إذاً القول الثاني: يخالف الحنابلة في مسألتين:
- المسألة الأولى: تقسيم الناس.
- والمسألة الثانية: أن جميع الناس تجب عليهم إذا أقيمت. سواء كان مسافراً أو غير مسافر فمن كان موجوداً في المدينة وأقيمت صلاة الجمعة فيجب عليهم أن يحضروها فإن لم يفعلوا أثموا.
إذاً عرفنا الآن معنى قول المؤلف رحمه الله: مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق.
والراجح القول الثاني. لعموم الأدلة.

ثم قال رحمه الله:
ليس بينه وبين موضعها أكثر من فرسخ.
يشترط لوجوب صلاة الجمعة أن لا يكون بين المسلم وبين المسجد أكثر من فرسخ.
فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ لم تجب عليه.
وهذا الشرط خاص بمن كان خارج المدينة.
أما من كان داخل المدينة فيجب عليه أن يجيب بالإجماع سواء كان بينه وبين الجامع فرسخ أو أكثر أو أربعة أو خمسة فيجب عليه مطلقاً أن يجيب ولو لم يسمع النداء بالنسبة لصلاة الجمعة وهذا بالإجماع.
إذاً الكلام الآن بالنسبة لهذا الشرط يتعلق بمن كان خارج المدينة.
دليل هذا الشرط:
- قالوا: أن الفرسخ ثبت بالعادة والتجربة أنه يسمع منه النداء في الأحوال الطبيعية ولا يمكن أن نعلق وجوب الصلاة بسماع النداء الحقيقي لأن سماع النداء الحقيقي يختلف باختلاف الأحوال:
- فيختلف بوجود الأصوات وعدمها.
- ويختلف بوجود الريح وعدمها.
- ويختلف بمقدار رفع المؤذن صوته وعدمه.
فصارت الأشياء التي تتحكم بسماع الآذان غالباً تكون هذه الثلاثة أشياء.
فقالوا: ربط الوجوب بسماع الآذان لا ينضبط بسبب الاختلاف الحاصل بسبب هذه القرائن التي تحتف بالآذان فنربطه بما يسمع غالباً. قالوا: وهو فرسخ.
وتقدم معنا: أن ثلاثة فراسخ تساوي ستة عشر كيلو. إذاً الفرسخ خمسة كيلو ونصف.
فإذا كان الإنسان عن القرية أو عن المسجد بعده خمسة كيلو ونصف فيب عليه فإن كان ستة لم يجب عليه.
(2/171)
________________________________________
والتقييد بالفرسخ مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك.
لكن بعض الناس يقول أن مذهب مالك أنه يقيد بثلاثة أميال ونحن أخذنا أن الفرسخ يساوي ثلاثة أميال فصارت الأقوال واحدة فمن العبث أن نقول القول الأول فرسخ ولقول الثاني ثلاثة أميال فإنها نفس الشيء.
= المهم أن مذهب الأئمة الثلاثة فرسخ.

= القول الثاني: أن من كان خارج المدينة لا تجب عليه الجمعة مطلقاً وهو مذهب الأحناف.
وهو قول ضعيف لأمرين:
- الأول: عموم الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.} وهذا السعي واجب على كل من سمع ولو كان خارج المدينة.
- الثاني: أن أهل العوالي وقد كانوا خارج المدينة كانوا يُجَمِّعُون مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً مذهب الأحناف المقابل لمذهب الجمهور ضعيف.
وتحديد الجمهور بفرسخ في الحقيقة ينضبط وجيد ولا تظن أن هذا يتعارض مع تحديده بسماع النداء ولكنه في الحقيقة ضابط يضبط للإنسان متى يسمع النداء ومتى لا يسمع ولذلك إذا سألت الآن وقيل لك:
- نحن في استراحة لا ندري هل تجب علينا الجماعة أو لا تجب؟
فتقول: إذا كنتم تسمعون النداء فتجب وإذا كنتم لا تسمعون النداء فلا تجب. ويجب أن يكون النداء بلا مكبر للصوت.
- فيقول: لا ندري لو كان بلا مكبر هل نسمع أو لا نسمع؟
فتقول الضابط تقريباً هو خمسة كيلوات ونصف.
لأنه مع هذه المسافةو يمكن سماع الآذان. وهذا في الحقيقة ضابط ومريح للناس كلهم ويضبط لهم متى تجب عليهم صلاة الجمعة ومتى لا تجب.
نرجع إلى كلام المؤلف:
• يقول رحمه الله:
ولا تجب على مسافر: سفر قصر.
المسافر لا تجب عليه صلاة الجماعة.
والدليل على ذلك:
- ان النبي صلى الله عليه وسلم سافر مراراً وتكراراً - سافر للعمرة ثلاث مرات سوى العمرة التي مع الحج وخرج غازياً صلى الله عليه وسلم نحواً من عشرين غزاة فمجموع هذه السفريات تقريباً ثلاثة وعشرين سفرة مع حجة الوداع تكون أربعة وعشرين سفرة وربما لو تتبع الإنسان السيرة وجد عدد أكبر من ذلك ومع ذلك لم ينقل عنه أحد قط من أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم صلى في السفر أبداً ولا في حجة الوداع.
(2/172)
________________________________________
فهذا دليل على أن صلاة الجمعة لا تجب على المسافر ولا تشرع له إذا كان مسافراً سائراً وإنما تجب عليه وتشرع له إذا أقامها غيره.

ثم قال رحمه الله:
ولا عبد ولا امرأة.
تقدم معنا الخلاف في العبد وفي المرأة.
وأن المرأة محل إجماع.
وأن العبد محل خلاف. وأن الصواب إن شاء الله أنها لا تجب على العبد.
• ثم قال رحمه الله:
ومن حضرها منهم: أجزأته.
يعني إذا حضر الجمعة المسافر أو العبد أو المرأة فإنها تجزأهم إجماعاً.
والتعليل: - أن الجمعة إنما سقطت عنهم تسهيلاً عليهم وإعذاراً لهم فإذا حضروها أجزأت عنهم بلا خلاف.
• ثم قال رحمه الله:
ولم تنعقد به.
معنى لم تنعقد بهم أي لم يحسبوا في تكميل العدد المشترط ولا يجوز أن يقيموها منفردين.
والدليل: - قالوا: أن هؤلاء ليسوا من أهل الوجوب فلا يعتبروا في العدد ولا يقيموها بدون غيرهم.
بناء على هذا: الطلاب الذين يدرسون في الغرب واجتمعوا في مكان معين وحكمنا على وضعهم أنهم مسافرون فإنه لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة فإن أقاموها لم تنعقد بهم. لأنهم ليسوا من أهل الوجوب.
هذا إذا اعتبرناهم مسافرين.
الخلاصة: أن المرأة والعبد والمسافر لا تنعقد بهم ومعنى لا تنعقد بهم أي: أنهم لا يحسبوا ضمن العدد المشترط ولا يمكن أن يقيموها منفردين.
- أما بالنسبة للمرأة فهو محل إجماع - هذا الذي نقرره. محل إجماع عند الحنابلة وغيرهم.
- إنما الخلاف في العبد والمسافر.
= والقول الثاني في العبد والمسافر: أنها تنعقد بهم.
الدليل: - أنهم مكلفون تصح منهم الصلاة فتنعقد بهم.
وهذا القول هو القول الصحيح في إكمال العدد بالنسبة للمسافر دون إقامتها منفردين فلا يشرع.
أما العبد: ففي إكمال العدد منفردين لأنه في رواية عن الإمام أحمد: تنعقد به ويجوز أن يؤم ولو قلنا بعدم الوجوب. وهي الأرجح.
• ثم قال رحمه الله:
ولم يصح أن يؤم فيها.
يعني: ولا يصح أن يكون العبد إماماً ولا المسافر وبطبيعة الحال ولا المرأة.
- أما إمامة المرأة فتقدم معنا الكلام فيها وأن الجماهير بل إن ابن حزم حكى الإجماع على أن إمامة المرأة لا تصح.
- أما إمامة العبد والمسافر فالخلاف فيها كالخلاف في مسألة الانعقاد تماماً. من حيث الأدلة والترجيح.
(2/173)
________________________________________
والصواب. ما تقدم أنه يصح أن يكون إماماً. لأن من صحة صلاته صحت إمامته.
• ثم قال رحمه الله:
ومن سقطت عنه لعذر: وجبت عليه وانعقدت به.
يعني: إذا سقطت صلاة الجمعة عن شخص لعذر من الأعذار كالمرض ثم حضر المسجد فإنه إذا حضر المسجد وجبت عليه وأيضاً انعقدت به.
مثاله: لو حضر إلى المسجد تسعةوثلاثون رجلاً والمريض الذي يكمل الأربعين في البيت ثم تحامل على نفسه ودخل المسجد الجامع حينئذ نقول يجب عليك أن تصلي ويجب على الناس أن يصلوا لأن العدد انعقد بمجيئك.
التعليل:
- قالوا إنما رفع عنه الوجوب للمشقة الحاصلة بخروجه إلى المسجد فإذا خرج وأصبح في المسجد فلا مشقة لأنه الآن في المسجد فتجب عليه وهذا صحيح بلا إشكال.
يستثنى من هذا الحكم صورة واحدة وهي: ما إذا تحامل على نفسه ودخل المسجد ووجبت عليه وصلوا جماعة ثم طرأ عليه من العذر ما لا يستطيع معه أن يبقى فحينئذ يرتفع الوجوب مرة أخرى ويجوز له أن يخرج إلى بيته ولو أدى ذلك إلى إبطال الجمعة بتخلف شرط العدد.
وشرط العدد سيأتينا الكلام عنه وعن ما هيته وأدلته.
• ثم قال رحمه الله:
ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام: لم تصح.
يعني إذا وجبت على الإنسان صلاة الجمعة ثم خالف ولم يصل الجمعة فهو آثم هذا أولاً.
وثانياً: إن صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة بطلت صلاة الظهر بالنسبة له. ثم إذا بطلت نقول له: انظر إن كان يمكن أن تدرك الجمعة وجب عليك السعي إليها وإن قدرت أنه لا يمكن أن تدرك الجمعة لبعد مثلاً فيجب عليك أن تنتظر إلى أن يصلي الإمام الجمعة ثم تصلي بعد ذلك الظهر.
إذاً ما يريد المؤلف جواز التخلف فإنه إذا تخلف فهو آثم لكن يريد المؤلف أن يبين حكم صلاة الظهر بالنبة لمن صلاها قبل الإمام وهي تجب عليه.
الدليل: - أنه ترك ما أمر به وفعل ما لا يؤمر به: والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل فعل ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود باطل.
وهذا الحكم صحيح وما استدل به الحنابلة صحيح.
(2/174)
________________________________________
بناءً على هذا نقول: لمن تخلف عن صلاة الجمعة وصلى الظهر قبل أن يصلي الناس نقول: - أنت آثم بترك الجمعة. - وصلاة الظهر التي صليتها باطلة ويجب عليك أن تعيد صلاة الظهر مرة أخرى لأن تلك الصلاة باطلة. وهذا ما لا يتفطن له كثير من الناس الذين يتركون صلاة الجمعة - نسأل الله العافية والسلامة - ويصلونها ظهراً في بيوتهم.
• ثم قال رحمه الله:
وتصح: ممن لا تجب عليه.
يعني: إذا صلى من لا تجب عليه صلاة الجمعة إما لكونه عبداً أو لكونه امرأة أو لكونه مريض أو لأي عذر من الأعذار إذا صلى فصلاته صحيحة ولو كانت قبل صلاة الجمعة.
التعليل: - أن هذا الرجل صلى ما فرض الله عليه فصلاته صحيحة لأن هذا الرجل إنما فرض الله عليه الظهر بينما ذاك الرجل - المتخلف - أن ما فرض الله عليه الجمعة لا الظهر.
• ثم قال رحمه الله:
والأفضل حتى يصلي الإمام.
يعني: والأفضل لمن لم تجب عليه صلاة الجمعة لعذر أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام وعلل الحنابلة ذلك بأنه ربما يزول العذر فتجب عليه صلاة الجمعة.
إذاً: نقول أن هذا الاستحباب ينبغي أن يقيد بمن يظن زوال العذر مثل ماذا؟ مثل: المريض.
وأما من لا يمكن أن يزول عنه هذا الوصف فلا تتعلق به هذه الأفضلية مثل من؟ مثل: المرأة فإنه لا يتصور فيها هذا الحكم.
مثال آخر: كالمريض الذي لا يتصور أن يشفى بساعة أو بساعتين فهذا أيضاً نقول: يمكن أن يصلي ولا يشترط أن ينتظر لأنه إذا صلى في أول الوقت فسيحصل فضيلة الصلاة أول الوقت فلا نأمره بالانتظار إلا إذا ظننا أنه يمكن أن يشفى.
• قال رحمه الله:
ولا يجوز لمن تلزمه: السفر في يومها بعد الزوال.
يعني لا يجوز للإنسان الذي تلزمه صلاة الجمعة أن يسافر بعد الزوال.
= وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا على ذلك: - بأن هذا السفر يؤدي إلى تضييع الواجب.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز السفر في حالين:
- بعد الزوال.
- وإذا سمع النداء ولو كان قبل الزوال.
وهذا القول اختاره الطوفي.
= وهناك قول ثالث: ذكره شيخنا رحمه الله في الممتع ولا أدري من قال به: وهو أنه يقول: أنه لا يجوز السفر إذا سمع الإنسان النداء فنعلق الحكم بسماع النداء لا بالزوال.
أي القولين أحوط: (أضيق).
(2/175)
________________________________________
ما اختاره الطوفي أو القول الأخير؟ ما اختاره الطوفي لأنه يقول: حتى لو لم تزل إذا سمعت النداء. أما إذا زالت فلا إشكال.
بينما شيخنا يعلقه بالنداء: فإذا زالت الشمس ولم يؤذن وليس في هذه المدينة إلا مسجد واحد فهل يجوز أن يسافر؟ يجوز.
والصواب في الحقيقة: ما اختاره الطوفي. السبب؟ السبب: أن الزوال هو بحد ذاته هو سبب الوجوب فإذا زالت الشمس وجبت الصلاة ولو لم تسمع النداء.
ولذلك لو كان الإنسان مسافراً وزالت الشمس ولم يسمع نداءً مطلقاً فهل يجب عليه أن يصلي الظهر؟ نعم. يجب تتعلق بذمته. كذلك نقول إذا زالت الشمس يوم الجمعة فقد وجبت صلاة الجمعة عليه سواء سمع النداء أو لم يسمعه.
وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن السفر قبل الزوال جائز. وهو صحيح. فإنه جائز لكن مع ذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: قل من سافر قبل الزوال يوم الجمعة إلا ويرى ما يكره. يقول هكذا رحمه الله. لكن من حيث الأدلة فالسفر قبل الزوال جائز.
= والقول الثاني: أن السفر يوم الجمعة جائز قبل وبعد الزوال. وهو مذهب الأحناف.
واستدلوا: - بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمعة لا تمنع السفر.
والجواب عليه: أولاً ينظر في ثبوته فإن كان ثابتاً. فإنه يحمل على ما كان قبل الزوال.
والصواب هو ما اختاره الطوفي - كما قلت لكم - لأن السفر في هذه الحالة يؤدي إلى تضييع الواجب. والله سبحانه وتعالى نهى عن البيع والشراء إذا سمع النداء فكيف بالسفر فإن السفر من باب أولى أنه يضيع صلاة الجمعة تضييعاً كاملاً بخلاف البيع والشراء فقد يضيع تضييعاً جزئياً بالتأخير.
وبهذا انتهى الفصل الأول من باب صلاة الجمعة. ونتوقف عند هذا الفاصل ..... .
انتهى الدرس،،،
(2/176)
________________________________________
فصل
[شروط صحة صلاة الجمعة]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف الكلام عن شروط الوجوب بدأ بالحديث عن شروط الصحة. وشروطك الصحة عند الحنابلة أربعة ويأتينا الكلام مفصلاً عن كل شرط من هذه الشروط.
وبدأ المؤلف ببيان شرط ليس من الشروط:
• فقال رحمه الله:
يشترط لصحتها: شروطٌ ليس منها إذن الإمام.
يعني أنه لا يشترط لصحة الجمعة أن يأذن الإمام بالصلاة. بل يجب أن يصلوا ولو لم يأذن لأنها فريضة ومن شعائر الإسلام الظاهرة فتصلى بكل حال.
والدليل على أن إذن الإمام ليس بشرط:
- الدليل الأول: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما حبس عثمان رضي الله عنه في بيته صلى بالناس الجمعة وأقره عثمان وأقره جميع الصحابة فهو كالإجماع بينهم مع العلم أنه لم يأذن له بسبب الحبس.
- الدليل الثاني: أن الفتنة بقيت سنين في الشام بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وكانوا يصلون الجمعة في أثناء الفتنة بلا إذن إمام.
فهذا الأمر واضح وأدلته قوية ومن أقوى الأدلة الأثر الثابت عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيام حصر عثمان في البيت.
ثم بدأ رحمه الله بالشرط الأول:
• فقال رحمه الله:
أحدها: الوقت.
الشرط الأول من شروط صحة صلاة الجمعة: الوقت.
وكون الوقت شرط من شروط صحة صلاة الجمعة أمر متفق عليه وبالإجماع ولكن الخلاف في التفاصيل. أما أن الوقت شرط فهو أمر مجمع عليه:
- لأن الله سبحانه وتعالى بين أن الصلاة مقدرة بأوقات محدودة بها لا يجوز أن تصلى إلا فيها.
- وأيضاً: للأحاديث التي ستأتينا أثناء الكلام عن الخلاف في وقت الجمعة فإن هذه الأحاديث جميعاً تدل على اشتراط الوقت من حيث هو أما تحديده فسيأتينا أنه محل خلاف ,
(2/177)
________________________________________
• قال رحمه الله:
وأوله أول وقت صلاة العيد.
أول الوقت عند الحنابلة يبدأ من نفس الوقت الذي يبدأ منه صلاة العيد وهو بعد ارتفاع الشمس قدر رمح.
وهذا القول تفرد به الحنابلة من بين الأئمة الأربعة. فهو من المفردات.
ويقسم الحنابلة الوقت إلى:
- وقت جواز.
- ووقت وجوب.
فوقت الجواز يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح.
ووقت الوجوب من الزوال.
الذي تفرد به الحنابلة هو أن وقت الجواز يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح.
استدل الحنابلة على هذا بأدلة كثيرة:
- الدليل الأول: أن الصحابة قالوا: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة). ولا يسمى الغداء ولا القيلولة إلا إذا كانت قبل الزوال.
- الدليل الثاني: قول الصحابة: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نذهب إلى رواحلنا حين تزول الشمس. يعني أن الصلاة كانت قبل الزوال.
- الدليل الثالث: ما رواه سهل رضي الله عنه أنه قال: (صليت مع أبي بكر قبل منتصف النهار وصليت مع قريباً من منتصف النهار وصليت مع عثمان حين زالت الشمس). فكون أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يصلون قبل الزوال ويوافقهم جميع الصحابة فهذا دليل على أن هذا الوقت وقت جواز.
وهذا الأثر اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه:
(2/178)
________________________________________
= فذهب إلى ضعفه البخاري وابن المنذر.
= وذهب إلى صحته الإمام أحمد حيث احتج به ومال إلى تصحيحه أيضاً الحافظ الكبير المحقق ابن رجب رحمه الله.
والصواب - إن شاء الله - مع الإمام أحمد وابن رجب فهذا الأثر أثر صحيح يحتج به. وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: والإمام أحمد أعلم برجال هذا الحديث من البخاري.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن تصلى الجمعة إلا بعد الزوال.
- لحديث: (أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال).وقد جاء هذا الفظ عن صحابيين في الصحيح.
= والقول الثالث - والأخير -: أنه تجوز صلاة الجمعة في الساعة السادسة فقط ولا تجوز في أول النهار.
والساعة السادسة هي الساعة التي تسبق الزوال تماماً.
واستدلوا على هذا:
- بأن الآثار والأدلة التي ذكرها الحنابلة كلها تفيد أن الصلاة كانت قريباً من الزوال.
فإذا تأملت كل واحد من هذه الأحاديث فستجد أنه تفيد أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت قبل الزوال وقريباً منه.
- واستدلوا بدليل آخر وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من اغتسل يوم الجمعة ثم خرج في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) ثم قال: الساعة الثانية والساعة الثالثة والرابعة والخامسة ثم بعد الخامسة قال: (فإذا دخل الإمام .. ) فدل هذا الحديث على أمرين:
- الأمر الأول: أن الإمام يمكن أن يدخل قبل الزوال.
- والأمر الثاني: أن الساعة السادسة قبل الزوال.
وإلى هذا القول ذهب من المحققين ابن قدامة رحمه الله.
وهذا القول هو الصواب. أنه يجوز أن يصلي الإنسان قبل الزوال ولكن في الساعة السادسة فقط.
(2/179)
________________________________________
فإذا أردنا أن نعرف الساعة السادسة نقسم ما بين طلوع الفجر إلى الزوال ست ساعات ففي الساعة السادسة تكون هي التي يجوز فيها أن يصلي.
والقول بجواز الصلاة في الساعة السادسة أيضاً من المفردات كما أن القول الأول من المفردات وهو رواية عن الإمام أحمد وهو من المفردات.
والذي أراه أن الصلاة تجوز في الساعة السادسة تجوز بلا حرج ولا تردد لصحة الآثار وكثرتها الدالة على جواز إقامة الجمعة قبل الزوال قريباً من الزوال.
إذاً عرفنا الآن أول وقت صلاة الجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
وآخره آخر وقت صلاة الظهر.
يعني ينتهي وقت الجمعة بانتهاء وقت صلاة الظهر وهذا أمر مجمع عليه: أن وقت صلاة الجمعة ينتهي بانتهاء وقت صلاة الظهر وهذا هو الشيء المتفق عليه بين أهل العلم. أما متى ينتهي وقت صلاة الظهر فهو محل خلاف وتقدم معنا.

• ثم قال رحمه الله:
فإن خرج وقتها قبل التحريمة: صلوا ظهراً.
يعني: إذا خرج وقت صلاة الجمعة قبل أن يكبر الإمام للتحريمة فقد فاتت الجمعة ويجب عليهم أن يصلوها ظهراً.
والدليل: من وجهين:
- الأول: الإجماع.
- الثاني: لفوات الشرط. وهو الوقت فإذا فات شرط الوقت وهو شرط صحة لم يمكن تصحيح صلاة الجمعة فوجب أن يصلوها ظهراً.
وهذا الأمر لا إشكال فيه ولذلك هو محل إجماع.

• ثم قال رحمه الله:
وإلاّ فجمعة.
أي: وإن أدركوا منها قدر التحريمة صحت جمعة فيصلون ركعتين.
= وهذا مذهب الحنابلة.
فإذا كبر قبل خروج الوقت بثلاث دقائق - على سبيل المثال - صحت جمعة.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم لا يدركون الصلاة جمعة إلا بإدراك ركعة.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وهذا في الصحيح. وفي رواية خارج الصحيح ضعيفة: (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة). لكن الحديث الأول يكفي.
وإلى هذا القول أيضاً ذهب ابن قدامة رحمه الله. وهو الأقرب إن شاء الله.
فإذا لم يدركوا من الوقت قدر ركعة صلوها ظهراً.

ثم قال رحمه الله: - مبيناً الشرط الثاني:
الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها.
يشترط لصحة الجمعة: الجماعة - أي العدد -.
(2/180)
________________________________________
ويشترط لهؤلاء: أن يكونوا من أهل الوجوب. لذلك يقول رحمه الله: من أهل وجوبها. وقد بين رحمه الله أهل الوجوب عند قوله: (تلزم كل ذكر حر ... ) إلى آخره.
وكونه يشترط لصلاة الجمعة العدد أو الجماعة أمر متفق عليه بين الفقهاء إلا من شذ ولم يعتبر بقوله.
لكنهم اختلفوا في العدد المشروط - فهم اتفقوا على اشتراط العدد واختلفوا فيه - على أقوال كثيرة أوصلها الحافظ بن حجر إلى خمسة عشر قولاً نأخذ منها فقط رؤوس الأقوال القوية:
= فالحنابلة: يرون أنه يشترط حضور أربعين من أهل الوجوب. فإن قَلَّ العدد عن هذا بواحد لم تصح جمعة.
واستدلوا على هذا:
- بأن أول جمعة صليت بالمدينة صلى فيها أربعون من أهل الوجوب.
والجواب على هذا الدليل: أن هذه الواقعة واقعة عين لا عموم لها فربما لو كانوا أكثر أو أقل لصحت الصلاة.
والقاعدة الأصولية تقول: ((وقائع الأعيان لا عموم لها)).
- واستدلوا بأحاديث فيها النص على اشتراط حضور أربعين. وكل حديث فيه النص على اشتراط حضور أربعين فهو ضعيف وبذلك ننتهي من مناقشة كل حديث.
= القول الثاني: وهو مذهب المالكية. قالوا: أنه لابد من حضور اثنار عشر رجلاً. فإن قَلُّوا عن هذا العدد لم تصح.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بأصحابه يوماً وقد كانوا ينتظرون عيراً تقدم من الشام فلما قدمت انفضوا إليها ولم يبلق معه إلا اثنا عشر رجلاً ومع ذلك صلى بهم الجمعة صلى الله عليه وسلم. فدل على أن هذا العدد هو أقل عدد.
والذين بقوا من الصحابة وهم الاثني عشر هم العشرة المبشرون بالجنة وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وأما الباقون فقد خرجوا.
والجواب عن هذا الحديث: أن هذه واقعة عين أيضاً لا عموم لها أبداً وصادف مصادفة وجود هذا العدد ولو بقي رجل لم يخرج لصاروا ثلاثة عشر ولو خرج أحد الاثنا عشر لكانوا إحدى عشر. فهي واقعة عين لاعموم لها قطعاً.
= القول الثالث: أن العدد المشترط ثلاثة: وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ الاسلام.
- لأن أقل الجمع ثلاثة.
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مامن ثلاثة لا تقام فيهم صلاة الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان).
والجواب على هذا الحديث: من وجهين:
(2/181)
________________________________________
- الأول: أن مفهوم العدد ضعيف وسيأتيكم في أصول الفقه أن مفهوم العدد من أضعف المفاهيم.
- الثاني: أن هذا العدد خرج مخرج الغالب وإلا فإنه قد أجمعت الأمة على أن صلاة الجماعة تحصل باثنين لكن الحديث خرج مخرج الغالب.
= القول الرابع - الأخير: وهو قول للفقيه أبي ثور والنخعي وداود الظاهري واختاره الشوكاني وعدد من أهل العلم أنه يكفي في الجمعة ما يكفي في الجماعة. أي يكفي أن يوجد اثنين.
واستدلوا على ذلك:
- أنه لا يوجد دليل يدل على الزيادة عن هذا المقدار وكل عدد قيل فهو تحكم بلا دليل. فإذا وجد إمام يخطب ورجل واحد يستمع صحت الجمعة.
والراجح والله أعلم هو هذا القول - الرابع - وإليه أيضاً مال ابن حزم.
وهذه المسائل افتراضية ويصعب جداً أن تقع لا سيما بالنسبة للقول الثالث والرابع - ثلاثة أو اثنين فمتى يحصل أن لا يوجد إلا ذلك لكن هذا هو الراجح فيما لو حصل هذا الأمر فإن الجمعة يجب أن تقام بوجود اثنين من أهل الوجوب ولو امتنع أهل القرية كلهم إلا شخصان وجب عليهم أن يقيموا صلاة الجمعة أحدهما يخطب والآخر يستمع.

• ثم قال رحمه الله:
الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين.
= يشترط الحنابلة بل الجمهور لصحة إقامة الجمعة. - أن يكون أهل الوجوب مستوطنون بقرية مبنية. سواء كان البناء من طين أو من جريد النخيل أو من أي مادة.
- ويشترط أن يجمعهم اسم واحد أي أن تسمى هذه القرية باسم واحد.
- ويكون أهل القرية نازلون في القرية صيفاً وشتاءً لا يظعنون عنها أبداً ولا يتنقلون.
فإذا وجدت هذه الشروط صحت الجمعة.

والدليل على هذا الشرط:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعراب الذين حول المدينة بصلاة الجمعة فدل هذا على أن الاستيطان ببناء شرط.
= القول الثاني: أنه لا يصح إقامة الجمعة في القرى بل لا تكون إلا في الأمصار والمدن لا في القرى.
وهذا مذهب الأحناف.
واستدلوا على هذا:
- بأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لا جمعة إلا في الأمصار الجامعة).
بناء على هذا القول: يحتاج الأحناف أن يبينوا لنا ما هو الضابط في الفرق بين المدينة أو المصر وبين القرى؟
(2/182)
________________________________________
اختلفوا في ذلك إلى نحو ستة أقوال في تحديد ذلك. ونحن سنأخذ المشهور عندهم فقط.
- فالمشهور الذي هو المذهب عند الأحناف أن: - أن المصر: كل موضع له قاض ومفت ووال يقيم الحدود. فإذا وجدت هذه الأشياء اعتبرنا هذا المكان مصر أو مدينة وإلا فهي قرية.
- الضابط الثاني: وهو المشهور عن أبي يوسف من الأحناف - أن المصر هو الموضع الذي اجتمع أهله في المسجد الجامع لم يسعهم.
= القول الثالث: - والأخير: أن الجمعة تقام في كل جماعة أقاموا في مكان واحد ولو بلا بناء ولو كانوا في الخيام بشرط أن لا يتنقلوا لطلب الكلأ والماء.
وهذا القول اختاره شيخ الاسلام رحمه الله.
والأقرب والله أعلم مذهب الجمهور مع قوة ما اختاره شيخ الاسلام إلا أني أظن أنه يندر أن يوجد أناس يسكنون سكناً دائماً في خيام بل متى اتخذ الإنسان الخيمة صار التنقل من صفته ولو أراد أن يتخذ مكاناً للإقامة الدائمة لم يكتف بالخيمة بل يتخذ بناء.
وشيخ الاسلام رحمه الله نوعية البناء سواء كانت من طين أو من حجر أو من نخل فهذل ليس له أي علاقة بالحكم إنما المهم أن يكون مقيماً وفي الحقيقة كما قلت لكم الخلاف بين الجمهور وشيخ الاسلام قد يكون ضيق جداً لأنه يندر أن يوجد مجموعة من الأعراب يسكنون سكناً دائماً في الخيام في موضع واحد.
والأعراب الآن إذا أرادوا أن يسكنوا في مكان واحد دائماً لابد أن يضعوا شيئاً أكثر من الخيام فيبنوا بناء ولو كان بسيطاً.
إذاً الأقرب قول الجماهير مع أن الخلاف ضيق بينهم وبين شيخ الاسلام.
وقبل أن ننتقل عن هذه المسألة نسيت أن أذكر لكم تحرير محل النزاع فنقول:
- اتفق الفقهاء كلهم على أن أهل الخيام الذين يتنقلون لا تجب عليه الجمعة بالإجماع.
- واتفق الفقهاء على أن أهل الصحارى البعيدة عن المدن الذين لم يتخذوها موطناً وبناءً لا تجب عليهم الصلاة بالإجماع.
واختلفوا فيما عدا هذا مما ذكرته في الأقوال.
إذاً عرفنا الآن أن الاستيطان في قرية شرط صحيح وأن المتنقلون لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة.
وبناء على هذا:
- كما قلت أهل الخيام لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم.
- وأهل السفن لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم - خلافاً لما قلته أمس -.
(2/183)
________________________________________
إذاً نقول أهل الخيام وأهل السفن لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح.
- وبالنسبة لأهل السفن الذين يسافرون فأمرهم واضح لأنا أخذنا أن المسافر لا تنجب عليه.
- وبالنسبة لأهل السفن الذين يمكثون - كما قال أخونا في السؤال - وهو يوجد فعلاً وكثير - سواء يمكثون لصيد السمك أو للبحث هن شيء معين للتنقيب أو لأي غرض فلا تجب عليهم صلاة الجمعة ولا تصح منهم لأنهم لم يستوطنوا في بناء ولأنهم سيرحلون ولو طال بهم الوقت.
أما أهل السفن الذين - كما يفعله بعض الناس اليوم - أنهم إذا ركبوا في السفينة وهم مسافرون أقاموا الجمعة فهذا لا شك أنه ليس بمشروع وأنهم يجب عليهم كلهم أن يعيدوها ظهراً لأن المسافر السائر لا إشكال أن الجمعة لا تجب ولا تصح منه ومن أقامها فقد خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة الخلفاء الراشدين وهدي عامة الصحابة والسلف لأنهم كانوا لا يقيمون صلاة الجمعة في السفر.
وكذلك نقول لو وجد الطلاب والعمال الذين يغتربون لا يوجد معهم شخصان مقيمان مستوطنان ممن تجب عليهم الجمعة فإنه إذا لم يوجد هذان الشخصان فإنه لا يجوز لهم أن يقيموا الجمعة فإن أقاموها فإنهم يعيدونها ظهرا.
إذاً لابد من مراعاة شرط السفر وشرط الإقامة والاستيطان. وشرطا الإقامة والاستطيان متفق عليهما ولكن الاختلاف في متى تحصل هذه الإقامة هل لابد من مصر أو يكفي قرية؟ أو يكفي الخيام إذا كان أهلها لا يتنقلون بها؟.
إذاً عرفنا الآن حدود من تجب عليه صلاة الجمعة ومن لا تجب.

ثم قال رحمه الله:
وتصح: فيما قارب البنيان من الصحراء.
معنى هذه العبارة: أنه يجوز للإمام أن يقيم صلاة الجمعة في الصحراء القريبة من البنيان ولا يجب أن يقيمها داخل المدينة في الجوامع بل يجوز أن يقيم الجمعة خارج البنيان.
- واستدلوا على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام العيد خارج البنيان والجمعة عيد الأسبوع فدل هذا على جواز إقامة الجمعة خارج البنيان قريباً منه.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في الجوامع داخل الأمصار. فإن أقاموها خارج المدينة لم تصح.
والقول الأول هو الصواب.
(2/184)
________________________________________
وعرفنا من عبارة المؤلف أنهم لو أقاموا الجمعة خارج البنيان بعيداً لم تصح. وهذا صحيح. لأن الذي جاء في السنة إقامة العيد قريباً من البنيان فإن أقاموها بعيداً عن البنيان لم تصح.
إذاً عرفنا الآن جواز إقامة الجمعة قريباً من البنيان. وعلى القول بالجواز فإذا أقام الإمام الجمعة خارج البنيان وكان في البلد كبار أو زمنا أو من لا يستطيع أن يخرج لأي سبب فإنه يجب عليه وجوباً أن ينيب عنه من يصلي الجمعة بهؤلاء الذين لم يستطيعوا الخروج.
ثم رجع المؤلف إلى الكلام عن شرط العدد:
• فقال رحمه الله:
فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهراً.
ولو أنه جعل هذه العبارة بعد الشرط الثاني مباشرة لكان أنسب ولكنه هكذا صنع.
• قال رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها: استأنفوا ظهراً.
معنى هذه العبارة: أنه يشترط وجود العدد في جميع الصلاة فإن تخلف العدد في جزء من أجزاء الصلاة بطلت واستأنفوها ظهراً عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا:
- بأن شرط الشيء يجب أن يوجد فيه جميعاً - كما نقول بالطهارة بالنسبة للصلاة وستر العورة ... إلخ من شروط الصلاة.
فإن نقص العدد استأنفوها ظهراً: يعني ولا يجوز أن يتموها ظهراً.
فإذا خرج بعض الناس وبخروجه نقص العدد والإمام يصلي وعلم بخروجهم فالواجب عليه أن يترك هذه الصلاة وأن يستأنف الصلاة ظهراً.
فإن أتم الجمعة ظهراً لم تصح.
انتهى الآن تقرير مذهب الحنابلة.
= القول الثاني: أنه يجوز أن يتموها جمعة مطلقاً وإن نقص العدد في أثنائها.
= القول الثالث: أنه إذا نقص العدد أتموها ظهراً ولا يحتاج أن يستأنفوها.
ولا نريد أن نذكر الأدلة بالنسبة للقول الثاني والثالث لأنهما مرجوحين.
= القول الرابع: أنه إن نقص العدد قبل أن يأتوا بركعة استأنفوها ظهراًَ وإن نقص العدد بعد أن أتوا بركعة صلوها جمعة.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك الصلاة فهو حينئذ أدرك الجمعة.
وهذا القول هو الصواب. أنه يفرق بين أن ينقص العدد قبل ركعة أو بعد ركعة.
وتقدم معنا في كتاب الصلاة أن مقصود الفقهاء إذا قالوا أدرك ركعة أو لم يدرك ركعة أي ركعة كاملة بسجدتيها.
(2/185)
________________________________________
• ثم قال رحمه الله:
ومن أدرك مع الإمام منها ركعة: أتمها جمعة.
إذا لم يدرك المأموم مع الإمام في صلاة الجمعة إلا ركعة فإنه يتمها جمعة.
واستدل الحنابلة على هذا بدليلين:
- الأول: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة.
- الثاني: أنه أفتى بهذا عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم لهم مخالف.
= والقول الثاني: أن من أدرك من الصلاة ركعة فإنه يصليها ظهراً.
- لأنه يشترط لصحة الجمعة حضور الخطبة فمن لم يحضر الخطبة فإنه يصلي أربعاً. لأن الخطبة - كما سيأتينا - شرط في صحة الجمعة. فإذا لم يدرك شرط الصحة لم تصح له.
بناءً على هذا القول: جميع الناس الذين يأتون بعد خطبة الإمام نقول لهم: لا تصح منكم الصلاة جمعة ويجب أن تصلوها أربعاً ظهراً.
والراجح. القول الأول لأن معهم نص صريح وهو من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة وهذا النص لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزه مهما كانت قوة تعليل القول الثاني.

ثم قال رحمه الله:
وإن أدرك أقل من ذلك: أتمها ظهراً.
يعني: وإن أدرك أقل من الركعة فإنه يتم الصلاة ظهراً.
ولإتمامه الصلاة ظهراً شروط ستأتينا في آخر عبارة المؤلف لكن المقصود الآن أنه إذا لم يدرك ركعة بل أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ظهراً.
واستدلوا:
- بمفهوم النصوص السابقة. إذا يدل مفهوم تلك النصوص على أن من لم يدرك ركعة وإنما أدرك أقل لم يدرك الصلاة.
= والقول الثاني: لأبي حنيفة أن المأموم يدرك الجمعة بإدراك أي جزء من صلاة الجمعة ولو لم يدرك إلا التشهد الأخير.
واستدل على هذا:
- بأن كل من لزمه البناء على صلاة إمامه بإدراك ركعة لزمه بإدراك أي جزء منها كالمسافر يدرك المقيم.
الآن - عند الحنابلة: إذا أدرك المسافر خلف المقيم التشهد الأخير فكم يلزمه أربعاً. فالأحناف يقولون كذلك هنا إذا أردتم أن تلزموه بأنه باعتبار أنه أدرك جزءاً من الصلاة يصلي جميع الصلاة فهنا نقول باعتبار أنه أدرك جزءاً من الصلاة يكون أدرك الصلاة.
والجواب عليه: وهو أن القاعدة منقوضة من أصلها وهو أن المسافر إذا لم يدرك ركعة مع المقيم لم يجب عليه أن يصلي أربعاً وجاز له أن يصلي ركعتين.
(2/186)
________________________________________
إذاً إلزام أبي حنيقة للحنابلة صحيح لكن على القول الصحيح لا يلزم هذا الإلزام ونخرج عنه بما ذكرت من أن المسافر يصلي ركعتين إذا لم يدرك ركعة مع الإمام المقيم.
• ثم قال رحمه الله:
إذا كان نوى الظهر.
يعني: يشترط للمأموم المسبوق في الجمعة الذي لم يدرك ركعة وأمرناه أن يصليها ظهراً يشترط أن ينوي قبل التحريمة أنها ظهر فإن لم ينو بطلت وأعادها ظهراً.
التعليل: - قالوا: لوجهين:
- الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا دخل وقد نوى أن يصلي الجمعة والجمعة شيء والظهر شيء آخر.
- الوجه الثاني: قالوا: نحن نبني هذا على الأصل السابق وهو أن صلاة الجمعة صلاة مستقلة وليست هي صلاة الظهر.
- ثالثاً: القاعدة المقررة وهي أنه لا يستطيع الإنسان أن ينتقل بنيته من معين إلى معين لا سيما في الفرائض وهنا انتقل من معين إلى معين. فالمعين الأول هو: الجمعة. والمعين الثاني هو: الظهر.
وهذه الأدلة قوية جداً ووجيهة غاية ما تكون الوجاهة.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز أن ينويها جمعة ثم يقلبها إلى الظهر إذا تبين له أنه لم يدرك مع الإمام ما يجزئ في الجمعة.
واستدلوا بأدلة:
- منها: عكس القاعدة السابقة وهي: أن الجمعة هي الظهر ولكنها مقصورة.
وتقدم معنا أن الجمعة مستقلة وليست هي الظهر مقصورة.
- واستدلوا بدليل آخر: وهو المشقة والعنت والحرج الذي يلحق الناس من اشتراط أن ينوي الظهر فإنك لا تكاد شخصاً من العوام إذا دخل مع الإمام في صلاة الجمعة ينوي أنها ظهراً وإنما يدخل معه فإن تبين له أنه لم يدرك ولا ركعة صلاها أربعاً - إن كان أيضاً أنه يفهم هذا الأمر.
إذاً: في إلزام الناس بأنه يجب أن تنويها ظهراً إذا لم تدرك ركعة فأكثر فيه مشقة ظاهرة.
ومع ذلك أنا أقول أن الراجح مذهب الحنابلة لقوة الأدلة ووضوح الدلالة منها.
(2/187)
________________________________________
ومسألة المشقة والعنت لا تكفي في الحقيقة لترجيح القول الثاني. ونقول للمتأخر أنت أسأت بهذا التأخر وأنت لست أهلاً لرفع الحرج لأن الشخص الذي تأخر وترك الخطبة الأولى والثانية والركعة الأولى والثانية ليس أهلاً أن يراعى فنقول له: إذا دخلت ناوياً الجمعة ثم تبين لك أنك لم تدرك ولا ركعة يجب عليك أن تعيدها ظهراً ولو كان صلى أربعاً لأنه دخل بنية الجمعة.
والله أعلم وصلى الله على محمد ...

انتهى الدرس،،،
(2/188)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

• قال المؤلف رحمه الله:
ويشترط: تقدم خطبتين.

فتقدم معنا ذكر ثلاثة شروط من شروط صحة صلاة الجمعة واليوم نبدأ بالشرط الرابع وهو: اشتراط تقدم خطبتين.
= فيشترط الحنابلة لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبة وهذا هو مذهب الجمهور.
فإن لم يكن بين يدي صلاة الجمعة خطبة لم تصح الجمعة.

استدل الجمهور بدليلين:
- الأول: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) فأوجب السعي لذكر الله والذكر في الآية يقصد به خطبة الجمعة.
- الثاني: النقل المتواتر المستفيض الذي لم يختلف فيه المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبل صلاة الجمعة خطبتين.

= والقول الثاني: أن الجمعة تصح بلا خطبة. وهو مذهب فئة قليلة من أهل العلم.
واستدلوا على ذلك:
- بالقياس على عيد الأضحى. حيث لا يشترط لصحته خطبة. والجمعة تشارك عيد الأضحى في أن كلاً منهما عيد.
والأشبه بالصواب والله أعلم اقول الجمهور ورجحانه بين وهو أن من أقام الجمعة بلا خطبة بطلت صلاته فإن بقي وقت أعاد خطبة وصلاة وإن لم يبق وقت صلاها ظهراً.

إذا تقرر أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة ننتقل إلى مسألة لا بد منها:
وهي هل يشترط في هذه الخطبة أن تكون خطبتين؟ أو يكتفى بخطبة واحدة؟
= ذهب الحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون خطبة الجمعة خطبتين.
استدلوا على هذا:
(2/189)
________________________________________
- بحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يخطب خطبتين يجلس بينهما. وهذا في الصحيحين.
- واستدلوا بدليل آخر فقهي لطيف: أن الخطبتين أقيما مقام الركعتين. فالإخلال بإحدى الخطبتين إخلال بإحدى الركعتين.
وكون الخطبتين أقيما مقام الركعتين هذا منقول عن عجدد من الصحابة.
= والقول الثاني: أنه يجزئ خطبة واحدة فقط لأن الله أمر بالسعي إلى ذكر الله والذكر في الآية مطلق يصدق على الخطبة الواحدة.
والراجح القول الأول. سبب الترجيح: (وسيتكرر سبب الترجيح هذا معنا ولذلك أريد أن تفهموه).
سبب الترجيح: أن الله سبحانه وتعالى أمر بإقامة الخطبة بقوله: (فاسعوا إلى ذكر الله) أمراً مجملاً عاماً. فجاءت السنة لبيان كيفية إقامة الخطبة. وبيان الواجب واجب. وصار بيانها في السنة واجب أيضاً.
بناء على هذا إذا خطب الخطيب خطبة واحدة ونزل وصلى. فنقول له: ارجع فاخطب خطبتين وصلي ركعتين للجمعة فإن لم يبق وقت فصلها ظهراً.
إلا أنا نقول: أن الخطبة واجبة وشرط لصحة الجمعة. ومن شروط صحة الخطبة أن تكون خطبتين.
وقد سمعت أنه يوجد بعض الناس يخطب خطبة واحدة وهذا لعارض إما لضجره أو لتأخر الناس أو لأي سبب من الأسباب فيخطب خطبة واحدة وينزل.
فمثل هذا نقول له: يجب أن تعيد صلاة الجمعة. هذا على مذهب القائلين بالوجوب. وهو الصواب إن شاء الله.
ثم أراد المؤلف رحمه الله أن يبين شروط صحة الخطبة لما كانت هي بذاتها من شروط صحة الجمعة:

فقال رحمه الله:
ومن شرط صحتهما: حمد اللَّه.
= يشترط عند الحنابلة والشافعية لصحة الخطبة أن تشتمل على الحمد فإن لم تشتمل على الحمد بطلت.
واستدلوا على ذلك:
بما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه ثم قال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
والدليل الثاني: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم المستفيضة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الخطب بالحمد لله.
= والقول الثاني: للأحناف. أنه يجزئ في الخطبة أن يذكر الله تكبيراً أو تحميداً أو تهليلاً بشرط أن يكون الذكر بنية الخطبة.
(2/190)
________________________________________
بناء على هذا: عند الأحناف - لو صعد الإنسان المنبر وقال: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله بنية أنه يخطب جمعة ونزل لصحة الخطبة. فينبني على قولهم هذا الأثر.
فإن صعد المنبر وقال: سبحان الله والحمدلله والله أكبر ونزل ولم ينو أنه يخطب فإن الخطبة لا تصح.
استدلوا على ذلك بعموم الآية. وذكر الله يحصل بهذا المقدار.
= القول الثالث: مذهب المالكية. أنه يشترط في الخطبة أن يطلق عليها خطبة في لغة العرب ولو بلا تحميد.
بناء على ذلك: لو صعد المنبر وخطب عن موضوع من الموضوعات أي موضوع خطبة تسمى في لغة العرب خطبة ولم يحمد فيها الله مطلقاً بأن قال: بسم الله الرحمن الرحيم اعلموا أن كذا وكذا .. عن موضوع معين ذا صبغة موضوعية مستقلة صحت الجمعة.
فإن صعد المنبر وقال: الحمد لله رب العالمين وتكلم بكلام مفيد لا يعتبر في لغة العرب خطبة فإن الخطبة حينئذ تبطل.
والراجح مذهب الحنابلة. لما تقدم. ففي الحقيقة أيجاب الحمد في الخطبة من وجهة نظري أنه صحيح والأدلة تدل عليه ومذهب الحنابلة والشافعية في هذا قوي وإن رأى بعض المحققين أن في اشتراطه لصحة الجمعة ضعفاً لكن من وجهة نظري أنه شرط صحيح.
وسيأتينا في آخر شروط الجمعة القول الراجح في الشروط الصحيحة للجمعة إن شاء الله.
• ثم قال رحمه الله:
والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
يشترط لصحة الخطبة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فإن خطب خطبة كاملة مستوفاة لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم بطلت.
واستدلوا على ذلك:
- بقاعدة وهي: (أنه كلما وجب ذكر الله وجب ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم).
كما في الآذان والشهادتين.
= والقول الثاني: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة فإن تركها ولو عمداً صحت الخطبة.
واستدلوا بدليلين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.
(2/191)
________________________________________
والثاني: أن القاعدة التي ذكروها ليست بصحيحة فإنه ثبت في الشرع في مواضع كثيرة وجوب ذكر الله بلا ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم: منها: - التسمية على الذبيحة - والتسمية في الأكل - والتسمية عند الجمار - ومواضع أخرى كثيرة ثبت فيها ذكر الله بلا ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الراجح. أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست شرطاً لصحة الجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
وقراءَة آية.
أي يشترط في صحة خطبة الجمعة أن يقرأ فيها آية فإن لم يقرأ فيها آية بطلت الخطبة.
ويشترط في الآية:
أن تكون مفيدة.
وأن لا يقتصر على جزء منها لا يفيد معنىً تاماً.
واستدلوا على هذا:
- بما في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب الجمعة يقرأ آيات ويذكر الناس.
= القول الثاني: أن قراءة الآية لا تجب وإنما يستحب لأنه لا دليل على الوجوب.
وأما الحديث وهو يقرأ آيات ويذكر فلا يراد منه الوجوب بدليل: أنه قال في الحديث يقرأ آيات وليست آية.
وأجمع الفقهاء كلهم أنه لا يجب أن يقرأ آيات وإنما يجب أن يقرأ عند القائلين بالوجوب آية وليست آيات.
إذاً الاستدلال بهذا الحديث ليس صحيحاً لأنه لو دل الوجوب لدل على وجوب قراءة آيات لا آية.
نعم. هو مستحب ومسنون لكن لا دليل على الوجوب والشرطية.
والراجح عدم الوجوب.
• ثم قال رحمه الله:
والوصية بتقوى اللَّه عزوجل.
يقصد المؤلف رحمه الله أن تشتمل الخطبة على موعظة.
والدليل على هذا:
- ما تقدم معنا: وهو قوله: (يقرأ آيات ويذكر الناس) فدل على أن من شأنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس ويذكرهم في الخطبة.
الدليل الثاني: أن المقصود من الخطبة هو الوعظ وتذكير الناس بتقوى الله فإذا لم تشتمل على المقصود منها بطلت.
وهذا صحيح.
• ثم قال رحمه الله:
وحضور العدد المشترط.
يشترط لصحة الجمعة أن يحضر العدد المشترط على الخلاف في العدد المشترط.
والدليل:
- أن المقصود من الخطبة تذكير الناس وحثهم على تقوى الله وطاعته فإذا لم يوجدوا لم يحصل الغرض من الخطبة.
- الدليل الثاني: أن الخطبة من الأمور الإضافية التي لا تحصل إلا مضافة إلى شيء آخر وهو - هنا - وجود الناس.
(2/192)
________________________________________
ويجب أن تلاحظ أنا لا نتحدث هنا عن كمية العدد وإنما نتحدث عن وجود العدد وتقدم معنا أن وجود العدد شرط بالإجماع وإنما الخلاف في مقدار العدد.
انتهت شروط الصحة.
القول الراجح في الشروط بعد ما أخذنا الخلاف في كل واحد منها على حدة هو أنه يشترط لصحة الجمعة ثلاثة أشياء:
- الأول: الحمد. بأن يحمد الله.
- والثاني: اشتمالها على الموعظة.
- الثالث: أن تسمى خطبة عرفاً. وهذا - الشرط - لم يذكره المؤلف رحمه الله وهو شرط صحيح.
فالشروط على القول الصواب ثلاثة.
- فإذا صعد الإنسان المنبر وقال: الحمد لله رب العالمين اعلموا أنه من يطع الله يدخله الجنة ومن يعصه يدخله النار. ونزل. فأي الشروط تخلف؟ وأيها انطبق؟
الحمد وجد. والموعظة كذلك. أما الخطبة فلم توجد فنقول الآن هذه الخطبة باطلة أنها لا تسمى خطبة عرفاً.
إذاً هذا المثال في الحقيقة هو الذي يوضح مدى انطباق الشروط وتخلف الشروط لا سيما الشرط الأخير.
فإذا صعد المنبر وحمد الله ووعظ الناس وذكرهم وخطب خطبةً تسمى في العرف خطبة ونزل فخطبته صحيحة ولو لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقرأ آية.
إذاً هذا هو القول الصواب.
ومع ذلك أقول: أنه لا ينبغي مطلقاً لخطيب الجمعة أن يترك قراءة آية. لأنه في الحقيقة هذا الشرط وإن كان الراجح أنه ليس من شروط الصحة لكن السنة واضحة جداً بأنه صلى الله عليه وسلم كان في خطبة الجمعة يقرأ آيات أحياناً تكون آيات في أثناء الخطب وأحياناً تكون الخطبة كلها تفسير لآيات من كتاب الله فمن الخطأ الإخلال بمثل هذا وهو خلاف الأولى لوجهين:
- الوجه الأول: استفاضة السنة بقراءة آيات.
- والوجه الثاني: أن خطبته حينئذ محل خلاف فمن الفقهاء من يصححها ومنهم من يبطلها فلا ينبغي للإنسان في مثل هذه العبادة العظيمة أن يعرضها للبطلان وإنما يستوفي الشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله.
هذا إذا أردنا أن نبين ما ينبغي ويجدر بالإنسان. أما إذا أردنا أن نتكلم من منطلق علمي وفق الأدلة وحسب الراجح فلا يشترط إلا ثلاثة شروط.
ذكر المؤلف رحمه الله هذه الشروط وترك بعض الشروط فنأخذ شرطين:
- الأول: يشترط لصحة خطبة الجمعة دخول الوقت على الخلاف السابق.
(2/193)
________________________________________
- الثاني: يشترط الموالاة بين الخطبتين. وهذا من المعلوم أنه شرط صحة عند القائلين باشتراط خطبتين وليس بشرط صحة عند القائلين بأنه يجزئ خطبة واحدة.
بناء على هذا: نقول للإيضاح والبيان: إذا خطب الخطيب - كما يفعله أيضاً بعض الناس اليوم - قبل الزوال فإن هذه الخطبة عند الجمهور الذين يقولون أن وقت صلاة الجمعة أنه لا يدخل إلا بعد الزوال تكون باطلة وإذا بطلت الخطبة بطلت صلاة الجمعة.
إذاً كذلك نقول: إذا أمكن وتيسر أن لا يبدأ الإنسان الخطبة إلا بعد الزوال فهو أولى وأجدر على أني أقول لكم أن مسألة دخول وقت صلاة الجمعة في الساعة السادسة عندي ليس فيه أي إشكال والسنة واضحة تماماً فيه بحيث ما يتردد الإنسان أو يدخله الحرج في ذلك وهذه ليست من المسائل التي يتردد فيها الإنسان وإن كانت هذه المسألة من مفردات الحنابلة لكن الأدلة التي استدل بها الإمام أحمد واضحة وجلية ووجه الاستدلال بها قوي جداً فلا إشكال فيها إن شاء الله.
لكن مع ذلك لو أن الإنسان حرص على أن يؤخر بدأ الخطبة إلى ما بعد الزوال فلا شك أنه أولى لأن الخطبة الآن تكون صحيحة عند الجماهير.
لما أنهى المؤلف رحمه الله الكلام عن الشروط التي تشترط لصحة خطبة الجمعة بدأ في الكلام عن الأشياء التي لا تشترط:
• فقال رحمه الله:
ولا يشترط لهما الطهارة.
لا يشترط لصحة الخطبة أن يكون الخطيب على طهارة.
ومقصود الحنابلة بالطهارة هنا: الطهارة الصغرى والكبرى.
بناء عليه يصح أن يخطب الجنب وخطبته صحيحة وصلاته أيضاً صحيحة إذا اغتسل.
استدلوا على أنه لا تشترط الطهارة:
- لأن الخطبة عبارة عن ذكر بين يدي الصلاة فلا يشترط لها طهارة كالآذان فالآذن ذكر بين يدي الصلاة ومع ذلك لا يشترط له الطهارة فلو أذن الجنب صح الآذان كذلك خطبة الجمعة ما هي إلا ذكر بين يدي الصلاة.
إذا قرر الحنابلة أن الطهارة الصغرى والكبرى لا تشترط لخطبة الجمعة يدخل عليهم إشكالان.
- الإشكال الأول: كيف يدخل الجنب.
- والإشكال الثاني: كيف يقرأ القرآن؟
(2/194)
________________________________________
فأجابوا عن هذا الإشكال بأن المكث في المسجد وقراءة القرآن صحيحة مع الإثم. فيقولون هو آثم ويحرم عليه أن يصنع ذلك لكن الخطبة صحيحة لأنه لا ارتباط بين الخطبة وبين أن يكون على طهارة.
قال الحنابلة: كمن يصلي وقد سرق درهماً وكان واضعاً له في جيبه صحت فصلاته صحيحة لأنه لا ارتباط بين هذا الدرهم المسروق وبين الصلاة كذلك هنا قالوا لا ارتباط بين أن يقرأ آيات أو يمكث في المسجد وهو جنب وبين الخطبة. فالخطبة أمر آخر.
= والقول الثاني: أنه تشترط الطهارة الصغرى والكبرى قياسياً على تكبيرة الإحرام لأنه يشترط لصحتها الطهارة الصغرى والكبرى.
هكذا قال الأحناف.
= والقول الثالث: أنه يشترط لصحة خطبة الجمعة الطهارة الكبرى دون الصغرى.
قال ابن قدامة رحمه الله: وهذا أشبه بأصول الإمام أحمد.
ويستثنى على هذا القول من توضأ لأن من توضأ جاز مكوثه في المسجد جاز مكوثه في المسجد.
والراجح مذهب الحنابلة لأنه لا تعلق بين الخطبة وبين أن يكون على طهارة ومكثه في المسجد وقراءة الآية هو آثم إذا صنع ذلك لكن الخطبة والصلاة بعد ذلك صحيحة.
على أنه تقدم معنا أن الجنب على القول الراجح أنه يجوز له أن يقرأ القرآن فسقط هذا الإشكال وبقي فقط مسألة المكث في المسجد فلو توضأ لسقد هذا الإشكال أيضاً.

ثم قال رحمه الله:
ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة.
لا يشترط في خطبة الجمعة أن لا يخطب إلا من سيصلي بل لو خطب شخص وصلى آخر صحت الصلاة والخطبة.
الدليل على ذلك:
- أن الخطبة والصلاة منفصلين. كما لو صلى صلاتين.
= والقول الثاني: أنه يشترط لصحة الخطبة أن لا يتولاها إلا من يتولى الصلاة.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى الخطبة والصلاة.
- والخلفاء كذلك.
والراجح مذهب الحنابلة. لأنه لا يظهر وجه واضح لا شتراط ذلك. إذا الانفصال بينهما تام.
فإذا خطب رجل ثم صلى آخر لكون الأول يحسن الخطبة والثاني يحسن الصلاة لكان هذا جائز.
وغاية ما نقول أنه خلاف السنة - ولا ينبغي أن يفعل إذا لم يحتج الإنسان إلى ذلك - لأن ظاهر السنة أن رجلاً واحداً يتولى الخطبة والصلاة.
(2/195)
________________________________________
ثم انتقل رحمه الله إلى الموضوع الثالث من مواضيع هذا الدرس وهو سنن الخطبة:
• فقال رحمه الله:
ومن سننها: أن يخطب على منبر
يسن للخطيب ولا يجب أن يخطب من على منبر.
والدليل على هذه السنة من ثلاثة أوجه:
- الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً من ثلاث درج. فكان يخطب على الدرجة الثالثة ثم لما توفي صلى الله عليه وسلم وقف على الثانية أبوبكر رضي الله عنه ثم لما توفي وقف عمر رضي الله عنه على الثالثة ثم لما توفي وقف عثمان رضي الله عنه موقف أبي بكر ثم لما توفي وقف علي رضي الله عنه موقف النبي صلى الله عليه وسلم.
- الوجه الثاني: الإجماع فإن العلماء أجمعوا على أن اتخاذ المنبر سنة.
- الوجه الثالث: أن صعود الإمام على المنبر أبلغ في تحقيق المقصود من الخطبة.
فلا شك ولا مرية في أن اتخاذ المنبر سنة.
وينبغي في المنبر أن يكون نحواً من منبره صلى الله عليه وسلم يعني ثلاث درجات أو أكثر بقليل ولا ينبغي أن يكون أعلى من ذلك تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وكون منبر النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث درج:
- إما أن يكون بأمره صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يقف على الأرض بجوار جذع ويخطب ثم قالت له امرأة ألا أصنع لك منبراً فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وصنع المنبر المنبر من ثلاث درج.
فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه بأن يكون ثلاث درج هذا احتمال فإن الحديث لم يبين بأن يكون من ثلاث درج.
- أو نقول أنها هي التي وضعت ثلاث درج ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وخطب عليه.
فهو يعتبر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إما القولية أو الإقرارية.
إذاً لا إشكال في سنية اتخاذ المنبر.
• ثم قال رحمه الله:
أو موضع عال.
يعني: إذا لم يتيسر المنبر الثابت المصنوع لهذا الأمر فإنه يتوخى أن يقف على موضع عال لكي يتمكن من إسماع الناس وليحصل المقصود من الخطبة.
• ثم قال رحمه الله:
ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم.
يشرع للإمام إذا صعد المنبر وأقبل على الناس أن يسلم عليهم وهذا الحكم بلا نزاع عند الحنابلة فليس فيه لا أوجه ولا روايات وإنما كلهم رأوا أن هذا سنة.
والدليل على أن هذا سنة:
(2/196)
________________________________________
- أحاديث كثيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم على الناس.
وهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث.
= القول الثاني: أن السلام على الناس إذا قابلهم ليس بمشروع.
- لأنه لم ينقل في حديث صحيح.
- واكتفاء بسلام الإمام حين الدخول.
لأن الإمام أولاً يدخل المسجد ويسلم على الناس ثم يصعد على المنبر فقالوا: السلام الأول يكفي.
ولا يظهر لي في المسألة شيء فهنالك إشكال فيها.
(والنصوص العامة قد يرجح بها لكن الإشكال أنه لم ينقل مع أن ابن عمر نقل لنا كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم بدقة .... فهذا الوصف الدقيق مع عدم ذكر السلام محل إشكال.
والأمر يسير ... ولكن ما يظهر لي في المسألة شيء ...
وإذا افترضنا أن الإمام أول ما يلاقي الناس من على المنبر مباشرة فلا إشكال في السلام ... فهذه تضاف .. فإذا كانت مقابلة الناس مباشرة من على المنبر فلا إشكال في السلام .. لكن الإشكال إذا دخل وسلم ورد الناس عليه ثم ...
• ثم قال رحمه الله:
ثم يجلس إلى فراغ الأذان.

هذه سنة: أن الإمام إذا صعد المنبر يجلس قبل أن يبدأ بالخطبة.
فهذه سنة وليست بواجبة.

والدليل على ذلك:
- أولاً: مارواه السائب في صحيح البخاري أنه قال: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس الخطيب على المنبر.
ففي هذا دليل على أنه كان يجلس بين يدي الأذان.

- ثانياً: أن هذا الأمر تناقلته الأمة سلفاً عن خلف وهو أن الإمام يدخل ويجلس.
ولا نقول أنه محل إجماع ولكن نقول أن العمل هذا تناقلته الأمة سلفاً عن خلف.

• ثم قال رحمه الله:
ويجلس بين الخطبتين.

يستحب للخطيب أن يجلس بين الخطبتين.
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم جلس ثم يقوم فيخطب.
هذا دليل الاستحباب.
دليل عدم الوجوب: أن عدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ومنهم المغيرة بن شعبة ومنهم أبي بن كعب كانوا يسردون الخطبة بلا جلوس .... فإذا أراد الخطيب أن يسرد الخطبة بلا جلوس فينبغي أن يسكت سكتة لطيفة بين الخطبتين.
= القول الثاني: وهو للشافعية: أن الجلوس واجب.
(2/197)
________________________________________
- لفعله صلى الله عليه وسلم وفعله صلى الله عليه وسلم خرج بياناً للواجب.
والراجح والله أعلم. مذهب الحنابلة للآثار المروية في الباب وأن كون الخطيب من الصحابة يفعل هذا الفعل ويقره عليه الناس بلا إنكار فهذا بحد ذاته دليل قوي على أن الجلوس سنة.

ثم قال رحمه الله:
ويخطب قائماً.
يعني: يسن أن يخطب قائماً.
فإن خطب جالساً صحت الخطبة.
أما دليل السنية: - فحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً.
وأما دليل عدم الوجوب: - أن عثمان رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه وعمر بن العزيز رحمه الله خطبوا وهم جلوس.
= القول الثاني: وجوب الخطبة قائماً. فإن لم يخطب على هذه الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلت الخطبة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أبداً أنه خطب جالساً مع الصحة والقدرة.
والراجح. أيضاً الأول. لعموم الآثار. لأنها فعلت على ملأٍ من الناس وحضور في خطبة الجمعة ...
• ثم قال رحمه الله:
ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا.
يسن للإنسان أن يعتمد على أحد ثلاثة أشياء:
1 - عصا.
2 - أو قوس.
3 - أو سيف.
فهذا سنة: إن فعل أثيب وإن ترك صحت الخطبة.
الدليل على هذا:
- حديث الحكم بن حزم رضي الله عنه وهو من الصحابة المقلين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهو متكئ على عصا أو قوس.
هذا الحديث ضعفه ابن عساكر فقال: غريب وإسناده ليس بالقوي ... حسب ما ظهر لي.
بالإضافة إلى هذا له شواهد فيها ضعف ولكن يمكن أن تقوية.
= القول الثاني: فيه تفصيل:
- لا يشرع مطلقاً ... أو القوس يشرع إذا احتاج إليه الإنسان بأن يخطب على الأرض ولا يشرع إذا لم يحتج إليه الإنسان بأن يخطب على المنبر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ القوس والعصا في أول الأمر ثم لما اتخذ المنبر لم ينقل عنه أنه اتخذ عصا ولا قوس.
كان يتخذ العصا في خطبة الجمعة والقوس في الخطبة حال الحرب.
وهذا القول الأخير كله هو الذي يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله.
وأخذنا الأدلة على مسألة القوس والعصا أما الأدلة على مشروعية السيف فهو أنه لم يأت في النصوص أبداً أنه صلى الله عليه وسلم اتكأ على السيف.
(2/198)
________________________________________
وفي حديث ابن الحكم السابق اتكأ على القوس أو العصا ولم يذكر السيف.
وهذا القول الأخير هو الراجح إذا صح ما قاله ابن القيم رحمه الله وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اتخذ المنبر لم ينقل عنه أنه اتخذ عصا أو قوس.
وأظن أن ابن القيم يقصد بهذه العبارة أنه لم ينقل أنه اتخذ وإلا لا يوجد حديث - حسب ما اطلعت عليه - فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ العصا أول الأمر فلما اتخذ المنبر لم يتخذ عصا.
هذا التفصيل الذي يذكره ابن القيم لا يوجد في الأحاديث حسب ما أعلم لكن لعله فهم ذلك من أمرين:
- الأول: أن الحكم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وهذا في مسند الإمام أحمد أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر أيام الفقر قبل الفتوحات.
- الثاني: أنه لم ينقل في الأحاديث الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ عصا بعد أن اتخذ المنبر.
لكن لو قال قائل: أن الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم - إذا صححنا حديث الحكم - كات يتخذ العصا حين كان يخطب بجوار الجذع فما المانع أنه استصحب هذا الأمر ولم نحتج إلى نقله مرة أخرى في المنبر؟
فلو قال قائل بهذا لكان له وجه.
فأقول أن الراجح هو كلام ابن القيم إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ عصا حين اتخذ المنبر.
إذا ثبت هذا المقدار صح كلام ابن القيم.
أما إذا لم يثبت فالأصل أنه سنة لكن إذا ثبت - كما يقول هو - أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اتخذ عصا لما اتخذ المنبر فكلامه رحمه الله صحيح.
• ثم قال رحمه الله:
ويقصد تلقاء وجهه.
أي أنه يستحب للإمام إذا صعد المنبر وبدأ الخطبة أن يقصد تلقاء وجهه ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً لأنه هكذا كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم ..... (الآذان).
انتهى الدرس،،،
(2/199)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

• قال المؤلف رحمه الله:
ويقصد تلقاء وجهه.

يعني أنه يسن للخطيب إذا بدأ الخطبة أن يستقبل الناس بوجهه وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا ظاهر السنة: فإنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت يميناً وشمالاً.
- والوجه الثاني: أن هذا أبلغ في الإيصال وفي استواء الناس في استماع الخطبة لا سيما في القديم فإنه إذا كان يخطب بلا مكبر إذا التفت يميناً لم يسمعه أهل الشمال وكذلك العكس.

= مسألة: يسن للناس أن يستقبلوا الإمام بوجوههم ولو انفتلوا عن القبلة.
والدليل على هذا:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ منبراً في جانب المسجد الأيمن وكان أصحابه رضي الله عنهم يتوجهون إليه حال الخطبة. وهذا كالاجماع.
والتعليل - بعد أن ذكرنا الدليل: أن توجه المستمع للخطبة للإمام أدعى إلى حسن الإنصات واستيعاب ما يقوله الخطيب.

ثم قال رحمه الله:
ويقصر الخطبة.
أي: ويسن للخطيب أن يخطب خطبة قصيرة.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه).
ومعنى مئنة: أي علامة على فقهه ودليل على معرفته.
واليوم كثير من الخطباء يعكس الأمر تماماً: يطيل الخطبة ويقصر الصلاة وهذا مخالفة للسمنة من وجهين:
- في الخطبة.
- وفي الصلاة.
وكون الإمام يقصر الخطبة يستدعي ذلك أن يتقن الإنسان الإعداد للخطبة لأنه إذا كان سيخطب خطبة قصيرة فيجب أن يستوفي ما فيها من معاني وما تشتمل عليه من أحكام في وقتى قصير وهذا يستدعي الدقة أثناء إعداد الخطبة.
والتعليل: أن قصر الخطبة أدعى لا ستيعابها من المأموم وهذا ملاحظ ومشاهد فإذا خطب الإنسان خطبة قصيرة استوعبها الناس وعرفوا ما فيها وإذا خطب خطبة طويلة صار بعضها ينسي بعضاً ويخرج الناس قليلي الفائدة.
• ثم قال رحمه الله:
ويدعو للمسلمين.
يسن للإمام أن يدعو للمسلمين.
واستدلوا على هذا بوجهين:
- الوجه الأول: أن ساعة الخطبة ساعة إجابة عند عدد من أهل العلم.
- الوجه الثاني: أنه إذا كان يندب الإنسان أن يدعو للمسلمين خارج الخطبة ففيها من باب أولى.
(2/200)
________________________________________
وعرف من التعليلين أنه لا يوجد في المسألة نص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين إلا أحاديث ضعيفة في هذا الباب. لكن مع ذلك لم أر خلافاً في استحباب الدعاء فلا أقول أن هذه المسألة محل إجماع لكني أقول لم أر بعد البحث أحداً من أهل العلم عارض في مسألة استحباب الدعاء للمسلمين في خطبة الجمعة.
= مسألة: وهل يدعو للإمام؟
اختلفوا في الدعاء للإمام على قولين:
= القول الأول: أنه لا يدعي للإمام.
- لأن الدعاء للإمام بدعة محدثة ليس لها أصل.

= والقول الثاني: أنه يشرع أن يدعى للإمام. واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن في صلاح الإمام صلاح الرعية وهذا مصلحة عظيمة ينبغي أن يسعى الإنسان في تحصيلها من خلال الدعاء.
- الثاني: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يدعو لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وإلى هذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والصواب: أن الدعاء للإمام مشروع لكن يكون أحياناً فلا يديم هذا الأمر لعدم وروده ولكنه يدعو أحياناً للإمام لما في الدعاء للإمام من ىمصلحة ظاهرة إذ في صلاحه صلاح الناس.
وبهذا انتهى الكلام عن الشروط وما يتعلق بأحكام وآداب وسنن خطبة الجمعة وبدأ بفصل آخر.
(كنا سننبه إلى مسألتين نسينا أن ننبه عليهما: من أسئلة الإخوان بالأمس ظهر لي أنها تحتاج إلى تنبيه وأيضاح.
المسألة الأولى: وهي: تتعلق بقول المؤلف رحمه الله: فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً:
ذكرت في هذه المسألة ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال وذكرت أن اختيار ابن قدامة أنهم إن نقصوا بعد ركعة أتموها جمعة وقلت أنها: وإلا صلوها ظهراً. فيسأل الإخوة: هل قولك: وإلا صلوها ظهراً يعني: استأنفوا أو أتموا؟ والصواب أنهم يستأنفوا فأنا لم أقل هل هم يستأنفون أو يتمون؟ فتلحقون في هذا الموضع أنهم يستأنفونها ظهراً وبهذا يكون ما رجحنا في هذه المسألو متناسق مع ما رجحناه في مسألة: وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً إن كان نوى الظهر.
(2/201)
________________________________________
المسألة الثانية: في مسألة قول المؤلف رحمه الله: ولم تنعقد به. ذكرنا أن الحنابلة يرون أن المسافر والمرأة والعبد لا تنعقد بهم الصلاة وذكرت أن معنى لم تنعقد بهم الصلاة: أنهم لا يحتسبون في العدد ولا يقيمونها منفردين. ثم تكلمت عن المسافر والمرأة والعبد.
بالنسبة للمرأة فلا إشكال: لأنني ذكرت أن المرأة محل إجماع.
نأتي إلى مسألة المسافر: قلت أنا: أن الراجح تنعقد بالمسافر وفعلاً هذا هو الراجح فيما يتعلق بإكمال العدد دون مسألة إقامة الجمعة منفردين.
بقينا في العبد: والعبد: الصواب: أنها تنعقد به سواء إقامتها منفردين أو إكمال العدد وهذا رواية عن الإمام أحمد أنه حتى على القول بعدم وجوب صلاة الجمعة على العبد فالراجح مع ذلك أن العبد تنعقد بع بمعنى يكمل به العدد وتنعقد به بمعنى يقيمونها منفردين فلو اعتزل مجموعة من العبيد في قرية لا يوجد معهم حر إما للعمل بالزراعة مثلاً أو لأي غرض كان فإنه يشرع لهم مع ذلك أن يقيموا الجمعة.
فهذا تنبيه على هذين الموضعين ويلحق في موضعه من الشرح.).

فصل
[في صفة صلاة الجمعة، وحكم تعددها، وما يسن في يومها]
• ثم قال رحمه الله:
فصل
يريد المؤلف رحمه الله أن يبين في هذا الفصل ما يتعلق بصفة صلاة الجمعة وعدد الركعات والسنن الخاصة بيوم وصلاة الجمعة والمسألة المهمة وهي: حكم تعدد صلاة الجمعة.

بدأ بأهم هذه الأمور وهي: صفة صلاة الجمعة:
• فقال رحمه الله:
والجمعة ركعتان.
اتفق العلماء بلا نزاع من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن صلاة الجمعة ركعتان.
وهذا الإجماع يعضده النصوص المتكاثرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ركعتين ونقل هذا نقلاً متوتراً فلا إشكال في أن الجمعة ركعتان.

• ثم قال رحمه الله:
يسن أن يقرأ جهراً.
أفاد المؤلف رحمه الله: أن القراءة في صلاة الجمعة تكون جهرية. فيجهر الإمام بالقراءة ولو كانت صلاة نهارية.
وذلك:
- أولاً: لأن هذه الصلاة عيد.
وثانياً: لأنها صلاة يجتمع لها الناس. وإذا اجتمع الناس لصلاة شرع الجهر فيها.
هذا فضلاً عن أن السنة المتواترة أن الإمام يجهر بالقراءة في صلاة الجمعة.
(2/202)
________________________________________
ثم بين الموؤلف السنة في السور التي تقرأ في صلاة الجمعة:

فقال رحمه الله:
في الأُولى: ((بِالْجُمْعَةِ))، وفي الثانية: ((بِالْمُنَافِقِيْنَ)).
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالجمعة وبالمنافين.
وهذه سنة ثابتة.
والقراءة في صلاة الجمعة جاءت على ثلاثة أوجه:
- الوجه الأول: أن يقرأ بالحمعة وبالمنافقين.
الوجه الثاني: أن يقرأ بالجمعة والغاشية. وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم من حديث النعمان رضي الله عنه وقل من يأتي بهذه السنة كأنها من السنن المتروكة.
- الوجه الثالث: وهي السنة المشهور الأخرى: أن يقرأ بسبح والغاشية وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم.
فصارت القراءة على ثلاثة أوجه. يناوب الإنسان بينها تارة يقرأ الجمعة والمنافقية وتارة الجمعة والغاشية وتارة سبح والغاشية. لأن هذا ثابت في السنة الصحيحة وذكره مسلم في صحيحه.
• ثم قال رحمه الله:
وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد.
تحرم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد.
=وهذا مذهب الجمهور. بل حكي إجماعاً إلا عن عطاء فقط فلم يخالف إلا هو وروي أن الإمام أحمد أيضاً يرى جواز تعدد الجمعة مطلقاً. لكن القاضي من أصحاب الإمام أحمد حمل هذه الرواية على الجواز عند الحاجة ورأى أنه لا يصح عن الإمام أحمد القول بالجواز مطلقاً.
وما ذكره القاضي صحيح إذ أستبعد أن يكون الإمام أحمد يرى جواز تعدد الجمعة بلا حاجة مطلقاً.
إذاً: ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً أنه لا يجوز أن تتعدد الجمعة بلا حاجة وإنما نقل الخلاف عن اثنين: عطاء. والإمام أحمد وذكرت أنه لا يثبت هذا عن الإمام أحمد إذ هو موؤل ومحمول على الحاجة.
والدليل على هذا الحكم:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الجمعة في مسجده فقط ولم تتعدد في عهده ولا في عهد الخلفاء إقامة الجمعة.
ولو كانت الجمعة يجوز أن تتعدد لأقيمت في عهده لألا تتعطل المساجد.
أريد أن أنبه هنا: إلى أن ابن حزم وتابعه الشوكاني يرون الجواز فمن من الممكن أن يضافا إلى عطاء والإمام أحمد في الرواية عنه. لكن نحن نقول أن هذا إجماع محفوظ قبل ابن حزم فضلاً عن الشوكاني.
(2/203)
________________________________________
فالإشكال الآن في الحقيقة هو في ابن حزم وعطاء والإمام أحمد وعرفنا أن ابن حزم متأخر وعرفنا ما يتعلق بالإمام أحمد فصار المخالف حقيقة هو عطاء.
• ثم قال رحمه الله:
إلاَّ لحاجة.
يعني: أنه يجوز أن تتعدد الجمعة عند وجود الحاجة وذكر الفقهاء ثلاثة أمثلة للحاجة:
- الأول: وهو أشهر وأغلب الأعذار: الضيق.
- الثاني: خشيت وقوع الفتنة من الإجتماع.
- الثالث: البعد.
فإذا كان المسجد ضيقاً جاز أن نقم الجمعة في جامع آخر.
وإذا صار في اجتماع فئتين من الناس في هذا الميسجد وقوع فتنة كأن يكون بينهم خلافات أو شقاقات أو أحقاد قديمة وإذا اجتمعوا في هذا المسجد صار ذلك سبباً لنشوب الفتنة جاز لمجرد ذلك أن نقيم الجمعة في مكان آخر.
والتعليل لجواز إقامة الجمعة: أن الشارع الحكيم إنما شرع الجمعة لما فيها من التأليف والاجتماع واقتراب القلوب فإذا حصل ضد ذلك من الجمعة صار هذا سبباً في حواز إقامة الجمعة في جامع آخر.
أما الضيق والبعد فلرفع الحرج.
ولاشك أنهم رحمهم الله أرادوا التمثيل لا الحصر فلو وجد سبب آخر يقتضي جواز إقامة الجمعة في أكثر من جامع لجاز إقامة الجمعة في أكثر من جامع.
إذاً يقول المؤلف رحمه الله:
وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة.
وقوله: إلا لحاجة يقتضي أنه إذا ضاق المسجد فإنه يجوز أن نقيم الجمعة الثانية ويحرم أن نقيم الجمعة الثالثة.
وإذا لم يتسع المسجد الأول والثاني جاز أن نقيم الجمعة الثالثة دون الجمعة الرابعة وهكذا .. لأنه يقول لحاجة والحاجة تقدر بقدرها.
الدليل على ذلك:
- استدل الفقهاء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة بدليلين:
- الأول: النصوص العامة الدالة على رفع الحرج.
- الثاني: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان بالكوفة أقام صلاة العيد خارج البلد وأقام من يصلي للضعفة والنساء داخل البلد.
ونحن نعلم أن صلاة العيد والجمعة كلاهما من صلاة الأعياد وتتشابه في كثير من الأحكام لذلك قاس الفقهاء ما ثبت عن علي رضي الله عنه في صلاة العيد في الجمعة.
إذاً: وتحرم إقامتها: في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة.
- ذكرنا الدليل الأول:
(2/204)
________________________________________
- والدليل الثاني: أن الحاجة دعت إلى تعدد الجمع في الأمصار ووقع هذا واشتهر وتواتر ولم ينكر فكان كالإجماع من حين أقيمت الجمعة مرة أخرى انتشر هذا في البلدان الإسلامية وصار عليه عمل الناس واشتهر ولم ينكر فهو كالإجماع بين الناس لذلك لاتجد أحداً ينكر إقامة الجمعة الأخرى مع وجود الحاجة.
= والقول الثاني: وإن كان قول فيه ضعف - أنه لا يجوز تعدد الجمعة مطلقاً ولو مع الحاجة وإنما يحاول الناس التوسع لبعضهم البعض.
واستدلوا على ذلك:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مع طول صلاتهم الجمعة لم يصلوها إلا في مسجد واحد.
والجواب على هذا الدليل من وجهين:
- أولاً: أن الحاجة لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم ميزة لا توجد بعد عهده وهو أنه المبلغ صلى الله عليه وسلم المباشر عن الرب سبحانه وتعالى فتلقي الأحكام منه مباشرة مزية لا توجد في ما بعهده من الأئمة والخطباء.
والراجح مذهب الجمهور وهو جواز الإقامة عند وجود الحاجة.
ثم لما قرر المؤلف تحريم تعدد الجمعة ذكر ما يترتب على هذا الحكم:
• فقال رحمه الله:
فإن فعلوا فالصحيحة: ما باشرها الإمام أو أذن فيها.
أي: إذا أقيمت الجمعة في أكثر من جامع بلا حاجة فالجمعة الصحيحة هي التي باشرها الإمام أي: الجمعة الصحيحة في المسجد الذي صلى فيه الإمام سواء صارت هذه الصلاة - التي مع الإمام - متقدمة أو متأخرة فهي الصحيحة والأخرى باطلة.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن في تصحيح الأخرى افتيات على الإمام.
- الثاني: أنه لو قيل بتصحيح الأخرى لأمكن لكل أربعين رجلاً أن يفسدوا صلاة الإمام مع من معه من المسلمين بأن يقيموا هم الجمعة أولاً فتبطل صلاة الإمام ومن معه.
وهذا مذهب الجماهير وهو أن الصلاة الصحيحة هي التي مع الإمام وهو الصواب.

ثم قال رحمه الله:
فإن استويا في إذن أو عدمه: فالثانية باطلة.
يعني: إذا أقيمت صلاة الجمعة في أكثر من جامع بلا حاجة واستويا الجمعتان في إذن الإمام يعني أنه أذن لكل منهما فالصلاة الصحيحة هي الأولى والصلاة الباطلة هي الثانية.
(2/205)
________________________________________
وتعرف الأولى: بتقدم تكبيرة الإحرام فأي الإمامين كبر أولاً فالثانية باطلة.
وقيل تعرف الأولى: بالشروع في الخطبة فأيهما شرع أولاً فالثانية باطلة.
= القول الثاني: أن الصلاة الصحيحة هي الصلاة في الجامع الكبير في وسط البلد والجوامع في أطراف البلد صلاتهم باطلة سواء تقدمت أو تأخرت صلاة الجامع الكبير.
وهذا قول في مذهب الحنابلة.
وهذا القول هو الأقرب.
فإذا أقيمت صلاة الجمعة في الجامع الكبير ودعت الحاجة إلى إقامة جمعة أخرى فأقيمت جمعة ثالثة فالكلام في الجمعة الثالثة كالكلام في الجمعة الثانية.
فإذا افترضنا أن صلاة الجامع الكبير دائماً صحيحة فأي الجمعتين أصح:
= عند الحنابلة يرجع في ذلك إلى الوقت. إلى الأولى. والأولى باعتبار تكبيرة الإحرام أو باعتبار الشروع.
وهذا هو الصواب بالنسبة للجمعة الثانية والثالثة.
لأنه بالنسبة للجمعة الثانية والثالثة لا يوجد عندنا جامع كبير أو جامع هو الأصل بحيث أن جوامع أطراف البلد نقول هي التي تبطل والجامع الكبير تصح.
فنرجع في الصورة الثانية إلى مذهب الحنابلة ونقول من أقام الجمعة أولاً صحت ومن أقام الجمعة ثانياً لم تصح.
وذكر شيخنا رحمه الله في الممتع قولاً آخر وهو:
أن الصلاة الصحيحة هي الأولى: أي هي صلاة الجمعة الذي وجد أولاً والصلاة الباطلة هي صلاة الجامع الذي وجد ثانياً بغض النظر عن أيهما يكبر أولاً فإذا بني مسجد في سنة 1427 وبني مسجد في سنة 1428 وإمام المسجد الذي بني في سنة 1428 كبر أولاً. فأي الجمعتين صحيحة؟ وأيهما الباطلة؟ صلاة الجامع الذي بني أولاً أصح ولو كبر ثانياً.
وهذا القول قول قوي جداً إلا أني لم أقف على قائل بهذا القول من أهل العلم أو نص على هذا القول فإن كان أحد من أهل العلم نص عليه فهو قول وجيه وقوي وإن لم يكن أحد نص عليه فالتفصيل السابق هو الصواب.
• قال رحمه الله:
وإن وقعتا معاً أو جهلت الأُولى: بطلتا.

بلا نزاع عند الحنابلة.
- لأنهم أقاموا جمعة متعددة بلا حاجة في وقت واحد فبطلت الجمعتان.
فإذا بطلت نقول:
- إن أمكن أن تعاد جمعة بأن يجتمعوا في مسجد واحد ويقيموها جمعة وجب أن يفعلوا وإلا صلوها ظهراً.
(2/206)
________________________________________
المسألة الثانية: أو جهلت الأولى: لحنابلة يبطلون الثانية. لكن إذا جهلنا أيهما الأولى وأيهما الثانية فعند الحنابلة تبطل الأولى والثانية.
التعليل: قالوا: لأنا نعلم أن إحدى الجمعتين باطلة ولا يمكن أن نبطل إحدى الجمعتين تحكماً بلا دليل فبطلتا لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى.
وفي هذه االصورة يجب أن يصلوها ظهراً فقط ولو أمكن أن يصلوها جمعة.
التعليل: أن إحدى الصلاتين صحيحة وبها سقطت الجمعة فلا يمكن أن تصلى مرة أخرى لأنه لا يجوز أن تتعدد الجمعة فوجب أن يصلوها ظهراً.
فتكون بالنسبة للجماعة التي هي في واقع الأمر الأولى ستكون سنة وتكون بالنسبة للجماعة التي صلوها ثانياً ظهراً حقيقة.
طبعاً هذه مسائل يحسن بطالب العلم أن يلم بها وإن كان الوقوع لها بعدما كثرت المساجد وانتشر الإسلام نادر أو متعذر.
فإذا وقعت صار عند طالب العلم معرفة بها.
إذا أقيمت جمعتان بلا لاحاجة ف
ثم لما أنهى الكلام عن ما يتعلق بذات صلاة الجمعة انتقل إلى الكلام عن السنن المتعلقة بالجمعة.

فقال رحمه الله:
وأقل السنة بعد الجمعة: ركعتان وأكثرها ست.
جاءت السنة متنوعة في مسألة صلاة السنة البعدية للجمعة.
- فثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته.
- وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان سيصلي بعد الجمعة فليصل أربعاً). وهذا أيضاً صحيح وفي مسلم.
- السنة الثالثة: في سنن أبي داود أن ابن عمر رضي الله عنه صلى بعد الجمعة أربعاً ثم صلى ركعتين. ثم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. والظاهر أن شاء الله أن أسناده صحيح وليس له علة.
فاختلف الفقهاء في التوفيق بين هذه النصوص على عدة أقوال:
= القول الأول: أن المسلم مخير إن شاء يصلي أحياناً أربعاً أو ركعتين أو ست وهذا مذهب الإمام أحمد.
= والقول الثاني: - من الفقهاء من جمع بشكل آخر فقال: يصلي ست ركعات فنجمع بين حديث الأربع والركتعتين بأن يصلي ست ركعات.
= القول الثالث: أنه إن صلى في المسجد صلى أربعاً وإن صلى في البيت صلى ركعتين وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام رحمه الله.
(2/207)
________________________________________
والصواب أن نقول: أنه إن صلى في المسجد صلى أحياناً أربعاً وأحياناً ستاً وإن صلى في البيت صلى ركعتين.
وإذا أراد أن يصلي ستاً فإنه يصلي ركعتين ثم أربع. لما في حديث ابن عمر أنه صلى ركعتين ثم أربعاً هكذا لفظه.
وقيل: بل يصلي أربعاً ثم ركعتين لأنه إذا صلى ركعتين ثم أربع صارت تشبه الظهر لأنه سيصلي ركعتي الجمعة ثم ركعتين أشبهت ماذا الظهر.
والصواب في القول الأول لأن حديث ابن عمر وهو عمدة القائلين بسنية الست فيه أنه صلى ركعتين ثم أربع.
والصلاة ست جاء عن عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة متبعة.
إذاً قوله ركعتان وأكثرها ست. عرفنا دليل أنه يصلي ركعتين ودليل أنه يصلي ست ثم عرفنا كيف نوفق بين الأحاديث التي جاءت في هذ الباب.
ولم يتعرض المؤلف للسنة القبلية والصواب أنه ليس للجمعة سنة قبلية محددة ولكن يندب الإنسان أنه إذا جاء إلى المسجد أن يصلي لما في الأحاديث الصحيحة التي فيها الندب أن يصلي الإنسان إلى طلوع الإمام وسيأتينا الآن بعض هذه الأحاديث.

ثم قال رحمه الله:
ويسن: أن يغتسل.
يسن أن يغتسل لصلاة الجمعة.
ونريد أن نذكر قبل الخلاف في هذه المسألة تحرير محل النزاع:
أولاً: اتفق الفقهاء كلهم أن غسل الجمعة سنة فهذا القدر لم يختلفوا فيه.
ثانياً: اتفق الفقهاء كلهم على أن من ترك غسل الجمعة فصلاته صحيحة فهذا القدر لا خلاف فيه.
ثم اختلفوا في حكم غسل الجمعة:
= فمذهب الحنابلة والجماهير بل حكي إجماعاً - حكاه ابن عبد البر وسيأتينا التعليق على مسألة الإجماع - أنه سنة متأكدة جداً فإن تركها لم يأثم.
واستدلوا على أنه سنة:
- بما استدل به أصحاب القول الثاني وسيأتينا.
واستدلوا على أنها ليست بواجبة:
- بحديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل).
هذا الحديث فيه كلام كثير وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف طويل والأقرب أنه سمع حديث العقيقة فقط وبضعة أحاديث غير محددة ولم يسمع جميع الأحاديث.
والصواب - إن شاء الله - أن هذا الحديث صحيح. وممن صححه الحافظ الكبير أبو حاتم في العلل نص على أنه صحيح.
(2/208)
________________________________________
= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أن غسل الجمعة واجب.
واستدلوا على هذا بأدلة منها:
- الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستاك وأن يتطيب).
والجواب عليه:
أن قوله في الحديث: (واجب) يعني: أنه متأكد وليس المقصود الوجوب الذي يأثم تاركه بدليل أنه قرنه بالاستياك وبالتطيب وقد أجمع العلماء كلهم على أن الاستياك والتطيب ليس بواجب.
قال الحافظ بن رجب رحمه الله: الواجب على نوعين:
1 - واجب حتم.
2 - وواجب سنة وفضيلة.
وذكر عن الأئمة ما يدل على أن الواجب ينقسم إلى هذين القسمين.
ويدل أيضاً على أن الوجوب في هذا الحديث ليس على سبيل التأثيم حديث سمرة السابق.
- واستدلوا: بالحديث الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى الجمعة فليغتسل). واللام لام الأمر.
والجواب: أن حديث سمرة يصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب المتحتم.
- واستدلوا بأن رجلاً دخل وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يخطب - وفي رواية أنه عثمان رضي الله عنه - فأنكر عليه أمير المؤمنين عمر تأخره إلى بداية الخطبة فقال: (لم أزد على الوضوء) فقال عمر رضي الله عنه ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل.
هذا الحديث استدلوا به على الوجوب وهو من وجهة نظري أن (دلالته على الندب أقرب من دلالته على الوجوب).
وجه ذلك: أولاً: أنا نربأ بعثمان بن عفان رضي الله عنه أن يترك واجباً فنستبعد على مثله رضي الله عنه أن يترك واجباً.
- ثانياً: لو كان عثمان رضي الله عنه ترك واجباً لكان درجة إنكار عمر رضي الله عنه أكبر لتركه الواجب لا سيما من رجل مثل عثمان وهو من أكابر الصحابة.
- ثالثاً: ليس بمستغرب أن ينكر عمر على عثمان ترك سنة فإنه ليس بمستغرب بين الصحابة لحرصهم على الخير فمجرد الإنكار لا يدل على الوجوب.
الراجح: الراجح بلا إشكال وبلا تردد إن شاء الله أنه: سنة.
سبب الترجيح: أن المسألة كأنها محل إجماع لذلك يقول الحافظ ابن رجب وكذلك الحافظ بن عبد البر أن العلماء الذين نقل عنهم الوجوب لا يريدون الوجوب الذي من تركه أثم بل يريدون الوجوب الذي هو على سبيل التأكيد والاستحباب والأفضلية.
(2/209)
________________________________________
فتكون المسألة بناء على هذا محل إجماع. وإلى هذا يميل ابن رجب أنها محل إجماع وأن من نقل عنه من أهل العلم الوجوب فليس مقصوده الوجوب الذي إذا تركه الإنسان أثم.
فإذا ثبت هذا التحقيق الذي أبدع به الحافظ ابن رجب والحافظ بن عبد البر صار عدم الوجوب أمر واضح جداً وقوي وسديد.
= مسألة: هل الغسل واجب ليوم الجمعة أو لصلاة الجمعة؟
فيه خلاف ونختصر على الراجح:
الراجح: أنه للصلاة لا لليوم. بناء على هذا لا يجب على الصبي مثلاً ولا على المرأة ولا على كل من لا تجب عليهم صلاة الجمعة أن يغتسلوا.
بدليل:
1 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء الجمعة فليغتسل).
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (من اغتسل غسل الجنابة ثم أتى الجمعة .. ).
ففي الحديثين تعليق الاغتسال بالذهاب لصلاة الجمعة فدل على أنه يتعلق بالصلاة لا باليوم ...
انتهى الدرس،،،
(2/210)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

بعد أن انتهينا من الكلام على سنة الاغتسال للجمعة بدأ المؤلف رحمه الله بعد ذلك ببيان السنن الأخرى:
• فقال رحمه الله:
ويتنظف ويتطيب.
يعني أنه يسن لمن أراد أن يذهب إلى صلاة الجمعة ويتأكد في حقه أن يتنظف وأن يتطيب.
والأدلة على هذه السنية متكاثرة جداً.
- منها ما تقدم معنا: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستاك وأن يتطيب) وهذا نص في السنية.
- ومنها: ما تقدم معنا أيضاً أن أهل العلم أجمعوا على سنية التطيب والتنظف.
- ومنها: ما أخرجه البخاري من حديث سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يغتسل يوم الجمعة ويتطيب ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن ثم يأتي إلى الجمعة ولا يفرق بين اثنين وينصت إلى الإمام إلا غفر له ما بين الجمعتين). ففي هذا الحديث التأكيد الشديد حيث: ذكر الاغتسال ثم قال: ويتطهر ما أمكنه من الطهور ثم قال يدهن ويتطيب. وكل هذا تأكيد لمسألة التنظف والتطيب.
(2/211)
________________________________________
وهذا القدر مما أجمع عليه. وهو من شعائر الجمعة: أي التنظف. والتطيب وأن يأتي الإنسان إليها مستكملاً أكثر ما يستطيع من الجمال والطهارة والنظافة.

ثم قال رحمه الله:
ويلبس أحسن ثيابه.
أي: ويندب ويستحب للإنسان أن يلبس يوم الجمعة أحسن ما يجد من ثيابه.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو اشتريت حلة للأعياد وأقره النبي صلى الله عليه وسلم. والجمعة من جملة الأعياد.
- الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه قال لو أن أحدكم اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته.
وهذا الحديث وإن كان معناه صحيح إلا أنه معلول.
ولكن يكفي لإثبات هذه السنة الحديث الأول مع أني لم أقف على خلاف بين أهل العلم في أنه يستحب للإنسان أن يلبس أطيب ما يجد من الثياب في الجمعة.
إذاً مسألة لبس الثياب هذا أمر لا إشكال في ثبوته لا من حيث النصوص ولا من حيث المعنى ولا من حيث كلام أهل العلم.
والسنة أن يوفق الإنسان في لبسه لبس مجتمعه ما لم يكن اللبس محرماً. فيتجمل بما يتجمل به أهل البلد ما لم يكن محرماً.
بناء على هذا لا يتعين ثوب معين لا أن يلبس رداء وإزار ولا أن يلبس ثوي ولا غير ذلك ولا أن يغطي رأسه ولا أن يبقي رأسه مكشوفاً. فكل ذلك لا يتعين وإنما يتجمل بما يتجمل به أهل البلد ما لم يكن محرماً.
• ثم قال رحمه الله:
ويبكر إليها.
يعني: أنه من المستحب والمسنون أن يبكر الإنسان إلى صلاة الجمعة.
والدليل على هذا من أوجه كثيرة:
- منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ثم تحضر الملائكة لسماع الذكر).
فهذا الحديث فيه حث واضح وصريح أن يحضر الإنسان إلى الجمعة مبكراً.
وقوله: (من اغتسل غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه ..... الخ. يحتمل أن معنى قوله: (من اغتسل غسل الجنابة: يعني أنه يغتسل كغسل الجنابة.
(2/212)
________________________________________
ويؤخذ من هذا قاعدة: أن جميع الاغسال المستحبة والواجبة في الشرع صفتها صفة غسل الجنابة.
ويحتمل أن يكون معناه: أنه يتقصد الجماع يوم الجماع ليغتسل غسل جنابة ثم يذهب إلى المسجد. وهذا المعنى ليس ببعيد. بل قال الإمام أحمد رحمه الله: وينبغي للرجل أن يطأ زوجته أو أمته صبح الجمعة. فهو فهم من الحديث هذا أي أنه يغتسل غسل الجنابة الحقيقي.
على كل حال الحديث يحتمل ذلك.
المقصود الآن أن التبكير الذي دل عليه هذا الحديث سنة متفق عليها ويحصل فيها من المنافع أشياء كثيرة.
ولكن اختلفوا في: متى يبدأ التبكير؟
- فمن العلماء من قال: يبدأ وقت التبكير من طلوع الفجر.
وعلى هذا كأنه يندب الإنسان أن يصلي الفجر في المسجد الذي سيصلي فيه الجمعة لأنه من المعلوم أنه لن يذهب إلى مسجد الجمعة ويترك صلاة الفجر.
- ومن الفقهاء من قال: بل يبدأ وقت الفضيلة من طلوع الشمس لأنه قبل هذا الوقت مشغول بصلاة الفجر وبالأذكار وبتطبيق السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي: البقاء في مصلاه إلى طلوع الشمس.
وكأن هذا القول - الثاني أحسن. لأن الإنسان في صدر النهار مشغول بهذه الوظيفة أي صلاة الفجر والأذكار والبقاء في موضعه.
• ثم قال رحمه الله:
ماشياً.
أي أن المستحب للإنسان أن يذهب إلى صلاة الجمعة ماشياً ولا يركب.
واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا واستمع كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها).
هذا الحديث ظاهر إسناده الصحة. والحقيقة ليس له علة واضحة. لكن أشكل على كثير من أهل العلم أنه لم يأت في جميع السنة حديث صحيح فيه من الأجر ما في هذا الحديث.
ولذلك بعض العلماؤ استغرب متن الحديث. لأنه يقول: له بكل خطوة أجر سنة قيام وصيام. وهذا أجر عظيم جداً لم يأت في أي نص ولم يترتب على أي عمل من الأعمال هذا الأجر ولذلك استغربه بعض الأئمة. لكن من حيث الإسناد صحيح.
ثم مفردات هذا الحديث: من غسل واغتسل ودنا ومشا تشهد لها النصوص الأخرى.
بناء على هذا: نقول يستحب للإنسان أن يمشي ولا يركب إن كان يستطيع إلى هذا الأمر سبيلاً.
(2/213)
________________________________________
فإن قال الإنسان: - إن ركبت ووصلت إلى الجامع مبكراً وشرعت في العبادات.
- وإن ذهبت ماشياً تأخر الوقت.

فالأقرب والله أعلم أنه إذا كان يستطيع فإنه يذهب ماشياً لأن المشي في يوم الجمعة بناء على هذا الحديث مقصود لذاته فيمشي فإذا وصل بدأ بالأعمال الصالحة المختلفة من الصلاة والقراءة.
- ومن العلماء من قال: إذا ترتب على مشيه أن يتأخر تأخراً ملحوظاً بيناً فإنه يركب.
والذي يظهر لي: الأول. لكون الشارع نص على مسألة المشي بالذات في صلاة الجمعة.
• ثم قال رحمه الله:
ويدنو من الإمام.
الدليل على الدنو: - الحديث السابق. لأن فيه: (ودنا واستمع .. ).
ويدل عليه أيضاً عموم الأحاديث الأخرى كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ... ). وهذا عام لصلاة الجمعة ولغيرها من الصلوات.
ومن المعلوم أنه كلما تقدم وصار في الصف الأول صار يدنو من الإمام أكثر.
• ثم قال رحمه الله:
ويقرأ سورة ((الْكَهْفِ)) في يومها.
يندب الإنسان أن يقرأ سورة الكهف يوم الجمعة. وفي الباب نحو ستة أحاديث كلها ضعيفة وأحسن ,اصح ما في الباب حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). وله ألفاظ سوى هذا اللفظ كثيرة.
وهذا الحديث الذي هو أصح ما في الباب أيضاً معلول بالوقف وممن أعله بالوقف الإمام الحافظ النسائي.
ولكن كثير من أهل العلم يرون أن هذا الحديث وإن كان له حكم الوقف فله من جهة أخرى حكم الرفع لكونه مما لا يقال بالرأي فإنه من المعلوم أنه لا أحد يعلم أنه يندب الإنسان أن يقرأ في يوم الجمعة سورة الكهف.
ولهذا تتابعت أقوال أهل العلم ولم يشذ منهم أحد أن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة مستحبة ومندوبة وإن كان في الحقيقة في هذا الموضوع يحتاج إلى بحث أعمق لا سيما إذا نظر الإنسان في مجموع الأدلة فلا يكاد يجد دليلاً سالماً من العلة يصلح للإعتماد.
لكن لا نريد أن ندخل في هذه المسألة. المهم أن أقوى ما في الباب حديث أبي سعيد رضي الله عنه وله حكم الرفع قطعاً من جهة الإسناد.
وجماهير أهل العلم يرون استحباب قراءة سورة لكهف يوم الجمعة.

(2/214)
________________________________________
ثم قال رحمه الله:
ويكثر الدعاء.
أي أنه ينبغي على المسلم بالذات يوم الجمعة أن يتحرى كثرة الدعاء بأن يكون دعائه يوم الجمعة أكثر من دعائه في غير هذا اليوم.
وعلة هذا: أن في الجمعة ساعة إجابة فإذا أكثر من الدعاء صار أقرب أن يصيب هذه الساعة.
والدليل على أن في الجمعة ساعة إجابة: الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل خيراً إلا أعطاه الله أياه).
وفي الحديث مسألة قائم يصلي - هذا في البخاري.
فإذا كان في يوم الجمعة ساعة تعتبر ساعة إجابة يجيب الله سبحانه وتعالى فيها دعاء العبد أدى ذلك إلى أن الإنسان يكثر من الدعاء لعله أن يصيب هذه الساعة.
واختلف العلماء في تحديد هذه الساعة اختلافاً كثيراً ومتشعباً ومتنوعاً وذكر الحافظ ابن حجر نحواً من أربعين قولاً في الفتح.
ونقتصر على قولين هما أصح هذه الأقوال:
= القول الأول: وهو الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أنها آخر ساعة من العصر. لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروها آخر ساعة من العصر). قال الإمام أحمد رحمه الله: وأكثر الأحاديث على أنها بعد صلاة العصر.
وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله من أهل الاستقراء التام وإذا كان يقول أن أكثر الأحاديث على أنها بعد صلاة العصر فهذا له وزنه الثقيل باعتبار أن الإمام أحمد رحمه الله حافظ بل إنه - كما تقدم معنا - قيل: أنه أحفظ الأئمة.
وعلى كل حال هو من الحفاظ الذين يستقرئون الأحاديث ويتتبعونها فلكلمته هذه وزن ثقيل جداً عند من يعرف هذه الصنعة.
= والقول الثاني: أن ساعة الإجابة من صعود الإمام إلى انتهاء الصلاة. وهذا أيضاً ثابت في صحيح مسلم.
فينبغي على الإنسان أن يتحرا هاتين الساعتين بالدعاء والابتهال والتضرع.

ثم قال رحمه الله:
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل على أن الجمعة يخص بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة).
(2/215)
________________________________________
وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين والصواب أنه ضعيف وممن ضعفه عدد من الأئمة على رأسهم الإمام البخاري والإمام أبو حاتم.
- الدليل الثاني: العمومات التي فيها الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تشمل أيضاً يوم الجمعة.
وبهذا علمنا أن مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إنما يستأنس لها بالأحاديث العامة وأنه ليس في هذه المسألة حديث صحيح خاص.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يتخطى رقاب الناس.
ذهب الحنابلة إلى أنه يكره فقط أن يتخطى الإنسان رقاب الناس.
ودليل الكراهة:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى الرقاب يوم الجمعة فقال له: (اجلس فقد آذيت).
- والدليل الثاني: أن في تخطيه الرقاب إيذاء للمؤمنين. وإيذاء المؤمنين ممنوع.
= والقول الثاني: أن تخطي الرقاب محرم فإن تخطى الرقاب فهو آثم.
وهذا القول اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وهو الذي تدل عليه النصوص والقواعد العامة.
ومتى علم الإنسان أنه إن تخطى الرقاب أثم صار هذا من أسباب التقدم وحضور الصلاة مبكراً.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ أن يكون إماماً.
إذا كان المتخطي هو الإمام جاز بلا كراهة بشرط أن لا يجد طريقاً آخر يصل من خلاله إلى المنبر بلا تخطي للرقاب فإن وجد طريقاً آخر حرم عليه أن يتخطى الرقاب ولو كان إماماً.
والدليل على استثناء الإمام من وجهين:
- الأول: أن الحاجة داعية إلى مثل هذا. وتتعلق به مصلحة إقامة الصلاة.
- الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقيمت الصلاة وهو غائب وقام في الصف تخطى أو تخلص من الصفوف حتى قام في الصف الأول.
وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأنه الإمام.
• ثم قال رحمه الله:
أو إلى فُرْجَة.
يعني أن من دخل المسجد ورأى فرجة في الصفوف الأمامية جاز له أن يتخطى الرقاب إلى أن يصل إلى هذه الفُرْجَة بلا كراهة.
والدليل: أن الذين لم يتقدموا إلى هذه الفُرْجَة من المأمومين الذين في الصوف أسقطوا حق أنفسهم بعدم تقدمهم إلى هذا المكان والشارع حث على تسوية الصوف والتراص وسد الخلل فإذا لم يقم به هؤلاء فقد أسقطوا حرمتهم.
= والقول الثاني: أنه يجوز التقدم إلى الفرجة بشرط أن تكون في الصف الذي بين يديه فقط.
(2/216)
________________________________________
وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية.
= والقول الثالث: أنه يجوز إذا كان بينه وبين الفرجة صف أو صفين أو ثلاثة فقط.
= والقول الرابع: أنه لا يجوز مطلقاً. وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
في الحقيقة اختيار شيخ الاسلام يتوافق مع هذه الرواية. وجه ذلك:
أن الشيخ رحمه الله يقول: لا يجوز تخطي الرقاب إلا إذا إلى الفرجة التي بين يديك والفرجة التي بين يدي ليس فيها تخطي للرقاب. فصار قوله كقول الإمام أحمد وربما هو رحمه الله يريد هذا - يريد أن يختار هذه الرواية عن الإمام أحمد وهي المنع مطلقاً.
وهذا القول هو الصواب - المنع مطلقاً ولو وجدت فرجة.
والدليل على ذلك: أن الرجل الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فقد آذيت إنما تقدم ليجلس في فرجة. وهذا هل هو احتمال أو نص؟
هذا احتمال. لأننا نجد اليوم بعض الناس يتقدم لعله يجد فرجة وليس يتقدم ليجلس في فرجة. فربما كان الرجل كذلك لكن مع ذلك نقول: أنه ولو وجدت فرجة فإن حرمة الناس الذين تقدموا لا تسقط بقضية أنهم لم يتقدموا وأذيتهم لا تجوز مع ذلك.
• ثم قال رحمه الله:
وحرم: أن يقيم غيره فيجلس مكانه.
يعني: أنه يحرم أن يقيم الرجل رجلاً آخر ويجلس مكانه فإن فعل فهو آثم وفي صحة صلاته خلاف.
والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لايقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه).

ثم قال رحمه الله:
إلاّ من قدّم صاحباً له في موضع يحفظه له.
يعني: أنه يستثنى من حكم المسألة السابقة ما إذا أرسل الإنسان رجلاً يجلس في مكان ثم إذا قدم هذا الرجل قام له من مكانه ليجلس فيه.
فهذا جائز لدليلين:
- الأول: أن الذي قام قام باختياره.
- الثاني: أن الشيخ الفقيه الإمام الكبير محمد بن سيرين كان يصنع ذلك. فقد كان يرسل غلاماً يجلس حتى إذا جاء قام وجلس مكانه.
وأما القائم فإنه يكره له أن يقوم لأن التبرع بالقرب مكروه. ولذلك القاعدة المشهورة تقول: الإيثار بالقرب مكروه.
إذاً عرفنا الآن حكم الذي سيأتي وحكم الذي سيقوم.
(2/217)
________________________________________
فإن قام الرجل للرجل بلا إرسال - فلو حضر رجل كبير وقام له رجل آخر بلا اتفاق سابق فإنه ينبغي للإنسان أن لا يجلس فيه بل ينبغي أن يأمر من قام أن يرجع إلى مكانه وإلى هذا ذهب الإمام أحمد فإنه دخل الجامع مرة فقام له رجل فأبى الإمام أن يجلس في مكانه وقال له: ارجع فاجلس في مكانك.
وهذا على سبيل الندب ولو جلس لجاز.
إذاً في الحقيقة نقول: يكره للقائم ولمن أراد أن يجلس أن يفعل هذا. لكن إن أرسل رجلاً وجلس مكانه فلا مانع على أن هذا لا ينبغي لكن لا نقول أنه لا يجوز بل يجوز لما ذكرنا من الآأثار عن محمد بن سيرين وهو من التابعين وهو بنفسه عالم وقوله معتبر وإقرار الناس له في عصر التابعين أيضاً يستدل به مع أننا لا نقول أن هذا دليل إنما نقول أن غاية ما هنالك أن تكون فتوى لتابعي لكن يستأنس بها الإنسان.
• ثم قال رحمه الله:
وحرم رفع مصلى مفروش.
يعني أنه يحرم على الإنسان أن يرفع المصلي المفروش الذي وضعه شخص ليأتي بعد حين ويجلس فيه.
والدليل على التحريم: من وجهين:
- الأول: أن في هذا افتياتاً على من وضع هذا المصلى المفروش.
- الثاني: أنه يقع في رفعه غالباً نزاع بين الرجلين والشارع الحكيم إنما أمر بالجمعة وحث عليها كما تقدم معنا تأليفاً للقلوب واجتماع الكلمة. فما كان يسبب عكس هذه الحكمة صار ممنوعاً في الشرع.
= والقول الثاني: أنه يجوز رفع هذا المصلى.
- لأن من وضعه فهو ظالم مغتصب للبقعة.
- ولأن الشارع الحكيم إنما أمر بالتبكير بالأبدان لا بحجز الأمكنة.
- ثالثاً: ولأن هذا يفضي غالباً إلى تخطي الرقاب وهو مكروه عند الحنابلة ومحرم على الصواب.
إذاً القول الثاني: جواز رفع المصلى لهذه الأدلة الثلاثة.
= القول الثالث: وجوب رفع المصلى على ولي الأمر. يعني أنه يجب على ولي الأمر أن يرفع هذا المصلى. لأن صاحب المصلى ظالم ومغتصب وعلى ولي الأمر أن ينكر هذا المنكر. - وولي الأمر: المسؤول سواء كان جهة أو غير ذلك إنما المهم أن تكون مخولة من ولي الأمر.
وهذا القول - الثالث - اختيار شيخ الاسلام. وهو الصواب.
(2/218)
________________________________________
فما يصنعه بعض الناس اليوم من وضع مصلى مفروش بعد صلاة الجمعة ثم لا يحضر هو إلا في منتصف النهار أو قريباً من الزوال هو آثم بهذا الصنيع ومغتصب للبقعة وفي صحة صلاته خلاف بين الفقهاء.
إذاً صار في هذه المسألة - الراجح عكس المذهب تماماً فالمذهب يقولون: وحرم رفع مصلى. والصواب أنه يجب لكن على ولي الأمر.

• ثم قال رحمه الله:
ما لم تحضر الصلاة.
يعني: أنها حضرت الصلاة فيجوز رفع هذا المصلى.
الدليل: أن الحرمة للمصلي لا لهذا المصلى فإذا لم يحضر رفع هذا المفروش.
وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا حضرت الصلاة وصاحب المصلى لم يحضر يحرم أن نصلى فوقه بل يجب أن نرفع هذا المصلى - المفروش - ونصلي في المكان ولا يجوز أن نصلي على هذا المفروش لأن هذا المفروش مال للغير لا يجوز أن ننتفع به.
وهذا هو الصحيح: أنه إذا تأخر يجب أن نرفع المصلى المفروش ثم نصلي في مكانه.

ثم قال رحمه الله:
ومن قام من موضع لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً: فهو أحق به.
إذا اتخذ الإنسان مكاناً في صلاة الجمعة ثم قام لعارض سواء كان هذا العارض جوع أو احتاج إلى قضاء الحاجة أو ليقضي مصلحة تتعلق بأهله طارئة فإنه أحق بمجلسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام من مجلس فهو أحق به إذا رجع إليه).
لكن اشترط الحنابلة: أن يعود قريباً. فإن تأخر جاز لغيره أن يجلس فيه.
= والقول الثاني: - أنه إن تأخر وهو ما زال في حاجته التي قام من أجلها وجب أن ينتظر.
- وإن اشتغل بحاجة أخرى جاز للآخرين أن يجلسوا في مكانه.
وهذا قول للحنابلة وليس رواية عن الإمام أحمد رحمه الله.
وهذا القول هو الصواب لأنه ما دام قام لأداء حاجة وهو فيها فإنه ينتظر ولو تأخر لكن إن اشتغل بغيرها وصار يضيع الوقت بأمور أخرى صار الذين في المسجد أحق منه بهذه البقعة.
• ثم قال رحمه الله:
ومن دخل والإمام يخطب: لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما.
إذا دخل المصلي والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين ولو فاته استماع الخطبة أثناء صلاته للركعتين.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل والإمام يخطب فليصل ركعتين).
وهذا القدر متفق عليه وفي رواية لمسلم: (وليوجز فيهما).
(2/219)
________________________________________
فاشتمل هذا الحديث على جميع الأحكام التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
- والدليل الثاني: أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قم فصل).
- والدليل الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
فلا شك إن شاء الله أن من دخل فالسنة في حقه أن يصلي ركعتين ولو كان الإمام يخطب.

ثم قال رحمه الله:
ولا يجوز الكلام: والإمام يخطب.
لا يجوز للإنسان أن يتكلم والإمام يخطب.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت).
وإذا كان يحرم على الإنسان أن يأمر بالمعروف وهو قوله: أنصت. فمن باب أولى أن يتكلم بالكلام المباح.
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تكلم والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً).
وهذا مذهب الجماهير. أنه يحرم على الإنسان أن يتكلم والإمام يخطب.
- فإن كان المأموم لا يمكن له أن يسكع كلام الخطيب إما لصمم أو لبعد أو لأي عارض. فإنه أيضاً يجب عليه أن لا يتكلم بكلام مرتفع يسمع.
وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.
لكن مع ذلك يجوز له أن يقرأ القرآن أو أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أو أن يذكر الله. قال الإمام أحمد: ولا يرفع بذلك صوته.
إذاً عرفنا أن من لايسمع الخطبة لا يجوز له أن يتكلم مع غيره ولا أن يرفع صوته بالكلام لكن يجوز له أن يذكر الله في نفسه.
= إذا رأى الإنسان شخصاً يتكلم فإنه بنص الحديث يحرم عليه أن ينهاه عن هذا المنكر. فلا يجوز له أن يقول له: أنصت أو اسكت. فإن قال فقد لغى.
- لكن هل يجوز أن يشير إليه إشارة بالسكوت؟
في هذا خلاف: والصواب أنه يجوز.
والدليل على ذلك: - ما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فتوجه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال رافعاً صوته: متى الساعة؟
فتركه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الراوي: فأومأ إليه الناس أن اسكت.
(2/220)
________________________________________
ففي هذا الحديث أن الناس أشاروا إليه بالسكوت والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم وهو يخطب ولم ينكر عليهم هذه الإشارة فدل ذلك على أن إشارة الناس لمن يتكلم ليسكت تجوز ولا تعتبر من الإخلال بالاستماع للخطبة.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ له أو لمن يكلمه.
يجوز أن يتكلم الإمام.
ويجوز للمأموم أن يتكلم مع الإمام فقط.
والدليل على ذلك: - ما تقدم معنا:
أولاً: النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: أصليت. فهذا دليل على جواز أن يخاطب الإمام أحد المأمومين.
وأما الدليل على أن يخطاطب أحد المأمومين الإمام فهو أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب وقال هلكت الأموال وانقطعت السبل .... الحديث.
ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاطبه أثناء الخطبة.
فدلت النصوص إذاً على جواز أن يكلم المأموم الإمام أو أن يكلم الإمام من شاء من المأمومين. ولا أعلم في جواز مخاطبة المأموم للإمام والإمام للمأموم خلاف.
• ثم قال رحمه الله:
ويجوز قبل الخطبة وبعدها.
يجوز أن يتحدث الإنسان قبل الخطبة ولو بعد دخول الإمام.
ويجوز أن يتحدث بعد الخطبة ولو قبل انصراف الإمام.
والدليل على ذلك:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب. فحدد المنع في أثناء الخطبة.
- والدليل الثاني: أن المأموم ممنوع من الكلام لينصت فإذا لم يكن الإمام يخطب لم توجد هذه العلة.
- ثالثاً: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ويصعد المنبر ويجلس ويأخذ أصحابه - الصحابة - بالحديث والكلام مع بعضهم إلى أن يبدأ بالخطبة فينصتون.
فهذا دليل على أن تحدث المأمومين مع بعض قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة جائز ولا حرج فيه. بل لو قيل أن هذا إجماع الصحابة لكان صحيحاً لأن الذين حضروا خطبة عمر رضي الله عنه هم سادة الصحابة ومع ذلك لم ينكروا على الناس أنهم يتحدثون.
مسألة:
هل يجوز أن يتحدث الإنسان بين الخطبتين؟
الجواب: فيه خلاف. والصواب أنه يجوز. لما تقدم معنا أن الأحاديث علقت المنع بخطبة الإمام والإمام الآن لا يخطب ولا يتكلم فيجوز حينئذ أن يتكلم المأموم مع صاحبه بين الخطبتين.
وبهذا انتهى باب صلاة الجمعة ووقفنا على باب صلاة العيدين.
انتهى الدرس،،،
(2/221)
________________________________________
باب صلاة العيدين.
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف الكلام عن صلاة الجمعة بدأ بالكلام عن صلاة العيد. لأن بين صلاة العيد والجمعة تشابه كبير جداً كما سيأتينا وقيست مسائل كثيرة من مسائل العيد على مسائل الجمعة فهو ترتيب منطقي. وقدم الجمعة على العيد لأنها أوكد منها وأفرض ولأنها تتكرر أكثر من العيد. فهي عيد الأسبوع وصلاة العيدين تتكرر في السنة مرة بالنسبة لكل عيد.
• قال رحمه الله:
باب صلاة العيدين.
العيد أصله من: عود المسرَّة.
ولا يطلق العيد على ما ليس فيه مسرَّة.
وهو في اللغة: يطلق على ما يعود ويتكرر ويقصد مجيئه في الزمان والمكان.
وأما في الشرع: - فهو معلوم - المقصود بصلاة العيدين أي: صلاة عيد الفطر والأضحى.
• قال رحمه الله تعالى:
وهي فرض كفاية.
صلاة العيد مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. كما ستأتينا النصوص في أفراد المسائل.
وأجمع أهل العلم قاطبة على أنها مشروعة محبوبة للشارع لكن الخلاف وقع في الحكم التكليفي لها.
= فذهب الحنابلة: إلى أن صلاة العيدين فرض كفاية.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة منها:
- أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها ولم يتركها أبداً.
- وثانياً: أنها من شعائر الدين الظاهرة.

= والقول الثاني: أن صلاة العيدين سنة.
واستدلوا على هذا:
- بأن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ما فرض عليه. فذكر له الصلوات الخمس فقال: هل علي من شيء بعدهن؟ قال: لا. إلا أن تتطوع.
فالحديث نص على أن غير الفروض الخمسة لا يعتبر من الفرائض.
= والقول الثالث: وهو مذهب الأحناف ورواية عن أحمد واختاره شيخ الاسلام وعدد من المحققين. أنها فرض عين.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الأول: أنه ثبت في السنة أنه إذا اجتمع عيد وجمعة سقطت الجمعة بالعيد: أي: سقط الفرض. والمندوب لا يسقط واجباً.
- الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه أمر الناس بالخروج لصلاة العيد حتى أمر النساء الحيض وذوات الخدور.
(2/222)
________________________________________
ومن المعلوم أن الشارع متشوف جداً لبقاء المرأة في بيتها - فهذا كالمواتر في الشرع - ومع ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم وأكد حتى ذهب بعض العلماء إلى وجوب خروج النساء مما رأى من تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا يدل على أنه على الأقل في حق الرجال واجباً باعتبار أنه أمر النساء به مع محبة الشارع بقاء المرأة في البيت.
- الثالث: - الأخير -: أن صلاة العيد من شعائر الإسلام الظاهرة والإجتماع لها أكبر من الإجتماع لصلاة الجمعة فلا يناسب مع ذلك أن تكون سنة.
والراجح. القول الأخير لقوة ما استدل به أصحابه.
والجواب عن دليل المالكية والشافعية: القائلين بالسنية: أن المسؤول عنه في الحديث الفرائض اليومية فقط ولذلك توجد صلوات واجبة بالإجماع لم تذكر في الحديث لأنها ليست يومية كالصلاة المنذورة.
إذاً قال: وهي فرض كفاية. وعرفنا أن الراجح - إن شاء الله - أنها فرض عين.
• ثم قال رحمه الله:
إذا تركها أهل بلد: قاتلهم الإمام.
أي: أنه يجب على الإمام إذا ترك أهل بلد صلاة العيدين أن يقاتلهم حتى يرجعوا.
والدليل على ذلك من وجهين:
- الأول: أن في تركها تهاوناً في الدين.
- ثانياً: أن صلاة العيد من أعظم شعائر الإسلام فإذا تركوها قوتلوا.

ثم قال رحمه الله:
ووقتها كصلاة الضحى.
يعني أن وقت صلاة العيدين يبدأ مع بداية وقت صلاة الضحى.
ومعلوم أن المؤلف لم يذكر هنا الوقت بالتفصيل وإنما أحال على وقت صلاة الضحى. مع العلم أن صلاة العيد أوكد بل الراجح أنها فرض أوكد من صلاة الضحى فينبغي أن ينص على الوقت بوضوح.
المهم: أن صلاة الضحى يبدأ وقتها من خروج الشمس وارتفاعها رمح كما تقدم معنا.
واستدل الحنابلة على أن وقت صلاة العيد يبدأ من طلوع الشمس وارتفاعها بأدلة ليست من النصوص. بدليل من النص ودليل من النظر.
- أما الدليل من النظر: فقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في هذا الوقت. لماذا؟ لأن العلماء أجمعوا أن وقت الفضيلة لصلاة العيد يبدأ من هذا الوقت ويبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في وقت الفضيلة.
(2/223)
________________________________________
إذاً هذا دليل مركب لا يعتمد على نص صريح لكنهم يركبون ذلك من إجماع العلماء على أن أفضل الأوقات يبدأ من بعد طلوع الشمس وارتفاعها ويبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في هذار الوقت المجمع على أنه أفضل الأوقات.
- الدليل الثاني: من الأثر أيضاً - وهو: أن الصحابي الجليل عبد الله بن بسر رضي الله عنه خرج لصلاة عيد أو أضحى فتأخر الإمام فأنكر رضي الله عنه تأخر الإمام وقال: قد كنا صلينا صلاتنا في ساعتنا هذه - يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم - وكان وقت صلاة التسبيح.
فدل هذا الحديث على أن بداية صلاة التسبيح - يعني النافلة - هو وقت بداية صلاة العيدين وهو: طلوع الشمس وارتفاعها.
= وهذا مذهب الجمهور: فالجماهير من أهل العلم ذهبوا إلى هذا القول.
= خالف الشافعي - رحمه الله - وهو: القول الثاني: فقال: بل يبدأ وقت صلاة العيدين من طلوع الشمس ولو لم ترتفع.
والشافعي رحمه الله محجوج بجميع الأدلة الدالة على أن هذا الوقت وقت نهي ومذهبه رحمه الله في هذه المسألة ضعيف.
فالصواب مع الجمهور أن وقت صلاة العيدين يبدأ بعد طلوع الشمس وارتفاعها وأن هذا وقت الجواز والأفضلية.

ثم قال رحمه الله:
وآخره الزوال.
الزوال تقدم معنا مراراً بيانه وهو: ميلان الشمس عن كبد السماء.
فإذا دخل وقت صلاة الظهر انتهى وقت صلاة العيد.
ومعنى كلام الفقهاء: أن أوله طلوع الشمس وارتفاعها وآخره الزوال - أنه يفهم من كلام الفقهاء أنه يجوز للإمام والناس أن لا يصلوا صلاة العيد إلا في آخر النهار مثلاً - يعني بعد طلوع الشمس بساعتين.
هذا الذي يفهم من كلام الفقهاء ولم أقف على خلاف في أنه يجوز أداء صلاة العيد في كل هذا الوقت.
ولو قال قائل: أن تأخير الصلاة عن الوقت الذي كان يصليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو صدر النهار أقل أحوال الكراهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء كلهم ومعاوية إلى عمر بن عبد العزيز إلى من بعده كانوا يصلون العيد في صدر النهار.
فالقول بحواز التأخير إلى بعد طلوع الشمس بساعات كثيرة أقل أحواله في الحقيقة الكراهة لمخالفة السنة مخالفة ظاهرة.
• ثم قال رحمه الله:
(2/224)
________________________________________
فإن لم يعلم بالعيد إلاّ بعده: صلوا من الغد.
أي: أنه إذا لم يعلم الناس والإمام بصلاة العيد إلا بعد الزوال فإنه يجوز لهم أن يصلوات صلاة العيد من الغد.
= وهذا مذهب الجماهير - في الجملة.
واستدلوا على ذلك:
- بما صح عن أبي عمير بن أنس بن مالك أن أعماماً له من الأنصار أخبروه أن هلال شوال غم عليهم فأتموا الشهر حتى جاء ركب فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأو الهلال فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يخرجوا لصلاتهم من الغد.
وهذا الحديث صحيح.
وكما قلت لكم هذا مذهب الجماهير.
= القول الثاني: للإمام مالك رحمه الله. فإنه يرى أنه إذا فاتت الصلاة بأن لم يعلموا بالهلال فإنها لا تصلى من الغد: - لأن وقتها فات.
- وقياساً على الجمعة. فإن الجمعة إذا خرج وقتها لا تصلى جمعة وإنما تصلى ظهراً.
والراجح مع الجماهير لوضوح النص وصراحته بذلك.
* مسألة: = والحنابلة يرون أن صلاة العيد من الغد قضاء مطلقاً.
= والقول الثاني: أن صلاة العيد من الغد: - إن كانت بعذر فهي أداء وليست قضاء.
والقول الثاني أقرب إن شاء الله.

* مسألة: أيضاً تتعلق بمسألة فوات العيد: هل يشرع لمن فاتته صلاة العيد أن يصليها أو لا يشرع؟
اختلفوا في ذلك على أقوال:
= فالمذهب أنه يصلي العيد على هيئة العيد. يعني ركعتين.
واستدلوا على ذلك:
- بأن أنس بن مالك رضي الله عنه فاتته صلاة العيد مع الإمام فجمع أهله وأمر من يصلي بهم العيد.
= والقول الثاني: أن من فاتته صلاة العيد والخطبة يصلي أربعاً. وهو قول عند الحنابلة.
= والقول الثالث: أن من فاتته صلاة العيد فإنه لا يشرع له أن يقضيها. وهو للأحناف واختيار شيخ الاسلام بن تيمية.
واستدل على ذلك:
- بأن صلاة العيد شرعت على هيئة وصفة معينة: منها تقدم الخطبة واجتماع الناس وكل ذلك مفقود في المنفرد فلا يشرع له أن يقضي الصلاة.
ولولا أثر أنس رضي الله عنه لكان هذا القول هو أقوى الأقوال.

• ثم قال رحمه الله:
وتسن: في صحراء.
السنة في صلاة العيد أن تصلى في الصحراء.
ومعنى قوله تسن: أنه لو صلاها في البلد لجاز لكن مع الكراهة كما سيأتينا.
= وإلى هذا ذهب جميع الأئمة إلا الشافعي.
(2/225)
________________________________________
واستدل الأئمة على هذا الحكم:
- بما نقل متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا يصلون العيد في الصحراء القريبة من البلد وأن صلاة العيد في الصحراء القريبة أفضل من صلاة العيد في المساجد الجوامع.

= والقول الثاني: - وهو الذي أشرت إليه - للشافعي رحمه الله أن صلاة العيد في الجامع إذا كان يتسع أفضل.
واستدل بدليلين:
- الأول: أن المسجد أفضل من بقعة الصحراء.
- الثاني: أنه أنظف وأهيأ للناس.
كأن الإمام الشافعي - نقول: كأنه: هو لم يذكر هذا - كأنه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج بسبب ضيق المسجد كأنه فهم هذا ولذاك يقول: إن اتسع المسجد فالأفضل في الجامع داخل البلد.
ولكن هذا المذهب ضعيف وخالفه جميع الأئمة سواء من بقية الأربعة أو غيرهم من أئمة المسلمين وأخذوا بهذه السنة المتواترة التي قعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهذا هو الراجح إن شاء الله أن الإنسان ينبغي له أن يصلي في مكان قريب من البلد.
ومع الأسف الشديد هذه السنة عطلت في كثير من الأماكن وإن كانت باقية ولله الحمد في كثير من الأماكن لكن كثير من المدن الآن يصلون العيد في الجوامع وهو خلاف السنة وكما سيأتينا أن الإمام أحمد يرى أن هذا العمل مكروه.
• ثم قال رحمه الله:
وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر.
يعني: أنه ينبغي للإمام أن يبادر بصلاة الأضحى ويؤخر صلاة عيد الفطر وأنه إن فعل ذلك فقد أصاب السنة وإن خالف فقد ترك السنة.
واستدلوا على هذا بأدلة كثيرة:
- الدليل الأول: عدة نصوص فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وكل هذه النصوص ضعيفة. فإذا رأيت حديثاً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى وأخر الفطر فهو ضعيف.
- ثانياً: استدلوا بالإجماع. فقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم.
- ثالثاً: استدلوا بعلل ومعاني استنبطها الفقهاء:
فقالوا: بالنسبة لصلاة الفطر ينبغي أن تؤخر لأمرين:
- الأول: ليتهيأ للناس إخراج زكاة الفطر.
- والثاني: أيضاً ليتمكن الناس من تطبيق سنة الأكل قبل الصلاة.
(2/226)
________________________________________
وبالنسبة للأضحى: استدلوا بمعنيين أيضاً: - الأول: أنه يندب للإنسان أن لا يأكل إلا بعد الأضحى من أضحيته وفي الإمساك مشقة فينبغي أن يبادر الإمام بالصلاة ليأكل الناس.
- الثاني: أن ذبح الأضاحي لا يشرع ولا يجوز إلا بعد الصلاة فينبغي أن يبادر بالصلاة ليذبح الناس أضاحيهم.
وكما ترون - الإجماع وهذه التعليلات قوية وهي كفيلة إن شاء الله بإثبات هذه السنة مع أن الأحاديث ضعيفة.
• ثم قال رحمه الله:
وأكله قبلها.
يعني أنه يشرع للإنسان أن يأكل قبل أن يخرج لصلاة الفطر.
- لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغدو لعيد الفطر حتى يأكل تمرات.
وفي رواية معلقة في صحيح البخاري موصولة عند أحمد بإسناد صحيح: وتراً.
فتلخص لنا الآن بالنسبة لصلاة عيد الفطر أنه يستحب أن يأكل هذا أولاً.
ثانياً: يستحب أن يكون الأكل من التمر.
ثالثاً: أن يأكل وتراً.
فإذا طبق هذه الثلاث فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• ثم قال رحمه الله:
وعكسه في الأضحى إن ضحى.
يعني أنه يستحب للإنسان أن لا يأكل في الأضحى قبل الصلاة وإنما يؤخر إلى أن يأكل بعد الصلاة.
استدلوا على هذا:
- بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل في الأضحى إلا بعد الصلاة. وهذا الحديث فيه ضعف ولكنه يقبل التحسين.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم يأكل من أضحيته. واستدل على هذا بعدم الأكل قبل الصلاة.
ومثل هذه العبارة كما تقدم معنا من الإمام أحمد مقبولة جداً لمعرفته رحمه الله بالسنة والسيرة فهو يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل إلا من أضحيته صلى الله عليه وسلم.
• ثم اشترط شرطاً لهذا: فقال رحمه الله:
لمضح.
يعني أن ترك الأكل قبل صلاة الأضحى سنة لمن أراد أن يضحي بعد الصلاة.
أما من لم يرد الأضحية فالأمر سيان إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل.
واستدلوا على هذا:
- برواية في حديث بريدة أخرجها الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يرد أن يضحي لم يبال أن يأكل.
(2/227)
________________________________________
- واستدلوا بدليل آخر وهو: أن المنع من الأكل إنما كان ليبدأ بأكل الأضحية تقرباً إلى الله فإذا لم يضحي إن شاء أكل وإن شاء ترك.
إذاً: إذا قيل لك: ما هي السنة بالنسبة لمن لم يرد أن يضحي؟
- لا نقول: أن السنة أن يأكل. ولا نقول أن السنة أن لا يأكل: ولكن نقول: السنة إن شاء أكل وإن شاء ترك.
• ثم قال رحمه الله:
وتكره في الجامع بلا عذر.
ومن المعلوم أن هذه العبارة لو قدمها المؤلف بعد قوله: في صحراء لكان أنسب فيكون الكلام عن موضوع واحد في موضع واحد.
إذا صلى في الجامع فإما أن يكون بعذر أو بغير عذر.
- فإن كان بعذر صحت بلا كراهة. لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي العيد فمطروا فصلاها في الجامع.
وهذا فيه ضعف.
- وأما إن كان بلا عذر فهو مكروه. ودليل الكراهة: أن في هذا مخالفة صريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
* مسألة: يستثنى من هذا:
صلاة العيد في الحرم المكي فإنها تكون في الحرم لا في الصحراء.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: شرف البقعة وعظم الأجر في المسجد الحرام.
- الثاني: أن هذا عمل السلف والأئمة من القديم فإنه لم يحفظ أن أحداً منهم خرج من مكة ليصلي العيد.
- الثالث - وهو تعليل يستأنس به: أن الخروج لضواحي مكة فيه صعوبة لكثرة الجبال.
أي هذه الأدلة أقوى؟
الأقوى: الاستدلال بعمل السلف لأن الاستدلال بمسألة كثرة الأجر موجود في حرم المدينة ومع ذلك لم تؤثر.
إذاً علمنا أن الذي يؤثر فعلاً هو أن هذا هو عمل السلف.
لكن تذكر مثل هذه الأشياء للإستئناس والتقوية.
• ثم قال رحمه الله:
ويسن: تبكير مأموم إليها.
يسن أن يأتي المأموم لا الإمام إلى الصلاة مبكراً.
والدليل على هذا من أوجه:
- أولاً: فعله عدد من الصحابة. (وإذا قلنا فعله عدد من الصحابة تعلم مباشرة أنه ليس في المسألة نص).
- ثانياً: أن في هذا دنو من الإمام وهو محبوب للشارع في الجملة.
- ثالثاً: ما ثبت في السنة أن المسلم في صلاة ما انتظر الصلاة وصلاة العيد داخلة في عموم هذا الحديث.
• ثم قال رحمه الله:
ماشياً.
يعني أنه يندب أن يخرج الإنسان إلى صلاة العيد ماشياً.
والدليل: - أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: المشي إلى العيد من السنة.
(2/228)
________________________________________
وهذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة.
- الدليل الثاني: أن في المشي الأجر الذي رتبه الشارع في الخروج للصلاة.
- الثالث: أنه روي عن التابعين منهم عمر بن عبد العزيز.
= والقول الثاني: إن شاء ذهب ماشياً وإن شاء ذهب راكباً ولا سنة معينة في ذلك.
وإلى هذا مال الإمام البخاري رحمه الله.
والأقرب والله أعلم - ما مال إليه البخاري رحمه الله لا سيما وأن صلاة العيد تتكرر ويأتي إليها الصحابة من بعيد ومن قريب ولم يأت ما يدل على أن المشي بحد ذاته سنة وهذه الأمور التعبدية تحتاج إلى توقيف.
فنقول: يذهب إن شاء ماشياً وإن شاء راكباً.
• ثم قال رحمه الله:
بعد الصبح.
يعني أن السنة أن يكون الذهاب بعد صلاة الصبح:
- لأنه وقت الفضيلة.
- وليتمكن من التبكير.
- وليضمن عدم فوات الصلاة.
- وأخيراً: لأنه مروي عن بعض الصحابة.
= والقول الثاني: أن السنة أن يخرج إلى المصلى
بعد طلوع الشمس.
واستدلوا على ذلك:
بما ثبت عن ابن عمر أنه كان يخرج بعد طلوع الشمس.
والصواب مع الحنابلة. لقوة ما استدلوا به من التعليلات ولأن ابن عمر روي عنه الخروج بعد الصبح وبعد طلوع الشمس.
وحمل بعض الفقهاء خروج ابن عمر بعد طلوع الشمس بمسألة القرب لأن مصلى العيد كان قريباً فإذا خرج بعد طلوع الشمس حصل له الدنو وأمن فوات الركعة الأولى.

ثم قال رحمه الله:
وتأخر إمام إلى وقت الصلاة.
يعني أنه بالنسبة للإمام يستحب أن يتأخر وأن لا يأتي إلا إذا أراد أنى يصلي.
ولم يذكروا هذه العبارة في صلاة الجمعة فعلمنا أنها سنة خاصة بصلاة العيد.
واستدلوا على هذه المسألة:
- بحديث جابر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مصلى العيد أول ما يبدأ به الصلاة.
فدل على أنه يبنغي أن يتأخر لكي يكون أول ما يبدأ به الصلاة واو أنه تقدم لكان أول ما يبدأ به تحية المسجد عند من يرى وجوبها في مصلى العيد أو الجلوس والتكبير عند من لا يرى تحية المسجد.
• ثم قال رحمه الله:
على أحسن هيئة.
يعني أنه: يستحب للإنسان في يوم العيد أن يخرج على أحسن هيئة وذلك يكون بعدة أمور:
الأول: الاغتسال.
والثاني: التطيب.
والثالث: الاستياك.
والرابع: أن يلبس أحسن ثيابه.
(2/229)
________________________________________
فإذا فعل ذلك فقد خرج على أحسن هيئة.
- أما الاغتسال: فدليله: أولاً: أنه مروي عن علي وابن عمر وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وثانياً: أنها صلاة شرع لها الاجتماع فاستحب لها الاغتسال كالجمعة.
- وأما بالنسبة للبس أحسن الثياب:
أولاً: فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلة حمراء يلبسها في الأعياد. وهو حديث ضعيف لا يثبت.
ثانياً: استدلوا: بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أشتري لك حلة تتجمل فيها بالأعياد وعند الوفود. فدل ذلك على أنهى معروف عندهم التجمل في العيد. وأيضاً أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر هذا المعنى.
= والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله أن الإنسان إن شاء خرج في لباس حسن وإن شاء خرج مبتذلاً بلباس ليس بحسن.
قال: إن خرج بلباس حسن فهو من التجمل للعيد. وإن خرج بلباس ليس بحسن - أو مبتذل - فلما فيه من الخشوع والخضوع ولأنه مروي عن عطاء - يعني الخروج بلباس فيه تواضع.
فالإمام أحمد خيَّر في الرواية الثانية بين أن تخرج بهذا أو بهذا.
والصواب روايته الأولى. لأن المعاني التي ذكرها الحنابلة والنص الذي ذكر عن عمر رضي الله عنه صريح في السنية.
- وأما الاستياك والتطيب: فلا إشكال فيه - أنه من الجمال.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ المعتكف ففي ثياب اعتكافه.
يعني أنه يستحب لكل الناس التجمل إلا المعتكف فإنه يشرع له أن يخرج من اعتكافه بثيابه التي اعتكف بها ويذهب إلى المصلى بلا تجمل بل على هيئته التي اعتكف بها.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (والمعتكف يخرج بثياب اعتكافه).
وهو حديث ضعيف لا يثبت.
- الثاني: أن هذا اللباس من أثر العبادة ولا ينبغي أن يزال.
= والقول الثاني: أن المعتكف كغيره من الناس يذهب إلى بيته ويتجمل ويتزين ويتطيب ويغتسل ويلبس من أحسن ثيابه ويذهب إلى العيد.
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن عموم النصوص والعلل المذكورة يشمل المعتكف وغير المعتكف.
- الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ومع ذلك يلبس الثياب الحسنة.
وهذا القول الثاني - كما ترون - أنه غاية في القوة. وهو الراجح إن شاء الله.
(2/230)
________________________________________
• ثم قال رحمه الله:
ومن شرطها: استيطان وعدد الجمعة.
القاعدة العامة عند الفقهاء أنه يشترط في صلاة العيدين الشروط المذكورة في صلاة الجمعة إلا إن في صلاة العيدين شروط وجوب لا صحة بخلافها في الجمعة فهي شروط وجوب وصحة.
فهذه قاعدة المذهب العامة.

واستدلوا على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون لم يصلوا العيد في أسفارهم وقد صادف العيد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ولم يصله صلى الله عليه وسلم.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط للعيد ما يشترط للجمعة.
وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره من المحققين الشيخ الفقيه المجد.
واستدلوا على هذا:
- بأن أنس بن مالك رضي الله عنه صلى بأهله العيد.
- ثانياً: استدلوا على ذلك بأنه يجوز أن تقضى صلاة العيد عند الحنابلة بلا خلاف ولو بلا هذه الشروط - شروط الجمعة - أي ولو بلا دون عدد واستيطان وما صح قضاء صح أداء.
وأجابوا عن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في منى بأن النبي صلى الله عليه وسلم في منى شغل بالواجب والفريضة وهي أعمال نسك وصلاة العيد للمسافر سنة فقدم عمل الفريضة على السنة.
وأما وجه الاستدلال بأثر أنس فمعلوم أن أثر أنس لم يستكمل العدد فدل على أن هذه الشروط لا تشترط في العيد كما في الجمعة.
بناء على هذا القول - الثاني -: المرأة والمسافر والعبد والنفرد يصلون العيد أصالة لا تبعاً.
وبناء على القول الأول: هؤلاء يصلون العيد تبعاً ولا يجوز أصالة.
والراجح في الحقيقة من حيث النصوص والأثر القول الأول.
والأسهل للناس لا سيما للمغتربين الثاني. لأنهم يتمكنون أن يقيموا صلاة العيد ولو كانوا كلهم من المسافرين.
انتهى الدرس الأول
(2/231)
________________________________________
الدرس الثاني بعد العشاء:
قال شيخنا - حفظه الله -:
بسم الله الرحمن الرحيم
• قال رحمه الله تعالى:
لا إذن إمام.
يعني أنه لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام كما تقدم معنا في الجمعة أنه لا يشترط لها أيضاً إذن الإمام.
وتعليل ذلك: أن هذه الصلاة من شعائر الدين الظاهرة التي لا تتوقف على إذن الإمام أو عدم إذنه بل يقيمها المسلمون إذا توفرت الشروط مباشرة.
• ثم قال رحمه الله:
ويسن: أن يرجع من طريق آخر.
يعني: أنه يسن للإنسان إذا ذهب إلى صلاة العيد من طريق أن يرجع من طريق آخر.
والدليل على ذلك:
- ما ثبت في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب من طريق رجع من طريق آخر فهي سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2/232)
________________________________________
واختلفوا في العلة أو الحكمة التي من أجلها صنع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال كثيرة بلغت نحو عشرة أقوال كلها في تحديد أو معرفة الحكمة التي من أجلها يصنع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
والصواب: أن رجوعه - والله أعلم - يحقق حكماً كثيرة ليست حكمة معينة واحدة وإنما يحقق حكماً كثيرة:
- منها: شهادة الأرض.
- ومنها: إعطاء أهل الطريقين كل منهما حقه في مرور النبي صلى الله عليه وسلم من حيث سؤاله والانتفاع بعلمه والتبرك به صلى الله عليه وسلم.
وذكروا عللاً كثيرة خلاصتها أنها في الجملة تصح أن تكون كلها حكم لإخلاف الطريق.
* * مسألة: اختلفوا هل الذهاب من طريق والرجوع من طريق آخر سنة خاصة بصلاة العيدين أو هي تشمل الجمعة والاستسقاء والفروض الخمسة؟
= فمن الفقهاء من قال: هذه سنة في جميع الصلوات فإذا ذهب من طريق ينبغي أن يرجع من طريق آخر.
= ومن الفقهاء من قال: بل هذه سنة خاصة لصلاة العيدين فقط لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك إلا في صلاة العيدين فقط.
والصواب مع القول الثاني: أنها سنة خاصة بصلاة العيدين دون سواها من الصلوات.
• ثم قال المؤلف رحمه تعالى:
يصليها ركعتين.
أجمع الفقهاء على أن صلاة العيد ركعتان فلم يخالف في هذا أحد من الفقهاء.
ودل عليه:
- النص الصريح: فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد ركعتين.
- وعن جابر رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد ركعتين بلا أذان ولا إقامة.
فكونها ركعتين - هذا القدر - دل عليه الإجماع والنص.
• ثم قال رحمه الله:
قبل الخطبة.
يعني: أن المشروع أن تكون الصلاة قبل الخطبة. فإن كانت الخطبة قبل الصلاة بطلت الخطبة.
(2/233)
________________________________________
وهذا القدر - وهو تقدم الصلاة على الخطبة عكس الجمعة - هذا القدر أجمع عليه الأئمة إلا ما يذكر عن بني أمية فإنهم غيروا هذه السنة وأول من غير هذه السنة مروان بن الحكم وفعله لا يعتبر معتداً به في الخلاف بل هو هدر لأن الصحابة أنكروا عليه تقديم الخطبة على الصلاة إنكاراً بالقول والعمل فأنكر عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه باللسان بأن هذا خلاف السنة وبالعمل بأن جذبه لما أراد أن يصعد ليخطب قبل الصلاة.
فعمله هذا مهدر لا قيمة له وأجمع الفقهاء والعلماء المعتد والمشار إليهم على أن الصلاة في العيد قبل الخطبة وأنه إن خطب قبل الصلاة بطلت ووجب أن يعيدها بعد الصلاة.
• ثم قال رحمه الله:
يكبر في الأُولى بعد الإحرام والإستفتاح وقبل التعوذ والقراءَة: ستاً.
أفاد المؤلف رحمه الله في هذه العبارة مسألتين:
* الأولى: أن التكبيرات الزوائد ست.
* والثانية: أن هذه التكبيرات الزوائد تكون بعد الاستفتاح.
بناء على هذا نقول: السنة أن الإمام يكبر تكبيرة الاحرام ثم يقرأ دعاء الاستفتاح ثم يكبر ستاً ثم يستعيذ ويقرأ.
= وهذا القول إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

= والرواية الثانية: أن الإمام يسرد التكبيرات الزوائد بعد الإحرام. وهذه الرواية اختارها من العلماء الكبار: الخلال وأيضاً اختارها الحافظ ابن القيم وهي: أن التكبيرات الزوائد تكون بعد الإحرام مباشرة ثم يقرأ دعاء الاستفتاح.
واستدلوا على هذا:
- بأن ظواهر النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بالتكبيرات متتالية.
المسألة الثانية: أن التكبيرات الزوائد بعد تكبيرة الإحرام ست وهذا هو مذهب الإمام أحمد.
واستدلوا على هذا:
- بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد فكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً.
قالوا: سبعاً. يعني: مع تكبيرة الإحرام.
وهذا الحديث صححه الإمام أحمد والبخاري وعلي بن المديني.
وتكون التكبيرات الزوائد في الركعة خمساً ليس منها تكبيرة الانتقال. فإذا قال: الله أكبر واستتم قائماً يكبر خمساً متتالية.
واستدلوا أيضاً:
- بحديث عمر بن شعيب.
(2/234)
________________________________________
وفي هذه المسألة: أي في عدد التكبيرات الزوائد خلاف كبير بين هل العلم. اختلفوا على نحو عشرة أقوال أو أكثر.
والسبب في الاختلاف أن الآثار المروية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مختلف فيها ففيها أعداد مختلفة.
ولكن = مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - أن الأمر في التكبيرات واسع. فيقول الإمام أحمد - رحمه الله -: اختلف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر فيه واسع.
والخلاف هذا لا يقوم في الحقيقة على نصوص وإنما آثار عن أصحابالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأقوال كثيرة نأخذ بعض هذه الأقوال حتى يكون عند الإنسان اطلاع.
= فمن الفقهاء من قال: - نحن نتكلم عن الزوائد فلا أحد يقول هل هذا مع تكبيرة الإحرام أو لا؟ إنما نحن نتكلم عن الزوائد.

= فالقول الأول: المذهب. ما تقدم ست وخمس.
= والقول الثاني: سبع وسبع.
= القول الثالث: ثلاث وثلاث.
= القول الرابع: أربع وأربع.
هذه أبرز الأقوال وهي مروية عن الصحابة.
فالإنسان: إن كبر تارة بهذا وتارة بهذا فالأمر واسع وإن التزم أن يكبر ست وخمس فهو في الحقيقة موافق للنص وهو حديث عمرو بن شعيب.
في مسألة: مع التسليم في أن الأمر واسع: لكن:
= الحنابلة يقولون: ست وخمس.
= الرواية الثانية عن الإمام أحمد: سبع وخمس.
لماذا؟
قال: الحديث فيه أنه كبر سبعاً وخمس. لكن في
- رواية للإمام أحمد قال: سبع مع تكبير الإحرام.
- وفي رواية قال: سبع بلا تكبيرة الإحرام.
وفي الحقيقة الأقرب للنص أن نقول: أنها سبع وخمس. لأنك تقول الخمس زوائد أيضاً السبع يبنبغي أن تكون زوائد.
على كل حال الأمر واسع جداً والخلاف فيه ثابت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والعمل على ست وخمس هنا في هذه البلاد.
• ثم قال - رحمه الله -:
وفي الثانية قبل القراءَة: خمساً.
وتقدم معنا الكلام عن هذه المسألة.
• ثم قال - رحمه الله -:
يرفع يديه مع كل تكبيرة.
لما تبين معنا أن التكبيرات الزوائد ست وخمس فالسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة زائدة.
والدليل على ذلك:
- حديث وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع كل تكبيرة. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - وصلاة العيد من ذلك.
(2/235)
________________________________________
- وبإنه ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يرفع يديه في الجنائز والعيد.
وهذا إن شاء الله هو الصواب: أن الإنسان يرفع يديه مع كل تكبيرة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويقول: ((اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيْراً)) وإن أحب قال غير ذلك.

أفادنا المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
- الأولى: أنه يستحب أن يكون هناك ذكر بين التكبيرات.
- الثانية: أن الأمر واسع في هذا الذكر. فإن شاء قال ما ذكره المؤلف - رحمه الله - وإن شاء كبر وهلل وإن شاء كبر وسبح فالأمر فيه واسع.

الدليل على مشروعية الذكر بين التكبيرات:
- أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إذا كبر فإنه يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حذيفة وأبو موسى - رضي الله عنهما - صدق أبو عبد الرحمن.
فصار الأثر ثابت عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

= والقول الثاني: أنه لا يشرع أن يقول شيئاً بين التكبيرات.
- لأنه لو وجد ذكر مخصوص لنقل. فلما لم ينقل علمنا أنه لا يشرع.
والصواب أن الأمر واسع إن شاء أخذ بهذه الفتوى عن مثل هذا الصحابي الجليل ابن مسعود وحذيفة وأبو موسى وإن شاء أخذ بظاهر النص ولم يذكر بين التكبيرات شيء فالأمر إن شاء الله واسع.

• ثم قال - رحمه الله -:
يقرأ جهراً.
أي أن السنة: للإمام أن يجهر بالقراءة.
= وهذا مذهب الجماهير وحكي إجماعاً.
واستدلوا على هذا:
- بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروا بما كان يقرأ في الصلاة. فدل على أنه يجهر بالقراءة.
وعلى هذا عمل المسلمين من قديم الزمان.
• قال - رحمه الله -:
في الأُولى بعد الفاتحة: ((بِسَبْحِ))، و ((بِالْغَاشِيَةِ)) في الثانية.
تقدم معنا: في حديث النعمان وهو في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهاتين السورتين في الجمعة والعيد فإذا وافق يوم الجمعة العيد قرأ بهما في الصلاتين.
وفي هذه المسألة سنة أخرى وهي:
(2/236)
________________________________________
- مارواه أبو واقد الليثي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأله عن السنة في صلاة العيد فقال: يقرأ بـ: ق واقتربت. وهو حديث صحيح في مسلم.
فالسنة أن يقرأ هذا أحياناً وهذا أحياناً.
وفي هذا الحديث من الفوائد أن العالم الكبير والفقيه المنظور إليه قد يجهل بعض السنن ولذا نجد أن عمر - رضي الله عنه - يسأل هذا الصحابي عن سنة القراءة في صلاة العيد مع العلم أن صلاة العيد أمرها لا يخفى وعمر - رضي الله عنه - كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك سأله فقد يخفى على كبير الشأن ما يعلمه من هو أقل منه.
= والقول الثاني: أنه ليس لصلاة العيد سنة معينة في القراءة وهذا رواية عن الإمام وكأنه حمل هذه الأحاديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها مصادفة لا قصداً - كأنه انا أقول: كأنه - رحمه الله - في هذه الرواية حمل الأحاديث على هذا أنه قرأها مصادفة لا قصداً.
والصواب بلا شك مع القول الأول وهو: أنه يقرأ أحياناً بهذا وأحياناً بهذا لأن الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث ومنهم عمر فهموا أن هذا سنة.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإذا سلم: خطب خطبتين كخطبتي الجمعة.
يعني: أن المشروع في خطبة العيد أن يخطب خطبتين.
وقد اتفق على هذا الفقهاء - رحمهم الله -.
واستدلوا على ذلك:
- بأن صلاة العيد تقاس على صلاة الجمعة لكثرة الشبه بينهما.
- ثانياً: بما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: وهذا تابعي كبير القدر وهو من الفقهاء السبعة وهو شيخ عمر بن عبد العزيز ومعلمه. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين.
ولكن هذا الأثر في إسناده ضعف.

ثم أن العلماء اختلفوا في قول التابعي: من السنة. هل له حكم الرفع؟ أو حكم الوقف؟
- إذا قال الصحابي من السنة فله حكم: الرفع.
لكن إذا قال التابعي من السنة فاختلفوا هل له حكم الرفع؟ أو حكم الوقف؟
فيخ خلاف بين الفقهاء: والأقرب عندي والله أعلم: أن له حكم الرفع. إذا كان القائل بمنزلة هذا التابعي الكبير من العلم والفهم فإنه لا ينسب عملاً إلى السنة إلا وقد علم أنه من السنة.
= والقول الثاني: أن المشروع أن تكون خطبة واحدة.
(2/237)
________________________________________
وكأن هذا القول فيه خلاف للإجماع. وممن مال إلى هذا القول شيخنا - رحمه الله - وأظن أن الشيخ - رحمه الله - أخذه من الصنعاني في سبل السلام لأنه ذكر هذا الشيء وهو أن ظاهر النص أنها خطبة واحدة.
ولكن في الحقيقة الصنعاني والقول الذي مال إليه شيخنا فيه مخالفة للإجماع فمهما بحثت ف"إنك لا تجد أن أحداً يقول بسنية أن تكون خطبة واحدة وهو أمر معهود معروف من القديم.
يعني: نشأ الإمام مالك وهم يخطبون العيد خطبتين.
وهذا التابعي الكبير عبيد الله بن عبد الله بن عتبة كذلك يثبت أنها خطبتان
فالمهم أنني أظن أن هذا فيه مخالفة للإجماع وخالف هؤلاء الذين ذكرت وكأنهم تفقهوا بالنص مباشرة ولكن الواقع أن أئمة المسلمين كلهم يرون أن المشروع في صلاة العيد أن يخطب الإمام خطبتين.
وهذا هو الراجح.
• ثم قال - رحمه الله -:
كخطبتي الجمعة.
يعني أن المشروع أو بعبارة أخرى أن شروط خطبتي العيد كشروط خطبتي الجمعة في كل شيء إلا في بعض المسائل غير المهمة نتركها ونأخذ مسألتين مهمتين:
- الأولى: أنه لا يشرع للإمام في خطبتي العيد أن يجلس إذا حضر. لأنه في الجمعة يجلس الإمام لينتظر المؤذن وهنا لا أذان.
- الثانية: أنهم اختلفوا في الكلان أثناء خطبة العيد:
= فمن الفقهاء من قال: يجوز أن يتكلم الإنسان أثناء خطبة العيد.
واستدل على ذلك:
- بأن حضور الخطبة كله سنة فالاستماع لا يكون واجباً.

= والقول الثاني: أن الا ستماع وترك الكلام واجب فإن تكلم فهو آثم مع الإقرار بأن حضور الخطبة سنة كما سيأتينا.
- وذلك لأنه لارتباط بين حكم حضور الشيء والأحكام التفصيلية فيه. فهذا الإنسان يجوز له أن يكبر في النفل ويجوز له أن لا يفعل لكنه إذا كبر وجب عليه واجبان وبطلت صلاته إن لم يستوف مافيها من شروط وأركان.
(2/238)
________________________________________
فنقول: لك أن تحضر ولك أن تغيب لكن إذا حضرت لا يجوز لك أن تتكلم ولذلك قال الإمام أحمد: في الرواية التي ينصر فيها تحريم الكلام: أرأيت إذا تكلموا على من يخطب. وهذا معنى كلامه - رحمه الله - أي: إذا صار الناس يتكلمون إذاً الخطيب يخطب على من؟ لا شك أن هذا مخالف لمقتضى الشرع ومخالف للمقصود من خطبة العيد وأيضاً هو فيه من الإخلال بمظهر المسلمين مافيه لو فتح هذا الباب.
فالراجح إن شاء الله أنه يحرم لمن أراد أن يحضر الخطبة أن يتكلم.
• ثم قال - رحمه الله -:
يستفتح الأُولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع.
يستفتح الخطبة الأولى بتسع والثانية بسبع.
وهذه السنة أيضاً ليس فيها نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما فيها حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة السابق وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر بتسع وبسبع في الخطبة الثانية.
واستدلوا على ذلك:
- بأن التكبير شعار صلاة العيد فاستحب أن يبدأ الخطبة به.
وهذا القول - الأول - قول الجماهير: افتتاح خطبتي العيد بالتكبير.
= والقول الثاني: أن المشروع للإنسان أن يبدأ بالحمد. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وبعض الفقهاء.
واستدل:
- بأنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بدأ خطبة بغير الحمد.
وهذا القول الثاني: أصح. وهو أنه يبدأ بالحمد. لأن هذا هو المعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الخطبة بالتكبير بهذا الشكل تسع تكبيرات قبل أن يقول الحمدلله رب العالمين لكان مثل هذا مما توافر الهمم على نقله وبيانه لا سيما وأنه لو كان وقع فهو يخالف المعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الفقهاء جميعاً أقروا أن المعهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبدأ الخطبة بالحمد لله رب العالمين.
لهذا فإن الراجح إن شاء الله أن الإنسان يبدأ خطبة العيد بالحمد لله رب العالمين ولا يكبر.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
(2/239)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
• قال رحمه الله:
يحثهم في الفطر: على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون.
ما زال المؤلف في بيان بعض أحكام خطبة العيدين وذكر منها أن المستحب والمسنون للإمام في خطبة عيد الفطر أن يبين لهم أحكام الفطر.
فيبين لهم المقدار الذي يخرجون والفئة المستحقة للإخراج ووقت الإخراج.
والدليل على ذلك:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب قال: (تصدقوا تصدقوا .. ) - مرتين - ثم قال الرواي: وكان أكثر من يتصدق النساء.
وهذا الحديث متفق عليه.
- والقول الثاني: أن التذكير بأحكام زكاة الفطر يكون في آخر جمعة من رمضان لا في خطبة العيد.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أداها قبل الصلاة فهي مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
وإلى هذا القول مال شيخنا رحمه الله وهو قول كما ترى وجيه وقوي جداً لأنه لا فائدة من التذكير بأحكام زكاة الفطر بعد مضي وقت زكاة الفطر.
• ثم قال رحمه الله
ويرغبهم في الأضحى: في الأُضحية ويبين لهم حكمها.
يعني: أن المستحب للإمام في خطبة عيد الأضحى أن يبين لهم أحكام الأضحية من حيث السن المجزئ ووقت الذبح وما يتعلق بهذه الأحكام.
والدليل على ذلك:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الأضحى: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى ومن ذبح بعد الصلاة فقد أصاب سنة المسلمين). فبين لهم صلى الله عليه وسلم أحكام الأضحية في خطبة عيد الأضحى.
وهذا صحيح ومناسب ولا يريد المؤلف رحمه الله أن يقتصر الإمام على ذكر هذه الأحكام ولكن يريد أنه ينبغي أن تشتمل الخطبة على إيضاح هذه الأحكام.
• ثم قال رحمه الله تعالى
والتكبيرات الزوائد والذكر بينها: سنة.
التكبيرات الزوائد التي تقدمت معنا والذكر الذي يقال بينها على ما جاء في أثر ابن مسعود: سنة. فإن تركها المصلي سهواً أو عمداً صحت صلاته.
والدليل على هذا:
- إجماع الفقهاء على سنية هذين الأمرين.
فإذا دخل المسبوق بعد تكبير الإمام يعني: إذا كبر الإمام سبعاً ثم دخل المسبوق معه فهل المشروع في حقه أن يكبر أو أن لا يكبر؟
فيه خلاف:
(2/240)
________________________________________
- من الفقهاء من قال: يكبر. - لأنه صادف محل التكبير فيكبر.
- ومن الفقهاء من قال: بل يستمع لقراءة الإمام ولا يكبر. - لأن الإستماع لقراءة الإمام واجبة.
وهذا القول الثاني هو الصواب.
• ثم قال رحمه الله تعالى
والخطبتان .. : سنة.
خطبتا صلاة العيد سنة عند الجماهير والجم الغفير من أهل العلم.
واستدلوا على هذا:
- بما رواه عطاء عن ابن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا نخطب خطبتنا هذه فمن شاء أن يجلس فليجلس ومن شاء أن يذهب فليذهب.
ولو كانت الخطبة واجبة لكان الاستماع واجباً.
وهذا الحديث صححه جمهور المتأخرين. وضعفه المتقدمون. فضعفه أبو داود والنسائي وابن معين. حكموا عليه أنه مرسل يعني أن الصواب فيه أن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول ..... بإسقاط ابن السائب وأن من ذكر ابن السائب فقد أخطأ في الرواية وهذا هو الصواب: أن ذكر ابن السائب خطأ ولا يثبت الحديث إلا مرسل من رواية عطاء.
- والقول الثاني: أن خطبة العيد من شرائط صلاة العيد وإلى هذا ذهب من الحنابلة ابن عقيل وغيره من الحنابلة.
لكنه أبرز من ذهب إلى هذا القول.
وظن الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار أن سنية الخطبة: خطبتي العيد محل إجماع ولذلك قال: لا أعلم قائلاً بالوجوب وكأنه لم يقف على اختيار ابن عقيل هذا الذي فيه أنه من شرائط العيد.
والمسألة محتملة في الحقيقة فيحتمل أن نقول أنها سنة كما هو مذهب الجماهير ويحتمل أن نقول أنها واجبة لأن لا ينفض الناس عن الإمام فتكون خطبته لا فائدة منها.
في الحقيقة مسألة حكم خطبة صلاة العيد محتملة.
• ثم قال رحمه الله
ويكره: التنفل قبل الصلاة وبعدها.
نص الإمام أحمد على أنه يكره للإنسان أن يتنفل قبل وبعد صلاة العيد.
واستدل على هذا:
- بالحديث المتفق عليه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها.
- والدليل الثاني: ما ذكره الزهري أنه قال: لا أعلم أحداً من العلماء نقل عن أحد من السلف أنه صلى قبل العيد أو بعدها.
وقال الزهري أيضاً: لم يصلها بدري قط.
(2/241)
________________________________________
وإذا كان الصحابة من أهل بدر كلهم لم يصلوها فهو إجماع وَمَنِ الناس بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بدر.
- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يصلي هو أصحابه لنقل.
- ومن الفقهاء من قال: الصلاة قبل العيد جائزة لا مندوبة ولا مكروهه.
وكأن الشوكاني يميل إلى هذا.
والصواب لا شك مع الإمام أحمد إن شاء الله لما استدل به من الإجماع وحكاية عمل عامة الصحابة لا سيما الكبار منهم كأهل بدر فمعنى هذا أن أبا بكر وعمر وعلي وعثمان وأبو عبيدة وفقهاء الصحابة وكبارهم كلهم لم يكونوا يصلون قبل صلاة العيد.
وهذا القول هو الصواب ومن رجح أنه يجوز وأنه لا دليل على المنع فمن وجهة نظري أن قوله بعيد مع ما قاله الزهري.
مسألة: هل يشمل ذلك تحية المسجد؟
الجواب: نعم. بل نص الإمام أحمد على أنه لا يصلي ولا تحية المسجد بل يأتي ويجلس بلا صلاة.
- والقول الثاني: في مذهب الحنابلة: أن تحية المسجد تستثنى.
وإلى هذا ذهب بعض محققي الحنابلة.
واستدلوا على ذلك:
- بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين.

وهذا القول الثاني: هو الصواب في مسألة تحية المسجد إذا حكمنا أن مصلى العيد مسجد.
عرفنا الآن مما نقله الزهري أن الشارع الحكيم يحب من الإنسان أن لا يصلي قبل صلاة العيد والكلام الآن في النفل المطلق أما النفل المعين فبالإجماع فليس لصلاة العيد نفلاً معيناً قبلها ولا بعدها لكن الكلام الآن في النفل المطلق فإذا أتينا مصلى العيد ووجدنا أحداً يتنفل نفلاً مطلقاً فنقول له أنت على خلاف هدي السلف .. فعلك خلاف هدي السلف لما نقله - كما تقدم - الزهري.
هذا علمنا أن الشارع الحكيم أحياناً يحب من الإنسان في بعض الأزمنة والأمكنة أن يصلي وأحياناً يحب من الإنسان في بعض الأزمنة أو الأمكنة أن لا يصلي وما ذلك إلا لتعويد النفس على الانقياد والطاعة لله في العبادة فعلاً وتركاً.
• ثم قال رحمه الله تعالى:
في موضعها.
يعني أن الكراهة تختص بموضع صلاة العيد. أما إذا أراد أن يصلي بعدها في بيته فهو جائز.
- وهو مذهب الإمام أحمد بل كان يفعل ذلك.
والدليل من وجهين:
(2/242)
________________________________________
- الوجه الأول: أنه جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع إلى بيته من صلاة العيد صلى نفلاً وهذا الحديث فيه ضعف ولكنه يسير لأن ضعفه أتى من قبل أحد الرواة الذين خف ضبطهم.
- الدليل الثاني: ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يصلي في بيته بعد صلاة العيد.
- الدليل الثالث: أن الإمام أحمد فهم من حديث ابن عباس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها أن هذا في مصلى العيد - فهم هذا الفهم.
فهذه ثلاثة أدلة كل واحد منها يقوي الآخر - أن حديث ابن عباس خاص بمصلى العيد وأثر ابن مسعود والحديث المرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته بعد صلاة العيد.
إذاً قول الحنابلة أن الكراهة تختص بمكان صلاة العيد صحيح.

ثم قال رحمه الله:
ويسن لمن فاتته ... قضاؤها على صفتها.
تقدم معنا الكلام عن حكم قضاء المنفرد لصلاة العيد وأن الجمهور في الجملة يرون مشروعية القضاء وأن الإمام أبا حنيفة وتبعه شيخ الاسلام يرون أنه لا يسن قضاء صلاة العيد - تقدم معنا هذا.
والشيء الذي ممكن أن نضيفه هنا أن نقول:
أنه صح عن ابن مسعود بإسناد صحيح جيد أنه كان يقضي صلاة العيد أربع ركعات وهو قول عند الحنابلة.
فصارت الأقوال
- تقضى على هيئتها وهو الموافق لأثر أنس الذي تقدم معنا.
- لا يسن أن تقضى.
- تقضى أربع ركعات.
والذي يظهر لي والله أعلم أن الأمر واسع وإن كان اختيار شيخ الاسلام قوي باعتبار أن هذه الصلاة شرعت بهيئة معينة مع الخطبة والجماعة ولا يوجد هذا الشيء في المنفرد وهذا القول أقعد وأقرب للنصوص لكن مع ذلك أقول الأمر فيه واسع إن شاء الإنسان أن يصليها على هيئتها وإن شاء أن يصليها أربعاً وإن شاء أن لا يصلي فالأمر فيه واسع.
• ثم قال رحمه الله
أو بعضها.
يسن لمن فاته بعض صلاة العيد أن يقضي صلاة العيد على صفتها.
ومن فاته بعضها هو: كل من أدرك الإمام قبل أن يسلم.
فكل من أدرك الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك بعض صلاة العيد فيشره له أن يقضي الصلاة على صفتها.
- لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
(2/243)
________________________________________
وتقدم معنا: هل المدرك لبعض الصلاة يعتبر ما أدرك هو أول الصلاة أو هو آخر الصلاة؟
والثمرة عندنا هنا: - إن قلنا أن المُدْرَك هنا هو آخر الصلاة فالمشروع في حقه إذا قام ليأتي بالتكملة أن يكبر ست أو يبع - حسب الخلاف السابق.
- وإذا قلنا أن ما أدرك هو الأول وما يقضي هو آخر الصلاة فالمشروع في حقه إذا قام أن يكبر خمس.
إذاً يترتب على هذا القول أشياء كثيرة جداً منها ما يتعلق بصلاة العيد.
وتقدم أن الراجح أن ما يدرك هو أول الصلاة وأن ما يقضي هو آخر الصلاة.
ثم بدأ المؤلف بموضوع آخر خارج عن مسألة ذات الصلاة وهو التكبير:
• فقال رحمه الله تعالى:
ويسن التكبير المطلق.
التكبير المطلق هو: التكبير الذي لا يختص بأدبار الصلوات بل يكون في الأسواق والطرقات والمساجد والدور وفي كل مكان.
هذا هو التكبير المطلق.
• يقول رحمه الله تعالى:
في ليلتي العيدين.
يعني: أنه يشرع في ليلة عيد الفطر وفي ليلة عيد الأضحى أن يكبر المسلم تكبيراً مطلقاً.
نبدأ بليلة عيد الفطر:
- ذهب العلماء إلى أنه يشرع للإنسان أن يكبر تكبيراً مطلقاً.
واستدلوا: بنصوص كثيرة:
- منها قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}.
فالعدة قي الآية: أي أيام رمضان ثم قفال: {ولتكبروا.
- الدليل الثاني: أنه ثبت عن ابن عمر أنه كان يكبر في ليلتي العيد.
- الدليل الثالث: أن هذا التكبير من شعائر الاسلام الظاهرة
فهذه ثلاثة أدلة تدل على التكبير المطلق ليلة عيد الفطر - ونحن الآن نتكلم حول التكبير في عيد الفطر فقط.
مسألة: ذهب الحنابلة إلى أن التكبير ليلة عيد الفطر مطلق ولا يسن أن يكبر تكبيراً مقيداً.
بناء على هذا: ما يصنعه بعض الناس اليوم في ليلة عيد الفطر - نشاهد الآن كثير من الناس بل عامة الناس إذا صلى المغرب والعشاء والفجر ليلة عيد الفطر يكبر بعد الصلاة مباشرة فهذا عمله عند الحنابلة لا يسن غير مشروع بل المشروع أن يكبر تكبيراً مطلقاً فقط.
- والقول الثاني: أنه يشرع أن يكبر تكبيراً مقيداً في ليلة عيد الفطر بل التكبير المقيد فيها يستحب أكثر من المطلق عندهم.
(2/244)
________________________________________
والراجح: أن في الأمر سعة إن شاء الإنسان أن يكبر تكبيراً مقيداً أو مطلقاً مع وجاهة وقوة ما ذهب إليه الإمام أحمد من منع التكبير المطلق ليلة الفطر لأن ظاهر الآثار اختصاص التكبير المقيد بعيد الأضحى كما سيأتينا.
إذا عرفنا الآن حكم التكبير ليلة العيد وهل يكون مطلقاً أو مقيداً؟
باقي آخر مسألة: وقت التكبير ليلة العيد.
يبدأ من مغيب الشمس ليلة العيد وينتهي بانتهاء الخطبة.
- والقول الثاني: أنه ينتهي بحضور الإمام.
إذاً الخلاف في الانتهاء لا في الابتداء.
والقول الأول في مسألة الانتهاء اختيار شيخ الاسلام.
والقول الثاني صح عن ابن عمر وهو الراجح: أنه ينتهي بحضور الإمام لأنه بحضور الإمام ينشغل الإنسان بالصلاة وسماع الخطبة.
على أن الأمر في مثل هذه الأحكام واسع ليس فيها نصوص صريحة وإنما هي آثار وشعائر عامة وليست من المسائل التي تنكر فيما لو كبر الإنسان بعد حضور الإمام.
لكن نقول: الأقرب باعتبار الآثار وصحة الفتوى عن ابن عمر أن التكبير ينتهي بحضور الإمام لا بالخطبة.
• ثم قال رحمه الله:
وفي فطر آكد.
يعني أن التكبير في عيد الفطر آكد منه في عيد الأضحى.
الدليل على أنه آكد:
- أنه نص القرآن عليه.
- والقول الثاني: أن التكبير في عيد الأضحى آكد.
لوجهين:
- الأول: أنه اختلف في مشروعية تكبير عيد الفطر ولم يختلف في التكبير في عيد الأضحى.
- الثاني: أن في عيد الأضحى تكبيراً مقيداً دون عيد الفطر.
- القول الثالث: أن كلاً منهما أرجح من جهة. فهذا أرجح من جهة النص وهذا أرجح من جهة عدم الاختلاف فيه.
وهذا هو الصواب.
مسألة: عيد النحر أفضل من عيد الفطر.
على هذا تدل عبارات السلف وهو اختيار شيخ الاسلام بل رأى أن عيد النحر أفضل أيام السنة.
فعيد النحر أعظم وأفضل وأحب إلى الله من عيد الفطر.

ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام عن التكبير في عيد الأضحى:
• فقال رحمه الله
وفي كل عشر ذي الحجة.

يعني: ويشرع التكبير المطلق في كل أيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة.
- ويبدأ التكبير عند الحنابلة من فجر أول يوم من أيام العشر وينتهي بانتهاء الخطبة يوم العيد.
والدليل على مشروعية هذا التكبير:
(2/245)
________________________________________
- قوله تعالى: { .. ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ... } [الحج/28
وابن عباس فسر الأيام المعلومات بأنها أيام العشر.
- وبقوله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله).
- وبأن ابن عمر وغيره من الصحابة كانوا يكبرون في العشر تكبيراً مطلقاً.

- والقول الثاني: أن التكبير المطلق في العشر لا ينتهي إلا بغياب الشمس من آخر أيام التشري.
استدل هؤلاء (على امتداد التكبير المطلق إلى نهاية أيام التشريق):
- بحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)
- وبقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات ... } [البقرة/184
وابن عباس فسرها بأنها أيام التشريق.
- وأن ابن عمر رضي الله عنه كان يكبر في منى في أيام التشريق ويكبر معه الناس.

فهذه ثلاثة أدلة تدل على استمرار التكبير إلى نهاية أيام التشسريق وهذا اختيار شيخ الاسلام وهو الصواب إن شاء الله.

فصار التكبير المطلق في عيد الأضحى يبدأ من دخول العشر ولا ينتهي إلا بغياب الشمس من آخر أيام التشريق وعند الحنابلة يبدأ من أول يوم وينتهي بانتهاء الخطبة.

ثم قال رحمه الله:
والمقيد: عقب كل فريضة في جماعة.
يعني: ويشرع التكبير المقيد في عيد الأضحى عقب كل فريضة في جماعة.
أولاً: التكبير المقيد هو: التكبير الذي يختص بأدبار الصلوات.
ثانياً: خصصه الحنابلة بأمرين: - الأول: أن يكون بعد الفريضة.
والثاني: أن يكون في جماعة.
- أما أنه بعد الفريضة فهذا محل اتفاق بين الأئمة كلهم إلا الشافعي فقط فإنه يرى مشروعية التكبير بعد النوافل.
والصواب مع الأئمة: لأن ظواهر الآثار أن ذلك يتعلق بالفرائض.
- وأما أنه في جماعة: فإن صلى الإنسان بمفرده فإنه لا يشرع له أن يكبر.
والدليل على هذا
- أنه صح عن الصحابة: عن ابن عمر وابن مسعود أنهم كانوا لا يرون التكبير المقيد إلا لمن صلى في جماعة.
ونحن نلتزم فتوى ابن عمر وابن مسعود لأن فهمهم مقدم على الآراء المطلقة فهم فهموا أنه مخصوص بصلاة الجماعة.
إذاً الصواب إن شاء الله مع الجماهير في أن التكبير المقيد مقيد بالفريضة وبصلاة الجماعة.
• ثم قال رحمه الله:
في الأضحى من صلاة الفجر يوم عرفة.
(2/246)
________________________________________
يبدأ التكبير المقيد بالنسبة لصلاة الأضحى من فجر يوم عرفة بالنسبة للمحل - وسيأتينا المحرم.
- وهذا هو مذهب الحنابلة كما ترون الآن وهو مذهب المالكية ونصره جداً شيخ الاسلام ابن تيمية.
واستدل على ذلك:
- بأن هذا إجماع الصحابة.
إذاً مسألة بداية التكبير من فجر يوم عرفة بالنسبة للمحل هذا محل إجماع من الصحابة وإن وقع خلاف بين الأئمة المتأخرين - أقصد: الذين في القرن الثاني والثالث. لكن يقول شيخ الاسلام أنه محل إجماع من أكابر الصحابة وهو الصواب.
فمذهب الحنابلة والمالكية واختيار شيخ الاسلام هو الصواب.

ثم قال رحمه الله:
وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر.
يعني: أن المحرم يبدأ التكبير المقيد له من صلاة الظهر يوم النحر.
- لأنه مشغول قبل ذلك بالتلبية.
وإنما علقوه بقولهم: من صلاة الظهر. تغليباً. وطردوا الحكم بمعنى: لو رمى الإنسان قبل صلاة الفجر من اليوم العاشر كما يفعل بعض الضعفة والنساء فإنهم أيضاً لا يكبرون التكبير المقيد إلا بعد الظهر.
وكذلك لو أخر أحد الحجاج الرمي إلى ما بعد صلاة الظهر فإنه يبدأ بعد صلاة الظهر.
إذاً هذا مذهب الحنابلة وهكذا يرون. يرون أنا نعلق بداية التكبير المقيد بصلاة الظهر تغليباً لأن الحجاج عامتهم سيرمون في الضحى ثم يتحللون فإذا صلى الظهر يبدأ بالمقيد وطردوا هذا في من رمى قبل وفي من رمى بعد.

- والقول الثاني: أن الحاج أيضاً يبدأ من فجر يوم عرفة لأنه لا تعارض بين التلبية والتكبير فقد نقل عن الصحابة أنهم قالوا: منا المكبر ومنا الملبي.
وفي الحقيقة مسألة بداية التكبير المقيد بالنسبة للحاج تحتاج إلى جمع الآثار أكثر فإن الآثار التي جمعت لم تسعف في تبيين الراجح في الحقيقة لكن على كل حال نقول: القول الثاني الآن باعتبار قول الصحابة منا المكبر ومنا الملبي أقرب - فالقول الثاني أقرب.
فالحاج إذا صلى الفجر يوم عرفة يبدأ بالتكبير المقيد مع استمرار التلبية ولا تعارض بين التلبية والتكبير.
وكما قلت أن المسألة تحتاج إلى جمع الآثار.

• ثم قال رحمه الله:
إلى عصر آخر أيام التشريق.
وهذا بالنسبة للمحرم والمحل. فيستمر التكبير المقيد إلى نهاية أيام التشريق كما جاء في الآثار.

(2/247)
________________________________________
ثم قال رحمه الله:
وإن نسيه: قضاه.
إذا نسي الإنسان التكبير المقيد فإنه يشرع له أن يقضيه بعد الصلاة ما لم يطل الفصل.
وهذا بلا نزاع في الجملة بين الحنابلة.
استثنى المؤلف مسألتين:
• فقال رحمه الله:
ما لم يحدث أو يخرج من المسجد.
فإن أحدث أو خرج من المسجد فإنه لا يقضي التكبير ولو كان الفصل قليلاً - ولو كان الوقت بين الترك والتذكر قليلاً.
استدلوا على هذا:
- بالنسبة للحدث: بأن الحدث يبطل الصلاة فمن باب أولى يبطل ما يتعلق بالصلاة وهو التكبير المقيد.
- وبالنسبة لمسألة المسجد: أن المسجد يختص بصلاة الفريضة فإذا خرج انقطعت توابعها ومنها التكبير.
- والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة اختاره المجد وابن قدامة.
أن الإنسان يقضي مطلقاً ما لم يطل الفصل ولو أحدث ولو خرج من المسجد.
- لأنه لا ارتباط بين التكبير والطهارة بدليل: أن التسبيح والتهليل المشروع أدبار الصلوات يندب أن يذكره الإنسان ولو خرج ولو أحدث مع أن التصاق هذا التسبيح والأذكار الخاصة بالصلاة أكبر منها بالنسبة للتكبير لأنها في كل السنة والتكبير في وقت محدد.
- ولأنه لا دليل على عدم القضاء إذا أحدث أو خرج.
فصار القول الراجح: أن الإنسان إذا نسي فإنه يقضي التكبير دائماً ولو أحدث ولو خرج إلا إذا طال الفصل.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يسن عقب صلاة عيد ..
يعني: لا يسن للإنسان أن يكبر التكبير المقيد بعد صلاة العيد.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أنه لم يأت في الآثار أن الصحابة كانوا يكبرون أدبار صلوات العيد.
- والثاني: أن الإنسان بعد صلاة العيد مأمور باستماع الخطبة فلا يشتغل بالتكبير.
• ثم قال رحمه الله:
وصفته شفعاً:.
يعني صفة التكبير المندوب إليه أن يشفعه فيقول: ((اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
جاء التكبير بصفات كثيرة هذه الصفة التي ذكرها المؤلف عليها أكثر الصحابة وجمهور العلماء.
وروي عن الصحابة صفات أخرى كثيرة كلها جائزة:
- منها: أن يكبر ثلاثاً. وفي الصف التي ذكر المؤلف يكبر مرتين.
(2/248)
________________________________________
- ومنها أن يكبر ثلاثاً فقط: أي يقول: ((اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
بدون لا إله إلا الله و: لله الحمد.
- ومنها: أن يكبر ثلاثاً ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
فصارت الصفات أربع
والذي عليه جمهور الصحابة وجمهور العلماء ما ذكره المؤلف رحمه الله:

باب صلاة الكسوف
• ثم قال رحمه الله
باب صلاة الكسوف.
ذكر صلاة الكسوف بعد صلاة العيد:
- لأن وقوعها أقل من صلاة العيد.
- ولأن مناسبة صلاة الكسوف عارضة ومناسبة صلاة العيد ثابتة.
ومعنى قوله: باب صلاة الكسوف أي: باب تذكر فيه أحكام الصلاة التي سببها الكسوف.
والكسوف في اللغة: التغير إلى السواد.
والخسوف: النقصان.
وفي الاصطلاح: تعريف الخسوف والكسوف: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه.
وله:
- أسباب حسية.
- وأسباب شرعية.
والمسلم يعنى بالأسباب الشرعية.
واختلف العلماء في مسألة الكسوف والخسوف: هل يطلق كل منهما على الشمس والقمر؟ أو يختص كل منهما بأحد النيرين؟
- فالقول الأول: أنه يختص: - فالكسوف خاص بالشمس. - والخسوف خاص بالقمر.
وإلى هذا ذهب المحققون من أهل اللغة فاختاره الفراء والجوهري وثعلب وغيرهم.
- والقول الثاني: أن كل منهما يطلق على الآخر فيجوز أن نقول: كسوف القمر وخسوف الشمس.
واستدل هؤلاء:
- بأن النصوص أطلقت الخسوف والكسوف على كل من الشمس والقمر.
فائدة: ثبت في النصوص إطلاق الخسوف والكسوف على كل من الشمس والقمر مجتمعات ومنفردات إلا شيء واحد لم يأت في النصوص وهو: إطلاق الكسوف على القمر منفرداً. فهذا لم يأت في النصوص أما ما عدا هذه الصورة فهو موجود.
• قال رحمه الله تعالى
تسن.
- ذهب الجماهير والجم الغفير وحكي إجماعاً أن صلاة الكسوف سنة.
واستدلوا على ذلك:
- بالحديث الذي تقدم معنا مراراً وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له هل علي شيء غيرهن؟ قال: لا. إلا أن تتطوع.
- واستدلوا بحديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة.
فدل الحديثان على أن ما عدا الفرائض الخمس ليس من الواجبات.
(2/249)
________________________________________
وهذا كما قلت مذهب الجماهير بل حكي إجماعاً.
- والقول الثاني: وهو رواية تنسب لأبي حنيفة ورواية تنسب لمالك وقواها ابن القيم أن صلاة الكسوف واجبة.
واستدلوا على ذلك بدليلين:
- الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (فإذا رأيتموهما فصلوا .. ) فأمر بالصلاة.
- الثاني: أن ترك الصلاة مع ما يرى الإنسان من آيات الله العظيمة فيه دليل على رقة الدين.
ونحن نقول كما قال ابن القيم القول بالوجوب قوي فهذا غاية ما يقول الإنسان.
• ثم قال رحمه الله
تسن جماعة.
لأن النبي صلى الله وسلم: لما كسفت الشمس في عهده صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد وأمر المنادي: الصلاة جامعة فدل خروجه والمناداة على أنها تشرع جماعة.
• ثم قال رحمه الله:
وفرادى.
أي أنها وإن كانت تشرع جماعة وتستحب في المساجد إلا أنه يجوز أن يصليها الناس فرادى لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فصلوا) وهذا يتناول الفرد والجماعة.

ثم قال رحمه الله:
إذا كسف أحد النيرين.
في هذا إشارة إلى وقت صلاة الكسوف. ووقت صلاة الكسوف: من حدوثه إلى انجلائه.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فصلوا حتى تنكشف) وفي رواية: (حتى تنجلي.
فدل الحديث على أن الوقت ينتهي بانجلاء هذا الكسوف.
• ثم قال رحمه الله:
ركعتين يقرأ في الأُولى جهراً.
كون صلاة الكسوف ركعتين - هذا القدر: مجمع عليه لكن اختلفوا كم ركوع في كل ركعة؟ كما سيأتينا.
قوله: جهراً.
- ذهب الحنابلة واختاره ابن حزم وشيخ الاسلام أن القراءة في صلاة الكسوف تكون جهرية.
واستدلوا على ذلك:
- بما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة.
وهذا نص في المسألة.
- وذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن صلاة الكسوف تكون سرية.
واستدلوا على ذلك:
- بما ثبت في الصحيح أن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال بقدر البقرة.
ولو كان سمع ما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدرها تقديراً ولذكر ماذا قرأ صلى الله عليه وسلم.
والجواب عليه من وجهين:
- إما أن نقول أن ابن عباس كان يصلي بعيداً لم يسمع.
(2/250)
________________________________________
- أو نقول - وهو الأقرب - أنه صلى وسمع ولكنه نسي ماذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم لكنه يذكر مقدار الطول وأنه يقارب سورة البقرة.

واستدلوا:
- بحديث عائشة أنها كانت تحرز قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت سمعت القراءة لم تحتج أن تقدر وتحرز.
والجواب عليه: أنه حديث ضعيف ويخالف ما صح عنها في المتفق عليه: أنه جهر.
والراجح: بلا إشكال أنه جهر لتصريح عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف وجهر.
ولا أدري بالنسبة للبلدان الذين يأخذون مذهب الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة هل يصلون الكسوف سرية أو جهرية؟
الآذان -.
(2/251)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ المؤلف في الكلام على صفة صلاة الكسوف. وصلاة الكسوف صار لها صفة خاصة غير معهودة في جميع الصلوات لأن سبب صلاة الكسوف أيضاً غير معهود في سائر الصلوات.
• فقال رحمه الله تعالى:
يقرأ في الأُولى جهراً بعد الفاتحة: سورة طويلة، ثم يركع طويلاً، ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة .... إلى آخر هذه الصفة المذكورة في الكتاب.
وتقدم معنا الكلام عن مسألة الجهر وبقينا في الصفة.
هذه الصفة: = ذهب إليها الإمام أحمد ومالك والشافعي واختارها شيخ الاسلام وابن القيم فكل هؤلاء ذهبوا إلى هذه الصفة التي ذكرها المؤلف.
واستدلوا:
- بأن الصحابة: عائشة وجابر وغيرهما ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا وحديثهم في الصحيحين.
فذهب هؤلاء الأئمة إلى هذه الصفة ولصلاة الكسوف صفات أخرى أشار إليها المؤلف في آخر الباب وسنتحدث عنها حين يذكرها رحمه الله.
* * مسألة: = ذهب الحنابلة إلى أنه إذا رفع من الركوع فإنه لا يطيل كما يطيل في الركوع والسجود.
واستدلوا على ذلك:
- بأن الآثار لم تذكر التطويل بعد الرفع من الركوع.
= والقول الثاني: أنه يطيل أيضاً إذا رفع من الركوع.
- لأن المعهود من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفرائض والنوافل أن تكون أجزاء الصلاة متقاربة ولا يعهد منه إطالة جزء إطالة شديدة وتقصير جزء آخر.
وإنما لم يذكر في الآثار:
- لكونه معلوماً.
(2/252)
________________________________________
- أو - وهو الجواب الثاني: لأنهم اعتنوا بذكر السجود والركوع لأنهما مقصودان أكثر من الرفع من الركوع.
والصواب مع القول الثاني - إن شاء الله -.

قوله رحمه الله:
ثم يصلي الثانية كالأُولى: لكن دونها في كل ما يفعل.
- لأن الصحابة الذين رووا لنا صفة صلاة الكسوف عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه صلى الثانية أقل من الأولى.
وقد حدد ابن عباس رضي الله عنه لنا مقدار التطويل فقال: هو بقدر سورة البقرة. وفي بعض الآثار بقدر قراءة مائة آية.
وهذا يبين أنه أطال إطالة شديدة لأن قراءة سورة البقرة في ركعة واحدة لا شك أنه تطويل شديد.
* * مسألة: ذكر المؤلف أن الصفة المرجحة في كل ركوع ركوعان. بناء عليه نقول: الركوع الذي تدرك به الركعة هو الركوع الأول دون الثاني.
فإذا دخل مع الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى لزمه بعد سلام الإمام أن يأتي بركعة بركوعين لأن الركعة الأولى تعتبر فاتت هذا المسبوق.
• ثم قال رحمه الله تعالى:
ثم يتشهد ويسلم.
يعني: أن التشهد والسلام صفتها في صلاة الكسوف كما في سائر الصلوات الفرائض منها والنوافل. وهذا لا إشكال فيه.
• ثم قال رحمه الله:
فإن تجلى الكسوف فيها: أتمها خفيفة.
يعني: إن تجلى الكسوف أثناء الصلاة فإنه ينبني على هذا حكمان:
- الأول: أنه يتم الصلاة على صفتها. فمعنى قوله المؤلف هنا: أتمها: أي: على صفتها ولو أنه قال على صفتها لكان أوضح لأن هذا مقصود الحنابلة.
- والثاني: أنها تكون خفيفة. والسبب في ذلك أن سبب الصلاة زال وإذا زال السبب شرع التخفيف.
فإن قيل: ألا يشرع قطع الصلاة إذا زال السبب؟
فالجواب: أنه لا يشرع لقوله تعالى: (ولاتبطلوا أعمالكم). بل يتمها خفيفة ,
= ومن الفقهاء من قال بل يتمها كالنفل بلا زيادة - أي بلا زيادة ركوعان.
والصواب مع الحنابلة أنه يتم الصلاة على صفتها الشرعية المعروفة لكن مع التخفيف.

ثم قال رحمه الله:
وإن غابت الشمس كاسفة .... لم يصل.

يعني إذا غابت الشمس وهي كاسفة فإنه لا يشرع في هذه الحالة أن نصلي لوجهين:
- الوجه الأول: أن الشارع الحكيم علق وجوب الصلاة برؤية الكسوف ومن المعلوم أن الشمس إذا غابت لم نر الكسوف لأن الشمس برمتها غابت.
(2/253)
________________________________________
- الثاني: أن الانتفاع بالشمس يكون بالنهار وهي سلطان للنهار فإذا غابت ذهب سلطانها وذهب مع ذلك الأحكام المتعلقة بها ومنها صلاة الكسوف.
إذاً إذا فرضنا أن الناس لم يعلموا بالكسوف إلا قرب الغروب ثم غربت فإننا نقول لا تشرع الصلاة حينئذ.

• ثم قال رحمه الله:
أو طلعت والقمر خاسف ...
إذا خسف القمر ثم طلعت الشمس والقمر خاسف فإنه لا يشرع للمسلمين أن يصلوا.
- والأدلة تماماً كالأدلة السابقة في مسألة غروب الشمس تماماً: - أولاً: لأن القمر أصبح لا يرى والحكم معلق بالرؤية.

- ثانياً: أن سلطان القمر في الليل لا في النهار فإذا خرجت الشمس صار الوقت نهاراً فلا يشرع أن يصلي الإنسان لأنه لا ينتفع بضوء القمر وليس له سلطان في النهار.

* * مسألة: فإن طلع الفجر ولم تطلع الشمس والقمر خاسف:
= فعند الحنابلة كذلك لا يصلي. - لذهاب سلطان القمر بطلوع النهار ولو لم تطلع الشمس.

= والقول الثاني: أن القمر إذا خسف وطلع الفجر قبل أن تطلع الشمس فإنه يصلي الكسوف وإلى هذا ذهب الشيخ الففيه الكبير المجد بن تيمية. وهذا هو الصواب.
- لأن المعنى الذي شرعت صلاة الخسوف لأجله موجود ولو طلع الفجر فإنا نرى القمر خاسف فيجب أن نصلي حينئذ.

ثم قال رحمه الله تعالى:
أو كانت آية غير الزلزلة: لم يصل.
إذا حدثن آية في السماء أو في الأرض فإنه عند الحنابلة لا يشرع أن يصلي الإنسان صلاة الكسوف.
فإذا هبت رياح شديدة غير معتادة أو حصلت ظلمة شديدة أو فيضانات أو براكين أو أي آية فيها تخويف فإنه عند الحنابلة لا يشرع أن يصلي الإنسان صلاة الكسوف إلا في شيء واحد وهو: الزلزلة.
- أما الدليل على أنه لا تشرع صلاة الكسوف للآيات الأخرى فهو: أن نظير هذه الآيات وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل لها.
- وأما الدليل على الصلاة في الزلزلة: فلأنه جاء بإسناد صحيح ثابت عن ابن عباس وعن حذيفة أنهما صليا صلاة الكسوف في الزلزلة.
فاستثنى الحنابلة الزلزلة لمجيء الآثار بها. على قاعدة الإمام أحمد كما تقدم التنبيه إليه مراراً.
= القول الثاني: للمالكية والشافعية. أنه لا يشرع للإنسان أن يصلي صلاة الكسوف لأس شيء سوى الكسوف والخسوف مهما كانت الآية الأخرى.
(2/254)
________________________________________
= والقول الثالث: للأحناف واختاره شيخ الاسلام أنه إذا حصلت آية في السماء أو في الأرض تخوف العبادة فإنه يشرع مطلقاً أن يصلي لها الإنسان صلاة الكسوف.
واستدل على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فصلوا واستغفروا حتى ينكشف).
قال شيخ الاسلام: فعلل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بأنها آية خوف الله بها عباده فكل آية يخوف الله بها عباده يشرع لها أيضاً صلاة الكسوف.
والراجح: القول الثالث بسبب أثر ابن عباس وحذيفة ولولا هذين الأثرين لكان قول المالكية والشافعية قوي ووجيه جداً لأنه معلوم أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حصلت آيات وأشياء خوف الله بها عباده ومع ذلك لم ينقل أن أحداً من الصحابة صلى إلا هذا الأثر عن ابن عباس وحذيفة.
فهذا الأثر يقوي أو يجرئ الإنسان على أن يقول: تصلى صلاة الكسوف لكل آية غير طبيعية - فكل آية غير معتادة يصلي لها الإنسان صلاة الكسوف.
ولولا مجيء هذين الأثرين لكان قول مالك والشافعي قوي جداً وإذا طالعت تاريخ ابن كثير فستقرأ من الآيات الكثيرة وبعضها مهول جداً ولم نسمع أنهم صلوا لها صلاة الكسوف.
لكن لما كان الأثرجاء عن ابن عباس وهو من فقهاء الصحابة وحذيفة وهو من كبار الصحابة فمثل هذا يقوي الإنسان على القول بالصلاة.
على أن عمل المسلمين الآن ويبدو لي أنه من قديم على القول الثاني على أنهم لا يصلوا أبداً إلا للكسوف أو للخسوف.
• ثم قال رحمه الله تعالى:
وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات.
ثلاث ركوعات: يعني في كل ركعة. لأنه تقدم معنا أن العلماء أجمعوا أن صلاة الكسوف ركعتان وإنما اختلفوا في نقدار الركوع في كل ركعة.
= فالقول الثاني: أن يجعل في كل ركعة ثلاث ركوعات.
- لما أخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بست ركوعات.
• ثم قال رحمه الله:
أو أربع.
- أيضاً لما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثمان ركوعات.
= وهذا هو القول الثالث.
• ثم قال رحمه الله:
أو خمس: جاز.
(2/255)
________________________________________
- لما في سنن أبي داود عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعشر ركوعات.
فصارت الأقوال مع القول الأول أربعة.
واختلف العلماء في التوفيق بين هذه الأحاديث وانقسموا إلى قسمين:
= فالقسم الأول: الذين معهم مالك والشافعي والبخاري والبيهقي وشيخ الاسلام وابن القيم وهو المعروف عن الإمام أحمد:
أن كل حديث عدا حديث عائشة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين - كل حديث عدا هذا الحديث فهو شاذ أو منكر لا يعمل به ولو كان في مسلم.
- واستدلوا على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف في حياته إلا مرة واحدة لما مات ابنه إبراهيم.
فكل هؤلاء يتحدث عن واقعة واحجة وقطعاً أن الحديث الذي في البخاري ومسلم واتفق على روايته عدد من الصحابة مقدم على هذه الأحاديث سواء كان حديث جابر أو حديث ابن عباس أو حديث أبي.

= والقول الثاني: وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة ورجحه ابن حزم وابن المنذر والخطابر وغيرهم - عدد من أهل العلم:
أنه يشرع للإنسان أن يصلي بجميع هذه الصفات فتارة يصلي بركوعين وتارة بثلاث وتارة بأربع وتارة بخمس.
والصواب مع القول الأول. وهو أنه لا يشرع أن يصلي الإنسان إلا ركعتين في كل ركعة ركوعين لأن هذا هو الثابت ولأنه لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة.
وبهذا انتهى باب صلاة الكسوف ولله الحمد ونبدأ بالباب الذي بعده.

باب صلاة الإستسقاء.
بسم الله الرحمن الرحيم.
• يقول رحمه الله تعالى:
باب صلاة الإستسقاء.
أي باب تبين فيه أحكام صلاة الاستسقاء من حيث الحكم التكليفي والكيفية وغير ذلك.
والاستسقاء: لغة: طلب السقيا.
والسقيا مفرده: سقي. والسقي هو: أخذ الحظ من الشرب.
وفي الاصطلاح: طلب إنزال المطر بصفة مخصوصة عند شدة الحاجة.
بدأ المؤلف أول ما بدأ بالأسباب الموجبة لصلاة الاستسقاء.

• فقال ر حمه الله:
إذا أجدبت الأرض وقحط المطر.
إذا أجدبت الأرض: الجدب: ضد الخصب.
والخصب هو: نموا العشب والكلأ وحلول البركة فيه.
هذا السبب الأول.
وقحط المطر: معناه: أي احتبس ولم ينزل.
(2/256)
________________________________________
والمؤلف يقول: إذا أجدبت الأرض وقحط المطر ولم يقل: أو لأن الغالب والكثير أن الجدب يكون بسبب القحط لكن لو فرضنا أنه نزل مطر ولكن مع ذلك بقيت الأرض مجدبة فهل يشرع أن يصلي الإنسان صلاة الاستسقاء؟
الجواب: نعم. لأن المقصود من نزول المطر وجود الكلأ أو العشب ولا يستفيد الناس من المطر إلا بهذا.
نعم .. للمطر فائدة أخرى وهي: أن يتجمع ليشرب منه الناس والدواب لكن المقصود الأساس لا سيما في القديم هو طلوع العشب والكلأ الذي معه تتحسن أحوال الدواب والناس.
ولذلك لو أن المؤلف رحمه الله قال: أو. لربما كان أدق لكنه لم يقل أو لأن الغالب أن القحط والجدب يتلازمان.

ثم قال رحمه الله:
صلوها.
الاستسقاء من حيث هو مشروع بإجماع أهل العلم. لكن الخلاف وقع في صلاة الاستسقاء.
= فذهب الجماهير والجم الغفير من السلف والخلف إلى أنه تشرع وتسن صلاة الاستسقاء إذا وجد سببها.
واستدلوا على هذا:
- بما جاء في الصحيحين عن عبد اله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وصلى صلاة الاستسقاء.
= والقول الثاني: لأبي حنيفة أن الصلاة لا تشرع وإنما يشرع الدعاء فقط.
واستدل على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكي إليه القحط وقلة المطر وتضرر الناس والدواب يوم الجمعة رفع يديه ودعا واستسقا ولم يخرج للصلاة.
وهذا القول في الحقيقة لا قيمة له مطلقاً كما قال كثير من الفقهاء والمحققين لأنه مصادم للنص مصادمة صريحة فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خرج وخطب وصلى فكيف نرد مثل هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم مرة دعا واستقا في الجمعة بدون خروج.
• ثم قال رحمه الله:
جماعة.
يعني: أن صلاة الاستسقاء جماعة كما سيأتينا أنه ينبغي للإمام أن يخبر الناس ليخرجوا بصفى مخصوصة سيأتي ذكرها.
• ثم قال رحمه الله:
وفرادى.
يعني: مع كون الجماعة أفضل إلا أنه يجوز أن يصلي الناس صلاة الاستسقاء فرادى.
وفي تجويز صلاة الاستسقاء فرادى نظر ظاهر لأنه لم ينقل أبداً عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسقا بالصلاة - فنحن نتحدث عن الصلاة - بمفرده بلا جماعة.
(2/257)
________________________________________
أما الدعاء فيشرع لأفراد الناس لكن الصلاة في القول بمشروعيتها لأفراد الناس نظر ظاهر والصواب أنه لا تشرع صلاة الاستسقاء إلا بالصفة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة.
• ثم قال رحمه الله:
وصفتها في مواضعها وأحكامها كعيد.
يعني: أن أحكام صلاة الاستسقاء كأحكام العيد تماماً.
- لقول ابن عباس: سنة الاستسقاء سنة العيد.
بناء على هذا: يتفرع عندنا مسائل كثيرة:
- فتشرع في الصحراء.
- ويشرع لها التكبير سبعاً وخمساً في الأولى والثانية.
- ويشرع الذكر بين التكبيرات.
- وكل ما قيل في صلاة العيد يقال هنا.
إلا أنهم استثنوا بعض المسائل وصار فيها خلاف بينهم:
- المسألة الأولى: وهي من أهم المسائل:
الوقت.
= فالحنابلة يرون أن وقت الاستسقاء وقت الأفضلية في صدر النهار كصلاة العيد ويجوز أن تؤدى بعد الزوال.
بل تجوز في كل وقت عدا أوقات النهي. فيجوز أن يصليها قبلر الزوال وبعد الزوال وفي الليل وفي النهار في كل وقت إلا في أوقات النهي.
= والقول الثاني: وهو مذهب الإمام مالك: أن صلاة الاستسقاء يبدأ وقتها من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح وينتهي بالزوال كصلاة العيد تماماً.
واستدل على هذا:
- بالأثر السابق: سنة صلاة الاستسقاء سنة العيد. وهذا يشمل الوقت.
- وثانياً: أنه لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الوقت. وكذلك الخلفاء ومن بعدهم.
وهذا القول الثاني: هو الصواب.
وتختلف صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد كما سيأتينا في أن لها خطبة واحدة ولصلاة العيد خطبتان على ما تقدم وسيأتي التنبيه إليه.
وتختلف في موضع الخطبة: ففي صلاة العيد يبدأ بالصلاة ثم الخطبة. وفي صلاة الاستسقاء سيأتينا الخلاف في هذه المسألة المهمة وسينص المؤلف على موضع الخطبة:

ثم قال رحمه الله:
وإذا أراد الإمام الخروج لها: وعظ الناس، وأمرهم بالتوبة ... إلى آخره.
إذا أراد الإمام أن يخرج فإنه يسن له أن يعظ الناس.
وعنى وعظ الناس: يعني خوفهم وذكر لهم ما يوجب رقة القلب والخشوع.
- والدليل على هذا:
- أنه ثبت بإسناد صحيح أن عمر بن عبد العزيز لما أراد أن يخرج للاستسقاء كتب خطاباً فيه موعظة إلى ميمون بن مهران رضي الله عنه.
(2/258)
________________________________________
ومعنى أن نستدل عمل عمر بن عبد العزيز أنه ليس في الباب نص مرفوع ولا أثر موقوف.
ولكن في الحقيقة عمل الإمام أن يخوفهم ويذكرهم فيه مصلحة عظيمة وهو يتوافق مع أصول الشرع لا سيما وأن مثل عمر بن العزيز بحضرة العلماء من التابعين يصنع هذا الصنع وهو الموعظة فهذا يجعل الإنسان يرى أن هذا لا بأس به ولا نقول سنة لكن نقول لا بأس به.
• ثم قال رحمه الله:
وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم.
يأمرهم بالتوية من المعاصي والخروج من المظالم لأن هذا من أسباب نزول المطر فإن الذنوب سبب لمنع القطر ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مامنع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء).
فهذا الحديث كالأصل أن كثرة الذنوب هي سبب منع القطر وإنما تضاد الذنوب بالتوبة كما الشيخ.
قوله: والخروج من المظالم: الخروج منها نوع من أنواع التوبة من المعاصي وإنما نص عليها لأن التوبة من المظالم التي بين الخلق أشد وأهم وأجب من التوبة التي بين العبد وبين ربه لأن المعاملة بين العبد والرب تدخلها المسامحة والعفو والصفح من الكريم الرحمن.
بينما المعاملة بين الخلق يدخلها الشحناء والتباغض والمنازعة فلذلك نص المؤلف على مسألة الخروج من المظالم وهذا أمر صحيح فينبغي للإنسان أذا أخذ مالاً ظلماً أو اغتاب أحداً أو قصر في عمل أن يتوب من هذا قبيل الخروج لصلاة الاستسقاء.
ومن المعلوم أنلا التوبة واجبة في كل حين ولكنها تتأكد عند الخروج لصلاة الاستسقاء.

ثم قال رحمه الله:
وترك التشاحن.
التشاحن هي: العداوة والبغضاء التي تقع بين الناسز
فيجب على الإنسان أن يترك التشاحن إذا أن يخرج لصلاة الاستسقاء.
- أولاً: أن التشاحن يولد المعاصي لأنه مع التشاحن دائماً توجد المظالم فإن الشحناء والعداوة تحمل صاحبها على ظلم أخيه.
- ثانياً: أن التشاحن والعداوات هي بنفسها من أسباب رفع الرحمة ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر أصحابه بليلة القدر رفعت لأنهم تلاحوا فيها وتنازعوا فصار التنازع هو بحد ذاته من أسباب رفع الخير.
ولذلك يندب للإنسان أن يتركه إذا أراد أن يخرج لصلاة الاستسقاء.
• ثم قال رحمه الله:
والصيام والصدقة.
(2/259)
________________________________________
يعني: أنه يستحب للإنسان في اليوم الذي يريد أن يخرج فيه لصلاة الاستسقاء أن يصوم وأن تصدق.
- أما الصوم: فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة الصائم لا ترد) وهمة إنما خرجوا ليدعوا الله فناسب أن يكونوا صائمين.
- وأما الصدقة فلأنها من أسباب جلب الرحمة.
= والقول الثاني: أنه لا يشرع على سبيل الخصوص أن يصوم أم أن يتصدق ولا يشع للإمام أن يحث الناس على أن يصوموا أو يتصدقوا لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك مع كونه خرج في صلاة الاستسقاء.
فإن قيل: مالفرق بين الصيام والصدقة ومسألة التوبة وترك التشاحن والخروج من المظالم .. إلى آخره .. فكذلك لك يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الناس بشيء من هذا؟
فالجواب: أن التوبة وترك التشاحن ودفع المظالم هذا يطلب في كل حين يطلب بأصول الشرع بخلاف الصوم فالصوم لا يمكن أن نقول يشرع أن تصوم في اليوم الفلاني بالذات إلا بدليل وكذلك الصدقة.
فافترقا من هذا الوجه.

ثم قال رحمه الله:
ويعدهم يوماً يخرجون فيه.
يعني: وينبغي للإمام أن يبين للناس اليوم الذي سبخرج فيه للصلاة لعدة أوجه:
- اولاً: حدسث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً للخروج.
- ثانياً: أنه صح عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يخبر الناس بيوم الخروج.
- ثالثاً: ليتمكن الناس من الاستعداد والإتيان بالسنن المطلوبة لصلاة الاستسقاء.
- رابعاً: حتى لا يشق على الناس ويفاجأوا بالصلاة وهم لم يستعدوا لها.
فلا شك أن هذا مندوب مستحب وينبغي للإمام أن لا يخرج لصلاة الاستسقاء إلا وقد أخبر الناس مسبقاً باليوم الذي سبخرج فيه.
• ثم قال رحمه الله:
ويتنظف.
المقصود بالتنظف هنا: أن يغتسل هذا أولاً.
ثانياً: أن يزيل عن جسده كل ما يطلب شرعاً إزالته.
= والقول الثاني: أن الاغتسال والتنظف وإزالة الشعور لا تستحب على سبيل الخصوص في صلاة الاستسقاء.
- لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ولا عن الخلفاء الراشدين ولا يجوز للإنسان أن يشرع شيئاً لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يتطيب.
(2/260)
________________________________________
والعلة في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متذللاً خاضعاً. والطيب ينافي الخضوع والتذلل.
ولذلك نقول: ينبغي للإنسان أن يخرج بلا طيب بل يخرج مع التواضع والتذلل.
هل هناك منافاة بين التذلل والخضوع والطيب؟
شيخنا رحمه الله يقول في الشرح لا منافاة.
ويقع في ذهني أنه في الحقيقة الريح الطيبة وأن يضع الإنسان أحسن ما يجد من الطيب يقع في ذهني أنه ينافي التذلل وذلك تجد دائماً مسألة التنظف ولبس الثياب الحسنة تلازم الطيب والتنظف ولبس الثياب بالإجماع ينافي التذلل.
بقينا في الطيب - المتنازع فيه - أمره سهل ولكن يقع في ذهني أنه ينافي كما قال الإمام أحمد.
والأمر في هذا واسع إن شاء تطيب وإن شاء ترك.

ثم قال - رحمه الله -:
ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً.
- لما ثبت عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج: متذللاً متواضعاً متبذلاً. هذا لفظه.
والتبذل: - كلمة متبذلاً فيما أرى تؤيد عدم وضع الطيب لأن التبذل لا يكون معه طيب وهذا اللفظ ثابت.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومعه أهل الدين والصلاح.
أهل الدين والصلاح. ينبغي للإمام أن يخرجهم معه.
والتعليل:
- أنه إنما يخرج ليدعو ويبتهل ويتضرع وهؤلاء أقرب إلى الإجابة.
وهذا صحيح. فينبغي أن يحرص على أهل الخير والصلاح الذين ترجى إجابتهم.
بدليل أن عمر بن الخطاب طلب من العباس أن يدعو فهو بذلك يرجو قبول دعوة العباس - رضي الله عنه - إما لصلاحه ودينه وإما لقربه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
• قال - رحمه الله -
والشيوخ.
المقصود بالشيوخ: كبار السن.
- لأن لهم زمناً في طاعة الله وأداء الفرائض ويروى: (خيركم من طال عمره وحسن عمله).
فيندب أن يخرج الإنسان معه الشيوخ لما ذكرت.
- ولأن غالب الشيوخ يكون معهم لين وحضور قلب وخشوع كما هو مشاهد.
• ثم قال - رحمه الله -:
والصبيان المميزون.
يندب أيضاً أن يخرجوا.
- لأنه تكتب لهم الحسنات ولا تكتب عليهم السيئات ولصفاء قلوبهم بسبب حداثة السن.
والمعنى يدور: حول مسألة إجابة الدعاء.
مسألة / يجوز أن تخرج المرأة الكبيرة: - قيل بل يستحب.
ثانياً: يكره: = عند الحنابلة أن تخرج الشابة.
(2/261)
________________________________________
قالوا - لأن المقصود في خروج الاستسقاء الخضوع وحضور القلب والبعد عن المعاصي وخروج الشابة الفاتنة ينافي هذا كله.
ثالثاً: = يجوز الخروج ببهيمة الأنعام.
= والقول الثاني: أنه لا يستحب ولا يشرع أن يخرج الإنسان ببهيمة الأنعام.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصنع ذلك مع وجود بهيمة الأنعام في المدينة وفي ما حولها. ومع كونه - صلى الله عليه وسلم - خرج خارج المدينة ليصلي فهو قريب من بهيمة الأنعام ومع ذلك لم ينقل أنه أحضرها - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا هو الصواب.
بل لو قيل أن هذا غير مشروع وبدعة لكان قريباً لكن أقسى عبارة وجدها: أنه لا يستحب.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم: لم يمنعوا.
يعني: أنه يجوز فقط ولا يستحب أن يخرج أهل الذمة.
منفردين عن المسلمين: في المكان دون الزمان.
هذا خلاصة مذهب الحنابلة.
= أنه يجوز ولا يستحب أن يخرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين بالمكان دون الزمان.
ــ أما أنه يجوز: فلأنهم من خلق الله الذين لهم رزق فإذا طلبوه قد يجابوا.
ــ وأما أنه يجوز ولا يستحب: فلأنهم من أعداء الله الذين لا يرجى أن يجابوا.
ــ وأما أنهم ينفردون بمكان: فلأنهم أهل أن يعاقبوا ويصابوا بقارعة فلأجل أن لا تصيب المسلمين فيكونوا هم بمكان والمسلمين في مكان آخر.
ــ وأما أنهم - رابعاً وأخيراً - لا ينفردون بزمان: فلأجل أن لا يمطر الناس في اليوم الذي خرج فيه أهل الكتاب دون اليوم الذي خرج فيه المسلمون فيكون ذلك فتنة لعامة المسلمين وضعفاء الإيمان فيهم.
وهذا التفصيل في المذهب كله صحيح.
= والقول الثاني: أن أهل الكتاب يمنعوا من الخروج. فإذا أرادوا أن يخرجوا منعهم الإمام.
- لأنهم ليسوا أهلاً أن يدعوا.
= والقول الثالث: أن لهم أن يخرجوا ولو في غير يوم المسلمين.
والصواب المذهب فإن التفصيل الذي ذكروه جميل جداً ويتوافق مع أصول الشرع.

ثم قال - رحمه الله -:
فيصلي بهم، ثم يخطب.
أي: أن الخطبة بعد الصلاة. عكس الجمعة. وكالعيد.
والدليل على هذا:
- أن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: سنة الاستسقاء سنة العيد. ومن ذلك موضع الخطبة.
(2/262)
________________________________________
= والقول الثاني: أن خطبة الاستسقاء قبل الصلاة كالجمعة.
وإلى هذا ذهب الإمام النسائي والحافظ ابن حزم وعدد من السلف.
الأدلة على هذا القول:
- أولاً: أنه ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ثم صلى. هذا في الصحيحين.
- ثانياً: ثبت عن عمر - رضي الله عنه - وابن الزبير ونحو عشرة من الصحابة بإسناد صحيح أنهم قدموا الخطبة على الصلاة.
- أضف إلى هذا أنهم لا يعلم لهم مخالف من الصحابة.
- ثالثاً: ثبت بإسناد صحيح عن جمهور التابعين أنهم كانوا يقدمون الخطبة على الصلاة كالجمعة.
هذا القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد.
= القول الثالث: وهو رواية ثالثة عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن الإمام: مخير إن شاء جعل خطبة قبل أو بعد الصلاة.
والصواب عندي بلا شك والذي تدل عليه النصوص التي في البخاري ومسلم وآثار الصحابة أن الخطبة قبل الصلاة كالجمعة.
فإن هذا عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل عمر وهو من الخلفاء الراشدين وعمل ابن الزبير وقد كانت له ولاية ووافقه الناس لما صنع ذلك وعمل عمر بن عبد العزيز وصلى خلفه عدد من أهل العلم من العلماء علماء التابعين.
المهم: أن هذا القول هو الصواب وأن الأمر ليس على التخيير لأن هذا عبادة إذا جاءت على وجه معين فيجب أن نلتزم. والأحاديث التي فيها تقديم الصلاة على الخطبة ضعيفة.
فالقول الأقرب والله أعلم هو أن هيئة صلاة الاستسقاء كهيئة الجمعة أي أن الخطبة قبل الصلاة.

ثم قال - رحمه الله -:
يخطب واحدة.
يعني: المشروع في الاستسقاء أن تكون خطبة واحدة.
- لأنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه خطب خطبة واحدة.
فإذاً هي تختلف عن صلاة العيد بهذه المسألة.
مسألة / ظاهر السنة أن الإمام يخطب ثم يلتفت ويدعو باتجاه القبلة ثم يحول ردائه ثم ينزل فيصلي.
هذا ظاهر السنة.
بعد أن تتبعت ألفاظ الأحاديث وجدت أن هذا هو الترتيب.
إذا صح هذا الترتيب وهو كما قلت ظاهر السنة فما يفعله اليوم بعض الخطباء من أنه بعد أن يلتفت من الدعاء وهو متوجه إلى القبلة يكمل الخطبة خلاف السنة.
(2/263)
________________________________________
وعمل الناس الآن أنه بعدما يلتفت منتهياً من الدعاء وهو مستقبل القبلة يرجع ويتم الخطبة ثم ينزل الأحاديث التي في صحيح البخاري ومسلم ظاهرها جميعاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعد أن يدعو متوجهاً إلى القبلة ينزل فيصلي ولا يتم الخطبة بعد ذلك فهذا الظاهر في الحقيقة يختلف مع عمل الناس اليوم.
فالواجب بعد الدعاء أن ينزل فيصلي اقتداءً بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
• ثم قال - رحمه الله -:
يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد.
= هذا مذهب الحنابلة أنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالتكبير كما يصنع في خطبة العيد.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنها تفتتح بالحمد لله رب العالمين. واختار هذا القول شيخ الاسلام بن تيمية.
- لأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه افتتح خطبة إلا بالحمد لله رب العالمين.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكثر فيها الإستغفار.
المندوب للخطيب أن يكثر أثناء الخطبة: من الاستغفار.
- لما ثبت في الصحيح أن عبد الله بن يزيد خطب الناس وأكثر من الاستغفار. وحضر الخطبة البراء وزيد - رضي الله عنهما -.
فهذه سنة عن ثلاثة من الصحابة أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من الاستغفار أثناء خطبة الاستسقاء.
• قال - رحمه الله -:
وقراءَة الآيات التي فيها الأمر به.
يعني: بالاستغفار.
كقوله تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه .... } [هود/3] والسبب أن قراءة هذه الآيات مناسب للحال. هكذا عللوا. والحال هو: الخضوع والاستغفار والتوبة.
وهو في الواقع مناسب للحال وإن كانت السنة ليس فيها التصريح بقراءة هذه الآيات التي تقرأ اليوم في صلاة الاستسقاء لكن هي مناسبة.
السنة فيها الاستغفار ولإن يستغفر الإنسان بلفظ آية خير من أن يستغفر بلفظ عام.
على كل حال - نقول: إن شاء الله أنه مشروع قراءة الآيات التي فيها الاستغفار أثناء خطبة الاستسقاء.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثبت في حديث أنس - رضي الله عنه - وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسناد صحيح ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا واستسقى رفع يديه.
(2/264)
________________________________________
وثبت أنه كان يرفع رفعاً كثيراً حتى يبدو بياض إبطيه.
واختلف العلماء: هل تكون كف اليد إذا رفع ليستسقي إلى السماء أو إلى الأرض؟
= القول الأول: أنها إلى الأرض بمعنى: أنه يرفع يديه حتى تكون باطن اليد إلى الأرض ... ((الأذان)).
= والقول الثاني: أنه يرفع يديه ويبالغ في الرفع وتبقى بطون اليدين إلى السماء. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وحمل الأحاديث التي فيها أنه رفع إلى أن صار باطن اليد إلى الأرض على بيان المبالغة وليس يقصد منها أن يوجه الإنسان يديه إلى الأرض.
إذاً: أراد الصحابة بيان شدة رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه.
والأقرب ما ذكره الشيخ - رحمه الله - أن المقصود بقول الصحابة - رضي الله عنهم - حتى صارت بطون اليدين إلى الأرض أي أنه بالغ في الرفع - صلى الله عليه وسلم - إلى أن وصل إلى هذا الحد.
(2/265)
________________________________________
من الأسئلة:
قال الشارح حفظه الله:
صلاة الكسوف: اخنلفوا: هل فيها خطبة أو لا؟
= القول الأول: أنه لايشرع لها خطبة وأنه إن خطب فقد أتى بأمر لا يشرع وخالف السنة.
= والقول الثاني: أن الخطبة لصلاة الكسوف مشروعة.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى صلاة الكسوف خطب خطبة عظيمة.
وهذا القول الثاني: هو الصواب لمجيء النص بذلك.

- يشترط لصلاة الاستسقاء ما يشترط لصلاة العيدين تماماً. فما قيل هناك يقال هنا.

هل تقيد خطبة الكسوف بالحاجة؟
لا تقيد. لأن الأصل التأسي ولا تعلم هل النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب لمناسبة معينة أو أنه خطب لأن هذه هي السنة. فالأصل التأسي.
(2/266)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
• قول المؤلف رحمه الله:
ويرفع يديه فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومنه: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيْثاً)) إلى آخره0
يعني أنه يستحب للإنسان أن يدعو بما جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا به.
والدليل على ذلك:
- عموم قوله تعالى: - (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) -[الأحزاب/21]
ومن التأسي به صلى الله عليه وسلم التأسي بالدعاء فينبغي ويتأكد أن يدعو الإمام بما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم.
• ثم قال رحمه الله:
وإن سقوا قبل خروجهم: شكروا اللَّه وسألوه المزيد من فضله.
إذا سقو قبل الخروج فتفصيل مذهب الحنابلة:
(2/267)
________________________________________
- أنهم إذا سقو قبل الخروج ولم يتهيأوا للخروج فإنهم لا يخرجون.
- وإن سقوا قبل الخروج بعد أن تهيأوا فإنهم يخرجون.
أما أنهم لا يخرجون فلأن المقصود من صلاة الاستسقاء حصل وإذا حصل المقصود فلا يوجد داعي لصلاة الاستسقاء.
هذا التفصيل الذي ذكرت الآن هو:
= المذهب واختيار ابن عقيل والقاضي من الحنابلة.
= والقول الثاني: أنهم إذا سقوا لا يخرجون مطلقاً.
للتعليل ذاته سواء كانوا استعدوا أو لم يستعدوا لا يخرجون.
* * مسألة: فإن سقوا بعد الخروج: صلوا بلى خلاف عند الحنابلة.
يعني: إذا استعدوا وخرجوا وأوشكوا على الصلاة ثم سقوا فإنهم يصلون بلا خلاف. ولكنهم يصلون صلاة شكر لا طلب. فيشكرون الله على ما رزقهم من هذه النعمة.
• ثم قال رحمه الله:
وينادى: ((الصَّلاَةُ جَامِعَةً)).
يعني: أنه يستحب إذا خرج الناس وقبل مجيء الإمام أن ينادى الصلاة جامعة.
- قياساً على الكسوف. بجامع: أن كلاً منهما صلاة يجتمع لها الناس.
= والقول الثاني: أنه لا يشرع أن ينادي الصلاة جامعة.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين.
وعلم من قول المؤلف: (ينادى الصلاة جامعة). أنه لا يشضرع لصلاة الاستسقاء أذان ولا إقامة. وهو كذلك. فإن صلاة الاستسقاء تصلى كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بلا أذان ولا إقامة.
• ثم قال رحمه الله:
وليس من شرطها إذن الإمام.
يعني ليس من شرط صلاة الاستسقاء أن يأذن بها الإمام بل إذا وجد السبب وهو القحط وقلة المطر صلى الناس ولو بلا إذن من الإمام.
واستدلوا: بدليلين:
- الأول: القياس على صلاة العيدين.
- والثاني: أن صلاة الاستسقاء صلاة نفل وصلاة النوافل لا يشترط لها إذن الإمام.
• ثم قال رحمه الله:
ويسن: أن يقف في أول المطر.
(2/268)
________________________________________
يسن أن يقف الإنسان في أول المطر. يعني: ويحسر عن جسده: هذا مقصود المؤلف رحمه الله فيقف ويحسر عن جسده لحديث أنس الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصابهم مطر وقف وحسر عن ثيابه قال فقلنا: لم يارسول الله قال إنه حديث عهد بربه.
ويفهم من الحديث أن الحسر لا يكون فقط عن الرأس كما يصنع كثير من الناس اليوم بل يكون عن الرأس وعن بعض أجزاء الجسد لأن الظاهر من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن بعض أجزاء الجسد كاليد أو الظهر لمن كان عليه رداء بالإمكان خلعه.
المهم أن يحرص الإنسان أن يصيب المطر بعض أجزاء الجسد مع الرأس.

ثم قال رحمه الله:
وإخراج رَحله وثيابه ليصيبها.
أي ويسن إذا نزل المطر أن يخرج الإنسان رحله.
والمقصود بالرحل هنا: الأثاث.
ويخرج ثيابه.
والمقصود بالثياب هنا: أي التي لم يلبسها مما في البيت.
فيخرج الجميع ليصيبه المطر.
واستدلوا على هذا:
- بأن ابن عباس رضي الله عنه لما نزل المطر عليهم أمر غلامه أن يصنع ذلك.
= والقول الثاني: أن هذا لا يشرع.
- أولاً: لأ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع لك. بل اقتصر على مسألة حصر الثياب عن الجسد.
- ثانياً: أن هذا الأثر أخرجه الإمام الشافعي معلقاً فلم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما.
إذاً الأقرب والله أعلم الاكتفاء بحسر الثياب عن الجسد أو الرأس.
• ثم قال رحمه الله:
وإذا زادت المياة وخيف منها، سن أن يقول: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)).
يبدو أن المحقق حصل له سبق قلم وفتح الخاء والصواب: الكسر.
إذا زادت المياه أو لم تز المياه ولكن مع ذلك خيف منها لسبب أو لآخر فإنه يشرع للإمام أن يقول: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالآكَامِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)).
هذا الحديث من قوله: الهم حوالينا إلى قوله: ومنابت الشجر حديث صحيح متفق عليه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكي إليه زيادة المطر دعا بهذا الدعاء.
(2/269)
________________________________________
قوله: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا)): يعني: حوالي المدينة. والسبب: أن نزول المطر في المناطق المجاورة للمدينة لا ينتج عنه ضرر ولا خطر على الناس مع ما فيه من مصلحة الدواب وخروج النبات. فحصلت المصلحة واندفعت المفسدة.

وقوله ((اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ ... إلى آخره. هنا تفصيل لمسألة الأشياء التي حول المدينة فهو كالتأكيد في الدعاء.
- الظراب: هي: الروابي الصغير.
- والآكام: إما أن تكون التلال. أو تكون الجبال الصغيرة.
وبهذا علمنا أن الظراب والآكام معناها متقارب لأن الروابي معناها يقارب التلال. نعم. الجبال الصغيرة تختلف في الشكل لكن بالنسبة للتلال والروابي أشكالها متقاربة.
- وبطون الأودية: أي الأماكن المنخفضة من الأرض. وتفسير الفقهاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وبطون الأودية)) بأنه الأماكن المنخفضة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد فقط بطون الأودية. يعني: لا يريد فقط المكان الذي يعتبر وادياً بل يريد أي مكان منخفض ولو لم يكن في بطون الأودية.
- ومنابت الشجر: أي أصول الشجر لتنتفع الأشجار بهذا الماء وتنتفع تبعاً لذلك بهيمة الأنعام.
• ثم قال رحمه الله:
} رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ {الآية.
يعني: ويقول هذا الدعاء.
الدليل على أنه يشرع للإمام أن يقول هذا الدعاء:
- أنه مناسب للحال.
وعلم من ذلك أنه ليس في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الدعاء فالصواب أن الإنسان إن قاله أحياناً لا بنية أنه سنة ولكن لمناسبة المقام فهو أمر حسن وهو من جملة الخطبة.
وإن قالها دائماً أو بنية أنها سنة فهو دعاء لا يشرع لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا انتهى الكلام عن كتاب الصلاة ولولا تيسير الله ورحمته وإعانته لم ينتهي هذا الكتاب ولكن نحمد الله سبحانه وتعالى أن أعان عليه ونسأله أن يعين على ما بعده من الكتب وأن يجعل ذلك كله خالصاً لوجهه الكريم.

((نهاية كتاب الصلاة - - والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))
يتبع الدرس = كتاب الجنائز.
(2/270)
________________________________________
كتاب الجنائز
قال شيخنا حفظه الله:
• قال المؤلف رحمه الله تعالى:
كتاب الجنائز
هذا الكتب يقصد به بيان أحكام المريض والميت.
وفي الحقيقة تفصيل الإسلام لمثل هذه الأمور من حيث يولد الإنسان إلى أن يدفن يعتبر من أعظم محاسن الإسلام وكثير ما يغفل المسلمون عن محاسن الإسلام.
ولذلك أنا أوصي إخواني الكرام بمسألة الإعجاز التشريعي حقيقة إذا قرأ فيه الإنسان حصل له أمران:
- الأول: زيادة الإيمان.
- والثاني: التفقه في دين الله.
قبل أسبوعين أعلنت إحدى ولايات الصين أنها لن ترقي أي موظف في الدولة إلا إذا أتى بشهادة تفيد أنه يحسن معاملة والديه فإذا لم يأت بهذه الشهادة لم يرقى وظيفياً.
لما قرأت هذا الخبر تعجبت جداً كيف أنهم لم يصلوا إلى هذا المعنى إلا بعد هذه السنين بينما القرآن والسنة مليئان بالنصوص الدالة على بر الوالدين.
فأقول أن تنظيم الإسلام لمثل هذه الأمور هذا التنظيم الدقيق العجيب المعجز يستدعي من طالب العلم الوقوف في هذا الجانب بالذات وهو الإعجاز التشريعي.
قوله: الجَنَائز: الجَنَائز لا تنطق إلا بالفتح فإن كسرت فهو خطأ - لحن.
هذا ما يتعلق بالجنائز.
والجنائز جمع جنازة. وجنازة: يجوز أن نفتح ويجوز أن نكسر.
وقيل أنها بالفتح للميت. وبالكسر للنعش.
وقيل العكس.
والجنازة لغة: اسم للميت أو للسرير الذي عليه الميت.

قال رحمه الله:
تسن: عيادة المريض.
لما كان يعرض كثيراً على الإنسان أن يمرض أراد المؤلف رحمه الله أن يبدأ ببيان أحكام المرض.
والمرض اصطلاحاً: هو اعتلال صحة الجسم.
والمقصود بالمرض في قول المؤلف: عيادة المريض. مرض الأبدان ولا يقصد مرض القلوب الذي أشارت إليه الآية في قوله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب/32] هذا المرض لا يقصد بهذا السياق.
قوله: تسن عيادة المريض.
عيادة المريض مشروعة بالإجماع لم يخالف في هذا أحد من أهل العلم.
ولكن اختلفوا في حكمها:
= فالجماهير ذهبوا إلى أن عيادة المريض سنة.
واستدلوا بأحاديث كثيرة:
(2/271)
________________________________________
- من أصحها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس) وذكر منها عيادة المريض.
- واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسبع. هكذا لفظ الحديث. وذكر منها عيداة المريض.
فدل هذا على أن عيادة المريض سنة مرغوبة للشارع.
= والقول الثاني: أن عيادة المريض واجبة - فرض عين - إذا علم الإنسان بمريض فيجب أن يزوره وإلى هذا مال البخاري قال ابن مفلح: ويحمل ذلك على الزيارة مرة واحدة.
يعني: أن الواجب الزيارة مرة واحدة.
= والقول الثالث: أن زيارة المريض فرض كفاية وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية وذهب أيضاً إليه الشيخ الفقيه ابن قاضي الجبل.
ويلحظ الإنسان أن ما اختاره شيخ الاسلام فيه توسط فإذا مرض الإنسان ولم يزره أحد من المسلمين أثم الجميع كيف وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وجعله حق من حقوق المريض.
قوله: تسن عيادة المريض.
المراد بالمريض هنا: أي مريض ومهما كان المرض. وإلى هذا ذهب الحافظ ابن حجر ولو كان يستطيع أن يقوم أو أن يخرج أحياناً.
والدليل على هذا:
- أن زيد ابن الأرقم رضي الله عنه أصيب بمرض في عينيه فعاده النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن مرض العين لا منع غالباً من القيام وقضاء المصالح.
ثم بدأ المؤلف ببيان السنن التي ينبغي أن يفعلها منن زار المريض:
• فقال رحمه الله:
وتذكيره التوبة والوصية.
يعني: ويسن لمن زار المريض أن يذكره التوبة والوصية.
أما تذكيره التوبة فلأمرين:
- الأول: النصوص العامة الدالة على وجوب التوبة.
- الثاني: تأكد هذا الأمر في حق المريض خشية أن يموت.
وأما الوصية:
- فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماحق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي به إلا كتبه).وهذا الحديث صحيح.
وحمل الفقهاء قوله ليلتين على المبالغة والتغليب.
وكونه يسن أن يذكر بالتوبة والوصية الصواب أن هذا مستحب ولا يسن لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صنع ذلك قصداً مع زيارته للمرضى من أصحابه لكنه مستحب لدلالة النصوص العامة وقواعد الشرع عليه.
ومما يسن عند زيارة المريض - مما تركه المؤلف وهو مفيد -: يسن لمن زار المريض أن يقرأ عليه لدليلين:
(2/272)
________________________________________
- الأول: أن جبريل عليه السلام زار النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى فقرأ عليه. وهذا صحيح.
- الثاني: أن أنس رضي الله عنه زار رجلاً من أصحابه وهو يشتكي فقرأ عليه. وهو صحيح.
فثبت بهذين النصين أنه ينبغي لمن زار المريض أن يقرأ عليه.
ومما يسن لمن زار المريض: أن يدخل على المريض السرور وأن يطمأن المريض وأن يتحدث معه بما يوجب انشراح الصدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار بعض أصحابه قال كيف تجدك؟ فهذا من جملة السؤال عن المريض وإدخال السرور عليه.
ومن جملة المستحبات والسنن أن يبقى عند المريض بالقدر المناسب للحال بطبيعة علاقة الزائر بالمريض وحسب طبيعة مرض المريض فأحياناً نقول ينبغي أن تطيل الجلوس وأحياناً نقول وهو الغالب ينبغي أن لا تطيل الجلوس.
ثم انتقل المؤلف للمرحلة التي تلي المرض.
• فقال رحمه الله:
وإذا نُزل به: سن.
معنى إذا نزل به يعني: إذا حضر ملك الموت.
وإنما يعرف أن المريض حضره ملك الموت بعلامات يعرف منها الخبير أن هذا الرجل يحتضر الآن وهو في السياق ولذلك روي أن سفيان الثوري لما حضرته الوفاة كان في بيت عبد الرحمنن بن مهدي فمسه عبد الرحمن فوجده حار فقال كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: أرجو أن تخرج النفس رشحاً ثم قال: ويلي ثم غشي عليه فلما غشي عليه بقي قليلاً ثم أفاق ثم قال لعبد الرحمن بن مهدي: نادي حماد بن سلمة فإني أحب أن يحضر مصرعي فخرج عبد الرحمن بن مهدي وقال لحماد إن أبا عبد الله في النزع يناديك فخرج حماد بإزار دون رداء ونسي نعله وخرج مسرعاً ولم يغلق الباب وجاء مسرعاً فلما دخل وجد أن سفيان الثوري أغمي عليه فظن أنه مات ثم أفاق فقال سفيان الثوري: لقونني - لاحظ ثبات هذا الإمام - لا إله إلا الله. ثم الفت إلى حماد فقال: وهذا الشاهد - أي حماد اتق مصرعي هذا ثم قضى رحمه الله.
فإنما علم عبد الرحمن بن مهدي بأنه حضر بالعلامات والسياق.
• قال رحمه الله:
تعاهد بل حلقه بماء أو شراب.
يعني ويسن إذا نزل به تعاهد بل حلقه ... إلى آخره.
يسن أن يلي الميت من أهله من يتصف بصفتين:
- الأولى: أنه أرفق أهله به.
- والثانية: أن يكون أتقاهم.
فإذا وجدت الصفتان في رجل فينبغي أن يكون هو من يلي الميت.
(2/273)
________________________________________
فإذا وليه ينبغي أن يتعاهده بأمرين:
- أولاً: بل حلقه بماء أو شراب.
- والثاني: وندى شفتيه بقطنه.
يعني أنه ينبغي عليه أن يرطب حلقه بقطرات من الماء وأن يندي شفتيه وعللوا ذلك بأمرين:
- الأول: أن في هذا تخفيفا للكرب عن الميت.
- والثاني: أن في هذا إعانة له ليتشهد الشهادتين.
وعلم من هذا أنه لا يوجد دليل نصي على أن هذا من السنن التي تفعل عند المحتضر لكن سيأتينا قاعدة عظيمة جداً وجيدة ذكرها الإمام الشافعي بعد أن ننتهي من هذه السنن.
• ثم قال رحمه الله:
ولقنه ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)) مرة.
السنة أن يلقنه لا إله إلا الله.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله).
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
فإذاً تلقين الميت سنة ثابتة في الحديث الصحيح لا إشكال فيها.
• ثم قال رحمه الله:
مرة ولم يزد على ثلاث.
يعني أنهخ يلقنه مرة إلى ثلاث ولا يزيد عن الثلاث لأن لا يضجر الميت من التكرار بلا إله إلا الله ..
= والقول الثاني: أنه لا يشرع أن يلقن إلا مرة واحدة فقط ولا يزيد إلا في حالين:
- إذا لم يستجب.
- أو إذا تكلم بعدها كما سيأتينا.
فإذا لم يستجب أو تكلم بعد أن نطق بالشهادة فإنا نكرر عليه.
أما إذا قيل له: قل لا إله إلا الله فقال: لا إله إلا الله فإن الصواب أنه لا يشرع أن نكررعليه لأنه لا فائدة من هذا التكرار وقد يضجر ويتكلم بالكلمة التي تكره.
فإذا قال لا إله إلا الله نكتفي بذلك.
ولذلك روي أن رجلاً حضر عبد الله بن المبارك عند الموت فقال له قل: لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله فقال: قل لا إله إلا الله قال: إذا قلت لا إله إلا الله فلا تكرر علي فإنما أنا عليها ما لم أغير.
وصدق رحمه الله إذا قال الميت: لا إله إلا الله فعلام يكرر عليه.
وهذا القول الثاني: هو قول عند الحنابلة وهو الصواب أنه يكتفى بمره إذا استجاب الميت.
وهل معنى قول المؤلف رحمه الله لقنو أن نقول: قل لا إله إلا الله أو أن نقول: لا إله إلا الله فيسمع ويفهم المراد؟
(2/274)
________________________________________
الحقيقة الأمر واسع. لكن فيما أرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لقنوا) هذا الشيء الأول. فهذا يؤيد أن نلقن ونقول: قل لا إله إلا الله.
الشي الثاني: أن الميت قد لا يلاحظ أو يفهم إذا قلت أنت لا إله إلا الله أنك تريد أن يسمع فيقول بينما إذا سمعك تقول: قل. استجاب.
وبالإمكان أن نجمع بين القولين فنقول: أنت قل عند الميت: لا إله إلا الله. فإن استجب فالحمد لله. فإن لم يستجب فقل له: قل لا إله إلا الله.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ أن يتكلم بعده: فيعيد تلقينه برفق.
إذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنا نرجع ونلقنه.
والتعليل: - ليكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله.
• ثم قال رحمه الله:
ويقرأُ عنده ((يس)).
أي يشرع ويسن أن يقرأ عند الميت بسورة يس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا على موتاكم يس).
وهذا الحديث ضعيف ضعفه الإمام الدارقطني وابن القطان.
والمقصود بموتاكم هنا: المحتضر وليس من في القبر فهو أطلق على المحتضر باعتبار ما سيؤول إليه.
= القول الثاني: أنه لا يشرع أن نقرأ يس ولا غيرها من السور كالفاتحة ولا غيرها لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك.
إذاً الصواب أن هذا ليس بسنة.
• ثم قال رحمه الله:
ويوجهه إلى القبلة.
أي ويسن أن يوجه الميت إلى القبلة.
واستدلوا على هذا بأحاديث:
- أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً).
- ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المجالس ما استقبلت به القبلة).
وهذان الحديثان ضعيفان.
= والقول الثاني: أنه لا يوجه الميت إلى القبلة وإنما يترك على حاله.
وإلى هذا ذهب التابعي الجليل سيد التابعين سعيد بن المسيب.
والراجح والله أعلم أنه يوجه.
والدليل: - أنه جاء بإسناد صحيح ثابت عن عطاء وعن الحسن أنهم قالوا: كانوا يستحبون التوجه إلى القبلة.
ومعلوم أن مثل هؤلاء من التابعين الكبار إذا قالوا: كان يستحب فإنما يقصدون الصحابي بل إن عطاء لما سأل عن توجيه الميت إلى القبلة قال: سبحان الله وهل يترك هذا أحد؟.
(2/275)
________________________________________
ففي الحقيقة كون مثل عطاء والحسن يصح عنهما أنهم نشأوا والسنة المعروفة بين الصحابة توجيه الميت إلى القبلة يجعل الإنسان يرى أن هذا مشروع ومستحب إن شاء الله.
- بقينا في مسألة:
* * كيفية توجيهه إلى القبلة: أكثر النصوص عن الإمام أحمد أن الميت يوضع على شقه الأيمن باتجاه القبلة كحال الميت في القبر.
= والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة. أنه يجعل على ظهره وتجعل الرجلين باتجاه القبلة ويرفع رأسه قليلاً.
ومما يرجح القول الثاني: سهولة صنع ذلك بالميت. فإنك إذا تصورت أنت الميت على فراش الموت وهو يتألم من الصعوبة بمكان أن تجعله على شقه الأيمن لكن أن يجعل على ظهره وتوجه الرجلان إلى القبلة فهذا أمر سهل.
فإذا استطاع الإنسان أن يجعله على شقه الأيمن فهو أحسن وإلا فيجعله على ظهره مستلقياً ويرفه رأسه قليلاً باتجاه القبلة.
وبهذا انتهى من المرحلة الثانية وهي: ما يكون في سياق الموت.
ثم انتقل انتقالاً طبيعياً إلى ما بعد الموت.
• فقال رحمه الله:
فإذا مات سن: تغميضه.
أي أنه يسن أول ما يموت الميت أن يقوم من عنده بتغميض عينيه لدليلين:
- الأول: أنه ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وجلس عنده فلما توفي شخص بصره إلى السماء فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم عينيه.
فهذا نص صريح بأن إغماض العينين سنة.
- الثاني: أن بقاء العين مفتوحة فيه تشويه لمنظر الميت.
• ثم قال رحمه الله:
وشد لحييه.
يعني أن يضم الفك الأسفل إلى الأعلى مربوطاً.
وعللوا استحباب هذا الأمر بأمرين:
- أولاً: لأن لا يدخل مع فمه هواء.
- ثانياً: أن لا يدخل الماء أثناء غسل الميت.
• ثم قال رحمه الله:
وتليين مفاصله.
يعني ويستحب لمن حضر الميت إذا مات أن يلين مفاصله.
- ليسهل تغسيله.
وتليين المفاصل يكون بثني اليد ثم إرجاعها كما كانت وثني الرجل ثم إرجاعها كما كانت.
• ثم قال رحمه الله:
وخلع ثيابه.
أي: ويشرع أن يخلع ثياب الميت لأن بقاء الثياب على الجسد يزيد من حرارة الجسم مما يؤدي إلى سرعة فساد الميت.
• ثم قال رحمه الله:
وستره بثوب.
أي: ويشرع أن يغطى جميع جسد الميت بثوب من الرأس إلى القدمين.
والدليل على هذا:
(2/276)
________________________________________
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات سجي بثوب حبر. وكانت من الثياب التي يحبها النبي صلى الله عليه وسلم فغطي تغطية كاملة.
ويستثنى من هذا إذا كان الميت محرماً فإنه لا يغطى رأسه.
فهذه سنة ثابتة.
• ثم قال رحمه الله:
ووضع حديدة على بطنه.
هذا مستحب بالنسبة للميت لأمرين:
- أولاً: أن مولى لأنس رضي الله عنه مات فأمر بوضع حديدة على بطنه.
- ثانياً: أنه لو لم توضع لا نتفخ البطن.
• ثم قال رحمه الله:
ووضعه على سرير
يعني: ويستحب أن يوضع الميت على سرير ولا يترك على الأرض لأن وضعه على السرير أحفظ لجسده من وضعه على الأرض. فقد يتأذى من رطوبة الأرض أو من الهوام.

ثم قال رحمه الله:
غسله: متوجهاً منحدراً نحو رجليه.
يعني: أن يوضع على السرير بحيث يرتفع الجزء الأعلى من جسده وينخفض الجزء الأسفل من جسده.
وعللوا ذلك:
- بأن هذا يسهل ذهاب الماء أثناء الغسل وعدم بقائه تحت جسد الميت.
- وأيضاً خروج الفضلات وذهابها فلا تبقى تحت جسد الميت.
نرجع الآن إلى الأمر التي لم تأت في السنة الصريحة وهي:
- شد اللحيين.
- وتليين المفاصل.
- وخلع الثوب
- ووضع الحديدة.
- ووضعه على سرير.
هذه الخمس لم تأت في السنة إنما جاء في السنة الستر بالثوب وتغميض العينين.
وذكر الشافعي رحمه الله قاعدة في هذه الأمور: يقول: ((إنه مهما أمكن أن نصنع للميت ما يفيده فإنه لا بأس بذلك)).
يعني: أن كل عمل هو من مصلحة الميت لا بأس أن نفعله.
وقول الشافعي: لا بأس بذلك: دليل على أن هذه الأعهمال ليست سنن وإنما مستحبة فقط وجائزة.
فقول المؤلف: إذا مات سن أن يفعل كذا وكذا ليس بصحيح فإن هذه ليست سنن وإنما هي مستحبات دلت عليها القواعد العامة والتي تدل على أنه يستحب أن نحافظ على الميت وعلى جسده وعلى حرمته وعلى شكله أكثر ما نستطيع.
فإذاً نقول هذه الأشياء وغيرها مما يمكن أن يصنع من مصلحة الميت فإنه يستحب أن يصنع به.
من ذلك: مثلاً في وفتنا هذا: وضع الميت في الثلاجة فإن هذا من أعظم ما يحافظ به على جسد الميت فإذا كانوا هم يقولون يوضع على السرير ويوضع عليه حديده ويلين ... إلى آخره كل هذه الأمور وأكثر من هذه الأمور تحصل إذا وضعناه في الثلاجة.
(2/277)
________________________________________
فنقول: يستحب المبادرة بوضع الميت في الثلاجة بشرط التأكد التام من مسألة أنه توفي وأنه لم يكن مغمى عليه فقط.

ثم قال رحمه الله:
وإسراع تجهيزه.
يعني ويستحب أن يسرع في تجهيز الميت قدر الإمكان بلا مشقه.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم أسرعوا بها فإن كانت صالحة فإلى خير تقدمونها إليه وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
وإّا كان الشارع الحكيم أمر بالإسراع الجنازة أثناء التشييع فمن باب أولى أن نسرع بها في التجهيز.
فإذاً لا ينبغي أبداً التأخير في مسألةتجهيز الميت والذي سيبين لنا المؤلف كيفية تجهيزه لكن الآن الذي نحتاج أن نفهمه هو أنه يستحب المبادرة الإسراع بتجهيزه.
• قال رحمه الله:
إن مات غير فجأة.
يعني إذا مات على إثر مرض وعلم موته يقيناً فيسرع به.
وأما إن مات فجأة فلا يستحب أن يسرع به خشية أن يكون مازال حياً.
ومن المعلوم أنه في وقتنا هذا يكاد هذا المحذور قد زال لأن التأكد من موت الميت الآن أصبح ميسوراً وأشبه ما يكون على وجه القطع ولذلك لم نسمع أبداً أن الأطباء حكموا عهلى شخص بالموت ثم تبين أنه ما زال حياً إلا في مسألة واحدة هم ما زالوا يقولون أنه ميت والآخرون يقولون أنه حي وهو الشخص الذي مات دماغه وصارت أعضؤه تعمل على أجهزة خارجيه فالقلب يعمل على جهاز والرئة على جهاز والكلية على جهاز لكن المخ توفى دماغياً هذا الشخص الأطباء يعتبرونه أنه ميت ومن الناس من ينازع في هذا ويقول أنه ما زال حياً.
فهذا نستثنيه من البحث.
فمن مات موتاً طبيعياً فإن لم نسمع أن الأطباء حكموا عليه أنه مات وتبين أنه حي مما يدل على أنه أشبه ما يكون بالمقطوع به أن حكم الأطباء على شخص بالموت أنه ميت.
إذا ثبت ذلك فنقول: ينبغي الإسراع في وقتنا هذا بتجهيز الميت مهما كان موته فجأة أو على إثر مرض.

ثم قال رحمه الله:
وإنفاذ وصيته.
يعني ويتحب الإسراع بإنفاذ الوصية.
ولذلك كان يجدر بالمؤلف أن يقول والإسراع بإنفاذ الوصية لأن هذا هو المستحب أما إنفاذ الوصية فهو واجب.
وهو يقول في صدر هذه الجملة: فإذا مات سن. فصارت العبارة فإذا مات سن إنفاذ وصيته وهذا ليس بصحيح بل المسنون هو الإسراع.
(2/278)
________________________________________
وتعليل: أن الإسراع في إنفاذ الوصية مستحب هو أن هذا أسرع في حصول الأجر لهذا الميت.
• ثم قال رحمه الله:
ويجب في قضاء دينه.
يعني: ويجب الإسراع في قضاء الدين.
لوجهين:
- الأول: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه).
- والثاني: أن الدين من حقوق العباد التي يجب الإسراع بأدائها.
فإذاً: الصواب كما قال المؤلف أن قضلء الدين واجب على لاالفور ولا يستحب فقط بل يجب والله أعلم .... ((الأذان)) ...
انتهى الدرس
(2/279)
________________________________________
فصل
[في غسل الميت وما يتعلق به]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فبدأ المؤلف بالكلام عن غسل الميت وما يتعلق به من أحكام وكيفية ... إلى آخره.
فبدأ ببيان حكم تغسيل الميست وتكفينه ... إلى آخره.
• فقال رحمه الله:
غُسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه: فرض كفاية.
ـ غسل الميت وتكفينه فرض كفايه لدليلين:
- الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته ومات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين).
- الثاني: الإجماع.
بناء على هذا إذا لم يغسل الميت من أهله وجب على غيرهم أن يغسلوه فإن لم يغسله أحد من المسلمين أثموا جميعاً وهذا معنى كونه فرض كفايه.
إذاً تبين معنا الآن حكم الغسل والتكفين.
• ثم قال رحمه الله:
والصلاة عليه.
الصلاة عليه أيضاً فرض كفاية فإن لم يصلوا عليه أثموا جميعاً.
[لدليلين:
- الدليل الأول]: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي غل في الحرب لما أراد أن يصلي عليه ترك الصلاة عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (صلوا على صاحبكم) وهذا أمر.
- والدليل الثاني: الإجماع. فقد أجمعت الأمة على أن الصلاة على الميت فرض كفاية.
• ثم قال رحمه الله:
ودفنه.
أيضاً الدفن فرض كفاية.
لعدة أدلة:
- الدليل الأول: - وهو أقوى الأدلة - الإجماع.
- الدليل الثاني: قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس/21]. فامتن الله على عباده بالدفن.
(2/280)
________________________________________
- الدليل الثالث: لأن لا يتأذى به الناس من جهة ولأن لا تهتك حرمة هذا الميت من جهة أخرى.
فثبت بهذه الأدلة أن دفن الميت فرض كفاية فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى فإن تركوها أثموا.
ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام التفصيلي على مسألة الغسل بالذات لأن الفصل مخصص للغسل وسيخصص فصلاً آخر للتكفين والصلاة ... إلى آخره.
• قال رحمه الله:
وأولى الناس بغسله: وصيه.
(الناس: مضبوطة بالضم عندكم [طبعة الهبدان ص 125] وهي بالكسر).
معنى أولى الناس يعني: أحق الناس بغسل الميت من سيذكرهم المؤلف رحمه الله.
= أحق الناس بالغسل عند الحنابلة: الوصي.
فإذا وصى الميت أن يغسله فلان فهذا أحق الناس وأولى من والد المتوفى وابنه وأخيه وكل الناس.
وهذه من مفردات مذهب الإمام أحمد.
واستدل بدليلين:
- الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته. وهذا مرسل لكن مقبول في هذا الباب.
- الثاني: أن أنس رضي الله عنه أوصى أن يغسله ابن سيرين رحمه الله. وهذا إسناده صحيح.
وبهذا استدل الإمام أحمد وهناك تعليل وهو:
- أن الميت لم يوص إلا بمن يرى أنه سيقوم بالأمر على الوجه الأكمل.
= القول الثاني: مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي - الجمهور أن العصبات مقدمون على الأوصياء.
واستدلوا على هذا بأنهم:
- أولى وأحق بالصلاة فكذلك بالغسل.
والصواب مع الإمام أحمد لأنه يستدل بآثار عن الصحابة وأولئك يستدلون بعلل والعلل لا ترد الآثار الصحيحة. نعم مسألة أثر أبي بكر رضي الله عنه مرسل لكن المراسيل في مثل هذا الباب مقبولة إن شاء الله.
• ثم قال رحمه الله:
ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته.
= ترتيب الأحق بغسل الميت عند الحنابلة كما ذكره المؤلف - على ثلاثة جهات.
- الجهة الأولى: الأبوة. يعني: الأب وإن علا.
- والجهة الثانية: - لم يذكره المؤلف فكان من الأنسب كغيره من الحنابلة أن يقول: ثم أبوه ثم جده ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب - نقول: البنوة: الابن وإن نزل.
- الجهة الثالث: باقي العصبات.
ومن الطبيعي أنا سنبدأ بباقي العصبات بمن: بالأخ.
وترتيب باقي العصبات حسب ترتيبهم في الإرث.
دليل الحنابلة على تقديم الأبوة على البنوة:
(2/281)
________________________________________
- أن الأب في العادة أكثر شفقة من الإبن ولذا قدم.
= القول الثاني: أن البنوة مقدمة على الأبوة فالابن أحق من الأب فابن الميت أحق من أبيه في غسله.
= القول الثالث: أن البنوة مقدمة على الجد فقط دون الأب.
= القول الرابع: أن الزوجين يقدمان على غيرهما فإذا مات الزوج فالزوجة أحق من غيرها وإذا ماتت الزوجة فالزوج أحق من غيره وهذا مذهب المالكية. ويظهر لي والله أعلم أن هذا المذهب قوي جداً وأن الزوج مقدم في غسل الزوجة على أبيها وابنها وأخيها وأمها وكل الناس.
لماذا؟ التعليل من وجهين:
- الأول: أنا وجدنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى على زوجته.
- الثاني: أن عائشة رضي الله عنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه مع أن الذي تولى غسل النبي صلى الله عليه وسلم من العصبات علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
- ثالثاً: أن الزوج اطلع من زوجته والزوجة اطلعت من زوجها على ما لم يطلع عليه غيرهما في الحياة.
ولذلك أقول أن هذا القول وجيه جداً وإن كان لم يقل به إلا المالكية من بين المذاهب الأربعة.
عرفنا الآن كيفية ترتيب الأحق بالغسل عند الحنابلة وعند غيرهم.
• ثم قال رحمه الله:
ثم ذووا أرحامه.
ذووا أرحامه هم: كل قريب لا يرث فرضاً ولا تعصيباً كالجد من جهة الأم والخال والعم من جهة الأم وكل قريب لا يرث لا فرضاً ولا تعصيباً. فهؤلاء يقدمون على غيرهم إذا لم يوجد من ذكر أولاً ولهذا عبر بقوله: ثم ذووا أرحامه.
وبهذا عرفنا أن بعد ذوي الأرحام يتساوى الناس فلا أحد أحق من أحد.
= والقول الثاني: أنه بعد ذوي الأرحام الأصدقاء.
ومن خلال ما سبق عرفت أن مقصود الفقهاء في الترتيب ينبني على مسألة الأكثر شفقة ولهذا ذكروا الأصدقاء.
فالضابط الذي في الحقيقة تدور عليه المسألة من أكثر شفقة مِن مَن؟
• ثم قال رحمه الله:
وبأُنثى: وصيتها.
تقدم الكلام على الوصي والخلاف بين الحنابلة والجمهور في مسألة تغسيل الرجل فكذلك هنا.
• ثم قال رحمه الله:
ثم القربى فالقربى من نسائها.
بناء عليه أحق الناس بغسل المرأة: أمها ثم ابنتها ثم أختها وهكذا حسب ترتيبهم في الميراث.
(2/282)
________________________________________
وعرفنا مما ذكره المؤلف أنه ليس للشخص أن يغسل أمه ولا أخته وسيأتي التصريح بهذا في كلام المؤلف.
• ثم قال رحمه الله:
ولكل واحد من الزوجين: غسل صاحبه.
يعني: ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يغسل الآخر إذا مات أحدهما.
فذكر المؤلف مسألتين:
- المسألة الأولى: غسل الزوج لزوجته.
- والمسألة الثانية: غسل الزوجة لزوجها.
نبدأ بالمسألة الأولى: غسل الزوج لزوجته:
= ذهب الجمهور إلى جواز أن يغسل الزوج زوجته إذا ماتت.

واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: (ما ضرك لو مت فغسلتك وكفنتك وصليت عليك).
- الثاني: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تولى غسل فاطمة رضي الله عنها
وهي نصوص ريحة كما ترى وقوية جداً.
= القول الثاني: أنه لا يجوز للزوج أن يغسل زوجته.
- لأنه لو شاء لتزوج أختها. فدل على أن العلاقة انتهت بالموت وصارت أجنبية ولا يجوز للإنسان أن يمس الأجنبية.
ونلاحظ أن الأحناف وهم أصحاب هذا القول أيضاً قابلوا الآثار الصحيحة بعلل وأدلة عقلية.
ولذلك الراجح هو القول الأول بلا إشكال إن شاء الله.
وتغسيل علي لفاطمة صحيح ثابت بإسناد صحيح.
المسألة الثانية: تغسيل الزوجة للزوج. هذا حكي فيه الإجماع ممن حكاه: ابن المنذر بل حكاه الإمام أحمد نفسه فقال رحمه الله: لا أعلم الناس يختلفون فيه.
لكن الواقع أن في المسألة خلاف.
= فالقول الأول وحكي إجماعاً الجواز. كما سمعت.
واستدلوا:
- بقول عائشة رضي الله عنها: لو استقدمت من أمري ما استأخرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه.
- وبأن زوجة أبي بكر رضي الله عنه غسلته بوصية منه رضي الله عنه.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز للزوجه أن تغسل زوجها. والغريب أنه رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض الفقهاء مع أنه حكى الإجماع.
فربما نقول أن الإمام أحمد رحمه الله في الأول علم أن المسألة إجماع ثم تبين أن فيها خلاف فصار له رواية في المسألة أو أن نقول أن الرواية الثانية لا تصح عن الإمام أحمد رحمه الله وإلا لا يمكن أن الإمام أحمد يحكي الإجماع ثم يكون له فيها قول إلا على أحد التخريجين الذين ذكرتهما.
واستدل هؤلاء:
(2/283)
________________________________________
- بأن الموت فراق كالطلاق فلا تغسل الزوجة زوجها.
والصواب القول الأول بلا إشكال إن شاء الله.

ثم قال رحمه الله.
وكذا سيد مع سريته.
يعني: أنه يجوز للسيد أن يغسل أمته وللأمة أن تغسل سيدها.
واستدلوا على ذلك:
- بأن الأمة فراش للزوج فهي كالزوجة تماماً بل هي أولى من الزوجة لأن الحنابلة يرون أنه يجب على الزوج أن ينفق على الزوجة في التكفين والغسل ولا يرون أنه يجب عليه أن ينفق على ... فهي أولى بالعلاقة بعد الموت من الزوجة فالقياس قياس أولوي.
• ثم قال رحمه الله:
ولرجل وامرأة: غسْل من له دون سبع سنين فقط.
يعني أنه يجوز للمرأة أن تغسل الطفل ويجوز للرجل أن يغسل الطفلة.
نبدأ بالمسألة الأولى:
يجوز للمرأة أن تغسل الطفل فهذا محل إجماع لم يختلفوا فيه.
لكن اختلفوا في حد هذا الطفل - إلى متى يجوز للمرأة أن تغسل الطفل؟
= فالحنابلة يرون أنه إلى سبع فإن تم سبع سنوات لم تغسله. لأنه يقول من له دون سبع.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الصلاة بسبع فقال: (مروهم بالصلاة لسبع). فعلمنا أن الشارع يعلق بعض الأحكام على سن السابعة.
= القول الثاني: للشافعية. أنه يختص بالفطيم - من فطم قريباً -.
= والقول الثالث: من له أربع أو خمس سنوات.
وكما ترون أقوال بلا أدلة وبلا مستند واضح وإنما هي تفقهات وإذا كانت المسألة تفقهات نحن نقول مذهب الحنابلة هو أقوى الأقوال لأنه على أقل تقدير أخذ الحد من نظير جعل الشارع الأحكام تترتب عليه وهو وجوب الصلاة فلأن ننظر بهذا خير من أن نحكم بسن بلا أي دليل وإنما مجرد تعليلات.
المسألة الأخرى: تغسيل الرجل للطفلة:
هذا فيه خلاف:
= فالحنابلة يرون: أنه يجوز له أن يغسل الطفلة ما لم تبلغ سبع سنوات. هذا هو القول الأول.
= القول الثاني: التوقف. وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله. فتوقف في المسألة وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله إذا توقف دليل على وجود إشكال قوي في المسألة أوجب للإمام أحمد أن يتوقف.
= القول الثالث: أنه لا يجوز مطلقاً للرجل أن يغسل الطفلة. وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختيار ابن قدامة.
واستدل على هذا القول:
(2/284)
________________________________________
- بأن عورة المرأة أغلظ وأفحش من عورة الرجل وقد جرت العادة أن المرأة تقوم على الطفل بالعناية والتنظيف ولم تجر العادة أن الرجل يقوم على الطفلة بالعناية والتنظيف. بناء عليه يقول لا يجوز للرجل أن يغسل الطفلة مطلقاً.
وهذا هو الراجح أنه لا يجوز للرجل أن يغسل الطفلة فمذهب المالكية الذي ذهب إليه أحمد في رواية ورجحه ابن قدامة في الحقيقة قوي ووجيه فيما أرى.
تنبيه: قال النووي رحمه الله: أن تغسيل الرجل للطفلة والمرأة للطفل يجوز ما لم يبلغا حداً يشتهيان فيه. فما دام الطفل لا يشتهى من المرأة والطفلة لا تشتهى من الرجل فمادام هذا الوصف موجود فيجوز وإلا فلا.
فجعل الضابط ليس من جهة السن وإنما من جهة وجود الشهوة أو عدم وجود الشهوة.
هذا القول في الحقيقة قول يلي القول الأخير في القوة فهو وجيه وفيه في الحقيقة تعليق بمعنى اعتاد الشارع أن يعلق عليه الأحكام وهو وجود الشهوة ومظنة وقوع المفسدة.
فنجعله كقول ثاني بعد قول المالكية.
نرجع إلى مسألتنا التي أشرنا إليها: فيفهم من قول المؤلف: ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين أنه لا يجوز للرجل أن يغسل أمه ولا أخته ولا عمته ولا خالته يعني لا يجوز له أن يغسل النساء ولو كن محارم. ولا يجوز للمرأة أن تغسل أباها ولا أخاها ولا أي رجل ولو كان من المحارم. هذا أحد قولي الفقهاء وهو قول صحيح ففيما أرى أنه قول وجيه لأنه لا يناسب أن تغسل المرأة الرجل ولو كان من محارمها بل يتولى غسل الرجال الرجال وغسل النساء النساء.
ويستثنى من هذا فقط الزوجة والزوج ومن له دون سبع سنوات فيما عدا هذا فلا يجوز.
= والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يغسل محارمه من الرجال والنساء ويجوز للمرأة أن تغسل محارمها من الرجال والنساء ولكن هذا القول ضعيف في الحقيقة ويؤدي إلى مفاسد.

ثم قال رحمه الله:
وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يمم كخنثى مشكل.
أو عكسه: أي ماتت امرأة بين رجال.
هذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا ماتت المرأة بين الرجال.
والمسألة الثانية: إذا مات الرجل بين النساء.
والمسألة الثالثة: إذا مات الخنثى المشكل.
في هذه الثلاث مسائل يقول المؤلف: ييمم ولا يغسل.
(2/285)
________________________________________
وطريقة التيمم أن يضرب الإنسان المسلم العاقل يده بالتراب ثم يمسح بها وجه الميت وكفيه.
وعلم من هذا أنه ليست الطريقة أن يأخذ كفي الميت ويضرب بهما التراب وإنما يضرب هو التراب بيديه وييمم الميت.
الدليل على هذا:
- ما رواه مكحول مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ماتت المرأة مع الرجال أو مات الرجل مع النساء يمما ولم يغسلا).
= القول الثاني: أنه في هذه الصورة يدفن الميت بلا تيمم ولا غسل وإنما يدفن مباشرة.
= القول الثالث: أنه يغسل من خلف القميص. - يعني: المرأة إذا ماتت بين الرجال أو الرجل مات بين النساء يغسل من فوق القميص بلا تجريد.
والراجح مذهب الحنابلة لأمرين:
- الأول: أن معهم أثر وإن كان مرسلاً.
- الثاني: أنه وسط بين القولين.
لما بين رحمه الله من له أن يغسل ومن لا يجوز له أن يغسل تطرق إلى من يحرم عليه أن يغسل:
• فقال رحمه الله:
ويحرم: أن يغسل مسلم كافراً أو يدفنه.
يعني: أو يكفنه أو يتبع جنازته فكل هذه الأشياء محرمة.
استدل الحنابلة على ذلك:
- بأنه: إذا كان الله سبحانه وتعالى نهى عن الصلاة على الكافرين وعن الدعاء لهم دل ذلك على تحريم أيضاً أن يغسلوا أو يكفنوا أو يدفنوا.

- واستدلوا بقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) -[الممتحنة/13] ... ومن التولي صنع ذلك.
= والقول الثاني: أنه يجوز الدفن فقط دون باقي الأشياء.
واستدل هؤلاء:
- بقول علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فواره).
فدل على أن الدفن فقط يجوز.
- الدليل الثاني مع هذا النص: أن بقاء جثة الكافر فيها ضرر على المسلمين لما تسببه من الأمراض والروائح.
- الدليل الثالث: أنه قد يتأذى أقارب هذا الميت من المسلمين إذا كان له أقارب من المسلمين.
والعمدة في الباب الحديث الأول.
وهذا هو الراجح إن شاء الله أنه يجوز الدفن فقط.
ولا يدفن على صفة دفن المسلمين وإنما يغمس في الأرض غمساً بدون الترتيبات التي توضع للمسلم.
• ثم قال رحمه الله:
بل يوارى لعدم.
أي لعدم من يواريه يوارى.
(2/286)
________________________________________
يعني: إذا لم يوجد أحد من أقاربه الكفار يواري هذا الميت الكافر فإنه يوارى من قبل المسلمين.
والتعليل: - لأن لا يتأذى الناس به فنحن نواريه دفعاً لضرره لا إكراماً له.
- والدليل الثاني: ما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكفار بدر أن يلقوا في قليب.
علمنا من قول المؤلف: ويحرم أن يغسل مسلم كافر حكم تغسيل المسلم للكافر.
ونأخذ الآن مسألة وهي:
حكم تغسيل الكافر للمسلم:
فنقول: لا يجوز أن يغسل الكافر المسلم ولا يجزئ.
- لأن تغسيل الميت عبادة عظيمة ولا تتأتى من غير المسلمين ولا تصح لأن العبادات لا تصح إلا من المسلمين.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن يغسل الكافر المسلم.
والصواب الأول. ورجح الأول وهو: تحريم تغسيل الكافر للمسلم وأنه لا يجزئ ابن قدامه رحمه الله.
• ثم قال رحمه الله:
وإذا أخذ في غسله.
معنى إذا أخذ في غسله: يعني إذا شرع وبدأ في تغسيل الميت.
فالمؤلف بدأ الآن في التفصيل الدقيق لمراحل تغسيل الميت.
• قال رحمه الله:
وإذا أخذ في غسله: ستر عورته.
أي: وجوباً.
ووجوب ستر عورة الميت محل إجماع.
فيجب على من غسل ميتاً أن يستر عورته. وهو على المذهب ما بين السرة إلى الركبة وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة في شروط الصلاة.
• قال رحمه الله:
وجرده.
أي: ويستحب للغاسل إذا أراد أن يغسل الميت أن يجرده من الثياب.
بطبيعة الحال إلا ما يستر عورته.
واستدل الحنابلة على استحباب التجريد بدليلين:
- الأول: أن هذا أمكن وأبلغ في التنظيف. وهذا صحيح: فبلى شك أنه إذا جرد فإن تنظيفه سيكون أبلغ وأحسن.
- الثاني: حديث عائشة الثابت الصحيح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أرادوا غسله اختلفوا فقالوا: هل نجرده كما نجرد موتانا؟.
وجه الاستدلال: أن هذه العبارة تفيد أن التجريد كان معروفاً بينهم.
= والقول الثاني: أن الميت لا يجرد من ثيابه بل تبقى عليه الثياب وهو مذهب الشافعية ويغسل بإدخال اليد تحت الثوب.
واستدل الشافعية على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا غسل وهو أسوة للمسلمين.
والراجح مذهب الحنابلة - القول الأول وهو أنه يجرد.
(2/287)
________________________________________
والجواب عن حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل في قميصه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال رحمه الله:
وستره عن العيون.
أي: ويستحب لمن أراد أن يغسل الميت أن يستره عن العيون بأن يغسله بغرفة أو بخيمة أو بأي مكان محجوب.
والدليل على هذا:
- أن الميت ربما كتم من جسده لا يحب أن يطلع عليه الناس.
- ولأن تغسيل الميت على ملإٍ من الناس فيه إيذاء للناس.
• ثم قال رحمه الله:
ويكره لغير من يعين في غُسْله: حضوره.
يعني: يكره ولا يحرم أن يحضر أحد تغسيل الميت وليس ممن يعين على ذلك.
- لأنه قد يطلع من الميت على ما لا يحب أن يطلع عليه الميت.
= القول الثاني: أنه يحرم أن يحضر من لا يعين لأن جسد الميت بعد الموت يكون كله عورة.
والراجح مذهب الحنابلة.
* * مسألة: استثنى الحنابلة من مسألة الدخول على الميت أثناء التغسيل ممن لا يعين استثنوا الأولياء فقالوا: للأولياء الدخول بلا كراهة ولو لم يكونوا من المعينين.
والأقرب: أن الأولياء إذا لم يكن لحضورهم فائدة الأحسن أن لا يحضروا ولا نقول مكروه لكن الأحسن أن لا يحضروا لأن الميت قد لا يحب أن يطلع على شيء من جسده ولا من قبل بعض الأولياء سواء كان هذا الولي ابن أو أب أوأخ أوغيره.
فالأحسن أن لا يحضر إذا لم يكن لحضوره داعي.
ومن الدواعي لحضور الأولياء المقبولة: أن يكون الولي حضر ليتأكد من غسل الميت على السنة فهذا جيد فإنه إذا حضر لهذه العلة فهذا جيد لأنه قد يكون الغاسل من المتساهلين - قد يكون - فحضور الولي لأجل أن يتأكد أن التغسيل يتم على وفق السنة فلا بأس به.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يرفع رأسه برفق إلى قرب جلوسه.
يعني: ويستحب للمغسل أن يرفع رأس الميت برفقإلى قرب جلوسه ولا يصل به إلى حد الجلوس لأن هذا مؤذي للميت.
وأما أصل الرفع: فلإتمام التنظيف.

ثم قال رحمه الله:
ويعصر بطنه برفق.
أفادنا المؤلف أن العصر سنة وأن السنة أن يكون هذا العصر برفق.
استدل الحنابلة على ذلك:
- بأن هذا العصر يخرج من بطن الميت ما كان على وشك الخروج لأن لا يخرج أثناء نقله.
=القول الثاني: للشافعي وهو أنه يعصر بطن الميت بشدة ولا يقصد بعنف لكن يقصد عصراً قوياً ليخرج كل ما في بطنه.
(2/288)
________________________________________
= والقول الثالث: أنه لا يعصر بطن الميت أصلاً لا برفق ولا بغيره.
- لأنه ليس في العصر سنة تتبع عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والراجح أنه يعصر عصراً رفيقاً ليخرج فقط ما كان على وشك الخروج. وإلى هذا مال الحافظ ابن المنذر.
وتقدم معنا قاعدة للشافعي وهي: ((أن كل عمل فعله من صالح الميت يعمل على أساس أنه مستحب وليس على أنه سنة)).
• ثم قال رحمه الله:
ويكثر صب الماء حينئذ.
يعني: مع العصر ليذهب ما يخرج من الميت ولا يتأذى الميت - يعني: لا يتسخ جسده ولا يتأذى الغاسل بل يذهب ما يخرج مع الماء.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يلف على يده خرقة فينجيه.
يعني: يستحب أن يفعل ذلك: أن يلف على يده خرقه فينجي الميت.
التعليل: - إزالة للنجاسة وطلباً للطهارة الكاملة.
ويكون الاستنجاء في هذه الصورة من تحت الثوب الذي يستر العورة.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يحل مس عورة من له سبع سنين.
يعني: فأكثر.
- لأن التطهير يمكن بدون هذا المس ولذلك لا يحل له أن يمس عورته.
أما من له أقل من سبع سنوات فيجوز أن يطهره وينجيه بمس العورة.
- لأن عورة من كان عمره دون سبع سنوات لا حكم لها في النظر والمس.

ثم قال رحمه الله:
ويستحب أن لا يمس سائره إلاّ بخرقة.
يعني: يستحب أن لا يمس سائر الجسد أثناء الغسل إلا بخرقة يلفها على يده. لأمرين:
- الأول: أنه مروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يصنع ذلك.
- الثاني: أن هذا أبلغ في التنظيف.
وعلمنا من هذا أن غسل الميت بمباشرة الجسد باليد جائز لكن الأحسن أن يفعل كما قال المؤلف رحمه الله.
فصارت الخرق التي يحتاج إليها المغسل: خرقتان.
= القول الثاني: أن المغسل يحتاج إلى ثلاث خرق لكل سبيل من السبيلين خرقة ولسائر الجسد خرقة أخرى.
فصار المجموع: ثلاث.
والصواب: أن المغسل من جهة الخرق يصنع ما فيه الأصلح للميت إن احتاج إلى ثلاث أو أكثر فيأخذ ما فيه صلاح للميت.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يوضيه ندباً.
ذكر صاحب الروض أنه كان ينبغي على الماتن أن يقدم النية على الوضوء بينما نجد أن الماتن قدم الوضوء على النية.
(2/289)
________________________________________
وما ذكره صاحب الروض صحيح لأن الوضوء من جملة الغسل الذي يحتاج إلى نية وتقدم معنا أن تغسيل الميت من جملة العبادات التي تحتاج إلى نية.
إذاً كان ينبغي من جهة الترتيب أن يقدم النية.
نرجع إلى الوضوء: توضأة الميت سنة بالإجماع.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (ابدأن بمايامنها ومواضع الوضوء منها).
= والقول الثاني: أن الوضوء واجب.
والصواب مع الحنابلة لأنه لا دليل على وجوب الوضوء .... (الآذان).
انتهى الدرس
(2/290)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لما ذكر المؤلف حكم توضأة الميت ذكر تفصيلاً يتعلق بالوضوء.
• [قال رحمه الله:
ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه.]
فذكر أنه لا يدخل في أنفه ولا في فمه.
= وهذا مذهب الحنابلة: أن المغسل لا يمضمض ولا ينشق الميت.
واستدلوا على هذا:
- بأن في إدخال الماء في أنف وفم الميت ضرر لأنه قد ينزل إلى بطن الميت فيسبب تغيراً فيه.
- وأيضاً قد يخرج بعد التكفين.
- (الدليل الثالث): أن في المضمضة والاستنشاق بالنسبة للميت عسر ومشقة ظاهرة.
وإلى هذا ذهب الجماهير.
= والقول الثاني: للشافعية. أنه يمضمض ويستنشق كما يفعل بالحي تماماً.
- لعموم حديث أم عطية: (ومواضع الوضوء منها).
وأحب أن أنبه إلى أن حديث أم عطية أثنى عليه العلماء ثناء عاطراً جداً وذكر الأئمة جميعاً أنه أصل في باب تغسيل الميت ولذلك اعتنى به أصحاب السنن بألفاظه وطرقه وأسانيده وهو حديث ينبغي لطالب العلم أن يعتني به من حيث تحرير الألفاظ الصحيحة التي رويت خارج الصحيحين.
والراجح: قول الجماهير في المضمضة والاستنشاق.
• ثم قال رحمه الله:
ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء: بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه فينظفهما.
أي: يشرع ويستحب أن يعمل هذا العمل بأن يضع على أصبعه خرقه ويبلل هذه الخرقة ثم يمسح فم وأسنان وأنف الميت.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا من عموم التنظيف وهو مطلوب في حق الميت.
(2/291)
________________________________________
- الوجه الثاني: لعموم حديث أم عطية: (ومواضع الوضوء) وهذا من مواضع الوضوء.
فإذاً يستحب: = عند الجمهور - الذين لا يرون المضمضة والاستنشاق للميت - أن يفعل بدلاً منه هذا الفعل.
وهذا صحيح لما فيه من كمال التنظيف والطهارة.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يدخلهما الماء.
معلوم أن هذا تكرار. وتقدم الكلام على إدخال الماء في فيه وفي أنفه.
• ثم قال رحمه الله:
ثم ينوي غسله ويسمي.
ـ أما النية: فهي من شروط صحة غسل الميت.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
- ولأن هذا الغسل من العبادات بل هو فرض كفاية ولا تصح العبادة إلا بنية.
ـ وأما الوضوء فالخلاف فيه كالخلاف الذي تقدم معنا في مسألة الوضوء وغسل الجنابة. وتقدم أن الراجح إن شاء الله أنه لا يجب بل الأقوى أنه لا يشرع على ما تقدم تفصيله.
• ثم قال رحمه الله: - مبتدأً بالكيفية التفصيلية لتغسيل الميت.
ويغسل برغوة السدر: رأسه ولحيته فقط.
إذا أراد المغسل أن يغسل الميت فإنه يأتي بورق السدر ويدق هذا الورق إلى أن يكون نعاماً ثم يخلط هذا الورق بالماء ثم يضرب هذا الماء - يعني: يحركه - لأجل أن يخرج له رغوة فإذا خرجت الرغوة بدأ فغسل الرأس واللحية بالرغوة.
ولا يغسلهما بما يتبقى من الفتات الذي يترسب في قعر الإناء.
- التعليل: أنه لو غسله بغير الرغوة لبقي حب وفتات في الرأس واللحية لا يخرج مع الماء بينما إذا غسله برغوة السدر فقط فإن الماء كفيل بإزالة ما غسل به الشعر واللحية.
فتبين من كلام المؤلف رحمه الله أن الرغوة خاصة للشعر وللحية أما سائر البدن فهو: = عند الحنابلة لا يغسل بالرغوة وإنما يغسل بما يتبقى من ورق السدر وهو الحبيبات التي تترسب في أسفل الإناء.
= والقول الثاني: أنه يغسل الشعر واللحية وسائر الجسد برغوة السدر.
وهذا القول هو الصواب: بشرط أن يحصل بذلك التطهير للجسد - يعني التنظيف -.
والدليل على هذا:

- ما تقدم معنا مراراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر). فنص على وضع السدر مع الماء ليحصل التنظيف به.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر.
ـ طريقة غسل الشق الأيمن والأيسر هي أن:
(2/292)
________________________________________
- يغسل الميت مما يلي الوجه من شقه الأيمن.
- ثم إذا أرا أن يغسل الأسفل - وهو الظهر والإليتين وأسفل القدمين -: قلبه على جنبه الأيسر وغسل شقه الأيمن.
ـ فإذا أراد أن يغسل شقه الأيسر فيفعل نفس الشيء: يقلبه على شقه الأيمن ويغسل الظهر والإليتين والقدمين.
وعلم من ذلك أنه لا يسن أن يكبه على وجهه وإنما هكذا يصنع:
- يقلبه على الجهة اليمنى ثم يغسل ظهره وإليتيه وقدميه.
- ويقلبه على الشق الأيمن ويغسل الشق الأيسر.
إذاً هذه هي الطريقة في غسل الميت ولا يقلب قلباً كاملاً بحيث يكبه على وجهه.
• ثم قال رحمه الله:
ثم كله.
أي: ثم يفيض الماء على كل الجسد بما في ذلك الرأس.
وهذه الغسلة هي الغسلة الكفيلة بإذهاب ما قد يعلق بالجسم والشعر من رغوة السدر أو من الصابون في وقتنا الحاضر.
• ثم قال رحمه الله:
ثلاثاً.
أي: يكرر كل ما صنع ثلاثاً تماماً.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً). فبدأ بالثلاث.
فإن اقتصر على واحدة:
= كره عند الحنابلة لمخالفة السنة.
= وحرم عند الظاهرية.
والصواب أن غسل الميت مرة واحدة إذا طهر به فيحوز بلا كراهة.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته: (اغسلوه بماء وسدر). ومطلق الغسل يتحقق بواحدة.
فإذاً الصواب إن شاء الله أنه جائز بلا كراهة.
• ثم قال رحمه الله:
يمر في كل مرة: يده على بطنه.
أي: أن إمرار اليد على البطن يشرع في الغسلات الثلاث.
فعرفنا أن إمرار اليد على البطن مشروع في الغسلات الثلاث لسببين:
- الأول: ليخرج ما تبقى.
- والثاني: لأجل أن لا يخرج بعد ذلك شيء من السبيلين فيفسد الغسل والوضوء.
* * مسألة: يفعل ثلاثاً كل ما تقدم إلا الوضوء فإنه لا يكون إلا في المرة الأولى فقط أما باقي الأمور فتكرر ثلاثاً.
إذاً التكرار يصح للجميع إلا مسألة الوضوء.
• ثم قال رحمه الله:
فإن لم ينق بثلاث: زيد حتى ينقى ولو جاوز السبع.
المشروع: أن يكرر الغاسل غسل الميت إذا لم ينق ثلاثاً وأربعاً وخمساً وستاً وسبعاً وأكثر من ذلك تسع .. إلى آخره.
(2/293)
________________________________________
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك) وفي رواية: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً) ولم يذكر أكثر من ذلك.
وهذا تنبيه لطيف جداً من الحافظ ابن حجر فهو يقول: لم يأت في رواية صحيحة - يقصد في الصحيح - أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين السبع وأكثر من ذلك.
يعني: - إما أن يقول: ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك.
- أو ن يقول ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً.
لكن في سنن النسائي ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك. لكن في البخاري ومسلم لا يوجد الجمع بين السبع ومسألة أو أكثر من ذلك.
= فعند الحنابلة يزيد ولو أكثر من سبع.
- لأن الزيادة على السبع صارت لمصلحة وهي تطهير الميت.
- وقد يكون الميت مع طول المرض أو لأي ملابسة أخرى تراكم عليه الوسخ مما يحتاج معه إلى تكرار للغسل ليتطهر وينظف جسمه.
وهذا هو الصواب أنه يزيد على السبع.
= والقول الثاني: أنه لا يزيد على السبع بل إذا غسله سبع كرات كفنه وانتهى الغسل بذلك.
واستدلوا:
- أن الحديث لم يذكر أكثر من سبع.
والزيادة على ثلاث غالباً لا يحتاج إليها إلا للمرضى الذين طال مرضهم.
• ثم قال رحمه الله:
ويجعل في الغسلة الأخيرة: كافوراً.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (واجعلن في الآخرة كافوراً). والكافور نوع من أنواع الطيب البارد.
= فذهب الجماهير: الأئمة الأربعة والجم الغفير إلى أنه يستحب وضع الكافور.
= وذهب ابن حزم إلى أنه يجب وجوباً أن نضع الكافور.
• ثم قال رحمه الله:
والماءُ الحار والأشنان والخلال: يستعمل إذا احتيج إليه.
الماء الحار: معروف.
والإشنان: نبات يستخدم للتنظيف والتطهير.
والخلال: هو العود الذي يستعمل للتخليل بين الأسنان.
هذه الأشياء الثلاثة تستعمل عند الحاجة فقط.
فإذا كان فيه وسخ لا يذهب إلا بماء حار أو لا يذهب إلا بالإشنان أو كان في فمه طعاماً متبقياً كثيراً يحتاج معه إلى استخدام العود الذي يخلل فيه بين الاسنان: شرع ذلك.
ومفهوم عبارة المؤلف أنه إذا لم يحتج إليه فلا يفعل. = وهو كذلك عند الحنابلة بل يكره إذا لم يحتج إليه الإنسان لأنه لم يأت في السنة.
• ثم قال رحمه الله:
ويقص شاربه ويقلم أظفاره.
(2/294)
________________________________________
قص الشارب وتقليم الأظافر ويضاف إليه نتف الإبط:= يشرع مطلقاً عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن هذا من جملة التنظيف.
- الدليل الثاني: قياساً على الحي: لأنه كما شرع في الميت الغسل لأن فيه تنظيفاً بلا مضرة فكذلك بالنسبة للميت.
= والقول الثاني: أنه لايشرع فعل ذلك إلا إذا زادت هذه الأشياء زيادة فاحشة ظاهرة.
- لأن في تركها في هذه الحالة تقبيح لشكل الميت.
= والقول الثالث: أنه لا تشرع هذه الأشياء مطلقاً.
- لأنه لم يأت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم فعلوا بالميت ذلك.
- ولأنه لا ينتفع الميت بمثل ذلك.
- ولأن الإبط والأظفار لا تظهر حتى تقبح وإنما تغطى وكذلك الوجه.
فصارت الأقوال: ثلاثة.
وأيها أرجح؟
نقول: إن المسألة فيها إشكال ولذلك فيها ثلاثة أقوال وأكثر العلماء على الأخذ لكن يظهر لي أنه لا يؤخذ.
السبب:
- ما يمكن أن نطبق قاعدة الشافعي لأن قاعدة الشافعي تصلح فيما ينفع الميت ولم يوجد سببه في عهد النبوة.
فوضع الحصا على البطن ربما لم ينتفخ أحد من الصحابة ولذلك لم يضعوه.
ومسألة وضعه على السرير وأشياء كثيرة ممكن أن لا يوجد لها سبب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن مسألة الشارب والأظفار والإبط موجودات في كل إنسان ومع ذلك لم يذكر أبداً.
- ثم أن الميت لا ينتفع بهذا انتفاعاً ظاهراً.
- وأما أنه من سنن الفطرة فهذا خاص بالحي دون الميت.
- ثم إن الذين قالوا بأنها تؤخذ اشترطوا على من أخذها أن يضعها في الكفن لدفن مع الميت لأنها من الميت.
ففي الحقيقة الأظهر والله أعلم أن لا يؤخذ هذا الشيء.
* * مسألة: مسألة العانة:
= ذهب الجماهير إلى أنها لا تؤخذ
- لما فيها من كشف العورة وهتك حرمة الميت.
= والقول الثاني: أن العانة تؤخذ
- لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غسل ميتاً فجز عانته. ولا أعرف صحة هذا الأثر لم أقف على صحته ولم أبحث في ذلك.
والراجح. القول الأول في الحقيقة. لأن هذا الأمر وهو نتف العانة ينبني عليه كشف العورة وغاية ما يقال في نتف عانة الميت أنه سنة فلا نجعل هذا سبباً في كشف عورته وهتك حرمته.
* * المسألة الأخيرة: الختان.
(2/295)
________________________________________
= الختان لم يختلف أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بلا نزاع أنه لا يختن الميت. فلو فرضنا أنه أسلم ومات قبل أن يختتن فإنه لا يختتن أثناء تغسيله.

ثم قال رحمه الله:
ولا يسرح شعره.
لا يسن ولا يستحب للمغسل أن يسرح شعر الميت.
- خشية أن يقع ويتمزق.
- وأيضاً لأنه لم ينقل.
• ثم قال رحمه الله:
ثم ينشف بثوب.
يعني: بعد أن يغسل الميت وقبل أن يكفن يشرع أن ينشف.
- لأنه لو كفن وهو رطب لأدى ذلك إلى إفساد الكفن.
• ثم قال رحمه الله:
ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل وراءَها.
- لأن هذا جاء صريحاً في حديث أم عطية أن أم عطية ومن معها ضفرن شعر زينت رضي الله عنها ثلاثاً وألقينه خلف ظهرها.
فهو سنة صريحة. وهذا كمال هو معلوم لا يقتضي التمشيط فإن ضفر الشعر لا يلزم منه التمشيط وإنما تضفر الشعر إذا كان طويلاً ثلاث قرون ويوضع خلف الظهر.
• ثم قال رحمه الله:
وإن خرج منه شيءٌ بعد سبع: حشي بقطن.
يعني إذا غسله سبع مرات وما زال يخرج منه خارج من أحد السبيلين أو من الأنف كما يحصل أحياناً بالمرضى أو من الفم فإنه بعد الغسلة السابعة يحشى الأنف أو الفم أو أحد السبيلين بقطن.
- والتعليل: لأن لا يخرج منه بعد ذلك شيء فيلوث الميت.
• ثم قال رحمه الله:
فإن لم يستمسك: فبطين حر.
الطين الحر: هو الطين الخالص من التراب.
والطين إذا خلص من التراب صار أقوى في منع خروج الخارج.
وفيما يظهر لي الآن: أن القطن كفيل في أحيان كثيرة بمنع خروج الخارج، لكن لو فرضنا أنه لم يستمسك فبالإمكان وضع هذا الطين.

ثم قال رحمه الله:
ثم يغسل المحل ويوضأُ.
= عند الحنابلة: ـ إذا خرج شيء قبل الغسلة السابعة فيجب أن نعيد الغسل والوضوء.
ـ وإذا خرج بعد الغسلة السابعة فيجب أن نعيد الوضوء فقط.
- لأن طهارة هذا الميت انتقضت بخروج هذا الخارج.
= والقول الثاني: أنه إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الأولى فإنه لا يعاد إلا الوضوء فقط.
= والقول الثالث: أنه إذا خرج منه شيء لا يعاد لا الوضوء ولا الغسل وإنما ينظف ويطهر محل هذه النجاسة.
والأرجح. القول الثالث.
والأحوط القول الثاني.
(2/296)
________________________________________
لأنه إذا غسل الميت الغسلة الأولى طهر وانتهت مسألة الطهارة وصلح للصلاة. ومسألة خروج شيء بعد هذا لا ينقض هذا الغسل.
- بدليل: أن خروج النجاسة من أحد السبيلين في غسل الجنابة لا ينقضها فكيف بغسل الميت وهو لا شك أقل وجوباً وتحتيماً من غسل الجنابة.
فإذا غسلوه غسلاً كاملاً ولو خرج منه شيء لا يجب إعادة لا الغسل ولا الوضوء وإنما يطهر هذا المحل الذي خرج منه النجاسة.
• ثم قال رحمه الله:
وإن خرج بعد تكفينه: لم يعد الغسل.
- وهذا بالإجماع: إذا كفنوه ثم لا حظو خروج نجاسة فإنه لا يعاد الغسل بالإجماع لما في ذلك من مشقة ظاهرة.
• ثم قال رحمه الله:
ومُحْرِم ميت كحي: يغسل بماء وسدر.
يعني في جميع ما تقدم. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر). إلا ما سيذكر المؤلف مما يستثنى.
وقوله: يغسل بماء وسدر. لما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: (اغسلوه بماء وسدر).
ثم ذكر ما يستثنى:

فقال رحمه الله:
ولا يقرب طيباً، ولا يُلبس ذكر مخيطاً، ولا يغطى رأسه.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر ولا تحنطوه ولا تغطوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
فقوله: (لا تحنطوه). دليل على أنه لا يمسه الطيب.
وقوله: (لاتغطوا رأسه). دليل على المنع من تغطية الرأس. لأن أحكام الإحرام ما زالت باقية.
وها صحيح وحديث ابن عباس نص فيه.
ويستثنى من هذا إا كان الحاج تحلل التحلل الأول فيجوز أن نغطيه وأن نطيبه وأن نفعل معه كل شيء لأن محظورات الإحرام زالت بالنسبة له بعد التحلل الأول.
• قال رحمه الله:
ولا يغطى رأسه:
يفهم من حديث ابن عباس السابق ويفهم من كلام المؤلف جواز تغطية الوجه.
وفيه عن الإمام أحمد روايتان:
- الرواية الأولى: جواز تغطية وجه المحرم. وبناء عليه جواز تغطية وجه الميت.
- والرواية الثانية: المنع من ذلك.
والخلاف مبني على رواية: (ولا تغطوا رأسه ولا وجهه). والصواب أن هذه الزيادة ضعيفة.
وإذا كانت هذه الزيادة ضعيفة فيجوز أن يغطى وجه الميت ولا يغطى رأسه فيوضع القماش على الوجه ويبقى الرأس مكشوفاًَ.
• ثم قال رحمه الله:
ولا وجه أُنثى.
(2/297)
________________________________________
ولا يغطى وجه الأنثى. - لأن إحرام المرأة في وجهها عند الحنابلة فهي ممنوعة من تغطية الوجه من حيث هو بغض النظر عن الآلة التي غطي بها الوجه.
= والقول الثاني: أن المرأة ممنوعة من تغطية الوجه بشيء معين هو النقاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين).
وهذا اختيار شيخ الاسلام رحمه الله.
بناء عليه: يجوز أن نغطي وجه المرأة الميتة بغير النقاب في الحج وللميتة.
والمنع من تغطية وجه المرأة رواية واحدة عن الإمام أحمد رحمه الله في تغسيل الميتة بخلاف الحج.
والراجح أنه يغطى بغير النقاب.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يغسل: شهيد.
يعني أن المشروع عدم تغسيل الشهيد.
- لما ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل ولم يصل على شهداء أحد. فهذا نص على أن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه.
= وإلى هذا ذهب الجماهير.
وأصحاب هذا القول اختلفوا على قولين:
- منهم من قال: يحرم الصلاة وتغسيل الشهيد.
- ومنهم من قال: وهو مذهب الحنابلة: يكره.
فهم اتفقوا على أنه يمنع لكن بعضهم قال على وجه التحريم وبعضهم قال على وجه الكراهة.
= والقول الثاني: - في أصل المسألة - أنه يصلى على الشهيد.
- لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري - خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم كالصلاة على الميت بعد ثمان سنين من قبرهم كالمودع لهم صلى الله عليه وسلم.
وفي الباب أحاديث لكن هذا الحديث في صحيح البخاري وهو أقوى هذه الأحاديث.
ومعنى قولنا: في الباب أحاديث: يعني توجد أحاديث تدل على وشروعية الصلاة وتغسيل الشهيد.
= القول الثالث: أنه مخير إن شاء صلى وإن شاء لم يصل. وهذا اختيار ابن القيم وعلل ذلك:
- باختلاف الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2/298)
________________________________________
وهذا القول - الأخير - هو الصواب بالنسبة للصلاة. ولولا حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على شهدا أحد لقلنا أن الصواب أنه لا يصلي ولا يشرع أن يصلي. لكن هذا الحديث قطع في الحقيقة الخلاف والذين رأوا أنه لا يصلى قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم صلاة الجنازة وإنما دعل لهم فقط وخرج كالمودع لهم بدليل أنه لم يصل بجماعة ولم يطلب أصحابه ليصفوا خلفه لكن هذا الكلام مع أنه قوي يجول بيننا وبينه أنه في صحيح البخاري بالنص: (وصلى عليهم صلاة الجنازة). أو الصلاة على الميت. هذا لفظ البخاري وحاول بعض الباحثين أن يثبت أن هذا ليس لفظاً في البخاري والصواب أنه ثابت في صحيح البخاري في جميع النسخ أنه قال: فصلى عليهم صلاة الميت أو الصلاة على الجنازة. فهذا نص في الحقيقة صريح.
ولذلك نقول أن الصواب إن شاء الله كلام ابن القيم أن الإنسان مخير إن شاء صلى وإن شاء لم يصل.
ولكن مع القول بالتخيير فهل الأولى أن يصلي أو لا يصلي؟
= من الفقهاء من قال: الأولى أن يصلي: لأن في الصلاة دعاء وبركة للميت.
والصواب والله أعلم: أنه أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فأحياناً صلى وأحياناً لم يصل لأنه لو قلنا أنه مخير والأولى أن يصلي لنتج عن هذا أن يصلى دائماً على الميت فتنسى سنة أنه لا يصلى على الشهيد.
(((وهذا البحث كله في مسألة الصلاة لأن المؤلف يقول: ولا يصلى عليه ونكون بهذا شرحنا قوله: ولا يصلى عليه.
نرجع إلى تغسيل الميت:
ذكرنا أن الأئمة الأربعة والجماهير يرزن أنه لا يغسل وأنه اختلف هل هذا على سبيل التحريم أو الكراهة؟
هذا كله في الغسل فقط.
هناك قول يرى بعضهم أنه شاذ لكن نحن لا نقول أنه شاذ وهو مروي فقط عن اثنين من التابعين الحسن وابن المسيب فهؤلاء يرون أن الشهيد يغسل مخالفين لآراء جماهير أهل العلم.
واستدلوا على هذا:
- بأن التغسيل إكرام وأحق الناس بالإكرام هو الشهيد.
لكن هذا تعليل في مقابلة النص لأنه في حديث جابر في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد)))
إذاً نرجع ونلخص هذه المسألة:
مسألة تغسيل الشهيد:
(2/299)
________________________________________
= الجماهير والجم الغفير يرون أنه لا يغسل. ويستدلون بحديث جابر في البخاري أنه لم يغسل شهداء أحد.
= والقول الثاني: ينسب إلى الحسن البصري وسعيد بن المسيب. أنههم يرون أنه يغسل إكراماً للشهيد وهو تعليل في مقابلة النص.
والصواب إن شاء الله مع الجماهير.

ثم قال رحمه الله:
إلاّ أن يكون جنباً.
وحينئذ عند الحنابلة يشرع أن يغسل الجنب.
ويستدلون بأن حنظلة رضي الله عنه خرج لما سمع الداعي مقاتلاً في سبيل الله ثم قتل فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة يغسلونه بين السماء والأرض فقال: ما شأنه اسألوا زوجه. فلما سألوها قالت: خرج جنباً.
فاستدلوا بذلك على أنه يغسل إذا كان عليه جنابه.
= وذهب الجماهير - مخالفين للحنابلة - إلى أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنباً.
واستدلوا على ذلك:
- بعموم حديث جابر.
والجواب عن حديث حنظلة. أنه ليس فيه تغسيل لأن الصحابة لم يغسلوا حنظلة وإنما الذين غسلوه الملائكة فنحن نقول إذا غسلته الملائكة فهنيئاً له ولكن نحن لا نغسل الشهيد ولو كان جنباً.
• قال رحمه الله:
ويدفن بدمه في ثيابه.
يعني أن الميت الذي قتل في سبيل الله يدفن في ثيابه وهذا بلا خلاف بين أهل العلم.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وادفنوه في ثيابهم). هذا الحديث حسنه بعض المتأخرين والصواب أنه ضعيف.
لكن يشهد له الحال فإن له شواهد كثيرة تقويه إن شاء الله ولا نقول أنه حسن لكن مع الإجماع الذي في المسألة يصلح للاستدلال.
• ثم قال رحمه الله:
بعد نزع السلاح والجلود عنه.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنزع الحديد والجلود عن أهل بدر. وهذا الحديث هو نفسه الحديث السابق حسنه بعض المتأخرين وإسناده فيه ضعف لكن تقويه المعاني العامة والظواهر لأن الشهيد لا يستفيد من دفنه بسلاحه وعتاده وجلده.
بقي أن نقول: من هو الشهيد؟ لم نعرف الشهيد.
الشهيد هو: من قتل في سبيل الله أي: لتكون كلمة الله العليا. على أن يقتل أثناء الحرب مع الكفار.
فإن قتل بعد ذلك سيأتينا نص المؤلف على حكمه لكن نقول الآن أن الشهيد المقصود به هنا: هو من قتل في المعركة أثناء القتال لتكون كلمة الله هي العليا.

ثم قال رحمه الله:
وإن سلبها كفن بغيرها.
(2/300)
________________________________________
إذا قتل هذا الشهيد وسلب ماله أو لباسه كفن بغيرها على سبيل الوجوب.
لأن مصعب رضي الله عنه لما قتل لم يجدوا معه إلا ما يغطي الرأس دون القدمين أو القدمين دون الرأس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يغطوا الرأس ويجعلوا على القدمين الإذخر.
فهذا دليل أنه إذا كان معه ما لا يكفي وجب على الإمام أن يكفنه بما تيسر. وهذا لا إشكال فيه أنه إذا سلب أو مزقت ثيابه كما يحصل الآن فإنه يشرع أن يكفن بل يجب أن يكفن.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يصلى عليه.
وذكرنا الخلاف على ثلاثة أقوال والراجح في ذلك.
انتهى الدرس
(2/301)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس الكلام على مسألة دفن الميت بثيابه ومسألة حكم الصلاة عليه وقبل أن ننتقل إلى [حكم السقط] أشير إلى إضافة في مسألة دفن الميت في ثيابه فقد ذكرت أنه يدفن في ثيابه وأن هذه المسألة محل إجماع وأن فيها حديث وهو حديث جابر رضي الله عنه أن شهداء أحد دفنوا في ثيابهم.
يضاف إلى هذا كله أن هذا ليس على سبيل الوجوب بل يجوز أن نخلع ثياب الشهيد وأن نكفنه.
بدليل:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد - وهذا حديث صحيح - جلس هو وأصحابه وكان القتلى يملؤون الأرض وبعضهم مثل به فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد امرأة فقال صلى الله عليه وسلم: (المرأة المرأة) فقال الزبير وقع في ذهني أنها أمي - هم لا يدرون من هي بسبب البعد - فأخذ يجري ليردها عن القتلى بسبب ما هم عليه من التمثيل والتشويه فلما وصل فإذا هي صفية - أمه رضي الله عنها - فقالت: إليك عني - وكانت امرأة جلدة - فقال: لقد عزم عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقفت ثم قالت: إليك هذين الثوبين فكفن فيهما حمزة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الثوبين وكفن حمزة في واحد وكفن أنصارياً آخر في الثوب الآخر.
ففي هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن نكفن الشهيد وحمزة رضي الله عنه سيد الشهداء بثوب آخر.

نبدأ بدرس اليوم:
• قال رحمه الله:
(2/302)
________________________________________
وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به ... غسل وصلي عليه.
إذا سقط من دابته فمات أو وجد ميتاً ساقطاً على الأرض ولا أثر عليه ولو كان في أرض المعركة ولو كان في الوقت الذي تدور فيه المعركة فإنه يغسل ويصلى عليه.
وهذا باتفاق الأئمة كلهم إلا الشافعي.
والدليل على ذلك:
- أن الذي لا يغسل ولا يصلى عليه هو من باشر الكفار قتله. وأما هذا فلم يباشر الكفار قتله وليس عليه أثر القتل.
وفهم من قول المؤلف رحمه الله: ولا أثر به. أنه إن وجد ميتاً قريباً من المعركة وفيه آثار من سيف أو رمح أو سهم فإنه يعتبر شهيداً ولا يغسل ولا يصلى عليه.
وهذا صحيح: لأن الغالب أن هذا الرجل الذي مات بقرب المعركة وهو من جنود المسلمين في وقت دوران المعركة أن موته بسبب إصابة الكفار والإسلام يبني الأحكام غالباً على الظاهر والظاهر أنه قتله الكفار.
• ثم قال رحمه الله:
أو حُمِلَ فَأَكَلَ، أو طال بقاؤُه: غسل وصلي عليه.
إذا حمل من المعركة وإن كان جرح جرحاً بليغاً يؤدي غالباً إلى الوفاة لكنه بقي على قيد الحياة وحمل وبعد أن حمل أكل فإنه لا يعتبر في باب الغسل والصلاة من الشهداء وإن كان - إن شاء الله - عند الله شهيد لَكِنَّ من هذا حاله يغسل ويصلى عليه.
وكذلك إذا نقل وطال الوقت بين نقله من المعركة وبقائه حياً - طال الوقت عرفاً - فكذلك يغسل ويصلى عليه.
الدليل على هذه الأمور: من وجهين:
- الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وصلى على سعد بن معاذ مع أنه مات بأثر جرح وقع في المعركة.
- الثاني: أنه إذا أكل دل ذلك على أن فيه حياة مستقرة.
فلهذين الدليلين نقول أن من أكل أو نقل وبقي وقتاً طويلاً حياً فإنه يغسل ويكفن ولا يعامل في هذا الباب معاملة الشهيد لما ذكرت من أدلة.

* * مسألة: إذا نقل فشرب ولم يأكل: - يعني: استطاع أن يشرب ولم يستطع أن يأكل -:
= فعند الحنابلة في قول كذلك: لا يعامل معاملة الشهيد في باب الغسل والصلاة.
= والقول الثاني: - الذي رجحه المرداوي وغيره من محققي الحنابلة - أنه ليس كذلك. بل إذا نقل فشرب ثم مات لا يغسل ولا يصلى عليه لأن القتيل أو المجروح قد يشرب وهو في سياق الموت ولكن لا يمكن أن يأكل وهو في سياق الموت.
(2/303)
________________________________________
ولذلك نقول لا يستوي الأكل والشرب في هذا الباب.
(فاحفظ هذا الموضع فهو من المواضع القليلة التي يختلف فيها حكم الأكل عن الشرب).
• ثم قال رحمه الله:
والسقط إذا بلغ أربعة أشهر: غسل وصلي عليه.
السقط فيه مسائل:
ـ المسألة الأولى: تعريفه: السقط هو: كل جنين سقط من بطن أمه قبل تمام مدته.
ـ المسألة الثانية: قوله: (إذا بلغ) يعني: إذا تم له أربعة أشهر.
ـ المسألة الثالثة: تحرير محل النزاع في هذه المسألة وهو كالتالي:
- أولاً: اتفق الفقهاء على أن الجنين إذا سقط حياً واستهل صلي عليه وغسل بالإجماع.
- ثانياً: اتفق الفقهاء - إلا من قد نقول أنه شذ - على أنه إذا سقط قبل الأربعة أشهر فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل.
- ثالثاً: - في محل البحث - إذا سقط بعد الأربعة أشهر:
= فذهب الجمهور إلى أنه يغسل ويصلى عليه ويسمى.
واستدلوا على ذلك: - بأنه نفخت فيه الحياة فصار بذلك إنساناً له أحكام بني آدم.
وهذا القول هو الصواب الذي يدل عليه حديث ابن مسعود فإنه قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفه وأربعين يوماً علقه وأربعين يوماً مضغة - هذه أربعة أشهر ثم قال: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح).
فإذا سقط الطفل بعد الأربعة أشهر يغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى ويعق عنه - وسيأتينا.

ثم قال رحمه الله:
ومن تعذر غسله يمم.
إذا تعذر على الناس غسل هذا الميت لأي سبب من الأسباب لكونه متمزق أو لكونه إذا غسل تضرر وتقطع أو لأي سبب من الأسباب فإذا لم يمكن أن يغسل فإنه ييمم.
الدليل على ذلك:
- قياساً على حال الحياة فإن الإنسان إذا لم يستطع أن يغتسل غسلاً واجباً عدل إلى التيمم.
= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد. أنه إذا لم نتمكن من غسله فإننا ندفنه بلا غسل ولا تيمم.
واستدل هؤلاء:
- بأن غسل الميت: المقصود منه تنظيفه. والتيمم لا يزيده إلا اتساخاً.
وهذا القول الثاني: أقرب. فإذا لم نتمكن من غسله يدفن على حاله.
• ثم قال رحمه الله:
وعلى الغاسل ستر ما رآه: إن لم يكن حسناً.
شمل كلام المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
ـ المسألة الأولى: أنه يجب وجوباً على الغاسل أن يستر ما رآه سيئاً من أحوال الميت.
واستدلوا على هذا بأدلة كثيرة منها:
(2/304)
________________________________________
- الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من غسل مسلماً فستره غفر له أربعين مرة) وهذا الحديث إسناده إن شاء الله تعالى - حسن.
- الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ستر مسلماً ستره الله).
- الدليل الثالث: أن هذا من الغيبة وهي من الكبائر.
فلاشك أنه المغسل يجب عليه وجوباً أن يستر ما رآه من أحوال الميت السيئة فإن أشاع ذلك فهو آثم.
واستثنى بعض الفقهاء من هذا مسألتين:
- المسألة الأولى: إذا كان الميت معروفاً ببدعة شنيعة. وهو يدعو إليها. فقال بعض الفقهاء: يجوز أن نخبر بأحواله السيئة تنفيراً عن ما يدعو إليه من البدعة والخروج عن الدين.
- المسألة الثانية: استثنى الفقهاء أن نخبر عن أحوال بعض الموتى السيئة بدون تسمية. ليتعظ الناس.
ـ المسألة الثانية: (التي شملها كلام المؤلف) أنه ينبغي للمغسل أن يظهر ما رآه حسناً على الميت.
وهذا على سبيل الاستحباب لا الوجوب بخلاف المسألة الأولى.
الدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: ليكثر الترحم والدعاء له.
- الوجه الثاني: - وهو في الأهمية كالوجه الأول - ليحصل التأسي بجميل سيرته.
وهذا صحيح. ينبغي على المغسل أن يظهر الأحوال الطيبة التي يراها على بعض الموتى.
وقد ذكر عن السلف أشياء كثيرة من العلامات الحسنة بعد الموت بغض النظر عن حال السياق فبعد الموت نقل عنهم أشياء كثيرة يحسن بطالب العلم أن يقرأها في مظانها.

فصل
[في تكفين الميت]
• ثم قال رحمه الله:
فصل
هذا الفصل مخصص للتكفين وهو الترتيب المنطقي بعد التغسيل.
• يقول - رحمه الله -:
يجب كفنه: في ماله ... إلى آخره ...
الكفن هي: الثياب التي يلف بها الميت.
والتكفين لغة: التغطية.
وشرعاً: إلباس الميت ثياب الموت.
فعرفنا ماهو الكفن وما هو التكفين لغة واصطلاحاً.
• يقول - رحمه الله -:
يجب كفنه: في ماله مقدماً على دين وغيره.
يعني: ومقدم على الوصية ومقدم على الإرث فهو مقدم على الدين والوصية والإرث.
إذاً الكفن هو أول شيء يبدأ به من تركة الميت.
والدليل على هذا:
- أن الحي المدين الذي لا يملك إلا ثوبه لا يجب عليه أن يدفعه في سداد الدين فكذلك كفن الميت.
وهذا صحيح. أن أول ما نبدأ به هو كفن الميت.
(2/305)
________________________________________
ويلحق بالكفن كل ما لا بد منه للميت. فكل شيء لا بد منه: من أجرة حمل وتغسيل وكفن وأجرة حفر القبر فكل ما لا بد منه يقدم على الدين والوصية والإرث.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن لم يكن له مال: فعلى من تلزمه نفقته.
- فعلى من تلزمه نفقته: أي: في الحياة.
فالشخص الذي تلزمه نفقة هذا الميت في الحياة يلزمه الكفن.
الدليل على ذلك:
- أنه تلزمه نفقته في الحياة فكذلك في الممات.
ثم إذا لم يوجد له منفق ننتقل إلى المرتبة الثانية وهي: بيت المال.
ثم إذا لم يوجد نفقة من بيت المال ننتقل إلى المرتبة الثالثة وهي: عامة المسلمين فمن علم بحاله وجب عليه أن يبذل كفنه.
فإذاً: صارت المراتب أربع:
1 - في ماله.
2 - ثم من تجب عليه نفقته.
3 - ثم في بيت المال.
4 - ثم على عامة المسلمين.
لا ننتقل من مرحلة حتى نعجز عن السابقة.
• ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ الزوج لا يلزمه كفن امرأته.
= ذهب الحنابلة والمالكية ونصره ابن حزم إلى أن الزوج لا يلزمه أن يبذل كفن الزوجة بعد الموت.
واستدلوا بأمرين:
- الأول: أن النفقة إنما وجبت لتمكين الزوجة الزوج من الاستمتاع وبعد الموت لا يوجد استمتاع.
- الثاني: أن الواجب على الزوج النفقة والكسوة. وكفن الزوجة لا يسمى ولا كسوة لا شرعاً ولا عرفاً.
= والقول الثاني: أنه يجب على الزوج أن يبذل كفن زوجته.
واستدلوا على هذا:
- بأن الله سبحانه وتعالى أمر بالمعاشرة بالمعروف وهذا منها.
- الثاني: أن علاقة الزوجة بالزوج لم تنه بالموت بدليل: الإرث وجواز التغسيل فيلحق بذلك الكفن.
ومن وجهة نظري أن الخلاف قوي ولكن عامة المتأخرين على ترجيح القول الثاني وهو وجيه وهو أنه تلزم الزوج النفقة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن تكفين رجل: في ثلاث لفائف ... إلى آخره:
بدأ المؤلف بذكر الكيفية التفصيلية للتكفين وبدأ بالرجل ثم يذكر المرأة.
وبدأ بما يسن ويستحب ثم سيذكر الواجب.
- فالسنة بالنسبة للرجل أن يكفن في ثلاث ثياب.
- لحديث عائشة الصحيح أنها قالت: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة.
والثوب السحولي: هو ثوب أبيض نقي لا يكون إلا من قطن. وهو منسوب إلى مدينة في اليمن.
(2/306)
________________________________________
ففي هذا الحديث دليل على أن الأفضل والأولى للرجل أن يكفن في ثلاث أثواب فقط.
* * مسألة: فإن زيد على هذه الثلاثة فهو:
= مكروه عند الحنابلة. لوجهين:
- الأول: أنه مخالف للسنة ولم يكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليختاروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل.
- الثاني: لما فيه من إسراف من غير حاجة فإن الثلاثة تكفي وزيادة.
• ثم قال - رحمه الله -:
بيض.
يعني: أنه يسن في هذه اللفائف أن تكون بيضاء.
والدليل على أن الكفن يسن أن يكون أبيضاً من ثلاثة أوجه:
- الأول: حديث عائشة السابق. فهو نص أنها بيض.
- الثاني: الإجماع فقد أجمعوا على أنه يستحب أن يكون الكفن أبيضاً.
- والثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير ثيابكم البياض إلبسوها وكفنوا فيها موتاكم). وله ألفاظ وهو صحيح إن شاء الله.
وعرفنا من قول المؤلف - رحمه الله -: ويسن. أنه يجوز أن يكون الكفن أحمراً أو أسوداً أو أخضراً أو بأي لون عدا الأبيض وإنما كونه أبيض فقط مستحب.
• ثم قال - رحمه الله -:
تجمر.
يعني: يستحب أن نجمر اللفائف.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً). وهذا إسناده حسن.
- الثاني: أنه فعله عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستحب الفقهاء قبل التجمير أن نجعل في الكفن ما يسبب مسك الرائحة وبقائها كأن نبلله بماء أو بدهن ورد سائل أو بأي سائل يسبب مسك الرائحة وبقائها في الكفن.

ثم قال - رحمه الله -:
ثم يبسط بعضها فوق بعض.
يعني: أن المشروع أن نبسط الثلاث لفائف بعضها فوق بعض ونجعل السفلى منها هي الأكبر والأجمل لأنها التي ستكون ظاهرة.
ويستحب أن يجمل الميت كما يجمل الحي. كا أنا نلبس أثناء الحياة في الأعلى الأجمل فكذلك في تكفين الميت.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل الحنوط فيما بينها.
أفادنا المؤلف:
- أولاً: أن الحنوط سنة وأنه يوضع بين الأكفان لا في الأعلى منها.
أما الدليل على أنه سنة: - فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولاتحنطوه) فهذا دليل على أن الحنوط مشروع ومعروف بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في كفن الموتى.
(2/307)
________________________________________
- ثانياً: أنه يكون بين الأكفان ولا يوضع في الأخير. - لأنه روي عن أبي بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما - وغيرهما من الصحابة كراهية ذلك وهو أن يكون الحنوط في الكفن الأعلى وإنما يكون بين الأكفان.
والحنوط هو: أخلاط من الطيب تصنع للميت ولا تسمى بهذا الاسم إلا إذا وضعت وصنعت للميت.
• قال - رحمه الله -:
ثم يوضع عليها مستلقياً.
إذاً صفة وضع الميت على الأكفان أن يكون مستلقياً.
والتعليل: - أن هذا أمكن في إدراجه وشد الكفن عليه.
واستحب الفقهاء أن تستر عورة الميت أثناء نقله من المكان الذي غسل فيه إلى مكان الأكفان.
والصواب: أنه واجب. لأنه تقدم معنا أن ستر عورة المغسل واجب فإذا أراد أنه ينقله يجب ان يغطي عورته سواء كانت امرأة أو رجل.

ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل منه في قطن بين أليتيه.
يجعل منه: الضمير يعود إلى الحنوط. يعني أنه يغمس القطن في الحنوط ثم يجعل منه بين إليتيه.
والغرض من ذلك: تحقيق مصلحتين:
- الأولى: منع خروج ما قد يخرج من النجاسات.
- والثانية: نشر الرائحة الطيبة.
فإذاً يسن أن يصنع هكذا بالميت.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف: كالتبان تجمع أليتيه ومثانته.
يشرع إذا وضع الإنسان القطنة أن يصنع هكذا.
فقوله: فوقها: يعني فوق هذه القطنة. يشرع أن يشد عليها خرقة تشبه التبان وهو السروال القصير.
والغرض أيضاً من هذا الشد: أن نأمن خروج شيء ونأمن بقاء هذا القطن بما فيه من حنوط.
فهذا هو سبب وضع مثل هذه الخرقة.
وتقدم معنا قاعدة الشافعي وهي تصلح للتطبيق هنا إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل الباقي.
مقصوده بالباقي: يعني من القطن المحنط.
• قال:
على منافذ وجهه ومواضع سجوده.
توضع على منافذ الوجه يعني: في العينين من الخارج وبين الشفتين وفي المنخرين. هذه هي منافذ الوجه.
والغرض من وضع ذلك:
- أولاً: لكي لا يدخله الهوام.
- ثانيا: لكي لا يسرع له الفساد فإنهم يقولون أن وضع مثل هذه الأشياء في منافذ الوجه يبطئ من الفساد.
وتقدم معنا أنه اليوم هناك وسيلة تمنع الفساد وهي الثلاجة.
فإذاً نضع في المنافذ هذه القطنة وفي الأذنين.
إذاً: في كل منافذ الوجه.
(2/308)
________________________________________
ـ أما مواضع السجود فالغرض منه: تكريم هذه المواضع ليس إلا. لأنها أشرف مواضع البدن لكون الإنسان يباشر السجود عليها لله سبحانه وتعالى.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن طيب كله فحسن.
يعني: إن طيبنا الميت كله فهذا جيد وحسن.
والدليل على هذا:
- أن الصحابة فعلوا ذلك كابن عمر وغيره فعل ذلك: طيب جسد الميت كله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر فوقه.
لا حظ قوله: (ثم يرد طرف اللفافة العليا). أي من الجانب الأيسر للميت لا للمغسل. فنرد الطرف إلى الجانب الأيمن ثم نرد طرف اللفافة الأيمن إلى الجانب الأيسر ونصنع هكذا باللفائف الثلاث.
= وقيل العكس: إما من اليمين إلى اليسار.
وقيل: الأمر سواء. وهذا هو الأقرب أنه إن رأى أن يشد الميت هكذا أو هكذا فالأمر فيه حسن.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم الثانية والثالثة كذلك.
يعني: يصنع بها ما صنع باللفافة الأولى.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل أكثر الفاضل على رأسه.
يعني: إذا فضل شيء من اللفائف التي يكفن بها الميت يجعل هذا الفاضل من جهة الرأس.
لأمرين:
- الأول: لشرف الرأس.
- الثاني: أن تغطية الرأس أوجب من تغطية الرجلين لما تقدم معنا في حديث مصعب - رضي الله عنه -.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم يعقدها.
يعني: ثم يربط اللفائف. وذلك خشية الانتشار وتفكك الكفن.
وسواء عقد اللفائف هي بذاتها كما يصنع عند العض أو ربطها بالأحزمة فإن الأمر واحد لأن المقصود أن نأمن انتشار وانفكاك هذه اللفائف التي كفن فيها الميت.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتحل في القبر.
يعني: أن السنة إذا وضعنا الميت في القبر أن نحل هذه اللفائف.
الدليل: - قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وضع مسعود بن نعيم فل عنه هذه اللفائف وكان مربوطاً بشوكة فنزع هذه الشوكة - صلى الله عليه وسلم -.
- وأيضاً روي عن اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا إذا وضعوا الميت في القبر حلوا عنه هذه اللفائف.
- ويستدل أيضاً على حل اللفائف أن المقصود من اللفائف هو أن نأمن انتشار وتفكك الكفن وهذا في القبر مأمون لكون الميت لا يتحرك لكونه في اللحد.
(2/309)
________________________________________
ففي الحقيقة حل الكفن هذا لا بأس به وهو مستحب. صحيح أنه ليس في السنة نص صريح لكن وجود هذه الآثار مع المعنى القوي يجعل الإنسان يجزم إن شاء الله بأن هذا مستحب.
وأما حديث نعيم بن مسعود فلم أتمكن من النظر في إسناده ولو صح لكان سنة منصوصة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة: جاز.
يعني: إن كفن في ثلاث لفائف فهذه هي السنة.
وإن كفن في ثلاث ثياب ليست لفائف وإنما كما قال: قميس ومئزر فيجوز أيضاً.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى قميصه لعبد الله بن أبي وكفن فيه.
فهذا دليل على أنه يشرع ويجوز أن نكفن الميت بقميص.
وأما طريقة ذلك: فنجعل الأول المئزر ثم القميص ثم فوق الجميع اللفافة إذا أردنا أن نكفن بهذه الأشياء لا باللفائف.
وأخذنا الآن أنه جائز والسنة أن تكون باللفائف.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتكفن المرأة: في خمسة أثواب.
في تكفين المرأة مسائل:
ـ المسألة الأولى: أن المرأة والخنثى حكمهما واحد فطريقة تكفين المرأة هي طريقة تكفين الخنثى.
ـ المسألة الثانية: قوله - رحمه الله -: (في خمسة ثياب) يعني: من قطن وبيض.
ـ المسألة الثالثة: لم أر خلافاً بين الفقهاء أن كفن المرأة يختلف عن كفن الرجل إلا قول لبعض المعاصرين.
ولا حظ: ماذا أقول؟ أقول أنه يختلف كفن المرأة عن كفن الرجل ولم أتحدث عن عدد الثياب التي تكفن فبها المرأة.
فإن قيل: أن ابن قدامة - رحمه الله - ذكر أن عطاء - رحمه الله - يرى أن المرأة تكفن في ثلاث ثياب.
قالجواب: أن الصواب في أثر عطاء - رحمه الله - كما رواه عبد الرزاق في مصنفه أنه قال: تكفن المرأة في ثلاث ثياب ويوضع فوقها لفافة فصار المجموع أربع فلفظه يدل على أن الثياب التي تكفن فيها المرأة أربع وليست ثلاث كما ساقه ابن قدامة - رحمه الله -.
ثانياً: فإن قيل: أنه روي عن بعض السلف غير عطاء كسليمان بن موسى أنها ثلاث.
فالجواب: صحيح أما عن سليمان فثلاث لكن ذكر من الثلاث الخمار والقميص. ونحن نقول أن كفن المرأة يختلف عن كفن الرجل بغض النظر عن عدد الثياب.
(2/310)
________________________________________
فإذاً قول بعضهم أن الأقرب أن كفن الرجل ككفن المرأة ليس بصحيح بل إنه فيما أرى مخالف للإجماع فبعد البحث لم أجد أحداً ساوى بين كفن المرأة والرجل.
ـ المسألة الأخيرة: عدد الثياب. في كم تكفن المرأة؟
= ذهب الجماهير والجم الغفير واختاره ابن المنذر وابن حزم وعدد من السلف أن المرأة تكفن في خمسة ثياب.
وتكفين المرأة في خمسة ثياب صح عن ابن سيرين والنخعي والشعبي وغيرهم من السلف بإسناد صحيح. وابن حزم أخذ بهذه الآثار عن هؤلاء الأربعة.
الدليل على أنها خمسة ثياب:
- أنه روي في طريق من حديث أم عطية خارج الصحيح: أنهن - النساء اللاتي غسلن ابنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب - كفنها في خمسة ثياب وجعلن عليها خماراً كما تخمر الأحياء.
وابن حجر يقول عن هذا الحديث أن إسناده صحيح.
وروي بإسناد ضعيف أن أم كلثوم ابنت النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنت في خمسة ثياب.
فالعمدة في مسألة عدد ثياب المرأة أثناء التكفين - هذا الطريق في حديث أم عطية والآثار الصحيحة الثابتة عن السلف.
فهذان دليلان يستطيع الإنسان أن يجزم بهما ثم هو قول عامة الفقهاء.
= القول الثاني: أنها تكفن في ثلاث ثياب.
= والقول الثالث: أنها تكفن في أربع ثياب.
= والقول الرابع: أنها تكفن في سبع ثياب.
والصواب: أنها تكفن في خمس ثياب.
واختلفوا في هذه الثياب. ماذا تكون؟
الصواب أنها على ما ذكر المؤلف وهي: إزار وخمار. وقميص ولفافتين
والإزار: هو ما يستر به الجزء الأسفل من البدن.
والخمار هو الذي يغطى به الرأس.
والقميص: هو الدرع وهو معروف.
فهذه الأثواب الخمس هي الصواب وهو قول الجماهير واختيار ابن المنذر. أن تحديد الثياب هي هذه الثياب التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في البخاري أنه أعطى النساء اللاتي غسلن زينب إزاره وقال: (أشعرنها إياه).
والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد. فأعطاهم - صلى الله عليه وسلم - إزاره.
فإذاً إذا أردنا أن نكفن المرأة فنجعل عليها هذه الثياب الخمس.
فنبدأ بالإزار ثم نضع فوق الإزار القميص ثم نضع فوق القميص الخمار ثم نلف اللفافتين على جميع الجسد.
(2/311)
________________________________________
هذا هو السنة. ويراعى في المرأة ما قيل في الرجل في مسألة القطن والحنوط فإن المؤلف لم يكرر في المرأة ما لا يحتاج إلى تكراره مما ذكر في حق الرجل.
فالمرأة تختلف عن الرجل فقط في الثياب مما ذكر المؤلف وفيما عدا هذا يستويان تماماً.
وبعد أن سألت تبين لي أن عمل الناس عندنا على هذا القول: أن المرأة تكفن في خمس ثياب وهذا موافق للسنة ولله الحمد.
إلا أني فهمت أن تغسيل المرأة الآن يختم بوضع غطاء على الجزء الأسفل من البدن. يعني يغطون الفم خشية خروج الدم.
ونحن الآن درسنا أن الفقهاء يرون أنه إذا خشينا من خروج الدم أن نضع قطن فمن وجهة نظري أنهم لو وضعوا قطن لكانأولى لا سيما وأن القطن يتقبل وضع الحنوط فيه والطيب بخلاف اللفافة على الفم.
لكن مع ذلك لا نستطيع أن نقول أن هذا عمل غير مشروع لأن وضع القطن إنما استحبه الفقهاء لمصلحة الميت وليس فيه نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا رأى المغسل أن مصلحة الميت أكثر في وضع هذه الغطاء على الفم خشية خروج الدم فأرى أنه لا بأس إن شاء الله لكن تحرص المغسلة أن تضع على هذا اللثام طيب لينوافق عملها مع ما ذكره الفقهاء.
ثم ختم المؤلف - رحمه الله - هذا الفصل ببيان الواجب في الكفن بعد أن بين السنة أراد أن يبين الواجب أي: الذي لا يجوز الاقتصار على دونه.
• فقال - رحمه الله -:
والواجب: ثوب يستر جميعه.
فالواجب ثوب يستر جميع بدن الميت سواء في ذلك المرأة والرجل.
والدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع بمصعب فإنه لم يوجد له إلا ثوب واحد فستره به.
- أضف إلى هذا أن المنصوص في حديث الزبير وصفية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن حمزة بثوب واحد.
فهذان دليلان على أن الواجب في التكفين أن يغطى الميت بثوب واحد.
= القول الثاني: أن الواجب في المرأة والرجل فقط ستر العورة. فلو قام المغسل بستر عورة الميت فقط لصح الكفن وجاز وصار أدى فرض الكفاية.
= وزالقول الثالث: أنه يجب ستر جميع بدن المرأة والعورة من الرجل. يعني: التفريق بين المرأة والرجل.
فصارت الأقوال ثلاثة.
والصواب القول الأإول لأنه مؤيد بدليلين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2/312)
________________________________________
وبهذا تم البحث في ما يتعلق بمسألة التكفين وبقي ما يتعلق بالصلاة ثم في آخر الباب مسألة الزيارة والتعزية وما يتعلق بها.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ....
انتهى الدرس
(2/313)
________________________________________
فصل
[في الصلاة على الميت]

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف الكلام عن طريقة تكفينه الميت وما هي أجزاء الكفن وحكم الكفن انتقل إلى الصلاة.
وبدأ في الصلاة من أول مراحل الصلاة وهي موقف الإمام من المأموم.
• فقال - رحمه الله -:
السنة: أن يقوم الإمام عند صدره.
فيه مسائل:
- المسألة الأولى: أن مكان وقوف الإمام من الميت سنة فإذا وقف في أي مكان تجاه الميت صحت الصلاة بلا كراهة.
- المسألة الثانية: موقف الإمام من الرجل وموقفه من المرأة.
نبدأ بالمسألة الأولى وهي: موقف الإمام من الرجل.
= موقف الإمام من الرجل: عند الحنابلة: أن يقف عند الصدر كما قال المؤلف - رحمه الله -. وهذا هو المذهب الاصطلاحي عند الحنابلة.
= والقول الثاني: أن السنة أن يقف عند رأس الرجل.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند رأس الرجل ووسط المرأة.
= والقول الثالث: أن الإنسان إذا وقف عند الرأس أو الصدر فالأمر بسيط لتقارب المكانين.
فإن الإمام في الحقيقة إذا وقف أمام الصدر فهو واقف أمام الرأس.
والراجح: أنه يقف أمام الرأس. باعتبار أن الحديث الصحيح ورد بذلك فنلتزم بالحديث الصحيح ثم قد يميل الإمام يمين كثيراً فلا يصدق عليه إلا أنه أمام الرأس.
إذاً قوله: أن السنة أن يقوم الإمام عند صدره. أخذنا الآن الخلاف وأن في المسألة ثلاثة أقوال وأن الراجح أنه يقف عند الرأس وأنه اختيار بن قدامة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وعند وسطها.
يعني يقف الإمام عند وسط المرأة للحديث الصحيح عن سمرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة فقام عند وسطها.
فهو نص في أن الإمام يقف عند وسط المرأة.
وهذا الحديث في مسلم.
(2/314)
________________________________________
وبهذا علمنا أن تحديد الموقف من المرأة ثبت بسنة صحيحة لا إشكال فيها وأنه أصح من السنة التي فيها تحديد موقف الإمام من الرجل.
وظاهر كلام البخاري أن الإمام يقف عند الوسط للرجل والمرأة.
واستظهر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أنه يميل - أي البخاري - إلى تضعيف الحديث الذي فيه التفريق بين المرأة والرجل.
في الحقيقة بعد البحث في إسناد هذا الحديث الذي يفرق فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الموقف عند الرجل والمرأة لم أجد له علة فإسناده صحيح ومتصل وخال من العلل الخفية والظاهرة.
أضف إلى هذا أن الإمام البخاري لم يصرح بالتضعيف لكن يفهم من التبويب حسب فهم ابن حجر - رحمه الله - أنه يميل إلى التسوية بين المرأة والرجل ويضعف حديث التفريق.
بعد هذا البحث:
الراجح: التفريق لأنا لم نجد في الحديث علة نتمسك بها.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكبر أربعاً.
يعني أن السنة أن لا يزيد عن الأربع ولا يجوز أن ينقص عن الأربع.
= هذا المذهب: لا يجوز النقص ويكره الزيادة.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه خرج بأصحابه وصلى بهم صلاة الجنازة على النجاشي وكبر أربع تكبيرات.
وأما التكبير خمس فهو جائز أيضاً. فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الجنازة خمساً.
إذاً التكبير أربع وخمس هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المروية بالأسانيد الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * مسألة: حكم التكبير الزائد عن الخمس - ست وسبع وثمان وتسع:
التكبيرات الزائدة عن الخمس فيها آثار صحيحة ثابتة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا أعلم أن في التكبيرات الزائدة عن الخمس حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك نقول: يشرع أحياناً أن يزيد عن الخمس إلى الست والسبع لأنه مروي بأسانيد صحيحة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا ليأتوا بما ليس له أصل.
* * مسألة: الأقرب والله أعلم أن التكبيرات الزائدة عن الأربع تكون لأهل الفضل والعلم.
(2/315)
________________________________________
وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يكبر على أهل بدر ست وعلى سائر الصحابة خمس وعلى الناس أربع.
ولما كبر ست في الآثار الأخرى عنه علل ذلك بقوله: إنه بدري. - يعني من أهل بدر.
ولذلك ترجم الطحاوي - رحمه الله - على هذه الآثار بأن الزيادة عن الأربع تشرع لأهل الفضل والعلم.
وهذا هو الأقرب. لأنا لم نأخذ مشروعية الزيادة على الأربع إلا للآثار عن الصحابة وهم خصوها بأهل بدر وأهل الفضل والخير.
فالأقرب أن نقول:
- إذا صلى الإنسان على رجل من أهل الخير والفضل فإنه يزيد كما صنع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
- وإن صلى على عامة الناس فإنه يكبر أربعاً.
لكن ينبغي على الإمام إذا صنع ذلك وخشي أن يفهم الناس أن الزيادة خاصة بفلان أن يبين العلم والسنة وأنه كبر خمساً أو ستاً لا لذات الرجل وإنما لوصفه وهو أنه من أهل الفضل والخير والتقدم وغيره يساويه.
هذا الذي يظهر من آثار الصحابة.
= والقول الثاني: أن التكبير خمس وست لا يتعلق بأهل الفضل بل يجوز لكل الناس.

ثم قال - رحمه الله -:
يقرأُ في الأُولى بعد التعوذ: الفاتحة.
إذا كبر الإمام فإنه كما قال المؤلف يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة.
وفي هذه العبارة عدة مسائل:
ـ المسألة الأولى: يفهم من كلام المؤلف أنه لا يشرع لمن يصلي صلاة الجنازة أن يستفتح - يعني: أن يقرأ دعاء الاستفتاح.
= وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد وهو المذهب وإليه ذهب الجماهير.
واستدلوا بأدلة:
- منها: أن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف بدليل: أنه لا يشرع أن يقرأ الإنسان فيها بعد الفاتحة سورة أخرى. وبدليل: أنه ليس فيها ركوع ولا سجود.
- الدليل الثاني: أنه لم يرد في الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قرأوا دعاء الاستفتاح.
= الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن الإنسان إذا صلى صلاة الجنازة يقرأ دعاء الاستفتاح ورجح هذه الرواية الفقيه الكبير الإمام الخلال.
واستدل على ذلك:
- بالعمومات وهو: أنه كما يشرع للمصلي في سائر الصلوات أن يستفتح فكذلك في هذه الصلاة.
الراجح والله أعلم: أنه لا يشرع لقوة أدلة أصحاب القول الأول.
(2/316)
________________________________________
ـ المسألة الثانية: أنه يشرع لمن صلى صلاة الجنازة أن يستعيذ.
والدليل على هذا:
- أن الاستعاذة تلحق القراءة وتختص بها فكلما شرعت القراءة شرعت الاستعاذة.
ـ المسألة الثالثة: أنه يشرع للمصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب.
= ومذهب الحنابلة أنه يجب فإن تركها بطلت الصلاة.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
- منها: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وصلاة الجنازة من جملة الصلوات.
- ثانياً: وهو دليل خاص بالمسألة: ما صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه صلى صلاة الجنازة وقرأ فاتحة الكتاب ثم قال: لتعلموا أنها السنة.

= والقول الثاني: أنه لا يشرع للمصلي صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب.
واستدلوا على هذا:
- بأنه عمل أهل المدينة القديم.
- وثانياً: مروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وغيره من الصحابة.
= والقول الثالث: أن قراءة الفاتحة مستحبة وليست بواجبة. وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية على طريقته في الجمع بين القولين.
وأصح وأرجح وأقوى هذه الأقوال وجوب قراءة الفاتحة. لصراحة الأدلة ووضوحها وليس للإنسان أن يخرج عن نص جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. على أنكم سمعتم الخلاف في المسألة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثانية.
يعني: أنه إذا كبر التكبيرة الثانية شرع له أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والدليل على هذا:
- أنه صح عن ابن عباس وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على - النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة في التكبيرة الثانية.
وحديث ابن عباس وحديث أبي أمامة إن شاء الله صحيح كما قلت.
• ثم قال - رحمه الله -:
كالتشهد.
يعني: أن المشروع أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصيغة التي يصلي عليه فيها في التشهد الأخير في الصلاة الرباعية.
والدليل على هذا:
- أن هذه الصيغة هي أكمل أنواع التشهد وينبغي على الإنسان أن يأتي بالأكمل.
* * مسألة: فإن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة صحت الصلاة.
فإن قال: صلى الله عليه وسلم وسكت أجزأه.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويدعو في الثالثة.
(2/317)
________________________________________
يعني: أن المشروع للإنسان بعد أن يكبر التكبيرة الثالثة أن يشرع في الدعاء.
والدليل على هذا من أوجه كثيرة: - لأن خلاصة صلاة الجنازة الدعاء ولذلك كثرت الأدلة الدالة على مشروعيته.
- فأولاً: حديث ابن عباس السابق. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بعد الثالثة.
- ثانياً: حديث أبي أمامة وكذلك فيه أنه دعا بعد الثالثة.
- ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعوتم للميت فأخلصوا له الدعاء) وهذا الحديث إسناده جيد وممن جود إسناده الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.
- رابعاً: أن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت ولذلك صار واجباً - بل ربما ركن من أركان صلاة الجنازة - كما سيأتينا.
فهذه أربعة أدلة تدل على أهمية الدعاء في صلاة الجنازة.
• ثم قال - رحمه الله -:
فيقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتَنَا وَشَاهِدَنَا وَغَائِبَنَا وَصَغِيْرَنَا وَكَبِيْرَنَا وَذَكَرَنَا وَأُنْثَانَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا)).
هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا صلى على الجنازة قال: .. فذكر الدعاء.
هذا الحديث مما اختلف فيه العلماء:
- فعامة المتأخرين يصححون هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
- وذهب الإمام أبو حاتم والإمام البخاري وأشار إليه الإمام الترمذي أن هذا الحديث مرسل لا يصح ذكر أبي هريرة فيه.
وهذا الأخير هو الصواب أن الحديث مرسل. ولكن مع ذلك يصلح للاستدلال وأن نستشهد به لما تقدم معنا مراراً أن المراسيل إذا لم يكن في الباب غيرها وصار لها شواهد صارت صالحة للعمل والاستدلال إن شاء الله على طريقة الإمام أحمد - رحمه الله -.
هذا هو الدعاء الأول ويسميه الفقهاء: الدعاء العام. ثم يبدأ بالدعاء الخاص.
• قال - رحمه الله -:
(2/318)
________________________________________
((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيْهِ)).
هذا الحديث: حديث ثابت في صحيح مسلم بل قال الإمام البخاري هذا الحديث أصح حديث في الباب ولكنه لم يخرجه في الصحيح وإنما أخرجه الإمام مسلم.
عرفنا إذاً الدليل على مشروعية الدعاء العام الأول والدليل على مشروعية الدعاء الخاص الثاني وهو ينتهي بقوله: (عذاب النار).
أما قول المؤلف - رحمه الله -: (وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيْهِ) فهذا لم يأت في الآثار مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا موقوفاً.
والدليل على مشروعيته عند الحنابلة:
- أنه دعاء لائق بالمحل فشرع. يعني مناسب لهذه الصلاة باعتبار أن من يصلى عليه سيقبر بعد الصلاة فناسب أن يدعا له بهذا الدعاء.
ولما انتهى المؤلف - رحمه الله - من الكلام عن كيفية الدعاء للكبير انتقل لكيفية الدعاء للصغير:
• فقال - رحمه الله -:
وإن كان صغيراً قال: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْراً لِوَالِدَيْهِ وَفَرَطاً وَأَجْراً وَشَفِيْعاً مُجَاباً، اللَّهُمَّ ثَقِلْ بِهِ مَوَازِيْنَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُوْرَهُمَا وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيْمَ وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيْمَ)).
هذا الأثر جاء مرفوعاً وموقوفاً إلى قوله: (وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُوْرَهُمَا).
فالمشروع لمن صلى على الصغير أن يدعو بهذا الدعاء. وكما ترون الدعاء يتضمن أن يدعو المصلي لوالدي الطفل دون الطفل.
والدليل على أنه يدعو لوالديه دونه من أوجه:
- الأول: أنه في حديث المغيرة - رضي الله عنه - قال: إذا صلى على الطفل فيدعو لوالديه.
(2/319)
________________________________________
- الثاني: أنه روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - نحواً من هذا الدعاء.
وروي عن الحسن البصري - رحمه الله - نحواً من هذا الدعاء.
- ثالثاً: أن هذا هو المنايب والأليق بالمحل لأن الطفل الصغير لا ذنوب عليه فليس من المناسب أن نستغفر لشخص ليس له ذنوب فصار المناسب بناء على ذلك أن ندعو لوالديه.
هكذا يقرر الحنابلة.
وما ذكروه صحيح باعتبار أنه جاء في بعض الآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة وعن التابعين كما تقدم.
وأيضاً باعتبار أنه مناسب للحال.

ثم قال - رحمه الله -:
ويقف بعد الرابعة قليلاً.
يعني: يشرع للإمام إذا كبر الرابعة أن يقف قليلاً. أي: قبل أن يسلم.
والدليل على هذا:
- أن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر الرابعة وقف شيئاً.
- والتعليل: ليتمكن المأموم من التكبير.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - من قوله: (ويقف بعد الرابعة قليلاً ويسلم) أنه لا يدعو بأي شيء بعد التكبيرة الرابعة وإنما ينتظر قليلاً صامتاً ثم يسلم.
= وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختاره بن قدامة أنه لا يدعو بشيء بعد التكبيرة الرابعة.
واستدل على ذلك:
- بأنه ليس في النصوص الصحيحة المرفوعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو.
= والقول الثاني: أنه يشرع أن يدعو.
واستدلوا على مشروعية الدعاء بعد الرابعة:
- بأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن أبي أوفى كان إذا كبر الرابعة دعا.
- الدليل الثاني: أن المعهود في الشرع أن لا يخلو جزء من الصلاة من الدعاء ولذلك يشرع الدعاء في هذا الموضع.
والأقرب أن الأمر فيه سعة: إن شاء دعا وإن شاء سكت.
وإذا أراد أن يدعو فذكر الحنابلة أنه مخير بين:
- أن يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).
- أو يقول: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده).
- أو - وهو القول الثالث عند الحنابلة: يخير بين أن يقول: هذا أو هذا.
(2/320)
________________________________________
والصواب: أنه يقول هذا الدعاء أو يقول غير هذا الدعاء باعتبار أنه ليس في الباب آثار صحيحة لا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم قال - رحمه الله -:
ويسلم واحدة عن يمينه.
= مذهب الحنابلة: أن المشروع والمسنون والمستحب في حق المصلي صلاة الجنازة أن يسلم واحدة فإن سلم تسليمتين فهو مباح أو مكروه على خلاف بين الحنابلة - يعني لا يسن ولا يشرع.
واستدلوا على هذا:
- بأن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: عن ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم مخالف إلا إبراهيم.
- وسئل الإمام أحمد - رحمه الله - في موضع آخر: هل تحفظ عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمتين؟ فقال: لم يصح عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمتين.
ولذلك استنبط ابن قدامة من هذه العبارة أن التسليمة الواحدة محل إجماع عند الصحابة ومحل إجماع عند التابعين إلا عن إبراهيم النخعي - الخلاف الذي حكاه الإمام أحمد - رحمه الله -.
وتقدم معنا: أن حكاية مثل الإمام أحمد - رحمه الله - لإجماع الصحابة أمر له ثقله الكبير بسبب عناية الإمام أحمد - رحمه الله - بآثار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم مع ذلك:
= القول الثاني في هذه المسألة: أنه يسلم المصلي تسليمتين. يعني: أن المشروع والمستحب أن يسلم تسليمتين ويجوز أن يسلم تسليمة. عكس مذهب الحنابلة.
واستدلوا على ذلك:
- بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في صلاة الجنازة كما يسلم في الصلاة.
والراجح: بلا إشكال إن شاء الله مذهب الحنابلة. بل إن ابن المبارك - رحمه الله - قال: من سلم تسليمتين فهو جاهل.
إذاً الصواب إن شاء الله مع الحنابلة وهو: أن المشروع في صلاة الجنازة تسليمة واحدة ويجوز أن يسلم تسليمتين وإنما المشروع والمندوب والمنقول عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن التابعين أن يسلم الإنسان تسليمة واحدة.
(2/321)
________________________________________
وحديث ابن مسعود يدل على الجواز فقط وفي الحقيقة: (لم أتمكن من البحث في إسناد هذا الأثر) لكن مع ذلك لا أشك أن الراجح مذهب الحنابلة باعتبار أن الإمام أحمد ينقل إجماع الصحابة والإمام أحمد ينقل إجماع الصحابة وينقل أقوال معينة عن ستة من الصحابة ولا يقصد أنه لا يعرف مخالف أو أنه لم يسمع وإنما يثبت فتاوى ستة أو سبعة من الصحابة ليس لهم مخالف.
فهذا أقوى بكثير من أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - وأثره - رضي الله عنه - ليس نصاً في التسليمتين فإنه يقول: يسلم في الجنازة كما يسلم في الصلاة فربما أراد إثبات أصل التسليم.
ثم أيضاً: ربما نقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يسلم في الصلاة سوى صلاة الجنازة تسليمة واحدة فلعله أراد هذا المعنى.
وبكل حال: الأقرب ما ذكره الإمام أحمد أن الإنسان يسلم تسليمة واحدة لحكاية إجماع الصحابة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
تقدم معنا: أن تكبيرات صلاة الجنازة أربع.
وهذه التكبيرات تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: تكبيرة الإحرام. ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام محل إجماع فلم يخالف فيه أحد من الفقهاء.
ويدل عليه: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما كبر لصلاة الجنازة رفع يديه.
- القسم الثاني: التكبيرات الأخرى. وهذه لم يثبت فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح أنته كان يرفع يديه. لكن مع ذلك صح بإسناد ثابت عن ابن عمر - رضي الله عنه - وصح بإسناد ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنهم كانوا يرفعون أيديهم في صلاة الجنازة في التكبيرات الأربع.
= وذلك ذهب الجمهور إلى مشروعية رفع اليدين.
= القول الثاني: أنه لا يشرع أن يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه.
والراجح. والله أعلم القول الأول. وسبب الترجيح: ما علم من عناية ابن عمر باتباع السنة فالغالب أنه لم يصنع ذلك إلا عن توقيف.
وإذا كنا نقبل الآثار كما قبلها الجماهير في الزيادة على التكبيرات فلأن نقبلها في رفع اليدين من باب أولى.
(2/322)
________________________________________
ولذلك الجمهور الذين قبلوا زيادة التكبيرات قبلوا أيضاً رفع اليدين في صلاة الجنازة.

ثم قال - رحمه الله -:
وواجبها.
هكذا عبر المؤلف بقوله: وواجباتها. وعبر ابن قدامة في الكافي بقوله: وأركانها.
ومقصود المؤلف هنا بقوله: وواجباتها: يعني: الأركان. ولا يقصد الواجب الذي يقابل الركن ولكن مع ذلك لو أن المؤلف - رحمه الله - قال: وأركانها. لكان أوضح لقارئ الكتاب كما عبر الشيخ ابن قدامة - رحمه الله -
• قال - رحمه الله -:
قيام.
القيام. ركن من أركان صلاة الجنازة.
والدليل على ذلك:
- أنها صلاة مفروضة فوجب القيام فيها كسائر الفرائض.
وعلم من هذا التعليل:
- أن الصلاة التي يجب فيها القيام هي الصلاة الأولى التي حصل الفرض بأدائها.
- وأما الصلاة الثانية. فإنه يجوز أن يصليها الإنسان وهو جالس لأنها ليست فريضة وإنما نافلة.
= وقيل: وهو قول عند الحنابلة: بل يجب القيام ولو تكررت الصلاة.
والراجح الذي مال إليه المرداوي في الإنصاف وغيره أن الثانية لا يجب فيها القيام.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتكبيرات.
التكبيرات أيضاً أركان والسبب أنها أركان أنها تقوم مقام الركعات.
واستدلوا على ركنية التكبيرات:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الجنازة قط إلا وكبر فيها أربعاً كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الجنازة فكبر أربعاً.
إذاً التكبيرات لها دليل من النظر ودليل من النقل.
• ثم قال - رحمه الله -:
والفاتحة.
أي: ركن من أركان الصلاة. وتقدمن معنا الخلاف والأدلة على أنها واجبة ومن أركان الصلاة وأنها إن لم تقرأ بطلت الصلاة.

ثم قال - رحمه الله -:
والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- لأنه جاء ثابتاً في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وفي حديث أبي أمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فدل على أنه ركن في صلاة الجنازة.
وذكر شيخنا رحمه الله مناسبة لطيفة جداً: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مناسبة في هذا المقام لتكون بين يدي الدعاء.
• ثم قال - رحمه الله -:
ودعوة للميت.
يعني: أن الركن أن يدعو دعوة واحدة للميت.
(2/323)
________________________________________
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فأخلصوا له الدعاء) وهذا الحديث ثابت والأمر فيه ظاهر.
- والدليل الثاني: على ركنية الدعاء أنه المقصود في صلاة الجنازة. والشيء المقصود في العبادة غالباً أودائماً ما يكون ركن فيها.
• ثم قال - رحمه الله -:
والسلام.
أي: والسلام ركن من أركان الصلاة لدليلين:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وتحليلها السلام).
- ثانياً: القياس على سائر الفرائض. فإنه في الفرائض جميعاً يجب أن يسلم الإنسان وهو من أركان الصلاة.
وبهذا انتهى من سرد أركان الصلاة.
فصار القيام والتكبيرات والفاتحة والصلاة والدعوة والسلام. يعني أنها ست أركان في صلاة الجنازة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن فاته شيءٌ من التكبير: قضاه على صفته.
يريد المؤلف أن يبين حكم المسبوق فإذا فات الإنسان شيء من تكبيرات الصلاة سن له أن يقضيه على صفته.
وفي هذه العبارة عدة مسائل:
- المسألة الأولى: أن القضاء واجب وأنه لو سلم قبل أن يقضي بطلت صلاته.
- لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا).
= القول الثاني: أن قضاء ما فات من التكبيرات لا يجب.
بناء عليه إذا دخل مع الإمام وقد فاته التكبيرة أو أكثر ثم سلم الإمام فله أن يسلم ولا يقضي وصلاته صحيحة.
واستدلوا بدليلين:
- أولاً: أنه روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: عن تكبيرات صلاة الجنازة: لا تقضى.
- ثانياً: القياس على تكبيرات صلاة العيد. فإنه لا يجب أن يقضي الإنسان تكبيرات صلاة العيد.
والصواب: إن شاء الله وجوب القضاء لعموم النص وصلاة الجنازة صلاة.
إذا تقرر أن القضاء واجب: فكيفية القضاء: أن يدخل مع الإمام في الموضع الذي هو فيه ويتابع الإمام ثم إذا سلم الإمام قضى ما عليه على صفته.
والدليل أنه على صفته:
- أن القاعدة المشهورة التي اتفق عليها - تقريباً - الفقهاء أن القضاء يحكي الأداء. يعهني: يطابق الأداء.
(2/324)
________________________________________
إلا إذا خشي أن ترفع الجنازة فإنه يتابع التكبير بلا ذكر ودعاء بينه ثم يسلم لأن من شروط صحة صلاة الجنازة أن تكون بين يدي المصلي إلا ما استثني مما سيذكره المؤلف - رحمه الله - كالصلاة على الغائب والصلاة على المقبور هذا مستثنى وفيما عدا ذلك يشترط لصحة الصلاة أن يكون الميت بين يدي المصلي.
فإذا خشي الإنسان أن ترفع الجنازة فماذا يصنع؟
يتابع.
* * فإن رفعت وهو يتابع يتم المتابعة ويسلم.
إذاً: يقضي الصلاة على صفتها. إلا إن خشي أن ترفع فإنه يتابع التكبير ويكمل المتابعة ولو رفعت. هذا ملخص مذهب الحنابلة. وهو الصحيح إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن فاتته الصلاة عليه: صلى على القبر ... إلى شهر.
أيضاً في هذه العبارة عدة مسائل:
ـ المسألة الأولى: أفاد المؤلف أن الصلاة على القبر مشروعة.
= وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الجمهور:
- لما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر ميت في أكثر من مناسبة
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نصلي على القبر مطلقاً.
والصواب مع الحنابلة لصحة الدليل.
فإذا ثبت أن مذهب الحنابلة هو الصواب وهو الأحظ بالدليل وهو جواز الصلاة على القبر ننتقل إلى:
ـ المسألة الثانية: وهي إلى متى يصلى على القبر؟
= فمذهب الحنابلة: أنه يصلى على القبر إلى شهر فقط. ثم بعد الشهر لا يجوز أن يصلي إلا إذا زاد الوقت بشيء يسير كاليوم واليومين.
- الدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر.
فإذا قيل لك: من أين لكم الزيادة يوم أو يومين؟
فتقول: تؤخذ من قوله: (صلى بعد شهر) فحملوا هذه البعدية على أنها شيء يسير كاليوم واليومين.
= القول الثاني: أنه يجوز أن يصلي الإنسان على القبر أبداً.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج وصلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين.
= القول الثالث: أنه يجوز أن يصلى على القبر ما لم يتفتت الميت ويبلى.
والقول الثاني والثالث - الذين ذكرتهما الآن - أقوال ضعيفه. والدليل على ضعفها:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه لا يبلى ومع ذلك أجمع المسلمون على أنه لا يصلى على قبره.
(2/325)
________________________________________
- ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقي ولم يصل أحد على قبره.
فإذاً القول بأن الصلاة على القبر دائماً أبداً تستمر أو أنها إلى أن يبلى كلا القولين ضعيف بوجود قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجنب المسلمين الصلاة عليه.
= القول الرابع: أنه يصلي بلا حد إذا كان من أهل الصلاة حين موت الميت. يعني إذا كان هذا المصلي لما مات الميت من أهل الصلاة على الميت فإنه يصلي على القبر ولو بعد سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع بهذا الشرط.
واستدل هؤلاء:
- بأنه بهذا القول تجتمع الآثار والنصوص. وأن القول الذي فيه الجمع بين الأخبار أرجح من غيره من الأقوال التي تأخذ بنص وتدع الآخر.
وهذا القول ظاهر القوة ووجيه كما ترى وفيه جمع بين الأخبار وأخذ بالآثار جميعاً فهو الراجح إن شاء الله.

ثم قال - رحمه الله -:
وعلى غائب: بالنية إلى شهر.
وهذا أيضاً يتضمن مسألتين:
ـ المسألة الأولى: أنه يشرع الصلاة على الغائب من حيث الأصل.
= وهذا مذهب الحنابلة.
واستدلوا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب وهو النجاشي.
= القول الثاني: أنه لا يشرع مطلقاً أن يصلي الإنسان على الغائب.
- لأن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ماتوا ولم ينقل أنه صلي عليهم.
- ولأن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لما ماتوا لم ينقل أن أحداً من أهل الأمصار صلى عليهم.
فدل هذا على أنه لا يشرع أن يصلي الإنسان على الغائب الميت.
والصواب مع الحنابلة: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على غائب بالنص الصريح وهو النجاشي.
ـ المسألة الثانية: حد الغائب:
الغائب: هو ما كان خارج البلد ولو كان دون مسافة قصر بشرط أن لا يكون في موضع تجب إجابة نداء الجمعة منه.
إذاً: هل يشترط في الغائب أن يكون على مسافة قصر؟
الجواب: لا. لكن يشترط فقط أن لايكون في موضع تجب على إجابة نداء الجمعة.
هذا كله تقرير مذهب الحنابلة.
إذا تقرر مشروعية الصلاة على الغائب نأتي أيضاً الضابط:
(2/326)
________________________________________
= فالضابط عند الحنابلة أنه يصلى عليه إلى شهر. وأنه يصلى على كل غائب سواء صلي عليه أو لم يصلى عليه فعلى كل غائب يشرع أن تصلي فإذا سمعت أن إنساناً مات فإنه يشرع لك أن تصلي عليه ولو كان صلي عليه عند قومه.
أخذاً بعموم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي.
بناءً على هذا القول يشرع للإنسان أن يصلي كل يوم على أموات المسلمين. لأنه قطعاً أنه مات عدد كبير من المسلمين في هذا اليوم.
ولكن هذا القول استبشعه جداً شيخ الاسلام - رحمه الله - ورأى أنه بدعة: (وهو: أنه يشرع أن يصلي على أموات المسلمين في كل يوم). وقال - رحمه الله -: هذا بدعة ولا يشرع.
= القول الثاني: أنه يصلى على من كان في حياته مصلحة ونفعاً للمسلمين - نفعاً عاماً. كالنجاشي. فإن المسلمين انتفعوا به في الهجرة وفي غيرها.
ودليل هؤلاء: ظاهر.
= والقول الثالث: أنه يصلى على من لم يصلى عليه فقط.
والمذهب الثالث - الأخير اختيار شيخ الاسلام وابن القيم هو الراجح.
وأما الجواب عن قولهم: أن النجاشي ملك ولا يعقل أنه لم يصلى عليه: فنقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر لما ماتوا وهم أكثر الأمة غناء في الأمة لم ينقل أنه صلي عليهم في مكة.
فدل على أن هذا الضابط وهو أنه إذا مات رجل له غناء ونفع للمسلمين يصلى عليه أنه قول ضعيف بغض النظر عن النجاشي فإذا كان هذا القول ضعيف لم يبق إلا القول أن يصلي على من لم يصلى عليه وأن هذا ظاهر حال النجاشي مع قيام الاحتمال بأنه صلي عليه لكن دائماً وأبداً نحن في الشرع نأخذ بالظاهر والظاهر من حال النجاشي أنه لم يصلى عليه فيكون هذا القول الأخير قول قوي ووجيه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ....

بعد الأذان:
• ثم قال المؤلف رحمه الله - في ختام هذا الفصل:
ولا يصلي الإمام: على الغال ولا على قاتل نفسه.
يعني أنه لا يشرع للإمام خاصة أن يصلي على الغال ولا على قاتل نفسه.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي برجل قتل نفسه فلم يصل عليه. وهو حديث صحيح.
- والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الغال صلوا على صاحبكم.
(2/327)
________________________________________
= القول الثاني: أن الإمام وسائر الناس يصلون على الغال وقاتل نفسه وعلى كل المسلمين.
واستدلوا على هذا:
- بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على من قال لا إله إلا الله.
= والقول الثالث: وهو أغرب الأقوال: أن الإمام وسائر المسلمين لا يصلون على الغال وعلى قاتل نفسه يعني: لا يصلى عليه بحال.
وكما ترون أحظ الناس بالأدلة الحنابلة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صلوا على صاحبكم. فكيف لا يصلى عليه بحال وهو مسلم ونحن تقدم معنا أن الأدلة تدل على أن الصلاة فرض كفاية لكن نقول الإمام لا يصلي عليه زجراً عن فعله.
وذهب الحنابلة في الصحيح عندهم إلى أنه لا يصلى أيضاً على أهل البدع. قال الإمام أحمد ما كنت لأصلي على جهمي ولا رافضي.
واستدل على هذا - الإمام أحمد:
- أنهم - أي الجهمي والرافضي - شر من الغال وقاتل نفسه. لأن أولئك وقعوا في معصية عملية وهؤلاء وقعوا في بدعة عقدية.
وذهب المجد والشيخ الفقيه ابن مفلح إلى أنه: - وهو النوع الثالث الذين لا يصلى عليهم - لا يصلى على كل من عرف بمعصية ظاهرة مات لم يتب منها.
بناء على هذا: إذا عرف شخص من الأشخاص بمعصية مشهورة اشتهر بها فإنه إذا مات وقد عرف بالمغصية وعرف أنه لم يتب منها ينبغي على الإمام أن لا يصلي عليه.
فصار الذين لا يصلي عليهم الإمام: قاتل نفسه والغال وصاحب البدعة ومن عرف بمعصية لم يتب منها يعني اشتهر بمعية كبيرة لم يتب منها فإن هذا لا يصلى عليه. مثل إنسان مشهور بشرب الخمر واشتهر به وهو يتبجح بمثل هذا بكتاباته ومات ولم يتب فكذلك.
أو يتبجح بالزنى ونحو ذلك بكتاباته وهو معروف ومات ولم يتب فإنهه لا يصلى عليه.
وما ذكره الشيخ الفقيه المجد وابن مفلح وهما من أكبر فقهاء الحنابلة صحيح ووجيه.
الدليل:
- أن هؤلاء شر من الغال على أقل تقدير: فلا نقول أنه شر من قاتل نفسه.
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك الصلاة على هؤلاء زجراً عن أفعالهم وهؤلاء ينبغي أن يزجر الناس عن أفعالهم بترك الصلاة عليهم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد.
يعني لا بأس أن نصلي على الجنازة في المسجد.
(2/328)
________________________________________
- لما صح في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد.
- وأيضاً روي وأظنه صحيح أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد.
فصار الآن: ثبتت السنة بإجماع الصحابة وإلى هذا ذهب ابن قدامة يقول وهذا إجماع لأنه لم ينكر أحد من الصحابة الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد.
فثبت بهذه الآثار النبوية والآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز الصلاة على الميت في المسجد.
واشترط الحنابلة لهذا شرطاً واحداً وهو أن يؤمن التلويث.
ومع ذلك السنة أن يوضع مصلى خاص للجنائز خارج المسجد وتكون الصلاة في المسجد جائزة فقط ..
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

انتهى الدرس
(2/329)
________________________________________
فصل
[في صفة حمل الميت ودفنه]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن الصلاة انتقل إلى الكلام عن حمل الجنازة والتشييع وما يتعلق بهذا الأمر من أحكام.
وبدأ بالمرحلة الأولى وهي: حمل الجنازة:
• فقال - رحمه الله -:
يستحب: التربيع في حمله.
وفيه مسائل:
ـ المسألة الأولى: التربيع هو: الأخذ بقوائم السرير الأربع.
= وهو عند الحنابلة سنة لحديث ابن مسعود أنه قال: (من تبع جنازة فليأخذ بقوائهما ثم ليتطوع إن شاء أو ليذهب فإنه من السنة).
وهذا الأثر صحيح إن شاء الله وله حكم الرفع لوجهين:
- الأول: أن ابن مسعود صرح فقال إنه من السنة.
- الثاني: أن هذا لا يقال من قبل الرأي.
ـ المسألة الثانية: صفة التربيع: صفته:
= عند الحنابلة: أن يبدأ بالقائمة اليسرى الأمامية فيضعها على كتفه الأيمن ثم يرجع إلى الخلفية فيضعها على كتفه الأيمن ثم إلى الأمامية اليمنى فيضعها على كتفه الأيسر ثم يرجع إلى الخلفية فيضعها على كتفه الأيسر.
فتبين عند الحنابلة أنه يبدأ بالأماميات قبل الخلفيات فهم يرون أن هذا هو السنة.
(2/330)
________________________________________
والأقرب أن الأمر واسع وأن المقصود هو أن يحمل الجنازة مع القوائم الأربع ولا يقتصر على قائمة واحدة وإنما يدور على القوائم الأربع فإذا دار عليها بأي صفة كانت فقد حقق السنة المذكورة في حديث ابن مسعود.
وهذه صفة غفل عنها كثير من الناس اليوم فهي صفة وسنة مقصودة أن يربع ويفاوت بين الحمل بين القوائم الأربع ويحتسب هذا عند الله.
ويشترط في التربيع أن لا يتسبب ذلك بمضايقة الناس والمشاحة الشديدة بين الذين يحملون الجنازة وإلا لم يستحب كما سيأتينا في مسألة تقبيل الحجر الأسود فكذا يقال هنا إذا كان يحصل زحام ومشادة فإن الإنسان ينبغي له أن لا يفعل.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويباح بين العمودين.
يعني: أنه يجوز أن يحمل بين العمودين.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صنع ذلك.
- الثاني: أنه روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأشار الإمام الشافعي إلى أن المنقول عن الصحابة هو الثابت دون المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا هو الدليل على أن الوقوف بين القائمتين مباح ولا بأس به.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن: الإسراع بها.
الإسراع بالجنازة سنة.
وضابطه: أن يكون فوق المشي المعتاد وأن لا يزيد على ذلك. وإلى هذا الضابط ذهب المجد بن تيمية - رحمه الله - وهو الضابط الصحيح والإسراع فوق ذلك لا يستحب.
ـ المسألة الثانية: الدليل على الإسراع:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن أعناقكم). وهذا الحديث تقدم معنا وهو نص في مشروعية المسارعة بالجنازة بهذا الضابط.
ويستثنى من ذلك: إذا خشي أهل الميت من حدوث ضرر بالجنازة عند الإسراع بها فإنه لا يشرع مطلقاً إذا خشوا من ذلك.
وهذا يحصل أحياناً بحيث تكون الجنازة لو أسرع بها ولو مقداراً يسيراً فإنه يحصل فيها ضرر إما لتفككها أو لكونها مشدودة جداً فيخشى أن تنفجر مع كثرة المياه أو كثرة الهواء فالمهم الضابط أنه إذا خشي أولياء الميت أن تتضرر فإنه لا يسن الإسراع.

ثم قال - رحمه الله -:
وكون المشاة أمامها.
(2/331)
________________________________________
يعني: ويسن لمن اتبع الجنازة ماشياً أن يكون أمامها لا خلفها.
قال ابن المنذر - رحمه الله -:ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة.
= والقول الثاني: أن الإنسان إن شاء مشى أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها بشرط أن يكون قريباً منها.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الراكب خلف الجنازة والماشي أمام الجنازة أو خلفها أو عن يمينها أو شمالها).
وهذا الحديث مما اختلف في تصحيحه وتضعيفه. وذهب الحافظ ابن حجر إلى أنه مضطرب في الاسناد والمتن.
ومع هذا الاضطراب في الاسناد والمتن اختلف أيضاً عل هو مرفوع أو موقوف؟
والمحصلة: أن في هذا الحديث ضعف.
لذلك الأقرب أن يكون الماشي أمام الجنازة لأنه ثابت عن سادات الناس: النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر.
ثم انتقل إلى الراكب:
• فقال - رحمه الله -:
والركبان خلفها.
أي: والسنة بالنسبة للراكب أن يكون خلف الجنازة.
والدليل على هذا من ثلاثة أوجه:
- الأول: حكي الإجماع على ذلك حكاه الخطابي. لكن الواقع أن فيه خلاف فمن الذين خالفوا: الإمام الشافعي فإنه يرى أن الراكب الأفضل له أن يكون أمام الجنازة.
لكن على كل حال حكي الإجماع على أن السنة للراكب أن يكون خلف الجنازة.
- الثاني: حديث المغيرة السابق لأن في أوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والراكب خلف الجنازة).
- الثالث: أن الراكب إذا كان أمام الجنازة آذى الناس وإذا كان خلف الجنازة لم يؤذهم.
والصواب مع الحنابلة أن السنة في حق الراكب أن يكون خلف الجنازة.

* * مسألة: لم يذكرها المؤلف وهي مفيدة: الركوب في تشييع الجنازة ذهاباً عند الحنابلة مكروه.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيع جنازة فعرض عليه الركوب فقال - صلى الله عليه وسلم - ما كنت لأركب والملائكة تمشي.
هذا الحديث إن شاء الله حسن.
وما ذهب إليه الحنابلة من أن هذا مكروه صحيح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الركوب وعلل بأن الملائكة يمشون فمن الأدب والاحترام أن لا يركب الإنسان.
(2/332)
________________________________________
* * المسألة الثانية: يجوز الركوب إذا عاد من التشييع. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في مسلم أنه شيع جنازة ثم رجع على فرس.
فالركوب في الرجوع لا بأس به ولا حرج لكن في الذهاب مكروه فينبغي على الإنسان أن يتحرا المشي ما أمكن وسهل وأن يترك الركوب إذا لم يكن عليه مشقة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكره: جلوس تابعها حتى توضع.
يكره لمن تبع الجنازة أن يجلس إلا إذا وضعت الجنازة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع.
= والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف أن الجلوس في هذه الحال محرم. لأن النهي صريح ولا صارف له.
وهذا صحيح والأقرب أن الجلوس قبل وضع الجنازة محرم.
* * مسألة: المقصود بوضع الجنازة: أن توضع على الأرض لا في اللحد لأن الثوري لما روى هذا الحديث ذكر في رواية له أنه قال حتى توضع على الأرض.
وأما رواية حتى توضع في اللحد فضعيفة.
إذاً إذا وضعت على الأرض سواء وضعت ليصلى عليها أو وضعت ليهيء القبر أو وضعت لأي سبب فمتى وضعت على الأرض جاز للناس أن يجلسوا أما قبل ذلك فعلى المذهب مكروه والصواب أنه محرم.
ومن هنا نقول ينبغي للإنسان إذا دخل المقبرة أن ينبه الناس الذين شيعوا الجنازة أن لا يجلسوا إلا إذا وضعت على الأرض.
واليوم الجنازة بمجرد ما تدخل المقبرة توضع على الأرض فالأمر يسير فإن انتظار الناس سيكون قصيراً.

ثم قال - رحمه الله -:
ويسجى قبر امرأة.
يعني ويشرع أن يغطى قبر المرأة حال قبرها أي في وقت إنزالها في القبر.
والدليل على هذا:
- الإجماع فقد أجمع العلماء على أن هذا مشروع.
- والدليل الثاني: أن في هذا العمل ستر للمرأة والمرأة عورة ينبغي أن تستر خشية أن ينكشف منها شيء حال تنزيلها في القبر. فتغطية القبر مستحب ومشروع وهو يفعل الآن في بعض المناطق دون بعض وهو مستحب ينبغي أن يفعل دائماً.
• قوله - رحمه الله -:
ويسجى قبر امرأة فقط.
أي دون الرجل فإن تغطية قبر الرجل مكروهه لأنه لم يأت عن الصحابة ولا عن السلف أنهم فعلوا ذلك.
ولأن الرجل لا يحتاج أن يغطى قبره أثناء تنزيله في اللحد.
• ثم قال - رحمه الله -:
واللحد أفضل من الشق.
(2/333)
________________________________________
اللحد هو السنة وهو أفضل من أن يشق القبر شقاً.
والشق عند الحنابلة مكروه إذا كان بلا عذر.
واللحد هو: أن يحفر في أرض القبر حفرة مما يلي القبلة. أي إذا انتهى من يحفر القبر إلى أرض القبر فإنه يحفر حفرة جهة القبلة.
والشق: أن يحفر حفرة في وسط القبر.
وله صورة أخرى هي: أن يقيم من اللبن في وسط القبر كالحفرة ويوضع الميت في وسطها.
يعني: إما أن نحفر أو أن نبني شيئاً يسيراً ليكون كالشق في وسط القبر.
فاللحد هو السنة والشق مكروه إلا لعذر.
والدليل: - ما صح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: (الحدوا لي لحداً وضعوا عليه اللبن كما صنع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -). وهذا الحديث صحيح.
- ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي فيه ضعف: (اللحد لنا والشق لغيرنا).
والحديث الأول يكفي في إثبات سنية اللحد.
ويستثنى من هذا إذا كانت الأرض لا تقبل اللحد وإنما تقبل الشق فحينئذ يوضع الشق.
وأجمع الفقهاء على جواز اللحد والشق.
لكن البحث الآن في أيهما أفضل وعرفنا أيهما أفضل.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويقول مدخله: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).
يستحب لمن أراد أن يدخل الميت في اللحد أن يقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).
- لما رواه ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصنع ذلك.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء:
= فمنهم من رأى أنه مرفوع. وإلى هذا ذهب عامة المتأخرين.
= ومنهم من يرى أنه موقوف. وإلى هذا ذهب أئمة كبار منهم الإمام النسائي والإمام الدراقطني.
والصواب أنه موقوف.
فإذا تقرر أن حديث ابن عمر موقوف نأتي إلى بحث آخر وهو:
هل له حكم الرفع أولا؟ - هل هو مما يقال بالرأي أو لا؟
في الحقيقة أن فيه تردد ولكن الأقرب أن مثل هذا الذكر الغالب أنه على سبيل الرفع والتوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الإنسان عنده نوع تردد لكن يغلب في النظر أن له حكم الرفع.
- ن قيل: له حكم الرفع: فهو يسن أن من أراد أن ينزل في القبر ويضع الميت في اللحد أن يقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).
(2/334)
________________________________________
- وإذا قيل: أنه ليس له حكم الرفع فلا يسن أن يقال ولا نكتفي بأنه مروي عن ابن عمر في الحقيقة لأن هذه عبادة عظيمة خاصة وتكرر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك في دفن عدد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فإذا لم ينقل أنه صنع ذلك فلا يستحب أن يفعل إلا إذا قلنا أن أثر ابن عمر له حكم الرفع وهو الذي أقول أنه أرجح.
بناء على هذا تكون الخلاصة: أنه يستحب بناء على أن لهذا الحديث حكم الرفع.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويضعه في لحده: على شقه الأيمن.
استحباباً بلا نزاع عند الحنابلة.
والدليل على هذا الحكم من وجهين:
- الأول: القياس على النوم لأن النوم هو الموتة الصغرى والموت هو الموتة الكبرى فيقاس أحدهما على الآخر وقد جاءات السنة الصريحة الصحيحة بأنه يستحب للنائم أن ينام على جنبه الأيمن.
- الثاني: ما ذكره بن حزم - رحمه الله - أنه على هذا عمل المسلمين من عهد النبوة إلى يومنا هذا.
وهذا صحيح. هو يقول إلى يومنا هذا ونحن نقول وأيضاً إلى عصرنا هذا فما زال الناس يضعون الميت على شقه الأيمن.
• ثم قال - رحمه الله -:
مستقبل القبلة.
يعني: ويستحب إذا وضع على شقه الأيمن أن يستقبل به القبلة.
= وهذا عند الحنابلة على سبيل الوجوب.
= والقول الثاني: عند الحنابلة أنه على سبيل الاستحباب لا الوجوب.
الدليل على استحبابه:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلتكم أحياء وأمواتاً.
وتقدم معنا أن هذا الحديث في إسناده رجل مجهول.
- الدليل الثاني: أيضاً أن ابن حزم قال: أنه على هذا عمل المسلمين من العهد اللنبوي إلى يومنا هذا إنه إذا وضع على جنبه فإنه يوضع مستقبل القبلة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر.
فيث هذه العبارة ذكر سنتين:
- الأولى: استحباب رفع القبر.
- والثانية: أن مقدار الرفع شبر.
فعلمنا من هذا أنه لا يسن أن يكون القبر متساوي مع الأرض بل السنة أن يرفع وأن يكون قدر الرفع شبر.
والدليل على ذلك:
- أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قدر شبر.
وفي هذا الحديث ضعف.
والتعليل: - أن هذا العمل ينتج عنه أن يعرف أنه قبر فيترحم على صاحبه ولا يؤذى أو يهان فتحصل هذه الفائدة.
(2/335)
________________________________________
والقول بأنه يرفع شبراً صحيح وهو السنة.
ويؤيده ما:
• قاله المؤلف رحمه الله:
مسنماً.
يعني: السنة في القبر إذا رفعناه قدر شبر أن نجعله مسنماً أي كهيئة سنام البعير ولا نجعله مسطحاً وإنما يكون مسنماً.
- لما رواه سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً. وهذا في صحيح البخاري.
وكون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنم هذا يدل على أنه مرفوع وعلى أنه نحو الشبر.
* * مسألة: استحب الإمام أحمد وكثير من الفقهاء أن لا نزيد في التراب الذي يوضع على القبر عن المقدار الذي أخرجناه منه.
وإذا صنعنا هذا الشيء يعني: وضعنا التراب الذي أخرجناه من القبر فقط فوق القبر صار مسنماً ومرفوعاً بقدر شبر.
ففي الحقيقة تجد أن هذه الأقوال تجتمع على معنى واحد تؤيده الآثار.
لما أنهى ما يتعلق بالسنة انتقل إلى المكروهات.
• فقال - رحمه الله -:
ويكره: تجصيصه، والبناء عليه، والكتابة.
يكره عند الحنابلة أن نجصص القبر أو أن نبني عليه بناء سواء كان مما له صفة الدوام أو مما له صفة الزوال كالخيمة فلا يجوز هذا ولا هذا.
وأيضاً يكره أن نكتب عليه.
والدليل على هذا:
- ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها وأن يقعد عليها.
وفي الترمذي: وأن يكتب عليها.
فالنهي عن الكتابة ليس قي صحيح مسلم ولكنه في رواية عند الترمذي.
واختلف العلماء في صحة هذه الرواية وضعفها.
= فذهب بعضهم إلى تصحيحها.
= وذهب بعضهم إلى تضعيفها.
والصواب إن شاء الله أنها صحيحة.
وممن صححها العلامة المعلمي.
= القول الثاني: أن التجصيص والبناء والكتابة محرم.
- لأن النهي لا صارف له هذا أولاً.
- ثانياً: لأنه عهد من الشارع التشديد فيما يتعلق بالقبور لكثرة الافتتان بها.
وبهذا البحث عرفنا أن الكتابة الصواب أنها لا تستثنى بل هي محرمة بناء على ثبوت رواية الترمذي وأن من استثنى الكتابة لم يحالفه الصواب لأنها منصوص على النهي عنها ومقرونة بالبناء والتجصيص والجلوس وهذا منهي عنه أشد النهي.

ثم قال - رحمه الله -:
والجلوس.
يعني: ويكره أن يجلس على القبر.
ويدل على هذا:
(2/336)
________________________________________
- ما تقدم معنا في حديث جابر أنه قال نهى عن أن تجصص وأن يقعد عليها.
- والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة إلى القبور والجلوس عليها.
- والدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتنفذ إلى جلدة خير من أن يجلس على قبر) وهذا الحديث صحيح.
ومن هذه الأحاديث الثلاثة عرفنا أن الشارع يشدد في مسألة الجلوس على القبر لأن في الجلوس إهانة للميت المسلم والشارع جاء بتكريمه.
• ثم قال رحمه الله:
والوطء عليها.
الوطء على القبر مكروه.
والدليل:
- أنه في حديث جابر السابق الذي في مسلم رواية وأن يوطأ عليها.
فعرفنا أن رواية الوطء والكتابة خارج مسلم لكن مع ذلك الأقرب أن الوطء محرم: إما أن نقول هذه الرواية صحيحة وثابتة - رواية الوطء - ,إن لم تثبت فكذلك الوطء محرم لأن الوطء أشد من الجلوس.
فإذا ثبت النهي الصحيح الصريح عن الجلوس فالوطء من باب أولى.
والجلوس والوط على الإنسان أشد إهانة من الجلوس عليه.
• ثم قال رحمه الله:
والإتكاءُ إليه.
الاتكاء على القبر مكروه عند الحنابلة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً متكأ على قبر فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لا تؤذي صاحب القبر) وهذا الحديث إسناده حسن.
= والقول الثاني: أنه محرم وهذا القول في الحقيقة ينسجم مع النصوص والقواعد العامة في احترام الميت.

* * مسألة: المشي بين المقابر يختلف عن الوطء على المقابر فإن الوطء تقدم معنا أنه مكروه عند الحنابلة والأقرب أنه محرم والمشي بين المقابر مكروه
- لما فيه منن إيذاء الأموات.
- وقلة الإحترام.
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يمشي بين القبور فأمره أن يخلع نعليه.
وسواء قلنا أن هذا الحديث صحيحاً أو كان الحديث ضعيفاً فالحكم صحيح وتدل عليه النصوص العامة.
وكثير من الناس لا يفرق بين المشي بين القبور ووطء القبور. ولا يستثنى من وطء القبور أن يجلب الإنسان معه أبنائه الصغار ثم يدعهم يهينون الموتى فإن هذا محرم بل يجل عليه إذا اصطحبهم أن يمنعهم من أن يقوموا على القبور أو يطأوا عليها أو يجلسوا عليها.
(2/337)
________________________________________
والشارع كما مر معنا في الأحاديث الثلاثة وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار اعتنى عناية خاصة بإكرام الموتى لأنه مسلم والمسلم يجب أن نحخترمه حياً وميتاً.
ثم انتقل إلى المحرمات:
• فقال رحمه الله:
ويحرم فيه: دفن اثنين فأكثر.
يحرم أن ندفن اثنين في القبر الواحد.
الدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبر أصحابه كل إنسان لوحده.
=والقول الثاني: الذي مال إليه شيخ الاسلام وابن مفلح وغيره من المحققين أنه مكروه ولا يصل إلى التحريم.
- إذ أن مجرد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على التحريم.
والذي أميل إليه في الحقيقة أنه يحرم لأن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان مجرد فعل لكنه خرج لبيان الواجب وهو التشييع وقبر الموتى وإذا كان خرج لبيان واجب فهو واجب هذا شيء والشيء الثاني: أنه لم يعرف أبداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من أصحابه قبر اثنين معاً في قبر واحد.
فالأقرب أنه محرم.

ثم قال رحمه الله:
إلاّ لضرورة.
فيجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبر شهداء أحد صار يجعل الاثنين في قبر واحد ويقدم أكثرهما أخذاً للقران إلى جهة القبلة.
• ثم قال رحمه الله:
ويجعل بين كل اثنين: حاجز من تراب.
يعني: ويستحب ولا يجب إذا وضعنا اثنين في قبر واحد في الحالة التي يجوز فيها ذلك أن نضع بينهما تراب.
والتعليل: ليكوون كل واحد كأنه في قبر مستقل.
وهذا صحيح لأن في هذا إكرام للميت وفيه تقريب من مسألة وضع كل واحد في قبر.
• ثم قال رحمه الله:
ولا تكره: القراءَة على القبر.
القراءة على القبر لا تكره لأنه روي عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه أوصى إذا قبر أن يقرأ على قبره فواتح البقرة وخواتيمها. وقد كان الإمام أحمد يكره أن يقرأ على القبر فلما بلغه أثر ابن عمر رخص فيه.
= والقول الثاني: أن القراءة على القبر بدعة. لأن القراءة لو كانت مستحبة لفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها أصحابه وهذا ما يفهم من كلام الإمام مالك والإمام الشافعي: أن هذا الأمر بدعة.
* * مسألة: على القول بالمشروعية المقصود أن يقرأ عند قبره. يعني: بعد قبره مباشرة.
(2/338)
________________________________________
أما إذا قبر وصار له فترة على القبر فإنه لا يشرع مطلقاً - وهذا من تحرير محل النزاع وذكره شيخ الاسلام رحمه الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي: نفعه ذلك.
القرب التي تفعل وينوى ثوابها للميت تنقسم إلى قسمين - وهو الذي يسمى عند الفقهاء: إهداء الثواب:
ـ القسم الأول: عبادات أجمع الفقهاء على أن ثوابها يصل إلى الميت وهي أربع:
1 - الصدقة.
2 - والعتق.
3 - والاستغفار.
4 - والحج.
فهذه أجمع الفقهاء كلهم على أن ثوابها إذا تبرع به العامل فإنه يصل للميت إلا في خلاف شاذ في الحج.
والدليل على هذه:
- ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أباه مات ولم يحج أفأحج عنه قال: نعم. وهذا في الصحيح.
- وأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمه ماتت ولم تحج أفأحج عنها قال: نعم.
- وأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمه ماتت وكانت ستتصدق أفأتصدق عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق عن أمك.
- وأما الاستغفار فلعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو ولد صالح يدعو له). والاستغفار من جملة الدعاء.
- أما العتق فليس له دليل خاص - لا أذكر له دليل خاص - لكنه من جملة العبادات المالية.
ـ القسم الثاني: ما عدا هذه العبادات فمختلف فيها ومن أبرز الأمثلة لها: كالصلاة والصيام وقراءة القرآن وغالب الإهداء يكون بقراءة القرآن.
= فهذه ذهب الجمهور إلى أنه لا يشرع أن يتبرع بها ولا يصل للميت.
واستدلوا:
- بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.
والجواب على الآية: أن معنى الآية أن لكل إنسان سعيه له خاصة ليس لأحد غيره وهذا لا يمنع أن يتبرع به الإنسان لغيره كما أن المكاتب المالية الدنيوية هي للإنسان ليست لغيره ومع ذلك يجوز أن يتبرع بها لغيره.
وبهذا أجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - وهو أقوى الأجوبة.
وأضعف الأجوبة: القول بأنها منسوخة.
- الدليل الثاني للجمهور: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فنص على أن عمله ينقطع إلا من ثلاث وذكرها.
(2/339)
________________________________________
والجواب عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن عمل الميت الشخصي انقطع وليس في الحديث أنه لا يصله ما يتبرع له ويهدى إليه.
وبهذا أيضاً أجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - وهو جواب سديد.

= والقول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام أحمد - رحمه الله - في المشهور عنه أن جميع العبادات تصل إلى الميت.
واستدل على ذلك:
- بأنه ثبت في السنة وصول بعض العبادات فيقاس عليه سائر العبادات لعدم المانع.
بناء على هذا القول الذي تبناه الإمام أحمد: - لو صلى الإنسان ونوى أن أجره لزيد أو لأبيه أو لأمه فإن الثواب يصل.
- لو صام كذلك.
- لو قرأ القرآن كذلك ... إلخ ..
والأقرب والله أعلم مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - لأنه لا يظهر للإنسان وجه يخصص فيه العبادات التي جاءت في السنة وإنما هذه العبادات سأل عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط.
ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) مع أن الصيام ليس من المتفق عليه وإنما من المختلف فيه.
* * مسألة: إذا عرف الإنسان هذا الخلاف فمن فقه الرجل ومعرفته بأقوال العلماء أن لا يتبرع إلا بالعبادات التي اتفق عليها وأي ضرر يأتي الإنسان أن يقتصر في إهدائه الثواب على العبادات المتفق عليها فإنه بذلك يضمن وصول الأجر للميت ويحصل مقصوده ويخرج من الخلاف.
ثم العبادات التي اتفق عليها أسهل وأيسر من العبادات التي اختلف فيها.
ومن فقه الرجل أن يكثر في العبادات المتفق عليها من الاستغفار لأمرين:
- أولاً: أن الحديث نص: (أو ولد صالح يدعو له) فكأن هذا هو أحسن ما يصل إلى الميت.
- ثانياً: أنه ثبت فيث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى بيت عائشة وخلع ردائه وحذائه واضطجع بجوار عائشة ثم لما ظن أنها نامت قام بهدوء ولطف وأخذ الرداء وانتعل النعال وخرج .. الحديث .. ثم خرجت معه لأنها ظنت - رضي الله عنها - أنه سيذهب إلى نسائه .. إلى آخره .. والشاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجعوا إلى البيت قال: إن جبريل أتاني ووقف بجانب الباب وهو لا يدخل إذا وضعت ثيابك يعني عائشة ثم قال: أخرج واستغفر لأهل البقيع.
وجه الاستدلال أنه قال: استغفر لهم.
(2/340)
________________________________________
ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأحسن الأعمال فإنه لم له صل لهم ولا تصدق عنهم ولا اقرأ القرآن عنهم وإنما قال: استغفر لهم.
- الوجه الثالث: ما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استأذنت ربي أن أزور قبر أمي وأن أستغفر لها فأذن لي بالزيارة ومنعني من الاستغفار.
ووجه الاستدلال: أنه طلب الإذن بالاستغفار.
فمن فقه الانسان إذا أراد أن ينفع أحداً من أمواته أن يكثر من قضية الاستغفار.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن: أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم.
= اتفق الأئمة الأربعة كلهم على أن صنع طعام للميت سنة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم).
= وذهب الحنابلة إلى أن هذه السنة تستمر لمدة ثلاثة أيام.
= وذهب الشافعية إلى أنه يوم وليلة فقط: يعني يصنع لهم طعام لمدة يوم وليلة.
والأقرب والله أعلم ثلاثة أيام لما سيأتينا في التعزية.
بهذا انتهى الكلام عن أحكام وسنن ومحرمات الدفن وفي ختام هذا الفصل نذكر ثلاث مسائل أو مسألتين.
ـ المسألة الأولى: لا يشرع أن يوضع تحت رأس الميت أي حائل بينه وبين الأرض سواء كان قماش أو حجر خلافاً لمن قال بمشروعية ذلك لأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من أصحابه صنع ذلك بل ثبت عن عمر أنه أمر أن يوضع خده على الأرض حتى في القبر.
وأما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع تحته قطيفة حمراء فهذا صنع أحد الصحابة ولم يوافقه عليه سائر الصحابة وإنما نزل أخيراً ووضع هذه القطيفة ولم يصنع في قبور المسلمين ذلك ولم يصنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ـ المسألة الثانية: ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية أن يحثو الإنسان ثلاث حثيات في القبر إما من جهة الرأس أو من غير جهة الرأس.
والصواب أن هذا لا يشرع ولا يسن لأنه فيما يظهر لي بعد جمع الأدلة والنصوص أن جميع ما جاء في هذا الباب ضعيف لا يصلح لإقامة السنة.
فهذا الذي ظهر لي في مسألة الحثيات لأنه لا يثبت حديث في هذا الباب والأحاديث التي رويت فيه معلولة.
(2/341)
________________________________________
ـ المسألة الأخيرة: لايشرع كشف وجه الرجل لأنه ليس في الآثار أن الصحابة كانوا بعد التكفين إذا وضعوه في اللحد كشفوا وجهه والأصل أن يبقى كما هو إلا في مسألة واحدة على القول بأن المحرم يحرم عليه أن يغطي وجهه فيبقى وجه الميت المحرم مكشوفاً بالإضافة إلى الرأس.
وعلى القول السابق الذي ذكرته لكم ورجحته وتبين لي ضعف هذه الرواية وأنها شاذة فيغطى وجه الميت المحرم أيضاً وإنما يكشف فقط الرأس.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكره لهم فعله للناس.
يعني يكره لأهل الميت أن يصنعوا هم للناس طعاماً.
الدليل على هذا من وجهين:
- الأول: ما روي عن جرير أنه قال: كنا نعد صنع الطعام والجلوس لأهل الميت من النياحة.
- الثاني: أن هذا يؤدي إلى اجتماع الناس والاجتماع لا يستحب.
- الثالث: أنه لم ينقل أن أهل الميت كانوا يصنعون للناس طعاماً في العهد النبوي وإنما العكس طلب من غير أهل الميت أن يصنعوا طعاماً.
* * مسألة: استثنى الشيخ الفقيه ابن قدامة من هذا صورة وهي: ما إذا جاء أقارب أهل الميت من بلد بعيد وسكنوا كضيوف قال: فإنه لا يسعهم عرفاً إلا أن يصنعوا لهم طعاماً.
وهذا القول وجيه جداً. وهذا الطعام المصنوع في الحقيقة ليس لأجل الاجتماع للعزاء بقدر ما هو إكرام للضيوف الأقارب الذين حضروا لتعزية أهل الميت بدليل أن هذا الطعام يصنع لهؤلاء ولا يصنع لسائر الناس.
فأقول: أن ما ذكره الشخ ابن قدامة - رحمه الله - وجيه ولا بأس به وإن كان قد يفتح باباً لكن الأصل أنه لا بأس به إذا تقيدوا بهذا القيد وهو أن يأتي إليهم ضيوف يسكنون عندهم فيحرجون منهم عرفاً فيكرمونهم فلا بأس بهذا القدر إن شاء الله.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...
انتهى الدرس
(2/342)
________________________________________
فصل
[في زيارة القبور]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فهذا الفصل هو آخر فصل في كتاب الجنائز وختم المؤلف - رحمه الله - به كتاب الجنائز ليذكر أحكام زيارة القبور والتعزية وما يتعلق بهذه الأمور.
وصدر الفصل بحكم زيارة القبور:
(2/343)
________________________________________
• فقال - رحمه الله -:
تسن.
ومقصوده - رحمه الله - بقوله: (تسن) يعني للرجال فهي سنة للرجال وهو محل اتفاق.
ودليل السنية:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الموت). وهذا في مسلم.
وفي رواية للترمذي: (فإنها تذكر الآخرة).
ـ فزيارة الرجال للقبور سنة بالإجماع والنص.
ـ والغرض منها عند أهل السنة والجماعة:
- أولاً: الاعتبار والاتعاظ بحال الموتى للاستعداد.
- ثانياً: الدعاء للموتى.
وليس للزيارة قصد سوى ذلك.
ـ وأما قصد القبور لعمل عبادة أو لدعائه أصحابها أو للدعاء عند أصحابها كل هذا يدور بين الشرك والبدعة.
فبعض هذه الأعمال شرك وبعضها بدعة - ستأتيكم مفصلة إن شاء الله في كتاب التوحيد.

ثم قال - رحمه الله -:
تسن زيارة القبور إلاّ لنساء.
مسألة زيارة النساء للقبور مسألة الخلاف فيها قوي والأقوال متكافئة ولكل قول في الحقيقة وجهة نظر معتبرة.
= فمذهب الحنابلة واختاره شيخ الاسلام وابن القيم والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأبنائه - رحمهم الله جميعاً - أن زيارة المرأة للقبور محرمة، وهو رواية للحنابلة.
واستدلوا على التحريم:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله زائرات القبور) وفي رواية: (زوَّارات القبور).
واعتمد الذين استدلوا بهذا الحديث على مسألة تصحيح رواية: (زائرات) وأن رواية: زائرات وزوَّارات كلاهما ثابت.
وإثبات رواية زوَّارات وزائرات الذي يظهر لي - الآن - أنه صحيح يعني: أن رواية زائرات صحيحة وثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= والقول الثاني: أن زيارة القبور مكروهة.
= والقول الثالث: أنها مباحة.
واستدل الذين قالوا بالإباحة بعدة أدلة - نأخذ أقوى وأصح هذه الأدلة:
- الدليل الأول: ما ثبت أن عائشة - رضي الله عنها - زارت قبر أخيها عبد الرحمن في مكة.
وأجاب المانعون بأجوبة منها: - أنها لم تزر أخاها وإنما مرت على قبره أثناء دخوةل مكة لأنها لم تحضر موته ومرور المرأة بالمقابر لا حرج فيه إنما الممنوع الزيارة فإذا مرت بدون قصد فيشرع أن تسلم ولا حرج في ذلك.
(2/344)
________________________________________
- وأجابوا بجواب آخر وهو: أنها قالت: أنها زارت أخاها لأنها لم تحضر موته وإلا لم تفعل ففي هذه العبارة منها دليل أنها ترى المنع لولا أنها لم تحضر الجنازة.
- الدليل الثاني: الحديث الذي سبق معنا وفيه خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغفاره لأهل قباء وفي آخره قالت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أقول لهم: يعني للموتى فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الدعاء الذي سيأتينا.
وهذا الحديث ثابت في الصحيح.

والجواب عنه من وجهين: - الوجه الأول: أن يحمل هذا على أنها أرادت العلم لنشره لا للعمل به في هذه المسألة يعني: أرادت أن تعرف أحكام الزيارة لتنشر هذا العلم باعتبار أن عائشة - رضي الله عنها - من علماء الصحابة ولها فتوى معتبرة فأرادت أن تطلب العلم فقط.
- والوجه الثاني: أنها أرادت بذلك - يعني: إذا مرت من غير قصد.
وإذا سمعت الأقوال عرفت أنه لا قائل بأن زيارة النساء سنة وإنما مكروهة أو محرمة أو مباحة فقط فلا أعلم أن أحداً من أهل العلم قال بأن زيارة النساء سنة.
والأقرب والله أعلم فيما يظهر القول الأول.: - لأنه يغلب على النساء عند زيارة القبور الوقوع في المحرم والمنهي عنه من البكاء والجزع وعدم الصبر.
- والحكم إذا علل بعلة منتشرة لا تنضبط منع كاملاً.
- ومما يدل على التحريم: - مما يقوي القول بالتحريم: حديث أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فإذا كانت المرأة منهية عن اتباع الجنازة فمن باب أولى الزيارة.
وعلى كل الأقرب المنع وإن كان الأمر كما قلت فيه إشكالات وفيه بحث من جهة تكافؤ الأقوال والأدلة ولكن الأقرب هو ما ذكرت من المنع وهو اختيار عدد كبير من المحققين المعاصرين والمتقدمين.
* * مسألة: فإذا قيل أن الزيارة محرمة: فالصواب أنه يستوي في ذلك زيارة قبور سائر الناس وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لايوجد في الأدلة أبداً ما يدل على التفريق فزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره سواء.
بناء على هذا لا يجوز للمرأة أن تزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر صاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.
(2/345)
________________________________________
• ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً السنة في أذكار دخول المقابر:
ويقول إذا زارها أو مر بها.
استفدنا من هذه العبارة أن هذا الذكر مندوب لمن زار: يعني: دخل. أو مر مروراً فإنه يقول هذا الذكر.
وسواء مر وبينه وبين المقبرة حائل أو ليس بينه وبين المقبرة حائل فما دام مر بالمقبرة فيقول هذا الذكر:
- ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرِينَ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ)).
المؤلف - رحمه الله - في هذا الذكر خلط أربعة أحاديث والحقيقة إتيانه بالذكر على هذه الطريقة مشوش جداً ولو أنه اكتفى بلفظ واحد لأحد الصحابة مخرج في الصحيح لكان أولى من هذا التدخيل بين الألفاظ.
فليس في السنة حديث بهذا التركيب.
وممن أن نفصل الذي قاله:
- فقوله: ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ)) إلى هنا هذا الذكر كامل من حديث أبي هريرة في مسلم.
- قوله: ((يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرِينَ)) هذا جزء من حديث عائشة في مسلم ولكن في مسلم بدل منكم: منا.
- وقوله: ((َسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ)) جزء من حديث بريدة في مسلم.
- وقوله: (اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ) هذا جزء من حديث عائشة عند الإمام أحمد.
وحديث عائشة الذي رواه الإمام أحمد آخره: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم وأوله كلفظ حديث أبي هريرة في مسلم. فصار حديث عائشة الذي رواه الإمام أحمد: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتسن تعزية المصاب بالميت.
في التعزية عدة مسائل:
- المسألة الأولى: التعزية هي تسلية المصاب والتخفيف عنه وأمره بالصبر والدعاء له وللميت.
(2/346)
________________________________________
هذه هي التعزية في الشرع فليست ذكراً معيناً كما يفهم بعض الناس وإنما التعزية هي ما يجمع هذه المعاني.
- المسألة الثانية: التعزية مشروعة بجماع الفقهاء فلم يخالف أحد من الفقهاء أن التعزية سنة.

- المسألة الثالثة: اتفق الفقهاء على أن التعزية مشروعة قبل وبعد الدفن فكلهم رأى أن هذا جائز إلا أنهم اختلفوا في الأولى:
= فمنهم من قال: الأولى بعد الدفن.
= ومنهم من قال: الأولى قبل الدفن.
وعلل الذين قالوا بأن الأولى بعد الدفن: - بأنه قبل الدفن أهل الميت مشغولون به وبتجهيزه وبوقوع الخبر عليهم كما أنه بعد الدفن تزداد عادة الأحزان فيحتاج الإنسان إلى تعزية.
- المسألة الرابعة: الصواب أنه ليس للتعزية صيغة معينة وهذا قول الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام بن تيمية فكيفما عزى وبأي لفظ جاز.
- المسألة الخامسة: أفضل الصيغ ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتعين كما تقدم: (لله ما أخذ ولله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار) وأمرها أن تصبر وتحتسب.
- المسألة السادسة: مدة التعزية: = ذهب الجمهور من الفقهاء ومنهم الحنابلة إلى أن مدة التعزية ثلاثة أيام. ثم إذا انتهت صارت التعزية مكروهة.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأول: أن أهل الميت بعد ثلاثة أيام تخف عندهم الأحزان وفي تعزيتهم إثارة من جديد لهذه الأحزان.
- الثاني: استأنسوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لامرأة مسلمة تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا).
فأجاز الإحداد ثلاثة أيام على غير الزوج فاستأنسوا به.
= القول الثاني: أنه لا حد لوقته وهو مذهب المالكية.
- لعدم الدليل على التحديد.
فيجوز أن يعزي الإنسان في اليوم الرابع والخامس والسادس.
والصواب: أن التعزية تنتهي بثلاثة أيام إلا إذا رأى المعزي أن الأثر والحزن باق على أهل الميت فلا بأس أن يخفف عنهم بلا كراهة.
وقوله: (تعزية المصاب). فيه دليل على أن التعزية لا تختص بأهل الميت بل يعزى أصدقائه ومعارفه الذين ليسوا من الأخلاء إذا أصيبوا بالميت.
لأنه يقول: تعزية المصاب. إذا أصيبوا بالميت. يعني: إذا وجدوا لفراقه حزناً وأسىً.
(2/347)
________________________________________
وقد تجد بعض معارف الميت موته أشد عليهم من بعض الأقارب وهذا معروف ولذلك نقول يعزى كل من أصيب بهذا الميت فإذا كان الميت كل الناس أصيبوا به كأن يكون من علماء الأمة المشهود لهم بالخير والصلاح فالجميع يعزي الجميع لأن الجميع مصاب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجوز البكاءُ على الميت.
يجوز أن يبكي الإنسان على الميت عند الحنابلة والجمهور.
ـ لكثرة النصوصض الدالة على جوازه:
- منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى على ابنه.
- ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على عثمان بن مظعون.
- ومنها: أن جابر بكى على أبيه فجعلوا يسكتونه والنبي - صلى الله عليه وسلم - صامت ولم ينكر عليه.
- ومنها: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما كشف وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى.
وفي السنة غير هذه الأحاديث كثير في جواز البكاء.
ويشترط في البكاء: أن لا يصحبه منكر من النياحة أو الجزع أو التسخط كما سيأتينا.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله).
فالجواب عليه: أن البكاء المقصود في هذا الحديث هو: النياحة. يعني البكاء المحرم جمعاً بينه وبين النصوص.
والبكاء رحمة بالميت وشفقة عليه وطلباً للخير أفضل من التجلد أو من الضحك.
ودليل الأفضلية:
- أنه حال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ختم المؤلف - رحمه الله - الباب بالمحرمات التي تحصل فيما بعد الموت.
• فقال - رحمه الله -:
ويحرم: الندب، والنياحة، وشَق الثوب، ولطم الخد، ونحوه.
ـ الندب: هو تعداد محاسن الميت مع استخدام حرف الندب أو الندبة وهو: وا. هكذا عرفه الفقهاء كأن يقول: وارجلاه واجبلاه واسنداه. قال بعضهم: وأن يكون مع البكاء.
والصواب أن البكاء ليس شرطاً في الندب فقد يحصل بلا بكاء.
ـ وأما النياحة: فهي البكاء على الميت معه الجزع والتسخط وعدم الصبر ورفع الصوت. فالنياحة لا بد فيها من البكاء.
• قوله: وشق الثوب ولطم الخد ونحوه.
ـ شق الثوب: واضح.
ـ ولطم الخدود: واضح.
وقوله: ونحوه: يعني: كالصراخ فإنه من أكثر ما يعمل من الجزع عند موت [الإنسان].
والدليل على تحريم هذه الأمور:
(2/348)
________________________________________
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). وهذا نص في تحريم هذه الأمور.
- وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (النائحة إذا لم تتب قبل الموت جاءت يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). وإلباس المرأة سربال من القطران وهو عادة ما يكون حاراً جداً.
والدرع هو الثوب ومن جرب دليل على أن هذا الفعل محرم بل هو من الكبائر لما فيه من الاعتراض على قدر الله والتسخط.
والمعنى الذي يجمع هذه الأشياء المحرمة هو: إظهار الجزع وعدم الصبر وعدم الرضا مع ما يحتف به من قرائن من الضرب ورفع الصوت والصراخ .. إلى آخره.
وبهذا انتهى ولله الحمد الكلام عن كتاب الجنائز وننتقل إلى كتاب الزكاة.

يتبع الدرس = كتاب الزكاة.
(2/349)
________________________________________
كتاب الزكاة
قال شيخنا حفظه الله:
• قال - رحمه الله -:
كتاب الزكاة

[المسألة الأولى:] عقب المؤلف الصلاة بالزكاة لأمرين:
- الأول: اقتداء بالكتاب الكريم ففيه: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.
- الثاني: أن الزكاة الركن الثاني من أركان الاسلام بعد الصلاة فذكرها - رحمه الله - بعد الصلاة.

ـ المسألة الثانية: الزكاة في:
- اللغة: معناها: النماء والزيادة والطهارة والبركة والمدح.
فكل هذه المعاني تصدق عليها. إلا أن المعنى الأقرب الذي تتفرع عنه المعاني هو: الزيادة والطهارة.
- وفي الشرع: فهي إخراج مال مخصوص لأناس مخصوصين على صفة مخصوصة.

• قال - رحمه الله -:
تجب بشروط خمسة.
الزكاة لا تجب إلا إذا تحققت فيها خمسة شروط وإلا فإنها لاتجب.
والزكاة تتعلق بأموال معينة وهي في الشرع أربعة فقط: فما عدا هذه الأربع لا تجب فيها الزاكاة ولا ينظر في تحقق الشروط أصلاً لأنها ليست من الأموال الزكوية - أي ما عدا هذه الأربع.
والأموال الأربع هي:
1 - بهيمة الأنعام.
2 - والخارج من الأرض.
3 - والذهب والفضة.
4 - وعروض التجارة.

قال - رحمه الله -:
تجب بشروط خمسة: حرية.
- فالأول الحرية: فإنه يشترط لوجوب الزكاة أن يكون مالك المال حراً فإن كان عبداً فإنها لا تجب عليه الزكاة.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: الإجماع. فإنه حكي الإجماع على أن الزكاة لا تجب على العبد. إلا ما يذكر من الخلاف عن عطاء وأبي ثور. أما ما عداهما فهم يرون أن الزكاة لا تجب على العبد.
- الثاني: أن الزكاة فرع عن الملك. والعبد ماله لسيده.
بناء على هذا: ما يكون في يد العبد من مال تجب زكاته على سيده.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإسلام.
-[الثاني: الإسلام] يعني: ويشترط لوجوب الزكاة أن يكون مالك المال: مسلماً.
ـ ومعنى أنه شرط وجوب: أي أنه شرط أداء. ويتفرع على هذا: أنه إذا أسلم لا يؤمر أو يطالب بقضاء الزكاة.
ـ وأما أنه واجب بمعنى: أنه يعاقب على تركه فهو واجب بهذا الاعتبار حتى على الكافر.
ـ إذاً: إذا قيل لك: هل تجب الزكاة على الكافر؟
(2/350)
________________________________________
فتقول: - باعتبار الأداء: لا. - وباعتبار العقوبة: نعم.
والدليل على عدم وجوب الزكاة على الكافر:
- الأول: حديث معاذ المشهور: حيث أمره بأن يأمرهم بشهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة. ثم قال: (فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) فنص الحديث على أن وجوب الزكاة يكون بعد الاسلام.
- الثاني: أن الزكاة عبادة والكافر ليس من أهل العبادات.
- الثالث: الإجماع. فقد أجمعوا على أن الكافر لا تجب عليه الزكاة.
فهذه المسألة لا إشكال فيها.

ثم قال - رحمه الله -:
وملك نصاب.
-[الثالث: ملك النصاب]. ملك النصاب من شروط وجوب الزكاة.
والنصاب هو: القدر الذي إذا بلغه المال وجبت فيه الزكاة.
وبلوغ النصاب شرط بالإجماع:
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس نوق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة) وهذا الحديث في البخاري.
فنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن المال إذا لم يبلغ النصاب الشرعي ليس فيه صدقة أي: ليس فيه زكاة.
* * مسألة: من ملك النصاب فهو غني شرعاً. - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم). فكل من أخرج الزكاة بعد أن يبلغ ماله النصاب فهو غني في الشرع.
• ثم قال - رحمه الله -:
واستقراره.
-[الرابع: استقراره]. الضمير يعود على الملك: أي استقرار الملك. وعَبَّرَ غير المؤلف - رحمه الله - من الحنابلة: بقوله: (تمام الملك). إذاً الشرط: استقرار الملك وتمامه.
ومعنى: استقرار الملك: أي أن لا يتعلق به حق الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء.
وبالإمكان أن نضيف ضابط يسهل الأمر فنقول: - (أن لا يكون المال عرضة للزوال).
وهذا الضابط يمكن أن يؤخذ من أمثلة الفقهاء، فمن أمثلة عدم استقرار الملك:
ـ مال المكاتب: فلا زكاة فيه لأن المكاتب قد ينصرف عن المكاتبة ويعجز نفسه ولا يدفع المال.
والمكاتب هو: من اتفق مع سيده أن يدفع له مبلغاً معيناً يكون العبد بعده حراً وعادة ما يكون المال الذي يدفعه المكاتب لسيده أقساط أو منجماً فبإمكانه أن يعجز نفسه في أي وقت ولذلك نقول مال المكاتبة ليس مستقراً.
(2/351)
________________________________________
من الأمثلة أيضاً على المال الذي لم يستقر الملك فيه:
ـ ربح المضارب: فإذا أعطى شخص شخصاً مالاً ليضارب به ونتج عن هذا المال ربح فإن هذا الربح بعضه للمضارب وبعضه لرب المال. فهذا الربح ليس فيه زكاة إلا بعد القسمة.
لماذا؟ - لأن ربح مال المضاربة تعوض به خسارة رأس المال.
فإذاً لا يمكن أن نوجب على المضارب زكاة إلا إذا تمت القسمة بعد استكمال رأس المال.
هذان مثالان لمسألة استقرار الملك.
واستقرار الملك محل إجماع.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومضي الحول.
-[الخامس: ومضي الحول] يشترط لوجوب الزكاة مضي الحول: أي أن يملك الإنسان حولاً كاملاً.
والدليل على اشتراط مضي الحول من وجوه:
- الأول: حكي فيه الإجماع.
- الثاني: فيه حديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول).
وهذه الأحاديث ضعيفة لكنها تقوى بالآثار.
- الثالث: وهو الآثار. فقد صح عن أبي بكر وعلي وعثمان - رضي الله عنهم - أنهم اشترطوا الحول لوجوب الزكاة.
وهذا صحيح عنهم - رضي الله عنهم أجمعين -.
- الرابع: - وهو أيضاً من الأدلة القوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عمال الصدقة والسعاة في كل سنة مرة واحدة.
فإذاً اشتراط الحول ثابت ولله الحمد.
ثم لما ذكر مسألة اشتراط الحول بدأ فيما يستثنى:
• فقال - رحمه الله -:
في غير المعشر.
المعشر: هي الحبوب والثمار.
فالزروع والثمار لا يشترط لها الحول بل متى نبتت وخرجت وصلحت وجبت فيها الزكاة بعد الحصاد.
- لعموم قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده}.
وسميت المعشرات بذلك: لأنه يؤخذ منها العشر أو نصف العشر كما سيأتينا.
فهذا الأمر الأول الذي يستثنى.

ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ نتاج السائمة وربح التجارة ولو لم يبلغ نصاباً، فإن حولهما حول أصليهما: إن كان نصاباً، وإلاّ فمن كماله.
- نتاج السائمة وربح التجارة: لا يشترط فيه الحول.
[= الأول: نتاج السائمة]:
(2/352)
________________________________________
ـ فإذا جاء عمال الصدقة إلى من يملك المواشي ونتجت - يعني ولدت هذه المواشي قبل حولان الحول بشهر فكانت مثلاً: تسعين شار ثم أصبحت مائة والعشر الزائدة لم تأت إلا قبل حولان الحول بشهر واحد فإن عامل الصدقة يأخذ الزكاة من المائة.
- لأنه لا يشترط في نتاج السائمة أن يحول عليه الحول بل حولها حول أصلها.
وأصلها: يعني الأمهات.
والسائمة: هي التي ترعى الحول ويقصد بها الآن بهيمة الأنعام: البقر والغنم والإبل.
ـ فالبقر والغنم والإبل: لا يشترط في نتاجها يعني فيما تلده أن يحول عليه الحول بل يأخذ الساعي الزكاة من مجموع - الأغنام مثلاً - وإن كان بعضها نتج أثناء الحول.
ما الدليل؟
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السعاة إلى أصحاب المواشي فيأخذون الزكاة من الموجود كله ولا يسألون عن ما ولد أثناء الحول.
- الدليل الثاني: أنه صح عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يجعلون حول المولود من بهيمة الأنعام حول أصله.
= الثاني: ربح التجارة:
ربح التجارة لا يشترط له الحول بل حول الربح حول الأصل.
ـ فإذا ملك الإنسان مائة ألف وتاجر بها ثم ربحت بعد ستة أشهر خمسين ألف وحال الحول على المائة وخمسين ألفاً فالزكاة تجب فيها مع أن الذي حال عليه الحول كاملاً المائة ألف والخمسين ربح لكن الفقهاء يقولون: ربح التجارة تابع لأصله فلا يشترط له حول جديد.
الدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أن ربح التجارة تابع لأصله. والتابع لا يفرد بحكم.
- الثاني: أن المسلمين ما زالوا يخرجون صدقة عروض التجارة ويخرجون الزكاة من رأس المالل والأرباح ولو كانت حاصلة أثناء الحول.

ـ إذاً: الذي يستثنى من الحول فقط ثلاثة أشياء:
1 - المعشرات.
2 - ونتاج السائمة.
3 - وربح التجارة.
فيما عدا هذه الثلاثة أموال كل شيء يحتاج إلى حول. وهذه قاعدة تريح طالب العلم.
ـ مثال ذلك:
- رجل يملك خمسين رأس من الغنم وفي أثناء الحول اشترى خمسين أخرى.
فالخمسين الجدد التي اشتراها أخيراً: هل نقول: حولها حول الأول أو تحتاج إلى حول جديد؟
الجواب: أنها تحتاج إلى حول جديد: لأنها ليست من الثلاثة.
(2/353)
________________________________________
- رجل يملك مائة ألف ثم بعد مضي ستة أشهر وهبت له خمسين ألف أو ورث خمسين ألف.
فهذه الخمسين: تحتاج إلى حول جديد لأنها ليست من الأشياء المستثناة.
إذاً نقول: ما عدا هذه الثلاثة أشياء يحتاج إلى حول جديد.
وعرفنا الآن نتاج السائمة وربح التجارة
• يقول - رحمه الله:
فإن حولهما حول أصليهما: إن كان نصاباً.
يشترط في عدم اعتبار حول جديد لنتاج السائمة أن يكون الأصل بلغ النصاب.
فإن لم يكن بلغ النصاب فإنه لا يبدأ الحول إلا من بلوغ النصاب.
ـ مثال ذلك: رجل يملك أربعاً من الإبل. ثم في أثناء الحول ولدت واحدة فصار المجموع خمسة. فإن الحول يحتسب من ولادة هذه الخامسة.
لماذا؟
لأنته يقول: بشرط أن يكون حول أصلهما أذا كان يبلغ النصاب.
• قال: وإلا فمن كماله:
أي وإلا نبدأ احتساب الحول من كمال النصاب ولو كان الكمال حصل بنتاج السائمة أو بربح التجارة.

ثم قال - رحمه الله -:
ومن كان له دين أو حق من صداق أوغيره.
المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين في هذه العبارة حكم زكاة الدائن ثم سيذكر بعدها حكم زكاة المدين.
وهاتان مسألتان غاية في الأهمية لا سيما في وقتنا هذا فإنه لا يخلوا أحد من أن يكون دائن في الغالب أو مدين.
نبدأ بما بدأ به المؤلف - رحمه الله - وهو أن يكون دائناً: ـ من كان له دين.
الدين في اللغة: كل ما كان غائباً فهو دين في لغة العرب.
وفي الشرع: - وهو الذي يهمنا -: اسم للمال الواجب في الذمة بدلاً عن قرض أو مبيع أو منفعة أو إتلاف.
فمن خلال هذا التعريف أيهما أعم: القرض أو الدين؟
- الدين: لأن القرض نوع من أنواع الدين.
عرفنا الآن الدين لغة واصطلاحاً.
الأذان ...
انتهى الدرس
(2/354)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالأمس توقف الكلام عن زكاة الدين: يعني: زكاة مال الدائن.
وقلت أن مسائل زكاة الدين مسائل مهمة وتشتد حاجة الناس إليها.
وذكرت تعريف الدين لغة واصطلاحاً.
وأضيف الآن وأقول: أن حكم زكاة الدين فيه اختلاف شديد بين أهل العلم وتعدد في الأقوال وتتداخل، فهي من المسائل التي قد تعتبر مشكلة.
ونأتي إلى حكم زكاة الدين:
ينقسم الدين إلى قسمين:
ـ القسم الأول: الدين المرجو.
ـ والقسيم الثاني: الدين غير المرجو.
- فالدين المرجو: هو الدين على غني باذل.
- والدين غير المرجو: هو الدين على معسر أو مماطل.
نأتي إلى:
القسم الأول: الدين المرجو - وقد عرفت ما هو الدين المرجو - اختلف فيه الفقهاء على أقوال:
= فالقول الأول: للجمهور: أنه تجب فيه الزكاة لكل سنة.
إلا أن بعض الجمهور قال: يجوز له أن يؤخر إخراج الزكاة إلى حين القبض ثم يخرج زكاة السنين جميعاً.
واستدل هؤلاء بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أنه جاء في الآثار عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الزكاة.
- الدليل الثاني: أن الدين المرجو كالدين الذي في يده [لا يجب أن يزكيه].
- الدليل الثالث: عموم الأدلة.

= القول الثاني: أنه لا تجب الزكاة مطلقاً.
واستدل هؤلاء:
- بأن المال إذا كان ديناً لا يعتبر من الأموال النامية والزكاة تتعلق بالأموال النامية.
والجواب: أنه يعتبر نام حكماً لا حقيقة ويكتفى بكونه نام حكماً لا حقيقة.
= القول الثالث: أنه تجب فيه الزكاة إذا قبضه لسنة واحدة.
واستدل هؤلاء:
- بأن من شروط وجوب الزكاة: القدرة على الأداء. وهذا المال ليس بيده.
والجواب من وجهين:
- الأول: أن الصواب أنه لا يشترط في وجوب الزكاة القدرة على الأداء - كما سيأتينا في كلام الماتن.
- الثاني: أن الدائن بإمكانه أن يأخذ المال إلا أنا نفترض أن المدين باذل وغني فيستطيع هو أن يأخذ المال فإذا لم يأخذ المال هو فلا يسقط حق الله فإذا أسقط حق نفسه لا يسقط حق الله وهو الزكاة.
والصواب: إن شاء الله مع القول الأول وهو: وجوب الزكاة وله أن يؤخر إخراج الزكاة إلى أن يقبض المال بشرط أن يحسب زكاة كل سنة.
ورجح هذا القول عدد من المحققين منهم: أبو عبيد - رحمه الله -.
القسم الثاني: الدين غير المرجو - وقد عرفت ما هو الدين غير المرجو - واختلف أيضاً فيه الفقهاء على قولين:
(2/355)
________________________________________
= القول الأول: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام: أنه لا تجب الزكاة فيه مطلقاً.
واستدل هؤلاء:
- بأن هذا الدين لا يمكن الانتفاع به بحال.
= والقول الثاني: وجوب الزكاة فيه.
واستدل هؤلاء:
- بأثر عن علي - رضي الله عنه -.
- وأثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
- وأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه -.
ولا يصح من هذه الآثار إلا أثر علي - رضي الله عنه -.

= والقول الثالث: أنه تجب فيه الزكاة إذا قبضه لسنة واحدة.
والصواب مع القول الثاني. وسبب الترجيح: صحة أثر علي - رضي الله عنه - ولولا وجود هذا الأثر لكان القول الأول وهو: عدم الوجوب مطلقاً هو القول الصواب.
لكن مع وجود أثر علي - رضي الله عنه - صرح فيه بأنه يخرج زكاته إذا قبضه فيكون هذا القول هو الراجح.
وله أيضاً أن يؤخر إخراج الزكاة إلى أن يقبض المال فيزكي عن الجميع.
وأما القول الأخير ففيه ضعف ظاهر. لأنه إما أن تجب الزكاة في كل السنين أو تنتفي في كل السنين. لأن هذا المال على حال واحدة وله حكم واحد فالتفريق بين السنة الأخيرة وما قبلها من السنوات لا دليل عليه.
فيكون الراجح مذهب الحنابلة.
• ولذلك يقول المؤلف - رحمه الله -:
ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره، على مليء أو غيره: أدّى زكاته إذا قبضه لما مضى.
فما ذكره المؤلف هو الراجح في المرجو وغير المرجو.
* * مسألة: حكم زكاة مال الصبي والمجنون: - ومكانها المناسب بعد الشرط الثاني.
ولا حظ معي فإن المؤلف - رحمه الله - يقول في المتن:
(تجب بشروط خمسة: حرية وإسلام): هذان الشرطان يتعلقان بالمزكي.
ثم قال رحمه الله: (وملك النصاب واستقراره ومضي الحول) وهذه الشروط تتعلق بالمال.
فمن قول المؤلف - رحمه الله -: (حرية وإسلام) عرفنا أن الحنابلة لا يشترطون في المزكي أن يكون بالغاً.
= وهذا مذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم من السلف والصحابة ومن يعدهم فكلهم يرى أن الصبي تجب في ماله الزكاة.
واستدلوا:
ـ أولاً: بالنصوص الصريحة الصحيحة:
- كقوله تعالى: {خذ من أموالهم ... }.
فعلق الوجوب بالمال.
- وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ: (صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم).
(2/356)
________________________________________
ـ وثانياً: الآثار المتكاثرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها الأمر بإخراج الزكاة عن مال الصبي.
فهذا القول هو القول الراجح. وهو منذهب الجماهير.
= والقول الثاني: عدم الوجب.
واستدلوا:
- بأن الزكاة عبادة والصبي ليس من أهل العبادات.
- وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة ... ).
والصواب مع الجماهير. لكثرة الآثار ولأن ظواهر النصوص ربط الزكاة بالمال لا بالمزكي.
[ثم ننتتقل إلى زكاة المدين بعد أن بينا أحكام زكاة الدائن:].
• قال - رحمه الله -:
ولا زكاة في مال: من عليه دين ينقص النصاب، ولو كان المال ظاهراً.
تنقسم الأموال في الشرع إلى قسمين: - ونحن الآن في صدد الكلام عن زكاة المدين.
ـ القسم الأول: أموال ظاهرة.
ـ والقسم الثاني: أموال أو باطنة.
- فالأموال الظاهرة:
تعريفها: هي الأموال التي لا يمكن إخفائها.
وتعدادها هي: - الزروع. - والثمار. - والمواشي.
- وأما الأموال الباطنة:
تعريفها: هي الأموال التي يمكن إخفائها.
وتعدادها هي: - الذهب والفضة. - وعروض التجارة.
* * مسألة: جنح كثير من المتأخرين بل من المعاصرين إلى أن عروض التجارة أصبحت من الأموال الظاهرة لا من الأموال الباطنة في وقتنا هذا: - لا تساع التجارات وتنوعها وتنوع طريقة العرض فيها.
والصواب: أن عروض التجارة من الأموال الباطنة كما هو مذهب الجماهير.
وعلة كون عروض التجارة من الأموال الباطنة: أن المنظور فيها إلى القيمة. فهي باعتبار القيمة لا تعرف. لا كما ظن بعض أهل العلم أن المنظور فيها إلى طريقة العرض وكثر أو قلة البضائع. فليس الأمر كذلك. بل هي من الأموال الباطنة باعتبار الثمن وقيمة العروض.
ولذلك يحصل كثيراً أن تدخل محلاً ولا تتصور أن تبلغ البضاعة الموجودة في هذا المحل هذا المبلغ الكبير من حيث القيمة ويتفاجأ الإنسان أنه قيمة هذه البضائع تبلغ مبلغاً كبيراً.
وهذا دليل على أنها باطنة. لأن المنظور فيها للقيمة.
ولا نريد الإطالة في هذه المسألة. لكن هذا هو الراجح مع كذر أقوى دليل وهو أنها باطنة باعتبار الثمن.
وقبل نأتي إلى حكم زكاة المدين نبين ما معنى أنه لا زكاة على المدين؟
ـ معنى أنه لا زكاة على المدين:
(2/357)
________________________________________
أن المسلم إذا أراد أن يخرج الزكاة يخصم من الأموال التي بيده قدر الدين الذي عليه ويزكي الباقي إن بلغ نصاباً.
فهذا معنى أنه لا زكاة على المدين عند من يقول بهذا القول.
نأتي إلى الأحكام:
ـ أولاً: حكم زكاة المدين في الأموال الباطنة - ونبدأ بها لأنها الأهم - وقد عرفنا ما هي الأموال الباطنة:
= القول الأول: أنه لا تجب الزكاة على المدين في الأموال الباطنة.
وإذا قلنا لا تجب الزكاة - عرفنا ما معنى لا تجب الزكاة وليس المقصود لا تجب مطلقاً كما قد يفهم البعض - ولكن المعنى هو ما ذكرت لك كما قرره الفقهاء.
وإلى هذا القول ذهب الجماهير من الصحابة والسلف والتابعين وتابعوهم وجمهور الأئمة وعامة العلماء.
واستدلوا بأدلة كثيرة:
- الدليل الأول: ما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه خطب الناس وقال: قد جاء شهر زكاتكم فأخرجوا ديونكم لتزكوا أموالكم.
وجه الاستدلال: أنه لم يأمر بإخراج الزكاة من مبلغ الدين الذي سيقضى.
- الدليل الثاني: إجماع الصحابة. وممن أشار إلى هذا الإجماع ابن سيرين والزهري وذكره غيرهما من العلماء المتأخرين لكن من السلف أشار هذان الإمامان إلى الإجماع.
- الدليل الثالث: - مع إجماع الصحابة: الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم -.

= القول الثاني: أنه تجب الزكاة على المدين في الأموال الباطنة.
وهؤلاء استدلوا:
- أولاً: بعموم الأدلة.
- وثانياً: أنه لا دليل على استثناء مقدار الدين من الزكاة.
والجواب على هذا الاستدلال: أن ما ذكره أصحاب القول الأول من أدلة هي الدالة على الاستثناء.
والراجح القول: الأول. كيف وقد حكي إجماع الصحابة.
ـ بناء على أن هذا القول هو الراجح: إذا كان الإنسان يملك مائة ألف ريال وهو مدين بثلاثين ألف ريال فالواجب عليه أن يخرج الزكاة عن سبعين ألف ريال.
وقد فصَّل هذا التفصيل تماماً من التابعين ميمون بن مهران فذكر أن الإنسان إذا أراد أن يزكي يصنع كما قلت لكم يخصم مما بيده مقدار الدين.
* * مسألة: - وهي مهمة جداً -:
يشترط لخصم الدين من الزكاة أن لا يجد سوى النصاب ليقضي به الدين.
فإن وجد غير النصاب زكى النصاب كاملاً سواء وجد أموالاً نقدية أو عينية.
(2/358)
________________________________________
مثال ذلك: إذا كان الإنسان يملك ألف وهو مدين بألف ويملك سيارة زائدة عن حاجته بألف فكم سيزكي؟
ألف. مع أنه مدين بألف. لكن الدين يقابله العرض الذي يساوي ألف.
وتطبيق هذا الشرط لا بد منه.
وإذا طبقنا هذا الشرط يندر أن يخصم الإنسان من الوعاء الزكوي لديه مقدار الدين لأنه غالباً يكون عنده عروض أخرى تصلح لسداد الدين.
ـ بناء عليه: ليس من المقبول أن يقول شخص: أنا مدين بمائة ألف وهو يملك سيارات واستراحات وأراضي. فنقول له: إذا كنت مديناً فسدد الدين من غير الزكاة وإنما مما تملك من العروض سواء كانت أراضي أو استراحات أو سيارات زائدة عن حاجتك.
* * مسألة: رجل يملك عشرة آلاف: وهو مدين بخمسة آلاف وعنده سيارة هي السيارة التي يتنقل عليها.
فكم سيزكي؟
خمسة آلاف.
ويصح هنا أن يخصم مقدار الدين من الزكاة لأن السيارة التي معه تقوم بحاجته التي لا يستغني عنها.
إذاً: لا بد أن ننتبه لهذا الشرط.
وهذا الشرط اشترطه جمهور الفقهاء ونص عليه الإمام أحمد وهو شرط صحيح.
ـ ثانياً: بقينا في الأموال الظاهرة:
والأموال الظاهرة هي: الزروع والثمار والمواشي كما تقدم معنا.
اختلف فيها الفقهاء على قولين:
= القول الأول: أنه لا يخصم الدين من الزكاة في الأموال الظاهرة.
فإذا كان عند الإنسان مائة من الإبل وهو مدين بعشرة آلاف فالواجب أن يخرج زكاة كم؟
مائة من الإبل. ولا يخصم مقدار الدين من الزكاة في الأموال الظاهرة.
وإلى هذا ذهب الجمهور.
واستدلوا بأدلة قوية جداً:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله عنهم - كانوا يبعثون عمال الصدقة - السعاة - إلى أصحاب الإبل والمواشي فيأخذون منهم الصدقة ولا يسألون عن مقدار الدين.
- الدليل الثاني: أن الزهري وابن سيرين نصوا على أن الإنسان يخصم الدين من العين دون المواشي والثمار ونسبوا هذا إلى الصحابة فقالوا: كانوا - يعني الصحابة -.
= والقول الثاني: أنه يخصم الدين حتى من الأموال الظاهرة.
واستدلوا:
- بما استدل به الجمهور بمسألة الأموال الباطنة.
(2/359)
________________________________________
والجواب عليه: أن الأدلة التي استدل بها الجمهور في المسألة الأولى وهي الأموال الباطنة هي بنفسها تفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة كما نقلنا عن ابن سيرين والزهري فإنهم نصوا على الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة.
فالسلف أنفسهم يفرقون بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة.
والراجح القول الأول.
فصار القول الراجح: التفريق بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة. وهذا مذهب الجمهور وممن رجحه من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -.
وبهذا اكتمل الكلام عن مسألة الأموال الظاهرة والباطنة في زكاة المدين.

قال - رحمه الله -:
ولا زكاة في مال: من عليه دين ينقص النصاب، ولو كان المال ظاهراً.
فعرفنا أن: = مذهب الحنابلة أنه يخصم الدين من الزكاة في الأموال الظاهرة وكذلك في الأموال الباطنة على حد سواء.
وتقدم معنا الراجح وهو: أنه لا يخصم في الأموال الظاهرة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وكفارة كدين.
مقصود المؤلف أن دين الآدمي يخصم وكذلك دين الله.
أي التسوية بين دين الآدمي والدين الذي لله سواء كان الدين الذي لله مما له مطالب كالزكاة أو مما ليس له مكالب كالكفارات.
والدليل على أن دين الله كدين الآدمي فيخصم من الزكاة:
- قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البخاري: (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء). فهذا نص أن دين الله كدين الآدمي.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن ملك نصاباً صغاراً: انعقد حوله حين مَلَكَهُ.
يعني: إذا ملك الإنسان من الموشي قدر النصاب إلا أنها صغيرة فتجب فيها الزكاة إذا حال الحول إذا بلغت صاباً.
ولا يشترط في المواشي أن تبلغ سناً معينة لكي تجب فيها الزكاة.
واستدل هؤلاء:
- بعموم ما أخرجه البخاري: (في كل أربعين شاة شاة). وهذا عام سواء كانت هذه الأربعين صغيرة أو كبيرة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن نقص النصاب في بعض الحول ... انقطع الحول.
إذا نقص النصاب أثناء الحول انقطع الحول.
مثال ذلك: رجل يملك خمساً من الإبل وهو النصاب ثم بعد مضي ستة أشهر ماتت واحدة أو ذهبت لأي سبب فأصبح المجموع: أربع.
فإذا أصبح المجموع أربع انقطع الحول من حين ينقص النصاب.
(2/360)
________________________________________
فإذا اكتمل النصاب مرة أخرى استأنفنا الحول من جديد.
الدليل:
- أن اشتراط النصاب في كل الحول دلت عليه النصوص فإذا تخلف النصاب في بعض الحول انقطع.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو باعه.
يعني: إذا باع النصاب أو باع بعض النصاب انقطع الحول أيضاً.
فإذا كان يملك ثلاثين من البقر ثم باع منها خمساً في أثناء الحول انقطع الحول.
فإذا اشترى ما يكمل النصاب استأنف الحول من جديد.
والدليل:
- هو: نفس الدليل السابق.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو أبدله بغير جنسه.
إذا باعه أو أبدله بغير جنسه: انقطع الحول.
وتقدم معنا صورة البيع.
أما صورة الإبدال: فهي أن يبيع النصاب معاطاة وبعبارة أخرى: المؤلف - رحمه الله - يقول: إذا باعه أو أبدله وسيأتينا أن البيع هو عبارة عن إبدال فلذلك هم يصدرون تعريفه بقولهم: مبادلة مال بمال.
فلماذا فرق المؤلف - رحمه الله - بين البيع والإبدال؟
- نقول: نحمل الإبدال على أحد صورتين:
ـ الصورة الأولى: أن يكون: - البيع يقصد به: مبادلة عين بنقد.
- والإبدال: مبادلة عين بعين. والذي يسمى المقايضة.
ـ الصورة الثانية: أن يكون المقصود: - بالبيع: البيع الذي يتم بالإيجاب والقبول.
- وبالمبادلة: المبادلة التي ننم عن طريق المعاطاة بدون صيغة إيجاب وقبول.
بناء على هذا: إذا أعطى رجل رجلاً آخر ثلاثين من البقر وأخذ منه عشرين من الإبل.
فهل هذا بيع أو إبدال؟
الجواب: - باعتبار المصطلح الخاص الذي نتكلم به: إبدال.
وإذا باع الثلاثين بعشرة آلاف درهم؟
بيع.
إذاً هذا مال بمال أو مال بنقد.
إذا باع ثلاثين من البقر بعشرة آلاف درهم بإيجاب وقبول. قال: بعت. وقال الآخر: اشتريت. وتمت المبادلة فهذا: بيع.
وإذا كان عن طريق المعاطاة بأن يعطيه البقر ويأخذ النقد بدون كلام وإنما عن طريق المعاطاة فهو: مبادلة.
والأمر بسيط لكن نريد أن نعرف لماذا غاير المؤلف - رحمه الله - وفاوت بين البيع والإبدال فخرجوه على أحد هذه التخريجات.
• ثم قال - رحمه الله -:
لا فراراً من الزكاة: انقطع الحول.
فصار الحول ينقطع:
- إذا نقص النصاب.
- أو باع النصاب.
- أو أبدل النصاب.
ففي هذه الصور الثلاث ينقطع الحول. وإذا اكتمل النصاب بدأ الحول من جديد.
(2/361)
________________________________________
قال: لا فراراً من الزكاة:
فإن كان يريد الفرار من الزكاة فإن عمله لا يقطع الحول.
بناء على هذا: إذا ملك الإنسان ثلاثين من البقر فلما بقي على حولان الحول شهر باع البقر بعشرة آلاف درهم ثم بعد عشرة أيام أو أقل أو أكثر اشترى الثلاثين أو غير هذه الثلاثين.
فهل يستأنف الحول أو لا؟
نقول: ما دام قصدك قطع الحول فتستمر على حولك الأول كأنك لم تصنع شيئاً.
- لأن القاعدة تقول: (أن الحيل لا تسقط الواجبات). بدليل أن الله سبحانه وتعالى ذم اليهود الذين احتالوا على صيد السمك في يوم السبت والأحد وذمهم بذلك واعتبر عملهم محرم مع أن الصورة جائزة.
وكذلك كل الحيل.
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن المحلل والمحلل له) ولماذا لعنه؟ لأنهم يحتالون على العقود الشرعية.
إذاً إذا كان قصد الإنسان الحيلة فلا يعتبر أن الحول انقطع ...
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن أبدله بجنسه: بنى على حوله.
إذا أبدل النصاب بجنسه فإنه لا ينقطع الحول.
فإذا كان الإنسان يملك ثلاثين من البقر وباعها بثلاثين من البقر أخرى فإن الحول يستمر ولا ينقطع.
لكن إذا أبدل ثلاثين من البقر بعشرين من الإبل ينقطع الحول لأن البقر جنس والإبل جنس آخر.
إذاً إذا أبدل الإنسان الشيء بجنسه فإنه لا ينقطع.
استثنى الحنابلة من هذه القاعدة وهي: أنه إذا أبدله بغير جنسه انقطع: استثنوا الذهب والفضة وعروض التجارة.
- فإذا أبدل الإنسان دراهم بدنانير لا ينقطع الحول.
- وإذا أبدل دراهم بعروض تجارة أو دنانير بعروض تجارة لا ينقطع الحول.
والصواب أنه: لا يستثنى إلا فقط عروض التجارة. أما الذهب والفضة فهما جنسان إذا أبدل أحدهما بالآخر انقطع الحول إلا إذا كان الإبدال على سبيل التجارة فإنها تصبح الآن عروض تجارة.
فالآن: الذين يتعاملون بالعملات ما نقول: إذا اشتريت بالريال السعودي جنيه مصري أنه انقطع الحول أو درهم إماراتي أو أي عملة أخرى ما نقول انقطع الحول لأنهم الآن يبادلون هذه العملات على سبيل التجارة ونحن نقول أنه إذا أبدله بجنسه أو بغير جنسه ما دام على سبيل عروض التجارة فإن الحول لا ينقطع.
(2/362)
________________________________________
لكن لو أن قائلا قال: أنا أحتاج بدل الدراهم دنانير فاستبدل دراهمه بدنانير لينتفع بها لا للتجارة فإنه عند الحنابلة لا ينقطع الحول.
والصواب أنه ينقطع: لأن الذهب جنس والفضة جنس آخر.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتجب الزكاة: في عين المال، ولها تعلق بالذمة.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة وهي: هل تجب الزكاة في عين المال أو في الذمة على أقوال كثيرة:
= المذهب خلاف ما ذكره المؤلف: فالمذهب أن الزكاة تجب في عين المال.
واستدلوا:
- بقوله تعالى: {خذ من أموالهم ... }.
- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل أربعين شاة شاة).
وقالوا: إن في في هذه النصوص للظرفية يعني أن مقدار الزكاة واجب في عين المال.
بناء على هذا القول:
- لو تلف النصاب لم يلزمه شيء لأن الوجوب يتعلق بالعين والعين تلفت.
وبناء على هذا القول:
- لا يجوز له أن يتصرف بمقدار الزكاة من المال.
ويترتب على هذا القول أيضاص أشياء كثيرة.

= القول الثاني: أن الزكاة تتعلق بالذمة لا بعين المال.
واستدلوا على هذا:
- بأنه يجوز أن نخرج الزكاة من غير النصاب. فدل على أنها تتعلق بالذمة لا بالعين.
مثال ذلك: لة كان عندي عدد من الإبل ووجب فيها بنت لبون أو حقه أو جذعة فهل يجوز أن أشتري من السوق بنت لبون وأخرجها زكاة؟ أو يجب أن أخرج من الإبل التي عندي؟
الجواب: يجوز أن أخرج ولو من غير الإبل التي أملك.
فهذا دليل على أن الزكاة تتعلق بالذمة. فلو كانت تتعلق بالعين لوجب أن أخرج من عين الإبل التي عندي.
= القول الثالث: أنها تجب في العين وتتعلق بالذمة. وهو القول الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -.
= القول الرابع: أنها تجب في الذمة وتتعلق بالعين - عكس ما ذكره المؤلف - رحمه الله -. وهذا اختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -.
وهو الأقرب والله أعلم. أن الأصل في الزكاة أنها تتعلق في الذمة لكن لها تعلق بالعين. فهذا القول تجتمع به المعاني والعلل التي ذكرها أصحاب القول الأول والثاني.
إذاًَ هذا القول الأخير هو الراجح.
(2/363)
________________________________________
وأرغب من كل طالب - وإن شئتم أن تعتبرونه ملزماً - أن يراجع آخر قواعد بن رجب فإنه في آخر قواعد بن رجب ذكر عدة مسائل ينبني عليها فروع كثيرة منها: هل تجب أو تتعلق الزكاة بعين المال أو بالذمة ثم ذكر ما يترتب على كل قول في تفريع بديع جداً يصقل طالب العلم ويدربه على فهم ما يترتب على القول.
فإنا أرجو من جميع الإخوة أن يقرأوا هذا الموضع وهو في آخر قواعد ابن رجب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يعتبر في وجوبها: إمكان الأداء.
ليس من شروط الزكاة إمكان الأداء بل تجب ولو لم يتمكن من الأداء.
مثال عدم التمكن من الأداء:
- أن يكون المال غائباً.
- أو أن يكون المال ديناً.
فهل يتمكن الإنسان أن يخرج الزكاة من المال الغائب؟
لا. لا يتمكن ومع ذلك نقول تجب الزكاة ولولم يتمكن من الأداء.
الدليل:
- قالوا: الدليل: قياساً على سائر العبادات فإن الصوم يجب على المريض وإن كان لا يستطيع.
فإذاً لا يشترط في وجوب الزكاة إمكان الأداء.
* * مسألة: يشترط لوجوب الإخراج إمكان الأداء.
فإذا لم يتمكن من الأداء لم يجب عليه أن يخرج الآن وله أن ينتظر إلى أن يتمكن.
فتحصل عندنا الفرق بين وجوب الزكاة ووجوب الإخراج.
فالأداء شرط في الإخراج. وليس شرطاً في الوجوب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا بقاءُ المال.
يعني: أنه لا يشترط لوجوب الزكاة بقاء المال فلو تلف رالمال كله لوجبت الزكاة فيه.
وهذا القول يتوافق مع القول بأن الزكاة تجب في الذمة أو في العين؟؟
- في الذمة. وهذا مما يقوي القول الذي رجحه شيخ الاسلام - رحمه الله -.
إذاً الحنابلة يرون أنه يجب عليه أن يخرج الزكاة ولو تلف كل المال.
الدليل:
- قالوا: الدليل أن هذا مال وجب في ذمته فيجب أن يخرجه ولو تلف كدين الآدمي. إذا كان الإنسان مطلوب مائة ألف ريال واحترق كل ما يملك من المال فهل يسقط هذا الدين؟ أو يبقى في ذمته؟
يبقى. فكذلك دين الله وهو الزكاة.
= والقول الثاني: أن المال الزكوي:
- إذا تلف بغير تفريط ولا تعدي فإنه لا يجب عليه أن يخرج شيئاً.
- وإن تلف بتفريط أوتعدي وجب عليه أن يخرج مقدار الزكاة.
وهذا القول اختيار شيخ الاسلام واختيار ابن قدامة.
(2/364)
________________________________________
لكن ابن قدامة بين التفريط فقال: والتفريط أن يتأخر بالإخراج مع إمكان الأداء.
وظاهر كلام غيره من الفقهاء أن التفريط لا يتعلق بمسألة الإخراج وإنما يتعلق بكيفية حصول التلف:
فإن كان لم يفرط بأن جائه آفة سماوية أو حريق ليس له يد في منعه فإنه لا يلزمه إخراج شيء.
وإن فرط بأن وضع المال في مكان لا ينبغي أن يوضع فيه أو قرب النار المهم فرط بإتلافه بأي طريقه فإنه تجب عليه.
هذا ظاهر كلام الفقهاء فيما عدا ابن قدامة الذي يرى أن التفريط هو بمجرد التأخر في إخراج الزكاة.
وهذا القول الذي مال إليه ابن قدامة قوي جداً ويتوافق مع ما سيأتينا من وجوب إخراج الزكاة فوراً.
ولذلك أنا أميل إلى هذا الضابط وهو أنه: إذا أخر إخراج الزكاة مع قدرته على إخراجها ثم تلف المال ولو بغير تفريط منه وجب عليه أن يؤدي الزكاة. لأن التفريط حصل بالتأخر في إخراج الزكاة.
وهذا الضابط الذي ذكره ابن قدامة جيد وقوي.
• ثم قال - رحمه الله -:
والزكاة كالدين في التركة.
الزكاة كالدين في التركة يعني: أنها مقدمة على الورثة وعلى الوصية.
فإذا مات الإنسان ولم يخرج زكاة ماله فإنا نخرج الزكاة قبل أن ننفذ الوصية أو نقسم التركة على الورثة.
وسواء في ذلك كان إخراج الزكاة من الميت على سبيل الجواز أو على سبيل التحريم: يعني: سواء كان أخرها قداً وهو آثم بذلك وارتكب محرماً أو مات قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة ففي الصورتين يجب أن يخرج الزكاة من مال الميت. لأن الزكاة فيها حق للفقراء فيجب أن يصل إليهم ولو كان الميت أخر إخراج الزكاة تعدياً وظلماً.
لكن إن كان الميت لم يتمكن من الإخراج أجزأت عنه ولا إثم وإن كان أخرها عمداً وقصداً وتعدياً وظلماً فإنا ندفعها للفقراء ومع ذلك يأثم بتركه الزكاة.
إذاً الزكاة كالدين في التركة تماماً تستوي مع دين الآدمي.
بقينا في مسألة: هل هي مثل دين الآدمي أو أقل من دين الآدمي إذا تعارض دين الله ودين الآدمي؟
الصواب: أنهما بمنزلة واحدة فنسدد دين الله ودين الآدمي بالمحاصة إذا لم يتسع المال للجميع.
أما إذا اتسع المال للدينين فلا إشكال فسنسدد دين الله ودين الآدمي.
(2/365)
________________________________________
وهذا الكلام الذي قلته فيما يتعلق بالزكاة ينطبق على غيره من ديون الله كالكفارات مثلاً. فلو مات وعليه كفارة يمين فنفس الكلام يجب أن نخرج كفارة اليمين قبل أن ننفذ الوصية أو نقسم التركة.

باب زكاة بهيمة الأنعام
• ثم قال - رحمه الله -:
باب زكاة بهيمة الأنعام.
بدأ المؤلف بباب زكاة بهيمة الأنعام قبل غيرها من الأموال الزكوية اقتداء بكتاب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي كتبه لأنس حين ذهب إلى البحرين فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بدأ بزكاة بهيمة الأنعام قبل زكاة غيرها من الأموال الزكوية.
فتأسياً بهذا الكتاب نبدأ بزكاة بهيمة الأنعام.
• يقول - رحمه الله -:
تجب في إبل وبقر وغنم.
وجوب الزكاة في الإبل والبقر والغنم محل إجماع. فلم يخالف فيه أحد ولله الحمد والنصوص الصريحة الصحيحة أخرجها البخاري وغيره دالة على وجوب الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة.
وفهم من هذه العبارة أن الزكاة لا تجب في غير الإبل والبقر والغنم.
فمثلاً: لا تجب في الضباء البرية ولا تجب في البقر الوحشي ولكنها تجب في الجواميس لأن الجواميس نوع من أنواع البقر.
وقوله: الإبل والبقر والغنم. دليل على أن الزكاة تجب في هذه الأصناف مهما تنوعت ماختلفت أشكالها ومسمياتها ما دامت إبلاً أو بقر أو غنم فالماعز والشياه في هذا سواء.
• ثم قال - رحمه الله -:
إذا كانت سائمة الحول أو أكثره.
يشترط لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام
الأذان ....
انتهى الدرس
(2/366)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
باب زكاة بهيمة الأنعام
تكلمت بالأمس عن زكاة بهيمة الأنعام من حيث مشروعية الزكاة وإجماع الأمة عليه وما هي بهيمة الأنعام وتوقفنا عند شرط من شروط وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام وهي:
- أن تكون سائمة.
• يقول المؤلف رحمه الله:
تجب في إبل وبقر وغنم: إذا كانت سائمة الحول أو أكثره.
السائمة في لغة العرب: الراعية.
وفي الاصطلاح في هذا الباب: هي التي ترعى المباح أكثر الحول وتكتفي به.
(2/367)
________________________________________
= ذهب الجمهور ومنهم الحنابلة إلى أنه يشترط في وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام أن تكون سائمة.
وخرج بقولهم: سائمة: المعلوفة والعاملة.
واستدل الجمهور على اشتراط هذا الشرط:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الغنم في سائمتها) وهو حديث في البخاري ونص على أن الغنم التي تجب فيها الزكاة هي السائمة.
- وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في البقر العوامل صدقة) وهذا الحديث فيه ضعف ولكنه ينجبر بالشواهد وبكثرة الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على ذلك.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون سائمة. وهو مذهب المالكية ويوجبون الزكاة في المعلوفة والعاملة.
واستدلوا على ذلك:
- بعموم الأدلة. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في كل خمس من الإبل شاة) فإنه لم يقيد في هذا الحديث وجوب الزكاة بأن تكون البهائم سائمة.
والصواب مع الجماهير لأن القاعدة الفقهية الأصولية تقول: ((الخاص مقدم على العام)).
فأدلة الجمهور تخصص أدلة المالكية.
ـ المسألة الثانية: هي التي أشار إليها بقوله: (الحول أو أكثره).
أي أنه لا يشترط في السائمة أن تكون راعية كل الحول بل يكتفى بأكثر الحول.
واستدل الجمهور على هذا الحكم:
- بأن اسم السوم - يعني: اسم كونها سائمة - لا يرتفع عن البهيمة لكونها ترعى بعض الحول.
- الدليل الثاني: أنه لا يمكن التحرز عن ترك السوم في بعض الحول.
= والقول الثاني: أنه يشترط لوجوب الزكاة أن تكون سائمة في جميع الحول. أخذاً بظاهر النص.
والصواب مع الجمهور. ويؤيد ذلك أن العلماء رحمهم الله قرروا أن للأكثر حكم الكل.
• ثم قال رحمه الله:
فيجب في خمس وعشرين من الإبل: بنت مخاض.
بدأ المؤلف ببيان الأنصباء التي حددها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بهيمة الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم.
وقد جاء تحديد أنصبة الإبل في حديث أنس الذي رواه عن أبي بكر حين بعث بخطابه إليه في البحرين وذكر في الخطاب أن هذه الفروض سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
• فقال رحمه الله:
فيجب في خمس وعشرين من الإبل: بنت مخاض.
بنت المخاض هي: ما تم لها سنة.
وسميت بذلك: لأنه في الغالب تكون أمها حامل. والحامل تسمى مخاض.
(2/368)
________________________________________
وكونه في خمس وعشرين: بنت مخاض. هذا جاء صريحاً في حديث أبي بكر ونص عليه نصاً رضي الله عنه.
وهو محل إجماع.
ويجوز أن يخرج بدل بنت مخاض ابن لبون إذا لم نجد بنت مخاض بالإجماع لأنه في حديث أبي بكر نص على ذلك.

ثم قال رحمه الله:
وفيما دونها: في كل خمس شاة.
في كل خمس فيما دون الخمس والعشرين: شاة.
وهذا الحكم محل إجماع ودل عليه النص. فدل عليه النص والإجماع لأنه في حديث أبي بكر: (في كل خمس شاة).
ولو أن المؤلف بدأ بأنه: في كل خمس شاة قبل الخمس والعشرين لكان هو الموافق للترتيب التصاعدي.
• ثم قال رحمه الله:
وفي ست وثلاثين: بنت لبون.
بنت اللبون هي: التي تم لها سنتان.
وسميت بذلك لأنه في الغالب تكون الأم وضعت فهي ذات لبن فهي بنت ذات لبن.
إذا بلغت الإبل ستاً وثلاثين فإنها يجب أن نخرج زكاتها بنت لبون وهذا جاء نص في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
• ثم قال رحمه الله:
وفي ست وأربعين: حقة.
والحقة: ما تم لها ثلاث سنين وهو منصوص عليه أيضاً في حديث أبي بكر رضي الله عنه.
وسميت حقة: - إما لأنها استحقت ضرب الفحل.
- أو أنها استحقت أن يحمل عليها.
باعتبار أنها وصلت مرحلة من العمر تتحمل الأمرين.
• ثم قال رحمه الله:
وفي إحدى وستين: جذعة.
وهي ما تم لها أربع سنين. وهذا هو أعلى سن تجب فيه الزكاة. وهذا من رحمة الله وتخفيفه على الناس بينما نجد في الأضاحي أقل سن يجزئ هو الخمس كما سيأتينا.
بينما في الزكاة اختلف الأمر فصار أرفع سن تجب فيه الزكاة هو أربع سنوات.

ثم قال رحمه الله:
وفي ست وسبعين: بنتا لبون. وفي إحدى وتسعين: حقتان. فإذا زادت عن مائة وعشرين ((وَاحِدَةٌ)): فثلاث بنات لبون.
كل هذا نص في حديث أبي بكر:
- أنه في ست وسبعين بنتا لبون.
- وفي إحدى وتسعين حقتان.
- فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون.
ففي مائة وإحدى وعشرين: ثلاث بنات لبون.
ثم يستقر الأمر في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.
وسنلقي الضوء في الجدول المرفق الذي استلمتموه عن كيفية توزيع الأنصباء.
لكن قبل ذلك نريد أن نذكر الأحكام التي تتعلق بالإخراج قبل دراسة المتن.
(2/369)
________________________________________
- جاء في حديث أبي بكر رضي الله عنه أن من لم يجد السن المطلوب ووجد أعلى منه فإنه يجوز لعامل الصدقة أن يأخذ الأعلى ويعطي صاحب البهائم شاتين.
أو العكس: إذا لم يجد إلا أقل فإن العامل يأخذ الأقل ويعطي صاحب الإبل العامل شاتين.
مثال ذلك: وجبت عليه بنت مخاض ولم يجد في إبله إلا بنت لبون. فماذا يصنع؟
نقول: أعط العامل بنت لبون وخذ منه شاتين.
العكس: وجبت عليه بنت لبون ولم يجد إلا بنت مخاض:
فنقول: أعط العامل بنت مخاض وأعطه معها شاتين.
وهذا القدر الذي ذكرته الآن منصوص عليه في حديث أبي بكر في الصحيح.
ــ مسألة: إذا لم يجد إلا أربفع بمرتبتين - يعني: وجب عليه بنت مخاض ولم يجد بنت لبون ولا بنت مخاض ووجد حقة:
فحينئذ نقول تعطيه الحقو وتأخذ أربع شياه.
هذا الحكم: أنك تأخذ أربعةشياه مقيس على ما ذكر في حديثص أبي بكر وليس من المنصوص عليه لكن قياسهم صحيح وهو قول الحنابلة وهو الراجح إن شاء الله.
فإذا لم نجد إلا أكثر: وجبت عليه بنت مخاض ولم يجد إلا جذعة فيأخذ ست. .. وهكذا.
إذاً عرفنا الآن أن من لم يجد إلا أقل أو أعلى فإنه يأخذ أو يدفع حسب الموجود.
ــ المسألة الثانية هذا العمل وهو أخذ شاتين أو دفع شاتين حسب الموجود يسمى: الجبران ولا يدخل إلا في الإبل فقط لأن النص لم يأتي إلا في الإبل.
أما ما عداها من بهائم الأنعام فلا يدخل فيها ما يسمى بالجبران.
نقف بعض الشيء مع الجدول .... ((ثم تكلم الشيخ حفظه الله عن الجدول وفصل فيه فيستحسن أخذها من التسجيل بمتابعة الجدول)).
ثم قال الشارح حفظه الله:
إذاً المسألة أصبحت مسألة حسابية بعد أن فهمت فقه المسألة. فيبقى الآن أن تعرف الحساب وهذا أمر يرجع لكل شخص ومعرفته بتحديد كم في العدد من أربعين وكم في العدد من خمسين. فلا نقف طويلاً مع الأمثلة بعد أن عرف الإنسان فقه الأنصباء وكيفية التعامل معه.

فصل
[في زكاة البقر]
ثم نرجع إلى المتن:
• قال رحمه الله:
(فصل)
يعني في بيان أحكام زكاة البقر.
• قال رحمه الله:
ويجب في ثلاثين من البقر.
وجوب الزكاة في البقر ثابت بالنص والإجماع.
- فالإجماع: أجمع أهل العلم رحمهم الله أن تجب الزكاة في البقر.
(2/370)
________________________________________
- أما النص: فما جاء في حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أسمن ما كانت وأكمل ما كانت ثم تطأ عليه بأظلافها وتنطحه بقرونها) أو قال بأخفافها (ثم ترجع عليه كلما انتهت إلى أن يقضى بين العباد).
ففي هذا الحديث بيان أن الزكاة واجبة أن ترك الزكاة من كبائر الذنوب لأنه رتب على ترك الزكاة وعيد خاص يقع يوم القيامة.
وزكاة البقر لم تذكر في كتاب أبي بكر وإنما جاءت في حديث معاذ في السنن وهو حديث صحيح إن شاء الله بين فيه النبؤي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن كيف يأخذون الزكاة من البقر.
وذكر أهل العلم رحمهم الله من شراح الأحاديث والفقهاء كلهم أن البقر لم تذكر في حديث أبي بكر لأن أهل الحجاز وأهل نجد قلما يتعاملون بالبقر فلما ذهب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وفيها البقر بين لهم - صلى الله عليه وسلم - كيفية أخذ الزكاة من البقر.

وكيفية أخذ الزكاة من البقر أسهل من الإبل بكثير:
• فيقول رحمه الله:
ويجب في ثلاثين من البقر. تبيع أو تبيعة.
التبيع والتبيعة: ما له سنة واحدة.
وسمي بهذا الاسم لأنه يتبع أمه في ذهابها ومجيئها.
فتبين أن ما دون الثلاثين من البقر لا زكاة فيه. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة رحمهم الله. لأنه في حديث جابر نص على أنه: أمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيع أو تبيعه.
فدل على أن ما دون الثلاثين لا زكاة فيه.
وفي مسألة: البقر نستطيع أن نضع ضابط يسهل على الإنسان معرفة كيفية إخراج الزكاة بالنسبة للثلاثين.
فنقول: يجزئ الذكر في الثلاثين ومضاعفات الثلاثين.
ففي الثلاثين: تبيع.
وفي الستين: .....
وفي التسعين: .....
في كل مضاعفة للثلاثين يجزء الذكر.
ويجوز إذا قلنا يجزئ الذكر أنه تخرج تبيع أو تبيعة.
• كذلك نأتي إلى قوله رحمه الله:
وفي أربعين: مسنة.
المسنة ما لها: سنتان.
فالمسنة يجزئ في الأربعين مسنة. ثم نقول: مضاعفات الأربعين كذلك فيها مسنة.
فالثمانين كم فيها؟ ...... وهكذا.
إذاً تضيف أربعين وتضيف مع كل أربعين مسنة.
(2/371)
________________________________________
وفي قوله: في كل أربعين مسنة علمنا أنه لا يجزء المسن. وإنما في الأربعين لا بد من إخراج أنثى ولا يجزئ الذكر.
ــ مسألة: هل يجزئ في الأربعين تبيعان؟
اختلف الفقهاء في هذا:
= فمنهم من قال لا يجزئ في الأربعين تبيعان. لأنه في حديث معاذ نص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأربعين فيها مسنة.
= والقول الثاني: أنته يجزئ تبيعان.
واستدل هؤلاء بأنه إذا كان يجزء التبيعان في الستين فمن باب أولى أن يجزئ في الأربعين.
وهذا القول هو الصواب. لأن الستين أكثر من الأربعين والنعمة في الستين أكبر منها في الأربعين فإذا أجزأ تبيعان في الستين فكذلك في الأربعين.
• ثم قال رحمه الله:
وفي ستين تبيعان.
وهذا يتفق مع القاعدة: أن الثلاثين ومضاعفاتها فيها ذكر.
فالثلاثين تبيع وبطبيعة الحال الستين فيها تبيعان.
• قال رحمه الله:
ثم في كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين: مسنة.
إذاً اتضح الأمر أنه في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة.
فالسبعين: فيها تبيع ومسنة.
مائة وعشرين: ثلاث مسنات أو أربعة أتبعه. فهو مخير بينهما.
وهكذا بعملية حسابية يستطيع الإنسان أن يعرف كيفية إخراج زكاة البقر بعد أن ذكرنا الأمثلة.
• ثم قال رحمه الله:
ويجزئ الذكر: هنا، وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً.
المؤلف رحمه الله يريد بهذه العبارة بيان متى يجوز أن نخرج الذكر في الزكاة سواء كان في الإبل أو في البقر أو في الغنم.
لا يجوز أن نخرج الذكر في الزكاة إلا في ثلاث مواضع:
- الموضع الأول: يقول: هنا. ويقصد بقوله هنا: التبيه. فإنه يجوز في الثلاثين أن نخرج تبيع.
- الموضع الثاني: ما تقدم معنا: أنه يجوز أن نخرج بدل بنت مخاض ابن لبون.
- الموضع الثالث والأخير: إذا كان النصاب كله ذكور.
فإذا كان الإنسان يملك أربعين من البقر كلها ثيران. فالأربعين الأصل أنه يجب أن يخرج مسنة لكن نقول الآن أن تخرج بدل الأنثى ذكر لأنه جميع القطيع ذكران أي ثيران.
الدليل على الجواز:
- أن الزكاة وجبت على سبيل المواساة والإنسان إنما يواسي الغير بما يجد.
= القول الثاني: أنه لا يجوز في الصورة الثالثة إخراج الذكر بل يجب أن نخرج الأنثى.
(2/372)
________________________________________
- لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص في الأحاديث أحياناً على الذكر وأحياناً الأنثى ولا يجوز أن نخرج عما نص عليه الحديث بلا دليل شرعي.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أنه يجوز ابن لبون بدل بنت مخاض فقط وبين أنه يجوز التبيع مع التبيعة فقط ففيما عداه لا يجوز أن نخرج إلا الإناث تماشياً مع النص.
فنقول لصاحي الماشية يجب عليك وجوباً أن تشتري أنثى توافق النصاب المفروض وتخرج هذه الأنثى.
والأقرب والله أعلم. مذهب الحنابلة. لأن هذا الرجل لا يملك الآن إلا الذكور ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهو إنما أخرج الزكاة مواساة لإخوانه ولا يجب عليه أن يواسيهم بما لا يجد.
ولا شك أن الاحتياط أن يخرج أنثى في غير الصورتين وهو الأبر لذمته أن يخرج أنثى لكن لا أرى أنه يجب عليه وجوباً.
فيكوزن الراجح بهذه المسألة أنه يجوز أن نخرج الذكور إذا كان النصاب كله ذكور.
قال الشيخ حفظه الله: - قبل أن ننتقل إلى الغنم نلقي نظره على الجدول ......... ((ثم تكلم عن الجدول يحسن استماعه من التسجيل)).

فصل
[في زكاة الغنم]
• ثم قال رحمه الله:
(فصل) ويجب في أربعين من الغنم: شاة. وفي مائة وإحدى وعشرين: شاتان، وفي مائتين وواحدة: ثلاث شياه. ثم في كل مائة: شاة.
وجوب الزكاة في الغنم أيضاً محل إجماع.
ودل عليه النص والإجماع.
- أما الإجماع: فحكاه ابن المنذر وغيره ممن يعتنون بذكر الإجماعات.
- وأما النص فالغنم مذكورة في حديث أبي بكر الذي كتبه في كتابه الذي كتبه لأنس في البحرين وبين أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والفروض المذكورة في زكاة الغنم كما بينها المؤلف موجودة في نصها في حديث جابر.
فنأخذ الجدول لأنه يتوافق مع ما ذكره المؤلف رحمه الله .... ((ثم تكلم عن الجدول وبين وضرب أمثلة حفظه الله يحسن أخذها من التسجيل)).
ثم قال حفظه الله: (إذاً أنصبة البقر والغنم أسهل من أنصبة الإبل وأقل تفصيلاً .... ثم انتقل المؤلف إلى مسألة الخلطة.
• فقال رحمه الله:
والخُلطة تصير المالين كالواحد.
في الخلطة مسائل كثيرة:
ــ المسألة الأولى: أن الخلطة تؤثر في النصاب دون الحول.
(2/373)
________________________________________
ــ المسألة الثانية: الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام دون غيرها من الأموال الزكوية فلا تؤثر في الحبوب والثمار ولا في الذهب والفضة ولا في عروض التجارة ولا في غيرها من الأموال الزكوية. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام ولا يوجد دليل على أنها تؤثر في غيرها فنبقى على أنها لا تؤثر إلا في بهيمة الأنعام.

ــ المسألة الثالثة:
الخلطة في اللغة: هي الشركة.
وفي الاصطلاح: تنقسم إلى قسمين:
- خلطة أعيان.
- وخلطة أوصاف.
ـ فخلطة الأعيان هي: أن يشترك اثنان فأكثر في بهيمة الأنعام بلا تميز بين ماليهما.
مثاله: أن يرث رجلان مائة من الإبل فهذه المائة هي ملك لهما على سبيل الشيوع - مشاعة بينهما - فليس لكل واحد منهما جزء محدد.
وكأن يشتريا.
ـ وخلطة الأوصاف: هي أن يجتمع المالان في أشياء معدودة - سيأتي ذكرها - مع تميز مال كل واحد من الشريكين.
مثاله: إذا ملك زيد خمسين من الإبل وعمرو خمسين من الإبل وصارت هذه الإبل تجتمع ويكون مجموعها مائة فتجتمع في المرعى وفي الأكل وفي غيرها مما سنذكره فهذه تعتبر خلطة أوصاف وليست خلطة أعيان.
ففي خلطة الأوصاف: هل يعرف كل واحد من الشريكين ماله وما عليه؟
نعم.
أما في خلطة الأعيان فالأمر مشاع لا يتحدد مالكل واحد منهما.
= ذهب الجماهير - كما هو مذهب الحنابلة -: إلى أن الخلطة تؤثر في الزكاة.
واستدلوا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة).
فدل على أنهما إذا اجتمعا وجمعا المالين أو فرقاهما أثر.
- نمثل لمسألة لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع:
إذا ملك كل واحد من الشخصين عشرين من الشياه.
إذا استقل كل واحد منهما فهل نجب عليه الزكاة؟
وإذا اجتمعا؟ تجب.
إذاً هذا يتعلق بقوله: ولا يفرق بينهما خشية الصدقة.
- الجمع: إذا كان لزيد أربعبن وعمروا أربعين وخالد أربعين.
فلو اجتمعوا لوجب عليهم شاة واحدة ولو تفرقوا لوجب ثلاث شياه لكل واحد شاة فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجوز أن تجمعوا بين هذه الشياه بقصد الفرار من الزكاة.
(2/374)
________________________________________
=القول الثاني: أن الخلطة لا تؤثر في الزكاة لا زيادة ولا نقصاً بل كل واحد من الشريكين يزكي ماله بحسب مقداره.
واستدلوا على هذا الحكم:
- بالعمومات. كقوله: (في كل خمس شاة) (في كل ثلاثين في البقر (تبيع) فهذا الحديث عام يشمل ما إذا كانت الأنعام مجتمعة وما إذا كانت متفرقة.
والجواب عليه: كما تقدم معنا: أن الخاص مقدم على العام. وأن عموم أدلة القول الثاني تخصص بالأدلة الخاصة لأصحاب القول الأول وهم الجمهور.
والراجح: أن الخلطة تؤثر.
• يقول رحمه الله:
والخلطة تصير المالين كالواحد.
يعني: في الزكاة. من حيث المقدار وما يؤخذ منهما.
ــ مسألة: لا تؤثر الخلطة إلا إذا اشتركا في الشياه: - فمنهم من قال خمس. - ومنهم من قال سبع. - ومنهم من قال غير ذلك.
على المذهب هي خمسة أشياء:
- الأول: المراح. ويقصد بالمراح مكان المبيت.
- الثاني: الفحل. ويقصد بالفحل: أن لا يخصص فحل أحد المالين لضرب هذا المال فقط. بل يكون الفحل مشاع للجميع.
ولا يقصد الفقهاء بقولهم الفحل أنه يجب أن يكون فحل واحد لجميع الغنم مثلاً بل الشرط أن لا نخصص فحلاً معيناً لفئة من الأموال فنترك المجموعتين على سجيتها بدون أن نخصص فحلاً معينا لأحد المالين.
- الثالث: المسرح: وهو المكان الذي تجتمع فيه البهائم لتذهب إلى المرعى
- الرابع: الراعي.
- الخامس: مكان الحلب.
فيجب أنه يشترك المالان في هذه الخمسة أمور فإن لم يشتركا في جميع هذه الخمسة فلا يعتبر المال مخلوطاً وكل يخرج زكاته بحسب ماله.
وهذا عند الحنابلة.

= القول الثاني: أنه يرجع في معرفة الخلط وعدمه إلى العرف فإذا اعتبر العرف المال مختلطاً - البهائم مختلطه - اعتبرناها مختلطة وإلا فلا.
وإلى هذا ذهب ابن مفلح رحمه الله.
وهذا القول - الثاني - لا شك أنه هو الصواب. لأن القاعدة الشرعية تقول: (أنه إذا جاء لفظ في الشرع ولم يأت في الشرع له تحديداً فنرجع فيه إلى العرف).
والشارع لم يحدد معنى الخلطة.
والأحاديث التي فيها تحديد الفحل والمرعى والراعي ضعيفة. فنرجع إلى الأصل وهو أنه يعرف حد ذلك بالعرف.
فما اعتبره الناس جميعاً فهو جميع.
(2/375)
________________________________________
والغالب في الخلط: أن يكون بسبب اتحاد الراعي. فإذا كان يوجد في المدينة شخص يرعى الغنم ومعروف برعيه لها صار كل مجموعة من الناس يعطيه عدد من الغنم فتجتمع عند هذا الراعي من هذا خمس ومن هذا خمس إلى أن تجتمع عنده أعداد كبيرة فيأخذ حكم الخلطة ونقول أخرج الزكاة من مجموع ما لديك من الأغنام مثلاً مع العلم أنه قد يكون لكل واحد من الذي أعطوه شاة واحدة لكن أعطاه أربعين شخص أربعين شاة فوجبت فيه الزكاة شاة واحدة.
إذاً عرفنا الآن أن الخلطة تؤثر وعرفنا شروط تأثير الخلطة وعرفنا أن الصواب أنه يرجع في تحديد الخلطة إلى العرف الدارج بين الناس.
والراعي يخرج من أموالهم ثم يرجعون على بعضهم بالسوية.
فلو أن لشخص عشرين والآخر له عشرين وأخرجنا شاة من عشرين زيد فإن عمراً يعطي زيد نصف قيمة الشاة.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في آخر الحديث: (وما كان من الخليطان فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية).
يعني يرجع بالقيمة على من دفع.

باب زكاة الحبوب والثمار
بعد أن أنهى رحمه الله الكلام عن زكاة بهيمة الانعام انتقل إلى باب زكاة الحبوب والثمار وهي ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب فآيات كثيره منها قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال ابن عباس: حقه الزكاة.
- وأما الإجماع فحكاه غير واحد من أهل العلم وهو إجماع في الجملة لأنه سيأتينا الإختلاف في الحبوب والثمار التي تجب فيها والتي لا تجب فيها.
فالإجماع يقصد به في الجملة فتجب الزكاة في الحبوب والثمار.
- وأما السنة فأحاديث مستفيضة كثيرة سيأتينا أفرادها أثناء بحث الباب.
• قال رحمه الله:
تجب: في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً، وفي كل ثمر يكال ويدخر: كتمر وزبيب.
يريد المؤلف رحمه الله في هذه العبارة أن يبين الضابط الذي تجب فيه الزكاة في الحبوب والثمار فيقول:
في الحبوب كل وفي كل ثمر يكال ويدخر.
= ذهب الحنابلة إلى أنه كل ما يكال ويدخر من الحبوب والثمار تجب فيه الزكاة ولذلك قال: في الحبوب كلها. بناء على أن الحبوب كلها مما يكال ويدخر.
فالحنابلة يرون: أن كل حب أو ثمر يكال ويدخر فإنه تجب فيه الزكاة.
واستدلوا على هذا:
(2/376)
________________________________________
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة.
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الاوق فدل على أن ما لا يكال لا تتعلق به الزكاة.
فهذا دليل الكيل.
وأما دليل الادخار فقالوا:
- أن النعمة تتم وتكمل في الادخار يعني فيما يدخر دون ما لا يدخر فلا تجب فيه الزكاة.
فيشترط في الحبوب والثمار لكي تجب فيها الزكاة أن تجمع بين وصفين: - الادخار. - والكيل. وهذا مذهب الحنابلة.

= القول الثاني: أنه تجب الزكاة في كل ما يخرج من الارض. وهذا مذهب داود الظاهري وهو الذي تبناه الأحناف.
واستدلوا:
- بقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده). فإن الآية عامة لم تستثن شيئاً.
= والقول الثالث: أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر.
ونستطيع أن نقول أن هذا مذهب الجمهور لأنه مذهب المالكية والشافعية.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لا زكاة في القثاء والبطيخ. وقالوا: سبب ذلك أنها ليست مما يقتات فليست قوتاً.
وأما الادخار ف:
- لأن النعمة إنما تعظم بما يدخر دون غيره - يعني: قريب مما استدل به الحنابلة.
= والقول الأخير: الذي مال إليه شيخ الاسلام أن الضابط: الادخار فقط.
- لأنه هو المعنى الذي يناسب أن يربط به وجوب الزكاة دون غيره.
والصواب: مع الحنابلة. ما يكال ويدخر. فكل حب أو ثمر يكال أو يدخر فإنه تجب فيه الزكاة.
بناء على هذا لا تجب الزكاة في جميع الخضراوات والفواكه. لأنها لا تكال ولا تدخر.
ونذكر قول الظاهرية والذي تبناه ابن حزم: وهو أنه لا تجب الزكاة إلا في أربعة أشياء: البر والشعير والزبيب والتمر.
فهذا مذهب الظاهرية وذهب إليه أيضاً بعض المحققين مثل أبو عبيد وأيضاً ذهب إليه بعض السلف من التابعين.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذ إلى اليمن أمره أن لا يأخذ الزكاة إلا من هذه الأربعة.
وحديث معاذ هذا الذي فيه الأمر بخذ الزكاة من أربعة أصناف فقط فيه خلاف في تصحيحه وتضعيفه. فممن ضعفه الإمام الدارقطني والترمذي. وومن صححه الإمام البيهقي فقد رأى أن إسناده حسن.
(2/377)
________________________________________
وأنا عندي توقف في هذا الحديث ففي تصحيحه وتضعيفه إشكال فإن له شواهد ممكن أن تقويه وفي المقابل متنه غريب وفي اسناده ارسال ومما يزيد الاشكال أن الذين تكلموا فيه المتقدمون. وكما تلاحظ الخلاف بين البيهقي وهو من المتقدمين والدارقطني.
فأوجد هذا نوع إشكال ففي تصحيحه وتضعيفه فيه نوع توقف عندي لكن مع ذلك أقول أن مذهب الحنابلة هو الصواب لأن في حديث الاوساق الإشارة الواضحة إلى مسألة الكيل.
وحديث معاذ إن صح يحمل على أنه لا يوجد في ذلك الوقت في اليمن مما تأخذ منه الزكاة إلا هذه الأربع أصناف .. (((الأذان))).
انتهى الدرس
(2/378)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لما بين المؤلف الانواع التي تجب فيها الزكاة من الحبوب والثمار انتقل بعد ذلك إلى بيان شروط وجوب الزكاة في الحبوب والثمار.
- فالشرط الأول: أن يبلغ النصاب. وعبر عن هذا بـ:
• قوله - رحمه الله -:
ويعتبر: بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطل عراقي.
اشتراط بلوغ النصاب مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمس أوسق صدقة).
فنص على أن الصدقة لا تجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق.
والخمسة أوسق تساوي بميزاننا الحديث ستمائة واثنا عشر كيلو.
فإذا ملك الانسان هذا المقدار وجبت عليه الزكاة.
وتحديده بستمائة واثنا عشر كيلو مما اختلف فيه المعاصرون ولكن نختار هذا التقدير لكون شيخنا - رحمه الله - صنعه بيده. فقام بقياس المقدار بيده - رحمه الله -.
والاختلاف بينهم أمره يسير.
فيكون النعتبر والمعتمد إن شاء الله هذا الرقم: 612 كيلو.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض: في تكميل النصاب.
أي إذا وجدت ثمرة واحدة لها أنواع فإن هذه الأنواع يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب ولا يعتبر كل نوع على حدة.
(2/379)
________________________________________
فمثلاً: إذا قلنا تجب الزكاة في العنب. فإن العنب منه الأحمر ومنه الأبيض ومنه الطائفي ومنه البلدي وله أنواع معروفة فجمع هذه الانواع تضم بعضها إلى بعض فيما لو كانت مزرعة الإنسان تحتوي على جميع هذه الانواع فإذا بلغت النصاب المعتبر وجبت فيها الزكاة.
إذاً: الأنواع المختلفة لجنس واحد يضم بعضها إلى بعض.
ثم أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين حكم الجنس بعد أن بين حكم النوع.
وقبل ذلك نشير إلى أن قوله: (وتضم ثمرة العام الواحد) فالذي يضم ثمرة عام واحد أما ثمرة الأعوام المختلفة فلا يضم بعضها إلى بعض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السعاة في كل سنة مرة واحدة.
فإذاً لا نضم بعضها إلى بعض فلو فرضنا أن الثمرة بقيت في بعض الشجر إذا أمكن ذلك إلى أن طلع الثمر من السنة القادمة فإنه لا يضم ثمر هذه السنة إلى ثمر السنة القادمة.
• ثم قال - رحمه الله -:
لا جنس إلى آخر.
يعني: لا يضم جنس من الحبوب أو الثمار إلى آخر.
فلا يجوز أن نضم البر إلى الشعير.
ولا التمر إلى العنب.
لأن هذه أجناس مختلفة لا يكمل نصاب بعضها من بعض لاختلاف الجنس وإنما يضم إلى بعضها إلى بعض إذا كانت أنواع مختلفة لجنس واحد.
• ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً الشرط الثاني:
ويعتبر أن يكون النصاب: مملوكاً له وقت وجوب الزكاة.
- الشرط الثاني: أن يكون المال الزكوي من الحبوب والثمار مملوكاً للإنسان وقت وجوب الزكاة.
وسينص المؤلف - رحمه الله - في الفصل اللاحق على وقت وجوب الزكاة. ووقت وجوب الزكاة هو: صلاح الثمر واشتداد الحب.
فبالنسبة للثمر: أن يصلح: بأن يحر أو يصفر.
وبالنسبة للحب: أنه يشتد.
فإذا وصلت الحبوب أو الثمار إلى هذه المرحلة فقد بلغت وقت الوجوب.
فمن شروط وجوب الزكاة: أن يكون المال مملوك للإنسان وقت الوجوب.
- فإذا باع المزارع الثمرة قبل بدو الصلاح - وجوب الزكاة - فالزكاة على المشتري. لأن المشتري هو الذي سيصادف وقت وجوب الزكاة.
- وإذا باع الإنسان ثمرة بستاه بعد بدو الصلاح فالمشتري لا زكاة عليه وتكون الزكاة على البائع. فيجب أن يخرج زكاة هذه الثمرة التي باعها.
(2/380)
________________________________________
ولما قرر المؤلف - رحمه الله - هذا الشرط: أنه لا تجب الزكاة إلا على من ملك النصاب وقت وجوب الزكاة وعرفت الآن متى يكون وقت وجوب الزكاة - انتقل إلى التفريع على هذا الشرط:

فقال - رحمه الله -:
فلا تجب فيما: يكتسبه اللقاط.
اللقاط: هو الذي يتتبع المزارع ليأخذ ما سقط منه سوار من الحب أو من الثمر.
فلو فرضنا أن هذا اللقاط أخذ من الأرض ما يبغ نصاباً فلا زكاة عليه لأن الشرط لم يتحقق في حقه فإنه ملك هذه الثمار والزروع بعد وقت الوجوب. ونحن عرفنا أنه إذا ملك الإنسان الحبوب والثمار بعد وقت الوجوب فإن الزكاة لا تجب عليه.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو يأخذه بحصاده.
يعني: ولا تجب الزكاة على من أخذ الزرع بحصاده.
وصورة هذا: أن يقول شخص لآخر: قم بحصاد الزرع ولك ثلث ما نتج.
فإذا حصده وأخذ الثلث وبلغ الثلث نصاباً فإنه لا زكاة عليه لأنه ملكه بعد وقت الوجوب وهو: اشتداد الحب ز
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا فيما: يجتنيه من المباح كالبطم والزَعْبَل وبزر قطونا، ولو نبت في أرضه.
هذه الأشياء مباحه. ومعنى أنها مباحه: أي أنها لا تملك إلا بعد الأخذ وهب قبل الأخذ ملك لجميع المسلمين.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ).
فالكلأ ونحوه مما ينبت بغير فعل الآدمي لا يملك إلا بالأخذ فقبل الأخذ هو مباح لجميع المسلمين.
فإذا أخذ الإنسان من هذه الأشياء المباحة ما يبلغ نصاباً فإنه لا زكاة عليه.
والتعليل: أن هذه الأشياء لا تملك إلا بالأخذ. فإذاً هي وقت الوجوب لم تكن مملوكه لهذا الشخص.
ويستثنى من هذا: - إذا سقط في أرض الإنسان بذر مما اعتاد الآدمي على وضعه في الأرض فإنه تجب عليه الزكاة ولو سقط بغير قصد منه.
فلو أن شخصاً وقع أو سقط في أرضه المملوكة له بذر وأنبتت الأرض قمحاً ولم يكن وقوع هذا البذر بقصد منه وإنما بغير قصد منه فيجب عليه مع ذلك أن يزكي هذا الذي نبت في أرضه لأن هذا مما يملك وليس من الكلأ الذي يباح لجميبع الناس.
إذاً: هذه المسائل الثلاث مفرعة على الشرط الثاني: ما يأخذه اللقاط وما يأخذه بحصاده وما يجتنيه من المباح.

فصل
[في قدر الواجب في الحبوب والثمار]
(2/381)
________________________________________
• ثم قال - رحمه الله -:
(فصل)
المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين في هذا الفصل القدر الواجب ويريد أن يبين متى يكون وقت الوجوب وسيبين جملة من المسائل المهمة جداً والتي تتعلق بالحبوب والثمار.
• قال - رحمه الله -:
يجب: عُشر فيما سُقي بلا مؤونة.
كلمة مؤنة هنا في هذه النسخة (نسخة الهبدان) يبدو أنها خطأ من الطابع أو شيء من هذا .. المهم أن النون عليها ضمة والصواب فتحة.
وأيضاً تضاف بعد الواو المهموزة واواً أخرى.
العشر هو: الواحد من عشرة.
فيجب في الزرع والثمر الذي سقي بغير بمؤونة العشر: بالإجماع.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فيما سقت السماء أو العيون أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر).
وهذا الحديث في البخاري ومسلم ولا إشكال في صحته.
إذاً إذا كان الزرع سقي بالسماء - يعني بالمطر - أو من خلال العيون التي تخرج من غير فعل آدمي أو كان عثرياً وهو الماء الذي يتجمع في البرك من غير فعل الإنسان ففي كل هذه الأحوال التي نص عليها الحديث يجب على المزارع أن يخرج العشر لأنه سقي بلا مؤونة.
وهذه الأشياء المذكورة في الحديث ذكرت على سبيل التمثيل.
فكل زرع سقي بلا مؤونة ففيه العشر.
ـ مسألة: كل عمل يقوم به المزارع مرة واحدة في السنة ثم لا يعود إليه إلا من السنة القادمة فإن الزرع يعتبر سقي به بلا مؤونة.
مثاله: إذا قام المزارع بشق حفرة ليأتي الماء من النهر إلى المزرعة مرة واحدة في أول السنة ثم صار الماء يأتي من النهر إلى المزرعة بلا عمل من المزارع فهذا يعتبرربلا مؤونة لأنه عمل في السنة مرة واحدة.
مثال آخر: إذا قام المزارع بتركيب الدولاب الذي يخرج الماء من النهر إلى المزرعة مرة واحدة والذي يدير الماء هو النهر لا الحيوانات فإنه يركبه في السنة مرة واحدة ثم لا يعود إليه فهذا يعتبر بلا مؤونة.
هذه الأشياء التي ذكرت في الحديث والتي ذكرتها الآن مما مثل به الفقهاء فكلها أمثلة. والقاعدة: أن ما سقي بلا مؤونة فيه العشر.
• ثم قال - رحمه الله -:
ونصفه معها.
يعني ويجب نصف العشر في الزرع الذي سقي بمؤونة.
- للحديث السابق وللإجماع.
(2/382)
________________________________________
ـ مسألة: توضح المقام: كل ما احتاج المزارع لإخراجه من الأرض وإيصاله للزرع إلى آله فهو بمؤونه.
والمقصود بقول الفقهاء هنا: (آله) يعني تدار من قبل الآدمي. أي بصنع وعمل الآدمي.
فإذا وضع آلة تدار بالحيوانات أو بالكهرباء أو بغيره من الوقود الذي تدار به الآلات فإنه يعتبر بمؤونة.
أما الآلة التي تدور بمرور الماء في النهر فهذه بغير صنع الآدمي وإنما بمجرد جريان النهر.
بناء على هذا: ما يوجد من آلات حديثة يخرج الماء عن طريقه في وقتنا المعاصر - كالدينموات والمكائن - فكل هذا يعتبر بمؤونة. لأن المزارع احتاج في إخراج الماء إلى الزرع إلى آله وهذه الآلة تدار من قبل الإنسان.
عرفنا الضابط فيما سقي بمؤونة وعرفنا الحكم وهو: وجوب نصف العشر.
• ثم قال - رحمه الله -
وثلاثة أرباعه بهما.
يعني إذا سقي بمؤونة النصف وسقي بلا مؤونة النصف الآخر فإنه يجب فيه ثلاثة أرباع بإجماع الفقهاء.
- لأن هذا مقتضى العدل.
فإذا سقي ستة أشهر بمؤونة وسقي ستة أشهر أخرى بلا مؤونة فإن فيه ثلاثة أرباع إذا افترضنا أن النبتة بقيت هذا المقدار: اثنا عشر شهراً فإذا كانت عادة تبقى ستة أشهر فإذا سقيت ثلاثة بمؤونة وثلاثة بلا مؤونة ففيها كما قال المؤلف: ثلاثة أرباع.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن تفاوتا: فبأكثرهما.
يعني إذا تفاوت السقي بين أن يكون تارة بمؤونة وتارة بلا مؤونة فـ:
= عند الحنابلة يعتبر بأكثرهما. والمقصود بالأكثرية هنا: الأكثر نفعاً ونمواً لا عدداً ووقتاً. وهذا مهم في فهم مذهب الحنابلة.
فإذا افترضنا أن المزارع سقى الشجرة لمدة شهر بلا مؤونة وسقاها لمدة عشرين يوماً بمؤونة والذي أثر في نضج الثمرة ونموها السقي الأخرين لمدة عشرين يوماً ففيه النصف لأن السقي الذي أثر هو الذي بمؤونة.
الدليل:
- قالوا: أن اعتبار كل سقيه ومعرفة مقدار كل سقيه أمر يشق فنرجع إلى الأكثر كما في السوم - في البهائم السائمة فإن في السائمة اعتبرنا الأكثر فكذلك هنا.
= القول الثاني: أنه إذا تفاوت السقي بمؤونة وبغير مؤونة يؤخذ بالقسط منهما.
لأنا إذا اعتبرنا القسط في النصف فكذلك فيما دون النصف أو أكثر من النصف.
(2/383)
________________________________________
يعني: أصحاب هذا القول يقولون: - عند جميع العلماء: إذا سقي النصف والنصف ففيه ثلاثة أرباع فإذا كنتم تعتبرون النصف حداً طبيعياً فكذلك إذا تفاوت فكان أكثر من النصف وأقل من النصف فكذلك يجب أن نراعي الحساب بحسب السقي. فنعتبر هذا الأمر بالنسبة فالأكثر هو المعتبر.
وهذا القول الثاني هو: مقتضى العدل.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومع الجهل العشر.
يعني إذا قال المزارع أنا لا أدري أيهما أكثر السقي بمؤونة أو بغير مؤونة ولا أعرف مقدار كل منهما فنقول الواجب عليك حينئذ العشر.
لدليلين:
- أولاً: ليخرج من العهدة بيقين.
- ثانياً: لأن الأصل في الحبوب والثمار وجوب العشر وإنما خفف إلى النصف إذا كان يسقى بالمؤونة. فنرجع إلى الأصل.
إذاً إذا قال المزارع أنه يجهل: نقول: الواجب عليك العشر.
ولو قيل في هذه المسألة أن المزارع يقدر ويحتاط لكان له وجه قوي جداً.
فنقول: قدر واحتط في هذا التقدير ثم زك بحسب النسبة.
فإذا قال: أنا لا أدري الزرع بقي لمدة ستة أشهر ولا أدري كم سقي بمؤونة وبغير مؤونة؟
نقول: هل تجزم بشهرين؟
فإذا قال: لا.
نقول: شهر ونصف.
إذا قال لا أجزم.
إذا قلنا فشهر؟
فقال: الشهر قطعاً. أنه مر عليه شهر سقي بمؤونة.
فنقول: اعتبر هذا الذي تجزم به واخصم من الزكاة بمقداره.
أما على المذهب فإنه بمجرد ما يجهل نسبة كل منهما فيجب عليه مباشرة أن يخرج العشر.
ثم انتقل المؤلف إلى بيان وقت الوجوب:
• فقال - رحمه الله -:
وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر: وجبت الزكاة.
= ذهب الجماهير إلى هذا الضابط. أنه إذا اشتد الحب وبدا الصلاح فقد حصل وقت الوجوب.
واستدلوا على هذا:
- بأنه حينئذ يقصد بالأكل والاقتيات.
فإذاً وقت الوجوب هو اشتداد الحب وبدو الصلاح.
وبدو الصلاح يعني: أن تحمر أو تصفر الثمرة إذا كانت مما يحمر أون يصفر.
ويأتي معنا ما تقدم من المسائل المهمة التي كثير من الناس يضطرب فيها فيقول من يخرج الزكاة. هل الذي يشتري المزرعة يخرج الزكاة أو مالك المزرعة يخرج الزكاة؟
وقد عرفنا من هو الذي يخرج الزكاة؟
وهو: الذي تكون الثمرة مملوكة له وقت الوجوب سواء كان البائع أو المشتري.
(2/384)
________________________________________
فأي إنسان يملك الثمرة أو الزرع وقت الوجوب فهو الذي مخاطب بوجوب إخراج الزكاة. وغالباً سيكون: المالك - البائع - لأنه لا يجوز أصلاً بيع الثمر قبل بدو الصلاح.
فدائماً سيكون من يجب عليه الزكاة هو: المالك - البائع. لأنه أصلاً لا يجوز له أن يبيع إلا بعد الصلاح.
إذاً: لو قيل: هل لهذه المسألة فائدة؟
نقول: نعم لها فائدة لأنه يوجد صور فيها خلاف لكن أجاز بعض أهل العلم شراء الثمر فيها قبل بدو الصلاح.
من أمثلة هذه الصورة: أن يشتري الإنسان الثمر قبل بدو الصلاح بشرط القطع ثم يبقيها من غير حيلة.
فلو جاء إنسان ليشتري ثمر النخيل لهذا العام قبل بدو الصلاح نقول له: لا يجوز أن تشتري قبل بدو الصلاح.
فإذا قال: سأشتري ثم أقطع مباشرة ولن أنتظر النضج لأني سأستعمل هذه الثمار لإعلاف الدواب.
نقول: إذا كان ستقطع مباشرة فيجوز أن تشتري قبل بدو الصلاح.
ثم لما اشترى بدا له أن يترك الثمرة - من غير حيلة بحيث يكون نوى من الأصل فحينئذ يجوز له أن يشتري وأن يبقي الثمرة ويكون الزكاة على امشتري في هذه الصورة.
فالمهم نقول: من ملك هذه الحبوب والثمار وقت وجوب الزكاة فهو الذي يجب عليه أن يخرج الزكاة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يستقر الوجوب: إلاّ بجعلها في البيدر، فإن تلفت قبله بغير تعد منه: سقطت.
البيدر هو: اسم للمكان الذي تجمع فيه الثمار ليتم نضجها ويبسها.
فالمؤلف - رحمه الله - يقول: لا يستقر الوجوب إلا بجعلها بالبيدر.
يعني: إذا خرصنا الثمر على رؤس النخل وعرفنا مقدار الزكاة فيه ثم قبل أن تحصل هذه الثمرة وتجعل في مكان جاف تحت الشمس لتيبس فقبل ذلك أصابتها جائحة فإنه لا يجب على مالك الثمرة الزكاة.
= وهذا مذهب الجمهور.
واستدلوا على ذلك:
- بأن هذه الثمرة قبل التحصيل ليست في يده ولا تحت تصرفه ولو أصابتها جائحة بعد البيع لرجع البائع على المشتري فإذا تلفت لم تجب فيها الزكاة.
لكن اشترط المؤلف - رحمه الله - كما تلاحظ في المتن شرطاً: أن يكون ذلك بغير تعد منه:
• فقد قال - رحمه الله -:
فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت.
إذا تلفت بغير تعد من المزارع قبل أن يجعلها في البيدر سقطت.
أما إذا تلفت بتعد منه فإنها لا تسقط.
(2/385)
________________________________________
مثال التعدي: أن يتساهل المزارع قبل جني الثمرة ويرش هذه الثمرة بالسم القاتل للحشرات المضرة ولكن يتساهل ويفرط ويكثر من الرش ولا يراعي الطريقة الصحيحة للرش فيؤدي ذلك إلى فساد الثمر. فعلى المذهب يجب على المزارع أن يضمن الزكاة لأنها فسدت بتفريط منه.
وعرفنا بهذه للمؤلف: أن الثمرة من حيث التعدي والتفريط ووجوب الزكاة لها ثلاثة أنواع:
- النوع الأول: أن تفسد قبل وجوب الزكاة: يعني: قبل بدو الصلاح: فحينئذ: لا تجب الزكاة ولو فسدت بتعدي وتفريط المزارع. لأن الزكاة لم تجب في ذمته أصلاً قبل وقت الوجوب.
- النوع الثاني: الذي ذكره المؤلف عندنا هنا: أن تتلف بعد وجوب الزكاة وقبل جني الثمرة: فإن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن.
- النوع الثالث: أن تتلف الثمرة بعد جنيها ووضعها في البيدر: فحينئذ يجب على المالك أن يضمن الزكاة ولو كان التلف بغير تفريط ولا تعدي.
إذاً هذه ثلاثة أنواع مهمة جداً للمزارعين: متى يجب عليه أن يضمن. - ومتى يجب أن يضمن؟.
بالنسبة للنوع الأول وهو:
إذا تلفت قبل وجوب الزكاة لا إشكال أنه لا يضمن لأنها لم تجب أصلاً سواء كانت بتعدي أو تفريط أو بغير تعدي أو تفريط.
وبالنسبة للنوع الثاني والثالث:
= القول الثاني: أن المزارع لا يضمن مطلقاً في أي مرحلة من مراحل الثمرة إلا بالتعدي والتفريط.
- تعليل ذلك: أن يد المزارع على الثمرة يد أمانة والقاعدة تقول: ((أن يد الأمانة لا تضمن إلا بتعدي أو تفريط)).
وهذا القول الثاني هو الصواب إن شاء الله.
ـ مسألة: - تبين ثمرة الخلاف - إذا خذ الإنسان التمر ووضعه في الجريد أو في البيدر لينضج أن ليتم نضجه ويبسه واحترق بغير تفريط ولا تعدي منه: فما الحكم؟
= عند الحنابلة: يضمن. لأنه بعد جني الثمرة.
= وعلى القول الصواب: لا يضمن.
إذا تلفت الثمرة بعد وقت الوجوب وقبل الجني بغير تعد ولا تفريط فعلى القولين لا يضمن لا عند الحنابلة ولا عند أحاب القول الثاني.
إذا تلفت الثمرة قبل وجوبها بتعد وتفريط: لا يضمن.
إذا تلفت قبل جنيها بتعد وتفريط: يضمن عند الجميع.
وإذا تلفت بعد جنيها بتعد وتفريط: يضمن.
إذاً يضمن دائماً بتعد وتفريط إلا إذا كان ذلك قبل الوجوب.

ثم قال - رحمه الله -
(2/386)
________________________________________
ويجب: العشر على مستأجر الأرض.
يعني: أن الذي يجب عليه إخراج الزكاة هو: المستأجر لا مالك الأرض. لأن المستأجر الذي زرع هو المالك الحقيق للثمرة لا صاحب الأرض.
يدل على هذا: أن من استأجر حانوتاً فإن وجوب زكاة التجارة عليه على مؤجر الحانوت فكذلك من أجر أرضاً لمن يزرعها فالزكاة على الزارع لا على مالك الأرض.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن العسل:
• فقال - رحمه الله -:
وإذا أخذ من ملكه أو مواته من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه: عشره.
بين المؤلف - رحمه الله - في هذه العبارة مسألتين:
ـ المسألة الأولى: النصاب وهي مائة وستين رطلاً.
الدليل على هذا التقدير:
- أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قدر نصاب العسل بهذا المقدار وهو يساوي: بالكيلوات المعاصرة 62كيلو تقريباً.
= القول الثاني: لأبي حنيفة أن الزكاة تجب في العسل في قليله وكثيره.
- لعموم قوله تعالى: - (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ .. ) -[البقرة/267]. فإنه يعتبر العسل من جنس الخارج من الأرض فتجب عنده في القليل والكثير.
والصواب. أنها لا تجب إلا إذا بلغت هذا المقدار لوروده عن عمر - رضي الله عنه -.
ـ المسألة الثانية: عند قوله: (ففيه عشره) يعني: أن الزكاة تجب في العسل وإلى هذا ذهب الإمام أحمد - رحمه الله -. وهو مذهب الحنابلة والمذهب الشخصي للإمام أحمد.
استدلوا على هذا بأمرين:
- أولاً: أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوجب الزكاة في العسل على بعض أهل اليمن. ولا يصح في وجوب زكاة العسل حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً. فجميع الأحاديث المرفوعة التي تفيد وجوب زكاة العسل ضعيفة.
- ثانياً: أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر رجلاً من أهل اليمن أن يخرج زكاة العسل الذي يملك نحله ومقابل ذلك يقوم عمر - رضي الله عنه - بمنحه مساحة من الأرض لنحله ويحميها له فقال: نحمي لك وتخرج الزكاة.
= القول الثاني: أنه لا تجب الزكاة في العسل.
- لأن الأصل براءة الذمة وحرمة مال المسلم.
- ولأنه لم يثبت في حديث صحيح وجوب الزكاة في العسل.
والقول الثاني هو الصواب.
(2/387)
________________________________________
والقول الأول يتعين فيه الاحتياط لأنه مروي عن عمر - رضي الله عنه - ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالفه أو اعترض عليه.
فينبغي لمن ملك عسلاً أن يحتاط ويخرج العشر من القيمة أو من نفس العسل.
وكما قلت الاحتياط في هذا في الحقيقة متعين - نقول الاحتياط متعين لا الزكاة ..
• ثم قال - رحمه الله -:
والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية.
الركاز عرفه المؤلف. فهو ما يوجد من دفن الجاهلية.
يعني: ما يجده الإنسان مدفوناً عليه من العلامات ما يدل أنه دفن في العهد الجاهلي.
فتبين من هذا أنه إذا وجد مدفوناً عليه من العلامات ما يدل أنه دفن في عهد المسلمين فليس من الركاز. وهو كذلك ويعتبر من اللقطة.
ثم بين المؤلف - رحمه الله - حكمه:
• فقال - رحمه الله -:
فيه الخمس في قليله وكثيره.
الركاز: تميز بأحكام يختص يها لا يشترك معه غيره من الأموال الزكويه:
- منها: أن الزكاة تجب في قليله وكثيره.
- ومنها: أنه لايشترط له حول وأنه - كما قلنا لا يشترط له نصاب.
- ومنها: أن مصرفه في مصالح المسلمين لا كما في الزكاة في الأصناف الثمانية التي ستأتينا.
إذاً اختلف عن غيره من الأموال الزكوية بهذه الثلاثة أمور.
الدليل على هذا:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الركاز الخمس).
وقوله: الخمس.
قال الحنابلة: المقصود بالخمس هنا ال في الخمس للعهد الذهني يعني: الخمس المذكور في كتاب الله (لله ولرسوله) يعني بعبارة أخرى: الخمس الذي يجب في الفيء وهو يصرف في مصالح المسلمين العامة.
فإذا أخرج الخمس من الرماز مهما كانت قيمة هذا الركاز فإن الباقي له قد ملكه إياه الشارع مهما كان نوع الموجود فما دام له قيمة وثمن سواء كان من الذهب أو الفضة أو من غيرهما.
فإذا وجد معدناً نفيساً ففيه الخمس ولو لم يكن من الذهب والفضة.

باب زكاة النقدين.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب زكاة النقدين. يجب في الذهب: إذا بلغ عشرين مثقالاً .. الخ.
الذهب تجب في الزكاة بالإجماع فلم يخالف في هذا أحد من أهل العلم ولله الحمد.
وقد دل على وجوبه: الكتاب والسنة.
- أما من الكتاب: فقوله تعالى: - (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) -[التوبة/34].
(2/388)
________________________________________
ومن المعلوم أن البشارة بالعذاب الأليم لا تكون إلا على ترك واجب بل على ترك فريضة.
- ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ثم أحمي عليها في نار جهنم ثم كوي بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس). ولا يخفى مقدار المبالغة في العذاب المذكور في هذا الحديث فإنه ذكر أنها تصفح صفائح من نار ومع هذا يحمى عليها في نار جهنم ومع هذا يبقى يكوى عليها لمدة طويلة وهي خمسين ألف سنة ومع هذا يكوى في أكثر من موضع ومع هذا يكوى في أماكن يشتد فيها الألم وهو الجنب والظهر والجبين ومع هذا يكوى في موقع فيه إهانة وتوبيخ وهو الجبين.
فلاحظ كيف شدد في العذاب على تارك الزكاة ولهذا اتفقوا على أن تارك الزكاة مرتكب كبيرة.
• قال - رحمه الله -:
يجب في الذهب: إذا بلغ عشرين مثقالاً: ربع العشر.
مع اتفاق العلماء على وجوب الزكاة في الذهب إلا أنه ليس في السنة حديث صحيح يدل على نصاب الذهب وهذا من الغرائب ومن حكمة الله.
إذاً: ما هو الدليل؟ الدليل: ذكروا أشياء:
- الأول: الإجماع فإن أهل العلم أجمعوا على أن نصاب الذهب عشرين دينار إلا واحد من السلف خالف وهو الحسن البصري فقال: النصاب أربعين مثقالاً.
إذاً الدليل الأول الإجماع إلا ما يذكرلا عن الحسن.

- الثاني: روي في الباب أحاديث عن عائشة رضي الله عنها وعن علي - رضي الله عنه - ولكنها ضعيفة.
- الثالث: فيه آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلا إشكال إن شاء الله في أن النصاب هو عشرون مثقالاً.
ـ مسألة - مهمة جداً -: هل نصاب الذهب يعتبر نصابا مستقلا أو يعتبر بالفضة؟
أي: إذا وجدنا عشرين دينار قيمتها أقل من مائتي درهم فهل تجب فيها الزكاة؟
وأيضاً: إذا وجدنا أقل من عشرين دينار لكن قيمتها مائتي درهم فهل تجب فيها الزكاة؟
هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:
= القول الأول: أن الذهب له نصاب مستقل لا يعتبر ولا يرتبط بالفضة فيجب لكي نخرج زكاة الذهب أن يبغ عشرين مثقالاً برأسه.
(2/389)
________________________________________