المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أحلام آينشتاين آلان لايتمان


AshganMohamed
10-21-2019, 10:36 AM
أحلام آينشتاين آلان لايتمان
أحلام آينشتاين
آلان لايتمان

مقدمة

في رواق مقنطر ما تدق ساعة برج ست مرات وتتوقف . يتهاوى الشاب على مكتبه . جاء إلى الدائرة فجرا بعد إزعاج آخر . شعره غير ممشط و بنطاله فضفاض يحمل بيده عشرين صفحة مجعدة تحوي نظريته الجديدة في الزمن التي سيرسلها إلى مجلة الفيزياء الألمانية .

تدخل الغرفة أصوات خافتة قادمة من المدينة تطن زجاجة حليب على حجر . تتقلقل ظلة حانوت في السوق , تتحرك عربة خضار ببطء في الشارع , يتحدث رجل وامرأة بنبرتين هامستين في شقة الجوار.

في الضوء الباهت الذي يتغلغل في الغرفة تبدو المقاعد مظللة و ناعمة كحيوانات ضخمة نائمة .وباستثناء كتب الشاب الذي تتبعثر عليه كتب نصف مفتوحة , تتغطى المكاتب الإثنا عشر بسجلات تركت البارحة مرتبة بأناقة . حين يصل الموظفون بعد ساعتين سيعرف كل منهم أين يبدأ بدقة . لكن , في هذه اللحظة في هذا الضوء الباهت , ليست السجلات التي على المكاتب مرئية أكثر من الساعة الكبيرة التي في الزاوية أو كرسي السكرتيرة قرب الباب كل مايمكن أن يرى في هذه اللحظة هو الأشكال الداكنة للمكاتب و الشكل المحدب للشاب .

إنها السادسة وعشر دقائق وفقاً لساعة الحائط اللامرئية . لحظة بعد لحظة , تتخذ أشياء جديدة أشكالاً . هنا تظهر سلة مهملات نحاسية هناك يبين تقويم على الحائط .

هنا صورة عائلة , علبة مشابك للأوراق , محبرة , قلم حبر . هناك آلة كاتبة , سترة مطوية موضوعة على كرسي .

مع مرور الزمن تبزغ رفوف الكتب التي لايخلو منها مكان من ضباب الليل العالق على الجدران . تحمل الرفوف دفاتر براءات اختراعات . تتعلق إحدى البراءات بالآت حفر مسنناتها محنية بطريقة تقلل الاحتكاك . تقترح أخرى محولاً كهربائيا يحمل فولطاً متواصلاً حين يتنوع تزويد الطاقة .

تصف براءة إختراع آلة كاتبة بلوح طباعة منخفض السرعة يزيل الضجة . إنها غرفة مليئة بالأفكار العملية .

في الخارج تتوهج جبال الألب تحت الشمس . الوقت أواخر حزيران . راكب في نهر آري يفك قاربه الصغير و يندفع تاركاً التيار يحمله إلى الشارع غيربرن حيث سينقل تفاحه الصيفي و ثمار العليق * . يصل الخباز إلى مخبزه في السوق , يشعل فرنه الفحمي و يباشر خلط الطحين و الخميرة . يتعانق عاشقان على جسر " نيديك" و يحدقان بتمعن إلى الأسفل . يقف رجل على شرفة منزله في " شيفلاوبي" و يدرس السماء القرنفلية . تسير امرأة استحوذ عليها الأرق ببطء في شارع كرام , تحدق إلى جميع الأورقة المقنطرة و تقرأ الملصقات في الضوء الخافت .

في المكتب الطويل الضيق الذي يقع في " شارع شبايشا " في الغرفة المليئة بالأفكار العملية ما يزال موظف براءات الإختراعات الشاب جالساً على كرسيه و رأسه على المكتب : في الأشهر العديدة الماضية و منذ منتصف نيسان حلم أحلاماً كثيرة عن الزمن . هيمنت أحلامه على بحثه . أنهكته أحلامه , استتنفذته بحيث أنه لا يستطيع أحيانا أن يميز بين نومه و يقظته . لكن عملية الحلم انتهت. و من بين طبائع الزمن الكثيرة الممكنة المتخيلة في ليال كثيرة أيضا , تبدو إحداهن مغرية . لا يعني هذا أن الأخرى مستحيلة . يمكن أن توجد الأخرى في عوالم أخرى .

يتحرك الشاب على كرسيه منتظراً مجئ ضاربة الآلة الكاتبة و يدندن بصوت منخفض ألحاناً من سوناتا ضوء القمر لبيتهوفن .





14 نيسان 1905


افترض أن الزمن دائرة تكرر نفسها, عندئذ يكرر العالم نفسه بدقة وبلا نهاية .

لا يعرف البشر في معظم الحالات أنهم سيكررون حيواتهم . لا يعرف التجار أنهم سيعقدون الصفقة نفسها مرة بعد أخرى . يجهل السياسيون أنهم سيصيحون على نفس المنصة عددا لانهائياً من المرات في دورات الزمن . يسمع الوالدان ضحكة طفلهما بولع و كأنهما لن يسمعاها مرة ثانية . العشاق الذين يمارسون الجنس للمرة الأولى يتعرون بخجل و يندهشون من منظر الفخذ الريان و الحملة الهشة . كيف سيعرفون أن كل نظرة سرية , كل لمسة , سوف تتكرر ثانية و ثانية و ثانية كما حدث من قبل؟

و كذلك هو الأمر في السوق . كيف يعرف البقالون أن كل كنزة يدوية الصنع , كل منديل مطرز , كل حبة شوكولاتة , كل ساعة يد و بوصلة معقدة ستعود إلى دكاكينهم ؟ , يعود البقالون إلى عائلاتهم بعد الغروب أو يشربون البيرة في الحانات و ينادون بمرح الأصدقاء الذين في الأزقة المقنطرة , يداعبون كل لحظة و كأنها زمردة في إيداع مؤقت . كيف يعرفون أن لاشئ مؤقتاً , أن كل شئ سيحدث مرة ثانية؟ لا شئ يعرف أنه سيعود إلى حيث بدأ سوى نملةٍ تزحف على حافة ثريا كريستالية.

في المستشفى الذي في شارع غيربرن تودع امرأة زوجها الذي يستلقي في الفراش و يحدقها بنظرة فارغة . انتشر سرطانه في الشهرين الأخيرين من حنجرته إلى كبده و بنكرياسه و دماغه . يجلس طفلاه اليافعان على كرسي واحد في زاوية الغرفة خائفين من النظر إلى والدهما , إلى خديه الغائصين و الجلد الذاوي لرجل عجوز . تقترب المرأة من الفراش و تقبل زوجها بنعومة على جبهته . تهمس مودعة ثم تغادر بسرعة مع الولدين .
إنها متأكدة إنها القبلة الأخيرة . كيف تعرف أن الزمن سيبدأ ثانية أنها ستولد ثانية و ستدرس مرة أخرى في " الجيمانزيو " و تعرض لوحاتها في صالة " فرايبورغ" و ستبحر معه ثانية في بحيرة " زن" في يوم من أيام تموز الدافئة و أنها ستنجب ثانية و أن زوجها سيعمل ثماني سنوات في مجال الأدوية و يرجع إلى المنزل في أحد المساءات بكتلة في حنجرته, سيتقيأ ثانية و يهزل و ينتهي في هذا المستشفى , في هذه الغرفة , هذا الفراش , هذه اللحظة . كيف تعرف؟

في العالم الذي يكون فيه الزمن دائرة ستتكرر كل مصافحة , كل قبلة , كل ولادة وكل كلمة . و هكذا أيضاً كل لحظة ينهي فيها صديقان صداقتهما , كل مرة تتفكك فيها أسرة بسبب النقود , كل ملاحظة فاجرة في خصومة بين الزوجين , كل فرصة ضاعت بسبب غيرة رئيس , كل وعد لم يُنجز .

و تماما كما ستتكرر جميع الأشياء في المستقبل , فإن جميع الأشياء التي تحدث الآن حدثت مليون مرة من قبل. قلة ما من البشر في كل بلدة , تدرك بغموض في أحلامها أن كل شئ حصل في الماضي. أولئك هم البشر ذوو الحياة الشقية , يشعرون أن خطب محاكماتهم و أفعالهم الخاطئة و حظهم السيئ كل هذا حدث في حلقة الزمن السابقة .

يصارع أولئك المواطنون الملعونون أغطية أسرتهم في منتصف الليل غير قادرين على النوم مروعين من معرفة أنهم لايقدرون على تغيير فعل واحد , إيماءة واحدة . ستتكرر أخطاؤهم في هذه الحياة كما في الحياة التي سبقتها . و هؤلاء , ذوو الحظ السيئ المضاعف , هم الذين يقدمون الإشارة الأولى على أن الزمن دائرة . ذلك أنه في كل بلدة , في وقت متأخر من الليل, تمتلئ الشوارع و الشرفات الخالية بأنينهم.





16 نيسان 1905


في هذا العالم ..الزمن كمثل دفقة ماء , يزيحه أحياناً بعض الحطام , نسيم عابر. بين فينة و أخرى يسبب إزعاج كوني ما انحراف جدول من الزمن عن التيار الرئيسي ليحدث اتصالاً مع التيار الخلفي. حين يحدث هذا فإن الطيور و التربة و البشر العالقين في الرافد المتفرع يجدون أنفسهم فجأة محمولين إلى الماضي.

من السهل تحديد البشر الذين نقلوا إلى الوراء في الزمن . يرتدون ملابس سوداء غير قابلة للتمييز و يسيرون على أصابع أقدامهم محاولين ألا يصدروا صوتاً واحداً ,ألا يحنوا عشبة واحدة . ذلك لأنهم يخافون من أي تغير يحدثونه في الماضي يمكن أن ينتج عواقب و خيمة جداً على المستقبل.

وعلى سبيل المثال , تتوارى مسافرة في ظلال الرواق المقنطر في شارع كرام وهذا مكان غريب لمسافرة من المستقبل , لكنها هناك . يعبر المشاة , يحدقون و يتابعون السير . تنزوي في زاوية ثم تزحف بسرعة عبر الشارع و تأوي إلى بقعة أخرى مظلمة . إنها مرعوبة من أنها ستثير الغبار , كما يشق شخص اسمه " بيتر كلوسن " طريقه إلى الصيدلية في شارع شبيتال في بعد ظهر 16 نيسان من عام 1905 . كلوسن شخص مسرف في الأناقة و يكره أن تتسخ ثيابه . إذا لطخ الغبار ثيابه سيتوقف و ينفضها بهمة بغض النظر عن المواعيد المنتظرة . إذا تأخر " كلوسن " يمكن ألا يشتري المرهم لزوجته التي كانت تشكو من ألم ساقها طوال أسابيع . في تلك الحالة يمكن أن تقرر زوجة كلوسن وهي في مزاج سيئ الأ تنفذ الرحلة إلى بحيرة جنيف . و إذا لم تذهب إلى بحيرة جنيف في 23 حزيران 1905 لن تلتقي بامرأة تدعى كاثرين دي إباني وهي تسير على جدار الشاطئ الشرقي ولن تعرف المدموزيل دي إيباني على ولدها ريتشارد . و بالتالي لن يتزوج ريتشارد و كاثرين في 17 كانون الأول 1908 ولن ينجبا فريدريك في 8 تموز 1912 . ولن يصبح فريدريك كلوسن أباً لهانز كلوسن في 22 آب 1938 وبدون هانز كلوسن لن يحصل الإتحاد الأوروبي لعام 1979.

المرأة التي جاءت من المستقبل و رميت دون تحذير في هذا الزمان وهذا المكان و تحاول الآن أن تختفي عن الأنظار في بقعتها المظلمة في شارع كرام تعرف قصة كلوسن و ألف قصة أخرى تنتظر الكشف , معتمدة على ولادات الأطفال , حركة البشر في الشوارع , غناء الطيور في لحظات معينة ,الموقع الدقيق للكراسي , الريح . تلطأ في الظلال و لاتستجيب لتحديقات البشر . تلطأ و تنتظر جدول الزمن ليحملها و يعيدها إلى زمنها الخاص.

وحين يجب أن يتحدث مسافر من المستقبل , فإنه لا يتحدث بل يوهوه . يهمس أصواتاً معذبة , يتألم لأنه إذا أحدث أدنى تبديل في أي شيء من المحتمل أن يدمر المستقبل. في الوقت نفسه , يكون مجبراً على أن يشهد أحداثاً دون أن يكون جزءاً منها, دون أن يغيرها .يحسد البشر الذين يعيشون في زمنهم الخاص , الذين يستطيعون أن يتصرفوا وفق مشيئتهم غافلين عن المستقبل ..جاهلين تأثيرات أعمالهم . لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا . إنه غاز هامد , شبح , ورقة بلا روح . إنه منفي الزمن .

يمكن أن يعثر على هؤلاء البشر البؤساء القادمين من المستقبل في كل قرية و كل بلدة مختبئين تحت أفاريز الأبنية , في الأقبية ,تحت الجسور , في الحقول المهجورة . ولا يسألون عن الحوادث القادمة و الزيجات المستقبلية و الولادات و التمويلات و الاختراعات و الفوائد التي ستجنى . و بدلاً من ذلك يتركون وحيدين و يثيرون الشفقة .






19 نيسان 1905

إنه صباح بارد من صباحات تشرين الثاني . سقطت الثلوج الأولى . يقف رجل يرتدي معطفاً جلدياً على شرفة طابقه الرابع في شارع كرام المطلة على نافورة " تسيرغنا" وعلى الشارع الأبيض في الأسفل . يستطيع المرء أن يرى في جهة الشرق الأبيض في الأسفل . يستطيع المرء أن يرى في جهة الشرق الصومعة الهشة لكاتدرائية القديس فنسنت , و في جهة الغرب سقف برج " تسوتغلوكاتورم" لكن الرجل لا ينظر شرقاً أو غرباً , بل يحدق نحو الأسفل إلى قبعة حمراء صغيرة متروكة في الثلج و يفكر: أعليه أن يذهب إلى منزل المرأة في " فرايبورغ" ؟ تمسك يداه الدرابزون المعدني وتفلتانه ثم تمسكانه ثانية ؟ هل يجب أن يزورها ؟ أيجب أن يزورها؟

يقرر ألا يشاهدها مرة أخرى . إنها لعوب و ظنون و بوسعها أن تجعل حياته بائسة . ربما لن تكون مهتمة به على أية حال . و هكذا يقرر ألا يراها ثانية و ينصرف إلى مصادقة الرجال . يعمل بجد في مجال الأدوية حيث نادرا ما يلاحظ وجود مساعدة المدير. يذهب إلى صالة احتساء البيرة في شارع خوكر في أوقات المساء مع أصدقائه و يشرب البيرة , يتعلم صنع الفونديو*, ثم يلتقي بعد ثلاثة سنوات بامرأة أخرى في محل لبيع الألبسة في نيوشاتل . إنها ظريفة . تمارس معه الحب ببطء شديد طوال شهور. بعد عام تأتي لتعيش معه في " بيرن". يعيشان حياة هادئة , يتنزهان على طول نهر " آري " يصادقان بعضهما , يشيخان راضيين .

في العالم الثاني يقرر الرجل الذي يرتدي معطفاً جلدياً أنه يجب أن يشاهد امرأة " فرايبورغ" مرة أخرى . لايكاد يعرفها , يمكن أن تكون لعوب و متقلبة . لكن تلك الطريقة التي يصبح فيها وجهها ناعماً حين تبتسم , تلك الضحكة ,ذلك الاستخدام الذكي للكلمات , نعم , يجب أن يشاهدها مرة ثانية .يذهب إلى منزلها في فرايبورغ , يجلس معها على الأريكة ,يشعر بعد لحظات أن قلبه يخفق , يضعف من مشهد بياض ذراعيها. يمارسان الحب بصخب و شوق . تقنعه بالانتقال إلى فرايبورغ . يترك علمه في " بيرن" و يوظف في مكتب فرايبورغ البريدي. يشتعل حباً بها . يجيئ إلى المنزل ظهراٌ كل يوم .يأكلان , يمارسان الحب, يتجادلان , تشكو أنها تريد مزيداً من النقود , يتوسل إليها , تقذفه بالآنية , يمارسان الجنس مرة أخرى ,يعود إلى مكتب البريد . تهدد بأنها ستتركه لكنها لاتفعل ذلك . يعيش من أجلها و هو سعيد بكمده.

في العالم الثالث يقرر أيضاً أنه يجب أن يشاهدها مرة أخرى . لايكاد يعرفها , يمكن أن تكون لعوب و متقلبة . لكن تلك الابتسامة , تلك الضحكة , ذلك الذكاء في في استخدام الكلمات . نعم , يجب أن يشاهدها مرة ثانية . يذهب إلى منزلها في " فرايبورغ" , يلتقي بها عند الباب , يتناول معها الشاي حول طاولة المطبخ . يتحدثان عن عملها في المكتبة و عن عمله في مجال الأدوية . تقول بعد ساعة إنها يجب أن تغادر لتساعد صديقا , تودعه , يتصافحان . يسافر قاطعاً مسافة الثلاثين كليومتراً إلى بيرن, يشعر بالفراغ أثناء ركوب القطار إلى منزله , يصعد إلى شقته في الطابق الرابع ويحدق نحو الأسفل , إلى القبعة الحمراء المتروكة في الثلج.

إن سلاسل الأحداث الثلاثة هذه تحدث بالفعل متزامنة . ذلك أن الزمن يمتلك ثلاثة أبعاد في هذا العالم مثل المكان . تماماً كما يمكن أن يتحرك شيء في ثلاث جهات عمودية تتواشج مع الأفقي و العمودي و الطولي و هكذا يمكن أن يشارك الشيء في ثلاثة مستقبلات عمودية . يتحرك كل مستقبل في جهة مختلفة من الزمن , و كل من هذه المستقبلات حقيقي . و حين يصل الرجل إلى حافة أي قرار لزيارة المرأة التي في فرايبورغ أو لشراء معطف جديد , ينقسم العالم إلى ثلاثة عوالم كل منها يحتوي البشر نفسهم و لكن بأقدار مختلفة لأولئك البشر . مع مرور الزمن ثمة عدد لانهائي من العوالم.

يستخف البعض بالقرارات مجادلين أن جميع القرارات الممكنة ستُتخذ . في عالم كهذا , كيف يستطيع المرء أن يكون مسؤولاً عن أفعاله ؟ يعتقد آخرون أن كل قرار يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار و يُلتزم به و أنه بدون التزام يحل العماء . إن بشراً كهؤلاء يرضون أن يعيشوا في عوالم متناقضة طالما أنهم يعرفون سبب كل منها .

_________________________________________

* الفونديو fondue :لون من الطعام السويسري يصنع من الجبن الذائب في النبيذ الأبيض و ينقع فيه فتات الخبز - المغني الأكبر






24 نيسان 1905

ثمة زمنان في هذا العالم : الزمن الآلي و الزمن الجسدي . الأول صلب و معدني كبندول حديدي ضخم يتحرك جيئة وذهاباً . الثاني يتقلب و يتعرج كسمكة في خليج . الأول لا يلين , محدد سابقاً . الثاني يتخذ قراره وهو يمضي.

يقتنع كثيرون أن الزمن الآلي غير موجود . حين يمرون قرب الساعة العملاقة في شارع كرام لا يشاهدونها و لايسمعون دقاتها وهم يرسلون الطرود في شارع بوست أو يطوفون بين الأزهار في " روزنكارتن". يلبسون ساعات حول أرساغهم كزينة أو كتجمل لأولئك الذين يقدمون الساعات اليدوية كهدايا . لا يضعون ساعات جدارية في منازلهم . بدلاً من ذلك , يصغون لدقات قلوبهم , يشعرون بإيقاعات أمزجتهم و رغباتهم . يأكل بشر كهؤلاء حين يجوعون, يذهبون إلى أعمالهم في المتجر أو الصيدلية حين يستيقظون من نومهم , يمارسون الحب طوال ساعات النهار . يسخر بشر كهؤلاء من فكرة الزمن الآلي. يعرفون أن الزمن يتحرك في نوبات و قفزات , يعرفون أن الزمن يصارع نحو الأمام حاملاً ثقلاً على ظهره حين ينقلون طفلاً مصاباً إلى المستشفى أو يتحملون تحديقة جار أسيئ إليه . يعرفون أيضاً أن الزمن يندفع مسرعاً عبر حقول الرؤية حين يستمتعون بتناول مع الأصدقاء أو يتلقون المديح أو يكذبون بين ذراعي عشيقة سرية.
ثم هناك أولئك الذين يعتقدون أن أجسادهم لا توجد , يعيشون وفق الزمن الآلي , ينهضون في السابعة صباحاً, يتناولون غذاءهم ظهراً و عشاءهم في السادسة.يصلون إلى مواعيدهم في الوقت المحدد وبدقة الساعة .يمارسون الجنس بين الثامنة و العاشرة ليلاً, يعملون أربعين ساعة في الأسبوع , يقرأون صحيفة الأحد يوم الأحد , يلعبون الشطرنج مساء الثلاثاء. حين تصدر معداتهم أصواتاً ينظرون إلى ساعاتهم ليتبينوا إذا حان وقت الطعام ,حين ينسون أنفسهم في حفلة موسيقية ينظرون إلى الساعة التي فوق خشبة المسرح ليعرفوا متى يحين وقت العودة إلى المنزل . يعرفون أن الجسد ليس شيئاً ينتمي إلى السحر الوحشي بل مجموعة من المواد الكيماوية و الأنسجة و الدوافع العصبية و يعرفون أن الأفكار ليست أكثر من اندفاعات كهربائية في الدماغ و الإثارة الجنسية ليست أكثر من تدفق المواد الكيماوية إلى نهايات عصبية معينة و الحزن ليس أكثر من حمض قليل يثبت في المخيخ . باختصار ,الجسد آلة خاضعة لقوانين الكهرباء والميكانيكا نفسها كالإلكترون أو الساعة . هكذا , يجب أن يخاطب الجسد بلغة الفيزياء , و إذا تحدث الجسد فإن حديث عتلات و قوى كثيرة فقط . الجسد شيء يجب أن يؤمر , أن لايطاع .

إذا سار المرء ليلاً على طول نهر " آري" يشاهد دليلاً على وجود عالمين في عالم واحد . يحدد مراكبي موقعه في الظلام من خلال إحصاء الثواني المندفعة في تيار الماء. ثانية , ثلاثة أمتار , ثانيتان , ستة أمتار . ثلاث ثوان , تسعة أمتار . يخترق صوته الظلمة بمقاطع واضحة و محددة . تحت منصب مصباح على جسر " نيديك" يقف شقيقان لم يشاهدا بعضهما لمدة عام ويشربان و يضحكان . يدق جرس كاتدرائية القديس فنسنت عشر مرات . في ثوان , تنطفئ أضواء الشقق التي تصطف في " شيفلاوبي" في استجابة آلية تامة مثل استنتاجات هندسة إقليدس . عاشقان يستلقيان على ضفة النهر ينظران إلى الأعلى بكسل بعد أن استيقظا من نوم لا زمني على الأصوات البعيدة لجرس الكنيسة , مندهشين من أن الليل قد خيم.

حيث يلتقي الزمنان يحل اليأس. حيث ينفصل الزمنان تحل القناعة . ذلك أن محامياً , ممرضة , خبازاً , يستطيعون أن يصنعوا عالماً بشكل معجز في أي من الزمنين , لكنهم لايستطيعون ذلك في كلا الزمنين . إن كل زمن منهما هو حقيقي إلا أن الحقائق ليست نفسها .








26 نيسان 1905

من الواضح بسرعة في هذا العالم أن هناك شيئاً غريباً : لاتمكن رؤية منازل في الأودية و السهول . يعيش الجميع في الجبال .

في وقت ما في الماضي اكتشف العلماء أن الزمن يتدفق ببطء أكبر كلما ابتعد عن مركز الارض . التأثير ضئيل جدا لكنه يمكن أن يقاس بأدوات حساسيتها مفرطة . حالما عرفت الظاهرة انتقل بعض البشر المتلهفين للبقاء شباناً إلى الجبال . بنيت جميع المنازل على "دوم" و على " ماترهورن" و " مونت روزا " وعلى أراض أخرى مرتفعة . من المستحيل بيع أحياء سكنية في مكان آخر.

لم يرض كثيرون أن يبنوا منازلهم ببساطة على جبل .لكي يحصلوا على التأثير الأكبر بنوا منازلهم على دعائم. عششت منازل كهذه على قمم الجبال في جميع أنحاء العالم , وتبدو من بعيد كسرب طيور سمينة تقف على أرجل طويلة و نحيلة . البشر يتلهفون ليعيشوا فترة أطول شيدوا منازلهم على الدعائم الأعلى . وفي الحقيقة , ترتفع بعض المنازل نصف ميل على سيقانها الخشبية النحيلة . أصبح الإرتفاع مرتبة . حين يتوجب على شخص أن ينظر من نافذة مطبخه إلى الأعلى ليشاهد جاراً يظن أن جاره لن يصاب بتصلب إلى الأعلى ليشاهد جاراً يظن أن جاره لن يصاب بتصلب المفاصل بالسرعة التي سيصاب هو بها , لن يفقد شعره هو وقت لاحق , لن يصاب بالتجاعيد حتى وقت لاحق , لن يفقد الباعث على الرومانس باكراً مثله . كذلك يميل الشخص الذي ينظر نحو الأسفل إلى منزل آخر إلى اعتبار سكانه منهكين و ضعفاء و قصيري النظر . يتباهى البعض أنهم عاشوا حياتهم كلها في الأعلى , أنهم ولدوا في أعلى منزل على أعلى قمة جبل ولم يهبطوا أبداً . يحتفلون بشبابهم في المرايا و يسيرون عراة على شرفاتهم .

بين فينة و أخرى يجبر عمل ما ملح البشر على الهبوط في منازلهم فيفعلون ذلك بسرعة و ينزلون بعجلة على سلالمهم إلى الأرض و يركضون إلى سلم آخر , ثم إلى الوادي في الأسفل , يكملون صفقاتهم و يعودون بأقصى سرعة إلى منازلهم أو إلى أماكن أخرى مرتفعة . يعرفون أنه مع كل خطوة إلى الأسفل تزداد سرعة مرور الزمن و يهرمون قليلاً . البشر الذين على مستوى الأرض لا يجلسون أبداً . يركضون حاملين محفظاتهم أو مشترياتهم .

لم تعد تأبه قلة من المقيمين في كل مدينة إذا تقدمت في السن بضع ثوان أكثر من جيرانها . تهبط هذه الأرواح المغامرة إلى العالم السفلي لعدة أيام في المرة الواحدة . تسترخي في ظل الأشجار التي تنمو في الوادي , تسبح بمتعة و حرية في البحيرات التي تقع في ارتفاعات دافئة , تطوف على مستوى الأرض.

نادراً ما تنظر إلى ساعاتها و لا تستطيع أن تقول إن كان اليوم هو الإثنين أو الخميس . حين يندفع الآخرون قربها بسرعة و يسخرون , تبتسم فقط .

مع مرور الزمن , ينسى البشر لماذا المكان الأعلى هو الأفضل . مع ذلك , يواصلون العيش على الجبال ليتجنبوا المناطق الغائصة قدر استطاعتهم , ليعلموا أبناءهم أن يصرفوا الأطفال الآخرين عن الارتفاعات المنخفضة . يتعودون على برد الجبال و يستمتعون بعدم الراحة كجزء من تربيتهم , حتى أنهم أقنعوا أنفسهم بأن الهواء الرقيق مفيد لأجسادهم , و متبعين ذلك المنطق مارسوا حميات من أجل التوفير و رفضوا كل شيء إلا الطعام القليل * . و مع مرور الوقت , أصبح البشر رقيقين كالهواء , عجافاً و كهولاً قبل أوانهم .

__________________________________________

*gossamer food :واه ، رقيق







28 نيسان 1905

ليس بوسع المرء أن يتنزه في جادة أو يتحدث مع صديق أو يدخل بناء أو يتجول تحت أقواس رواق مقنطر قديم مصنوعة من الحجر الرملي دون أن يلتقي بأداة زمنية. الزمن مرئي في جميع الأمكنة . أبراج الساعات الكبيرة , ساعات اليد و أجراس الكنائس تقسم الأعوام إلى شهور والشهور إلى أيام و الأيام إلى ساعات و الساعات إلى ثوان وكل زيادة في الوقت تتقدم بعد الأخرى في تعاقب تام . ووراء أية ساعة كبيرة معينة ثمة منصة زمنية شاسعة ترسي قانون الزمن للجميع على السواء.

في هذا العالم الثانية هي ثانية هي ثانية . يخطو الزمن إلى الأمام بانتظام مضبوط وبالسرعة المنتظمة ذاتها في كل زاوية من المكان . الزمن حاكم لانهائي . الزمن مطلق .

يجتمع كل بعد ظهر سكان بلدة بيرن في الطرف الغربي لشارع كرام . هناك في الثالثة إلا ربعاً يدفع برج "تسوتغلوكاتورم" الجزية للزمن . عالياً على البرج يرقص المهرجون , تصيح الديكة , تعزف الدببة على الناي وتقرع الطبل , يوقت الأصوات والحركات دوران المسننات , التي بدورها يلهمها اكتمال الزمن . في الساعة الثالثة تماماً يدق جرس ضخم ثلاث مرات , يتفحص البشر ساعاتهم , ثم يعودون إلى مكاتبهم في " شارع شبايشا" و حوانيتهم في " السوق" و مزارعهم التي تقع وراء الجسور التي على نهر " آري".

الذين يمتلكون إيماناً دينياً يعتبرون الزمن دليلاً على وجود الله . ذلك أنه من المؤكد أن لا شيء يخلق تماماً دون خالق, لا شيء يمكن أن يكون كونياً دون أن يكون مقدساً . و جميع المطلقات هي جزء من المطلق الواحد . و أينما وجدت المطلقات يوجد الزمن . وضع فلاسفة الأخلاق الزمن في مركز إيمانهم . الزمن هو المرجع الذي يحكم من خلاله على جميع الأفعال . الزمن هو الوضوح لرؤية الصواب و الخطأ.

في حانوت لبيع الكتان في " شارع أمتهاوس " تتحدث امرأة مع صديقتها . فقدت وظيفتها للتو . اشتغلت عشرين عاماً موظفة في " مجلس الشعب" تسجل المجادلات . ساعدت أسرتها . و سرحت الآن وهي تعيل فتاة ماتزال في المدرسة و تعيش مع زوج يمضي كل صباح ساعتين في المرحاض. دخلت مديرتها في صباح ما , وهي سيدة غريبة الأطوار , مزيتة بإفراط , و طلبت منها أن تخلي مكتبها في اليوم التالي . تصغي الصديقة التي في الحانوت بهدوء و تطوي بأناقة غطاء الطاولة الذي اشترته , تنزع نسالة الكتان عن كنزة المرأة التي فقدت وظيفتها . تتفق الصديقتان على اللقاء لتناول الشاي في الساعة العاشرة من اليوم التالي . الساعة العاشرة , بعد سبع عشرة ساعة و خمس و ثلاثين دقيقة من هذه اللحظة تبتسم المرأة التي فقدت وظيفتها للمرة الأولى طوال اليوم , تتخيل في ذهنها الساعة التي على حائط مطبخها تحدد كل ثانية بين الآن والساعة العاشرة غداً, دون انقطاع , دون استشارة.

و ثمة ساعة مشابهم في منزل صديقتها متزامنة معها . غداً في العاشرة إلا ثلثاً , سترتدي المرأة لفاعها و قفازيها و معطفها و تسير في " شيفلاوبي" عابرة جسر " نيديك" متوجهة إلى " المقهى" في شارع بوست . في العاشرة إلا ربعاً , ستغادر صديقتها منزلها في شارع تسويغاهوس و تشق طريقها إلى المكان نفسه .

ستتقابلان في الساعة العاشرة . ستتلقيان في العاشرة .

إن عالماً يكون فيه الزمن مطلقاً هو عالم عزاء . ذلك أنه بينما تكون حركات البشر غير قابلة للرصد , تكون حركة الزمن قابلة لذلك . وبينما يمكن أن يُشك بالبشر , لايمكن الشك بالزمن . و بينما يشرد البشر ينزلق الزمن إلى الأمام دون أن ينظر إلى الخلف . في المقاهي , في الأبنية الحكومية , في القوارب التي في بحيرة جنيف , ينظر البشر إلى ساعاتهم اليدوية و يلوذون بالزمن . تعرف كل امرأة أنه في مكان ما تكون مسجلة لحظة ولادتها و اللحظة التي قامت فيها بالخطوة الأولى , ولحظة هواها الأول و اللحظة التي ودعت فيها والديها .







3 أيار 1905

تخيل عالماً تحكم فيه العشوائية السبب و النتيجة . تارة يسبق السبب النتيجة وطوراً تأتي النتيجة قبل السبب, أو ربما يكمن السبب دائماً في الماضي بينما تكمن النتيجة في المستقبل , بينما يتشابك الماضي و المستقبل.

تطل مصطبة بندستراس على منظر مدهش : نهر آري في الأسفل و جبال الألب في الأعلى . يقف هناك رجل في هذه اللحظة سارح الذهن , يفرغ جيبيه و يبكي . تخلى عنه أصدقاؤه دون سبب . لم يعد يتصل به أحد , لا أحد يقابله على العشاء أو لشرب البيرة في الحانة, لا أحد يدعوه إلى منزله . كان طوال عشرين عاماً الصديق المثالي لأصدقائه .كان كريماً , مهتماً , لبقاً, عطوفاً. ما الذي حدث؟بعد أسبوع من هذه اللحظة يتصرف الرجل نفسه على المصطبة بطريقة سخيفة , يهين الجميع , يرتدي ثياباً تفوح منها الروائح , يبخل بماله , لا يسمح لأحد بالمجيء إلى شقته في " لوبنستراس" . ما الذي كان السبب وما الذي كان النتيجة؟ أيهما الماضي و أيهما المستقبل ؟

صدق المجلس في زيوريخ مؤخراً على قوانين صارمة . يجب ألا تباع المسدسات للعامة . يجب أن تفتش البنوك و المتاجر بحثاً عن المهربات . يجب أن يفتش جميع الزوار سواء الذين يدخلون زيوريخ بالزورق عبر نهر " ليمات" أو بالقطار على خط " سيلينو" بحثاً عن البضائع المهربة . تمت مضاعفة عدد أفراد الشرطة المدنية . بعد شهر من تشديد الإجراءات حدثت أسوأ الجرائم في تاريخ
"زيوريخ" . قُتل البشر في وضح النهار في الوينبلاتز , سرقت اللوحات من متحف كنست , شرب الكحول على مقاعد " منسترهوف" . أليست هذه الأفعال الإجرامية موضوعة في غير موضعها في الزمن ؟ أو ربما كانت القوانين الجديدة فعلاً لا ردة فعل؟

تجلس امرأة شابة قرب نافورة في " بوتانشرغارتن", تجيء إلى هنا كل أحد لتستنشق أريج البنفسج , وردة المسك , أزهار العصيفرة القرنفلية الملتفة .

فجأة يحلق قلبها , تحمر خجلاً , تخطو بلهفة , تصبح سعيدة دون سبب . بعد أيام تقابل شاباً و تقع في الحب . أليس الحدثان متصلين ؟ لكن وفق أي اتصال غريب ,وفق أي اتصال غريب , وفق أي اعوجاج في الزمن , وفق أي منطق معكوس؟

في هذا العالم اللاسببي , العلماء عاجزون . تصبح تنبؤاتهم لغواً , تصبح معادلاتهم تبريرات , منطقهم لا منطقاً . يصبح العلماء متهورين و يغمغمون مثل مقامرين لا يستطيعون التوقف عن المراهنة . العلماء مهرجون ليس لأنهم عقلانيون , بل لأن الكون غير عقلاني , أو ربما ليس لأن الكون غير عقلاني بل لأنهم عقلانيون . من الذي يستطيع أن يحذر في عالم لا سببي؟

الفنانون فرحون في هذا العالم . الغموض هو حياة لوحاتهم و موسيقاهم و رواياتهم . يستمتعون بأحداث لم تكتنه بعد , بحوادث غير مشروحة , باستعادة الماضي.

تعلم معظم البشر كيف يعيشون في اللحظة , و يحتدم الجدل حول أنه إذا أحدث الماضي تأثيراً غير مؤكد على المستقبل فإن الأعمال الحالية يجب ألا تقدر أهميتها من أجل نتيجتها . بالأحرى , كل فعل هو جزيرة في الزمن , و يجب أن يحكم عليه بذاته . تريح عائلة عماً يحتضر ليس بسبب الميراث , بل لأنه محبوب في تلك اللحظة . يتم استئجار الموظفين ليس بسبب مجمل أعمالهم و لكن بسبب حسهم الجيد في المقابلات . الموظفون الذين يدوسهم . إنه عالم اندفاع , عالم إخلاص , عالم تتحدث فيه الكلمة المنطوقة مع تلك اللحظة فقط , تمتلك كل نظرة معنى واحداً فقط , لا تملك كل لمسةٍ ماضياً أو مستقبلاً , و كل قبلة هي قبلة مباشرة .






4 أيار 1905

إنه المساء . يجلس أربعة من الإنكليز و السويسريين إلى طاولتهم المألوفة في غرفة الطعام في فندق " سان موريزان " في " سينت موريتز" يلتقون هنا كل عام في شهر حزيران , ليتحدثوا و يستحموا. الرجلان أنيقان يرتديان ربطتي عنق سوداوين و حزامين , المرأتان جميلتان و ترتديان فستاني سهرة . يسير النادل عبر الأرضية الخشبية الرائعة و يتلقى طلباتهم .

تقول المرأة التي تزين شعرها بشريط قماش موشى : " أظن أن الطقس سيكون معتدلاً غداً. سيكون هذا مريحاً".

يهز الآخرون رؤوسهم و تتابع كلامها : " تبدو الحمامات أكثر إمتاعاً حين يكون الجو مشمساً. رغم أن هذا يجب ألا يهم كما أعتقد" .

يقول الأميرال : " رننيك لايتلي "* فاز بأربع نقاط مقابل نقطة واحدة في دبلن "

يغمز زوجته .

يقول الرجل الآخر : " سأراهن بخمس نقاط مقابل واحدة إذا راهنت " .

تقطع النساء أرغفة العشاء , تدهنها بالزبدة و تضع السكاكين على جانب صحون الزبدة . يثبت الرجال أعينهم على المدخل.

تقول المرأة التي تزين شعرها بشريطة قماشية موشاة : " أحب نسيج أغطية الطاولات " .

تأخذ منديلها تفتحه ثم تطويه مرة أخرى .

تقول المرأة الأخرى مبتسمة : " أنت تريدين هذا كل عام يا جوزفين ".

يأتي العشاء . طلبوا الليلة سرطانات البحر , الهليون , شرائح لحم البقر و النبيذ الأبيض .

تقول المرأة التي تزين شعرها بشريطة قماشية موشاة وهي تنظر إلى زوجها :

" كيف هو صحنك ؟"

- زيادة قليلة في البهارات كالأسبوع الماضي .

- وأنت أيها الأميرال كيف شرائحك؟

يقول الأميرال بسعادة : " لم يقلبوا أبداً جانباً من الشرائح "
يقول الرجل الآخر : ألم تلاحظ أنك ذهبت كثيراً إلى مخزن اللحوم . لم تنقص كيلوغراماً واحداً منذ العام الماضي أو ربما الأعوام العشرة الأخيرة .

يقول الأميرال غامزاً زوجته : " ربما لا تستطيع أن تلاحظ , بيد أنها تستطيع " .

تقول زوجة الأميرال : " يمكن أن أكون مخطئة , لكن يبدو أن الغرف أكثر تعرضاً للهواء البارد هذا العام ".

يهز الآخرون رؤوسهم و يتابعون تناول سرطانات البحر و شرائح لحم البقر . تتابع كلامها : " دائماً أ،انام بشكل أفضل في الغرف الدافئة لكن إذا كانت معرضة للهواء البارد أستيقظ مصابة بالسعال ".

تقول المرأة الأخرى : " ضعي الغطاء فوق رأسك " .

تقول زوجة الأميرال: نعم, لكنها تبدو محتارة.

تكرر المرأة الأخرى : " ضعي رأسك تحت الشرشف عندئذ لايزعجك الهواء البارد . يحدث لي طوال الوقت في كريدلوالد . ثمة نافذة قرب سريري . أستطيع أن أتركها مفتوحة إذا غطيت أنفي . وهذا يترك الهواء البارد في الخارج " .

تتحلحل المرأة التي تزين شعرها بشريطة موشاة على كرسيها , تنزل ساقاً عن أخرى تحت الطاولة .

تأتي القهوة . يذهب الرجلان إلى غرفة التدخين و المرأتان إلى الأراجيح على السطح الكبير في الخارج.

يسأل الأميرال: " كيف حال المشاريع منذ العام الماضي ؟

يقول الرجل الآخر و هو يحتسي البراندي : " لا تستطيع أن تشكو " .

" و الأولاد ؟"

" كبروا عاماً"

في الرواق , تتأرجح المرأتان وتنظران في الليل . و يحدث الشئ نفسه في كل فندق ومنزل و بلدة , ذلك أن الزمن يمر لكن لايحدث سوى القليل في هذا العالم . و تماماً كما يحدث القليل من عام لآخر يحدث القليل من شهر لآخر و من يوم لآخر . و إذا كان الزمن و مرور الأحداث هما الشيء نفسه فهذا يعني أن الزمن لا يكاد يمر مطلقاً . و إذا لم يكن الزمن و مرور الأحداث هما الشيء نفسه , فهذا يعني أن البشر هم الذين لايكادون يتحركون .

إذا لم يمتلك المرء طموحات في هذا العالم فإنه يعاني دون أن يعرف . و إذا امتلك المرء طموحات فإنه يعاني و هو يعرف , و لكن ببطء شديد.

_____________________________________

* رننيك لايتلي : اسم حصان







فاصلة

يسير آينشتاين و بيسو ببطء في وقت متأخر من بعد الظهر . إنه وقت هادئ من أوقات النهار . البقالون ينزلون ظلات حوانيتهم و يخرجون دراجاتهم . تنادي أم ابنتها من شرفة طابق ثان لتجيء إلى المنزل و تحضر العشاء .

كان آينشتاين يشرح لصديقه "بيسو" لماذا يريد أن يعرف الزمن . لكنه لا يقول شيئاً عن أحلامه . سيصلان حالاً إلى منزل " بيسو" .أحياناً يبقى آينشتاين هناك أثناء العشاء و يتوجب عندئذ على " ميليفا" أن تأتي لتحضره حاملة رضيعهما . يحدث هذا عادة حين يكون آينشتاين مهووساً بمشروع جديد كما هو الآن و طوال العشاء ينتر رجليه تحت الطاولة .

ليس آينشتاين رفيق عشاء جيد .

ينحني آينشتاين باتجاه بيسو الذي هو قصير أيضاً و يقول : أريد أن أفهم الزمن لأقترب من الواحد القديم .يهز بيسو رأسه . لكن ثمة مشاكل يشير إليها بيسو . ليس الواحد القديم مهتماً بالاقتراب من مخلوقاته سواء أكانت ذكية أم لا . و المشكلة الأخرى هي أن هذا المشروع الزمني يمكن أن يكون كبيراً جداً على شخص يبلغ 26 عاماً من العمر .

من ناحية أخرى , يعتقد " بيسو" أن صديقه يمكن أن يكون قادراً على أي شيء.ذلك أن آينشتاين أكمل خلال هذا العام أطروحته في الدكتوراه , أنهى بحثاً عن الفوتونات و آخر عن الحركة البراونية ولقد بدأ هذا المشروع الحالي بالفعل كاستقصاء للكهرباء و المغناطيسية و يتطلب كما أعلن أينشتاين فجأة في أحد الأيام إعادة فهم للزمن . " بيسو" محتار من طموح آينشتاين .

يترك " بيسو" آينشتاين وحيداً مع أفكاره لوهلة . يتساءل ما الذي طبخته " آنا" للعشاء وينظر عبر شارع جانبي إلى قارب فضي يلمع في نهر آري تحت شمس منخفضة . و بينما يسير الرجلان تتكتك خطواتهما بنعومة على الحجر الإسفلتي . عرفا بعضهما منذ أيام الدراسة في " زوريخ".

قال بيسو : " وصلتني رسالة من أخي الذي في روما .سيأتي لزيارتي لمدة شهر . تحبه " آنا" لأنه يطري شخصيتها دائماً".

يبتسم آينشتاين سارح الذهن .

" لن أتمكن من مشاهدتك بعد العمل حين يأتي أخي . هل ستكون على ما يرام ؟"

يسأله آينشتاين : ماذا؟

يكرر بيسو : لن أقدر على رؤيتك كثيراً حين يجيء أخي , هل ستكون بخير وحدك؟

يجيبه آينشتاين : " أكيد لاتقلق من أجلي " .

كان آينشتاين يعتمد على نفسه منذ أن تعرف إليه " بيسو " . كانت عائلته تنتقل حين كان طفلاً . إنه متزوج مثل " بيسو" لكنه نادراً ما يذهب إلى أي مكان مع زوجته , حتى في المنزل يهرب من " ميليفا" في منتصف الليل و يدخل المطبخ ليدرس صفحات طويلة من المعادلات التي يريها في المكتب لبيسو في اليوم التالي .

يتفحص " بيسو" صديقه بفضول .

بالنسبة لشخص منطو على نفسه و منعزل , يبدو ذلك الولع بالقرب غريبا.








9 أيار 1905

سينتهي العالم في 26 أيلول 1907 . الجميع يعرفون هذا . و ما يجري في بيرن يجري في جميع المدن و البلدات .
قبل عام من النهاية تغلق المدارس أبوابها . لماذا الدراسة من أجل المستقبل حين يكون المستقبل قصيراً؟ يلعب الأطفال لعبة الغميضة في أروقة شارع كرام مسرورين من انتهاء الدروس إلى الأبد . يركضون في أرستراس و يرمون أحجاراً في النهر و يصرفون نقودهم لشراء النعناع المفلفل و عرق السوس . يسمح لهم أولياء أمورهم أن يفعلوا أي شيء يرغبون به .

قبل شهر من النهاية تتوقف المشاريع . يوقف مجلس الشعب إجراءاته . يصمت بناء التلغراف الفيدرالي في شارع شبايشا و أيضا معمل الساعات في " لوبنستراسي" و الطاحونة التي وراء جسر نيديك . ما الحاجة إلى التجارة و الصناعة حين لا يبقى سوى القليل من الزمن ؟

يجلس البشر في المقاهي الرصيفية التي في شارع أمتهاوس , يحتسون القهوة ويتحدثون بارتياح عن حيواتهم . التحرر يملأ الجو . في هذه اللحظة تتحدث امرأة عيناها بنيتان مع أمها حول الوقت القصير الذي أمضياه مع بعضهما حين كانت الأم تعمل خياطة . تخطط الأم و ابنتها للقيام برحلة إلى " لوسيرن " . سوف يصلحان حياتين فيما تبقى من وقت . على طاولة أخرى يخبر رجل صديقه عن مشرف مكروه غالباً ما مارس الجنس مع زوجته بعد ساعات العمل في غرفة الملابس التابعة للمكتب و هدد بتسريحه إذا سبب هو أو زوجته أية مشكلة . لكن ما الذي يخيف الآن ؟

رتب الرجل أموره مع المشرف و تصالح مع زوجته , وبعد أن ارتاح من ذلك مدد رجليه و طاف بعينيه فوق جبال الألب.

في المخبز الذي يقع في " السوق" يضع الخباز ذو الإصبع السميكة العجين في الفرن و يغني. في هذه الأيام يطلب الناس خبزهم بتهذيب . يبتسمون و يدفعون بسرعة لأن النقود تفقد قيمتها .يثرثرون حول نزهات تمت في فرايبورغ , عن وقت قضوه في الاصغاء إلى قصص أولادهم , عن نزهات طويلة في منتصف بعد الظهر . لا يبدو أنهم يكترثون بأن العالم سينتهي حالاً لأن الجميع يتقاسمون القدر نفسه . إن عالماً سينتهي بعد شهر هو عالم مساواة.

قبل يوم واحد من النهاية , تضج الشوارع بالضحك. الجيران الذين لم يتحدثوا أبداً مع بعضهم يتبادلون التحية كأصدقاء , يتعرون و يستحمون في النافورة . آخرون يغوصون في نهر آري , و بعد أن يسبحوا إلى حد الإعياء يستلقون على العشب الكثيف على طول النهر و يقرأون الشعر . محام و موظف بريد لم يلتقيا أبداً من قبل, يشبكان ذراعيهما و يسيران عبر بوتانشرغارتن , يبتسمان لنبات قرن الغزال و نبات النجمية و يناقشان الفن و اللون . ماذا تعني محطاتهما الماضية ؟ في عالمٍ سينتهي بعد يوم واحد هما متساويان .

في ظلال شارع جانبي بعيد عن نهر آري , يستند رجل و امرأة إلى حائط , يشربان البيرة و يأكلان لحم البقر المجفف. فيما بعد , ستأخذه إلى شقتها . إنها متزوجة من شخص آخر لكنها أرادت هذا الرجل طوال سنوات وسوف تلبي رغباتها في هذا اليوم الأخير من نهاية العالم .

تعدو بعض الأرواح في الشوارع و تقوم بأفعال خيرة لتصحح أفعالها الشريرة التي ارتكبتها في الماضي . و كانت ابتساماتها هي الابتسامات الوحيدة الشاذة .

قبل دقيقة من نهاية العالم يجتمع الجميع على أراضي متحف كنسنت . يشكل الرجال والنساء و الأولاد دائرة عملاقة و يمسكون أيدي بعضهم . لايتحرك أو يتحدث أحد . يخيم صمت مطبق بحيث يستطيع كل شخص أن يسمع نبض قلب الذي يقف على يمينه أو يساره . هذه هي الدقيقة الأخيرة في حياة العالم . في الصمت المطلق تلتقط نبتة كف ذئب أرجوانية الضوء على الجانب الأسفل من أزهارها , تتوهج للحظة ثم تتلاشى بين الأزهار الأخرى . خلف المتحف ترتجف الأوراق الإبرية للشربين بنعومة حين يتحرك النسيم عبر الأشجار . و بعيداً إلى الخلف , عبر الغابة , يعكس نهر آري ضوء الشمس , يلتوي الضوء مع كل تجعيدة في سطحه . إلى الشرق , ينهض برج كاتدرائية القديس فنسنت أحمر وهشاً , بناؤه الحجري رقيق كشرايين ورقة . وفي الأعلى تبدو جبال الألب المكللة بالثلوج و التي تجمع بين الأبيض و الأرجواني ضخمة و صامتة . تطوف غيمة في السماء . لا أحد يتحدث .

يبدو في الثواني الأخيرة و كأن الجميع قفزوا عن قمة توباز ممسكين بأيدي بعضهم . تقترب النهاية كأرض مقتربة . يهب الهواء البارد , تفقد الأجسام أوزانها . يتثاءب الأفق الصامت أميالاً . وفي الأسفل , يندفع غطاء الثلج الشاسع مقترباً ليغطي تلك الدائرة من اللون القرنفلي و الحياة .








10 أيار 1905

الوقت أواخر بعد الظهر . تعشش الشمس لحظة قصيرة في تجويف جبال الألب الثلجي . تندفع أشعة الضوء المائلة و الطويلة من الجبال عابرة بحيرة هادئة و ترمي ظلالها على بلدة تقع في الأسفل .

تتألف البلدة من قطعة واحدة و قطع كثيرة . تشكل أشجار التنوب و الشربين و صونوبر الآرولا حداً من جهة الشمال و الغرب , بينما توجد في الأعلى الزنابق , كف الذئب و حشيشة الأسد الألبية . في المراعي التي قرب البلدة يرعى القطيع من أجل صناعة الزبدة و الجبنة و الشوكولاتة . تنتج طاحونة نسيج صغيرة الخيوط الحريرية و الشرائط و الملابس القطنية . يرن جرس كنيسة . تملأ رائحة لحم البقر المجفف الشوارع والأزقة .

و تظهر نظرة متفحصة أنها مدينة من قطع كثيرة . تعيش إحدى الحارات في القرن الخامس عشر . هنا , ينضم إلى المنازل المبنية من الحجر الخشن سلالم و شرفات خارجية , بينما تفغر الجملونات العليا أفواهها و تنفتح للريح . تنمو الطحالب بين قطع أحجار السقوف المستقيمة , تظهر كنيسة بنوافذ بيضوية الشكل , إيوانات مرصوفة و مسقوفة و تصوينات غرانيتية . يمسك قسم آخر بالحاضر , برواقات مقنطرة تنتظم في كل جادة , درابزونات معدنية على الشرفات , واجهات مصنوعة من الحجر الرملي الناعم .

كل قسم من القرية مثبت إلى زمن مختلف .

في نهاية بعد الظهر , في هذه اللحظات القليلة بينما الشمس تعشش في التجويف الثلجي الألبي , يستطيع المرء أن يجلس قرب البحيرة و يتأمل نسيج الزمن . فرضياً , يمكن أن يكون الزمن ناعماً أو خشناً , شوكياً أو حريرياً , صلباً أو ليناً . لكن في هذا العالم . لكن في هذا العالم يحدث أن يكون نسيج الزمن لاصقاً. تعلق مجموعة من البلدات في لحظة ما من التاريخ ولا تخرج . وهكذا أيضا يعلق الأفراد في نقطة ما من حياتهم ولا يتحررون .

في هذه اللحظة , يتحدث رجل في أحد المنازل التي تقع أسفل الجبل مع صديق . يتحدث عن أيام دراسته في الجمنازيو . تتدلى شهادات الامتياز التي حصل عليها في الرياضيات و التاريخ على الجدران , تشغل ميدالياته الرياضية و غنائمه رفوف الكتب . هنا , على طاولة , توجد صورة له حين كان كابتن فريق التسييج يعانقه فيها شبان آخرون ذهبوا منذ ذلك الوقت إلى الجامعة و أصبحوا مهندسين ومصرفيين و تزوجوا . وفي الخزانة توجد ثيابه التي تعود إلى عشرين عاماً, بلوزة التسييج , بنطال التويد الضيق على خصره الان . الصديق الذي كان يحاول طوال أعوام أن يعرف الرجل على أشخاص آخرين يهز رأسه بكياسة و يصارع بصمت ليتنفس في الغرفة الصغيرة .

في منزل آخر يجلس رجل إلى طاولته وحيداً و هي مجهزة لاثنين , منذ عشرة أعوام جلس هنا مقابل والده ولم يقدر أن يقول إنه يحبه , بحث خلال أعوام طفولته على لحظة صلة , تذكر المساءات التي جلس فيها ذلك الرجل الصامت مع كتابه , كان غير قادر أن يقول إنه أحبه , لم يقدر أن يقول إنه أحبه . يوجد على الطاولة صحنان , كأسان , شوكتان , كما كان الأمر في تلك الليلة الماضية . يبدأ الرجل تناول الطعام , لايستطيع أن يأكل , يبكي غير قادر أن يسيطر على نفسه . لم يقل أبداً إنه أحبه .

في منزل آخر تنظر امرأة بولع إلى صورة ولدها الشاب المبتسم و المتألق . تكتب له رسالة إلى عنوان طويل مضلل , تتخيل الرسائل السعيدة التي ستتلقاها . حين يقرع ابنها الباب , لاتفتحه . حين يأتي ولدها بوجهه اللاهث وعينيه الزجاجيتين إلى نافذتها و يطلب النقود لا تسمعه . حين يترك لها ولدها ذو المشية المتعثرة رسائل متوسلاً أن يشاهدها ترمي الرسائل دون أن تفتحها . حين يقف ولدها في الليل خارج منزلها تنام باكراً. في الصباح تنظر إلى صورته , تكتب رسائل عبادة إلى عنوان مضلل طويل.

تشاهد عانس وجه الشاب الذي أحبها في مرآة غرفة نومها , على سقف المخبز , على سطح البحيرة , في السماء.

إن مأساة هذا العالم هي أنه لا يوجد أي شخص سعيد سواه أكان عالقاً في زمن ألم أو متعة . إن مأساة هذا العالم هي أن كل شخص هو وحيد لأن حياة في الماضي لايمكن أن تعاش في الحاضر , إن كل شخص يعلق في الزمن يعلق وحيداً.







11 أيار 1905

حين يسير المرء في السوق يرى منظراً عجباً : الكرز الذي في أكشاك بيع الفاكهة مرتب في صفوف , القبعات التي في المتجر مجموعة بأناقة , الأزهار التي على الشرفات كرتبة في تناسق تام . لا فتات على أرض المخبز , لا حليب مسفوحاً على أرضية بيت المؤن . لا شئ خارج موضعه .

حين تنتهي حفلة مرحة في مطعم تصبح الطاولات أكثر ترتيباً مما كانت عليه . حين تهب ريح خفيفة عبر الشارع , يكنس الشارع . و يصبح نظيفاً و تنقل الأوساخ و الغبار إلى حافة البلدة . حين تتكسر أمواج على الشاطئ , يعيد الشاطئ بناء نفسه . حين تسقط الأوراق عن الأشجار , تصطف الأوراق كالطيور في تشكيل كحرف
v .
حين تشكل الغيوم وجوهاً , تبقى الوجوه . حين ينفث غليون الدخان في غرفة يندفع السخام نحو زاوية الغرفة تاركاً جواً خالياً. تصبح الشرفات المطلية المعرضة للريح و المطر أكثر تألقاً مع مرور الزمن . يجعل صوت الرعد أصيصاً مكسوراً يعيد تكوين نفسه , يجعل الشظايا المحطمة تقفز إلى أماكنها المحددة حيث تتلاءم و تلتحم . يزداد الأريج الفواح لعربة قرفة عابرة و لا يتلاشى مع مرور الزمن .

هل تبدو هذه الحوادث غريبة؟

يسبب مرور الزمن في هذا العالم نظاماً متزايداً . النظام هو قانون الطبيعة , الميل العالمي, الجهة الكونية . إذا كان الزمن سهماً, يشير السهم نحو النظام . المستقبل نموذج , منظمة , اتحاد , توتير, الماضي عشوائية , فوضى , تحلل , تلاشٍ.

يرى الفلاسفة أنه بدون اتجاه نحو النظام يفقد الزمن معناه . يصبح الزمن غير قابل للتمييز عن الماضي . يصير تعاقب الأحداث مشاهد عشوائية من ألف رواية .

سيصبح التاريخ غير قابل للتمييز مثل الضباب الذي نجمعه ببطء قمم الأشجار في المساء.

في عالم كهذا يستلقي البشر الذين يعيشون في منازل غير مرتبة في أسرتهم و ينتظرون أن تنفض قوى الطبيعة الغبار عن نوافذهم و ترتب الأحذية في خزائنهم . البشر الذين يعيشون علاقات غير منظمة يمكن أن يقوموا بنزهات بينما تصبح تقاويمهم منظمة , مواعيدهم مرتبة و أرصدتهم متوازنة . يمكن أن توضع الفرشاة , و أحمر الشفاه و الرسائل في المحفظات بإهمال مع وجود قناعة أنها سترتب نفسها آلياً . ولن تحتاج الحدائق إلى أن تشذب و الأعشاب إلى أن تستأصل . تصبح المكاتب أنيقة في نهاية اليوم . الثياب التي على الأرض في المساء تتوضع على الكراسي في الصباح . الجرابات المفقودة تعاود الظهور .

إذا زار المرء مدينة في الربيع يرى منظراً عجباً آخر . ذلك أن البشر يمرضون في الربيع من نظام حياتهم .يدمر البشر في الربيع منازلهم بغضب , يتحركون بين الأوساخ ,يحطمون الكراسي , يكسرون النوافذ . في شارع أربر أو أية جادة سكنية يسمع المرء في الربيع أصوات الزجاج المحطم و الصراخ و العويل و الضحك . في الربيع يلتقي البشر في أوقات غير منظمة , يحرقون كتب مواعيدهم , يقذفون ساعات يدهم بعيداً, يشربون طوال الليل. يستمر هذا الوضع الهستيري إلى الصيف حين يستعيد البشر أحاسيسهم و يعودون إلى النظام .







14 أيار 1905


ثمة مكان يتوقف فيه الزمن . تتدلى قطرات المطر دون حراك في الجو . تتجمد رقاصات الساعات في منتصف التأرجح . ترفع الكلاب خطومها في عواء صامت . يتجمد العابرون في الشوارع الغبارية و أرجلهم مرفوعة نحو الأعلى كأنها مشدودة بخيوط . تعلق روائح البلح و المانغا و الكزبرة و الكمون في الفضاء .

حين يقترب مسافر إلى هذا المكان من أيه جهة , يتحرك ببطء متزايد . يزداد تباعد دقات قلبه , يضعف نفسه , تنخفض حرارته , تبهت أفكاره إلى أن يصل إلى حالة الموت ويتوقف . ذلك أن هذا هو مركز الزمن . من هذا المكان يتحرك الزمن نحو الخارج في دوائر متحدة , المركز يكون مستقراً في المركز , يجمع السرعة ببطء في أقطار دوائر أكبر . من الذي سيحج إلى مركز الزمن ؟ الآباء و الأمهات مع أولادهم و العشاق .

و هكذا , في المكان الذي يتوقف فيه الزمن , يرى المرء الآباء و الأمهات يتشبثون بأولادهم في عناق متجمد لن يتحرر أبداً. لن تتوقف الإبنة الشابة الجميلة ذات العينين الزرقاوين و الشعر الأشقر عن تلك الابتسامة التي تبتسمها , لن تفقد توهج خديها القرنفلي الناعم , لن تنالها التجاعيد أو التعب , لن تصاب بالأذى , لن تنسى ما علمها والداها , لن تعرف الشر أبداً , لن تقول لوالديها أبداً إنها لا تحبهما , لن تغادر غرفتها المطلة على البحر , لن تتوقف أبداً عن لمس والديها كما تفعل الآن.

و في المكان الذي يتوقف فيه الزمن يشاهد المرء العشاق يتبادلون القبل في ظلال المباني في عناقات متجمدة لن تنفك أبداً. لن يزيح المعشوق ذراعيه عن موقعهما لن يعيد سوار الذكريات , لن يسافر بعيداً عن معشوقته , لن يخاطر بنفسه في التضحية الذاتية , لن يفشل في إظهار حبه , لن يغادر أبداً, لن يقع في حب امرأة أخرى , لن يفقد أبداً هوى هذه اللحظة في الزمن .

يجب أن يلاحظ المرء أن تلك التماثيل مضاءة بأضعف لون أحمر لأن الضوء تلاشى في مركز الزمن و تحولت ذبذباته إلى أصداء في الأودية الواسعة و صغر توتره حتى أصبح مثل التوهج الباهت للحباحب .

أولئك الذين ليسوا هادئين في مركز الزمن يتحركون فعلاً لكن بخطوات متجمدة . يمكن أن يستغرق تمشيط الشعر عاماً , يمكن أن تستغرق قبلة ألف عام. و في الوقت الذي تعاد فيه ابتسامة تمر الفصول في العالم الخارجي . و في الوقت الذي يضم فيه طفل تُبنى جسور. و في الوقت الذي يقال فيه وداعاً تتفتت مدن و تُنسى .

و أولئك الذين يعودون إلى العالم الخارجي ..

ينمو الأطفال بسرعة , ينسون عناق آبائهم و أمهاتهم الذي استمر قروناً و الذي , بالنسبة إليهم , استمر بضع ثوان فقط . الأطفال الذين يصبحون راشدين , يعيشون بعيداً عن أمهاتهم و آبائهم في منازلهم الخاصة , يتعلمون طرقاً خاصة بهم , يعانون من الألم , يشيخون . يلعن الأطفال آبائهم و أمهاتهم لأنهم يحاولون الاحتفاظ بهم إلى الأبد , يلعنون الزمن بسبب تجاعيد جلدهم و أصواتهم الأجشة . هؤلاء الذين أصبحوا أطفالاً شائخين يريدون أن يوقفوا الزمن لكن في زمن آخر . يريدون أن يجمدوا أبناءهم في مركز الزمن .

العشاق الذين يعودون يجدون أن أصدقاءهم رحلوا منذ وقت طويل . في النهاية , انتهت فترات الحيوات . يتحركون في عالم لا يعرفون , العشاق الذين عادوا ما يزالون يتعانقون في ظلال الأبنية إلا أن عناقاتهم تبدو الآن فارغة ووحيدة . حالاً ينسون الوعود التي عمرها قرون و التي بالنسبة لهم استمرت بضع ثوان فقط , حتى بين الغرباء يتبادلون كلمات نابية , يفقدون الهوى , ينفصلون , يشيخون , و يصبحون وحيدين في عالمٍ لا يعرفونه .

يقول البعض من الأفضل عدم الاقتراب من مركز الزمن . الحياة قارب حزن إلا أنه من النبل أن يعيش المرء الحياة و لكن بدون الزمن لا توجد حياة . لا يوافق آخرون . سيفضلون أبدية من القناعة حتى و لو كانت متوقفة متجمدة , كفراشة حبيسة في علبة .







15 أيار 1905

تخيل عالماً يخلو من الزمن , ليس فيه إلا الصور .

طفلة على الشاطئ , مسحورة من رؤيتها الأولى للمحيط . امرأة واقفة على الشرفة فجراً شعرها المنسدل , ثياب نومها الفضفاضة , شفتاها . القوس المحنية للرواق المقنطر قرب نافورة تسيرغنا في شارع كرام , الحجر الرملي و الحديد . يجلس رجل في مكتبه الهادئ حاملاً صورة امرأة و ثمة نظرة استياء على وجهه . عقاب مؤطر في السماء باسط جناحيه , أشعة الشمس تتغلغل في ريشه . يجلس فتى يافع في صالة فارغة يخفق قلبه كأنه على خشبه المسرح . آثار أقدام على الثلج في جزيرة شتائية . قارب على المياه في الليل تبدو أضواءه باهتة في المسافة كمثل نجمة صغيرة حمراء في السماء السوداء . خزانة أدوية مغلقة . امرأة تلبد في الدغل , تنتظر قرب منزل زوجها اللامبالي الذي يجب أن تتحدث إليه . مطر خفيف في يوم ربيعي أثناء نزهة هي النزهة الأخيرة التي يقوم بها شاب في المكان الذي يحبه . غبار على أسكفة نافذة . طاولة تعرض فليفلة صفراء و خضراء و حمراء .
. قطة تراقب خنفساء على النافذة .فتاة شابة على مقعد , تقرأ رسالة , دموع الفرح في عينيها الخضراوين . حقل كبير مخطط بأشجار و الأرز و التنوب . ضوء الشمس الداخل في زوايا طويلة من خلال النافذة في نهاية بعد الظهر .زجاجة محطمة على الأرض , سائل بني في الصدوع , امرأة عيناها حمراوان . عجوز في المطبخ يعد الفطور لحفيده , الطفل يحدق عبر النافذة الى مقعد مطلي باللون الأبيض . كتاب مهترئ على طاولة قرب مصباح باهت . البياض على المياه كموجة تتلاشى تعصف بها الريح . امرأة تستلقي على أريكتها , شعرها مبلل , تمسك يد رجل لن تراه مرة ثانية أبداً, قطار عرباته حمراء على جسر حجري كبير أقواسه بارعة الجمال , نهر في الأسفل , نقاط صغيرة في منازل بعيدة , ذرات الغبار تعوم في ضوء الشمس خلال نافذة , الجلد الرقيق في منتصف عنق , رقيق بما يكفي لرؤية نبض الدم . رجل و امرأة عاريان يغطيان بعضهما , الظلال الزرقاء للأشجار تحت البدر , قمة جمبل و ريح قوية منتظمة , يتراءى الوادي في جميع الجهات , سندويتشات لحم بقر و جبنة , طفل ينقز من صفعة والده , شفتا الأب ملويتان من الغضب , الطفل لا يفهم , وجه غريب في المرآة شائب عند الصدغين . شاب يحمل هاتفاً منذهل مما يسمع , صورة عائلة , الأب و الأم شابان و مسترخيان , الأولاد يرتدون ربطات العنق و الفساتين و يبتسمون . ضوء بعيد باهت يبدو من خلال أجمة أشجار , اللون الأحمر عند الغروب , قشرة بيضة , هشة, غير محطمة , قبعة زرقاء مغسولة على الشاطئ . ورود مقطوعة طافية في النهر تحت الجسر و جوسق يرتفع . شعر أحمر لعاشقة , وحشي , شرير وواعد . امرأة شابة تحمل تويجات أرجوانية . غرفة من أربعة جدران و نافذتين و سريرين و طاولة و مصباح و شخصين بوجهين حمراوين و دموع . القبلة الأولى , كواكب عالقة في الفضاء , محيطات , صمت , قطرة ماء على النافذة , حبل ملتف , فرشاة صفراء .








20 أيار 1905

إن نظرة إلى الأكشاك المزدحمة في " شارع شبيتال" تروي القصة . يسير البقالون بتردد من كشك إلى آخر ليكتشفوا مااذا يبيع كل كشك . هنا يوجد تبغ , لكن أين بذور الخردل ؟ هنا يوجد شوندر سكري لكن أين سمك البقلاي ؟ هنا حليب الماعز لكن أين الساسفراس ؟ ليس هؤلاء سواحاً في زيارتهم الأولى لبرن . إنهم مواطنو " بيرن " . لا أحد يتذكر أنه اشترى منذ يومين شوكولاته من حانوت يدعى " فرديناندز " أو لحم بقر من محل " هوف " للمواد الغذائية . يجب أن يعثر على كل حانوت و ما يختص به من جديد . يسير كثيرون وفق الخرائط التي ترشدهم من رواق مقنطر إلى آخر في المدينة التي عاشوا فيها طوال حياتهم , في الشارع الذي تنقلوا فيه طوال أعوام . يسير كثيرون حاملين الدفاتر ليسجلوا ما تعلموه بينما يمكث لوهلة في رؤوسهم . ذلك أن البشر في هذا العالم بلا ذاكرات .

حين يحين وقت العودة إلى المنزل في نهاية اليوم يستشير كل شخص كتاب عناوينه ليعرف أين يعيش . يكتشف اللحام الذي قام بتقطيع غير جيد في اليوم الأول من عمله أن منزله يقع في شارع نيغال. السمسار الذي أنتجت ذاكرته المحدودة عن السوق استثمارات ممتازة , يقرأ أنه يسكن في شارع بندس . حين يصل كل رجل إلى منزله يجد امرأة و أطفالاً ينتظرون عند الباب , يعرف عن نفسه , يساعد في تحضير وجبة العشاء , يقرأ قصصاً لأطفاله . كذلك كل امرأة تعود من عملها تقابل زوجاً و أطفالاً و خوانات و مصابيح و ورق جدران و نماذج من الآنية . في وقت متأخر من الليل لا يبقى الزوج و الزوجة حول الطاولة ليناقشا أعمال اليوم , مدرسة أولادهما , رصيد البنك , بدلاً من ذلك , يبتسمان لبعضهما ,يشعران بالدم الدافئ و بالألم بين الساقين كما كان يفعلان حين التقيا للمرة الأولى منذ خمسة عشر عاماً. يعثران على غرفة نومهما , يتعثران و هما يعبران, صوراً عائلية لا يتعرفان عليها و يمضيان الليل في الشبق . ذلك أن العادة والذاكرة تبلدان الهوى الجسدي . بدون ذاكرة , كل ليلة هي الليلة الأولى , كل صباح هو الصباح الأول , كل قبلة و لمسة تحدثان لأول مرة .

إن عالماً بدون ذاكرة هو عالم الحاضر . ينحصر وجود الماضي في الكتب و السجلات . يحمل كل شخص كتاب الحياة الخاص به من أجل أن يعرف نفسه و هذا الكتاب مليء بتاريخ حياته . يستطيع أن يتعرف على هوية والديه أو فيما إذا ولد غنياً أو فقيراً أو إذا كان جيداً أو سيئاً في المدرسة أو إذا أنجز أي شيء في حياته , حين يقرأ صفحات الكتاب كل يوم . بدون كتاب الحياة , يصبح المرء صورة عابرة , صورة ببعدين , شبحاً . في المقاهي التي تقع تحت الأشجار المورقة في برونغاسهالدي يسمع المرء صراخا أليماً لرجل قرأ لتوه أن قتل مرة رجلاً آخر و تنهيدة امرأة اكتشفت لتوها أن أميراً خطبها , تباهياً مفاجئاً من امرأة عرفت أنها حصلت على تشريفات عليا من جامعتها منذ عشرة أعوام . يمضي البعض ساعات الغسق حول طاولاتهم و هم يقرؤون في كتب الحياة , آخرون يملأون بعصبية صفحاتها الإضافية بحوادث اليوم .

مع مرور الزمن تزداد سماكة كتاب الحياة الخاص بكل شخص بحيث لا تمكن قراءاته كله . عندئذ يأتي خيار : الرجال و النساء الكبار في السن يمكن أن يقرأوا الصفحات الأولى ليتعرفون على أنفسهم كشباب , أو يمكن أن يقرأوا النهاية ليتعرفوا على أنفسهم في سنوات لاحقة .

توقف البعض عن القراءة . تخلوا عن الماضي . قرروا أنه لا يهم إذا كانوا أغنياء أم فقراء في الماضي , متعلمين أم جهلة , متكبرين أم متواضعين , عاشقين أم فارغي القلوب – و لايهمهم أيضاً كيف تدخل الريح الخفيفة في شعرهم . ينطر بشر كهؤلاء إلى عينيك بشكل مباشر و يمسكون يدك بشدة . يسير بشر كهؤلاء بالخطوة الواسعة الرشيقة لشبابهم . تعلم بشر كهؤلاء كيف يعيشون في عالم بلا ذاكرة .







22 أيار 1905

في الفجر , يطوف ضباب أصفر عبر المدينة يحمله نفس النهر . تنتظر الشمس وراء جسر " نيديك" و تلقي أسنتها الحمراء الطويلة على طول " شارع كرام" مضيئة الأجزاء السفلية للشرفات وصولاً إلى الساعة العملاقة التي تقيس الزمن . تندفع أصوات الصباح عبر الشوارع كرائحة الخبز . تستيقظ طفلة و تبكي طالبة أمها . تصدر ظلة حانوت صريراً بهدوء عندما يصل البقال إلى حانوته في " السوق ". تجار آلة في النهر , تتحدث امرأتان بهمس تحت رواق مقنطر .

و حين تذوب المدينة في الضباب و الليل يرى المرء مشهداً غريباً: هنا جسر قديم لم يكتمل بناؤه . هناك منزل أزيل من أسسه , هنا شارع يتجه إلى الشرق دون سبب واضح , هناك يتوضع مصرف وسط سوق البقالة . يصور زجاج كاتدرائية القديس فنسنت السفلي الملون مواضع دينية و ينتقل الجزء الأعلى فجأة إلى صورة جبال الألب في الربيع . يسير رجل بخفة نحو " مجلس الشعب", يتوقف فجأة , يضغ يديه على رأسه , يصيح مهتاجاً, يستدير و يسرع في الجهة المعاكسة .

هذا عالم خطط متبدلة , فرص مفاجئة , رؤى غير متوقعة . ذلك أن الزمن يتدفق في هذا العالم على صورة متقطعة لا مستوية و بالتالي يتلقى البشر لمحات متقطعة عن المستقبل .

حين تتلقى أم رؤية مفاجئة عن مكان سكن ولدها تنقل منزلها لتصبح قربه . حين يرى بناء مكان التجارة المستقبلي يغير طريقه نحو ذلك الاتجاه . حين تلمح طفلة نفسها لوهلة كبائعة أزهار تقرر عدم الذهاب إلى الجامعة . حين يلتقي شاب رؤية عن المرأة التي سيتزوجها , ينتظرها . حين يبصر محام نفسه في عباءة قاض في " زوريخ " يتخلى عن عمله في " بيرن " . ما معنى متابعة الحاضر بعد أن يرى المرء المستقبل؟

إن هذا العالم هو عالم نجاح مضمون لأولئك الذين تلقوا رؤيتهم . إن بعض المشاريع التي بدأت لا تقود إلى مهنة . بعض الرحلات التي تمت لا تقود إلى مدينة القدر , بعض الذين تمت مصادقتهم لن يصيروا أصدقاء في المستقبل . لقد صنعت بعض العواطف .

أما بالنسبة للذين لم يتلقوا رؤيتهم فهذا عالم تشويق غير فعال . كيف يستطيع المرء أن يسجل في جامعة دون أن يعرف مهنته المستقبلية ؟ كيف يفتح المرء صيدلية في " السوق " حين سيكون محل مشابه أفضل في شارع " شبيتال" ؟ كيف تقدر امرأة أن تمارس الجنس مع رجل من المحتمل أن يخونها ؟ ينام بشر كهؤلاء معظم النهار و ينتظرون مجيء رؤيتهم .

و هكذا تقل المجازفات في هذا العالم المؤلف من مشاهد قصيرة , و أولئك الذين لم يشاهدوا المستقبل بعد , ينتظرون الرؤية دون أن يجازفوا.

بعض الذين شاهدوا المستقبل يفعلون ما بوسعهم ليفندوه . يذهب رجل ليعتني بحدائق المتحف في " نيوشاتل" بعد أن رأى نفسه محامياً في " لوسيرن". ينطلق شاب في رحلة بحرية رائعة مع والده بعد أن رأى أ، والده سيموت حالاً من أزمة قلبية . تسمح شابة لنفسها أن تقع في الغرام مع رجل رغم رؤيتها بأنها ستتزوج رجلاً آخر . يقف بشر كهؤلاء على شرفاتهم بعد الغروب و يصيحون أن المستقبل يمكن أن يُغير , أن آلاف المستقبلات ممكنة . مع مرور الزمن , يتعب حدائقي " نيوشاتل" من أجوره المنخفضة و يصبح محامياً في " لوسيرن" . يموت الأب بسبب الأزمة القلبية و يكره الإبن نفسه لأنه لم يجبر والده على البقاء في الفراش . يهجر العشيق المرأة الشابة التي بدورها تتزوج رجلاً يمنحها العزلة والألم .

من الذي تجري أموره بشكل أفضل في عالم زمنه متقطع ؟ أولئك الذين شاهدوا المستقبل و يعيشون حياة واحدة ؟ أم أولئك الذين لم يروا المستقبل وينتظرون أن يعيشوا الحياة ؟ أم أولئك الذين ينكرون المستقبل و يعيشون حياتين ؟








29 أيار 1905

إن رجلاً أو امرأة يُدفعان فجأة إلى هذا العالم يجب أن ينحرفا عن المنازل و الأبنية . ذلك أن كل شئ في حالة حركة . تندفع المنازل و الشقق الصاعدة على عجلات عبر ساحة " باهنوفبلاتز" و تسرع عبر أزقة السوق بينما يصرخ ساكنوها من نوافذ الطوابق الثانية . لا يبقى مكتب البريد في شارع " بوست" بل يطير عبر المدينة على سكة كالقطار . ولا يبقى مجلس الشعب متوضعاً في شارع " بوندس". في كل مكان يجأر الجو و يزأر بصوت المحركات و السيارات . حين يخرج شخص من بابه الخارجي عند شروق الشمس يندفع راكضاً ويلحق بمكتبه . يسرع صاعداً وهابطاً الدرج يعمل على مكتب يندفع في دوائر و يعدو نحو المنزل في نهاية اليوم . لا يجلس أحد تحت شجرة حاملاً كتاباً , لا يحدق أحد إلى التجعدات في بركة , لا يستلقي أحد على العشب الكثيف في الريف . لا أحد ثابتاً.

لماذا ثبات كهذا إبان السرعة ؟ لأن الزمن في هذا العالم يمر ببطء أكبر بالنسبة للبشر الذين في حالة حركة . هكذا يتحرك الجميع بسرعة مرتفعة ليكسبوا الوقت .

لم يلاحظ تأثير السرعة إلى أن اخترع محرك الاحتراق الداخلي وبدأ النقل السريع .أخذ السيد راندولف ويك من " سري" حماته إلى لندن بسرعة كبيرة في سيارته الجديدة في 8 أيلول 1889 . وما أفرحه هو أنه وصل في نصف الوقت المتوقع قبل أن تبدأ المحادثة , قرر أن يفكر بالظاهرة . بعد أن نشرت أبحاثه لم يسافر أحد بعد ذلك ببطء .

بما أن الزمن نقود فإن الاعتبارات المالية وحدها تملي على كل مكتب سمسرة , كل مركز صناعي , كل حانوت أن ينتقل باستمرار بالسرعة الممكنة ليجني فوائد أكثر من منافسيه . تزود أبنية كهذه بآلات عملاقة ولا ترتاح أبداً. تزأر محركاتها و محاور أذرعة تدويرها بصخب أكثر من الأجهزة و البشر الذين يشغلونها .

كذلك , تباع المنازل ليس بسبب حجمها و تصميمها فحسب , بل أيضاً بسبب سرعتها . لأنه كلما ازدادت سرعة انتقال المنزل كلما تباطأت حركة الساعات في الداخل و توفر لقاطنيه . و نظراً للسرعة , يستطيع شخص في منزل سريع ن يسبق جيرانه عدة دقائق في حين يمكن أن يكتسب الوقت القيم أو يخسر أثناء النوم . في الليل تضاء الشوارع ولكي تتجنب المنازل العابرة الاصطدام الذي غالباً ما يكون مهلكاً.

في الليل يحلم البشر بالسرعة وبالشباب وبالفرصة . في عالم السرعة الكبيرة هذا أدركت إحدى الحقائق ببطء . استناداً إلى التوتولوجيا المنطقية , التأثير الحركي نسبي كله , لأنه حين يمر شخصان في الشارع يرى كل منهما الآخر في حالة حركة تماماً كما يرى امرؤ في قطار طيران الأشجار من خلال نافذته . بالتالي , حين يعبر شخصان في الشارع يرى كل منهما زمن الآخر يتباطأ . يرى كل منهما الآخر يكتسب وقتاً . يسبب هذا التبادل الجنون . و مما يزيد في الجنون أنه كلما أسرع المرء في تجاوز جار كلما ظهر الجار مسرعاً.

محبطين و قانطين , يتوقف البعض عن النظر من نوافذهم . إذا كانت الستائر مسدلة لا يعرفون أبداً نسبة سرعة حركتهم و نسبة سرعة جيرانهم و منافسيهم . ينهضون في الصباح , يستحمون , يأكلون خبزاً و لحم خنزير , يشتغلون على مكاتبهم , يصغون الى الموسيقى , يتحدثون مع اطفالهم , يعيشون حيوات قناعة و رضاً.

يجادل البعض أن ساعة البرج العملاقة في شارع كرام هي وحدها التي تحتفظ بالزمن الصحيح , و هي وحدها ثابتة , يشير آخرون أنه حتى الساعة العملاقة هي في حالة حركة إذا نظر إليها من نهر آري أو من سحابة .






فاصل

يجلس آينشتاين و بيسو ظهراً في مقهى رصيفي في شارع " أمتهاوس " بعد أن طلب " بيسو " من صديقه مغادرة المكتب لاستنشاق بعض الهواء .

يقول بيسو : " لا تبدو على ما يرام "

يهز آينشتاين كتفيه مستاءً قليلاً . تمر الدقائق أو ربما الثواني فقط .

يقول آينشتاين : " أنا أحرز تقدماً"
يقول بيسو متفحصاً بذعر الدوائر السوداء , تحت عيني صديقه : " هذا واضح " .

من المحتمل أيضا آن آينشتاين توقف عن تناول الطعام مرة ثانية . يذكر بيسو حين بدا تماماً كما يبدو آينشتاين الآن لكن لسبب آخر . شعر " بيسو " الذي لم تكن علاقته مع والده جيدة أبداً بالأسى الشديد و بالذنب . عرقلت دراساته . و فوجئ حين جاء به آينشتاين إلى منزله و اعتنى به شهراً كاملاُ.

يشاهد بيسو آينشتاين الآن و يرغب لو أنه يستطيع أن يساعده لكن آينشتاين لا يحتاج إلى مساعدة . بالنسبة " لبيسو " آينشتاين لا يتألم . يبدو متناسياً لجسده و للعالم .
يقول آينشتاين مرة أخرى : " أنا أحرز تقدماً . أعتقد أن الأسرار ستنكشف . هل شاهدت بحث لورينز الذي تركته على مكتبك ؟

- إنه سيء

نعم , سيء و مخصص لغرض معين و على الأرجح ليس صحيحاً . تخبرنا التجارب الكهرطيسية شيئاً ما أكثر أهمية .

يحك آينشتاين شاربه و يأكل بنهم البسكويت الرقيق الموجود على الطاولة .

يصمت الرجلان قليلاً . يضع " بيسو " أربعة مكعبات سكر في فنجان قهوته بينما يحدث آينشتاين إلى جبال الألب البيرينية البعيدة جداً و التي لا تكاد ترى بسبب الضباب . و في الحقيقة , ينظر آينشتاين عبر جبال الألب إلى الفضاء . أحياناً تسبب له رؤية بعيدة كهذه صداعاً و عندئذ يتوجب عليه أن يستلقي مغمض العينين على خوانه الملبس بقماش أخضر .

يقول له بيسو " تريدك " آنا" أن تأتي أنت و " ميليفا" إلى العشاء غداً , وبوسعكما إحضار الطفل اذا شئتما .

يهز آينشتاين رأسه .

يحتسي " بيسو " فنجان قهوة آخر , ينظر إلى امرأة تجلس إلى طاولة مجاورة و يثني قميصه . شعره منفوش كشعر آينشتاين الذي كان هذه المرة يحدق إلى المجرات .

يقلق " بيسو " فعلاً على صديقه رغم أنه شاهده هكذا في الماضي . ربما سيلهيه العشاء .

يقول بيسو : " مساء السبت "

يقول آينشتاين بشكل غير متوقع : "أنا مشغول مساء السبت لكن ميليفا و هانز آلبرت يستطيعان المجيء"

يضحك بيسو و يقول : " مساء السبت في الثامنة " . إحتار لماذا تزوج صديقه . آينشتاين نفسه لا يستطيع أن يشرح ذلك . أعترف مرة "لبيسو " أنه كان يأمل أن تقوم " ميليفا " بالأعمال المنزلية على الأقل إلا أن المسألة لم تسر على هذا النحو . بقي السرير دون ترتيب و الغسيل متسخاً و تكومت الصحون كما حدث من قبل . و لقد ازدادت المشاغل بعد ولادة الطفل .

يسأله بيسو : " ما رأيك بتطبيق راسموسين ؟

- الزجاجة النابذة
- نعم

يقول آينشتاين : " سيتذبذب العمود كثيراُ بحيث تنعدم فائدته , إلا أن الفكرة ذكية . أعتقد أنه سيعمل بصعودٍ مرن يستطيع أن يعثر على محور دورانه الخاص"

يعرف بيسو ماذا يعني هذا الكلام . سيضع آينشتاين تصميماً جديداً و يرسله إلى "راسموسين" دون أن يطلب أجراً أو اعترافاً وغالباً لايعرف متلقوا اقتراحات آينشتاين المحظوظون من الذي راجع طلبات اختراعاتهم . لا يعني هذا أن آينشتاين لا يستمتع بالشهرة . منذ بضع سنوات , حين شاهد بحثه الأول منشوراً في مجلة الفيزياء السنوية قلد ديكاً خمس مرات بشكل كامل .







2 حزيران 1905

تُرفع خوخة رخوة من القمامة و توضع على الطاولة كي تتورد . تتورد , تصبح صلبة و تحمل في كيس تسوق إلى البقالية , توضع على الرف , تزال , توضع في سلة و تعاد إلى الشجرة ذات البراعم القرنفلية . ذلك أن الزمن يتدفق إلى الوراء في هذا العالم .

تجلس امرأة هرمة لا تكاد تتحرك على كرسي ,وجهها أحمر و منتفخ , فاقدة للبصر و للسمع و تنفسها أجش كحفيف الأوراق الذابلة على الأحجار . تمرالأعوام , يقل الزوار , تكتسب المرأة القوة تدريجياً , يزداد أكلها , تفقد الخطوط الثقيلة التي في وجهها, تسمع أصواتاً , موسيقى . تتوضح ظلال غامضة في الضوء و أيضا و أيضا خطوط و صور الطاولات و الكراسي و وجوه البشر . تتنزه خارج منزلها الصغير , تذهب إلى السوق , تزور صديقه أحياناً, تشرب الشاي في المقاهي حين يكون الطقس صاحياً . تخرج إبراً و خيوطاً من قاع درج خزانتها و أيضاً نسيجاً محبوكاً . تبتسم حين تحب عملها . في أحد الأيام ينقل زوجها بوجه شاحب إلى منزلها . بعد ساعات يتورد خداه , يقف محنياً كتفيه إلى الأمام , ينتصب , يتحدث معها . يصبح منزلها منزلهما . يأكلان الوجبات سوية , يرويان نكات , يضحكان , يسافران عبر البلاد , يزوران أصدقاءهما , يسود شهرها الشائب ويكتسي بخطوط بنية و يصدح صوتها بألحان جديدة . تذهب إلى حفل تقاعد في " الجمنازيو" و تبدأ تدريس التاريخ . تحب طلابها تتجادل معهم بعد الدرس . تقرأ أثناء ساعة غذائها و في الليل تلتقي بالأصدقاء و تناقش التاريخ و الأحداث الجارية . تساعد زوجها في إعداد حساباته في مخزن الأدوية , تسير معه في سفح الجبال و تمارس معه الحب . يصبح جلدها ناعماً و شعرها طويلاً و بنياً وثدياها صلبين . تشاهد زوجها للمرة الأولى في مكتبة الجامعة و تستجيب لنظراته . تحضر الدروس تتخرج من " الجمنازيو " بينما والدها و أختها يذرفان دموع السعادة . تعيش في المنزل مع والديها , تمضي ساعات مع أمها سائرة عبر الغابات قرب المنزل , تساعد في جلي الصحون . تروي قصصاً لأختها الصغيرة , يُقرأ لها في الليل قبل النوم , تزداد صغراً , تزحف و ترضع .

يسير رجل متوسط العمر على خشبة مسرح صالة في ستوكهولم حاملاً ميدالية , يصافح رئيس أكاديمية العلوم السويدية , يستلم جائزة نوبل في الفيزياء و يصغي إلى الخطاب التنويهي العظيم . يفكر الرجل لوهلة قبل تسلم الجائزة . تنتقل أفكاره بسرعة عشرين عاماً إلى المستقبل حيث سيعمل وحيداً في غرفة صغيرة بقلم رصاص و ورقة فقط . سيعمل ليلاً و نهاراً و يقوم بكثير من البدايات الخاطئة مالئاً سلة المهملات بسلسلة غير ناجحة من المعادلات و النتائج المنطقية . لكنه سيعود في بعض الأمسيات إلى مكتبه عارفاً أنه تعلم أشياء عن الطبيعة لم يعرفها أحد من قبل , أنه دخل مغامراً إلى الغابة و عثر على الضوء و حظي بأسرار ثمينة . في تلك الأمسيات سيخفق قلبه كأنه واقع في الغرام .

يتغلب عليه الآن توقع اندفاع الدم ذاك , و ذلك الوقت حين سيكون شاباً و مجهولاً و خائفاً من الأخطاء و هو يجلس على كرسيه في الصالة في " ستوكهولم" بعيداً جداً عن الصوت الخافت للرئيس الذي يعلن اسمه .

يقف رجل إلى جانب قبر صديقه , يرمي حفنة من التراب على الكفن شاعراً بمطر نيسان البارد على وجهه . لكنه لا يبكي . ينظر إلى الأمام , إلى اليوم الذي ستصبح فيه رئتا صديقه قويتين , حين سيخرج صديقه من فراشه و يضحك حين سيشرب الإثنان الجعة معاً و يبحران و يتحدثان . إنه لا يبكي , ينتظر بتوق يوماً معيناً يتذكره في المستقبل حين سيتناول هو و صديقه سندويتشات على طاولة مسطحة منخفضة , حين سيصف خوفه من الشيخوخة و من غياب الحب و سيهز صديقه رأسه بلطف حين ينزلق المطر إلى الأسفل على زجاج النافذة .




3 حزيران 1905

تخيل عالماً يعيش فيه البشر يوماً واحداً فقط . إما أن تسرع نسبة دقات القلب و التنفس بحيث تضغط فترة حياة كاملة إلى ما يعادل دورة واحدة للأرض على محورها , أو يخفف دوران الأرض إلى السرعة البطيئة * بحيث أن دورة واحدة تستغرق حياة بشرية كاملة . التفسيران صحيحان , و في كلتا الحالتين يرى الرجل أو المرأة شروقاً واحداً , غروباً واحداً. لا أحد في هذا العالم يعيش ليشهد تعاقب الفصول . إن شخصاً يولد في أية بلاد أوروبية في كانون الأول , لا يرى أبداً الناردين و الزنبق , نبات النجمية , قرن الغزال و الشريف الأبيض ** , لا يشاهد أبداً أوراق القيقب و هي تتلون بالأحمر و الذهبي , لا يسمع أبداً أصوات الجنادب أو تغريد الطيور . الشخص الذي يولد في كانون الأول يعيش حياته في البرد . كذلك , امرأة تولد في تموز لا تشعر أبداً بندفة ثلج على خدها , لا تشاهد أبداً الكريستال على بحيرة متجمدة , لاتسمع أبداً صرير الأبواط على الثلج الطري . امرأة تولد في تموز و تعيش حياتها في الدفء . و يعرف عن تنوع الفصول من خلال الكتب .

الضوء يخطط الحياة في هذا العالم , و لذلك فإن الشخص الذي يولد عند الغروب يمضي النصف الأول من حياته في الليل , يتعلم مهناً داخلية كالحياكة و صناعة الساعات , يقرأ كثيراً , يصبح مفكراً , يأكل كثيراً, يخاف من الظلمة الشاملة في الخارج ,يحرث الظلال . أما الذي يولد عند شروق الشمس يتعلم مهناً خارجية كالزراعة و البناء , يصبح قوي البنية , يتجنب الكتب و المشاريع الذهنية , يكون مشرقاً و لا يخش أي شيء .

يتعثر كل من أطفال الغروب و الشروق حين يتبدل الضوء . حين يأتي الشروق ينصعق الذين ولدوا عند الغروب من المنظر المفاجئ للأشجار و البحار و الجبال , يعميهم ضوء النهار , يعودون إلى منازلهم و يغطون نوافذهم , يمضون نصف حياتهم في الضوء الخافت . حين يأتي الغروب , يعول الذين ولدوا عند الشروق على اختفاء الطيور من السماء و طبقات الزرقة من البحر والحركة المخدرة للغيوم .

يعولون و يرفضون تعلم الحرف المظلمة الداخلية , يستلقون على الأرض و ينظرون إلى الأعلى و يصارعون ليشاهدوا ما شاهدوه مرة .

في هذا العالم الذي تستمر فيه الحياة البشرية يوماً واحداً ينتبه البشر إلى الزمن كقطط تجهد لتسمع الأصوات في العلية . ذلك أنه لا يوجد زمن يفقدونه الولادة , الدراسة , علاقات الحب , الشيخوخة , المهنة , كل هذه الأشياء يجب أن تتلاءم مع انتقال واحد للشمس , تعديل واحد للضوء . حين يمر البشر في الشارع , يرتدون قبعاتهم و يسرعون إلى المنزل . حين يلتقي البشر في المنازل , يتحققون باحترام عن صحة بعضهم البعض ثم ينصرفون إلى شؤونهم . حين يتجمع البشر في المقاهي يدرسون بعصبية تنقل الظلال و لا يجلسون طويلاً . الزمن ثمين جداً . الحياة لحظة في فصل , الحياة سقطة ثلج واحدة . الحياة يوم خريفي واحد . الحياة هي الحافة الرقيقة السريعة لظل باب يغلق , الحياة لحظة قصيرة من الأذرع و الأرجل .

حين تأتي الشيخوخة سواء في الضوء أو في الظلمة , يكتشف المرء أنه لا يعرف أحداً . لم يكن هناك زمن , تلاشى الآباء و الأمهات في منتصف النهار أو منتصف الليل , انتقل الأخوة و الأخوات إلى مدن بعيدة للقبض على فرص عابرة , تغير الأصدقاء مع تغير زاوية الشمس , خططت المنازل و البلدات و الوظائف و العشاق لتتناسب مع حياة أُطرت في يوم واحد .

إن شخصاً في الشيخوخة لا يعرف أحداً , يتحدث مع الناس لكنه لا يعرفهم , تتبعثر حياته في شظايا الحديث و تنساها شظايا البشر , تنقسم حياته إلى حوادث مسرعة تشهدها قلة . يجلس إلى طاولته التي قرب الفراش و يصغي إلى صوت حمامه المتدفق بالماء و يتساءل إن كان أي شيء قد وجد خارج ذهنه . هل وجد حقاً ذلك العناق الذي عانقته إياه أمه ؟ هل وجدت عشيقته ؟ أين هذه الأشياء الآن ؟ أين هي الآن , و هو يجلس إلى طاولة فراشه مصغياً إلى صوت حمامه المتدفق مدركاً بغموض التبدل في الضوء .







5 حزيران 1905

إن وصف موقع و مظهر الأنهار و الأشجار و الأبنية و البشر سيظهر أن كل شيء مشترك . ينعطف نهر آري يساراً , منقطاً بزوارق تحمل البطاطا و الشوندر السكري . ينقط صنوبر الآرولا التلال السفحية لجبال الألب , تنحني الأغصان المحملة بالثمار المخروطية الشكل إلى الأعلى كأذرع الشمعدان . توضع المنازل المؤلفة من ثلاثة طوابق و السقوف القرميدية الحمراء و النوافذ العمودية الناتئة هادئة في " آرستراس " مطلة على النار . يلوح البقالون في " السوق" بأذرعهم لجميع العابرين منادين على المناديل و الساعات الرائعة و البندورة و الخبز المالح و الشمار. تعبق الجادات برائحة اللحم المجفف . يقف رجل و امرأة على شرفة منزلهما في شارع " كرام" يتجادلان و يبتسمان أثناء المجادلة . تسير فتاة شابة ببطء عبر الحديقة في " كلاينشانسا" . ينفتح باب مكتب البريد الضخم المصنوع من الخشب الأحمر و ينغلق , ينفتح و ينغلق , ينبح كلب.

و لكن إذا شوهد بعيني أي شخص يبدو المشهد مختلفاً تماماً , مثلاً , تشاهد امرأة تجلس على ضفة نهر آري , القوارب تعبر بسرعة كبيرة وكأنها تتحرك على زلاجات عبر الجليد . بالنسبة لامرأة أخرى , تبدو القوارب بطيئة لا تكاد تلف المنعطف طوال بعد الظهر كله . ينظر رجل واقف في " آرستراس " إلى النهر ليكتشف أن الزوارق تتحرك في البداية إلى الأمام ثم إلى الخلف .

تتكرر هذه الفروقات في مكان آخر . يسير صيدلاني عائداً إلى محله في شارع " كوخر " بعد أن تناول وجبة الظهر .هذه هي الصورة التي يشاهدها : تعدو امرأتان و تعبرانه , تهزان ذراعيهما بوحشية و تتحدثان بسرعة بحيث لايفهم ما تقولانه . يركض محام عبر الشارع إلى موعد في مكان ما , يهتز رأسه جيئة و ذهاباً كرأس حيوان صغير . تندفع كرة يقذفها طفل من شرفة كرصاصة , سحابة لاتكاد ترى . لمح سكان شارع 82 لتوهم عبر نافذتهم يطيرون في المنزل من غرفة إلى أخرى , يجلسون لحظة , يتناولون وجبة في دقيقة واحدة , يختفون , يعيدون الظهور , تجتمع الغيوم التي في الأعلى , تنفصل , تجتمع ثانية مع حركة الشهقات و الزفرات المتعاقبة .

في الجانب الآخر من الشارع يلاحظ الخباز المشهد نفسه . يشاهد امرأتين تطوفان في الشارع بتمهل , تتوقفان للتحدث مع محام ثم تسيران . يدخل المحامي إلى شقة في شارع 82 , يجلس إلى طاولة لتناول الغداء , يسير إلى نافذة الطابق الأول حيث يمسك كرة قذفها طفل من الشارع .

و بالنسبة لشخص يقف تحت حامل مصباح في شارع " كوخر" لاتمتلك الحوادث حركة على الإطلاق : امرأتان , محام , كرة , طفل , ثلاثة قوارب , داخل الشقة , كل هذه الأشياء تشاهد كلوحات في ضوء الصيف المتألق . و الأمر متشابه مع أي تعاقب للأحداث في هذا العالم حيث الزمن حاسة .

في عالم يكون فيه الزمن حاسة كالبصر أو الذوق , قد يصبح تعاقب الأحداث سريعاً أو بطيئاً , باهتاً أو متوتراً , مالحاً أو عذباً , سببياً أو بدون سبب , منظماً أو عشوائياً , وفق التاريخ السابق للمشاهدة .

يجلس الفلاسفة في مقاهي شارع " أمتهاوس " و يتجادلون إن كان الزمن قد وجد فعلاً خارج الإدراك الحسي البشري . من يستطيع أن يقول إن الحدث يحدث بسرعة أم ببطء , بسبب أو بدون سبب , في الماضي أو في المستقبل ؟ من يستطيع أن يقول أن الحوادث تحصل؟ يجلس الفلاسفة بأعين نصف مغمضة و يقارنون علوم جمالهم المتعلقة بالزمن .

يولد بعض البشر بدون أي حس بالزمن فيزداد احساسهم بالمكان إلى درجة معذبة . يستلقون على الأعشاب الطويلة و يسألهم شعراء و رسامون من جميع أنحاء العالم . هؤلاء الذين يريدون أذناً صماء للزمن يتم التوسل إليهم ليصفوا الموقع الدقيق للأشجار في الربيع , شكل الثلج على جبال الألب , زاوية الشمس على كنيسة , موقع الأنهار , موضع الطحالب , نموذج الطيور في سرب , مع ذلك الذين يديرون أذناً صماء للزمن لا يقدرون على قول ما يعرفونه . ذلك أن الكلام يتطلب تعاقب كلمات منطوقة في الزمن .








9 حزيران 1905

تخيل أن البشر يعيشون إلى الأبد :

ينقسم سكان كل مدينة إلى سكان فيما بعد و سكان الآن .

يذكر سكان فيما بعد أنه لا توجد عجلة لبدء دروسهم الجامعية و لتعلم لغة ثانية و لقراءة فولتير أو نيوتن , للبحث عن ترقية في وظائفهم , للحب ,لتأسيس أسرة . ثمة فترة زمنية لانهائية لكل هذه الأشياء . في الزمن اللانهائي يمكن إنجاز جميع الأشياء . و هكذا بوسع الأشياء أن تنتظر . و في الحقيقة يؤذي الإستعجال إلى ارتكاب الأخطاء . و من يستطيع أن يجادل منطقهم ؟ يمكن التعرف على سكان فيما بعد في أي حانوت أو رواق . يمشون مشية خفيفة رشيقة و يرتدون ثياباً فضفاضة , يستمتعون بقراءة أية مجلات مفتوحة أو يعيدون ترتيب الأثاث في منازلهم أو ينزلقون في المحادثة بالطريقة التي تسقط فيها ورقة عن شجرة . يجلس سكان فيما بعد في المقاهي يحتسون القهوة و يناقشون إحتمالات الحياة .

يرى سكان الآن أنهم يستطيعون أن يفعلوا أي شيء يتخيلونه بحيوات لانهائية . سيتعملون عدداً لانهائياً من المهن , سيتزوجون عدداً لانهائياً من المرات , سيبدلون سياستهم دائماً . سيصبح كل شخص محامياً , أجاراً , كاتباً, محاسباً, رساماً , فيزيائياً , مزارعاً , يقرأ سكان الآن باستمرار كتباً جديدة , يدرسون مهناً جديدة , لغات جديدة . و من أجل أن يتذوقوا لانهائيات حيواتهم يبدؤون باكراً و لا يتقاعسون أبداً . ومن يستطيع أن يشكك بمنطقهم ؟ يتحرك بروفسورات الجامعة , الأطباء و الممرضات , البشر الذين يهزون أرجلهم باستمرار أينما جلسوا, عبر تعاقب حيوات متلهفين ألا يفقدوا شيئاً . حين يلتقي إثنان من سكان الآن يلتقيان قرب عمود نافورة تسيرغنا سداسي الأضلاع , يقارنان الحيوات التي أتقناها , يتبادلان المعلومات و النظرات إلى ساعتيهما , حين يلتقي إثنان من سكان فيما بعد في الموضع نفسه يتساءلان عن المستقبل و يتابعان القطع المكافئ للماء ببصرهما .

يشترك سكان الآن و سكان فيما بعد في شيء واحد :
الحياة اللانهائية تنتج قائمة من الأقرباء لا نهاية لها . لا يموت الأجداد أبداً ولا أجداد الأجداد و لا عمات و أعمام الآباء و لا عمات العمات و قس على ذلك طوال الأجيال . يبقى الجميع أحياء و يقدمون النصائح . لا ينجو الأبناء أبداً من ظلال آبائهم ولا البنات من ظلال أمهاتهم . لا يستقل أي شخص أبداً.

حين يبدأ إنسان مشروعاً يشعر أنه مجبر على أن يتحدث عنه مع والديه و جديه و والدي جديه إلى ما لا نهاية , ليتعلم من أخطائهم . ذلك أن لا يوجد مشروع جديد . جربت جميع الأشياء سابقاً في شجرة العائلة . وفي الحقيقة , أنجزت جميع الأشياء , ولكن مقابل ثمن .ذلك أنه في عالم كهذا تحدد قلة الطموح تعدد الانجازات .

و حين تحتاج الإبنة إلى توجيه من أمها , لا تستطيع أن تحصل عليه نقياً : أمها يجب أن تسأل أمها و هكذا إلى الأبد . و كما لا يستطيع الأبناء و البنات أن يتخذوا قرارتهم الخاصة , لا يستطيعون أن يلجأوا إلى آبائهم و أمهاتهم من أجل نصيحة ثقة . و ليس الآباء و الأمهات مصدر اليقين , ثمة مليون مصدر .

حيث يجب أن ينوع كل فعل مليون مرة , تكون الحياة تجريبية تبنى الجسور إلى منتصفها فوق الأنهار ثم يتوقف بناؤها فجأة . ترتفع الأبنية تسعة طوابق لكنها لاتمتلك سقوفاً. مؤن البقال من الزنجبيل و الملح و سمك البقلاي و لحم البقر تتغير مع كل تغيير للرأي و كل استشارة . الجمل لا تكتمل , تنتهي الخطبة قبل أيام من حفلة زفاف . وفي الجادات و الشوارع يدير البشر رؤوسهم و يحدقون إلى الوراء ليشاهدوا من الذي يراقبهم من أفراد العائلة .

هذه هي كلفة الخلود . لا شخص كاملاً , لا شخص حراً . مع مرور الزمن , قرر البعض أن الطريقة الوحيدة للحياة هي الموت . في الموت يتحرر الرجل أو المرأة من ثقل الماضي , تغوص هذه الأرواح القليلة , على مرأى من أقربائها , في بحيرة " كونستانس " أو تقذف نفسها عن " مونت ليما " منهية حيواتها . بهذه الطريقة غزا المنتهي اللامنتهي , أذعنت ملايين فصول الخريف لغياب فصول الخريف , ملايين المثلجات لغياب سقوط الثلج , ملايين النصائح و التحذيرات لغياب النصائح و التحذيرات .








10 حزيران 1905


تخيل أن الزمن نوع و ليس كماً كمثل الإضاءة الليلية فوق الأشجار حين يلمس قمر طالع خط الشجرة . الزمن يوجد لكنه لا يمكن أن يقاس.

الآن في بعد ظهر مشرق , تقف امرأة وسط ساحة بانهوفبلاتز منتظرة لقاء رجل . منذ فترة شاهدها في القطار المتوجه إلى " فرايبورغ" تسمر في مكانه و طلب أن يأخذها إلى حدائق " كلاينشانسا" , ومن إلحاح صوته و نظرة عينيه عرفت المرأة أنه يعني حالاً . و هكذا تنتظره لكن ليس بفارغ صبر بل تمضي الوقت في قراءة كتاب . فيما بعد , ربما في اليوم التالي , يصل . . يشبكان ذراعيهما و يسيران إلى الحدائق , يطوفان قرب تجمع الزنبق و الورود و " المارتاغون " وحشيشة الأسد الألبية , يجلسان على مقعد أبيض من خشب الأرز فترة غير قابلة للتحديد . يخيم المساء , يحدده تبدل في الضوء و إحمرار في السماء . يتبع الرجل و المرأة ممراً ملتوياً من الأحجار البيضاء الصغيرة و يصعدان إلى مطعم يقع على تلة . هل كانا مع بعضهما فترة حياة أم لحظة فقط؟ من يستطيع أن يجيب ؟

تشاهد الأم ابنها من خلال نوافذ المطعم المرصصة جالساً مع المرأة . تعصر يديها و تعول لأنها تريد ولدها في المنزل . تراه كطفل . هل مر أي زمن منذ أن عاش في المنزل و لعب بالكرة و حك ظهر أمه قبل النوم ؟ تشاهد الأم تلك الضحكة الطفولية بادية في ضوء الشمعة من خلال نوافذ المطعم المرصصة و هي متأكدة أن الزمن لم يمر ,أن ابنها , طفلها , ينتمي إليها في المنزل . تنتظر في الخارج وهي تعصر يديها بينما يتقدم ابنها في السن بسرعة في حميمية ذلك المساء و تلك المرأة التي التقى بها . في الجانب الآخر من شارع أربيرغا , يتجادل رجلان حول شحنة أدوية . المتلقي غاضب لأن الأدوية التي تملك حياة قصيرة على الرف وصلت بعد أوانها و فاقدة للفعالية . كان يتوقعها منذ فترة
طويلة و في الحقيقة كان ينتظرها في محطة القطار لبعض الوقت أثناء مجيء و ذهاب السيدة الشائبة في شارع شبيتال , أثناء نماذج عديدة للضوء على جبال الألب , عبر تبدلات الجو من الدفء إلى البرودة إلى الرطوبة . أهين المرسل السمين ذو الشارب . لقد عبأ المواد الكيماوية في مصنعه في مدينة " بال " حالما سمع ظلات الحوانيت ترفع في السوق . حمل الصناديق إلى القطار بينما كانت الغيوم ماتزال في المواضع نفسها كما حدث حين وقع العقد . ماذا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك ؟

في العالم الذي لا يمكن فيه قياس الزمن لا توجد ساعات أو تقاويم أو مواعيد محددة . تولد الأحداث أحداث أخرى لا الزمن يشرع في بناء منزل حين تصل الأحجار و ألواح الخشب إلى موقع البناء . يرسل المحجر أحجاراً حين يحتاج عامل المحجر إلى النقود . يغادر المحامي منزله ليناقش قضية في المحكمة العليا حين تنكت ابنته على صلعه المتزايد , تختتم الدراسة في الجمنازيو في بيرن حين ينجح الطالب في الامتحانات . تغادر القطارات المحطة في ساحة " بانهوفبلاتز " حين تمتلئ العربات بالمسافرين .

في العالم الذي يكون فيه الزمن نوعاً يسجل الأحداث لون السماء , نبرة صرخة المراكبي في نهر آري , شعور طفل و براءة اختراع و لقاء شخصين ليست هذه نقاطاً ثابتة في الزمن تحددها الساعات و الدقائق . بدلاً من ذلك , تنزلق الأحداث عبر فضاء المخيلة و تجسدها نظرة أو رغبة . كذلك يكون الوقت بين حدثين طويلاً أو قصيراً وفق خلفية الأحداث المتغايرة , حدة الإشراق , درجة الضوء , و الظل , وجهة نظر المشاركين .

يحاول بعض البشر أن يجعلوا الزمن كمياً أن يحللوه , أن يشرحوه يتحجرون . تقف أجسادهم جامدة و باردة و صلبة و ثقيلة في زوايا الشارع . تؤخذ هذه الأجساد مع مرور الزمن إلى عامل المحجر الذي يقطعها بشكل مستو إلى قطع متساوية و يبيعها للمنازل حين يحتاج نقوداً .







11 حزيران 1905

ثمة مقهى رصيفي صغير يحتوي ست طاولات زرقاء وصفاً من نبات البطومة الأزرق في صندوق نافذة الشيف و يقع هذا المقهى في زاوية شارع كرام و " مسرح بلاتز" . يستطيع المرء أن يشاهد من هذا المقهى و يسمع كل " بيرن ". يندفع البشر عبر الأورقة المقنطرة في " شارع كرام " , يتحدثون و يتوقفون لشراء الكتان أو ساعات اليد أالقرفة, تتبع مجموعة من طلاب مدرسة القواعد في شارع كوخر مدرسها في صف واحد عبر الشوارع إلى ضفاف نهر اّري بعد أن سمح لها بالخروج من أجل استراحة الصباح, يتصاعد الدخان ببطء من طاحونة فوق النهر, يخرخر الماء
المندفع من أنابيب نافورة تسيرغنا, تدق ساعة البرج العملاقة في شارع كرام معلنة ربع الساعة.
إذاتجاهل المرء للحظة أصوات وروائح المدينة سيشاهد منظرا مهما:رجلان فث زاوية شارع موخور يحاولان أن ينفصلا بيد أنهما لايستطيعان وكأنهما لن يشاهدا بعضهما مرة ثانية. يودعان بعضهما مرة ثانية. يودعان بعضهما, يبداّن السير في اتجاهين متعاكسين ثم يسرعان إلى بعضهما ويتعانقان.في الجوار تجلس امرأة متوسطة العمر على حافة نافورة حجرية و تبكي بصمت . تمسك الحجر بيديها الصفراوين الملطختين , تمسكه بشدة بحيث يندفع الدم من يديها و تحدق بيأس الى الأرض . تمتلك عزلتها ديمومة شخص يعتقد أنه لن يرى بشراً آخرين مرة أخرى . امرأتان ترتديان كنزتين تطوفان في شارع كرام , تشبكان ذراعيهما و تضحكان بتهتك يوحي بأنهما لا تفكران بالمستقبل إطلاقاً.

في الحقيقة , هذا عالم بدون مستقبل . الزمن في هذا العالم خط يتلاشى في الحاضر واقعياً و ذهنياً . لا أحد في هذا العالم يقدر أن يتخيل المستقبل. إن تخيل المستقبل ليس ممكناً مثله مثل رؤية ألوان وراء البنفسجي : لا تقدر العين أن تدرك ما يكمن وراء النهاية المرئية للطيف . في عالم بلا مستقبل كل عزلة هي نهائية , في عالم بلا مستقبل كل ضحكة هي الضحكة الأخيرة في عالم بلا مستقبل يتعلق البشر بالحاضر و كأنهم على حافة جرف.

إن امرءاً لا يستطيع أن يتخيل المستقبل هو امرؤ لا يقدر أن يتأمل نتائج أفعاله . و هكذا يشل البعض في حالة اللافعل , يستلقون في أسرتهم طوال النهار مستيقظين بيد أنهم يخافون من ارتداء ملابسهم , يحتسون القهوة و ينظرون إلى الصور . يقفز آخرون من الأسرة في الصباح غير آبهين بأن كل فعل يقود إلى العدم و بأنهم لا يستطيعون أن يضعوا لحياتهم مخططاً . يعيشون لحظة بعد لحظة و كل لحظة هي مكتملة . و ثمة آخرون يستبدلون المستقبل بالماضي : يستعيدون كل ذكرى , كل فعل سبق و أنجز , كل سبب و نتيجة و يندهشون كيف أرسلتهم الحوادث إلى هذه اللحظة ’ اللحظة الأخيرة للعالم , نهاية الخط الذي هو الزمن :في المقهى الصغير الذي يحوي ست طاولات و صف بطومة يجلس شاب و يتناول القهوة و الفطائر . كان يراقب الشارع بكسل , لقد شاهد المرأتين الضاحكتين اللتين ترتديان كنزتين و المرأة المتوسطة العمر عند النافورة و الصديقين اللذين يواصلان توديع بعضهما , وبينما هو جالس تشق سحابة ممطرة طريقها فوق المدينة . لكن الشاب يبقى جالساً إلى طاولته . يستطيع أن يتخيل الحاضر فقط و الحاضر في هذه اللحظة سماء تدلهم و لكن بدون مطر . و بينما هو يحتسي القهوة و يأكل الفطائر يدهشه كم هي معتمة نهاية العالم , و المطر لا يتساقط و يقع و هو يقرأ جريدته في الضوء المتناقص محاولاً أن يقرأ السطر الأخير الذي سيقرأه في حياته . ثم ينهمر المطر , يدخل الشاب , ينزع سترته المبللة , يدهشه كيف ينتهي العالم تحت المطر , يناقش الطعام مع الشيف لكنه لا ينتظر توقف المطر لأنه لا ينتظر أي شيء . في عالم بلا مستقبل كل لحظة هي نهاية العالم , بعد عشرين دقيقة تعبر السحابة السوداء , يتوقف المطر و تصحو السماء . يعود الشاب إلى طاولته , يدهشه كيف ينتهي العالم في ضوء الشمس .










15 حزيران 1905

الزمن بعد مرئي في هذا العالم . و كما يستطيع المرء أن ينظر بعيداً و يرى المنازل و الأشجار و قمم الجبال التي هي علائم في المكان , يستطيع أن ينظر في اتجاه آخر و يرى الولادات و الزواج و الموت التي هي علائم في الزمن و تمتد بغموض إلى المستقبل البعيد .

و كما يمكن أن يختار المرء البقاء في مكان أو الذهاب إلى مكان آخر , يمكنه أن يختار على طول محور الزمن . يخاف بعض البشر من السفر بعيداً عن لحظة مريحة . يبقون قريبين من موقع واحد مؤقت لا يكادون يعبرون مناسبة مألوفة . يركض آخرون بخفة و طيش إلى المستقبل دون استعداد لتعاقب الأحداث العابرة السريع .

يجلس في المعهد العلمي العالي في زوريخ شاب و أستاذه المشرف في مكتبة صغيرة و يناقشان بهدوء عمل الشاب بينما النار تلتهب في الموقد ذي اللوح الرخامي الأبيض . يجلس الشاب و أستاذه المشرف على كرسيي بلوط مريحين قرب طاولة مستديرة تنتشر عليها صفحات الحسابات . كان البحث صعباً . كان الشاب يقابل أستاذه مرة كل شهر في الأشهر الثمانية الماضية في هذه الغرفة و يطلب منه التوجيه و الأمل ثم يذهب ليعمل شهراً آخر و يعود بأسئلة جديدة . كان البروفسور يجيب على الأسئلة دائماً . و اليوم أيضاً يشرح البروفسور و بينما هو يتحدث , يحدق الشاب إلى الخارج عبر النافذة , يدرس طريقة تعلق الثلج بشجر التنوب القريب من البناء و يتساءل كيف سيرتب أموره حالماً يحصل على شهادته . جالساً على كرسيه , يخطو الشاب متردداً إلى الأمام في الزمن , يخطو دقائق فقط في المستقبل و يرتجف من البرد و غياب اليقين . ينسحب عائداً . من الأفضل البقاء في هذه اللحظة قرب النار الدافئة و المساعدة الكريمة لأستاذه المشرف . من الأفضل التوقف عن الحركة في الزمن . وهكذا , في هذا اليوم يبقى الشاب في المكتبة الصغيرة . يعبره أصدقاؤه , ينظرون مدة وجيزة ليشاهدوه واقفاً في هذه اللحظة ثم يتابعون السير إلى المستقبل بخطواتهم الخاصة .

في " فيكتوريا ستراس" في بيرن , تستلقي شابة في سريرها . تدخل أصوات شجار والديها إلى غرفتها , تغطي أذنيها و تحدق إلى صورة توضع على طاولتها , إلى صورتها حين كانت طفلة تجلس على الشاطئ مع والديها , يستند إلى أحد الجدران صندوق كستنائي اللون . يوضع حوض غسيل من البورسلان على المكتب . طلاء الجدران الأزرق متقشر و متشقق , عند قدم سريرها ثمة حقيبة مفتوحة ممتلئة حتى منتصفها بالثياب . تحدق إلى الصورة ثم خارجاً إلى الزمن . المستقبل يناديها . تتخذ قرارها . و بدون أن تنهي حزم أغراضها تندفع خارجة من المنزل , من تلك النقطة في حياتها , و تتجه بشكل مستقيم إلى المستقبل . تعبر عاماً , خمسة أعوام , عشرة أعوام , عشرين عاماً و في النهاية تفرمل , لكنها تتحرك بسرعة بحيث أنها لا تستطيع أن تبطئ حين تبلغ الخمسين . تتعاقب الأحداث أمام بصرها لكنها لاتكاد تشاهدها: محام أصلع أحبلها ثم غادر , ضباب عام في الجامعة , شقة صغيرة في لوزان لفترة من الوقت , صديقة في فرايبورغ , زيارات متقطعة لوالديها اللذين شابا , غرفة المستشفى التي توفيت أمها فيها , الشقة الرطبة في زوريخ , رائحة الثوم , حيث توفي والدها , رسالة من ابنتها التي تعيش في مكان ما من انكلترة .

تحبس المرأة نفسها , إنها في الخمسين , تستلقي في سريرها , تحاول أن تتذكر حياتها , تحدق إلى صورتها كطفلة تجلس على الشاطئ مع أمها و أبيها .







17 حزيران 1905

إنه صباح الثلاثاء في " بيرن " , يصيح الخباز ذو الإصبع السميكة في السوق على امرأة لم تدفع فاتورتها الأخيرة , يخبط بذراعيه بينما تضع هي الرغيف المحمص في حقيبتها . خارج حانوت الخباز يتزلج ولد وراء كرة قذفت من نافذة طابق أول . زلاجتاه تتكتكان على الشارع الحجري . في الطرف الشرقي من " السوق " حيث ينضم الشارع إلى " شارع كرام " يقف رجل و امرأة قرب بعضهما في ظل رواق مقنطر . يعبر رجلان حاملين جرائد تحت ذراعيها . و على بعد ثلاثمائة متر إلى الجنوب يحلق طائر فوق نهر آري بكسل .

يتوقف العالم .
يتجمد فم الخباز في منتصف الجملة . يقف الطفل في منتصف الخطوة , تتوقف الكرة في الجو . يصبح الرجل و المرأة تمثالين تحت الرواق المقنطر . يتحول الرجلان إلى تمثالين و تتوقف محادثتهما و كان إبرة فونوغراف رفعت . يتجمد الطائر و يثبت معلقاً فوق النهر كقطعة ديكور على خشبة المسرح .

بعد جزء واحد من مليون جزء من الثانية يعود العالم إلى الحركة . يواصل الخباز صراخه و كأن شيئاً لم يحدث . يندفع الطفل وراء الكرة و يزداد اقتراب الرجل و المرأة من بعضهما و يتابع الرجلان النقاش حول ارتفاع الأسعار في سوق لحم البقر . يحرك الطائر جناحيه و يتابع طيرانه القوسي فوق نهر آري .

بعد دقائق يتوقف العالم ثانية , ثم يتحرك . يتوقف . يتحرك.
ما هذا العالم ؟

ليس الزمن في هذا العالم مستمراً . الزمن متقطع في هذا العالم . الزمن هو تمدد للأنسجة العصبية : يبدو متواصلاً من بعيد و متقطعاً من قريب , و ثمة ثغرات ميكروسكوبية بين الأنسجة , يتدفق الفعل العصبي عبر جزء واحد من الزمن , يثبت فجأة , يتوقف , يقفز في فراغ ثم يستأنف مسيره في جزء مجاور .

ضئيلة جداً الإنقطاعات في الزمن بحيث يجب أن تتمغنط ثانية واحدة و تشرح إلى ألف جزء قبل أن يحدد جزء واحد مفقود من الزمن . ضئيلة هي الإنقطاعات في الزمن بحيث أن الثغرات بين الأجزاء لا تدرك . بعد كل إعادة بدء للزمن , يبدو العالم الجديد مثل القديم تماماً . تظهر مواقع و حركات الغيوم كما هي بالضبط و أيضاً مسارات الطيور و تدفق الأحاديث و الأفكار .

لا تتلاءم أجزاء الزمن مع بعضها بشكل مكتمل . أحياناً تحدث انزياحات ضيئلة جداً. مثلاً , في يوم الثلاثاء هذا في بيرن , يقف شاب و شابة تحت مصباح شارع " غيربرن ". تقابلا منذ شهر . يحبها بتهور لكنه سحق سابقا على يد امرأة تركته دون تحذير و هو خائف الآن من الحب . يجب أن يتأكد من هذه المرأة . يتفحص و جهها , يتوسل إليها بصمت لتظهر مشاعرها الحقيقية , يبحث عن أدنى إشارة , عن أدنى حركة لحاجبها , عن أقل احمرار لخديها و عن نداوة عينيها .

تبادله المرأة المشاعر نفسها لكنها لاتستطيع أن تعبر عن حبها في كلمات . بدلاً من ذلك , تبتسم له غير مدركة لخوفه . و بينما يقفان تحت مصباح الشارع يتوقف الزمن ثم يتحرك . فيما بعد , ميلان رأسيهما هو نفسه بالضبط , دورة خفقان قلبيهما هي نفسها , لكن , في مكان ما , في البرك العميقة لذهن المرأة ظهرت فكرة باهتة لم تكن هناك من قبل . تصل المرأة الشابة إلى هذه الفكرة الجديدة , إلى لاشعورها و بينما هي تفعل ذلك يعبر فراغ واهٍ ابتسامتها . و رغم أن هذا التغير يستعصي إلا على التمحيص الدقيق , لاحظه الشاب و اعتبره إشارته . يخبر المرأة أنه لا يستطيع أن يراها مرة أخرى , يعود إلى شقته الصغيرة في شارع تسويغهاوس , يقرر أن ينتقل إلى زوريخ و يعمل في مصرف عمه . تسير المرأة ببطء إلى منزلها مبتعدة عن حامل المصباح في شارع " غيربرن " وتتساءل لماذا لم يحبها الشاب.







فاصل

يجلس آينشتاين و بيسو في قارب صغير راس في النهر . يأكل بيسو سندويشة جبنة بينما ينفث آينشتاين دخان غليونه و يعد طعماً ببطء .

سأل بيسو الذي لم يذهب إلى الصيد مع آينشتاين من قبل :

" هل تصطاد عادة أي شيء هنا , من قارب صغير وسط نهر آري ؟

يجيب آينشتاين الذي يتابع الرمي : " أبداً" .

" ربما يجب أن نقترب من الشاطئ إلى ذلك القصب ؟
يجيب آينشتاين : " نستطيع , لم أصطد أي شيء هناك أبداً, ألديك سندويشة أخرى في الحقيبة؟

يقدم بيسو سندويشة و زجاجة بيرة لآينشتاين , يشعر بالذنب لأنه طلب من صديقه أن يأخذه في بعد ظهر الأحد هذا . كان آينشتاين يخطط ليذهب وحيداً كي يفكر .

يقول بيسو : " كل , تحتاج إلى استراحة من سحب كل هذا السمك "

يخفض آينشتاين طعمه إلى حضن بيسو و يبدأ بتناول السندويشة : لوهلة يصمت الصديقان . يعبرهما قارب صغير محدثاً تموجاً أدى إلى اهتزاز القارب .

بعد الغذاء يزيح آينشتاين المقاعد التي في القارب و يتمدد الصديقان على ظهريهما و ينظران إلى السماء . لقد تخلى آينشتاين عن الصيد .

يسأل آينشتاين : " أية أشكال ترى في الغيوم يا ميشيل"

" أرى عنزة تطارد رجلاً عابساً "

" أنت رجل عملي يا ميشيل"

يحدق آينشتاين بالغيوم لكنه يفكر بمشروعه . يريد أن يخبر بيسو عن أحلامه , لكنه لايستطيع أن يفعل ذلك .

يقول بيسو : " أعتقد أنك ستنجح في نظريتك في الزمن و حين يحصل هذا سنأتي إلى الصيد و تشرحها لي . حين تصبح مشهوراً ستتذكر أنك أخبرتني قبل أي شخص آخر هنا في هذا القارب".

يضحك آينشتاين و تهتز الغيوم من ضحكه .







18 حزيران 1905

متدفقاً من كاتدرائية في وسط روما يمتد رتل من عشرة آلاف إنسان منتشراً نحو الخارج كعقرب ساعة عملاقة و يتجه إلى حافة المدينة و ما وراءها . و رغم ذلك , هؤلاء الحجاج الصبورون موجهون نحو الداخل و ليس إلى الخارج . ينتظرون دورهم ليدخلوا معبد الزمن . ينتظرون لينحنوا للساعة العظيمة . قطعوا مسافات طويلة و جاؤوا من بلدان أخرى ليزوروا هذا المعبد , يقفون الآن بهدوء بينما يزحف الرتل إلى الأمام عبر شوارع نظيفة . يقرأ البعض في كتب صلواتهم و يحمل البعض الآخر أطفالاً , بينما يأكل آخرون ثمار التين أو يشربون الماء . و بينما هم ينتظرون , يبدون متناسين لمرور الزمن . لا ينظرون إلى ساعات أيديهم لأنهم لا يمتلكون ساعات . لا يصغون لدقات ساعة البرج لأن ساعات البرج غير موجودة . ساعات اليد و ساعات الحائط ممنوعة باستثناء الساعة العظيمة التي في معبد الزمن .

ينتصب داخل المعبد إثنا عشر حاجاً في حلقة حول الساعة العظيمة و يقف كل حاج على كل علامة للساعة , على الشكل المعدني و الزجاجي الضخم . داخل دائرتهم , يتأرجح بندول برونزي كبير يرتفع إثني عشر متراً و يتوهج في ضوء الشمعة . ينشد الحجاج مع كل فترة للبندول , ينشدون مع كل زيادة زمنية مقاسة . ينشد الحجاج مع كل دقيقة تنتزع من حياتهم . هذه هي تضحيتهم .

بعد أن يقضوا ساعة أمام الساعة العظيمة يغادر الحجاج و يصطف إثنا عشر حاجاً آخر من خلال البوابات المرتفعة . استمر هذا الموكب قروناً .
منذ وقت طويل , قبل الساعة العظيمة , كان الزمن يقاس من خلال التبدلات التي تطرأ على الأجرام السماوية : المسار البطيء للنجوم عبر سماء الليل , تقوس الشمس و تنوع الضوء , ازدياد و نقص القمر , المد , الجزر , الفصول . كان الزمن يقاس أيضاً بدقات القلوب و إيقاعات النعاس و النوم و الشعور بالجوع و الدورات الشهرية للنساء و مدة الوحدة . ثم اخترعت الساعة الآلية الأولى في بلدة إيطالية صغيرة . سُحر البشر . ارتعبوا فيما بعد . هنا إختراع بشري أحصى مرور الزمن , وضع مسطرة و بوصلة لفسحة الرغبة , قاس لحظات الحياة بدقة , كان لا يُطاق , كان خارج القانون الطبيعي . و رغم ذلك لا يمكن تجاهل الساعة الكبيرة . كانت يجب أن تُعبد . أقنع المخترع أن يصنع الساعة العظيمة . فيما بعد , قُتل و دُمرت جميع الساعات الأخرى و بعد ذلك بدأ الحج .

و نوعاً ما , تمر الحياة كما أمام الساعة العظيمة , تضج شوارع و أزقة البلدات بضحك الأطفال , تجتمع الأسر في الأوقات الملائمة لتأكل لحم البقر المجفف و لتشرب البيرة . ينظر الفتيان و الفتيات إلى بعضهم بخجل عبر ردهة رواق مقنطر . يزين الرسامون المنازل و الأبنية بلوحاتهم . يتأمل الفلاسفة . لكن يمتلك كل نفس , كل وضع لرجل فوق أخرى , كل رغبة رومانسية عقدة ضئيلة تعلق في الذهن . و كل فعل , مهما كان ضئيلاً , يفقد حريته : ذلك أن جميع البشر يعرفونه أنه في كاتدرائية معينة في وسط روما يتأرجح بندول برونزي ضخم موصولاً بإحكام إلى مسننات , يتدلى بندول برونزي ضخم يقيس حيواتهم . و يعرف كل شخص أنه يجب أن يجابه في أحد الأوقات الفواصل الداشرة لحياته يجب أن يبجل الساعة العظيمة . يجب أن يسافر كل رجل و امرأة إلى معبد الزمن .

هكذا , في أي يوم , في أية ساعة من أي يوم يمتد رتل من عشرة آلاف شخص منتشراً نحو الخارج من وسط روما , رتل من الحجاج الذين ينتظرون لينحنوا للساعة العظيمة . يقفون هادئين , يقرأون كتب الصلوات , يحملون أطفالهم . يقفون هادئين لكنهم يفورون غضباً في السر . ذلك أنهم يجب أن يراقبوا قياس ما يجب ألا يقاس . يجب أن يراقبوا المرور المنتظم للدقائق و العقود . لقد وقعوا في فخ اختراعهم و اجترائهم , و يجب أن يدفعوا حياتهم ثمناً لذلك .








20 حزيران 1905

الزمن ظاهرة محلية في هذا العالم . تتكتك ساعتان قريبتان من بعضهما بنفس السرعة تقريباً . لكن الساعات التي تفصلها المسافة تتحرك بسرعات مختلفة , و كلما ابتعدت كلما أصبحت متعارضة . و ما يصح على الساعات الكبيرة يصح على سرعة دقات القلب , حركة الشهيق و الزفير , هبوب الريح في العشب الطويل . ذلك أن الزمن في هذا العالم يتدفق في سرعات مختلفة في أمكنة مختلفة .

و بما أن التجارة تتطلب اتحادا مؤقتاً , لا توجد تجارة بين المدن . الانفصال بين المدن كبير جداً . ذلك أنه إذا كان الزمن الذي تحتاجه لإحصاء ألف فرنك سويسري يستغرق عشر دقائق في بيرن و ساعة في زوريخ , كيف يمكن أن تتعاون المدينتان ؟ بالتالي , كل مدينة هي وحدها , كل مدينة هي جزيرة . يجب أن تزرع كل مدينة خوخها و كرزها و ترعى في ماشيتها و خنازيرها , كل مدينة يجب أن تبني طواحينها الخاصة . يجب أن تعتمد كل مدينة على نفسها .

أحياناً يغامر مسافر و يذهب من مدينة إلى أخرى . أهو محتار؟ ما استغرق بضع ثوان في " بيرن" قد يستغرق ساعات في " فرايبورغ " أو أياماً في " لوسيرن" . في الوقت الذي يستغرقه سقوط ورقة في مكان ما , يمكن أن تتفتح زهرة في آخر . في الفترة التي تستغرقها الصاعقة في مكان يمكن أن يقع شخصان في الغرام في مكان آخر . في الوقت الذي يصبح فيه الطفل رجلاً , يمكن أن تنزلق قطرة مطر على لوح زجاج النافذة . مع ذلك , لا يدرك المسافر هذه الفروقات . حين يتحرك من مشهد زمني إلى آخر يتكيف جسمه مع حركة الزمن المحلية .

إذا تناغمت كل دقة قلب , كل حركة بندول , كل انفتاح جناحي طائر غاق , كيف سيعرف مسافر أنه انتقل إلى منطقة زمنية جديدة ؟ إذا بقيت حركة الرغبات البشرية متناسبة مع حركة التموج في بركة , كيف سيعرف المسافر أن شيئاً قد تغير ؟

حين يتواصل المسافر مع المدينة التي غادرها يدرك أنه دخل حقلاً زمنياً جديداً . يعرف أن المحل الذي يشتري منها ثيابه ازدهر وتنوع , أو ان ابنته عاشت حياتها و شاخت أو ربما أكملت زوجة جاره لتوها أغنية كانت تغنيها حين غادر بوابة منزله الأمامية . حينئذ يعرف المسافر أنه مقطوع في الزمن و في المكان أيضاَ . ما من مسافر يعود إلى مدينته الأصلية .

يفرح بعض البشر في العزلة . يجادلون أن مدينتهم هي أبهى المدن فلماذا يريدون التواصل مع مدن أخرى . أين الحرير الذي هو أنعم من حرير مصانعهم ؟ أية أبقار أقوى من أبقار مراعيهم؟ أية ساعات أروع من ساعات محلاتهم ؟ يقف بشر كهؤلاء على شرفاتهم في الصباح و لا ينظرون أبداً إلى ما وراء حواف البلدة .

ثمة آخرون يريدون التواصل . يسألون دائماً المسافر النادر الذي يتجول في مدينتهم عن الأمكنة التي زارها , عن لون الغروب في أمكنة أخرى , على طول البشر و حجم الحيوانات, عن اللغات الشائعة و عادات الخطبة و الاختراعات . و مع مرور الزمن يسافر أحد الفضوليين ليرى بنفسه , يغادر مدينته ليستكشف مدناً أخرى , يصبح مسافراً و لايعود أبداً.

إن عالم محلية الزمن هذا , إن عالم العزلة هذا , ينتج تنوعا حياتياً غنياً . ذلك أنه بدون امتزاج المدن يمكن أن تتطور الحياة في ألف طريقة مختلفة . يمكن أن يعيش البشر في إحدى المدن مع بعضهم و يمكن أن يعيشوا منفصلين في أخرى . يمكن أن يرتدي البشر ملابسهم باحتشام في إحدى المدن و يمكن ألا يرتدوا ثياباً في أخرى . يمكن ان يندب البشر موت الأعداء في إحدى المدن و يمكن ألا يسير البشر في إحدى المدن و يمكن أن يركبوا دراجات غريبة الصنع في أخرى . إن تنوعاً كهذا يوجد في مناطق تبعد عن بعضها مائة كيلومتر . فقط وراء جبل , فقط وراء نهر تقع حياة مختلفة . مع ذلك لاتتحدث هذه الحيوات مع بعضها . والوفرة التي تسببها العزلة تخنقها هذه العزلة نفسها .






22 حزيران 1905

إنه يوم تخرج في " أغاسيس جمنازيو " . يقف مائة و تسعة و عشرون طالباً يرتدون قمصاناً بيضاء و ربطات عنق بنية على الدرجات الرخامية و يتململون في ضوء الشمس بينما يقرأ المدير أسماءهم . يجلس أولياء الأمور والأقرباء في المرج الأمامي و يصغون بفتور محدقين إلى الأرض و يقفون على كراسيهم . يلقي الطالب المتفوق خطابة بصوت رتيب . يبتسم بوهن حين يستلم ميداليته ثم يرميها في دغل بعد الإحتفال . لا أحد يهنئه . يسير الأولاد و أمهاتهم و آباؤهم و شقيقاتهم دون همة إلى منازلهم في شارع أمتهاوس و أرستراس أو إلى المقاعد المنتظرة قرب بانهوفبلاتز , يجلسون بعد وجبة الظهر , يلعبون الورق لتمضية الوقت و ينامون . تطوى الملابس و توضع بعيداً إلى أن تأتي مناسبة أخرى . يذهب بعض الأولاد إلى الجامعة في بيرن أو في زوريخ في نهاية الصيف , يعمل البعض في مشاريع آبائهم , يسافر البعض الآخر إلى ألمانيا أو فرنسا بحثاً عن وظيفة . تحصل هذه السفرات بلا مبالاة , بشكل آلي , كتأرجح البندول , كلعبة شطرنج تكون فيها كل حركة إجبارية . ذلك أن المستقبل ثابت في هذا العالم .

في عالم كهذا ليس الزمن سائلاً يتفرق ليفسح المجال للأحداث . الزمن صلب, بنية كالعظم تمتد بلا نهاية إلى الأمام و الخلف محولة المستقبل و الماضي إلى مستحاثتين . إن كل فعل , كل فكرة , كل نفس , كل تحليق طائر , كل هذه الأشياء محددة بشكل كامل و إلى الأبد .

في قاعة الرقص في مسرح ستاد تتحرك راقصة باليه عبر خشبة المسرح و تقفز في الهواء . تتعلق لحظة ثم تهبط على الأرض . تتصالب الرجلان و ترفرفان , ينفتح الذراعان في قوس مفتوح . تستعد الآن للدوران على أصابع القدم , تتحرك الرجل اليمنى خلفاً إلى الموضع الرابع , تدفع على قدم واحدة , يتحرك الذراعان لتسريع الدورة . إنها الدقة . إنها ساعة , تفكر و هي ترقص أنها يجب أن تكون قد طارت قليلاً في قفزة واحدة لكنها لا تقدر أن تطير لأن حركاتها ليست لها . إن كل تفاعل لجسدها مع الأرض أو مع المكان محدد مسبقاً إلى جزء من البليون من الإنش . ما من مكان للطيران . سيشير الطيران إلى غياب لليقين . و هكذا تتحرك حول خشبة المسرح بقدريه كالساعة لا تقوم بقفزات أو مجازفات غير متوقعة , تلمس الحوار بدقة ولا تحلم بوثبات غير مخطط لها .

في عالم يكون فيه المستقبل ثابتاً , الحياة رواق لانهائي من الغرف , إحدى الغرف مضاءة كل لحظة , الغرف التالية مظلمة لكنها مجهزة . نسير من غرفة إلى أخرى , ننظر إلى الغرفة المضاءة , اللحظة الحاضرة , ثم نسير . لانعرف الغرف التي أمامنا لكننا نعرف أننا لا نستطيع أن نغيرها . نحن نظارة حيواتنا .

يسير الصيدلاني الذي يعمل في مجال الأدوية في شارع كوخر عبر المدينة أثناء استراحة بعد الظهر . يقف في السوق عند الحانوت الذي يبيع الساعات , يشتري سندويشة من المخبز المجاور و يتابع سيره نحو الغابة و النهر . إنه مدين لصديقه بنقود لكنه يفضل أن يشتري الهدايا . و بينما يسير معجباً بمعطفه الجديد يقرر أنه يقدر أن يدفع لصديقه العام القادم أو ربما لا يقدر أن يدفع أبداً و من يستطيع أن يلومه؟ في عالم يكون المستقبل فيه ثابتاً لا يوجد صواب أو خطأ , ذلك أن الصواب و الخطأ يقتضيان حرية اختيار , و لكن اذا كان كل فعل مختاراً مسبقاً , لن يكون هناك حرية اختيار . في عالم المستقبل فيه ثابت لا أحد مسؤولاً . الغرف مرتبة مسبقاً . تخطر في ذهن الصيدلاني جميع هذه الأفكار حين يسير على طول الممر عبر برونعاسهالدي و يستنشق هواء الغابة الندي . يسمح لنفسه بابتسامة , كونه مسروراً جداً من قراره . يستنشق الهواء الندي و يشعر بأنه حر في أن يفعل ما يريد , حر في عالم دون حرية.







25 حزيران 1905

إنه بعد ظهر يوم الأحد . يطوف البشر في آرستراسي مرتدين ثياب الأحد و متخمين من عشاء الأحد , يتحدثون بهمس قرب غمغمة النهر . الحوانيت مغلقة . تسير ثلاث نساء في السوق , يتوقفن لقراءة الإعلانات , للتحديق بالواجهات , يتابعن السير بهدوء . ينظف صاحب نزل الدرج , يجلس و يقرأ الصحيفة , يستند إلى حائط حجر رملي و يغمض عينيه . الشوارع هاجعة , الشوارع نائمة و في الجو تعوم موسيقا كمان .

يقف شاب و سط غرفة تشغل كتب طاولاتها و يعزف على كمانه . إنه يحب كمانه الذي يصدر لحناً جميلاً . و بينما و هو يعزف ينظر إلى الشارع في الأسفل و يلمح شخصين قريبين من بعضهما , ينظر إليهما بعينين بنيتين عميقتين و يشيح بصره بعيداً . يقف ثابتاً . موسيقاه هي الحركة الوحيدة , موسيقاه تملأ الفرقة . يقف هادئاً و يفكر بزوجته و طفله الرضيع اللذين يشغلان غرفة الطابق الأرضي .

و بينما هو يعزف , يقف رجل آخر مماثل وسط غرفة و يعزف على كمانه , ينظر الرجل الآخر إلى الشارع في الأسفل يلمح شخصين قريبين من بعضهما , يشيح بصره بعيدا و يفكر بزوجته و ولده . و بينما هو يعزف ,يقف رجل ثالث و يعزف على كمانه . وفي الحقيقة ثمة رابع و خامس , ثمة عدد لا يحصى من الشبان الذين يحصى من الألحان و الأفكار . و هذه الساعة التي يعزف الشبان أثناءها على كمنجاتهم ليست ساعة واحدة بل ساعات عديدة , ذلك أن الزمن هو مثل الضوء بين مرآتين . يقفز الزمن إلى الأمام و الخلف منتجاً عدداً لا يحصى من الصور و الألحان و الأفكار . إنه عالم نسخ لا تحصى .

و بينما هو يفكر , يشعر الرجل الأول بالآخرين , يشعر بموسيقاهم و أفكارهم , يشعر بأنه مكرر آلاف المرات , أن غرفته التي تحتوي كتباً تتكرر ألف مرة , يشعر بأن أفكاره مكررة . هل يجب عليه أن يهجر زوجته ؟ ماذا عن تلك اللحظة في مكتبة المعهد العلمي العالي حين نظرت إليه عبر المكتب؟ ماذا عن شعرها البني الكثيف ؟ لكن , ما الراحة التي قدمتها له ؟ أية عزلة ما عدا في هذه الساعة حيث يعزف على كمانه ؟

يشعر بالآخرين , يشعر أنه مكرر ألف مرة , يشعر أن غرفته مكررة الف مرة , أن أفكاره مكررة , أي تكرار هو تكراره , هويته الحقيقية , ذاته المستقبلية ؟ أيجب أن يترك زوجته ؟ ماذا عن تلك اللحظة في مكتبة المعهد العلمي العالي ؟ أية راحة قدمتها له ؟ أية عزلة ما عدا في هذه الساعة حيث يعزف على الكمان ؟ تقفز أفكاره إلى الأمام و الخلف ألف مرة بين كل نسخة عنه , يضعف مع كل قفزة . أيجب أن يهجر زوجته ؟ أية راحة قدمتها له ؟ أيه عزلة؟ تبهت أفكاره حتى لا يكاد يتذكر ماذا كانت الأسئلة أو لماذا . أية عزلة؟ ينظر إلى الشارع الخاوي و يعزف , تطوف موسيقاه و تملأ الغرفة و حين تمر الساعة التي كانت ساعات لاتحصى , يتذكر الموسيقى فقط .







27 حزيران 1905

ينقل رجل متوسط العمر الأحجار من المحجر الذي يقع إلى الشرق من بيرن إلى مكان البناء في " هولدرستراسي " كل ثلاثاء. يمتلك زوجة وو لدين كبرا وغادرا و شقيقا مسلولاً يعيش في برلين . يرتدي معطفاً صوفياً رمادياً في جميع الفصول . يعمل في المحجر إلى بعد حلول الظلام , يتناول العشاء مع زوجته و ينام , يعتني بحديقته أيام الأحد في صباحات الثلاثاء يحمل شاحنته بالأحجار و يذهب إلى البلدة .

حين يأتي يتوقف في السوق ليشتري الطحين و السكر . يمضي نصف ساعة جالساً بهدوء على المقعد الخلفي لكاتدرائية القديس فنسنت . يتوقف عند مكتب البريد ليرسل رسالة إلى برلين . و حين يعبر البشر في الشارع يحدق بالأرض . يعرفه بعض البشر , يحاولون أن يلتقطوا عينيه أو يسلموا عليه . يغمغم و يتابع سيره . حتى حين يسلم أحجاره في " هولدرستراسي " لا يستطيع أن ينظر إلى عيني البناء , يشيح بصره جانباً و يتحدث مع الحائط حين يستجيب لثرثرة البناء الودودة , يقف في زاوية حين توزن أحجاره .

منذ أربعين عاماً , في بعد ظهر أحد أيام آذار شخ تحته في المدرسة اثناء الدرس . لم يستطع أن يحسبها . حاول أن يبقى على الكرسي لكن الأولاد الآخرين شاهدوا البقعة المبللة على بنطاله و جعلوه يدور في الغرفة بشكل متواصل . أشاروا إلى البقعة المبللة على بنطاله و زأروا . في ذلك اليوم بدا ضوء الشمس كجداول حليب سكبت من النافذة و سفحت على ألواح أرض الغرفة . تدلت دزينتان من السترات على علاقات قرب الباب . امتدت علامات الحوار على اللوح وهي أسماء عواصم أوروبا . امتلكت القاعد سطوحاً فتانة و أدراجاً و على مقعده تحت اسم جوهان في أعلى اليمين . كان الجو رطباً بسبب أنابيب البخار . و كانت ساعة بعقربين حمراوين كبيرين تشير إلى الثانية و الربع . استهزأ الصبية منه , استهزأوا منه و هم يطاردونه في الغرفة و البقعة المبللة على بنطاله . صاحوا و سموه : " فتى المثانة , فتى المثانة , فتى المثانة ".

أصبحت تلك الذكرى حياته , حين يستيقظ في الصباح يكون الصبي الذي شخ تحته , حين يعبر البشر في الشارع يعرف أنهم يشاهدون بقعة مبللة على بنطاله , ينظر إلى بنطاله ثم يشيح بصره بعيداً, حين يزوره ولداه , يبقى داخل غرفته و يتحدث معهما من خلال الباب , انه الصبي الذي لم يستطع أن يحبسها .

لكن ما هو الماضي ؟ هل من المرجح أن واقعية الماضي هي مجرد وهم ؟ أيمكن أن يكون الماضي مشكالاً * , نموذج صور تتبدل مع كل هبوب نسيم مفاجئ , مع كل فكرة و ضحكة ؟ و اذا كان التبدل في كل مكان , كيف ستعرف؟

في عالم يتبدل فيه الماضي يستيقظ عامل المحجر في أحد الصباحات و لم يعد هو الصبي الذي لم يستطع أن يحبسها . كان بعد الظهر ذاك الذي تلاشى منذ زمن بعيد بعد ظهر آخر فقط . في بعد الظهر ذاك الذي نسي , جلس مع أطفال آخرين بعد الإنصراف من المدرسة , ويمتلك محجراً و تسع بزات الآن . يشتري آنية فاخرة لزوجته و يقوم بنزهات
طويلة معها بعد ظهر أيام الأحد . يزور أصدقاء في شارع أمتهاوس و آرستراس , يبتسم لهم و يصافحهم . يرعى حفلات موسيقية في الكازينو .

في صباح ما يستيقظ و ....

حين تشرق الشمس فوق المدينة يتثاءت عشرة آلاف شخص و يتناولون الخبز المحمص و القهوة . يملأ عشرة آلاف شخص أورقة شارع كرام المقنطرة أو يذهبون إلى العمل في شارع شبايشا أو يأخذون أولادهم إلى الحديقة . يمتلك كل منهم ذكريات : أب لم يستطع أن يحب ولده , آخر يربح دائماً , عاشق بقبلة لذيذة , لحظة غش في الإمتحان المدرسي , الهدوء الناتج عن سقوط ثلج جديد , نشر قصيدة , ان هذه الذكريات هي كقمح في الريح , أحلام هاربة , أشكال في غيوم , و الأحداث التي حصلت مرة تفقد واقعيتها , تتبدل في لمحة , في عاصفة , في ليل . و مع مرور الزمن , لم يحدث الماضي أبداً , لكن من يستطيع أن يعرف ؟ من يستطيع أن يعرف أن الماضي ليس حقيقياً كهذه اللحظة حين تتدفق الشمس فوق جبال الألب البيرينية و يغني البقالون و هم يرفعون ظلات حوانيتهم و يبدأ عامل المحجر تحميل شاحنته .
________________________________________

* مشكال : أداة تحتوي على قطع متحركة من الزجاج الملون ما ان تتغير أوضاعها حتى تعكس مجموعة لا نهاية لها من الأشكال الهندسية المختلفة الألوان






28 حزيران 1905

تقول الجدة و هي تربت على كتف ولدها : " لا تأكل كثيراً , ستموت قبلي و عندئذ من سيعتني بفضتي ؟ تقوم الأسرة بنزهة على ضفة نهر آري إلى الجنوب من بيرن بعشرة كيلومترات . تنهي الفيتيات غداءهن و يطاردن بعضهن حول شجرة تنوب . أخيراً يصبن بالدوار و يتساقطن على العشب الكثيف , يستلقين هادئات لحظة ثم يدرن على الأرض إلى أن يدخن ثانية . يجلس الإبن و زوجته السمينة جداً و الجدة على بطانية و يأكلون لحم البقر المجفف و الجبنة و خبز العجين المحمض مع الخردل و العنب و كعكة شوكولاتة . و بينما هم يأكلون و يشربون يهب نسيم عليل فوق النهر و يستنشقون هواء الصيف العذب . ينزع الولد حذاءيه و يحرك أصابع قدميه في العشب .

فجأة يحلق فوقهم سرب من الطيور . يقفز الشاب عن البطانية و يركض وراءه دون أن ينتعل حذاءيه . يختفي فوق التل . ينضم إليه آخرون شاهدوا الطيور من المدينة .

يحط طير على شجرة . تتسلق امرأة الجذع و تتمدد لتمسك الطائر بيد أنه يقفز بسرعة إلى غصن أعلى . تتسلق إلى الأعلى , تقف بحذر على غصن و تزحف إلى الأمام . يقفز الطائر عائداً إلى الغصن السفلي , و بينما تتعلق المرأة عاجزة في الشجرة يحط طائر آخر ليأكل الذار . ينسل رجلان خلفه حاملين وعاءاً زجاجياً على هيئة جرس . إلا أن الطائر أسرع منهما , يحلق في الجو و يندمج في السرب .

تطير الطيور عبر البلدة . يقف خوري كاتدرائية القديس فنسنت في برج الناقوس محاولاً استدراج الطيور إلى النوافذ المقوسة . تشاهد عجوز في حدائق شارع كلايينشانسا الطيور تبيت مؤقتاً في دغل . تسير ببطء نحوها حاملة وعاء جرسي الشكل , تعرف انها لا تملك فرصة لاصطياد طائر , ترمي وعاءها على الأرض و تشرع في البكاء .

و هي ليست وحدها المحبطة . في الحقيقة يرغب كل رجل و كل امرأة بطائر , ذلك أن سرب البلابل هذا هو الزمن . يرفرف الزمن و يتململ و يتقافز مع هذه الطيور . اصطد أحد هذه الطيور وضعه تحت الوعاء الجرسي الشكل يتوقف الزمن . اللحظة متجمدة بالنسبة لجميع البشر و الأشجار و التربة العالقة في الداخل .

من النادر أن تصطاد هذه الطيور , و الأطفال الذين يمتلكون وحدهم السرعة الكافية لاصطيادها لا يرغبون بايقاف الزمن . ذلك أن الزمن بالنسبة لهم يتحرك مسبقاً ببطء , يندفعون من لحظة إلى لحظة متلهفين لأعياد الميلاد و رؤوس السنة , بالكاد يقدرون على الانتطار بقية حيواتهم . أما الكبار فيرغبون بإيقاف الزمن لكنهم بطيئون جداً و منهمكون بحيث لا يقدرون على اصطياد أي طائر . يتوقون إلى اعتقال دقيقة واحدة وهم جالسون إلى طاولة الإفطار يتناولون الشاي أو إلى اعتقال لحظة حين تعلق الحفيدة محاولة الخروج من ثيابها أو بعد ظهر حين تعكس شمس الشتاء الثلج و تغمر غرفة الموسيقى بالضوء , لكنهم بطيئون . يجب أن يراقبوا الزمن يقفز و يطير بعيداً .

في تلك اللحظات عندما يتم اصطياد طائر , يستمتع الصيادون باللحظة التي تتجمد . يتشممون الموضع الدقيق للأسرة و الأصدقاء , التعبيرات الوجيهة , السعادة الأسيرة الناجمة عن جائزة أو ولادة أو قصة حب , رائحة القرفة المعتقلة أو البنفسج المضاعف البياض. يستمتع الصيادون باللحظة المجمدة لكنهم يكتشفون حالاً أن البلبل ينفق , تبهت أغنيته الواضحة التي تشبه صوت الناي و تصمت , و تذوي اللحظة الأسيرة و تموت .





خاتمة

تدق ساعة برج ثماني مرات . يرفع موظف براءات الاختراع الشاب رأسه عن المكتب , يقف و يتمدد , يسير إلى النافذة .

في الخارج, البلدة مستيقظة . تتجادل امرأة مع زوجها و هي تناوله غداءه . تتبادل مجموعة من الأولاد في طريقها إلى جمنازيو شارع تسويوهاوس قذف كرة قدم و تتحدث بحماس عن عطلة الصيف . تسير امرأتان بخفة نحو السوق حاملتين كيسي تسوق فارغين .

بعد وقت قصير يدخل موظف براءات اختراع مسؤول من الباب , يتجه إلى مكتبه و يبدأ عمله دون أن يتفوه بكلمة . يستدير آينشتاين و ينظر إلى الساعة التي في الزاوية : إنها الثامنة و ثلاث دقائق . يلعب بقطع نقدية في جيبه متململاً.
في الثامنة و أربع دقائق تدخل ضاربة الآلة الكاتبة . تشاهد آينشتاين حاملاً مخطوطته المكتوبة بخط اليد و تبتسم . لقد طبعت سابقاً عدداً من أوراقه الشخصية في وقت فراغها وكان دائماً يدفع برحابة صدر ما تطلبه . إنه هادئ , رغم أنه يروي أحياناً نكات , إنها تحبه .

يسلمها آينشتاين مخطوطته التي تحوي نظريته في الزمن . إنها الثامنة و ست دقائق . يسير إلى مكتبه , ينظر إلى كومة الملفات , يتجه إلى رف كتب و يبدأ بإخراج أحد الدفاتر . يستدير و يعود إلى النافذة . الجو صاح بشكل مخالف للعادة في آخر حزيران .

وفق بناء شقة يستطيع أن يرى أطراف جبال الألب الزرقاء و قممها البيضاء . في الأعلى النقطة السوداء الصغيرة التي هي لطائر تقوم بدورات بطيئة في السماء .

يسير آينشتاين إلى مكتبه , يجلس لحظة ثم يعود إلى النافذة . يشعر أنه فارغ . يفقد اهتمامه بمراجعة براءات الإختراع أو بالتحدث إلى بيسو أو بالتفكير بالفيزياء . يشعر أنه فارغ و يحدق دون اهتمام إلى النقطة السوداء الصغيرة و إلى جبال الألب.




- ترجمة : أسامة اسبر