المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحب في زمن الكوليرا


AshganMohamed
10-21-2019, 10:21 AM
الحب في زمن الكوليرا

الحب في زمن الكوليرا
جابرييل جارسيا ماركيز



?

الجزء الأول

لا مَناص فرائحة اللوز المر كانت تُذكِّره دوما بمصيد الغراميات الغير مواتية ، ، ذلك ما أدركه الدكتور خوفينال أُوربينو منذ دخوله البيت الذي كان غارقا في الظلام ، ، إذ حضر على عجل للاهتمام بحالة لم تعُد مستعجلة بالنسبة له منذ سنوات عديدة ، ، فاللاجئ الأنتيلي جيرميَا ديسَانْت آمور ، مشوه الحرب ومصور الأطفال وأكثر خصومه رأفة في لعبة الشطرنج قد تخلص من عذابات الذكرى باستنشاقه أبخرة سِيانور الذهب .
وجد الجثة مغطاة بشرشف فوق السرير الضيق حيث كان ينام عادةً وبجواره كرسي صغير عليه الطشت المستخدم في تبخير السُّم ، وكان يقبع على الأرض مقيدا بِقائمة السرير جسد كلب دَنيماركي ضخم أسود اللون تغطي صدره بقع بلون الثلج ، وإلى جانبه العُكّازان ، الحجرة الخانقة ذات الألوان المتنافرة التي كانت تستخدم كحجرة نوم ومخبِر تصوير في الوقت ذاته أضيأت قليلا ببريق الفجر المنْسَل من النافذة المفتوحة ، لكنه كان ضوءاً كافياً للاعتراف الفوري بسلطة الموت فقط ، كانت النوافذ الأخرى وجميع كُوى الحجرة مسدودة بخرق قماشية أو مختومة بورق مقوى أسود اللون مما ضاعف من كثافة ضِيقها ، وكانت هناك طاولة تحتشد بزجاجات وقناني بلا لصاقات وطشتين من التوتياء ، مقشرَي الطلاء ، تحت مصباح عادي مغلف بورق أحمر ، أما الطشت الثالث الخاص بالسائل المُثبَّت فهو الموجود الى جانب الجثة .
كانت هناك مجلات وصحف قديمة في كل الأنحاء وأكداس من مسودات الصور الفوتوغرافية في أُطُر زجاجية ، وأثاث مخلَّع لكنه محفوظ كله بقدرة يد نشيطة ، ومع أن هواء النافذة قد نَقَّى الجو إلا إنه بقي لمن هو قادر على التسيير قبس فاتر من الغراميات الكئيبة لحبات اللوز المُرة .
كان الدكتور خوفينال أُوربينو قد فكر أكثر من مرة دون حماس مسبق بأن تلك الحجرة ليست بالمكان المناسب للموت في رحمة الله ، لكنه انتهى مع مرور الوقت الى الافتراض بأن فوضى المكان هذه ربما هي استجابة لإلهام محدد من جانب العناية الإلهية .
كان مفوض الشرطة قد سبقه مع طالب طب شاب يتمرن للتخصص في الطب الشرعي في المستوصف البلدي ، وهما من قام بتهوية الحجرة وتغطية الجثة ريثما يأتي الدكتور أُوربينو ، كلاهما صافحه بمهابة فيها هذه المرة من المواساة أكثر مما فيها من التوقير ، ، فلا أحد يجهل درجة الصداقة التي كانت تربطه بجيرميَا ديسَانْت آمور .
شد المعلم الشهير على يد كل منهما كما هي عادته دائما بمصافحة كل واحد من تلاميذه قبل بدء درسه اليومي في الطب العام ، ثم رفع طرف شرشف السرير برأس إبهامه وسباّبته كما لو كان زهرة ، وكشف عن الجثة شبراً فشبراً برصانة قدسية .
كان الميت عارياً تماما مُتَيَبِّساً ومِعْوَجّاً ، عيناه مفتوحتان وجسده أزرق وبدا كأنه كبر خمسين عاماً عما كان عليه في الليلة الماضية ، كانت حدقتاه صافيتين وشعر رأسه وذقنه ضارب الى الاصفرار وعلى عرض بطنه أثر جرح قديم مُنْدَمِل مُخَيَّط بغرز معقودَة ، وكان لصدره وذراعيه ضخامة صدر وذراعَي مجداف سفينة وذلك للجهد الذي عليه أداءه باستخدام العُكّازين ، أما ساقاه الخامدتان فبدتا كساقَي يتيم .
تأمله الدكتور خوفينال أُوربينو للحظة بقلب يعاني ألم قلما عانى مثله خلال سنوات حربه الطويلة العقيمة ضد الموت ، وقال له : أيها الجبان ، الأسوأ كان قد انقضى .
ثم أعاد تغطيته بالشرشف واستعاد وقاره الأكاديمي .
كان قد احتفل في العام الماضي بعيده الثمانين في احتفال رسمي دام ثلاثة أيام ، وفي كلمة الشكر التي ألقاها رفض مجددا إغراء التقاعد بقوله : سيكون لدي متسع للراحة عندما أموت ، وحتى هذا الاحتمال ليس ضمن مشاريعي في الوقت الراهن ، بالرغم من أن سمع إُذُنه اليسرى كان يضعف أكثر فأكثر ورغم أنه كان يستند على عُكّاز ذي قبضة فضيَة ليخفي تعثر خطواته ، فقد تابع الظهور بالمظهر الذي كان عليه في سنوات شبابه ببدلة كاملة من الكتّان مع صدرية تقْطعها سلسلة ساعة ذهبية ، ولِحْيَة كَلِحْيَةِ باستور ذات لون صدفي وشعر له اللون ذاته مصفف مع فَرْق متقن في الوسط ، وكانت هذه الأمور تعبيرا أميناً عن طبعه ، أما تآكل الذاكرة الذي كان يقلقه أكثر فأكثر فكان يعوضه قدر الإمكان بكتابة ملاحظات سريعة على قصاصات متفرقة ما تلبث أن تختلط في كل جيوبه كما تختلط الأدوات وزجاجات الدواء وأشياء أخرى كثيرة في حقيبته المُتْخَمة ، الم يكن أكبر الأطباء سِنّاً وأشهرهم في المدينة فحسب بل والرجل الأكثر تَجَمُّلا فيها ، ومع ذلك فإن حكمته البيِّنة وطريقته التي لا يمكن اعتبارها ساذجة في إدارة سلطة اسمه جعلت عددا من أتباعه أقل مما يستحق .
كانت تعليماته للمفوض والطبيب المتمرِن محدودة وسريعة : يجب عدم إجراء التشريح ، فرائحة البيت كافية لِتقرير أن سبب الوفاة هو استنشاق السيانور المتفاعل في طشت مع حامض من أحماض التصوير ، ولقد كان جيرميَا ديسَانْت آمور يعرف هذه المواد جيدا بحيث لا يمكن أن يكون قد فعل ذلك سهواً .
وأمام استفسار من المفوض أوقفه الدكتور بطعنة تقليدية ، هيإحدى حركاته المعتادة : لا تنسَ أني أنا من سيوقع على شهادة الوفاة .
أصابت خيبة الأمل الطبيب الشاب ، فهو لم يلاحظ يوما بدراسة تأثيرات سيانور الذهب على جثة ، وقد فوجئ الدكتور خوفينال أُوربينو أن الشاب لم يرَ ذلك في مدرسة الطب ، لكنه فَهِم الأمر فوراً بسبب خجل الشاب السريع ولهجته الهنديزية ، ربما هو حديث الوصول الى المدينة فقال له : لن تعدم هنا وجود مجنون في الحب يمنحك الفرصة في يوم من هذه الأيام .
وعندما انتهى من الحديث فقط أدرك أنه بين عدد لا حصر له من المنتحرين الذين يَذكرهم ، كان ذاك هو أول منتحر بالسيانور ، ليست تعاسة الحب هي السبب في انتحاره ، عندها طرأ تبدل ما على نبرة صوته المعتادَة .
قال للمتمرِن : عندما تجده دَقق جيدا ، إذ يوجد رمل في قلوبهم عادةً .
ثم تحدث الى المفوض كما لو كان يتحدث الى أحد مرؤوسيه ، أمره الى تجنب أي التماسات كي يتم الدفن في مساء ذلك اليوم بالذات وبأقصى درجات التكتم .
قال : أنا سأكلم العُمدة فيما بعد .
كان يعلم أن جيرميَا ديسَانْقد عاش حياة تقشف بدائي ، وأنه كان يكسب بفنه أكثر مما يلزمه للعيش بكثير ، مما يستوجب وجود مال يزيد عن تكاليف الدفن في أحد الأدراج .
- إذا لم تجدوا المال فلا تهتموا ، سأتولى أنا تكاليف الدفن .
وأمر بإعلام الصحف ، أن المصور قد توفي وفاة طبيعية ، رغم أنه فكر بأن الخبر لن يهمهم بأي حال .
قال : إذا اقتضى الأمر فسأكلم الحاكم .
المفوض الذي كان موظفا جدياً وذليلاً كان يعرف أن صرامة الأستاذ المتمدن تثير حفيظة أقرب أصدقائه إليه ، وكان مشدوهاً للسهولة التي يقفز بها فوق الإجراءات القانونية للإسراع في الدفن ، والشيء الوحيد الذي لم يقتحمه هو مسألة التحدث الى الأسقف لِيَسمح بدفن جيرميَا ديسَانْت آمور في مقبرة المؤمنين .
وحاول المفوض المستاء من سفاهة ذاته أن يعتذر فقال : ما أعرفه هو أن هذا الرجل كان قِدّيساً .
وقال الدكتور أُوربينو : بل هو شيء أشد غرابة ، إنه قِدّيس ملحِد ، لكن هذا من شؤون الرب .
بعيدا في الجانب الآخر من المدينة الاستعمارية سُمِعَت نواقيس الكاتدرائية تدعو الى القُدّاس الكبير ، فوضع الدكتور أُوربينو نظارته ذات القوس والإطار الذهبي على عينيه ونظر الى ساعة السلسلة المربعة الرقيقة التي يُفتح غطاؤها بنابض ، إنه يوشك أن يتخلف عن موعد صلاة العَنصَرة .
كان في الصالة آلة تصوير ضخمة على عجلات كتلك التي في الحدائق العامة ، وستارة عليها رسم يمثل مَنْظَر يمثل شفق بَحري ، وكانت الجدران مغطاة بصور أطفال عليها تواريخ تذكارية ، ذكرى المشاركة الأولى ، التنكر بقناع أرنب ، عيد الميلاد السعيد .
لقد رأى الدكتور أُورْبينو هذه الجدران وهي تتغطى تدريجياً سنة بعد أخرى أثناء تأمله المتروي في أمسيات الشطرنج ، وكان قد فكر في أحيان كثيرة مع اختلاجة كآبة بأن في معرض صور المصادفة هذا توجد نواة مدينة المستقبل التي ستُساس وتَفسُد على يد هؤلاء الأطفال المجهولين والتي لن يبقى فيها حتى رماد مجده .
على طاولة العمل الى جانب علبة فيها عدة غَلايين محفور عليها رسوم ذئاب بَحر كانت رقعة الشطرنج وعليها دور غير مكتمل ، ورغم تعجله واكتئابه لم يستطع الدكتور أُورْبينو مقاومة إغراء دراستها ، كان يعلم أنها لعبة الليلة الماضية فقد كان جيرميَا ديسَانْت آموريلعب مساء كل يوم من أيام الأسبوع ومع ثلاثة خصوم مختلفين على الأقل ، لكنه كان يصل دائما الى نهاية اللعب ثم يضع الرقعة مع الأحجار في علبتها ويضع العلبة في أحد أدراج المكتب ، وكان يلعب بالأحجار البيضاء دوما ، ولم يكن هناك من شك في أنه كان سيخسر تلك اللعبة بعد أربع حركات أخرى دون مفر .
وقال لِنفسه : لو كان ثمة جريمة لكان هذا دليلا جيدا ، فأنا لا أعرف سوى شخص واحد قادر على نصب مثل هذه الكمين المتقن .
ما كان بمقدوره العيش دون أن يبحث فيما بعد عن السبب الذي جعل ذلك الجندي الجامح المعتاد على الصراع حتى آخر قطرة دم يتخلى عن المعركة الأخيرة في حياته دون حسمها .
في الساعة السادسة صباحاً وفيما الحارس الليلي يقوم بجولته الأخيرة ، رأى الورقة المثبتة على الباب الخارجي : ادخل دون طَرْق الباب واتصل بالشرطة .
بعد ذلك بقليل هرع مفوض الشرطة مع طالب الطب المتمرِن ، وقاما كلاهما بتفتيش البيت عن دليل ضد رائحة اللوز المر التي لا يمكن إخفاؤها .
وأثناء الدقائق القليلة التي استغرقتها دراسة دور الشطرنج غير المنتهي اكتشف المفوض بين الأوراق التي على المكتب مغلفا موجَّهاً الى الدكتور خوفينال أُورْبينو مختوما بعدة أَخْتام من الشمع الأحمر ، مما جعل تمزيقه ضرورياً لإخراج الرسالة منه .
أزاح الطبيب الستارة السوداء عن النافذة لِيحصل على إنارة أفضل ، ثم ألقى أول الأمر نظرة سريعة على الإحدى عشرة ورقة المكتوبة بخط أنيق على الوجهَين ، ومذ قرأ الفقرة الأولى أدرك أنه قد تَخَلَّف عن صلاة العَنْصَرة .
قرأ بنفَس مضطرب عائدا الى ما قرأه في عدة صفحات لِيُمسِك مجددا بالخيط المفقود ، وعندما انتهى بدا وكأنه يرجع من مكان قصي وزَمان سحيق .
كان هموده بادياً رغم اجتهاده للحيلولة دون ذلك ، كانت شفتاه بلون الجثة الأزرق ذاته ، ولم يستطع السيطرة على ارتجاف أصابعه عندما أعاد طي الرسالة وأودعها جيب صدريته ، عندئذٍ تذَكر وجود مفوض الشرطة والطبيب الشاب فابتسم لهما من خلال غلالة الأسى وقال : لا شيء يستحق الذكر ، إنها تعليماته الأخيرة .
كان هذا نصف الحقيقة ، لكنهما اعتقدا أنها الحقيقة الكاملة لأنه أمرهما بانتزاع بلاطة مخلخلة في الأرضية حيث وجدا دفتر حسابات مستعملا كثيرا ، وفيها كانت رموز فتح صندوق الخزنة .
لم تكن هناك نقود كثيرة كما توهموا ، لكن ما وجدوه كان يزيد عن تكاليف الدفن وتسديد التزامات أخرى ضئيلة الشأن .
كان الدكتور أُورْبينو مدركا حينئذٍ أنه لن يتمكن من الوصول الى الكَتدرائية قبل القُدّاس فقال : إنها المرة الثالثة التي أتخلف فيها عن قُدّاس يوم الأحد مذ بلغت سن الرشد ، لكن الله يتفهم .
وهكذا فضَّل البقاء بضعة دقائق أخرى ليحل جميع التفاصيل رغم أنه لم يكن قادرا على احتمال شوقه لإطلاع زوجته على مضمون الرسالة .
وعد بأن يخبر لاجئي الكاريبي الكثيرين الذينيعيشون في المدينة كي يحضروا إن كانوا يودون تكريمهم الأخير للاجئ الأكثر احتراما في سلوكه والأكثر فعالية وجدية حتى بعد أن تبيَّن بجلاء سقوطه في أحابيل خيبة الأمل ، وسيخبر أيضا زملاءه لاعبي الشطرنج الذين كانوا يتفاوتون من مهنيين مشهورين وحتى عمال بلا اسم ، إضافة الى أصدقاء آخرين أقل مواظبَة ، لكنهم ربما يودون حضور الجنازة .
قبل أن يعرف برسالة الموت كان قد قرر أن يكون أول الحاضرين لكنه بعد قراءتها لم يعُد متأكدا من شيء ، إنما سيبعث على أية حال أكليل ياسمين ، فربما يكون جيرميَا ديسَانْت آمور قد عانى لحظة أخيرة من الندم .
سيتم الدفن في الخامسة ، فهي الساعة المناسبة في شهور الحَر الشديد ، وإذا ما احتاجوه لشيء فسيجدونه منذ الساعة الثانية عشرة في البيت الريفي الخاص بالدكتور لاثيديس أوليفيا تلميذه النجيب الذي سيقيم ذلك اليوم وليمة غداء احتفالا بيوبيله الفضي في المهنة .
كان للدكتور خوفينال أُورْبينو نمط بسيط من العادات يتبعها منذ انقضت سنوات السلاح المضطربة الأولى ، وأحرز لنفسه مكانة وسمعة لا مثيل لهما في كل المقاطعة ، كان يستيقظ مع الديوك الأولى ويبدأ في هذه الساعة بتناول أدويته السريَّة برومو البوتاسيوم لبعث النشاط وملح السلينين لآلام العظام أيام المطر وطحالب السلْت للإغماء وحشيشة البلادونيا للنوم الهادئ ، كان يتناول شيئا في كل ساعة ودائما في الخفاء لأنه في حياته الطويلة كطبيب وأستاذ كان دوما ضد إعطاء الوصفات المخفِفة لآلام الشيخوخة ، كان احتمال آلام الآخرين أسهل عليه من احتماله آلامه ، وكان يحمل دائما في جيبه وسادة مشَبعة بالكافور يستنشقها بعمق حين لا يكون ثمة من يراه لِينزع عن نفسه الخوف من كل هذه الأدوية المختلَطة ، كان يبقى في مكتبه مدة ساعة لتحضير درس الطب العام الذي واظب على إلقائه في مدرسة الطب كل يوم من أيام الأسبوع من الاثنين الى السبت في الساعة الثامنة تماما حتى اليوم الذي سبق موته ، كما كان قارئا مطلعا على المستجدات الأدبية التي يزوده بها بالبريد المكتبي الذي يتعامل معه في باريس أو تلك التي يوصي له عليها من برشلونة وكيله المكتبي المحلي ، رغم أنه لم يكن يتابع آداب اللغة الإسبانية بنفس الاهتمام الذي يتابع به الأدب الفرنسي ، ولم يكن على أي حال يقرأ تلك الكتب أبدا في الصباح وإنما لساعة بعد القيلولة ، وفي الليل قبل أن ينام ، أما بعد الانتهاء من تحضير الدرس في المكتب فكان يمارس تمرينات التنفس لمدة ربع ساعة في الحمام مقابل النافذة المفتوحة متنفسا دوما باتجاه الجهة التي تصدح منها الديكة حيث الهواء النقي هناك ، بعد ذلك يستحم ويشذب لِحْيَته ويصمغ شاربه بمستحضر مشبَّع بكالونيا فارينا كيكينير الأصلية ثم يلبس بدلة الكتان البيضاء مع صدرية وقبعة لَيِّنة وحذاء من جلْد الماعز ، إنه يحتفظ وهو في الثمانين من العمر بالتقاليد البسيطة والروح الاحتفالية التي رجع بها من اباريس بعد جائحة داء الكوليرا الكبرى بقليل ، ومازال شعره المُسَرَّح جيدا مع فَرْق في الوسط كما كان في شبابه لولا اللون المعدين الذي طرأ عليه .
كان يتناول فطوره مع العائلة عادةً ، لكنه يتبع رجيماً خاصاً ، يتناول شراب زهر الإفسانتين لراحة المَعِدة ورأس ثوم يقوم بتقشير فصوصه واحدا وحداً يمضغها بتمهل مع قطعة خبز وذلك لتفادي احتشاءات القلب .
ونادرا ما يكون متحررا بعد درسه اليومي التزام مرتبط بمبادراته التمدنية أو التزامه الكاثوليكي أو بابتكاراته الفنيَة أو الاجتماعية .
كان يتناول الغداء في بيته دوما ، ثم ينام قيلولة من عشرة دقائق وهو جالس على منصة الفِناء ، مستمعا في نومه الى أغنيات الخادمات تحت أشجار المانكا ومصغيا الى نداءات الباعة في الشارع وصخب المحركات في الميناء الذي تفوح روائحه مرفرفة في جو البيت في الأمسيات الحارة كأنها ملاك محكوم بالتعفن ، ثم يقرأ بعد ذلك مدة ساعة في الكتب الجديدة وخصوصا الروايات والدراسات التاريخية ، وبعد ذلك يلقِّن دروس اللغة الفرنسية والغناء للببغاء الداجنة التي صارت منذ سنوات محطاً للإعجاب المحلي ، وفي الساعة الرابعة يخرج لعيادة مرضاه بعد أن يتناول إبريقا كبيرا من اللِمُنادَا مع الثلج ، ورغم تقدمه في السن كان يرفض استقبال مرضاه في العيادة ويصر على مواصلة علاجهم في بيوتهم كما فعل ذلك دائما مذ كانت المدينة محدودة يمكن الذهاب فيها الى أي مكان مَشيا على الأقدام .
عندما جاء من أوربا لأول مرة كان يستخدم عربة الخيول الخاصة بالعائلة والتي كان يقودها حصانان أشْقَران ذهبيان ، وحين لم تعُد هذه العربة صالحة للاستعمال استبدلها بعربة من نوع فكتوريا يقودها حصان واحد ، واستمر في استخدامها على الدوام مع إبداء بعض الازدراء للموضة عندما أخذت العربات الإختفاء من الدنيا ، والعربات الوحيدة التي بقيت في المدينة كانت تستخدم لِنُزْهة السياح ولحمل الأكاليل في الجنازات فقط .
ومع أنه كان يرفض الاعتزال فقد كان مدركا أنهم لا يستدعونه إلا لِمعالجة حالات مَيؤوس منها ، لكنه كان يرى في ذلك أيضا نوعا من التخصص ، كان قادرا على معرفة ما يعانيه المريض من مظهره فقط ، وكان يفقد ثقته أكثر فأكثر في الأدوية المرخصة ، وينظر بذعر الى تعميم الجراحة ويقول : إن المِبْضَع هو أكبر دليل على فشل الطب .
وكان يفكر أن كل دواء إذا ما رأيناه بمقياس دقيق هو سُم ، وأن سبعين بالمائة من الأطعمة العادية تُعجل في الموت ، وقد اعتاد أن يقول في درسه : الأدوية القليلة المعروفة على أية حال لا يعرفها إلا بعض الأطباء .
وانتقل من حماسة الشباب الى موقع كان هو نفسه يعرِّفه على أنه موقع إنساني جَبري .
- كل امرئ هو سيد موته ، والشيء الوحيد الذي بالإمكان عمله عندما تحين الساعة هو مساعدته على الموت دون خوف أو ألم .
ورغم هذه الأفكار المتطرفة والتي كانت تشكل جزءاً من الفُلكلور الطبي المحلي فإن تلاميذه القدماء ما زالوا يستشيرونه حتى بعد أن أصبحوا أطباء راسخين في المِهنة ، إذ كانوا يعترفون له بتلك التي كانت تسمى حينئذٍ - النظرة الطبية - ولقد كان دوما طبيبا غاليا واستثنائيا ، وكان زبائنه يسكنون البيوت الفاخرة في حي الفيريس .
كان يقوم بِجولة منهجية منتظمة لدرجة أن زوجته كانت تعرف الى أين تبعث في طلبه إذا ما طرأ شيء مستعجل خلال جولته المسائية .
وفي شبابه كان يتأخر في مقهى الباروكية قبل أن يرجع الى البيت ، وهكذا أتقن لعب الشطرنج مع شركاء حَماه ومع بعض لاجئي الكاريبي ، لكنه منذ مطلع القرن لم يعُد الى مقهى الباروكية ، وحاول تنظيم دوري وطني في الشطرنج تحت رعاية النادي الاجتماعي ، وكان في هذه الفترة أن جاء جيرميَا ديسَانْت آمور بركبتَيه الميتتَين وبلا مهنة تصوير الأطفال في ذلك الحين ، وقبل انقضاء ثلاثة أشهر كان معروفا لكل من يُحسن تحريك فيل على رقعة شطرنج لأن أحدا لم يتمكن من كسب جولة منه .
لقد كان بالنسبة للدكتور خوفينال أُورْبينو لقاءً معجزة في وقت أصبحت لعبة الشطرنج هوى لا حدود له ، ولم يعُد هناك خصوم كثيرون يُشْبعون رغبته في اللعب ، وبفضله أُمكِنَ لجيرميَا ديسَانْت آمور أن يصبح الى ما آل إليه بيننا ، لقد أصبح الدكتور أُورْبينو حاميه اللامشروط وكفيله في كل شيء حتى دون أن يتكلف مشقة التقصي عمن هو أو عما يفعله أو من أي حرب بلا أمجاد جاء بتلك الحالة من العجز والعَطل ، ثم أَقرَضه أخيرا المال لإقامة محل تصوير ، هذا المال الذي سدده جيرميَا ديسَانْت آمور بصرامة حِبال حتى آخِر كواريتو مذ صوَّر أول طفل مُرتعد من بريق المغنيسيوم .
كل ذلك كان بسبب الشطرنج ، كانا يلعبان أول الأمر في الساعة السابعة لَيلاً بعد العشاء وكان في ذلك منفعة أكيدة للطبيب بفعل التفوق البارز للخصم ، ولكن المنفعة أخذت تتناقص في كل مرة إلى أن تساويَا ، وفيما بعد حين افتتح أول فِناء سينما وأصبح جيرميَا ديسَانْت آمور واحدا من الزبائ المداومين .
اقتصر لعب الشطرنج على الليالي التي لا تُعرَض فيها أفلام جديدة ، وكان قد أصبح صديقا حميما للطبيب في ذلك الحين ، فكان هذا يرافقه الى السينما إنما بدون زوجته دوما ذلك أنها لا تطيق متابعة خيط القصص المعقدة من جهة ، ولأن جيرميَا ديسَانْت آمور بدا لها من جهة أخرى وبحاسة الشم وحدها أنه ليس بالرفيق الصالح لأحد .
يومه المختلف كان يوم الأحد ففيه يذهب لحضور القُدّاس الكبير في في الكاتدرائية ، ثم يعود الى البيت ويلبث هناك للراحة والقراءة على مصطبة الفِناء ، ونادرا ما كان يخرج لعيادة مريض في أيام اعتكافه ما لم تكن الحاجة ماسة الى ذلك ، ولم يعُد يقبل منذ عدة سنوات أي التزام اجتماعي إلا إذا كان اضطرارياً .
في يوم العَنصَرَة ذاك وقعت حادثتَان ، وفاة صديق ، والاحتفال باليوبيل الفضي لِتلميذ بارز ، ومع ذلك فإنه بدلا من العودة الى البيت دون تأخر كما كان مقررا بعد أن ثبتت وفاة جيرميَا ديسَانْت آمور ترك لِنفسه أن تنقاد وراء الفضول .
ما أن صعد الى العربة حتى قام بمراجعة سريعة لرسالة الميت ثم أمر الحوذي بإصاله الى عنوان صعب في حي العبيد القديم ، لقد كان ذلك القرار غريبا على عاداته ، مما جعل الحوذي يرغب بالتأكد من أنه لا يوجد ثمة خطأ ، ، لم يكن هنالك من خطأ ، العنوان كان واضحاً ومن كتبه لديه أسباب كافية لمعرفته جيدا .
عندئذٍ عاد الدكتور أُورْبينو الى الصفحة الأولى وغرق ثانية في ذلك المورد من الاعترافات غير المرغوب فيها ، والتي بإمكانها تغيير مجرى حياته ، حتى وهو في هذه السن إذا ما استطاع إقناع نفسه بأنها ليست هذيان شخص يائس .
أخذ مزاج السماء يتبدل منذ الصباح الباكر كان مُغيِّماً وبارداً ، إنما لم تكن هناك مخاطر هطول مطر قبل منتصف النهار .
وفي محاولة لإجاد طريق أقصر دخل الحوذي في أزقة المدينة الاستعمارية المرصوفة بالحجارة واضطر للتوقف مرات عديدة كي لا يحفل الحصان من فوضى طلبة المدارس والجماعات الدينية العائدة من قُدّاس العَنصَرَة ، كانت في الشارع أكاليل مصنوعة من أوراق ملونة ومسيقى وأزهار وفتيات يحملن مظلات ملونة ويلبسن كشاكش الموسولين ويتأملن مرور الاحتفال من الشرفات ، وفي ساحة الكاتدرائية حيث لم يكن ممكنا تمييز تمثال بطل التحرير بني أشجار النخيل الأفريقية وأعمدة النور الحديدية ذات المَصابيح إلا بصعوبة .
كان ازدحام السيارات على أَشُدِّه بسبب الخروج من الصلاة ، ولم يكن هناك موطئ قدم في مقهى الباروكية المحتشم والصاخب ، كانت عربة الدكتور أُورْبينو هي عربة الخيول الوحيدة وكانت تتميز عن العربات الأخرى القليلة المتبقية في المدينة باحتفاظها الدائم ببريق غطائها الْجلدي وبأجزائها المعدنية المصنوعة من البرونز حتى لا يجعلها ملح البارود تتآكل ، وكانت عجلاتها ودعائمها الخشبية مطلية باللون الأحمر مع خطوط ذهبية كما هي العربات في ليالي الحفلات في أوبرا فِيَنّا ، أضف الى ذلك أن أكثر العائلات حبا للمَظاهر كانت تكتفي بأن يكون قميص الحوذي في عرباتها نظيفاً ، بينما تابع هو مطالبة حوذي عربته بارتداء بدلة حوذي المخملية الذاوية وقبعة مروِّضِي السيرك التي فضلا عن كونها زياً قديماً مهجوراً كان تنم عن تقليد غاشم في قيظ منطقة الكاريبي ، ورغم هوسه الجنوني بالمدينة معرفته بها خيراً من سواه ، فقليلا ما وجد الدكتور أُورْبينو سببا كسبب يوم الأحد ذاك للمغامرة دون تحفظ في الفوضى حي العبيد .
وقد اضطر الحوذي للقيام بالتفافات عديدة والسؤال مرات ومرات للوصول الى العنوان المقصود .
لقد تعرف الدكتور أُورْبينو عن قرب على كآبة المستنقعات وصمتها الممل وفسواتها التي كريح الغريب والتي كانت تصعد في فجر أيام كثيرة حتى مخدعه مختلطة برائحة ياسمين الفينا ، وكان يحس بها تمر كما لو أنها ريح اليوم الفائت وليس لها أي شأن في حياته ، لكن تلك العفونة التي احتفظ منها بتصور مثالي بفعل الحنين تحولت الى واقع لا يطاق ما أن بدأت العربة تتقافز في وحل الشوارع ، حيث تتنازع طيور الرخمة بقايا المَسْلَخ التي يدفعها البحر الى مدخل الميناء ،
وعلى العكس من مدينة المبنية بيوتها من الحجر كانت البيوت هنا مشادة من أخشاب كالحة وسقوف من التوتيان ، ومعظمها يستقر فوق دعائم خشيةً للحيلولة دون تسرب مجاري التصريف المتعاظمة والمكشوفة ابلموروثة عن الإسبان .
كل شيء كان يبدو بائسا ومهجورا ، لكن قصف موسيقى جوقة عَنصَرَة الفقراء كان يخرج من الحانات القذرة بلا رب ولا قانون .
وعندما وجدا العنوان أخيرا كانت تلحق بالعربة عصبة أطفال عراة يسخرون من زينة الحوذي المسرحية ، وكان على هذا أن يفزعهم بالسوط لِيبتعدوا ، أما الدكتور أُورْبينو الذي هيأ نفسه لزيارة سرية فقد أدرك بعد فوات الأوان أنه لا سذاجة أشد خطورة من السذاجة في سنه .
لم يكن في مظهر البيت الخارجي ما يميزه عن البيوت الأقل حظا سوى النافذة ذات الستارة المخرمة وبوابة منتزعة من كنيسة قديمة .
طَرَق الحُوذي مِقْرَعة البيت ، وعندما تأكد من صحة العنوان ساعد الطبيب على النزول من العربة .
كانت البوابة قد فُتحَت دون ضجة ، وفي العتمة الداخلية كانت تقف امرأة ناضجة متشحة بالسواد المطلق وتضع وردة على أذنها ، ورغم سنوات عمرها التي لم تكن أقل من الأربعين فإنها مازلت تبدو خلاسية شامخة ذات عينين ذهبيتين قاسيتين وشعر مثبت على شكل الرأس وكأنه خوذة من القطن الحديدي .
لم يعرفها الدكتور أُورْبينو رغم أنه قد رآها عدة مرات في شرود أدوار الشطرنج في محل المصور ، وقد وصف لها في إحدى المناسبات أوراق الكينا من أجل الحما الثلاثية .
مد يده إليها فتناولتها بين يديها ليس لمصافحته وإنما لمساعدته على الدخول .
كانت الصالة تعبق برائحة وهسيس أيكة اللامرئية ، وكانت مليئة بأثاث وأشياء موزعة بإتقان ، كل شيء في مكانه الطبيعي ، فتذكَّر الدكتور أُورْبينو دون مَرارة دكان بائع عاديات في باريس في يوم اثنين خريفي من أيام القرن الماضي في ستة وعشرين شارع مونتمارت .
جلست المرأة مقابله ،وحدثته بإسباني ركيكة قائلة : اعتبر نفسك في بيتك يا دكتور ، لم أكن أنتظرك بمثل هذه السرعة .
أحس الدكتور أُورْبينو بأنه مكشوف ، دققَ فيها بقلبه ، دقق في حدادها الكثيف ، في وقار كآبتها ، وفهم عندئذٍ أن زيارته تلك بلا فائدة لأنها كانت تعرف أكثر منه بكل ما هو وارِد في ومُبَرَّر في رسالة جيرميَا ديسَانْت آمور، وهكذا كان .
لقد رافقته حتى ساعات قليلة قُبَيل موته كما رافقته خلال ما يقرب من قرابة عشرين سنة بولاء ورقة مُنقادة إليه بما يشبه الحب ، ودون أن يعرف ذلك أحد في عاصمة الأقليم الناعسَة هذه حيث أسرار الدولة ذاتها كانت مشاعة .
لقد تعارفَا في مَشفى للعابرين في بورتأوبرينز حيث ولدت هي ، وحيث أمضى هو سنواته الأولى كهارب ، ثم لحقت به الى هنا بعد سنة في زيارة قصيرة ، مع أنهما كلاهما كانا يعلمان دون اتفاق مُسْبق بأنها جاءت لِتبقى الى الأبد .
كانت تتولى تنظيف وترتيب مخبَر التصوير مرة في الأسبوع ، لكن أسوأ الجيران تفكيرا ما كانوا يخلطون الظاهر بالحقيقة ، لأنهم كانوا يفترضون مثل كل الناس أن عاهة جيرميَا ديسَانْت آمورليست في المشي فقط ، وحتى الدكتور أُورْبينو ذاته كان يفترض ذلك لأسباب طبية راسخة تماما ، ولم يظن يوما أن تكون له امرأة لو لم يكشف له ذلك في الرسالة ، غير أنه لم يستطع أن يفهم كيف أن كائنَين راشدَين وحرَين وبلا ماضٍ على هامش اهتمامات مجتمع غارق في شؤونه قد اختارا نكبة الحب المحرم .
وشرحت له ذلك : كانت تلك هي رغبته ، ثم أن تقاسمها السريَة مع رجل لم يكن رجلها تماما في يوم من الأيام ، وتعرفهما أثناء ذلك على انفجارات السعادة الفورية أكثر من مرة لم يكن ليبدو لها بالوضع الغير مرغوب فيه ، بل على العكس ، ربما أن الحياة أثبتت لها بأن تلك هي الطريقة النموذجية .
لقد ذهبا الليلة الماضية الى السينما ، كل منهما بمفرده وجلسا في مقعدين منفصلين كما يفعلان مرتين في الشهر على الأقل مذ أقام المهاجر الإيطالي دون غاليليو داكونتي صالة السينما المكشوفة في أطلال دير من القرن السابع عشر ، ورأيا فيلما مأخوذا عن كتاب كان رائجا في العام الفائت ، وكان الدكتور أُورْبينو قد قرأه بقلب مكروب لِبربرية الحرب ، لا جديد في الجبهة ، .
ثم اجتمعا بعد ذلك في المخبَر وهناك وجدت أنه يقاسي التشتت والحنين ، وفكرت أن ذلك بتأثير المَشاهد القاسية للجرحى المحتضرين في الوحل ، فحاولت تسليته بدعوته الى لعب الشطرنج ، وقد وافق لِيرضيها ، لكنه كان يلعب دون تَركيز بالقطع البيضاء طبعاً الى أنْ اكتشف قبلها أنه سيُهزَم بعد أربع حركات أخرى ، فاستسلم بلا كِبرياء .
حينئذٍ أدرك الطبيب أن خصم اللعبة الأخيرة كان هذه المرأة وليس كما افترض ، فتمتم مدهوشا : إنها لعبة متقنة .
فأصرت بأن لا فضل لها في ذلك وأن جيرميَا ديسَانْت آمورالهائم في ضَباب الموت كان يحرك الأحجار دون حب ، وعندما أوقف اللعب في حوالي الساعة الحادية عشرة والربع كانت موسيقى حفلات الرقص قد العامة قد توقفت ، فطلب منها أن تتركه وحيدا ، كان يريد كتابة رسالة الى الدكتور أُورْبينوالذي يعتبره أكثر الرجال الذين عرفهم وَقاراً ، إضافة الى كونه صديق الروح كما كان يحب أن يقول ، رغم أن التشابه الوحيد بينهما هو إدمانهما لعبة الشطرنج على أنها حوار للعقل وليست علماً ، عندئذٍ عرفت أن جيرميَا ديسَانْت آمورقد وصل الى نهاية الاحتضار ، وأنه لم يبقَ له في الحياة إلا ما يكفي لكتابة الرسالة .
لم يستطع الطبيب تصديقها فهتف : كنتِ تعلمين إذن ؟!
فأكدت بأنها لم تكن تعلم فقط وإنما ساعدته على تجاوز الاحتضار بنفس الحب الذي ساعدته به على اكتشاف السعادة ، لأن الشهور الأحد عشر الأخيرة في حياته كانت احتضارا قاسيا .
قال الطبيب : كان واجبك أن تُبَلِّغي عنه .
فقالت مستنكرةً : أنا لا أستطيع فعل ذلك ، كنت أحبه كثيرا .
الدكتور أُورْبينو الذي كان يعتقد بأنه سمع بكل شيء في الدنيا ، لم يسمع أبدا في حياته شيئا من هذا القبيل ، يجري الإعلان عنه بكل هذه البساطة .
نظر إليها بحواسه الخمس وجهاً لوجه لِيُثبِّتَها في ذاكرته كما هي في تلك اللحظة ، كانت تبدو وكأنها إله طافٍ ، متمسكة في ثوبها الأسود بعينيها اللتين كعينَي أفعى والوردة التي على أذنها .
منذ سنوات بعيدة وعلى شاطئ متوحد من شواطئ هايتي حيث كانا يرقدان عاريان بعد الحب ، قال لها جيرميَا ديسَانْت آموروهو يتنهد فجأة : لن أصير كَهلَاً أبدا .
وقد فهمت هي ذلك على أنه نية بطولية للنضال دون هوادة ضد نكبات الزمن ، لكنه أوضح قصده أكثر ، كان لديه تصميم حاسم على وضع حد لحياته في السبعين ، لقد أتمها في الثالث ولعشرين من شهر كانون الثاني للعام الحالي فحدد حينئذٍ عشية عيد العَنْصَرة كموعد أخير لأنه أعظم أعياد المدينة المكرسة لعبادة روح القُدُس .
لم يكن هناك تفصيل من تفاصيل الليلة الماضية لم تكن قد عرفته مسبقا ، فكثيرا ما كانا يتحدثان في ذلك مكابدين معاً سيل الأيام الجارف الذي لن يستطيع أي منهما إيقافه .
كان جيرميَا ديسَانْت آمور يحب الحياة بعاطفة مبهمة ، كان يحب البَحر والحب ، يحب كلبه ويحبها ، وكلما اقترب اليوم الموعود كان يهوي أكثر فأكثر في اليأس كما لو أن موته لم يكن قرارا ذاتيا وإنما قَدَراً حتميا .
قالت : عندما تركته وحيدا في الليل لم يكن من أهل هذه الدنيا .
كانت تريد أخذ الكلب معها ، لكنه تأمله وهو يغفو بجانب العُكّازين وداعبه بأطراف أصابعه وقال : آسف ، لكن مستر وودرو ولْسون سيمضي معي .
طلب منها أن تربطه بقائمة السرير فيما هو يكتب ، وفعلت ذلك بعُقدَة زائفة ليتمكن الكلب من الإفلات ، وكان هذا هو العمل الوحيد الذي قامت به دون إخلاص ، وقد بررته برغبتها في الاستمرار بتذكُّر السيد من خلال عينَي كلبه الشتويتَين .
لكن الدكتور أُورْبينوقاطعها ليخبرها بأن الكلب لم يفلت .
فقالت : ذلك لأنه لم يشأ الإفلات إذن .
وفرحت لأنها تفضل أن تتذكَّر الحبيب الميت كما طلب هو منها في الليلة السابقة ، عندما قطع كتابة الرسالة التي كان قد بدأها ونظر إليها للمرة الأخيرة وقال : تَذكَّريني بِوَردة .
كانت قد وصلت الى بيتها بعد منتصف الليل بقليل ، استلقت لتدخن في السرير وهي بملابسها ، وأخذت تشعل سيجارة من عَقِب الأخرى مُتيحة له الوقت لِيُكمِل الرسالة التي كانت تعلم أنها طويلة وشاقة ، وقُبَيْل الثالثة بقليل عندما بدأت الكلاب تنبح وضعت الماء على النار لتصنع القهوة وارتدت ملابس الحداد السوداء وقطفت من الفِناء أول وردة من وردات الفجر .
لقد تنبه الدكتور أُورْبينوقبل أن يقرر هَجر ذكرى تلك المرأة التي لا تُفتَدى وظن أنه يعرف السبب ، بإمكان إنسان بلا مبادئ فقط أن يتجاوب الى هذا الحد مع الألم .
تابعت تقديم حُججِها له حتى نهاية الزيارة ، لن تذهب الى الجنازة لأنها وعدت الحبيب بذلك ، رغم أن الدكتور أُورْبينواعتقد أنه فَهِم عكس هذا في إحدى فقرات الرسالة ، ولن تذرف دمْعة واحدة ، ولن تَهدُر لها ما تبقى لها من سِنِي الحياة بطبخ نفسها على نار هادئة في مرَق الذكرى ، ولن تدفن نفسها في الحياة لِتُجهز كفنها بين هذه الجدران الأربعة كما هي العادة المفضلة للنساء الوطنيات ، كان تفكر ببيع بيت جيرميَا ديسَانْت آمور الذي أصبح بكل محتوياته ملكا لها منذ الآن كما هو وارِد في الرسالة وستتابع الحياة كما عاشت دائما دون أن تشكو شيئا في مماتة الفقراء هذه التي عاشت فيها سعيدة .
لاحقت تلك العبارة الدكتور خوفينال أُورْبينو وهو في طريق العودة الى بيته "مماتة الفقراء هذه" إنه ليس بالتعبير المجاني ، فالمدينة مدينته مازالت على هامش الزمن كما كانت ، نفس المدينة الملتهبة والقاحلة بمخاوفها الليلية وملذات البلوغ المتوحدة حيث تصدأ الأزهار ويَفسُد الملح ، المدينة التي لم يُصِبْها شيء خلال أربعة قرون سوى الهَرَم البطيء ما بين شجيرات الغار الذابلة والمستنقعات المتعفنة ، في الشتاء أمطار فجائية ومخربة تجعل المراحيض تفيض وتحوِّل الشوارع الى بِرك وحل نتنة ، وفي الصيف غبار لا مرئي ، خشن كطباشيرة حمراء متقدة يتسرب حتى من أكثر فجوات الخيال إحكاماً هائجاً برياح مجنونة تنتزع سقوف البيوت وتحمل الأطفال في الهواء ، وفي أيام السبت تغادر جماعة المُوَلِّدين الفقراء بصخب أكواخ الكارتون والصفيح القائمة على ضفاف المستنقعات مع حيواناتهم الداجنة وأمتعة أَكلهم وشربهم الرخيصة ، ويحتلون بهجوم مرح الشواطئ الحَصَوية في القطاع الاستعماري ، وقد كان بعضهم بين أكبرهم سناً يحملون حتى سنوات قليلة وسْم العبيد الملكي مطبوعاً بالحديد المحمي على الصدر ، وكانوا يرقصون في نهاية الأسبوع بلا رحمة ويسكرون حتى الموت بكحول مقطَّر في البيوت ، ويمارسون الحب الحُر بين خمائل الإكاكو ، وفي منتصف لَيل الأحد يخربون مهرجانهم بمشاجرات دامية يخوضونها جميعَهم ضد جميعِهِم ، إنهم الناس المندفعون أنفسهم الذين يتسربون في بقية أيام الأسبوع الى ساحات وأزقة الأحياء القديمة بعربات محملة بكل ما يمكن شراؤه وبيعه ، ويبثون في المدينة الميتة جنون مهرجان بشري له رائحة السمك المقلي ، حياة جديدة .
إن الاستقلال عن السيطرة الإسبانية ثم إلغاء الرق بعد ذلك قد عَجَّلا بحالة الانحطاط المشرف الذي وُلِد وترعرع فيها الدكتور أُورْبينو ، حيث كانت عائلات الزمن الغابر العظيمة تغرق بصمْت في قصورها المجردة من الأُبَّهة .
أما في تفرعات الشوارع المرصوفة التي قاومت بفاعلية مفاجآت الحروب وإنزالات القراصنة فكانت الشجيرات الملتفة تتدلى من الشُرفات وتفتح صدوعا في جدران الجير والحجَر حتى في البيوت التي مازالت في حالة حسنة ، وعلامة الحياة الوحيدة في الساعة الثانية ظُهرا هي تمارين البيانو الخافتة في عتمة القيلولة ، كانا النساء تحتمين من الشمس في غرف النوم الباردة والمُشبَعَة بالبخور كاحتمائهن من عدوة فاحشة ، بل ويغطين وجوههن بالطرحة في صلوات الفجر ، وكن يمارسن حبهن ببطء وصعوبة ، وغالبا ما تُعكرهذا الحب خواطر مشؤومَة فيما الحياة تبدو لهن أمرا لا نهائيا ، وعند المغيب في وقت ازدحام حركة المرور تنطلق من المستنقعات عاصفة من البعوض السَفّاح وموجة خفيفة من بخار السَلْح البشري الحار والكئيب مثرةً في أعماق النفس قلق الموت .
إن حياة المدينة الاستعمارية التي اعتاد خوفينال أُورْبينو الشاب رسم صورة مثالية لها في لحظات حنينه البارسية لم تكن حينئذٍ إلا وهماً من أوهام الذاكرة ، لقد كانت أكثر مدن الكاريبي ازدهاراً في القرن الثامن عشر خصوصاً بامتيازها كأكبر سوق للرقيق الأفريقي في الأمريكتين ، وكونها مقر إقامة حكّام مملكة غرناطة الجديدة الذين كانوا يفضلون مزاولة شؤون الحكم من هنا مقابل إقيانوس العالم ، بدلا من العاصمة البعيدة والمتجمدة التي تُشَوِش الحس الواقعي بمطرها الأزَلي ، وكانت تتجمع فيها عدة مرات في السنة أساطيل السفن المحملة بكنوز بوتوسي وكِيتو وفيركروث ، وكانت المدينة تعيش سنوات مجدها في ذلك الحين .
وفي يوم الجمعة الثامن من حزيران 1708 في الساعة الرابعة مساءً جرى إغراق السفينة سانخوسيه التي كانت قد أبحرت لتوها باتجاه قادش وعلى متنها حمولة من الأحجار والمعادن الثمينة قيمتها نصف مليون بيزو من عملة ذلك الزمن ، أغرقها أسطول إنجليزي مقابل مدخل الميناء ، ولم يكن قد جرى استخراجها بعد مرور أكثر من قرنَين على غرقِها ، ولقد كان في عادة المؤرخين أن يذكروا تلك الثروة القابعة في القيعان المرجانية مع جثة القبطان الطافية على جنبها في مقر القيادة كرمز للمدينة الغارقة في الذكريات .
في الجانب الآخر من الخليج ، في حي لامانع السكني كان منزل الدكتور خوفينال أُورْبينو في زمن آخر ، إنه بيت فسيح وبارد ، مؤلف من طابق واحد ورواق أعمدة متتالية في المنصة الخارجية المطِلَّة على مستنقع الأبخرة العفنة وركام السفن الغارقة في الخليج ، كانت أرضية البيت مرصوفة ببلاط شطرنجي أبيض وأسود من المدخل حتى المطبخ ، وكثيرا ما عُزِيَ هذا الى هوى الشطرنج الذي يسيطر على الدكتور أُورْبينودون تَذَكُّر أنه كان ضعفا عاما من جانب البَنّائين الكَالكَتَلانيين الذين شادوا في بدايات القرن حي مُحْدَثي النعمة ذا .
كانت الصالة فسيحة وسقفها عالٍ جدا كما هو في بقية البيت ، ولها ست نوافذ واسعة تُطِلُّ على الشارع وكانت منفصلة عن غرفة الطعام بباب زجاجي ضخم ومُزيَّن بفروع دالية وعناقيد وفتيات فاتنات يحملن نايات إلهة الحقول في غابة من السيروين .
أثاث حجرة الاستقبال بما في ذلك ساعة البندول التي لها شكل حارس حي في الصالة ، كان كله أثاثاً إنجليزياً أصيلا من أواخر القرن التاسع عشر ، والمَصابيح المعلقة كانت من قطع كرستال صخري ، وكانت هنالك في كل الأنحاء أصص ومزهريات من سرفيس وتماثيل آلهة من الرخام المُعَرَّق ، لكن ذلك التناسق الأوربي كان مفقودا في بقية أجزاء البيت ، حيث أرائك الخيزران تختلط مع كراسٍ هزازة من فِيَّنا ومَقاعد جلْدية من الصناعة اليدوية المحلية .
وفي غرف النوم كانت توجد إضافة الى الأََسِرَّة شِباك نوم معلقة رائعة من سانخاثينتو مطرز عليها بخيوط حَريرية اسم صاحب البيت بحروف قوطية ، وكانت حوافها محاطة بهداب ملون .
أما الردهة المصممة في الأصل من أجل حفلات العشاء الى جوار صالة الطعام فقد اُستخدِمَت كصالة موسيقى صغيرة ، تقام فيها حفلات موسيقية للخاصة عندما يحضر عازفون شهيرون ، وقد جرت تغطية البلاط بالسجاد التُركي المشترى من معرض باريس الدولي لتعميق الصمْت في جو البيت ، وكان هناك فونوغراف من طراز حديث الى جانب رف عليه إصطوانات حسنة الترتيب ، وكان البيانو الذي لم يعزف عليه الدكتور أُورْبينومنذ سنوات يقبع في أحد الأركان مغطى بشرشف من مانيلا .
وفي سائر أرجاء البيت كان يظهر حرص وحكمة امرأة راسخة الأقدام في الأرض ، لم يكن هناك في البيت رغم ذلك مكان يكشف جلال المكتبة المرتبة والتي كانت هيكل الدكتور أُورْبينوقبل أن تقوده الى الشيخوخة ، فهناك وحول طاولة خشب الجوز الخاصة بوالده وأرائك الجلْد الوثيرة جدران مغطاة حتى النوافذ بخزائن ذات رفوف وأبواب زجاجية ، رتب فيها بنظام شبه جنوني 3000 متمائلة مُجَلَّدة بجلْد عِجْل وعلى عقِبِها الحروف الأولى من اسمه مكتوبة بماء الذهب ، وعلى عكس الحجرات الأخرى التي كانت تحت رحمة صخب وروائح الميناء الكريهة كانت المكتبة تنعم دوما بصمْت دير ورائحته .
كان الدكتور أُورْبينو وزوجته اللذان وِلِدَا وترعرعَا في ظل الخرافة الكاريبية القائلة بفتح الأبواب والنوافذ لإدخال البرودة غير الموجودة في الواقع ، قد أحسا في البدء بقلبيهما يضيقان بفعل الحبس ، لكنهما ما لَبِثا أن اقتنعا بفعالية الطريقة الرومانية لمواجهة الحَر التي تتلخص بإغلاق البيوت في قيظ آب حتى لا يدخل هواء الشارع الملتهب وفتحها على مصاريعها لريح الليل ،
فأصبح بيته منذ ذلك الحين أكثر البيوت رطوبة تحت شمس لامانغا الحارقة ، وكان نوم القيلولة في عتمة المَخادع يبعث على السعادة ، وكذلك الجلوس على الرواق لرؤية مرور سفن الشحن الثقيلة الرمادية القادمة من نِواوريليانز والسفن الخشبية ذات العجلة الخلفية وهي تضيء أنوارها في العشية وتُنَقّي بنثار الموسيقى المنبعثة منها مزبلة الخليج الراكدة .
وكان بيته هو الأكثر مقاومة ما بين كانون الأول وآذار حين تُهَدِّم ريح الشمال المدارية سقوف البيوت وتقضي الليل مُدَوِمَةً كالذئاب الجائعة حول البيت بحثا عن مَنْفَذ تدخل منه ، ولم تكن الشكوك تُراوِد أحدا في وجود أسباب تحول دون سعادة الزوجَين المقيمَين فوق تلك الأسس ، لكن الدكتور أُورْبينولم يكن كذلك في صباح ذلك اليوم ، عندما رجع الى بيته قبل الساعة العاشرة مُشَوَشاً من الزيارتَين اللتين لم تحَُولا بينه وبين قُدّاس العَنْصَرة وحسب ، بل هددتا بتغيير يطرأ عليه وهو في سن ظن أن كل شيء فيها قد أُنجِز .
كان يريد أن ينام نوم كلب حتى ريثما يحين موعد وليمة الغداء عند الدكتور لاثيديس أوليفيا ، لكنه وجد الخدم هائجين يحاولون إمساك الببغاء التي طارت الى أعلى فرع في شجرة المانغا حين أخرجوها من القفص ليقُصُّوا لها جناحيها ، كانت ببغاء منتوفة ومعتوهة ، لاتتكلم عندما يطلبون منها الكلام وإنما عندما ينساها الجميع ، وتتكلم حينئذٍ بوضوح ودقة ليست متوفرة بكثرة لدَى الكائنات البشرية ، لقد دَرَّدرَّبَها الدكتور أُورْبينوشخصياً وكان هذا امتيازاً لم يحظَ به أحد من أفراد الأسرة حتى ولا أولاده عندما كانوا أطفالا .
كانت في البيت منذ أكثر من عشرين سنة ، ولا أحد يعرف كم سنة عاشت قبل ذلك ، وكان الدكتور أُورْبينويجلس مساء كل يوم بعد القيلولة على شُرفة الفِناء وهو المكان الأكثر برودة في البيت مستخدماً أصعب الأساليب التربوية حتى توصل الى جعل الببغاء تتحدث بالفرنسية كأكاديمي ، بعد ذلك وبِدَوافع الفضيلة المحضة علَّمها مرافقة القُدّاس باللاتينية وبعض المقاطع المختارة من أنجيل القديس مَتّا ، وحاول دون نجاح تلْقينها العمليات الحسابية الأربع بشكل آلي ، وفي إحدى رحلاته الأخيرة الى أوربا أحضر معه فنوغرافاً ذا نفير وعددا كبيرا من الإصطوانات الشائعة إضافة الى مقطوعات الكلاسيكيين الأثيرين لديه ، ويوما بعد يوم ومرة بعد أ×رى خلال عدة شهور أسمع الببغاء أغنيات إيفينت جيلبيرت وأريست براون اللذين كانا بهجة فرنسا وطرَبها في القرن الماضي ، الى أنْ حفظتها الببغاء عن ظَهر قلب ، وكانت تغني بصوت امرأة إذا كانت الأغنية لها وبصوت رجل إذا كان المغني هو وتُنهي الغناء بِقَهْقَهَة ماجنة هي انعكاس مُتقن للقهقهات التي تُطلقها الخادمات عندما يسمعنْها تغني بالفرنسية ، وقد وصلت أخبار ظَرافتها بعيداً جدا مما جعل بعض الزوار البارزين الذين يأتون بالسفن النهرية من أقاليم الداخل ويطلبون الإذن أحيانا لرؤيتها ، وقد حاول بعض السائحين الإنجليز الذين كانوا يتوافدون بكثرة في تلك الأثناء على مَتْن سفن نِواوريليانز المحملة بالموز أن يشتروها بأي ثمن ،
لكن يوم مجدها الأكبر هو اليوم الذي جاء فيه رئيس الجمهورية دون ماركو فيديل سوارِيز مع وزراء حكومته بكاملهم الى البيت للتأكد من صحة سمعتها ، وصلوا في حوالي الساعة الثالثة مساءً مختنقين بقبعات وبدلات المَراسم التي لم ينزعوها طوال أيام الزيارة الرسمية الثلاثة تحت سماء آب المتقدة ، وقد اضطروا للانصراف مخذولين كما جاءوا لأن الببغاء رفضت أن تقول حتى أن هذا المنقار هو منقاري خلال ساعتين من اليأس ، رغم التوسلات والتوعدات زالخجل العام الذي أحس به الدكتور أُورْبينوالذي أصر على تلك الدعوة الجريئة رغم تحذيرات زوجته الحكيمة ،
إن مجرد احتفاظ الببغاء بامتيازاتها بعد حادثة العجرفة التاريخية هذه كان دليلا نهائياً على مَكانَتِها المُقَدَّسة ، لم يكن مسموحا إبقاء أي حيوان آخر في البيت باستثناء السلحفاة البرية التي عادت للظهور في المطبخ بعد ثلاث أو أربع سنوات ظنوا خلالها أنها قد ضاعت الى الأبد ، وهذه لم يكن يُنْظَر لها إليها ككائن حي وإنما كانت أشبه بتميمة جامدة من أجل حُسْن الطالع ، ولم يكن أحد يدري على وجه التحديد مكانها ، كان الدكتور أُورْبينويصر على إعلان كراهيته للحيوانات ويعلل ذلك بكل أنواع الخرافات العلمية والحجج الفلسفية التي تُقنع الكثيرين ، لكنها لا تنفع في إقناع زوجته .
كان يقول إن من يفرطون في حب الحيوانات هم القادرون على اقتراف أبشع القساوات مع البشر ، وكان يقول إن الكلاب ليست وفية وإنما هي ذليلة وأن القطط انتهازية وخائنة وأن الطواويس ليست إلا عراقيل مُزَرْكَشَة وأن الأرانب تثير الجشع والقرود تُعْدي البشر بحمى الشبق والديكة ملعونة لأنها استُخْدِمَت لإنكار المسيح ثلاث مرات .
أما فرمينا داثَا زوجته والتي كان لها من العمر حينئذٍ اثنتان وسبعون سنة وكانت قد فقدت مشيتها الغزلانية التي كانت لها في زمن مضى فهي مولعة حد العبادة بالأزهار الإستوائية والحيوانات الداجنة ، ولقد استغلت في بدء الزواج تأجُج الحب لِتقتني منها في البيت أكثر بكثير مما ينصح به العقل السليم ، كان أول ما اقتنته هو ثلاثة كلاب ألمانية لها أسماء أباطرة الرومان تنازعت فيما بينها أفضال أنثى متشرفة باسم مِيسالينا ما تكاد تلد تسعة جِراء حتى تحبل بعشرة آخرين ، بعد ذلك جاءت القطط الحبشية بوجوهها التي كَوجوه النسور وأخلاقها الفرعونية ، والقطط الفارسية الحوْلاء ذات العيون البرتقالية التي كانت تذْرع حجرات النوم كَظلال شبحية وتملأ الليل صخباً بِموائها في اجتماعات حبها التي كاجتماعات الساحرات ، وكان هناك لبضع سنوات قرْد أمزوني مقَيد من خاصرته الى شجرة المانغا في الفِناء ، وكان يثير نوعا من العاطفة لوجهه الكئيب كَوَجْه الأسقف أَوبْدوليو كما كانت لعينيه سذاجة عينَي الأسقف وطلاقة يديه ذاتها ، ولم يكن هذا هو السبب الذي دفع فرمينا داثَا ,للتخلص منه وإنما عادته الرذيلة بالاستمناء على شرف سيدات المجتمع ، كانت هناك جميع أنواع عصافير غواتيمالا في أقفاص تملأ الممرات ، وكانت توجد كوارين مُتَنَبِئَة وبلشونات المستنقعات ذات القوائم الطويلة الصفراء ، وغزال صغير يطل من النوافذ ليأكل ورْد المزهريات ، وقبل الحرب الأهلية الأخيرة بقليل عندما دارت للمرة الأولى أحاديث عن زيارة محتملة للبابا أحضروا من غواتيمالا طائر الجنة الذي تأخر في المجيء وقتاً أطول مما تأخره في العودة الى وطنه بعد أن تبيَّن أن الإعلان عن الزيارة البابوية كانت إشاعة أطلقتها الحكومة لإخافة اللبراليين المتآمرين .
وفي مناسبة أخرى اشترو من مراكب مُهرِّبي كوراثو الشراعية قفصاً من الأسلاك المعدنية فيه ستة غربان معطرة كتلك التي كانت تمتلكها فرمينا داثَا وهي صبية في بيت والدها ، ورغبت في إقتنائها وهي متزوجة ، لكن أحدا لم يحتمل خفقات أجنحتها الدائمة التي كانت تَضْمَخ جو البيت برائحة أكاليل الموتى ، كما جلبوا أفعى كوندا طولها أربعة أمتار ، كانت أنفاسها الساهرة تبعث القلق في ظلمة غرف النوم رغم أنهم حققوا ما أرادوا منها ، فأنفاسها الأبدية كانت تُبعِد الخفافيش والسماندر ومختلف أنواع الحشرات المؤْذية التي تهاجم البيت في شهور المطر .
أما الدكتور خوفينال أُورْبينو المُنْهَمِك في ذلك الحين بمسؤولياته المهنية والغارق في نشاطاته الحضارية والثقافية ، فكان يكفيه الافتراض بأن زوجته وسط كل هذه الحيوانات البغيضة ليست أجمل امرأة في منطقة الكاريبي وحسب ، بل وأكثرهن سعادة أيضا ، ولكن في أحد الأيام الماطِرة وبعد عمل يوم مُنْهِك وجد في البيت كارثة أعادته الى الواقع ، فمن صالة الاستقبال وعلى مدى البصر كانت تتناثر حيوانات ميتة ، غارقة في بركة من الدماء ، فيما الخادمات المستلقاة على الكراسي دون أي يدرين ما الذي عليهن عمله ، لم يكُنَّ قد استعدنَ السيطرة على أنفسهن من هول المجزرة بعد .
القضية هي أن أحد الكلاب البوليسية الألمانية أصيب بنوبة سُعار جنونية مفاجئة ، وراح يمزق كل حيوان يجده في طريقه من أي جنس كان الى أنْ واتت جنائني البيت المجاور الشجاعة لمواجهته وتمزيقه بمِنجله .
ما كانوا يعرفون كم هي الحيوانات التي عضها ، أو نقل إليها العدوة بزَبَد ريقه الأخضر ، فأمر الدكتور أُورْبينو والحال هذا بقتل ما بقي حياً من الحيوانات وإحراق أجسادها في حقل مهجور ، ثم طلب من خدمات مستشفى الرحمة تعقيم البيت تعقيماً شاملاً ، والحيوان الوحيد الذي نجا لأن أحدا لم يتذكره كان ذكر السلحفاة حسن الطالع .
وللمرة الأولى رأت فرمينا داثَا أن زوجها محق في أحد الشؤون البيتية ، وحاذرت من الحديث بعد ذلك عن الحيوانات لفترة طويلة من الزمن ، وكانت تعزي نفسها بصوَر ملونة من كتاب التاريخ الطبيعي لليينو قامت بوضعها في أُطُر وعلقتها على جدران الصالة ، وربما كانت ستفقد الأمل في رؤية أي حيوان في البيت ثانيةً ، لولا أن اللصوص خلعوا في فجر أحد الأيام نافذة الحمام وسرقوا المرحاض الفضي الموروث من خمسة أجيال .
ركب الدكتور أُورْبينو أقفالاً مزدوجة في حلقات النوافذ ، وأحكم إقفال الأبواب من الداخل بمَزالج حديدية ، وخَبَّأ الأشياء الثمينة في صندوق الكنوز ، واعتاد متأخرا على العادة الحربية بالنوم والمسدس تحت الوسادة ، لكنه اعترض على شراء كلب باسل ملقح أو غير ملقح ، مُفْلَت أو مقيد حتى ولو تركَه اللصوص على العظَم .
قال : لن يدخل هذا البيت كائن لا يحسن الكلام .
قال ذلك لِيضع حدا لحجج زوجته الواهية المصرة مجددا على شراء كلب ، دون أن يعلم أن ذلك القرار المتعجل سيكلفه حياته ، إذ تمكنت فرمينا داثَا التي كان طبعها الجاف قد رق بفعل السنين وتشبثت بزلة لسان زوجها ، وبعد شهور من السرقة ذهبت الى مَراكب كراوْثار الشراعية واشترت ببغاء ملَكية من براماريبو ، كانت تحسن إطلاق شتائم البحارة فحسب ، لكنها تنطقها بصوت إنساني مما جعلها تستحق ثمنها الغالي البالغ 12 سِينتافو .
كانت ببغاء جيدة ، أخف مما يخيل لمن يراها ، رأسها أصفر ولسانها أسود وهو الشيء الوحيد الذي يميزها عن ببغاوات المانجليز والتي لا تتعلم الكلام حتى ولا بتحاميل زيت البطن .
وقد انحنى الدكتور أُورْبينوالخاسر الوحيد أمام ذكاء زوجته ، وفوجئ هو نفسه بالظَراَفة التي أضفاها تعليم الخادمات على الببغاء الشعثاء ، ففي الأمسيات الماطرة حين تَنْحل عُقْدَة لسانها لسعادتها بريشها المُبْتَل كانت تنطلق عبارات من أزمان أخرى لا يمكن أن تكون قد تعلمتها في البيت ، مما يحمل على التفكير بأنها أكبر سنا مما تبدو عليه .
وقد انهارت آخر تحفظات الطبيب عندما حاول اللصوص في إحدى الليالي دخول البيت ثانيةً من كُوَّة السقف ، وأخافتهم الببغاء بنباح ما كان له أن يكون أكثر شَبَهاً بالنباح لو أن صاحبه كان كلبا حقيقيا ، وبالصراخ : نَشّالين نَشّالين نَشّالين ، وهما ظرفتان منقذتان لم تتعلمهما في البيت ، وكان حينئذٍ أن تولى الدكتور أُورْبينو مسؤوليتها ، فأمر بإقامة عامود حمّالة تحت شجرة المانغا مع إناء للماء وآخر للموز الصغير الناضج وأُرجوحة للقفز عليها .
وفي الفترة ما بين كانون الثاني وآذار عندما يصبح الليل بارداً والجو في الخارج غير صالح للحياة بسبب رياح الشمال المدارية ينقلونها للنوم في غرف النوم داخل قفص مغطى بحراء ، رغم أن الشكوك كانت تساور الدكتور أُورْبينو من أن داء الخنا المزمِن لدى الببغاء قد تكون له آثار خطيرة على تنفس البشر ، وكانوا طوال عدة سنوات يَقُصّون ريش جناحيها ويفلتونَها لِتسير على هواها بمشيتها المائلة كمشية فارس عجوز ، لكنها راحت تتظارف في أحد الأيام بحركات بهلوانية بين دعائم المطبخ فهوت في قِدر طبيخ وهي تُعَرْبِد بصيحتها البحرية : فلينجو من يستطيع النجا .
ولحسن الحظ أن الطاهية تمكنت من إخراجها بالمغرفة وهي مسلوقة وبِلَا ريش ، ولكنها على قيد الحياة ، منذ ذلك الحين صاروا يبقونها في القفص حتى أثناء النهار رغم الاعتقاد الشعبي السائد بأن الببغاوات الحبيسة في أقفاص تَنسى ما تعلمته ، وما عادوا يُخرجونها إلا في برودة الساعة الرابعة لتتلقى دروس الدكتور أُورْبينو على شرفة الفِناء ، ولم ينتبه أحد في الوقت المناسب الى أنْ أجنحتها قد نمت وأصبحت طويلة بما فيه الكفاية حتى صباح ذلك اليوم ، حين كانوا يستعدون لِقَصِّها فطارت هاربة الى أعلى شجرة المانغا ، لم يتمكنوا من الإمساك بها طوال ثلاث ساعات ، وقد لجأت الخادمات بمساعدة خادمات الجوار الى كل الحِيَل لجعلها تنزل ، لكنها بقيت متشبثة بمكانها صارخةً وهي تكاد تنفجر من الضحك : يحيا الحزب اللبرالي ، اللعنة فليحيا الحزب اللبرالي .
وهي صرخة جريئة قد تكلف أربعة سُكارى حياتهم .
ما كاد الدكتور أُورْبينويراها بين أوراق الشجرة حتى حاول إقناعها بالإسبانية والفرنسية بل وباللاتينية والببغاء ترد عليه باللغات ذاتها وبالتأكيد ذاته ونبرة الصوت ذاتها ، لكنها لم تتحرك عن قمة الشجرة ، وحين اقتنع أن أحدا لن يستطيع إقناعها بالحسنى أمر الدكتور أُورْبينوأن يطلبوا مساعدة رجال الإطفاء الذين كانوا لعبته الحضارية الأكثر حداثة ، وفعلا كان يطفئ الحرائق حتى وقت قريب متطوعون يستخدمون سلالم بَنّائين وسطول ماء تُجلَب كيف ما اتُفِق ،
وكانت أساليبهم مشوَشَة بحيث كانوا يسببون في معظم الأحيان أضرارا تفوق أضرار الحريق ، إنما ومنذ العام الماضي وبفضل حملة تبرعات قامت بها جمعية الترَقي العام والتي كان خوفينال أُورْبينو رئيس شرف لها أصبح هناك فريق إطفاء محترف وسيارة صهريج مزودة بصفارة وناقوص وخرطومَي ماء عاليَي الضغط ، وكان رجال الإطفاء هم تقليعة تلك الأيام ، لدرجة أنهم في المدرسة كانوا يوقفون الدروس عندما يسمعون نواقيس الكنيسة تُقرَع بِذُعْر كي يذهب الأطفال لرؤيتهم وهم يُطفئون النار ، وكان هذا هو كل ما يفعلونه في البدء ،
لكن الدكتور أُورْبينوروى للسلطات البلدية أبنه رأى رجال الإطفاء في هانبورغ يبعثون الحياة في طفل عثروا عليه متجمدا في أحد الأقبية بعد ثَلْج استمر هطوله عدة أيام ، كما إنه رآهم في أحد أزقة نابولي يُنزِلون ميتا في تابوت من شرفة في طابق عاشر لأن أدراج المبنى كانت شديدة الانحدار ولم يتمكن ذوو البيت من إخراجه الى الشارع ،
وهكذا كان أن تعلم رجال الإطفاء المحليون تقديم خدمات مستعجلة أخرى كخلع أقفال أو قتل أفاعي سامة .
وقدمت لهم مدرسة الطب دورة خاصة بمبادئ الإسعاف الأولي في الحوادث الصغرى ، وبهذا لم يكن سُخفاً أن يطلب منهم المساعدة في إنزال ببغاءعن شجرة ، ولاسيما هذه الببغاء المتميزة بخصال كثيرة كسيد نبيل .
قال الدكتور أُورْبينو: قولوا لهم أن هذا بناءً على طلبي .
ومضى الى حجرة النوم لِيرتدي ملابس حفلة الغداء .
والحقيقة أن مصير الببغاء في هذه اللحظة التي يشعر فيها بالضيق من رسالة جيرميَا ديسَانْت آمور لم يكن يهمه .
كانت فرمينا داثَا قد ارتدت فُستاناً حَريرياً فضفاضا ومُْفلتاً خصره عند الوْركَين ، ووضعت قلادة من اللآلئ الأصيلة بست لفات طويلة متدرجة ، وانتعلت حذاءً أمْلَساً ذا كعْبٍ عالٍ لا تستخدمه إلا في المناسبات الرسمية ، فالسنون لم تعُد تسمح لها بعزف كثير .
لم يكن ذلك الزي الذي على الموضة بالزي المناسب لجدة وقورة ، لكنه كان ملائماً تماما لجسدها ذي العظام الطويلة والذي مازال نحيلا وممشوقاً ، وليَدَيها اللدنتَين الخاليتين من أي شامة شيخوخة ولشعرها الفولاذي الأزرق المقصوص بشكل مائل على مستوى الخَد ، والشيء الوحيد الذي مازالت تحتفظ به من صورة زفافها هو عيناها اللوزيتان الصافيتان وكبرياء الأَمَة ، لكن ما كان ينقصها بفعل السن كانت تعوضه بخلُقها وتجعله يفيض بِجِدها .
كانت تشعر أنها على ما يرام ، فعصور مشدات الخصر المعدنية والخصور المقيدة والأرداف المرفوعة بحيَّل تعتمد على الخرق القماشية أصبحت كلها غابرة ، وصارت الأجساد المتحررة المتنفِسَة حسب مَشيئتها تُعرَض كما هي حتى في الثانية والسبعين من العمر .
وجدها الدكتور أُورْبينو جالسة مقابل خوان الزينة تحت رياش المروحة الكهربائية البطيئة ، واضعةً القبعة التي لها شكل الناقوس والمزينة بأزهار بنفسج مصنوعة من اللُباد .
كانت حجرة النوم فسيحة ومشعة ، فيها سرير إنجليزي مغطى بكُلَّة وردية ، ونافذتان مفتوحتان تُطلّان على أشجار الفِناء حيث يَنْفُذ صرير الزيزان الذاهلة لإحساسها باقتراب المطر .
لقد اعتادت فرمينا داثَاومنذ العودة من رحلة الزفاف على اختيار ملابس زوجها بما يتلاءم مع حالة الطقس والمناسبة ووضعها مرتبة على كرسي منذ الليلة السابقة ليجدها جاهزة لدى خروجه من الحمام ، وهي لا تذكر منذ متى بدأت بمساعدته على ارتداء ملابسه ، ثم أخيرا على إلباسِه ، وكانت واعيةً أنها بدأت تفعل ذلك بدافع الحب في أول الأمر ، ولكنها أصبحت مضطرة لعمل ذلك منذ نحو خمس سنوات لأنه لم يعُد قادراً على ارتداء ملابسه بنفسه .
لقد احتفلا منذ وقت قريب باليوبيل الذهبي لِزَواجِهما وليس بإمكان أحدهما العيش لحظة واحدة دون الآخر أو دون التفكير به ، مع أنهما يَعِيان ذلك أقل فأقل كُلَّما استفحلت الشيخوخة ، ولم يكن بمقدور أيٍ منهما القول إن كانت تلك العبودية المتبادلة ترتكز على الحب أَم على الراحة ، لكنهما لم يتساءلا عن ذلك أبدا وأيديهما على القلب ، إذ فضَّل كلاهما دوما تجاهل الجواب .
لقد بدأت تكتشف شيئا فشيئا تعثر خطا زوجها واضطراب مزاجه وتصدع ذاكرته ، وعادته الأخيرة بالبكاء وهو نائم ، لكنهالم تر في ذلك علامات صدأ نهائي بيِّن بل عودة سعيدة الى الطفولة ، ولذا لم تعامله على أنه شيخ صعب ، وإنما كطفل هَرِم ، ولقد كانت تلك الخدعة إلهاماً من العناية الإلهية لِكِليهما لأنها وضعتهما بمنأى عن الشفقة ، لابد أن الحياة كانت ستصبح شيئا آخر لِكِليهما لو أنهما عرفا في الوقت المناسب أن تصريف كوارث الزواج العظيمة أسهل من تصريف المناكفَات اليومية الصغيرة ، وإذا كانا قد تعلَّما شيئا معا فهو أن الحكمة تأتينا في الوقت الذي لا تعود به ذات نفع .
لقد احتملت فرمينا داثَا بقلب مثقل طوال سنوات استيقاظات زوجها الاحتفالية الباكرة ، كانت تتشبث بآخر خيوط النعاس كي لا تواجه قدر صباح جديد يحمل معه نذير شؤم ، فيما يستيقظ هو ببراءة طفل وليد ، كل يوم جديد هو يوم يكسبه في الحياة .
كانت تسمعه ينهض مع الديكة ، وأول علامة من علائم الحياة يقوم بها هي كحة لا مبرر لها ، يبدو وكأنه يتعمدها لإقاظ زوجته ، كانت تسمعه يُهَمْهِم لِيقلقها فحسب فيما هو يبحث باللمس ع خُفَّيْه اللذَين يجب أن يكونا الى جوار السرير ، وتسمعه يخطو نحو الحمام متلمسا خطواته في الظلام ، وبعد أن يقضي ساعة في مكتبه وحين تكون قد عادت لتغفو من جديد تسمعه يعود ليرتدي ملابسه دون أن يشعل النور حتى هذا الوقت .
لقد سألوه يوما فيلعبة من ألعاب الصالون : كيف يعرف نفسه ؟
فقال : إنني رجل يرتدي ملابسه في العتمة .
كانت تسمعه وهي عارفة أنه لا حاجة لأي صوت من تلك الأصوات التي يُصدرها ، وأنه يفعل ذلك متعمدا ومتظاهراً العكس ، تماما مثلما هي مستيقظة وتتظاهر أنها ليست كذلك ، وكانت أسبابه صحيحة فهو لم يحتج إليها أبدا حية وصاحية كما يحتاج إليها في هذه اللحظات العصيبة ، لم تكن هناك من هي أكثر منها أناقة في النوم ، إذ كانت تنام في وضعية راقصة ، مسندة إحدى ذراعيها على جبهتها ، كما لم يكن هناك أكثر وحشية عندما يقلقون إحساسها بالاعتقاد أنها نائمة وهي ليست كذلك
كان الدكتور أُورْبينويعرف أنها تبقى مصغية الى أدنى ضجة يثيرها بل وتكون شاكرة له ، لأنها تجد بذلك من تلقي عليه اللوم في إيقاظها منذ الخامسة صباحاً .
وقد كان الأمر كذلك حقاً ، لدرجة أنه في المناسبات القليلة التي كان يتلمس فيها بحثا عن خُفَّيه في الظلام في مكانها المعتاد كانت تقول له فجأة بصوت ناعس : لقد ترتهما البارحة في الحمام . ثم تُردِف في الحال بصوت صاحٍ وغاضب : إن أكبر مصيبة في هذا البيت هي أن المرء لا يجد فيه الى النوم سبيلا .
وعندئذٍ تتقلب في الفراش وتُشعِل النور دون أن تأخذها أية رحمة بنفسها ، سعيدة بانتصارها الأول لهذا النهار .
لقد كانت في العمق لعبة لِكِلَيهما ، لعبة خرافية وشريرة لكنها مُنعشَة في الوقت نفسه ، إنها إحدى سعادات الحب المُدَجَّن الخطيرة ، ولكن بسبب أحدى هذه الألعاب التافهة كانت الثلاثين سنة الأولى من الحياة المشتركة على وشك الانهيار ، لأن الصابون لم يكن موجودا في الحمام في أحد الأيام .
بدأ الأمر ببساطة روتينية ، كان الدكتور أُورْبينوقد رجع الى حجرة النوم في الزمن الذي كان ما يزال يستحم فيه دون مساعدة ، وبدأ بارتداء ملابسه دون إشعال النور ، أما هي فكانت ماتزال في وضعها الجنيني الدافئ كعادتها في مثل هذا الوقت ، عيناها مغمضتان تنفُسها هادئ وهذه الذراع المستندة الى الجبهة وكأنها في رقصة مقدسة ، لكنها كانت نصف نائمة كما هي العادة وكان يعرف ذلك .
وبعد صرْصرة طويلة من بدلة الكتان المُنَشّاة في العتمة كلَّم الدكتور أُورْبينونفسه قائلا : منذ أسبوع وأنا أستحم بلا صابون .
عندئذٍ استيقظت وتذكرت وانقلبت غضَباً ضد العالم ، لأنها نسيت بالفعل وضع صابونة جديدة في الحمام ، لقد لاحظت غياب الصابون منذ ثلاثة أيام وكانت قد أصبحت تحت الدُش ففكرت بإحضار قطعة صابون فيما بعد ، لكنها نسيت فيما بعد الى اليوم التالي ، وفي اليوم الثالث حدث لها الشيء نفسه .
لم يكن قد مضى أسبوع في الواقع كما يدعي لِيضاعف من إحساسها في الذنب ، وإنما ثلاثة أيام لا تُغتفَر ، ثم إن الغضب من إحساسها بأنها فوجئت وهي على خطأ أخرجها من طورها ، فسارعت كعادتها للدفاع عن نفسها بالهجوم ، صرخت دون وعي : لقد استحميت كل هذه الأيام وكان الصابون دوما في مكانه .
ورغم معرفته الجيدة لأساليبها في الحرب فإنه لم يستطع احتمالها هذه المرة ، ومضى ليعيش في قسم الغرف الداخلي في مَشفى تحت أي ذريعة مهنية ، ولم يعُد يظهر في البيت إلا لاستبدال ملابسه عند المساء قبل أن يقوم بجولة عيادته على بيوت المرضى ، وكانت تذهب الى المطبخ عندما تسمع مجيءه مُتصنعة عمل أي شيء ، وتبقى هناك الى أنْ تسمع وقع حوافر حصانَي العربة في الشارع ، وكلما حاولا حل الخلاف في الشهور الثلاثة التالية فإن الشيء والوحيد الذي كانا يتوصلان إليه هو تعقيده .
لم يكن مستعدا للعودة الى البيت مادامت لا تُوافقه على أنه لم يكن يوجد صابون في الحمام ، ولم تكن مستعدة لاستقباله مادام لا يعترف بأنه كذب وهو واعٍ لِتَعْذيبها .
ومنحهما الحادث طبعا فرصة لاستحضار حوادث أخرى ، وتذكُّر الكثير من المسائل الصغيرة والصباحات القلقة ، وبعثت الأحقاد أحقاداً أخرى وفتحت جراحاً قديمة كانت ملتئمةً لِتنزف من جديد .
وقد فزع كِلاهما لليقين المدمر بأنهما لم يفعلا شيئا خلال سنوات طويلة من الصراع الزوجي سوى رعاية الأحقاد ، ووصل به الأمر لأن يقترح عليها التقدم معاً للاعتراف المفتوح أمام نيافة الأسقف إذا اقتضى الأمر ليكون الرب هو الحَكَم الأخير الذي يقرر إذا كان في مَصْبَنَة الحمام صابون أَم لا ، أما هي التي كانت تمتلك مرتكزات اقوية حتى ذلك الحين فقد أضاعتها بصرخة هستيرية : فلْيذْهب السيد الأسقف الى الخراء .
هزت تلك الشَتِيمة ركائز المدينة ، وكانت منطلقاً لحكايات وأقاويل ليس من السهل تكذيبها ، وبقيت عالقة في المأثور الشعبي كتعبير شائع "فلْيذْهب السيد الأسقف الى الخراء".
ومُدْرِكَةً أنها قد تجاوز الحد ، سارعت الى اتخاذ ردة الفعل التي انتظرتها من زوجها فهددته بالانتقال وحدها الى بيت أبيها القديم الذي مازال مِلكا لها رغم أنه مؤجر كمكاتب عامة .
لم يكن ذلك تبجحاً ، كانت تريد الذهاب حقا غير مبالية بالفضيحة الاجتماعية ، وقد تنبه الزوج الى ذلك في الوقت المناسب ولم تكن لديه الشجاعة الكافية لِتَحَدي تهورها ، فاستسلم ليس بمعنى القبول بأنه كان يوجد صابون في الحمام لأن ذلك سيكون إهانة للحقيقة ، وإنما وافق على أن يستمرا بالعيش في البيت نفسه ولكن بحجرتَين منفصلتين ودون أن يكلما بعضهما ، وهكاذا كانا يأكلان ويصرفان المواقف ببراعة فائقة بتبادل الطلبات من أحد أطراف المائدة الى الطرف الآخر بواسطة ابنَيهما دون أن ينتبه الابنان الى أنهما لا يتبادلان الحديث .
وبما أنه لا وجود لحمام في مكتبه فإن هذه الصيغة قد حلت الخلاف حو الضوضاء الصباحية ، لأنه أصبح يدخل للاستحمام بعد أن ينتهي من تحضير درسه ويتخذ الاحتياطات الحقيقية كي لا يوقظ زوجته ، وفي أحيان كثيرة كانا يلتقيان وينتظران بالدور لِتنظيف أسنانهما قبل النوم .
وبعد أربعة شهور استلقى ليقرأ في الفراش الزوجي فيما هي خارجة الى الحمام كما كان يحدث كثييرا فغلبه النعاس ، استلقت الى جانبه بحركة مفرطة في الخشونة لِتجعله يستيقظ وينصرف ، واستيقظ بالفعل شبه استيقاظ ولكنه بدلا من أن ينهض أطفأ مصباح السرير واستراح على وسادته ، فهزته من كتفه لِتُذَكِّره بأن عليه الذهاب الى مكتبه ، لكنه كان يشعر مجددا بأنه في حالة جيدة على فراش الريش الموروث عن أسلافه ،ففضَّل الاستسلام .
قال لها : دعيني هنا ، نعم كان هناك صابون .
حين كانا يتذكران هذا الحادث بعد أن أصبحا عند منعطف الشيخوخة ، ما كانا لِيصَدِّقَا الحقيقة المذهلة بأن ذلك الشجار كان الأخطر خلال نصف قرن من الحياة المشتركة ، والشجار الوحيد الذي بعث في كِلَيهما رغبة الإذعان والبدء في حياة أخرى .
وحتى عندما أصبحا عجوزَين وديعَين كانا يحاذران من ذكره لأن الجراح قليلة الالتئام سرعان ما تعاود النزيف وكأنها جراح الأمس .
كان هو أول رجل سمعتْه فرمينا داثَا يتبول ، سمعتْه في ليلة الزفاف في قمْرة السفينة التي حملتهما الى فرنسا فيما الدوار ينهكهما ، وبدا لها وقع ينبوعه الحصاني قويا ومتسلطا مما ضاعف رعبها من الأذى الذي يخيفها ، وقد كانت تلك الذكرة تعاود مخيلتها بكثرة كلما أضعفت السنون من قوة الينبوع ، لأنها لم تستطع الصبر أبدا على تلويثه حافة مِقعد المرحاض كلما استخدمه ، وقد حاول الدكتور أُورْبينوإقناعها بحجج سهلة الفهم لمن يرغب في فهْمها أن ذلك الحدث يتكرر يوميا ليس بسبب إهماله كما كانت تصر هي ، وإنما لسبب عضوي فينبوعه في سنوات صباه كان محددا ومستقيما ، حتى أنه كسب وهو في المدرسة بطولة التسديد لملء زجاجات ، ولكنه لم يضعف فحسب مع استخدامات السن وإنما أصبح زائغا كذلك وأخذ يتشعب الى أنْ أصبح في نهاية الأمر ينبوعا وهميا يستحيل توجيهه رغم الجهود الكثيرة التي يبذلها لتصحيح مساره .
كان يقول : لابد أن مخترع المرحاض ذا المِقعد لا يعرف شيئا عن الرجال .
وكان يساهم في السلام البيتي بعمل يومي هو أقرب الى الذل منه الى التواضع ، كان يمسح بورق صحي حواف مِقعد المرحاض كلما استخدمه ، وكانت تعرف أنه يفعل ذلك لكنها لم تكن تقول شيئا ما لم تَفُح روائح الأُمُنْياك في الحمام ، عندئذٍ تُعلن الأمر وكأنه اكتشاف جريمة .
- إن هذا يثير قرف حضيرة أرانب .
وعلى مشارف الشيخوخة أدى تثاقل جسد الدكتور أُورْبينوالى إلهامه الحل النهائي ، صار يبول وهو جالس كما تفعل هي ، مما حافظ على مِقعد المرحاض نظيفاً وجعله يتخذ وضعا ظريفاً ، كان يقوم بشؤونه حينئذٍبشكل سيئ ، لكن انزلاقا في الحمام كاد يودي بحياته جعله يتخذ موقفا حذرا من الدُش ، فالبيت رغم كونه من البيوت الحديثة كان يفتقد حوض البنْيو المعدني ذا القوائم التي كقوائم الأسد ، والذي كان استخدامه شائعا في بيوت المدينة الاستعمارية ، فقد أمر هو بانتزاعه متذَرعَا بحججه الصحية :
- إن حوض البانيو هو أحدى قذارات الأوربيين الكثيرة ، الذين لا يستحمون إلا في يوم الجمعة الأخير من كل شهر ، ثم أنهم يفعلون ذلك وسط الماء المتسخ بالوساخة نفسها التي يريدون إزالتها عن أجسادهم .
قوس وهكذا طلبوا صنع صفيحة كبيرة من الصفيح على قوائم من خشب غواياكان المَتِين ،
حيث أصبحت فرمينا داثَا تُحمِّم زوجها بنفس طقوس تحميم الأطفال حديثي الولادة ، كان الحمام يستمر لأكثر من ساعة بماء فاتر غُلِيَت فيه أوراق عطرة وقشور برتقال ، وكان للحمام تأثير مهدئ عليه يجعله يغفو في النقيع المعطر أحيانا ، وبعد تحميمه تساعده فرمينا داثَاعلى ارتداء ملابسه وترشه ببودرا التالْك ما بين ساقيه وتدهنه بدهن جوز الهند في مواضع السِماط ، وتُلبِسه سرواله الداخلي بحنان شديد كما لو كان حفاضة طفل رضيع وتُتابع إلباسه ثيابه قطعةً قطعة من الجورب حتى ربطة العنق ذات المَشبَك الياقوتي .
وصارت الصباحات الزوجية أكثر سكوناً لأنه عاد الى طفولته التي انتزعها منه الأولاد ، وانتهت هي من جانبها الى الانسجام مع النظام العائلي لأن السنوات كانت تمضي بالنسبة لها أيضا ، فأصبحت تنام أقل فأقل ، وقبل أن تتم السبعين صارت تستيقظ قبل زوجها .
في يوم أحد العَنْصَرة عندما رفع الشرشف عن جثة جيرميَا ديسَانْت آمور انكشف للدكتور أُورْبينو أمر كان يرفض التفكير فيه حتى ذلك الحين في إبْحاراته الجلية كطبيب ومؤمن ، فبعد سنوات طويلة من التعايش مع الموت ، وبعد صراعه ولمسه باطناً وظاهراً لسنوات عديدة كانت تلك هي المرة التي تجرأ فيها على النظر الى وجه الموت ، وكان الموت ينظر إليه أيضا ، لم يكن إحساسه خوفا من الموت ، لا فالخوف كان بداخله منذ سنوات ، يحيا معه كان ظلاً آخر فوق ظله ،
منذليلة استيقظ فيها قلقاً لرؤية حلم مشؤوم جعله يدرك أن الموت ليس احتمالا ماثِلا فقط كما أحسه دائما ، وإنما هو واقع قائم ، وبالمقابل فإن ما رآه يوم ذاك هو حضور جسدي لشيء لم يكن قد تجاوز كونه تصورا يقينيَا حتى ذلك الحين ، وقد أسعده أن يكون أداة العناية الإلهية لهذا الكشف هو جيرميَا ديسَانْت آمور الذي اعتبره دوما قِدّيساً يجهل فضل ذاته ، ولكن عندما كشفت له الرسالة حقيقة هويته وماضيه الفاسد وقدرته اللامعقولة على الخداع ، أحس أن شيئا نهائيا لا رجعة فيه قد طرأ على حياته .
ومع ذلك فإن فرمينا داثَا لم تسمح له بنقل عدوى مزاجه المُكْفَهِر إليها .
لقد حاول ذلك بالطبع فيما هي تساعده على دس ساقيه في البِنْطال وتُزَرِّر صف أزرار القميص الطويل ، لكنه لم يصل الى ما يريد لأن التأثير على فرمينا داثَا لم يكن سهلا ، وخصوصاً في موت رجل لم تكن تحبه .
كانت تعرف بالكاد أن جيرميَا ديسَانْت آمور هو رجل مُقعَد ذو عُكّازَين لم تره أبدا ، وأنه قد فر من فصيلة الإعدام في إحدى التمردات الكثيرة في واحدة من جزر الأنتِيل العديدة ، وأنه عمل مصور أطفال بدافع الحاجة وصار الأكثر شهرة في الإقليم كله ، وأنه قد كسب دور شطرنج من شخص تتذكر هي أن اسمه بينما الحقيقة أن اسمه .
قال لها الدكتور أُورْبينو : لم يكن سوى هارب من كايينا ومحكوم بالمؤبد على جريمة فضيعة اقترفها ، وتصوري أن الأمر وصل به الى أكل اللحم البشري .
أعطاها الرسالة التي كان يريده حمل أسرارها معه الى القبر ، لكنها خَبَّأَت الأوراق المطوية في خوان الزينة دون أن تقرأها وأقفلت الدرج بالمفتاح .
كانت معتادة على قدرة زوجها الكبيرة على الاندهاش ، وعلى أحكامه المبالَغ فيها والتي أخذت تصبح أكثر تعقيدا مع مرور السنوات ، وعلى ضيق أفق لا يتلاءم مع ضصورته العامة ، لكنه في تلك المرة تجاوز حدوده المعتادة ، وافترضت أن زوجها ليس معجباً بجيرميَا ديسَانْت آمور لما كان عليه فيما مضى وإنما لما بدأ يكونه منذ قدومه بلا متاع سوى حقيبة المنفيين التي كان يحملها ، ولم تستطع أن تفهم لماذا فُجِعَ الى ذلك الحد لاكتشاف هويته متأخرا ،
ولم تفهم لماذا يبدو له فَضِيعاً أن يكون على علاقة بامرأة سِريَّة إذا كان هذا الأمر عادة وراثية بين الرجال الذين هم من صِنفه ، بما في ذلك هو نفسه في لحظة جحود ، وقد رأت في مساعدتها له على تنفيذ قراره بالموت دليلاً على على الحب وقالت : وإذا ما قررتَ أنت أن تعمل ذلك أيضا لأسباب جِديَّة كتلك التي كانت لديه ، فإن واجبي أن أفعل مثل ما فعلت هي .
ووجد الدكتور أُورْبينو مرة أخرى نقطة عدم الفَهم البسيطة التي أثارت حفيظة طوال نصف قَرْن .
قال : أنتِ لا تفهمين شيئا ، إنما يَغيظُني ليس ما كانهُ أو ما فعله ، وإنما الخدعة التي جعلها تنطلي علينا جميعا خلال هذه السنوات الطويلة .
بدأت عيناه تغرورقان بدموع سهلة ، فيما تصنعت هي التجاهل وردَّت : حسناً فعَل ، فلو أنه قال الحقيقة ما كنت أنت ولا هذه المرأة المسكينة ولا أحد في البلدة أحبه كما أحببتموه .
ثبتت الساعة ذات السلسلة في العروة الصدرية ، وعقدت له ربطة العنق ووضعت له المشبك الياقوتي ، ثم مسحت دموعه ونظفت لحيته الباكية بالمنديل المبلل بعطر أغوافلوريدَا ووضعته في جيب الجاكيت على الصدر فاتحةً أطرافه كزهرة مانْويلَا .
دقت ساعة البندول دقاتها الإحدى عشرة في البيت الراكد فقالت وهي تقوده من ذراعه " أسرِع سنصل متأخرَين .
كانت آميثا دي شانبَاس زوجة الدكتور لاثيديس أوليفيا وبناتها السبع المتحمسات قد أعددن كل شيء من أجل أن يكون غداء اليوبيل الفضي هو حدث السنة الاجتماعي .
منزل العائلة القائم في مركز المدينة التاريخي ، وهو بيت المال سابقاً كان قد غيَّر من طرازه المعماري مهندس فلورونسي مر من هنا مثل ريح شؤم ، وحوَّل الى كنائس على الطراز الفينيسي بقايا أكثر من أربعة معابد من القرن السابع عشر ، كان في البيت ست حجرات نوم وصالونان للطعام والاستقبال واسعان وحسَنا التهوية ، لكنهما لا يتسعان لِمَدعُوي المدينة ، فضلا عن النخبة التي ستأتي من الخارج .
كان الرواق أشبه بباحة دير في وسطه نافورة حجرية يُغرد الماء فيها ، وجنائن من الهيليوتيربو تعطر البيت عند المَغيب ب ، ، لكن الفسحة المقنطرة لم تكن كافية لكل تلك الألقاب العظيمة ولهذا قرروا إقامة حفل الغداء في بيت العائلة الريفي على بُعد عشر دقائق في السيارة على الطريق العام ، ففيه ساحة فسيحة وشجَيرات غار هندي كثيفة ونيلفور مهَجَّن في مسيل ماء وديع .
رجال مطعم دون سانْتْشو نصبوا بتوجيه من السيدة أوليفيا مظلات شوادر ملونة في الأماكن التي لا ظلال فيها ، وأقاموا تحت أشجار الغار مستطيلاً من الطاولات يتسع ل 122 شخصاً مع شراشف كتانية بيضاء لجميع الطاولات وأغصان ورد طازجة على طاولات الشرف ، كما أقاموا منصة لفرقة الآلات الهوائية التي كان برنامجها يقتصر على موسيقى راقصة وفالسات وطنية ، ولِرباعي وتري من مدرسة الفنون الجميلة هي مفاجأة السيدة أوليفيا لِإُستاذ زوجها الموَقَر الذي سيرأس الغداء .
ومع أن اليوم المحدد للاحتفال لم يكن متفِقاً تماما مع ذكرى التخَرُج فقد اختاروا يوم أحد العَنْصَرة ليضاعفوَا من ضخامة معنى الحفلة .
بدأت الاستعدادات قبل ثلاثة شهور خوفا من نسيان شيء أو عدم إنجازه في الموعد المحدد ، أحضروا الدجاج الحي من ثييناغاديأورو لشهرة هذا الدجاج في منطقة الساحل كلها ، ليس بحجمه وطعمه اللذيذ فحسب وإنما لأنه في الزمن الاستعماري كان يُعَفَّر في أراضي الطما ، فكانوا يجدون في حوصلته حصَيات من الذهب الخالص .
وكانت السيدة أوليفيا شخصياً برفقة بعض بناتها وبعض الخدم تصعد الى متن السفن العابرة الفخمة لتنتقي أفضل ما يصل من كل مكان لِتشريف مكانة زوجها .
لقد احتاطت لكل شيء باستثناء أن الحفلة ستكون يوم أحد حُزَيراني في سنة متأخرة الأمطار ، وقد أدخلت أمراً خطيراً كهذا في حسابها صباح يوم الحفلة بالذات عندما خرجت الى القُدّاس الكبير وفزعت لِرطوبة الهواء ورأت أن السماء كثيفة وواطئة وأن البصر لا يصل لرؤية الأفق البحري .
ورغم علائم النحس هذه فقد ذكَّرَها مدير الأرصاد الجوية الذي التقت به في الصلاة بأنه لم يحدث في تاريخ المدينة المشؤوم جدا حتى ولا في أقسى فصول الشتاء أن هطل المطر في يوم العَنْصَرة .
ورغم ذلك فعندما دق الساعة معلِنة الثانية عشرة وفيما كان معظم المدعوون يتناولون المُقبلات في الهواء الطلق جعل انفجار الرعد الأرض تهتز وأطاحت ريح بَحْرِيَة عنيفة بالموائد وحملت المِظلّات في الجو وانهارت السماء بمطر كالكارثة .
لقد تمكن الدكتور خوفينال أُورْبينو من الوصول بجهود مضنية في فوضى العاصفة مع آخِر الضيوف الذين التقى بهم في الطريق وكان يريد الوصول الى البيت قافزاً من العربات مثلهم فوق الأحجار عبر البهو المضطرب ، لكنه قبِلَ أخيرا مذلة أن يحمله رجال دون سانْتْشو على الأذرع تحت مظلة من قماش أصفر ، وجرى إعداد الطاولات المنفصلة من جديد على أحسن وجه ممكن داخل البيت وحتى في غرف النوم .
ولم يقم المدعوون بأي جهد لإخفاء مزاجهم الغارق بالماء ، كان الحر في البيت كأنه مِرْجَل سفينة ، إذ أنهم أغلقوا النوافذ ليمنعوا دخول المطر الذي يهطل مائلا بفعل الريح .
كان يوجد على الطاولة في الفِناء بطاقة تحمل اسم كل مدعو وتُحدد مكانه ، وكان مقررا أن يكون هناك جانب للرجال وآخر للنساء كما هي العادة في ذلك الحين ، لكن البطاقات التي تحمل الأسماء اختلطت داخل البيت ، وجلس كل واحد كيف ما استطاع بفوضى هائلة خالَفَت لِمرة واحدة على الأقل تَقاليدنا الاجتماعية البالية .
ووسط الكارثة كانت آميثا دي أوليفيا تبدو وكأنها في كل مكان بشعرها المبلل وثوبها الرائع الملطخ بالوحل ، لكنها تعلو على المصيبة بابتسامة لا تُقهَر ، تعلمتها من زوجها كي لا تُتيح للعواذل أن يشمتوا .
وبمساعدة بناتها المُصاغات في الكور نفسه تمكنت الى حد ما من حجز الأماكن على طاولة الشرف ، فكان الدكتور خوفينال أُورْبينو في الوسط والأسقف أوبدليو إيري الى يمينه ، وجلست فرمينا داثَا الى جانب زوجها كما اعتادت أن تفعل دوما خوفا من أن يغلبه النعاس أثناء الغداء أو أن يسْكُب الحساء على قُبة سُترته ، واحتل الموقع المقابل وهو خمسيني بمظهر أنثوي محتفظ جيدا بقواه ، ولا علاقة لِروحه الاحتفالية بتشخيصاته الطبية الصائبة .
وامتلأت بقية مَقاعد الطاولة بممثلي السلطات الإقليمية والبلدية ومَلكة جمال العام الفائت التي قادها الحاكم من ذراعها لِيُجلسَها الى جواره .
ورغم أنه لم تكن هناك عادة طلب زِي خاص في الدعوات ولاسيما في غداء ريفي ، فقد كانت السيدات يرتدين بدلات سهرة وحُلي من أحجار كريمة ، ومعظم الرجال يلبسون بدلات قاتمة مع ربطة عنق سوداء ، وبعضهم يرتدي السُتَر الرسمية البيضاء ، وذوو المشاغل الكثيرة وحدهم ومنهم الدكتور أُورْبينو كانوا يرتدون بدلات يومية .
وفي كل مكان كانت توجد نسخة من المينيو مطبوعة بالفرنسية مع رسوم مُذَهَّبَة .
ذرعت السيدة أوليفيا المُرتعبة من أهوال الحَر البيت راجيةً من الجميع خلع سُتَرِهِم لِتناول الغداء ، لكن أحدا لم يجرؤ على أن يكون قدوة للآخرين .
ولقد لفت الأسقف انتباه الدكتور أُورْبينو الى أنْ ذلك الغداء هو غداء تاريخي بطريقة ما ، فهناك يجتمع لأول مرة على طاولة واحدة وبعد التئام الجروح وتبدد الأحقاد فريقا الحروب الأهلية التي أغرقت البلاد بالدم منذ الاستقلال .
كان هذا التفكير يتلاءم مع حماس اللبراليين وخصوصاً الشباب منهم الذين تمكنوا من اختيار رئيس من حزبهم بعد خمس وأربعين سنة من هيمنة المحافظين.
ولم يكن الدكتور أُورْبينو متفِقاً في ذلك ، فالرئيس اللبرالي لا يبدو له أقل أو أكثر من رئيس محافظ ، سوى أنه أسوأ هنداماً ، ومع ذلك لم يشأ معارضة الأسقف رغم أنه رغِب بأن يُلَمِّح له أن أحدا لم يُدعَ لحضور الغداء من أجل أفكاره وإنما لشرف مهنته ، وأن هذه كانت دائما فوق نكبات السياسة وفضائع الحرب ، وإذا نظرنا بهذا المِنْظار فليس هناك أي خلل حقاً .
توقف وابل المطر فجأةً كما بدأ ، والتهبت الشمس في السماء الصافية فوراً ، لكن العاصفة كانت من العنف بحيث انتزعت بعض الأشجار من جذورها ، وتحول الماء المتجمع حول الفِناء الى مستنقع راكد .
أما الكارثة الكبرى فكانت في المطبخ ، حيث أقيمت عدة مواقد من الطوب في القسم الخلفي من البيت في العراء , وما كاد الطُهاة يضعون القدور بمنأى عن المطر حتى راحوا يضيعون وقتا ثميناً في نزح الماء من المطبخ الغارق وإقامة مواقد جديدة على عجل في الرواق الخلفي ، ولكن حالة الطوارئ انتهت في الواحدة ظُهْراً ولم يكن ينقص سوى الحلوى التي كُلِّفت بصُنعِها راهبات سانتاكلارا اللواتي وعدن بإرسالها قبل الساعة الحادية عشرة .
وكانت الخشية من أن تكون ساقية الطريق الرئيسي قد فاضت كثيرا كما يحدث عادة في فصول شتاء أقل قساوة ، ففي هذه الحالة لا يمكن وضع الحلوى في الحساب قبل مرور ساعتين .
ما أن توقف المطر حتى فتحوا النوافذ فلطَّف الهواء المُنَقى بكبريت العاصفة جو البيت ، ثم أمروا أن تعزف الفرقة الموسيقية برنامجها على مصطبة الرواق ، لكن ذلك لم ينفع سوى في زيادة الجزع ، لأن دوي النحاس داخل البيت كان يضطرهم لتبادل الحديث صراخا ،
فأمرت آميثا دي أوليفيا المُنْهكة من الانتظار والتي كانت تبتسم وهي على حافة الدموع بتقديم الطعام .
بدأت فرقة مدرسة الفنون الجميلة الوترية بالعزف وسط صمت رسمي استمر حتى النغمات الأولى من معزوفة لاجاز لِموزارْت ، ورغم الأصوات التي أخذت تعلو أكثر فأكثر وتصبح أشد اختلاطاً ورغم عرقلة خَدَم دون سانْتْشو الزنوج الذين لم يكن الفراغ بين الموائد يكفي لمرورهم وهم يحملون الصواني التي يتصاعد منها البخار ، فقد تمكن الدكتور أُورْبينو من الاحتفاظ بقناة مفتوحة على الموسيقى حتى نهاية البرنامج .
كانت قدرته على التركيز تتناقص سنة بعد أخرى حتى أنه كان يضطر الى تسجيل كل حركة شطرنج يقوم بها على الورق ليعرف أين صار في اللعب ، ومع ذلك فهو مازال قادرا على مواصلة محادثة جدية دون أن يفلت خيط الموسيقى رغم أنه لا يصل في ذلك الى الحد الذي يصله قائد أوركسترا ألماني كان صديقاً حميماً له خلال فترة إقامته في النمسا ، إذ كان يقرأ نوتَة موسيقية لِدون جيوفاني فيما هو يسمع تاون هاوزر .
المقطوعة الثانية في البرنامج كانت الموت والصِبْية لِشوبَرْت وبدا له أنها تُعزَف بدرامية سهلة ، وفيما هو يستمع إليها بمعاناة شديدة من خلال الجلبة الجديدة التي أثارتها أدوات الطعام كان يحتفظ بنظره معلقا بشاب ذي وجه وردي حياه بإنحناءة من رأسه ، لا شك أنه رآه في مكان ما لكنه لا يَذكُر أين ، إن هذا يحدث له كثيرا مع الأسماء ، فهو ينسى أحيانا أسماء أقرب الناس إليه مما يثير فيه قلقا مخيفا جعله يفضل الموت في إحدى الليالي على الاحتمال حتى الفجر ، وكان على الوشك الى الوصول الى هذه الحالة عندما أضاء له بريق ينير ذاكرته ، الشاب هو أحد تلاميذه من العام الفائت وفوجئ برؤيته هنا في مملكة الصفوة ، لكن الدكتور أوليفيا ذكَّره بأنه ابن وزير الوقاية الصحية وقد جاء الى هنا لتحضير أطروحة في الطب الشرعي .
وأشار له الدكتور خوفينال أُورْبينو بتحية سعيدة من يده ، فوقف الشاب ورد على التحية باحترام ، إنما لم يَخطُر للدكتور أُورْبينو حينئذٍ ولا فيما بعد بأنه المتمرِن الذي كان معه صباح هذا اليوم في بيت جيرميَا ديسَانْت آمور ، مع إحساسه بالراحة لهذا الانتصار الجديد على الشيخوخة غادر الغنائية الصافية المُنْسابة لآخِر مقطوعة موسيقية في البرنامج لم يستطع تحديد هويتها ،
وقد أخبره بعد ذلك عازف الكمان الشاب في المجموعة الذي رجع من فرنسا منذ وقت قريب بأن المقطوعة هي الرباعية الوترية لغابرييل فاوريه الذي لم يكن الدكتور أُورْبينو قد سمع باسمه رغم ترصده الدائم لكل جديد من أوربا .
فرمينا داثَا المُنْتبِهة إليه كعادتها وخصوصا عندما تراه ساهماً وسط الناس توقفت عن تناول الطعام ووضعت يدها على يده وقالت له : لا تفكر في الأمر أكثر .
فابتسم لها الدكتور أُورْبينو من الضفة الأخرى من الغيبوبة ، وكان أن عاد حينئذٍ للتفكير فيما كانت هي تخشاه ، تَذكَّر جيرميَا ديسَانْت آمور موَسَّداً في هذه الساعة في التابوت بزيه العسكري الزائف وميدالياته الكاذبة تحت نظر أطفال الصور .
التفت نحو الأسقف لِيطلعه على خبر الانتحار ، لكنه كان عارفا به .
كان قد تحدث مطولاً في هذا الأمر بعد القُدّاس الكبير ، بل إنه تلقى طلباً من الكونونيل جيرَوميأورغوتي باسم لاجئي الكاريبي لدفنه في الأرض الطاهرة .
قال : إن الطلب بحد ذاته برأيي هي قلة احترام .
ثم بلهجة أكثر درامية سأله إن كان يعرف سبب الانتحار ؟
ورد عليه الدكتور أُورْبينو بكلمات صحيحة ظنَّ أنه اخترعها في تلك اللحظة : خوف الشيخوخة ..
الدكتور أوليفيا الذي كان منصرفا باهتمامه الى أقرب الضيوف منه تركهم لبرهة ليشارك في الحوار مع أستاذه .
قال : من المؤسف أننا مازلنا نلتقي بمنتحِر دافعه للانتحار ليس الحب .
ولم يفاجأ الدكتور أُورْبينو من التعرف على أفكاره في تلميذه النجيب فقال : بل الأسوأ من ذلك أن الانتحار تم سيانور الذهب .
ما أن قال ذلك حتى أحس أن الشفقة عادت لِتتغلَب على مرارة الرسالة ، ولم يرجع الفصل في ذلك الى زوجته ، وإنما الى معجزة من معجزات الموسيقى ،
حينئذٍ حدَّثَ الأسقف عن القديس الملحد الذي تعرَّف هو نفسه عليه في أمسيات الشطرنج البطيئة ، وحدَّثَه عن تكريسه لفنه من أجل إسعاد الأطفال وعن سعة اطلاعه العجيبة على كل شؤون الدنيا ، وعن عاداته الإسبارطية وقد فوجئ هو نفسه بنقاء الروح الذي مكَّنَه من الانفصال فجأة وبشكل كامل عن ماضيه .
ثم حدَّث العمدة عن أهمية شراء أرشيف مسودات الصور لحفظ صور جيل ربما لن يعود للشعور بالسعادة خارج صوره ، جيل في يديه مستقبل المدينة .
لقد ذُعِِرَ الأسقف لأن كاثوليكياً مواظباً ومُطَّلِعاً تجرأ على التفكير بقدْسية منتحِر ، لكنه وافق على المبادرة الى أرشفة مسودات الصور .
وأراد العمدة أن يعرف ممن عليه أن يشتريها ، فكوى الدكتور أُورْبينو لسانه بجمرة السر ، لكنه استطاع احتمالها دون الكشف عن وارثة الأرشيف في سرية وقال : أنا سأَتولى الأمر .
وأحس بأنه افتدى بوفائه المرأة التي ترَكها قبل خمس سنوات ، لاحظت فرمينا داثَا ذلك وجعلته يعاهدها بصوت واطئ على حضور الدفن .
- طبعا سأفعل .
قال مفرجاً عن نفسه : كل شيء إلا هذا .
كانت الخُطب قصيرة وبسيطة ، وبدأت فرقة الآلات النفخية بعزف موسيقى غوغائية غير مقررة في البرنامج ، وانتقل المدعوون الى الشرفات بانتظار أن ينتهي رجال فندق دون سانْتْشومن نزح الماء المتجمع في الفِناء ليروا إن كان هنالك من سيتحمس للرقص ، والوحيدون الذين بقوا في الصالة هم مدعوو طاولة الشرف الذين كانوا يحتفلون باحتساء الدكتور أُورْبينو نصف كأس من البراندي دُفعة واحدة في نخب أخير ، ليس هناك من يذكُر أنه فعل ذلك قبل اليوم ، ما عدا ارتشافه كأس نبيذ من صِنْف فاخِر مع وجبة خاصة جدا في مناسبات قليلة ، لكن قلبه طلب هذا في ذلك اليوم ، وكان ضعفه حسن إذ أحس مجددا بعد سنوات وسنوات برغبة في الغناء وكان سيفعل ذلك دون شك بناءً على طلب عازف الكمان الشاب الذي تطوع لمرافقته ، لولا أن سيارة من السيارات الجديدة اجتازت أوحال الفِناء بسرعة ملوثة الموسيقيين بالوحل ومثيرة طيور البط في أقفاصها بنفيرها الذي كصوت البط ،
وتوقفت أمام مدخل البيت ، نزل الدكتور ماركو أوريليو أوربينو داثَا وزوجته وهما غارقان بالضحك يحملان في كل يد صينية مغطاة بقماش مَحْرَم ، وكانت هناك صوانٍ أخرى مماثلة في المَقاعد الخلفية وعلى أرضية السيارة وإلى جنب السائق أيضا ، إنها الحلوى المتأخرة ، وبعد أن توقف التصفيق وصفير السخرية الودود شرح الدكتور أُورْبينو داثَا بجدية كيف أن الراهبات طلبن منه نقل الحلوى قبل أن تبدأ العاصفة ، لكنه رجع من الطريق العام لأن أحدهم قال له بأن بيت والديه يحترق .
أصاب الذعر الدكتور خوفينال أُورْبينو دون أن ينتظر انتهاء ابنه من الحِكاية ، لكن زوجته ذكَّرته أنه هو نفسه قد أمر باستدعاء رجال الإطفاء للإمساك بالببغاء .
وقررت آميثا دي أوليفياالمتألقة بهجةً أن تقدم الحلوى على الشرفات حتى ولو كان ذلك بعد تناولهم القهوة ، لكن الدكتور أُورْبينو وزوجته انصرفا دون تذوقها لأن الوقت المتبقي لا يكاد يكفيه لنوم قيلولته المقدسة قبل أن يذهب الى الجنازة .
نام قيلولته ، إنما لوقت قصير وبشكل سيئ ، لأنه عندما عاد الى البيت وجد أن رجال الإطفاء قد تسببوا بأضرار تقارب خطورتها أضرار حريق ، ففيي محاولاتهم لإفزاع الببغاء أسقطوا إحدى الأشجار بخراطيم الضغط المرتفع ، ودخلت دفعة ماء سيئة التصويب من نافذة حجرة النوم الرئيسية محدثة أضرارا لا مجال لإصلاحها في الأثاث وفي صور الأجداد المجهولين المعلقة على الجدران ،
وقد هرع الجيران عندما سمعوا جرس سيارة الإطفاء معتقدين أن حريقا قد شب ، وإذا كانت لم تحدث قلائل أسوأ فلأن المدارس كانت مغلقة لأن اليوم هو يوم أحد ، وعندما أيقنوا أنهم لن يتمكنوا من الوصول الى الببغاء حتى باستخدام السلالم ذات الأجزاء الإضافية أخذ رجال الإطفاء يحطمون الأغصان بالفؤوس ، وكان ظهور الدكتور أُورْبينو داثَا هو الذي منعهم من بَتر جذع الشجرة ، فتوقفوا بعد أن وعدوا بالرجوع بعد الساعة الخامسة ليروا إن كانوا يخولونهم بتقليم الشجرة ،
وفي طريقهم لوثوا الشرفة والصالة بالوحل ، ومزقوا سجادة تركية هي المفضلة لدى فرمينا داثَا فكانت كارثة بلا طائل ، إضافة الى أنْ الرأي السائد كان القائل : بأن الببغاء قد انتهزت فرصة الفوضى لتهْرب عبر الباحات المجاورة .
وقد بحث عنها الدكتور أُورْبينوفعلا بين أوراق الشجرة ولم يتلقَ ردا بأي لغة ، ولا حتى بالصفير والغناء ، فاعتبروها مفقودةً ومضى لِيَنام .
في حوالي الساعة الثالثة وقبل ذلك تلذذ بمتعة بوله المصفى بالهليون الدافئ .
أيقظه الأسى ، ليس الأسى الذي أحسه صباحا وهو أمام جثة صديقه ، وإنما الغمامة اللامرئية التي كانت تَضْمَخ روحه بعد القيلولة ، والتي اعتبرها إخطاراً إلهيا بأنه يعيش آخِر أمسياته .
لم يكن يعي حتى بلوغه سن الخمسين حجم أو وزن أو حالة أحشائه ، وشيئا فشيئا وفيما هو يرقد مغمض العينَين بعد القيلولة اليومية بدأ يشعر بأحْشائه في جوفه جزءاً جزءاً ، بدأ يحس حتى بشكل قلبه المُسْهد وكبده الغامض وبنكرياسه الكَتيم ، وراح يكتشف أن جميع الناس بما فيهم أولئك الأكبر منه سناً كانوا أصغر منه ، وأنه الوحيد على قيد الحياة من بين أبناء صور جيله النائي ، وعندما تنبه الى حالات نسيانه الأولى سارع لاستخدام طريقة سمِعها من أحد أساتذته في مدرسة الطب "من لا ذاكرة له فلْيصنع ذاكرة من الورق" .
لكنها لم تكن سوى وَهَم زائل إذ وصل الى أقصى درجات النسيان بنسيانه ما تعنيه ملاحظات التذكير التي كان يدسها في جيوبه ، وصار يذرع البيت بحثاً عن نظارته التي يضعها على عينَيه ، ويعيد إدارة المفتاح بعد أن يكون قد أقفل الباب ، ويضيع خيط القراءة بنسيانه مقدمات البراهين أو أوصاف الشخصيات ، لكن أكثر ما كان يقْلِقه هو ارتيابه بقدرته العقلية ذاتها .
وشيئا فشيئا في غرق مُحَتَّم كان يشعر بأنه يضيع معنى العدالة ، ومن خلال تجربة واحدة وذلك دون مرتكزات علمية كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يعرف أن معظم الأمراض القاتلة لها رائحة خاصة ، لكن أياً منها ليس محدد الرائحة كما هو داء الشيخوخة ، كان يلمس ذلك في الجثث المفتوحة على طاولة التشريح ، ويتعرفه حتى في أكثر المرضى إتقاناً في إخفاء سنهم الحقيقي ،
وفي عَرَق ثيابه بالذات ، وفي التنفس الأعزل لِزوجته النائمة ، ولولا أنه كان في أعماقه مسيحياً على الطريقة القديمة فربما كان اتفق مع جيرميَا ديسَانْت آموربأن الشيخوخة هي حالة تردد يجب تفاديها مسبقا .
إن العزاء الوحيد حتى بالنسبة لمن كان رجلا جيدا في السرير مثله هو الانطفاء البطيء والرؤوف للرغبة- "السلام الجنسي - لقد كان وهو في الحادية والثمانين يتمتع بوَعي يجعله يدرك أنه مشدود الى هذا العالم بخيوط واهية قد تنقطع دون ألم بمجرد حركة بسيطة أثناء النوم ، وإذا كان يفعل كل ما يمكنه للاحتفاظ بتلك الخيوط فذلك لخوفه من أن لا يجد الرب في ظلمات الموت .
كانت فرمينا داثَاقد انْهَمَكَت في ترتيب حجرة النوم التي عاث فيها رجال الإطفاء ، وقبيل الساعة الرابعة بقليل حملت الى زوجها كأس اللمونادَا اليومي مع الثلج المكَسَر ، وذكَّرته بأن عليه أن يرتدي ملابسه لِيذهب الى الجنازة .
كان تحت متناول يد الدكتور هذا المساء كتابان اثنان ، الإنسان ذلك المجهول لِأليكسيس كارِل وتاريخ سانميشيل لِأليكسيس مارْث ، ولم يكن الكتاب الأخير قد فُتِح بعد ، فطلب من ديغاباردو الطاهية أن تأتيه بفَتّاحة الكتب العاجية التي نسيها في حجرة النوم ، ولكن عندما جاءوه بها كان قد بدأ القراءة في كتاب الإنسان ذلك المجهول في الصفحة المُعلَّمة بمغلف رسالة ، كانت لا تزال أمامه بضع صفحات قليلة لإنهاء الكتاب .
قرأ بتمهل شاقاً الطريق عبر منعطفات نقطة ألم في الرأس عزاها الى نصف كأس البراندي الذي شَرِبَه في النخب الأخير ، وفي وقفاته عن القراءة كان يتناول رشفة من اللمونادَا أو يتمهل في قضم قطعة من الثلج ، كان لابِساً جَوْرَبَيه وقَميصه دون وضع الياقة المنفصلة فيما حمّالتا البنطال المطاطيتان بخطوطهما الخضراء تتدليان على جانبَي خصره ، وكان يزعجه مجرد التفكير بأن عليه استبدال ملابسه من أجل الجنازة .
ما لبِث أن توقف عن القراءة ووضع الكتاب فوق الكتاب الآخر ، وبدأ يتأرجح على مهل في كرسي الخيزران الهزاز متأملاً من خلال الأسى شجيرات الموز في مستنقع الفِناء ، وشجرة المانغا منتوفة الأغصان ونمل ما بعد المطر الطيار ، والضياء الفاني لِمَساء آخر ينقضي الى الأبد .
كان قد نسي أنه كان يملك ببغاءً في أحد الأيام ، وأنه أَحَبَها كما يحب كائناً بشرياً عندما سمعها فجأة " ببغاء ملكي" سمعها قريبا جدا منه الى جواره تقريبا ، ثم رآها في الحال على أوطأ أغصان شجرة المانغا فصرخ بها : عديمة الحياء .
وردت ال ببغاء بصوت مطابق تماما : عديم الحياء هو أنت يا دكتور .
تابع الحديث معها دون أن يرفع نظره عنها ريثما لبس جزمته بحذر شديد حتى لا يخيفها ، ودس يديه في حمالتَي البنطال ، ونزل الى الفِناء الذي ما زال موحلا متلمساً الطريق بعُكّازه كي لا يصطدم بدرجات المصطبة الثلاث .
بقيت الببغاء دون حراك ، وكانت تقف على ارتفاع منخفض جدا لدرجة أنه مد لها العُكّاز لِتقف على قبضته الفضية كما تفعل عادةً ، لكن الببغاء أعرضت عنها قفزت الى غصن مجاور أعلى قليلاً لكن الوصول إليه أسهل حيث كان السلم الخاص بالبيت مُسْنَدا قبل مجيء رجال الإطفاء .
قدَّر الدكتور أُورْبينوالارتفاع وفكر أنه باِرتقاء عارضتين من عوارض السلم سيتمكن من الإمساك بها .
صَعَد الدرجة الأولى مغنّياً أغنية يعرفها كِلاهما لِيُشتِت انتباه الطائر الفظ الذي كان يكرر الكلمات دون الموسيقى ويبتعد على الغصن بحركات جانبية ، صعَد العارضة الثانية دون مشقة وهو يُمْسِك السلم بِكلتا يديه .
وبدأت الببغاء بترديد الأغنية كاملة دون أن تُبَدِّل مكانها .
ارتقى العارضة الثالثة ثم الرابعة في الحال ، إذ أنه أساء تقدير ارتفاع الغصن وحينئذٍ تشبث بيده اليسرى بالسلم وحاول إمساك الببغاء باليُمنى .
كانت ديغناباردو الخادمة العجوز قادمة لتنبيهه الى أنه يكاد يتأخر عن موعد الجنازة ، فرأت ظَهر الرجل الصاعد على السلم ولم تكن لِتُصَدِّق أنه هو لولا الخطوط الخضراء على حمالة البنطال المطاطية .
صرخت : يا ربنا المقدس ، سيقتل نفسه .
أَمسَك الدكتور أُورْبينو بعنق الببغاء وهو يتنهد ظافرا .
- انتهى الأمر .
لكنه أفلتها فورا لأن السلم انزلق تحت قدمَيه وبقي هو مُعلَّقاً لبرهة في الهواء ، فأدرك حينئذٍ أنه قد مات دون قربان رباني ، ودون أن يُتاح له الوقت ليندم على شيء ، أو ليُوَدِّع أياً كان .
في الساعة الرابعة وسبع دقائق من مساء يوم أحد العَنْصَرة كانت في المطبخ تتذوق حساء العشاء عندما سمعت صرخة الرعب التي أطلقتها ديغناباردو وجلبة خدم البيت ثم خدم البيوت المجاورة ، ألقت بملعقة التذوق وحاولت الركض بقدْر ما استطاعت مع ثقل سنها الذي لا سبيل الى هزيمته صارخة كمجنونة دون أن تعرف حتى الآن حقيقة ما جرى تحت أوراق شجرة المانغا ، وقفز قلبها مُفَتَّتاً عندما رأت رجلها مطروحاً على ظهره في الوحل ، ميتا في الحياة ، لكنه مازال يقاوم ضربة الموت الأخيرة ريثما تصل هي .
تمكن من التعرف عليها وسط الحشد ، ومن خلال دموع الألم التي لا تتكرر لموته من دونِها ، وتَطَلَّعَ إليها لآخِر مرة وإلى الأبد بعينَين أشد بَريقاً وأكثر حزناً وأعظم امتناناً مما رأته طوال نصف قرْن من الحياة المشتركة .
واستطاع أن يقول لها مع النفَس الأخير : الله وحده يعلم كم أحببتك .
كانت ميتة مشهودة ، وليس ذلك من فراغ فما أن أنهى دراسته التخصصية في فرنسا حتى ذاع سِيط الدكتور خوفينال أُورْبينوفي البلاد بأنه من دَرَأَ مسبقا بأساليب مسْتحْدثة وصارمة أخطار جائحة الكوليرا الأخيرة التي تعرض لها الإقليم ، فالجائحة السابقة التي جاءت وهو ما يزال في أوربا تسببت في موت ربع عدد السكان على الأقل خلال ثلاثة شهور بما في ذلك أبوه الذي كان طبيباً بارزاً أيضا .
بهذه الشهرة السريعة ، وبإعانة من الأرث العائلي أسس المؤسسة الطبية ، وهي المؤسسة الأولى والوحيدة في أقاليم الكاريبي لِسنوات طويلة ، وكان رئيساً لها مدى الحياة ، ثم أنشأ أول تمديدات لمياه الشرب بعد ذلك ، وأول نظام للصرف ، ودعا لإقامة السوق العام المسقوف الذي جعل شاطئ لاس إيماس صحياً بعد أن كان مجمعاً للنتانة ، كما كان رئيسا لأكادمية اللغة وأكادمية التاريخ ، وقد نصَّبه بطريارك القدس فارساً من مَرتبة سانتوسيبلوكرو لخدماته التي قدمها للكنيسة ، ومنحته الحكومة الفرنسية وسام جوقة الشرف من مرتبة فارس ، كما كان محركا فعالاً في جميع الجمعيات الدينية والمدنية التي أقيمت في المدينة وخصوصاً الجمعية الوطنية المؤَلَفَة من مواطنين مؤثرين ليست لديهم طموحات سياسية ، يمارسون نفوذهم على الحكومات والتجارة المحلية بأفكار متنورة تتسم بالجرأة بالمقارنة مع الظرف التاريخي ، من هذه الأفكار وأكثرها جدارة بالذكر كانت تجربة منطاد حمل في طيرانه الأول رسالة اىل بلدة سان خوان ديثالييناغا قبل زمن طويل من التفكير بالبريد الجوي كوسيلة عقلانية ،
ومن أفكاره أيضا إقامة المركز الفني الذي أَسس مدرسة الفنون الجميلة في المبنى ذاته الذي مازلت تحتله حتى الآن ، كما رعى طوال سنوات عديدة مهرجان الزهور في نيسان ، وهو وحده تمكن من تحقيق ما اعتُبِر مستحيلا خلال قرْن من الزمن ، إعادة افتتاح المسرح الكوميدي الذي تحول الى ملعب لصراع الديكة ومَرْبى ديوك منذ العهد الاستعماري ، كان ذلك تتويجا لحملة مدنية استعراضية شاركت بها جميع قطاعات المدينة بلا استثناء في تحرك حاشد اعتبره الكثيرون جديراً بقضية أهم ،
ومع ذلك فقد جرى افتتاح المسرح الكوميدي في الوقت الذي لم تكن توجد فيه مَقاعد ولا مَصابيح ، وكان على الحضور أن يجلبوا معهم ما يجلسون عليه ، وما يستضيئون به في الاستراحات بين الفصول ، وفُرِضَت آداب اللإتكيت القائمة في أعظم مسارح أوربا حيث انتهزت سيدات المجتمع الراقي الفرصة لعرض فساتينهن الطويلة ومعاطف الفراء في حَر الكاريبي الخانق ، إنما كان لابد من السماح للخدم بالدخول ليحملوا المَقاعد والمَصابيح ، وكذلك بعض الأطعمة التي كانوا يرون أنها ضرورية لاحتمال البرامج الطويلة التي لا تنتهي ، والتي استمر أحدها حتى ساعات صلاة الفجر الأولى ، وافتُتِح الموسم بفرقة أوبرا فرنسية ، كان الجديد لديها استخدام قيثارة في الأوركسترا ، وكان مجدها التَليد في الصوت النقي والموهبة الدرامية لمغنية تركية تغني وهي حافية وتضع خواتم ذات أحجار كريمة في أصابع قدَمَيها ، ومنذ الفصل الأول لم تعُد مرئية تقريبا وفقَدَ المُغنون أصواتهم بفعل الدخان المُنطلق من مَصابيح زيت الكوروثو ،
لكن كَتَبَة وقائع المدينة اهتموا بمحو هذه العوائق الصغيرة وتعظيم ما هو جدير بالذكر ، وقد كانت هذه دون شك أكثر مبادرات الدكتور أُورْبينوانتشاراً ، إذ انتقلت عدوى حُمَا الأوبرا الى قطاعات في المدينة لا تخطر على بال ، وكانت منطلقاً لجيل كامل من الأسلدات والعاطلين ومن العايدات والسجفدريدين ،
لكن ذلك كله لم يصل الى الذي تمناه الحد الدكتور أُورْبينو، ألا وهو رؤية أنصار الموسيقى الإطالية وأنصار فاغنر يواجهون بعضهم بعضاً بالعكاكيز أثناء الاستراحات .
لم يقبل الدكتور أُورْبينومطلقاً أي منصب رسمي من المناصب التي كثيرا ما كانت تُعرَض عليه دون شروط ، وكان ناقدا قاسياً للأطباء الذين يستغلون سمعتهم المهنية لِيرتقوا المناصب السياسية ، ورغم أنه اعتُبِر لبرالياً دوما واعتاد على التصويت في الانتخابات لمرشحي هذا الحزب ، فربما كان كذلك آخِر أبناء الأُسْرة الكبيرة الذي يَركع في الشارع لدى مرور مَركبة الأسقف ، وكان يعرف نفسه كنصير طبيعي للسلام ، ونصير للصلح النهائي بين اللبراليين والمحافظين من أجل مصلحة الوطن ،
لكن سلوكه العام كان ذاتياً لدرجة أن أحدا لم يعتبره موالياً له ، فاللِبْراليِون يرون فيه قوطياً من قوطيي الكهوف ، والمحافظون يقولون إن ما ينقصه هو أن يكون ماسونياً فقط ، ويبتعد عنه الماسونيون باعتباره كاهناً متخفياً يعمل في خدمة الكرسي البابوي .
وأقل نُقاده دمويةً كانوا يفكرون أنه ليس سوى أُورستقراطي غارق في ملذات ألعاب عيد الزهور فيما الأمة تنزف في حرب أهلية لا تنتهي .
عملان وحيدان قام بهما فقط وبدَيَا غير منسجمَين مع هذه الصورة ، الأول هو انتقاله الى بيت جديد في حي محدَثي الثراء بدلا من قصر الماركيز دي كاسال دوير القديم ، والذي كان بيت العائلة لأكثر من قرْن ، والعمل الآخر هو زواجه من آية جمال شعبية بلا ألقاب ولا ثروة ، تلك التي كانت تسخر منها سراً السيدات ذوات الألقاب الطويلة الى أنْ اقتنعن بالقوة أنها قادرة على اللف بهن سبع لفات برشاقتها وطبعها .
وقد كان الدكتور أُورْبينويضع في اعتباره دوما هذه العثرات وغيرها مما يحيط بصورته العامة ، ولم يكن هناك من هو أكثر منه وعياً لحالته كآخِر رجل من أبناء لقب آخذ في الانقراض ، فابناه كانا نهاية سُلالة لا بصيص أمل لها في الاستمرار ، ابنه الذَكَر طبيب مثله ومثل أسلافه في كل جيل ، لم يفعل شيئا يستحق الذكر ، حتى أنه لم ينجب ابناً رغم تجاوزه الخمسين من العمر ، وأوفيليا ابنته الوحيدة متزوجة من موظف مرموق في مصرف بينو أورليانز وقد بلغت سن اليأس ولم تنجب سوى ثلاث بنات دون أي مولود ذكر ، مع ذلك ورغم أن انقطاع رحمه في ينبوع التاريخ كان يسبب له الأسى ، فإن أكثر ما كان يقلق الدكتور أُورْبينومن الموت هو الحياة المتوحدة التي ستعيشها فرمينا داثَا بدونه .
لقد أثارت المأساة على كل حال قلقاً ليس بين ذويه فحسب بل إنها انتقلت بالعدوى الى عامة الشعب الذي خرج الى الشوارع على أمل التعرف ولو على بريق الأسطورة .
أأعلِنَت ثلاثة أيام من الحداد ، ونُكِّسَت الأعلام على الدوائر العامة ، وقُرِعت جميع نواقيس الكنائس دون توقف الى أنْ خُتِم الضريح في مدفن العائلة .
وقامت مدرسة الفنون الجميلة بطبع وجه الجثة لاستخدامها كقالب لتمثال نصفي بالحجم الطبيعي ، ولكن تم التخلي عن المشروع لأن أحداً لم يرَ تَقاطيع الوجه أمينةً بعد التحول الذي أصابه أثر رعب اللحظة الأخيرة ، ثم رسم فنان شهير مر من هنا مصادفة وهو في طريقه الى أوربا لوحة زيتية ضخمة بواقعية مؤثرة ، يظهر فيها الدكتور أُورْبينومتسلقاً السلم في اللحظة القاتلة التي مد فيها يده للأمساك بالببغاء ، والشيء الوحيد الذي كان يناقض الحقيقة الخامة في القصة هو أنه لم يكن يرتدي في اللوحة قميصه الذي بلا ياقة وحمالة السروالَين المخططتين بالأخضر ، وإنما القبعة المدورة والسترة السوداء المأخوذة عن صورة منشورة في الصحف خلال سنوات الكوليرا ، وقد عُرِضَت هذه اللوحة بعد شهور قليلة من المأساة كي يراها الجميع بلا استثناء في صالة السلْك الذهبي الفسيحة ، وهي دكان لبيع المواد المستوردة يَؤُمُّها سكان المدينة بأسرها ، بعد ذلك عُلِقت على جدران عدد من المؤسسات العامة والخاصة التي رأت أنه من الواجب تقديم فروض الاحترام لذكرى نبيل شهير ، ونُقِلت أخيرا في جنازة ثانية لِتُعلَق في مدرسة الفنون الجميلة حيث أخرجها من هناك بعد سنوات طويلة طلاب الرسم بالذات لإحراقها في ساحة الجامعة كرمز لجمالية وأزمنة مكروهة .
منذ اللحظة الأولى في حياتها كأرملة بدا أن فرمينا داثَاليست بائسة كما خشي زوجها ، فقد اتخذت موقفاً متصلباً بالإصرار على عدم السماح باستخدام الجثة في سبيل أي قضية ، كما اتخذت موقفا مماثلا من برقية رئيس الجمهورية الذي أمر بعرض الجثمان في الحجرة الخنقة في صالة الاحتفالات التابعة للسلطة المحلية ، وعارضت بنفس الصرامة أن يجري السهر على الجثمان في الكاتدرائيةكما طالب الأسقف شخصياً ، ووافقت على نقله الى هناك خلال قُدّاس الجسد الحاضر في المراسم الجنائزيَة ، ورغم توسط ابنها المذهول لكثرة هذه المَطالب وتنوعها ، حافظت فرمينا داثَابإصرار على فكرتها الريفية القائلة بأن الموتى لا ينتمون الى أحد سوى عائلاتهم ، وبأنه سيجري السهر على الجثة في البيت مع تقديم القهوة المُرة وكعك الجبن والدقيق ، وإفساح المجال لكل من يشاء أن يبكيه كما يرغب .
لم يجرِ السهر التقليدي الذي يدوم سبعة ليالٍ بل أُغلِقت الأبواب بعد الدفن ولم تعُد تُفتَح إلاى لِزِيارَات حميمة .
وُضِع البيت تحت نظام الموت ، كل شيء ذي قيمة نُقِل الى مكان آمِن ، ولم يبقَ على الجدران العارية سوى آثار الصور المنزوعة من مكانها ، وصُفَّت الكراسي الخاصة وتلك المستعارة من الجيران بمحاذاة الجدران في الصالة وحتى في غرف النوم ، وبدت المساحات الفارغة فسيحة جدا ، وكان للأصوات رنين خاص لأن قطع الآثاث الكبيرة قد أُبعِدت ما عدا بيانو الكونشيرتو القابع في ركنه تحت شرشف أبيض .
وفي وسط المكتبة فوق طاولة والده كان ممدداً في التابوت من كان خوفينال أُورْبينو ديلاكايي وقد تصلبت على وجهه حالة الرعب الأخيرة التي أحسها ، ومعه في التابوت العباءة السوداء وسيف فرسان سانتا سِيبلوكرو الحربي ، بينما فرمينا داثَا الى جانبه مُرتعشَة ، ولكن مسيطرة على نفسها تماما ، تتلقى التعازي بلا دراماتيكية ودون أن تتحرك تقريباً حتى الساعة الحادية عشرة من صبيحة اليوم التالي عندما ودَّعت زوجها من الرواق الخارجي قائلة له : وداعا . بمنديل في يدها .
لم يكن من السهل عليها أن تتماسك هكذا منذ أن سمعت صرخة ديغناباردو في الفِناء ووجدت شيخ حياتها يحتضر في الوحل ، وقد كانت رَدَة فِعلها الأولى مشبَّعة بالأمل ، لأن عينَيه كانتا مفتوحتَين وفيهما بريق ضوء مشع لم تَره في حدَقَتَيه أبدا من قبل .
رجت الله أن يمنحه لحظة من الحياة على الأقل كي لا يمضي دون أن يعرف كم أحبته فوق شكوكهما كِليهما ، واأحست باستعجال لا يقاوَم للبدء معه بالحياة ثانيةً منذ البداية ، لتقول له كل ما لم تقُلْه ، ولتفعل على أحسن وجه كل شيء كانت قد أساءت صنعه في الماضي ، ولكنها اضطرت للاستسلام أمام عناد الموت ، لقد تحلَل ألمها الى غضب أعمى ضد العالم ، بل وضد نفسها بالذات ، وهذا ما رسَّخ سيطرتها على نفسها ومنحها الشجاعة لمواجهة العزلة منفردةً .
لم تجد هدنة منذ ذلك الحين ، لكنها حاذرت من الإتيان بأي حركة قد يبدو فيها ما ينم عن ألمها ، واللحظة الوحيدة التي أحست فيها بشيء من التأثر وكان تأثراً لا إراديا كانت في الساعة الحادية عشرة من لَيل الأحد عندما حملوا التابوت الذي مازالت تنبعث منه روائح كروائح السفن ، بمقابضه النحاسية وتنجيده الحَريري الوثير ،
لقد أمر الدكتور أُورْبينوداثَا بإغلاقه فورا ، فجو البيت كان مُخلخَلا بروائح كل تلك الزهور في الحَر الخانق ، وأحس بأنه قد رأى أول الظلال البنفسجية على عنق أبيه .
وفيما هي ساهية سمعت في الصمت "إن المرء لَيصبح شبه متعفن وهو حي في مثل هذه السن"
وقبل أن يغلقوا التابوت ، نزعَت فرمينا داثَا خاتم الزواج من يدها ووضعته في يد زوجها الميت ، ثم غطت يده بيدها كما كانت تفعل دائما كلما فاجأته شارداًوسط الناس ، وقالت له : سنَلْتَقي قريباً جدا .
أحس فلورنتينوأَريثَا المختفي بين جموع الوُجَهاء والأعيان بحربة تخترق خاصرته ، لم تكن فرمينا داثَا قد ميَّزته وسط صخب التعزيات الأولى ، مع أن أحدا لم يكن أكثر حضوراً ولا أكثر فائدة منه في شؤون تلك الليلة المستعجلَة ، فهو الذي نظَّم العمل في المطابخ الغاصَة حتى لا تنقص القهوة ، وحصل على كراسي إضافية عندما لم تكن كراسي الجيران كافية ، وأمر بوضع الأكاليل الزائدة في الفِناء عندما لم يعُد في البيت متسع لأكليل آخر ، وتولى أمر عدم انقطاع البراندي من أجل ضيوف الدكتور لاثيديس أوليفيا الذين علموا بالخبر المشؤوم وهم في أوج الاحتفال باليوبيل الفضي ، فجاءوا فزعين ليتابعوا احتفالهم وهم جالسون على شكل دائرة تحت شجرة المانغا .
وكان هو وحده من أحسن التصرف حين ظهرت الببغاء الهاربة عند منتصف الليل في صالة الطعام ، رافعةً رأسها وفاتحةً جناحَيها مما أشاع قشعريرة ذهول في البيت ، إذ كانت تبدو وكأنها تقدم عرض تَوبة وتكفير .
أمسَكَها فلورنتينوأَريثَا من عنقها دون أن يتيح لها الوقت لتصرخ بأي من صرخاتها الحمقاء وحملها الى الإصطبل في قفص مغطى ، لقد فعل كل تلك الأمور بِصمْت كامل وفعالية فائقة لن تُتيحَا مجالاً لأحد كي يفكر بأن ما يفعله هو تدخل في شؤون الآخرين ، وإنما مساعدة لا تُثَمَّن في ساعة الشؤم التي يمر بها البيت .
كان يبدو عليه شيخ هرِم خدوم وجدي ، جسده عَظمي ومعتدل بشرته بُنية ومَرداء وعيناه شرِهَتان تُطِلّان من وراء النظارة المستديرة ذات الإطار المعدني الأبيض ، له شارب رومانسي ،طرفاه المدببان مثبتان بمادة مثَبِّتَة بطريقة متخلفة بعض الشيء عن العصر ، وكان آخِر ما تبَقى له من شَعَر على الصدغَين مُسَرَّحاً الى أعلى ومُثَبتاً بمثَبِّت شَعَر في وسط رأسه اللامع ، حُحل أخير لصلعة متكاملة .
إن مروءته الطبيعية وأساليبه الهادئة تَسْلُب اللب في الحال ، ولكن كان هناك أمران يثيران الشكوك في عازب متمادٍ في عزوبيته ،
لقد أنفق مالاً كثيرا ، وحيلة واسعة وتصميم شديد كي لا تظهر آثار السنوات الست والسبعين التي أتمها في شهر آذار الأخير ، وكان مقتنعاً في عزلة روحه بأنه قد أَحب بصمْت أكثر بكثير من أي أيٍ كان في هذا العالم .
في ليلة موت الدكتور أُورْبينوكان يرتدي الملابس التي كانت عليه عندما فاجأه الخبر ، وقد كانت نفس الملابس التي يرتديها دائما بالرغم من حَر حزيران الجهنمي ، بدلة من القماش الأسود مع صدرية ، وشريط حَريري معقود على الياقة القاسية وقبعة من اللَبَد ومظلة من مخمل أسود كان يستخدمها كعُكّاز أيضا ، ولكن ما أن بدأ الفجر ينبلج حتى اختفى من مكان السهر على الميت لمدة ساعتين عاد بعدهما مع أول أشعة الشمس بمظهر طازج ، فقد حلَق ذقنه جيدا وتطيب بمستحضرات تجميل وارتدى سترة سوداء من تلك التي لم تعُد تُستخدم إلا في الجنازات أو في مَراسم الاحتفال بالجمعة الحزينة وياقة ذات ربطة عنق مع شريطة الفنان بدلا من الكَرَفاتَا وقبعة مستديرة ، كما كان يحمل المِظلة ، وليس ذلك بفعل العادة وحدها وإنما لأنه كان متأكداً من أن المطر سيهطل قبل الثانية عشرة ، وقد أخبر بذلك الدكتور أُورْبينوداثَا ليرى إن كان بإمكان تقديم موعد الدفن ،
وحاولوا ذلك فعلا ، لأن فلورنتينوأَريثَا ينتمي الى عائلة مَلَاحين وهو نفسه يرأس شركة الكاريبي للملاحة النهرية ، مما يسمح بالافتراض أنه يفهم في الأرصاد الجويَة ، لكنهم لم يتمكنوا من إخطار السلطات المدنية والعسكرية في الوقت المناسب ، وكذلك المؤسسات العامة والخاصة والفرقة الموسيقية الحربية وفرقة موسيقى الفنون الجميلة والمدارس والجمعيات الدينية التي كانت متفقة على الساعة الحادية عشرة ، وهكذا فإن الجنازة التي كان مقررا لها أن تكون حدثا تاريخياً انتهت شَذَر مَذَر بفعل وابل المطر المدمر .
وكان قليلاً عدد الذين تمكنوا من الغوص في الوحل للوصول الى مدفن العائلة الذي تظلله شجرة ثييبس استعمارية تمتد أيكتها الى ما فوق جدار المَقبرة ، وتحت هذه الأيكة بالذات إنما في المنطقة الخارجية المخصصة للمنتحرين كان لاجئوا الكاريبي قد دفنوا في عصر اليوم السابق جيرميَا ديسَانْت آوكلبه بجواره تنفيذاً لمشيئته .
كان فلورنتينوأَريثَا أحد القلائل الذين واصلوا لحين الانتهاء من الدفن ، لقد ابتلت حتى ملابسه الداخلية ، ووصل الى بيته مذعورا من تعرضه للإصابة بنزْلة صدْرية بعد كل هذه السنوات من الرعاية الدقيقة والاحتياطات المفرطة .
أعد لنفسه ليمونادَا دافئة مع قليل من البراندي وتناولها في السرير مع قُرْصَين من الأسبرين ، وتَعَرَق عرَقاً غزيرا وهو متدثِر بحِرام صوفي الى أنْ استعاد جسده حرارته العادية .
وعندما رجع الى بيت العزاء أحس بالحماس الكامل .
كانت فرمينا داثَا قد تولت من جديد قيادة البيت المكْنوس والمهيأ لاستقبال المُعَزِين ، وكانت قد وضعت على المذبح الذي في المكتبة صورة لِزوجها الميت مرسومة بالباستال وعلى إطارها شريط حداد .
في الساعة الثامنة كان هناك حشد كبير من الناس ، وكان الحَر خانقاً كما في الليلة السابقة ، ولكن بعد قُدّاس الصباح بث أحدهم رجاءً يطلب الى الناس الانصراف باكراً كي تستريح الأرملة للمرة الأولى منذ عصر يوم الأحد .
ودَّعت فرمينا داثَا معظم المُعَزِين وهي الى جانب المذبح ، لكنها رافقت المجموعة الأخيرة من الأصدقاء الحميمين حتى الباب الخارجي لِتغلقه بنفسها كما اعتادت أن تفعل دائما ، وكانت تستعد لعمل ذلك بآخِر نفَس متبقٍ في صدرِها عندما رأت فلورنتينوأَريثَامرتدياً ملابس الحداد في وسط الصالة الخاوية .
أحست بالسعادة لأنها كانت قد نحَّته من حياتها منذ سنوات طويلة ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تراه فيها بوعي طَهَّرَه النسيان ، ، ولكن قبل أن تتمكن من شكره لهذه الزيارة وضع قبعته فوق موضع القلب وشقَّ الدُمُلَ الذي كان قوام حياته بأن قال لها بصوت مُرتعش ووقور : فرمينا لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرْن لُلِأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبَدي وحُبّي الدائم .
ظَنَّت فرمينا داثَاأنها تقف أمام معتوه ، ولم تكن لديها الأسباب لِتُفكر بأن فلورنتينوأَريثَا كان مُلهَماً في تلك اللحظة بنعمة روح القُدُس ، وكان رد فعلها الأَوَلي أن لعنته لانتهاكه حرمة البيت فيما جثة زوجها لا زالت ساخنة في القبر ، لكن الوقار منعها من الغضب فقالت له : انصرف ولا تدعني أراك في السنوات المتبقية لك في الحياة .
ثم أعادت فتح الباب الخارجي على اتساعِه بعد أن كانت قد بدأت بِإغلاقه ، واختتمت قائلة : وأرجو أن تكون سنوات قليلة .
عندما سمعت خطواته تنطفئ في الشارع المقفر أغلقت الباب ببطء شديد وأقفلته بالقفل والرِتاجات وواجهت قدَرها وحيدة .
لم تكن تَعي تماما حتى اليوم وزن وحجم المأساة التي أثارتها وهي في الثامنة عشر من عمرها ، والتي ستلاحقها حتى موتها .
بكَت لأول مرة منذ مساء المصيبة دون شهود ، وكانت هذه هي طريقتها الوحيدة في البكاء ، بكَت لموت زوجها ، لِعزلتها وغضبها ، وعندما دخلت مخْدعها الخاوي بكَت نفسها ، لأنها لم تَنَم في هذا الفراش وحيدة منذ فقدت عذريَتها إلا مرات قليلة .
كل أشياء زوجها كانت تستثير بُكاءها ، الخُف ذو الشراب ، البيجاما التي تحت الوسادة ، مكانه الفارغ في خوان الزينة ، رائحته الشخصية على بشرتها بالذات ، وهزها خاطر مبهم على الناس الذين يحبهم المرء أن يموتوا مع كل أشيائهم .
لم تكن بحاجة لمساعدة أي أحد كي تنام ، ولم ترغب بأكل شيء قبل النوم ورجت الله وهي مثقلة بالأسى أن يبعث لها الموت في هذه الليلة بالذات وهي نائمة ، وعلى هذا الأمل نامت ، نامت دون أن تدري بأنها نائمة ، لكنها كانت تدري أنها حية في نومها وأن لديها نصف سرير فائض عن حاجتها وأنها ترقد على جنبها في الطرف الأيسر كما هي عادتها ، إنما ينقصها توازن الجسد الآخر على الطرف المقابل من السرير .
وفيما هي نائمة تُفكر ، فكرت بأنها لن تستطيع أبدا النوم بهذا الحال ، وبدأت تنتحب وهي نائمة ، ونامت منتحبة دون أن تُغير وضعها على حافة السرير الى ما بعد انتهاء صياح الديكة بكثير .
وأيقظتها شمس الصباح الغير مرغوبة من دونه ، وحينئذٍ فقط أدركت بأنها قد نامت طويلا دون أن تموت منتحبة في الحلم ، وفيما هي تنام منتحبة كانت تُفكر بفلورنتينوأَريثَاأكثر من تفكيرها بزوجها الميت ...

الجزء الثاني

أما فلورنتينوأَريثَافلم يتوقف عن التفكير بِفرْمينا داثَا للحظة واحدة منذ أن رفضته بلا استئناف إثر غراميات طويلة متناقضة ، وقد انقضت منذ ذلك الحين إحدى وخمسون سنة وتسعة شهور وأربعة أيام ، لم يكن عليه حمل حساب النسيان بوضع خط صغير يومي على جدران زنزانة لأنه لم يكن يمر يوم إلا ويحدث شيء يُذَكِّرُه بها ، كان له من العمر عند القطيعة اثنتان وعشرون سنة وكان يعيش وحيدا مع أمه ترانْسيتوأَريثَا في نصف بيت مستأجر في شارع لاس بنتاناس حيث كانت لأمه منذ سنوات شبابها تجارة خردوات ، وحيث كانت تَنْسِلُ نسيج قمصان ومِزَقاً قماشية قديمة لتبيعها كقطن لجرحى الحرب ، وكان هو ابنها الوحيد أنجبته من لقاء عابر مع صاحب السفن المعروف دونْ بايو الخامس لُوايثَا أكبر الأشقاء الثلاثة الذين أَسسوا شركات الكاريبي للملاحة النهرية مقدمين بذلك دفعة جديدة للملاحة البخارية في نهر ماجْدالينَا .
لقد مات دونْ بايو الخامس لُوايثَا عندما كان ابنه في العاشرة من العمر ، ورغم أنه كان يتولى دوما أمر نفقاته سراً فإنه لم يعترف به أبدا كابن له أمام القانون ، ولم يترك له ما يضمن مستقبله ، وهكذا بقي فلورنتينوأَريثَا يحمل لقب أمه ففقط ، مع أن حقيقة نسبه كانت معروفة للجميع .
وبعد موت الوالد كان على فلورنتينوأَريثَا أن يترك المدرسة ليعمل كمتمرن في وكالة البريد ، حيث كانوا يكلفونه بفتح الأكياس وترتيب الرسائل ، وإعلام الجمهور بوصول البريد عن طريق رفع راية البلد المُرسِل فوق باب المكتب ، ولقد لفتت حصافته انتباه عامل التلغراف المهاجر الألماني لوتاريو توغوت الذي كان يعزف الإرغنا أيضا في حفلات الكاتدرائية الكبيرة ، ويعطي دروساً في البيوت .
وعلَّمه لوتاريو توغوت منهاج رموز المُورْس وطريقة استخدام التلغراف ، وكانت دروس الكمان الأولي كافية ليُتابع فلورنتينوأَريثَا العزف السماعي .
عندما تعرف على امرأة تردد صوت قراءة ، ولدى مروره مقابل حجرة الخياطة رأى عبر النافذة امرأة مسنة وصبِية تجلسان على مقعدَين متجاورَين ، وكِلاهما تتابعان القراءة في الكتاب ذاته الذي تحمله المرأة مفتوحاا في حضنها .
بدا له الأمر كرؤيا غريبة ، الابنة تُعَلِّم أمها ، كان تقديره خاطئا جزئياً ، لأن المرأة هي عمة الصبِية وليست أمها رغم أنها رَبَّتها كما لو كانت أمها .
لم يتوقف الدرْس ، لكن الصبِية ر فعت نظرها لترى من الذي يمر عبر النافذة ، وكانت هذه النظرة العابرة أصل كارثة حب لم تنتهي بعد مرور نصف قرْن من الزمان .
الشيء الوحيد الذي استطاع فلورنتينوأَريثَا أن يتحراه عن لورينْثوداثَا هو أنه قدِم من سان خوان ديلاثياناغا مع ابنته الوحيدة وشقيقته العزباء بعد فترة قصيرة من جائحة الكوليرا ، والذين رأوه ينزل الى البر لم يراودهم الشك بأنه جاء ليقيم ، إذ كان يحضر معه ما يحتاجه بيت حسن التجهيز .
كانت زوجته قد توفيت فيما كانت ابنته لاتزال طفلة صغيرة ، وواسم أخته أسْكولا أَسْتيكا ولها من العمر أربعين سنة ، وهي تفي نذرا بلبس مسوح القديس سان فرانثسكو عند خروجها الى الشارع ، وتكتفي بربط حبل الطائفة على خصرها فقط حين تكون في البيت عل، أما الصبِية فعمرها ثلاث عشرة سنة وتدعى باسم أمها الميتة نفسه فرْمينا .
كان يُفترض أن لورينْثوداثَا رجل ذو موارد لأنه يعيش في بحبوحة دون ممارسة مهنة معروفة ، وقد اشترى نقدا بيت البشارة غير المكتمل ، والذي كان إصلاحه يتطلب على الأقل ضعف المائتَي بيزو ذهبية التي دفعها ثمناً له .
وكانت الابنة تدرس في مدرسة ظهور العذراء المقدسة ، حيث كانت تتعلم آنسات المجتمع الراقي منذ قرون فن ومهنة التحول الى زوجات مدبرات ومطيعات .
في العهد الاستعماري وخلال سنوات الجمهورية الأولى كانوا لا يقبلون في المدرسة إلا وارثات الألقاب الكبيرة فقط ، ثم اضطرت العائلات القديمة المنهارة بفعل الاستقلال الى الخضوع لوقائع الأزمنة الجديدة ، ففتحت المدرسة أبوابها لجميع المتقدمات اللاتي يستطعن دفع نفقاتها دون الاهتمام لأنسابهن ، والشرط الوحيد الجوهري الذي بقي قائما هو أن يكُنَّ بنات شرعيات لِزَواج كاثوليكي .
لقد كانت مَدرسة غالية التكاليف على أية حال ، ومجرد كَون فرْمينا داثَاتدرس هناك هو بحد ذاته مؤشر على الوضع المادي للعائلة ، وإن لم يكن مؤشراً على وضعها الاجتماعي .
لقد شجعت هذه الأخبار فلورنْتينوأَريثَا إذ أوضحت له أن الصبِية الجميلة ذات العينَين اللوزيتَين ككانت في متناول أحلامه ، ولكن سرعان ما ظهر نظام أبيها الصارم كعائق لا سبيل الى تجاوزه ، فعلى العكس من التلميذات الأخريات اللواتي كنَّ يذهبن الى المَدرسة في مجموعات أو برفقة خادمة متقدمة في السن .
كانت فرْمينا داثَا تمضي دوما مع عمتها العزباء ، وكان سلوكها يشير الى أنه ليس مسموحاً لها بأي نوع من اللهو ، وهكذا كان أن بدأ فلورنْتينوأَريثَا حياته الصامتة بقلب مكْبوت .
كان يجلس منذ الساعة السابعة صباحا وحيدا على أقل مقاعد الحديقة ظهوراً للعيان ، متظاهرا بقراءة ديوان شعر في ظل أشجار اللوز الى أنْ يرى مرور الصبِية المستحيلة بزيها المدْرسي ذي الخطوط الزرقاء وجرابها ذي الرباط الذي يصل حتى الركبتَين ، وحذائها الرجالي برباطها المتقاطع وبضفيرة وحيدة ثَخينَة مربوطة في طرفها بِشريط ومتدلية على الظهر حتى خصرها .
كانت تمشي بكبرياء طبيعي ، رأسها مرفوع ونظرها ثابت وخطوتها سريعة وأنفها شامخ ، وحقيبة كتبها المدرسية مضغوطة بيديها المتصلبتين على صدرِها ، وبمشية غزالة تجعلها تبدو محصنة على الرصانة ، وإلى جانبها تمضي شادة خطواتها عمتها بِمُسوحِها البني وحزام طائفة سان فرانْثسكو بحيث لا تترك أدنى ثغرة للاقتراب .
كان فلورنْتينوأَريثَا يراهما تمران في الذهاب والإياب أربع مرات في اليوم ، ومرة واحدة أيام الآحاد عند الخروج من القداس الكبير ، وكانت رؤية الصبِية تكفيه .
وشيئا فشيئا أخذ يرسم لها في مخيلته صورة مثالية بمشاعر خيالية ، وبعد مرور أسبوعين لم يعُد يفكر بأي شيء سواها ، وهكذا فكر أن يبعث لها رسالة مكتوبة على ورقة بخطه الرائع كخطاط ، لكنه احتفظ بها عدة أيام في جيبه مُفكِّراً بطريقة لتسليمها إليها ، وفيما هو يفكر كان يكتب عدة ورقات جديدة قبل أن ينام ، بحيث أخذت الرسالة الأصلية تتحول الى معجم في الغزَل المتأثر بالكتب التي حفظها غَيْباً لكثرة ما قرأها وهو ينتظر في الحديقة .
وفي بحثه عن وسيلة لإصال الرسالة حاول التعرف على بعض تلميذات المدْرسة لكنهن كنَّ بعيدات جدا عن عالمه ، كما بدا له بعد تفكير طويل أنه ليس من الحكمة إطلاع أحد على نواياه ، ورغم ذلك توصل لأن يعرف أن فرْمينا داثَا كانت قد دُعِيَت الى حفلة رقص من حفلات السبْت بُعَيْد مجيءها الى البلدة وأن أباها لم يسمح لها أن تذهب متعللا بعبارة حاسمة : كل شيء في وقته المناسب .
أصبحت الرسالة تضم أكثر من ستين ورقة مكتوبة على الوجهَين ، عندما لم يعُد بمقدور فلورنْتينوأَريثَا احتمال ضغط سره أكثر ، ففتح قلبه دون تحفظ لأمه ، وهو الشخص الوحيد الذي كان يبيح لنفسه مفاتحتها ببعض أسراره .
انفعلت ترانْسيتوأَريثَا حتى الدموع لسذاجة ابنها في شؤون الحب وحاولت توجيهه بأنوارها ، بدأت بإقناعه بعدم تسليم المجلد الغنائي الذي لن يتوصل من خلاله إلا الى إفْزاع فتاة أحلامه التي يُفترَض بأنها ليست ذات خبرة في أمور القلب مثله .
وقالت له إن الخطو الأولى هي جعلها تنتبه الى اهتمامه بها ، حتى لا يأخذها بالتصريح لها عن حبه على حين غِرة ، ويكون لديها متسع من الوقت للتفكير .
وقالت له : ومن عليك الوصول لها أولا وقبل كل شيء هي العمَّة وليس الفتاة .
كِلا النصيحتَين كانت حكيمتَين دون شك لكنهما جاءتا متأخرتَين ، فالواقع أنه منذ اليوم الأول الذي أهملت فيه فرْمينا داثَا لبرهة قصيرة درس القراءة الذي كانت تلقنه لعمتها ورفعت بصرها لترى من الذي يمر بالرواق ، كان فلورنْتينوأَريثَا قد أثَّر فيها بمظهره المَخْذول ، وفي الليل أثناء تناول الطعام تحدث والدها عن البرقية ، وهكذا كان أن عرفت ما الذي جاء يفعله فلورنْتينوأَريثَا في البيت وما هي مهنته .
وقد ضاعفت هذه المعلومات من اهتمامها ، إذ كان اختراع التلغراف بالنسبة لها كما هو بالنسبة لأناس كثيرين في تلك الحقبة أمر له علاقة بالسحر ، وهكذا تعرفت على فلورنْتينوأَريثَا منذ المرة الأولى التي رأته فيها يقرأ تحت أشجار الحديقة ، ورغم أنه لم يُثِر فيها أي نوع من القلق الى أنْ لفتت العمَّة نظرها الى أنه كان يجلس هناك منذ عدة أسابيع ، وعندما رأتاه فيما بعد أثناء الخروج من القُدّاس تَرسخت قناعة العمَّة بأن كل هذه اللقاءات لا يمكن أن تكو مصادفة ، وقالت :
- ليس من أجْلي يحتمل هذا الإزعاج .
إذ رغم سلوكها الصارم ومسوح العفة الذي تتسربل به كانت العمَّة أسْكولا أَسْتيكا تحمل غريزة الحياة وتميل الى المشاركة فيها ، وهما أفضل صفتَين فيها ، ومجرد الفكرة بأن هناك رجلا مهتما بابنة أخيها كان يثير فيها انفعالاً لا يقاوَم .
أما فرْمينا داثَا فكانت لا تزال بمَنجى حتى من مجرد الفضول بشأن الحب ، الشيء الوحيد الذي أثاره فيها فلورنْتينوأَريثَاهو قليل من الأسى ، إذ بدا لها عليلا .
لكن العمَّة قالت لها : أنه لابد من العيش طويلا لمعرفة الطبيعة الحقيقية للرجل .
وكانت مقتنعة أن ذاك الذي يجلس في الحديقة ليراهما تمران لا يمكن أن يكون إلا مريضا بداء الحب .
كانت العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ملجأ تَفَهُّم وعطف للابنة الوحيدة لزواج بلا حب ، لقد ربَّتها منذ موت أمها ، وبالمقارنة مع لورينْثوداثَا كانت تتصرف كشريكة أكثر منها كعمَّة ، وهكذا كان ظهور فلورنْتينوأَريثَا بالنسبة لهما تسلية جديدة تضاف الى التسليات الكثيرة التي تبتدعانها لتمضية وقتهما الميت .
أربع مرات في اليوم كلما اجتازتا حديقة البشارة كانتا تسرعان للبحث بنظرة فورية عن ذلك الحارس الضامر الخجول ، ضئيل الشأْن ، والذي يرتدي بشكل شبه دائم ملابس سوداء رغم الحَر ، ويتظاهر بالقراءة تحت الأشجار .
- ها هو هناك .
تقول التي تكتشفه أولا كاتمةً ضحكتها قبل أن يرفع نظره ويرى المرأتَين الصارمتَين البعيدتَين عن حياته وهما تجتازان الحديقة دون أن تنْظَرَا إليه .
قالت العمَّة في إحدى المرات : يا للمِسكين ، لا يجرؤ على الاقتراب لأنني معك ، لكنه سيحاول ذلك يوما إذا كانت نواياه جدية وعندها سيسلمك رسالة .
واحتياطاً لأي نوع من المصائب علَّمتها التواصل بحروف يدوية ، وكانت تلك وسيلة ضرورية للغراميات المحرمة ، وقد أثارت المشاوير العرَضية وشبه الصبيانية فضول فرْمينا داثَا الى الجديد ، ولكن لم يَخْطر لها أبدا طوال عدة شهور أن تمضي الى أبعد من ذلك .
لم تعرف أبدا متى بدأت تسليتها تتحول الى قلق ، ويتحول دمها الى زُبْد للإسراع برؤيته .
وقد استيقََظَتْ في إحدى الليالي مذعورة لأنها رأته يتأملها في الظلام من طرف السرير ، عندئذٍ تَمَنَّت من أعماقها أن تتحقق تكهنات العمَّة ، وصارت تدعو الله في صلواتها أن يمنحه الشجاعة كي يسلمها الرسالة لتعرف فقط ما الذي سيقوله فيها ، لكن دعواتها لم تُستَجَب وكانت الوقائع معاكسة لذلك .
حدَث هذا في الفترة التي صارَح فيها فلورنْتينوأَريثَاأمه وثنتْه هذه عن عزمه بتسليم السبعين ورقة من الغزَل ، وهكذا كان على فرْمينا داثَاأن تُتابِع الانتظار بقية تلك السنَة .
أخذ قلقها يتحول الى يأس كلما اقتربت عطلة كانون الأول المَدْرسية ، إذ أخذت تتساءل عما ستفعله لتراه ويراها خلال الشهور الثلاثة التي لن تذهب خلالها الى المدْرسة .
وقد ألحت عليها الشكوك دون أن تجد لها حلاً في ليلة الميلاد حين هزها إحساس بأنه ينظر إليها بين جموع المصلّين في القُدّاس ، ولقد أثار هذا القلق في قلبها ، ولم تكن لِتجْرؤ على الالتفات وهي تجلس بين أبيها وعمتها ، وكان عليها أن تَكْبَح نفسها كي لا يلاحظا اضطرابها ، ولكنها أحست به في فوضى الخروج قريباً جدا منها ، وواضحا جدا وسط الحشد ، ودفعتها قوة لا تقاوَم للنظر من فوق كتفَيها وهي تغادر المعْبد من الممر الأوسط ، ورأت حينئذٍ على بُعد شبرَين من عينيها العينَين الأخريَين الجليديتين والوجه الملوِّح والشفتَين المتحجرتَين برعب الحب .
اضطربت لجسارتها وتشبثت بذراع العمَّة أسْكولا أَسْتيكاكي لا تسقط على الأرض ، فأحست هذه بالعرَق البارد على اليد عبر القفاز المخَرم ، وشجعتها بإشارة موافِقة لا مشروطة خفية .
ووسط دوي الألعاب النارية والطبول ، وسط أعمدة الإنارة المنصوبة أمام الأبواب وصخب الجموع المتعطشة للسلام هام فلورنْتينوأَريثَا كمَن يسير وهو نائم حتى الفجر مراقباً الاحتفال من خلال دموعه ، ومذهولا في التخيل بأنه هو وليس الرب من وُلِدَ في تلك الليلة .
ازداد هذيانه في الأسبوع التالي حين مَر في وقت القيلولة ببيت فرْمينا داثَادون أمل ، ورآها تجلس مع عمتها تحت أشجار اللوز في الفِناء ، كان المشهد تكراراً للوحة التي رآها في مساء اليوم الأول في حجرة الخياطة .
الصبِية تلقن العمة درس القراءة ، لكن فرْمينا داثَاكانت مختلفة الهيئة وهي بدون زيها المدْرسي ، إذ كانت ترتدي عباءة من الكتان الأبيض بها ثنايا كثيرة تنسدل من كتفَيه وكأنها رِداء إغريقي ، وعلى رأسها أكليل من أزهار الياسمين الطبيعية يمنحها مظهر إلَهَة مُتَوَّجَة .
جلَس فلورنْتينوأَريثَافي الحديقة حيث تأكد أنه سيكون مَرئياً ولم يلجأ عندئذٍ الى أسلوب التظاهر بالقراءة ، وإنما جلَس والكتاب مفتوح مركزاً بصره على الآنسة السامية التي لم تبادله ولو نظرة شفقة .
ظن في البدء أن الدرس تحت أشجار اللوز هو تغيير طارئ ، ربما بسبب الإصلاحات التي لا تنتهي في البيت ، لكنه أدرك في الأيام التالية أن فرْمينا داثَاستكون هناك تحت نظره في مساء كل يوم من وفي الساعة ذاتها طوال شهور العطلة الثلاثة ، وألهمه هذا اليقين حماسة جديدة .
لم يشعر بأنها رأته ، ولم يلمح أية علامة تدل على اهتمام أو إهمال ، ولكن في لامبالاتها كان ثمة بريق مختلف شجعه على المُثابرة ، وفجأة في عصر يوم من أيام كانون الثاني وضعت العمة شغلها على الكرسي وتركت ابنة أخيها وحدها في الفِناء بين نِثارة الأوراق الصفراء المتساقطة من أشجار اللوز ، ومدفوعا باعتقاده المتهور بأنها الفرصة المناسِبة ، اجتاز فلورنْتينوأَريثَا الشارع وانتصب أمام فرْمينا داثَا ، قريبا جدا منها بحيث شعَر بشهقتها وبتنفسها الوردي الذي سَي؟ُمَيِّزُها فيه طوال حياته المتبقية .
حدَّثها برأس مرفوع وبتصميم لن يصل إليه ثانيةً إلا بعد نصف قرْن ولنفس السبب .
قال لها : الشي الوحيد الذي أطلبه منك هو أن تتقبلي رسالة مني .
لم يكن الصوت الذي انتظرته فرْمينا داثَا منه ، كان صوتا واثقا ومتسلطاً ، لا علاقة له بأساليبه الخاملة .
ودون أن ترفع نظرها عن التطريز أجابته : لا أستطيع قبولها دون إذن والدي .
ارتعش فلورنْتينوأَريثَابدفء ذلك الصوت الذي لن ينسى جرسه المُنْطفئ طوال حياته ، لكنه استمر على ثباته وردَّ في الحال : احْصُلي على الإذن .
ثم رَقق من لهجة الأمر بِرَجاء : إنها مسألة حياة أو موت .
لم تنظر فرْمينا داثَاإليه ، ولم تتوقف عن التطريز ، لكن قرارها فتح له باباً يتسع للعالم بأسره حين قالت له : عُد مساء كل يوم وانتظر الى أنْ أبدل مقعدي .
لم يفهم فلورنْتينوأَريثَا ما عَنَتْه حتى يوم الاثنين من الأسبوع التالي ، عندما رأى وهو على مقعده في الحديقة نفس المشهد الذي يراه كل يوم مع تبدل وحيد ، حين دخلت العمَّة أسْكولا أَسْتيكاالى البيت نهضت فرْمينا داثَا وجلَسَت على المقعد الآخر ، عندئذٍ اجتاز فلورنْتينوأَريثَاالشارع وهو يضع زهرة كاميليا بيضاء في عروة سُترته ، وانتصب أمامها .
قال : هذه هي أعظم لحظة في حياتي .
لم ترفع فرْمينا داثَا نظرها إليه ، وإنما تفحصت الجوار بنظرة دائرية ، ورأت الشوارع المقفرة في سُبات الجفاف وزوبعة أوراق ميتة تتقاذفها الريح ،
فقالت : اعطني إياها .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد فكَّر بأن يحمل إليها الورقات السبعين التي صار قادرا على استظهارها من الذاكرة لكثرة ما أعاد قراءتها ، لكنه حسم أمره بعد ذلك بالاكتفاء بنصف ورقة ، مختصرة وواضحة يعاهدها فيها على ما هو جوهري فقط ، وفاؤه تحت أية ظروف وحبه الأَبَدي .
أَخرجها من جيب سُترته الداخلي ووضعها أمام عينَي المُطَرِّزَة الحزينة التي لم تتجرأ حتى ذلك الحين على النظر إليه .
رأت المغلف الأزرق يرتعش في يد جمَدها الرعب ، ورفعت طارة التطريز ليضع الرسالة ، إذ أنها غير قادرة على السماح له برؤية ارتعاش أصابعها ، وحدث حينئذٍ أن ارتعش عصفور بين أوراق أشجار اللوز وأفلت في الوقت ذاته ذرْقة على التطريز ، فأبعدت فرْمينا داثَا الطارة وخَبَأتها وراء المقعد كي لا ينتبه لما حدث .
ونظرت إليه للمرة الأولى بوجه ملتهب .
فقال فلورنْتينوأَريثَا المتجمد والرسالة في يده : إن هذا فأل خير .
شَكَرته بابتسامتها الأولى إليه ، وانتزعت منه الرسالة ، ثم طوتها وأخفتها في صدريتها .
قدَّمَ لها حينئذٍ زهرة الكاميليا التي كانت في عروَتِه ، فرفضتها .
- إنها زهرة التزام .
وعادت فورا للاختباء في رصانَتِها وقد وعت أن الوقت قد نفَد .
قالت : اذهب الآن ، ولا ترجع الى ، أن أُخبرك .
عندما رآها فلورنْتينوأَريثَا لأول مرة اكتشفت أمه ذلك قبل أن يخبرها لأنه فقدَ النطق والشهية ، وراح يقضي الليالي مُسْهِداً يتقلب في الفراش ، لكنه حين بدأ ينتظر الرد على رسالته الأولى تضاعف الجزع وتحول الى اختلاطات متَرافِقة مع براز وقيء أخضرَين وفقدَ القدرة على التوجه وعانى من إغماءات مفاجئة ، ففزعت أمه لأن حالته لا تنتمي الى اضطربات الحب وإنما الى اختلاطات الكوليرا ، وكذلك عَرَّب فلورنْتينوأَريثَا وهو طبيب مِثْلي عجوز وأمين أسرار ترانسيتو داثَا مذ كانت عشيقة سريَة ، فزع أيضا للوهلة الأولى من حالة المريض ، لأن نبضه كان ضعيفاً وتنفسه رملياً وعَرَقه شاحبا كحالة المحتضرين ، لكن الفحص كشف له عدم وجود حُمّا ولا آلام في أي موضع ، والشيْء الوحيد الذي كان يشعر به هو حاجة مستعجلة للاستجواب للابن أولا ثم للأم ، ليتأكد مرة أخرى أن أعراض الحب هي نفس أعراض الكوليرا ، فوصف له نقيع أزهار الزيزفون للتتماسك أعصابه واقترح عليه تغيير الجو للبحث عن العزاء في البُعد ، لكن ما كان يشتاقه فلورنْتينوأَريثَا هو عكس ذلك تماما ، الاستمتاع بعذابه .
كانت أنسْتيرا أَريثَا امرأة أربعينية حرة لديها ميل محبط الى السعادة بفعل الفقر ، وكانت تشارك في آلام ابنها كما لو أنها آلامها ، فهي تقدم له المشروبات المهدئة حين تلاحظ أنه أخذ يهذي أو تدثره بأغطية صوفية لتخدع القشعريرة التي تنتابه ، لكنها تشجعه في الوقت ذاته على التسلية بإنهاك نفسه ، فهي تقول له : انتهز الفرصة كي تتألم بقدر ما تستطيع الآن وأنت شاب ، لأن هذه الأمور لا تدوم طول الحياة .
أما في وكالة البريد فلم يكونوا يفكرون بهذه الطريقة طبعا ، إذ كان فلورنْتينوأَريثَا يهمل في عمله ويمضي ساهياً فيخلط بين الأعلام التي يعلن بها عن وصول البريد ، ففي أحد أيام الأربعاء رفع العلَم الألماني بينما كانت السفينة القادمة تابعة لشركة ليلاند وتحمل بريد ليفربول ، وكان يرفع في أي يوم آخر علَم الولايات المتحدة مع أن السفينة القادمة تتبع لشركة جِنيرال ترانستلانتك وتحمل بريد سانت نازير ، وقد كانت تشوشات الحب تلك تُسبب تأخيرا في توزيع البريد ، وتثير احتجاجات كثيرة من جانب الجمهور .
وإذا كان فلورنْتينوأَريثَا لم يُطرَد من عمله فلإن لوتاريو توغوت احتفظ به في قسم التلغراف وأخذه ليعلمه العزف على الإرغن في كورال الكاتدرائية .
كانا يرتبطان بحِلف عصي على الفهم بسبب فارق السن بينهما ، إذ كان بالإمكان اعتبارهما جدا وحفيدا ، لكن علاقتهما كانت حسنة جدا سواء في العمل أَم في حانات الميناء حيث يلتقي محبو السهر حتى ساعات متأخرة من الليل دون وساوس طبقية ، اعتبارا من سكارى الصدقات وحتى الشبان الراقين ذوي الملابس البروتوكولية الذين يهربون من حفلات النادي الاجتماعي ليأكلوا فطائر الجبن المقلية مع جوز الهند .
لقد اعتاد لوتاريو توغوت الذهاب الى هناك بعد وردية التلغراف الأخيرة ، وكان يدركه الصباح في معظم الأحيان وهو مايزال يشرب الأُوبورج الجمايكي ويعزف الأوكورديون مع طواقم مَلّاحي سفن جزر الأنتيل الحمقَى ، كان بديناً يشبه السلحفاة ، له لحية مُذَهَّبة ، ويضع لدى خروجه لَيلا طاقيت من تلك التي تُمثل رمز الجمهورية الفرنسية ، ولم يكن ينقصه إلا درْع مضيء ليصبح مشابهاً تماما للقديس نيكولا ، وكان يُجْهز مرة واحدة كل أسبوع على الأقل على واحدة من عصفورات الليل كما اعتاد تسمية أولئك اللواتي يبعن الحب الطارئ في فندق للعابرين من البحارة ، وكان أول ما فعله بشيء من اللذَة المتقنة حين تعرف على فلورنْتينوأَريثَا هو تعريفه على أسرار فردوسه ، كان يختار له العصفورات اللواتي يبدون له أفضل من سِواهن ، ويساومهن في السعر والطريقة ، ثم يعرض عليه أن يدفع له من ماله الخاص مقابل الخدمات التي يقدمنها ، لكن فلورنْتينوأَريثَا لم يكن يوافق ، كان في عذريته ولقد قرر أن يبقى كذلك ما لم يفعل ذلك عن حب .
كان الفندق عبارة عن قصر استعماري متهاون ، قُسِّمَت صالوناته الكبيرة وغرف المرمر فيه الى غرف صغيرة بورق مقوى مليء بثقوب أحدثتها المطاوي ، وكانتتُؤَجَّر لممارسة الحب أو للتفرج على من يمارسه ، وثمة أحاديث تدور عن متلصص سَمَلوا له عينه بمَسلة حياكة ، وعن آخر تَعرَف على زوجته بالذات فيما هو يتلصص ، وعن نبلاء من الطبقة الراقية كانوا يتنكرون بزي بائعات خضار ليغرقوا أنفسهم مع العسكريين العابرين ، وعن حوادث أخرى حول متلصصين ومُتَلَصَص عليهم مما جعل مجرد التفكير بالنظر الى الحجرة المجاورة أمرا مرعبا بالنسبة لفلورنْتينوأَريثَا .
ولم يتمكن لوتاريو توغوت من إقناعه بأن الرؤية والسماح للآخرين بالمشاهدة هي من آداب أُمَراء أوربا .
وعلى العكس من الاعتقاد الذي قد تثيره بدانته كان لوتاريو توغوت دوامة شوروبيم تبدو وكأنها برعم وردة ، ويبدو أن هذا كان عيب حسن الطالع لأن أكثر العصفورات استعمالا كنَّ يتنازعن النوم معه ، وكانت صرخاتهن المذبوحة تهز أدراج القصر وتبعث رعشة الرغبة في أشباحه ، كان يقال بأنه يستخدم مَرْهَماً مُحَضَّراً من سُمِّ الثعابين يُلْهِب به أرحام النساء ، لكنه كان يقسم بأنه لا يملك أية وسائل سوى تلك التي وهبها الله إياها .
كان يقول منفجرا بالضحك : : إنه الحب وحده .
وكان لابد من انقضاء سنوات طويلة ليدرك فلورنْتينوأَريثَا بأنه ربما كان يقول الصدق ، ثم انتهى الى الاقتناع من خلال العاطفية في زمن متأخر حين تعرف على رجل يعيش حياة ملك باستغلاله ثلاث نساء في الوقت ذاته ، كانت النساء الثلاث يقدمن له الحساب في الفجر ذليلات عند قدمَيه ليغفر لهن احتفاظهن بمبالغ زهيدة ، والمكافأة الوحيدة التي كنَّ يرغبن فيها هي قبوله الضطجاع مع من تأتيه بأكبر قدر من المال .
وكان فلورنْتينوأَريثَا يعتقد بأن الخوف وحده قادر على إصالِهُنَّ الى مثل هذا الذل ، لكن إحدى الفتيات الثلاث فاجأته بالحقيقة المعاكِسة حين قالت له : إن هذه الأمور لا يمكن تحقيقها إلا بالحب .
ولم يكن السبب في توصل لوتاريو توغوت لأن يكون أحد أهم زبائن الفندق هو فجوره بقدر ما كانت ظرافته الشخصية .
ولقد اكتسب فلورنْتينوأَريثَا كذلك احترام صاحب المحل لكونه صموتا ومرناً ، وقد اعتاد في أقصى مراحل كربه أن يحبس نفسه ليقرأ الأشعار وكُتيبات الدموع في الحجرات الخانقة ، وكانت أحلامه تخلف أعشاش سنونوات سوداء على الشرفات وهمس قُبُلات وخفْق أجنحة في خمود الظهيرة ، وفي المساء حين يخف الحَر كان يستحيل عليه ألا يستمع الى أحاديث الذين يأتون لإغراق أنفسهم من العمل في حب سريع ، وهكذا أصبح فلورنْتينوأَريثَا يعرف خيانات زوجية كثيرة ، بل وبعض أسرار الدولة من الزبائن المرموقين ومن رجال السلطات المحليَة الذي كانوا يأتمنون عشيقاتهم العابرات دون أن يحتاطوا كي لا يسمعهم من هم في الغرفة المجاورة ، وكان هذا أن علِم أيضا أنه على بُعد أربعة فراسخ بحرية الى الشمال من سوتا فينتو ترقد غارقة في قاع البحْر منذ القرْن السابع عشر سفينة إسبانية محملة بأكثر من 500 مليون بيزو من الذهب الخالص والأحجار الكريمة ، لقد أذهلته القصة ، لكنه لم يعُد للتفكير فيها إلا بعد مضي عدة شهور عندما أثار جنون الحب شوقه لاستخراج الثروة الغارقة ، كي يجعل فرْمينا داثَا تستحم في أحواض من الذهب .
بعد سنوات من ذلك حين كان يحاول أن يتذكر كيف كانت في الواقع تلك الصبِية التي رسم لها في ذهنه صورة مثالية بسيمياء الشعر ، لم يكن يستطيع تمييز ملامحها وسط أمسيات تلك الأزمنة المؤثرة ، وحتى حين كان يلمحها دون أن تراه في أيام الجزع التي انتظر فيها الرد على رسائله الأولى ، كان يراها بصورة مختلفة في وهج الساعة الثانية ظهراً تحت وابل من زهر اللوز ، حيث كان الوقت نيساناً في أي شهر من شهور السنَة .
كان اهتمامه الوحيد في ذلك الحين مُنْصَبّاً على مرافقة لوتاريو توغوت بالكمان على المنصة المخصصة للكورال ، وذلك ليرى كيف تتموج عباءتها بنَسيم الإنشاد ، لكن هذيانه بالذات كان السبب في القضاء على متعته هذه ، إذ أصبحت الموسيقى الدينية الصوفية مناسِبة جدا لحالة روحه مما جعله يحاول إلهابها بفالسات حب ، ورأى لوتاريو توغوت نفسه مضطراً لطرده من الكورال .
وكان أن استسلم في هذه الفترة لأكل أزهار الياسمين التي كانت تَزرعُها أنسْتيرا أَريثَا في أحواض الفِناء ، فتعرف بهذه الطريقة على طعم فرْمينا داثَا .
وفي هذه الفترة أيضا وجد في أحد قاع صناديق أمه زجاجة تحتوي لتراً من ماء الكونوليا التي كان يبيعها مهربة بَحّارة شركة هامبورغ أمريكا لاين ، ولم يقاوم إغراق تذوقها للبحث فيها عن طعم آخر للمرأة المحبوبة ، وتابع شرب الزجاجة حتى الفجر منتشياً بفرْمينا داثَا من خلال رشفات كاوية في حانات الميناء أولا ثم الى جوار البحر بعد ذلك وهو غائب عن الوعي فوق ملطم الأمواج حيث يتعزى العشاق الذين لا سقف لديهم بممارسة الحب الى أنْ راح في غيبوبة .
انتظرته ترانسيتو أَريثَا حتى الساعة السادسة صباحا بروح معلقة في خيط ، ثم مضت تبحث عنه في المَخابِئ التي لا تخطر على بال أحد ، وبُعَيْد منتصف الليل وجدته يتخبط في بركة من القيء المعطر في إحدى تعرجات الشاطئ حيث يقذف البحْر الغرقَى .
انتهزت فترة النقاهة لتأنبه على سلبيته في انتظار الرد على الرسالة ، ذكَّرته بأنه لا يمكن للضعفاء دخول مملكة الحب ، لأنها مملكة قاسية وصارمة ، وأن النساء لا يستسلمن إلا للرجال المصممين ، لأنهم يبعثون فيهن الطمأنينة التي يتعطشن إليها لمواجهة الحياة ، وربما استوعب فلورنْتينوأَريثَا الدرس أكثر مما ينبغي ، فلم تستطع ترانسيتو أَريثَا إخفاء إحساسها بالفخر كقوادة أكثر منها كأم ، حين رأته يخرج من دكان الخردوات بالبدلة السوداء والقبعة القاسية وربطة الشعر على الياقة الصلبة ، فسألته مازحة إن كان ذاهباً الى جنازة ؟
فأجاب وأذناه تتقدان : يكاد الأمر يكون سواءً .
وقد انتبهت أنه يكاد لا يستطيع التنفس من الخوف ، لكن تصميمه كان حاسماً .
قدمت له النصائح النهائية وباركته ووعدته وهي غارقة في الضحك بزجاجة أخرى من ماء الكونوليا لِيحتفلا معاً بانتصاره .
مذ سلَّم الرسالة قبل شهر نقض عدة مرات الوعد الذي قطعه بعدم العودة الى الحديقة ، لكنه كان حذراً جدا في التخفي ، كل شيء كان يسير على حاله ، ينتهي درس القراءة تحت الأشجار في حوالي الثانية ظهراً حين تستيقظ المدينة من القيلولة ، ثم تُتابع فرْمينا داثَا التطريز مع عمتها حتى انخفاض الحَر .
لم ينتظر فلورنْتينوأَريثَا الى أنْ تدخل العمة الى البيت ، بل اجتاز الشارع بخطوات عسكرية أتاحت له تجاوز ارتعاش رُكبتَيه ، لكنه لم يتوجه الى فرْمينا داثَا وإنما الى العمَّة .
قال لها : تفضلي واتركيني على انفراد مع الآنسة للحظة ، فلدي شيء هام أود أن أقوله لها .
فقالت العمَّة : وقح ، لا يوجد أمر من أمورها لا أستطيع سماعه .
قال : لن أقول شيئا إذن ، لكني أحذرك بأنك ستكونين المسؤولة عما سيحدث .
لم يكن هذا هو الأسلوب الذي انتظرته أسْكولا أَسْتيكا داثَا من العريس المثالي ، لكنها نهضت مُرتعبة لأنها أحست لأول مرة بإحساس مفاجئ أن فلورنْتينوأَريثَا إنما كان يتكلم بوحي من روح القدس .ط
وهكذا دخلت الى البيت لاستبدال إِبَر التطريز ، وتركت الشابَين وحدهما تحت أشجار اللوز عند مدخل البيت .
لم تكن فرْمينا داثَا تعرف في الواقع إلا القليل عن معدن العاشق الصامت الذي ظهر في حياتها مثل سنونة شتوية ، والذي لم تكن تعرف حتى اسمه لولا توقيعه على الرسالة ، ولقد اسْتقْصت حينئذٍ وعرفت أنه ابن بلا أب لامرأة عزباء مجدة وجِدِّيَة ، لكنها مَوسومة بوَسِم ناري لا شفاء منه لخطيئتها الوحيدة وهي شابة ، وقد عَلِمَت أنه ليس صبي التلغراف كما افترضت ، وإنما هو مساعد جيد التأهيل وذو مستقبل واعد ، وفكَّرت بأنه أوصل البرقية الى أبيها كذريعة لِيراها فقط ، وقد فَتَنَها هذا الافتراض ، كما إنها كانت تعرف أنه واحد من موسيقيِّ الكورال ، رغم أنها لم تتجرأ أبدا على رفع بصرها لتتأكد من وجوده أثناء القُدّاس ، إلا إنها في أحد أيام الآحاد وفيما مجموعة الآلات تعزف للجميع أحست بأن الكمان يعزف لها وحدها .
لم يكن نموذجا للرجل الذي كانت ستختاره ، لكن نظارته وزيه الكهنوتي وأساليبه الغامضو أثارة فيها فضولاً من الصعب مقاومته ، لكنها لم تتصور أبدا أن يكون الفضول هو أحد مصائد الحب الكثيرة .
هي نفسها لم تستطع أن تفهم كيف قبلت الرسالة ، لن تُأنِّب نفسها ، لكن وعدها المُلِح برد الجواب أخذ يتحول الى عائق أمام الحياة .
إن كل كلمة من أبيها ، وكل نظرة عابرة وأدنى حركة يقوم بها كانت تبدو له مصيدَة لكشف سرها .
على هذا الحال من الذعر كانت ، فهي تمتنع عن الحديث على المائدة خوفاً من زلة تفضحها ، وأصبحت مراوِغة حتى في تعاملها مع العمَّة أسْكولا أَسْتيكا رغم أن هذه كانت تشاطرها جزَعَها المكتوم كما لو كان خاصاً بها ، وصارت تَحْبِس نفسها في الحمام في أي وقت دونما حاجة ، وتعيد قراءة الرسالة محاولة اكتشاف رموز سريَة أو معادلة سحرية مُخَبأَة في في واحدة من 314 حرفاً في الثماني وخمسين كلمة على أمل أن تجد فيها أكثر مما تقوله ، لكنها لم تجد شيئا أكثر مما فهمته في القراءة الأولى ، عندما هرعت لتحبس نفسها في الحمام بقلب مجنون ، ومزقت المغلف آمِلَةً برسالة مطولة ومحمومة ، ولم تجد سوى ورقة صغيرة معطَرة أفزعها اقتضابها .
لم تفكر أول الأمر جدياً بأنها مجبرَة على الرد ، لكن الرسالة واضحة جدا بحيث لم تكن هناك وسيلة لتصريفها ، وفي أثناء ذلك وفي وسط اضطراب شكوكها فاجأت نفسها وهي تفكر بفلورنْتينوأَريثَاأكثر وباهتمام أكبر مما تريده لنفسها ، بل وكانت تتساءل مُكَدَّرَةً لماذا لم يأتِ الى الحديقة في موعده المعتاد ، دون أن تتذكر أنها هي التي طلبت منه عدم الرجوع الى أنْ تُفكر في الرد .
وهكذا صارت تُفكر به بشكل لم تتصور يوماً أنها ستُفكر فيه بأحد .
كانت تهْجِس به حيث لا يكون ، متمنية وجوده حيث لا يمكن أن يكون ، مستيقظة فجأة يراودها إحساس بأنه يراقبها وهي نائمة في الظلام لدرجة أنها حين سمعت وقع خطواته الحاسمة فوق نثارة أوراق الحديقة الصفراء ، لم تستطع أن تُصدق أنها ليست سخرية أخرى من خيالها ، ولكن عندما طالبها بالرد على رسالته بتسَلُط لا علاقة له بنحافته تمكنت من السيطرة على ذعْرها وحاولت مداراته بقول الحقيقة ، إنها لا تعرف بماذا ترد عليه .
ومع ذلك فإن فلورنْتينوأَريثَالم ينجُ من هاوية ليتردد أمام التي تليها فقال لها : إذا كنت قد قبلتِ استلام الرسالة ، فمن قلة الذوق عدم الرد عليها .
كانت هذه هي نهاية المَتاهَة ، فقد اعتذرت فرْمينا داثَاالتي سيطرت على نفسها عن تَاَخُّرها ، ووعدته رسميا بأنه سيحصل على الرد قبل انتهاء العطلة المدْرسية .
ووفت بوعدها ، ففي يوم الجمعة الأخير من شهر شباط وقبل ثلاثة أيام من قبل إعادة افتتاح المدارس ذهبت العمَّة أسْكولا أَسْتيكا الى مكتب التلغراف لتسأل عن تكلفة إرسال برقية الى قرية بيدرا دِيموليرالتي لا يرد ذكرها في قائمة الخدمات البرقية ، وسعت لأن يتولى الرد على استفسارها فلورنْتينوأَريثَا متظاهرةً أنها لم تره أبدا من قبل ، لكنها عند الخروج تعمدت أن تَنسى على الطاولة كتاب صلوات مُجَلَّد بجِلْد ضَب فيه مغلف من ورق مُبطن ومُزين بصورة مُذَهَّبة .
أمضى فلورنْتينوأَريثَا الذي اختل من السعادة بقية ذلك المساء وهو يأكل الورود ويقرأ الرسالة ويراجعها حرقفاً حرفا مرة بعد أخرى ، وكلما قرأ أكثر كان يأكل المزيد من الورد .
وعند منتصف الليل كان قد قرأها مرات ومرات وأكل ورداً كثيرا ، جعل أمه تشده من أذنه كخروف وتجبره على شرب زيت الخروع .
كانت هي تلك سنَة الحب العنيف ، ولم يكن في حياة أياً منهما شيء سوى التفكير بالآخر ، وانتظار الرسائل بشوق كشوق الرد عليها ، ولم يحدث طوال ذلك الربيع من الهذيان ولا في السنَة التالية أن أُتيحت لهما فرصة للتواصل بصوت عالٍ ، بل وأكثر من ذلك ، منذ أن رأيا بعضهما لأول مرة وإلى أن كرر عليها قراره بعد نصف قرْن لم يحصلا أبدا على فرصة للقاء منفردَين ، ولا لتبادل الحديث عن حبهما .
ولكن لم يمر يوم واحد خلال الشهور الثلاثة الأولى دون أن يتبادلا الرسائل ، بل كانا يكتبان لبعضهما الرسائل مرتين يومياً في إحدى الفترات ، الى أنْ فزعت العمَّة أسْكولا أَسْتيكا الى شراهة النار التي ساهمت هي نفسها في إضرامها .
بعد أن حملت الرسالة الأولى الى مكتب التلغراف وكأنها تريد أن تثأر من حظِها بالذات ، راحت تسهِّل عملية تبادل الرسائل شبه اليومية في لقاءات تبدو عرَضية في الأزقة ، ولكن لم تكن تملك الشجاعة لرعاية تبادل حديث بينهما ، مهما كان ذلك الحديث تافهاً وقصيرا ، ثم أدركت بعد مرور ثلاثة شهور أن ابنة أخيها ليست مؤهلَة لغرام فتاة كما بدا لها أول الأمر ، وأصبحت حياتها هي مهددة بفعل نار الحب تلك .
لم تكن لدى أسْكولا أَسْتيكا بالفعل وسيلة أخرى للمعيشة سوى إحسان أخيها ، وكانت تعلم أن طبعه المتسلط لن يغفر لها أبدا تلاعباً كهذا بالثقة التي منحها إياها ، ولكن قلبها لم يطاوعها في نهاية الأمر على تعريض ابنة أخيها لمحنة قاسية كالتي راعتْها هي منذ شبابها ، فسمحت لها باستخدام وسيلة تمنحها وَهَم الإحساس بالبراءة ، وكانت وسيلة بسيطة .
تضع فرْمينا داثَارسالتها في مَخْبأ في طريقها اليومي بين البيت والمْدرسة ، وفي هذه الرسالة تخبر فلورنْتينوأَريثَاعن المكان الذي ستجد الجواب فيه ، ثم يفعل فلورنْتينوأَريثَاالشيء ذاته .
وهكذا أخذ تأنيب الضمير الذي كانت تحسه العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ينتقل الى زوايا الكنائس وفجوات الأشجار وشقوق أنقاض الحصون الاستعمارية .
كانا يجدان الرسائل مبللة بالمطر أحيانا أو ملوثة بالوحل أو ممزقة ، كما فُقِدت بعض الرسائل لأسباب مختلفة ، لكنهما كانا يجدان دوما وسيلة لإعادة الاتصال .
كان فلورنْتينوأَريثَايكتب كل ليلة دون أن تأخذه رحمة بنفسه ، مُتسمماً حرفا فحرفا بدخان زيت مصباح الكروزز في القسم الخلفي من دكان الخردوات ، وكانت رسائله تصبح أكثر إسهابً وجنونا كلما أجهد نفسه في محاكاة شعرائه المفضلين الذين تُنشر أعمالهم في سلسلة المكتبة الشعبية التي وصل عدد أجزائها في ذلك الحين الى أكثر من ثمانين مؤلفاً .
أما أمه التي حثته على التمتع بعذابه فأخذت تُصاب بالذعر لاعتلال صحته ، وصارت تَصيح به من غرفة النوم عندما تسمع صياح أول الديكة : ستنزف دماغك ، ليس من امرأة تستحق كل هذا .
فهي لا تذكر أنها عرفت أحدا بمثل هذه الحالة من الضياع ، أما هو فلم يكن يعيرها اهتماما .
كان يصل الى المكتب أحيانا دون أن يكون قد نام ، شعره مُشْعَث من الحب بعد أن يكون قد أودع الرسالة في المَخْبأ المتفق عليه ، لتجدها فرْمينا داثَا وهي في طريقها الى المْدرسة .
أما هذه بالمقابل فقد كانت خاضعة لحراسة الأب ولرصد الراهبات المشين ، ولم تكن تستطيع إلا بالكاد ملْ نصف صفحة من الدفتر المدْرسي وهي حابسة نفسها في الحمام أو متظاهرة بتسجيل ملاحظات أثناء الدرس .
وليس بسبب السرعة وخوف المفاجآت فقط ، إنما بسبب طبعها أيضا كانت رسائلها تتجنب اية إشعارات عاطفية وتقتصر على سرد وقائع حياتها اليومية بأسلوب يوميات الرحلات البحرية المتسرع ، لقد كانت في الواقع رسائل له ، تسعى الى الاحتفاظ بالجمر مُتَّقِداً ولكن دون أن تضع يدها في النار ، فيما فلورنْتينوأَريثَايحترق ويتحول الى رماد في كل سطْر يَخُطُّه .
وفي سعيه لينقل إليها عدوى جنونه كان يرسل لها أبيات شعر محفورة برأس دبوس على وريقات زهرة كاميليا ، وكان هو وليس هي من تجرأ على وضع خصلة من شعره في إحدى الرسائل ، لكنه لم يتلقَ أبدا الإجابة المرجوة ، ألا وهي تيلة من ضفيرة فرْمينا داثَا ،إنما تمكن من جعلها تخطو خطوة أخرى على الأقل ، إذ أصبح يتلقى منذ ذلك الحين أوراق زهور مجففة في قواميس وأجنحة فراشات وريش عصافير فاتِنَة ، ثم إنها أهدته في عيد ميلاده سم مربعاً من مسوح القديس بيدرو كلافير تلك التي كانت تُباع بالخفاء في تلك الأيام بسعر لا يمكن لِتلميذَة في سنها أن تدفعه .
وفي إحدى الليالي ودون سابق إنذار استيقظت فرْمينا داثَا مُرتعبة لسماعها سيرنات كمان منفرد تعزف فالساً محددا ، لقد اهتزت فرحا وهي تشعر أن كل نغمة إنما هي بمثابة شكر على نباتاتها المجففة ، وعلى الوقت الذي تختلسه من درْس الحساب لتكتب رسائلها ، ، وعلى خوفها من الامتحانات وهي تُفكر به أكثر من تفكيرها بالعلوم الطبيعية ، لكنها لم تتجرأ أن تصدق بأن فلورنْتينوأَريثَا قادر على اقتراف مثل هذا التهور .
في صباح اليوم التالي وأثناء تناول الفطور لم يستطع لورينثو داثَا مقاومة الفضول ، أولا لأنه لم يكن يعرف ما تعنيه معزوفة واحدة في لغة السيرتاد ، وثانياً أنه رغم اهتمامه في الإصغاء لم يستطع أن يحدد في أي بيت كان العزف .
وأكدت العمَّة أسْكولا أَسْتيكا بهدوء أعصاب أعاد النفَس الى ابنة الأخ أنها رأت من خلال ستارة نافذة غرفة نومها أن عازف الكمان المنفرد كان في الجانب الآخر من الحديقة ، وقالت : إن معزوفة وحيدة على أية حال هي إبلاغ بالقطيعة .
وفي رسالته لهذا اليوم أكد فلورنْتينوأَريثَا أنه هو صاحب السيرناد ، وأن هذا الفالس من تأليفه ، وأنه أطلق عليه نفس الاسم الذي يطلقه على فرْمينا داثَا في قلبه ، الربَّة المتوجَة.
لم يعُد لِعزف هذا اللحن في الحديقة ، لكنه كان يختار الليالي المقْمِرة لِيعزفه في أماكن منتقاة بحيث تسمعه دون أن يتولاها الذعر في مخْدعِها ، وقد كان أحد أماكنه المفضلة هو مقبرة الفقراء ، المكشوفة للشمس والمطر فوق تَلَّة جرداء ، كانت طيور الرخمة تتخذها مكانا للنوم ، حيث كانت الموسيقى تصدح بأصداء ما ورائية ، ثم تعلم فيما بعد التعرف على اتجاه الريح ، وبهذا صار يتأكد بأن صوته يصل الى حيث يريده أن يصل .
في شهر آب من هذه السنَة نشبت حرب أهلية جديدة من تلك الحروب الكثيرة التي خربت البلاد منذ أكثر من نصف قرن ، وكانت تهدد بالاتساع لتشمل البلاد كلها ، ففرضت الحكومة قوانين الطوارئ وحظر التجول منذ الساعة السادسة مساءً في ولايات ساحل الكاريبي ، ورغم حدوث بعض الاضطرابات ، واقتراف القوات العسكرية لجميع أنواع التنكيل التعسفي ، استمر فلورنْتينوأَريثَافي غيبوبة غير عابئ بحال الدنيا ، وفاجأته دورية عسكرية في فجر أحد الأيام وهو يُقلق عفة الموتى باستفزازاته الغرامية ، ولقد نجا بمعجزة من تحقيق أولي بتهمة أنه جاسوس يبعث الأخبار بإشارات ضوئية الى السفن اللبرالية التي تجوب المياه المجاورة متحينةً الفرصة للانقضاض .
قال فلورنْتينوأَريثَا: أي جاسوس وأية لعنة ؟ أنا لست سوى عاشق بائس .
نام ثلاثة ليالٍ مكبَّلاً من كاحِلَيْه في زنازين الحامية المحليَة ة ، وحين أطلقوا سراحه أحس أنه قد غُبِنَ لقصر مدة الحبس .
وبقي حتى أيام شيخوخته عندما أصبحت تختلط في ذاكرته ذكرى حروب أخرى كثيرة يفكر بأنه الرجل الوحيد في المدينة وربما في البلاد الذي جر بقدمَيه أصفاداً زنتها خمسة أرطال من أجل قضية حب .
كادت تنقضي سنتان على بريدهما المحموم عندما عرض فلورنْتينوأَريثَافي إحدى رسائله الزواج رسمياً على فرْمينا داثَا ، كان قد بعث إليها عدة مرات في الشهور الست السابقة زهرة كاميليا بيضاء ، لكنها كانت تعيدها إليه في الرسالة التالية حتى لا يرتاب من استمرار كتابتها إليه ، إنما دون مخاطر الالتزام ، والحقيقة أنها كانت ترى دائما في ذهاب زهرة الكاميليا ومجيءها مداعبة غرامية ، ولم يَخطُر لها يوما أن تُفكر فيها كنقطة انعطاف في مصيرها .
أما عندما وصلها عرض الزواج الرسمي فقد أحست أنها تتمزق بأول مَخالب الموت ، وروَت الأمر للعمَّة أسْكولا أَسْتيكا وهي هالِعة .
فتناولت العمَّة الاستشارة بالشجاعة والفطنَة التي لم تمتلكها وهي في العشرين من عمرها عندما كان عليها أن تقرر مصيرها ، قالت لها : أجيبيه نعم ، حتى ولو كنت تموتين فزَعاً وحتى لو ندمتِ فيما بعد ، لأنك على أية حال ستندمين طوال حياتك إن أنتِ أجَبْتِهِ بلا .
ولكن فرْمينا داثَاكانت مُشوشة رغم هذه النصيحة ، فطلبت مهلو لِتُفكر في الأمر ، طلبت شهراً في البدء ، ثم شهرا آخر وآخر ، وعندما أتمت الشهر الرابع دون أن تعطي ردها عادت تتلقى زهرة الكاميليا البيضاء ، ولكن ليست الزهرة وحدها كما في المرات السابقة وإنما هي مرفقة بإخطار حازم ، أنها ستكون المرة الأخيرة ، إما الآن وإما القطيعة الأبدية ،
حينئذٍ كان فلورنْتينوأَريثَا هو الذي رأى وجه الموت في مَساء ذلك اليوم بالذات حين تلقى مغلفاً به قصاصة ورق طويلة منتزَعة من هامش دفتر مدْرسي كُتِبَ عليها الرد في سطْر واحد بقلم رصاص .
- حسنً أوافق على الزواج منك إن أنت وعدتني ألا تجبرني على أكل الباذنجان .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَامهيأً لمثل هذا الرد ، لكن أمه كانت كذلك ، فمذ كلمها لأول مرة منذ ستة أشهر عن نيته بالزواج ، بدأت ترانسيتو أَريثَا مشاوراتها لاستأجار كامل البيت الذي كانت تتقاسمه حتى ذلك الحين مع عائلتَين أخريَين .
لقد كان البيت بناءً مدنياً منذ القرن السابع عشر ، مؤلف من طابقَين حيث كانت توجد إدارة التبغ آبان السيطرة الإسبانية ، وقد أفلس مالكوه واضطروا لتأجيره مجَزَّءاً لافتتقارهم الى الموارد اللازمة لاستمراره في العمل ، قسم من البيت كان يطل على الشارع ، حيث كانت صالة البيع سابقا ، وقسم آخر في نهاية باحة مرصوفة حيث كان المعمل ، وهناك اصطبل واسع جدا يستخدمه المستأجرون الحاليون جميعهم لغسل الملابس ونشرها .
كانت ترانسيتو أَريثَا تشغل القسم الأول ، وهو الأكثر ملاءمة والأفضل حالاً رغم كونه الأضيق أيضا ، في صالة البيع أقامت دكان خردواتها ببوابة تطل على الشارع وإلى جانبها المستودع القديم الذي لا وجود فيه لأي فتحة تهوية سوى كُوَة السقف ، وفيه كانت تنام ترانسيتو أَريثَا ، وما وراء الدكان هو نصف الصالة الآخر المقسوم بباب خشبي ثُلاثي المَصاريع ، كانت توجد فيه طاولة حولها أربعة كراسٍ تُستخدم للطعام والكتابة في الوقت ذاته ، وهناك كان يعلق فلورنْتينوأَريثَا أرجوحة نومه حين يباغته الفجر وهو يكتب .
كان المكان مناسِباً لهما ، لكنه غير كافٍ لشخص آخر معهما ، وخصوصا إذا كان هذا الشخص إحدى آنسات مدْرسة ظهور العذراء المقدسة ، التي رمم أبوها أنقاض بيت مهدم حتى أعاده وكأنه جديد ، بينما العائلات ذات السبعة ألقاب تنام خائفة من انهيار أسقف المنازل فوقها أثناء النوم .
وقد تمكنت ترانسيتو أَريثَا من الحصول على وعد من صاحب البيت بالسماح لها بشغل رواق البيت لمدة خمس سنوات على أن تُرَمِّم البيت وتجعله في حالة حسنة .
كانت تملك الموارد اللازمة ، فإلى جانب دخْلِها الحقيقي من دكان الخردوات ومن نِسالات النسيج مُوقِفَة النَزْف الذي كان يكفيها لعيش حياتها المتواضعة ، كانت قد ضاعفت مُدَّخراتها بتقديمها القروض لِزَبائنها من الفقراء الجدد الخجولين الذين يوافقون على فوائدِها الباهضة لِكتمانها الأسرار .
كانت سيدات لهن مظهر المَلِكات ينزلن من العربات الفاخرة أمام باب دكان الخردوات دون وصيفات أو خدم مزعِجين ـ، فيتظاهرن بأنهن يردن شراء مطرزات هولندية وحواشي من الحَرير المحبوك ، ثم يَرْهَنَّ بين دمعتَين آخِر مصاغ فردوسهن المفقود .
وتُخرِجُهُن ترانسيتو أَريثَا من حَرَجهن بتقديرها الشديد لأصلهن النبيل ، لدرجة أن معظمهن كُنَّ ينصرفن وهن يحمدن الشرف أكثر من حمْدِهِن المعروف .
وخلال أقل من عشرة سنوات كانت من ممتلكاتها الحُلِي المستوردة مرات عديدَة والمعادة للرهن وسط الدموع مجدداً ، وكذلك الأرباح المتحولة الى ذهب والمدفونة في جرة تحت السرير عندما اتخذ ابنها قرار الزواج ، حينئذٍ راجعت حساباتها واكتشفت أنها لا تستطيع القيام بعملية صيانة البيت من الانهيار لِمدة خمس سنوات فحسب ، بل ربما تستطيع ببعض الحيلة وشيء من الحظ أن تشتريَه لأحفادها الاثني عشر الذين كانت ترغب أن ينجبهم ابنها .
وكان فلورنْتينوأَريثَا قد عُيِّن معاوناً أول لمسؤول مكتب التلغراف بصفة مؤقتة ، وكان لوتاريو توغوت يريد تسليمه إدارة المكتب حين يذهب هو لتولي إدارة مدْرسة التلغراف والمغنطة المنتظَر افتتاحها في العام التالي .
وهكذا كان الجانب العملي من الزواج محْلولاً ، ومع ذلك رأت ترانسيتو أَريثَاضرورة الاهتمام بشرطَين نهائيَين ، الأول هو الاستعلام عن حقيقة لورينثو داثَا الذي لا تترك لهجته أي شكوك حول أصله ، أما هويته وووسائله في الحياة فليس هناك من يعرف عنها خبراً يَقيناً ، والثاني هو أن الخطوبة يجب أن تطول حتى يتعارف بعمق عبر العلاقة الشخصية وأن يُحفَظ أمر الخطوبة طي الكتمان الصارم الى أنْ يتأكد كِلاهما من عواطفهما ، واقترحت أن ينتظِرَا حتى تنتهي الحرب ، وقد وافق فلورنْتينوأَريثَاعلى الاحتفاظ بالسريَة المطلقة سواءً للأسباب التي عرضتها أمه أو لطبعه المُحب للكتمان ، وكان موافقاً كذلك على إطالة مدة الخطوبة .
لكن النهاية بدت له لا واقعية ، لأن البلد لم يعرف خلال نصف قرن من الاستقلال يوما واحدا من السلام الأهلي فقال : سنشيخ بهذا ونحن ننتظر .
ولم يكن عرّابه الطبيب التجانسي والذي كان يشارك مصادفةً في الحديث يعتقد بأن الحروب عائق ، وكان يرى أنها ليست سوى مشاكل فقراء يسوقهم ملّاك الأراضي كالجواميس ضد جنود حفاة تسوقهم الحكومة وقال : الحرب في الجبل ، ومُذ أدركْت أنا بأنهم لم يقتلونا هنا في المدينة بالرصاص وإنما بالقرارات .
لقد حُلَّت على أي حال جميع تفاصيل الخطوبة في رسائل الأسبوع التالي ، ووافقت فرْمينا داثَا بناءً على نصيحة العمَّة أسْكولا أَسْتيكا على استمرار الخطوبة مدة سنتَين ، وعلى الكتمان المطلق ، واقترحت أن يطلب فلورنْتينوأَريثَايدها عندما تنتهي من المدْرسة الثانوية في عطلة أعياد الميلاد ، وأن يتفقا في الوقت المناسِب على طريقة إعلان الخطوبة حسب درجة القبول التي ستكون قد حصلت عليها من أبيها ، وحتى ذلك الحين تابَعَا تبادل الرسائل بنفس الحماس ونفس الكثرة ولكن دون المخاوف السابقة ، وأخذت رسائلهما تميل الى لهجة عائلية وتبدو كأنها رسائل زوجَين ، ولم يكن هناك ما يعكر أحلامهما .
ولقد طرأ تبدل على حياة فلورنْتينوأَريثَاإذ منحه الحب المتبادل أماناً وقوة لم يعرفهما أبدا ، وأصبح دؤوباً في العمل مما سمح للوتاريو توغوتتعيينه نائباً له في السلطات دون بذل أي مجهود ، وكان مشروع مدْرسة التلغراف والمغنطة قد فشل في ذلك الحين ، فَكرَّس الألماني وقت فراغه للأمر الوحيد الذي يحبه فعلا ، ألا وهو الذهاب الى الميناء لعزف الأوكورديون وتناول البيرة مع البحارة ، ثم الانتهاء من كل ذلك في فندق العابرين .
وقد انقضى زمن طويل قبل أن يعرف فلورنْتينوأَريثَاأن تأثير لوتاريو توغوتفي مكان اللذة ذاك إنما هو عائد الى امتلاكه المحل وكونه رب عمل عصفورات الميناء .
لقد اشتراه شيئا فشيئا بمُدَّخراته خلال سنوات طويلة ، لكن من كان يدير الفندق بدلا منه هو رجل قصير نحيل وأعور ، رأسه كالفُرشاة وقلبه طيب وأليف لدرجة أن أحدا لم يكن يفهم كيف بإمكانه أن يكون وكيلا مناسِباً ، لكنه كان كذلك أو على الأقل ، هذا ما بدا لفلورنْتينوأَريثَاعندما قال له الوكيل دون أن يكون هو قد طلب منه بأنه هيأ له غرفة دائمة في الفندق لا ليحل فيها مشاكل ما تحت البطن فقط حين يقرر ذلك ، بل لِيجد مكانا أكثر هدوءاً لمطالعته ولرسائل الحب التي يكتُبُها .
وفيما كانت الشهور المتبقية لإعلان الخطوبة تمضي ، أخذ يقضي وقتا في الفندق أكثر مما يقضيه في المكتب والبيت ، وجاءت فترات لم تعُد ترانسيتو أَريثَاتراه إلا عندما يأتي لاستبدال ملابسه .
صارت المطالعة رذيلة لا يرتوي منها ، فمنذ علَّمته أمه القراءة كانت تشتري له كُتب المؤلفين الشماليين المُزَيَّنة بالرسوم والتي كانت تُباع على أنها حكايات للأطفال ، لكنها كانت في الواقع أقسى وأفسد ما يمكن قراءته في جميع الأعمار ، كان فلورنْتينوأَريثَايسردها عن ظهر قلب وهو في الخامسة سواءً في الدروس أو في سهرات المْدرسة ، لكن تآلفه معها لم يهدأ من رعبِه بل على العكس كان يفاقمه .
وهكذا فقد كان لتحوله الى الشعر مفعول المُسَكِّن ، فما أن بلغ سن الرشد حتى كان قد استهلك حسب ترتيب صدورها جميع كُتَيْبات المكتبة الشعبية التي كانت تشتريها له ترانسيتو أَريثَامن المكتَبيين الذين يعرضون بضاعتهم عند بَوابة الكَتَبَة العُموميين حيث توجد جميع أنواع الكُتب ، ابتداءً من هوميروس وحتى أقل الشعراء المحليين قيمةً ، ولم يكن يميز ما يقرؤه ، كان يقرأ الكُتَيب الذي يأتيه كما لو كان شأناً من شؤون القدَر ، ولم تكْفِه كل سنوات القراءة لِيعرف الغث من السمين في العالم الذي قرأه ، والشيء الوحيد الذي كان واضحاً لديه هو أنه عند المفاضلة بين النثر والشعر يفضل الشعر ، ومن بين الأشعار يفضل أشعار الحب التي كان يحفظها غَيْباً دون قصد منذ القراءة الثانية وبسهولة أكبر حين تكون مقفاة وموزونة جيدا ، وعندما تكون مؤثرةً كثيرا .
كان هذا هو المنْهل الأساسي لرسائله الأولى الى فرْمينا داثَا ، حيث كان يُورد مَقاطع كاملة دون طهي من أشعار الرومانسين الإسبان ، وبقية رسائله كذلك الى أنْ اضطرته الحياة الواقعية الى الاهتمام بالشؤون الدنيوية أكثر من الاهتمام بشجون القلب .
وكان في ذلك الحين قد خطا خطوة أخرى نحو قصص الدموع المُسلسلة ، وأنواعا أخرى أكثر دنيويةً من نثر عصره ، وكان قد تعلم البكاء مع أمه وهو يقرأ الشعراء المحليين الذين يُباعون في الساحات وتحت القناطر في كُتَيبات بسنْتافَين لكل منها ، لكنه كان قادرا في الوقت نفسه على إلقاء أفضل أشعار العصر الذهبي القشْتالي عن ظهر قلب .
وعُموما كان يقرأ كل ما يقع بين يديه ، وحسب ترتيب وقوعه بين يديه ، حتى أنه بعد زمن طويل من سنوات حبه الأول القاسية تلك وعندما لم يعُد شاباً قرأ من أول صفحة وحتى آخِر صفحة مُجَلَّدات كنز الشباب العشرين ومجموعة الكلاسيكيين الكاملة حسب طبعة غارنيرهانس المترجمة ، والأعمال الأكثر سهولة التي كان ينشرها دُون فيثينتي بلاسكو إيبانيث في سلسلة الواعدوون .
ولم تكن فترة فُتُوَّته في فندق العابرين على ~أية حال تقتصر على المطالعة وكتابة الرسائل المحمومة ، وإنما أدخلته أيضا في أسرار ممارسة الحب دون حب .
كانت الحياة تدُب في البيت بعد انتصاف النهار عندما تستيقظ صديقاته العصفورات عاريات كما ولدتهن أمهاتهن .
وهكذا كان فلورنْتينوأَريثَا يجد نفسه أثناء عودته من العمل في قصر مسكون بِحوريات عاريات يُعَلِّقن صارخَات على أسرار المدينة التي يَطَّلعن عليها بوشايات أصحابها بالذات ، وكانت كثيرات منهن يعرضن في عُرُيِهن آثارا من الماضي ، ندوب طعنات خناجر في البطن أو آثار أعيرة نارية تبدو كالنجوم أو أحاديد ضربات بِسكاكين الحب أو خياطات عمليات قيصرية يجريها الجزارون .
وتُحْضِر بعضهن خلال النهار أبناءهن الصغار ، أبناء مرارة الشباب وتهوره التعساء ، وينزعن عنهم ملابسهم فور دخولهم حتى لا يشعر الصغار بأنهم مختلفون في جنة العُراة .
وقد كانت كل منهن تَطْهو طعامها وحدها ، ولم يكن هناك من يأكل خيراً من فلورنْتينوأَريثَاعندما يدعونه ، لأنه يختار أفضل ما لدى كل منهن ، كان كذلك احتفالا يومياً يستمر حتى المَساء حين تصطف العاريات لدخول الحمام وهن يغنين ، بينما يستعرن من بعضهن الصابون أو فُرشاة الأسنان أو المِقصات ، وكانت بعضهن تقُص شَعر الأخريات ، ثم يرتدين ملابسهن شهلة الخلع ، ويَطلين وجوههن كمُهرِّجات مُبْكيات ، ويخرجن لاصطياد أول طرائدهن الليلية ، وحينئذٍ تصبح حياة البيت غامضة ولا إنسانية ، وتصبح المشاركة فيها مستحيلةً دون دفع الثمن .
لم يكن لفلورنْتينوأَريثَا مكان أفضل منه يقضي وقته مُذ تعرف على فرْمينا داثَا فيه ، فهو المكان الوحيد الذي لا يشعر فيه بالوحدة ، بل وأكثر من ذلك أنه المكان الوحيد الذي صار يشعر وهو فيه بأنه معها ، وربما لهذه الأسباب نفسها كانت تعيش هناك امرأة متقدمة في السن ، أنيقة ذات رأس مفضفض بديع لا تُشاِرك في حياة العاريات الطبيعية ويُكِنُّ لها جميعهن احتراماً قدسياً ، لقد حملها الى هناك خطيب ما وهي شابة ، وبعد أن تمتع بها لبعض الوقت هَجَرَها لِمصيرها ، وقد توصلت رغم وصمتها الى زواج سعيد ، وعندما أصبحت كبيرة في السن ووحيدة تنازع ابناها وبناتها الثلاث متعة حملها لعيش معهم ، أما هي فلم يَخطُر لها مكان أكثر جدارة بالحياة من فندق الماجنات الحنونات ذاك ، وكانت حجرتها الدائمة هناك هي بيتها الوحيد ، وهذا ما جعلها تتوافق فورا مع فلورنْتينوأَريثَا الذي كانت تقول عنه سيصير عالِماً مشهوراً في العالم بأسره ، لأنه قادر على إغناء روحه بالمطالعة في جنة الشبق .
وقد أبدى لها فلورنْتينوأَريثَا من جانبه عطفَا شديدا ، فكان يساعدها في شراء حاجاتها من السوق ، واعتاد أن يمضي بعض الأماسي متحدثا إليها ، وكان يفكر بأنها امرأة عالِمة في الحب إذ قدمت له إضاءات كثيرة حول حبه دون أن يكشف لها عن سره .
وإذا كان لم يسقط في الإغراءات الكثيرة التي في متناول يده قبل أن يعرف حب فرْمينا داثَا ، فإنه لن يفعل ذلك بعد أن أصبحت خطيبته الرسمية .
وهكذا كان فلورنْتينوأَريثَا يعيش مع الفتيات ، يقاسمهن الأفراح والأتراح دون أن يَخطُر بباله أو ببالهن المضي الى ما هو أبعد من ذلك ، وقد جاء حادث طارئ ليؤكد صرامة قراره ، ففي الساعة السادسة من مَساء أحد الأيام وفيما الفتيات يرتدين ملابسهن استعداداً لاستقبال زبائم الليل دخلت الى حجرته العاملة المُكلَّفة بتنظيف الأرضية ، امرأة شابة لكنها مترهلة وشاحبة ترتدي ملابسها كتائبة في مملكة العاريات ، وكان يراها يومياً دون أن يشعر بأنها تراه ، كانت تنتقل بين الحجرات حاملةً المكانس وسطْل القُمامة ومِمْسَحة خاصة تلتقط بها عن الأرض مانعات الحمل المستخدمة .
دخلت الى الغرفة حيث كان فلورنْتينوأَريثَا يقرأ كعادته ، وكنست الأرض بحذر شديد كعادتها كي لا تُزعِجه ، وفجأة مرت بمحذاة السرير وأحس باليد الدافئة والطرية فوق صليب بطنه ، وأحس بها تبحث عنه ، أحس بها تجده ، وأحس بها تَحُل الأزرار فيما تنفُسها يملأ الغرفة ، وتظاهر بأنه يقرأ الى أنْ لم يعُد قادرا على الاحتمال ، فاضطَر للإعراض عنها بجسده .
فزِعَت المرأة بالتحذير الأول الذي أعطوها إياه لِمنحها وظيفة عاملة ، هو ألا تضاجع أحدا من الزبائن ، ولم يكن عليهن أن يقلن لها ذلك ، لأنها كانت ممن يفكرون بأن الدعارة ليست في المضاجعة مقابل المال وإنما في مضاجعة الغرباء .
كان لها ابنان ، كل منهما من زوج مختلف وليس ذلك في مغامرات عرَضية وإنما لأنها لم تتمكن من حب رجل يرجع إليها بعد المرة الثالثة .لقد كانت حتى ذلك الحين امرأة ليست على عجلة من أمرها ، وكانت مهيأة بطبعها للانتظار دون يأس ، ولكن الحياة في ذلك البيت كانت أقوى من عِفَّتِها ، كانت تدخل الى العمل في السادسة مَساءً وتقضي الليل كله متنقلة من حجرة الى أخرى كانسةً الأرض بأربع ضربات من مِكْنَسَتِها ، جامعةً موانع الحمل المستخدمة ومستبدلةً شراشف الأَسِرَّة .
ولم يكن سهلا تصور كميَة الأشياء التي يخلفها الرجال بعد الحب ،إنهم يتركون قيأً ودموعاً وهذا كان يبدو لها مفهوماً ، لكنهم كذلك كانوا يخلفون الكثير من ألغاز العلاقات الجنسية ، بقع دم لطخات بُراز عيون زجاجية ساعات ذهبية أأسنان إصطناعية عُلَب تحتوي على خُصل شَعَر ذهبية رسائل حب رسائل تجارية رسائل تعزيَة رسائل من كل صنف ، وكان بعضهم يعود بحثاً عن أشيائه المفقودة ، لكن معظم الأشياء كانت تبقى هناك .
وكان لوتاريو توغوت يحفظها تحت قِفْل مُفكِّراً أن ذلك القصر الساقط في المحنة مع آلاف الأشياء الشخصية المَنسية سيتحول عاجلاً أَم آجلا الى متحف للحُب .
كان العمل قاسياً وأجره ضئيلاً ، لكنها كانت تقوم به على أحسن وجه ، أما ما لم تكن قادرة على احتماله فهو التنهدات والتأوهات وصرير نوابض الأَسِرَّة التي كانت تترسب في دمِها بحرقة وألم شديدَين ، ، وما أن يأتي الفجر حتى تكون عاجزةً عن احتمال تلهفها للاضطجاع مع أول شحاذ تلتقي به في الشارع أو مع أي سكِّير مبدد يقدم لها هذه الخدمة دون أي مَطالب أو أسئلة أخرى .
كان ظهور رجل بلا امرأة كفلورنْتينوأَريثَا فتي ونظيف بمثابة هدية من السماء بالنسبة لها ، ذلك أنها لاحظت منذ اللحظة الأولى أنه مثلها مُعْوَز للحُب ، أما هو فلم يكن يحس بما تُعانيه ، لقد احتفظ بعذريته في سبيل فرْمينا داثَا وليست هناك قوة أو منطق في هذا العالم يثنيه عن عزمه .
وعلى هذا المِنْوال كانت حياته تسير قبل أربعة شهور من الموعد المحدد لإعلان الخطوبة ، عندما ظهر لورينثو داثَا في الساعة السادسة صباحا في مكتب التلغراف وسأل عنه ، وبما أنه لم يكن قد حَضَرَ بعد فقد انتظره جالسا على المقعد حتى الساعة الثامنة وعشر دقائق ناقلا من إصبع الى آخر الخاتم الذهبي الثقيل المرصع بياقوتة نقية ، وعندما رآه يدخل عرفه فورا على أنه موظف التلغراف ، فأمسكه من ذراعه وقال له : تعال معي أيها الشاب ، لدينا ما نتحدث فيه معاً لمدة خمس دقائق حديث رجل لِرجل .
وانقاد فلورنْتينوأَريثَا الذي صار لونه أخضر مثل ميت ، لم يكن مهيأً لهذا اللقاء لأن فرْمينا داثَا لم تجد الفرصة ولا الوسيلة لإنذاره ، والقضية هي أنه في يوم السبت الفائت دخلت الأخت فرانْكا ديلَا لُوث رئيسة راهبات مدْرسة ظهور العذراء المقدسة الى درس المعرفة الكونية بصمت أفعى ، وفيما هي تتجسس على التلميذات من فوق أكتافهن اكتشفت أن فرْمينا داثَا تتظاهر بأنها تسجل ملاحظات على الدفتر بينما هي في الواقعر تكتب رسالة حب .
كانت هذه الخطيئة حسب قوانين المدْرسة سببا كافياً للطرد ، ولدى استدعائه على عجل الى مكتب الإدارة اكتشف لورينثو داثَا الثقب الذي كان يتسرب منه نظامه الحديدي ، وقد اعترفت فرْمينا داثَا بقوة طبعها بخطية الرسالة ، لكنها رفضت الكشف عن هوية الحبيب السري ، وعادت ترفض أمام محكمة الانضباط التي أقرت لهذا السبب حكم الطرد ، ورغم ذلك فقد قام الأب بتفتيش غرفة نومها التي كانت حتى ذلك الحين مكاناً مقدساً لا يجوز خرْق حرمته .
ووجد في الصندوق ذو القاع المزدوج رسائل ثلاث سنوات مُخَبأةً بمحبة تُضاهي المحبة المبذولة في كتابتها .
لم يكن توقيع المُرسِل يحتمل الخطأ ، لكن لورينثو داثَا لم يستطع أن يصدق حينئذٍ ولا فيما بعد أن ابنته لا تعرف عن خطيبها الخفي سوى مهنته في التلغراف وهوايته في عزف الكمان .
ولقناعته أن علاقة على هذا القدر من الصعوبة لا يمكن فهمها إلا بتَسَتر شقيقته ، فإنه لم يسمح لهذه حتى بنعمة الاعتذار وإنما أجبرها على الإبحار دون استئناف في مَرْكِب الى سان خوان ديلاثييناغا ، ولم تسترح فرْمينا داثَا الى الأبد من عذاب ذِكراها الأخيرة في مَساء اليوم الذي ودعتها فيه عند البوابة وهي تتقد بالحُمَا في مسوحها البني ، ورأتها تختفي بعظامها البارزة وشحوبها تحت مطر الحديقة حاملةً متاعها الوحيد المتبقي لها في الحياة ، حقيبة العزباء ونقود لا تكاد تكفيها للحياة شهرا ملفوفةً بمنديل في طرف كُمِّها .
وما أن تحررت من سلطة والدها فيما بعد حتى بعثت من يبحث عنها في مقاطعات الكاريبي سائلةً عنها كل من قد تعرَّف إليها ، ولم تجد أي خبر عن آثارها إلا بعد مرور حوالي ثلاثين سنَة عندما تلقت رسالة تناقلتها أيدٍ كثيرة خلال زمن طويل ، وفيها يخبرونها بأنها ماتت في حوالي المائة من العمر في مَحجر أغواديد ديدويوس الصحي .
لم يتنبأ لورينثو داثَا بالشراسة التي ستَردُّ بها ابنته على العقاب الظالم الذي راحت ضحيته العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ، تلك العمَّة التي كانت ترى فيها أمها التي لا تكاد تتذكرها .
لقد حبست نفسها مُقفِلة الباب بالرتاج في غرفة النوم دون طعام أو شراب ، وعندما تمكن أخيرا من جعلها تفتح الباب بالتهديد أولا ثم بالتوسلات المنافِقة ، وجد نفسه أمام لَبُؤَة جريح لن تعود ابنة خمسة عشرة سنة الى الأبد .
حاول إغراءها بكل أنواع التملق ، حاول إفهامها أن الحب في سنها ما هو إلا سراب ، وحاول إقناعها بالحسنى أن تعيد الرسائل وترجع الى المدْرسة لتطلب الصفح جاثيةً ، ووعدها بكلمة شرف أنه سيكون أول من سيساعدها لتكون سعيدة مع خطيب مُحترَم .
لكنه كان كمَيِّت يُحدث مَيِّتً ، أحس بالهزيمة وانتهى الى فقدان أعصابه أثناء غداء يوم الاثنين ، وفيما هو يشرف بالسُباب والشتائم على حافة الهَيَجان ،تناولت سكين اللحم ووضعتها على عنقها بلا دراماتيكية وبنَبْض ثابت وعينَين ذاَهلتين لم يجرؤ على تحديهما ، وكان قرر حينئذٍ المخاطرة بالحديث كرجل لِرجل لمدة خمس دقائق مع الدخيل المشؤوم الذي لا يَذكُر أنه رآه يوماً ، والذي وقف في طريق حياته في ساعة نحْس ، وبمَحْض العادة تناول المسدس قبل أن يخرج لكنه حرص على حمله مُخَبأً تحت القميص .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد استرد أنفاسه عندما قاده لورينثو داثَا من ذراعه عبر ساحة الكاتدرائية حتى رواق الأقواس في مقهى الباروكية ، ودعاه للجلوس على المصطبة الخارجية ، لم يكن هناك زبائن آخرون في مثل هذا الوقت ، وكانت امرأة زنجية تمسح بلاط الصالة الضخمة ذات الواجهات الزجاجية المتشضية والمتغبرة حيث كانت الكراسي لا تزال موضوعة بالمقلوب فوق الطاولات الرُخامية .كان فلورنْتينوأَريثَا قد رأى لورينثو داثَا مرات كثيرة وهو يلعب ويشرب النبيذ هناك مع أستريوس سوق العام الذين يشتبكون في مشادات صارخة حول حروب مزمنة أخرى غير حروبنا ، ولقد تساءل مرات كثيرة وهو يعي قدرية الحب : كيف سيكون لقاؤه الذي سيتم عاجلا أَم آجلا مع هذا الرجل ، ذلك اللقاء الذي لن تحول دونه قوة إنسانية ، لأنه مكتوب منذ الأزَل في قَدَر كل منهما .
لقد رأى في الأمر شجارا لا متكافئاً ، ليس لأن فرْمينا داثَا لم تكن قد نبهته في رسائلها الى طبع أبيها العاصف فحسب ، بل لأنه هو نفسه لاحظ من قبل أن له عينَين غاضبتَين حتى حين يقهقه ضاحكا على طاولة اللعب ، إن كل ما فيه كان محصلة شراسة ، كرشه اللئيم ، وطريقته المفخمة في الكلام وساقاه اللتان كساقَي وشَق ويداه الغليظتان مع البُنْصر المختنق بفص الياقوت ، الشيء الوحيد اللَيِّن فيه والذي تنبه إليه فلورنْتينوأَريثَا مُذ رآه يمشي لأول مرة هو مشيته الغزلانية التي كمشية ابنته ، ومع ذلك فإنه لم يره فظاً كما كان يظن حين أشار له الى الكرسي ليجلس ، ثم إنه استرد أنفاسه عندما دعاه لتناول كأس من خمرة لها طعم اليانسون .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد تناول مشروباً كهذا في الثامنة صباحا من قبل ، لكنه وافق شاكرا لأنه كان بحاجة إليه وبسرعة .
لم يتأخر لورينثو داثَا فعلا أكثر من خمس دقائق في عرض غرضه ، وفعل ذلك بصراحة مجردة جعل الأمر يختلط على فلورنْتينوأَريثَا .
لقد وضع نصب عينَيه منذ وفاة زوجته هدفا وحيدا هو أن يجعل من ابنته سيدة عظيمة ، وكان السبيل الى ذلك طويلا وشائكاً بالنسبة لتاجر بغال لا يحسن القراءة ولا الكتابة ، رغم أن سمعته كلص مَواشي لم تكن مؤكدةً بنفس درجة انتشارها في مقاطعة سان خوان ديلاثييناغا .
أشعل سيجارة بَغّال وقال متحسراً : الشيء الوحيد الذي اعتبره أسوأ من اعتلال الصحَة هو سوء السُمعة .
ومع ذلك قال : إن سر ثروته الحقيقي هو أنه لم يكن يجعل أياً من بغاله يعمل بقدر ما كان هو نفسه يعمل وبتصميمه حتى في أكثر أزمان الحرب مَرارةً حين كانت القرى تستيقظ متحولةً الى رُكام والحقول الى هشيم .
ورغم أن ابنته لم تطَّلِع يوما على مخطط مصيرها إلا أنها كانت تتصرف كشريكة متحمسة ، فهي ذكيَة ومنظمة حتى إنها علَّمت أباها القراءة بالسرعة نفسها التي تعلَّمت هي بها ، وفي الثانية عشرة من عمرها كانت مطَّلعة على الواقع بشكل يؤهلها لتسيير شؤون البيت دون حاجة للعمَّة أسْكولا أَسْتيكا .
وتَنَهد : إنها بغلة ذهبية .
وعندما أنهت ابنته المدْرسة الابتدائية بدرجات قصوى في كل المواد مع تنويه شرف في حفل الختام ،أدرك أن بلدَة سان خوان ديلاثييناغا أصبحت ضيقة على أحلامه ، عندئذٍ صفّىَ ممتلكاته من الأراضي والمواشي وانتقل بقوى جديدة وسبعين ألف بيزو ذهباً الى هذه المدينة المُنهارة ذات الأمجاد المنخورة .
ولكن حيث المجال متاح لامرأة جميلة ومؤدبة على الطريقة القديمة أن تولَد من جديد بزواج محظوظ .
لقد كان اقتحام فلورنْتينوأَريثَا حياتهما عائقا غير مُنْتظَر في ذلك المخطط الصارم .
- إنني آتٍ لِأتقدم منك بِرَجاء . قال لورينثو داثَا ، ثم بلل عَقِب السيجار بخمر اليانسون ، وأخذ منه نفَساً بلا دخان واختتم بصوت مغموم : ابتعد عن طريقنا .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد أصغى إليه وهو يتناول رشفات من خمر اليانسون ، منذ اكتشاف ماضي فرْمينا داثَا حتى أنه لم يسأل نفسه عما يقوله عندما سيتكلم ، وما أن جاء وقت الكلام حتى انتبه الى أنْ تقرير مصيره متوقِف على ما سيقوله فسأل : هل كَلَّمْتَها ؟
قال لورينثو داثَا : هذا ليس من اختصاصِك .
وقال فلورنْتينوأَريثَا : إنني أسأل لأنني أرى أنها هي التي عليها أن تُقرِر .
فقال لورينثو داثَا : لا شيء من هذا ، فالقضية قضية رجال ويجب تسويتها بين الرجال .
أصبحت نبرة صوته متوعِدَة ، والتفت زبون على طاولة مجاورة لينظر إليهما .
وتكلم فلورنْتينوأَريثَا بأخْفَض صوت ممكن ولكن بأقصى ما لديه من تصميم قال : لا أستطيع إجابتك على أية حال دون أن أعرف رأيها ، لأن ذلك سيكون خيانة .
حينئذٍ شد لورينثو داثَا نفسه الى الوراء في المِقعد بأجفانه المُحْمَرَّة والرطِبة ودارت عينه اليسرى في مَحجرِها لتستقر مائلة الى الخارج ، ثم خفض صوته أيضا وقال : لا تجبرني على قتلك بإطلاق النار عليك .
أحس فلورنْتينوأَريثَا بأن أحشاءه قد امتلأت بِرغوَة باردة لكن صوته لم يرتعش ، لأنه أحس أيضا بأنه مُلهَم من الروح القُدُس فقال ويده على صدرِه : أَطلِق .كان على لورينثو داثَا أن ينظر إليه مُجانَبَةً كالببغاوات ليراه بالعين المائلة ، ولم ينطق الكلمات الثلاث وإنما بدا وكأنه يبسقها مقطعاً : يا ابن العاهرة .
في ذلك الأسبوع بالذات حمل ابنته الى رحلة النسيان ، لم يقدم لها أي تفسير سوى أنه اقتحم غرفة نومها وشاربه ملوَث بالغضب المختلِط مع السيجار الممضوغ ، وأمرها بأن تجهز أمتعة السفر .
سألَته : الى أين سيذهبان ؟
فاجأها : الى الموت .
وحاولت وهي فزعة من هذا الجواب الذي يشابه الحقيقة كثيرا مواجهته بشجاعة الأيام الماضية ، لكنه نزع حزامه ذي الأبزيم النُحاسي وطواه على قبضته ثم هَوَى على الطاولة بجَلْدةٍ دوَّت في أرجاء البيت كأنها طلقة بندقية ، فعرفت فرْمينا داثَا جيدا مدى قوتها ومناسبتها .
وهكذا أعدت أمتعة السفر ولفتها ببِساطَين وأرجوحة نوم ، ووضعت كل ملابسهما في صندوقين كبيرَين وهي متأكدة من أنها رحلة بلا عودة .
وقبل أن ترتدي ثيابها حبست نفسها في الحمام وتمكنت من كتابة رسالة وداع قصيرة الى فلورنْتينوأَريثَا على ورقة منتزَعة من مجموعة الورق الصحي ، ثم قصت ضفيرتها كاملة من مستوى الرقبة بِمِقَص تقليم ولفتها بعلبة من المخمل مطَرَّزة بخيوط ذهبية وبعثت بها مع الرسالة .
كانت رحلة مجنونة ، مرحلتها الأولى وحدها استغَرِقت أحد عشر يوما برفقة بَغّالي الأنديز على صهوة بَغلة فوق جُرُف سلسلة السيارينيفادا الوعرة ، وقد أمضوها وهم مخدرون بالشموس اللاهبة أو مبللين بأمطار تشرين الأفقية وبأنفاس مخدرة في معظم الأحيان بفعل الروائح المنومة التي تنبعث من الجُروف .
وفي اليوم الثالث للرحلة انزلقت بَغلة هائجة بسبب ذباب الدواب وَهَوَت مع فارِسها ساحبة معها مجموعة البِغال المربوطة وإياها كلها ، واستمرت زعقة الرجل وعنقوده المؤلَّف من سبعة بهائم مربوطة الى بعضها تتردد في الأودية والوِهاد لعدة ساعات بعد الكارثة ، وبقيت تَطِنُّ في ذاكرة فرْمينا داثَا لِسنوات وسنوات ، لقد هَوى كل متاعها مع البغال ، ولكنها في لحظة القرون التي استغرقها السقوط الى أنْ انطفأت صرخة البغال في القاع لم تُفكر في الرجل المسكين الذي مات ولا بالقافلة التي تمزقت ، وإنما كانت ترى الكارثة في أن بغلَتَها التي تمتطيها لم تكن مربوطة مع البغال الأخرى .
كانت المرة الأولى التي تمتطي فيها صهوة بهيمة ، ولكن رعب الرحلة وآلامها التي لا حصر لها ما كانت لِتبدو لها بهذه المرارة لولا قلقها من كونها لن ترى فلورنْتينوأَريثَا بعد اليوم ولن تتعزى برسائله .
منذ بدء الرحلة لم تبادل والدها الحديث ، وهذا كان قلقا بدوره حتى أنه لم يكلمها إلا في بعض الأمور الضرورية أو اكتفى بإرسال بعض التعليمات إليها مع البَغّالين ، وحين كان الحظ يحالفهم يجدون نُزُلاً على الطريق يُقدَّم فيه طعام جبلي ترفض تناوله ، ويُأَجِرونهم فراشاً مُتسخاً بعرَق وبول زنخَين ، أما غالبية الليالي فكانوا يقضونها في أكواخ هنود أو في منامات عامة في الهواء الطلق مُشادة على حافة الدروب في صفوف من أكواخ خشبية ذات سقوف من النخيل ، حيث لكل من يصل الحق في بالبقاء حتى الفجر .
لم تتمكن فرْمينا داثَا من النوم ليلة كاملة وهي تتعرق خوفاً ، وتحس في الظلام بحركة المُسافرين الرشيقة وهم يربطون دوابهم في الأكواخ الخشبية ويعلقون أراجيح نومهم حيث يستطيعون .
في المَساء وعند وصول أول المُسافرين يكون المكان بَهياً وهادئا ، لكنه يتحول عند الصباح الى سساحة مهرجان مليئة بحشد من أَراجيح النوم المعلقة على عدة مستويات ، وهنود أُرواكو الجبليين الذين ينامون مُقَرْفصين وتململ الماعز المربوطة وصخب دِيَكة المصارعة في صناديقها الفرعونية ، والصمت اللاهث للكلاب الجبلية المُدرَبة على عدم النُباح خوفا من مخاطر الحرب .
لقد كانت تلك الأجواء مألوفة للورينثو داثَا الذي عَمِل تاجرا في المنطقة خلال نصف حياته ، وكان يلتقي بشكل شبه دائم مع أصدقاء قُدماء عند الفجر ، أما بالنسبة للابنة فكان احتضاراً مؤبداً .
إن نتانة شحنات السمك المملح إضافة الى فقدانها الشهية شوقا توصلا الى إتلاف عادة الأكل لديها ، وإذا كان لم يصبها مس من اليأس فلأنها وجدت الفرج دوما في ذكرى فلورنْتينوأَريثَا ، ولم تشك لحظةً في أن تلك الأرض هي أرض النِسيان .
وكان هناك رعب دائم آخر ، هو رعب الحرب ، فمنذ بدء الرحلة جرى حديث عن خطر الإلتقاء بالدوريات المنتشرة ، وقد دربهم البَغّالون على مختلف الأساليب لمعرةفة الجهة التي ينتمون إليها ليتصرفوا بما يتلاءم مع ذلك ، وكثيرا ما كانوا يلتقون بإرسالية جُند على الخيول تحت إمرة ضابط تقوم بتجنيد إجباري لمُجندين جُدد وذلك بربطهم كالعُجول وإجبارهم على الجريّ.
ومُثقلَة بكل هذه المخاوف نَسيَت فرْمينا داثَا ذاك الذي بدا لها أكثر خرافية من الأمور الوشيكة الحدوث الى أنْ اختطفت دورية بلا انتماء معروف مُسافرَين من القافلة في إحدى الليالي وشنَقتهما على شجرة كابِيلي على بُعد فَرْسَخ واحد من المنامة .
لم يكن للورينثو داثَا أي علاقة بهما لكنه أنزلهما عن الأنشوطة ودفنهما كمسيحيَين ، وذلك بدافع الحمد لكونه لم يلقَ المصير نفسه ، وكان هذا أقل ما يمكن عمله لأن المهاجمين كانوا قد أيقظوه وَفُوَّهَة بندقية مصوبة الى بطنه ، واقترب منه قائد بأسمال وجهه مَطلي بِسِناج أسود وصوَّب نحوه ضوء مصباح يدوي وسأله إن كان لبرالياً أَم محافِظاً ؟
فقال لورينثو داثَا : لست هذا ولا ذاك ، أنا مواطن إسباني .
فقال الكُوميدان : يا لك من محظوظ .
ثم ودعه رافعاً يده الى أعلى وقال : فليحيا المَلك .
بعد يومين من ذلك نزلوا الى السهل الساطع حيث تقبع بلدَة فيَدوبار السعيدة ، كانت تقام هناك مصارعات ديكة في الباحات وتُعزَف موسيقى أوكورديون في المنعطفات ، كما كان هناك فرسان يمتطون صهوات جياد كريمة ، وألعاب ناريو وقرع نواقيس ، وكانوا كذلك قد نصبوا قلعة من الأسهم النارية ، لكن فرْمينا داثَا لم تعِر أي اهتمام حتى للجوقة الموسيقية .
استضافهما الخال لِيِسِاماكو سانجيت شقيق أمها الذي خرج لاستقبالهما على الطريق الرئيسي ، ترافقه كوكبة من الفرسان الأقارب الشباب الذين يمتطون بهائم من أفضل سلالات المقاطعة ، وقادوهما عبر شوارع البلدَة وسط فرقعة الألعاب النارية .
كان البيت في نطاق الساحة الكبرى الى جوار الكنيسة الاستعمارية ، والتي كانت أشبه بمستودع محصولات بحجراتها الفسيحة والمظلمة وممرها العابق برائحة عصير قصب السكَر الدافئ مقابل بستان أشجار مثمرة .
وما أن ترجلو في الإصطبلات حتى امتلأت صالات الاستقبال بأعداد من الأَقارب المجهولين الذين كانوا يُزعجون فرْمينا داثَا بسيل عواطفهم الذي لا يطاق لأنها كانت عاجزةً عن حب أحد آخر في هذا العالم ، إضافةً الى تَسَلُّخ بشرتها من امتطائها البهيمة وإنْهاكها من النعاس والإسهال ، والشيء الوحيد الذي كانت تتشوق إليه هو مكان منْعزل وهادئ لِتبكي فيه .
وكانت ابنة خالها هيلْدا براندا التي تكبرها بسنتَين ولها كِبرياؤها الامبراطوري ذاته هي الوحيدة التي تفهمت حالتها مُذ رأتها لأول مرة لأنها كانت تكتوي كذلك بجمرات حب متهور .
رافقتها عند المَساء الى حجرة نومها التي أعدتها للتتقاسمها وإياها ، ولم تستطع أن تفهم كيف ما زالت على قيد الحياة بهذه القروح النارية في إلْيَتَيها ، وبمساعدة أمها وهي امرأة عذبة وشبيهة جدا بزوجها ححتى ليَبدوان وكأنهما توأمان ، أعدت لها مغطساً وخففت لها حرارة الحُمَا بكمدات من أزهار جبلية فيما كانت أسهم قلعة البارود النارية تهز أعماق البيت .
انصرف الزوار عند منتصف الليل ، وتفرقت الحفلة العامة الى جَذوات مُبعثرة ، وأعارت ابنة الخال هيلْدا براندا قميص نوم قطني أبيض لفرْمينا داثَا وساعدتها على الاستلقاء في سرير ذي شراشف نظيفة ووسادة ريش أوحت لها بغتة برع السعادة المفاجئ ، وعندما بقيتا وحدهما أخيرا أغلقت الباب بالمزلاج وأخرجت من تحت فرشة سريرها مغلفا مختوماً بشعار التلغراف الوطني ، وكانت رؤية تعابير المكر المشعة من وجه ابنة الخال تُبَرعِم في ذاكرة قلب فرْمينا داثَا رائحة أزهار الياسمين البيضاء قبل أن تُفتِت بأسنانها خاتم الشمع الأحمر ، وتبقى حتى الفجر متخبطةً في بِرْكة دموع البرْقيات الأحدى عشرة الخارقة .
وعرفت حينئذٍ كل شيء ، فقبل الانطلاق بالرحلة ارتكب لورينثو داثَا خطيئة إخطار حَماه لِيِسِاماكو سانجيت بالتلغراف ،وبعث هذا الخبر بدوره الى حلقة أقربائه الواسعة والمعقدة ، المُنتشرة في عدد كبير في قرى ودروب المقاطعة .
وهكذا لم يتمكن فلورنْتينوأَريثَا من معرفة طريق السفر كله فقط وإنما أقام كذلك جمعية واسعةً من عاملي التلغراف لاقتفاء آثار فرْمينا داثَا حتى آخِر قرية في كابوديلافيلا ، وقد أتاح له ذلك الاحتفاظ باتصال مُكثف معها منذ وصولها الى فيَدوبار حيث أقامت ثلاثة شهور وحتى نهاية الرحلة في بعد سنَة ونصف حين هُيِّئ للورينثو داثَا أن ابنته قد نَسيَت وقرر الرجوع الى بيته .
ربما لم يكن هو نفسه واعيا مدى تراخي مراقبته في انشغاله في مداهنات أنسبائه السياسيين الذين تخَلوا بعد كل هذه السنين عن أوهامه القبلية وقَبِلوه بقلب مفتوح كواحد منهم .
لقد كانت زيارة مصالحة متأخرة ، رغم أن الغرض الأساسي منها لم يكن كذلك .
كانت عائلة فرْمينا سانجيت قد عارضت فعلا وبكل إصرار زواجها من مهاجر بلا أصل متوحش وكثير الكلام ، كان يمضي عابراً في كل الأماكن بتجارة بِغال شبِقَة تبدو شديدة البساطة حتى لَيُشكُّ في نظافتها .
كان لورينثو داثَا يلعب لعبة كبيرة لأن محبوبته هي أفضل فتاة في عائلة تقليدية من عائلات المنطقة ، قَبيلة متشابِكة من النساء الباسلات والرجال الطيبي القلب وسهلي الزناد ، الذين يَهيجون الى حد الجنون في مسائل الشرف ومع ذلك فقد أصرت فرْمينا سانجيت بكبريائها على قرار حبها الأعمى ، وتزوجت منه رغم غضب العائلة بسرعة كبيرة وأسرار كثيرة ، فبدت وكأنها لم تفعل ذلك بدافع الحب وإنما لإخفاء زلة مُبكِرة بغطاء مقدس .
وبعد خمس وعشرين سنَة دون أن ينتبه لورينثو داثَا الى أنْ عناده أمام حب ابنته هو تكرار لتاريخه المعيب ذاته .
كان يشكو بلواه أمام أحمائه الذين عارضوا زواجه ، كما شكا هؤلاء في حينهِم أمام أحمائهم ، ولكن الوقت الذي كان يضيعه في حسَراته كانت ابنته تكسبه في غرامياتها .
وفيما هو منصرف الى خصي العُجُول وترويض البِغال في أرض أحمائه السعيدة ، كانت هي تمضي مُفلتَتة الأَعِنَّة مع فوج من بنات خؤولتها تقودهن هيلْدا براندا سانجيت أجملهن وأسرعهن في تقديم الخدمات والتي كانت تكتفي بنظرات مختلَسة في حبها الطائش لِرجل يكبرها بعشرين سنَة متزوج وأب لأولاد .
بعد إقامة طويلة في فيَدوبار تابعا الرحلة عبر المرتفعات المجاورة لسلسلة الجبال ، مجتازين مروجاً مُزهِرة وتلالاً حالمة واسْتُقبِلوا في جميع القرى بمثل الاستقبال الأول مع الموسيقى والمفرقعات وبنات خؤولة جديدات متواطئات ورسائل منتظمة في مكاتب التلغراف .
وسرعان ما تنبهت فرْمينا داثَا الى أنْ وصولها الى فيَدوبار لم يكن مختلفا وأن جميع أيام الأسبوع في تلك المقاطعة الغنية كانت تُعاش وكأنها أيام أعياد ، كان الضيوف ينامون حيث يفاجئهم الليل ، ويأكلون حيث يصادفهم الجوع ، فالبيوت مُشْرعة الأبواب فيها دائما أرجوحة نوم معلَّقة وطبيخ به بضع قطع من اللحم يغلي على مَوقِد تحسباً لِقدوم أحد قبل وصول برقية الإعلان عند مجيءه ، كما كان يحدث بشكل شبه دائم .
رافقت هيلْدا براندا سانجيت ابنة عمتها في بقية مراحل الرحلة ، وقادتها بسعادة عبر تشابكات الدم حتى مَنابع أَصلِها ، وتعرفت فرْمينا داثَا على ذاتها وأحست بأنها سيدة نفسها للمرة الأولى ، أحست بأنها محمية ، وأن رئتيها ممتلئتان بِهَواء حريَة أعاد لها الطمأنينة وإرادة الحياة ، وبقيت تذكر تلك الرحلة حتى سنواتها الأ×الأخيرة وتشعر بها أقرب عهدا في ذاكرتها مع صحوات الحنين المُضَلَلَة .
وفي إحدى الليالي رجعت من جولتها اليومية مصعوقةً لاكتشافها أن المرء لا يمكن أن يكون سعيدا دون الحب فحسب بل وضده أيضا ، وقد أفزعها هذا الاكتشاف لأن إحدى بنات أخْوالِها استمعت مُصادفةً الى حديث بين آبائهن ولورينثو داثَا ،لَمَّحَ هذا الأخير خلاله الى موافقته على فكرة زواج ابنته من وارث ثروة كلُيوفاسموسكوتي الخيالية .
كانت فرْمينا داثَا تعرفه فقد رأته وهو يذرع الساحات على مَتْن جياده الكريمة ذات السروج الفاخرة التي تبدو وكأنها زينة القُدّاس ، وكان أنيقاً وجذاباً له رموش حالمة تجعل الأحجار تتنهد ، لكنها قارنته في ذاكرتها بفلورنْتينوأَريثَا الجالس تحت أشجار اللوز في الحديقة بائساً وضامراً مع كتاب الأشعار في حُضنه ، ولم تجد في قلبها ظلاً من الشك .
كانت هيلْدا براندا سانجيت تمضي في تلك الأيام مَهَوُسةً بالأحلام بعد زيارة قامت بها لعرّافة أذهلتها دقة بصيرتها ، فذهبت فرْمينا داثَا المُرْتعبة من نوايا أبيها لاستشارتها كذلك ، وقد أنبأَها الورق بأنه لا وجود في مستقبلها لأي عائق أمام زواج طويل وسعيد .
وقد أعادت لها تلك النبوءة أنفاسها لأنها لم تكن تتصور بأنه يمكن لِمصير موفق الى هذا الحد أن يكون مع رجل آخر سوى الذي تحبه، وتولت حينئذٍ مقاليد اختيارها وهي سعيدة بهذا اليقين .
وهكذا لم تعُد مراسلاتها مع فلورنْتينوأَريثَا مجرد كونشيرتو من النوايا والوعود الخالية بل عادت لتصبح منهجية وعملية وأكثر زخماً من كل ما سبق ، حددَا المواعيد وأَقَرَّا الأساليب وَرَهَنَا حياتهما بقرارهما المشترك في الزواج دون الرجوع الى أحد في أي مكان وبأية طريقة وذلك فور لقائهما من جديد .
كانت فرْمينا داثَا تَعتبِر هذا الوعد حاسما لدرجة أنه في الليلة التي سمح لها فيها أبوها حضور الحفلة الراقصة الأولى كراشدة في بلدَة فونْسيكا لم ترَ أنه من الوقار القبول بالذهاب دون موافقة خطيبِها .
وفي تلك الليلة كان فلورنْتينوأَريثَا يلعب الورق مع لوتاريو توغوت في فندق العابرين عندما أخبروه بأنه مطلوب في اتصال برقي مستعجل ، كان المتصل هو موظف التلغراف في فونسيكا الذي عَشَّق سبع محطات وسيطة لِتَطْلب فرْمينا داثَا الإذن بحضور الحفلة الراقصة ، ولكنها حين حصلت على التصريح لم تكتفِ بمجرد الرد الإيجابي وإنما طلبت ما يثبت بأن فلورنْتينوأَريثَا هو من يضرب مفاتيح الإرسال في الطرف الآخر من الخط فعلا .
فصاغ هو مذهولا أكثر منه مغازِلاً عبارة تحدد هويته .
قل لها : إنني أُقسم بالرَبَّة المتوجَة .
وهكذا تعرَّفت فرْمينا داثَا على الإشارة وبقيت في حفلتها الراقصة الأولى كراشدة حتى الساعة السابعة صباحاً عندما أصبح عليها الذهاب لاستبدال ملابسها كي لا تصل متأخرة الى القُدّاس .
كانت تملك حينئذٍ في صندوقها كمية من الرسائل والبرقيات أكبر من تلك التي انتزَعها أبوها منها ، وكانت قد تعلَّمت أن تسلك سلوك النساء المتزوجات .
وقد اعتبر لورينثو داثَا تلك التبدلات التي طرأت على سلوكها بأنها شفاء لا شك فيه من أوهام شبابها أوصلها إليه البُعد والزمن ، لكنه لم يطرح عليها أبدا مشروع الزواج المتفق عليه ، وأصبحت علاقتها بأبيها أكثر انسيابية ضمن التحفظات الشكلية التي فرضتها منذ طرد العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ، مما أتاح لهما نوعا من التعايش المريح ما كان لأحد أن يَشُك بأنه ليس قائما على المحبة .
وكان أن قرر فلورنْتينوأَريثَا في هذه الفترة إخبار فرْمينا داثَا في رسائله بأنه مشغول في الكشف لها عن كنز السفينة الغارقة ، كان يفعل ذلك حقاً ولقد خطر له الأمر كنفحة إلهام ، ذات مَساء منير بينما البحر يبدو وكأنه مرصوف بالأَلَمْنْيوم لكميات السمك الطافية على سطح الماء بفعل أزهار البارباسكو ، كانت جميع طيور السماء قد هاجت للمجزرة بينما تولى الصيادون أمر أفزاعها بالمجاديف كي لا تُشاركهم ثمار تلك المعجزة المُحرمة ، فاستخدام البارباسكو الذي يُخَدِّر الأسماك كان محضورا في القانون منذ العهد الاستعماري ، لكنه بقي سائدا ومستخدماً في وضح النهار بين صيادي الكاريبي الى أنْ استُبدِل بالديناميت .
إن إحدى مُتع فلورنْتينوأَريثَا أثناء رحلة فرْمينا داثَا كان مشاهدة الصيادين من فوق حائل الأمواج وهم يملؤون زَوارقهم بالشباك المترعة بالأسماك المخدَّرة ، كما كانت هناك عُصبة صبيان يسبحون كأسماك القرْش ويَطلبون من الفضوليين إلقاء قِطع نقدية لاستخراجها من قاع الماء ، إنهم أولئك الذين ينطلقون سابحين للغرض ذاته للقاء عابرات المحيطات والذين كتَب عنهم رَحالة كُثُر مقالات وتحقيقات فيالولايات المتحدة الأمريكية وأوربا في مهارتهم في فن الغوص .
لقد كان فلورنْتينوأَريثَا يعرفهم منذ الأزَل بل وقبل أن يعرف الحب ، ولكن لم يَخطُر بباله يوما أنهم قادرون على استخراج كنز السفينة سباحةً ، وقد فكَّر بذلك مَساء هذا اليوم ،ومنذ يوم الأحد التالي وحتى عودة فرْمينا داثَا بعد حوالي سنَة كان لديه سبب آخر لِلْهذيان .
لقد فُتِنَ أُكليديس أحد الصِبْية السباحين كثيرا كما فُتِنَ هو بفكرة الاستكشاف تحت الماء ، بعد محادثة لم تتجاوز عشر دقائق لم يكشف له فلورنْتينوأَريثَا عن حقيقة مشروعه بينما استَفْسَر منه بالتفصيل عن إمكاناته كَغوّاص وبحّار ، سأله إن كان يستطيع النزول بدون هواء الى عمق عشرين متراً .
وقال له أُكليديس : نعم .
سأله : إن كان في وضع يؤهله لقيادة زورق صيد بمفرده في عرض البحر وسط عاصفة دون أية أدوات أخرى سوى غريزته ؟
وقال له أُكليديس : أَي نعم .
سأله : إن كان قادرا على تحديد موقع مُعين على بُعد ستة عشر ميلاً بَحْرياً الى الشمال الشرقي من الجزيرة الكبرى في أرخبيل سوتافينتو ؟
وقال له أُكليديس : أَي نعم
سأله : إن كان قادرا على الإبحار لَيلاً والتوجه مهتدياً بالنجوم ؟؟
وقال له أُكليديس : أَي نعم .
سأله : إن كان مستعداً للعمل معه بنفس الأجر الذي كان يدفعه له الصيادون لقاء مساعدتهم في الصيد ؟
وقال له أُكليديس : أَي نعم ، إنما مع إضافة خمس رريالات في أيام الآحاد .
سأله : إن كان يحسن حماية نفسه من أسماك القرْش ؟؟
وقال له أُكليديس : أَي نعم ، وإن لديه تعاويذ سحرية لإفْزاعها .
سأله : إن كان قادرا على كتمان السر حتى ولو وضعوه على آلة التعذيب في قصر محكمة التفتيش ؟
وقال له أُكليديس : أَي نعم .
لم يقُل له لا عن أي شيء إذن ، وكان يعرف كيف يقول نعم بخصوصية لا يرقى إليها الشك ، ثم عرض عليه أخيرا حساب النفقات ، استئجار الزَورق ، استئجار المجداف ، استئجار عُدة صيد حتى لا يرتاب أحد في بحقيقة رحلاتهم إضافة الى حمل الطعام وقِرْبة مائ عذب ومصباح زيت وحزمة شموع من الشحم ، وقَرْن صياد لطلب النجدة في حالة الطوارئ .
كان عمره حوالي اثني عشر عاما وكان سريعا وماكرا ومتحدثا لا يَمَل الكلام ، له جسد حَنْكليس يبدو وكأنه قد تَكَوَن ليمر بخفة من نافذة سفينة ، وكانت عوامل الجو قد دَبَغَت بشرته بحيث أصبح مستحيلا معرفة لونها الأصلي ، وهذا جعل عينَيه الواسعتَين الصفراوَين تبدوان أكثر بريقاً .
وقرر فلورنْتينوأَريثَا على الفور بأنه الشريك المناسب لمغامرة بمثل هذا الحجم .
وانطلقَا في تلك المُغامرة يوم الأحد التالي دون أية إجراءات أخرى ، أبحرا من مرفأ الصيادين عند الفجر ، مُمَوَنين جيدا وعاقدَين العزم أكثر .
كان أُكليديس شبه عارٍ لا يكاد يغطي جسمه سوى المئزر الذي يضعه دوما حول وسطه ، وكان فلورنْتينوأَريثَا يرتدي السُترة الرسمية والقبعة القائمة وجزمته الصَقيلة ويضع ربطة الشعر حول عنقه ، ويحمل الكتاب الذي سيشغل نفسه به أثناء الرحلة الى الجُزر .
ومنذ يوم الأحد الأول انتبه الى أنْ أُكليديس كان بَحارا حاذقاً كما هو غواص ماهر ، وأن له قدرة مذهلة على الحديث عن طبيعة البحر وخردة الحديد التي على الشاطئ ، فهو قادر على سرْد حكاية كل هيكل من هياكل السفن التي عاث فيها الصدَء بأدق تفاصيلها التي لا ترِد على بال ، ويعرف عُمُر كل جسم طافٍ ومنْشَأ كل حطام وعدد حلقات السلسلة التي كان الإسبان يغلقون بها الخليج .
وخشية كذلك أن يكون عرف الغرض من هذه الحملة وجَّهَ إليه فلورنْتينوأَريثَا بعض الأسئلة المراوِغة وعرف من خلالها أنه لا تُراوِد أُكليديس أية شكوك حول مسألة السفينة الغارقة .
مُذ سَمِع حِكاية الكنز لأول مرة في فندق العابرين جمع فلورنْتينوأَريثَا كل ما أمكنه من معلومات عن دروب ذلك النوع من السفن ، وعرف أن السفينة سان خوسيه ليست السفينة الوحيدة في الأعماق المرجانية ، لقد كانت بالفعل سفينة القيادة في ~أسطول تيرا فيرميه ، وقد جائت هنا بعد شهر آيار من عام 1708 قادمةً من مهرجان بورتيبيلو الخرافي في بنما حيث حملت جزءاً من كنْزِها ، 300 صندوق من فضة البيرو فير أكروث 110 لآلئ جُمِعَت وأُحصِيَت في جزيرة كونتودورا ، وخلال إقامتها التي دامت لأكثر من شهر هنا كانت أيامها ولياليها عبارة عن مهرجانات شعبية ، قاموا بتحميلها بِبَقية الكنز المرصود لإخراج مملكة إسبانيا من الفقر ، 116 صندوقا من زُمرد ماثو سوموندوكو وثلاثين مليون مسكوكة ذهبية .
كان أسطول تيرا فيرميه مؤلفاً مما لا يقل عن اثنتي عشرة سفينة متنوعة الأحجام ، وقد أبحر من هذا الميناء في رحلة يحميها أسطول فرنسي حسن التسليح ، لم يستطع رغم ذلك حماية الحملة من مَدافع الأسطول الإنجليزي الصائبة بقيادة الْقِنْدان كارلوس واغير الذي كان ينتظر في أرخبيل ساتوفينتو عند مَخْرَج الخليج .
وهكذا لم تكن سان خوسيه هي السفينة الوحيدة الغارقة مع أنه لا وجود لِتوثيق دقيق لعدد السفن التي تحطمت وعدد تلك التي استطاعت النجاة من نيران الإنجليز ، لكن الذي لا شك فيه هو أن سفينة القيادة كانت من السفن الأولى التي غَرِقت بكامل طاقمها مع قائدها الذي لم يتزحزح من مقصورة القيادة ، وأنها هي وحدها التي كانت تحمل الشُحنة الكبيرة .
لقد تعرَّف فلورنْتينوأَريثَا على طريق السفن القديمة من خلال رسائل قَباطِنة السفن في ذلك العصر وظن بأنه حدد مكان الغرق أيضا .
خَرَجا من الخليج ما بين حصنَي بوكَا جيكا وبعد أربع سعات من الإبْحار دخلا في الماء الركد ما بين جُزر الأرخبيل ، ذلك الماء ذو الأعماق المرجانية حيث بالإمكان إمساك أسماك جراد البحر النائمة باليد .
كان الهواء خفيفاً والبحر هادئا وصافياً حتى أن فلورنْتينوأَريثَا رأى نفسه معْكوساً في الماء ، وبعد التجديف لمدة ساعتين من الجزيرة الكبرى وصلا الى موقع الغرق .
أشار فلورنْتينوأَريثَا المحتقن بالشمس الجهنمية في ملابسه المأتمية على أُكليديس أن يحاول النزول الى عمق عشرين متراً وجلب أي شيء يجده في القاع .
لقد كان الماء صافياً لدرجة أنه رآه وهو يتحرك في الأسفل مثل سمكة قرْش متسخة بين أسماك القرش الزرْقاء التي تمُر الى جانبه دون أن تمسه ، ثم رآه يختفي في عِرْق مرجاني ، وعندما فكَّر بأنه لم يعُد لديه أي قدْر من الهواء سَمِع الصوت وراء ظهره ، كان أُكليديس واقفا في القاع ويداه مرفوعتان والماء يغمره حتى خصره ، وتابعَا البحث على هذا المِنْوال عن أماكن أعمق متوجهَين دائما نحو الشمال ومُبْحِرَين فوق أسماك المَتاراتا الدافئة والحَباري الهيابة وورود الظلُمات الى أنْ أدرك أُكليديس بأنهما يضيعان وقتهما .
فقال له : إذا لم تقُل لي ما الذي تريدني أن أجده فلست أدري كيف سأتمكن من العثور عليه ؟
لكنه لم يخبره .
عندئذٍ اقترح عليه أُكليديس نزع ملابسه والنزول معه ولو لمجرد رؤية هذه السماء الأخرى للكون التي في الأعماق المرجانية ، لكن فلورنْتينوأَريثَا اعتاد على القول بأن الله إنما خلق البحر لنراه من النافذة ، ولم يحاول يوما أن يتعل العَوم .
بعد ذلك بقليل أصبح المَساء غائما وصار الهواء رَطِباً وبارداً وأظلمت الدنيا بسرعة ، مما اضطرهما للاسترشاد بالفَنَار ليصلا الى المرفأ ، وقبل أن يدخلَا الخليج رَأَيَا عابرة المحيطات الفرنسية التي تمُر قريبا جدا منهما وجميع أنوارها مُضاءة ، كانت ضخمة وبيضاء وخلَّفت وراءها أثراً من رائحة لحم طازج مطبوخ وقرنابيط يغلي .
لقد أضاعَا ثلاثة آحاد على هذا الحال ، وكانا سيضيعان جميع أيام الآحاد لو لم يقرر فلورنْتينوأَريثَا مشاركة أُكليديس في سره ، فقام هذا عندئذٍ في تعديل خطة البحث كلها ، ومَضيَا للإبْحار في القنال القديم الذي كانت تَسْلُكُه السفن والذي كان يبعد أكثر من عشرين فَرْسخاً بحْرياً الى الشر من المكان الذي خمنه فلورنْتينوأَريثَا .
وقبل انقضاء شهرَين في مَساء يوم بحْري ماطِر بقي أُكليديس وقتا طويلا في القاع ، وكان الزَورق قد انحرف كثيرا مما جعله يسبح حوالي نصف ساعة للَّحاق به حيث أن فلورنْتينوأَريثَا لم يستطع تقريبه بالمجداف ، وعندما تمكن من الإمساك بالزَورق أخيرا أَخرج من فمه قطعتَي حُلي نسائية وعرضهما بإحساس المُثابِر الفائز .
إنما رواه حينئذٍ كان آخّاذاً مما جعل فلورنْتينوأَريثَا يقطع على نفسه عهداً بتعلم السباحة والغوص الى حيث يستطيع ليتأكد من ذلك بِعينَيه فقط .
روى أنه توجد في ذلك المكان وعلى عمق ثمانية عشر مترا فحسب أعداد من السفن الشراعية القديمة جاثية بين الصخور المرجانية ، وأنه يستحيل عليه حصر عددها ، وأنها موزَعة في مجال فسيح لا يحيط به البصر ، وروى أن أكثر ما فاجأه هو أنه لا يوجد قارب واحد بين القوارب الكثيرة الطافية في الخليج أحسن حالاً من السفن الغارقة ، روى أن هناك عدة سفن شراعية مازالت أشْرعتُها في حالة جيدة ، وأن السفن الغارقة كانت تبدو للنظر في الأعماق كما لو أنها غَرِقت بمكانها وَزَمانها حتى أنها مازالت مضاءة بشمس الساعة الحادية عشرة من صباح يوم السبْت التاسع من حُزَيران الذي غَرِقت فيه ، وروى مختنقاً باندفاع حياله إن أسهل سفينة يمكن تمييزها هي سان خوسيه التي يبدو اسمها للعيان مكتوباً على مقدمتها بحروف من الذهب ، لكنها في الوقت ذاته السفينة التي لَح؟ِق بها أكبر ضرر من مَدافع الإنجليز ، وروى أنه رأى بداخلها أُخطبوطاً عمره أكثر من ثلاثة قرون تخرج مَلامِسُه من فتحات المَدافع ، وأنه قد تضخم كثيرا في صالة الطعام لدرجة أن إخراجه يستوجب تفكيك السفينة ، وروى أنه رأى جسد قبطان السفينة بزيه الحربي طافياً على جانبه في الحوض المائي المُتشكِل في مقصورة القيادة ،
وقال إنه إذا كان لم ينزل الى عنابر الكنز فلإن هواء رئتَيه لم يكْفِه لذلك ، وهاهي الأدلة ، قرط به زمرُّدة وميدالية عليها صورة العذراء مع سلسلتها المتآكلة بفعل الأملاح .
هكذا ذكر فلورنْتينوأَريثَا الكنز لأول مرة في رسالة موجهة الى فرْمينا داثَابعثها إليها في فونسيكا قبل عودتها بقليل .
لقد كانت قصة السفينة الغارقة مألوفة لديها ، إذ سَمِعت بها عدة مرات من لورينثو داثَا الذي أضاع وقتا ومالا في محاولة لإقناع مؤسسة غواصين ألمان للتعاون معه لاستخراج الكنز الغارق ، وكان سيلح على المهمة لولا أن عددا من أعضاء أكاديمية التاريخ أقنعوه بأن أسطورة السفينة الغارقة ابتدعها أحد حكّام المستعمرات اللصوص الذي استولى بهذه الوسيلة على ثروات التاج ، وكانت فرْمينا داثَاتعرف على أية حال أن السفينة تجثم على عمق مائتَي متر حيث لا يستطيع كائن بشري الوصول إليها وليس على عمق عشرين مترا كما يقول فلورنْتينوأَريثَا ، لكنها كانت معتادة جدا على شطحاته الشاعرية لدرجة أنها احتََفَلَت بمغامرة السفينة على أنها واحدة من أكبر شطحات خياله ، ولكن حين توالى تلقيها لرسائل أخرى تتضمن تفاصيل أكثر غرابة مكتوبة بجدية تضاهي جديَة وعوده في الحب ، اضطرت للاعتراف أمام هيلْدا براندا بمخاوفها من أن يكون خطيبها المخبول قد فقدَ عقله .
كان أُكليديس قد خَرج في هذه الأيام بأدلة عديدة على أسطورته بحيث لم تُعد القضية هي متابعة اللعب بأقراط وخواتم مُبعثرة ما بين الصخور المرجانية ، وإنما تمويل عملية ضخمة لاستخراج الخمسين سفينة مع الثروة البابلية التي تحملها في جوفها ، حينئذٍحدث ما كان سيحدث عاجلا أو آجلا إذ طلب فلورنْتينوأَريثَا من أمه أن تساعده للوصول بمغامرته الى نهايتها الطبيعية ، واكتفت هي بعَضِّ معدن الحُلي بأسنانها والتمعن بالأحجار الزجاجية أمام الضوء لتُدرك أن هناك من يتعيش على سذاجة ابنها .
وأقسم أُكليديس لفلورنْتينوأَريثَا وهو جاثٍ على رُكبتَيه أنه لا وجود لأي شائبة تَشُوب أعماله ، لكنه اختفى من ميناء الصيادين في يوم الأحد التالي ، ثم اختفى نهائيا ولم يعُد يظهر في أي مكان .
الشيء الوحيد الذي بقي لفلورنْتينوأَريثَا من كل تلك المغامرة الفاشلة هو ملجأ الهوى في الفَنَار ، كان قد وصل الى هناك في الزوْرق مع أُكليديس في ليلة فاجأتهم فيها العاصفة وهما في عرْض البحر ، واعتاد منذ ذلك الحين الذهاب في المَساء لتبادل الحديث مع عامل الفَنَار حول عجائب البر والبحر التي لا حصر لها ، والتي كان عامل الفنَار يعرفها ، وكانت تلك بداية صداقة عاشت متجاوزةً التبدلات الكثيرة التي طرأت على الدنيا .
وتعلَّم فلورنْتينوأَريثَا هناك تغذية ضوء الفنَار بشحنات من الحطب أول الأمر ثم ببراميل الزيت قبل أن تصلها الطاقة الكهربائية ، كما تعلَّم توجيه الضوء ومضاعفته بالمرايا ، وكان يحرس لَيل البحر من أعلى البُرج حين يحول عائق دون قيام عامل الفنَار بعمله ، فتعلَّم التعرف على السفن من أصواتها ومن حجم أنوارها في الأفق ، وصار يحس بأن شيئا منها يصله عائدا مع ومضات الفنَار .
أما المتعة أثناء النَهار فكانت شيء آخر وخصوصا أيام الآحاد ، ففي حي الياريس حيث كان يعيش أثرياء المدينة القديمة كان الشاطئ المخصص للنساء مَفْصولا عن الشاطئ المخصص للرجال بجدار من الطين ، شاطئ الى يمين الفنَار وآخر الى يَساره ، وقد نصب عامل الفنَار مِنظاراً يمكن بواسطته وبدفع سنْتافو واحد مراقبة شاطئ النساء ، ودون أن يُعلمُهن أنهن مراقَبات .
كانت آنسات المجتمع الراقي يعرضن خير ما لديهن في ملابس الاستحمام ذات الكشاكش الكبيرة مع أحذية خفيفة وقبعات تُخفي الأجساد كما ملابس الخروج تقريبا ، إضافة الى كونها أقل جاذبية .
وكانت الأمهات تقُمنَ بالحراسة من الشاطئ وهن جالسات على كراسي الخيزران الهزازة تحت الشمس بنفس الملابس وقُبَّعات الريش والمظلات التي يذهبن بها الى القُدّاس الكبير خوفا من أن يُغوي بناتهن رجال الشاطئ المجاور من تحت الماء .والحقيقة أنه لم يكن ممكنا من خلال المِنظار رؤية أي شيء أكثر إثارة مما يمكن رؤيته في الشارع ، لكن زبائن كثيرين كانوا يتهافتون كل يوم أحد متنازعين المِنظار لمجرد اللذة التافهة ، بتذوق ثمار ما هو غريب ومُحَرم .
وكان فلورنْتينوأَريثَا واحدا منهم دافعه الى ذلك الملل أكثر ما هو اللذة ، دون أن يكون هذا الدافع الإضافي هو السبب في توطيد صداقته مع عامل الفنَار ، فالسبب الحقيقي هو أنه بعد صد فرْمينا داثَا ، وعندما عاكس حُمَا الحب المُبدَد في محاولة لاستبداله لم يعش أسعد الساعات في مكان آخر سوى الفنَار ، ولم يجد عزااً أفضل منه لمحنته .
كان الفنَار مكانه الأثير حتى أنه حاول خلال سنوات إقناع أمه أولا ثم عمه ليون الثاني عشر لمساعدته في شِرائه ، إذ كانت فنَارات الكاريبي في ذلك الحين ملكية خاصة ، وكان أصحابها يتقاضون حق العبور الى الميناء بحسب حجم السفينة ، فاعتقد فلورنْتينوأَريثَا بأنها الوسيلة الشريفة الوحيدة لأداء عمل مناسب الى جانب الشعر ، أما أمه وعمه أيضا فلم يكونا ليفكرا بشيء من هذا .
وعندما أصبح بإمكانه شراء الفنَار من موارده الخاصة كانت الفنَارات قد انتقلت الى ملكية الدولة ، ومع ذلك لم يضع أياً من هذه الأحلام سدى ، فأسطورة السفينة الغارقة ثم قصة الفنَار فيما بعد خففت عنه من غياب فرْمينا داثَا، وعندما لم يعُد يفكر في ذلك كثيرا جاءه خبر عودتها ، وفعلا كان لورينثو داثَا قد قرر العودة بعد إقامة طويلة في ريوهاجَا .
لم يكن الوقت الأنسب للسفر في البحر بسبب رياح كانون الأول الموسمية ، فاللسفينة الشراعية التاريخية الوحيدة التي تتجرأ على مثل هذه الرحلة قد تجد نفسها عند الفجر عائدةً الى المرفأ الذي خرجت منه مدفوعة برياح معاكسة ، وكان هذا ما حدث .
كانت فرْمينا داثَا قد أمْضت ليلة من الاحتضار مُتقيئتة الصفراء ومقيدةً الى سرير قُمْرة تبدو وكأنها مرحاض حانة ، لا بسبب ضيقها الخانق فقط وإنما بسبب النتانة والحَر أيضا ، وكانت حركة السفينة عنيفة حتى خُيل إليها عدة مرات أن أحزمة السرير ستتقطع ، وكانت تصلها من سطح المرْكب نُتَف من صرخات مَحزونة تبدو وكأنها صرخات غرقى ، وشخير والدها في السرير المجاور الذي يشبه شخير النمر كان عنصرا آخر من مكونات الرعب .
وللمرة الأولى منذ ما يقارب الثلاث سنوات أمْضت ليلة كاملة دون أن تُفكر لحظة واحدة بفلورنْتينوأَريثَا ، بينما كان هو مُؤَرَقاً في أُرجوحة النوم في الفِناء الخلفي ، يحصي الدقائق السرمدية التي تفصله عن موعد عودتها دقيقةً فَدقيقة .
وعند الفجر توقفت الرياح فجأة وعاد الهدوء الى البحر وتنبهت فرْمينا داثَاالى أنها قد نامت رغم آلام الدوار إذ أيقظها صخَب سلاسل المرساة .
نزعت عنها الأحزمة حينئذٍوتطلعت من خلال الطاقة آمِلَةً برؤية فلورنْتينوأَريثَا في فوضى الميناء ، لكن ما رأته كان عنابر الجمارك بين أشجار النخيل الذهبية بفعل أول أشعة الشمس ورصيف ميناء ريوهاجَا ذي العوارض الخشبية المَنخورة التي أبْحرت منه السفينة في الليلة الماضية .
انقضت بقيت النَهار كالحلم في البيت نفسه الذي كانا فيه حتى يوم أمس يستقبلان الزوار ذاتهم الذين ودعوهم ويتحدثان معهم في الأمور نفسها .
وذُهِلت لإحساسها بأنها تعيش للمرة الثانية جزءً من الحياة كانت قد عاشتْه ، وبعثت تلك الإعادة الأمينة للأحداث قشعريرة في فرْمينا داثَالمجرد تفكيرها بأن رحلة السفينة ستكون كذلك أيضا لأن ذكراها كانت تُسبِب لها الهلع لكن الاحتمال الآخر الوحيد للعودة الى البيت هو في قضاء أسبوعين على مَتْن بَغْلة فوق نُتوءات الجبال وفي ظروف أشد خطورة من المرة الأولى لأن حربا أهلية جديدة كانت قد نشبت في ولاية كاوكَا في جبال الأنديز ، وأخذت تتسع منتشرة في مقاطعات الكاريبي .
وهكذا انطلقت الى المرفأ ثانيةً في الساعة الثامنةليلا برفقة موكب الأقارب الصاخب نفسه وبدموع الوداع نفسها والصُرَر المتنوعة نفسها التي تضم هدايا اللحظة الأخيرة والتي لا تتسع لها القُمْرات .
وفي لحظة الإبْحار ودَّع رجال العائلة السفينة بإطلاق النار في الهواء معاً ، فردَّ عليهم لورينثو داثَا من سطح السفينة بإطلاق رصاصات مسدسه الخمس .
وما لبِث قلق فرْمينا داثَاأن تبدد سريعا لأن الريح كانت مواتية طوال الليل ، وكانت للبحر رائحة زهور ساعدتها على النوم نوماً هادئا دون أحزمة الأمان .
حَلُمَت بأنها ستعود لرؤية فلورنْتينوأَريثَا وأن هذا قد نزع الوجه الذي رأته به دوما لأنه كان قناعاً في الحقيقة ، لكن الوجه الحقيقي كان مطابقاً .
استيقظت باكراً مفكرةً بأُحْجية الحلم ووجدت أباها يتناول القهوة مع البراندي في مقصورة القُبطان ، وقد حرَّف الكحول عينه إنما بقدر قليل لا يشير الى وجود شك في العودَة .
كانوا يدخلون الميناء وكانت السفينة تنزلق في صمت عبر متاهة القوارب الشراعية الراسية في خليج السوق العام الذي تصل رائحته النتنة الى عدة فَراسخ في البحر ، وكان الفجر مُشبَّعاً برذاذ خفيف ما لبِث أن تحوَّل الى وابل غزير .
تعرَّف فلورنْتينوأَريثَا الذي كان قابعاً على شُرْفة مكتب التلغراف على السفينة وهي تَعْبُرخليج لاس أنيماس بأشرعة أخمدها المطر وترسو مقابل مَرفَأ السوق ، لقد انتظر في اليوم السابق حتى الساعة الحادية عشرة صباحا عندما عرف من خلال برقية عابرة بتأخر السفينة بسبب الرياح المعاكِسة ، وعاد للانتظار في ذلك اليوم منذ الساعة الرابعة صباحا ، وتابع الانتظار دون أن يرفع نظره عن الزوارق التي تحمل الى الشاطئ قلة من المُسافرين قرروا النزول الى البر رغم العاصفة ، وقد اضطر معظمهم الى مغادرة الزوارق التي توقفت في رمنتصف المسافة والوصول الى الرصيف متخبطين في الوحل .
وفي الساعة الثامنة بعد انتظار لا طائل منه لتوقف المطر تقدم حمّال زنجي غاطس في الماء حتى وسطه وأنزل فرْمينا داثَاعن حافة السفينة وحملها بين ذراعَيه حتى الشاطئ ، لكنها كانت مبتلة الى الحد الذي لا يستطيع معه فلورنْتينوأَريثَا التعرف عليها .
لم تكن هي نفسها تعي كم نَضُجت خلال الرحلة الى أنْ دخلت البيت المُقفَل وبدأت العملية البطولية لإعادته صالحاً للمعيشة بمساعدة غالا بلاثيديا الخادمة الزنْجية التي عادت الى موقعها السابق كعبدَة بمجرد أن أبلغوها بالعودة .
لم تعُد فرْمينا داثَاهي الابنة الوحيدة ، مدللة أبيها وضحيته في الوقت ذاته بل أصبحت ربَّة وسيدة مملكة من الغُبار ونسيج العنكبوت لا يمكن إنقاذها إلا بقوة حب عصي على الهزيمة ، لم تخَف لأنها أحست بأنها مُلهَمَةً بروح صعود كافية لجعلها قادرةً على تحريك العالم .
وفي ليلة العودة بالذات ، وفيما هم يتناولون الشوكولاتَا مع فطيرة الجبن على طاولة المطبخ فوَّضها أبوها السلطات لإدارة البيت ، وفعل ذلك بِطقوس كَطقوس عمل قُدْسي قائلا لها : إني أُسَلِّمُكِ مفاتيح البيت .
تولت المسؤولية بحزم مع إكمالها السبعة عشر عاما من العُمُر واعيةً أن كل شبر من الحريَة المُكْتسبة إنما حصلت عليه بقدرة الحب .
وفي اليوم التالي بعد ليلة من الأحلام الكابوسية عانت للمرة الأولى كآبة العودة عندما فتحت نافذة الشُرْفة ورأت من جديد رذاذ الحديقة الحزين وتمثال البطل مقطوع الرأس والمقعد الرخامي حيث اعتاد فلورنْتينوأَريثَا الجلوس مع كتاب الأشعار ، ما عادت تُفكر فيه كخَطيب مستحيل إنما كزوجها الذي عليها الارتباط به تماما ، وأحست كم كان ثقيلا الزمن الضائع منذ ذهابها ، وكم يكلفها بَقاؤها على قيد الحياة من جهد ، وكم من الحب يلزمها لتُحب رجلها كما يشاء الله .
فوجئَت بأنه ليس في الحديقة كما كان يفعل في أحيان كثيرة غير عابئ بالمطر ، وبأنها لم تتلقَ أية إشارة منه بأي وسيلة ولا حتى بالإحاء ، وفجأة فكَّرَت أن يكون قد مات ، لكنه استبعدت فكرة الشؤم في الحال لأنها في احتدام برقيا الأيام الأخيرة وأمام اقتراب موعد العودَة نَسيَتالاتفاق معه على وسيلة لمتابعة الاتصال عندما تعود .
والحقيقة أن فلورنْتينوأَريثَا كان يظن موقناً بأنها لم ترجع بعد الى أنْ أكد له عامل التلغراف في ريوهاجَا بأنها قد أبحرت منذ يوم الجمعة في السفينة ذاته التي لم تصل في اليوم السابق بسبب الرياح الغير المواتية .
وهكذا أمضى نهاية الأسبوع مُتَرصِداً أية علامة حياة في بيتها ، وفي مَساءيوم الاثنين رأى من خلال النوفذ ضوءاً متنقلا ما لبث أن انطفأ بعد الساعة التاسعة بقليل في حجرة النوم المطِلَّة على الشُرْفة .
لم ينم تلك الليلة وطاردته الأشواق الهائجة نفسها التي أقلقت ليالي حبه الأول .
نهضت ترانسيتو أَريثَا مع الديوك الأولى مذعورةً لأن ابنها قد خَرج الى الفِناء ولم يعُد للدخول منذ منتصف الليل ، ولكنها لم تجده في البيت ، لقد أمضى يتسكع هائماً على حائل الأمواج ، وراح يلقي أشعار الحب على الريح ويبكي طرَباً حتى مطلع الفجر .
وفي الثامنة صباحا كان يجلس تحت قناطر مقهى الباروكية ، وقد أفقده السهر توازنه محاولاً ابتداع طريقة يوصل بها ترحيبه بقدومِها ، حين أحس بهزة مُزلزلة تمزق أحشاءه ، كانت هي تجتاز ساحة الكاتدرائية برفقة غالا بلاثيديا التي كانت تحمل سلال المشتريات ، وللمرة الأولى رآها تسير بملابس غير الزي وتبدو أطول مما كانت عليه عند ذهابها وأكثر كمالا ونضوجا وبجمال مصفّى بقدرة امرأة واعية .
كانت ضفيرتها قد نمت مجددا ، لكنها لم تكن تُسْدلها على ظهرِها وإنما تتنكبها فوق كتفها الأيسر ، ولقد نزع عنها ذلك التغيير الطفيف كل أثر للطفولة .
وقف فلورنْتينوأَريثَا في مكانه مصعوقاً الى أنْ اجتازت مخلوقة الحلم الساحة دون أن ترفع بصرها عن طريقها ، ولكن القوة التي جَمَّدته هي نفسها هي التي دفعته بعد ذلك للإسراع في إثْرها حين انعطفت عند زاوية الكاتدرائية وضاعت في زحمة السوق التي تبعث على الصمم .
لاحقها دون أن تراه مستكشفاً الحركات اليومية والنضج المبكر وظرافة أكثر الكائنات محبةً في هذا العالم ، والتي كان يراها لأول مرة وهي مُنطلِقَة على على سجيتها ، أذهلته السهولة التي تشُق بها طريقها وسط الجموع ، فبينما كانت غالا بلاثيديا تصطدم بالناس وسلالها تتشابك وتضطر للرَكْض كي لا تضيع أثرها ، كانت هي تُبْحِر في فوضى الشارع بجَو خاص بها وزمن مختلف دون أن تصطدم بأحد وكأنها خُفاش في الظلام .
لقد خرجت مرات كثيرة الى السوق من قبل مع العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ولكن المشتريات كانت ضئيلة القيمة ، فوالدها كان يتولى شخصياً مسؤولية تزويد البيت بالمُؤَن وليس بالأثاث والمأكولات فحسب بل وبالملابس النسائية أيضا ، ولهذا كان خروجها الأول ذاك مُغامرةً آخّاذة تمثَّلَتها أحلامها كطفلة .
لم تُعِر اهتماما لِتَسَرُع المشعوذين الذين كانوا يقدمون لها إِكسيراًللحب الأبدي ولا لِرجاء المتسولين المستلقين في الدَهاليز بقروحهم المُدخَّنَة ولا للهندي رالمُزيف الذي يحاول بَيعها تمْساحاً أليفاً .
لقد قامت بِجولة واسعة ومفصَلة دون مسار مدروس وبتوقفات لا سبب لها سوى متعة عدم التَسَرُع في روح الأشياء ، ودخلت في كل زُقاق يوجد فيه شيء للبيع وفي كل مكان وجدت شيئا غَذَّى رغبتها في الحياة ، تمتَّعت بحفيف أزهار الأقمشة في الصَناديق الكبيرة المُزخرفة ، ولفت نفسها بالحَرير المُزيَّن بالرسوم ، وضحكت لضحكتها ذاتها وهي ترى نفسها متشحة بالملابس الشعبية مع مشط زينة ومِروحة مُزَيَنة بِرسوم أزهار مقابل مرآة كبيرة في محلات السلك الذهبي .
وفي دكان البحرِيَات رفعت غطاء برميل يحتوي أسماك رينغا في ماء مملح ذكَّرها بليالي الشمال الشرقي وهي طفلة صغيرة في سان خوان ديلاثييناغا ، وقدموا لها سُجُقاً من الياكانتي لتتذوقه فكان له طعم العِرق سوس فاشترت قطعتَين منه لفطور يوم السبت كما اشترت بضع شرائح من سَمَك القد وقطرَميز مشمش مع الخمر ، وفي دكان البهارات ومن أجل التمتع بالرائحة فقط عصرت بين كفَيها أوراق مرامية وسعتر واشترت حِفنة قرنفل ذي رائحة وحفنة يانسون مطحون وحفنات أخرى من الزنجبيل والعَرعَر ، وخرجت مبللة بدموع الضحك لكثرة ما عَطَسَت من روائح فُلفُل كايينا ، وفي البوتيك الفرنسي وبينما هي تشتري صابون روتير وعطر البان الهندي وضعوا لها وراء أذنها لمسة من عطر كان شائع الاستعمال في باريس يومها ، وأهدوها حبة مزيلة للرائحة تستعمل بعد التدخين .
كانت تلعب لعبة الشراء حَقاً ، لكنها كانت تشتري ما هي بحاجة إليه فعلا بلا مُواربة وبمقدرة لا تسمح بالظن بأنها إنما تفعل ذلك للمرة الأولى ، فقد كانت مُدركةً أنها لا تشتري لنفسها فقط وإنما له كذلك ، اثنتي عشرة ياردة من من الكتان كشراشف لمائدتهما معاً ونسيجاً قطْنياً لشراشف سرير الزِفاف ولتهتكهما معاً عند الصباح ، ومن كل صنْف ما هو أكثر رَوعة لِيتمتعا به معاً في بيت الحب .
كانت تطلب تخفيضا وتتقن طلبه وتجادل بظرافة ووقار حتى تحصل على أفضل الأصناف وتدفع بِمَسكوكات ذهبية يقوم الباعة بتجريبها للاستمتاع فقط بِسماع رنينها فقط على مرمر الطاولة .
كان فلورنْتينوأَريثَا يراقبها مَبْهَوراويلاحقها مقطوع الأنفاس فاصطدم عدة مرات بسلال الخادمة التي كانت ترد بابتسامة على اعتذاراته ، وقد مرت هي نفسها قريبا جدا منه حتى إنه شم نسيم رائحتِها ، وإذا كانت لم تَره حينئذٍفليس لعجزها عن ذلك وإنما لشموخ طريقتها في المشي .
كانت تبدو له جميلة جدا ، فاتِنَة جدا ومختلفة جدا عن الناس العاديين بحيث لم يدرك كيف لا يختلَّ الآخرون مثله بِصِناجات كعْبَيها على بلاط الشارع ولا تضطرب قلوبهم بهواء تنهدات كِشْكِها ولا يُصاب العالم كله بالجنون حُبّاً بحركة ضفيرتها وطيران يديها .
لم يضيع حركة واحدة من حركاتها ، ولا علامة واحدة من علامات طبعها ، لكنه لم يكن ليجرؤ على الاقتراب منها خوفا من أن يُفسد السحر ، ولكن عندما ولَجَت زحمة زقاق الكَتَبَة العموميين تنبه الى أنه يخاطر بتبديد الفرصة التي تشوق لها خلال سنوات .
كانت فرْمينا داثَاتُشاطر زميلاتها في المدْرسة الفكرة الغريبة السائدة ، بأن زقاق الكَتَبَة العموميين هو مكان ضياع وأرض مُحرمة على الآنسات المحترمات طبعا .
كانت عبارة عن رِواق ذي قناطر مقابلة ميدان صغير حيث تتوقف عربات الأُجرة وطَنابر الشحن التي تجُرها الحمير ، وحيث تصبح التجارة الشعبية أكثر زخماً وَصَخَباً /.
اىسمه موروث من أيام المستعمرة ، فهناك كان يجلس منذ ذلك الحين الكَتَبة المكفهرون ذوي السُتر الالكتانية والأكمام المنفصلة التي تصل حتى المرفقَين ، والذين كانوا يكتبون جميع أنواع الوثائق بأسعار بائسة ، مُذكِرات اتهام أو استرحام واستدعاءات قانونية ، وبطاقات تهنئة أو تعزيَة ورسائل حب في أي سن كان ، وليسوا هم بكل تأكيد سبب سوء السمعة التي لحقت بذلك السوق الصاخب ، وإنما الباعة المتجولون المُحْدَثون الذين كانوا يقدمون من تحت طاولاتهم جميع أنواع الحِيَل الغامضة التي تصل تهريبا في السفن القادمة من أوربا ابتداءً من بطاقات صور الداعرات والمَراهِم المُهيِّجة وحتى واقيات الحمل الكتلانية الشهيرة ذات الأعراف العضائية التي تتحرك أثناء العملية أو تلك التي تنتهي بأزهار تتفتح أوراقها حسب مشيئة المنتفع .
لقد ولجت فرْمينا داثَاعديمة الخبرة في الشوارع ذلك الزُقاق دون أن تنتبه الى أين هي ماضية ، باحثةً عن ظل يُخفف عنها وطأة شمس الساعة الحادية عشرة ، غرقت في ضجة ماسحي الأحذية وبائعي العصافير ، عارضي الكتب الرخيصة ومشعوذي التداوي ، ومُناديات الحلوى اللواتي يعلن بصراخ أعلى من الضجة عن حلوى كوكادا الأناناس للصَبَايا وحَلوى جوز الهند للحَمقَى وحَلوى السُكَر بالعجين لميكائيلَا ، ولكنه كانت تسير غير مبالية بالصخب ، وفتنها على الفور عرضاً لأنواع من حبر الكتابة السحري ، حبر أحمر له لون الدم وحبر ذو بريق حزين لبطاقات التعزية وحبر فسفوري لقراءته في الظلام وحبر خفي ينكشف ببريق الضوء .
كانت تريد من كل الأنواع لتلعب مع فلورنْتينوأَريثَا وتذهله باستنباطها ، ولكنها بعد عدة تجارب قررت شراء زجاجة حبر ذهبي ، بعد ذلك مضت الى بائعات الحلوى الجالسات وراء صَناديقهن الزجاجية الكبيرة ، واشترت ستة قطع حلوى من كل صنْف مشيرة الى ما تريد بإصبَعِها من وراء الزجاج لأنها لم تكن لتتمكن من إسماعهن ما تريد بسبب الضوضاء ، ستة قطع من شَعر المَلاك ، وستة قَوالب صغيرة من حلوى الحليب وستة مكعبات سمسمية وستة قطع من كعكة أليكا وستة أقراص من الشوكولاتَا وستة قطع من البسكويت المحشي وستاً من لقمة الملِكة ، وستة من هذا وستة من ذاك ، وستة من كل شيء .
وكانت تضع كل ذلك في سلال الخادمة بظرافة لا تقاوَم غير عابأة بسحابة الذباب السوداء الهائجة فوق المُرَبّىَ وغير مبالية بالتعفن المتواصِل ، وغير مبالية برائحة العَرق الزَنِخ الذي يلمع في الحَر القاتل .
أيقظتها من هذا الخدر زنجية سعيدة تضع خرقة ملونة على رأسها المكور والبديع ، قدمت لها قطعة أناناس مغروسة في رأس سكين جزار ، فتناولتها ودستها كاملة في فمها ، تذوقتها وكانت تتذوقها ونظرها شارد في الجموع عندما سَمَّرَتها اختلاجة اضطراب في مكانها ، فوراءها وقريبا جدا من أذنِها بحيث لم يسمع أحد في الضجة سواها الصوت الصوت الذي قال لها ليس هذا بالمكان المناسِب لرَبَّة متوجَة .
التفتت ورأت على بُعد شِبرَين من عينَيها العينَين الأخريَين الجامدتَين والوجه الأزرق الضارب الى السواد والشفتَين المتصلبتَين خوفا تماما كما رأتها في زحمة صلاة منتصف الليل عندما كان قريبا منها لأول مرة ، ولكنها لم تشعر بهَيَجان الحب كما في المرة السابقة وإنما بهاوية خيبة الأمل ، وبلحظة واحدة انكشف لها حجم الورطة التي أوقعت نفسها فيها وتساءلت مَذعورة : كيف استطاعت أن تحتضن طوال هذا الوقت وبكل هذه القسوة حرقة قلب كتلك .
وبالكاد استطاعت أن تُفكر : رباه ، يا للرجل البائس .
ابتسم فلورنْتينوأَريثَا ، وحاول أن يقول شيئا ،حاول اللحاق بها .
لكنها مَحَتْه من حياتها بحركة من يدها قائلةً له : لا ، أرجوك انسَ كل شيء .
في مَساء ذلك اليوم وبينما والدها ينام قَيلولته بَعَثَت إليه مع غالا بلاثيديا رسالة في سطْرَين : عندما رأيتك اليوم أدركت أن ما كان بيننا ليس إلا وَهْماً .
وحملت إليه كذلك الخادمة برقياته وأشعاره وأزهار كاملياه الجافة ، وطلبت منه أن يعيد الرسائل والهدايا التي بعثتها إليه ، كتاب صلوات العمَّة أسْكولا أَسْتيكا وأوراق النباتات المجففة والسانتمتر المربَّع من مسوح سان بيدرو كلافير ومِداليات القديسين وضفيرتها وهي في الخامسة عشرة ر مع شريط الزي المدْرسي الحَريري .
فكتب في الأيام التالية وهو على حافة الجنون عددا كبيرا من الرسائل اليائسة ، وحاصر الخادمة لتحمل تلك الرسائل ، لكن هذه نفَذَت التعليمات الصارمة بعدم استلام أي شيء سوى الهدايا المُعادة ، وأصرت على ذلك بحسم جعل فلورنْتينوأَريثَا يعيد كل شيء ما عدا الضفيرة التي لم يشأ إعادتها ما لم تستقبله فرْمينا داثَاشخصياً ليتحدثَا معاً ولو للَحظة واحدة ، ولم يتمكن من ذلك .
ونزلت ترانسيتو أَريثَا عن كِبريائها خشية أن يتخذ ابنها قرارا قاتلاً ، وطلبت من فرْمينا داثَاأن تمنحها خمس دقائق من وقتها ، فاستقبلتها للَحظة واحدة في دهليز البيت واقِفة دون أن تدعوها الى الدخول وبلا ذرة وهْن .
بعد يومين من ذلك ومع انتهاء مشادة مع أمه نزع فلورنْتينوأَريثَا عن جدار غرفة نومه العُلبة الزجاجية المُغْبَرة حيث كان يعلق الضفيرة كأنها أيقونة مقدسة ، وأعادتها ترانسيتو أَريثَا بنفسها في علبة المخْمل المُطَرَّزة بخيوط ذهبية .
ولم تُتح الفرصة لفلورنْتينوأَريثَا أبدا لرؤية فرْمينا داثَاعلى انفراد ، ولا التحدث إليها أثناء لقاءاتهما الكثيرة في حياتهما الطويلتَين إلا بعد انقضاء إحدى وخمسين سنَة وتسعة شهور وأربعة أيام ، عندما كرر لها يمين الوفاء الأَبَدي والحب الدائم في ليلتِها الأولى كأرملة .

الجزء الثالث

كان خوفينال أُورْبينو العازب المرغوب وهو في الثامنة والعشرين قد عاد من إقامة طويلة في باريس حيث أجرى دراسات عُلْيا في الطب والجراحة ، منذ نزوله الى البر قدَّم أدلة قاهرة على أنه لم يضيع لحظة واحدة من وقته ، لقد رجع أكثر تجمُلاً مما كان عليه عند ذهابه ، وأكثر تحكُماً بطبائعِه ، ولم يكن أياً من زملاء جيله لِيبدو أكثر صرامة منه وأكثر معرفة بِعِلومه ، كما لم يكن أي منهم لِيرقص خيرا منه على الموسيقى الدارجة أو يَعزف راجلا أفضل منه على البيانو ، وكانت فتيات وسطه الاجتماعي المفتونات بمحاسنه الشخصية والمتيقنات من ثروته العائلية يقترعن سراً لِيلعبن أيهن ستبقى معه ، وكان هو كذلك يلعب للبقاء معهن ، لكنه تمكن من الحفاظ على نفسه في حالة المَلاحة صحيحاً ومغرياً الى أنْ سقط دون مقاومة أمام مفاتن فرْمينا داثَاالعامية .
كان يحب أن يقول أن ذلك الحب هو ثمرة تشخيص طبي خاطئ ، ولم يكن لِيصدق أن ذلك قد حدث خصوصاً في تلك الفترة من حياته حيث كان كل احتياطيه من الهوى مُنصبّاً على مصير مدينته التي كثيرا ما قال عنها دون تردُد : أنه لا مثيل لها في العالم .
ففي باريس وفيما هو يتنزه مُمسِكاً بذراع خطيبة عرَضية في خريف متأخر كان يرى أنه من المستحيل تخيُل سعادة أكثر صفاءً من سعادة تلك الأمسيات الذهبية الباريسية المختلطة بِرَوائح حبات الكسْتناء الجبلية فوق مواقد الجمر وأنغام الأوكورديونات الخافتة والعُشاق الذين لا يرتوون من قُبلات متصلة لا تنتهي على الشُرفات المفتوحة ، ورغم ذلك فقد قال هو نفسه ويده على قلبه : أنه غير مستعد لاستبدال هذا كله بلحظة واحدة من لحظات موطنه الكاريبي في نيسان .
كان ما يزال شاباً لا يعرف أن ذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة وتضخم الذكريات الطيبة ، وأننا بفضل هذه الخدعة نتمكن من احتمال الماضي ، ولكنه حين عاد ورأى من شُرْفة السفينة راية الحي الاستعماري البيضاء وطيور الرخمة الجاثمة فوق السطوح وملابس الفقراء المنشورة لتجف على الشُرُفات ، حينئذٍأدرك فقط الى أي حد كان ضحية سهلة لأحابيل الحنين الخادعة .
شقت السفينة طريقا لها في الخليج عبر فرشة طافية من الحيوانات الغارقة ، والتجأ معظم المُسافرين الى القُمُرات هرباً من الرائحة النتنة ، .
نزل الطبيب الشاب من السفينة على جسر المرور الصغير مرتدياً بدلة كاملة من الألبِكة مع صدرية وواقية من الغُبار بِلِحْية كَلِحْية باستور شاب وشَعر مفروق من وسطه بفرق واضح وشاحب وبسيطرة كافية لإخفاء عُقْدَة الحنجرة التي لم يكن سببها الحزن وإنما الرعب .
كان الميناء شبه خاوٍ يحرسه جنود حُفاة بلا زي عسكري ، وكانت شقيقتاه وأمه ينتظرن برفقة أَحب أصدقائه إليه ، وجدهم شاحبِين وبِلَا مستقبل رغم مظهرهم الدنيوي ، وكانوا يتحدثون عن الأزمة وعن الحرب الأهلية كأمر بعيد وغريب ، ولكن أصواتهم جميعا كانت تشي برَعْشَة مُراوِغة وحدقات عيونهم بلمعة يقين تخونكلماتهم ، وكانت أمه هي أكثر من أثار أشجانه ، تلك المرأة التي فرضت نفسها على الحياة وهي لا تزال فتية بأناقتها واندفاعها الاجتماعي ، يراها الآن تذْوي على نار هادئة وسط روائح الكافور التي تعْبق من ملابسها كأرملة ، ولا بد أنها رأت نفسها في اضطراب ابنها فسارعت تسأله وكأنها تُدافع عن نفسها : لماذا هو عائد بهذه البشرة الشفافة كالبرفان ؟
وقال لها : إنها الحياة يا أُمّاه ، فالمرء يتحول أخضر في باريس .
بعد ذلك وفيما هو الى جانبها يغرق في حَر العربة المغلقة لم يعُد يحتمل قسوة الواقع الذي يَنْفُذ إليه غلياناً من النافذة .
كان البحر يبدو وكأنه من رماد ، وقصور النبلاء القديمة كانت على وشك الانهيار أمام تكاثر المتسولين ، وكان العثور على رائحة الياسمين اللاهبة فيما وراء أبخرة المجاريري المكشوفة مستحيلا ، كل شيء بدا له أضأل مما كان عليه عند ذهابه وأشد فقراً وكآبة ، وكانت هناك أعدادا كبيرة من الجرذان الجائعة في مزابل الشوارع تجعل حصانَي العربة يجفلان فزعَين ، وعلى امتداد الطريق الطويل من الميناء الى البيت في حي البيريس لم يجد ما هو جدير بمَشاعر الحنين التي كانت تملؤه .
رأى نفسه مهزوماً ، فأدار وجهه كي لا تراه أمه وأطلق لبكائه الصامت العنان .
لم يكن قصر الماركيز دي كاس ديلويرو القديم ومقر الإقامة التاريخي لِآل أُورْبينو دي لاتاييه بالقصر الذي ما زال يحتفظ بشموخه وسط الانهيار ، وقد اكتشف الدكتور خوفينال أُورْبينو ذلك وقلبه يتفتت مُذ عبر الدهليز المظلم ورأى نافورة الحديقة الداخلية المُغْبرة والأعشاب البرية التي بلا أزهار تعيث بها السحالي ، وانتبه الى نقص عدد كبير من بلاط المرمر ،إضافة الى تهشم عدد من درجات السلم الرخامية الفسيح ذي الدربْزين النُحاسي الذي يقود الى الحجرات الرئيسية .
لقد مات والده الذي كان طبيباً متفانياً أكثر منه عالِماً في جائحة الكوليرا الآسيوية التي مَحقت السكان منذ ستة سنوات ومعه ماتت روح البيت ، فدونيا بلَانكَا الأُم المختنقة بحداد أبَدي استبدلت السهرات الغنائية والحفلات الموسيقةي بصلوات مسائية يومية لذكرى الزوج المتوفى ، وتحولت الشقيقتان رغم طبيعَتَيهما ومَيلِهما الاحتفالي الى وقود للدَير .
لم يغفُ الدكتور أُورْبينو لحظة واحدة في ليلة وصوله مُرتعباً من الظلمة والصمت وردد صلاة الروح القُدُس بعدد ثلاث سَبْحات وذلك كل الصلوات التي يَذكرها لِدرء الرزايا والانهيارات وأنواع المصائب الليلية الأخرى ، فيما دخل كرَوان الى حجرة النوم من النافذة غير المُحكمة وأخذ يَصدَح كل ساعة عند تمام الساعة بالضبط ، وعذبته صرخات الهذيان التي تُطلقها المجنونات في مستشفى الراعية الإلهية للمجاذيب ، والقطرة عديمة الرحمة التي ترْشَح من الجَرة الفُخارية الى الجَفْنَة ويملأ صداها جو البيت ، وخطوات الكَروان الطويلة التائهة في حجرة النوم ، وخوفه الخَلْقي من الظلمة والحضور اللامرئي للأب الميت في البيت الرَحْب الهاجع .
عندما صَدَح الكَروان في الساعة السادسة مُرافِقاً بذلك ديكة الجوار أسلم الدكتور أُورْبينو نفسه جسدا وروحاً الى كنف العناية الإلهية لأنه لم يعُد يشعر بالحماس للحياة يوماً آخر في وطنه المُنهار أنقاضاً ، لكن عطف ذويه وأيام الآحاد الريفية وتملقات عازبات طبقته الجشعة خففت كلها من مرارة الوهلة الأولى ، وأخذ يَعتاد شيئا فشيئا على قيظ تشرين الأول وعلى الروائح الحادة وعلى آراء أصدقائه المبكرة : غدا نرى يا دكتور ، فلا تُبالي .
الى أن انتهى الى الاستسلام الى شَعوذة العادة ، ولم يتأخر الى وضع تبرير بسيط لخُذلانه .
وقال : إن هذه هي دنياه ، دنياه الكئيبة والجائرة التي منحه الرب إياها وهو مدين لها .
أول ما فعله هو الاستيلاء على عيادة أبيه ، احتفظ بالأثاث الإنجليزي نفسه في مكانه ، ذلك الأثاث الصلب والصارم الذي تتنهد أخشابه مع برودة الفجر ، لكنه بعث الى حجرة المُهملات مؤلفات العلوم من زمن الحكّام الاستعماريين وكُتب الطب الرومانطيقي ، ووضع في الخزائن ذات الواجهات الزجاجية كُتب المدْرسة الفرنسية ، وانتزع عن الجدران الرسوم الباهتَة باستثناء رسم الطبيب ينازع الموت مريضة عارية ، وقَسَم أبقراط المكتوب بحروف قوطية وعلق مكانها الى جانب شهادة والده الوحيدة الشهادات الكثيرة والمتنوعة التي نالها من مدارس أوربية مختلفة .
حاول أن يفرض معايير تجديدية في مستشفى الرحمة ، ولكن الأمر لم يكن بالبساطة التي ظنهَا وهو في اندفاع الشباب ، فبيت الطب القديم المُتمسك بخرافاته المَوروثة مثل وضع قوائم الأَسِرَّة في أوعية مليئة بالماء لمنع صعود الأمراض إليها أو المطالبة بارتداء ملابس الإتكيت وقُفازات الشاموَا في صالة الجِراحة ، إذ كان الاعتقاد السائد حينئذٍهو أن الأناقة شرط جوهري للتعقيم ، وما كانوا يطيقون تذوق الطبيب الشاب القادم حديثا بول المريض ليكتشف وجود السُكَّر أو استشهاده بآراء شارِك وتواتروسو كما لو كانا زميلاه في الحجرة ، وتحذيره الصارم في درْسِه من مَخاطر اللُّقاحات القاتلة وإيمانه مقابل ذلك إيماناً مُريباً بالاختراع الجديد المَدعوِ بالتحاميل .
لقد كان يتعثر بكل شيء ، روحه المُجدِدة ، تحضره الجُنوني ، وميله البطيء لفَهْم المزاح في أرض المزاح السرمدي ، وكانت جميع فضائله الملموسة تثير في الحقيقة حسد زملائه الكبار ، وسخرية المنافقين من الشباب .
كان وضع المدينة الصحي هو هاجسه الدائم ، فَلَجَأ الى أعلى المَراتب مُطالِباً بردْم المجاري المكشوفة منذ العهد الاستعماري والتي تُشكل مرتعاً رحباً للجْللجُرْذان ، وإقامة مجاري مغلقة بدلا منها لا تصب بقاياها في خليج السوق كما هو الحال منذ الأزَل وإنما في مَجمع نائٍ للفضلات .
كانت توجد في البيوت الاستعمارية حسنة التجهيز مراحيض ذات حُفَر عميقة تتخمر فيه الفضلات ، أما ثُلُثا الأهالي المُكدَّسين في أكواخ على ضفاف المستنقعات فكانوا يقضون حاجتهم في العراء ، فكان لبُراز يجف تحت الشمس متحولاً الى غُبار يتنفسه الجميع ببهجة فِصْحٍ مع نسمات كانون الباردة السعيدة .
لقد حاول الدكتور خوفينال أُورْبينو أن يفرض في المجلس الإداري إقامة دورة تأهيل إجبارية كي يتعلم الفقراء بناء مراحيضِهم الخاصة ، وناضل دون جدوى لوقف رمي النُفايات بين أشجار المانغلار التي تحولت منذ قرون الى مستودعات عُفونة ، ولجمع تلك النُفايات مرتين في الأسبوع على الأقل وإحراقها في مكان مهجور .
لقد كان واعياً لِشَرَك مياه الشرب القاتل ، لكن مجرد التفكير ببناء شبكة مائية كان يبدو فكرة خيالية ، لأن من يستطيعون دعمها كانوا يملكون آباراً تحت الأرض يخزنون فيها مياه أمطار سنوات عديدة تحت قِشدَة كثيفة من الاخضرار الطُحْلُبي ، ومن بين أبرز قِطَع أثاث تلك الحِقبة كانت خزائن تصفية الماء المصنوعة من خشب منقوش حيث تَقْطُر مَساماتها الحجرية لَيل نَهار في الخوابي ، ولمنع أياً كان من شرب الماء بطاسَة الألَمُنْيوم التي يُخرجون بها الماء كانوا يُسِنون حواف تلك الطاسة لتبدو وكأنها تاج ملِك المَساخِر .
كان الماء رائقا وبارداً في عتمة الفُخار ، يترُك طعما في الفم كطعم الزهر ، لكن الدكتور خوفينال أُورْبينو لم يكن لينساق وراء خُدع النقاء هذه لأنه يعرف أن قاع الخوابي رغم كل الاحتياطات كان هيكلاً لكل أنواع الدَوِبات .
لقد أمضى ساعات طفولته البطيئة وهو يتأملها باندهاش شبه صوفي ، مقتنعا مثل معظم الناس حينئذٍ أن الدَوِبات هي الأرواح وأنها مخلوقات ما ورائية ، وأنها قادرة على الإتيان بانتقامات حب حانقة .ط
لقد رأى وهو طفل خراب بيت لازاركوندي معلمة المدْرسة التي تجرأت على صد الأرواح ، ورأى نُتَف الزجاج المنثور في الشارع وأكوام الحجارة التي قُذِفَت طوال ثلاثة أيام وثلاث ليالي على النوافذ ، ولقد انقضى وقت طويل قبل أن يتعلم أن تلك الدَوِبات هي في الحقيقة يرقات ذباب الزَنكودو ، لكنه تعلم ذلك كي لا ينساه أبدا ، لأنه أدرك منذ ذلك الحين أن ليست الدَوِبات وحدها وإنما أرواح شريرة أخرى كثيرة قد تمر بسلام عبر مَصافينا الحجرية الساذجة .
لقد عُزِيَ فتْق كيس الخِصية خلال زمن طويل وبفخر شديد الى مياه آبار الجمع ، ذلك الفتْق الذي يَصبر على احتماله عدد كبير من رجال المدينة ليس دون خجل فحسب بل وبنوع من الكِبرياء الوطنية أيضا ، وعندما كان خوفينال أُورْبينو طفلا يذهب الى المدْرسة الابتدائية لم يكن يستطيع كبح اختلاجة الرعب لدى رؤيته المَفْتوقين وهم يجلسون أمام أبواب بيوتهم في الأمسيات الحارة ، ويُهَون بمروحة يدوية على الخِصية الضخمة كما لو كانت طفلا ينام بين أفخاذِهم ، وكان يُشاع أن الفتْق كان يحاكي تغريد عصفور حزين في الليالي العاصفة ، وأنه يتلوى بألم لا يُطاق حين يَحرقون قريباا منه ريش طائر رخمة ، لكن أحدا لم يكن يتذمر من تلك المحن ، لأن فتْقاً كبيرا ومحتملا بِصَبْر هو شرف للرجل قبل كل شيء .
عندما رجع الدكتور خوفينال أُورْبينو من أوربا كان يعرف جيدا التفسير العلمي لهذه المعتقدات ، ولكنها كانت متأصلة في الإيمان الخرافي المحلي الى حد دفع الكثيرين لمعارضة إغناء مياه الآبار بالمَعادن خوفا من أن ينزعوا منها خاصية تسبيب فتْق مُشَرِّف .
وكقلقه من تلوث المياه كان الدكتور خوفينال أُورْبينو قلقاً كذلك للحالة الصحية في السوق العام ، ذلك الامتداد الفسيح مقابل خليج لاس إينْماس حيث ترسو سفن جزر الأنتيل الشراعية ، والذي وصفه أحد الرحالة الشهيرين بأنه واحد من أكثر الأسواق غنى وتنوعاً في العالم ، وقد كان غنياً ووافرا وصاخباً حقا ، ولكنه ربما كذلك كان أكثر الأسواق مدعاةً للقلق ، كان يقوم فوق مزبلته ذاتها تحت رحمة أهواء البحر المرتفع حيث تَجَشُآت الخليج تُعيد الى اليابسة نُفايات المجاري ، وكانت تُرمى هناك فضلات المَسْلَخ المجاور من رؤوس مقطوعة وأحشاء متعفنة وروث رالحيوانات الطافي بهدوء تحت الشمس في مستنقع من الدماء ، وتأتي طيور الرخمة لتتنازع تلك الفضلات مع الجُرْذان والكلاب في ازدحام دائم وسط الغزلان وديوك سوتافينتو المخصية والمعلقة على أفاريز العنابر وخضروات أرخْونا الربيعية المعروضة فوق حُصَر على الأرض .
وكان الدكتور أُورْبينو يريد جعل المكان صحياً بنقل المَسْلَخ الى مكان آخر وتشييد سوق جديد مسقوف بِقباب من زجاج ملون كذا السوق الذي رآه في برشلونة حيث البضائع والمُأن زاهية ونظيفة حتى أن أَكْلَها يثير الحسرة .
ولكن هذا جعل أكثر أصدقائه مُجاملةًيضيقون ذرعا بأحلامه الخيالية ، فهم يقضون حياتهم متغنين بأصلِهِم المجيد وبمزايا المدينة التاريخية وقيمة آثارها الدينية وبطولتها وجمالها ، لكنه لا يرون سوس السنين التي ينخُرها .
أما الدكتور أُورْبينو بالمقابل الذي يُكِنُّ لها حُباً عظيماً يجعله يراها بعينَي الحقيقة فكان يقول : كم هي نبيلة هذه المدينة التي ما فَتِئَتْنا نحاول القضاء عليها منذ 400 سنة ولم نتوصل الى ذلك بعد .
ومع ذلك فقد كانوا على وشك القضاء عليها ، فوباء الكوليرا الذي سقطت أولى ضحاياه في مستنقعات السوق تسبب خلال أحد عشر أسبوعاً بأعلى نسبة وفيات في تاريخِنا .
كان بعض الموتى البارزين يُدفَنون تحت بلاط الكنائس الى جوار الأساقفة والمستشارين ، والآخرون الأقل ثراءً يُدفَنون في فِناء الأديرة ، أما الفقراء فيَمْضون بهم الى المقبرة الاستعمارية على الرابية التي تصفعها الرياح وتفصلها عن المدينة قناة مياه جافة ، لجسرها الطيني لوحة بمظلة نُحِت عليها بأمر أحد الحكّام المتبصرين .
في الأسبوعَين الأوليَين للكوليرا فاضت المقبرة ولم يكن هناك مكان للدفن في الكنائس رغم أنهم نقلوا الى مستودع العظام العام الرُفاة المتآكلة لعدد كبير من الأعيان الذين ضاعت أسماؤهم ، ولقد اختلط هواء الكاتدرائية بأبخرة سراديب الدفن الغير مُحكَمة الإغلاق مما اضطرهم الى عدم فتح أبواب الكاتدرائية إلا بعد ثلاث سنوات .
في الحقبة التي رأت فيها فرْمينا داثَا للمرة الأولى عن قرب فلورنْتينوأَريثَا في صلاة الفجر وامتلأ رواق سانتا كلارا بالقبور التي وصلت الى الممرات بين أشجار الحور في الأسبوع الثالث ، وكان لا بد من تحويل بُستان الدير الذي كان أوسع من الرواق بمرتَين الى مقبرة ، وحفروا هناك قبوراً عميقة لِيَدفنوا فيها على ثلاث مستويات على عجل وبِلَا توابيت ولكنهم اضطروا للتخلي عنها لأن الأرض الطافِحة أصبحت مثل إسفنجة تُرَشِح تحت وَطْء الأقدام دماً فاسدا كريه الرائحة ، عندئذٍ تقرر مُتابعة عمليات الدفن في لامانوديدويرس وهي مزرعة لتسمين الأبْقار على بُعد أقل من فَرْسَخ واحد عن المدينة ، والتي كُرِسَت فيما بعد باسم المقبرة الكونية .
مُذ أذيع بلاغ الكوليرا بدأ حصن الحامية المحليَة بإطلاق قذيفة مدفع كل ربع ساعة في الليل والنهار إيماناً بالخرافة الحضارية القائلة أن البارود يطهر الجو .
ولقد كانت الكوليرا أشد فتكاً بين السكان الزنوج لأنهم الأكثر عددا وفقْراً ، ولكنها في الحقيقة لم تكن تأخذ اللون أو الأصل بعين الاعتبار ، وتوقفت فجأة كما بدأت دون أن يُعرَف عدد ضحاياها ، ليس لأن حصرهم كان مستحيلا وإنما لأن إحدى فضائلنا السائدة هي الحِشْمَة أمام المصائب الخاصة .
لقد كان الدكتور ماركو أورْبيليو أُورْبينو والد خوفينال بطلاً مدنياً في تلك المرحلة المشؤومَة وأبرز ضحاياها أيضا ، فاستنادا الى قرار رسمي وضع الإستراتيجية الصحية وأشرف شخصياً على تنفيذها ، لكن مبادراته دفعته للتدخل في كل شؤون النظام الاجتماعي حتى صار يبدو في أحرج لحظات الوباء أنه لا وجود لسلطة فوق سلطته .وعندما رجع
وعندما راجع الدكتور خوفينال أُورْبينو بعد عدة سنوات وقائع تلك الأيام ثبت له أن منهج أبيه كان يعتمد على العاطفة أكثر من اعتماده على العلم ، وأنه كان مناقِضا للعقل في أحيان كثيرة وبهذا أفسح المجال واسعا أمام شراهة الوباء ، وتأكد له ذلك في عاطفة الأبناء الذين حولتهم الحياة شيئا فشيئا الى آباء لآباءهِم ، فتألم للمرة الأولى لأنه لم يكن الى جوار أبيه في عزلة أخطائه ، لكنه لم يتعرض لجدارة والده ، فبنشاطه وتفانيه وشجاعته الشخصية قبل كل شيء استحق التشريفات الكثيرة التي قُدِمت له عند تخلصت المدينة من الكارثة وبقي اسمه بجَدارة محفوظاً الى جانب أسماء أعداد من أبطال حروب أخرى أقل نُبلاً .
لم يعش ليرى مجده ، فعندما اكتشف في نفسه الاختلالات التي لا شفاء منها والتي عاينها ورقَّ لها في الآخرين لم يحاول حتى خوض معركة لا طائل منها ، وإنما ابتعد عن الجميع كي لا ينقل العدوى الى أحد ، وفي وحدته في إحدى الغرف في مستشفى الرحمة صامّاً أذنيه عن نداءات زملائه وتوسلات ذويه غير عابئ بهلع الموْبوئين المحتضِرين في الممرات الغاصَة ، كَتب لِزوجته وأبنائه رسالة حب محمومة ، يمتن فيها لأنه جاء الى الوجود ويكشف لهم كم أحب الحياة وبأي نهم أحس بذلك الحب ، كانت رسالة وداع في عشرين ورقة مؤثرة يبدو فيها تقدم المرض في اضطراب الكتابة ، ولم يكن ضروريا معرفة لمن كُتِبَت تلك الأوراق لإدراك أن التوقيع قد وُضِع عليها مع النفَس الأخير .
ووفقا لِمشيئته ضاع رماد جسده في المقبرة العامة دون أن يراه أحد من مُحبيه .
تلقى الدكتور خوفينال أُورْبينو برقية الإشعار بالوفاة بعد ثلاثة أيام في باريس أثناء تناوله العشاء مع أصدقائه ، فرفع نَخب شامبانيا لذكرى أبيه قائلا : لقد كان رجلا طيباً .
وكان عليه بعد ذلك أن يُؤَنِّب نفسه على قلة نضجه لأنه بذلك إنما تجنب الواقع لكي لا يبكي ، ثم تلقى بعد ثلاثة أسابيع نسخة من رسالة أبيه ، وحينئذٍ استسلم للواقع ، لقد انكشفت له دُفعة واحدة وبعمق صورة الرجل الذي عرفه قبل أي رجل سواه ، الذي ربّاه وعلمه والذي نام وزنى مع أمه طوال اثنتي وثلاثين سنَة والذي لم يكن يبدو له مع ذلك جسدا وروحاً قبل هذه الرسالة وذلك لمجرد الاستحياء وحده .
لقد كان الدكتور خوفينال أُورْبينو وعائلته حتى ذلك الحين يتصورون الموت محنة تصيب الآخرين ، آباء الآخرين وأشقاء الآخرين وأزواجهم ، لكنها لا تقرب ذويهم ، فهم ذوو حيوات بطيئة ، لا يبدو أن الشيخوخة تلحق بهم ولا المرض أو الموت كذلك ، وإنما هي حيوات تضمحل شيئا فشيئا في زمانها متحولة الى ذكريات وضباب زمن آخر ، الى أنْ يبتلعها النسيان .
لقد وضعته رسالة أبيه أكثر من البرقية الخبر المشؤوم وجهاً لوجه مع يقين الموت رغم أن إحدى أقدم ذكرياته حين كان في التاسعة وربما في الحاديةة عشرة هي نوع من المؤشر المُبكر الى الموت من خلال أبيه .
كانا وحيدَين في مكتب البيت في مَساء يوم ماطِر ، وكان يرسم قَبرات ودوار شمس بالطباشير على بلاط الأرضية فيما والده يقرأ مُوَلِياً ظهره لضوء النافذة وصدريته مفتوحة الأزرار وعلى كُمَي قميصِه أربطة مطاطية ، وفجأة قَطع القراءة لِيَحُك ظهره بِمحكاك ذي ذراع طويلة تنتهي بكف فضيَة في طرفِها ، وحين لم يستطع طلب من ابنه أن يحك له بأظافره ، ففعل ذلك يراوده شعور غريب بأنه يحس بجسده وهو يُحَك ،
وأخيرا تطلَّع إليه أبوه من فوق كتفه بابتسامة حزينة وقال له : إذا ما مت الآن فإنك لن تكاد تتذكرني حين تصبح في مثل سني ..
قال ذلك دون أي سبب ظاهر ، وطاف مَلاك الموت للحظة في ظلمة المكتب البارد وعاد للخروج من النافذة تاركا وراءه نثارة ريش ، لكن الطفل لم يَرَها .
لقد انقضت أكثر من عشرين سنَة منذ ذلك الحين وقريباً سيصل خوفينال أُورْبينو الى السن التي كان فيها أبوه في ذلك اليوم ، كان يعرف أنه يشبهه تماما ، ولِوعيه بأنه كذلك ارتقى الآن الى الوعي المُرعب بأنه سيفنى مثله أيضا .
صارت الكوليرا هي هاجسه ، لم يكن يعرف عنها شيئا أكثر مما يتعلمه بشكل روتيني في دورة هامشية ، ولم يكن ليصدق أن هذا المرض قد سبَّب منذ ثلاثين سنَة فقط في فرنسا بما في ذلك باريس أكثر من 140 وفاة ، أما بعد موت أبيه فقد تعلم كل ما يمكن أن يتعلمه حول مختلف أشكال الكوليرا بشكل أشبه لعقاب النفس لتهدئة ، وكان طالباً من طلاب أبرز علماء الأوبئة في ذلك الزمان ومُبتدِع الأحزمة الصحيَة البروفسور أدريان بروست والد الروائي الكبير ، وبهذا فإنه لدى عودته الى وطنه وإحساسه مُذ كان في البحر برائحة السوق النتنة ، ثم رؤيته الجُرْذان في المجاري المكشوفة والأطفال الذين يتمرغون عراة في مستنقعات الشوارع لم يدرك أن الكارثة قد وقعت بالفعل فقط بل وأيقن أنها ستتكرر في أي لحظة .
ولم يمضي وقت طويل ، فقبل أن يمر العام طلب منه تلاميذه في مستشفى الرحمة أن يساعدهم بشأن مريض إحسان تغطي كل أنحاء جسده بقع زرقاء غريبة ، وكانت رؤية الدكتور خوفينال أُورْبينو للمريض من الباب كافية ليتعرف على العدو ، لكن الحظ حالفهم فالمريض وصل منذ ثلاثة أيام على متْن سفينة قادمة من كوراثَا وقد حضر بنفسه الى العيادة الخارجية في المستشفى وليس هناك احتمال بأن يكون نقل العدوى الى سواه .
وعلى كل حال حذر الدكتور خوفينال أُورْبينو زملاءه وتمكن من جعل السلطات تنقل الإنذار الى الموانئ المجاورة ليتم تحديد موقع السفينة الملوثة وإجراء الحجر الصحي عليها ، وكان عليه أن يهدئ من اندفاع القائد العسكري للموقع الذي أراد إعلان حالة الطوارئ وتطبيق العلاج بقذائف المدفعية كل ربع ساعة في الحال .
وقال له بألمعية عالية : اقتصد بالبارود الى أنْ يأتي اللِبْرالِيون فنحن لم نعُد في العصور الوسطى .
مات المريض بعد أربعة أيام مختنقاً بقيء حُبَيْبي أبيض ، إنما لم تظهر أية حالة أخرى خلال الأسابيع التالية رغم الاستنفار الدائم ، بعد ذلك بقليل نشرت صحيفة دياريوميكوميريوثو خبر عن طفلَين ماتا بالكوليرا في مكانَين مختلفَين من المدينة ، ثم تأكد أن أحدهما كان مصاباً بالدزنتاريا العادية ، أما الآخر وهي طفلة في الخامسة فيبدو أنها كانت مصابة بالكوليرا فعلا ، فتم الحجر على أبويها وأخوتها الثلاثة وعزل كل منهم على انفراد في الحجر الصحي ، كما أخضع الحي بأَسره الى رقابة طبيَة صارمة ، كان أحد الأطفال مصاب بعدوى الكوليرا ولكنه استعاد عافيته بسرعة ، وعادت الأسرة كلها الى البيت عندما زال الخطر .
وخلال ثلاثة شهور سُجِلَت إحدى عشرة حالة أخرى ، ثم حدث استفحال مخيف في الشهر الخامس ، ولكن ما أن انتهت السنَة حتى اعتُبِر أنه قد تم تجاوز مخاطر الوباء ، ولم يَشك أحد أن صرامة الدكتور خوفينال أُورْبينو الصحيَة إضافة الى مَقْدرة مناديه الجوالين هي التي جعلت تحقيق المعجزة ممكنة ، ومنذ ذلك الحين وحتى وقت متقدم من القرن الحالي أصبحت الكوليرا داءً مستوطناً ليس في المدينة فقط وإنما في ساحل الكاريبي كله تقريبا وفي حوض نهر مَجْدَلينا ، ولكن المرض لم يكن يتفاقم متحولاً الى جائحة ، لقد أفادت حالة الذعر في تطبيق تنبيهات الدكتور خوفينال أُورْبينو بحدية أكبر من جانب السلطات العامة ، ففُرِضَت شُعبة إجبارية خاصة بالكوليرا والحُما الصفراء في مدرسة الطب ، وجرى الإسراع في ردْم المجاري وبناء سوق جديد بعيدا عن المزبلة .
ولكن الدكتور أُورْبينو لم يكن يعبأ بإعلان انتصاره ، كما لم يعُد متحمساً للاستمرار في مهماته الاجتماعية لأنه هو نفسه كان مكسور الجناح في ذلك الحين مذهولاى ومُشَتَّتاً ومستعداً لتغيير كل شيء ونسيان كل شيء في الحياة من أجل بارقة حب فرْمينا داثَا.
لقد كان ذلك الحب فعلا ثمرة تشخيص طبي خاطئ ، إذ إن طبيباً صديقا ظن أنه لَمَح أعراض الكوليرا الأولية على مريضة في الثامنة عشرة وطلب من الدكتور خوفينال أُورْبينو الذهاب لعيادتها ، ذهب مَساء ذلك اليوم بالذات مذعورا من احتمال أن يكون الوباء قد دخل هيكل المدينة القديمة ، فجميع الإصابات حتى ذلك الحين اقتصرت على الأحياء الهامشية وكانت كلها تقريبا بين الزنوج ، ووجد هناك مفجاءات أخرى ليست أقل جحودا .
كان البيت الغارق في في ظلال أشجار لوز حديقة البشارة يبدو مُخرَّباً من الخارج كغيره من البيوت ذات الأسوار الاستعمارية ، أما في الداخل فكان يسود نظام جميل وضوء خافت يبدوان وكأنهما من عصر آخر من عصور العالم .
كان دهليز المدْخل يؤدي مباشرة الى بهو إشبيلي مُربَّع ومَطْلي بكلْس بكِلس أبيض حديث ، وفيه أشجار برتقال مُزهِرة وأرضية مرصوفة ببورسْلين كبورسْلين الجدران ، كان هناك خرير ماء متواصل لا مرئي ، وأصص قُرُنْفُل على الأفاريز وأقفاص عصافير نادرة بين قناطر الرواق ، وأكثر تلك الطيور غرابة هي ثلاثة غربان في قفص كبير جدا تَضْمَخ جو البيت برائحة عطر مبهم حين تحرك أجنحتها ، وبدأت عدة كلاب مقيدة في مكان من البيت بالعواء فجأة وقد أطارت رائحة الغريب صوابها ، لكن صيحة امرأة جعلت الكلاب تسكُت تماما ، وقفزت أعداد من القطط في كل الجهات واختبأت بين الأزهار مُرتعدةً من سلطة ذلك الصوت .
حينئذٍ ساد صمت شفاف جعل أنفاس البحر الكئيب مسموعة من خلال اضطراب العصافير ووقع ماء النافورة على الحجَر .
وفكَّر الدكتور خوفينال أُورْبينو وهو يرتعش ليقينه بحضور الرب جسديا أن بيتا كهذا يجب أن يكون عصياً على الوباء .
لَحِقَ بغالا بلاثيديا عبر رواق القناطر ومر مقابل نافذة حجرة الخياطة حيث رأى فلورنْتينوأَريثَا لأول مرة فرْمينا داثَاحين كان البهو لا يزال مليئا بالأنقاض ، ثم صعد الأدراج الرخامية الجديدة الى الطابق الثاني ، وانتظر خبر نقل وصوله قبل أن يدخل مَخْدع المريضة ، لكن غالا بلاثيديا رجعت بملاحظة لدى خروجها .
- تقول الآنسة لا يمكنك الدخول الآن لأن والدها ليس في البيت .
وهكذا كان عليه أن يعود ثانيةً في الخامسة مَساءً حسب تعليمات الخادمة ، وفتح له الباب حينئذٍ لورينثو داثَا شخصياً وقاده الى حجرة نوم ابنته وبقي جالسا في عتْمة الركن مقاطعاً ذراعَيه ومحاوِلاً دون جدوى السيطرة على أنفاسه المتسارِعة .
خلال الوقت الذي استغرقه الفحص لم يكن من السهل معرفة من هو أكثر ارتباكاً أهو الطبيب بلمسه الخجول اَم المريضة العذراء في قميص نومها الحَريري ، لكن أياً منهما لم ينظر في عينَي الآخر ، وإنما كان يسألها بصوت مبهم ، وتُجِيبه بصوت مُرتعش ، وكِلاهما متعلق بالرجل الجالس في العتْمةل .
وأخيرا طلب الدكتور خوفينال أُورْبينو من المريضة أن تجلس وفتح قميص نومها حتى الخصْر بحرص لذيذ تلألأ صدرها الشامخ غير الممسوس ذو الحَلَمَتَين الطفوليتَين للحظة وكأنه وميض برق في ظلالة المَخْدع قبل أن تُسرِع لِتُخفيه بِذِرَاعَيها المتقاطعتَين فأزاح الطبيب ذِرَاعَيها بحزم دون أن ينظر إليها وقام بإجراء الفحص المباشر بوضع أذنه على الجلد بادئاً بالصدْر أولا ثم الظهر .
وقد اعتاد الدكتور خوفينال أُورْبينو أن يقول بأنه لم يشعر بأي انفعال عندما تعرف على المرأة التي سيعيش معها حتى يوم مماته.
كان يتذكر قميص النوم السماوي ذي التطريز المُخَرَّم والعينَين المحمومتَين والشعر الطويل المُنسَدِل على الكتفَين ، ولكنه كان مبهورا من اقتحام الوباء للسور الاستعماري ، فلم يتمعن في شيء من المحاسن الكثيرة التي تمتلكها كمراهقة يانعة ، وإنما انصب اهتمامه على أدنى قدر من الوباء قد يكون لديها ، بينما كانت هي أكثر وضوحا ، لقد بدا لها الطبيب الشاب الذي كثيرا ما سمعت باسمه أثناء الحديث عن الكوليرا مُتَحَذْلِقاً عاجزا عن حب أحد سوى نفسه .
وكانت نتيجة التشخيص أنها مصابة بالتهاب معوي ذي منشأ غذائي برِأت منه باستخدام علاج بيتي لمدة ثلاثة أيام .
اطمأن لورينثو داثَا للتأكيد بأن ابنته ليست مصابة بالكوليرا فَرافَق الدكتور خوفينال أُورْبينو حتى باب العربة ، ودفع له تسعيرة البيزو الذهبي التي بدت له غالية جدا حتى بالنسبة لطبيب يعالِج الأثْرياء لكنه ودعه بامتنان مفرط ، كان مبهوراً ببريق كنيته وألقابه ولم يفعل شيئا لمدراة ذلك الانبهار ، بل إنه كان مستعداً للإقدام على عمل أي شيء للإلتقاء به ثانيةً في ظروف أقل رسمية .
كان لا بد من اعتبار المسألة منتهيَة ، لكن الدكتور خوفينال أُورْبينو رجع ثانيةً بلا مناسبة في الساعة الثالثة من يوم الثلاثاء التالي دون أن يستدعيه أحد ودون أن يُنْبئ أحد بقدومِه .
كانت فرْمينا داثَا في حجرة الخياطة تتلقى درسا في الرسم الزيتي مع صديقتَين أخريَين عندما ظهر من النافذة بِسُترته البيضاء الناصعة وقبعته العالية والبيضاء أيضا ، وأشار لها بأن تدْنو .
وضعت أدوات الرسم على الكرسي وسارت نحو النافذة على رؤوس أصابعها رافعةً كشكش تنورتها حتى الكاحلَين لتحول دون جرها على الأرض .
كانت تضع أكليلا مثبَّتاً على جبهتها بِمِشبَك فيه حجر كريم لِبريقه لون أشم كلون عينيها ، وكان كل ما فيها يَنْفُث برودةً ، وقد لفت انتباه الطبيب أنها ترتدي للرسم في البيت ملابس الخروج الى حفلة .
جس نبضها من خارج النافذة وطلب منها أن تُخرج لسانها وفحص حلقها مستخدماً خافضة لسان من الألَمونْيوم ونظر الى ما تحت جفنها الأسفل ، وكان كلما انتهى من شيء يشير بحركة ارتياح .
كان أقل ارتباكا من الزيارة السابقة ، بينما كانت هي أكثر ارتباكاً لأنها لم تفهم سبباً لهذا الفحص الطارئ ، إذا كان هو نفسه قد قال بأنه لن يعود إلا إذا استدعوه لأي شيء يستجد ، بل أكثر من ذلك لم تكن راغبَةً في رؤيته الى الأبد .
عندما انتهى الفحص خبأ الطبيب خافضة اللسان في الحقيبة المُتْخَمة بالأدوات وقناني الدواء وأعْلقها بضربة قوية ، ثم قال لها : إنك كزهرة متفتحة لتوِها .
- شكرا .
- الشكر لله .
قال لها واستشهد استشهاداً خاطئاً بسان توماس .
- تَذكَّري أن كل ما هو طيب مَهما كان منشؤه هو من الروح القُدُس ، أتحبين الموسيقى ؟
سأل ذلك عرَضاً مع ابتسامة ساحرة ، لكنها لم تُجِبْه بل سألت بدورها : ما قصدك من هذا السؤال؟
فقال : الموسيقى مهمة للصحَة .
كان يؤمن بذلك أحياناً ، وستعرف هي عما قريب وحتى نهاية حياتها أن الموسيقى كانت أشبه بمعادلة سحرية يستخدمها لإقامة صداقة ، ولكنها فهمت الأمر في ذلك الحين على أنه سخرية ، ثم إن صديقتَيها اللتين تظاهرتا بالرسم فيما هما تتحدثان أفلتتا ضحكات فِئران وخبأتا وجهيهما بحاملة الألوان ، وهذا ما أفقَد فرْمينا داثَافي صوابها فصفقت النافذة بقوة وقد أعماها الغضب .
حاول الطبيب الحائر أمام مصراع النافذة المُخَرَم أن يجد طريقه الى البوابة الخارجية لكنه أخطأ الاتجاه ، وفي اضطرابه اصطدم بِقفص الغربان العطرية فأطلقت هذه زعقة صَمّاء وخفقت بأجنحتها مُرتعبة مُضَمِخَةً ملابس الطبيب بعِطر نسائي .
جمَّده صوت لورينثو داثَا الراعد في مكانه .
- دكتور ، انتظرني حيث أنت .
كان قد رأى كل شيء من الطابق العلوي ، فنزل الدرج وهو يزرر قميصه متغطرساً ومتورداً وسوالفه الطويلة ما تزال مُشْعَثة بعد حلم قيلولة سيئ .
حاول الطبيب أن يتغلب على الحرج .
- لقد قلت لابنتك أنها تبدو كزهرة .
فقال لورينثو داثَا :إنها كذلك ، ولكنها زهرة كثيرة الأشواك .
مر من جانب الدكتور أُورْبينو دون أن يُجِبْه ودفع مصراعَي نافذة حجرة الخياطة وأمر ابنته بصرخة خشنة : تعالي واعتذري من الدكتور .
حاول الطبيب أن يتوسط ليحُول دون ذلك ، لكن لورينثو داثَا لم يُعره اهتماما وأصر : أسرعي .
نظرت الى صديقتَيها بتوَسل خفي لتتفهَمان ، وردت على أبيها : بأنه لا يوجد ما يستوجب الاعتذار ، وبأنها أغلقت النافذة لتمنع استمرار دخول الشمس فقط .
حاول الدكتور أُورْبينو تأييد حُججها ولكن لورينثو داثَا أصر على الأمر .
حينئذٍ رجعت فرْمينا داثَا الى النافذة شاحبةً من الغضب وقدمت قدَمها اليُمنى فيما هي ترفع تنورتها بأطراف أصابعها وانحنت للطبيب انحناءة مسرحية وقالت : أُقدِّم لك أخلص اعتذاري أيها السيد المُبَجَل .
جاراها الدكتور خوفينال أُورْبينو بمزاج رائق رافعا قبعته العالية بحركة كحركات الفُرسان ، لكنه لم ينل ابتسامة الرحمة التي كان ينتظرها .
دعاه لورينثو داثَا بعد ذلك لِيتناولا في المكتب قهوة المصالحة فوافق مبتهِجاً حتى لا تبقى أي شكوك في أنه أزال من روحه كل أثر للضغينة .
الحقيقة أن الدكتور خوفينال أُورْبينو لم يكن يشرب القهوة باستثناء فنجان واحد في الصباح قبل الطعام ، ولم يكن يتعاطى الكحول أيضا ما عدا كأساً من النبيذ مع الطعام في بعض المناسبات الجليلة ، لكنه لم يتناول القهوة التي قدمها له لورينثو داثَا فحسب بل ووافق على شرب كأس من خمر اليانسون ، ثم قَبِل فنجاناً آخر من القهوة وكأساً أخرى من الخمر ثم أخرى وأخرى رغم أنه سيزور بعض المرضى الذين لم يزرهم بعد .
استمع أول الأمر الى الاعتذارات التي تابع لورينثو داثَا تقديمها باسم ابنته التي وصفها بأنها طفلة ذكية وجدية ، جديرة بأمير من هنا أو من أي مكان آخر ، وعيبها الوحيد حسب زعمه هو طبعها الذي يشبه طبع بغْلة ، لكنه بعد الكأس الثانية ظن بأنه يسمع صوت فرْمينا داثَا يأتي من الفِناء ومضى خياله في إثرها ، ولاحَقَها في الليل الذي بدأ يلف البيت فيما هي تشعل أضواء المَمر وترش غرف النوم بمضخات مبيد الحشرات وتكشف الغطاء عند المَوقِد عند قِدْر الحساء الذي ستتناوله هذه الليلة مع أبيها ، هو وهي وحدهما على المائدة دون أن يرفعا بصرهما ، ودون أن يرشفا الحساء بصوت مسموع كي لا يُحَطِّمَا سحر الغضب الى أنْ يستسلم الأب ويَطلب الصفح منها لقسوته هذا المَساء .
كان الدكتور أُورْبينويعرف النساء جيدا فأدرك أن فرْمينا داثَا لن تقرب المكتب ما لم ينصرف هو منه ، لكنه تأخر على أية حال لأنه كان يحس أن كِبرياءه الجريح لن يتيح له العيش بسلام بعد إهانة هذا المَساء ، ويبدو أن لورينثو داثَا الذي نال منه السُكْر لم يلاحظ عدم اهتمامه به ، إذ كان يكفي نفسه بطلاقة لسانه التي لا كابح لها ، كان يتكلم طويلا وهو يمضغ عقب سيجاره المُنْطفئ ويُسعل بصوت عالٍ ويتُف ويحاول الاسترخاء بصعوبة على الكرسي الدوار الذي تأن نَوابضه كأنين حيوان مُتَهيِّج .
لقد شَرِب ثلاثة كؤوس مقابل كل كأس شَرِبه ضيفه ولم يتوقف عن الكلام إلا عندما انتبه الى أنْ كل منهما لم يعُد يرى الآخر ، فنهض ليشعل المصباح ، تأمله الدكتور خوفينال أُورْبينو من الأمام على نور الضوء الجديد ورأى أن إحدى عينَيه مائلةً كعين سمكة ، وأن كلماته لا تتفق مع حركة شفتَيه ، وفكَّر بأنها تخيلات تُراوده لإسرافه في الكحول ، حينئذٍ نهض وإحساس آخّاذ يسيطر عليها بأنه في جسد ليس جسده وإنما جسد شخص ما يزال على المِقعد حيث كان ، واضطر للقيام بمجهود شاق كي لا يفقد اتزانه .
كانت الساعة قد تجاوزت السابعة عندما خرج من المكتب يسبقه لورينثو داثَا ، كان القمر بَدْراً وكان البهو الذي زينه له خياله يَطْفو في حوض مائي والأقفاص المغطاة بِقِطع قماشية بدت وكأنها أشباح نائمة تحت الرائحة الدافئة لأزهار البرتقال الجديدة ، وكانت نافذة حجرة الخياطة مفتوحة وعلى طاولة العمل يوجد مصباح مُضاء ، بينما اللوحات غير المُكتملة معلقة على الحوامل وكأنها في معرض .
- أين أنتِ أيتها الغائبة ؟
قال الدكتور أُورْبينو لدى مروره ، لكن فرْمينا داثَا لم تسمعه ولم يكن بمقدورها أن تسمعه لأنها كانت تبكي غيظا في في مخْدعها وهي مُنْبطحة على بطنها فوق السرير بانتظار والدها لتقاضيه على إذلالها هذا المَساء .
لم يكن الطبيب ليتنازل عن وداعها ، لكن لورينثو داثَا لم يعرض عليه ذلك ، لقد حنَّ الى براءة نبضِها وإلى لمساتها وإلى لسانها الذي كَلِسان قطة ولوزتَيها الطريتَين ، ولكنه فقدَ الحماس حين فكَّ ر بأنها لم تعُد ترغب برؤيته أبدا ولن تسمح له بأن يحاول ذلك .
عندما دخل لورينثو داثَا في الدهليز أطلقت الغربان المستيقظة تحت الشرشف صرخة جنائزيَة ، فقال الطبيب بصوت عالٍ : ستُقْلَع عينَيك .
وكان يفكر بها ، فالتفت إليه لورينثو داثَا ليسأله ما الذي قاله .
فأجاب : لست أنا الذي قلت وإنما هي الخمرَة .
رافقه لورينثو داثَا حتى العربة محاولاً إقناعه ؤبقبول البيزو الذهبي كأجرة للزيارة الثانية ، لكنه لم يقبله .
أعطى الحوذي تعليمات صحيحة ليوصله الى بيت المريضَين اللذَين عليه زيارتهما ، وصعد الى العربة دون مساعدة ، لكنه بدأ يشعر بالإعياء بفعل اهتزاز العربة فوق الشوارع المرصوفة بالأحجار فما كان منه إلا أمر الحُوذي بتغيير الاتجاه .
نظر لبرهة في المرآة ورأى أن صورته أيضا ما زالت تُفكر بفرْمينا داثَا ، فهز كتفيه وأخيرا أطلق جشأة رملية ، أسند رأسه على صدره وأغفى ، وفي الحلم بدأ يسمع نواقيس الحداد ، سمع نواقيس الكاتدرائية أولا ثم نواقيس جميع الكنائس بما فيها أجراس كنيسة سان خوان هوسباتليريو المكسرة ، فدمدم وهو نائم : خراء ، لقد مات الموتى .
كانت أمه وشقيقتاه يتناولن عشائً مؤلفاً من القهوة بالحليب وكعكة الجبن والدقيق على طاول المآدب في صالة الطعام الكبيرة عندما رأته يظهر في الباب بوجه مُنْهَك ورائحة مخزية تفوح منه ، هي رائحة عطر المُومِسات التي نفثتها الغربان ، كان الناقوس الكبير في الكاتدرائية المجاورة يرن في السكون المُخَيِم على البيت .
سألَته أمه مذعورة : أين كان لأنهم بحثوا عنه في كل الأنحاء ليعالج الجنرال أغناسيو ماريا آخِر أحفاد الماركيز ديخاريث ديلافيرَا الذي مات هذا المَساء باحتقان دماغي ومن أجله كانت تُقرَع الأجراس .
أنْصت الدكتور خوفينال أُورْبينو لأمه دون أن يسمعها ، وأمسك بإطار الباب ثم دار نصف دورة محاوِلاً الوصول الى حجرته لكنه هوى على وجهه وسط انفجار قيء خمر مدوٍ .
صرخت أمه : يا مريم المقدسة ، لا بد أن أمراً غريباً جعلك تجيء الى بيتك في مثل الحالة !! .
لكن الأكثر غرابة لم يكن قد حدث بعد ، فقد انتهز زيارة عازف البيانو المعروف روميو لوسيج الذي عزف مجموعة سونتات لِموزارْت بعد أن انتهى حداد المدينة على الجنرال أغناسيو ماريا مباشرةً ، فحمل الدكتور خوفينال أُورْبينو بيانو مدْرسة الموسيقى على عربة تقودها البِغال وأحيا لفرْمينا داثَا سِرْنادَاً أصبح مَضرِب المثل .
استيقظت هي مع النغمات الأولى ، ولم تكن بحاجة للنظر من تخريمات الشُرْفة لتعرف من هو صاحب هذا التكريم الفريد ، والشيء الوحيد الذي أسِفَت له هو عدم امتلاكها شَجاعة غيرها من الآنسات المُجرِبات اللاواتي يفرغن محتويات الْمَبْوَلَة فوق رأس العاشق غير المرغوب فيه .
أما لورينثو داثَا فقد ارتدى ملابسه على عجل أثناء عزف السيرناد ، ودعا الدكتور خوفينال أُورْبينو وعازف البيانو للدخول وهما ما يزالان بالملابس والزينة الخاصة بحفلة الكونشيرتو ، وشكَرهما على السيرناد بكأس جيد من البراندي .
سرعان ما تنبهت فرْمينا داثَا الى أنْ والدها يحاول أن يُلين قلبها ، ففي اليوم التالي للسِرناد قال لها بموارَبة : تصوري شعور أمك لو أنها عرفت بأنك مرغوبة من أحد آل أُورْبينو ديلاكايي ؟
فردت عليه بجَفاء : كانت ستموت ثانيةً وهي في التابوت .
ورَوَت لها صديقاتها اللاواتي يرسمن معها أن لورينثو داثَا قد ذهب الى النادي الاجتماعي بدعوة من الدكتور خوفينال أُورْبينو ، وأن هذا الأخير كان محط تنبيه صارم لمخالفته تعليمات النادي ، وحينئذٍ فقط عَلِمَتْ أيضا أن أباها قد طلب عِدة مرات الانضمام الى النادي الاجتماعي وأن طلبه رُفِضَ بكل مرة بعدد من الكُرات السَوداء .
لكن لورينثو داثَا كان يبتلع الإهانة بكبد سكير ويُتابع استنباط الوسائل للالتقاء مصادفة الدكتور خوفينال أُورْبينو ، دون أن يلاحظ أن خوفينال أُورْبينو هو الذي كان يفعل المستحيل لِيجعله يلتقي به .
كانا يقضيان أحيانا عدة ساعات وهما يتبادلان الحديث في المكتب ، فيبقى البيت حينئذٍ وكأنه غارق على هامش الزمان لأن فرْمينا داثَا لم تكن تسمح لشيء بأن يتابع خط حياته المعتاد قبل انصرافه .
وكان مقهى الباروكية ملجأً وسطا لا بأس به ، وهناك عَلَّم لورينثو داثَا أول دروس الشطرنج لخوفينال أُورْبينو وكان هذا تلميذا مُجدا ، وأصبح الشطرنج داءً آخر لا شفاء منه عذبه حتى يوم مماته .
في إحدى الليالي بعد مدة قصيرة من سرناد البيانو المنفرد وجد لورينثو داثَا رسالة مختومة بالشمع في مدخل بيته موجَّهةً الى ابنته ، وقد طُبِعَت على الشمع حروف خ و : ، فَدَّسَها من تحت الباب لدى مروره أمام مخدع فرْمينا داثَا ، ولم تستطع هي أن تُدرك كيف وصلت الى هناك ، إذ رأت أنه من غير المعقول أن يكون أبوها قد تغير الى حد إيصال رسائل عاشِقِها إليها .
تركتها فوق الكومودينو دون أن تدري ما تفعله بها حقاً ، وبقيت الرسالة هناك مغلقةً عدة أيام حتى مَساء يوم ماطر حلُمت فيه فرْمينا داثَا أن خوفينال أُورْبينو قد رجع الى البيت ليُهْديها خافضة اللسان التي فحص بها حلْقها ، ولم تكن الخافضة في الحلم من الألَمونيوم وإنما من معدن آخر شهي ، كانت قد تذوَقَتْه بلذة في أحلام أخرى .
رأت أنها كَسَرتها الى جزئَين غير متساويَين وأعطته القطعة الصغرى .
عندما استيقظت فتحت الرسالة ، كانت قصيرةومهذبة ، والشيء الوحيد الذي كان يرجوه خوفينال أُورْبينو منها هو السماح له بأن يطلب من أبيها الأذن بزيارتها .
لقد تأثرت ببساطته وجديته ، والغيظ الذي رعته بالحب خلال تلك الأيام خخمد فجأة .
خبَّأت الرسالة في علبة مهملة في قاع الصندوق ، لكنها تذكرت أنها كانت تخبئ هناك أيضا رسائل فلورنْتينوأَريثَا المعطرة ، فأخرجتها من العلبة لتضعها في مكان آخر وقد هزتها موجة من الخجل .
عندئذٍ رأت أن خير ما تفعله هو أن تعتبر الرسالة لم تصلها ، فأحرقتها بلهب المصباح وهي ترى قطرات الشمع تنتفخ في فقاعات زرقاء فوق اللهب .
تنهدت : يا للرجل المسكين .
وفجأة تذكَّرت أنها المرة الثانية التي تقول فيها ذلك خلال أكثر بقليل من سنَة ، وفكَّرت لِهُنَيْهة فلورنْتينوأَريثَا وقد فوجئَت هي نفسها كم أصبح بعيدا عن حياتها : يا للرجل المسكين .
في تشرين الأول ومع الأمطار الأخيرة وصلتها ثلاثة رسائل أخرى ، مع الأولى منها علبة أقراص بَنفسَج مع دير فلافنيغي اثنتان منهما سلَّمهما عند مدخل البيت حُوذي الدكتور خوفينال أُورْبينو الذي حيا غالا بلاثيديا من نافذة العربة ، وذلك كي لا تكون هناك شكوك من أن الرسائل ليست منه أولا ، وحتى لا يستطيع أحد الادعاء بأن الرسائل لم تصل ثانياً ، ثم إن الرسالتَين كانتا مَختومتَين بنفس الحروف على الشمع الأحمر ومكتوبتَين بالخط الرديء الذي كانت فرْمينا داثَا تعرفه ، خط طبيب ، وكِلتا الرسالتَين تقولان من حيث الجوهر ما جاء في الرسالة الأولى ، وهما مصاغتان بروح الخنوع ذاتها ، ولكن في أعماق لِياقته بدا يشع اشتياق لم يكن ليظهر أبدا في رسائل فلورنْتينوأَريثَا الرصينة ، وقد قرَأَتْها فرْمينا داثَا فور استلامهما بفارِق أسبوعَين بينهما ، وعندما كانت على وشك إلقائهما للنار غيَّرت رأيها دون أن تفسر الأمر لنفسها ، ولكنها رغم ذلك لم تُفكر أبدا بالرد عليهما .
الرسالة الثالثة من رسائل شهر تشرين الأول دُسَت من تحت باب البيت الخارجي ، وكانت مختلفة في كل شيء عن الرسائل السابقة ، فالخط كان صبيانياً لدرجة لا تدع مجالاً للشك في أنها كُتِبت باليد اليسرى ، لكن فرْمينا داثَا لم تُفكر في شيء من هذا إلا عندما كشف لها النص بالذات عن مجهول لئيم ، فكاتب الرسالة يضع كأمر واقع أن فرْمينا داثَا قد سحرت بأكاسيرها الدكتور خوفينال أُورْبينو ومن هذا الافتراض يُستَخلَص النتائج المشؤومَة ، وينتهي بتهديد ، إذا لم تتراجع الدكتور خوفينال أُورْبينو عن محاولتها الاستيلاء على الرجل المرغوب أكثر من أي رجل آخر في المدينة فإنها ستُعَرِّض نفسها للفضيحة العامة .
أحست بأنها ضحية ظلم مجحف ، لكن ردة فعلها لم تكن انتقامية وإنما على العكس تماما ، كانت ترغب عن الكشف عن الفاعل المجهول لصرفه عن خطئه بكل التفسيرات المناسِبة ، إذ كانت موقنة أنها لن تتأثر أبدا ومهما كانت الأسباب بمغازلة خوفينال أُورْبينو .
ثم تلقت في الأيام التالية رسالتين أخريَين فيهما من الحقد مثلما في تلك الأولى ، ولكن لم يكن يبدو في أيٍ من الرسائل الثلاث أن كاتبها هو الشخص نفسه ، فإما أنها وقعت ضحية مكيدة أو أن قصة حبها المُزَيف قد وصلت الى أبعد مما تصورته .
لقد أقلقتها فكرة أن كل ذلك إنما هو نتيجة تهَور خوفينال أُورْبينو ليس إلا ، وخطر لها بأنه قد يكون رجلا مختلفا عما يوحي به مظهره الوقور ، وأن لسانه ربما ينطلق في زياراته فيتبجح بغزوات وهمية كما يفعل الكثيرون من أمثاله .
فَكَّرَت بأن تكتُب له مُوَبِّخَةً على إهانته شرفها ، ولكنها تخلت عن الفكرة فقد يكون هذا ما يريده ، وحاولت أن تستعلم من صديقاتها اللاواتي يأتين للرسم معها في غرفة الخياطة ، لكن الشيء الوحيد الذي سَمِعَتْه هي تعليقات سليمة العاقِبة حول سير نادي البيانو المنفرد .
أحست بالغضب والعجز والذل ، وعلى العكس من البداية حين رغبت بالعثور على العدو الخفي لإقناعه بأخطائه أصبحت تريد فرمه الآن بِمِقَص تشذيب الحديقة .
صارت تمضي الليالي مستيقظة مُحللةً تفاصيل وتعابير الرسائل المجهولة على أمل العثور على بارِقة عَزاء ، وكان ذلك وَهْماً باطلاً ، ففرْمينا داثَا بطبعها كانت غريبة عن عالم آل أُورْبينو ديلاكايي ، وكانت تمتلك الأسلحة لمواجهة فنونهم الخيِّرة أما الشريرة فَلا .
وأصبحت هذه القناعة أشد مرارة بعد رعب الدمية السَوداء التي وصلتها في تلك الأيام بلا أية رسالة ، ولكن بدا لها من السهل تصور مصدرها فالدكتور خوفينال أُورْبينو وحده يمكن أن يكون مرسلها ، إنها مُشتراة من المارتينيك حسب بطاقة المَنشأ ، وترتدي فُستاناً مُحكماً لها شعر أجعد به خيوط ذهبية وهي تُغمِض عينيها عند تمديدها .
لقد رأت فيها فرْمينا داثَا تسليةً جعلتها تتغلب على وساوسها فكانت تُمدِدها على مِخَدَّتها في النهار ، واعتادت النوم معها في الليل ، وبعد فترة من الزمن إثر حلم مُنْهِك اكتشفت أن الدمية كانت تكبُر ، فالثياب الأصلية التي وصلت بها أصبحت تكشف عن فخذيها والحذاء تمزق بضغط نمو القدمَين .
كانت فرْمينا داثَا قد سَمِعت من قبل عن رُقيات سحرية إفريقية مشؤومَة ولكن أياً منها لم يكن رهيباً كهذه ، ولم تستطع من جِهة أخرى تصور أن يكون رجل كخوفينال أُورْبينو قادرا على ارتكاب فضاعة مُماثلة ، وكانت مُحِقة ، فالدُمْية لم يوصلها الحُوذي وإنما بائع قريديس عابر لم يستطع أحداً أن يقدم لها خَبَراً يَقيناً عنه .
وفي محاولة لحل اللغز فكَّرَت للحظة بفلورنْتينوأَريثَا الذي كان تجهمه يثير فزعها ، لكن الحياة تَكفَّلت بإقناعها بخطئها ، ولم يتضح السر أبدا وكان مجرد تذكِرة يبعث فيها قشعريرة رعب الى ما بعد زواجها بكثير وإنجابها أوْلاداً واعتقادها بأنه مُختارة القدَر وأسعد النساء .
المحاولة الأخيرة للدكتور أُورْبينو كانت توسُط الأخت فرانكا ديلالوث رئيسة راهبات ظهور العذراء المقدسة التي لا تستطيع رفض طلب من عائلة أيَّدت طائفتها منذ استقرار هذه الطائفة في الأمريكتَين ، حضرت برفقة راهبة مستجدة في الساعة التاسعة صباحاً ، وتسلَّتا كِلتاهما لمدة نصف ساعة بأقفاص العصافير ريثما تنتهي فرْمينا داثَا من الاستحمام ، كانت ألمانية رجولية تتكلم بنبرة معدنية ولها نظرة آمرة لا علاقة لها بعواطفِها الصبيانية ، ولم يكن في هذا العالم ما تكرهه فرْمينا داثَا أكثر من كُرهِها لها ومما رأته على يديها ، ومجرد تَذَكُّر شفقتها الكاذبة كان يسبب لها حَرْقَصَة عقرب في أحشائها ، وما أن تعرفت عليها من باب الحمام حتى عادت تعيش دُفعة واحدة ججميع عذابات المدْرسة وحلم القُدّاس اليومي الذي لا يطاق ورعب الامتحانات ومساعي المستجِدات الدَنيئة وكل الحياة المُفسَدَة بمَوْشور الفقر الروحي .
أما الأخت فرانكا ديلالوث بالمقابل فقد حيتها بمرح بدا نزيهاً ، وأبدت دهشتها لنموها ونضجها وأطرت على حِكمتها في تدبير شؤون البيت وذوقها الرقيق الظاهر في الفِناء وفي مجمرة أزهار البرتقال ، ثم أمرت المستجِدة بانتظارها وعدم الاقتراب كثيرا من الغربان القادرة على انتزاع عينيها في لحظة إهمال ، وبحثت عن مكان منعزل تجلس فيه لتتحدث على انفراد مع فرْمينا داثَا ، فدعتها هذه الى الصالة .
كانت زيارة قصيرة وفظَّة فالأخت فرانكا ديلالوث ودون إضاعة الوقت في الديباجات عرضت على فرْمينا داثَا رد اعتبار مُشَرِّف ، كما أن سبب الطرد سيُمْحىَ ليس من المَحاضر فقط وإنما من ذاكرة الطائفة أيضا ، وهذا سيتيح لها استكمال دراستها والحصول على الشهادة الثانوية في الآداب .
أرادت فرْمينا داثَا الحئرة أن تعرف السبب .
فقالت الراهبة : كل ذلك بناءً على طلب شخص جدير بكل شيء ، ورغبته الوحيدة هي إسعادكِ ، أوتعرفين من هو ؟
حينئذٍ فهمت الأمر ، وسألت نفسها كيف يمكن لامرأة غيَّرت مسار حياتها من أجل رسالة بريئة أن تقوم الآن بدور رسول الحب ، لكنها لم تتجرأ على قول ذلك ، وقالت بالمقابل : أنها عرفت الرجل المعني ، وأنها تعرف كذلك بأنه لا يملك الحق للتدخل في حياتها .
فقالت الراهبة : الشيء الوحيد الذي يرجوه هو أن تسمحي له بالتحدث إليك لِخمس دقائق ، وأنا متأكدة أن أباكِ سيوافق .
أصبح غضب فرْمينا داثَا أشد زخماً لفكرة أن أباها متواطئ في تلك الزيارة فقالت : لقد رأينا بعضنا مرتين حين كنت مريضة ، وليس من سبب يدعو للقاء الآن .
وقالت الراهبة : إن هذا الرجل هو بمثابة هدية من العناية الإلهية بالنسبة لأي امرأة لها دماغ عرضه إصبعان .
وتابعت الكلام عن فضائله وعن ورعه وانْكِبابه على خدمة المُعذبين ، وفيما هي تتكلم أَخرجت من كُمِّها مِسْبحة ذهبية تنتهي بمسيح منحوت من العاج وهزتها أمام عينَي فرْمينا داثَا : إنها من آثار العائلة وعُمُرها أكثر من 100 سنَة صاغها صائغ من سيينا وباركها البابا كليمنت الرابع ، قالت لها : إنها لكِ .
أحست فرْمينا داثَا بتيار دافق من الدم في أوردتها وتجرأت حينئذٍ على القول : لا أستطيع أن أفهم كيف تقبلين القيام بمهمة كهذه إذا كنت تَرَين في الحب خطيئة ؟
تظاهرت الأخت فرانكا ديلالوث بأنها لم تُدرك مغزى الملاحظة لكن أجفانها التهبت وتابعت تحريك المِسْبحة مقابل عينيها وقالت : خير لك أن تتفاهمي معي ، فقد يجيء بعدي نيافة الأسقف وسيكون الحال معه مختلفاً .
فقالت فرْمينا داثَا فليأتي .
خبَّأت الأخت فرانكا ديلالوث المِسْبَحة الذهبية في كُمِّها ثم أَخرجت من الكُم الآخر منديلا مستعملا كثيرا ومُجَعَّدا على شكل طابة واحتفظت به مضغوطاً في قبضتها ناظرةً الى فرْمينا داثَا من بعيد جدا بابتسامة حانية وتنهدت : مسكينة أنت يا بُنَيَتي ما زلت تفكرين بذلك الرجل .
مضغط فرْمينا داثَا الإهانة وهي تنظر الى الراهبة دون أن يرمش لها جفن ، وحدقت في عينيها دون أن تتكلم وهي تمضغ بِصمْت ، الى أنْ رأت بسعادة لا نهائية عينيها الرجوليتين تغرورقان بالدموع ، ومسحتهما الأخت فرانكا ديلالوث بالمنديل المكوَر ونهضت واقفة وهي تقول : لقد صدق والدك حين قال بأنك بَغْلة .
لم يأتِ الأسقف وكان الحصار سينتهي في ذلك اليوم لولا أن هيلْدا براندا سانجيت جاءت لقضاء أعياد الميلاد مع ابنة عمتها ، فتبدلت الحياة لكِلتيهما .
استقبلوها في السفينة القادمة من ريوهاجَا في الساعة الخامسة صباحا وسط اضطراب مسافرين يحتضرون من الدوار فيما نزلت هي من السفينة مشعة وناضجة بروح هائجة بفعل الليلة البحرية السيئة .
جاءت محملة بصناديق الديكة الرومية الحية وبكل أنواع الثمار التي تطرحها بساتينهم الزاهرة كي لا ينقص الطعام على أحد أثناء زيارتها ، وبعث والدها ليسيماكو سانجيت يسأل إن كانوا بحاجة الى موسيقيين من أجل حفلة الفِصح ، لأن أفضل الموسيقيين متوفرين تحت تصرفه ، ويَعِد بأنه سيبعث فيما بعد بشحنة من الألعاب النارية ، ويعلن أيضا بأنه لن يستطيع المجيء لأخذ ابنته قبل شهر آذار ، وهذا يعني أن لديهما مُتَّسَعاً من الوقت تعيشانه معاً .
بدأت الفتاتان في الحال ، استحمتا معاً في مَساء اليوم الأول عاريتين وطهرتا بعضهما بماء البركة ، تعاونتا على دلك جسَدَيهما بالصابون ، وأَخرجت كل منهما الصيبان من شعر الأخرى ، وقارنتا أردافهما ونهودهما الصلبة ، وتأملت كل منهما في مرآة الأخرى لترى قسوة الزمن عليهما مُذ رأتا بعضهما عاريتين آخِر مرة .
كانت هيلْدا براندا ضخمة ومتينة ذات بشرة ذهبية ، لكن شعر جسمها بأسره كان شَعَر مُوَلَّدَة قصير ومفتول وكأنه رغوَة أسلاك ، أما فرْمينا داثَا فكانت ذا عُري شاحب خطوطه طويلة وببشرة صافية ناعمة الزغب .
جعلتهما غالا بلاثيديا تضعان سريرَين متماثلَين في حجرة النوم ، لكنهما كانتا تستلقيان في سرير واحد أحيانا وتتحدثان بعد إطفاء النور حتى الفجر ، وتدخِنان سيجاراً من النوع الرفيع الذي يدخنه قُطّاع الطرق ، كانت هيلْدا براندا قد أحضرته معها مُخبأً في بطانة الصندوق وكان عليهما أن تَحْرِقا بعد التدخين أوراق أرمينا لتنقية هواء الحجرة الذي يصبح كَهَواء أكواخ الرعاء ، لقد دخنت فرْمينا داثَا للمرة الأولى في فايدوبار وتابعت التدخين في فونسيكا وفي ريوهاجَا حين كانت تحبس نفسها مع عشر من بنات أخوالها في حجرة ليتحدثن عن الرجال ويُدَخنَّ في الخفاء ، وتعلمت التدخين بالمقلوب وذلك بوضع طرف السيجار المشتعل في فمها كما يدخن الرجال في ليالي الحرب كي لا تفضح جمرة السيجار ، لكنها لم تدخن أبدا منفردةً وأصبحت تفعل ذلك مع هيلْدا براندا في بيتها كل ليلة قبل أن تنامَا ، ومنذ ذلك الحين اكتسبت عادة التدخين رغم انها كانت تدخن في الخفاء دوما ، وحتى بالخفاء عن زوجها وأولادها ، ليس ذلك لأنه كان يُنْظَر الى المرأة المُدخِنة في العلن بغير الرضا ، وإنما لأن متعتها كانت تكتمل في السريَة .
كانت رحلة هيلْدا براندا قد فُرِضت عليها من جانب أبويها في محاولة لإبعادها عن حبها المستحيل ، رغم أنهم أقنعوها أنها مُسافرة لمساعدة فرْمينا داثَا على حسم أمرها في وجهة حسنة .
وقد وافقت هيلْدا براندا على أمل السخرية من النسيان ، واتفقت مع موظف التلغراف في فونسيكا ليوصل رسائلها بأقصى قدْر من الكتمان ، ولذا كان يأسها مريرا حين عَلِمَت أن فرْمينا داثَا قد صدَّت فلورنْتينوأَريثَا لأن هيلْدا براندا كانت تملك رؤية كونية للحُب ، وتُفكر أن ما يطرأ على حبٍّ يؤثر على جميع غراميات العالم بأسره .
ولكنها لم تتخلَ عن مشروعها ، ذهبت بجرأة سببت لفرْمينا داثَا أزمة رعب الى مكتب البريد بغرض كسب جميل فلورنْتينوأَريثَا ، ما كان لها أن تتعرف عليه إذ لم يكن فيه أي مَلْمَح من الصورة التي رسمتها له في خيالها من خلال فرْمينا داثَا ، وللوهلة الأولى رأت أنه يستحيل أن تكون ابنة عمتها قد أوشكت على الجنون في سبيل ذلك الموظف الذي لا يكاد يلفت الانتباه ، والذي له مَلامح كلب مَضْروب بالعصا بملابسه التي كملابس حاخام منكوب وأساليبه غير القادرة على إثارة قلب أحد ، لكنها ما لبثت أن نَدِمَت لهذا الانطباع الأول عندما وضع فلورنْتينوأَريثَا نفسه في خدمتها بلا أية شروط وحتى دون أن يعرف من تكون ، ولم يعرف ذلك أبدا ، ما كان لأحد أن يفهمها مثله فلم يطلب منها الإفصاح عن هويتها كما لم يطلب أي عنوان ، ووضع حلا بمنتهى البساطة ، عليها أن تمر بمكتب التلغراف مَساء كل أربعاء ليسلمها الردود باليد ولا شيء سوى ذلك .
وعندما قرأ رسالة هِيلْدا براندا المكتوبة سألها إن كانت تُوافِق على تعديل يقترحه فوافقت ، فكتب فلورنْتينوأَريثَا بعض التعديلات بين السطور ثم شطَبها وأعاد كتابتها حتى لم يعُد لديه فراغ بين السطور ، وأخيرا مزق الورقة وكتب رسالة مختلفة تماما بدت لها مثيرة .
وعندما خرجت هيلْدا براندا من مكتب التلغراف كانت على حافة الدموع ، وقد قالت لفرْمينا داثَا : إنه قبيح وكئيب ، لكنه ينضح حُبّاً .
وكان أكثر ما لفت انتباه هيلْدا براندا هو عزلتة ابنة عمتها وقد قالت لها أنها تبدو كعانس في العشرين من العُمُر ، فهيلْدا براندا المعتادة على أُسرة كثيرة العدد وموزعة في بيوت لا أحد يعرف بالتحديد عدد الذين يعيشون فيها ولا من هم الذين سيتناولون الطعام في كل وجبة لم تستطع أن تتصور فتاة في مثل سنها تحجز نفسها في الحياة الخاصة .
وهكذا كانت فرْمينا داثَا ، فمنذ استيقاظها في السادسة صباحا وإلى أن تطفئ نور حجرة النوم كانت تكرس نفسها لإضاعة الوقت ، فالحياة تُفرَض عليها من الخارج أولا ومع صياح الديكة الأولى يوقظها بائع الحليب بمِقْرَعة الباب ، ثم تدق بائعة السمك على صندوق أسماك الأبرميس التي ما زالت تحتضر فوق فَرشَة من الأعشاب البحرية ، وتأتي التشكيلة الفاخرة من خضروات بساتين ماريا السفلى وفواكه سان خاثينتو ، بعد ذلك وطوال النهار يَقْرع الجميع الباب ، المتسولون بائعات اليانصيب راهبات الإحسان ومشتري القناني الفارغة ، ومشتري الذهب المُكَسَر ومشتري ورق الجرائد والغجريات المُزيفات اللاواتي يقرأن الحظ في أوراق اللعب وفي خطوط الكف وفي بقايا القهوة وفي ماء الجَفنَة .
كان الأسبوع يمر على غالا بلاثيديا وهي تفتح الباب وتُغلِقه لتقول : لا عُد في يوم آخر .
أو لتصرخ من الشُرْفَة في مزاج مُعكَّر : أن توقفوا عن الإزعاج ، اللعنة لقد اشترينا كل ما نحتاجه .
كانت قد حلت محل العمَّة أسْكولا أَسْتيكا بحماسة شديدة وظرافة كبيرة حتى أن فرْمينا داثَا كانت تُخطئ فتظنها العمَّة وتحبها على أنها كذلك ، كانت مسكونة بهواجس عبدة ، فما أن تجد لحظة فراغ حتى تمضي الى غرفة الأشغال لتكوي الملابس البيضاء وتتركها على أحسن حال ، وتحْفَظها في الخزائن مع أزهار الخُزامة ، ولم تكن تكوي وتطوي ما كانت قد غسلته فقط وإنما كذلك الملابس التي فقدت رونقها لقلة الاستخدام ، وبالاهتمام ذاته كانت تحافظ على ملابس فرْمينا سانجيت والدة فرْمينا المتوفاة منذ أربعة عشر عاما خلت .
لكن فرْمينا داثَا هي التي اكانت تتخذ القرارات ، فهي من يؤمر بإعداد ما يجب للطعام وما يجب إعداد شِرائه وما يجب عمله في كل حالة ، وبهذا كانت تُقرِر مسار حياة بيت لا يوجد فيه في الواقع ما يجب تقريره ، فبعد أن تنتهي من تنظيف الأقفاص ووضع الطعام للعصافير والتأكد من أن الأزهار ما عادت بحاجة لشيء تصبح دون اتجاه ، وبعد طردها من المدْرسة كثيرا ما كانت تبقى نائمة منذ القيلولة ولا تستيقظ حتى اليوم التالي ، ولم تكن دروس الرسم إلا وسيلة مسَلِّية أخرى لإضاعة الوقت .
كانت علاقتها بأبيها خالية من العواطف منذ نفي العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ، لكنهما وجدا سبيلا الى العيش معاً دونما عراقيل ، فحينما تستيقظ يكون قد خرج الى أعماله ، ونادرا ما كان يتخلف عن طقس الغداء مع أنه لم يكن يأكل شيئا تقريبا إذ كان يكتفي بالمُقَبلات والأصناف الجليقية الخفيفة التي تُقدَم في مقهى الباروكية ، ولم يكن يتناول العشاء أيضا ، كانوا يتركون له حصته من العشاء على المائدة في صحن واحد مغطى بصحن آخر رغم معرفتهم بأنه لن يأكلها حتى اليوم التالي بعد إعادة تسخينها على الفطور ، وكان يعطي ابنت النقود اللازمة للنفقات مرة كل أسبوع ، ويحسب تلك النقود جيدا ، وكانت تتصرف بها بصرامة ، لكنه كان يلَبّي عن طِيب خاطر أي طلب تطلبه لِنَفَقات طارئة ، لم يساومها على قرْش في يوم من الأيام ولم يطلب منها بياناً بالحساب يوما ، لكنها كانت تتصرف وكأنها ستقدم كشفاً بالحساب أمام محكمة قدسية .
لم يُحَدِّثها أبدا عن طبيعة أعماله وحالتها ، كما لم يرافقها لتتعرف على مكاتبه في الميناء تلك التي في موقع محضور على الآنسات دخوله حتى وهن بصحبة آباائهن .
ولم يكن لورينثو داثَا يرجع الى بيته قبل الساعة العاشرة لَيلاً وهي ساعة حظر التجول في مراحل الحرب الأقل خطراً ،و كان يبقى حتى ذلك الحين في مقهى الباروكية يلعب كل شيء لأنه كان متخصصاً في جميع ألعاب الصالونات ومُعلِّماً جيدا لهذه الألعاب أيضا ، وكان يعود دوما الى بيته في حالة من الاتزان العقلي دون أن يوقظ ابنته رغم أنه كان يتناول أول كأس من خمر اليانسون عند استيقاظه ويتابع مَضْغ عقب سيجاره المنطفئ وشُرْب عدد من الكؤوس المتفرقة طوال النهار ، لكن فرْمينا داثَا أحست بدخوله في إحدى الليالي ، سَمِعت وقع خطواته كخطوات قوزاقي على الدرج ولهاثه الضخم في ممر الطابق الثاني وضرباته بكف يده على باب غرفة النوم ، فتحت له الباب ، وفزعت لللمرة الأولى من عينه المنحرفة وكلماته المضطربة .
قال لها : لقد انهَرنا ، إنه الانهيار الكامل وها أنتِ ذي قد علمتِ .
كان ذلك هو كل ما قاله ولم يعُد لقول ذلك أبدا ، ولم يحدث ما يشير الى أنه قال الحقيقة ،.
لكن فرْمينا داثَا وعت بعد تلك الليلة أنها وحيدة في الدنيا كانت تعيش على أحد هوامش المجتمع ، فصديقاتها القديمات في المدْرسة كنَّ في سماء محرمة عليها ، وقد أصبح الأمر أكثر صعوبة بعد فضيحة طردها ، لكنها لم تكن بمثابة جارة لجيرانها أيضا ، لأن هؤلاء تعرفوا عليها بلا ماضٍ وبزي مدْرسة ظهور العذراء المقدسة ، أما عالم أبيها فكان عالم التُجّار وحمّالي السفن ، عالم لاجئي الحروب في وَكْر مقهى الباروكية العام ، عالم رجال متوحدين .
لقد خففت دروس الرسم من عزلتها في السنَة الأخيرة ، لأن المعلمة كانت تفضل الدروس الجماعية وقد اعتادت أن تأتي معها بتلميذات أخريات الى حجرة الخياطة ، لكنهن فتيات من أوساط اجتماعية مشوشة وغير محددة ، لم يكنَّ بالنسبة لفرْمينا داثَا أكثر من صديقات مستعارات ينتهي تأثيرهن مع انتهاء كل درْس .
أرادت هيلْدا براندا أن تفتح البيت ، أن تُهَوِّيه أن تأتي بالموسيقيين والألعاب النارية وقلاع البارود من عند أبيها وإقامة حفل رقص كرنفالية يقوض عصفها حالة ابنة عمتها المعنوية المَنخورة ، لكنها سرعان ما تنبهت الى أنْ نواياها غير مُجْديَة والسبب بسيط ، لا يوجد من يشارك في الحفلة .
وكانت هيلْدا براندا على أي حال هي التي وضعتها في الحياة ، ففي المَساء وبعد دروس الرسم كانت ترافقها الى الشارع للتعرف على المدينة ، وقد أَرَتْها فرْمينا داثَا الطريق الذي كانت تقطعه يوميا مع العمَّة أسْكولا أَسْتيكا ، ومِقعد الحديقة حيث كان فلورنْتينوأَريثَا يتظاهر بالقراءة لينتظرها والأزقة التي كان يلاحقها فيها ومَخابئ الرسائل والقصر المشؤوم الذي كان سجن سانتوفيثينو فيما مضى وتحول الى مدْرسة ظهور العذرا المقدسة التي تكرهها من أعماق روحها .
صعدتا الى رابية مقبرة الفقراء حيث كان فلورنْتينوأَريثَا يعزف الكمان حسب اتجاه الريح لتسمعه وهي في الفراش ، ومن هناك رأتا المدينة التاريخية بكاملها والسقوف المهمشة والجدران المتآكلة وأنقاض الحصون بين الأجمات والجزر المتناثرة في الخليج وأكواخ البؤس حول المستنقعات والكاريبي الرحب .
في ليلة عيد الميلاد ذهبتا الى القُدّاس في الكاتدرائية ، وجلست فرْمينا في المكان الذي تصلها فيه فلورنْتينوأَريثَا على أحسن وجه ، ورأت ابنة خالها المكان الدقيق الذي رأت فيه لأول مرة عن قرب عينَيه المُرتعبتين في ليلة كهذه الليلة .
وغامرتا بالذهاب وحدهما الى زُقاق الكَتَبَة العُموميين ، واشترتا الحلوى وتوقفتا في دكان الأوراق السحرية ، وأرت فرْمينا داثَا ابنة خالها المكان الذي اكتشفت فيه فجأة أن حبها لم يكن أكثر من سراب ، ولم تنتبه هي نفسها الى أنْ كلخطوة خَطَتْها من البيت الى المدْرسة وكل مكان في المدينة ، كل لحظة من ماضيها القريب ما كان لها من وجود إلا بفضل فلورنْتينوأَريثَا ، ولفتت هيلْدا براندا انتبهها الى ذلك ، لكنها لم توافق على الأمر لأنها لم تقبل يوما حقيقة أن فلورنْتينوأَريثَا بخيره أو شره هو الشيء الوحيد الذي حدث لها في الحياة .
في هذه الأيام جاء المدينة مصور فوتوغرافي بلجيكي ، وأقام إستوديو تصويره في أعالي زُقاق الكَتَبة ، وانتهز كل قادر على الدفع الفرصة لِيلتقط صورة .
وكانت فرْمينا داثَا وهيلْدا براندا من الأوائل ، أفرغتَا خزانة ملابس فرْمينا سانجيت واقتسمتَا أزهى الملابس والمِظلات وأحذية الاحتفالات والقُبعات ، وارتدتَا ملابس سيدات كانت سائدة منذ نصف قرن ، ساعدتهما غالا بلاثيديا على شد أحزمة الخصر وعَلَّمَتْهُما كيف تتحركان في هياكل التنانير الداخلية المصنوعة من الأسلاك ، وكيف تلبسان القُفّازات وتُزرران الأحذية ذات الكعوب العالية .
وفضلت هيلْدا براندا قُبعة عريضة الحواف مُزينة بريش نَعام يتدلى على ظهرِها ، ووضعت فرْمينا قُبعة أكثر حداثة مُزينة بفواكه جصية ملَونة وأزهار كريلونينا ، ثم ضحكتَا لِمظهرهما عندما رأتَا في المرآة أنهما تشبهان صور الجدات ، وانطلقتا سعيدتين ضاحكتين ليلتقطا صورة عمرهما .
رأتهما غالا بلاثيديا وهما تجتازان الحديقة وقد فتحتا مظَلَتَيهما مستندتين كيفما اتُفِق على كعوب أحذيتهما ودافعتَين تنانيرهما المُكَشكَشَة مع جسديهما في مشية كمشية الأطفال فباركتهما كي يساعدهما الله في صورهما .
كانت هناك جلَبة مقابل استوديو البلجيكي إذ كان يلتقط صوراً لبينيثيتينو الذي كسب في تلك الأيام بطولة الملاكمة في بَنَما ، كان يرتدي سروال الملاكمة والقُفازات ويضع التاج على رأسه ، ولم يكن تصويره بالأمر السهل إذ كان عليه أن يقف بوضعية الهجوم لمدة دقيقة وأن يتنفس أقل ما يمكن ، لكنه ما أن يتخذ وضعية الاحتراس حتى ينطلق أنصاره المتعصبون بالتصفيق والهتاف ، فلا يستطيع مقاومة إغراء إسعادهم بعرض فنونه .
وعندما جاء دور الفتاتَين كانت السماء قد تلبدت بالغيوم وبدا أن المطر سيهطل حتماً ، لكنهما سمحَتا للمصور بتعفير وجهيهما بالنشاء واستندتا الى عمود رُخامي بشكل طبيعي ، وتمكَنتا من الوقوف دون حراك لوقت أطول من المعقول بكثير ، وكانت صورة خالدة .
عندما توفيت هيلْدا براندا وهي على مَشارف المائة من عمرها في مزرعتها المسماة فلوريس ديماريا وجدوا نسختها من الصورة في خزانة مخْدعِها المقفلة ما بين ثَنايا شراشف معطَرة الى جانب بقايا رسالة مَحَتْها السنون ، وقد احتفظت فرْمينا داثَا بنسختها لسنوات طويلة في الصفحة الأولى من ألبوم عائلي ، حيث اختفت دون أن يعرف أحد كيف أو متى ، ووصلت الى يَدَي فلورنْتينوأَريثَا إثر سلسلة من المُصادفات التي لا تُصدَّق بعد أن تجاوز كِلاهما السبعين .
كانت الساحة المقابلة لزُقاق الكَتَبة تغُصّ بالنساء حتى الشُرُفات عند خروج فرْمينا وهيلْدا براندا من استوديو البلجيكي ، لقد نسيَتا أن وجهيهما أبيض بالنشاء وشفتيهما مطليتان بمرهَم له لون الشوكولاتة وأن ملابسهما لا تناسب السعة ولا الحِقبة الحالية ، واستقبلهما الشارع بفَيض من السخرية ، فانزَوَتَا وحاولتَا الهرب من الاستهزاء العام حين شقت العربة التي يقودها جوادان أشْقَران ذهبيان طريقها وسَط الحشد ، فتوقفت السخرية وتفرقت الجموع المعادية .
لن تستطيع هيلْدا براندا أن تَنسى أبدا رؤيتها الأولى للرجل الذي ظهر على رِكاب العربة بقُبعته الملساء وسُترته الباروكار وحركاته الماهرة وعذوبة عينيه وسُلطة حضوره ، ورغم أنها لم تكن رأته من قبل إلا أنها عرفته في الحال .
كانت فرْمينا داثَا قد حدَّثتها عنه ، فعلت ذلك مُصادفة وبِلَا أية مصلحة ، في مَساء يوم من أيام الشهر الماضي حين لم تشأ المرور قرب بيت الماركيز دي كاس ديلويرو لأن عربة الخيول الذهبية كانت تقف أمام الباب ، وأخبرتها من هو صاحب العربة وحاولت أن تشرح لها سبب نفورها دون أن تقول لها كلمة واحدة عن طلبه الزواج منها .
كانت هيلْدا براندا قد نَسِيَته ولكنها عندما تعرفت عليه وهو عند باب العربة وكأنه طيف من حِكاية خيالية ، إحدى قدمَيه على الأرض والأخرى على رِكاب العربة ، لم تستطع أن تفهم أسباب نفور ابنة عمتها منه .
- اصعدَا من فضلكما
قال لهما الدكتور خوفينال أُورْبينو .
- سأُوصلكما حيث تأْمُران .
بدأت فرْمينا داثَا القيام بحركة مُبهمة لكن هيلْدا براندا كانت قد وافقت .
أنزَل الدكتور خوفينال أُورْبينو قدمه الى الأرض وساعدها على الصعود الى العربة بأطراف أصابعه وهو لا يكاد يلمسها ، وحين لم تجد فرْمينا مَخْرَجاً صعدت وراءها بوجه يتقد حرجاً .
كان البيت يبعد أربع كوادرات فقط ولم تنتبه الفتاتان الى أنْ الدكتور أُورْبينو قد اتفق مع الحُوذي ، ولكن لا بد أن الأمر كذلك لأن العربة استغرقت أكثر من نصف ساعة في الوصول ، كانتا تجلسان على المِقعد الرئيسي وجلس هو مقابلهما مولِياً ظهره لاتجاه سير العربة .
التفتت فرْمينا بوجهها نحو النافذة وغَرِقت في الفراغ ، أما هيلْدا براندا فكانت مفتونة وكان الدكتور أكثر فتنة بافتتانها وما أن انطلقت العربة حتى أحست برائحة جلْد المَقاعد الطبيعي الدسمة ، وحميمية العربة من الداخل فقالت : أنها تراها مكاناً مناسباً للعيش فيه .
وسرعان ما أَخَذَا يضحَكان ويتبادلان المُزاح كصديقَين قديمين ، وعَرَّجَا على لعبة كلمات ذات رطانة بسيطة تتلخص بإدخال مقطع صوتي متوافق بين كل مَقطعَين ، كانا يتظهران بالاعتقاد أن فرْمينا لا تفهمهما رغم معرفتهما بأنها ليست فاهِمَة فحسب بل ومُومُنْصِتةً إليهما أيضا ، ولذا كانا يتابعان اللعب ، وبعد هُنَيْهة من الوقت وكثير من اللعب اعترفت هيلْدا براندا بأنها ما عادت تحتمل الآلام التي يسببها لها الحذاء .
فقال الدكتور أُورْبينو : الأمر في غاية البساطة هَلُمّي لنرى من ينتهي أولا .
وبدأ بحل رباط حذائه ، وقبِلَت هيلْدا براندا التحدي .
لم يكن الأمر سهلا لأن مِشَد الأسلاك ما كان يسمح لها بالانحناء ، لكن الدكتور أُورْبينو تأخر متعمدا الى أنْ أَخرجت حذاءها من تحت التنورة بضحكة ظافرة وكأنها اصطادت الحذاء لتوها من بِرْكة راكدَة ، عندئذٍ نظرَا معاً الى فرْمينا ورأيَا بروفايل وجهها أكثر حدة من أي وقت آخر على خلفية المَساء القائظ .
لقد كانت غاضبةً ثلاثاً ، للوضع الغير اللائق الذي هي فيه ، ولِسُلوك هيلْدا براندا الشائن ، ولِيَقينِها بأن العربة تجول على غير هدى لأتأخير الوصول .
لكن هيلْدا براندا كانت مُنْفَلتة من عقالِها وقد قالت : لقد أدركت الآن أن ما يُزعجني ليس الحذاء وإنما هذا القفص من الأسلاك .
وأدرك الدكتور أُورْبينو أنها تعني التنورة الداخلية ، فأمسك بالسانحة على الفور وقال : الأمر في غاية البساطة اخلعيها .
وبحركة شَعوذة سريعة أَخرج منديلا من جيبه وعصب عينيه قائلا : أنا لا أرى .
أبرزت العصابة نقاء شفتَيه بين اللِحْيَة المستديرة السَوداء والشارب ذي الطرفَين المدببَين ، وأحست هي بارتعاشة ذعر تهز كيانها ، فنظرت الى فرْمينا ولم تجدها غاضبة الآن وإنما مُرتعبة من أن تكون هي على استعداد لخلع تنورتها ، فاتخذت .
هيلْدا براندا وَضعاً جدياً وسألَت بإشارات من يديها : ماذا نفعل ؟
وأجابتها فرْمينا داثَا بالطريقة ذاتها : بأنها ستُلقي بنفسها من العربة إذا هم لم يذهبوا الى البيت مباشرةً .
قال الطبيب : إنني أنتظر .
فقالت : هيلْدا براندا : بإمكانك أن ترى . عندما نزع الدكتور خوفينال أُورْبينو العصابة عن عينَيه وجدها قد تغيرت ، وأدرك أن اللعب قد انتهى وأنه انتهى بصورة سيئة ، وبإشارة منه دار الحُوذي بالعربة دورة كاملة وقرعت جميع الكنائس نَواقيسها داعيةً الى صلاة التبشير .
نزلت هيلْدا براندا مسرعةً ومضطربة بعض الشيء لأنها أغضَبَتْ ابنة عمتها ، وودعت الطبيب بمصافحة سطحية ، وفَعلَت فرْمينا مثلها ولكن حين حاولت سحب يدها بالقُفاز الأمْلَس ضغط الدكتور أُورْبينو بقوة على إصبعها الوسطى قائلا : ما زلتُ أنتظر رَدَّكِ .
حينئذٍ سحبت فرْمينا داثَا يدها بقوة وبقي القُفاز معلقا بيد الطبيب ، لكنها لم تنتظر لاستعادته ، وذهبت الى النوم دون أن تأكل ، أما هيلْدا براندا فبعد أن تناولت العشاء في المطبخ مع غالا بلاثيديا دخلت الى حجرة النوم وكأن شيئا لم يحدث ، وغلَّفت بظرافتها الطبيعية على أحداث المَساء ، ولم تخفِ حماسها للدكتور أُورْبينو وأطرت على أناقته ولطْفه .
ولم تُعقب فرْمينا على كلامها بشيء ، ولكنها كانت محتاطة للمُناكَفَة ، واعترفت هيلْدا براندا أنها في لحظة معينة حين عصب الدكتور أُورْبينو عينيه ورأت بريق أسنانه المنتظمة بين شفتيه الورديتين أحست برغبة لا تقاوَم لأكله بالقُبلات .
فانقلبت فرْمينا داثَا نحو الجدار ووضعت للحديث حدا دون رغبة في الإساءة ، بل إنها كانت تضحك ومن أعماق قلبها وقالت : يا لكِ من عاهرة .
نامت متقافزة وكانت ترى الدكتور أُورْبينو في كل مكان ، رأته يضحك ويغني ويطلِق شرر كبريت من أسنانه وعيناه معصوبتان ويسخر منها برطانة لا قاعدة لها في عربة مختلفة كانت تصعد نحو مقبرة الفقراء .
واستيقظت قبل الفجر بكثير مُنْهَكَة وبقيت مستيقظة وعيناها مغمضتان تُفكر بالسنوات الطويلة التي ما زال عليها أ، تعيشها ، بعد ذلك وفيما هيلْدا براندا تستحم كتبت رسالة بأقصى سرعة وطوتها بأقصى ودَسَّتْها بأقصى سرعة في مغلف وقبل أن تخرج هيلْدا براندا من الحمام بَعَثتْها مع غالا بلاثيديا الى الدكتور خوفينال أُورْبينو .
كانت واحدة من رسائله وقد كتبت له عليها : أجل يا دكتور ، كلِّم والْدي .
دون أي حرف أكثر أو أقل .
حين عَلِم فلورنْتينوأَريثَا أن فرْمينا داثَا ستتزوج من طبيب نبيل وثري مُتعلِّم في أوربا وذي شُهرة فريدة في مثل سنِّه ، لم تكن هناك قوة قادرة على إخراجه من مذلَّته ، وقد فعلت ترانسيتو أَريثَا أكثر مما هو ممكن لتعزيته بأساليب كأساليب عروس عندما رأت أنه فقدَ النطق والشهية ، وأنه يقضي الليل مسْهدَا يبكي دون راحة الى أنْ تمكن بعد أسبوع من جعله يأكل ، حينئذٍ تحدثت الى ليون الثاني عشر لوايثَا الحي الوحيد من الأخوة الثلاثة ، ورجته دون أن توضح الأسباب أن يقدم عملا لابن أخيه ليقوم بأي شيء في المؤسسة البحرية ، على أن يكون ذلك فثي أي ميناء منسي وسط الغابات من موانئ نهر مَجْدلينا حيث لا وجود لبريد ولا لتلغراف ، وحيث لا يلتقي بأحد ينقل إليه شيء عن مدينة الضياع هذه .
لم يمنحه العم عملا احتراما لِزوجة التي لم تكن تحتمل مجرد وجود البندوق ، لكنه حصل له على وظيفة عامل تلغراف في فياديليفَا ، مدينة الأحلام الواقعة على بُعد أكثر من عشرين مرحلة والتي ترتفع حوالي 3000 متر فوق مستوى شارع لاس فنتاناس .
لم يعِ فلورنْتينوأَريثَا أبدا تلك الرحلة العلاجية وسيتذكرها دوما مثل كل ما حدث له في تلك الفترة من خلال زجاج محنته المُغَبَّش .
عندما استلم برقية التعيين في المنصب لم يفكر بأخذها على مَحْمل الجِد ، لكن لوتاريو توغوت أقنعه بحجج ألمانية أن مستقبلا باهراً ينتظره في الإدارة العامة وقال له : أن التلغراف مهنة المستقبل .
وأهداه زوجاً من القُفازات الملْساء ومعطفاً ذا ياقة من الفرو في شهور كانون الجليدية في بافيرا ، وأهداه العم ليون الثاني عشر بدلتَين وجزمة واقية من المطر كانت لشقيقه الأكبر ، وقدم له بطاقة الرحلة مع قُمرة في السفينة التالية .
قَيَّفَت ترانسيتو أَريثَا الملابس على مقاس ولدها الذي كان أقل بدانة من أبيه وأقصر بكثير من الألماني ، واشترت له جوارب صوفية وسراويل داخلية طويلة كي لا ينقصه شيء لمواجهة قسوة البرد ، وكان فلورنْتينوأَريثَا المُتصلِّب من شدة المعاناة يساعد للإعداد في الرحلة كما بإمكان ميت أن يساعد في مَراسم جنازته .
لم يقُل لأحد أنه ذاهب ولم يودع أحدا واحتفظ بالكتمان الحديدي الذي لم يكشف فيه لأحد سوى أمه سر عاطفته المقهورة ، ولكنه في عشية السفر اقترف حماقة قلبية أخيرة كان يمكنها أن تكلفه حياته .
ارتدى في منتصف الليل بدلة الآحاد وعزف وحيدا تحت شُرْفة فرْمينا داثَا فالس الحب الذي وضعه لها ، والذي لا يعرفه أحد سواهما الاثنين ، وكان خلال ثلاث سنوات شعار توافقهما المتناقِض ، عزفه مدمدماً بكلمات الأُغنية على الكمان الغارق بالدموع وبإلهام زخم جعل كلاب الشارع تبدأ بالعواء منذ النغمات الأولى ، ثم تَلَتْها كلاب المدينة بأَسرها ، ولكنها أخذت تصمت بعد ذلك شيئا فشيئا في أُفُق الموسيقى الى أنْ انتهى الفالْس بِصمْت ما ورائي ، لم تُفتَح الشُرْفة ، ولم يُطِل أحد الى الشارع حتى ولا الحارس الليلي الذي يهرع عادةً بفانوسه محاولاً التحضُّر بالاستماع الى فُتات موسيقى السيرنادات الليلية .
لقد كان ذلك الفصل رقية تفريج عن فلورنْتينوأَريثَا ، لأنه ما أن خبَّأ الكمان في علبته وابتعد في الشوارع الميتة دون أن يلتفت الى الوراء حتى فقدَ الشعور بأنه سيغادر في صباح اليوم التالي وانتابه إحساس بأنه قد غادر منذ سنوات طويلة وبِقرار قاطع ألّا يعود أبدا .
كان قد أعيد تعميد السفينة وهي واحدة من ثلاثة سفن متشابهة لدى شركة الكاريبي للملاحة النهرية باسم مؤسس الشركة بيوس الخامس لوايثَا، كانت عبارة عن بيت عائم من طابقَين خشبيَين فوق هيكل من الحديد ، عريض ومستوٍ وبغاطس حده الأقصى خمسة أقدام يتيح للسفينة التغلُب على أعماق النهر المتفاوتة على أحسن وجه .
السفن الأقدم كانت بُنِيَت في سِينسِيناتي في منتصف القرن حسب النموذج الخُرافي للسفن التي كانت تقوم بالعبور من نهر أهْيو الى المِسِسيبي ، وكان لها في كل جانب عجلة دفع تتحرك بطاقة مرْجَل بخاري وقوده الحطب ، ومثل هذه كانت سفن شركة الكاريبي للملاحة النهرية ، ففي الطبقة السفلية وعلى مستوى الماء تقريباً هناك الآلات البخارية والمَطابخ والحضائر الكبيرة حيث كان البحّارة يُعَلِّقون شِباك نومهم متقاطعة على عدة مستويات ، اما الطابق العلوي فكانت مقصورة القيادة وقُمْرات القبطان وضباطه وصالة اللهو وصالة الطعام حيث كان يُدعى المُسافرون المرموقون مرة واحدة على الأقل للعشاء ولعب الورق ، أما في الطبقة الوسطى فكانت توجد سة قُمرات من الدرجة الأولى على جانِبَي ممر يُستخدم كصالة طعام عادية ، وهناك في المُقدمة صالة جلوس مفتوحة فوق النهر لها شُرْفة خشبية مُزخرفة وأعمدة من الحديد حيث كان المُسافرون العاديون يُعلِّقون شباك نومهم ليلا ، وخلاف للنماذج القديمة لم تكن لهذه السفن عجلاتَا دفع على الجانبَين وإنما عجلة واحدة في المؤخرة ذات رياش أفقية تحت مراحيض طبقة المُسافرين الخانقة .
لم يتكلف فلورنْتينوأَريثَا مشقَة استكشاف السفينة فور صعوده الى مَتْنِها في الساعة االسادسة من صباح أحد حُزَيراني كما يفعل عادةً من يسافرون لأول مرة بدافع الغريزة ، وقد وعى الحالة التي هو فيها عند الظهيرة فقط .
وبينما كانت السفينة تُبْحِر مقابل داسكاراكالامار حين ذهب للتبول في المؤخرة ورأى من فتحة المرحاض العجلة العملاقة ذات العوارض الخشبية تدور تحت قدَمَيه بِقَعقَعة بُركانية وزَبَد وبخار ملتهبَين ، لم يكن قد سافر أبدا من قبل، كان يحمل صندوقاً من الصفيح فيه ملابس السَهَب والروايات المصورة التي كان يشتريها في أجزاء شهرية ، وكان يُخيطها بنفسه مع أغلفة من الورق المقوى وكتُب أشعار الحب التي يحفظها ويُلقيها عن ظهر قلب والتي توشك أن تتحول الى رماد لكثرة ما أعاد قراءتها ، كان قد خلَّف الكمان الذي يرتبط الى حد بعيد بنَكْبته ، لكن أمه أجبرته على حمل صُرة السفر التي تَضُم عُدة نوم شعبية وعملية ، وسادة ودِثار ومَبْوَلة من التُتياء وكُلَّة مُخَرَمَة للحماية من البرغش ، كل هذا مربوط بحصيرة ملفوفة مربوطة بحَبْلَينِ لتعليقها كأرجوحة نوم للطوارئ .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا يريد حمْلها فقد ظن أنها لن تفيده بشيء في قُمرة مزودة بأَسِرَّة مستوية ، ولكن كان عليه أن يشكر لأمه حُسن تدبيرها منذ الليلة الأولى ، وفعلا فقد صعد في اللحظة الأخيرة الى المرْكب مُسافر يرتدي ملابس بروتوكولية كان قد وصل ذلك الصباح في سفينة قادمة من أوربا وكان يرافقه حاكم المقاطعة شخصياً وهو يريد متابعة الرحلة فورا مع زوجته وابنته وكذلك خادمه الذي يرتدي زي الخَدَم والصناديق السبعة ذات الحواشي المُذَهَّبة والتي صعدت بمشقة على السلالم ، وتمكن القبطان وهو مارد من كوراثو من إثارة الشعور الوطني بين الكِريوليين لتأمين راحة المُسافر الطارئ ، وشرح لفلورنْتينوأَريثَا بمزيج من القشْتالية والبابيمنتو أن الرجل البروتوكولي هو الوزير المفوض الجديد لإنجلترا المُسافر الى عاصمة الجمهورية ، وذكَّره بأن تلك المملكة قد قدمت موارد حاسمة لاستقلالنا من الهيمنة الإسبانية ، وبناءً عليه فإن أية تضحية ستكون ضئيلة الشأن في سبيل أن تشعر عائلة رفيعة المقام وهي في بيتنا بأنها أحسن حالاً من بيتها ، وطبعاً تخلى فلورنْتينوأَريثَا عن قُمْرته .
لم يأسف لذلك في البدء إذ كان ماء النهر غزيرا في تلك الفترة من السنَة ، وكانت السفينة تُبْحر دون عوائق في الليلتَين الأوليتين ، .
كان أفراد طاقم السفينة يوزعون على المُسافرين بعد العشاء في الخامسة مَساءً نوعاً من الأَسِرَّة المَطْوية ، سطحها من قماش الخيم المَتِين وكان كل مُسافر يفتح سريره حيث يستطيع ويُجهِزه بالخرق التي في الصُرَّة سفره ثم ينصب فوقه الكُلَّة المُخَرَمة ، أما الذين يملكون أَراجيح نوم فكانوا يعلِّقونها في الصالون والذين لا يملكون شيئا ينامون على موائد صالة الطعام متدثرين بشراشف الطاولات التي لم تُستَبدل إلا مرتَين خلال الرحلة .
كان فلورنْتينوأَريثَا يمضي معظم الليل ساهراً متخيلاً أنه يسمع صوت فرْمينا داثَا في نسيم النهر البارد ، راعياً الوحدة بذكرياته مُستَمِعاً غناءً في لهاث السفينة المتقدمة بخطوات حيوان ضخم في الظلمات الى أن تظهر أولى البُقع الوردية في الأفق وينشق النهار الجديد فجأة على صحاري فسيحة ومستنقعات ضَباب ، وكانت الرحلة تبدو له حينئذٍ دليلا آخر على حكمة أمه ، وأحس بحماسة لتجاوز النسيان .
بعد ثلاثة أيام من المياه المواتية أصبح الإبْحار أكثر مشقة بين المصاطب الرملية المفاجئة وتعكر الماء الذي يخفي مدى عمق النهر ، أصبح النهر عَكِراً وصار يضيق أكثر فأكثر وسط غابة عظيمة من الأشجار المتشابِكة حيث كان يظهر من حين لآخر كوخ من القش الى جانب أكوام الحطب المُعدة لمراجل السفن ، ويبدو أن لغط الببغاوات وصياح القِردة اللامرئية كان يُفاقم من قيظ الظهيرة ، أما في الليل فكان لابد من ربط السفينة للنوم ، فيصبح مجرد كون المرء حياً حينئذٍ أمراً لا يُطاق ، فإضافة للحَر والبرغش تأتي روائح شرائح اللحم المملح المنشورة على دربزينات السفينة لتجف ، فكان معظم المُسافرين وخاصة الأوربيين منهم يغادرون نتانة القُمرات ويقضون الليل وهم يَذرَعون سطح المرْكب ويهشون ميع أنواع الهوام بنفس المناشف التي يمسحون بها العرَق المتواصل ، ويدركهم الصباح وهم مُنْهَكون ومتورمون بفعل اللسع .
وكان قد اندلع في تلك السنَة أيضا فصل جديد من الحرب الأهلية المتقطعة بين اللِبْرالِيين والمحافظين ، فاتخذ القبطان احتياطات شديدة ةالصَرامة لحفظ النظام الداخلي وأمن المُسافرين ، وفي محاولة لِمنع وقوع الأخطاء والاستفزازات حظر ممارسة التسلية المفضلة في رحلات ذلك الزمان ألا وهي إطلاق النار على التماسيح القابعة تحت الشمس على الضفاف ، وفيما بعد حين انقسم المُسافرون الى فريقَين متعاديَين أثناء إحدى المناقاشات قام بمصادرة أسلحة الجميع واعداً بكلمة شرف أن يعيدها عند انتهاء الرحلة ، كان صارماً في هذا الأمر حتى مع الوزير البريطاني الذي خرج منذ صباح اليوم التالي لبدء الرحلة بملابس الصيد حاملا غدارة احتياطية وبُندقية صيد بسبطانتَين من تلك المستخدمة في صيد النمور ، ثم أصبحت القيود أكثر تشدداً بعد اجتياز مَرْفَأ تينريفي حيث التقوا بمرْكب يرفع راية صفراء هي علامة الوباء ، ولم يحصل القبطان على أية معلومات حول تلك العلامة المُرعبة لأن السفينة الأخرى لم تُجِب على إشارتهم ، لكنهم التقوا في ذلك اليوم بالذات بسفينة أخرى مُحملة بمَواشٍ من جامايكا وأَعْلَمَتهم هذه بأن سفينة الراية الوبائية تحمل على متْنها مريضَين بالكوليرا وأن الوباء كان يُحدث أضراراً وخسائر في مجرى النهر الذي عليهم الإبحار فيه .
عندئذٍ مُنِعَ المُسافرون من مغادرة السفينة ليس في الموانئ التالية فحسب بل وفي الأماكن الغير المأهولة حيث كانوا يتوقفون للتزود بالحطب .
وهكذا اعتاد المُسافرون فيما تَبَقى من الرحلة حتى مَرفَأ النهاية والتي استمرت ستة أيام أخرى على عادات السجون ، ومن هذه العادات المشاهدة الضارة لرزمة من بطاقات الصور الجنسية الهولندية التي كانت تنتقل من يد الى أخرى دون أن يعلم أحد علم اليقين من أين أتت ، مع أن أي مُجرِب للسفر في النهر لم يكن ليجهل أنها لا تكاد تُشكل إلا عيِّنة من مجموعة القبطان الخُرافية .
ولكن حتى هذه التسلية التي لا أمل فيها انتهت الى مضاعفة السَأَم .
احتمل فلورنْتينوأَريثَا قسوة الرحلة بِصَبْر معدني ، كان يحزن أمه ويغيظ أصدقاءه ، لم يخالط أحدا ، وكانت الأيام بالنسبة له تمضي سهلة وهو جالس مقابل الدرابزين يراقب التماسيح الجاثمة تحت الشمس على الضفاف بأشْداق مفتوحة لاقتناص الفراشات ، ويتأمل قطعان مالك الحزين المفزوعة التي تنطلق فجأة من المستنقعات والأَطَم التي تُرضع صغارها من أثدائها الأمومية الضخمة وتفاجئ المُسافرين ببُكائها النسوي .
وفي أحد الأيام رأى ثلاثة أجساد آدمية تطفو في الماء ، كانت منتفخة وخضراء وفوق كل منها عدد من طيور الرخمة ، مر أولا جسدَا رَجُلَين أحدهما بلا رأس ، ثم جسد طفلة صغيرة السن راح شعرها المُفلَت كشعر مِيدوزَا يتموج متلوياً من أثر مخور السفينة في الماء ، لم يعرفوا أبدا لأنه لا سبيل الى معرفة إن كان هؤلاء من ضحايا الكوليرا أَم ضحايا الحرب ، لكن الرائحة النتنة لوَّثت ذكرى إن كانوا فرْمينا داثَا في ذاكرته .
هكذا كان دائما فأي حدث خيرا كان أَم شراً يُذَكِّره بها .
في الليل حين كانوا يربطون السفينة ويتمشى معظم المُسافرين دون عزاء على السطح ، كان هو يراجع عن ظهر قلب تقريباً الروايات المصورة تحت مصباح الكاربور في صالة الطعام ، وهو المصباح الوحيد الذي يبقى مُضاءً حتى الصباح ، وكانت المآسي التي قرأها مرات ومرات تستعيد سحرها حين يُستبدَل أبطالها المخيَلين بِمَعارفه في الحياة الواقعية ، ويحتفظ لنفسه ولفرْمينا داثَا بأدوار الحب المستحيل ، وفي ليالٍ آخرى كان يكتب لها رسائل مكروبة ما تلبث مقاطعها أن تتبدد في المياه الجارية دون توَقِف نحوها .
وهكذا كانت تمر أقسى الساعات عليه متقمصاً شخصية أمير خجول أو فارس عاشق أحيانا ومُلتَحِماً أحيانا أخرى بجلْده المكْوي كعاشق في رحلة نسيان الى أنْ تهب أول النسمات فينصرف الى النوم جلوساً على مقاعد .
توقف عن القراءة في إحدى الليالي أبكر من المعتاد وكان يتجه ساهياً الى دورات المياه حين فُتِح باب لدى مروره بصالة الطعام المُقفرة ، وأمسكت يد صقر بكُم قميصِه وأدخلته الى القُمْرة ، أحس بالكاد بجسد غير محدد السن لامرأة عارية في الظلام ، كانت مغطاة بِعرَق ساخن وتنفسها غير منتظم ، دفعته على ظهره فوق السرير وفكت أبزيم حزامه وحلت الأزرار وامتطته كَفارس وجردته من عذريته دون أمجاد ، سقطَا كِلاهما مُنْهَكَين في فراغ هوة فراغ بلا قرار ، لها رائحة مستنقع قُريدس وبقيت جاثِمَة فوقه لِهُنَيْهة بعد ذلك وهي تلهث دون هواء ، ثم لم يعُد لها وجود في الظلام .
قالت له : انصرف الآن وانسَ كل شيء ، فهذا لم يحدث أبدا .
كان الهجوم مُباغتاً وناجحا لا يمكن تصنيفه كحماقة مفاجئة مبعثها الضجر ، وإنما كثمرة خطة مُحكمة بكل مراحلها وبأدق تفاصيلها ، وضاعف هذا اليقين الجذاب من تلهف فلورنْتينوأَريثَا الذي أحس وهو في ذروة اللذَة باكتشاف لا يمكن تصديقه بل إنه رفض قبوله ، وهو أن حب فرْمينا داثَا الخادع يمكن استبداله بعاطفة دنيوية .
وهكذا كان أن صمم على كشف هوية مغتصبته الماهرة ، فلربما وجد في غريزتِهَا كفَهْدَة علاجا لِمحنته ، لكنه لم يتوصل إليها بل على العكس فكلما تعمق في التَحرّي كلما شَعَر بأنه يبتعد عن الحقيقة .
لقد حدث الهجوم في القُمْرة الأخيرة ، لكن هذه القُمْرة كانت متصلة بالقُمْرة قبْل الأخيرة بباب داخلي بحيث تصبح القُمْرتان معاً جناح نوم عائلي فيه أربعة أَسِرَّة ، وهناك كانت تسافر امرأتان شابتان وأخرى متقدمة في السن إلا إنها ذات مظهر حسن ومعهم طفل عمره بضعة شهور ، كُنَّ قد التحقن بالرحلة من برانكوديلوبَا وهو الميناء الذي يُحَمِّلون فيه بضائع ورُكّاب مدينة مانبوكس مذ أصبحت هذه المدينة على هامش طريق السفن البخارية بسبب أهواء النهر .
وكان فلورنْتينوأَريثَا قد دقق بهن كونهن يحملن الطفل في قفص عصافير ضخم ، كن يسافرن بملابس حديثة كتلك التي ترتديها المُسافرات في عابرات المحيط الضخمة ببطانات تحت التنانير الحريرية وياقات مُخَرمة وقُبعات عريضة الحواف مُزينة بزهور كِرولينا ، وكانت الشابتان تستبدلان زينتهما وملابسهما كلها عدة مرات في اليوم حتى بدا وكأنهما تحملان معهما جوهما الربيعي ، بينما المُسافرون الآخرون يختنقون في الحر ، وثلاثتهن كنَّ يَساريات في استخدام المِظَلات ومراوح الريش .
لم يستطع فلورنْتينوأَريثَا أن يحدد حتى نوع العلاقة التي تربطهن رغم كونهن دون شك من أُسرة واحدة ، لقد فكر أول الأمر بأن الكبرى هي أم الأخريَين ، لكنه أدرك فيما بعد أنها ليست كبيرة في السن بما يكفي لتكون كذلك ، ثم إنها ترتدي ملابس حداد لا تُشاطِرها إياه الأخريَيان ، ولم يتصور أن تكون إحداهن قد تجرأت على فعل فعلتها فيما زميلتاها نائمتان في السريرَين المجاورَين ، والافتراض الوحيد المعقول هو أنها استغلت فرصة عارِضة أو مُدبرَة بقيت أثناءها وحيدة في القُمْرة ، وتحقق من اثنتين منهن تخرجان أحيانا للاستمتاع بالبرودة حتى وقت متأخر فيما تبقى الثالثة لرعاية الطفل ، لكنهن في إحدى الليالي القائظة خرجن ثلاثتهن معاً برفقة الطفل النائم في قفص الخيزران المغطى بظِلة من نسيج شفاف .
ورغم اختلاط كل هذه المؤشِرات فقد تعجل فلورنْتينوأَريثَا الى استبعاد أن تكون كبرى الثلاث هي منفِذة الهجوم ، ثم برَّأ في الحال ساحة الصغرى أيضا التي كانت أجملهن وأجرأهن ، فعل ذلك دون مُبررات مقنعة ،ولأن مجرد رصده المتلهف للنساء الثلاث حثَه على الاقتناع برغبته الداخلية في أن العاشقة العابرة هي أم الطفل الحبيس في القفص .
ولقد فتَنَهُ هذا الافتراض الى الحد الذي جعله يفكر بها أكثر من تفكيره بفرْمينا داثَا دون أن يهتم بما كان واضحاً في أن تلك الأُم حديثة الولادة كانت تعيش لابنها فحسب ، لم يكن لها من العمر أكثر من خمس وعشرين سنَة وكانت نحيلة ومُذَهَبة ذات أجفان برتغالية تجعلها أكثر بُعداً ، وكان لأي رجل أن يكتفي بفُتات من حنانها الذي تُغدقه على ابنها ، فمنذ تناول طعام الفطور وحتى ساعة النوم كانت تهتم بشؤونه في الصالة فيما زميلتاها الأخريان تلعبان الدومينو الصيني ، وحين توفَّق الى تنويمه تعلِّق القفص من سقفه في أكثر الأماكن برودة على شُرْفة السفينة ، لكنها لم تكن تتخلى عنه حتى بعد أن ينام وإنما تهُز القفص مُتَرنِمةً بأغنيات العرائس فيما أفكارها تطير مبْتَعِدَة عن مصاعب الرحلة .
تشبث فلورنْتينوأَريثَا بأنها ستكشف نفسها عاجلا أَم آجلا ولو من خلال إيماءة بسيطة ، وصار يراقب حتى تبدلات تنفُّسها من خلال إيقاع القلادة الدينية التي تُعلِّقها فوق بلوزتها القطْنية الرقيقة ، مُدقِّقاً فيها دون تَسَتُّر من فوق الكتاب الذي يتظاهر بقراءته ، وارتكب الوقاحة المدروسة باستبداله مكانه في صالة الطعام ليجلس مقابلها ، لكنه لم يحصل على أدنى مؤشر يدل على أنها هي حقا من تملُك النصف الآخر من سره ، والشيء الوحيد الذيبقي له منها عندما نادتها زميلته الصغرى هو اسمها روسالبَا .
في اليوم الثامن أبحرت السفينة بصعوبة بالغة عبر مضيق عَكِر بين جرفَين من صخور رُخامية ، وبعد الغداء رست في بويرتوناريه حيث سينزل المُسافرون الذين سيُتابعون الرحلة نحو المناطق الداخلية من من مقاطعة إنْتوكيا وهي إحدى أكثر المقاطعات تأثُراً بالحرب الأهلية الجديدة .
كان الميناء مؤلفاً من نصف دَرزينة من أكواخ السعف وحانة خشبية سقفها من التوتياء ، تحرسه عدة دوريات من الجنود الحفاة وسيئي التسليح ، إذ كانت لديهم معلومات عن خطة أعدها المتمردون للسطو على السفن ، وفيما وراء البيوت ترتفع نحو السماء قمم مجموعة وعرة من الجبال ، عليها طريق ضَيق له شكل حَدْوَة الفرس منحوت على حافة الهاوية .
لم ينم أحد ممن على ظهر المَرْكِب نوماً مطمئناً لكن الهجوم المنتظَر لم لم يحدث أثناء الليل .
واستيقظ الميناء متحولاً الى مهرجان أحادي ، حيث الهنود الذين يبيعون تَمائم مصنوعة من عاجٍ نباتي وأكاسير للحب ووسائط للقوافل المتأهبة للانطلاق في صعود يستمر ستة أيام عبر غابات السحْلبيات في سلسلة الجبال المركزية .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد سَها وهو يتأمل عملية تفريغ السفينة على كواهل الزنوج ، رأى إنزال صناديق الخزف الصيني وآلات البيانو التي تُباع لِعاَزبات أَفيغادو ، ولم يدرك إلا متأخرا أن جماعة روسالْبَا هي بين المُسافرين الذين سيبقون على البر .
لقد رآهُن يمتطين البهائم من جانب واحد منْتعلات جزمات أَمَزونية وحامِلات مظَلات ذات ألوان مدارية ، وعندئذٍ خَطَا الخطوة التي لم يتجرأ عليها في الأيام الماضية ، حيا روسالْبَا بيده مُودعاً فردت عليه النساء الثلاث بطريقة واحدة وبأُلفة آلمَت أحشاءه لجَسارته المتأخرة ، رآهُن يَقُمْنَ بالاتفاف حول الحانة تتبعهن البغال المحمَّلة بالصَناديق وعُلب القُبعات وقفص الطفل ، ثم رآهُن بعد قليل يتسلقن حافة الجُرْف الجبلي وكأنهن صف من النِمال البغلية واختفَين من حياته .
حينئذٍ أحس أنه وحيد في الدنيا ، وجاءت الضربة القاضية من ذكرى فرْمينا داثَا التي بقيت كامنةً خلال الأيام الأخيرة ، كان يعلم أنها ستتزوج يوم السبت القادم في حفلة زِفاف صاخبة ،وكونه أَحبَّها وسيُحبها الى الأبد أكثر من أيٍّ كان لا يمنحه حتى الحق بالموت من أجلها ، والحسد الذي كان يُغرِقه حتى ذلك الحين بالدموع أصبح سيد روحه ، فأخذ يدعو الله أن يُنزل صاعقة العدالة الإلهية لِتصعَق فرْمينا داثَا حين تَهُمّ بقَسَم يمين الحب والولاء لِرجل لا يريدها زوجة له إلا لتكون حلية اجتماعية ، وكان يستغرق في رؤية العروس ، عروسه هو أو عروسة لا أحد مُلقاة فوق بلاط الكاتدرائية فيما أزهار البُرتقال تهطُل كالثلج مبللة بِنَدى الموت وتموج طرحتها فوق المرمر الجنائزي الذي يضم أربعة عشر مطراناً مدفونين مقابل المذبح الكبير ، ولكن ما أن ينتهي الانتقام حتى يندم لأفكاره الشريرة ، وعندها يرى فرْمينا داثَا وهي تنهض معافاة لِسواه ولكن حية ، لأنه غير قادر على تصور الدنيا بدونِهَا .
لم يعُد ينام ، وإذا كان يلتقط بضع لُقَيمات أحيانا فإنما يفعل ذلك لتوهمه بأن فرْمينا داثَا قد تكون معه على المائدة ، أو كي لا يمنحها شرف الصوم من أجلها ، وكان يعزي نفسه في بعض الأحيان بالاقتناع أنه لا بد لفرْمينا داثَا في نشوة حفلة الزِفاف أو في ليالي شهر العسل المحمومة من أن تُعاني ولو للَحظة ، لحظة واحدة على الأقل لحظة على أية حال حين ترفع الى وعيها شبح الخطيب المَخْدوع المُهان المَبسوق فتنهار سعادتها .
عشية الوصول الى ميناء كراكولي وهو المحطة النهائية للرحلة أقام القبطان حفل الوداع التقليدي بمشاركة أوركسرا آلات نفخية مؤلَّفَة من طاقم السفينة وبإطلاق ألعاب نارية من مقصورة القيادة .
كان وزير بريطانيا العظمى قد اجتاز الأوُديسا بصبر نموذجي مُتصيِّداً بآلة التصوير الحيوانات التي لم يتيحوا له قتلها ببندقية الصيد ، ولم تكن تمر ليلة دون أن يظهر في صالة الطعام بملابس الإتكيت ، لكنه خرج الى الحفلة النهائية بِزي ماكْتافيتش الإسكتلندي وعزف القِربة بمرح وعلَّم كل من رغب رقصاته الوطنية ، وقبل الفجر اضطروا لنقله محمولا الى قُمْرته .
أما فلورنْتينوأَريثَا الذي أضناه الألم فقد اتخذ ركناً منْعزلا على سطح السفينة حتى لا تصله أخبار الحفلة وغطى نفسه بمعطف لوتاريو توغوت محاولاً مقاومة قشعريرة عظامه ، كان قد استيقظ في الخامسة صباحاً كما يستيقظ المحكوم بالإعدام صباح يوم تنفيذ الحكم ، ولم يكن قد فعل شيئا طوال يوم السبت سوى تخيل كل طقس من طقوس زِفاف فرْمينا داثَا لحظة بلحظة ، وفيما بعد عند عودته الى البيت أدرك أنه كان قد أخطأ في التوقيت ، وأن كل شيء حدث بطريقة مختلفة عما تصوره ، وقد كان يتمتع بمزاج طيب جعله يضحك من أوهامه لكنه كان على أي حال يوم سَبْت عاطفي انتهى بِنوبة جديدة من الحُمَّا عندما هُيِّئَ له بأنها اللحظة التي يحاول فيها العريسان الهرب خفية من حفلة الزِفاف لِيستسلمَا الى لذائل الليلة الأولى ، وقد رآه أحدهم وهو يرتعش من الحُمَّا وأنذر القُبطان بذلك ، فغادر هذا الحفلة مع طبيب السفينة خشية أن تكون أصابة بالكوليرا ، وبعثه اطبيب احتياطاً الى قُمْرة الحجر الصحي بعد إعطائه ججرعة لا بأس بها من البرومور ،وعندما بانت لهم أنوار كراكولي في اليوم التالي كانت الحُمَّا قد تراجعت وكان يتمتع بمعنويات عالية ، لأنه في خمود المُسكنات قرر فجأة ودون أي إجراءات أخرى بأنه سيبعث بمستقبل التلغراف الباهر الى الجحيم وسيرجع على السفينة نفسها الى شارعه القديم ، شارع لاس فنتاناس ، ولم يجد صعوبة في حمْلِهم على إعادته معهم مقابل القُمْرة التي تنازل عنها لممثل الملِكة فِكتوريا رغم أن القبطان حاول ثنيه عن عزمه أيضا بحجج مفادها أن التلغراف هو علم المستقبل ، وقال له : إن الأمر كذلك لدرجة أنهم يعملون لاختراع جهاز خاص لتَركيبه في السفن .
لكنه فنَّد كل حجة ، وانتهى القبطان الى القبول بإعادته معه ليس كرد دَين القُمْرة وإنما لأنه كا نيعرف حقيقة علاقته بشركة الكاريبي للملاحة النهرية .
تمت رحلة النزول في أقل من ستة أيام أحس فلورنْتينوأَريثَا بعدها أنه في بيته ثانيةً منذ دخولهم فَجراً في بحيرة لاس مِريثيديس ورؤيته أضواء زوارق الصيد المتناثرة وهي تتلوى مع تيار السفينة .
كان الوقت ما يزال لَيلا عندما رسوا في خليج نينيوبريديدووهو آخِر مَرْفَأ للسفن البخارية النهرية على بُعد تسع فَراسخ من البحر قبل أن يجرفوا قاع النهر ويعيدوا وضع المَمر الإسباني القديم موضع الاستخدام ، وكان على المُسافرين الانتظار حتى الساعة السادسة صباحا ليركبوا مجموعةً من زَوارق الأُجرة الصغيرة التي تحملهم الى هدفِهِم النهائي .
لكن فلورنْتينوأَريثَا كان متشوقاً مما دفعه للذهاب قبل ذلك بكثير في مَرْكب البريد الذي تعرَّف عليه موظفوه كواحد من جماعتهِم ، وقبل أن يغادر السفينة سمح لنفسه بالانقياد وراء إغراء حركة رمزية ، ألقى بِصُرة السفر الى الماء ولاحقها ببصره ما بين زوارق الصيادين اللامرئية الى أنْ خرجت من البُحيرة وضاعت في المحيط ، كان متأكداً أنه لن يحتاجها بقية حياته مطلقاً لأنه لن يغار مدينة فرْمينا داثَا الى الأبد .
كان الخليج حوض ماء راكد عند الفجر ،وفوق الضباب الطافي رأى فلورنْتينوأَريثَا قُبة الكاتدرائية المُذَهَّبة بفعل الأنوار الأولى ورأى بيوت الحمام على السطوح ،ومستدلاً بها حدد موقع شُرْفة قصر الماركيز دي كاس ديلويرو حيث افترض أن امرأة محنته ما زالت تنام مستندةً على ذراع الزوج المشْبع ، وقد مزق هذا الافتراض قلبه لكنه لم يفعل شيئا لقهره بل على العكس تماما كان يستمتع بالألم .
وحين بدأت الشمس تبعث دفءها كان مَرْكب البريد يشق طريقه وسط متاهة الزوارق الشراعية الراسية ، حيث روائح السوق العام التي لا حصر لها تختلط بعفونة الأعماق لتخرج بمزيج واحد من النتانة .
كانت السفينة القادمة من ريوهاجَا قد وصلت لتوها وجماعة الحمّالين الغاطسين في الماء حتى خصورهِم يلتقطون المُسافرين من جنب السفينة ليحملوهم الى الشاطئ ، وكان فلورنْتينوأَريثَا هو أول من قفز من مَرْكب البريد الى الى اليابسة ولم يعُد يشعر عندها بنتانة الخليج وإنما برائحة فرْمينا داثَا الشخصية تفوح في جو المدينة .
كل شيء كان يَعبَق برائحتِهَا ، لم يعُد الى مكتب التلغراف وبدا أن همه الوحيد هو كُتيِبات الحب وأجزاء المكتبة الشعبية التي ما زالت أمه تشتريها له ، والتي كان يقرأها ويعيد قراءتها وهو مُنْبطح في أرجوحة النوم الى أنْ يحفظها في ذاكرته ،ولم يسأل عن الكمان مجرد سؤال ، وأعاد اتصالاته مع أصدقائه المقربين ، وكان يلعب معهم البلرياد أحيانا ويتبادل وإياهم الحديث في مقاهي الرصيف تحت قناطر ساحة الكاتدرائية ، لكنه لم يعُد للذهاب الى حفلات الرقص أيام السبت ، لم يكن قادرا على تصور حفلات الرقص بدونِهَا .
في صباح يوم عودته من الرحلة التي لم تكتمل عَلِم أن فرْمينا داثَا ذهبت لقضاء شهر العسل في أوربا ، فرأى قلبه المُنْفطر بأنها ستبقى لتعيش هناك إن لم يكن الى الأبد فلسنوات طويلة ،ومنَحَه هذا اليقين الآمال الأولى بالنسيان .
أخذ يفكر بروسالْبَا التي أصبحت ذكراها تتقد أكثر فأكثر كلما خمدت الذكريات الأخرى .
وفي هذه الفترة كان أن ترك شاربه ذو الطرفَين المُدببَين والمثبتين والذي لن يحْلقه فيما تبَقى من حياته .
وتغيرت طريقته في الحياة ، وأدخلته فكرة استبدال الحب في \دروب غير متوقعة ، أخذت رائحة فرْمينا داثَا تصبح أقل حضوراً وزَخَماً الى أنْ بقيت آخِر الأمر في رائحة الياسمين الأبيض فقط .
، كان يمضي مذهولا لا يعرف كيف سيُتابع حياته حين لجأت أرملة ناثاريد الى بيتهم في إحدى ليالي الحرب لأن قذيفة مدفع أصابت بيتها أثناء حصار الجنرال المتمرد ريكاردو غايتان أُبيسو ، وكانت ترانسيتو أَريثَا هي التي التقطت الفرصة بسرعة فبعثت الأرملة لتنام في حجرة الابن بحجة أنه لا يوجد مجال في حُجرتها ، لكنها في الحقيقة كانت تأمل بأن يشفيه حب آخر من الحب الذي ما عاد يتركه يعيش .
لم يعُد فلورنْتينوأَريثَا لممارسة الحب منذ اغتصبته روسالْبَا في قُمْرة السفينة وبدا له طبيعياً في ليلة طوارئ أن تنام أرملة ناثاريت في السرير وينام هو في أرجوحة النوم ، أما هي فكانت قد حسمت الأمر بدلا منه ، وفيما هي جالسة على حافة السرير حيث كان فلورنْتينوأَريثَا
مستلقياً دون أن يعرف ما عليه عمله ، بدأت تحدثه عن حزنها الذي لا عَزاء له على زوجها المتوفى منذ ثلاث سنوات ، وأثناء ذلك كانت تمحو عن جسدها وترمي في الهواء ملابس الحداد حتى ولم يبقَ عليها ولا خاتم الزواج ، خلعت بلوزا التِفتا المُزَينة بتطريز مُطعَّم بالخرز وألقت بها عبرالغرفة الى الكرسي في الركن ، وألقت الصدرية من فوق كتفَيها الى الطرف الآخر من السرير ، وخلعت بسحبة واحدة التنورة السابغة مع التنورة الداخلية ذات الكَشْكَش ، ومِشد الساتان ذا الرباط وحرابات الحداد الحريرية ، ونثرت كل ذلك على الأرض فأضحت الغرفة وكأنها مفروشة بآخِر بقايا الحداد .
فعلت ذلك بابْتهاج وبوقفات محسوبة بِاتْقان حتى بدت قذائف مدفعية القوات المُحاصِرة التي كانت تهز ركائز المدينة وكأنها احتفاء بكل حركة من حركاتها ، حاول فلورنْتينوأَريثَا مساعدتها على حل مِشبَك المِشَد لكنها سبقته الى ذلك بحركة بارعة ، لأنها تعلمت خلال خمس سنوات من الولاء الزوجي أن تكتفي بنفسها في جميع إجراءات الحب بما في ذلك ديباجاته دون مساعدة أحد .
وأخيرا نزعت سروالها الداخلي المُخَرَم جاعلة إياه ينزلق من ساقيها بحركة سريعة كحركات السباحة وبقيت في عُرْيِها المُتَّقِد .
كان عمرها ثماني وعشرين سنَة وقد أنجبت ثلاث مرات ، لكن عُريها ما زال يحتفظ بدوار العزباء ، ولم يستطع فلورنْتينوأَريثَا أن يتصور أبدا كيف أمكن لملابس التوبة أن تواري اندفاعات تلك المُهْرة الجامحة ، وحاولت أن تروي ظمأ صوم حدادها الصارم دفعة واحدة ببلاهة وبراءة خمس سنوات من الولاء الزوجي ، فقبل هذه الليلة ومنذ ساعة الرحمة التي ولدتها فيها أمها لم تَنَم ولو مجرد نوم في سرير واحد مع أي رجل سوى زوجها المتوفى .
لم تُتِح لتأنيب الضمير بأن يُنَغِّص عليها ، ففيما كُرات اللهب تُدَوّي فوق سطوح البيوت استمرت تلهج حتى الصباح بفضائل زوجها دون ان تلومه على أية خيانة سوى موته من دونِهَا ،وخَلُصَت الى اليقين بأنه لم يكن يوما لها كما كان حينئذٍ في صندوق خشبي مُسمَّر باثني عشر مِسْماراً طول كل منها ثلاث بوصات وتحت ثلاثة امتار من التراب .
قالت : إنني سعيدة فقد علمُ الآن علم اليقين أين كان يمضي عند خروجه من البيت .
لقد نزعت الحداد في تلك الليلة دفعة واحدة دون المرور في مرحلة الاسترخاء في البلوزات ذات الأزهار الرمادية وامتلأت حياتها بأغنيات الحب والملابس المثيرة المُزَينة برسوم ببغاوات وفراشات ملونة ، وبدأت توزع جسدها على كل من يشاء طلبه .
وبعد هزيمة قوات الجنرال غايتان أُبيسو إثر حصار دام ثلاثة وسبعين يوما أعادت بناء البيت المثقوب بقذيفة مدفع وجعلت له مسطبة بديعة تُطِّل على بحر فوق حائل للأمواج حيث يصطدم غضب الأمواج في الأيام العاصفة ،وكان هذا هو عش حبها كما كانت تدعوه دون تهكم وحيث كانت تستقبل من كان يناسب مزاجها من الرجال حين تشاء وكيفما تشاء دون أن تتقاضى قرشاً واحدا من أي منهم ، لأنها كانت ترى أن الرجال هم الذين يسدون لها المعروف ، وفي حالات نادرة قبِلت بعض الهدايا شريطة ألا تكون من الذهب ، وكانت تدبر ـأمورها بمهارة لم يستطع أحد معها إثبات حقيقة سلوكها الشائن بأدلة قاطعة ، وفي مرة واحدة وصلت الى حافة الفضيحة العلنية ، عندما راجت شائعة تقول إن الأسقف دانتي ديلونا لم يمت خطأً بحادثة أكل طبق الفِطْر السام وإنما أكله وهو عارف لأنها هددته بذبح نفسها إن هو أصر على محاصرتها بنواياه الدَنِسة .
لم يسألها أحد إن كان ذلك صحيحا ولم تتحدث هي عنه ، ولم يبدل أي شيء من حياتها ، وكانت تقول منفجرة بالضحك : بأنها المرأة الوحيدة الحرة في المقاطعة .
لم تتخلف أرملة ناثاريت يوما عن مواعيد فلورنْتينوأَريثَا العرَضية ولا حتى في أكثر أوقاتها انشغالا ، وكانت تقابله دائما دون الادعاء بأنها تُحبُه ودون مطالبته بأن يحبها ، ولكن على أمل العثور على شيء يشبه الحب إنما دون مشاكل الحب ، وفي بعض الأحيان كان هو الذي يذهب الى بيتها ، وعندئذٍ كانا يفضلان البقاء على المَصطبة المُطِلَّة على البحر للابتلال بزَبَد مِلح البارود ، وتأمُّل شروق الدنيا كلها في الأفق .
وقد وضع كل جهده لتعليمها أساليب التهيج التي كان قد رأى آخرين يمارسونها من خلال ثقوب فندق العابرين ، وكذلك المعادلات النظرية التي كان يدعو لها لوتاريو توغوت في ليالي مَرَحِهما .
حدَّثها للموافقة على أن يَريا بعضهما أثناء ممارستها الحب وعلى استبدال وضعية المِشْبَر المعروفة
بوضعية الدراجة البحرية أو الفروج المَشْوي أو الملاك المعلَّق ، وكادا أن يوديَا بحياتَيهما عندما انقطعت بهما حبال تعليق إرجوحة النوم وهما يحاولان ابتكار وضعية جديدة في الأرجوحة ، ولكنها كانت دروساً عقيمة ، فالحقيقة إنها كانت طالبة جَسورة لكنها تفتقر الى أدنى موهبة في الزِنى الموجه ، لم تفهم أبدا مفاتن الصفاء في السرير ولم تكن لها لحظة إلهام ، بل كانت تهيجاتها الجنسية جِلدية خارجية تأتي في غير أوانها ، يا له من جِماع كئيب .
وقد عاش فلورنْتينوأَريثَا زمناً طويلا وهو مخدوع بأنه الوحيد ، وكانت تُشارِك في بَثِه هذا الاعتقاد الى أنْ جعلها سوء الطالع تتكلم وهي نائمة ، وشيئا فشيئا أخذ يستجمع وهو يسمعها أثناء نومها أجزاء تصريح أبحار أحلامها ، وتوغل ما بين جزر حياتها السريَة المتعددة ، وهكذا عَلِم أنها لا تسعى الى الزواج منمن ، ولكنها تشعر الى أنها مربوطة الى حياته برابطة العرفان بالجميل الكبير لأنه هو الذي أفسدها ، وقد قالت ذلك كثيرا .
- إنني أعبدك لأنك جَعَلتَني قحْبة .
ولم تكن تنقصها المبررات لذلك فقد جردها فلورنْتينوأَريثَا من عذرية زواج عادي هي أشد وَبَالا من العذرية الخَلْقَية ومن زهد التَرَمُّل ، وعَلَّمَها أن لا شيء مما يمارس في السرير هو لا أخلاقي ما دام يساهم في استمرار الحب ، وعَلَّمَها شيء آخر سيكون منذ ذلك الحين هو مبرر وجودها ، أقنَعَهَا أن الإنسان يأتي الى الحياة بعدد محدد من الضروب وأن تلك التي لا تُستنفَذ لسبب ذاتي أو خارجي إرادي أو جَبري تضيع الى الأبد .
وكانت فضيلتها هو فهم ذلك وتطبيقه بحذافيره ، ومع ذلك فإن فلورنْتينوأَريثَا الذي يظن بأنه يعرفها أكثر من أيٍ كان ، لم يستطع أن يفهم كيف تكون مرغوبة الى هذا الحد ، امرأة ذات أساليب شديدة الصبيانية إضافة الى أنها لا تتوقف عن الحديث في السرير عن كآبتها على زوجها الميت ، والتفسير الوحيد الذي خطر له ولم يستطع أحد نَقْضَه هو أن أرملة ناثاريت كانت تعوض برقتها الفائضة ما ينقصها من الفنون الميدانية .
أصبحا يلتقيان أقل فيما هي تُوَسِع من نطاق ممتلكاتها ، ويتفحص هو ممتلكاته عساه يجد مهدئاً لآلامه القديمة في قلوب مُبَدَّدة أخرى ، ثم نسيا بعضهما في نهاية الأمر دون آلامض .
كان ذلك هو أول حب سريري لِفلورنْتينوأَريثَا ، ولكنه بدلا من أن يقيم معها اتحاداً مستقراً كما كانت تحلم أمه استغله كِلاهما للانطلاق في الحياة ، فقط طوَّر فلورنْتينوأَريثَا أساليب بدت بعيدة عن التصديق بالنسبة لِرجل صَموت وضامر مثله مُتَسَرْبِل بملابس كملابس شبح من زمن آخر ، ومع ذلك كانت هناك نقطتان لصالحه ، إحداهما هي عينه الصاائبة في التعرف فورا على المرأة التي تنتظره حتى ولو كانت وسط حشد من الناس ، ولكنه حتى في هذه الحالة كان يغازلها بتحفظ ، لأنه كان يشعر لا شيء يسبب العار والذل أكثر من الصد ، والنقطة الثانية هي أنهن كنَّيميزنه فورا كمتوحد بحاجة الى الحب ، وكَمُعْوز من الشارع بذل كلب مَضْروب يقدم خدماته دون شروط وبلا أية مَطالب ودون انتظار شيء آخر منه سوى راحة الضمير في إسداء المعروف إليه .
وكانا هذان هما سلاحاه الوحيدان وبهما خاض مَعارك تاريخية لكن في سريَة مطلقة وسجَّلها بصرامة مُدَوِن عقود في دفتر مُشَفَر من النوع الذي يعرِّفه الكثيرون بعنوان يَنُمُّ عن كل شيء ، هن .
وأول سجل في دفتره كان سجل الأرملة ناثاريت ، وبعد خمسين سنة من ذلك وعندما تحررت فرْمينا داثَا من حكمها القُدسي كان لديه خمسة وعشرون دفتراً تضم 620 سجلاً لغراميات مستمرة عدا المغامرات العابرة التي لا تُحصى والتي لا تستحق ولو مجرد ملاحظة إحسان صغيرة .
وبعد ستة شهور من الغراميات الخارقة للمألوف مع أرملة ناثاريت أقنع فلورنْتينوأَريثَا نفسه بأنه قد اجتاز عذاب فرْمينا داثَا ، ولم يعتقد بذلك فحسب بل إنه طرحه عدة مرات مع ترانسيتو أَريثَا خلال السنتَين اللتين دامتهما رحلة الزواج ، وتابع الإيمان به بشعور من التحرر اللامحدود الى أنْ رآها فجأة ودون إحاء سابق من قلبه في يوم أحد من أيام نجمه المَنحوس وهي خارجة من القُدّاس مُمسِكةً بذراع زوجها ومحاطة ببفضول ورياء وسطها الجديد ، فالسيدات النبيلات اللواتي كنَّ يَحْتَقْرْنَهَا أول الأمر ويسخرن من كونها دخيلة بلا لقب ررُحْنَ يتهافتنَ لتشعر بأنها واحدة منهن ، فيما تُسكِرُهن هي بسحرها .
لقد تَسَنَمَت وضعها كزوجة دنيوية بجَدارة جعلت فلورنْتينوأَريثَا يحتاج للحظة من التفكير للتعرف إليها ، كانت امرأة أخرى ، رصانة الشخصية الكبيرة ، الحذاء العالي القُبعة الرقيقة المُزَيَنة بريشة طائر شرقي ملَونة ، كل ما فيها كان مختلفاً وبسيطاً كما لو كان فيها منذ نشأتها ، ،وجدها أكثر جمالا وشباباً أكثر من أي وقت مضى ، ولكنه أبعد من أن تكون له أكثر من أي وقت مضى ، ولم يدرك سبب ذلك الى أنْ رأى انتفاخ بطنها تحت الفُستان الحريري الفضفاض ، لقد كانت حاملا في شهرها السادس ، لكن أكثر ما أثَّر فيه هو أنها تشكل مع زوجها ثنائياً محترَماً ، وأنهما يتصرفان بالدنيا بسيولة تجعلهما يبدوان وكأنهما يَطْفوان فوق صخور الواقع .
لم يشعر فلورنْتينوأَريثَا بالحسد ولا الغضب وإنما باحتقار شديد لنفسه ، أحس بأنه بائس وقبيح ووضيع ، وأنه ليس غير جدير بها فقط بل وبأية امرأة أخرى فوق وجه الأرض .
لقد عادت إذن ، عادت دون أي سبب لِتندم على الانقلاب الذي أحدثته في حياته ، ولكن على العكس كان جزعه يتناقص خصوصاً بعد أن اجتاز السنوات الأولى ،.
أما بالنسبة لها فالأمر أكثر من ذلك ، هي التي وصلت الى ليلة الزِفاف بِغشاوة براءة ، كانت قد بدأت تفقدها خلال الرحلة في مقاطعة ابنة الخال هيلْدا براندا ، ففي فايودوباد فهمت أخيرا لماذا يطوف الديك حول الدجاجات ، وشاهدت طقوس الحمير البهيمية ورأت ولادة العُجول ، وسمِعت بنات الخال يتحدثن بطبيعية عن أزواج من العائلة ما زالوا يمارسون الحب ، وعن سبب وكيف توقف الآخرون عن ممارسته رغم استمرارهم بالعيش معاً .
وكان حينئذٍ أن بدأت ممارسة الحب منفردةً يراودها إحساس غريب بأنها تكتشف شيئا كانت غرائزها تعرفه منذ الأزَل .
فعلت ذلك في السرير أولا وهي تكتم أنفاسها كي لا تفضح نفسها في حجرة النوم التي تتقاسمها مع نصف دزينة من بنات الخُؤولة ، ثم بعد ذلك بيديها الاثنتين ، وهي منْبَطِحة على أرضية الحمام دون هَم بينما شعرها مفلَت وهي تدخن سجائرها الأولى ، لقد كانت تفعل ذلك دائما مع شكوك الضمير التي لم تتجاوزها إلا بعد زواجها ، وكانت تفعله بسريَة مطلقة بينما بنات خؤولتها يتفاخرن فيما بينهن ليس في عدد المرات يوميا فحسب بل بشكل وحجم أعضائهن أيضا .
ومع ذلك ورغم سِحر تلك الطقوس الأولية فقد استمرت على اعتقادِها بأن فقدان العذرية هو تضحية دموية ، حتى أن حفلة زِفافها وهي واحدة من أضخم حفلات أواخر القرن الماضي جرت بالنسبة لها على أعتاب الرعب ، وقد أثَّر فيها كَرْب شهر العسل أكثر بكثير من الفضيحة الاجتماعية لِزواجها من وجيه لا ثاني له في تلك السنوات ، فمنذ الإعلان عن الزِفاف في القُدّاس الكبير في الكاتدرائية عادت فرْمينا داثَا تتلقى رسائل المُغَفَّلة التوقيع ، بعضها يتوعدها بالموت ، لكنها لم تكن لتشعر بها حيث كان كل الخوف الذي بداخلها مشغول بعملية الاغتصاب الوشيكة .
لقد كانت تلك هي الطريقة الصحيحة رغم أنها لم تفعل ذلك عن وعي في معاملة الرسائل المُغَفَّلة من أبناء طبقة عوَّدتها سخرية التاريخ على إحناء رأسها أمام الوقائع الناجزة .
وهكذا بدأ تحَوُّل ل جميع من كانوا ضدها للوقوف الى جانبها كلما أصبح الزِفاف أمراً لا رجعة فيه ، وقد لاحظت هي ذلك في التبدل التدريجي للمواكب النساء الزُرْق المتوددَات اللواتي أنزلهن التهاب المَفاصل والحقد من مقامهن واللواتي اقتنعت يوما بعدم جدوى مكائدهن ، فظهرن دون سابق إنذار في حديقة البشارة وكأنهن في بيوتهن ، مُحملات بوصفات للمطبخ وبهدايا العِرافة .
كانت ترانسيتو أَريثَا تعرف ذلك العالم رغم أنها عانت منه بنفسها هذه المرة فقط ، وكانت تعلم أن زبوناتها سيأتينها في الأيام السابقة للاحتفالات الكبرى ليطلبن منها إخراج جِرارها المدفونة وإعارتهن مجوهراتهن المرهونة لمدة أربع وعشرين ساعة فقط مقابل دفع فائدة إضافية .
ولم يحدث منذ زمن بعيد كما حدث هذه المرة ، إذ فرَّغت الجِرار كي ما تخرج السيدات ذوات الألقاب الطويلة من هياكلهن المظلمة ويظهرن مُشِعات بمجوهراتهن الخاصة المُستعارة في حفلة زِفاف لن يتاح لهن رؤية حفلة بعَظَمَتها فيما تبَقى من القرن ، والتي كان مجدها الأخير هو أن عرّابها كان الدكتور رافائيل تونيث رئيس الجمهورية لثلاث مرات الفيلسوف والشاعر وواضع كلمات النشيد الوطني كما جاء في بعض المعاجم الحديثة حينئذٍ
وصلت فرْمينا داثَا الى المذبح الكبير في الكاتدرائية مُمسِكةً بذراع أبيها الذي منحته بدلة الإتكيت مظهراً خاطئاً من الوقار لمدة يوم واحد ، وتزوجت الى الأبد مقابل مذبح الكاتدرائية الكبير في صلاة تكليل شارك فيها ثلاثة أساقفة في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم جمعة ترنيداد المقدسة المجيد ، ودون أي خاطر من شفقة نحو فلورنْتينوأَريثَا الذي كان يعاني حينها الحُمَّا ويميت نفسه من أجلها في مَرْكب لن يحمله الى النسيان ، وقد احتفظت أثناء المَراسم الدينية ثم أثناء الحفلة فيما بعد بابتسامة بدت وكأنها مُثَبَّتة بالإسبيداج ، لمحة بلا روح فسرها بعضهم بأنها ابتسامة الفوز الساخرة ، ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى وسيلة بائسة لمُداراة خوفها كعذراء تزوجت لِتوها ، ولحسن الحظ أن بعض المصادفات إضافة الى تفهُم الزوج حلَّت مسألة لياليها الثلاث الأولى دون ألم .
لقد كان أمراً صادراً عن العناية الإلهية أن سفينة الكانبني جنرال ترانساتلانتك ببرنامج رحلاتها المتقلب رضوخاً لِطقس الكاريبي السيئ .
أعلنت قبل ثلاثة أيام من الرحلة عن تقديم موعد الانطلاق أربعو وعشرين ساعة أي أنها لن تُبْحر الى روشيل في اليوم التالي للزِفاف وإنما في ليلة الزِفاف نفسها ، لم يصدق أحد أن ذلك التغيير ليس مفاجأة أخرى من مفاجآت هذا العرس السارة ، وقد انتهت الحفلة بعد منتصف الليلة على سطح عابرة المحيطات المُضاءة بمرافقة فرقة أوركسترا من فَيَنا كانت تُدَشِّن في تلك الرحلة أحدث الفالسات جوهان ستراوس .
وهكذا جرى حمل العرّابين المبللين بالشمبانيا قَسْراً الى اليابسة بمساعدة زوجاتهم المُكدَّرات حين بدأوا يسألون النُدُل إن كانت هناك قُمرات غير محجوزة لمواصلة الحفلة حتى باريس .
وقد رأى آخٍر الذين نزلوا لورينثو داثَا يجلس على الأرض في عرض الطريق مقابل الخمّارات ببدلة الإتكيت المُتَسِخة وهو ينتحب بصرخات مُولولة كما يبكي العرب موتاهم ، مستريحاً فوق بِرْكة ماء آسٍ ربما هي بِرْكة دموع .
لا في الليلة الأولى ذات البحر الهائج ولا في الليلة التالية ذات الإبحار الهادئ ولا في أية ليلة أخرى من ليالي حياتها الزوجية الطويلة جدا جرت أعمال بربرية من تلك التي كانت فرْمينا داثَا تَخافُهَا ، فالليلة الأولى ورغم ضخامة السفينة وفخامة القُمْرات كانت إعادة رهيبة للرحلة في سفينة ريوهاجَا ، وكان زوجها طبيباً خَدوماً لم يَنَم لحظة واحدة وأمضى الليل في مواساتها ، وهو الشيءالوحيد الذي يستطيع عمله طبيب بارز لعلاج دوار البحر ، ولكن العاصفة هدَأَت في اليوم الثالث بعد الخروج من ميناء غوايرَا ، وحتى ذلك الحين كانا قد أمضيا معاً وقتاً طويلا ، ووتحدثا كثيرا حتى أصبحا يشعران بأنهما صديقان قديمان ، وفي الليلة الرابعة عندما استعاد كل منهما عاداته المألوفة فوجئ الدكتور أُورْبينوبأن زوجته الشابَة لا تُصَلّي قبل النوم .
وكانت صريحة معه : .
- أن نفاق راهبات المدرسة قد أثار فيها عداءً للصلوات ، لكن إيمانها كان راسخاً وقد تعلمت الحفاظ عليه بِصمْت
قالت : أُفَضِّل التفاهم مع الرب مباشرةً .
وتفَهَم هو مبرراتها ، ومنذ ذلك الحين مارس كل منهما الدين نفسه على طريقته .
لقد كانت فترة خطوبتهما قصيرة لكنها خارجة عن مألوف تلك الحقبة كثيرا ، فالدكتور أُورْبينوكان يزورها في بيتها دون رقابة مَساء كل يوم ، ما كانت لِتسمح له بأن يمس طرفاً من أطراف أصابعها قبل المُباركة الأسقفية ، لكنه لم يحاول ذلك أيضا .
وفي الليلة الأولى من هدوء البحر وفيما هما بملابسهما في السرير بدأ أولى مُداعباته ، وقد فعل ذلك بحذر شديد حتى بدا لها أنه من الطبيعي أن ترتدي قميص نومها .
مضت لاستبدال ملابسها في الحمام ، ولكنها أطفأت أنوار القُمْرة قبل ذلك وعندما خرجت بقميص نومها دَسَت خِرَقاً في شقوق الباب لِتعود الى السرير في ظلام دامس ، وفيما هي تفعل ذلك قالت بمزاج رائق : ماذا تريد يا دكتور ، إنها المرة الأولى التي أنام فيها مع رجل غريب .
أحس بها الدكتور أُورْبينووهي تنزلق الى جانبه مثل حيوان صغير مضطرب محاولةً البقاء بعيدا عنه قدر المستطاع في سرير بحري حيث من الصعب وجود اثنين معاً دون أن يَمَسَّا بعضهما .
أَمسَك يدها الباردة والمتشنجة من الرعب وشَبَك الأصابع ، وبدأ يروي لها بصوت هامس ذكرياته عن رحلات أخرى في البحر .
كانت متوترة من جديد لأنها عندما رجعت الى السرير انتبهت الى أنه قد تَعرَّى تماما أثناء وجودها في الحمام ، وهذا أحيا خوفها من الخطوة التالية .
لكن الخطوة التالية تأخرت عدة ساعات ، فقد تابع الدكتور أُورْبينوالحديث بتمهل شديد فيما هو آخذ بنَيل ثقة جسدها مليمترا بعد مليمتر .
حدَّثها عن باريس ، عن الحب في باريس عن عشاق باريس الذين يتبادلون القُبلات في الشارع وفي الأمنبوس وعلى مقاهي الأرصفة البديعة المفتوحة على لَفحات النار وعلى أ أوكورديونات الصيف الخافتة ، ويمارسون الحب وقوفا على ضفاف السين دون أن يزعجهم أحد.
وفيما هو يتحدث في العتمة داعب انحناءة عنقها برؤوس أصابعه وداعب زغب ذراعيها الحريري وبطنها المراوِغ ، وعندما أحس أن التوتر قد تراجَع قام بمحاولته الأولى لرفع قميص نومها .
لكنها أوقفته بحركة تقليدية من حركاتها وقالت : أستطيع عمل ذلك وحدي .
نزعته عنها فعلا ، ثم بقيت ساكنة بحيث كان بإمكان الدكتور أُورْبينوأن يعتقد بأنها ليست هناك لولا بريق جسدها في الظلام .
عاد بعد هُنَيْهة للإمساك بيدها فأحَسَها حينئذٍ دافئةً ومتحررة ، لكنها ما تزال رطِبة بِندى طازج ، بقيا لحظة أخرى صامتَين وساكنَين ، هو يتحين الفرصة للخطوة التالية ، وهي تنتظر تلك الخطوة دون أن تدري من أين ستأتيها فيما الظلام يتسع مع ازدياد حدة تنفُسها .
أفلتها فجأة وقام بالقفزة في الفراغ ، بلل طرف إصبعه الوسطى بلسانه ولمس لمساً خفيفاً حَلَمَة نهدها الغافل فأحست بشحنة موت كما لو مس فيها عَصَباً حياً ، وفرحت كونها في الظلام حتى لا يرى تورد وجنتَيها الحارق الذي هزها حتى أعماق جمجمتها وقال لها بهدوء : اهدئي ولا تنسي أنني أعرفهما .
أحس بها تبتسم ، وكان صوتها عذباً وجديداً حين قالت في العتمة : أذكر ذلك جيدا ، وحتى الآن لم يبارحني الغيظ .
عرف حينئذٍ بأنهما قد اجتازَا رأس الرجاء الصالح ، فعاد يُمسِك بيدها الكبيرة اللدِنَة وغمرها بقُبلات يتيمة ، بدأ يُمشط اليد الغليظ فالأصابع الطويلة المُتبَصِرة والأظافر الشفافة ، ثم خطوط حظها المتشابِكة في الكف المتعرق .
ولم تعرف كيف وصلت يدها الى صدرِه واصطدمت بشيء لم تستطع تحديده .
فقال لها : إنها تَعوِيذَةٌ .
داعبت شَعْر صدرِه ثم أَمْسَكت أجمة الشعْر كلِها بأصابعها الخمس لتنتزعها من جذورها .
قال لها : بقوة أكبر .
حاولت الى الحد الذي عرفت أنها لا تؤذيه ، ثم كانت يدها هي التي بحثت عن يده التائهة في الظلام ، لكنه لم يمكنها من شبك أصابعها بأصابعه ، وإنما أمسكها من مِعْصَمِهَا وقاد يدها على جسده بقوة لا مرئية ولكنها مُتقَنة التوجيه الى أنْ أحست بلفحة مُلتهبة من حيوان مُتقِد بلا شكل مادي محدد لكنه مُتلهِف ومنتصِب ، وعلى العكس مما تصوره ، بل وعلى العكس مما كانت هي نفسها ستتصوره .
لم تسحب يدها ولم تتركها ساكنة حيث وضَعها وإنما سلَّمت نفسها جسداً وروحاً للعذراء المقدسة ، وضغطت أسنانها خشية أن تضحك من جنونِها .
وبدأت تتعرف باللمس على عدوها المشبوب ، مُتعرفةً على حجمِه وقوة رأسه وامتداد أجنحَتِه ، مرتعبة من تصميمه لكنها مُشفقة على عزلته وممسكةً به بفضول متقصٍ الشكل لو أن أحدا أقل خبرة من زوجها لظن أنها مداعبات .
استعان بآخر قواه لمقاومة دوار هذه المبارزة القاتلة الى أنْ أفلتته بِظرَافة طفولية وكأنها تلقي به الى الزبالة وقالت : لم أفهم أبدا كيف هو هذا الجهاز .
عندئذٍ شرح لها كل شيء بجديَة وبأسلوبه كأستاذ فيما هو يقود يدها الى المواضع التي يَذكرها ، وهي تنقاد له بطاعة تلميذة مثالية ، ولَمَّحَ في لحظة مواتية الى أنْ كل ذلك سيكون أسهل لو أن الضوء مُنار .
ولكنها أوقفت ذراعه قائلةً : بيدي أرى أفضل .
الحقيقة أنها كانت تريد إشعال النور ، لكنها تريد عمل ذلك بنفسها دون أن يأمرها أحد ، وهذا ما فعلته .
عندئذٍ رآها في وضع جنيني ، مغطاة بالشرشف تحت الضوء المفاجئ ، لكنه رآها وهي تعود لِتُمْسِك بحيوان الفضول دون تَكَلُّف وتقلبه ظهراً وباطناً وتتفحصه باهتمام ، أخذ يبدو اهتماما غير علمي ، وقالت مستنتجةً : يا لقباحته ، إنه أقبح مَنْظَراً مما للنساء .
كان متفِقاً معها في الرأي ، وأشار الى نقائص أخرى أكثر أهميَة من القُبْح ، قال : إنه كمثل الابن الأكبر ، يقضي المرء حياته وهو يعمل من أجله مُضَحِياً بكل شيء في سبيله ، وعندما تحين ساعة الجد يتصرف كما يحلو له .
تابعت تفحصه ، والسؤال عما يفيد هذا وما فائدة ذاك ، وعندما رأت أنها حصلت على المعلومات الكافية رازته بيديها الاثنتين لتتأكد من أن وزنه كذلك لا يستحق الذكر ، ثم أفلتته بإعوجاجة ازدراء وقالت : وأرى كذلك أن فيه أشياء كثيرة لا حاجة لها .
توقف حائراً ، فالفكرة الأساسية في موضوع تخرجه هي هذه ، استحسان تبسيط الجهاز البشري ، إذ كان يبدو له جسم الإنسان طرازاً قديماً ذا وظائف كثيرة مُكررة أو لا فائدة منها ، كانت لازمة في عصور أخرى للجنس البشري ، ولكن ليس لعصرنا ، أجل يمكن أن يكون أبسط وأقل تعرضاً للعطب أيضا ، واختتم ققائلا : هذا شيء لا يستطيعه إلا الله بالطبع ، ولكن لا بأس من إقراره بشكل نظري .
ضحكت سعيدةً بطريقة طبيعية جدا ، فانتهز الفرصة لاحتضانها وقبَّلها القُبْلة الأولى من فمها فردت عليه بقُبْلة مماثلة ، وتابع قُبُلاته الخفيفة على الوجنتَين والأنف والجفون فيما يده تنزلق تحت الشرشف ، وداعب عانتها المستديرة والسَبِطَة كعانة يابانية .
لم تُبعِد يده ، لكنها احتفظت بيدها في حالة تأهب خوفا من تقدمه خطوة أخرى .
قالت : لن نستمر في درس الطب .
فقال : لا ، الدرس الآن سيكون في الحب .
عندئذٍ نزع الشرشف من فوقِها ، فلم تكتفِ هي بعدم الاعتراض بل قذفت الشرشف عن السرير بضربة من قَدَمَيها لأنها لم تعُد تحتمل الَحر .
كان جسدها ملتوياً ومَرِناً وأكثر جديَة مما يبدو عليه وهي بملابسها ، تنبعث منه رائحة حيوان بَري يمكن تمييزها بين جميع نساء الدنيا .
وفيما هي عزلاء تحت الضوء صعدت دفقة دم يغلي الى وجهِها ، ولم يَخطُر لها لإخفاء ذلك سوى التعلق بعنق زوجها وتقبيله بعمق وقوة الى أنْ استنفدا في القُبْلة كل الهواء الذي تنفَساه .
كان واعيا أنه لا يحبها ، لقد تزوج منها لإعجابه بشموخِها وجِدِيَتها وقوتها وكذلك لشيء من كِبريائه ، لكنه وفيما هي تُقَبِّله للمرة الأولى تأكد من أنه لن يجد أي عائق لاختراع حب جيد .
لم يتحدثَا بذلك في هذه الليلة الأولى التي تحدثَا فيها بكل شيء حتى الفجر ، ولن يتحدثَا في ذلك أبدا ، ولكن أياً منهما لم يُخطئ على المدى البعيد .
عند الفجر حين نامَا كانت ما تزال عذراء ، لكنها لم تبقَ كذلك طويلا ، وفعلا فبعد أن علَّمَها في الليلة التالية رقص فالسات فينا تحت سماء الكاريبي النجْمية كان عليه أن يذهب الى الحمام بعدها ، وعندما رَجِع الى القُمْرة وجدها تنتظره عارية في السرير ، وكانت هي حينئذٍ من اتخذ المبادرة فاستسلمت له دون خوف ودون ألم وبسعادة الإقدام على مغامرة في عرض البحر دون أن يخلِّف الطقس الدامي أثراً سوى وردة الشرف على شرشف السرير ، كِلاهما فعل ذلك جيدا بشكل أشبه بمعجزة ، وتابعَا عمله جيدا ليلا ونهاراً وفي كل مرة بشكل أفضل من سابقاتها خلال بقية الرحلة .
وعندما وصلَاالى لاروشيل كانا متفاهمَين كعاشقَين قَديمَيْن .
بَقيا ستتة عشر شهرا في أوربا متخذَين من باريس قاعدة لهما ، ومُنطلقَيْن في رحلات قصيرة الى البلدان المجاورة ، وقد مارسَا الحب يومياً خلال هذه الفترة ، ومارساه أكثر من مرة خلال أيام الآحاد الشتوية حيث كانا يَتداعبان في الفراش حتى ساعة الغداء .
كان رجلا مندفعاً ، إضافة الى أنه حسن التدريب ، ولم تكن مخلوقة لتسمح لأحد بالتفوق عليها ، وهكذا كان عليهما أن يقبلَا باقتسام السلطة في السرير .
وبعد ثلاثة شهور من الحب المحموم أدرك هو أن أحدهما مُصاب بالعقم ، فخضعَا لفحوص طبيَة صارمة في مستشفى سالبيترير حيث كان قد أمضى فترة تدريبه العملي كطالب مقيم .
كانت فحوصات مضنية ، ولكن دون جدوى ، ومع ذلك وعندما تخليَا عن التفكير بالأمر حدثت المعجزة بلا أية وسيلة علمية ، وحين رجعَا الى الوطن في نهاية السنَة التالية كانت فرْمينا حُبْلى في الشهر السادس ، وترى أنها أسعد امرأة على وجه الأرض ، والابن الذي رغبَا فيه كِلاهما والذي وُلِد تحت برج الدلو عُمِّدَ على شرف جده الميت بالكوليرا .
كان من المستحيل معرفة إن كانت أوربا أَم الحب هو ما غيَّرهما لأن الأمرَين حدثَا في وقت واحد ، كِلاهما كان قد تغيَّر وبعمق ، وليس في علاقتهما ببعضهما فقط وإنما كذلك مع الجميع ، وهذا ما أدركه فلورنْتينوأَريثَا حين رآهما خارجَيْن من القُدّاس بعد أسبوعين من عودتهما في يوم أحد نكبته ذاك ، عادَا بمفهوم جديد للحياة ، مُحمَّلَين بمستجدات الدنيا ، هو بمستجدات الأدب والموسيقى ومستجدات قبل كل شيء ، كما عاد باشتراك في لوفيغارو كي لا يفقد خيط الواقع واشتراك آخر في ريفيوديدوموندوس كي لا يفقد خيط الشعر ، كما اتفق مع عميله المكتبي في باريس لتزويده بجديد الكُتّاب الأوسع انتشاراً ، كان تولفرانس وبيير لوتي ومؤلفات مفضليه كريمي ديغورمونت وبول بورجيه ، أما أميل زولَا فلا ، فهو يرى أنه لا يطاق رغم اقتحامه الجريء لمحاكمة دِريفوس ، وقد وعد المكتبي نفسه بأن يُرسل له بالبريد كل جديد ومُغرٍ في كَتلوج ريكورد وخصوصاً من موسيقى الكاميرا ليحتفظ باللقب الذي اكتسبه أبوه عن جَدارة كأول داعية لموسيقى الكونشيرتو في المدينة .
أما فرْمينا داثَا المُعارِضة دائما لصرامة الموضَا فقد أحضرت معها ستة صَناديق ملابس لمختلف الفصول ، إذ أن الماركات الشهيرة لم تُقنعها ، كانت قد ذهبت الى توليرياس في عز الشتاء لحضور استعراض مجموعة أزياء وُرُث طاغية الأزياء الراقية الذي يفرض ما يشاء ، والشيء الوحيد الذي حصلت عليه كان التهاب قصبات طرحها في الفراش خمسة أيام ، وبدا لها ليفيرير أقل غطرسة وطمعاً ، لكنها اتخذت قرارها الحكيم بالحصول على ما يعجبها من محلات التصفيات ، رغم أن زوجها كان يُقسم لها أغلظ الأَيمان بأنها ملابس موتى .
وهكذا أحضرت كميات من الأحذية الإيطالية التي بلا ماركة فَضَّلَتْها على موديلات فيري الذاعئة الصيط والشاذَة ، وجلبت مظلة من دوبوي حمراء كنيران جهنم ، كان موضوعاً كتَب فيه كثيرا صحفيو مجتمعنا المُرتعدون ، واشترت قُبعة واحدة من تصميم مدام رِيبو ، لكنها ملأت صندوقاً كاملاً بعناقيد الكرز الإصطناعي وفروع مختلف أنواع الزهور التي وجدتها وكميات من ريش النعام وريش الطواوِيس وذِيول دِيَكة آسيوية ، وطيور وأفاعٍ وتشكيلة متنوعة من الطيور الغريبة المُحَنَّطة ذات الأجنحة المفتوحة او الأفواه الصارخة أو العيون المُحتضِرَة .
كل هذه الأشياء جعلت القُبعات نفسها تبدو وكأنها قُبعات أخرى طوال السنوات العشرين الأخيرة ، أحضرت مجموعة مَراوِح يدوية من بلاد العالم المختلفة ، كل واحدة منها مخصصة لمناسبة ، وأحضرت عطراً جذاباً انتقته من بين أصناف كثيرة في محل عطورات بازارْدشاريت قبل أن تُخَرِّبه رياح الربيع بِرَمادها ، لكنها لم تستخدمه سوى مرة واحدة لأنها لم تعُد تتعرف على نفسها بهذا العطر المختلف ، وأحضرت كذلك علبة مكياج كانت آخِر صرعة في سوق الإغراء وكانت أول امرأة خرجت به الى الحفلات حين كان مجرد التجمُل في مكان عام يُعتبر عملا منافيا للحِشْمَة ، وحملت كذلك معها ثلاث ذِكرَياتلا تُمْحَى ، الافتتاح الذي لم يسبق له مثيل لِمسرحية حكايات هوفْمان في باريس ، والحريق الرهيب الذي أتى على جميع جدولات البندقية تقريبا مقابل ساحة سان ماركوس والذي شاهداه بقلب يعتصره الألم من نافذة فندقهما ، ورؤية أوسكار وايلْد الخاطفة أثناء هطول أول الثلوج في كانون الثاني .
ولكن بين هذه الذكريات وغيرها الكثير احتفظ الدكتور خوفينال أُورْبينو بذكرى رغبة كان يأسف دوما لأنه لم يستطع تقاسمها مع زوجته ، وتعود الى الوقت الذي كان ما يزال فيه طالباً عازباً في باريس ، إنها ذكرى فُكتور هوجو الذي كان ينعم عندنا بشهرة مثيرة ، ليست مرتبطة بشهرة مؤلفاته ، ذلك أن أحداً قال عنه بأنه قال دون أن يكون هناك من سمعه في الواقع "بأن دستوريا ليس لَمَوْطن بشر وإنما لَمَوْطن ملائكة" فأصبحت له منذ ذلك الحين منزلة خاصة ، وصار معظم مواطنيها الكثيرين الذين يسافرون الى فرنسا يتهالكون لرؤيتهّ، وقد قام ستة طلاب من بينهم الدكتور خوفينال أُورْبينو بتنظيم حراسة مقابل بيته في شارع إيليَا وفي المقاهي التي يقال أنه سيأتيها بالتأكيد دون أن يأتي أبدا ، ثم تقدموا آخِر الأمر بطلب خطّي للقاء خاص معه باسم ملائكة دوستوريونوغرو ، ولم يتلقوا أي رد .
وفي أحد الأيام وفيما خوفينال أُورْبينو يمر مُصادَفة مقابل حديقة الوكس بورغ رآه وهو يخرج من مجلس الشيوخ برفقة امرأة شابة تقوده من ذراعه ، كان هَرِماً جدا ، يتحرك بمشقة ، لِحيته وشعره أقل إشعاعاً مما هو عليه في صوره ويرتدي معطفاً يبدو وكأنه لشخص أضخم منه جسداً ، ولم يشأ إفساد الذكرى بتحية وقحة ، كانت تكفيه هذه الرؤية شبه اللاواقعية كزاد للحياة كلها .
وعندما عاد الى باريس متزوجاً في ظروف تمكنه من رؤيته بشكل شبه رسمي كان فُكتور هوجو قد مات ، وكعزاء على ذلك حمَل خوفينال وفرْمينا الذِكرى المشتركة لٍمَساء يوم ثلْجي اختلطَا فيه بجماعة كانت تتحدى العاصفة مقابل مكتبة صغيرة في بولفارلوس كباتشينوس وكان أُسكار وايلْد في الداخل ، وحين خرج أخيرا أنيقا حقا وربما واعيا جيدا أنها كذلك أحاطت به المجموعة تطْلُب منه التوقيع على كتُبه ، توقف الدكتور أُورْبينولرؤيته فقط لكن زوجته المندفعة أرادت اجتياز البولفار لِيُوَقِّع لها على الشيء الوحيد الذي رأته مناسِباً في غياب الكتاب ، قُفازها البديع الطويل الأملس المصنوع من جلْد الغزال بلونه الذي يشبه لون بشرتها الحديثة الزواج .
كانت متأكدةً أن رجلا بهذه الرقة سيقدر عالياً لَفْتةً كهذه ، لكن الزوج عارَض بإصرار ، وحين حاولت التقدم رغم حُججَه لم يعُد يشعر بأنه سيكون قادراً على العيش متجاوِزاً العار فقال لها : إذا اجتزتِ الشارع فستجدينني ميتاً حين ترجعين .
كان سلوكاً طبيعياً فيها ، فقبل زواجها بسنة واحدة كانت تتحرك في الدنيا بنفس الطلاقة التي كانت عليها وهي طفلة في بلدة سان خوان ديلاثيناغا الممِيتة ، وكأنها وُلِدت وهي تعرف الدنيا ، وكانت تتمتع بسهولة في معاملة الغرَباء تاركة زوجها في حيرة من أمره ، وبمَوْهِبة سحرية في التفاهم بالقشْتالية مع أيٍ كان وفي أي مكان ، وكانت تقول وهي تضحك ساخرةً : المرء يتعلم اللغات حين يريد أن يبيع ، أما عندما يريد الشِراء فالجميع يفهمونه كيفما كان .
من الصعب تصور أحد قادراً على تمثل حياة باريس اليومية بهذه السرعة وهذه الغبطة ، وعلى تعلُّم حبها في الذكرى رغم أمطارها الدائمة ، ومع ذلك فعندما رجعت الى الوطن مثقلةً بهذه التجارب المجتمعية ، مُنْهَكةً من السفر وناعِسةً من الحَبَل كان أول ما سألوها إياه في الميناء هو كيف بدت لها عجائب أوربا ؟
فَلَخَّصَت ستة عشرا شهراً من السعادة في أربع كَلمات من فظاظتِها الكاريبية : إنها الصخَبُ قبل أي شيء ...

الجزء الخامس

أُعدَّ برنامج حافل بالنشاطات العامة بمناسبة الاحتفالا بمطلع القرن الجديد ، وأجدر هذه النشاطات بالذكر هي الرحلة الأولى بالمنطاد ، ثمرة مبادرة من مبادرات الدكتور خوفينال أُورْبينو التي لا تَنضُب .
اجتمع معظم أهل المدينة عند شاطئ الأرسنال لإبداء دهشتهم من ارتفاع بالون الحَرير الهائل المُلَوَّن بألوان العلَم الوطني في الجو ليحمل أول بريد الى سان خوان ديلاثيناغا على بُعد حوالي ثلاثين فَرْسخاً بخط مستقيم الى الشمال الشرقي .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو وزوجته اللذان عرفا متعة الطيران من قبل في معرض باريس الكوني هما أول من صعدا الى حُجَيْرات المِنطاد المصنوعة من الخيزران ، ثم صعد معهما مهندس رحلة الطائرة وستة مدعوين آخرين كانوا يحملون رسالة من الحكومة المحليَة الى السلطات البلديَة في سان خوان ديلاثيناغا يسجلون فيها للتاريخ أن تلك الرسالة هي أول بريد ينتقل عبر الأجواء .
أحد صحفيي الدياريوديكوميرثيو سأل الدكتور خوفينال أُورْبينو ما هي آخِر كلماته إذا ما قضى نحْبه في المُغامرة ؟
فلم يتَرَوَى هذا في التفكير بالجواب الذي سبب له شتائم كثيرة إذ قال : أظن أن العالم بأَسره سيشهد تغير القرن التاسع عشر باستثنائنا نحن .
وفيما المِنطاد يرتفع أحس فلورنْتينوأَريثَا الضائع بين الحشود الساذجة التي تُنشد النشيد الوطني بأنه يشترك بالرأي مع تعليق سَمِعه من أحدِهم وسط الضجَة بأن تلك المُغامرة ليست مناسِبة لامرأة وخصوصاً امرأة في سن فرْمينا داثَا ، ولكنها لم تكن بالمُغامرة الخطيرة على أي حال أو أنها لم تكن على الأقل خطِرة بقدر ما هي مؤثرة .
لقد وصل المِنطاد دون أي تيارات هوائية معاكسة الى مستَقَرِه بعد رحلة هادئة في سماء زرقاء الى حد غير معقول ، طاروا طيراناً طيبا على ارتفاع قليل تدفعهم ريح هادئة ومواتية فوق ذُرَى الجبال المُكلَّلة بالثلج أولا ثم فوق مستنقع ثيناغاغاراندي الفسيح ، ومن السماء رأوا أطلال مدينة كارتاخيناديآندياس القديمة والبطولية كما يراها الله مهجورة من ساكنيها الذين هربوا منها خوفا من الكوليرا بعد أن قاوموا جميع صنوف الحصار من جانب الإنجليز وكل عَسْف القراصنة خلال ثلاثة قرون ، رأوا الأسوار الكاملة وأشجار الشوارع الملتفَة والتحصينات التي قَوَّضَتها رهبانيات الثالوث وقصور المرمر والمذابح الذهبةية مع حكّامها الاستعماريين المتعفنين بالوباء في دروعهم السابغة ، طاروا فوق بيوت ترُوخَاس ديكاتاكَا الأثرية القائمة وسط الماء والمطلية بألوان مجنونة والمُرفَقة بِحَظَائر لِتربية عظائيات الأَكل حيث تتدلى نباتات بالسامينا وإستار وميليا في الجنائن المائية .
كانت مئات الأطفال يلقون بأنفسهم من النوافذ ومن سطوح البيوت ومن الأزوارق التي كانوا يقودونها بمهارة مذهلة ويغوصون كأسماك الشابْل لاستخراج حُزَم الملابس وقناني دواء السُعال وطعام الصَدقات الذي تُلقي به المرأة الجميلة ذات قُبعة الريش من حُجَيْرات المِنطاد ، طاروا فوق أوقيانوسيا ظلال مزارع الموز التي كان صمتها يرتفع إليهم كبُخار مميت ، فتذكرت فرْمينا داثَا نفسها وهي في الثالثة من العمر أو ربما في الرابعة تتمشى في الأَجَمَة الكئيبة مُمسِكة بيَدأمها التي كانت ما تزال حينئذٍ مجرد طفلة أيضا وسط نساء أخريات يرتدين المُسلين مثلها ويحملن مِظلات بيضاء ويضعن قُبعَات شفافة .
قال مهندس المِنطاد الذي كان يراقب العالم بمنظار مُكَبِّر : يبدو أنهم موتى .
وأعطى المنظار للدكتور أُورْبينو فرأى هذا الأخير العربات التي ج=تجُرُّها الجواميس بين الشُجيرات ، وخطوط السكة الحديد ، وأقنية الري المتجمدة ، وحيث ما توجَّه ببصره كان يرى أجساداً بشرية مُبعثرة .
وقال أحدهم بأنه علِم أن الكوليرا كانت تفتك بقرى منطقة ثيناغاغاراندي .
فقال الدكتور أُورْبينو الذي لم يتوقف عن النظر بالمنظار أثناء كلامه : لا بد أنه صِنْف خاص جدا من الكوليرا إذن ، لأن هناك رصاصة رحمة في عنق كل واحد من الموتى ، ثم طاروا بعد ذلك بقليل فوق بحر من الزَبَد وحطّوا دون أي حادث يُذكر على شاطئ مُتَقِد ، كانت أرضه المُتشققة والمُغطاة بِمِلح البارود مُحَرَّقة وكأنها نار مُتأجِجة ، وكانت السلطات تقف هناك دون أي حماية من الشمس سوى المِظلات العادية ، وكان هناك تلامذة المدارس الابتدائية يُلوِّحون بأعلام صغيرة على إقاع النشيد الوطني ، ومَلِكات الجمال يحملن زهوراً أَحرقها القَيْظ ويضعن تيجاناً من الورق المُذَهَّب ، وسُذُجَ بلدة غايرَا المزدهرة التي كانت في ذلك الحين أحسن قرى الشاطئ الكاريبي حالاً .
الشيء الوحيد الذي كانت تريده فرْمينا داثَا هو رؤية مسقط رأسها ثانيةً لِتُقارِن ما تراه مع أقدم ذكرياتها ، لكنهم لم يسمحوا لأحد بالتجول خوفاً فتْك الوباء .
سلَّم الدكتور خوفينال أُورْبينو الرسالة التارخية التي فُقِدت فيما بعد ولم يعُد يُعرف شيء عنها ، وقد شارَف جميع أعضاء البعثة على الاختناق في قَيظ الخطابات الحماسية الى أن حملوهم أخيرا على صهوات البغال حتى مَرْسَى بويبلو بيخو حيث تلتقي المستنقعات بالبحر ، لأن المهندس لم يتمكن من جعل المِنطاد يطير ثانيةً .
كانت فرْمينا داثَا متأكدةً أنها قد مرت من هناك مع أمها وهي طفلة في عربة يجُرُّها زوج من الجاموس ، وقد رَوَت ذلك لأبيها عدة مرات عندما كَبِرت .
لكنه مات وهو يصر على أنه يستحيل عليها أن تتذكر ذلك وكان يقول لها : إنني أذكر هذه الرحلة جيدا وقد كانت هكذا فعلا ، لكنها حدثت قبل مولدك بخمس سنوات على الأقل .
عاد أعضاء بعثة المِنطاد بعد ثلاثة أيام الى ميناء المَنْشأ وقد ~أنهكتهم ليلة عاصفة واستُقبِلوا استقبال الأبطال ، وتعرَّف فلورنْتينوأَريثَا الضائع بين الحشود طبعا على آثار البُخار فوق مُحيَا فرْمينا داثَا ، ومع ذلك عاد لرؤيتها مَساء ذلك اليوم في استعراض الدراجات الذي أقيم تحت رعاية زوجها أيضا ، ولم يكن يبدو عليها أي أثر للتعب ، كانت تقود دراجة فريدة تبدو أشبه بجهاز من أجهزة السيرك بعجلتها الأمامية العالية والتي جلست فوقها بينما كانت العجلة الخلفية صغيرة جدا ولا تكاد تكفي لِإسنادها ، وكانت ترتدي سِروالاً فضفاضاً ذا حواشي ملونة أثار استنكار السيدات المُسِنّات وأفقد الرجال الوقورين صوابهم ، لكن أحدا لم يستطع إبداء لا مبالاته بمهارتها .
هذه الصور وغيرها كثير كانت صور سريعة الزوال لِسنوات طويلة ، تظهر بغتةً لِفلورنْتينوأَريثَا حين يحلو ذلك للمُصادفة ثم ما تلبث أن تختفي بالطريقة نفسها تاركةً في قلبه لَوْعة ، لكنها كانت تُخلِّف أثرا في حياته إذ أنه لم يتعرف على قسوة الزمن من مظهره هو بالذات بقدر ما تعرَّف عليه من التبدُلات التي يلاحظها على فرْمينا داثَا كُلما رأها .
دخل في أحد الأيام الى مطعم دون سانشو وهو مطعم فاخر من العهد الاستعماري ، واحتل ركناً مُنزوياً كما هي عادته كُلما مضى لِتناول وجبة عصر خفيفة كَوجبة عصفور وفجأة رأى فرْمينا داثَا في المرآة الضخمة جالسة الى الطاولة مع زوجها ورجلَين آخرَين مع زوجتَيهما بِزَاوية تُتيح له رؤية صورتها المعكوسة في المرآة بكل رونقِها ، كانت عزلاء تقود الحديث بظرافة وضحكة تنفجران كانفجار الألعاب النارية ، وكان جمالها أشد أَلَقاً تحت الثريا الضخمة ذات القطع الكِرستالية .
لقد عادت أَلِس لاختراق المرآة ، تأملها فلورنْتينوأَريثَا ما شاء له التَأَمُل بأنفاس مبهورة ، رآها تأكُل ورآها تتذوق قليلا من النبيذ ورآها تُمازح دون سانشو الرابع في سُلالته ، وعاش معها لحظة من حياتها وهو على طاولته المُنعزلة ، وتمشى لأكثر من ساعة في أرضها الحرام دون أن يكون مرئياً ، ثم تناول أربعة فناجين أخرى من القهوة ليبقى وقتاً أطول الى أن رآها تخرج مُختلطة بالجموع التي معها ، لقد مروا قريبا جدا منه لدرجة أنه تمكن من تمييز رائحتها وسط وابل العطور الأخرى المُنبعثة ممن هم معها .
ومنذ تلك الليلة وعلى امتداد سنة تقريباً قام بمحاصرة صاحب المحل حِصارا عنيداً عارضاً عليه كل ما يشاء من مال أو خدمات أو تلبية أكثر ما اشتهاه في حياته مقابل أن يبيعه المرآة ، ولم يكن الأمر سهلاً ، فالشيخ دون سانشو كان يؤمن بالخرافة القائلة أن ذلك الإطار الثمين الذي نجّار أبنوس من فينا هو توأم إطار آخر كانت تملكه ماري أنطوانيت ، وقد اختفى دون أن يبقى له أثر ، ، تُحْفتان فري\دتان ، وحين وافق أخيرا علق فلورنْتينوأَريثَا المرآة في صالة بيته ، ليس لجمال الإطار ودقة صنْعته وإنما لأجل القِسْم الداخلي الذي احتلته الصورة المحبوبة لساعتين .
وكثيرا ما كان يرى فرْمينا داثَا مُمْسِكة بِذراع زوجها في انسجام تام مُتحركَين كِليهما في جو خاص بهما ، بانسياب مُذْهل لا يتشوشإلا حين يُصافِحاه .
وفعلا كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يشد على يده بحرارة ، بل وكان يسمح لنفسه بأن يُربِّت على كتفه في بعض المناسبات ، أما هي فكانت تعامله بمُقتضى نظام الشكليات الغامض ، ولم تُبدي يوما أدنى حركة تتيح له أن يَشُك بأنها تتذكره مُذ كانت
كانا يعيشان في عالمَين متباعدَين ، وفيما كان يقوم بكل جهد متاح لِتقريب المسافة فإنها لم تكن تقوم بأية خطوة إلا في الاتجاه المُعاكشرس .
لقد مضى زمن طويل قبل أن يجرؤ على التفكير بأن تلك اللامبالاة ليست سوى دِرْع لإخفاء الخوف ، لقد خطر ذلك له فجأة عند تعميد السفينة النهرية الأولى التي جرى بناؤها في أحواض بناء السفن المحليَة ، وكانت تلك هي أيضا المناسبة الأولى التي مَثَّل فيها فلورنْتينوأَريثَا العم ليون الثاني عشر باعتباره نائباً أول لرئيس شركة ش ك م ، ، وقد أَضْفَت هذه المناسبة على الحفل مهابة خاصة ، فلم يتخلف عن الحضور أحد ممن لهم أية قيمة في حياة المدينة .
كان فلورنْتينوأَريثَا مشغولا بمَدْعُوِيه في الصالة الرئيسية في السفينة التي ما زالت تنبعث منها روائح الدِهان الحديث والقار المُذاب ، عندما انفجرت موجة من التصفيق على الرصيف وعزفت الفرقة الموسيقية لحناً حماسياً وكان عليه أن يقهر الارتعاشة القديمة كَقِدَمِه تقريبا حين رأى امرأة أحلامه الفاتِنة مُمْسِكة بِذراع زوجها بِنضوجِهَا الرائع وهي تمُر كمَلِكة من عصر آخر وسط حرس الشرف المُتَزيِّين بِزي المَراسم تحت وابل من الشرائط الورقية الملونة وأوراق الأزهار الطبيعية التي تُقْذَف من النوافذ ، وكانا يَرُدّان على التصفيق بتحية من يديهِما ، لكنها كانت فاتِنَة حتى لَتَبْدو وكأنها وحيدة وسط الحشد ، كان كل ما ترتديه له لون ذهبي ملَكي ابتداءً من الحذاء ذي الكعب العالي وأذيال الثعالب على عنقها وحتى القُبعة التي لها شكل الجرس .
انتظرهما فلورنْتينوأَريثَا على الجسر الى جانب السلطات الإقليمية ، وسط قصف الموسيقى والألعاب النارية وجُؤرات السفينة القوية الثلاثة التي بللت رصيف الميناء بِالبُخار .
صافح خوفينال أُورْبينو صف المُستقبِلين بتلك الابتسامة الطبيعية التي هي من خصائصه والتي تجعل كل واحد يظنه يصافحه بحرارة خاصة ، صافح أولاً قُبطان السفينة ببدلة المَراسِم ثم الأسقف وبعد الحاكم وزوجته والعُمدة وزوجته ، ثمقائد المنطقة العسكري وهو إنديزي حديث القدوم الى المدينة ، وبعد السلطات كان يقف فلورنْتينوأَريثَا مُرتدِياً بدْلة قاتمة ولا يكاد يظهر بين كل هؤلاء الأعيان ، وبعد أن صافحت فرْمينا داثَا قائد المنطقة العسكري بدا أنها ترددت أمام يد فلورنْتينوأَريثَا الممدودة .
فسألها العسكري المُتأهِب لتقديمه لها إن كانت لا تعرفه ؟
فلم تقُل لا ولم تقُل نعم ، بل مدت يدها الى فلورنْتينوأَريثَا بابتسامة صالون ، كان ذلك قد حدث في مناسبتَين سابقتينوسيحدث في مناسبات أخرى ، وقد تمثَّله فلورنْتينوأَريثَا دوما كتصرف نابع من طبيعة فرْمينا داثَا ، ولكنه تساءل في مَساء ذلك اليوم بمقدرته اللامحدودة على الحِلْم ، إن لم تكن هذه اللامبالاة القاسية إلا حيلة لإخفاء عذاب الحب .
وقد اضطَرَمَت أشواقه بمجرد ورود هذه الفكرة بباله ، فعاد للطواف حول بيت فرْمينا داثَا بنفس القلق الذي كان يشعر به قبل سنوات طويلة أثناء طوافه في حديقة البشارة ، لكنه لم يكن ينوي أن يجعلها تراه وإنما كانت نيته الوحيدة أن يراها لِيعلم أنها ما زالت حية في الدنيا ، ولم يعُد ممكنا للزمن أن يمضي حينئذٍ دون اكتراث .
كان حي لامانغا يقوم في جزيرة شبه مُقفرة تفصلها عن المدينة التاريخية قناة ماء خضراء مغطاة بأحراج من أشجار الأكاكو التي كانت ملاذاً للعشاق في أيام الآحاد إبان العهد الاستعماري ، ومنذ سنوات قليلة هدموا الجسر الحجري الذي بناه الإسبان وأقاموا جسراً جديدا مع مَصابيح الإنارة لِتتمكن الحافلات التي تجرها البغال من المرور .
لقد كان على ساكني لامانغا أول الأمر احتمال عذابما كان في الحسبان ، ألا وهو النوم قريبا من أول محطة لتوليد الكهرباء في المدينة والتي كان هديرها أشبه بهزة أرضية متواصلة ، ولم يستط حتى الدكتور خوفينال أُورْبينو بكل نفوذه جعلهم ينقُلون المحطة الى حيث لا تُزعِج أحداً الى أن توسطت لصالحه العناية الإلهية التي تحالفه دوما ، ففي إحدى الليالي انفجر مِرْجَل محطة التوليد في دوي بخاري هائل وطار فوق البيوت الجديدة مُجتازاً جزءاً كبيرا من المدينة في الجو وهوى ليحطم الرواق الرئيسي في دَير سان خُوْلايان آل هوسبيلاتاريو القديم .
كان المبنى القديم قد هُجِرَ في أوائل ذلك العام ، لكن المِرْجَل تسبب في مقتل أربعة سجناء كانوا قد فروا في أول الليل من السجن المحلي واختبأوا في الدَير المَهْجور .
تلك الضاحية الهادئة ذات التقاليد الغرامية الجميلة لم تعُد مع ذلك بالمكان المناسِب للغراميات الغير مواتية مُذ أصبحت حياً راقياً ، كانت مُتْرَبة في الصيف وموحلة في الشتاء ومُقفرة طوال العام ، فيما البيوت القليلة المختفية وسط حدائق وارفة ذات مصاطب الموازيك بدل من الشُرُفات القديمة تبدو وكأنها شُيِّدت لإخماد حماس العُشاق المُتَخَفين ، وكان أن شاعت في ذلك الحين لحسن الحظ عادة التنزه مَساءً بالعربات القديمة المُستأجرة والتي تم تعديلها لِيجرها حِصان واحد فقط ، وكانت الجولة بالعربة تنتهي عادةً في ربوة مشرفة يظهر منها شفق تشرين المفتت أفضل مما يظهر عليه من برج الفَنَار ، وتظهر كذكل للعين أسماك القرش الرشيقة وهي تترصد شاطئ المُجمع الإكليريكي وعابرة المحيطات التي تمر كل خميس ، ضخمة وبيضاء يكاد المرء يلمسها بيده وهي تجتاز قنال الميناء .
وقد اعتاد فلورنْتينوأَريثَا استئجار عربة للنزهة بعد يوم العمل الشاق في المكتب ، لكنه لم يكن يطْوي غطاء العربة كما هي العادة في شهور الحَر وإنما كان يبقى مُختَبِئا في الصمت غير مرئي في الظل ووحيدا دائما ، وكان يوجِّه الحوذي في اتجاهات غير متوقعة حتى لا يثير أفكاره السيئة .
الحقيقة أن الشيء الوحيد الذي كان يهمه من النزهة هو البيت ذو المرمر الوردي شبه المختفي بين شجيرات الموز وأشجار المانغا الملتفَة ، والذي كان تقليدا تعيسا لبيوت مُزارعي القطن الحالمة في لويزيانَا .
كان ابنا فرْمينا داثَا يرجعان الى البيت قبل الساعة الخامسة بقليل ، وكان فلورنْتينوأَريثَا يراهما عائدَين في عربة العائلة ، ثم يرى خروج الدكتور أُورْبينو بعد ذلك لزياراته الطبيَة المعتادَة ، ولكنه لم يحظَ خلال ما يقارب السنة من الطواف برؤية أية علامة تدل على وجود من كان يتشوق لرؤيتها .
وفي مَساء يوم أصر على النزهة المتوحدة رغم هطول أول أمطار حُزَيران المُدمرة انزلَق الح؟ِصان في الوحل وسقط على وجهه ، وانتبه فلورنْتينوأَريثَا مُرتعباً الى أنه كان مقابل بيت فرْمينا داثَا تماما .
فتوسل الى الحوذي صائحا دون أن يفكر بأن تَفَجُّعه قد يَشي به : ليس هنا أرجوك ، في أي مكان إلا هنا .
حاول الحوذي الذي أعماه التسرُّع أن يجبر الجواد على النهوض دون أن يَفُكَه فانكسر محور العربة ، خرج فلورنْتينوأَريثَا كيف ما استطاع واحتمل مَشاعر الخجل تحت وابل المطر الى أن عرض عليه متنزهون آخرون حمله معهم الى بيته ، وأثناء انتظاره رأته خادمة من خَدَم آل أُورْبينو بملابسه المبللة والمغطاة بالوحل حتى الركبتَين ، فحملت إليه مِظلة ليأتي ويحتمي على مصطبة البيت .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد حَلُمَ بمُصادفة كهذه في أقصى هذياناته شططا ، ولكنه كان يفضل الموت في ذلك المَساء على السماح لِفرْمينا داثَا برؤيته وهو على تلك الحالة .
أثناء سُكْناه في المدينة القديمة كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يذهب مع عائلته مَشْيا على الأقدام من بيته الى الكاتدرائية لحضور قُدّاس الساعة الثامنة ، وكان ذلك عملا دنيوياً أكثر منه دينياً ، وفيما بعد حين انتقلوا الى البيت الجديد تابَعوا الذهاب الى الكاتدرائية في العربة عدة سنوات وكانوا يتأخرون أحيانا لِتبادل الحديث مع بعض الأصدقاء تحت أشجار النخيل في الحديقة ، أما حين شُيِّد معبد المجمع الإكليريكي في لامانغا مع شاطئ خصوصي ومقبرة خاصة ما عادوا يذهبون الى الكاتدرائية إلا في بعض المناسبات القليلة ، وانتظر فلورنْتينوأَريثَا الذي كان يجهل هذه التبدُلات لعدة آحاد على رصيف مقهى الباروكية مراقباً خروج الناس من القُدّاسات الثلاثة ، ثم إنه أدرك خطأه وذهب الى الكنيسة الجديدة التي كان الذهاب إليها شائعا حتى سنوات قليلة ، وهناك وجد الدكتور خوفينال أُورْبينو مع ابنَيه في الثامنة بالضبط خلال أيام الآحاد الأربعة من شهر آب لكن فرْمينا داثَا لم تكن معهم ، وفي أحد أيام الآحاد هذه زار المقبرة المجاورة حيث كانوا ساكنو حي لامانغا يبنون أضرحتهم الفخمة وقفز قلبه حين رأى في ظلأشجار الثِيبَا الضخمة أفخم ضريح بين كل تلك الأضرحة ، كان ناجزاً ومُزَيناً بِزَخارف زجاجية قوطية وملائكة من المرمر وله شواهد مُذَهَبة تحمل أسماء جميع أفراد العائلة مكتوبة بحروف مُذَهَبة وبينهم بالطبع اسم دونيا فرْمينا داثَا دي أُورْبينو دي لاكايي ويليها ضريح الزوج ، وعلى كِلا القبرَين كتابة مشتركة ، معً كذلك في سلام الرب .
لم تحضر فرْمينا داثَا خلال بقية العام أياً من الناشاطات التمدنية أو الاجتماعية حتى ولا احتفالات عيد الميلاد حيث كانتا وزوجها عادةً من ظيوف الشرف ، لكن الإحساس بغيابها بلغ ذروته في حفل موسم افتتاح الأُوبيرا وفي الاستراحة بين الفصلَين .
فوجئ فلورنْتينوأَريثَا بجماعة لا بد أنها كانت تتحدث عنها دون ذِكْر اسمها ، كانوا يقولون أن هناك من رآها تصعد عند منتصف إحدى ليالي حُزَيران الفائت الى عابرة المحيط كونارْت المتجهة الى بَنَما ، وأنها كانت تغطي وجهها بخمار أسود كي لا تظهر آثار المرض المُخْجِل الذي كان يستنفدها .
وسأل أحدهم : أي مرض رهيب هذا الذي يجرؤ على امرأة مُتَجَبِّرَة مِثلها ؟
والإجابة التي تلَقّاها كانت مُشَبعة بمرارة سوداء .
- إن امرأة بارزة كهذه لا يمكن لها أن تُصاب إلا بالتدرن .
كان فلورنْتينوأَريثَا يعلم أن أثْرياء موطنه لا يصابون بأمراض قصيرة فإما أنهم يموتون فجأة ويكون ذلك في الغالب عشية حفلة كبرى يُفسدها الحداد وإما أنهم يأخذون بالإنطفاء في أمراض بطيئة وفضيعة تشيع أثناءها أسرار مرضهم بين الجميع ، وكاد الاعتكاف في بَنَما يكون تكفيراً إجبارياً في حياة جميع الأثْرياء حيث كانوا يخضعون هناك لمشيئة الله في مشفى المؤمنين ببعث المسيح ، والذي كان عبارة عن بناء فسيح أبيض ضائعة تحت أمطار داريين الخرافية يفقد فيه المرضى حساب القليل المُتبقي لهم في حياتهم ، ولم يكن أياً منهم يحرف حق المعرفة في الحجرات المتوحدة النوافذ المغطاة بِستائر سميكة إذا ما كان مَبعث رائحة الفينيك هو الصحة أو الموت ، وكان الذي يشفون منهم يعودون محملين بهدايا رائعة يوزعونها بسخاء وهم يبدون الكآبة لِيسامحهم المجتمع على طيشهم في البقاء أحياءً ، وكان بعضهم يعودون وفي بطونهم آثا خياطة بربرية تبدو وكأنها أُجريت بخيوط قِنَّب كالتي يستخدمها الإسكافيون ، فيرفعون قمصانهم ليعرضوها على زائريهم ويقارنوها بآثار جراح آخرين ممن ماتوا مختنقين لفرط السعادة ، ويعيشون بقية حياتهم وهم يروون ويعيدون رواية الرؤى الملائكية التي رأوها وهم تحت تأثير الكلوروفورم ، ولم يكن هناك بالمقابل من يعرف كيف كانترؤى الذين لم يرجعوا وخصوصاً أشدهم حزناً ، أولئك الذين ماتوا منفيون في جناح المَسْلُولين بتأثير كآبة المرض أكثر مما هو بتأثير فتْك الداء .
وحين فكَّر بالاختيار لم يعرف فلورنْتينوأَريثَا ما الذي كان يفضله لِفرْمينا داثَا لكنه كان يفضل الى الوصول للحقيقة قبل أي شيء حتى ولو كانت لا تطاق ، ورغم بحثه الدؤوب عنها لم يتوصل إليها ، وبدا له غير معقول ألا يجد أحداً قادرا على إعطائه دليلاً يُثبت صحة رواية المرض ، ففي عالم السفن النهرية الذي هو عالمه لم يكن هناك من سر يمكن إخفاؤه ولا ائتمان يمكن صَونه ، ومع ذلك فإن أحدا لم يسمع بأمر المرأة ذات الخمار الأسود ولم يكن هناك من يعرف شيئا عنها في مدينة كل ما فيها معروف للجميع حيث تشيع الأخبار عن أشياء كثيرة قبل حدوثها وخصوصاً إذا كانت من شؤون الأغنياء ، كما لم يكن لأحد تفسير معين لاختفاء فرْمينا داثَا .
تابَع فلورنْتينوأَريثَا الطواف في لامانغا مُسْتَمِعاً دون تقوى الى المواعظ في كنيسة المدرسة الإكليريكية ومشاركاً في احتفلات تمدنية ما كانت لِتهمه وهو في حالة معنوية أخرى ، لكن مرور الوقت لم يكن إلا ليزيد من صحة رواية المرض ، كل شيء كان طبيعياً في بيت آل أُورْبينو باستثناء غياب الأم .
وفي خضم استقصاءاته الكثيرة وجد أخباراً أخرى لم يكن يعرفها أو لم يكن يبحث عنها منها موت لورينثو داثَا القرية الكانتبرية التي وُلِد فيها ، تذكَّر أنه كان يراه لسنوات طويلة في حروب الشطرنج الصاخبة في مقهى الباروكية بصوته الأبح لكثرة ما يتكلم ، وكان يصبح أكثر بدانة وفظاظة كُلما هوى في الرمال المتحرِكة لشيخوخة مَقيتة ، لكنه ما عاد يبادله الحديث منذ فطور خمر اليانسون المشؤوم في القرن الماضي مع أن فلورنْتينوأَريثَا كان متأكداً من أن لورينثو داثَا ما زال يذكره بِحِقْد شديد كحقده هو عليه حتى بعد أن حقق لابنته الزواج المحظوظ الذي كان مُبرر حياته الوحيد ، لكنه كان مصمماً على الوصول الى معلومات صحيحة عن صحة فرْمينا داثَا فعاد الى مقهى الباروكية ليحصل عليها من أبيها في الفترة التي جرت فيها هناك المباراة التاريخية حين واجه جيرميَا ديسَانْت آمور وحده اثنين وأربعين خصماً ، وكان أن عَلِم هناك بموت لورينثو داثَا وقد ابتهج لذلك من كل قلبه رغم معرفته أن ثمن تلك البهجة قد يكون استمراره في الحياة دون معرفة الحقيقة ، وأخيرا اعتبر رواية مستشفى اليائسين من الشفاء صحيحة دون عزاء آخر سوى مثَل شعبي سائر ، (امرأة مريضة ، امرأة خالدة).
وفي أيام يأسه كان يقتنع بفكرة أن خبر موت فرْمينا داثَا في حالة وقوعه سيصله على أية حال دون أن يبحث عنه ، لكن الخبر لم يصله أبدا ، ففرْمينا داثَا كانت حية ومعافاة في المزرعة التي تعيش فيها منسية ابنة خالها هيلْدا براندا سانجيت على بُعد نصف فَرْسَخ من قرية فلوريس دي ماريا .
لقد ذهبت بلا فضيحة وباتفاق مع زوجها بعد أن توَرَط كِلاهما كمراهقَين في الأزمة الجديَة الوحيدة التي عرفاها خلال خمس وعشرين سنة من زواجهما المستقر .لقد فاجأتهما الأزمة وهما في راحة النضوج حين بَدأا يشعران أنهما بمنأى عن أي مكيدة يحيكها الخصوم مع ابنَيهما الكبيرَين وحسنَي التربية والمستقبل المفتوح أمامهما ليتعلما كيف يشيخان دون مَرارات ، لقد كانت أزمة غير منتظرة لكِليهما ولم يشاءا فضها بالصُراخ والدموع والوسطاء كما هي العادة الطبيعية في الكاريبي ، ,إنما بحِكمة الأمم الأوربية وبما أنهما لم يتمكنَاممن عمل هذا ولا ذاك فقد انتهيا الى التخبط في حالة صبيانية لا تنتمي الى أي مكان ، وأخيرا قررت الذهاب حتى دون أن تعرف لماذا هي ذاهبة ، يقودها الى ذلك الغضب وحده ولم يكن هو بقادر على اقناعها بالعدول عن رأيها ، يمنعه منذلك شعوره بالذنب .
لقد صعدت فعلا الى سفينة في منتصف الليل وسط تكتم شديد وبوجه مغطى بطرحة الحداد ، لكنها لم تصعد الى عابرة المحيطات كونارْد الذاهبة الى بَنَما وإنما في سفينة عادية ماضةي الى خوان ديلاثيناغا المدينة التي وُلِدَت وعاشت الى أن بلغت سن الرشد ، وكان حنينها إليها يصبح أشد وطأة مع تقدم السنين ، ورغم مشيئة الزوج وعادات العصر فإنها لم تأخذ معها من يرافقها سوى ابنة في العماد عمرها خمس عشرة سنة كانت تعيش بين خدم البيت ، لكنهم أعلموا بسَفرها قَباطنة السفن وسلطات الموانئ التي ستمُر فيها .
وحين اتخذت قرارها الذي لا عودة فيه أخبرت ابنَيها أنها ذاهبة لتخفف عن نفسها لمدة ثلاثة شهور حيث تعيش الخالة هيلْدا براندا ، لكنها كانت قد قررت البقاء هناك .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يعرف جيدا صلابة طبعها ، وكان مغموماً لدرجة أنه تقَبَّل سَفرَها بذُل وكأنه عقاب من الرب لخطورة آثامه ، لكنه لم يُضِع من نظره أنوار السفينة حين كان كِلاهما نادماً لضعفه ، ورغم احتفاظهما بِمُراسلات رسمية حول وضع الابنَين وبعض شؤون البيت الأخرى فقد انقضت سنَتان تقريبا دون أن يجد أياً منهما طريقاً للعودة ليست ملغومة بالكِبرياء .
ذهب الابنان الى فلوريس دي ماريا لقضاء عطلتهما المدرسية في السنة الثانية ، وفَعَلَت فرْمينا داثَا المستحيل لتبدو راضيةً عن حياتها الجديدة ، وكان هذا على الأقل هو ما استنتجه خوفينال أُورْبينو من رسائل ابنه ، ثم أن أسقف ريوهاجَا الذي كان يقوم حينئذٍ بِجَولة رعوية في تلك الأنحاء مُمْتَطياً تحت مظلة تقيه الشمس مَتْن بغلته الشهيرة البيضضاء ذات السرج الموشى بالذهب ، وجاء في إثْرِه حُجاج من أقاليم نائية وعازفو الأوكورديون وبائعو أطعمة وتمائم متجولون ، وامتلأت المزرعة لثلاثة أيام بِمَشْلولين ومرضى يائسين من الشفاء ، لم يأتوا في الحقيقة من أجل مواعظ الأسقف المُتضلعة ولا مغفرته الكُليَة وإنما سعياً وراء مِنَّة البغلة التي كان يُشاع أنها تُحقِق معجزات دون علم سيدها .
كان الأسقف على علاقة وطيدة بآل أُورْبينو دي لَاكايي مذ كان خورياً ، وفي ظهيرة أحد الأيام هرب من مهرجانه لِيتناول الغداء في عزبة هيلْدا براندا ، وبعد الغداء الذي لم يتكلم خلاله إلا بأمور دنيوية قاد فرْمينا داثَا جانباً وأراد أن يسمع اعترافها ، ولكنها رفضت بلطف إنما بحسم مُتَذَرِعَة بأنه ليس لديها ما تندم عليه ، ومع أن غرضها لم يكن كذلك في وعيها على الأقل إلا إنها فَكرت سيصل الى حيث يجب وصوله .
لقد اعتاد الدكتور خوفينال أُورْبينو القول ليس بلا شيء من المباهاة بأن تلك السنتَين المريرتين من حياته لم تكونا نتيجة ذنبه وإنما بسبب عادة زوجته المرذولة بِشَم الملابس التي يخلعها أفراد العائلة والتي تخلعها هي نفسها لتعرف من الرائحة إذا ما كان يجب إرسالها للغسيل حتى وإن بدت نظيفة للوهلة الأولى ، كانت تفعل ذلك منذ طفولتها ، ولم تكن ترى فيه ما يلفت الانتباه الى أن انتبه زوجها للأمر في ليلة الزفاف بالذات كما انتبه الى أنها تُدخن ثلاث مرات على الأقل يومياً وهي حابسة نفسها في الحمام ، لكن هذا لم يُقلقه لأن نساء طبقتها اعْتَدْنَ حبس أنفسهن في مجموعات للتدخين والحديث عن الرجال بل ولِشُرب الخمر القوية الرخيصة أيضا الى أن يطرحن أرضاً في سكرة كسكرات البَنّائين .
لكن عادتها في شَم كل ما تجده أمامها من ملابس لم تكن تبدو له غير لائقة فحسب وإنما ذات خطر على الصحة أيضا ، فكانت تأخذ الأمر بالمزاح كما تتناول كل ما لا تريد مناقشته ، وتقول إن الله لم يضع في وجهِها ذلك الأنف المُُدَقِّق لمجرد الزينة ، وفي صباح أحد الأيام أثناء خروجها الى السوق قلبت الخادمات الحي بحثاً عن الابن ذي السنوات الثلاث الذي لم يجدن له أثراً في أي مكان في البيت ، وجاءت هي وسط الذعر فقامت بجَولتَين أو ثلاث جَولات كتلك التي كلاب الأثر البوليسية ووجدت الابن نائم في إحدى خزائن الملابس حيث لم يخطر ببال أحد أن يكون قد اختَبَأ ، وعندما سألها زوجها المندهش كيف وجَدَتْه ؟
ردت قائلة : من رئحة بُرازه .
والحقيقة أن حاسة الشم لم تكن تفيدها في غسل الملابس أو في العثور على أطفال ضائعين فقط ، لقد كانت حاسة التوجه لديها في جميع مستويات الحياة وخصوصاً في الحياة الاجتماعية ، وقد لاحظ الدكتور خوفينال أُورْبينو ذلك خلال حياته الزوجية كلها وخصوصاً في بدايتها حين كانت دائمة العبوس في جو مهيأ ضدها منذ 300 سنة ، ومع ذلك فإنها كانت تسبح بين شِعاب مرجانية حادة دون أن تصطدم بأحد وبسيطرة على العالم لا يمكن لها إلا أن تكون غريزة خارقة للطبيعة ، هذه القدرة الرهيبة التي قد يكون منشؤها حِكْمة ترجع لملايين السنين أو قلب صُواني جاءتها بسعاة محنتها في يوم أحد مشؤوم قبل الذهاب للقُدّاس حين كانت فرْمينا داثَا تَشُمُّ الملابس التي استخدمها زوجها مَساء اليوم السابق بشكل روتيني محض فأحست بقلق أن رجلا آخر هو الذي أمضى الليل في فراشها ، شمَّت السُترة أولا ثم الصدرية فيما هي تَنْزِع الساعة ذات السلسلة الذهبية من العروة وتُخرِج قلم الرصاص ومحفظة الأوراق النقدية وقطع النقود المعدنية القليلة من الجيوب وكانت تضع كل ذلك على خوان الزينة ، ثم شمَّت القميص المُجَعد وهي تَحِل ياقة ربطة العنق وَزِرِي المِعصَم الياقوتيَين وزر الياقة الذهبي ، ثم شمَّت البنطال وهي تُخرج من جيوبه حمّالة المَفاتيح ذات الأحد عشر مِفتاحاً وقِلامة ريشة الكتابة ذات المِقبض الصدفي ، وشمَّت أخيرا السروال الداخلي والجوربَين والمنديل المُطرزة عليه الحروف الأولى من اسمه ، ولم يكن هناك من ظل أدنى شك ففي كل قطعة من ثيابه كانت تجد رائحة لم تكن فيها خلال سنوات حياتهما المشتركة الطويلة ، رائحة يستحيل تحديدها لأنها ليست رائحة زهور ولا رائحة مستحضرات اصطناعية وإنما رائحة خاصة بالطبيعة البشرية .
لم تقُل شيئا ، كما لم تعُد تجد تلك الرائحة كل يوم ، لكنها ما عادت تشُم ملابس زوجها بفضول لِتعرف إذا ما كانت بحاجة لِغسيل وإنما بجزع لا يُطاق كان يكوي أحشاءها .
لم تعرف فرْمينا داثَا أين تُحدد موقع رائحة الملابس في روتين زوجها ، لا يمكن أن يكون ذلك ما بين الدرس الصباحي والغداء لأنها افترضت أنه لا يمكن لامرأة سليمة العقل ممارسة حب مُتعجل في مثل تلك الساعة ، حين يكون على المرأة كَنْس البيت وترتيب الأَسِرة والتسوق وإعداد الغداء وربما تكون قلقة من أن يأتيها أحد الأطفال وقد أعادوه من المدرسة قبل الموعد لإصابته بضربة حجر فيجدها عاريةً في الساعة الحادية عشرة صباحا وي حجرة غير مرتَّبة ، كما يجد وتلك قاصمة الظهر أن طبيباً فوقها .
وكانت تعلم من تجربتها أن الدكتور خوفينال أُورْبينو لا يمارس الحب إلا لَيلا بل إنه يفضل أن يكون الظلام دامساً ، وربما قُبَيل الفطور أحيانا على زَقزَقة أول العصافير ، أما بعد هذه الساعة فنزع الملابس كما كان يقول ولِبْسها من جديد أشق على النفس من متعة حب كحُب الديك ، أي أنتلوث الثياب لا يمكن له أن يحدث إلا في إحدى زيراته الطبيَة أو في وقت مُختَلَس من من لياليه في لَعِب الشطرنج أو في السينما ، وقد كان التَحقُق من هذا الاحتمال الأخير صعباً ، لأن فرْمينا داثَا على العكس من معظم صديقاتها كانت تعتز بِكِبريائها بحيث لا تسمح لنفسها بالتجسس على زوجها أو بان تطلب الى احد عمل ذلك بدلا منها .
إن توقيت زيارة المرضى الذي يبدو الأكثر ملاأَمَة لاقتراف الخِيانة هو في الوقت ذاته أسهل فترة يمكن رصدها لأن الدكتور خوفينال أُورْبينو يسجل بالتَفصيل وضع كل مريض من زبائنه بما في ذلك حالة حسابات الأتعاب منذ أن يزوره أول مرة وإلى أن يودعه من هذا العالم بصليب أخير وعبارة من أجل راحة روحه .
بعد ثلاثة أسابيع لم تجد فرْمينا داثَا للرائحة أثراً في الملابس لعدة أيام ثم عادت تجدها فجأة ودون سابق إنذار ، ثم إنها وجدتها فيما بعد أوضح مما كانت عليه سابقاً ولِأيام متتالية رغم أن أحد تلك الأيام كان يوم أحد احتفالي لم تُفارقه خلاله لحظة واحدة ، وفي إحدى الأُمسيات وجدت نفسها في مكتب زوجها على خلاف عادتها بل وعلى خلاف رغبتها وكأنها ليست هي التي تقوم بشيء لم تُقْدِم عليه أبدا ، وإنما امرأة أخرى سواها مُحَلِلةً بِعدسة مُكَبِرة ملاحظات زوجها المتَشابِكة عن زياراته لمرضاه خلال الشهور الأخيرة .
كانت المرة الأولى التي تدْخل فيها هذا المكتب المُشبع بِرطوبة الكِريوزوت والمُفْعمة بالكتب المُجَلَّدة بجلود حيوانات مجهولة وصور مدرسية مضطربة وشهادات شرف واصطارلابات وخناجر زائفة جمعها خلال سنوات ، إنه الهيكل السري الذي كان دوما جزءاً من حياة زوجها الخاصة ، وهي لا تَدْخُله لأنه لا علاقة له بالحب ، أما المرات القليلة التي دخلت هناك فكانت وهي معه ومن أجل قضايا مستعجلة دوما ، لم تكن تشعر بأن لها الحق في الدخول وحدها وخصوصاً إذا كانت تريد إجراء تحريات لا تبدو لها محترمة ، إنما هاهي هناك ، إنها تريد العثور على الحقيقة وتبحث عنها بقلق لا يمكن مقارنته بِخوفها الرهيب من العثور عليها مدفوعة بعاصفة متسلطة أكثر عتوا من كِبريائها الخَلْقي ، أكثر عتوا من كرامتها ، أنه تعذيب ساحر للنفس .
لم تستطع الوصول الى شيء واضح لأن مرضى زوجها باستثناء الأصدقاء المشتركين بينهما كانوا كذلك جزءاً من احتكارات زوجها الخاصة ، إنهم أُناس بلا هوية ، لا يُعرَفون بوجوهِهم وإنما بآلامهم ، لا يُعرَفون بلون أعينهم أو مراوغة قلوبهم وإنما بحجم كبدهم وقَلْح لسانهم وكثافة بَولِهم وهذيانِهم في ليالي الحُمّا ، أُناس يؤمنون بزوجها ، يؤمنون بأنهم يعيشون به بينما هم في الحقيقة يعيشون له وينتهون الى اختزالِهم في عبارة يكتبها بخطِه ويده على طرف التقرير الطبي : اهدأ فالرب ينتظرك عند الباب .
تركت فرْمينا داثَا المكتب بعد ساعتين ، لم تصل خلالهما الى شيء شاعرة أنها خضعت لغواية فاحشة ، وبدأت تكتشف مدفوعة بأوهامها التبدلات التي طرأت على زوجها ، أصبحت تراه مراوِغاً قليل الشهية على المائدة وفي الفراش ، ميالا الى السخط والردود المتهكمة ولم يعُد الرجل الهادئ الذي كانه من قبل أثناء وجوده في البيت وإنما صار أشبه بأسد محبوس ، ولأول مرة منذ زواجهما أخذت راقب تأخره وترصد أوقاته بالدقيقة وتكذب عليه لتحصل عى الحقائق ، ولكنها كانت تشعر بعد ذلك بجرح قاتل لتناقضِها ، وفي إحدى الليالي استيقظت مذعورة لإحساسها أن زوجها يتأملها في العتمة بعينَين مشحونتَين بالحقد ، لقد عانت قشعريرة مُماثلة وهي في زهرة شبابها حين كانت ترى فلورنْتينوأَريثَا يتأملها عند طرف السرير ، والفارق الوحيد هو ا ، مظهره لم يكن حينئذٍ مظهر حقد وإنما حب ثم إنها لم تكن واهمة هذه المرة ، كان زوجها مستيقظاً في الثانية بعد منتصف الليل وقد اعتدل في السرير ليتأملها وهي نائمة ، ولكنها حين سألَته لماذا يفعل ذلك ؟
أنكر الأمر وأعاد وضع رأسه على الوسادة قائلا : لابد أنك كنت تحلمين .
بعد هذه الليلة وبفعل أحداث مشابهة وقعت في تلك الفترة التي لم تعُد فرْمينا داثَا تعلم فيها علم اليقين أين ينتهي الواقع وأين تبدأ الأحلام ، توصلت الى اكتشاف باهر بأنها آخذة بِالجِنون ، ثم انتبهت أخيرا الى أن زوجها لم يتناول القربان الرباني يوم خميس التجسيد ولا في أي أحد من آحاد الأسابيع الأخيرة ، كما أنه لم يجد وقتاً للخلوة الروحية في ذلك العام ، وعندما سألَته عن سبب هذه التبدُلات الغريبة في صحته الروحية تلقت رداً مُبْهَماً .
وكان هذا هو المِفتاح الحاسم للحل لأنه لم يكن يتخلف عن تناول القربان المقدس في يوم بهذه الأهميَة منذ مناولته الأولى وهو في الثمنة من العمر ، وهكذا أدركت أن زوجها لم يسقط في الخطيئة المهلكة وحسب وإنما هو مُصِرّ على الولوغ فيها لأنه يرفض اللجوء الى مساعدة كاهن الاعتراف .
لم تتصور أنها قد تُعاني يوما الى هذا الحد من شيء يبدو مناقِضا للحُب تماما ، ولكنها كانت في خضم هذه المعاناة ورأت أن الوسيلة الوحيدة لِتَخليص نفسها هي دَسُّ النار الى جحر الحيات التي سممت دخيلتها .
وهكذا فعلَت ، فقد جلست في مَساء أحد الأيام لِتَروف أعقاب الجوارب على الشُرْفة فيما كان زوجها يُنهي قراءته اليومية بعد القيلولة ، وفجأة قطعت عملها ورفعت نظارتها الى جبهتها واستجوبته دون أي قسوة .
- دكتور .
كان غارقاً في قراءة إلِديس بِنجونس الرواية التي قرأها الجميع في تلك الأيام .
وأجابها دون أن يخرج من جو الرواية : أُويو .
فألحت : انظر الى وجهي .
فعل ذلك ناظراً إليها دون أن يراها من خلال غِلالة نظارة القراءة ، لكنه لم ينزع النظارة كي لا يحترق بجمرة نظرتها وسألَها ما الأمر ؟
فقالت : أنت تعرفه خيراً مني.
ولم تقُل شيئا آخر بل أنزلت نظارتها من جديد وتابعت رَفوَ الجوارب .
حينئذٍ علِم الدكتور خوفينال أُورْبينو أن ساعات الجزع الطويلة قد انتهت وعلى العكس من تصوره لتلك اللحظة فإنها لم تكن هزة تزلزل القلب وإنما مجرد ضربة سلام ، إنها الطمأنينة العاجلة لما كان سيحدث عاجلا أَم آجلا ، لقد دخل شبح الآنسة باربرَا لينج الى البيت أخيرا .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو قد تعرَّف عليها قبل أربعة أشهر بينما كانت تنتظر دورها في العيادات الخارجية بمشفى الرحمة ، وانتبه على الفور بأن شيئا لا سبيل لإصلاحه قد حاق بقدَرِه ر .
كانت خلاسية طويلة القامة ذات عظام طويلة لِبشرتها لون العسل الأسود وقوامه اللَدِن ذاته ، وكانت ترتدي في ذلك الصباح فُستانا أحمر مُزَيَناً بدوائر بيضاء وتضع قُبعة من نفس النوع ذات حافة عريضة تُفرِد ظلَها حتى حتى رموش عينيها وكانت تبدو وكأنها من جنس أكثر تحديدا من سائر أبناء البشر .
لم يكن الدكتور خوفينال أُورْبينو يعالج المرضى في العيادات الخارجية ، ولكنه اعتاد كُلما مر من هناك وكان لديه متسع من الوقت الدخول لِيُذَكِّر تلاميذه الكبار بأنه لا دواء أفضل من التشخيص الجيد ، وهكذا تدبر أمره ليكون حاضراً عند فحص الخلاسية العابرة مُحاذراً ألا يلحظ تلامذته أية حركة لا تبدو عرَضية ، ودون أن ينظر إليها تقريباً ، ولكنه دَوَّن في ذاكرته جيداً المعلومات التي قدمتها عن نفسها ، وفي هذا المَساء بالذات بعد زيارة آخِر مرْضاه جعل العربة تمُر من العنوان الذي أفْضت به في العيادة ، وكانت هناك فعلا تستمتع على الشُرْفة برطوبة آذار .
كان البيت واحدا من بيوت الأنتيل التقليدية ، مطلياً كُله باللون الأصفر بما في ذلك سقف التوتياء ، وله نوافذ مُخَرَمة وفيه أُصص قُرُنْفُل وسَرْخَس معلَّقة على البوابة الخارجية ، وكان البيت يقوم فوق ركائز خشبية في مستنقع لامالاكِريَانْثَا ، وفي قفص مُعلَّق بأفريز السطح كان يغرد عصفور توريبال ، وعلى الرصيف المقابل للبيت كانت توجد مدرسة ابتدائية وكان الأطفال يخرجون منها بفوضى أجبرت الحوذي على شد الأُعِِنِّةالأَعِنَّة بقوة لِيحول دون إجفالهم رللحصان ، لقد كانت تلك ضربة حظ إذ تمكنت الآنسة باربرَا لينج من التعرف على الدكتور ، فحيته بحركة مَعارف قُدماء ودعته ليتناول فنجان قهوة ريثما تنتهي الفوضى ، فتناوله بكُل سرور على خلاف عادته مُستَمِعاً إليها تتحدث عن نفسها ، وهو الشيء الوحيد الذي أصبح يهمه منذ ذلك المَساء ، والشيء الوحيد الذي سيستحوذ على اهتمامه دون لحظة سلام خلال الأشهر التالية .
لقد قال له أحد أصدقائه بحضور زوجته في إحدى المناسبات وهو حديث العهد بالزواج بأنه سيواجه عاجلاً أو آجلاً عاطفة تبعث على الجنون ، يمكنها أن تُعرِّض استقرار حياته الزوجية للخطر ، لكنه هو الذي كان يظن بأنه يعرف نفسه جيدا ويَعرف متانة جذوره الأخلاقية ضحك من هذه النبوءة .
حسناً إذن ، هذه هي الآن الآنسة باربرَا لينج دكتوراه في علم اللاهوت ، هي الابنة الوحيدة للمحترم جون ثين لينج الراعي البروستانتي الزنجي النحيف الذي ينطلق على بغلته على قرى المستنقع الهنديية مبشراً بتعاليم أحد الألهة الكثيرين الذي يكتبهم الدكتور خوفينال أُورْبينو بادئاً أسماءهم بحرف صغير ليميزهم عن إلهه .
كانت تتحدث بِقِشْتالية جيدة مع عثرات ضئيلة في النحو يضاعف تكرارها من ظرافتها ، كانت ستتم الثامنة والعشرين من العمر في كانون الثاني وقد طُلِّقَت قبل ذلك بقليل من راعٍ آخر أ=هو أحد أتباع أبيها ، وكانت قد تزوجت منه زواجاً سيئا دام سنتين ولم تعُد لديها رغبة في الزواج مجددا .
قالت : لا أحب أحداً سوى عصفورَي التوربيال .ط
لكن الدكتور خوفينال أُورْبينو كان جدياً بما يكفيه ليفكر بإنها إنما تقول ذلك مُتعمِدةً ، بل إنه سأل نفسه وهو مضطرب الأفكار ما إذا كانت كل هذه التسهيلات مُجتمعة ليست سوى فخ من الرب لجعله يدفع الثمن باهضاً فيما بعد ، ولكنه أبعد هذا السؤال في الحال من ذهنه على أنه حالة لاهوتية سببها وضعه المضطرب .
وعندما ودعها تطرَق بشكل عرَضي الى استشارتها الطبية صباحا ، مُدرِكاً أنه ليس أَحب للمريض من الحديث عن آلامه ، وقد كانت هي في منتهى الروعة بحديثها عن آلامها ، حتى أنه وعدها بالعودة في اليوم التالي الساعة الرابعة تماما لفحصها فحصاً دقيقاً .
أحست بالفزع ، كانت تعلم أن طبيبا
ً من هذا النوع بعيد جدا عن إمكانياتها .
لكنه طمأنها : إننا نحاول في هذه المِهنة جعل الأغنياء يدفعون عن الفقراء .
ثم سجل الملاحظة في دفتر جيبه ، الآنسة باربرَا لينج مستنقع لامالاكِريَانْثَا السبت الرابعة مَساءً .
بعد ذلك بشهور قرأت فرْمينا داثَا تلك الملاحظة التي أُضيفت إليها تفاصيل التشخيص والعلاج وتطور المرض ، وقد لفت الاسم اهتمامها وخطر لها فجأة بأنها واحدة من هؤلاء الفنانات المُضلِلات في سفن نيو أُورلِنيانز للفواكه ، لكن العنوان جعلها تُفكر بأن الاحتمال الأقرب الى الصواب هو أنها جامايكية وزنجية بالطبع ، فصرفت النظر عنها دون معاناة لعدم انسجامها مع ذوق زوجها .
ذهب الدكتور خوفينال أُورْبينو الى موعده يوم السبت متقدماً عشر دقائق حين لم تكن الآنسة لينج قد انتهت من ارتداء ملابسها لاستقباله ، ولم يشعر بتوتر كالذي شَعَر به أمامها منذ أيام باريس حين كان عليه التقدم لامتحان شفوي .
كانت الآنسة لينج تمتلك جمالا لا محدوداً وهي مستلقية على السرير بقميص نوم حَريري رقيق ، كل ما فيها كان عظيماً وَزَخماً ، فخْذاها اللذان كفخذَي عروس البحر وبشرتها المحروقة على نار خفيفة ونهداها الذاهلان ولثتها الشفافة ذات الأسنان الدقيقة ، وجسدها كله الذي ينضح ببخار العافية ، وهي الرائحة البشرية التي وَجَدَتها فرْمينا داثَا في ملابس زوجها .
كانت قد ذهبت الى العيادة الخارجية لمعاناتها من شيء تدعوه بِظرَافة شديدة مغصاً ملتوياً ، وظن الدكتور أُورْبينو أنها أعراض قلة شرب السوائل ، وقد لامس على أي حال أعضاءها بغرض أبعد ما يكون عن الاهتمام الطبي ، وراح ينسى أثناء ذلك معارفه العلمية ويكتشف مذهولا أن تلك المخلوقة العجيبة كانت جميلة من الداخل كجمالها من الخارج
وعندئذٍ ترك متعة اللمس تقوده ليس على أنه الطبيب الأكثر شُهرة في ساحل الكاريبي وإنما كرجل بائس على باب الله يعذبه هيجان الغرائز .
كان قد حدث له شيء مُشابه كهذا مرة واحدة في حياته المِهَنية الطويلة ، وقد كان ذاك هو يوم عاره الكبير لأن المريضة الحانقة أزاحت يده واعتدلت على السرير قائلة له : إنما تريده يمكن أن يحدث ولكن ليس هكذا .
أما الآنسة لينج فقد سلمت نفسها ليَدَيه ، وحين لم يعُد لديها أدنى شك في أن الطبيب ما عاد ليفكر بعلمه قالت : كنت أظن أن هاذا غير مسموح في الأخلاق الطبية .
كان مبللا بالعرَق وكأنه خارج بملابسه من بِرْكة ماء ، فمسح يدَيه ووجهه بمنشفة وقال : الأأخلاق الطبيَة تصَوِّرُنا معشر الأطباء من خشب .
مدت له يداً شاكرة وقالت : كوني كنت أظن لا يعني أنه لا يمكنك فعل ذلك ، تصور ما الذي سيحدث لِزِنجية مسكينة مثْلي حين يهتم بي رجل بالغ الأهميَة .
فقال : لم أتوقف عن التفكير بكِ لحظة واحدة .
كان اعترافاً مُرتعشاً الى حد جعله جديراً بالشفقة ، ولكنها وضعته بمَنجَى من كل شر بِقَهْقَهَة أضاءت حجرة النوم وقالت : أعرف ذلك مُذ رأيتك في المستشفى يا دكتور ، صحيح أنني زنجية ولكنني لست غبية .
لم يكن الأمر سهلاً ، فالآنسة لينج تريد شرفها نظيفاً وتريد الأمان والحب ، وترى أنها جديرة بذلك ، لقد أتاحت للدكتور أُورْبينو فرصة إغوائها إنما دون السماح له بدخول الحجرة أثناء وجودها وحيدة في البيت ، وأبعد ما وصلت إليه هو السماح له بتكرار طقوس اللمْس والفحص بالتنصت مع كل ما يرافق ذلك من خروقات أخلاقية يشاؤها ، ولكن دون أن تنزع ثيابها ، أما هو فلم يستطع إفلات الطعم بعد أن ابتلعه وثابر على حصاره اليومي .
كان استمرار علاقته بالآنسة لينج شبه مستحيل لأسباب مرتبطة بنظامه العملي ، ولكنه كان أضعف من أن يكبح نفسه في الوقت المناسِب كضعفه في المضي قُدُماً فيما بعد ، لقد كانت له حدوده .
لم تكن حياة المحترم لينج بالحياة المنتظِمة فهو ينطلق في أي وقت على متْن بغلته المُحمَّلة في أحد جانبَيها بكتب مقدسة ونشرات دعائية إنجيلية ، وفي الجانب الآخر بالزاد ومواد التموين ، ويرجع حين لا تخطر عودته ببال أحد ، كما كان هناك عائق آخر يتمثل بالمدرسة المقابلة ، فالأطفال فيها يوغنون دروسهم وهم ينظرون الى الشارع من النافذة وأفضل ما يرونه هو البيت القائم على الرصيف المقابل بأبوابه ونوافذه المُشْرَعة على مصراعَيها منذ الساعة السادسة صباحا ، ويرون الآنسة لينج وهي تُعلِّق القفص بأفريز السطح ليتعلم طائر التوريبال موسيقى الدروس المُغْناة ، ويرونها بعمامتها الملونة وهي تغني أيضا بصوتها الكاريبي النقي أثناء قيامها بأعمال البيت ، ويرونها بعد ذلك جالسة على الشُرْفة لتغني وحدها بالإنجليزية مزامير المَساء .
كان عليه أن يختار وقتاً لا يكون الأطفال موجودين فيه ، ولم يكن أمامه سوى احتمالَين ، إما أثناء استراحة الغداء ما بين الثانية عشرة والثانية ، وهو الوقت الذي يذهب فيه الدكتور لتناول الغداء أيضا ، وإما في المَساء حين ينصرف الأطفال الى بيوتهم ، وقد كان هذا الاحتمال الأخير هو الأفضل دائما ، ولكن الدكتور يكون حينئذٍ قد أنهى زياراته ولا يبقى أمامه سوى دقائق قليلة للوصول الى البيت وتناول الطعام مع أسرته .
أما المشكلة الثالثة وهي الأخطر بالنسبة له ، فكانت تتمثل في وضعه بالذات ، إذ لم يكن بإمكانه الذهاب دون العربة ، وهي عربة معروفة جيدا ويجب أن تنتظره دوماً أمام ب\الباب ، كان بإمكانه الاتفاق مع الحوذي كما يفعل جميع أصدقائه في النادي الاجتماعي تقريبا ، ولكن هذا الأمر كان غريباً عن عاداته حتى أن حوذي العائلة نفسه وبعد أن أصبحت زياراته للآنسة لينج مكشوفة بما فيه الكفاية تجرأ على سؤاله إذا لم يكن امن الأفضل أن يرجع بحثاً عنه فيما بعد كي لا تبقى العربة متوقِفة أمام الباب لوقت طويل .
لكن الدكتور أُورْبينو قاطعه بِرَدة فعل غريبة على طبيعته قائلا : هذه هي المرة الأولى التي أسمعك فيها تقول شيئا يجب عليك ألا تقوله مُذ عرفتك ، ولكن لا بأس سأَعتبِر أنك لم تقُل شيئا .
لم يكن ثمة مفر ففي مدينة كهذه لا يمكن إخفاء مرض ما دامت عربة الطبيب عند الباب ، لقد كان الطبيب يبادر أحيانا بالذهاب الى بيت المريض مَشْياً على الأقدام حين تسمح المسافة بذلك ، أو الذهاب في عربة أجرة ليحول دون تخمينات خبيثة أو مُبكرة ، ومع ذلك فإن هذه الحِيَل لم تكن ذات نفع كثير ، فالأدوية التي يصفها الطبيب لِتُشتَرى من الصيدليات تُتيح كشف الحقيقة مما كان يدفع الدكتور أُورْبينو الى وصف أدوية مُزيَفة الى جانب الأدوية الصحيحة ليحفظ حقوق المرضى في الموت بسلام مع أمراض أسرارهم ، ورغم قدرته كذلك على أن يُبرر بوسائل شريفة مختلفة وقوف عربته أمام دار الآنسة لينج إلا أنه لم يتمكن فعل ذلك لِزَمن طويل بل لوقت أقصر بكثير من الزمن الذي كان يرغب فيه ، مدى الحياة .
صارت دنياه جحيماً ، فما أن ارتوَى الجنون الأول حتى أدرك كِلاهما المَخاطر المُحيقة بهما ، ولم يكن الدكتور خوفينال أُورْبينو قد حسم أمره يوما وأعد نفسه لمواجهة الفضيحة .
لقد كان يَعِدُها بكل شيء أثناء هذيانه المحموم ، ولكنه بعد الانتهاء يؤجل كل شيء الى ما بعد ، وفي المقابل كُلما ازداد شوقه للقائها يزداد كذلك خوفه من فقدانها .وهكذا أصبحت لقاءاتهما سريعة وصعبة ، لم يكن يفكر بشيء آخر ، كان ينتظر المَساء بجزع لا يطاق وينسى مواعيده الأخرى ، ينسى كل شيء سِواها ، ولكن ما أن تبدأ العربة بالاقتراب من مستنقع لامالاكِريَانْثَا حتى يأخذ بالابتهال الى الله ليبعث له عائقا في اللحظة الأخيرة يجعله يواصل طريقه دون الدخول إليها .
كان يعاني حالة من الكآبة تجعله يبتهج حين يرى أحيانا وهو على الناصية رأس المحترم لينج الملفوف بالقطْن جالساً يقرأ على الشُرْفة والابنة في الصالة تُلَقِّن أصول الدين لأطفال الحي من خلال الأناجيل المُغنّاة ، فَيمضي حينئذٍ سعيدا الى بيته كي لا يستمر في تحدي القدَر ، ولكنه لا يلبث أن يشعر بقلق مجنون يتمنى خلاله أن يتحول اليوم كله وجميع الأيام لتصبح جميعها الخامسة مَساءً فقط .
أصبحت تلك الغراميات مستحيلة حين أخذ ظهور العربة يكثر أمام الباب ، ولم يعُد ذلك بعد مرور ثلاثة شهور سوى عمل مضحك ، فقد كانت الآنسة لينج تَدْخُل حجرة النوم دون أن يُتاح لها الوقت لقول أي شيء بمجرد رؤيتها العاشق الولهان يدخل ، وكانت تتخذ الاحتياطات المسبقة في الأيام التي تنتظر قدومه فيها بارتدائها فُستاناً جامايكياً بديعاً مُزَيَن بزهور ملونة ، ولكن دون أية ملابس داخلية ودون أي شيء مُعتقدة أن السهولة ستُساعده على التغلب على الخوف .
لكنه كان يُهدِر كُلما تفعله لِإسعاده ، فيلحقها الى حجرة النوم لاهثاً ومبلللاً بالعرَق ، ثم يبدأ بالتخلص مما يحمله مُلقياً بكل شيء على الأرض ، العُكّاز وحقيبة الطبيب والقُبعة البَنَمِية ليمارس حُباً مرتبكاً بسروال مُجَعَّد عند كاحِلَيه وسُترة مُزرَّرة ليكون إزعاجها أقل وسلسلة ذهبية مُثَبَتة في صدريته وهو مُنْتَعِل حذاءه وكل شيء ، مهتماً بالذهاب بأسرع ما يمكن أكثر من اهتمامه باستكمال المتعة .
وتبقى هي صائمة ما أن تَهُمَّ بدخول نفق عزلته حتى يبدأ بإحكام أزرار سرواله من جديد وهو مُنهَك كما لو أنه مارس الحب المطلق على الخط الفاصل بين الحياة والموت ، بينما هو لم يفعل في الحقيقة أكثر مما يتطلبه فعل الحب من جهد جسدي ولكنه يبقى ضمن حدود قانونه ، إنه الوقت اللازم لإعطاء حُقْنة في العضل لحالة علاج روتينية ، ويعود بعدئذٍ الى البيت خجلاً من ضعفه راغباً في الموت ولاعناً فقدانه الشجاعة اللازمة للطلب من فرْمينا داثَا أن تنزع له سرواله وتُجلسه على الجمر لِتُحْرِق قفاه .
لم يكن يتعشى ويُصَلّي دون إيمان ويتصنع مواصلة قراءة ما بعد القيلولة وهو في الفراش فيما زوجته تَلُفُّ في البيت وتدور مُرَتِّبَةً الدنيا قبل أن تنام ، وما أن يداعبه النعاس فوق الكتاب حتى يأخذ بالغرق شيئا فشيئا في غابة الآنسة لينج التي لا مفر منها ، يغرق في رائحتها التي كرائحة غابة راقدة فوق فراشها الذي كفراش الموت ، ولا يستطيع التفكير عندئذٍ بشيء سوى الساعة الخامسة إلاى خمسة دقائق من مَساء اليوم التالي ، وبها تنتظره في السرير دون أي شيء سوى جبلها للَدِن القاتم تحت الفُستان الجامايكي المجنون ، إنها الدائرة الجهنمية .
كان قد بدأ يعي ثقل جسده منذ بضع سنوات ، وكان يعرف الأعراض لقد قرأها في كتُب الطب ولمَسها في الحياة الواقعية بمعاينتها في مرضى هَرِمين بلا سوابق مرضية خطيرة ، يبدؤون فجأة بوصف أعراض دقيقة يبدو وكأنهم أنهم يستخرجونها من كتُب الطب رغم أنها لا تعدو أن تكون أوهاماً ، لقد نصَحه أستاذ طب الأطفال في جامعة سالبتريير يوما بدراسة طب الأطفال لأنه أنبل اختصاص ، فالأطفال لا يمرضون إلا حين يكونون مرضى حقاً ، ولا يستطيعون التواصل مع الطبيب بالكلمات الاصطلاحية وإنما بالأعراض المحددة للأمراض الحقيقية ، أما البالغين اعتباراً من سن معينة فإم أن لديهم أعراضاً بلا أمراض وإما أن لديهم ما هو أسوأ من ذلك ، أمراضاً خطيرة وأعراض أمراض أخرى ليست ذات شأن ، وكان هو يشغلهم بالمُسكنات مُتيحاً الوقت للزمن كي يتعلموا عدم الشعور بتوعكات الكِبَر بعد مُعايشتهم لها في مزبلة الشيخوخة .
وما لم يفكر به الدكتور خوفينال أُورْبينو أبدا هو أن طبيباً في مثل سِنِّه يظن بأنه رأى كل شيء وخَبَره لن يستطيع تَجاوِز قلق شعوره بأنه مريض حين لا يكون كذلك أو يقع له ما هو أسوأ بأن يظن أنه ليس مريضا مُتعَلِلاً بأوهام طبية محضة ، في حين ربما يكون مريضا فعلا ، لقد قال في أحد دروسه يوما وهو في الأربعين نصف مازح ونصف جاد : الشيء الوحيد الذي أحتاجه في الحياة هو أحد يفهمني .
ولكنه حين وجد نفسه ضائعا في مَتاهة الآنسة لينج لم يفكر بالأمر مازحا ، جميع الأعراض الحقيقية والوهمية لمرضاه المسنين اجتمعت في جسده ، فكان يحس شكل كبده بوضوح ويستطيع تحديد حجمه دون أن يلمسه ، كان يشعر بزمجرة القط النائم في كِلْيته ، ويشعر ببريق مَرارته الساطع ، ويحس خرير الدم في شرايينه ، وكان يستيقظ صباحا في بعض الأحيان كسمكة لا تجد الهواء للتنَفس ، ويشعر بوجود ماء في قلبه ويحس به يفقد إقاعه للَحظة أو يشعر به بين حين وآخر يتأخر في نبضة من نبضاته كما في المشية العسكرية أيم المدرسة ، ثم يشعر بأنه يستعيد قواه لأنه الله كبير .
ولكنه بدلا من أن يلجأ الى علاج السلوى الذي كان يطبقه على المرضى فأنه سمح للخوف أن يُغْميه ، حقا إن الشيء الوحيد الذي يحتاجه في الحياة وهو في الثامنة والخمسين من العمر أيضا هو أحد يفهمه .
وهكذا لجأ الى فرْمينا داثَا أكثر مَن تحبه ويحبها في هذا العالم ، ومن سَيُريح ضميرَه أمامها ، حدث هذا بعد أن قاطعته في قراءته المَسائية لِتَطْلُب منه أن ينظر الى وجهِها .
فاجأته الإشارة الأولى بأن حلقته الجهنمية قد كُشِفت ، لم يفهم كيف حدث ذلك ، إذ كان مستحيلا عليه أن يتصور بأن فرْمينا داثَا اكتشفت الحقيقة بمجرد الشَم ، لكن هذه المدينة لم تكن على أية حال ومنذ زمن بعيد بالمدينة المناسِبة لكتمان الأسرار .
فبعد وقت قصير من وصول أجهزة الهاتف الأولى انهارت عدة زيجات كانت تبدو راسخة تحت نمائم الاتصلات الهاتفية المجهولة ، ودفع الرعب عائلات كثيرة الى إلغاء اشتراكها أو رفض الاشتراك بالهاتف لِسنوات طويلة .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يعرف أن زوجته تعتز بنفسها كثيرا بحيث لا تسمح حتى بمحاولة وشاية مجهولة بالهاتف ، ولم يكن قادرا على تصور أن أحداً يتجرأ على إخبارها مُعلِناً عن اسمه لكنه بالمقابل كان يخشى الوسيلة القديمة ، ورقة تَدُسُّهَا يد مجهولة من تحت الباب يمكنها أن تكون فعالة ليس لأنها تضمن ازدواجية المجهولةي للمُرسِل والمرسل إليه وإنما لأن أصْلَها العريق يُتيح ربطها بعلاقة ميتَافيزيقية ما مع تدابير العناية الإلهية .
لم تكن الغيرة تعرف الى البيت سبيلا ، فخلال أكثر من ثلاثين سنة من السلام الزوجي كان الدكتور أُورْبينو يفاخر في الأماكن العامة وكان صادقاً حتى ذلك الحين بأنه مثل الثِقاب السويدي لا يشتعل إلا بعُلْبته ، لكنه كان يجهل كيف يكون رد فعل بكِبريائها واعتزازها الشديد بنفسها وبطبعها الحاد أمام خيانة ثابتة .
وهكذا فإنه حين تَطَلَّع في وجهِها كما طلبت منه لم يَخطُر له شيء سوى أن يخفض بصره من جديد ليغرق في القلق ، وظل يتظاهر في الانغماس في تعرجات نهر جزيرة أَلَكَا العذب ريثما يَخطُر له ما يفعله .
ولم تقُل فرْمينا داثَا من جهتها شيء آخر ، وعندما انتهت من رَفْوِ الجوارب ألقت بالأدوات دون انتظام في علبة الخياطة ، وأعطت التعليمات في المطبخ لإعداد العشاء ومضت الى حجرة النوم .
حينئذٍ اتخذ قراره الحاسم ولم يذهب في الساعة الخامسة الى منزل الآنسة لينج ، أما وعود الحب الأبَدي والحلم ببيت سري لها وحدها حيث يستطيع زيارتها دون مفاجآت والسعادة على مهل حتى الموت ، وكل ما وعدها به أثناء ومضات الحب أُلْغِيَ الى الأبد ، وآخِر ما تلقته منه الآنسة لينج كان أكليلا من الزُمُرُد سلَّمها إياه الحوذي دون أي تعليق ، دون أي رسالة ، دون أية ملاحظة مكتوبة في علبة ملفوفة بورق صيدلية حتى ظنه الحوذي نفسه دواءً مستعجلاً ، ولم يعُد لرؤيتها ولو مصادفةً خلال ما تبقى من حياته ، والله وحده يعلم كم من الآلام كلَّفه هذا القرار البطولي وكم من الدموع المريرة سَكَب وهو محبوس في المرحاض ليتجاوز كارثته الحميمة ، فبدلا من أن يذهب إليها في الساعة الخامسة قام بتقديم توبته النصوح أمام كاهن الاعتراف ، وشارك يوم الأحد التالي في تناول القربان الرباني بقلب مُفتَت وإنما بروح مطمئنة .
يوم قطع علاقته بها وفيما هو ينزع ملابسه لينام كرر على مسامع فرْمينا داثَا تراتيل أَرَقِه الصباحي المَريرة والوخزات المباغتة والرغبة بالبكاء عند الظهيرة والاعراض المقتضبة للحب الخفي التي كان يرويها لها حينئذٍكما لو كانت أعراض الشيخوخة البائسة .
كان عليه أن يحكي ذلك لأحد كي لا يموت ، كي لا يروي الحقيقة ، ثم أن تلك المُفاتَحات بمكنون قلبه كانت أولا وأخيرا أحد طقوس الحب البيتي .
استمعت إليه باهتمام إنما دون النظر إليه ودون أن تقول شيئا ، بينما هي تتناول منه الملابس التي يخلعها ، كانت تشُم كل قطعة منها دون أية إماءة تَشي بغضبها ثم تطويها كيفام اتُّفِق وتُلقي بها الى سلة الثياب المُتَسخة الخيزرانية ، لم تجد الرائحة ولكن الأمر سيان ، غدا سيكون يوم آخر ، وقبل أن تجثو أمام المَذبَح الصغير في حجرة النوم اختتم هو روايته المكرورة عن بؤسِه بتنهدة حزينة وصريحة أيضاً .
- أظن أنني سأموت .
ولم ترمِش رَمشة واحدة حين ردت عليه قائلة : سيكون هذا أفضل ، لأننا سنستريح كِلانَا .
قبل سنوات وخلال أزمة مرض خطير كان قد تحدث عن احتمال موته ، وكانت هي قد ردت بالجواب القاسي نفسه ، ÷ وقد عزا الدكتور أُورْبينو ذلك يومها الى قسوة النساء هذه التي تُتابع الأرض بفضلها الدوَران حول الشمس ، لأنه كان يجهل حينئذٍبأنها تُقيم دوما حاجزاً من الغضب لِتُخفي خوفها ولِتُخفي يومئذٍ أكثر مخاوفها رهبةً ألا وهو الخوف من البقاء بدونه ، لكنه تمنَّت له الموت في تلك الليلة بكُل حدة قلبها وقد أفزعه هذا اليقين ، بعد ذلك سَمِعها تبكي في الظلام بوَهَن شديد عاضةً الوسادة كي لا يَسمعَها ، فَبَهَرَه ذلك لأنه كان يعلم أنها لا تبكي بسهولة من أي ألم جسدي أو روحي ، وأنها تبكي لِحَنَق عظيم فقط ، ويكون بكاؤه أشد إذا ما كان هذا الحنق ناشئاً بطريقة ما عن خوفها من الشعور بالذنب .
لم يتجرأ على مواساتها مُدركاً أن ذلك سيكون أشبه بمُواساة نَمِرَة مطعونة بحربَة ، ولم يمتلك الجُرأة ليقول لها أن أسباب بُكائها قد زالت هذا المَساء ، وأنها انتُزِعت من جذورها الى الأبد حتى من ذاكرته .
هزمه الإرهاق لِدَقائق وعندما استيقظ وجدها قد أضاءت النور الخفيف الذي الى جانبها وأنها ما زالت مفتوحة العينَين ، إنما دون بكاء ، لقد حدث لها شيء حاسم فيما هو نائم ، فالرواسب التي تراكمت في قاع عمرها خلال سنوات طويلة قد هاجت بعذاب الغيرة وخرجت طافية الى السطح وأَهْرمتها في لحظة واحدة ، فتجرأ على القول لها : إنها تحاول النوم وهو مذهول لِتَجاعيدها ولِشفتيها الذاويتَين ولرماد شعرها .
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية فكلمته دون أن تنظر إليه ، ولكن دون أي أثر للسخط في صوتها بل بصوت أقرب الى الوداعة قائلة له : لي الحق بأن أعرف من هي .
عندئذٍ روى لها كل شيء شاعراً بأنه يرفع عن كاهله ثقل العالم ، لأنه كان مقتنعاً بأنها تعرف كل شيء ولا ينقصها سوى التأكد من التفاصيل ، لكن الأمر لم يكن كذلك طبعا ، وفيما هو يتكلم عادت هي تبكي ليس بإجهاشات خجولة كما هي في البدء وإنما بدموع مُنطلقة ومالحة تجري على وجهِها وتلتهب على قميص نومها وتحْرق حياتها ، لأنه لم يفعل ما كانت تنتظره منه وروحها معلَّقة بخيط إذ كانت تنتظر منه أن يُنكِر كل شيء حتى الموت ، وأن يغضب من الافتراء وأن يلعن ناس هذا المجتمع ابن العاهرة الذين لا يتورعون عن دوس شرف الآخرين ، وأن يقف ثابتالجأش حتى أمام الأدلة الدامغة على خيانته كرجل .
بعد ذلك وحين روى لها أنه كان عند كاهن الاعتراف هذا المَساء خَشِي أن يُعميَها الغضب ، فمنذ أيام المدرسة وهي مُقتنعة أن أهل الكنيسة لا يتمتعون بأية فضيلة مُلْهَمَة من الرب ، وكان هذا خلافاً جوهرياً في الانسجام البيتي تمكَنَا من حله دون صِدامات ، إنما كَون زوجها قد سمح لِكاهن الاعتراف بالتدخل الى هذا الحد في شأن خاص ليس ملكه وحده فقط بل وملكها أيضا ، كان شيئا يتجاوز كل الحدود .
قالت : إن هذا كاستشارة حاوي ثعابين من حُواة الأزقة .
كان ذلك هو النهاية بالنسبة لها ، كانت متأكدة من أن شرفها أصبح على كل لسان قبل أن ينتهي زوجها من الاعتراف ، وشعور المَهانة الذي أثاره ذلك كان أثقل وطْأة من من عار وغضب وظلم الخيانة ، والأسوأ من كل ذلك .
- يا للَّعنة مع زنجية !. ؟
فصحح قائلا : خلاسية .
ولكن أي تحديد كان فائضاً عن اللزوم عندئذٍ ، لقد انتهى الأمر .
قالت : إنها اللعنة نفسها ، والآن فقط بدأت أفهم ، لقد كانت رائحة زنجية .
حدث هذا يوم الاثنين ، وفي الساعة السابعة من مَساء يوم الجمعة أبحرت فرْمينا داثَا في السفينة الصغيرة النظامية الذاهبة الى سان خوان ديلاثيناغا دون أن تأخذ معها سوى صندوق واحد وبرفقة ابنة بالعماد ، وكانت تُغطي وجهَها بطرحة لِتَحُول دون الأسئلة لها ولِزوجها كذلك .
لم يذهب الدكتور خوفينال أُورْبينو الى الميناء باتفاقهما معاً بعد مناقشة مضنية دامت ثلاثة أيام ، قررَا على إثْرها أن تذهب الى مزرعة ابنة الخال هيلْدا براندا سانجيتفي بلدة فوريس دي ماريا لِتُفكر جيدا قبل إقدامها على اتخاذ قرار نهائي ، وقد فَهِم الابنان الأمر دون أن يعرفا الأسباب على أنه رحلة جرى تأجيلها مرات ومرات ، وكانا هما نفسَيهما يرغبان فيها منذ زمن بعيد ، وقد رتَّب الدكتور خوفينال أُورْبينو الأمور بحيث لا يُتاح لأحد من أبناء عالمه الغادر الوصول الى تخمينات خبيثة ، وفعل ذلك بِاتْقان حتى أن إخفاق فلورنْتينوأَريثَا بالعثور على أي أثر لاختفاء فرْمينا داثَا لم يكن لضعف وسائله في التَقصِّي وإنما لعدم وجود أية آثار فعلا .
ولم يكن يُراوِد الزوج أي شك في أنها ستعود بعد أن يفارقها الغضب ، فذهبت واثقة أن الغضب لن يفارقها أبد الدهر ، لكنها سرعان ما ستُدرك أن هذا القرار الحاسم لم يكن ثمرة الحقد بقدر ما هو وليد الحنين ، فبعد رحلة شهر العسل عادت عدة مرات الى أوربا رغم قسوة الأيام العشرة التي تمضيها في البحر ، ولقد كانت رحلاتها تستغرق دوما وقتاً كافياً للإحساس بالسعادة ، كانت تعرف العالم وتعلمت العيش والتفكير بطريقة أخرى ، لكنها لم ترجع أبدا الى سان خوان ديلاثيناغا بعد رحلة المِنطاد الفاشلة .
كان في العودة الى مقاطعة ابنة الخال هيلْدا براندا شيئا من استعادة الماضي بالنسبة لها حتى ولو حدثت هذه الاستعادة متأخرةً ، ولم تُفكر بذلك تحت تأثير نكْبتها الزوجية بل قبل ذلك بكثير ، وهكذا فإن مجرد فكرة تنقيبها عن ذِكرَيات صِباها كان يعزيها في تعاستها .
عندما نزلت الى البر مع ابنتها في العماد في سان خوان ديلاثيناغا لجأت الى ما في طبعها من احتياطات هائلة ، وتعرفت على المدينة رغم كل التحذيرات ، وقد دعاها القائد المدني والعسكري للموقع الذي ذهبت إليه بتوصية للاهتمام بها ، دعاها الى جَولة في العربة الرسمية ريثما يخرج القطار الذاهب الى سان بيدرو إليخاندرينو حيث أراد الذهاب للتأكد مما قيل لها من أن السرير الذي مات عليه بطل التحرير كان صغيراً جدا كسرير طفل ، وكان أن عادت فرْمينا داثَا حينئذٍ لِرؤية قريتها الكبيرة في سكون الثانية مَساءً ، عادت لرؤية الشوارع التي تبدو أشبه بِشُطآن صغيرة للبِرَك المغطاة بالطحالب ، وعادت لرؤية بيوت البرتغاليين بشعارات النبلاء المحفورة على الرواق المُقَنْطر وعلى مَشْربيات النوافذ البُرونزية حيث تتردد دون رحمة في صالاتها الظليلة تمارين البيانو المكرورة والحزينة التي كانت تُعَلِّمها أمها حديثة الزواج لبنات البيوت الثَرِية الصغيرات ، رأت الساحة الخاوية من أية شجرة في جمر الحجارة المُتقدة وصف العربات ذات الأغطية الجنائزيَة وخيولها النائمة وقوفاً ، وقطار سان بيدرو إليخاندرينو الأصفر ،
ورأت عند زاوية الكنيسة الكبرى أكبر بيت بين جميع البيوت وأكثرها جمالا بِرِواقه الحجري المُقَنْطَر الذي تغطيه ناباتات خضراء وبوابته الضخمة كَبوابة دَير ونافذة غرفة النوم التي ستولد ألفارو فيها بعد سنوات طويلة .
حين لن تعود لها ذاكرة تتذكر ذلك فكَّرت بالعمَّة أسْكولا أَسْتيكا التي ما زالت تبحث عنها دون أمل في السماء ولأرض ، وفيما هي تُفكر بها وجدت نفسها تُفكر بفلورنْتينوأَريثَا بثيابه كأديب وبِكتاب أشعاره تحت أشجار اللوز في الحديقة ، كما يحدث لها أحيانا حين تتذكر سنوات المدرسة الكريهة .
وبعد تِجوال طويل لم تُفلِح في التعرف على بيتها العائلي القديم ، فحيث كانت تفترض وجوده لم يكن يوجد سوى حظيرة خنازير ، وعند المُنعطف كانت يمتدشارع بيوت الدعارة حيث مُمِسات من أرجاء الدنيا يَنَمْنَ قيلولتهن أمام الأبواب فلربما مر البريد حامل لهن شيئا .
لم تكن البلدة هي بَلْدتها ، منذ بداية الجَولة في المدينة غطت فرْمينا داثَا نصف وجهِها بالطرحة ليس خوفا من التعرف إليها حيث لا أحد يستطيع التعرف عليها وإنما لمَرأى الموتى الذين ينتفخون تحت الشمس في كل مكان بدءاً من محطة القطار وحتى المقبرة ، وقال لها القئد المدني والعسكري للموقع : إنها الكوليرا .
كانت تعلم ذلك لأنها رأت الخِثارات البيضاء على فمِ الجثث المُكتَوية لكنها لاحظت لا أثر لرصاصة الرحمة في عنق أية جثة من الجثث كما كان الأمر في زمن المِنطاد ، فقال لها الضابط : وهو كذلك فالرب يحَسِّن من أساليبه أيضا .
كانت المسافة التي تفصل سان خوان ديلاثيناغا عن بلدة القديمة هي تسع فَراسِخ فقط لكن القطار الأصفر كان يستغرق في اجتيازها يوما كاملا ، لأن صداقات كانت تربط سائق القطار بالمُسافرين الدائمين الذين يرجونه التوقف لبعض الوقت كي يحركوا أرجلهم في المَشي في مَرَابع سان بيدرو إليخاندرينو الغلف التابعة لشركة المَوز ، أو لِيستحم بعض الرجال منهم وهم عُراة في الأنهار الصافية والمُثَلَّجة التي تنحدر من الجبال أو أنهم ينزلون من القطار حين يشعرون بالجوع ليحلبوا الأبقار الطليقة في المَراعي .
وعندما وصلت فرْمينا داثَا مُرَوَّعَةً لم يُتَح لها الوقت للتمعُن بأشجار التمر الهندي الهوميرية حيث كان بطل التحرير يُعلِّق شبكة نومه التي احتضر عليها ، وللتأكد من أن السرير الذي مات عليه لم يكن صغيرا بالنسبة لِرجل كما قالوا لها بل إنه صغير حتى على فقط مولود خديج ، ولكن زائراً آخر يبدو أنه يعرف كل شيء قال إ: ، السرير ليس إلا أَثَراً زائفاً والحقيقة أن أبا الوطن قد تُرِك يموت وهو مُلقى على الأرض .
كانت فرْمينا داثَا مغمومة لما رأته وسمعته مُذ خرجت من بيتها لدرجة أنها لم تعُد تشعر بالسعادة التي حنَّت إليها دوما ، وإنما أخذت تتجنب المرور من القرى التي كانت تحن إليها ، وهكذا حمت تلك القرى وحمت نفسها من خيبة الأمل .
كانت تسمع العزف على الأوكورديونات من الطريق حيث كانت تهرب من خيبة الأمل ، وتسمع الصرخات المُنبعِثة من حلبة صراع الديكة وطلقات الرصاص التي قد تكون رصاصات حرب أو احتفال ، وحين لا تجد مَفَرّاً من المرور بإحدى القرى كانت تغطي وجهَها بالطرحة لتستمتع بتذكُّرِها كما كانت من قبل .
في إحدى الليالي وبعد تَجنب طويل للماضي وصلت الى مزرعة ابنة الخال هيلْدا براندا ، وحين رأتها تنتظر أمام الباب كادت تسقط مغمياً عليها ، كانت وكأنها ترى نفسها في مرآة الحقيقة ، لقد رأتها بدينة وهَرِمة ، مُحاطة بأبناء غير مُرَوَّضين لم تنجبهم من الرجل الذي ما زالت تحبه دون أمل ، وإنما من ضابط ينعم بتقاعد جيد تزوجت منه غيظاً لفشلها ، وأحبها بجنون ، ولكنها في أعماق جسدها المُدَمَّر كانت ما تزال على حالها .
قد تخلصت فرْمينا داثَا من هذا الانطباع بعد بعد أيام قليلة في الريف وبتأثير الذِكريات الطيبة ، لكنها لم تغادر المزرعة إلا للذهاب الى القُدّاس في أيام الآحاد برفقة أحفاد صديقاتها القديمات الجَموحات الحاذقين في ركوب الخيول الكريمة ، وبرِفقة بناتهن الجميلات الأنيقات اللواتي يشبهن أمهاتهن حين كُنَّ في سنِّهن واللواتي يمضين وقوفا في العربات التي تجرها الجواميس ويغنِّين معاً حتى وصولهن الى كنيسة البعثة التبشيرية في قاع الوادي ، ولم تمُر لا بقرية فلوريس دي ماريا التي لم تَزُرْها في رحلتها السابقة لأنها لم تظن بأنها ستعجبها ، ولكنها فُتِنَت بها حين عرفتها ، وكانت مصيبتها أو مصيبة البلدة أنها لم تستطع أن تتذكرها فيما بعد كما رأتها في الواقع وإنما كما كانت تتخيلها قبل أن تعرفها .
قرر الدكتور خوفينال أُورْبينو الذهاب لإحضارها بعد تلقيه تقرير أسقف ريوهاجَا فالنتيجة التي استخلصها هي أن زوجته لم تتأخر لأنها لا تريد الرجوع وإنما لأنها لا تجد وسيلة لِتجاوِز كِبريائها ، وهكذا مضى الى هناك دون إعلامها بعد تبادل عدة رسائل مع هيلْدا براندااستخلص منها بوضوح أن حنين زوجته قد انقلب ، فهي لا تُفكر الآن إلا في بيتها .
كانت فرْمينا داثَا في المطبخ تُعِدُّ باذنجانا محشواً في الساعة الحادية عشرة صباحا حين سَمِعت صرخات عمال المزرعة وصهيل الخيول ولعلعة الرصاص في الهواء ، ثم الخطوات الواثقة في مَدْخل البيت وصوت الرجل .
أن يصل المرء في الوقت المناسِب خير من توجيه الدعوة إليه ، ظنَّت أنها ستموت من السعادة ودون أن يُتاح لها التفكير في الأمر غسلت يديها كيفما اتُّفِق وهي تُهَمْهِم : حمداً لك يا رب ، حمداً لك لَكَم أنت طيب .
مُفكِّرة أنها قد تستحم بعد الباذنجان اللعين الذي طلبت منها هيلْدا براندا إعداده دون أن تخبرها من القادم للغداء ، ومُفكِّرة أنها قد أصبحت عجوزاً قبيحة ، وأن وجهَها قد سلخته الشمس مما سيجعله يندم لمجيئه حين يجدها بهذا الحال .
- اللعنة .
لكنها نشفت يديها بالمريلة كيفما اتُّفِق ، واستعانت بكل الكِبرياء الذي أَخرجتها به أمها الى الدنيا لِتضبط قلبها المُتراقص طرَباً ، ومضت للقاء الرجل بِمِشيتها الغزلانية العذبة وبرأسها المرفوع ونظرتها البراقة وأنفها الحربي ، شاكرة للقدر الطمأنينة العظيمة بالعودة الى البيت ، رغم أن الأمر لن يكون بالسهولة التي تَصَوَّرَها هو حتماً ، إذ عادت معه وهي سعيدة حقا ولكنَّها مصمِمة كذلك على جعله يدفع بِصمْت ثمن الآلام المريرة التي حطمت حياتها .
بعد حوالي سنتين من إختفاء فرْمينا داثَا حدثت واحدة من تلك المُصادفات المستحيلة التي كانت ستعتبرها ترانسيتو أَريثَا سخرية من سخريات الرب ، لم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد سمح لنفسه بالانبهار باختراع السينما لكن ليونَا كاسياني حملته دون مقاومة الى حفل الافتتاح الضخم لفيلم كابيريا الذي كانت شعبيته ترتكز على الحوار الذي كتبه الشاعر غابرييل دانُنزثيو .
كان فِناء سينما دون غاليليو داكُونْتي حيث المتعة تتجاوز في بعض الليالي روعة النجوم الى روعة الغراميات الصامتة على الشاشة ، قد غَص بالحضور البارزين ، ليونَا كاسياني تُتابع أحداث القصة بروح معلقى بخيط ، أما فلورنْتينوأَريثَا فكان رأسه يتمايل من النعاس بتأثير زخم الدرامَا ، ومن خلفه خرج صوت امرأة بدت وكأنها تحزر ما يفكر به .
- رباه إن هذا أطول من ألم .
كان هذا هو الشيء الوحيد الذي قالته ، وكظمت نفسها ربما بسبب رنين صوتها في الظلام ، إذ لم تكن قد شاعت هنا بعد عادة مرافقة الأفلام الصامتة بموسيقة البيانو ، ولم يكن يُسْمَع في عتمة الصالة سوى أزيز آلة العرض الذي يشبه صوت المطر .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا يَذكُر الرب إلا في أصعب المواقف ، لكنه شَكَرَه من أعماق روحه هذه المرة لأنه كان سيتعرف فورا على ذلك الصوت المعدني الرخيم حتى ولو كان على عمق عشرين ذراعاً تحت التراب مُذ حَفِظَه في روحه مَساء سمعه يقول له وسط نِثارة من الأوراق الصفراء في حديقة متوحدة ك انصرِف الآن ولا ترجع الى أن أطلُب إليك .
كان يعلم إنها تجلس في المِقعد الذي وراء مِقْعَدِه الى جانب زوجها دون رَيب ، وكان يُحس بتنَفُسها الدسم والمحسوب جيدا ، وكان يستنشق بِحُب الهواء المُنَقَّى بعافية نفَسِها الطيب ، لم يشعر بأنها مَنْحورة بعث الموت كما كان يتصورها في ساعات يأسه خلال الشهور الأخيرة ، وإنما تذكَّرها مُجددا بعمرها المُشِع والسعيد ، ببطنها المُكوَّرة ، بِبذرة ابنها الأول تحت عباءة مينيرْفَا ، تصورها كما لو كان يراها دون أن يلتفت الى الوراء غير عابئ بالكوارث التاريخية التي كانت تفيض بها الشاشة ، كان يتلذذ بأريج عطر اللوز الذي يصله من جسدها ويتشوق لمعرفة أفكارها عن كيف تحب نساء السينما لتكون آلام حبهن أقل من آلام الحب في الحياة ، وقُبَيل نهاية الفيلم بقليل أدرك فجأة بومضة بهجة أنه لم يكن أبدا قريباً بهذا القدر وطوال مثل هذا الوقت ممن أَحبَّها حُبّاً جَمّاً .
انتَظرَ أن ينهضَ الآخرون عند إشعال الأنوار ، ثم وقف على مهل ، والتفت مُتشاغلا بتثبثبيت أزرار الصدرية التي تُفلت دائما خلال عروض السينما ، فتقابل الأربعة وجهاً لوجه بحيث وجب عليهم تبادُل التحية رغم أن أحداً منهم ما كان يرغب بذلك ، صافح الدكتور خوليونَا كاسياني أولاً وكان يعرفها جيدا ثم شد على يد فلورنْتينوأَريثَا بِتَهَذُبه المعتاد ، وابتسمت لهما فرْمينا داثَا ابتسامة مُهذبة ولا شيء سوى أنها مُهذبة ، ولكنها كانت على كل حال ابتسامة شخص رآهما كثيرا ويَعرف مَن هما وبالتالي لا حاجة لِتقديمهما ، وردت عليها ليونَا كاسياني بِلطْفِها كخلاسية ، أما فلورنْتينوأَريثَا فلم يَدْرِ ما يفعل لأن رؤيتها أذهلته ، لقد كانت امرأة أخرى ، لم تكن في وجهِها أية علامة من علامات المرض الفظيع الشائع ولا من أي مرض آخر ، وكان جسدها ما يزال يحتفظ بِوزنه ورقته التي كان عليها في أفضل أزْمانه ، ولكن لا شك بأن السنتين الأخيرتين قد مَرَّتَا عليها بثقل عشر سنوات عجاف ، كان الشعر القصير مناسِباً لها بتلك القصة المائلة على خدََّيها ولكنه فقدَ ذلك اللون العسلي السابق وصار بلون الأَلَمُنيوم ،
وفقدت العينان الرمحِيَتان الجميلتان نصف حياتهما من الضياء وراء نَظّارة الجدة ضياء النظارة ، رآها فلورنْتينوأَريثَا وهي تبتعد مُمْسِكة بِذراع زوجها وسط الحشد الذي يغادر السينما ، وفوجئ أنها آتية الى مكان عام بِطرحة يائسة وخُف من النوع بيتي ، ولكن أكثر ما هيَّج مشاعره هو أن زوجها اضطر لأن يشدها من ذراعَيها ليشير لها الى طريق الخروج ، وقد أخطأت رغم ذلك في تقدير الارتفاعات وكادت تسقط عند درج البوابة .
كان فلورنْتينوأَريثَا شديد الحساسية لعثرات الشيخوخة هذه ، ففي شبابه كان يقطع قراءاته للأشعار في الحدائق ليُراقب أزواج المسنين الذين يساعد أحدهم الآخر على عبور الشارع ، وكانت تلك دروس في الحياة قد تُضيء أمامه قوانين شيخوخته بالذات ، لقد كان الرجال وهم في مثل سن الدكتور خوفينال أُورْبينو في ليلة السينما تلك يتفتحون بنوع من الشباب الخريفي ، فيبدون أكثر وقاراً مع أول الشعرات الشائبة ، ويصبحون فاتِنين وجذابين خصوصاً في عيون النساء الشابات ، بينما تضطر زوجاتهم الذاويات الى التشبُث بأذرِعَتهم كي لا يتعثرن بظلالهن ذاتها ، ولكن هؤلاء الأزواج ما يلبثون أن ينزلقوا فجأة بعد بضع سنوات الى هُوَة شيخوخة مرذولة جسداً وروحاً ، وحينئذٍيصبح على زوجاتهم المستقرات أسنادهم من أذرُعِهِم كالعميان باحثين عن صدقة والهَمْس في آذانهم كي لا يجرحن كِبرياءهم بأن ينتبهو جيدا للأن عدد الدرجات التي سينزلون ثلاث وليس اثنتين وأن هناك بِرْكة ماء وسط الشارع وأن تلك الصورة المُلقاة على قارعة الطريق هي جثة شحاذ ميت ، ويساعدونهم بشقة على عبور الشارع ، وكأنه المخاضة الوحيدة في نهر الحياة الأخير .
لقد رأى فلورنْتينوأَريثَا نفسه مرات ومرات في هذه المرآة حتى أنه لم يشعر يوما بالخوف من الموت كخوفه من أرذل العمر حين سيحتاج لامرأة تقوده من ذراعه k ، إذ كان يعلم أنه في ذلك اليوم ، وفي ذلك اليوم فقط عليه أن يتخلى عن الأمل بِفرْمينا داثَا .
لقد أطار ذلك اللقاء النوم من عينيه وبدلا من أن يحمل ليونَا كاسيانيبالعربة فقد رافقها مَشياً على الأقدام عبر المدينة القديمة حيث كانت خطواته تقرع بلاط الرصيف كَحَوافر حِصان ، وكانت تنطلق بين حين وآخر بقايا أصوات هاربة من الشُرُفات المَفتوحة أو مُناجِيات من مَخادع النوم أو نَحيب حب تضخمه المَسامِع الخيالية وأريج الياسمين الدافئ في الأزقة الهاجعة ، وكان على فلورنْتينوأَريثَا أن يستَجْمِع ثانيةً كل قواه ليمنع نفسه من أن يكشف لليونَا كاسياني عن حبه المقهور لِفرْمينا داثَا .
كانا يسيران معاً بخطواتهما المحسوبة غارقَين في الحب بلا تَسرُّع كخَطيبين قديمَين ، هي تُفكر بِروعة كابيريا وهو يُفكر بمحنته الشخصية ، وفي ساحة الجمارك كان هناك رجل يُغني ، وكان صوته يتردد في الجو بأصداء مُتسلسلة "حين كنت أَعبُر أمواج البحر العظيمة".
وفي شارع لوس سانتوس ديبيدْرَا حين كان عليه أن يودعها أمام بيتها ، طلب فلورنْتينوأَريثَا من ليونَا كاسياني أن تدعوه لتناول كأس من البراندي .
كانت تلك هي المرة الثانية التي يطلب منها ذلك في ظروف مُتشابهة ، في المرة الأولى قبل عشر سنوات قالت له : إذا ما صعدت الى بيتي في مثل هذه الساعة فعليك البقاء فيه الى الأبد .
ولم يصعد يومها ، أما الآن فكان مستعداً للصعود في جميع الأحوال حتى لو اضطر الى نقض عهده فيما بعد ، لكن ليونَا كاسياني دعته للصعود دون أي التزام ، وهكذا وجد نفسه في محراب حب مات قبل أن يولد .
كان أبواها قد توفيا وجمع أخوها الوحيد ثروة طائلة في كوروثاو وبقيت هي وحدها لتعيش في بيت العائلة ، قبل سنوات وحين لم يكن فقدَ الأمل بجعلها عشيقة له اعتاد فلورنْتينوأَريثَا زيارتها أيام الآحاد برضا أبويها ، وكان يزورها في الليل أحيانا ويبقى حتى ساعة متأخرة ، وقد قدَّم مساهمات كثيرة في عمليات إصلاح البيت حتى صار يَعتبره كبَيته ، ولكنه شَعَر في تلك الليلة بعد السينما بأن صالة الاستقبال كانت غير ما عرفها من قبل إذ إن أماكن الأثاث قد تبدلت وعُلِّقَت على الجدران صور بأن كل هذه التغيرات القاسية إنما أجريت عَمْداً لتأكيد يقينه بأنه لم يكن له من وجود أبدا ، كما أن القط لم يتعرف عليه ، فقال وقد أفزعه نذير النسيان ك ما عاد يَذْكُرُني .
ولكنها ردت عليه وهي تُولِيه ظهرها فيما كانت تملأ كأسَين البراندي بأنه إذا كان قلقاً لهذا فبإمكانه النوم مطمئناً لأن القطط لا تتذكر أحداً وبينهما مُتَكَآن على الأريكة متلاصقان .
تحدثَا عن نفسَيهما ، عما كاناه قبل أن يتعارفَا في مَساء يوم مَن يَذكُر كم مضى عليه في حافلة تقودها البغال ، وكانت حياتيهما تمضي في مكتبَين متجاورَين ولم يتحدثَا أبدا من قبل في شيء خلاف العمل اليومي ، وفيما هما يتحدثان وضع فلورنْتينوأَريثَا يده على فخذها وأخذ يداعبها برقة مجربة بالغواية ، وتركته يفعل ذلك ، ولكن دون أن ترد عليه ولو بمجرد ارتعاشة مُجاملة ، وحين حاول المضي أبعد من ذلك أمسكت يده المُستكشِفة وقبَّلت راحته قائلة : كن مُهذَباً ، فقد أدركْت منذ زمن بعيد بأنك لستَ الرجل الذي أبحث عنه .
ففي صِباها بطحها على حين غِرة فوق مَلْطَم الأمواج رجل قوي وبارع ، لم ترَ وجهه أبدا وعرّاها مُمزِقاً ثيابها ومارس معها حُباً عابراً ومجنونا ، وفيما هي مُلقاة فوق الأحجار وجسدها كله مليء بالجروح تمنَّت لو يبقى ذلك الرجل فوقها الى الأبد ليموت حُبّاً بين ذراعَيها ، لم ترَ وجهه ولم تسمع صوته لكنها كانت متأكدة من التعرف عليه بين آلاف الرجال لشكله وحجمه وطريقته في ممارسة الحب ، واعتادت منذ ذلك الحين القول لكل من يريد سماعها : إذا ما عرفت شيئا في أحد الأيام عن رجل ضخم وقوي اغتصب زنجية بائسة من الشارع فوق صخور سد الغرقى في يوم كان الخامس والعشرين من تشرين الأول حوالي الحادية عشرة والنصف لَيلاً فقل له أين يستطيع أن يَجِدنَي .
كانت تقول ذلك بمحض العادة ، وقد كررته كثيراً لدرجة أنها فقدت كل أمل ، وكان فلورنْتينوأَريثَا قد استمع منها مرات ومرات لهذه القصة كما لو أنه يسمع صُفارة وداع تُطلِقها سفينة في الليل ، وحين أُعلِنَت الساعة الثالثة صباحا كان كل منهما قد شَرِب ثلاثة كؤوس من البراندي ، وكان هو يعلم بأنه ليس الرجل الذي تبحث عنه حقاً وسُرَّ لمعرفته ذلك وقال لها وهو يستعد للانصراف : برافو يا ليونَا لقد أجهَزْنَا على هذا النمر .
ولم يكن هذا هو الأمر الوحيد الذي قُضِيَ تلك الليلة ، فأكذوبة سُرادق المسلولين الخبيثة عكَّرت أحلامه لأنها أوحت له بأن فرْمينا داثَا هي من البشر ويمكن أن تفنى ويمكن بالتالي أن تموت قبل زوجها ، ولكنه حين رآها تتعثر عند الخروج من االسينما تقدم خطوة أخرى نحو الهاوية عندما انكشف له بأنه قد يكون هو وليس هي من يموت أولا ، وكانت تلك من أكثر النبوءات هَولا لأنها تستند الى الواقع .
لقد انقضت سنوات الانتظار الصابر والآمال السعيدة ولم يَلُح في الأفق سوى خضم الأمراض المتخيلة الذي لا يُسْبَر له قرار والتبَوُّل قطرة قطرة في صباحات الأرق والموت اليومي في الظهيرة ، وفكَّر أن كل لحظة من لحظات اليوم تلك التي كانت حليفة له في الماضي وشريكة بدأت تتآمر ضده .
لقد ذهب منذ سنوات قليلة الى موعد غرامي جريء وقلبه مُثقل بالخوف من المُصادفة ، فوجد الباب غير مُقفل والمفَصلات مُزيتة لتَوِها كي يستطيع الدخول دون إثارة أية ضجة ، لكنه أحجم في اللحظة الأخيرة مخافة أن يُسبب لامرأة غريبة وخدومة الضرر الذي لا سبيل لإصلاحه بموته في سريرها ، وهكذا كان التفكير معقولا بأن المرأة التي أَحبَّها أكثر من كل ما أَحبه على وجه الأرض والتي انتظرها من قرن الى آخر لن يُتاح لها الوقت لإسناده من ذِراعه وعبور شارع مليء بِحَثَوات التراب القَمْرية وجنائن البرقوق التي بعثرتها الريح لمساعدته للوصول سيلماً معافى الى الرصيف الآخر للموت .
الحقيقة أن فلورنْتينوأَريثَا قد دخل وفق معايير عصره حدود الشيخوخة ، كان عمره ستاً وخمسين سنة بالتمام والكمال ، وكان يظن أنه عاش أفضل حياة لأن سنوات حياته كانت سنوات حب ، ولكن لم يواجه أي رجل من رجال عصره سخرية الظهور بِمظهر الشباب وهو في سنِّه ، بينما كان هو كذلك أو كان يعتقد أنه كذلك ، كما لم يكن أيٌّ من أولئك الرجال لِيتجرأ على الاعتراف دون خجل بأنه ما زال يبكي خِفية من أجل صد لَقِيَه في القرن الماضي .
لقد كان عصرا سيئا للظهور بمظهر الشباب ، فهناك طريقة مُعينة في الباس لكل سن ، لكن طريقة اللبس في سن الشيخوخة تبدأ بعد المراهقة بقليل وتستمر حتى القبر ، ولقد كانت هذه المرحلة عبارة عن مرحلة وقار اجتماعي أكثر منها مرحلة حياتية ، فالشباب فيها يلبسون مثل أجدادهم ويصبحون أكثر وقاراً بالنظارات المُبكرة ، كما كان حمل العُكّاز أمراً مقبولاً منذ سن الثلاثين .
أما بالنسبة للنساء فلم تكن في حياتهن سوى مرحلتين ، سن الزواج وهو لا يتعدى الثانية والعشرين من العمر ، وسن العزوبية الأبدية الذي يضم الكاسِدات ، أما ما سوى ذلك من متزوجات وأمهات وأرامل وجدات فكُنَّ صِنفاً مختلفاً من البشر ، لا تُحْسَب حياتهن بما يَعِشْنَه من سنوات وإنما بالزمن المتبقي أمامهن للموت .
لقد واجه فلورنْتينوأَريثَا غدر الشيخوخة بجسارة شرسة حتى وهو يعرف قدَرَه الغريب بالظهور بمظهر الشيخوخة منذ طفولته ، وقد كان ذلك المظهر وليد الحاجة في أول الأمر إذ كانت ترانسيتو أَريثَا تُفَتِّق له وتُعيد خياطة ملابس أبيه التي يقرر التخلص منها وإلقاءها الى القُمامة ، وهكذا كان يذهب الى المدرسة الابتدائية بِسُترة تصل الى الأرض عند جلوسه وقُبعة وزارية تَغْطِس في رأسه حتى أذنيه رغم تَضييق إطارها بحشوات من القطن ، وبما أنه كان يستخدم نظرات لِقِصَر البصر منذ الخامسة من عمره ، له شعر هندي كشعر أمه مُزْبَئر وقاسٍ كَشَعْر جواد وكان ، فلم تكن لمظهره أية سمات واضحة ولحسن الحظ أن المعايير المدرسية كانت أقل انتقائية مما كانت عليه من قبل ، وذلك بعد فوضى الحكومات الكثيرة بسبب الحروب الأهلية المفروضة والمتلاحقة ، فكانت المَدارس العامة تزخر بخليط من الأصول والظروف الاجتماعية المُتباينة ، كان يأتي الى الدروس صِبية تفوح منهم روائح بارود المَتاريس بملابس وشارات ضباط متمردين نالوها بالرصاص في مَعارك مَشكوك فيها وبأسلحتهم النظامية البادية تماما على خُصورِهِم ، وكانوا يصطدمون بينهم بالرصاص لأي خلاف في الاستراحة ، ويهددون المعلمين إن هم أساءوا تقديرهم في الامتحانات ، بل إن أحدهم وهو تلميذ في الصف الثالث بمدرسة لاسيليه وكولونيل ميليشية متقاعد قتل الأخاخوان إيريمِيتا رئيس الطائفة بالرصاص لأنه قال في درس أصول الدين : أن الرب هو عضو عامل في الحزب المحافظ .
من جهة أخرى كان أبناء العائلات الكبيرة المنكوبة يأتون الى المدرسة بملابس أُمَراء قُدماء ، بينما يسير بعض الفُقراء المُُتْقعين حفاةً ، وبين كل هذه المُفارَقات الغريبة التي طالت جميع المستويات كان فلورنْتينوأَريثَا من أشد الحالات غرابة ولكن ليس الى الحد الذي يلفت إليه الانتباه كثيرا ، وكان أقسى ما سَمِعه هو أن أحدَهم صَرَخ به في الشارع يوماً : الفقير القبيح تنقضي حياته بالتمنيات .
وعلى أي حال فإن ذلك الزِي الذي فرضته الحاجة كان منذ ذلك الحين وسيبقى طوال حياته الأكثر مُلاءمة لطبيعته الغامضة ومزاجه الكئيب ، وحين وصل الى أول منصب مهم في ش ك م ، بعث يطلب تفصيل ملابس جديدة على مقاسه من طراز ملابس أبيه الذي ما زال يَذكُره كشيخ توفي عن عُمْر موَقَّر كعمر المسيح ثلاث وثلاثون سنة ، لقد كان فلورنْتينوأَريثَا يبدو إذن أكبر من سنِّه الحقيقي بكثير لدرجة أن بريجيدَا زولينَا إحدى عشيقاته العابرات والتي كانت تُقدم له الحقائق دون أن تمُر بها في المَساء قالت له منذ ايوم الأول بأنه يُعجبها أكثر حين يخلع ملابسه لأنه يصغُر عشرين سنة وهو عارٍ ، ولم يستطع رغم ذلك التوصل الى التوافق ابداً أولا لأن ذوقه الشخصي لا يُمَكِّنُه من أن يتزَّيى بطريقة أخرى ، وثانياً لأن أحداً من أهل ذلك العصر ما كان له يعرف كيف يتَزيى بِزِي شاب في العشرين دون أن يُخرِج مُجَدداً من خزانته سراويله القصيرة وقُبعة الأولاد ، ومن جهة أخرى لم يكن ممكنا له هو بالذات الهروب من معرفة شيخوخة عصره ، وهكذا فقد كاد يكون طبيعياً حين رأى فرْمينا داثَا تتعثر لدى خروجها من السينما ، وأُمْكِنَ لبارقة الذعر أن تبعث القشعريرةفيه لإحساسه أن الموت العاهر سينتصر عليه بالتأكيد في حرب حبه الضروس .
كانت المَعركة التي خاضَها عاجزاً حتى ذلك الحين وخسرها دون أمجاد هي معركته ضد الصلع ، فمنذ أن رأى الشعرات الأولى تعْلق بالمشط أدرك أنه محكوم بِجَحيم لا يمكن لمن لم يعِشْه تصور عذاباته ، قاوم خلال سنوات ، لم يدع وصْفاً أو علاجاً للصلع إلا وجربه ولا خرافة إلا آمن بها ولا تضحية إلا واحتملها ليُدافع عن كل بوصة من شَعْر رأسه في مواجهة الداء النَهِم ، حَفِظ عن ظهر قلب تعليمات روزْنامة برِيستول الزراعية لأنه سَمع أحدهم يقول : إن نمو الشَعْر مُرتبط ارتباطاً مباشراً بدورات المَواسِم الزراعية ، وهجَر حلّاقه الخاص الذي كان يَقُصّ شَعْره عنده منذ الأزَل لأنه كان ذا صلعة مهيبة واستبدله بحلّاق غريب جاء المدينة حديثاً وكان لا يقُصّ الشَعْر إلا حين يبدأ القمر بِالاكتمال ، وأخذ الحلّاق الجديد يُثبِت أن يده مخَضَّبةً حقاً حين كُشِف أمره كمغتصِب تلميذات غِرّيرات تُلاحقه شرطة عدة بُلْدان أنتيلية وقُيِّد مُكَبَلاً بالسلاسل .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد قص حتى ذلك الحين جميع الإعلانات الموجهة للصُلْعان ففي صحف بُلْدان حوض الكاريبي حيث كانوا ينشرون في تلك الإعلانات صورتَين متجاورتين للرجل نفسه ، الأولى وهو منتوف والثانية بشَعْر أعزَر من لُبْدَة أسد قبل وبعد استخدام الدواء المضمون ، وبعد مرور ست سنوات كان قد جرب 172 دواءً إضافة الى وسائل أخرى مُكمِلة كانت ترِد في الوصفة المُكمِلة بِقناني الدواء ، لكن الشيء الوحيد الذي حصل عليه هو نوع من الإكزيما في رأسه ، قُرحة حارقة ومُنتِنة يُطلِق عليها أولياء المارتينيك الصالحين اسم القَرْع الشمالي لأن إشعاعاً فسفورياً يَنْبَعِث منها في الظلام ، وبعد ذلك لجأ الى جميع أنصناف الأعشاب التي يروِّجُها الهنود في السوق العام وجميع الأدوية السحرية والأكاسير الشرقية التي تُباع في زقاق الكَتَبة العُموميين ، وحين أدرك أنه ليس سوى ضحية عمليات غِش ، كانت قرعة كقرع ةالقدّيسِين قد غزت منتصف رأسه .
وفي السنَة صفر عندما كانت حرب الألف يوم الأهلية تستنزف البلاد مر في المدينة إيطالي يصنع بِيروكات من من الشَعْر الطبيعي على المَقاس ، كانت الواحدة منها تُكَلِّف ثروة ولا يتحمل الصانع أية مسؤولية بعد ثلاثة شهور من الاستعمال ، ولكن عددا ضيئلاً فقط من الصُلْعان الموسرين لم يرضخوا للإغراء ، وكان فلورنْتينوأَريثَا أحد الأوائل جرب بِيروكة مُشابهة تماما لِشَعْره الأصلي حتى أنه خشي من وقوف الشَعْر مع تبدُلات مزاجه .
لم يستطع استيعاب فكرة حمل شَعْر إنسان ميت على رأسه وكان عزاؤه الوحيد أن شراهة الصلْع لم تُتِح له التعرُّف على لون شَعْراته الشائبات .
وفي يوم من الأيام عانقه أحد سُكارى الميناء النهري السُعَداء بعاطفة مُتَدفقة أكثر من المعتاد وهو خارج من المكتب فأفلتت الباروكة أمام سخرية عمال الشحْن ، وطبع السَكران قُبْلة مدوية على رأسه وهو يَصْرُخ : صَلْعَة ربانية .
في تلك الليلة بالذات وكان قد بلغ الثامنة والأربعين من العمر حلَق الشُعيْرات القليلة المُتبقية على الصدغَين والرقبة واستسلم تماما لمصيره كأصلع مُطلق ، بل إنه لم يعُد يَطْلي صباح كل يوم ذقنه وحدها بالرغوة وإنما كذلك أجزاءً من رأسه حيث يجد أن بعض الشَعْر آخذ بالظهور ، فيجعلها بموس الحلاقة مثل إلْيَة طفل رضيع ، لم يكن ينزِع القُبعة حينئذٍ حتى ولو في المكتب ، إذ كانت الصلعة تثيرفيه شعوراً بالعُري يبود له غير وقور ، ولكنه حين اعتاد عليها تماما نسب إليها فضائل ذكورية كان قد سَمع بها ، وكان يزدريها من قبل على أنها مجرد أوهام من الصُلْعان .
ثم انتقل فيما بعد الى العادة الجديدة باستخدام شَعْر المَفْرَق الأيمن الطويل لتغطية الصلعة ولم يتخلَ عنها أبدا ، ولكنه استمر في استخدام القُبعة وهو على هذا الحال بالطريقة الجنائزية ذاتها حتى بعد أن شاعت قُبعة تارْتاريتا وهو الاسم المحلي لقُبعة كانوتيه .
أما فقدانه أسنانه فلم يكن نتيجة بلوى طبيعية وإنما نتيجة عمل غير مُتقَن قام به طبيب أسنان متجول رأى أنه لا بد من نزع الأسنان إثر التهاب عادي ، كان الرعب من آلة ثَقب الأسنان قد مَنَع فلورنْتينوأَريثَا من زيارة طبيب الأسنان رغم آلام أضراسه المستمرة الى أن فقدَ القدرة على الاحتمال ، وقد فزعت أمه حين سَمعت أنينه في الغرفة المجاورة طوال الليل إذ بدت لها كتأوهاته في زمن آخر شبه مَطموس في ضَباب ذاكرتها ، ولكنها حين طلبت منه أن يفتح فمَه لترى أين هو ألم الحب اكتشفت أن ما يُضنيه هو الخُرّاجات والدَمامِل الصغيرة .
أرسله العم ليون الثاني عشر الى الدكتور فرانسيس أَدوناي وهو مارد زنجي يلبس سروالاً خاصاً بركوب الخيل ويتنقل في السفن النهرية حاملاً عيادته السِنِّيَة كلها في أكياس فيبدو أشبه بمندوب متجول للرعب في قرى النهر ، وبعد نظرة واحدة لفم فلورنْتينوأَريثَا قرر لا بد من نزع أسنانه كلها بما في ذلك الأسنان والأضراس السليمة إنقاذه الى الأبد من محن أخرى .
وعلى العكس من الصلعة لم يُسبب له هذا العلاج الحماري أي نوع من القلق باستثناء خوفه الطبيعي من المَجزرة دون مُخدِّر ، كما لم تُزعجه فكرة الأسنان الإصطناعية أولا لأن إحدى ذكريات طفولته التي يحن إليها هي ذكرى ساحر رآه في مهرجان وكان ينزع فَكيْه ويضعهما على طاولة لِيتكلم بدونهما ، وثانياً لأنه سيضع حداً لآلام الأضراس التي عَذَّبَتْهُ منذ طفولته ، وهي آلام تكاد تشبه في قسوتها آلام الحب ر.
لم يرَ في الأمر ضربة غادرة من ضربات الشيخوخة كما رأى في الصلعة إذ كان مقتنعاً رغم طعم المطاط بأن مَنْظَرَه سيكون أجمل بابتسامة قويمة ، وهكذا سلَّم نفسه دون مقاومة لِكَمّاشَة الدكتور أَدوناي المُضَمَخَة بالدم ، واحتمل العلاج بِصَبْر كصبْر حمير العتالة .
اهتَم العم ليون الثاني عشر بتفاصيل العملية كما لو كانت تُجرى له بالذات ، فقد كان يولي الأسنان الاصطناعية اهتماماً خاصة إثْر إحدى رحلاته في نهر مجدلينا , وبسبب هَوَسِه بالغناء الجميل ففي إحدى الليالي المُقْمِرة وقريبا من ميناء غامارا راهَن مسّاح أراضي ألماني بأنه قادر على إقاظ مخلوقات الغابة بِغنائهِرومانس نابولي من فوق شُرْفة القُبْطان ، وكاد أن يكسب الرِهان إذ انطلقت في عتمة النهر خفقات أجنحة طيور مالك الحزين في المستنقعات وضرب ذيول التماسيح وأنفاسم أسماك الشابْل وهي تحاول القفز اليابسة ، ولكنه حين وصل القفلة الختامية وحين خشي المستمعون من تمزق شرايين المُغني لقوة صوته أفلت طقْم الأسنان الاصطناعية من فمه مع النفَس الأخير وغرق في الماء ، وقد اضطرت السفينة ثلاثة أيام في ميناء تينيريفي ريثما صنعوا له مجموعة أسنان طورئ جديدة ، وقد كانت هذه الأسنان الجديدة مُتقنة ولكنه في رحلة العودة وأثناء محاولته أن يشرح للقُبْطان كيف أضاع طَقْم أسنانه السابق استَنشَق العم ليون الثاني عشر مِلْ رئتيه هواء الغابة المُلتهِب وصدح بأعلى يستطيعه واحتفظ به حتى النفَس الأخير محاوِلا إفزاع التماسيح الجاثمة تحت الشمس مُتأملة مرور السفينة دون أن يطرف لها رِمْش فغرق طَقْم الأسنان الجديد في مَجرى النهر أيضا ، ومنذ ذلك الحين وضع نُسَخاً من الأسنان الاصطناعية في كل مكان وفي عدة أماكن في البيت وفي دُرْج مكتبه كما وضع طَقم في كل سفينة من سفن الشركة الثلاث ، وإضافة الى ذلك صار يحمل معه كلما ذهب لِتناول الطعام خارج المنزل طَقماً إضافياً يضعه في علبة لأقراص السُعال في جيبه ، وذلك لأن أسنانه الاصطناعية كُسِرت يوما وهو يحاول أَكْل قطعة من شحم الخنزير المُقدَد في غداء ريفي .
وخشية أن يقع ابن أخيه ضحية مفاجآت من هذا النوعأمر العم ليون الثاني عشر الدكتور أَدوناي أن يصنع له مجموعتين من الأسنان إحداهما من مواد عادية للاستخدام اليومي في المكتب وأخرى لأيام الآحاد والأعياد مُزودة بلمعة ذهبية في ضرس الابتسامة مما منحها لمسة إضافية حقا .
وأخيرا رجع فلورنْتينوأَريثَا في يوم أحد يَضُجّ بنواقيس الى شارعه بهوية جديدة وجعلته ابتسامته الصائبة يشعر بأن شخصاً آخر يحتل مكانه في الدنيا ، حدث هذا في الحقبة التي ماتت فيها أمه ، وبقي فلورنْتينوأَريثَا وحده في البيت الذي كان ركناً مناسِباً لغرامياته ، إذ أن شارعه يكتم الأسرار رغم أن النوافذالكثيرة التي تمنحه الاسم توحي بوجود عيون تتلصص من وراء الستائر ، ولكن كل ما في هذا البيت صُنِع لإسعاد فرْمينا داثَا وسيكون لها وحدها .
وهكذا فضَّل فلورنْتينوأَريثَا تبديد فرص كثيرة خلال أكثر سنواته إثماراً على أن يُدَنِّس بيته في غراميات أخرى ، ولحسن الحظ أن كل درجة كان ي
رتقيها في مناصِب ش ك م ، كانت تعني امتيازات جديدة ومَكاسِب سرية على وجه الخصوص ، وأكثر هذه الامتيازات فائدة بالنسبة إليه كانت إمكانية استخدامه المَكاتب في خلال الليل وفي أيام الآحاد والعُطَل بالاتفاق مع البوّابين .
وفي إحدى المرات حين كان نائبا للرئيس فُتِح باب مكتبه بغتة بينما كان يمارس حُبّاً مستعجلاً مع إحدى الفتيات اللواتي يعملن أيام الآحاد ، وكان جالساً على الكرسي فيما هي رابضة في حضنه ، وبعد فتح الباب أطَّل العم ليون الثاني عشر برأسه كما لو أنه أخطأ بالمكتب ووقف يتأمل من فوق نظارته ابن أخيه المُرْتبك ، ثم قال العم دون أي قدْر من الدهشة : كراخو ، إنها لعنة أبيك نفسها .
وقبل أن يُغلق الباب ثانيةً قال ونظره تائه في الفراغ : وأنتِ أيتها الآنسة تابعي بلا خوف ، أُقسِم لكِ بشرفي أنني لم أرَ وجهكِ .
لم يعُد للحديث في الأمر ، ولكن العمل كان مستحيلاً في مكتب فلورنْتينوأَريثَا خلال الأسبوع التالي ، فقد دخل الكهربائيون يوم الاثنين بجلَبة لِتركيب مروحة ذات رياش في السقف الأَمْلَس ، وأتى صانعو الأقفال دون إنذار مسبق وأثاروا ضجة حرب وهم يثَبِّتون مِزلاجاً في الباب لإغلاقه من الداخل ، وأخذ النجّارون مقاسات دون أن يقولوا لماذا ، وجاء المُنَجِّدون بنماذج من قُماش الكِريتون لِيروا إن كانت تتناسَب مع لون الجدران ، وكان عليهم في الأسبوع التالي أن يستخدموا النافذة لأن الأبواب لم تتسع لإدخال أريكة مُزدوجة مُزَيَنة برسوم أزهار ، اشتغلوا في ساعات لا تخطر على بال ، بوقاحة لا تبدو أنها مُصادَفة ، وكانوا يرددون على كل من يعترض بالقول : إنها أوامر الإدارة العامة .
لم يعلم فلورنْتينوأَريثَا أبدا إن كان هذا التدخل لُطْفاً من العم الساهر على غرامياته الضالة أَم أنه أسلوب خاص به لِِلَفْت انتباهه الى سوء سلوكه في استخدام صلاحياته ، ولم يتبيَّن حقيقة أن العم ليون الثاني عشر كان يشجعه فقد وصلت الى مَسامِعه كذلك أنباء تقول أن لابن أخيه عادات مختلفة عن معظم عادات الرجال ، وقد أقلقه ذلك لأنه رأى فيه عائقاً أمام تعيينه خليفة له .
لقد عاش ليون الثاني عشر لُوايثَا على عكس أخيه حياة زوجية مستقرة استمرت ستين سنة وكان يُفاخر دوما أنه لا يشتغل أيام الآحاد ، وقد انجب أربعة أبناء وابنة واحدة وكان يريد إعدادهم جميعاً لِيرثوا عنه امبراطوريته ، ولكن الحياة أعَدَّت له واحدة من هذه المُصادفات التي كانت شائعة في روايات عصره والتي لم يكن هناك من يؤمن بوجودها في الحياة الواقعية ، لقد مات الأبناء الأربعة واحدا بع الآخر ، وبعد وصولهم الى مَناصِب المسؤولية ، أما الابنة التي لا تتمتع بأية ميول نهرية ففضلت الموت وهي تتأمل مَراكِب هِيتُسون من نافذة على ارتفاع خمسين متراً ، فوُجِد هناك بعد كل هذه المِيتات من يؤمن بأسطورة بأن فلورنْتينوأَريثَا بمظهره المشؤوم ومِظلته التي كمظلة مصاصي الدِماء قد فعل شيئا لِتحدث كل هذه المُصادفات معاً .
وعندما تَقاعَد العم عن العمل مُكرهاً بأمر طبي ضَحَّى فلورنْتينوأَريثَا راضياً ببعض غرامياته أيام الآحاد ليُرافق العم الى ملجئه الريفي في سيارة من السيارات الأولى التي شوهِدت في المدينة ، والتي كانت ذراع إدارة مُحركِها قوية الارتداد لدرجة أنها انتزعت ذراع سائقها الأول ، كانا يتحدثان لساعات طويلة فيما العجوز مستلقٍ في أرجوحة نومه المطرز عليها اسمه بخيوط حَريرية بعيدا عن كل شيء في مزرعة عَبيد قديمة ، كانت تظهر من مصاطبها المُشرِفة مَساءً قمم سلسلة الجبال المُكللة بالثلج ، كان يصعب على فلورنْتينوأَريثَا وعمه الخوض في حديث آخر سوى الملاحة النهرية ، وبقي هذا هو موضوع تلك المُسامرات الطويلة حيث كان الموت دوما ضَيفاً لا مَرئياً .
لقد كانت إحدى مَشاغل العم ليون الثاني عشر هي الحيلولة دون انتقال الملاحة النهرية الى أيدي رجال أعمال من أقاليم الداخل الذين يرتبطون بالاحتكارات الأوربية ، وكان يقول : لقد كان هذا العمل دوماً هو عمل المتاغونغيين أما إذا تولّاه الداخليون فسيهدونه ثانية الى الألمان .
وكان قلقه ناجماً عن قناعة سياسية يحب تكرارها بمناسبة وبلا مناسبة : أكاد أُكمِل مائة سنة وقد رأيت كل شيء يتغير بما فيذلك مواقع الكواكب في الكون ولكنني لم أرَ حتى الآن شيئا يتغير في هذه البلاد ، فهنا توجد دساتير جديدة وقوانين جديدة وحروب جديدة كل ثلاثة شهور لكننا ما زلنا نعيش في العهد الاستعماري ، وكان يرُد دائما على أخويه الماسونيَين اللذَين يَعْزُوان كل الشرور الى فشل الاتحادية : لقد كان حرب الألف يوم خاسرة قبل اندلاعها بعشرينسنة مُذ حرب ستة وسبعين .
وكان فلورنْتينوأَريثَا الذي تتجاوز لا مبالاته السياسية حدود المُطلق يستمع الىهذا الكلام الطويل المكرور كمن يستمع الى صوت البحر ، ولكنه كان بالمقابل نقيضاً صارِماً فيما يتعلق بسياسة الشركة ، إذ كان يرى على العكس من عمه بأن تخلف الملاحة النهرية التي تبدو دائما على شفير الكارثة لا يمكن معالجته إلا بالتخلي التلقائي عن احتكار المِلاحة النهرية الذي منَحَه الكونغرس الوطين لشكرة الكاريبي لمدة تسعة وتسعين عاماً ويوم واحد .
وكان العم يعترض : هذه الأفكار تحشوها في رأسك سَمِيَّتي ليونا المولعَة بالفوضوية .
وكان هذا هو نصف الحقيقة فقط إذ كانت مُبررات فلورنْتينوأَريثَا تَستَنِد الى تجربة الرُبّان الألماني جون بي ألبرس الذي أفسد بطموحه الشخصي المُفرِط نبوغه النبيل .
أما العم ليون فقد كان يرى فشل ألبرس لم يكن بسبب امتيازاته وإنما نتيجة التعهدات الاواقعية التي التزم بها في حينه ، فكان كمن يُلقي على كاهله مسؤولية الجغرافية الوطنية بأَسرها فقد تحمَّتحَمَّل مسؤولية الحفاظ على المِلاحة النهرية وبناءً المُنشآت المرفأية والطرق البرية المؤدية الى الموانئ ووسائط النقل أضف الى ذلك كان يقول : إن معارضة رئيس مون بوليفار الشديدة لم تكن بالعائق الذي يبعَث على الضحك ، كان معظم المساهمين في الشركة يرون في ذلك الخلاف كواحد من الخلافات الزوجية حيث كِلا الجانبين على حق ، فعناد الشيخ يبدو لهم طبيعياً ، ليس لأن الشيخوخة جعلته أقل وَهْماً مما كان عليه دوما كما اعتاد القول عن نفسه بسهولة كبيرة وإنما لأن التخلي عن الاحتكار برأيه هو إلقاء الى القُمامة بمكاسب النصر الذي تحقق في معركة تاريخية خاضها وأخواه منفردين في الأزمنة البطولية ضد خصوم جبارين من العالم بأَسره ، ولهذا لم يعارضه أحد حين ربط حقوقه بطريقة لا تُتيح لأحد المس بها قبل غيابه القانوني ،
ولكن حين سَلَّم فلورنْتينوأَريثَا أسلحته في مُسامَرات التأمُل في المزرعة أبدَى العم ليون الثاني عشر موافقته في التخلي عن الامتياز بشرط وحيد هو ألّا يتم التنازُل قبل وفاته ، كان هذا هو عمله الأخير ولم يعُد بعده للحديث في شؤون العمل ، بل إنه لم يعُد يسمح لهم بأن يستشيروه فيه ، ولم يفقد تجعيدة واحدة من تجاعيد رأسه الامبراطوري ولا ذرة واحدة من وضوحه ، لكنه فعل كل ما أمكنه حتى لا يبدو عليه شيء يثير الشفقة ، كانت أيامه تمضي وهو تأمل الثلوج الدائمة من شُرْفته مُحرِكاً كرسيه الفيني الهزاز ببطء الى جانب طاولة صغيرة تحرص الخادمات على وجود إبريق قهوة مُرة ساخنة عليها دوما ومجموعتين من أسنانه الاصطناعية التي ما عاد يستخدمها إلا لاستقبال الزيارات ، كان يلتقي عددا محدودا من الأصدقاء ولا يتحدث معه إلا عن ماضٍ سحيق جدا وسابق للملاحة النهرية .
ولكن بقي له مع ذلك موضوع جديد ، رغبته بزواج فلورنْتينوأَريثَا ، وقد عبَّر عن ذلك عدة مرات وبالطريقة ذاتها دوما .
كان يقول له : لو أنني كنت أصغر بخمسين سنة لتزوجت من سَمِيَّتي ليونا ، فأنا لا أستطيع تصور زوجة أفضل منها .
كان فلورنْتينوأَريثَا يرتعش لخوفه من أنْ يضيِّع كل ما عمله خلال سنوات طويلة بهذا الشرط الطارئ في اللحظة الأخيرة ، لكنه كا نيفضل الاستقالة والتخلي عن كل شيء والموت قبل أن يُخْلِف وعده لِفرْمينا داثَا ، ولحسن الحظ أن العم ليون الثاني عشر لم يُصِر في طلبه ، وحين أتم الثانية والتسعين من العمر اعترف بابن أخيه وريثاً وحيدا وتَقاعَد من الشركة .
بعد ذلك بستة شهور وبإجماع المساهمين عُيِّن فلورنْتينوأَريثَا رئيساً لمجلس الإدارة ومديراً عامً للشركة ، ويوم تولي مهام منصِبه بعد تناول الشمبانيا طلب العجوز ليون المُتقاعد السماح له بالحديث وهو جالس على الكرسي الهزاز ، وارتجل خُطبة قصيرة بدت أشبه بِمرْثية ، قال إن حياته بدأت وانتهت بحَدَثَين صادرَين عن العناية الإلهية ، الحدث الأول هو أن بطل التحرير حمله بين ذراعَيه في بلدة تورْباكو أثناء رحلته المشؤومة التي قادته الى الموت ، والحدث الثاني كان عثوره رغم كل العوائق التي فرضها القدَر على خليفة جديد بالشركة ، وأخيراً في محاولة لنزع المأساوية من المأساة اختتم حديثه قائلا : المَرارة الوحيدة التي أحملها من هذه الحياة هي أنني غَنَّيْت في جنازات كثيرة باستثناء جنازتي ، والاختتام الاحتفال وكيف لا غَنَّى منفرداً أغنية وداعا للحياة من أوبريت توسْكا ، غنّاها بلحن كنائسي كما يحب أن يُغنّيها وبصوت ما يزال ثابتاً .
لقد تأثر فلورنْتينوأَريثَا لكنه لم يكد يُظهر ذلك في ارتعاشة صوته حين القى كلمة شُكْر مثلما فعَل وبكل ما فعَله وفَكَّر به في الحياة ، لقد وصل الى القمة دون هدف سوى قراره الشَرِس بالبقاء حياً وفي حالة صحية جيدة لحظة توليه مصيره في ظل فرْمينا داثَا .
ولكن لم تكن ذكراها وحدها هي التي رافقته في تلك الليلة في الحفلة التي دعت إليها ليونَا كاسياني ، بل رافقته ذكرى جميع من عَرَفَهُن سواءً من يَرقُدْن في المَقابر مُفكِّرات به من خلال الزهور التي زرعها فوقهن أو أولئك اللواتي ما زلن يُسْنِدْن رؤوسهن على الوسادة ذاتها التي نام عليها أزواجهن بِقُرون مُذَهَّبة تحت ضوء القمر وباستثناء واحدة منهن .
كان يرغب أن يكون معهن جميعا في وقت واحد ، وهو ما كان يخشاه دائما ، ففي أصعب سنوات حياته وأقسى لحظاته احتفظ بعلاقة ما وإن كانت واهية مع عشيقاته اللواتي لا حصر لهن ، لقد تابع دائما خيط حياتهن ، تذكَّر في تلك الليلة روسالْبَا أقدمهن جميعا ، التي فضَّت عذريته وما زالت ذكراها تُعذبه كما عذبَته في اليوم الأول ، كان يكتفي بإغماض عينَيه ليراها بِفُستان المُسلين والقُبعة ذات شرائط الحَرير الطويلة وهي تهُز قفص الطفل عند حافة السفينة ، وكان قد أعد عُدة كل شيء مرات عديدة في سنوات حياته الطويلة للانطلاق للبحث عنها دون أن يعرف أين ودون أن يعرف ما هو لقبها ودون أن يعرف إن كانت هي حقا من يبحث عنها ، ولكنه كان متأكدا من أنه سيجدها في أي مكان ما بين أزهار السحلبيات ، وفي كل مرة بفعل عائق حقيقي يطرأ في اللحظات الأخيرة أو بفعل خلل خارج إرادته كانت الرحلة تتأجل وهو على وشك أن يرفع جسر السفينة ، وقد كانت لأسباب دوما علاقة ما بِفرْمينا داثَا .
تذكَّر أرمَلة ناثاريت ، الوحيدة التي دنَّس معها بيت أمه في شارع لاس فِنْتاناس رغم أنه لم يكن هو وإنما ترانسيتو أَريثَا من سمح لها بالدخول ، ولقد كرَّسَ لها تَفَهُماً أكثر من أي واحدة سِواها ، لأنها الوحيدة التي كانت تَشُعُّ حَنَانا يكفي لإحلالها محل فرْمينا داثَا رغم بَلادتها في الفراش ، لكن ميولها كقطة متشردة وغير مُرَوَّضة تفوقت على قوة حنانها وحَكَمَت عليها بالخيانة ، ومع ذلك فقد أصبحا عاشقَين مُتقطعَين خلال ما يقرب من ثلاثين سنة بفضل شعاره الفروسي ، خائنان ولكن غير مُخادعَين ، وكانت هي الوحيدة كذلك التي كشف فلورنْتينوأَريثَا عن وجهه الحقيقي من أجلها ، فحين وصله خبر موتها وعلِم أنها ستُدفَن في مَدافِن الإحسان تكَفَّل بدفنها على نفقته ، وكان الوحيد الذي حضر جنازتها .
تذكَّر أرامل أخريات محبوبات ، برودنْتِرَا باترا أقدم اللواتي ما زلن على قيد الحياة والمعروفة للجميع باسم أرمَلة الرب لأنها ترملت مرتَين .
وتذكَّر بورْدينْثْيَا أُوريانو المُتَيَمة بحُبه ، والتي كانت تقطع أزرار ملابسه لِيضطر للبقاء في بيتها ريثما تُعيد إصلاحها .
وخوسيفَا أرمَلة زونيغَا المجنونة بحُبه والتي كادت تقُص عضوه بالمِقص وهو نائم كي لا يكون لأحد سِواها .
تذكَّر آنخِيِلْس ألفارو التي غابت سريعاً وكانت أحبهن إليه ، إذ جاءت لمدة ستة شهور لِتَعْليم موسيقى الآلات الوترية في مدرسة الموسيقى ، وكانت تقضي معه الليالي المُقْمِرة على سطح بيتها كما قذفت بها أمها الى الدنيا عازفةً أجمل المقطوعات الموسيقية على البيولوبتشيللو الذي يتحول صوته الى صوت إنسان بين فخذَيها الذهبيَين ، ومنذ الليلة المُقْمِرة الأولى تفتت قلباهما إرَباً بِحُب مُبتدئَين شرسَين لكن آنخِيِلْس ألفارو مضت مثلما جاءت بعضوها الغض وآلتها الموسيقية في سفينة ترفع راية النِسيان ، والشيء الوحيد الذي بقي منها في ليالي السطح المُقْمِرة هو تلويحَة وداعها بمنديل أبيض بدا وكأنه حمامة متوحدة وحزينة في الأفق كما في أشعار مهرجان الزهور ، لقد تعَلَّم فلورنْتينوأَريثَا ما كان قد عاناه كثيرا دون أن يُدرك كُنْهه وهو أن بوسع المرء أن يعشق عدة أشخاص في الوقت نفسه ، ويتألم الألم ذاته لهم جميعا دون خيانة أياً منهم .
وفيما هو يقف وحيدا وسط الجموع في الميناء قال غاضباً : إن في القلب حجرات أكثر مما في فندق للعاهرات .
كان مُبللا بدموع آلام الوداع ، ولكن ما أن اختفت السفينة عند خط الأفق حتى عادت ذِكْرة فرْمينا داثَا لتشغل الفراغ كله .
تذكَّر أنْدريه بارون التي مر من أمام بيتها الأسبوع الماضي ونبهه الضوء البرتُقالي المُنْبعِث من نافذة الحمام الى أنه لا يستطيع الدخول ، لقد سبقه أحدهم ، أحدهم رجل أو امرأة ، لأن أنْدريه بارون لم تكن لتتوقف عند تُرَّهات من هذا النوع في فوضى الحب ، وبين جميع من هن في قائمته كانت هي الوحيدة التي تعيش من جسدها ، ولكنها كانت تتحكم به حسب رغبتها دون وكيل أعمال ، في سنواتها الطيبة مارست المِهْنة القديمة كمُومِس سريَة مما جعلها جديرة باسم سيدتنا قدّيسة الجميع ، لقد فتَنَت حُكّاماً وأُمراء بَحر ورأت بعض نبلاء السلاح والأدب مما لم يكنوا مشهورين كما كانوا يظنون أنفسهم ، يبكون على كتفها ، وكذلك بعض من كانوا مشهورين حقا ، كما كان صحيحاً أن الرئيس رافائيل رييس وبعد نصف الساعة الُستعجلة التي أمضاها في زيارتَيه للمدينة خصص لها راتباً تَقاعُدياً مدى الحياة لقاء خدمات قدمتها في وزارة الخزينة حيث لم تكن يوماً موظفة ، لقد كانت توزع عطايا متعتها الى أقصى ما أتاحه لها الجسد ، ورغم أن سلوكها غير اللائق كان معروفاً للجميع فإنه لم يكن بإمكان أحد تقديم أدلة دامغة ضدها ، لأن زبائنها البارزين كانوا يحمونها كما يحمون أنفسهم ، مُدركين أنهم هم وليس هي من سيخسر أكثر بالفضيحة .
وقد خرَق فلورنْتينوأَريثَا من أجلها مبدأه المقدس بعدم الدفع وخَرَقَت هي قانونها بأن لا تُمارس الحب مجاناً حتى ولو مع الزوج ، إذ اتفقا على سعر رمزي هو بيزو واحد عن كل مرة ، لكنها لم تكن تأخذ البيزو كما لم يكن هو يعطيها إياه في يدها ، وإنما كان يُسقِطه في الحصالة الى أن يصل المبلغ الى ما يكفي لشراء أية بِدعة من زقاق الكَتَبة العُموميين ، وهي التي عزت الى الحُقَن الشرجية التي يستخدمها في إمساكه حسية مختلفة في الحب وأقنعته بصواب فكرتها لِيسْتخدِما الحُقَن الشرجية معاً في أُمسياتهما المجنونة محاوِلَين بذلك ابتداع مزيد من الحب في الحب .
كان يرى نفسه محظوظاً لأن الوحيدة التي أذاقته قطرة مَرارة وسط كل هذه اللقاءات الخطِرة هي سارة نوِيرغَا المتقلِّبة التي أنهت حياتها في مشفى الراعية الإلهية للمجاذيب مُلقية أشعاراً شيخوخية بذاأتها تتجاوز كل الحدود ، مما اضطرهم في المشفى الى عزلها حتى لا تُسبب الجنون للمجنونات الأخريات .
وحين تسَلَّم فلورنْتينوأَريثَا كامل مسؤوليات ش ك م ، لم يعُد لديه متسع كبير من الوقت لمحاولة إحلال أحد محل فرْمينا داثَا ، كان قد أيقن أنها عصية على الاستبدال ، وراح يهوي شيئا فشيئا في روتين زياراته لمن يعرفهن ليضاجعهن الى المدى الذي تستطعنه وإلى حيث يستطيع وإلى حيث تسمح لهم الحياة .
وفي يوم أحد العَنْصَرَة حين مات خوفينال أُورْبينو لم تكن قد بقيت له سوى واحدة ، واحدة فقط لها أربعة عشر من العمر أكملتها لتوها وتتمتع بكل ما لا تمتلكه الأخريات حتى ذلك الحين لجعله يُجَن حُبّاً ، اسمها أمريكا فيكونيا وكانت قد جاءت قبل سنتين من بلدة بوييرْتو بادْري البحرية مبعوثة من أهلها الى فلورنْتينوأَريثَا ولي أمرها الذي تربطهم به صلة قربى معروفة ، جاءت بِمِنحة حكومية لتتأهل كمُعَلِّمة وبدت كدُمْية حين وصولها بِصُرَّة سفرها وحقيبتها الصفيحية ، ومنذ نزولها من السفينة بحذائها الأبيض وضفيرتها الذهبية خطرت له الفكرة الفضيعة بأنهما سيقضيان معاً قيلولات آحاد كثيرة .
كانت لا تزال طفلة بكل ما في ذلك من معنى ، القَلَح في أسنانها وقروح المدرسة الابتدائية في ركبتها ، لكنه تخيل فورا المرأة التي ستصيرُها عما قريب ، فرعاها لنفسه خلال سنة بطيئة من سبوت في السيرك وآحاد في الحدائق ومحلات المُثلجات وأمسيات طفولية نال بها ثقتها وكسب ودها ، وراح يقودها من يدها برقة خبيثة كجد كريم الى مسلخه السري ، وكانت استجابتها فورية ، لقد فُتِحت لها أبواب السماء فانفجرت في تفتح وردي جعلها تفيض سعادة ، وكان ذلك دافعاً ناجحاً لِدراستها إذ احتفظت دوماً بالموقع الأول في الفصل كي لا تخسر الخروج من المدرسة في نهاية الأسبوع ، وكانت بالنسبة له الركن الأكثر خفاءً في خليج شيخوخته ، فبعد سنوات طويلة من الغراميات المحبوسة أحس لمذاق البراءة المُفسَدَة فتنة ضلال مستجد .
انسجمَا ، كانت تتصرف على سجيتها ، طفلة متأهبة لاستكشاف الحياة تحت إشراف رجل موَقَّر لا يُفاجأ بشيء ، وتصَرَف وهو واعٍبالشكل الذي كان يخشى أن يصير إليه في الحياة ، خطيب شائخ .
ولم يُطابق بينها وبين فرْمينا داثَا أبدا رغم التشابه الكبير بينهما ، وليس في السن والزِي المدرسي والضَفيرة والمشية البرية فقط بل وبالطبع المُتكبِر وغير المتوقع ، ثم إن فكرة الاستبدال التي كانت حافزاً جيدا له في استعطاء الحب من قبل قد تلاشت نهائياً من ذهنه ، إنها تعجبه كما هي ، ويحبها بما هي عليه بِحُمَا لذة غَسَقِيَة ، وكانت الوحيدة التي اتخذ معها احتياطات صارمة للحيلولة دون حَبَل عرَضي ، وبعد بضعة لقاءات لم يعُد لكِليهما من حلم سوى مَساء الآحاد ، بما ، ه الشخص الوحيد المُخَوَّل بإخراجها من المدرسة الداخلية فقد كان يذهب بحثاً عنها في سيارة الهيتسون ذات الست سلندرات التابعة لشركة الكاريبي للمِلاحة النهرية ، وكان ينزع غطاء السيارة القماشي في بعض الأُمسيات غير المشمسة لِيتنزها على الشاطئ ، هو بقُبعته الكئيبة وهي منفجرة بالضحك وممسكة بكلتا يديها قُبعتها البحرية التي تُشكل جزئاً من زيها المدرسي كي لا تطير مع الريح .
لقد قال لها أحدهم يوماً ألّا تُرافق ولي أمرها أكثر من اللازم وألّا لا تأكل شيئا كان قد تذوقه وألّا تقترب كثيرا من أنفاسه لأن الشيخوخة معدية ، لكنها لم تُولي ذلك اهتماما ، كلاهما كان يبدي لا مبالاته لما يمكن للناس أن يظنوه بهما ، لأن قرابتهما كانت معروفة جيدا ، ثم أن سِنَّيهما النقيضَين يضعانهما بِمنْأى عن كل الشُبهات .
كانا قد انتهيا من ممارسة الحب يوم أحد العَنْصَرة في الرابعة بعد الظُهر حين بدأ قرع النواقيس ، وقد فوجئ فلورنْتينوأَريثَا لِفزع قلبه ، فقرع النواقيس كان يدخل في شبابه ضمن تكاليف الجنازة ، وكان يُحضَر على الفُقراء فقط .
وبعد حربنا الأخيرة في الجسر الواصل بين القرنَين رسَّخ النظام المحافظ تَقاليده المَوروثة من العهد الاستعماري ، وأصبحت الأُبَّهة الجنائزيَة مُكَلِّفة بحيث لم يعُد هناك من هو قادر على دفعِها سوى أغنى الأغنياء ، وحين توفي الأسقف أرْكولي دي لونا قُرِعت نواقيس المقاطعة كلها لتسعة أيام بلياليها وبلغ الضيق العام حدا دفع خليفته الى إلغاء تقليد قرْع أجراس الكنائس في المآتم وحصره بالموتى البارزين ، ولذلك حين سَمع فلورنْتينوأَريثَا قرع النواقيس في الكاتدرائية في الربعة من مَساء يوم أحد العَنْصَرة أحس أن شبحاً من أيام شبابه المَنسية يزوره .
لم يتصور مُطلقاً أن قرع النواقيس هذا هو الذي تشوق إليه لِسنوات وسنوات منذ يوم الأحد الذي رأى فيه فرْمينا داثَا تخرج من القُدّاس الكبير وهي حُبلى في الشهر السادس .
قال في العتمة : اللعنة ، لا بد أنه حوت سمين كي تُقْرَع من أجله نَواقيس الكاتدرائية .
أما أمريكا فيكونيا التي استيقظت لتوها عارية تماما فقالت : لا شك أنها من أجل العَنصَرة .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا خبيرا أو ما شابه ذلك في شؤون الكنيسة ، كما إنه لم يذهب الى الصلاة مذ كان يِعزف الكمان في الكورس مع ألماني عَلَّمَه كذلك علم التلغراف ، ولم يتوصل الى خبر مؤكَد عن مصيره أبدا ، لكنه كان يعرف دون شك أن النواقيس ما كانت من أجل العَنصَرة ، صحيح أن في المدينة مأتماً وهو يعرف ذلك إذ زارت بيته لجنة من لاجئي الكاريبي لتخبره أن جيرميَا ديسَانْت آمور قد وُجِد ميتاً في معمل تصويره .
ومع أن فلورنْتينوأَريثَا لم يكن من أصدقائه المقربين إلا أنه كان صديقا لعدد كبير من اللاجئين الذين اعتادوا على دعوته الى مناسباتهم العامة وخصوصاً المآتم ، لكنه كان متأكداًمن أن الأجراس لا تُقْرَع لِجيرميَا ديسَانْت آمور الذي كان مُلحِداً مُصمماً وفوضوياً متمادياً ، إضافة الى أنه قتَل نفسه بيده .
قال : لا ، إن قرع أجراس كهذا لا يمكن أن يكون من أجل حاكم فما فوق .
لم تكن أمريكا فيكونيا بجسدها الشاحب المُرَقَّط بفعل انعكاس أشعة الضوء المُتسربة من أبَجور النافذة المغلقة قد بلغت سِنّاً يمَكِّنَها من التفكير بالموت.
كانا قد مارسا الحب بعد الغداء واضطجعا في سكون القيلولة ، عاريَين تحت مروحة السقف التي لم يطغَ أزيزها على نَقْر طيور الرخمة التي تدُبّ كحبات البَرَد فوق سطح الصفيح الساخن .
كان فلورنْتينوأَريثَا يحبها كما أَحب كثيرات من النساء الأخريات العابرات في حياته الطويلة ، لكنه كان يحب هذه بِكَرْب أشد لأنه كان موقناً من أنه سيكون قد مات من الشيخوخة حين تنتهي هي من المدرسة العليا .
ككانت الحجرة تبدو أشبه بقُمْرة سفينة بجدرانها المصنوعة من الألواح الخشبية ، طُلِيَت مرات ومرات فوق طلائها الأول كما هو الحال في السفن ، لكن الحر كان أشد من حَر قُمْرات سفن النهر في الرابعة مَساءً رغم المروحة المعلقة فوق السرير ، وذلك للحر الذي يعكسه السقف المعدني .
لم تكن حجرة نوم عادية وإنما قُمْرة على اليابسة أمَر فلورنْتينوأَريثَا بِبنائها خلف مكاتبه في ش ك م ، دون نية أو ذريعة أخرى سوى الحصول على ملجأ جيد لغرامياته كعجوز .
كان النوم هناك مستحيلا في الأيام العادية بسبب صراخ عُمال شحن السفن وقعقعة رافعات الميناء النهري وجُآر السفن الضخمة في الميناء ، ولكنها كانت بالنسبة لطفلة جنة أيام الآحاد .
فكَّرَا بالبقاء معاً في يوم العَنْصَرة حتى موعد عودتها الى المدرسة الداخلية قبل خمسة دقائق من صلاة التبشير ، لكن قرع النواقيس ذَكَّر فلورنْتينوأَريثَا بوعده في حضور جنازة جيرميَا ديسَانْت آمور فارتدى ملابسه بأسرع مما يفعل في العادة ، وكان قد جدَّل قبل ذلك كعادته ضفيرة الطفلة التي يحلها قبل ممارسة الحب ، ورفعها فوق الطاولة ليَعقِد لها شريط حذائها المدرسي الذي لم تُحْسِن ربطَه يوما .
كان يساعدها دون خبث ، وكانت تساعده لِيساعدها كما لو كان ذلك واجبا عليها ، لقد فقدَ كلاهما الإحساس بالسن منذ لقاءاتهما الأولى وتعاملَا بثقة زوجَين أخفيَا عن بعضهما أموراً كثيرة في هذه الحياة حتى لم يعُد لديهما ما يقولانه .
لم يكن في الميناء المُقفر سوى سفينة واحدة مَرَاجلُها مطفأة وكان الحَر المحتدم يُنذر بهطول المطر ، أول أمطار السنة لكن شفافية الهواء وصمْت الميناء الأحادي بَدَيَا وكأنهما من شهر لَطيف ، وكانت الدنيا من هناكا أكثر فَجاجة من ظلْمة القُمْرة ، وكان قرع النواقيس أكثر إيلاماً دون معرفة لمن تُقْرَع .
نزَل فلورنْتينوأَريثَا والطفلة الى فِناء مِلح البارود الذي استخدمه الإسبان فيما مضى كميناء للنَخاسة وحيث ما زالت بقايا المِثقال وحدائد أخرى من تجارة الرقيق كانت السيارة تنتظرهما في ظل الحانات ، ولم يوقِظَا السائق النائم فوق المِقْوَد الى أن استَقَرَا في مقعدَيهما .
دارت السيارة من وراء الحانات المُسَيَّجة بشبكة معدنية كشباك أقنان الدجاج واجتازت الفراغ الذي كان يشغله في السابق سوق لاس إِنْماس حيث كانت جماعة من اليافعين شبه العُراة يلعبون بالكرة ، وخرجت من الميناء النهري وسط زوبعة من الغبار الملتهب .
كان فلورنْتينوأَريثَا متأكداً أن التشريف الجنائزي لا يمكن أن يكون من أجل جيرميَا ديسَانْت آمور لكن إلحاح النواقيس جعله يرتاب ، وضع يده على كتف السائق وسألَه صارخاً : لماذا تُقْرَع الأجراس ؟
فقال السائق : إنها من أجل هذا الطبيب المعروف ، - ما اسمه ؟؟
لم يكن على فلورنْتينوأَريثَا أن يفكِّر بالأمر ليعرف من المقصود ، ولكن سرعان ما غار الوهم الفوري حين روى له السائق كيف مات ، لأنه لم يجد الأممر محتَمَلا ، فَلا شيء يشبه الإنسان كطريقة موته وليس من موت يبدو أقل شَبَهاً للرجل الذي تصوره من هذه المِيتة ، لكنه كان هو نفسه حتى ولو بدا الأمر غير مقبول ، فالطبيب الأكبر سِنّاً والأكثر تأهيلاً في المدينة وأحد رجالها المرموقين لمشاركته في نشاطات أخرى كثيرة قد مات إثْرة تَهَشُم نخاعه الشوكي عن إحدى وثمانين سنة لدى سقوطه من شجرة مانغا وهو يحاول إمساك ببغاء .
كل ما فعله فلورنْتينوأَريثَا منذ زواج فرْمينا داثَا كان يرتكز على أمل هذا الخبر ، ولكن حين أزفت الساعة لم يشعر برعشة الانتصار التي كثيرا ما تصورها في أوقات أَرَقَه وإنما أحس بضربة من مِخلب الرعب ، لقد رأى بوضوح عجيب أنه كان يمكن لهذه النواقيس أن تُقْرَع لموته هو ، وفَزِعت أمريكا فيكونيا الجالسة الى جواره في السيارة المتقافِزة على الشوارع الحجرية لِشحوبِه وسألَته عما أصابه .
فأمسك فلورنْتينوأَريثَا يدها بيده المتجمدة وتنهد قائلا : آه يا صغيرتي ، تَلزمُني خمسين سنة أخرى لأروي لك .
نسي جنازة جيرميَا ديسَانْت آمور ووترَك الصغيرة أمام باب المدرسة الداخلية واعداً إياها على عجل بالمجيء إليها يوم السبت القادم ، ثم أمر السائق بالتوجه الى بيت الدكتور خو ، وجد ازدحام سيارات وعربات أجرة في الشوارع المجاورة وحشداً من الفضوليين مقابل البيت ، فمدعوو الدكتور الدكتور لاثيديس أوليفيا الذين تلقوا النبأ المشؤوم وهم في أوج الحفلة جاءوا على عجل ، ولم يكن التحرك في البيت سهلا بسبب الازدحام ، لكن فلورنْتينوأَريثَا تمكَّن من شق طريقه حتى غرفة النوم الرئيسية ورفع نفسه أعلى من المجموعة المحتشدة أمام الباب ورأى خوفينال أُورْبينو على السرير الزوجي كما تمنى رؤيته مذ سَمع باسمه لأول مرة محاطاً بوقار الموت .
انتهى النجّار حينئذٍ من أخذ المقاسات لصنع التابوت ، وإلى جانبه بفُستان الجدة حديثة الزواج الذي ارتدته للحفلة كانت تقف فرْمينا داثَا منذهلة وكئيبة .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد تخيل تفاصيل تلك اللحظة منذ أيام شبابه حين كرَّس نفسه كلياً لقضية هذا الحب المتهور ، ففلورنْتينوأَريثَا أحرز لقَباً وثروة وفلورنْتينوأَريثَا اعتنى بصحته ومظهره الشخصي عناية لم تكن تبدو جديرة بالرجولة لأبناء عصره ، وانتظر ذلك اليوم كما لم يستطع أحد انتظار أحد أو شيء في هذا العالم دون لحظة واحدة من التقاعس ويقينه بأن الموت قد تَدَخَل أخيرا لصالحه بث فيه الشجاعة التي كان يحتاجها لِيُكرر أمام فرْمينا داثَا في ليلتها الأولى كأرمَلة يمين الولاء الأبدي وحبه الدائم .
لم ينفِ أمام نفسه أن ما فعله كان عملا طائشاً لا معنى له في هذا الوقت وهذه الطريقة وأنه قد تسرع لخوفه من ألّا تَسْنَح له الفرصة ثانيةًض .
كان قد أعدَّ ما يريده بطريقة أقل فظاظة لكن الحظ لم يُسعفه بأحسن مما فعَل ، خرج من بيت العَزاء متألماً لأنه تركَها تعاني حالة الاضطراب التي كان يعانيها هو نفسه ، ولكنه لم يستطع عمل شيء لمنع ذلك عنها لأنه أحس بأن تلك الليلة الهمجية كانت مكتوبة منذ الأزَل في قَدَرِهما معاً .
لم يستطع النوم ليلةً واحدة في الأسابيع التالية ، كان يتساءل يائساً : أين يمكن أن تكون فرْمينا داثَا من دونه ، وبماذا تُفكر وماذا ستفعل خلال السنوات المتبقية في الحياة بثقل الرعب الذي خلَّفه بين يديها ؟
عانى من نوبة إمساك نفخت بطنه كطَبْل ، وكان عليه أن يلجأ للمسكنات الأكثر لُطفاً من الحُقَن الشرجية كما أن آلام الشيخوخة التي كان يحتملها خيراً من معاصريه لأنه عرفها منذ شبابه هاجمته كلها دُفعة واحدة ، وعندما حضر الى المكتب يوم الأربعاء بعد أسبوع من الغياب ، ارتَعَدَت ليونَا كاسياني لرؤيته على تلك الحالة من الشحوب والاسترخاء .
لكنه طمأنها : إنه الأرق ثانيةً كالعادة .
وعاد يعض لسانه كي لا تُفلت الحقيقة من ثقوب قلبه الكثيرة ، ولم يمنحه المطر هُدنة مُشمسة ليفكر فقضى أسبوعاً لا واقعياً آخر دون قدرة على التركيز في شيء .
وكان يأكل بشكل سيئ ، ويَنام بطريقة أسوأ ويحاوِل تحسس إشارات مُبهمة تُهديه الى سبيل الخلاص ، لكن طمأنينة داهمته منذ يوم الجمعة بلا أية مُبررات ، ففسرها على أنها نذير بأن شيئا جديدا لن يحدث وأن كل ما فعله في الحياة كان بلا جدوى وليس لديه ما يتابع من أجله ، إنها النهاية ، ومع ذلك فلدى وصوله الى بيته يوم الاثنين في شارع لاس فِنْتاناس اصطدم برسالة مُبللة بالماء المتجمع وراء الباب ، وتعرَّف من المُغلف في الحال على الخط المتسلط الذي لم تستطع تبديله كل تقلبات الحياة ، بل إنه أحس برائحة العطر الليلي لأزهار الياسمين الذابلة لأن قلبه حدَّثه بكل شيء منذ الرهبة الأولى .
إنها الرسالة التي انتَظَرَها دون لحظة راحة واحدة خلال أكثر من نصف قرْن ...


الجزء الخامس

أُعدَّ برنامج حافل بالنشاطات العامة بمناسبة الاحتفالا بمطلع القرن الجديد ، وأجدر هذه النشاطات بالذكر هي الرحلة الأولى بالمنطاد ، ثمرة مبادرة من مبادرات الدكتور خوفينال أُورْبينو التي لا تَنضُب .
اجتمع معظم أهل المدينة عند شاطئ الأرسنال لإبداء دهشتهم من ارتفاع بالون الحَرير الهائل المُلَوَّن بألوان العلَم الوطني في الجو ليحمل أول بريد الى سان خوان ديلاثيناغا على بُعد حوالي ثلاثين فَرْسخاً بخط مستقيم الى الشمال الشرقي .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو وزوجته اللذان عرفا متعة الطيران من قبل في معرض باريس الكوني هما أول من صعدا الى حُجَيْرات المِنطاد المصنوعة من الخيزران ، ثم صعد معهما مهندس رحلة الطائرة وستة مدعوين آخرين كانوا يحملون رسالة من الحكومة المحليَة الى السلطات البلديَة في سان خوان ديلاثيناغا يسجلون فيها للتاريخ أن تلك الرسالة هي أول بريد ينتقل عبر الأجواء .
أحد صحفيي الدياريوديكوميرثيو سأل الدكتور خوفينال أُورْبينو ما هي آخِر كلماته إذا ما قضى نحْبه في المُغامرة ؟
فلم يتَرَوَى هذا في التفكير بالجواب الذي سبب له شتائم كثيرة إذ قال : أظن أن العالم بأَسره سيشهد تغير القرن التاسع عشر باستثنائنا نحن .
وفيما المِنطاد يرتفع أحس فلورنْتينوأَريثَا الضائع بين الحشود الساذجة التي تُنشد النشيد الوطني بأنه يشترك بالرأي مع تعليق سَمِعه من أحدِهم وسط الضجَة بأن تلك المُغامرة ليست مناسِبة لامرأة وخصوصاً امرأة في سن فرْمينا داثَا ، ولكنها لم تكن بالمُغامرة الخطيرة على أي حال أو أنها لم تكن على الأقل خطِرة بقدر ما هي مؤثرة .
لقد وصل المِنطاد دون أي تيارات هوائية معاكسة الى مستَقَرِه بعد رحلة هادئة في سماء زرقاء الى حد غير معقول ، طاروا طيراناً طيبا على ارتفاع قليل تدفعهم ريح هادئة ومواتية فوق ذُرَى الجبال المُكلَّلة بالثلج أولا ثم فوق مستنقع ثيناغاغاراندي الفسيح ، ومن السماء رأوا أطلال مدينة كارتاخيناديآندياس القديمة والبطولية كما يراها الله مهجورة من ساكنيها الذين هربوا منها خوفا من الكوليرا بعد أن قاوموا جميع صنوف الحصار من جانب الإنجليز وكل عَسْف القراصنة خلال ثلاثة قرون ، رأوا الأسوار الكاملة وأشجار الشوارع الملتفَة والتحصينات التي قَوَّضَتها رهبانيات الثالوث وقصور المرمر والمذابح الذهبةية مع حكّامها الاستعماريين المتعفنين بالوباء في دروعهم السابغة ، طاروا فوق بيوت ترُوخَاس ديكاتاكَا الأثرية القائمة وسط الماء والمطلية بألوان مجنونة والمُرفَقة بِحَظَائر لِتربية عظائيات الأَكل حيث تتدلى نباتات بالسامينا وإستار وميليا في الجنائن المائية .
كانت مئات الأطفال يلقون بأنفسهم من النوافذ ومن سطوح البيوت ومن الأزوارق التي كانوا يقودونها بمهارة مذهلة ويغوصون كأسماك الشابْل لاستخراج حُزَم الملابس وقناني دواء السُعال وطعام الصَدقات الذي تُلقي به المرأة الجميلة ذات قُبعة الريش من حُجَيْرات المِنطاد ، طاروا فوق أوقيانوسيا ظلال مزارع الموز التي كان صمتها يرتفع إليهم كبُخار مميت ، فتذكرت فرْمينا داثَا نفسها وهي في الثالثة من العمر أو ربما في الرابعة تتمشى في الأَجَمَة الكئيبة مُمسِكة بيَدأمها التي كانت ما تزال حينئذٍ مجرد طفلة أيضا وسط نساء أخريات يرتدين المُسلين مثلها ويحملن مِظلات بيضاء ويضعن قُبعَات شفافة .
قال مهندس المِنطاد الذي كان يراقب العالم بمنظار مُكَبِّر : يبدو أنهم موتى .
وأعطى المنظار للدكتور أُورْبينو فرأى هذا الأخير العربات التي ج=تجُرُّها الجواميس بين الشُجيرات ، وخطوط السكة الحديد ، وأقنية الري المتجمدة ، وحيث ما توجَّه ببصره كان يرى أجساداً بشرية مُبعثرة .
وقال أحدهم بأنه علِم أن الكوليرا كانت تفتك بقرى منطقة ثيناغاغاراندي .
فقال الدكتور أُورْبينو الذي لم يتوقف عن النظر بالمنظار أثناء كلامه : لا بد أنه صِنْف خاص جدا من الكوليرا إذن ، لأن هناك رصاصة رحمة في عنق كل واحد من الموتى ، ثم طاروا بعد ذلك بقليل فوق بحر من الزَبَد وحطّوا دون أي حادث يُذكر على شاطئ مُتَقِد ، كانت أرضه المُتشققة والمُغطاة بِمِلح البارود مُحَرَّقة وكأنها نار مُتأجِجة ، وكانت السلطات تقف هناك دون أي حماية من الشمس سوى المِظلات العادية ، وكان هناك تلامذة المدارس الابتدائية يُلوِّحون بأعلام صغيرة على إقاع النشيد الوطني ، ومَلِكات الجمال يحملن زهوراً أَحرقها القَيْظ ويضعن تيجاناً من الورق المُذَهَّب ، وسُذُجَ بلدة غايرَا المزدهرة التي كانت في ذلك الحين أحسن قرى الشاطئ الكاريبي حالاً .
الشيء الوحيد الذي كانت تريده فرْمينا داثَا هو رؤية مسقط رأسها ثانيةً لِتُقارِن ما تراه مع أقدم ذكرياتها ، لكنهم لم يسمحوا لأحد بالتجول خوفاً فتْك الوباء .
سلَّم الدكتور خوفينال أُورْبينو الرسالة التارخية التي فُقِدت فيما بعد ولم يعُد يُعرف شيء عنها ، وقد شارَف جميع أعضاء البعثة على الاختناق في قَيظ الخطابات الحماسية الى أن حملوهم أخيرا على صهوات البغال حتى مَرْسَى بويبلو بيخو حيث تلتقي المستنقعات بالبحر ، لأن المهندس لم يتمكن من جعل المِنطاد يطير ثانيةً .
كانت فرْمينا داثَا متأكدةً أنها قد مرت من هناك مع أمها وهي طفلة في عربة يجُرُّها زوج من الجاموس ، وقد رَوَت ذلك لأبيها عدة مرات عندما كَبِرت .
لكنه مات وهو يصر على أنه يستحيل عليها أن تتذكر ذلك وكان يقول لها : إنني أذكر هذه الرحلة جيدا وقد كانت هكذا فعلا ، لكنها حدثت قبل مولدك بخمس سنوات على الأقل .
عاد أعضاء بعثة المِنطاد بعد ثلاثة أيام الى ميناء المَنْشأ وقد ~أنهكتهم ليلة عاصفة واستُقبِلوا استقبال الأبطال ، وتعرَّف فلورنْتينوأَريثَا الضائع بين الحشود طبعا على آثار البُخار فوق مُحيَا فرْمينا داثَا ، ومع ذلك عاد لرؤيتها مَساء ذلك اليوم في استعراض الدراجات الذي أقيم تحت رعاية زوجها أيضا ، ولم يكن يبدو عليها أي أثر للتعب ، كانت تقود دراجة فريدة تبدو أشبه بجهاز من أجهزة السيرك بعجلتها الأمامية العالية والتي جلست فوقها بينما كانت العجلة الخلفية صغيرة جدا ولا تكاد تكفي لِإسنادها ، وكانت ترتدي سِروالاً فضفاضاً ذا حواشي ملونة أثار استنكار السيدات المُسِنّات وأفقد الرجال الوقورين صوابهم ، لكن أحدا لم يستطع إبداء لا مبالاته بمهارتها .
هذه الصور وغيرها كثير كانت صور سريعة الزوال لِسنوات طويلة ، تظهر بغتةً لِفلورنْتينوأَريثَا حين يحلو ذلك للمُصادفة ثم ما تلبث أن تختفي بالطريقة نفسها تاركةً في قلبه لَوْعة ، لكنها كانت تُخلِّف أثرا في حياته إذ أنه لم يتعرف على قسوة الزمن من مظهره هو بالذات بقدر ما تعرَّف عليه من التبدُلات التي يلاحظها على فرْمينا داثَا كُلما رأها .
دخل في أحد الأيام الى مطعم دون سانشو وهو مطعم فاخر من العهد الاستعماري ، واحتل ركناً مُنزوياً كما هي عادته كُلما مضى لِتناول وجبة عصر خفيفة كَوجبة عصفور وفجأة رأى فرْمينا داثَا في المرآة الضخمة جالسة الى الطاولة مع زوجها ورجلَين آخرَين مع زوجتَيهما بِزَاوية تُتيح له رؤية صورتها المعكوسة في المرآة بكل رونقِها ، كانت عزلاء تقود الحديث بظرافة وضحكة تنفجران كانفجار الألعاب النارية ، وكان جمالها أشد أَلَقاً تحت الثريا الضخمة ذات القطع الكِرستالية .
لقد عادت أَلِس لاختراق المرآة ، تأملها فلورنْتينوأَريثَا ما شاء له التَأَمُل بأنفاس مبهورة ، رآها تأكُل ورآها تتذوق قليلا من النبيذ ورآها تُمازح دون سانشو الرابع في سُلالته ، وعاش معها لحظة من حياتها وهو على طاولته المُنعزلة ، وتمشى لأكثر من ساعة في أرضها الحرام دون أن يكون مرئياً ، ثم تناول أربعة فناجين أخرى من القهوة ليبقى وقتاً أطول الى أن رآها تخرج مُختلطة بالجموع التي معها ، لقد مروا قريبا جدا منه لدرجة أنه تمكن من تمييز رائحتها وسط وابل العطور الأخرى المُنبعثة ممن هم معها .
ومنذ تلك الليلة وعلى امتداد سنة تقريباً قام بمحاصرة صاحب المحل حِصارا عنيداً عارضاً عليه كل ما يشاء من مال أو خدمات أو تلبية أكثر ما اشتهاه في حياته مقابل أن يبيعه المرآة ، ولم يكن الأمر سهلاً ، فالشيخ دون سانشو كان يؤمن بالخرافة القائلة أن ذلك الإطار الثمين الذي نجّار أبنوس من فينا هو توأم إطار آخر كانت تملكه ماري أنطوانيت ، وقد اختفى دون أن يبقى له أثر ، ، تُحْفتان فري\دتان ، وحين وافق أخيرا علق فلورنْتينوأَريثَا المرآة في صالة بيته ، ليس لجمال الإطار ودقة صنْعته وإنما لأجل القِسْم الداخلي الذي احتلته الصورة المحبوبة لساعتين .
وكثيرا ما كان يرى فرْمينا داثَا مُمْسِكة بِذراع زوجها في انسجام تام مُتحركَين كِليهما في جو خاص بهما ، بانسياب مُذْهل لا يتشوشإلا حين يُصافِحاه .
وفعلا كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يشد على يده بحرارة ، بل وكان يسمح لنفسه بأن يُربِّت على كتفه في بعض المناسبات ، أما هي فكانت تعامله بمُقتضى نظام الشكليات الغامض ، ولم تُبدي يوما أدنى حركة تتيح له أن يَشُك بأنها تتذكره مُذ كانت
كانا يعيشان في عالمَين متباعدَين ، وفيما كان يقوم بكل جهد متاح لِتقريب المسافة فإنها لم تكن تقوم بأية خطوة إلا في الاتجاه المُعاكشرس .
لقد مضى زمن طويل قبل أن يجرؤ على التفكير بأن تلك اللامبالاة ليست سوى دِرْع لإخفاء الخوف ، لقد خطر ذلك له فجأة عند تعميد السفينة النهرية الأولى التي جرى بناؤها في أحواض بناء السفن المحليَة ، وكانت تلك هي أيضا المناسبة الأولى التي مَثَّل فيها فلورنْتينوأَريثَا العم ليون الثاني عشر باعتباره نائباً أول لرئيس شركة ش ك م ، ، وقد أَضْفَت هذه المناسبة على الحفل مهابة خاصة ، فلم يتخلف عن الحضور أحد ممن لهم أية قيمة في حياة المدينة .
كان فلورنْتينوأَريثَا مشغولا بمَدْعُوِيه في الصالة الرئيسية في السفينة التي ما زالت تنبعث منها روائح الدِهان الحديث والقار المُذاب ، عندما انفجرت موجة من التصفيق على الرصيف وعزفت الفرقة الموسيقية لحناً حماسياً وكان عليه أن يقهر الارتعاشة القديمة كَقِدَمِه تقريبا حين رأى امرأة أحلامه الفاتِنة مُمْسِكة بِذراع زوجها بِنضوجِهَا الرائع وهي تمُر كمَلِكة من عصر آخر وسط حرس الشرف المُتَزيِّين بِزي المَراسم تحت وابل من الشرائط الورقية الملونة وأوراق الأزهار الطبيعية التي تُقْذَف من النوافذ ، وكانا يَرُدّان على التصفيق بتحية من يديهِما ، لكنها كانت فاتِنَة حتى لَتَبْدو وكأنها وحيدة وسط الحشد ، كان كل ما ترتديه له لون ذهبي ملَكي ابتداءً من الحذاء ذي الكعب العالي وأذيال الثعالب على عنقها وحتى القُبعة التي لها شكل الجرس .
انتظرهما فلورنْتينوأَريثَا على الجسر الى جانب السلطات الإقليمية ، وسط قصف الموسيقى والألعاب النارية وجُؤرات السفينة القوية الثلاثة التي بللت رصيف الميناء بِالبُخار .
صافح خوفينال أُورْبينو صف المُستقبِلين بتلك الابتسامة الطبيعية التي هي من خصائصه والتي تجعل كل واحد يظنه يصافحه بحرارة خاصة ، صافح أولاً قُبطان السفينة ببدلة المَراسِم ثم الأسقف وبعد الحاكم وزوجته والعُمدة وزوجته ، ثمقائد المنطقة العسكري وهو إنديزي حديث القدوم الى المدينة ، وبعد السلطات كان يقف فلورنْتينوأَريثَا مُرتدِياً بدْلة قاتمة ولا يكاد يظهر بين كل هؤلاء الأعيان ، وبعد أن صافحت فرْمينا داثَا قائد المنطقة العسكري بدا أنها ترددت أمام يد فلورنْتينوأَريثَا الممدودة .
فسألها العسكري المُتأهِب لتقديمه لها إن كانت لا تعرفه ؟
فلم تقُل لا ولم تقُل نعم ، بل مدت يدها الى فلورنْتينوأَريثَا بابتسامة صالون ، كان ذلك قد حدث في مناسبتَين سابقتينوسيحدث في مناسبات أخرى ، وقد تمثَّله فلورنْتينوأَريثَا دوما كتصرف نابع من طبيعة فرْمينا داثَا ، ولكنه تساءل في مَساء ذلك اليوم بمقدرته اللامحدودة على الحِلْم ، إن لم تكن هذه اللامبالاة القاسية إلا حيلة لإخفاء عذاب الحب .
وقد اضطَرَمَت أشواقه بمجرد ورود هذه الفكرة بباله ، فعاد للطواف حول بيت فرْمينا داثَا بنفس القلق الذي كان يشعر به قبل سنوات طويلة أثناء طوافه في حديقة البشارة ، لكنه لم يكن ينوي أن يجعلها تراه وإنما كانت نيته الوحيدة أن يراها لِيعلم أنها ما زالت حية في الدنيا ، ولم يعُد ممكنا للزمن أن يمضي حينئذٍ دون اكتراث .
كان حي لامانغا يقوم في جزيرة شبه مُقفرة تفصلها عن المدينة التاريخية قناة ماء خضراء مغطاة بأحراج من أشجار الأكاكو التي كانت ملاذاً للعشاق في أيام الآحاد إبان العهد الاستعماري ، ومنذ سنوات قليلة هدموا الجسر الحجري الذي بناه الإسبان وأقاموا جسراً جديدا مع مَصابيح الإنارة لِتتمكن الحافلات التي تجرها البغال من المرور .
لقد كان على ساكني لامانغا أول الأمر احتمال عذابما كان في الحسبان ، ألا وهو النوم قريبا من أول محطة لتوليد الكهرباء في المدينة والتي كان هديرها أشبه بهزة أرضية متواصلة ، ولم يستط حتى الدكتور خوفينال أُورْبينو بكل نفوذه جعلهم ينقُلون المحطة الى حيث لا تُزعِج أحداً الى أن توسطت لصالحه العناية الإلهية التي تحالفه دوما ، ففي إحدى الليالي انفجر مِرْجَل محطة التوليد في دوي بخاري هائل وطار فوق البيوت الجديدة مُجتازاً جزءاً كبيرا من المدينة في الجو وهوى ليحطم الرواق الرئيسي في دَير سان خُوْلايان آل هوسبيلاتاريو القديم .
كان المبنى القديم قد هُجِرَ في أوائل ذلك العام ، لكن المِرْجَل تسبب في مقتل أربعة سجناء كانوا قد فروا في أول الليل من السجن المحلي واختبأوا في الدَير المَهْجور .
تلك الضاحية الهادئة ذات التقاليد الغرامية الجميلة لم تعُد مع ذلك بالمكان المناسِب للغراميات الغير مواتية مُذ أصبحت حياً راقياً ، كانت مُتْرَبة في الصيف وموحلة في الشتاء ومُقفرة طوال العام ، فيما البيوت القليلة المختفية وسط حدائق وارفة ذات مصاطب الموازيك بدل من الشُرُفات القديمة تبدو وكأنها شُيِّدت لإخماد حماس العُشاق المُتَخَفين ، وكان أن شاعت في ذلك الحين لحسن الحظ عادة التنزه مَساءً بالعربات القديمة المُستأجرة والتي تم تعديلها لِيجرها حِصان واحد فقط ، وكانت الجولة بالعربة تنتهي عادةً في ربوة مشرفة يظهر منها شفق تشرين المفتت أفضل مما يظهر عليه من برج الفَنَار ، وتظهر كذكل للعين أسماك القرش الرشيقة وهي تترصد شاطئ المُجمع الإكليريكي وعابرة المحيطات التي تمر كل خميس ، ضخمة وبيضاء يكاد المرء يلمسها بيده وهي تجتاز قنال الميناء .
وقد اعتاد فلورنْتينوأَريثَا استئجار عربة للنزهة بعد يوم العمل الشاق في المكتب ، لكنه لم يكن يطْوي غطاء العربة كما هي العادة في شهور الحَر وإنما كان يبقى مُختَبِئا في الصمت غير مرئي في الظل ووحيدا دائما ، وكان يوجِّه الحوذي في اتجاهات غير متوقعة حتى لا يثير أفكاره السيئة .
الحقيقة أن الشيء الوحيد الذي كان يهمه من النزهة هو البيت ذو المرمر الوردي شبه المختفي بين شجيرات الموز وأشجار المانغا الملتفَة ، والذي كان تقليدا تعيسا لبيوت مُزارعي القطن الحالمة في لويزيانَا .
كان ابنا فرْمينا داثَا يرجعان الى البيت قبل الساعة الخامسة بقليل ، وكان فلورنْتينوأَريثَا يراهما عائدَين في عربة العائلة ، ثم يرى خروج الدكتور أُورْبينو بعد ذلك لزياراته الطبيَة المعتادَة ، ولكنه لم يحظَ خلال ما يقارب السنة من الطواف برؤية أية علامة تدل على وجود من كان يتشوق لرؤيتها .
وفي مَساء يوم أصر على النزهة المتوحدة رغم هطول أول أمطار حُزَيران المُدمرة انزلَق الح؟ِصان في الوحل وسقط على وجهه ، وانتبه فلورنْتينوأَريثَا مُرتعباً الى أنه كان مقابل بيت فرْمينا داثَا تماما .
فتوسل الى الحوذي صائحا دون أن يفكر بأن تَفَجُّعه قد يَشي به : ليس هنا أرجوك ، في أي مكان إلا هنا .
حاول الحوذي الذي أعماه التسرُّع أن يجبر الجواد على النهوض دون أن يَفُكَه فانكسر محور العربة ، خرج فلورنْتينوأَريثَا كيف ما استطاع واحتمل مَشاعر الخجل تحت وابل المطر الى أن عرض عليه متنزهون آخرون حمله معهم الى بيته ، وأثناء انتظاره رأته خادمة من خَدَم آل أُورْبينو بملابسه المبللة والمغطاة بالوحل حتى الركبتَين ، فحملت إليه مِظلة ليأتي ويحتمي على مصطبة البيت .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد حَلُمَ بمُصادفة كهذه في أقصى هذياناته شططا ، ولكنه كان يفضل الموت في ذلك المَساء على السماح لِفرْمينا داثَا برؤيته وهو على تلك الحالة .
أثناء سُكْناه في المدينة القديمة كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يذهب مع عائلته مَشْيا على الأقدام من بيته الى الكاتدرائية لحضور قُدّاس الساعة الثامنة ، وكان ذلك عملا دنيوياً أكثر منه دينياً ، وفيما بعد حين انتقلوا الى البيت الجديد تابَعوا الذهاب الى الكاتدرائية في العربة عدة سنوات وكانوا يتأخرون أحيانا لِتبادل الحديث مع بعض الأصدقاء تحت أشجار النخيل في الحديقة ، أما حين شُيِّد معبد المجمع الإكليريكي في لامانغا مع شاطئ خصوصي ومقبرة خاصة ما عادوا يذهبون الى الكاتدرائية إلا في بعض المناسبات القليلة ، وانتظر فلورنْتينوأَريثَا الذي كان يجهل هذه التبدُلات لعدة آحاد على رصيف مقهى الباروكية مراقباً خروج الناس من القُدّاسات الثلاثة ، ثم إنه أدرك خطأه وذهب الى الكنيسة الجديدة التي كان الذهاب إليها شائعا حتى سنوات قليلة ، وهناك وجد الدكتور خوفينال أُورْبينو مع ابنَيه في الثامنة بالضبط خلال أيام الآحاد الأربعة من شهر آب لكن فرْمينا داثَا لم تكن معهم ، وفي أحد أيام الآحاد هذه زار المقبرة المجاورة حيث كانوا ساكنو حي لامانغا يبنون أضرحتهم الفخمة وقفز قلبه حين رأى في ظلأشجار الثِيبَا الضخمة أفخم ضريح بين كل تلك الأضرحة ، كان ناجزاً ومُزَيناً بِزَخارف زجاجية قوطية وملائكة من المرمر وله شواهد مُذَهَبة تحمل أسماء جميع أفراد العائلة مكتوبة بحروف مُذَهَبة وبينهم بالطبع اسم دونيا فرْمينا داثَا دي أُورْبينو دي لاكايي ويليها ضريح الزوج ، وعلى كِلا القبرَين كتابة مشتركة ، معً كذلك في سلام الرب .
لم تحضر فرْمينا داثَا خلال بقية العام أياً من الناشاطات التمدنية أو الاجتماعية حتى ولا احتفالات عيد الميلاد حيث كانتا وزوجها عادةً من ظيوف الشرف ، لكن الإحساس بغيابها بلغ ذروته في حفل موسم افتتاح الأُوبيرا وفي الاستراحة بين الفصلَين .
فوجئ فلورنْتينوأَريثَا بجماعة لا بد أنها كانت تتحدث عنها دون ذِكْر اسمها ، كانوا يقولون أن هناك من رآها تصعد عند منتصف إحدى ليالي حُزَيران الفائت الى عابرة المحيط كونارْت المتجهة الى بَنَما ، وأنها كانت تغطي وجهها بخمار أسود كي لا تظهر آثار المرض المُخْجِل الذي كان يستنفدها .
وسأل أحدهم : أي مرض رهيب هذا الذي يجرؤ على امرأة مُتَجَبِّرَة مِثلها ؟
والإجابة التي تلَقّاها كانت مُشَبعة بمرارة سوداء .
- إن امرأة بارزة كهذه لا يمكن لها أن تُصاب إلا بالتدرن .
كان فلورنْتينوأَريثَا يعلم أن أثْرياء موطنه لا يصابون بأمراض قصيرة فإما أنهم يموتون فجأة ويكون ذلك في الغالب عشية حفلة كبرى يُفسدها الحداد وإما أنهم يأخذون بالإنطفاء في أمراض بطيئة وفضيعة تشيع أثناءها أسرار مرضهم بين الجميع ، وكاد الاعتكاف في بَنَما يكون تكفيراً إجبارياً في حياة جميع الأثْرياء حيث كانوا يخضعون هناك لمشيئة الله في مشفى المؤمنين ببعث المسيح ، والذي كان عبارة عن بناء فسيح أبيض ضائعة تحت أمطار داريين الخرافية يفقد فيه المرضى حساب القليل المُتبقي لهم في حياتهم ، ولم يكن أياً منهم يحرف حق المعرفة في الحجرات المتوحدة النوافذ المغطاة بِستائر سميكة إذا ما كان مَبعث رائحة الفينيك هو الصحة أو الموت ، وكان الذي يشفون منهم يعودون محملين بهدايا رائعة يوزعونها بسخاء وهم يبدون الكآبة لِيسامحهم المجتمع على طيشهم في البقاء أحياءً ، وكان بعضهم يعودون وفي بطونهم آثا خياطة بربرية تبدو وكأنها أُجريت بخيوط قِنَّب كالتي يستخدمها الإسكافيون ، فيرفعون قمصانهم ليعرضوها على زائريهم ويقارنوها بآثار جراح آخرين ممن ماتوا مختنقين لفرط السعادة ، ويعيشون بقية حياتهم وهم يروون ويعيدون رواية الرؤى الملائكية التي رأوها وهم تحت تأثير الكلوروفورم ، ولم يكن هناك بالمقابل من يعرف كيف كانترؤى الذين لم يرجعوا وخصوصاً أشدهم حزناً ، أولئك الذين ماتوا منفيون في جناح المَسْلُولين بتأثير كآبة المرض أكثر مما هو بتأثير فتْك الداء .
وحين فكَّر بالاختيار لم يعرف فلورنْتينوأَريثَا ما الذي كان يفضله لِفرْمينا داثَا لكنه كان يفضل الى الوصول للحقيقة قبل أي شيء حتى ولو كانت لا تطاق ، ورغم بحثه الدؤوب عنها لم يتوصل إليها ، وبدا له غير معقول ألا يجد أحداً قادرا على إعطائه دليلاً يُثبت صحة رواية المرض ، ففي عالم السفن النهرية الذي هو عالمه لم يكن هناك من سر يمكن إخفاؤه ولا ائتمان يمكن صَونه ، ومع ذلك فإن أحدا لم يسمع بأمر المرأة ذات الخمار الأسود ولم يكن هناك من يعرف شيئا عنها في مدينة كل ما فيها معروف للجميع حيث تشيع الأخبار عن أشياء كثيرة قبل حدوثها وخصوصاً إذا كانت من شؤون الأغنياء ، كما لم يكن لأحد تفسير معين لاختفاء فرْمينا داثَا .
تابَع فلورنْتينوأَريثَا الطواف في لامانغا مُسْتَمِعاً دون تقوى الى المواعظ في كنيسة المدرسة الإكليريكية ومشاركاً في احتفلات تمدنية ما كانت لِتهمه وهو في حالة معنوية أخرى ، لكن مرور الوقت لم يكن إلا ليزيد من صحة رواية المرض ، كل شيء كان طبيعياً في بيت آل أُورْبينو باستثناء غياب الأم .
وفي خضم استقصاءاته الكثيرة وجد أخباراً أخرى لم يكن يعرفها أو لم يكن يبحث عنها منها موت لورينثو داثَا القرية الكانتبرية التي وُلِد فيها ، تذكَّر أنه كان يراه لسنوات طويلة في حروب الشطرنج الصاخبة في مقهى الباروكية بصوته الأبح لكثرة ما يتكلم ، وكان يصبح أكثر بدانة وفظاظة كُلما هوى في الرمال المتحرِكة لشيخوخة مَقيتة ، لكنه ما عاد يبادله الحديث منذ فطور خمر اليانسون المشؤوم في القرن الماضي مع أن فلورنْتينوأَريثَا كان متأكداً من أن لورينثو داثَا ما زال يذكره بِحِقْد شديد كحقده هو عليه حتى بعد أن حقق لابنته الزواج المحظوظ الذي كان مُبرر حياته الوحيد ، لكنه كان مصمماً على الوصول الى معلومات صحيحة عن صحة فرْمينا داثَا فعاد الى مقهى الباروكية ليحصل عليها من أبيها في الفترة التي جرت فيها هناك المباراة التاريخية حين واجه جيرميَا ديسَانْت آمور وحده اثنين وأربعين خصماً ، وكان أن عَلِم هناك بموت لورينثو داثَا وقد ابتهج لذلك من كل قلبه رغم معرفته أن ثمن تلك البهجة قد يكون استمراره في الحياة دون معرفة الحقيقة ، وأخيرا اعتبر رواية مستشفى اليائسين من الشفاء صحيحة دون عزاء آخر سوى مثَل شعبي سائر ، (امرأة مريضة ، امرأة خالدة).
وفي أيام يأسه كان يقتنع بفكرة أن خبر موت فرْمينا داثَا في حالة وقوعه سيصله على أية حال دون أن يبحث عنه ، لكن الخبر لم يصله أبدا ، ففرْمينا داثَا كانت حية ومعافاة في المزرعة التي تعيش فيها منسية ابنة خالها هيلْدا براندا سانجيت على بُعد نصف فَرْسَخ من قرية فلوريس دي ماريا .
لقد ذهبت بلا فضيحة وباتفاق مع زوجها بعد أن توَرَط كِلاهما كمراهقَين في الأزمة الجديَة الوحيدة التي عرفاها خلال خمس وعشرين سنة من زواجهما المستقر .لقد فاجأتهما الأزمة وهما في راحة النضوج حين بَدأا يشعران أنهما بمنأى عن أي مكيدة يحيكها الخصوم مع ابنَيهما الكبيرَين وحسنَي التربية والمستقبل المفتوح أمامهما ليتعلما كيف يشيخان دون مَرارات ، لقد كانت أزمة غير منتظرة لكِليهما ولم يشاءا فضها بالصُراخ والدموع والوسطاء كما هي العادة الطبيعية في الكاريبي ، ,إنما بحِكمة الأمم الأوربية وبما أنهما لم يتمكنَاممن عمل هذا ولا ذاك فقد انتهيا الى التخبط في حالة صبيانية لا تنتمي الى أي مكان ، وأخيرا قررت الذهاب حتى دون أن تعرف لماذا هي ذاهبة ، يقودها الى ذلك الغضب وحده ولم يكن هو بقادر على اقناعها بالعدول عن رأيها ، يمنعه منذلك شعوره بالذنب .
لقد صعدت فعلا الى سفينة في منتصف الليل وسط تكتم شديد وبوجه مغطى بطرحة الحداد ، لكنها لم تصعد الى عابرة المحيطات كونارْد الذاهبة الى بَنَما وإنما في سفينة عادية ماضةي الى خوان ديلاثيناغا المدينة التي وُلِدَت وعاشت الى أن بلغت سن الرشد ، وكان حنينها إليها يصبح أشد وطأة مع تقدم السنين ، ورغم مشيئة الزوج وعادات العصر فإنها لم تأخذ معها من يرافقها سوى ابنة في العماد عمرها خمس عشرة سنة كانت تعيش بين خدم البيت ، لكنهم أعلموا بسَفرها قَباطنة السفن وسلطات الموانئ التي ستمُر فيها .
وحين اتخذت قرارها الذي لا عودة فيه أخبرت ابنَيها أنها ذاهبة لتخفف عن نفسها لمدة ثلاثة شهور حيث تعيش الخالة هيلْدا براندا ، لكنها كانت قد قررت البقاء هناك .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يعرف جيدا صلابة طبعها ، وكان مغموماً لدرجة أنه تقَبَّل سَفرَها بذُل وكأنه عقاب من الرب لخطورة آثامه ، لكنه لم يُضِع من نظره أنوار السفينة حين كان كِلاهما نادماً لضعفه ، ورغم احتفاظهما بِمُراسلات رسمية حول وضع الابنَين وبعض شؤون البيت الأخرى فقد انقضت سنَتان تقريبا دون أن يجد أياً منهما طريقاً للعودة ليست ملغومة بالكِبرياء .
ذهب الابنان الى فلوريس دي ماريا لقضاء عطلتهما المدرسية في السنة الثانية ، وفَعَلَت فرْمينا داثَا المستحيل لتبدو راضيةً عن حياتها الجديدة ، وكان هذا على الأقل هو ما استنتجه خوفينال أُورْبينو من رسائل ابنه ، ثم أن أسقف ريوهاجَا الذي كان يقوم حينئذٍ بِجَولة رعوية في تلك الأنحاء مُمْتَطياً تحت مظلة تقيه الشمس مَتْن بغلته الشهيرة البيضضاء ذات السرج الموشى بالذهب ، وجاء في إثْرِه حُجاج من أقاليم نائية وعازفو الأوكورديون وبائعو أطعمة وتمائم متجولون ، وامتلأت المزرعة لثلاثة أيام بِمَشْلولين ومرضى يائسين من الشفاء ، لم يأتوا في الحقيقة من أجل مواعظ الأسقف المُتضلعة ولا مغفرته الكُليَة وإنما سعياً وراء مِنَّة البغلة التي كان يُشاع أنها تُحقِق معجزات دون علم سيدها .
كان الأسقف على علاقة وطيدة بآل أُورْبينو دي لَاكايي مذ كان خورياً ، وفي ظهيرة أحد الأيام هرب من مهرجانه لِيتناول الغداء في عزبة هيلْدا براندا ، وبعد الغداء الذي لم يتكلم خلاله إلا بأمور دنيوية قاد فرْمينا داثَا جانباً وأراد أن يسمع اعترافها ، ولكنها رفضت بلطف إنما بحسم مُتَذَرِعَة بأنه ليس لديها ما تندم عليه ، ومع أن غرضها لم يكن كذلك في وعيها على الأقل إلا إنها فَكرت سيصل الى حيث يجب وصوله .
لقد اعتاد الدكتور خوفينال أُورْبينو القول ليس بلا شيء من المباهاة بأن تلك السنتَين المريرتين من حياته لم تكونا نتيجة ذنبه وإنما بسبب عادة زوجته المرذولة بِشَم الملابس التي يخلعها أفراد العائلة والتي تخلعها هي نفسها لتعرف من الرائحة إذا ما كان يجب إرسالها للغسيل حتى وإن بدت نظيفة للوهلة الأولى ، كانت تفعل ذلك منذ طفولتها ، ولم تكن ترى فيه ما يلفت الانتباه الى أن انتبه زوجها للأمر في ليلة الزفاف بالذات كما انتبه الى أنها تُدخن ثلاث مرات على الأقل يومياً وهي حابسة نفسها في الحمام ، لكن هذا لم يُقلقه لأن نساء طبقتها اعْتَدْنَ حبس أنفسهن في مجموعات للتدخين والحديث عن الرجال بل ولِشُرب الخمر القوية الرخيصة أيضا الى أن يطرحن أرضاً في سكرة كسكرات البَنّائين .
لكن عادتها في شَم كل ما تجده أمامها من ملابس لم تكن تبدو له غير لائقة فحسب وإنما ذات خطر على الصحة أيضا ، فكانت تأخذ الأمر بالمزاح كما تتناول كل ما لا تريد مناقشته ، وتقول إن الله لم يضع في وجهِها ذلك الأنف المُُدَقِّق لمجرد الزينة ، وفي صباح أحد الأيام أثناء خروجها الى السوق قلبت الخادمات الحي بحثاً عن الابن ذي السنوات الثلاث الذي لم يجدن له أثراً في أي مكان في البيت ، وجاءت هي وسط الذعر فقامت بجَولتَين أو ثلاث جَولات كتلك التي كلاب الأثر البوليسية ووجدت الابن نائم في إحدى خزائن الملابس حيث لم يخطر ببال أحد أن يكون قد اختَبَأ ، وعندما سألها زوجها المندهش كيف وجَدَتْه ؟
ردت قائلة : من رئحة بُرازه .
والحقيقة أن حاسة الشم لم تكن تفيدها في غسل الملابس أو في العثور على أطفال ضائعين فقط ، لقد كانت حاسة التوجه لديها في جميع مستويات الحياة وخصوصاً في الحياة الاجتماعية ، وقد لاحظ الدكتور خوفينال أُورْبينو ذلك خلال حياته الزوجية كلها وخصوصاً في بدايتها حين كانت دائمة العبوس في جو مهيأ ضدها منذ 300 سنة ، ومع ذلك فإنها كانت تسبح بين شِعاب مرجانية حادة دون أن تصطدم بأحد وبسيطرة على العالم لا يمكن لها إلا أن تكون غريزة خارقة للطبيعة ، هذه القدرة الرهيبة التي قد يكون منشؤها حِكْمة ترجع لملايين السنين أو قلب صُواني جاءتها بسعاة محنتها في يوم أحد مشؤوم قبل الذهاب للقُدّاس حين كانت فرْمينا داثَا تَشُمُّ الملابس التي استخدمها زوجها مَساء اليوم السابق بشكل روتيني محض فأحست بقلق أن رجلا آخر هو الذي أمضى الليل في فراشها ، شمَّت السُترة أولا ثم الصدرية فيما هي تَنْزِع الساعة ذات السلسلة الذهبية من العروة وتُخرِج قلم الرصاص ومحفظة الأوراق النقدية وقطع النقود المعدنية القليلة من الجيوب وكانت تضع كل ذلك على خوان الزينة ، ثم شمَّت القميص المُجَعد وهي تَحِل ياقة ربطة العنق وَزِرِي المِعصَم الياقوتيَين وزر الياقة الذهبي ، ثم شمَّت البنطال وهي تُخرج من جيوبه حمّالة المَفاتيح ذات الأحد عشر مِفتاحاً وقِلامة ريشة الكتابة ذات المِقبض الصدفي ، وشمَّت أخيرا السروال الداخلي والجوربَين والمنديل المُطرزة عليه الحروف الأولى من اسمه ، ولم يكن هناك من ظل أدنى شك ففي كل قطعة من ثيابه كانت تجد رائحة لم تكن فيها خلال سنوات حياتهما المشتركة الطويلة ، رائحة يستحيل تحديدها لأنها ليست رائحة زهور ولا رائحة مستحضرات اصطناعية وإنما رائحة خاصة بالطبيعة البشرية .
لم تقُل شيئا ، كما لم تعُد تجد تلك الرائحة كل يوم ، لكنها ما عادت تشُم ملابس زوجها بفضول لِتعرف إذا ما كانت بحاجة لِغسيل وإنما بجزع لا يُطاق كان يكوي أحشاءها .
لم تعرف فرْمينا داثَا أين تُحدد موقع رائحة الملابس في روتين زوجها ، لا يمكن أن يكون ذلك ما بين الدرس الصباحي والغداء لأنها افترضت أنه لا يمكن لامرأة سليمة العقل ممارسة حب مُتعجل في مثل تلك الساعة ، حين يكون على المرأة كَنْس البيت وترتيب الأَسِرة والتسوق وإعداد الغداء وربما تكون قلقة من أن يأتيها أحد الأطفال وقد أعادوه من المدرسة قبل الموعد لإصابته بضربة حجر فيجدها عاريةً في الساعة الحادية عشرة صباحا وي حجرة غير مرتَّبة ، كما يجد وتلك قاصمة الظهر أن طبيباً فوقها .
وكانت تعلم من تجربتها أن الدكتور خوفينال أُورْبينو لا يمارس الحب إلا لَيلا بل إنه يفضل أن يكون الظلام دامساً ، وربما قُبَيل الفطور أحيانا على زَقزَقة أول العصافير ، أما بعد هذه الساعة فنزع الملابس كما كان يقول ولِبْسها من جديد أشق على النفس من متعة حب كحُب الديك ، أي أنتلوث الثياب لا يمكن له أن يحدث إلا في إحدى زيراته الطبيَة أو في وقت مُختَلَس من من لياليه في لَعِب الشطرنج أو في السينما ، وقد كان التَحقُق من هذا الاحتمال الأخير صعباً ، لأن فرْمينا داثَا على العكس من معظم صديقاتها كانت تعتز بِكِبريائها بحيث لا تسمح لنفسها بالتجسس على زوجها أو بان تطلب الى احد عمل ذلك بدلا منها .
إن توقيت زيارة المرضى الذي يبدو الأكثر ملاأَمَة لاقتراف الخِيانة هو في الوقت ذاته أسهل فترة يمكن رصدها لأن الدكتور خوفينال أُورْبينو يسجل بالتَفصيل وضع كل مريض من زبائنه بما في ذلك حالة حسابات الأتعاب منذ أن يزوره أول مرة وإلى أن يودعه من هذا العالم بصليب أخير وعبارة من أجل راحة روحه .
بعد ثلاثة أسابيع لم تجد فرْمينا داثَا للرائحة أثراً في الملابس لعدة أيام ثم عادت تجدها فجأة ودون سابق إنذار ، ثم إنها وجدتها فيما بعد أوضح مما كانت عليه سابقاً ولِأيام متتالية رغم أن أحد تلك الأيام كان يوم أحد احتفالي لم تُفارقه خلاله لحظة واحدة ، وفي إحدى الأُمسيات وجدت نفسها في مكتب زوجها على خلاف عادتها بل وعلى خلاف رغبتها وكأنها ليست هي التي تقوم بشيء لم تُقْدِم عليه أبدا ، وإنما امرأة أخرى سواها مُحَلِلةً بِعدسة مُكَبِرة ملاحظات زوجها المتَشابِكة عن زياراته لمرضاه خلال الشهور الأخيرة .
كانت المرة الأولى التي تدْخل فيها هذا المكتب المُشبع بِرطوبة الكِريوزوت والمُفْعمة بالكتب المُجَلَّدة بجلود حيوانات مجهولة وصور مدرسية مضطربة وشهادات شرف واصطارلابات وخناجر زائفة جمعها خلال سنوات ، إنه الهيكل السري الذي كان دوما جزءاً من حياة زوجها الخاصة ، وهي لا تَدْخُله لأنه لا علاقة له بالحب ، أما المرات القليلة التي دخلت هناك فكانت وهي معه ومن أجل قضايا مستعجلة دوما ، لم تكن تشعر بأن لها الحق في الدخول وحدها وخصوصاً إذا كانت تريد إجراء تحريات لا تبدو لها محترمة ، إنما هاهي هناك ، إنها تريد العثور على الحقيقة وتبحث عنها بقلق لا يمكن مقارنته بِخوفها الرهيب من العثور عليها مدفوعة بعاصفة متسلطة أكثر عتوا من كِبريائها الخَلْقي ، أكثر عتوا من كرامتها ، أنه تعذيب ساحر للنفس .
لم تستطع الوصول الى شيء واضح لأن مرضى زوجها باستثناء الأصدقاء المشتركين بينهما كانوا كذلك جزءاً من احتكارات زوجها الخاصة ، إنهم أُناس بلا هوية ، لا يُعرَفون بوجوهِهم وإنما بآلامهم ، لا يُعرَفون بلون أعينهم أو مراوغة قلوبهم وإنما بحجم كبدهم وقَلْح لسانهم وكثافة بَولِهم وهذيانِهم في ليالي الحُمّا ، أُناس يؤمنون بزوجها ، يؤمنون بأنهم يعيشون به بينما هم في الحقيقة يعيشون له وينتهون الى اختزالِهم في عبارة يكتبها بخطِه ويده على طرف التقرير الطبي : اهدأ فالرب ينتظرك عند الباب .
تركت فرْمينا داثَا المكتب بعد ساعتين ، لم تصل خلالهما الى شيء شاعرة أنها خضعت لغواية فاحشة ، وبدأت تكتشف مدفوعة بأوهامها التبدلات التي طرأت على زوجها ، أصبحت تراه مراوِغاً قليل الشهية على المائدة وفي الفراش ، ميالا الى السخط والردود المتهكمة ولم يعُد الرجل الهادئ الذي كانه من قبل أثناء وجوده في البيت وإنما صار أشبه بأسد محبوس ، ولأول مرة منذ زواجهما أخذت راقب تأخره وترصد أوقاته بالدقيقة وتكذب عليه لتحصل عى الحقائق ، ولكنها كانت تشعر بعد ذلك بجرح قاتل لتناقضِها ، وفي إحدى الليالي استيقظت مذعورة لإحساسها أن زوجها يتأملها في العتمة بعينَين مشحونتَين بالحقد ، لقد عانت قشعريرة مُماثلة وهي في زهرة شبابها حين كانت ترى فلورنْتينوأَريثَا يتأملها عند طرف السرير ، والفارق الوحيد هو ا ، مظهره لم يكن حينئذٍ مظهر حقد وإنما حب ثم إنها لم تكن واهمة هذه المرة ، كان زوجها مستيقظاً في الثانية بعد منتصف الليل وقد اعتدل في السرير ليتأملها وهي نائمة ، ولكنها حين سألَته لماذا يفعل ذلك ؟
أنكر الأمر وأعاد وضع رأسه على الوسادة قائلا : لابد أنك كنت تحلمين .
بعد هذه الليلة وبفعل أحداث مشابهة وقعت في تلك الفترة التي لم تعُد فرْمينا داثَا تعلم فيها علم اليقين أين ينتهي الواقع وأين تبدأ الأحلام ، توصلت الى اكتشاف باهر بأنها آخذة بِالجِنون ، ثم انتبهت أخيرا الى أن زوجها لم يتناول القربان الرباني يوم خميس التجسيد ولا في أي أحد من آحاد الأسابيع الأخيرة ، كما أنه لم يجد وقتاً للخلوة الروحية في ذلك العام ، وعندما سألَته عن سبب هذه التبدُلات الغريبة في صحته الروحية تلقت رداً مُبْهَماً .
وكان هذا هو المِفتاح الحاسم للحل لأنه لم يكن يتخلف عن تناول القربان المقدس في يوم بهذه الأهميَة منذ مناولته الأولى وهو في الثمنة من العمر ، وهكذا أدركت أن زوجها لم يسقط في الخطيئة المهلكة وحسب وإنما هو مُصِرّ على الولوغ فيها لأنه يرفض اللجوء الى مساعدة كاهن الاعتراف .
لم تتصور أنها قد تُعاني يوما الى هذا الحد من شيء يبدو مناقِضا للحُب تماما ، ولكنها كانت في خضم هذه المعاناة ورأت أن الوسيلة الوحيدة لِتَخليص نفسها هي دَسُّ النار الى جحر الحيات التي سممت دخيلتها .
وهكذا فعلَت ، فقد جلست في مَساء أحد الأيام لِتَروف أعقاب الجوارب على الشُرْفة فيما كان زوجها يُنهي قراءته اليومية بعد القيلولة ، وفجأة قطعت عملها ورفعت نظارتها الى جبهتها واستجوبته دون أي قسوة .
- دكتور .
كان غارقاً في قراءة إلِديس بِنجونس الرواية التي قرأها الجميع في تلك الأيام .
وأجابها دون أن يخرج من جو الرواية : أُويو .
فألحت : انظر الى وجهي .
فعل ذلك ناظراً إليها دون أن يراها من خلال غِلالة نظارة القراءة ، لكنه لم ينزع النظارة كي لا يحترق بجمرة نظرتها وسألَها ما الأمر ؟
فقالت : أنت تعرفه خيراً مني.
ولم تقُل شيئا آخر بل أنزلت نظارتها من جديد وتابعت رَفوَ الجوارب .
حينئذٍ علِم الدكتور خوفينال أُورْبينو أن ساعات الجزع الطويلة قد انتهت وعلى العكس من تصوره لتلك اللحظة فإنها لم تكن هزة تزلزل القلب وإنما مجرد ضربة سلام ، إنها الطمأنينة العاجلة لما كان سيحدث عاجلا أَم آجلا ، لقد دخل شبح الآنسة باربرَا لينج الى البيت أخيرا .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو قد تعرَّف عليها قبل أربعة أشهر بينما كانت تنتظر دورها في العيادات الخارجية بمشفى الرحمة ، وانتبه على الفور بأن شيئا لا سبيل لإصلاحه قد حاق بقدَرِه ر .
كانت خلاسية طويلة القامة ذات عظام طويلة لِبشرتها لون العسل الأسود وقوامه اللَدِن ذاته ، وكانت ترتدي في ذلك الصباح فُستانا أحمر مُزَيَناً بدوائر بيضاء وتضع قُبعة من نفس النوع ذات حافة عريضة تُفرِد ظلَها حتى حتى رموش عينيها وكانت تبدو وكأنها من جنس أكثر تحديدا من سائر أبناء البشر .
لم يكن الدكتور خوفينال أُورْبينو يعالج المرضى في العيادات الخارجية ، ولكنه اعتاد كُلما مر من هناك وكان لديه متسع من الوقت الدخول لِيُذَكِّر تلاميذه الكبار بأنه لا دواء أفضل من التشخيص الجيد ، وهكذا تدبر أمره ليكون حاضراً عند فحص الخلاسية العابرة مُحاذراً ألا يلحظ تلامذته أية حركة لا تبدو عرَضية ، ودون أن ينظر إليها تقريباً ، ولكنه دَوَّن في ذاكرته جيداً المعلومات التي قدمتها عن نفسها ، وفي هذا المَساء بالذات بعد زيارة آخِر مرْضاه جعل العربة تمُر من العنوان الذي أفْضت به في العيادة ، وكانت هناك فعلا تستمتع على الشُرْفة برطوبة آذار .
كان البيت واحدا من بيوت الأنتيل التقليدية ، مطلياً كُله باللون الأصفر بما في ذلك سقف التوتياء ، وله نوافذ مُخَرَمة وفيه أُصص قُرُنْفُل وسَرْخَس معلَّقة على البوابة الخارجية ، وكان البيت يقوم فوق ركائز خشبية في مستنقع لامالاكِريَانْثَا ، وفي قفص مُعلَّق بأفريز السطح كان يغرد عصفور توريبال ، وعلى الرصيف المقابل للبيت كانت توجد مدرسة ابتدائية وكان الأطفال يخرجون منها بفوضى أجبرت الحوذي على شد الأُعِِنِّةالأَعِنَّة بقوة لِيحول دون إجفالهم رللحصان ، لقد كانت تلك ضربة حظ إذ تمكنت الآنسة باربرَا لينج من التعرف على الدكتور ، فحيته بحركة مَعارف قُدماء ودعته ليتناول فنجان قهوة ريثما تنتهي الفوضى ، فتناوله بكُل سرور على خلاف عادته مُستَمِعاً إليها تتحدث عن نفسها ، وهو الشيء الوحيد الذي أصبح يهمه منذ ذلك المَساء ، والشيء الوحيد الذي سيستحوذ على اهتمامه دون لحظة سلام خلال الأشهر التالية .
لقد قال له أحد أصدقائه بحضور زوجته في إحدى المناسبات وهو حديث العهد بالزواج بأنه سيواجه عاجلاً أو آجلاً عاطفة تبعث على الجنون ، يمكنها أن تُعرِّض استقرار حياته الزوجية للخطر ، لكنه هو الذي كان يظن بأنه يعرف نفسه جيدا ويَعرف متانة جذوره الأخلاقية ضحك من هذه النبوءة .
حسناً إذن ، هذه هي الآن الآنسة باربرَا لينج دكتوراه في علم اللاهوت ، هي الابنة الوحيدة للمحترم جون ثين لينج الراعي البروستانتي الزنجي النحيف الذي ينطلق على بغلته على قرى المستنقع الهنديية مبشراً بتعاليم أحد الألهة الكثيرين الذي يكتبهم الدكتور خوفينال أُورْبينو بادئاً أسماءهم بحرف صغير ليميزهم عن إلهه .
كانت تتحدث بِقِشْتالية جيدة مع عثرات ضئيلة في النحو يضاعف تكرارها من ظرافتها ، كانت ستتم الثامنة والعشرين من العمر في كانون الثاني وقد طُلِّقَت قبل ذلك بقليل من راعٍ آخر أ=هو أحد أتباع أبيها ، وكانت قد تزوجت منه زواجاً سيئا دام سنتين ولم تعُد لديها رغبة في الزواج مجددا .
قالت : لا أحب أحداً سوى عصفورَي التوربيال .ط
لكن الدكتور خوفينال أُورْبينو كان جدياً بما يكفيه ليفكر بإنها إنما تقول ذلك مُتعمِدةً ، بل إنه سأل نفسه وهو مضطرب الأفكار ما إذا كانت كل هذه التسهيلات مُجتمعة ليست سوى فخ من الرب لجعله يدفع الثمن باهضاً فيما بعد ، ولكنه أبعد هذا السؤال في الحال من ذهنه على أنه حالة لاهوتية سببها وضعه المضطرب .
وعندما ودعها تطرَق بشكل عرَضي الى استشارتها الطبية صباحا ، مُدرِكاً أنه ليس أَحب للمريض من الحديث عن آلامه ، وقد كانت هي في منتهى الروعة بحديثها عن آلامها ، حتى أنه وعدها بالعودة في اليوم التالي الساعة الرابعة تماما لفحصها فحصاً دقيقاً .
أحست بالفزع ، كانت تعلم أن طبيبا
ً من هذا النوع بعيد جدا عن إمكانياتها .
لكنه طمأنها : إننا نحاول في هذه المِهنة جعل الأغنياء يدفعون عن الفقراء .
ثم سجل الملاحظة في دفتر جيبه ، الآنسة باربرَا لينج مستنقع لامالاكِريَانْثَا السبت الرابعة مَساءً .
بعد ذلك بشهور قرأت فرْمينا داثَا تلك الملاحظة التي أُضيفت إليها تفاصيل التشخيص والعلاج وتطور المرض ، وقد لفت الاسم اهتمامها وخطر لها فجأة بأنها واحدة من هؤلاء الفنانات المُضلِلات في سفن نيو أُورلِنيانز للفواكه ، لكن العنوان جعلها تُفكر بأن الاحتمال الأقرب الى الصواب هو أنها جامايكية وزنجية بالطبع ، فصرفت النظر عنها دون معاناة لعدم انسجامها مع ذوق زوجها .
ذهب الدكتور خوفينال أُورْبينو الى موعده يوم السبت متقدماً عشر دقائق حين لم تكن الآنسة لينج قد انتهت من ارتداء ملابسها لاستقباله ، ولم يشعر بتوتر كالذي شَعَر به أمامها منذ أيام باريس حين كان عليه التقدم لامتحان شفوي .
كانت الآنسة لينج تمتلك جمالا لا محدوداً وهي مستلقية على السرير بقميص نوم حَريري رقيق ، كل ما فيها كان عظيماً وَزَخماً ، فخْذاها اللذان كفخذَي عروس البحر وبشرتها المحروقة على نار خفيفة ونهداها الذاهلان ولثتها الشفافة ذات الأسنان الدقيقة ، وجسدها كله الذي ينضح ببخار العافية ، وهي الرائحة البشرية التي وَجَدَتها فرْمينا داثَا في ملابس زوجها .
كانت قد ذهبت الى العيادة الخارجية لمعاناتها من شيء تدعوه بِظرَافة شديدة مغصاً ملتوياً ، وظن الدكتور أُورْبينو أنها أعراض قلة شرب السوائل ، وقد لامس على أي حال أعضاءها بغرض أبعد ما يكون عن الاهتمام الطبي ، وراح ينسى أثناء ذلك معارفه العلمية ويكتشف مذهولا أن تلك المخلوقة العجيبة كانت جميلة من الداخل كجمالها من الخارج
وعندئذٍ ترك متعة اللمس تقوده ليس على أنه الطبيب الأكثر شُهرة في ساحل الكاريبي وإنما كرجل بائس على باب الله يعذبه هيجان الغرائز .
كان قد حدث له شيء مُشابه كهذا مرة واحدة في حياته المِهَنية الطويلة ، وقد كان ذاك هو يوم عاره الكبير لأن المريضة الحانقة أزاحت يده واعتدلت على السرير قائلة له : إنما تريده يمكن أن يحدث ولكن ليس هكذا .
أما الآنسة لينج فقد سلمت نفسها ليَدَيه ، وحين لم يعُد لديها أدنى شك في أن الطبيب ما عاد ليفكر بعلمه قالت : كنت أظن أن هاذا غير مسموح في الأخلاق الطبية .
كان مبللا بالعرَق وكأنه خارج بملابسه من بِرْكة ماء ، فمسح يدَيه ووجهه بمنشفة وقال : الأأخلاق الطبيَة تصَوِّرُنا معشر الأطباء من خشب .
مدت له يداً شاكرة وقالت : كوني كنت أظن لا يعني أنه لا يمكنك فعل ذلك ، تصور ما الذي سيحدث لِزِنجية مسكينة مثْلي حين يهتم بي رجل بالغ الأهميَة .
فقال : لم أتوقف عن التفكير بكِ لحظة واحدة .
كان اعترافاً مُرتعشاً الى حد جعله جديراً بالشفقة ، ولكنها وضعته بمَنجَى من كل شر بِقَهْقَهَة أضاءت حجرة النوم وقالت : أعرف ذلك مُذ رأيتك في المستشفى يا دكتور ، صحيح أنني زنجية ولكنني لست غبية .
لم يكن الأمر سهلاً ، فالآنسة لينج تريد شرفها نظيفاً وتريد الأمان والحب ، وترى أنها جديرة بذلك ، لقد أتاحت للدكتور أُورْبينو فرصة إغوائها إنما دون السماح له بدخول الحجرة أثناء وجودها وحيدة في البيت ، وأبعد ما وصلت إليه هو السماح له بتكرار طقوس اللمْس والفحص بالتنصت مع كل ما يرافق ذلك من خروقات أخلاقية يشاؤها ، ولكن دون أن تنزع ثيابها ، أما هو فلم يستطع إفلات الطعم بعد أن ابتلعه وثابر على حصاره اليومي .
كان استمرار علاقته بالآنسة لينج شبه مستحيل لأسباب مرتبطة بنظامه العملي ، ولكنه كان أضعف من أن يكبح نفسه في الوقت المناسِب كضعفه في المضي قُدُماً فيما بعد ، لقد كانت له حدوده .
لم تكن حياة المحترم لينج بالحياة المنتظِمة فهو ينطلق في أي وقت على متْن بغلته المُحمَّلة في أحد جانبَيها بكتب مقدسة ونشرات دعائية إنجيلية ، وفي الجانب الآخر بالزاد ومواد التموين ، ويرجع حين لا تخطر عودته ببال أحد ، كما كان هناك عائق آخر يتمثل بالمدرسة المقابلة ، فالأطفال فيها يوغنون دروسهم وهم ينظرون الى الشارع من النافذة وأفضل ما يرونه هو البيت القائم على الرصيف المقابل بأبوابه ونوافذه المُشْرَعة على مصراعَيها منذ الساعة السادسة صباحا ، ويرون الآنسة لينج وهي تُعلِّق القفص بأفريز السطح ليتعلم طائر التوريبال موسيقى الدروس المُغْناة ، ويرونها بعمامتها الملونة وهي تغني أيضا بصوتها الكاريبي النقي أثناء قيامها بأعمال البيت ، ويرونها بعد ذلك جالسة على الشُرْفة لتغني وحدها بالإنجليزية مزامير المَساء .
كان عليه أن يختار وقتاً لا يكون الأطفال موجودين فيه ، ولم يكن أمامه سوى احتمالَين ، إما أثناء استراحة الغداء ما بين الثانية عشرة والثانية ، وهو الوقت الذي يذهب فيه الدكتور لتناول الغداء أيضا ، وإما في المَساء حين ينصرف الأطفال الى بيوتهم ، وقد كان هذا الاحتمال الأخير هو الأفضل دائما ، ولكن الدكتور يكون حينئذٍ قد أنهى زياراته ولا يبقى أمامه سوى دقائق قليلة للوصول الى البيت وتناول الطعام مع أسرته .
أما المشكلة الثالثة وهي الأخطر بالنسبة له ، فكانت تتمثل في وضعه بالذات ، إذ لم يكن بإمكانه الذهاب دون العربة ، وهي عربة معروفة جيدا ويجب أن تنتظره دوماً أمام ب\الباب ، كان بإمكانه الاتفاق مع الحوذي كما يفعل جميع أصدقائه في النادي الاجتماعي تقريبا ، ولكن هذا الأمر كان غريباً عن عاداته حتى أن حوذي العائلة نفسه وبعد أن أصبحت زياراته للآنسة لينج مكشوفة بما فيه الكفاية تجرأ على سؤاله إذا لم يكن امن الأفضل أن يرجع بحثاً عنه فيما بعد كي لا تبقى العربة متوقِفة أمام الباب لوقت طويل .
لكن الدكتور أُورْبينو قاطعه بِرَدة فعل غريبة على طبيعته قائلا : هذه هي المرة الأولى التي أسمعك فيها تقول شيئا يجب عليك ألا تقوله مُذ عرفتك ، ولكن لا بأس سأَعتبِر أنك لم تقُل شيئا .
لم يكن ثمة مفر ففي مدينة كهذه لا يمكن إخفاء مرض ما دامت عربة الطبيب عند الباب ، لقد كان الطبيب يبادر أحيانا بالذهاب الى بيت المريض مَشْياً على الأقدام حين تسمح المسافة بذلك ، أو الذهاب في عربة أجرة ليحول دون تخمينات خبيثة أو مُبكرة ، ومع ذلك فإن هذه الحِيَل لم تكن ذات نفع كثير ، فالأدوية التي يصفها الطبيب لِتُشتَرى من الصيدليات تُتيح كشف الحقيقة مما كان يدفع الدكتور أُورْبينو الى وصف أدوية مُزيَفة الى جانب الأدوية الصحيحة ليحفظ حقوق المرضى في الموت بسلام مع أمراض أسرارهم ، ورغم قدرته كذلك على أن يُبرر بوسائل شريفة مختلفة وقوف عربته أمام دار الآنسة لينج إلا أنه لم يتمكن فعل ذلك لِزَمن طويل بل لوقت أقصر بكثير من الزمن الذي كان يرغب فيه ، مدى الحياة .
صارت دنياه جحيماً ، فما أن ارتوَى الجنون الأول حتى أدرك كِلاهما المَخاطر المُحيقة بهما ، ولم يكن الدكتور خوفينال أُورْبينو قد حسم أمره يوما وأعد نفسه لمواجهة الفضيحة .
لقد كان يَعِدُها بكل شيء أثناء هذيانه المحموم ، ولكنه بعد الانتهاء يؤجل كل شيء الى ما بعد ، وفي المقابل كُلما ازداد شوقه للقائها يزداد كذلك خوفه من فقدانها .وهكذا أصبحت لقاءاتهما سريعة وصعبة ، لم يكن يفكر بشيء آخر ، كان ينتظر المَساء بجزع لا يطاق وينسى مواعيده الأخرى ، ينسى كل شيء سِواها ، ولكن ما أن تبدأ العربة بالاقتراب من مستنقع لامالاكِريَانْثَا حتى يأخذ بالابتهال الى الله ليبعث له عائقا في اللحظة الأخيرة يجعله يواصل طريقه دون الدخول إليها .
كان يعاني حالة من الكآبة تجعله يبتهج حين يرى أحيانا وهو على الناصية رأس المحترم لينج الملفوف بالقطْن جالساً يقرأ على الشُرْفة والابنة في الصالة تُلَقِّن أصول الدين لأطفال الحي من خلال الأناجيل المُغنّاة ، فَيمضي حينئذٍ سعيدا الى بيته كي لا يستمر في تحدي القدَر ، ولكنه لا يلبث أن يشعر بقلق مجنون يتمنى خلاله أن يتحول اليوم كله وجميع الأيام لتصبح جميعها الخامسة مَساءً فقط .
أصبحت تلك الغراميات مستحيلة حين أخذ ظهور العربة يكثر أمام الباب ، ولم يعُد ذلك بعد مرور ثلاثة شهور سوى عمل مضحك ، فقد كانت الآنسة لينج تَدْخُل حجرة النوم دون أن يُتاح لها الوقت لقول أي شيء بمجرد رؤيتها العاشق الولهان يدخل ، وكانت تتخذ الاحتياطات المسبقة في الأيام التي تنتظر قدومه فيها بارتدائها فُستاناً جامايكياً بديعاً مُزَيَن بزهور ملونة ، ولكن دون أية ملابس داخلية ودون أي شيء مُعتقدة أن السهولة ستُساعده على التغلب على الخوف .
لكنه كان يُهدِر كُلما تفعله لِإسعاده ، فيلحقها الى حجرة النوم لاهثاً ومبلللاً بالعرَق ، ثم يبدأ بالتخلص مما يحمله مُلقياً بكل شيء على الأرض ، العُكّاز وحقيبة الطبيب والقُبعة البَنَمِية ليمارس حُباً مرتبكاً بسروال مُجَعَّد عند كاحِلَيه وسُترة مُزرَّرة ليكون إزعاجها أقل وسلسلة ذهبية مُثَبَتة في صدريته وهو مُنْتَعِل حذاءه وكل شيء ، مهتماً بالذهاب بأسرع ما يمكن أكثر من اهتمامه باستكمال المتعة .
وتبقى هي صائمة ما أن تَهُمَّ بدخول نفق عزلته حتى يبدأ بإحكام أزرار سرواله من جديد وهو مُنهَك كما لو أنه مارس الحب المطلق على الخط الفاصل بين الحياة والموت ، بينما هو لم يفعل في الحقيقة أكثر مما يتطلبه فعل الحب من جهد جسدي ولكنه يبقى ضمن حدود قانونه ، إنه الوقت اللازم لإعطاء حُقْنة في العضل لحالة علاج روتينية ، ويعود بعدئذٍ الى البيت خجلاً من ضعفه راغباً في الموت ولاعناً فقدانه الشجاعة اللازمة للطلب من فرْمينا داثَا أن تنزع له سرواله وتُجلسه على الجمر لِتُحْرِق قفاه .
لم يكن يتعشى ويُصَلّي دون إيمان ويتصنع مواصلة قراءة ما بعد القيلولة وهو في الفراش فيما زوجته تَلُفُّ في البيت وتدور مُرَتِّبَةً الدنيا قبل أن تنام ، وما أن يداعبه النعاس فوق الكتاب حتى يأخذ بالغرق شيئا فشيئا في غابة الآنسة لينج التي لا مفر منها ، يغرق في رائحتها التي كرائحة غابة راقدة فوق فراشها الذي كفراش الموت ، ولا يستطيع التفكير عندئذٍ بشيء سوى الساعة الخامسة إلاى خمسة دقائق من مَساء اليوم التالي ، وبها تنتظره في السرير دون أي شيء سوى جبلها للَدِن القاتم تحت الفُستان الجامايكي المجنون ، إنها الدائرة الجهنمية .
كان قد بدأ يعي ثقل جسده منذ بضع سنوات ، وكان يعرف الأعراض لقد قرأها في كتُب الطب ولمَسها في الحياة الواقعية بمعاينتها في مرضى هَرِمين بلا سوابق مرضية خطيرة ، يبدؤون فجأة بوصف أعراض دقيقة يبدو وكأنهم أنهم يستخرجونها من كتُب الطب رغم أنها لا تعدو أن تكون أوهاماً ، لقد نصَحه أستاذ طب الأطفال في جامعة سالبتريير يوما بدراسة طب الأطفال لأنه أنبل اختصاص ، فالأطفال لا يمرضون إلا حين يكونون مرضى حقاً ، ولا يستطيعون التواصل مع الطبيب بالكلمات الاصطلاحية وإنما بالأعراض المحددة للأمراض الحقيقية ، أما البالغين اعتباراً من سن معينة فإم أن لديهم أعراضاً بلا أمراض وإما أن لديهم ما هو أسوأ من ذلك ، أمراضاً خطيرة وأعراض أمراض أخرى ليست ذات شأن ، وكان هو يشغلهم بالمُسكنات مُتيحاً الوقت للزمن كي يتعلموا عدم الشعور بتوعكات الكِبَر بعد مُعايشتهم لها في مزبلة الشيخوخة .
وما لم يفكر به الدكتور خوفينال أُورْبينو أبدا هو أن طبيباً في مثل سِنِّه يظن بأنه رأى كل شيء وخَبَره لن يستطيع تَجاوِز قلق شعوره بأنه مريض حين لا يكون كذلك أو يقع له ما هو أسوأ بأن يظن أنه ليس مريضا مُتعَلِلاً بأوهام طبية محضة ، في حين ربما يكون مريضا فعلا ، لقد قال في أحد دروسه يوما وهو في الأربعين نصف مازح ونصف جاد : الشيء الوحيد الذي أحتاجه في الحياة هو أحد يفهمني .
ولكنه حين وجد نفسه ضائعا في مَتاهة الآنسة لينج لم يفكر بالأمر مازحا ، جميع الأعراض الحقيقية والوهمية لمرضاه المسنين اجتمعت في جسده ، فكان يحس شكل كبده بوضوح ويستطيع تحديد حجمه دون أن يلمسه ، كان يشعر بزمجرة القط النائم في كِلْيته ، ويشعر ببريق مَرارته الساطع ، ويحس خرير الدم في شرايينه ، وكان يستيقظ صباحا في بعض الأحيان كسمكة لا تجد الهواء للتنَفس ، ويشعر بوجود ماء في قلبه ويحس به يفقد إقاعه للَحظة أو يشعر به بين حين وآخر يتأخر في نبضة من نبضاته كما في المشية العسكرية أيم المدرسة ، ثم يشعر بأنه يستعيد قواه لأنه الله كبير .
ولكنه بدلا من أن يلجأ الى علاج السلوى الذي كان يطبقه على المرضى فأنه سمح للخوف أن يُغْميه ، حقا إن الشيء الوحيد الذي يحتاجه في الحياة وهو في الثامنة والخمسين من العمر أيضا هو أحد يفهمه .
وهكذا لجأ الى فرْمينا داثَا أكثر مَن تحبه ويحبها في هذا العالم ، ومن سَيُريح ضميرَه أمامها ، حدث هذا بعد أن قاطعته في قراءته المَسائية لِتَطْلُب منه أن ينظر الى وجهِها .
فاجأته الإشارة الأولى بأن حلقته الجهنمية قد كُشِفت ، لم يفهم كيف حدث ذلك ، إذ كان مستحيلا عليه أن يتصور بأن فرْمينا داثَا اكتشفت الحقيقة بمجرد الشَم ، لكن هذه المدينة لم تكن على أية حال ومنذ زمن بعيد بالمدينة المناسِبة لكتمان الأسرار .
فبعد وقت قصير من وصول أجهزة الهاتف الأولى انهارت عدة زيجات كانت تبدو راسخة تحت نمائم الاتصلات الهاتفية المجهولة ، ودفع الرعب عائلات كثيرة الى إلغاء اشتراكها أو رفض الاشتراك بالهاتف لِسنوات طويلة .
كان الدكتور خوفينال أُورْبينو يعرف أن زوجته تعتز بنفسها كثيرا بحيث لا تسمح حتى بمحاولة وشاية مجهولة بالهاتف ، ولم يكن قادرا على تصور أن أحداً يتجرأ على إخبارها مُعلِناً عن اسمه لكنه بالمقابل كان يخشى الوسيلة القديمة ، ورقة تَدُسُّهَا يد مجهولة من تحت الباب يمكنها أن تكون فعالة ليس لأنها تضمن ازدواجية المجهولةي للمُرسِل والمرسل إليه وإنما لأن أصْلَها العريق يُتيح ربطها بعلاقة ميتَافيزيقية ما مع تدابير العناية الإلهية .
لم تكن الغيرة تعرف الى البيت سبيلا ، فخلال أكثر من ثلاثين سنة من السلام الزوجي كان الدكتور أُورْبينو يفاخر في الأماكن العامة وكان صادقاً حتى ذلك الحين بأنه مثل الثِقاب السويدي لا يشتعل إلا بعُلْبته ، لكنه كان يجهل كيف يكون رد فعل بكِبريائها واعتزازها الشديد بنفسها وبطبعها الحاد أمام خيانة ثابتة .
وهكذا فإنه حين تَطَلَّع في وجهِها كما طلبت منه لم يَخطُر له شيء سوى أن يخفض بصره من جديد ليغرق في القلق ، وظل يتظاهر في الانغماس في تعرجات نهر جزيرة أَلَكَا العذب ريثما يَخطُر له ما يفعله .
ولم تقُل فرْمينا داثَا من جهتها شيء آخر ، وعندما انتهت من رَفْوِ الجوارب ألقت بالأدوات دون انتظام في علبة الخياطة ، وأعطت التعليمات في المطبخ لإعداد العشاء ومضت الى حجرة النوم .
حينئذٍ اتخذ قراره الحاسم ولم يذهب في الساعة الخامسة الى منزل الآنسة لينج ، أما وعود الحب الأبَدي والحلم ببيت سري لها وحدها حيث يستطيع زيارتها دون مفاجآت والسعادة على مهل حتى الموت ، وكل ما وعدها به أثناء ومضات الحب أُلْغِيَ الى الأبد ، وآخِر ما تلقته منه الآنسة لينج كان أكليلا من الزُمُرُد سلَّمها إياه الحوذي دون أي تعليق ، دون أي رسالة ، دون أية ملاحظة مكتوبة في علبة ملفوفة بورق صيدلية حتى ظنه الحوذي نفسه دواءً مستعجلاً ، ولم يعُد لرؤيتها ولو مصادفةً خلال ما تبقى من حياته ، والله وحده يعلم كم من الآلام كلَّفه هذا القرار البطولي وكم من الدموع المريرة سَكَب وهو محبوس في المرحاض ليتجاوز كارثته الحميمة ، فبدلا من أن يذهب إليها في الساعة الخامسة قام بتقديم توبته النصوح أمام كاهن الاعتراف ، وشارك يوم الأحد التالي في تناول القربان الرباني بقلب مُفتَت وإنما بروح مطمئنة .
يوم قطع علاقته بها وفيما هو ينزع ملابسه لينام كرر على مسامع فرْمينا داثَا تراتيل أَرَقِه الصباحي المَريرة والوخزات المباغتة والرغبة بالبكاء عند الظهيرة والاعراض المقتضبة للحب الخفي التي كان يرويها لها حينئذٍكما لو كانت أعراض الشيخوخة البائسة .
كان عليه أن يحكي ذلك لأحد كي لا يموت ، كي لا يروي الحقيقة ، ثم أن تلك المُفاتَحات بمكنون قلبه كانت أولا وأخيرا أحد طقوس الحب البيتي .
استمعت إليه باهتمام إنما دون النظر إليه ودون أن تقول شيئا ، بينما هي تتناول منه الملابس التي يخلعها ، كانت تشُم كل قطعة منها دون أية إماءة تَشي بغضبها ثم تطويها كيفام اتُّفِق وتُلقي بها الى سلة الثياب المُتَسخة الخيزرانية ، لم تجد الرائحة ولكن الأمر سيان ، غدا سيكون يوم آخر ، وقبل أن تجثو أمام المَذبَح الصغير في حجرة النوم اختتم هو روايته المكرورة عن بؤسِه بتنهدة حزينة وصريحة أيضاً .
- أظن أنني سأموت .
ولم ترمِش رَمشة واحدة حين ردت عليه قائلة : سيكون هذا أفضل ، لأننا سنستريح كِلانَا .
قبل سنوات وخلال أزمة مرض خطير كان قد تحدث عن احتمال موته ، وكانت هي قد ردت بالجواب القاسي نفسه ، ÷ وقد عزا الدكتور أُورْبينو ذلك يومها الى قسوة النساء هذه التي تُتابع الأرض بفضلها الدوَران حول الشمس ، لأنه كان يجهل حينئذٍبأنها تُقيم دوما حاجزاً من الغضب لِتُخفي خوفها ولِتُخفي يومئذٍ أكثر مخاوفها رهبةً ألا وهو الخوف من البقاء بدونه ، لكنه تمنَّت له الموت في تلك الليلة بكُل حدة قلبها وقد أفزعه هذا اليقين ، بعد ذلك سَمِعها تبكي في الظلام بوَهَن شديد عاضةً الوسادة كي لا يَسمعَها ، فَبَهَرَه ذلك لأنه كان يعلم أنها لا تبكي بسهولة من أي ألم جسدي أو روحي ، وأنها تبكي لِحَنَق عظيم فقط ، ويكون بكاؤه أشد إذا ما كان هذا الحنق ناشئاً بطريقة ما عن خوفها من الشعور بالذنب .
لم يتجرأ على مواساتها مُدركاً أن ذلك سيكون أشبه بمُواساة نَمِرَة مطعونة بحربَة ، ولم يمتلك الجُرأة ليقول لها أن أسباب بُكائها قد زالت هذا المَساء ، وأنها انتُزِعت من جذورها الى الأبد حتى من ذاكرته .
هزمه الإرهاق لِدَقائق وعندما استيقظ وجدها قد أضاءت النور الخفيف الذي الى جانبها وأنها ما زالت مفتوحة العينَين ، إنما دون بكاء ، لقد حدث لها شيء حاسم فيما هو نائم ، فالرواسب التي تراكمت في قاع عمرها خلال سنوات طويلة قد هاجت بعذاب الغيرة وخرجت طافية الى السطح وأَهْرمتها في لحظة واحدة ، فتجرأ على القول لها : إنها تحاول النوم وهو مذهول لِتَجاعيدها ولِشفتيها الذاويتَين ولرماد شعرها .
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية فكلمته دون أن تنظر إليه ، ولكن دون أي أثر للسخط في صوتها بل بصوت أقرب الى الوداعة قائلة له : لي الحق بأن أعرف من هي .
عندئذٍ روى لها كل شيء شاعراً بأنه يرفع عن كاهله ثقل العالم ، لأنه كان مقتنعاً بأنها تعرف كل شيء ولا ينقصها سوى التأكد من التفاصيل ، لكن الأمر لم يكن كذلك طبعا ، وفيما هو يتكلم عادت هي تبكي ليس بإجهاشات خجولة كما هي في البدء وإنما بدموع مُنطلقة ومالحة تجري على وجهِها وتلتهب على قميص نومها وتحْرق حياتها ، لأنه لم يفعل ما كانت تنتظره منه وروحها معلَّقة بخيط إذ كانت تنتظر منه أن يُنكِر كل شيء حتى الموت ، وأن يغضب من الافتراء وأن يلعن ناس هذا المجتمع ابن العاهرة الذين لا يتورعون عن دوس شرف الآخرين ، وأن يقف ثابتالجأش حتى أمام الأدلة الدامغة على خيانته كرجل .
بعد ذلك وحين روى لها أنه كان عند كاهن الاعتراف هذا المَساء خَشِي أن يُعميَها الغضب ، فمنذ أيام المدرسة وهي مُقتنعة أن أهل الكنيسة لا يتمتعون بأية فضيلة مُلْهَمَة من الرب ، وكان هذا خلافاً جوهرياً في الانسجام البيتي تمكَنَا من حله دون صِدامات ، إنما كَون زوجها قد سمح لِكاهن الاعتراف بالتدخل الى هذا الحد في شأن خاص ليس ملكه وحده فقط بل وملكها أيضا ، كان شيئا يتجاوز كل الحدود .
قالت : إن هذا كاستشارة حاوي ثعابين من حُواة الأزقة .
كان ذلك هو النهاية بالنسبة لها ، كانت متأكدة من أن شرفها أصبح على كل لسان قبل أن ينتهي زوجها من الاعتراف ، وشعور المَهانة الذي أثاره ذلك كان أثقل وطْأة من من عار وغضب وظلم الخيانة ، والأسوأ من كل ذلك .
- يا للَّعنة مع زنجية !. ؟
فصحح قائلا : خلاسية .
ولكن أي تحديد كان فائضاً عن اللزوم عندئذٍ ، لقد انتهى الأمر .
قالت : إنها اللعنة نفسها ، والآن فقط بدأت أفهم ، لقد كانت رائحة زنجية .
حدث هذا يوم الاثنين ، وفي الساعة السابعة من مَساء يوم الجمعة أبحرت فرْمينا داثَا في السفينة الصغيرة النظامية الذاهبة الى سان خوان ديلاثيناغا دون أن تأخذ معها سوى صندوق واحد وبرفقة ابنة بالعماد ، وكانت تُغطي وجهَها بطرحة لِتَحُول دون الأسئلة لها ولِزوجها كذلك .
لم يذهب الدكتور خوفينال أُورْبينو الى الميناء باتفاقهما معاً بعد مناقشة مضنية دامت ثلاثة أيام ، قررَا على إثْرها أن تذهب الى مزرعة ابنة الخال هيلْدا براندا سانجيتفي بلدة فوريس دي ماريا لِتُفكر جيدا قبل إقدامها على اتخاذ قرار نهائي ، وقد فَهِم الابنان الأمر دون أن يعرفا الأسباب على أنه رحلة جرى تأجيلها مرات ومرات ، وكانا هما نفسَيهما يرغبان فيها منذ زمن بعيد ، وقد رتَّب الدكتور خوفينال أُورْبينو الأمور بحيث لا يُتاح لأحد من أبناء عالمه الغادر الوصول الى تخمينات خبيثة ، وفعل ذلك بِاتْقان حتى أن إخفاق فلورنْتينوأَريثَا بالعثور على أي أثر لاختفاء فرْمينا داثَا لم يكن لضعف وسائله في التَقصِّي وإنما لعدم وجود أية آثار فعلا .
ولم يكن يُراوِد الزوج أي شك في أنها ستعود بعد أن يفارقها الغضب ، فذهبت واثقة أن الغضب لن يفارقها أبد الدهر ، لكنها سرعان ما ستُدرك أن هذا القرار الحاسم لم يكن ثمرة الحقد بقدر ما هو وليد الحنين ، فبعد رحلة شهر العسل عادت عدة مرات الى أوربا رغم قسوة الأيام العشرة التي تمضيها في البحر ، ولقد كانت رحلاتها تستغرق دوما وقتاً كافياً للإحساس بالسعادة ، كانت تعرف العالم وتعلمت العيش والتفكير بطريقة أخرى ، لكنها لم ترجع أبدا الى سان خوان ديلاثيناغا بعد رحلة المِنطاد الفاشلة .
كان في العودة الى مقاطعة ابنة الخال هيلْدا براندا شيئا من استعادة الماضي بالنسبة لها حتى ولو حدثت هذه الاستعادة متأخرةً ، ولم تُفكر بذلك تحت تأثير نكْبتها الزوجية بل قبل ذلك بكثير ، وهكذا فإن مجرد فكرة تنقيبها عن ذِكرَيات صِباها كان يعزيها في تعاستها .
عندما نزلت الى البر مع ابنتها في العماد في سان خوان ديلاثيناغا لجأت الى ما في طبعها من احتياطات هائلة ، وتعرفت على المدينة رغم كل التحذيرات ، وقد دعاها القائد المدني والعسكري للموقع الذي ذهبت إليه بتوصية للاهتمام بها ، دعاها الى جَولة في العربة الرسمية ريثما يخرج القطار الذاهب الى سان بيدرو إليخاندرينو حيث أراد الذهاب للتأكد مما قيل لها من أن السرير الذي مات عليه بطل التحرير كان صغيراً جدا كسرير طفل ، وكان أن عادت فرْمينا داثَا حينئذٍ لِرؤية قريتها الكبيرة في سكون الثانية مَساءً ، عادت لرؤية الشوارع التي تبدو أشبه بِشُطآن صغيرة للبِرَك المغطاة بالطحالب ، وعادت لرؤية بيوت البرتغاليين بشعارات النبلاء المحفورة على الرواق المُقَنْطر وعلى مَشْربيات النوافذ البُرونزية حيث تتردد دون رحمة في صالاتها الظليلة تمارين البيانو المكرورة والحزينة التي كانت تُعَلِّمها أمها حديثة الزواج لبنات البيوت الثَرِية الصغيرات ، رأت الساحة الخاوية من أية شجرة في جمر الحجارة المُتقدة وصف العربات ذات الأغطية الجنائزيَة وخيولها النائمة وقوفاً ، وقطار سان بيدرو إليخاندرينو الأصفر ،
ورأت عند زاوية الكنيسة الكبرى أكبر بيت بين جميع البيوت وأكثرها جمالا بِرِواقه الحجري المُقَنْطَر الذي تغطيه ناباتات خضراء وبوابته الضخمة كَبوابة دَير ونافذة غرفة النوم التي ستولد ألفارو فيها بعد سنوات طويلة .
حين لن تعود لها ذاكرة تتذكر ذلك فكَّرت بالعمَّة أسْكولا أَسْتيكا التي ما زالت تبحث عنها دون أمل في السماء ولأرض ، وفيما هي تُفكر بها وجدت نفسها تُفكر بفلورنْتينوأَريثَا بثيابه كأديب وبِكتاب أشعاره تحت أشجار اللوز في الحديقة ، كما يحدث لها أحيانا حين تتذكر سنوات المدرسة الكريهة .
وبعد تِجوال طويل لم تُفلِح في التعرف على بيتها العائلي القديم ، فحيث كانت تفترض وجوده لم يكن يوجد سوى حظيرة خنازير ، وعند المُنعطف كانت يمتدشارع بيوت الدعارة حيث مُمِسات من أرجاء الدنيا يَنَمْنَ قيلولتهن أمام الأبواب فلربما مر البريد حامل لهن شيئا .
لم تكن البلدة هي بَلْدتها ، منذ بداية الجَولة في المدينة غطت فرْمينا داثَا نصف وجهِها بالطرحة ليس خوفا من التعرف إليها حيث لا أحد يستطيع التعرف عليها وإنما لمَرأى الموتى الذين ينتفخون تحت الشمس في كل مكان بدءاً من محطة القطار وحتى المقبرة ، وقال لها القئد المدني والعسكري للموقع : إنها الكوليرا .
كانت تعلم ذلك لأنها رأت الخِثارات البيضاء على فمِ الجثث المُكتَوية لكنها لاحظت لا أثر لرصاصة الرحمة في عنق أية جثة من الجثث كما كان الأمر في زمن المِنطاد ، فقال لها الضابط : وهو كذلك فالرب يحَسِّن من أساليبه أيضا .
كانت المسافة التي تفصل سان خوان ديلاثيناغا عن بلدة القديمة هي تسع فَراسِخ فقط لكن القطار الأصفر كان يستغرق في اجتيازها يوما كاملا ، لأن صداقات كانت تربط سائق القطار بالمُسافرين الدائمين الذين يرجونه التوقف لبعض الوقت كي يحركوا أرجلهم في المَشي في مَرَابع سان بيدرو إليخاندرينو الغلف التابعة لشركة المَوز ، أو لِيستحم بعض الرجال منهم وهم عُراة في الأنهار الصافية والمُثَلَّجة التي تنحدر من الجبال أو أنهم ينزلون من القطار حين يشعرون بالجوع ليحلبوا الأبقار الطليقة في المَراعي .
وعندما وصلت فرْمينا داثَا مُرَوَّعَةً لم يُتَح لها الوقت للتمعُن بأشجار التمر الهندي الهوميرية حيث كان بطل التحرير يُعلِّق شبكة نومه التي احتضر عليها ، وللتأكد من أن السرير الذي مات عليه لم يكن صغيرا بالنسبة لِرجل كما قالوا لها بل إنه صغير حتى على فقط مولود خديج ، ولكن زائراً آخر يبدو أنه يعرف كل شيء قال إ: ، السرير ليس إلا أَثَراً زائفاً والحقيقة أن أبا الوطن قد تُرِك يموت وهو مُلقى على الأرض .
كانت فرْمينا داثَا مغمومة لما رأته وسمعته مُذ خرجت من بيتها لدرجة أنها لم تعُد تشعر بالسعادة التي حنَّت إليها دوما ، وإنما أخذت تتجنب المرور من القرى التي كانت تحن إليها ، وهكذا حمت تلك القرى وحمت نفسها من خيبة الأمل .
كانت تسمع العزف على الأوكورديونات من الطريق حيث كانت تهرب من خيبة الأمل ، وتسمع الصرخات المُنبعِثة من حلبة صراع الديكة وطلقات الرصاص التي قد تكون رصاصات حرب أو احتفال ، وحين لا تجد مَفَرّاً من المرور بإحدى القرى كانت تغطي وجهَها بالطرحة لتستمتع بتذكُّرِها كما كانت من قبل .
في إحدى الليالي وبعد تَجنب طويل للماضي وصلت الى مزرعة ابنة الخال هيلْدا براندا ، وحين رأتها تنتظر أمام الباب كادت تسقط مغمياً عليها ، كانت وكأنها ترى نفسها في مرآة الحقيقة ، لقد رأتها بدينة وهَرِمة ، مُحاطة بأبناء غير مُرَوَّضين لم تنجبهم من الرجل الذي ما زالت تحبه دون أمل ، وإنما من ضابط ينعم بتقاعد جيد تزوجت منه غيظاً لفشلها ، وأحبها بجنون ، ولكنها في أعماق جسدها المُدَمَّر كانت ما تزال على حالها .
قد تخلصت فرْمينا داثَا من هذا الانطباع بعد بعد أيام قليلة في الريف وبتأثير الذِكريات الطيبة ، لكنها لم تغادر المزرعة إلا للذهاب الى القُدّاس في أيام الآحاد برفقة أحفاد صديقاتها القديمات الجَموحات الحاذقين في ركوب الخيول الكريمة ، وبرِفقة بناتهن الجميلات الأنيقات اللواتي يشبهن أمهاتهن حين كُنَّ في سنِّهن واللواتي يمضين وقوفا في العربات التي تجرها الجواميس ويغنِّين معاً حتى وصولهن الى كنيسة البعثة التبشيرية في قاع الوادي ، ولم تمُر لا بقرية فلوريس دي ماريا التي لم تَزُرْها في رحلتها السابقة لأنها لم تظن بأنها ستعجبها ، ولكنها فُتِنَت بها حين عرفتها ، وكانت مصيبتها أو مصيبة البلدة أنها لم تستطع أن تتذكرها فيما بعد كما رأتها في الواقع وإنما كما كانت تتخيلها قبل أن تعرفها .
قرر الدكتور خوفينال أُورْبينو الذهاب لإحضارها بعد تلقيه تقرير أسقف ريوهاجَا فالنتيجة التي استخلصها هي أن زوجته لم تتأخر لأنها لا تريد الرجوع وإنما لأنها لا تجد وسيلة لِتجاوِز كِبريائها ، وهكذا مضى الى هناك دون إعلامها بعد تبادل عدة رسائل مع هيلْدا براندااستخلص منها بوضوح أن حنين زوجته قد انقلب ، فهي لا تُفكر الآن إلا في بيتها .
كانت فرْمينا داثَا في المطبخ تُعِدُّ باذنجانا محشواً في الساعة الحادية عشرة صباحا حين سَمِعت صرخات عمال المزرعة وصهيل الخيول ولعلعة الرصاص في الهواء ، ثم الخطوات الواثقة في مَدْخل البيت وصوت الرجل .
أن يصل المرء في الوقت المناسِب خير من توجيه الدعوة إليه ، ظنَّت أنها ستموت من السعادة ودون أن يُتاح لها التفكير في الأمر غسلت يديها كيفما اتُّفِق وهي تُهَمْهِم : حمداً لك يا رب ، حمداً لك لَكَم أنت طيب .
مُفكِّرة أنها قد تستحم بعد الباذنجان اللعين الذي طلبت منها هيلْدا براندا إعداده دون أن تخبرها من القادم للغداء ، ومُفكِّرة أنها قد أصبحت عجوزاً قبيحة ، وأن وجهَها قد سلخته الشمس مما سيجعله يندم لمجيئه حين يجدها بهذا الحال .
- اللعنة .
لكنها نشفت يديها بالمريلة كيفما اتُّفِق ، واستعانت بكل الكِبرياء الذي أَخرجتها به أمها الى الدنيا لِتضبط قلبها المُتراقص طرَباً ، ومضت للقاء الرجل بِمِشيتها الغزلانية العذبة وبرأسها المرفوع ونظرتها البراقة وأنفها الحربي ، شاكرة للقدر الطمأنينة العظيمة بالعودة الى البيت ، رغم أن الأمر لن يكون بالسهولة التي تَصَوَّرَها هو حتماً ، إذ عادت معه وهي سعيدة حقا ولكنَّها مصمِمة كذلك على جعله يدفع بِصمْت ثمن الآلام المريرة التي حطمت حياتها .
بعد حوالي سنتين من إختفاء فرْمينا داثَا حدثت واحدة من تلك المُصادفات المستحيلة التي كانت ستعتبرها ترانسيتو أَريثَا سخرية من سخريات الرب ، لم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد سمح لنفسه بالانبهار باختراع السينما لكن ليونَا كاسياني حملته دون مقاومة الى حفل الافتتاح الضخم لفيلم كابيريا الذي كانت شعبيته ترتكز على الحوار الذي كتبه الشاعر غابرييل دانُنزثيو .
كان فِناء سينما دون غاليليو داكُونْتي حيث المتعة تتجاوز في بعض الليالي روعة النجوم الى روعة الغراميات الصامتة على الشاشة ، قد غَص بالحضور البارزين ، ليونَا كاسياني تُتابع أحداث القصة بروح معلقى بخيط ، أما فلورنْتينوأَريثَا فكان رأسه يتمايل من النعاس بتأثير زخم الدرامَا ، ومن خلفه خرج صوت امرأة بدت وكأنها تحزر ما يفكر به .
- رباه إن هذا أطول من ألم .
كان هذا هو الشيء الوحيد الذي قالته ، وكظمت نفسها ربما بسبب رنين صوتها في الظلام ، إذ لم تكن قد شاعت هنا بعد عادة مرافقة الأفلام الصامتة بموسيقة البيانو ، ولم يكن يُسْمَع في عتمة الصالة سوى أزيز آلة العرض الذي يشبه صوت المطر .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا يَذكُر الرب إلا في أصعب المواقف ، لكنه شَكَرَه من أعماق روحه هذه المرة لأنه كان سيتعرف فورا على ذلك الصوت المعدني الرخيم حتى ولو كان على عمق عشرين ذراعاً تحت التراب مُذ حَفِظَه في روحه مَساء سمعه يقول له وسط نِثارة من الأوراق الصفراء في حديقة متوحدة ك انصرِف الآن ولا ترجع الى أن أطلُب إليك .
كان يعلم إنها تجلس في المِقعد الذي وراء مِقْعَدِه الى جانب زوجها دون رَيب ، وكان يُحس بتنَفُسها الدسم والمحسوب جيدا ، وكان يستنشق بِحُب الهواء المُنَقَّى بعافية نفَسِها الطيب ، لم يشعر بأنها مَنْحورة بعث الموت كما كان يتصورها في ساعات يأسه خلال الشهور الأخيرة ، وإنما تذكَّرها مُجددا بعمرها المُشِع والسعيد ، ببطنها المُكوَّرة ، بِبذرة ابنها الأول تحت عباءة مينيرْفَا ، تصورها كما لو كان يراها دون أن يلتفت الى الوراء غير عابئ بالكوارث التاريخية التي كانت تفيض بها الشاشة ، كان يتلذذ بأريج عطر اللوز الذي يصله من جسدها ويتشوق لمعرفة أفكارها عن كيف تحب نساء السينما لتكون آلام حبهن أقل من آلام الحب في الحياة ، وقُبَيل نهاية الفيلم بقليل أدرك فجأة بومضة بهجة أنه لم يكن أبدا قريباً بهذا القدر وطوال مثل هذا الوقت ممن أَحبَّها حُبّاً جَمّاً .
انتَظرَ أن ينهضَ الآخرون عند إشعال الأنوار ، ثم وقف على مهل ، والتفت مُتشاغلا بتثبثبيت أزرار الصدرية التي تُفلت دائما خلال عروض السينما ، فتقابل الأربعة وجهاً لوجه بحيث وجب عليهم تبادُل التحية رغم أن أحداً منهم ما كان يرغب بذلك ، صافح الدكتور خوليونَا كاسياني أولاً وكان يعرفها جيدا ثم شد على يد فلورنْتينوأَريثَا بِتَهَذُبه المعتاد ، وابتسمت لهما فرْمينا داثَا ابتسامة مُهذبة ولا شيء سوى أنها مُهذبة ، ولكنها كانت على كل حال ابتسامة شخص رآهما كثيرا ويَعرف مَن هما وبالتالي لا حاجة لِتقديمهما ، وردت عليها ليونَا كاسياني بِلطْفِها كخلاسية ، أما فلورنْتينوأَريثَا فلم يَدْرِ ما يفعل لأن رؤيتها أذهلته ، لقد كانت امرأة أخرى ، لم تكن في وجهِها أية علامة من علامات المرض الفظيع الشائع ولا من أي مرض آخر ، وكان جسدها ما يزال يحتفظ بِوزنه ورقته التي كان عليها في أفضل أزْمانه ، ولكن لا شك بأن السنتين الأخيرتين قد مَرَّتَا عليها بثقل عشر سنوات عجاف ، كان الشعر القصير مناسِباً لها بتلك القصة المائلة على خدََّيها ولكنه فقدَ ذلك اللون العسلي السابق وصار بلون الأَلَمُنيوم ،
وفقدت العينان الرمحِيَتان الجميلتان نصف حياتهما من الضياء وراء نَظّارة الجدة ضياء النظارة ، رآها فلورنْتينوأَريثَا وهي تبتعد مُمْسِكة بِذراع زوجها وسط الحشد الذي يغادر السينما ، وفوجئ أنها آتية الى مكان عام بِطرحة يائسة وخُف من النوع بيتي ، ولكن أكثر ما هيَّج مشاعره هو أن زوجها اضطر لأن يشدها من ذراعَيها ليشير لها الى طريق الخروج ، وقد أخطأت رغم ذلك في تقدير الارتفاعات وكادت تسقط عند درج البوابة .
كان فلورنْتينوأَريثَا شديد الحساسية لعثرات الشيخوخة هذه ، ففي شبابه كان يقطع قراءاته للأشعار في الحدائق ليُراقب أزواج المسنين الذين يساعد أحدهم الآخر على عبور الشارع ، وكانت تلك دروس في الحياة قد تُضيء أمامه قوانين شيخوخته بالذات ، لقد كان الرجال وهم في مثل سن الدكتور خوفينال أُورْبينو في ليلة السينما تلك يتفتحون بنوع من الشباب الخريفي ، فيبدون أكثر وقاراً مع أول الشعرات الشائبة ، ويصبحون فاتِنين وجذابين خصوصاً في عيون النساء الشابات ، بينما تضطر زوجاتهم الذاويات الى التشبُث بأذرِعَتهم كي لا يتعثرن بظلالهن ذاتها ، ولكن هؤلاء الأزواج ما يلبثون أن ينزلقوا فجأة بعد بضع سنوات الى هُوَة شيخوخة مرذولة جسداً وروحاً ، وحينئذٍيصبح على زوجاتهم المستقرات أسنادهم من أذرُعِهِم كالعميان باحثين عن صدقة والهَمْس في آذانهم كي لا يجرحن كِبرياءهم بأن ينتبهو جيدا للأن عدد الدرجات التي سينزلون ثلاث وليس اثنتين وأن هناك بِرْكة ماء وسط الشارع وأن تلك الصورة المُلقاة على قارعة الطريق هي جثة شحاذ ميت ، ويساعدونهم بشقة على عبور الشارع ، وكأنه المخاضة الوحيدة في نهر الحياة الأخير .
لقد رأى فلورنْتينوأَريثَا نفسه مرات ومرات في هذه المرآة حتى أنه لم يشعر يوما بالخوف من الموت كخوفه من أرذل العمر حين سيحتاج لامرأة تقوده من ذراعه k ، إذ كان يعلم أنه في ذلك اليوم ، وفي ذلك اليوم فقط عليه أن يتخلى عن الأمل بِفرْمينا داثَا .
لقد أطار ذلك اللقاء النوم من عينيه وبدلا من أن يحمل ليونَا كاسيانيبالعربة فقد رافقها مَشياً على الأقدام عبر المدينة القديمة حيث كانت خطواته تقرع بلاط الرصيف كَحَوافر حِصان ، وكانت تنطلق بين حين وآخر بقايا أصوات هاربة من الشُرُفات المَفتوحة أو مُناجِيات من مَخادع النوم أو نَحيب حب تضخمه المَسامِع الخيالية وأريج الياسمين الدافئ في الأزقة الهاجعة ، وكان على فلورنْتينوأَريثَا أن يستَجْمِع ثانيةً كل قواه ليمنع نفسه من أن يكشف لليونَا كاسياني عن حبه المقهور لِفرْمينا داثَا .
كانا يسيران معاً بخطواتهما المحسوبة غارقَين في الحب بلا تَسرُّع كخَطيبين قديمَين ، هي تُفكر بِروعة كابيريا وهو يُفكر بمحنته الشخصية ، وفي ساحة الجمارك كان هناك رجل يُغني ، وكان صوته يتردد في الجو بأصداء مُتسلسلة "حين كنت أَعبُر أمواج البحر العظيمة".
وفي شارع لوس سانتوس ديبيدْرَا حين كان عليه أن يودعها أمام بيتها ، طلب فلورنْتينوأَريثَا من ليونَا كاسياني أن تدعوه لتناول كأس من البراندي .
كانت تلك هي المرة الثانية التي يطلب منها ذلك في ظروف مُتشابهة ، في المرة الأولى قبل عشر سنوات قالت له : إذا ما صعدت الى بيتي في مثل هذه الساعة فعليك البقاء فيه الى الأبد .
ولم يصعد يومها ، أما الآن فكان مستعداً للصعود في جميع الأحوال حتى لو اضطر الى نقض عهده فيما بعد ، لكن ليونَا كاسياني دعته للصعود دون أي التزام ، وهكذا وجد نفسه في محراب حب مات قبل أن يولد .
كان أبواها قد توفيا وجمع أخوها الوحيد ثروة طائلة في كوروثاو وبقيت هي وحدها لتعيش في بيت العائلة ، قبل سنوات وحين لم يكن فقدَ الأمل بجعلها عشيقة له اعتاد فلورنْتينوأَريثَا زيارتها أيام الآحاد برضا أبويها ، وكان يزورها في الليل أحيانا ويبقى حتى ساعة متأخرة ، وقد قدَّم مساهمات كثيرة في عمليات إصلاح البيت حتى صار يَعتبره كبَيته ، ولكنه شَعَر في تلك الليلة بعد السينما بأن صالة الاستقبال كانت غير ما عرفها من قبل إذ إن أماكن الأثاث قد تبدلت وعُلِّقَت على الجدران صور بأن كل هذه التغيرات القاسية إنما أجريت عَمْداً لتأكيد يقينه بأنه لم يكن له من وجود أبدا ، كما أن القط لم يتعرف عليه ، فقال وقد أفزعه نذير النسيان ك ما عاد يَذْكُرُني .
ولكنها ردت عليه وهي تُولِيه ظهرها فيما كانت تملأ كأسَين البراندي بأنه إذا كان قلقاً لهذا فبإمكانه النوم مطمئناً لأن القطط لا تتذكر أحداً وبينهما مُتَكَآن على الأريكة متلاصقان .
تحدثَا عن نفسَيهما ، عما كاناه قبل أن يتعارفَا في مَساء يوم مَن يَذكُر كم مضى عليه في حافلة تقودها البغال ، وكانت حياتيهما تمضي في مكتبَين متجاورَين ولم يتحدثَا أبدا من قبل في شيء خلاف العمل اليومي ، وفيما هما يتحدثان وضع فلورنْتينوأَريثَا يده على فخذها وأخذ يداعبها برقة مجربة بالغواية ، وتركته يفعل ذلك ، ولكن دون أن ترد عليه ولو بمجرد ارتعاشة مُجاملة ، وحين حاول المضي أبعد من ذلك أمسكت يده المُستكشِفة وقبَّلت راحته قائلة : كن مُهذَباً ، فقد أدركْت منذ زمن بعيد بأنك لستَ الرجل الذي أبحث عنه .
ففي صِباها بطحها على حين غِرة فوق مَلْطَم الأمواج رجل قوي وبارع ، لم ترَ وجهه أبدا وعرّاها مُمزِقاً ثيابها ومارس معها حُباً عابراً ومجنونا ، وفيما هي مُلقاة فوق الأحجار وجسدها كله مليء بالجروح تمنَّت لو يبقى ذلك الرجل فوقها الى الأبد ليموت حُبّاً بين ذراعَيها ، لم ترَ وجهه ولم تسمع صوته لكنها كانت متأكدة من التعرف عليه بين آلاف الرجال لشكله وحجمه وطريقته في ممارسة الحب ، واعتادت منذ ذلك الحين القول لكل من يريد سماعها : إذا ما عرفت شيئا في أحد الأيام عن رجل ضخم وقوي اغتصب زنجية بائسة من الشارع فوق صخور سد الغرقى في يوم كان الخامس والعشرين من تشرين الأول حوالي الحادية عشرة والنصف لَيلاً فقل له أين يستطيع أن يَجِدنَي .
كانت تقول ذلك بمحض العادة ، وقد كررته كثيراً لدرجة أنها فقدت كل أمل ، وكان فلورنْتينوأَريثَا قد استمع منها مرات ومرات لهذه القصة كما لو أنه يسمع صُفارة وداع تُطلِقها سفينة في الليل ، وحين أُعلِنَت الساعة الثالثة صباحا كان كل منهما قد شَرِب ثلاثة كؤوس من البراندي ، وكان هو يعلم بأنه ليس الرجل الذي تبحث عنه حقاً وسُرَّ لمعرفته ذلك وقال لها وهو يستعد للانصراف : برافو يا ليونَا لقد أجهَزْنَا على هذا النمر .
ولم يكن هذا هو الأمر الوحيد الذي قُضِيَ تلك الليلة ، فأكذوبة سُرادق المسلولين الخبيثة عكَّرت أحلامه لأنها أوحت له بأن فرْمينا داثَا هي من البشر ويمكن أن تفنى ويمكن بالتالي أن تموت قبل زوجها ، ولكنه حين رآها تتعثر عند الخروج من االسينما تقدم خطوة أخرى نحو الهاوية عندما انكشف له بأنه قد يكون هو وليس هي من يموت أولا ، وكانت تلك من أكثر النبوءات هَولا لأنها تستند الى الواقع .
لقد انقضت سنوات الانتظار الصابر والآمال السعيدة ولم يَلُح في الأفق سوى خضم الأمراض المتخيلة الذي لا يُسْبَر له قرار والتبَوُّل قطرة قطرة في صباحات الأرق والموت اليومي في الظهيرة ، وفكَّر أن كل لحظة من لحظات اليوم تلك التي كانت حليفة له في الماضي وشريكة بدأت تتآمر ضده .
لقد ذهب منذ سنوات قليلة الى موعد غرامي جريء وقلبه مُثقل بالخوف من المُصادفة ، فوجد الباب غير مُقفل والمفَصلات مُزيتة لتَوِها كي يستطيع الدخول دون إثارة أية ضجة ، لكنه أحجم في اللحظة الأخيرة مخافة أن يُسبب لامرأة غريبة وخدومة الضرر الذي لا سبيل لإصلاحه بموته في سريرها ، وهكذا كان التفكير معقولا بأن المرأة التي أَحبَّها أكثر من كل ما أَحبه على وجه الأرض والتي انتظرها من قرن الى آخر لن يُتاح لها الوقت لإسناده من ذِراعه وعبور شارع مليء بِحَثَوات التراب القَمْرية وجنائن البرقوق التي بعثرتها الريح لمساعدته للوصول سيلماً معافى الى الرصيف الآخر للموت .
الحقيقة أن فلورنْتينوأَريثَا قد دخل وفق معايير عصره حدود الشيخوخة ، كان عمره ستاً وخمسين سنة بالتمام والكمال ، وكان يظن أنه عاش أفضل حياة لأن سنوات حياته كانت سنوات حب ، ولكن لم يواجه أي رجل من رجال عصره سخرية الظهور بِمظهر الشباب وهو في سنِّه ، بينما كان هو كذلك أو كان يعتقد أنه كذلك ، كما لم يكن أيٌّ من أولئك الرجال لِيتجرأ على الاعتراف دون خجل بأنه ما زال يبكي خِفية من أجل صد لَقِيَه في القرن الماضي .
لقد كان عصرا سيئا للظهور بمظهر الشباب ، فهناك طريقة مُعينة في الباس لكل سن ، لكن طريقة اللبس في سن الشيخوخة تبدأ بعد المراهقة بقليل وتستمر حتى القبر ، ولقد كانت هذه المرحلة عبارة عن مرحلة وقار اجتماعي أكثر منها مرحلة حياتية ، فالشباب فيها يلبسون مثل أجدادهم ويصبحون أكثر وقاراً بالنظارات المُبكرة ، كما كان حمل العُكّاز أمراً مقبولاً منذ سن الثلاثين .
أما بالنسبة للنساء فلم تكن في حياتهن سوى مرحلتين ، سن الزواج وهو لا يتعدى الثانية والعشرين من العمر ، وسن العزوبية الأبدية الذي يضم الكاسِدات ، أما ما سوى ذلك من متزوجات وأمهات وأرامل وجدات فكُنَّ صِنفاً مختلفاً من البشر ، لا تُحْسَب حياتهن بما يَعِشْنَه من سنوات وإنما بالزمن المتبقي أمامهن للموت .
لقد واجه فلورنْتينوأَريثَا غدر الشيخوخة بجسارة شرسة حتى وهو يعرف قدَرَه الغريب بالظهور بمظهر الشيخوخة منذ طفولته ، وقد كان ذلك المظهر وليد الحاجة في أول الأمر إذ كانت ترانسيتو أَريثَا تُفَتِّق له وتُعيد خياطة ملابس أبيه التي يقرر التخلص منها وإلقاءها الى القُمامة ، وهكذا كان يذهب الى المدرسة الابتدائية بِسُترة تصل الى الأرض عند جلوسه وقُبعة وزارية تَغْطِس في رأسه حتى أذنيه رغم تَضييق إطارها بحشوات من القطن ، وبما أنه كان يستخدم نظرات لِقِصَر البصر منذ الخامسة من عمره ، له شعر هندي كشعر أمه مُزْبَئر وقاسٍ كَشَعْر جواد وكان ، فلم تكن لمظهره أية سمات واضحة ولحسن الحظ أن المعايير المدرسية كانت أقل انتقائية مما كانت عليه من قبل ، وذلك بعد فوضى الحكومات الكثيرة بسبب الحروب الأهلية المفروضة والمتلاحقة ، فكانت المَدارس العامة تزخر بخليط من الأصول والظروف الاجتماعية المُتباينة ، كان يأتي الى الدروس صِبية تفوح منهم روائح بارود المَتاريس بملابس وشارات ضباط متمردين نالوها بالرصاص في مَعارك مَشكوك فيها وبأسلحتهم النظامية البادية تماما على خُصورِهِم ، وكانوا يصطدمون بينهم بالرصاص لأي خلاف في الاستراحة ، ويهددون المعلمين إن هم أساءوا تقديرهم في الامتحانات ، بل إن أحدهم وهو تلميذ في الصف الثالث بمدرسة لاسيليه وكولونيل ميليشية متقاعد قتل الأخاخوان إيريمِيتا رئيس الطائفة بالرصاص لأنه قال في درس أصول الدين : أن الرب هو عضو عامل في الحزب المحافظ .
من جهة أخرى كان أبناء العائلات الكبيرة المنكوبة يأتون الى المدرسة بملابس أُمَراء قُدماء ، بينما يسير بعض الفُقراء المُُتْقعين حفاةً ، وبين كل هذه المُفارَقات الغريبة التي طالت جميع المستويات كان فلورنْتينوأَريثَا من أشد الحالات غرابة ولكن ليس الى الحد الذي يلفت إليه الانتباه كثيرا ، وكان أقسى ما سَمِعه هو أن أحدَهم صَرَخ به في الشارع يوماً : الفقير القبيح تنقضي حياته بالتمنيات .
وعلى أي حال فإن ذلك الزِي الذي فرضته الحاجة كان منذ ذلك الحين وسيبقى طوال حياته الأكثر مُلاءمة لطبيعته الغامضة ومزاجه الكئيب ، وحين وصل الى أول منصب مهم في ش ك م ، بعث يطلب تفصيل ملابس جديدة على مقاسه من طراز ملابس أبيه الذي ما زال يَذكُره كشيخ توفي عن عُمْر موَقَّر كعمر المسيح ثلاث وثلاثون سنة ، لقد كان فلورنْتينوأَريثَا يبدو إذن أكبر من سنِّه الحقيقي بكثير لدرجة أن بريجيدَا زولينَا إحدى عشيقاته العابرات والتي كانت تُقدم له الحقائق دون أن تمُر بها في المَساء قالت له منذ ايوم الأول بأنه يُعجبها أكثر حين يخلع ملابسه لأنه يصغُر عشرين سنة وهو عارٍ ، ولم يستطع رغم ذلك التوصل الى التوافق ابداً أولا لأن ذوقه الشخصي لا يُمَكِّنُه من أن يتزَّيى بطريقة أخرى ، وثانياً لأن أحداً من أهل ذلك العصر ما كان له يعرف كيف يتَزيى بِزِي شاب في العشرين دون أن يُخرِج مُجَدداً من خزانته سراويله القصيرة وقُبعة الأولاد ، ومن جهة أخرى لم يكن ممكنا له هو بالذات الهروب من معرفة شيخوخة عصره ، وهكذا فقد كاد يكون طبيعياً حين رأى فرْمينا داثَا تتعثر لدى خروجها من السينما ، وأُمْكِنَ لبارقة الذعر أن تبعث القشعريرةفيه لإحساسه أن الموت العاهر سينتصر عليه بالتأكيد في حرب حبه الضروس .
كانت المَعركة التي خاضَها عاجزاً حتى ذلك الحين وخسرها دون أمجاد هي معركته ضد الصلع ، فمنذ أن رأى الشعرات الأولى تعْلق بالمشط أدرك أنه محكوم بِجَحيم لا يمكن لمن لم يعِشْه تصور عذاباته ، قاوم خلال سنوات ، لم يدع وصْفاً أو علاجاً للصلع إلا وجربه ولا خرافة إلا آمن بها ولا تضحية إلا واحتملها ليُدافع عن كل بوصة من شَعْر رأسه في مواجهة الداء النَهِم ، حَفِظ عن ظهر قلب تعليمات روزْنامة برِيستول الزراعية لأنه سَمع أحدهم يقول : إن نمو الشَعْر مُرتبط ارتباطاً مباشراً بدورات المَواسِم الزراعية ، وهجَر حلّاقه الخاص الذي كان يَقُصّ شَعْره عنده منذ الأزَل لأنه كان ذا صلعة مهيبة واستبدله بحلّاق غريب جاء المدينة حديثاً وكان لا يقُصّ الشَعْر إلا حين يبدأ القمر بِالاكتمال ، وأخذ الحلّاق الجديد يُثبِت أن يده مخَضَّبةً حقاً حين كُشِف أمره كمغتصِب تلميذات غِرّيرات تُلاحقه شرطة عدة بُلْدان أنتيلية وقُيِّد مُكَبَلاً بالسلاسل .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد قص حتى ذلك الحين جميع الإعلانات الموجهة للصُلْعان ففي صحف بُلْدان حوض الكاريبي حيث كانوا ينشرون في تلك الإعلانات صورتَين متجاورتين للرجل نفسه ، الأولى وهو منتوف والثانية بشَعْر أعزَر من لُبْدَة أسد قبل وبعد استخدام الدواء المضمون ، وبعد مرور ست سنوات كان قد جرب 172 دواءً إضافة الى وسائل أخرى مُكمِلة كانت ترِد في الوصفة المُكمِلة بِقناني الدواء ، لكن الشيء الوحيد الذي حصل عليه هو نوع من الإكزيما في رأسه ، قُرحة حارقة ومُنتِنة يُطلِق عليها أولياء المارتينيك الصالحين اسم القَرْع الشمالي لأن إشعاعاً فسفورياً يَنْبَعِث منها في الظلام ، وبعد ذلك لجأ الى جميع أنصناف الأعشاب التي يروِّجُها الهنود في السوق العام وجميع الأدوية السحرية والأكاسير الشرقية التي تُباع في زقاق الكَتَبة العُموميين ، وحين أدرك أنه ليس سوى ضحية عمليات غِش ، كانت قرعة كقرع ةالقدّيسِين قد غزت منتصف رأسه .
وفي السنَة صفر عندما كانت حرب الألف يوم الأهلية تستنزف البلاد مر في المدينة إيطالي يصنع بِيروكات من من الشَعْر الطبيعي على المَقاس ، كانت الواحدة منها تُكَلِّف ثروة ولا يتحمل الصانع أية مسؤولية بعد ثلاثة شهور من الاستعمال ، ولكن عددا ضيئلاً فقط من الصُلْعان الموسرين لم يرضخوا للإغراء ، وكان فلورنْتينوأَريثَا أحد الأوائل جرب بِيروكة مُشابهة تماما لِشَعْره الأصلي حتى أنه خشي من وقوف الشَعْر مع تبدُلات مزاجه .
لم يستطع استيعاب فكرة حمل شَعْر إنسان ميت على رأسه وكان عزاؤه الوحيد أن شراهة الصلْع لم تُتِح له التعرُّف على لون شَعْراته الشائبات .
وفي يوم من الأيام عانقه أحد سُكارى الميناء النهري السُعَداء بعاطفة مُتَدفقة أكثر من المعتاد وهو خارج من المكتب فأفلتت الباروكة أمام سخرية عمال الشحْن ، وطبع السَكران قُبْلة مدوية على رأسه وهو يَصْرُخ : صَلْعَة ربانية .
في تلك الليلة بالذات وكان قد بلغ الثامنة والأربعين من العمر حلَق الشُعيْرات القليلة المُتبقية على الصدغَين والرقبة واستسلم تماما لمصيره كأصلع مُطلق ، بل إنه لم يعُد يَطْلي صباح كل يوم ذقنه وحدها بالرغوة وإنما كذلك أجزاءً من رأسه حيث يجد أن بعض الشَعْر آخذ بالظهور ، فيجعلها بموس الحلاقة مثل إلْيَة طفل رضيع ، لم يكن ينزِع القُبعة حينئذٍ حتى ولو في المكتب ، إذ كانت الصلعة تثيرفيه شعوراً بالعُري يبود له غير وقور ، ولكنه حين اعتاد عليها تماما نسب إليها فضائل ذكورية كان قد سَمع بها ، وكان يزدريها من قبل على أنها مجرد أوهام من الصُلْعان .
ثم انتقل فيما بعد الى العادة الجديدة باستخدام شَعْر المَفْرَق الأيمن الطويل لتغطية الصلعة ولم يتخلَ عنها أبدا ، ولكنه استمر في استخدام القُبعة وهو على هذا الحال بالطريقة الجنائزية ذاتها حتى بعد أن شاعت قُبعة تارْتاريتا وهو الاسم المحلي لقُبعة كانوتيه .
أما فقدانه أسنانه فلم يكن نتيجة بلوى طبيعية وإنما نتيجة عمل غير مُتقَن قام به طبيب أسنان متجول رأى أنه لا بد من نزع الأسنان إثر التهاب عادي ، كان الرعب من آلة ثَقب الأسنان قد مَنَع فلورنْتينوأَريثَا من زيارة طبيب الأسنان رغم آلام أضراسه المستمرة الى أن فقدَ القدرة على الاحتمال ، وقد فزعت أمه حين سَمعت أنينه في الغرفة المجاورة طوال الليل إذ بدت لها كتأوهاته في زمن آخر شبه مَطموس في ضَباب ذاكرتها ، ولكنها حين طلبت منه أن يفتح فمَه لترى أين هو ألم الحب اكتشفت أن ما يُضنيه هو الخُرّاجات والدَمامِل الصغيرة .
أرسله العم ليون الثاني عشر الى الدكتور فرانسيس أَدوناي وهو مارد زنجي يلبس سروالاً خاصاً بركوب الخيل ويتنقل في السفن النهرية حاملاً عيادته السِنِّيَة كلها في أكياس فيبدو أشبه بمندوب متجول للرعب في قرى النهر ، وبعد نظرة واحدة لفم فلورنْتينوأَريثَا قرر لا بد من نزع أسنانه كلها بما في ذلك الأسنان والأضراس السليمة إنقاذه الى الأبد من محن أخرى .
وعلى العكس من الصلعة لم يُسبب له هذا العلاج الحماري أي نوع من القلق باستثناء خوفه الطبيعي من المَجزرة دون مُخدِّر ، كما لم تُزعجه فكرة الأسنان الإصطناعية أولا لأن إحدى ذكريات طفولته التي يحن إليها هي ذكرى ساحر رآه في مهرجان وكان ينزع فَكيْه ويضعهما على طاولة لِيتكلم بدونهما ، وثانياً لأنه سيضع حداً لآلام الأضراس التي عَذَّبَتْهُ منذ طفولته ، وهي آلام تكاد تشبه في قسوتها آلام الحب ر.
لم يرَ في الأمر ضربة غادرة من ضربات الشيخوخة كما رأى في الصلعة إذ كان مقتنعاً رغم طعم المطاط بأن مَنْظَرَه سيكون أجمل بابتسامة قويمة ، وهكذا سلَّم نفسه دون مقاومة لِكَمّاشَة الدكتور أَدوناي المُضَمَخَة بالدم ، واحتمل العلاج بِصَبْر كصبْر حمير العتالة .
اهتَم العم ليون الثاني عشر بتفاصيل العملية كما لو كانت تُجرى له بالذات ، فقد كان يولي الأسنان الاصطناعية اهتماماً خاصة إثْر إحدى رحلاته في نهر مجدلينا , وبسبب هَوَسِه بالغناء الجميل ففي إحدى الليالي المُقْمِرة وقريبا من ميناء غامارا راهَن مسّاح أراضي ألماني بأنه قادر على إقاظ مخلوقات الغابة بِغنائهِرومانس نابولي من فوق شُرْفة القُبْطان ، وكاد أن يكسب الرِهان إذ انطلقت في عتمة النهر خفقات أجنحة طيور مالك الحزين في المستنقعات وضرب ذيول التماسيح وأنفاسم أسماك الشابْل وهي تحاول القفز اليابسة ، ولكنه حين وصل القفلة الختامية وحين خشي المستمعون من تمزق شرايين المُغني لقوة صوته أفلت طقْم الأسنان الاصطناعية من فمه مع النفَس الأخير وغرق في الماء ، وقد اضطرت السفينة ثلاثة أيام في ميناء تينيريفي ريثما صنعوا له مجموعة أسنان طورئ جديدة ، وقد كانت هذه الأسنان الجديدة مُتقنة ولكنه في رحلة العودة وأثناء محاولته أن يشرح للقُبْطان كيف أضاع طَقْم أسنانه السابق استَنشَق العم ليون الثاني عشر مِلْ رئتيه هواء الغابة المُلتهِب وصدح بأعلى يستطيعه واحتفظ به حتى النفَس الأخير محاوِلا إفزاع التماسيح الجاثمة تحت الشمس مُتأملة مرور السفينة دون أن يطرف لها رِمْش فغرق طَقْم الأسنان الجديد في مَجرى النهر أيضا ، ومنذ ذلك الحين وضع نُسَخاً من الأسنان الاصطناعية في كل مكان وفي عدة أماكن في البيت وفي دُرْج مكتبه كما وضع طَقم في كل سفينة من سفن الشركة الثلاث ، وإضافة الى ذلك صار يحمل معه كلما ذهب لِتناول الطعام خارج المنزل طَقماً إضافياً يضعه في علبة لأقراص السُعال في جيبه ، وذلك لأن أسنانه الاصطناعية كُسِرت يوما وهو يحاول أَكْل قطعة من شحم الخنزير المُقدَد في غداء ريفي .
وخشية أن يقع ابن أخيه ضحية مفاجآت من هذا النوعأمر العم ليون الثاني عشر الدكتور أَدوناي أن يصنع له مجموعتين من الأسنان إحداهما من مواد عادية للاستخدام اليومي في المكتب وأخرى لأيام الآحاد والأعياد مُزودة بلمعة ذهبية في ضرس الابتسامة مما منحها لمسة إضافية حقا .
وأخيرا رجع فلورنْتينوأَريثَا في يوم أحد يَضُجّ بنواقيس الى شارعه بهوية جديدة وجعلته ابتسامته الصائبة يشعر بأن شخصاً آخر يحتل مكانه في الدنيا ، حدث هذا في الحقبة التي ماتت فيها أمه ، وبقي فلورنْتينوأَريثَا وحده في البيت الذي كان ركناً مناسِباً لغرامياته ، إذ أن شارعه يكتم الأسرار رغم أن النوافذالكثيرة التي تمنحه الاسم توحي بوجود عيون تتلصص من وراء الستائر ، ولكن كل ما في هذا البيت صُنِع لإسعاد فرْمينا داثَا وسيكون لها وحدها .
وهكذا فضَّل فلورنْتينوأَريثَا تبديد فرص كثيرة خلال أكثر سنواته إثماراً على أن يُدَنِّس بيته في غراميات أخرى ، ولحسن الحظ أن كل درجة كان ي
رتقيها في مناصِب ش ك م ، كانت تعني امتيازات جديدة ومَكاسِب سرية على وجه الخصوص ، وأكثر هذه الامتيازات فائدة بالنسبة إليه كانت إمكانية استخدامه المَكاتب في خلال الليل وفي أيام الآحاد والعُطَل بالاتفاق مع البوّابين .
وفي إحدى المرات حين كان نائبا للرئيس فُتِح باب مكتبه بغتة بينما كان يمارس حُبّاً مستعجلاً مع إحدى الفتيات اللواتي يعملن أيام الآحاد ، وكان جالساً على الكرسي فيما هي رابضة في حضنه ، وبعد فتح الباب أطَّل العم ليون الثاني عشر برأسه كما لو أنه أخطأ بالمكتب ووقف يتأمل من فوق نظارته ابن أخيه المُرْتبك ، ثم قال العم دون أي قدْر من الدهشة : كراخو ، إنها لعنة أبيك نفسها .
وقبل أن يُغلق الباب ثانيةً قال ونظره تائه في الفراغ : وأنتِ أيتها الآنسة تابعي بلا خوف ، أُقسِم لكِ بشرفي أنني لم أرَ وجهكِ .
لم يعُد للحديث في الأمر ، ولكن العمل كان مستحيلاً في مكتب فلورنْتينوأَريثَا خلال الأسبوع التالي ، فقد دخل الكهربائيون يوم الاثنين بجلَبة لِتركيب مروحة ذات رياش في السقف الأَمْلَس ، وأتى صانعو الأقفال دون إنذار مسبق وأثاروا ضجة حرب وهم يثَبِّتون مِزلاجاً في الباب لإغلاقه من الداخل ، وأخذ النجّارون مقاسات دون أن يقولوا لماذا ، وجاء المُنَجِّدون بنماذج من قُماش الكِريتون لِيروا إن كانت تتناسَب مع لون الجدران ، وكان عليهم في الأسبوع التالي أن يستخدموا النافذة لأن الأبواب لم تتسع لإدخال أريكة مُزدوجة مُزَيَنة برسوم أزهار ، اشتغلوا في ساعات لا تخطر على بال ، بوقاحة لا تبدو أنها مُصادَفة ، وكانوا يرددون على كل من يعترض بالقول : إنها أوامر الإدارة العامة .
لم يعلم فلورنْتينوأَريثَا أبدا إن كان هذا التدخل لُطْفاً من العم الساهر على غرامياته الضالة أَم أنه أسلوب خاص به لِِلَفْت انتباهه الى سوء سلوكه في استخدام صلاحياته ، ولم يتبيَّن حقيقة أن العم ليون الثاني عشر كان يشجعه فقد وصلت الى مَسامِعه كذلك أنباء تقول أن لابن أخيه عادات مختلفة عن معظم عادات الرجال ، وقد أقلقه ذلك لأنه رأى فيه عائقاً أمام تعيينه خليفة له .
لقد عاش ليون الثاني عشر لُوايثَا على عكس أخيه حياة زوجية مستقرة استمرت ستين سنة وكان يُفاخر دوما أنه لا يشتغل أيام الآحاد ، وقد انجب أربعة أبناء وابنة واحدة وكان يريد إعدادهم جميعاً لِيرثوا عنه امبراطوريته ، ولكن الحياة أعَدَّت له واحدة من هذه المُصادفات التي كانت شائعة في روايات عصره والتي لم يكن هناك من يؤمن بوجودها في الحياة الواقعية ، لقد مات الأبناء الأربعة واحدا بع الآخر ، وبعد وصولهم الى مَناصِب المسؤولية ، أما الابنة التي لا تتمتع بأية ميول نهرية ففضلت الموت وهي تتأمل مَراكِب هِيتُسون من نافذة على ارتفاع خمسين متراً ، فوُجِد هناك بعد كل هذه المِيتات من يؤمن بأسطورة بأن فلورنْتينوأَريثَا بمظهره المشؤوم ومِظلته التي كمظلة مصاصي الدِماء قد فعل شيئا لِتحدث كل هذه المُصادفات معاً .
وعندما تَقاعَد العم عن العمل مُكرهاً بأمر طبي ضَحَّى فلورنْتينوأَريثَا راضياً ببعض غرامياته أيام الآحاد ليُرافق العم الى ملجئه الريفي في سيارة من السيارات الأولى التي شوهِدت في المدينة ، والتي كانت ذراع إدارة مُحركِها قوية الارتداد لدرجة أنها انتزعت ذراع سائقها الأول ، كانا يتحدثان لساعات طويلة فيما العجوز مستلقٍ في أرجوحة نومه المطرز عليها اسمه بخيوط حَريرية بعيدا عن كل شيء في مزرعة عَبيد قديمة ، كانت تظهر من مصاطبها المُشرِفة مَساءً قمم سلسلة الجبال المُكللة بالثلج ، كان يصعب على فلورنْتينوأَريثَا وعمه الخوض في حديث آخر سوى الملاحة النهرية ، وبقي هذا هو موضوع تلك المُسامرات الطويلة حيث كان الموت دوما ضَيفاً لا مَرئياً .
لقد كانت إحدى مَشاغل العم ليون الثاني عشر هي الحيلولة دون انتقال الملاحة النهرية الى أيدي رجال أعمال من أقاليم الداخل الذين يرتبطون بالاحتكارات الأوربية ، وكان يقول : لقد كان هذا العمل دوماً هو عمل المتاغونغيين أما إذا تولّاه الداخليون فسيهدونه ثانية الى الألمان .
وكان قلقه ناجماً عن قناعة سياسية يحب تكرارها بمناسبة وبلا مناسبة : أكاد أُكمِل مائة سنة وقد رأيت كل شيء يتغير بما فيذلك مواقع الكواكب في الكون ولكنني لم أرَ حتى الآن شيئا يتغير في هذه البلاد ، فهنا توجد دساتير جديدة وقوانين جديدة وحروب جديدة كل ثلاثة شهور لكننا ما زلنا نعيش في العهد الاستعماري ، وكان يرُد دائما على أخويه الماسونيَين اللذَين يَعْزُوان كل الشرور الى فشل الاتحادية : لقد كان حرب الألف يوم خاسرة قبل اندلاعها بعشرينسنة مُذ حرب ستة وسبعين .
وكان فلورنْتينوأَريثَا الذي تتجاوز لا مبالاته السياسية حدود المُطلق يستمع الىهذا الكلام الطويل المكرور كمن يستمع الى صوت البحر ، ولكنه كان بالمقابل نقيضاً صارِماً فيما يتعلق بسياسة الشركة ، إذ كان يرى على العكس من عمه بأن تخلف الملاحة النهرية التي تبدو دائما على شفير الكارثة لا يمكن معالجته إلا بالتخلي التلقائي عن احتكار المِلاحة النهرية الذي منَحَه الكونغرس الوطين لشكرة الكاريبي لمدة تسعة وتسعين عاماً ويوم واحد .
وكان العم يعترض : هذه الأفكار تحشوها في رأسك سَمِيَّتي ليونا المولعَة بالفوضوية .
وكان هذا هو نصف الحقيقة فقط إذ كانت مُبررات فلورنْتينوأَريثَا تَستَنِد الى تجربة الرُبّان الألماني جون بي ألبرس الذي أفسد بطموحه الشخصي المُفرِط نبوغه النبيل .
أما العم ليون فقد كان يرى فشل ألبرس لم يكن بسبب امتيازاته وإنما نتيجة التعهدات الاواقعية التي التزم بها في حينه ، فكان كمن يُلقي على كاهله مسؤولية الجغرافية الوطنية بأَسرها فقد تحمَّتحَمَّل مسؤولية الحفاظ على المِلاحة النهرية وبناءً المُنشآت المرفأية والطرق البرية المؤدية الى الموانئ ووسائط النقل أضف الى ذلك كان يقول : إن معارضة رئيس مون بوليفار الشديدة لم تكن بالعائق الذي يبعَث على الضحك ، كان معظم المساهمين في الشركة يرون في ذلك الخلاف كواحد من الخلافات الزوجية حيث كِلا الجانبين على حق ، فعناد الشيخ يبدو لهم طبيعياً ، ليس لأن الشيخوخة جعلته أقل وَهْماً مما كان عليه دوما كما اعتاد القول عن نفسه بسهولة كبيرة وإنما لأن التخلي عن الاحتكار برأيه هو إلقاء الى القُمامة بمكاسب النصر الذي تحقق في معركة تاريخية خاضها وأخواه منفردين في الأزمنة البطولية ضد خصوم جبارين من العالم بأَسره ، ولهذا لم يعارضه أحد حين ربط حقوقه بطريقة لا تُتيح لأحد المس بها قبل غيابه القانوني ،
ولكن حين سَلَّم فلورنْتينوأَريثَا أسلحته في مُسامَرات التأمُل في المزرعة أبدَى العم ليون الثاني عشر موافقته في التخلي عن الامتياز بشرط وحيد هو ألّا يتم التنازُل قبل وفاته ، كان هذا هو عمله الأخير ولم يعُد بعده للحديث في شؤون العمل ، بل إنه لم يعُد يسمح لهم بأن يستشيروه فيه ، ولم يفقد تجعيدة واحدة من تجاعيد رأسه الامبراطوري ولا ذرة واحدة من وضوحه ، لكنه فعل كل ما أمكنه حتى لا يبدو عليه شيء يثير الشفقة ، كانت أيامه تمضي وهو تأمل الثلوج الدائمة من شُرْفته مُحرِكاً كرسيه الفيني الهزاز ببطء الى جانب طاولة صغيرة تحرص الخادمات على وجود إبريق قهوة مُرة ساخنة عليها دوما ومجموعتين من أسنانه الاصطناعية التي ما عاد يستخدمها إلا لاستقبال الزيارات ، كان يلتقي عددا محدودا من الأصدقاء ولا يتحدث معه إلا عن ماضٍ سحيق جدا وسابق للملاحة النهرية .
ولكن بقي له مع ذلك موضوع جديد ، رغبته بزواج فلورنْتينوأَريثَا ، وقد عبَّر عن ذلك عدة مرات وبالطريقة ذاتها دوما .
كان يقول له : لو أنني كنت أصغر بخمسين سنة لتزوجت من سَمِيَّتي ليونا ، فأنا لا أستطيع تصور زوجة أفضل منها .
كان فلورنْتينوأَريثَا يرتعش لخوفه من أنْ يضيِّع كل ما عمله خلال سنوات طويلة بهذا الشرط الطارئ في اللحظة الأخيرة ، لكنه كا نيفضل الاستقالة والتخلي عن كل شيء والموت قبل أن يُخْلِف وعده لِفرْمينا داثَا ، ولحسن الحظ أن العم ليون الثاني عشر لم يُصِر في طلبه ، وحين أتم الثانية والتسعين من العمر اعترف بابن أخيه وريثاً وحيدا وتَقاعَد من الشركة .
بعد ذلك بستة شهور وبإجماع المساهمين عُيِّن فلورنْتينوأَريثَا رئيساً لمجلس الإدارة ومديراً عامً للشركة ، ويوم تولي مهام منصِبه بعد تناول الشمبانيا طلب العجوز ليون المُتقاعد السماح له بالحديث وهو جالس على الكرسي الهزاز ، وارتجل خُطبة قصيرة بدت أشبه بِمرْثية ، قال إن حياته بدأت وانتهت بحَدَثَين صادرَين عن العناية الإلهية ، الحدث الأول هو أن بطل التحرير حمله بين ذراعَيه في بلدة تورْباكو أثناء رحلته المشؤومة التي قادته الى الموت ، والحدث الثاني كان عثوره رغم كل العوائق التي فرضها القدَر على خليفة جديد بالشركة ، وأخيراً في محاولة لنزع المأساوية من المأساة اختتم حديثه قائلا : المَرارة الوحيدة التي أحملها من هذه الحياة هي أنني غَنَّيْت في جنازات كثيرة باستثناء جنازتي ، والاختتام الاحتفال وكيف لا غَنَّى منفرداً أغنية وداعا للحياة من أوبريت توسْكا ، غنّاها بلحن كنائسي كما يحب أن يُغنّيها وبصوت ما يزال ثابتاً .
لقد تأثر فلورنْتينوأَريثَا لكنه لم يكد يُظهر ذلك في ارتعاشة صوته حين القى كلمة شُكْر مثلما فعَل وبكل ما فعَله وفَكَّر به في الحياة ، لقد وصل الى القمة دون هدف سوى قراره الشَرِس بالبقاء حياً وفي حالة صحية جيدة لحظة توليه مصيره في ظل فرْمينا داثَا .
ولكن لم تكن ذكراها وحدها هي التي رافقته في تلك الليلة في الحفلة التي دعت إليها ليونَا كاسياني ، بل رافقته ذكرى جميع من عَرَفَهُن سواءً من يَرقُدْن في المَقابر مُفكِّرات به من خلال الزهور التي زرعها فوقهن أو أولئك اللواتي ما زلن يُسْنِدْن رؤوسهن على الوسادة ذاتها التي نام عليها أزواجهن بِقُرون مُذَهَّبة تحت ضوء القمر وباستثناء واحدة منهن .
كان يرغب أن يكون معهن جميعا في وقت واحد ، وهو ما كان يخشاه دائما ، ففي أصعب سنوات حياته وأقسى لحظاته احتفظ بعلاقة ما وإن كانت واهية مع عشيقاته اللواتي لا حصر لهن ، لقد تابع دائما خيط حياتهن ، تذكَّر في تلك الليلة روسالْبَا أقدمهن جميعا ، التي فضَّت عذريته وما زالت ذكراها تُعذبه كما عذبَته في اليوم الأول ، كان يكتفي بإغماض عينَيه ليراها بِفُستان المُسلين والقُبعة ذات شرائط الحَرير الطويلة وهي تهُز قفص الطفل عند حافة السفينة ، وكان قد أعد عُدة كل شيء مرات عديدة في سنوات حياته الطويلة للانطلاق للبحث عنها دون أن يعرف أين ودون أن يعرف ما هو لقبها ودون أن يعرف إن كانت هي حقا من يبحث عنها ، ولكنه كان متأكدا من أنه سيجدها في أي مكان ما بين أزهار السحلبيات ، وفي كل مرة بفعل عائق حقيقي يطرأ في اللحظات الأخيرة أو بفعل خلل خارج إرادته كانت الرحلة تتأجل وهو على وشك أن يرفع جسر السفينة ، وقد كانت لأسباب دوما علاقة ما بِفرْمينا داثَا .
تذكَّر أرمَلة ناثاريت ، الوحيدة التي دنَّس معها بيت أمه في شارع لاس فِنْتاناس رغم أنه لم يكن هو وإنما ترانسيتو أَريثَا من سمح لها بالدخول ، ولقد كرَّسَ لها تَفَهُماً أكثر من أي واحدة سِواها ، لأنها الوحيدة التي كانت تَشُعُّ حَنَانا يكفي لإحلالها محل فرْمينا داثَا رغم بَلادتها في الفراش ، لكن ميولها كقطة متشردة وغير مُرَوَّضة تفوقت على قوة حنانها وحَكَمَت عليها بالخيانة ، ومع ذلك فقد أصبحا عاشقَين مُتقطعَين خلال ما يقرب من ثلاثين سنة بفضل شعاره الفروسي ، خائنان ولكن غير مُخادعَين ، وكانت هي الوحيدة كذلك التي كشف فلورنْتينوأَريثَا عن وجهه الحقيقي من أجلها ، فحين وصله خبر موتها وعلِم أنها ستُدفَن في مَدافِن الإحسان تكَفَّل بدفنها على نفقته ، وكان الوحيد الذي حضر جنازتها .
تذكَّر أرامل أخريات محبوبات ، برودنْتِرَا باترا أقدم اللواتي ما زلن على قيد الحياة والمعروفة للجميع باسم أرمَلة الرب لأنها ترملت مرتَين .
وتذكَّر بورْدينْثْيَا أُوريانو المُتَيَمة بحُبه ، والتي كانت تقطع أزرار ملابسه لِيضطر للبقاء في بيتها ريثما تُعيد إصلاحها .
وخوسيفَا أرمَلة زونيغَا المجنونة بحُبه والتي كادت تقُص عضوه بالمِقص وهو نائم كي لا يكون لأحد سِواها .
تذكَّر آنخِيِلْس ألفارو التي غابت سريعاً وكانت أحبهن إليه ، إذ جاءت لمدة ستة شهور لِتَعْليم موسيقى الآلات الوترية في مدرسة الموسيقى ، وكانت تقضي معه الليالي المُقْمِرة على سطح بيتها كما قذفت بها أمها الى الدنيا عازفةً أجمل المقطوعات الموسيقية على البيولوبتشيللو الذي يتحول صوته الى صوت إنسان بين فخذَيها الذهبيَين ، ومنذ الليلة المُقْمِرة الأولى تفتت قلباهما إرَباً بِحُب مُبتدئَين شرسَين لكن آنخِيِلْس ألفارو مضت مثلما جاءت بعضوها الغض وآلتها الموسيقية في سفينة ترفع راية النِسيان ، والشيء الوحيد الذي بقي منها في ليالي السطح المُقْمِرة هو تلويحَة وداعها بمنديل أبيض بدا وكأنه حمامة متوحدة وحزينة في الأفق كما في أشعار مهرجان الزهور ، لقد تعَلَّم فلورنْتينوأَريثَا ما كان قد عاناه كثيرا دون أن يُدرك كُنْهه وهو أن بوسع المرء أن يعشق عدة أشخاص في الوقت نفسه ، ويتألم الألم ذاته لهم جميعا دون خيانة أياً منهم .
وفيما هو يقف وحيدا وسط الجموع في الميناء قال غاضباً : إن في القلب حجرات أكثر مما في فندق للعاهرات .
كان مُبللا بدموع آلام الوداع ، ولكن ما أن اختفت السفينة عند خط الأفق حتى عادت ذِكْرة فرْمينا داثَا لتشغل الفراغ كله .
تذكَّر أنْدريه بارون التي مر من أمام بيتها الأسبوع الماضي ونبهه الضوء البرتُقالي المُنْبعِث من نافذة الحمام الى أنه لا يستطيع الدخول ، لقد سبقه أحدهم ، أحدهم رجل أو امرأة ، لأن أنْدريه بارون لم تكن لتتوقف عند تُرَّهات من هذا النوع في فوضى الحب ، وبين جميع من هن في قائمته كانت هي الوحيدة التي تعيش من جسدها ، ولكنها كانت تتحكم به حسب رغبتها دون وكيل أعمال ، في سنواتها الطيبة مارست المِهْنة القديمة كمُومِس سريَة مما جعلها جديرة باسم سيدتنا قدّيسة الجميع ، لقد فتَنَت حُكّاماً وأُمراء بَحر ورأت بعض نبلاء السلاح والأدب مما لم يكنوا مشهورين كما كانوا يظنون أنفسهم ، يبكون على كتفها ، وكذلك بعض من كانوا مشهورين حقا ، كما كان صحيحاً أن الرئيس رافائيل رييس وبعد نصف الساعة الُستعجلة التي أمضاها في زيارتَيه للمدينة خصص لها راتباً تَقاعُدياً مدى الحياة لقاء خدمات قدمتها في وزارة الخزينة حيث لم تكن يوماً موظفة ، لقد كانت توزع عطايا متعتها الى أقصى ما أتاحه لها الجسد ، ورغم أن سلوكها غير اللائق كان معروفاً للجميع فإنه لم يكن بإمكان أحد تقديم أدلة دامغة ضدها ، لأن زبائنها البارزين كانوا يحمونها كما يحمون أنفسهم ، مُدركين أنهم هم وليس هي من سيخسر أكثر بالفضيحة .
وقد خرَق فلورنْتينوأَريثَا من أجلها مبدأه المقدس بعدم الدفع وخَرَقَت هي قانونها بأن لا تُمارس الحب مجاناً حتى ولو مع الزوج ، إذ اتفقا على سعر رمزي هو بيزو واحد عن كل مرة ، لكنها لم تكن تأخذ البيزو كما لم يكن هو يعطيها إياه في يدها ، وإنما كان يُسقِطه في الحصالة الى أن يصل المبلغ الى ما يكفي لشراء أية بِدعة من زقاق الكَتَبة العُموميين ، وهي التي عزت الى الحُقَن الشرجية التي يستخدمها في إمساكه حسية مختلفة في الحب وأقنعته بصواب فكرتها لِيسْتخدِما الحُقَن الشرجية معاً في أُمسياتهما المجنونة محاوِلَين بذلك ابتداع مزيد من الحب في الحب .
كان يرى نفسه محظوظاً لأن الوحيدة التي أذاقته قطرة مَرارة وسط كل هذه اللقاءات الخطِرة هي سارة نوِيرغَا المتقلِّبة التي أنهت حياتها في مشفى الراعية الإلهية للمجاذيب مُلقية أشعاراً شيخوخية بذاأتها تتجاوز كل الحدود ، مما اضطرهم في المشفى الى عزلها حتى لا تُسبب الجنون للمجنونات الأخريات .
وحين تسَلَّم فلورنْتينوأَريثَا كامل مسؤوليات ش ك م ، لم يعُد لديه متسع كبير من الوقت لمحاولة إحلال أحد محل فرْمينا داثَا ، كان قد أيقن أنها عصية على الاستبدال ، وراح يهوي شيئا فشيئا في روتين زياراته لمن يعرفهن ليضاجعهن الى المدى الذي تستطعنه وإلى حيث يستطيع وإلى حيث تسمح لهم الحياة .
وفي يوم أحد العَنْصَرَة حين مات خوفينال أُورْبينو لم تكن قد بقيت له سوى واحدة ، واحدة فقط لها أربعة عشر من العمر أكملتها لتوها وتتمتع بكل ما لا تمتلكه الأخريات حتى ذلك الحين لجعله يُجَن حُبّاً ، اسمها أمريكا فيكونيا وكانت قد جاءت قبل سنتين من بلدة بوييرْتو بادْري البحرية مبعوثة من أهلها الى فلورنْتينوأَريثَا ولي أمرها الذي تربطهم به صلة قربى معروفة ، جاءت بِمِنحة حكومية لتتأهل كمُعَلِّمة وبدت كدُمْية حين وصولها بِصُرَّة سفرها وحقيبتها الصفيحية ، ومنذ نزولها من السفينة بحذائها الأبيض وضفيرتها الذهبية خطرت له الفكرة الفضيعة بأنهما سيقضيان معاً قيلولات آحاد كثيرة .
كانت لا تزال طفلة بكل ما في ذلك من معنى ، القَلَح في أسنانها وقروح المدرسة الابتدائية في ركبتها ، لكنه تخيل فورا المرأة التي ستصيرُها عما قريب ، فرعاها لنفسه خلال سنة بطيئة من سبوت في السيرك وآحاد في الحدائق ومحلات المُثلجات وأمسيات طفولية نال بها ثقتها وكسب ودها ، وراح يقودها من يدها برقة خبيثة كجد كريم الى مسلخه السري ، وكانت استجابتها فورية ، لقد فُتِحت لها أبواب السماء فانفجرت في تفتح وردي جعلها تفيض سعادة ، وكان ذلك دافعاً ناجحاً لِدراستها إذ احتفظت دوماً بالموقع الأول في الفصل كي لا تخسر الخروج من المدرسة في نهاية الأسبوع ، وكانت بالنسبة له الركن الأكثر خفاءً في خليج شيخوخته ، فبعد سنوات طويلة من الغراميات المحبوسة أحس لمذاق البراءة المُفسَدَة فتنة ضلال مستجد .
انسجمَا ، كانت تتصرف على سجيتها ، طفلة متأهبة لاستكشاف الحياة تحت إشراف رجل موَقَّر لا يُفاجأ بشيء ، وتصَرَف وهو واعٍبالشكل الذي كان يخشى أن يصير إليه في الحياة ، خطيب شائخ .
ولم يُطابق بينها وبين فرْمينا داثَا أبدا رغم التشابه الكبير بينهما ، وليس في السن والزِي المدرسي والضَفيرة والمشية البرية فقط بل وبالطبع المُتكبِر وغير المتوقع ، ثم إن فكرة الاستبدال التي كانت حافزاً جيدا له في استعطاء الحب من قبل قد تلاشت نهائياً من ذهنه ، إنها تعجبه كما هي ، ويحبها بما هي عليه بِحُمَا لذة غَسَقِيَة ، وكانت الوحيدة التي اتخذ معها احتياطات صارمة للحيلولة دون حَبَل عرَضي ، وبعد بضعة لقاءات لم يعُد لكِليهما من حلم سوى مَساء الآحاد ، بما ، ه الشخص الوحيد المُخَوَّل بإخراجها من المدرسة الداخلية فقد كان يذهب بحثاً عنها في سيارة الهيتسون ذات الست سلندرات التابعة لشركة الكاريبي للمِلاحة النهرية ، وكان ينزع غطاء السيارة القماشي في بعض الأُمسيات غير المشمسة لِيتنزها على الشاطئ ، هو بقُبعته الكئيبة وهي منفجرة بالضحك وممسكة بكلتا يديها قُبعتها البحرية التي تُشكل جزئاً من زيها المدرسي كي لا تطير مع الريح .
لقد قال لها أحدهم يوماً ألّا تُرافق ولي أمرها أكثر من اللازم وألّا لا تأكل شيئا كان قد تذوقه وألّا تقترب كثيرا من أنفاسه لأن الشيخوخة معدية ، لكنها لم تُولي ذلك اهتماما ، كلاهما كان يبدي لا مبالاته لما يمكن للناس أن يظنوه بهما ، لأن قرابتهما كانت معروفة جيدا ، ثم أن سِنَّيهما النقيضَين يضعانهما بِمنْأى عن كل الشُبهات .
كانا قد انتهيا من ممارسة الحب يوم أحد العَنْصَرة في الرابعة بعد الظُهر حين بدأ قرع النواقيس ، وقد فوجئ فلورنْتينوأَريثَا لِفزع قلبه ، فقرع النواقيس كان يدخل في شبابه ضمن تكاليف الجنازة ، وكان يُحضَر على الفُقراء فقط .
وبعد حربنا الأخيرة في الجسر الواصل بين القرنَين رسَّخ النظام المحافظ تَقاليده المَوروثة من العهد الاستعماري ، وأصبحت الأُبَّهة الجنائزيَة مُكَلِّفة بحيث لم يعُد هناك من هو قادر على دفعِها سوى أغنى الأغنياء ، وحين توفي الأسقف أرْكولي دي لونا قُرِعت نواقيس المقاطعة كلها لتسعة أيام بلياليها وبلغ الضيق العام حدا دفع خليفته الى إلغاء تقليد قرْع أجراس الكنائس في المآتم وحصره بالموتى البارزين ، ولذلك حين سَمع فلورنْتينوأَريثَا قرع النواقيس في الكاتدرائية في الربعة من مَساء يوم أحد العَنْصَرة أحس أن شبحاً من أيام شبابه المَنسية يزوره .
لم يتصور مُطلقاً أن قرع النواقيس هذا هو الذي تشوق إليه لِسنوات وسنوات منذ يوم الأحد الذي رأى فيه فرْمينا داثَا تخرج من القُدّاس الكبير وهي حُبلى في الشهر السادس .
قال في العتمة : اللعنة ، لا بد أنه حوت سمين كي تُقْرَع من أجله نَواقيس الكاتدرائية .
أما أمريكا فيكونيا التي استيقظت لتوها عارية تماما فقالت : لا شك أنها من أجل العَنصَرة .
لم يكن فلورنْتينوأَريثَا خبيرا أو ما شابه ذلك في شؤون الكنيسة ، كما إنه لم يذهب الى الصلاة مذ كان يِعزف الكمان في الكورس مع ألماني عَلَّمَه كذلك علم التلغراف ، ولم يتوصل الى خبر مؤكَد عن مصيره أبدا ، لكنه كان يعرف دون شك أن النواقيس ما كانت من أجل العَنصَرة ، صحيح أن في المدينة مأتماً وهو يعرف ذلك إذ زارت بيته لجنة من لاجئي الكاريبي لتخبره أن جيرميَا ديسَانْت آمور قد وُجِد ميتاً في معمل تصويره .
ومع أن فلورنْتينوأَريثَا لم يكن من أصدقائه المقربين إلا أنه كان صديقا لعدد كبير من اللاجئين الذين اعتادوا على دعوته الى مناسباتهم العامة وخصوصاً المآتم ، لكنه كان متأكداًمن أن الأجراس لا تُقْرَع لِجيرميَا ديسَانْت آمور الذي كان مُلحِداً مُصمماً وفوضوياً متمادياً ، إضافة الى أنه قتَل نفسه بيده .
قال : لا ، إن قرع أجراس كهذا لا يمكن أن يكون من أجل حاكم فما فوق .
لم تكن أمريكا فيكونيا بجسدها الشاحب المُرَقَّط بفعل انعكاس أشعة الضوء المُتسربة من أبَجور النافذة المغلقة قد بلغت سِنّاً يمَكِّنَها من التفكير بالموت.
كانا قد مارسا الحب بعد الغداء واضطجعا في سكون القيلولة ، عاريَين تحت مروحة السقف التي لم يطغَ أزيزها على نَقْر طيور الرخمة التي تدُبّ كحبات البَرَد فوق سطح الصفيح الساخن .
كان فلورنْتينوأَريثَا يحبها كما أَحب كثيرات من النساء الأخريات العابرات في حياته الطويلة ، لكنه كان يحب هذه بِكَرْب أشد لأنه كان موقناً من أنه سيكون قد مات من الشيخوخة حين تنتهي هي من المدرسة العليا .
ككانت الحجرة تبدو أشبه بقُمْرة سفينة بجدرانها المصنوعة من الألواح الخشبية ، طُلِيَت مرات ومرات فوق طلائها الأول كما هو الحال في السفن ، لكن الحر كان أشد من حَر قُمْرات سفن النهر في الرابعة مَساءً رغم المروحة المعلقة فوق السرير ، وذلك للحر الذي يعكسه السقف المعدني .
لم تكن حجرة نوم عادية وإنما قُمْرة على اليابسة أمَر فلورنْتينوأَريثَا بِبنائها خلف مكاتبه في ش ك م ، دون نية أو ذريعة أخرى سوى الحصول على ملجأ جيد لغرامياته كعجوز .
كان النوم هناك مستحيلا في الأيام العادية بسبب صراخ عُمال شحن السفن وقعقعة رافعات الميناء النهري وجُآر السفن الضخمة في الميناء ، ولكنها كانت بالنسبة لطفلة جنة أيام الآحاد .
فكَّرَا بالبقاء معاً في يوم العَنْصَرة حتى موعد عودتها الى المدرسة الداخلية قبل خمسة دقائق من صلاة التبشير ، لكن قرع النواقيس ذَكَّر فلورنْتينوأَريثَا بوعده في حضور جنازة جيرميَا ديسَانْت آمور فارتدى ملابسه بأسرع مما يفعل في العادة ، وكان قد جدَّل قبل ذلك كعادته ضفيرة الطفلة التي يحلها قبل ممارسة الحب ، ورفعها فوق الطاولة ليَعقِد لها شريط حذائها المدرسي الذي لم تُحْسِن ربطَه يوما .
كان يساعدها دون خبث ، وكانت تساعده لِيساعدها كما لو كان ذلك واجبا عليها ، لقد فقدَ كلاهما الإحساس بالسن منذ لقاءاتهما الأولى وتعاملَا بثقة زوجَين أخفيَا عن بعضهما أموراً كثيرة في هذه الحياة حتى لم يعُد لديهما ما يقولانه .
لم يكن في الميناء المُقفر سوى سفينة واحدة مَرَاجلُها مطفأة وكان الحَر المحتدم يُنذر بهطول المطر ، أول أمطار السنة لكن شفافية الهواء وصمْت الميناء الأحادي بَدَيَا وكأنهما من شهر لَطيف ، وكانت الدنيا من هناكا أكثر فَجاجة من ظلْمة القُمْرة ، وكان قرع النواقيس أكثر إيلاماً دون معرفة لمن تُقْرَع .
نزَل فلورنْتينوأَريثَا والطفلة الى فِناء مِلح البارود الذي استخدمه الإسبان فيما مضى كميناء للنَخاسة وحيث ما زالت بقايا المِثقال وحدائد أخرى من تجارة الرقيق كانت السيارة تنتظرهما في ظل الحانات ، ولم يوقِظَا السائق النائم فوق المِقْوَد الى أن استَقَرَا في مقعدَيهما .
دارت السيارة من وراء الحانات المُسَيَّجة بشبكة معدنية كشباك أقنان الدجاج واجتازت الفراغ الذي كان يشغله في السابق سوق لاس إِنْماس حيث كانت جماعة من اليافعين شبه العُراة يلعبون بالكرة ، وخرجت من الميناء النهري وسط زوبعة من الغبار الملتهب .
كان فلورنْتينوأَريثَا متأكداً أن التشريف الجنائزي لا يمكن أن يكون من أجل جيرميَا ديسَانْت آمور لكن إلحاح النواقيس جعله يرتاب ، وضع يده على كتف السائق وسألَه صارخاً : لماذا تُقْرَع الأجراس ؟
فقال السائق : إنها من أجل هذا الطبيب المعروف ، - ما اسمه ؟؟
لم يكن على فلورنْتينوأَريثَا أن يفكِّر بالأمر ليعرف من المقصود ، ولكن سرعان ما غار الوهم الفوري حين روى له السائق كيف مات ، لأنه لم يجد الأممر محتَمَلا ، فَلا شيء يشبه الإنسان كطريقة موته وليس من موت يبدو أقل شَبَهاً للرجل الذي تصوره من هذه المِيتة ، لكنه كان هو نفسه حتى ولو بدا الأمر غير مقبول ، فالطبيب الأكبر سِنّاً والأكثر تأهيلاً في المدينة وأحد رجالها المرموقين لمشاركته في نشاطات أخرى كثيرة قد مات إثْرة تَهَشُم نخاعه الشوكي عن إحدى وثمانين سنة لدى سقوطه من شجرة مانغا وهو يحاول إمساك ببغاء .
كل ما فعله فلورنْتينوأَريثَا منذ زواج فرْمينا داثَا كان يرتكز على أمل هذا الخبر ، ولكن حين أزفت الساعة لم يشعر برعشة الانتصار التي كثيرا ما تصورها في أوقات أَرَقَه وإنما أحس بضربة من مِخلب الرعب ، لقد رأى بوضوح عجيب أنه كان يمكن لهذه النواقيس أن تُقْرَع لموته هو ، وفَزِعت أمريكا فيكونيا الجالسة الى جواره في السيارة المتقافِزة على الشوارع الحجرية لِشحوبِه وسألَته عما أصابه .
فأمسك فلورنْتينوأَريثَا يدها بيده المتجمدة وتنهد قائلا : آه يا صغيرتي ، تَلزمُني خمسين سنة أخرى لأروي لك .
نسي جنازة جيرميَا ديسَانْت آمور ووترَك الصغيرة أمام باب المدرسة الداخلية واعداً إياها على عجل بالمجيء إليها يوم السبت القادم ، ثم أمر السائق بالتوجه الى بيت الدكتور خو ، وجد ازدحام سيارات وعربات أجرة في الشوارع المجاورة وحشداً من الفضوليين مقابل البيت ، فمدعوو الدكتور الدكتور لاثيديس أوليفيا الذين تلقوا النبأ المشؤوم وهم في أوج الحفلة جاءوا على عجل ، ولم يكن التحرك في البيت سهلا بسبب الازدحام ، لكن فلورنْتينوأَريثَا تمكَّن من شق طريقه حتى غرفة النوم الرئيسية ورفع نفسه أعلى من المجموعة المحتشدة أمام الباب ورأى خوفينال أُورْبينو على السرير الزوجي كما تمنى رؤيته مذ سَمع باسمه لأول مرة محاطاً بوقار الموت .
انتهى النجّار حينئذٍ من أخذ المقاسات لصنع التابوت ، وإلى جانبه بفُستان الجدة حديثة الزواج الذي ارتدته للحفلة كانت تقف فرْمينا داثَا منذهلة وكئيبة .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد تخيل تفاصيل تلك اللحظة منذ أيام شبابه حين كرَّس نفسه كلياً لقضية هذا الحب المتهور ، ففلورنْتينوأَريثَا أحرز لقَباً وثروة وفلورنْتينوأَريثَا اعتنى بصحته ومظهره الشخصي عناية لم تكن تبدو جديرة بالرجولة لأبناء عصره ، وانتظر ذلك اليوم كما لم يستطع أحد انتظار أحد أو شيء في هذا العالم دون لحظة واحدة من التقاعس ويقينه بأن الموت قد تَدَخَل أخيرا لصالحه بث فيه الشجاعة التي كان يحتاجها لِيُكرر أمام فرْمينا داثَا في ليلتها الأولى كأرمَلة يمين الولاء الأبدي وحبه الدائم .
لم ينفِ أمام نفسه أن ما فعله كان عملا طائشاً لا معنى له في هذا الوقت وهذه الطريقة وأنه قد تسرع لخوفه من ألّا تَسْنَح له الفرصة ثانيةًض .
كان قد أعدَّ ما يريده بطريقة أقل فظاظة لكن الحظ لم يُسعفه بأحسن مما فعَل ، خرج من بيت العَزاء متألماً لأنه تركَها تعاني حالة الاضطراب التي كان يعانيها هو نفسه ، ولكنه لم يستطع عمل شيء لمنع ذلك عنها لأنه أحس بأن تلك الليلة الهمجية كانت مكتوبة منذ الأزَل في قَدَرِهما معاً .
لم يستطع النوم ليلةً واحدة في الأسابيع التالية ، كان يتساءل يائساً : أين يمكن أن تكون فرْمينا داثَا من دونه ، وبماذا تُفكر وماذا ستفعل خلال السنوات المتبقية في الحياة بثقل الرعب الذي خلَّفه بين يديها ؟
عانى من نوبة إمساك نفخت بطنه كطَبْل ، وكان عليه أن يلجأ للمسكنات الأكثر لُطفاً من الحُقَن الشرجية كما أن آلام الشيخوخة التي كان يحتملها خيراً من معاصريه لأنه عرفها منذ شبابه هاجمته كلها دُفعة واحدة ، وعندما حضر الى المكتب يوم الأربعاء بعد أسبوع من الغياب ، ارتَعَدَت ليونَا كاسياني لرؤيته على تلك الحالة من الشحوب والاسترخاء .
لكنه طمأنها : إنه الأرق ثانيةً كالعادة .
وعاد يعض لسانه كي لا تُفلت الحقيقة من ثقوب قلبه الكثيرة ، ولم يمنحه المطر هُدنة مُشمسة ليفكر فقضى أسبوعاً لا واقعياً آخر دون قدرة على التركيز في شيء .
وكان يأكل بشكل سيئ ، ويَنام بطريقة أسوأ ويحاوِل تحسس إشارات مُبهمة تُهديه الى سبيل الخلاص ، لكن طمأنينة داهمته منذ يوم الجمعة بلا أية مُبررات ، ففسرها على أنها نذير بأن شيئا جديدا لن يحدث وأن كل ما فعله في الحياة كان بلا جدوى وليس لديه ما يتابع من أجله ، إنها النهاية ، ومع ذلك فلدى وصوله الى بيته يوم الاثنين في شارع لاس فِنْتاناس اصطدم برسالة مُبللة بالماء المتجمع وراء الباب ، وتعرَّف من المُغلف في الحال على الخط المتسلط الذي لم تستطع تبديله كل تقلبات الحياة ، بل إنه أحس برائحة العطر الليلي لأزهار الياسمين الذابلة لأن قلبه حدَّثه بكل شيء منذ الرهبة الأولى .
إنها الرسالة التي انتَظَرَها دون لحظة راحة واحدة خلال أكثر من نصف قرْن ...


الجزء السادس
الأخير

لم تتصور فرْمينا داثَا أنه يمكن لِفلورنْتينوأَريثَا فهم تلك الرِسالة التي دفعها الغضب لكتابتها على أنها رِسالة حب ، لقد ضمنتها كل السخط الذي استطاعته مستخدمة أقصى ما لديها من عبارات وإهانات جارحة وظالمة أيضا ، ومع ذلك رأت أنها ضئيلة أمام حجم الإساءة .
كانت الرِسالة ذروة مرارة استمرت أسبوعين ، وقد حاولت الوصول منر خلالها المصالحة مع وضعها الجديد ، أرادت أن تعود الى ذاتها وأن تسترد كل ما اضطرت أن تتخلى عنه خلال نصف قرن من العبودية التي كانت سعيدة بها دون شك ، ولكن موت زوجها لم يترك لها أثراً من هويتها ، كانت شبحاً في بيت غريب تحول بين يوم وآخر الى بيت فسيح مُوحِش ، وكانت هي تَهِيم فيه على غير هدى متسائلة بمرارة : من هو الميت ؟ أهو الذي مات أَم هي التي بقيت على قيد الحياة ؟
ما كانت قادرة على تصريف إحساس عميق بالغضب من الزوج الذي تركها وحيدة وسط بحر الظلمات .
كان كل شيء من أشيائه يدفعها للبكاء ، البيجاما التي تحت الوسادة ، والخُف الذي كا نيبدو لها دوما وكأنه خُف مريض ، وذكرى صوته المطبوعة في عمق المرآة وهو يخلع ملابسه فيما هي تُسرِّح شعرها للنوم ، ورائحته بشرته ستبقى عالقة في بشرتها لوقت طويل بعد موته .
كانت تتوقف عن أي عمل تقوم به ، وتضرب جبهتها بكَفِها لأنها تذكرت فجأة شيئا نسيت أن تخبره به ، وتَرِد الى ذهنها في كل لحظة الأسئلة اليومية الكثيرة التي لا يستطيع أحد الإجابة عنها سِواه .
لقد قال لها في أحد الأيام شيئا لم تستطع تصوره : أن المَبتورين يحسون آلاماً وخَدَراً ودغدغة في أرجلهم التي ما عادوا يمتلكونها .
وهذا ما شعرت هي به من دونه ، كانت تشعر بوجوده حيث لم يعُد له من وجود .
لدى استيقاظها ليلتها الأولى كأرمَلة تقلبت في السرير دون أن تفتح عينيها بحثا عن وضع مريح لمتابعة النوم ، فكان أن مات بالنسبة لها في هذه اللحظة إذ وعت حينئذٍ فقط بأنه قضى الليل لأول مرة خارج البيت ، ثم كان انفعالها الآخر على المائدة ، ليس لشعورها بأنها وحيدة كما كانت فعلا ، وإنما لقناعتها الغريبة بأنها تتناول الطعام مع شخص ما عاد موجودا ، وانتظرت قدوم ابنتها أُوفيليا من نيو أُورلْيانز مع زوجها وبناتها الثلاث كي تجلس من جديد الى المائدة لتناول الطعام ، ولكنها لم تستخدم الطاولة المعتادة وإنما مائدة مُرتجَلة أصغر حجماً أمرت بوضعها في المَمر ، ولم تكن حتى ذلك الحين قد أعدَّت وجبة نظامية بل كانت تمر من المطبخ في أي وقت حين تشعر بالجوع فتغرز الشوكة في القِدْر وتأكل من كل شيء دون أن تضع الطعام في طبق وهي واقفة أمام المَوقِد ، تتحدث الى الخادمات اللواتي كانت تشعر معهن وحدهن بأنها على ما يرام ، وتتفاهم معهن على أحسن وجه .
ورغم كل محاولاتها لم تتمكن من تجنب حضور زوجها فحيث ذهبت وحيث مرت ومهما فعلت كانت تصطدم بشيء من أشيائه يذكِّرها به ، ومع أن ذلك الألم كان يبدو لها نبيلاً ولازماً إلا إنها كانت تريد عمل أي شيء أيضا كي لا تتلذذ بالألم ، وهكذا اتخذت قرارها الحاسم بإخراج كل ما يُذكِّرها بالزوج الميت من البيت ، وهي الوسيلة الوحيدة التي خطرت لها كي تتمكن من مواصلة الحياة بدونه .
كانت عملية استئصال ، وافق الابن على أخذ الكُتُب لِتحوِّل المكتبة الى غرفة الخياطة التي لم تمتلكها أبدا وهي متزوجة ، أما الابنة فأخذت بعض الأثاث وعدداً من الأشياء التي تبدو مُلائمة جدا للبيع في مزاد العاديات في نيو أُورلْيانز .
كان هذا كله مهدئاً لِفرْمينا داثَا التي لم ترَ أية ظرافة في تحقُقها من أن ما اشترته في رحلة زِفافها قد صار آثاراً قديمة .
وأمام الذهول الصامت للخادمات والجيران والصديقات المُقربات اللوات كُن يأتين لمُرافقتها في تلك الأيام أضرمت مَحرَقة في أرض خَلاء وراء البيت وأحرقت هناك كل ما يذَكِّرُها بزوجها ، أكثرالملابس التي رأتها المدينة منذ قرن الماضي كُلْفة وأناقة ، وأكثر الأحذية دقة والقُبعات التي تشبهه أكثر من صوره وكرسي القَيلولة الهزاز الذي نهض عنه آخِر مرة ليَموت ، وأشياء لا تُحصى مرتبطة ارتباطاً وثيقا بحياته وتُشكل جزءاً كن هويته .
فعلت ذلك دون أي تردُد وبيقين كامل في أن زوجها كان سيؤيد ذلك ، ليس بأسباب تتعلق بالوقاية الصحية فقط بل ولأنه كثيرا ما أعرب عن رغبته بأن تُحْرَق جثته وألّا يُحْشَر في الظلام دون أي فجوة في صندوق من خشب الأرْز ، إن دينه يمنع ذلك دون ريب وكان بإمكانها أن تتجرأ على جس نبض الأسقف لترى وجهة نظره على أية حال ، وكان هذا سيرد عليها بجواب سلبي قاطع ، فالأمر محض وهَم ، لأن الكنيسة لا تسمح بإقامة أفران لإحراق الجثث في مَقابرِنا حتى ولو كانت تابعة لأديان غير الدين الكاثوليكي ، كما أنه لم يخطُر لأحد سوى خوفينال أُورْبينو جدوى بناء مَحارق كهذه .
لم تنسَ فرْمينا داثَا رعب زوجها هذا ، بل إنها تذكَّرت في فوضى الساعات الأولى التي تلت موته أن تأمر النجّار بترك ثغرة تسمح بدخول الضوء الى التابوت .
كانت مَحْرَقة بلا جدوى على أي حال فسرعان ما أدركت فرْمينا داثَا أن ذكرى زوجها الميت كانت مُقاوِمَة للنار كمقاومتها الأيام على ما يبدو ، ورغم ذلك فإنها لم تحتفظ بعد إحراق الثياب بحنينها لكل ما أحبت فيه فقط وإنما أيضا وقبل كل شيء لأكثر ما كان يُزعِجها فيه الضجة التي كان يثيرها عند استيقاظه .
وقد ساعدتها هذه الذكريات على الخروج من أحراش الحِداد فاتخذت قراراً حاسماً بمُتابعة الحياة ، مُتَذكِّرة زوجها وكأنه لم يمُت .
كانت تعلم أن استيقاظها كل صباح سيكون صعباً لكنه سيصبح أقل وطأة يوما بعد يوم ،وبدأت تلمح فعلا عند انتهاء الأسبوع الثالث أول الأنوار ، ولكن كُلما ازدادت تلك الأنوار وأصبحت أشد وضوحاً كانت تَعي أن في حياتها شبحاً مطعوناً لا يتركها لحظة بسلام .
لم يكن الشبح المثير للشفقة الذي كان يترصدها في حديقة البشارة والذي اعتادت تَذَكُرَه منذ شيخوختها بشيء من الرقة ، وإنما الشبح البغيض الذي يرتدي سُتْرة الجلاد ويحمل قُبعته مستَنِدة الى صدرِه ، والذي أقلقتها سفاهته السخيفة الى حد يستحيل عليها عدم التفكير به .
لقد كانت مقتنعة دوماً منذ أن صدته وهي في الثامنة عشر من عمرها بأنها تركت فيه بذرة حِقْد لم يفعل الزمن شيئا سوى تنميتها ، وكانت تحْسِب حساب هذا الحِقْد في كل لحظة وتشعر به في الهواء حين يكون الشبح قريباً منها ، وكانت مجرد رؤيته تُقلقها وتُرعبها الى حد أنها لم أبدا أسلوباُ طبيعياً للتعامل معه ، وفي الليلة التي كرر فيها عرض حبه حين كانت أزهار زوجها الميت ما تزال تعبق في جو البيت ، لم تستطع أن تفهم تلك الحركة الخبيثة إلا كخطوة أولى من انتقام مشؤوم لا يعرف مَداه أحد .
وقد فاقَمَ إلحاح ذكراه من غضبها ، وحين استيقظت وهي تُفكر به في اليوم التالي للدفن استطاعت محوه من ذاكرتها بإشارة بسيطة من إرادتها ، لكن الغضب كان يعاودها دوما ، وسرعان ما أدركت أن رغبتها في نسيانه كانت أقوى محرض لتَذَكُّرِه حينئذٍ تجرأت أول مرة في إذعانها للحنين على استحضار ذكرى الزمن الوهمي لذلك الحب اللاواقعي .
كانت تحاول أن تتذكر كيف كانت الحديقة بالضبط في ذلك الحين ، وكيف كانت أشجار اللوز المحطمة ، والمِقعد الحجري الذي كان يحبها منه لأن شيئا من هذا ما عاد موجوداً كما كان يومها ، لقد تبدل كل شيء إذ استأصلوا لأشجار وسجادتها من الأوراق الصفراء ، وأقاموا مكان تمثال البطل مقطوع الرأس تمثالاً لشخص آخر يرتدي زِي المَراسم العسكري بلا اسم ولا تاريخ وبلا تفسير يبرر نَصْبَه هناك على قاعدة فَخمة وضعوا في جوفها لَوحة مفاتيح التحكم بكهرباء الحي ، أما بيتها الذي بيعَ أخيرا فقد كان يتهاوى خراباً بعد هذه السنوات الطويلة بين يدََي الحكومة الإقليمية ، ولم يكن من السهل عليها تصور فلورنْتينوأَريثَا كما كان في ذلك الحين ، كما لم تكن قادرة على أن تُصَدِّق بأن ذلك الشاب المُكفَهِر البائس جدا تحت المطر هو ذات الشيخ المَنخور الذي وقف أمامها دون أي اعتبار لحالتها وبِلَا أي احترام لأَلَمِها وَكَوى روحها بإهانة لاهبة ما زالت تُثقِل على أنفاسها .
كانت ابنة الخال هيلْدا براندا سانجيت قد جاءت لِزيارتها بعد وقت قصير من عودتها من مزرعة فلوريس دي ماريا ، وحين كانت تستجمع قواها من ساعة نحس الآنسة الآنسة لينج، لقد جاءت هيلْدا براندا عجوزاً بدينة وسعيدة يُرافقها ابنها البِكْر الذي أصبح عقيداً في الجيش مثل أبيه الذي تبرَّأ منه إثر تصرفه الدَنيء في مجزرة عمّال المَوْز في سان خوان ديلاثيناغا .
كانت ابنة الخال وابنة العمَّة قد الْتَقَتَا مرات عديدَة ، وكانتا تقضيان الساعات دوما وهما تحنان الى الحقبة التي تعارفتا فيها ، وقد كانت هيلْدا براندا أكثر حنيناً في زيارتها الأخيرة مما كانت عليه في أي لقاء آخر ، وأكثر تأثراً بثقل الشيخوخة ، وكتأكيد لحنينها أحضرت معها نسختها من الصورة التي التقطها لهما المصور البلجيكي مَساء اليوم الذي وجَّه فيه الشاب خوفينال أُورْبينو طعنة الرحمة لإرادة فرْمينا داثَا ، كانت نسخة هذه الأخيرة من الصورة قد ضاعت بينما كانت نسخة هيلْدا براندا غير واضحة المَعالِم ، لكنهما تعرفتا على نفسَيهما من خلال غِلالة الخيبة ، شابتان وجميلتان كما لن تصبحا أبدا .
كان مستحيلا ألّا تتحدث هيلْدا براندا عن فلورنْتينوأَريثَا لأنها كانت تجد قدَرَها في قدَرِه ، وكانت تتذكره كما رأته يوم بعثت أولى برقياتها ، ولم تتمكن أبدا أن تَنزِع من قلبِها ذكراه كعصفور كئيب محكوم عليه بالنسيان ، أما فرْمينا فقد رأته مرات ومرات دون أن تُبادله الحديث طبعا ، ولم تكن قادرة على أن تتصور أنه هو حبها الأول ذاته .
لقد كانت تصِلها على الدوام أخبار عنه ، مثلما تصلها عاجلا أو آجلا أخبار كل من له مكانة في المدينة ، كان يقال بأنه لم يتزوج لأنه ذو عادات مختلفة ، ولكنها لم تُولي هذه الأقاويل اهتماما أيضا لأنها لم تهتم يوماً بالشائعات من جهة ، ولأنه كانت تُقال أشياء مِمُشابِهة عن رجال كثيرين لا مجال للشك فيهم من جهة أخرى .
وكانت تستغرب بالمُقابل احتفاظ فلورنْتينوأَريثَا بِزِيه الصوفي وعطره الغريب وبقائه غامضاً هكذا بعد أن شق سبيله في الحياة بطريقة جِد استعراضية إضافة الى كونها شريفة ، ولم تكن لِتُصَدِّق بأنه الشخص نفسه ، وكانت تُفاجأُ دائما حين تتنهد هيلْدا براندا قائلة : يا للرجل المسكين كم تألَّم .
إذ كانت تراه دون آلام منذ زمن بعيد فهو شبح مَمْحو ، ومع ذلك فقد أصاب قلبها شيء غريب ليلة التقت به في السينما بعد رجوعها من فلوريس دي ماريا ، لم تُفاجَأ بخروجه مع امرأة وامرأة زنجية كذلك ، لكن ما فاجأها أنه ما زال في حالة جيدة وأنه يتصرف بِطَلاقة شديدة ، ولم يخطُر لها أن تُفكر بأنها قد تكون هي وليس هو من طرَأ عليه التَبدُل بعد دخول الآنسة لينج العاصف في حياتها الخاصةش .
منذ ذلك الحين وخلال أكثر من عشرين سنة تابعت رؤيته بعينَين أكثر إشفاقاً ، وفي ليلة السهر على زوجها الميت لم يبدُ لها وجوده هناك أمراً مفهوماً وحسب بل رأت فيه النهاية الطبيعية للأحقاد ، تصرف ينُم عن العفو والنسيان ولهذا لم تكن تتوقع إعادة مأساوية لعرض حب لم تشعر بوجوده يوما ، وفي سن لم يبقَ لِفلورنْتينوأَريثَا ولها فيه من شيء ينتظرانه من الحياة .
بقيَ غضب الوهلة الأولى القاتل بكامل زخمِه بعد الإحراق الرمزي للزوج ، وراح ينمو ويتشعب أكثر فأكثر كُلما شَعَرَت بأنها أقل قدرة في السيطرة عليه ، بل وأكثر من ذلك ففراغات الذاكرة التي تتمكن من إخلائِها بإقصاء ذكرة الميت منها كان يحتلها شيئا فشيئا ولكن بإصرار مَرْج البرقوق الذي كانت ذكرى فلورنْتينوأَريثَا مدفونة فيه .
وهكذا كانت تُفكر به دون أن تُحبه ، وكُلما فكَّرَت فيه أكثر ازداد غضبها عليه ، وكُلما ازداد غضبها منه كانت تُفكِّر فيه أكثر الى أنْ أصبح شيئا لا يُطاق وَطَفَحَ به ذهنها ، حينئذٍ جلست الى طاولة زوجها الميت وكتبت الى فلورنْتينوأَريثَا رِسالة من ثلاث صفحات متَهَوِرة ومشحونة بالسُباب والاستفزازات الشنيعَة التي هدَّأَت من روعها لاقترافها بذلك أَحَطَّ فعلة في حياتها الطويلة .
لقد كانت تلك الأسابيع الثلاثة بالنسبة لِفلورنْتينوأَريثَا أيضا أسابيع احتضار ، ففي الليلة التي كرر فيها عرض حبه على فرْمينا داثَا هام على غير هدى في الشوارع المُخَرَبة بطوفان المَساء متسائلا بفزع : ما الذي سيفعله بجلْد النمر الذي انتهى من قتله بعد أن قاوم حصاره لأكثر من نصف قرن ؟
كانت المدينة تعيش حالة طوارئ بسبب عنف الأمطار ، وفي بعض البيوت كان ثمة رجال ونساء شبه عُراة يحاولون إنقاذ ما يشاؤه الله من وسط الطوفان ، وأحس فلورنْتينوأَريثَا بأن لتلك الكارثة الجماعية علاقة ما بكارثته الشخصية ، لكن الهواء كان وديعاً ، وكانت نجوم الكاريبي ساكنة في مواقعها ، وفجأة كما في سكون أزمنة أخرى تعرَّف فلورنْتينوأَريثَا على صوت الرجل الذي كان قد سَمعه وليونَا كاسياني يُغني مرات كثيرة في مثل هذه الساعة وعند الناصية نفسها "من الجسر رجعتُ مُبللاً بالدموع: ، أغنية كان لها بالنسبة له فقط علاقة ما بالموت فيتلك الليلة .
لم يشعر يوماً بالحاجة الى ترانسيتو أَريثَا كما شَعَر يومئذٍ ، كان بحاجة لكلمتها الحكيمة ورأسها كمَلِكة سخرية مُتوجة بأزهار ورقية ، ولم يستطع الحيلولة دون ذلك ، فكُلما وجد نفسه في خضم الكارثة أحس بحاجته الى الانزواء في كنف امرأة ، وهكذا مر من أمام مدرسة المعلِّمات بحثاً عن من هن في متناول يده ، ورأى نوراً ينبعِث من نافذة أمريكا فيكونيا وقد اضطر للقيام بمجهود كبير كي لا يُقْدِم على حماقة جَد هَرِم بإخراجها في الساعة الثانية فجراً وهي دافئة بالحلم بين أَقْمِطَتِها ورائحة المَهد ما تزال تفوح منها .
في الطرف الآخر من المدينة كانت ليونَا كاسياني وحيدة وحرة ومستعدة دون ريب لأن تُقدم له الحنان الذي يحتاجه سواءً أكانت الساعة الثانية أو الثالثة فجراً أو أي ساعة أخرى ، ولم تكن المرة الأولى التي يدق بابها في أرقه المُقفر ، لكنه أحس بأنها ذكية الى حد بعيد ، وأنهما يحبان بعضهما كثيرا بحيث لا يمكنه الذهاب للبكاء في حضنها دون أن يُفضي لها بالسبب .
وبعد تفكير طويل سار مُسرعاً في المدينة المقفرة ، وخطَر له أنه لم يجد بينهن خيراً من بِرودنثيَا بِيترَا أرمَلة الرب ، كانت أصغر منه بعشر سنوات ، وكانا قد تعارفَا في القرن الماضي ، وإذا كانا لا يلتقيان منذ زمن فلأنها أصرت الّا تسمح لأحد بأن يراها وهي في الحال الذي صارت إليه ، شبه عمياء وعلى حافة الشيخوخة فعلا .
وما أن تذَكَّرَها فلورنْتينوأَريثَا حتى عاد الى شارع لاس فنْتاناس ، ودس في حقيبة المشتريات زجاجتَي نبيذ وقطرميز مُخلل ومضى لزيارتها دون أن يدري إن كانت لا تزال في بيتها نفسه أو إذا كانت وحدها أو إذا كانت ما تزال على قيد الحياة .
لم تكن بِرودنثيَا بِيترَا قد نسيت إشارة الخمش على الباب التي كان يُعَرِّف بها على نفسه حين كانا يظنَان أنهما ما يزالان شابين رغم أنهما لم يكونا كذلك .
وفتحت له دون أسئلة ، كان الشارع مظلماً ولم يكن هو مرئياً ببدلته السوداء وقُبعته القاتمة ومِظلة الخُفاش المعلقة بِذِراعه ، كما لم تكن لِعينَيها القدرة على رؤيته إلا في وضح الضوء ، لكنها تعرفت عليه من انعكاس وميض النور على إطار نظارته المعدني ، كان يبدو كَقاتل ما زالت يَداه ملطختَين بالدم .
قال : المأوى ليتيم بائس .
كان هذا هو الشيء الوحيد الذي استطاع قوله ، وفوجئ بكَم هَرِمَت مُذ رآها لآخِر مرة وكان مُدركاً بأنها تراه كذلك ، ولكنه عزَّى نفسه بالتفكير بأنهما بعد دقيقة وحينما يستعيدان أنفاسهما من إثْر الوهلة الأولى سيُلاحِظ كل منهما أقل فأقل آثار السن في الآخر ، وسيعودان لِيَرَيا بعضهما أكثر شباباً كما كان كل منهما بالنسبة للآخر عندما تعرَّفا .
قالت له : تبدو وكأنك ذاهب الى جنازة .
ولقد كان كذلك ، كما أنها هي أيضا وقفت الى النافذة منذ الساعة الحادية عشرة مثلما فعَل أهل المدينة تقريباً لرؤية أكثر المواكب حشداً وفخامة منذ موت الأسقف دي لونا .
لقد أيقظتها من النوم صوت المَدافع التي كانت تهُز الأرض واختلاط فِرًق الموسيقى العسكرية وفوضى الأغاني الجنائزيَة التي تعلو على ضجة نواقيس جميع الكنائس المدوية دون توقُف منذ اليوم السابق ، وقد رأت من شُرْفتها العسكريين وهم يمرون على صهَوات جيادهم بِزِي المَراسم ، والهيئات الدينية وتلامذة المَدارس وسيارات السلطات اللامرئية الطويلة السَوداء وعربة الدفن الفاخرة التي تجرها خيول رؤوسها مُزَينة بالريش وسروجها بالذهب ، والتابوت الأصفر المغطى بالعَلَم فوق عربة مدفع التاريخية ، وأخيرا مجموعة عربات الفكتوريا القدمة المكشوفة والتي ما زالت على قيد الحياة لحمل أكاليل المآتم ، وبعد حوالي نصف ساعة من مرورهم أمام شُرْفة بِرودنثيَا بِيترَا انهمر المطر طوفاناً وتفرق الموكب في كل الأنحاء .
قالت : يا لها من طريقة سخيفة في الموت .
فقال : ليس في الموت ما هو مضحك .
ثم أضاف بحزن : وخصوصاً في مثل سِننا .
كانا يجلسان على المصطبة مُقابل البحر الفسيح يتأملان القمر المُحاط بِهالة تحتل نصف السماء ، وَيَرْنُوّان الى الأضواء المُلَونة المنبعِثة من السفن في الأفق ، وينعمان بالنسيم الدافئ والعطر بعد العاصفة .
كانا يشربان النبيذ ويأكلان المُخلل مع قطع من الخبز القروي الذي اقتَطَعَتْه بِرودنثيَا بِيترَا من رغيف في المطبخ .
لقد أَمضَيَا معاً ليالي كثيرة مثل هذه الليلة بعد أن أصبحت أرمَلة وبِلَا أولاد وهي في الخامسة والثلاثين من العمر ، لقد التقاها فلورنْتينوأَريثَا في حقبة كانت مستعدة فيها لاستقبال أي رجل كان يرغب بمُرافقتها حتى لو استأجرته بالساعة ، وتمكنَا من إقامة علاقة أكثر جدية وأطول أمداً مما بدا ممكناً ، ورغم أنها لم تُلَمِّح للأمر أبداً إلا إنها كانت مستعدة لأن تبيع روحها للشيطان في سبيل الزواج منه في زِفاف ثانٍ .
كانت تعلم أن الخضوع لِشُحِه ليس سهلا ، وكذلك الإذعان لحاجاته كشيخ مبكر ولأوامره المخبولة وجشعه في طلب كل شيء دون إعطاء أي شيء ، ولكنها لم تكن تجد بالمقابل رجلا يمكن العيش معه في هذه الدنيا خيراً منه ، لأنه لا وجود في الدنيا لِرجل آخر فقير للحُب مثله الى هذا الحد ، ولكن لم يكن هناك في الوقت ذاته من هو أكثر تقلُّباً منه ، إذ لم يكن يمكن للحُب أن يصل الى أبعد مما كان يصل إليه ، الى حيث لا يؤثر في قراره بالاحتفاظ بِحُرِّيَتِه من أجل فرْمينا داثَا .
ومع ذلك استمرت علاقتهما لِسنوات طويلة حتى بعد أن رتب أمر زواج بِرودنثيَا بِيترَا ثانيةً من وكيل تجاري كان يستقر ثلاثة شهور في المدينة ثم يقضي ثلاثة شهور مرتحلاً ، وانجبت منه ابنة واحدة وأربعة أبناء كان أحدهم حسب زعمِها من فلورنْتينوأَريثَا .
تَحادثا دون إحساس بالوقت لأنهما كانا معتادَين على مُشاطَرَة بعضهما سُهاد شبابهما ، وكان ما سيخسرانه في سُهاد الشيخوخة أقل بكثير ، ورغم أن فلورنْتينوأَريثَا ما كان يتجاوز الكأس الثانية حين يشرب إلا أنه لم يستعِد أنفاسه يومها رغم تناوله الكأس الثالثة .
كان يتعرق بغزارة ، وقالت له أرمَلة الرب أن يخلع سُترته ، أن يخلع صدريته بنْطاله ، أن يخلع كل ما يشاء ، اللعنة فهما في نهاية المَطاف يعرِفان بعضهما عاريَين خيراً من معرفتهما بالملابس .
وقال أنه سيفعل ذلك إن هي فعَلت ، لكنها لم تقبل .
لقد رأت نفسها منذ زمن في مرآة الخزانة وأدركت فجأة أن الشجاعة لن تُواتِيها للظهور عارية أمامه أو أمام سِواه .
وفي حالة الهيجان التي لم يستطع فلورنْتينوأَريثَا تهدِئتها بأربعة كؤوس من النبيذ تابع الحديث عن الماضي ، عن ذكريات الماضي الطيبة موضوع حديثه منذ زمن بعيد ، لكنه كان يتشوق للعثور على طريق سري في الماضي ليغرق نفسه فيه ، كان هذا هو ما يحتاجه ، أن يقذف روحه من فمه ، وحين أحس بأول بريق في الأفق حاول الاقتراب من الموضوع مداورةً فسألَهَا بطريقة بدت عرَضية : ماذا تفعلين إذا ما عرَض أحدهم عليكِ الزواج هكذا كما أنت أرمَلة وفي هذا السن ؟
ضحكت ضحكة مجعدة كعجوز وسألَت بدورها : أتعني بهذا أرمَلة أُورْبينو ؟
كان فلورنْتينوأَريثَا ينسى دائما حين لا يحب النسيان أن النساء يفكرن بالمعنى الخفي للأسئلة أكثر من تفكيرهن بالأسئلة ذاتها ، وتفعَل بِرودنثيَا بِيترَا ذلك أكثر من سِواها .
قال لها وقد أحس بأنه وقع ضحية ريح مُباغتة نتيجة تسديده الطائش : إنني أعنيكِ أنتِ بهذا .
فعادت تضحك : اذهب واسخر من العاهرة أمك ليرحمها الله .
ثم ألحت عليه ليُصارحها بما يريد أن يقولَه ، لأنها تعلم أنه لا يمكن أن يكون له ولا لأي رجل آخر أن يوقظها في الثالثة فجراً بعد الانقطاع عنها في كل هذه السنوات لِيشرب النبيذ ويأكل الخبز القروي مع المُخلل فقط .
قالت : لا يحدث هذا إلا لِمن يبحث عمن يود البكاء معه .
ارتعش فلورنْتينوأَريثَا ثانيةً وقال لها : إنكِ مخطئة هذه المرة فأسباب مجيئي الليلة يناسبها الغناء .
فقالت : فلْنُغني إذن .
بدأ يُدَنْدِن بصوت لا بأس به الأغنية الدارجة رامونا لا أستطيع العيش بدونِكِ ، وكان في ذلك نهاية تلك الليلة ، إذ لم يعُد يجرؤ على لعب ألعاب مُحرمة مع امرأة قدمت له أدلة كافية في معرفة الوجه الآخر للقمر .
خرج الى مدينة مختلفة تعبق برائحة أزهار الدالية الأخيرة لشهر حزيران ، وسار في شارع من شوارع شبابه حيث تمر الأرامل في العتمة وهن خارجات من صلاة الساعة الخامسة ، وكان هو الذي انتقل الى الرصيف الآخر هذه المرة وليس هن كي لا يَرَيْن دموعه التي ما عاد يطيق حبْسَها ، ليس منذ منتصف الليل كما كان يظن لأن هذه الدموع كانت دموع أخرى ، إنها التي غَصَ بها منذ حوالَي إحدى وخمسين سنة وتسعة شهور وأربعين يوماً .
كان قد فقدَ الإحساس بالزمن حين استيقظ دون أن يدري المكان الذي هو فيه ، مُقابل نافذة مضيئة ، ونقله الى الواقع صوت أمريكا فيكونيا التي كانت تلعب بالكرة مع الخادمة في الحديقة ، إنه في سرير أمه التي ما زالت حجرة نومها على حالِها حيث اعتاد النوم كي لا يشعر بالوحدة في المناسبات القليلة التي أقلقته فيها العُزلة ، وكانت تنتصب أمام السرير مرآة مطعم دون سانْتْشو الضخمة والتي كانت رؤيتها عند استيقاظه كافية لجعله يرى فرْمينا داثَا مرسومة فيها .
عرف أن اليوم هو السبت لأنه اليوم الذي يُحضِر فيه السائق أمريكا فيكونيا من المدرسة الداخلية ويأتي بها الى بيته ، وانتبه أنه قد نام دون أن يدري حالما أنه غير قادر على النوم ، في حُلُم يعذبه فيه وجه فرْمينا داثَا الغاضب
استحم وهو يفكر كيف ستكون الخطوة التالية ، وارتدى أفضل ملابسه على مهل وتعطر وصبغ شاربه الأبيض ذا الطرفَين المُدببَين ، ولدى خروجه من حجرة النوم رأى من ممر الطابق الثاني الفتاة الجميلة ذات الزِي المدرسي وهي تُمْسِك الكرة في الهواء بالسحر الذي بعث فيه القشعريرة لأحاد كثيرة ، لكنها لم تبعث فيه هذا الصباح أي قلق .
أشار لها بأن تأتي معه ، وقبل أن يصعدا في السيارة قال لها دون داعي للقول : لن نفعل أشياءً هذا اليوم .
ورافقها الى المقهى الأمريكي للمُثَلَّجات الذي كان يغص في مثل هذه الساعة بآباء يتناولون البوظة مع أطفالهم تحت المراوح ذات الرياش الكبيرة المعلقة بالسقف .
طلبت أمريكا فيكونيا بوظة من عدة طَبقات متنوعة الألوان في كأس كبير وهو النوع الذي تفضله ، والذي يلقى رواجا شديداً لأن بُخاراً سحرياً كان ينبعِث منه ، تناول فلورنْتينوأَريثَا قهوة قوية وهو يتأمل الطفلة دون أن يتكلم فيما هي تتناول البوظة في ملعقة طويلة جدا تصل الى قاع الكأس ، ثم قال لها فجأة دون أن يتوقف عن مراقبتها : سأتزوج .
نظرت الى عينيه نظرة مُرتابة وهي ترفع الملعقة في الفضاء ، لكنها استعادت أنفاسها فورا وابتسمت قائلة : إنها خدعة فالشيوخ لا يتزوجون .
أوصلها مَساءً هذا اليوم الى المدرسة الداخلية عند موعد صلاة الأنخيلوس تحت وابل من المطر العنيد بعد أن رَأيَا معاً دُما الحديقة وتناولا الغداء في أكشاك السمك المَقلي عند مَلْطَمِ الأَمواج ، وبعد أن رأَيَا أقفاص الحيوانات المُفترسة التابعة لسيرك وصل يومئذٍ الى المدينة ، واشتريا من الأزقة كل أنواع الحلوى لتحملها معها الى المدرسة الداخلية ،.
وبعد أن جابا المدرسة الداخلية عدة مرات بالسيارة المكشوفة لتبدأ الاعتياد عليه باعتباره ولي أمرها وليس عشيقاً لها .
وفي يوم الأحد التالي بعث إليها السيارة لتقوم إذا كانت ترغب بنزهة مع صديقاتها ، لكنه لم يشأ رؤيتها لأنه وعى منذ الأسبوع الفائت وعياً كاملاً فارق السن بينهما ، وفي هذه الليلة بالذات قرر أن يكتب الى فرْمينا داثَا اعتذار حتى ولو كان ذلك لمجرد عدم الاستسلام ، لكنه أجَّل الأمر الى اليوم التالي.
وفي يوم الاثنين بعد ثلاثة أسابيع كاملة من الآلام دخل الى بيته مُبللاً بالمطر ووجد رسالتها .
كانت الساعة الثامنة لَيلاً ، وكانت فتاتَا الخدمة قد نامتَا تاركتَين الضوء الوحيد الذي يبقى مُضاءً في المَمر ليتمكن فلورنْتينوأَريثَا من الوصول الى حجرة نومه ، كان يعلم أن عشاءه البسيط موجود على طاولة حجرة الطعام ، لكن الجوع الذي كان يشعر به بعد كل هذه الأيام من الأكل العشوائي تلاشى بانفعال الرِسالة .
ووجد صعوبة في إضاءة نور الحجرة الرئيسي لارتعاش يديه .
وضع الرِسالة المبللة على السرير ،وأضاء مصباح الكومودينو ، ثم خلع سُترته المبللة في هدوء المُصطنع هو من أساليبه في طمأنة نفسه وعلقها على مِسنَد الكرسي ، ثم نزع الصدرية ووضعها بعد طَيِّها جيدا فوق السُترة وحل شريط العنق الأزرق والياقة القاسية التي ما عادت تُستعمَل في العالم ، وفك أزرار القميص حتى الخصر ، ثم حل الحزام لِيتنفس بِراحة ، ونزع القُبعة أخيرا ووضعها الى جوار النافذة لِتجف .
ارتَعَش فجأة لأنه لم يَدْرِ أين هي الرِسالة ووصل به الانفعال حداً جعله يُفاجَأ حين وجدها ، فهو لا يَذكُر بأنه وضَعَها على السرير .
وقبل أن يفتحها جفف المغلف بمنديل مُحاذِراً الّا يمسح الحبر المكتوب به اسمه ، وفيما هو يفعل ذلك انتبه الى أنْ ذلك السر لم يعُد مشتركاً بين اثنين فقط وإنما بين ثلاثة على الأقل ، فلا بد أن حاملاً الرِسالة كائناً من كان قد انتبه الى أنْ أرمَلة أُورْبينو تكتُب لشخص من خارج عالمِها ولم تمضِ على وفاة زوجها سوى ثلاثة أسابيع ، وإنها تفعل ذلك بِتَسَرُّع لم يُتح لها إرسال الرِسالة بالبريد وبتكتم شديد جعلها تَطْلُب عدم تسليمها باليد وإنما دسها من تحت الباب كما لو كانت سرالة من مجهول .
لم يكن بحاجة الى تمزيق المغلف لأن الماء حَلَّل صَمْغَه ، لكن الرِسالة كانت جافة ثلاث ورقات دون ترويسة موقعة بالحروف الأولى من اسمها كمتزوجة .
قرأها أول مرة بسرعة وهو جالس على السرير مستسلماً للهجتها أكثر من تمعنه بمضمونها ، وقبل أن ينتقل الى الصفحة الثانية كان متأكداً من عدالة الشتائم التي انتظر تلقيها .
وضَعَها مفتوحة تحت ضوء مصباح الكومودينو ونزع حذاءه والجوربَين المبللَين ، ثم أطفأ نور الحجرة الرئيسي بمفتاح الكهرباء المجاور للباب ، ووضع على وجهه غطاء الشوارب المصنوع من الشامْواه واستلْقى دون أن يخلع بنْطاله والقميص مُسْنِداً رأسه الى وسادتَين كبيرتين كان يستخدمهما كمِسند حين يقرأ .
وهكذا أعاد قراءة الرِسالة حرفا حرفا مَُدَقِّقاً في كل حرف كي لا تبقى أي نية من نواياها الخفية دون حل .
ثم قرأها أربع مرات أخرى الى أنْ تشَبَّع بها وأصبحت الكلمات المكتوبة تفقد معناها .
بعد ذلك خَبَّأَ الرِسالة دون المغلف في دُرْج الكومودينو واسْتلْقى شَابِكاً يديه على عنقه وثبَّت نظره لأربع ساعات في المرآة حيث كانت هي دون أن يرمِش ، ودون أن يتنفس تقريباً ، وكان أكثر موتاً من ميِّت ، وعند منتصف الليل تماما خرج الى المطبخ فأعد تُرمس قهوة كثيفة كالبترول الخام وحمله الى حجرة نومه وألقى بأسنانه الاصطناعية في كأس الماء الممزوج بمطهِر البورون الذي كان يجده دوما بانتظاره فوق الكومودينو ، وعاد ليستلقي بوضعية تمثال المرمر السابقة مع حركة محدودة بين وقت وآخر لارتشاف بعض القهوة ، وبقي على هذا الحال الى أنْ دخلت الخادمة في الساعة السادسة وهي تحمل تُرْمُساً آخر مليئاً بالقهوة ، في هذه الساعة كان فلورنْتينوأَريثَا قد عرف تماما كل خطوة من خطواته التالية .
الحقيقة أن الشتائم لم تُسبِب له الألم كما لم تُقلقه الاتهامات الجائرة التي كان يمكن أن تكون لها أقسى ، نظراً لمعرفته طبع فرْمينا داثَا وخطورة السبب ، الشيء الوحيد الذي كان يهمه هو الرِسالة ذاتها لأنها تُتيح له الفرصة وتعترف له له بحق الرد عليها ، بل وتتطلب ذلك منه .
وهكذا وصلت الحياة الى الحد الذي أراد إصالها إليه ، وكل ما سوى ذلك يعتمد عليه الآن .
كان مقتنعاً قناعة راسخة أن جحيمه الخاص المستمر منذ نصف قرن سيقدم له مزيداً من التجارب القاتلة الكثيرة التي أصبح مستعداً لمواجهتها بحماسة أشد ومعاناة أصلَب وحب أقوى من كل ما فات لأنها ستكون التجارب الأخيرة .
بعد خمسة أيام من تلقيه رِسالة فرْمينا داثَا ولدى وصوله الى مكاتب الشركة أحس أنه يَطْفو في الفراغ الوعِر وغير المألوف لآلة الكتابة ،إذ أن ضجيجها لم يكن ملحوظاً كصَمْتها ، كانت وقفة قصيرة وحين عاد الضجيج من جديد أطَلَّ فلورنْتينوأَريثَا الى مكتب ليونَا كاسياني وتأملها وهي جالسة وراء آلتِها الكاتبة التي تستجيب لرؤوس أصابعها وكأنها أداة بشرية ، فأحست هي بأنها مراقبة ونظرت نحو الباب بابتسامتها الشمسية المُذهلة ، لكنها لم تتوقف عن الكتابة حتى نهاية الفقْرة .
سألَهَا فلورنْتينوأَريثَا : أخبِريني يا لَبوَة روحي بماذا ستشعرين إذا تلقيتِ رِسالة حب مكتوبة على هذه الأداة .
وبدت عليها هي التي لم تُفاجَأ بشيء علائم مفاجأة حقيقية وهتفت : يا للرجل ، لم يحدث لي شيء من هذا القَبيل .
لم تجدْ جواباً آخر على الأقل ، ولم يكن فلورنْتينوأَريثَا قد فكَّر بالأمر حتى ذلك الحين لكنه قرر المضي بالمُغامرة الى نهايتها .
نقَل الى بيته إحدى آلات المكتب وسط سخرية مرؤوسيه المُتوددَة .
- لا يمكن لببغاء عجوز أن تتعلم الكلام .
وعرضت عليه ليونَا كاسياني المتحمسة لكل جديد أن تعطيه دروساً بالكتابة على الآلة في البيت ، لكنه كان ضد التعليم المنهجي مذ أراد لوتاريو توغوت تعليمه عزف الكمان على النوتة متوعداً أنه سيحتاج لسنة على الأقل كي يبدأ وخمس سنوات لِيُقْبَل في فرقة أوركسترا محترفة ، وحياته كلها بمعدل ست ساعات يومياً ليعزف بشكل جيد ، ولكنه استطاع رغم ذلك بإقناع أمه بأن تشتري له كمان عميان ، ومن خلال القواعد الأساسية التي عَلَّمَها إياه لوتاريو توغوت تجرأ على العزف ضمن كورال الكاتدرائية قبل مضي أقل من سنة وعلى عزف السرناداد لِفرْمينا داثَا من مقبرة الفقراء حسب اتجاه الريح ، فإذا كان قد فعَل ذلك وهو في العشرين بآلة صعبة كَالكَمان فلماذا لا يستطيعه أيضاً وهو في السادسة والستتين بآلة تحتاج لإصبع واحد كآلة الكتابة ، وهذا ما فعله .
احتاج لثلاثة أيام كي يتعرف على مواقع الحروف على لَوحة المَلامِس وستة أيام ليتعلم التفكير في الوقت الذي يكتب فيه ، ثم ثلاثة أيام أخرى لُينهي الرِسالة الأولى دون أخطاء بعد أن مزق نصف ماعون من الورق .
بدأ الرِسالة بِمطلَع وقور ، سيدتي ، ووقعها بالحروف الأولى من اسمه كما اعتاد أن يفعل في رسائل الحب المعطرة في شبابه وبعثها بالبريد في مغلف خاص برسائل التعزيَة كما هو مُحَتَّم في رِسالة مُرسَلة الى أرمَلة حديثة التَرَمُّل ل وبدون كتابة اسم المُرسِل على الوجه الآخر للمغلف .
كانت رِسالة في ست ورقات لا علاقة لها بأي رِسالة من رَسائله السابقة ، لم تكن لها النبرة ولا الأسلوب ولا النفَس الخطابي الذي كان يتمتع به في سنوات الحب الأولى ، بل كانت معالجة عقلانية ومُتقَنَة التأَمُل ، لو خالطتها رائحة زهرة ياسمين لبدت غير لَائقة .
لقد اكانت الى حد ما اقتراباً ممن الرسائل التجارية التي لم يستطع كتابتها أبدا .
إن رسالة شخصية مكتوبة بوسائل آلية ستُعتبر أمراً مُهيناً بعد سنوات ، أما في ذلك الحين فكانت الآلة الكتابية ما تزال مجرد حيوان مكتبي بلا فلسفة خاصة بها ، ولم يكن تدجينها للاستخدامات الخاصة وارداً في مَناهج التمدن وكانت تبدو كصَرعَة جريئة ولا بد أن فرْمينا داثَا قد فهمت الأمر كذلك ، لأنها حين كتبت رسالتها الثانية الى فلورنْتينوأَريثَا بعد أن تلقت منه ما يزيد عن الأربعين رسالة ، بدأت للاعتذار لعثرات خطها لكونها لا تملك وسائط كتابة أحدث من قلم الحبر ذي الريشة الفولاذية .
لم يُشِر فلورنْتينوأَريثَا مجرد إشارة الى الرسالة الرهيبة التي بعثتها إليه ، بل جرب منذ البداية منهجاً مختلفا في الغواية دون إشارة الى أية غراميات الماضي ، أو الماضي بحد ذاته ، شطَب كل ما سبق وفتح صفحة جديدة .
كانت الرسالة أشبه بتأمُل مُسْهِب في الحياة يستند الى أفكاره وتجاربه في العلاقات بين الرجل والمرأة التي فكَّر بكتابتها يوما كمُلحق مُتَمِّم لسكرتير العاشقين ، ولم يفعَل حينئذٍ سوى صياغة تلك التأمُلات بأسلوب بَطريَاركي لذكرَيات شيخ كي لا تظهر بوضوح حقيقة كونها رسالة حب .
لقد كتَب قبل ذلك عدة مُسْوَدّات على الطريقة القديمة قد تتأخر في قراءتِها ببرودة أعصاب أكثر مما تتأخر في إلقائها الى النار ، كان يعلم أن أية زلة في الإشارة الى الماضي أو أي طيش في الحنين قد يثير في قلبها ترسُبات قديمة ، ومع أنه كان يشعر بأنها ستُعيد إليه مائة رسالة قبل أن تتجرأ على فتح الرسالة الأولى ، إلا أنه تمنى ألّا يحدث ذلك ولو لِمرة واحدة .
وهكذا وضع مخططه بكل تفاصيله كما في معركة حاسمة ، كل شيء يجب أن يكون مختلفاً ليبعَث فضولات جديدة ووساوِس جديدة وآمالاً جديدة في امرأة عاشت حياةً كاملةً على اتساعها .
لا بد له من جعل الأمر حُلْماً لا معقولاً قادراً على منحها الشجاعة الكافية لتُلقي الى القُمامة بأعراف طبقة لم تكن هي طبقتُها الأصلية ولكنها انتهت الى الاندماج فيها وجعْلِها طبقتها أكثر من أي طبقة أخرى ، كان عليه أن يعَلِّمها التفكير بالحب على أنه حالة غير وسيطة لأي شيء بل هو منْشَأ ومستَقَر بحد ذاته .
لقد كان من القناعة بحيث أنه لم يعُد ينتظر رداً فورياً بل اكتفى بأن لا تُعاد إليه الرسالة ، ولم تعُد ، كما لم تُعد الرسالة التالية ، وكُلما مرت الأيام كانت أشواقه تتأجج ، وكُلما ازدادت الأيام التي تمُر كانت آماله بالرد تزداد .
كان تواتر رسائله مشروطاً بمهارة أصابعه ، بدأ برسالة واحدة في الأسبوع أول الأمر ثم رسالتَين الى أنْ تمكن أخيرا من كتابة رسالة في كل يوم ، ولقد أثلج صدره التطور الذي حققه البريد بالمقارنة مع زمانه حين كان يعمل رافع أعلام ، لأنه لم يكن مستعداً للمُغامرة بالظهور في مكتب البريد كل يوم كي يبعث رسالته الى الشخص ذاته ولا لإرسالها مع احد قد يُحصيها عليه ، أما الآن فمن السهل إرسال موظف ليشتري الطوابع البريدية لشهر بكامله ثم إلقاء الرسالة في واحد من صَناديق جمع الرسائل الثلاثة الموزَعة في المدينة القديمة ،وسرعان ما أدخل تلك المهمة في روتينه اليومي .
كان ينتهز ساعات أرقه ليكتب ، وأثناء ذهابه الى المكتب في اليوم التالي يطلب من السائق التوقف لِلْحظة أمام صندوق بريد معلق عند ناصية احد الشوارع فيَنزل بنفسه ويلقي فيه ، لم يسمح للسائق أبدا للقيام بهذا العمل بدلا منه رغم أنه طلب ذلك في صباح يوم ماطِر ، وصار يحتاط أحيانا فيُرسل مجموعة رسائل في الوقت ذاته بدلا من رسالة واحدة كي يبدو الأمر أكثر طبيعية ، ولم يكن السائق يعلم بكل تأكيد أن الرسائل الأخرى ليست إلا أوراقاً بيضاء يبعثها فلورنْتينوأَريثَا بنفسه لنفسه لأنه لم يكن يرتبط بمراسَلة خاصة مع احد باستثناء تقريره الذي يبعثه كَوَصي في أواخر كل شهر الى والِدَي أمريكا فيكونيا ويضمنه انطباعاته الشخصية حول سلوك الصغيرة ومعنوياتها وصحتها وتقدمها المطرد في الدراسة .
أخذ يُرَقِّم الرسائل منذ الشهر الأول ، وصار يبدؤها بملخص للرسائ السابقة كما هو الحال في روايات الصحف المُسلسلة خشية ألّا تنتبه فرْمينا داثَا الى أنْ الرسائل مُتَرابطة ببعضها الى حد ما ، وحين أصبحت الرسائل يومية استبدل مغلفات الحِداد التي كان يستخدمها بمغلفات بيضاء وطويلة مما منَحَها مظهر الرسائل التجارية الغامض والمتواطئ .
حين بدأ يبعث رسائله كان مستعداً لإخضاع صبره لتجربة أكبر الى أنْ يجد على الأقل دليلاً قاطعاً بأنه يضيع وقته بهذا الأسلوب الوحيد الذي استطاع تصوره .
وانتَظَر فعلا دون الإحساس بالقلق الذي كان يُسبِبه له الانتظار في شبابه ، انتَظَر بعناد شيخ إسمنتي ليس لديه ما يفكر فيه ولا ما يفعله في شركة مِلاحة نهرية كانت تُبْحِر وحدها في ذلك الحين مدفوعة برياح مُواتية ،إضافة الى يقينه بأنه سيكون حياً في اليوم الغد آجلا أو آبِداً حين تقتنع فرْمينا داثَا أخيرا بأنه لا علاج لِجَزَعِها كأرمَلة متوحدة إلا بإنزال جسور حِصْنها له ، وتابع أثناء ذلك حياته المعتادة مُتَهَيِّئاً لِتَلَقّي رد إيجابي .
بدأ بأعمال ترميم جديدة في البيت ليكون جديراً بمن يمكن اعتبارها صاحبته وسيدته منذ تم شِراؤه ، وتردد عدة مرات على بِرودنثيَا بِيترَا كما وعدها لِيُثبِت لها بأنه يحبها رغم آثار السن في وضح النَهار وليس في ليالي خذلانه فقط .
وتابع المرور مقابل بيت أندريه بارون الى أنْ وجد نور الحمام مُطْفَأ ، وحاول تخدير نفسه في حماقة من حماقات السرير كي لا يفقد قدرته على الحب حسب خراف أخرى من خرافاته التي لم يجد ما ينقُضُها حتى ذلك الحين والقائلة بأن الجسد يستمر ما دام صاحبه مواظباً .
كانت علاقته بأمريكا فيكونيا هي العائق الوحيد ، لقد ثابَر على إرسال السائق لإحضارِها من المدرسة الداخلية في الساعة العاشرة من صباح أيام الآحاد ، لكنه لم يكن يدري ما الذي يفعله بها خلال عطلة نهاية الأسبوع ، ولقد أحست بالتغير حين لم يُبدِ اهتماما بها في المرة الأولى ، كان يعهدد بها للخادمات كي يرافقنها الى السينما المسائية ولمشاهدة الدُما المتحرِكة في حديقة الأطفال وإلى اليانصيبات الخَيرية ، أو يدعوها الى برامج آحاد احتفالية مع زميلات أخريات لها من المدرسة كي لا يضطر لمُرافقتها الى الجنة السريَة وراء المَكاتب حيث كانت تود الذهاب دوماً مذ أخذها هناك أول مرة ، ولم ينتبه وهو في غيبوبة حُلُمه الجديد الى أنْ النساء قد يُصْبِحن راشدات في ثلاثة أيام بينما انقضت ثلاث سنوات منذ استقبلها من بوييرْتو بادْري حين جاءت في السفينة الشراعية المزودة بمحرك ، ورغم كل محاولاته لإضفاء الحلاوة على الوضع الجديد إلا إن التبدُل الذي طَرَأ كان قاسياً بالنسبة لها ، لكنها لم تستطع تصور سبب هذا التبدُل يوم قال لها في مقهى المُثلَجات إنه كاشفاً لها بذلك عن الحقيقة .
عانت صدمة ذعر عابرة ، لكن الأمر بدا لها بعد ذلك احتمالاً لا معقولا ما لبثت أن نسيته تماما ، لكنها سرعان ما أيقنت أنه يتصرف كما لو كان ذلك صحيحاً بمراوغة لا تفسير لها ، وكما لو لم يكن أكبر منها بستين سنة وإنما أصغر منها بستين سنة .
وفي مساء احد أيام السبت وجدها فلورنْتينوأَريثَا وهي تحاول الكتابة على الآلة الكاتبة في غرفة نومه ، وكانت تفعل ذلك بشكل لا بأس به إذ أنها تتلقى في المدرسة دروساً في الضرب على الآلة الكاتبة .
كانت قد كتبت ما يزيد على نصف صفحة ، وكان من السهل إفراز عبارة من بعض الفقرات تكشف عن حالتها المعنوية ، انحنى فلورنْتينوأَريثَا فوق كتفها ليقرأ ما تكتبه ، فاختلجت بحرارته الرجولية ونفَسه المتقطع وعطر ملابسه الذي هو عطر وسادته ذاته ، لم تعُد تلك الطفلة حديثة الوصول التي كان يُعريها من ثيابها قطعة قطعة بخُدَع أطفال ، هذا الحذاء أولا للدُب ثم هذه البلوزة للكلب ثم هذا السِروال الداخلي المُزَيَن بالأزهار للأرنب ، والآن قُبْلة حلوة سيطبعها البابا على هذه الحمامة الصغيرة ، لا إنها الآن امرأة مُكتملة الأنوثة تُحب أن تُمْسِك زمام المُبادرة .
واصلت الكتابة بإصبع واحد من يدها اليُمنى وبحثت بيدها اليُسرى عن ساقه باللمس ، استكشفته ووجدته وأحست به ينبعِث ينمو يتَنَهَد بشوق ، فتعثر تنفسه كشيخ وصار ثقيلا .
كانت تعرفه ، فمنذ هذه اللحظة سيفقد السيطرة على نفسه ، ستتفكك مفاصله ، سيصبح تحت رحمتها ولن يجد سبيلاً للرجوع قبل أن يصل الى النهاية ، قادته من يده الى السرير كما تقود ضريراً بائساً في الشارع ، وعرته من ثيابه قطعةً قطعة برقة خبيثة ، رشت مِلْحاً لِذوقه وبُهار ذا رائحة وفص ثوم وبَصَلة مفرومة وعصير ليمون وورقة غار الى أنْ تَبَّلَتْه تماما في الصينية وجهزت الفرن بدرجة الحارارة المناسِبة .
لم يكن في البيت أحد فالالخادمات خرجن وعُمّال عّمال البناء والنجّارين الذين كانوا يُرَمِّمون البيت لا يشتغلون أيام السبت ، كان العالم بأَسره لهما ، لكنه خرج من غيبوبته وهو على شفير الهاوية ، فأزال يدها ونَهَض قائلا بصوت مُرتعش : حذارِ لا توجد هنا موانع للحمل .
بقيت مستلقية في الفراش لوقت طويل وهي غارقة في التأمُل ، وحين رجعت الى المدرسة الداخلية قبل ساعة من الموعد كانت قد تجاوزت الرغبة بالبكاء وركَّزت حاسة شَمِّها وشحذت أظافرها لتجد آثار الأرنبة البرية المختفية التي قلبت لها حياتها رأساً على عقب .
أما فلورنْتينوأَريثَا فقد أقدم بالمقابل على ارتكاب خطأ آخر من أخطاء الرجال ظن بأنها قد اقتنعت بعدم جدوى نواياها وقررت نسيانه .
كان غارقاً في شؤونه وحين لم يتلقَ أية إشارة بعد مرور ستة شهور وجد نفسه يتقلب في السرير حتى الفجر تائهاً في صحراء أَرق مختلف ، كان يفكر بأن فرْمينا داثَا قد فتحت الرسالة لمظهرها البريء وتمكنت من رؤية المطلع المعروف لها من رسائل أخرى غابرة وألقت بها في محرقة القُمامة دون أن تتكلف مشقة تمزيقها ، وكان يكفيها أن ترى مغلف الرسائل التالية لِتَحْكم عليها بالمصير نفسه دون أن تفتحها ، وهكذا حتى نهاية الأزمان فيما هو يصل الى نهاية تأمُلاته المكتوبة .
لم يكن يُصدق بأن هناك امرأة قادرة على مقاومة فضول نصف سنة من الرسائل دون أن تعرف حتى لون الحبر الذي كُتِبت به ، ولكن إذا كان من وجود لامرأة من هذا النوع فلا يمكن إلا أن تكون هي وحدها .
بدأ فلورنْتينوأَريثَا يشعر بأن زمن الشيخوخة ليس تياراً أفُقِياً وإنما خَزاناً مثقوب القَعْر تتسرب منه الذاكرة ،كانت قريحته تُستنفَذ .وبعد عدة أيام في حي لامانغا أدرك أن ذلك الأسلوب الشبابي لن يتمكن من تحطيم الأبواب المحكومة بِالحِداد ، وبينما هو يبحث عن رقم في دليل الهاتف وجد مُصادفة رقَمَها ، اتصل بها ورن الجرس مرات كثيرة وأخيرا تعرَّف على الصوت ، جدياً وأبَح .
- مَن ؟
أعاد وضع السماعة دون أن يتكلم ، لكن البُعد اللانهائي لذلك الصوت الغئم أعاد التماسُك لِمَعنَوياته .
في احد هذه الأيام احتَفَلَت ليونَا كاسياني بعيد ميلادها ودعت مجموعة محدودة من الأصدقاء الى بيتها ، كان هو ساهياً فلوَّث ملابسه بصلْصة الدجاج ، غمست طرَف الفوطة في كأس الماء ومسحت طَيَّة سُترته ثم وضعت له الفوطة كمريَلة لِتَحول دون وقوع حادث أكبر ، فبدا كرَضيع هَرِم ، ولاحظت أنه نزع نظارته عدة مرات خلال الطعام لِيَمسَحَها بالمنديل لأن عينَيه كانتا تدمعان ، وعند تناول القهوة غَفا وهو يحمل الفنجان بيده ، فحاولت انتزاع الفنجان دون إيقاظه ، لكنه أفاق خَجِلاً .
- كنت أُريح بصري فقط .
وقد نامت ليونَا كاسياني تلك الليلة مذهولة وهي تُفكر كيف أن الشيخوخة أخذت تبدو عليه بوضوح .
في الذِكرى الأولى لموت خوفينال أُورْبينو بعثَت أُسرته بِبطاقات دعوة لِصَلاة على ذِكراه في الكاتدرائية .
كان فلورنْتينوأَريثَا قد بعث في ذلك الحين الرسالة رقم 132 دون أن يتلقى أي رد ، وهذا ما دفعه لاتخاذ القرار الطائش بحضور الصلاة رغم أنه لم يكن مدعوَّاً .
لقد كان حَدثاً اجتماعياً باذخاً أكثر من كونه ذِكرى مؤثرة ، كانت مَقاعد الصفوف الأولى محجوزة لِوَرَثة الألقاب الكبيرة ، وكانت على قَفَى كل مِقعد لوحة نحاسية تحمل اسم صاحبه ، حَضَرَ ضَر فلورنْتينوأَريثَا مع أول الضيوف لِيجلس في مكان لا يمكن لِفرْمينا داثَا أن تمُر دون أن تراه ، وفكَّر أن أفضل المَقاعد بعد الأماكن المحجوزة هي مَقاعد القسم الأوسط ، لكن عدد الحضور كان كبيرا لدرجة أنه لم يجد مكاناً هناك أيضا فاضطر للجلوس في الصف المُخصص للأخوة الفقراء ومن هناك رأى فرْمينا داثَا تدْخل مُمْسِكةً بذراع ابنها ، كانت ترتدي ثوباً مخملياً أسود يصل الى معصمَيها ولا وجود فيه لأية حِلية سوى مجموعة من الأزرار المتتالية من العنق وحتى القدمَين فكان يبدو أشبه بِرِداء قسيس ، وكانت تضع ياقة ذات تخريمات قِش~تالية بدلا من القُبعة ذات الخِمار التي تستخدمها الأرامل وكثير من السيدات اللواتي يأْمَلْن بأن يُصبِحن أرامل .
كان لوجهها السافر بريق كَبريق المرمر المُعَرَّق وكانت عيناها الرُمحيتان تعيشان حياة خاصة تحت الثُريات الضخمة في مَمرَ الكاتدرائية الأوسط ، وكانت تمشي باستقامة وكِبرياء وسيطرة تامة على نفسها حتى إنها لم تكن لِتبدو أكبر سِنّاً من ابنها .
استنَد فلورنْتينوأَريثَا الواقف بأطراف أصابعه على المِقعد الذي أمامه الى أنْ مرت الإغماءة التي أحس بها مرور الكِرام فقد شَعَر بأن المسافة الفاصلة بينهما ليست ست خطوات كما هي في الواقع وإنما هي في يومين مختلفَين .
احتملت فرْمينا داثَا طقوس الحفل في المِقعد العائلي مقابل المَذْبح الكبير مُمضِيةً معظم الوقت وهي واقِفة مثلما كانت تفعل عند حضورها حفلات الأوبرا ، لكنها حطمت طقوس المَراسم الدينينية في النهاية ولم تبقَ في مكانِها لِتتلقى تجديد العزاء كما هي التقاليد السائدة ، وإنما شقت طريقها لِتشكُر كل واحد من المدعوين ، إنها لفْتة تجديدية تتفق تماما مع أسلوبها في الحياة .
صافحت الموجودين هنا وهناك الى أنْ وصلت الى مَقاعد الأقارب الفقراء ، ثم التفتت أخيرا فيما حولها لتتأكد أنها لم تنسَ أحداً تعرفه .
أحس فلورنْتينوأَريثَا حينئذٍ أن ريحاً غير مألوفة قد أَخرجته من جوِه ، لقد رأته ، وفعلاً ابتعدت فرْمينا داثَا عن مُرافقيها بِطَلاقتِها التي تتصرف بها في المُجتمع ومَدت له يدَها وقالت بابتسامة شديدة الرقة : شكراً لحضورك .
لم تكن قد تلقت الرسائل وحسب بل إنها قرأتها كذلك باهتمام بالغ ووجدت فيها أسباباً جِديَة للتأَمُل والاستمرار في الحياة .
كانت تجلس الى المائدة لتناول الفطور مع ابنتها حين تلقت الرسالة الأولى ، فتحتها بفضول لكونها مكتوبة على الآلة الكاتبة ، واتقدت وجْنتاها بِتَوَرُد سريع حين تعرَّفت على الحروف الأولى من اسم صاحب التوقيع ، لكنه سيطرت على نفسها في الحال وخَبَّأت الرسالة في جيب مَريلتها .
قالت : إنها رسالة تعزيَة من الحكومة .
فوجِئَت الابنة .
- ولَكنها وصلت كلها .
فلم تتأثر هي .
- وهذه واحدة أخرى .
كانت تنوي إحراق الرسالة فيما بعد بعيدا عن أسئلة ابنتها ،لكنها لم تستطع مقاومة إغراء إلقاء نظرة عليها قبل ذلك ، كانت تتوقع رداً جديراً برسالتها المليئة بالإهانات والتي سببت لها ضِيقا منذ لحظة إرسالِها ، ولكنها حين رأت مَطلع الرسالة التَوقِيرِي ونوايا الفقرة الأولى أدركت أن شيئا قد تبَدَّل في الدنيا .
سيطرَ عليها الذهول لدرجة أنها حبست نفسها في حجرة النوم لِتقرأها بهدوء قبل إحراقها ، وقرأتها ثلاث مرات دون أن تلتقط أنفاسها .
كانت الرسالة تتضمن تأَمُلات حول الحياة والحب والشيخوخة والموت ، أفكار طالما مرت مُرفرفةً كعصافير ليلية فوق رأسها ، لكنها كانت تقذفها بنِثارة ريش كُلما حاولت إمساكها ، وهاهي الآن واضحة بسيطة تماما كما كانت تحب أن تقولها ، وتألمت مُجدداً لأن زوجها ليس حياً لِتُناقشَها معه كما اعتادَا أن يُناقِشَا بعض الأمور اليومية قبل النوم .
وهكذا تكشَّفَ لها فلورنْتينوأَريثَا مجهولاً ذا بصيرة لا تتفق مع رسائل الحب المحمومة في شبابه ولا مع سلوكه الغامض طوال حياته .
كانت أقرب الى كلمات الرجل الذي بدا للعمَّة أسْكولا أَسْتيكا بأنه مُلهَم بالروح القُدُس ، فعاد هذا الخاطر لِيُفزعها كما أَفزَعَها في المرة الأولى ، وكان اكثر ما ساعد في تهدئتها علىة أية حال هو يَقينُهَا بأ، رسالة الشيخ الحكيم تلك ليست محاولةً لتكرار سفاهة ليلة المأتم وإنما طريقة جد نبيلة لِمحو الماضي .
وجاءت الرسائل التالية لِتبعَث فيها الطَمأنينة ، لكنها أَحرَقَتها على أية حال بعد أن قرَأَتْها باهتمام مُتزايِد ، رغم أنها كُلما أحرقت الرسائل كانت تشعر بِرَواسب إحساس بالذنب ما تلبث أن تُزيحَهَا ، وحين بدأت تتلقى الرسائل مُرَقَّمةً وجدت ذريعة أخلاقية لِرغبتها في وقف إتلافها ، لقد كانت نيتها الأَوَّلية على أي حال عدم الاحتفال بالرسائل لذاتها وإنما لانتظار أن تَسنَح فرصة لإعادتها الى فلورنْتينوأَريثَا كي لا يفقد شيئا يبدو لها أنه ذا قيمة إنسانية ، ولكن الوقت كان يمضي والرسائل تتوالى واحدة كل ثلاثة أو أربعة أيام خلال سنة كاملة ، ولم تعرف كيف تُعيدها دون أن يبدو ذلك على أنه صَدٌّ من جانبها ما عادت ترغب في القيام به .
ودون أن تجد نفسها مضطرة لِشرح الأمر في رسالة يمنعها كِبرياؤها من كتابتها كانت تلك السنة كافية لأن تعتاد على حياتها كأرمَلة ، ولم تعُد ذِكرى الزوج النقية تُشكل عائقاً أمام أعمالها اليومية ، وتحوَّل حضوره في أفكارها الحميمة وفي أبسط نواياها الى حضور حارس يراقبها دون أن يُزعِجَها ، وكانت تجده أحيانا ليس كَرُؤيا وإنما بلحمه وعَظْمِه حيث تحتاج إليه حقا .
كان اليقين يُلهمُهَا بأنه هنا ما يزال حياً إنما دون نزواته كرجل ، دون طلباته البَطْريَاركية ، دون الحاجة المُضنية لأن تُحبه بنفس طقوس القُبُلات الغير المناسِبة والكلمات الرقيقة التي يُحبها بها ، كانت تفهمه حينئذٍ أفضل مما فهمته وهو حي ، فهمت قلق حبه واستعجاله للعثور فيها على الأمن الذي كان يبدو أنه ركيزة حياته العامة والذي لم يحصل عليه في الواقع أبدا ، ففي أحد الأيام صرخت به وهي في قمة يأسها : ألا تشعر كم أنا تعيسة ؟
فنزع نَظارته بحركة من صميم حركاته دون أن يتأثر وأَغرَقَها بماء عينَيه الصِبيانِيَتَين الصافي وألقى على كاهلها ثِقَل حِكمته الذي لا يُطاق بعبارة واحدة : تَذَكَّري دائما أن أهم شيء في زواج جيد ليس هو السعادة وإنما الاستقرار .
ومنذ أيام عُزلتها الأولى كأرمَلة أدركت أن تلك العبارة لا تُخفي التهديد المسكين الذي نسَبَته إليها يوم قالها وإنما هي الحجَر القمري الذي خصص لهما معاً ساعات طويلة من السعادة .
كانت فرْمينا داثَا في رحلاتها الكثيرة عبر العالم تشتري كل جديد يلفت نَظرها ، كانت ترغب الأشياء لانطباعها الأولي وكان زوجها يشاركها منطقها ولقد كانت تلك الأشياء جميلة ونافعة ما دامت في بلدها المَنشأ في واجهات لندن وباريس وروما أو في نيويورك ذلك الزمان المهتزة بالشارْلستون حيث بدأت ناطحات السحاب بالنمو ، لكنها لا تحتمل تجربةفالسات شِتراوْس مع شحم الخنزير القاسي ومعارك الزهور في درجة حرارة تصل الى الأربعين في الظل ، وهكذا كانت ترجع من رحلاتها ومعها نصف دستة من الصَناديق المعدنية البراقة المزودة بأقفال وزوايا نحاسية تُشبه نعوشاً خيالية ، فتجد نفسها صاحبة وسيدة آخِر عجائب الدنيا التي لم تكن مع ذلك تساوي ثمنها ذهباً إلا في اللحظات السريعة التي يراها فيها أحد من عالمها المحلي لمرة واحدة ، إذ أنها مَشتراة لهذا الغرض كي يراها الآخرون مرة واحدة .
لقد وعت لا جدوى صورتها العامة قبل أن تبدأ بالشيخوخة بزمن طويل ، وكثيرا ما سُمِعت تقول في البيت : لا بد من التخلي عن كل هذه التفاهات التي لا تترُك مكاناً للمعيشة .
وكان الدكتور أُورْبينو يسخر من نواياها العقيمة لأنه يعرف أن الأماكن الشاغرة لن تفيد إلا لِملْئها من جديد ، لكنها كان تُصِر على موقفها ، لأنه لم يكن يوجد في الواقع مكان لأي شيء جديد ، ولم يكن يوجد في أي مكان شيء صالح لشيء كالقُمْصان المعلقة على مَقابض الأبواب أو المعاطف الشتوية الأوربية المدسوسة كيفما اتُفِق في خزائن المطبخ .
وهكذا فإنها كانت تنهض في صباح احد الأيام بمعنويات عالية لِتُلقي الى الأرض كل ما في الخزائن وتُفرِغ الصَناديق وتُجرِد غرف المُهملات وتُعلنها حرباً على أكوام الملابس التي شُهِدَت بما يكفي والقُبعات التي لم تلبسها أبدا لأنها لم تجد فرصة مناسِبة أثناء شيوع موظتها والأحذية التي كان يُحاكي بها فنانو أوربا أحذية الإمبراطورات في حفلات تتويجهن والتي كانت تُقابَل هنا باحتقار الآنسات النبيلات لأنها تشبه تماما الأحذية التي تشتريها الزنجيات من السوق لاستخدامها في البيت ، وتبقى الشُرْفة الداخلية للبيت في حالة طوارئ خلال فترة الصباح كلها ويُصبح التنفس في البيت أمراً شاقاً بفعل الرائحة الحادة لكُرات النفْتالين ، لكن الهدوء ما يلبث أن يعُمّ بعد ساعات قليلة إذ إنها ترق لكل هذا الحرير المبعثَر على الأرض وكل هذا البروكار الفائض مع بقايا الحرير المُخَرَم وكل ذيول الثعالب الزرقاء هذه المحكومة بالمحرقة وكانت تقول : إن إحراقها بينما هناك أُناس كثيرون لا يجدون ما يأكلونه هو خطيئة .
وهكذا كانت عمليات الإحراق تتأجل ، لقد تأجلت دوماً وكل ما في الأمر هو أن أماكن الأشياء كانت تتبدل فتنتقل من مواقع الامتياز الى الحضائر القديمة التي تحولت الى مستودع للتصفيات ، بينما تبدأ الأماكن التي أُخلِيَت بالامتلاء من جديد كما كان يقول هو بالضبط الى أنْ تفيض بأشياء تعيش لِلْحظة زهو ثم تمضي لتموت في الخزائن ريثما يحين موعد التصفيات التالية .
كانت تقول : يجب ابتداع ما يمكن عمله بالأشياء التي لم تعُد نافعة لشيء والتي لا يمكن الإلقاء بها كذلك .
إنها هكذا ترتعد للنَهَم الذي تغزو به الأشياء أماكن المعيشة مُحتلة مكان البشر وزاحةً بهم في الزوايا الى أنْ تضعَها فرْمينا داثَا حيث لا تبدو للعيان .
لم تكن امرأة مُرتَّبة إذن كما كان يُشاع عنها ، وإنما كان لديها منهج خاص ويائس لتبدو كذلك ، إنها تخفي الفوضى ، ولقد اضطروا يوم وفاة خوفينال أُورْبينو الى إفراغ نصف محتويات المكتب وتكويم الأشياء في غرف النوم ليجدوا مكاناً يسهرون فيه على الميت .
مرور الميت على البيت جاء بالحل ، فما أن أَحرقت فرْمينا داثَا ملابس زوجها حتى لاحظت أن نبضها لم يرتعش فتابعت بالنبض ذاته إيقاد المَحرقة بين فترة وأخرى مُلقية إليها بكل شيء ، القديم والجديد دون أن تُفكر بحسد الأغنياء ولا بآلام الفقراء الذين يموتون جوعاً ، ثم أمرت أخيراً بقطع شجرة المانغا من جذورها حتى لا يبقى أي أثر من آثار المحنة ، وأهدت الببغاء حية الى مُتحف المدينة الجديد ، وعندئذٍ فقط تنفست حسب رغبتها في بيت كالبيت الذي حلُمت به دوما ، فسيح وبسيط ولها وحدها .
أقامت ابنتها أوفيليا معها لثلاثة شهور ثم رجعت الى نيوأورليانز ، وكان الابن يأتي مع أُسرته لتناول الغداء عائلي أيام الآحاد ، وكُلما أتيح له ذلك خلال أيام الأسبوع .
وبدأت صديقات فرْمينا داثَا المُقربات يزرنها بعد اجتيازها أزمة الحداد ويلعبن معها الورق مقابل الفِناء المُقفر ، ويجربن إعداد أصناف جديدة من الطعام ، ويُطلِعنها على أخبار الحياة الخفي للعالم الجشع الذي ما زال قائماً من دونها ، ومن أكثرهن مواظبة على زيارتها كانت لوكيرْثِيَا ديل ريال ديل أُوبيسْبو وهي أورستقراطية على الطريقة القديمة كانت تربطها بها صداقة متينة من قبل ، وقد تقربت منها أكثر بعد وفاة خوفينال أُورْبينو ، ولم تكن لوكيرْثِيَا ديل ريال المخدَّرة بالتهاب المَفاصل والساخطة على حياتها السيئة خير رفيقة لها وحسب بل إنها كانت تستشيرها حول المَشاريع التمدنية والدنيوية التي يجري الإعداد لها في المدينة ، مما يجعلها تشعر بقيمتها لنفسها وليس لِظِل زوجها الحامي ، رغم أنها لم ترتبط به أبدا كارتباطها به حينئذٍ ، فقد نزعوا عنها اسمها الذي كانوا ينادونها به دوما لتصبح أرمَلة أُورْبينو .
لم تكن فرْمينا داثَا قادرة على تصور الأمر ، لكنها كُلما اقتربت من الذِكرى الأولى لوفاة زوجها كانت تشعر بأنها تلج عالَماً ظليلاً ورَطِباً وساكنً ، إنها الأيكة التي لا مَخرج منها .
لم تكن واعية حينئذٍ كما لن تَعي لعدة سنوات كم ساعدتها التَأمُلات التي كان يكتُبُها فلورنْتينوأَريثَا على استعادة سلامها الروحي .
فالرسائل بمطابقتها مع تَجاربها هي التي أتاحت لها فَهَم حياتها بالذات ، وأعانتها على انتظار تقدم الشيخوخة وباطمئنان وهدوء .
وقد كان اللقاء في ذكرى وفاة الزوج فرصة دبَّرتها العناية الإلهية لإفهام فلورنْتينوأَريثَا بأنها هي أيضا وبفضل رسائله المشجِعة كانت هي مستعدة لمحو الماضي.
بعد يومين من ذلك تلقت منه رسالة مختلفة مكتوبة بخط اليد على ورق مُسَطَّر واسمه الكامل موَضَّح الى المغلف ، كان الخط هو خط رسائل الشباب الأولى نفسه ، والعبارات الغنائية نفسها مَسْبوكة في مقطع شكر بسيط لاهتمامها بمصافحته في الكاتدرائية ، وبقيت فرْمينا داثَا تُفكر بها بحنين قلق بعد عدة أيام من قرائتها حتى أنها سألَت لوكيرْثِيَا ديل ريال ديل أُوبيسْبو دون أي مناسبة إذا ما كانت تعرف فلورنْتينوأَريثَا صاحب السفن النهرية ؟
وأجابت لوكيرْثِيَا : أن نعم ، يبدو أنه شاذ ضائع .
وأعادت سَرد الرواية المتداوَلة بأنه لم يعرف امرأة أبدا رغم انطلاقته الطيبة ، وأن له مكتباً سرياً يأخذ إليه الصِبية الذين يلاحقهم لَيلاً على أرصفة الميناء .
كانت فرْمينا داثَا قد سَمعت هذه الأسطورة منذ أمد بعيد ولكنها لم تصدقها يوماً ولم تُولِهَا أي اهتمام ، أما حين سَمعت لوكيرْثِيَا ديل ريال ديل أُوبيسْبو التي أُشيع عنها يوماً أنها ذات أمزجة غريبة تُرددها بهذه القناعة لم تستطع مقاومة رغبتها بوضع الأمور في نِصابها .
فَرَوَت لها بأنها كانت تعرف فلورنْتينوأَريثَا منذ الصِغَر وذكَّرتها بأن أمه كانت تملك دكان خردوات في شارع لاس فنتاناس ، وأنها كانت تشتري كذلك القُمْصان والشراشف القديمة لِتنسِلَ خيوطَها وتبيعها كَفَن طوارئ أثناء الحروب الأهلية ، وختمت حديثها بقَول صحيح : إنه رجل شريف ، كَوَّن نفسه بنفسه .
كانت محتدة حداً دفع لوكيرْثِيَا لأن تسحب ما قالته .
- ثم إنهم في آخِر المَطاف يقوللون عني أنا أشياء مُشابهة .
لم يكن لِفرْمينا داثَا فضول لتسألَهَا عن تلك الأشياء لأنها كانت تقوم بدفاع مؤثر عن رجل لم يكن أكثر من ظل في حياتها .
تابعت التفكير فيه وخصوصاً حين كانت تصلها رسالة منه ، وبعد مضي أسبوعين من الصَمْت أيقظتها إحدى الخادمات من قيلولتها لِتهمس لها مُنذِرَة : سيدتي ها هو دون فلورنْتينو.
- ها هو هنا ؟ !.
كانت ردة فعل فرْمينا داثَا الأولى صدمة ذُعر ، وفكَّرَت أن لا فلْيرجع في يوم آخر ، وأنها ليست قادرة على استقباله ، وأنه ليس لديها ما تتحادث وإياه به ، لكنها استردت أنفاسها في الحال وأمرت بإدخاله الى الصالة وتقديم القهوة له ريثما تستعد لمقابلتِه .
كان فلورنْتينوأَريثَا ينتظر عند الباب الخارجي مُتَّقِداً تحت شمس الساعة الثالثة الجهنمية ، ولكنه كان مُسَيطِراً تماما على أعصابِه ومُمْسِكاً الأعِنَّة بقبضته ، فهو موقِن من أنها ستعتذر اعتذارا لطيفاً عن استقباله ، وكان يقينه هذا يمنحه الطمأنينة ، لكن القرار الذي نُقِل إليه هزه حتى النُخاع .
وعند دخوله الى عتمة الصالة الرطبة لم يتسع له الوقت للتفكير بالمعجزة التي يعيشها ، لأن أحشاءه امتلأت فجأة بانفجار رَغْوَة مؤلمة ، جلس حابساً أنفاسه تحاصره ذكرى ذَرْق العصفور المشؤوم على رسالته الغرامية الأولى ، وبقي متجمداً في العتمة ريثما تفارق القَشعريرة مستعداً لتقَبُّل أي نكبة قد تلحق به في هذه اللحظة باستثناء تلك المحنة الظالمة .
لقد كان يعرف نفسه جيداً ، ويَعلم أنه رغم إصابته بالإمساك المُزْمِن إلا إن أمعاءه قد خانته في أماكن عامة ثلاث أو أربع مرات خلال حياته الطويلة ، ولم يجد بُدّاً من الاستسلام لجسده في تلك المرات الثلاث أو الأربع ، وكان يرى في هذه المناسبات وفي مناسبات الأخرى شديدة الحرج حقيقة العبارة التي يحب ترديدها مازحاً : أنا لا أؤمن بالرب ، ولكنني أخشاه .
ولم يكن له حينئذٍ مُتَّسَع للشك فحاول تلاوة أي صلاة يَذكُرها ، لكنه لم يجد شيئا في ذاكرته ، لقد علَّمه زميل له حين كان طفلا بضع كلمات سحرية لإصابة العصافير بحجر "تكتاكتكتاك إن لم أُصِبْك سأُدَوِّخُك" وقد جرَّبها حين ذهب الى الجبل لأول مرة حاملاً مِقلاعاً جديدا فهوى العصفور مَصعوقاً .
وأعاد العبارة بحرارة كحرارة الصلاة لكنه لم يصل الى النتيجة ذاتها ، ثارت أحشاؤه بحركة ملتوية وكأن فيها محوراً مُحَلْزَناً رفعه عن مِقعده وانبعثت قرقرة من رغْوَة بطنه المتعاظمة الكثافة والألم تركَته مُغطى بعَرَق مُثَلَّج .
ارتعدت الخادمة التي حملت إليه القهوة لسيماء الميت التي بدت عليه .
فتَنَهَد قائلاً : إنه الحر .
فتحت النافذة معتقدة أنها تُسعده بذلك لكن شمس الأصيل لفحت وجهه مما اضطرها لإغلاقها من جديد .
أحس بأنه عاجز عن الاحتمال لِدَقيقة أخرى حين ظهرت فرْمينا داثَا وهي لا تكاد تُرى في العتمة ، وارتَعَدَت لرؤيته على هذا الحال فقالت له : يُمكنك خلع السُترة .
لكن ما كان يُؤلمه أكثر من التواءات المغص القاتلة هو خوفه من أن تتمكن من سماع قرقرة أحشائه .
واستطاع الصمود لِلْحظة قال فيها : أن لا ، وأنه إنما جاء فلِيسأَل متى يمكنها استقباله فقط .
فقالت وهي ما تزال واقفة وقد أصابها الذهول ها أنت ذا هنا .
ودعته لِدخول شُرْفة الفِناء حيث الحر أقل .
فرفض بصوت بدا لها وكأنه تنَهُدة أسف : أرجوكِ أن تُأجلي اللقاء ليوم غد .
تذكرت أن يوم غد هو الخميس ، يوم الزيارة المنتظِمة لِلوكيرْثِيَا ديل ريال ديل أُوبيسْبو ، لكنها عرضت له حلاً نهائياً : بعد غد الساعة الخامسة .
شَكَرَها فلورنْتينوأَريثَا وأشار إليها بحركة وداع متعجِلة بِقُبعته وانصرف دون أن يتذوق القهوة .
بقيت حائرة في وسط الصالة دون أن تفهم ما الذي حدث الى أنْ سَمعت فرقعة السيارة في الشارع .
بحث فلورنْتينوأَريثَا حينئذٍ عن الوضع الأقل ألَماً في مِقعد السيارة الخلفي وأَغْمَض عينيه وأرخى عضلاته واستسلم لمشيئة الجسد ، وأحس حينئذٍ وكأنه يولَد من جديد .
أما السائق الذي لم يعُد يُفاجَأ بشيء بعد عمله لسنوات طويلة في خدمته ، فقد حافظ على عدم تأثره لكنه حين فتح باب السيارة أمام البيت قال له : حذاري يا دون فلورو قد تكو الكوليرا .
لكن الأمر كان كالمعتاد ، ولقد حمَد فلورنْتينوأَريثَا الله يوم الجمعة في الساعة الخامسة تماما حين قادته الخادمة عبر الصالة الى شُرْفة الفِناء ووجد فرْمينا داثَا جالسة وراء طاولة مُعدة لشخصَين .
عرَضت عليه أن يتناول الشاي أو الشوكولاتة أو القهوة ، فطلب فلورنْتينوأَريثَا قهوة ساخنة جدا وقوية جدا .
وأمرت هي الخادمة قائلة : ولي الشراب المعتاد .
الشراب المعتاد هو شراب قوي مُحَضَّر من تشكيلة متنوعة من الشاي الشرقي يساعدها في رفع معنوياتها بعد القيلولة .
حين انتهت من تناول إبريق الشاي وانتهى هو من أبريق القهوة كانا قد خاضَا واجتازَا عدة موضوعات ، ليس لأنها كانت تهمهما كثيراً وإنما لتجنب الدخول في المسائل الأخرى التي لم يكن أي منهما لِيتجرأ على مُلامَستِها .
كِلاهما كان مُرتعداً لا يعرف ما الذي يفعله بعيداً عن شبابِهما على شُرْفة بلاطها كرقعة الشطرنج في بيت ليس مُلكهما ولا يزال يََعبَق برائحة أزهار الميت .
إنهما يجلسان معاً للمرة الأولى ، لا تفصل بينهما سوى هذه المَسافة الضَيقة ولديهما فائض من الوقت لِيَرَيا بعضهما بهدوء بعد نصف قرن من الانتظار .
ولقد رأى كل منهما الآخر كما هما ، عجوزان يترصدهما الموت ، لا يجمعهما شيء سوى ذكرى ماضٍ غابر لم يعُد مِلك لهما وإنما لشابَين مختفيَين كان يمكن أن يكونا حَفيدَيهما .
وفكَّرَت بأنه سيقتنع أخيراً بعدم واقعية حُلمه وهذا سيخلِّصه من سفاهته .
وللحيلولة دون لحظات صمت غير مريحة أو أحاديث غير مرغوبة وَجَّهَت إليه أسئلة محددة حول السفن النهرية ، ولم تكد تُصدق أنه هو صاحب السفن لم يسافر فيها إلا مرة واحدة منذ سنوات بعيدة حينلم تكن له أية علاقة بالشركة ، ولم تكن هي تعرف النهر أيضا إذ أن زوجها كان يمقت الأهواء الأنديزية ويعلل ذلك بذرائع متنوعة ، مَخاطر الارتفاعات على القلب ، المُخاطرة بالإصابة بذات الرئة ، نفاق الناس، وهكذا كانا يعرفان نصف العالم ولكنهما لا يعرفان بلدهما .
كانت يومئذٍ طائرة مائية من نوع جانكرز تنطلق من قرية الى قرية في حوض نهر مَجْدَلِينا كجرادة من الألَمونيوم تتسع لطاقمها المؤَلَّف من شخصَين ولِسِتَّةِ مُسافرين إضافة الى أكياس البريد .
وقد علق فلورنْتينوأَريثَا قائلا : إنها أشبه بتابوت طائر في الجو .
وكانت هي قد شاركت بالرحلة الأولى في المِنْطاد ولم تُعاني أية صعوبة ، ولكنها لا تكاد تُصدق اليوم أنها هي نفسها التي تجرأت على تلك المُغامرة وقالت : الأمر مختلف .
تعني بذلك أنها هي التي تغيرت وليس أساليب السفر .
كان أزيز الطائرات يفاجئها أحيانا فمع أنها رأتها تمُر على ارتفاع منخفض وتقوم بِمناورات بهلوانية في الاحتفال في الذكرى المئوية لموت بطل التحرير ، ورغم أنها رأت إحدى تلك الطائرات سوداء مثل طائر رخمة عظيم وهي تُلامس أسطح بيوت لامانغا مُخَلِِّفة جزءاً من جناحها عالقاً بشجرة مجاورة قبل أن يبقى هيكلها مُعَلَّقاً بأسلاك الكهرباء ، إلا أن فرْمينا داثَا لم تستوعب مع ذلك حقيقة وجود الطائرات بل إنها لم تشعر بالفضول في السنوات الأخيرة للذهاب الى خليج مانْثانيو حيث كانت تطير الطائرات المائية بعد أن تقوم زَوارق خَفَر السواحل بإبعاد مَراكب الصيادين وزَوارق اللهو التي كانت أعدادها في ازدياد .
وقد اختاروها وهي عجوز بهذه الحالة لاستقبال شارلز لانْبِرْك بباقة زهور حين جاء بطائرته في رحلة نوايا حميدة ، ولم تستطع أن تفهم كيف كان لِرجل بهذه الضخامة وهذه الشُقرة وهذا الجمال أن يرتفع في الجو بجهاز يبدو وكأنه من الصفيح المُجَعَّد يقوم ميكانيكيان بدفعه من ذيله لمساعدته على الصعود ، ولم يكن رأسها ليتسع لفكرة وجود طائرة أكبر من تلك بقليل تتسع لثمانية أشخاص ، بينما سَمعت بالمقابل أن السفن النهرية هي متعته خالصة لأنها لا تتأرجح كسُفُن البحر ، ولكن لهذه السفن مَخاطرها الأقسى كاصطدامها بالمصاطب الرملية في قاع النهر وتعرضها لِهجمات قُطّاع الطرق .
وبَيَّن لها فلورنْتينوأَريثَا أن هذه ليست سوى أساطير من أزمنة غابرة ، ففي السفن الحالية صالة رقص وقُمْرات واسعة وفخمة كأنها غرف الفنادق مزودة بحَمامات خاصة ومَراوح كهربائية ، كما أنه لم يحدث أي هجوم مسلح على السفن النهرية منذ انتهاء الحرب الأهلية الأخيرة ، وبَيِّن لها كذلك بسعادة من حقق نصراً شخصياً أن هذا التقدُم يعود قبل كل شيء الى حرية المِلاحة التي دعا إليها هو مما شجع المنافسة ، فبدلا من شركة واحدة وحيدة كما كان الحال من قبل أصبحت هناك ثلاث شركات نَشيطة ومزدهرة ، ومع ذلك فإن تقدم الطيران السريع يشكل خطراً حقيقياً على الجميع .
حاولت مواساته ، فالسفن ستبقى دائما لأن المجانين المستعدين لحشر أنفسهم في جهاز يبدو مُناقِضاً للطبيعة ليسوا بالكثيرين .
وأخيرا تحدث فلورنْتينوأَريثَا عن التقدم الذي أحرزه البريد سواءً في أساليب نقله أو توزيعه آمِلاً بذلك أن تُحَدِّثه عن رسائله ، لكنه لم يتوصل لما أراد .
وجاءت الفرصة بعد قليل وحدها ، كانا قد ابتعدا كثيرا عن الموضوع حيث قاطعتهما إحدى الخادمات لِتُسَلِّم فرْمينا داثَا رسالة تلقتها حينئذٍ من البريد المديني الخاص الذي أُنشئ مؤخراً وكان يستخدم في توزيع الرسائل أسلوب توزيع البرقيات ذاته ، ولم تجد هي نظارة القراءة كما يحدث معها دائما .
فقال لها فلورنْتينوأَريثَا بِرزانة : لا لزوم لذلك فهذه الرسالة مني .
وكانت كذلك فعلا ، لقد كتبها في اليوم السابق وهو يعاني حالة انقباض رهيبة لأنه لم يستطع تناسي خجله من زيارته الأولى الفاشلة ، وكان يعتذر في تلك الرسالة عن سفاهته بالإقدام على زيارتها دون إذْن مسبق ، ويُبدي تخليه عن نية العودة لِزيارتها .
لقد ألقاها في صَندوق البريد دون أن يفكر مرتين ، وحين تَرَوَّى بالأمر كان الوقت قد فات لاستردادها ، لكن هذه الشروحات كلها لم تبدُ له ضرورية ، فاكتفى بالطلب الى فرْمينا داثَا أن تتفضل بعدم قراءة الرسالة .
فقالت : طبعاً فالرسائل في نهاية المَطاف هي مِلك لمن كتبها أليس كذلك ؟
فخَطا خطوة واثقة بقوله : أجل ولذا فإنها أول شيء يعاد عند وقوع القطيعة .
مرت على إشارته دون اهتمام وأعادت له الرسالة قائلة : من المؤسف أنني لن أستطيع قراءتها فقد كانت الرسائل الأخرى ذات نفع كبير لي .
أَخَذ نفَساً عميقا عندما فوجئ بأنها قالت بشكل عفَوي أكثر بكثير مما كان ينتظره منها وقال لها : لا يمكنكِ أن تتصوري مدى سعادتي لمعرفة ذلك .
لكنها غيَّرت الموضوع ولم يتمكن من العودة إليه ثانية في بقية المَساء .
وَدَّعها بعد الساعة السادسة حين بدأوا يضيئون أنوار البيت ، كان يشعر بِثقة أكبر ولكنها ثقة بلا أوهام لأنه لم ينسَ طبع فرْمينا داثَا المُتقلِّب وردود فعلها المفاجئة حين كانت في العشرين ، ولم يكن لديه من الأسباب ما يدفعه للتفكير بأنها قد تغيرت ، ولهذا تجرأ على سؤالها بمذلة صريحة إن كان يستطيع العودة في يوم آخر ؟
وجاء الجواب ليُفاجئه مجدداً .
قالت : عُد متى شئت ، فأنا وحيدة في أغلب الأحيان .
بعد أربعة أيام أي يوم الثُلاثاء عاد دون إبلاغ مسبق ، ولم تنتظر هي أن يقدموا لهما الشاي لتُحَدِّثه عن مدى النفع الذي أصابته من رسائله .
فقال لها بأنها ليست رسائل بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما هي أوراق متفرقة من كتاب كان يتمنى تأليفه ، وكانت هي قد فهمت الرسائل على هذا النحو أيضا لدرجة أنها فكَّرت بإعادتها إليه إذا هو لم يرَ ذلك على أنه صد من جانبها كي يحمل تلك الرسائل الى مصير أفضل .
تابعت الحديث عن الدور الطيب الذي قدمته لها الرسائل في لحظة قاسية من حياتها ، وكانت تقول ذلك باندفاع شديد وعرفان بالجميل شديد وربما بعاطفة شديدة أيضا .
مما جعل فلورنْتينوأَريثَا يتجرأ على التقدُم بأكثر من خطوة واثقة إذ أنه قفز قفزة قاتلة بقوله : لقد كنا نَتَخاطَب دون كُُلْفة من قبل .
كانت كلمة من قبْل كلمة محرمة ، وأحست بمرور مَلاك الماضي الوهمي وحاولت تفاديه .
لكنه توغل أكثر : أعني في رسائلنا التي تبادلناها من قبْل .
استاءت وكان عليها القيام بمجهود جِدّي كي تُخْفي استياءها ، لكنه انتبه للأمر وأدرك أن عليه التقدُم بحذر وتَلَمُّس مواقع أقدامه جيدا ، رغم أن العثرة أطْلَعْتْه على أنها ما زالت على شراستها التي كانت عليها في شبابها ، لكنها تعلمت أن تكون شرسة برقة .
قال : أعني أن هذه الرسائل هي شيء مختلف تماما .
فقالت : كل شيء في الدنيا يتغير .
قال : أنا لم أتَغَيَر ، وحَضْرَتُكِ ؟
أوقفت فنجان الشاي في منتصف الطريق الى فمها وزجرته بعينَين استمرتا تلمعان بالحياة رغم القسوة وقالت : لقد صار الأمر سيان ، فقد أكملت اثنين وسبعين سنة .
تلقى فلورنْتينوأَريثَا الطعنة في القلب وود العثور على جواب سريع كسرعة السهم وتلقائيته ، لكن ثِقَل السن هزمه ، لم يشعر أبدا بمثل هذا الإرهاق في مُحادَثة قصيرة كهذه .
كان قلبه يُؤلمه ، وكانت كل ضربة منه ترتد دوياً معدنياً في شرايينه ، أحس بأنه شيخ حزين عديم النفع وراودته رغبة مُلِحة في البكاء حتى لم يعُد قادراً على البكاء .
تناولا فنجان الشاي الثاني بِصَمْت ثَلَمَتْه الخواطر المنذرة ، وحين عادت هي للتكلم فعلت ذلك بأن توجهت الى إحدى الخادمات طالبة منها إحضار حقيبة الرسائل .
كاد أن يطلب منها الاحتفاظ بالرسائل ، لأن لديه نسخة كارْبون منها ، لكنه فكَّر بأن كشفه عن اتخاذه مثل هذا الاحتياط سيبدو عملا غير نبيل .
ولم يعُد لديهما ما يتحدثان فيه ، وقبل أن يودعها اقترح أن يعود يوم الثُلاثاء التالي في نفس الساعة .
فسألَته : لماذا عليه أن يكون متلطفاً الى هذا الحد ؟
وقالت : لا أرى من معنى لهذه الزيارات .
فقال : أنا لم أفكِّر بأن يكون لها أي معنى .
وعاد على أي حال في يوم الثُلاثاء التالي في الساعة الخامسة ، ثم في جميع أيام الثُلاثاء التالية دون إعلان مسبق ، لأن الزيارة الأسبوعية دخلت في روتين كل منهما اعتباراً من نهاية الشهر الثاني .
كان فلورنْتينوأَريثَا يأتي حاملا معه البسكويت الإنجليزي لتناوِله مع الشاي والكِسْتناء المُلَبَّس بالسُكَّر والزيتون اليوناني وغيرها من لذائذ الصالونات الصغيرة التي يجدها في عابرات المحيطات التي تتوقف في الميناء .
وفي احد أيام الثُلاثاء جاءها بصورتها الفوتوغرافية مع هيلْدا براندا التي التقطها لهما مصَوِّر بلجيكي منذ أكثر من نصف قرن ، وكان قد اشتراها بخمسة عشر سنْتافو من مزاد بطاقات بريدية في بوابة الكَتَبة العُموميين .
لم تستطع فرْمينا داثَا أن تفهم كيف وصلت الصورة الى هناك ، كما لم يستطع هو فَهْم الأمر إلا على أنه معجزة غرامية .
وفي احد الأيام وبينما كان فلورنْتينوأَريثَا يقطف وروداً من حديقته لم يستطع مقاومة إغراء حمْل وردة إليها في زيارته التالية ، وكانت تلك مشكلة عَوِيصة في لغة الزهور لأنها تتعلق بأرمَلة حديثة التَرَمُّل ، فَوَردَة حمراء ترمز الى العاطفة المتأجِجة ، قد تعتبر إهانة لِحِدادها ، أما الورود الصفراء التي ترى فيها إحدى لغات رمزاً لحسن الطالع فهي في العُرْف الشائع تعبير عن الغيرة ورغم أنه سَمع يوما عن ورود تُركية سوداء التي قد تكون الأكثر مُلاءمة ليُأَقْلِمَها مع الجو في حديقة بيته ، لكنه غامر بعد تفكير طويل بحمْل وردة بيضاء كان إعجابه بها أقل من الزهور الأخرى لأنها بَكْماء لا تعني شيئا ، ولِخوفه من أن يجد خبث فرْمينا داثَا معنى لها قام بتقليم أشواكها في اللحظة الأخيرة .
وجدت الوردة لديها صدى طيباً على أنها هدية بلا أية نوايا خفية ، مما أثرى تقليد الثُلاثاء بطقس جديد حتى أنه أصبح يجد مزهرية مملوءة بالماء في وسط طاولة الشاي الصغيرة لدى وصوله حاملاً الوردة البيضاء .
وفي احد أيام الثُلاثاء وفيما هو يضع الوردة قال بطريقة بدت عرَضية : لم يكن احد يُهدي وروداً في زماننا ، بل كانوا يتبادلون أزهار الياسمين .
فقالت : هذا صحيح ، ولكن الغرض كان منها مختلفاً كما تعلم حضرتك .
هذا ما كان يحدُث دوما فكُلما حاول التقدم خطوة قطعت عليه الطريق ، لكنه في هذه المناسبة ورغم الجواب الدقيق أدرك أنه قد أصاب الهدف ، لأنها اضطَرَت للاتفات جانبا كي تُخْفي تورد خدَيها ، كان توَرُّداً مُتَقِداً فَتِيّاً له حياته الخاصة مما أثار سخطهَ ضد نفسها ، وقد أحسن فلورنْتينوأَريثَا بالانصراف الى موضوعات أقل فظاظة ، لكن شهامته كانت بَيِّنة بحيث أنها انتَبَهَت إليها وضاعف هذا من سخطِهَا .
كان يوم ثُلاثاء منحوساً فقد كادت أن تطْلُب منه عدم الرجوع لزيارتها ، ولكن فكرة الخوض في خصام كخصومات فترة الخطوبة بدت لها مضحكة وهما في هذا السن وهذا الوضع مما سَبَّب لها نوبة ضحك .
وبينما كان فلورنْتينوأَريثَا يضع الوردة يوم الثُلاثاء التالي أمعنت التأمُل في وعيها وتأكدت وهي سعيدة بأنه لم يبقَ لديها أي أثر للغضب الذي اعتراها في الأسبوع السابق .
وسرعان ما بدأت الزيارات تتخذ بُعداً عائلياً غير مريح إذ كان الدكتور أُورْبينو داثَا وزوجته يحضران بشكل يبدو كأنه مُصادَفَة ويبقيان هناك للعب الورق ، لكن فرْمينا داثَا عَلَّمته ذلك خلال زيارة واحدة وبعث كِلاهما الى الزوجَين أُورْبينو داثَا بتحدٍ مكتوب الى لعبة ورق يوم الثُلاثاء التالي ،، كانت لقاءات مُفْرِحة للجميع سرعان ما اتخذت طابعا منتظماً كالزيارات وأُقِرَت لها أعراف بأن يأتي كل منهم بشيء معه في كل لقاء ، فالدكتور أُورْبينو داثَا وزوجته التي كانت حَلَوانية بارعة يُساهمان بإحضار قَوالب حلوى مُتقنة وذات طعم مختلف في كل مرة ، أما فلورنْتينوأَريثَا فتابع إحضار طرائف مُثيرة للفضول كان يجدها في السفن الأوربية ، بينما كانت فرْمينا داثَا تبتدع لهم كل أسبوع مفاجأة جديدة .
وكانت مُباريات لعب الورق هذه تجري في الثُلاثاء ءالثالث من كل شهر ، ورغم أنهم ما كانوا يتراهنون على نقود إلا أنه كان يُفرَض على الخاسر المساهمة بإحضار شيء خاص للمباراة التالية .
كانت طبيعة الدكتور أُورْبينو داثَا مُنسجِمة مع صورته الاجتماعية فهو رجل ذو إمكانيات ضئيلة وأساليب مضطربة يعاني من نوبات قلق مفاجئة مَبعثُها السعادة أو السخَط على حد سواء ، كما كان وجهه يتورد بلا مناسبة مما يثير المَخاوف حول متانته الذهنية ، لكنه كان بلا شك وكما يبدو عليه من النظرة الأولى رجلا طيباً ، وقد كان فلورنْتينوأَريثَا يخشى أن يَعتبره الدكتور كذلك أيضا ، أما زوجته فكانت ذكية وفيها شرارة امرأة لعوب ، كما كانت تُقدم بانسجامها وتوافقها لمسة أكثر إنسانية الى سعادتها ، ولم يكن لِفلورنْتينوأَريثَا أن يتمنى زوجَين أفضل منهما لِلَعب الورق ، ثم إن حاجته للحب التي لا ترتوي تُوِّجَت أخيرا بإحساس أنه في وسط عائلي .
في إحدى الليالي وعند خروجهما معاً من البيت دعاه الدكتور أُورْبينو داثَا لتناول الغداء معه : غدا الساعة الثانية عشرة والنصف في النادي الاجتماعي .
وكانت وليمة لذيذة مع نبيذ فاخِر ، كان النادي الاجتماعي يحتفظ لنفسه بحق عدم السماح بالدخول لأسباب متنوعة وأحد أهم هذه الأسباب هو حالة الابن الطبيعي الذي لا أب له ، وقد كان للالعم ليون الثاني عشر تجربة مثيرة في هذا المجال ، كماعانى فلورنْتينوأَريثَا نفسه عار إخراجه من النادي يوما بعد جلوسه الى الطاولة بدعوة من احد الأعضاء المؤسِسين ، كان فلورنْتينوأَريثَا قد قدَّم إليه خدمات كبيرة في مجال التجارة النهرية وما كان من الداعي إلا أن اصطحبه للطعام في مكان آخر قائلا له : علينا نحن الذين نضع الأنظمة أن نكون أول من يطبقها .
لكن فلورنْتينوأَريثَا غامر رغم ذلك بالذهاب مع الدكتور أُورْبينو داثَا وقد استُقبِل هناك استقبالاً خاصاً رغم أنهم لم يطلبوا منه التوقيع في السجل الذهبي المخصص للمدعوين البارزين .
كانت دعوة محدودة اقتصرت عليهما فقط ، ودار الحديث بينهما بصوت منخفض ، والمخاوف التي ساورت فلورنْتينوأَريثَا منذ مَساء اليوم السابق بشأن ذلك اللقاء تلاشت مع تناولهما كأس الأوبورتو الفاتح للشهية .
كان الدكتور أُورْبينو داثَا يَود الحديث عن أمه ، ولكثرة ما تحدث انتبه فلورنْتينوأَريثَا الى أنها قد حدَّثته عنه ، كما انتبه الى شيء أكثر إثارة ، لقد كذبت على ابنها لصالحه إذ أخبرته أنهما كانا صديقَين منذ الطفولة وكانا يلعبان معاً منذ قدومهما من سان خوان ديلاثيناغا ، وأنه هو الذي شجعها على قراءتِها الأولى ولذا فهي مدينة له بجميل قديم، وقالت له أنها كثيرا ما كانت تذهب بعد خروجها من المدرسة لقضاء ساعات مع سان خوان ديلاثيناغا البارعة التي كانت تُطَرِّز أعمالا ، وإذا كانت لم تعُد تلتقي بِفلورنْتينوأَريثَا ككما كانت تلتقيه في السابق فليس لأنها غير راغبة في ذلك وإنما لافتراق حياتَيهما .
وقبل أن يصل الى عمق أغراضه جال الدكتور أُورْبينو داثَا حول موضوع الشيخوخة ، كان يرى أن العالم سيتقدم بسرعة أكبر لو أنه تخلص من عرقلة الشيوخ .
قال : إن الإنسانية كالجيوش في المعركة تقدمها مرتبط بسرعة أبطأ أفرادها ، وكان يأمل بمستقبل أكثر إنسانية وبالتالي أكثر تَحَضُّراً ، تُعزَل فيه الكائنات البشرية التي لم تعُد قادرة على الاعتماد على نفسها في مُدن هامشية كي تتجنب عار وآلام وعُزلة الشيخوخة المخيفة .
وقال : إن حد السن المناسب لذلك من وجهة نظره يمكن أن يكون ستين عاماً ، ولكن ريثما يتم الوصول الى هذا المستوى من الإحسان فإن الحل الوحيد هو الملاجئ ، حيث يَتسنى للشيوخ أن يتسلوا مع بعضهم البعض وأن يتفقوا فيما يحبون ويَمقتون وفي عاداتهم وأحزانهم بعيداً عن الخلافات الطبيعية مع الأجيال التالية .
وقال : إن اجتماع الشيوخ مع الشيوخ يجعلهم أقل شيخوخة .
حسناً إذن ، كان الدكتور أُورْبينو داثَا يَود شُكْر فلورنْتينوأَريثَا على مرافقته الطيبة لأمه في وحدة التَرَمُّل ، ورجاه الاستمرار في ذلك لمصلحتهما معاً ولراحة الجميع ، وطلب منه الصبر على مزاجها الشيخوخي .
أحس فلورنْتينوأَريثَا بالراحة لنتائج اللقاء وقال له : كن مطمئناً فأنا أكبر منها بأربع سنوات ، وهذا ليس الآن فقط وإنما من قبل ، قبل مولدك بكثير .
ثم استسلم لإغراء التخفيف عن نفسه بضربة تَهَكُّم فاختتم قائلا : في مجتمع المستقبل عليك أن تذهب الى المقبرة لتحمل إليها وإلي باقة من الأونتوريو من أجل الغداء .
لم يكن الدكتور أُورْبينو داثَا قد لاحظ حتى ذلك الحين عدم لياقة نبوءته عن المستقبل فدخل في مَتاهة من الشروحات لم تَزِدْه إلا تخبُطاً ، لكن فلورنْتينوأَريثَا ساعده للخروج من وَرْطَته ، كان مُشِعاً لأنه كان يعلم بأن عليه أن يلتقي عاجلاً أو آجلا مع الدكتور أُورْبينو داثَا في لقاء كهذا لاستكمال شرط اجتماعي لا يمكن تجاوزه ، طلب يد أمه رسمياً ، وقد كان جو الغداء مُشجِعاً إذ بَيَّن له سهولة ذلك الطلب وحتمية الترحيب به ، ولم تكن فرصة هناك أفضل من هذه لو أنه كان حاصلا على موافقة وفقة فرْمينا داثَا ، بل إن رسمية الطلب بعد حديثهما خلال ذلك الغداء التاريخي كانت تبدو فائضَة عن الحاجة .
لقد اعتاد فلورنْتينوأَريثَا صعود الأدراج ونزولها بحذر خاص حتى حين كان شاباً فقد كان يفكر دوما بأن الشيخوخة إنما تبدأ بِزلة قدم أولى لا أهمية لها ثم يتلوها الموت في الزلة الثانية ، وكان يرى أن أخطر الأدراج هو دَرَج مكتبه لأنه ضَيق وشبه مُنتصب ، وقد اعتاد منذ زمن طويل قبل أن يبدأ بِجَر قدمَيه بصعوبة على صعوده متفحصاً كل دَرَجة درجاته جيدا ومُمْسِكاً الدرابزين بكِلتا يديه ، ورغم أنهم كثيرا ما اقترحوا عليه استبداله بدَرَج أقل خطورة إلا أن قراره كان يتأجل الى الشهر التالي دائما لأن استبداله كان يبدو له كإقرار بشيخوخته ، وكان يحتاج لوقت أطول في الصعود كُلما تقدمت به السن ، ليس لأنه كان يتكلف مشقة أكبر كما يدعي هو بإصرار بل لأنه كان يضاعف من حذره في كل مرة ،
ومع ذلك فبعد عودته من الغداء مع الدكتور أُورْبينو داثَا وبعد كأس الأوبورتو الذي تناوله قبل الطعام ونصف كأس النبيذ الأحمر مع الطعام وبعد تلك المُحادثة الظافرة خصوصاً ، حاول الوصول الى الدَرَجة الثالثة بخطوة كخطوات راقص شاب مما لوى كاحله الأيسر وجعله يهوي على ظهره وينجو من الموت بأعجوبة .
لقد كان يتمتع في لحظة وقوعه بوعي كافٍ ليفكر بأنه لن يموت في تلك العثرة لأن منطق الحياة لا يسمح لرجُلَين أن يموتَ ابالطريقة نفسها وبفارق سنة واحدة بينهما ، وكان محقاً ، لَفّوا ساقه من القدم وحتى رَبْلة الساق وأجبروه على البقاء في السرير دون حراك ، لكنه كان حياً أكثر مما كان عليه قبل الوقوع وعندما أمره الطبيب بالبقاء ثابتاً لمدة ستين يوماً لم يستطع ان يصدق كل هذه التعاسة .
ففقال له متوسلاً : لا تفعل به هذا يا دكتور ، إن شهرَين من حياتي كعِكعشر سنوات من حياتك أنت .
وحاول أن ينهض عدة مرات حاملا ساقه التي كالتمثال بكِلتا يديه فكان الواقع يهزمه دوماً ، لكنه حينعاد للمشي أخيرا وكاحله ما زال يُؤْلمه وظهره مسلوخ من النوم الطويل في الفراش كانت لديه أسباب كافية للاعتقاد با، القدَر قد كافأ إصراره بِزلة من من العناية الإلهية .
أسوأ أيام مرضه كان يوم الاثنين الأول ، كان الألم قد تراجَع وكان التشخيص الطبي مُشجعاً إلا إنه كان يرفض الرضوخ لِنَكبة عدم رؤية فرْمينا داثَا مَساء اليوم التالي لأول مرة منذ أربعة أشهر ، ولكنه بعد قيلولة إذعان أخضع نفسه للواقع وكتَب لها بطاقة اعتذار ، كتَبها بيده على ورق معطر وبحبر فسفوري لِتقرأها في الظلام ، وبالغ في مأساويته حيال خطورة الحادث دون خجل محاولاً استنهاض عطْفِها .
وردت عليه بعد يومين متأثرة جدا ولطيفة جدا ولكن دون كلمة واحدة خارج الحدود مثلما كانت في أيام الحب العظيمة ، وتشبث بالفرصة ليكتب إليها ثانيةً ، وحين ردت عليه للمرة الثانية قرر المضي أبعد مما كانت عليه أحاديثهما المُلَغَزَة أيام الثُلاثاء ، فأمر بوضع هاتف الى جوار السرير بحجة أنه يريد متابعة سير العمل اليومي في الشركة ، وطلب من مُقَسِّم الهاتف المركزي أن يصله بالرقم الثُلاثي الذي حَفِظَه في ذاكرته منذ اتصل بها لأول مرة .
سَمع صوت الجرس الخافت المتوَتِر بغموض البُعد ثم الصوت المحبوب يرُد ، وتعرَّفت هي على الصوت الآخر فودعته بعد ثلاث عبارات عادية حول الصحة .
أحس فلورنْتينوأَريثَا بالغم لهذه اللامبالاة ورأى أنه يعود الى نقطة البداية من جديد ، لكنه تلقى بعد يومين رسالة من فرْمينا ترجوه فيها ألّا يتصل بالهاتف ثانيةً ، وكانت أسبابها وجيهة فقد كان عدد الهواتف في المدينة محدود جداً ، وكانت المكالمات تتم عبر عاملة مُقَسِّم تعرف جميع المشترِكين وحياتهم ومعجزاتهم وليس مهماً إذا كانوا هم خارج البيت فهي تجدهم حيث يكونون ، ومقابل هذه الفعالية كانت تتنصت الى المحادثات وتكتشف أسرار الحياة الخاصة والمآسي المحفوظة بِتَكَتُم ، ولم يكن غريباً عليها أن تتدخل بِحوار دائر لِتُدلي بوجهة نظرها أو لِتُخفف من حدى الغضب ، كما كانت قد تأسست في تلك الأيام أيضا جريدة العدالة وهي صحيفة مَسائية هدفها الوحيد انتقاد العائلات ذات الألقاب الكبيرة بالاسم الصريح وبلا أية اعتبارات كرد من صاحب الجريدة على عدم قبول أبنائه كأعضاء في النادي الاجتماعي ، ورغم نظافة حياتها فقد كانت فرْمينا داثَا تلتزم جانب الحذر حينئذٍ أكثر من أي وقت مضى في كل ما تقوله أو تفعله حتى مع أصدقائها المقربين .
وهكذا بقيت مرتبطة مع فلورنْتينوأَريثَا بخيط الرسائل البائد ، وأصبح تبادل الرسائل ما بينهما كثيفاً الى حد جعله ينسى ساقه المصابة وعقوبة البقاء في السرير وكل شيء آخر ، ويكرس نفسه تماما للكتابة على طاولة متنقلة كتلك المستخدمة في المَشافي لِتقديم الطعام للمرضى .
رفعَاالكُلْفَة بينهما من جديد ، وعادا لتبادل الآراء حول حياتهما كما كانا يفعلان في رسائلهما السابقة ، لكن فلورنْتينوأَريثَا حاول المضي ثانيةً بسرعة ، كتَب اسمها بِوَخْز دبوس على وريقات زهرة كاميليا وبعثها في رسالة ، وبعد يومين أعيدت إليه دون أي تعليق .
لم تستطع فرْمينا داثَا منع ذلك ، فالأمر كله كان يبدو لها كلعبة أطفال ، وحين أصر فلورنْتينوأَريثَا على استعادت ذكرى أمسيات الأشعار الكئيبة في حديقة البشارة ومَخابئ الرسائل في الطريق الى المدرسة ودروس التطريز تحت أشجار اللوز ، وضعته في مكانه الطبيعي وروحها تتألم بسؤال بدا عرَضياً وسط مجموعة أخرى من الأحاديث المطروقة .
- لماذا تُصِّر على الحديث في أمر لا وجود له ؟
ثم أَنَّبت فيما بعد عناده العقيم فيعدم الرضوخ لشيخوخة طبيعية ، وهذا هو حسب رأيها سبب سقوطه وإحباطاته الدائمة في تَذَكُّر الماضي .
لم تكن تفهم كيف يمكن لِرجل قادر على صياغة الأفكار التي ساعدتها على تجاوز التَرَمُل أن يورِط نفسه بتلك الطريقة الصبيانية حين يحاول تطبيق أفكاره على حياته بالذات ، فانقلبت الأدوار وأصبحت هي حينئذٍ من حاولت تشجيعه ليرى المستقبل بعبارة لم يستطع فهْمَها في تَسرُعه الطائش .
- دع الزمن يمضي وسنرى ما الذي يحمله .
إذ لم يكن في يوم من الأيام تلميذاً نجيباً كما كانت هي ، إن قعوده الإجباري ويقينه الذي كان يتضح أكثر فأكثر بتسرب الزمن ، ورغبته المجنونة لرؤيتها أكدت له أن مَخاوفه من الزلل كانت أكثر إصابة ومأساوية مما توَقَعَه .
وبدأ يفكر لأول مرة بحقيقة الموت تفكيراً عقلانياً ، كانت ليونَا كاسياني تساعده في الاستحمام واستبدال البيجاما مرة كل يومين وتضع له الحُقَن الشرجية والمَبْوَلة وكمادات البابونج على قروح ظهره ، وتُجري له المساجات بإرشاد الطبيب كي لا يُسبب له انعدام الحركة مشاكل أخرى أسوأ ، وكانت تحل محلها في هذه المهمات يومَي السبت والأحد أمريكا فيكونيا التي كانت ستنهي دراستها كمعلمة في شهر كانون الأول من تلك السنَة ، وقد وعدها بإفادها في دورة عُليا لاى أَلَبَاما على نفقة الشركة النهرية ، وذلك لِيكتم فم ضميره من جهة ولِيتخلص من مواجهة تعنيفاتها التي لا تجد مناسبة لقولها والتفسيرات التي يتوجب عليه أن يقدمها إليها من جهة أخرى .
لم يتصور يوما مدى معاناتها في ساعات أَرَقِهَا في المدرسة الداخلية وفي نهايات الأسابيع التي تعانيها بعيدا عنه ، وفي حياتها من دونه لأنه لم يتصور أبدا كم كانت تحبه ، وعَلِم من رسالة بعثتها إليه المدرسة أن الموقع الأول الذي كانت تحتله دوما قد أصبح الأخير ، وأنها على وشك الرسوب في الامتحانات النهائية ، لكنه تناسى واجبه كَوَصي ولم يبَلِّغ والِدَي أمريكا فيكونيا بالأمر ، يمنعه إحساس بالذنب يحاول التخلص منه ، كما أنه لم يبحث الأمر معها وذلك لِمَخاوفه الراسخة بأنها ستحاول إلقاء جريرة فشلها عليه .
وهكذا ترَك الأمور على حالِها ، وأخذ يؤجل مشاكلها دون أن يدري على أمل أن يَتَكَفَّل الموت بحلها .
لم تُصِب المفاجأة المرأتَين اللتين كانتا تسهران على العناية به فقط بل إن فلورنْتينوأَريثَا نفسه فوجِئ بالتبدُل الذي طرَأ عليه ، فمنذ أقل من عشر سنوات كان قد هاجم إحدى خادماته وراء السُلَّم الرئيسي في بيته وهي بملابسها وواقفة على قَدَمَيها وترَكها حُبلى في وقت أقصر مما يحتاجه ديك فيليبيني ، وكان عليه أن يُهْديها بيتاً مفروشاً لِتُقسم أن الفاعل الذي لطخ شرفها هو صديق لها تخرج مع أيام الآحاد .
لم يكن في الواقع قبَّلَها مجرد قُبْلة ، فقام أبوها وأعمامها وهم من أمهر قاطعي القصب بالسيوف في موسم الحصاد بإجباره على الزواج منها .
ولم يكن يبدو على فلورنْتينوأَريثَا أنه الرجل نفسه الذي تَقْلِبُه ظهراً وبطْناً امرأتان كانتا حتى زمن لا يتجاوز بضعة شهور تجعلانِه يرتعش حُباً ، فتدعكانِه بالصابون من فوق ومن تحت وتنشفانِه بِمَناشف من قُطْن مصري وتَدْْلِكانِه في كل أجزاء جسده دون أن تُفْلِت منه تَنَهُدة نَشْوى ، وكان لكل منهما تفسيرُها لفقدانه الرغبة ، فليونَا كاسياني تظن أنها مقدِمات الموت ، بينما تَعْزوه أمريكا فيكونيا الى مَنْشأ خَفي لا تستطيع إدراك كُنْهِه ، وكان هو وحده يعرف الحقيقة ، ويعرف أن لها اسماً محدداً لكن ذلك كان ظُلماً على أي حال فقد كانتا تُعانِيان وهما تخدمانِه أكثر من معاناته هو الذي يتلقى أحسن الخدمات .
إن ثلاثة أيام ثُلاثاء فقط كانت كافية لتُدرك فرْمينا داثَا مدى الفراغ الذي تركَته زيارات فلورنْتينوأَريثَا ، كانت تقضي تلك الأيام مع صديقاتها المواظبَات على زيارتِها ، وكانت لوكيرْثِيَا ديل ريال ديل أُوبيسْبو قد ذهبت الى بَنَمَا لتنظر في أمر ألم قد أصاب سَمْعَها ولم يعُد يتوقف بأي ثمن ، وعادت وهي مطمئنة جدا بعد شهر ، لكن سَمْعَها كان أخف مما كان عليه قَبْلاً ببوق تضعه في أُذُنِها ، وكانت فرْمينا داثَا هي الصديقة الأكثر احتمالاً لاختلاط أسئلتها وإجاباتها مما شجع لوكيرْثِيَا على زيارتها يومياً وفي أي وقت يَخطُر لها ، لكن فرْمينا داثَا لم تجد في أي احد تعويضاً عن أُمسيات فلورنْتينوأَريثَا المُسَكِّنة .
لم تكن ذِكرى الماضي لِتُعوِّض عن المستقبل كما كان يُظَنُّ ، بل إنها كانت على العكس من ذلك ، كانت تُرَسِّخ قناعة فرْمينا داثَا الدائمة في أن ذلك الهيَاج المحموم في العشرين من العمر إنما كان شيئا نبيلا وجميلاً جدا ، لكنه ليس بالحب .
ورغم صراحتها الفَجَّة فإنها لم تشأ أن تكشف له ذلك سواء بالبريد أو شخصياً ، كما لم تجد في قلبها مُتَّسَعاً لتقول له كم هو زائف رنين العواطف في رسائله بعد أن عرفت آية تأمُلاته المكتوبة ، وكيف تُخَفِّض أكاذيبه الغنائية من قيمته وكم يضر به إصراره المجنون على استعادة الماضي .
لا ، لم يكن بإمكان أي سَطْر من سطور رسائله القديمة ولا أية لحظة من لحظات شبابها المُضْجِر إشعارها بأن أمسيات الثُلاثاء ستكون بهذه الرحابة كما هي في الواقع من دونه وبهذا التوحد والخواء .
كانت قد بعثت الى مستودع المهملات في الإصطبل خلال إحدى نوباتها المُفاجئة بمذياع أهداه إياه زوجها في ذِكرى زواجهما لأحد الأعوام ، وقد فكَّر كِلاهما بتقديمه الى المَتحف باعتباره أول مذياع وصل الى المدينة .
وكانت قد قررت وهي في عتمة حِدادها عدم استخدامه ، لأن أرمَلة لها ألقابها لا يمكن لها الاستماع الى أية موسيقى دون أن تسيء الى ذكرى زوجها الميت حتى ولو فعلت ذلك في مَخْدعِها ، ولكنها بعد يوم الثُلاثاء الثالث للوحدة أمرت بإعادته ثانيةً الى الصالة لا لتستَمْتِع بأُغنيات إذاعة اليوبامبا العاطفية كما كانت من قبل وإنما لِتُشغِل ساعات فراغها بالاستماع الى روايات الدموع التي تبثها إذاعة سانتياغو دي كوبا ، وكان ذلك قراراً صائباً لأنها بدأت تفقِد منذ ميلاد ابنتها عادة المُطالعة التي اكسَبَهَا إياها زوجها باجتهاد منذ رحلة الزفاف ، وفقدت تلك العادة تماما مع ما أصاب بصرها من ضعف متزايِد الى أنْ أصبحت تمضي بضعة شهور أحيانا دون أن تعرف أين هي نَظارتها .
لقد استهوتها الروايات الإذاعية من إذاعة سانتياغو دي كوبا حتى صارت تنتظر بجزع الحلقات اليومية المُتسلسلة ، وكانت تستمع بين الحين والآخر الى الأخبار لتعرف ما الذي يحدث في الدنيا ، وفي بعض المناسبات النادرة حين تبقى وحدها في البيت كانت تستمع بصوت منخفض جدا الى موسيقى الميرينغي من إذاعة سانتو دومينغو وموموسيقى بْلينا من إذاعة بورتريكو النائيتَين والواضحتين .
وفي إحدى الليالي سَمعت خبَراً مؤَثراً من إذاعة مجهولة انطلقت فجأة بقوة ووضوح كما كانت لو أنها تبث من البيت المجاور ، وجاء في الخبر أن عجوزَين اعتادَا أن يكرِرَا شهر عسَلهما في نفس المكان منذ أربعين سنة قد قُتِلَا بضربات مِجداف على يد صاحب الزورق الذي كان يحملهما في نزهة وذلك لِيَسرق ما معهما من مال ، أربعة عشر دولاراً ، وكان تَأَثُرها أشد حين رَوَت لها لوكيرْثِيَا ديل ريال القصة الكاملة كما نشرتها إحدى الصحف المحليَة ، فقد اكتشفت الشرطة أن العجوزَين المقتولَين المرأة في الثانية والسبعين والرجل في الرابعة والثمانين هما عاشقان سِرِّيان يقضيان إجازتهما معاً منذ أربعين سنة ، لكن كل منهما متزوج زواجاً محترَماً ومُستقراً وسعيداً ، ولكل منهما عائلة كبيرة .
وفرْمينا داثَا التي لم تبكي يوماً بسبب المسلسلات الإذاعية جاهدت بصعوبة لقهر عُقْدَة الدموع التي علِقَت في حَلْقِها حين بعث إليها فلورنْتينوأَريثَا في رسالته التالية قُصاصة الجريدة التي تحمل الخبر بلا أي تعليق منه .
لم تكن تلك الدموع هي آخِر دموع تضطر فرْمينا داثَا لقهرِها فقبل أن يُكمِل فلورنْتينوأَريثَا أيام اعتكافه الستين كشفت صحيفة العدالة على صَدْر صفحتها الأولى مع صُور المعنيين عن غراميات سريَة مزعومة للدكتور خوفينال أُورْبينو ولوكيرْثِيَا ديل ريال ديل أُوبيسْبو وأسهبت الجريدة في تفاصيل العلاقة ومداها وأسلوبها ، وكذلك حول تواطئ الزوج المستسلم لانحرافاته مع الزنوج العاملين في مَصْنعِه لتكرير السُكَّر ، وكان للقصة المنشورة بحروف بارزة وبِحِبْر له لون الدم دوياً كدوي رعد الكارثة في أوساط الطبقة الأورستقراطية الآخذة بالتَّفَسُخ ، ومع ذلك لم يكن فيها سَطْر واحد يحمل الحقيقة .
صحيح أن خوفينال أُورْبينو ولوكيرْثِيَا ديل ريال كانا صديقَين حميمَين مذ كانا عازبَين وبقيا صديقَين بعد زواجهما لكنهما لم يكونا عاشقَين في يوم من الأيام ، ولم يكن هناك ما يشير على كل حال الى أنْ المقال المنشور كان يريد التشهير باسم الدكتور خوفينال أُورْبينو الذي تتمتع ذكراه باحترام مُجْمَع عليه وإنما كان المقصود هو زوج لوكيرْثِيَا ديل ريال الذي اُختير رئيساً للنادي الاجتماعي في الأسبوع السابق ، وقد تم إخماد الفضيحة خلال ساعات قليلة ، لكن لوكيرْثِيَا ديل ريال لم تعُد لِزيارة فرْمينا داثَا واعتبرت هذه الأمر على أنه اعتراف بالذنب .
وقد اتضح بعد وقت قصير جدا أن فرْمينا داثَا نفسها لم تكن كذلك بِمَنْجى من مَخاطر طبقتها ، فقد حملت عليها جريدة العدالة مستغلَة نقطة ضعفها الوحيدة ، أعمال ابيها التجارية ، فعندما أذعن هذا للنفي الإجباري كانت تعرف حادثة واحدة من أعماله الغامضة كما رَوَتْها لها غالا بلاثيديا وفيما بعد حين أكد لها الدكتور أُورْبينو بعد مقابلته للحاكم ، أيقنت أن أباها كان ضحية مكيدة مُدَبَّرة ، والمسألة اأن اثنين من رجال الشرطة الحكوميين حضرَا ومعهما أمر بتفتيش بيت حديقة البشارة ، وقد فَتَشَا البيت كله دون أن يجدَا ما يبحثان عنه ، ثم أمرَا أخيراً بفتح خزانة الملابس ذات الأبواب بمرايا والموجودة بحُجْرة المغطاة فرْمينا داثَا سابقا ، كانت غالا بلاثيديا وحدها بالمنزل حينئذٍ ولم يكن لديها من وسيلة لإنذار احد ، فرفضت فتح الخزانة مُُتذرِعَة بأنها لا تملك المفتاح ، عندئذٍ حطم احد الشُرطيَين مرايا الأبواب بِعَقِب مسدسه واكتشف وجود فراغ ما بين الزجاج والخشب مملوء بأوراق نقدية مزيفة من فئة المائة دولار .
كانت هذه هي ذروة سلسلة من الأبحاث التي قادت الى لورينثو داثَا على أنه الحلقة الأخيرة من عملية دولية واسعة ، وكان التزوير مُتْقَناً جدا ، فالأوراق النقدية المُزيَفة تتمتع بجميع مواصفات ورق النقود الأصلي ، إذا أنهم محوا الكتابة والرسوم عن أوراق من فئة دولار واحد باستخدام مادة كيماوية تشبه السحر ثم طَبَعوا على الورق ذاته نقوداً من فئة المائة دولار .
وادَّعى لورينثو داثَا أنه اشترى الخزانة بعد زمن طويل من زواج ابنته وان الخزانة وصلت الى البيت دون شك والأوراق النقدية مُخَبأة فيها ، لكن الشرطة أثبتت أن الخزانة موجودَة في البيت مذ كانت فرْمينا داثَا تذهب الى المدرسة ، وأنه لا يمكن لأحد سِواه إخفاء الثروة الزائفة وراء المرايا ..
هذا هو الشيء الوحيد الذي رواه الدكتور أُورْبينو لِزوجته يوم تعهد أمام الحاكم بإعادة حماه الى موطنه للتغطيَة على الفضيحة .
أما الجريدة فَرَوَت أمورا كثيرة أخرى ، رَوَت أن لورينثو داثَا توسَط خلال إحدى الحروب الأهلية الكثيرة في القرن الماضي بين حكومة الرئيس اللبرالي إيكيلو فارَا وشخص بولوني الأصل يُدعى جوزيف كيكورزينو فِسكي أقام هنا عدة شهور مع طاقم السفينة التجارية سان أنطون التي ترفع العَلَم الفرنسي في محاولة لتصريف صفقة سلاح معقدة ، ولم يعرف احد كيف اتصل كورزينو فِسكي الذي ذاع صيته للعالم فيما بعد باسم جوزيف كُرّاد مع لورينثو داثَا الذي اشترى منه شُحنة الأسلحة لحساب الحكومة بوثائق وإصالات نظامية ودفع الثمن ذهباً حقيقياً ، وحسب رواية الجريدة ، فقد ادَّعى لورينثو داثَا ضياع الأسلحة في هجوم مُباغِت ثم إعاد بيعها بضعف الثمن الحقيقي الى المحافظين الذين يخوضون حرباً ضد الحكومة .
ورَوَت العدالة أيضا ، أن لورينثو داثَا اشترى بثمن زهيد جدا شُحنة أحذية عسكرية فائضَة لدى الجيش الإنجليزي في الزمن الذي أَسَس فيه الجنرال رافائيل ريس البحرية الحربية وأنه ضاعف في هذه العملية وحدها ثروته خلال ستة شهور ، وحسب ما جاء في الصحيفة فإنه لدى وصول الشُحنة الى هذا الميناء رفض لورينثو داثَا استلامها لأن الأحذية التي وصلت كانت جميعها للقدم اليُمنى فقط ، ولكنه كان المُشارِك الوحيد في المزايدة التي أعلنتها الجمارك حسب القوانين النافذة ، واشترى الشُحنة بمبلغ رمزي هو مائة بيزو ، وفي أثناء ذلك في ظروف مُشابهة اشترى شريك له شُحنة أحذية للقدم اليُسرى كانت قد وصلت الى جمارك ريوهاجَا ، وما أن انتظمت الأحذية مع بعضها حتى باعَها لورينثو داثَا مستفيداً من نسبه مع آل دي لاكايي للبحرية الحربية الناشئة بأرباح بلغت ألفين بالمائة .
وانتهت رواية العدالة الى القول أن لورينثو داثَا لم يغادر سان خوان ديلاثيناغا في أواخر القرن الماضي بَحثاً عن مكان أفضل لِمستقبل ابنته كما كان يدَّعي وإنما لانكشاف أمره في مزج التبغ المستورَد مع ورق مفروم وهي الصناعة المزدهرة التي مارسها بمهارة فائقة حتى أنها كانت تنطلي على المُدخنين المحترفين .
كما كشفت علاقاته بشركة سريَة دولية كان نشاطها الرائج في أواخر القرن الماضي يتمثل في تهريب الصينيين من بَنَمَا الى البلاد بأساليب غير مشروعة ، أما تجارة البغال المشبوهة والتي أساءت كثيرا الى سُمْعَتِه فيبدو أنها التجارة الشريفة الوحيدة التي مارسها في حياته .
عندما غادر فلورنْتينوأَريثَا الفراش وظهره ملتهب بالقُرُوح مستخدِماً لأول مرة في حياته عُكّازاً بدلا من المِظلة ، كان خروجه الأول الى بيت فرْمينا داثَا ، وجدها وقد تَبَدَّلَت تماما بفعل آثار السنين على بشرتها وبِحِقْد أفقدها الرغبة في الحياة .
وفي الزيارتَيناللتين قام بهما الدكتور أُورْبينو داثَا لِفلورنْتينوأَريثَا أثناء مرضه حدَّثه عن الأسى الذي سبَّبَته لأمه مقالتَا العدالة ، فالمقالة الأولى أثارت فيها غضباً مجنوناً لخيانة زوجها وغدر صديقتها مما جعلها تتوقف عن زيارة ضريح زوجها التي كانت تقوم بها في يوم من أيام االأحد من كل شهر ، وذلك لِسَخطِهَا من أنه لن يستطيع وهو في تابوته سماع اللعنات التي تريد أن تُكيلها له .
لقد اختلفت مع الميت وبعثت الى لوكيرْثِيَا ديل ريال مع كل من يريد أن يوصل الكلام إليها تقول لها بأن تَقنَع بالعزاء لأنها وجدت رجلا على الأقل بين جميع من مروا في فراشِها .
أما في المقالة عن لورينثو داثَا لم يكن معروفاً ما هو الذي يُؤْلِمها أكثر أهي المقالة أَم اكتشافها المتأخر لهَوية أبيها الحقيقية ، لكن أحد الاحتمالَين أو كلاهما معاً قَصَمَ ظهرها ، فالشعر ذو اللون الفولاذي الذي كان يزيد من نبل وجهِها صار يبدو وكأنه نِسالات الذُرة الصفراء ، وعينَا الفهدة الجميلتان ما عادتا تلمعان ببريقهما القديم رغم روعة الغضب فيهما .
وكان قرارها برفض الاستمرار في الحياة يظهر في كل حركة من حركاتها ، ورغم إقلاعها منذ سنوات طويلة عن عادة التدخين سواءً وهي محبوسة في الحمام أو في أي مكان آخر فقد عادت إليه مجدداً بشكل عَلَني وبشراهة لا كابِح لها ، وبدأت أول الأمر بتدخين سجائر تلُفُّها بنفسها كما كانت تحب أن تفعل من قبل ، ثم أخذت تُدَخِّن الأنواع العادية التي تجدها في المتجر لأنها لم تعُد تجد مُتَّسَعاً من الوقت والصبر لِلَفّ السجائر .
لو أن أي رجل آخر كان في موقع فلورنْتينوأَريثَا لَتَساءل ما الذي سيقدمه المستقبل لشيخ مثله أعرج ومَكْوي الظهر بِقُرُوح كَقُرُوح حمار ولِامرأة لامرا’لا تَتُوق لِسعادة أخرى سوى الموت ، أما هو فلم يتساءل ، بل وجد بصيصاً من الأمل ما بين أنقاض الكارثة ، وبدا له أن نكبة فرْمينا داثَا تجعلها أعظم شأناً والغضب يجعلها أجمل والحقد على العالم قد أعاد إليها طبعها الجموح الذي كانت عليه وهي في العشرين من العمر .
كان لديها الآن سبب آخر للاعتراف بجميل فلورنْتينوأَريثَا ، فقد بعث على إثر المقالات الشنيعة برسالة نموذجية الى العدالة حول مسؤولية الصحافة الأخلاقية ودورها في احترام شرف الآخرين .
لم تنشر الصحيفة الرسالة ، لكن الكاتب بعث نسخة منها الى ديار ريوديلكو ميرثو أقدم صحف ساحل الكاريبي وأكثرها جِدِّيةً فأبرزتها هذه على صفحتها الأولى .
كانت الرسالة تحمل توقيع جوبيتَر ، وكانت عقلانية ولاذعة ومتْقَنة ، مما حمَل البعض لِنِسْبتِها الى بعض أبرز كُتّاب المقاطعة ، كانت صوتاً مُنْفَرداً وسط الأُقيانوس لكنه سُمِعَ بعُمق ووصل بعيدا جدا .
وعرفت فرْمينا داثَا هوية الكاتب دون أن يُخبرَها احد بذلك ، لأنها تعرَّفت على بعض الأفكار بل وعلى جملة حرفية من تأمُلات فلورنْتينوأَريثَا الأخلاقية ، ، ولذا فقد استقبلته بحيوية في فوضى يأسها .
وفي هذه الفترة بالذات وجدت أمريكا فيكونيا نفسها وحيدة في مَساء أحد الأيام في غرفة النوم ببيت شارع لاس فنتاناس واكتشفت دون أي بحث وبِمحَض الصُدفة في خزانة بلا مفاتيح نُسَخاً من تأمُلات فلورنْتينوأَريثَا المطبوعة على الآلة الكاتبة ورسائل فرْمينا داثَا المكتوبة بخط اليد .
ابتهج الدكتور أُورْبينو داثَا لِتجدد الزيارات التي ترفع كثيرا من معنويات أمه ، وكان بذلك على عكس أخته أوفيليا التي رجعت في أول سفينة فواكه قادمة من نيوأورليانز فور سماعها بأخبار الصداقة الغريبة التي تُقيمها فرْمينا داثَا مع رجل سُمْعَته الأخلاقية ليست على ما يرام ، وقد تسبَّب هياجها بنشوء أزمة منذ الأسبوع الأول حين لاحظت درجة الأُلفة والسلطة التي يدخل بها فلورنْتينوأَريثَا الى البيت ، والوَشْوَشات والنزاعات العابرة الشبيهة بِوَشْوَشات ونِزاعات خطيبَين وذلك أثناء زياراته التي تمتد حتى ساعة متأخرة من الليل .
وما كان يراه الدكتور أُورْبينو داثَا تآلفاً صحياً بين عجوزَين متوحدَين كانت ترى فيه أسلوباً مُريباً في اتخاذ خليل سري .
هكذا كانت أوفيليا أُورْبينو دوماً أقرب شَبَهاً بدونيا بلَانكَا جدتها لأبيها منها لأمها ، فهي مُتَرَفِعة مثل جدتها ومتعجرفة مثلها وتعيش مثلها على الأوهام ، ما كانت قادرة على تصور صداقة بريئة تتجمع بين رجل وامرأة حتى ولو كانا في الخامسة من العمر فكيف إذا كانا في الثمانين .
وفي إحدى نِزاعاتها المعتادة مع أخيها قالت : إن الشيء الوحيد المتبقي لكي يواسي فلورنْتينوأَريثَا به أمها هو أن ينام معها في سريرها كأرمَلة .
ولم تكن لدى الدكتور أُورْبينو داثَا الشجاعة لمواجهتها لأنه لم يكن يمتلك الشجاعة أمامها يوماً ، لكن زوجته تدخلت بتبرير جِدّي حول الحب في أي سن كان .
ففقدت أوفيليا صوابها وصرَخَت بها : إن الحب في سِنِّنا شيء مضحك ، أما في سِنِّهما فهو قذارة خنازير .
وقررت في حدة اندفاعها أن تطرُد فلورنْتينوأَريثَا من البيت ، ووصل هذا الى سَمْع فرْمينا داثَا فاستدعتها الى حجرة النوم كما تفعل كُلما أرادت الحديث في أمر لا تريد أن تسمعه الخادمات ، وطلبت منها أن تُعيد أمامها ما قالته من شَتائم .
ولم تحاوِل أوفيليا أن تُخفِف من قسوتها كانت مُوقِنَة أن فلورنْتينوأَريثَا بسُمعَته الفاسدة التي لا تَخفى على احد إنما يريد الوصول الى علاقة آثمَة ستُشوِه اسم العائلة الطيب أكثر مما شَوَّهَته إساءات لورينثو داثَا ومغامرات خوفينال أُورْبينو الغبيَة .
استمعت إليها فرْمينا داثَا دون أن تنطق بكلمة واحدة بل ودون أن ترمش ، ولكنها حين انتهت من الاستماع كانت قد تحولت الى امرأة أخرى ، كانت قد عادت الى الحياة فقالت لها : الشيء الوحيد الذي يُؤْلِمُني هو أنني لا أملك القوى لِضَرْبك الضرْب الذي تستحقين ، لوقاحتِك وخبث نيَتِك ، ولكنك ستخرجين الآن من هذا البيت وأُقسِم لكِ برُفاةِ أمي أنكِ لن تدْخُليه ما دمت على قيد الحياة .
لم تكن هنالك من قوة قادرة على ثَنْيِّها عن قرارها فذهبت أوفيليا للإقامة في بيت أخيها وبعثت من هناك بكل أنواع التوسلات عبر وسطاء من الأعيان ، ولكن دون جدوى ، فلا وساطة الابن ولا تدخل الصديقات استطاع ثَنْيَها ، ثم إنها أطلقت أخيراً أمام كَنَّتِها التي كانت تربطها بها دائما علاقة بعيدة عن الرسميات سراً باحت به بِطَلاقة كَطَلاقتها في سنوات شبابها .
- منذ قرْن من الزمان أفسدوا حياتي مع هذا الرجل المسكين لأننا كنا ما نزال صغيرَين ، وها هم يريدون إفسادها الآن ثانيةً لأننا أصبحنا عجوزَين .
ثم أشعلت سيجارة من عَقِب الأخرى ونفثت السُم الذي كان ينخر جوفها قائلة : فَلْيذهبوا الى الخراء ، إن كان لنا نحن معشر الأرامِل من مَكسَب أنه لم يعُد هناك من يأمرُنا .
لم يكن للصلح من مكان ، وحين اقتنعت أوفيليا بعدم جدوى جميع المحاولات رجعت الى نيوأورليانز ، والشيء الوحيد الذي استطاعت التوصل إليه مع أمها هو أن تُوَدِّعها ، ووافقت فرْمينا داثَا على ذلك بعد توسلات كثيرة ، لكنها لم تسمح لها بالدخول الى البيت ،لقد أقسمت على ذلك بِعِظام أمِّها التي كانت بالنسبة لها في تلك الأيام الغائمة الشيء الوحيد الذي بقي طاهراً .
في إحدى زياراته الأولى وأثناء الحديث عن سفنِه وجَّه فلورنْتينوأَريثَا دعوة رسمية لتقوم برحلة استجمام عبر النهر حيث يمكنها من هناك الوصول بعد يوم واحد في القطار الى عاصمة الجمهورية التي ما زالا مثلهم كمثل معظم الكاريبيين من أبناء جيلهم يطلقون عليها الاسم الذي كانت تحمله حتى القرن الماضي سِنْتافي ، لكنها كانت تحتفظ بوجهة نظر زوجها ولا تريد معرفة مدينة باردة وقاتمة حيث النساء لا يخرجن من بيوتهن إلا الى صلاة الخامسة ، ولا يستطعن الدخول الى مَقاهي بيع المُثَلَّجات ولا الى الدوائر العامة كما قيل لها ، وحيث توجد في كل وقت زحمة جنازات في الشوارع ومطر خفيف متواصل منذ سنوات البغلة ذات الحَدَوات ، إنها أسوأ من باريس ولكنها كانت تشعر بالمقابل بمَيل شديد الى النهر ، فهي تريد رؤية التماسيح تتشمس على الضفاف وتريد الاستيقاظ في منتصف الليل على نُواح الأَطَم الذي يُشبه بكاء النساء ، لكن فكرة القيام برحلة شاقة في هذه السن إضافة الى كونها أرمَلة ووحيدة كانت تبدو لها لا واقعياً .
كرر فلورنْتينوأَريثَا الدعوة لها فيما بعد حين كانت قد قررت الاستمرار في الحياة بدون زوجها فبدت لها الفكرة حينئذٍ أكثر احتمالاً ، ولكن بعد خلافها مع ابنتها وإحساسها بالمَرارة للإهانات الموجَّهة الى أبيها وحِقدِها على زوجها الميت وغضبها من تملُقات لوكيرْثِيَا ديل ريال المنافِقة والتي اعتبرتها لِسنوات طويلة أفضل صديقاتها أخذت تشعر بأنها مجرد شيء زائد عن الحاجة في بيتها .
وفي مَساء احد الأيام وفيما هي تشرب شرابها الخاص المُحَضَّر من أوراق شاي كونيه نظرت الى مستنقع الفِناء حيث لم تعُد تُبَرْعِم شجرة نكْبتها وقالت : ما أريده هو هجْر هذا البيت والانطلاق قُدُمً قُدُمً قُدُمً وعدم العودة إليه أبدا .
فقال فلورنْتينوأَريثَا : اذهبي في سفينة نهرية .
نظرت إليه فرْمينا داثَا وهي ساهمة وقالت : يمكنك الاعتقاد بأن هذا وارِد .
لم تكن قد فَكَّرَت بذلك لحظة واحدة قبل أن تنطق به ، ولكن مجرد ورود الاحتمال كان كافياً لاعتبار الأمر ناجزاً .
وقد سُرَّ الابن والكِنَّة حينا عَلِما بالخبر ، وسارَع فلورنْتينوأَريثَا ليؤكد أن فرْمينا داثَا ستكون ضيفة شرف على سفنِه وستجد تحت تصرفها قُمْرة مجَهَّزَة بكل شيء وكأنها في بيتها وستكون الخدمة على أكمل وجه وسَيُكَلَّف القُبطان بحمايتها والسهر على راحتها ، وجاء بخرائط تُبَيِّن خط سَير الرحلة ليُشجعها ، وبطاقات بريدية لمناظر غروب هائجة ، وقصائد شعرية عن جنة نهر مَجْدَلِينا البدائية كتبها رحّالة مشهورون أو أنهم أصبحوا مشهورين لروعة القصيدة ،.
فكانت تُلقي عليها نظرة عابرة حين يكون مَزاجها رائقاً وتقول له : ليس عليك أن تخدعَني كما لو أنني طفلة ، إذا كنت أريد الذهاب فلأنني قررْتُ ذلك وليس اهتماما بالمَناظر الطبيعية .
وحين اقترح ابنها بأن تذهب زوجته معها لِمرافقتها قاطعته بلهجة مُسالِمة : لقد كَبِرْت ولم أعُد بحاجة لمن يرعاني .
ورتَّبَت بنفسها تفاصيل الرحلة ، وكانت تشعر براحة كبيرة لفكرة أنها ستُمضي ثمانية أيام في صعود النهر وخمسة أيام في نزوله دون أن تحمل معها شيئا باستثناء الحاجات التي لا غِنى عنها ، نصف دزينة من الفساتين القُطْنية وأدوات زينتها ونظافتها وزوجاً من الأحذية للصعود به الى السفينة وللنزول الى البر ونِعالاً بيتياً لاستخدامه أثناء الرحلة ، ولا شيء آخر ، إنه حُلْم حياتها .
في شهر كانون الثاني لعام 1824 قام الرُبّان خوان بيرناردو آلبيرس مؤسس المِلاحة النهرية برفع راية السفينة البخارية الأولى التي مَخَرَت مياه نهر مَجْدَلِينا ، وقد كانت آلة بدائية بقوة أربعين حصاناً تُدعى وفاء ، وبعد مرور أكثر من قرن في السابع من تموز وفي الساعة السابعة مَساءً رافَق الدكتور أُورْبينو داثَا وزوجته فرْمينا داثَا لِتركب السفينة التي ستحملها في رحلتها الأولى عبر النهر ، وكانت تلك السفينه هي الأولى التي جرى بناؤها في أحواض بناء السفن المحليَة ، وقد عمَّدها فلورنْتينوأَريثَا باسم وفاء الجديدة تخليداً لِذكرى سالِفتها المجيدة ، ولم تستطع فرْمينا داثَا أن تُصَدِّق أبدا بأن ذلك الاسم ذا المغزى الشديد هو مجرد مُصادفة تاريخية حقاً ، وليس ظرافة أخرى من ظَرافات فلورنْتينوأَريثَا الرومانسي المُزمِن .
وعلى خلاف جميع السفن النهرية الأخرى القديمة منها والحديثة كانت في وفاء الجديدة وإلى جانب قُمرة القُبطان قُمرة إضافية واسعة ومريحة مُكَوَّنة من صالة استقبال مؤثَّثَة بِمَفروشَات من البامبو الملون بألوا احتفالية ومَخْدَع زوجي مُزَخْرف بكامله بِزَخارف صينية وحمام فيه حوض بانيو ودُش وشُرْفة مغلقة وفسيحة جدا فيها نباتات زينة معَلَّقة وتسمح بالرؤية الى أمام السفينة وجانِبَيها ، ومزودة بأجهزة تبْريد صامتة تُحافظ على الجو في ربيع دائم بعيدا عن القيظ المُتَّقِد في الخارج ، كان هذا الجناح الفاخِر يُعرَف باسم قُمْرة الرئاسة لأن ثلاثة من رؤساء الجمهورية سافروا فيه حتى ذلك الحين ، ولم يكن لهذه القُمْرة أي غرض تجاري بل كانت مُخصصة للسلطات العليا والضيوف الخاصين جدا ، وقد بناها فلورنْتينوأَريثَا لهذا الغرض المُعلَن فور تعيينه رئيساً لشركة الكاريبي للمِلاحة النهرية ، لكنه كان متأكداً في دخيلته أنها ستكون عاجلا أو آجلا الملجأ السعيد لرححلة زفافه مع فرْمينا داثَا .
وفعلا جاء اليوم المُنْتظَر ، واتخذت موقعها في القُمْرة الرئاسية كَرَبَّة وسيدة للمكان ، وقدَّم القُبطان فروض التشريف للالدكتور أُورْبينو داثَا وزوجته وفلورنْتينوأَريثَا بالشمبانيا والسَلَمون المُدَخَن ، كان اسمه ديغو سَماريتانو وكان يرتدي بدلة من الكتان الأبيض مُحكَمَة على مقاسه تماما من الحذاء وحتى القُبعة التي تحمل شعار ش ك م ، مُطَرَّزاً بخيوط ذهبية ، وكان يُشبه غيره من قَباطِنة السفن النهرية بضخامته التي كضخامة أشجار الثِيبَا وبصوته الحازم وحركاته التي كحركات كاردينال فُلُرانسي .
في الساعة السابعة ةلَيلا ُطلِقَت أولى إشارات الإبْحار وأحست بها فرْمينا داثَا تُدَوِّي بألم حاد في أُذنها اليُسرى ، لقد حَلُمت في الليلة السابقة أحلاماً ذات نُذُر مشؤومَة لم تتجرأ على تفسيرها ، ومنذ الصباح الباكر ذهبت الى مَدْفَن المُجَمَع الإكليريكثي الذي صار يُعرَف باسم مقبرة لامانغا وصالحت زوجها الميت وهي واقِفة أمام قبرِه وذلك بمُلولوج أطلقت فيه العنان لِلَومها العادل الذي كانت تَغُصُّ به ، ثم رَوَت له تفاصيل الرحلة وودعته مُتمنية اللقاء به قريباً ، لم تشأ أن تُخبر أحداً آخر بأنها ذاهبة ، وذلك ما كانت تفعله كُلما سافرت الى أوربا لِتحول دون الوداعات المُنْهِكَة ، ورغم رحلاتها الكثيرة فقد أحست وكأن هذه هي رحلتها الأولى ، وكان قلقها يتزايد كُلما تقدم النَهار واقترب الموعد ، وحين أصبحت على مَتْن السفينة أحست بالهجران والكآبة ورَغِبَت بالبقاء وحيدة لِتبكي .
عند انطلاق إشارة الإبْحار الأخيرة وَدََّعها الدكتور أُورْبينو داثَا وزوجته دون دراماتيكية ورافقَهما فلورنْتينوأَريثَا الى جسر النزول الى البر ، حاول الدكتور أُورْبينو داثَا النزول ليمشي وراء زوجته ولكن انتبه حينئذٍ فقط الى أنْ فلورنْتينوأَريثَا ذاهب في الرحلة أيضا ، ولم يستطع الدكتور أُورْبينو داثَا السيطرة على حيرته وقال : ولكننا لم نتحدث عن هذا من قبل .
أراه فلورنْتينوأَريثَا مفتاح قُمْرته كدليل كافٍ على حُسن نواياه ، قُمْرة عادية في جناح المُسافرين العاديين .
ولكن الدكتور أُورْبينو داثَا لم يرَ في ذلك دليلا كافِياً على البراءة ، فاتجه الى زوجته بنظرة غريق باحثاً عن نقطة استناد لحيرته ، ولكنه التقى بعينَين ثلجيتَين وقالت له بصوت خافت جدا وحازم في ذاته : وأنت أيضا ؟!
أجل هو أيضا مثل أخته أوفيليا يفَكِّر أن للحب سِنَّاً معيناً يصبح بعده أمر غير لائق ، لكنه استطاع السيطرة على نفسه في الوقت المناسب ، وودع فلورنْتينوأَريثَا شاداً على يده بحركة فيها من الإذعان أكثر مما فيها من الشكر .
رآهما فلورنْتينوأَريثَا ينزلان من السفينة وهو واقِف عند درابزين الصالة تماما كما كان ينتظر ويأْمل ، والتفت الدكتور أُورْبينو داثَا وزوجته بنظرهما إليه قبل أن يدخلَا السيارة فودَّعهما ملوِّحاً بيده ، ورداً عليه بتحية مُماثلة وبقي عند الدرابزين الى أنْ اختفت السيارة وسط غبار باحة الشحن ، ثم مضى الى قُمْرته ليرتدي ملابس أكثر مُلاءمة للعشاء الأول على مَتْن السفينة في صالة الطعام الخاصة بالقُبْطان .
كانت ليلة رائعة تَبَّلَها القُبطان ديغو سَماريتانو بحكايات لذيذة عن سنواته الأربعين في النهر ، لكن فرْمينا داثَا اضطرت للقيام بمجهود كبير لتبدو سعيدة ، ورغم انطلاق صُفارة التنبيه الأخيرة في الساعة الثامنة ورغم إنزال الزائرين ورفع جسر النزول في هذه الساعة أيضا فإن السفينة لم تنطلق الى أنْ انتهى القُبطان من تناول طعامه ، وصعد الى مركز القيادة لِيُشرِف على مناورة الخروج من الميناء .
بقيت فرْمينا داثَا وفلورنْتينوأَريثَا يتطلعان من فوق درابزين الصالة العامة مختلطَين مع المُسافرين الصاخبين الذين كانوا يلعبون لعبة تمييز أضواء المدينة الى أنْ خرجت السفينة من الميناء وولجت قنوات لا مرئية ومستنقعات مُبرقعة بأنوار مُتَمَوِجة تنبعث من زوارق الصيادين ، وشَخَرت أخيراً ملء رئَتَيها في الهواء الطلْق لنهر العظيم ، حينئذٍ انطلقت الفرقة الموسيقية في عزف مقطوعة شعبية دارجة وهيمنت على المُسافرين موجة من المرَح وبدأ الرقص الصاخب .
فضلت فرْمينا داثَا اللجوء الى ، لم تكن قد نطَقَت بأي كلمة خلال الليل ، وقد ترَكها فلورنْتينوأَريثَا تَتيه في أمُلاتهاتَأمُلاتها ولم يقاطعها إلا لِيُودعها أمام قُمْرتها ، لكنه لم تكن تشعر بالنعاس وإنما بشيء من البرد فقط ، واقترحت أن يجلسَا قليلاً ليُراقِبَا النهر معاً من الشُرْفة الخاصة ، فَسَحَب فلورنْتينوأَريثَا كرسيَين خيزرانِيَين الى الشُرْفة وأطفأ الأنوار ووضع لها بطانية صوفية على كتفَيها وجلس الى جانبها .
لفت سيجارة من العُلْبة التي أهداها إياها ، لَفَّتْها بمهارة مذهلة ودَخَّنَتْها ببطء واضعة الجمرة في فمها دون أن تتكلم ، ثم لفت سيجارَتين أخمُتتاليتَين ودخنتهما دون توقُف ريَين ، وشَرِب فلورنْتينوأَريثَا تُرمُسَين من القهوة المُرة رَشْفة بعد أخرى .
كانت أضواء المدينة قد اختفت في الأفُق ومن خلال الشُرْفة المظلمة كان النهر المُنبَسِط الساكِن ومَرابع العشب على ضِفَتَيه تبدو تحت ضوء القمر المُكتمل بدراً وكأنها سهوب فسفورية ، وبين الحين والحين كان يظهر كُوخ من القش الى جانب مَحارِق كبيرة يعلنون بها أنهم يبيعون هناك حطباً لِمَرَاجل السفن ، كان فلورنْتينوأَريثَا يحتفظ بذِكريات غائمة عن رحلتِه النهرية في شبابه ولكن مرأى النهر جعله يستعيدها في دَفْقات مُبْهِرة كما لو أنها حدثت بالأمس ، رَوى بعضاً من تلك الذِكريات لِفرْمينا داثَا معتقداً أن ذلك قد يَبُث فيها الحماس ، لكنها كانت تُدَخِن في عالم آخر ، فتخلى فلورنْتينوأَريثَا عن ذِكرَياته وترَكها وحيدة مع أفكارها ، وكانت أثناء ذلك تَلُّف السجائر وتُشعلُها الى أننفدت العُلْبة .
توقفت الموسيقى بعد منتصف الليل وتلاشى صَخْب المُسافرين ثم تحوَّل الى همسات هاجِعة ، وبقي القلبان وحدهما في الشُرْفة المظلمة يعيشان إيقاع أنفاس السفينة ، بعد مرور بعض الوقت نظر فلورنْتينوأَريثَا الى فرْمينا داثَا من خلال بريق النهر فرآها طيفية ورأى بروفايل وجهها الذي كتمثال يصبح أكثر حلاوة تحت البريق الأزرق الخفيف ، وانتبه الى أنها كانت تبكي بِصَمْت ولكنه بدلاً من مواساتها أو الانتظار الى أنْ تنفد دموعها كما كانت ترغب هي سَمَح للقلق أن يُداهمه فسألَهَا : أتودين البقاء وحدكِ ؟
قالت : لو كنت أريد ذلك ما طلَبْت منك الدخول .
عندئذٍ مد أصابعه الباردة في الظلام وبحث في اللمس عن اليد الأخرى ووجدها بانتظاره .
لقد كانا يتمتعان في اللحظة السريعة ذاتها بما يكفي من الصحو لِيُدركَا أن أياً من اليَدََين لم تكن هي اليد التي تخيلاها قبل أن يلمِساها ، وإنما كانتا يدَين هَرِمَتَين معروقَتين ولكنهما ما لَبِثَتَا أن أصبحتَا كما أرادَا في اللحظة التالية .
بدأت تتحدث في الزمن الحاضر عن زوجها الميت وكأنه ما يزال حياً ، وعرف فلورنْتينوأَريثَا أنه قد أَزِفَت بالنسبة لها أيضا لحظة التساؤل بوقار وعَظَمة ، ورغبة جامحة في الحياة ، ما الذي تفعله بالحب الذي بقي لديها دون سيد .
توقفت فرْمينا داثَا عن التدخين كي لا تُفلِت يدها التي كان يُمْسِكُها بيده ، كانت تائهة في قلق البحث عن الوعي ، ما كانت قادرة على تصور زوج أفضل من ذاك الذي كان زوجها ، ولكنها كانت تجد العراقيل بدلاً من السهولة في استحضار حياته ، كانت تجد كثيراً من سوء الفَهم المُتَبادَل والنزاعات الجوفاء والأحقاد التي فُضَّت على غير ما يرام ، وتَنَهَدت فجأة : لا أستطيع أن أُصَدِّق كيف يمكن للأنسان أن يكون سعيدا خلال سنوات طويلة وسط كل هذه الخلافات ووسط كل هذه المشاكل ، اللعنة وكل ذلك دون أن نعرف إن كان هذا حُباً أَم لا .
وعندما انتهت من التفريج عن قلبها أطفأ أحدٌالقمر .
كانت السفينة تتقدم بخطواتها المحسوبة وضعةً قَدَماً قبل أن ترفع الأخرى كحيوان ضخم يترصد ، وكانت فرْمينا داثَا قد أفاقت من ذهولِها فقالت : انصرِف الآن .
ضغط فلورنْتينوأَريثَا على يدها ومال نحوها محاولاً تقبيل وجنتها ، لكنها أعرضت عنه قائلة بصوت أبح ورقيق : لا ، ما عاد هذا مُمكناً ، إن لي رائحة عجوز .
أحست به يخرج في الظلام وأحست بوقع خطواته على الأدراج وأحست باختفائه عن الوجود حتى اليوم التالي .
أشعلت فرْمينا داثَا سيجارة أخرى وفيما هي تُدَخِّنُهَا رأت الدكتور خوفينال أُورْبينو بملابسه الكتانية الناصعة وصرامته المِهَنية ولُطْفه المُبْهِر وحبه الرسمي وأشار لها مُوَدِّعاً بقُبعته البيضاء من سفينة أخرى من الماضي .
لسْنا نحن مَعشر الرجال سوى عَبيد مساكين للوَهم ، أما حين تُقرِر امرأة مضاجعة أحد الرجال فليس هناك من حاجز إلا تجتازه ، لا حصن إلاى وتُحطِمه ، ولا اعتبار أخلاقي إلا وتكون مستعدة لخرقه من أساسه وليس ثمة رب ينفع ، هذا ما قاله لها في احد الأيام .
وبقيت فرْمينا داثَا جامدة حتى الفجر تُفَكِّر بِفلورنْتينوأَريثَا ليس كحارس كئيب في حديقة البشارة لا تثير ذِكراه فيها أي حنين وإنما كما هو حينئذٍ ، عجوز وأعرج ولكنه واقعي ، إنه الرجل الذي كان رهن إشارتها دوما ولم تستطع التعرف إليه .
وفيما السفينة اللاهثة تسحبُها نحو بريق الأزهار البدائي كانت تدعو الله أن يُلهِم فلورنْتينوأَريثَا ليعرف كيف يبدأ ثانيةً في اليوم التالي، وقد عرف .
كانت فرْمينا داثَا قد أعطت تعليماتها للجارْسون بأن يتركها نائمة الى أنْ تستيقظ من تلقاء نفسها ، وحين استيقظت وجدت على الكومودينو مزهرية فيها زهرة بيضاء طازجة ما تزال مُضَمَّخة بالندى ومعها رسالة من فلورنْتينوأَريثَا مُؤلَّفة من الصفحات التي استطاع كتابتها مذ وَدَّعها .
كانت رسالة هادئة لا غرض لها سوى التعبير عن الحالة المعنوية التي عاشها منذ الليلة الماضية ، وكانت شديدة الغنائية كرسائله الأخرى وخِطابية مثلها جميعاً ، ولكنها مُسْتَنِدة الى الواقع .
قرأَتْها فرْمينا داثَا ببعض الخجل من نفسها لِقَفزات قلبها المكشوفة ، وكانت الرسالة تنتهي بالطلب إليها أن تُخبر الجارْسون حين تكون جاهزة لأن القُبطان ينتظرهما في مركز القيادة ليشرح لهم سَير العمل في السفينة .
في الساعة الحادية عشرة كانت جاهزة ، مُستحِمة ومنتعِشة بالصابون الذي له رائحة أزهار ومُرْتَدِيَة فُستان أرمَلة رمادي اللون موفورة النشاط بعد هيَجان الليلة الماضية .
طلبت فطوراً بسيطاً من الجارْسون الذي يرتدي ملابس بيضاء ناصعة ويعمل في خدمة القُبْطان شخصياً ، لكنها لم تبعث إليهم ليحضروا لمرافقتها ، صعدت وحدها مبهورة بالسماء الصافية ووجدت فلورنْتينوأَريثَا يتحدث الى القُبْطان في مركز القيادة ، بدا لها مختلفاً ، ليس لأنها رأته بعينَين أخريَين حينئذٍ وإنما لأنه كان مختلفاً بالفعل ، فبدلا من الملابس الجنائزية التي ارتَداها طوال حياته كان ينْتعل حذاءً أبيضاً ويرتدي بِنْطالاً وقَميصاً من الكتان مفتوحاً عند العنق وكمامه قصيرة وعلى جيبه الذي فوق الصدر نُقِشت الحروف الأولى من اسمه ، وكان يعتمر قُبعة أُسكتلندية بيضاء اللون أيضا ويضع نظارة ذات عدسات قاتمة فوق نظارة قِصَر النظر الأزَلية ، ومما لا شك في أن كل ذلك كان يُستخدم للمرة الأولى وأنه اشتراه من أجل الرحلة باستثناء حزام الجلد البني العتيق والذي لفت انتباه فرْمينا داثَا من النظرة الأولى وكأنه ذبابة في طبق حساء .
حين رأته على هذا الحال مرْتَدِياً ملابس متميزة من أجلها لم تستطع منع تورد ناري من الصعود الى وجنتَيها ، وانبهرت عند مصافحته وانبهرهو أكثر لانبهارها وإدراكهما بأنهما يتصَرَفان كخَطيبين زاد من انْبهارهما ووعيهما أنهما مُنبهرين كِليهما أبهرهما الى الحد الذي جعل القُبْطان سَماريتانو يلاحِظ ذلك بارتعاشة حب ، وأخرجهما من الحرج بأن شرح لهما مهامات القيادة والآلية العامة للسفينة خلال ساعتين .
كانو يُبْحِرون ببطء شديد في نهر بلا ضِفاف يتبدد بين كُثْبان رملية قاحلة حتى الأُفق وعلى عكس مياه المَصب العكِرة كانت تلك المياه بطيئة وصافية ولها بريق معدني تحت الشمس الحارقة ، وأحست فرْمينا داثَا بأن المكان هو دَلْتا تتتخللهاجزر رملية ، فقال لها القُبْطان : هذا ما تبَقى لنا من النهر .
لقد فُوجِئ فلورنْتينوأَريثَا حقا بالتبدل الذي أصاب النهر ، وازدادت مفاجأته في اليوم التالي حين أصبح الإبْحار أصعب ورأى أن النهر الأب نهر مَجْدَلِينا احد الأنَهار الكبرى في العالم ليس إلا وَهْماً من أوهام الذاكرة ، وأخبرهما القُبطان سَماريتانو أن عمليات قطع الغابات اللاعقلانية قد قضت على النهر خلال خمسين سنة ، فمَرَجِل السفن التهمت غابات الأشجار الضخمة المُتشابِكة التي أحَسَّها فلورنْتينوأَريثَا تُثقِل على أنفاسه في رحلته الأولى ، وأفنى صيادو جلود الدباغة القادمين من نيوأورليانز التماسيح التي كانت تتظاهر بالموت وأشداقها مفتوحة لساعات وساعات فوق رمال الضفاف لِتقتنص الفراشات ، بينما راحت تموت الببغاوات ذات الرطانة الغريبة والقرود ذات الصرخات المجنونة كُلما تناقصت الغابات ، بينما كانت الأَطَم التي تُرضِع صغارها من أثدائها الأمومية وتبكي بأصوات كأصوات النساء الثَكالى على الضفاف هي الصنف المفضل لصيادي المتعة .
كان القُبطان سَماريتانو يشعر نحو الأَطَم بعاطفة شبه أمومية ، لأنه كان يرى فيها سيدات مُسِخْنَ لخطيئة حب اقترَفْنها وكان يؤمن بصحة الأسطورة القائلة بأنها الإناث الوحيدة التي لا ذكور لها في مملكة الحيوان ، وكان يعارض دوما إطلاق النار عليها من سفينته كما هي العادة رغم وجود قوانين تحظر ذلك ، وقد رفض صَياد من كارولاينَا الشمالية يحمل وثائق نظامية الرضوخ لتعليماته يوما وهَشَّم رأس أَطومة أم بطلقة صائبة من بندقيته ، وبقي الوليد الذي أطار الألم صوابه يبكي صارخاً فوق جثة أمه المُمَددَة ، فَحَمَل القُبطان اليتيم ليتدبر له مَخرَجاً وترَك الصياد مَهْجوراً على الشاطئ المُقفر الى جوار جثة الأم المقتولة ، وقد أمضى ستة أشهر في السجن بفعل الاحتجاجات الدُبلماسية وكاد يفقد تصريح عمله كبَحّار ، لكنه خرج من السجن وهو مستعد لتكرار ما فعله كُلما اقتضى الأمر منه ذلك .
وقد كان ذلك الحادث حَدَثاً تاريخياً فالأطوم اليتيم الذي رُعِيَ عاش لِسنوات طويلة في حديقة الحيوانات النادرة في سان نيكولا دي لاس بَرَنْكاس كان الأطوم الأخير الذي شوهد في النهر .
قال القُبطان : كُلما مررت من هذا الشاطئ أدعو الله أن يعود ذلك الأمريكي للإبْحار في سفينتي كي أترُكَه وحيدا من جديد .
فرْمينا داثَا التي لم تكن تستلطفه أول الأمر أحست بمَيل شديد نحو ذلك المارد الرقيق وأنزلته منذ ذلك الصباح في منزلة متميزة من قلبها وقد أحسنت صُنعاً بذلك ، فالرحلة لم تكد تبدأ بعد وستجد مناسبات كثيرة لتتأكد أنها لم تكن مخطئة .
بقيت فرْمينا داثَا مع فلورنْتينوأَريثَا في مركز القيادة حتى موعد الغداء بعد قليل من مرورهما قُبالة بلدة كالامار التي كانت تعيش منذ بضع سنوات في عيد دائم ولم تعُد الآن سوى أطلال ميناء شوارعها مُقفرة ، الكائن الوحيد الذي رأوه من السفينة هو امرأة مُتَشِحة بالبياض تُلَوِّح بمنديل في يدها ، ولم تفهم فرْمينا داثَا لماذا لم يحملوها في السفينة مع أنها كانت تبدو مغمومة جدا ، ولكن القُبطان أوضح لها بأنها شبح امرأة غارقة تُلَوِح للمَراكب بإشارات مُخادعة لتحرفها نحو الدوامات المائية الخطرة عند الضفة الأخرى ، ولقد مروا قريبا جدا منها حتى أن فرْمينا داثَا رأتها بكل تَقاطيعها واضحة تماما تحت الشمس ، ولم تَرْتَب في أنها غير موجودة حقا لكن وجهها بدا مألوفاً .
كان يوما طويلا وقائظاً وقد رجعت فرْمينا داثَا الى القُمْرة بعد الغداء لتنام قيلولتها المعتادة ، لكنها لم تنَم نوماً مريحاً بسبب ألم أُذنها الذي اشتد بعد أن تبادلت السفينة تحية قوية سفينة أخرى تابعة لشركة الكاريبي للمِلاحة النهرية التقت بها على بُعد عدة فَراسِخ من بارانْكا بِييخَا .
قاطَع فلورنْتينوأَريثَا حلماً عابراً وهو جالس في الصالون الرئيسي حيث ينام معظم المُسافرين كما لو كان الوقت منتصف الليل ، حَلُمَ بِروسالْبَا قريبا جدا من المكان الذي رآها تنزل فيه من السفينة الى البر ، رآها في حلمه تُسافر وحدها بملابس من القرن الماضي وكانت هي وليس الطفل تنام القيلولة في قفص الخيزران المُعَلَّق على حافة جانب السفينة .
كان حلماً غامضاً ومُسليا في الوقت ذاته وبقي يعيش متعته طوال ما بعد الظُهْر حين كان يلعب الدومينو مع القُبطان واثنين من المُسافرين .
كان الحر يَخْمُد مع غروب الشمس فتنبعث الحياة في السفينة ، يخرج المُسافرون كما لو كانوا يخرجون من سُبات وقد استحموا وارتدوا ملابس نظيفة ويحتلون مَقاعد الخيزران في الصالة بانتظار العشاء الذي يعلن عنه في الخامسة تماما جارسون يذرع السفينة من طرف الى آخر وهو يَقْرَع وسط التصفيق الساخر جرس شمّاس ، وفيما هم يأكلون تبدأ الفرقة بعزف موسيقى فانداغو الراقصة ويستمر الرقص بعد ذلك حتى منتصف الليل .
لم تشأ فرْمينا داثَا العشاء بسبب ألم أُذنها ، وتفرجت على تحميل شُحنة الحطب الأولى للمَراجل وذلك في وَهْدَة جرداء حيث لا شيء سوى جذوع مُكَوَّمة ورجل عجوز جدا يُشرف على تلك التجارة ، لم يكن يبدو أن هناك أحدا على مدى فَراسِخ كثيرة ، ولقد كان التوقف بالنسبة لِفرْمينا داثَا بطيئاً ومُمِلاً وغير وارِد في عابرات المحيط الأوربية وكان الحر شديداً حتى داخل الالشُرْفة المُبَرَّدة ، ولكن حين انطلقت السفينة من جديد تحركت ريح باردة مُحَمَّلة بِرَوائح بطن الغابة وأصبحت الموسيقى أكثر مَرَحاً ، وفي بلدَة سيت نويغو كان ثمة ضوء وحيد ينبعِث من نافذة وحيدة في بيت وحيد ولم يعطِ مكتب الميناء الإشارة الاصطلاحية بوجود بضائع أو مُسافرين لحمْلِهم في السفينة لذلك تابعت السفينة قُدُماً دون أن تُطلقصُفارة تحية .
كانت فرْمينا داثَا قد أَمْضت طوال ما بعد الظُهْر متسائلة عن الذرائع التي كان سَيَلجأ إليها فلورنْتينوأَريثَا ليراها دون أن يَقْرَع باب القُمْرة ، ولم تعُد عند حلول الليل قادرة على احتمال شوقها للقائه فخرجت الى المَمَر على أمل اللقاء به بشكل يبدو عرَضياً ، ولم يكن عليها أن تمشي كثيرا ، كان فلورنْتينوأَريثَا يجلس على احد مَقاعد الممَر صامتاً وحزيناً كما كان يجلس في حديقة البشارة ، وكان يُسائل نفسه منذ أكثر من ساعتين ما الذي سيفعله ليراها ، وأبدى كلاهما سيماء الدهشة والمفاجأة التي يُتقنان تصَنُّعها على حد سواء ، ومَضَيَا معاً الى القسم المخصص لرُكّاب الدرجة الأولى من سطح المرْكب وكان يغص بمسافرين شبان معظمهم من الطلبة الصاخبين الذين يُنهكون أنفسهم مع بعض القلق في الحفلة الأخيرة من الإجازة .
وتناول فلورنْتينوأَريثَا وفرْمينا داثَا من الْكَنْتين زجاجتَي مرطبات وهما جالسان كالطلاب مقابل البار ، ورأت نفسها فجأة في موقف مخيف وقالت : يا للهَوْل .
وسألَهَا فلورنْتينوأَريثَا ، ما الذي تُفكر به ويُسبب لها هذا الانطباع ؟
فقالت : بالعجوزَين المسكينَين اللذَين قُتِلا بضربات المجداف في القارب .
ومَضَيَا للنوم عندما توقفت الموسيقى بعد مُحادثة طويلة دون عَثَرات في الشُرْفة المظلمة .
لم يكن هناك قمر ، وكانت السماء مُلَبَدة وفي الأفق تَلمَح بروقاً بلا رعود فتضيئها لِهُنَيْهة ، لف لها فلورنْتينوأَريثَا لها السجائر لكنها لم تُدخن منها سوى أربعة وهي تتعذب بالألم الذي كان يهدأ لحظات ثم ما يلبث أن يشتد حين تَجأر السفينة لدى لقائها بسَفينة أخرى أو مرورها مُقابل قرية هاجعة أو حين تَمْضي ببطء لِتَسْبُر عمق النهر .
رَوى لها كيف كان يراها بشوق في مهرجانات الربيع وفي رحلة المِنطاد وعلى الدراجة الأَكرُباتية ، وحَدَّثها عن الشوق الذي كان ينتظر به الاحتفالات العامة طوال السنَة وذلك ليراها فقط .
وكانت هي تراه في مناسبات كثيرة ، ولم تتصور يوماً بأنه موجود ليراها فقط ومع ذلك فقد تساءلت فجأة حين قرأت رسائله قبل أقل من سنة : كيف أمكن له ألّا يشارك أبدا في مسابقات مهرجان الزهور لأنه كان سيفوز دون رَيب ؟
وَكَذَب فلورنْتينوأَريثَا عليها ، لم يكن يكتب إلا لها ، جميع أشعاره لها ولم يكن يقرؤها احد سِواه ، حينئذٍ بحثت هي عن يده في الظلام ولم تجدها في انتظارها كما انتَظَرَت هي يده في الليلة السابقة وإنما أمسكت بها بغتةً .
فتجمد قلب فلورنْتينوأَريثَا وقال : يا لغرابة النساء .
أفلتت ضحكة عميقة ، ضحكة يمامة فتية ، وعادت تُفكر بشيخَي القارب ، لقد كان ذلك مُقَدَّراً وسَتُُلاحقها تلك الصورة دوما ، لكنها قادرة على احتمالها هذه الليلة لأنها تشعر بالطمأنينة والراحة كما شعرت مرات قليلة في حياتها .
أحست أنها مُطَهَّرة من أي خطيئة ، وكانت قادرة على البقاء هكذا حتى الفجر صامتة ويده تتعَرق في يدها ، لكنها لم تستطع احتمال ألم أُذنها ، فحين انطفأت الموسيقى وتوقفت حركة مُسافري الدرجة العادية الذين كانوا يعَلِّقون أَراجيح نومهم في الصالة أدركت أن ألمها أقوى من رغبتها في البقاء معه ، كانت تعلم أن مجرد إخباره بأَلمِها سيخفِف عنها لكنها لم تفعل كي لا تُقلقه ، إذ كانت تشعر حينئذٍ بأنها تعرفه كما لو أنها عاشت معه حياتها كلها ، وكانت ترى أنه لن يتورع عن إعطاء الأمر بعودة السفينة الى الميناء إذا كان هذا يُخَلِّصها من الألم .
أحس فلورنْتينوأَريثَا أن الأمور هذه الليلة ستمضي على هذا الحال فانسحب ، وفيما هو عند باب القُمْرة حاول توديعها بقُبْلة لكنها وضعت له خدها الأيسر ، فأَصَر وقد تَهَدَّجَت أنفاسه ، فقدمت له خدها الآخر بِغُنْج لم يعرفه في تلميذة مدرسة ، وعندئذٍ أصر للمرة الثانية فَتَلَقَته بشفتيها وضمته برعشة عميقة حاولت خنقها بضحكة مَنسية منذ ليلة زفافها وقالت : رباه كم أنا مجنونة في السفن .
ارتعش فلورنْتينوأَريثَا فقد كانت تنبعِث منها حقا كما قالت رائحة الشيخوخة ، ولكنه فيما كان يتقدم نحو قُمْرته شاقاً طريقه وسط مَتاهة أَراجيح النائمين عَزَّى نفسه بأن له رائحة كتلك إلا أنها أكبر بأربع سنوات ولا بد أنها أحستها بالانفعال نفسه .
إنها رائحة الخمائر البشرية التي أحَسَها في عشيقاته القديمات وأحسسنها فيه ، لقد قالت له أرمَلة ناثاريت التي لا تُخْفي شيئا بطريقة فَجَّة يوما ً : إن رائحتنا أصبحت كرائحة طيور الرخمة .
وكان كلاهما يحتمل رائحة الآخر لأنهما كانا متساويَين ، رائحتي مقابل رائحتك ، لكنه كان شديد الحذر مع أمريكا فيكونيا فرائحة الأقمِطة التي تنبعِث منها كانت تُوقِظ غرائزه الأمومية ، لكنه كان يتعذَب لفكرة أنها لا تستطيع احتمال رائحته ، رائحة الشيخ المُتصابي ، غير أن هذا كله أصبح من الماضي ، والمهم الآن هو أن فلورنْتينوأَريثَا لم يشعر بسعادة كسَعادته هذه الليلة منذ ذلك المَساء الذي تركت فيه العمَّة أسْكولا أَسْتيكا كتاب الصلوات على طاولة مكتب التلغراف ، إنها سعادة غامرة الى حدي يبعث فيه الخوف
كان قد بدأ يغفو حين أيقظه مراسِل السفينة في الساعة الخامسة عند ميناء كانبْرانو لِيسلمه برقية مستعجلة ، كانت البرقية تحمل توقيع ليونَا كاسياني وتاريخ اليوم السابق وكل رعبها ضَمَّنته في سَطْر واحد : أمريكا فيكونيا ماتت أمس ، الأسباب غير معروفة .
وفي الساعة الحادية عشرة صباحا عرف التفاصيل من خلال اتصال تلغرافي مع ليونَا كاسياني وقام هو نفسه بالعمل على جهاز الإرسال كما لم يفعل منذ سنواته كعامل تلغراف ، وعَلِم أن أمريكا فيكونيا التي وقعت ضحية إحباط قاتل لِرُسوبِها في الامتحانات النهائية ، شَرِبت قنينة لودانوم سَرَقَتْها من مستوصف المدرسة .
كان فلورنْتينوأَريثَا يعلم في أعماق روحه أن ذلك الخبر غير مكتمل ، ولكن لا فأمريكا فيكونيا لم تَترُك أية ملاحظة تُتيح إلقا مسؤولية قرارها على أحد ، كان أفراد عائلتها قد وصلوا من بويورْْتوبادْري بعد أن أَعْلَمَتهمليونَا كاسياني بالأمر وسيتم الدفن في الخامسة مَساءً .
تَنَفَّس فلورنْتينوأَريثَا الصعداء فالشيء الوحيد الذي يستطيع عمله كي يستمر في الحياة هو ألّا يسمح لنفسه بالعذاب في تلك الذكرى ، مَحَا الأمر من ذاكرته رغم أنه سيشعر به ينبعِث على نحو مفاجئ بين الحين والآخر في سنوات حياته الباقية دون أي داعٍ وكأنه وخزة عابرة في جرح قديم مُندَمِل .
كانت الأيام التالية حارة لا تُطاق ، وأصبح النهر عَكِراً وأخذ يضيق شيئا فشيئا ، وبدلا من الأشجار الضخمة المُتشابِكة التي أذهلت فلورنْتينوأَريثَا في رحلته الأولى كانت هناك بِطاح كِلْسية وبقايا غابات التهمَتْها مَراجِل السفن وأنقاض قرى مهجورة لرَحمة الله ما زالت شوارعها غارقة في أزمنة الجفاف القاسية ، ولم تكن توقظهم في الليل أغنيات عرائس الماء التي تُغَنّيها الأَطَم على الضفاف وإنما روائح النتانة المُنْبعِثة من الجثث التي تمُر طافية صوب البحر .
لم تكن ثمة حروب ولا أوبئة ، لكن الجثث المُنْتفِخة ما زالت تمُر طافية وقد كان القُبْطان متواضعاً لِمرة واحدة : لدينا أوامر بأن أقول للمُسافرين بأنها جثث غرقى .
وبدلا من رطانة الببغاوات وصخب القرود اللامرئية التي كانت تُفاقِم من احتدام حَر الظهيرة في أزمنة أخرى لم يبقَ سوى صمت الأرض الخراب .
كانت أماكن التحطيب المتبقية قليلة جدا ومتباعدة أحدها عن الآخر مما أبقى وفاء الجديدة بلا وقود بعد أربعة أيام من بدء الرحلة ، ورست لمدة أسبوع تقريباً الى أنْ توغل أفراد الطاقَم في المستنقعات الرمادية بحثاً عن آخِر الأشجار المُبعثَرة ، لم تكن هناك أشجار أخرى فالحطّابون هجروا عملهم هرباً من قسوة مُلّاك الأراضي وهرباً من الكوليرا اللامرئية وهرباً من الحروب الخفية التي تحاول الحكومات التَسَتُر عليها بِمَراسيم تُشغِل الناس عنها ، وأثناء ذلك نَظَّم المُسافرون الضجِرون مسابقات في السباحة وحملات صيد كانوا يعودون منها بعظاءات ضخمة حية يشقون صدورها ويعيدون خياطتها ثانية بإبَر تَنجيد بعد أن يستخرجوا منها عناقيد البيض البراقة الطرية التي يعلقونها في سلاسل لِتجِفَّ على حواف السفينة .
واقتَفَت عاهِرات القرى المجاورة البائسات آثار حملات الصيد فنصبن خياماً مُرتجلة عند ضفة النهر وجِئْنَ بالموسيقى والخمر وأَقَمْنَّ مهرجاناً مقابل السفينة المتوقِفة .
قبل أن يصبح رئيساً لشركة الكاريبي النهرية بوقت طويل كان فلورنْتينوأَريثَا يتلقى تَقاريراً مفزعة عن حالة النهر ، لكنه لم يكن ليهتم بقراءتها ، وكان يُطَمْئِن شُركاءه : لا تَقلَقوا فحين ينتهي الحطب ستكون قد بُنِيَت سفن تعمل بالبترول ، ولم يكَلِّف نفسه يوما مشقة التفكير بالأمر لأنه كان مبهوراً بهَوَى فرْمينا داثَا ، وحين وعى الحقيقة كان الوقت قد فات ولم يعُد بإمكانه عمل شيء اللهم إلا شق نهر جديد .
في الليل وحتى في مَواسِم ارتفاع منسوب الماء كان لا بد من ربط السفن للنوم ، وحينئذٍ يصبح مجرد كون المرء حياً أمراً لا يُطاق ، فيغادر معظم المُسافرين والأوربيين منهم بشكل خاص عُفونة القُمْرات ويقضون الليل سائرين على سطح السفينة وهم يَهُشّون جميع أنواع الالهَوام بالمَناشف ذاتها التي يمسحون بها عرَقهم المتواصل ، ويُدركهم الصباح وهم مُنْهَكون ومتوَرِمون بلَسع الحشرات .
لقد كَتَب رَحّالة إنجليزي في أوائل القرن التاسع عشر مُشيراً الى الرحلة التي كانت تتم في الزوارق أولا ثم على مَتْن البغال والتي كانت تدوم حتى خمسين يوماً يقول : إنها من أسوأ الأسْفار التي يمكن لإنسان أن يقوم بها وأكثرها مشقة .
ولكن هذا التقرير لم يعُد صحيحا خلال ثمانين سنة الأولى من الملاحة البُخارية ثم عاد ليصبح كذلك وإلى الأبد حين أكلت التماسيح آخِر الفراشات وانقرضت الأَطَم الأمومية واختفت الببغاوات والقرود والقرى ، وانتهى كل شيء .
كان القُبطان يقول ضاحكاً : لا وجود لأي مشكلة فخلال سنوات سَنذْرَع مجرى النهر الجاف بسيارات فاخرة .
احْتَمت فرْمينا داثَا وفلورنْتينوأَريثَا خلال الأيام الثلاثة الأولى في كَنَف الشُرْفة المغلقة ذات الجو الربيعي ، ولكن جهاز التبريد بدأ يتوقف حين جرى تقنين الحطب ، فتحوَّلت القُمْرة الرئاسية الى ما يشبه طنجرة الضغط ، وكان الفضل في بقاء فرْمينا داثَا على قيد الحياة يعود الى الهواء النهري الذي يدخل من النوافذ المَفتوحة
، كان قد بدا يغفو ، فيما هي تَهُشُّ البعوض بالمِنْشفة لأن مضخة المُبيد الحشري كانت بلا جدوى أثناء توقف السفينة ، وأصبح ألم أذنها لا يطاق ، لكنه توقف تماما عند استيقاظها في احد الأيام فجأة كما يتوقف غناء زيز منفجِر ولكنه لم تُدرك حتى حلول الليل أنها فقدت السمع بأذنها اليسرى وذلك حين كلَّمها فلورنْتينوأَريثَا من هذه الجهة فاضطرت لأن تلتفت برأسها كي تسمع ما يقوله .
لم تخبر أحداً بذلك مؤمنة بأن الأمر ليس سوى نقيصة أخرى لا مَناص منها من نقائص التقدم في السن ، لكن تأخر السفينة كان بالنسبة لهما محنة مُباركة رغم كل شيء ، ولقد قرأ فلورنْتينوأَريثَا ذلك يوماً ، "إن الحب يصبح أعظم وأنبل في المحن" .
كانت رطوبة القُمْرة الرئاسية تُغرقهما في سُبات لا واقعي يصعب الحب فيه دون أسئلة .
كانا يعيشان ساعات لا يمكن تخيلها وهما يُمسِكَان أحدهما بيَد الآخر أثناء جلوسهما على مَقاعد الشُرْفة ، يتبادلان قُبَلاً بطيئة وينعمان بنشوة المُداعبات دون عراقيل الغضب .
وفي ليلة السُبات الثالثة انتظرته وقد هيأت زجاجة من خمر اليانسون الذي كانت تشرب منه خِفْية مع عصبة ابنة خالها هيلْدا براندا ، ثم مع صديقات عالمها المستعر فيما بعد حين تزوجت وصارت أُمّاً .
لقد كانت تحتاج الى بعض النشوة كي لا تُفكر في مصيرها بوعي تام ، ولكن فلورنْتينوأَريثَا ظن أنها تريد بذلك الحصول على الشجاعة للإقدام على الخطوة الأخيرة ، ومدفوعاً بهذا الوهم تجرأ على التقدُم برؤوس أصابعه لاستكشاف عنقها الذاوي وصدرها المُصفح بأسياخ معدنية وردفيها العَظميَين المُتآكلَين وفخذَي الغزالة الهَرِمَة ، وتَقَبَّلت ذلك مُنتشيَة بعينَين مغمضتين ولكن دون ان ترتعش ، وفيما هي تُدخن وتشرب رَشَفات مُتباعدة من الخمر ، وأخيرا حين نزلت المُداعبات الى بطنها وأصبحت كمية الخمر في قلبها كافية قالت : إذا كنا سنمارس الحماقات فلْنفعل على أن يكون ذلك كأُناس طعانين في السن .
قادته الى المَخْدَع وراحت تتعرى دون خَفْر زائف تحت الأنوار المُضاءة ، واسْتلْقى فلورنْتينوأَريثَا على ظهره فوق السرير محاوِلا استعادة السيطرة على نفسه دون أن يدري ثانيةً ما الذي يفعله بجلْد النمر الذي قتَلَه .
قالت له : لا تنظر .
فسألَهَا : لماذا ؟
دون أن يرفع نظره عن السقف الأَمْلَس .
فقالت : لأنني لن أُعْجِبَك .
عندئذٍ نظر إليها ورآها عارية حتى وسطها تماما كما تخيلها ، وثدياها مُتَهدلَين وأضلاعها مغطاة بجلد شاحب وبارد كجلد الضفدع ، غطت صدرها بابلوزتها التي انتهت من خلعها وأطفأت النور .
حينئذٍ اعتدل في السرير وبدأ بخلع ملابسه في الظلام ، قاذفاً إياها بكل قطعة يخلعها من ثيابه ، وكانت تُعيد قذفه بها وهي غارقة في الضحك .
بَقيا مستلقيَين على ظَهرِيْهِما لوقت طويل ، وكان يزداد ذهولا كُلما فارقته النشوة فيما هي هادئة وشبه هامدة ، لكنها كانت تدعو الله ألّا يجعلها تنفجر بالضحك دون سبب مثلما يحدث لها كُلما فقدت السيطرة على نفسها بفعل خمر اليانسون .
تَحَدَّثَا لشغل الوقت ، تَكَلَّمَا عن نفسيهما وعن حياتَيهما المختلفتين وعن المُصادَفة التي لا تُصَدَّق في كونهِما عاريَين داخل قُمْرة مظلمة في سفينة متوقِفة ، في الوقت اللذي كان عليهما أن يفكرَا بأنهما لم يبقَ لديهما مُتَّسَع من الوقت إلا لانتظار الموت .
لم تكن قد سَمِعت يوما أنه كان على علاقة بامرأة ، ولو بامرأة واحدة في مدينة يَشيع فيها كل شيء قبل حدوثه ، قالت له ذلك عرَضاً .
فرد عليها مباشرةً ودون أية ارتعاشة في صوته : لقد احتفظت بِعُذرِيَتي من أجلكِ .
ما كانت ستُصَدِّق ذلك على أية حال حتى ولو كان صحيحاً لأن رسائله الغرامية كانت مصوغة من عبارات كتلك التي لا تكمن قيمتها في معناها وإنما في قدرتها على الإبهار ، لكنها أُعْجِبَت بالشجاعة التي قال فيها ذلك .
وتساءل فلورنْتينوأَريثَا بدوره بغتةً حول الأمر الذي ما كان يتجرأ على التفكير فيه : أي نوع من الحياة السريَة مارست على هامش حياتها الزوجية ؟
ولم يكن لِيُفاجأ بأي شيء لأنه كان يعلم أن النساء مثل الرجال في مغامرتهن السرية يلجأْنَ الى الحِيَل ذاتها والمكائد المُباغتة ذاتها والخيانات بلا وازع من ضمير ذاتها ، ولكنه ئأحسن صُنعاً بعدم توجيه السؤال إليها ، ففي حقبة كانت علاقاتها بالكنيسة متردية الى حد بعيد سألَها كاهن الاعتراف دون أي مُبرر إذا ما كانت غير وفية لِزوجها يوما ، فنَهَضَت دون أن تُجيب ودون أن تنتهي ودون أن تُوَدِّع ، ولم تعُد منذ ذلك الحين للاعتراف سواءً مع هذا الكاهن أو مع أي كاهن آخر .
أما فِطنة فلورنْتينوأَريثَا فقد جاءت بمردود غير مُنتَظَر ، مدت يدها في الظلام وداعبت بطنه وخاصرته وعانته شبه المَرداء وقالت : إن لك بشرة طفل رضيع .
ثم قامت بخطوة أخيرة ، بحثت عنه حيث لم يكن ، وعادت تبحث دون أوهام ، فوجدته أعزل .
قالت : إنه مَيِّت .
لقد كان يحدث ذلك له دوما في المرة الأولى معهن جميعاً ودائما الى أنْ تعَلَّم التعايش مع ذلك الوهم ، في كل مرة عليه أن يتعَلَّم من جديد كما لو كانت المرة الأولى .
أَمسَك يَدَها ووضعها على صدرِه ، فأحست فرْمينا داثَا عند سطح الجلد تقريباً بالقلب الهَرِم الذي لا يَكِلُّ وهو يَخْفِق بقوة وسرعة وعدم انتظام قلب مراهق فقال : إن حُبّاً فائضاً له من التأثير على القلب كما لقلة الحب .
لكنه قال ذلك دون قناعة ، كان خَجِلاً وغاضباً من نفسه يتلهف الى مُبرر يتيح له اتهامها بإخفاقه ، وكانت تعرف ذلك فأخذت تستفز الجسد الأعزل بمداعبات ساخرة كقطة ناعمة تتلذذ بالقسوة الى أنْ فقدَ القدرة على احتمال مزيد من العذاب ، ومضى الى قُمْرته .
تابعت التفكير فيه حتى الفجر مُقتنعةً أخيرا من حبها له ، وكُلما كان الخمر يُفارقها بموجات بطيئة كان القلق يهاجمها بأنه قد غضب منها ولن يعود أبدا ، لكنه عاد في اليوم ذاته في الساعة الحادية عشرة غير المألوفة ، وكان مُنْتعِشاً ومُرَمَّماً ووقف يتعرى أمامها بشيء من المُباهاة ، وابتهجت وهي تراه تحت الضوء الغامر كما تخيلته في الظلام ، رجلا بلا سن محدد ، ذا بشرة قاتمة ومشدودة كَمِظلة مفتوحة دون أيشَعْر سوى بعض الزَغَب السَبِط تحت الإبطَين وفي العانة ، سلاحه عامراً ، وانتبهت أنه لا يُظهره مُصادفةً وإنما هو يعرضه كنُصُب حربي لِيَبُث الشجاعة في نفسه .
لم يُتِحْ لها الفرصة لخلع قميص نومها الذي لَبِسَتْه حين بدأ يهب نسيم الفجر ، وسبَّب لها تَسرُعه كمُبْتَدِئ ارتعاشة عطف ، لكنها لم تُزْعِجها إذ لم يكن عليها من السهل في حالة كتلك التمييز بين العطف والحب ، ومع ذلك فقد أحست آخِر الأمر بالخواء .
كانت المرة الأولى التي تُمارس فيها الحب منذ أكثر من عشرين سنة ، وقد مارسته مدفوعة بفضول التعرف الى كنهه في سنها وبعد عطلة طويلة الأمد ، لكنه لم يُتِح لها الوقت الكافي لتعرف إذا ما كان جسدها يحبه أيضا ، لقد كان سريعاً وحزيناً .
وفَكَّرَت ، ها نحن ذا قد أفسدنا كل شيء الآن .
لكنها كانت مخطئة ، فرغم خيبة أملهما ، ورغم ندمه لبلادته ، وتأنيبها نفسها لجنون اليانسون لم يفترقَا عن بعضهما للحظة واحدة خلال الأيام التالية ، ولم يُغادرَا القُمْرة إلا قليلا لتناول الطعام .
وكان القُبطان سَماريتانو الذي يكتشف بالغريزة أي سر مُخَبَأ في سفينته يبعث إليهما بالوردة البيضاء كل صباح ويأمر بعزف موسيقى من زمنهما وَيُعِدّ لهما أصنافاً من الطعام بطريقة لا تخلو من مزاح ، وذلك بأن يضيف إليها مواداً مُهَيِّجة .
ولم يحاولا ممارسة الحب إلا بعد وقت طويل حين جاءهما الإلهام دون أن يسعيَا في طلبه ، لقد كانا يكتفيان بسعادة وجودهما معاً .
لم يفكرَا بالخروج من القُمْرة لولا أن القُبْطان بعث إليهما يخبرهما بأن السفينة ستصل بعد الغداء الى ميناء لادورادا الميناء الأخير بعد أحد عشر يوما من السفر .
ورأت فرْمينا داثَا وفلورنْتينوأَريثَا من القُمْرة رابية البيوت المُضاءة بشمس شاحبة ، وظنا بأنهما توصلَا لِمعرفة سبب تسمية البلدة بهذا الاسم ، لكن الأمر ما لَبِث أن بدا لهما أقل وضوحاً حين أحسَا بالحَر يلهث مثل مَرَاجِل السفينة ورأيَا إسْفَلْت الشوارع وهو يَفور ، ثم إن السفينة لم تتوقف هناك وإنما رست عند الضفة المقابلة حيث المحطة النهائية لقطار سانْتافي .
غادرَا مَخْبَأَهُما فور نزول المُسافرين الى البر ، وتنفست فرْمينا داثَا هواء الخلاص الطيب في الصالون الخاوي ، وراقب كلاهما من حافة السفينة الحشود الصاخبة التي كانت تبحث عن أمتعتها في عربات القطار الذي بدا أشبه بدُمْية .
كان يمكن الاعتقاد بأنهم قادمون من أوربا وخصوصاً النساء اللواتي كُنَّ يرتدينَ المَعاطف الشمالية وقُبعات القرن الماضي التي كانت تُشكل نقيضاً للقيظالأغبر ، وكانت بعض النسوة يُزَيِّنَّ شعورهن بأزهار بطاطا ذابِلة بفعل الحَر ، إنهن قادمات من السهل الإنديزي بعد رحلة في القطار عبر سهوب حالمة ، ولن تَسْنَح لهن الفرصة بعد لاستبدال ملابسهن بما يتلاءم مع جو الكاريبي .
وسط صخَب السوق كان ثمة رجل عجوز يُخرج صيصَانً من جيوب معطفه الذي كمِعْطف متسول ، لقد ظهر فجأة شاقً طريقه وسط الحُشود بمعطف مُرَقَّع لا بد أنه كان لشخص أكثر منه طولاً وبدانة ، خلَع قُبَعَته ووَضَعها على الرصيف ليلقي بها نُقوداً من يشاء الإلقاء ، وراح يُخرج من جيوبه حِفْنات من صيصَان لَيِّنة وباهِتَة بدت وكأنها تتكاثَر بين أصابعه ، وبدا رصيف الميناء خلال لحظة وكأنه مفروش بالصيصَان المُرتعدة التي تُزقزق في كل مكان بين المُسافرين المُتعجلين الذين يَدوسونها دون أن يشعروا بها .
وفيما فرْمينا داثَا مسحورة بالمشهد الرائع الذي بدا وكأنه يجري على شرفها لأنها الوحيدة التي كانت تُراقبه ، لم تنتبه متى بدأ المُسافرون في رحلة العودة يصعدون الى السفينة .
لقد انتهت حفلتها ، إذ رأت بين القادمين عددا كبيراً من الوجوه المعروفة ، منهم بعض الأصدقاء الذين رافَقوها في حدادها منذ وقت قريب ، فسارعت الى اللجوء مُجدداً في القُمْرة .
وجدها فلورنْتينوأَريثَا مذعورة ، كانت تفضل الموت على أن يكتشفها جماعتها وهي في رحلة متعة ، ولم يمضِ على موت زوجها سوى هذا الوقت القليل .
وقد تأثر فلورنْتينوأَريثَا شديد التأثُر لجزعِها مما جعله يَعِدُهَأ بالتفكير في وسيلة لِحمايتها غير السجن في القُمْرة .
لقد خطرت له الفكرة فجأة أثناء تناولهما العشاء في صالة الطعام الخاصة ، كان القُبْطان قلقاً لمشكلة يريد أن يناقشها منذ زمن طويل مع فلورنْتينوأَريثَا الذي كان يتجنب الخوض في هذا الحديث دوما بذَريعة عادية : بإمكان ليونَا كاسياني تَدَبُّر هذه الأمور خيراً مني .
ولكنه استمع إليه هذه المرة ، المسألة هي أن السفن تشحن البضائع في صعودها ولكنها تعود فارغة في رحلة العودة ، بينما يكاد يحدث العكس بالنسبة للمُسافرين وقال : هذا مع أفضلية البضائع لأن أجور شحنها أعلى إضافة الى أنها لا تأكل .
كانت فرْمينا داثَا تتناول العشاء بلا شهية ، ضجِرة من المناقشة الخافتة بين الرجُلَين حول ضرورة إقرار فروق في التَعْرِفة .
استمع فلورنْتينوأَريثَا حتى النهاية ، وحينئذٍ فقط وجَّه سؤالاً بدا لِلقُبطان على أنه فكرة الخلاص إذ قال : أيمكننا نظرياً القيام برحلة مباشِرة بلا حمولة ولا مُسافرين ودون التوقف في أي ميناء ودون أي شيء ؟
وقال القُبطان : إن ذلك ممكن نظرياً فقط لأن لدى ش ك م ، التزامات عمل يعرفها فلورنْتينوأَريثَا أفضل من سِواه ، وهي مُلتزمة بعقود لِشحن البضائع والركّاب والبريد وأشياء اخرى كثيرة لا يمكن تجنب معظمها ، والسبيل الوحيد الذي يُتيح القفز فوق كل شيء هو وجود مُصاب بالوباء على مَتْن السفينة ، لأن السفينة ستُعتبَر حينئذٍ محجورة صحياً وسترفع الراية الصفراء وتُبْحِر في حالة طوارئ .
لقد اضطَرَّ القُبطان سَماريتانو لعمل ذلك عدة مرات بسبب إصابات الكوليرا الكثيرة في قرى النهر ، رغم أن السلطات الصحية كانت تُجبِر الأطباء فيما بعد على إصدار وثائق تُثبِت أن الحالة ليست إلا ديزينْتارْيَا عادية ، ثم إن راية الوباء الصفراء رُفِعَت كثيراً عبر تاريخ النهر للتهرب من الضرائب أو للتخلص من مُسافر غير مرغوب فيه أو للحيلولة دون عمليات التفتيش غير الملائمة .
وَجَد فلورنْتينوأَريثَا يد فرْمينا داثَا المائدة وقال : حسناً فلْنَفْعل هذا .
فوجِئ القُبْطان ، ولكنه بغريزة الثعلب العجوز التي يتمتع بها رأى كل شيء واضحاً في الحال فقال : أنا آمِر في هذه السفينة ، ولكنك تأْمُر علينا فإذا كنت تتكلم بجد اعطِني الأمر مكتوباً وسننطلق الآن في الحال .
كان جدياً بالطبع ، وَوَقَّع فلورنْتينوأَريثَا الأمر ، فالجميع يعلمون في نهاية المَطاف أن الكوليرا لم تنتهِ بعد رغم إحصائيات السلطات الصحية المتفائلة ، أما بالنسبة للسفينة فلا وجود لأية مشكلة ، تم تحويل البضائع القليلة لنقلها في سفينة أخرى ، وقيل للمُسافرين إن عُطْلاً طرأ على المُحركات وأنهم سينقلونهم في سفينة تابِعة لِشركة أخرى في الصباح .
ولم يجد فلورنْتينوأَريثَا ما يمنع من اقتراف هذه الأمور في سبيل الحب إذا كانت تُقْتَرَف لأسباب كثيرة غير أخلاقية وغير وقورة أحيانا ، والرجاء الوحيد الذي تقدم به القُبْطان هو التوقف في ميناء بويَرتوناريه لاصطحاب من تُرافقه في الرحلة فقد كان له قلبه المُخَبَّأ أيضا .
وهكذا أبحرت وفاء الجديدة عند فجر اليوم التالي بلا بضائع ولا مُسافرين ، فيما راية الكوليرا الصفراء تَخْفِق طرباً على صاريها الأكبر ، وعند الظُهْر التقطوا من ميناء بويَرتوناريه امرأة أطول من القُبْطان وأضخم منه ذات جمال فضيع لا تنقصها سوى اللحية كي تتعاقد للعمل في سيرك ، زِينايْدَا يَنْفِس لكن القُبْطان كان يدعوها ممسوسَتي ، إنها صديقة قديمة اعتاد حملَها من احد الموانئ وتركها في ميناء آخر ، وما أن صعدت الى السفينة حتى هَبَّت ريح شديدة مواتية .
وفي ذلك الحَجْر الكئيب استَعاد فلورنْتينوأَريثَا الحنين لذكرى روسالْبَا وهو يرى قطار أنفيغادو يصعد بمشقة على الطريق القديم الذي كانت تسلكه البغال .
وهَطَل وابل من المطر الأمزوني سيستمر طوال الرحلة تتخلله انقطاعات قصيرة ، ولكن أحداً لم يهتم لذلك إذ أن للحفْلة العائمة سقفها الخاص .
في تلك الليلة وكمساهمة شخصية في الحفلة نزلت فرْمينا داثَا الى المَطابخ وسط تشجيع طاق السفينة وأعدت طَبَقاً مُبْتَكَراً للجميع ، عَمَّدَه فلورنْتينوأَريثَا باسم باذنجان الحب .
كانوا يلعبون الورق خلال النَهار ويأكلون حتى التُخمة وينامون قَيْلَولاتغرانيتية تستنفذ قواهم ، وما أن تغيب الشمس حتى يُطلقون الموسيقى ويشربون خمر اليانسون مع السَلَمون الى ما بعد الارتواء .
لقد كانت رحلة سريعة في السفينة الخفيفة والمياه الطيبة التي تحسنت بالفيَضانات الرافدة من الجبال حيث هطَل مطر غزير في ذلك الأسبوع كالمطر الذي هطَل على طول مجرى النهر ، وكانوا يطلِقون لهم في بعض القرى مَدافع الرحمة لإفزاع الكوليرا فيردون شاكرين بجُآر حزين ، وكُلما التقوا بسَفينة تابِعة لأي شَركة نهرية كانت تُبادلهم إشارات المواساة ، وفي بلدَة ماغانغيه حيث وَلِدَت ناديَا حملوا حطباً لِبقية الرحلة .
فزعت فرْمينا داثَا حين بدأت تحس بِصُفّارة السفينة تُدَوِّي في أذنها السليمة ، ولكنها في اليوم التالي من تناول خمر اليانسون أصبحت تَسْمَع جيدا بكِلتا أذنيها ، واكتشفت أن للأزهار رائحة أقوى بكثير من رائحتها السابقة وأن العصافير تُغرِد في الصباح أفضل بكثير من تَغريدِها السابق وأن الله خلَق أَطَومَة ووَضَعَها ضفة تامَالاميكي لتوقظها فقط .
سََمِعها القُبُطان فحرَف السفينة عن مسارها ورأوا أخيرا الأم الضخمة وهي تُرضع صغيرها على ذراعَيها .
لم تنتبه فرْمينا كما لم ينتبه فلورنْتينوأَريثَا كيف اندمجَا معاً الى هذا الحد ، كانت تُساعده في ارتداء سُترته ، وتستيقظ قبله لِتُنَظِّف بالفُرشاة أسنانه الإصطناعية التي يتركها في كأس الماء حين ينام ، وحُلَّت مشكلة النَّظّارات لأن نَظّارته كانت تناسبُها للقراءة ورَفو الجوارب ، وعند استيقاظها في صباح احد الأيام رأته في الظلمة يخيط زراً لِقميصِه فسارع لتفعل ذلك بنفسها قبل أن يكرر العبارة الروتينية عن حاجته لِزوجتين ، والشيء الوحيد الذي طلبته هي منه كان أن يضع لها كأس حجامة لألم أصاب ظهرها ، ومن جهة أخرى كان فلورنْتينوأَريثَا يتحرق شوقاً للعزف على كمان الفرقة الموسيقية ، وقد استطاع أ، يَعزف لها فالس الربة المتوجَة بعد أن تدرب عليه في نصف نَهار ، وعزَفَه خلال ساعات وساعات الى أنْ أوقفوه مُكرَهاً .
وفي إحدى الليالي استيقظت فرْمينا داثَا للمرة الأولى في حياتها مُختنِقة ببكاء لم يكن وليد غضب وإنما بكاء حزن لذكرى العجوزَين اللذَين ماتَا بضربات مِجداف صاحب القارب الذي كانا فيه ، أما المطر المتواصل فلم يكن يُؤَثِّر فيها وفكَّرت أخيرا أن باريس قد لا تكون كئيبة الى الحد الذي تصورته من قبل وأن سِنْتافي ليست مدينة جنازات كثيرة تجوب الشوارع فقط ، ووَسَّع من آفاقها الحلم برحلات أخرى مع فلورنْتينوأَريثَا في المستقبل ، رحلات مجنونة بلا صناديق كثيرة وبلا التزامات اجتماعية .
أقاموا عشية الوصول حفلة كبيرة وعَلَّقوا أكاليل ورقية ومصابيح ملونة ، كان المطر قد توقف عن الهطول عند المَغيب ورقَص القُبْطان وزِينايْدَا مُتلاصقين رقصة البولير والتي كانت تخلب القلوب في تلك السنوات ، وتجرأ فلورنْتينوأَريثَا فاقترح على فرْمينا داثَا أن يرقصَا فالس الانسجام ، لكنه رفضت ومع ذلك فقد أمضت الليل وهي تضبط الإيقاع بحركة من رأسها وَكعبَي حذائها ، ووصل بها الأمر في بعض اللحظات الى الرقص وهي جالسة دون أن تنتبه الى ذلك ، بينما القُبْطان يتيه مع مَمْسوسته في عتمة البولير ، وشَرِبت كثيرا من الخمر ما اضطرهم لِمساعدتها لارتقاء السلالِم واجتاحتها نوبة ضحك صاخب مُتَرافِقة مع دموع أثارت قلقهم جميعا ، لكنها حين سيطرت على نفسها في سكون القُمْرة المعطرة مارست مع فلورنْتينو حُبّاً هادئاً وصحياً ، حب ججَدَّين مُلَوَّثَين سيستقر في ذاكرتها كأفضل ذكرى من تلك الرحلة المُسَلِّية .
ما عادا يشعرَين بنفسيهما كَخَطيبَين حديثَين على خلاف ما كان يفترضه القُبْطان وزِينايْدَا ولا كعاشقَين متأخرَين ، كانا يشعران وكأنهما قد اجتازَ ا جلجلة الحياة الزوجية الصعبة ووصلَا دون لف ولا دوَران الى جوهر الحب .
كانا ينسابان كَزَوْجَيْن قَديمَيْن كَوَتْهما الحياة الى ما وراء خُدَع العاطفة ، الى ما وراء حِيَل الأوهام القاسية وسراب خيبة الأمل ، الى ما وراء الحب .
لقد عاشَا معاً ما يكفي لِيعرفَا أن الحب هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان ، وأن الحب يكون أكثر زَخَماً كُلما كان أقرب الى الموت .
استَيقَظَا في الساعة السادسة ، كانت تعاني وجع رأس مُضَمَّخ باليانسون وكان قلبها مذهولا لإحساسها أن الدكتور خوفينال أُورْبينو قد رجَع أكثر بدانة وشباباً مما كان عليه حين انزَلَق من الشجرة ، وأنه يجلس بانتظارها على الكرسي الهزاز أمام باب البيت ، ولكنها كانت صاحية بما يكفي لِتُدرك أن ذلك لم يكن بتأثير خمر اليانسون وإنما بفعل الوصول الوشيك .
قالت : سيكون هذا الرجوع كانه الموت .
فوجئ فلورنْتينوأَريثَا لأنها عَبَّرت بما قالته عن فكرة لم تُتِح له العيش منذ بدأت رحلة العودة ، لم يكن بإمكانه ولا بإمكانها تصور نَفْسَيْهما يعيشان في بيت آخر سوى القُمْرة أو يأكلان بطريقة غير طريقة الأكل في السفينة أو يندمجان في حياة ستكون غريبة عليهما الى الأبد .
لقد كان ذلك كأنه الموت حقا ، ولم يستطع العودة الى النوم بقي مستلقياً في السرير ويداه متقاطعتَين وراء رقبته ، وفي لحظة معينة وَخَزَته ذكرى أمريكا فيكونيا وجعلته يَتَلَوَّى ألَماً فلم يستطع تأجيل الحقيقة أكثر .
حبَس نفسه في الحمام وبكى ما شاء له البكاء دون تَسَرُع الى أنْ جفت دمعته الأخيرة ، وحينئذٍ فقط واتته الشجاعة ليعترف لنفسه كم أَحَبَّها .
عندما استَيقَظَا وارتديَا ملابسهما للنزول الى البر كانت السفينة قد خَلَّفت وراءها مجاري ومستنقعات القنال الإسباني القديم ، وكانوا يُبْحرون وسط أنقاض السفن وبقع الزيت الميت في الخليج ، وكان يوم خميس مشع يعلو قِباب مدينة الفيريز المُذَهَّبة ، لكن فرْمينا داثَا التي كانت تنظر الى المدينة من الشُرْفة لم تستطع احتمال عفونة أمجادها ولا غطرسة حصونِهَا التي تنتهكها السحالي ، لقد كانت تشعر بالرعب من الحياة الواقعية ، لم يشعر هو كما لم تشعر هي ، دون أن يقول ذلك أحدهما للآخَر بالرغبة للاستسلام بمثل هذه السهولة .
وجدها القُبْطان في صالة الطعام وهو في حالة اضطراب لا تتفق مع عاداته المهذبة ، كانت ذَقْنُه غير حليقة وعيناه مُحْتَنَقَتَيْن بالأرَق وعلى جسده ما زالت ملابس الليلة الماضية المُضَمَّخة بالعَرَق ، وكانت كلماته المضطربة تخرج مختلطة بتجشُآت خمر اليانسون ،أما زِينايْدَا فكانت ما تزال نائمة .
بدأوا بتناول الفطور صامتِين حين اقترب زورق يسير بالبترول تابع لسلطات الميناء الصحية وأمر السفينة بالتَوَقُف .
ورد القُبْطان صارخاً من فوق مركز القيادة على أسئلة الدورية المُسَلَّحة .
كانوا يريدون معرفة نوع الوباء الذي يحملونه وعدد المُسافرين في السفينة وعدد المرضى بينهم وما هي احتمالات انتقال العدوى الى الآخرين .
ورد القُبْطان بأن السفينة تحمل ثلاثة مُسافرين فقط وجميعهم مصابون بالكوليرا ، ولكنهم معزلون بشكل صارم وأن أحداً لم يتصل بهم سواءً من المُسافرين الذين كانوا يصعدون الى السفينة في لادورادَا أو من رجال الطاقم ، لكن قائد الدورية لم يطمئن فأَمَرهم بالخروج من الميناء والانتظار في مستنقع لاس ميرْثيديس حتى الثانية بعد الظُهر ريثما يجهزون لهم إجراءات الحجر الصحي على السفينة .
أطلق القُبْطان فرقعة حوذي من فمه وأمَر عامل الدَفَّة بإشارة من يده للدوران والعودة الى المستنقعات .
سَمِع كل من فرْمينا داثَا وفلورنْتينوأَريثَا ما دار من حديث وهما على المائدة ، ولكن لم يبدُ على القُبْطان أنه مهتم بالأمر ، تابع تناول طعامه بِصَمْت ، وكان تَعَكُّر المزاج يبدو حتى في خرقه لقوانين التمدن التي تُرسخ سمعة قَباطنة النهر العريقة .
وَخز برأس السكين البيضات الأربعة المَقلية وحركها في الطبَق مع شرائح من المَوز الأخضر ، كان يدُسَها كاملة في فمه ويمضغهَا بلذة متوحشة .
نظرت فرْمينا داثَا وفلورنْتينوأَريثَا إليه دون كلام وكأنهما بانتظار الامتحان النهائي على مِقعد مدْرسي .
لم يتبادلَا أية كلمة خلال حواره مع الدورية الصحية ، ولم تخطُر لهما أية فكرة عما سيصيب حياتَيهما ، لكنهما كانا يعرفان أن القُبْطان يفكر من أجلهما ، كان ذلك يبدو في نبض صِدْغَيه .
وفيما هو يلتهم وجبة البيض وصحن المَوز الأخضر وفنجان القهوة مع الحليب خرجت السفينة ومَرَاجِلُها مطفأة من الميناء وشقت طريقها في المجاري المائية عبر مَفَارِش الطَحالب ونباتات اللوتاس الطافية ذات الأزهار البنفسجية والأوراق الكبيرة التي لها شكل قلوب ، وعادت الى المستنقعات ، كان الماء برّاقا بفعل عالم الأسماك الطافية على جُنوبِها ميتة بِديناميت الصيادين ، وكانت طيور الأرض والماء تحوم فوقها مُطلِقة صرخات معدنية ، ونفذت ريح الكاريبي من النوافذ محمَّلة بصخب العصافير فأحست فرْمينا داثَا في دمائها خفقات حريتها القلقة ، وإلى اليمين كان مَصَب نهر مَجْدَلِينا العظيم المُعَكَّر والرصين يمتد حتى الجانب الآخر من الدنيا .
عندما لم يبقَ في الأطباق شيء يُأْكَل مسح القُبْطان شفتَيه بطَرف شرشف الطاولة وتكلم برَطانة قَوَّضَت الى الأبد سُمعة حُسن التحدُث التي عُرِف بها قباطنة النهر ، لم يتكلم عنهما ولا عن احد وإنما كان يحاول التوافق مع غضبه والنتيجة التي وصل إليها بعد سلسلة من الشتائم البربرية هي أنه لا يجد سبيلا للخروج من ورطة راية الكوليرا التي أدخلوا أنفسهم فيها .
استمع إليه فلورنْتينوأَريثَا دون أن يطرف له رمش ، ثم نظر عبر النافذة الى وإلى الأُفق الرئق وإلى سماء كانون الأول التي لا تَشوبها غيمة وإلى المياه المواتية للإبْحار الى الأبد وقال : فَلْنُتابِع قُدُمً ، قُدُمً قُدُمً ونرجع الى لادورادا ثانيةً .
ارتعشت فرْمينا داثَا لأنها تعرفت على الصوت القديم المُضاء بنعمة الروح القُدُس ونظرت الى القُبْطان كان هو القَدَر .
لكن القُبْطان لم يرَهَا لأنه كان غارقاً في قُدرة فلورنْتينوأَريثَا الرهيبة على الإلهام وسأَلَه : أَتَقول هذا جادّاً ؟
فقال فلورنْتينوأَريثَا : منذ وُلِدْت لم أقُل كلمو واحدة غير جِدِّيَة .
نظر القُبْطان الى فرْمينا داثَا ورأى في رموشها البريق الأول لِصَقيع شتْوي ، ثم نظر الى فلورنْتينوأَريثَا بِتماسكه الذي لا يُقْهَر وحبه الراسخ وأرعبه ارتيابه المتأخر بأن الحياة أكثر من الموت هي التي بلا حدود .
سأَل : وإلى متى تظن أننا سنستطيع الاستمرار في هذا الذهاب والاياب الملعون ؟
كان الجواب جاهزاً لدَى فلورنْتينوأَريثَا منذ ثلاث وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوما بلَياليها فقال : مدَى الحياة....