المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدكتور جيكل والسيد هايدروبرت لويس ستيفنسون


AshganMohamed
10-21-2019, 10:20 AM
الدكتور جيكل والسيد هايدروبرت لويس ستيفنسون

الدكتورجيكل والسيد هايد
تأليف
روبرت لويس ستيفنسون
ترجمة فايقة جرجس حنا

جميع الحقوق محفوظة للناشر كلمات عربية للترجمة والنشر (شركة ذات مسئولية محدودة) كلمات عربية للترجمة والنشر إن كلمات عربية للترجمة والنشر غير مسئولة عن آراء المؤلف وأفكاره وإنما يعبّر الكتاب عن آراء مؤلفه




الفصل الأول الباب

شاع القول إن السيد أترسون اتسم بالهدوء الشديد على غير عادة المحامين. وكان يسرقلبه أن ينصت إلى الناس أكثر مما يتحدث. ولم يكن يتفاخر أو يزهو بعمله أو ينشغل بنفسه. ببساطة، كان رجلًا نادرًا ومحط إعجاب. كان موكلوه ممن ينبذهم المجتمع ويخرقون القانون. مع ذلك لم يكن السيد أترسونيتدخل فيما لا يعنيه أبدًا وكان يحفظ نفسه بمنأى عن كل هذا، فهو يزاول عمله فحسب؛إذ كان مضطلعًا بإعداد الوصايا وتدبير الأمور المادية، ويغضالطرف عن كلشيء سوىذلك. وكان حريصًا كل الحرص على ألا يتورط في شيء. كان السيد أترسون رجلًا يحبالنظام والحياة النمطية، وعلى ما يبدو لم يسبق له أن فعل أي شيء يمت للإثارة بصلةلا من قريب ولا من بعيد. بل كان ينتابه شعور بعدم ارتياح إذا وجد أي شيء في غيرموضعه. أما جدول مواعيده فلا يتغير؛ فهو ينفر من فكرة التغيير. أحب أترسون المسرح،لكنه لم يذهب إليه طيلة عشرين عامًا، وأحب لعبة البريدج لكنه لم يلعبها أبدًا. في حقيقة الأمر اعتبره كثيرون شخصًا كئيبًا وغامضًا وباردًا. مع كل هذا كان السيد أترسون شخصًا محبوبًا للغاية؛ فقد رأى أصدقاؤه جانبًامختلفًا من شخصيته، رأوا بريقًا مميزًا في عينيه، وعهدوه رجلًا طيبًا، مهمومًا بالآخرينويعتني بهم. وكان ضيفًا محبوبًا في حفلات العشاء، ويعول عليه دائمًا في الإنصات إلىالمشكلات وتقديم النصائح السديدة، وكل من عرفه اعتبره صديقًا عزيزًا جديرًا بالثقة. كان أصدقاؤه إما ذوي قرابة أو رجالًا عرفهم لسنوات طويلة. ولم يبحث عن أصدقاءجدد خارج دائرة معارفه المحدودة، الأمر الذي توافق مع حاجته إلى الترتيب والنظام. منثم واظب السيد أترسون على اصطحاب ابن عمه السيد إينفيلد في نزهة سيرًا على الأقدام
كل أحد بلا انقطاع، إذ كانا يلتقيان من أجل التنزه يوم الأحد لسنوات كثيرة بحق حتى إنهما نسيا عددها. لا بد أنهما بدوا ثنائيٍّا غريبًا في ناظري كل من مرّ بهما؛ فقلما تحدث أحدهما إلىالآخر أثناء سيرهما جنبًا إلى جنب. كانا يسيران في صمت، وأيديهما في جيوبهما، كلٌّيؤرجح عكازه إلى جانبه. وما إن يريا صديقًا عبر الدرب، حتى تبدو عليهما البهجةالشديدة نظرًا لهذا التغيير الطارئ، ودائمًا كانا يحثان هذا الصديق على أن ينضم إليهمافي نزهتهما. غير أن المظاهر يمكن أن تكون خادعة؛ فقد استمتع الرجلان بنزهاتهما يوم الأحد أيما استمتاع ورفضا أن يدعا أيشيء يعطلهما عنها. حدث في نزهة من النزهات أن السيد أترسون والسيد إينفيلد وجدا أنفسهما في جزءمزدحم من لندن حيث الشوارع تعج بالناس، وبدا كلاهما مستمتعًا باليوم المشمس.انعطف السيد أترسون وابن عمه إلى أحد الشوارع الجانبية الهادئة. عادة كان يعج هذاالشارع بالناس، لكن المتاجر تغلق أبوابها في أيام الأحد. من ثم كاد الشارع يخلو من أيإنسان سواهما. وعلى خلاف بقية المناطق المجاورة، التي كانت متهالكة، كان هذا الشارعوقاطنوه في حالة جيدة؛ إذ كانت المباني رائعة ونظيفة، مصاريع أبوابها مطلية حديثًاوزخارفها النحاسية مصقولة جيدًا، وفيما واصل السيد أترسون والسيد إينفيلد سيرهما عبر الشارع راقت لهما المنازل والمتاجر. وقبل نهاية المبنى بمنزلين برز منزل مختلف عن باقي المنازل؛ كان له ممر متهالكيؤدي إلى فناء. وقد تقشر طلاء الباب وأوشك مزلاجه أن ينفصل عنه. كان المنزل مكونًامن طابقين. وبناء على ما استطاعا رؤيته من مكانهما في الشارع، كان المنزل في حالةسيئة حيث بدا مُهملًا ومهجورًا. ولم تكن هناك نوافذ في الجدار المواجه للرجلين، إنما الباب فحسب بدون حتى جرس أو قارعة. كانا يقفان على الجانب المقابل للمبنى عندما رفع السيد إينفيلد عكازه وأشار بهأجاب السيد «؟ ألحظت هذا المنزل من قبل » : إلى المنزل ثم سأل ابن عمه السيد أترسون إنه يذكرني دائمًا بقصة غاية في » : أترسون بالإيجاب، فاستطرد السيد إينفيلد قائلًا «. الغرابة في تلك اللحظة كان «؟ حقٍّا؟ وما هذه القصة » : نظر مستر أترسون إلى ابن عمه وقال السيد إينفيلد غارقًا في التفكير. 8
الفصل الثاني قصة إينفيلد يا إلهي! حدث ذلك في هذا الطريق، في ليلة » : بعد فترة وجيزة رد السيد إينفيلد قائلًا من الليالي فيما كنت أسير عائدًا إلى البيت في وقت متأخر، كان الدرب الذي سلكته خاليًاتمامًا من المارة، ولم أر إنسانًا أثناء مروري ببضعة مبانٍ، وكان الضباب يغشي الليل،لذا احتجب نور القمر، فلم تؤنس وحدتي سوى أنوار الشارع. ولا أخفي عليك شعرتبشيء من الرعب؛ فمن الغريب أن تكون الإنسان الوحيد في بقعة مظلمة ومهجورة.وفيما كنت أحسب أنني الشخص الوحيد على الأقل الموجود خارج المنزل في هذه الليلة،إذا بشخصين آخرين في الشارع؛ أحدهما رجل شديد القصر أحدب يسير بعيدًا عني.وقد راعتني سرعته؛ إذ كان يسير بسرعة كبيرة محُدَّد الهدف. أما الشخص الآخر فقدكان فتاة صغيرة في الثامنة أو التاسعة من العمر تركض في شارع يقطع الشارع الذيأسير فيه. وبطبيعة الحال اصطدم كل منهما بالآخر حينما انعطفت الفتاة. أطاح الرجلبالفتاة أرضًا، فكان هذا بشعًا، غير أنه لم يتوقف عند هذا الحد! لقد خطا فوق ساقهاومضىقدمًا في طريقه. ولم يبدُ أنه لحظها. وفيما كانت الفتاة الصغيرة ملقاة في الشارعتبكي، لم يتوقف الرجل أو حتى ينظر باتجاهها! أعرف أن وصفي قد يبدو لا يحملالكثير، لكن المشهد الذي رأيته كان رهيبًا. كانت تصرفاته شديدة الفتور، فصرختُ فيهوركضت وراءه. أدركته بدون عناء وأمسكت ذراعه. لم يقاومني وأنا أحضره إلى الفتاةالتي تصرخ. في الواقع، بدا في غاية الهدوء، ولم يظهر عليه أدنى انزعاج لما صدر عنه.وعندئذ فحسب رمقني الرجل بنظرة مريعة حتى إنني بدأت أتصبب عرقًا، كما لو كنتقد انتهيت لتوي من أداء تمارين رياضية. هرعت أسرة الفتاة للخارج. كانت الفتاة فيطريق عودتها بعد ذهابها لإحضار الطبيب عندما أطاح بها هذا الرجل. ومن حسنالحظ أن الطبيب لم يكن يبعد وراءها كثيرًا في الشارع، فحضر إلى الفتاة الصارخة في
التو، وقال إنها مرعوبة أكثر منها جريحة. لو كان الأمر في ظروف أخرى، لانتهى فيالحال. لكنني كنت مستاءً من هذا الشخص الغريب حتى إنني قررت ألا أدع الأمر يمرمرور الكرام. لكن أكثر ما أثار ذهولي هو ردة فعل الطبيب؛ فكلما نظر إلى الرجل،تجهم وجهه وشحب من شدة الغضب والحنق. في بادئ الأمر ظننت أن الطبيب كانيعرف هذا الرجل الغريب، لكنني لا أظن أن هذا هو واقع الأمر بالتحديد؛ فثمة شيء مافي هذا الرجل يدفع أي فرد إلى أن يتصرف بردة فعل عنيفة تجاهه، إن النظر إلى وجههذا الشرير يجعلك تشعر بعدم الارتياح، حتى إنك ترغب في الانصراف في الحال؛ فعيناهجامدة وباردة، وتداعب شفتيه ابتسامة قاسية. لا يمكنني أن أصف ما اجتاحني من «. شعور إلا بالرعب الشديد. كان أمرًا بالغ الغرابة وكان السيد أترسون «؟ وماذا فعلت؟ هل استدعيت الشرطة » : سأل مستر أترسون قد تأثر بالقصة تأثرًا شديدًا. وكان يرغب في سماع ما آل إليه الأمر، وكيف كان لهذا الرجل الغريب علاقة بالمنزل المتهالك الكائن على الجانب الآخر من الشارع أمامهما؟ جربنا طريقة مختلفة، إذ أخبرنا هذا الرجل أننا سوف » : أردف السيد إينفيلد قائلًا ننشر أمر فعلته الشنيعة في أنحاء لندن، وسيتناقلها الجميع، وحذرناه من أنه إذا كانله أي أصدقاء أو عمل، فإنه سرعان ما سيفقدهم. توقعت أن يؤثر كلامنا فيه ويأسفإذا نويت أن تثير مثل هذه » : عما بدر منه، غير أن ذلك لم يحدث، وأجابني في فتور الجلبة حول هذا الحادث، عندئذ سأضطر إلى أن أجيب طلبك، ففوق كل شيء، ما منوكان صوته هادئًا هدوءًا اقشعر له بدني. وعندئذ «. رجل محترم يريد أن يثير ضجة حدد المبلغ » : ابتسم ذلك الرجل الكريه بحق! فكانت ابتسامته كريهة وخبيثة، ثم قال وبعد قليل من الشد والجذب، وافق على أن يدفع لأسرة الفتاة مائة جنيه. «. الذي تريده واتفقت أنا والطبيب أن نلازم الرجل للحصول على المال، فتبعناه إلى المنزل — نفس هذاالمنزل الكائن أمامك وأمامي الآن — حيث اختفى لبضع دقائق ثم عاد حاملًا شيكًا بمبلغقدره مائة جنيه. تفقدت الشيك، فأصابني الذهول الشديد لدى قراءة الاسم المكتوبعليه، فهو اسم مواطن معروف وبارز. من الواضح أن هذا الرجل الغريب زوّر توقيعهاطمئن، سأمكث معك حتى » : أو حصل عليه بوسائل غير مشروعة. قال الرجل ساخرًا وعليه عدت أنا والطبيب والرجل «. الصباح وسأصرف الشيك بنفسي. سترى أنه سليم الغريب إلى منزلي ريثما فتحت البنوك. كان انتظارًا مرهقًا؛ لم ينبس أحد منا ببنتشفة، وأخذت أنا والطبيب نتفرس في الرجل بفضول بالغ، وكان هو يحدق في المدفأة 10
قصة إينفيلد طوال الوقت. أخيرًا طلع الصبح علينا، وانطلقنا إلى البنك، وأخبرت الصراف أنني أملكمن الأسباب ما يجعلني أشك أن هذا الشيك مزور، لكنني صُعقت لدى علمي أنه شيك «. حقيقي ثم هزّ رأسه مستنكرًا. «! أوف » : قال مستر أترسون أرى أنك تشعر بمثل ما أشعر به. أجل، إنها قصة مؤسفة. كان » : قال السيد إينفيلد الرجل الغريب الذي التقيته شخصًا كريهًا للغاية، شخصًا لا ترغب أبدًا في أن تلتقيه.زد على ذلك أن الرجل » : ثم هزّ مستر إينفيلد رأسه في أسف وقال «. فهو مرعب وشرير المذكور اسمه في الشيك اسم رجل فاضل ذي سمعة طيبة في المجتمع. لا يمكنني تخيلمنزل » ما الذي يمكن أن يجمع بينهما. ومنذ تلك الليلة وأنا أشير إلى هذا المنزل باسم فالشيء الوحيد الذي يمكنني أن أفترضه هو أن الرجل الغريب الشرير يبتز ؛« الابتزاز هكذا راح السيد إينفيلد يفصح عما يدور «. الرجل المحترم بأحد الأسرار التي يعرفها عنه بخلده. وهل أنت متأكد من أن الرجل الذي كتب الشيك يقطن هذا » : قال السيد أترسون «؟ المنزل بالفعل أظن أنه يعيش في مكان ما في حي سوهو. » : أجاب السيد إينفيلد وهو شارد الذهن أنا أراقب هذا المنزل من حين لآخر، وهو يكاد لا يكون منزلًا على الإطلاق؛ فلا توجدنوافذ في هذه الجهة، ولا أحد يدخل أو يخرج منه فيما عدا هذا الرجل بين الفينة والفينة.اختلست النظر بضع مرات من خلال الباب ولاحظت أن ثمة ثلاث نوافذ مواجهة للفناءالداخلي تُنظف باستمرار. وكثيرًا ما يتصاعد الدخان من المدخنة، إذن لا بد أن أحدهم «. يعيش هناك فيما واصل الرجلان سيرهما، كان السيد أترسون غارقًا في تفكير عميق. قال «؟ إينفيلد، أتمانع من أن تخبرني باسم الرجل الذي أطاح بالطفلة أرضًا » : أترسون «. حسنًا، لا ضير من هذا. كان اسمه هايد. إدوارد هايد » : أجاب إينفيلد آه، أتفهم الأمر. أبمقدورك » : أخذ أترسون نفسًا عميقًاسريعًا، إذ أدرك الاسم، وقال «؟ أن تصفه لي كما ذكرت قبلًا، لا يسهل وصفه، ثمة شيء غير طبيعي فيه، شيء » : أجاب إينفيلد مزعج، بل مرعب. كان رد فعلي مليئًا بمثل ذلك البغضالشديد حالما وقعت عيناي عليه.لكنني لا أعرف لذلك سببًا. كانت ملابسه فضفاضة وكبيرة عليه للغاية. كان يرتدي 11
قبعة طويلة وشالًا، وكانت له انحناءة خفيفة. لا، بعد ترو، لا أحسب نفسي قادرًا على «. وصفه؛ ليس لأنني نسيت مظهره، كل ما هنالك أنني لا أجد الكلمات «؟ أمتأكد من أنه استخدم مفتاحًا كي يدخل إلى المنزل » : سأل أترسون «. بالطبع » : أجاب إينفيلد أعرف أن أسئلتي تبدو غريبة قطعًا، في واقع الأمر، أعرف أنني لست » : قال أترسون في حاجة إلى أن أسأل عن اسم الرجل المحترم لأنني أعرفه بالفعل. أتعرف يا إينفيلد،مألوف جدٍّا لي. لا أستطيع أن آتي على ذكر أي تفاصيل، لكن كل ما « هايد » أن اسم أستطيع قوله هو أن له علاقة بإحدى الوثائق التي أعدها لأحد أصدقائي الأعزاء، دكتورهنري جيكل. إذا كنت تكذب أو تغالي في أي جزء من أجزاء هذه القصة، من فضلك «. أخبرني، فلا بد أن أعرف كافة الحقائق وقد شعر إينفيلد بأنه جرح قليلًا من «. كل كلمة تفوهت بها حقيقية » : قال إينفيلد شك ابن عمه فيه، فهو لم يتعود أن يتشكك فيه أحد، ولا سيما ابن عمه. تابع إينفيلدإن هايد معه مفتاح للمنزل، والأدهى من كل هذا أنه لا يزال بحوزته؛ لقد » : كلامه قائلًا «. رأيته يستخدمه من أسبوع فحسب تنهد السيد أترسون بعمق، غير أنه لم ينبس ببنت شفة، فقد كان يفكر في ذلكالممر المتهالك، والفناء الذي وراءه. لقد كانت تساوره المخاوف بالفعل بشأن هذا الرجلوقد أدرك الآن أنه لن يستطيع أن يتجاهل هذا اللغز أكثر من ذلك. .« هايد » الذي يُدعى لكن للأسف، ليست لديه أدنى فكرة عما ينبغي أن يقوم به. أنا متأسف يا أترسون على ذكري هايد وهذه القصة. لنقطع وعدًا ألا » : قال إينفيلد ثم وضع يده على كتف ابن عمه، فقد كان من الواضح «. نناقش هذا الأمر مرة أخرى أن أترسون اغتم للغاية لدى سماعه هذه الأخبار. وأراد إينفيلد أن يسمع القصة التييعرفها أترسون عن هايد، غير أنه كان على دراية بمدى احترام أترسون خصوصيات الآخرين. وقد أشعره بالارتياح أن إينفيلد «. سأفعل هذا بكل جهدي » : قال أترسون المحامي «. دعنا نتصافح بشأن هذه المسألة وندع الأمر وشأنه » : لن يطرح المزيد من الأسئلة، فقال تصافح الرجلان ومضيا قدمًا في سيرهما، وقد قضيا بقية وقتهما صامتين. 12
الفصل الثالث حوار مع الدكتور لانيون كان من عادة السيد أترسون في ليالي الأحد أن يمضي وقته مستمتعًا بقراءة كتاب جيدإلى جانب المدفأة ثم يأوي إلى الفراش عند منتصف الليل. غير أنه في تلك الليلة جلسليتناول عشاءه وهو مغتم؛ فقد كانت أمور كثيرة تدور برأسه كما كان يعاني عسرهضمطفيف. حالما رُفع الطعام من أمامه، ذهب إلى حجرته الخاصة وفتح الخزنة وأخرجالوصية الأخيرة للدكتور هنري » بعضالأوراق الخاصة، وكان مكتوبًا على أحد المظاريف فتح السيد أترسون المظروف وجلس عابس الوجه. ولم يكن أترسون راضيًا .« جيكل عن بنود الوصية. بل في واقع الأمر تجادل مع الدكتور جيكل حول محتويات الوصية:نصت الوصية على أنه في حال موت الدكتور جيكل — أو اختفائه لمدة تزيد عن ثلاثةأشهر — تئول كل ممتلكاته إلى السيد إدوارد هايد. ورأى أترسون أنه أمر غريب إلىحد بعيد أن يترك جيكل ثروته بأكملها لرجل واحد. كان أترسون أحد الأصدقاء المقربينإلى جيكل، غير أنه لم يكن يعرف أي شيء عن السيد هايد إلى أن أخبره إينفيلد بقصته.فما .« أو اختفائه لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر » كان أترسون منزعجًا أيما انزعاج من عبارة الذي يمكن أن يضطر أي شخص إلى أن يُدرج مثل تلك العبارة في وصيته؟ هل يظندكتور جيكل أنه قد يختفي؟ رأى أترسون أن في هذا ضربًا من ضروب الجنون، علىأنه لم يكن من جيكل إلا أن ضحك على ما يقوله أترسون. ولم يكن في وسع المحامي أنيفعل شيئًا سوى أن ينزل عند رغبة أصدقائه. غير أن أترسون أصبح في غاية السخطوالحنق الآن لدى علمه أن هذا الرجل الذي يُدعى هايد وغد في حقيقة الأمر. لماذا يتورطصديقه الطيب جيكل مع مثل هذا الرجل؟ أعاد أترسون الأوراق إلى الخزنة بقلب حزين وقلق شديد على صديقه.
لم يستطع أترسون أن يفكر في الخلود إلى النوم وهو في مثل هذه الحالة، لذا ارتدىحيث يقطن صديقه الدكتور لانيون. فكر أترسون ،« ميدان كافنديش » معطفه وغادر إلى لانيون «. لو أن أحدًا يعرف شيئًا عن هذا الرجل الذي يُدعى هايد، لكان لانيون » : في نفسه وجيكل وأترسون يعرف بعضهم بعضًا منذ حداثتهم، ومرت عليهم أوقات لا ينفصلونفيها. مع ذلك مرت سنون عديدة، ندر ما التقى الأصدقاء فيها. ومضى كل من لانيون وجيكل، على وجه الخصوص، في طريقهما. قرع أترسون باب الدكتور لانيون. لقد مرّ وقت طويل » : رحب دكتور لانيون بصديقه القديم ترحيبًا حارٍّا وقال كان لانيون رجلًا يتمتع بوافر الصحة «؟ يا أترسون منذ أن رأيتك، أين كنت مختبئًا والنشاط، وجهه أحمر وشعره أبيض تمامًا. وكان منزله مزخرفًا على نحو جيد ومؤثثًابالأرائك والمقاعد الوثيرة، وبدت كل غرفة دافئة ومريحة للغاية، فدائمًا هناك ألسنة لهبمتأججة، وكثير من أضواء الشموع في كل مكان. كان لانيون يستمتع بالصحبة والحديثالطويل مع أصدقائه، وكانت ضحكته عالية مدوية عادة ما تتردد أصداؤها في جنبات منزله. تسامر الصديقان لبعض الوقت حول الأيام الخوالي وما حدث منذ آخر مرة تحدثافيها؛ أخبره أترسون أن مزاولته لمهنة المحاماة تسير على ما يرام، وحدثه لانيون عنبعض مرضاه وذكر أنه يتوق إلى التقاعد. أخيرًا، عرض المحامي سبب زيارته في هذه«. أظن يا لانيون أننا قطعًا كنا أقدم صديقين لدكتور جيكل » : الساعة المتأخرة من الليل كنت أتمنى أن لو كنا صديقين أصغر سنٍّا. لكن أتفق معك » : قهقه لانيون وقال «. فيما قلته. وما في هذا؟ نحن نادرًا ما نلتقي حقٍّا؟ لقد ظننت أنكما تتمتعان بالكثير من الاهتمامات المشتركة. » : قال أترسون «. فلكونكما طبيبين، ثمة الكثير لتتناقشا فيه لقد كنا كذلك. لكن منذ أكثر من عشرة أعوام أصبح جيكل غريبًا لأبعد » : رد لانيون حد بالنسبة لي؛ لقد بدأ يضطرب، يضطرب أيما اضطراب، في رأيي. وكانت تراوده أفكارشاذة للغاية وغير مبنية على أسس علمية بالمرة. ولست أرى أن أفكاره وتجاربه كانتغير علمية فحسب، وإنما أيضًا غير مقبولة أخلاقيٍّا. لقد كان يسعى نحو بلوغ نتائجخطيرة. بوضوح تام، لم أستطع أن أواصل تعضيده. قطعًا بصفتي صديقًا قديمًا، ما «. زلت أهتم بأن يحيا حياة كريمة، لكنني لا أريد أن أتورط معه كثيرًا تكدر أترسون لدى معرفته أنه يوجد شجار بين لانيون وجيكل. وقد ابتغى أنيسأل عن هذه التجارب الخطيرة، لكنه عرف أنه يجدر به أن يلتزم بالموضع الذي أراد 14
حوار مع الدكتور لانيون هل التقيت من قبل برجل يعرفه جيكل اسمه » : بالفعل أن يتحدث عنه. فسأل صديقه «؟« السيد هايد » «. هايد؟ لا لم أسمع عنه البتة » : كرر لانيون الاسم شعر أترسون بالإحباط، فقد تمنى أن يجد عند لانيون خيطًا يقوده إلى معرفةطبيعة العلاقة بينهما. وكان أترسون قد التقى جيكل مرات معدودة على مدار الأشهر القلائل الماضية. وقد انزعج لدى معرفة أن لانيون التقاه على نحو أقل منه. رجع أترسون إلى منزله بعد فترة وجيزة من حواره مع لانيون ثم أوى إلى فراشه،ومع ذلك لم يهنأ بنوم مريح، فقد أخذ يتقلب في فراشه طوال الليل. ولم يستطع أنينفض عن ذهنه التفكير في جيكل وهذا المدعو هايد. أكان هذا المجرم يبتز صديقهوربما كان محقٍّا. هل هناك « منزل الابتزاز » القديم؟ لقد أطلق إينفيلد على المنزل اسم شيء ما في الماضي أراد جيكل أن يخفيه؟ ظن أترسون أنه ربما تكون هذه الحقيقة،فدكتور جيكل لم يكن مثاليٍّا إبان الشباب؛ إنما انخرط في العديد من الأنشطة الطائشة،وكان أترسون قد حذره بالفعل كي يحتاط، لكن لم يكن من جيكل إلا أن يضحك. فقداحتسب الطبيب الشاب أنه لا ضير في القليل من المغامرات. والآن وبعد أن مرت سنونعديدة، يبتز هذا الرجل الغامض جيكل. وقد تألم المحامي لدى فكرة أن هذا الوغد هايدأيقظ صديقه القديم عند منتصف الليل كي يطلب منه شيكًا بمائة جنيه. والأدهى منكل هذا، أن جيكل قد اقتنع بأن يترك كل متاعه الدنيوي لهايد المُبتَز. وساورت أترسونالمخاوف بشأن أمان صديقه القديم. من ثم عقد العزم على أن يرى هايد وجهًا لوجه. 15
الفصل الرابع البحثعن السيد هايد بعد مرور بعضالوقت، عرج أترسون مرة أخرى في الصباح قبل أن يتجه إلى عمله، علىالممر المؤدي إلى المنزل حيث روى له إينفيلد القصة. وقد زاره أثناء ساعات الغداء عندماكان الشارع مكتظٍّا بالمتسوقين. وفي الليل، عندما لم يكن أحد في الشارع، انتظر أترسونإذا كنا سنلعب لعبة الغميضة حيث هو » : وأخذ يراقب المكان. فكر أترسون في نفسه «.« المتعقِّب » كما يوحي اسمه فسأقوم أنا بدور « المُختبئ » بعد طول انتظار كُوفئ صبره؛ كانت الليلة صافية جافة والقمر بدرًا ساطعًا يضيءالشارع، ولم يكن هناك أي ضباب أو أمطار. وقد أغلقت جميع المتاجر أبوابها، والشارعفي غاية الهدوء. ولمّا كان أترسون يقف بالممر، سمع صوت وقع أقدام خفيفة مُسرعةتقترب منه. وحتى قبل أن يرى ظلٍّا مظلمًا ينعطف، أدرك أترسون أن هذا الظل هو ظل مستر هايد. كان هايد ضئيل الحجم ويرتدي ملابس غير رسمية، ومعطفًا داكن اللون. وكانتالقبعة مشدودة لأسفل على رأسه. للحظة ظن أترسون أن هايد يعرج، لكن يبدو أنعينيه كانتا تخونانه فحسب. فقد كانت طريقة هايد في السير قوية ومفعمة بالحيوية.سار هايد نحو الباب مباشرة، وكان يخرج المفتاح من جيبه فيما كان يعبر الشارع، ولم يبد لصٍّا أو شخصًا يتسلل إلى المبنى، وإنما بدا مطمئنٍّا؛ كأنه رجل يدخل إلى منزله. أظن أنك » : خرج السيد أترسون من مكمنه ولمس كتف هايد وهو يمر به وقال «؟ السيد هايد ارتد هايد للوراء وهو يلهث. بدا عليه الفزع للحظة، لكنسرعان ما استعاد هدوءه، «؟ هذا اسمي. ماذا تريد » : غير أنه لم ينظر إلى وجه أترسون فيما أجابه قائلًا
أنا صديق قديم للدكتور جيكل، اسمي أترسون. أنا على يقين » : أجاب أترسون وفي هذا كان ) «. من أنك سمعت عني. يا لها من مصادفة أن ألتقي بك هنا في الخارج «؟ هل تسمح لي بالدخول إلى المنزل » (. أترسون يكذب وكان لا يزال راغبًا عن النظر إلى وجه أترسون، «؟ كيف تعرفني » : سأله هايد فكانت عيناه تتناوبان النظر ما بين الشارع والباب، لكنها لم تتحول مباشرة نحو الرجل الواقف أمامه. وقد تجاهل الرد على سؤال هايد إذ رأى أنه من «؟ أتسدي لي معروفًا » : قال أترسون الأفضل أن يدخل في صميم الموضوع مباشرة، علاوة على أنه شعر أيضًا بالبغضوالنفور الشديدين اللذين تحدث عنهما إينفيلد، فثمة شيء في هايد يخلق ردة الفعل هذه. «؟ بالطبع. وما هذا المعروف » : أجاب هايد «. اسمح لي بأن أرى وجهك » : قال أترسون بدا أن هايد مترددًا، وعندئذ بعد لحظة أو اثنتين من التفكير، نظر بكل وقاحة في عيني أترسون. حدق الرجلان أحدهما في الآخر بضع ثوان. ثم قال «. الآن سأستطيع أن أعرف وجهك عندما نلتقي مجددًا » : قال أترسون «. قد يكون هذا مفيدًا » : أترسون بنبرة واثقة تحدث هايد بثقة بالمثل. وقف الرجلان «. أجل. من الجيد أننا التقينا » : رد هايد ربما » : وجهًا لوجه يكاد كل منهما يتحدى الآخر من يحول نظره بعيدًا أولًا. أضاف هايد ثم سلم أترسون بطاقةً مكتوب عليها أحد «. يكون من الأفضل أن تأخذ عنواني أيضًا وهي بقعة من المدينة أكثر خطورة. ،« سوهو » العناوين الكائنة في حي استبد «؟ يا إلهي! هل أعطاني عنوانه بسبب الوصية » : فكر أترسون في نفسه قائلًا القلق بأترسون من أجل صديقه جيكل. هل تمنى هايد أن يحصل على تركته في القريب العاجل؟ غير أن أترسون أخفى مشاعره، وشكر هايد على بطاقته. «؟ والآن، أخبرني كيف عرفتني » : قال هايد «. من الوصف » : أجاب أترسون «؟ وصف من » : سأل هايد «. لدينا أصدقاء مشتركون » : أجاب أترسون «؟ أصدقاء مشتركون؟ ومن يكونون » : سأل هايد «. حسنًا، دكتور جيكل على سبيل المثال » : أجاب أترسون 18
البحث عن السيد هايد انفجر هايد في ضحكات كريهة قبيحة، وكانت عيناه داكنتين فاترتين؛ فلم تلمعا أوتتوهجا عندما ضحك. لم تظهر عليه أي علامات تدل على السرور. وفي اللحظة التالية، وبسرعة مذهلة، فتح هايد الباب ودخل إلى المنزل. 19
الفصل الخامس منزل الدكتورجيكل وقف المحامي لبرهة بجانب الباب، وقد بدا عليه الشعور بالانزعاج الشديد. وفيما سار «. يا إلهي! إنه لا يكاد يبدو بشرًا » : بتؤدة مبتعدًا عن المنزل، راح في تفكير عميق انعطف أترسون إلى الزاوية في الجهة المقابلة من مجمع المباني، كانت معظم المبانيالموجودة في الشارع مقسمة إلى شقق أو مكاتب. في وقت من الأوقات كانت هذه المنطقةهي محط العائلات الثرية الكبيرة. كانت الكثير من هذه العائلات تمتلك مباني بأكملها،بيد أنه لم يتبق غير منزل واحد مملوك لفرد واحد، ثاني منزل من زاوية الشارع، علاوةعلى أن هذا المنزل كان آخر شاهد على أمارات الثراء والرفاهية. كانت بوابته الأماميةحديثة الطلاء، وطارقة الباب لامعة وبراقة. كانت جميع المنازل الأخرى متسخة النوافذمكسورة البوابات، لكن هذا المنزل حظي بعناية ونظافة فائقتين. ارتقى أترسون درجات سلمه الأمامية وقرع الباب. ففتح الباب كبير الخدم الذي كان في كامل الأناقة. «؟ هل الدكتور جيكل بالمنزل يا بول » : سأل المحامي سمح الخادم لمستر أترسون بالدخول ثم «. سأرى يا مستر أترسون » : أجاب بول ذهب ليبحث عن سيده. انتظر أترسون في غرفة كبيرة مريحة تدفئها نيران متوهجة بلا غطاء. وكانتهذه الغرفة واحدة من الغرف المفضلة لدى المحامي في لندن بأكملها؛ كانت الغرفةمطلية بألوان قاتمة قوية، وثنايا الستار مصنوعة من القماش القطيفة الأحمر القاني،والأرضيات مغطاة بالسَّجَّاد الفارسي المغزول يدويٍّا. وقد ارتصت على الجدران التحفالفنية وأرفف الكتب الممتلئة عن آخرها. أمضىأترسون هنا العديد من الأمسيات بمعيةجيكل يتسامران في حديث ممتع هادئ. غير أن مزاج أترسون في هذه الليلة لم يكن يميل
إلى الألفة ولا دفء الصحبة؛ إذ لم يستطع أن ينفض عن ذهنه صورة وجه الوغد مستر هايد. يؤسفني أن أخبرك أنني لا » : عاد بول حاملًا خبر أن الدكتور جيكل ليس بالمنزل «. أعرف متى سيعود، فلربما يظل بالخارج بقية الليلة لقد رأيت مستر هايد يدخل هذا المبنى من الزاوية الأخرى يا بول، » : قال أترسون من الباب المجاور للمختبر القديم. هل يصح هذا عندما يكون دكتور جيكل متغيبًا عن «؟ المنزل «. مستر هايد لديه مفتاح » : أجاب الخادم «. يبدو أن سيدك يثق بمستر هايد ثقة كبيرة » : قال مستر أترسون نعم يا سيدي، هو يثق به ثقة كبيرة حقٍّا. وقد أمُرنا جميعنا بأن نقدم له » : رد بول فروض الولاء والطاعة. ومع ذلك، قلما نراه في هذا الجزء من المنزل، فهو يذهب ويجئ «. أساسًا من الباب المجاور للمختبر كان دكتور جيكل قد اشترى المنزل قبل سنوات طويلة من طبيب آخر. وكان المالكالسابق قد بنى مختبرًا في الجزء الخلفي من المنزل؛ حجرة كبيرة عالية السقف، تصطففيها الأرفف والدواليب، ولم توجد بها أي نوافذ، مصابيح وفوانيس فحسب على الجدران.وفوق المختبر مكتب حيث يمكن للدكتور جيكل أن يجلس ويعمل في هدوء. وكان المكتبأكثر جاذبية من المختبر، إذ كان به مدفأة، وبعض المقاعد الوثيرة، ونافذة مطلة علىالمبنى الرئيسي للمنزل، وكان يوجد فناء يفصل ما بين المبنيين. احتفظ الدكتور جيكلبالمختبر كما هو على حاله، فالمختبر هو السبب الرئيسي لشرائه المنزل. ومع أن الدواليبوالمعدات كادت تكون من الآثار، فإنها راقت لجيكل. وعادة ما تحدث عن رغبته في أن تحيط به التحف الجميلة، وكان هذا شيئًا مهمٍّا في المنزل وفي العمل. وتساءل تُرى ما رأي بول في مستر هايد «. أشكرك يا بول على وقتك » : قال أترسون بحق؟ كان الخادم شديد الأدب على الدوام، وبالطبع ما كان لينطق بالسوء أبدًا عنالدكتور جيكل. كان أترسون يعرف أن بول شديد الولاء لسيده، بل في الحقيقة كان كلالخدام شديدي الولاء له، فكل من التقى بجيكل اعتبره رجلًا طيبًا ونزيهًا. قال أترسون «. من فضلك أخبر دكتور جيكل أنني عرجت عليه » : لبول ثم قاد الخادم مستر أترسون إلى الباب الأمامي. «. بالطبع يا سيدي » : أجاب بول كانت ثمة ريح باردة، لذا ثبت أترسون قبعته بإحدى يديه فيما كان سائرًا فيالشارع. وكان غارقًا في التفكير؛ لقد كان المحامي يألف أعضاء المجتمع غير المرغوب 22
منزل الدكتور جيكل فيهم لأن كثيرين منهم كانوا موكليه. وكان على دراية بالجرائم التي تحدث في المدينةوالمجرمين الذين ارتكبوها، غير أنه كان حريصًا كل الحرص على ألا يدعهم يدخلون إلىحياته. فالعمل بالنسبة له هو مجرد عمل، ولم يتركه يؤثر في حياته الشخصية. ولميتخيل قط أنه يمكن أن يحضرأحد المجرمين إلى منزله. لذا احتار بشدة في السبب الذيدفع جيكل بأن يحضر رجلًا خطيرًا إلى منزله. هل من الممكن ألا يكون صديقه جيكلقد علم بأمر حادثة هايد عندما دهس الطفلة الصغيرة؟ وهل من الممكن ألا يكون جيكلقد أدرك الخطر الذي هو فيه؟ للأسف، كان أترسون يدري أن هذا غير حقيقي، فقد عرف في أعماقه أن جيكل على دراية جيدة بأنشطة هايد غير الشرعية. تملك القلق فعليٍّا من المحامي بشأن صديقه القديم وعلاقته بالسيد هايد. لا بد أنشبح إحدى الخطايا القديمة هو الذي يسجن جيكل. فأي سبب آخر يمكن أن يدفعهإلى التعامل مع أشخاصعلى شاكلة مستر هايد؟ كانت عائلة جيكل بالغة الثراء، ولطالماعاش حياة ترف على الرغم من دراسته وتجاربه، ودافعه الوحيد للعمل هو أنه يستمتعبالعلم. وأخذ أترسون يفكر في فترة شبابه؛ تُرى هل كان فيها أي شيء شاء أن يتكتمه؟ولم يستطع أن يجد أي شيء من شأنه أن يُلحق به هذا الخزي أو الشعور بالذنب.وساور أترسون القلق أيضًا من أنه إذا علم هايد بأمر وصية جيكل — أنه من المُزمعأن يرث كل الثروة الهائلة التي يملكها الطبيب — فلعله يفعل شيئًا ما كي يعجل منيا له من لغز «. ليت جيكل يدعني أساعده » : هذا الأمر. هزّ أترسون رأسه وقال في نفسه يصعب حله! 23


الفصل السادس دكتور جيكل خالي البال

بعد مرور أسبوعين أقام دكتور جيكل حفل عشاء لمجموعة صغيرة من الأصدقاء القدامىوالأعزاء. كان مستر أترسون من بين المدعوين بالطبع، وكان ضيفًا محبوبًا على أيحفل عشاء، وكان موضع ترحيب على نحو خاص في نهاية الأمسية؛ فقد كان يستمتعالضيوف بمزاحه اللاذع وحصافته. كان المحامي يوفر للحاضرين استراحة هادئة بعدحفل عشاء مليء بالأحاديث، وفي هذه الليلة بالأخصحرصأترسون على أن يمكث ريثما يرحل الجميع، لذا وقف بجوار المدفأة إلى أن غادر كل الحضور. جلس دكتور جيكل على مقعد مقابل أترسون. وقد كان رجلًا في الخمسين من عمرهضخم البنية يتمتع بوافر الصحة وبوجه عذب. وقد اعتاد أن يدير الحوارات والمناقشاتبطريقة مثيرة. غير أنه في الآونة الأخيرة آثر أن ينصت إلى الآخرين في هدوء. وطيلة العامالسابق أو نحو ذلك، ازداد جيكل جفاءً؛ إذ صار أكثر فتورًا وانعزالًا. ظن البعض أنهبدا أكثر نزوعًا إلى إدانة الآخرين، وانتقدوه كلما غاب عن إحدى المناسبات الاجتماعية أوحفلات العشاء. وعليه ازداد جيكل انعزالًا. وعادة ما علق أصدقاؤه على أنهم نادرًا مايرونه. في وقت من الأوقات كانوا يرونه مرة كل أسبوع، لكن الآن عادة ما تمر الشهورالعديدة دون أن يُرى. غير أنه في تلك الليلة بدا جيكل كسابق عهده؛ إذ ارتسمت علىشفتيه ابتسامته العذبة فيما كان يتحدث إلى أترسون. جلسا يحتسيان الشاي إلى جانب المدفأة. «. كنت أرغب في التحدث إليك يا جيكل بشأن الوصية » : استهل أترسون الحديث قائلًا عزيزي أترسون المسكين، لم أر قط شخصًا منزعجًا قدر انزعاجك » : أجاب جيكل عندما رأيت هذه الوصية، خلا صديقنا العزيز لانيون عندما اعترضعلى نظرياتي المبنية
على أسس غير علمية. ولا أود أن أقول لك ما نعت به نظرياتي غير العلمية. إنه زميل «. رائع، لكنني لم يخب أملي في أي إنسان أكثر مما خاب أملي فيه استأنف أترسون كلامه إذ قرر أن يتجاهل مناورة جيكل من أجل تغيير الموضوع: «. أنت تعرف أنني لم أوافق قط على هذه الوصية » وصيتي؟ أجل بالطبع، أدرك هذا. لقد أخبرتني » : رد جيكل بنبرة بهاشيء من الحدة وقد اندهش أترسون لدى ردة فعل جيكل الغاضبة. «. بذلك كان أترسون مصممًا على «. حسنًا، ولسوف أخبرك بهذا من جديد » : قال أترسون لقد علمت » : أن يناقش هذا الموضوع مع جيكل. فهو موضوع في غاية الأهمية، فقال «. بأحد الأمور عن مستر هايد لا أبالي بسماع المزيد. أظن أننا اتفقنا على » : شحب وجه جيكل الكبير الوسيم وقال «. ألا نتطرق إلى هذا الموضوع وشعر أترسون بالانزعاج لتدخله في شئون «. ما سمعته كان رهيبًا » : قال أترسون جيكل، فهذا ليس من عادته. فقد كان أترسون محاميًا ذائع الصيت بين أعضاء بعينهمفي المجتمع لِما عُرف عنه بأنه لا يطرح الكثير من الأسئلة، فهو يتابع عمله دون أنيتعمق في حياة موكليه أو أفعالهم. غير أن جيكل كان أكثر من مجرد موكل، لقد كانأقدم وأعز صديق لأترسون. وأدرك أترسون أنه لا بد من أن يتابع موضوع هايد وإلا لن يسامح نفسه أبدًا. لن أعدل عن رأيي، أنت لا تعي موقفي. إنه موقف غاية في الغرابة، » : أجاب الطبيب «. غاية في الغرابة حقٍّا جيكل، أنت تعرفني، أنا رجل جدير بالثقة. ضع حدٍّا لهذا الموضوع » : قال أترسون «. وأخبرني بكل شيء عزيزي أترسون، هذا لطف منك، ولا يسعني سوى أن أشكرك على » : قال جيكل كرم أخلاقك. أنا أثق بك أكثر من أي إنسان على وجه الأرض — بل أكثر من نفسي —لكن ما بيدي حيلة في هذا الموضوع. لكن لكي يطمئن قلبك، بمقدوري أن أتخلص منواعتدل جيكل في جلسته، ونظر إلى صديقه في عينيه. وبدت نظرته «. هايد متى شئت العنيفة مألوفة لأترسون فأخذ يتساءل تُرى أين رأى هذه النظرة من قبل. إذا كنت تستطيع أن تتخلص من هايد » : مال أترسون إلى الأمام في مقعده وقال وحاول أن يظل صوته هادئًا لكن «. في أي لحظة، إذن أتوسل إليك أن تفعل هذا الآن 26
دكتور جيكل خالي البال أرجوك يا جيكل، لا مفر من أن تقطع علاقتك » : كان من العسير عليه أن يخفي مخاوفه «. بهايد أشكرك على مخاوفك، لكن تذكر أن هذه مسألة خاصة. من فضلك » : قال جيكل «. دعك من هذا الأمر ليس لدي أي شك في » : حول أترسون عينيه إلى المدفأة، وفكر هنيهة ثم قال أخيرًا وخلص أترسون إلى أنه ما بيده حيلة، وعليه أن يثق في صديقه في «. أنك على حق تمامًا هذه المسألة، فنهض كي يرحل. ثمة أمر واحد أتمنى أن تتفهمه، أنا مهتم للغاية بأمر هايد، مهتم » : أضاف جيكل بأمره إلى حد بعيد. لقد أخبرني أنكما التقيتما بالقرب من باب المختبر قبل أسبوعين،أخشى أنه كان وقحًا معك، أتأسف لك بشدة عن هذا. أعرف أنه رجل صعب المراس،لكنني أريدك أن تعدني بأنك سوف تلتزم بشروط الوصية. إذا مت — أو اختفيت —«. من فضلك تأكد من أن يستلم هايد ما هو حقه شرعًا. سيهنأ بالي إن قطعت لي وعدًا وتساءل أترسون هل «. لا يمكنني التظاهر أنه سوف يروق لي أبدًا » : أجاب أترسون بمقدوره أن يسترد صديقه، وتساءل أيضًا هل استسلم جيكل لهايد تمامًا الآن. لا أطلب منك هذا، كل ما أطلبه هو العدل. أسألك فقط أن » : قال جيكل مترجيًا «. تساعده من أجلي، عندما أختفي «. أعدك » : تنهد أترسون تنهيدة عميقة وقال 27


الفصل السابع اغتيال كارو

حدث بعد زهاء العام أن جريمة بشعة روعت لندن بأكملها؛ إذ اغتيل السياسي المعروفمستر دانفرز كارو، وكانت التفاصيل المعروفة عن الحادث قليلة ومرعبة؛ كانت إحدىالخادمات بمنزل دكتور جيكل قد ذهبت إلى غرفة نومها نحو الساعة الحادية عشرة،وكانت غرفتها مُطلة على ممشى انعكس عليه ضوء البدر فأضاءه إضاءة كاملة، جلستالخادمة في الشرفة بعضالوقت تتأمل المنظر الجميل. أخبرت الخادمة الشرطة فيما بعد أنها كانت أصفى ليلة شهدتها في حياتها، إلى أن وقعت عيناها على رجلين في الممشى. لاحظت الخادمة كهلًا يسير أولًا عبر الدرب، وكان الكهل أنيق الملابس وينسدلشعره الأبيض الجميل على مؤخرة عنقه. واستطاعت أن ترى وجهه بوضوح في ضوءالقمر الساطع، بدا لها الكهل وسيمًا طيبًا. وعندئذ إذا برجل آخر ضئيل الحجم يرتديمعطفًا كبيرًا وقبعة داكنة اللون يسير باتجاهه. وفيما اقترب أحدهما من الآخر انحنىالرجل الكهل للرجل الثاني. ظنت الخادمة أن الكهل كان يسأل عن الطريق، إذ كانممسكًا بورقة أشار بها إلى الممشى. ولأنها رأت وجهه بوضوح، لاحظت أنه هادئ وغايةفي المرح، بل ضحك أيضًا. عندئذ لمحت وجه مستر هايد الذي عرفته أنه هو الزائر الذييتردد أحيانًا على سيدها. كان هايد ممسكًا بعكاز ثقيل في يده يؤرجحه إلى جانبه. وإذبهايد يرفع العكاز على حين غرة، فتراجع الرجل الكهل خطوة للوراء، لكن هذا لم يجدنفعًا. شاهدت الخادمة في فزع هايد وهو يهوي بالعكاز على الرجل الكهل الذي خرّ على الأرض. فقدت الخادمة الوعي، وعندما أفاقت بعد مضي بضع ساعات، هرعت إلى الشرطةكي تبلغ عن واقعة الاغتيال، فاستجابت الشرطة على الفور. في بادئ الأمر لم يعرفوااسم الضحية، غير أنهم عثروا على خطاب في ملابسه. وكان هذا الخطاب موجهًا إلى
السيد أترسون. أيقظت الشرطة السيد أترسون في منتصف الليل كي يتعرف على صاحب الجثة. ذهب أترسون بمعية الشرطة إلى المستشفى حيث ترقد الجثة، وكانت الفكرة الأولىالتي طرأت على ذهنه هي أن دكتور جيكل قد قُتل، فكان شديد التوتر ومرعوبًا من أجلصاحبه. احتاج الأمر إلى قدر هائل من الشجاعة حتى يستطيع أترسون أن يستجمعقوته وينظر إلى الجثة. ولم يكن يدري كيف سيكون موقفه إن اتضح أنه دكتور جيكل. «. لقد عرفته، يؤسفني أن أقول إنه السير دانفرز كارو » : قال أترسون «. مستحيل! ستُنشرهذه الجريمة في كافة الجرائد الصباحية » : أجابضابط الشرطة سيدي، نرجو أيضًا أن يكون لديك بعض » : ثم هزّ رأسه في ذهول واسترسل قائلًا عندئذ أخبره الضابط بالقصة التي روتها الخادمة عندما انهال «. المعلومات عن الجاني مستر هايد على كارو بعكازه. لقد أذهله أن هايد «؟ هايد، هل قلت هايد » : اندهش أترسون بشدة مما سمع وقال كان على علاقة بشخص آخر هو يعرفه أيضًا، ولا سيما شخص مثل سير دانفرز كارو.لقد كان مترقبًا أن يكون هايد قد ألحق الضرر — بل قتل — دكتور جيكل، وليس كارو.تساءل أترسون: أليس هناك من هو بمأمن من خطر مستر هايد؟ بدا المحامي في حالة انزعاج شديد. «. أجل يا سيدي، لقد استخدم هذا العكاز سلاحًا للجريمة » : أجاب ضابط الشرطة وسلم الضابط العكاز إلى أترسون. لهث المحامي، فقد تعرف على العكاز الذي أعطاههدية إلى دكتور جيكل منذ بضع سنوات. لا بد أن جيكل أعطاه إلى هايد، أو أن هايدسرقه. لم يأت أترسون على ذكر هذه الحقيقة أمام الشرطة. كان يعرف أنه بهذا الصنيع يخفي أحد الأدلة، لكنه يخشى على صديقه، وأراد أن يتحدث إلى دكتور جيكل أولًا. ومع ذلك، ثمة مسألة مهمة أخرى في تلك الأثناء؛ لا بد من العثور على هايد والقبضعليه. وعرف أترسون أين يجده؛ فقد كان لا يزال يحتفظ بالبطاقة الخاصة بالرجل الغريب في محفظته. إذا أتيت معي، يمكنني أن أدلك على شقة مستر » : قال أترسون وهو يهزّ رأسه أسفًا «. هايد 30


الفصل الثامن شقة مست رهايد

اصطحب أترسون الشرطة إلى شقة هايد في حي سوهو. في تلك الأثناء كانت الساعة قدبلغت التاسعة صباحًا. وكانت الشوارع مكتظة بالناس، أما الشارع الذي يقطنه هايدفقد كان مليئًا بالمتاجر المغلقة والمباني المتهالكة. ووقف بأعتاب الأبواب الأطفال يرتدونالأسمال البالية، وكان الشحاذون يشحذون في زاوية الشارع. تعجب أترسون مرة أخرىكيف يمكن لدكتور جيكل أن يلتقي رجلًا من هذه المنطقة. ذكره هذا أيضًا كم لا بد أنيكون هايد راغبًا في أن يرث ثروة جيكل، فبالطبع سيتيح له هذا فرصة الانتقال بعيدًا عن سوهو. قرع أحد ضباط الشرطة الباب، ففتحت الباب امرأة يغطي الشيب شعرها وملأتالتجاعيد وجهها الجامد. سأل الشرطي هل هذا منزل مستر إدوارد هايد. أجابت المرأة بأن هذا منزله لكنه غير موجود. إنه لا يمكث هنا دائمًا، في الواقع، كانت البارحة هي أول ليلة أراه » : قالت المرأة وكانت المرأة مرتبكة من مجيء الشرطة. ماذا عساهم يريدون من «. فيها منذ أشهر مستر هايد؟ واستنتجت المرأة أن ثمة شيئًا مثيرًا قد حدث. لعل هايد ارتكب جريمة.ولم تنتظر المرأة حتى تسمع التفاصيل، فقد بدأت بالفعل تحدد ما الذي ستقصه على «. غير أنه مكث هنا قرابة ساعة واحدة فحسب » : مسامع جيرانها. أضافت المرأة «؟ أيمكننا أن نرى شقته » : سأل أترسون نظرت المرأة إلى المحامي — ورجال الشرطة من ورائه — وقادتهم داخل المبنى «؟ لطالما شككت أن هذا الرجل سوف يسبب المتاعب. ماذا فعل » : وقالت تبادل أترسون ورجال الشرطة النظرات، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، ثم تبعواالمرأة لأعلى إلى شقة هايد. اندهش أترسون من الدفء الشديد الذي تتميز به شقة هايد؛
اتسمت الشقة بالذوق العالي والفخامة البالغة، فقد ملأت التحف الفنية الجدران ورفالمدفأة، وميز أترسون العديد من أعمال الفنانين وأدرك أن اللوحات كانت باهظة الثمن.رأى أترسون أن دكتور جيكل ساعد في تزيين المكان، فهو يفهم الفن جيدًا، وكان السجّاديدوي الصنع. والستائر مصنوعة من القماشالثقيل الداكن. لاحظ أترسون أيضًا الأطباقالخزفية والكريستال في أنحاء الشقة. وما كان ليتخيل قط أن هايد من نوعية الأشخاص الذين يمكن أن يستخدموا مثل هذه الأطباق. كانت الشقة في حالة من الفوضى، الملابس مبعثرة على الأرض، والأدراج مفتوحةومقلوبة، ورماد الأوراق المحترقة مؤخرًا تملأ المدفأة. تفقد رجال الشرطة البقايا وعثرواعلى جزء من دفتر شيكات. ومن حسن الحظ أنهم تمكنوا من قراءة معلومات الحساب. مكتوبًا بوضوح. « مستر إدوارد هايد » فقد كان اسم هذا سوف يقودنا إليه. لدينا كل المعلومات المصرفية هنا، » : قال أحد ضباط الشرطة «. بمقدورنا أن نكمن له ونباغته عندما يحاول أن يسحب المال من اللامبالاة الشديدة أن يترك هذه المعلومات » : تعجب أترسون وقال بصوت مرتفع ومع أنه التقى مستر هايد مرة واحدة فحسب، فإنه لا يظن أنه من نوعية «. وراءه الأشخاص كثيري النسيان على هذا النحو. بدا هايد مراوغًا للغاية عندما التقيا. فكر «. لا بد أنه كان في عجالة شديدة » : أترسون في نفسه المهم هو أننا تمكنا منه، لن يفلت مستر هايد من » : هزّ ضابط الشرطة كتفيه وقال كانت الشرطة على قناعة من أن القضية كادت تنتهي في الحال. وتوقعت أن «. أيدينا هايد قطعًا سيكون طريح السجن في اليوم التالي. أتمنى أن تكون على صواب. لن يسعدني شيء أكثر من أن أرى » : قال أترسون «. نهاية مستر إدوارد هايد 32


الفصل التاسع حادثة الخطاب

ذهب مستر أترسون بعدئذ في مساء ذلك اليوم إلى دكتور جيكل. أدخله بول وقاده عبرلا يشعر دكتور جيكل أنه على ما يرام اليوم. وهو يؤثر » : الفناء إلى المختبر. قال بول«. الجلوس في هدوء المختبر فنادرًا ما «؟ هل أنت متأكد من أنه على استعداد أن يلتقي زوارًا » : سأل أترسون كان جيكل يقابل أحدًا في تلك الأيام، وقد اندهش المحامي من أنه سيراه وهو مريض. لقد أخبرني دكتور جيكل أنه إذا عرجت عليه، فلا بد أن أقودك إليه » : أجاب بول «. في الحال، أما أي شخص آخر سواك فلا بد أن أصرفه لم ينهض دكتور جيكل كي يستقبل زائره، وإنما ظل جالسًا بجانب المدفأة يبدو مريضًا للغاية. «. لقد سمعت الخبر » : قال أترسون ما إن تركهما بول كان أول شيء تناهى إلى مسامعي هذا الصباح، وقد شاع » : ارتجف الطبيب وقال جاءت الشرطة هذا » : أغمض جيكل عينيه هنيهة ثم استرسل قائلًا «. في كل أنحاء لندن «. الصباح لتسأل ماذا أعرف عن هايد أنا أسألك هذا السؤال بصفتي محاميك وصديقك. أنت لست مجنونًا » : قال أترسون «؟ حتى تتستر عليه، أليس كذلك أقسم بالله إنني لن أرى » : ثم بكى واسترسل «. أترسون، أقسم بالله » : قال جيكل هايد مرة أخرى. لقد انتهى كلشيء. وحتى أكون أمينًا، هو ليس في حاجة إلى مساعدتي.أنت لا تعرفه كما أعرفه أنا يا أترسون. انتبه إلى ما أقوله: لن تأتي أي أخبار منه مرة «. أخرى
تبدو واثقًا للغاية. أتمنى أن تكون على صواب. من واجبي أن أنبهك » : قال أترسون «. أنه إذا عُقدت محاكمة، فسيُزج باسمك فيها أنا واثق بشدة » : نكس دكتور جيكل رأسه. وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول من أنه رحل. لقد تسلمت خطابًا منه، ولا أعرف هل يجدر بي أن أسلمه للشرطة. أؤثر «. أن أتركه لك وأدعك تقرر ماذا تفعل به. أنا أثق بك تمامًا إذ «؟ هل يستبد بك القلق من أن يكشف الخطاب عن مكان هايد » : سأل أترسون حيره سبب تفكير جيكل في إخفاء الدليل، هل كان لا يزال يتستر على هايد؟ «. لا، لا أكترث لمصير هايد الآن. لقد قطعت علاقتي به تمامًا » : رد جيكل انزعج أترسون بشدة من تصرف صديقه حتى إنه بدا مستاءً للغاية. لقد كان لمقتلسير دانفرز وقع بالغ على الدكتور جيكل. لا بد أنه يشعر بالذنب لأنه هو من جلب هايد «. ربما يجدر بك أن تريني الخطاب » : إلى هذه المنطقة. قال أترسون كان الخطاب مكتوبًا باليد بحروف مستقيمة غريبة، وبدا الخط حادٍّا وسيئًا. كانمكتوبًا ببساطة ووضوح أن دكتور جيكل، ولي نعمته العطوف، لا ينبغي أن يقلق لأنههرب. لقد رحل عن المدينة ولن يرجع ثانية. أثلجت الرسالة صدر أترسون للغاية، فياهل لي أن أرى » : له من أمر باعث على الراحة أن يعرف أن هايد قد رحل! قال أترسون «؟ المظروف لقد حرقته. فقد كنت مشوش التفكير، ومع ذلك هذا ليس بالشيء » : أجاب جيكل المهم، إذ لم يكن هناك ختم بريدي. ما كانت الشرطة لتقتفي أثره. لقد سُلمت الرسالة «. باليد صبيحة اليوم «؟ هل لي أن أحتفظ بهذا الخطاب وأفكر ماذا سأفعل » : سأل أترسون أنا أترك الأمر برمته لك. لقد فقدت الثقة في قدرتي » : أمسك جيكل رأسه بيده وقال «. على الحكم على الأمور أخبرني يا جيكل: هل كانت الشروط الغريبة المنصوص عليها في » : قال أترسون وصيتك التي تجعل من هايد الوريث الوحيد لكل ثروتك في حال الموت أو الاختفاء، هي «؟ جميعها من بنات أفكاره هزّ جيكل رأسه بتؤدة. «. كنت متأكدًا! لقد قصد أن يقتلك » : تعجب أترسون قائلًا الأمر ليس كذلك يا أترسون. لا يمكنني أن » : هزّ جيكل رأسه مرة أخرى وقال أشرحه لك، لقد كان أمرًا بيني وبين هايد، لا يمكن أن يعرفه أحد غيرنا. ولن يعلمه أي 34
ثم وضع رأسه بين يديه مرة «! إنسان آخر البتة. لكنني تعلمت درسًا! ويا له من درس أخرى وبكى. ثمةشيء آخر » : قال أترسون بنبرة رقيقة إذ لم يشأ أن يزعج صديقه أكثر من ذلك يا جيكل؛ هل لديك أدنى فكرة عن سبب ارتكاب هايد لجريمته؟ هل كان هذا بغرض «؟ السرقة أم أن لديه أسبابًا أخرى «. لا، ليس لدي أدنى فكرة » : لم يرفع جيكل رأسه من بين يديه وقال بصوت مكتوم لقد جاء خطاب اليوم، » : فيما كان أترسون في طريقه للخارج وقف ليتحدث إلى بول «. صف لي شكل الرسول الذي سلمه؟ أود أن أعثر على الشخص الذي سلمه «. أنا متأسف سيدي، لم نتسلم أي مراسلات اليوم » : أجاب بول اندهش أترسون مما سمع. لا بد أن الخطاب جاء عن طريق باب المختبر الذياعتاد هايد أن يستخدمه. من الغريب أن يجيب جيكل الباب بنفسه وهو في هذه الحالةالذهنية. ذكر الطبيب أنه تسلم الخطاب بعد زيارة الشرطة له. لعل الرسالة كُتبت فيالمكتب، إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن هايد كان بمعية جيكل عندما كتبها. لكن هذاقد يعني أن جيكل كذب عليه. إذا كان جيكل راغبًا في أن يضع ثقته بالمحامي في أمرالرسالة، لماذا لا يضع ثقته به بقول الحقيقة؟ ترك أترسون منزل جيكل وهو في حيرة من أمره ممتلئًا بالمخاوف. 35


الفصل العاشر أترسون يفحص الخطاب

شق أترسون طريقه إلى مكتبه. كانت كل الأحاديث التي تدور في الشوارع — بل فيالمدينة بأكملها بشأن هذا الأمر — حول مقتل سير دانفرز كارو. فجأة أصبح الجميععلى دراية باسم إدوارد هايد. لقد كان عسيرًا على أترسون أن يتفجع على شخص فيماهو يستبد به القلق على شخصآخر. كان عقله غارقًا في الأسئلة والمخاوف. غشيالضبابالمدينة، فلم يعد بمقدور أي شخص أن يرى من مكانه الزاوية المقابلة. بدت لندن مثلحساء رمادي ثخين. رأى أترسون أن هذا المناخ يعبر عن مزاجه؛ إذ لم يعد شيئًا واضحًا البتة، وهو لا يفهم أي شيء. أظهر مساعد أترسون، مستر جست، تعاطفه حالما دخل المحامي من الباب. «! يا لشناعة ما ألم بالسير دانفرز » : قال جست «. نعم، إنه أمر بغيضبحق. هذا الذي يُدعى هايد مجنون بلا شك » : أجاب أترسون تشارك كل من أترسون وجست العديد من الأسرار؛ فطبيعة عملهما اقتضت وجودوعلاقته بدكتور جيكل، « هايد » قدر هائل من الثقة بينهما، وقد ناقشا بالفعل مسألة وكان جست قد شارك أترسون العمل في إنهاء إجراءات الوصية الغريبة. وتمنى المحاميأن يجد عند جست وجهة نظر مختلفة بشأن الخطاب. وأخبر مساعده بشأن زيارته لدكتور جيكل والرسالة التي تركها هايد. «. بحوزتي ورقة الآن مكتوبة بخط يد القاتل » : قال أترسون «؟ هل لي أن ألقي نظرة عليها » : قال جست فقد «. رجوت أن تسدي إلي نصيحة من نصائحك الفنية المخضرمة » : أجاب أترسون درس جست فن كتابة اليد؛ إذ اعتقد اعتقادًا شديدًا في أن خط اليد يُنبئ بالكثير عن
ماذا يمكنك أن تخبرني عن هذا » : صاحبه. سلم أترسون الخطاب إلى جست وقال له «؟ المدعو مستر هايد أمضى جست وقتًا طويلًا في فحص الرسالة، وأخيرًا رفع رأسه من فوق المكتب «. حسنًا، سيدي، لا أظنه مجنونًا، لكن بلا شك هذا نمط كتابة غريب » : وقال قطع الساعي حديثهما حيث وضع المراسلات الصباحية على مكتب جست ثم غادر. بدأ أترسون يفرز الخطابات. أجاب أترسون بأنه كذلك. «؟ سيدي، هل هذا خطاب من دكتور جيكل » : قال جست «؟ لقد ظننت ذلك، لقد عرفته من خط اليد. هل هذا جواب شخصي » : فتعجب جست قائلًا لا. إنها دعوة » : فتحه أترسون في عجالة إذ أربكته أسئلة مساعده المثيرة، وقال «. عشاء «؟ هل تمانع إذا ألقيت نظرة عليه بالمثل » : سأله جست وضع المساعد الورقتين جنبًا إلى جنب على المكتب، وفحص كليهما بعض الوقت. وكان يساوره الفضول والضجر معًا من تصرفات «؟ لماذا تقارنهما » : سأل أترسون مساعده. حسنًا يا سيدي، ثمة الكثير من التشابه بينهما. من جوانب عدة » : أجاب الموظف «. كلا النمطين متطابق. كل ما هناك أن هناك اختلافًا في الميل «! هذا غريب » : قال أترسون وتبادل الرجلان النظرات، ولم يكونا «. بل غاية في الغرابة يا سيدي » : قال المساعد على يقين ماذا يعني كل هذا، لكنهما كان على دراية بأنه أمر خطير. «. لن أخبر بشأن هذه الورقة كما تعلم » : قال أترسون «. لا يا سيدي. أتفهَّم الأمر » : رد جست في تلك الليلة وضع أترسون الورقة في خزنته بالمنزل، إذ رأى أنه من الأفضل ألا تقعما ظننت قط أنه يمكن أبدًا أن يزور هنري » : في أيدي أي شخص آخر. فكر أترسون ارتعدت فرائص أترسون. «! جيكل ورقة من أجل قاتل 38
الفصل الحادي عشر حادثة دكتور لانيون الغريبة عرضالبوليس تقديم مكافأة تبلغ آلاف الجنيهات لمن يعثر على قاتل سير دانفرز كارو.غير أن مستر هايد لم يُعثر عليه في أي مكان، وكأنه قد اختفى من وجه الكرة الأرضية.لم يلمحه أي شخصمنذ ليلة الجريمة المروعة. غير أن هايد بات حديث المدينة بلا شك.وفي كل زاوية شارع ومكتب ومنزل كان الناس يتناقلون الحكايات الشريرة التي تروي وحشيته وأفعاله الشريرة، وكانت كل حكاية أشنع من سابقتها. رأى أترسون أن هذه قضية وحشية أكثر من غيرها. لكن الأمر المثير للغرابة، أنمقتل رجل ما، سير دانفرز، نجم عنه انتعاش معنويات رجل آخر؛ فقد خرج دكتورجيكل من مكمنه، وأخذ يلتقي الأصدقاء القدامى مرة أخرى، ويقيم الحفلات في منزلهويحضر المناسبات الاجتماعية. لاحظ أترسون أيضًا أن جيكل بات أكثر تدينًا؛ فطالماكان الطبيب رجلًا خيريٍّا، لكنه فجأة بات أكثر انشغالًا بالصلوات وحضور الكنيسة. بداجيكل طيلة شهرين يتمتع بوافر الصحة والسعادة. وعلق كثيرون على أنه كم يبدو هانئ البال وفي حالة سلام. أقُيم حفل العشاء الذي أعُلن عنه في الدعوة اللافتة للنظر في الثامن من يناير/كانونالثاني. وكان كل من مستر أترسون ودكتور لانيون من بين المدعوين، ولاحظ كلاهماالسعادة الغامرة على وجه مُضيفهما طيلة الأمسية. وكان من الجلي أنه سُر بأن يقضيالأمسية مع اثنين من أقدم أصدقائه، قطعًا كان يذكر متى كان ثلاثتهم أفضل أصدقاء. شعر أترسون بسعادة مألوفة له، لقد كان على قناعة بأن الحياة عادت لمجراها. غير أنه في الثاني عشر من يناير/كانون الثاني — وأيضًا في الرابع عشر من نفسالشهر — أغُلق باب دكتور جيكل أمام الزوار. وفي كلتا الليلتين عرج عليه أترسون بدونسابق إخطار، وأخبره بول أن الطبيب لا يرغب في رؤية أحد، وعندما صُرف أيضًا في
الخامس عشر من نفس الشهر، بدأ القلق يستبد بأترسون. لقد عاد جيكل إلى عادتهالقديمة في الاختفاء. وتذكر أترسون الأيام التي كان يسيطر فيها هايد على صديقه. غيرأن هذه المرة كانت أسوأ، إذ لم يكن من المألوف أن ينعزل تمامًا. قرر أترسون أن يزور دكتور لانيون. فلعل الطبيب الطيب يقدم له نصيحة ما. أدُخل أترسون إلى حجرة دكتور لانيون. وصُدم مما وجد؛ ثمة مكروه ألّم بلانيون،فقد كان شاحبًا وعليلًا وبدا كأنما على شفا الموت، لقد بدا لانيون وكأنه تقدم في العمر ثلاثين عامًا طيلة الأسبوع منذ أن رآه أترسون آخر مرة. ثم انحنى إلى جانب «! يا إلهي، يا لانيون » : قال أترسون فيما اقترب من صديقه مقعد صديقه وأمسك بيده. وكان أترسون قد جاء بغرض إنقاذ أحد الأصدقاء، وقدصدمه التفكير في أنه قد يضطر أن يقلق من أجل إنقاذ صديقين وليس واحدًا. قال «؟ ما الذي اعتراك؟ كيفصرت عليلًا هكذا » : أترسون لا. أنا لست عليلًا. لقد صُدمت صدمة عنيفة، لكنها ستكون » : هزّ لانيون رأسه وقال «. نهايتي. إن أيامي معدودة «؟ جيكل مريض أيضًا. هل رأيته » : سأله أترسون لا أود » : عبس وجه لانيون ثم رفع يده وهي ترتجف وقال في صوت مرتفع ومهتز «. أن أرى جيكل مرة أخرى أو أسمع اسمه. لقد ضقت ذرعًا به. هو ميت بالنسبة لي الآن وبعد فترة انقطاع طويلة عن الكلام، تساءل هل بمقدوره «! أوف » : قال أترسون نحن ثلاثة أصدقاء قدامى، وليس في مقدور المرء أن » : فعل أي شيء، ثم قال مترجيًا «. يستغني عن صديق قديم عزيز «. لا يمكن فعل أيشيء. اسأله بنفسك إذا كنت بحاجة إلى فهم المزيد » : أجاب لانيون «. لن يقبل أن يقابلني » : أجاب المحامي لست مندهشًا. لعلك تفهم يومًا ما يا أترسون بعد موتي بعضًا من » : قال لانيون تفاصيل هذه القصة. لا يمكنني أن أخبرك، فهي قصة مزعجة أيما إزعاج. في نفسالوقت، إذا كنت تريد أن تمكث وتتحدث في مواضيع أخرى، فعلى الرحب والسعة. أما إذاكنت مصرٍّا على مناقشة قضية دكتور جيكل، إذن لا مفر من أن أطلب منك أن ترحل «. لتوك مكث أترسون مع صديقه، وتحدثا حول الأيام الخوالي وكل الأصدقاء المشتركينبينهما فيما خلا دكتور جيكل. وبعد بضع ساعات ودع المحامي صديقه وتركه وحده. 40


الفصل الثاني عشر خطاب من دكتور لانيون

حالما عاد أترسون إلى منزله كتب خطابًا إلى دكتور جيكل يعبر فيه عن استيائه بسببصرفه مرارًا وتكرارًا وعن قلقه بشأن صحة جيكل. وسأل أيضًا عن سبب النهايةالمأساوية لعلاقته بلانيون. وشعر المحامي بالإحباط الشديد وكان في حيرة شديدة من أمره. جاء الرد في اليوم التالي في خطاب مطول ومحير في بعضمن أجزائه. استهل جيكللا ألومه بالطبع. » : خطابه بقوله إن القطيعة بينه وبين لانيون هي للأبد، كتب جيكل لكنني أوافق على أننا لا يجدر بنا أن نتحدث إلى الأبد. في واقع الأمر، أنوي أن أعيش حياةالعزلة من اليوم فصاعدًا. أرجوك لا تنجرح أو تنزعج إذا أغُلق بابي حتى في وجهك أنتيا أترسون. هكذا لا بد أن يكون الأمر. لقد جلبت هذا العقاب على نفسي. إذا كنت أكبرالخطائين، فأنا أيضًا أكبر المُعذَّبين؛ فحتى ذلك الحين لم يكن لدي أدنى فكرة أن الحياةيمكنها أن تحمل مثل هذا الشجن. يا أترسون إذا كنت تأمل أن تخفف من ألمي بأي «. شكل من الأشكال، فأرجوك احترم صمتي ذُهل أترسون، فلقد ولى وزالشرمستر هايد وتأثيره منذ زمن طويل. فقبل أسبوعفحسب، كان جيكل سليمًا وسعيدًا وفي طريقه إلى قضاء فترة شيخوخة هانئة. فلقدعادا إلى عادتهما في تناول العشاء وقضاء الأمسيات معًا إلى جانب المدفأة. وقد علقأصدقاء آخرون على معنويات جيكل المرتفعة. وكان أترسون قد اعتقد أن خطر هايدقد ولى وزال. ما الذي عساه أن يحدث خلال فترة وجيزة؟ وبعد مرور فترة لم تتجاوز الأسبوعين، قضىدكتور لانيون نحبه. كانت الكنيسة مليئة بالمُعزين إذ كان للدكتور لانيون العديد من الأصدقاء. وكانالجميع مذهولًا من السرعة التي مات بها. وحده أترسون هو الذي رأى قرب النهاية.
لكن بالطبع لم يخبر المعزين الآخرين؛ فكيف يمكنه أن يشرح صلة جيكل بالأمر، ولا سيما وهو يشعر أنه هو أيضًا قد أخفيت عنه أشياء كثيرة. في الليلة التالية للجنازة مكث أترسون وحده في غرفته. جلس إلى جانب ضوءشمعة واحدة، وأخرج مظروفًا من جيبه، كان قد سلمه إياه محامي لانيون بعد الجنازة،يُسلم إلى جي جيه أترسون وحده. إذا عشت أنا دكتور لانيون إلى » : وكان مكتوبًا عليه فضّ أترسون «.« دون أن يقرأه أحد » ما بعد مستر أترسون، يجب تدمير هذا الخطاب لا يُفتح » : ختم المظروف بكل ثقة، وبالداخل وجد مظروفًا آخر مختومًا ومكتوبًا عليه صدمت هذه الكلمات أترسون، فهي نفس «. حتى يموت دكتور هنري جيكل أو يختفي الكلمات التي استخدمها جيكل في وصيته الغريبة بشأن مستر هايد. كانت الكلماتالمكتوبة على المظروف بخط يد دكتور لانيون. لماذا يهتم لانيون باختفاء جيكل؟ ولماذاارتاب لانيون من الأساس في أن جيكل قد يختفي يومًا ما؟ ولمّا كان أترسون صديقًاجديرًا بالثقة ومحاميًا، وضع المظروف المختوم في أبعد ركن في خزنته. وتمنى ألا يأتيأبدًا اليوم الذي يضطر فيه أن يفتحه. فقد خشي أن تكون الحقيقة صادمة للغاية على أن يتحملها. استمر أترسون يتردد على جيكل لكن على فترات متباعدة. وكان لا بد أن يقر المحاميلنفسه أنه عادة كان يشعر بالراحة عندما كان بول يصرفه. فقد استكن أترسون في نمطحياة جديد ووجد فيه الراحة؛ إذ علم أترسون أن قلقه بشأن جيكل سيقل إذا انشغل على الدوام. في واحدة من زياراته إلى منزل جيكل، سأل بول هل الطبيب يشعر بأي تحسن.فأخبره الخادم أن ظهور سيده حتى في داخل المنزل بدأ يقل باطراد. لاحظ أترسون أمارات القلق على بول. إنه يقضي معظم وقته في الغرفة التي تعلو المختبر. بل عادة ما ينام » : قال بول دكتور جيكل هناك. أنا أترك له الطعام على باب الغرفة ثم أعود في وقت لاحق كيوبدا على بول أنه يريد أن يفصح عن المزيد، إذ تلجلج في بعض «. آخذ الأواني الفارغة «. سأخبر سيدي أنك كنت هنا » : الكلمات، ثم توقف، لكنه قال في النهاية شكر أترسون بول وغادر. وكان واضحًا أن القلق استبد به بشأن صحة جيكلوكم الوقت الذي يقضيه جيكل في عزلة. وقد اندهش أترسون لدى علمه بأنه حتى خدم الطبيب نادرًا ما يرونه. وتساءل أترسون: هل فقد صديقه الطيب إلى الأبد؟ 42


الفصل الثالث عشر حادثة في الشرفة

على الرغم من الأحداث الغريبة التي وقعت خلال الأشهر الماضية، فلم يفوّت أترسونقط نزهة يوم الأحد بمعية مستر إينفيلد، فقد كان المحامي يستمتع استمتاعًا بالغًا بهذهالعادة. وجاءت عليه أوقات شعر فيها بأن اتصاله بالعالم من خلال هذه النزهة هوالذي حفظ سلامته العقلية. فقد كانت حياته مُربكة وصعبة للغاية بسبب قلقه علىصحة جيكل. كانت هذه النزهات تذكره بالأوقات التي كانت فيها حياته طبيعية. لقدافتقد نمط حياته اليومي إذ أنهكه بشدة القلق الشديد على صديقه. تمنى أترسون أنتعود حياته إلى سابق عهدها البسيط؛ يقضيالأمسيات الهادئة في منزله وحفلات العشاء بمعية أصدقائه. وتمنى أن يتحسن جيكل عما قريب. في إحدى النزهات، تصادف أن مر أترسون وإينفيلد مرة أخرى بالباب الذي بدأتعنده القصة. خطا كلاهما لينظر إليه. وكان الباب لا يزال بحاجة إلى طبقة من الطلاءوكان قفله محُطمًا. وقد بدا كأنما حاول أحد أن يفتحه بالقوة. وأخذ يفكر مستر أترسونكم تغيرت حياته منذ أن أراه إينفيلد هذا الباب للمرة الأولى. وعلى نحو غريب، شعرأترسون بالمسئولية. ومع أنه كان على دراية بأن هذا غير منطقي، فقد تساءل هل مجردسماعه للقصة هو الذي أدى إلى كل الأحداث التي توالت بعدها؟ لعل سعيه وراء هايدوبحثه عن إجابات قد سبب الأذى لدكتور جيكل أكثر مما نفعه. لعل هايد سبب المتاعبلجيكل الذي ربما لا يزال يعاني الآثار السيئة لانتهاكات هايد وابتزازه. وبدأ أترسون يتعلم أن يسلم بأنه قد لا يعرف الحقيقة أبدًا. حسنًا، على الأقل انتهت هذه القصة. ولن نسمع أبدًا عن مستر » : قال مستر إينفيلد وكان المواطنون في لندن لا يزالون يتحدثون عن اختفاء هايد. ولم يلمح له «. هايد أحد ظلٍّا منذ مقتل سير دانفرز كارو. واعتقد كثيرون من الصحفيين أنه غادر إنجلترا.
وراجت الإشاعات برؤيته في ألمانيا وفرنسا. وفي واحدة من الإشاعات ذُكر أنه وصل إلىأبعد مكان ممكن، إلى الصين، لكن لم يكن هناك دليل على ذلك. ظن آخرون أن المجرمهرب إلى أسكوتلندا. وكان هناك أيضًا من يظنون أنه لا يزال في لندن، وكانوا على قناعة بأن هايد ينتظر اللحظة المناسبة حتى يعود ويهاجم ضحيته التالية. أتمنى أن تكون على صواب. ألم أخبرك قط أنني التقيته في إحدى » : قال أترسون «. المرات؟ وقد شعرت بالاشمئزاز مثلك بالضبط أظن أنه يستحيل ألا تنتاب المرء مشاعر الاشمئزاز هذه. وبالمناسبة، » : أجاب إينفيلد أود أن أعتذر لك عن أنني لم أنتبه سريعًا إلى أن هذا الباب هو المدخل الخلفي المؤديإلى منزل دكتور جيكل. لقد علمت أنه كان صديقك العزيز بالطبع، لكنني لم أدرك فيماكنت أروي على مسامعك هذه القصة المزعجة أن هذا المنزل هو منزل جيكل. أنا في غاية «. الأسف إذا كنت قد أسأت إليك لا عليك. لا بد أن أخبرك أن القلق يستبد بي بشأن جيكل، فهو ليس » : قال أترسون على ما يرام منذ فترة. أتمانع في أن ندخل إلى ساحة فناء منزله؟ أود أن ألقي نظرة عبر «. النوافذ بكل سرور. لعلنا نستطيع أن نشجع جيكل على أن ينضم إلينا في » : أجاب إينفيلد «. نزهتنا. فكلما زاد العدد زادت البهجة كان الفناء باردًا ورطبًا قليلًا. ومع أن شمس ما بعد الظهر كانت لا تزال مرتفعةفي كبد السماء، فإن ظلال المغيب غشيت الفناء. وقد حرصالعاملون لدى دكتور جيكلعلى تنظيف الفناء والاعتناء بالأزهار، فكان الفناء عادة مليئًا بالنباتات الخضراء والأزهارالملونة. وكان أترسون قد أمضى الكثير من أوقات ما بعد الظهر بمعية جيكل في الفناءيتحدثان لساعات. غير أنه في هذا اليوم، بدا الفناء موحشًا من الإهمال حيث تحوللون الأشجار إلى اللون البني من قلة الماء، ولم تكن هناك أي أزهار لينعم بها الناظر،وقد نمت الحشائش والأعشاب الضارة حول الأحجار في الممشى. وكان وعاء الماء الخاصبالطيور فارغًا. رأى أترسون أن هذا نذيرشر، فما كان جيكل ليسمح قط أن يبدو الفناء غاية في الفوضوية إن كان سليمًا وسعيدًا. رفع الرجلان بصرهما إلى النوافذ التي تعلو المختبر، فكانت النافذة الوسطى مفتوحة قليلًا. وكان دكتور جيكل يجلس بالقرب منها غائصًا في أحد المقاعد. «؟ مرحبًا جيكل! أراك أفضل حالًا الآن، أليس كذلك » : نادى أترسون 44
التفت الطبيب بتؤدة نحو الصوت الآتي من الفناء، وقد بدا متحيرًا كأن لم يكن يعلم بأن هناك عالمًا خلف نافذته. رقت عين جيكل فيما تعرف على صديقه القديم. أنا مكتئب للغاية يا أترسون. مكتئب بحق. حمدًا لله، لن » : رد الدكتور في حزن «. يدوم هذا طويلًا أنت تمضي الكثير من الوقت داخل المنزل، يجدر بك أن تمارس » : قال المحامي بعضالتمارين الرياضية. لماذا لا تنضم لي أنا ومستر إينفيلد في نزهتنا؟ هل التقيت ابن «. عمي مستر إينفيلد من قبل؟ هيا، ارتد قبعتك واخرج أنت طيب للغاية. كان بودي أن أفعل هذا، لكن هذا مستحيل بالمرة. » : قال جيكل يسعدني أن » : وحاول دكتور جيكل أن يبتسم واسترسل قائلًا «. لا أجرؤ على الخروج أراك بالرغم من كل هذا. يسعدني أيما سعادة. كنت أود أن أدعوك أنت ومستر إينفيلد «. للصعود، لكن المكان غير مناسب للزوار بالمرة لا نريد بالطبع أن نزعجك يا دكتور جيكل. لقد أخبرني ابن عمي كثيرًا » : رد إينفيلد «. عنك حتى إنني كنت أتوق إلى زيارتك يؤسفني بشدة أنني خيبت أملك. » : أجاب جيكل وقد بدا عليه الأسف الشديد بالفعل «. يؤسفني أنه ضاعت علينا الفرصة أن ينعم كل منا بصحبة الآخر «. إذن أفضل ما يمكن فعله هو أن نمكث بالأسفل هنا ونتحدث إليك » : قال أترسون وقد حاول المحامي أن يبدو سعيدًا مبتهجًا. لكن الكلمات «. كنت أنوي أن أقترح نفس الشيء » : أجاب الطبيب بابتسامة واهنة كانت تخرج من فمه بشق النفس قبل أن تختفي ابتسامته ويعقبها سريعًا تعبيراتالفزع التام. أغمض جيكل عينيه بإحكام، وانقبض وجهه، وبدا في ألم شديد. شاهدهالرجلان في فزع وقد تحول جلده إلى اللون الرمادي. غطى جيكل وجهه بيديه، واستداربعيدًا عن النافذة وانحنى. وسمع الرجلان تأوهًا خفيضًا فيما اختفى جيكل تحت إطار النافذة. صُدم الرجلان اللذان كانا يقفان في الفناء مما شاهدا. حاول أترسون أن يناديعلى صديقه، لكن لم يأته أي رد. وكان أترسون مصدومًا ومرعوبًا قليلًا. بعدها بلحظةأسُدل الستار فوق النافذة سريعًا. لم يكن في وسع الرجلين أن يفعلا شيئًا، لذا رحلا في الحال دون أن يتفوها بكلمة أخرى. ظل الرجلان صامتين طيلة بضعة مبانٍ. أخيرًا نظر أحدهما إلى الآخر، كلاهماشاحب الوجه. أراد أترسون أن يتحدث عما رأياه لتوهما. ما الذي حلّ بجيكل فيما 45
كان جالسًا إلى جانب النافذة؟ أي نوع من الأمراض هذا الذي سبب مثل هذا التغييرالرهيب في مظهره؟ لا بد أن هذا أكبر من مجرد توتر بسيط. وتساءل المحامي هل سُمصديقه؟ كان أترسون يعلم أن العاملين عند جيكل ما كانوا ليؤذوه البتة. ثمة شخصواحد فحسب يمكنه أن يمثل هذا الخطر. أيعني هذا أن هايد لا يزال قريبًا؟ أما يزاليسيطر على جيكل؟ إن الشيء الوحيد الذي يعرفه أترسون معرفة أكيدة الآن هو أنهومستر إينفيلد قد شاهدا لتوهما شيئًا بشعًا. لم يتمكن أترسون إلا من أن ينبس ببضع «. ليسامحنا لله. ليسامحنا لله » : كلمات لم يكن من مستر إينفيلد إلا أنه هزّ رأسه في جدية. إذ لم تكن هناك كلمات لتصفما حدث. وعلم إينفيلد أنه لن يصدقه أحد إذا حاول أن يصف ما حدث. واصل الرجلان سيرهما مرة أخرى في صمت. 46


الفصل الرابع عشر الليلة الأخيرة

تملك الرعب من مستر أترسون بسبب ما رأى في النافذة ومع ذلك شعر بأنه عاجز عنأن يفعل أي شيء من أجل المساعدة. وفعل كل ما بوسعه كي يطرد الصورة عن ذهنه.غير أنه في ليلة من الليالي فيما كان جالسًا إلى جانب المدفأة بعد العشاء، فوجئ ببول يزوره. يا إلهي! ما الذي أتى بك إلى هنا يا بول؟ هل دكتور جيكل » : صرخ أترسون «؟ مريض تساءل مستر أترسون «. مستر أترسون، هناكشيء مروع للغاية » : قال الخادم لاهثًا هل جاء بول كل الطريق راكضًا؟ «. من فضلك اهدأ » : كان بول شديد التوتر، فقدم له أترسون مقعدًا وقال له أنت تعلم تصرفات الطبيب يا سيدي، أنت تعرف أنه معزول عن العالم » : رد بول وأغلق على نفسه المكتب الذي يعلو المختبر، وأنا في غاية القلق عليه. الأمر أكثر سوءًا هذه «. المرة. مستر أترسون، أنا أخشى على سلامة سيدي. أظن أنه في خطر بالغ «؟ ما الذي تخشى منه على وجه التحديد أيها الرجل الطيب » : سأله مستر أترسون تساورني المخاوف منذ أسبوع تقريبًا. ولا أستطيع أن أتحمل أكثر » : أجاب بول هزّ الخادم رأسه في إحباط، ولم يستطع أن ينظر إلى أترسون في عينيه. جلس «. من ذلك لا أستطيع أن أتحمل » : بول ثم وضع يديه على ركبتيه حتى يمسكهما عن الاهتزاز وكرر «. أكثر من هذا بول، لا بد أن تخبرني بكل شيء. لماذا أنت خائف للغاية على دكتور » : قال أترسون «؟ جيكل «. أظن أن ثمة جريمة » : أجاب بول بصوت أجشّ
ثم انتفض من مقعده، وتسارعت نبضات قلبه وقال: «! جريمة » : صرخ أترسون «؟ ماذا تقصد » لا يمكنني أن أجزم يا سيدي. لكن هل تتفضل وتأتي معي وترى » : أجاب بول «؟ بنفسك لم يجبه مستر أترسون وإنما انتزع معطفه وقبعته في عجالة. لاحظ أترسونوعندئذ غادر «. سنسبر غور الأمر » : انفراجة على وجه بول، فوضع يده على كتفه وقال له الرجلان. كانت الليلة موحشة وشديدة البرودة. أمسك الرجلان بقبعتيهما حتى لا تطيرا منشدة الريح. وكانت الأتربة والرمال تطير في دوامات في الهواء. واندفعت الأشجار الرفيعةبعنف نحو السياج. ما كان ليتحمل مثل هذا الطقس الكريه سوى عدد قليل من الناس،من ثم كادت تخلو الشوارع من المارة. رأى أترسون أن الشوارع لم تبد مهجورة بشدةهكذا قط، وشعر أيضًا أن ثمة شيئًا سيئًا وشيك الحدوث. عرف أترسون أن هذا المساء سيحمل شيئًا فظيعًا؛ خاف أترسون من أن يكون دكتور جيكل قد مات. عندما بلغا منزل جيكل، نزع بول قبعته على الرغم من البرد الشديد كي يمسحالعرق الذي كان يتصبب من حاجبه لأنه كان يسير طول الطريق في عجالة لكنه توقفحسنًا سيدي، ها قد وصلنا. أدعو لله أن يكون » : الآن. قال بول بصوت أجش وحزين «. كل شيء على ما يرام بالداخل «. بإذن لله يا بول » : أجاب أترسون قرع بول الباب الأمامي بشفرة معينة: ثلاث طرقات سريعة ثم طرقتين بطيئتين.هل هذا » : فُتح الباب لبضع بوصات فحسب وأطل منه وجه، وجاء صوت امرأة يقول «؟ أنت يا بول «. كل شيء على ما يرام. افتحي الباب » : قال بول دخل أترسون وبول الردهة الأمامية التي أضاءتها النيران المستعرة. فوجد جميعالخدم بالمنزل جاثمين معًا كأنهم قطيع من الماشية. أجهشت واحدة من الخدم في البكاءثم ركضت نحوه «! إنه مستر أترسون » : لدى رؤيتها مستر أترسون. قالت الطباخة وطوقت عنقه. وقد بدا عليه التوتر؛ فما «؟ لماذا أنتم مجتمعون كلكم ههنا » : سأل مستر أترسون كان يجدر بالخدم أن يتجمعوا إلى جانب المدفأة في الردهة الأمامية. 48
الليلة الأخيرة «. جميعهم خائفون » : أجاب بول لم يُسمع صوت في الحجرة، فقط تعالت تنهدات الخادمة فوق صوت طقطقة النيران. جيرمي، أعطني بعضالشموع. لا بد أن نتخذ » : قال بول لأحد الغلمان بصوت حاد وكان من الواضح أنه فقد أعصابه. «. موقفًا في الحال تفضل. هل » : أخذ بول شمعتين من جيرمي وأعطى واحدة لمستر أترسون وقال له عندئذ تقدمه الخادم داخل المنزل ومنه إلى الفناء. «؟ تتبعني من فضلك 49
الفصل الخامس عشر قصة بول

لا بد أن أطلب منك سيدي أن تلتزم الصمت. أظن أنه من » : همس بول وهما سائران «. الأفضل ألا يعرف أنك هنا. من الأفضل أن تسترق السمع عسرعلى المحامي أن يمنع يده عن الارتعاش. سقطت «. أتفهم يا بول » : قال أترسون قطرات الشمع على يده، لكنه لم يصدر أي صوت. ارتقى السلالم وراء بول إلى أعلى المختبر. وأشار بول إلى أترسون بأنه ينبغي أن يقف جانبًا ويسترق السمع. أخذ بول نفسًا عميقًا، ثم قرع الباب بيد مرتخية قليلًا. «. سيدي، جاء السيد أترسون ليراك » : نادى بول من وراء الباب «. أخبره أنني لا أستطيع أن أرى أحدًا » : أجاب صوت مرتعش من الداخل وقد بدا راضيًا من ردّ الصوت عليه. ثم بدأ يعود «. أشكرك يا سيدي » : أجاب بول أدراجه نازلًا السلم، وتبعه أترسون. الآن أخبرني يا مستر » : وعندما بلغا الفناء مرة أخرى، التفت بول إلى المحامي وقال «؟ أترسون، هل كان هذا صوت سيدي «. يبدو أنه تغير كثيرًا » : أجاب أترسون وهو شاحب الوجه للغاية قطعًا أظن ذلك. أمن المعقول أنني أعمل في هذا البيت لمدة عشرين عامًا » : قال بول ولا أعرف صوت سيدي؟ لا يا مستر أترسون. هذا الصوت ليس صوت سيدي. لقد حلّ «. به شيء ما، أو أنه أخُذ بعيدًا. مرت ثمانية أيام الآن وأنا في حيرة من أمري هذا أمر في غاية الغرابة يا بول. هذه قصة غير معقولة يا رجل. » : قال أترسون لنفترض أنك على صواب وأن دكتور جيكل قُتل أو خُطف. لماذا سيمكث الجاني في «؟ الغرفة؟ لماذا لا يهرب
إنك لرجل يصعب إرضاؤه يا مستر أترسون، ولكنني سأبذل قصارى » : قال بول جهدي كي أقنعك. طيلة الأسبوع الماضي، ظل من كان محبوسًا بداخل المكتب يصرخليل نهار من أجل دواء معين. يكتب طلبات أدوية على ورق ويتركها على السلم. استمرهذا الموضوع طيلة الأسبوع الماضي، لم يكتب ورقة أو ورقتين وإنما عشرات الأوراق.ذهبت إلى الصيدليات في كل أنحاء المدينة أحضرالطلبات وأقدم الشكاوى؛ ففي كل مرةأعود بالدواء يخبرني أنه ليس نقيٍّا، ويأمرني بإرجاع الدواء والذهاب إلى صيدلية أخرى. «. لا أعرف هذا الدواء مطلقًا، لكنه يريده باستماتة «؟ هل لديك أي من هذه الأوراق » : سأله أترسون وضع بول يده في جيبه وأخرج ورقة مجعدة. انحنى المحامي فوق شمعته وفحصأنا أعيد إليكم هذا الدواء المُشترى منكم لأنه » : الكتابة بعناية، فكان مكتوبًا فيها التالي غير نقي ومن ثم غير نافع لي. لقد اشتريت كمية كبيرة منه منذ بضع سنوات. أنا فيأمس الحاجة إليه ومضطر أن أطلب منكم أن تتفقدوا مصادركم بعناية للعثور علىأكثر ما أزعج أترسون «. عينة نقية ومناسبة. أنا عاجز عن وصف مدى أهمية هذا الدواء في المكتوب هو آخر سطر. وكانت هناك بقعة من الحبر سقطت فجأة على الورقة فيماأتوسل إليكم، أرجوكم اعثروا » : اشتدت انفعالات كاتبها، وهذا ما جاء في السطر الأخير «. لي على الدواء القديم بدا «؟ لماذا هي مفتوحة » : ثم قال بنبرة أكثر حدة « هذه ورقة غريبة » : قال أترسون أن أترسون سيدافع عن صديقه جيكل حتى النفس الأخير. ومع أنه كان مدركًا أن بول يحاول أن يساعد فحسب، فقد ارتاب في أن بول فتح الأوراق الخاصة. «. غضب أحد الصيادلة غضبًا شديدًا حتى إنه رماني بها » : أجاب بول «؟ أتستطيع أن تميز أن هذا خط يد دكتور جيكل » : سأل أترسون أفشى الخادم ما بداخله من غير تدبر ووجهه «. أجل، يبدو خط يده » : أجاب الخادم «؟ لكن ما نفع هذا وقد رأيت الرجل الذي كتب هذا » : أكثر تجهمًا «؟ أرأيته؟ أين؟ ومتى » : قال أترسون نزلت بغتة إلى الحديقة، وقطعًا خرج هو ليأخذ الدواء. رأيته يقف » : قال بول بالطرف الآخر من الفناء يتفقد الصناديق. عندما رآني صرخ صرخة حادة وركضنحو السلم. رأيته لبضع دقائق فحسب، لكنني ارتعدت لدى رؤيته. من شدة الهلعوقف شعري بالفعل. مستر أترسون، إن كان هذا سيدي، لماذا يصرخ مثل الفأر ثم يفر مرر بول يده على وجهه في إحباط بالغ. «؟ هاربًا 52
قصص غريبة تمامًا. لكن أعتقد أنني بدأت أفهم. لا بد أن سيدك » : قال أترسون يعاني نوعًا من الانهيار العصبي مما يفسر التغير الذي طرأ على صوته وتحاشيهلأصدقائه. لا بد أنه على قناعة بأن هذا الدواء الغامض سيشفيه من علته. أتمنى أن «. يكون على صواب في هذا الاعتقاد ونتمكن من معالجته مستر أترسون، المخلوق الذي في المكتب ليس سيدي، هذا كل ما في » : قال الخادم سيدي طويل القامة، وحسن البنية، في حين أن » : نظر بول حوله ثم بدأ يهمس «! الأمر هذا الشخص أقصر وأحدب. أتظن أنه بعد كل هذه السنوات لا أعرف إلى أي ارتفاعتصل رأس سيدي عند ممر الباب؟ أتظن أنني لا أعرف وقع أقدامه؟ لا يا سيدي، هذا «. الشيء لم يكن — وليس — دكتور جيكل. أنا متأكد من أن سيدي قُتل أخذ أترسون يتصبب عرقًا، «؟ بول، هل أنت متأكد تمامًا مما تقول » : قال أترسون إذ يصعب تحمل فكرة أن أقدم وأعز أصدقائه قُتل. أومأ الخادم بتؤدة. قال أترسون: «. إذن ليس أمامنا سوى خيار واحد؛ أن نكسر الباب » 53


الفصل السادس عشر على الجانب الآخر

من الباب «! أوه، يا مستر أترسون، هذا هو الكلام » : وافق الخادم تمامًا، وصرخ كيف يجدر بنا أن نتعامل مع الموقف؟ أينبغي أن نسلح أنفسنا؟ لا » : سأل أترسون «. يمكن أن نعرف ما قد نعثر عليه بداخل المكتب ثمة مضرب كروكيه في الورشة. هل لي أن أقترح عليك » : أومأ الخادم برأسه وقال «! أن تأخذ قضيب المدفأة يا سيدي فكر أترسون لبرهة أنه قد يضحك، فقد كان شديد التوتر وعسر عليه أن يصدقالموقف الذي هو بصدده الآن الذي بدا كأنه فقرة من رواية مغامرات. بمقدور أترسونأن يجزم أنه لم يمر بتجربة مماثلة في حياته قط. بالطبع لم يكن هذا هو ما قد تصوره من أجل قضاء أمسيته أو من أجل مصير صديقه الطيب دكتور جيكل. أمدرك يا بول أننا على وشك أن نضع أنفسنا في موقف به شيء من » : قال أترسون «؟ الخطر «. أتفق معك يا سيدي » : أجابه الخادم يجدر بنا أن يصارح بعضنا بعضًا الآن. هل تعرفت على الرجل الذي » : قال أترسون«؟ رأيته في الفناء من الصعب الإقرار بهذا. وقع الأمر برمته على جناح السرعة. وقد كان » : أجاب بول منحنيًا عندما رأيته، من ثم لا أستطيع أن أجزم. لكن إذا كنت تسألني هل كان مسترهايد أم لا، عندئذ سأقول لك نعم، لقد بدا شبهه إلى حد بعيد. أكره التفكير في هذا، لكن «؟ هل التقيت مستر هايد من قبل » : ثم سأل بول المحامي «. هذه هي الحقيقة «. بلى، تحدثت إليه مرة » : أجاب أترسون «. إذن أنت تعرف ردة الفعل التي تتولد عند الأشخاصلدى رؤية مستر هايد » –
«. أعرفها جيدًا. لقد ارتعدت فرائصيفعليٍّا » : أجاب أترسون أعرف أن هذا ليس دليلًا، لكن عندما رأيت هذا المخلوق يقلب في » : همس بول «. الصناديق، انتابني نفس رد الفعل؛ تجمدت عند رؤيته آه، أخشى أن تكون على صواب. إن كان مستر هايد هو الذي رأيته، » : تنهد أترسون ارتجف قلب «! عندئذ لا مفر من أن هنري جيكل مات بلا ريب. حسنًا، إذن لنتحرك المحامي وسرعان ما تلاشى أمله في أن يجد صديقه سالمًا آمنًا. ربما يجدر بك أن تستدعي برادشو البواب كي يقف حارسًا، قد » : اقترح أترسون «. نحتاج المزيد من المساعدة وافق بول وركض عائدًا إلى المنزل، وبعدها ببضع لحظات وصل برادشو شاحبًامتوترًا. ومع أنه رجل ضخم البنية، كان ارتعاده جليٍّا؛ كان يتصبب عرقًا ويقدم رجلًاويؤخر أخرى في توتر، وقد وضع يديه في جيبه كي لا يلحظ الرجلان الآخران ارتعاشهما.تمالك نفسك يا برادشو. سأذهب أنا وبول كي نكسر باب المكتب. لا » : قال أترسون نعلم ما قد نعثر عليه، أو ماذا قد يحدث. هناك احتمال أن يحاول المجرم الهرب. أتمانعأومأ برادشو برأسه إيجابًا. فقال «؟ في أن تقف حارسًا عند الباب الخلفي من فضلك ثم صافح أترسون برادشو قبل «. جيد. أمامك بضع دقائق لتصل إلى هناك » : أترسون أن يمضي. ظل الرجلان في سكون. نظر أترسون إلى سماء الليل معجبًا بالنجوم والسماء. فكرإنها رائعة بحق. في الحياة الكثير من الالتواءات والمنعطفات لكن » : أترسون في نفسه بعد دقائق معدودات أخذ أترسون نفسًا عميقًا. «. النجوم جميلة دائمًا سار الرجلان في الفناء «. والآن يا بول لا بد أن نشرع في مهمتنا » : قال أترسون وشمعتاهما تتراقصان مع الرياح. وفيما كان يرتقيان السلم، تناهى إلى مسامعهما وقع أقدام في أرضية المكتب. هو على هذا الحال ليل نهار، ولا يتوقف عن تذرع المكان ذهابًا وإيابًا » : قال بول إلا عندما يصل دواء جديد. وعندئذ حالما يدرك أن المزيج ليس صحيحًا، يبدأ في تذرع «. المكان من جديد «؟ أهذا هو كل ما تسمعه » : سأل أترسون سمعت عويلًا في مرة من المرات يا سيدي. عويلًا كعويل النساء أو » : أجاب بول «. كشخص يحتضر 56
على الجانب الآخر من الباب استجمع الرجلان شجاعتهما على باب المكتب. أحكم أترسون قبضته على قضيبثم انقطع عن «! جيكل! آمرك أن تريني نفسك » : المدفأة بكلتا يديه وصرخ بصوت مرتفع لقد حذرتك. حتمًا » : الكلام هنيهة، لكن لم يكن هناك من مجيب. استرسل أترسون قائلًا «. ولا بد أن نراك، أيًا كانت الطريقة، وما لم يكن برضاك فسنضطر إلى استخدام القوة «! أترسون، أرجوك ارحمني » : أجاب الصوت «! هذا ليس صوت جيكل، إنه هايد! اكسر الباب يا بول » : صرخ أترسون استخدم بول فأسًا كي يكسر قفل الباب. أصدرت الضربة الأولى صوت ارتطاممرتفعًا، أما الضربة الثانية والثالثة فقد حركتا الباب بعض الشيء. وكان يُسمع منالداخل صوت عواء مرعب كأنما حيوان يواجه خطرًا. تبادل أترسون وبول النظراتعمدًا. فهجما على الباب بعد أن استعادا قوتهما وعزمهما مرة أخرى. ولم ينكسر الباب إلا بعد الضربة الخامسة. أطل الرجلان داخل الغرفة خائفين مما قد يريان. ولدهشتهما رأيا غرفة مليئةبالنيران والدفء، وغلاية تغلي فوق ألسنة النيران، وفناجين الشاي مُعدة. وكانت هناكبطانية موضوعة على أحد المقاعد وكتاب مفتوح على الطاولة كما لو كان أحد يجلسهناك حديثًا، وبعضالأدراج مفتوحة وأوراق مكدسة بنظام فوق الطاولة. كانت الغرفةتبدو كمعظم الغرف العادية في لندن فيما عدا بعضالمواد الكيميائية والأدوية الموضوعة على الأرفف والجثة الملقاة على السجادة. 57


الفصل السابع عشر داخل المختبر

سار أترسون وبول بحذر على أطراف أصابع أقدامهما بالقرب من الجثة، ثم قلباها فإذابوجه إدوارد هايد، الذي كان يرتدي ملابس فضفاضة للغاية من الواضح أنها تخصدكتور جيكل. كان هايد ميتًا، وما زالت يده الهامدة تقبض على قارورة فارغة، كان أترسون على دراية بأنها احتوت على سم؛ من الجلي أنها حالة انتحار محض. «. جئنا بعد فوات الأوان. رحل هايد ولن نعثر أبدًا على إجابات » : قال أترسون بجدية لم يتبق أمامنا الآن سوى العثور على جثة » : ثم رفع المحامي عينيه إلى الخادم واسترسل «. سيدك شرع الرجلان في بحثهما عن دكتور جيكل فبدآ أولًا بالمكتب، ثم نزلا إلى الفناء حيثكان يوجد العديد من غرف التخزين الصغيرة وقبو كبير يمكن البحث فيه، فتفقدوهاجميعها بعناية. لم يطأ أحد معظم هذه المخابئ منذ سنوات، وقد عرفا من الأتربةوالخيوط العنكبوتية التي تكسو الجدران أنه ما من شخص آخر قد مر من هنا. ولم يعثرا على أي أثر لدكتور هنري جيكل، حيٍّا أو ميتًا. ثم ذهب ليتحقق من الباب الخلفي «. ربما جانبنا الصواب. لعله هرب » : قال أترسون الذي وجده مغلقًا. وعثرا على المفتاح مرميٍّا على الأرضبالقرب منه وكان صدئًا بالفعل. «. يبدو أنه لم يُستخدم منذ حين » : قال المحامي وكيف يُستخدم؟ ألا ترى يا سيدي؟ إنه مكسور. يبدو » : ردد الخادم في استنكار «. وكأن أحدهم سحقه تحت قدميه ثم تبادل الرجلان النظرات المرتعدة «. أجل. أظن أنك على صواب » : رد أترسون «. لا أستطيع أن أسبر غور هذا » : وقال أترسون
عاد الرجلان إلى المختبر في سكون، وكلاهما غارق في تفكير عميق. وعندئذ بدآيتفقدان محتويات المكتب عن كثب. حاول كلاهما ألا ينظر إلى جثة هايد الموجودة علىالسجادة. لا بد أن هايد كان يمزج المواد الكيميائية معًا على إحدى الطاولات؛ إذ عثرا علىالعديد من أكواب القياس التي تحتوي على الملح ومواد كيميائية أخرى. خمن أترسون أنهما قد قاطعا هايد أثناء قيامه بإحدى التجارب. هذا هو الدواء نفسه الذي كنت أحضره له دائمًا. هل كان مستر هايد » : قال بول يقوم بنفس التجارب التي يقوم بها دكتور جيكل؟ لعل الدواء كان مطلوبًا من أجل «. مستر هايد من الأصل فجأة لاحظ الرجلان أن الغلاية كانت تغلي والماء يندفع منها؛ إذ كانا غارقين فيعملهما إلى حد بعيد حتى إنهما غفلا عن الكثير حولهما. بلغ أترسون مقعد الاسترخاءحيث كانت فناجين الشاي مُعدة، ولاحظ كتابًا موضوعًا على الطاولة؛ نسخة من كتابديني كثيرًا ما كان جيكل يتحدث عنه. وامتلأت هوامش الكتاب بالكتابة، وصُدم أترسونمما قرأ؛ إذ بدت الكتابة بخط يد جيكل في حين أن الأفكار بدت مناقضة لأفكار الطبيب.وفي منتصف الحجرة كانت توجد مرآة كاملة الطول، لها إطار خشبي وحامل،وكان الزجاج العاكس على جانبي المرآة. أدار مستر أترسون المرآة بأن أمسك بطرفها «؟ لماذا وضع جيكل هذه المرآة في مكتبه » : الأعلى وقلبه ثم سأل «. ليس لدي أدنى فكرة يا سيدي. هذه المرة الأولى التي أراها فيها » : أجاب بول التفتا إلى المكتب، فعثر أترسون وسط رزمة الأوراق الموضوعة بعناية على مظروفموجه له، بخط يد الدكتور جيكل. فك المحامي الختم، فسقط منه عدد من المظاريفالأخرى. كان المظروف الأول وصية احتوت على نفس الشروط الغريبة كتلك المنصوصعليها في الوصية الموجودة في خزنة أترسون. على أنه في هذه الوصية كان الوريث هومستر أترسون وليس إدوارد هايد. نظر أترسون إلى بول، ثم إلى الأوراق مرة أخرى، ثم إلى الجثة الملقاة أرضًا. أنا في حيرة شديدة، لقد كان يتحدث إليَّ بشق النفس في الفترة » : قال أترسون «. الأخيرة. أنا ذاهل من هذا التغيير التقط أترسون مظروفًا ثانيًا مكتوبًا بخط يد الطبيب ومؤرخًا بتاريخ اليوم فصرخ: «؟ أوه يا بول، إنه كان حيٍّا وموجودًا هنا اليوم. لا بد أنه هرب! لكن لماذا » «. دعنا نقرأ ما هو مكتوب فيها يا سيدي » : قال بول 60
أخذ أترسون نفسًا عميقًا وقرأ ما بالورقة بصوت مرتفع: عزيزي أترسون، عندما تعثر على هذه الورقة سأكون قد اختفيت، لا أستطيع أن أشرح لكفي أي ظروف اختفيت، غير أنني واثق من أن هذا سيحدث قريبًا وبطريقةشيطانية. من فضلك اذهب واقرأ الخطاب الذي أرسله إليك لانيون قبل وفاته. إذا كنت ما زلت ترغب في سماع المزيد، افتح المظروف الثالث. صديقك الحقير والتعيسهنري جيكل أعطى بول المظروف الثالث لأترسون الذي كان سميكًا للغاية ومختومًا في مواضع عدة منه. من فضلك لا تخبر أحدًا بشأن هذا » : وضع المحامي المظروف في جيبه وقال لبول المظروف. لو أن سيدك قد هرب أو مات، يجدر بنا على الأقل أن نحافظ على سمعته.الساعة الآن العاشرة، لا بد أن أذهب إلى المنزل وأقرأ هذه الوثائق في هدوء، وسأعود إلى «. هنا قبل منتصف الليل، وعندئذ سنستدعي الشرطة غادر الرجلان المكتب. وتأكد بول من أن باب المنزل المؤدي إلى الفناء مغلق ومن ثممن فضلك أخبر برادشو أن » : لا يستطيع أحد أن يتجول في هذه الناحية. قال أترسون «. يظل في مكانه، لعل دكتور جيكل يعود ونحن لا نريد أن نفقده مرة أخرى مرّ أترسون بالخدام الذين لا يزالون جاثمين بجانب المدفأة الكبيرة في الردهةالأمامية، فنظروا إليه في صمت وهو يمر بهم. خرج أترسون من الباب الأمامي وشق طريقه إلى منزله. 61


الفصل الثامن عشر خطاب من دكتورجيكل

أخرج أترسون المظروف من خزنته، وجلس بتؤدة ثم بدأ يقرأ قصة دكتور لانيون: قبل أربعة أيام، أي في التاسع من يناير/كانون الثاني، تسلمت في المساء خطابًامسجلًا من صديقي القديم دكتور هنري جيكل. ذُهلت أيما ذهول لأننا لم نتبادلالخطابات من قبل. وكنت قد رأيته الليلة السابقة لتسلم الخطاب ولم أتوقع هذا التواصلالسريع. ولم أتصور قط ما هذا الأمر البالغ الأهمية. زاد فضولي بعد قراءة الخطاب الذي كان مسطرًا هكذا: عزيزي لانيون، أنت واحد من أقدم أصدقائي، وعلى الرغم من الاختلافات التي وقعت بيننامن وقت قريب حول المسائل العلمية، فإني على ثقة من أن ما بيننا منمشاعر الود لم تمس بسوء. وأنا على يقين من أنك تعرف أنني لن أتوانىلحظة عن المجيء لإنقاذك، وإنما سأهرع إلى جانبك في الحال. يا لانيون، إنحياتي، وسمعتي، وسلامتي العقلية، جميعها تحت رحمتك. إذا خذلتني الليلةفسأضيع. قد ترتاب في أنني سأطلب منك أن تفعل شيئًا مخزيًا، لكن احكم أنت بنفسك. أسألك أن ترجئ كل مهامك الليلة — حتى لو ظهر أمر طارئ — وتحضرهذا الخطاب إلى منزلي. وقد أعطيت أوامري لخادمي؛ ستجده بانتظارك ومعهصانع أقفال. أريد منك أن تقتحم مكتبي، وما إن يُفتح الباب، ادخل بمفردك.انتزع الدرج الأقصىمن جهة اليسار من خزنة الأدوية، ستجده مليئًا ببعضالمساحيق والقوارير. أنا في حالة هلع شديد وأخشى أن أسيء توجيهك بطريقة
أو بأخرى. لذا، من فضلك خذ الدرج بأكمله بكامل محتوياته معك. خذه إلى منزلك، ولسوف أرسل شخصًا ليأخذه منك. يتعاظم قلقي بشأن الوقت؛ إذا اتجهت إلى منزلي بعد تسلمك هذا الخطابمباشرة، من المفترضعندئذ أن تصل هناك قبل منتصف الليل. هناك احتمالأيضًا أن تتأخر لسبب أو آخر، لذا من الأفضل أن أمنحك المزيد من الوقت.أرجوك أن تكون بمفردك عند منتصف الليل وتأكد من عدم وجود أي خدامعلى مقربة منك. وحينئذ عند منتصف الليل سيأتيك شخص يقدم نفسه لكباسمي. من فضلك أعطه الدرج الذي انتزعته من مكتبي. وعندئذ سينتهيدورك. إذا أردت أن تفهم المزيد، فسينكشف لك كل شيء في الدقائق الخمس التالية. لن أستطيع تحمل مجرد فكرة أنك قد ترفض تلبية طلبي. أنا في حالةتشويش شديدة وغارق في الهلع. حاول أن تتخيل حالي في هذه الساعة فيمكان غريب غارقًا في اليأس. أعرف أنني أطلب منك الكثير، لكن استعدادك لمساعدتي سيكون له تأثير السحر على معنوياتي. صديقكهنري أكد لي هذا الخطاب أن دكتور جيكل قد جُن، لكن لم يكن بمقدوري المجازفة، إذكنت على دراية بأنني لا بد أن أنزل عند رغبته. لم أستطع أن أكوّن رأيًا نظرًا لأننيلم أكن على دراية بكافة التفاصيل. وفوق كل شيء، ثمة صديق في احتياج شديد. وعليهفعلت كما هو مكتوب وتوجهت مباشرة إلى منزل جيكل، فكان خادمه بانتظاري ومعهصانع الأقفال. وكان خادمه أيضًا قد تسلم خطابًا مسجلًا من جكيل. شرعنا في العمللتونا. استغرق الأمر بعض الوقت، لكن صانع الأقفال نجح أخيرًا وفتح باب المكتب. انتزعت الدرج الثاني من جهة الشمال كما طلب جيكل. حالما وصلت منزلي، تفقدت محتويات الدرج الذي كان مليئًا بالمساحيق والقواريركما ذكر في خطابه. وكان جليٍّا لي أن هذه المواد الكيميائية هي من صنع جيكل. ولمأعرف أيٍّا منها. بدا المسحوق شكلًا من أشكال الملح، أما القوارير فقد كانت مليئةبسائل أحمر له رائحة غريبة، تكاد تكون حلوة للغاية. لم أستطع أن أخمن أسماء المواد 64
الكيميائية الأخرى، جميعها كانت غريبة للغاية. وكان كل ما عليّ فعله الآن هو الانتظار، وفي النهاية سيأتي هذا الرجل ليأخذ الدرج. ولم أستطع أن أفهم ما علاقة هذه المواد الكيميائية بصحة جيكل وسلامته العقلية. كل هذا أقنعني أكثر من أي وقت مضى بأن جيكل مجنون. أرسلت خادمي إلى فراشه، وانتظرت زائر منتصف الليل في مختبري.


الفصل التاسع عشر زيارة من غريب

دقت الأجراس في تمام الساعة الثانية عشرة تقريبًا عندما ظهر الغريب على بابي. سألته هل دكتور جيكل هو من أرسله، رد بالإيجاب، لذا دعوته إلى الدخول. كان ينظر وراءه كي يتأكد أنه ما من أحد رآه من الشارع. بعدها بلحظات مرّ شرطي بمنزلي، فلاحظت أن هذا الرجل أخذ يراقبه من نافذتي إلى أن رحل. أقلقتني هذه التفاصيل، فتعجبت أي رجل هذا الذي أرسله جيكل إلى منزلي. فكرت في أن أفضل شيء هو أن أنهي هذه المهمة الكريهة في أسرع وقت ممكن، فتقدمته إلى مكتبي حيث تركت الدرج. أمعنت النظر في هذا الرجل الذي كان قصيرًا ويرتدي معطفًا ثقيلًا، فكان وجهه هو أكثر ما يلفت الانتباه، الكلمة الوحيدة التي أستطيع أن أستخدمها لوصفه هي أنه كريه، فما إن وقعت عيناي على وجهه حتى انتابني توتر شديد للوهلة الأولى. غير أنني كنت شديد الفضول، ربما لأني طبيب، لكنني لم أستطع أن أدير نظري بعيدًا. لماذا هالني مظهره البدني بهذه القوة؟ استغرقت بعض الوقت في كتابة هذه الملاحظات التي لم تأخذ سوى لحظات في الواقع. تحركنا بسرعة من الردهة الأمامية إلى المكتب، فيما كان الرجل في لهفة شديدة للحصول على الدرج. وكان نافد الصبر حتى «؟ هل أحضرت الدرج؟ هل أحضرت الدرج » : صرخ الرجل إنه أخذ يهزني. على رسلك يا سيدي! لقد نسيت أنني » : دفعته بعيدًا عني خطوة أو خطوتين وقلت وأجلست نفسي، باذلًا قصارى «. لم أتشرف بمعرفتك بعد. تفضل بالجلوس من فضلك
جهدي كي أبدو طبيعيٍّا أمامه. ولا أعرف بالضبط لماذا أرجأت إعطاءه الدواء. ربما غلبني فضولي، إذ أردت أن أرى كيف سيكون رد فعله. ألتمس عفوك يا دكتور لانيون. أعرف أنني نافد » : رد الرجل في تأدب بما يكفي الصبر، لكنني جئت بناء على طلب من صديقك الطيب دكتور جيكل. ولا أحب أن أجعله انقطع الرجل عن الكلام ووضع يده على حلقه. وبالرغم من رباطة جأشه، «. ينتظر أعرف ... أنه يفترضأن » : استطعت أن أرى أنه كان على وشك البكاء. ثم قال في عجالة «. أسترجع ... أحد الأدراج أشفقت على زائري. لا، بل ربما كنت أكثر انشغالًا بإرضاء فضولي. يصعب أن أقول هذا في هذه اللحظة بعد كل المعلومات التي أعرفها الآن. «. ها هو يا سيدي » : قلت له وأنا أشير إلى حيث الدرج موضوع على الأرض اندفع الرجل نحوه. ثم توقف ووضع يده على قلبه. وسمعتصرير أسنانه القوي.انتزع الغطاء، ولدى رؤيته المحتويات، أطلق تنهيدة ارتياح كبيرة حتى إنني جلست مرتعدًا. وصُدمت حينما طلب بعدها بلحظة مخبار قياس.نهضت من مكاني بشيء من الجهد وكان له ما طلب. شكرني بإيماءة باسمة، ثم مضى قدمًا في مزج جرعة من السائل الأحمر بالملحالغريب. وفيما امتزجت المكونات معًا، اتخذ الخليط لونًا فاتحًا، ثم بدأ الدخان والفقاقيعتتصاعد منه، ثم تحول لونه إلى لون أرجواني داكن ثم هدأ. وأخيرًا بهت لونه إلى لونأخضر مائي. راقب الزائر كل مرحلة بعين ثاقبة. ابتسم الرجل ثم وضع الكوب على الطاولة. وعندئذ استدار ونظر إليّ في جدية. والآن، هل ستكون حكيمًا؟ هل ستطلب مني أن أغادر منزلك بهذا » : قال الزائر الكوب دون مزيد من النقاش؟ أم أنك شديد الفضول الآن؟ فكر مليٍّا قبل أن تقرر. إذااخترت، بمقدوري أن أرحل، أما أنت فستخسر إثارة هذه التجربة وحكمتها، أو أن أمكث«. وعندئذ سينفتح لك عالم جديد من الفهم، عالم يصعب عليك أن تتخيله في هذه اللحظة حاولت أن أبدو لطيفًا وهادئًا، مع أنني لم أكن كذلك بالمرة، وكان من الواضح أنهيحاول أن يتحداني، ويسألني هل أنا شجاع بالدرجة التي تمكنني من أن أرى القصةسيدي، لقد قطعت شوطًا طويلًا في هذا الأمر الغريب، فلا يمكن » : حتى النهاية. أجبته «. التراجع الآن، لا بد أن أرى النهاية 68
حسنًا. فقط تذكر أنه اختيارك أنت. تذكر أنني منحتك الفرصة كي تظل » : قال بعيدًا عن هذا. لقد عشت زمنًا طويلًا بمثل هذه الآراء المحدودة حتى إنك لا تستطيع أن «! تدرك أوجهًا من العلوم والعجائب تحيط بك. انظر حينئذ وضع الكوب عند شفتيه وتجرعه في رشفة واحدة، ثم صرخ صرخة أخذبعدها يتهادى ويترنح، وعندئذ أحكم قبضته على الطاولة وتماسك وهو يحدق بعينينغائمتين. وفيما كنت أشاهد ما يجري، حدث تغير في هيئته؛ بدا أنه ينتفخ، وأخذ وجههيتغير. في اللحظة التالية وثبتُ على قدميَّ وقفزت للخلف نحو الجدار، ووجدت نفسيأرفع ذراعي أمام عيني كي أحمى نفسيمن هذا المنظر. كان ذهني يسبح في هلع ورعب.عندما انتصب أمام عينيّ هنري جيكل شاحبًا « لا، لا » : صرخت مرارًا وتكرارًاومرتجفًا وشبه فاقد الوعي! أما ما ذكره لي على مدار الساعة التالية فلا يمكنني أن أحمل نفسي على تكراره،لقد رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت، واعتلت روحي منه. ومع أنه لا يقف أمامي الآن،فإنني ما زلت أتعجب هل كان هذا حقيقيٍّا، يبدو أمرًا غريبًا إلى حد بعيد. لا يمكننيالإجابة عن هذا. تزعزت أساسات حياتي، وفارقني النوم، ولازمني الرعب الشديد ليلنهار. أي صوت يجعلني أنتفضمن مكاني، وأرتعد من الظلال والظلام. أشعر أن أياميفي الحياة معدودة، وأنني سأموت لا ريب. عبر جيكل عن ندمه وحزنه — بل ذرف الدمعأيضًا — غير أنني أرتاب في أن هذا كافٍ. لن أقول سوى شيء واحد سيكون كافيًا ياأترسون، الكائن الذي زحف إلى منزلي في تلك الليلة، بناء على اعتراف جيكل نفسه، هوشخص معروف باسم هايد وهو مطلوب في كل ركن من أركان الأرض باعتباره قاتل سير دانفرز كارو. 69


الفصل العشرون تحول وضع أترسون

نحى خطاب لانيون جانبًا، وانصرف إلى المظروف الأخير، وقبل أن يفتحه أمسكه في يديه بضع لحظات؛ إذ كان يعلم أن هذا الخطاب سيكون الاتصال الأخير بينه وبين هنري جيكل. انتابه الفضول والقلق مما سيقوله صديقه. فتح أترسون الخطاب بتؤدة، وفكّ رزمة الأوراق السميكة وشرع في القراءة:
وُلدت لأسرة شديدة الثراء. وكنت مولعًا بالعمل الجاد والدراسة، ونعمت بصحبة الأصدقاء. أنبأت كل المؤشرات بحياة واعدة مباركة بالحظ الموفور. كان الجميع على يقين من أنني أسير صوب حياة مهنية عظيمة. وحقٍّا كانت نقيصتي الوحيدة هي طبيعتي المنطلقة أيما انطلاق، وكنت أواجه دائمًا صعوبة شديدة في إخفاء بهجتي بالحياة والظهور بمظهر أكثر نبلًا. من وجهة نظر عائلتي أن تظهر مفعمًا بالحياة ومتحمسًا للغاية هو ضرب منضروب عدم اللياقة. لذا تعلمت أن أخفي سعادتي، فكنت أحيا مع عائلتي بشخصية، وأعيش بيني وبين نفسي بشخصية أخرى. كان هذا حتى منتص فالعشرينات من عمري حينما تأملت مليٍّا فيما يدور من حولي وأدركت أنني أعيش حياة مزدوجة. قد يتباهى البعض باكتشافاتهم، غير أنني اعتبرتها أسرارًا مخجلة، وأضنيت نفسي في إخفائها عن العالم. بمرور الوقت نجحت في الفصل ما بين جانبَيْ طبيعتي؛الجانب الطيب والجانب الشرير، فلم أعد كاذبًا بأي شكل من الأشكال نظرًا لأن كلا جانبي طبيعتي كانا حقيقيين، فكنت نفسي بالتمام عندما أنخرط في فعل مشين، مثلماكنت نفسي بالتمام عندما أحيا حياة طيبة نقية. تمحورت دراستي العلمية حول هذهالطبيعة المزدوجة للإنسان التي فيها يجمع الإنسان بين الخير والشر. وافترضت أن ثمةتعليلًا منطقيٍّا وكيميائيٍّا لهذا الانفصال، ولا بد أنه جزء من تركيبنا البدني. لماذا يوجدشخص أشقر وآخر أسمر؟ لماذا البعض طوال القامة وآخرون قصار القامة؟ قطعًا
يوجد تعليل مشابه يفسر وجود الجانبين الطيب والشرير في البشر. وكنت أنا نفسيحقلتجارب لنفسي، كل يوم أشعر بالدنو من فهم هذا الانفصال؛ اعتقادي القوي أن الإنسانليس واحدًا وإنما اثنان. شخصان في إنسان واحد. وأنا على يقين من أن علماء آخرينسوف يواصلون البحث بل يكتشفون أننا في واقع الأمر أكثر من شخصيتين. أما الآنفلا بد أن ألتزم بما أعرف أنه حقيقي؛ أثناء أبحاثي وتجاربي أصبحت على قناعة بأنهيمكن فصل هذه الطبيعة المزدوجة، فقلت لنفسي إنه إذا أمكن فصل كل شخصية إلىكيان منفصل، فستكون الحياة أيسر، فيستطيع الشرير أن يذهب في طريقه والطيب فيطريق أخرى، ومن ثم يمكن التمييز بينهما، وعندئذ سينتهي الشك والتشويش، فوجودالقوتين المتضادتين في نفس الجسد قد سبب الكثير من الألم بالفعل. وكان سؤالي التالي: «؟ كيف يمكن أن أفصلهما » لن أخوضفي التفاصيل العلمية الدقيقة لاكتشافي لسببين؛ أولهما: أرى الإفصاح عنمثل هذه المعلومات خطرًا للغاية، فجميعنا فضوليون بالطبيعة ولا أريد أن يُؤذى أيإنسان آخر. وثانيهما: أن اكتشافاتي ليست كاملة كما ستعرف من اعترافاتي. وغني عنالقول، أنه بعد الكثير من التجريب والمحاولة والخطأ، اكتشفت ما ظننته المزيج المثالي. تأنيت قبل أن أضع هذه النظرية موضع التنفيذ عمليٍّا، أعلم جيدًا أنني جازفتحتى الموت؛ أي عقار يمس فكرة من نحن لا بد أن يكون خطيرًا. على أن فضولي كانكبيرًا؛ فقد غلبت رغبتي العارمة في تعلم شيء جديد أي مخاوف لديّ. اشتريت كميةكبيرة من ملح معين من شركة بيع بالجملة، فقد كنت على دراية بأن هذا الملح هو آخرخيط في اللغز. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي مزجت كل العناصر معًا في مخبارقياس، وأخذت أراقب فيما تصاعدت الفقاعات والدخان وغلى المزيج. وقد تغير لونه مراتعدة قبل أن ينتهي به الحال إلى اللون الأخضر المائي. أخذت نفسًا عميقًا كي أستجمع شجاعتي، ثم تجرعته في عجالة. وكم كانت دهشتي من الألم والسقم الذي أصابني، إذ أخذت أتدحرج على الأرضمن الوجع، وشعرت أنني قطعًا ألحقت بنفسيضررًا بالغًا. وعندئذ، توقف الألم وشعرتأنني على ما يرام كليةً. انتصبت من وقعتي وشعرت بأنني أكثر رشاقة وصحة وشبابًامما كنت على مدار سنوات عديدة. وساورني شعور غريب بالهلع، بل يمكنني أن أقولهي الكلمة المناسبة هنا. « وحشية » إن صورًا وحشية أومضت في ذهني. أرى أن كلمة قطعًا شعرت بأنني إنسان وحشيمتحرر من أي التزام في الحياة. مددت ذراعي ولاحظت 72
تحول للمرة الأولى أنني صرت أقصر؛ فقد انكمشت بطريقة أو بأخرى خلال عملية التحول، وأصبحت كل ملابسي كبيرة عليّ الآن. لقد أصبحت مستر إدوارد هايد. 73


الفصل الحادي والعشرون منظور جديد

لم يكن لدي مرآة في المختبر. أخيرًا ثبت واحدة في مكتبي حتى أستطيع أن أرى التحول.بيد أنه في الليلة الأولى اضطررت أن أتسلل إلى منزلي. وفيما كنت أتسلل عبر الفناء لاحظتأن السماء كانت مرصعة بالنجوم، وخطر لي أنه في خلال عمرها الذي بلغ ملايين السنينلم تنظر إلى كائن مثلي من قبل. أدركت أيضًا أنه إذا عثر عليّ خدامي أتجول في الطرقات،فإنهم سيستدعون الشرطة. وفيما نظرت إلى إحدى المرايا الموضوعة في الردهة، رأيتوجهًا ذابلًا دميمًا. وتعجبت هل الشر في نفس الإنسان يؤثر تأثيرًا قويٍّا على وجهه؟ كانالجانب » تخميني الأول بالإيجاب؛ فلا يوجد تعليل آخر لمظهر هايد الكريه. يبدو أن في طبيعتي لم يكن قد نما مثل الجانب الطيب. بالطبع يبدو هذا منطقيٍّا نظرًا « الشرير لأنني لم أوفر له الوقت الكافي كي ينمو أو ينشط؛ فلقد أمضيت معظم حياتي مبقيًا عليهحبيسًا هادئًا. ومع ذلك لم أشعر بالاشمئزاز؛ فقد أدركت أن الصورة المنعكسة في المرآةهي لي. فلا يزال هذا الذي أراه هو أنا. وكان رد فعلي تجاه صورتي حينها يختلف عنرد فعل أي شخص آخر. كل إنسان رأى إدوارد هايد — حتى أنت يا صديقي الطيبأترسون — انتفضإلى الوراء. أظن أن هذا يرجع إلى أن الناس اعتادوا أن يروا الجانبينالطيب والشرير معًا بداخل أي إنسان، الطبيعة المزدوجة التي تحدثت عنها آنفًا. على أن إدوارد هايد ليس له مثيل، فهو شر خالص. عندئذ فقط خطرت لي الفكرة المرعبة. ماذا لو لم أستطع العودة إلى ذاتي الأخرى؟فهرعت إلى مختبري في عجالة، وسريعًا أعددت المزيج مرة أخرى وتجرعته. مرة أخرىأصُبت بآلام ونوبات شديدة، وعندما أفقت منها، هدأت لأجد أنني رجعت إلى جسد دكتور هنري جيكل.
أؤكد لك أن خططي كانت نبيلة؛ فقد أجريت هذه التجربة بناء على دوافع علميةبحتة، لكن ما إن وصلت إلى هذه النقطة الحرجة لم يكن بمقدوري العودة ثانية، فثمةشيء ما انطلق بداخلي، ربما كان مجرد فضول. أخشى ألا أعرف نفسي حقٍّا. ما إن اكتشفت مستر هايد، ألح في المزيد من الانطلاق، فبدأ يتغلغل في بقية جوانب حياتي. لم يحدث هذا التغيير بين عشية وضحاها، إذ كنت ما زلت منخرطًا في دراستي،وما زلت ألتقي الأصدقاء والرفقاء. بمرور الوقت شعرت بأن مستر هايد يزداد قوة.استهواني الأمر في البداية، لكن بدأ وجود مستر هايد يصبح غير مرغوب فيه. سيطرتعليّ هذه القوة؛ فمعرفة أنه بجرعة فورية يمكنني التحول ما بين جسدَيْ وغد شريروطبيب نبيل، هي فوق إدراك الإنسان. وصار الأمر ضربًا من ضروب التعذيب. وأخذالالتقاء بالناس يزداد صعوبة أكثر فأكثر، فتركت الصداقات تنزوي. ولم يؤنسني فيوحدتي سوى خدمي. من ناحية أخرى لم يكن هايد مختفيًا، فقد عاش بين اللصوص والأوغاد، فهذه الرفقة المثلى لمستر هايد. استأجرت أنا — أو ربما يجدر بي أن أقول هايد — تلك الغرفة في سوهو، التيكانت مأوى له كي يستريح ويزاول الأعمال التي يراها مناسبة له. في الوقت نفسه أخبرتكل خدامي بأن يقبلوا مستر هايد في المنزل، وبعدها حررت الوصية التي أزعجتك أيماإزعاج، إذ خشيت أن يحل مكروهًا بشخصية جيكل، ولم أشأ أن أترك هايد دون مال،وما إن أدركت أن الرعاية مكفولة للشخصيتين، بدأت فعليٍّا أنعم بالتحرر من مستر هايد. بمقدور هايد أن يفعل ما يحلو له دون أن يلقي أحد بلائمة على جيكل، وبمقدورهأيضًا أن يقوم بأفعال كريهة شنيعة دون أن يكون هذا خطأ دكتور جيكل. مرارًا وتكرارًاحاولت أنا — جيكل — أن أصلح الخسائر التي قام بها هايد، من ثم لم أكن خاليالمشاعر. لعل ابن عمك مستر إينفيلد أخبرك بواقعة ألحق فيها هايد الضرر بفتاة صغيرة.لقد دفعت لأهلها مبلغًا كبيرًا من المال، أعلم أن الشيك لم يبطل الضرر، لكن هذا كل ما كان بوسعي فعله كما تراءى لي. على أنني تغافلت عن الجانب الأكبر. 76


الفصل الثاني والعشرون مستر هايد الجامح

قبل مقتل سير دانفرز بشهرين، عدت من إحدى مغامرات هايد وتحولت إلى جيكلوخلدت إلى النوم. استيقظت من نومي وأنا تحت تأثير مشاعر غريبة للغاية؛ أدركتأن الغرفة من حولي هي غرفتي، لكن ثمة شيئًا خطأ. شعرت وكأنني لست في المكانالصحيح. استلقيت في فراشي أتساءل عن هذا الموقف. وكنت على قناعة بأن ثمة إجابةمنطقية علمية لهذا الانزعاج الذي انتابني. كنت غارقًا في التفكير عندما لاحظت يدي. لمتكن يد دكتور هنري جيكل؛ فقد كانت نحيفة، وعظامها كبيرة وبارزة. كانت يد مستر إدوارد هايد. قطعًا أمضيت ما يقرب من دقيقة أتفرس هذه اليد، وكنت مشدوهًا للغاية بكل مايجري، وأخيرًا عندما ربطت كل الخيوط في ذهني، هرعت إلى المرآة. لم أستطع أن أصدقعيني؛ أجل، لقد ذهبت إلى الفراش وأنا دكتور هنري جيكل، واستيقظت وأنا إدواردهايد. كيف يمكن أن يحدث؟ كان السؤال التالي الذي يدور في ذهني، وربما السؤال الأكثرإلحاحًا: كيف يمكن علاج هذا؟ كان الوقت منتصف الصباح، وجميع الخدم مستيقظون،والعقار في المختبر، ومن المستحيل أن أسير عبر الفناء للحصول عليه. كان من الممكن أنأغطي وجهي، لكن هذا ما كان ليخفيني بالدرجة الكافية. ومن حسن الحظ أخذت نفسًاعميقًا وأدركت أن خدامي قد اعتادوا بالفعل مجيء وذهاب هايد. فارتديت ملابسي فيعجالة وغادرت الغرفة. مررت ببرادشو الخادم، الذي ارتعد من حضور مستر هايد فيوقت مبكر من النهار. وقطعًا لفت نظره أيضًا ملابسي الفضفاضة. واختفى مستر هايدفي الفناء. وبعدها بعشر دقائق كان الدكتور جيكل جالسًا لتناول الإفطار، متظاهرًا أنه شغوف بالطعام.
كنت على دراية بأنني لن أكون قادرًا على الاستمرار في حياتي المزدوجة التي كنتأفقد السيطرة عليها، فيما تزيد سطوة هايد عليها الآن. وظننت أنه ازداد قوة بالفعل،إذ كنت أتحول من جيكل إلى هايد دون أن أتناول الدواء. وكان عقلي — أو جسدي،لم أكن أعرف أيٍّا منهما — يتحول وحده. عندئذ بدأ الدواء يفقد مفعوله بالفعل، فكنتأضطر أن أتناول ضعف الجرعة المعتادة ثلاث مرات كي أتحول ما بين الشخصيتين. فيبداية هذه التجربة كان من الصعب أن أتخلى عن شخصية دكتور جيكل، والآن العكسصحيح تمامًا؛ فقد أكدت أحداث تلك الصبيحة أن فقد مستر هايد صار أكثر صعوبة.كان من الجليّ أنني أفقد التحكم في ذاتي الأصلية الأفضل؛ فشخصيتي الشريرة الوحشية أخذت تتقوى. علمت أنني مضطر أن أختار بينهما. كان جيكل قلقًا ومهتمٍّا بشأن أفعال هايدوعيشه الكريم، أما هايد فلم يكن مباليًا بشأن جيكل بالمرة. كان فقدان هايد بالنسبةلي فقدان بعض الشرور التي صرت أستمتع بها، أما التخلي عن جيكل فقد عنى أننيسأصير بلا أصدقاء ومكروهًا من الجميع. علمت أنني لا أستطيع تحمل العيش بهذه النتيجة. لذا تخليت عن هايد، لكنني كنت لا أزال محتفظًا بالشقة الكائنة في حي سوهو،وملابس هايد مُعلقة في دولاب مختبري، لكنني لم أستخدم الدواء. وعلى مدار شهرينحييت حياة هادئة وحذرة. وقد سعدت بهذه الحياة بعض الوقت؛ إذ كان ضميريصافيًا، غير أن الرغبات والغرائز لم تفارقني، لكنها كانت مستكنة فحسب. مرة أخرى وجدت نفسي أعد جرعة الدواء وأتجرعها. وظل شيطاني حبيسًا زمنًا طويلًا، وجاء هايد مزمجرًا وهائجًا على نحو لم أتوقعه.وفيما كنت أتجرع الدواء علمت أن هذه المرة ستكون مختلفة. كنت على دراية بأن هايديبتغي أن يعوض الوقت الضائع. وحدث أنه في هذه الحالة قابل هايد مصادفةً سيردانفرز في ممر الحديقة. لا أذكر كثيرًا عن الحادث، لكن هايد كان غاضبًا غضبًا أعمى، ووقع الأمر برمته سريعًا. أنا الملام على كل هذا، لأن هايد هو من ارتكب الفعل الشنيع، لكن صدقني ما كانجيكل ليفكر في الأمر من الأساس. علمت أن حياتي انتهت عند هذه اللحظة أيضًا. هربهايد أو أنا من موقع الجريمة، وهرعت إلى شقة سوهو، وأحرقت كل أوراقي كي أطمثأي أدلة. وعندئذ بدأت أجول في شوارع لندن. وفكر هايد في جرائم القتل الأخرى التي يحب أن يرتكبها. والآن وبعد أن تذوق طعم الدماء خشيت ألا يتوقف. 78
مستر هايد الجامح وما إن تحولت إلى جيكل مرة أخرى، ركعت على ركبتي وتوسلت الرحمة من لله،وتأكدت أنه لن يكون هناك هايد مرة أخرى. وشعرت بأن اتخاذ هذا القرار النهائي هوالحرية. ولم أدرك إلى أي مدى كان هذا سجنًا. ولكي أتأكد أنني لن أتعرضللإغواء مرةأخرى، وأن هايد لن يستطيع الدخول من الباب الخلفي، كسرت القفل، وعندئذ سحقت مفتاح البوابة تحت قدميّ. علمت في اليوم التالي أن خادمتي شهدت جريمة القتل. وارتعت لدى سماع اسمهايد قاتلًا. بل لم أكن أدرك أن من التقيته في الممر كان سير دانفرز. كان غضب هايدشديدًا حتى إنه ابتلع شخصية جيكل تمامًا. كان للجانب الشرير من شخصيتي — مستر هايد — اليد العليا على جسدي وعقلي. عقدت العزم على أن أحيا حياة إنسان تائب، فبدأت أوالي الأعمال الخيرية، وواظبتعلى حضور الطقوس الكنسية وأحييت الصداقات القديمة. رجعت من العزلة بكاملقوتي، أصبحت إنسانًا وُلد من جديد. شعرت أنها معجزة أن أحظى بفرصة ثانية، ولم يكن لدي أدنى فكرة أن هذا لن يدوم. وفي يوم من أيام الربيع الأولى، وفيما كنت أستمتع وحدي بقضاء بعض الوقتعلى مقعد في إحدى الحدائق، وأنصت إلى العصافير تزقزق على الأشجار وأشاهد الأطفالتلهو، إذ بموجة من الإعياء تجتاحني ورجفة عنيفة تهزني. ثم توقفتا تاركتين إياي فاقدًاالوعي. شعرت بأن درجة حرارتي ترتفع. أغمضت عينيّ متمنيًا أن يزول هذا الشعورأيضًا. ومع ذلك شعرت بأن شيئًا ليس على ما يرام، فإذ بجيشان مفاجئ من الطاقةيجتاحني. وشعرت بغضب يتملكني بسرعة. فتحت عينيّ مرة أخرى لأجد ملابسي بدتفضفاضة للغاية على حين غرة، ويديّ نحيفة وشاحبة. مرة أخرى أصبحت إدوارد هايد.أدركت أنه لا يصح لي أن أجلس في الهواء الطلق هكذا، فهايد رجل مطلوب للعدالة.أدركت أيضًا أنني لا بد أن أحصل على الدواء. لم أستطع أن أتجه إلى الباب الأمامي ذلكلأن بول سيستدعي الشرطة حالما يراني، ولم أستطع الدخول من الباب الخلفي لأننيهشمت القفل والمفتاح. أدركت أنني سأحتاج إلى مساعدة أحدهم عندما خطر دكتورلانيون ببالي. فكتبت خطابًا إلى لانيون أطلب منه أن يحضر لي الدواء. كنت متأكدًا أنهسيفعل. لا بد أن تعرف أحداث تلك الأمسية الآن. ذكر لانيون أنه سيكتب إليك، لذا لنأكرر عليك القصة هنا. ومع ذلك عليك أن تتفهم أنني صُدمت من ردة فعل لانيون.توقعت أن يحمى غضبه، لا أن يرتعد. ستلازمني ما حييت حقيقة أن هذه الصدمة هي التي أودت بحياته. 79
بدأ نوع جديد من الخوف يستحوذ عليّ؛ لم أعد خائفًا من الشرطة وحدها، وإنماصرت مرعوبًا من أنني قد أضطر أن أعيش بشخصية هايد. تمنيت لو كنت قد رأيتنهايته. لكن في اليوم التالي، وفيما كنت أسير عبر الفناء، اعترتني نوبات الألم المعتادة.تناولت جرعتين من الدواء ثم عدت إلى جسدي كدكتور جيكل. ثم بعدها بست ساعات،وفيما كانت أقرأ بجانب المدفأة، انتابني الخوف مرة أخرى، لذا تجرعت المزيد من الدواء.إذا غلبني النوم — ولو حتى كإغفاءة — أستيقظ دائمًا مستر هايد. كنت مرعوبًا، وقداستنزفني هذا الرعب. وفيما ازداد جيكل وهنًا، ازداد هايد قوةً. واستهلكت أنا جيكل كلطاقتي في إجبار هايد على تناول الدواء. وخشيت ألا يصلح هذا لفترة أطول. ولم أعوضقط ما نقصمن الملح المستخدم في الدواء. في أثناء تلك الآونة كنت أستخدم نفس المورد.بدأت أبحث عن المزيد. وكنت قد افترضت أن الكمية الأصلية التي كانت بحوزتي هيشكل نقي من أشكال الملح. من ثم بدأت أطلب من الصيادلة أنقى كمية لديهم. ومع ذلكلم تأت المادة المطلوبة قط، لذا كنت أرجعها جميعها إليهم. وعندئذ أدركت أن الكميةالأصلية التي كانت بحوزتي لم تكن مادة نقية أغلب الظن؛ قطعًا كانت ممزوجة بمادة غير معروفة. إنها تلك المادة الغامضة، أو مزيجها بالملح، التي تحدث الأثر المطلوب. مرّ قرابة الأسبوع منذ أن بدأت في كتابة هذا الخطاب، وأنا أعمل تحت تأثير آخرجرعة من الدواء. من المحتمل أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يُسمح فيها لهنريجيكل أن يتكلم أو يُسمع. أنا مضطر أن أنهي هذا الخطاب الآن، خشية أن يسيطر عليّهايد قبل أن أحظى بالفرصة لغلق الخطاب، فإذا رآه فسيمزقه قطعًا. هذه هي ساعةموتي الحقيقية. بإنزالي قلمي وغلق خطاب اعترافاتي، سأكون قد أنهيت حياة هنري جيكل التعيس. أسأل لله أن يرحمني. دكتور هنري جيكل


تمت