المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العدو الغامض رواية أجاثا كريستي


AshganMohamed
10-21-2019, 10:15 AM
العدو الغامض رواية أجاثا كريستي
العدو الغامض رواية أجاثا كريستي

:: الفصل الأول ::
نحن في ربيع عام 1940
رفعت مسز " بروسفورد" ووجهها إلى زوجها حين دخل الغرفة وقالت:
-لست أدري سببا يا عزيزي " تومي " يجعلك متجهم الوجه على هذه الصورة .. ماذا هناك؟
- لم أجد عملا حتى الآن .. سواء في الجيش أو البحرية أو الطيران أو حتى وزارة الخارجية .. إن الجميع يجيبون على سؤالي بنفس الإجابة ( فيما بعد .. قد محتاج إليك ) حتى أصبحت لا أطيق سماع تلك الإجابات .. رجل في السادسة والأربعين .. يعامل كأنما لا مقدرة له على العمل .. هذا أمر لا يطاق ..!
- إنها نفس المسألة بالنسبة إلي .. إنهم لا يريدون ممرضات في مثل سني .. انهم يأخذون فتيات لم يرين جرحا في حياتهن .. لقد نسوا أنني عملت ممرضة من عام 1915 إلى عام 1918 وأنني عملت أيضا في قيادة السيارات ..
- يعزيني أن ابنتنا " ديبورا " قد وجدت عملا فيها .. وكذلك ولدنا " ديريك " ولو أن المساعدة المالية التي يمدني بها تحز في نفسي وتشعرني أنني أصبحت ذلك الرجل المسن .. هل أصبحنا لا فائدة ترجى منا.. ؟ اني افكر احيانا ان القطار قد فاتنا .
فظهرت أمارات الغضب على وجع توبنس وتركت كرة الصوف تتدحرج من حجرها ثم قالت :
- هل فاتنا القطار حقيقة .. رباه !!
- ربما .. ولكن يعزيني أننا كنا موضع اهتمام الجميع في وقت من الأوقات.. فقد اختطفني الألمان كما تذكرين، واحتلت للنجاة بمعجزة، كما تتبعت آثار ذلك المجرم الخطير حتى قبض عليه.. وتلك الفتاة التي أنقذنا حياتها.. وأوراق المعاهدة السرية الهامة.. لقد شكرتنا الأمة والدولة حينذاك..
- والآن أصبح مستر و مسز " برسفورد " لا يحتاج أحد إلى مجهوداهما..
- لا فائدة من هذا الحزن يا عزيزتي .. إنه يؤذيك..
- لقد أخلف مستر كارتر ظننا فيه..
- لا تنسي أنه كتب لنا خطابا غاية في الرقة ..
- لم يكن فيه ما يبعث على الأمل..
- لست أظن أنه يستطيع أن يفعل شيئا في هذه الأيام .. ثم أنه يقيم في اسكتلندا الآن ليسلي نفسه بصيد السمك ..! لقد أصبح هو الآخر مسنا.
- ربما يحتاجون إلينا في عمل بإدارة الاستعلامات؟
- لا أظن، فإن أعصابنا لن تعد تحتمل ..

ورن جرس باب الشقة .. فقامت توبنس وفتحت الباب ..
وقال القادم :
- مسز برسفورد؟
- نعم ..
- إنني جرانت .. أحد أصدقاء لورد ايسامتون.. وقد طلب مني زيارتكما أنت وزوجك ..
- أوه .. تفضل بالدخول ..

وسارت أمامه إلى حجرة الجلوس .. ثم قالت :
- هذا زوجي .. وهذا مستر جرانت انه صديق مستر كارتر . أعني لورد ايسامتون..

وكان اسم مستر كارتر رئيس إدارة الاستعلامات السابق أسهل نطقا من لقبه الجديد لورد ايسامتون وبعد أن تبادل الجميع التحيات .. قدمت توبنس كؤوس النبيذ للرجلين.. وكان مستر جرانت رحلا لطيف الحديث.. قال بعد فترة:
- سمعت يا برسفورد أنك تبحث عن عمل؟
- أجل .. هل تعني..؟
- لا .. فإن الأعمال يحسن أن تترك للشباب .. أو على الأقل لأولئك الذين تمرسوا فيها عدة سنوات دون انقطاع .. إنما كل ما اعرضه عليك الآن .. هو عمل في أحد المكاتب.. تخريم أوراق وحفظها في ملفاتها .. وما أشبه ذلك ..
- أوه ..
- انه شيء أحسن من لا شيء على كل حال.. ومع ذلك أرجو أن تزورني في مكتبي بالغرفة رقم 22 بوزارة المهمات الحربية.. وهناك نستطيع أن نتفاهم..

ورن التليفون ، فأسرعت توبنس ورفعت السماعة..
- هالو .. نعم .. ماذا؟
وسمع من الطرف الآخر صوت يتكلم في جزع ولهفة.. وتغير وجه توبنس ..
- متى ؟ أواه .. عزيزتي طبعا .. إني سأحضر إليك حالا..
ووضعت السماعة ثم قالت لزوجها :
- تومي .. إنها مورين ..
- لقد خمنت ذلك .. فقد عرفت صوتها..
- آسفة جدا .. يا مستر جرانت إنها صديقتي .. التوت قدمها وليس معها من يعني بها .. ويجب أن اذهب إليها .. أرجو أن تلتمس لي العذر في الانسحاب ..
- طبعا.. مسز برسفورد .. إنني أقدر ذلك ..

ابتسمت له مسلمة .. وتناولت معطفها وخرجت من الحجرة.. وسمع الرجلان باب الغرفة يوصد بعنف.. وصب تومي قدحا من النبيذ لضيفه فتناوله .. وبعد لحظة قال :
- هل تعلم؟ إن خروج زوجتك المفاجئ قد خدمنا .. فانه سيوفر الوقت..
لقد اقترح ايسامتون اسمك.. وقال لنا انك الوحيد الذي يصلح لتلك المهمة.
- أية مهمة ..!
- طبعا.. أنت تفهم .. إن ما سأقوله لك سري جدا.. حتى زوجتك يجب ألا تعلم عنه أي شيء..
- لا بأس .. مادمتم تريدون ذلك.. ولكن لقد اشتركت مع زوجتي دائما.
- اني أعلم ذلك. ولكن هذه المهمة بالذات لك وحدك ..
- وهو كذلك ..
- وكما سبق أن قلت لك.. ستزعم أمام الجميع أنك كلفت بعمل كتابي في جهة ما باسكتلندا، جهة محظور عليك ذكر اسمها، ولا يمكن أن ترافقك زوجتك إليها.. ولكنك في الواقع ستذهب إلى جهة أخرى.. لاشك أنك قرأت في الصحف عن الطابور الخامس، وتدرك طبعا ماذا يعني هذا التعبير..
- العدو الذي بيننا..
- بالضبط.. وأحب بهذه المناسبة أن اقول يا برسفورد ان هذه الحرب بدأت وحالة الشعب النفسية متأثرة بنوع من التفاؤل المصطنع.. وإني لا أقصد طبعا أولئك الذين يدركون الأمور على حقيقتها مثلنا.. فإننا نفهم بلا شك ما وراءنا وما أمامنا كمقدرة العدو العامة وقواته الحربية ولكني اعني الشعب رجل الشارع الذي تأثر بما سمع أو بما يريد أن يسمع من ألمانيا سوف تتصدع عما قريب.. وأنها على أبواب الثورة وان عدتها الحربية قد صنعت من القصدير وأن جنودها يتساقطون من فرط الجوع.. إلى غير ذلك.. بينما الواقع يجري على العكس دائما..
- هذا ما يدركه كل عاقل..
- بالضبط ولا تنس إننا بدأنا في أوائل الحرب بلا نظام يلم شعبنا.. وكانت استعداداتنا في غاية النقص، ولعل ذلك يرجع إلى أننا لم نكن نرغب في الحرب ، فلم ننظر الى شتى الاحتمالات بشكل جدي ولم نحسن الاستعداد لمجابهتها.. وان كنا.. بعد مرور أكثر من سنة قد صححنا هذه الأوضاع على حد كبير، ووضعنا كلا في مكانه الذي يناسبه، وأصبحنا نوجه الدفة كما يجب أن توجه. ويمكننا أن نكسب الحرب وهذا لا شك فيه – إذا لم نرتكب الخطأ الأول.. ونحن لا ننظر الى الخسارة كنتيجة لأعمال العدو الظاهرة، كقوة قاذفات القنابل ولا في تسلط ألمانيا الشامل على البلاد التي تستغلها لمصالحها الاقتصادية واستعمال الألمان لتلك البلاد كمراكز للقفز علينا.. لا هذا ولا ذاك.. ولكن الخطر الذي نخشاه يأتي من الداخل.. من قصة طروادة.. والحصان الخشبي الذي أدخل إلى أسوارها .. وتستطيع أن تسميه الطابور الخامس إذا أردت .. وهو يتألف من نساء ومن رجال يشغل بعضهم مراكز عالية والبعض الاخر مراكز من كل لون.. ولكنهم جميعا يؤمنون بالعقيدة النازية.. ويعملون جاهدين على احلالها محل وسائلنا البسيطة في الحياة الديمقراطية.. وأهم من هذا كله.. أننا لا تعرف من هم هؤلاء..
ولكن بكل تأكيد ..
- نستطيع أن نصل إلى العصافير الصغيرة.. فهذا من السهولة بمكان.. ولكن العقبان والنسور.. هي التي تهمنا.. فهناك اثنان على الأقل يشغلان وظائف كبرى في البحرية، وأكاد أجزم بان احدهما يعمل في مكتب الجنرال ( ج ).. كما نعلم أن ثلاثة أو أكثر في أهم مراكز سلاح الطيران، وأن اثنين على الأقل في إدارة المخابرات يطلعان باستمرار على قرارات مجلس الوزراء السرية.. إننا نعلم كل هذا لان الطريقة التي تتسرب لها أخبارنا إلى العدو تدل عليه..
- ولكن .. إنني لا أعرف أحدا من هؤلاء..
- بالضبط.. كما أن أحدا منهم لا يعرفك وهذا هو ما يهمنا.. فهؤلاء القوم.. ذوو المراكز العالية يعرفون رجالنا جميعا ,, وقد أرهقتنا محاولات كشفهم أو حتى تضليلهم، حتى وصلنا إلى حالة من اليأس لا نحسد عليها .. فذهبنا الى ايسامتون نستشيره.. ورغم أنه لا يعتبر من رجالنا نظرا لمرضه.. ولكنه يعتبر ألمع ذهن عرفناه.. ففكر فيك وقال ان عشرين سنة قد مضت منذ تركت العمل في هذه الإدارة.. وانقطعت صلتك بها كما ان شبهك لا يعرفه أحد .. فما رأيك ؟
- أقبل..! طبعا.. ولكن.. ولكن لا أدري كيف يمكن لي أن أفيدكم..
- يا عزيزي برسفورد .. ان تفكير الهواة وتصرفاتهم هو ما نريد.. فالأمور تتعقد بالنسبة إلى المحترف.. ثم لا يحفى عليك أنك ستحل محل أقدر رجالنا..
- ماذا؟
- نعم .. فقد توقي فاركوهار المسكين في مستشفى بريدجت يوم الثلاثاء الماضي.. بصدمة لوري، وعاش بضع ساعات بعد الصدمة.. وقد يخيل للعابر أنها حادثة طريق.. ولكنها ليست كذلك .
- أ متأكد أنت؟
- طبعا.. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنه كان وراءه أثر هام.. وقد بقى فاقد الوعي بعد الصدمة، وقبل الوفاة بلحظات حاول أن يقول شيئا.. وكان كل ما سمعناه منه هذه العبارة: ( ن.. او.. م.. سونج سوزي..).
- لا أعتقد أن في هذا ما ينير السبيل..!
- قد يكون فيه أكثر مما تظن.. فإن ( ن او م ) هو رمز سمعناه قبل تلك اللحظة وهو ينبئ عن اثنين من أهم وكلاء الألمان.. وقد عرفنا بعض الشيء عن نشاطيهما في البلاد الأخرى.. وليس لدينا عنهما معلومات كثيرة .. ولكننا نعلم أن مهمتهما هي الاشراف على تكوين الطوابير الخامسة في البلاد المختلفة، وهما يقومان بمهمة ضابط الاتصال بين ألمانيا وبين الطابور الخامس في أي بلد من البلاد المختلفة ، وأغلب الظن أن ( ن ) رجل وأن ( م ) سيدة ، وأنهما أعظم من وثق بهما هتلر بين مبعوثية.. وقد استطعنا الحصول في مستهل الحرب على صورة برقية أرسلت من برخستجادن جاء فيها " أرى تعيين ( ن ) أو ( م ) لانجلترا على أن يمنحا كل السلطات.. ".
- وماذا عن فاركوهار؟
- أظن أنه تتبع أثر أحدهما أو كليهما.. ولم نعلم أيهما لسوء الحظ، أما عن كلمة ( سونج سوزي ) فأطن أنها حرفة، نظرا لما نعلمه من عدم تمكن فاركوهار من اللغة الفرنسية، وقد وجدنا في أحد جيوبه تذكرة عودة الى مقاطعة ليهامتن على الساحل الجنوبي.. وفي تلك المنطقة كثير من البنسيونات والاستراحات والفنادق الخاصة,, وبعد التحري وجدنا أن أحدها يسمى ( سان سوسي ).
- هكذا .. ( سونج سوزي ) .. ( سان سوسي ).. فهمت.. وعلي أن اذهب الى هناك .. وأرى ماذا أستطيع أن اعمل ..
- تماما..
- لكن المسألة فيما أرى غير واضحة المعالم. فاني لا أكاد اعلم ما الذي أبحث عنه؟
- وأنا شخصيا لا أعلمه.. وعليك أن تجده، وعسى أن يساعدك الحظ..
- حدثني عن ذلك المكان.. أعني ( سان سوسي) .
- ربما كان كوخا.. وربما كان شيئا آخر.. ولعل فاركوهار كان يفكر في أمر أبعد عن كل ما نفكر فيه.. ان المسألة لا تعدو ان تكون تخمينا مجردا..
- وماذا عن ليهامتن نفسها؟
- إنها كأي مثيلاتها.. مجموعات من الأكواخ والعشش والفيلات والمنازل الصغيرة، تقيم فيها سيدات مسنات وضباط متقاعدون وعوانس طاهرات.. ورواد غامضون وربما بعض الجواسيس.. وبعض الأجانب .. إنها تبدو كحقيبة الطباخ..
- و ( ن ) أو ( م ) بين كل هؤلاء؟
- ليس ذلك ما يمكن الجزم به.. فربما وجدت أحد أعوانهما. ولكني أرجح ان يكون ( ن أو م ) هناك .. فالمكان لا يرقى إليه الشك .. بيت منعزل في بقعة ساحلية.
- أليس لديك فكرة.. عما إذا كان الشخص الذي سأبحث عنه رجلا أو امرأة؟
- كلا .. وأتمنى لك حظا سعيدا يا برسفورد.. والآن إلى التفاصيل..
عادت توبنس بعد نصف ساعة فوجدت زوجها وحيدا يصفر لحنا وقد بدت عليه أمارات الشك ، فقال لها:
- حسن.. لقد حصلت على عمل مكتبي.. في اسكتلندا .. حفظ مستندات وما شابه ذلك.. انه لا يبدو عملا مثيرا..
- لكلينا .. أم لك وحدك ؟
- أخشى أن يكون لي وحدي..
- اللعنة.. كيف يعاملنا مستر كارتر بهذه الوسائل الـ..
- ان اختلاط الجنسين غير مسموح به في مثل هذه الأعمال يا توبتس .. والا صعب على الموظفين تركيز تفكيرهم في العمل ..
- يظهر انه من تلك الأعمال التي ترهق الأعصاب .. كذلك الذي تقوم به ديبورا ابنتي.. واني أرجو ألا ترهق نفسك يا تومي بقدر الامكان فتحطم أعصابك..
- لست من هؤلاء كما تعلمين..
- أرجو ذلك.. ولو أنني اعتقد انك عرضة لما أقول.. ألا يمكن ان آتي معك؟ لا كزميلة في العمل.. وإنما .. كزوجة فقط.. تعد لك طعام العشاء .. و.
- إني آسف.. وكم يؤلمني أن أتركك يا عزيزتي.. على أي حال تستطيعين ان تشغلي نفسك بالـ.. تريكو..
- التريكو .. التريكو..
وقذفت بالكرة الصوفية و الإبر الى الارض ، ثم استطردت :
- اني اكره الصوف.. الكاكي و الازرق .. وكل الالوان التي يرتدونها في هذه الحرب..
وبعد قليل ، عادت توبنس إلى حالتها العادية .. وقالت إنها تستطيع أن تجد عملا باحدى جماعات الاسعاف..

وبعد ثلاثة أيام رحل تومي إلى ابردين .. وودعته زوجته توبنس على المحظة متجلدة، صابرة.. ولكنه أحس – بعد أن تحرك القطار وتضاءل شبحها الرقيق – أنه افتقدها .. غير أنه تمالك نفسه فالأوامر هي الأوامر..
وبعد وصوله إلى اسكتلندا سافر في اليوم التالي إلى مانشستر وفي اليوم الثالث وصل به القطار الى ليهامتن .. فتوجه فورا الى الفندق الرئيسي.. وفي اليوم التالي طاف بجميع الاستراحات والفنادق الخاصة، يسأل عن غرفة خالية وعن أسعار الإقامة لمدة طويلة ، وكانت سان سوسي عبارة عن فيلا حمراء على الطراز الفيكتوري، أقيمت على سفح أحد التلال وتطل نوافذها العليا على نظر البحر الجميل، ورغم أن أثاثها كان جميلا، إلا أنه كان قديما.. وقابل تومي صاحبتها برينا.. وهي سيدة في منتصف العمر تعلو رأسها هالة مخيفة من الشعر الأسود المجعد وقد لوثت وجهها ببعض المساحيق وبدت أسنانها البيضاء اللامعة مرعبة من خلال ابتسامتها المصطنعة.. وفي حديثه معها ذكر اسم مس ميدوز ابنة عمه الكبرى التي أقامت في سان سوسي منذ سنتين .. وتذكرت مسز برينا ابنة العم هذه وتحدثت عن ظرفها.. فأجابها تومي في حرص على تعليقاتها عن قريبته المزعومة، رغم أنه يعلم أن ادارة المخابرات كانت على ثقة من المعلومات التي زودته بها عن مس ميدوز.. ولما سئل عن أحوال قريبته، أجاب أنها توفيت، فأظهرت مسز برينا أسفها وألمها .. ثم عرضت على تومي غرفة قالت انها تناسبه كل المناسبة، فهي تطل على منظر البحر اللطيف.. وحددت لها أجرا أسبوعيا نظير الإقامة والأكل ، فأظهر تومي فزعة من ارتفاع الشعر ولكنها شرحت له أسباب ذلك ، فأجابها ان دخله قد نقص كثيرا عن ذي قبل.. ثم تطرق الحديث عن ذلك الرجل هتلر ، فقال تومي :
- انه يجب شنق ذلك الإنسان.. انه رجل مجنون.. نعم مجنون ولا شك..
فوافقته مسز برينا على رأيه، وقالت انها تجد مصاعب جمة في الحصول على مواد التموين من لحم و خبز وغيرهما، وان مأكولات كثيرة اختفت من الأسواق.. وان .. وان .. ولكن مادام مستر ميدوز ابن عم صديقتها المرحومة فإنها ستنقص المبلغ نصف جنيه.. فطلب تومي إمهاله يوما يفكر فيما اذا كان دخله يحتمل هذا المبلغ.. فرافقته مسز بريتا حتى الباب الخارجي وشيعته بكل ما تستطيع من تحيات ومجاملات..

وساءل تومي نفسه.. ماذا تكون جنسية تلك السيدة.. انها لا يمكن ان تكون إنجليزية.. فالاسم اما ان يكون أسبانيا أو برتغاليا.. ولكن .. ان احدى هاتين جنسية الزوج.. أما هي .. فربما تكون ايرلندية.. وأخيرا، صمم على أن ينتقل في اليوم التالي – باعتباره مستر ميدوز – إلى سان سوسي .
وفي الساعة السادسة من مساء اليوم التالي وصل الى فيلا سان سوسي فقابلته مسز برينا في البهو الخارجي بالترحاب ثم أصدر عدة أوامر تتعلق بحقائبه الى خادمة تظهر عليها أمارات الغباء.. ثم قادته الى غرفة الجلوس العامة وهي تقول :
- إنني أقوم بتقديم نزلائي بعضهم البعض .. هذا هو مستر ميدوز نزيلنا الجديد .. مسز أوروك .. ماجور بلتشلي .. مستر فون دينيم .. مس منتون .. مسز بلنكسوب ..
وكان تومي ينحني في أدب عند تقديم كل من الحاضرين إليه، ورأى في مسز أوروك سيدة بدينة قد خط شاربها بشكل مثير للضحك ، أما الماجور بلتشلي فقد فحص تومي بنظره كأنما يثمن الضيف الجديد ، ثم أحنى رأسه له .. وكان مستر فون دينيم شابا صلب العود أشقر الشعر ، أزرق العينين ، وقف على قدميه ثم انحنى كأنما يؤدي التحية العسكرية، أما مس منتون فكانت سيدة مسنة تعبث بإبر التريكو، وقد ابتسمت وهمهمت ببعض ألفاظ التحية ، وما أن رفعت رأسها لتحية القادم حتى توقف تنفس تومي.. ودارت به الغرفة..
كانت مسز بلنكنسوب هي توبنس.. زوجته.. ان هذا مستحيل ولا يمكن تصديقه.. ولكنها قابلته بعينين فيهما الأدب والتحفظ المتبادل بين الأغراب.. وهز رأسها..

:: الفصل الثاني ::
لم يدري تومي كيف قضى ليلته الاولى في سان سوسي اذ كان من الصعب عليه ان يوجه نظراته ناحية مسز بلنكنسوب وظهر في ساعة الغذاء – في اليوم التالي – ثلاثة آخرون من الفيلا ، هم مستر و مسز كايلي وسيدة شابة تدعى مسز سبرون اصطحبت طفلتها الصغيرة معها.. وكان يبدو عليها دائما، عدم رضاها من إقامتها الإجبارية مع تلك الطفلة في سان سوسي وتصادفت ان جلست الى المائدة الكبرى الى جوار تومي وأخذت ترمقه بعينيها من وقت إلى آخر.. ثم قالت مستفسرة:
- ألا تظن أن الحالة أصبحت أكثر أمنا في هذين اليومين؟
وقبل أن يجيب تومي ردت السيدة التي تجلس الى يساره:
- لا أعتقد .. وقد سمعت ان هتلر ينوي الهجوم على بريطانيا في الأيام القليلة القادمة كما سمعت ان الهجوم سيكون بغاز من نوع جديد...
فقاطعها الماجور بلتشلي قائلا:
- ما أكثر الهراء الذي يتحدثون به عن الغازات .. إنهم لن يضيعوا وقتهم ليهاجمونا بالغازات إنما الهجوم سيكون بالقنابل المدمرة والحارقة فقد جربوها في أسبانيا..
وهكذا بدأ المستمعون يتناقشون وكل يلي برأيه وسمع تومي صوت توبنس الرفيع يقول :
- ان ولدي دوجلاس يقول في أحد خطاباته لي ..
وعجب تومي في نفسه.. لماذا يا ترى اختارت اسم دوجلاس لولدها..! وبد تناول الغذاء انصرف الجميع الى غرفة الاستراحة وبدأت السيدات يقتلن الوقت بالتريكو.. واضطر تومي ان يستمع الى حديث الماجور بلتشلي عن مغامرته في الحرب الاولى في الجبهة الغربية.. وبعد هينة انصرف الشاب الأشقر، وبعد ان انحنى لجميع من كانوا في الغرفة فقال الماجور بلتشلي لتومي :
- ان هذا الشاب الذي خرج توا.. أحد اللاجئين .. فقد خرج من ألمانيا هاربا قبل إعلان الحرب بشهر واحد..
- هل هو ألماني؟
- نعم.. ولكنه ليس يهوديا. وقد قتل والده ، لأنه انتقد النظام النازي وله أخوان في المعتقلات هناك، فقد خرج من الجحيم في الوقت المناسب.
وخرج تومي في الصباح التالي مبكرا، وأخذ يتمشى ذهابا وجيئة.. في الحديقة المحيطة بالفيلا حتى لمح شخصا آتيا من الناحية المقبلة فرفع قبعته محييا ثم قال :
- صباح الخير.. مسز بلنكنسوب فيما أذكر..
ولما لم يكن هناك من يستمع إلى الحديث، فأجابت توبنس متهكمة.
- ومن أنت؟ الدكتور ليفنجستون؟
- كيف أتيت إلى هنا ؟ أي توبنس.. انها وأيم الحق لمعجزة...
- ليس في الأمر معجزة قط.. كل ما في المسألة أنني أعملت ذهني وبأبسط الوسائل .. حتى أعطيكما .. أنت والسيد جرانت درسا لا تنسيانه أبدا..
- وكيف حدث هذا .. ؟
- الأمر في غاية البساطة.. عندما كان جرانت يتحدث معك وذكر اسم كارتر استنتجت ان العمل الذي يعرض عليك لا يمكن أن يكون عملا مكتبيا عاديا.. وقد أحسست أنه من نوع لن أشترك فيه.. ولما كان هذا ضد رغبتي فقد انتهزت فرصة خروجي لإحضار الشراب لكما ونزلت إلى شقة جارتنا مسز براون ومن هناك طلبت من صديقتي مورين تليفونيا ورجوتها أن تطلبني بعد لحظات، وأفهمتها ماذا تقول.. وقد نفذت تعليماتي حرفيا.. ومثلت دوري بعد ذلك ببراعة. اذ انسحبت لنجدة صديقتي كما خيل إليكما وقفلت باب الشقة بعنف حتى تعتقدا أنني خرجت.. بينما تسللت إلى غرفة النوم، وأخذت أنصت إلى حديثكما من خلف الباب..
- لا ذنب لي فيما حدث ، فمستر جرانت وحده هو المسئول..
- لم يكن جديرا بمستر كارتر أن يعاملني هكذا.. ان ادارة المباحث تغيرت كثيرا عما كانت في أيامنا..
- لاشك أنها ستعود كما كانت، ما دمنا قد عاودنا نشاطنا.. ولكن.. لم اخترت اسم بلنكنسوب هذا ؟
- ولم لا ؟
- غريب أن يقع اختيارك على هذا الاسم بالذات..
- إن حرب ( ب ) في بلنكنسوب يقوم مقام حرف الـ ( ب ) في برسفورد أيها الغبي .. وهذه الحروف مطرزة على جميع ملابسي الداخلية .. وأنت .. ما الذي دعاك إلى اختيار اسم ميدوز انه الغباء المعهود.. فيما أظن.
أنا لم أختره وإنما اختير لي والمستر ميدوز الحقيقي رجل له ماض ناصع حفظته عن ظهر قلب..
- هذا عظيم.. وهل أنت عازب.. أم متزوج ؟
- إنني أرمل .. توفيت زوجتي منذ عشر سنوات في سنغافورة..
وإذا افترضنا أن أحدا سعى للكشف عن حقيقة السيد بلنكنسوب المزعوم هذا..
- إن أولادي ليسوا من بلنكنسوب فهو زوجي الثاني.. أما زوجي الأول فاسمه هيل وانك لتجد ثلاث صفحات كاملة في دليل التليفونات تشترك كلها في اسم هيل ..
- انها دائما نفس المسألة.. فأنت تحبين تعقيد الأمور دائما.. زوجان.. وثلاثة أبناء .. اني اعتقد أنك ستناقضين نفسك بنفسك، اذا سئلت بعض التفاصيل..
- أبدا.. بل على العكس .. إنني سأنتفع بهؤلاء الأبناء .. ثم، لا تنس أنني حرة، لا أتلقى أوامر أحد .. وقد اشتركت في هذا العمل لأسلي نفسي.. وسأسليها ..
- يبدو أن الأمر بالنسبة إليك مجرد تسلية.. لعمري انها مهزلة..
- لماذا تقول ذلك؟
- حسن.. لقد أقمت بسان سوسي مدة أطول من إقامتي أنا بها.. فهل ترين في كل من كانوا معنا بالأمس، من يصح اعتباره من عملاء الأعداء.. ؟
- لعل الأمر صعب التصديق حقا.. ومع ذلك فهناك ذلك الشاب الأشقر..
- تقصدين كارل فون دينيم؟ انه أحد اللاجئين.. والبوليس يتحرى عنهم جميعا.. ومع ذلك فإنه يصلح .. ألا ترى أنه جذاب؟
- تقصدين أن الفتيات سيتعلقن به، ويدلين إليه بأخبار وأحاديث؟
- كفى هذرا يا تومي .. إننا ندرس جديا الآن..
- إني جاد تماما فيما أقول.. وأظننا نجري وراء سراب..
- ما رأيك في مسز برينا نفسها ؟
- نعم مسز برينا.. انها موضع نظر .. وتحتاج إلى شيء من الدراسة..
- وماذا عنا.. أعني كيف نتعاون .. ؟
- لا يجب طبعا أن نرى سويا ..
- كما يجب أن يتجاهل بعضنا البعض، فلا يظهر أن ثمة علاقات سابقة بيننا.. وما أريده هو تنظيم مبدأ للعمل.. وإني أقترح " الملاحقة" .
- الملاحقة..! ماذا تعني؟
- أن ألاحقك في كل مكان.. وأن تبذل جهودك في التخلص مني ولكنك – كجميع الرجال – لا تنجح دائما في الهروب.. ولا تنس أنني تزوجت مرتين ، وفي حاجة إلى زوج ثالث.. وعليك أن تمثل دور الأرمل المتبوع.. فإذا رآنا أحد سويا فلن يقول سوى .. انظر .. مستر ميدوز المسكين .. لعل السنارة قد شبكت ..
وفجأة أمسك تومي بذراعها، وقال هامسا:
- انظري .. انظري أمامك مباشرة..
- إنه كارل فون دينيم .. ولعمري .. من هذه الفتاة التي انهمك في الحديث معها هكذا ؟
- انها فتاة جميلة جدا على أية حال..

وراقبت توبنس الشابين فرأت وجه الفتاة الأسمر وهي تتحدث في حماسة إلى كارل الذي كان منصتا إلى حديثها بشغف واضح، ثم قالت توبنس :
- يحسن بنا أن نفترق الان ..

وبدأ تومي يسير في اتجاه مضاد .. حتى قابل الماجور بلتشلي الذي رمقه بنظرة فاحصة ثم قال :
- صباح الخير .. أرى أنك مثلي .. ممن يبكرون في اليقظة ..
ودار بينهما حديث طويل قص فيه تومي على الماجور كيف قابل مسز بلنكنسوب وعلم منها أنها أرملة بلا زوج. فحذره الآخر من حبائل الأرامل.. ثم اتجها سويا الى سان سوسي لتناول طعام الإفطار.. وفي الوقت نفسه سارت توبنس في طريقها ومرت بالقرب من الزاوية التي اختلى فيها الشابان، وكانت الفتاة هي التي تتحدث وسمعتها توبنس تقول :
- ولكن.. يجب أن تكون على حذر يا كارل .. فأقل شك..
ولم تستطع توبنس أن تقف لتستمع على بقية الحديث فسارت إلى نهاية الممر وعادت لتسمع من جديد..
- حقير .. هذا الجنس الإنجليزي البغيض..
وارتفع حاجبا مسز بلنكنسوب . ان السيد كارل فون دينيم لاجئ ألماني.. آوته بريطانيا لهربه من الوحشية النازية، فلم يكن جديرا به أبدا أن يتفوه بمثل هذه الألفاظ.. وعادت توبنس من جديد لتمر بجوارهما، ولكنهما كان قد افترقا، فقد اتجهت الفتاة إلى ناحية البحر بينما سار كارل فون دينيم في الاتجاه المضاد وقابل توبنس.. فوقف وضم كعبيه بطريقة عسكرية، ثم انحنى لها .. فقالت :
- صباح الخير يا مستر فون دينيم.. إن الجو جميل هذا الصباح!
- نعم.. ان الطقس بديع ..
- بقد اجتذبني للخروج .. فليس من عادتي اليقظة المبكرة .. أو على الأقل الخروج قبل تناول طعام الإفطار .. ولكني لم أنم جيدا بالأمس.. ان المرء لا يتمتع بالنوم في مكان جديد عليه.. ولابد أن يمر بعض الوقت حتى يألف الإنسان المكان.. وقد أفدت فعلا من السير هذا الصباح .. وتفتحت شهيتي للإفطار..
- أ ذاهبة أنت إلى سان سوسي الان ؟ إذا سمحت.. رافقتك إلى هنا:..
وسار إلى جنبها .. فقالت توبنس ::
- هل خرجت أنت أيضا رغبة في فتح الشهية ؟
- لا .. أبدا .. لقد تناولت إفطاري .. وأنا في طريقي إلى العمل .. إني كيميائي..
وبعد لحظة سكون استطرد يقول..
- لقد تركت بلادي هربا من الاضطهاد النازي .. وليس لدي مال كثير .. كما أني بلا صديق .. ولذلك أقوم بالعمل النافع الوحيد الذي أجيده.. إن أخواي في المعتقلات وقد توفي والدي في أحدها .. أما والدتي فقد ماتت من الحزن والرعب..
ومر بهما رجلان سمعت توبنس أحدهما يقول :
- أراهنك أن هذا الشاب ألماني..
فلاحظت توبنس الدماء تتصاعد إلى وجنتي كارل فون دينيم وفجأة فقد السيطرة على أعصابه.. وظهرت عواطفه الحبيسة فجأة فقال :
- أسمعت؟ أسمعت ؟ هذا هو ما يقولون .. إنني ..
- يا ولدي العزيز.. لا تكن غبيا .. انك لا تستطيع أن تملك ناصية الأمور أنت لاجئ .. ويجب عليك أن تحتمل السيئة والحسنة .. ولا تنس أنك حي وحر في نفس الوقت.. ولا تنتظر من رجل الشارع أن يميز بين الألماني الطيب والألماني الخبيث. .
- الحق معك .. وحتى أكون ألمانيا طيبا.. يجب أن أكون في عملي الآن.. فلا تؤاخذيني .. سعدت صباحا ..
ثم انحنى لها تلك الانحناءة التقليدية وانصرف..
كانت أبواب ردهة سان سوسي مفتوحة.. وسمعت وهي تقترب صوت مسز برينا تقول :
- لا تنس أن تطالبه بالكمية الأخيرة من الزبد الصناعي.. أوه .. صباح الخير يا مسز بلنكنسوب .. أرى أنك تبكرين في اليقظة .. أقدم لك ابنتي " شيلا " كانت على سفر ولم تحضر سوى مساء أمس ..
فتمتمت توبنس بألفاظ التحية المعتادة واتجهت إلى قاعة الطعام.. وكانت مسز سبروت هناك ومعها طفلتها .. و مسز أوروك فتبادلن جميعا تحية الصباح .. وكانت مسز سبروت تطعم الطفلة .. التي ما أن رأت توبنس حتى اتجهت نحوها بكل حواسها..
فقالت مسز سبروت لتوبنس :
- انها تحبك .. رغم أنها أحيانا تكون في غاية الخجل من الغرباء ..
وعادت بتي سبروت تصيح بكلمات غير مفهومة فسألت مسز أوروك في شغف :
- وماذا يا ترى تعني بهذا ؟
- إنها لا تنطق الألفاظ جيدا.. فعمرها أمثر من سنتين بأيام.. ولعل أكثر ما تقول لا معنى له.. ولو أنها تستطيع أن تقول ماما ,, أليس كذلك يا حبيبتي؟
وعادت بتي بعد أن نظرت إلى أمها طويلا تنطق بكلماتها المحرفة الغريبة..
فقالت مسز أوروك :
- ان للأطفال لغتهم الخاصة .. انها لغة الملائكة الصغار.. والآن يا بتي العزيزة قولي .. ما .. ما ..
فنظرت بتي إلى مسز أوروك ثم قالت في تأكيد :
- نازير..
ولعل مسز أوروك العجوز تضايقت من عدم استماع بتي لحديثها، وانصرفت من الحجرة غاضبة بعد أن رمقت الطفلة بنظرة غيظ..!
فضحكت الطفلة .. وكأنما ارتاحت إلى خروج العجوز.. وأخذت تضرب بالملعقة على منضدة الأكل ..
وقالت توبنس :
- ترى ماذا تعني بكلمة " نازير " ..
فأجابت مسز سبروت :
- انها .. فيما اعتقد الكلمة التي تقولها بتي عندما تكون كارهة لشخص ما .. أو لشيء ما ..
وضحكتا .. وعادت مسز سبروت تقول :
- على كل حال .. أعتقد أن مسز أوروك لا تظهر سوى الحنو نحو الفتاة.. ولكن يظهر أن طريقتها في ذلك لا تعجب بتي .. خاصة وأن ذلك الشعر النامي على وجهها ليس مما يسر بتي أن تراه..!
وأخذت بتي تصيح نحو توبنس .. فقالت مسز سبروت :
- لقد ألفتك يا مسز بلنكنسوب ..
وفي تلك اللحظة فتح باب الردهة ودخل الماجور بلتشلي وتومي فصاحت توبنس :
- مستر ميدوز .. ليس للغائب نصيب .. ولم يبق لك من طعام الإفطار إلا القليل ثم أشارت إلى المقعد المجاور لها كأنها تدعوه ..
فقال تومي ، وهو يجلس على مقعد في طرف المائدة الآخر:
- أوه .. شكرا .. شكرا ..
وحدثت توبنس نفسها.. لا بد أن يكون هناك خطا.. لا يمكن أن يكون هناك خطأ.. لا يمكن أن يكون هنا شيء .. أبدا .. أية عقلية تستطيع تصديق أن في سان سوسي مركزا لقيادة الطابور الخامس ؟

:: الفصل الثالث ::
تمت علاقات وطيدة بين تومي والماجور بلتشلي ورغب كلاهما في لعب الجولف سويا فذهبا إلى النادي الوحيد القريب .. وكانت النتيجة أن ربح الماجور فقال :
- انه شوط عظيم.. يا ميدوز ,, ولعل سوء الحظ الذي لازمك هذه المرة يتركك في المرة القادمة.. إذ يجب أن نعاود اللعب من وقت إلى آخر .. والآن تعال معي .. لأقدمك لبعض الصحاب من أعضاء هذا النادي .. آه .. هذا هايدوك .. انه سيروقك ولا شك فهو ضابط بحار متقاعد .. وهو يملك ذلك المنزل المطل على قمة .. كما أنه مراقب الغارات الجوية في هذه المنطقة..
كان الكوماندوز هايدوك رجلا ضخما سليم الطوية لفح وجهه جو البحار الذي عاش فيه متنقلا .. فحيا تومي بحماسة وقال :
- وأخيرا وجد بلتشلي من يصاحبه في سان سوسي وسيتخلص من ذلك المستنقع الحريمي الذي كان يغوص فيه .. أليس كذلك يا بلتشلي ؟
- انني كما تعلم لست زير نساء ..
- المسألة أنك لم تجد الصنف الذي يروقك .. هذا كل ما هنالك.. ان ما ترى هناك جماعة من العجائز .. كل همهمت الثرثرة والتريكو ...
- انك لا تنسى مس برينا ..
- آه .. شيلا .. انها فتاة جذابة بلا شك .. بل انها في رأيي نموذج للجمال ..

كانت المشروبات قد أعدت .. وجلسوا جميعا في شرفة النادي .. وأعاد هايدوك سؤاله من جديد ، فأجاب الماجور بلتشلي في عنف ..
- انه ذلك الفتى الالماني .. الذي يزعجني .. فهي تقابله كثيرا ..
- هل تريد أن تقول انها مغرمة به ؟ هذا أمر سيء للغاية .. والواقع أنه شاب جميل المظهر ولكن العلاقة يجب ألا تسيير في هذا الطريق. فنحن لا نرضى عن مثل ذلك يا بلتشلي .. انها ستؤدي إلى التعاون مع الأعداء .. أليس كذلك ؟
- ان شيلا فتاة غريبة في الواقع .. ثم انها تتصرف تصرفات مهمة .
- ان الدم الاسباني يجري في عروقها .. هل تعلم أن اباها نصف اسباني ؟
- لا أدري .. ولو أن الاسم كما أرى يدل على ذلك..
ونظر الكوماندوز في ساعته ثم قال :
- انه وقت اذاعة الأخبار .. فهيا نستمع إلى ما هنالك ..

ولم تقدم المناقشة أكثر من ذلك ، لان بلتشلي وتومي كانا مضطرين للذهاب الى سان سوسي فقد حل موعد الغذاء .. وقد دعا هايدوك تومي في حرارة الى زيارته في منزله الصغير المسمى استراحة المهربين قائلا انه مكان لطيف يطل على البحر وفيه كل ما يسلي كما طلب الى بلتشلي أن يأتي معه .. فاتفق تومي والماجور على ان يذهبا اليه في مساء اليوم التالي ...

ومر العصر في سان سوسي بأمن وسلام ، اذ ذهب المستر كايلي ليستريح مع زوجته الجميلة ، أما مسز بلنكنسوب فقد ذهبت بإرشاد مس منتون لتشتري بعض الحاجات التي قالت انها سترسلها الى ابنائها في الجبهة .. أما المستر ميدوز فقد خرج من سان سوسي في هدوء. وسار في الطريق الممتد حتى نهاية مدينة ليهامتون .. وابتاع علبة سجاير وعددا من مجلة "بنش" .. ولما وصل إلى المرفأ الصغير ، قفز الى أحد القوارب العامة التي تنقل الركاب بين الحين والحين الى سائر المدن الصغيرة المتناثرة على الساحل في تلك المنطقة .. ولم يكن بالقارب سوى بضعة أطفال يصيحون، ورجل مسن جلس في مؤخرة القارب يتسلى بصيد السمك .. فاتجه إليه مستر ميدوز وسأله في أدب :
- هل اصطدت شيئا؟
فهز الرجل رأسه قائلا :
- لا جديد حتى الان . وماذا فعلت أنت؟
- لا شيء حتى الان يا مستر جرانت.. سوى انني اندمجت في الجو .. واعتقد انني وصلت الى معلومات لا بأس بها .. و أظنك تعرف اسماء نزلاء سان سوسي ..
- نعم ..
- لقد وطدت الصداقة بيني وبين الماجور بلتشلي ولعبنا الجولف سويا هذا الصباح .. ويظهر انه يمثل الضابط المتقاعد العادي.. أما كايلي فانه يمثل المريض المخبول وقد قص علي بمحض ارادته انه كان في ألمانيا مدة طويلة قبل الحرب.
- هذه مسألة هامة..
- ثم هناك فون دينيم..
- نعم.. واني لا أوصيك .. ان دينيم هو الشخص الذي يهمني أمره..
- هل تظن انه ( ن ) ؟
- لا .. لا اظن .. ففي رأيي أن ( ن ) لا يرى من الحكمة أن يظهر في المجتمع في ثياب الالمان.. ثم اننا سنعتقل كل رعايا الاعداء، الذين تتراوح سنهم بين السادسة عشرة والستين، وسواء أكان خصومنا قد حسبوا حساب هذا أم لم يحسبوه، فلا بد أن يدركوا جواز حدوثه في أية لحظة.. وبناء على ذلك يستحيل ان يجازفوا بعميد منظمتهم فيتركوه عرضة للاعتقال. ولذلك أرجح ان يكون ( ن ) من رعايا البلاد المحايدة او انجليزيا صميما.. وينطبق نفس الشيء على ( م ) أما فون دينيم فقد يكون في حلقات السلسلة ومن الجائز الا يكون ( ن ) أو ( م ) في سان سوسي وربما يكون فون دينيم هو رسولهما هناك .. وعن طريقه نستطيع أن نصل اليهما وأظن أن هذا أقرب الفروض إلى الصواب..
- أعتقد أنكم تحريتم عن كل نزلاء سان سوسي..
- كلا .. فان هذا مستحيل .. رغم انه يمكنني بلا شك أن أطلب من الادارة القيام به.. ولكني لا أخاطر بذلك يا برسفورد.. خاصة وأنك تعلم أن الادارة نفسها موبوءة .. ولو ذكرت أي همسة عن سان سوسي فسيعلم بها الأعداء في الحال وهذا هو الذي دفعنا الى استخدمك لأنك غريب عن الادارة، فيجب عليك ان تعمل في الظلام دون انتظار مساعدة منا .. ومع ذلك فقد تحرينا عن واحد منهم ..
- ومن هو يا سيدي ؟
- انه كارل فون دينيم نفسه .. اني استطيع بكل بساطة أن أفعل به ما يروقني .. باعتباره من رعايا الأعداء ..
- وماذا كانت النتيجة .. ؟
- ان كل ما يقوله السيد كارل صحيح .. فقد ظهر أن أباه مات في أحد المعتقلات وان اخويه ما زالا سجينين، وماتت أمه في السنة الماضية بتأثير ارهاق عقلي عنيف وقد صرح الفتى حال وصوله برغبته في مساعدة هذه البلاد .. وقد ثبت أن عمله في معمل البحوث الكيميائية لا غبار عليه.. كما أنه استطاع أن يكشف وسائل مفيدة تقي البلاد من شر بعض أنواع الغازات السامة ..
- وعلى ذلك ترى أنه لاشك فيه ؟
- ليس ذلك ضروريا .. ان اصدقاءنا الالمان، اشتهروا بدقتهم في كل تصرفاتهم فان كان فون دينيم قد أرسل كعميل لهم فلا بد انهم قد اتخذوا الحيطة حتى يكون كل ما يعرف عنه مطابق لشخصيته.. وهناك احتمالان : الأول أن تكون عائلة فون دينيم قد اندمجت جميعها في الترتيبات .. والثاني أن يكون هذا الشخص رجلا آخر تقمص شخصية كارل فون دينيم ..
- ربما . ولو أنه في نظري شاب في غاية اللطف ..
- أجل .. انهم يظهرون كذلك دائما .. ولعمري .. ما أغرب عملنا هذا فنحن نحترم خصومنا وهو يحترموننا .. وقد جرت العادة أن تقدر خصمك وتعمل في نفس الوقت جاهدا على هدمه..
- ولكن هناك فئة لا نحترمها ولا نقدرها..
- نعم يا سيدي .. فئة الخونة الذين يقيمون بيننا .. أولئك الذين رضوا أن يبيعوا وطنهم، وواجبنا أن نستأصل شأفتهم ونبيذهم عن أخرهم على أن يتم ذلك بأسرع ما يمكن .. والا فاتنا القطار..
- لن يفوتنا القطار يا سيدي .. بكل تأكيد ..
- ماذا يدفعك الى هذا التأكيد ؟
- أنت يا سيدي .. فقد قلت ان واجبنا ان نستأصلهم بأسرع ما يكن .. فنظر اليه جرانت في اعجاب وتمتم قائلا :
- عظيم .. ولكن ما رأيك في سيدات سان سوسي؟ هل ترى فيهن من يشتبه في أمرها .. ؟
- اني أرى بعض الغرابة في سلوك صاحبة المكان ..
- مسز برينا ؟
- نعم .. أتعلم أي شيء عنها ؟
- سأحاول أن اتحرى عنها رغم ما في ذلك من مخاطرة ..
- نعم .. فهي الوحيدة بين النساء التي تحوم حولها شكوكي.. أما الباقيات .. فهناك أم شابة وعانس كثيرة الكلام .. وامرأة مخبولة وسواسة .. وهناك أيضا امرأة ايرلندية مخيفة المنظر .. وكلهن فيها أرى لا ضرر منهن ..
- وغير هؤلاء ؟
- هناك مسز بلنكنسوب التي وصلت منذ ثلاثة أيام فقط ..
- وماذا عنها ؟
- ان مسز بلنكنسوب .. هي .. زوجتي ..
- ماذا ...!؟
وصاح جرانت وهو يدور حول نفسه متفرسا في تومي بغضب شديد:
- امرأتك يا تومي .. لا تنبس بكلمة واحدة لزوجتك ..!
- نعم يا سيدي ، وقد فعلت .. ولكن اذا أعرتني سمعك قليلا..
وفي ايجاز روى تومي كل ما حدث دون أن يجرؤ على النظر إلى محدثه، ومرت فترى سكون بعد أن أتم القصة، وتبع ذلك ضحكات بل قهقهة المستر جرانت التي استمرت دقائق.. ثم قال :
- اني أحني هامتي لهذه السيدة.. انك لا تجد واحدة في الالف مثلها ..
- انها زوجتي يا سيدي .. و انا فخور بها ..
- سيضحك ايسامتون ملء شدقيه عندما يسمع هذه القصة، فقد تنبأ بها ، وحذرني من تهيئة فرصة لها للعمل تحت امرتي حتى لا تفوز علي.. ولكنني لم أهتم بما قال وكنت أنوي الاتصال بها قريبا لتكليفها لمهمة أخرى... ولكن هذا الحادث رغم انه في صالحنا فانه يرينا الى أي حد يجب أن نكون على حذر .. فقد ظنت يوم زرتك انني اتخذت كل احتياطاتي لأمنع أي مخلوق من الانصات إلى حديثنا.. وأقنعت نفسي أولا بأنك وزوجتك وحدكما في الشقة.. كما انني سمعت ذلك الصوت الحاد في التليفون فلم يساورني فيه أي شك، ورغم كل ذلك فقد خدعت بلعبة الباب المصفوق القديمة.. أجل انها سيدة بارعة..
وسكت لحظة ثم قال:
- بلغها عن لساني أني أعترف لها بالغلبة، وأني أعتبرها معنا في العمل.. ولعمري انها معنا سواء أردنا أم لم نرد.. فبلغها أن الادارة تتشرف باشتراكها معنا في هذه المهمة..
- سأبلغها ذلك يا سيدي..
- ولكن المسألة خطيرة إلى حد كبير فإذا حدث وكشفوا أمرك .. أو أمرها ..
- اني أفهم هذا جيدا يا سيدي.. ولكننا اعتدنا منذ زواجنا أن نشترك في كل شيء ..

:: الفصل الرابع ::
عندما دخلت توبنس غرفة الاستراحة في سان سوسي كانت مسز أوروك وحدها تتطلع من النافذة إلى الخارج فخيل لتوبنس انها أشبه الأشياء بتمثال بوذا الضخم.. فقطعت توبنس عليها تيار أحلامها وسألتها :
- هل تعتقدين أن مسز برينا أيرلندية ؟
- أجل.. ولست أشك في ذلك.. فإنني أعرف الناس بسيدات بلادي .. وإنني أستطيع تحديد المنطقة التي تنتمي اليها.. رغم انها تدعي في كل وقت انها انجليزية وان زوجها اسباني..

وانقطع الحديث عندما دخلت القاعة مسز سبروت يتبعها تومي فسارعت توبنس الى تمثيل دور الاهتمام به وقالت:
- مساء الخير يا مستر ميدوز.. يبدو عليك النشاط الليلة..
- يرجع السر في ذلك إلى الرياضة المتواصلة.. فقد لعبت شوط جولف في هذا الصباح وقمت بجولة طويلة بعد الظهر ..
وقالت مسز سبروت :
- أما أنا فقد صحبت الطفلة الى الشاطيء وكانت تود النزل في أحد القوارب ولكنني خفت عليها البرد فساعدتها في بناء بيوت من الرمال .. وأهملت التريكو..

وبعد لحظات وصل بقية النزلاء .. ثم دق ناقوس العشاء.. ودار الحديث بين الجميع على المائدة في موضوعات الحرب والجاسوسية والتموين.. وبعد العشاء خرجت توبنس وتبعها تومي وسارا قليلا فترة من الوقت استعرضا فيها شكوكهما بالنسبة لكل نزلاء سان سوسي .. ثم تركت تومي وفي طريقها الى الفيلا اشترت طوابع البريد ودخلت أحد أكشاك التليفون العامة وطلبت مستر فراداي وكانت هذه هي الوسيلة التي اتفق عليها تومي للاتصال بمستر جرانت وخرجت من كشك التليفون باسمة ثم اشترت بعض الصوف اللازم لأشغال التريكو ..
وفكرت وهي تسير في طريقها الى الفيلا في شخصية مسز بلنكنسوب التي تقمصتها شخصية السيدة التي لا تجيد التريكو .. ولكن تقضي أغلب وقتها فيه ، وفي كتابة الخطابات لأبنائها.. ثم فكرت أيضا في أنها كثيرا ما تتعمد ترك هذه الخطابات في غرفتها قبل الانتهاء منها.. ووصلت توبنس الى قمة التل المطل على سان سوسي.. وسارت في الطريق المؤدي إليها ذلك الطريق الذي ينتهي من الناحية الاخرى بمنزل الكوماندوز هايدوك المسنى استراحة المهربين وأخذت تتسلى بقراءة أسماء الفيلات حتى قاربت سان سوسي رأت منظرا أثار دهشتها..
كان هناك خيال امرأة واقفة الى جوار سور الفيلا الحديدي تتلصص بالنظر الى داخلها في شكل مريب.. وبدون وعي أخفت توبنس صوت خطواتها وسارت باحتراس خلفها تماما.. فاستدارت..
كانت امرأة طويلة القامة متوسطة السن، ترتدي ثيابا حقيرة وكان هناك تباين واضح بين جمال وجهها وحقارة ملابسها، وأحسن توبنس لأول وهلة ان هذا الوجه ليس غريبا عليها ولكن هذا الاحساس سرعان ما اختفى عندما أجفلت المرأة وظهرت على وجهها علامات الذعر والفزع .. فسألتها توبنس في هدوء:
- لا تؤاخذيني .. هل تبحثين عن شخص ما .. ؟
وأجابت المرأة ببطء وبلهجة أجنبية .. وكانت تنطق الكلمات كما لو كانت قطعة محفوظات:
- هذا المنزل يدعى سان سوسي؟
- نعم .. وأنا من ساكناته.. هل تطلبين أحدا منهم ؟
- أتسمحين ؟ هل هناك من يدى المستر روزنستاين ؟
- مستر روزنستاين؟ لا .. أخشى الا يكون هذا الاسم هنا .. وربما كان .. فإذا أردت بحثنا لك عنه في سجلات الفيلا .. أو نسأل صاحبتها..
- لا .. لا ضرورة... فقد اخطأت .. لا تؤاخذيني من فضلك..

وأسرعت فاستدارت وانحدرت مع التل..
والتفتت توبنس تتطلع خلفها وقد ثارت شكوكها فان هناك تباينا عظيما بين كلمات تلك المرأة ومظهرها.. واسم روزنستاين هذا .. لقد اخترعته في الحال.. ثم بدأت تهبط التل خلف تلك الغريبة.. ولكنها ما كادت تخطو عدة خطوات حتى توقفت وفكرت في انها لو سارت خلفها فإنها ستجذب الأنظار إلى نفسها فربما كان هناك من رآها وهي على أهبة الدخول إلى سان سوسي.. فإذا رؤيت بعد ذلك مباشرة وهي تتبع هذه المرأة فإنها ستثير الشكوك نحوها.. وبخاصة اذا كانت تلك الغريبة من عصبة الأعداء.. فصممت على أن تعود بالتالي الى سان سوسي وعندما دخلت الى الردهة الخارجية لم تر أحدا. وسمعت بعد لحظة صوتا ليس غريبا عليها فانه أحد الأصوات التي تعرفها جيدا..
كان التليفون في فيلا سان سوسي موضوعا في الردهة الخارجية ولم يكن هناك من يتكل فيه.. ولكنها سمعت صوتا هو صوت وضع السماعة أو رفعها عن آلة فرعية في مكان ما.. وكانت توبنس تعلم تماما أن آلة فرعية واحدة في المكان، وأنها في غرفة مسز برينا.. ولو كان تومي في هذا الموقف لما جرؤ وما أقدم على ما فعلت توبنس ولكنها لم تتردد فقد سارت في خفة إلى موضع التليفون ورفعت السماعة بهدوء، واستمعت الى ما يدور من حديث.. كان هناك من يتكلم انه صوت رجل وكان يقول:
- كل شيء يسير على ما يرام.. اذن في الرابع .. كما هو المتفق عليه ؟
وأجاب صوت نسائي:
- نعم ، لنواصل العمل..
ووضعت السماعة ..
وقفت توبنس تفكر لحظة... هل يكون ذلك صوت مسز برينا ؟ من الصعب التأكد من ذلك.. وتمنت لو استمر الحديث فترة أطول.. ولكن .. أليس من الممكن أن يكون حديثا عاديا لا قيمة له؟
ولاح خيال على أحد الأبواب فأسرعت توبنس ووضعت السماعة مكانها، وعندئذ سمعت صوت مسز برينا تقول :
- ما أجمل الجو الان .. هل أنت خارجة يا مسز بلنكنسوب أم قادمة ؟
وأجابت توبنس بأنها قضت الوقت في الخارج وأنها في طريقها إلى غرفتها.. واستنتجت توبنس أن التي تحدثت في التليفون لم تكن مسز برينا فان المسافة من غرفتها الى الردهة لا يمكن أن تقطع في تلك اللحظات القصار بعد ختام الحديث التليفوني وظهورها في الردهة ..
وخيل لتوبنس أن مسز برينا تتحرك خلفها ببطء فالتفتت ورأت مسز أوروك في أعلى الدرج تسد عليها الطريق بجسمها الضخم .. وفي تلك اللحظة الحرجة، مرقت من خلف مسز أوروك بتي الصغيرة وكانت تصيح..
وتعلقت بتي بتوبنس فأكملت صعود الدرج وقابلت مسز سبروت على باب غرفتها وكانت قد بدأت تعنف الطفلة فدخلت توبنس غرفة مسز سبروت ورأت ملابس الطفلة منتثرة هنا وهناك مختلطة بلعبها وكتبها، كما لاحظت صورة لمستر سبروت موضوعة فوق صيوان الملابس .. وكان كل ما في الغرفة على حال من الفوضى لا حد له ، وأدركت توبنس الأسباب التي تدعو مسز سبروت إلى العزوف عن استقبال أحد في غرفتها.. انها هذه الفوضى الدائمة بلا شك.. حقا ان كل ما في سان سوسي يبدو طبيعيا.. ولابد أنها أعصاب توبنس المرهقة التي تصورت لها ما صورت.. ولكن .. ان شخصا ما كان يتكلم في التليفون .. من غرفة نوم مسز برينا بالتأكيد .. ويتحدث الرابع .. هل كانت مسز أوروك ؟ .. ان ذلك يبدو مستبعدا..
قد لا تعني هذه الكلمات شيئا.. وقد تعني أشياء خطيرة ..
الرابع.. هل هو تاريخ .. الرابع من الشهر مثلا.. أو . أي شيء .. ان تحقيق ذلك مستحيل .. ولعل المسألة لا تعدو أن تكون أمر عاديا جدا.. كأن تكون مسز برينا قد سمحت لمسز أوروك باستعمال التليفون الموجود في غرفة نومها في أي لحظة تشاء ..

:: الفصل الخامس ::


ظهر أن الكوماندوز هايدوك مضيف من الطراز الاول .. فقد قابل المستر ميدوز والماجور بلتشلي بحماسة وصمم أن يطوف بالأول كل أرجاء منزله الصغير المسمى استراحة المهربين ولم تكن هذه الاستراحة في أول أمرها سوى كوخين من أكواخ حراس الشواطئ يقعان على قمة تشرف على الشاطئ اشتراهما أحد رجال الأعمال وربط بينهما وحاول أن يزرع حديقة في الأرض المحيطة بأحدهما اذ أن الجهة الأخرى كانت هوة لا يخاطر بالاقتراب منها الا المخاطرون من الشباب ..

وكان رجل الاعمال هذا لا يزور تلك الناحية الا في شهر الصيف ثم يتركها فتبقى بلا ساكن عدة سنوات وكانت تؤجر في شهور الصيف فقط ..
وقال هايدوك يكمل قصة منزله:
- ثم اشتراها رجل يدعى هاهن وكان ألمانيا وإذا سألتني عن صناعته فلن أجد لها وصفا سوى أنه كان جاسوسا لا أقل ولا أكثر ..
- جاسوس .. انها لقصة مثيرة..
- نعم .. وهم قوم بعيدو النظر.. خذ مثلا موقع هذا المكان .. انه أحسن مكان مناسب لإرسال الاشارات عبر البحر .. ولديك مرفأ تستطيع أن تخفي فيه قاربك البخاري.. لو أردت .. وقد صرف هاهن على المكان كله مبالغ طائلة.. فقد أنشأ سلما حجريا ضخما يصل المكان بالشاطئ.. والغريب في الأمر أن جميع الانشاءات التي أجراها والتحسينات التي تمت في البناية نفسها لم يقم بها أي مواطن.. فقد كان جميع العمال من الأجانب..
! أمر غريب ولا شك..
- وكنت أقيم في هذه المنطقة حينذاك وقد أثار اهتمامي ما كان يفعله الرجل فكنت أخر من منزلي وآتي الى هنا أرقب العمال الالمان.. ولما تحققت من غرابة الاعمال التي يقومون بها اتصلت برجال البوليس وأوضحت لهم شكوكي ولكنهم لم يعيروا قولي أي التفات.. فان الحرب مع ألمانيا كانت أمرا بعيدا عن تصورهم .. وقد اعتبروني حينئذ من الرجعيين أو مجنوني الحرب.. ولكنني كنت أعلم.. أعلم أن أصدقاءنا الألمان قوم شديدو الصبر. يعدون العدة لأي أمر من الامور في تؤدة وعلى مهل .. ولم تعجبني اطلاقا أحوال ذلك الرجل هاهن فأخذت أتحدث عن شكوكي لكل معارفي .. وأخيرا تركت أحاديثي بعض الأثر، وتعرفت الى أحد رجال البوليس وأقنعته بشكوكي فلم يجد غضاضة في مراقبة هاهن ويظهر أن هذا أحس بالمراقبة، فاختفى نهائيا، فصدر الأمر لرجال البوليس بتفتيش المكان فوجدوا لاسلكيا، أخفي بمهارة في حائط حجرة الطعام .. كما وجدوا أوراقا ذات أهمية عظمى وخزانا ضخما للبترول تحت الجراج.. وغير ذلك.. وفي النهاية عرض المنزل للبيع، فاشتريته.. واني أود أن ترى ما فيه .. هيا يا ميدوز..
- أشكرك .. اني أود أن أراه..

وقام الرجلان وقد أظهر هايدوك حماسة الطفولة وهو يري ضيفه مكان جهاز اللاسلكي المدفون في حائط حجرة الطعام .. وكذلك مخزن البنزين تحت الجراج ثم الحمامين الجميلين و أدواتهما الغريبة ووسائل الانارة المختلفة.. وبعد ذلك رأى الطريق الحجري المدرج الموصل إلى شاطئ البحر.. وعاد هايدوك يحدث ضيفه من جديد عن قيمة المكان كله من الوجهة الحربية .. ولم يدر الماجور بلتشلي مع الرجلين دورتهما هذه، ولكنه مكث حيث كان في الشرفة، يجرع كئوس الشراب وقد أدرك تومي أن الماجور لم يترك واحدا من أصدقائه دوم أن يحدثه عن الجاسوس الذي اكتشفه.. وبعد فترة قام بلتشلي وصحب تومي الى سان سوسي .. وقال الماجور وهما في الطريق :
- ان هايدوك هذا رجل طيب .. ومع ذلك فانه لا يترك الامور تمر ببساطة، فقد سمعنا منه قصة الجاسوسية هذه مئات المرات.

ثم راح بلتشلي نفسه يقص على تومي احدى مخاطراته الخاصة ولم يكن تومي على استعداد لتتبع تفاصيل هذه القصة اذ كان قد سرح بأفكاره الخاصة ..

وكان تومي قد آمن حينئذ أن المرحوم فاركوهار الذي حل هو محله.. كان يسير في الطريق الصحيح عندما ذكر سان سوسي قبل وفاته.. كما تأكد بعد ان رأى ما رآه في استراحة المهربين وتلك الاستعدادات التي أعدها هاهن الاماني ان تلك المنطقة من المناطق التي يهتم بها العدو منذ عهد بعيد.. وان نشاط هاهن لم يكتشف الا بطريق الصدفة ونتيجة لمجهودات الكوماندوز المتواصلة..
وتذكر تومي قصة مسز برينا ان زوجها كما تقول اشترى سان سوسي منذ اربعه اعوام تقريبا.. فهل هذه هي الحلقة الثانية؟ ان كل شيء جائز ومحتمل.. و فكر في ذلك السكون والهدوء السطحي الذي يمتاز به سان سوسي.. انه سكون ظاهري يخفي وراءه كثيرا، وميز برينا في نظره هي البؤرة التي تتجمع فيها كل الاشاعات فيجب مراقبتها.. و اذا كانت مسز برينا هي السيدة التي يرمز اليها بالحرف ( م ) فإنها تكون زعيمة أعمال الجاسوسية والطابور الخامس في هذا البلد.. ولابد أن شخصيتها ليست معروفة الا لرؤسائها .. ولكن .. لا بد أنها تتصل بالطبقة التي تليها في الاهمية وعلى تومي و توبنس ان يكتشفا هذه الطبقة.. ثم ان الانتفاع باستراحة المهربين ليس بالأمر المستحيل .. ففي الوقت المناسب يستطيع اسياد سان سوسي ان يجعلوه تحت تصرفهم.. لكن اللحظة المناسبة لم تأت..

كتبت توبنس خطابا لابنتها ديبورا وآخر لديريك ولدها وخرجت بنفسها لتودعهما صندوق البريد وفي عودتها مرت بقمة التل المجاورة لسان سوسي فاسترعى انتباهها شبحان وقفا يتبادلان الحديث فتسمرت توبنس في مكانها لما تبينت أن هذين الشبحين هو المرأة الغريبة التي رأتها بالأمس.. وأن الشبح الآخر هو كارل فون دينيم..
وضايق توبنس عدم وجود مكان تستطيع الاختفاء فيه، كما لم يكن في استطاعتها الاقتراب منهما لتسمع ما يدور بينهما من حديث دون ان يرياها.. وفوق ذلك فقد أدار الشاب الاماني رأسه في تلك اللحظة ورآها.. فهمس بكلمات قلائل للمرأة الغريبة فافترقا.. وانحدرت المرأة مع التل بسرعة عابرة الطريق الرئيسي مارة بتوبنس التي كانت في الناحية الاخرى..
أما كارل فون دينيم فقد انتظر حيث كان الى ان وصلت توبنس فألقى إليها التحية بلهجة تنم عن الاسى,, فقالت توبنس على الفور:
- ما أشد غرابة مظهر هذه السيدة التي كنت تتحدث اليها يا مستر دينيم..
- نعم انها من اواسط اوروبا . انها بولندية ..
- أحقا.. أهي صديقة لك ؟
- أبدا .. فأنا لم أرها قبل هذه اللحظة..
- لقد ظننت ..
- كانت تسألني عن الطريق .. وكان حديثنا بالألمانية.. لأنها لا تكاد تفهم الانجليزية ..
- كانت تسألك عن الطريق؟
- وسألتني ما اذا كنت أعرف مسز جودليب فأجبتها بالنفي .. فقالت انها ربما أخطأت العنوان..

ورمقت توبنس كارل وهو يسير إلى جوارها .. وفكرت في هذه المرأة.. التي تسأل ساعة عن مستر روزنستاين .. وساعة أخرى عن مسز جودليب .. وأحست بشكوك لا نهاية لها.. وخيل اليها أن الحديث بين كارل وتلك المرأة لا بد قد استغرق وقتا طويلا.. واستعادت ذاكرتها حديث كارل وشيلا.. لما قالت له " يجب أن تكون على حذر " .. وشارت توبنس الى غرفة نومها وهي تفكر في كارل وشيلا ومسز برينا صاحبة الفيلا..

وقبل أن تذهب الى فراشها، اتجهت الى مكتبها الصغير وفتحت أحد الأدراج وكان به صندوق صغير.. فلبست قفازها وفتحت الصندوق.. ان به مجموعة من الخطابات وفوقها جميعا ذلك الخطاب الذي تسلمته في الصباح من ابنها المزعوم "رايموند " ففتحته توبنس باحتياط ثم ضمت شفتيها قطبت وجهها.. ان الرمش الصغير الذي كان بين طيات الخطاب قد اختفى فذهبت بالخطاب الى منضدة الزينة واستعانت بأحد المساحيق الغامقة التي تستعملها في تظليل جفونها فرشته على الخطاب ثم نفضته.. فلم يظهر أي أثر لبصمات الأصابع.. فهزت توبنس رأسها في تأكيد .. كان لابد من وجود بصمات.. بصمات توبنس نفسها على الأقل .. وقالت لنفسها.. يجوز أن يقرأ أحد الخدم خطاباتها بدافع حب الاستطلاع مثلا.. ولو أن ذلك مستبعد.. ولكن الخادم لا يفكر مطلقا في ازالة آثار بصمات الاصابع .. هل هي مسز برينا ؟ أم شيلا ؟ أم شخص آخر؟ انه على كل خال شخص يهم بحركات القوات البريطانية..
وبدأت تفكر في الاحتمالات المختلفة.. وفي وجوب اجراء تجربة لمعرفة الشخص أو الاشخاص الذي يهتمون بحركات هذه القوات..
وقضت توبنس الصباح التالي في فراشها.. حتى دخلت بتي إليها.. وكانت توبنس تحب الطفلة وصعدت الطفلة على الفراش الى جوار توبنس وألقت إليها بكتاب من كتب الأطفال عنوانه أحلام ساندريلا وأخذت توبنس تمازح الطفلة وتداعبها وتروي لها بعض طرائف الكتاب ..
وفجأة اندفعت مسز سبروت الى الحجرة وهي تقول:
- هاهي العزيزة بحثت عنك في كل مكان أيتها الشيطانة الصغيرة .. كم أنا آسفة يا مسز بلنكنسوب ..
كانت بتي قد حلت أربطة الحذاء وبللتها جميعا في كوب اللبن وأخذت تعبث بها وجلست توبنس في فراشها تضحك ثم قالت تقاطع مسز سبروت التي انهالت اهتذاراتها:
- لا داعي لكل هذا يا مسز سبروت فالأربطة يمكن تجفيفها وأنا التي اخطأت اذ لم ألاحظ ما تفعل..
- اذا سمحت.. سآتي لك بأربطة أخرى ..
- لا لا .. أشكرك .. فلدي غيرها.. كما أن هذه ستجف بلا شك ..
وسحبت مسز سبروت الطفلة من يدها .. وقامت توبنس من الفراش لتنفذ ما عزمت عليه ..

:: الفصل السادس ::
نظر تومي بعجب الى الحزمة التي ألقت بها توبنس إليه وسأل :
- هل هي هذه ؟
- نعم..
وتشمم رائحة الحزمة الغريبة فقالت توبنس :
- ابعدها عن ملابسك بقدر ما تستطيع.. والا فلن تقترب منك أية فتاة..

وتوالت الحوادث بعد ذلك فقد ظهرت رائحة غريبة في حجرة مستر ميدوز .. وكان معروفا بين نزلاء سان سوسي أنه رجل قانع قليل الشكوى.. ومع ذلك فانه تحدث عن تلك الرائحة لمسز برينا التي استغربتها ، ثم قالت:
- ربما هناك ثقب في احدى أنابيب الغاز..
وتتبع مستر ميدوز أنابيب الغاز في غرفته دون جدوى وقال:
- لابد ان يكون هناك فأر ميت في الغرفة..
ولكن مسز برينا شكت في الامر.. فان فأرا واحدا لم يسبق له ان دخل سان سوسي .. وتناقش الرجل طويلا مع صاحبة المنزل.. وأخيرا قال:
- انني لا أستطيع أن أبيت ليلة أخرى في هذه الغرفة..
- لك الحق في ذلك.. ولكن يؤسفني جدا أنه لم يبق في المنزل كله غرفة لائقة، فان الغرفة الوحيدة الخالية قد لا تروقك فهي لا تطل على البحر .. ولكن اذا وافقت على الانتقال اليها مؤقتا فتفضل..
ولم يكن لدى مستر ميدوز أي مانع فقبل الانتقال لان غرضه هو الابتعاد بقدر الامكان عن هذه الرائحة الكريهة.. وقادته مسز برينا الى غرفة تصادف انها تقابل غرفة مسز بلنكنسوب ..
أما الحادث الثاني فان مستر ميدوز المسكين أصيب بأعراض الانفلونزا في تلك الليلة ..
وأخذ يعطس ويغير مناديله طول الوقت.. ولم ير أحد طبعا شرائح البصل فيرع اذ كان قد عطر جميع المناديل بماء الكولونيا الذي يستعمله في حلاقة ذقته.. وأخيرا اضطر مستر ميدوز المسكين.. أن يعتكف في غرفته تحت وطأة هذه الانفلونزا الحادة..

وفي الصباح وصل مسز بلنكنسوب خطاب من ولدها دوجلاس.. وقد هلل عندما تسلمت هذا الخطاب الى خد أن علم به كل من كان في سان سوسي.. وكانت قد أشاعت ان هذا الخطاب لم يمر مطلقا على الرقيب فقد سلمه اليها أحد اصدقاء ولدها.. وهكذا استطاع دوجلاس العزيز ان يكتب لها بحرية.. واستطاعت هي بدورها ان تعرف من الحقائق ما لن تصرح به ولن تذيعه.. ان كل ما يقال ويشاع ليس شيئا الى جانب ما عرفت..

وبعد أن تناولت كعام الافطار، صعدت الى غرفتها.. ثم فتحت صندوق الخطابات وأدعته خطاب دوجلاس بعدها رشت عليه قليلا من مسحوق الأرز .. وضغطت عليه بأصابعها .. وخرجت من غرفتها وهي ( تسعل ) .. فسمعت من الغرفة المقابلة سعالا آخر ..

ثم أذاعت في سان سوسي أنها ذاهبة الى محاميها في لندن وأنها ستشتري بعض الحاجات من العاصمة.. فكلفها بعض النزلاء بشراء أشياء لا يجدونها في حوانيت ليهامتن..

وبينما هي خارجة من باب الحديقة قابلت كارل فون دينيم .. واقفا وقد عقد يديه فوق صدره.. وأطرق مفكرا.. ولما رآها انحنى محييا في وجوم وأدب .. فسألته :
- ماذا بك اليوم ؟ هل هناك من مشكلة ؟
- مشاكل كثيرة.. ان مثلي كمثل من يمسك بالنار ولا يريد أن يحترق.. اني لا استطيع الاستمرار على هذه الحال.. والوسيلة الوحيدة .. هي ان انتهي من كل شيء..
- ماذا تعني؟
- انك تفهمين ما أعني.. لقد أظهرت حنانك لي .. وتعلمين أنني هربت من بلادي لانعدام العدالة فيها.. وللقسوة التي يعامل بها الاحرار هناك.. وق اتيت الى هذه البلاد لأجد الحرية .. وحقا اني أكره ألمانيا النازية ولكن .. لا استطيع ابدا ان اتجرد من ألمانيتي .. انني ألماني .. ألماني ..
- يظهر أن هناك متاعب من هذه الناحية .. ؟
- انها متاعب نفسية .. فعندما أسمع عن طائراتكم تضرب مدننا.. وعن الجنود الألمان الذي يقتلون.. وعن الطائرات الألمانية التي تحترق والمصانع التي تدمر .. وهي مصانع أهلي وعشيرتي .. وعندما أسمع ذلك الماجور .. آكل النار .. يقول وهو يقرأ صحيفته .. هؤلاء الملاعين هؤلاء الخنازير .. يصل بي الغضب إلى حد لا أستطيع احتماله .. وعلى هذا ترين أنني أفكر جديا في الانتهاء من كل شيء..
- هذا كلام لا معنى له.. أنا معك من ناحية .. فاحساساتك ملكك افعل بها ما تشاء .. ولكن يجب ان تقاوم .. فلا حيلة لك في تغيير الأوضاع ..
- كم أود أن أعتقل على الأقل.. ان هذا ليريحني كثيرا ..
- ربما .. ولكنك فيما علمت . تقوم بعمل له أهميته .. وهو ليس عملا نافعا لبريطانيا وحدها .. ولكنه نافع للانسانية كلها ..
- نعم .. وأظنني وفقت الى بعض الاكتشافات ..
- هذا جميل مادمت تعمل لخير الانسانية.. أما من ناحية الشتائم التي تسمعها فنحن معذورون في ذلك.. ولا تنس انهم يفعلون نفس الشيء في ألمانيا..
وتناول كارل يدها وقبلها .. ثم قال :
- اني أشكرك .. ان كل ما تقولين حق .. ولا بد لي من الاستعانة بالصبر والجلد..

وسارت توبنس الى المحطة وهي تفكر .. ان اقرب نزلاء سان سوسي الى قلبها هو هذا الشاب.. ولكنه ألماني بكل أسف .. ورغم انها لم تكن راغبة في الذهاب الى لندن الا انها رأت وجوب ذلك .. فقد اذاعت الخبر .. وقد يحدث بالصدفة اذا لم تذهب ان يراها أحد في أي مكان آخر ، فيشاع ذلك فورا في سان سوسي..
فيجب أن تذهب .. وما ان غادرت شباك التذاكر حتى قابلتها شيلا برينا ..
- هالو .. الى اين انت ذاهبة ؟ لقد حضرت لأتسلم طردا,,
- الى لندن..
- اه .. نعم .. نعم سمعتك تذكرين ذلك .. سأتسلم الطرد وآتي لمرافقتك الى القطار..

وذهبت الفتاة ثم عادت لتبقى مع توبنس حتى تحرك القطار .. فجلست توبنس على مقعدها تفكر .. هل كان ذلك مصادفة ! أم أن مسز برينا أرسلت ابنتها خصيصا للتأكد من سفر مسز بلنكنسوب ؟ وأن الامر ليبدو كذلك ..
ولم تستطع توبنس الاختلاء بتومي .. حتى كان صباح اليوم التالي .. وكانا قد اتفقا على الا يتقابلا في سان سوسي . فخرج مستر ميدوز بعد أن خفت عنه وطأة الزكام يتمشى الى جوار الشاطئ ثم جلس على أحد المقاعد الحجرية المنتثرة .. وهناك رأته مسز بلنكنسوب مصادفة .. وقالت بعد أن تأكدت الا رقيب هناك :
- ماذا وراءك ؟
- لقد قضيت يوما من أصعب الأيام اذ كاد عنقي يكسر من طول المراقبة.. ولكني عرفت أشياء لا بأس بها على كل حال ..
- لا بأس على عنقك .. حدثني ما عرفت ..
- دخل الخدم طبعا ليرتبوا غرفتك كما هي العادة.. ودخلت مسز برينا لتعنف الخادمة وتتعجلها في عملها .. كما دخلت بتي..
- ثم من ؟
- ثم شخص آخر ..
- من ؟
- كارل فون دينيم
- كارل أوه .. متى ؟
- في وقت الغذاء .. رأيته يسير متلصصا في الشرفة ثم سار الى غرفتك ، ومكث هناك حوالي رقع ساعة ثم خرج ..
- آه ..
- ان هذا يكفي فيما أظن ..

وأطرقت توبنس .. نعم ان هذا يكفي .. وتذكرت حديثها مع الشاب .. انه ممثل بارع ولا شك ، وكان على حق فيما قال.. انه رجل وطني .. يخدم دولته .. وقد يقدره الانسان لهذا السبب .. ولكنه يحطمه أيضا .. ووجدت توبنس نفسها تقول :
- كم يؤسفني ذلك !
- وأنا أيضا .. انه شاب طيب .. ولكن ..
- ان هذا هو ما نقوم به بالضبط لو كنا في ألمانيا,, ومهما كان الامر فقد عرفنا على الاقل طرف الخيط .. ان كارل يعمل بالاشتراك مع شيلا وأمها.. وربما تكون مسز برينا هي المرجع الاول.. ثم هناك تلك السيدة الغريبة التي كانت تحادث كارل..
- ماذا نفعل الان ؟
- يجب ان نزور غرفة مسز برينا فربما وجدنا بها ما يهمنا .. كما يجب ان نتعقبها لنعرف أين تذهب ومن تقابل .. تومي .. هيا نستدعي "ألبرت" ليساعدنا ..
- آه .. ألبرت .. انها فكرة .. وسأرى اذا كان ذلك ممكنا ,

كان ألبرت يعمل منذ سنوات في أحد الفنادق .. ثم انضم الى ادارة الامن العام ، ثم عمل تحت امرة آل برسفورد طوال السنوات الماضية ، ولما اعتزلوا العمل تركه هو الاخر وافتتح حانة صغيرة في جنوب لندن ..
وقالت توبنس :
- ان ألبرت سيدهش عندما نستدعيه .. دعه يستأجر غرفة في فندق المحطة .. ومن هناك يستطيع أن يقتفي أثر من نريد..
- هذا جميل.. خاصة لأنني ارى استحالة امكاننا مراقبة من نشتبه فيهم من سكان سان سوسي .. أما ألبرت فان أحدا لا يعرفه .. ثم يجب أن نبذل جهدا كبيرا لكشف القناع عن نشاط تلك المرأة البولندية التي تقولين انها كانت تحادث كارل.. اذ يخيل لي انها حلقة الاتصال بين كارل والجانب الاخر من العصابة..
- طبعا .. طبعا .. فهي اما ان تأتي الى هنا لتبلغ الاوامر او لتتسلم رسائل وتقارير .. وأرجو أن نوفق الى اقتفاء اثرها عند رؤيتها ثانية ..
- ثم لا تنسي ان علينا زيارة غرفة مسز برينا والسيد كارل..
- لا أظن أننا سنجد شيئا هاما في غرفة كارل.. ولا تنس انه ألماني.. والمفروض أنه معرض في أية لحظة لمهاجمة رجال البوليس ، والمعقول انه لا يحتفظ لديه بأي شيء يثير الشكوك .. أما دخول غرفة مسز برينا.. فهو من الصعوبة بمكان.. خاصة وأن ابنتها تحتل الغرفة في حالة غياب أمها .. ثم لا تنس أن بتي وأمها تنتقلان طوال النهار في كل مكان من الفيلا.. وكذلك مسز أوروك التي تقضي معظم وقتها في غرفتها وبابها مفتوح على مصراعيه ..
- أظن أن وقت الغذاء هو أنسب الأوقات ..
- كما استغله السيد كارل؟
- نعم .. واستطيع مثلا ادعاء اصابتي بصداع فجائي ثم اذهب الى غرفتي .. ولكن لا .. اذا ربما يتطوع بعضهم لمرافقتي وتمريضي .. اذم يحسن ان انسحب الى غرفتي في هدوء قبيل موعد تناول الغذاء دون أن اكلم احدا.. وإذا سئلت بعد ذلك أقول انه الصداع الذي احتجزني ؟
- من الأصوب أن أقوم أنا بهذه المأمورية، فمن السهل علي أن أدعي البحث عن قرص اسبرين اذا رآني أحد.. أما وجود سيد محترم يعبث في غرفة مسز برينا فانه أمر يدعوا الى الاشتباه..
- تعنين انه يؤدي الى فضيحة .. وهو كذلك .. انما يحب الاسراع فكما علمت اليوم .. يظهر ان هناك انباء سيئة ..

ثم تركها تومي وسار حتى مكتب البريد ومنه اتصل تليفونيا بمستر جرانت وقال له ان العملية الاخيرة تمت بنجاح وان ( ك ) غارق فيها الى اذنيه.. وبعد ذلك كتب تومي الى ألبرت ثم اشترى احدى المجلات وعاد الى سان سوسي..

وبينها هو في طريقة الى الفيلا سمع صوت الكوماندوز هايدوك المرح يناديه من سيارته الصغيرة ويعرض عليه ان يوصله الى حيث يريد.
فصعد تومي الى السيارة شاكرا.. وقال هايدوك:
- سمعت انك اصبت بنزلة برد؟
- كانت مجرد انفلونزا عارضة.. وهي تصيبني في مثل هذا الوقت من كل عام..
- ولكنك أحسن حالا.. هل لك في لعب الغولف؟
- طبعا .
- اذن موعدنا غدا في الساعة السادسة .. اذ اني ذاهب في الصباح لحضور اجتماع مقاومة من يهبطون بالبراشوت.. انه واجبي كما تعلم..
- وهو كذلك.. وشكرا..

وكانا قد وصلا الى ابواب سان سوسي.. فسأله هايدوك:
- ميدوز .. كيف حال شيلا الجميلة ؟
- بخير على ما أظن.. فاني لا أراها كثيرا..
- ها .. ها .. لا تراها كثيرا؟ .. انها فتاة جميلة .. ولكنها نفور.. وأظنها تقابل ذلك الفتى الاماني كثيرا .. ضاعت الوطنية.. ثم لم يبق لها حاجة بالمسنين أمثالي وأمثالك .. ومع ذلك فهناك شباب من رجالنا على كثير من الرشاقة .. يقبلون على الترفيه عنها.. ولكني لست أدري لم تترامى بين أحضان هذا الألماني الفظ..
- على رسلك.. انه قادم ..
- ليس يهمني في كثير أو قليل أن يسمع ما اقول.. وكم اود ان ألهب ظهر السيد كارل بالسياط فان أقل ألماني يدافع الآن عن بلاده ولا يتسكع هنا رعبا من القتال..
وهكذا اتضحت وطنية الكوماندوز هايدوك وهو يدور بسيارته الى استراحة المهربين..
أما توبنس فقد وصلت الى ابواب سان سوسي الخارجية في الساعة الثانية الا عشرين دقيقة وسارت في ممرات الحديقة حتى وصلت الى باب حجرة الانتظار ووقفت لحظة حتى مرت الخادمة عبر الممر .. ثم سارعت فصعدت الدرج بعد ان خلعت حذاءها ولبست خفا وسارت فورا الى حجرة مسز برينا.. وهناك اعتراها ضيق شديد .. فهذه العملية التي تقوم بها ليست محببة الى النفس.. ولكنها عادت فتذكرت انها الحرب.. وسارت قدنا الى منضدة التواليت، وفي سرعة عالجت فتح الادراج الا واحدا وجدته مغلقا ,, لعله هذا .. وكان نعها بضع ادوات استعارتها من تومي لإنهاء هذه المهمة .. وفتح الدرج ..
ووجدت فيه نحو عشرين جنيها ورقا، وبضع نقود فضة وحقيبة بها مجوهرات وحزمة اوراق.. فبدأت تفحصها واحدة واحدة في عجلة .. فليست لديها فرصة للتامين الطويل.. رأت عقد شراء سان سوسي .. فواتير .. حسابات البنك كمية من الخطابات .. ومر الوقت سريعا .. قرأت خطابيين من صديق في ايطاليا .. ليس فيهما شيء .. وخطابا من سيمون مورتيمر في لندن .. وغيره وغيره .. ثم خطابا من .. " بات " قرأت فيه : هذا آخر خطاب اكتبه لك يا عزيزتي ايلين ,, ولم تستطع توبنس متابعة القراءة فأعادت الخطاب كما كان بعد ان طوته في عجلة وردته الى مكانه من الدرج.. وفتح الباب .. ودخلت مسز برينا متجهة الى رف عليه بضع زجاجات..
ودارت توبتس وواجهت صاحبة الغرفة :
- أوه.. مسز برينا .. أرجو ألا تؤاخذيني لقد دخلت حجرتك تحت تأثير صداع عنيف.. لأبحث عن قرص من الاسبرين .. فقد ضاعت انبوبتي .. وكنت متأكدة أن لديك من هذا النوع.. فقد سمعتك تقولين ذلك لمس منتون ..
وشملت مسز برينا الغرفة بنظراتها ثم قالت في حدة:
- طبعا .. لدي منه كثير .. ولكن على أي حال .. لماذا لم تأتي إلي وتطلبي مني؟
- كان ذلك واجبا.. ولكني أعلم أنكم تتناولون طعام الغذاء ,, ولم أر من المناسب أزعجكم ..

فمرت مسز برينا أمام توبنس واتجهت الى أحد الرفوف وتناولت زجاجة الأسبرين وقالت :
- كم تريدين ؟
وأجابت مسز بلنكنسوب يكفيني ثلاث ..
وسارت فورا نحو حجرتها وطلبت من الخادمة بضع زجاجات من الماء الساخن..
وقالت مسز برينا :
- أذكر أن لديك كمية كبيرة من الأسبرين ,, في منضدة الزينة ..
- لست أدري أين وضعت الأنبوبة .. فقد بحثت عنها ولم أجدها ..
- آه .. اذن اذهبي واستريحي حتى موعد تناول الشاي..

وعادت توبنس الى غرفتها واستلقت على سريرها متوقعه دخول مسز برينا بين لحظة وأخرى رغم أن توبنس حسبت حساب الدرج الذي فتحته ولم تجد فرصة لإعادة غلقه .. كما أن الاوراق لم تنظم كما كانت ,, وأخذت توبنس تطمئن نفسها ,, لو شكت مسز برينا في اضطراب حاجاتها فستشك في الخدم لا في مسز بلنكنسوب المحترمة .. وحتى اذا شكت فيها فستعتقد انها ما عبثت في الغرفة الا تحت تأثير حب الاستطلاع المجرد عن الغرض .. ولكن .. اذا كانت مسز برينا هي تلك الجاسوسة التي يرمزون لها بحرف ( م ) فلا بد أنها سترى في مسز بلنكنسوب انها لم تذكر لمخلوق المكان الذي تحتفظ فيه بخطاباتها الخاصة .. اذن .. لابد أن هناك من يعبث بغرفتها .. ودقة بدقة ..!

:: الفصل السابع ::
سافرت مسز سبروت في اليوم التالي الى لندن وتركت بتي في عناية سكان سان سوسي بعد ان نبهت على الطفلة بعدم ازعاج اهل الدار, وتعلقت بتي بتوبنس لتلاعبها.. ومنعت الامطار الشديدة خروجهما للنزهة، فلجـأتا الى حجرة نوم الفتاة واتجهت بتي الى حيث تحتفظ بلعبها فسألتها توبنس أي هذه اللعب تفضل فقالت بتي:
- احكي لي حكاية..
فجذبت توبنس ونظرت الى عنوان الكتاب ثم سألت بتي..
- هل تعجبك أحلام ساندريلا ؟
- كلا .. انه قذر ..
وتناولت بتي الكتاب وأعادته الى مكانه وسحبت كتابا آخر من نهاية الرف وكان بنفس العنوان.. فأدركت توبنس أن الكتب القديمة أهملت وأن مسز سبروت اشترت مجموعة جديدة للطفلة .. انها من الامهات اللاتي يتطيرن من القذارة .. ويخشين على أطفالهن من عواقبها.. وأخذت بتي تعبث بالكتاب ثم أعادته وتناولت غيره ثم غيره ، وكانت بتي تختطف الكتب من توبنس وتخبئها وتحاول هذه العثور عليها.. وهكذا انقضى الصباح دون ان تشعر بمرور الوقت ..

وبعد الغذاء ذهبت بتي الى سريرها، واستدعت مسز اوروك توبنس الى غرفتها وكانت غرفة ضل النظام طريقه اليها.. تفوح فيها روائح النعناع والنفتالين.. وانتثرت فيها الصور بغير نظام. صور ابناء وأبناء وأخوة وأبناء اخوة مسز أوروك حتى خيل لتوبنس انها في معرض للصور. أقيم في العصر الفيكتوري ..
وقالت مسز أوروك :
- ان لك طريقة عجيبة في معاملة الاطفال يا مسز بلنكنسوب
- ان ذلك يرجع الى طول المدة التي ربيت فيها ولدي
- ولديك ! سمعت انهم ثلاثة ..
- آه طبعا .. انهم ثلاثة .. نعم ثلاثة .. ولكن أعني ولدي المتقاربين في السن فقد كنت أقوم بتربيتهما وهما في هذه السن تقريبا معا .. هذا ما قصدت ..
- آه.. اجلسي يا مسز بلنكنسوب واعتبري نفسك في غرفتك...

وأحست توبنس بنوع من الضيق الذي يحسه المرء وهو في زيارة احدى الساحرات ..
وقالت مسز أوروك أخيرا:
- والآن يا عزيزتي .. ما رأيك في سان سوسي ؟
فأجابت توبنس بكلام عام .. ولكن مسز أوروك قاطعتها بقولها :
- أود أن اسألك ما اذا كنت قد لاحظت شيئا غريبا في سان سوسي؟
- شيئا غريبا! ماذا تعنين ؟ كلا .. لم ألحظ..
- حتى ولا عن مسز برينا ؟ فقد أدركت انك تراقبينها .. بل انك تشددين الرقابة عليها ..
واحمر وجه توبنس ولكنها تمالكت نفسها وقالت :
- انها .. انها .. سيدة حلوة المعشر..
- اذن هي ليست .. أعني انها سيدة مجتمعات .. اذا كان الظاهر كالباطن.. ولكن اذا لم تكن .. أ هذا هو رأيك ؟
- الواقع يا مسز أوروك انني لا أفهم .. سيدة مجتمعات.. تتظاهر.. لم تكن .. ماذا تعنين ؟
- ألم يخطر ببالك يوما ان أية واحدة منا قد تكون فعلا خلاف ما تتظاهر به أمام الناس؟ فالمستر ميدوز مثلا .. يبدو لي أنه رجل غريب التصرفات .. فأحيانا أراه يمثل الرجل الانجليزي الغبي المحدود الأفق وأحيانا أسمع منه كلمة أو أرى منه ما يدل على أنه أبعد الناس عن الغباء.. ألا ترين في هذا غرابة ؟
فأجابت توبنس بحزم :
- أوه . انني لا أرى في مستر ميدوز الا نموذجا للرجل العادي ..
- اذن هناك غيره .. وأظن أنك تعرفين واحدا منهم على الاقل ..
فهزت توبنس رأسها نفيا..
فعادت مسز أوروك تقول :
- ان الاسم الذي أصده يبدأ بحرف ( ش ) ..
ولم تستطع توبنس أن تتمالك أعصابها أكثر من ذلك .. وظهرت عليها أمارات الغضب ، فقد خيل إليها أنها في موقف استجواب .. وأن عليها أن تدافع عن شيء عزيز عليها فقال في حدة :
- ان كنت تقصدين شيلا فهي فتاة طائشة ثائرة,, وقد كنا جميعا كذلك في مثل سنها..
- لا .. لا . لا .. ليست هذه من أقصد .. ألا تعلمين أن اسم مس منتون الأول " شيرلي " ..
- أوه .. اذن تقصدين مس منتون ؟
- لا ,, ليس هذا ما أقصد .. ولكن ..

ولم تقو توبنس على احتمال الموقف أكثر من ذلك .. ان هذه السيدة تتلاعب بها كما يتلاعب القط بالفار.. فقامت توبنس من مكانها واتجهت نحو الشرفة تراقب نزول المطر وقد تضاربت الافكار في رأسها .. فكيف تتخلص من موقفها هذا ؟ وكيف سمحت لنفسها أن تقع في هذا الشرك .. وتوقف تفكيرها لحظة .. رأت خلال النافذة تلك المرأة التي كانت تحادث كارل فون دينيم منذ أيام .. وكانت تتلفت يمنة ويسرة بعينين جامدتين لا حياة فيهما .. حتى خيل لتوبنس انها تمثال يتحرك.. وكانت تتطلع وتتطلع الى نوافذ سان سوسي .. وليس في نظراتها أي معنى.. رباه.. بل هناك معنى واضح كل الوضوح انها نظرات مجنون وطافت برأس توبنس خيالات عديدة . ان هذه المرأة تمثل الاشباح التي تسكن البيوت المهجورة.. واستدارت توبنس لتواجه مسز أوروك وغمغمت ببضعة ألفاظ ثم اندفعت سريعا من باب الحجرة.. ونزلت الدرج .. فالحديقة .. فالطريق .. إلى قمة التل .. فلما وصلت كانت المرأة قد اختفت .. فعادت توبنس من جديد الى الحديقة وأخذت تجول فيها .. بين الشجيرات غير عابئة بما أصابها من هطول الامطار.. وكانت تقتفي آثار أقدام المرأة الغريبة متوقعة أن تقودها هذه الآثار إلى حيث اختفت فجأة .. وقادتها الآثار الى ابواب الفيلا ، فأحست توبنس باختناق لم تدر له سببا وشعرت ان نكبة ما وشيكة الوقوع فقد حدثها انقباض قلبها بذلك .. ولكمها لم تستطع ان تخمن ما هذه النكبة ؟ .. وما كان يخطر ببال مخلوق أن يخمن ..

وبعد أن اعتدل الجو وانقطع المطر ساعدت مس منتون بتي على ارتداء ملابس الخروج استعدادا لنزهة في المدينة القريبة.. ولتشتري مس منتون لبتي إوزة من البلاستيك ، وكانت بتي تصيح في أرجاء الدار جزلة ..
ولاحظت توبنس عندما دخلت باب الدار ان هناك عودين من الثقاب قد ألقيا على المنضدة التي تتوسط الردهة الخارجية في غير عناية ، فعرفت ان مستر ميدوز يقضي الوقت في مراقبة مسز برينا ، فاتجهت توبنس الى حجرة الانتظار ووجدت مستر ومسز كايلي وكان زوجها في حالة يرثى لها .. يشكو الضجيج الذي تحدثه الطفلة ويقول انه لم يأتي الى سان سوسي الى هربا من الضجيج..
فقالت توبنس :
- من الصعب التحكم في الاطفال وهم في هذه السن ..
- هه .. هذا كلام لا معنى له .. انها آفة العصر الحديث .. أن يترك الاطفال يعبثون كما يحلو لهم .
فقالت توبنس تغير مجرى الحديث :
- أود أن تحدثني عن رأيك الخاص في طرق المعيشة في ألمانيا ، فقد سمعت أنك قمت برحلات إلى بلاد كثيرة ..
- انني كما تقولين يا سيدتي العزيزة .. رجل ذو تجارب وخبرة وفي رأيي انه يجب ان تتفاهم بريطانيا وألمانيا .. فالنظام النازي في رأيي هو خير الأنظمة صلاحية للبلدين..
وقطع الحديث دخول مس منتون تتبعها الطفلة حاملة إوزتها الجديدة ..

وما هي الا لحظات حتى أعد الشاي.. وفي تلك الفترة رؤيت مسز سبروت داخلة بعد عودتها من لندن وهي تقول :
- أرجو الا تكون بتي قد أزعجت أحدا..
ثم وجهت الحديث للطفلة :
- كيف قضيت الوقت يا بتي؟
- قذر ..

ولم يعلق أحد على رد الطفلة اذ كان مفهوما أنها لا تعني ما تقول وأخذت مسز سبروت تتحدث عن مشترياتها من لندن خلال احتسائها الشاي.. وانتقل الجميع الى الشرفة فقد بدات الشمس تتسرب من تحت الغمام.. وكانت بتي تملأ الجو بدعابتها وجريها في كل مكان.. واستمر الحال كذلك .. والنزلاء يتحدثون عن الاشاعات وما ينتظر ان يحدث حتى قطعت مسز سبروت الحديث فجأة قائلة :
- انها السابعة اآن .. كان يجب ان تنام الطفلة منذ ساعات ... بتي .. بتي ..بتي ..
ولم يكن أحد يلحظ غياب الطفلة في أثناء الحديث .. وعادت مسز سبروت تصيح وقد تزايد قلقها ..
- بتي .. أين أنت؟
وقامت مسز سبروت تبحث عن الطفلة ..
وقاتل مس منتون ان الطفلة لا بد أن تكون في مكان ما..
وقالت توبنس لا بد انها اختبأت في المطبخ اذ كان أطفالها يختبئون فيه ..
ودار البحث في كل مكان .. ولكن بدون جدوى . فقد اختفت الطفلة اختفاء تاما..
وظهر الغضب على وجه مسز سبروت .. وقالت:
- ربما تكون قد خرجت من الفيلا .. ؟
فخرجت توبنس مع مسز سبروت ووقفتا تتلفتان هنا وهناك، ولكنهما لم يريا سوى صبي على دراجة يحادث خادمة الفيلا المواجهة لسان سوسي .. فتقدمت توبنس نحو الصبي وسألته اذا ما كان قد رأى فتاة صغيرة تخرج من الفيلا فأجابت الخادمة :
- أهي تلبس فستانا قصيرا أخضر اللون ؟ رأيتها منذ نحو نصف ساعة .. تسير في هذا الطريق مع سيدة ..
- سيدة ..! أي سيدة ..!
- انها سيدة .. غريبة الهيئة .. و على كتفيها شال رخيص .. فخيل الي انها احدى المتسولات .. واني اذكر اني رأيتها أكثر من مرة تحوم حول هذا المكان..
وتذكرت توبنس فورا ذلك الوجه الذي رأته يتلصص بعد الظهر في الحديقة ولكنها لم تكن ترى علاقة بينه وبين بتي .. ولم تترك مسز سبروت لها فرصة للتفكير أكثر من ذلك فصاحت :
- بتي .. عزيزتي بتي .. طفلتي.. لا بد أن تكون تلك المرأة احدى الغجريات .. فردت توبنس على الفور..
- لا .. لا .. ان وجهها لا يدل على ذلك.. فهي جميلة . ولا يمكن ان تكون من الغجريات..
فنظرت اليها مسز سبروت في عجب ودهشة مستفسرة ، فقالت توبنس :
- رأيت هذه المرأة بعد ظهر اليوم .. تتلصص خلال شجيرات الحديقة .. كما اذكر انني لمحتها مرة قبل ذلك .. تحادث كارل فون دينيم .. نعم لا بد أن تكون نفس المرأة ..
وقالت الخادمة تؤكد كلام توبنس :
- نعم .. نعم .. انها نفس المرأة .. ان شعرها الاشقر لا ينسى ..
فصاحت مسز سبروت :
- أواه .. يا ربي .. ماذا أفعل؟
فقالت توبنس وهي تضع ذراعها في ذراع مسز سبروت :
- تعالي الى الفيلا .. لنطلب البوليس ..
فسارت مسز سبروت معها وهي تقول :
- لست أدري كيف رضيت بتي أن تسير هكذا مع الغرباء .. دون أن تصيح ..
- انها صغيرة جدا كما تعلمين .. وقد تكون المرأة مخبولة ..

وكانت توبنس تقول هذا لتخفف وقع الصدمة على مسز سبروت اذ كانت تعلم ان المرأة الغريبة في كامل قواها العقلية وقد شكت في ان يكون لكارل علاقة بحادث الاختطاف هذا ، وقد تبددت شكوكها لما أقسم كارل ان لا علم له بأي شيء عن هذا الموضوع ، وقد استغربه كذلك الجميع .. وبعد أن شرحت توبنس كل ما تعلم قال الماجور بلتشلي موجها كلامه لمسز سبروت ..
- لا تقلقي يا سيدتي .. سأذهب حالا الى مركز البوليس ..
فقالت مسز سبروت :
- انتظر لحظة .. فقد تكون هناك ..
ثم جرت مسرعة الى غرفة بتي وعادت وهي تلهث وهجمت على الماجور بلتشلي وخطفت سماعة التليفون من يده وهي تقول :
- لا .. لا .. لا تبلغ البوليس . .يجب الا نبلغ البوليس ..
وتهاوت على أحد المقاعد وهي تبكي ، فالتفت الجميع حولها وقد اشتد بهم العجب يحاولون تهدئتها وبعد لحظة قالت بصوت خنقته العبرات وهي ترفع شيئا في يدها :
- وجدت هذه .. في حجرتي .. كانت مربوطة الى تمثال قطة من الحجر .. انها انذار لي ..
فتناول مستر ميدوز الورقة وقرأ فيه ا:
" لقد وضعنا يدنا على طفلتك وسنخبرك فيما بعد بما تفعلين ولكن .. اذا اتصلت بالبوليس سنقتل الطفلة .. أغلقي فمك وانتظري تعليماتنا والا .. "
وكانت موقعه بجمجمة وعظمتين متقاطعتين ..
وتكلم الجميع في نفس الوقت :
- القتلة المتوحشون .. الوحوش ...

ولكن صوت الماجور بلتشلي علا جميع الاصوات وهو يقول :
- كلام فارغ .. مستحيل .. يجب أن ابلغ البوليس حالا .. فهو وحده الذي يستطيع ان يضع حدا لهذه المهزلة ..
وتحرك ثانية متجها الى آله التليفون .. ولكن مسز سبروت صرخت ، فصاح بها :
- يا سيدتي العزيزة .. لا بد من ذلك .. فما هذا الانذار الا حيلة مبتذلة لمنعنا من اقتفاء اثر الخاطفين السفلة ..
- سيقتلونها ..
- مستحيل .. انهم لا يجرءون ..
- اني لا أسمح .. أنا أمها .. وأنا التي أقرر ..
- أنا أفهم .. فاهم .. ولكن استمعي الى نصيحتي يا سيدتي فتبليغ البوليس هو الحل الوحيد .. ألا توافقني يا مستر ميدوز ؟
فهز تومي رأسه ايجابا .. وعاد بلتشلي يقول :
- وأنت يا كايلي؟ اذن انظري يا مسز سبروت .. ميدوز وكايلي يوافقاني ..
- آه .. نعم .. كلكم رجال .. اسأل السيدات ..
فقالت توبنس على الفور :
- اني مع مسز سبروت ..
وقالت مسز أوروك :
- لن تجد اما واحدة توافقك ..
وعادت توبنس تقول :
- وأنت يا سيد كارل.. ؟ اننا لم نسمع رأيك بعد ..
فأجاب كارل بتؤدة :
- انني اجنبي كما تعلمون .. ولا أعلم شيئا عن نظام بوليسكم .. وما اذا كان جديرا بهذه المهمة ..
ودخلت مسز برينا في تلك اللحظة ، فسألت :
- ماذا حدث؟
وسمعت القصة من الجميع .. فقالت في لهجة آمرة وكأنها سيدة الموقف :
- لا أوافق على الالتجاء الى البوليس مطلقا .. ان له طرقه العقيمة الملتوية ، ولكني أرى ان تبحثوا عن الطفلة بأنفسكم ..
وقال بلتشلي ثانية :
- انها فكرة .. هيا بنا .. ولا أعتقد انهم ابتعدوا كثيرا ...
فقالت مسز سبروت :
- نريد سيارة.. فلنتصل بهايدوك هوفن.. فلديته سيارة هيا بنا .. وسنستطيع اقتفاء اثر تلك المرأة بلا شك.. وسآتي معكم .
- لا يا سيدتي.. لا لزوم لمجيئك .. اتركي الامر لنا ..
- مستحيل ..

وما هي الا ثوان حتى كانوا قد اتصلوا بهايدوك .. فحضر بسيارته على الفور وجلس تومي الى جواره وجلس الماجور بلتشلي ومسز سبروت و توبنس في المقعد الخلفي .. وقبل ان تتحرك السيارة عادت مسز سبروت الى الفيلا وغابت لحظة ثم رجعت ولما استفسرت منها توبنس عن سبب صعودها فتحت حقيبة يدها وارتها مسدسا صغيرا ,, وقالت :
- أتيت بهذا من غرفة الماجور بلتشلي .. وكنت سمعت منه يوما ان لديه مسدسا واعتقد انه يفيدنا الان ..

وفكرت توبنس في عواطف الامومة ،، ان المرأة قد تفزع عندما ترى سلاحا ولكنها لا تتوانى عن استعماله اذا هدد فلذة كبدها خطر ..

وسارت السيارة .. الى محطة السكة الحديد كما اقترح الكوماندوز هايدوك اذ ان قطار قد قام منذ عشرين دقيقة ويرجح ان يكون الخاطفون قد ركبوه وعندما وصلوا الى المحطة بدءوا تحرياتهم كل في جهة وعاد الجميع الى السيارة دون جدوى .. وقال هايدوك:
- لا بد ان الخاطفين كانوا قد أعدوا سيارة وأرسلوا تلك المرأة لتختطف الطفلة ثم ساروا بها الى مكان مجهول ..

فقالت توبنس :
- اذن .. لنضع أنفسنا في مركز الخاطفين .. أين تظنون أنهم كانوا ينتظرون بالسيارة ؟ في مكان قريب من سان سوسي.. ولكن أي مكان يصلح لإخفاء سيارة لا تجتذب إليها الانظار ,, فلنر .. لقد سارت المرأة مع بتي وانحدرتا مع التل .. وهناك في بطن التل ، مكان يصلح لمثل ذلك ..

وفي تلك اللحظة تقدم اليهم رجل قصير القمة يبدو عليه التردد والإحجام .. يعرض قليل في مشيته وقال :
- لا تؤاخذوني فقد استمعت عرضا الى حديث السيد .. وهي صدفة غريبة اذ يخيل الي انني رأيت الطفلة التي كان يسأل بواب المحطة عنها ..
فصاحت مسز سبروت :
- تقول انك رأيتها .. أين ؟
- كانت مع سيدة غريبة المنظر ..
- أين سارتا ؟
- في هذا الاتجاه.. اتجاه القمة ..

فقال هايدوك وهو يجلس الى عجلة القيادة ويدير المحرك :
- تقول انها كانت تسير اتجاه القمة .. أليس كذلك ؟
- نعم .. عبر الميدان الكبير ..

قفز المتبقون في السيارة .. قبل ان يستكملوا الاستماع الى بقية حديث الرجل .. وسارت السيارة مسرعة في شوارع البلدة .. حتى وصلت الى ميدان فسيح وهناك قال الماجور بلتشلي :
- الافضل ان ننزل هنا ، ونصعد الى القمة سيرا على الاقدام ..
فأجاب هايدوك :
- هذا معقول جدا ولكني سأبذل جهدي لأصعد المنحدر بالسيارة رغم ان في ذلك مخاطرة .. ولكن ..
فقاطعته مسز سبروت قائلة :
- نعم .. نعم .. أرجوك أن تصعد .. فقد تأخرنا .. ويجب أن نسرع حتى نلحق بهما ..
فقال الكوماندوز كما لو كان يحادث نفسه :
- أرجو أن نكون وراء أثر صحيح وألا يكون ذلك القزم قد رأى امرأة أخرى . .معها طفلة .. ومع ذلك .. فلست أرى لهما أي أثر ..

وصعدت السيارة تزحف حتى وصلت القمة .. ثم أخذت تنحدر .. فتوقف هايدوك لحظة وتناول منظاره المعظم .. الذي لا يفارقه وأخذ ينظر فيه لحظات في كل اتجاه ثم صاح قائلا :
- ها هما .. انني أراهما .. هناك ..
ونظر الجميع حيث يشير .. كانت هناك نقطتان سواداون في الأفق البعيد تتحركان وعادت السيارة تنهب الارض من جديد .. وبدأت المطاردة .. فرأوا النقطتين تنكشف رويدا رويدا .. انهما شبحان ، أحدهما طويل والآخر قصير .. انهما يتضحان قليلا ، سيدة تجر وراءها طفلة .. نعم .. ان الطفلة ترتدي ثوبا أخضر اللون . انها بتي .. وصاحت مسز سبروت .. وقال الماجور بلتشلي وهو يصفق :
- ها نحن قد وصلنا اليهما ..
وفجأة أحست المرأة بدنوا السيارة منها .. فصرخت ورفعت الطفلة محتضنة إياها ، وأخذت تجري بها نحو المنحدر .. فتوقفت السيارة اذ انها لا تستطيع ان تتبعها في ذلك الطريق الوعر .. وخرج ركاب السيارة منها وكانت مسز سبروت أولهم . وبدأت نجري نحوهما حتى اصبحت على بعد عشرين خطوة منهما فتوقفت ..
كانت المرأة ممسكة بالطفلة بين ذراعيها وقد وقفت على حافة المنحدر ، فصاح هايدوك :
- رباه .. أخشى أن تقذف بالطفلة على الهاوية ..
وقفت المرأة وقد تجسم الحقد في عينيها وصاحت بكلمات لم يفهمها أحد ، وأخذت تنظر الى الهاوية حينا والى المهاجمين حينا آخر .. وكان واضحا أنها تهدد بقذف الطفلة في الهاوية ..
فوقف الجميع مبهوتين وقد أقلقهم الرعب دون أن يستطيعوا الحركة خوفا من الفاجعة المنتظرة .. ومد هايدوك يده في جيبه وأخرج مسدسا ضخما وصاح :
- انزلي الطفلة أو أطلق النار ..
فضحكت المرأة الغريبة وزاد احتضانها للطفلة حتى أصبحتا كأنهما جسد واحد .. فغمغم هايدوك :
- اني لا أستطيع اطلاق النار خشية اصابة الطفلة ..
وقال تومي :
- هذه المرأة مخبولة بلا شك وأتوقع أن تقفز هي والطفلة الى الهاوية بعد لحظة . وفي تلك اللحظة دوى صوت طلق ناري فترنحت المرأة ثم سقطت ولا تزال الطفلة بين ذراعيها .. وجرى الرجال حيث سقطت ، بينما وقفت مسز سبروت تترنح وفي يدها المسدس يتصاعد الدخان من فوهته ، ثم خطت بضع خطوات الى الامام ..

ركع تومي الى جوار الجسدين فرأى وجه المرأة وكانت عيناها مفتوحتين ، وقبل أن تنبس بحرف شهقت الشهقة الأخيرة وتراخت ذراعاها .. فتخلصت منها بتي وجربت نحو مسز سبروت التي كانت قد تصلبت أعضاؤها كأنها تمثال ، فرمت المسدس بعيدا ، ثم صاحت وهي تعانق الطفلة :
- انها سليمة .. سليمة .. بتي .. بتي العزيزة ..
ثم همست في جزع : هل .. هل ماتت ؟ هل قتلتها ؟
فقالت توبنس في عزم :
- لا تفكري فيها الان .. فكري في بتي العزيزة ..
فأخذت مسز سبروت تنشج في صوت مبحوح وسارب توبنس الى حيث وقف الرجال وكان هايدوك يقول :
- انها معجزة دامية.. وأترف انني لا استطيع اصابة مثل هذا الهدف .. واني لا أتصور أن مسز سبروت سبق لها استعمال المسدس قبل هذه المرة .. انها معجزة الغريرة لا أكثر ولا أقل ..
وقالت توبنس :
- الحمد لله .. فقد نجت الطفلة على كل حال ..

:: الفصل الثامن ::
وبعد أيام .. بدأ التحقيق في حادث مصرع المرأة الغريبة بعد أن قام البوليس بتحرياته ، لتحقيق شخصيتها ، وعرف أنها تدعى " واندا بولونكا " من اللاجئين البولنديين وكانت مسز سبروت قد نقلت بالسيارة إلى سان سوسي بعد وقوع الحادث محطمة الاعصاب وقد تعاون الجميع على الترفيه عنها.. بمختلف الوسائل، واتصل الكوماندوز هايدوك بالبوليس وأرشدهم إلى حيث وقعت المأساة ولولا اهتمام الصحف بالأخبار الحربية لاحتل هذا الحادث أبرز مكان فيها ..

واتخذ التحقيق مجراه العادي فاستدعيت السيدة كالفنت المشرفة على شؤون اللاجئين في تلك المقاطعة فأدلت معلوماتها عن واند بولونكا وتتلخص في انها كانت من عائلة بولونية ، قتل النازيون كل أقاربها و انها كانت شبه مخبولة وان سلوكها كان موضع شبهة فقد وجد معها مل كثير بالنسبة الى من هم في مركزها، وقد ظهر من مراقبتها انها ليست ممن يضمرون الخير لبريطانيا..

أما مسز سبروت فقد غرقت في دموعها عندما استدعيت للتحقيق وكان المحقق رفيقا بها وقد فسرت ما حدث انه كان بلا وعي منها ..
وسألها المحقق عما اذا ما كانت قد اعتادت استعمال الاسلحة النارية، فأجابت بالنفي ثم نفت معرفتها بالمرأة القتيل قبل الحادث ..

أما هايدوك فقد أدلى بكل ما قام به في عملية المطاردة ولما سأله المحقق عما اذا كان متأكدا من أن المرأة قد بدا عليها النزوع للقفز الى الهاوية أجاب:
- اما انها كانت تنوي ذلك أو على الاقل ان ترمي بالطفلة فذلك ما اعتقده وقد خيل الي ان الحقد متجسم في نظراتها.. وقد فكرت شخصيا في اطلاق النار عليها ولكنها كانت قد اتخذت من الطفلة درعا.. وقد تحملت مسز سبروت المسؤولية فأنقذت الطفلة..

وأخذت مسز سبروت تتشنج من جديد..
أما شهادة مسز بلنكنسوب فكانت قصيرة ولم تخرج عما أدلى به الكوماندوز..
و تلا ذلك مستر ميدوز وقد أمن على الاقوال السابقة وبعد انهاء التحقيق اعتبر المحقق أن الحادث تم تحت تأثير ظروف قاهرة لا حيلة للفاعلة فيها وأن القتل وقع فعلا ولكن دون سبق اصرار او ترصد أو حتى تفكير فيه وهكذا اعتبرت مسز سبروت غير متحملة مسئولية ما فعلت ..

وفي اليوم التالي تقابل مستر ميدوز ومسز بلنكنسوب ودار بينهما حديث طويل عن تلك القضية الغريبة التي فاجأتهما ، وقال تومي :
- ان مجرى الحوادث من كل ناحية لا يعجبني مطلقا..
وقد وافقته توبنس .. فقد كان الجيش الفرنسي يتراجع بدون توقف ، وكان الجلاء عن " دنكرك " على أشده، كما كان سقوط باريس متوقعا في أية لحظة..
وقال تومي :
- وماذا عن كارل فون دينيم والمرأة البولندية ؟ هل تعتقدين انها كان يعملان سويا ؟
- لابد انهما كانا مرتبطين بطريق ما.. ولا تنس انني رأيتهما يتحدثان..
- اذن لا بد أن يكون كارل هو الذي دبر الاختطاف ..
- لماذا يختطفون هذه الطفلة بالذات ؟ ومن هم .. آل سبروت .. لا أعتقد أنهم من الاغنياء.. ثم أنهم عديمو الاتصالات الحكومية التي قد ينتفع بها العدو مثلا,,
- اني افهم ذلك يا تومي .. وبودي لو كشفت السر ..
- وهل لدى مسز سبرون أية فكرة عن سبب الاختطاف ؟
- ان تلك المرأة .. أعني مسز سبروت .. ليست لها مقدرة على التفكير وكل ما تقوله .. ان هذا هو ما يفعله الألمان بأعدائهم ..
- تلك الغبية .. انها لا تعلم أن الألمان قوم في غاية الذكاء فهم لا يختطفون فأرا الا اذا كان هناك من الاسباب القوية ما يدعو الى اختطافه ..
فقالت توبنس :
- أعتقد أن مسز سبروت تستطيع أن تدرك السب لو انها فكرت وحاولت معرفته.. فلا بد أن يكون هناك سبب.. نعم .. لا بد أن تكون هناك معلومات ما .. تعرفها هي ، دون أن تعلم أن هذه المعلومات هي السبب ..
- هل حاولت ان تقنعي مسز سبروت أن تعمل على تحريك ذهنها بعض الشيء .
- نعم حاولت .. ولكن دون جذوى .. ان ما يهمها ,, أن بتي عادت اليها ثم لا تنس احساسها بأنها قد أصبحت قاتلة في نظر نفسها على الاقل..
- ان النساء مخلوقات عجيبة .. في لحظة خيل الي ان مسز سبروت تستطيع قتل فرقة كاملة لاستعادة طفلتها .. و الان أراها تموت فزعا لمجرد ذكر القصة..
- لقد التمس لها المحقق العذر .. كان هذا طبيعيا,,
- اعتقد أن عدم ادراك قيمة ونتائج استعمال المسدس هو الذي دفعها الى تحريك زناده.. فلو انها كانت فكرت في العواقب المحتملة لما اقدمت على اطلاقه..
- اذكر ان شيئا كهذا ورد في التوراة عن سيدنا داوود و جوليات الفلسطيني ...
- أوه .. لقد طافت بذهني فكرة مماثلة . ثم عدت فنسيتها في الحال ..
- هل كانت عن المقلاع الذي قذف به داوود ذلك الفلسطيني فأرداه قتيلا ؟
- لا .. لا .. انتظري لحظة .. انه كان .. عن .. سليمان الحكيم..
- عن معابد سليمان وكنوزه .. والحريم ..
- كفى .. كفى .. انك تعصب الامور .. ما علينا .. كم أود أن أذكر بماذا كان وجه واندا يذكرني .. فقد أحسست عندما رأيتها لأول مرة أن وجهها ليس غريبا علي ..
- هل تعتقدين أنك رأيتها في مكان ما قبل الان ؟
- كلا .. فأنا متأكدة أنني لم أرها من قبل .. ولكني ..
- ان شيلا برينا وأمها يختلفان في منظرهما عن واندا تمام الاختلاف ..
- نعم .. ومع ذلك يا تومي .. فاني أظن أن ثمة علاقة بين ذلك الانذار وآل برينا .. ويخيل إلي ان واحدة منهما هي التي وضعته ..
- اذن تعتقدين أن آل برينا و كارل و واندا بولونكا شركاء؟
- نعم .. ألا تذكر اللحظة التي تدخلت فيها مسز برينا ؟ ثم ألا تذكر أيضا أنها كانت في صف من عارض في تبليغ البوليس .. وأنها ملكت زمام الموقف كله ؟
- وهكذا .. ألا تزالين تعتبرينها ( م ) ؟
- بلى .. ألست من رأيي؟
- ربما ..
- لماذا يا تومي .. هل لديك فكرة أخرى ؟ ألا تحدثني عنها؟
- أفضل ألا أحدثك عنها في الوقت الحاضر على الاقل فان تخميناتي ما زالت غير مركزة .. بل على العكس ، أعتقد أننا أمسكنا بطرف الخيط الذي يؤدي الى ( ن ) وليس الى ( م ) كما تعتقدين . .ولهذا أفضل أن يعمل كل منا – ولو بتخميناته – منفردا..

وكان تومي يفكر في نفسه.. ان بلتشلي شخصية لا غبار عليها .. ثم انه كان متحمسا لتبليغ البوليس .. ولكنه في نفس الوقت كان واثقا من ان ام الطفلة لن تقبل .. وعلمه بوجود الانذار وفهمه لعقلية الام جعلاه على ثقة من النتائج ، ومع ذلك .. فان العكس جائز وعلى أية حال .. وعاد تومي يسأل نفسه من جديد ,, لماذا تختطف بتي سبروت ؟!

وعندما انصرفت توبنس متجهة إلى غرفتها لم تلحظ وقوف سيارة البوليس باب سان سوسي .. فقد كانت غارقة في تأملاتها حتى وصلت إلى باب غرفتها ولكنها تنبهت بعد أن خطت الخطوة الأولى وصاحت :
- شيلا !
واستدارت الفتاة وواجهت توبنس .. كان الذعر والأسى مرتسمين على وجهها فقالت :
- كنت أنتظرك يا مسز بلنكنسوب ، واني سعيدة اذ حضرت ..
- ما الخبر؟
- لقد قبضوا على كارل ..
- من ؟ البوليس ؟

لقد رثت توبنس لحال الفتاة ,, انها مغرمة بكارل فون دينيم وحتى لو كان كلاهما في نظرها على الاقل متهما بالخيانة الوطنية، فان تقدير عاطفة الحب من وجهة النظر الانسانية أمر لا تستطيع توبنس الا ان تحس به ولا تغفله .. وعادت شيلا تقول :
- ماذا أفعل ؟
وارتجفت توبنس لبساطة السؤال .. فلم تجد ما تقول سوى أن غمغمت :
- أواه يا عزيزتي ..
- لقد أخذوه .. وهكذا لن أراه ثانية .. ماذا أفعل؟ نعم ما أفعل ؟ ...
وانفجرت تبكي بحرارة من كل قلبها ثم تهاوت على الفراش.. فجلست توبنس الى جوارها تمسح على رأسها وقالت :
- ربما لا يجدون شيئا ضده فلا تجزعي .. وكل ما في الامر انهم سيعتقلونه ولا تنسي أنهم سيعتقلون كل رعايا الأعداء..
- لم يكن هذا ما قالون.. انهم يفتشون غرفته الان ..
- لا شك أنهم لن يجدو فيها ما يؤذيه .. أليس كذلك ؟
- لن يهم البوليس ان يكون بريئا او مذنبا .. انهم سيلصقون به التهمة..
- هذا خطأ.. بل مستحيل .. انك تثقين في الناس يا شيلا,, وتطمئنين الى كلامهم أكثر من اللازم .. ولعل هذا هو موقفك حيال كارل.. ولعلك كنت على خطأ..
- اذن أنت أيضا ضده .. أواه .. فقد ظننتك تميلين إليه بعض الشيء..
- استمعي الي يا شيلا .. ان الميل أو عدمه ليس لهما دخل في الوقائع المادية، فهذه البلاد وألمانيا في حالة حرب .. وهناك وسائل عديدة يخدم بها المرء وطنه .. منها أن يحصل مثلا على معلومات يرسلها الى وطنه من خلف الخطوط.. وهو عمل فيه كثير من الشجاعة وإنكار الذات ولكن القانون الدولي لا يعترف به..
- هل تظنين أن كارل؟
- ربما .. ربما كان يخدم وطنه عن هذا الطريق .. ان هذا محتمل .. ربما كان عمله أن يأتي الى هذه البلاد كلاجئ ، وأن يتظاهر بعدائه الشديد للنازية وهكذا يستطيع أن يحصل على ما يريد من معلومات..
- هذا لا ينطبق على الواقع .. فاني اعرف كارل جيدا.. وقد عرفت قلبه كما عرفت عقله الذي لا يفكر الا في العلم وفي عمله وهو يحس انه مدين لانجلترا لأنها آوته ومنحته الفرصة ليعمل فيها ولو انه أحيانا – عندما يهان – يحس بألمانيته.. ويتألم .. ولكنه يكره النازيين وما يدعون إليه وبخاصة انكارهم لحرية الفرد .,.
- هذا ما يقوله من كان في مثل مركزه..
- اذن أنت تعتقدين أنه جاسوس؟
- هذا ما أظنه .. انه مجرد احتمال ..
- اذن يؤسفني أنني لجأت إليك لمساعدته ,,
وخرجت الفتاة بعد أن صفقت الباب خلفها ,,


* * *

رفع الرجل المسن سنارته من الماء ثم أرتكز على دفة القارب وقال:
- لا شك في ذلك.. واني أخشى أن يكون ..
فأجاب تومي :
- نعم، ويؤسفني ما حدث فانه شاب لا بأس به ..
- انهم لا يختارون سوى أمثاله من الشباب الشجعان لمثل هذه المهمات .. ومع كل فقد وجدوا ورقة كتب فيها بالمعادلات الكيميائية أسماء العمال الذين يشتغلون تحت أمرته في المصنع والذين يمكن التأثير عليهم .. كما عثروا على مذكرات عن مشروع كيميائي مريع لتسميم الاغذية ، أعده السيد كارل..
- ألا يمكن أن تكون هذه الاوراق قد دست عليه .. ؟
- أوه .. هذا افتراض زوجتك بلا شك .. لها الحق في ذلك .. فهو فتى في ريعان الشباب .. ولكني شخصيا لا أعتقد في براءته .. فذلك الحبر السري الذي وجدناه في المعمل مخبأ بحذق ومهارة وتلك المادة السامة التي صبها على هيئة أزرار وكان يذيبها في الماء ثم يبلل به أربطة الأحذية .. تلك الأربطة التي وجدنا مئات منها معلقة في حجرته لتجفيفها ، ان هذه أدلة بالتقبل الشك ..
وعندما عاد تومي ليقص على توبنس خلاصة هذا الحديث صاحت :
- أربطة أحذية .. ماذا تقول ! ان هذا يفسر كل شيء ..
- ماذا ؟
- بتي أيها الغبي ,, ألا تذكر ماذا كانت تعمل في غرفتي ! عندما حلت أربطة حذائي وبللتها في كوب اللبن .. ظننت ذلك حينئذ عبث أطفال.. ولكنها لابد رأت كارل يفعل ذلك فقلدته .. ولعله خشي أن تقول الطفلة شيئا عما رأته فاتفق مع تلك المرأة على اختطاف بتي ..
- وهكذا اتضح كل شيء ..
- نعم .. وكم أود أن تنكشف لنا بقية الأمور .. فالأحوال الحربية العامة في غاية الخطورة .. وكل سواحل فرنسا أصبحت في أيدي العدو وأصبح الغزو قريب الحدوث ..
- وكان كارل حلقة ا لسلسلة ولعل مسز برينا هي الرأس المدبرة ..
- نعم .. ولكنا لم نجد ما يدينها ..
- وهي ليست من الغباء بحيث ترمي بنفسها بين أيدينا ..
- على ذلك يمكن اعتبارها ( م ) ..
فهز تومي رأسه موافقا وقال :
- اذن فعلينا أن نتابع مراقبتها وعليك الاتصال بألبرت ..
- اتصل أنت به .. اذ سأذهب للعب الجولف ..

:: الفصل التاسع ::
- يخيل الي ان الايام الماضية قد عادت من جديد يا سيدتي ..
- أرجو ذلك يا ألبرت . وكيف حال زوجتك ؟
- انها بخير كما تعلمين عند أقاربها في ويلز ..
- عسى ألا يكون.. اشتراكك معنا في العمل يعطل أعمالك الخاصة ؟
- بالعكس يا سيدتي، فكم كنت أود العودة معكما من جديد .. ولكن الظروف لم تسمح من ناحيتكما.. وقد حاولت في ادارة المباحث وفي ادارة الامن الام فاحتجوا بكبر سني .. وقالوا لي انتظر فقد نحتاج اليك ..
- ان منطقهم غريب.. وقد قاسينا منه يا ألبرت..
- أعتقد أن هذه فرصتنا للعمل صد هؤلاء الالمان الملعونين وأرجو أن تعذريني على هذا الوصف يا سيدتي ..
- حسن يا ألبرت.. و الان افهمك ما اريد أن تقوم به ..

كانت كرة الجولف تجري في طريقها وسط الملعب عندما سأل تومي الكوماندوز هايدوك :
- منذ متى تعرفت على بلتشلي يا هايدوك ؟
- بلتشلي؟ دعني أتذكر .. أوه .. منذ حوالي تسعة شهور .. وأذكر أنه أتى إلى هذه المنطقة في الخريف الماضي..
- قلت انه صديق لأحد أصدقائك ؟
- هل قلت أنا ذلك ؟ لا أظن .. وأذكر أنني قابلته هنا .. في النادي ...
- انه شخص محوط بالأسرار على ما أرى ..!
- أسرار.. ! بلتشلي العجوز ..! هذا أغرب وصف للرجل .. لو قلت انه رجل عسكري التفكير أو محدوده أو ما شابه ذلك لكنت أوافقك ، ولكن وصفك هذا له ..
- لعلي وصفته هذا الوصف نتيجة لما سمعته عنه من بعضهم ..
- ماذا تعني ؟
- لا شيء .. انه مجرد حديث عابر سمعته ..
- كل ما علمته عنه انه كان في فرقة الهوازر ..
- هل أنت واثق؟
- أنا؟ لا . لست متأكدا .. ولكن حدثني يا ميدوز .. هل علمت عنه أمرا ؟
- لا .. أبدا .. فقط ..
- أكاد أدرك ما تعني .. تقصد ان احدا لا يعلم شيئا عن ماضيه .. وأنه منذ نزل بهذه المنطقة لم يتصل به مخلوق.. ولم يتصل هو – فيما أعلم – بأحد ..
- آه .. هل ترى أن نواصل اللعب؟
واتخذ كل منهما موقفه الجديد في ساحة اللعب ، وبعد جولة عاد هايدوك يسأل :
- ماذا سمعت عنه ؟
- لا شيء ..
- لا حاجة بك الى كل هذا التحفظ معي يا ميدوز .. لقد تعودت الاستماع الى مختلف الاشاعات واني أكاد أخمن المسألة .. هل يخفي بلتشلي حقيقته ويظهر لنا بغيرها ؟
- هذا مجرد فرض ..
- ماذا يفترضون ؟ انه جرماني ؟ ان ذلك مستحيل ..
- آه ، طبعا .. هذه الناحية لا غبار عليها ..
- ثم لا تنس كيف كان متحمسا للقبض على ذلك الفتى الألماني وكيف صرح عدة مرات بوجوب شنقه.. وبعمري لقد كنت أوافقه على رأيه كل الموافقة فقد سمعت أن ذلك الفتى أعد مشروعا لتسميم مياه الشرب في المنطقة .. ذلك ا لود الذي كان يعيش بيننا نكرمه ونحسن استقباله ..

وأسف تومي كل الاسف على الفرصة التي ضاعت منه والتي كان قد أعدها لاستدراج الكوماندوز الى هذا الحديث .. فقد انضم اليهما في تلك اللحظة بعض أعضاء النادي وعرضوا عليهما الذهاب الى الناي لتناول المشروبات .. وبعد أن جلسوا جميعا بعض الوقت قال هايدوك بعد أن نظر الى ساعته :
- أرجو قبول عذرنا يا سادة . فنحن – ميدوز وأنا – على موعد ..
وأتى تومي على قوله فخرجا ، ووافق تومي أن يتناول عشاءه مع الكوماندوز في استراحة المهربين وقام بخدمتهما خلال تناول العام ساق في منتصف العمر .. كان يؤدي واجبه كما لو كان في أعظم مطاعم لندن .. وانتهز تومي فرصة خروجه من الحجرة وأبدى اعجابه به، فقال الكوماندوز..
- أجل انني سعيد الحظ اذ عثرت على "آبل دور" ..
- وكيف عثرت عليه؟
- أعلنت عن حاجتي لساق متمرن.. وكان أول من أجاب الاعلان وقد لي شهادات مترفة من مخدوميه السابقين..

وعندما بدأا يحتسيان القهوة .. قال تومي :
- ماذا كنت تقول عندما كنا نتحدث عن بلتشلي؟
- ماذا كنت اقول؟ أترى.. أترى هذه الاضواء التي تلوح في البحر .. أين منظاري ؟ اني اعتقد ان هذه بوادر الغزو ..
وبدأ تومي يتتبع الأضواء .. واستطرد هايدوك يقول :
- ها هم أولاء يسيرون من نصر الى نصر .. ونحن ماذا نفعل.. نحتسي الويسكي ونتحدث عن السقاة ..
وكان آبل دور قد دخل ومعه زجاجة ويسكي وبعض الكؤوس .. وراح تومي يراقب الرجل وهو يملأ كأسه.. وقال في نفسه.. كان يجدر أن يسمى هذا الساقي " فريتز" لا "آبل دور" ان هيئته وتقاطيعه أقرب الى الهيئة الالمانية من أي هيئة أخرى .. أما طريقة نطقه باللغة الانجليزية فلا شك انه تعلمها من طول اقامته في البلاد .. وأخذ يمعن في التأمل .. ترى أين رأى هذا الرأس! وهذا الوجه قبل الان وكان الكوماندوز يقول :
- نعم اننا نتحدث في موضوعات تافهة .. ومن وقت الى اخر يطلبون منا ملء تلك الاوراق السخيفة .. التي تختص بعضها بتحقيق الشخصية والبعض الاخر بالتموين وبعضها ..
- تلك الاوراق التي يسألونا فيها عن عمرنا ثم عن اسمنا .. ويقول لك الموظف المختص في شراسة :
- انطق .. ما اسمك .. تكلم .. ( ن ) أو ( م ) ...
وقفزت زجاجة الويسكي من يد الساقي الممتاز .. وانتثرت محتوياتها على قميص تومي ثم سقطت على الارض وارتجف الساقي واخذ يقول متلعثما :
- آسف ..سيدي .. آسف ..
وانفجر غضب هايدوك وصاح :
- ما هذا الذي فعلت أيها الغبي المخبول .. ماذا تظن أنك تفعل أيها الخنزير .. واستمر آبل دور في اعتذاراته المتكررة وهو يجمع الادوات المبعثرة وتأثر تومي لحاله.. وفجأة عادت الرقة الى الكوماندوز فقال تومي :
- تعال لتغسل يديك ..
وقام الرجلان الى الحمام ذي الاجهزة العصرية..
ودخل تومي الحمام ليغسل يديه بينما وقف الكوماندوز في غرفة النوم المجاورة يقول :
- لعلي أغلظت القول يا تومي للساقي.. ولكن اعذرني .. فقد ضايقني ما حدث ..
وغسل تومي يديه ثم وقف يجففهما ولم يلحظ ان قطعة من الصابون انزلقت على أرض الحمام الملساء .. فلما استدار ليخرج عثرت رجله بها .. فانفرجت رجلاه كما لو كان أحد راقصي الباليه واصطدمت احدى يديه بصنبور الماء واصطدمت الاخرى باب اخر في الحمام .. وانزلقت رجله حتى صدمت المغطس وفي طرقة عين اختفى وانكشف الحائط عن مخبأ غريب به جهاز لاسلكي ضخم ...
وفي تلك اللحظة نفسها .. توقف صوت الكوماندوز عن الحديث وظهر واقفا بباب الحمام ..
وفي نفس اللحظة أيضا لمعت أضواء في ذهن تومي .. وضعت كثيرا من الامور في نصابها ..
هل كان أعمى حتى تلك للحظة.. ان ذلك الوجه الانجليزي العادي لم يكن سوى قناع .. لماذا لم يحس ان هذا القناع يخفي وراءه صفات الضابط البروسي الفظ..! ذلك الذي لا يغتفر خطيئة لأحد مرءوسيه.. لقد تجلى ذلك عندما انسكب الشراب من يد الساقي المرتعشة .. ذلك الساقي الغبي الذي لم يحتمل صدمة ذلك السؤال..
وهكذا تتالت الاستنتاجات في رأس تومي وتداعت المعاني ..
أرسل العدو رسوله الاول "هاهن" فأعد المكان.. واستخدم عمالا اجانب دوم ان يهتم بلفت الانظار اليه حتى يتم العمل.. فيتدخل رجل من كبار رجال البحرية الانجليزية المتقاعدين لا ترقى اليه الشبهات هو الكوماندوز هايدوك.. ويكشف عن سر هذا الرجل.. ومن الطبيعي جدا أن يتقدم لشراء المكان، ويدور يتحدث عن القصة حتى يضايق بها من يستمع اليها .. وهكذا استقر ( ن ) في مركزه المعد له في مكان على ساحل البلاد وتحت امرته كل الوسائل الميسرة للاتصال بالخارج عن طريق الاجهزة التي أخفيت بمهارة وحذق.. أو عن طريق أركان حربه المنبثين في كل مكان داخل البلاد ، وبخاصة في سان سوسي مركز قيادته..

ولم يستطع تومي ان يخفي اعجابه باحكام الخطة اذ لم يتطرق اليه أي شك في الرجل .. ولولا تلك الحادثة غير المتوقعة، ما انكشفت الامور له على هذا النحو.. وقد طافت هذه الافكار جميعها في ذهن تومي في ثوان أدرك بعدها أن موقفه أصبح في غاية الخطورة وأن عليه تمثيل دور الانجليزي الغبي عله ينجو بجلده.. فتمالك نفسه ، وعدل ملابسه وجمع ما انتثر من جيوبه ثم قال موجهها حديثه للعملاق المنتصب بباب الحمام بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة ركز فيها كل ما استطاع من بلاهة :
- يا للعجب .. حقا ان ما نراه في منزلك من الغرائب يثير الدهشة والعجب .. هل هذا أحد أجهزة هاهن الغريبة ؟
وكان هايدوك قد وقف بالباب دون أن يتحرك .. وخيل لتومي أنه تمد حتى ملأ فراغ الباب كله .. فسرت في بدنه قشعريرة وأحس بالعرق البارد يغمره وتذكر أن هناك الساقي أيضا.. ومن يدري ؟ وقطع أفكاره صوت هايدوك ضاحكا:
- انه أمر مثير للضحك يا ميدوز .. فقد قفزت في الهواء كأبرع لاعبي الباتيناج ، ولست أعتقد أن حركة كهذه تحدث للمرء مرتين في العمر .. جفف يديك وتعال الى الغرفة الاخرى..
وتبعه تومي وهو في غاية التنبه لأقل حركة أو بادرة فان عليه ان يخرج سليما من هذا المكان وفي الحال بأي ثمن.. وامتدت يد هايدوك الى كتف تومي بحركة قد تكون طبيعية وقد لا تكون.. وقاده الى غرفة الاستقبال فدخل أولا وتبعه هايدوك الذي لم ينس أن يغلق الباب خلفه .. ثم قال في صوتي طبيعي وهو يشير الى تومي بالجلوس :
- لدي ما أقوله لك أيها الطفل العجوز .. انه موضوع غريب.. ولن أقوله لك الا لأنك موضع ثقتي .. وعليك أن تنساه مباشرة يا ميدوز .. هل تفهم ما أعني؟
فأعمل تومي جهده ليظهر بمظهر المتلهف على سماع الحديث.. بينما سحب هايدوك كرسيا وقربه الى حيث جلس تومي ثم قال :
- ان المسألة يا ميدوز لم يدركها أحد مطلقا . اني أعمل في قلم المخابرات . . فهز تومي رأسه نفيا وزاد من تصوير تلهفه .. فاستطرد هايدوك :
- انه سر في غاية الخطورة .. بل هو من أسرار الدولة العليا يا ميدوز .. ونحن نرسل من هنا بعض الاشارات السرية، وأكرر القول انه سر في غاية الخطورة بل هو سر مميت لو عرف .. أتفهم ما أعني؟
- طبعا .. طبعا .. ما أغرب هذا ! ثق أنني سأنسى هذا الحديث..
- يكفي ما علمت.. واني أعتذر إليك.. ولكن الحادث كله لم يكن متوقعا ..

وكان تومي يحسب لكل كلمة يقولها ألف حساب ، اذ لم يكن يتوقع ان يصدق الكوماندوز اصطناعه البلاهة ، ولكنه لم يجد سواها بابا يحتمل أ، يخرج منه ، وكان يعتمد على أن الغرور صفة من صفات أغلب الرجال ، أمثال هايدوك ، الذي يعتقد نفسه انه أذكى من سائر المخلوقات .. وانه تبعا لذلك يعتبر ميدوز هذا رجلا انجليزيا غبيا يصدق كل ما يقال له .. فاستمر تومي يتكلم مظهرا اعجابه ودهشته دون ان يلقي سؤالا واحدا على الكوماندوز الذي أخذ بدوره يتكلم ببساطة البحار الانجليزي واختفى الضابط البروسي الفظ خلف قناع صفيق، ولكن تومي كان يراقبه بعين جديدة على ضوء ما اكتشف ..
وبعد هنيهة وقف ميدوز وقال :
- لقد تأخرت كثيرا ويحسن بي أن أذهب الان وأعدك الا افتح فمي بما رأيت أو علمت كما أعتذر اليك عما حدث فقد كان بمحض الصدفة ..
وكان يقول في نفسه.. هل سيسمح له بالخروج يا ترى ؟
واتجه نحو الباب .. ثم سار في الردهة . وأصبح على خطوات من الباب الخارجي ..
ولمح في غرفة على يمينه آبل دور يعد أدوات المائدة للصباح التالي ..
اذن .. ان الامور تسير كما يهوى .. وسيتركه الأغبياء يخرج .. بالسر الخطير ..
ووقف الرجلان هايدوك و ميدوز بالباب الخارجي يضربان موعدا لمباراة جولف، على أرض النادي يوم السبت المقبل..
وسمعا أصواتا قادمة في الطريق .. كان رجلين من أعضاء النادي يعرفهما معرفة سطحية ، ولما رأيا الكوماندوز وأشار اليهما ميدوز بالتحية توقفا وتبادل الجميع بعض الحديث ، ثم استأذن تومي من الكوماندوز وسار في طريقه الى سان سوسي بصحبة الرجلين الذين سارا في نفس الاتجاه ..
- ها هو ذا ، قد أصبح طليقا بعد أن انكشف له السر الخطير ..
وسقط هايدوك الغبي في الفخ دون أن يشعر ..
وتوالت أفكاره من كل اتجاه .. ماذا يقدر لاكتشافه هذا .. سيهز ادارة المخابرات هزا عنيفا .. ووصل الى أبواب سان سوسي . ويحا زميليه في الطريق .. وسار في الممر يصفر لحنا .. وما أن استدار في المنعطف المظلم الذي يؤدي الى الدرج حتى أحس بشيء ثقيل يهبط على رأسه فسقط على وجهه ، وغاب عن الوجود ...

:: الفصل العاشر ::

كن يلعبن الورق .. وعادت مسز سبروت الى منضدة اللعب وهي تقول حانقة:
- لقد قدموا موعد تجربة الغارة الجوية مرة ثانية.. وستتم الليلة ..
وكانت مسز منتون تقول :
- اعطني ورقتين .. انني لا أستطيع الاعتماد على الحظ وحده .. فالورق يحتاج الى حظ وفن..
وقالت توبنس :
- ورقة واحدة ..
وفجأة قالت مسز كايلي :
- عن اذنكن.. يظهر ان مستر كايلي في حاجة الي .. ويخيل الي ان كتابه سقط منه او انه سقط عن مقعده .. فقد سمعت شيئا يسقط..

وبدأت المتبقيات تتفكهن بالحديث عنها وعن زوجها، ثم سكتن لحظة وأخيرا قالت مس منتون :
- لم أر شيلا الليلة.. ترى أين ذهبت ؟
فقالت مسز سبروت :
- لقد ذهبت الى السينما ..
وسألت توبنس :
- وأين مسز برينا ؟
فأجابت مس منتون :
- سمعتها تقول انها ذاهبة الى حجرتها لمراجعة الحسابات.. بعمري ما أصعب مراجعة الحسابات !
وقالت مسز سبروت :
- لا أظن أنها تراجع الحسابات ، فقد رأيتها تمر بالردهة ، وأنا اتحدث بالتليفون منذ برهة وكانت تصعد لاهثة الى الطابق الثاني، ورمقتني بنظرة غريبة لم أفهمها..
ودخلت مسز برينا فاتجهن اليها بأبصارهن.. وسألتها مس منتون :
- خيرا.. هل كنت تتنزهين في الخارج ؟
- أبدا .. أنا لم أخرج ..
- سمعت مسز سبروت تقول انك في طريقك الى النزهة فاستغربت ..
- خرجت لأرى حال الجو خارج الفيلا ..
ودخلت مسز أوروك بعد لحظة وقالت :
- بوكر ام بريدج ؟
فنظرن جميعا اليها وسألتها مسز سبروت :
- ما هذا الذي أراه في يدك ؟!
- انها مطرقة .. وجدتها بجوار الدرج .. لا بد أن يكون أحد قد نسيها هناك ..
وبعد قليل عاد بلتشلي من السينما، واخذ ينقد الفيلم الذي رآه ثم أحس الجميع ان الوقت قد تأخر ، فانصرف كل الى غرفته ..

وفي الصباح اجتمعوا على مائدة الافطار، وقال الماجور بلتشلي:
- انه أمر غريب حقا..
- اني لا أحب الجري وراء الاشاعات أو الاساءة لسمعة أحد ولكن .. انه المستر ميدوز ..
- ماذا حدث له ؟
- لم يعد الى الفندق في الليلة الماضية.. بل انه لم يعد حتى الان ..
فقالت توبنس في دهشة :
- ماذا تقول ؟!
فأجاب الماجور وهو يرمق توبنس بنظرة لها مغزاها.. نظرة الرجل الذي يدرك احساسات الارملة الجامعة :
- يظهر ان مستر ميدوز حن الى سهرات الشباب.. ومع كل فقد ضايق غيابه مسز برينا..
وقالت مسز منتون:
- من يعلم .. لعله أصيب بحادثة أثناء تجربة الغارة في الليلة الماضية..
- حادثة.. مستحيل..
ثم قال كأنما يوجه كلامه الى مسز بلنكنسوب :
- انها الطبيعة البشرية.. التي تدفع الكهول دائما، الى التغيب عن منازلهم..
- لست أرى مستر ميدوز من ذلك النوع من الرجال.. وفي ظني أن حادثا وقع له..
فقال الماجور:
- انه لو صدم مثلا بسيارة أو بشيء من هذا القبيل لعلمنا ذلك..
- لعلهم نقلوه الى أحد المستشفيات ؟
ولم تحتمل توبنس الحديث أكثر من ذلك فانسحبت من الغرفة ، وابتسم الماجور قائلا:
- مسكينة الارملة التي تجري وراء كهل لا يهتم بها.. صدق ديكنز اذ قال " احترس من الكهول .. العزاب .. فلا رجاء فيهم" .

والواقع ان توبنس أقلقها غياب تومي الغير متوقع.. ولكنها حاولت ان تطمئن نفسها بان يكون قد عثر على اثر هام، وأخذ يتتبعه دون ان يجد فرصة للاتصال بها.. وكان كلاهما يقدر صعوبة اتصال احدهما بالآخر.. ويقدر احمال أحدهما المفاجئ..
فاتفقها على وسائل للتفاهم في مثل هذه الحالات.. ثم ان غياب مسز برينا خارج الفيلا في الليلة الماضية كما قالت مسز سبروت ورغم انها انكرته يحوي معان كثيرة .. لعل تومي أحس بأحدها ، فتتبعها ليكتشف المهمة الخفية التي خرجت من أجلها، ولكن كان عليه أن يتصل بها بالوسائل المتفق عليها أو يسرع في العودة..

ولكن اليوم مر طبيعيا.. ولم يسمع عن مستر ميدوز أي خبر وفي المساء وبعد الحاح جميع النزلاء.. قبلت مسز برينا ان تتصل بالبوليس ، فحضر أحد الكونستبلات وسأل عن المعلومات التي يعرفها النزلاء عن زميلهم الغائب ، ودونها في مفكرته، وقام بعمل تحريات عرف منها ان المستر ميدوز بارح منزل الكوماندوز هايدوك في العاشرة والنصف مساء، ومن هناك سار مع المستر وولترز والدكتور كيرتز حتى أبواب سان سوسي ثم ودعهما ودخل حديقة الفيلا .. ومنذ تلك اللحظة لم يظهر المستر ميدوز..
ورأت توبنس خلال هذه المعلومات ان هناك احتمالين، الاول ان يكون قد رأى مسز برينا خارجة في تلك الساعة المتأخرة فتبعها حتى رآها تقابل شخصا غريبا فتبع هذا الاخير.. وتركها هي لانها رآها تعود الى سان سوسي، وفي هذه الحالة يرجح أن يكون على قيد الحياة.. وأن تحريات البوليس ستربك أعماله.. أما الاحتمال الثاني فقد صورته لها الحالة الغريبة التي كانت عليها مسز برينا من ناحية ثم دخول مسز أوروك وفي يدها تلك المطرقة الثقيلة .. والتي لم تجد تعليلا مقبولا للعثور عليها في تلك الساعة من الليل.. ثم ان تحديد الوقت كان مستحيلا. لان واحدة من اللاتي كن يلعبن الورق لم تهتم به ساعتئذ، كما ان مسز برينا أنكرت أنها خرجت، ايلا لترى حالة الجو خارج الفيلا! ثم تلك الملاحظة التي ابدتها مسز سبروت.. من أنها رأتها تجري لاهثة.. وتصعد الى الطابق الثاني من الفيلا.. وقد حاولت توبنس أن تتأكد من الساعة التي حدث فيها كل هذا من الاخريات ولكنهم لم يجبن بما يشفي الغليل..

ثم ان هناك احتمالات أخرى .. فقد كان هناك ثلاثة آخرون من سكان سان سوسي في الخارج.. في الوقت الذي عاد فه تومي فالماجور بلتشلي كان في السينما وحيدا والطريقة التي اتبعها في حكاية قصة الفيلم كله قد تفسر على انه كان يعد لنفسه مخرجا، فيما لو وضع في موقف الاتهام.. ثم هناك المستر كايلي الذي دار حول الحديقة دون سبب معقول في ذلك الوقت بالذات ولأول مرة منذ سكن سان سوسي .. ومسز أوروك نفسها والمطرقة الضخمة التي كانت تلوح بها في يدها دون مناسبة ما ..



* * *



- ايتها الجميلة .. مالي أراك اليوم على غير ما عهدت .. انه انشغال البال ما من شك في ذلك ..؟ ترى ماذا يشغل بالك .. ؟

فابتسمت " ديبورا برسفورد " لمحدثها الشاب " توني مارسدون " فقد كانت الفتاة تميل اليه لذكائه المفرط اذ اعتبره الرؤساء أبرع من عمل في ادارة الشفرة ، وكانت ديبورا في نفس الوقت تحب عملها الذي يجبرها على تركيز تفكيرها فيه.. ورغم انه عمل متعب الا انه لذيذ تشعر من تشغله بأنها ذات أهمية، وليست كتلك الممرضات اللاتي يتسكعن في ردهات المستشفيات ينتظرن حالة جديدة من وقت الى آخر .. وعاد توني مارسدون يسألها:
- ما الذي تفكرين فيه .. أيتها الجميلة ؟
- لا شيء.. انها مسائل عائلية لا أكثر ..
- ان العائلات مرهقة دائما.. هل لي أن استفسر ؟
- ليس في المسألة سر.. ان والدتي .. أراني قلقة عليها ..
- لماذا ؟ أمريضة هي؟
- أبدا.. كانت قد أرسلت لي خطابا بأنها ذهبت لتقيم مع عمة مسنة لي في كورنوال لتساعدها وتمرضها وقد كنت في غاية الاطمئنان عندما وصلني منها خطاب منذ يومين..
- اذن ماذا غير الاحوال؟!
- نعم .. بل لم تذهب الى هناك اطلاقا..
- أمر غريب حقا.. و اين .. أعني والدك ؟
- ابي؟ انه التحق بعمل في اسكتلندا .. من تلك الاعمال الكتابية .. الملفات و الاوراق وما شابه ذلك..
- ربما ذهبت والدتك لتلحق به هناك ..
- لا يمكن .. فانه يعمل في احدى تلك المناطق التي يمتنع دخول الزوجات فيها ..
- اذن لا بد أن تكون قد ذهبت الى مكان ما ..
- نعم .. ولكن .. ان كل خطاباتها تتحدث عن العمة المسنة والحديقة .. و ..
- نعم .. نعم .. لا شك انها كانت تريدك ان تعتقدي انها هناك .. بينا .. أعني ..
- لا .. لا .. مستحيل .. اذا كنت تعتقد ان امي من اولئك النساء اللاتي لا يجدن غضاضة في الاتصال برجل اخر ، فأنت مخطئ .. مستحيل أن يحدث هذا ..
- آسف جدا .. فلم أكن أعني لك ..
- الغريب في الموضوع ان شخصا ما قال لي امس انه رآهما في ليهامتن أخيرا ... ولكن خطاباتها من كورنوال .. انني لا استطيع ان افهم ...
وتوقف توني عن اشعال سيجارته وترك عود الثقاب يحترق دون ان يهتم به ، وصاح في دهشة :
- ليهامتن ..!
- نعم .. انه آخر مكان يفكر الانسان .. ضباط متقاعدون .. وأرامل يستشفون ورمى الشاب بعود الثقاب الذي كاد يحرق اصابعه، ثم عاد فاشعل عودا آخر وسألها :
- ماذا كانت والدتك تعمل في الحرب الماضية ؟
- كانت تعمل في التمريض .. وأحيانا أخرى تقود سيارة أحد الجنرالات على ما اظن ..
- ظننت انها كانت ، مثلما انت الان ، في ادارة المخابرات ..
- مخابرات ؟ أظن انها قامت في وقت من الاوقات بنقل بعض الاوراق الهامة فاعتبرت ذلك عملا جبارا.. وبالغت في أهميته ..

وفي اليوم التالي عندما عادت ديبورا الى غرفتها لاحظت ان حالة الغرفة تنبئ بأن أشخاصا عبثوا بها، فنادت صاحبة المنزل.. وسألتها خاصة عن الصورة الكبيرة التي كانت تحلي بها منضدة الزينة ، ولكن السيدة قالت انها لم ترها و اظهرت اسفها وقالت ان الخادمة ربما تعلم شيئا عما حدث، ولما سئلت الخادمة انكرت معرفتها لأي شيء وقالت ربما كان الرجل الذي اتى ليصلح صنابير الغاز هو الذي عبث بالغرفة ولكن ديبورا لم تتصور ان موظفا بشركة الغاز يهتم بصورة سيدة في منصف العمر ، وشكت ديبورا في ان تكون الخادمة قد كسرت اطار الصورة وخوفا من المتاعب اخفتها نهائيا ولم تحب ديبورا ان تثير مشاكل جديدة .. ففي وسعها بلا سك ان تطلب من امها ارسال صورة اخرى .. ومع ذلك فإنها كانت قلقة على امها.. وخاصة بعد ما أشار صديقها توني الى احتمال اتصالها بشخص ما ...

:: الفصل الحادي عشر ::
كان الدور على توبنس لمقابلة ذلك البحار المسن الذي يصيد السمك بسنارته ، وكنت ترجو ان يكون مستر جرانت على علم بأسباب غياب زوجها ولكن أملها انهار تماما فقد علمت منه ان أخبار تومي انقطعت عنه منذ وقت طويل ، فقالت توبنس وهي تبذل جهدا كبيرا لتجعل نغمات صوتها تبدوا عملية :
- لا أظن ان هناك من الاسباب ما يجعلنا نعتقد انه أصيب بمكروه .
- كلا .. لا أظن .. ولكن لنفرض جدلا أنه أصيب .. ماذا عنك أنت ؟
- أنا ؟ سأستمر طبعا..
- هذا ما أريد أن أسمعه، ولديك وقت طويل بعد الانتصار في المعركة تبكين فيه.. أما الان فنحن في ابانها ، والوقت قصير ، ثم لا تنسي أن نبأ صغيرا ، أبلغتماه الينا ثبت انه صحيح .. فان كلمة الرابع عرف انها ترمز الى اليوم الرابع من الشهر القادم وهو اليوم الذي حدده العدو لغزوه هذه البلاد ..
- أمتأكد أنت ؟
- نعم ، ان اليوم الرابع هو يوم الغزو ، أما هذه الغارات المتتالية فما هي الا اختبار استحكاماتنا ومقدرتنا على المقاومة..
- ولكن ما دمتم تعملون هذا كله ..
- اننا نعلم ان يوم الغزو قد تحدد .. كما نعلم على وجه التقريب في أي مكان سيقع.. ونحن على أتم استعداد لهم.. ولكن ما يقض مضاجعنا هو القصة القديمة قصة الحصان طروادة والرجال الذين يعيشون في جوفه فهؤلاء هم الخطر الاكبر اذ انهم يعرفون ما نعرف من اسرار الدولة الحربية، وهم الذي يستطيعون تسليم العدو مفاتيح القلعة.. ويكفي ان عشرة منهم يوزعون في مراكز هامة، لتحطيم كل تنظيماتنا وكشفها للألمان، ومن ثم ترين أن ما نحتاج إليه هو الكشف عنهم ..
- ما أقسى احساسي بعجزي وعدم خبرتي!
- لا عليك.. فلدينا كثير من الخبراء يعملون ما وسعهم العمل، ولكن الخونة الذين يندسون وسطهم يجعلوننا لا ندري فيمن نثق وفيمن لا نثق..
- ألا تستطيعون تعيين بعضهم لمراقبة مسز برينا ؟
- لقد قمنا بذلك فعلا ، وعلمنا أن لها نزعة نازية ، ولكن لم نصل بعد الى ما يثبت ادانتها ، فأرجو أن تستمري في عملك بأقصى ما تستطيعين من حذق وحيطة ..
- تبقى نحو أسبوع على ذلك الموعد.. أعني اليوم الرابع ..
- نعم .. اسبوع بالضبط..
- اذن لا بد لنا من عمل شيء ما... وأعني أنا وتومي .. فاني ما زلت اعتقد انه وراء اثر ما .. ولعمري كم اود لو استطيع أن . . وقررت في نفسها خطة جديدة للهجوم..

- والآن يا ألبرت يجب أن أغير من الوسائل التي اتبعتها حتى الآن ..
- ولكن يا سيدتي.. ان العدو لم يعرفك حتى الان .. ويكفي انه اكتشف السيد برسفورد فيما أظن..
- لم يبق أمامنا وقت نضيعه .. وسأحاول أن أكشف نفسي ، وعليك أنت أن تراقبني ، وترى ماذا تستطيع أن تفعل حيال العدو في اللحظة التي يضع فيها يده علي ..
- لا أفهم ما تعنين..
- سأكتب خطابا وأدعي أنه فقد مني، وأقيم الدنيا وأقعدها عن أهميته ثم أترك الفرصة للخادمة كي تجده وتضعه في مكان ظاهر.. وأول من يتقدم إليه يكون هو ( ن ) او ( م ) وأعتقد انه سيعمل فورا على ازاحتي من الطريق وعليك ان تكون يقظا لكل ما يحدث .. وأبلغ أولي الأمر في اللحظة المناسبة ، فيقبضون عليه في حالة التلبس ..
- بالضبط .. وعليك أ، تفكري في هذا حتى صباح الغد، وتقابليني لنتفق على الخطوات الأخيرة..



* * *


خرجت توبنس من المكتبة بعد أن اشترت كتابا وصفوه لها بأنه كتاب شائق و اذا بها تسمع صوتا خلفها يقول :
- مسز برسفورد ..
فالتفتت في ذعر .. فوجدت شابا اسمر اللون طويل القامة ، علت شفتيه ابتسامة... قال لها :
- أعتقد أنك لا تعرفينني.. أو على الأقل لا تذكرينني.. لقد زرتكم في أحد الأيام الماضية مع ديبورا ...
اذن هو أحد أصدقاء ديبورا .. وما أكثرهم ..
- انني أنتوني مارسدون .. وأعمل في نفس المكتب الذي تعمل فيه ديبورا وقد حدث أمر مؤسف ..
- ما هو ؟
- اكتشفت ديبورا أنك لست في كورنوال كما كانت تعتقد .. وهذا أمر مؤسف حقا بالنسبة إليك يا سيدتي على الأقل..
- كيف؟ ماذا خمنت يا ترى ؟!
- ان ديبورا في الواقع لا تدري ماذا تفعلين الان .. ويخيل أي انه من اللازم الا تعلم.. واني اقوم بعمل مشابه، اذ علي ان اتحرى عن الاشخاص الذين يميلون للنظام النازي ، وهم كثر ..
- ان الخيانة في كل مكان..
- عندما حدثتني ديبورا عن عدم وجودك في كورنوال عملت على الحضور فورا لتقومي من ناحيتك بترتيب الامور لتغطية الموقف خاصة وقد عرفت بعض الشيء عن النشاط الذي تقومين به، والى أي حد هو حيوي ، ولعمري .. اذا عرفت ما انت قائمة به من نشاط .. فان في ذلك خطرا محققا .. وقد فكرت ان تدعي انك اتصلت بالكابتن برسفورد في اسكتلندا . او في أي مكان آخر يكون فيه ، ويمكنك ان تقولي ، انه سمح لك بالعمل معه..
- ربما فعلت ذلك ..
- أرجو ألا يضايقك تدخلي فيما لا يعنيني ..
- بالعكس اني اشكرك ..
- اني كما ترين .. أميل الى ديبورا ..
فرمقت توبنس الفتى بنظرة وفكرت في اهتمام الشبان بابنتها ديبورا رغم خشونة معاملتها لهم.. وتصورت ان هذا الشاب لا بد ان يكون واحدا منهم .. ثم عادت وقالت للشاب :
- ان زوجي ليس في اسكتلندا ..
- هكذا !..
- نعم .. كان هنا معي ، ولكنه اختفى فجأة ..
- هذا امر يؤسف له حقا .. هل كان وراء أثر ما ؟
- نعم .. ولست أظن أن في غيابه هذا ما يخشى منه.. كما أظن أنه سيتصل بي بوسائلنا الخاصة .. ان عاجلا أو آجلا ..
- طبعا .. ولا شك أنك تدركين خطورة المهمة .. ويجب أن تكوني على حذر ..
- لا شك في ذلك .. واني أفهم ما تعني ...

:: الفصل الثاني عشر ::

بدأ تومي يحس كأنما كرة نازية تسبح في عينيه ، بعد أن كان قد فقد الوعي مدة لم يستطع حسبانها، وتجمع الألم مجسما في مركز تلك الكرة ، وأخذت تسبح ببطء، ثم أحس فجأة أن نواة ذلك الألم هو رأسه المحطم..
وأخذ يستفيق شيئا فشيئا ويعي بعض ما هو فيه فأدرك ان اطرافه قد تثلجت وأنه جائع ، وانه غير قادر على تحريك شفتيه ..
ان رأسه ملقى على أرض .. أرض جامدة .. أقرب الاشياء الى صخر صلد . . وبدأت ذاكرته تعود إليه شيئا فشيئا.. فتذكر هايدوك.. وجهاز اللاسلكي .. والساقي الألماني ودخوله من أبواب سان سوسي .. ثم ما حدث بعد ذلك ..
وعاد يقول لنفسه .. هايدوك .. لقد عاد هايدوك الى استراحة المهربين أمامي وأغلق الباب خلفه .. ترى كيف رتب الامور بحيث يسبقه الى سان سوسي، وينتظره هناك.. ؟ ان ذلك أمر مستحيل.. فلم يره في الطريق .. اذن .. لا بد أن يكون الساقي .. ولكن لا .. لقد رآه ينظم المائدة استعدادا لإفطار سيدة في صباح اليوم التالي .. وعلى كل .. فان ذلك لا أهمية له .. انما المهم ان يعلم أين هو الآن ؟ .. كانت عيناه قد اعتادتا الظلام فرأى بصيصا من نور ينبعث من نافذة صغيرة في أعلى المكان الذي كان فيه ، وأدرك انه ملقى في قبو و أن يديه قد قيدا وكذلك رجليه، وأنه قد كمم بإحكام بحيث لا يسمع له صوت .. وقد بدأ يحاول تحريك أطرافه دون جدوى .. وبعد لحظات سمع صوت باب يفتح ، في مكان ما خلفه .. ودخل رجل يحمل شمعة ثبتها على الارض ، ثم خرج وعاد من جديد يحمل في يديه صينية عليها دورق به ماء وكوب وبعض الخبز والجبن .. وقد عرف تومي فيه آبل دور الذي أخذ يتحسس الأربطة والكمامة ، ثم قال:
- سأنزع عنك هذه الكمامة لتاكل، وإذا بدر منك أي صوت سأعيد ربطها من جديد..
فحاول تومي أن يهز رأسه ايجابا ولكنه لم يستطع الا ان يفتح جفنيه ويقفلهما علامة على رضاه.. فأخذ آبل دور ينزع عنه الكمامة ببطء واستطاع تومي بعد عدة دقائق أن يحرك فيه وفمه، فأمسك آبل دور بالكوب وقربه من شفتيه فجرع قليلا بصعوبة في أول الأمر، ثم استطاع أن يزدرد الماء ازدرادا، فأحس أن حالته أصبحت خيرا مما كانت ..
ثم امسك الرجل بقطعتي الخبز والجبن و رفعهما الى فم تومي، واستمرت العملية بعض الوقت.. وشرب تومي أغلب ما كان في الدورق من الماء ، ثم سأل الرجل :
- وما القسم الثاني من برنامجكم؟
ولم يجب أبل دور، ولكنه مد يده إلى الكمامة.. فأسرع تومي قائلا :
- اريد أن أقابل الكوماندوز هايدوك ..
فهز آبل دور رأسه علامة عدم الموافقة، وأعاد ربط الكمامة ، وهكذا ترك تومي في ظلام دامس ، فنام..
واستيقظ على صوت الباب يفتح من جديد، ودخل في هذه المرة هايدوك و آبل دور معا ، وأزيلت الكمامة والأربطة .. وكان هايدوك ممسكا بمسدس اتوماتيكي في يده ..
ولم يكن تومي مطمئنا الى نجاح الخطة التي صمم عليها ، ولكنه قال :
- لست أفهم معنى لكل هذا يا هايدوك.. فقد اختطفت بدون أي مبرر..
- لا تقلق بالك.. المسألة أهون مما تظن..
- هل لمجرد كونك عضوا في ادارة المخابرات تظن نفسك تستطيع ان تفعل ما يحلو لك ؟
- لا .. لا .. يا ميدوز .. فأنت لم تقتنع بقصتي كما رأيت.. ولا حاجة لنا للاستمرار في هذه المهزلة..
ولكن تومي لم يظهر أية بادرة تبين فهمه لما يقول الكوماندور، تمنى في أعماق نفسه أن يون اصراره على التغابي، وسيلة تخرجه من المأزق الذي وقع فيه، فقال :
- من تظن نفسك ، بحق الشيطان، مهما كنت ، ومهما كانت القوات التي تخضع لك فانه لا حق لك ان تعاملني هذه المعاملة ...
فقال الآخر ببرود :
- انك تمثل دورك تمثيلا بارعا.. وليس يهمني اذا كنت من العاملين في ادارة المخابرات البريطانية أو انك هاو مفتون ..
- لا أدري عما تتحدث ..
- كفى يا ميدوز .. كفى أيها اللعين .. لم يبق لدي من الوقت ما يسمح لي بأن أعلم من أنت أو من أرسلك، وليس يهمني هذا الان .. فالوقت ضيق، ولن أترك لك الفرصة لتبلغ من تريد تبليغه، ما رأيت ..
- لا بد أن البوليس يبحث عني .. منذ تغيبت ..
- لقد حضر رجلان من رجال البوليس، في أول ليلة اختفيت فيها .. الى هنا .. وكلاهما كان صديقا لي .. وقد سألاني كل ما أعلم عن المستر ميدوز .. فأظهرت عجبي لاختفائه، واعتقد ان احدا منهما لا يتطرق ذهنه ان الرجل الذي يبحث عنه صريع تحت اقدامه ولا شك ان انك لم تنس خروجك من هذا المنزل سليما معافى ولا اظن ان هناك عقلية في العالم تشك في وجودك عندي ...
- انك لا تستطيع ان تبقيني هنا الى الابد ..
- بن أحتاج الى ذلك .. وقد أبقيك الى مساء الغد .. وهناك قارب صغير ينتظرك ببابي لتقوم فيه برحلة ، تسترد فيها صحتك.. الى الأبد ..
- اني أعجب، لم لم تصرعني في تلك الليلة؟
- ان الجثث تفوح رائحتها في مثل هذا المكان يا عزيزي ، ولذلك أجلنا ذلك الى حين وصول الزورق..
وفهم تومي انه على حق في ذلك، فعندما يصل الزورق يستطيعون قتله ونقل جثته ليقذفوا بها في اليم بعيدا عن استراحة المهربين..
وقال هايدوك في برود :
- لقد اتيت لأسألك.. عما اذا كانت لك رغبة تود ان نحققها لك فيما بعد اذا اردت ان تبعث برسالة الى .. صديق لك .. فثق اننا على استعداد لإسداء هذه الخدمة ...
وفهم تومي ان الرجل يحاول ان يستدرجه ليعرق شيئا عمن يتصل به فأجاب..
- كلا و أشكرك..
وأشار هايدوك الى آبل دور.. فقام على الفور بإعادة الاربطة والكمامة وترك الرجلان القبو بعد ان أغلقا الباب خلفهما..
وأحس تومي بالأسى.. لا لانه سيموت بعد ساعات ولكن لانه لا حيلة له في ترك أي دليل يشير الى المعلومات التي حصل عليها وفكر في توبنس .. ان غيابه لا بد ان يكون قد اقلقها..
ولكن لن يخطر ببالها ان تشك في هايدوك بالذات.. بل انه يعتقد انها لن تشك في احد على الاطلاق اذ ستتوقع انه يقوم بمهمة وسيعود منها.. واخذ يفكر في الاستغاثة ولكن فمه كان مكمما، وفي نصف الساعة التالية حاول فك قيوده دون جدوى...

وقدر أن الوقت قد أضحى بعد الظهر. ولم يسمع صوتا او حركة فوقه فاستنتج ان من بالدار قد رحلوا ولعل هايدوك الان يلعب الجولف في النادي، واستشاط تومي غضبا.. كيف ان أحدا لم يشك في هذا المخلوق ذي السحنة البروسية.. يا له من ممثل بارع!.. أما هو فقد وقع في الفخ كالهر...
لو كانت توبنس تتنبأ وتشك.. انها أحيانا تلهم..
ما هذا.. ؟ وأخذ يتسمع الى صوت يأتي من بعيد.. صوت رجل يترنم بلحن .. ولكن ما الفائدة .. انه لا يستطيع ان يصدر أي صوت يلفت الانظار اليه. واقترب الصوت.. انه لحن مألوف لديه..
" لو كنت أنت الفتاة الوحيدة.. وكنت أنا الفتى الوحيد.."
لقد غنى هذا اللحن كثيرا في عام 1917. لعنة الله على صاحب هذا الصوت..
وفجأة تخشب جسد تومي واهتز في عنف ..
انه يعرف صاحب هذا الصوت .. وقال في نفسه .. انه ألبرت بلا شك.. ألبرت يسير بجوار استراحة المهربين... بالقرب منه ولكنه لا يستطيع أن ينبس بأي صوت .. كلا .. ان كل انسان يستطيع ان يحدث اصواتا وفمه مطبق .. فليجرب ذلك ..
فأخذ يموء موءات متقطعة .. كمن يرسل اشارة لاسلكية...

كانت حالة ألبرت بعد أن ترك توبنس على غير ما يرام، فعجب من هؤلاء الالمان الذين يحيون هتلر مئات المرات في اليوم الواحد ويسيرون بخطوة الاوزة .. ويدمرون بلاد العالم بقنابلهم كأنهم طاعون يفتك بالناس، عليهم اللعنة، يجب ان يقفوا عند حد..
وهذه السيدة برسفورد .. ان لها عليه أيادي بيضاء .. والسيد برسفورد .. أين هو الآن يجب أن يجده لها.. وخرج يبحث عن سيده دون ان يرسم لنفسه خطة ما .. فسار كالكلب الامين، يتشمم رائحة سيده وكان قد علم أن الكابتن برسفورد قد تناول طعامه في منزل الكوماندوز هايدوك في استراحة المهربين ويقال انه عاد بعد ذلك الى سان سوسي .. اذن يجب عليه ان يبدأ من حيث انتهى سيده.. فوقف على ابواب سان سوسي عدة دقائق .. ينظر يمنة ويسرة عسى أن يجد شيئا يلفت النظر، ولكنه لم يجد شيئا.. فاتجه صاعدا الى قمة التل متجها الى استراحة المهربين ..
سار يسلي نفسه بترديد ذلك اللحن :
" لو كنت أنت الفتاة الوحيدة .. وكنت أنا الفتى الوحيد ..."
وتقف ألبرت لحظة متطلعا إلى أبواب استراحة المهربين وقال في نفسه.. هنا تناول السيد برسفورد طعامه .. ودار حول المكان من بعيد .. فرأى الأبواب تفتح وتخرج منها سيارة رأى فيها رجلا ضخما يصحب معه أدوات لعب الجولف .. اذن هذا هو الكوماندوز هايدوك.. وبعد لحظة رأى رجلا .. يخرج من باب الحديقة .. وقد أمسك بفأس في يده.. وعاد ألبرت يترنم باللحن مقتربا شيئا فشيئا من المنزل.. وهو يراقب الرجل الذي بدا يفلح الحديقة .. وفجأة قال ألبرت لنفسه مندهشا .. ما أجمل هذا ! يظهر أن الكوماندور يربي الخنازير .. ما أغرب ذلك! ان هذه لا يمكن أن تكون خنازير .. هل هو غطيط، نائم؟ ومن ينام في مثل هذا القبو .. ثم هذا الغطيط المنظم.. انه .. انه يذكره بشيء .. طال به العهد ... ما هو ؟ .. انه قريب الشبه بالشفرة ... شفرة الاستغاثة ..
وعاد يتسمع من جديد .. ثم تلفت حوله يمنة ويسرة ، وركع على ركبتيه ونقر على شباك القبو عدة نقرات وكأنه يجيب تلك الاشارة..

:: الفصل الثالث عشر ::

لم تكن توبنس في حالة طبيعية، وعندما ذهبت الى فراشها في المساء ، ولما أصبح اليوم التالي ووجدت رسالة لها تغيرت حالتها ففضت الرسالة وقرأت فيها:
" عزيزتي باتريشيا
العمة "جراسيا" بحالة خطيرة اليوم.. وقد قرر الاطباء انها قاربت النهاية، اذا أحببت ان تريها يجب أن تحضري اليوم. اذا ركبت القطار الذي يتحرك في العاشرة والثلث الى محطة يارو ستجدين صديقا معه سيارة.. وكان بودي أن أكتب لك في ظرف أحسن من هذا..
بنلوب بلين"

قرأت توبنس الخطاب ثم ظهرت على محياها علامات الاسى ، وكانت مسز أوروك ومسز منتون موجودتين فأخذن جميعا يتحدثن عن أمراض أقاربهن، وبعد أن تناولن طعام الافطار، قامت توبنس الى التليفون.. وألغت موعدها مع حائكة الثياب.. وقابلت مسز برينا وشرحت لها الموقف قائلة: انها سوف تغيب عن المنزل ليلة أو اثنتين..
فقابلت مسز برينا الخبر بعبارات المواساة المعتادة في مثل هذه الظروف، وقالت :
- لم تأتي حتى الآن يا مسز بلنكنسوب أية أخبار عن مستر ميدوز وهذا أمر في غاية الغرابة..
فقالت توبنس :
- لا بد أن يكون قد أصيب في حادثة و..
- ولكن يا مسز بلنكنسوب لو كان الامر كذلك لسمعنا به.. فقد مضى وقت طويل ..
- اذن بماذا تفسرين سبب غيابه؟
- لعمري .. لست أدري ما أقول .. واني أوافق تمام الموافقة على أنه لم يختف بمحض ارادته.. والا لكان أنبأنا على الأقل..
- ربما يكون قد فقد ذاكرته فجأة، فهذا أمر كثير الحدوث في هذه الأيام..
- ربما.. وعلى العموم يا مسز بلنكنسوب نحن لا نعلم كثيرا عن حقيقة مستر ميدوز.. أليس كذلك؟
- ماذا تعنين ؟
- في الواقع لا اصدق كل ما أسمع.. ولكن ..
- تصدقين ماذا؟
- لتك القصة التي يرددونها ..
- أية قصة؟ انني لم أسمع شيئا ..
- طبعا .. انهم لن يقولوا لك شيئا.. أنت بالذات.. وقد سمعتها لأول مرة من المستر كايلي.. وهو كما تعلمين رجل كثير الشكوك ...
- أرجوك أ، تخبريني بما تعلمين..
- حسن .. انه مجرد افتراض .. انهم يقولون أن مستر ميدوز من عملاء الاعداء أو بعبارة أخرى من رجال الطابور الخامس ..
- لم اسمع هذا الهراء قبل الآن ..
- ربما لا يكون صحيحا.. ولكن لقد رؤي كثيرا مع ذلك الشاب الألماني .. وأظنه كان كثير التساؤل عن تقدم العمل في المصنع الكيميائي.. فاستنتج أنهما كانا مشتركين في العمل لحساب العدو ..
- أتمنى ألا يكون ما يقال صحيحا ..
- وعلى الخصوص ان شيلا المسكينة انفطر قلبها حزنا.. ولست أدري لماذا شاءت ظروفها أن تحب ذلك الفتى..
- ان الامور دائما تسير على غير ما تهوى ..
- أنت على حق في ذلك .. هكذا الدنيا .. أحزان وآلام ..

وفجأة سمعتا صوت مسز أوروك تقول :
- هل قطعت عليكما الحديث!
فقالت مسز برينا :
- لا .. أبدا . فقد كنا نتحدث عن غياب المستر ميدوز .. وكيف أن البوليس لم يعثر له على أثر .. لا شك أنك سمعت القصة ..
فقالت مسز أوروك :
- البوليس .. ماذا يمكننا أن ننتظر من ورائه .. انه لا يصلح الا لمخالفة السيارات وتحرير المحاضر لأصحاب الكلاب غير المرخص بها ..
فسألتها توبنس عن رأيها في غياب مستر ميدوز فأجابت :
- لا شك أنك سمعت القصة ..
- قصة .. انه فاستشي وانه من رجال الأعداء .. هذا هراء
- ربما كان ذلك صحيحا .. فقد كنت أراقبه من أول الأمر، وأحسست أنه ليس رجل أعمال متقاعد كما يدعي، بل أدركت أنه أتى إلى هذا المكان لحاجة في نفسه..
فقالت توبنس :
- وعندما أحس بأن البوليس وراءه أختفى .. أليس كذلك ؟
- ربما كان الأمر كذلك.. والا فما رأيك أنت يا مسز برينا ؟
- لا أدري ..
فسألتها توبنس :
- لم تقولي لنا أنت ما رأيك يا مسز أوروك ..
- اني اعتقد ان الرجل بمأمن من الخطر ..

وصعدت توبنس الى غرفتها لتعد حقائبها فجرت نحوها بتي الصغيرة خارجة من غرفة آل كايلي وهي تصيح :
- بطتي .. بطتي ..
فردت توبنس قائلة :
- أهي فوق ؟
فأجابت بتي :
- تحت ..
وظهرت مسز سبروت في تلك اللحظة فأخذت الطفلة تصيح ..
- أخفيني .. أخفيني ..
فقالت مسز سبروت :
- انك لا تستطيعين أن تقومي بلعبة الاخفاء الآن ..



* * *


عندما دخلت توبنس غرفتها ، لاحظت أن يدا عبثت بقبعاتها، فتلفتت حولها في الحجرة فأكدت أن العبث كان في كل مكان.. انهم يبحثون عن شيء لن يجدوه وتركت الخطاب الي وصلها صباح اليوم على منضدة الزينة، ثم خرجت من المنزل ونظرت في ساعتها .. كانت العاشرة، وقالت لنفسها : لا يزال هناك متسع من الوقت ولابد من النجاح ...



* * *



نزلت توبنس في محطة يارو فوجدت سيارة تنتظرها يقودها شاب قال لها:
- تفضلي يا سيدتي..
وبعد أن سارت السيارة مسافة قصيرة وسط الاحراش توقفت ونزلت توبنس فوجدت أنتوني مارسدون في انتظارها فقال لها على الفور :
- ان برسفورد بخير .. وقد خلصناه من الأعداء.. اذ كان قد وقع اسيرا في يدهم ، ولا يمكن أن تريه في الوقت الحاضر، لأسباب خارجة عن ارادتنا .. ثم ان هناك مهمة يجب انهاؤها ..
ونظرت توبنس الى كومة من القماش ملقاة بعيدا فسألت:
- ما هذا ؟
- انه أمر في غاية الخطورة.. انه بقايا باراشوت نزلت به فتاة قبض عليها رجالنا وكانت ترتدي ثياب الممرضات.. وعرفنا انها مكلفة بمهمة سرية ...
- ثم ماذا ؟
- اذا أحببت فانك تستطيعين ان تحلي محلها وتقومي بدورها لتكتشفي كنه مهمتها ..
- انني على استعداد ..
- ما أقوى أعصابك يا مسز برسفورد
- ماذا علي أن أفعل؟
- ان التعليمات التي معها ليست واضحة .. ولكنا وجدنا ورقة مكتوبة بالألمانية في جيب الفتاة.. جاء فيها .. " دوسبري " إلى " ليزريارو " حتى تقاطع الطريق .. ثم شارع " آسال " رقم 14 .. الدكتور " بينيون " ..

ونظرت توبنس الى حيث أشار مارسدون ، فرأت تقاطع الطريق .. وقال الشاب:
- هناك.. ستسيرين في ذلك الطريق نحو خمسة أميال على الأقل..
- ان السير على الأقدام رياضة جميلة ، وأرجو أن يقدم لي الدكتور بينيون طعام الغذاء ..
- هل تتكلمين الألمانية يا مستر برسفورد ؟
- بضع جمل فقط .. لكني سأصر أن يكون الحديث بالإنجليزية وأقول ان تعليماتي تقرر ذلك ..
- انك تخاطرين ..
- هراء! من يتخيل أنني بديلة لتلك التي هبطت بالبراشوت ..
- لقد حسبنا حساب كل ما د ينتظر فحجزنا الرجلين اللذين قبضا على الممرضة الألمانية رغم أنهما من رجالنا زيادة في الحيطة ، والآن سنبدأ في عملية التنكر ..

وبعد نصف ساعة ظهرت توبنس وقد تغير شكلها وتقدمت بها السن عشر سنوات واعرض فكاها . نتيجة لقطع المطاط التي وضعت داخل فمها لتتخذ هيئة الممرضة الألمانية فقال توني مارسدون:
- ستعلمين منه بالتحديد أين ومتى وكيف سيقع الغزو .. ؟
- لا تخشى علي يا طفلي العزيز.

ووقفت توبنس أمام المنزل رقم 14 شارع آسال فلاحظت من لوحة الدكتور بينيون انه طبيب أسنان ، كما لاحظت من طرف عينيها أن توني مارسدون كان يراقبها من بعيد في سيارته، فأدركت أن سيرها على الأقدام كان له حكة .. فان طائرة كانت تتبعها طوال سيرها وفهمت أن العدو كان حريصا على عدم ركوبها في سيارة حتى لا تحدث أي متاعب كانت..
صعدت توبنس درجات المنزل حتى وجدت باب العيادة.. فضغطت الجرس وظهر وراء الباب وجه سيدة انجليزية عجوز..
- هل الدكتور بينيون موجود .. ؟
- هل أنت الممرضة إيلتون ..
- نعم ..
- نعم ...
- إذن .. اتبعيني ..

ودخلت توبنس .. فقالت السيدة المسنة بعد أن أغلقت الباب :
- أرجو أ، تنتظري .. ريثما أخبر الدكتور ..

وانتظرت توبنس ان يفتح الباب ويظهر لها الدكتور بينيون .. ترى من يكون.. هل هو شخص غريب عنها ؟ أو شخص سبق أن رأته ؟ وماذا يحدث لو كان الدكتور بينيون هو الشخص الذي تفكر فيه ؟
وفتح الباب .. وخرج منه رجل لم يخطر على بال توبنس مطلقا ..
الكوماندوز " هايدوك " ..

:: الفصل الرابع عشر ::
تمالكت توبنس أعصابها وتناست إلى حين .. الدور الذي استنتجت أن الكوماندوز هايدوك قد لعبه في اختفاء تومي وكان لابد لها أن تتمالك أعصابها فعليها أن تعمل المستحيل حتى لا يكتشف دورها .. وقفت على قديمها .. كأي امرأة ألمانية تواجه رئيسها ..
- اذن حضرت ..
- نعم .. انني الممرضة " إيلتون " ..
وابتسم هايدوك كما لو قد سمع دعابة وقال :
- عظيم .. عظيم .. أيتها الممرضة ايلتون .. تفضلي بالجلوس ..
- أعتقد أنه علي أن أتلقى منك تعليمات ..
- أتعلمين اليوم ؟
- انه الرابع ..
- اذن أنت تعلمين ذلك .. وعقد ما بين حاجبيه ..
فقالت توبنس بعد فترة سكون :
- أرجو أن تحدثني عما يجب علي ان أفعله ..
- كل شيء في أوانه يا عزيزتي .. ثم قال بعد لحظة :
- قد سمعت بلا شك عن سان سوسي ..
- لا ..
- ألم تسمعي عنها ؟
- كلا ..
فابتسم الكوماندوز ابتسامة غريبة ..
- اذن أنت لم تسمعي عن سان سوي ! ان هذا ليدهشني كثيرا فاني أعلم أنك كنت تقيمين هناك طوال الشهر الماضي أليس كذلك يا مسز بلنكنسوب ؟
- اني لا أفهم ما تعني يا دكتور بينيون .. لقد هبطت بالبراشوت صباح اليوم ..
- آه .. انني لست الدكتور بينيون يا عزيزتي .. الدكتور بينيون هو طبيبي وقد سمح لي باستعارة عيادته بعض الوقت ..
- حقا!!؟
- حقا يا مسز بلنكنسوب .. أو لعلك تفضلين أن أخاطبك باسمك الحقيقي يا مسز برسفورد .. لقد انكشفت اللعبة أخيرا .. وقال العنكبوت للذبابة .. " هذا أنت قد وقعت في خيوطي " وأحب أن أنبهك على نصيحة هامة .. هي ألا تصيحي فتزعجي الجيران .. فستقلين قبل أن تفتحي فاك.. ثم لا تنسي أن هذه عيادة طبيب أسنان، وكثيرا ما سمع الجيران أصوات المرضى ..
- يخيل إلي أنك فكرت في كل شيء .. لكن هلا حسبت حساب ان لي أصدقاء بالخارج يعرفون أين أنا؟
- أوه .. هل تفكرين في الشاب " أنتوني مارسدون " .. يؤسفني يا مسز برسفورد أن أصارحك بأن أنتوني من أنشط الشباب الذين يعملون تحت أمرتنا ، وقد استطاع بلباقته – بعد أن عرف عنك كل شيء من ابتك – أن يجعلك تؤمنين بقصة البراشوت بكل بساطة ..
- لست أفهم معنى هذا ..
- حقا .. لقد عملنا على أن يفقد أصدقاؤك أثرك اذا تتبعوه ، وقد يصلون إلى محطة يارو فيعلمون أنك ركبت في سيارة مع أحد الشباب.. أما الممرضة التي لا تشبهك من قريب أو بعيد .. والتي سارت على قدميها بين الساعة الواحدة والثانية في مدينة ليبرزيارو فإن أحدا لن يدرك أن ثمة علاقة بينها وبين اختفائك ..
- وبعد ؟
- انني معجب بأعصابك .. بل أنا شديد الاعجاب ، ويحززني استعمال الشدة معك ، ولكني مضطر لأن أعلم بالضبط كل ما اكتشفت في سان سوي .. واني أنصحك .. ولعلك تدركين ما قد يقود إليه عنادك..

فنظرت إليه توبنس بازدراء .. فاستطرد :
- نعم .. انني أقدر ما تتميزين بع من ثبات وعزم ولكن .. ماذا عن الوجه الآخر للصورة ؟
- ماذا تعني؟
- اني أقصد زوجك.. " توماس برسفورد ".. الذي كان يقيم إلى عهد قريب في سان سوسي تحت اسم مستر ميدوز .. والذي يقيم الان في قبو منزلي ..
- تومي .. لا أصدق ذلك ..
- بل يجب أن تصدقيه .. فان تومي العزيز كان ولا يزال في قبضة يدي ، فإذا أجبت عن اسئلتي أنقذته.. أما اذا رفضت فستسير الأمور على النحو المرسوم لها.. اذ سيقتل ويقذف بجثته في أعماق اليم ..
- ماذا تريد أن تعرف؟
- لحساب من تعملين ؟ وما وسيلتك للاتصال بهم ؟ وما المعلومات التي أبلغتها لهم حتى هذه اللحظة ؟ وبعبارة أخرى كل ما تعلمين ..
فهزت توبنس كتفيها وقالت :
- أستطيع أن أقول لك من الأكاذيب ما يحلو لي ..
- كلا ، انك لا تستطيعين ذلك .. لأنني سأبدأ بفحص كل ما تقولين .. ثم لا تنسي يا سيدتي العزيزة انني أقدر مشاعرك نحو هذا العمل .. ثم انني أقدر كل مجهوداتك أنت وزوجك .. ونحن في حاجة إلى أناس من امثالكما لبناء الدولة الجديدة التي ستقوم على أنقاض هذه الدولة الغبية ..

نظرت توبنس اليه ثم راحت تبحث عن كلمة ترد بها عليه ، وقالت دون وعي منها :
- أحلام ساندريلا .. أحلام ساندريلا ...!
وأرادت بعبارتها التهكمية هذه أن تشبه آمال النازيين بقصة الاطفال المعروفة التي رأت كتابها مع الطفلة بتي .. ولكنها دهشت عندما وجدت وقع هذه الكلمات على هايدوك كالسحر بل انها فزعت لما رأته على وجهه، اذ قفز واقفا مقتم الوجه ، ورأت فيه توبنس فجاة ما رآه تومي من قبل .. الضابط البروسي الفظ الذي اخذ يسبها باللغة الألمانية بأوقح الألفاظ .. ثم قال بالإنجليزية :
- أيتها المخبولة ، انك لا تدركين نتائج اجابتك هذه .. لقد حكمت بالإعدام على زوجك وعلى نفسك .. ثم صاح بأعلى صوته :
- آنا ..
فدخلت المرأة التي فتحت الباب لتوبنس فدفع هايدوك مسدسا في يدها وقال لها :
- راقبيها ولا تترددي في اطلاق النار اذا احتاج الأمر ..
وخرج كالعاصفة من الباب وأغلقه وراءه .. فقالت توبنس لـ آنا :
- أ ستقتلينني حقا؟
- تحاولي أن تخدعينني .. لقد قتل ولدي أونو في الحرب الماضية وكان سني حينئذ ثمانية وثلاثين عاما وقد اصبحت في الثانية والستين الان ، ورغم ذلك ..
وقد ذكر توبنس وجه هذا المرأة تلك المرأة البولندية واندا بولونسكا والأمومة.. بل احساس الأم حين تفقد طفلها .. ولمعت فكرة في رأس توبنس ... تلك الفكرة التي حاولت طويلا أن تتذكرها عن سليمان الحكيم ..
وفتح الباب ودخل الكوماندوز هايدوك .. وقال في غضب ..
- أين هي ، أين أخفيتها ؟
فحملقت فيه توبنس ، فان سؤاله لم يكن له معنى في نظرها لأنها لم تأخذ شيئا ولم تخف شيئا.. وقال هايدوك لـ آنا :
- اخرجي ...
فسلمته المرأة المسدس وخرجت .. وجلس هايدوك على أحد المقاعد وكان واضحا انه يبذل جهدا جبارا ليتمالك أعصابه .. ثم قال :
- لن تستطيعي الانتفاع بها .. فأنت هنا تحت رحمتي .. ولدي من الوسائل ما أحمل به الناس على الكلام، وستضطرين تحت ضغط هذه الوسائل أن تعترفي لي بالحقيقة ماذا فعلت بها ؟
ورأت توبنس أن هذه فرصتها الوحيدة للمساومة لو استطاعت أن تعرف ما " هذه " التي خبأتها.. فقالت في حذر :
- كيف عرفت أنها في حوزتي؟
- من كلامك أيتها الغبية .. واني أعلم أنها ليست معك الان ، فقد غيرت ملابسك. فقالت توبنس :
- افترض انني أرسلتها بالبريد إلى بعضهم ..
- لا تكوني غبية .. فان كل ما يرسل بالبريد يفحص واني واثق انك لم ترسليها بالبريد .. وهناك وسيلة وحيدة .. وهي انك خبأتها في سان سوسي هذا الصباح قبل خروجك.. واني أسمح لك بثلاث دقائق لتقولي اين خبأتها ..
ووضع ساعته على المنضدة وقال :
- ثلاث دقائق يا مسز توماس برسفورد ..
وأخذت دقات الساعة تسمع في الغرفة .. وجلست توبنس صامتة دون أن يبدو على وجهها أي تغيير ، وانكشف لها في تلك الحظات كل ما كان خافيا عليها ..
وقال هايدوك فجاة :
- بقيت لك عشر ثوان ..
فأخذت تراقبه كما لو كانت في حلم وقد رفع مسدسه في يده وهو يعد .. واحد . اثنين .. ثلاثة .. اربعة .. خمسة ..
وعندما وصل العد الى ثمانية .. انطلقت الرصاصة . وانقلب بمقعده ..
لم يكن قد لاحظ تحت تأثير حالته العصبية مراقبته للساعة أن الباب كان يفتح ببطء .
ووقفت توبنس على قدميها واتجهت مسرعة نحو الرجال الذين دخلوا من الباب وصاحت :
- مستر جرانت.. لقد تخلصنا الان من ( ن ) ...
- نعم .. نعم يا عزيزتي .. وأنت بخير الان ..
- اذن أسرعوا فليس لدينا وقت .. ألديكم سيارة هنا ؟
- نعم ..
- هيا الى سان سوي .. حالا .. قبل ان يتصل به أحد هنا ولا يجد ردا ..

وأخذ عداد السرعة في السيارة يتحرك نحو النهاية .. ولم ينطق أحد من راكبي السيارة بحرف واحد فيما عدا توبنس التي قالت :
- تومي ..
فأجابها جرانت :
- بخير ..

وأخيرا وصلت السيارة فقفزت توبنس وتبعها جرانت وأخذا يرتقيان الدرج في سرعة جنونية .. فلمحت توبنس الادراج في غرفتها مقلوبة رأسا على عقب ، فمرت بها ودخلت الى غرفة آل كايل وسارت الى الفراش ورفعت الاغطية ثم استدارت الى مستر جرانت وقدمت اليه أحد كتب الاطفال وقالت له :
- ها أنت تجد كل ما تريد في هذا الكتاب ..
وسمعا في هذه اللحظة صوتا يقول :
- ماذا يجري هنا ؟
والتفتا نحو الباب فرأيا مسز سبروت واقفة به فقالت توبنس :
- و الان أقدم لك ( م) .. نعم مسز سبرون .. كان يجب أن أعرف ذلك منذ حين ..

:: الفصل الخامس عشر ::
جلس تومي و مستر جرانت و ألبرت يحتسون الشراب وقد وقفت توبنس تقول :
- كان يجب ان اعرف ذلك منذ حين..
فقال تومي :
- حدثينا بما عندك ..
- عليك أن تبدأ أنت أولا..
- ليس لدي كثير .. ان حادثا عارضا هيأ لي الكشف عن سر الجهاز اللاسلكي المخبأ في حمام استراحة المهربين.. وقد خيل الي انني خرجت بهذا السر .. ولكن هايدوك كان أحرص عليه مني ..
فقاطعته توبنس :
- فاتصل بمسز سبروت تليفونيا ، فانتظرتك بباب الفيلا ومعها مطرقة .. وقد غابت عن لعب الورق ثلاث دقائق فقط, ولاحظت فعلا انها كانت تلهث لما عادت ، ومع ذلك فلم أشك فيها مطلقا ..
فقال تومي :
- يأتي بعد ذلك دور ألبرت ، فقد اكتشف الرسالة اللاسلكية التي بعثتها إليه من أنفي فاتصل بمستر جرانت ، وحضر كلاهما في تلك الليلة واتفقنا على أن أبقى حيث أنا ، حتى يتاح لنا القبض على الجماعة التي وكل إليها أمر قتلي وقذف جثتي في البحر ..
فقال مستر جرانت :
- وعندما خرج هايدوك من استراحة المهربين احتل رجالي المكان..
فقالت توبنس :
- كنت أعني الجميع اذ انني شككت في كل النزلاء ما عادا مسز سبروت ، وعندما استمعت الى ذلك الحديث التليفوني عن الرابع من الشهر كان هناك ثلاثة أشخاص في المنزل .. شككت في اثنين هما المسز برينا والمسز أوروك، ثم اتفقت مع ألبرت على ما يفعل.. وفجأة ظهر أنتوني مارسدون على المسرح وقد أقنعني في أول الأمر أنه على علاقة بابنتي ديبورا ولكني تذكرت أنني لم أره يزورنا من قبل ورغم أنه أظهر لي أنه يعلم كل شيء عن عملي في سان سوسي فقد صدق أن تومي في اسكتلندا فرأيت أن ذلك من الغرابة بمكان اذ انه ليس هناك من يعلم حقيقة عملي في سان سوسي سوى مستر جرانت الذي كان قد اخبرني أن رجال الطابور الخامس منتشرون في كل مكان ، فصممت على أن أكشف حقيقة مارسدون هذا، فقلت له شيئا عن العمة " جراسيا " وصديقتي " بنلوب بلين " باعتبارهما من الوسائل التي يتصل بي تومي بها.. وقد نجحت الخطة فقد وصلني خطاب من صديقتي بنلوب بلين المزعومة فتأكدت أن لعبتي قد جازت على مارسدون ولم يكلفني اتمام خطتي سوى حديثي لحائكة الثياب بالتليفون التي ألغيت معها الموعد المتفق عليه ولم يكن في الواقع حديثي هذا إلا مع ألبرت الذي فهم كيف يتصرف من ناحيته.. ثم سرت إلى نهاية الشوط وأنا أعلم أن مستر جرانت على علم بأنني في طريقي إلى يارو . كما أخبره ألبرت ..
فقال مستر جرانت :
- وقد أدينا واجبنا على خير وجه.. فقد تبعناك خطوة خطوة .. دون أن يشعر الأعداء حتى وصلت الى عيادة الطبيب، وقد عرفنا كيف نحتال على تلك المرأة الألمانية .. فدخلنا في الوقت المناسب ..
فقالت توبنس :
- كنت أعلم أنكم آتون وكل ما فعلت أنني أطلت الوقت مع هايدوك.. والغريب في الأمر أن المعضلة كلها انحلت في تلك اللحظات .. وعندما قلت " أحلام ساندريلا " انقلب كيان هايدوك وتبين لي ان ذلك لم يكن بسبب سخافة ما قلت .. ولكن لأن وراء تلك الكلمات سرا خطيرا بالنسبة إليه.. ثم ما بدا من المرأة الالمانية آنا ذكرني بما بدا على وجه واندا بولونكا البولندية ، وعندئذ تذكرت سليمان الحكيم واكتشفت الأمر كله.. هو ان بتي لم تكن ابنة مسز سبروت ..
فصاحوا جميعا .. وكيف ذلك ..!
فقالت توبنس :
- أتذكرون المرأتين اللتين ذهبتا إلى سليمان بطفل وكل منهما تدعي أنه ولدها، وكيف أن سليمان حكم بقسمة الطفل بينهما ، فرضيت الأم الزائفة بذلك، ولكن الام الحقيقية، فضلت أن تأخذه الأخرى على أن تراه يذبح.. والذي حدث في تلك الليلة أن قتلت مسز سبروت المرأة الأخرى.. وقلتم جميعا حينئذ.. انها معجزة دامية .. انها معجزة الغريزة. فقد كان من الجائز جدا أن تصاب الطفلة.. والواقع أنه لو كانت الطفلة ابنة مسز سبروت ما خاطرت بإطلاق النار ومعنى هذا ان بتي لم تكن ابنتها ..
- ولكن كيف ..!
- لأن " واندا بولونكا " هي أم بتي الحقيقية وتذكرت احساسي بسبب رؤيتي لوجهها عندما رأيتها أول مرة .. كان الشبه بينها وبين بتي هو السبب في ذلك الاحساس..
- يا للمسكينة .. لقد سمحت لمسز سبروت بتبني طفلتها فلاقت حتفها ..
- ولكن لماذا أرادت مسز سبروت أن تتبنى طفلة.. ؟
- لسبب بسيط.. فان أحدا لم يشك اطلاقا في مسز سبروت.. اذ لم يحدث في تاريخ الجاسوسية .. أن كانت هناك جاسوسة تصحب معها طفلة .. ولا شك أنكم تذكرون أن مسز سبروت رفضت استدعاء البوليس اذ كانت تعلم انها رغم ما دفعت من نقود لتلك المرأة، لم تستطع ارضاءها وأدركت أن الأم هي التي استعادت طفلتها، وخشيت أن يكتشف البوليس الحقيقة، فعندت الى كتابة تلك الرسالة التي زعمت انها وجدتها في غرفتها، ثم تحايلت على استدعاء الكوماندوز ليساعدها في محنتها.. ثم حدث ما تعرف . أما عن عبث بتي بأربطة حذائي فلا شك انها كانت ترى مسز سبروت تفعل ذلك بالمياه بواسطة الأربطة المشبعة بالسم ، ولم يكن لكارل يد في تلك الجريمة، اذ لا بد ان رأت مسز سبروت بتي تقلدها في غرفتي فزيفت أدلة ضد كارل وقبض عليه اذ وجدت بعض الاربطة المسممة في حجرته وفي معمله..
وقال مستر جرانت:
- وهناك فائدة أخرى من وجود الطفلة مع مسز سبروت.. لقد جعلت من أقاصيصها القديمة سجلا لأعمال الجاسوسية وحرمت على الطفلة أن ت لعب بها بحجة قذارتها.. لقد كشف الاخصائيون في كتاب " أحلام ساندريلا " معلومات هامة غير الاسطول تبت بحبر سري كذلك بقية الكتب .. ولقد كان الفضل كله لك يا سيدتي ..
بقيت بعد ذلك مفاجأة يسرني أن أخبركم بها ..
هي أن كارل فون دينيم ليس كارل فون دينيم على الاطلاق . انه صديق لصاحب ذلك الاسم الذي قتله النازي .. ومنذ سنوات كلفنا أحد رجالنا بمهمة في ألمانيا فتعرف على كارل فون دينيم الحقيقي وقد عرف أسرار عائلته فما قتل كارل الحقيقي اتخذ رجلنا شخصيته وانتحل اسمه اتماما للمهمة المكلف بها، وقبل الحرب مباشرة عاد الى انجلترا والتحق بالعمل في معمل الكيميائية منتحلا شخصية كارل فون دينيم اتماما لمهمتنا .. وقد عرفت شيلا أخيرا وقبلت أن تتزوج به عندما طلب يدها ...
تمت