المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النعاس


AshganMohamed
10-21-2019, 10:01 AM
النعاس
النعاس
هاروكي موراكامي
الطبعة الأولى 2013
– 1 –
ها قد انقضت سبع عشرة ليلة ولم أنم بعد.
انتبهوا. لست أتحدّث ها هنا عن الأرق، فأنا أحمل فكرة عنه، إذ تعرضت لشيء يشبهه حين كنت في الجامعة. أقول "شيء يشبهه" لأنني غير متيقنة تماما من أن الأعراض التي عرفت، تتطابق مع ما نطلق عليه جميعا "الأرق".
لو أنني ذهبت إلى المستشفى لكنت علمت دون شك إن كان أرقا أم لا. ولكن ذلك بدا لي حينها أمرا لا جدوى منه، رغم أنني لم أكن أملك أي سبب يؤيد اعتقادي ذلك. فقد كان مجرد حدس لا غير.
تصوّروا أني لم أفكر أبدا في زيارة طبيب، ولا أنا تحدّثت إلى عائلتي أو أصدقائي. ولو فعلت لكانوا طالبوني في كل الأحوال بالذهاب إلى المستشفى.
استمرّ أرقي هذا، أو ما يشبه الأرق، شهرا من الزمان، شهرا كاملا لم أنعم خلاله بليلة واحدة من النوم العادي، فقد كان يكفي أن أضع نفسي في الفراش مستجدية النوم كي تغمرني حالة من التيقظ التام وكأنها ردّ فعل مبرمج على مجرد الرغبة فيه. وكلما زاد إصراري على النوم إلا وتراجعت قدرتي على ذلك فأشعر على العكس بأنني متيقظة أكثر فأكثر.
جرّبت الطرق الممكنة كلها، ولكن دون جدوى فلا المنومات نفعت ولا الكحول.
عند الفجر أحسست أخيرا بالخدر يجتاحني ولكنه لم يكن نوما حقيقيا فما إن أوشكت أطراف أصابعي على ملامسة حافة النوم حتى وجدتني في يقظة تامة.
كنت قد بدأت أشعر بالنعاس فعلا ولكني سرعان ما أحسست بوعيي المتيقظ تماما، يراقبني من الغرفة المجاورة التي لا يفصلني عنها سوى جدار رقيق. كان جسمي يطفو في التباس مع إشراقة الفجر الأولى. وإلى جانبه، قيد أنملة، كنت أشعر بأنفاس وعيي ونظرته الملحّة. نعم، كان جسمي يستجدي النوم فيما ذهني يتشبث بيقظته.
كنت أقضي اليوم بأكمله شبه نائمة، وكان وعيي مشوشا يغمره الضباب، حتى أنني لم أعد أستطيع تقدير المسافة التي تفصلني عمّا يحيط بي من أشياء ولا تحديد أحجامها وتركيبتها، إذ كان الحذر يجتاحني كل مرّة بالانتظام الزمني ذاته لموجة في بحر، فإذا بي أغفو دون أن أنتبه، سواء كنت على مقعد المترو أو على طاولة العمل أو حتى وسط الدرس وأثناء تناول العشاء. كنت أشعر بوعيي وكأنه يبتعد عن جسمي ليشرع العالم في التأرجح بلا ضجيج... كل ما حولي كان ينهار.
لم أكن آبه للصوت الذي يخلفه قلمي أو فرشاتي أو حقيبة يدي إذا ما سقطت دون إرادة مني.
كنتُ أود لو أنام عميقا ولكن ذلك بقي مجرّد أمنية فظل تيقظي حاضرا باستمرار، وظللتُ أرزح تحت ظله الجليدي، والغريب أن هذا الظل كان ظلي أنا!
فكرتُ وسط خمولي: أنا داخل ظلي، أمشي نائمة، أتكلم نائمة. وأحد ممن حولي لم يلحظ الحالة المتطرفة التي وجدتني فيها. لقد فقدت ستة كليوغرامات في شهر واحد، ولكن لا أفراد عائلتي ولا أصدقائي انتبهوا إلى ذلك، رغم أني كنت أعيش بينهم نائمة.
نعم، كنت أنام واقفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد جسمي قدرته على الإحساس وكأنه جثة غريق. وصار كل شيء غائما ملتبسا بما في ذلك وجودي ذاته، فتفاصيل حياتي لم تعد بالنسبة إليّ أكثر واقعية من أية خيالات أخرى! بل لقد خيّل لي أنه يكفي أن تهب ريح قوية ليقذف جسمي إلى آخر العالم، إلى الطرف الأخر من الأرض، في ذلك المكان المجهول تماما، حيث سيظل منفصلا عن وعيي إلى الأبد. لذا وددتُ لو أتشبث بأيّ شيء لأحول دون وقوع ذلك. أمعنت النظر في كل ما حولي فلم أر ولو غصْنا ضئيلا لأتشبث به.
يجيء الليل فأستفيق تماما، حتى وإن كانت قواي قد أفرغت لتوّها، أي قبل استفاقتي تلك بلحظات. وكان قوّة جبارة كانت تتدخل لتبقيني على هذا الحال من السهر، قوّة هائلة إلى درجة أني لم أستطع فعل أي شيء لمجابهتها سوى أن أظل متيقظة إلى الصباح. فأقبع في ظلمات الليل مشوشة التفكير، مصغية إلى عقارب المنبه وهي تلتهم الساعات التهاما، وفي جمود تام، أتابع النظر إلى الظلمة وهي تتسع ثم إلى الفجر وهو يبزغ.
وفي أحد الأيام انتهى هذا كله، من دون أية علامة مسبقة، أو أي سبب خارجي. لقد توقفت هذه الحالة فجأة ذات صباح وأنا جالسة إلى طاولة الفطور، حيث شعرت بالنوم يجتاحني كالإغماء، فنهضت دون أن أتفوّه بكلمة واحدة. أذكر أن شيئا ما سقط عن الطاولة، وأن شخصا ما خاطبني، لكنني لم أكن لأدرك ما يجري.
بلغت غرفتي متمايلة، اندسست تحت الغطاء دون أن أفكر لحظة في تغيير ملابسي، وغرقت مباشرة في النوم. استغرق نومي سبعا وعشرين ساعة بتمامها، حتى أن أمي انتابها القلق فتردّدت عليّ مرّات عديدة لتحركني أو لتطبطب على خدّي برقة، ولكنني لم أكن أستيقظ. نمت طوال سبع وعشرين ساعة مثل حجر ثقيل! وحين أفقت أخيرا، عدت إلى حالتي الطبيعية أو لنقل إلى ما يشبه حالتي الطبيعية.
لم تكن لدي فكرة عن سبب ظهور مثل هذا الأرق فجأة، ولا عن كيفية تلاشيه غير المتوقعة. كان الأمر أشبه بسحابة سوداء كبيرة دفعتها الرياح نحو سمائي فحجبتها، سحابة قاتمة ملأى بأشياء تخصني، مؤلمة ومجهولة. من أين أتت تلك السحابة؟ وإلى أين ذهبت؟ لا أحد يملك جوابا! المهم أنها جاءت وغلفتني ثم رحلت.
نقص النوم الذي أعانيه الآن لا علاقة له بكل هذا فهو مختلف تماما. وحتى أبسّط الأمر قليلا أقول إنني لا أستطيع النوم ولو لقيلولة واحدة قصيرة، وما عدا ذلك فإن حالتي طبيعية تماما!
فعلى الرغم من انعدام أي إحساس لي بالنعاس فإن وعيي يبدو في حالة مثالية إن لم نقل إنه في حالة أفضل من المعهود. كذلك لم تظهر عليّ أية أعراض بدنية خاصة، إذ احتفظت بشهية مفتوحة ولم أشعر بأي تعب مستجد، أي أنني من وجهة نظر الواقع اليومي لا أعاني من شيء غير اعتيادي. أنا فقط لم أعد أنام.
لم يلحظ ذلك أحد، لا زوجي ولا ابني، ومن جهتي لم أصرّح لهما بشيء، فلو أخبرتهما بالأمر لكانا طلبا مني الذهاب إلى المستشفى، وأنا أعلم أن ذلك لن يجدي نفعا. ومثلما هو الحال في حادثة الأرق السابقة، كنتُ متأكدة أنني الوحيدة التي بإمكانها معالجة الوضع. وهكذا فإنهما لم يعلما بشيء مما يحدث، فيما واصلت حياتي – في الظاهر على الأقل – سيرها الهادئ المنتظم دون تغيير يذكر، فما إن يغادر زوجي وابني المنزل كل صباح حتى آخذ السيارة وأذهب إلى التسوق.
بالمناسبة، نسيت أن أخبركم أن زوجي طبيب أسنان وأنه يملك على مسافة عشر دقائق من هنا – إذا ما استعملنا السيارة – عيادة يتقاسمها مع صديق قديم له، تعرّف إليه أيام الجامعة، وهو ما يسّر لهما اعتماد مساعدة عمل واحدة لكليهما، وأتاح لكل منهما تمرير الزبائن للآخر حسب ما تقتضيه مجريات العمل وزحمة المواعيد. ولأنهما كانا من البارعين في هذا الاختصاص، فقد ازدهرت عيادتهما سريعا، هي التي لم يمض على فتحها أكثر من خمس سنوات ولم تحظ بأي دعم خارجي. بل إن الأمور لفرط ما جرت بشكل رائع باتت سببا في تراكم العمل على زوجي. حتى أنه في لحظات الصفاء كان يصارحني قائلا: "وددتُ لو أحيا حياة أكثر هدوءا ولكني لا أملك أن أتذمّر". نعم، علينا أن لا نتذمر مادام المبلغ الذي اقترضناه من البنك لفتح العيادة قد فاق تقديراتنا الأولية بكثير، ويجب أن نعترف بأن يفتح عيادة لائقة يتطلب رصد مبالغ هامة لاقتناء أفضل المعدّات، فالمنافسة في هذا المجال شرسة جدا، اضف إلى ذلك ان المرضى ما كانوا ليتدافعوا على بابنا منذ اليوم الأول.
كم من عيادة مماثلة شهدنا إفلاسها جرّاء قلة الزبائن. كنا حينها شابين فقيرين، وطفلنا ما يزال صغيرا بعد، لم يكن في مقدور أحد الجزم إن كنا قادرين على إيجاد مكان لنا في هذا العالم القاسي أم لا. ولكننا بعد مضي خمس سنوات فعلناها! لذا ليس من حقنا أن نتذمّر، وعلى كل حال لم يبق لنا سوى ثلثي القرض لتسديده!!
أحيانا كثيرة كنتُ أداعب زوجي قائلة: "أتساءل فعلا إن كان لوسامتك دور في كثرة زبائنك!" كانت تلك دعابتي المفضلة والسرّ في ذلك أن زوجي لم يكن في واقع الأمر وسيما بالمرّة.. بل يمكن القول إنه كان ذا وجه مضحك، حتى أنني مازلت أتساءل إلى اليوم عن سبب اختياري لزوج بمثل هذا الوجه الغريب، والحال ان صديقي الحميم وقتها كان غاية في الجاذبية. يصعب عليّ فعلا إيجاد الألفاظ المناسبة لوصف وجه زوجي، فهور وإن لم يكن جميلا فإنه ليس من القبح بما يثير الاشمئزاز، وبصراحة فإن الصفة الوحيدة التي تلائمه هي "غريب" أو ربما أيضا "مراوغ"، وعلى أية حال ليس هذا كل شيء، فلطالما شعرت بأن هناك في مكان ما عنصرا حاسما، بإمكانه أن يفسر سرّ استعصاء وجه زوجي على التعريف إلى هذا الحدّ، فكرت: "لو أني أقبض فقط على هذا العنصر فسوف أفهم حينها كل محدّدات الغرابة في هذا الوجه" لكنني في النهاية لم أستطيع. أتذكر أني حاولت مرّة رسم وجه زوجي فلم أوفق، ظل قلمي معلقا وظللت مسمرة في مكاني غير قادرة على معرفة الشيء الذي يشبهه والد ابني. دهشت لعجزي حد الذهول، كان قد مضى على عيشنا معا وقت طويل، ومع ذلك وجدتني غير قادرة على تذكر تفاصيل ملامح الرجل الذي أقاسمه كل شيء. طبعا لا تحتاجون إلى أن أؤكد لكم أني حين أراه أتعرّف إليه فورا وأني أستطيع استحضار وجهه في ذهني ولكني كلما حاولت رسمه إلا وكنت مدركة تماما أن لا شيء سيأتي، كان الأمر أشبه بمصادمة حائط غير مرئي لذلك لن أعيد المحاولة الآن وسأكتفى بالقول إنه يملك وجها غريبا ونني كنت من وقت لآخر أنزعج من ذلك.
ورغم كل هذا الذي ذكرت فإنه من الإنصاف الاعتراف بأن زوجي كان رجلا من أولئك الذين يستحوذون على الوجدان بسهولة، وهو معطى في غاية الأهمية إذا ما نظرنا إلى طبيعة عمله، رغم أني شبه متأكدة من أنه حتى لو اختار اختصاصا مهنيا آخر فإنه سينجح لا محالة. فهو يملك قدرة عالية على بعث الهدوء والسكينة في نفوس أغلب محدّثيه، وأنا شخصيا لم يسبق لي أن عرفت شخصا على شاكلته، بل إني لا أبالغ حين أقول إن أغلب صديقاتي معجبات به. أنا أيضا أكن له مودّة حقيقية، ما في ذلك شك، وأغلب الظن أني احبه فعلا. ولكن من باب الصراحة يصعب عليّ الجزم بانه كان يعجبني بشكل خاص، وعلى كل حال هو يملك مزية فريدة، فهو يعرف كيف يضحك بتلقائية مثلما يفعل الأطفال. في حين أن الرجال الراشدين عموما لا يسعهم فعل ذلك، ثم إنه – ولعل ذلك أمر طبيعي نظرا إلى طبيعة مهنته – يملك أسنانا جميلة جدا.
"ليس خطئي إن كنت جميلا إلى هذا الحد" هكذا كان يقول لي وهو يبتسم ردّا على دعابتي.
لم يكن يغير إجابته بتاتا مع أنها كانت مزحة غبية لا تُضحك غيرنا، لكنها في النهاية طريقتنا في إدراك الواقع. لقد فعلناها معا، ونجحنا في حفظ بقائنا وسط عالم لا يرحم، لذا يمكن اعتبار الأمر طقسا حميما لا يخلو من أهمية في نظرنا.
في الثامنة والربع من كل صباح كان يركب سيارته البلوبيرد ويغادر موقف السيارات التابع للعمارة وابننا إلى جانبه. ذلك أن المدرسة الابتدائية كانت تقع في النهج المقابل للعيادة.
أقول له: "انتبه لنفسك جيدا"
فيجيبني: "اطمئني لن تكون هناك مشاكل".
كنا نكرر الكلمات ذاتها باستمرار، لكني لم أستطع الكف عن قول ذلك، ولا هو استطاع الامتناع عن ردّه المعهود، ليضع بعدها شريطا لـ "موزار" أو "هايدن" في "راديو كاسيت" السيارة، وينطلق وهو يدندن مع النغم. كان وابني يحرّكان يديهما لوداعي قبل أن يذهبا، وكم كان مدهشا مدى التشابه في حركة يديهما وهما يحنيان رأسيهما إلى الزاوية نفسها ويديران كفيهما المتشابهين نحوي ويحركانها حركات صغيرة من اليسار إلى اليمين وكأنهما بصدد الاستجابة إلى تعليمات مدرّب رقص.
من جهتي كنت أستعمل سيارة "هوندا سيفيك" باعتني إيّاها إحدى صديقاتي منذ عامين بسعر زهيد. إذ كان مضادّ الصدمات فيها مكسورا قليلا، وبعض مواضع هيكلها صدئة، إضافة إلى أن طرازها قديم بعض الشيء، ومن المؤكد أنها طوت مائة وخمسين ألف كيلومتر على أقل تقدير، وفوق هذا كله كان محرّكها يطلق من وقت إلى آخر – حوالي مرّة أو مرتين في الشهر – قرقعة تبعث على القلق فعلا. وفي مثل تلك الحالات، كنت عبثا أحاول تشغيلها فأظل أستجديها لعشر دقائق أو أكثر إلى أن ينتهي الأمر بأن تستجيب لي مُصدرة صوتا تكشف من خلاله عن صحة محرّكها الجيدة، فأسر لنفسي: "حسنا، ليس بالإمكان فعل شيء إزاء ذلك، فكل الناس لهم الحق في مزاج عكر مرة أو مرتين في الشهر، ومن الجائز دائما ألا يعمل شيء ما مثلما نريد، فهكذا صنع العالم".
كان زوجي يكنيها بـ"حمارك اللاهث" لكن ذلك لم يكن يعني شيئا بالنسبة إلي، فهي سيارتي أولا وأخيرا.
وهكذا إذن، كنتُ أصعد في "السيفيك" وأذهب للتسوّق من المركز التجاري، ثم أعود فأقوم بالتنظيف وغسل الملابس قبل أن أختم أشغالي بالطبخ. كان الصباح يمثل لي الموعد الأمثل للقيام بجل الأعمال، حتى أنني كنت كلما سنحت لي الفرصة أسارع بتهيئة ما يلزم للعشاء، كي تبقى فترة ما بعد الظهر كلها لي وحدي. كان زوجي يعود إلى البيت عند كل ظهر لتناول الغداء، فهو لم يكن يحبذ الأكل في الخارج، وكم من مرة علل ذلك قائلا: "كل الأمكنة مزدحمة وإذا وجدنا مكانا فسنأكل بمشقة وعلاوة على ذلك ستعلق بملابسنا رائحة التبغ الكريهة".
وبالتالي وجد نفسه مضطرا للرواح والمجيء من أجل وجبة بيتية حتى وإن كلفه ذلك وقتا إضافيا يقتطعه من ساعات العمل، علما وأني لم أكن أعدّ له أطباقا معقدة بل كنت أكتفي بتسخين ما بقي من طعام الأمس في "المايكروييف" إذا ما تيسر، أو بإعداد "عجينة جريس" في أفضل الحالات. باختصار، لم يكن طعام الغداء ليمثل لي عبئا إضافيا، زد على ذلك أني كنت بدوري أفضل الغداء مع زوجي على الغداء وحيدة.
في البداية عندما كانت العيادة تخطو خطواتها الأولى، حظيَ زوجي بمساحات شاغرة في لائحة مواعيده المسائية، انتهزناها لقضاء وقت ما بعد الغداء في الفراش.
كانت ممارسة الحب في مثل ذاك الوقت أمرا رائعا، كل ما حولنا يستقر في هدوء، وضوء المساء الرقيق ينسل إلى الغرفة أبيض شفافا... كنا أصغر بكثير مما نحن عليه الآن وكنا سعداء.
طبعا ما نزال سعداء بالعيش سويّا، ولا أرى شائبة لمشاكل تلوح في الأفق. فأنا أحب زوجي وأثق به، أو على الأقل هذا ما أعتقده، وهو من جهته يبادلني المشاعر ذاتها على ما أظن.
بمرور الوقت تتغير الأشياء من تلقاء نفسها ولا نستطيع فعل شيء.. أمسياته الآن باتت ملأى بالمواعيد فصرت تراه – بمجرّد انتهائه من الغداء ومن حك أسنانه في الحمّام – يسارع لامتطاء سيارته والعودة إلى العيادة حيث تنتظره الألاف، بل عشرات الألاف من الأسنان المريضة، وشيئا فشيئا قبلنا الوضع ليترسخ لدينا شعور عام بأنه ليس في وسعنا طلب الكثير!
إثر خروجه كنت آخذ منشفتي وثوب السباحة وأذهب بالسيارة للقيام بجولة في النادي الرياضي الخاص بحينا فأسبح لنصف ساعة باذلة جهدا حقيقيا في التمرّن، لا ولعًا بالسباحة وإنما حرصا مني على عدم زيادة وزني فقد كنت مغرمة بقوامي، وعلى العكس من ذلك لم أكن أحب وجهي أبدا.
صحيح أني لا أستهجنه تماما إلا أنه لا يروقني، أما جسدي فنعم، لطالما أحببت تأمله في المرآة وهو عار، وكم كان يستهويني بحيويته المتوازنة ورقة محيطه السّاحر فأشعر بأن في داخل هذا الجسم شيء ما ثمين يخصني، شيء لا أعرف كنهه ولكني أعرف مدى حرصي على حفظه من التلف. أنا الآن في الثلاثين من عمري وأراهن أن أولئك الذين بلغوا سني سيفهمونني حتما، حسنا لنتفق أولا أن بلوغنا الثلاثين ليس نهاية العالم، صحيح أن التقدم في السن أمر غير مفرح ولكن علينا الاعتراف أيضا أنه قد يسهل بعض الأشياء، أي أن المسألة في النهاية تخضع لفلسفة الحياة لدى كل فرد. ليبقى الشيء المؤكد هو أن النساء حينما يبلغن الثلاثين ويكن محبات لأجسامهن، توّاقات للمحافظة على رشاقتهن، عليهن بذل الكثير من الجهد لأجل ذلك.
أمي هي التي علمتني هذا، كانت في ما مضى نحيفة وجميلة ولسوء الحظ لم تعد كذلك وأنا لا أريد أن أؤول إلى ما آلت إليه.
إثر حصّة السباحة أقضي بقية الوقت في أنشطة أخرى تختلف باختلاف الأيام، كأن أتجول في الشوارع متفرّجة على الملابس المعروضة في المحلات، أو أن أعود إلى البيت فأتخذ مكاني على الأريكة متصفحة كتابا ما، أو أن أستمع إلى الراديو... كذلك قد يحدث أن يكون ما أفعله بكل بساطة: هو أن "أنام"!
بعد ذلك بقليل، كان ابني يعود من المدرسة فأغيّر له ملابسه، وأعطيه لمجة، ثم أدعه ينصرف للعب مع أصدقائه. فهو ما يزال بعد في الفصل الابتدائي، أضف إلى ذلك أنه لا يتلقى دروس التدارك المسائية وأنا من جهتي لم أكن أطالبه بأية أنشطة تعليمية خارج أطر المدرسة.
"لنتركه يلعب " يعلق زوجي كلما تطرقنا إلى هذا الموضوع ثم لا يلبث أن يضيف: "لندعه يكبر بشكل طبيعي وهو يلهو". عند خروجه للعب كنت أقول له: "انتبه لنفسك! مفهوم؟!" فيجيبني على طريقة أبيه: "لن تكون هناك مشاكل!"
كان يواصل اللعب حتى السادسة موعد جلوسه إلى التلفاز للتفرّج على الصور المتحركة وكنت أنا أثناء ذلك أعد طعام العشاء أما زوجي فقد كان يصل إلى البيت في حوالي الساعة السابعة حينما لا تكون مواعيد عمله جد متأخرة. لم يكن له ما يعطله أثناء الرجوع، أولا لكونه لا يشرب الخمر، وثانيا لأنه محدود العلاقات الاجتماعية، لذا فهو لم يكن يستهلك من الوقت ما بين إتمامه العمل وبلوغه البيت أكثر مما تقتضيه المسافة الفاصلة بينهما.
أثناء الأكل كان كل واحد من ثلاثتنا يروي تفاصيل يومه للآخرين فيما يشبه العُرف، وفي هذا السياق كان ابني أكثرنا كلاما ولعل ذلك مردّه حداثة سنه. فبالنسبة إليه كان كل ما يجري في يومه حدثا يستحق الانتباه، لأنه يراه بعين الجدّة، حيث تلتقي الحيوية بالغموض. من جهتنا كنا ونحن نصغي إلى ما يسرده من حكايات، نشرح له آراءنا وأفكارنًا بخصوص هذه المسألة أو تلك، ونظل كذلك حتى انتهائنا من الأكل، عندها كان يتوجه إلى غرفته ليتسلى برهة من الزمن على انفراد، إما بمشاهدة البرامج التلفزية أو بمطالعة كتاب، وأحيانا كثيرة كان يتخلى عن وحدته ليمارس ألعابا اجتماعية مع أبيه.
أما حين تكون لديه واجبات مدرسية لينجزها فإنه يلازم غرفته حتى موعد نومه، لينهض في تمام الثامنة والنصف وينسل إلى فراشه، فألاعبه قليلا وأمسّد على شعره قبل أن أطفى النور وأغادر، متمنية له نوما هادئا.
ما إن يخلد ابني للنوم حتى أجدني وزوجي وجها لوجه، فنشرع في الحديث عن مرضاه وهو جالس على الأريكة وبالقرب منه جريدة يشير إليها من وقت إلى آخر، معلقا على هذا المقال أو ذاك من مقالات اليوم، وجهاز التسجيل يصدح بموسيقى لـ"هايدن" أو "موزارت".. لا أعلم على وجه الدقة.
صحيح أني لا أكره الموسيقى، لكني لا أستطيع التمييز بين "هايدن" و "موارزت" فكلاهما له الوقع نفسه في أذني، ولرفع معنوياتي كان زوجي يقول لي: "ليس مهما معرفة الفرق، حين يكون الشيء جميلا فإن جماله يكفي". فأجيبه قائلة: "كما هو الأمر بالنسبة إليك؟!".
"نعم، كما هو الأمر بالنسبة إليّ" يتمتم موافقا وابتسامته العريضة تفضح زهوه.
تلك هي حياتي، أو لنقل بشكل أدق: "هكذا كانت قبل أن أتوقف عن النوم." باختصار، كان كل يوم تكرارا دقيقا لليوم الذي سبقه، حتى أني أثناء تدويني لنوع من المذكرات الموجزة، تبين لي أني كلما انقطعت عن الكتابة ليوم أو يومين إلا واستعصى عليّ تذكر التاريخ المحدّد لتوقيعي ملاحظاتي السابقة.
كان باستطاعتي استبدال البارحة باليوم الذي سبقها من دون أي إشكال.. وأحيانا كنتُ أتساءل: "أي نوع من الحياة هذه؟".
لم أكن أشعر بالفراغ لكني كنت أتعجب من عدم قدرتي على التمييز بين يوم أمس ويوم غد، لا لشيء إلا لأنني كنت مأخوذة بإيقاع حياتي، منغمسة فيها حتى النخاع ولأن الريح كانت تفسخ آثار أقدامي حتى قبل أن أتمكن من رؤيتها!
في تلك اللحظات كنتُ أدلف إلى بيت الاستحمام لأتملّى وجهي في المرآة فأظل مركّزة بصري عليه قرابة ربع ساعة ورأسي فارغة تماما من أية أفكار، أتأمله مثلما أتأمل أي شيء من العالم الخارجي حتى ليخيل لي أنه بصدد التدرج في الانفصال عني ليتحول فعلا إلى شيء، شيء غريب عني يتواجد معي في الزمان والمكان ذاتهما. "هذا هو الواقع!" كنتُ أقول لنفسي.. "وآثار أقدامنا التي نخلف!! من يأبه لها؟!".
أنا بدوري أكافح للتعايش مع الواقع وهذا هو المهم، يبقى أنني لم أعد قادرة على النوم وأن عجزي هذا جعلني أتوقف عن الكتابة.
– 2 –
ما أزال أذكر بوضوح أوّل ليلة قضيتها دون نوم، كنتُ في إحساسا عميقا بالكآبة، رغم أني نسيت محتواه. أذكر أني أفقت فجأة في اللحظة الأكثر خطرا وإرعابا، عند نقطة اللاعودة...
إثر استفاقتي، بقيت مذهولة لمدة لا بأس بها، عاجزة عن إتيان أي حركة، كانت يداي وقدماي شبه مشلولتين، وكنت أصغي إلى تنفسي يتردّد صداه بشكل منفر وكأنني ممددة في قاع كهف من الكهوف.
"إنه كابوس". قلت لنفسي وأنا مستلقية على ظهري منتظرة بفارغ الصبر أن يهدأ تنفسي، كان قلبي يعزق بعنف ورئتاي تنتفخان وتفرغان "كمنفاخ" كي يبلغ الدم القلب بأسرع ما يمكن. لاحظت مرور الوقت فتساءلت فجأة: "كم تراها الساعة الآن؟" أردت النظر في السّاعة الموضوعة إلى جانبي فلم أقوَ على إدارة رأسي. وفي تلك اللحظة بالذات بدا لي أني أرى ظلا أسود عند قدمي، ظلا بالكاد يُرى في العتمة. حبست أنفاسي وأنا أشعر بأن كل محتويات جسمي بما في ذلك قلبي ورئتاي توقفت عن العمل للحظة، ركزت نظري على الظل وفي الحال لم يعد ضبابيا وكأنما كان في انتظار نظرتي كي يتشكل متخذا ملامح بالغة الدّقة، فإذا بي أمام جسم حقيقي انبعث من الظلمة بكل تفاصيله المميزة.
جسم نحيف لعجوز يرتدي ملابس سوداء ملتصقة به، وقف صامتا عند طرف سريري. كان شعره رماديا وقصيرا وخدّاه أجوفان، وكان يسدد إلى نظرات ثاقبة من عينين واسعتين جدّا، إلى درجة أني تمكنت من تمييز شبكة العروق الحمراء داخلهما بوضوح. أما وجهه فلم يكن يحمل تعبيرا البتة، ظل صامتا لا ينبس ببنت شفة فبدا لي أكثر فراغا من حفرة بلا قرار. "ليس هذا بحلم". حدثت نفسي. كنتُ مستيقظة حينها، ولم تكن يقظتي غائمة بأي حال، بل على العكس، كنت يقظة كما لو أن أحدهم قرصني للتو ومضى. لم يكن ما أراه حلما، بل كان واقعا. حاولتك أن أتحرّك، أن أوقظ زوجي، أن أشعل الضوء، أن... لكني وبرغم كل المجهودات التي بذلت لتجميع قواي، لم أستطع تحريك ولو إصبع واحد من أصابعي. بدأت أشعر بالخوف، رعشة مرعبة تصاعدت من غياهب الذاكرة في صمت، ليجتاح الصقيع أعماقي حتى النخاع.
أردتُ أن أصرخ فلم أجد صوتا، لساني تحجر في فمي، لم أستطع فعل شيء غير التطلع إلى العجوز الماثل أمامي، كان يحمل شيئا ما في يده، شيء مستطيل يرسل ما يشبه البريق، تمعّنت فيه محاولة فهمه، فإذا هو قنينة قديمة من الخزف الأبيض.
بعد برهة رفع العجوز القنينة وبدأ يسكب الماء على قدمي لكني لم أشعر بملامسته لي، كنتُ أرى الماء على قدمي وأسمع صوت انسكابه من دون أن أحس بشيء.
استمرّ العجوز في صب الماء عليّ دون أن تنقص كميته في القنينة ولو قليلا، تعجبتُ للأمر وانتهى بي التفكير إلى أن قدمي ستبدآن بالتعفن ومن ثمّت الذوبان بعد أن غرقت في هذا الكم الهائل من المياه.. عند بلوغي هذه الفكرة تحديدا بدأت أشعر بالصبر يفارقني. أغلقت عيني وشرعت أصرخ بكل ما أوتيت من قوّة، فلم يخرج من فمي أي صوت، انحبس الهواء تحت لساني لتتردّد صرختي المكتومة في أعماق ذاتي حتى أني أحسستُ بالصراخ الصامت وهو يجوب أنحاء جسمي كلها. توقف قلبي عن الخفقان وانتشر البياض داخل رأسي كما لو أن هذه الصرخة التي تسللت إلى أعمق أعماقي قتلت شيئا ما بداخلي أو بالأحرى أذابته. وبسرعة البريق المعمي لقنبلة، أحرق اهتزازها الأجوف كل عناصر حياتي السابقة حتى جذورها.
عندما أعدت فتح عيني، لم يكن العجوز هنا، لا هو ولا قنينته، نظرت إلى ساقي فلم أجد أثرا لكل تلك المياه التي سكبت عليّ وأنا راقدة في سريري، الأغطية بدورها كانت جافة فيما جسمي بأكمله غارق في العرق، كانت كمية العرق مذهلة فلم أستطع التصديق أن جسما كجسمي يمكن أن يتسع لكمية عرق مثل هذه، لكن ورغم كل شيء كان العرق عرقي. طويت أصابعي واحدًا تلو الآخر ثم ثنيت ذراعي وهززتُ ساقيّ، بعد ذلك بدأت بتحريك كاحلي ومن ثمّت ركبتي. فإذا بي قادرة على تحريك أجزاء جسمي جميعها ولو أن ذلك لم يكن بالبساطة المعهودة ذاتها.
تثبّتّ مرارا من أن جسمي كله عاد للعمل من جديد، ثم نهضت بتمهل مجيلة بصري في أرجاء الغرفة المضاءة بنور ضعيف قادم من مصباح الشارع، حركت عيني في كل الاتجاهات دون جدوى، لم يكن هناك من أثر للعجوز، ألقيت نظرة خاطفة على المنبه القريب من سريري، فوجدته يشير إلى منتصف الليل والنصف، فإذا احتسبنا أني نمت بعد الساعة الحادية عشرة بقليل أكون بالكاد حصّلت ساعة ونصفها من النوم!
في السرير المجاور كان زوجي غارقا في النوم، حتى ليخيل لمن يراه أنه مغمى عليه. وعبثا حاولت أن أسمع له نفسا أو بادرة ما، فمثله إذا نام لا شيء يمكن أن يوقظه.
تركت الفراش وتوجهت إلى بيت الاستحمام حيث نزعت قميص النوم المبلل بالعرق ورميته في آلة الغسيل ثم استحممت سريعا.
بعد ذلك انتقيت قميص نوم نظيفا من درج الصوان ولبسته، لأذهب لاحقا إلى الصالون، أشعل الضوء، أجلس على الأريكة وأصب لنفسي كأسا من الكحول.
في العادة، لم أكن أشرب أبدًا رغم أني لا أعاني من علة جسمانية تمنعني – مثلما هو شأن زوجي – والحال أنني في السابق كنتُ أشرب كميات لا بأس بها. كل ما هنالك أني ومنذ زواجي، قرّرت أن أضع حدّا لذلك، فلم أعد أشرب إلا نادرا وفي حالات خاصة، كأن يجافيني النوم فجأة فأستنجد بكأس كونياك يتيم أحتسيه دون زيادة. وها أنذا الليلة أشرب مجددا علني أهدى من توتر أعصابي بعد كل الذي حصل.
كانت هناك زجاجة "ريمي مارتن" منتصبة أمامي في الرف، هي كل ما يوجد في البيت من الخمرة الأجنبية، أذكر جيّدًا أننا تلقيناها هدية من شخص ما ولكنني نسيت ممن على وجه الدّقة، فقد مضى عليها زمن وهي قابعة مكانها حتى أنها بدت مغبرة بعض الشيء.
بطبيعة الحال لم يكن في البيت كؤوس خاصة بشرب الكونياك، لذا فقد صبيتها في كأس عادية ورحتُ أشربها ببطء متلذذة كل جرعة. شيئا فشيئا بدأ خوفي يتقلص فيما تواصل ارتعاش جسمي... ربما كنتُ مسحورة؟
كتجربة شخصية لم يمر بي شيء من هذا القبيل، ولكني سمعت بأشياء مماثلة من صديقة لي أيام الجامعة كانت قد عاشت التجربة ذاتها. أذكر أنها قالت لي وقتها: "إن ما نراه يكون من الوضوح بما يكفي لنفي احتمال أنه حلم. " ثم أردفت موضحة: "وأنا حتى الآن متأكدة أنه ليس حلما.
ما حدث معي أيضا لا يبدو لي مجرّد حلم ولكنه كان كذلك، حلم يشبه الواقع إلى حد بعيد.
كما سبق وقلت إذن، تراجع خوفي إلى أن غادرني تماما، ولكني بالرغم من ذلك واصلت الارتعاش بشكل واضح للعيان، تدافعت الموجات العصبية على جلدي وكأنها هزات ارتدادية لزلزال قوي. "كل هذا جرّاء تلك الصرخة." قلت في نفسي. تلك الصرخة التي احتبست في داخلي فجعلتني أرتجف حتى الآن. أغمضت عيني ودفعتُ بجرعة أخرى من الكونياك إلى حلقي، أحسست بالسائل الدافئ وهو يعبر من بلعومي إلى معدتي، كان الإحساس جليا. فجأة داهمني قلق مبهم على ابني، وما إن فكرت فيه حتى طفق قلبي ينبض بشدة، نهضت وركضت إلى غرفته فإذا به نائم بعمق واضعا إحدى يديه عند الركن من شفتيه وفاردا الأخرى إلى جانبه. بدا لي نومه هادئا ومستقرا كنوم أبيه. انحنيت على فراشه فرتبته له وداعبته قليلا.. "ما الذي شوّش نومي إلى هذا الحدّ؟" كنتُ أجهل الإجابة ولكني في المقابل كنتُ أعلم أن ذلك لم يضايق أحدا سواي، فلا ولدي ولا زوجي انتبها لشيء مما جرى.
قفلت راجعة إلى الصالون أين ظللت أدور حول نفسي برهة بعد أن فقدت كل إحساس لي بالنعاس... "ماذا لو احتسيتُ كأسا آخر من الكونياك؟" فكرت بيني وبين نفسي. كانت لي رغبة حقيقية في مزيد من الشرب. سيدفئني ذلك ويهدّأ أعصابي كما أني كنتُ أرغب في معاودة الإحساس بذات الطعم القوتي وهو ينتشر في فمي من جديد، لكني وبعد فترة من التردد قررت عدم الشرب، إذ خشيت أن تبقى أثار السكر بادية عليّ حتى صباح الغد.
أغلقتُ الخزانة وغسلت الكأس في الحوض ثم أخرجتُ بعض الفراولة من الثلاجة والتهمتها. فجأة تفطّنت إلى أني لم أعد أرتجف. "من تراه يكون ذاك العجوز المكسيّ سوادًا؟" لم يسبق لي أن رأيته مطلقا.. لا هو ولا لباسه الغريب الشبيه بزي رياضة ضيق وبثياب الأقدمين في الوقت ذاته. لم أر في حياتي شيئا مماثلا.. وعيناه!! تلكما العينان المخططان بالأحمر القاني، والممتنعتان عن الرمش! من يكون؟ ولماذا كان يسكب الماء على قدمي؟ لم يفعل شيئا كهذا؟
لم يكن بوسعي أن أفهم ما دمتُ لا أملك أي مؤشر أو علامة. عندما عاشت صديقتي حلمها اليقظ ذاك، كانت نائمة في بيت خطيبها، وأثناء نعاسها ظهر لها رجل في الخمسين من عمره – تقريبا – ذو ملامح قاسية، وأمرها بكل فظاظة أن ترحل.. أما هي فقد بقيت طوال ذاك الوقت مسمرة في السرير عاجزة عن الحراك حتى تفطنت في لحظة ما أنها غارقة في العرق. لا بدّ وأن هذا الشخص هو والد خطيبها ما في ذلك شك، إذ أنه وحده من كان يودّ طردها من البيت.
في صبيحة اليوم الموالي طلبت من خطيبها أن يريها صورة لوالده فإذا به لا يشبه الرّجل الذي زارها ليلا البتة. عند بلوغها هذا الحدّ أقنعت نفسها أن كل ما جرى مردّه حالة التوتر التي تعيشها جراء النوم في منزل خطيبها.
أما أنا فلست متوترة أبدًا، سيّما وأني في منزلي وما من شيء هنا يمكن أن يبدو لي مهدِّدا.
فلماذا عليّ أن أشل تحت تأثير طلسم ما، في هذا المكان والزمان بالذات؟.. حركتُ رأسي حاسمة أمري.
"لأتوقف عن التفكير، إنه مجرّد حلم يقظة، ذلك كل ما في الأمر، من المؤكد أني استُنزفت دون أن أنتبه لذلك. لقاء التنس الذي أجريته أوّل أمس هو المسؤول عن هذا من دون شك. فحين دعتني صديقتي في نادي الرياضة للعب وكنت قد أنهيت حصة السباحة للتو، أظنني لعبت مدة أطول قليلا من المعتاد".
استلقيت على الأريكة وأغمضت عيني محاولة أن أنام فإذا بالنوم يجافيني تماما.. "هيا أرجوك". قلت له. لكن لا جدوى. فعلا لم أعد أشعر بأي نعاس، "وماذا لو قرأت كتابا حتى يهدهدني النوم؟".
رحت إلى الغرفة واخترت كتابا من الكتب الموجودة في الرف، كنت قد أشعلت الضوء للبحث عن الكتاب الذي أريد إلا أن زوجي لم يهتز قيد أنملة. قرّرت سلفا أن أقرأ "آنّا كارنينا" إذ كانت بي رغبة في قراءة رواية روسية طويلة، طبعا لقد سبق لي أن قرأتها في ما مضى ولكن ذلك حصل منذ زمن بعيد، في المرحلة الثانوية تحديدا إن لم تخني الذاكرة.. وأنا الآن لا أذكر لا الحبكة ولا الأحداث.. فقط ما أزال أتذكر الجملة الأولى والنهاية حين ترمي البطلة بنفسها تحت القطار.. "لا يوجد سوى نوع واحد من العائلات السعيدة، لكن ليس هناك عائلة حزينة تشبه عائلة أخرى". هذا ما قالته على ما أظن. على كلّ أذكر أنه كان هناك مشهد منذ البداية يشي بانتحار البطلة آخر الرواية، ثم يأتي بعد ذلك مشهد سباق سيارات على ما أعتقد.. أم أن ذلك كان في رواية أخرى؟؟
جلست على الأريكة مرّة أخرى وفتحت الكتاب، كم من السنوات انقضت دون أن أجلس جلستي الهادئة هذه لقراءة رواية. حتما كان يحدث ان اسحب كتابا من وقت لآخر وأقرأ لمدّة نصف ساعة أو ساعة على الأكثر في فترة ما بعد الظهر، لكن ذلك لا يمكن أن نطلق عليه "مطالعة"، إذ كنت حالما أفتح الكتاب أشرد بذهني إلى أشياء أخرى، كأن أفكر في ابني، في المشتريات التي عليّ اقتناؤها، في الثلاجة المعطلة والتي لم تعد تعمل كما يجب، في أيّ الفساتين سألبس يوم زفاف ابنة عمّي، وفي أبي الذي خضع لعملية جراحية منذ أقل من شهر. ركام من الخواطر تتسلل إلى ذهني فتأخذ أهميتها بالتعاظم شيئا فشيئا مشتتة إياي في اتجاهات عديدة لأدرك بعد ذلك وعلى نحو لا يكاد يصدّق أن عقارب الساعة قد أتمت دورة كاملة وأن كتابي ما يزال مفتوحا على نفس الصفحة. وهكذا وجدتني في وقت قياسي وقد تعودت على العيش دون كتب. كلمًا فكرت في ذلك إلا ووجدته أمرا غريبا جدّا. فمنذ الطفولة كانت المطالعة محور حياتي، حتى أني أيام المدرسة الابتدائية كنت ألتهم الكتب التهاما فآتي أولا على تلك الموجودة في المكتبة العمومية، ثم أمر إلى أخرى أقتنيها من مدخراتي الخاصة فتستنفد مصروف بأكمله. كان لي إخوة خمس ما بين ذكور وإناث وأنا وسطاهم.. وكان كلا والدي مشغولين جدّا بالعمل، فلم يعرني أي منهما انتباها، فإذا بي أقضي معظم وقتي في المطالعة وحيدة عند ركني المحبب. كنت ما إن أسمع عن مسابقة في القراءة أو الكتابة حتى أسارع بالمشاركة فيها وكثيرا ما كنت أفوز، الأمر الذي مكنني من كسب بطاقات شراء كنت أستعملها هي الأخرى في اقتناء الكتب!
حين ارتقيت إلى الجامعة، اخترت دراسة الأدب الإنجليزي، ومرّة أخرى حصّلت نتائج إيجابية. كان موضوع رسالتي في ختم الدروس يدور حول "كاترين مانشفيلد"، وقد انتزعت العلامة الأفضل بين زملائي ما جعل أساتذتي يشجعونني على المضي قدما وإتمام رسالة الدكتوراه. لكني في تلك الفترة كنتُ ميالة إلى دخول الحياة العملية، فأنا في نهاية الأمر لم أكن ذلك الشخص المغرم بالدراسة حقا ولقد وعيت بذلك مبكرا. صحيح أني من هواة المطالعة، لكن لا شيء أكثر من ذلك، وحتى لو رغبت فعلا في مواصلة الدراسة إلى أبعد حدّ فإن عائلتي ما كانت لتتمكن من توفير مستلزمات بلوغي الدكتوراه. إجمالا نحن لسنا بفقراء، لكن تبقى الأولوية لأختي الأصغر مني سنا، لذا بات من الضروري أن أترك الجامعة وعائلتي، وأحلّق بأجنحتي الخاصة. نعم، كان عليّ ان اشرع في العيش من عرق جبيني بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
متى قرأت كتابا كاملا لآخر مرّة؟ وماذا كان عنوان الكتاب؟ أجهدت نفسي في التفكير دون أن أحظى بإجابة. كيف يمكن للحياة أن تتغير كليا بهذا الشكل؟ أين ذهبت تلك الطفلة التي كنتها والتي كانت تلتهم الكتب كالمجذوبة؟ وما الذي كانت تمثله لي تلك الفترة وذاك الهوس غير العادي بالقراءة؟
بالرغم من كل الأسئلة التي حاصرتني فقد نجحت في تلك الليلة بالذات من تركيز انتباهي على "آنّا كارنينا" دون سواها. كنت أقلّب الصفحات في شوق، غير مشغولة بأيّ شيء آخر، قرأت باسترسال حتى بلغت الفقرة الخاصة باللقاء الأوّل بين "فرنسكي" و"آنّا" في محطة قطارات موسكو، عندها وضعت محدّدة الصفحات على الصفحة التي كنت أقرأ وأخرجت زجاجة الكونياك مجددا وصببت لنفسي كأسا أخرى.
ما أغربها من رواية! صحيح أني لم أدرك ذلك عندما قرأتها في المرّة السابقة. لكن، وبعد أن نفذت إلى أعماقها، هكذا لاحت لي! البطلة هنا لا تظهر قبل الصفحة السادسة عشرة بعد المائة، فهل كان قرّاء القرن التاسع عشر يجدون ذلك عاديا؟ فكرت برهة في السؤال... أتراهم كانوا يتحملون صاغرين، ذلك الوصف المطول لحياة شخصية ثانوية مملة كشخصية "أبلنسكي"، في انتظار أن تدخل البطلة الجميلة مجريات الأحداث؟ من يدري، ربما..
من الجائز أن أناس ذلك العصر كان لهم ما يكفي من الوقت.. على أقل تقدير، كذا كان الأمر بالنسبة إلى أبناء الطبقة الاجتماعية القارئة للروايات..
بالنظر إلى المنبه تفطّنت إلى أن الساعة قد بلغت الثالثة صباحا فيما النعاس ما يزال مصرا على مجافاتي. حسنا، ماذا أفعل الآن؟ ما دمت لا أحسّ بأي بادرة نعاس بإمكاني ان أواصل المطالعة، فانا بحق ارغب في قراءة ما تبقى، لكن مع ذلك عليّ أن أنام. عادت بي الذاكرة إلى تلك الفترة، أيام عانيت من الأرق.. كنت حينها أقضي يومي في "ضباب قطني" لذا لا أريد أن يحدث لي ذلك مرّة ثانية. وقتها كنت طالبة وكان بإمكاني أن أتدبر أمري حتى وأنا على حالي تلك. أما الآن فالأمر مختلف، أنا الآن زوجة وأم محمّلة بالمسؤوليات؛ عليها أن تحضر الطعام لزوجها وأن تعتني بابنها وأن... وأن... وأن...
عبثا حاولت وضع نفسي في الفراش. لم يكن بوسعي إغماض عيني، وكنت أعلم ذلك. حرّكت رأسي، لكن رغبتي في النوم لم تتحرك! لم يعد هناك ما يمكنني عمله، فأنا لا أشعر ولو بذرة نعاس واحدة أضف إلى ذلك رغبتي العارمة في التعرف على باقي مجريات الرواية. أطلقت زفرة حارة ثم وجّهت بصري إلى الكتاب الموضوع على الطاولة.. وفي النهاية تابعت قراءة "آنّا كارنينا" حتى خيوط الضوء الأولى من النهار.
"آنّا" و "فرنسكي" يتبادلان النظرات طويلا في حفلة رقص "البال" ويقع كل منهما في حب الآخر بشغف. ثم ها هي آنا تشهد سقوط حبيبها من على حصانه في ساحة السباق (إذًا كان هناك مشهد تدور أحداثه في مركض الخيول!).. مأخوذة باضطرابها، اعترفت آنّا لزوجها بقلة وفائها له.
كنت لوهلة مع "فرنسكي" فوق الحصان، قافزة عبر الحواجز ومستمعة إلى صيحات الحشود المشجعة، ثم كنت وسط الجماهير أشاهد السقوط بعيني هاتين.. وعندما بدأ النهار يغشي النافذة، تركت الكتاب وتوجهت إلى المطبخ لأعد قهوة. لم يعد باستطاعتي التفكير في أي شيء جراء مشاهد الرواية العالقة بذهني من جهة والجوع الشديد الذي داهمني فجأة من جهة أخرى.. كان وعيي يعيش حالة ما في مكان بعينه، وجسمي يعيش حالة مغايرة خارجه..... قطعت من الخبز حصّة، وضعت فوقها الزبدة والخردل وبضع قطع من الجبن والتهمتها في الحين وأنا بعدُ واقفة أمام حوض غسل الصحون. كنت نادرا ما أجوع إلى هذا الحد ولكن جوعي هذه المرّة كان شديدًا حدّ الإيلام، حتى أنني، وبعد أن أتيت على لمجتي الأولى، وجدتني ما أزال جائعة، فحضرت أخرى أكلتها سريعا.. قبل أن أعدّ لنفسي كوب قهوة ثانيا...
– 3 –
لم أحداث زوجي ولو بكلمة لا عن الحلم ولا عن حالة انقطاع النوم التي أعيش. في الواقع لم تكن لدي نية مبيّتة لإخفاء الأمر عنه، كل ما هنالك أني لم أر ضرورة ملحّة لإخباره، فإخباره ما كان ليعينني في شيء. ثم إن قضاء ليلة بلا نوم لم تكن "قضية دولة" ما دام ذلك يحدث للجميع تقريبا. كالعادة أعددت قهوة زوجي والحليب الساخن لابني. أكل الأول الخبز المشوي والثاني رقاقات القمح. بعد ذلك تصفح زوجي الجريدة في حين راح ابني يدندن أغنية كان قد حفظها للتو، ثم في النهاية ركبا السيارة "البلوبيرد" وغادرا..
"انتبه لنفسك جيدا"، قلت. "لن تكون هناك مشاكل". أجابني زوجي، وهزّا يديهما لتوديعي كما هي عادتهما دائما. بعد انطلاقهما جلست على الأريكة مفكرة في ما سأفعله. ما الأعمال التي لدي؟ وما الذي يتحتم عليّ فعله قبل غيره؟ قصدت المطبخ وفتحت الثلاجة لمعاينة محتوياتها.. حسنا يوجد خبز وحليب وبيض.. اللحم والخضار أيضا موجودان.. إذًا هناك كل ما يلزمنا حتى ظهر الغد، وبالتالي إذا لم أقم بالمشتريات المنزلية اليوم فلن يسبب ذلك مشكلا.. كان عليّ أيضا الذهاب إلى البنك، إلا أن ذلك لم يكن ملحّا، لذا لم يبدُ لي ضروريا أن أذهب الآن مادام بالإمكان الانتظار حتى الغد دون أية متاعب.
وهكذا عدت لقراءة رواية "آنّا كارنينا"، وكم كانت دهشتي عظيمة حين تبينت أثناء معاودتي القراءة أني لم أحتفظ بأي ذكرى من هذه الرواية، لم اعد أتذكر لا الشخصيات ولا الأحداث، حتى خيل إلى أني أقرأ الكتاب للمرّة الأولى. كان ذلك غريبا، فمن المفروض أن يكون قد لامس مشاعري حينما كنت بصدد قراءته آنذاك، إلا أن لا شيء من ذلك بقي لي، كل تلك المشاعر التي كانت تتحرك داخلي جاعلة إياي أرتعش من رأسي حتى أخمص قدمي، تبخرت في طرفة عين، دون أن تترك أي أثر. وذاك الكم الهائل من الوقت الذي كنتُ أسخره في تلك الفترة لقراءة الكتب ماذا كان يعني لي؟
توقفت عن القراءة لحظة للتفكير في كل هذا – لم أعد أفهم نفسي جيدًا – وسرعان ما حملتني أفكاري بعيدا جدّا إلى درجة أن لم أعد أعرف ما الذي كنت أفكر فيه... مضت لحظات أدركت بعدها أني كنت أنظر عبر النافذة وعيناي مصوّبتان إلى الأشجار في شرود. حركت رأسي قليلا ثم عدت إلى كتابي من جديد، وعند حوالي منتصف الفصل الأول، اكتشفت بقايا شكولاتة عالقة بالغلاف، كانت جافة ومفتتة، نصف ملتصقة بالصفحات، لا بدّ وأنني قرأت هذا الكتاب وأنا ألتهم الشكولاتة أيام المدرسة الثانوية، ففي تلك الفترة كان يطيب إليّ أن أقرأ وأنا أكل. للأسف منذ زواجي لم ألمس ولو قطعة شكولاتة واحدة، فزوجي لا يحب استهلاكي للمرطبات والحلويات، والحقيقة أنا بدوري لا أقدّمها لابني إلى درجة أنه لا يوجد في منزلنا أي شيء يصلح للتحلية.
رؤية فتات الشكولاتة هذا وقد اسود لونه بعد أن مرّت عليه أكثر من عشر سنوات، حرّك فيّ رغبة مجنونة في تذوقها من جديد. أريد أن أقرأ "آنّا كارنينا" وأنا ألتهم الشكولاتة تماما كما في الأيام الخوالي. شعرت بأن كل خلية من جسمي تتوثب لأجل قطعة من الشكولاتة.
ارتديتُ سترتي الصوفية ونزلت بالمصعد إلى أسفل العمارة، فقصدت أقرب المحلًات إلى بيتي واشتريت رقاقتيْ شكولاتة بالحليب، فضضت غلاف إحديهما وشرعت في التهامها وأنا أمشي. غمر عطرها الفائح برائحة الحليب والكاكاو فمي وأحسست بمذاقها السكري يجتاحني حتى أدق ركن في جسمي. قضمتُ قطعة ثانية وأنا أستقل المصعد فعبقت رائحتها في المكان.
جالسة على الأريكة، تابعت قراءتي "آنّا كارنينا"، لم أكن أشعر بتعب أو نعاس، كان بمقدوري مواصلة القراءة لساعات، كنت قد أتيت على رقاقة الشكولاتة الأولى في وقت قياسي، فنضوت عن الثانية غلافها وأكلت منها ما يقارب النصف ولم أنظر في ساعة يدي إلا حينما أوشكت على إنهاء ثلثي الفصل الأول من الرواية، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وأربعين دقيقة.
"الحادية عشرة وأربعون دقيقة!! سيعود زوجي بعد قليل!"
أغلقت الكتاب في عجلة وانطلقت إلى المطبخ حيث وضعت الماء في الوعاء وأشعلت الغاز ثم قطعت البصل على شكل أعواد وشرعت في تسخين عجينة "الجريش" في ذات الوقت وضعت طحالب "وكامي" الجافة في الماء كي تنتفخ قبل أن أخلطها بالخل، بعد ذلك أخرجت "التوفو" من الثلاجة وصنعت منه طبق "توفر" بارد وما كدت أنتهي حتى ذهبت إلى الحمّام لغسل أسناني وإزالة رائحة الشكولاتة من فمي. في الوقت ذاته الذي بدأ فيه الماء بالغليان، عاد زوجي من العيادة. لقد أتم عمله أبكر مما هو معتاد، هكذا فسر لي. وجلسنا إلى الطاولة فانبرى يحدثني وهو يأكل عجينة الجريش عن المعدّات الجديدة التي ينوي الاستفادة منها في عمله بالعيادة، "إنها تستطيع اقتلاع بروش الأسنان أفضل من أي آلة أخرى إلى حدّ الآن بل وأسرع أيضا، ومن البديهي أن تكون باهظة الثمن، لكني أعتقد أن بمقدوري تغطية الكلفة سريعا، وإذا امتلكت آلة كهذه، فسوف يزداد عدد الزبائن التوافدين فقط لنزع بروش الأسنان يوما بعد يوم".
ما رأيك؟ سألني بعد أن أتم حديثه. لم تكن لدي أية رغبة في الحديث عن أشياء من قبيل "بروش الأسنان" فما بالك بالاستماع إليها على طاولة الأكل والتفكير فيها بجدية، باختصار كان ذهني في سباق العقبات لا في "بروش الأسنان". مع ذلك لم يكن باستطاعتي التملّص بسهولة فقد كان زوجي جادّا جدّا، لذا أسرعت وسألته عن ثمن الألة ثم رحت أتظاهر بالتفكير قبل إبداء أي رأي لأقول له بعدها إنه إذا كان يحتاجها فاشتراؤها لن يكون فكرة سيئة.
"إنه اشتراء نافع يا عزيزي وعلى كل حال نحن لن نستعمل هذه النقود للترفيه.." هكذا عبرت عن فكرتي، فلم يلبث أن أجابني:
– "أنت على حق لن نستعمل هذه النقود للترفيه."
سكت بعدها وواصل التهام عجينة الجريش في صمت. غنّى زوج من العصافير كانا واقفين على عرف تحت النافذة فصوّبت نظري نحوهما دون أي شعور بأني أراهما فعلا. لم أكن ناعسة، ولم تحضرني ذرّة نعاس واحدة، ما جعلني أتساءل فعلا عن السبب. وبينما كنت أنظف الطاولة جلس زوجي على الأريكة يطالع الصحيفة، كان كتابي موضوعا إلى جانبه لكنه لم يعره اهتماما، فأن أقرأ أو لا.. لم يكن ذلك ليعنيه البتة.
ما إن انتهيت من غسل الأطباق حتى بادرني زوجي بالقول:
– "لدي مفاجأة لك، احزري ماهي؟"
– "لا أعرف.." أجبته.
– "لقد ألغى أول حريف لي بعد الظهر موعده.. ما يعني أني حرّ حتى الواحدة والنصف..."
قالها وابتسم ابتسامة عريضة ذات مغزى، فكرت قليلا في الأمر فلم أجد أية مفاجأة سارّة في ما قاله، ولم أفهم أنها دعوة لممارسة الحب إلا حينما نهض ساحبا إياي وراءه إلى الغرفة، لكنني لم أكن أرغب في ذلك مطلقا ولم أجد أيّ سبب وجيه يحتم عليّ فعل ذلك. كنت أريد فقط أن أعود إلى روايتي في أسرع وقت ممكن فأستلقي على الأريكة وآكل الشكولاتة وأنا أقلب صفحات "آنّا كرنينا". لم أكف عن التفكير في "فرنسكي" طيلة فترة غسلي الصحون. كنت أتساءل كيف يمكن "لتولستوي" أن يتحكم في شخصياته بمثل تلك المهارة. كان دقيقا في وصفه حد الإذهال، ولعل مهارته تلك، هي التي كانت تمنعهم من إيجاد الخلاص.. وهذا الخلاص بالطبع... أغمضت عينيّ وضغطت بأصابعي على صدغي.
– "في الحقيقة أشعر بصداع خفيف منذ الصباح". قلت لزوجي قبل أن أردف متملّقة: "اعذرني أنا حقا آسفة".
كان رأسي كثيرا ما يؤلمني بين وقت وآخر، ما جعل زوجي يصدق حجتي في الحين. "توقفي عن النشاط إذًا، واذهبي واستلقي لتستريحي". قال لي معلقا. فأجبته أن الألم ليس بتلك الحدّة.
انقضت ساعة بأكملها وهو جالس على الأريكة يقرأ جريدته بهدوء مستمعا إلى الموسيقى قبل أن يعاود محادثتي عن معدات العيادة وهو يقول ليّ مفسرا: "حتى إن اشترينا أكثر المعدّات حداثة فإنها بعد سنة أو سنتين لن تلبث أن تصبح قديمة، ولذلك لا بد من التغيير باستمرار، والمستفيدون الوحيدون من كل هذا هم صانعو المعدّات."
كنت أعبّر عن مواقفي بكلمة عابرة أو بإماءة من رأسي دون أن أستمع فعلا لما كان يقول.
عندما خرج للعمل مجددا طويت صحيفته وهيّأت وسائد الأريكة بنفضها من الغبار ثم اتكأت على حافة النافذة مسرّحة بصري في كامل أنحاء الغرفة. لم أكن أفهم أبدا لماذا لا أشعر بالنعاس؟ لقد سبق لي أن قضيت ليال بيض، لكن لم يحدث لي أن بقيت مستيقظة كل هذا الوقت. كان من المفروض أن أرضخ للنوم منذ وقت طويل وحتى في حال لم أتمكن من النوم في الصباح لسبب أو لأخر فالطبيعي في مثل هذه الساعة أن أكون ميتة من التعب. لكن هذًا لم يحدث وذهني مازال محافظا على ألقه.
قمت بزيارة جديدة إلى المطبخ، سخنت قهوة وارتشفتها وأنا أفكر فيما عساي أفعل، طبعا كنت أرغب في مواصلة القراءة لكني في الآن ذاته كنت أود الذهاب إلى المسبح كما هي عادتي لأحظى بحصتي من السباحة. تردّدت للحظة لكني في الأخير قررت أن أذهب، للعوم. ولكن كل ما يمكنني قوله هو أني كنت أرغب في ممارسة تلك التمارين وكأنني أريد أن ألفظ جسدي شيئا ما... ولكن ما الذي سألفظ؟ فكرت في الأمر برهة... نعم، ماذا سألفظ؟ لا أدري.. رغم ذلك كان هذا الشيء يطفو داخل جسمي في هدوء وكأنه إمكانيّة ما، أردت أن أجد لها الاسم المناسب لكن لا شيء مرّ بخاطري. لطالما عرفت صعوبات في إيجاد الكلمات.. و "تولستوي" أتراه كان سيجد الكلمة المناسبة لتفسير مثل هذه الظاهرة؟
في النهاية حشرت سروال السباحة في حقيبتي وركبت سيارتي السيفيك وتوجهت إلى نادي الرياضة، لم يكن في المسبح أحد من معارفي، كان هناك فقط شاب وامرأة في الأربعين من عمرها يسبحان في الحوض فيما كان المنقذ يراقب سطح الماء في قلق بالغ. لبست السروال الذي جلبت، وضعت نظارات العوم على عيني، وشرعت أسبح لمدة نصف ساعة كاملة كما هي عادتي دائما. لكنني في هذه المرّة لم أشعر بأنني اكتفيت فواصلت السباحة لربع ساعة أخرى مختتمة ذلك بذهاب وإياب على طول الحوض وأنا أخوض في المياه بكل قواي سابحة وفق طريقة "الكرول". كنت ألهث بشدّة ومع ذلك أحسست أني ممتلئة بالطاقة حتى أني عند خروجي من الماء لاحظت السباحين الوحيدين في المسبح ينظران إليّ بطريقة غريبة.
وجدت أني ما أزال أملك بعض الوقت قبل حلول الثالثة، لذا مررت إلى البنك بالسيارة. هممت أن أقف أيضا عند المركّب التجاري لشراء بعض المستلزمات، لكني سرعان ما عدلت عن الفكرة وقفلت راجعة إلى البيت.
شرعت في التهام ما تبقى من "آنّا كارنينا" والشكولاتة إلى أن عاد ابني من المدرسة في تمام الرابعة، فقدّمت له عصيرا ليشربه وأعطيته قطعة من عجينة غلال كنت قد حضرتها بنفسي، بعد ذلك بدأت في إعداد العشاء. أخرجت اللحم من الثلاجة وتركته يلين ثم قطعت الخضر كي تكون جاهزة للطهي حين أحتاجها. وأخيرا سلقت الأرز وحضرت شربة "بالميزو". قمت بكل ذلك سريعا وبشكل آلي ثم عدت لقراءة روايتي وأنا لا أشعر بأي حاجة للنوم إلى حد الآن..
– 4 –
في تمام العاشرة، انزلقت إلى الفراش في الوقت ذاته أنا وزوجي، فتظاهرت بأنني نائمة. أما هو فقد نام فعلا في الحال. فما إن انطفأ فانوس النور الموضوع على طاولة الفراش حتى غط في نوم عميق وكأنه مبرمج بزر تحكم. "رائع.." حدثت نفسي. من النادر أن نجد أشخاصا هكذا. فمؤكد أن عدد الذين يعانون الأرق مثلي أكبر بكثير من عدد من هم مثل زوجي. كان والدي من النوع الأول، لطالما سمعته يتذمر من قلة النوم، كان ذلك صعبا بالنسبة إليه، أضف إلى ذلك أن نومه كان خفيفا جدا، ما يجعله يستفيق عند أقل صوت. أما زوجي فلم يكن كذلك أبدا.. إذا ما نام فلا شيء يوقظه حتى الصباح. في بداية زواجنا كنت أجد ذلك مسليا، فقمت بعديد التجارب قصد اكتشاف الأشياء التي بإمكانها إيقاظه. جرّبت سكب الماء على وجهه ومداعبة أنفه بفرشاة دون جدوى، وحتى حين كنت أستمرّ في فعلي لوقت طويل فإنه كان يكتفي بإصدار أنّة انزعاج ولا شيء أكثر. وحتى الحلم فلم تكن له دراية به أو لنقل إنه في أفضل الأحوال لم يكن يتذكر أية شبهة لحلم. طبعا هو لم يعرف أبدا أحلام اليقظة مثلي.. كان فقط ينام بعمق مثل سلحفاة مختبئة في الطين. وهذا ما كان عليه فعلا.
رائع... ظللت ممددة إلى جانبه لعشر دقائق ثم نهضت، ذهبت إلى الصالون، أشعلت المصباح وصببت لنفسي كأس كونياك ثم اتخذت مكاني على الأريكة وشرعت في القراءة متلذذة باحتسائه جرعة جرعة، تذكرت بقية الشكولاتة التي كنت قد خبّأتها في الخزانة فسارعت بأكلها... وبقيت على ما أنا عليه حتى الصباح. عندما بزغ الفجر أغلقت الكتاب وهيأت القهوة ثم أعددت لمجة وأكلتها.
أُنهي الشؤون المنزلية بسرعة، أقضي بقية الصباح في القراءة، أتوقف قبل الظهر بقليل لأعدّ فطور زوجي. وحين يرجع إلى عمله في حوالي الساعة الواحدة، أركب سيارتي وأنطلق إلى المسبح. فمنذ انقطاع النوم عني أصبحت أشعر بحاجة للسباحة مدة ساعة كاملة على أقل تقدير، فثلاثون دقيقة من النشاط لم تعد تكفيني. وحين أسبح ينصب تركيزي كله على ما أنا بصدده دون سواه. لم أكن أفكر في شيء آخر سوى أن أحرّك جسدي بنجاعة وأن أتنفس بانتظام. حتى عندما كنت أقابل أشخاصا أعرفهم فإني لم أكن أحادثهم تقريبا.. كنت أكتفي بمجرّد تحية سريعة، وإذا حدث ودعوني لرفقتهم فإني أتحجّج بأن لدي أمرا عاجلا لقضائه كي أتملص منهم إذ لم تكن بي رغبة في مخالطة أحد، وفي الآن ذاته لم يكن لدي وقت أخسره في الثرثرة العقيمة.
على إثر السباحة بالقدر الذي أريد لم أكن أفكر إلّا في شيء واحد: العودة إلى البيت والمطالعة. أما التسوّق والتنظيف وإعداد الأكل ومصاحبة أبني فقد كانت مجرّد واجبات أؤذيها لا أكثر. والأمر سيان بالنسبة إلى ممارسة الحب مع زوجي، فحين نعتاد على ذلك يخلو الأمر من أي تعقيد، بل إنه قد يصبح غاية في السهولة فلا نحتاج أكثر من قطع الاتصال بين ما هو ذهني وما هو حسّي. ففي حين يتحرك جسدي انفعالا يكتفي ذهني بالتحليق في فضاء مخصّص له وحده، حتى أني صرت أرتب المنزل وأعطى اللّمجة لابني وأحادث زوجي، دون أن أفكر في شيء. الأمر الآخر الذي انتبهت إليه منذ أن أصبحت لا أنام هو مدى بساطة الواقع وسهولة جعله يعمل هكذا كما هو، واقعا لا أكثر: "تنظيف البيت هو فقط تنظيف البيت ولا شيء أكثر من ذلك". تماما مثل عملية تشغيل آلة بسيطة التقنية، ما إن نفهم ترتيب الأفعال التي علينا القيام بها لجعلها تعمل، حتى يصبح الباقي مجرّد تكرار آلي للحركات، الضغط على هذا الزر أو ذلك، جذب المقبض، ضبط جهاز تعديل الحرارة، إغلاق الغطاء، تعديل الميقاتة... بطبيعة الحال قد يطرأ أحيانا تغيير طفيف على روتيني المعهود، كأن تأتي حماتي لزيارتنا فنتناول العشاء معها، أو أن نخرج في أحد أيام الأحاد أنا وزوجي وابني فنذهب إلى المنتزه، أو أن يصاب ابني في يوم آخر بإسهال حاد.. لكن هذه الأحداث الصغيرة كريح تهب بلا صوت... كنت أتحدث في أشياء عديدة مع حماتي، أعد العشاء لأربعة أشخاص، ألتقط صورة أمام حفرة الدببة حين نخرج للتنزه، وحين يمرض ابني أعطيه الدّواء وأضع على بطنه قارورة الماء الدافئ، فلم ينتبه أحد لما طرأ عليّ من تغيير، لا أحد لاحظ أني لم أعد هنا بل في مكان آخر على بعد مئات السنوات وآلاف الكيلومترات، وحتى مسألة قيامي بمسؤولياتي من باب الواجب لا أكثر، وبطريقة شبه ميكانيكية لخلوّها من أي شعور أو إحساس؛ لم تؤثر سلبا على علاقتي بحماتي أو بزوجي أو ابني، بل على العكس من ذلك، لقد أصبحوا أكثر ارتياحا معي من ذي قبل.
مرّ أسبوع بتمامه، وعندما استهلّيت أسبوعي الثاني من اليقظة المستمرّة أحاط بي شيء من الخوف، ففي النهاية لم تكن حالتي طبيعية. كل الناس ينامون ولم يسبق لي أن سمعت بأشخاص يحيون بلا نوم. بل لقد قرأت مرة أن منع الناس من النوم يعتبر ضربا من التعذيب استعمله النازيون على وجه الخصوص، فقد كانوا يسجنون ضحاياهم في زنازين خاصة لا ينقطع عنها الضوء ولا الصخب كي يمنعوهم من الانغماس في النوم، وهكذا تحول الناس في ظل ذلك النظام إلى مجانين، وسرعان ما ساروا إلى حتفهم.
ليس بمقدوري تذكر المدّة الزمنية التي يمكن أن يتحمّلها رجل لا ينام قبل أن يصاب بالجنون، ربما ثلاثة أيام أو أربعة. على كل حال، لقد مرّ عليّ أكثر من أسبوع دون أن يكحّل النوم جفني ومن المؤكد أنه وقت طويل، بل وطويل جدا، لكن جسدي رغم كل هذا لم يبد أية مؤشرات ضعف أو تعب، بل على العكس تماما، فقد بات حالي أفضل من ذي قبل حتى أني في أحد الأيام، وكنت وقتها قد انتهيت لتوي من الاستحمام، نظرت إلى صورتي في المرأة وأنا عارية فدهشت من القوام الماثل أمامي وكله إشراق وحيوية، وإذ تفحّصت جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي لم أجد أثرا للشحوم الزائدة أو التجاعيد. من المؤكد أنني فقدت جسم الفتاة الشابة التي كنتها ولكن بشرتي بدت أكثر نضارة مما عهدتها، وللتأكد من ذلك قرصت جلدة بطني فإذا بها صلبة ومشدودة بشكل رائع، زد على ذلك أني وجدتني أجمل بكثير مما كنت أظن. كنت أبدو شابة في مقتبل العمر ولو حصل وادّعيت أني في الرابعة والعشرين لصدّقني الجميع دون ارتياب. كانت بشرتي ناعمة وعيناي براقتين وشفتاي رطبتين، وحتى أثار الأخاديد على وجنتيّ (وهي أكثر ما كنت أمقت من بين تفاصيل وجهي) فقد اختفت تماما.
مأخوذة بسحر صورتي المنعكسة أمامي ظللت قابعة قبالة المرآة لنصف ساعة بأسرها. تأملت نفسي من مختلف الزوايا فلم يبق لدتي شك، لقد كنت، وبكل موضوعية، جميلة فعلا. ما الذي تراه حدث لي؟
بلغ بي الأمر حذ التفكير في معايدة طبيب، لقد كان للعائلة طبيبها الذي أشرف على متابعتي منذ كنت طفلة. لطالما اعتبرته شخصا مقبولا، لكن وبمجرّد تخيلي ردّة فعله ألمّ بي إحساس بالإحباط. هل سيصدّقني إذا قلت له إني لم أنم منذ أكثر من أسبوع؟ حتما سيبدأ بالتساؤل عن سلامة حالتي النفسية أو سيخمن أني مضطربة عصبيا جرّاء الأرق. ومن الممكن أيضا أن يصدّقني وعندها سيبعث بي إلى مستشفى كبير للقيام بسلسلة من الفحوصات... وما الذي سينتج عن ذلك؟ أولا سأحبس ثم سأسحب من مكان إلى آخر لإجراء هذه التجربة أو تلك، سيصوّرونني بالماسح الضوئي، ويقيسون نبضي إلكترونيا، ويحللون بولي ودمي، ويختبرونني نفسيا... وما أدراني ماذا أيضا..
أبدا لن أتحمّل ذلك، كل ما كنت أريده هو أن يتركوني أحيا بسلام في ركني، أقرأ رواياتي وأسبح ساعة في اليوم. أضف إلى كل هذا أني كنت أريد الإبقاء على حريتي كاملة. تلك كانت أمنيتي الأكثر رسوخا. باختصار لم تكن لدتي أية رغبة في الذهاب إلى المستشفى وحتى لو وافقت وذهبت، فما الذي سيفهمه الأطباء في نهاية الأمر؟ سيخضعونني إلى جبل من الاختبارات مشيّدين جبلا مقابلا من النظريات.. لذا لم يكن لدي أيّ استعداد لأن أجد نفسي حبيسة مثل هذا النوع من الأماكن.
في أحد الأيام جلست في المكتبة وقرأت كتبا عن النوم. لم يكن هناك الكثير منها ولم تكن المعلومات التي تقدمها ذات شان، فهي تخلص جميعا إلى نتيجة واحدة: "النوم يعني الراحة". تماما كإسكات محرّك السيارة لأننا إذا تركنا المحرّك يعمل من دون أن نسكته فإنه لن يلبث أن يتعطّب. فعمل المحرك ينتج طاقة، وتراكم الطاقة هذا، يتعب الالة ذاتها التي ولّدتها، لذلك يجب إعطاؤها قسطا من الراحة لتبرد. "كول داون" يعني أن نسكت المحرّك، وفيما يخص النوم فالأمر سيان. في حالة البشر يرتاح الذهني والجسدي معا، فعندما يكون الجسد ممدّدا ترتاح العضلات وتُغمض العينان ويتوقف دفق الأفكار، في وقت واحد، لتتكفل الأحلام بعد ذلك، وبشكل طبيعي، بإزالة الكمية الزائدة من الطاقة التي أنتجتها الأفكار.
حسنا، رغم كل هذا الذي قلت فقد كان أحد تلك الكتب سبيلي لاكتشاف نظرية قيمة تتلخص في أن البشر عموما غير قادرين على تجاوز جملة من "النوازع الشخصية المحددة" على حد تعبير المؤلف. وينسحب هذا على النشاط البدني ونظيره الذهني على حد السواء. فالناس يؤسّسون نوازعهم الشخصية ذهنية كانت أو سلوكية ويدعمونها على امتداد حياتهم من دون مجرد الانتباه إلى ذلك، وباستثناء الحالات الخارقة للمألوف فإن هذه النّوازع إذا ما استقرّت لا تمحي أبدا. بعبارة أخرى، الناس يعيشون حبيسي نوازعهم تلك. وبالنسبة إلى النوم – يتابع المؤلف – فإنه يعمل كمنظم لهذه النوازع فيسعى لإحلال الانسجام بينها تجنبا لفقدان التوازن مثلما هو الحال لكعب حذاء اهترأ من جهة دون أخرى. وهو في هذا أشبه بمنظم علاجي، فأثناء النوم ترتخي العضلات المستعملة طوال النهار ارتخاء طبيعيا، وتهدأ دوائر التفكير النشيطة، بشكل يسهل عملية تصريف الطاقة. وهكذا فإن الناس يبردون "كول داون" تماما مثل المحرّك، وهذا النظام مبرمج في كل الأجهزة البشرية ولا أحد بمقدوره تخطيه. ولو أننا تخلينا عن هذه المنظومة فإن أسس الوجود ذاتها ستكون مهدّدة. هكذا قال المؤلف.
"نوازع؟؟" ذكرتني هذه الكلمة بمهامي المنزلية، تلك الأنشطة التي كنت أنجزها آليًا دون أي مزاج؛ الطبخ والتسوّق والغسيل وتربية ابني، كل هذا لم يكن أكثر من مجرّد نوازع، كان بإمكاني إتمام كل تلك الشؤون وعيناي مغمضتان لأنها لم تكن سوى نوازع. أضغط على الزر ثم أجذب المقبض ثم... يكفي أن أقوم بذلك حتى يكمل الواقع مساره الطبيعي... وبالتالي فإن تكرار الحركات ذاتها بشكل مستمرّ ليس أكثر من مجرّد نزعة.
يعني هذا أني كنت متعبة من نوازعي مثل كعب حذاء مهترئ من جانب واحد، وكنت أحتاج النوم كل يوم لأصلح حالي وأبرد محرّكي.. هكذا هو الأمر؟
عاودت قراءة المقطع بتأن ثم هززت رأسي مؤكدة: "نعم لا بدّ وأن الأمر كذلك". ما الذي كانته حياتي إذًا؟ أهترئ جرّاء نوازعي ثم أنام لأصلحني؟ أحقا لم تكن حياتي سوى هذا التكرار المقيت؟ أنتم تعلمون طبعا أن هذا لا يفضي إلى أية جهة...
جالسة أمام الطاولة في مكتبتي، غارقة في وحدتي، حركت رأسي في تصميم: "لست بحاجة للنوم". قلت لنفسي. "حتى وإن جعلني ذلك أصاب بالجنون وحتى إن هدّد أسس وجودي ذاتها. لا يهمني، أنا لا أريد أن أنام وليكن ما يكون، فأنا أرفض أن أبكي جرّاء نوازعي ولا أرغب في نوم يأتي فقط ليجدد لي الطاقة التي استهلكتها تلك النوازع، لا حاجة لي بذلك، وإن لم يستطع جسدي الكف عن الاهتراء جراء نوازعي فروحي ملك لي، وسأحتفظ بها لي وحدي. لن أسلمها لأي كان ولن أتقاسمها مع أحد. لا أريد أن أعالج.. ولا أريد أن أنام".
هكذا حدّثت نفسي وحين خرجت من المكتبة كنت قد تسلحت بهذا القرار الجديد.
– 5 –
وهكذا إذًا لم يعد انقطاع النوم يخيفني، إذ ليس هناك ما أخشاه. عليّ أن أرى الوجه المشرق من الأشياء، وأقرّ بحقيقة أن حياتي قد أخذت بعدا آخر، ما في ذلك شك. لقد أصبح الزمن الفاصل بين العاشرة مساء والسادسة صباحا ملكا لي وحدي، فحتى هذه اللحظة كان الوقت الذي قضيته في النوم يساوي ثلث أيام حياتي، ذلك الذي يسمونه "إجراء علاجيا يهدف إلى تبريد المحرّك". لكن من هنا فصاعدا سيكون كل ذلك الوقت ملكا لي، لي أنا ولا أحد غيري، لي أنا فقط، وبإمكاني استغلاله على الوجه الذي أريد، دون أن يأتي أحد الإزعاجي. هكذا فكرت، بعبارة أخرى كانت حياتي بصدد التوسع، نعم لقد أضيف إليها الثلث.
بلا شك ستقولون لي إن ذلك شذوذ بيولوجي وستكونون محقين في كل الأحوال. قد أجبر مستقبلا على سداد الدّين لأني تماديت طويلا في التصرّف بشكل غير طبيعي. من وجهة نظر البيولوجيا طبعا. وربما أضطر يوما إلى إعادة هذه الحصّة الإضافية من حياتي التي أنا بصدد أخذها الآن... حسنا، حتى لو لم يكن لهذا الكلام أساس نظري يدعمه فما من شيء أيضا يقضي بدحضه. أنا نفسي أشعر بمنطق ما، في مثل هذا التصوّر.. أقصد أنه في نهاية المطاف يمكن أن يتساوى الوقت الذي تداينت ونظيره الذي عليّ أن أدفعه. لكن بصراحة، الأمر سيان بالنسبة إليّ؛ فأن أموت جرّاء صنيعي ذاك في سن مبكرة أمر لا يثير فيّ أية مشاعر، حزينة كانت أو بهيجة، لذا بإمكان الاحتمالات والتخمينات أن تتابع سيرورتها، أما ما سيبقى لي مستقبلا فهو إحساسي بأني كنت أوسّع حياتي باستمرار. ويا له من عمل رائع! ففي النهاية كان هناك شيء ما، يحدث. شيء منحني إحساسا عميقا بأنني أحيا ولا أبلى، على أقل تقدير ثمّت جزء مني لم يكن يعاني. ولأجل هذا غمرني الشعور بأني ولأوّل مرّة في حياتي كنت أعيش بحق.
أعتقد أن حياة البشر، وإن امتدّت طويلا، لا معنى لها إذا لم يخالجنا الشعور بأننا بالفعل نحيا.. الآن أعي ذلك جيدا...
بعد أن تأكدت أن زوجي كان نائما بعمق كعادته، توجّهت إلى الصالون وجلست على الأريكة، شربت كأس كونياك ثم فتحت كتابًا. كنت قد أعدت قراءة "آنا كارنينا" في الأسبوع الأول ثلاث مرّات متتالية، وكلما قرأت زيادة كلما اكتشفت عوالم جديدة. فقد كانت تلك الرواية الطويلة حبلى بالألغاز والمستجدات تماما مثل علبة الباندورا، كل عالم من عوالمها يحوي آخَرَ أصغر منه، وهكذا إلى ما لا نهاية... ومحصلة كل تلك العوالم مجتمعة تصنع كونا بأسره، كونا أخّاذا يقبع هنا بانتظار قارئ يكتشفه. في المرّة السابقة لم أدرك من هذا سوى جزء متناهي الصغر.. أما اليوم فإن نظرتي باتت تنفذ إلى الأعماق بسهولة فأرى ما كان "تولستوي" يريد قوله، وما كان يريد إفهامه للقارئ، والفاعلية التي أراد من خلالها تخليد رسالته في شكل رواية، بل وأيضا في أي شيء تتجاوز هذه الرواية كاتبها ذاته.. أجل، صار بوسعي أن أميز هذا كله. أصبحت قادرة على التركيز في كتاب ما، المدة الزمنية التي أريد دون أن أتعب جرّاء ذلك أبدا. بعد أن قرأت "أنّا كارنينا" عديد المرات المتتالية.
مررت إلى "دوستويفسكي" لا سيما بعد اكتشافي لقدرتي على قراءة أي قدر أريد من الكتب عبر تسخيري لكل طاقة تركيزي من دون أن أحسّ بالتعب، وحتى المقاطع الأكثر إرهاقا كنت أفهمها دون بذل الكثير من الجهد فتأسرني عواطف جياشة.
كانت أناي الحقيقية بصدد الاكتشاف، ذلك أنني ومنذ توقفي عن النوم نجحت في توسيع مساحة وعيي.. "ما يهم هو قوة الانتباه، فالناس الذين لا قدرة لهم على التركيز لن يجنوا شيئا وإن شرّعوا أعينهم تشريعا."
هكذا كنت أحدّث نفسي. بعد برهة خلص الكونياك الذي لدي دون أن أشعر. كنت قد شربت ما يناهز زجاجة بأكملها. فتوجّهت إلى مغازة كبرى وطلبت قارورة "ريمي مارتن" مماثلة للتي شربتها وانتهزت الفرصة فاشتريت أيضا قارورة نبيذ أحمر وكأسا فخما لشرب الكونياك دون أن أنسى البسكويت والشكولاتة.
بين حين وآخر كانت المطالعة تثير مشاعري الحبيسة، عندها كنت أتوقف عن القراءة لأملأ المكان كله حركة، فأتعاطى بعض الحركات الرياضية إذا ما تملكتني الرغبة في ذلك أو أكتفي بأن أذرع الغرفة جيئة وذهابا في شتى الاتجاهات. وقد يحدث ويخطر لي أن أخرج للتنزه ليلا فأعاود ارتداء ملابسي ثم أخرج سيارتي من الموقف وأنطلق في جولة عشوائية داخل الحي.
أحيانا كنت أدخل أحد المطاعم المفتوحة ليلا لأحتسي قهوة. ولكن لشدّة ما كان مرأى الناس يؤلمني أصبحت أخيّر البقاء في السيارة. كذلك كان يحصل لي أن أركن السيارة في مكان أقدّر أنه على درجة جيدة من الأمن، لا لشيء إلا لأقبع في الظلام مفكرة، هذا إن لم أصل حتى الميناء لأتفرّج على البواخر برهة من الزمن.
ذات مرة تقدّم شرطي نحو سيارتي كي يطرح عليّ بعض الأسئلة. كانت الساعة حوالي الثانية صباحا وكنت راكنة سيارتي تحت عمود نور محاذ للرصيف، مسرحة نظري في الأضواء المنبعثة من البواخر، مصغية في الوقت ذاته إلى الموسيقى القادمة من جهاز السيارة. نقر الشرطي على شباك السيارة فخفضته، كان شابا وسيما وشديد التهذيب، فسّرت له أني أعاني من الأرق، وعندما طلب مني رخصة السياقة مكنته منها.
بعد أن دقق في الأوراق زمنا، أخبرني أن جريمة قتل حدثت الشهر الماضي غير بعيد عن هنا. "رجل وزوجته هوجما من طرف ثلاثة مجرمين فلقي الرجل حتفه واغتصبت المرأة". قال لي شارحا. تذكرت أني سمعت شيئا مثل هذا في الأخبار المحلية فحرّكت رأسي تفهما. "من المستحسن عدم التسكع ليلا في مكان كهذا إلّا لضرورة ملحّة يا سيدتي ". أضاف الشرطي وهو يمد لي رخصة السياقة.
"شكرا، سأذهب حالا". قلتها وانصرفت.
كانت تلك هي المرّة الوحيدة التي حدّثني فيها شخص ما، فقد تعوّدت أن أتجوّل في المدينة لساعة أو ساعتين دون أن يزعجني أي كان لأعود بعدها وأوقف سيارتي في المرآب بالقرب من سيارة زوجي "البلو بيرد" البيضاء الراقدة في الظلام، مرهفة سمعي إلى صوت المحرّك وهو يبرد. وحين. ينقطع الصوت تماما أغادر السيارة وأصعد إلى الشقة. عند دخولي أتوجّه مباشرة إلى غرفة النوم للتثبت إذا كان زوجي ما يزال نائما، وإذا به في سبات تام فأغادره إلى غرفة ابني لأجده بدوره يغط في نوم عميق. لم يشعر أي منهما بما يجري، فمازالا يظنان أن العالم يمضي كذي قبل بلا تغيير، لكن ذلك لم يكن صحيحا. لقد تغير العالم سريعا دون علمهم وبطريقة لا تحتمل العودة إلى الوراء.
في إحدى الليالي ظللت أتأمل وجه زوجي أثناء نومه مدّة طويلة، كنت قد جئت إلى الغرفة راكضة لأني سمعت صوت سقوط شيء ما.. وحين وصلت وجدت المنبّه وقد وقع على الأرض، من المؤكد أن زوجي قد حرّك ذراعه أثناء النوم فأوقعه إلا أنه استمرّ في النوم وكأن شيئا لم يكن. أيعني هذا أن لا شيء يمكن أن يوقظه؟!
التقطت المنبه ووضعته على الطاولة ثم قاطعت ذراعيّ ومكثت أنظر إليه. لقد مرّ وقت طويل فعلا من دون أن أملّي فيه النظر وهو نائم. كم من السنوات على وجه التحديد؟
في الفترة الأولى من زواجنا قمت بذلك مرارا، وفي كل مرّة كان هذا الفعل يبعث في إحساسا بالراحة والسلام.
"ما دام ينام في مثل هذه السكينة فأنا حتما في أمان". هكذا كان يبدو لي الأمر. ولهذا السبب بالذات كنت في ما مضى أصرف الكثير من الوقت في تأمله وهو ينام. ولكنني ذات يوم – لا أذكر متى على وحجه التحديد – كففت عن فعل ذلك. سأبذل جهدي كي أتذكر متى حصل هذا على وجه الدقة. حسنا، لا بد وأن هذا حدث حينما كنت أتشاجر مع أمه أيام ولادتي لابننا الوحيد. كانت حماتي امرأة متدينة فأرادت أن يتكفل القسّيس باختيار اسم ابني. لم أعد أذكر الآن ما هو الاسم الذي وقع اقتراحه ولكني أتذكر جيدا موقفي وقتها، فقد رفضت أن يُفرض عليّ أي اسم بأي تعلة. وتشاجرت جرّاء ذلك مع حماتي شجارا حادًا فيما التزم زوجي بالصمت. كان يجلس بالقرب منا قانعا بمراقبتنا دون أن يحرّك ساكنا. في تلك اللحظات بالذات فقدت إحساسي بكونه قادرا على حمايتي، لأنه لم يبذل أي جهد لمساعدتي في معركتي تلك، الأمر الذي فجّر فيّ مشاعر غضب عارم. طبعا هي الآن قصّة قديمة وقد تصالحت بعدها مع حماتي واخترت لابني الاسم الذي أريد، كذلك تصالحت مع زوجي في الإبّان، لكني أعتقد فيما بيني وبين نفسي أني كففت منذ ذلك الوقت عن النظر إليه وهو ينام. وها أنذا الآن، أقف ناظرة إليه من جديد وهو غارق في نومه العميق كما هي عادته دائما وقد خرجت إحدى قدميه الكبيرتين من تحت الغطاء مثنية في وضع غريب، وكأنها ليست له. كان فمه الكبير مفتوحا وشفته السفلى متدلية. ومن حين لأخر كانت خياشيم أنفه ترتعش. أما الجيوب الكبيرة تحت عينيه فقد منحته مسحة من الفضاضة لا تقل قبحا عن طريقته في إغماض عينيه، أضف إلى كل ذلك منظر جفنيه الغليظين كطبقة جلد ذابل تغطى العينين. ممعنة النظر في كل تلك التفاصيل الماثلة أمامي، شعرت أني أمام شخص غبي تماما، شخص يرقد كالموتى حتى ليبدو مثلهم قبحا وإرعابا.. "هذا غير ممكن، أنا متأكدة أنه لم يكن هكذا فيما مضى". قلت لنفسي. عندما تزوّجنا كانت ملامحه أكثر إشراقا. صحيح أنه كان ينام بالعمق نفسه كما هو اليوم، ولكن وجهه لم يكن وجه فاسق. حاولت تذكر ملامحه أيام كنت أتطلع إليه وهو نائم فلم أستطع، رغم كل المجهودات التي بذلت.. في كل الأحوال لا يمكن لوجهه الذي عرفت أن يكون بمثل هذا القبح، إن ذلك مستحيل بأتمّ معنى الكلمة.. أترى الأمر حقا كذلك، أم أني فقط أحاول إقناع نفسي بهذا الرأي متجاهلة فرضية أن يكون وجهه بالأمس هو ذاته وجهه اليوم وما يترتب عنها من إقرار بأن مشاعري تجاهه هي التي كانت تجعلني أراه مختلفا. أراهن أن أمي كانت ستفسر الأمر بهذا الشكل لو سألتها رأيها في الموضوع. فمثل هذه الاستنتاجات هي من صميم اختصاصها. أذكر أنها كانت تقول لي دائما: "الحب الجارف لا يعمّر أكثر من سنتين اثنتين، ثلاث على أقصى تقدير..." لذا لن أستغرب أن تعلق اليوم قائلة: "لقد كنت تجدين زوجك جميل وهو نائم لأنك كنت ترينه بعين القلب." أجل هذا تحديدا ما ستقوله الآن، لكني أجزم أنها مخطئة. لم يكن زوجي فيما مضى قبيحا إلى هذا الحد، أنا متأكدة من ذلك. لقد فقدتْ ملامحه تماسكها جرّاء تقدّمه في السن من جهة وإرهاقه الشديد لنفسه من جهة أخرى. لقد كان مهترئا، والأكيد أنه في المستقبل سيهترئ أكثر فيزداد دمامة وطبعا سيتوجب عليّ أنا تحمّل كل ذلك القبح.
سحبت الهواء عميقا ثم تنهدت تنهيدة هائلة، تنهيدة تكفي لإيقاظ دب من سباته الشتوي ولكن زوجي لم يتحرّك قيد أنملة فمثله لا يمكن أن توقظه مجرّد تنهيدة.. طبعا لا يمكن!!
غادرت غرفتي وعدت إلى الصالون، شربت كأسا من الكونياك وقرأت قليلا، لكن خاطرا ما، كان يشغل بالي فوضعت الكتاب جانبا وقصدت غرفة ابني، تركت الباب مفتوحا ليتيح لي الضوء القادم من الرواق تأمل وجه ولدي وهو غارق في سباته. قطْعًا هو يختلف عن زوجي إذ ما يزال طفلا مضيء البشرة، خاليا من أي أثر للفضاضة، ومع ذلك كان في سحنته أمر ما يزعجني.. إنها المرّة الأولى التي أحس فيها بشيء كهذا تجاه ابني، وقفت إلى جانب الفراش وشابكت ذراعيّ ورحت أفكر: "أنا طبعا أحبه بل وأحبه كثيرا أيضا لكني في المقابل أشعر أن فيه شيئا ما يثير غضبي، لا شك في ذلك".
خفضت رأسي مسلمة، أغمضت عيني وظللت كذلك زمنا، ثم فتحتهما ونظرت إلى ولدي من جديد ففهمت في الحال ما الذي كان يزعجني، إنه شبهه بأبيه وبحماتي، مسحة العناد والأنفة والغرور المميزة لعائلة زوجي كانت حاضرة بقوّة في ملامحه البريئة، وكنت أكره ذلك. أعلم جيدا أن زوجي عطوف ودود وأنه يعمل كثيرا من أجلنا، وأنه لا يفكر يوما في خيانتي، وأعلم أيضا أنه كان لطيفا معي، وجادا ومهذبا مع كل الناس إلى درجة أن جل صديقاتي كان يردّدن خصاله وكأنها باقة أغان..
ليس بوسعي التعليق على شيء من هذا كله. لقد كان فعلا شخصا مثاليا. لكني أظن أن ما يزعجني على وجه الدّقة هو هذه المثالية المفرطة، فمثل هذا الخلوّ التام من العيوب يشي بنوع من الحزم الضمني لديه، حزم يمنع تسرب الخيال إلى عالمه، وهذا هو بالضبط ما يقلقني. ولقد كان ولدي، للأسف، يمتلك الملامح ذاتها.
طأطأت رأسي مجددا. في النهاية هو أيضا شخص غريب. سيكبر يوما بعد يوم دون أن يفهم ما تحس به والدته. لن أكرّر القول إن حبي لولدي لا يحتمل الشك، فالمسألة محسومة بالنسبة إلي. كل ما هنالك أني لن أحبّه في المستقبل بالشغف ذاته، هكذا أخبرني حدسي. أوافقكم أن الأمهات العاديات لا يفكرن هكذا وأن فكرتي هذه لا تمت لعالم الأمومة بصلة، ولكني كنت أعلم أن ذلك آت لا محالة، نعم، سيأتي يوم أحتقر فيه ابني، كذا شعرت وأنا أتأمل وجهه وهو نائم.
أحزنتني الفكرة كثيرا. أغلقت باب الغرفة وأطفأت ضوء الرّواق وانصرفت. جلست ثانية على الأريكة في الصالون وفتحت الكتاب مرّة أخرى ثم عاودت إغلاقه بعد بضع صفحات. نظرت إلى ساعتي فوجدتها تشير إلى الثالثة صباحا. تساءلت بيني وبين نفسي: "ترى كم من ليلة مضت دون أن يكحّل النوم جفنيّ؟".
أذكر أن أوّل ليلة كانت ليلة ثلاثاء منذ ما يزيد عن الأسبوعين وهكذا أكون الآن في يومي السابع عشر، وبالتالي، في ليلتي السابعة عشرة من دون نوم.. "سبعة عشر يوما بلياليها ولم ينتابني النعاس بعد!!" مدّة طويلة بحق! حتى أني لم أعد أتذكر ما الذي يعنيه أن أنام.
أغمضت عينيّ لأجرب، محاولة استحضار شعوري بالنعاس، لكني لم أحصّل شيئا سوى اليقظة المعتمة. "اليقظة المعتمة"! ذكرتني العبارة بالموت.. وماذا لو متّ؟.. أقصد إذا حدث ومت الآن، أي معنى ستحمله حياتي المنصرمة؟
طبعا لم تكن لدي فكرة عن المعنى الحقيقي لحياتي الماضية. والموت إذًا، ما عساه يكون؟
حتى ذلك الوقت كنت أعتبر النوم دفعة تحت الحساب من رصيد الموت، بعبارة أخرى: "ليس الموت سوى نوم أكثر عمقا خال من أدنى درجات الوعي الحاضرة عادة أثناء النوم العادي، الراحة الأبدية – البلاك آوت –" هكذا كنت أرى الأمور، لكن ماذا لو لم تكن كذلك؟ قد يكون الموت حالة مختلفة تماما عن النوم، ظلمات يقظة تمتد إلى ما لا نهاية له كهذه التي أراها خلف جفنيّ المطبقين، نعم، لِمَ لا يكون الموت بقاء أزليّا في حالة يقظة معتمة؟
كلًا، إن ذلك مرعب حقا! وإذا لم يكن الموت مرادفا للرّاحة فأين هو الخلاص المنتظر من هذه الحياة المرهقة المليئة بالعيوب؟.. في الأخير لا أحد يعلم حقيقة الموت، من فينا رآها حقا؟ – لا أحد. لذا فالأموات وحدهم يعرفون هذه الحقيقة أما الأحياء فيجهلون كل شيء عنها، هم فقط يتخيلون... مجرد افتراضات وتخمينات بسيطة لا أكثر. التفكير أصلا في أن الموت راحة غير منطقي بالمرّة فما دمنا لم نمت بعد لا يمكننا الجزم بشيء. قد يكون الموت أبعد مما نتصور عن الراحة المرتجاة.
عند هذا الحدّ من التفكير تملكني رعب فضيع، رعشة باردة مرّت عبر ظهري فسمّرتني في مكاني، وأنا مغمضة العينين عاجزة عن فتحهما من جديد. كانت صورة الظلمات الكثيفة ثابتة أمامي، ظلمات عميقة بلا أمل في النجاة، ممتدّة تماما مثل هذا الكون الفسيح. كنت وحيدة أكثر من أيّ وقت مضى فحاولت التركيز علّني أشحذ وعيي. بدا لي أني لو رغبت فعلا في أن أرى حتى آخر هذه الظلمة الموحشة فسيكون لي ما أردت، إلا أن الوقت لم يكن قد حان بعد.
حسنا، لو أن الموت هو هذا، فما الذي عليّ فعله؟
أقصد لو أن الموت هو أن تظل مستفيقا إلى الأبد وعيناك تحذقان في الظلمة...
فتحت عيني أخيرا وقذفت إلى حلقي ما بقي من كأس الكونياك في جرعة واحدة.
– 6 –
نزعت قميص النوم ولبست سروال جينز وقميصا فوقه معطف قصير ثم عقدت شعري "ذيل حصان" وحشرته تحت رقبة المعطف قبل أن أختم بوضع قبعة زوجي "البايزيول" على رأسي. نظرت إلى نفسي في المرآة فوجدتني أشبه ما يكون بولد. "ممتاز". هكذا حدثت نفسي. أدخلت قدمي في حذائي ونزلت إلى المرآب، صعدت إلى سيارتي "السّيفيك" وأدرت المحرك جاعلة إياه يشخر لفترة، أرهفت السمع برهة، وإذ وجدت أن الصوت ظل على حاله، ما يعنى أن كل شيء على ما يرام. وضعت يدي على المقود وأخذت نفسا عميقا ثم مرّرت السرعة إلى المستوى الثاني وانطلقت... أثناء القيادة بدت لي السيارة أخف من العادة وكأنها تنزلق على سطح الماء. واصلت تغيير مستويات السرعة بحذر ثم تركت المدينة واتخذت الطريق السريعة المؤذية إلى "يوكوهاما". كانت الساعة قد جاوزت الثالثة صباحا بقليل، لكن حركة المرور ماتزال مزدحمة. تسليت بمراقبة الشّاحنات هائلة الحجم وهي تتجه نحو الشرق محدثة اهتزازات على طول الطريق، فخطر لي خاطر غريب: "سائقو الشاحنات أيضا لا ينامون، فهم يرتاحون في النهار ويقودون طوال الليل لتحسين دخلهم. إذًا أنا أيضا بإمكاني العمل ليلا ما دمت لا أحتاج إلى النوم." هكذا كنت أحدّث نفسي.
من وجهة نظر بيولوجية لم يكن ذلك طبيعيا، لكن من ذا الذي يعرف الطبيعة حقا. نحن فقط نقرر ما الطبيعي وما غير الطبيعي عبر استخلاص الاستنتاجات من التجارب. وأنا كنت عند نقطة تتعدّى كل الاستنتاجات والتصورات، لنقل إلى عيّنة متجاوزة لمسار التطور؛ امرأة لا تنام أو امرأة ذات وعي ممتدّ، أنموذج مغاير للارتقاء في سلم التطور البشري... جعلتني الفكرة أبتسم.
قدت حتى الميناء وأنا أستمع إلى الرّاديو، كانت بي رغبة في الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، ولكن لا محطة كانت تبث هذا النوع من الموسيقى في أواخر الليل، فكل الإذاعات متخمة بشُربة "الرّوك" الياباني وبأغاني حب مملة. في غياب الموسيقى التي أريد وجدتني مضطرة لسماعهم، وهو ما خلق لديّ انطباعا بأني انطلقت فجأة إلى مكان بعيد جدّا، خارج عوالم "هايدن" و"موزار". في النهاية توقفت عند موقف السيارات الكبير هذا، جُلتُ ببصري في العلامات البيضاء المخصصة لتحديد الأماكن ثم اخترت الموقع الأفضل بالقرب من عمود النور مستغلة خلوّ المكان من السيارات إذ لم تكن هناك سوى سيارة واحدة مركونة، سيارة قديمة الطراز بيضاء اللون ببابين فقط، من ذلك النوع الرياضي الذي يحبذه معظم الشباب. لا بد وأن من بها عاشقين لم يجدا ما يكفي من المال للذهاب إلى النزل وهما الآن بصدد ممارسة الحب داخلها.
ضغطت القبعة التي على رأسي إلى أقصى حد ممكن، إخفاء لكوني امرأة كي أتجنب المشاكل، ثم ألقيت نظرة فاحصة تأكدت من خلالها أن الأبواب مغلقة بالمفتاح. وفيما أنا أنظر حولي بشرود عادت بي الذاكرة إلى ليلة من ليالي سنتي الجامعية الأولى، كنت قد خرجت فيها مع رفيقي بسيارته، فحدث أن مضينا في المداعبات بعيدا حتى أنه لم يعد قادرا على مزيد الاحتمال فأخذ يلحّ عليّ من أجل أن نمارس الحب معا ولكني رفضت. مازالت صورتي وأنا ممسكة المقود بكلتا يدي عالقة بذهني. أذكر أيضا أني ساعتها كنت مستمتعة بالموسيقى التي يبثها الراديو إلا أني ويا للغرابة لم أعد أتذكر جيدا وجه الفتى الذي خرجت معه وكأنه صار ينتمي إلى ماض بعيد جدّا.
منذ انقطاع النوم عني بدأت ذكرياتي في الاضمحلال. أمر غريب حقا، كلما انقضت ليلة إضافية إلّا وأحسست أن "أناي" تلك، التابعة للزمن الذي كنت أنام فيه مثلي مثل جميع البشر، ليست هي "أنا" الحقيقية، وأن كل ذكرياتي لتلك الفترة ليست بالذكريات الصحيحة! أحقا يمكن للأشخاص أن يتغيّروا إلى هذا الحد؟ سألت نفسي. وكل هذا دون أن يعلم أقاربهم شيئا عن الأمر!
بالنسبة إليّ مثلا، أنا وحدي أعلم أني تغيرت وحتى لو فسّرت ما يجري للآخرين فإنهم لن يفهموني أو بالأحرى لن يصدّقوني وإن حدث وفعلوا فإنهم لن يستطيعوا أبدا فهم هذا الذي أشعر به على وجه الدّقة. فهم في أفضل الأحوال لن يروا فيّ أكثر من مجرّد شخص يهدّد أمن عالمهم الصغير المقام على الاستنتاجات.. بينما أنا فعلا تغيّرت.
لا أعلم كم من الوقت مضى وأنا قابعة هنا في السيارة دون حراك، مغمضة العينين، متصلبة اليدين على المقود، غارقة في ظلام يقظ. لكني فجأة شعرت بحركة قرب السيارة ففتحت عيني ونظرت حولي، كان هناك ظل في الخارج يحاول فتح الباب لكن ولحسن الحظ وجده مقفلا بالمفتاح. بعد قليل أدركت أن هناك خيالين لا خيالا واحدا. خيالان أسودان يحاصران السيارة من اليمين واليسار. لم أستطع تمييز وجوههما ولا ملابسهما. كل ما أمكنني رؤيته ظلان حالكا السواد واقفان بجانب السيارة التي بدت وهي محشورة بينهما ضئيلة جدا كعلبة مرطبات صغيرة. شعرت بها تتمايل يمينا وشمالا، بعد ذلك تلقّى البلّور الأيمن لطخة من قبضة شخص ما. أعلم أنه لن يكون شرطيا هذه المرّة، فالشرطي لا يضرب بهذه الطريقة. حتما ما من شرطي يجعل سيارة غيره تهتز! كتمت أنفاسي مفكرة.. ما العمل؟ كان ذهني مشوّشا والعرق يسيل غزيرا من إبطي، عليّ أن أشغل السيارة بأسرع ما يمكن.. المفتاح، عليّ أن أدير المفتاح. حرّرت يدي من على المقود وخطفت المفتاح خطفا. أدرته إلى اليمين، كلك.. كلك.. كلك.. صرصر المحرك... لكن السيارة لم تشتغل. مرتجفة الأصابع، أغمضت عيني وأدرت المفتاح من جديد.. لا فائدة، لا شيء سوى صرير حاد كذلك الذي تصدره الأظفار حينما تخبش حائطا متينا. سعل المحرّك مرارا ومرارا دون أن يشتغل. والآن، الرجلان من حولي مستمرّان في هز السيارة، أشعر بقوّة الاهتزاز تتضاعف أكثر فأكثر... لا بد وأنهما يريدان قلبها.
"ثمّت شيء ما غير عادي، لو فكرت بهدوء فإن كل شيء سيتحسن.. فكري، فكري.. هدئي من روعك وفكري. هناك شيء ما غير عادي، غير عادي.. " أقول لنفسي، لكني لا أعرف ما هو.. الظلمة الشاسعة تحيط بروحي. لم يعد بوسعي الذهاب إلى أي مكان. يداي ترتعشان دون توقف، أنزع المفتاح، ثم أحاول إدخاله في الفتحة ثانية. لكن ارتجاف أصابعي يمنعني. أكرّر المحاولة مرات ومرات فيسقط المفتاح من يدي. أنثني كي ألتقطه فلا أستطيع لشدة اهتزاز السيارة، وحين أعاود الانحناء من جديد يصطدم رأسي بالمقود صدمة عنيفة.. ها أنذا أستسلم.. أحشر نفسي في مقعدي وأغطي وجهي بيدي وأغرق في البكاء.. لم يعد باستطاعتي فعل أي شيء آخر..
وحيدة وبلا سند، محبوسة في علبتي الصغيرة هذه، غارقة في بحر من الدموع وعاجزة عن الذهاب إلى أيّ مكان، إنها الساعة الأكثر إظلاما في هذا الليل..
وفي الخارج ما يزال الرجلان يواصلان هز سيارتي في كل الاتجاهات، لحظة أخرى فقط وسينجحان في قلبها!

- النهاية -
1