المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثم لم يبق أحد


AshganMohamed
10-21-2019, 09:53 AM
ثم لم يبق أحد
ثُمّ لَم يَبْقَ أحَدٌ
عشرة أشخاص لا يجمعهم أي قاسم
مشترَك ولا انسجامَ بينهم اجتذبتهم دعوة
غامضة إلى جزيرة مقفرة معزولة.
وفجأة خلال تناول العشاء دوّى تسجيلٌ
صوتي للمُضيف المجهول متّهِماً كل
واحد من الحضور بارتكاب جريمة...
ولا يلبث أول المدعوين أن يسقط ميتاً!
التوتر يتعاظم حينما يلاحظ المدعوون
أن القاتل ليس إلاّ واحداً منهم وأنه
جاهز للضرب من جديد. إنهم يتناقصون
واحداً بعد واحد، ثم... لم يبقَ أحد!



أغَاثا كريسيتى
ثُمّ لَم يَبْقَ أحَدٌ
(And Then There Were Non)
طُبعت للمرة الأولى باللغة الإنكليزية عام 1939
ترجمة: صلاح عبدالحق
مراجعة الترجمة: نشأت فتحي
تحرير: محمود عبدالرازق
دار الأجيال للترجمة والنشر
رقم هذه الرواية حسب ترتيب صدور الروايات بالإنكليزية: 34







الفصل الأول
-1-
جلس القاضي وارغريف، الذي تقاعد من القضاء مؤخَّراً، على مقعده في عربة المدخّنين في الدرجة الأولى يدخّن لفافة ويقرأ باهتمام الأخبار السياسية في جريدة التايمز ، ثم وضع الصحيفة جانباً وأخذ ينظر من النافذة. كانوا يعبرون منطقة سومرست في تلك اللحظة، ونظر إلى ساعته فوجد أن بينه وبين الوصول ساعتين.
استعرض في ذهنه كل ما ظهر في الصحف حول " جزيرة الجنود " . في البداية ظهرت أخبار شرائها من قِبَل مليونير أمريكي مولَع باليخوت، ثم ذلك التحقيق عن البيت الفاخر حديث الطراز الذي بناه في تلك الجزيرة الصغيرة المواجهة لساحل ديفون ، ثم الحقيقة المؤسفة بأن الزوجة الثالثة الجديدة للمليونير الأمريكي لم تكُن بحّارة ماهرة ممّا أدّى إلى عرض البيت والجزيرة للبيع، فظهرت إعلانات برّاقة متنوعة عنها في الصحف. ثم جاءت أولى التصريحات المقتضّبة بأنها قد بيعت للسيد أوين ، وبعد ذلك بدأت الإشاعات الصحفية : لقد اشتُريَت " جزيرة الجنود " بالفعل بواسطة
نجمة أفلام هوليوود الآنسة غابرييل تيرل لقضاء بعض الشهور هناك بعيداً عن الأضواء، وألمحت إحدى الصحف إلى أنها ستصبح منزلاً للعائلة المالكة ، وقال أحد الصحفيين أنه أُسِرّ إليه بأنّها اشتُريَت لقضاء شهر عسل ، فاللورد الشاب "ل" قرر الزواج أخيراً! في حين أكّد صحفي آخر علمه يقيناً بأنها قد اشتُريَت من قِبَل سلاح البحرية بغرض إجراء بعض التجارِب شديدة السريّة فيها ... " جزيرة الجنود " كانت محلّ اهتمام الصحف بالتأكيد.
أخرج القاضي وارغريف من جيبه رسالة كانت مكتوبة بخطّ غير مقروء عملياً، ولكن بعض الكلمات هنا وهناك كانت واضحة بصورة غير متوقَّعة ، فقرأ فيها:
العزيز لورنس،
مضت سنوات دون أن أسمع منك شيئاً. يجب أن تأتي إلى " جزيرة الجنود " فهي مكان ساحر للغاية، ولدينا الكثير لنتحدث عنه: الأيام الخوالي، التواصل مع الطبيعة ، الاستمتاع بالشمس.. اركب قطار الواحدة إلا ثلثاً من محطة بادنغتون. سأقابلك في أوكبريدج.
ووقّعت المرسِلة بخط مزخرّف: المخلصة إلى الأبد: كونستانس كلمنغتون.
عاد القاضي وارغريف بتفكيره ليتذكر على وجه الدقة المرة الأخيرة التي رأى فيها. الليدي كونستانس كلمنغتون. لا بدّ أن ذلك كان قبل سبع... لا، بل ثماني سنوات، وكانت وقتها في رحلة إلى إيطاليا للاستمتاع بالشمس والتواصل مع الطبيعة، ثم علم فيما بعد أنها سافرت من هناك إلى سوريا حيث رأت ان تسترخي تحت أشعة شمس أقوى وتتمتع بالتواصل مع الطبيعة والبدو. وخطر له أن كونستانس كلمنغتون كانت تماماً من ذلك النوع من النساء اللاتي قد يشترين جزيرة ويُحِطُن أنفسهنْ بالغموض. وإذ ارتاح القاضي وارغريف لهذا المنطق سمح لرأسه بالانحناء فوق صدره، ثم نام.
-2-
في عربة بالدرجة الثالثة فيرا كلايثورن برأسها إلى الخلف وأغمضت عينيها، وكان في العربة خمسة ركّاب آخرين. كان لطيفاً أن يذهب المرء إلى البحر في ذلك الجو الحار ذلك اليوم. لقد كانت محظوظة حقاً بالحصول على هذه الوظيفة، فمن الشائع عند البحث عن وظيفة في المَصيف أن ذلك يعني دائماً العناية بمجموعة من الأطفال، أما وظائف السكرتارية فكان من الصعب العثور عليها، حتى وكالة التوظيف لم تكُن تأملى كثيراً بذلك. ثم جاءتها رسالة كان فيها:
تلقّيتُ اسمك عن طريق وكالة "النساء الماهرات" مع توصية بك، وحسبما فهمت فهم يعرفونك شخصياً. يسرّني أن أخبرك بأنني سأدفع لك الراتب الذي طلبتِه، وأتوقع منك مباشرة العمل يوم 8 آب (أغسطس). يمكنك أخذ قطار الساعة الواحدة إلاّ الثلث من بادنغتون، وسوف تجدين مَن يستقبلك في محطة أوكبريدج، وأرفق طيّه خمسة أوراق نقدية من فئة الجنية لمصروفاتك.
المخلصة: أونا نانسي أوين
وفي أعلى الرسالة كان العنوان مختوماً: جزيرة الجنود، ستيكلهيفن، ديفون.
جزيرة الجنود! عجيب أنّ الصحف لم تذكر سواها مؤخَّراً، وكانت حافلة بكل التلميحات والإشاعات المثيرة للفضول مع أنها لم تكُن صحيحة على الأرجح، ولكن المنزل بناه مليونير بالتأكيد، وقد قيل إنه كان غاية في الفخامة.
فيرا كلايثورن، التي كانت قد قضت لتوّها موسماً دراسياً شاقاً في المدرسة، قالت بينها وبين نفسها: إنه لأمر أن أكون معلّمة تربية رياضية في مدرسة من الدرجة الثالثة. ليتني أستطيع الحصول على وظيفة في مدرسة محترمة!
ثم فكّرت وقد غمرها شعور بالسكينة: ولكني محظوظة بهذه الوظيفة على أية حال، فالناس لا يحبون التحقيقات الجنائية ، حتى لو أن المحقّق أبرأني من كل تهمة.
بل لقد تذكّرَت أن المحقّق أثنى عليها لشجاعتها وحضور ذهنها، فلم يكُن ممكناً أن يجرى تحقيق على نحو أفضل من ذلك، كما أن السيدة هاملتون كانت اللطف بذاته معها. فقط هوغو... ولكنها لا تردي التفكير بهوغو.
وفجأة أخذّت ترتعش رغم حرارة العربة، وتمنّت لو لم تكُن ذاهبة إلى البحر، فقد برزت في مخيلتها، صورة واضحة: رأس سيريل يعلو ويهبط سابحاً نحو الصخرة ... أعلى وأسفل ، أعلى وأسفل ، وهي تسبح برشاقة خلفه شاقّة طريقها وسط الماء مع علمها الأكيد أنها لن تصل في الوقت المناسب.
البحر بمياهه الزرقاء العميقة الدافئة والاستلقاء على الرمال ساعات الصباح، وهوغو، هوغو الذي قال إنه يحبها، ولكنها يجب أن لا تفكر بهوغو.
فتحت عينيها وقطّبت جبينها حين وقعت عيناها على الرجل المقابل لها. كان رجلاً طويلاً حنطيّ الوجه ذا عينين باهتتين متقاربتين وفم متعجرف يصل إلى حد القسوة، فقالت لنفسها: يبدو انه زار مناطق مثيرة في العالَم وشاهد أشياء مدهشة.
-3-
ألقى فيليب لومبارد نظرة خاطفة على الفتاة الجالسة أمامه مكوّناً عنها انطباعاً سريعاً، وفكّر قائلاً لنفسه: إنها فتاة جذّابة. ربما كانت معلّمة، ويبدو أنها ذات شخصية هادئة من النوع الذي يحافظ على تماسكه في الحب أو في الحرب.
ثم قطّب مفكّراً وعاد يقول لنفسه: دعك منها: أنت في عمل ولا بدّ من التركيز على المهمة.
ثم تساءل: ما هذا الموضوع بالضبط؟! لقد كان ذلك المُرابي الضئيل غامضاً تماماً حين قال: كابتن لومبارد ، إما أن تقبل أو ترفض.
فقال لومبارد وهو مستغرق في التفكير: مئة جنيه؟ حسناً.
قالها لومبارد بلامبالاة كأنما مبلغ مئة جنيه لم يكُن شيئاً بالنسبة له، مئة جنيه في الوقت الذي كان لا يملك فيه سوى ثمن وجبته الأخيرة، إلاّ أنه شعر بأن ذلك الرجل الضئيل لم يُخدَع. كانت هذه هي الخاصية اللعينة لهذا النوع من الناس ؛ ليس بوسعك خداعهم في مسألة تتعلق بالمال فهم يعرفون كل ما يتعلق به!
قال له لومبارد باللهجة اللامبالية نفسها: هل تستطيع تزويدي بأي معلومات أخرى؟
هزّ السيد إيزاك موريس رأسه الأصلع الصغير قائلاً: لا يا كابتن لومبارد، المسألة استقرّت على هذا النحو. موكلّي يعتقد أنك رجل ذو سمعة محترَمة وفي وضع حرِج، وأنا مخوَّل بتسليمك مئه جنيه مقابل أن تسافر إلى ستيكلهيفن في مقاطعة ديفون، أقرب محطة قطار هي أوكبريدج، وهناك ستجد من يقابلك ويقلّك بالسيارة إلى ستيكلهيفن، وفيها ستجد قارباً آلياً ينقلك إلى " جزيرة الجنود " ، وهناك يتعيّن عليك أن تضع نفسك تحت تصرّف موكّلي.
قال لومبارد فجأة: لأيّ مدة من الزمن؟
- لمدة لا تزيد عن أسبوع على أبعد تقدير.
قال لومبارد وهو يمرّر أصابعه على شواربه الصغيرة: هل تدرك أنّي لا أستطيع التعهد بأيّ شيء غير قانوني؟
قال ذلك وهو يلقي نظرة حادّة على الرجل الآخر، وافترّت شفتا السيد موريس الغليظتان عن ابتسامة باهتة للغاية وقال بهدوء: إذا طُرح عليك أيّ اقتراح حول أمر غير قانوني فلك مطلّق الحرية في الانسحاب.
سحقاّ لهذا الحيوان الضئيل الماكر ! يبتسم وكأنما يعرف جيداً أن القانون لم يكُن مسألة ذات شأن في سلوكيات لومبارد الماضية. وافترّت شفتا لومبارد عن ابتسامة حانقة؛ لقد خاطر مرة أو اثنتين ولكنه كان يخرج سالماً دائماً ، ولم يواجه الكثير من الخطوط الحمراء التي رسمها لنفسه حقّاً. نعم لم يواجه خطوطاً حمراء كثيرة يقف عندها. وخُيّل إليه أنه سيستمتع بإقامته في " جزيرة الجنود " .
-4-
جلست الآنسة إميلي برنت في عربة غير المدخّنين في جلستها المنتصبة المعتادة، كانت عانساً في الخامسة والستين ولم تكّن تقبل بالاسترخاء أو الميوعة، فقد كان والدها ( وهو كولونيل من الجيل القديم ) يهتمّ بشكل خاصّ بالسلوك واللباقة، أمّا أبناء الجيل الحالي فلا يبالون بسلوكهم أو بأيّ شيء آخر.
وهكذا جلسَت الآنسة برنت في عربة مكتظة في الدرجة الثالثة غير مبالية بقلّة الراحة أو بالحرارة ، تحيط بها هالة من الاستقامة والالتزام المطلَق بالمبادئ. كل الناس يتذمّرون من كل شيء في هذه الأيام ، يريدون مخدّراً قبل خلع أضراسهم، ويأخذون حبوباً منوّمة إذا لم يستطيعوا النوم، ويريدون مقاعد وثيرة ووسائد، أما البنات فيمشين سافرات خليعات كيفما اتفق ويستلقين في الصيف على الشواطئ بلا خجل.
زمّت الآنسة برنت شفتيها. كان بودّها أن تجعل بعضهم عبرة للآخرين. وتذكّرَت عطلة صيف العام الماضي، لكن هذه السنة ستكون مختلفة تماماً، ستكون في " جزيرة الجنود " . واستعادت بذهنها قراءة الرسالة التي قرأتها عدّة مرات من قبل:
عزيزتي الآنسة برنت،
آمل أن تتذكريني. لقد كنّا معاً في نُزُل بيلهافن في شهر آب ( أغسطس) قبل بضع سنوات، وكان يبدو أن لدينا الكثير من الاهتمامات المشتركة.
لقد افتتحتُ نُزُلاً اشتريتُه على جزيرة قبالة ساحل ديفون، وأعتقد أن مكاناً تتوفر فيه وجبات تقليدية جيّدة وشخص طيّب من الطراز القديم سيكون مكاناً مرغوباً، ولن تزعجناً الموسيقى الصاخبة التي تنطلق في جوف الليل، سأكون في غاية السعادة لو جئتِ لقضاء إجازة الصيف في " جزيرة الجنود " ، مجاناً وفي ضيافتي. هل يناسبك أوائل آب (أغسطس)؟ فليكن الثامن منه.
المخلصة: أ.ن.أ.
وتساءلت إميلي برنت بصبر نافد بينها وبين نفسها: ما هذا الاسم؟ كان من الصعب معرفته من خلال الأحرف التي وُقّع بها، كم من الناس مَن يوقعون أسماءهم بطريقة غير مفهومة أبداً!
وسمحت لخيالها بالعودة إلى الوراء لاستعراض الأشخاص الذين التقت بهم في بيلهافن، كانت هناك خلال صيفين متتاليَين، وكانت هناك تلك العانس الطيبة متوسطة العمر، الآنسة ...... الآنسة..... ماذا كان اسمها؟ والدها كان كاهناً. وكانت هناك سيدة اسمها أولتن.. أولمن، لا ، بالتأكيد أوليفر. أجل ، أوليفر.
جزيرة الجنود؟ كان في الصحيفة شيء حول جزيرة الجنود،
شيء عن نجمة سينمائية أو ربما كان عن مليونير أمريكي... طبعاً، أماكن كهذه تُباع رخيصة غالباً. إن الجزر لا تناسب كلّ الناس، فهم يعتقدون أنها رومَنسية ولكن إذا جاؤوا للعيش فيها فإنهم يكتشفون مساوئها ولا تكاد تسعهم السعادة عند بيعها.
قالت إميلي برنت لنفسها: ولكني سأقضي إجازة مجّانية على أيّة حال.
كان ذلك شيئاً لا بدّ من آخذه في الاعتبار في ضوء الانخفاض الكبير في دخلها والكثير من العوائد التي لم تُدفَع. فقط تمنت لو أنها تستطيع أن تتذكر المزيد عن السيدة أو الآنسة أوليفر.
-5-
نظر الجنرال ماك آرثر من نافذة العربة، وكان القطار يدخل محطّة إكستر حيث سيغيّر إلى قطار آخر، سحقاً لقطارات الخطوط الفرعية هذه! ذلك المكان، جزيرة الجنود، ليس بعيداً أبداً لو استطعت الذهاب إليه في خط مستقيم كما تطير الغربان! لم يكُن قد اتضح له مَن هذا الشخص أوين؟ يبدو أنه صديق سبوف ليغارد أو جوني داير. تذكّر تلك الجملة: " ... سيأتي واحد أو اثنان من رفاقك القدماء للتحدث عن الأيام الخوالي ". حسناً، سيكون التحدث عن الأيام الخوالي ممتعاً. لقد خُيّل إليه مؤخَّراً أن الرفاق يتجنبونه، وكل ذلك بسبب تلك الإشاعة اللعينة، كم كان ذلك قاسياً! لقد مرّ على ذلك ثلاثون عاماً. هل تكلم أرمتياج؟ ما الذي يعرفه ذلك الجرو الصغير الملعون؟ على أيّة حال ما جدوى
استرجاع هذه الأمور الآن؟ أحياناً تخطر للمرء أشياء غريبة، يخطر لك أن أحدهم ينظر إليك بشكر مريب.
سيكون من الممتع له أن يشاهد " جزيرة الجنود" هذه. لقد سمع الكثير من الحديث حولها، ويبدو أن في الأمر شيئاً من الصحّة في الإشاعة حول امتلاكها من قِبَل سلاح البحرية أو وزارة الدفاع أو سلاح الجو. الواقع أن المليونير الأمريكي الشابّ إلمر روبسون قد أقام المبنى في ذلك المكان وأنفق عليه الآلاف كما يُقال وجهّزه بكل وسائل الرفاهية.
إكستر، والانتظار لمدة ساعة! ولكنه لا يريد الانتظار بل يودّ لو يستمر في السفر.
-6-
كان الدكتور آرمسترونغ يقود سيارته الموريس عبر سهل سالزبوري وهو متعَب جداً، فالنجاح له ضريبته. لقد مرّت أوقات جلس فيها في عيادته في شارع هارلي بكامل هندامه محاطاً بأحدث المعدات وأفخر الأثاث ينتظر وينتظر، ومرّت الأيام خاوية وهو ينتظر لمشروعه أن ينجح أو يفشل.
حسناً، لقد نجح، وقد كان محظوظاً وماهراً بالطبع. كان ماهراً في عمله، ولكن ذلك لم يكُن كافياً للنجاح، فلا بدّ أن يكون لديك حظ أيضاً. وقد كان لديه الحظ: تشخيص دقيق، مريضتان ممتنْتان ، امرأتان ذواتا مال ومكانة مرموقة ، ثم انتشرت سمعته: " عليكِ أن تجرّبي آرمسترونغ؛ إنه شابّ صغير ولكنه حاذق للغاية، لقد جرّبَت بام كل الأطباء من قبل لسنوات عدّة ولكنه وحده عرف مرضها في الحال...". وهكذا بدأت كرة الثلج تتدحرج.
لقد نجح الدكتور آرمسترونغ بالتأكيد، أصبحّت أيامه الآن مشغولة تماماً ولم يعُد لديه وقت للاسترخاء، ولهذا فقد كان سعيداً في صباح ذلك اليوم من شهر آب (أغسطس) وهو يغادر لندن لقضاء بضعة أيام في جزيرة قبالة ساحل ديفون. لم تكُن عطلة تماماً ، فقد كانت الرسالة التي تلقّاها غامضة العبارات، مع أن الشيك المرافق للرسالة لم يكُن فيه أيّ غموض. لقد كان مبلغاً مجزياً؛ لا بدّ أن عائلة أوين هذه من المتخَمين بالمال!
بدت المسألة كأنها مشكلة صغيرة تتعلق بزوج قلق على صحة زوجته ويريد تقريراً عنها دون إثارة انتباهها، فهي لا تتقبل فكرة عرضها على طبيب لأن أعصابها لا...
ارتفع حاجباه بدهشة. أعصابها؟ يا لهؤلاء النسوة وأعصابهن! حسناً، كان ذلك ملائماً لعمله على أيّة حال، فتصف النساء اللاتي كنّ يزُرن عيادته لم تكن لديهنّ مشكلة سوى الملل، ولكنهنّ لا يسعدن إن أخبرتهن بذلك. وفي العادة كان باستطاعته أن يجد لديهن شيئاً ما: اضطراب خفيف، في...( يختار كلمة ما طويلة)، ليس بالأمر خطير، فقط تحتاجين إلى بعض العناية مع علاج بسيط.
إن العلاج يعتمد على الطبيب في الواقع، والدكتور آرمسترونغ كان رجلاً ودوداً يستطيع بثّ الآمل والثقة في نفوس مرضاه. لقد كان من حسن حظه أن استطاع السيطرة على نفسه في الوقت المناسب.
بعد تلك القضية التي حدثت قبل عشرة أعوام... لا، بل قبل خمسة عشر عاماً، وكادت أن تكون كارثة! كاد أن ينهار ولكن الصدمة جعلته يتماسك. لقد أقلع عن الشراب تماماً ، ومع ذلك فقد كادت أن تكون كارثة!
في تلك اللحظة عبرت سيّارة رياضية ضخمة من نوع سوبر سبورت من جانبه بسرعة ثمانين ميلاً في الساعة مطلقة بوقاً يصمّ الآذان، الأمر الذي جعل الدكتور آرمسترونغ يكاد يصطدم بالأشجار على جانب الطريق. لا بدّ أنه أحد هؤلاء الشبّان الطائشين الذين يقودون سياراتهم بتهوّر. كم يكرههم! كادت أن تلحقة كارثة. سحقاً لذلك الشابّ الطائش.
-7-
راح توني مارستون يفكر بينه وبين نفسه فيما كان يقود سيّارته في مير. كل هذه السيارات تزحف في الشوارع ببطء... إنه لأمر فظيع؛ دائماً يقودون سياراتهم وسط الطريق معترضين طريقك. إن قيادة السيارات في إنكلترا حالة ميؤوس منها على أية حال، بعكس فرنسا حيث يكون بوسع المرء أن ينطلق انطلاقاً سريعاً.
هل ينبغي له أن يتوقف هنا ليشرب شيئاً أم يواصل سيره؟ لديه الكثير من الوقت، بقي له فقط ما يزيد قليلاً على مئة ميل وهو يحتاج لتناول شيء المرطّبات في هذا اليوم القائظ.
لا بد أن هذه الجزيرة مكان ممتع إذا استمر الطقس على حاله. تساءل في نفسه: من تكون عائلة أوين هذه؟. لا بدّ أنهم أغنياء إلى حد التخمة. إن بادغر ماهر في اكتشاف هذا النوع من الناس. طبعاً لا بدّ لهذا الشابّ البائس من أن يكون قادراً على ذلك في وضعه المفلس.
وعاد يقول لنفسه: لنأمل أنهم سيكونون كرماء، فلا أحد يعرف طباع هؤلاء الذين كوّنوا ثرواتهم بنفسهم ولم يولدوا أغنياء.
وتمطّى وهو يغادر المقهى وتثاءب ونظر إل السماء الزرقاء، ثم ركب سيارته الفارهة، نظر إليه بعض الحاضرين بإعجاب؛ فقد كانت له قامة متناسقة بطول ستة أقدام وشعر ناعم وعينان زرقاوان ووجه لوّحته الشمس. انطلق مزمجراً بسيارته في الشارع الضيق فتتقافز كهول وصبيان سعياً للنجاة بأنفسهم، ولكن الصبة تابعوا السيارة بنظرات الإعجاب.
-8-
كان السيد بلور راكباً في القطار البطيء الذي غادر بلايموث، وكان معه شخص آخر فقط في العربة، رجل مهذَّب عجوز ذو عينيَن متعَبتين يبدو عليه أنه قضى معظم عمره في البحار، وكان في تلك اللحظة نائماً. كان السيد بلور يكتب بعناية في دفتر ملحوظات صغير وتمتم لنفسه: هذه هي المجموعة، إميلي برنت، فيرا كلايثورن الدكتور آرمسترونغ، أنتوني مارستون، القاضي العجوز وارغريف، فيليب لومبارد، الجنرال ماك آرثر حامل وسام سينت جيمس وسينت جورج ووسام الخدمة المميَّزة، والخادم وزوجته السيد والسيدة روجرز.
أغلق الدفتر ووضعه في جيبه ونظر باتجاه الزاوية والرجل النائم وغمغم مشخّصاً بدقّة: " يوجد واحد فوق الثمانية". ثم استعرض الأمور بعناية وبوعي تامّ وتمتم متأملاً: مهمة سهلة، من الصعب أن أقع في خطأ آمل أن أبدو في وضع جيّد.
ثم هبّ واقفاً وأخذ يتفحص نفسه بقلق في زجاج النافذة. كان وجهه يعكس مظهراً عسكرياً بعض الشيء، وكان ذا شارب وقليل من التعبير، وكانت عيناه رماديتين ومتقاربتين إلى حد ما. قال السيد بلور: يمكن أن أزعم بأنني ميجور، لا ، لقد نسيت، العسكري العجوز سيكتشفني على الفور. جنوب إفريقيا.... نعم ، سأكون من جنوب إفريقيا فلا أحد من هؤلاء الناس له صلة بجنوب إفريقيا، وسيكون بوسعي التحدث عنها بصورة جيدة بعد أن قرأت ملف الرحلات هذا.
كان يوجَد – لحسن الحظ – أنواع شتّى من رجال المستعمَرات، وكرجل ثري من جنوب إفريقيا أحسّ السيد بلور أن بوسعه الاندماج في أيّ وسط اجتماعي دون إثارة أيّ ارتياب.
جزيرة الجنود! ها هو يتذكّر " جزيرة الجنود" أيام كان صبياً، صخرة نتنة الرائحة تقف عليها طيور النورس على بعد ميل من الشاطئ تقريباً. إنها لفكرة غريبة أن يذهب أحد ويبني بيتاً عليها، فهي مكان فظيع في الطقس السيّئ، ولكنّ لأصحاب الملايين نزوات كثيرة.
أفاق الرجل القابع في الزاوية وقال: لا يمكن التنبؤ بالطقس في البحر أبداً.
قال السيد بلور ملاطفاً: هذا صحيح، لا يمكن.
ثم شهق العجوز مرتين وقال باكتئاب: أشعر بعاصفة قادمة.
قال السيد بلور: لا يا صاحبي، بل هو يوم جميل.
فغضب العجوز وقال : بل هي قادمة ، أستطيع أن أتشمّمها.
قال السيد بلور مهدّئاً: قد تكون على حق.
وقف القطار في المحطة فنهض العجوز مترنحاً وقال: سأنزل هنا.
نهض ببطء فساعده السيد بلور، ووقف الرجل بالباب فرفع يده بوقار ثمّ غمز بعينيه المتعبتين وقال: ترقّب وادعُ؛ إن يوم الحساب وشيك. ثم نزل من الباب إلى الرصيف ونظر إلى السيد بلور ثانية وقال بوقار شديد: أنا أكلمك أنت أيها الشاب، إن يوم الحساب سيحلّ قريباً. فقال السيد بلور لنفسه وهو يعود إلى مقعده: هو أقرب إلى يوم الحساب منّي.
ولكن الأحداث أثبتت أنه كان على خطأ!
* * *
الفصل الثاني
-1-
خارج محطة أوكبريدج وقف حشد من الناس يبدو عليهم شيء من الحيرة، وخلفهم وقف حمّالون معهم حقائب سفر، وصاح صوت من بينهم : جيم.
فتقدم أحد سائقي سيارات الأجرة وقال بلهجة أهل ديفون الرقيقة: هل بينكم من يريد الذهاب إلى جزيرة الجنود؟
ردّت أربعة أصوات بالإيجاب، ثم ما لبثوا أن تبادلوا نظرات متشكّكة، فوجّه السائق كلامه إلى القاضي وارغريف باعتباره أكبر المجموعة سنّاً وقال: توجد هنا سيارتان يا سيدي، إحداهما يجب أن تنتظر حتى يصل القطار البطيء من إكستر بعد نحو خمس دقائق من الآن، وسيصل رجل واحد في ذلك القطار. هل يستطيع أحدكم الانتظار إن لم يكُن لديه مانع؟ سيكون ذلك مريحاً أكثر لكم.
وبدافع من إدراكها أنها تمثل دور السكرتيرة قالت فيرا كلايثورن على الفور: أنا سأنتظر، إن أردتم أنتم الذهاب.
أوحت نظرتها ولهجتها بشيء من السلطة المكتسّبة من تعوّدها ممارسة منصب قياديّ، وبدت كما لو كانت توجّه مجموعة من الفتيات وهنْ يلعبن التنس.
قالت الآنسة برنت بلهجة جافة: " شكراً ". ثم دخلت سيارة كان سائقها يمسك بابها المفتوح بيده، وتبعها القاضي وارغريف في حين قال الكابتن لومبارد: سأبقى مع الآنسة...
قالت فيرا: كلايثورن.
- اسمي لومبارد ، فيليب لومبارد.
كان الحمّالون يضعون الحقائب داخل سيارة الأجرة حين قال القاضي وارغريف بتحفّظ رجل قانون: لدينا طقس جميل اليوم.
فردّت الآنسة برنت: أجل، هذا صحيح.
وفكّرت بينها وبين نفسها بأن هذا العجوز تبدو عليه سمات الرجال الفضلاء الذين يختلفون تماماً عن نوعيات هؤلاء الذين يرتادون فنادق الشواطئ. يبدو أن السيدة أو الآنسة أوليفر ذات علاقات جيدة. قال القاضي وارغريف مستفسراً: هل تعرفين هذه المناطق جيداً؟
- سبق أن زرت كورنوول وتوركاي، ولكن هذه أول زيارة لي إلى هذا الجزء من ديفون.
قال القاضي: وأنا أيضاً لست ملّماً بهذه المنطقة.
تحركَت سيارة الأجرة فقال سائق السيارة الثانية: هل تريدون الجلوس في أثناء انتظاركم؟
فردّت فيرا بحزم: لا.
ابتسم الكابتن لومبارد وقال: ذلك الحائط المشمس يبدو أكثر جاذبية، إلا إذا أردت الدخول إلى المحطة.
- في الواقع لا أريد؛ فمن المبهج أن يخرج المرء من جو ذلك القطار الخانق.
- أجل، السفر بالقطار متعب في هذا الطقس.
قالت فيرا: آمل أن يدوم هذا... أعني الطقس. إن صيفنا الإنكليزي مخادع للغاية!
سأل لومبارد بنبرة يُعوِزها الصدق قليلاً: هل تعرفين هذا الجزء من العالَم جيداً؟
- لا ، لم آتِ هنا من قبل.
ثم أضافت بسرعة وهي عازمة على توضيح موقفها في التوّ: ولا حتى شاهدت مستخدمي بعد.
- مستخدِمك؟
- نعم، أنا سكرتيرة السيدة أوين.
- آه ، فهمت.
ثم ران عليه هدوء واضح وأصبح أكثر اطمئناناً ولهجته أكثر ارتياحاً وقال: أليس هذا غريباً نوعاً ما؟
فضحكت فيرا وقالت : لا أظنه غريباً؛ لقد مرضَت سكرتيرتها فجأة فأبرقَت إلى وكالة توظيف تطلب بديلة لها، فأرسلوني.
- هكذا كان الأمر إذن؟ ولكن ماذا لو لم تعجبك الوظيفة عندما تصلين هناك؟
ضحكت فيرا ثانية وقالت: إنها وظيفة مؤقَّتة على أي حال؛ وظيفة صيفية ، ولديّ وظيفة دائمة في مدرسة بنات. أنا في الواقع مشتاقة بشدة لرؤية " جزيرة الجنود " ؛ فقد نُشر الكثير عنها في الصحف. هل هي بهذه الروعة حقاً؟
قال لومبارد: لا أعرف؛ لم أرَها من قبل.
- حقاً؟ إن عائلة أوين مغرَمون بها للغاية كما أظن. أيّ نوع من الناس هم؟ أخبرني.
ففكر لومبارد وقال لنفسه: يا لها من ورطه! هل المفروض أنه سبق لي الالتقاء بهم أو لا؟
ثم قال بسرعة: أرى دبّوراً يزحف على ذراعك! لا ، لا تتحركي.
وطوح يده بما يوحي بإزاحته، وقال: حسناً ، تخلصّنا منه الآن.
- يا إلهي! شكراً لك. توجد دبابير كثيرة هذا الصيف!
- أجل، لعلها الحرارة. مَن هو الذي ننتظره؟ هل تعلمين؟
- ليست لدي أيّ فكرة.
ثم تناهى إليهم الصوت الزاعق الطويل المميّز لقطار يقترب فقال لومبارد: ها هو القطار قادماً.
ثم ظهر من باب الخروج من الرصيف رجل عجوز طويل ذو مظهر عسكري وشعر أشيب مصفَّف بعناية وشارب أبيض مشذَّب، وتبعه حمّال ينوء قليلاً بحمل حقيبة سفر جلدية، وأومأ باتجاه فيرا ولومبارد فاندفعت فيرا بطريقة تنمّ عن الكفاءة وقالت: أنا سكرتيرة السيدة أوين. توجد سيارة في الانتظار.
وأضافت بسرعة: وهذا هو السيد لومبارد.
نظر الوافد الجديد بعينين زرقاوين باهتتين يلمع فيهما الذكاء، وكانت نظرته إلى لومبارد نظرة تقييم، فلو كان شخصُ ما يراقبه لرأى عينيه تزنان الرجل، وقال لنفسه: رجل حسن المظهر، ولكنّ فيه شيئاً يثير الريبة.
ركب الثلاثة سيارة الأجرة فسارت بهم عبر شوارع أوكبريدج النائمة، ثم تابعت السير ميلاً آخر على طريق بلايموث قبل أن تدخل في شبكة من الطرق الريفية الخضراء الضيقة شديدة الانحدار.
قال الجنرال ماك آرثر : لا أعرف هذه المنطقة من ديفون إطلاقاً؛ إن منزلي الصغير يقع في شرق ديفون قرب خط الحدود مع دورست.
قالت فيرا: المكان جميل هنا حقاً، التلال والأرض الحمراء، وكل شيء أخضر ومنمَّق.
قال فيليب لومبارد منتقداً قولها: المنطقة مغلقة إلى حد ما، وأنا أفضّل المناطق الريفية المفتوحة حيث بوسعك مشاهدة الأشياء عن بعد.
فقال الجنرال ماك آرثر: أظن أنك شاهدت جزءاً لا بأس به من العالَم، أليس كذلك؟
فهزّ لومبارد كتفيه باستخفاف وقال: لقد تجولت هنا وهناك يا سيدي.
وقال بينه وبين نفسه: سيسألني الآن عمّا إذا كنت قد عاصرت الحرب. هؤلاء العجائز يسألون أشياء كهذه دائماً.
إلاّ أن الجنرال ماك آرثر لم يذكر شيئاً عن الحرب.
-2-
صعدت بهم السيارة مرتفَعاً حادّاً، ثم نزلت في طريق متعرج إلى ستيكلهيفن التي لم تكُن سوى مجموعة صغيرة من الأكواخ وقارب صيد أو اثنين يرسوان على الشاطئ. وفي ضوء الشمس التي توشك على المغيب شاهدوا للمرة الأولى " جزيرة الجنود" تبرز من البحر من الجهة الجنوبية. قالت فيرا بدهشة: المسافة بعيدة إلى هناك!
كانت قد تصورَتها أقرب إلى الشاطئ ويعلوها بيت أبيض جميل، ولكن لم يكُن هناك بيت يمكن رؤيته على هذه الجزيرة.
وشعرت لدى رؤيتها بشعور غير مريح، وأحسّت برعشة خفيفة!
-3-
خارج نُزُل صغير يُدعى " النجوم السبعة" جلس ثلاثة أشخاص بدا بينهم الهيكل الأحدب للقاضي العجوز والقامة المنتصبة للآنسة برنت وشخص ثالث ضخم عريض الكتفين تقدّم نحوهما مقدّماً نفسه قائلاً: رأينا أن ننتظركم لنتابع معكم بقية الرحلة. اسمحوا لي بأن أقدّم نفسي: اسمي ديفيس ناتال، ومسقط رأسي جنوب إفريقيا.
قالها وأطلق ضحكة خفيفة، فنظر إليه القاضي وارغريف بحنق ظاهر وبدا كما لو أنه يرغب بإعطاء أمر " بإخلاء المحكمة " ، أمّا الآنسة برنت فلم تكُن تميل إلى رجال المستعمَرات. وسأل السيد ديفيس داعياً المجموعة: هل يوجد من يرغب في تناول شراب قبل أن نستقلّ القارب؟
ولم يتلقَّ ردّاً من أحد فاستدار رافعاً إصبعه وقال : إذن يجب أن لا نتأخر؛ فمضيفنا ومضيفتنا الكريمان في انتظارنا.
ولعله لاحظ توتراً غريباً على بقية أفراد المجموعة، وكأنما كان لذكر المضيف والمضيفة أثر محبِط بشكل غريب على الضيوف.
واستجابة للإشارة التي أبداها السيد ديفيس بإصبعه برز رجل من جانب حائط مجاور كان يميل عليه، وبدا من مشيته أنه رجل يعمل في البحر ؛ كان ذا وجه بدت عليه آثار تقلبات الطقس وذا عينين داكنتين وإيحاء خفيف بشخصية مراوغة، وقال بصوت ديفوني رقيق: هل أنتم مستعدون للتحرك إلى الجزيرة أيها السيدات والسادة؟ القارب في الانتظار. سيصل رجلان بالسيارة، ولكن السيد أوين أمر بأن لا ننتظرهما لأنهما قد يصلان في أيّ وقت.
نهض أفراد المجموعة وساروا خلف دليلهم على ممرّ المرفأ الحجري الصغير متجهين إلى قارب بخاريّ كان راسياً في انتظارهم، فقالت إميلي برنت: هذا قارب صغير جداً.
ردّ صاحب القارب بلهجة من يحاول الإقناع: هذا قارب ممتايز يا سيدتي ، وبوسعك الإبحار على متنه إلى بلايموث بكل سهولة.
قال القاضي وارغريف بحدّة: ولكن عددنا كبير.
- هذا القارب يتسع لضعف العدد يا سيدي.
قال فيليب لومبارد بصوته العذب الخفيف: كل شيء على ما يرام، الطقس ممتاز ولا توجد أمواج.
وبشيء من التشكك استجابت الآنسة برنت لعرض مساعدتها في ركوب القارب، ثم تبعها الآخرون، لم تكُن الألفة قد حلّت بين أفراد المجموعة بعد، وبدا كما لو أنّ كلّ فرد فيها كان في حالة حيرة من أمر الآخرين.
كانوا على وشك الانطلاق حين توقف الدليل فجأة ومرساة القارب في يده، وأبصروا سيارة قادمة في طريق القرية المنحدر، بدت سيارة قوية جميلة ملفتة للنظر، وقد جلس خلف مقودها شابّ جعلت الريح شعره يتطاير إلى الوراء ، وبدا في غسق المساء كما لو لم يكُن رجلاً، بل تمثالاً ! وعندما ضغط بوق السيارة دوّى صوتٌ تردّد صداه على صخور الميناء، وكانت لحظة رائعة بدا فيها أنتوني مارستون كما لو كان مخلوقاً خالداً! كثيرون من أفراد المجموعة تذكروا هذه اللحظة فيما بعد.
-4-
جلس فريد ناراكوت إلى جانب متحرّك القارب وفكّر بينه وبين نفسه بأن هذه المجموعة تبدو غريبة، فما كان يتوقع أن يكون ضيوف السيد أوين من هذا الطراز بل كان يتوقع أشخاصاً أكثر رقيّاً، رجالاً ونساء في ثياب فاخرة، أثرياء وذوي مظهر محتَرَم، هؤلاء ليسوا كضيوف السيد إلمر روبسون. وافترت شفتا فريد ناراكوت عن ابتسامة باهتة وهو يتذكر ضيوف ذلك المليونير، كان ذلك ما يستطيع أن يسمّيه حفلة حقاً. أما السيد أوين هذا فلا بدّ أنه رجل مختلف.
قال فريد لنفسه: غريب! أنا لم أرَ السيد أوين ولا زوجته، فهما لم يأتيا هنا من قبل. كل شيء تمّ طلبه ودُفعت تكاليفه من قِبَل السيد موريس، والتعليمات واضحة دائماً والفواتير تُدفَع في وقتها، ولكن مع ذلك كان الأمر غريباً! الصحف ذكرت أن بعض الغموض يحيط بالسيد أوين، والسيد ناراكوت يتفق مع هذا الرأي.
فكّر أنه ربما كانت الآنسة غابرييل تيول هي التي اشترت الجزيرة فعلاً، ولكن تلك النظرية لم تصمد في ذهنه حين نظر إلى ركّابه. لا ، ليست هذه المجموعة ؛ لا أحد منهم يبدو ذا صلة بنجمة سينمائية شهيرة. واستعرضهم في ذهنه ببرود: سيدة كبيرة السن من ذلك النوع الجافّ الذي يعرفه جيداً، ورجل عسكري عجوز عليه هالة حقيقية لضابط في الجيش، وفتاة شابّة حلوة ولكنها ليست من النوع الفاتن، بل فتاة عادية ليست فيها لمسة هوليوودية. وذلك الرجل الضخم المرح، لم يكن سيّد مجتمعات حقاً، ربما كان تاجراً متقاعداً.
كان ذلك ما يدور في ذهن فريد ناراكوت. أما الرجل الآخر الرشيق الذي بدا جائعاً وذا عينين تتحركان بسرعة فهو شخص غريب، نعم ، هو كذلك. يُحتمل أن تكون له علاقة بالعمل في مجال الأفلام السينمائية.
فقط شخص واحد يثير الإعجاب في القارب، الرجل الأخير الذي وصل بالسيارة. ويا لها من سيارة! سيارة لم تشهد ستيكلهيفن مثلها من قبل! لا بدّ أن سيارة كهذه ثمنها مئات ومئات! هذا هو الشخص المناسب. من الواضح أنه وُلد ثرياُ. لو كانت المجموعة كلها على شاكلته لكانت تبدو مقنعة له.
الحكاية كلها غريبة حين تمعن النظر فيها... كل شيء غريب، غريب جداً!
-5-
شقّ القارب طريقه حول الصخرة، وعندئذ ظهر البيت واضحاً. كان الجانب الجنوبي للجزيرة مختلفاً تماماً؛ كان ينحدر تدريجياً باتجاه البحر وكان البيت يواجه الجنوب، كان بناء منخفضاً مربعاً ذا طراز عصري ونوافذ مستديرة تسمح بدخول الكثير من الضوء. كان بيتاً مدهشاً كما كان متوقَّعاً.
أطفأ فريد ناراكوت المحرك فانساب القارب بلطف من خلال فجوة طبيعية بين الصخور، وقال فيليب لومبارد بحدّة: لا بدّ أن الرسوّ هنا صعب في الطقس السيَّئ.
فردّ فريد ناراكوت بمرح: لا يمكن الرسوّ في جزيرة الجنود عندما تهبّ الريح الجنوبية الشرقية، وأحياناً تصبح الجزيرة معزولة لمدة أسبوع أو أكثر.
فكرت فيرا كلايثورن قائلة لنفسها: لا بدّ أن تأمين اللوازم الغذائية سيكون صعباً للغاية، وهذا أسوأ ما في موضوع العيش في جزيرة المشكلات المنزلية مقلقة جداً.
وحين لامس القارب الصخور قفز فريد ناراكوت واشترك مع لومبارد في مساعدة الآخرين على النزول، وبعد أن ربط ناراكوت القارب إلى حلقة معدنية مثبتة في الصخر سار في مقدّمة المجموعة صاعداً الدرَج المحفور في المنحدَر الصخري، وقال الجنرال ماك آرثر: يا له من مكان جميل!
لكنه لم يكُن مرتاحاً للمكان الذي بدا في عينيه وكأنه مكان لعين غريب. وعندما صعدت المجموعة الدرجات ووصلت إلى الشرفة في الأعلى بدا أنهم استعادوا حيويتهم، ووجدوا في انتظارهم في مدخل البيت مسؤول الخدم بهيئة لائقة ومظهر بعث فيهم شعوراً بالاطمئنان. وكان البيت نفسه جميلاً للغاية والمنظر من الشرفة رائعاً، وقد كان مسؤول الخدم رجلاً طويِّلاً ناحلاً ذا شعر أشيب وهيئة تبعث على الاحترام . وانحنى لهم انحناءة خفيفة وقال: أرجو التفضل من هنا.
في القاعة الواسعة كانت أنواع من المرطبات الباردة جاهزة للتقديم، وفهم الضيوف من الخادم أن السيد أوين تأخّر لسوء الحظ ولن يستطيع الوصول إلى المكان قبل الغد، وقد ترك تعليمات بتنفيذ كل ما يرغب فيه الضيوف. وهم يستطيعون الذهاب إلى غرفهم، أما العشاء فسوف يكون جاهزاً في الثامنة تماماً.
-6-
تبعت فيرا السيدة روجرز إلى الطابق العلوي، وفتحت المرأة باباً في نهاية الممرّ فدخلت فيرا غرفة نوم جميلة ذات نافذة كبيرة تطلّ على البحر ونافذة أخرى جهة الشرق، ورددت كلمات إعجاب قصيرة فقالت لها السيدة روجرز: آمل أن تكوني قد وجدت كل ما تريدين يا آنستي.
نظرت فيرا حولها، وكانت حقائبها قد أُحضرت إلى الغرفة. وفي أحد جوانب الغرفة كان باب يُفضي إلى حمّام ذي بلاط أزرق فاتح فقالت بسرعة: أجل، أعتقد أن كل شيء على ما يرام.
- أرجو أن تدقَّي الجرس إذا احتجتِ إلى أيّ شيء يا آنستي.
- كان صوت السيدة روجرز خافتاً رتيباً، فنظرت إليها فيرا بفضول. كانت تراها كامرأة أشبه بالشبح الأبيض الجامد، وكان مظهرها يبعث على الاحتلام بثوبها الأسود وشعرها المصفَّف إلى الخلف وعينيها الباهتتين الغريبتين اللتين تتحركان طول الوقت، فقالت فيرا لنفسها : تبدو كأنها مذعورة من خيالها! نعم، هي كذلك ، مذعورة!
كانت تبدو كأنها امرأة دخلت حالة من الخوف المميت، فشعرت فيرا برجفة في جسمها. ما الذي تخاف منه هذه المرأة يا ترى؟ وقالت لها بموّدة: أنا سكرتيرة السيدة أوين، وأعتقد أنك تعرفين ذلك.
ردّت السيدة روجرز: لا يا آنسة، أنا لا أعرف شيئاً. فقط لديّ قائمة بأسماء الرجال والسيدات والغرف المخصَّصة لهم.
قالت فيرا: ألم تذكر السيدة أوين شيئاً عنِّي؟
برقت عينا السيدة روجرز وقالت: أنا لم أرَ السيدة أوين بعد، لقد وصلنا هنا منذ يومين فقط.
فقالت فيرا لنفسها: الزوجان أوين شخصان غير عاديَّين!
ثم قالت بصوت عالٍ: مَن العاملون هنا؟
- أنا وزوجي فقط يا آنستي.
فقطّبَت فيرا حاجبيها وهي تفكّر. ثمانية أشخاص في المنزل، عشرة مع المضيف والمضيفة، ولا يوجد سوى رجل وزوجته لخدمتهم!
قالت السيدة روجرز: انا طاهية ماهرة وزوجي ملمّ بصيانة المنزل. لم أكن أعرف أنه ستكون في المنزل مجموعة كبيرة كهذه بالطبع.
قالت فيرا: ولكنك ستتدبرين الأمر، أليس كذلك؟
- طبعاً، طبعاً يا آنسة؛ أستطيع تدبّر الأمر ، وحتى إذا كان سيتم إقامة حفلات كبيرة فقد تستطيع السيدة أوين جلب أشخاص إضافيتين.
قالت فيرا: أعتقد ذلك.
واستدارت السيدة روجرز للخروج فتحركت قدماها بخفّة ودون صوت وخرجت من الغرفة كما لو كانت شبحاً.
ذهبت فيرا إلى الشباك فجلست على المقعد المجاور له، وكانت تشعر باضطراب خفيف؛ كل شيء كان يبدو غريباً بعض الشيء على نحو ما: عدم وجود السيد والسيدة أوين، السيدة روجرز الشاحبة كالشبح، والضيوف.... الضيوف أيضاً كانوا غريبين ، مجموعة ملفَّقة بطريقة عجيبة! قالت لنفسها: أتمنى لو كنت أعرف السيد والسيدة أوين، أتمنى لو أعرف كيف يبدوان.
ثم نهضت فتمشّت في الغرفة بقلق. كانت غرفة نوم ممتازة مجهَّزة كلَّياً بطراز عصري، سجاجيد فاتحة اللون على الأرضية الخشبية اللامعة، وجدران خفيفة التلوين، ومرآة طويلة محاطة بالأضواء، وسطح مدفأة خال ٍ من أيّ زخرفة باستثناء قطعة ضخمة من الرخام الأبيض على شكل دبّ من النحت العصري وفي داخلها ساعة وفوقها إطار من الكروم اللامع، ورأت هناك مخطوطة مربَّعة الشكل تمثّل قصيدة، فوقفت فيرا أمام المدفأة وقرأت القصيدة. وكانت هي ذاتها الأنشودة التي تذكرها من أيام طفولتها:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِقَ فمات فبقي تسعة
تسعة جنود صغارا سهروا حتى ساعة متأخرة
أحدهم أخذه النوم فبقي ثمانية
ثمانية جنود صغار سافروا إلى ديفون
أحدهم قال إنه سيبقى هناك فبقي سبعة
سبعة جنود صغارا كانوا يقطعون خشباً
أحدهم قطع نفسه نصفين فبقي ستة
ستة جنود صغار كانوا يلعبون بخلية نحل
أحدهم لسعته نحلة طنّانة فمات فبقي خمسة
خمسة جنود صغار ذهبوا إلى القضاء
أحدهم بقي في المحكمة فبقي أربعة
أربعة جنود صغار ذهبوا إلى البحر
سمكة رنجة حمراء ابتلعت أحدهم فبقي ثلاثة
ثلاثة جنود صغار ذهبوا إلى حديقة الحيوان
دبّ كبير احتضن أحدهم فبقي اثنان
جنديان صغيران جلسا في الشمس
أحدهما أصيب بضربة شمس فبقي واحد
جندي صغير بقي وحيداً تماماً
فذهب وشنق نفسه
ثم لم يبقَ أحد

ابتسمت فيرا وقالت لنفسها: طبعاً، فهذه هي " جزيرة الجنود " ثم ذهبت وجلست ثانية إلى جوار النافذة. كم هو كبير هذا البحر! من هنا لم يكُن بالإمكان رؤية أيّ أرض أينما كانت ، بل مساحات شاسعة من الماء الأزرق الذي يتموج في شمس المغيب. قالت لنفسها كم هو هادئ هذا البحر اليوم! أحياناً يكون في غاية القسوة.
انطلقت إلى ذاكرتها عدّة كلمات فجأة: البحر الذي سحبك إلى أعماقه...غريب...وُجد غريقاً.. غرق في البحر.... غرق، غرق ، غرق...!
ثم أفاقت فجأة وقالت لنفسها: لا ، لا أريد التذكر، لا أريد التفكير في ذلك! كل هذا قد انتهى.
-7-
وصل الدكتور آرمسترونغ إلى " جزيرة الجنود " عند مغيب الشمس، وفي طريقه إلى الجزيرة كان يتبادل الحديث مع عامل القارب، وهو رجل من المنطقة نفسها. كان الدكتور آرمسترونغ مهتماً بمعرفة بعض المعلومات عن الأشخاص الذين يمتلكون الجزيرة، ولكن ذلك الرجل ناراكوت بدا جاهلاً، أو ربما لم يكُن يريد الكلام، ولهذا فقد حوّل الدكتور آرمسترونغ حديثه إلى الطقس وصيد الأسماك. كان متعَباً بعد رحلته الطويلة بالسيارة، وكانت مقلتاه تؤلمانه فالسير غرباً يعني السير باتجاه الشمس.
نعم ، كان متعَباً جداً، والآن هو مع هذا البحر وهذا الهدوء التامْ. هذا ما كان يحتاجه حقّاً؛ كان يودّ أن يقضي إجازة طويلة فعلاً، ولكن ذلك لم يكُن بوسعه. لم تكُن لديه مشكلة من الناحية المالية بالطبع، ولكنه لا يستطيع ترك عمله لأن هذا يمكن أن يتسبب في أن ينساه الناس. والآن ها هو قد وصل وعليه التركيز فيما هو فيه. قال لنفسه: هذا المساء سأتخيّل أنني لن أعود وأنني قد انتهيت من لندن ومن شارع هارلي وكل ما يتعلق به.
شيء سحري كان يتعلّق بكلمة " جزيرة" ، الكلمة ذاتها توحي بالخيال، بمغامرة تجعلك تنفصل عن العَالم؛ فالجزيرة عالَم قائم بذاته، عالَم قد لا تعود منه أبداً.
قال لنفسه: " فلأترك حياتي الرتيبة خلفي ". ثم بدأ يرسم خططاً خيالية للمستقبل وهو يبتسم لنفسه، وكان لا يزال يبتسم وهو يصعد الدرجات المنحوتة في صخرة الجزيرة.
رأى في الشرفة رجلاً عجوزاً يجلس على مقعد، وبدا منظره مألوفاً بشكل غامض للدكتور آرمسترونغ. أين رأى ذلك الوجه الذي يشبه الضفدع وتلك الرقبة التي تشبه رقبة السلحفاة وذلك الجسم المنحني وهاتين العينين الشاحبتين الذكيّتين ؟ آه، إنه العجوز وارغريف بالطبع! لقد سبق أن طُلب آرمسترونغ للشهادة أمامه، وكان يبدو دائماً شبه نائم ولكنه كان يقظاً تماماً إذا برزت نقطة قانونية. كان ذا سلطة كبيرة على المحلّفين، وكان يُقال إن بوسعه الإيحاء لهم بقرارهم في أيّ وقت يشاء، وقد استطاع أن ينتزع منهم قرارات إدانة غير متوقَّعة مرة أو اثنتين، حتى إن بعض الناس وصفوه بأنه " قاضي الإعدام "!
غريب أن يقابله في هذا المكان البعيد النائي من العالَم!
-8-
قال القاضي وارغريف لنفسه وهو يصافح الطبيب: آرمسترونغ! إنني أذكرك على منصّه الشهود ؛ دقيق وحَذِر تماماً، الأطباء كلهم حمقى، وأكثرهم حمقاً أطباء شارع هارلي.
وتذكّر حانقاً مقابلة جرت له مع شخصية لطيفة في ذلك الشارع مؤخَّراً، ثم قال بصوت عال أجشّ : المرطبات المنعشة في القاعة.
فقال الدكتور آرمسترونغ: يجب أن أذهب لتحيّة مضيفي ومضيفتي أولاً.
فأغمض القاضي وارغريف عينيه ثانية وقال وهو يبدو كأحد الزواحف: ليس بوسعك ذلك.
قال الدكتور آرمسترونغ مدهوشاً: لِمَ لا؟
قال القاضي: لا مضيف ولا مضيفة! إنه لأمر غريب؛ لا أفهم ما الذي يحدث هنا!
حدّق إليه الدكتور آرمسترونغ قليلاً، وعندما ظنّ أن العجوز قد تام بالفعل قال وارغريف فجأة: هل تعرف كونستانس كلمنغتون؟
لـ... لا ، لا أظن أنني أعرفها.
قال القاضي: ليس لذلك أهمية. إنها امرأة غامضة جداً وخطّها لا يكاد يمكن قراءته. لقد كنت أتساءل – للتوّ- ما إذا كنتُ قد أخطأت طريقي إلى هذا المكان.
فهزّ الدكتور آرمسترونغ رأسه وتوجه إلى المنزل، في حين أخذ القاضي وارغريف يتأمل موضوع كونستانس كلمنغتون، كانت امرأة لا يمكن الاعتماد عليها مثل سائر النساء. ثم تحول تفكيره إلى المرأتين الموجودتين في المنزل، العجوز منقبضة الفم والفتاة. لم يكترث بأمر الفتاة فهي مجرَّد فتاة مبتذلة عديمة الإحساس... ولكن لا ، في المنزل ثلاث نساء إذا أخذنا السيادة روجرز في الحسبان، تلك المخلوقة الغريبة التي تبدو ميّتة من الخوف، مع أنها هي وزوجها شخصان محترَمان ويجيدان عملهما.
في تلك اللحظة خرج السيد روجرز إلى الشرفة فسأله القاضي: هل تتوقعون قدوم السيدة كونستانس كلمنغتون؟ هل لديك علم بذلك؟
فحدّق إليه روجرز وقال: لا يا سيدي ، لا علم لي بذلك.
ارتفع حاجبا القاضي ، ولكنه اكتفى بالغمغمة وقال لنفسه: جزيرة الجنود.... يبدو وكأن جندياً يختبئ في كومة الحطب!
-9-
كان أنتوني مارستون في حمَامه ينعم بالمياه الساخنة تنساب على جسده، وكان يشعر بتصلّب أطرافه بعد رحلته الطويلة. لم تكُن تدور في رأسه أفكار كثيرة، فقد كان مخلوقاً عملياً. قال لنفسه: أعتقد أنني يجب أن أؤدَي تلك المهمّة، لا مناص.
ثم صرف تفكيره عن أيّ شيء وقال لنفسه: سأنتهي – أولاً – من هذا الحمّام اللطيف وأريح جسدي المتعَب ، ثم أحلق ذقني وأتناول بعض المرطبات ، ثم أتناول العشاء، ثم .... ثم ماذا؟!
-10-
كان السيد بلور يعقد ربطة عنقه، ولكنه لم يكُن ماهراً في هذه الأمور فقال لنفسه: هل أبدو على ما يرام؟ أعتقد ذلك.
لم يُبدِ أحدٌ له أيْ مودّة فعلية، وكانت طريقة نظرهم بعضهم إلى بعض غريبة؛ بدا وكأنهم يعرفون .... حسناً ، الأمر عائد له؛ لقد عَزَم على أن لا يفشل في مهمته. سرح ببصره إلى الأنشودة فوق المدفأة، كان وضْع تلك الأنشودة هناك لمسة أنيقة. قال لنفسه: أذكر هذه الجزيرة عندما كنتُ طفلاً، ولم يخطر لي قَط أنني سأقوم بعمل كهذا في منزل هنا. ربما كان أمراً جيداً أن المرء لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل.
-11-
قطب الجنرال ماك آرثر جبينه مفكّراً وقال: كل شيء يبدو غريباً! ليس هذا ما كنتُ أتوقعه أبداً.
تمنّى لو استطاع أن يجد عذراً ويغادر الجزيرة تاركاً كل شيء، ولكن القارب كان قد عاد إلى الشاطئ فأضحى مجبّراً على البقاء . هذا المدعو لومبارد شخص غريب، وهو ليس فوق مستوى الشبهات، هذا أمر مؤكَّد... ليس فوق مستوى الشبهات.
-12-
خرج لومبارد من غرفته فيما كان جرس العشاء يُقرَع ومضى إلى رأس الدرَج. كان يتحرك بخفَة كالفهد، شيءٌ ما فيه يشبه الفهد أو الوحش المفترس، ولكنه كان جميل الشكل! كان يبتسم بينه وبين نفسه وهو يقول : سيكون أسبوعاً ممتعاً.
-13-
جلست إميلي برنت في غرفتها تقرأ كتاباً دينياً وقد ارتدت ثوباً حريرياً أسود استعداداً للعشاء. تحرّكت شفتاها وهي تقرأ: " الكَفَرة سوف يغرقون في الحفرة التي حفروها هم أنفسهم، في الشِّباك التي أخفَوها ستنزلق أقدامهم " .
ثم زمّت شفتيها وأغلقت الكتاب، ونهضت فوضعت حلية في رقبتها ونزلت إلى العشاء.
الفصل الثالث
-1-
أوشك العشاء على الانتهاء، وكان الطعام جيداً والشراب ممتازاً وكانت خدمة السيد روجرز جيدة شعر الجميع بروح معنوية أفضل، وقد أخذوا يتحادثون بصورة أكثر حرية وألفة.
القاضي وارغريف أصبح ممتعاً بحديثه الساخر الذي كان يستمع إليه الدكتور آرمسترونغ وتوني مارستون، والآنسة برنت تحدثت مع الجنرال ماك آرثر وقد اكتشفا أن لديهما بعض الأصدقاء المشترّكين،
أما فيرا كلايثورن فقد كانت توجّه أسئلة ذكية للسيد ديفيس حول جنوب إفريقيا، وكان السيد ديفيس ملمّاً تماماً بالموضوع، فيما كان لومبارد يستمع إلى الحديث وقد رفع رأسه مرة أو مرتين فجأة وضاقت عيناه، وبين فينة وأخرى كان يدور بعينيه حول الطاولة متأملاً الآخرين.
فجأة قال أنتوني مارستون: هذه الأشياء طريفة، أليس كذلك؟
كان في وسط الطاولة تحف خزفية صغيرة وُضعت على حامل زجاجي ، وقال توني: جنود.. جزيرة الجنود، أعتقد أن هذه هي الفكرة، انحنت فيرا للأمام وقالت: تُرى كم عددها؟ عشرة؟
ثم هتفت : يا للطرافة! يبدو لي أنهم هؤلاء الجنود العشرة في الأنشودة، الأنشودة المعلَّقة في غرفتي داخل إطار فوق المدفأة.
قال لومبارد: وفي غرفتي أيضاً.
وتوالت أصوات الحضور تشير إلى أنها في غرفهم جميعاً فقالت فيرا: فكرة مسلية ، أليس كذلك؟
وعلّق القاضي وارغريف بصوت أجشّ قائلاً : بل فكرة طفوليّة للغاية.
ثم تناول مزيداً من القهوة. ونظرت إميلي برنت إلى فيرا كلايثورن فنظرت فيرا إليها ، ثم نهضتا واقفتين فاتجهتا إلى غرفة الجلوس حيث كانت النوافذ مفتوحة على الشرفة، وتناهى إليهما صوت الأمواج وهي ترتطم بالصخور على الشاطئ، فقالت إميلي برنت : إنه صوت لطيف.
فقالت فيرا بحدَّة: أنا أكره هذا الصوت.
رفعت الآنسة برنت نظرها إليها بدهشة فشعرت فيرا ببعض الحرج وقالت بهدوء أكثر : لا أعتقد أن هذا المكان سيكون ملائماً إذا ما هبّت عاصفة .
وافقتها إميلي برنت قائلة: ليس لديّ شك في أن هذا المكان يُغلّق في الشتاء. لا يمكن تأمين خدم هنا في الشتاء على أية حال.
قالت فيرا: لا بدّ أن توفير الخدم في هذا المكان صعبٌ أصلاً.
قالت الآنسة برنت : السيدة أوليفر محظوظة لاستخدامها هذين الزوجين، إن المرأة طاهية ماهرة.
فقالت فيرا لنفسها: " عجيب أن يخطئ هؤلاء العجائز في الأسماء!" ، ثم قالت بعد هنيهة صمت : أجل ، أعتقد أن السيدة أوين محظوظة حقاً.
كانت الآنسة برنت قد أخرجت قطعة تطريز صغيره من حقيبتها، وبينما كانت على وشك إدخال الخيط في الإبرة توقفت فجأة وقالت بحدّة: أوين؟ هل قلتِ أوين؟
- نعم
فقالت إميلي برنت بحدّة مرة أخرى : أقابل أحداً في حياتي يُدعى أوين.
فحدّقت إليها فيرا وقالت: ولكن بالتأكيد....
ولم تكمل جملتها؛ فقد فُتح الباب وانضمّ الرجال إليهما يتبعهم روجرز حاملاً صينية القهوة، ثم جاء القاضي فجلس بجوار إميلي برنت، وجلس آرمسترونغ إلى جوار فيرا، وذهب توني مارستون ليفتِح النافذة، وأخذ بلور يتفحص تمثالاً نحاسياً بدهشة ساذجة، ووقف الجنرال ماك آرثر وظهره إلى المدفأة وأخذ يعبث بشاربه الأبيض الصغير، فقد كان العشاء جيداً تماماً يقلّب صفحات مجلة كانت مع صحف أخرى على طاولة بجانب الجدار.
دار روجرز بصينية القهوة، وكانت القهوة جيدة ومركِّزة وساخنة جداً. كان الجميع قد استمتعوا بالعشاء وكانوا في حالة من الرضا بأنفسهم وبالحياة، وكانت الساعة تشير إلى التاسعة والثلث وقد ساد المكانَ صمتٌ شامل مريح.
وفجأة قطع ذلك الصمتَ صوتٌ مفاجئ مرتفع شديد يقول:
أيها السيدات والسادة، أرجو الصمت.
ذُهل الجميع ونظر بعضهم إلى بعض ونظروا حول المكان والجدران... مَن كان يتحدث؟! ولكن الصوت استمرّ واضحاً وعالياً يقول: أنتم متّهَمون بما يلي: إدوارد جورج آرمستورنغ ، أنت متّهم بأنك تسببت يوم الرابع عشر من آذار (مارس) عام 1925 بقتل لويزا ماري كليز. إميلي كارولين برنت، أنتِ متهمة بأنك مسؤولة عن وفاة بياتريس تايلور يوم الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1931. ويليام هنري بلور، أنت متَهم بأنك تسببت في موت جيمس ستيفن لاندور يوم العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1928. فيرا إليزابيث كلايثورن، أنت متَهمة بأنك قتلتِ سيريل أوغليف هاملتون يوم الحادي عشر من آب (أغسطس) عام 1935. فيليب لومبارد، أنت متَهم بأنك مذنب بالتسبب في موت واحد وعشرين رجلاً من قبيلة في شرق إفريقيا خلال شهر شباط (فبراير) عام 1932. جون غوردون ماك آرثر، أنت متَهم بأنك دفعت بعشيق زوجتك آرثر ديتشموند عامداً إلى الموت يوم الرابع عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1917. أنتوني جيمس مارستون، أنت متَهم بقتل جون ولوسي كومبس يوم الرابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. توماس روجرز وإيثيل روجرز، أنتما متهمان بأنكما تسببتما في موت جنيفر برادي يوم السادس من أيار (مايو) عام 1929. لورنس جون وارغريف، أنت متهَم بأنك كنت مذنباً بقتل إدوارد سيتون يوم العاشر من حزيران (يونيو) عام 1930.
وصمت الصوت هنيهة ثم عاد يقول بلهجة قوية: أيها السجناء في قفص الاتهام، هل لديكم ما تدافعون به عن أنفسكم؟
-2-
توقف الصوت، وللحظة ساد صمت وذهول بين الجميع، ثم دوّى صوت تحطم بعض الأواني؛ فقد أسقط روجرز صينية القهوة، وفي نفس اللحظة جاء من خارج الغرفة صوت صراخ وارتطام، وكان لومبارد أول من تحرك فقفز إلى الباب وفتحه على مصراعيه، وفي الخارج كانت السيدة روجرز راقدة متكومّة على نفسها فصاح لومبارد: مارستون.
اندفع أنتوني لمساعدته فرفعا المرأة معاً وحملاها إلى غرفة الجلوس، وجاء الدكتور آرمسترونغ بسرعة فساعدهما في رفعها إلى الأريكة ثم انحنى عليها وقال بسرعة: لم يصبها شيء، لقد أُغمي عليها فقط وسوف تفيق خلال دقائق. قال لومبارد للسيد روجرز: أحضر بعض الليمون.
كان وجه روجرز أبيض ويداه ترتعشان وقال : حالاً يا سيدي.
ثم غادر الغرفة مسرعاً في حين صاحت فيرا: من ذلك الذي كان يتكلم؟ من هو؟! لقد كان الصوت عالياً، عالياً جداً!
وجاء صوت الجنرال ماك آرثر مدمدماً : ماذا يحدث هنا؟ ما هذا المزاح؟
كانت يداه ترتعشان وكتفاه متهدّلَين ، وبدا فجأة أكبر من عمره بعشر سنوات، وكان بلور يمسح وجهه بمنديل بسبب العرق المتصبب عليه. الوحيدان اللذان لم يتأثراً نسبياً كانا القاضي وارغريف والآنسة برنت التي جلست بشكل منتصب رافعه رأسها إلى أعلى وقد تدفّق لون داكن في وجنتيها، أما القاضي فقد جلس بهيئته المعتادة ورأسه غارق بين كتفيه، ثم أخذ يحكّ أذنه بإحدى يديه، وكانت عيناه فقط نشطتين تدوران وتدوران حول الغرفة بحيرة، ولكن بيقظة وذكاء.
مرة أخرى كان لومبارد هو البادئ، فبينما كان آرمسترونغ مشغولاً بالمرأة المنهارة وجد لومبارد نفسه حراً ليبادر قائلاً: ذلك الصوت بدا صادراً من داخل الغرفة.
فصاحت فيرا: مَن كان صاحب الصوت؟ مَن؟ لم يكُن واحداً منّا.
أخذت عينا لومبارد تدوران حول الغرفة كما يفعل القاضي ، واستقرّتا لحظة على النافذة المفتوحة ثم هزّ رأسه بحزم، وفجأة لمعت عيناه وتحرك بسرعة إلى الإمام حيث يوجد باب بجانب الموقد يؤدي إلى الغرفة المجاورة، وبحركة سريعة أمسك بمقبض الباب ففتحه واندفع إلى الداخل مُطلقاً على الفور صيحة رضا وقال: وجدتها. وتدافع الآخرون نحوه ما عدا الآنسة برنت التي بقيت جالسة بهيئتها المنتصبة على مقعدها. داخل الغرفة الأخرى وُضعت طاولة ملاصقة للجدار الذي يفصلها عن غرفة الجلوس، وعلى الطاولة وجدوا مكبّر صوت من النوع القديم يتصل به بوق كبير، وكانت فوهة البوق موجَّهة إلى الجدار، وحين أزاحه لومبارد جانباً بدا له ثقبان أو ثلاثة كان قد تمّ حفرها بشكل خفيّ في الجدار، وأعاد تهيئه مكبّر الصوت ووضع الإبرة على الأسطوانة فسمعوا الصوت ثانية يقول: أنتم متَهمون بما يلي...
فصاحت فيرا: أوقفه، أوقفه! يا له من صوت مريع!
فاستجاب لها لومبارد، وقال الدكتور آرمسترونغ بارتياح: أعتقد انه مزاح سقيم وحقير.
ثم جاء صوت القاضي وارغريف واضحاً يقول : إذن فأنت تعتقد أن المسألة مزاح، أليس كذلك؟
فحدّق إليه الطبيب وقال: ماذا يمكن أن تكون غير ذلك؟
فمسح القاضي بيده شفته العليا برفق وقال: لستُ مستعداً لإبداء أيّ رأي في الوقت الحاضر.
فتدخّل أنتوني مارستون وقال: أيها السادة، أعتقد أنكم نسيتم شيئاً هامّاً: مَن أدار هذا الشيء وجعله يُخرِج هذا الصوت؟
غمغم وارغريف، هذا صحيح ، علينا أن نحقق في ذلك.
وتقدّم المجموعة عائداً إلى غرفة الجلوس وتبعه الآخرون. كان روجرز قد عاد للتوّ ومعه كأس من عصير الليمون، في حين كانت الآنسة برنت منحنية على جسد السيدة روجرز التي كانت تتأوه، واندسّ روجرز برشاقة بين المرأتين قائلاً: اسمحي لي يا سيدتي ، سأكلمها.إيثيل ، إيثيل... كل شيء على ما يُرام. هل تسمعينني؟ عليك التماسك قليلاً.
أخذت السيدة روجرز تتنفس لاهثة بسرعة ودارت عيناها المتحجرتان برعب حول حلقة الوجوه المحدّقة إليها، وكان صوت زوجها فزعاً وهو يقول: تماسكي يا إيثيل، تماسكي.
وتحدّث إليها الدكتور آرمسترونغ مخففاً عنها قائلاً: سيدة روجرز، ستكونين على ما يرام الآن، هذه مجرَّد نوبة بسيطة.
فسألّته: هل أُغمي عليّ يا سيدي؟
- نعم
- ذلك الصوت ... ذلك الصوت المريع بدا أشبه بحكم قضائي!
وتحوّل لون وجهها إلى الأخضر ثانية وارتعشت جفونها، فقال الدكتور آرمسترونغ بحدّة: أين ذلك الشراب؟
كان روجرز قد وضع عصير الليمون على طاولة صغيرة،
فناوله أحدهم للطبيب الذي انحنى على المريضة اللاهثة وقال لها: اشربي هذا يا سيدة روجرز.
شربت الكأس وهي تلهث، وكان الشراب جيّداً لها، وسرعان ما عاد وجهها إلى لونه الطبيعي وقالت: أنا بخير الآن، لقد سبّب لي غثياناً فقط.
قال روجرز بسرعة: طبعاً سبب لك ذلك. لقد سبّب لي أنا أيضاً الغثيان وجعلني أُسِقط تلك الصينية. يا لها من أكاذيب شريرة! أودّ لو أعرف...
وعندئذ قوطع بسعال أحدهم، سعال واهن جافّ ولكنه كان كافياً لإيقاف صراخه. ونظر إلى القاضي وارغريف الذي سعل مرة أخرى وقال: مَن الذي وضع تلك الأسطوانة على مكبّر الصوت؟ هل كان ذلك أنت يا روجرز؟
صاح روجرز: لم أُكن أعرف ما هي، أقسم بالله إني لم أكن أعرف ما هي يا سيدي، ولو كنت أعرف لما وضعتُها قط.
فقال القاضي بجفاء: الأرجح أن هذا صحيح، ولكن أعتقد أنه من الأفضل لك أن تقدم شرحاً مفصَّلاً لذلك يا روجرز. مسح الخادم عرقه بمنديل وقال بصدق: كنت أطيع الأوامر يا سيدي، هذا كل ما هنالك.
- أوامر من؟
- أوامر السيد أوين.
قال القاضي وارغريف: دعني استوضح تلك النقطة قليلاً. ماذا كانت أوامر السيد أوين بالضبط؟
قال روجرز: أمرني أن أضع الأسطوانة على مكبّر الصوت، فكان عليّ إخراج الأسطوانة من الدرَج، وكان على زوجتي تشغيل مكبّر الصوت عند دخولي غرفة الجلوس حاملاً صينية القهوة.
غمغم القاضي: قصة مثيرة جداً.
فقال روجرز: إنها الحقيقة يا سيدي، أقسم بالله إنها الحقيقة.
لم أكُن أعرف ما بها، ولا حتى للحظة واحدة. كان عليها عنوان وأعتقدت أنها مجرَّد قطعة موسيقية.
نظر وارغريف إلى لومبارد وقال: هل كان عليها عنوان؟
فأوما لومبارد إيجاباً، ثم انفرجت شفتاه بهمهمة فظهرت أسنانه البيضاء وقال: صحيح تماماً يا سيدي، كان عنوانها " أغنية البجعة".
-3-
فجأة تدخّل الجنرال ماك آرثر وتساءل متعجّباً: الموضوع كله غير معقول... غير معقول إلقاء الاتهامات جزافاً على هذا النحو! لا بدّ من عمل شيء نحو السيد أوين هذا كائناً من كان. قاطعته إميلي برنت وقالت بحدّة: هذا هو السؤال ، مَن هو؟
تدخّل القاضي فقال بلهجة السلطة التي استمدّها من حياة طويلة في المحاكم: هذا هو بالضبط ما يتوجب علينا بحثه بعناية. أعتقد أن عليك أولاً أخذ زوجتك إلى سريرها يا روجرز ثم عُد إلى هنا.
- أمرك يا سيدي.
وقال الدكتور آرمسترونغ: سأساعدك يا روجرز.
خرجت السيدة روجرز مستندة إلى الرجلين، وعندما مضوا خارج الغرفة قال توني مارستون للباقين: ماذا عنكم؟ أنا أفكر في تناول بعض المرطّبات بعد هذا كله.
فقال لومبارد: وأنا أيضاً.
فقال توني: سأذهب وأجلب شيئاً.
ثم خرج من الغرفة، وعاد بعد ثانية أو ثانيتين وقال: وجدتها كلها جاهزة على صينية بانتظار من يحملها إلى الداخل.
ثم وضع الصينية بعناية. وانقضت الدقائق التالية في توَّزيع المشروبات. أخذ كل من الجنرال ماك آرثر والقاضي وارغريف كوباً من القهوة، والحضور جميعاً شعروا بالحاجة إلى ما يريح أعصابهم فتناولوا بعض المرطبات ، فيما عدا إميلي برنت التي أصرّت على كوب من الماء فقط.
وأخيراً عاد الدكتور آرمسترونغ إلى الغرفة فقالِ: السيدة بخير الآن، وقد أعطيتها دواء مسكّناً.
وبعد لحظات عاد روجرز إلى الغرفة، وتولى القاضي وارغريف زمام إدارة الحديث وتحولت الغرفة إلى قاعة محكمة مرتجّلة. قال القاضي: حسناً يا روجرز، يجب أن نفهم هذه النقطة تماماً: مَن هو السيد أوين؟
فحدّق إليه روجرز وقال: إنه مالك هذا المكان يا سيدي.
- أعرف ذلك، لكن ما أريده منك هو أن تخبرني بما تعرفه عن الرجل.
هزّ روجرز رأسه وقال: لا أستطيع القول يا سيدي. أرجو أن تفهمني، أنا لم أرَه في حياتي قط.
حدث تململ خفيف في الغرفة ، وقال الجنرال ماك آرثر: لم يسبق لك أن رأيته! ماذا تعني؟
- لقد مضى علينا هنا أسبوع فقط، زوجتي وأنا. لقد تمّ تعييننا في العمل بموجب رسالة عن طريق وكالة توظيف، وكالة ريجينا في بلايموث.
اومأ بلور موافِقاً وقال مؤيّداً: أعرف أنها مؤسَّسة عريقة.
وقال القاضي وارغريف: هل الرسالة موجودة معك؟
- رسالة التوظيف ؟ لا يا سيدي؟ لم احتفظ بها.
- أكمل قصتك. تمّ توظيفك كما تقول بموجب رسالة؟
- نعم يا سيدي. كان علينا أن نصل في يوم معيِّن، وفعلاً هذا ما حدث. كل شيء منظَّم هنا، المؤن وفيرة وكل شيء على ما يُرام. فقط كنّا بحاجة لنفض الغبار وما إلى ذلك.
- وبعد ذلك؟
لا شيء يا سيدي. تلقّينا أوامر بموجب رسالة أخرى لإعداد الغرف لمجموعة من الضيوف، ثم تلقّيت في بريد بعد ظهر أمس رسالة أخرى من السيد أوين تخبرنا بأنه والسيدة أوين لم يستطيعا السفر وأن علينا التصرف بأفضل ما في وسعنا، وتضمّنَت الرسالة تعليمات حول العشاء والقهوة ووضع الأسطوانة في مكبّر الصوت.
قال القاضي بحدّة: من المؤكَّد أنك تملك تلك الرسالة، أليس كذلك؟
- بلى يا سيدي، ها هي.
وأخرجها من جيبه فناولها للقاضي الذي فتحها وغمغم: إنها رسالة مطبوعة بالآلة الكاتبة على أوراق فندق ريتز الرسمية.
وبحركة سريعة انتقل بلور إلى جانبه وقال: اسمح لي بإلقاء نظرة عليها.
وانتزع الورقة منه بخفّة فألقى نظرة عليها وغمغم: ألة من نوع كورنيشن جديدة تماماً لا عيب فيها، وورق من نوع إينساين، أكثر أنواع الورق استخداماً. ليس بوسعك استخلاص شيء من هذا. قد يكون عليها بصمات أصابع، ولكني أشك في ذلك.
وحدق إليه وارغريف بانتباه مفاجئ. كان أنتوني مارستون واقفاً إلى جانب بلور محدثاً من فوق كتفيه وقال: يا لها من أسماء راقية! أوليك نورمان أوين، يا له من اسم طويل !
قال القاضي بنبرة يشوبها اهتمام مفاجئ: أنا ممتنّ لك يا سيد مارستون، لقد لفتّ انتباهي إلى نقطة مثيرة وموحية. ثم نظر إلى الآخرين وقال وهو يدفع رقبته إلى الأمام كالسلحفاة الغاضبة: أعتقد أن الوقت قد حان ليضع كل واحد منّا ما لديه من معلومات أمام الجميع، وأعتقد أنه سيكون مفيداً لنا أن يقدّم كلُّ منّا ما لديه من معلومات حول مالك هذا البيت.
وتوقف قليلاً ثم تابع: نحن جميعاً ضيوفه، وأعتقد أنه سيكون من المفيد أن يوضّح كل واحد منّا كيف حصل ذلك بالضبط.
ساد صمت قصير، ثم تكلمت إميلي برنت فقالت بحزم: يوجد شيء غريب حول هذه المسألة برمّتها. لقد تلقيت رسالة بتوقيع لم يكُن من السهل قراءته، ومفادها أنها مرسَلة من قِبَل سيدة كنتُ قد قابلتها في منتجع صيفي قبل سنتين أو ثلاث سنوات، وقد قدّرتُ أن الاسم هو إما أوغرين أو أوليفر؛ فلي صلة بسيدة تُدعى السيدة أوليفر وأخرى تُدعى الآنسة أوغرين. أنا متأكدة تماماً أنني لم أقابل أو أتعرف على أيّ شخص باسم أوين قط.
قال القاضي وارغريف: هل لديك تلك الرسالة يا آنسة برنت؟
- نعم ، سأحضرها لك.
وخرجت برهة ثم عادت وبيدها رسالة أعطتها للقاضي الذي قرأها ثم قال: بدأت أفهم. وماذا عنك يا آنسة كلايثورن؟
شرحت فيرا ظروف استخدامها للعمل كسكرتيرة، فقال القاضي: وماذا عنك يا سيد مارستون؟
فقال أنتوني: تلقّيتُ برقية من صديق لي اسمه بادغر بيركلي، وكانت مفاجأة لي وقتها لأنني كنت أعتقد أن الرجل كان قد سافر إلى النرويج، وطلب مني في برقيته أن أحضر هنا.
أومأ وارغريف ثانية ثم قال: وأنت يا دكتور آرمسترونغ؟
- تلقيّت الدعوة كطبيب.
- فهمت، ولكن هل لديك معرفة سابقة بالعائلة؟
- لا ، ولكن كانت في الرسالة إشارة إلى زميل لي.
- قال القاضي : لإضفاء مصداقية، نعم. وأفترضُ أن صلتك بذلك الزميل كانت مقطوعة؟
- حسناً، نعم ، هذا صحيح .
وفجأة قال لومبارد الذي كان ينظر إلى بلور: لحظة أرجوكم، لقد خطر لي خاطر.
فرفع القاضي يده وقال: انتظر دقيقة.
- ولكني...
- ستبحث في كل مسألة على حدة يا سيد لومبارد، فنحن حالياً ندقّق في الأسباب التي أدّت إلى تجمعنا هنا هذه الليلة. ماذا عنك يا جنرال ماك آرثر؟
- غمغم الجنرال وهو يعبث بشاربه: وصلتني رسالة من ذلك الشخص المدعوّ أوين، ذكر فيها أسماء بعض أصدقائي وقال إنهم سيكونون هنا. كنت مرتاحاً للصيغة غير الرسمية للدعوة، ولكن يؤسفني أنني لم أحضر الرسالة. قال وارغريف: وماذا عنك يا سيد لومبارد؟
- كان لومبارد غارقاً تماماً في التفكير، ولم يكُن يدري إن كان من الأفضل له أن يكشف أوراقه أم لا ، ثم بدا أنه قد حسم أمره فقال : الحكاية ذاتها ؛ دعوة وأصدقاء مشترَكون. واقتنعتُ بالفكرة بسرعة، أما الرسالة فقد مزّقتها.
ثم تحول القاضي وارغريف بانتباهه إلى السيد بلور، وأخذ يمسح بإصبعه على شفته العليا وأصبح صوته مهذَّباً بشدة وقال: منذ قليل مرّت بنا تجربة مزعجة؛ ذلك الصوت وهو يجلجل ذاكراً كل واحد باسمه وموجّهاً هذه التهم المحدّدة إلينا. ولكني – في هذه اللحظة، مهتمّ بنقطة بسيطة، فمِن بين الأسماء التي تم ذكرها اسم ويليام هنري بلور، ولكن – حسب علمنا- لا يوجد بيننا شخص باسم بلور، كما أن اسم ديفيس لم يُذكر. ما رأيك بذلك يا سيد ديفيس؟
فقال بلور بتجهْم : يبدو أن القطة خرجت من كيسها! أعتقد أنه من الأفضل أن أعترف بأن اسمي ليس ديفيس.
- هل أنت ويليام هنري بلور؟
- هذا صحيح.
فقال لومبارد: أودّ أن أضيف شيئاً: أنت لست هنا فقط باسم مستعار يا سيد بلور، ولكن إضافة إلى ذلك فقد لاحظت أنا هذا المساء بأنك كاذب من الطراز الأول. أنت تدّعي أنك من ناتال في جنوب إفريقيا، وأنا أعرف ناتال وجنوب إفريقيا، وأنا مستعدّ للقسم بأنك لم تدخل جنوب إفريقيا طوال حياتك.
اتجهت كل الأنظار إلى بلور مفعّمة بالغضب والشك، وتحرك توني مارستون خطوة باتجاهه وقد تكورت قبضتاه وقال: والآن أيها الخنزير، هل لديك أيّ تفسير؟
دفع بلور رأسه إلى الوراء وحرّك فكيّه ثم قال: لقد فهمتموني خطأ أيها السادة: إن لديّ أوراقاً موثَّقة بوسعكم رؤيتها، أنا رجل عملت سابقاً في التحقيقات الجنائية وأدير حالياً وكالة تحريات في بلايموث، وقد كُلّفت بهذه المهمة.
فسأله القاضي وارغريف: من قِبَل مَن؟
- من قِبَل هذا الرجل أوين؛ بعث لي بمبلغ محترَم لتغطية مصروفاتي وأصدر لي تعليماته حول ما يريد عمله. لقد طلب منّي أن أنضمّ إلى هذه المجموعة باعتباري ضيفاً، وقد أعطاني أسماءكم وطلب منّي أن أراقبكم جميعاً.
- هل ذكر لك أيّ أسباب تدفعه إلى ذلك؟
- فقال بلور بمرارة: جواهر السيدة أوين... هراء وكلام فارغ، لا أعتقد أنه توجد سيدة بهذا الاسم.
قال القاضي وارغريف وهو يمسح بإصبعه على شاربه باستحسان هذه المرة: أعتقد أنه يوجد ما يبرّر استنتاجاتك . أوليك نورمان أوين... وفي خطاب الآنسة برنت ورغم أن اسم العائلة في التوقيع كان مجرَّد خربشة إلاّ أن الأسماء الأولى كانت واضحة بدرجة معقولة: أونا نانسي.. في كلتا الحالتين الأحرف الأولى من الأسماء هي نفسها: أوليك نورمان أوين، أونا نانسي أوين؛ أيّ أنه بالإمكان كتابتها أ. ن. أوين، أو بشيء من التخيّل يصبح الاسم مجهولاً.
صاحت فيرا: ولكن هذا خيال مجنون!
فأومأ القاضي برأسه بلطف وقال: أجل، هذا صحيح؛ ليس لديّ أيّ شك في أننا قد دُعينا إلى هنا بواسطة رجل مجنون، على الأرجح قاتل خطير مجنون.
* * *
الفصل الرابع
-1-
سادت فترة من الصمت ، صمت الفزع والذهول، ثم عاد صوت القاضي منخفضاً واضحاً والتقط الخيط مرة أخرى وقال: سننتقل الآن إلى الخطوة التالية في تحقيقنا، ولكن دعوني أولاً أضيف معلوماتي إلى قائمة معلوماتكم.
وأخرج من جيبه رسالة فألقى بها على الطاولة، ثم استأنف الكلام قائلاً: فحوى هذه الرسالة أنها موجَّهة لي من صديقة قديمة هي الليدي كونستانس كليمنغتون التي لم أرَها منذ عدَّة سنوات، فقد رحلَت إلى الشرق. وهي رسالة من ذلك النوع من الرسائل الغامضة غير المترابطة المتوقَّع أن تكتبها، وفيها تحثني على الانضمام إليها هنا وتشير إلى مضيفها ومضيفتها بأكثر العبارات غموضاً. لاحظوا أنه الأسلوب نفسه، أذكر هذا فقط لأنه يتوافق مع الدلائل الأخرى، ومن كل ذلك تبرز نقطة هامّة واحدة، وهي أنه أيّاً كان الشخص الذي استدرجنا إلى هذا المكان فهو يعرف، أو أنه بذل جهداً ليعرف الكثير عنّا جميعاً. إنه – أيّاً كان- على علم بصداقتي مع الليدي كونستانس،
وهو ملمّ بأسلوبها في كتابة الرسائل، ويعرف شيئاً عن زملاء الدكتور آرمسترونغ وأماكن وجودهم حالياً، ويعرف لقب صديق السيد مارستون ونوعو البرقيات التي يكتبها، ويعرف تماماً أين كانت الآنسة برنت تقضي عطلتها قبل عامين ونوع الأشخاص الذين التقت بهم هناك، وهو يعرف كل شيء عن رفاق الجنرال ماك آرثر القدماء.
وصمت لحظة ثم تابع: إنه يعلم الكثير كما ترون ، ومن معلوماته هذه عنّا استطاع أن يوجَه لنا تُهَماً معيَّنة محددة.
وعلى الفور انطلقت التعليقات من كل جانب، فصاح الجنرال ماك آرثر: إنها مجموعة من الأكاذيب اللعينة.... افتراءات!
وقالت فيرا صارخة: " هذا ظلم"، ثم أضافت لاهثة: هذا هو الشر بعينه!
وقال روجرز بصوت أجشّ : هذه كذبة، كذبة شرّيرة! لا ، لم نفعل ، كلانا لم نفعل.
ودمدم أنتوني مارستون قائلاً: لا أعرف ما الذي كان هذا الأحمق اللعين يقصده!
رفع القاضي وارغريف يده فوضع حداً لنوبة الهياج هذه، ثم قال وهو ينتقي كلماته بعناية، أودّ أن أقول أن صديقنا المجهول يتهمني باغتيال شخص يُدعى إدوراد سيتون، وأنا أتذكر سيتون جيداً. لقد جيء به إلى المحكمة أمامي في شهر حزيران (يونيو) عام 1930، وكان متهَماً بقتل امرأة عجوز، وقد حظي بدفاع ممتاز وأعطى للمحلفين انطباعاً جيداً حين وقف على منصة الشهود، ومع ذلك فقد ثبت بالأدلة أنه مذنب بالتأكيد. وقد أجملتُ المحاكمة وأعطيت توجيهاتي للمحلّفين على هذا الأساس، ووجدَته هيئة المحلفين مذِنباً، وعندما نطقتُ بالحكم عليه بالإعدام كان ذلك متفقاً مع قرار المحلفين. تلا ذلك أنه قدّم استئنافاً على أساس أنني وجهت المحلّفين توجيهاً خاطئاً، ولكن الاستئناف رُفض وتمّ إعدام الرجل أودّ أن أقول أمامكم الآن بأنَ ضميري مرتاح تماماً في هذه الفضية، فقد قمتُ بواجبي ولا شيء غير ذلك. لقد نطقت حكماً عادلاً بحق مجرِم جُرِّم بصورة قانونية.
بدأ آرمسترونغ يتذكر في تلك اللحظة قضية سيتون. كان قرار الإدانة مفاجأة كبيرة؛ كان قد التقى بماثيوس محامى المتَهم في أحد أيام المحاكمة وهو يتناول الطعام في أحد المطاعم، وكان ماثيوس واثقاً من النتيجة حيث قال: لا شك فيما سيكون عليه قرار المحلفين ، إن البراءة مؤكَّدة.
ثم فيما بعد سمع تعليقات متناثرة: " القاضي كان منحازاً تماماً، أثّر على المحلفين وقلبهم ضده فأدانوه"، " كل شيء قانوني، وارغريف العجوز يعرف كيف يستخدم القانون"، " كما لو أن لديه ضغينة شخصية ضد ذلك المسكين"...
كل هذه الذكريات تتابعت في مخيّلة الطبيب، ثم نظر إلى القاضي فوجّه إليه سؤالاً، دون أن يتريث للتفكير في المحكمة م سؤاله. قال: هل كنت تعرف سيتون بأيّ شكل، ؟ أعني قبل القضية.
فحدّق إليه القاضي وأجابه بصوت بارد واضح: لا ، لم أعرف شيئاً عن سيتون قبل القضية.
قال آرمسترونغ لنفسه: الرجل يكذب، أنا متأكد أنه يكذب.
-2-
تحدثَت فيرا كلايثورن بصوت مرتعش وقالت: أودّ أن أخبركم عن الطفل سيريل هاملتون. كنت أعمل مربيّة له، ولم يكُن مسموحاً له أن يسبح بعيداً عن الشاطئ، وذات يوم غفلت عنه قليلاً فسبح مسافة بعيدة فسبحت خلفه، ولكني لم ألحق به في الوقت المناسب. كان ذلك مريعاً ولكنها لم تكُن غلطتي، وعند التحقيق برّأني المحقّق، وأمّ الطفل.. أمّ الطفل كانت في غاية اللطف. إذا كانت أمّه لم تُلمني فلماذا...؟ لماذا ينبغي أن تُقال أشياء فظيعة كهذه؟ هذا ظلم، ظلم!
ثم انفجرت في بكاء مرير فجأة، قرّب الجنرال ماك آرثر على كتفها وقال: هوّني عليك يا عزيزتي، هذا غير صحيح بالطبع. هذا الرجل مجنون، مجنون ولديه خلل في عقله، إنه يمسك العصا من طرفها الخطأ وكل أموره مشوَّشة.
ثم وقف منتصباً وشدّ كتفيه وصاح قائلاً: الواقع أن من الأفضل ترك هذا النوع من الأمور دون تعليق، أنا أشعر أن عليّ القول إنه لا توجد ذرة من الصدق فيما قاله عن ذلك الشاب آرثر ريتشموند؛ فريتشموند كان أحد الضباط العاملين معي، وقد أرسلتُه في مهمة استكشافية فقُتل، وهذا حادث طبيعي في وقت الحرب. وأودّ أن أضيف أنني استأتُ كثيراً من تلطيخ سمعة زوجتي، فهي أفضل امرأة في العالَم، لا شك في ذلك.
ثم جلس الجنرال ويده المرتعشة تمّسح شاربّيه، وكان الجهد الذي بذله في الحديث قد أثَر عليه كثيراً.
وتحدّث لومبارد وفي عينيه نظرة ساخرة فقال: بخصوص أولئك السكان الأصليّين...
قال مارستون : ماذا بخصوصهم؟
همهم فيليب لومبارد قائلاً: القصة صحيحة تماماً؛ لقد تركُتهم. كانت مسألة حياة أو موت بالنسبة لي، كنّا قد تُهنا في الغابة فأخذتُ أنا ورفيقان آخران ما تبقّى من طعام وتركناهم.
قال الجنرال ماك آرثر: تخلّيت عن رجالك؟ تركتهم يجوعون حتى الموت؟!
فأجاب لومبارد: ليس تماماً بهذا الوصف، ولكن النجاة بالنفس هي الواجب الأول للإنسان، والحياة بالنسبة لهؤلاء السكان الأصليين ليست على هذه الدرجة من الأهمية كما تعلم، فهم لا يشعرون بالحياة كما يشعرون بها الأوروبيون.
رفعت فيرا وجهها من بين يديها وقالت وهي تحدّق إليه: تركتهم يموتون؟!
فردّ لومبارد قائلاً: نعم، تركتهم يموتون.
تعلقت عيناه الساخرتان بعينيها المرعوبتين، وقال أنتوني مارستون بصوت بطيء وحائر: كنت أفكر للتو بجون ولوسي كومبس. لا بدّ أنهما الطفلان اللذان صدمُتهما بسيارتي قرب كامبردج ، حظ سيئ جداً.
قال القاضي وارغريف بسخرية: لهما أم لك؟
فقال أنتوني: حسناً، قصدت أنه...أعني أن حظي هو السيئ. أنت على حق سيدي، كان حفظهما سيئاً تماماً. بالطبع كان الأمر كله مجرَّد حادث؛ فقد اندفعا بسرعة من كوخ أو مكان ما. لقد تمّ سحب رخصتي لمدة سنة، وكان هذا غاية في الإزعاج.
قال الدكتور آرمسترونغ بحماسة: السرعة خطأ تماماً ، خطأ تماماً، إن الشبان من أمثالك خطر على المجتمع.
هزّ أنتوني كتفيه وقال: إن الطرق الإنكليزية سيئة جداً ولا يمكنك السير فيها بسرعة معقولة.
ثم نظر حوله حائراً بحثاً عن كوبه، وأخيراً التقطه عن إحدى الطاولات ومشى إلى الطاولة الجانبية، فملأه بالعصير مرة أخرى وقال وهو يلقي نظرة جانبية: حسناً، لم تكُن غلطتي على أيّة حال، كان مجرَّد حادث.
-3-
بلّل روجرز شفتيه وهو يحرك يديه حركات دائرة، وقال بصوت خافت ونبرة توحي بالاحترام لسامعيه: هل لي ان أقول كلمة يا سيدي؟
فقال لومبارد: تفضل يا روجرز.
فتنحنح روجرز ومرّر لسانه مرة أخرى فوق شفتيه وقال: لقد ورد اسمي ومعي السيدة روجرز والآنسة برادي، لا توجد ذرة من الحقيقة في هذا، فزوجتي وأنا كنّا إلى جانب الآنسة برادي حتى وفاتها. كانت دائماً معتلّة الصحة منذ التحقنا بخدمتها ، وكانت تلك الليلة عاصفة، ليلة موتها، وكان الهاتف متعطلاً ولم نتمكن من طلب الطبيب ، فذهبت بنفسي سيراً على الأقدام لإحضار الطبيب ولكنه وصل بعد فوات الأوان. لقد بذلنا كل شيء ممكن من أجلها – يا سيدي – وكنّا مخلصَين لها، وكل الناس يعرفون ذلك. لم يسمع احد كلمة ضدْنا قط، ولا كلمة واحدة.
نظر لومبارد بتأمّل إلى الوجه المرتعش للرجل وشفتيه اليابستين والرعب في عينيه، وتذكّر ارتطام صينية القهوة بالأرض عند سقوطها فقال في نفسه ساخراً: حقاً؟
ثم تكلم بلور، تكلم بلهجته الاستعلائية القوية وقال: ولكنكم – مع ذلك – وجدتم هدية صغيرة لكم عند موتها، أليس كذلك؟
فاعتدل روجرز في وقفته وقال بلهجة جافة: لقد تركت لنا الآنسة برادي إرثاً تقديراً منها لخدماتنا المخلصة، فماذا في ذلك؟ أوّد لو أعرف.
قال لومبارد: وماذا عنك يا سيد بلور؟
- ماذا عنّي؟!
- اسمك ورد في القائمة.
فامتقع وجه بلور وقال: تعني لاندور؟ تلك كانت حادثة سرقة البنك ، بنك لندن التجاري.
تململ القاضي وارغريف وقال: أذكر القضية، لم انظر فيها ولكنّي أذكرها. جُرَّم لاندور نتيجة شهادتك ، ألم تكُن أنت ضابط الشرطة المكلّف بالقضية؟
- بلى.
- وقد حُكم على لاندور بالأشغال الشاقة المؤبَّدة ومات في سجن دار تمور بعد سنة من ذلك. كان رجلاً رقيقاً بسيطاً.
- بل كان نصّاباً، وكان هو الذي قتل الحارس. كانت التهمة واضحة ضدّه تماماً.
فقال وارغريف ببطء: أعتقد أنك نلت ثناء على كفاءتك في معالجة القضية، أليس كذلك؟
ردّ بلور مقطّباً: " لقد حصلت على ترقية". ثم أضاف بصوت أجشّ : كنت أؤدّي واجبي فقط.
وضحك لومبارد فجأة ضحكة رنّانة عالية وقال: يا لنا من مجموعة من عشّاق أداء الواجب وطاعة القانون! باستثنائي أنا بالطبع. ماذا عنك يا دكتور وخطئك المهني البسيط؟ هل كانت عملية غير قانونية؟
نظرَت إليه إميلي برنت بازدراء حادّ وارتدّت للوراء بعض الشيء، وقال الدكتور آرمسترونغ بثقة وهزّة دعابة برأسه : لست قادراً على فهم الموضوع. الاسم لا يعني لي شيئاً ، ماذا كان الاسم؟ كليز، كلوز... لا أذكر حقّاً أنني عالجت مريضاً بهذا الاسم أو أن تكون لي صلة بحالة موت من أي نوع. إن الموضوع كله غامض تماماً بالنسبة لي. الحكاية قديمة – بالطبع – وليس مستبعَداً أن تكون إحدى حالات العمليات التي أجريتها في المستشفى، والكثير من هؤلاء الناس يأتون متأخّرين جداً وعندما يموت المريض يعتبرون أنها غلطة الطبيب دائماً.
وتنهد وهزّ رأسه وهو يفكر قائلاً لنفسه: سكران، نعم ، كنت سكرانْ وأجريت العملية! كانت أعصابي منهارة ويداي ترتعشان. لقد قتلتها دون شك، تلك المرأة العجوز المسكينة. كانت عملية بسيطة لو كنت متنبهاً. وكان من حسن حظي ذلك الولاء في مهنتنا، فالممرضة كانت تعرف بالطبع، ولكنها أمسكت لسانها. يا إلهي! كان ذلك صدمة لي هزّتني بعنف، ولكن من الذي كان يمكن أن يعرف تلك الحكاية بعد كل هذه السنين؟!
-4-
ساد صمت في الغرفة، وكان الجميع ينظرون خفية أو مباشرة إلى إميلي برنت، ومرّت دقيقة أو دقيقتان قبل أن تشعر بوطأة النظرات المترقبة، فارتفع حاجباها على جبينها الضيّق وقالت: هل تنتظرون منّي أن أقول شيئاً؟ ليس لديّ ما أقوله.
فقال القاضي: لا شيء يا آنسة برنت؟
- نعم ، لا شيء.
وأطبقت شفتيها، فمسح القاضي على وجهه وقال بلطف : هل تحتفظين بحقك في الدفاع؟
فقالت الآنسة برنت ببرود: لا ضرورة للدفاع؛ لقد كنت أعمل دائماً بوحي من ضميري وليس لديّ ما أخجل منه.
أشاع ردّها إحساساً بالإحباط، ولكن إميلي برنت لم تكُن ممّن يؤثر فيهم الرأي العام. واستمرّت في الحفاظ على رباطة جأشها، فتنحنح القاضي مرة أو مرتين ثم قال: لنترك تحقيقنا عند هذه النقطة. والآن يا سيد روجرز، مَن يوجد أيضاً على هذه الجزيرة بالإضافة لنا وأنت وزوجتك؟
- لا أحد يا سيدي، لا أحد أبداً.
- هل أنت متأكد من ذلك؟
- متأكّد تماماً يا سيدي.
قال وارغريف : لست متأكداً بالضبط من قصد مضيفنا المجهول في جمعنا هنا، وفي رأيي أن هذا الشخص – كائناً مَن كان – ليس بكامل قواه العقلية بالمعنى المتعارَف عليه. قد يكون خطيراً ، ومن الأفضل لنا – في رأيي – أن نغادر هذا المكان بأسرع ما يمكننا، وأقترح أن نغادره الليلة.
فقال روجرز: عفواً يا سيدي ، ولكن لا يوجد قارب على الجزيرة.
- لا يوجد أيّ قارب؟!
- نعم يا سيدي.
- كيف تتصلون بالشاطئ؟
- فريد ناراكوت يأتي صباح كل يوم يا سيدي، يحضر معه الخبز والحليب والبريد ويأخذ قائمة بطلباتنا.
فقال القاضي وارغريف: إذن قد يكون من الأفضل أن نغادر غداً صباحاً حالما يصل قارب ناراكوت.
سرت همهمة موافقة باستثناء معارض واحد هو أنتوني مارستون الذي لم يتفق مع الأغلبية وقال: أليس هذا نوعاً من الانهزام؟ يتعيّن علينا كشف هذه المسألة الغامضة قبل أن نغادر المكان، ويبدو لي الأمر كله كقصة بوليسية في غاية الإثارة.
فقال القاضي بسخرية لاذعة: في مثل سنّي هذه ليس لديّ أيّ رغبة في تلك الإثارة التي تتكلم عنها.
فقال أنتوني مدمدماً : إن الحياة القانونية تصيب المرء بالضيق!
ثم رفع كأسه وأفرغها مرة واحدة في جوفه، وبسرعة بدأ يشرَق بصورة سيئة؛ فقد بدا على وجهه أنه يتلوّى ألماً، ثم أصبح وجهه أزرق اللون وأخذ يشهق محاولاً التنفس، ثم سقط عن كرسيه ووقعت الكأس من يده!
* * *
الفصل الخامس
-1-
كانت مفاجأة مذهلة وغير متوقَّعة، مفاجأة حبست أنفاسهم فجمدوا في أماكنهم ينظرون ببلاهة إلى الجسد المتكوّم على الأرض، ثم قفز الدكتور آرمسترونغ وذهب وركع إلى جانبه، وعندما رفع رأسه بدت في عينيه حيرة شديدة وحشرج هامساً بفزع : يا إلهي ، لقد مات!
لم يستوعبوا الأمر في الحال. مات؟ مات ؟! ذلك الشاب في عنفوان صحّته وقوته يصبح جثة هامدة في لحظة واحدة! الشباب الأصحّاء لا يموتون هكذا بمجرَّد أن يَشرَقوا بجرعة من العصير بالصودا! لا، لم يكُن بوسعهم أن يصدّقوا ما حصل.
راح الدكتور آرمسترونغ يحدّق إلى وجه الرجل الميت، وأخذ يشتمّ شفتيه الملتويتين الضاربتين للزرقة ثم رفع الكأس التي كان أنتوني مارستون يشرب منها، وقال الجنرال ماك آرثر: مات؟ هل تعني أن الرجل شَرِقَ فقط و... ومات؟!
فقال الطبيب : يمكنك القول أنه شرِق إذا شئت ، ولكنه مات اختناقاً.
كان يشتمّ الكأس، ثم غمس إصبعه في البقية الباقية فيها وبكل حذر لمس بإصبعه طرف لسانه، وتغيرت ملامحه فوراً!
قال الجنرال ماك آرثر: لم أعرف قط أن رجلاً قد يموت بهذه السهولة، فقط لأنه شَرِقَ بجرعة شراب.
وقالت إميلي برنت بصوت واضح : هذا في وسط الحياة، ولكننا هنا في مواجهة الموت.
ونهض الدكتور آرمسترونغ وقال بحدة: لا ، لا ، أحد يموت لمجرَّد أنه شَرِق بشيء، إن موت مارستون لم يكُن طبيعياً.
فقالت فيرا على الفور بما يشبه الهمس: هل يوجد شيء في العصير؟
أومأ آمسترونغ إيجاباً وقال: نعم ، لا أعرف المادة بالضبط ولكن كل شيء يشير إلى نوع من السيانيد. لم أشتمّ رائحة حامض البروسيك. قد يكون سيانيد البوتاسيوم، فهي مادة تفعل فعلها فوراً.
قال القاضي بحدّة: هل كانت تلك المادة في كأسه؟
- نعم.
خطا الطبيب إلى الطاولة التي كانت عليها المشروبات فرفع غطاء زجاجة العصير وشمّها وذاقها، ثم هزّ رأسه قائلاً: لا عيب فيه.
قال لومبارد : أتعني أنه وضع المادة في الكأس بنفسه؟
أومأ آرمسترونغ بتعبير يدلّ على عدم ارتياحه وقال: يبدو الأمر كذلك؟
وقال بلور : أتعني أنه انتحار ؟! هذه ميتة غريبة!
قالت فيرا ببطء : لا يخطر بالبال أبداً أنه قد يقتل نفسه . لقد كان ، كان ... يا إلهي لا أستطيع الوصف!
ولكنهم كانوا يعرفون ماذا كانت تعني؛ كان أنتوني مارستون يبدو في أوج شبابه ورجولته ، وها هو الآن هامد متكوّم على الأرض لا حياة فيه .
قال الدكتور آرمسترونغ : هل ترون احتمالاً آخر غير الانتحار؟
هزّ الجميع رؤوسهم ببطء، فلا يمكن أن يكون للأمر تفسير آخر؛ المشروبات نفسها لم يعبث بها أحد ، وجميعهم شاهدوا أنتوني مارستون يذهب ويصبّ شرابه بنفسه، إذن فمعني ذلك أن أي مادة سامّة وُضعت في الشراب قد وُضعت بيد أنتوني مارستون نفسه! ولكن ما الذي يدفع أنتوني مارستون إلى الانتحار؟!
قال بلور متفكراً: أتدري أيها الطبيب؟ الأمر لا يبدو مقنعاً؛ ليس بوسعي القول بأن السيد مارستون كان من نوع الرجال الذين قد يُقِدمون على الانتحار.
فأجاب آرمسترونغ : أوافقك الرأي.
-2-
ترك الجميع الأمر على حاله، فلم يكُن لديهم ما يمكن أن يُقال. وحمل آرمسترونغ ولومبارد معاً جثة أنتوني آرمسترونغ إلى غرفته فأرقداها هناك وغطّياها بملاءة، وعندما عادا إلى الطابق السفلي كان الآخرون يقفون مجتمعين ويرتعشون قليلاً رغم أن المساء لم يكُن بارداً.
قالت إميلي برنت: الأفضل أن نأوي إلى غرفنا؛ لقد تأخر الوقت.
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل فبدا الاقتراح معقولاً، ومع ذلك فقد تردد الجميع، وبدا كما لو أنهم يودّون البقاء معاُ ليشعروا بالطمأنينة، وقال القاضي: أجل ، علينا أن ننام بعض الوقت.
قال روجرز: لم أنتهِ من التنظيف في غرفة الطعام بعد.
فقال لومبارد باقتضاب: قُم بذلك في الصباح.
وقال له آرمسترونغ: هل زوجتك على ما يرام؟
- سأذهب واراها يا سيدي.
ثم عاد بعد دقيقة أو دقيقتين وقال : إنها نائمة كالملائكة.
فقال الطبيب : حسناً ، لا تزعجها.
- بالطبع يا سيدي، فقط سأضع الأشياء في غرفة الطعام وأتأكد من إغلاق الأبواب ، ثم سآوي إلى غرفتي.
وخطا عبر القاعة إلى غرفة الطعام، وصعد الجميع الدرَج في طابور بطيء متردد.
لو كان هذا البيت قديماً تئن أخشابه وتمتلئ زواياه بالظلال المعتمة ولو كانت جدرانه داكنة لوُجد ما يثير مشاعر الخوف، ولكن هذا البيت كان غاية في الحداثة وليست فيه أي زوايا معتمة، كانت الأضواء تغمره ولم يكُن فيه أشياء مخبّأة، لم يكن له جو خاص. ولكن هذه الحقيقة كانت – على نحو ما – أكثر الأشياء مدعاة للخوف!
تبادلوا تحية المساء عندما وصلوا أعلى الدرَج ، وذهب كل منهم إلى غرفته، وبصورة تلقائية ودون انتباه تقريباً أقفل كل منهم باب غرفته على نفسه.
-3-
في غرفته المريحة التي طُليت جدرانها بألوان باهتة جميلة خلع القاضي وارغريف ملابسه واستعدّ للنوم. كان يفكر بإدوارد سيتون. إنه يذكر سيتون جيداً؛ شعره ، عينيه الزرقاوين ، عادته في النظر إليك مباشرة، الهالة اللطيفة من الاستقامة والصدق التي كانت تبدو عليه... كان ذلك قد ترك في نفوس المحلفين انطباعاً جيداً عنه.
كان ليولين، المدّعي العام، قد أدّى مهمته بطريقة سيئة مبدياً حماسة مبالَغاً فيها ومحاوِلاً إثبات الكثير، أما ماثيوس محامي الدفاع.
فقد كان جيّداً؛ كانت أدلته قاطعة وكانت مناقشته للشهود دقيقة، وكان بارعاً للغاية في استجواب موكّله على منصة الشهود. كما أن سيتون كان قد أبلى بلاء حسناً في مواجهة استجواب الادّعاء ، فلم يتحمس أو يبالغ أكثر ممّا ينبغي وأعطى المحلفين انطباعاً جيّداً. ولعله بدا لماثيو كما لو أن كل شيء يسير كما ينبغي.
وضع القاضي ساعته بعناية إلى جوار سريره، وتذكّر بدقّة كيف كان يشعر وهو جالس هناك يستمع ويأخذ ملحوظات ويقيّم كل شيء مرتّباً كل ما فيه دليل ضدّ المتهَم . كان قد استمتع بالقضية، وكانت كلمة ماثيو النهائية مرافعة من الطراز الأول، وحين جاء الدور على ليولين بعده فشل في إزالة الانطباع الحسن الذي تركه محامي الدفاع، ثم جاء دوره هو لإجمال القضية وإعطاء توجيهاته للمحلّفين.
خلع القاضي وارغريف بعناية طقم أسنانه ووضعه في كوب ماء، فتراجعت شفتاه المنكمشتان داخل فمه الذي بدا قاسياً ومتوحشاً، وابتسم القاضي لنفسه وهو يضع قناعاً على عينيه، لقد مكر لسيتون بكل براعة! وتمدّد على السرير وهو يئن قليلاً من آلام المفاصل ، ثم أطفأ النور.
-4-
وقف روجرز حائراً في غرفة الطعام في الطابق الأرضي. كان ينظر إلى تماثيل الجنود الخزفية في وسط الطاولة، ثم غمغم قائلاً لنفسه : إنه لأمر غريب؛ أستطيع أن أقسم أنه كان هنا عشر قطع!
تقلب الجنرال ماك آرثر على سريره ولم يستطع النوم، وفي ظلال الغرفة ظلّ يرى وجه آرثر ريتشموند. كان قد أحب آرثر، بل كان معجَباً به إعجاباً شديداً ، وكان سعيداً بأن ليزلي قد انسجمت معه أيضاً. كانت ليزلي امرأة متعالية تنظر بتعالٍ إلى كثير من الشبان المتميّزين وتصفهم بأنهم أغبياء، هكذا ببساطة ، أغبياء، إلاَ أنها لم تجد آرثر ريتشموند غبياً بل انسجما معاً منذ البداية، فكانا يتحدثان عن المسرح والموسيقى وكانت تمازحه وتسخر منه.
وكان ماك آرثر مسروراً بفكرة أنّ ليزلي تبدي به اهتمام الأم. ولكن أيّ أمومة ؟! يا لها من حماقة لعينة حين لم ينتبه وقتها إلى أن ريتشموند كان في الثامنة والعشرين وليزلي في التاسعة والعشرين! لقد أحب ليزلي ، وبوسعه أن يراها الآن في خياله بوجهها المستدير وعينيها الراقصتين بلونهما الرمادي العميق وشعرها البني الكثيف الملفوف... لقد أحبّ ليزلي ووثق بها تماماً.
كان هناك في فرنسا وسط الجحيم، كان جالساً يفكر فيها ناظراً إلى صورتها التي كان قد أخرجها من جيب قميصه، وعندها اكتشف الأمر، تماماً كما تحدث الأشياء في الروايات؛ الرسالة في الظرف الخطأ، كانت تكتب لكليهما، وكانت قد وضعت رسالتها إلى ريتشموند في الظرف المعنوَّن إلى زوجها! وحتى الآن، وبعد كل هذه السنوات ، ما زال يشعر بوقع الصدمة وبالألم . كم كان ذلك مؤلماً!
كانت علاقتهما قد بدأت منذ بعض الوقت، وكان ذلك واضحاً في الرسالة: عطلات نهاية الأسبوع، إجازة ريتشموند الأخيرة...
قال لنفسه بسخط : ليزلي ! ليزلي وآرثر ! لعن الله ذلك الرجل، لعن الله وجهه البسّام و " نعم سيدي " التي يهتف بها بكل نشاط... يا له من كاذب منافق يسرق زوجة رجل آخر!
تجمّع غضبه ببطء، ذلك الغضب البارد القاتل، واستطاع الاستمرار في التعامل معه كالمعتاد ولم يُظهر له شيئاً. حاول المحافظة على سلوكه الطبيعي مع ريتشموند كما هو ، وهو يعتقد أنه نجح في ذلك فلم يتطرق إلى نفس ريتشموند أيّ شك . اختلاف المزاج كان له ما يبرره هناك حيث تضغط أهوال الحرب على أعصاب الرجل باستمرار.
وحده أرمتياج الشاب نظر إليه بفضول مرّة أو مرّتين . كان شاباً صغيراً ولكن كانت لديه قدرة قوية على الملاحظة، وربما كان أرمتياج قد عرف عندما حان الوقت. لقد أرسل ريتشموند بتدبير محكّم إلى حتفه، فلم يكُن ممكناً له النجاة إلى بمعجزة والمعجزة لم تحدث، نعم ، لقد أرسل ريتشموند إلى الموت، ولم يكن نادماً. كانت المسألة سهلة تماماً؛ الأخطاء كانت تقع طول الوقت والرجال يُرسَلون إلى الموت دون مبرر ، وكان الجو مشحوناً بالاضطراب والرعب، فكان يمكن للناس أن يقولوا فيما بعد : " لقد فقد ماك آرثر أعصابه قليلاً فارتكب بضعة أخطاء كبيرة وضحّى ببعض خيرة رجاله ... " ، ولكن لم يكُن بوسعهم أن يقولوا أكثر من ذلك.
ولكن الفتى أرمتياج كان مختلفاً؛ لقد نظر إلى قائده بدهشة شديدة. ربما علم أن ريتشموند كان مرسَلاً إلى موته بتدبير مسبّق. تُرى هل تكلّم أرمتياج بعد انتهاء الحرب؟ ليزلي لم تعلم. افترضَ أنها بكت صاحبَها ، ولكن بكاءها كان قد انتهى حين عاد هو إلى إنكلترا . لم يخبرها قط أنه اكتشف الأمر واستمرا معاً ، ولكنها لم تعُد إلى طبيعتها كما كانت . ثم أصيبت بالتهاب رئوي بعد ثلاث سنوات أو أربع وماتت.
كان ذلك منذ وقت طويل، خمسة عشر عاماً أو سنة عشر. وقد ترك الجيش وجاء للعيش في ديفون فاشترى بيتاً صغيراً من النوع الذي كان يحلم بامتلاكه دائماً، جيران طيّبون ومنطقة جميلة من العالَم وبعض الصيد البّري وصيد الأسماك...
كان الناس جميعاً ودودين في البداية، ولكنه بدأ يشعر بعد ذلك بالقلق من إحساسه بأن الناس يتحدثون من وراء ظهره، وبدا له أنهم ينظرون إليه – على نحو ما – بصورة مختلفة كما لو أنهم سمعوا شيئاً، إشاعة ما. هل هو أرمتياج ؟ هل من الممكن أن يكون أرمتياج قد تكلم؟
تجنّب الناس بعد ذلك وتقوقع داخل نفسه. كم هو مؤلم أن تشعر أن الناس يتحدثون عنك!
كان ذلك كله منذ وقت طويل، كلام لا جدوى منه الآن.
ليزلي تلاشت بعيداً وكذلك ريتشموند ، لا شيء ممّا حدث تبدو له أهمية الآن، ولكن ذلك جعله وحيداً في حياته وأصبح حريصاً على تجنّب رفاقه القدامى في الجيش؛ فإذا كان أرمتياج قد تكلم فسيكونون على علم بالموضوع.
والآن ، الليلة ، دوّى صوتٌ خفيّ معلناً تلك القصة القديمة المخفيّة. هل تعامل مع الموضوع كما ينبغي؟ هل تجنّب الثرثرة؟
هل أظهر القدر الكافي من مشاعر الغضب والاحتقار دون الإحساس بالذنب أو الارتباك؟ من الصعب أن يجزم بذلك.
من المؤكَّد أن أحداً لم يحمل الاتهام على محمل الجدّ. لقد كان في ذلك الحديث الكثير من الهراء غير المعقول أيضاً، تلك الفتاة الجميلة اتهمها الصوت بإغراق طفل! إنه اتهام أحمق؛ رجل مجنون يرمي الناس بالتهم جِزافاً! إميلي برنت أيضاً، وهي ابنة أخي توم برنت زميله في الكتيبة، اتهمها الصوت بارتكاب جريمة قتل! إن بوسع أيّ واحد (حتى لو كان بنصف عين) أن يرى كم هي تقية صالحة. المسألة كلها شيء غريب لعين... جنون، لا أقلّ من ذلك.
منذ وصولهم إلى هذا المكان و... ولكن متى كان ذلك؟ كان ذلك هذا المساء فقط! ولكن تبدو المدة أطول من هذا بكثير! قال لنفسه: تُرى متى سنخرج من هنا ثانية؟ غداً طبعاً عندما يعود القارب من الشاطئ.
ولكنه لم يكُن – في تلك اللحظة- مهتمّاً كثيراً بمغادرة الجزيرة أو بالعودة إلى الشاطئ ثم إلى بيته الصغير، العودة إلى كل ذلك القلق والمتاعب، كان بوسعه سماع صوت الأمواج وهي ترتطم بالصخور من خلال نافذته المفتوحة، كان الصوت أعلى قليلاً مما كان عليه في وقت سابق من المساء، وكانت الريح تشتدّ أيضاً . وفكّر قائلاً لنفسه: هذا صوت هادئ ومكان هادئ. أفضل ما في أية جزيرة انك عند وصولك إليها لا تستطيع الذهاب إلى أبعد منها ، فأنت تصل إلى نهاية الأشياء.
وأدرك فجأة أنه لا يريد مغادرة الجزيرة!
-6-
استلقت فيرا كلايثورن في سريرها مفتوحة العينين تحدّق إلى سقف الغرفة. كان المصباح إلى جانبها مضاء، لقد كانت تخاف الظلام. وكانت تفكر قائلة لنفسها: هوغو ، هوغو ... لماذا أشعر انك قريب جداً منّي في هذه الليلة؟ قريب جداً في مكان ما. أين هو حقاً؟ لا أعرف ، ولن أعرف أبداً. لقد خرج من حياتي وذهب بعيداً جداً.
لم يكن ممكناً عدم التفكير في هوغو ؛ لقد كان قريباً منها وكانت مجبّرة على أن تفكر فيه، وأن تتذكر ، كورنوول .. الصخور السوداء، ألرمال الناعمة، السيدة هاملتون مرحة الطباع ، وسيريل المتذمر قليلاً دائماً وهو يشدّ يدها. كان يقول لها : أريد أن أسبح إلى الصخرة يا آنسة كلايثورن. لماذا لا أستطيع السباحة إلى الصخرة؟
ترتفع عيناها وتلتقيان بعينيّ هوغو وهو يراقبها، وتلك الأمسيات بعد ذهاب سيريل إلى النوم. كان يقول لها: هل تأتين لتتمشّي معي يا آنسة كلايثورن؟
- نعم ، سآتي.
المشّي بهدوء على الشاطئ، وضوء القمر، ونسيم المحيط الأطلسيّ العليل ، ثم كفّ هوغو وهي تحتضن كفّها وصوته الرقيق وهو يقول : أحبك ، أحبك ، أتعرفين أنني أحبك يا فيرا؟
نعم ، كانت تعرف، أو لقد خُيّل لها أنها كانت تعرف. تذكّرَته حين قال لها : لا أستطيع أن أطلب منكِ أن تتزوجيني ؛ فليس في جيبي بنس واحد ولا أستطيع أن أعول غير نفسي. شيء غريب! هل تعلمين؟ لقد حانت لي فرصة مرّة لمدة ثلاثة أشهر لأن أطمح إلى أن أكون ثرياً، فسيريل لم يولَد إلاَ بعد ثلاثة شهور من وفاة موريس. لو انه كان بنتاً...
لو كان هذا الطفل بنتاً لكان هوغو قد حصل على كل شيء. لقد اعترف بأن أمله قد خاب، كان يقول: لم أعتمد على ذلك بالطبع، ولكنها كانت صدمة نوعاً ما. الحظ هو الحظ! سيريل طفل لطيف وأنا معجَب به للغاية.
وفعلاً كان معجَباً به . كان مستعداً دائماً ليلعب مع ابن أخيه أو يسليّه بأي شكل، ولم يكُن الحقد في طبع هوغو. لم يكُن سيريل قوياً حقاً بل كان طفلاً ضعيفاً ولا قدرة له على الاحتمال، وربما كان من نوع الأطفال الذين لا يعيشون حتى يكبروا.ثم... اقتحم ذاكرتها صوته وهو يلحّ عليها في السؤال: آنسة كلايثورن، لماذا لا أستطيع السباحة إلى الصخرة؟
كان السؤال مزعجاً ومتكرراً ، وكانت تجيبه دائماً : لأن الصخرة بعيدة يا سيريل.
- ولكن يا آنسة كلايثورن....
نهضت فيرا وتوجهت إلى طاولة الزينة فأخذت ثلاث حبّات من الأسبرين، وقالت لنفسها: حبذا لو كان لديّ حبوب منوّمة حقيقية. لو أنني فكرت في قتل نفسي لأخذت جرعة زائدة من الفيرونال أو شيء من هذا النوع وليس سيانيداً!
سرت في جسدها رجفة حين تذكَرت وجه أنتوني مارستون الأحمر المتشنج، وحين مرّت بالمدفأة نظرت إلى مقطوعة الشعّر المعلّقة فوقها:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِقَ فمات فبقي تسعة
وقالت لنفسها: يا له من أمر مُخيف؛ تماماً مثلما حدث هذا المساء! لماذا كان أنتوني مارستون يريد الموت؟
هي لا تريد الموت، لا تستطيع تخيّل أنها تريد الموت! الموت من نصيب الـ... الآخرين.
* * *
الفصل السادس
-1-
كان الدكتور آرمسترونغ يحلم: كان الجو حارّاً في غرفة العمليات، من المؤكَّد أنهم ضبطوا الحرارة على درجة مرتفعة. كان العرق يسيل على وجهه، وكانت يداه لزجتين ولم يكن بوسعه إمساك المشرط جيداً. كم كانت جميلة حدّة المشرط! من السهل القيام بالقتل باستخدام سكين كهذه، وهو بالطبع كان بصدد القتل.
بدا جسد المرأة مختلفاً، كان ضخماً ثقيلاً، ولكن تلك المرأة كانت نحيفة وضئيلة، وكان الوجه مخفياً. مَن الذي كان عليه أن يقتله؟ لم يستطع التذكر، ولكنه يجب أن يعرف هل يسأل الممرضة؟ الممرضة كانت تراقبه. لا ، لا يستطيع سؤالها، لقد كانت متشككة وكان بوسعه رؤية ذلك. ولكن مَن كان على طاولة العمليات؟ ما كان ينبغي لهم أن يُخفوا الوجه على هذا النحو. ليته يستطيع رؤية الوجه.
آه ، هذا أفضل . وجد شابّاً متدرّباً يسحب المنديل، وها هو .
الوجه. نعم، إميلي برنت بالطبع، كان عليه أن يقتل إميلي برنت. كم كانت عينها خبيثة! كانت شفتاها تتحركان، ماذا كانت تقول؟ كانت تقول: وسط الحياة نحن في مواجهة الموت.
كانت تضحك، وكان هو يقول للممرضة : لا أيتها الممرضة، لا تعيدي وضع المنديل، عليّ أن أرى ، عليّ أن أعطيها المخدّر. أين المخدّر؟ لا بدّ أنني أحضرته معي! ماذا فعلتِ بالمخدر أيتها الممرضة؟ حسناً، هذا يكفي تماماً. أنزعي المنديل بعيداً أيتها الممرضة.
بالطبع كنت أعرف ذلك كل الوقت، هذا أنتوني مارستون. إن وجهه أحمر متشنج ولكنه ليس ميتاً. إنه يضحك، نعم ، يضحك لدرجة أنه يهزّ طاولة العمليات!
- انتبه أيها الرجل ، انتبه ، ثبّتي الطاولة أيتها الممرضة ، ثبّتي الطاولة!
وفجأة استيقظ الدكتور آرمسترونغ ، وكان الصباح قد طلع وأشعة الشمس تتدفق في الغرفة. كان شخص ما ينحني فوقه ويهزّه، وكان ذلك الرجل روجرز. كان ممتقع الوجه ينادي: دكتور، دكتور.
واستيقظ الدكتور آرمسترونغ تماماً وجلس في سريره وقال بحدّة: ما الأمر؟
- زوجتي يا دكتور ، لا أستطيع إيقاظها! يا إلهي! لا أستطيع إيقاظها ، وهي... وهي لا تبدو لي طبيعية.
كان الدكتور آرمسترونغ سريعاً، فلفّ نفسه في ثوب النوم وتبع روجرز.
-2-
انحنى الدكتور آرمسترونغ فوق السرير الذي كانت ترقد عليه المرأة بسلام على جنبها، ورفع يدها الباردة وفتح جفنها ، ومرّت دقائق قبل أن يرفع قامته ويتحول عن السرير.
همس روجرز: هل هي...؟ هل هي...؟
ومرّر لسانه على شفتيه الجافتّين، فأومأ الدكتور آرمسترونغ قائلاً: نعم ، لقد ماتت.
واستقرّت عيناه بتأمّل على الرجل الواقف أمامه ثم على الطاولة المجاورة للسرير ثم على حوض الغسيل، ثم رجعتا إلى المرأة النائمة، وقال روجرز: هل كان .... هل كان قلبها يا دكتور؟
وانتظر الدكتور آرمسترونغ دقيقة أو اثنتين قبل الإجابة ثم سأل: كيف كانت صحتها في العادة؟
قال روجرز : كانت تعاني قليلاً من آلام العظام.
- هل كان يشرف عليها أيّ طبيب مؤخَّراً؟
قال روجرز: طبيب؟ لم ترَ طبيباً منذ سنوات، لا هي ولا أنا.
- هل لديك أيّ سبب يجعلك تعتقد أنها عانت من مشكلات في القلب؟
- لا يا دكتور ، لم أعرف شيئاً كهذا من قبل.
قال آرمسترونغ: هل كانت تنام جيداً؟
فتجنّب روجرز النظر إليه وأخذ يشبّك يديه ويديرهما بقلق ثم غمغم قائلاً: لا ، لم تكُن تنام جيداً.
فقال الطبيب بحدّة: هل كانت تأخذ شيئاً لمساعدتها على النوم؟
فحدّق إليه روجرز مدهوشاً وقال: تأخذ شيئاً لمساعدتها على النوم؟! ليس حسب علمي. أنا على يقين من أنها لم تكُن تأخذ شيئاً.
خطا آرمسترونغ إلى حوض الغسيل حيث كان هناك عدد من الزجاجات على رفّ الحوض، معجون للشعر، ماء عطري، زجاجة مليّن للمعدة، سائل غلسرين للأيدي، مطهّر سائل للفم، معجون آسنان... وساعده روجرز بفتح أدراج خزانة الملابس، ثم انتقلا من هناك إلى خزانة أدراج أخرى ولكنهما لم يجدا أية دلائل على وجود شراب أو حبوب منوّمة. قال روجرز: لم تأخذ شيئاً الليلة الماضية – يا سيدي – ما عدا الدواء المسكّن الذي أعطيتَه أنت لها.
-3-
عندما دقّ جرس الإفطار في تمام التاسعة كان الجميع قد نهضوا وخرجوا ينتظرون دعوتهم إلى غرفة الطعام، وكان الجنرال ماك آرثر والقاضي يذرعان الشرفة الخارجية ويتبادلان تعليقات متقطعة حول الموقف السياسي، وكانت فيرا كلايثورن وفيليب لومبارد قد صعدا إلى قمة الجزيرة خلف المنزل، وهناك وجدا ويليام هنري بلور واقفاً ينظر إلى الشاطئ، وحين رآهما قال: لا أثر للقارب البخاري حتى الآن، كنت أرقب الشاطئ بحثاً عنه.
فقالت فيرا مبتسمة: ديفون منطقة يحبّ أهلها النوم، والأمور هنا تتأخر عادة.
وكان فيليب لومبارد ينظر إلى البحر في الاتجاه المعاكس فقال فجأة: ما رأيكم في الطقس؟
نظر بلور إلى السماء وقال: يبدو لي جيداً.
وصفر لومبارد بفمه وقال: ستهبّ الريح قبل نهاية اليوم.
قال بلور : أتعني عاصفة؟
ثم تناهى إليهم صوت جرس يأتي من أسفل فقال فيليب لومبارد: الإفطار؟ حسناً، أنا بحاجة إليه.
وفيما كانوا يهبطون المنحدّر الحادّ قال بلور للومبارد بنبرة تأمّل: أتعرف؟ تحيرّني مسألة ما. لماذا أراد ذلك الشابّ وضع حدّ لحياته؟ ! لقد كنتُ أفكر في الأمر طول الليل.
كانت فيرا تتقدمهما ، فتباطأ لومبارد قليلاً وقال: هل لديك نظرية أخرى؟
- أحتاج إلى بعض الإثباتات. لا بدّ من وجود حافز أولاً، وهو كان رجلاً ميسور الحال فيما أعتقد.
وأطلّت عليهم إميلي برنت من نافذة غرفة الجلوس فسألت: هل القارب قادم؟
فقالت فيرا: ليس بعد.
ثم دخلوا إلى قاعة الإفطار حيث كان طبق واسع يحوي بيضاً وعلى الطاولة الجانبية رقائق مقلية من اللحم إضافة إلى الشاي والقهوة، وأمسك روجرز بالباب مفتوحاً لكي يدخلوا ثم أغلقه من الخارج.
فقالت إميلي برنت: ذلك الرجل يبدو مريضاً اليوم.
فتنحنح الطبيب الذي كان يقف إلى جوار النافذة وقال: عليكم تحمّل أية نواقص هذا الصباح؛ فقد تعيّن على روجرز أن يبذل كل ما في وسعه لإعداد الإفطار وحده لأن السيدة روجرز لم تستطع استئناف العمل هذا الصباح.
قالت إميلي برنت بحدّة: ما خطب هذه المرأة؟
فقال الدكتور آرمسترونغ بهدوء: دعونا نبدأ فطورنا؛ البيض سيبرد، وبعد الإفطار لديّ عدّة أمور أودّ أن أبحثها معكم.
وإذ وافقوه على ملاحظته أقبلوا يملؤون أطباقهم بالطعام وأقداحهم بالشاي والقهوة، وبدأت الوجبة، وبدا أنهم مجمعون على عدم التحدث عن أيّ شيء يخصّ الجزيرة ، وبدلاً من ذلك دار حديث متقطّع حول الأحداث، الجارية: الأخبار من الخارج، الأحداث الرياضية العالَمية، آخر الأنباء حول عودة وحش بحيرة نيس للظهور...
ثم رُفعت الأطباق، فدفع الدكتور آرمسترونغ كرسيّه إلى الوراء قليلاً وتنحنح بطريقة تثير الاهتمام وقال: رأيتُ من الأفضل أن أنتظر حتى تنتهوا من إفطاركم لأبلغكم بخير سيّئ. لقد ماتت السيدة روجرز في أثناء نومها.
حلّ عليهم ذهول وعلت أصواتهم بهمهمة جماعية، وقالت فيرا بدهشة: يا إلهي! حالنا موت على هذه الجزيرة منذ وصولنا!
- قال القاضي وارغريف وعيناه تضيقان وبصوت خفيض وواضح ودقيق: أمر عجيب جداً! ماذا كان سبب موتها؟
هزّ الدكتور آرمسترونغ كتفيه وقال: من المستحيل معرفة ذلك في التوّ.
- لا بدّ من إجراء تشريح.
- بالتأكيد لا أستطيع إعطاء شهادة؛ فليس لديّ أيّ معرفة بحالة المرأة الصحيّة.
قالت فيرا : كانت تبدو امرأة عصبية للغاية، وقد تلقّت صدمة أمس. قد يكون السبب نوبة قلبية.
قال الدكتور آرمسترونغ بجفاء: مؤكد أن قلبها قد توقف عن النبض، ولكن ما سبب توقفه عن النبض؟ هذا هو السؤال.
وأفلتت كلمة واحدة من إميلي برنت وقعَت بشدّة ووضوح على المجموعة المصغية إذ قالت: الضمير.
فالتفت إليها آرمسترونغ وقال: ماذا تقصدين بالضبط يا آنسة برنت؟
قالت إميلي برنت بحزم وشدّة: لقد سمعتم جميعاً، لقد اتُهِمت مع زوجها بتدبير اغتيال مستخدِمتها السابقة السيدة العجوز.
- وهل تعتقدين هذا؟
- أعتقد أن الاتهام كان صحيحاً؛ لقد رأيتموها جميعكم الليلة الماضية حين انهارت وغابت عن الوعي، فقد كانت صدمة كشُف عملها الشرير أكبر من أن تحتملها. لقد ماتت من الخوف فعلياً.
هزّ الدكتور آرمسترونغ رأسه متشككاً وقال: إنها نظرية محتَملة، ولكن المرء لا يستطيع تبنّي نظرية كهذه دون معرفة دقيقة بحالتها الصحية وما إذا كان لديها ضعف في القلب مثلاً.
قالت إميلي برنت: سمّه تدبيراً ربانياً إن شئت.
بدت الصدمة على الجميع وقال السيد بلور بقلق: هذه مبالَغة في الأمور يا آنسة برنت.
نظرَت إليهم بعينين لامعتين وارتفع ذقنها وهي تقول: أتعتبرون من المستحيل أن يتعرض خاطئ لغضب الله؟ أنا لا أعتقد ذلك.
مسح القاضي ذقنه وغمغم: سيدتي العزيزة، من خلال خبرتي في الجريمة وجدت أن مهمّة إثبات الجرم وإيقاع العقاب أمورٌ مَنوطة بناء نحن البشر، وهذه المهمّة محفوفة بالمخاطر، ولا توجَد طرق مختصَره لإنجازها.
فهزّت إميلي برنت كتفيها وقال بلور بحدّة: ماذا أكلت أو شربت الليلة الماضية بعد أن ذهبت إلى سريرها؟
فقال آرمسترونغ: لاشيء.
- ألم تتناول أيّ شيء؛ كوب شاي أو كوب ماء مثلاً؟ أراهنك أنها تناولت كوب شاي فهي من نوع النساء اللاتي يفعلن ذلك دائماً.
- لقد أكّد لي روجرز أنها لم تتناول شيئاً على الإطلاق.
وقال بلور: آه ، طبعاً ، من المتوقَّع أن يقول شيئاً كهذا.
كانت نبرته عميقة الدلالة بحيث نظر إليه الطبيب بحدّة، وقال فيليب لومبارد: أهذا ما تظنه إذن؟
فقال بلور بلهجة عدائية: حسناً، لِمَ لا؟ لقد سمعنا جميعاً ذلك الاتهام ليلة أمس، وقد يكون كله كلاماً فارغاً ومحض ثرثرة حمقاء، ولكن – من جهة أخرى – قد لا يكون الأمر كذلك. لنفترض للحظة أن الاتهام صحيح وأن روجرز وزوجته قتلا تلك السيدة، فماذا بعد؟ لقد غمرهما إحساس بالسلام والطمأنينة و...
قاطعته فيرا وقالت بصوت خفيض : لا ، لا أظن أن السيدة روجرز شعرت بالأمان قط.
بدا بلور منزعجاً بعض الشيء لمقاطعته ولمحها بنظرة كمن يقول: أنتنّ النساء ! ثم استأنف حديثه قائلاً: هذه احتمالات على أيّ حال. لم يكونا يعرفان أن الخطر يحيط بهما، ثم جاء يوم أمس وخرج ذلك الصوت الأحمق وكشف الأمر، فماذا حدث ؟ انهارت المرأة وتحطمت. هل لاحظتم كيف كان زوجها يخفيها عن أعيننا عندما بدأت تفيق من إغماءتها؟ لم يكُن ذلك كله قلقاً على زوجته، بالتأكيد لا ، بل كان مرعوباً حتى الموت مما يمكن أن تقوله زوجته.
ثم أخذ نفساً عميقاً وعاد يقول: دعوني أشرح الوضع لكم: لقد ارتكبا جريمة ولم يُكشف أمرهما، ولكن إذا كان سيتمّ نبش المسألة من جديد فماذا سيحدث؟ الاحتمال الأغلب بنسبة عشرة إلى واحد أن المرأة ستنهار وتعترف؛ فهي لا تملك الأعصاب التي تجعلها تتصدى للتهمة بقوة، أيّ أنها قنبلة موقوتة بالنسبة لزوجها. نعم، هي كذلك، أمّا زوجها فليس لديه مشكلة؛ فبوسعه الكذب بوجه جامد حتى يوم القيامة، ولكنه لا يستطيع الاطمئنان إليها لأنها إذا انهارت فستكون حياته في خطر. لهذا يدسّ لها شيئاً في كوب الشاي، وبذلك يضمن إغلاق فمها إلى الأبد.
قال آرمسترونغ ببطء: لم يكُن إلى جانب سريرها قدح فارغ، لم يكُن هناك شيء على الإطلاق، لقد نظرت بنفسي.
فقال بلور ساخراً: بالطبع لم يكُن هناك شيء. أول ما هو متوَّقع منه أن يقوم به بعد أن شربَت ما في القدح هو أن يأخذه مع صحته ويغسله جيّداً.
ساد الصمت هنيهة ثم قال الجنرال ماك آرثر مشككاً: قد يكون الأمر كذلك، ولكن من الصعب عليّ أن أصدق أن رجلاً قد يفعل شيئاً كهذا لزوجته.
فأطلق بلور ضحكة قصيرة وقال: عندما تكون حياة رجل في خطر فهو لا يتوقف كثيراً للتفكير في العواطف.
ثم حلّ الصمت فترة أخرى، وقبل أن يستأنف أحد الحديث فُتح الباب ودخل روجرز وقال وهو ينقل بصره بينهم: هل يمكنني تقديم شيء آخر لكم؟
فتحرك القاضي وارغريف قليلاً في كرسيه وسأله: متى يأتي ذلك القارب البخاري عادة؟
- بين السابعة والثامنة يا سيدي، وأحياناً بعد الثامنة بقليل.
لا أعرف ما الذي أخّر فريد ناراكوت هذا الصباح! لو كان مريضاً لأرسل أخاه.
فسأله فيليب لومبارد: كم الساعة الآن؟
- العاشرة إلاَ عشر دقائق يا سيدي.
فارتفع حاجبا لومبارد وهزّ رأسه متأملاً، وانتظر روجرز دقيقة أو اثنتين، ثم تكلم الجنرال ماك آرثر فجأة وباندفاع فقال: أنا آسف لسماع هذه الأخبار عن زوجتك يا روجرز، كان الدكتور يخبرنا بذلك للتوّ.
فأطرق روجرز برأسه وقال: شكراً لك يا سيدي.
ثم أخذ الطبق الفارغ وخرج، وحلّ الصمت مرة أخرى.
-4-
في الشرفة الخارجية قال فيليب لومبارد: بخصوص هذا القارب البخاري... فنظر إليه بلور وهز رأسه قائلاً: أعرف في أي شيء تفكر يا سيد لومبارد. لقد وجهّت لنفسي السؤال ذاته، ذلك القارب كان يجب أن يكون هنا قبل ساعتين تقريباً ولكنه لم يصل، فلماذا ؟
فقال لومبارد: وهل عرفتك الجواب؟
- ليست هذه مصادفة، هذا ما أقوله. إنه جزء من الموضوع بكامله، الأحداث كلها يرتبط بعضها ببعض.
- إذن أنت لا تعتقد أنه سيأتي.
وجاء من خلفه صوت نزِق نافد الصبر يقول: القارب لن يأتي.
فاستدار بلور بكتفيه العريضتين ونظر إلى المتحدث الأخير متأملاً ثم قال: أتظن ذلك يا جنرال؟
فقال الجنرال ماك آرثر بحدّة: طبعاً لن يأتي. نحن نعتمد على أن يأتي القارب ويأخذنا من الجزيرة، هذه هي النقطة الأساسية، ولكننا لن نغادر هذه الجزيرة، لن يغادرها أيّ منّا أبداً. هذه هي النهاية، هل تدرك ذلك؟ نهاية كل شيء.
وتردّد قليلاً ثم قال بصوت منخفض غريب: هذا هو السلام، السلام الحقيقي؛ أن تصل إلى النهاية ، أن لا يكون عليك الاستمرار. نعم ، السلام.
ثم استدار فجأة وانصرف عابراً الشرفة، ثم انحدر باتجاه البحر ومشى حتى نهاية الجزيرة إلى حيث تناثرت أحجار متفرقة على أطراف الماء ، ومشى مختلّ التوازن قليلاً كما لو كان نصف نائم فقال بلور: ها هو شخص طيّب آخر يفقد عقله. يبدو أننا سننتهي جميعنا كذلك.
فقال فيليب لومبارد: لا أظن انك ستفقد عقلك يا بلور.
فضحك المفتش السابق وقال: " لن يكون ذلك سهلاً". ثم أضاف جاداً: ولا أظن أن هذا سيحدث لك أنت أيضاً يا سيد لومبارد.
فقال فيليب لومبارد: أشعر أنني بكامل قواي العقلية حتى الآن، شكراً لك.
-5-
خرج الدكتور آرمسترونغ إلى الشرفة ووقف هناك متردداً. كان عن يساره كلّ من بلور ولومبارد، وعن يمينه القاضي وارغريف يذرع المكان جيئة وذهاباً حانياً رأسه. وبعد فترة ترددّ استدرار آرمسترونغ باتجاه وارغريف، ولكن روجرز جاء في تلك اللحظة خارجاً من البيت بسرعة وقال له: هل أستطيع أن أكلمك على انفراد يا سيدي؟
فتحول آرمسترونغ إليه وقد جفل حين رآه. كان وجه روجرز في غاية الاضطراب وقد تحول لونه إلى أخضر رمادي وكانت يداه ترتجفان، بدا متناقضاً مع حالة تماسكه قبل دقائق قليلة مما أدهش آرمسترونغ تماماً. وقال روجرز: أرجوك يا سيدي، أريد أن أكلمك على انفراد في الداخل.
استدار الدكتور عائداً داخل البيت مع الخادم المضطرب وقال : ما الأمر يا رجل؟! تماسك وكن رابط الجأش.
- هنا يا سيدي ، تفضل هنا.
وفتح باب غرفة الطعام فدخل الطبيب وتبعه روجرز وأغلق الباب خلفه، وقال آرمسترونغ : حسناً ، ما الأمر؟
كانت عضلات حنجرة روجرز تتحرك في حين كان يبلع ريقه هلعاً، ثم انتفض وهو يقول: تجري هنا أشياء لا أستطيع فهمها يا سيدي!
فقال آرمسترونغ بحدّة: أشياء! أية أشياء؟
- ستظنني مجنوناً يا سيدي، ستقول إنها أمور سخيفة. ولكن يجب تفسير هذه الأشياء، يجب تفسيرها- يا سيدي- لأنها غير معقولة أبداً.
- حسناً أيها الرجل، ما هذه الأشياء؟ لا تواصل الحديث بالألغاز.
فبلع روجرز ريقه ثانية وقال: تلك التماثيل الصغيرة يا سيدي! تلك التماثيل الموضوعة وسط الطاولة، عشرة تماثيل، كان هناك عشرة منها، أقسم أنه كان هناك عشرة منها.
فقال آرمسترونغ: أجل ، عشرة؛ لقد أحصيناها الليلة الماضية عندما كنّا على العشاء.
فاقترب روجرز وقال: هذه هي المسألة يا سيدي. الليلة الماضية عندما كنت أنظف غرفة الطعام كان هناك تسعة يا سيدي! لقد انتبهت إليها وفكّرت بأنه أمر غريب، ولكن هذا كل ما خطر لي وقتها، والآن يا سيدي، هذا الصباح لم أنتبه إليها عند إعداد المائدة للإفطار ؛ كنت حزيناً مهموماً فلم أنتبه، أما الآن – يا سيدي – عندما أتيت لإعادة ترتيب المكان... انظر بنفسك إن لم تكُن تصدقني، يوجّد فقط ثمانية يا سيدي، ثمانية فقط! هذا غير معقول يا سيدي، هل هذا معقول ! ثمانية فقط!
* * *
الفصل السابع
-1-
بعد الإفطار اقترحَت إميلي برنت على فيرا كلايثورن أن يتمشيا معاً إلى القمة مرة أخرى وينتظرا القارب البخاري هناك ، فوافقتها فيرا على ذلك. كانت الريح قد نشطت وظهرت على سطح البحر أمواج صغيرة متتالية يعلوها الزبد. لم تكُن في البحر أيّ قوارب صيد، ولم يظهر أيّ أثر لذلك القارب البخاري المرتقّب.
لم يكن بالإمكان فعلياً رؤية قرية ستيكلهيفن ، بل فقط التّلة الواقعة فوقها، مقطع ناتئ من الصخور الحمراء يخفي خلفه الخليج الصغير.
قالت إميلي برنت: الرجل الذي أحضرنا أمس إلى هنا كان يبدو من ذلك النوع الجدير بالثقة. غريب حقّاً أن يتأخر اليوم إلى هذا الحد!
لم تردّ فيرا، فقد كانت تقاوم في أعماقها شعوراً متصاعداً بالفزع، وقالت تخاطب نفسها بغضب: " يجب أن تحافظي على هدوئك . أنت لست طبيعية! لقد كانت أعصابك هادئة دائماً " . ثم قالت بصوت عالٍ بعد دقيقة أو اثنتين : أتمنّى لو يأتي، كم أود أن أغادر هذا المكان.
فقالت إميلي برنت بجفاء: لا شكّ لديّ في أننا جميعاً نريد ذلك.
قالت فيرا: المسألة كلها غير طبيعية، تبدو... تبدو دون معنى على الإطلاق!
فقالت العانس العجوز بسرعة: أنا غاضبة من نفسي لانخداعي بهذه السهولة. كم تبدو لي تلك الرسالة سخيفة عندما أعود إلى التفكير بها! ولكن لم تكُن لديّ أية شكوك وقتها، لم تكُن لديّ شكوك أبداً.
غمغمت فيرا بلا تفكير: أظن أنه لم تكُن لديّ أية شكوك قط.
فقالت إميلي برنت: كثيراً ما نستخفّ بالأمور ونأخذها دون تمحيص.
وأخذت فيراً نفساً عميقاً مرتجفاً وقالت: هل أنت مقتنعة حقاً بما قلته على الإفطار؟
- كوني أكثر دقة يا عزيزتي ، إلامَ تشيرين بالضبط؟
فقالت فيرا بصوت منخفض: هل تعتقدين حقّاً أن روجرز وزوجته قتلا تلك السيدة العجوز؟
نظرت إميلي برنت بتأمّل إلى البحر وقالت : أنا شخصياً متأكدة من ذلك تماماً. ماذا تظنين أنت؟
- لا أعرف ماذا أظن.
فقالت إميلي برنت: كل الأشياء تؤكد الفكرة : الطريقة التي أُغمي بها على المرأة، وإسقاط الرجل لصينية القهوة إن كنت تذكرين، ثم إن الطريقة التي تحدّث بها عن الموضوع لم تكُن صادقة. نعم، يبدو لي أنهما فعلاها.
وقالت فيرا: أذكر كيف بدت مرعوبة من خيالها. أنا لم أرَ امرأة في حياتي خائفة بهذا الشكل! لا بدّ أن تلك الحادثة كانت مسيطرة على عقلها دائماً.
غمغمت الآنسة برنت: أتذكّر حكمة كانت معلَّقة في غرفتي وأنا طفلة: " سوف تلاحقك خطيئتك دائماً" . هذا صحيح، بالفعل ، خطيئتك ستلاحقك دائماً.
انتفضت فيرا فجأة وقالت: ولكن يا آنسة برنت في هذه الحالة...
- ماذا يا عزيزتي ؟
- ماذا عن الآخرين؟
- لا أفهمك تماماً.
- كل الاتهامات الأخرى؟ هل تكون صحيحة؟ إذا صحت في حالة روجرز...
ثم توقفت غير قادرة على توضيح فكرتها المشوَّشة، وانفردت قسمات وجه إميلي برنت بعد أن كانت مقطّبة جبينها في حيرة وقالت: آه، الآن فهمتك. حسناً، لدينا السيد لومبارد، إنه يعترف بأنه تخلّى عن عشرين رجلاً وتركهم يموتون.
فقالت فيرا: كانوا مجرَّد وطنيين.
فردّت إميلي برنت بحدّة: بيضاً كانوا أو سوداً، كلهم إخوة لنا في الإنسانية.
فقالت فيرا في نفسها بسخرية: إخوتنا السود؟ سيغلبني الضحك! أنا في حالة هستيرية، أنا لست نفسي!
وتابعت إميلي برنت وهي مستغرقة في التفكير: بعض التهم الأخرى كانت بعيدة الاحتمال وسخيفة بالطبع. تلك التهمة مثلاً ضدّ القاضي الذي كان يقوم بواجبه بحكم وظيفته العامه، والمحقق السابق في شرطة سكوتلانديارد، وقضيتي أنا أيضاً.
وتوقفت قليلاً ثم تابعت: طبعاً، وإذا أخذنا الظروف بعين الاعتبار فلم يكُن ممكناً لي أن أقول شيئاً مساء أمس، لم يكُن موضوعاً ملائماً للبحث أمام الرجال.
راحت فيرا تنصت باهتمام وسألت: لِمَ لا؟
فتابعت الآنسة برنت بهدوء: كانت بياتريس تايلور خادمة عندي. لم تكُن فتاة فاضلة، وذلك ما اكتشفتُه بعد فوات الأوان. كنتُ مخدوعة بها كثيراً، فقد كانت حسنة الطباع وكانت دائماً نظيفة ومطيعة، وكنت سعيدة جداً بها. بالطبع تبيّن أن ذلك كله كان مجرَّد نفاق؛ فقد كانت فتاة عابثة عديمة الأخلاق، وكان هذا أمراً يدعو إلى الإحباط. وقد مرّ وقت طويل قبل أن أكتشف أنها كانت في ورطة.
وتوقفت قليلاً وأنفها الرقيق يتلوى اشمئزازاً ثم تابعت: كان ذلك صدمة كبيرة لي، وبالإضافة إلى هذا فقد كان أهلها أناساً طيبين ربوّها تربية صارمة، ويسعدني أن أقول إنهم لم يغفروا لها سلوكها.
قالت فيرا وهي تحدق إلى الآنسة برنت: ماذا حدث؟
- طبعاً أنا لم أقبل بها ساعة واحدة في منزلي بعد ذلك؛ لن أسمح أن يقول أحدٌ يوماً إنني قبلت بالرذيلة.
فقالت فيرا بصوت أكثر انخفاضاً: ماذا حدث لها؟
قالت الآنسة برنت: تلك المخلوقة المنبوذة لم تكتفِ بخطيئة واحدة تُقل ضميرها، بل ارتكبت خطيئة أشدٌ ... قتلت نفسها.
همست فيرا وقد استبدٌ بها الرعب: قتلت نفسها؟!
- نعم ، ألقت بنفسها في النهر.
شعرت فيرا برعدة تسري في جسدها، ونظرت إلى وجه الآنسة برنت الهادئ ثم قالت: كيف شعرتِ عندما علمتِ بذلك؟ هل شعرتِ بالأسف؟ ألم تلومي نفسك؟
عدلّت إميلي برنت هيئتها وقالت: أنا؟! وما شأني لأوبّخ نفسي؟
قالت فيرا: ولكن ماذا إذا كان موقفك... عذراً، إذا كان موقفك الشديد قد دفعها إلى ذلك؟
فقالت إميلي برنت بحدّة: ذلك لأن تصرفها... أعني أنها كانت خطيئتها هي؛ كان ذلك هو ما دفعها إلى الموت. لو كانت تصرفت كامرأة محترَمة طيّبة لما حدث أيّ شيء من هذا القبيل.
ثم التفتت بوجهها إلى فيرا. لم يظهر أيّ إحساس بالذنب أو القلق في عينيها ، بل كانت عيناها قاسيتين تشعّان بالفضيلة. كانت إميلي برنت تجلس على قمة جزيرة الزنوج مغلَّفة بدرع من الفضيلة صنعته لنفسها. لم تعُد العانس العجوز في نظر فيرا مجرَّد امرأة سخيفة بعض الشيء، لقد أصبحت – فجأة – امرأة مخيفة!
-2-
خرج الدكتور آرمسترونغ من غرفة الطعام ثم دلف إلى الشرفة مرة أخرى. كان القاضي يجلس وقتها على كرسي ينظر إلى البحر بهدوء، وإلى اليسار كان لومبارد وبلور يدخّنان بصمت. تردد الطبيب لحظة كعادته ثم أخذ ينظر إلى القاضي متأملاً. أراد تبادل الرأي مع شخص ما، وكان يعلم أن القاضي ذو ذهن منطقي حادّ ولكنه – مع ذلك – تردد ؛ فالقاضي وارغريف قد يكون ذا عقل راجح ولكنه رجل عجوز، وقد شعر آرمسترونغ أنه بحاجة إلى رجل عملي في تلك اللحظة، فحسم أمره وقال: لومبارد، هل أستطيع التحدث معك لحظة؟
فردّ فيليب: طبعاً.
غادر الرجلان الشرفة ونزلا المنحدَر باتجاه البحر، وعندما أصبحا خارج مدى السمع قال آرمسترونغ: أحتاج إلى مشورتك.
فارتفع حاجبا لومبارد وقال: صديقي العزيز: أنا لا أفهم في الطبّ.
- لا ، بل أعني حول ذلك الوضع الحالي.
- آه، هذا أمر مختلف.
قال آرمسترونغ: أخبرني بصراحة، ما رأيك بالموقف؟
تأمّل لومبارد لحظة ثم قال: الأمر يدعو إلى التفكّر، أليس كذلك؟
- ما رأيك بموضوع تلك المرأة؟ هل تقبل بنظرية بلور عنها؟
قال لومبارد: إنها نظرية معقولة تماماً، ولكن إذا أُخذت منفردة فقط.
- بالضبط.
لم يكن فيليب لومبارد غبياً، ودلته نبرة صوت آرمسترونغ على ارتياحه. وتابع لومبارد. هذا إذا قبلنا بفرضية أن السيد والسيدة روجرز قد ألفحا في ارتكاب جريمتهما دون أن ينكشف أمرهما حينها، وأنا لا أرى سبباً كان يمكن أن يمنعهما من ذلك. ماذا تعتقد أنهما فعلا بالضبط ؟ هل دسّا السم للمرأة العجوز؟
فقال آرمسترونغ ببطء: قد تكون المسألة أكثر بساطة. لقد سألت روجرز هذا الصباح عن طبيعة الحالة التي عانت منها تلك المرأة، الآنسة برادي، وكان جوابه مفيداً لي. لست بحاجة إلى الدخول في تفصيلات طبيّة ولكن توجد حالات معيَّنة من أمراض القلب تُستخدَم فيها النيترات، فعندما تأتي النوبة تُكسر كبسولة نيترات وتوضع تحف أنف المريض لاستنشاقها. وإذا لم يتمّ ذلك، أي إذا مُنعت النيترات عن المريض، فمن السهل حدوث الوفاة.
قال لومبارد وهو مستغرق في التفكير: بهذه البساطة؟ لا بدّ أن ذلك كان مغرياً إلى حد ما.
فأومأ الطبيب موافقاً وقال: أجل، لا حاجة للقيام بعمل مباشر ولا ضرورة للحصول على زرنيخ لاستخدامه .... بل فقط تصرّف سلبي ، امتناع عن التصرف. ثم ذهب روجرز في الليل لإحضار طبيب، وشعر كلاهما بثقة أنه لا يمكن لأحد أن يعرف الحقيقة.
وأضاف لومبارد: وحتى لو عرف أحدٌ فلا يوجد ما يمكن إثباته ضدّهما.
ثم قطّب فجأة وقال: طبعاً هذا يفسّر الكثير.
وقال آرمسترونغ مستفسراً: عفواً ، ماذا تعني؟
فقال لومبارد: أعني أنه يفسّر مسألة الجزيرة هذه. توجد جرائم لا يمكن إسنادها إلى مرتكبيها؛ قضية آل روجرز مثلاً، ومثال آخر هو القاضي وارغريف الذي ارتكب جريمته وهو ملتزم بالقانون تماماً.
قال آرمسترونغ بحدّة: هل تصدّق تلك القصة؟
فابتسم فيليب لومبارد وقال: طبعاً أصدّقها؛ وارغريف قتل إدوراد سيتون بلا شك، قتله كما لو كان غرس خنجراً في جسده، ولكنه كان ذكياً بما فيه الكفاية ليفعل ذلك وهو على مقعد القاضي بردائه وشعره المستعار، وهكذا فليس بوسعك إلصاق جريمته الصغيرة به بالطرق المعتادة.
ومضت صورة مفاجئة كالبرق في خيال آرمسترونغ : جريمة في المستشفى ، جريمة على طاولة العمليات.... بكل أمان، نعم ، بكل ، أمان كما لو كنتَ في منزلك!
كان فيليب لومبارد يقول: هذا يفسّر السيد أوين ويفسّر " جزيرة الجنود " أيضاً.
تنفس آرمسترونغ بعمق وقال: ها نحن نصل إلى جوهر المسألة: ما الهدف الحقيقي من جمعنا هنا؟
فقال فيليب لومبارد : ماذا تظن؟
اعترض آرمسترونغ بشكل مفاجئ وقال : لنعُد قليلاً إلى وفاة المرأة. ما هي النظريات المحتمَلة؟ الاحتمال الأول أن روجرز قتلها لأنه كان يخشى أن تكشف أمره، والاحتمال الثاني أنها فقدت أعصابها فسلكت طريقاً سهلاً بإنهاء حياتها.
قال لومبارد: انتحار؟
- ما رأيك في ذلك؟
- ربما كان ممكناً لولا مسألة موت مارستون. حالتا انتحار
خلال اثنتَي عشرة ساعة أمر يصعب تصديقه! هل تريد أن تقول لي إن أنتوني مارستون، وهو شابّ قوي عديم الإحساس ولديه قليل من رجاحة العقل، قد استبدّ به الخوف فجأة لأنه دعس طفَلين ذات يوم فوضع حدّاً لحياته عن سابق قصد وتصميم؟! حسناً، إنها فكرة مضحكة. ثم كيف حصل على السم على أيّ حال؟ سيانيد البوتاسيوم ليس نوعاً من المواد التي قد تحملها في جيبك حسب معلوماتي، لكن هذا ما تعتقده أنت.
قال آرمسترونغ: لا يحمل إنسان عاقل سيانيد البوتاسيوم معه. قد يفعل ذلك رجل ينوي تدمير عش دبابير مثلاً.
- قد يكون مزارعاً مثلاً، ولكن ليس أنتوني مارستون! يبدو لي أن مسألة السيانيد هذه تحتاج إلى بعض التفسير، فإمّا أنّ أنتوني مارستون كان ينوي الانتحار قبل قدومه إلى هنا فجاء مستعدّاً، أو...
ولم يكمل جملته فاستحثه آرمسترونغ قائلاً: أو ماذا؟
فابتسم لومبارد وقال: لماذا تريدني أن أقولها وهي على طرف لسانك؟ أنتوني مارستون قُتِلَ بالطبع.
أخذ الدكتور آرمسترونغ نفساً عميقاً وقال: وماذا عن السيدة روجرز؟
فقال لومبارد ببطء: كان يمكن لي أن أصدّق بصعوبة انتحار أنتوني لولا موضوع السيدة روجرز، وكان يمكن لي بسهولة أن أصدق انتحار السيدة روجرز لولا قضية أنتوني مارستون. أستطيع تصديق فكرة أن روجرز قتل زوجته لولا الوفاة غير المتوقعة لأنتوني مارستون ، ولكن ما نحتاجه هو نظرية تفسّر لنا حالتَي وفاة تُبِعَت إحداهما الأخرى بهذه السرعة.
قال آرمسترونغ : قد أستطيع مساعدتك في هذه النظرية.
وأعاد على سمعه الحقائق التي قدّمها له روجرز عن اختفاء التماثيل الخزفية ، فقال لومبارد : أجل ، التماثيل الخزفية لجنود صغار. كان يوجد عشرة منها مساء أمس عند العشاء بالتأكيد، والآن تقول إنه يوجد ثمانية فقط ؟!
فردّد الدكتور آرمسترونغ الأنشودة قائلاً:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِق فمات فبقي تسعة
تسعة جنود صغار سهروا حتى ساعة متأخرة
أحدهم أخذه النوم فبقي ثمانية
تبادل الرجلان نظرات غريبة، وتجهّم وجه لومبارد وقال: تطابق تامّ يتجاوز اعتبارها صدفة! أنتوني مارستون يموت من الاختناق أو الشَّرْقة ليلة أمس بعد العشاء، والسيدة روجرز استغرقت في النوم إلى الأبد.
قال آرمسترونغ: ماذا إذن؟
فردّ عليه لومبارد: إذن يوجد " جندي " من نوع آخر، جندي مختبئ في كومة حطب! السيد " س " السيد أوين... مجنون مطلَق السراح.
فاطلق آرمسترونغ تنهيدة ارتياح وقال: آه، أنت توافقني. ولكن لاحظ ماذا يعني ذلك: لقد أقسم روجرز إنه لا يوجد سوانا بالإضافة له ولزوجته على الجزيرة.
- روجرز على خطأ أو لعله كان يكذب.
هزّ آرمسترونغ رأسه وقال: لا أظن انه يكذب ، بل هو خائف ، خائف لدرجة يكاد يفقد معها رشده.
فأومأ فيليب لومبارد إيجاباً وقال: القارب البخاري لم يصل هذا الصباح، وهذا تدبير يتفق مع النظرية. ترتيبات مسبَقة من قِبَل السيد أوين، عزل الجزيرة حتى ينتهي من مهمّته.
شحب وجه آرمسترونغ وقال: يا إلهي لا بدّ أن الرجل مجنون!
فقال فيليب لومبارد بصوت فيه نبرة جديّة: أمر واحد لم يدركه السيد أوين.
- ما هو؟
- هذه الجزيرة ليست إلاَ صخرة محدودة المساحة نستطيع تفتيشها بقليل من الجهد، وعندئذ ستعثر على السيد المحترم أوين وبسرعة.
فقال الطبيب باهتمام : لا بدّ أنه سيكون خطيراً.
فضحك لومبارد وقال: خطيراً؟ من يخشى ذلك الذئب السيّئ؟ سأكون أنا الخطير عندما ألقي القبض عليه.
وتوقف لحظة ثم قال: من الأفضل أن نضمّ إلينا بلور لمساعدتنا؛ فسوف يكون مفيداً لنا عند الحاجة. ومن الأفضل أن لا نخبر النساء، أمّا الآخران فالجنرال شيخ مخرف – فيما أظن – والعجوز وارغريف يتّصف بالكسل الشديد. أعتقد أن ثلاثتنا قادرون القيام بالمهمة.
* * *
الفصل الثامن
-1-
انضمّ بلور إليهما بسهولة، وقد أبدى موافقة فورية على نظريتهما فقال: إن ما تقولانه عن هذه التماثيل الخزفية يجعل الأمر مختلفاً تماماً. إنه جنون! ولكن يوجد شيء واحد فقط: ألم يخطر لك أن أوين ربما كان ينوي تنفيذ فكرته بتوكيل شخص آخر للقيام بذلك؟
- أوضِحْ فكرتك يا رجل.
- حسناً، أعني أنه بعد الضجة التي حدثت مساء أمس انفعل هذا الشاب مارستون وسممّ نفسه، وروجرز اهتاج أيضاً فقتل زوجته ، وكل ذلك طبقاً لخطة أوين.
فهزّ آرمسترونغ رأسه وأعاد تأكيد النقطة المتعلقة بالسيانيد، ووافقه بلور، فقال: أجل، لقد نسيت ذلك، السيانيد ليس مادة يمكنك أن تحملها معك عادة ، ولكن كيف دخلَت كأسه يا ترى؟
فقال لومبارد: لقد فكّرت في ذلك. مارستون تناول عدّة كؤوس من الشراب في تلك الليلة، وكان بين الوقت الذي تناول فيه الكأس الأخيرة والوقت الذي أنهى فيه الكأس التي سبقتها فجوة وقتية، وخلال هذه الفجوة كانت كأسه موضوعة على إحدى الطاولات، وأعتقد أن كأسه كانت على الطاولة الصغيرة قرب النافذة، وكانت النافذة مفتوحة وبوسع شخص ما أن يدسّ جرعة من السيانيد في الكأس.
قال بلور بعدم تصديق: دون أن يراه أيّ منّا؟!
فقال لومبارد باقتضاب : كنّا جميعاً معنيّين بشيء آخر إلى حد ما.
قال آرمسترونغ ببطء: هذا صحيح، لقد أخذنا بغتة. كنّا نتحرك وندور في الغرفة نتجادل ساخطين منشغلين كلّ في شأنه، وأعتقد أنه كان بالإمكان فعل ذلك.
هزّ بلور كتفيه وقال: لعل الأمر حدث على هذا النحو. حسناً أيها السادة، هل يوجد أيّ احتمال بوجود مسدَّس مع أي منكم؟ أحسب أن هذا مطلب عسير.
فقال لومبارد وهو يربت على جيبه: أنا أحمل مسدساً.
فاتسعت عينا بلور كثيراً وقال بلهجة ودودة للغاية: هل تحمله معك دائماً؟
قال لومبارد: كثيراً ما أجد نفسي في أماكن خطيرة.
قال بلور: حقاً؟!
ثم أضاف منفعلاً: لعلك لم تكُن يوماً في مكان أخطر من هذا! إذا كان في هذه الجزيرة مخبول يختبئ فالأغلب أ، لديه ترسانة صغيرة من الأسلحة، ناهيك عن سكين أو خنجر مثلاً.
فسعل آرمسترونغ وقال: قد تكون على خطأ في هذه النقطة يا بلور؛ فكثير من المجرمين المعتوهين يبدون في غاية التواضع وتشعر بالارتياح معهم.
فقال بلور: لا أظن أن صاحبنا سيكون من هذا النوع يا دكتور آرمسترونغ.
-2-
خرج الرجال الثلاثة وبدؤوا جولتهم حول الجزيرة، فتبيّن لهم أن الأمر كان أبسط ممّا كان متوقَّعاً؛ فعلى الجهة الشمالية الغربية المطّلّة على الشاطئ كانت التلال الصخرية تنحدر عمودياً حتى البحر بشكل منتظم، ولم يكُن في بقاء أنحاء الجزيرة الكثير من الأشجار أو مما يكسو الأرض.
بدأ الرجال الثلاثة العمل بعناية وبشكل منهجي، فبدؤوا يمشّطون المنطقة من أعلى نقطة إلى أطراف الماء متفحصين بدقّة أيّ شيء غريب قد يظهر على سطح الصخرة ويشير إلى مدخل كهف أو تجويف، ولكن لم تكُن هناك أية كهوف. ووصلوا أخيراً إلى أطراف الماء في المنطقة التي كان يجلس فيها الجنرال ماك آرثر ينظر إلى البحر، وكان الجو هادئاً تماماً والأمواج تتحطم برفق فوق الصخور، وكان العجوز يجلس منتصباً وعيناه سارحتان في الأفق.
لم يُظهر العجوز أي اهتمام بمجموعة البحث عند اقترابها، وقد جعلت غفلتُه هذه أحدَ الرجال على الأقل يشعر بعدم الارتياح، فقال بلور لنفسه: هذا الأمر غير طبيعي! يبدو وكأنه في غفوة أو شيء من هذا القبيل.
ثم تنحنح وقال بلهجة تستدرج الحديث: إنها بقعة لطيفة وجدتَها لنفسك يا سيدي.
فقطّب الجنرال وألقى نظرة سريعة من فوق كتفه وقال: لم يعُد لديّ سوى القليل من الوقت، القليل من الوقت؛ أودّ أن أؤكّد على عدم إزعاجي.
قال بلور برقّة: لا نريد أن نزعجك، نحن فقط نقوم بجولة في الجزيرة إذا صحّ التعبير، نحاول أن نتبّين ما إذا كان أحدٌ يختبئ فيها.
فقطّب الجنرال ثانية وقال: أنت لا تفهم، أنت لا تفهم أبداً. انصرف من هنا أرجوك.
فتراجع بلور وقال حين انضمّ للآخرَين: هذا الرجل مجنون!
لا فائدة من التحدث معه.
سأله لومبارد ببعض الفضول: ماذا قال؟
فهزّ بلور كتفيه وقال: لقد تحدث عن عدم وجود وقت لديه وقال إنه لا يريد أن يزعجه أحد.
قطّب الدكتور آرمسترونغ حاجبيه وغمغم: تُرى ماذا يعني هذا؟!
-3-
انتهى البحث في الجزيرة ، ووقف الرجال الثلاثة على أعلى نقطة في الجزيرة ينظرون باتجاه الساحل، لم يروا أيّ قوارب، وكانت الريح قد أخذت تنشط.
قال لومبارد: لا توجد قوارب صيد في البحر وثمة عاصفة قادمة. أمر مزعج للغاية أن لا نستطيع رؤية القرية من هنا. ربما كان بإمكاننا إرسالة إشارة أو شيء من هذا القبيل.
قال بلور : قد نستطيع أن نشعل ناراً الليلة.
فقال لومبارد مقطّباً: المصيبة هي أن الحكاية معَدّة بإحكام مسبّقاً على الأرجح.
- وكيف ذلك يا سيدي؟
- كيف لي أن أعرف؟ ربما كانت دعابة ثقيلة... يُلقى بنا هنا ويُطلب من أهل القرية عدم الانتباه لأيّ إشارة تصدر عنّا... ربما كان أهل القرية قد بُلغّوا بأن رهاناً يجري هنا، أو أيّ قصة سخيفة من هذا القبيل.
فقال بلور بتشكك: هل تعتقد أنهم سيقتنعون بذلك؟
قال لومبارد بجفاء: هذا أسهل للتصديق مقارنة بالحقيقة. إذا قال لها: آه هذا أنت ؟ جلست فيرا إلى جانبه وقالت : هل تحب الجلوس هنا والنظر إلى البحر؟
فأومأ برأسه برفق وقال: نعم، إنه مكان لطيف، مكان جيّد ، وأظنه مكاناً جيّداً للانتظار.
فقال فيرا بحدّة: انتظار؟ ماذا تنتظر؟!
فقال بلطف: النهاية. ولكن أحسب أنك تعلمين، أليس كذلك؟ هذه هي الحقيقة، نحن جميعاً ننتظر النهاية.
قالت باضطراب: ماذا تعني؟
فقال الجنرال ماك آرثر بوقار: لن يغادر الجزيرة أحد منّا؛
هذه هي الخطة، وأنت تعرفين ذلك جيداً بالطبع، ولكن الذي قد لا تستطيعين فهمه هو الخلاص.
فتساءلت فيرا بحيرة: الخلاص؟!
فقال: طبعاً، أنت صغيرة ولم تصلي إلى الإحساس بهذا بعد، ولكنه سيأتي. الخلاص المبارَك عندما تعرفين أنك انتهيت من كل شيء، أنه لن يكون عليك أن تحملي العبء لمدة أطول. ستشعرين بهذا أيضاً يوماً ما.
فقالت فيرا بصوت أجش: أنا لا أفهمك.
وأخذت أصابعها تتحرك بتشنّج ، وشعرت فجأة بالخوف من هذا الجندي الهادئ العجوز الذي قال وقد استغرق في التفكير: أقول لك إنني أحببت ليزلي، أحببتها كثيراً.
فسألت فيرا مستفسرة: هل كانت ليزلي زوجتك؟
- نعم، زوجتي. لقد أحببتها وكنت فخوراً بها، كانت في غاية الجمال والمرح.
وصمت دقيقة أو اثنتين ثم قال: أجل، أحببت ليزلي، ولهذا فعلت ذلك.
فقالت فيرا: تعني...؟
وتوقفت عن الكلام فهزّ الجنرال ماك آرثر رأسه موافقاً وقال: لم يعُد الإنكار مفيداً الآن، ليس ونحن جميعاً على شفا الموت. لقد أرسلتُ ريتشموند إلى حتفه، وأعتقد أن ذلك يُعتبّر قتلاً على نحو ما. أمر غريب... جريمة ، وأنا الذي كنت دائماً ملتزماً بالقانون! ولكن الأمر لم يبدُ لي على هذا النحو وقتها. ولكنني لست نادماً، فهو يستحق ذلك تماماً. هذا ما فكرت به وقتها، ولكن فيما بعد...
قالت فيرا بصوت قاسٍ : حسنا، ماذا فيما بعد؟
فهز رأسه بغموض وبدا حائراً متألماً وقال: لا أعرف، لا أعرف. صارت الأشياء مختلفة. لا أعرف إذا كانت ليزلي قد خمّنَت شيئاً، لا أظن ذلك، ولكن أقول لك إنني ما عدت أعلم عنها شيئاً بعد ذلك؛ لقد ذهبت بعيداً إلى حيث لا أستطيع الوصول إليها، ثم ماتت وغدوتُ وحيداً.
قالت فيرا: وحيداً؟!
ورجّعَت الصخور صدى صوتها فقال الجنرال ماك آرثر: ستكونين سعيدة أيضاً عندما تأتي النهاية.
فنهضت فيرا وقالت بحدّة: لا أعرف ماذا تعني!
فقال: أنا أعرف يا طفلتي ، أنا أعرف.
- أنت لا تعرف شيئاً، لا تفهم شيئاً أبداً.
فنظر الجنرال ماك آرثر إلى البحر ثانية وبدا أنه لا يحس بوجودها خلفه، ثم قال برقّة ونعومة بالغة: ليزلي!
-5-
عندما عاد بلور من البيت ومعه حبل يلفّه حول ذراعه وجد آرمسترونغ حيث تركه ينظر إلى الأسفل، إلى الأعماق، قال بلور بنفَس متقطع: أين السيد لومبارد؟
فقال آرمسترونغ بلامبالاة: لقد ذهب يجرّب إحدى نظرياته وسيعود بعد دقيقة. استمع إليّ يا بلور، أنا قلق.
- نحن جميعاً قلقون يا عزيزي.
فلوّح الدكتور بيده في الهواء بصبر نافد وقال: طبعاً، ولكن ذلك ليس ما أعنيه. أنا أفكر في الجنرال ماك آرثر.
- ماذا عنه؟
فقال آرمسترونغ بقسوة: نحن بصدد رجل مجنون، فما رأيك في مارك آرثر؟
فقال بلور متشككاً: أتعني أن لديه نزعة للقتل؟
فقال آرمسترونغ بشيء من الشك: لا ينبغي لي أن أقول ذلك بأيّ حال، ولكن... أنا طبعاً لست متخصصاً في الأمراض العقلية ولم يسبق لي أن تحدثت معه باستضافة ، ولذلك لم يتسنَّ لي أن أدرسه من هذه الناحية.
قال بلور بشكّ أيضاً: عجوز خرِف! نعم، ولكن ليس بوسعي القول إن...
فقاطعه آرمسترونغ وهو يبذل جهداً خفيفاً كمن يستردّ رباطة جأشه وقال: ربما كنتَ على حق. اللعنة! لا بدّ من وجود أحد مختبئ في هذه الجزيرة. آه، ها هو لومبارد قادم.
وربطوا الحبل جيّداً وقال لومبارد: سأحاول جاهداً أن أقوم بالمهمّة بنفسي. راقبوا أيّ شدّ مفاجئ في الحبل.
وبعد دقيقة أو اثنتين وفيما كانا يقفان معاً يراقبان نزول لومبارد قال بلور: لومبارد يهبط بخفّة كالقط، أليس كذلك؟
كان في صوته شيء غريب فقال آرمسترونغ: يُخيَّل إلي أنه قد سبق له ممارسة التسلّق.
- ربما
حلّ الصمت هنيهة بينهما ثم قال المفتش السابق: إنه شخص من نوع غريب تماماً! هل تعرف فيمّ أفكر؟
- فيمَ؟
- في أن حقيقته مخالفه لما يبدو عليه.
فقال آرمسترونغ بتشكّك: من أيّ ناحية؟
فزفر ثم قال: لا أعرف بالضبط، ولكني لا أثق به إطلاقاً.
قال آرمسترونغ: أظن أنه عاش حياة حافلة بالمغامرات.
فقال بلور: أراهن أن بعض مغامراته مما لا يستطيع البوح به.
وتوقّف قليلاً ثم تابع: هل يُحتمل أن تكون قد أحضرتَ معك مسدَّساً يا دكتور؟
فحدّق إليه آرمسترونغ وقال: أنا ؟ يا إلهي! بالطبع لا. لماذا ينبغي أن أحضر مسدَّساً؟!
فقال بلور: ولماذا يحمل السيد لومبارد واحداً؟
فقال آرمسترونغ متشككاً: أظن أنها عادة.
زفر بلور زفرة قوية، وفجأة انشدّ الحبل فانشغلا لبضع لحظات، ثم ارتخى الحبل من جديد. قال بلور: توجد عادات وعادات... السيد لومبارد يأخذ معه مسدَّساً إلى أماكن خطيرة، وهذا معقول تماماً. ويأخذ معه موقداً أو كيس نوم وكمية من المسحوق المضادّ للحشرات، وكل ذلك لا غبار عليه، ولكن العادة لا تجعله يحضر معه كل تلك الأشياء إلى هنا؛ فالناس لا يحملون مسدَّسات معهم إلى في كتب المغامرات والروايات في العادة.
هزّ الدكتور آرمسترونغ رأسه بحيرة، ثم انحنيا وأخذا يرقبان لومبارد وهو يهبط. كان بحثه شاملاً، وكان بوسعهما أن يريا أنه كان بحثاً دون جدوى. ثم تسلّق عائداً وصعد إلى حيث كانا، فمسح العرق عن فوق جبينه ثم قال: حسناً، لا مناص؛ لا يمكن أن يكون إلاَ في البيت.
-6-
تم تفتيش البيت بسهولة. فتّشوا – أولاً- المباني الخارجية القليلة حوله، ثم حوّلوا انتباههم إلى المبنى الرئيسي نفسه.
لم تبقَ هناك أيّ مساحة مخفيّة لم يفتّشوها، وكان كل شيء واضحاً وبسيطاً؛ فالبناء عصري خالٍ من أيّ جزء خفيّ، فتّشوا الطابق الأرضي أولاً، وعندما صعدوا إلى الطابق الذي يحوي غرف النوم شاهدوا روجرز من خلال نافذة الدرَج يحمل صينية من كؤوس العصائر إلى الشرفة فقال فيليب لومبارد بمرح: كائن مدهش هذا الخادم الجيد! إنه يواصل عمله دون كلل أو ملل.
قال آرمسترونغ بإعجاب: كلمة حق يجبَ أن تُقال: روجرز خادم من الطراز الأول.
فقال بلور: زوجته أيضاً كانت طاهية جيّدة؛ ذلك العشاء ليلة أمس كان ممَّيزاً.
ودخلوا غرفة النوم الأولى، وبعد خمس دقائق اجتمعوا على رأس الدرَج بعد أن لم يجدوا أحداً مختبئاً، ولم يكُن يوجد مكان يمكن أن يختبئ فيه أحد.
قال بلور: ثمة سلّم صغير هنا.
فقال الدكتور آرمسترونغ: إنه يؤدّي إلى غرف الخدم في الأعلى.
فقال بلور: لا بدّ من وجود مكان داخل المنزل لخزّانات الماء أو ما شابه ذلك، هذه أفضل أماكن للاختباء ولا يوجد غيرها.
وعندئذٍ، وفيما كانوا يقفون هناك، سمعوا صوتاً يصلهم من أعلى. كان صوت حركة أقدام خفيف فوقهم، سمعوا جميعهم الصوت فأمسك آرمسترونغ بذراع بلور، أمّا لومبارد فقد رفع إصبعه محذّراً وقال: هدوء، أنصتوا.
وجاء الصوت ثانية، شخص يتحرك بخفّة وحذر فوقهم. وهمس آرمسترونغ، هذا الصوت صادر من غرفة النوم، الغرفة التي توجد فيها جثة السيدة روجرز.
فردّ بلور هامساً : طبعاً ، هذا أفضل مكان للاختفاء يمكن أن يختاره؛ فلا أحد يتوقع أن يذهب هناك. والآن أرجو الهدوء قدر الإمكان.
زحفوا خلسة صاعدين الدرَج وتوقفوا ثانية خارج باب غرفة النوم كان داخل الغرفة شخص ما وصوت خرير خافت فهمس بلور: الآن.
وفتح الباب بقوة مندفعاً للداخل يتبعه الرجلان الآخران و... ووقف الثلاثة مشدوهين؛ كان روجرز في الغرفة يحمل كومة من الملابس بين يديه!
-7-
كان بلور أول من استعاد رباطة جأشه فقال : نأسف يا روجرز؛ لقد سمعنا صوت حركة هنا وفكرناً ... حسناً...
وتوقف عن كلامه فقال روجرز: أنا آسف أيها السادة؛ كنت فقط أنقل أشيائي. أعتقد أنكم لا تمانعون إذا أخذت إحدى غرف الضيوف الخالية في الطابق الأوسط، أصغر غرفة.
كان يوجّه الحديث إلى آرمسترونغ الذي قال: لا نمانع بالطبع، تفضّل.
وتجنّب النظر إلى الجسد المغطّى بالملاءة على السرير، وقال روجرز: شكراً يا سيدي.
ثم خرج من الغرفة ويداه محمَّلتان بأمتعته ونزل الدرَج إلى الطابق الأوسط، وتحرّك آرمسترونغ إلى السرير فرفع الملاءة ونظر إلى الوجه الهادئ للمرأة الميتة. لم يكُن في وجهها خوف في تلك اللحظة بل كان وجهها خالياً من التعبيرات، فقال آرمسترونغ، أتمنّى لو كانت أدواتي معي هنا؛ أودّ معرفة نوع المادة التي تعاطتها.
ثم التفت إلى الرجلَين الآخرَين وقال: لننتهِ من هذه المهمّة لديّ أحساس بأننا لن نجد شيئاً.
كان بلور يعالج غطاء فتحة مجارٍ منخفضة وقال: ذلك الرجل يتحرك بسرعة، قبل دقيقة أو دقيقتين رأيناه في الحديقة ولم يسمعه أيّ منّا يصعد الدرَج.
قال لومبارد: أعتقد أن هذا هو ما جعلنا نعتقد أن شخصاً غريباً يتحرك هنا في هذه الغرفة.
واختفى بلور في تجويف مظلم فأخرج لومبارد من جيبه مصباحاً يدوياً وتبعه، وبعد خمس دقائق كان الرجال الثلاثة يقفون على رأس درَج علويّ ينظر بعضهم إلى بعض، وكانت ملابسهم متسّخة وقد علقت بها خيوط العناكب، وكانت وجوههم كالحة.
لم يكن على الجزيرة أحد سواهم هم الثمانية!
* * *
الفصل التاسع
-1-
قال لومبارد ببطء: لقد كنّا مخطئين طوال الوقت، صنعنا كابوساً من الوهم والخيال لمجرَّد تصادف وقوع حادثّتي وفاة.
فقال آرمسترونغ بصوت خفيض: ولكن – مع ذلك – فما زالت النظرية قائمة بغضّ النظر عن كل شيء؛ فأنا طبيب وأعرف شيئاً عن حالات الانتحار، وأنتوني مارستون لم يكُن من النوع الذي يمكن أن ينتحر.
فقال لومبارد متشككاً: ألا نستطيع الافتراض بأنه كان حادثاً؟
زفر بلور غير مقتنع وقال : هذه نوعيه عجيبة من الحوادث!
توقّف الحديث برهة ثم قال بلور : بخصوص تلك المرأة... وتوقف عن الحديث فسأله لومبارد: السيدة روجرز؟
- نعم ، ألا يحتمل بالنسبة لها أن موتها ربما كان حادثاً؟
فقال فيليب لومبارد: حادثاً! وكيف ذلك؟
بدا على بلور حرَج خفيف وأصبح وجهه المتورد أشدّ حمرة وقال بلا وعي تقريباً: انظر يا عزيزي، لقد أعطيتَها أنت علاجاً مسكّناً، أليس كذلك؟
حدّق إليه الطبيب وقال: علاجاً مسكناً؟ ماذا تعني؟
- الليلة الماضية قلتَ إنك أعطيتها شيئاً يساعدها على النوم.
- آه، نعم؛ كان عقاراً مسكناً لا ضرر منه.
- ماذا كان بالضبط؟
- أعطيتُها جرعة خفيفة من التريونال، وهو مستحضَر لا ضرر منه أبداً.
اشتدّت حمرة وجه بلور وقال: اعلم – يا سيدي – أنني لا أريد الحذلقة ، ولكن أريد أن أعرف إن كانت الجرعة زائدة.
فقال الدكتور آرمسترونغ بغضب: لا أفهم ماذا تعني.
فقال بلور: هذا ممكن، أليس كذلك؟ لعلّك ارتكبتَ خطأ فمثل هذه الأشياء تحدث أحياناً.
قال آرمسترونغ بحدّة: لم أفعل شيئاً من هذا القبيل. إن فكرتك غير معقولة.
وتوقف لحظة ثم أضاف بنبرة باردة ولاذعة : أم لعلك تقترح أنني أعطيتها جرعة زائدة متعمداً؟
فقال فيليب لومبارد بسرعة: أرجو أن تنصتا إليّ : نحن لا نريد أن نفقد عقولنا. دعونا لا نبدأ بتراشق الاتهامات.
قال بلور فجأة: كل ما قلته أن الطبيب ربما ارتكب خطأ.
أرغم الدكتور آرمسترونغ نفسه على الابتسام وقال وهو يكشف عن أسنانه بابتسامة قاسية: الأطباء لا يملكون ترف ارتكاب أخطاء كهذه يا صديقي.
فقال بلور بتروِّ ولهجة ذات معنى: لم يكُن ذلك أول خطأ لك... إذا أخذنا بما قيل في ذلك التسجيل.
فشحب وجه آرمسترونغ وقال لومبارد بسرعة وغضب موجّهاً الحديث إلى بلور: ما الفكرة من أن تجعل نفسك عدائياً؟ نحن جميعاً في قارب واحد وعلينا أن نتضامن معاً، ماذا عن حكاية اليمين الكاذب اللطيفة الموجَّهة لك؟
فخطا بلور خطوة إلى الأمام وقد تكوّرَت قبضتا يديه وقال بصوت أجشَ: يمين كاذب ملعون! تلك كانت كذبة حقيرة. بوسعك أن تحاول إسكاتي – يا سيد لومبارد – ولكن هنالك أشياء أريد أن أعرفها، وأحد هذه الأشياء عنك.
ارتفع حاجبا لومبارد وقال: عني؟
- نعم ، أودّ أن أعرف لماذا أحضرت معك مسدَّساً إلى هنا وأنت قادم في زيادة اجتماعية ودّية.
فقال لومبارد : تودّ أن تعرف، أليس كذلك؟
قال بلور: بلى، أريد أن أعرف يا سيد لومبارد.
فقال لومبارد بصورة غير متوقَّعة: أتعرف يا بلور؟ أنت لست معتوهاً كما تبدو.
- هذا جائز ، والآن ماذا عن المسدَّس؟
ابتسم لومبارد وقال: أحضرته لأنّي توقعت حدوث مشكلات.
فابتسم بلور متشككاً وقال: لم تُقل لنا ذلك ليلة أمس.
هزّ لومبارد رأسه فواصل بلور كلامه قائلاً: إذن فقد كنتَ تخفي الأمر عنّا.
قال لومبارد: بطريقة ما، نعم.
- حسناً ، تفضل وأخبرنا الآن.
قال لومبارد ببطء: لقد أوحيت لكم جميعاً بأني دُعيتُ إلى هنا بالطريقة نفسها مثل معظم الآخرين، ولكن ذلك لم يكُن صحيحاً تماماً. الواقع أن وسيطاً خسيساً اسمه موريس أتاني وعرض عليّ مئة جنيه لأحضر إلى هذه الجزيرة وأراقب ما يجري جيّداً، وقال إن لي سمعة حسنة كرجل يُحسن التصرف في المواقف الصعبة.
فاستحثّه بلور بصبر نافد قائلاً: حسناً، ثم ماذا؟
قال لومبارد بهمهمة : هذا كل ما هنالك.
فقال الدكتور آرمسترونغ: ولكن من المؤكَّد أنه أخبرك أشياء أكثر من ذلك.
- لا ، لم يفعل ؛ لقد أطبق فمه كالمحارة، وكان عليّ أن أقبل أو أرفض، كانت هذه كلماته، ولأنني كنت مفلساً فقد قبلت العرض.
بدا بلور غير مقتنع وقال: لِمَ لم تخبرنا بذلك ليلة أمس؟
فهزّ لومبارد كتفيه استنكاراً وقال: كيف كان بوسعي أن أعرف – يا عزيزي – أن ليلة أمس لم تكُن هي بالضبط الحدَث المحتمَل الذي جئتُ من أجله؟ لذلك لذتُ بالصمت ورويتُ قصة لا تُلزمني بشيء.
قال الدكتور آرمسترونغ ساخراً: ولكن تفكيرك اختلف الآن؟
فتغيرت ملامح لومبارد وعبس وجهه وتصلّب وقال: أجل، الآن أنا أعتقد أنني في القارب نفسه معكم. تلك الجنيهات المئة كانت قطعة الجبن الصغيرة التي وضعها لي السيد أوين طُعماً للوقوع في المصيدة معكم.
وأضاف ببطء: نحن جميعاً في مصيدة، أقسم على ذلك. موت السيدة روجرز وتوني مارستون، اختفاء تماثيل الجنود الصغار من فوق طاولة الطعام. نعم، نعم ، إن يد السيد أوين واضحة في الموضوع ، ولكن أين ذلك الوغد السيد أوين نفسه؟!
عندئذ دقّ الجرس في الطابق السفلي داعياً إلى الغداء.
-2-
كان روجرز واقفاً إلى جانب باب غرفة الطعام، وحين رأى الرجال الثلاثة ينزلون الدرَج خطا إلى الأمام خطوة أو اثنتين وقال بصوت خفيض يشوبه القلق: آمل أن يكون الطعام المعَدّ مرضياً لكم. لدينا شرائح من اللحم البارد وقد سلقتُ بعض البطاطا، ولدينا أيضاً جبن وبعض الفواكه المعلَّبة.
قال لومبارد: لا بأس بكل ذلك. إذن فالمؤن جيدة.
- الطعام وفير يا سيدي ؛ يوجد هنا الكثير من الأطعمة المعلَّبة وثلاجة اللحوم مملوءة جيداً. هذا ضروري – يا سيدي – في جزيرة قد ينقطع فيها المرء عن الساحل فترة طويلة.
أومأ لومبارد موافقاً: وغمغم روجرز وهو يتبع الرجال الثلاثة إلى داخل غرفة الطعام: يعتريني القلق لأن فريد ناراكوت لم يحضر هنا اليوم. يمكن للمرء أن يقول إنه سوء حظ غريب.
قال لومبارد: أجل ، سوء حظ غريب، هذا وصف جيّد للحالة.
دخلت الآنسة برنت الغرفة وكانت قد أسقطت لفة من الصوف لتوّها وأخذَت تعيد لفّ الخيط من جديد، وفيما كانت تأخذ مقعدها إلى المائدة علّقَت قائلة: الطقس يتغيّر، أصبحت الريح قوية جداً والأمواج البيضاء تملأ سطح البحر كالخيل.
ودخل القاضي وارغريف بخطوات بطيئة متزنة وجال بعينيه على بقيّة الجالسين حول المائدة بنظرات سريعة من تحت حاجّبيه الكثيفين ثم قال: أظنكم قضيتم صباحاً مفعماً بالنشاط.
كان في صوته رنّة ابتهاج يشوبها بعض الخبث، ثم دخلت فيرا كلايثورن على عجل فقالت وهي تلتقط أنفاسها: آمل أنكم لم تنتظروني. هل تأخرت عليكم؟
فقالت إميلي برنت: أنت لستِ آخر من يحضر؛ الجنرال لم يأتِ بعد.
جلسوا حول الطاولة فقال لورجز مخاطباً الآنسة برنت: هل ستبدئين يا سيدتي أم ستنتظرين؟
فقالت فيرا: الجنرال ماك آرثر يجلس على طرف البحر، ولا أتوقع أن يكون بوسعه سماع الجرس هناك على أية حال.
وتردّدَت قليلاً ثم أضافت: أعتقد أنه يتصرف بغرابة إلى حدّ ما هذا اليوم.
فقال روجرز بسرعة: سأذهب وأخبره أن الغداء جاهز.
فقفز الدكتور آرمسترونغ وقال: سأذهب أنا، ابدؤوا أنتم بتناول طعامكم.
وغادر الغرفة، وسمع من خلفه صوت روجرز يقول: أتريدين لحماً بارداً يا سيدتي؟
-3-
بدا أن الخمسة الجالسين حول الطاولة يجدون صعوبة في تبادل الحديث، وفي الخارج كانت هبّات من الريح تشتدّ ثم تتلاشى فارتعشت فيرا قليلاً وقالت: أظن أن العاصفة قادمة.
وأدلى بلور بدلوه في الحوار فقال بلهجة من يريد فتح باب الحديث: رجل عجوز في القطار القادم من بلايموث أمس ظلّ يقول طول الوقت إن عاصفة قادمة. كم تدهشني معرفة البحّارة العجائز بالطقس!
دار روجرز حول المائدة يجمع أطباق اللحوم، وفجأة توقُف والأطباق لا تزال في يدَيه وقال بصوت غريب ومذعور: هناك شخص يجري.
كان بوسع الجميع سماع الصوت، صوت أقدام تجري على طول الشرفة! وقد عرفوا الخبر في تلك اللحظة دون أن يخبرهم أحد ، ودون اتفاق مسبّق وثبوا جميعاً على أقدامهم ووقفوا ينظرون باتجاه الباب، وظهر الدكتور آرمسترونغ لاهثاً وقال: الجنرال ماك آرثر...
فقالت فيرا: مات؟!
انطلقت الكلمة من فم فيرا كالانفجار، فقال آمسترونغ: نعم، لقد مات!
وسادت برهة من الصمت، برهة طويلة، ونظر الأشخاص السبعة بعضهم إلى بعض دون أن يجدوا شيئاً يقولونه.
-4-
بدأت العاصفة تهبّ ، وبينما كانت جثة الرجل العجوز تُنقَل عبر الباب كان البقية يقفون في القاعة، وإذ أخذ المطر ينهمر تصاعد صوت خفيف لتساقط المياه على الأرض مصحوباً بزئير العاصفة. وبينما كان بلور وآرمسترونغ يصعدان الدرَج بحملهما استدارت فيرا فجأة وذهبت إلى غرفة الطعام المهجورة. كانت كما تركوها وطبق الحلوى على الطاولة الجانبية لم يمسَسُه أحد.
خطت فيرا نحو الطاولة... وكانت لا تزال هناك بعد دقيقة أو اثنتين عندما دخل روجرز بهدوء إلى الغرفة ففوجئ بوجودها، ثم لاح سؤال في عينه وقال: عفواً يا آنسة، أنا ... لقد جئت لأرى...
وبصوت عالٍ أجشّ فاجأها هي نفسها قالت فيرا: أنت محقّ تماماً يا روجرز، انظر بنفسك، هناك سبعة تماثيل فقط!
-5-
كانت جثة الجنرال ماك آرثر قد سُجيّت على سريره، وأجرى آرمسترونغ فحصاً أخيراً ثم غادر الغرفة ونزل إلى الطابق الأرضي فوجد الآخرين مجتمعين في غرفة الجلوس. كانت الآنسة برنت تشتغل بالصوف في حين كانت فيرا كلايثورن واقفة بجوار الشبّاك تنظر إلى المطر المتساقط، وجلس بلور باعتدال على كرسيّ ويداه على ركبتيه، وكان لومبارد يذرع الغرفة جيئة وذهاباً، وفي الطرَف الآخر من الغرفة جلس القاضي وارغريف في كرسيّ مريح وعيناه نصف مغمضتين.
فتح وارغريف عينيَه عندما دخل آرمسترونغ الغرفة وقال بصوت واضح: حسناً يا دكتور، ما الوضع؟
بدا آرمسترونغ شاحباً جداً وقال : لم يُصّب بنوبة قلبية أو بأي شيء من هذا القبيل، لقد ضُرب ماك آرثر بهراوة أو بشيء مماثل على مؤخّرة رأسه!
سرَت همهمة بين الحضور ، ولكن صوت القاضي ارتفع بوضوح مرة أخرى قائلاً: هل وجدت الأداة الفعلية التي تمّ استخدامها؟
- لا.
- وهل أنت متأكد من الحقائق التي توصلتَ إليها؟
- نعم، متأكد تماماً.
- قال القاضي وارغريف بهدوء: نحن نعرف أين نحن الآن بالضبط.
لم يوجد شك حول من يتولى زمام الموقف في تلك اللحظة. وارغريف كان قد قضى صباح ذلك اليوم منغرساً في كرسيّه في الشرفة ممتنعاً عن ممارسة أيّ نشاط، ولكنه أصبح يتولى القيادة بالسلاسة التي تتيحها عادة ممارسة السلطة لوقت طويل. كان يرأس المحكمة دون شك.
تنحنح القاضي وقال مرة أخرى: كنتُ في أثناء جلوسي هذا الصباح في الشرفة – أيها السادة – أراقب تصرفاتكم، ولم يكُن لديّ سوى القليل من الشك حول ما كنتم تسعون إليه، كنتم تفتّشون الجزيرة بحثاً عن قاتل مجهول.
فقال فيليب لومبارد: هذا صحيح تماماً يا سيدي.
تابع القاضي: ولقد وصلتم إلى النتيجة ذاتها التي توصلت أنا إليها دون شك، وهي أن موت أنتوني مارستون والسيدة روجرز لم يكُن نتيجة حادثٍ أو انتحار، كما أنكم توصلتم إلى استنتاج معيَّن حول قصد السيد أوين من استدراجنا إلى هذه الجزيرة بالتأكيد.
فقال بلور بصوت أجشّ : هذا الرجل مجنون معتوه!
فسعل القاضي وقال: هذا مؤكَّد تقريباً: ولكنه بالكاد يؤثّر على الموضوع. اهتمامنا الرئيسي الآن هو إنقاذ حياتنا.
قال آرمسترونغ بصوت متهدّج: لا يوجد أحد في الجزيرة، أؤكّد لكم انه لا أحد في الجزيرة.
فمسح القاضي على ذقنه وقال بلطف: بالمعنى الذي تقصده: نعم. لقد توصلتُ إلى هذا الاستنتاج في وقت مبكّر هذا الصباح، وكان بوسعي أن أقول لكم إن بحثكم سينتهي دون جدوى، لكنني – مع ذلك – أتبّنى بشدّة الرأي القائل إن السيد أوين (ولنستخدم الاسم الذي أعطاه هو لنفسه) موجود في هذه الجزيرة. هذا شبه مؤكَّد، وإذا أمعَنا النظر في تلك المسألة المحيّرة، ألا وهي – دون زيادة أو نقصان – إنفاذ حكم القضاء بحقّ أشخاص معَّينين لارتكابهم جرائم لا يثبتها القانون، فسنجد انه توجد طريقة واحدة لتنفيذ هذه الخطة. السيد أوين لا يمكن أن يكون على الجزيرة إلاَ بطريقة واحدة أيها السادة، وهي أن يكون واحداً منّا.
-6-
صرخت فيرا كما لو كانت تئنّ : يا إلهي ! لا ، لا ، لا !
فرمقها القاضي بنظرة حادّة وقال: عزيزتي السيدة الشابة، ليس هذا وقت رفض مواجهة الحقائق. نحن جميعاً نواجه خطراً قاتلاً، أحدنا هو أوين ولا نعرف من يكون بيننا. من بين الأشخاص العشرة الذين أتوا إلى هذه الجزيرة ثلاثة تأكدَت براءتهم، أنتوني مارستون والسيدة روجرز والجنرال ماك آرثر أصبحوا خارج دائر الشك. بقي سبعة منّا، ومن بين هؤلاء السبعة واحد سأدعوه " الجندي الصغير المزيَّف ".
وتوقّف قليلاً ونظر حوله ثم سأل: هل أفهم أنكم جميعاً توافقونني الرأي؟
فقال آرمسترونغ: هذا شيء كالخيال، ولكني أعتقد أنك على حق.
وقال بلور: لا شك في ذلك، وإذا سألتموني فلديّ فكرة جيدة جداً.
ولكن القاضي وارغريف أوقفه بإشارة من يده وقال بهدوء: سنصل إلى ذلك فيما بعد. كل ما أريده الآن هو التأكّد من أننا جميعاً متفقون حول الحقائق.
قالت إميلي برنت وهي لا تزال تشتغل بحياكة الصوف: نظريتك تبدو منطقية، أنا أوافق أن أحدنا يتملكه شيطان.
وغمغمت فيرا: لا أستطيع أن أصدّق، لا أستطيع.
فقال وارغريف: وماذا عنك يا لومبارد؟
- أوافقك يا سيدي، أوافقك تماماً.
فأومأ القاضي برأسه بارتياح وقال: الآن دعونا نفحص الأدلة.
بداية: هل من سبب للاشتباه في شخص معيِّن ؟ أعتقد أن لديك ما تقوله يا سيد بلور.
تنفّس بلور بصعوبة وقال: لومبارد معه مسدّس، وهو لم يَقُل الحقيقة ليلة أمس، وقد أعترف بذلك.
فابتسم لومبارد باستهزاء وقال: أعتقد أن من الأفضل أن أشرح الأمر ثانية.
وشرح الموضوع سارداً القصة بشكل موجَز ومحكَم فقال بلور بحدّة: ماذا لديك من إثباتات؟ لا يوجد ما يعزّز روايتك.
فسعل القاضي وقال: نحن جميعاً في هذا الوضع؛ ليس لدينا من دليل سوى كلامنا لسوء الحظ.
ثم انحنى إلى الأمام قليلاً وأضاف: ليس بينكم من استوعب غرابة الموقف الذي نحن فيه حتى الآن، وفي رأيي أنه يوجد أسلوب واحد يمكن الأخذ به. هل يمكننا استبعاد أحد من الشك بناء على الأدلة الموجودة لدينا؟
فقال الدكتور آرمسترونغ بسرعة: أنا رجل مهنيّ معروف، ومجرّد فكرة أنني قد أكون موضع اشتباه...
فأشار القاضي وارغريف بيده مرة أخرى فأوقف المتحدث قبل الانتهاء من كلامه وقال بصوته الهادئ الواضح: أنا أيضاً رجل معروف جيّداً، ولكن هذا لا يثبت شيئاً يا سيدي. بعض الأطبّاء والقضاة أصيبوا بالجنون.
ثم نظر إلى بلور وقال مكملاً: وكذلك رجال شرطة.
قال لومبارد: أيّاً كان الأمر، أعتقد أنك سوف تستثني النساء من ذلك.
فارتفع حاجبا القاضي وقال بنبرة السخرية اللاذعة التي يجيدها: هل أفهم من هذا أنك تؤكّد أن النساء ليست لديهنّ نزعات إجرامية؟
فقال لومبارد متضايقاً: بالطبع لا، ولكن يبدو هذا احتمالاً صعباً.
وتوقف عن كلامه فقال القاضي وارغريف بنفس الصوت الهادئ اللاذع: أعتقد – يا دكتور آرمسترونغ – أن أي امرأة قادرة جسدياً على توجيه ضربة كتلك التي قتلت المسكين ماك آرثر.
فقال الطبيب بهدوء: تستطيع تماماً إذا توفرت لها أداة مناسبة كهراوة أو نحو ذلك.
- هل يتطلب هذا استخداماً مفرطاً في القوة؟
- لا ، ابداً.
لوى القاضي وارغريف عنقه الشبيهة بعنق السلحفاة وقال: حادثتا الوفاة الأخريان نتجتا عن استخدام عقاقير طبية، وهذه سهلة التنفيذ بواسطة أيّ شخص لدية أدنى قدرة جسدية دون جدال.
فصاحت فيرا بغضب: أعتقد أنك تهذي!
فتحركت عيناه ببطء حتى استقرّتا عليها، وكانت النظرة الباردة لرجل اعتاد جيداً على تقييم الناس، فقالت فيرا لنفسها: " إنه ينظر إليّ فقط كـ... كمثال، و..."، ثم واتتها الفكرة بدهشة حقيقية فقالت لنفسها: وهو لا يحبني كثيراً!
قال القاضي بنبرة متزنة: سيدتي الشابة العزيزة، حاولي كبح مشاعرك . أنا لا أتهمك.
ثم انحنى للآنسة برنت وقال: آمل – يا آنسة برنت – أن لا أضايقك بإصراري على أننا جميعاً متساوون في أن تكون عرضة للاشتباه.
كانت إميلي برنت تحيك الصوف، وقالت دون أن ترفع رأسها وبصوت بارد: إن فكرة اتهامي بقتل شخص من بني الإنسان، ناهيك عن قتل ثلاثة أشخاص، فكرة سخيفة تماماً – بالطبع – لكل من يعرف شيئاً عن طبيعة شخصيتي. ولكني أقدّر حقيقة أننا جميعاً غرباء بعضنا بالنسبة لبعض، وأنه في ظروف كهذه لا يمكن استثناء أحد دون أدلّة وافية.
قال القاضي : إذن فنحن متفقون، لا يمكن استثناء أحد على أساس الشخصية أو المركز فقط.
فقال لومبارد: وماذا عن روجرز؟
فقال القاضي وهو ينظر إليه دون أن تطرف عيناه: وماذا عنه؟
قال لومبارد : حسناً ، في رأيي أن روجرز مستثنى تماماً.
فقال القاضي وارغريف حقاً؟ على أيّ أساس؟
قال لومبارد: أولاً ليس لديه الكثير من الذكاء، وثانياً زوجته كانت إحدى الضحايا.
فارتفع حاجبا القاضي مرة اخرى وقال: في أيام خدمتي – أيها الشاب – وقف أمامي أشخاص عديدون متّهمون بقتل زوجاتهم، وثبت أنهم مذنبون.
- أنا موافق تماماً، إن قتل الزوجات محتمَل تماماً، بل لنقل إنه يكاد يكون طبيعياً، ولكن ليس هذا النوع بالذات. يمكنني أن أصدّق أن روجرز قتل زوجته لأنه كان يخشى أن تنهار وتفضح أمره، أو لأنه لم يعُد يحبها، أو لأنه يريد الارتباط بامرأة جميلة أصغر سناً... ولكن لا أرى من المحتمل أن يكون هو السيد أوين المعتوه ويريد إحقاق عدل مجنون بدءاً بزوجته هو لجريمة ارتكباها معاً.
فقال القاضي وارغريف : أنت تفترض شهادة سماعية كدليل. نحن لا نعرف أن روجرز وزوجته تآمرا لقتل مستخدِمتهما، وقد تكون تلك إفادة كاذبة قيلت لكي يبدو روجرز بنفس الوضع الذي نحن فيه. ربما كان ذعر السيدة روجرز ليلة أمس ناتجاً عن حقيقة إدراكها أن زوجها أصابه مسّ من الجنون.
قال لومبارد: حسناً، خذ الأمر كما تشاء؛ أوين واحد منّا ولا أحدَ مستثنى، وجميعنا مؤهَّلون لهذا الاحتمال.
قال القاضي وارغريف: النقطة التي أريد التركيز عليها هي انه يجب عدم السماح بأية استثناءات على أساس الشخصية أو المركز أو الاحتمالية. ما يتعيّن علينا الآن البحث فيه هو مدى احتمال استثناء شخص أو أكثر من بيننا على أساس الحقائق. بعبارة أبسط: هل بيننا شخص أو أكثر لا يُحتمَل ان يكون قد وضع السيانيد لأنتوني مارستون، أو جرعة منوّم زائدة للسيدة روجرز. أو لم تكُن لديه فرصة لتوجيه الضربة التي قتلت الجنرال ماك آرثر؟
فأضاء وجه بلور الذي كان متجهماً وانحنى بجسمه إلى الأمام وقال: الآن أنت تضع النقاط على الحروف يا سيدي، هذا هو صلب الموضوع ولندخل في تفصيلاته الآن، بالنسبة لمارستون لا أعتقد أن بالإمكان إضافة أيّ شيء. لقد طُرحت فكرة مفادها أنّ شخصاً ما من الخارج قد دسّ له شيئاً في كأسه قبل أن يملأها للمرة الأخيرة، والواقع أن شخصاً من داخل الغرفة كان بوسعه فعل ذلك بسهولة أكبر. أنا لا أذكر ما إذا كان روجرز داخل الغرفة عندئذ أم لا، ولكن أيّ شخص منّا نحن الآخرين كان بوسعه ذلك.
وتوقف لحظة ثم تابع: والآن خذ مثلاً تلك المرأة السيدة روجرز، الأشخاص الأبرز فيما يتعلق بها هم زوجها والطبيب، وكلاهما كان بوسعه تنفيذ الأمر بكل سهولة.
فانتفض آرمسترونغ واقفاً على قدميه مرتجفاً وقال: أنا أحتجّ ؛ هذا كلام لا أساس له أبداً. أقسم أن الجرعة التي أعطيتها لتلك المرأة كانت في غاية الـ...
فقال القاضي بصوت غاضب مهيب منخفض النبرة: دكتور آرمسترونغ!
فلم يكمل آرمسترونغ عبارته وتابع القاضي بصوته المنخفض الهادئ: من الطبيعي أن تغضب ، ولكن عليك أن تعترف أنه لا بدّ من مواجهة الحقائق. أنت وروجرز كان بإمكانكما دسّ جرعة مميتة بكل سهولة. والآن فلنستعرض موقف بقية الحاضرين. ما فرصتي أنا ؟ وما فرصة المفتش بلور أو الآنسة كلايثورن أو السيد لومبارد؟ ما فرصة أيّ من هؤلاء في وضع السم؟ هل بالإمكان استبعاد أي منّا كلّياً؟
وتوقف قليلاً ثم قال: لا أظن ذلك.
قالت فيرا بغضب: أنا لم أقترب من تلك المرأة، يمكنكم جميعاً أن تُقسموا على ذلك.
فانتظر القاضي وارغريف لحظة ثم قال: بقدر ما تسعفني ذاكرتي كانت الحقائق كما يلي، وأرجو منكم تصحيحي إذا كان في كلامي أي خطأ: السيدة روجرز حُمِلت إلى الأريكة بواسطة السيد مارستون والسيد لومبارد، الدكتور آرمسترونغ ذهب إليها لمعاينتها وأرسل روجرز لإحضار العصائر، ثم برز سؤال حول مصدر الصوت الذي كنّا قد سمعناه للتو فذهبنا جميعاً إلى الغرفة المجاورة ما عدا الآنسة برنت التي بقيّت في الغرفة وحدها مع المرأة فاقدة الوعي.
احمرّت وجنتا الآنسة برنت قليلاً وتوقفت عن الحياكة قائلة: هذا فظيع!
وتابع الصوت الخفيض القاسي: عندما عدنا إلى الغرفة كنت أنت – يا آنسة برنت – منحنية على المرأة المطروحة على الأريكة.
فقالت إميلي برنت: هل التعاطف الإنساني جريمة؟
فقال القاضي وارغريف : أنا أؤكّد الحقائق فقط. بعد ذلك دخل روجرز ومعه المرطبات التي كان بوسعه أن يضع فيها ما يشاء بالطبع قبل دخول الغرفة، وأعطى العصير للمرأة، وبعد ذلك بفترة قصيرة قام كل من زوجها والدكتور آرمسترونغ بمساعدتها في الصعود إلى غرفة نومها، وهناك أعطاها الدكتور آرمسترونغ مُسكّناً.
قال بلور: هذا ما حدث بالضبط، وهذا يستبعد من الموضوع القاضي والسيد لومبارد وأنا والآنسة كلايثورن.
كان صوته عالياً ومبتهجاً ، فرماه القاضي وارغريف بنظرة باردة وغمغم: حقاً؟ هل هذا صحيح؟ يجب أن نضع في حسابنا كل الاحتمالات الممكنة.
فنظر إليه بلور وقال: لا أفهم ما تعني؟
فقال القاضي وارغريف: في غرفتها في الأعلى كانت السيدة روجرز ممدَّدة على السرير، وكان المُسكّن الذي أعطاها إياه الطبيب قد بدأ يأخذ مفعوله، كانت ترقد مستسلمة تغالب النوم على نحو ما. لنفرض أن الباب دُق في لحظة ما ودخل شخص ومعه قرص أو جرعة دواء مثلاً، وقال لها إن الطبيب يريد منها تناول هذا. فهل تتصورون للحظة واحدة أنها لن تبتلع ذلك الدواء بكل طواعية ودون تردد؟
ساد الصمت وبدّل بلور وضع قدميه وقطب جبينه، وقال فيليب لومبارد: لا أصدّق هذه الفرضية للحظة واحدة، ثم إنه لا أحد منًا غادر هذه الغرفة لعدة ساعات بعدها بسبب حادثة وفاة مارستون وما إلى ذلك.
قال القاضي: كان بوسع أيّ واحد منا (أو واحدة) أن يغادر غرفته ( أو غرفتها) في وقت لاحق.
فاعترض لومبارد قائلاً: ولكن كان متوقَّعاً أن يكون السيد روجرز هناك.
تململ الدكتور آرمسترونغ وقال: لا ، روجرز نزل لتنظيف وترتيب غرفة الطعام والمطبخ، وكان بوسع أيّ شخص أن يصعد إلى غرفة المرأة دون أن يراه أحد.
قالت إميلي برنت: بالتأكيد – يا دكتور – ستكون المرأة مستغرقة عندئذ في النوم بفعل تأثير المسكّن الذي أعطيتَها إياه.
- في الغالب، نعم، ولكن هذا ليس مؤكَّداً مئة بالمئة؛ فأنتِ لا تستطيعين معرفة كيفية استجابة المرضى لمختلف الأدوية إلاّ إذا كنتِ قد وضعتِ الدواء للمريض أكثر من مرّة. أحياناً تمرّ فترة طويلة قبل أن يأخذ المسكّن مفعوله. الأمر يعتمد على مدى حساسية المريض لذلك الدواء بالذات.
قال لومبارد: طبعاً كنت ستقول ذلك يا دكتور؛ إنه يناسبك، أليس كذلك؟
وتدخّل صوت القاضي الهادئ البارد ثانية مقاطعاً: لا فائدة من تبادل الاتهامات، علينا التعامل مع الحقائق فقط، أعتقد أنه من الثابت الآن أن شيئاً كالذي وصفتُه لكم محتمَل الحدوث، وأنا أؤيّد أن درجة الاحتمال ليست عالية، ولكن ذلك يعتمد على شخصية مَن يُحتمَل أن يكون قد قام بذلك العمل؛ فظهور الآنسة برنت أو الآنسة كلايثورن في مهمّة كهذه لن يثير دهشة لدى المريضة، وصحيح أن ظهوري أنا أو السيد بلور أو السيد لومبارد سيكون أمراً غير عادي على الأقل، ولكني لا أزال أعتقد أن زيارة كهذه لن تثير أية شكوك حقيقية.
قال بلور: وأين يؤدّي بنا ذلك؟
قال القاضي وارغريف وهو يربّت على شفته ويبدو بمنتهى القسوة والجمود: لقد بحثنا في الجريمة الثانية حتى الآن، وتوصلنا إلى حقيقة أنه لا يمكن استبعاد أيّ منّا تماماّ من الاشتباه.
وتوقف قليلاً ثم تابع: نأتي الآن إلى موت الجنرال ماك آرثر الذي حدث هذا الصباح. سوف اسأل كل مَن يعتبر أن لديه أو لديها حجة غياب أن يقول لنا حجّته بكل وضوح. أنا عن نفسي أقول مباشرة إنه ليس لديّ حجة مؤكّدة؛ لقد قضيت فترة الصباح جالساً في الشرفة متأملاً الوضع الفريد الذي صرنا جميعاً فيه. جلستُ على ذلك الكرسي في الشرفة طول الصباح حتى دقّ الجرس، ولكن يخيَّل إليّ أنني مرّت بي فترات لم أكن خلالها مراقَباً من أحد، وكان بوسعي خلال هذه الفترات أن أنزل إلى الشاطئ فأقتل الجنرال وأعود إلى حيث كنت أجلس، ولا يوجد ما يدعم حقيقة أنّي لم أغادر الشرفة إلا كلمتي أنا، وفي أحوال كهذه لا يكفي هذا ولا بدّ من وجود إثبات. قال بلور أنا كنتُ مع السيد لومبارد والدكتور آرمسترونغ طوال الصباح، وهما يشهدان على ذلك. فقال الدكتور آرمسترونغ : لقد ذهبتَ إلى البيت لإحضار حبل.
قال بلور: طبعاً حصل هذا، ذهبتُ مباشرة وعدتُ مباشرة، أنت تعرف هذا.
فقال آرمسترونغ: لقد غبتَ فترة طويلة.
أحمرّ وجه بلور وقال: ماذا تعني يا دكتور آرمسترونغ؟
فأجاب آرمسترونغ : كل ما قلتُه إنك غبت لمدة طويلة.
- كان عليّ أن أجد الحبل ، أليس كذلك؟ لا يمكنك أن تجد لفّة حبل خلال دقيقة.
قال القاضي وارغريف: خلال غياب السيد بلور هل كنتما معاً أيها السادة؟
فأجاب آرمسترونغ بحرارة: بالتأكيد، أعني... لقد غادر لومبارد لبضع دقائق وأنا بقيت في مكاني.
قال لومبارد مبتسماً: كنتُ أودّ اختبار احتمال إرسال إشارات بمرآة إلى البر، وأردت معرفة أفضل نقطة لذلك. لقد تغيّبتُ لمدة دقيقة أو اثنتين.
أومأ آرمسترونغ موافقاً وقال: هذا صحيح، لم يكُن وقتاً يكفي لارتكاب جريمة، أؤكّد ذلك.
قال القاضي : هل نظر أيّ منكما إلى ساعته؟
- حسنا ، لم يفعل أحدنا هذا.
قال فيليب : أنا لم أكُن أحمل ساعة.
قال القاضي بهدوء : دقيقة أو اثنتان تعبير غامض.
ثم التفت برأسه إلى المرأة الجالسة بهيئة معتدلة وفي حضنها أشغال الصوف وقال: وأنت يا آنسة برنت؟
فقال الآنسة برنت: لقد تمشّيتُ مع الآنسة كلايثورن إلى قمة الجزيرة، وبعد ذلك جلست في الشمس في الشرفة.
قال القاضي : لا أعتقد أنني رأيتك هناك.
- هذا صحيح؛ كنت خلف زاوية البيت من الجهة الشرقية بعيداً عن مهبّ الريح.
- وهل جلستِ هناك حتى وقت الغداء؟
- نعم.
- وأنتِ يا آنسة كلايثورن؟
أجابت فيرا بسرعة ووضوح : كنت مع الآنسة برنت في وقت مبكّر من هذا الصباح، ثم تجوّلتُ قليلاً،
ثم نزلت وتحدثت إلى الجنرال ماك آرثر و...
فقاطعها القاضي وارغريف: متى كان ذلك؟
كانت فيرا غير محدَّدة للمرة الأولى وقالت: لا أعرف ، أظنه كان قبل الغداء بنحو ساعة، أو لعلّه كان قبل ذلك
سأل بلور: هل كان ذلك بعد أن تحدثنا معه أم قبل ذلك؟
قالت فيرا: لا أعرف، لقد... لقد بدا غريباً جداً!
وسرَت رعشة في جسمها، فقال القاضي مستفسراً: كيف بدا لك غريباً؟
فقالت فيرا بصوت خفيض: قال إننا جميعاً سوف نموت، وقال إنه كان ينتظر النهاية! لقد.... لقد أخافني.
أومأ القاضي وقال: ماذا فعلتِ بعد ذلك؟
- عدت إلى البيت ، وقبل الغداء مباشرة خرجتُ ثانية وذهبت خلف المنزل. لقد كنت قلقة للغاية طوال الصباح.
قال القاضي وارغريف: بقي روجرز، رغم أنني أشك في انّ إفادته ستضيف شيئاً لِما تجمع لدينا من معلومات.
-7-
حين مَثُل روجرز أمام المحكمة لم يكُن لديه الكثير ليقوله؛ كان مشغولاً طوال الصباح بأعمال البيت وإعداد الغداء، وقبل الغداء قدّم بعض المرطبات في الشرفة ثم ذهب لنقل أمتعته من غرفة السطح إلى غرفة أخرى. لم ينظر من النافذة خلال الصباح ولم يرَ شيئاً قد تكون له صلة بموت الجنرال ماك آرثر، وهو يقسم بأنه كان على طاولة الطعام ثمانية تماثيل خزفية عندما كان يُعِدّ المائدة للغداء.
عندما انتهى روجرز من إفادته ساد صمت قصير وتنحنح القاضي وارغريف، وغمغم لومبارد هامساً لفيرا كلايثورن: سوف يلخّص القضية الآن.
قال القاضي: لقد حققنا في ظروف حالات الوفاة الثلاث هذه بأفضل ما استطعنا، وفي حين أن الاحتمالية في بعض القضايا ليست في صالح أشخاص معَّينين كانوا موضع اشتباه إلا أننا لا نستطيع ان نقول إن أيّ واحد منّا يمكن اعتباره بريئاً بشكل مؤكّد. أؤكّد قناعتي التامّة بأن أحد الأشخاص السبعة الموجودين في هذه الغرفة مجرم خطير، وهو مختلّ العقل على الأرجح. ليس أمامنا دليل حول هذا الشخص، وكل ما نستطيع أن نفعله في هذه المرحلة هو بحث الإجراءات التي يمكننا اتخاذها للاتصال بالبر طلباً للنجدة، ولكن إذا ما تأخرت النجدة (وهو أمر محتمَل جداً بسبب حالة الطقس) فما الإجراءات التي نستطيع اتخاذها لضمان سلامتنا؟
وصمت هنيهة ثم عاد يقول: اطلب منكم أن تفكّروا فيما أقوله بعناية وأن تُعلِموني بأيّ اقتراحات قد تخطر لكم. في هذه الأثناء أودّ أن أحذّر كلاً منكم ليكون في غاية اليقظة والاحتراس. لقد كانت مهمة المجرم سهلة حتى الآن لأن ضحاياه لم يكونوا مرتابين فيه، لكن واجبنا أن نشكّ في كل واحد فينا هذه اللحظة. لا تخاطروا بأية صورة وكونوا متنبهين للخطر، هذا كل ما لديّ.
غمغم فيليب لومبارد هامساً: والآن ستُرفع الجلسة.
* * *
الفصل العاشر
-1-
سألت فيرا فيليب: هل تصدّق ذلك؟
كانت تجلس مع فيليب على حافّة نافذة غرفة الجلوس، وفي الخارج كان المطر ينهمر والريح تزأر وتهبّ هبّات قوّية تهزّ زجاج النوافذ. مال فيليب برأسه قليلاً إلى أحد الجوانب قبل أن يجيب قائلاً : تعنين موضوع أن يكون المجرم واحداً منّا؟
- نعم.
فقال ببطء: من الصعب الإجابة، ولكن هذا صحيح منطقياً.
واستخلصت فيرا الكلمات من فمه قائلة: ولكن يبدو هذا غير معقول!
تقطّب وجه فيليب لومبارد وقال: المسألة كلها غير معقولة، ولكن بعد موت ماك آرثر لم يعُد لدينا شك وتساؤل بين كون الموضوع جريمة أو انتحاراً، بل هو جريمة بكل تأكيد، ثلاث جرائم حتى الآن.
فارتعشت فيرا وقالت: كأنّما هو حلم مروّع! يراودني شعور دائماً بأن أشياء كهذه لا يمكن أن تكون حقيقية.
فقال بتفهّم: أعرف، تتمنين لو يدقّ الباب الآن ويقدَّم لنا شاي الصباح الباكر.
- آه، كم أتمنى لو يحدث ذلك!
فقال فيليب لومبارد بصوت خفيض: أجل ، ولكنه لن يحدث. نحن جميعاً في هذا الحلم معاً، ومن الآن فصاعداً يتعيّن علينا أن نكون متيقّظين جداً.
قالت فيرا وهي تخفض صوتها: إذا كان المجرم... إذا كان واحداً منهم ، فمن تظنه يكون؟
فابتسم فيليب لومبارد فجأة وقال: هل أفهم من ذلك أنك تستبعدين شخصَينا أنا وأنتِ؟ حسناً، لا بأس في ذلك، أنا أعرف جيّداً أنني لست القاتل ولا أظن أن بك مسّا من الجنون يا فيرا. تبدين لي واحدة من أكثر الفتيات اللاتي التقيت بهم في حياتي اتزاناً ورجاحة عقل، ولا أتردّد في المراهنة بسمعتي على سلامة عقلك.
فقالت فيرا بابتسامة تشوبها بعض السخرية: شكراً.
فقال: ما هذا يا آنسة فيرا كلايثورن؟ ألا تريدين ردّ المجاملة لي؟
تردّدَت فيرا لحظة ثم قالت : لقد اعترفتَ – كما تعلم – بأنك لا تعتبر حياة الإنسان شيئاً مقدَّساً على وجه الخصوص، ومع ذلك فليس بوسعي أن أتخيلك ذلك الشخص الذي أملى الرسالة المسجَّلة في مكبّر الصوت.
فقال لومبارد: صحيح تماماً؛ لو كنت سأرتكب واحدة أو أكثر من تلك الجرائم لكان ذلك فقط للفائدة التي قد أجنيها من ذلك. هذه الجرائم بالجملة ليست من طبيعتي. حسناً، إذن نستبعد أنفسنا ونركز على رفاقنا السجناء الخمسة الآخرين، أيّهم هو السيد أوين؟ حسناً، من باب التخمين ودون سنَد إطلاقاً أختار وارغريف.
فقالت فيرا بدهشة: وارغريف! لماذا؟!
- من الصعب أن أجيبك بدقة، ولكنه رجل عجوز قضى سنوات طويلة في رئاسة المحاكم. بعبارة أخرى: لقد مثّل دور الموجّه العظيم شهوراً طويلة من كل عام، وهذا بالطبع يؤدّي إلى الغرور في النهاية، فيرى نفسه مطلَق السلطة كما لو كان يمسك بمقاليد الحياة والموت، ومن المحتمَل أن يشتطّ عقله ويخطو خطوة أبعد ليصبح القاضي والمنفّذ الأعظم.
قالت فيرا ببطء: أجل، أعتقد أن هذا ممكن.
قال لومبارد: وأنتِ؟ من ترشّحين؟
فردّت فيرا دون أيّ تردد: الدكتور آرمسترونغ.
فأطلق لومبارد صفيراً خافتاً وقال: الطبيب؟ أتعلمين؟ بالنسبة لي فأنا أضعه في آخر القائمة.
قالت فيرا: لا ، فحالتان من حالات الوفاة كانتا بسبب السّم، وهذه مسألة لها علاقة بطبيب إلى حد ما. ثم إنك لا تستطيع التغاضي عن حقيقة أن الشيء الوحيد المؤكَّد الذي تناولَته السيدة روجرز هو ذلك العقار المنوّم الذي أعطاه لها الدكتور آرمسترونغ.
قال لومبارد معترفاً: أجل، هذا صحيح.
فواصلت فيرا: إذا أصيب طبيب بالجنون فسيَمضي وقت طويل قبل أن يبدأ الناس بالاشتباه في أمره، فالأطباء يعملون كثيراً ويصيبهم الإجهاد.
قال فيليب لومبارد: اجل، ولكني أشك في انه كان بوسعه قتل ماك آرثر؛ لم يتوفر لديه وقت خلال تلك الفترة القصيرة التي تركتُه فيها، إلاَ إذا كان قد جرى بخفة أرنب ذهاباً وإياباً، وأنا أشك في أنّ لديه لياقة كافية للقيام بذلك دون أن تبدو عليه علامات الإجهاد.
قالت فيرا: لم يرتكب جريمته في تلك الفترة، بل كانت لديه فرصة فيما بعد.
- متى؟
- عندما ذهب ليدعو الجنرال للغداء.
صفر فيليب ثانية بصوت خفيض وقال: إذن فأنت تعتقدين أنه نفّذ العملية حينذاك! هذا معقول تماماً.
فقالت فيرا بصبر نافد : ما المخاطرة في ذلك؟ إنه الشخص الوحيد الذي لديه معلومات طبيّة هنا ، وبوسعه أن يقسم بأن الوفاة حدثت قبل ساعة على الأقل ولن يستطيع احد مخالفته في ذلك.
فنظر إليها فيليب بتأمل وقال: أتعرفين؟ هذه فكرة ذكية منك، تُرى...
-2-
بدت علامات الدهشة على وجه روجرز وهو يقبض بيديه على قطعة من جلد التنظيف كان يحملها وهو يسأل بلور: من هو يا سيد بلور؟ هذا ما أودّ معرفته، من هو؟
فقال له المفتش السابق بلور: حقّاً يا صديقي، هذا هو السؤال. إنه واحدٌ منّا، هذا ما قاله القاضي.
- من هو ؟ هذا ما أودّ أن أعرفه ، من هو ذلك الشيطان المتخفّي في ثوب إنسان؟
قال بلور: هذا ما نودّ جميعاً لو استطعنا معرفته.
فقال روجرز بنوع من الدهاء: ولكن لديك فكرة يا سيد بلور. لديك فكرة، أليس كذلك؟
قال بلور ببطء: قد تكون لديّ فكرة، ولكنها بعيدة جداً عن أن تكون مؤكَّدة. قد أكون مخطئاً، وكل ما أستطيع قوله هو أنه إذا كانت فكرتي صحيحة فالشخص محور البحث شخص شديد الهدوء، شديد الهدوء حقّاً.
مسح روجرز العرق من فوق جبينه وقال بصوت أجش: المسألة كلها كالكابوس ، نعم ، الكابوس.
قال بلور وهو ينظر إليه بفضول: هل لديك أنت أية أفكار يا سيد روجرز؟
فهزّ الخادم رأسه وقال بالصوت الأجشّ نفسه: لا أدري، لا أدري أبداً، وكم يخيفني إلى حد الرعب أنّ لا تكون لديّ أية فكرة.
-3-
قال الدكتور آرمسترونغ مهتاجاً: يجب أن نخرج من هنا، يجب ، يجب... بأيّ ثمن.
كان القاضي وارغريف ينظر بتأمّل خارج غرفة التدخين وقال: لا أزعم – بالطبع – بأنني خبير أرصاد جويّة، ولكن عليّ أن أقول إنه من المستبعَد جداً أن يستطيع أي قارب الوصول إلينا قبل أربع وعشرين ساعة حتى لو كانوا يعرفون بمأزقنا، وحتى عندئذ ينبغي أن تكون الريح قد هدأت.
ألقى الدكتور آرمسترونغ رأسه بين يديَه وقال متأوّهاً: وفي هذه الأثناء قد تُقتل جميعاً في فراشنا، أليس كذلك؟
قال القاضي: آمل أن لا يحدث لنا ذلك، أنا مصمّم على اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة لمنع حدوث شيء من هذا القبيل.
وومض خاطر في ذهن الدكتور آرمسترونغ بأنّ رجلاً كبيراً كالقاضي ربما كان أشدّ تشبثاً بالحياة ممّا قد يكون عليه شابّ صغير السن ، وهو حقيقة طالما راودته خلال سنوات عمله. ها هو ذا أصغر من القاضي بعشرين سنة على الأقل، ومع ذلك فهو أقل منه تمسكاً بالحفاظ على حياته.
فكّر القاضي وارغريف وهو يحدّث نفسه: تُقتَل في فراشنا! هؤلاء الأطباء جميعاً متشابهون، يفكّرون بشكل تافه، عقلية بسيطة تماماً.
قال الطبيب : تذكّر أنه يوجد ثلاث ضحايا حتى الآن.
- بالتأكيد ، ولكن عليك أن تتذكر أيضاً أنّهم لم يكونوا مستعدّين للهجوم، أمّا نحن فقد أخذنا حذرنا.
قال الدكتور آرمسترونغ بمرارة: ماذا نستطيع أن نفعل؟ عاجلاً أو آجلاً...
فقال القاضي وارغريف: أعتقد أن بوسعنا أن نفعل عدّة أشياء
قال آرمسترونغ: ليس لدينا أية فكرة عمّن قد يكون القاتل.
فمسح القاضي دقنه وقال: أتدري؟ لا أستطيع أن أوافق على قولك تماماً.
فحدّق إليه آرمسترونغ وقال: أتعني أنك تعرف؟
قال القاضي وارغريف بحذر: إذا كنت تعني دليلاً حقيقياً كذلك الذي تطلبه المحاكم فأعترف لك بأنه ليس لديّ شيء من ذلك ، ولكن يبدو لي عند مراجعة الأحداث أن شخصاً واحداً بالذات يمكن الإشارة إليه بوضوح. نعم، أعتقد ذلك.
فحدق إليه آرمسترونغ وقال: لست أفهم شيئاً.
-4-
صعدَت الآنسة برنت إلى غرفتها وأخذت كتابها وذهبت لتجلس إلى جوار النافذة. فتحت الكتاب ثم وضعته جانباً بعد قليل من التردد واتجهَت إلى طاولة الزينة، فأخرجت من أحد أدراجها دفتر ملحوظات صغيراً مغلَّفاً بلون أسود.
ثم فتحت الدفتر وأخذت تكتب: وقع حادث فظيع، الجنرال ماك آرثر مات (ابن عمه متزوج بإيلسي ماكفرسون) ، مات مقتولاً دون شك. بعد الغداء ألقى علينا القاضي كلمة في غاية الأهمية، وهو مقتنع بأن القاتل واحد منّا، وهذا يعني أن واحداً منّا يتملكه شيطان. لقد خطر لي ذلك من قبل، ولكن مَن تُراه يكون؟ إنهم جميعاً يسألون أنفسهم هذا السؤال، وأنا الوحيدة التي تعرف.
جلست هناك لبعض الوقت دون حركة. أصبحت عيناها غامضتين ورانت عليهما غشاوة، وأخذ القلم يتأرجح بين أصابعها، ثم كتبت بأحرف مبعثرة مهتّزة: القاتلة هي بياتريس تايلور.
ثم أغلقت عينيها و... وفجأة انتفضت مستيقظة ونظرت إلى الدفتر، وبدهشة غاضبة فشطبت الأحرف المهزوزة للجملة الأخيرة وقالت بصوت منخفض: هل أنا التي كتبت هذا؟ أنا؟! لا بدّ أنني في طريقي إلى الجنون.
-5-
اشتدّت العاصفة وتردد عويل الريح على جدران المنزل، وكان الجميع في غرفة الجلوس، جلسوا مجتمعين والفتور يخيّم عليهم، وخلسة كان بعضهم يراقب بعضاً. ثم دخل روجرز حاملاً صينية الشاي فانتبهوا جميعاً، وسأل روجرز: هل أُسدِل الستائر؟ هذا سوُف يضفي شيئاً من البهجة.
وإذ لاقى اقتراحه قَبولاً فقد أُسدلَت الستائر وأُنيرت الأضواء، فبدت الغرفة أكثر بهجة وانحسرت بعض الظلال. وكانوا يرون أن العاصفة ستنتهي في اليوم التالي وسيأتيهم شخص ما بالنجدة أو يأتي القارب.
قالت فيرا كلايثورن: هلاَ صبيتِ الشاي يا آنسة برنت؟
فقالت المرأة الكبيرة: لا يا عزيزتي، قومي أنت بذلك؛ إن إبريق الشاي ثقيل جداً، وقد فقدتُ لفّتين من الصوف الرماديّ الذي أشتغل به، وهذا أمر مزعج.
خطت فيرا إلى طاولة الشاي، وسرعان ما علا صوت القرقعة المبهجة للأواني الخزفية وعادت الأجواء طبيعية، فقال فيليب لومبارد بمرح: الشاي، بارك الله لنا بشاي بعد الظهر اليوميّ المعتاد.
واستجاب له بلور، وروى الدكتور آرمسترونغ قصة طريفة، أما القاضي وارغريف الذي كان يكره الشاي عادة فقد أقبل يشربه باستحسان. في هذا الجو من الاسترخاء دخل روجرز قِلقاً وقال بعصبية ودون أن يخاطب أحداً بعينه: عفواً يا سيدي، ولكن هل يعرف أيّ منكم ماذا حدث لستارة الحمام؟
فارتفع رأس لومبارد بحركة سريعة وقال: ستارة الحمام! ماذا تعني يا روجرز؟
- لقد اختفت يا سيدي، اختفت تماماً. كنت أدور حول البيت لأسدل الستائر فلم أجد ستارة الحمام في مكانها.
سأل القاضي وارغريف: هل كانت هناك هذا الصباح؟
- نعم يا سيدي، كانت موجودة.
قال بلور : وأيّ نوع من الستائر هي؟
- ستارة حمراء من النوع العازل للماء يتناسب لونها مع لون بلاط الحمّام.
قال لومبارد: واختفت؟!
- نعم، اختفت يا سيدي.
نظر كل منهم إلى الىخر، وقال بلور بصوت رصين: حسناً، أيّ أهمية لشيء كهذا؟ إنه تصرف مجنون، ولكن كل شيء هنا مجنون. المسألة ليست مهمة على أية حال؛ فلا يمكن قتل أحد باستخدام ستارة عازلة للماء. لتنسّ الموضوع.
فقال روجرز: حسناً يا سيدي. شكراً لك.
ومضى خارجاً مُغلِقاً الباب خلفه، ومن جديد حلّ شعور بالخوف داخل الغرفة، ثم عاد بعضهم يراقب بعضاً خلسة.
-6-
جاء العشاء، وحين انتهوا من تناوله رُفعت الأطباق . كانت وجبة بسيطة تكوّنَت في معظمها من الأطعمة المعلِّبة. وبعد العشاء ساد غرفة الجلوس جوٌّ ثقيل متوتّر كان من الصعب تحمّله، وعند الساعة التاسعة نهضت إميلي برنت وقالت: سآوي إلى فراشي.
وقالت فيرا: وأنا أيضاً.
وصعدت المرأتان الدرجات إلى أعلى ورافقهما كل من لومبارد وبلور، وعند رأس الدرَج وقف الرجلان يتابعان المرأتين بعينيهما حتى دخلتا إلى غرفَتيهما وأغلقتا بابيَهما، وسمعا مزلاجَين يتحركان خلف البابين وصوت المفتاحين يتحركان في القفلَين، فقال بلور بابتسامة: ليست بنا حاجة لتذكيرهما بإقفال الأبواب.
وقال لومبارد: حسناً ، إنهما بخير هذه الليلة على أية حال.
ثم نزل ثانية إلى غرفة الجلوس وخلفه زميله.
-7-
ذهب الرجال الأربعة إلى غرفهم بعد ساعة من ذلك، وقد صعدوا جميعاً معاً. بقي روجرز في غرفة الطعام يهيّئ الطاولة لطعام الإفطار. ورآهم وهم يصعدون إلى غرفهم وسمعهم يتوقفون على قمة الدرّج في الأعلى، ثم جاء صوت القاضي يقول: أظن أنه لا حاجة بي لتذكيركم بقفل أبوابكم أيها السادة. قال بلور: وأكثر من ذلك، علينا وضع مقعد خلف الباب، إذ توجد وسائل لفتح الأقفال من الخارج.
غمغم لومبارد: مشكلتك أنك تعرف الكثير يا عزيزي بلور.
وقال القاضي بهدوء: تصبحون على خير أيها السادة، ولنأمل أن نلتقي جميعاً في الصباح سالمين.
خرج روجرز من غرفة الطعام وصعد الدرَج إلى وسطه فرأى أربعة أشخاص يعبرون أربعة أبواب، وسمع صوت أربعة أقفال تدور وأربعة مزاليج تتحرك في مجاريها، ثم أومأ برأسه وغمغم لنفسه: كل شيء على ما يرام.
وعاد إلى غرفة الطعام وهو يقول لنفسه: نعم، كل شيء جاهز للصباح.
ثم تركّزت عيناه على تماثيل الخزف الصغيرة السبعة. وفجأة افترّت شفتاه عن ابتسامة ماكرة وغمغم: لن أسمح لأحد أن يقوم بألاعيب هذا المساء مهما كلّف الأمر.
واجتاز أرض الغرفة إلى الطرف المقابل فأغلق المطبخ، ثم دخل من الباب الآخر إلى القاعة فأغلق الباب وأقفله ووضع المفتاح في جيبه، ثم أطفأ الأنوار وأسرع صاعداً الدرَج إلى غرفته الجديدة. كان فيها مكان واحد يصلح للاختباء وهو الخزانة الطويلة، ففتّشها في الحال ثم أغلق الباب، وأقفله وتهيّأ للنوم وقال لنفسه: لا مزيد من الألاعيب في هذه الليلة، لقد تأكدتُ من ذلك بنفسي.
* * *
الفصل الحادي عشر
-1-
كان من عادة فيليب لومبارد أن يستيقظ عند الفجر، وهذا ما حدث فعلاً صباح ذلك اليوم بالذات، إذ نهض مستنداً على مرفقه وأرهف السمع. كانت الريح قد خفّت إلى حدّ ما وإن كانت ما زالت تهبّ، ولكنه لم يسمع صوت سقوط أمطار . وعند الساعة الثامنة كانت الريح قد اشتدّت ، ولكن لومبارد لم يسمعها لأنه كان قد عاد إلى النوم مرة ثانية.
عند التاسعة والنصف كان يجلس على حافة سريرة ينظر إلى ساعته، ثم رفعها إلى أذنه وانفرجت شفتاه عن ابتسامة تميّز بها تشبه تكشيرة الذئب، ثم قال لنفسه، هامساً : أعتقد أنه قد حان الوقت لأفعل شيئاً حيال هذا الموضوع.
وقبل العاشرة بخمس وعشرين دقيقة كان يدقُ باب بلور المغلَق، ففتح بلور الباب بحذر وكان شعره أشعث وعيناه نصف مغمضتين من أثر النوم. قال فيليب لومبارد بدماثة : تنام حتى وقت متأخر؟ هذا يدل على راحة ضميرك.
فقال بلور باقتضاب: ما الأمر؟
أجاب لومبارد: هل دعاك أحد أو أحضر لك الشاي؟ هل تعرف كم الساعة الآن؟ نظر بلور إلى ساعة وضعها بجانب سريره وقال: قبل العاشرة بخمس وعشرين دقيقة! لا أصدق أنني استطعت النوم كل هذه المدّة! أين روجرز؟
فقال فيليب لومبارد: الردّ هو صدى سؤالك، أين هو؟
فسأل الآخر بحدّة : ماذا تعني؟
قال: لومبارد: أعني أنّ روجرز مفقود؛ ليس في غرفته ولا في أيّ مكان آخر، وإبريق غلي الماء ليس موضوعاً على الموقد، بل إن موقد المطبخ نفسه ليس موقَداً.
أطلق بلور سباباً ساخطاً بصوت خافت وقال: اللعنة! أين يمكن أين يكون؟ في مكان ما في الجزيرة خارج البيت؟ انتظرني حتى أرتدي ملابسي ونرى إذا كان الآخرون يعرفون أيّ شيء.
أومأ فيليب لومبارد برأسه وسار بمحاذاة صفّ الأبواب المغلَقة، فوجد آرمسترونغ مستيقظاً وقد أنهى ارتداء ملابسه تقريباً، أما القاضي وارغريف فكان بحاجة لمن يوقظه مثل بلور، وفيرا كلايثورن كانت قد ارتدت ملابسها، أما إميلي برنت فلم تكُن في غرفتها.
تحركَت المجموعة الصغيرة في أرجاء البيت، ولم يكُن في غرفة روجرز أحدٌ كما سبق لفيليب لومبارد أن عرف. كان السرير قد استُخدم وكانت شفرة حلاقته والفرشاة والصابونة كلها مبلَّلة ، فقال لومبارد: من الواضح أنه قد استيقظ.
وقالت فيرا بصوت خافت حاولَت أن تجعله حازماً ومطمئناً: ألا تعتقدون أنه مختبئ في مكان ما ينتظرنا؟
فقال لومبارد: يا فتاتي العزيزة! أنا مستعدّ لأن أعتقد أيّ شيء حول أيّ شخص، ونصيحتي أن نبقى معاً حتى نجده.
قال آرمسترونغ: لا بدّ أنه خارج البيت في مكان ما في الجزيرة.
قال بلور الذي كان قد انضمَ إليهم بكامل ملابسه ودون حلاقة: أين ذهبَت الآنسة برنت؟ هذه مسألة غامضة هي الأخرى!
ولكنهم حين وصلوا القاعة كانت إميلي برنت تدخل من الباب الأمامي مرتدية معطفاً واقياً من المطر وقالت: البحر عالي الأمواج كما كان، ولا أعتقد أن أحداً يستطيع الخروج بقارب إلى عُرض البحر اليوم.
فقال بلور: هل كنت تتجولين في الجزيرة وحدك يا آنسة برنت؟ ألا تدركين أن هذا تصرف أحمق للغاية؟
فردّت إميلي برنت: أؤكّد لك أنني كنت في غاية اليقظة والحذر يا سيد بلور.
قال بلور بصوت أجش: هل تعرفين أين روجرز؟ فارتفع حاجبا الآنسة برنت وقالت: روجرز؟ لا ، لم أرَه هذا الصباح. ماذا؟
ونزل القاضي وارغريف الدرَج وقد حلق ذقنه وارتدى ملابسه ووضع طقم أسنانه في فمه، وتوجّه إلى الباب المفتوح لغرفة الطعام وقال: أرى أنه قد أعدّ المائدة للفطور.
قال لومبارد: لعلّه فعل ذلك ليلة أمس.
ودخلوا جميعاً إلى الغرفة وهم ينظرون إلى الأطباق وأدوات المائدة الأخرى وقد رُتّبت بعناية، وإلى صف الأقداح على الطاولة الجانبية وقطع من اللباد العازل لوضع دورق القهوة عليها. كانت فيرا أول من انتبه فأمسكَت بذراع القاضي بأصابعها الرياضية بقوة جعلت الرجل العجوز يجفل وصرخَت : الجنود الصّغار... انظروا!
كان هناك ستة تماثيل خزفية فقط وسط الطاولة!
-2-
وجدوه بعد فترة قصيرة. كان في غرفة الغسيل الصغيرة في الطرف الآخر من الفناء، وكان قد قام بقطع بعض الأخشاب لإشعالها في موقد الطبخ، وكانت البلطة الصغيرة لا تزال في يده، ولكن كانت هناك بلطة أكبر، أكبر بكثير!
كانت ملقاة مستندة إلى الباب، وكان النصل ملوَّثاً بلون بنّي غامق متناسب تماماً مع الجرح العميق في مؤخرة رأس روجرز!
-3-
قال آرمسترونغ: الأمر واضح تماماً: لا بدّ أن القاتل قد زحف خلفه ورفع البلطة وهوى بها على رأسه حين كان منحنياً.
كان بلور مشغولاً بمقبض البلطة ومنخل الدقيق الخاصّ بالمطبخ في حين سأل القاضي وارغريف: هل كان الأمر يتطلب قوة كبيرة يا دكتور؟
فقال آرمسترونغ بهدوء: تستطيع امرأة القيام بذلك إذا كان هذا ما تقصده.
وجال بنظرة سريعة حوله، وكانت فيرا كلايثورن وإميلي برنت قد انسحبتا إلى المطبخ فأكمل: الفتاة بوسعها القيام بذلك بسهولة فهي رياضية، ومن ناحية المظهر تبدو إميلي برنت ضعيفة ولكن ذلك النوع من النساء لديه غالباً قوة وصلابة. عليك أن تتذكر أن أيّ شخص مختلّ العقل لديه قدر كبير من القوة الكامنة.
فأومأ القاضي برأسه موافقاً ومتفكراً، ونهض بلور وقال وهو يتنهد: لا أثر لبصمات أصابع، لقد تمّ مسح المقبض بعد الحادث.
ثم سُمع صوت ضحك فالتفتوا خلفهم بحدّة! كانت فيرا كلايثورن تقف في الشرفة تصيح بصوت صاخب وهي تهتزّ بنوبات من الضحك: هل يحتفظون بنحل في هذه الجزيرة؟ أخبروني، أين نذهب لنحصل على العسل؟
نظروا إليها غير مدركين، وبدا كما لو أن الفتاة المتزنة العاقلة قد فقدت عقلها للتوّ ، في حين تابعَت هي بذلك الصوت الصارخ غير الطبيعي: لا تنظروا إليّ هكذا كما لو أنكم تظنونني مجنونة. أنا أسألكم عن أشياء محددة: نحل، خلايا نحل... ألا تفهمون؟ ألم تقرؤوا تلك الأنشودة الحمقاء المعلَّقة في غرفكم؟ لقد وُضعت هناك لتتمعّنوا فيها. كان علينا أن نأتي هنا مباشرة لو انتبهنا: " سبعة جنود صغار كانوا يقطعون خشباً " ... ثم البيت الذي يليه. لقد حفظت الأنشودة كلها عن ظهر قلب. سأخبركم : " ستة جنود صغار كانوا يلعبون بخلية نحل" . لذلك أنا أسأل: هل تحتفظون بنحل في هذه الجزيرة؟ أليس هذا طريفاً؟ أليست هذه طرفة لعينة؟
وأخذت تضحك بطريقة صارخة مرة أخرى، فخطا الدكتور آرمسترونغ إلى الإمام ورفع يده وهوى بها بصفعة قوية على وجهها، فشهقت شهقة قوية وبلعت ريقها، ووقفت دون حراك لمدة دقيقة ثم قالت: شكراً، أنا بخير الآن.
وعاد صوتها أكثر هدوءاً واتزاناً، صوت معلّمة التربية الرياضية القديرة، ثم استدارت وعبرت الشرفة إلى المطبخ وهي تقول: الآنسة برنت وأنا سنُعدّ لكم طعام الإفطار. هل تستطيعون أن تحضروا بعض الحطب لإشعال النار؟
كانت علامات أصابع يد الطبيب لا تزال مطبوعة على وجنتها، وفيما كانت تدخل المطبخ قال بلور: جميل، لقد قمتَ بذلك بشكل جيّد يا دكتور.
فقال آرمسترونغ بلهجة الاعتذار: كان لا بدّ من ذلك؛ لا نستطيع تحمل تلك الهستيريا بالإضافة إلى كل ما نحن فيه.
وقال فيليب لومبارد : إنها ليست من النوع الهستيري.
فوافق آرمسترونغ قائلاً: بالطبع، إنها فتاة واعية وحالتها الصحية جيّدة، ولكنها فقط صدمة المفاجأة، وقد تحدث لأيّ شخص.
كان روجرز قد قطع كمية من الخشب قبل أن يُقتل، فجمعوها وأخذوها إلى المطبخ حيث كانت فيرا وإميلي برنت مشغولتَين؛ كانت الآنسة برنت تُشعل الموقد وفيرا تزيل الشحم الزائد حول شرائح اللحم، وقالت إميلي برنت: شكراً لكم. سنعمل بأسرع ما يمكننا، ونرجو أن نفرغ من إعداد الطعام بعد نصف ساعة. يجب غلي الماء في الإبريق أولاً.
-4-
قال المفتش السابق بلور لفيليب لومبارد بصوت خافت مبحوح: أتعرف فيمَ أفكّر؟
قال فيليب لومبارد: حيث إنك على وشك أن تخبرني فلا يستحقّ الأمر عناء التخمين.
كان المفتش السابق بلور رجلاً جادّاً، ولم يكُن ليستوعب أخذ الأمور باستخفاف فقال بكُل جديّة: كان في أمريكا قضية؛ رجل عجوز وزوجته قُتلا ببلطة في وضح النهار، ولم يكُن في البيت سوى ابنتهما والخادمة. وقد ثبت أن الخادمة لم تكُن تستطيع ارتكاب الجريمة، والابنة كانت عانساً محترّمة في أواسط العمر فبدا أنه من غير المعقول أن تكون قد ارتكبت الجريمة، غير معقول لدرجة أن المحكمة برّأتها، ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى تفسير آخر.
وتوقف لحظة مفكّراً ثم تابع: خطر لي ذلك عندما رأيت البلطة، ثم عندما ذهبت إلى المطبخ ورأيتها هناك بكامل الأناقة والهدوء ولم تتحرك شعرة في رأسها. أما تلك الفتاة التي انتابتها الهستيريا.... حسناً، هذا طبيعي، حالة يمكن تفهّمها ، ألا تعتقد ذلك؟
فأجاب فيليب لومبارد باقتضاب: ربما.
وتابع بلور: أما المرأة الأخرى المفرطة الأناقة والاحتشام وهي ملتفّة بتلك المريلة حول وسطها ( مريلة السيدة روجرز على ما أظن)... أقول لك إن تلك المرأة مجنونة وغريبة الأطوار! كثير من العوانس العجائز كذلك. لا أعني أنهنّ يرتكبن جرائم القتل على نطاق واسع، ولكنّ لهن أفكاراً غريبة. هذه المرأة سلكت طريق الهوَس الديني لسوء الحظ؛ فهي تعتقد أنها أداة الله على الأرض أو شيء من هذا القبيل، وتراها دائماً في غرفتها تقرأ الكتب الدينية.
تنهّد فيليب لومبارد وقال: هذا ليس دليلاً أكيداً على خلل عقلي يا بلور.
ولكن بلور تابع بتمهّل ومثابرة: ثم أنها كانت في الخارج مرتدية معطفاً واقياً من المطر زاعمة أنّها خرجت لمشاهدة البحر.
هزّ لومبارد رأسه وقال: روجرز قُتل وهو يقطع الحطب، أيّ حال نهوضه من النوم، والآنسة برنت لم تكُن بحاجة للتجوال خارج البيت لعدّة ساعات بعد ذلك. إن قتل روجرز يحتاج جهداً كبيراً من شخص مستيقظ تماماً في رأيي.
قال بلور : ليست هذه هي النقطة يا سيد لومبارد. إذا كانت المرأة بريئة فهي ستكون خائفة حتى الموت من الخروج والتجوال وحدها، ولا يمكن أن تخرج إلا إذا كانت مطمئنّة تماماً، أو ... أو إذا كانت هي نفسها القاتلة.
فقال فيليب لومبارد: هذه نقطة جيدة. نعم، لم يخطر لي ذلك.
ثم أضاف بابتسامة شاحبة : يسرّني أنك لم تعُد تشتبه بي.
قالت بلور بشيء من الخجل: الواقع أنني بدأت بالتفكير بك بسبب ذلك المسدّس وتلك القصة الغريبة التي سردّتها، أو بالأحرى التي لم تسردها، ولكني أدركت الآن أن ذلك كان سيغدو مكشوفاً جداً. وتوقف قليلاً ثم قال: آمل أنك تشعر بالشعور نفسه نحوي؟
قال فيليب مفكّراً: قد أكون على خطأ بالطبع، ولكني لا أستطيع تصور أن لديك ما يكفي من الخيال لعمل كهذا، كل ما أستطيع قوله هو أنك إن كنت المجرم فأنت ممثل بارع دون شك، وأرفع قبّعتي احتراماً لك.
ثم خفض صوته وتابع: بصراحة يا سيد بلور (والأمر سرّ بيننا): مع الأخذ في الاعتبار أننا قد نصبح جثتين هامدتين قبل انقضاء يوم آخر، يبدو لي أنك تورطتَ بالفعل في قضية شهادة الزور تلك.
فتململ بلور في وقفته ثم قال أخيراً: يبدو أن هذا لن يغيّر شيئاً الآن. حسناً، أجل، وسأخبرك بما حدث. كان لاندور بريئاً تماماً. لقد سيطرَت عليّ العصابة وساعدتُهم في إرسال ذلك الرجل إلى السجن. ولكنّني لن اعترف بذلك.
ثم أكمل بابتسامة ساخرة: الأمر فقط بيني وبينك ولا يوجد أيّ شهود. أظنك عرفت الحقيقة الآن. لكن الأمور لم تجرِ كما ينبغي بعد ذلك؛ فعصابة بورسيل كانوا مجموعة حقيرة. على أنني حظيت بالترقية مع ذلك.
- وحُكم على لاندور بالأشغال الشاقّة ومات في السجن.
ردّ بلور متسائلاً: وهل كان بوسعي أن أعرف أنه سيموت؟
- لا ، كان حظك سيئاً.
- حظي؟ تقصد حظه.
- وحظك أيضاً ؛ فنتيجة لذلك يبدو أن حياتك توشك على الوصول إلى نهاية غير سارة.
حدّق إليه بلور وقال: أنا؟ هل تعتقد أنني سأتبع روجرز والبقية؟ لا، ليس أنا؛ أنا حَذِر ومنتبه لنفسي تماماً.
فقال لومبارد : حسناً، أنا لست رجل مراهنات. وعلى أيّة حال إن أنت متّ فلن يتسنّى لي أن أتقاضى رهاني.
- سيد لومبارد ، ماذا تعني؟
فقال لومبارد بابتسامة استخفاف: أعني – يا عزيزي بلور – انك ليست لك أي فرصة للنجاة في رأيي.
- ماذا؟!
- إن افتقارك للقدرة على التوقع سيجعلك هدفاً سهلاً تماماً، ومجرمٌ له قدرة أوين وله القدرة على التخيّل سيكون من السهل عليه اصطيادك متى شاء ( أو متى شاءت).
صار وجه بلور أحمر قانياً وقال مستفسراً بغضب: وأنت ؟ ماذا عنك أنت ؟
بدا وجه فيليب لومبارد قاسياً ومنذراً بالخطورة فجأة وقال: أنا لديّ قدرة جيّدة على التوقّع. لقد مرّت بي ظروف صعبة سابقاً واستطعتُ التخلص منها. أظن أنني لن أقول أكثر من هذا، ولكن أظن أنني سأنجو هذه المرة أيضاً.
-5-
كان البيض في المقلاة وفيرا تحمّص شرائح الخبز وتفكّر قائلة لنفسها: لماذا جعلتُ من نفسي حمقاء على تلك الصورة؟! كان ذلك خطأ منّي. حافظي على هدوئك أيتها الفتاة، حافظي على هدوئك.
كانت فخورة برجاحة عقلها دائماً، وعادت تقول لنفسها: لقد كنتُ مدهشة حين احتفظت باتزاني وألقيت بنفسي سابحة نحو سيريل في الحال و... ولكن لماذا التفكير بذلك الآن؟ كل ذلك قد انتهى ، انتهى ؛ وسيريل اختفى قبل وصولي إلى الصخرة بوقت طويل.
كانت قد شعرت عندها بالتيار يجرفها إلى البحر بعيداً عن الشاطئ، ولم تقاوم التيار بل تركت نفسها له فسبحت بهدوء طافية حتى وصل القارب أخيراً. لقد أثنوا على شجاعتها ورباطة جأشها، ولكن ليس هوغو... هوغو نظر إليها فقط. تذكرّت تلك اللحظة فقالت لنفسها: يا إلهي، كم هو مؤلم حتى الآن التفكير بهوغو! أين هو؟ ماذا يفعل؟ خاطب ؟ متزوج؟
قالت إميلي برنت فجأة بحدّة: فيرا: شرائح الخبز تحترق.
- أنا آسفة يا آنسة برنت. هذا صحيح، كم أنا غبية!
رفعت إميلي برنت البيضة الأخيرة من المقلاة، وقالت فيرا بفضول وهي تضع شريحة جديدة من الخبز في آلة التحميص: أنت هادئة على نحو رائع يا آنسة برنت. قالت الآنسة برنت وهي تزمّ شفتيها: لقد رُبّيت على الاحتفاظ بتوازني وعلى أن لا أثير ضجيجاً.
فقالت فيرا لنفسها بتلقائية: "كانت مقموعة وهي طفلة، هذا يفسّر الكثير ". ثم قالت بصوت مسموع: ألستِ خائفة؟ وتوقفت فجأة ثم أضافت: أم لا يهمك الموت؟
الموت! كان ذلك بمثابة مخرز دُقّ في دماغ إميلي برنت. الموت! ولكنها لن تموت، الآخرون سيموتون لا هي، ليس إميلي برنت. هذه الفتاة لم تفهم، إميلي خائفة بالطبع، لا أحد من عائلة برنت يخاف؛ أهلها كلهم كانوا متدينين شجعان لا يهابون الموت، كلهم كانوا مثلها، يعيشون حياة استقامة وصدق. ليس لديها ما تخجل منه ولذلك فهي لن تموت بالطبع. " لا أحد منّا سيغادر هذه الجزيرة"... مَن قال ذلك؟ الجنرال ماك آرثر بالطبع، ابن عم زوج إيلي ماكفرسون. لم يبدُ مكترثاً، والواقع أنه بدا... بدا أنه يرحّب بالفكرة. هذا الأمر فظيع! بعض الناس لا يكترثون بالموت لدرجة أنهم يقتلون أنفسهم فعلاً، مثل بياتريس تايلور. لقد حلمت بها أمس، حلمت أنها كانت في الخارج تلصق وجهها على زجاج النافذة وتئنْ طالبة السماح لها بالدخول، ولكن إميلي برنت لم ترغب في إدخالها لأنها لو فعلَت ذلك لحدث شيء مروّع!
وبانتفاضة مفاجئة ثابت إميلي برنت إلى رشدها، وكانت الفتاة تنظر إليها باستغراب شديد فقالت بصوت مفعّم بالنشاط: كل شيء جاهز، أليس كذلك؟ سنأخذ الإفطار إلى الداخل.
-6-
كان الإفطار وجبة غريبة، وبدا الجميع في غاية التهذيب، ستة أشخاص يبدو عليهم – ظاهرياً- أنهم عاديّون ومتمالكون لأنفسهم، أما في داخل كل منهم فكانت الأفكار تدور في رؤوسهم كالسنجاب في قفص: "ماذا بعد ؟ ماذا بعد ؟ مَن؟ ماذا؟... "تُرى هل تنجح الفكرة؟ تستحق التجربة إذا توفّر الوقت. يا إلهي، إذا توفر الوقت!... " هوَس دينيّ، هذا هو الموضوع . من الصعب تصديق ذلك من مجرَّد النظر إليها، ولكن لنفرض أنني على خطأ" ... " هذا جنون ، كل شيء مجنون وأنا في طريقي إلى الجنون! الصوف يختفي! ستائر حريرية حمراء... شيء غير معقول! لا أستطيع فهم معنى كل هذه الأمور " .... " الأحمق اللعين صدّق كل شيء قلتُه له. كان ذلك سهلاً، ولكن يجب أن ألتزم الحذر، الحذر التامّ" ... " ستة من تلك التماثيل الخزفية الصغيرة، ستة فقط. تُرى كم تمثالاً سيبقى الليلة؟"...
- من يريد البيضة الأخيرة؟
- من يريد مربّى؟
- شكراً ، هل أقطع لك بعض الخبز؟
ستة أشخاص يتصرفون بصورة عادية على مائدة الإفطار.
* * *
الفصل الثاني عشر
-1-
انتهت الوجبة، وتنحنح القاضي وارغريف وقال بصوت خافت وبنبرة مَن يمارس سلطته: أعتقد أن من المناسب أن نجتمع لبحث الموقف. ليكُن هذا خلال نصف ساعة في غرفة الجلوس.
همهم الجميع موافقين، وأخذت فيرا تجمع الأطباق وقالت: سأنظف الطاولة وأغسل الأطباق.
فقال فيليب لومبارد: سنساعدك بنقل الأشياء إلى المطبخ.
- شكراً.
ونهضت إميلي برنت على قدميها ثم عادت وجلست وقالت: يا إلهي!
قال القاضي : ما الأمر يا آنسة برنت؟!
فقالت إميلي بنبرة اعتذار: أنا آسفة؛ كنت أودّ مساعدة الآنسة كلايثورن ولكني لا أعرف ما الأمر! أشعر بشيء من الدوار.
فتحرك الدكتور آرمسترونغ باتجاهها وهو يقول : دوار؟ هذا طبيعي، صدمة متأخرة، أستطيع أن أعطيك شيئاً لـ....
- كلا.
انفجرت الكلمة من بين شفتيها كالقنبلة، وفوجئ الجميع بردّ فعلها هذا وتحوّل وجه الدكتور آرمسترونغ فبات شديد الاحمرار. كان الخوف والشك باديَين بوضوح شديد على وجهها فقال الدكتور متشنجاً: كما تشائين يا آنسة برنت.
قالت: لا أريد أن أتناول شيئاً، لا شيء على الإطلاق، سأجلس هنا بهدوء حتى يزول الدوار.
فرغوا من إعادة ترتيب الطاولة وقال بلور: أنا أحب العمل المنزلي، سأساعدك يا آنسة كلايثورن.
قالت فيرا: شكراً.
بقيت إميلي برنت جالسة وحدها في غرفة الطعام، وتناهى إليها لبعض الوقت صوت همهمة خفيفة في المطبخ. كان الدوار ينقشع في تلك اللحظة وأحسّت ببعض الخدر كما لو كانت على وشك النوم. أحسّت بطنين في أذنَيها، ولم تعرف إن كان هذا شيئاً في داخل رأسها أم أنه طنين حقيقي من الغرفة. قالت لنفسها: كأنها نحلة. نحلة طنّانة !
ثم شاهدت النحلة التي كانت تزحف على زجاج النافذة. وتذكرَت أن فيرا كلايثورن تحدّثت عن النحل في الصباح، النحل والعسل... كانت تحب العسل وتحب أن تأخذه من القرص وتصفّيه قطرة قطرة.
ورغماً عنها بدأت الحقائق تختلط في ذهنها، فرأت أن في الغرفة شخصاً، شخصاً مبتلاًّ وثيابه تقطر ماء... بياتريس تايلور جاءت من النهر! كل ما كان عليها هو الاستدارة برأسها لتستطيع رؤيتها، ولكنها لم تكُن قادرة على الاستدارة برأسها! تمنّت لو أنها تستطيع أن تصرخ مستنجِدة، ولكنها لا تستطيع الصراخ! لم يكُن في البيت أحد، كانت وحدها تماماً.
سمعت صوت أقدام خلفها، أقدام تزحف بهدوء قادمة من خلفها. ظنّتها الخطوات المتعثرة للفتاة الغارقة، وسرَت رائحة رطوبة نفّاذة عبّر أنفها، وعلى إطار النافذة كانت النحلة تطنّ وتطنّ، ثم شعرت بالوخزة؛ لقد لسعتها النحلة في جانب عنقها!
-2-
كانوا في غرفة الجلوس ينتظرون إميلي برنت، وقالت فيرا: هل أذهب وأناديها؟
فقال بلور بسرعة: لحظة فقط.
جلست فيرا ثانية، ونظر الجميع إلى بلور مستفسرين فقال: انظروا إليّ جميعاً؛ أنا أرى أننا لسنا بحاجة إلى البحث عن مرتكِب هذه الجرائم لأبعد من غرفة الطعام في هذه اللحظة. أنا مستعدِّ للقسَم أن تلك المرأة هي من نبحث عنه.
فقال آرمسترونغ: هذا محتمَل تماماً وليس لديّ اعتراض على ذلك، ولكن ليس لدينا أيّ دليل بالطبع.
فقالت فيرا: كانت في حالة غريبة جداً عندما كنّا في المطبخ نُعِدّ الإفطار، كانت عيناها...
وأخذت فيرا ترتجف فقال لومبارد: لا يمكن الحكم عليها بسبب هذه الحالة، نحن جميعاً لسنا بحالة طبيعية الآن.
قال بلور: يوجد شيء آخر، فهي الوحيدة التي لم تقدّم تفسيراً حول التسجيل في مكبّر الصوت، فلماذا؟ لأنه ليس لديها تفسير تقدّمه.
تحركت فيرا في مقعدها وقالت: هذا ليس صحيحاً تماماً؛ لقد أخبرَتني فيما بعد.
فقال وارغريف: بمَ أخبرَتك يا آنسة كلايثورن؟
أعادت فيرا عليهم قصة بياتريس تايلور، فعلّق القاضي وارغريف قائلاً: هذه قصة واضحة تماماً، وأنا شخصياً لا أجد صعوبة في تصديقها. أخبريني يا آنسة كلايثورن: هل بدا عليها قلق بسبب إحساسها بالذنب أو الندم بسبب الأسلوب الذي تصرّفت به في هذا الموضوع؟
- لا شيء من ذلك، كانت غير متأثرة أبداً.
فقال بلور: إن لها قلباً كالحجر. يا لهؤلاء العوانس المتزمتات! إنه الحسد غالباً.
قال القاضي وارغريف: الساعة الآن الحادية عشرة إلاَ خمس دقائق. أعتقد أن علينا استدعاء الآنسة برنت للانضمام إلى اجتماعنا.
فقال بلور: ألن تفعل شيئاً؟
قال القاضي: لا أعرف ما الإجراء الذي يمكننا اتخاذه. شكوكنا – حالياً – مجرَّد شكوك، ولكني سأطلب من الدكتور آرمسترونغ مراقبة تصرفات الآنسة برنت مراقبة دقيقة. دعونا نذهب الآن إلى غرفة الطعام.
وجدوا إميلي برنت جالسة على نفس الكرسي الذي تركوها عليه، ومن الخلف لم يظهر أيّ شيء غير عاديّ باستثناء أنها بدت وكأنها لم تسمعهم وهم يدخلون الغرفة. ثم رأوا وجهها غارقاً في الدم مع شفتين زرقاوين وعينين جاحظتين! وهتف بلور: يا إلهي، إنها ميتة!
-3-
قال القاضي وارغريف بصوته الهادئ الخَفيض: شخص آخر من بيننا تتضح براءته، ولكن بعد فوات الأوان.
انحنى آرمسترونغ فوق المرأة فشمّ شفتيها وهزّ رأسه ثم تفحّص أجفانها، وقال لومبارد بنفاد صبر، كيف ماتت؟ لقد كانت على ما يرام عندما تركناها هنا! وانتبه آرمسترونغ فجأة إلى علامة على جانب عنقها الأيمن فقال: هذا أثر إبرة حُقنت تحت الجلد.
سُمع من جهة النافذة صوتُ طنين فهتفت فيرا: انظروا ، هذه نحلة، نحلة طنّانة ! هل تذكرون ما قلته لكم هذا الصباح؟
فقال آرمسترونغ بتجهم: لم تكُن تلك النحلة هي التي لسعتها، بل كانت يد إنسان تمسك الحقنة.
فسأل القاضي: ما نوع السم الذي حُقنت به؟
فأجاب آرمسترونغ: يمكنني أن أخمّن مجرَّد تخمين انه نوع من السيانيد. لعله سيانيد البوتاسيوم، نفس السيانيد الذي مات به أنتوني مارستون، لا بدّ أنها ماتت مختنقة على الفور.
وصاحت فيرا: ولكن ماذا عن تلك النحلة؟ لا يمكن أن يكون ذلك مصادفة!
قال لومبارد بتجهّم: نعم ، ليست مصادفة؛ بل هي العلامة المميّزة لذلك القاتل بيننا، ذلك الوحش العابث يريد الالتزام بأنشودته الطفولية الملعونة قدر الإمكان.
للمرة الأولى كان صوتُه أقربَ إلى الصراخ، وبدا كما لو أن أعصابه التي ثبتت في المخاطر والممارسات الحرجة خلال سنوات عمله الطويلة قد انهارت أخيراً. قال بعنف: هذا جنون، جنون مطلَق: نحن كلنا مجانين!
قال القاضي بهدوء : آمل أننا لا زلنا نملك القدرة على التفكير. هل أحضر أحد منكم حقنة طبية معه إلى هذا البيت؟
فنصب الدكتور آرمسترونغ قامته وقال بصوت غير واثق تماماً:
نعم، أنا.
اتجهت إليه أربعة أزواج من الأعُين ، فاستقر همّته لمواجهة نظرات الشك العميقة في تلك الأعُين وقال: أنا احمل معي واحدة دائماً في السفر... معظم الأطبّاء يفعلون ذاك.
فقال القاضي وارغريف بهدوء : هذا صحيح، فهل لك أن تخبرنا – يا دكتور – أين هي تلك الحقنة الآن؟
- في الحقيبة في غرفتي.
فقال وارغريف : هل نستطيع التأكد من هذه الحقيقة؟
وصعد الخمسة الدرَج بمسيرة صامتة، وهناك أُفرغَت محتويات الحقيبة على الأرض، ولكن لم تكُن الحقنة هناك.
-4-
قال آرمسترونغ مهتاجاً: لا بدّ أنّ أحداً قد أخذها.
ولكن الغرفة غرقت في الصمت تماماً، ووقف آرمسترونغ وظهره إلى النافذة. كانت أربعة أزواج من الأعُين تحدّق إليه مملوءة بالشك والاتهام، فنقل نظره بين وارغريف وفيرا وكرّر بيأس وضعف: أقول لكم إنه لا بدّ أنّ أحداً قد آخذها.
كان بلور ينظر إلى لومبارد فنظر إليه بدوره، وقال القاضي: يوجد خمسة منّا في هذه الغرفة: وأحدنا هو القاتل. إن الموقف محفوف بخطر مميت وعلينا أن نبذل كل جهد لحماية الأربعَّة الأبرياء منّا. سأسألك الآن يا دكتور آرمسترونغ: ما هي العقاقير الموجودة لديك؟
فأجاب آرمسترونغ : لديّ حقيبة طبية صغيرة هنا، يمكنك تفتيشها. ستجد بعض الحبوب المنوّمة، تريونال وسلفونال وعلبة برومايد وبيكربونات الصودا وأسبرين ... ولا شيء آخر، ليس لديّ سيانيد.
قال القاضي : أنا نفسي لديّ بعض الأقراص المنوّمة، أعتقد أنها سلفونال ، وأظن أنها مميتة إذا أُعطيَت بجرعة كبيرة بما فيه الكفاية. وأنت يا سيد لومبارد معك مسدّس، أليس كذلك؟
فقال لومبارد بحدّة: وماذا في ذلك؟
- أنا فقط أقترحُ جمع ما لدى الدكتور من عقاقير وحبوب السلفونال التي معي ومسدّسك وأيّ شيء له علاقة بالعقاقير أو الأسلحة النارية ووضع ذلك كله في مكان آمن ، وبعد ذلك يجب أن يخضع كل منّا للتفتيش ، تفتيش ذاتي وتفتيش للأمتعة.
قال لومبارد : قتلني الله إن تخليّتُ عن مسدّسي.
فقال وارغريف بحدّة: سيد لومبارد، أنت شابّ قويّ البنية ولكن المفتّش السابق بلور رجل قوي البنية أيضاً. أنا لا أعرف ما قد يسفر عنه صراع بينكما، ولكن بوسعي أن أقول لك إننا سنكون إلى جانب بلور لمساعدته بكل مال دينا من قوة، أنا شخصياً والدكتور آرمسترونغ والآنسة كلايثورن يمكنك – إذن – أن تقدّر أن الاحتمالات ستكون كبيرة ضدك نوعاً ما إذا قررت أن تقاوم.
دفع لومبارد رأسه إلى الخلف وكشف عن أسنانه بما يشبه الزمجرة وقال: حسناً ، لا بأس إذن ما دمتَ قد حكّمت رأيك.
فأومأ القاضي وارغريف برأسه وقال: أنت شابّ عاقل. أين مسدّسك؟
- في درج الطاولة إلى جوار سريري.
- جيّد.
- سأحضره لكم.
- أعتقد أنه من الأفضل أن تذهب معك.
فقال فيليب بابتسامة كانت لا تزال أشبه ما تكون بالزمجرة: يا لك من شيطان شكّاك!
وساروا في الممر إلى غرفة لومبارد، وتوجّه فيليب إلى الدرج وفتحه بقوة، ثم تراجع مطلقاً سباباً ساخطاً، لقد كن الدرج المجاور للسرير فارغاً!
-5-
قال لومبارد بسخط: هل ارتحتم؟
بعدها نزع ملابسه وتمّ تفتيشه شخصياً وتفتيش غرفته بكل دقة بواسطة الرجال الثلاثة الآخرين في حين كانت فيرا كلايثورن خارجاً في الممر. واستمر التفتيش بصورة منهجية، فخضع كل من آرمسترونغ والقاضي وبلور إلى التفتيش نفسه. ثم خرج الرجال الأربعة من غرفة بلور وتوجهوا إلى فيرا، وكان القاضي هو الذي تكلم معها قائلاً: آمل أن تتفهمي – يا آنسة كلايثورن – أنه ليس بوسعنا أن نستثني أحداً، ويجب العثور على ذلك المسدّس . لا بد أنك تملكين ثوباً ضيقاً إلى حد ما، أليس كذلك؟
فأومأت فيرا إيجاباً فقال لها: إذن أرجو أن تذهبي إلى غرفتك وترتدي ذلك الثوب ثم تعودي إلينا هنا.
ذهبت فيرا إلى غرفتها وأغلقَت الباب، ثم خرجَت بعد أقل من دقيقة وقد ارتدت ثوباً ضيقاً لا يمكن أن تخفي مسدساً تحته. فقال لها القاضي: شكراً لك يا آنسة كلايثورن على تفهّمك، والآن أرجو أن تبقي هنا ريثما تفتّش غرفتك.
انتظرت فيرا بصبر في الممر حتى خرجوا، ثم دخلَت غرفتها فارتدت ملابسها القديمة وعادت إليهم حيث كانوا ينتظرون. قال القاضي: الآن نحن متأكدون من شيء واحد، وهو أنه لا توجد أسلحة ولا عقاقير قاتلة بحوزة أيّ منا نحن الخمسة، هذه نقطة جيدة. والآن سنضع العقاقير في مكان آمن. أظن أن في المطبخ صندوقاً ذا قفل لحفظ أدوات المائدة الفضية أليس كذلك؟
قال بلور : ممتاز جداً، ولكن من سيحتفظ بالمفتاح؟ أظن أنه سيكون أنت؟
لم يُجِب القاضي، بل نزل إلى المطبخ وتبعه الآخرون. كان هناك صندوق صغير مصمَّم لحفظ أدوات المائدة الفضية، وبتوجيه من القاضي وُضعت العقاقير كلها في ذلك الصندوق ثم قُفل ، ثم – طبقاً لتوجيهات القاضي أيضاً- وُضع الصندوق في خزانة الأطباق وأُقفلت الخزانة عليه أيضاً، وعند ذلك أعطى القاضي مفتاح الصندوق لفيليب لومبارد ومفتاح الخزانة لبلور وقال : أنتما الاثنان أقوانا جسدياً، وسيكون من الصعب على أيّ منكما أخذ المفتاح من الآخر، وسوف يكون من المستحيل على أيّ أحد منّا – نحن الثلاثة الباقين – أن يقوم بذلك. إذا لجأ أحدٌ إلى فتح الخزانة أو الصندوق عنوة بطريق الكسر فسيكون ذلك شاقّاً ومثيراً للضجيج ، ومن الصعب جداً أن يتمّ ذلك دون إثارة الانتباه لما يجري.
وتوقف قليلاً ثم أكمل قائلاً: ولكننا لا نزال نواجه مشكلة خطيرة، ألا وهي : ماذا حدس لمسدّس لومبارد؟
فقال بلور : يبدو لي أن صاحبه هو الشخص الأكثر احتمالاً لمعرفة الجواب.
ظهرت انبعاجة بيضاء على أنف لومبارد وقال: قلت لك – أيها الأحمق العنيد – أنه قد سُرق منّي.
فقال وارغريف : متى رأيته آخر مرة؟
- الليلة الماضية. عندما ذهبت إلى النوم كان في الدرج جاهزاً في حال حدوث أيّ شيء.
أومأ القاضي وقال: لا بدّ أنه قد سُرق هذا الصباح في أثناء الانشغال بالبحث عن روجرز أو بعد أن اكتُشفَت جثته.
فقالت فيرا: لا بدّ أنه مخبّأ في مكان ما في البيت... يجب أن نبحث عنه.
ربّت القاضي وارغريف على دقنه وقال: أشكّ في أن يُسفِر بحثنا عن أيّ شيء؛ لقد كان لدى القاتل الكثير من الوقت لاختيار مخبأ ملائم، ولا أظن أننا سنجد ذلك المسدّس بسهولة.
قال بلور باندفاع: لا أعرف أين المسدّس ، ولكن أراهن على أنني أعرف مكان شيء آخر، أقصد تلك الحقنة. اتبعوني.
وفتح الباب الأمامي وسار أمامهم حول البيت، وعلى مسافة قصيرة من نافذة غرفة الطعام وجد الحقنة وبجانبها تمثال خزفيّ محطُّم، تمثال سادس لجندي صغير!
قال بلور بارتياح: المكان الوحيد الذي يمكن أن توجد فيه؛ فبعد أن نفّذ القاتل جريمته فتح النافذة وألقى بالحقنة من النافذة، ثم التقط التمثال الخزفيّ من الطاولة وأتبعها به.
لم يكن على الحقنة بصمات فقد تمّ مسحها بعناية، وقالت فيرا بصوت حازم: والآن دعونا نبحث عن المسدّس.
قال القاضي وارغريف: بكل تأكيد، ولكن لنبقَ معاً، في أثناء ذلك. تذكّروا أننا إذا افترق بعضنا عن بعض فسنكون فرصة للقاتل.
ثم فتّشوا البيت بعناية من السطح إلى القبو ولكن دون جدوى.
المسدّس بقي مفقوداً!
* * *
الفصل الثالث عشر
-1-
واحد منّا ، واحد منّا ، واحد منّا ... كلمتان تكرّرَتا باستمرار وتردد ضجيجهما ساعة بعد ساعة في الرؤوس التي ما انفكّت تفكر فيهما. خمسة أشخاص يسكنهم الهلع، خمسة أشخاص يراقب بعضهم بعضاً، وأصبحوا بالكاد يكترثون لإخفاء توتر أعصابهم. لم يُعد بينهم سوى القليل من التظاهر في ذلك الوقت، واختفت طبقة المجاملات الرسمية الرقيقة من محادثاتهم. كانوا خمسة أعداء تربطهم معاً غريزة مشتركة للحفاظ على حياتهم.
وفجأة بدوا جميعاً دون مستوى البشر؛ كانوا ينحدرون إلى طبيعة أكثر وحشية، فجلس القاضي وارغريف مقوّساً ظهره كسلحفاة متربّصة وعيناه حادّتان ويقظتان. والمفتش السابق بلور بدا فظّاً أشعث يمشي كالدبّ وعيناه بحمرة الدم، وكان لوجهه ملامح الوحشية والغباء كما لو أنه وحش في وكره يوشك على الانقضاض على مطارديه. وفيليب لومبارد أصبحت أحاسيسه أكثر حدّة وأقلّ خموداً وأصبحت أذناه تستجيبان لأخفّ صوت، وأصبحت مشيته
أخفّ وأسرع وجسده أكثر رشاقة ولياقة، وأصبح كثير الابتسام كاشفاً عن أسنان طويلة بيضاء. وبدت فيرا كلايثورن هادئة جداً، وكانت تجلس معظم الوقت متكوّمة على نفسها في مقعدها وعيناها تحدّقان أمامها إلى الفضاء، وبدا وكأنها مصابة بالدّوار كطير ارتطم رأسه بالزجاج ورآه إنسان فجثم هناك خائفاً عاجزاً آملاً أن تنجيه عدم قدرته على الحركة. وآرمسترونغ كانت أعصابه في حالة يُرثى لها؛ كان يرتعش ويداه ترتجفان، وراح يدخّن اللفافة تلو الأخرى ويطفئها في الحال تقريباً، بدا أن وضع السكون المفروض عليهم يرهقه أكثر من غيره ، وكان بين الفينة والأخرى ينفجر بسيل من الكلمات العصبية فيقول مثلاً: يجب... يجب أن لا نجلس هنا دون أن نفعل شيئاً. يجب أن يكون لدينا ما نستطيع أن نفعله، بالتأكيد، بالتأكيد لدينا ما نستطيع أن نفعله . ماذا لو أشعلنا ناراً في الخارج...؟
قال بلور بصوت رصين: في هذا الطقس؟
عاد المطر ينهمر من جديد والريح تعصف بهبّات قوية، وكان صوت سقوط المطر المثير للكآبة يكاد يدفعهم إلى الجنون، وقد تبنّوا بموافقة صامتة خطة لتصرفاتهم، فكانوا جميعاً يجلسون في غرفة الجلوس ولا يُسمَح إلا لشخص واحد بمغادرة الغرفة في حين يبقى الأربعة الآخرون ينتظرون حتى عودته.
قال لومبارد: إنها مسألة وقت فقط. سوف يصفو الجو ونستطيع بعدها أن نفعل شيئاً؛ ترسل إشارات، نشغل ناراً، نبني طوفاً... أو أيّ شيء آخر.
فقال آرمسترونغ بضحكة متشنجة مفاجئة: مسألة وقت، وقت! ليس لدينا وقت، سنموت جميعاً.
قال القاضي وارغريف بصوت خفيض رصين وبنبرة تصميم:
ليس إذا كنّا حذرين علينا. أن نكون حذرين.
-2-
قُدّمت وجبة الغداء في موعدها ولكن دون الطقوس المعتادة، فقد ذهب الخمسة جميعاً إلى المطبخ معاً ووجدوا في خزانة الأطعمة كميّة وفيرة من الطعام المعلَّب، ففتحوا بعض العلب وتناولوا الطعام وقوفاً حول طاولة المطبخ، ثم تحركوا معاً كالقطيع عائدين إلى غرفة الجلوس، ليقعدوا ويراقب بعضهم بعضاً.
في ذلك الوقت غدت الأفكار التي تدور في رؤوسهم غير عادية وانفعالية ومريضة :
" إنه آرمسترونغ بالتأكيد؛ لقد رأيتُه وهو ينظر إليّ بطرف عينه حينذاك. إن له عينَي مجنون، مجنون تماماً! ربما لم يكُن طبيباً أصلاً. نعم ، بالطبع، إنه مجنون هارب من عيادة طبيب ما ويتظاهر بأنه طبيب، هذه هي الحقيقة، هل أخبرهم؟ هل أصرخ بأعلى صوتي؟ لا ؛ هذا سيجعله أكثر حذراً. ثم إنه يستطيع أن يبدو عاقلاً تماماً. كم الساعة الآن؟ الثالثة والربع فقط! يا إلهي! سوف أجَنّ. نعم، إنه آرمسترونغ، ها هو يراقبني الآن"...
" لن يصلوا إليّ ؛ أستطيع العناية بنفسي. لقد مرّت بي أوقات صعبة سابقاً. ولكن أين ذلك المسدّس؟ مَن أخذه؟ بحوزة من هو الآن؟ ليس بحوزة أحد، نحن نعرف ذلك؛ لقد تمّ تفتيشنا جميعاً ولا يمكن أن يكون بحوزة أيّ شخص. ولكن أحدنا يعرف أين هو "...
سيفقدون عقولهم، سيفقدون عقولهم جميعاً؛ فهم يخشون الموت، جميعناً نخشى الموت. أنا أخشى الموت، نعم ، ولكن هذا لا يمنع الموت من أن يأتي. أين قرأتُ عبارة تقول: " عربة نقل الموتى في الانتظار يا سيدي"؟ أين قرأت ذلك؟ الفتاة، سأراقب الفتاة؛ نعم، سأراقب الفتاة"...
" الرابعة إلا عشرين دقيقة؟ الرابعة إلا عشرين دقيقة فقط؟! ربما توقَفت الساعة عن الحركة. لا أفهم، نعم ، لا أفهم. أمر كهذا لا يمكن أن يحدث! ولكنه يحدث فعلاً، لماذا لا نفيق؟ نفيق! فقط لو كان باستطاعتي التفكير! رأسي... شيء ما يحدث في رأسي، رأسي سينفجر، سينفلق نصفَين! شيء كهذا لا يمكن أن يحدث! كم الساعة الآن؟ يا إلهي، الرابعة إلا الربع فقط؟!"...
" يجب أن أحتفظ بعقلي، يجب أن أحتفظ بعقلي. لو أنّي أستطيع الاحتفاظ بعقلي.. المسألة واضحة تماماً، كلها مخطَّطه سلفاً، ولكن يجب أن لا يشتبه أحد. قد تنجح الحيلة، يجب أن تنجح. مَن منهم؟ هذا هو السؤال، مَن منهم؟ أظنه ... نعم ، بالأحرى أظنه هو"...
عندما دقّت الساعة الخامسة انتفضوا جميعاً وقالت فيرا: هل يريد أحدٌ شاياً؟
سادت فترة صمت قصيرة ثم قال بلور: نعم، إذا سمحتِ.
ونهضت فيرا وهي تقول: سأذهب وأُعد الشاي، بإمكانكم جميعاً البقاء هنا.
فقال القاضي وارغريف بلطف: أعتقد أننا جميعاً نفضّل أن نأتي ونراقبك وأنت تُعدّينه يا سيدتي الشابة العزيزة.
فحدّقَت إليه فيرا ثم أطلقت ضحكة هستيرية قصيرة وقالت: طبعاً، لا بدّ أنكم تفضلون ذلك.
انتقل الخمسة إلى المطبخ حيث تمّ إعداد الشاي، ثم تناوَله فيرا وبلور، أما الآخرون فقد شربوا المرطبات، وقد فتحوا زجاجة جديدة وغمغم القاضي وهو يبتسم كالتمساح: يجب أن نكون حذرين جداً ثم عادوا إلى غرفة الجلوس . ورغم أن الفصل كان صيفاً إلا أنّ الغرفة كانت قد سادها الظلام. ضغط لومبارد زر الإنارة، ولكن الأضواء لم تشتعل فقال: طبعاً لم يتمّ تشغيل محرك الإنارة اليوم لأن روجرز غير موجود للقيام بذلك.
وتردد لحظة ثم قال: أعتقد أن بوسعنا الخروج جميعاً وتشغيل المحرك.
فقال القاضي وارغريف : في خزانة الطعام شموع، لقد رأيتها بنفسي ويمكننا استخدامها.
خرج لومبارد في حين جلس الأربعة يراقب بعضهم بعضاً، ثم عاد ومعه الشموع وكمّية من الأطباق الصغيرة، وأُشعلَت خمس شموع ووُزّعَت في أنحاء الغرفة. كانت الساعة عندئذ السادسة إلا الربع.
-3-
عند الساعة السادسة والثلث شعرت فيرا بأنّها لم تعُد تحتمل الجلوس هناك لمدة أطول، وقررَت أن تذهب إلى غرفتها وتأخذ حماماً بارداً تريح به رأسها المتعَب. نهضت وسارت باتجاه الباب، ثم تذكرَت فعادت وأخذت شمعة من الصندوق فأشعلتها وأسالت بضع نقط من الشمع في الطبق ثبّتت فيها الشمعة، ثم خرجَت من الغرفة مُغلِقة الباب خلفها وتارِكة الرجال الأربعة في غرفة الجلوس.
صعدت الدرَج ومشت في الممر إلى غرفتها، وعندما فتحت الباب توقفت فجأة وجمدت في مكانها... لقد شعرَت بخياشيم أنفها ترتعش! إنه البحر، هذه رائحة البحر في سينت تريدينيك ، هكذا كانت تلك الرائحة! لا يمكن أن تكون مخطئة بالطبع؛ المرء يشتمّ رائحة البحر على أيّ جزيرة، ولكن هذه الرائحة مختلفة. كانت هي الرائحة التي تتذكرها على الشاطئ في ذلك اليوم حينما كان البحر في حالة جَزْر والصخور مغطّاة بالأعشاب والشمس تجفّفها.
عادت بذاكرتها إلى الوراء وتذكّرَت: " هل أستطيع السباحة إلى الجزيرة يا آنسة كلايثورن؟ لماذا لا أستطيع السباحة إلى الجزيرة؟". طفل صغير سيّئ متذمر ومدلّل، ولولاه لكان هوغو غنيّاً وقادراً على الزواج بالفتاة التي أحبّها. هوغو، من المؤكد أن هوغو كان إلى جانبها، لا ، بل كان ينتظرها داخل الغرفة.
خطَت خطوة إلى الداخل، وهبّ تيَّار هواء من النافذة على الشمعة فارتعشت شعلتها قليلاً ثم انطفأت، وساد الظلام فتملّكها الخوف فجأة! تشجّعت فيرا كلايثورن قائلة لنفسها: لا تكوني حمقاء، لا تخافي، الآخرون في الطابق السفلي ولا أحد في الغرفة. لا يمكن أن يكون في الغرفة أحد؛ أنت تتخيلين الأشياء فقط.
ولكن تلك الرائحة، رائحة شاطئ سينت تريدينيك لم تكُن خيالاً، بل كانت حقيقة، وكان في الغرفة شخص! لقد سمعَت شيئاً، بالتأكيد سمعت شيئاً. وعندئذ وفيما هي واقفة هناك مصغية، شعرَت بيد باردة تلمس حنجرتها، يد رطبة تنبعث منها رائحة البحر!
-4-
صرخت فيرا ، صرخت وصرخت صراخ رعب قاتل، صرخات استنجاد فزعة يائسة. لم تسمع الأصوات القادمة من الأسفل ولا صوت كرسي ينقلب ولا صوت فتح باب ولا صوت أقدام الرجال تصعد الدرَج، بل كانت تشعر فقط برعب لا حدود له.
ثم استعادت بعض وعيها وشعرت بالأضواء ترتعش عند الباب وبالرجال يندفعون بسرعة داخل الغرفة، وسمعت صوت أحدهم يقول: ماذا حدث؟! يا إلهي! ماذا حدث؟
ارتجفت وخطَت خطوة إلى الأمام ثم انهارت على أرض الغرفة. كانت فقط نصف واعية حين أحسّت بشخص ينحني فوقها ويدفع برأسها بين ركبتيها، ثم سمعت صرخة تعجّب وقول أحدهم بسرعة: يا إلهي، انظروا ماذا هناك!
عاد إليها وعيها وفتحت عينيها ورفعت رأسها ، فرأت ما كان ينظر إليه الرجال الذين يحملون الشموع. كان شريط عريض من أعشاب البحر يتدلى من السقف، كان ذلك هو ما تأرجح في الظلام لامساً حنجرتها. كان ذلك ما ظنّته يداً رطبة، يداً غارقة عائدة من البحر لتُطبِق على عنقها وتنزع الحياة منها. فأخذت تضحك بهستيرية وقالت: كان ذلك أعشاب بحر، أعشاب بحر، هذا هو سبب الرائحة.
ثم اعتراها الشحوب مرة أخرى وغمرتها موجات وموجات من الغثيان، ومرة أخرى أمسك أحدهم برأسها ودفعه بين ركبتيها، وشعرت كأن دهوراً مرّت. كانوا يقدّمون لها شيئاً لتشربه وكانوا يضغطون بكأس على شفتيها، كأس تفوح منها رائحة عصير الليمون.
كانت على وشك أن تتجرع العصير شاعرة بالامتنان، ثم فجأة دقّت أجراس تحذير في رأسها فانتفضت معتدلة في جلستها ودفعت الكأس بعيداً وقالت بحدّة: من أين جاء هذا الشراب؟
جاء الجواب بصوت بلور محدّقاً إليها للحظة ثم قال: لقد أحضرتُه من الطابق السفلي.
فصرخت فيرا: لن أشربه.
سادت لحظة صمت ثم قال لومبارد ضاحكاً ومقدّراً: عظيم يا فيرا، أنتِ متماسكة بشكل جيّد رغم أنك فقدت نصف عمرك من الخوف، سأجلب زجاجة جديدة لم تُفتَح بعد.
وانطلق خارجاً بسرعة فقالت فيرا وهي غير متأكدة، أنا بخير الآن، سأشرب قليلاً من الماء.
ساعدها آرمسترونغ على الوقوف على قدمّيها، وذهبَت إلى الحوض وهي تتمايل وتمسك به حتى لا تسقط. فتحت الصنبور وسمحت للماء بالنزول في الحوض قليلاً ثم ملأت به كوباً في حين قال بلور ساخطاً: ذلك العصير لا بأس به.
فقال آرمسترونغ: وكيف عرفت؟
فقال بلور بغضب: لم أضع فيه شيئاً إن كان هذا ما تقصده.
قال آرمسترونغ: أنا لم أقُل إنك فعلت ذلك، ولكن في مثل حالتنا يجب أن نفترض أن أيّ شخص آخر قد عبث بالزجاجة.
دخل لومبارد الغرفة بسرعة، وكانت في يده علبة عصير جديدة دفعها تحت ناظرَي فيرا وقال: انظري يا فتاتي لا خداع مطلَقاً.
وفتح الزجاجة متابعاً: من حسن الحظ أن البيت فيه كمية وفيرة من المشروبات، كان ذلك بُعد نظر من السين أوين.
ارتجفَت فيرا بعنف وأمسك آرمسترونغ بالكأس في حين ملأها فيليب لومبارد وقال آرمسترونغ: من الأفضل أن تشربي هذا يا آنسة كلايثورن؛ لقد تعرضتِ لصدمة شديدة.
شربت فيرا بعض الليمون فعاد الدم إلى وجهها، وقال لومبارد ضاحكاً: حسناً، هذه جريمة لم تنفَّذ حسب الخطة.
قالت فيرا بما يشبه الهمس: هل تظن ذلك؟ هل كانت تلك هي الخطة؟
أومأ لومبارد موافقاً وقال: كان التوقّع أن تموتي خوفاً. بعض الناس قد يحدث لهم هذا، أليس كذلك يا دكتور؟
لم يرغب آرمسترونغ في إلزام نفسه بهذا الرأي فقال بتشكك: من المستحيل الجزم بذلك، إذا كان الشخص موضوع البحث شابّاً وبصحّة جيّدة ولا يعاني ضعفاً في القلب فهذا غير محتَمل، ولكن من ناحية أخرى...
والتقط كاس العصير التي أحضرها بلور وغمس إصبعه فيها فتذوّق الشراب بحذر شديد، فلم يتغير تعبير وجهه وقال بشيء من التردد: يبدو الطعم عاديًاً.
فاندفع بلور خطوة إلى الأمام وقال غاضباً: إذا كنتَ تعني أنني عبثت بذلك الشراب فسأطيح براسك الأحمر هذا.
أعاد العصير لفيرا عقلها فقالت مغيّرةً الموضوع: أين القاضي؟
نظر الرجال الثلاثة بعضهم إلى بعض وقال لومبارد: غريب! ظننتُه جاء معنا.
فقال بلور : وأنا أيضاً. ما الأمر يا دكتور؟ أنت الذي صعدت الدرج خلفي.
قال آرمسترونغ: كنت أظنه خلفي، فهو أبطأ منا طبعاً لأنه رجل عجوز.
ونظر بعضهم إلى بعض ثانية وقال لومبارد: هذا غريب جداً!
وصرخ بلور: يجب أن نبحث عنه.
وسار باتجاه الباب وتبعه الآخرون وفيرا خلفهم، وبينما كانوا ينزلون الدرَج قال آرمسترونغ وهو ينظر جانباً: ربما بقي في غرفة الجلوس بالطبع.
اجتازوا القاعة وصاح آرمسترونغ منادياً بصوت مرتفع: وارغريف، وارغريف، أين أنت؟
ولكنه لم يتلقَّ جواباً، وران صمت ثقيل على البيت إلاَ من صوت خفيف لسقوط الأمطار. وعند باب غرفة الجلوس وقف آرمسترونغ فجأة جامداً في مكانه، وتدافع الآخرون وأخذوا ينظرون من خلفه، وعلا صراخ أحدهم! كان القاضي وارغريف يجلس في كرسيه المرتفع في نهاية الغرفة وعلى جانبيه شمعتان تحترقان، ولكن ما صدم وأذهل المجموعة أنه كان ملفوفاً بقماش أحمر وقد وُضعت على رأسه لُمّه الشعر المستعار التي يلبسها القضاة!
أشار الطبيب إلى الآخرين بالبقاء خلفه ثم تقدّم هو نفسه إلى الشبح الذي بدا صامتاً جاحظ العينين، أنحنى إلى الأمام ونظر في الوجه الجامد، ثم بحركة سريعة أزاح لُمه الشعر المستعار فسقطت إلى الأرض كاشفة عن جبينه العالي المتصل بصلعه رأسه، وفي الوسط منه علامة مستديرة ملوَّثه كان قد نزف منها شيء ما، فرفع الدكتور آرمسترونغ اليد الجامدة وجس نبضها ثم استدار إلى الآخرين وقال بصوت ميّت خالٍ من التعبير: لقد أصيب برصاصة.
قال بلور: يا إلهي ، المسدّس!
وقال الدكتور بنفس الصوت الذي لا حياة فيه: أصيب برصاصة في رأسه قتلته في الحال!
وانحنت فيرا فنظرت إلى الشعر المستعار وقالت بصوت يرتجف رعباً: إنها لفّات الصوف الرمادي التي فقدَتها الآنسة برنت!
وأضاف بلور: والستارة الحمراء التي فُقِدت من الحمّام!
همست فيرا: لهذا السبب أرادوا هذه الأشياء.
وفجأة أطلق فيليب لومبارد ضحكة عالية غير طبيعية وقال: "خمسة جنود صغار ذهبوا إلى القضاء، أحدهم بقي في المحكمة فبقي أربعة"... هذه هي نهاية القاضي وارغريف الدمويّ. لم يعُد بوسعه إصدار مزيد من الأحكام هذه آخر مرة يرأس فيها الجلسة، لن يجُمل القضايا أو يرسل رجالاً أبرياء على الموت... كم كان إدوارد سيتون سيضحك لو كان هنا! يا إلهي، كم كان سيضحك!
سبّب اهتياجه صدمة وذهولاً للآخرين فصاحت فيرا: هذا الصباح فقط قلتَ إنه هو الشخص المجهول.
فتغيّر وجه فيليب لومبارد وبدا كأنه ثاب إلى رشده، وقال بصوت خافت: أعلم أنني قد قلت ذلك. حسناً، لقد كنتُ على خطأ. هذا واحد آخر منّا ثبتَت براءته.... بعد فوات الأوان.
* * *
الفصل الرابع عشر
-1-
حملوا جثة القاضي وارغريف إلى غرفته في الطابق العلويّ وسجّوه على سريره، ثمّ نزلوا ثانية ووقفوا في القاعة ينظر بعضهم إلى بعض.
قال بلور بصوت رصين: ماذا نفعل الآن؟
فقال لومبارد بسرعة: نأكل شيئاً، لا بدّ لنا أن نأكل شيئاً.
مرة أخرى ذهبوا إلى المطبخ، ومرة أخرى فتحوا علب طعام محفوظ وتناولوا الطعام بطريقة آليّة ودون تذوّق تقريباً. وقالت فيرا: لن آكل طعامًا معلّباً مرة أخرى.
انتهوا من تناول وجبتهم ثم جلسوا حول طاولة المطبخ ينظر بعضهم إلى بعض، وقال بلور: بقي أربعة منّا فقط. تُرى مَن سيكون التالي؟
حدّق إليه آرمسترونغ وقال بطريقة آلية تقريباً: يجب أن نكون حذرين.
ثم توقف عن الكلام فأومأ بلور موافقاً وقال: هذا ما قاله، وها هو ميّت الآن.
قال آرمسترونغ: أودّ لو أعرف كيف حدث هذا.
أطلق لومبارد سباباً ساخطاً وقال: يا لها من خدعة ماكرة لعينة! وُضِعت تلك الأعشاب البحرية في غرفة الآنسة كلايثورن فأدّت الدور الذي وُضِعت من أجله تماماً. الجميع هُرعوا إلى الأعلى ظنّاً منهم أنّها قد قُتلت، وخلال الفوضى التي سادت قام أحدهم باقتناص العجوز وهو في غفلة من أمره.
فقال بلور: لماذا لم يسمع أحدٌ صوتَ الرصاصة؟
فهزّ لومبارد رأسه وقال: كانت الآنسة كلايثورن تصرخ والريح تزأر ونحن نجري هنا وهناك ونصيح... لم يكُن ممكناً سماعها.
وتوقف لحظة ثم أكمل قائلاً: ولكن هذه الخدعة لن تنطلي علينا ثانية. على القاتل أن يجرب شيئاً آخر في المرة القادمة.
قال بلور: الأرجح أنه سيفعل.
كانت في صوته نبرة مقلقة. وتبادل الرجلان النظرات فيما قال آرمسترونغ: أربعة منّا، ولا نعرف من الذي...
قال بلور: أنا أعرف.
وقالت فيرا: ليس لديّ أدنى شك.
فقال آرمسترونغ ببطء: أعتقد أنني أعرف بالفعل.
وقال فيليب لومبارد: أعتقد أن لديّ فكرة جيّدة الآن.
ونظر الجميع بعضهم إلى بعض مرة أخرى، ثم نهضت فيرا مترنحة وقالت: أشعر بأنني لا أطيق نفسي. يجب أن أذهب إلى النوم؛ أنا منهكّة تماماً.
وقال لومبارد: وأنا أيضاً. لا جدوى من الجلوس هنا ليراقب بعضنا بعضاً.
قال بلور: لا مانع لديّ.
وغمغم الطبيب: هذا أفضل ما يمكن عمله، رغم أنني أشكّ أن أحداً منّا سيستطيع النوم.
وتحركوا باتجاه الباب في حين قال بلور: تُرى أين ذلك المسدّس؟
-2-
صعدوا الدرَج إلى الطابق العلويّ، وإلى حد كبير كانت الخطوة التالية تشبه مشهداً في مسرحية هزلية؛ فقد كان كُل منهم يمسك بمقبض باب غرفته، ثم دخلوا جميعاً غرفهم وأغلقوا الأبواب في وقت واحد كأنما حدث هذا بإشارة واحدة، وسُمِعت أصوات المزاليج والأقفال وتحريك قطع الأثاث.
أربعة أشخاص يملؤهم رعب مُميت تَتْرسوا في غرفهم حتى الصباح.
-3-
تنفس فيليب لومبارد بارتياح بعد أن وضع مقعداً تحت مقبض الباب، ثم مشى باتجاه طاولة الزينة، وعلى ضوء الشمعة المرتعش تفحّص وجهه بفضول وهمس يخاطب نفسه: هذه الحكاية تركت أثارها عليك تماماً
وفتح فمه فجأة بابتسامه تشبه تكشيرة الذئب، ثم ذهب إلى سريره فوضع ساعة يده على الطاولة المجاورة للسرير، ثم فتح درج الطاولة ووقف هناك ينظر إلى المسدّس الذي كان في داخل الدرَج!
-4-
استلقت فيرا كلايثورن على سريرها . كانت الشمعة لا تزال تشتعل إلى جوارها ولكنها لم تكُن قادرة على استجماع شجاعتها لإطفائها؛ كانت خائفة من الظلام، وقالت لنفسها مرة تلو المرّة: لا خوف عليك حتى الصباح، لم يحدث شيء ليلة أمس ولن يحدث شيء الليلة، لا شيء يمكن أن يحدث ؛ أنتِ في غرفة مغلّقة بقفل ورِتاج ولا أحد يستطيع الاقتراب منك.
وفكرت فجأة قائلة لنفسها: طبعاً أستطيع البقاء هنا، هنا في الغرفة المغلّقة. الطعام ليس مهمّاً! أستطيع البقاء هنا في أمان حتى تصل النجدة، حتى لو تأخر ذلك يوماً أو يومين.
تبقى هنا ، نعم . ولكن هل تستطيع – فعلاً – البقاء ساعة بعد ساعة دون التحدث مع أحد ودون عمل أيّ شيء غير التفكير فقط؟ ستبدأ بالتفكير في كورنوول ، في هوغو، وفيما قالته لسيريل ذلك الولد القميء المتذمر الكريه الذي يضايقها دائماً.
- آنسة كلايثورن، لماذا لا أستطيع السباحة إلى الصخرة؟ أنا أستطيع، أعرف أنني أستطيع.
هل كان صوتها هو الذي أجابه قائلاً: " طبعاً تستطيع يا سيريل، تستطيع فعلاً، أنا أعرف ذلك"؟
- إذن هل أذهب يا آنسة كلايثورن؟
- حسناً، أسمع يا سيريل، أمّك تقلق عليك جداً. سأخبرك شيئاً، بإمكانك غداً أن تسبح إلى الصخرة، سأتحدث مع أمك على الشاطئ وألهيها عنك، وعندما تفتقدك ستكون أنت هناك على الصخرة تلوّح لها. سوف تكون مفاجأة.
- حقاً؟ أنت سيدة ممتازة يا آنسة كلايثورن، ستكون مغامرة رائعة!
كانت قد قالتها، غداً. هوغو كان ذاهباً إلى نيوكواي، وعند عودته سيكون كل شيء قد انتهى. ولكن لنفرض أن الأمور لم تَسِر على هاذ النحو، لنفرض أنّ حادثّا وقع. ربما أمكن إنقاذ سيريل في الوقت المناسب، وعندها سيقول سيريل: " الآنسة كلايثورن سمحَت لي " . حسناً، وماذا في ذلك؟ على المرء أن يخاطر قليلاً أحياناً إذا حصل المحذور فبإمكانها الإنكار بصلافة فتقول: كيف تستطيع اختلاق كذبة كهذه يا سيريل؟ طبعاً أنا لم أسمح لك قط.
وسوف يصدّقونها؛ فسيريل كان يروي قصصاً من هذا النوع، كان ولداً كاذباً. سيريل سيعرف طبعاً، ولكن ذلك لا يهمّ. وعلى أيّ حال لن يقع أيّ خطأ. ستتظاهر بأنها تسبح خلفه، ولكنها ستصل متأخرة ولن يشك أحد في أمرها.
هل شك هوغو؟ هل كان ذلك هو السبب في نظرته إليها بتلك الطريقة الغريبة كأنه لا يعرفها؟ هل عرف هوغو؟ هل كان ذلك سبب مغادرته بتلك السرعة بعد انتهاء التحقيق؟ إنه لم يرّد على الرسالة الوحيدة التي أرسلتها له ، هوغو....
تململت فيرا قلقة في سريرها وقالت لنفسها: يجبّ أن لا أفكّر فيه.
كان ذلك يؤلمها كثيراً، ولكنه انتهى ويجب أن تنساه. لماذا شعرت فجأة في ذلك المساء بأنه كان معها في الغرفة؟ حدّقت إلى السقف ونظرت إلى العلاّقة المتدلّية من السقف وسط الغرفة. لم تنتبه من قبل إلى تلك العلاقة التي كانت الأعشاب البحرية تتدلّى منها.
وارتجفَت حين تذكرَت تلك اللمسة الباردة الرطبة على عنقها. لم تعجبها تلك العلاّقة المتدلية من السقف؛ إنها تجذب نظرك وتدهشك . كم هي سوداء وكبيرة!
-5-
جلس المفتش السابق بلور على طرف سريره. كانت عيناه الصغيرتان بلون الدم محاطتين بهالتين حمراوين، وبدتا يقظتين وسط كتلة وجهه الصلبة. كان كالخنزير البري الذي يوشك أن ينقضّ. لم يكُن ميّالاً إلى النوم وكان يعلم أن الخطر قريب جداً في ذلك الوقت، فقد مات ستة من عشرة، حتى إن القاضي العجوز كانت نهايته كالآخرين رغم كل ذكائه وحذره ودهائه.
تنهّد بلور بارتياح وحشي وهو يتذكّر قول القاضي العجوز: " يجب أن نكون حذرين جداً" . المنافق العجوز المعتدّ بنفسه الذي يعتقد أنه أصلح الناس، يجلس في المحكمة وهو يشعر كما لو كان ملك الملوك. لقد نال نصيبه وانتهى ولن ينفعه الحذر مرة أخرى.
والآن كان هناك أربعة منهم، الفتاة ولومبارد وآرمسترونغ وهو نفسه. وقريباً جداً سيذهب شخص آخر منهم، ولكنه لن يكون هنري بلور؛ سوف يعمل على التأكد من ذلك. ولكن ماذا عن المسدّس؟ كان ذلك هو الشيء المزعج ، المسدّس.
جلس بلور على سريره وقد زوى حاجبَيه وتغضنَت أجفانه حول عينيه الصغيرتين وأخذ يفكّر بمشكلة المسدّس. وكسر الصمتَ صوتُ دقّات الساعة في الطابق السفليّ معلناً منتصف الليل، فاسترخى قليلاً، بل بلغ به الأمر أنه استلقى على السرير ، ولكنه لم ينزع ملابسه، استلقى هناك مفكّراً، استعرض الماضي كله من البداية وبطريقة منهجية وبالتفصيل كما أعتاد أن يفعل أيام عمله في الشرطة. كانت الدراسة الشاملة للقضية هي ما يحقّق النجاح في النهاية. كانت الشمعة تحترق. وفيما كان يحاول النظر ليرى إذا كانت علبة الثقاب في متناول يده عثرَت يده بالشمعة فانطفأت، ولدهشته جعلته الظلمة قلقاً! بدا كما لو كانت مخاوف ألف سنة قد استيقظت وأخذت تتصارع في عقله لتقلقه. تراءى له طيف بعض وجوه في الهواء، وجه القاضي وهو متوَّج بتلك اللُمّة الصوفية الرمادية، والوجه البارد الميّت للسيدة روجرز، والوجه القرمزي المتشنّج لأنتوني مارستون، ثم وجه آخر شاحب ذو نظارات وشارب صغير بلون القش، وجه رآه ذات مرة، ولكن متى؟ ليس على الجزيرة بل قبل ذلك بوقت طويل، غريب أن لا يستطيع تذكّر الاسم ! وجه من النوع الساذج، كان يبدو كالأبله.
فجأة تذكّره، تذكّره وهو يحسّ بصدمة حقيقية، إنه لاندور. من الغريب أن يكون قد نسي كلّياً كان لاندور يبدو. أمس فقط كان يحاول تذكّر وجه ذلك الرجل ولم يستطع، والآن ها هو يرى بخياله كل ملامحه واضحة ومحدّدة كما لو كان رآها أمس فقط!
كان للاندور زوجة، امرأة نحيلة ذات وجه قلق، وكان لهما طفلة أيضاً، بنت في نحو الرابعة عشرة، وتساءل للمرة الأولى فيما يمكن أن يكون قد حدث لهما، البنت وأمها.
انطلق الإنذار عالياً مرة ثانية في عقله: " المسدّس، ماذا حدث للمسدّس؟ هذا أكثر أهمية بكثير *. وكلما فكّر أكثر في أمر المسدّس ازدادت حيرته، ولم يستطع فهم حكاية المسدّس هذه. أحد الأشخاص في هذا البيت يحمل ذلك المسّدس.
في الطابق السفليّ دقّت الساعة الواحدة، وانقطع حبل أفكاره وجلس على السرير متيقظاً فجأة حين سمع صوتاً، صوتاً خافتاً جداً في مكان ما خارج باب غرفته، كان شخص ما يتحرك في ظلام البيت، فشعر بلور بالعرق يتفصّد من جبينه. مَن الذي يتحرك خلسة وبصمت في الممرات؟ لا بدّ أنه ينوي شرّاً ، هذا شيء أكيد.
نزل بلور عن السرير دون إصدار صوت، ورغم بنيته الضخمة استطاع أن يصل الباب في خطوتين فقط ووقف مُرهِفاً السمع، ولكن الصوت لم يأتِ ثانية. إلاّ أنّ بلور كان مقتنعاً أنه لم يكُن مخطئاً؛ لقد سمع وقع أقدام خارج الباب تماماً. أحس بشعر رأسه يقف قليلاً وبالخوف يعود ثانية.
كان متأكداً أن شخصاً يتحرك خلسة في الليل، فأرهف سمعه، ولكن الصوت لم يتكرر. وسيطرت عليه رغبة جديدة في تلك اللحظة؛ أراد أن يخرج بأي وسيلة ليتحقق من الأمر. لو استطاع فقط أن يعرف مَن هذا الذي يتسلل في هذا الظلام... ولكنّ فُتح الباب تصرف أحمق، والأغلب أن هذا بالضبط ما كان الشخص الآخر ينتظره، بل ربما تعمّد أن يسمع بلور الصمت على أمل استفزازه للخروج لمعرفة مصدر الصوت.
وقف بلور جامداً يصغي، وأصبح بوسعه سماع أصوات في كل مكان في ذلك الوقت، صوت صرير، أزيز، همسات غامضة... ولكن عقله العنيد الواقعي عرف ماهية تلك الأصوات، كان يعلم أنها من اختلاق خياله المهتاج، و... فجأة سمع شيئاً لا علاقة له بالخيال، سمع وقع خطوات خفيفة جداً وحذرة جداً، ولكنها مسموعة بوضوح بالنسبة لرجل يرهف سمعه تماماً كما كان بلور يفعل. تحركَت الخطوات بخفة في الممر (كانت غرف لومبارد وآرمسترونغ أبعد عن رأس الدرَج من غرفته) واجتازت باب غرفته دون تردّد أو اضطراب، وعند ذلك اتخذ بلور قراره، قرّر أن يرى صاحب الخطوات . مرّت الخطوات من أمام بابه متجهة نحو الدرَج بكل تأكيد، فتساءل بلور أين كان ذلك الرجل ذاهباً؟
عندما بدأ بلور تنفيذ قراره نفّذه بسرعة مدهشة بالنسبة لرجل ضخم وبطيء مثله، فعاد على أطراف أصابعه إلى السرير ووضع علبة الثقاب في جيبه وفصل قابس المصباح الكهربائي من جانب سريره ولفّ عليه السلك. كان المصباح من الكروم وله قاعدة ثقيلة، كان سلاحاً مفيداً.
قفز بسرعة وأزاح الكرسي من تحت مقبض الباب، وبمنتهى الحذر فتح قفل الباب ورفع المزلاج وخرج إلى الممر. كان في القاعة في الطابق السفلي صوت خافت، فركض بلور حافياً إلاّ من جوربَيه إلى قمة الدرَج دون أدنى صوت.
في تلك اللحظة أدرك لماذا كان قد سمع كل تلك الأصوات بذلك الوضوح. كانت الريح قد هدأت تماماً، ولا بدّ أن السماء قد أصبحت صافية. كان ينساب من نافذة قمة الدرَج ضوء قمر شاحب ويضيء القاعة في الطابق السفلي، ولمح بلور شبحاً يخرج من الباب الأمامي للمنزل في لحظة عابرة ، فهُرع ينزل الدرَج لمطاردة الشبح، إلا أنه توقف فجأة! مرة أخرى كاد يجعل من نفسه مغفَّلاً؛ فربما كانت هذه مصيدة لاستدراجه خارج البيت، ولكنّ الذي لم يدركه الرجل الآخر هو أنه قد أرتكب خطأ وأنه قد أوقع نفسه بين يدَي بلور؛ فمِن بين الغرف الثلاث المشغولة في الطابق العلوي هناك واحدة يجب أن تكون خالية في تلك اللحظة، وما عليه الآن سوى أن يعرف أي الغرف هي الخالية.
عاد بلور بهدوء وسار في الممر، ثم توقف عند باب الدكتور آرمسترونغ أولاً ودقّ الباب، ولكن لم يُجِب أحد، فانتظر دقيقة ثم ذهب إلى غرفة فيليب لومبارد ودقّ الباب، فجاء جواب لومبارد فوراً قائلاً: مَن هناك؟
- أنا بلور . لا أظن أن آرمسترونغ في غرفته، انتظر لحظة.
ثم ذهب إلى باب الغرفة الموجودة في نهاية الممرّ ودقّ الباب أيضاً هاتفاً : آنسة كلايثورن. آنسة كلايثورن.
فأجابته فيرا فزعة: من هذا ؟ ما الأمر؟
- لا شيء يا آنسة كلايثورن، انتظري لحظة، سأعود بعد قليل.
ورجع بسرعة إلى غرفة لومبارد فانفتح الباب تلك اللحظة وخرج لومبارد يحمل شمعة في يده اليسرى. كان قد ارتدى بنطاله فوق ثياب النوم ووضع يده اليمنى في جيب ثوب النوم وقال بحدّة: ما الأمر؟!
شرح بلور الوضع بسرعة فلمعَت عينا لومبارد قائلاً: آرمسترونغ! هو صيدنا إذن.
ومشى إلى باب آرمسترونغ مُضيفاً: آسف يا بلور، ولكنّي لا أقبل شيئاً بثقة عمياء.
وطرق بشدّة على إطار الباب صارخاً: آرمسترونغ ، آرمسترونغ. ولمّا لم يجد جواباً ركع لومبارد على ركبتيه ونظر من ثقب المفتاح، ثم أدخل إصبعه الصغير في الثقب بحذر وقال: المفتاح ليس في مكانه بالداخل.
فقال بلور: هذا يعني أنه أثقل الباب من الخارج وأخذ المفتاح معه.
فأومأ فيليب موافِقاً وقال: إنه إجراء احتياطي عادي. سنمسك به يا بلور، هذه المرّة سنمسك به. انتظرني لحظة واحدة فقط.
وانطلق عائداً إلى غرفة فيرا فناداها قائلاً: فيرا، فيرا.
- ماذا ؟
- نحن نبحث عن آرمسترونغ؛ فهو ليس في غرفته. لا تفتحي بابك مهما كان الأمر، أفهمتِ؟
- نعم، فهمت.
- إذا جاء آرمسترونغ وقال إنني قُتلت أو إن بلور قُتل فلا تُعيريه انتباهاً، أفهمتِ؟ لا تفتحي بابك إلاَ إذا تحدّثنا إليك بلور وأنا معاً. هل فهمت ذلك؟
قالت فيرا: نعم، أنا لست غبية إلى هذا الحد.
قال لومبارد : ممتاز.
ثم انضمّ إلى بلور وقال: والآن لننطلق خلفه. لقد بدأت المطاردة.
قال بلور: الأفضل أن نكون حذرَين؛ فلديه مسدّس، أتذكر؟
ضحك لومبارد ضحكة خافتة فيما كان يسرع نازلاً الدرَج وقال: أنت على خطأ في هذا.
وفتح الباب الأمامي ثم قال ملاحِظاً: سقّاطة القفل محوَّلة إلى الخلف لكي يستطيع فتح الباب عند العودة.
ثم تابع بابتسامة ماكرة: والمسدّس موجود معي.
وسحب طرف المسدّس من جيبه وهو يقول: وجدتُه قد وُضع ثانية في درجي الليلة.
وقف بلور جامداً على عتبة الباب وتغيرَت ملامح وجهه، ورأى فيليب لومبارد ذلك فقال: لا تكُن بهذه الحماقة يا بلور، أنا لا أنوي قتلك. عُد ثانية وتَترْس في غرفتك إذا شئتَ، وأنا سأذهب لأبحث عن آرمسترونغ.
وانطلق في ضوء القمر، فتبعه بلور بعد فترة تردّد قصيرة وهو يقول لنفسه: أحسب أنني أسعى إلى حتفي بنفسي.
ولكن المسألة – في النهاية – أنه سبق له التعامل مع مجرمين يحملون مسدّسات، وأيّاً كانت الفضائل التي تنقصه فالشجاعة ليست من بينها، فليكُن في مواجهة الخطر، وسيواجهه بكل شجاعة، لم يكُن يخشى المواجهة المفتوحة، ولكن الخطر المجهول فقط.
-6-
نهضت فيرا التي كانت قد تُركت لانتظار النتائج فارتدت ملابسها ثم نظرت إلى الباب مرة أو مرتين. كان باباً صُلباً جيّداً وكان مقفَلاً ومغلَقاً بالمزلاج إضافة إلى كرسي من خشب البلوط تحت المقبض. لم يكُن ممكناُ خلع الباب بقوة، خصوصاً من قِبل الدكتور آرمسترونغ الذي لم يكن قوياً جسمانياً.
لو كانت هي آرمسترونغ وكانت تنوي ارتكاب جريمة لاستخدمت المكر لا القوة. وأخذت تسلّي نفسها بالتفكير في الوسائل التي قد يستخدمها، قد يُعلن أن احد الرجلَين الآخرَين قد مات كما قال فيليب، أو قد يتظاهر بأنه أصيب بجراح قاتلة هو نفسه، وقد يجرّ نفسه إلى بابها وهو يئن. كما يمكن أيضاً أن يخبرها أن النار تشتعل في البيت، وأكثر من ذلك فربما قام فعلاً بإضرام النار في البيت... نعم، هذا احتمال ممكن، يستدرج الرجلين الآخريَن خارج البيت بعد أن يكون قد سكب بعض الوقود في الداخل، ثم يشعل النار وتبقى هي كالحمقاء حابِسةً نفسها في غرفتها حتى يكون الوقت قد فات.
مشت إلى النافذة قائلة لنفسها: لا بأس: يستطيع الإنسان الفرار من النافذة بسهولة. كل ما هنالك القفز إلى حوض زهور قريب.
ثم جلست فالتقطت دفتر مذكراتها وبدأت تكتب فيه بسهولة ووضوح وهي تقول لنفسها: لا بدّ للمرء أن يجد طريقة لتمضية الوقت.
وفجأة جمدت متنبهة وقد سمعت صوتاً ! وخطر لها أنه كان صوتاً يشبه صوت تحطّم زجاج، وقد جاء الصوت من مكان ما في الطابق السفليّ. أصغت بشدّة ولكن الصوت لم يتكرر ثانية، وسمعت (أو خُيّل إليها أنها سمعت) صوت خطوات مختلَسة وصرير الدرَج واحتكاك ملابس، ولكن لم تكُن تسمع شيئاً محدَّداً، فخلصت إلى النتيجة التي كان بلور قد انتهى إليها من قبل وهي أن أصل هذه الأصوات في مخيْلتها فقط.
ولكنها سرعان ما سمعت أصواتاً ذات طبيعة مؤكّدة، أصوات أشخاص يتحركون في الطابق السفلي وغمغمة أصوات، ثم صوتاً مؤكَّداً لشخص يصعد الدرَج، ثم أبواباً تُفتَح وتُغلَق وأقداماً تصعد إلى السطح العلوي، ثم مزيداً من الصوت هناك، وأخيراً جاءت أصوات الخطوات من الممر وسمعت صوت لومبارد يقول: فيرا، هل أنت بخير؟
- نعم ، ماذا جرى؟
وسمعت صوت بلور يقول: هلاّ فتحت لنا الباب؟
ذهبت فيرا إلى الباب فأزاحت الكرسي وفتحت القفل وسحبت المزلاج، ثم فتحت الباب فظهر الرجلان وهما يتنفسان بصعوبة، وكانت أقدامهما والأجزاء السفلى من بنطاليَهما تقطر ماء، فأعادت السؤال: ماذا جرى؟
قال لومبارد: اختفى آرمسترونغ!
-7-
صرخت فيرا: ماذا؟!
فقال لومبارد: اختفى من الجزيرة تماماً.
فأكّد بلور قائلاً: نعم ، اختفى . هذا ما حدث، اختفى كحاوٍ وغد يقوم بحيلة.
قالت فيرا بصبر نافد: هراء! إنه يختبئ في مكان ما بالتأكيد.
فقال بلور: لا ، لا يمكن؛ لا يوجد مكان للاختباء في هذه الجزيرة فهي جرداء كباطن اليد، وضوء القمر في الخارج وكل شيء واضح كالنهار. إنه غير موجود في أيّ مكان.
قالت فيرا: لعلّه عاد أدراجه إلى البيت.
فقال بلور: لقد خطر لنا ذلك ففتشنا البيت، ولا بدّ أنك سمعتنا. آرمسترونغ ليس هنا، أؤكد لك أنه قد اختفى.. اختفى تماماً، تبخّر في الهواء.
قالت فيرا بتشكّك: لا أصدق ذلك.
فقال لومبارد: هذه هي الحقيقة يا عزيزتي.
وتوقف لحظة ثم قال: توجد حقيقة صغيرة أخرى. لقد كُسر أحد ألواح الزجاج في نافذة غرفة الطعام، ويوجد ثلاثة جنود صغار فقط على الطاولة!
* * *
الفصل الخامس عشر
-1-
ثلاثة أشخاص جلسوا في المطبخ يتناولون طعام الإفطار.
أشرقت الشمس في الخارج وكان الجو جميلاً. العاصفة صارت مجرَّد ذكرى من الماضي، ومع تغيّر الطقس حدث تغيّر في مزاج السجناء الموجودين في الجزيرة فبدوا مثل أشخاص استيقظوا للتوّ من كابوس. كان هناك خطر، نعم ، ولكنه كان خطراً في وضح النهار. اختفى ذلك الجو الذي شلّهم خوفاً والذي التفّ حولهم كغطاء الأمس، في حين كانت الريح تعوي في الخارج.
قال لومبارد: سنحاول اليوم إرسال إشارات مستخدِمين مرآة من أعلى نقطة في الجزيرة، ولا بدّ أن شابّاً نابهاً يتجول على الشاطئ سيفهم إشارة الاستغاثة حين يراها. آمل ذلك؛ وفي المساء يمكننا أن نشعل ناراً، ولكن المشكلة أنه لا يوجد الكثير من الحطب، ثم إنهم قد يأخذونها فقط على أنها غناء ورقص ولهو.
قالت فيرا: لا بدّ أنّ أحداً يستطيع قراءة إشارات موريس، وعندها سيأتون لأخذنا قبل حلول المساء بوقت طويل.
فقال لومبارد: صحيح أن الجوف صاف الآن، ولكن البحر ما زال عالياً والموج مرتفع جداً، ولن يكون بوسعهم إرسال قارب إلى الجزيرة قبل الغد.
فصاحت فيرا : ليلة أخرى في هذا المكان!
هزّ لومبارد كتفيه وقال: يتعيّن علينا مواجهة ذلك. أظن أن أربعاً وعشرين ساعة ستكون كافية، وإن استطعنا البقاء حتى ذلك الحين فسوف نجتاز الأزمة.
تنحنح بلور وقال: من الأفضل أن نصل إلى فهم واضح لمسألة آرمسترونغ وما حلّ به.
فقال لومبارد: حسناً، لدينا دليل واحد، يوجد فقط ثلاثة تماثيل خزّفية لجنود صغار على الطاولة، يبدو كما لو أن آرمسترونغ قد لقي حتفه.
قالت فيرا: إذن فلماذا لم تجدا جثته؟
قال بلور: بالضبط.
هزّ لومبارد رأسه وقال: إنها مسألة غريبة، لغز يصعب فهمه!
قال بلور بتشكك: ربما ألقيَت جثته في البحر.
فقال لومبارد بحدّة: ومَن ألقاها؟ أنت ؟ أنا لقد رأيتَه بنفسك يخرج من الباب الأمامي ثم عدَت ووجدتني في غرفتي، وخرجنا فبحثنا معاً. متى كان يمكن أن أقتله وأحمل جثته حول الجزيرة بالله عليك؟
قال بلور: لا أعرف، ولكني أعرف شيئاً واحداً.
قال لومبارد: ما هو؟
فقال بلور: المسدّس.... مسدّسك بحوزتك الآن، ولا يوجد ما يثبت أنه لم يكُن بحوزتك طول الوقت.
- ماذا تقول يا بلور؟! لقد تمّ تفتيشنا جميعاً.
- أجل، ولكن ربما كنت خبّأته قبل التفتيش ثم استعدتَه بعد ذلك.
- أيها الأحمق الساذج! أقسم لك إنه أُعيدَ وضعه في درجي، وكانت أكبر مفاجأة حدثت لي في حياتي عندما شاهدته هناك.
قال بلور: أتطلب منّا أن نصدّق شيئاً كهذا؟ لماذا يعيد آرمسترونغ أو أيّ شخص آخر المسدّس إلى درجك؟
رفع لومبارد كتفيه في حيرة وقال: ليست لديّ أدنى فكرة. هذا جنون، آخر ما يمكن للمرء أن يتوقعه. يبدو تصرفاً لا هدف له.
وافق بلور قائلاً: أجل، ليس له أيّ هدف، كان بوسعك أن تأتي بفكرة أفضل.
- إذن فربما كان هذا دليلاً على أنني أقول الحقيقة، أليس كذلك؟
- أنا لا أنظر إلى الأمر بهذه الطريقة.
- قال فيليب: لا تنظر إلى الأمر بهذه الطريقة؟
قال بلور: أصغ إليّ يا سيد لومبارد، إذا كنتَ رجلاً شريفاً كما تحاول أن تبدو..
فغمغم لومبارد مقاطِعاً: متى سبق لي أن زعمت بأنّي رجل شريف؟ أنا لم أقُل ذلك قط.
واصل بلور متغابياً: إذا كنتَ تقول الحقيقة فما يمكن فعله هو شيء واحد، ما دام المسدّس معك فسنبقى أنا والآنسة كلايثورن تحت رحمتك ، والشيء الوحيد الصحيح هو وضع ذلك المسدّس مع الأشياء الأخرى في الصندوق المقفَل، وسيبقى مفتاح معي وآخر معك.
قال فيليب لومبارد ببرود: لا تكُن أبله.
- ألا توافق على ذلك؟
- بالطبع لا أوافق، هذا المسدّس لي وأنا أحتاجه للدفاع عن نفسي، وسأحتفظ به.
فقال بلور: في هذه الحالة لا بد من الوصول إلى استنتاج واحد.
- بأنني أنا السيد أوين؟ استنتج كما يحلو لك، ولكني سأسألك : إذا كان هذا صحيحاً فلماذا لم أقتلك بذلك المسدّس ليلة أمس؟ لقد سنحت لي الفرصة أن أفعل ذلك نحو عشرين مرة.
هزّ بلور رأسه وقال: لا أعرف، هذه حقيقة. لا بدّ أنه كان لديك سبب.
لم تكُن فيرا قد شاركت في الحديث حتى تلك اللحظة فتململت وقالت: أعتقد أنكما تتصرفان كشخصين أحمقَين.
نظر إليها لومبارد وقال: ما هذا الذي تقولينه؟!
فقالت فيرا: لقد نسيتم أبيات الأنشودة، ألا ترون أن فيها دلائل؟
وأعادت قراءة بعض الأبيات بنبرة ذات معنى قائلة: " أربعة جنود صغار ذهبوا إلى البحر، سمكة رنجة حمراء ابتلعت أحدهم فبقي ثلاثة". ثم تابعت وهي تنظر نحوهما: سمكة رنجة حمراء... هذا هو الدليل الحيوي. آرمسترونغ ليس ميتاً، لقد أخذ معه تمثال الجندي ليجعلكم تعتقدون أنه مات. بوسعكم أن تقولوا ما تشاؤون ولكن آرمسترونغ ما زال على الجزيرة، واختفاؤه ليس سوى وسيلة لصرف نظركم عن شيء معيَّن .
جلس لومبارد ثانية وقال: أتعرفين؟ قد تكونين على حق.
قال بلور: أجل، ولكن إذا صح ذلك فأين هو؟ لقد فتشّنا المكان بدقة.
قالت فيرا بتشكّك: لقد بحثنا جميعاً عن المسدّس. ولم نجده، أليس كذلك؟ ولكنه كان موجودا ً في مكان ما طوال الوقت.
فغمغم لومبارد: يوجد فرق صغير في الحجم – يا عزيزتي – بين رجل ومسدّس.
قالت فيرا: هذا لا يهمني، أنا متأكدة من أنني على صواب.
وغمغم بلور: كأنما هو قد دلّ على نفسه حين ذكر سمكة رنجة حمراء في الأنشودة، أليس كذلك؟ كان بوسعه كتابتها بطريقة مختلفة
فصاحت فيرا: ولكن ألا تفهمان؟ إنه مجنون، كل هذا جنون؛ تطبيق أبيات تلك الأنشودة جنون، تلبيس القاضي ومقتل روجرز بالبلطة عندما كان يقطع الحطب، تنويم السيدة روجرز بحيث راحت في سُبات أبدي، ترتيب ظهور نحلة طنّانة عند موت الآنسة برنت.. هذا كله يبدو كما لو أن طفلاً يلعب لعبة مرعبة. كل شيء يجب أن يأتي متطابقاً.
فقال بلور : أجل ، انتِ على حق.
وفكّر دقيقة ثم أضاف: على أيّ حال لا توجد حديقة حيوانات في الجزيرة، سيواجه بعض الصعوبة في هذه النقطة.
فصاحت فيرا: ألا ترى؟ نحن حديقة الحيوانات! ليلة أمس لم نكَد نكون مخلوقات بشرية. نحن حديقة الحيوانات!
-2-
قضوا الصباح على السفوح الصخرية المقابلة للبر الرئيسي يتناوبون على إرسال الإشارات باستخدام مرآة، ولكن لم يظهر أيّ دليل على أنّ أحداً قد رآهم ولم يتلقّوا أية إشارة إجابة. وكان الطقس صافياً ومشوباً بضباب خفيف، وفي الأسفل كان البحر عالي الموج ولم تكُن فيه قوارب.
كانوا قد قاموا بجولة تفتيش أخرى فاشلة ولم يعثروا على أيّ أثر للطبيب المفقود، ونظرت فيرا إلى البيت من حيث كانوا يقفون وقالت بنفَس متقطع بعض الشيء: المرء يشعر بأمان أكثر هنا في العراء. لا أريد العودة إلى البيت مرة أخرى.
قال لومبارد: إنها فكرة جيدة؛ نحن بأمان تامّ هنا ولا أحد يستطيع أن يصل إلينا قبل أن نراه من مسافة بعيدة.
قالت فيرا: سوف نبقى هنا.
فقال بلور: لا بدّ لنا من قضاء الليل في مكان ما، وسوف يتعيّن علينا العودة إلى البيت عندئذ.
ارتعشت فيرا وقالت: لا أستطيع تحمّل ذلك، لا أستطيع قضاء ليلة أخرى هناك.
قال فيليب: ستكونين آمنة بما فيه الكفاية عندما تغلقين عليك باب غرفتك.
فغمغمت فيرا: أعتقد ذلك. وتمطّت مادّة ذراعَيها وغمغمت: ما أحلى الإحساس بالشمس مرة أخرى!
ثم فكّرت في نفسها: يا للغرابة! أكاد أكون سعيدة، ومع ذلك أحسب أنني في خطر حقيقي. الآن يبدو – على نحو ما – أنه لا شيء يهمّ، ليس في ضوء النهار. أشعر بأنني مليئة بالقوة ، أشعر أنني لا يمكن أن أموت!
نظر بلور إلى ساعته وقال: الساعة الآن الثانية، ماذا عن الغداء؟
فقالت فيرا بإصرار: لن أعود إلى البيت، سأبقى هنا في العراء.
- ما هذا يا آنسة كلايثورن؟ تعرفين أنه لا بدّ لك من المحافظة على قوّتك.
فقالت فيرا: سوف أُصاب بالغثيان إذا رأيت علبة طعام أخرى. لا أريد أيّ طعام... الناس يُمضون أياماً دون طعام عندما يلتزمون ببرنامج للنحافة .
قال بلور: حسناً، أما بالنسبة لي فأنا أحتاج إلى وجبات منتظمة . ماذا عنك يا سيد لومبارد؟
ردّ فيليب: بصراحة أنا أيضاً لا تروق لي كثيراً فكرة الأطعمة المعلَّبة. سأبقى هنا مع الآنسة كلايثورن.
تردد بلور فقالت فيرا: سأكون بخير تماماً، ولا أظن أنه سيطلق النار عليّ بمجرَّد أن تدير ظهرك.. إذا كان هذا ما يقلقك.
قال بلور: لا بأس إذا كان هذا رأيك، ولكننا اتفقنا على أن لا نفترق.
فقال فيليب: أنت الذي تريد الذهاب إلى عرين الأسد، سآتي معك إذا رغبت.
- لا ، لن تأتي؛ ابقَ هنا.
فضحك فيليب وقال: إذن فأنت لا تزال خائفاً منّي. لماذا؟ أستطيع أن أقتلكما أنتما الاثنين حالاً لو أردتُ.
قال بلور: اجل، ولكن هذا لن يكون مطابقاً للخطة. شخص واحد فقط في كل مرة، ويجب أن يتمّ ذلك بطريقة معيّنة.
قال فيليب: حسناً، يبدو انك تعرف كل شيء عن الموضوع.
فقال بلور: "طبعاً" ، ثم أضاف: أشعر بشيء من الرهبة من الذهاب إلى البيت بمفردي.
فقال فيليب بلطف: إذن هل سأعيرك مسدّسي؟ الجواب: لا، لن أفعل. ليس بهذه البساطة، شكراً لك.
هزّ بلور كتفيه وبدأ يصعد المنحدّر الحادّ الانحدار في طريقة للبيت، وقال لومبارد بلطف: حان وقت الطعام في الحديقة فالحيوانات منتظمة جداً في عاداتها.
قالت فيرا بقلق: أليس خطيراً جداً ما يفعله هذا الرجل؟
- ليس بالمعنى الذي تقصدين. لا أظن أنه خطر؛ فآرمسترونغ غير مسلَّح – كما تعلمين – وبلور يساوي ضعفه من حيث القوة الجسدية على أية حال، كما أنه في أقصى الحذر، ثم إنه من المستحيل تماماً أن يكون آرمسترونغ في البيت... أنا أعرف أنه ليس هناك.
- ولكن هل يوجد أيّ تفسير آخر؟
قال فيليب بلطف: نعم، بلور.
- يا إلهي! هل تعتقد حقاً أنه...؟
- اسمعي يا فتاتي، لقد سمعتِ رواية بلور، وعليك الاعتراف بأنها إذا كانت صحيحة فليس من المعقول أن تكون لي علاقة باختفاء آرمسترونغ. روايته تبرّئني ولكنها لا تبرئه هو. ليس لدينا سوى أقواله حول سماعه خطوات ورؤيته شخصاً ينزل الدرَج ويخرج من الباب الأمامي. القصة كلها قد تكون كذبة، وربما كان قد تخلّص من آرمسترونغ قبل ساعتين من ذلك الوقت.
- كيف؟
هزّ لومبارد كتفيه ثم تابع: هذا ما لا نعرفه، ولكن في رأيي يوجد خطر واحد يجب أن نخشى منه، وهذا الخطر هو بلور. ماذا نعرف عنه؟ لا شيء تقريباً، كل حكاية الشرطي السابق هذه قد تكون كلاما فارغاً. ربما كان أيّ شيء، ربما كان مليونيراً مجنوناً أو رجل أعمال مهووساً أو سجيناً فارّاً من أحد السجون... الأمر المؤكَّد الوحيد هو أنه كان بوسعه تنفيذ كل جريمة من تلك الجرائم التي وقعت هنا.
جفّ الدم في عروق فيرا. وقالت بصوت مختنق إلى حد ما: لنفترض أنه سيصل إلينا.
قال لومبارد بلطف وهو يربّت على المسدّس في جيبه: " سأبذل كل جهدي لمنعه من ذلك". ثم نظر إليها بفضول وقال: تختبرين الثقة بي، أليس كذلك يا فيرا؟ هل أنت متأكدة تماماً من أنني لن أقتلك؟
فقالت فيرا: لا بدّ للمرء من الوثوق بأحد ما. الواقع أنني أعتقد أنك مخطئ بحق بلور، ما زلتُ أظن أنه آرمسترونغ.
ثم التفتت إليه فجأة وقالت: ألا تشعر بأن شخصاً ما يراقبنا وينتظر؟
قال لومبارد ببطء: إنها مجرَّد حالة عصبية.
فقالت فيرا باندفاع: إذن فقد شعرتَ بذلك؟
ارتعشت، ثم انحنت قليلاً إلى الأمام وقالت: قل لي، ألا تعتقد أن...؟ أحياناً لا أكون متأكدة، ربما كان صوت الضمير.
قال بهدوء شديد بعد لحظة صمت: إذن فأنتِ أغرقتِ ذلك الطفل فعلاً؟
فقالت فيرا باهتياج: لا، لم أفعل ، لم أفعل، وليس لك الحق في قول ذلك.
فضحك بخفّة وقال: بلى لقد فعلتِ، يا لك من فتاة! لا أعرف لماذا وليس بإمكاني تصوّر السبب. الأغلب انه كان في الموضوع رجل، هل كان الأمر كذلك؟
وفجأة شعرَت فيرا بالإرهاق والوهن يسريان في أطرافها فقالت بصوت فاتر: نعم، كان في الموضوع رجل.
قال لومبارد بلطف: شكراً، هذا ما أردتُ معرفته.
وفجأة شعرت فيرا بالأرض تهتز تحت قدمَيها فانتفضت وقالت بدهشة: ماذا حدث؟ الأمر ليس هزّة أرضية، أليس كذلك؟
فقال لومبارد: لا ، لا ، هذا أمر غريب! لقد سمعت صوت ارتطام قوي هزّ الأرض وسمعت صراخاً، فهل سمعتهِ؟
حدّقا باتجاه البيت وقال لومبارد: الصوت آتٍ من هناك، والأفضل أن نذهب ونرى.
- لا ، لا ، لن أذهب.
- كما تشائين، سأذهب أنا.
فقالت فيرا بيأس: حسناً، سآتي معك.
صعدا المنحدّر إلى البيت، وكانت الشرفة هادئة وساكنة يغمرها ضوء الشمس ترددا هناك لحظة، وبدلاً من الدخول من الباب الأمامي قاما بالدوران حول البيت بحذر... فوجدا بلور. كان ممدَّا على الشرفة الحجرية في الجهة الشرقيّة وقد تحطّم رأسه وتشوه نتيجة سقوط كتلة ضخمة من الرخام الأبيض عليه!
نظر فيليب إلى الأعلى وقال: نافذة مَن هذه التي في الأعلى مباشرة؟
فقالت فيرا بصوت خافت متهدّج: إنها نافذة غرفتي! وهذه هي الكتلة التي تحوي الساعة التي كانت فوق المدفأة. تذكرتُ الآن، كانت .... كانت منحوتة على شكل دبّ.
وأخذَت تكرّر كلماتها وصوتها يهتزّ ويرتعش قائلة: كانت منحوتة على شكل دبّ!
-3-
أمسكها فيليب من كتفيها وقال بصوت خشن مندفع: اتضح الأمر الآن؛ آرمسترونغ مختبئ في مكان ما في ذلك البيت. سأذهب وأقضي عليه.
ولكن فيرا تعلَقت به وصاحت: لا تكُن مجنوناً. لقد جاء دورنا الآن؛ آرمسترونغ يريدنا أن نبحث عنه، إنه يترقب ذلك.
توقّف فيليب وقال متفكراً: كلامك فيه بعض الصحّة.
فصاحت فيرا: أيّاً كان الأمر فها أنت تعترف الآن بأنني كنت على حق.
أومأ برأسه وقال: أجل، لقد فزتِ؛ إنه آرمسترونغ دون شك. ولكن أين أخفى نفسه بالله عليك؟! لقد مشّطنا المكان كله تمشيطاً دقيقاً.
فقالت فيرا باندفاع: ما دمتما لم تجداه ليلة أمس فلن تجده الآن.. هذا هو المنطق.
قال لومبارد متردداً: أجل، ولكن...
- لا بدّ أنه أعدّ مكاناً سرّياً في وقت سابق. بالطبع، هذا ما قد يفعله طبعاً؛ مخبأ سري كجحور الكهنة في القصور الريفية القديمة.
- ولكن هذا المكان ليس قديماً.
- بوسعه أن يفعل ذلك لهذه الغاية بشكل خاص.
هزّ فيليب لومبارد رأسه وقال: لقد مسحنا المكان في أول صباح لنا هنا، وأقسم أنه لا يوجد أيّ شيء خفيّ.
قالت فيرا: لا بدّ من وجود مخبأ.
قال لومبارد: أتمنى أن أجد...
فصاحت فيرا: أجل، تتمنّى أن تجده، وهو يعرف ذلك، إنه هناك ، ينتظرك.
قال لومبارد وهو يسحب المسدّس من جيبه قليلاً، لديّ هذا كما تعرفين.
- أنت قلت إن بلور لم تكُن لديه مشكلة، كان أكثر من ندّ لآرمسترونغ، وقد كان كذلك من الناحية الجسدية. كما أنه كان حذراً أيضاً، ولكن الذي يبدو أنك لا تدركه هو أن آرمسترونغ مجنون، رجل مجنون لديه كل الميزات، وهو أشد مكراً بمرتين من أي عاقل.
أعاد لومبارد المسدّس إلى جيبه وقال: تعالَي إذن.
-4-
قال لومبارد أخيراً: ماذا ستفعلين عندما يحلّ الليل؟
وعندما لم تُجِب فيرا واصل بطريقة اتهامية: ألم تفكري بذلك؟
قالت بيأس: ماذا نستطيع أن نفعل؟ يا إلهي! أنا خائفة.
قال فيليب لومبارد مفكّراً: الطقس صاف وسوف يكون القمر منيراً. يجب أن نجد مكاناً، فليكُن في الأعلى عند صخور القمة، فهناك يمكننا الجلوس والانتظار حتى الصباح. ويجب أن لا ننام، يجب أن نبقى يقظَين كل الوقت، وإذا صعد أحدٌ إلينا فسأطلق عليه النار.
وتوقف قليلاً ثم تابع: ولكنك ستشعرين بالبرد وأنت بهذه الملابس الخفيفة، أليس كذلك؟
فأطلقت فيرا ضحكة جافّة وقالت: أشعر بالبرد؟ ولكني سأكون أكثر برودة إذا متّ.
قال فيليب لومبارد بهدوء: أجل، هذا صحيح.
تململَت فيرا ضجراً وقالت: سأفقد عقلي إذا جلست هنا لمدة أطول. دعنا نتجوّل قليلاً.
- حسناً
أخذا يذرعان المكان صعوداً وهبوطاً بمحاذاة خط الصخور التي تشرف على البحر. كانت الشمس تنحدر نحو المغيب وترسل أشعّة رقيقة غمرتهما بوهج ذهبي، وكان فيليب ينظر إلى الأسفل نحو البحر فقال فجأة: ما هذا هناك؟ هل ترين؟ إلى جانب تلك الصخرة الكبيرة ، لا ، بعدها إلى اليمين.
حدّقت فيرا وقالت: تبدو كأنها ملابس شخص ما.
فقال لومبارد ضاحكاً: شخص يسبح ، أليس كذلك؟ غريب! كنت أظنها مجرَّد أعشاب بحرية.
قالت فيرا: لنذهب ونرَ.
قال لومبارد وهما يقتربان: إنها ملابس، مجرَّد كومة ملابس، وهناك حذاء أيضاً. هيا لنصعد من هنا.
وتسلّقا الصخور، ولكن ما لبثت فيرا أن وقفت فجأة وقالت إنها ليست ملابس ، بل هي جثة رجل!
كانت الجثة محشورة بين صخرتين وقد ألقى بها المدّ ذلك الصباح، ووصل لومبارد وفيرا إليها وانحنيا عليها فأبصرا ذلك الوجه القرمزي الشَاحب، كان وجهاً غارقاً بشعاً، وهتف لومبارد: يا إلهي، إنه آرمسترونغ!
* * *
الفصل السادس عشر
-1-
مرّت دهور ودارت عوالم وتجمّد الزمن، توقف تماماً ، مر بألف دهر. لا ، بل كان كل ذلك دقيقة أو نحوها. كان شخصان يقفان وينظران إلى جثة رجل ميت، وببطء شديد رفع كل من فيرا كلايثورن وفيليب لومبارد رأسيهما ونظر كل منهما إلى الآخر...
-2-
ضحك لومبارد وقال: هكذا الأمر إذن يا فيرا، أليس كذلك؟
قالت فيرا: لا أحد في هذه الجزيرة، لا أحد أبداً سوانا نحن الاثنين.
كان صوتها هامساً لا أكثر ، وقال لومبارد: بالضبط ، فنحن نعرف أين نقف الآن، أليس كذلك؟
قالت فيرا: كيف قمتَ بتلك الخدعة، خدعة الدبّ الرخامي؟
هزّ لومبارد كتفيه وقال: خدعة سحرية يا عزيزتي، خدعة متقَنة تماماً!
والتقَت أعُينهما ثانية فقالت فيرا لنفسها: لماذا لم أرَ وجهه على حقيقته من قبل؟ لقد كان ذئباً بالتأكيد، ذلك الوجه وتلك الأسنان المرعبة!
قال لومبارد متوعداً بصوت كالزمجرة : هذه هي النهاية، هل تفهمين؟ وصلنا إلى الحقيقة الآن، وها هي النهاية.
قالت فيرا بهدوء: أفهم ذلك.
ونظرت باتجاه البحر وهي تقول لنفسها: الجنرال ماك آرثر كان يحدق إلى البحر. متى؟ أمس فقط، أو لعله كان أول أمس . هو أيضاً قال حينها: " هذه هي النهاية" . كان قد قالها بقَبول، بل وبترحاب أيضاً.
ولكن الكلمات والفكرة أثارت تمرداً في نفس فيرا فقالت لنفسها: لا ، لا ينبغي أن تكون هذه هي النهاية.
ونظرت إلى الأسفل إلى جثة الرجل الميّت وقالت: مسكين هو الدكتور آرمسترونغ!
فقال لومبارد ساخراً: ما هذا ؟ رثاء نسائي!
قالت فيرا: لِمَ لا؟ أليس لديك شفقة؟
قال لومبارد: ليس لديّ شفقة نحوك، لا تتوقعي ذلك.
نظرت فيرا إلى الجثة وقالت: يجب أن ننقله إلى البيت.
- للانضمام إلى الضحايا الآخرين فيما أظن، بأناقة وترتيب بالنسبة لي أرى أن يبقى حيث هو.
قالت فيرا: على الأقلّ لنبعده عن مياه المدّ.
ضحك لومبارد وقال: إذا شئتِ
انحنى يسحب الجثة، واستندت فيرا عليه وهي تساعده وأخذت تسحب وتجرّ بكل قوتها، وقال لومبارد لاهثاً: ليست مهمة سهلة.
ولكنهما تمكذنا من سحب الجثة أخيراً إلى نقطة بعيدة عن علامة ارتفاع المدّ، وقال لومبارد وهو يستعيد ترتيب هيئته: هل ارتحتِ؟
قالت فيرا: تماماً.
كان في نبرتها ما أثار فزعه فاستدار بسرعة، وعندما ضرب بيده على جبيه كان متأكداً أنه سيكون خالياً. ابتعدت فيرا متراً أو اثنين ووقفت في مواجهته والمسدّس في يدها فقال لومبارد: هذا هو سبب اهتمامك النسائي إذن، لقد أردتِ سحب مسدّسي.
فأومأت إيجاباً وأمسكت بالمسدّس بثبات دون أيّ ارتعاش كان الموت قريباً من فيليب لومبارد، ولم يكُن قريباً منه في يوم من الأيام كما في تلك اللحظة، ولكنه لم يُهزم بعد. قال بنبرة الأمر أعطيني هذا المسدّس.
فضحكت فيرا ساخرة فقال: هيّا ، ناوليني إياه.
كان عقله السريع يعمل سائلاً نفسه: ما هي أفضل طريقة؟
ما هو أفضل أسلوب؟ هل آخذها بالحديث؟ هل أعطيها إحساساً بالطمأنينة أم أنقضَ عليها؟
طوال حياته كان لومبارد يختار طريق المخاطرة، وقد اختار هذا الطريق الآن. تكلّمَ ببطء وبلهجةِ مَن يريد فتح نقاش فقال: انظري إليّ يا فتاتي العزيزة، فقط أصغي إليّ...
ثم انقضّ بسرعة النمر و... وبصورة تلقائية ضغطت فيرا على الزناد. بقي جسد لومبارد الواثب جامداً في وضع الانقضاض لحظة، ثم هوى بقوة على الأرض.
خطت فيرا إلى الأمام بحذر والمسدّس جاهز في يدها، ولكنها لم تكُن بحاجة إلى الحذر، فقد كان فيليب لومبارد ميتاً وقد اخترقت الرصاصة قلبه.
-3-
غمر الارتياح فيرا، ارتياح عظيم عميق.
أخيراً انتهى كل شيء؛ لا مزيد من الخوف ولا مزيد من توتّر الأعصاب، كانت وحدها في الجزيرة، وحدها مع تسع جثث. ولكن ما أهمية ذلك ما دامت حيَّة تُرزَق؟ جلست هناك وهي تشعر بسعادة عميقة وسلام عميق... لا مزيد من الخوف.
-4-
مالت الشمس إلى المغيب عندما تحركت فيرا أخيراً. كان ردّ فعلها قد جعلها غيرَ قابلة للحركة ، ولم يكُن في نفسها مجالّ لأيّ شيء عدا ذلك الإحساس الرائع بالسلامة. وأدركت – في ذلك الوقت – أنها جائعة وبحاجة إلى النوم، النوم في الدرجة الأولى، أرادت أن تلقي بنفسها على سريرها وتنام ، وتنام ، وتنام ...
لعلهم سيأتون في الغد وينقذونها، ولكن ذلك لم يهمّها فعلاً. لم يعُد يهمّها أن تبقى هنا، ليس الآن وقد أصبحت وحيدة. قالت لنفسها متنهدة: آه، يا للسلام المبارَك!
وقفت على قدميها ونظرت باتجاه البيت. لم يعُد هناك ما تخاف منه، ما من رعب بانتظارها، فقط بيت عاديّ حديث جيّد البناء، لكنها ومنذ ساعات قليلة فقط كانت عاجزة عن النظر تجاه ذلك البيت دون أن ترتجف خوفاً! الخوف... ما أغرب الخوف! حسناً، لقد انتهى كل ذلك، لقد انتصرت وقهرَت خطراً مميتاً، وبفضل سرعة بديهتها ودهائها قلبّت الطاولة على من أراد تدميرها.
بدأت بصعود السفح إلى البيت. كانت الشمس في طريقها إلى المغيب والجهة الغربية من السماء تختلط فيها الألوان الحمراء والبرتقالية. كان كل شيء جميلاً ومريحاً فقالت فيرا لنفسها: ربما كان كل ما حدث حلماً.
كم كانت متعَبة، متعبة جداً! كانت أطرافها تؤلمها وأجفانها ثقيلة فوق عينيها، ولكن لا خوف بعد الآن، فقط نوم، نوم ، نوم....
النوم بسلام منذ أن أصبَحت وحيدة في الجزيرة، وتذكّرت الأنشودة: " جندي صغير بقي وحيداً تماماً "... وابتسمت لنفسها.
دخلَت من الباب الأمامي، وأحسّت باستغراب حين أحسّت أن البيت يسوده السلام أيضاً فقالت لنفسها: في الأحوال العادية لا يستطيع أحد النوم وحوله جثث في كل غرفة نوم تقريباً.
فكّرَت أن تذهب إلى المطبخ وتأكل شيئاً، ولكنها ترددت قليلاً ثم صرفت الفكرة عن ذهنها لأنها كانت متعَبة للغاية حقاً. توقفَت لحظة عند باب غرفة الطعام، ورأت في وسط الطاولة ثلاثة تماثيل خزفية، فضحكت فيرا وقالت: أنتم متأخرون يا أعزائي.
التقطت اثنين منها فطوّحت بهما خارج النافذة، فسمعت صوت تحطَمهما على حجارة أرضية الشرفة. ثم أخذت التمثال الأخير وأمسكته بيدها قائلة: بإمكانك أن تأتي معي. لقد فزنا يا عزيزي ، لقد فزنا.
كانت القاعة معتمة في غسق المغيب، وأخذت فيرا تصعد الدرَج ويدها مطبقة على الجندي الصغير. راحت تصعد ببطء لأن التعب حلّ بساقَيها، وفجأة تذكّرت الأنشودة: " جندي صغير بقي وحيداً تماماً " ... كيف كانت نهايتها؟ آه، نعم : " تزوّج ، ثمّ لم يبقَ أحدّ".
تزوج! وفجأة ساورها إحساس مفاجئ بأن هوغو كان في البيت! إحساس قوي، نعم، هوغو كان في الطابق العلوي ينتظرها. قالت فيرا لنفسها: لا تكوني حمقاء. لقد نال منك التعب بحيث أصبحت تتخيلين أشياء عجيبة جداً.
وواصلت صعودها إلى الطابق العلوي، وعند رأس الدرَج سقط شيء من يدها دون أن يُحدث صوتاً يُذكّر على السجادة الوثيرة. لم تنتبه إلى أنها أسقطت المسدّس! فقد كان اهتمامها مركَّزاً على الإمساك بالتمثال الخزفي الصغير.
كم كان البيت هادئاً! ومع ذلك لم يَبدُ كبيت خالٍ تماماً! لا بد أن هوغو ينتظرها في الأعلى. عادت تتذكر الأنشودة: " جندي صغير بقي وحيداً تماماً"... ماذا كان السطر الأخير؟ هل كان فيه شيء عن الزواج أم شيء آخر؟
وصلت إلى باب غرفتها. كان هوغو ينتظرها في الداخل، كانت متأكدة تماما من ذلك، فتحت الباب و.... انطلقت من فمها شهقة! ما هذا الشيء المتدلي من علاّقة السقف؟! حبل عُقدِت أنشوطته وكرسي للوقوف عليه، كرسي يمكن ركله بعيداً. هذا ما كان هوغو يريده، وكان هذا – بالطبع – هو آخر سطر في الأنشودة: " ذهب وشنق نفسه ، ثم لم يبقَ أحد"!
وسقط التمثال الخزفي الصغير من يدها فتدحرج دون أن يعترضه شيء وتكسّر على الجدار. وخطت فيرا إلى الأمام كأنها منوَّمة مغناطيسياً! هذه هي النهاية. هنا اليد الباردة الرطبة، يد سيريل التي كانت قد لامست حنجرتها بالطبع. " بإمكانك الذهاب إلى الصخرة سيريل" ... هذه الكلمات كانت هي الجريمة، بهذه السهولة، ولكن الذكرى بقيت تلاحقها بعد ذلك أبداً.
صعدت على الكرسي وعيناها جامدتان أمامها كما لو كانت تمشي من نومها، فوضعت الأنشوطة حول عنقها وعدّلَت وضعها بشكل مناسب. كان هوغو هناك ليشهد أنها فعلت ما كان يجب أن تفعله، ثم ركلَت الكرسي بعيداً...
* * *
الخاتمة
قال السيد توماس ليغ مساعد المفوَّض في شرطة سكوتلانديار بانزعاج: ولكن القصة كلها غير معقولة!
فقال المفتش مين باحترام: أعرف ذلك يا سيدي.
واصل مساعد المفوَّض: عشرة أشخاص موتى على جزيرة ليس عليها أحدٌ حي؟ إنه أمر غير معقول!
قال المفتش مين ببلاهة: ومع ذلك فهذا ما حدث يا سيدي.
قال السيد توماس ليغ: سحقاً لهذا كله يا مين ! لا بدّ أن أحد قتلهم.
- هذه هي المشكلة يا سيدي.
- ألم تفهم شيئاً من تقرير الطبيب؟
- لا يا سيدي. وارغريف ولومبارد قُتلا بالرصاص، الأول في رأسه والثاني في قلبه، والآنسة برنت ومارستون ماتا مسموميَن بالسيانيد، والسيدة روجرز ماتت بجرعة زائدة من الكلورال، والسيد روجرز ضُرب رأسه ببلطة، وبلور تحطّم رأسه، وآرمسترونغ مات غرقاً ، وماك آرثر مات بسبب كسر في جمجمته نتيجة ضربة على مؤخرة الرأس، وفيرا كلايثورن ماتت شنقاً.
طرَفت عينا مساعد المفوَّض وقال: حكاية تثير الغثيان!
وفكّر لدقيقة او دقيقتين ثم قال بانزعاج: هل تريد أن تقول إنك لم تستطع استخلاص أي شيء مفيد من سكان ستيكلهيفن؟ هذا شيء مخجل! لابدّ أنهم يعرفون شيئاً.
هزّ المفتش مين كتفيه وقال: إنهم مواطنون عاديّون يعملون في البحر، قيل لهم إن الجزيرة قد تمّ شراؤها بواسطة شخص يُدعى أوين، وهذا كل ما يعرفونه.
- من الذي جهّز الجزيرة وأعدّ الترتيبات الضرورية؟
- رجل يُدعى موريس ، إيزاك موريس.
- وماذا يقول عن الموضوع برمّته ؟
- لا يستطيع أن يقول شيئاً؛ لقد مات.
تجهّم وجه مساعد المفتّش وقال: هل تعرف أيّ شيء عن موريس هذا؟
- نعم يا سيدي، نعرف أنه لم يكُن رجلاً محبوباً، وقد كان متورطاً في الاحتيال في قضية أسهُم بينيتو قبل ثلاث سنوات. نحن متأكدون من ذلك رغم أننا لا نستطيع الإثبات؛ لقد كان السيد موريس هذا حذراً للغاية.
- وهل كان هو وراء قضية الجزيرة هذه؟
- نعم يا سيدي؛ هو الذي نفّذ عملية البيع، رغم أنه أوضع بجلاء أنه سيشتري الجزيرة لطرف ثالث لم يذكر اسمه.
- لا بدّ أنه بالإمكان معرفة شيء من الزاوية المالية المتعلقة بالموضوع.
فابتسم المفتش مين وقال: ليس إذا كنت تعرف موريس؛ فبوسعه التلاعب بالأرقام بحيث يجعل أفضل محاسب معتمَد في البلد لا يعرف رأسه من رجليه. لقد عرفنا ذلك من قضية بينيتو؛ فقد غطّى آثار مستخدمه بصورة متقّنة.
تنهد الرجل الآخر في حين تابع المفتش مين: كان موريس هو الذي أعدّ كافة الترتيبات في ستيكلهيفن. قدّم نفسه باعتباره ممثّلاً للسيد أوين، وكان هو الذي شرح للناس هناك عن تجربة حول رهان للعيش في جزيرة خالية لمدة أسبوع، وأنه يجب عدم الانتباه لأي استغاثة تصدر عنهم هناك.
تململ السيد توماس ليغ في جلسته وقال: أتريد أن تقول لي إن هؤلاء الناس لم يشتبهوا في شيء؟ ولا حتى عندئذ؟
فهزّ مين كتفيه وقال: هل نسيتّ – يا سيدي – أن هذه الجزيرة كانت مملوكة سابقاً للمليونير الأمريكي إلمر روبسون؟ لقد كان يقيم أكثر الحفلات إثارة هناك. ليس لديّ شك في أن السكان المحليين ذهلوا لما كان يجري، ولكنهم أصبحوا معتادين على ذلك وأخذوا يشعرون بأن أيّ شيء له علاقة بجزيرة الجنود سيكون بالضرورة غير معقول. هذا شيء طبيعي إذا أمعنتَ النظر إليه يا سيدي.
واعترف مساعد المفتش بهذا الاحتمال متجهماً في حين قال مين : فريد ناراكوت، وهو الرجل الذي أخذ المجموعة بقاربه إلى هناك، قال شيئاً له دلالة. قال إنه كان دَهِشاً لرؤية نوعية أولئك الناس؛ فلم يكونوا كضيوف حفلات السيد روبسون. أعتقد أن هذا بسبب حقيقة أنهم جميعاً عاديون وبسطاء، ولهذا فقد خالف أوامر موريس وأخذ قارباً إلى الجزيرة بعد أن سمع عن إشارة الاستغاثة .
- متى ذهب هو والرجال الآخرون؟
- الإشارات شوهدت من قِبَل مجموعة من شباب الكشّافة صباح الحادي عشر من الشهر، ولم يكُن ممكناً الذهاب ذلك اليوم. وصل الرجال هناك بعد ظهر اليوم الثاني عشر في أول فرصة سنحت لقارب للرسوّ على شاطئ الجزيرة هناك، وهم متأكدون تماماً من أن أحداً لم يكُن بإمكانه مغادرة الجزيرة قبل وصولهم؛ لقد كان البحر مضطرباً بعد العاصفة.
- أما كان بوسع أحد السباحة إلى الشاطئ؟
- المسافة من الجزيرة إلى الشاطئ تزيد عن الميل، وقد كان البحر هائجاً والأمواج مرتفعة تضرب الشاطئ، وكان هناك الكثير من الناس، كشّافة وآخرون على صخور الشاطئ يراقبون الجزيرة.
تنهّد مساعد المفوَّض وقال: ماذا عن مكبّر الصوت والأسطوانة اللذين وجدتموهما في البيت؟ ألم يكُن بإمكانكم العثور على شيء فيهما قد يساعد في هذه الناحية؟
فقال المفتش مين: لقد حقّقتُ في هذه المسألة الأسطوانة أعدّت بواسطة مؤسسة تُنتج الكثير من المواد المسرحية والمؤثّرات السينمائية، وقد أُرسلَت إلى السيد أوين بواسطة إيزاك موريس وكان المعتقَد أنها طُلبت لفرقة هواة سيقومون بأداء مسرحية جديدة لم تُعرَض بعد. وقد أعيد النص المكتوب مع الأسطوانة.
قال ليغ: وماذا عن المادة المسجَّلة؟
فقال المفتش مين بهدوء: سآتي إلى ذلك يا سيدي.
ثم تنحنح وتابع: لقد حققت في هذه الاتهامات تحقيقاً وافياً بقدر ما أستطيع، مبتدئاً بالسيد والسيدة روجرز اللذين كانا أوّل من وصل إلى الجزيرة، كانا يعملان في خدمة عجوز عانس تُدعى الآنسة برادي ماتت فجأة، ولم أستطع أن أحصل على شيء محدَّد من الطبيب الذي أشرف عليها، وقد أكّد أنها لم تمُت بسبب سُم دسّاه لها أو أيّ شيء من هذا القبيل، إلاّ أنه شخصياً يعتقد أنه كان في الأمر مسلك غريب وأنها ماتت نتيجة إهمالها، وهذه حالة من النوع المستحيل إثباته تماماً في رأيه.
وصمت لحظة ثم أكمل: نأتي إلى القاضي وارغريف: وأمر واضح؛ فقد كان هو الذي أصدر الحكم على سيتون. بالمناسبة سيتون هذا وُجد مذنباً دون شك. لقد ظهر دليل بعد شنقه يثبت ذلك دون أدنى شك، ولكن التعليقات كانت كثيرة في أثناء المحاكمة وتسعة أشخاص من عشرة كانوا يرون أن سيتون بريء وأن الكلمة الإجمالية للقاضي صيغت بدوافع انتقامية.
- وماذا عن الآنسة كلايثورن؟
- الآنسة كلايثورن تبيّن لي أنها كانت مربيّة لدى عائلة وقع فيها حادث وفاة بسبب الغرق، ولكن لا يبدو أنه كانت لها أي علاقة بهذا الحادث، بل إنها تصرفت تصرفاً سليماً بأن سبحت بعيداً في محاولة للإنقاذ، وهي – في الواقع – قد عرضَت نفسها إلى الخطر وأُنقذّت في اللحظة المناسبة.
قال مساعد المفوَّض وهو يتنهد : ثمّ ماذا؟ أكمل.
أخذ مين نفساً عميقاً وتابع: الدكتور آرمسترونغ رجل معروف جداً، له عيادة استشارية في شارع هارلي، وهو مستقيم تماماً وعلى مستوى متميز في مهنته، لم أستطع العثور على أيّ تاريخ له حول عمليات غير مشروعة أو أيّ شيء من هذا القبيل. صحيح أنه كان قد أجرى عملية جراحية لامرأة اسمها كليز سنة 1925 في ليتمور عندما كان ملحَقاً بالمستشفى هناك ، كانت عملية في البطن وماتت المريضة على طاولة العمليات، ولكن نقص البراعة – في نهاية المطاف – ليس عملاً إجرامياً ، كما لم يكُن لذلك دافع.
- والآنسة برنت ؟
- كانت لديها خادمة تُدعى بباتريس، وقد حملت سفاحاً فطردتها الآنسة برنت، فذهبت وأغرقت نفسها. ليست قصة لطيفة ولكنها – أيضاً – ليست عملاً إجرامياً.
قال مساعد المفوَّض : يبدو أن هذه هي النقطة؛ السيد أوين تعامل مع قضايا لا تستطيع المحاكم النظر فيها.
تابع مين سرد قائمته فقال: مارستون الشابّ كان يقود سيارته بطيش وتهوّر، وسبق أن وُجّه له إنذاران بسحب رخصته، وفي رأيي أنه كان يجب منعه من القيادة، هذا كل ما يتعلق به، أما جون ولوسي كومبس فكانا طفلَين دعسهما وماتا قرب كامبردج. بعض أصدقاءه بشهادات لصالحه فأُطلق سراحه بعد دفع غرامة.
- وماذا عن الجنرال آرثر؟
- لم أجد شيئاً محدَّداً بخصوصه. سجله طيّب، وقد خدم في أثناء الحرب، إلى آخر هذه الأمور. كان يخدم تحت إمرته في فرنسا شخص اسمه آرثر ريتشموند قُتل في الجبهة. لم يكُن بينه وبين الجنرال أيّ احتكاك من أيّ نوع ، بل الواقع أنهما كانا صديقين حميمّين . حصلَت بعض الأخطاء في ذلك الوقت كان يقوم قائد ما بالتضحية برجالة دون ضرورة، ولعلّ خطأ من هذا النوع قد حدث.
قال مساعد المفوَّض: أجل، لعل هذا ما حدث. وماذا عن فيليب لومبارد؟
- فيليب لومبارد تورّط في بعض القضايا المثيرة للفضول في الخارج ، وارتكب مخالفات قانونية مرة أو مرتين وعُرفت عنه جرأته وأنه ليس فوق مستوى الشبهات، رجل من النوع الذي قد يرتكب بضعة جرائم في أماكن لا تخطر على البال.
ثم توقف هنيهة قبل أن يقول مكملاً: نأتي الآن إلى بلور.
وتردّد مين لحظة ثم أضاف: كان واحداً منّا بالطبع. تململ مساعد المفوَّض وقال بنبرة تنمّ عن قناعة: بلور كان رجلاً سيئاً.
- هل تعتقد ذلك يا سيدي؟
- قال مساعد المفوَّض : لقد اعتقدت ذلك دائماً، ولكنه كان دائماً من الذكاء بحيث يفلت من العقاب. أعتقد أنه أرتكب جريمة الشهادة الزور في قضية لاندور. لم أكن مرتاحاً لتطورات القضية حينها ولكن لم أستطع العثور على شيء؛ فأوكلت مهمة التحقيق لهاريس، ولكنه لم يجد شيئاً كذلك. ما زلت أعتقد بأنه كان من الممكن العثور على شيء لإدانته لو أننا عرفنا كيف نبحث جيداً. الرجل لم يكُن مستقيماً.
مرّت لحظة صمت ثم قال السيد توماس ليغ: قلتَ إن إيزاك موريس مات، فمتى مات؟
- خطر لي أن تسألني عن ذلك يا سيدي. إيزاك موريس مات ليلة الثامن من آب (أغسطس) تناول جرعة زائدة من مادة منوّمة من مشتقّات حامض البربتيوريك كما فهمت، ولم يظهر ما يدّل على أن الأمر كان حادثاً أو انتحاراً .
قال ليغ ببطء: هل يهمّك معرفة ما أفكر فيه يا مين؟
- يمكنني التخمين يا سيدي.
فقال ليغ برصانة: لقد تمّ موت موريس بتوقيت محكّم.
أومأ المفتش مين برأسة موافقاً وقال: كنت أعلم أنك ستقول ذلك يا سيدي.
ضرب مساعد المفوَّض بقبضته الطاولة بقوة وصاح: هذه القضية مدهشة.. مستحيلة! عشرة أشخاص يُقتَلون على جزيرة صخرية جرداء ولا نعرف من قام بذلك أو سبب القتل أو كيف تمّ!
سعل مين وقال: حسناً، الأمر ليس كذلك تماماً يا سيدي؛ نحن نعرف السبب إلى حدّ ما. شخص متطرف مهووس بتحقيق العدالة صمّم على أن يقتصّ من أشخاص لم تستطع يد العدالة الوصول إليهم، فاختار عشرة أشخاص، ليس مهماّ إن كانوا مذنبين أم لا.
تحرك مساعد المفوَّض في جلسته وقال بحدّة: أليس...؟ يبدو لي...
ثم توقف عن كلامه، وانتظر المفتش باحترام فتنهّد ليغ وهزّ رأسه قائلاً: استمرّ: خطر لي أنني قد وصلت إلى نقطة ما أو أنني وقعت على دليل ما ، ولكن الفكرة زالت من رأسي الآن، واصل ما كنتَ بصدده.
فتابع مين : لنقل إن المطلوب كان قتل عشرة أشخاص، وقد تمّ قتلهم، أما السيد أوين فقد أنجز مهمته ثم استطاع الاختفاء من الجزيرة كالشبح بطريقة أو بأخرى.
قال مساعد المفوَّض : حيلة اختفاء بارعة من الدرجة الأولى، ولكن أتعرف يا مين؟ لا بدّ من وجود تفسير.
فقال مين : ما تفكّر فيه – يا سيدي- هو أنه إذا لم يكُن الرجل في الجزيرة فليس من الممكن له مغادرة الجزيرة، وطبقاً لإفادة الأطراف المعنية فإنه لم يكُن في الجزيرة، إذن فالتفسير الوحيد المحتمَل هو أنه كان في الواقع أحد الأشخاص العشرة.
أومأ مساعد المفوَّض موافقاً في حين أكمل مين جادّاً: لقد فكّرنا بذلك وبحثناه بالتفصيل يا سيدي. بداية نحن لا نجهل تماماً ماذا حدث في " جزيرة الجنود " كانت فيرا كلايثورن تكتب مذكراتها، وكذلك إميلي برنت، كما أن وارغريف العجوز سجّل بعض الملحوظات بالأسلوب الجاف القانوني المليء بالألغاز، ولكنها واضحة، وترك بلور بعض الملحوظات أيضاً. كل الروايات تتطابق ، والوفيات حدثت بالتسلسل التالي:
ثم التقط أنفاسه وقال مكمّلاً: مارستون، السيدة روجرز، ماك آرثر، السيد روجرز، الآنسة برنت، وارغريف. وبعد موت وارغريف تشير مذكرات فيرا كلايثورن إلى أنّ آرمسترونغ ترك البيت ليلاً وأن بلور ولومبارد خرجا للبحث عنه، وقد أضاف بلور كلمتين إلى ملحوظاته: آرمسترونغ اختفى.
عقد مساعد المفوَّض حاجبَيه مفكراً فيما يقوله مين الذي أكمل: والآن يبدو لي يا سيدي، ومع أخذ كل شيء في الحسبان، أننا نستطيع هنا أن نجد تفسيراً معقولاً تماماً. آرمسترونغ غرق كما تذكر، فإذا سلّمنا بأنه كان مجنوناً فيمكن القول بأنه قد أقدم على الانتحار بإلقاء نفسه من فوق الصخرة في البحر بعد أن قتل الآخرين جميعاً، أو أنه غرق في أثناء محاولته السباحة إلى الشاطئ.
ثم رفع إصبعه وقال مستدركاً: هذا حلّ معقول، ولكنه لا يصمد أمام التحليل يا سيدي؛ فأولاً لدينا تقرير الطبيب الشرعيّ الذي وصل إلى الجزيرة في وقت مبكّر صباح يوم الثالث عشر من آب (أغسطس) ، وهو لم يذكر الكثير ممّا قد يساعدنا ولكنه قال إن القتلى ماتوا قبل ست وثلاثين ساعة على الأقل، وربما ماتوا قبل ذلك بكثير، ولكنه كان دقيقاً بعض الشيء فيما يختصّ بآرمسترونغ، إذ قال إنه بقي في الماء ما بين ثماني ساعات وعشر قبل أن يقذفه الموج إلى الشاطئ. هذا يمكن تفسيره كما يلي: آرمسترونغ ذهب إلى البحر – على الأرجح – ليلة العاشر أو الحادي عشر من آب، والسبب أننا وجدنا على شاطئ الجزيرة النقطة التي قذف البحر جثته إليها، وهي فجوة ضيقة بين صخرتين، ووجدنا هناك بقايا ملابس وشعر... لا بدّ أن الجثة قُذفت إلى ذلك المكان يوم الحادي عشر، لنقل في نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً عند أقصى حالة للمدّ، وبعد ذلك هدأت العاصفة وأصبحت علامات أقصى مدّ بعد ذلك أدنى بكثير.
ظهر الاهتمام على وجه مساعد المفوَّض في حين أكمل مين: أفترضُ أنك قد تقول إن آرمسترونغ استطاع الإجهاز على الثلاثة الباقين قبل أن يذهب إلى البحر تلك الليلة، ولكن لدينا نقطة أخرى لا يمكنك تجاوزها، وهي أنه قد تمّ سحب جثة آرمسترونغ فوق أقصى علامة مدّ قذفه البحر عندها. لقد وجدنا جثته فوق أعلى نقطة لأيّ مدّ، وكانت مسجّاة على الأرض بشكل منتظم وبعناية، وهذا يؤكّد نقطة لا شك فيها وهي أنه كان في الجزيرة شخص ما بعد وفاة آرمسترونغ. وتوقف قليلاً ثم تابع: إلى أي شيء يقودنا هذا بالضبط؟ إلى ذلك الموقف صباح يوم الحادي عشر، وهو اختفاء آرمسترونغ. يبقى لدينا ثلاثة أشخاص: لومبارد وبلور وفيرا كلايثورن. لومبارد قُتل بالرصاص ووُجدَت جثته على شاطئ الجزيرة قرب جثة آرمسترونغ، وفيرا كلايثورن وُجدت مشنوقة في غرفتها، وجثة بلور كانت في الشرفة وقد تحطّم رأسه نتيجة لسقوط ساعة رخامية ضخمة يبدو منطقيّاً أنها سقطت عليه من النافذة العلوية.
سأل مساعد المفوَّض بحدّة: نافذة مَن كانت؟
- نافذة فيرا كلايثورن. والآن لنأخذ كل واحد من هذه الحالات على حدة يا سيدي. أولاً فيليب لومبارد: لنُقل إنه دفع تلك الكتلة الرخامية لتسقط فوق رأس بلور ثم خدّر فيرا كلايثورن وعلقها في المشنقة، ثم نزل إلى شاطئ البحر وأطلق النار على نفسه، ولكن لو كان الأمر كذلك فمّن أخذ المسدّس منه؟ لقد وُجد ذلك المسدّس في البيت بعد باب الممرّ عند رأس الدرَج للطابق الثاني عند باب غرفة وارغريف مباشرة.
قال مساعد المفوَّض : بصمات مَن منهم عليه ؟
- بصمات فيرا كلايثورن يا سيدي.
- ولكن.... الرجل حي، ثم...
- أعرف ما تريد قوله يا سيدي. تريد أن تقول إنها فيرا كلايثورن، أطلقت النار على لومبارد ثم عادت إلى البيت ومعها المسدّس، فأسقطت كتلة الرخام على بلور ثم شنقّت نفسها، هذا كلام معقول إلى حد ما. يوجد كرسي في غرفتها وعلى مقعد الكرسي توجد آثار أعشاب بحرية ونفس، الشيء على حذائها. يبدو كأنها وقفت على الكرسي فعدّلَت وضع الحبل حول عنقها ثم ركلت الكرسي بعيداً، ولكن ذلك الكرسي وُجد غير مركول بعيداً، بل كان في مكانه قرب الحائط ضمن بقية المقاعد، وقد تمّ وضعه في هذا المكان بعد موت فيرا كلايثورن بواسطة شخص آخَر.
ثم صمت لحظة مرتّباً أفكاره وعاد يستطرد: هذا يترك لنا بلور، وإذا قلتَ لي إنه بعد قتل لومبارد وحفز فيرا كلايثورن على شنق نفسها ذهب وأسقط كتلة رخام على نفسه بواسطة ربطها بحبل أو نحو ذلك، إذا قلت لي هذا فإنني – ببساطة – لن أصدّق؛ فالرجال لا ينتحرون بهذه الطريقة، وأكثر من ذلك فبلور لم يكُن من ذلك النوع من الرجال. نحن نعرف بلور ونعرف أنه ليس من ذلك النوع من الرجال الذي قد تصفه بالرغبة في العدالة المجرَّدة.
قال مساعد المفوَّض : أوافقك على ذلك.
قال المفتش مين: لهذا يا سيدي فلا بدّ أنه كان في الجزيرة شخص آخر، شخص أعاد ترتيب الأمور عندما انتهى كل شيء، ولكن أين كان طوال الوقت؟ وإلى أين ذهب؟ الناس في ستيكلهيفن متأكدون تماماً من أنه ما كان بوسع أحد مغادرة الجزيرة قبل وصول قارب الإنقاذ، ولكن في تلك الحالة..ِ.
وتوقف عن كلامه فقال مساعد المفوَّض: في تلك الحالة ماذا؟
تنهّد مين وهزّ رأسه وانحنى إلى الأمام قائلاً: في تلك الحالة مَن الذي قتلهم؟!
* * *
ملحق
هذا نصّ وثيقة أرسلها إلى شرطة سكوتلانديارد قبطان سفينة الصيد" إيماجين" :
لقد أدركتُ منذ أيام شبابي الأولى أنّ طبيعتي تضم كتلة من المتناقضات؛ فلديّ خيال رومَنسي لا شفاء لي منه، وقد كانت عادة وضع وثيقة مهمة في زجاجة ورميها في البحر تثيرني عندما كنت أقرأ قصص المغامرات في طفولتي، وما زالت تثيرني حتى الآن. ولهذا السبب لجأت إلى هذه الوسيلة؛ فكتبت اعترافي ووضعت الورقة في زجاجة وأغلقت الزجاجة بإحكام لألقيها في البحر. أحسب أن فرصة عثور أيَّ كان على اعترافي هذا لا تتجاوز نسبتُها واحداً في المئة، ولو حصل هذا (إذا لم يكُن هذا الإقرار تملّقاً لنفسي) فسوف يُحَلّ لغز جريمة غامضة لم يعرف أحدٌ حلّها حتى الآن.
كما أنني وُلدتُ ولديّ ميول أخرى سوى الميول الرومنسية ، فأنا أشعر بابتهاج ساديّ شديد عندما أرى أحداً يموت أو عندما أكون سبباً في موته. أتذكّر تجارِب كنت أجريها على الدبابير ومختلف حشرات الحدائق الأخرى. منذ طفولتي المبكرة كنت أشعر بقوة بشهوة القتل، ولكن إلى جانب هذا كانت تناقض معها خاصيّة أخرى ، وهي أنه كان لديّ حس قويّ بالعدالة، فممّا يثير اشمئزازي أن يتعرض شخص بريء أو حيوان للعذاب أو الموت بسبب تصرّف من جانبي، وقد شعرت شعوراً قوياً على الدوام بأن العدالة ينبغي أن تسود، ولذلك فقد يكون من المفهوم (أظن أن طبيباً نفسيّاً سيفهم) أنه طبقاً لتكويني الذهني بحالته هذه فقد اتخذتُ القانون مهنة لي، واحترافُ العمل القانوني أشبع كل غرائزي.
كنت دائماً مفتوناً بكلّ ما يتصل بالجريمة والعقاب، وأستمتع بقراءة كل أنواع الروايات البوليسية وقصص المغامرات المثيرة، وقد استنبطتُ – لمتعتي الشخصية – أبرع طرق ارتكاب الجرائم.
وعندما جاء الوقت الذي تبوّأتُ فيه رئاسة محكمة تشجَعت الغريزة السريّة الأخرى لديّ على التطور. كانت رؤية مجرم بائس يتألّم في قفصه في حين تقترب نهايته ساعة بعد ساعة تملؤني ببهجة رائعة، ولكني ألفِتُ الانتباه إلى أنني لم أكن أجد أيّ متعة في رؤية رجل بريء بهذا الوضع . لقد أوقفتُ السير في قضايا في مناسبتين على الأقل وكنت مقتنعاً خلالها أن المتهَم واضح البراءة، فكنت أبدي توجيهاتي للمحلّفين بأنه لا توجد قضية في الأساس.
ولكن بفضل كفاءة ونزاهة جهاز الشرطة لدينا فإن معظم المتهَمين الذين مثلوا أمامي كانوا مذنبين. وأريد التأكيد هنا على أن هذا الوضع ينطبق على قضية الرجل المدعوّ إدوارد سيتون، كان مظهره وسلوكه مضلّلين، وقد نجح في ترك انطباع جيّد لدى المحلفّين، ولكن الذي كان واضحاً بالنسبة لي أن الرجل قد ارتكب الجريمة التي أتُّهم بها، وهي قتل امرأة عجوز وثقت به، قتلها بكل وحشية! وقد أخبرَتني بذلك خبرتي الشخصية الطويلة في المجرمين وأنواعهم وطرقهم.
إن لي سمعة كقاضي إعدام، ولكن هذا ليس صحيحاً؛ لقد – كنتُ دائماً منصفاً ودقيقاً عندما كنت أقدّم إجمالاً لأي قضية، وكل ما فعلته هو حماية هيئة المحلفين من التأثير الذي ينتج عن المناشدات العاطفية التي يلجأ إليها بعض المحامين، وكنت ألِفتُ انتباههم حينئذ إلى الأدلة الحقيقية.
لقد بدأتُ أشعر بتغيّر في نفسي منذ بضع سنوات، تضاؤل الرغبة في التوجيه وتنامي الرغبة في التصرف التنفيذي بدلاً من إصدار الأحكام. لقد أردتُ أن أرتكب جريمة أقوم بها بنفسي – وهذا اعتراف صريح منّي). وأدركت أن هذا بمثابة رغبة الفنان في التعبير عن نفسه. كنتُ، أو كان بوسعي أن أكون، فناناً في الجريمة، وكان خيالي الذي قيّدَته مقتضيات عملي قد جمح سرّاً وأصبح قوة هائلة. يجب أن .... يجب ..... أن يجب أن ارتكب جريمة! والأكثر من ذلك أنه يجب أن لا تكون جريمة عادية، بل يجب أن تكون جريمة مثيرة، شيئاً مذهلاً، شيئاً غير مألوف. في هذه الناحية بالذات ما زال لديّ خيال مراهق فيما أظن.
أردتُ عرضاً مسرحياً، مستحيلاً. أردت أن أقتل نعم، أردت أن أقتل. ولكن رغم التناقض الذي قد يبدو للبعض، فقد كنت مقيَّداً وملتزماً بحسيّ الفطري للعدالة وبأن البريء لا يجب أن يعاقَب. ثم فجأة خطرت لي الفكرة، خطرَت انطلاقاً من ملاحظة عابرة وردَت خلال حديث عادي لي مع طبيب.
كان ممارساً عامّاً عادياً ليس له أيّ تميّز خاص، وكان قد ذكر بصورة عفوية أن كثيراً من الجرائم يحدث ولا ينال منه القضاء، وضرب مثلاً بقضية معَّينة ، وهي سيدة عجوز كانت مريضة في عيادته ثم ماتت مؤخَّراً، وقد قال إنه كان مقتنعاً بأن موتها نتج عن عدم إعطائها علاجاً بواسطة رجل وزوجته كانا يعملان في خدمتها، وقد كانا سيجنيان فائدة كبرى من موتها، وقال إن حالة من هذا النوع يستحيل تماماً إثباتها، ولكنه – مع ذلك – كان واثقاً من الحقيقة في قراره نفسه. وأضاف أنه توجد حالات كثيرة ذات طبيعة مشابهة تحدث دائماً، حالات من الجريمة المدَّبرة، وكلها لا ينال منها القانون.
كانت هذه بداية الموضوع كله. وفجأة رأيت طريقي واضحاً، وصمّمت على أن أرتكب عدت جرائم على نطاق واسع وليس مجرَّد جريمة واحدة. خطرّت لي أنشودة صغيرة منذ أيام طفولتي، أنشودة " الجنود العشرة الصِّغار " . كانت قد أدهشتني وأنا طفل في الثانية من عمري، أدهشني ما فيها من ذلك التلاشي القاهر ومنطق الحتمية، فبدأت أبحث عن الضحايا سرّاً.
لن أضيع وقتاً بسرد تفصيلات كيفية تحقيق ذلك، ولكن كان لديّ أسلوب جيد في الحديث استخدمته مع كل مَن قابلته تقريباً، وكانت النتائج التي توصلت إليها مدهشة حقاً. في أثناء إقامتي في بيت للمسنّين علمت بقضية الدكتور آرمسترونغ. كانت الممرضة التي تقوم على خدمتي تكره المشروبات الكحولية بشدة، وكانت مهتمة بأن تثبت لي مساوئ الشراب فروت لي قصّة حدثت قبل عدّة سنوات في أحد المستشفيات حين كان طبيبٌ يُجري عملية لمريضة فقتلها بسبب سكره. وبسؤال عابر عن الأماكن التي عملت فيه الممرضة استطعت الحصول على المعلومات الضرورية بسرعة، ثم توصلت بسهولة إلى معرفة الطبيب والمريضة.
ثم عرفت عن قضايا أخرى؛ فمن خلال حديث بين رجال عسكريّين عجائز في النادي الذي أنتمي إليه توصلت إلى الجنرال ماك آرثر ، وسمعت رجلاً عاد مؤخَّراً من الأمازون وهو يروي قصة مذهلة عن شخص يُدعى فيليب لومبارد، وروت سيدة ناقمة قصة إميلي برنت المتزمّتة مع خادمتها البائسة. أما أنتوني مارستون فقد اخترته من بين مجموعة كبيرة من الناس الذين ارتكبوا مخالفات مماثلة، إذ كانت قسوته وعدم شعوره بأي مسؤولية عن النفوس البريئة التي أزهقها قد جعلّته في نظري خطراً على المجتمع ولا يستحق الحياة. المفتش السابق بلور ورد اسمه بصورة طبيعية تماماً حين كان بعض زملائي يتناقشون في قضية لاندور بحريّة وبلا تحفّظ، فأخذت موقفاً جادّا من جريمته يجب أن يكون الشرطي في غاية الاستقامة باعتباره خادماً للقانون لأن كلمته مصدَّقة بالضرورة بحكم طبيعة عمله.
واخيراً قضية فيرا كلايثورن، وقد سمعت القصة في أثناء عبوري المحيط الأطلسي، ففي ساعة متأخرة ذات ليلة جلس شخصان فقط في غرفة المدخنين، أنا ورجل وسيم أسمه هوغو هاملتون . لم يكُن هوغو سعيداً وقد تناول كمية لا بأس بها من الشراب لتخفيف كآبته، وكان قد أصبح ثملاً وميّالاً لفتح قلبه فشرعت في استخدام أسلوبي المعتاد في الحديث دون أمل كبير في الوصول إلى أيّ نتائج، ولكن الاستجابة كانت مذهلة! أستطيع تذكّر كلماته الآن. قال لي: أنت على حق، الجريمة ليست بالصورة التي يظنّها معظم الناس، كإعطاء شخصٍ جرعةَ سم أو دفعه من فوق حافّة جبل مثلاً.
ثم مال بجسمه إلى الأمام مقترباً بوجهه من وجهي وتابع: لقد عرفت مجرمة... نعم، كنت أعرفها، بل كنت متَّيماً بها. آه، أعانني الله! أحياناً أشعر أنني ما زلت متيَّماً بها.. هذا هو الجحيم أقول لك إنه الجحيم، هل تفهمني؟ المحصّلة أنها قد فعلَت ما فعلته من أجلي! لم يخطر ببالي مطلقاً... إن النساء هنّ الشر، الشر المطلَق! لا يخطر لك أن فتاة كتلك ، فتاة لطيفة وأمينة ومرحة، لا يخطر لك أنها قد تفعل شيئاً كهذا! هل تصدّق أنها تفعل شيئاً كهذا؟ أنها قد تأخذ طفلاً إلى البحر وتتركه يغرق؟! لا يمكنك أن تصدّق أن امرأة يمكنها القيام بشيء كهذا.
قلت له: هل أنت متأكد من أنها فعلت ذلك؟
قال وقد بدا أنه صحا فجأة: أنا متأكد تماماً. لم يشتبه بها أيّ شخص سواي قط، ولكني عرفت بمجرَّد أن نظرت إليها حين عدت، بعد أن.. وقد عرفت هي أنني عرفت، ولكن ما لم تدركه هو أنني كنت أحب ذلك الطفل.
لم يُقل شيئاً آخر، ولكن كان من السهل عليّ أن أتتبع تفصيلات القصة وأفهم الموضوع برمتّه.
وأخيراً كنت بحاجة إلى ضحية عاشرة، فوجدتها في رجل اسمه موريس، كان مخلوقاً قميئاً غامضاً، وكان – بين أشياء أخرى – يبيع المخدرات، وهو الذي دفع بابنة صديق لي إلى تعاطي المخدرات فانتحرت في سن الحادية والعشرين.
طوال فترة البحث هذه كانت الخطة تنضج في رأسي تدريجياً. كانت قد اكتملت عندئذ ، وجاءت اللمسة الأخيرة خلال زيارتي لعيادة طبيب في شارع هارلي. قلت إنه قد سبق وأُجريَت لي عملية جراحية، وفي زيارتي الأخيرة تلك قال الطبيب إن جراحة أخرى لن تكون لها أيّ فائدة وأبلغني بالتفصيلات بشكل مخفّف، ولكني معتاد على استخلاص الحقائق من وسط أيّ كلام. لم أخبر الطبيب بقراري بأن موتي ينبغي أن لا يأتي بطيئاً وخلال فترة طويلة كما يحدث عادة، بل ينبغي أن يكون موتاُ مثيراً سأعيش قبل أن أموت.
والآن سأنتقل إلى تفصيلات جريمة " جزيرة الجنود" : كان من السهل استخدام الرجل المدعوّ موريس للتغطية على عملية شراء الجزيرة، فقد كان خبيراً في هذا النوع من المعاملات. وبتصنيف المعلومات التي كنت قد جمعتُها عن ضحايا استطعتُ تهيئة طُعم مناسب لكل منهم. ولم تفشل أيّ خطّة وضعتُها، فوصل جميع الضيوف إلى الجزيرة في يوم 8 آب (أغسطس) ، بما في ذلك أنا نفسي.
وكنتُ قد حسبتُ حساب موريس؛ كان يعاني من سوء الهضم فأعطيته قبل مغادرتي لندن كبسولة ليأخذها قبل النوم،وقلت له إن هذا الدواء كان مفيداً جداً لمعتدي فقبل دون تردد. ولم أخشّ أن يترك أيّ وثائق أو أوراق قد تفضح الموضوع، فهو لم يكُن من هذا النوع من الرجال.
كنت قد درست بعناية ترتيب عمليات القتل في الجزيرة، فقررتُ أن ضيوفي مذنبون بدرجات مختلفة، فمَن كان ذنبه أخفّ كان – في رأيي – حريّاً بالموت أوّلاً حتى لا يتعرّض للخوف والإرهاق العصبيّ المطوَّل الذي سيتعرض له أولئك المجرمون الذين ارتكبوا جرائمهم بدم بارد.
مات كلّ من أنتوني مارستون والسيدة روجرز أولاً، الأول فوراً والثانية وهي تنام بسلام، فقد تبيّن لي أن مارستون كان من النوع الذي وُلد فاقداً للإحساس بالمسؤولية المعنوية التي يمتلكها معظمنا، أما السيدة روجرز فقد تصرفَت بتأثير زوجها بلا شك.
لا حاجة بي لأن أشرح مفصّلاً كيف مات هذان الشخصان، وسيكون بوسع الشرطة اكتشاف ذلك بسهولة سيانيد البوتاسيوم يمكن الحصول عليه بسهولة لمكافحة الدبابير في المنازل، وقد كان لديّ شيء منه وكان من السهل وضعه في كأس مارستون شبه الفارغة تقريباً خلال فترة التوتر التي أعقبَت سماع شريط الاتهامات في مكبّر الصوت.
لقد راقبت وجوه ضيوفي بعناية في أثناء تلاوة الاتهامات، وبحكم خبرتي الطويلة في المحاكم ومواجهة المجرمين لم يكُن لديّ أدنى شكّ في أن الجميع كانوا مذنبين.
خلال نوبات الألم الأخيرة كان الطبيب قد وصف لي عقّاراً منوّماّ، كلورال الهايدريك، وقد كان من السهل عليّ أن أتحمّل الألم لأجمع كمية قاتلة من هذا العقّار، وعندما أحضر روجرز كأس العصير لزوجته وضعها على إحدى الطاولات، وعند مروري بجانب تلك الطاولة وضعت الدواء في العصير. كان ذلك سهلاً لأن الشك لم يكُن قد حلّ بيننا في ذلك الوقت بعد.
الجنرال ماك آرثر مات دون أيّ ألم. لم يسمعني وأنا قادم من خلفه، وكان عليّ اختيار وقت مغادرة الشرفة بعناية تامّة بالطبع، وقد تمّ كل شيء بنجاح كامل. ثم فُتشت الجزيرة طبقاً لتوقعاتي، وتبيْن أنه ليس في الجزيرة سوانا نحن السبعة ممّا أوجد جوّاً من الريبة فوراً. وطبقاً لخطتي كنت سأحتاج قريباً إلى حليف، فاخترت الدكتور آرمسترونغ لهذه المرحلة. كان رجلاً ساذجاً وكان يعرفني من حيث مظهري وسمعتي، فلم يُدر بخلده أن رجلاً بمكانتي قد يكون في الواقع قاتلاً. كانت كل شكوكه تتجه نحو لومبارد، وقد تظاهرتُ بتأييده في ذلك ثم ألمحت له أن لديّ خطة ربما استطعنا بموجبها الإيقاع بالقاتل واكتشافه.
ورغم تفتيش كافّة الغرف إلاَ أنه لم يكُن قد جرى تفتيش للأشخاص أنفسهم، ولكن ذلك كان شيئاً لا بدّ منه فيما بعد.
قتلت روجرز صباح يوم العاشر من آب. كان يقطع الحطب لإشعال النار ولم يسمعني وأنا أقترب منه، ووجدت مفتاح غرفة الطعام في جيبه لأنه كان قد أقفل بابها بنفسه في الليلة السابقة. وخلال الفوضى التي أعقبَت العثور على جثة روجرز تسللتُ إلى غرفة لومبارد فأخذت مسدّسه. كنت أعرف انه سيحمل مسدّساً ، والواقع أنني كنت قد أعطيت تعليماتي لموريس ليقترح عليه ذلك عند مقابلته له.
عند الفطور وضعتُ آخر جرعة من الكلورال في قهوة الآنسة برنت عندما كنت أعيد تعبئة قدحها، وتركناها في غرفة الطعام ثم تسللتُ بعد فترة قصيرة إليها. كانت فاقدة الوعي تقريباً وكان من السهل عليّ أن أعطيها حقنة قوية من السيانيد. أما مسألة النحلة الطنانة تلك فقد كانت أمراً طفولياً، ولكنها أسعدَتني على نحو ما؛ لقد أحببت أن أتقيّد بمضمون أنشودتي قدر الإمكان.
بعد ذلك مباشرة حدث ما كنتُ أتوقعه، والواقع أنني اقترحت ذلك بنفسي. خضعنا جميعاً إلى تفتيش دقيق، وكنت قد خبّأت المسدّس في مكان آمن ولم يعُد بحوزتي سيانيد أو كلورال. عند تلك النقطة أفضيت لآرمسترونغ بأن علينا وضع خطتنا موضع التنفيذ، وقد اتفقنا على أن أُكتشَف مقتولاً باعتباري أصبحت الضحية التالية. قلت له إن هذا قد يثير حيرة القاتل، ولكن على أيّة حال فعندما أُصبح ميَتّاً – حسبما يُفترض – فسوف يكون بوسعي الحركة داخل البيت والتجسس على القاتل المجهول.
أعجبَت الفكرة آرمسترونغ ونفّذناها مساء ذلك اليوم، فجهزّنا قليلاً من الوحل الأحمر ليوضع على الجبين، ثم الستارة الحمراء والصوف... وأصبح المسرح جاهزاً. كانت أضواء الشموع تهتزّ وتجعل الأشياء غير واضحة، والشخص الوحيد الذي كان سيفحصني من قرب هو آرمسترونغ بصفته الطبيب الوحيد بين أفراد المجموعة.
نُفّذت الخطة بإتقان تامّ. الآنسة كلايثورن ملأت البيت صراخاً عندما اكتشفت الأعشاب البحرية التي كنتُ قد هيأتُها في غرفتها بترتيب مسبق، فهُرعوا جميعاً إلى غرفتها في الطابق العلوي في حين اتخذت أنا وضع الفتيل. كان وقع الصدمة عليهم عندما اكتشفوني هو التأثير الذي كنت أسعى إليه، وقام آرمسترونغ بتمثيل دوره بحِرَفية عالية. حملوني إلى الطابق العلويّ ومدّدوني على سريري، ولم يقلق احد بشأني؛ فقد كانوا جميعاً مذعورين حتى الموت يخاف بعضهم بعضاً.
واتفقت مع آرمسترونغ على الالتقاء به خارج البيت قبل الثانية بربع الساعة، فأخذتُه مسافة قصيرة خلف البيت إلى حافة المنحدر الصخري وقلت له إنه سيكون بوسعنا هناك أن نرى إذا اقترب منّا شخص آخر دون أن يرانا أحد في المنزل، وذلك لأن غرف النوم كانت متجهة إلى الجهة الأخرى. كان لا يزال غير مرتاب إطلاقاً ، ومع ذلك فقد كان عليه أن يكون متنبهاً لو انه فقط تذكر كلمات الأنشودة : " سمكة رنجة حمراء ابتلعت أحدهم فبقي ثلاثة" ، ولكنه ابتلع الطُعم وقضى نحبه.
تمّ الأمر بسهولة؛ أطلقتُ صرخة تعجّب وانحنيت فوق الصخور وأشرت إليه بأن ينظر إلى الأسفل ليرى، وقلت له: ألم يكن ذلك مدخل كهف؟
فانحنى إلى الأمام فدفعته بسرعة وقوة ، فاختلّ توازنه وهوى إلى الأمواج المتلاطمة في الأسفل، ثم عدت إلى البيت.
كان وقعو خطواتي هو ما سمعه بلور دون شك، وبعد دقائق من عودتي إلى غرفة آرمسترونغ خرجتُ منها مُحدِثاً قدراً معيَّناً من الضجيج في تلك المرة بحيث يسمعني أحدهم، وسمعت باباً يُفتَح عندما وصلت إلى أسفل الدرَج ، ولا بدّ أنهم لمحوا شبحي وأنا أخرج من الباب الأمامي.
مرّت دقيقة أو اثنتان قبل أن يتبعاني، وكنت قد استدرت حول المنزل ودخلت من نافذة غرفة الطعام التي كنتُ قد تركتها مفتوحة، وأغلقت النافذة ثم كسرت لوح زجاج فيما بعد، ثم صعدت إلى أعلى وتمددتُ على سريري.
توقعتُ أن يفتشوا البيت مرة أخرى، ولكنّي لم أتوقع أن يدقّقوا النظر في أيّ من الجثث، بل مجرَّد جذب ملاءة السرير لطمأنة أنفسهم بأن آرمسترونغ لم يكُن متنكراُ كجثة، وهذا هو ما حدث تماماً. نسيت أن أقول إنني أعدت المسدّس إلى غرفة لومبارد، ولعل أحداً يهمّه أن يعرف أين كنتُ قد خبّأته خلال التفتيش. كانت في الخزانة كمية من علب الطعام مرتَّبة في صفوف بعضها فوق بعض، ففتحت علبة في آخر صفّ منها ووضعت المسدّس فيها، ثم أعدت لصق الشريط عليها كما كان.
كان تفكيري في محلّه حين توقّعت أن أحداً لن يخطر بباله أن يفتح كومة من صفائح الطعام التي يدلّ مظهرها على أنها لم تُمَسّ حتى يصل إلى قاعدتها، لاسيما وأن العلب العلوية كانت جميعها مختومة. أما الستارة الحمراء فقد أخفيتها بحشوها في أحد مقاعد غرفة الجلوس تحت قماش الغطاء، ووضعت الصوف في المساند بعد أن فتحت ثقباً فيها.
نأتي هنا إلى اللحظة التي كنت أتوقعها؛ ثلاثة أشخاص يتربّص بعضهم ببعض، وكل منهم في غاية الرعب بحيث قد يحدث أيّ شيء في أيّ وقت، وأحدهم معه مسدّس. راقبُتهم من نوافذ البيت، وعندما جاء بلور وحده جهّزت كتلة الرخام الضخمة في الوضع المناسب، وهكذا انتهى بلور. ومن نافذتي رأيت فيرا كلايثورن تطلق النار على لومبارد. كانت امرأة جريئة وذات دهاء، وقد اعتقدت دائماً أنها قد تكون ندّاً له أو ربما تفوقه، وحالما حدث ذلك أعددت لها المسرح في غرفتها.
كان اختباراً نفسياً مشوّقاً. هل يكفي الذنب الذي يُثقل ضميرَها والتوترُ العصبي الناتج عن كونها قد قتلت رجلاً للتوّ، إضافة إلى الجوّ المشحون بنوع من التنويم المغناطيسي، هل يكفي كل هذا لجعلها تقتل نفسها؟ شعرت بأن ذلك محتمَل الحدوث، وكنت على حق. لقد شنقَت فيرا كلايثورن نفسها أمام عينيّ حينما كنت أقف في ظل خزانة ملابسها.
والآن أصل إلى المرحلة الأخيرة. تقدمتُ فأخذت الكرسي وأعدتُه إلى جانب الجدار، ثم بحثت عن المسدّس فوجدته عند أعلى الدرَج في المكان الذي سقط فيه من الفتاة، وحرصتُ على الإبقاء على بصمات أصابعها عليه.
والآن سأنهي كتابة هذه الصفحات، سأطويها وأضعها في زجاجة محكمَه الإغلاق وسأرمي الزجاجة في البحر. ولكن لماذا؟ نعم، لماذا؟ لقد كنت أطمح إلى تأليف جريمة غامضة لا يستطيع أحدٌ حلها، لكني أدرك الآن أنه ما من فنّان يكتفي بالفنّ وحده، بل يكون لديه شوق طبيعي إلى اعتراف الناس بفنّه، وهذا الشوق لا يمكن مقاومته وأريد أن أعترف – بكل تواضع – بأن لديّ رغبة إنسانية تدعو إلى الرثاء، وهي أنني أودّ فقط لو يعرف شخصٌ ما كم كنت ذكياً!
لقد افترضت – في كل هذا – أن قصة " جزيرة الجنود " الغامضة ستبقى بلا حل، بالطبع قد يكون الشرطة أكثر ذكاء مما أظن بسبب وجود دليلين على الأقل في نهاية الأمر: الأول أن الشرطة يعرفون جيّداً أن إدوارد سيتون كان مذنباً ، وتبعاً لذلك فهم يعرفون أن واحداً من العشرة في الجزيرة لم يكُن قاتلاً بأيّ شكل من الأشكال ، ويترتب على ذلك – بما قد يبدو تناقضاً- أن هذا الشخص يجب أن يكون هو القاتل منطقياً.
الدليل الثاني يكمن في المقطع السابع من الأنشودة، فموت آرمسترونغ مرتبط بسمكة الرنجة الحمراء أو الطُعم الذي ابتلعه، أو لعله الطعم الذي ابتلع آرمسترونغ. بعبارة أخرى فإن في ذلك المقطع من الحكاية إشارة واضحة إلى استخدام الحيلة وإلى أن آرمسترونغ انطلَت عليه الحيلة ممّا أدى إلى موته. هذه النقطة قد تصلح بداية مبشّرة في التحقيق لأنه لم يكُن في تلك المرحلة سوى أربعة أشخاص، ومن بين هؤلاء الأربعة أُعتبَر أنا الشخص الوحيد المحتمَل أن يوحي له بالثقة ويجعله يطمئن إليه.
لم يبقَ لديّ الكثير ممَا يمكنني قوله. بعد أن أرمي زجاجتي وبداخلها هذه الرسالة في البحر سأذهب إلى غرفتي وأتمدّد على سريري. النظارات التي أرتديها مربوطة بما يبدو أنه حبل دقيق أسود اللون، ولكنه حبل مطاطيّ قوي في الواقع. سوف ألقي بثقل جسدي على النظارات، وسوف ألفّ الحبل المطاطي حول مقبض الباب وأعود بطرفة فأربطه بالمسدّس ربطة خفيفة. أظن أن ما سيحصل هو الآتي: سألفّ يدي بمنديل وأضغط بها على الزناد. ستسقط يدي إلى جانبي ، أما المسدّس المربوط بالحبل المطاطي فسوف يرتدّ إلى الباب فيرتطم بمقبض الباب وينفكّ من الحبل ويسقط على الأرض، ثم يتدلى الحبل الذي صار حراً من النظارات التي يستلقي فوقها جسدي، ولن يهتم به أحد. ولا أحسب أن المنديل الملقى على الأرض سيثير أية تساؤلات أيضاً.
سيتمّ العثور عليّ ممدَّداً بهيئة حسنة وقد اخترقَت رصاصةٌ جبيني كما هو وارد في مذكرات زملائي الضحايا، وعندما تُفحَص جثثنا فلن يكون بالإمكان تحديد مواعيد الوَفَيات بأيّ قدر من الدقّة.
عندما يهدأ البحر سيصل من شاطئ البر قوارب ورجال، وسيجدون عشر جثث ، وقضية دون حلّ في " جزيرة الجنود " .
التوقيع : لورانس وارغريف