المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : زوربا


AshganMohamed
10-21-2019, 09:43 AM
زوربا



على أحد شواطئ كريت، يلتقي رجلان لاستثمار منجم للينيت. ويحاول أحدهما، وهو الراوي، أن يفرَّ من عالم المعرفة المحموم المخيِّب. وقد التقى رفيقاً هو الماسيدوني الكسي زوربا، وهو إنسان مدهش، مغامر، سندباد بري، فعهد إليه في إدارة الأعمال. وسرعان ما انعقدت أواصر صداقة عميقة بين ذلك المتحضِّر الممتلئة نفسه بالفلسفة الشرقية، وهذا المتوحِّش الرائع الذي تقوده غرائز قوية، والذي يعيش الحياة بكل امتلائها وزخمها، ويحب الطبيعة والمرأة، ويروي مغامراته الغرامية بحيوية نادرة المثال، وينطق بالحكمة أروع مما ينطق بها فيلسوف.
وقد انتهى استثمار المنجم بإخفاق، ولكن القصة التي يعيشها القارئ مع هذين البطلين والأبطال الآخرين، ولا سيما تلك المرأة المغامرة التي وقعت في غرام زوربا، تظلُّ إحدى الروائع الكبرى في الأدب الحديث. وقد أخرجت حديثاً في فيلم ممتاز تولى دور زوربا فيه الممثل أنطوني كوين، إلى جانب ايرين باباس التي مثلت دور تلك الأرملة التي ضحت بنفسها لمجد القرية.
رواية مدهشة ستظل في طليعة الروايات العالمية.




الفصل الأول



التقيته بها في مرفأ " بيريه " عندما كنت متوجها لأخذ القارب إلى " كريت " ، كانت أول مرة كان الصباح على وشك أن ينبلج ، و السماء تمطر ، و كان رذاذ الموج يصل إلى زجاج المقهى الصغير الذي كانت أبوابه الزجاجية مغلقة ، و كان الطقس باردا في الخارج ، و قد عبق الجو داخل المقهى بأنفاس رواده .
و كان هناك خمسة أو ستة يجلسون في المقهى منذ الليل الفائت ، و قد التفوا لباسهم القاتم المصنوع من وبر الماعز يشربون القهوة و يدخنون و ينظرون إلى زجاج المقهى العابق و إلى البحر الهائج الهادر في الخارج ، و كانت الأسماك في البحر قد التجأت إلى الأعماق بانتظار هدوء العاصفة عند سطح الماء ، كما كان البحارة و الصيادون ينتظرون بدورهم أيضا هدوء العاصفة ، حتى تصعد
الأسماك إلى سطح الماء لتأكل الطعم .
و فتح باب المقهى الزجاجي و ولد منه عامل قصير القامة ، أسمر اللون ، عاري الرأس ، حافي القدمين و قد صبغ بالأوساخ من قمة رأسه إلى أخمص قدميه .
- هاي ! كوستاندي ! كيف هي الأمور معك ؟
هتف بحار عجوز يرتدي سترة زرقاء ، و أجابه المدعو كوستاندي بعد أن بصق على الأرض :
- ماذا تعتقد ؟ في الصباح إلى البار و في المساء إلى البيت ، صباح الخير أيها البار و مساء الخير أيها المنزل ! هذه هي حياتي التي أعيشها الآن ، فليس لدي من عمل أعمله .
و ضحك بعض الحضور بينما شتم البعض الآخر ، و هم يهزون برؤوسهم :
- هذا العالم هو سجنٌ مؤبد ، نعم إنه سجنٌ مؤبد ، عليه اللعنة .
و دلف عبر زجاج المقهى الوسخ شعاعٌ أزرق ، و تعلق بالأيدي و الأنوف و جباه الحاضرين ، ثم تسلل إلى البار و أضاء الزجاجات الفارغة ، و خفت الضوء الكهربائي ، و تمطأ صاحب المقهى الذي كان نصف نائم ، و مسد يديه بحركة متكاسلة كأنه يستقبل ضوء النهار الجديد ، و بعد فترة من الصمت قال البحار العجوز متنهداً :
- ترى ماذا جرى للكابتن ليموني ؟ كان الله في عونه !
و نظر بغضب إلى البحر ثم صاح :
- لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت !
ثم عض على شاربه الرمادي .
كنت جالسا في زاوية المقهى من شدة البرد ، و طلبت كأسا ثانيا من الشراب ، و شعرت بالنعاس لكني قاومت الرغبة في النوم و التعب ، و جلست أنظر من خلال الزجاج إلى المرفأ الذي بدأ يضج بالحركة و بصفارات البواخر ، و بصياح سائقي العربات .
كانت عيناي عالقتين في مقدمة باخرة سوداء كبيرة ، كانت لا تزال مغمورة بظلام الليل القاتم ، و كانت السماء تمطر ، و باستطاعتي مشاهدة خيوط الماء المنهمر تربط السماء بالوحل .
نظرت إلى الباخرة السوداء ، و تجسدت كآبة الذكريات الماضية ، و دفعت الأمطار بصورة وجه صديقي الكبير ، هل كانت السنة الماضية ؟ في عالم آخر ؟ البارحة ؟ متى كانت حين نزلت إلى هذا المرفأ بالذات لأقول له وداعاً ؟ لقد كانت السماء ممطرة ذلك الصباح ، أيضا ، و في تلك المرة كان قلبي مثقلا تماما شأنه اليوم .
كم هي مؤلمة ساعة الفراق البطيئة ، خاصة فراق الأصدقاء العظام ! ، فالأفضل الانقطاع دفعة واحدة ، و العودة إلى الوحدة – الجو الطبيعي للرجل ، و لكن ، في ذلك الصباح الممطر لم يكن باستطاعتي ترك صديقي ( و قد علمت لماذا ، فيما بعد ، و لكن للأسف كان ذلك بعد فوات الأوان ) ، لقد صعدت معه إلى ظهر المركب و دخلتُ إلى مقصورته الملأى بالحقائب المبعثرة ، كأنني كنت راغبا في أن أدون ملامحه في مخيلتي ، عينيه المضيئتين بالأزرق ، وجهه الفني ، و ملامحه الذكية ، و فوق كل ذلك يديه الارتسقراطيتين و أصابعهما الطويلة النحيلة .
و حين فاجأني و أنا أحدق به بشوق ، و نظر إلي و قد ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الساخرة التي يلجأ إليها حين يريد أن يخفي انفعاله ، و فهم ! ، سألني مبتسما ساخراً :
- إلى متى ؟
- ماذا تعني بإلى متى ؟
- إلى متى ستبقى على عادة مضغ الورق و التلوث بالحبر ؟ لماذا لا تأتِ معي بعيدا في القوقاز هناك الألوف من أبناء جلدتنا في خطر عظيم ، تعال لننقذهم .
ثم راح يضحك كأنه يهزأ من نبله ، قال :
- ربما ، لن نقدر على مساعدتهم ، و لكن ألم تكن تعظ " إن الطريقة الوحيدة في تخليص نفسك هي في مساعدة الآخرين " ؟ حسنا ، أيها المعلم ، إلى الأمام ، و أنت ممتاز إلقاء المواعظ ، لماذا لا تأتِ معي ؟!
و لم أجبه ، و فكرت بأراضي الشرق الساحرة ، و أم الآلهة العجوز ، و صراخ بروميثيوس المسمر إلى الصخور ، و هناك على هذه الصخور نفسها كان عِرقنا مسمراً ، لقد كان ينادي و يصرخ !! لقد كان ينادي طالبا المعونة من أبنائه ، و كنت أسمع النداء كأن الألم هو حلم و الحياة هي مأساة محيقة ، يثبت فيها من يأخذ حصته من العمل في مسرح الحياة .
و بدون أن ينتظر جوابا مني ، نهض صديقي ، و صفرت الباخرة معلنة عن الإقلاع للمرة الثالثة و مدّ يده إليّ ، محاولا إخفاء انفعاله بابتسامته الساخرة ، ثم قال :
- إلى الملتقى ، يا عثّ الكتب !
و ارتجف صوته ، و قد شعر بالخجل لأنه لم يتمكن من السيطرة على عواطفه ، فقد كانت الكلمات الرقيقة ، و الحركات المضطربة ، تبدو له ضعفا لا يجوز للرجل أن يأخذ بها ، نحن ، الذين كنا مولعين ببعضنا أشد الولع ، لم نتبادل أية كلمة من كلمات العطف و المحبة ، لقد مثلنا و خدشنا بعضنا بعضا كأننا قطط متوحشة .
هو : الذكي ، الساخر ، المتمدن ، و أنا : الهمجي ! ، لقد تمرن على ضبط النفس و إخفاء كل العواطف تحت ستار السخرية ، بينما كنت أنا أنفجر بضحكتي الوحشية البلهاء .
لقد كنت أحاول دوما أن أخفي انفعالي و عواطفي بكلمة قاسية ، لكني شعرت بالخجل ، لا ، ليس الخجل بالذات ، و لكن سوء التصرف ، و أمسكت بيده و لم أقو على تركها ، فنظر إليّ مندهشا :
- هل أنت منفعلٌ لهذا الحد ؟!
و أجبته بهدوء :
- نعم .
لماذا ؟ و لكن ماذا قلنا الآن ؟ ألم نتفق على ذلك منذ سنين ؟ ماذا يقول الأحباء اليابانيون " فودوشين " ! ، الوجه قناعٌ يبتسم ، و لكن ما يدور هذا القناع ليس من شأننا !
- نعم .
أجبته محاولا جاهدا أن لا أورط نفسي بعبارات طويلة ، و لم أكن واثقا من أنني قادر على ضبط صوتي .
و دوى صوت صفارة الباخرة ، معلنا طرد الزوار من غرف المسافرين ، كان المطر ينهمر خفيفا ، و كان الهواء عابقا بكلمات الوداع الرقيقة ، القبلات الطويلة ، التأوهات و التوصيات اللاهثة الخاطفة ، و تهافت الأمهات على الأبناء ، و الزوجات على الأزواج ، و الأصدقاء على الأصدقاء ، كأنهم سيفارقونهم إلى الأبد ، كأن هذا الفرق يعني " الفراق الكبير " ، و انطلقت الصفارة من جديد كأنها أجراس الجنائز ، فارتعدت !
- اسمع ، هل أنت متشائم ؟
- نعم .
- هل تؤمن بهذه الهواجس ؟
و أجبته بالتأكيد :
- كلا .
- إذن ؟
و لم يكن هناك من " إذن " فلم أكن أؤمن بها ، و لكن كنت خائفا ..
و رمش صديقي بجفونه مرتين أو ثلاثاً ، و حدّق بي مرة أخرى ، لقد فهم أني منفعل و حزين ، فتردد في إخفاء اضطرابه بالسخرية و الضحك ، و قال :
- حسناً ! أعطني يدك ، إذا قدر لأحدنا أن يجد نفسه في خطر الموت .. و توقف ، كأنه شعر بالخجل ، نحن الذين كنا نهزأ من هذه النزوات الميتافيزيقية لسنواتٍ خلت !! ، و سألته محاولا أن أحذر :
- حسنا ؟!
- لننظر إليها كأنها لعبة ، إذا قدر لأحدنا خطر الموت ، فليفكر في الآخر بشدة لدرجة أن ينبهه حيثما كان .. هل اتفقنا ؟!
قال ذلك محاولا أن يضحك لكن الابتسامة جمدت على شفتيه .
- اتفقنا .
و أضاف صديقي مسرعا ، خوفا من أن يكون قد أفصح عن عواطفه :
- مع العلم ، أني لا أؤمن إطلاقا بعلم قراءة الأفكار ، و ما شابه ..
طمأنته متمتماً :
- لا بأس ، و ليكن ..
- حسنٌ جداً ، و الآن لندع الموضوع عند هذا الحد ، اتفقنا ؟
- اتفقنا .
كانت هذه كلماتنا الأخيرة ، و تصافحنا بحرارة ، و مشيت مسرعا دون أن أنظر إلى الخلف ، كأنني كنتُ مطارداً ، و شعرتُ برغبة في إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على صديقي ، لكني تمالكتُ نفسي و قلت " لا تنظر إلى الخلف ! تقدّم ! " .
* * *
كان الضوء ينتشر رويدا رويداً ، و الصباحان يبدوان متداخلان ، و ظهر لي وجه صديقي واضحا الآن ، الذي بقي لمدة طويلة تحت المطر ، و يبدو حزينا ساكناً .. و انفتح الباب و دخل رجلٌ قصير القامة ، مقوّس الساقين ، ذو شاربٍ متدلٍ ، و تعالت أصواتٌ فرِحة :
- أهلاً ، كابتن ليموني !
و انتشر الضوء ، و أخذ الكابت مسبحته و راح يطقطق بها بعصبية ، بينما انزويتُ أنا في مقعدي محاولا أن أستعيد تلك الصورة التي كانت تذوب مبتعدةً عني ، لو أتمكن من أن أعيش مرة أخرى هذه اللحظة من الغضب الذي تملكني حين قال صديقي " عث الكتب " ! ، و تذكرت أن كل القرف من الحياة التي كنت أحياها قد تجسد في هذه الكلمات ، كيف تمكّنتُ أنا ، الذي كنت أحب الحياة ، أن أدفن رأسي بين أكداس الكتب و الأوراق الملطخة بالحبر ! لقد ساعدني صديقي في ذلك اليوم ، يوم الفراق ، على الرؤيا بوضوحٍ أكبر ، و شعرت بالاطمئنان ، و الآن بعد أن علمت اسم حزني مصدر شقائي فباستطاعتي التغلب عليه بسهولة ، و لم تعد أحزاني متفرقة ، فقد تجسدت و أصبحت تحمل اسما ، لذلك أصبح بإمكاني مقارعتها بسهولةٍ أكبر .
لقد أثر هذا التعبير علي و دخل في أعماق نفسي ، و قد حاولتُ البحث عن حجة لأترك الورق و الكتابة و أحيا حياة أكثر مغامرة و حركة ، لقد أصبحت مستاءً من حمل هذه الحشرة البائسة مضافة إلى اسمي ، و قد سنحت لي الفرصة منذ شهر ، فقد استأجرت منجما في جزيرة كريت مواجها لبحر ليبيا ، و سأذهب اليوم إلى هذا المنجم القديم لأعيش مع رجال بسطاء ، عمال ، فلاحين ، بعيدا عن جنس " عث الكتب " .
و أعددتُ العدة للسفر ، كأن هذه الرحلة تخفي وراءها معانٍ كثيرة ، فقد عزمت على تغيير منهجي في الحياة ، و قلت لنفسي " لغاية اليوم ، لقد شاهدت الظل و كنت مكتفية به ، و الآن سأقودك إلى الجسم " .
و عندما انتهيت أخيرا ، و في ليلة سفري بينما كنت أقلب أوراقي ، عثرت على مخطوطة لم تنته بعد ، و أخذتها بيدٍ مشدودة ، منذ سنتين كانت الرغبة كامنة في أعماق نفسي ، رغبة قوية جامحة ، رغبة أشعر بها تتآكل في أحشائي كل لحظة ، لقد كانت تنمو و تنضج و ترفسني في صدري تطلب أن تخرج إلى الوجود ، و الآن لم يعد بإمكاني أن أطرحها ، لم أعد أجرؤ على ذلك ، لقد فات الوقت لهذا الإجهاض النفسي .
و بينما كنت ممسكا بالمخطوطات تلك ، ظهر أمامي وجه صديقي الساخر فقلت بصوتٍ مرتفع بعد أن شعرت بألم السخرية : " سآخذها معي ، سآخذها ، لا تضحك !! " ، و لففتُ المخطوطة بعناية و حملتها .
و عاد إلى مسمعي صوت الكابتن ليموني ، وقورا قاسيا ، و أصغيت إلى حديثه الذي كان عن العفاريت التي تسلقت صاري مركبه أثناء العاصفة و راحت تلحسه :
- لقد كانت لزجة ، و كان الإنسان حين يلمسها يشعر بالنار تحرق يديه ، لقد ملست شاربي و نظرت إليها في الظلام و أنا أشع كالعفريت ، و كما قلت ، لقد طغى البحر على مركبي و أغرق شحنتي من الفحم و بدأ مركبي يميل في هذه اللحظة ، ترفق الله العظيم و رأف بي و أرسل صاعقة حطمت أخشاب الأبواب و انزلق الفحم إلى البحر ، و خف وزن المركب من حمولته و عاد إلى وضعه السابق ، و بذلك أنقذتُ نفسي .
و بينما كنت أصغي باهتمام لما كان يقوله البحار العجوز ، شعرتُ بالانزعاج فجأة فرفعتُ رأسي ، لست أعلم كيف ، لكني شعرت أن عينين اثنتين تحدقان بجمجمة رأسي من الخلف ، و التفتّ مسرعاً باتجاه الباب الزجاجي ، و قد ومضت في رأسي فكرة مجنونة : سأرى صديقي مرة ثانية ! لقد كنتُ مهيأ لاستقبال المعجزة ، لكنها لم تحصل ، فقد رأيتُ رجلا غريبا يبلغ من العمر ستين عاما ، طويل القامة ، نحيف الجسم ، عيناه جاحظتان ، و قد ألصق بأنفه على زجاج الباب و هو ينظر إليّ ، و كان يحمل صرّة صغيرة تحت ذراعه .
و قد أثارني فيه نظرته المتشوقة ، و عيناه الحادتان المتوقدتان ، أو هكذا بدتا لي على كل حال ، و ما إن تقابلت نظراتنا ، و تأكد أنني الشخص الذي يبحث عنه ، حتى فتح الباب بقوة و اندفع إلى الداخل ماراً بين الطاولات بخطى سريعة ، و تقدم نحوي ووقف قرب طاولتي ثم قال :
- هل أنت مسافر ؟ و إلى أين ؟
- مسافر إلى كريت ، و لكن لماذا تسأل ؟
- هل تأخذني معك ؟
و نظرت إليه باهتمام ، كانت خدوده مجوفة ، و فكه صلبٌ قاسٍ ، و وجنتاه ناتئتان ، و شعره الرمادي مجعد و عيناه متوقدتان .
- لماذا ؟ و ماذا أفعل بك ؟
و هز بكتفيه و قال :
- لماذا ، لماذا ؟ ألا يستطيع المرء أن يفعل شيئا دون لماذا ؟ للاشيء ، لأن المرء يريد ذلك ! خذني معك كطباخ مثلا ، إن باستطاعتي أن أطبخ حساءً لم تذق مثله في حياتك .
و رحتُ أحدق به و أنا أضحك ، فقد أعجبني هذا المخلوق كما أعجبني الحساء ، فقلت في نفسي إنه ليس ثمة ضرر في أن آخذه معي ، فيبدو أنه قد جاب البحار طويلاً ، فهو أشبه بالسندباد البحري .. و قد أعجبني !
قال لي و هو يهز برأسه الضخم :
- و بماذا تفكر ؟ هل توازي الأمر بنفسك ؟ هيا أيها الصديق اعتمد و قرر لنفسك ..
- اجلس الآن و خذ قدحا من الشراب .
- حسناً ، و لكن كأسا من " الروم " ينفعني أكثر .
و سألته بعد أن تناول كأس الروم و راح يتذوقه بهدوء :
- ما نوع العمل الذي تتقنه ؟
- كل الأنواع ، بالأرجل و الأيدي و الرأس ، جميعهم !
- أين كنت تعمل في السابق ؟
- في منجم ، فأنا خبيرٌ في عمل المناجم ، كما أنني خبير في المعادن ، أنا أعرف كيف أجد العروق ، أحفر الأنفاق ، و أهبط إلى الحفر العميقة دون أن أخاف ، لقد كنت أعمل جيدا فقد كنت رئيسا على العمال ، و كنت لا أشكو من شيء ، و لكن الشيطان تدخل في عملي ، فيوم السبت الماضي جاء صاحب المنجم ليفتش بين العمال ، فأمسكت به و أوسعته ضربا .. هكذا ، دون أن أكون سكراناً .
- و لكن لماذا ؟ و ماذا فعل لك ؟
- لي ؟ لا شيء على الإطلاق ، فقد كانت المرة الأولى التي أراه فيها ، فالمسكين قد وزع علينا السجائر أيضاً .
- حسنا ؟
- أوه ، مالك تجلس هكذا و تطرح الأسئلة ؟ لقد خطر لي ذلك ، هذا كل ما في الأمر ، تعلم قصة زوجة الطحان ؟ حسنا ، فلا يمكنك تعلم الإملاء من مؤخرتها ، مؤخرة زوجة الطحان ، فهذا هو المنطق الإنساني .
فنظرتُ إلى رفيقي الجديد بمزيد من الاهتمام ، فقد أعجبني تحليله للأمور للمنطق ، ثم سألته :
- و ماذا تحمل في صرتك هذه ؟ طعام ؟ ملابس ؟ أم معدات ؟
و رفع صديقي بكتفيه و ضحك :
- إنك تبدو كثير التعلق ، أرجو المعذرة لهذا .
و ضرب على صرته بأصابعه الطويلة القاسية و قال :
- كلا ، إنها السانتوري .
- السانتوري ؟ و هل تعزف عليها ؟
- نعم ، عندما أكون مفلساً أذهب إلى الحانات ثم أعزف عليها و أنشد بعض الأغاني المقدونية القديمة ، ثم أبدأ بجمع النقود من الزبائن في قبعتي ، فتمتلئ بعد قليل بالدراهم .
- ما اسمك ؟
- الكسيس زوربا ، و في بعض الأحيان يدعونني " مجرفة الفئران " لأنني طويل القامة وجمجمتي مسطحة و تشبه الكعكة ، كما أنني أدعى " مضيّع الوقت " لأنني كنت أبيع البزر المحمص في وقتٍ من الأوقات ، و هم يدعونني أيضا " المعفن " لأنني أسبب المشاكل أينما حللت ، كل شيء يذهب للكلاب ، و لي أيضا أسماء أخرى ، و لكني سأدعها لفرصة ثانية .
- و كيف تعلمت العزف على السانتوري ؟
- كنت في العشرين ، فسمعت السانتوري لأول مرة في إحدى الاحتفالات القروية ، هناك عند قدم جبل أوليمب ، فبهرت لتوي حين سمعت النغم ، و بقيت ثلاثة أيام دون طعام ، و سألني والدي رحمه الله " ماذا جرى لك ؟ " ، فقلتُ له أنني أريد أن أتعلم العزف على السانتوري ، فقال لي " ألا تخجل من نفسك ؟ هل أنت غجري ؟ هل تريد أن تتحول إلى عازف ؟ " فأجبته " نعم ، أنا أريد أن أتعلم العزف على السانتوري " و كنت قد ادخرتُ بعض القروش لكي أتزوج حين يحين الوقت ، فقد كنت لا أزال فتيا و دم الشباب لا يزال يجري حارا في عروقي ، و أريد الزواج ، أنا الغبي المسكين ! و هكذا دفعت كل ما ادخرته نم مال ثمنا لشراء السانتوري ، و هربت إلى سالونيك حيث قابلت رجلاً تركيا يدعى رستب أفندي ، و هو معلمٌ ماهر للعزف على السانتوري ، فقلتُ له " إنني أريد أن أتعلم العزف على السانتوري " فقال " حسنا ، و لكن لماذا ألقيت بنفسك على أقدامي هكذا ؟ "
- لأني لا أملك مالاً لأدفعه لك .
- و أنت مغرم بالسانتوري إلى هذا الحد ؟
- نعم .
- حسنا ، يمكنك البقاء يا ولدي ، فأنا لستُ بحاجةٍ إلى مالك .
و بقيتُ عنده سنة أتعلم العزف ، و هو لا بد أن يكون قد مات الآن ، رحمه الله ، و إذا كان الله تعالى يسمح بدخول الكلاب إلى جناته ، فلعله يفتح أبواب الجنة لرستب أفندي ، و منذ أن تعلمت العزف على السانتوري حتى أصبحت رجلا آخر ، فعندما أشعر بالحزن ، أو حين أكون مفلسا ، أعزف على السانتوري فأشعر بالسعادة و الانشراح ، و عندما أعزف لا أسمع شيئا مما يقولونه لي ، و إذا سمعت فلا يمكنني الكلام ، ولا فائدة من المحاولة فأنا لا أستطيع ... "
- و لكن لماذا ، زوربا ؟
- أوه ، ألا ترى ؟ إنه الهوس المحموم ، نعم إنه الهوس .
و فتح باب المقهى من جديد و سمعت هدير البحر ، و كانت أيدينا و أرجلنا متجمدة من شدة الصقيع ، فانزويت أكثر إلى الركن الدافئ و تلفعت بالمعطف و نعمت بدفء المكان ، و قلت في نفسي " إلى أين سأذهب ، فأنا في أحسن حالٍ هنا ، ليت هذه اللحظة تدوم سنين طويلة " ، و نظرت إلى الرجل الغريب أمامي ، الذي كان يحدق بي و قلت له :
- حسنا ؟ استمر .
و هز زوربا بكتفيه و قال :
- دعك من ذلك ، هل تعطيني سيجارة ؟
و قدمت له سيجارة ، تناولها و أخرج من جيبه قداحة و فتيلة و أشعل السيجارة ثم أغمض عينيه بسرور و ارتياح ، و سألته :
- متزوج ؟
و أجابني غاضباً :
- ألستُ رجلاً ؟ ألستُ رجلاً ؟ أعني أعمى ، شأني شأن الجميع ، لقد سقطت على رأسي في الفخ و تزوجت ، و أصبحت رب عائلة ، و بنيت بيتا ، و أصبح عندي أطفال و مشاكل ، و لكن شكرا للرب على السانتوري ..
- و هل كنت تعزف لتنسى همومك ؟
- اسمع ، إني أرى أنك لا تستطيع العزف على أية آلة موسيقية ، في البيت تكمن كل مشاكلك ، الزوجة ، الأولاد ، ما الذي ستأكله ؟ كيف ندبر أمر الملبس ؟ ما الذي سيحل بنا ؟ يا للجحيم ، كلا ، لكي تعزف السانتوري يجب أن تكون في حالة جيدة ، يجب أن تكون صافياً ، فإذا ما رددت زوجتي كلماتها فكيف يمكنني العزف ؟ و إذا كان أولادك جائعين يصرخون ، حاول عند ذلك أن تعزف على السانتوري ، فعقلك يجب أن يكون عند السانتوري ، لا عند أشياء أخرى ، هل فهمت ؟!
نعم ، فهمت ، إن زوربا هو الرجل الذي كنت أنشده منذ مدة طويلة دون أن أجده ، قلب حي ، و فمٌ ضخم شره ، و نفس كبيرة قاسية لم تعركها الأيام .
إن معنى كلمات الفن و الحب و الطهارة و العاطفة ، كل هذه المعاني أظهرتها لي تلك الكلمات البسيطة التي تفوه بها هذا الرجل العامل .
و نظرت إلى يديه التين تستطيعان الإمساك بالمعول و السانتوري ، يدان متحجرتان ، مشققتان ، مشوهتان ، و باعتناءٍ بالغ ، كأنهما تخلعان ثياب امرأة ، فتحت الصرة و سحبت منها السانتوري الذي صقلته السنون ، مع حزمة من الأوتار ، مضربا بالنحاس و العاج مع شرابة حمراء من الحرير ، ثم راحت تلك الأصابع الطويلة تداعبه بعطف كأنه أيدٍ تداعب وجه امرأة ، ثم أعادت وضعه و لفته باعتناء بالغ كأنه جسدٌ محبوب خافت عليه من البرد .
- هذا هو السانتوري العزيز .
تمتم ذلك و هو يضع الصرة باعتناءٍ على الكرسي ، و كان البحارة يقرعون الكؤوس و يضحكون ، و ربت البحار العجوز على كتف الكابتن ليموني و هو يقول :
- قل الحقيقة يا كابتن ، ألست خائفا ؟ إن الله أعلم بعدد الشموع التي نذرتها للقديس نيقولا .
و قطّب الكابتن حاجبيه الضخمين :
- أقسم لكم ، إنني عندما رأيت الموت يقترب مني لم أفكر بالقديسة العذراء ، ولا بالقديس نيقولا ، بل التفت نحو سالاميس ، و فكرت بزوجتي و صحت " آه ، كاترين ! لو أنني الآن معكِ في الفراش "
و انفجر البحارة في الضحك ، و شاركهم الكابت ليموني الضحك هذه المرة .
- يا للإنسان ، إن الرجل حيوان ، فقد كان شبح الموت مخيما فوق رأسه بينما كانت أفكاره منشغلة هناك ، لا في أي مكان آخر ، تباً له من حيوان !
و صفق الكابتن و طلب دورا آخر من الشراب لرفاقه ، كان زوربا يستمع إلى الحوار بأذنين كبيرتين ، و التفت إليهم ثم قال لي :
- ما هذا ؟ ماذا يقول هذا الرجل ؟
و لكنه فهم فجأة ، و هتف بإعجاب :
- برافو ، يا صديقي ، إن هؤلاء البحارة يعرفون السر ، و أغلب الظن لأنهم معرضين ليلا نهارا للموت .
و أشار بقبضتيه في الهواء و قال :
- حسناً ، إن هذه مسألة أخرى ، و لنعد الآن إلى عملنا ، هل سأبقى أم لا ؟ قرر بسرعة .
- أنا موافق يا زوربا ، تعال معي إلى كريت ، فلدي فحما هناك ، و باستطاعتك مراقبة العمال ، و في المساء ستتمدد على الرمال ، في هذا العالم ليس عندي لا زوجة ولا أطفال ولا كلاب ، سنأكل و نشرب معا ، و ستعزف أنت على السانتوري .
- هذا إذا كنت في مزاج خاص للعزف ، هل تسمح ؟ سأعمل لك أي شيء تريده ، فأنا رجلك المطيع هناك ، و لكن السانتوري .. فهذا شيءٌ آخر ، إنه حيوان وحشي ، و هو بحاجة إلى الحرية ، فإذا كنت مستعدا للعزف فسأعزف ، و ربما أنحني أيضا ، و سأرقص " الزيباكيكو " و " الهاسابيكو " و " البنتوزالي " و لكن دعني أخبرك منذ الآن ، يجب أن أكون مستعدا لذلك ، لنفهم ذلك بوضوح ، و إذا أرغمتني على ذلك فسينتهي كل شيء الآن ، فأنا بما يتعلق بهذه الأمور .. رجل .
- رجل ؟ ماذا تعني بذلك ؟
- أعني .. حراً .
و طلبت كأسا من الروم فأضاف زوربا طالبا كأسا آخر أيضاً ، و قرعنا الكؤوس ، و كان الصباح قد أشرق ، و سمعنا صفارة المركب , و أشار الحمال الذي نقل حقائبي إلى المركب ، و قلت و أنا أنهض :
- تعال ، لنذهب .. و ليكن الله معنا .
- الله و الشيطان معاً .
أضاف زوربا ، ثم انحنى و التقط صرته و وضعها تحت ذراعه و فتح الباب و سبقني بالخروج.



الفصل الثانى




البحر ، و طراوة الخريف ، و الجزر السابحة في النور ، و المطر الناعم الذي أضفى حجابا شفافا على العري الأبدي لجزر اليونان ، كم هو سعيد الرجل الذي يمخر عباب بحر إيجه قبل وفاته .
كم هي عديدة مسرات هذا العالم ، نساء ، و فواكه ، و آراء ، و لكن أن تشق عباب هذا البحر الهادئ و في فصل الخريف لهي السعادة التي تملأ قلب الإنسان في نعيم الفردوس ، فهذا هو المكان الوحيد الذي يمكن للإنسان أن ينتقل فيه من مكان إلى مكان بهدوء و سهولة ، من الواقع إلى الخيال .. إنها المعجزة بالذات !
و عند الظهر انقطع المطر ، و بددت الشمس حجب الغيوم ، و أطلت علينا ناعمة لتداعب بأشعتها صفحات الماء الحبيبة ، و تركت نفسي تستوعب هذه المعجزة الخالدة التي انقشعت على مدى الأفق البعيد .
و على ظهر المركب ، كاليونانيين ، الشياطين الأذكياء ، ذوو العيون المشعة و العقول التي تتقن فن المساومة الطويل على البضائع التافهة ، و في بعض الأحيان تأخذ بك الرغبة في أن تمسك بهذا المركب من طرفيه و تغرقه في البحر ، ثم تهزه جيدا لتغسل عنه كل هذه الحيوانات التي أوسخته ، رجال ، فئران ، و قمل . ثم تعومه من جديد بعد أن يصبح نظيفاً فارغاً .
و لكن في بعض الأحيان كانت العاطفة تمنعني ، عاطفة بوذية ، باردة كالاستنتاجات الميتافيزيقية ، عاطفة ليست نحو الرجال فقط ، بل نحو الحياة كلها بجهادها ، و صراخها ، و نواحها ، و آمالها التي لا ترى أن كل شيء ليس إلا محاولة لإظهار الأشباح من العدم ، عاطفة نحو اليونانيين ، و نحو المنجم الفحمي ، و نحو مخطوطتي الناقصة عن بوذا ، و عن ذلك الخليط من النور و الظلال الذي يزعج صفاء الجو .
و كنت أختلس النظر إلى زوربا المنهك ، الشاحب الوجه ، و قد قبع في مجلسه على ظهر المركب على كومة من الحبال عند مقدمة المركب ، كان يشم ليمونة و يصغي إلى صراخ الركاب و شجارهم بأذنيه الكبيرتين ثم يهز برأسه الضخم و يبصق و يتمتم قائلا :
- هؤلاء الحطام ، ألا يخجلون من أنفسهم ؟
- ماذا تعني بكلمة ( حطام ) يا زوربا ؟
- كل هؤلاء الملوك ، الديموقراطيات ، النواب ، المرائين !
إن الحوادث لم تكون لزوربا سوى أمور قديمة ، فهو بنفسه قد ابتعد عنها ، و بالتأكيد كان التلغراف ، و البواخر ، و المراكب ، الأخلاق السائدة ، و الدين ، لا بد أن تكون كالبنادق القديمة الصدئة ، فتفكيره قد تقدم بسرعة تجاوزت تقدم العالم .
كانت الحبال تتشقق على الصواري ، و الشواطئ كانت تتراقص ، و النساء المسافرات أصبحت وجوههن أكثر اصفرارا من الليمونة ، لقد ألقين بأسلحتهن ، المساحيق و المشدات و دبابيس الشعر و الأمشاط ، و شحبت شفاههن و أظافرهن بدأت تتحول ألوانها إلى الأزرق ، و بدأت تتساقط الريش المستعار و الشرائط الحريرية و الجفون الاصطناعية ، فقد كان الناظر إليهن بالإجمال يشعر بالقرف و الرغبة بالتقيؤ .
و شحب وجه زوربا بدوره و اصفر لونه ثم اخضر ، و خفتت عيناه المتقدتان و لم يعد إلى تألقه الأول إلا في المساء ، حين أشار إليّ ليريني درفيلين كانا يتقافزان و يسابقان المركب ، و صاح :
- درافيل !
و لاحظت لأول مرة أن نصف إبهام يده اليسرى مقطوع ، فارتعدتُ و سألته :
- ماذا جرى لإصبعك يا زوربا ؟
و أجابني و قد بدا عليه الاستياء لأنني لم أنظر إلى الدرافيل :
- لا شيء !
- هل قطعته بآلة حادة ؟
- و ما شأن الآلة بالموضوع ؟ كلا فقد قطعته بنفسي .
- بنفسك ، و لماذا ؟
- أنت لا يمكنك الفهم ، أيها الرئيس ، لقد سبق و أخبرتك أنني قمت بأعمال عديدة ، و في إحدى المرات عملت في صناعة الفخار ، و قد أحببت هذا العمل لدرجة الجنون ، هل يمكنك أن تتصور ماذا يعني أن تأخذ حفنة من الطين و تعمل منها ما تريد ؟ قرر! ثم تدوّر الدولاب و يدور الطين معه بينما تقول بنفسك " سأصنع جرة ، أصنع صحنا ، سأصنع قنديلا ، و الشيطان يعلم ماذا أيضاً " هذا ما تقوله عن كونك رجلاً : الحرية !
لقد نسي البحر ، و لم يعد يقضم الليمونة ، و عاد الصفاء إلى عيونه ..
- حسنا ، و لكن إصبعك ؟
- لقد كانت تزعجني ، و تقف في طريق عملي ، و تفسد علي مشاريعي ، و في ذات مرة أمسكت بفأس صغيرة ..
- ألم تشعر بالألم ؟
- كيف لم أشعر بألم ؟ هل تعتقد أني جذع شجرة ؟ إنني إنسان ، لقد تألمت و لكن كما قلت لك كانت تقف في طريقي فقطعتها !
و هدأ البحر قليلا عند غياب الشمس و انقشاع الغيوم ، فدبت نجمة المساء لامعة براقة ، و ألقيت نظرة على البحر و رحت أفكر .. كيف نحب إلى هذا الحد ؟ ثم نأخذ فأسا و نقطع ثم نتألم ، لكني أخفيت اضطرابي و أردفت قائلا محاولا الابتسام :
- إنها لطريقة سيئة يا زوربا ! إنها تذكرني بالأسطورة الذهبية التي تقول عن ناسك رأى امرأة قد أزعجته جسديا ، فتناول فأساً ..
و صاح زوربا مقاطعاً :
- كم هو أحمق ، يقطع هذا ! و لكن هذا المسكين لا يعتبر عقبة !
- كيف ؟ بل هو عقبة كبيرة .
- أمام ماذا ؟
- أمام ولوجك أبواب السماء !
و حدجني زوربا بنظرة ساخرة و هو يقول :
- إنه هو الذي يمكنك اعتباره مفتاح السماء !
ثم رفع رأسه و حدق بي كأنه يريد معرفة رأيي بالحياة التالية ، و بملكوت السماء ، و النساء و النساك ، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى شيء فهز رأسه الضخم و استطرد :
- إن الخصيان لا يدخلون السماء .
ولاذ بالصمت ، فذهبت إلى مقصورتي و أخذت كتاباً و أخذت أقرأ ..
و في صباح اليوم التالي استيقظتُ مبكراً ، و كانت الجزيرة قد أصبحت عن يميننا ، تلك الجزيرة الكبيرة المزهوة المتوحشة ، و الجبال الوردية الشاحبة تبدو كأنها تبتسم من خلال ضباب شمس الخريف ، و من حول المركب كان البحر الأزرق ما يزال ثائرا مهتاجاً .
و كان زوربا الملتحف بغطائه الرمادي ينظر محدقا إلى جزيرة كريت ، و عيونه تنتقل من الجبل إلى السهل و تتبع الشاطئ و تتفحصه ، كأنه قد شاهد جميع هذه الأراضي و البحار مرات سابقة و هو يتمتع برؤيتها ثانية ، و دنوت منه واضعا يدي على كتفيه قائلاً :
- زوربا ، أعتد أنها ليست المرة الأولى التي تأتي فيها إلى كريت ، فأنت تحدق بها كأنك صديق قديم .
و تثاءب زوربا ، كأنه ضجر ، و شعرت أنه لا يميل إلى الحديث الآن ، فابتسمتُ و قلت له :
- إن الحديث يضجرك ، أليس كذلك يا زوربا ؟
- ليس هذا بالضبط ، أيها الرئيس ، لكن الكلام صعب .
- صعب ؟ و لماذا ؟!
و لم يجبني على الفور ، و أجال بنظره إلى الشاطئ مرة أخرى ، لقد نام ليلته على ظهر المركب و كان شعره الرمادي المجعد يقطر بالندى ، و كانت الشمس المشرقة تضيء التجاعيد في وجهه و رقبته ، و حرك شفتيه أخيرا و هو يقول :
- في الصباح أجد صعوبة في فتح فمي ، صعوبة كبيرة ، اعذرني .
و مرة أخرى راح في صمتٍ عميق و عاد ينظر إلى كريت . و رن جرس طعام الإفطار ، و ظهرت الوجوه من المقصورات ، نساء مترنحات و شعورهن متدلية تفوح منهن روائح القيء الممزوج برائحة الكولونيا ، و أعينهن مذعورة بلهاء . و كان زوربا يجلس أمامي و هو يشرب فنجان القهوة و يغمس قطعة الخبز التي مسحها بالزبدة و العسل ، ثم يأكلها ، و أشرق وجهه بعد ذلك و اطمأن قليلا و بدا فمه كأنه أصبح مرنا ، ثم أشعل سيجارة و راح يستنشق أنفاسا و هو على أشد ما يكون من التلذذ ، و لاحظت أنه أصبح مستعدا للحديث و من ثم راح يقول :
- هل هذه هي المرة الأولى التي آتي بها إلى كريت ؟
ثم أغمض عينيه قليلا ، ثم راح ينظر إلى جبل ابرا الذي كان ممتدا وراءنا ، و استطرد قائلاً :
- كلا إنها ليست المرة الأولى ففي عام 1896 أصبحت رجلا ناضجا تماما و كان شاربي و شعري لا يزالان بلونيهما الحقيقيين و كنت لا أزال في مقتبل العمر ، و كنت حين أسكر ألتهم المقبلات أولا ثم الطعام ، نعم ، فقد استمتعت إلى أقصى حدود الاستمتاع ، لكن الشيطان تدخل أيضا فقد نشبت الثورة في كريت . في تلك الأيام كنت بائعا جوالا ، و كنت أبيع الخضراوات متنقلا من قرية إلى قرية في مقدونيا و عوضا عن المال كنت أستبدل ما أبيعه بالجبنة و الصوف و الزبدة و الأرانب و الذرة ، ثم أعود و أبيع هذه الأشياء و أكسب ربحا مضاعفاً ، ففي كل قرية أحلها ليلا ، أعلم أين أنام ، ففي كل قرية كنت أجد قلب أرملة رحيمة عطوف ، و كنت أقدم لها مشطا أو مكبا من الخيطان أو وشاحاً ، أسود اللون بسبب المرحوم ! و أنام معها بعد ذلك ! و لم يكن ذلك يكلفني كثيراً .. كلا ، لم تكن تكلفني كثيرا ، أيها الرئيس ، و لكن كما قلت سابقا لقد تدخل الشيطان و هبت كريت لتحمل السلاح ، و قلت لنفسي لتذهب بمصيرها إلى الجحيم ! ألا تقدر هذه الكريت اللعينة أن تتركنا بسلام ؟ ثم وضعت جانبا أمشاطي و حملت بندقيتي و توجهت للانضمام للثوار في كريت .
و صمت زوربا ، فقد بدأنا نسير إلى خليج مستدير رملي ، و كانت الأمواج تنتشر بهدوء دون أن تتكسر ، تاركة خيطا رفيعا من الزبد على طول الشاطئ ، و انقشعت الغيوم و تألقت الشمس و لاحت أطراف الجزيرة بوضوح ، و التفت زوربا نحوي و حدجني بنظرة ساخرة :
- و الآن ، أعتقد أيها الرئيس أنك تتصور بأني سأخبرك كم رأسا تركيا قطعت و كم أذنا قد وضعت في الكحول ، فهذه هي العادة في كريت ، حسنا .. و لكني لن أفعل ، فأنا لا أحب أن أفعل ذلك لأني أخجل منه ، ما هذا الجنون ؟ و اليوم بعد أن أصبح عقلي راجحا صرت أسائل نفسي قائلا : ما هذا الجنون الذي تملكنا لكي نلقي بأنفسنا على رجل آخر لم يؤذنا بشيء ثم نعضه و نقطع أنفقه و نمزق أذنيه ، و في الوقت نفسه نطلب من الله العظيم أن يساعدنا ! فهل هذا يعني أننا نطلب من الله أن يذهب معنا ليقطع آذان البشر و أنوفهم ؟ و لكن في ذلك الوقت ، كان دمي لا يزال حارا في عروقي ، و ما كان باستطاعتي الوقوف و التساؤل و التفحص ، إذ يجب على المرء لكي يفكر بدقة و عدل أن يكون هادئا مسناً دون أسنان ! فعندما يكون المرء عجوزا لا أسنان له ، فباستطاعته القول بسهولة تامة " لعنكم الله أيها الأولاد ، فمن العيب أن تعضوا " و لكن حين تكون له أسناني الاثنين و الثلاثين .. يكون الإنسان متوحشا كالحيوان .. نعم ، أيها الرئيس ، كالحيوان المفترس آكل لحوم البشر .
و هز رأسه ثم قال :
- و هو يأكل الخراف أيضاً ، و الدجاج و الخنازير ، و لكنه إذا لم يأكل لحم البشر تبقى معدته خاوية ، كلا .. إن معدته لا تكتفي ، و الآن ما لديك من أقوال ؟!
و لكنه لم ينتظر الجواب ، بل أكمل قوله و هو يحدق بي :
- ماذا يمكنك أن تقول ، فكما أرى ، إن سيادتك لم تشعر بالجوع مطلقاً ، و لم تقتل أبدا ، و لم تسرق و لم تزنِ ، ماذا تعرف من هذا العالم ؟ إن عقلك بريء ، و جلدك لم ير أشعة الشمس .
قال جملته الأخيرة بكثير من الاحتقار ، مما جعلني أشعر بالخجل من يدي الناعمتين و وجهي الشاحب و حياتي الخالية من لطخات الدم و الوحل ، ثم قال و هو يمسح بيده الخشنة على الطاولة :
- حسنا ، حسنا ، فهناك ما أود أن أسألك إياه فلا بد أنك قرأت مئات الكتب ، فربما تعرف الجواب .
- هيا ، قل لي يا زوربا ، ما هو ؟
- إن هنا ثمة معجزة تحدث ، أيها الرئيس ، معجزة مضحكة تحيرني ، إن كل هذه الأعمال ، هذه الخدع القذرة و السرقات و المذابح التي نقوم بها – نحن الثوار – كل هذه جاءت بالأمير جورج إلى كريت ، الحرية !
ثم نظر إلي بعينين ملؤهما الدهشة :
- إنها أحجية عظيمة ، فإذا أردنا الحصول على الحرية في هذا العالم القذر يجب أن نقوم بهذه الجرائم ، و هذه الخدع القذرة ، أليس كذلك ؟ أقول ، إذا أخبرتك عن كل هذه الجرائم المريعة
لوقف شعر رأسك ! و لكن ما هي نتيجة كل ذلك ؟ الحرية ! فبدلا أن يزيلنا الله تعالى بصاعقة من عنده يمنحنا الحرية ! إني لا أفهم حقاً ..
و نظر إلي كأنه يطلب العون مني ، و قد لاحظت أن هذه المعضلة قد شغلته و آلمته و لم يتمكن من كشف سرها ، ثم سألني بقلق :
- هل فهمت ؟!
ماذا أفهم ! و ماذا أقول له ؟ فإما هذا الذي ندعوه إلها غير موجود ، أو أن تكون هذه التي ندعوها جرائم و اغتيالات ضرورية للكفاح من أجل حرية العالم ، و حاولت أن أجد له طريقة أسهل لأشرح له الأمر .
- كيف تستطيع الزهرة أن تنمو و تعيش وسط السماد و القذارة ؟ افترض يا زوربا لنفسك أن هذه الأقذار هي الإنسان و أن الزهرة هي الحرية .
- و لكن البذرة ؟
صاح زوربا و هو يضرب الطاولة بقبضة يده و يقول :
- لكي تنبت الزهرة يجب أن يكون هناك بذرة ، من هو الذي وضع بذرة كهذه في جوفنا ؟ و لماذا لا تنبت البذرة هذه زهور لطيفة شريفة ؟ لماذا تحتاج إلى الدم و الأوساخ ؟
فهززت رأسي قائلا :
- لا أعلم
- و من يعلم ؟
- لا أحد .
و صاح زوربا في يأس :
- إذا ماذا تنتظر مني أن أفعل بالقوارب و المحركات و ربطات العنق ؟!
و تململ اثنان من المسافرين الذين كانوا يحتسون القهوة على مائدة مجاورة و رهفوا آذانهم لسماع ما نقوله ، و اشمأز صديقي منهم و قال لي بصوتٍ خفيض :
- لنغير الموضوع ، فعندما أفكر في ذلك أشعر برغبة في تحطيم كل ما تقع عليه يدي من كراسي أو قناديل أو حتى ضرب رأسي بالحائط ، و لكن ما الفائدة من كل هذا ؟ فسأضطر إلى دفع ثمن ما حطمته ، ثم أضطر للذهاب إلى الطبيب ليربط لي رأسي ، فهذا أسوأ بكثير ، فسينظر إلي من أعالي السماء و ينفجر بالضحك .
و حرك يده فجأة كأنه يريد أن يتخلص من ذبابة مزعجة ، ثم قال :
- لا بأس ، فكل ما أردت أن أقوله لك هو : عندما جاءت المركبة الملكية و هي مزدانة بالأعلام و ابتدأ إطلاق المدافع ، و حين وضع الأمير رجله على أرض كريت .. هل سبق لك أن رأيت شعبا بأسره يصبح مجنونا لأنه رأى حريته ؟ كلا ؟ آه ، أيها الرئيس ، إذن فقد خلقت أعمى ، و ستموت أعمى ، فإذا قدر لي أن أعيش ألف سنة حتى لو أن كل ما تبقى مني عبارة عن قطعة لحم حية ، فلن أنسى ما رأيته ذلك اليوم ! و إذا كل واحد منا قدر له أن يختار جنته في السماء حسب ذوقه – و هذا ما يجب أن نكونه ، فهذا ما أدعوه جنة – سأقول للإله العظيم " يا إلهي ، لتكن جنتي جزيرة كريت المملوءة بالأعلام و الزينات ، و دع هذه اللحظة التي وطأت بها أقدام الأمير جورج أرض كريت تستمر قرونا طويلة ! فهذا يكفي "
و عاد زوربا إلى الصمت مرة أخرى ، و رفع شاربه ، ثم ملأ كأسا من الماء البارد و شربها دفعة واحدة :
- ماذا جرى في كريت يا زوربا ، أخبرني !
و قال لي منزعجاً :
- هل سنعود إلى العبارات الطويلة ؟ أنظر ، أقول و أكرر لك أن هذا العالم غامض جدا و الإنسان ليس إلا وحش كاسر .
وحشٌ عظيمٌ و إله ، حارس أسود ثائر ، جاء معي من مقدونيا ، اسمه يورغا و كان يدعونه " المجرم " خنزير شرس ، و هل تعلم .. لقد بكى ، و قلت له و عيوني تترقرق بالدمع " لماذا تبكي أيها الكلب ؟ لماذا تبكي أيها الخنزير ؟ " و لكنه لم يجب ، لم يكب ، بل ألقى بيديه حول عنقي و راح يبكي كالأطفال ، ثم تناول محفظته و وضعها على حجره بعد أن أفرغ منها القطع الذهبية التي نهبها من الأتراك ثم ملأ قبضته بالقطع و ألقى بها في الهواء ، أرأيت .. أيها الرئيس ، هذه هي الحرية !
و نهضت إلى ظهر المركب لأستنشق هواء البحر .. " هذه هي الحرية " فكرت بنفسي ، تهوى ثم تجمع قطعا من الذهب ، و فجأة تتغلب على تلك العاطفة فتتمسك بكنزك و تلقي به أدراج الرياح لتحرر نفسك من عاطفة معينة و تأخذ بعاطفة أسمى ، أليست هذه هي نوعا آخر من العبودية ؟ لتضحي بنفسك من أجل فكرة معينة ، من أجل عرق ما ، لله ؟ أم أن كلما ارتفع الرمز طال حبل العبودية ؟ عندئذ يمكننا الاستمتاع و اللهو في أرجاء أوسع و نموت دون أن نصل إلى نهاية الحبل ، هل هذا ما ندعوه الحرية ؟!
و عند المغيب شارفنا الشاطئ الرملي و رأينا أخيرا الرمال البيضاء الصافية و أشجار الخرنوب و التين ، و التل الصغير الأجرد الذي يشبه وجه امرأة تستريح ، و تحت ذقنها و حول رقبتها تمر عروق الفحم الرمادية .
كانت نسمات الريح الخريفية تهب ، و الغيوم المتقطعة تمر في السماء لتغلق الأرض بالظلال ، و غيوم أخرى كانت تنظر و تهدد الشمس التي احتجبت وراءها ، و وجه الأرض يضيء و يظلم كوجه حي منزعج .
و توقفت للحظة على الرمل و نظرت ، كانت الوحدة مجسمة أمامي ، وحدة مميتة و لكنها مدهشة ، كالصحراء ، و برزت أغنية البوذيين من الأرض و تلمست طريقها إلى أعماق نفسي " متى سأنزوي في الوحدة أخيرا ، لوحدي ، دون رفاق ، و بدون فرح أو بدون حزن ، و بالتأكيد مقدس أن كل شيء ليس إلا حلما ؟ متى ، و في أسمالي البالية – دون رغبات – سأنزوي مكتفيا في الجبال ؟ و متى ، و أنا متبين أن جسدي ليس إلا مرضا و جريمة ، و حياة و موت ، حرا دون خوف و بسعادة ، سأعتزل إلى الغابات ؟ متى ؟ متى ؟ آآه .. متى ؟ "
و تقدم زوربا نحوي و هو يحمل السانتوري تحت ذراعيه ، بخطى قلقة ، فقلت له محاولا إخفاء قلقي :
- هناك مناجم للفحم !
و دون أن ينظر إلى حيث أشرت أجابني بهزة من رأسه ..
- فيما بعد ، فهذا ليس الوقت لذلك أيها الرئيس ، يجب أن ننتظر حين تقف الأرض ، إنها لا تزال تموج و ليأخذها الشيطان ، كظهر المركب ، تعال .. لنذهب إلى القرية .
و بهذه الكلمات تقدم بخطى طويلة محاولا إنقاذ وجهه ، و تراكض اثنان من الصبية الأشقياء ليحملا الحقائب ، و في الكوخ ، حيث نقطة الجمرك ، جلس أحد الموظفين يدخن ( الحُقة ) و حدجنا بطرف عينه بنظرات ثاقبة ، ثم ألقى نظرة سريعة على الحقائب و تحرك قليلا كأنه يريد الوقوف لكنه وجد أن ذلك سيأخذ منه كثيرا من المشقة ، و اكتفى بأن أشار إلينا قائلاً " أهلا بكم " ، و تقدم أحد الصبية و قال لي بلهجة ساخرة :
- إنه ليس كريتيا ، إنه شيطان بليد .
- أليس الكريتيين شياطين بلداء ؟
فقال الكريتي الصغير :
- إنهم كذلك ، نعم ، إنهم كذلك .. و لكن بطريقة مختلفة .
- هل القرية بعيدة ؟
- على بعد طلقة بندقية من هنا ، أنظر ، وراء البساتين في الوادي ، إنها قرية جميلة ، يا سيدي تحوي الكثير من كل شيء ، شجر خرنوب ، لوبياء ، زيت ، نبيذ ، و هناك على الرمال نبت الخيار مبكرا كذلك البطيخ ، إن هواء أفريقيا هو الذي ينضجها باكراً ، فإذا ما نمت بأحد البساتين فإنك تسمع صوت طقطقتها و هي تنضج و تكبر .
كان زوربا يتقدمنا و رأسه ما يزال مترنحا ، فصحت به قائلاً :
- ارفع رأسك يا زوربا ، لقد اجتزنا المخاطر الآن ، و لم يعد هناك من داعٍ للخوف .
و تقدمنا مسرعين ، و كانت الأرض مملوءة بالرمال و الصدف ، و هنا و هناك نجد بعض أشجار التين ، كان الجو ثقيلا ، و الغيوم تتجمع و تقترب و الريح تهدأ ، و اقتربنا من شجرة تين ضخمة ، فتوقف أحد الولدين و أشار إلى الشجرة و هو يقول :
- هذه شجرة التين خاصة سيدتنا الصغيرة .
و فوجئت بكلمته ، فقد كانت لكل شجرة أو صخرة في أرض كريت قصة محزنة :
- و لماذا تدعى كذلك ؟
- في الأيام الماضية ، أيام أجدادنا ، وقعت إحدى البنات من الأعيان في غرام أحد الرعاة الشباب ، لكن والدها لم يكن موافقا ، و راحت الابنة تبكي و تصرخ و ترجو والدها الذي لم يلين ، و في أحد الأيام اختفى الشابان و ظلوا يبحثون عنها يوما ، و يومين ، و ثلاثة ، و أسبوعا ، و لكن دون جدوى ، و أخيرا فاحت رائحة العفونة فتتبعوها فوجدوا العاشقين تحت شجرة التين ، متعانقين متعفنين ، هل تفهم ؟ لقد عثروا عليهما بسبب رائحة العفونة .
و انفجر الصبي بضحكة مجلجلة ، و تناهت إلى أسماعنا ضوضاء القرية البعيدة ، و سمعنا أصوات نباح الكلاب و صياح النسوة و الديوك ، و شممنا رائحة العنب من القدور الذي كان العرق يقطر منها ..
- هذه هي القرية .
و ما إن اقتربنا من التلة الصغيرة حتى لاحت لنا القرية الصغيرة و بنات لنا كأنها تتسلق سفح الوادي ، كانت البيوت الصغيرة متجملة ، متلاصقة ، نوافذها كأنها بقع سودا ، فالبيوت كانت مبنية من الكلس الأبيض الناصح و الحجارة ، و لحقت بزوربا وقلت له :
- لا تنس ، يا زوربا ، أن تتصرف بلياقة فقد دخلنا إلى القرية الآن ، و لنتصرف كرجال الأعمال ، فأنا المدير و أنت ناظر العمال ، إن الكريتيين لا يأخذون الأمور بسهولة فما أن تقع أعينهم عليك حتى يبحثوا عن شيء ظاهر بك و يطلقوا عليك لقبا معينا ، حيث لا يمكنك بعد ذلك التخلص من هذا اللقب ، و ستجري كالكلب الذي لحقت بذيله مقلاة .
و أمسك زوربا بشاربه و غاب في التأملات ، و أخيرا قال :
- اسمع ، أيها الرئيس ، إذا كانت هناك أرملة في القرية فلا لزوم للخوف ، و إذا لم يكن ..
و في هذه اللحظة و ما إن دخلنا إلى القرية تقدمت منا امرأة فقيرة بأسمال بالية و مدت يدها نحونا ، و لاحظت أن لها شاربا أسود ، و صاحت بزوربا كأنها تعرفه :
- مرحى يا أخ ، هل لك روح أيها الأخ ؟
و توقف زوربا و أجابها :
- نعم لدي .
- إذاً أعطني خمس درخمات .
و نفحها بشيء من المال قائلا " خذي " ، افترت شفتاها عن ابتسامة حريرية ، و أضاف زوربا قائلا :
- إن الحياة هنا ليست غالية على ما أظن ، أن الروح تساوي خمسة درخمات .
و اقتربنا نحو ساحة القرية فرأينا مقهى كتب على مدخله " مقهى الحشمة ، و دكان اللحام " .
- و لماذا تضحك ؟!
سألني زوربا ، لكنني لم أجد وقتاً لأجيبه ، فقد خرج من باب الدكان هذا خمسة أو ستة عمالقة
يرتدون سراويل زرق لها أحزمة حمراء و صاحوا بنا :
- أهلا بالأصدقاء ! تفضلوا بالدخول و خذوا كأسا من العرق ، إنه لا يزال حارا من القدور .
و لعق زوربا لسانه و قال :
- ما رأيك أيها الرئيس ؟ هل نشرب كأسا ؟
و شربنا كأسا أحرق أمعاءنا ، و قدم إلينا صاحب المقهى / اللحام ، و هو رجل عجوز جليل ، كرسيين ، فسألته عن مكان نأوي إليه و صاح أحدهم :
- اذهبا إلى مدام هورتنس .
و تساءلت بدهشة :
- هل هي فرنسة ؟
لقد جاءت من مكان لا يعلم إلا الشيطان ما هو ، لقد طافت في جميع الأرجاء ثم استقرت هنا و أسست فندقا صغيرا .
و قال أحد الأولاد :
- و هي تبيع الحلوى أيضاً !
ثم أضاف أحدهم :
- و هي تتزين و تصبغ وجهها أيضا ، و تضع شريطة حول عنقها ، و لديها ببغاء .
و هتف زوربا :
- و هل هي أرملة ؟
و قال له صاحب المقهى :
- كم هو عدد السكارى هنا أيها الصديق ؟ إنها أرملة لعدد كبير من الأزواج ، هل فهمت ما أقصد ؟
- نعم فهمت .
أجاب زوربا و هو يلعق شفتيه .
- و يمكنها أن تجعل منك أرملا
- انتبه أيها الصديق !
صاح أحد الرجال و ضحك الآخرون ، و تقدم صاحب المقهى حاملا صينية عليها الخبز و الجبن و هتف قائلا :
- هيا ، دعوهما و شأنهما ، و سوف أستضيفهما عندي .
- كلا ، أنا سأستضيفهما ، فأنا ليس عندي أطفال و بيتي كبير .
و أجاب صاحب المقهى و هو ينحني فوق الرجل و يقول :
- أرجو المعذرة ، أيها العم انانيوستي ، فأنا سبقتك بالكلام .
- إذن خذ الآخر ، و سآخذ أنا العجوز .
و صاح زوربا غاضباً :
- أي عجوز ؟!!
و قلت له و أنا أهدئ من روعه
- لن نفترق ، و سنذهب لعند مدام هورتنس .
كانت امرأة بدينة قصيرة القامة ، شعرها باهت اللون ، تتلوى في مشيتها ، مادة ذراعيها ، و على ذقنها خال تتدلى منه شعيرات طويلة ، و كانت تربط حول عنقها شريطة حمراء ، و خدودها المجعدة مصبوغة بلون بنفسجي ، و قالت لنا مرحبة :
- أهلا ، أهلا و سهلا .
و أجبتها ببشاشة و أنا أقبل يدها :
- كم أنا سعيد بمعرفتك يا مدام هورتنس ، إنا نريد سريرين يا سيدتي .. دون قمل .
- أوه ، بدون قمل ؟ لا أعتقد ذلك ، ليس هنا من قمل على الإطلاق .
و تقدمتنا و هي ترفس الحجارة بقدمها القصيرة المكتنزة ، و كانت تلبس جواربا زرقاء و ضخمة و تنتعل حذاءين مشقوقين عليها عقدة صغيرة من الحرير و لحق بها زوربا و عينيه تكاد تأكلانها !
- أنظر ، أنظر أيها الرئيس ، كيف تتلوى في مشيتها كالنعجة ذات الإلية المشحمة .
و عض زوربا على شاربه بعصبية و عيناه مسمرتان على أرداف السيدة و قال :
- همم ، إن هذه الحياة ملأى بالعهر ..


الفصل الثالث

كان فندق مدام هورانتس عبارة عن صف من أكواخ الحمام القديمة جمعت مع بعضها البعض . أما الأولى فكانت دكانا لبيع الحلويات , و السكاير , والفستق عبيد , والشموع , والعلكة , وأربع غرف – أو أكواخ – متلاصقة تألفت منها غرف النوم . وفي الخلف كان المطبخ , وغرف الغسيل , و قن الدجاج والأرانب . وكان عيدان القصب الكثيفة مغروسة حول المكان في الرمل الناعم . وكانت رائحة البحر تعبق بالمكان بالإضافة إلى روائح ( البراز و البول ) . لكن الرائحة تتغير حين تمر مدام هورانتس بين وقت وآخر , وكأن احدهم افرغ طشتا للحلاق تحت أنفك .
وما إن جهزت لنا الغرف والسرائر حتى انطرحنا عليها دون حراك ولم نستيقظ إلا في صباح اليوم التالي .
كان اليوم الأحد والعمال سيصلون في الغد من القرى المجاورة ليبدأوا العمل في تمام التاسعة لذلك فقد ترك لي بعض الوقت لأقوم بجولة على الشاطئ الذي ساقتني إليه الأقدار . كان الفجر يكاد يلوح حين خرجت . فذهبت في سبيلي مارا , بالبساتين , متتبعا حافة البحر , متعرفا إلى الأرض والهواء .
وصعدت إلى تله مجاورة , وأجلت نظري إلى منظر الصخور الغرانيتية والكلسية القاسية , وأشجار الخروب القاتمة , وأشجار الزيتون الفضية وأشجار التين والدوالي . د
كان هذا المنظر , كما بدا لي , شبيها بالنثر الجيد , المصوغ بعناية فائقة , بسيطا , خاليا من الزخارف المصطنعة , قويا , صارما . لقد كان معبرا عن كل ماهو ضروري بطريقة سهلة . انه لم يكن متباهيا ولم يكن متصنعا , فهو ينطق بكل شيء بطريقة قاسية صارمة . لكن الليونة كانت متبدية من خلال أشجار البرتقال والليمون التي كانت تعطر الهواء برائحتها الذكية . ومن بعيد كان البحر الخالد يبدو كالشعر الذي لا ينفذ .
- كريت . كريت
قلت متمتما لنفسي وقلبي ينبض بالبهجة !!!
ونزلت من التل الصغير , ورحت امشي قريبا من ماء البحر . فرأيت صبايا صغار يسرن في طريقهن إلى الدير لسماع القداس عند شاطئ البحر .
وما إن ظهرت لهن حتى توقفن عن المسير , وأصبن برعب شديد , وتشبثن ببعضهن البعض , وعلمت فيما بعد أن رؤية رجل غريب كانت تخيفهن , فعلى طول الساحل الكريتي كان القراصنة في القرون الغابرة يقمن بغزوات مفاجئة , ويخطفون النساء والأطفال , ويربطونهن بأحزمتهم الزرقاء الغليظة ويلقون بهن في السفينة ويبيعوهن في الجزائر , والإسكندرية , وبيروت .
ورحت انظر إليهن مبتسما بعد أن تكاتفن مع بعضهن البعض وسرن كالطود المرصوص , واقتربن مني وأضاءت وجوههن بالاطمئنان وتابعن مسيرهن بعد أن ألقيت عليهن تحية الصباح .
وأشرقت الشمس عن سماء صافية , وجلست بين الصخور أتأمل البحر أمامي . وشعرت بالقوة تدب في جسدي . ورحت أجول بمخيلتي كالموج الهادر أمامي مطاوعا خاضعا دون مقاومة لنغمات البحر .
وشعرت بالانقباض , وانطلقت من أعماقي أصوات متضرعة . وعلمت الذي يدعوني . فأينما أكون بمفردي كنت اشعر بثمة نداءات تطلبني , والمخاوف تنتابني ... وفجأة سمعت صوت رفيقي زوربا يناديني من الخلف , فاستدرت لأجده منتصبا وهو يضحك ويقول :
- لقد بحثت عنك منذ ساعات , ولكن كيف أستطيع مشاهدتك في هذا المخبأ ؟
ولم اجبه على تساؤله , استطرد قائلا :
- لقد مضى نصف اليوم , والدجاجة المطبوخة قد نضجت , وستذوب المسكينة بعد قليل .
- نعم اعرف ذلك , ولكني لا اشعر بالجوع .
- لا تشعر بالجوع !! ولكنك لم تأكل شيء منذ الصباح , إن في جسدا روحا , ويجب أن تشفق عليها , أعطها شيئا لتأكله , أيها الرئيس , أعطها شيء فإذا لم تطعمها تركتك في نصف الطريق .
لقد احتقرت ملذات الجسد منذ سنين , ولو كان ذلك ممكنا لأكلت في الخفاء , كأني أقوم بعمل مخجل , وقلت لزوربا كي لا يثرثر .
- حسنا , سآت .
وذهبا إلى القرية بعد أن مرت الساعات الطوال بين الصخور وكما تمر الساعات بين العشاق كالبرق الخاطف . وسألني زوربا مترددا :
- هل كنت تفكر بالمنجم ؟
- وهل تعتقد أني كنت أفكر بسواه ؟ ففي الغد سنبدأ العمل , لذلك يجب أن أقوم ببعض الحسابات .
- وما هي نتيجة الحسابات ؟
- بعد ثلاثة اشهر يجب أن نستخرج عشرة أطنان من الفحم لنغطي مصاريفنا .
ونظر إلي زوربا بشوق وقال :
- وما أخذك إلى الشاطئ لتقوم بتلك الحسابات , بحق الشيطان ؟ أرجو المعذرة أيها الرئيس لسؤالي هذا , ولكني لا افهم , فعندما اضطر إلى مقارعة الأرقام , اشعر باني بحاجة إلى أن احشر نفس في جوف الأرض كي لا أستطيع مشاهدة احد , فإذا رفعت نظري ورأيت البحر , أو شجرة , أو امرأة , حتى لو كانت عجوز عند ذلك تطير جميع هذه الأرقام وسأضطر إلى مطاردتها .
- ولكنها غلطتك أنت يا زوربا , فأنت لا تستطيع التذكير .
- ربما تكون على حق , أيها الرئيس , فهذا يتوقف على نظرتك للأمور . فهناك حالات لا يتمكن حتى سليمان الحكيم .... اسمع , ففي ذات يوم بينما كنت مارا في قرية صغيرة , رأيت رجلا عجوزا يبلغ التسعين من العمر يزرع شجر اللوز فقلت له : " هل تزرع أشجرة لوز يا جدي ؟ " والتفت إلي وقال : " يا بني , أنا اعمل كأني لن أموت أبدا , واعمل كأني سأموت في أي لحظة . " والآن من كان منا على صواب , أيها الرئيس ؟
ونظر إلي نظرة المنتصر وقال :
- والآن , لقد أحرجتك !!
وبقيت ملتزما الصمت , فهناك ممران متساويان قد يؤديا إلى القمة نفسها , أن تعمل كأن الموت غير موجود , و أن تعمل متوقعا الموت في أية لحظة , هما أمران ربما كانا متشابهين , ولكن عندما سأني زوربا هذا السؤال لم استطع الإجابة عليه على التو . وقال لي زوربا هازئا :
- حسنا ! لا بأس . لا تغضب أيها الرئيس فلن تستطيع المجادلة ولنتكلم عن أشياء أخرى . فانا الآن أفكر بالدجاجة و الأرز . لنأكل الآن . ومن ثم نر , فلكل شيء وقته المحدد . الآن أمامنا الأرز , فلنفكر به , وغدا سيكون المنجم أمامنا وسنفكر بأمره أيضا .
وعند المقهى المجاور رأينا شيخا يبدو عليه الأسى يقف بانتظارنا . انه مافراندوني كبير رجال القرية الذي أجرنا المنجم , لقد جاء في الليلة الماضية إلى مدام هورانتس ليأخذنا إلى بيته وقال لنا :
- انه من العار أن تظلا في الفندق , كأنه لا يوجد رجال في القرية !
لقد كان متأثرا , وكلماته كانت متزنة متناسقة مع مركزه المحترم في القرية . وعندما رفضنا طلبه شعر بالاستياء لكنه لم يلح . وقال لنا وهو يغادر الفندق :
- لقد قمت بواجبي وانتم أحرار .
وبعد قليل أرسل لنا شيئا من الجبن , وسله فواكه , وجرة من العرق , وقد قال لنا الخادم الذي احضرها :
- مع تمنيات الكابتن مافراندوني . إنها ليست كثيرة , كذلك أوصاني أن أخبركما , لكن القد منها حسن !
واقتربنا منه والقينا عليه التحية , وأجابنا واضعا يده على صدره :
- أتمنى لكما حياة طويلة .
وتمتم زوربا معلقا :
- انه لا يحب كثرة الكلام , ويبدو بوقفته كالقضيب العجوز .
- لكنه فخور بنفسه , انه يعجبني .
وما إن رأتنا مدام هورانتس , حتى صاحت مرتبكة وهرولت إلى المطبخ , وأسرع زوربا إلى وضع الطاولة على الشرفة تحت ظل الدالية , وجاء بالخبز وقطعه قطعا صغيرة , واحضر النبيذ , ثم نظر إلي بعد أن انتهى من إعداد الطاولة لثلاثة أشخاص وقال :
- هل رأيت أيها الرئيس ؟
- نعم رأيت أيها الفاسق !
- إن الطيور العجائز التي تصلح للشواء ! وخذها نصيحة مني !!
وراح يدمدم بأغاني الحب القديمة وهو يهرع متمما تجهيز المائدة .
- هكذا يجب أن نعيش أيها الرئيس , يجب أن نستمتع بكل دقيقة نعيشها , إني اعمل أشياء كأني سأموت بعد دقيقة . وأنا أسرع بذلك كي لا يدركني الموت قبل أن احصل على العصفور .
وسمع صوت مدام هورانتس : " إلى المائدة " .
وقدمت إلينا القدر , ثم وقفت مشدوهة , فقد رأت الصحون ثلاثة , ورمقها زوربا وقد علا وجهها الاحمرار الشديد ولمعت عيناها الصغيرتان .
وهمس زوربا قائلا :
- لقد بدأت تشعر بالحرارة تدب فيها .
ثم نظر إليها وقال لها بكثير من اللياقة والأدب :
- يا جنية الأمواج الجميلة , لقد غرقت سفينتنا وألقى بنا البحر في مملكتك . أرجو أن تشرفينا , يا عروسة البحر الجميلة , وتشاركينا الطعام .
وفتحت الغانية العجوز ذراعيها وضمتهما إلى صدرها , كأنها تريد أن تضمنا نحن الاثنين إليها , ثم تمايلت بعظمة ولامست زوربا ولامستني وأسرعت عائدة إلى غرفتها , وظهرت بعد قليل ترتدي أجمل ما لديها من ثياب : فستانا مفتوحا عند الصدر , وضعت عند الصدر وردة متألقة !! وأحضرت معها قفص الببغاء الذي علقته على غصن الدالية أمامنا . وبعد أن أجلسناها بيننا , رحنا نلتهم الطعام التهاما , دون أن ننبس بكلمة واحدة . فقد كان الحيوان داخلنا يأكل ويتغدى ويشرب الخمر , والطعام الذي نزوده يتحول بسرعة إلى دم , والعالم من حولنا يبدو أجمل , والسيدة التي تتوسطنا بدأت تبدو اصغر في كل لحظة والتجاعيد في وجهها بدأت تزول وتمحى .... وكان الببغاء المعلق على الشجرة , ينظر إلينا كأنه رجل غريب قد سحره هذا المنظر ...
وكانت عينا زوربا تدور في محجريهما , ثم فتح ذراعيه كأنه يريد أن يعانق العالم كله ثم صاح بي مدهوشا .
- ماذا جرى , أيها الرئيس ؟ فما إن نشرب كأسا من النبيذ حتى يبدو العالم وقد فقد صوابه . ومع ذلك فالحياة كلها خمر ونبيذ . قل لي , بشرفك , هل هذه عناقيد متدلية فوق رؤوسنا ؟ أو هي ملائكة ؟ لا اعلم . أم ترى ليست شيئا على الإطلاق , ولا شيء موجود , لا الدجاجة , ولا عروسة البحر , ولا كريت ! قل لي أيها الرئيس , تكلم كي لا أفقد عقلي ....
ولاحظت أن زوربا بدأ يشعر بالفرح . لقد شبع من الدجاجة , و راح ينظر إلى مدام هورانتس . كانت نظراته تغتصبها , وتصعدان إلى جسدها وتدخلان إلى صدرها المنتفخ وتتحسسانه وكأنهما يدان . وكانت عينا السيدة الصغيرة تلمعان من السرور , فقد بدأت تستمتع بعد أن أفرغت عدة كؤوس من النبيذ . وبدا كأن شيطان الخمر قد رجع بها إلى الوراء إلى أيام الصبا الجميلة . ونهضت وقد عاد إليها لطفها وبشاشتها ورغبتها , ثم أغلقت باب الحديقة الخارجي كي تمنع الأعين الفضولية من رؤيتنا وأشعلت سيجارة وراحت تنفث دخانها بهدوء واستمتاع .
في أوقات كهذه تنفتح أبواب المرأة جميعها . ويستريح حراسها , والكلمة الطيبة تصبح قوية كقوة الذهب أو الحب . وهكذا أشعلت غليوني وقلت تلك الكلمة الطيبة :
- مدام هورانتس , أنت تذكريني بسارة برنهارت .... عندما كانت صغيرة , لم أكن للحقيقة انتظر رؤية أناقة , كهذه عظمة , كهذه , لياقة كهذه , وجمالا كهذا الجمال . ما هذا ( الشكسبير ) .
- شكسبير ؟ أي شكسبير ؟
- الذي أرسلك إلى هنا بين المتوحشين .
وطارت بتفكيرها إلى أيام الغناء والمسرح , وجالت به في المقاهي والمسارح من باريس إلى بيروت , وعلى طول شواطئ الأناضول , وكأنها تذكرت فجأة : لقد كان ذلك في الإسكندرية , وفي مسرح كبير عامر بالثريات , والمقاعد الفخمة , والرجال والنساء , والظهور عارية , والعطور , والأزهار , وفجأة ارتفعت الستارة , وظهر رجل اسود مخيف .....
- أي شكسبير ؟
وسألتني مرة أخرى بكبرياء , فقد تذكرت .
- هل هذا الذي يدعونه أيضا عطيل ؟
- هذا هو . أي شكسبير إذن ألقى بك على هذه الصخور الوحشية , أيتها الزهرة البيضاء ؟
ونظرت حولها , وكانت الأبواب مغلقة , والببغاء نائمة , والأرانب تتبادل الحب , وكنا لوحدنا , وراحت تفتح لنا قلبها , وكأنها تفتح أمامنا صندوقا عتيقا , مملوءا بالطيب , وأوراق الرسائل الصفراء والثياب القديمة .
وكانت تلفظ بعض الكلمات باليونانية , وراحت تخلط بينهما , ولكننا تمكنا من فهمها بوضوح . وفي بعض الأحيان كنا نجد صعوبة في إخفاء ضحكاتنا , وفي بعض الأحيان كنا ننفجر بالبكاء , علما أننا قد شربنا كثيرا من النبيذ .
- حسنا إن السيدة التي تنظرون إليها الآن , لم تكن مغنية بسيطة في الحانات , كلا , فقد كانت فنانة شهيرة وكنت ارتدي ثيابا داخلية من الحرير الخالص . ولكن الحب ....

وتنهدت تنهيدة عميقة , وأشعلت سيجارة ثانية من زوربا وقالت :
- لقد أحببت أميرالا . فقد أصبحت كريت مرة أخرى ولاية ثائرة وأساطيل الدول العظمى بدأت ترسو في مرفأ ( سورا ) . وبعد أيام قليلة رسوت أنا الأخرى هناك . آه , يا للحظ ! لو رأيتم هؤلاء الاميرالة الأربعة ... الإنكليزي , الفرنسي , الطلياني , الروسي , جميعهم متلفحين بالذهب , والأحذية اللماعة , والقبعات المريشة , كالديوك تماما , ويا لتلك اللحى , المجعدة الحريرية , الداكنة , الشقراء , الرمادية , والحمراء , وما أطيب رائحتهم ! فكل واحد منهم كانت له رائحته المميزة , فهكذا كنت أميز بينهم في الظلام , فإنكلترا كانت تتميز برائحة الكولونيا , وفرنسا برائحة البنفسج , وروسيا برائحة المسك , وايطاليا , آه ! ايطاليا المشغوفة بالعطر . يا الهي , يا لهذه اللحى ! وكنا نلتقي عدة مرات على ظهر سفينة العلم , ونتحدث عن الثورة . وكانت بزاتهم مفتوحة وكان ثوبي الحريري يلتصق بجسدي , فقد كانوا يصبون عليه الشمبانيا , وكان ذلك كله في الصيف , كما تعلم . وكنا نتحدث عن الثورة بجدية , وكنت ارجوهم وأتضرع إليهم ألا يطلقوا مدافعهم على الكريتيين المساكين . وكنا نشاهدهم بالمنظار على الصخور قرب ( كايني ) ضئيلين كالنمل , يرتدون قمصانا زرقاء وأحذية صفراء , وهم يصرخون ويصيحون . وكان معهم علم ...
وفجأة سمعنا صوتا خلف قضبان القصب , وتوقفت المجاهدة العجوز عن الكلام , مذعورة . ورأينا بين القضبان عيون الأطفال الخبيثة تراقبنا ....
وحاولت المغنية القيام عن الكرسي , ولكنها لم تتمكن , فقد أكلت وشربت كثيرا . فعادت إلى الجلوس وهي تتصبب بالعرق , وأخذ زوربا حجرا فتفرق الأولاد وهم يصرخون .
- استمري , يا جميلتي , استمري يا كنزي !
كذلك قال زوربا , واقترب بكرسيه منها .
- وقلت للأميرال الطلياني , فقد كنت قد ألفته أكثر من الأخرين , وأمسكت بلحيته وقلت له ! " كانافارو أرجوك , يا كانافارو العزيز , لا تفعل بوم ,بوم ! أرجوك ! " كم من المرات كانت هذه المرأة الجالسة أمامكم تنقذ حيات الكريتيين من موت محتم ! كم من المرات كانت المدافع جاهزة للإطلاق , وكنت اهرع لامسك بلحيته وارجوه ألا يفعل بوم ! بوم ! ولكن من الذي شكرني على ما فعلته من اجلهم ؟ وبدلا من الوسام انظروا ما حصلت عليه ...
لقد كانت مدام هورانتس غاضبة اشد الغضب لجمود الرجال , وضربت على الطاولة بقبضتها الطرية . ومد زوربا يده إلى ركبتيها المنفرجتين وامسك بهما , بعطف مصطنع وصاح :
- يا بوبولينتي , بحق السماء لا تفعلي بوم ! بوم !
- ارفع يدك .
كذلك صاحت به السيدة الطيبة , وأضافت بعد قليل :
- من تظنني ؟
وجحدته بنظرة غاضبة ....
- إن الله موجود في السماء لا تزعجي نفسك , يا بوبولينتي , فنحن هنا يا حبيبة , لا تخافي ..
ورفعت عروسة البحر العجوز ,عينيها إلى السماء ورأت ببغائها الأخضر يغط في النوم , وقالت بصوت حنون :
- كانافارو , كانافارو .
وما إن سمع الببغاء صوت سيدته حتى فتح عينيه وامسك بقضبان القفص وردد قولها : كانافارو , كانافارو .
- موجود !
صاح زوربا وهو يضع يده من جديد على تلك الركبتين التين خدمتا كثيرا , كأنه يريد امتلاكهما . واستدارت المغنية العجوز على كرسيها وفتحت فيها لتقول :
- وأنا أيضا حاربت ببسالة , لقد حاربت صدرا بصدر , لكن الأيام العصيبة جاءت وتحررت كريت بعد أن تلقت الأساطيل الأوامر بالانسحاب . ( ولكن ماذا سأصير إليه ؟ ) كذلك قلت وأنا امسك باللحى الأربعة . ( أين ستتركونني ؟ لقد تعودت على العظمة وعلى الشمبانيا , والدجاج ! لقد اعتدت على البحارة الصغار وهم يؤدون لي التحية العسكرية حين أمر أمامهم , سأصبح أرملة أربعة مرات , يا سادتي الأعزاء )
ولكنهم سخروا مني .... ! هكذا هم الرجال . لقد أشبعوني بالليرات الإنكليزية والإيطالية , والروبلات والفرنكات التي وضعوها في جواربي , وقميصي وحذائي . وفي الليلة الأخيرة بكيت كثيرا حتى إن القواد الأربعة أشفقوا علي , فملأوا المغطس بالشمبانيا , ووضعوني به , ثم شربوا على شرفي وسكروا , وبعد ذلك اطفأوا النور ...
وفي الصباح استيقظت على رائحة العطور الممزوجة تفوح في الغرفة , رائحة البنفسج و الكولونيا وغيرها ... لقد كنت ممسكة بالدول الأربعة , إنكلترا , فرنسا , روسيا , وايطاليا , وعلى ركبيتي , هنا على ركبيتي , وذهبت هكذا معهم ....
ثم راحت مدام هورانتس تهز بيديها كأنها تلاعب طفلا صغيرا على ركبتيها , ثم قالت
- هكذا , هكذا . وعند انبلاج الصباح راحت المدافع تطلق في الهواء . واقسم أن ذلك كان على شرفي , نعم أطلقوا المدافع , وجاء زورق صغير ابيض ليقلني إلى الشاطئ .
ثم تناولت منديلها وراحت تمسح بدموعها وتبكي .... و هتف زوربا :
- أغمضي عينيك يا بوبولينتي الصغيرة , أغمضي عينيك يا كنزي . فأنا هو كانافارو !
وصرخت السيدة الفاضلة :
- ارفع يدك , لقد قلت لك ذلك , وانظر إلى نفسك , أين شاراتك الذهبية ؟ والقبعة واللحية المعطرة ! آه ! آه !
لقد بدأ الطقس يبرد , وساد صمت حولنا , وكان البحر من وراء القصب يتنهد . لقد سادت الطمأنينة والهدوء أخيرا . فالريح سكنت والشمس غرقت عند الأفق لتنام . ومر من فوقنا غرابان يصفقان بأجنحتهما كأن قصر من الحرير تمزق , ربما كان قميص مغنية !!
وهمهم زوربا بعطف وهو يضغط بركبته على ركبتها :
- يا بوبولينا , لا تضطربي , ليس هناك من اله أو شيطان , ارفعي رأسك الصغير , واسندي خدك على يدي وانشدي لنا أغنية , وليذهب الموت إلى الجحيم .
لقد كان زوربا يشتعل بالحب . وكانت يده اليسرى تفتل شاربه , بينما يده اليمنى تنساب على المغنية المنتشية ... وكانت كلماته تنطلق متقطعة وعيناه واهنتان . ولم تكن هذه العجوز المطلية بالمساحيق هي التي تثيره , بل انه كان يرى آفاق متمثلا , الجنس الأنثوي بأجمعه , كما كان يدعو المرأة . لقد اختفى القرد , وانمحى الوجه سواء أكان فتيا أم هرما , جميلا أم بشعا , فهذه كانت اختلافات لا أهمية . إن خلف كل امرأة يقف وجه أفروديت المقدس الغامض .
هذا هو الوجه الذي كان يراه زوربا , ويحدثه ويشتهيه . أما مدام هورانتس فلم تكن سوى قناعا شفافا سريع الزوال يمزقه زوربا ليقبل الشفاه الخالدة .
وردد في صوت متضرع هامس :
- ارفعي عنقك الناصع , يا كنزي , ارفعي العنق الأبيض وأنشدينا بأغنية جميلة ؟
ووضعت المغنية العجوز يدها على خدها , وراحت تنشد أغنية من أغنياتها القديمة , وقفز زوربا واحضر السانتوري , جلس متربعا على الأرض ثم صاح بأعلى صوته :
- آوه , آوه , خذي سكينا واقطعي به عنقي , يا بوبولينتي ....
وعندما بدأ الليل يقترب , وبدأت النجوم تتألق بالسماء , وبعد أن ملأت النشوة نفوسهما , ابتدأت مدام هورانتس تتقلب وتلتصق بزوربا برفق ودلال , ونظر إلي مشيرا ثم همس بقوله :
- لقد بدأت تنسجم , كن لطيفا واتركنا لوحدنا ....


الفصل الرابع

عندما انبلج الصباح استيقظت لأرى زوربا أمامي جالسا عند طرف السرير يدخن وهو غارق في بحر من التأملات , وعيناه مسمرتان على زجاج النافذة ...
وتذكرت أني تركتهما لوحدهما ليلة البارحة وقلت له :
- إني ذاهب , يا زوربا , تمتع جيدا , وتشجع ....
وقد قال لي :
- إلى اللقاء أيها الرئيس , اتركنا نرتب الأمر جيدا .
وقد بدا لي أنهما رتبا الأمر جيدا , فقد سمعت في الليل أصواتا مكتومة , وتهزهزات في الغرفة المجاورة . وبعد منتصف الليل دخل زوربا إلى غرفتنا عاري القدمين وانطرح على السرير بكثير من الهدوء كي لا يوقظني ...
ولكنه الآن , عند الفجر , يبدو شاردا , وعيناه تضيع بعيدا , وكان لا يزال غارقا في نشوة الليل الفائت مستسلما بهدوء إلى شعاع الشمس المتداخل من زجاج النافذة .
وبدأت القرية تفيق من نومها , وبدأت الحركة تدب في الأزقة ممتزجة بأصوات الديوك والخنازير , والحمير , والناس . وخطر لي أن اقفز من سريري واصرخ : " هيا يا زوربا فلدينا عملا اليوم " لكني كنت اشعر أنا الآخر بسعادة كبيرة في الاستسلام هكذا دون حراك منتظرا تسرب الفجر الرائع ,ففي هذه اللحظات الساحرة تبدو الحياة , خفيفة كالغبار , وتبدو الأرض كأنها تتكون من الريح كالغيوم المتموجة الطرية ...
ونظرت إلى زوربا وهو يدخن , فشعرت برغبة في التدخين أنا الآخر , فتناولت غليوني . وحدقت به منفعلا . انه غليون إنكليزي الصنع , كان صديقي القديم قد أهداني إياه , وتذكرت قوله حين منحني هديته تلك : خذ هذا الغليون , واترك السجائر التي تدخن نصفها وترميها بعد ذلك كأنها امرأة عاهرة , تزوج الغليون , فهو كالمرأة الوفية فعندما تعود إلى بيتك , ستجده دوما هناك بانتظارك فتشعله وتجلس تتأمل دخانه الصاعد في الهواء , ثم تذكرني ....
لا زلت اذكر إن الوقت كان ظهرا , وكنا في احد متاحف برلين , حيث كان صديقي يودع لوحته العزيزة ( المحارب ) للرسام رامبراندت , ونظر صديقي إلى تلك اللوحة متأملا المحارب الحاقد اليائس . وقال : " إذا ما تمكنت من القيام في حياتي بعمل جدير بالرجل , فسأكون مدينا به له !! "
كنا في صالة المتحف , نقف قرد عامود , وأمامنا تمثال من البرونز لفارسة عارية تمتطي حصانا بريا متوحشا . وغط عصفور على رأس التمثال والتفت صوبنا وهز بذنبه وأطلق لحنا هازئا ثم طار في سبيله . وارتعدت وأنا انظر إلى صديقي وسألته :
- هل سمعت العصفور ؟ لقد خلت انه قال لنا شيئا , ثم طار في سبيله .
وابتسم صديقي وأجابني بمثل من أمثالنا العامة : ( انه عصفور , دعه يغني , انه عصفور , دعه يتكلم )
كيف كانت , في هذه اللحظة عند طلوع الفجر , عند شاطئ كريت هذه الذكرى تعود إلى مخيلتي مع هذا المثل الحزين لتملأ عقلي بالمرارة ؟
ووضعت قليلا من التبغ في غليوني وأشعلته . إن كل شيء في هذا العالم له معان خفية . الرجال . الحيوانات . الشجر . النجوم , إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حل رموزها ليكتشف خفاياها .... فعندما تراها فإنك لا تفقه لها معنى , فتعتقد أنها رجال اقحاح , وحيوانات , وأشجار , ونجوم , ولكن بعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي ...
ورحت أتابع الدخان المتصاعد من الغليون , وكانت روحي تندمج بهذا الدخان , وتتلاشى معه في الحلقات الزرق المكونة . ومر وقت طويل , كنت اشعر , دون العودة إلى المنطق , وبتأكيد لا يوصف , بحقيقة هذا العالم وانبثاقه وزواله .
وأطلقت زفرة هادئة أيقظتني من أفكاري الشاردة , فنظرت إلى ما حولي إلى هذا الكوخ الخشبي الفقير , وهذه المرآة الصغيرة المتدلية على الحائط والمنعكس عليها شعاع الشمس , فبدت تقدح بالشرر . وكان زوربا لا يزال جالسا على حافة السرير يدخن بهدوء مديرا لي ظهره .
ومرت أحداث الأمس بمخيلتي , رائحة البنفسج والكولونيا , والمسك والببغاء الذي بدا كالرجل قد تحول إلى ببغاء يضرب قفصه بجناحه مناديا حبيبا قديما , وسفينة قديمة , لا تزال الوحيدة الباقية على قيد الحياة لتقص أقاصيص الحرب والمعارك البحرية القديمة ....
واستدار زوربا عندما سمع صوت زفرتي , وتمتم قائلا :
- لقد أسأنا التصرف , لقد أسأنا التصرف أيها الرئيس . لقد ضحكت , وكذلك فعلت أنا , وقد رأتنا هي , وهذه الطريقة التي غادرتنا بها دون أن تنبس بكلمة رقيقة واحدة . يا للعار اللعين ! إن هذا ليس تهذيبا , أيها الرئيس . وهذه ليست طريقة حسنة للتصرف , اسمح لي أن أقول لك . إنها امرأة على كل حال . أليس كذلك ؟ مخلوقة ضعيفة خائفة . وقد عملت جيدا حين بقيت لأعزيها .
- ولكن ما تعني بقولك يا زوربا ؟ وهل تعتقد بكل جدية إن جميع النساء ليس في عقولهن شيء سوى هذا ؟
- نعم أيها الرئيس , فليس في عقولهن شيء آخر . أصغ إلي الآن .... لقد رأيت جميع الأشياء , وعملت في كل شيء ... إن المرأة ليس عندها من شيء آخر في نظرها . إنها مخلوق ضعيف مشاكس . وإذا لم تقل لها انك تحبها وتريدها فإنها تبدأ في البكاء . وربما هي الأخرى لا تريدك إطلاقا , بل ربما تحتقرك وربما تقول لك كلا , فهذه مسألة أخرى لكن جميع الرجال الذين يرونها يجب أن يشتهونها , فهذه ما تريده تلك المخلوقة المسكينة , لذلك فالأجدر أن تحاول إرضاءها . فأنا مثلا , كانت لي جدة تبلغ الثمانين من عمرها . إن قصتها حقيقية تماما . وكانت تسكن قريبا من منزلنا فتاة صبية نضرة كالوردة , واسمها كريستالو . وفي كل يوم سبت عند المساء , كنا نحن الشباب نذهب إلى الحانة لنحتسي كأسا من الخمر وننتشي به , ثم نضع ضمة من الحبق وراء أذننا ويأخذ ابن عمي قيثارته ونذهب للتنزه . يا للحب يا للعاطفة .... كنا نخور كالبقر وكنا نريدها وكل يم سبت كنا نتوجه لها مرة واحدة ليقع اختيارها على واحد منا . حسنا ... هل تصدق هذا أيها الرئيس ؟ يا له من لغز ؟ إن في النساء جرحا لا يلتئم بالمرة . كل الجروح تشفى إلا هذا . لا تعتمد كثيرا على كتبك ... انه لا يلتئم أبدا . لماذا ... لأنها قد أصبحت في الثمانين ؟ ومع ذلك فالجرح لا يزال مفتوحا .
إذن كل سبت كانت العجوز المتصابية تجر أشياءها نحو النافذة . وتتناول مرآتها الصغيرة وتحاول تسريح ما تبقى من شعرها وتنشره على فرقتين فوق جمجمتها . ومن ثم تختلس نظرات سريعة حولها خوفا من ان يشاهدها احد , وان اقترب احد منها , تندفع إلى الوراء لتستكين بهدوء وتدعي النوم . ولكن كيف كانت تستطيع النوم ؟ فإنها بانتظار النزهة وهي في الثمانين من عمرها ... هل ترى الآن هذا اللغز المجهول في المرأة أيها الرئيس ؟ إن هذا يشدني الآن للبكاء . أما في ذلك الوقت فقد كنت تافها . ولم افهم هذا . وهذا ما كان يدفعني للسخرية , في احد الأيام غضبت منها , لقد كانت توبخني لأنني كنت اجري خلف الفتيات . عندها صحت في وجهها دون مواربة وبكل صرامة !! لماذا تدلكين شفتيك بورق الجوز كل سبت . وتسرحين شعرك . أتظنين بأننا نتنزه من أجلك ؟ إننا نأتي من أجل كريستالو . أما أنت فلست إلا جيفة نتنة .
هل تصدق أيها الرئيس ؟ في ذلك اليوم عرفت فقط ما هي المرأة . دمعتان دفقتا من عيني جديتي . انكمشت كأنها كلبة , وراحت ذقنها ترتجف . وصحت " كريستالو " واقتربت منها أكثر لكي تتمكن من أن تسمعني بوضوح : " كريستالو " ... إن الشباب حيوانات قاسية , إنهم ليسو من المخلوقات الإنسانية . لا يفهمون شيئا .
عندها رفعت جدتي ذراعيها النحيلتين نحو السمار وصاحت " عليك اللعنة من أعماق قلبي " ومنذ ذلك اليوم بدأت صحتها تتلاشي وتتدهور , وبعد شهرين كان يومها قد بدأ يقترب . وبدت أيامها معدودة . وعندما كانت تحتضر شاهدتني . فشهقت كأنها حشرة وحاولت أن تمسكني بأصابعها وقالت " لقد كنت أنت من أنهى حياتي . فليلعنك الله يا الكسيس ويجعلك تعاني كل ما عانيته أنا "
وابتسم زوربا وتابع :
- آه . إن لعنة العجوز قد أصابت هدفها .
وراح يصلح من حال شاربه وتابع قائلا :
- إنني في الخامسة والستين الآن , ولو عشت حتى المئة فلن أتقاعد , فسأظل احمل المرآة الصغيرة في جيبي , وسأبقى اجري خلف النساء .
وابتسم ثانية , ورمى سيجارته من النافذة , ومد ذراعيه قائلا :
- لي أخطاء غير هذه كثيرة , إلا أنها الوحيدة التي سوف تقضي علي .
وقفز من سريره وصاح :
- لقد تحدثنا بما فيه الكفاية اليوم . يجب أن نستغل اليوم .
وارتدى ثيابه وحذائه بمثل لمح البصر وخرج .
وبرأس محني , رحت استعيد كلمات زوربا , وفجأة لمعت في رأسي , مدينة مغطاة بالثلوج , كنت في معرض لأعمال " رودان " وتوقفت لأنظر إلى يد برونزية ضخمة " يد الله " كانت اليد نصف مفتوحة . وفي نصف الراحة كان يوجد رجل وامرأة متعانقان يكافحان .
جاءت فتاة واقتربت مني . وكانت تبدو غير مستكينة ومضطربة , وراحت تنظر إلى ذلك العناق الأبدي بين الرجل و المرأة . كانت نحيلة , أنيقة , وكان لها شعرا أشقر كثيفا . وذقنا قاسية وشفاه ناعمة كان باديا عليها التصميم والرجولة . كان في طبيعتي عدم البدء بالحديث . ولكن لا ادري ما الذي دفعني لأن ألتفت نحوها وأسألها :
- بماذا تفكرين ؟
فتمتمت بسرعة ؟
- آه ... لو نستطيع أن نهرب !!!
- وأين نذهب , فيد الله في كل مكان . فلا يوجد أي مهرب . هل أنت أسفة ؟
- كلا .... فالحب قد يكون اكبر متعة في الوجود . هذا ممكن . إنما الآن فأرى تلك اليد البرونزية . فأفكر بالهرب
- أتفضلين الحرية ؟
- أجل .
- ولكن لنفترض بأننا عندما نطيع تلك اليد نشعر بأننا أحرار . لنفترض بأن كلمة " الله " ليس لها المعنى التي تمنحه له الجماهير .
نظرت إلي بقلق وبدت عيناها رماديتان , وشفتاها جافتين مرتين .
- لم أفهم ..
قالت وابتعدت بسرعة .
اختفت , ومن ذلك الوقت لم أفكر فيها مطلقا . . ولكن لابد وأنها كانت تعيش في داخلي , واليوم على هذا الشاطئ المهجور ظهرت من جديد شاحبة نحيلة , من أعماق كياني .
نعم لقد كان تعرفي غير لائقا , كان زوربا على حق , فاليد البرونزية كانت حجة , فالاتصال الأول قد تم . وكانت الكلمات اللطيفة قد تبودلت وكان من الممكن تدريجيا , أن نتعانق ونتحد بهدوء ودون إزعاج في يد الله . إلا أنني قفزت فجأة من الأرض نحو السماء . فارتعشت الفتاة وهربت .
كان الديك العجوز يصيح في باحة حديقة السيدة هورانتس , وأنوار الصباح الجديد قد بدأت تزحف عبر النافذة الصغيرة . وانحدرت من الفراش . كان العمال قد بدأوا يغدون حاملين معاولهم ومجارفهم , وراح يتناهى لمسامعي صوت زوربا يصدر الأوامر . فقد انغمس في العمل بسرعة فائقة . إذ أن الإنسان يشعر بأنه يعرف كيف يأمر , ويحب المسؤولية .
مددت رأسي من النافذة الصغيرة وشاهدته واقفا هناك , كأنه عملاق بين ثلاثة من العمال النحيفين , القساة , السمر . كانت يده ممدودة بقسوة وكانت كلماته مختصرة وفي صلب الموضوع .
وبعد قليل امسك بعنق فتى صغير كان يتقدم متمتما بصوت خفيض , فصاح زوربا :
- هل عندك شيء لتقوله ؟ هيا قله بسرعة وبصوت عال , فأنا لا أحب الدمدمة , يجب أن تكون مستعدا للعمل و إلا عد إلى الحانة .
عندها ظهرت السيدة هورانتس , بشعر مشعث , وخدين غائرين , لأنها لم تضع أي مسحوق على وجهها . وكانت ترتدي ثوبا طويلا قذرا , وتنتعل زوجا من الأحذية الطويلة المهترئة . وسعلت سعالا قاسيا كسعال مغنية سابقة , كأنه نهيق حمار , توقفت ونظرت نحو زوربا بكل فخر وكبرياء , ومضت عيناها , فسعلت من جديد , متى يلحظها , ومرت بقربه , تهز وتحرك ردفيها بإثارة مصطنعة , أكمامها الوسخة كادت تلمسه , إلا انه لم يتحمل مشقة النظر إليها , وأخذ قطعة من خبز الشعير وقبضة من الزيتون وصاح بالعمال :
- الآن أيها الرجال . باسم الله , ارسموا علامة الصليب .
وسار بعيدا يتقدم الرجال بخط طويل نحو الجبال . لن أصف هنا العمل في المنجم ... فهذا يحتاج لصبر طويل , وأنا ينقصني الكثير منه , قرب البحيرة بنينا كوخا من القصب والخيزران وبقايا صفائح البنزين , كان زوربا يستيقظ عند الفجر , ويتناول معوله , ويذهب إلى المنجم قبل كل العمال , ويفتح نفقا جديدا , ويكتشف عرقا من الفحم ويرقص من الفرح . إلا أنه بعد يومين أو ثلاثة يتوه عن العرق فيصيح ويرمي نفسه على الأرض ويرفع رجليه ويلوح بهما نحو السماء كأنه يسخر أو يهزأ من السماء .

كان يعمل بكل إخلاص . ومنذ اليوم الأول تحولت كامل المسؤولية عبر يدي ليستلمها هو بكل شجاعة , كان عمله هو أن يتخذ القرار وان يضعه قيد التنفيذ , وكان علي تحمل العواقب . إلا أن هذه التدابير ناسبتني أكثر لأنني شعرت بأن هذه الشهور ستكون أسعد أيام حياتي
وباعتبار كل هذا شعرت بأنني أشتري سعادتي بثمن زهيد ...
كان جدي , والد أمي , الذي كان يسكن في إحدى قرى جزيرة كريت , اعتاد أن يحمل كل ليلة فانوسه ليدور في شوارع الفرية , عله يصادف أحد الغرباء . فيصطحبه إلى المنزل ليقدم له الطعام والشراب , ومن ثم يجلس فوق أريكته المعتادة ويشعل غليونه التركي , ويلتف نحو ضيفه , الذي حان الوقت لكي يرد له الضيافة , ويقوا بلهجة واثقة قاسية :
- هيا ... تكلم ...
- أتكلم .... عن ماذا أيها الأب موستويورجي ؟
- ماذا تكون ؟؟ من تكون ؟؟ من أين أنت ؟؟ عن المدن والقرى التي زرتها ؟؟ كل شيء , حدثني عن كل شيء . هيا تكلم .
ويبدأ الضيف بالحديث دون هدف , ليخلط بين الحقائق والأساطير , بينما يكون جدي جالسا بهدوء فوق أريكته يدخن غليونه , يصغي لضيفه بكل جوارحة ومتابعا له في جميع أسفاره . وإن أحب الضيف , فسوف يقول له :
- سوف تبقى يوم غد أيضا , سوف لن ترحل , فقد بقي عندك أشياء كثيرة لتقصها علي .
لم يترك جدي قريته أبدا , حتى إلي كانديا أو كانيا ( لماذا أذهب لهناك ) كان يقول إن بعض أهالي كانديا وكانيا , يمرون من هنا . وهكذا فكانديا وكانيا يأتون إلي . إذن لماذا أذهب أنا إليهم ؟!!!
وعلى هذا الشاطئ الكريتي اتبع أنا عادة جدي . أنا أيضا قد وجدت ضيفي بعد أن بحثت عنه مع قنديلي . وسوف لن أدعه يرحل . بالطبع هو يكلفني أكثر من مجر عشاء , إلا أنه يستحق كل هذا , كل مساء انتظر عودته من العمل , و أجلسه أمامي ونلتهم طعامنا . وحين يحين الوقت ليرد لي الضيافة أقول له " تكلم " وأدخن غليوني وأصغي . هذا الضيف قد شاهد العالم بأسره وخبر الروح البشرية . وأنا لا آمل أبدا الإصغاء إليه .
- تكلم يا زوربا ..... تكلم
وعندما يبدأ حديثه تبدو أمام ناظري " ماسيدونيا " حيث تمتد في الفسحة التي بين زوربا وبيني , بجبالها وغاباتها و سيولها وثوارها . ونساءها الذين يعملون بجد ورجالها ذوو الأجسام الضخمة . وأيضا جبل آتوس بأبرشياته الواحد والعشرون ومصانع الأسلحة , وسكانه العاطلين عن العمل . وعندما ينهي زوربا حديثه عن الرهبان يهز رأسه ويغرق بالضحك قائلا :
- ليحفظك الله أيها الرئيس من مؤخرات البغال ومقدمات الرهبان .
كل يوم يأخذني زوربا عبر اليونان , بلغاريا والقسطنطينية . فأغمض عيني ... وأرى . كان قد جال كل سهول البقان وعاينها بعينيه الصغيرتين اللتين كان يفتحهما بدهشة وتعجب , أشياء اعتدنا عليها , تمر أمامنا بكل بساطة . وفجأة تقفز أمام زوربا كأنهم مردة مخيفين . وعندما يشاهد امرأة تمر أمامنا , يتوقف بذهول ويتساءل :
- يا لهذا اللغز المحير ! ما سر المرأة .... لماذا تدير رؤوسنا .؟ هيا أخبرني .. أنا أسألك ما معنى هذا ؟؟؟
انه يستجوبني بهذه الطريقة , وبمثل هذا الذهول , كلما لمح رجلا , شجرة في أوجها أو قدحا من الماء البارد . إن زوربا يرى يوميا كل هذه الأشياء وكأنه يراها لأول مرة .
بالأمس كنا جالسين قرب الكوخ , عندما عب كأسا من الخمر , والتفت نحوي بسرعة قائلا :
- مهما يكن هذا السائل الأحمر , أيها الرئيس اخبرني , . أغصان قديمة تنبت أغصان . وفي بادئ الأمر بعض الحصرم الحامض يتدلى فيها . ويمر الوقت وتنضج تحت أشعة الشمس , ويصبح بحلاوة العسل . عندها ندعوه عنبا . وندوسهم بأرجلنا ونقطر عصيرها ونضعهم في براميل خشبية . فيختمورن من تلقاءهم . ونفتحها في عيد القديس يوحنا السكير ونجدهم قد أصبحوا نبيذا . إنها معجزة . وعندما تشرب هذا السائل الأحمر وينتفخ دماغك , وتشعر بأن روحك تكبر , تكبر على الهيكل العظمي القديم , وتتحدى الله للقتال , اخبرني أيها الرئيس كيف يتم كل هذا .
لم اجب شعرت وأنا أصغي لزوربا بأن العالم يتكشف من جديد : كل الأيام القاسية قد عادت لها حيويتها كما كانت في بداية التاريخ عندما خرجنا من بين يدي الله . الماء , النسوة , النجوم والخبز , كلها عادت المحير والدوامة الإلهية عادت لتدور في الجو من جديد .
لهذا , كنت كل مساء , أتمدد على الشاطىء بانتظار زوربا . فأراه يخرج بقوة من بطن الأرض بجسده المليء بالوحل والأقذار وخطواته الواسعة من بعيد , كنت أستطيع أن أشاهد كيف كانت نتيجة العمل اليوم , من طريقة سيره , من انتصاب رأسه عاليا أو انخفاضه ومن حركات يديه المتأرجحتان .
أول الأمر كنت أرافقه لأراقب العمال , كنت أجهد نفسي في محاولة لتغيير مجرى حياتي , لأشغل نفسي في حياة عمليه , لأعرف وأحب المادية الإنسانية التي وقعت بين يدي , لأختبر واشعر بالمتعة التي انتظرتها طويلا لا مجرد كلمات اقرأها أو أكتبها بل مع رجال على قيد الحياة .
ورسمت بعض الخطط الرومانتيكية , فيما لو نجح مشروع التنقيب عن الفحم . سوف انظم نوعا من المنظمات الاجتماعية حيث نشترك في كل شيء . وحيث سنأكل جميعنا نفس الطعام , ونرتدي نفس اللباس كأننا أخوة , وخلقت في رأسي أمرا دينيا جديدا , نواة لحياة جديدة .
ولكني لم أكن قد قررت بعد أن أفاتح زوربا بمشروعي , لقد كان ينزعج من ذهابي ومجيئي بين صفوف العمال . اسأل وأتدخل , ودائما لصالح العمال . عندها يقلب زوربا شفتيه قائلا :
- أيها الرئيس ألن تذهب في نزهة بعيدا من هنا . ألا ترى الشمس والبحر هناك ؟
في بادىء الأمر كنت أصر على البقاء وأبقى , كنت أسأل وأثرثر , أردت أن اعلم قصة حياة كل رجل . كم من الأولاد لديهم يجب أن يعيلوهم وأخوات ليزوجوهم وأقرباء ليس لهم من معين . بماذا يهمتون , والأمراض وكل ما يقلقهم .
- لا تغوص هكذا في تاريخ حياتهم . أيها الرئيس , سوف تندفع نحوهم بقلبك الرقيق , وسوف تحبهم أكثر مما يجب لمصلحتك ومصلحتهم , ومهما سوف يفعلون ستخلق لهم الأعذار . عندها فلتساعدنا الآلهة , فسوف يهملون عملهم , ويقومون به بأي طريقة يريدونها , وعندها فليساعدنا الله أيضا . يجب أن تدرك هذا جيدا , عندما يكون الرئيس قاسيا عندها سيحترمونه العمال ويعملون بجد , وعندما يكون ناعما يتركون كل شيء عليه ويمضون وقتا طيبا , هل تفهم هذا ؟
في إحدى الأمسيات , بعد انتهائه من العمل , رمى بمعوله في الظل وصاح قائلا بعد أن نفذ صبره :
- انظر هنا , توقف عن التدخل , بالسرعة نفسها التي ابني فيها أنت تهدم كل شيء ... والآن ما هذا الذي كنت تتحدث عنه اليوم مع الرجال ؟ اشتراكية وهراء ؟ هل أنت واعظ أو رأسمالي ؟ يجب أن تقرر ...
ولكن كيف أستطيع أن اختار ؟ لقد كنت أحاول جهدي أن اجمع بين هذين الشيئين . لأجد طريقة تجمع بين هذين التناقضين و لأنجح في الحصول على كل من الحياة في الأرض وملكوت السماوات , كان هذا يتعامل داخلي منذ سنوات حتى منذ الأيام الأولى لطفولتي . عندما كنت لا أزال في المدرسة . حيث كنت قد نظمت مع اقرب أصدقائي جمعية سرية تدعى " المجتمع الودي " هذا كان الاسم الذي أطلقناه عليها . وداخل غرفة نومي المغلقة أقسمنا اليمين لنكرس حياتنا من اجل محاربة الظلم . دموع غزيرة انهمرت فوق وجوهنا عندما اقسمنا اليمين و أيدينا فوق قلوبنا
مبادىء صبيانية ! ولكن يا لتعاسة من يسخر منها عندما يسمعها , ولكن عندما شاهدت ما صار إليه أعضاء هذه المنظمة , من أطباء مدعون , ومحامون غشاشون , وأصحاب محلات , سياسيون دجالون وصحفيون خونة . غاص قلبي , إن مناخ هذه الأرض قد أصبح جلف وقاس , واثمن البذور لا تنمو وتختفي تحت الأرض وبين الشوك والقراص . أستطيع أن أرى بكل وضوح اليوم , بالنسبة لنفسي , لم أصبح معقولا بعد , ولكن ليتمجد اسم الرب , اشعر بأنني لا أزال مستعدا لأقوم ببعض المغامرات الدون كيشوتية .
كنا أيام الآحاد نحضر أنفسنا بكل عناية وكأننا شابين يحضران نفسيهما للزواج , ونحلق ونرتدي قمصانا بيضاء , ونتوجه بعد الظهر لرؤية السيدة هورانتس , كانت كل يوم أحد تذبح لنا طيرا , وكنا أكثر الأحيان نجلس ثلاثتنا لنأكل ونشرب , وتمتد يد زوربا إلى صدر السيدة المضياف ليمتلكه . وعندما يحل الليل نعود إلى شاطئنا . كانت الحياة تبدو بسيطة ومليئة بالنوايا الحسنة تماما كالسيدة هورانتس .
وذات أحد وبينما كنا عائدين من وليمتنا الممتعة , قررت أن اخبر زوربا بمشاريعي . أصغى إلي مجبرا نفسه , وضاغطا عليها ليكون صبورا كفاية . إلا انه من وقت لأخر كان يهز رأسه الضخم بغضب ظاهر ... كلماتي الأولى جعلته يصحو من سكره ... وطردت الخمرة من رأسه . وعندما انتهيت نزع بعصبية شعرة أو شعرتين من شاربه وقال :
- اعذرني لما سأقوله أيها الرئيس , و لكن لا أعتقد أن عقلك قد اكتمل بعد . كم تبلغ من العمر ؟
- خمسة وثلاثون سنة .
- إذا فهو لن يكتمل أبدا .
وانفجر مقهقها , وشعرت بأني لسعت . وصحت به :
- ألا تؤمن بالإنسان ؟
- والآن لا تندفع غاضبا أيها الرئيس ! فأنا لا أؤمن بأي شيء , فلو كنت أؤمن بالإنسان لأمنت بالله و لكنت أمنت بالشيطان أيضا , وهذه هي كل المشكلة حيث تختلط الأشياء وتسبب لي كثيرا من التعقيد .
وخيم عليه الصمت , وانتزع قبعته وحك رأسه بقوة وشد شاربه كأنه يريد أن ينتزعه من مكانه . كان يريد أن يقول شيئا , إلا أنه منع نفسه ونظر إلي من زاوية عينه , ومن ثم نظر إلي ثانية وقرر أن يتكلم . وصاح ضاربا الأرض بعصاه بقسوة :
- الإنسان ليس إلا بهيمة . بهيمة كبيرة . إلا أن سعادتك لا تدرك هذا أبدا . إذ يبدو بان كل شيء كان سهلا بالنسبة لك . اسألني أنا فأجيبك بأنه بهيمة فإن كنت قاسيا معه سوف يخافك ويحترمك . وان كنت لطيفا معه فسوف ينتزع عيونك . احفظ المسافة بينك وبينهم , لا تجعل الرجال أقوياء هكذا . لا تمشي بينهم وتقول لهم بأننا كلنا متساوون . وان لنا نفس الحقوق , و إلا سوف يدوسون على حقوقك أنت . سوف يسرقون خبزك ويتركونك تموت من الجوع , احفظ مركزك أيها الرئيس من أجل الخير الذي أتمناه لك .
- ولكن ألا تؤمن بشيء ؟
- كلا لا أؤمن بشيء بالمرة . كم مرة يجب أن أكرر هذا . فأنا لا أؤمن بأي شيء أو بأي شخص . بل بزوربا وحده , ليس لأن زوربا أحسن من غيره , كلا فهو بهيمة كغيره . ولكن لأن زوربا هو الوحيد الذي يقع تحت سلطتي , والوحيد الذي أعرفه . أما الباقون فكلهم أشباح , فانا أرى بهاتين العينين , واسمع بهاتين الأذنين , واهضم بهذه المعدة . كل الباقون أشباح أقول لك , عندما أموت , فسوف يموت كل شيء معي . كل العالم الزوربي سوف يغوص في الأعماق .
فقلت ساخرا :
- يا لها من أنانية ! .
- لا أستطيع معها شيء . آكل فاصولياء فأتحدث عن الفاصولياء , أنا زوربا فأتحدث عن زوربا .
لم اقل شيئا . كلمات زوربا لسعتني كالسوط . لقد أدهشتني قوته , لاحتقاره الرجال إلى هذا الحد , وبنفس الوقت رغبته في العيش والعمل معهم , أما أنا فيجب إما أن أصبح ناسكا , أو أزخرف رؤوس الرجال بريش مزيف حتى أستطيع أن أتحملهم .
التفت زوربا نحوي , وتحت ضوء النجوم استطعت أن أرى ضحكة زوربا حتى أذنيه .
- هل أزعجتك أيها الرئيس ؟
قال فجأة عندما وصلنا إلى الكوخ . نظر إلي زوربا بعطف وقلق , لم اجب , شعرت بأن عقلي يوافق زوربا إلا أن قلبي راح يقاوم , يريد الانطلاق والهروب من البهيمة , وليسير في طريقه الخاص . قلت :
- لا اشعر بالنعاس هذه الليلة , اذهب أنت لتنام .
كانت النجوم تلمع في السماء , والبحر كان يجعل الأصداف تتلألأ .
ولمعت إحدى الأصداف وأضاءت تحت منارتها الصدفية , حيث كان قطر الندى يقطر من شعر الليل الداكن .
تمددت على وجهي , مأخوذ بالسكون , دون أن أفكر بأي شيء , كنت وحيدا بين الليل والبحر , كان عقلي كأنه صدفة أضاءت منارتها واستقرت على ارض الشاطىء الداكنة وراحت تنتظر .
كانت النجوم تسافر وتدور , والساعات تمر , وعندما نهضت , كنت قد قررت , دون أن اعلم , الخطة المزدوجة التي يجب أن اتبعها على هذا الشاطىء :
أن اهرب من بوذا . واخلص نفسي من الكلمات الميتافيزيقية وأحرر نفسي من القلق الغير مجد .
أن أقوم باتصالات مباشرة مع الرجال وابتدأ من هذه اللحظة .
وقلت لنفسي " ربما لم يفت الأوان بعد.

الفصل الخامس

قال الصبي:

- ان العم اناجنوستي يحييكما ويدعوكما لتناول الغداء في بيته، وستعد لكما زوجته السيدة ماروليا طعاما خاصا. ثم ان اليوم هو عيد ميلاد حفيدهما (ميناس) ويمكنكما أن تهنئاه وتتمنيا له السعادة وطول العمر.
ان من بواعث السرور حقا أن تدخل بيت فلاح كريتي وترى نظامه التقليدي. المدفأة والمصباح الزيتي والاواني الخزفية والمقاعد القليلة ومائدة الطعام واناء الماء الموضوع في كوة الجدار، وحزم الثوم والرمان والتوابل المتدلية من أعمدة السقف، ثم المصطبة القائمة في أقصى الغرفة وعليها الفراش ومن فوقه الايقونات المقدسة، وصورة للسيدة العذراء.
والبيت بهذا الأثاث يبدو عاريا، ولكنه يحتوي على كل ما يحتاجه الانسان وما أقل الأشياء التي يحتاجها الانسان فعلا!
وكان اليوم رائعا، ويزيد من روعته رقة شمس الخريف.. فجلسنا في حديقة صغيرة أمام البيت، تحت شجرة زيتون مثقلة بالثمار.. وكان البحر يتألق أمامنا من بعيد ويبدو هادئا ساكنا. بينما السحب تمر فوق قرص الشمس بين وقت وآخر، فتكتئب الأرض تارة وتبتهج تارة أخرى.
وتناول حديثنا الموضوعات الخالدة المألوفة، محصول القمح والكروم والامطار. وكان رب الدار ثقيل السمع فاضطررنا أن نرفع أصواتنا إلى حد الصياح..
كانت حياة العم أناجنوستي قد سارت في طريق هادئ مستقيم، كحياة شجرة في واد أمين، فقد ولد وترعرع وتزوج ورزق بأولاد وامتد به العمر حتى رأى أحفاده.. صحيح أن بعض الأحفاد قد ماتوا.. ولكن البعض الآخر كان على قيد الحياة مما يضمن استمرار الأسرة.
وتحدث الكريتي الشيخ عن الأيام الخالية وعن الحكم التركي، والمعجزات التي حدثت في تلك الأيام لأن النساء كن مؤمنات يخشين الله.. قال:
- لقد كان مولدي نفسه معجزة، وستدهشون متى ذكرت لكم كيف ولدت، نعم. ستدهشون وسترسمون علامة الصليب على صدوركم وستذهبون إلى دير العذراء مريم وتوقدون الشموع لها.
ورسم علامة الصليب على صدره، ومضى يسرد قصته في صوت هادئ قال:
- في تلك الأيام، كانت تعيش في قريتنا امرأة تركية ثرية، وقد حملت هذه المرأة وحان موعد الوضع، فنقلوها إلى فراشها حيث قضت ثلاثة أيام بلياليها وهي تئن وتصرخ ولا تستطيع أن تضع طفلها. وحينئذ نصحتها احدى صديقاتها بأن تستنجد بالسيدة العذراء، فصاحت المرأة التركية: لماذا؟ انني أوثر الموت على الاستنجاد بها.
واستمرت الالام وزادت حدتها، ومر يوم آخر، والمرأة لا تكف عن الصياح.. فما العمل؟
ولم تستطع المرأة احتمال المزيد من الالام فصاحت بكل قوتها:
- يا مريم العذراء!! يا مريم العذراء..
ولكن الالم لم ينقطع، والطفل لم يولد، فقالت الصديقة:
- ربما كانت العذراء لا تفهم اللغة التركية..
فصاحت المرأة:
- يا عذراء الروم! يا عذراء الروم!
وزادت آلامها، فقالت الصديقة:
- لعلك تناديها بغير اسمها، ولهذا لم تخف لنجدتك.
فصاحت المرأة:
- أيتها العذراء المقدسة!
وجاء المولود على الفور..
حدث ذلك في يوم أحد، وفي يوم الأحد التالي، أحست أمي بآلام الوضع. وراحت بدورها تستنجد بالعذراء المقدسة ولكن دون جدوى. وكان أبي يجلس على الأرض في فناء الدار ولا يستطيع أن يأكل أو يشرب بسبب صراخ أمي وآلامها..
وانقضت ثلاثة أيام دون أن تخف السيدة العذراء إلى نجدة أمي، وفي اليوم الرابع، ضاق أبي ذرعا فحمل فأسه ومضى إلى دير السيدة العذراء وهو يتميز غضبا، وهناك أغلق الباب وراءه ووقف أمام تمثال العذراء المقدسة وصاح: اصغي إلي أيتها العذراء، أنت تعرفين زوجتي جيدا فلطالما حملت إليك الزينة والشموع.. إنها تتألم وتستنجد بك منذ ثلاثة أيام أفلم تسمعيها؟ لا بد أنك أصبت بالصمم، اذا استنجدت بك احدى الساقطات التركيات فانك تسرعين إلى نجدتها، أما زوجتي المسيحية فانك تصمين اذنيك ولا تسمعينها!! لولا أنك السيدة العذراء لالقيت عليك درساً بهذه الفأس..
وأولاها ظهره، وهم بالانصراف..
ولكنه قبل أن يصل إلى الباب، سمع فرقعة خفيفة صادرة من ناحية الشمال.. كما لو كان التمثال يوشك ان يشطر .. والشائع عندنا ان التمثال يحدث مثل هذا الصوت عندما توشك معجزة أن تقع.. فدار أبي على عقبيه، وركع على ركبتيه وهتف: لقد أخطأت أيتها العذراء المقدسة وقلت أشياء ما كان ينبغي أن أقولها فمعذرة..
وما أن وصل إلى القرية حتى سمع النبأ السعيد..
قال له قائلا: أطال الله عمرك يا قسطندي، لقد وضعت زوجتك ولدا..
وقد كنت انا ذلك الولد، ولكني ولدت وفي أذني صمم، لان أبي وصف العذراء بأنها صماء. ولعلها قالت له، صبرا، سأصيب ولدك بالصمم حتى لا تعود إلى مثل هذا الكفر.
ورسم العم أناجنوستي علامة الصليب على صدره مرة أخرى واستطرد قائلا:
- شكرا لله على كل حال، فقد كان يمكن أن تجعلني السيدة العذراء ضريرا أو معتوها، أو أدبا، بل كان يمكن أن تفعل بي ما هو أسوأ من ذلك – حفظنا الله – فتجعلني فتاة..
فقلت وأنا أرفع قدح النبيذ:
- نخب صحتك أيها العم أناجنوستي.. اسأل الله أن يمد في عمرك حتى تبلغ المائة وترى أحفاد أحفادك.
فاحتسى الشيخ قدحه ومسح شاربه وقال:
- كلا يا ولدي.. انك تطلب لي الكثير.. لقد رأيت أحفادي، وهذا يكفي.. ان ساعتي تقترب ، وما عاد باستطاعتي أن ألد مزيدا من الأبناء، رغم شدة رغبتي في ذلك، فما قيمة الحياة اذن بالنسبة الي؟
وملا الاقداح مرة أخرى، واخرج من حزامه تينا مجففا اقتسمه معنا واستطرد قالا:
- لقد نزلت لاولادي عن كل ما أملك، ونحن الآن فقراء ولكن لا أشكو ولا أتذمر.
وفي هذه اللحظة أبلت زوجته ماروليا وبيدها اناء مليء بالنبيذ وصفحة عليها طعام من خصى الخنازير.. فوضعت الشراب والطعام على المائدة وظلت واقفة معقودة اليدين منكسة الرأس.
وأنفت نفسي هذا الطعام فقد كانت الخنازير التي خصيت لا تزال تصرخ في الحظيرة المجاورة ولكني لم أجرؤ على الرفض.
ونظر إلي زوربا من ركن عينيه وابتسم في خبث وقال:
- هذا أشهى طبق يمكن أن تحلم به.
وضحك أناجنوستي العجوز وقال:
- تلك هي الحقيقة.. تذوقه وسوف ترى.. عندما زار الأمير جورج الدير، أقام الرهبان مأدبة تكريما له وقدموا اللحوم لجميع المدعوين، أما الأمير فقد وضعوا أمامه صفحة مليئة بالحساء، وتناول الأمير ملعقة وراح يجرك الحساء، وما لبث أن سأل في دهشة: ما هذا الذي أراه في الحساء؟ فاصوليا..
فأجابه رئيس الرهبان:
- تذوقها يا صاحب السمو. وسنتحدث عنها فيما بعد.
فتناول الأمير ملعقة ثانية وثالثة حتى أتى على الحساء ثم لعق شفتيه وقال:
- يا لها من فاصوليا شهية!
قال رئيس الرهبان ضاحكا:
- انها ليست فاصوليا يا صاحب السمو.. لقد خصينا كل ديوك المنطقة..
وقهقه الشيخ ضاحكا، وتناول قطعة مما في الصفحة وقال:
- هذا طبق خليق بالامراء.. افتح فمك..
ففتحت فمي.. فدس فيه القطعة ، ثم ملأ الأقداح ، وشربنا نخب حفيده الذي يحتفل بعيد ميلاده.
سألته:
- ماذا تريد أن يكون عليه حفيدك أيها العم أناجنوستي؟ أنبئنا لكي نبتهل إلى الله أن يحقق تمنياتك له.
- وماذا أتمنى له يا ولدي؟ كل ما أرجوه له ان يسلك الطريق المستقيم ويصبح رجلا طيبا ورب عائلة.. وان يتزوج ويرزق اولادا وأحفادا.. وأن يكون له ولد يشبهني حتى يقول عجائز القرية: ما أشبهه بأناجنوستي العجوز.. رحمه الله.. لقد كان رجلا طيبا!
ثم صاح بامرأته دون أن ينظر إليها:
- علينا بمزيد من النبيذ يا ماروليا..
وقبل أن يتم عبارته، فتح باب الحظيرة بعنف واندفع أحد الخنازير إلى الحديقة وهو يصرخ بصوت منكر..
فنظر زوربا إلى الخنزير مشفقا وقال:
- ان المسكين يتألم..
فضحك الشيخ الكريتي وقال:
- انه يتألم طبعا.. هب انهم فعلوا بك ما فعلوه به.. أما كنت تتألم؟
فتحرك زوربا في مقعده بقلق وغمغم في هلع:
- قطع لسانك أيها العجوز الأصم..
ووثب الخنزير أمامنا، ونظر إلينا في غضب فقال الشيخ:
- لا عجب. فهو يعلم أنا نأكل قطعة منه.
وغادرنا بيت الشيخ حول الغسق، وكان زوربا مرحا راغبا في الكلام.. قال:
- فيم كنا نتحدث بالامس يا سيدي.. كنت تقول أنك تريد أن تفتح عيون الناس، حسنا. اذهب إلى العم اناجنوستي وافتح له عيينه. لعلك رأيت كيف وقفت زوجته بين يديه في انتظار اوامره، كما يقف الكلب في انتظار لقمة تلقى بها اليه.. اذهب اليه وقل له ان للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل، وان من القسوة أن يأكل قطعة من الخنزير بينما الخنزير يصرخ أمامه من الألم! قل له ذلك ثم انبئني ماذا يمكن أن يفيد هو أو زوجته من مثل هذا الاسفاف؟ لن تكون النتيجة الا تعكير صفاء الاسرة، واثارة المتاعب، واغراء الدجاجة بأن تصبح ديكا.. كلا يا سيد، دع هؤلاء الناس وشأنهم، ولا تحاول أن تفتح عيونهم.. وهب أنهم فتحوا عيونهم فماذا سيرون؟ البؤس.. ولا شيء غير البؤس.. دع عيونهم مغمضة يا سيدي.. ودعهم يحلمون ويأملون..
وصمت لحظة. وحك رأسه.
كان يفكر.
قال:
- اللهم الا..
- الا ماذا؟ .. تلكم.
- اللهم الا اذا جعلتهم يفتحون عيونهم على عالم أفضل من هذا الظلام الذي يعيشون فيه. فهل تستطيع ذلك؟
- لا أعلم.. كنت اعرف انهم اذا فتحوا عيونهم فسوف تدمر أشياء كثيرة، ولكني لم أكن أعرف ماذا يمكن بناؤه فوق الانقاض، لا أحد يستطيع أن يعرف ذلك على وجه اليقين.
ان العالم القديم قائم وواضح المعالم، ونحن نعيش فيه ونناضل معه. أما عالم المستقبل انه لم يولد بعد، انه عالم شفاف غير منظور كالضوء الذي تنسج منه الأحلام.. انه سحابة تتقاذفها أرياح عنيفة.. من الحب والبغض والخيالات.. ان أعظم الانبياء لا يستطيع أن يهب الناس أكثر من نظام للحياة، وكلما كان النظام غامضا زادت أهمية النبي وعظم شأنه.
ونظر زوربا إلي وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة ضايقتني. أجبته قائلا:
- في استطاعتي أن أدلهم على عالم أفضل.
- هل تستطيع ذلك حقا؟ وما هو هذا العالم؟
- لا يمكنني أن أوضح.. انك لن تفهمني.
- معنى ذلك انك لا تعرف عالما أفضل.. انني لست من البلاهة كما تتوهم يا سيد.. واذا كان هناك من قال لك انني رجل ساذج فقد أخطأ.. ربما لا أكون قد تلقيت من التعليم أكثر مما تلقى العم اناجنوستي.. ولكني لست جاهلا مثله.. فاذا كنت لا أفهمك ، وهذا مبلغ ذكائي، فماذا تنتظر ممن هم على شاكلته في العالم أجمع؟ أليس لديك الا المزيد من الظلام لتظهرهم عليه؟ لقد عرفوا حتى الآن كيف يعيشون.. ولديهم أولاد وأحفاد.. وابتلاهم الله بالعمى والصمم فقالوا : الحمد لله. . لقد ألفوا الفقر واطمأنوا إليه، فدعهم وشأنهم، ولا تقل لهم شيئا..
فصمت
ومررنا في هذه اللحظة بحديقة الارملة، فتوقف زوربا قليلا وتنهد ولكنه لم يقل شيئا..
ولا بد أن تكون السماء قد أمطرت، فقد كانت رائحة الأرض تملأ الهواء..
وفكرت..
ان هذا الرجل لم يذهب إلى المدرسة.. ولكنه مر بكل أنواع التجارب.. فتفتح عقله ، وكبر قلبه، دون أن يفقد ذرة واحدة من جرأته البدائية. وجميع المشكلات التي تبدو لنا معقدة مستعصية على الحل، يجسمها هو كأنما بضربة سيف.. ومن العسير أن يخطئ مثل هذا الرجل هدفه، لأن قدميه ثابتتان في الأرض تحت ثقل جسمه، ان بعض القبائل المتخلفة في افريقيا تعبد الثعبان لأنه يلمس الارض بكل جسمه، فهو اذن عليم بكل اسرار الأرض.. انه يعرف هذه الاسرار ببطنه وذيله ورأسه. لأنه على اتصال دائم ووثيق بأمنا الأرض، وكل هذا صحيح بالنسبة إلى زوربا.. أما نحن معشر المتعلمين، فاننا مجرد طيور غبية تعيش في الهواء.


الفصل السادس

كان المطر يتساقط في هدوء وسكون عندما اشعل زوربا النار في الموقد قبل أن ينطلق إلى المنجم. وقد قضيت النهار كله قابعا أمام النار، فلم أتناول طعاما ولم أبرح مكاني وانصرفت بكل حواسي إلى الاصغاء إلى أول أمطار الموسم.
كان عقلي في خمول وراحة، ولكن أذني المرهقتين كانتا تسمعان أبسط حركة للأرض وهي تتفتح وللأمطار وهي تسقط وللبذور وهي تنمو وتتضخم.. بل لقد كنت أشعر بالأرض والسماء تتلاقحان كما في دبي الخليقة وكما يتلاقح الرجل والمرأة وينجبان أطفالا.. واسمع البحر يزأر على الشاطئ زئير الوحوش ويخرج لسانه ليطفئ ظمأه.
كنت سعيدا وأعرف ذلك..
ان الانسان قلما يحس بالسعادة وهو يمارسها، فاذا ما انتهت سعادته ورجع ببصره إليها، أحس فجأة، وبشيء من الدهشة في بعض الأحيان.. بروعة السعادة التي كان ينعم بها.
وتوقفت الامطار قبيل المساء وصفا الجو وشعرت بالجوع وسعدت بهذا الشعور، وأخذت ارتقب عودة زوربا لكي يشعل النار ويطهو الطعام كما اعتاد أن يفعل كل يوم.
وكثيرا ما قال زوربا وهو يضع الوعاء على النار:
- هذا شيء آخر لاغناء للرجل عنه، لا غناء للرجل عن المرأة لعنها الله، ولا عن الطعام..
كان تناول الطعام على هذا الشاطئ المقفر متعة لم يسبق لي أن شعرت بها. وكان زوربا يوقد النار بين حجرين كل مساء ويطهو الطعام، فاذا فرغ من طهوه أكلنا وشربنا وتجاذبنا أطراف الحديث، وقد أدركت أخيرا أن تناول الطعام عمل روحي وان اللحم والخبز والنبيذ هي الخامات التي تصنع العقل.
وكان زوربا حين يعود من عمله الشاق، وقبل أن يتناول طعامه، وشرابه، يبدو متبلدا زاهدا في الكلام، ولكن ما أن يملأ معدته، حتى تدب الحياة في جسده، حتى تتألق عيناه، وتتجلى ذاكرته، ويرقص كأنما قد نبتت لقدميه أجنحة.
كان يقول:
- قل لي ماذا تصنع بالطعام الذي تأكله؟ أقل لك من أنت، ان بعض الناس يحولون الطعام إلى دهن وسماد، وبعضهم يحولونه إلى عمل ومرح، وطائفة أخرى تحوله إلى عبادة.. ومعنى ذلك أن الرجال ثلاثة أنواع، وأنا لست من أسوأ الأنواع، ولست كذلك من أفضلها، ان ما آكله يتحول إلى عمل ومرح، فأنا اذن وسط بين النوعين الاخرين.
ثم ينظر إلي في خبث ويضحك ويستطرد قائلا:
- أما أنت، فانني أعتقد انك تبذل قصارى جهدك لتحويل ما تأكله إلى عبادة، ولكنك لا تستطيع ، وذلك ما يعذبك ويؤرقك، ان ما يحدث لك قد حدث للغراب قبلك.
- وماذا حدث للغراب يا زوربا؟
- كان يمشي مشية محترمة سليمة كما يمشي سائر الغربان، وكلن خطر له ذات يوم أن يجرب مشية الحمامة ومنذ ذلك اليوم استحال عليه أن يذكر مشيته الأولى، واختلط عليه الأمر.. فأصبح يقفز كما ترى..
ورفعت رأسي، فقد سمعت وقع خطى زوربا وهو قادم من المنجم، ولم ألبث أن رأيته مقبلا، وهو مغبر الوجه، وساعداه يتأرجحان إلى جانبيه.
قال بصوت لا حياة فيه:
- طاب مساؤك يا سيدي.
- كيف كان العمل اليوم يا زوربا؟
فلم يجب . وقال:
- سأوقد النار وأعد الطعام.
وتناول بعض قطع الخشب من ركن الكوخ وخرج بها، ورتبها بين الحجرين بطريقة خاصة وأشعل فيها، ثم وضع الاناء في الموقد، ووضع فيه ماء وبصلا وبعض الطماطم والارز، أما أنا فقد بسطت الغطاء فوق المائدة. وقطعت بضع شرائح من الخبز، وملأت قدحين بالنبيذ.
وجثا زوربا أمام الاناء وراح يحملق في النار ولا يقول شيئا.
سألته فجأة:
- هل لك أولاد يا زوربا..
- لماذا تسأل؟ لي ابنة.
- متزوجة؟
فضحك.
- لماذا تضحك يا زوربا؟
- يا له من سؤال!! طبعا متزوجة. انها ليست بلهاء.. كنت أعمل في منجم للنحاس بالقرب من (برتفيشتا) حين جائتني ذات يوم رسالة من أخي (يني).. آه.. نسيت أن أقول لك أن لي أخا عاقلا يقرض الناس بالربا ويتردد على الكنيسة كغيره من المنافقين.. انه يقال في (سالونيك) ويعد من أعمدة المجتمع هناك.. كتب في رسالته يقول: (أخي العزيز اليكسيس.. ان ابنتك (فروسو) قد ضلت سواء السبيل.. ولطخت اسم الاسرة بالاوحال.. فقد اتخذت لنفسها عشيقا ورزقت منه بطفل، لقد ضاعت سمعتنا، سأذهب إلى القرية لأقطع رقبتها).
- وماذا فعلت يا زوربا؟
فهز كتفيه وأجاب:
- قلت : "هكذا النساء" ومزقت الرسالة.
وحرك الأرز في القدر، وأضاف إليه قليلا من الملح، واستطرد قائلا:
- ولكن صبرا حتى تسمع الجانب المضحك من القصة.. بعد شهرين أو ثلاثة، تسلمت رسالة أخرى من أخي الأبله، قال فيها، "أتمنى لك الصحة والسعادة يا أخي العزيز، لقد نجا شرف الاسرة. وفي استطاعتك الان أن ترفع رأسك عاليا، فقد تزوجت (فروسو) من عشيقها".
ونظر زوربا إلي من فوق كتفه، ورأيت على ضوء سيجارته ان عينيه تتألقان...
ثم هز كتفيه وقال باحتقار شديد:
- هكذا الرجال!!
ثم استطرد قائلا بعد صمت قصير:
- ماذا تنتظر من النساء غير أن يحملن من أول عابر سبيل. وماذا تنتظر من الرجال غير أن يقعوا في الفخ!!
ورفع القدر عن النار. وبدأنا نتناول عشاءنا، ولاحظت أن زوربا مستغرق في التفكير.
كان واضحا ان هناك ما يهمه ويشغله، فقد نظر إلي، وفتح فمه ليقول شيئا، ثم عاد إلى صمته..
ورأيت على ضوء المصباح الزيتي، نظرة القلق التي ترتسم في عيينه، ولم أطق أن أراه على هذه الحال فقلت:
- انت تريد أن تقول لي شيئا يا زوربا.. فتكلم .. أن الكلام سيرفه عنك.
ولكنه لزم الصمت، وتناول حصاة صغيرة وقذف بها من النافذة بقوة.
- دع الحصى يا زوربا وتكلم.
فمط رقبته المغضنة، وسألني وهو ينظر في عيني في قلق.
- هل تثق بي؟
- نعم، انني أثق بك.. واعتقد أنك مهما فعلت فلن تخطئ.. حتى لو أردت أنك كالاسد، او كالذئب، فكلاهما لا يتصرف تصرف الخروف أو الحمار.. وكلاهما لا يتنكر لطبيعته.. وانت زوربا من قمة رأسك إلى أخمص قدميك.. ولن تكون الا زوربا، فأطرق برأسه وقال:
- ولكني لم أعد أدري في أي طريق نحن نسير.
- أنا أدري، فلا تنزعج.. بحسبك أن تمضي قدما.
فصاح:
- قل ذلك مرة أخرى لتشجعني.
- امض قدما.
فلمعت عينا زوربا وقال:
- الآن أستطيع أن أنبئك..
- لقد كانت تراودني في الأيام الأخيرة فكرة مجنونة..
- اذن فأنفذها .
فاشرأب بعنقه، ونظر إلي بمزيج من الفرح والحزن.
قال:
- حدثني بصراحة يا سيدي.. ألم يكن الغرض من قدومنا هو البحث عن الفحم؟
- كان الفحم مجرد ذريعة يا زوربا لكي نسكت ألسنة الفضوليين من أهل القرية.. لقد أردت أن ينظر إلينا كرجال أعمال فلا يقذفوننا بالطماطم.. هل فهمت؟
فذهل، وحاول جاهدا أن يفهم، ثم ألجمته الدهشة والشعور بالسعادة المفاجئة، فهم علي، وأمسك بكتفي وصاح:
- هل ترقص؟ هل تجيد الرقص؟
- كلا.
- كلا؟
وأحس بخيبة الأمل، وتدلى ساعداه على جنبيه...
قال بعد لحظة:
- حسنا اذن ، سارقص وحدي.. أرجو أن تبتعد قليلا حتى لا اصطدم بك.
ووثب إلى خارج الكوخ، وخلع حذاءه ورداءه وصداره، وطوى سرواله حتى ركبتيه، وشرع يرقص.
كان وجهه لا يزال مغبرا من تراب الفحم ، ولكن بياض عيينه كان يتألق...
راح يرقص، ويصفق بيديه، ويثبت في الهواء، ويسقط على ركبتيه، ثم يثب مرة أخرى رافعا ساقيه في الفضاء، كما لو كان جسده من المطاط..
وفجأة، راح يثب في الهواء وثبات هائلة، كما لو كان يريد التغلب على نواميس الطبيعة ويطير..
وخيل إلي أن في جسده المتهالك روحا قوية تحاول أن تجعل منه شهبا في الفضاء وأن الجسد يهتز بعنف ويهوي على الأرض لانه لا يستطيع البقاء طويلا في الفضاء.
وارتسمت في وجهه صرامة مزعجة. وكف عن الصياح وأطبق اسنانه وهو يحاول القيام بالمستحيل فصحت به:
- كفى يا زوربا . كفى.
وخشيت أن ينهار جسده، ويتبدد في الهواء بفعل الجهد العنيف الذي يبذله.. ولكن كيف تصل إليه صيحاتي وهو يحملق في الهواء كالطير؟؟
وراقبته في قلق وهو يرقص هذه الرقصة الهمجية.
كنت وأنا صبي أطلق العنان لخيالي وأسرد على أصدقائي حكايات غير معقولة.. انتهى بي الأمر إلى تصديقها والاقتناع بها. فلقد سألني أحد أصدقائي الصغار ذات يوم:
- كيف مات جدك؟
فتفتق ذهني على الفور، عن أسطورة عجيبة، ما لبثت أنا نفسي أن صدقتها.
قلت له:
- كان جدي رجلا متقدما في السن ذا لحية بيضاء، وقد تعود أن ينتعل حذاء من المطاط، وحدث ذات يوم أن وثب من فوق سطح بيتنا. ولكن ما أن مست قدماه الأرض حتى ارتفع مرة أخرى كالكرة ، وتجاوز ارتفاعه سطح البيت، وما زال يهبط ويرتفع، ويزداد ارتفاعه كل مرة حتى اختفى بين السحب.. هكذا مات جدي.
وكنت كلما ذهبت إلى الكنيسة بعد أن اخترعت هذه الاسطورة أشير إلى صورة السيد المسيح وأقول لأصدقائي:
- انظروا .. هو ذا جدي بحذائه المصنوع من المطاط.
تذكرت هذه القصة وأنا أرى زوربا يثب في الهواء، فاشفقت أن يختفي في السحب وصرخت، مرة أخرى:
- كفى يا زوربا!! كفى!!
واستقر أخيرا على الأرض وهو لاهث الأنفاس، ووجهه يتألق بالعرق والسعادة وقد التصقت خصلة من شعره بجبينه، بينما سال العرق على خديه مختلطا بتراب الفحم..
وانحنيت فوقه، فقال بعد لحظة:
- انني الآن أحسن حالا.. وأستطيع الكلام..
وعاد إلى الكوخ ، وجلس أمام الموقد وقد أشرق وجهه.
سألته:
- ماذا دهاك حتى ترقص كما رقصت؟
- وماذا أستطيع أن أفعل غير ذلك، كاد الفرح أن يخنقني، وكان يجب أن أجد له متنفساً..
- عن أي فرح تتكلم؟
فاكفهر وجهه مرة أخرى وبدأت شفتاه ترتجفان.
قال:
- أي فرح؟ هل ما قلته لي منذ لحظة كان مجرد دخان في الهواء؟ لعلك تفهم معنى ما قلت. ألم تقل أننا ما جئنا للبحث عن الفحم، وانما لقضاء الوقت، وتضليل أهل القرية حتى لا يحسبوننا مجانين ويقذفوننا بالطماطم؟ واننا نستطيع أن نضحك ونلهو كما نشتهي حين لا يكون هناك من يرانا؟ أقسم لك ان هذا ما كانت أنا نفسي أريده دون أن أعرف.. لقد كنت طول الوقت نهبا موزعا بين المنجم وبين بوبولينا وبينك.. فاذا تناولت الفأس وأهويت به على حجارة المنجم قلت لنفسي: ان الفحم هو ما أريد..
فاذا انتهى العمل وخلوت إلى بوبولينا قلت لنفسي: ليذهب المنجم وصاحب المنجم إلى الشيطان.. وأنا معهما.
ولكني لا أكاد أخلو إلى نفسي بعد العمل حتى أفكر فيك فيذوب قلبي وأحس بوخز الضمير وأصيح عار عليك يا زوربا أن تخدع هذا الرجل وتأكل أمواله.
الحق انني لم أكن أعرف أين أنا أو ماذا أريد.. كان الشيطان يدفعني إلى ناحية، والله يدفعني إلى ناحية أخرى وأنا أكاد أن أنشطر بينهما.. ولكنك نطقت الان بالحكمة بارك الله فيك..
لقد أصبحت أرى بوضوح، ونحن متفقان كم بقي معك من المال؟ أعطنيه.. ودعنا نأتي عليه.
وراح يجفف عرقه، ويجيل البصر حوله.
وكانت بقايا الطعام لا تزال على المائدة الصغيرة فقال:
- معذرة.. لقد جعت وسآكل مرة أخرى.
وتناول كسرة خبز وبصلة وحفنة من الزيتون، وأكل في نهم ورفع قدح النبيذ فوق فمه، وأفرغ الشراب في حلقه دون أن يمس القدح شفتيه ثم غمز بعينه وقال:
- لماذا لا تضحك؟ لماذا تنظر إلي هكذا؟ ان في أعماقي شيطانا يوسوس لي فأطيعه، وكلما غلبني التأثر والانفعال قال لي: ارقص فارقص، وأبح أحسن حالا.. وعندما مات ولدي الصغير ديمتري، رقصت أمام الجثة فهجموا علي ليمنعوني وصاحوا لقد جن زوربا..
ولكن لولا انني رقصت، لجننت حزنا وأسى، فقد كان أول أولادي وكان في الثالثة من عمره، فعز علي أن أفقده.. أتسمعني يا سيدي؟.. أم تراني أتحدث إلى نفسي..
- انني أسمعك يا زوربا.
- وحدث مرة أخرى.. وكنت وقتئذ في روسيا.. نعم.. انني ذهبت أيضا إلى روسيا لأعمل في مناجم النحاس هناك بالقرب من (نفوروسيسك) . وتعلمت من اللغة الروسية خمس أو ست كلمات.. أي القدر الذي يكفيني في عملي، مثل نعم، لا، خبز، ماء، أحبك، تعال، بكم..
وهناك توثقت أواصر الصداقة بيني وبين رجل روسي أصيل، فكنا نذهب في المساء إلى حانة على الشاطئ حيث نشرب عددا كبيرا من زجاجات (الفودكا) .. وحدث ذات ليلة اننا شربنا حتى ثملنا، وأحسسنا برغبة في الحديث. وأراد الروسي أن يحدثني عن قصة حياته، وما حدث له خلال الثورة الروسية، وأردت بدوري أن أحدثه عن نفسي وعن قصة حياتي.. فلقد شربنا معا وثملنا، وقربت الخمر بين قلبينا فأصبحنا كأخوين.
وتم الاتفاق بيننا بالاشارة على أن يبدأ هو الكلام، حتى اذا عجزت عن فهمه صحت به (قف) فينهض واقفا ويرقص، ويعبر بالرقص عما يريد أن يقوله..
فعلت مثله، وعبرنا بأقدامنا وأيدينا وبطوننا، عما عجزنا عن قوله بأفواهنا وكان الروسي هو البادئ بالكلام فحدثني كيف حمل بندقيته وكيف امتدت الحرب، وكيف وصل العدو إلى (نوفوروسيسك) ، ولما عجزت عن متابعة حديثه صحت به (قف) فكف عن الكلام ووثب واقفا وراح يرقص كالمجنون. وراقبت يديه وقدميه وصدره وعينيه وفهمت كل شيء.. فهمت كيف دخل الاعداء (نوفوروسيسك) واعملوا فيها السلب وكيف أنشب النساء أظافرهن في وجوههن ثم في وجوه الرجال.. وأخيرا كيف استسلمن وأغمضن عيونهم لذة واستمتاعا .. كما هو شأن النساء جميعا..
ثم جاء دوري، ويبدو أن صديقي كان على جانب كبير من الغباء، لأنني ما كدت أنطق ببضع كلمات حتى صاح: (قف)، وذلك ما كنت أنتظره بفروغ صبر، وعلى الفور، نهضت من مكاني وأبعدت المقاعد والمواقد وأشرعت ارقص.. أواه يا صديقي.. ماذا أصاب الناس وهوى بمستواهم !! لقد أصيبت أجسامهم بالبكم فأصبحوا لا يتحدثون الا بأفواههم.. ولكن ماذا تستطيع الافواه أن تقول؟ ليتك رأيت كيف كان الروسي يصغي إلى من رأسي إلى قدمي. وكيف تابع قصتي من بدايتها إلى النهاية!! لقد رقصت له متاعبي ورحلاتي وعدد زيجاتي والاعمال التي مارستها ، وكيف عملت تاجرا، وبائعا جائلا، وخزافا وعازفا على السانتوري وحدادا ومهربا، وعاملا في المناجم، وكيف سجنت ثم هربت ووصلت الى روسيا.
وعلى الرغم من بلادته وغبائه فقد فهم كل شيء.. فقد تكلمت يداي وقدماي بوضوح، كذلك تكلم شعر رأسي وثيابي، والخنجر الذي يتدلى من حزامي. وعندما فرغت من قصتي، أقبل صديقي يعانقني ثم ملأنا كؤوسنا بالفودكا وشربنا وبكينا وضحكنا، وفي المساء تقابلنا مرة أخرى.
أتضحك يا سيدي؟ ألا تصدقني؟ لعلك تقول لنفسك الان: ما هذه الخزعبلات التي يرويها هذا السندباد؟ وهل يمكن لانسان أن يتكلم بالرقص، ولكني أقسم لك أن الالهة والشياطين هكذا يتكلمون..
أراك تغالب النعاس، انك انسان رقيق تفتقر إلى النشاط والحيوية، فاذهب إلى فراشك وغدا نستأنف حديثنا، ان لدي خطة.. خطة رائعة سأحدثك عنها غدا.. أما الآن فانني سأدخن لفافة تبغ أخرى، وربما ألقيت بنفسي في ماء البحر.. ان جسمي يتلظى ويجب أن أطفئه.. طابت ليلتك.
وقضيت في فراشي وقتا طويلا أعالج النوم ولا أظفر به؟ ووجدتني على الرغم مني استعرض ما انقضى من أيامي.. وقلت لنفسي: ان حياتي قد ذهبت سدى ، فليتني أستطيع أن أمحو بقطعة من القماش كل ما تعلمته وكل ما رأيته وسمعته، وان أذهب إلى مدرسة زوربا لأتعلم من جدد الحروف الابجدية الحقيقة، لو انني فعلت لتغير مجرى حياتي، ولتعلمت الجري والوثب والمصارعة والسباحة وركوب الخيل واطلاق النار، ولجمعت بين النقيضين الخالدين.. متعة الروح ومتعة الجسد.
وحانت مني التفاتة، فرأيت زوربا قابعا فوق صخرة على الشاطئ كطائر من طيور الليل، وحسدته..
انه هو الذي اكتشف الحقيقة وسلك اقوم السيل!
لو أنه عاش في العصور البدائية لأصبح زعيم احدى القبائل .. الرجل الذي يتقدم الصفوف ويشق الطريق بفأسه..أما في هذا العصر الجاحد الذي نعيش فيه، فانه يتضور حول المزارع كالذئب الجائع..
ورأيته ينهض فجأة، ويخلع ثيابه، ويقذف بها على الرمال، ثم يلقي بنفسه في البحر..
وفي ضوء القمر الشاحب، رأيت رأسه الضخم يظهر ويختفي وسمعته ينبح كالكلب تارة ويصيح كالديك تارة أخرى..
وفي هدوء ، ودون أن أشعر، غلبني النعاس، فاستغرقت في نوم عميق.. وعندما استيقظت في الصباح، رأيت زوربا واقفا أمامي يبتسم ويهم بأن يجذب قدمي ليوقظني.
قال:
- استيقظ ودعين أعترف لك بخطتي.. هل أنت مصغ إلي؟
- نعم.
فجلس القرفصاء على الأرض، وراح يوضح لي كيف انه سيقيم سلكا هوائيا يل ما بين قمة الجبل والشاطئ، وبهذه الطريقة يمكن نقل الاخشاب التي نحتاج إليها في دعم جدران السراديب حتى لا تنهار على العمال. وما زاد عن حاجتنا نستطيع بيعه لاعمال البناء. وكنا قد قررنا استئجار غابة من اشجار الصنوبر يملكها المدير، ولكننا عجزنا عن استغلالها لقلة البغال وفداحة نفقات النقل، ولهذا فكر زوربا في مد سلك هوائي، واقامة سقالات من الخشب تنهض على أعمدة خشبية وتنحدر من قمة الجبل إلى الشاطئ.
قال بعد أن فرغ من شرح مشروعه:
- هل توافق؟
- أوافق يا زوربا.
فأشعل الموقد واعد القهوة والقى غطاء على قدمي حتى لا أصاب بالبرد، وقال قبل أن ينصرف:
- سنشق سردابا جديدة اليوم، فلقد عثرت على عرق فحم جديد.
وتناولت مسودات كتابي عن (بوذا)، وأخذت أشق السراديب بدوري، وقضيت النهار كله في الكتابة، وكلما فرغت من تدبيج صفحة، أحسست بمزيد من الحرية.
وشعرت بالجوع فتناولت بعض الزبيب والخبز، وانتظرت ان يعود زوربا فيعود معه كل ما يبهج القلب.. الضحكات البريئة، والكلمات الطيبة والطعام الشهي.
وجاء زوربا في المساء وأعد الطعام، وأكلنا.. ولكنه كان مشغول البال، وما لبث أن جثا على ركبته، وراح يغرس قطعا من الخشب في الأرض، ثم شد خيطا فوقها، وحاول أن يجد الانحدار المناسب حتى لا ينهار التصميم كله.
قال موضحا:
- اذا كان الانحدار شديدا، ضاع كل شيء.. يجب أن نجد الانحدار المناسب، وهذا يتطلب مخا ونبيذا.
فقلت ضاحكا:
- لدينا الكثير من النبيذ، أما المخ..
فجلس ليستريح، وأشعل لفافة تبغ وقال: الحق انك ذكي.. ثم استطرد بعد قليل قائلا:
- اذا نجح هذا المشروع، استطعنا ان ننقل الغابة كلها.. وان ننشئ مصنعا لتحويل خشب الاشجار إلى أعمدة والواح وسقالات وغيرها، وحينئذ تمتلئ جيوبنا بالمال. فنبتاع سفينة ندور بها حول العالم.
وانطلق يتحدث عن النساء في الموانئ البعيدة وعن المدن والاضواء والعمائر الضخمة.
قال:
- لقد شاب رأسي، وسقطت أسناني، ولم تبق أمامي فسحة من العمر، أما أنت فانك ما زلت في ريعان شبابك ولن يضرك ان تصبر، ويخطئ من يقول ان الشيخوخة تزيد الانسان اتزانا. وكيف تتسم تصرفات الانسان بالاتزان وهو يرى الموت مقبلا عليه؟! أتراه يمد له عنقا ويقول له: أرجوا أن تقطع عنقي لكي أذهب إلى الجنة!! انني كلما امتد بي العمر، ازددت تمردا.
وتناول (السانتوري) من مكانه على الجدار وراح يحدثه بقوله:
- تعال إيها الشيطان... لماذا تتدلى فوق الجدار ولا تقول شيئا؟ دعنا نسمع غناءك.
ولم أكن أضيق قط باسرافه في العناية بالآلة الموسيقية وبما يبدي من رقة ورفق حين يخرجها من غلافها. كما لو كان يزيل قشور ثمرة ناضجة من ثمار التين، أو غلالة رقيقة عن جسد امرأة فاتنة.
ووضع السانتوري على ركبتيه وانحنى فوقه، ولمس أوتاره في رفق، كما لو كان يسألها عن نوع النغمة التي تريد ان ترسلها، أو كما لو كان يرجوها أن تستيقظ لتؤنس وحشته، وعالج احدى الأغنيات ، ولكن الاوتار لم تخرد النغم المنشود، فانتقل إلى أغنية أخرى، ولكن الاوتار أخرجت صوتا أشبه بالحشرجة، كأنها لا تريد أن تغني.
وجفف زوربا العرق الذي تصبب فجأة على جبينه، وقال وهو ينظر إلى السانتوري في جزع:
- انه لا يريد أن يغني.
ووضعه في غطائه بعناية، وأعاده إلى مكانه على الجدار، ثم ألقى ببعض حبات الكستناء في النار، وملأ قدحينا بالنبيذ وقال:
- ثمة أشياء لا أفهمها يا سيدي، فهل تستطيع أن تجد لها تفسيرا؟ يخيل إلي في بعض الاحيان أن كل شيء في العالم له روح: الخشب والحجارة، والنبيذ الذي نشربه والأرض التي نسير عليها – أعني كل شيء بلا استثناء.
ورفع قدحه وقال:
- نخب صحتك .
وأفرغ النبيذ في جوفه وقال:
- هذه الدنيا بغي عجوز، أشبه ما تكون ببوبولينا. فلما أتمالك نفسي من الضحك.
قال:
- اصغ إلي. ولا تضحك.. نعم، ان الدنيا بغي مثل بوبولينا.. وبوبولينا عجوز، ولكن لها مفاتنها.. انها تعرف طريقة أو طريقتين لكي تشدك إليها.. ولو انك أطفأت النور واحتويتها بين ساعديك لخيل إليك أنها صبية في العشرين.
- ولا ضرورة لأن تقول لي أنها تجاوزت مراحل النضج، انها استمتعت بالحياة بطريقتها، وعاشرت الاميرالات والبحارة والجنود والفلاحين والممثلين والقسس والرهبان ورجال البوليس والقضاة والاساتذة والتلاميذ.. ولكن ماذا في ذلك؟ انها تنسى بسرعة، ولا يمكن ان تذكر أحدا من عشاقها القدامى. وحين تكون معها يحمر وجهها خجلا وتضطرب كما لو كانت ترى رجلا لأول مرة في حياتها.. ان المرأة لغز غامض، وحتى لو سقطت ألف مرة، فانها تنهض ألف مرة عذراء.. ولعلها تسأل: ولكن كيف يحدث ذلك؟ والجواب هو: لأنها لا تذكر.
فقلت لأضايقه:
- ولكن الببغاء تذكر.. انها تردد دائما اسما غير اسمك.. أفلا يزعجك كلما حلقت في السماء السابعة أن تسمع الببغاء تصرخ في كانافارو.. كانافارو؟؟ ألا تشعر وقتئذ برغبة في أن تمسك بها وتدق عنقها؟ لقد آن لك أن تعلمها أن تصيح زوربا.. زوربا.
فصاح وهو يضع يديه على أذنيه:
- كلام فارغ!! ولماذا أدق عنقها؟ انني أحب أن أسمعها تردد هذا الاسم .. ان المرأة تضعها فوق فراشها كل ليلة.. وللببغاء الخبيثة عينان تبصران في الظلام، فلا اكاد أشرع في مغازلة المرأة حتى تصيح الببغاء.. كانافارو.. كانافارو..
وأقسم لك انني أشعر عندئذ كأن في قدمي حذاء طويلا، وكأن على رأسي قبعة مثلثة الاركان تزينها ريشة بيضاء، وكأن لها لحية حريرية تنبعث منها رائحة العطر.. ويخيل إلي أن مدافع بارجتي ترسل آلاف القذائف من حولي.
وضحك زوربا من كل قلبه، واغمض عينه اليسرى، ونظر إلي باليمنى وقال:
- معذرة يا سيدي.. فانني على شاكلة جدي اليكسيس رحمه الله، فقد كان بعد أن بلغ المائة من عمره يجلس في المساء أمام باب البيت ليرقب الفتيات وهو في طريقهن إلى البئر. وكان نظره قد ضعف وأصبح لا يرى بوضوح.. فاذا مرت به الفتيات دعاهن إليه، وسأل احداهن من أنت يا بنية؟ فتجيبه بقولها: انا كسيينو، ابنة مستر اندوني، فيقول لها: أحقا تقولين؟ اقتربي مني اذن ودعيني المسك.. تعالي ولا تخافي.
وتقترب منه الفتاة، فيتحسس وجهها ببط ولذة ، وتطفر الدموع من عينيه.
وقد سألته ذات مساء: لماذا تبكي يا جدي؟
فأجاب:
- وكيف لا أبكي يا بني وأنا على أبواب القبر، وسأترك ورائي كل هؤلاء الفتيات الفاتنات.
وتنهد زوربا واستطرد قائلا:
- كلما تذكرت حديث جدي تمنيت لو ان جميع النساء الفاتنات يمتن معي في ذات اللحظة.
ولكن الفاجرات سيعشن بعدي، وسينعمن بالحياة بين أحضان رجال آخرين، بينما أكون قد تحولت إلى تراب تحت أقدامهن.


الفصل السابع

جلسنا صامتين أمام الموقد حتى ساعة متأخرة من الليل.. وأحسست مرة أخرى بأن السعادة لا تكلف الا القليل: قدح نبيذ وكستناء مشوية، وموقد حقير، وصوت تلاطم الأمواج.. هذه هي العناصر التي يمكن أن تتألق منها السعادة ولا شيء غيرها.. وكل ما ينبغي لكي تشعر بأن هذه هي السعادة، هو أن يكون لك قلب راض ونفس قانعة.
سألت زوربا:
- كم مرة تزوجت يا زوربا؟
ولكنه لم يسمع سؤالي، ولعله كان في واد آخر لا يصل إليه صوتي، فمددت يدي إليهن ولمسته بأطراف أصابعي وكررت سؤالي:
- كم مرة تزوجت يا زوربا؟
وسمعني هذه المرة وأفاق من ذهوله وأجاب:
- عم تبحث الآن؟ أو تظن أنني لست رجلاً؟ لقد فعلت ما يفعله غيري من الرجال وارتكبت (الحماقة الكبرى) .. انني أسأل المتزوجين المعذرة.. ولكني هكذا اسمي الزواج.. نعم، لقد ارتكبت الحماقة الكبرى وتزوجت.
- وكم مرة تزوجت؟
فحك زوربا رأسه بقوة وقال:
- كم مرة؟ انني تزوجت زواجا شريفا مرة واحدة، وزواجا نصف شريف مرتين، وزواجا غير شريف الفين أو ثلاثة آلاف مرة.
- حدثني عن زيجاتك يا زوربا.. ان غدا الاحد وسوف نحلق ذقوننا ونرتدي خير ثيابنا ونذهب إلى بوبوليتا لنقضي وقتا طيبا.. والآن خبرني..
- ماذا أقول لك؟ هذه امور لا تصلح موضوعا للحديث.. ان الزيجات الشريفة لا طعم لها .. انها طبق خلو من التوابل، والناس في قريتنا يقولون: "ان اللحم الشهي، هو اللحم المسروق" وزوجة الانسان ليست لحما مسروقا.
أما الزيجات غير الشريفة، فكيف يمكن ان يذكرها الانسان، هل يمسك الديك سجلا؟ ولماذا؟ انني كنت في شبابي احتفظ بخصلة من شعر كل امرأة أتصل بها.. كنت أحمل مقصا لهذا الغرض، وكنت أذهب إلى الكنيسة والمقص في جيبي.. فنحن رجال على كل حال، ومن يدري ماذا يمكن ان يحدث في أية لحظة!
وهكذا اجتمعت لدي مجموعة كبيرة من خصلات الشعر، منها الأسود والأشقر والأحمر، وبعض خصلات بيضاء. فماذا أصنع بها؟ لقد حشوتها في وسادتي وكنت أنام على الوسادة شتاء، وأهملها صيفا بسبب الحر، إلى أن انبعث منها رائحة كريهة فاحرقتها.
وضحك واستطرد قائلا:
- هذه الوسادة كانت سجل مغامراتي، وقد ضقت بها ذرعا فاحرقتها.. ولم أكن أتوقع ان تجتمع لي كل هذه الخصلات.. ووجدت أنها تزداد بسرعة مدهشة، فتخلصت من المقص.
- وماذا عن زيجاتك نصف الشريفة يا زوربا؟
فتنهد وأجاب:
- آه.. ان لها سحرا خاصا.. وأولئك النساء السلافيات! أية متعة! وأية حرية! انهن لا يسألنك: أين كنت؟ أو لماذا تأخرت؟ أو أين قضيت ليلتك؟ انهن لا يلقين عليك أسئلة.. وأنت لا تسألهن.. تلك هي الحرية!!
واحتسى قدح نبيذ، وراح يمضغ كستناءة ويتكلم قال:
- كانت احداهما تدعى صوفنكا، والثانية تدعى نوسا.. وقد قابلت صوفنكا في قرية صغيرة بالقرب من (نوفوروسيسك).
كان الوقت شتاءا، والثلوج تغطي الأرض، وكنت في طريقي إلى المنجم الذي أعمل ففيه، فتوقفت في القرية، لأن اليوم كان يوم السوق، والرجال والنساء يتوافدون من القرى للبيع والشراء، وكان هناك قحط، والناس يبيعون كل ما يملكون ليبتاعوا خبزا.
وفيما أنا أطوف بالسوق اذ وقع بصري على فلاحة شابة تثب من عربتها.
كان طولها ستة أقدام، ولها عينان زرقاوان كالبحر. وفخذان مليئتان كفخذي الفرس الولود.
وما أن رأيتها حتى جمدت في مكاني وقلت لنفسي "مسكين أنت يا زوربا.. كيف سيغمض لك جفن بعد أن رأيت فاتنة الفاتنات".
وسرت في أثرها، دون أن أقوى على تحويل بصري عنها..
وقلت لنفسي: لماذا تذهب إلى المنجم أيها الأحمق المسكين! هذا هو المنجم الذي يجب أن تعمل في سراديبه!
وتوقفت الفتاة، وبدأت تساوم، وابتاعت كومة من الخشب حملتها إلى عربتها.. وعندئذ رأيت ذراعيها.. وأي ذراعين
ثم ابتاعت بعض الخبز وخمس سمكات أو ست وسألت: بكم هذا؟ وذكر لها البائع الثمن، ولم يكن معها نقود فمدت يدها إلى قرطها الذهبي لتقدمه ثمنا للخبز والسمكات.
ووثب قلبي بين ضلوعي.
هل أدع امرأة تتخلى عن قرطها.. عن حليها.. عن عطرها؟ اذا فعلت المرأة ذلك فقل على الدنيا السلام! ومن يدعها تفعل ذلك يكون كمن يجرد الطاووس من ريشه.. هل يطاوعك قلبك على نتف ريش الطاووس؟.
قلت لنفسي: كلا.. ذلك لن يحدث أبدا طالما زوربا على قيد الحياة!!
وفتحت كيس نقودي، ودفعت.
ولم يكن للنقد الروسي في ذلك الوقت أية قيمة، وكان في استطاعتك أن تشتري الفرس بمائة دراخمة يونانية والمرأة بعشرة دراخمات.
دفعت ثمن الخبز والسمك. فتحولت الفتاة، وصعدتني بنظرة من ركن عينها. ثم تناولت يدي لتقبلها ولكن جذبت يدي، فهتفت بالروسية:
- سباسيبا.. سباسيبا.. أي شكرا.. شكرا.
ووثبت إلى العربة، وتناولت عنان الجواد ورفعت سوطها فقلت لنفسي:
- حذار يا زوربا.. انها ستفلت من بيد أصابعك.
وبوثبة واحدة ، كنت بجانبها في العربة، فلم تقل شيئا، بل ولم تنظر حولها.
واهوت بسوطها على ظهر الجواد، وانطلقت بنا العربة.
وفي الطريق، أدركت انني أريدها.. وكنت أعرف من اللغة الروسية ثلاث كلمات.. ولكن هذه الأمور لا تحتاج إلى كلام كثير.. فقد تفاهمنا بالعيون، والايدي والسيقان.
ووصلنا إلى القرية وتوقفنا أمام دارها، ففتحت الفتاة الباب بدفعة من كتفها ودخلت.
وعاونتها في نقل الخشب إلى فناء الدار، وحملنا الخبز والسمك إلى غرفتها.
وكانت بالغرفة امراة عجوز تجلس أمام الموقد الخامد وترتجف من البرد، وكان البرد من القسوة بحيث أحسست أن أظافري ستسقط.
ونظرت إلى العجوز وابتسمت، وقالت لها الفتاة كلاما لم أفهمه..
أما أنا فقد أشعلت النار، بينما كانت الفتاة تعد المائدة.
وأحضرت الفتاة بعض الفودكا وشربنا، وأعدت الشاي، وجلسنا نتناول الطعام ، وأعطينا العجوز نصيبها منه.
وأخيرا. نهضت الفتاة إلى الفراش فأبدلت أغطيته، ثم أشعلت مصباحا زيتيا أمام تمثال السيدة العذراء، ورسمت علامة الصليب على صدرها ثلاث مرات، وأومأت إلي، فجثونا أما العجوز، التي وضعت يديها على رأسينا وغمغمت ببضع كلمات، ولعلها كانت تباركنا فهتفت بالروسية:
- سباسيا .. سباسيا.
وأحطت الفتاة بساعدي، وحملتها إلى الفراش.
وهنا صمت زوربا.. وأرسل بصره بعيدا.. إلى البحر، وقال بعد قليل:
- كان اسمها صوفنكا.
ولاذ بالصمت. فسألته:
- وماذا حدث بعد ذلك.
- ماذا تعني يا أستاذي؟ وهل ما حدث بعد ذلك يمكن الخوض فيه؟
ان المرأة ينبوع متجدد، تنحني فوقه فترى ظلك في مائه، وتشرب حتى تبلى عظامك، ومن ثم يأتي رجل آخر ظمآن فينحني ويرى ظله، ويشرب.. ثم يأتي ثالث...
- هل هجرتها بعد ذلك..
- ماذا تتوقع؟ قلت لك انها ينبوع متجدد، وما أنا الا عابر سبيل.
لقد مكثت معها ثلاثة شهور.. ثم تذكرت المنجم فقلت لها ذات يوم:
- ان لدي عملا لا بد من انجازه.. ويجب أن أذهب.
- اذهب اذن، وسأنتظرك شهرا، فاذا لم تعد، أصبح حرة.. وكذلك أنت.. فاذهب على بركة الله.
- وهل عدت بعد شهر؟
- معذرة اذا قلت لك انك غبي، كيف كان يمكن ان أعود؟ هل تدعك النساء وشأنك؟ لم تمض عشرة أيام على رحيلي حتى قابلت (نوسا).
- حدثني عنها اذن.
- سأحدثك عنها في مناسبة أخرى.. يجب ألا نخلط بينهما.. والان، دعنا نشرب نخب صوفنكا.
وجرع قدح النبيذ ثم استند إلى الجدار وقال:
- حسنا ، سأحدثك عنها.
ومسح شاربه، وبدأ قصته عن نوسا، قال:
- انني قابلتها أيضاً في احدى القرى الروسية.. كان الوقت صيفا، والحقول مليئة بالبطيخ.. وفي استطاعتك أن تأخذ منه ما تشاء دون أن يتعرض لك أحد.
ان كل شيء موجود بوفرة في روسيا.. كل شيء في أكوام، البطيخ والسمك والزبد والنساء.. وبحسبك ان تمد يدك وتأخذ ما تريد، على خلاف الحال هنا في اليونان فانك اذا لمست بطيخة، اخذوك إلى الشرطة ثم الى المحكمة واذا لمست امرأة هجم عليك اخوها وبيده سكين.. قبح الله هذا البلد اذهب إلى روسيا يا سيدي وستجد انك تستطيع ان تعيش هناك كالامراء.
وقد حدث أنني مررت بمدينة (كوبان) فرأيت امرأة في مطبخ أحد البيوت وأعجبتني.
والمرأة السلافية، ليست كالمرأة اليونانية النحيلة الجشعة التي تعطيك الحب قطرة فقطرة. وتأخذ منك أكثر مما تعطيك، وتحاول جاهدة أن تخدعك وتسرقك.. ان المرأة السلافية توفي الكيل والميزان وتعطيك أكثر من حقك في النوم والحب والطعام.. انها كحيوان الحقل، وكالأرض نفسها.. تعطي عن طيب خاطر.. وتعطي بسخاء.
سألتها: ما اسمك؟
فأجابت: نوسا.. وأنت؟
فقلت: اليكسيس..
ثم قلت لها على الفور:
- انني معجب بك يا نوسا.
فنظرت إلي بامعان، كما ينظر الانسان إلى الحصان قبل أن يشتريه وقالت:
- وأنت لا بأس بك. فأسنانك سليمة . ولك شارب كبير، وكتفان عريضتان، وساعدان قويان، انك تعجبني.
ولم نقل أكثر من ذلك.. فقد تفاهمنا في غمضة عين وطلبت إلي أن أزورها في المساء..
سألتني:
- هل لديك معطف من الفراء؟
- نعم.. ولكن في هذا الحر..
- لا بأس.. يحسن بك أن ترتديه، لكي تبدو أنيقا.
وفي المساء، ارتديت أفضل ثيابي، وحملت عصاي ذات المقبض الفضي، وانطلقت في طريقي إلى بيت نوسا.
كان بيتا ريفيا كبيرا به حظائر للابقار وقاعات للتقطير ورأيت في فنائه قدرين كبيرين فوق موقدين فسألت ما هذا؟ فقالوا انه عصير البطيخ وانهم يصنعون منه خمرا. فقلت لنفسي أرأيت يا زوربا..
انهم يصنعون خمرا من عصير البطيخ! حقا ان هذه هي الأرض الموعودة، فوداعا أيها الفقر، انك وقعت واقفا هذه المرة كما يقع الفأر على قرص من الجبن.
وارتقيت سلما خشبيا كبير، وفي الطابق الأول، التقيت بوالدي نوسا.
كانت ثيابهما تدل على الثراء وسعة العيش فاستقبلوني بالأحضان والقبلات، وقالا لي كلاما كثيرا لم أفهم منه حرفا واحدا ولكن ما أهمية ذلك، طالما انه كان واضحا من ملامحهما انهما لا يضمران لي شرا!
ودخلت قاعة فسيحة فماذا رأيت؟ موائد تئن تحت ثقل الطعام والشراب، موائد كانها السفن الشراعية.
وكان الجميع وقوفا، الاقارب والاصدقاء، نساء ورجالا، تتصدرهم (نوسا) في ثوب سهرة يكشف عن صدر بارز كأنه مقدم السفينة، وتضع على رأسها منديلا أحمر، وقد طرز فوق قلبها شعار المنجلة والمطرقة.
كانت تتألق شبابا وجمالا. فقلت لنفسي:
- زوربا ، أيها الخاطئ الكبير، هل هذا هو الجسد الذي ستضمه إلى صدرك الليلة! عفا الله عن ابويك اللذين جاءا بك إلى هذه الدنيا!
وانقضضنا جميعا على الطعام ، وأكلنا كالخنازير وشربنا كالسمك وكان والد نوسا يجلس إلى جواري ويتكلم دون أن يحول عينيه عن عيني، وكانه يوجه الحديث إلي، أما ماذا قال، فهذا ما يعلمه الله.. كل ما أعلمه أنني تعبت من الوقوف، خاصا وقد كنت ثملا، فجلست. والصقت ركبتي بركبة نوسا، وكانت تجلس إلى يمين.
وخيل إلي أن أباها لن يكف عن الكلام.. إلى أن تصبب العرق على جبينه فهجم عليه المدعوون ليسكتوه، ونجحوا أخيرا في اسكاته ، وحينئذ اومأت إلي وقالت:
- الآن جاء دورك.. يجب أن تتكلم.
فنهضت واقفا، والقيت خطابا نصفه بالروسية، ونصفه اليونانية، ولا أدري ماذا قلت ، ولكني اذكر فقط انني ختمت خطابي باحدى الاغنيات اليونانية الشائعة وما ان فرغت منها حتى ألقيت بنفسي بين ساعدي نوسا وقبلتها.
وصمت زوربا لحظة وتنهد واستطرد:
- وقضينا معا ستة شهور، وكل ما أرجوه الا يمحو الله ذكرى هذه الشهور الستة من مخيلتي..
وأغمض عينيه، وظهر عليه التأثر، وكانت هذه أول مرة أراه فيها وقد هزته احدى الذكريات البعيدة..
فسألته بعد لحظة:
- هل أحببتها إلى هذا الحد..
ففتح عينيه وقال:
- انك ما زلت شابا، ولن تفهم، وعندما يشتعل رأسك شيبا مثلي، حينئذ نستطيع أن نتحدث في هذا الموضوع الخالد.
- أي موضوع خالد؟
- موضوع النساء طبعا، كم مرة يجب أن أقول لك ان المرأة لغز خالد.
- وماذا كان من أمر نوسا؟
فأجاب وهو يرسل بصره إلى البحر:
- عدت إلى البيت ذات مساء فلم أجدها، وبحثت عنها في كل مكان دون جدوى. ثم علمت ان جنديا وسيما قدم أخيرا إلى القرية وانها هربت معه.. وخيل إلي أن الدنيا قد انتهت وان قلبي قد انسحق، ولكن هذا القلب الشقي ما لبث أن التأم، ولعلك رأيت أشرعة السفن وما فيها من رقع حمراء وصفراء وسوداء لا تمزقها العواصف والاعاصير، ان قلبي كهذه الاشرعة، مليء بالثقوب والرقع.. وليس هناك ما يخشى عليه منه..
- ألم تنقم على نوسا يا زوربا؟
- ولماذا؟ ان المرأة مخلوق غير مفهوم، وقد اساءت إليها الشرائع الدينية والدنيوية، ولو كان الأمر بيدي، لما اخضعت الرجال والنساء لنفس القوانين، ان الرجل يستطيع مواجهة ما يفرض عليه من قيود، أما المرأة فمخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة..
دعنا نشرب نخب نوسا، ونخب المرأة.. ولنسأل الله أن يهبنا نحن الرجال مزيدا من العقل.


الفصل الثامن

وأمطرت السماء مرة أخرى في اليوم التالي.
وكنت جالسا بباب الكوخ، أرى السماء تظلم، والبحر يتألق بلون فسفوري أخضر، وكان الشاطئ مقفرا تماما، ولا أثر لشراع أو لطيرن فنهضت واقفا، ومددت يدي إلى المطر، كما يمد السائل يده مستجديا، وشعرت فجأة برغبة في البكاء..
كان ينبعث من الأرض الرطبة نوع من الحزن، أشد عمقا وغموضا من أحزان نفسي، وأردت أن أصرخ، فقد أحسست بأن ذلك سيرفه عني، ولكني خجلت..
وكانت السحب تتكاثف وتدنو من الأرض، فنظرت من النافذة، وشعرت بقلبي ينبض في رفق.
ما أمتع الحزن الذي يملأ النفس من مرأى المطر الهادئ المتصل! ان جميع الذكريات المريرة الراسبة في أعماق النفس تطفو حينئذ فوق السطح، ذكرى الأصدقاء الذين هبوا، والابتسامات الحلوة التي ذبلت، والآمال العزيزة التي فقدت أجنحتها.
وتراءت لي وسط خيوط المطر، صورة صديقي الذي رحل إلى القوقاز، فتناولت قلما وورقة وشرعت أتحدث إلى صديقي لكي أفرق ستار المطر وأتمكن من التنفس:
- صديقي العزيز..
- انني أكتب إليك من شاطئ مقفر في كريت، حيث اتفقت مع القدر على قضاء بضعة شهور ألعب خلالها دور الرأسمالي، فاذا نجحت لعبتي قلت انها لم تكن لعبة، وانما هي قرار خطير غير مجرى حياتي.
ولا شك انك تذكر كيف وصفتني يوم رحلت بأنني (عث كتب)، لقد بلغ من شيقي بهذا الوصف انني قررت تحطيم قلمي وهجر الكتابة بعض الوقت – وربما إلى الأبد – لأمارس حياة أكثر واستخدمت بعض العمال، واعددت الفئوس والمعاول والمصابيح والسلال وعربات النقل، وحفرت السراديب وسرت فيها ، كل ذلك لكي أضايقك وأغيظك.
ان سعادتي هنا لا حد لها، لأنها تنبع من العناصر الخالدة، الهواء النقي والشمس والبحر ورغيف الخبز، وفي المساء ، يجلس القرفصاء أمامي سندباد عجيب غريب الأطوار ويتحدث إلي، فأشعر كأن الدنيا تزداد اتساعا. وفي بعض الأحيان عندما لا تسعفه الألفاظ، يثب من مكانه ويرقص، وحين تعجز رقصاته عن التعبير، يضع السانتوري على ركبتيه ويعزف، وكثيرا ما يعزف مقطوعات همجية تحس حين تسمعها بانك تختنق، لأنها تشعرك بأنك تعيش حياة لا لون لها ولا طعم ، حياة بائسة لا تخلق بانسان.. واذا عزف مقطوعة حزينة، أحسست بأن حياتك تمضي وتنساب كما تنساب الرمل بين اصابعك..
ان قلبي يتحرك بين ضلوعي جيئة وذهابا كالمنسج، انه ينسج هذه الشهور التي أقضيها في كريت، وأعتقد غفر الله لي – انني سعيد..
هل تذكر يوم عبرنا ايطاليا في طريقنا إلى اليونان للدفاع عن اقليم (بونتاس) الذي كان وقتئذ معرضا لخطر الغزو؟ لقد غادرنا القطار لقضاء بعض الوقت في المدينة حتى يحين موعد سفرنا بالقطار التالي.. وسرنا في حديقة واسعة على مقربة من المحطة.. وكانت أحواض الزهور حولنا من الجمال وحسن التنسيق بحيث خيل الينا أننا في حلم.. وما كدنا ننحرف في واحد مسالك الحديقة حتى وجدنا أنفسنا أمام فتاتين تسيران جنبا إلى جنب وتقرآن كتابا واحدا..
انني لا أذكر الآن مبلغ حظهما من الجمال ولكني أذكر أن احداهما كانت شقراء والأخرى سمراء، وانهما كانتا ترتديان ثياب الربيع.
وبمثل الجرأة التي نترف بها في الأحلام، اقتربنا منهما، وقلت انت تحدثهما: مهما يكن موضوع الكتاب الذي تقرآنه، فاننا على استعداد لمناقشته معكما.
وكان الكتاب من تأليف (جوركي) ولم يكن لدينا متسع من الوقت، فدار الحديث بيننا بسرعة عن الحياة والفقر، وثورة العقل والحب..
ولن أنسى ما احسسنا به وقتئذ من سرور وأسى.. فقد خيل إلينا والفتاتين المجهولتين أصدقاء قدامى، بل وعشاق قدامى..
وأقبل القطار، فأخرجنا من حلمنا الممتع وشددنا على ايدي الفتاتين، فامتقع وجه احداهما، بينما راحت الاخرى تضحك وترتجف.
واذكر انني قلت لك في تلك اللحظة، ما معنى اليونان؟.. وما معنى الوطن؟؟ وما معنى الواجب ؟ ان الحقيقة هنا..
فكان جوابك : ان اليونان والوطن والواجب لا تعني شيئا..
... انها لا شيء... ولكن هذا اللاشيء اذا دعانا، لبينا دعوته بلا تردد، وبذلنا حياتنا في سبيله عن طيب خاطر.
وعلك تسأل: لماذا اكتب اليك كل هذا؟
انني أريدك أن تعلم انني لم أنسى لحظة واحدة من اللحظات التي عشناها معا.
وما ان فرغت من الرسالة التي تحدثت فيها إلى صديقي حتى سرى عني وشعرت بالارتياح..
ودعوت زوربا.
كان قابعا تحت احدى الصخور حتى لا يبتل بماء المطر، وبين يديه انموذج صغير للسلك الهوائي يقوم باختباره.
قلت له: هلم بنا نذهب إلى القرية.
- ان المطر ينهمر.. الا تستطيع الذهاب وحدك؟
- لا أريد أن أشعر بالملل، هلم بنا فضحك وقال:
- يسرني ان تكون بحاجة إلي.
وارتدى معطفا من الصوف كنت قد أعطيته له. وخرجنا إلى الطريق.
وكان الهواء ساكنا، والضباب يحجب الجبل.
وانحنى زوربا والتقط زهرة نرجس، ونظر إليها طويلا، وكأنه يرى النرجس للمرة الأولى في حياته.
وقال وهو يتأملها بعد أن شمها:
- ليتنا نعلم ماذا تقول الصخور والامطار والزهور؟! لعلها تدعونا ونحن لا نسمعها..
ترى متى يفتح الناس عيونهم وآذانهم ليروا ويسمعوا؟ ومتى نفتح سواعدنا لنحتضن كل شيء: الصخور والامطار والزهور والناس؟ ما قولك في ذلك يا استاذ؟ وماذا تقول كتبك في هذا الموضوع؟
- لتذهب الصخور والامطار والزهور إلى الشيطان.. هذا ما تقوله الكتب..
فأمسك بساعدي وقال:
- خطرت لي فكرة أرجو ألا تغضبك.. ضع كل كتبك في كومة واحدة وأشعل النار فيها، فلعلنا نستطيع أن نصنع منك شيئا بعد ذلك.
وقلت لنفسي: انه على حق، ولكني لا أستطيع أن أفعل ذلك..
ووصلنا إلى القرية.
ورأينا الفتيات يعدن بالخراف من المراعي، والرجال يطلقون الثيران من نير المحاريث ويتركون الحقول بغير حرث.. والنساء يعدون وراء أطفالهن في الشوارع الضيقة.
كان يسود القرية منذ بدأت الامطار نوع من الذعر المرح، فالنساء يصرخن وعيونهن تضحك، والرجال يصطنعون الجد والرزانة، وقطرات المطر تتساقط من لحاهم وشواربهم، ورائحة البلل تفوح من الارض والحجارة والعشب.
ودخلنا مقهى (التواضع) والماء يقطر من ثيابنا، وكان المقهى مزدحما بالرجال، وبعضهم يلعبون الورق وبعضهم يتحدثون بأعلى اصواتهم كما لو كانوا يتصايحون عبر الجبال، بينما دار شيوخ القرية حول مائدة في ركن قصي من أركان المقهى وراحوا يتداولون: العم اناجنوستي بقميصه الأبيض ذي الاكمام الفضفاضة، ومفراندوني وهو يدخن غليونه الطويل وعيناه تنظران إلى موقع قدميه، وناظر المدرسة وقد استند إلى عصاه وأخذ ينصت إلى شاب ضخم الجسم عاد لتوه من (كانديا) وراح يصف عجائب هذه المدينة الكبيرة. وصاحب المقهى وهو يصغي من مكانه ويضحك ويرقب اواني القهوة المرصوصة أمامه.
وما أن رآنا العم اناجنوستي حتى نهض واقفا ودعانا للجلوس إلى مائدته وقال وهو يشير إلى الشباب:
- ان سكافيانو نيكولي يحدثنا عن مشاهداته في (كانديا).. وحديثه لا يخلو من الطرافة.
ثم التفت إلى صاحب المقهى وقال:
- قدحان من العرق يا مانولاكي.
وجلسنا، وما ان وجد الشاب نفسه في حضرة أجنبيين حتى انطوى على نفسه ولزم الصمت. فقال له ناظر المدرسة ليحثه على الكلام:
- وهل ذهبت إلى المسرح كذلك يا نيكولي؟
فمد الشاب يده الغليظة وتناول قدحه، واحتسى النبيذ وجمع أطراف شجاعته وقال:
- نعم، لقد ذهبت إلى المسرح.. كانوا يتكلمون في كل مكان عن ممثلة معروفة.. وفي احدى الامسيات ، رسمت علامة الصليب على صدري وقلت لنفسي، حسنا، لماذا لا أرى بنفسي تلك التي تثير كل هذه الضجة.
فقال العم اناجنوستي:
- وماذا رأيت يا فتى!! حدثنا بحق السماء.
- الحق انني لم أر شيئا يستحق الذكر، انك تسمعهم يتحدثون عن المسرح فتظن انك ستشهد شيا.. ثم تدرك بعد قليل انك أضعت نقودك سدى.. فالمكان عبارة عن حانة كبيرة مستديرة كالجرن، مليئة بالمقاعد والانوار والناس.. ولم أدر في الواقع أين انا، وبهرتني الأضواء فلم أتبين شيئا، وخشيت أن يسحروني فهممت بالخروج فامسكت بيدي فهتفت بها:
- إلى أين تذهبين بي؟؟
ولكنها جذبتني خلفها، ومرت بي بين الصفوف واجلستني في أحد المقاعد..
ولم أر الا أناسا حولي وأمامي وخلفي وفي كل مكان حتى السقف. وشعرت بالاختناق، اذ لم يكن هناك هوا على الاطلاق.. وأخيرا التفت إلى جاري وسألته:
- هل لك أن تدلني ايها الصديق من أين تخرج الممثلات؟
فأجابني:
- انهن يخرجن من هناك.
وأشار إلى الستار.
وكان على حق، اذ لم تمض لحظة حتى دق جرس، وتحركت الستار، وظهرت الممثلة التي عنها يتحدثون.. ظهرت أمامنا على المسرح بدمها ولحمها.. وأخذت تروح وتغدو وتحرك ذيلها، وتدور حول نفسها، حتى صفق الناس فتوارت عن الأبصار..
وهنا أغرق القرويون في الضحك، فبدا الخجل على وجه نيكولي ونظر إلى الباب وقال ليغير مجرى الحديث:
- لا تزال الامطار تهطل..
فاتجهت الابصار إلى حيث كان ينظر.
وفي هذه اللحظة مرت بالمقهى امرأة تعدو.. وقد رفعت ذيل ثوبها الاسود إلى ما فوق ركبتها.. وانسدل شعرها على كتفيها.
كانت رشيقة القوام، وقد التصق ثوبها بجسدها.. فأبرز مفاتنه وأهلني جمال تكوينها.. وقلت لنفسي: يا لها من وحش مفترس!! وخيل إلي أنها امرأة خطرة.. من الطراز الذي يلتهم الرجال.
وحولت المرأة رأسها بفترة يسيرة.. وألقت على داخل المقهى نظرة ساحرة خاطفة..
وهتف شاب كان يجلس بجوار النافذة قائلا:
يا اله السموات.
وصاح مانولاكاس ، شرطي القرية:
- قبحها الله من فاجرة تشعل النار في قلوب الرجال وتدعهم يحترقون.
وراح الشاب الجالس بجوار النافذة يترنم باحدى الاغنيات في تردد وبصوت خافت اولا، ثم أخذ صوته في الارتفاع:
"وسادة الأرملة لها رائحة السفرجل..
" أنا أيضا عرفت هذه الرائحة
"ومن وقتها لم يغمض لي جفن".
فصاح مافراندوني:
- صه.
فصمت الشاب على الفور.
وهمس أحد الشيوخ في أذن مانولاكاس قائلا:
- ان عمك حانق على الأرملة، واذا وقعت المسكينة بين يديه فسوف يمزقها اربا.
فقال مانولاكاس:
- وأنت أيها العجوز اندروليو، اعتقد أنك أيضا مفتون بها.. ألا تخجل من نفسك؟
- اصغ إلي.. لا تشك أنك لم تدقق النظر في أطفال القرية الذين ولدوا أخيرا، بارك الله في الأرملة.. في استطاعتك أن تقول انها عشيقة رجال القرية جميعا..
وبعد لحظة صمت، غمغم اندروليو العجوز قائلا:
- ما أسعد الرجل الذي يحتويها بين ساعديه!!! وليتني كنت في العشرين من عمري، مثل بافيل، ابن مافراندوني!!
فقال أحد الحاضرين ضاحكا:
- ستراها الان حين تعود إلى بيتها.
فتعلقت عيون الجميع بالباب. وكان المطر قد كف، وبدأ وميض البرق يشق صفحة السماء بين الفينة والفينة.. وتقطعت أنفاس زوربا وفقد سيطرته على نفسه منذ أبصر بالارملة. قال يحدثني:
- لقد كف المطر فهلم بنا.
وظهر بالباب صبي عاري القدمين اشعث الشعر زائغ البصر فصاح به البعض ضاحكين:
- اهذا أنت يا ميميكو؟
ان لكل قرية انسانها الابله، فاذا لم يوجد الابله خلقوه خلقا ليسخروا منه، وقد كان ميميكو ابله تلك القرية.
وقال ميميكو بصوت رقيق كأصوات النساء:
- أيها الاصدقاء، لقد فقدت الارملة سورمالينا نعجتها، وستعطي جالونا من النبيذ جائزة لمن يجدها.
فصاح مافراندوني في غضب:
- اخرج من هنا.. اخرج.
فذعر ميميكو وانكمش بجانب الباب. فقال له العم اناجنوستي مشفقا:
- اجلس يا ميميكو وتناول قدحا من العرق حتى لا تصاب بالبرد.. ماذا تصبح قرييتنا اذا لم يبق فيها مغفل؟
وأقبل على المقهى شاب لاهث الانفاس، تتساقط قطرات المطر من شعر رأسه فصاح به مانولاكاس:
- تعال يا بافلي واجلس معنا.
فنظر مافراندوني إلى ولده وقطب حاجبيه وتمتم قائلا:
اهذا ولدي! من أين هذه الخنوثة، بودي أن أمسك بخناقه واصفع به الأرض!
وكان زوربا يجلس متململا، فقد الهبت الارملة حواسه، وشق عليه البقاء بين الجدران الاربعة..
كان يهمس في أذني كل دقيقة:
- هلم بنا .. انني أختنق هنا.
ثم تحول إلى صاحب المقهى، وساله، متظاهرا بقلة الاكتراث:
- من تكون هذه الأرملة؟
فقال المدعو كوندومانوليو:
- انها فرس ولود.
ووضع اصبعه على شفتيه، ونظر إلى مافراندوني من ركن عينيه نظرة ذات معنى، واستطرد قائلا:
- نعم.. انها فرس ولود.. ولكن دعنا لا نتحدث عنها حتى لا تحل علينا اللعنة.
ونهض مافراندوني واقفا وقال:
- ومعذرة.. انني سأعود إلى بيتي.. اتبعني يا بافلي وخرج وتبعه ابنه، وما لبثا ان غابا عن الأبصار.
وانتقل اندومانوليو إلى مقعد مافراندوني وقال بصوت خافت لا يكاد يسمع:
- مسكين مافراندوني .. انه سيموت كمدا.. لقد نزلت باسرته كارثة كبرى، وأمس فقط، سمعت بافلي يقول لأبيه:
سأقتل نفسي اذا لم تقبلني زوجا لها..
بينما الفاجرة تسخر منه، ولا تريد ان تكون لها أية صلة.
وهمس زوربا وقد اثارته كل كلمة قيلت عن الارملة:
- دعنا نذهب.
فقلت وأنا أنهض واقفا:
- هلم بنا اذن.
وخرج ميميكو من الركن الذي توارى فيه، وسار في أعقابنا.
وبعد لحظة أحسست به يلمس كتفي وسمعته يقول:
- أعطني سيجارة أيها السيد.
فأعطيته سيجارة فاشعلها وراح يدخنها بلذة فسألته:
- إلى أين أنت ذاهب؟
- إلى حديقة الارملة.. لقد وعدتني بطعام اذا أنا أذعت الخبر عن نعجتها.
وأسرعنا الخطى، وبدت القرية نظيفة باسمة بعد أن غسلها المطر وتنهد زوربا وسأل الصبي:
- هل تحب الارملة؟
- ولماذا لا أحبها أيها الصديق؟ ألم أخرج من المجاري ككل انسان آخر..
فذهلت ، وسألته:
- من المجاري؟ ماذا تعني يا ميميكو؟
- ألم أخرج من احشاء أمي؟
ودهشت وفكرت.
ان شكسبير هو وحده الذي يستطيع في أفضل لحظاته الخلاقة أن يصف سر الولادة بمثل هذا التعبير الواقعي.
سألته:
كيف تقضي أيامك يا ميميكو؟
- كأي أمير من الأمراء، استيقظ صباحا وأكل كسرة من الخبز، وأؤدي جميع الأعمال التي يطلبها الناس مني، واجمع القمامة والروث، ثم اصطاد السمك.. انني أعيش مع عمتي، ندابة القرية.. وسوف تعرفها يوما ما.. الجميع يعرفونها.. وفي المساء أعود إلى البيت وأتناول بعض الحساء، وقطرة من النبيذ ان وجد، فاذا لم أجد شربت ماء حتى تمتلئ أمعائي..
- ألا تنوي الزواج يا ميميكو؟
- أنا؟ انني لست مجنونا لكي أبحث عن المتاعب.. المرأة تحتاج إلى أحذية.. فأين أجدها؟ انني أسير عاري القدمين كما ترى.
- أليس لديك حذاء؟
- من تظنني؟ عندي حذاء طبعا، فقد مات رجل في العام الماضي فنزعت عمتي حذاءه من قدميه.. ولكني لا أنتعلهما الا في عيد الفصح، او عندما أذهب إلى الكنيسة، ومتى غادرت الكنيسة خلعتهما، ووضعتهما على كتفي، وعدت بهما إلى البيت.
- وأي شيء تحبه أكثر من سواه يا ميميكو؟
- الخبز أولاً، وخاصة اذا كان ساخنا ومن القمح..
ثم النبيذ ثم النوم.
- والمساء؟
- لا يهمني غير الطعام والشراب والنوم.. أما ما عدا ذلك فمتاعب.
- والأرملة؟
- اذا أردت السلامة فابتعد عنها، وتنكب طريقها.
- قال ذلك ورسم علامة الصليب على صدره.
- هل تعرف القراءة؟
- انني لست غبيا إلى هذا الحد، عندما كنت صغيرا حملوني إلى المدرسة، ولكني كنت حسن الحظ، فأحسست بالتيفوس، وأصبحت أبلها.. وهكذا نجوت من المدرسة.
وضاق زوربا بأسئلتي.. لم يكن يفكر في شيء آخر غير الارملة، فأمسك بساعدي، وتحول إلى ميميكو وامره ان يسبقنا ، ثم التفت إلي وقال:
- أريد أن أحدثك في امر هام.. انني أعتمد عليك فلا تخذلني، ولا تخذل عنصر الرجال جميعا لقد بعث اليك الله بهذه القطعة المختارة من اللحم. وما دامت لك اسنان فانهش قطعة اللحم باسنانك. امدد يدك وخذها.. لماذا اعطانا الخالق هذه الأيدي؟ انه أعطانا اياها لكي نأخذ بها ما نريد.. فخذ هذه المرأة.. لقد رأيت في حياتي نساء كثيرات ولكني لم أرد أشد فتة من هذه الأرملة.
فأجبته في غضب:
- انني لا أريد المتاعب .
وشعرت بالضيق، اذ كنت في قرارة نفسي قد اشتهيت ذلك الجسد القوي الذي مر بي كما تمر انثى الحيوان البري حين تبحث عن أليف..
وصاح زوربا في ذهول:
- لا تريد المتاعب؟ ماذا تريد اذن؟
فلم أجبه.
قال:
- ان الحياة هي المتاعب، ولا متاعب في الموت.. هل تعرف ما معنى ان يعيش الانسان؟ معناه ان يشمر عن ساعديه ويبحث عن المتاعب.
فلزمت الصمت.
كنت أعلم ان زوربا على حق، ولكني لم أجرؤ على مصارحته بذلك.
لقد سارت حياتي في اتجاه خاطئ، وكانت صلتي بالناس اشبه بحديث من جانب واحد.. وبلغ بي الأمر انني لو خيرت بين الوقوع في حب امرأة، وقراءة كتاب عن الحب، لاخترت الكتاب.
واستطرد زوربا قائلا:
- لا تحسب حساب شيء يا سيدي، دع الارقام وحطم الموازين، فهذا هو الوقت الذي ستنقذ فيه نفسك او تدمرها..
اصغ الي، خذ منديلا واطوه على جنيهين او ثلاثة، ولتكن جنيهات ذهبية، لأن أوراق النقد لا تبهر الابصار، وارسل ميميكو بالمنديل إلى الأرملة، وعلمه ان يقول لها: ان صاحب المنجم ويبعث اليك بتحيته، ويرجوك قبول هذا المنديل ولكن حبه أكبر من هديته، وانها اذا كانت قد فقدت نعجتها، فانه موجود وسيعوضك عنها.. لقد رآك عندما مررت بالمقهى فطار لبه، ولن يبرئه سواك.
وعليك ان تضرب الحديد قبل ان يبرد، فتذهب إليها في المساء، وتدق بابها، وتقول لها انك ضللت الطريق في الظلام، وتسألها أن تعيرك مصباحا.. او تقول انك احسست بدورا فجائين وتطلب منها قدح ماء.. وأفضل من هذا وذاك، ان تبتاع نعجة تذهب بها اليها وتقول لها: ها هي نعجتك التي فقدتها يا سيدي.. لقد وجدتها لك".
فتدعوك الارملة للدخول، لتعطيك الجائزة التي وعدت بها من بجد النعجة.
فتدخل .. يا الهي!! انك ستدخل الجنة راكبا فرسا! اذا كنت تبحث عن الجنة فهذه هي.. لا تصدق ما يقوله رجال الكنيسة، فليست هناك جنة اخرى:
ولا بد اننا اقتربنا من تلك اللحظة من حديقة الارملة، فقد تنهد ميميكو وراح يعبر عن شجونه بالاغنية الصبيانية التالية:
النبيذ للكستناء، والعسل للجوز
والفتاة للفتى ، والفتى للفتاة
وتوقف زوربا عن السير فجأة، وتنهد، وسألني وهو ينظر في عيني:
- ما قولك؟
وانتظر بفروغ صبر فأجبته في خشونة:
- كفى.
وأسرعت الخطى، فهز زوربا رأسه، وقال شيا لم أسمعه.
وعندما بلغنا الكوخ جلس القرفصاء ووضع السانتوري على ركبتيه واحنى رأسه فوق دره، واستغرق في التفكير والتأمل.
بدا عليه كأنه ينصت إلى أغنيات عديدة ليختار أجملها، وأخيرا حزم أمره، وبدأ يعزف أغنية رقيقة مؤثرة، وكان ينظر الى من ركن عينه بين وقت وآخر حتى شعرت انه يحاول ان يقول بالسانتوري ما لا يجرؤ على التعبير عنه بالكلام، وهو انني أبدد حياتي وأضيعها هباء. واني والارملة حشرتان تعيشان بضع ثواني تحت الشمس ثم تموتان ويتقلص ظلهما الى الابد.
واخيرا، نهض زوربا واقفا ولعله أدرك فجأة انه يتعب نفسه بلا فائدة.. فاستند إلى الجدار وأشعل لفافة تبغ وقال:
- سأذكر لك الان شيا قاله لي رجل من أهل سالونيك.. سأقوله حتى ولو لم يسفر عن نتيجة.
كنت في وقت ما بائعا جائعا في مقدونيا، وكنت أزور القرى لأبيع الابر والخيط والتوابل.. وكان لي صوت عذب كصوت البلبل، ولعلك تعلم ان بعض النساء يفتنهن الصوت الجميل.. وأي شيء لا يفتن أولئك الفاجرات.. الله وحده يعلم ما في صدورهن.. انك قد تكون دميما كالاثم، وقد تكون اعرجا او احدبا.. فاذا كان صوتك جميلا رغم ذلك، وكان في استطاعتك ان تغني.. فان النساء يتهالكن عليك. حتى لتحار ايهن تختار.
وكنت أنادي على بضاعتي في سالونيك! وأطوف بها في الحي التركي. ويبدو ان ابنه أحد الباشوات فتنها صوتي، فهجر النوم جفونها، ولما لم تطق صبرا، ارسلت خادمها العجوز في طلبي.
ولحق بي الشيخ وقال لي: تعال معي ايها الرومي.
فسألته:
- إلى أين تريد أن تأخذني.
- ان فتاة كالنبع العذب هي ابنة أحد الباشوات تنتظرك في غرفتها فتعال معي ايها الرومي الشاب.
ولكني كنت اعلم انهم يذبحون المسيحيين ليلا في الحي التركي فقلت له:
- كلا.. لن أذهب معك.
- ألا تخاف الله؟
- لماذا؟
- لأن من يستطيع النوم مع امرأة ولا يفعل، يرتكب اثما عظيما يعاقبه الله عليه يوم القيامة وتكون جهنم مصيرة.
وتنهد زوربا واردف قائلا:
- اذا كانت هناك جهنم فسأذهب إليها لهذا السبب.. ليس لأنني سرقت وقتلت وارتكبت المنكر، وانما لأنني ذات ليلة في سالونيك رفضت الذهاب إلى امرأة تنتظرني في فراشها.
وأشعل زوربا الموقد، وبدأ يطهو الطعام وهو ينظر إلي من ركن عينه ويبتسم في سخرية:
وأخيرا هز كتفيه وتمتم قائلا:
- انني كمن يدق باب رجل أصم.


الفصل التاسع

بدأ النهار يزداد قصراً، والضوء يزداد خفوتاً، والقلوب تضطرب قلقاً كلما أقبل المساء، وبدأ يخامرنا ذلك الهلع الفطري الذي كان يستولي على أسلافنا في شهور الشتاء كلما رأوا الشمس تعجل بالغروب يوما بعد يوم، ولعلهم كانوا يقولون لأنفسهم في يأس، (غدا ستذهب الشمس إلى الأبد) ثم يقضون الليل فوق الجبال وهو يرتجفون خوفا وجزعا.
وكان شعور زوربا بالقلق أعمق وأكثر بدائية من شعوري ولكي يهرب من هذا الشعور، كان يقضي في سراديب المنجم أطول وقت ممكن فلا يغادرها الا اذا تألقت النجوم في السماء.
وكان قد وقع في أحد السراديب على نوع جيد من الفحم . نوع قليل من الرماد غني بالطاقة الحرارية، وسره ذلك وأثلج صدره.. فقد كان عقله يطور أرباحنا تطويراً عجيباً ويحولها إلى رحلات ونساء ومغامرات جديدة..
كان ينتظر بفروغ صبر ذلك اليوم الذي تجتمع لنا فيه ثروة ضخمة، وتصبح أجنحته – هكذا كان يسمي النقود – كبيرة.. لكي يطير ويحلق في الفضاء.. ولهذا كان يقضي الليالي بطولها في اختبار أنموذجه المصغر للسلك الهوائي، للبحث عن الانحدار المناسب لتحرك جذوع الاشجار ببطء من قمة الجبل إلى الشاطئ.
وفي أحد الأيام، تناول ورقة كبيرة وبعض الأقلام الملونة.. ورسم الجبل والغابة، وجذوع الاشجار المعلقة بالسلك الهوائي وهي تنحدر، وجعل لكل جذع جناحين، ثم رسم في الخليج الصغير زوارق سوداء وبحارة يرتدون ثياباً خضراء كالببغاوات، ووضع في الزوارق كتلا صفراء من جذوع الشجر، ورسم راهبا في كل من اركان الورقة الأربعة وكتب أمام فم كل راهب بحروف سوداء كبيرة: تبارك الخالق وما خلق.
ولاحظت خلال الأيام الأخيرة أن زوربا يشعل الموقد على عجل، ويعد الطعام ويتناول عشاءه بسرعةن ثم ينطلق إلى القرية، ويعود بعد فترة زائغ البصر مقطب الجبين، فاذا سألته: أين كنت يا زوربا؟ أجاب:
- دعنا من ذلك.
ويغير مجرى الحديث.
وفي احدى الامسيات، كان المطر يهطل مدارا، ونحن أمام الموقد نتدفأ ونشوي بعض الكستناء، حين تحول زوربا إلي، وراح يجحدني بنظرة فاحصة طويلة، كما لو كان يحاول اماطة اللثام عن لغز عويص. ويبدو أن المحاولة أرهقته، لأنه ما لبث أن قال:
- ليتني أعرف ماذا يحببني إليك.. لماذا لا تمسك بأذني وتلقي بي إلى الخارج؟ انني سأفسد أعمالك وأجلب عليك الدمار، فالق بي إلى الخارج وانفض يدك مني.
فأجبته:
- أنا أحبك، وهذا يكفي.
- ولكن ألا ترى أن عقلي ليس له الوزن المناسب؟ ربما كان أثقل أو أخف وزناً مما ينبغي، ولكن ليس له الوزن المناسب، سأقول لك الان شيئا أرجو أن تفهمه، انني لم أعرف للراحة طعماً طيلة الأيام الأخيرة بسبب الأرملة.. وأرجوك ألا تسيء فهمي، فأنا لا أريدها لنفسي ولن أمسها لأنني لست من طرازها.. ولكني لا أريد أن يخسرها الجميع ولا أريد أن تنام وحدها. فذلك ليس من الصواب.
انني أطوف بحديقتها كل ليلة وهذا سر رحلتي إلى القرية كل مساء فهل تعرف لماذا؟
- كي أرى ما اذا كان هناك من ينام معها، ليرتاح بالي وتطمئن نفسي.
فضحكت.
قال:
- لا تضحك. اذا نامت امرأة وحدها فالذنب ذنبنا نحن الرجال وسوف نحاسب عليه في يوم الدينونة.
وصمت لحظة ثم سأل فجأة:
هل يمكن أن يعود الانسان إلى الدنيا بعد أن يموت؟
- لا أظن ذلك يا زوربا.
- وذلك هو رأيي، ولكن اذا قدر للانسان أن يعود، فأكبر الظن أن أولئك الذين تخلفوا عن وظائفهم كرجال ونساء سوف يعودون إلى الدنيا على شكل بغال.. ومن يدري، فلعل جميع البغال التي نراها في هذه الدنيا هي الرجال والنساء الذين تخلوا عن واجباتهم، ولهذا نراهم دائما يرفسون.. فما رأيك في ذلك؟
فأجبت ضاحكا:
- رأيي أن عقلك أقل وزنا مما يجب.. هلم إلى السانتوري يا زوربا.
- معذرة يا سيدي.. أنني لن أعزف الليلة.. واذا كنت قد أسرفت في أحاديثي السخيفة فهل تعلم لماذا؟ لأنني أحمل هموم الدنيا بسبب السرداب الجديد.. وهأنتذا تتحدث عن السانتوري.
وأخرج الكستناء من الموقد، وملأ القدحين بالعرق.
قلت:
- أسأل الله أن يرجح كفة الميزان اليمنى على كتفه اليسرى.
فقال زوربا:
- بل لترجح الكفة اليسرى.. ان رجحان اليمنى لم يفدنا شيئاً حتى الآن.
وافرغ الشراب في جوفه وقال .
- سأحتاج غدا إلى كل ذرة من قواي لأناضل آلاف الشياطين.. طاب مساؤك.
وخرج زوربا إلى المنجم في اليوم التالي مع أول خيوط الفجر.
وكان العمال قد شقوا السرداب الجديد فتسرب الماء من جدرانه وسقفه ووجد الرجال أنفسهم يخوضون في أوحال سوداء، فأحضر زوربا بعض جوع الأشجار لدعم جدران السرداب وسقفه.
ولكنه كان قلقا، فقد أحس بغريزته التي جعلته يشعر بكل ما يصيب السرداب كما لو كان السرداب جزءا من جسده، بأن جذوع الأشجار وشرائح الخشب ليست من القوة كما ينبغي أن تكون، وسمع قرقعة خفيفة لم تسمعها اذن أخى، توحي بأن سقف السرداب يئن من ثقل ما يحمل.
وثمة شيء آخر أشاع القلق في نفس زوربا في ذلك اليوم. فإنه ما كاد يهم بدخول السرداب حتى مر به قس القرية، الأب ستيفانوس، ممتطيا بغلته، وهو في طريقه إلى راهبة تحتضر، ومن حسن الحظ أن زوربا وجد متسعا من الوقت لكي يبصق على الأرض ثلاث مرات قبل أن يتحدث إليه القس.
قال رداً على تحية القس:
- طاب يومك أيها الأب.
ثم أردف بصوت خافت:
- ولتهبط لعنتك على.
وظن أنه بذلك قد وقى السرداب الجديد من شر القس وحسده.
وكان جو السرداب مثقلاً برائحة الفحم والاسيتيلين، وكان العمال قد بدوا فعلا في دعم السقف وتقويته بالاعمدة التي تحمله، فألقى عليهم زوربا تحية الصباح ثم شمر عن ساعديه، وبدأ العمل.
وأخذ بعض العمال في تحطيم كتل الفحم، بينما شرع البعض الآخر في وضعه بالعربات تمهيدا لنقله إلى الخارج.
وفجأة ، وقف زوربا عن العمل، وأمر العمال أن يحذوا حذوه وأرهف أذنيه.
وكما يفني الفارس في جواده، والربان في سفينته، كذلك أصبح زوربا قطعة من المنجم، يشعر بكل تشعب فيه كما يشعر بنبض كل شريان في جسده.
فبعد أن أرهف أذنيه الكبيرتين، أرسل بصره إلى جوف السرداب.
وفي هذه اللحظة وصلت إلى المنجم.. فقد استيقظت فجأة وأنا متوجس، وكأن يدا خفية تدفعني، فارتديت ثيابي على عجل، وأسرعت بالخروج دون أن أعلم لماذا أسرع. أو إلى أين أذهب، ولكن قدماي حملتاني دون تردد في الطريق إلى المنجم ووصلت إليه في اللحظة التي كان فيها زوربا يصيخ السمع وينظر حوله في قلق.
قال بعد لحظة:
- لا شيء.. ظننت ان.. ولكن لا بأس.. إلى العمل يا رجال.
ودار على عقبيه ورآني وقلب شفته..
- ماذا تفعل هنا في هذا الوقت المبكر؟
واقترب مني واستطرد قائلا في همس:
- لماذا لا تذهب لتستنشق بعض الهواء النقي؟ يمكنك أن تأتي في يوم آخر.
- ماذا حدث يا زوربا؟
- لا شيء، لقد تخيلت أشياء.. ولعل السبب أن أول انسان وقع عليه بصري اليوم كان قسا.. اذهب.
- اذا كان هناك خطر .. أفلا يكون من العار أن أذهب؟
- نعم.
- أترحل أنت؟
- كلا.
- اذن؟
- ان ما يجب أن يفعله زوربا شيء.. وما ينبغي أن يفعله الآخرون شي آخر.. ولكن اذا كان من العار أن ترحل، فابق.. فهذه جنازتك.
وتناول معولا، ونهض على أصابع قدميه ليدق مسمارا في السقف، بينما حملت مصباحا وخضت في الوحل لألقي نظرة على كتل الفحم اللامعة.
كانت هناك غابات شاسعة ابتلعتها الأرض منذ ملايين السنين وأحالت أخشابها فحما.. ثم جاء زوربا و ..
وأعدت المصباح إلى مكانه بالجدار ووقفت أرقب زوربا وهو يعمل.
كان منصرفا إلى عمله.. مستغرقا فيه بكل حواسه.. فهو لا يفكر في أي شيء آخر.. وهو والأرض والمعول والفحم شي واحد، وقد اتحد مع المطرقة والمسامير في نضال ضد شرائح الخشب ليقوم السقف المنبعج.. وهو يعالج جدار الجبل ليخرج الفحم بالقوة تارة وبالحيلة تارة أخرى، ويضرب بمعوله في المواضع الضعيفة التي يمكن التغلب عليها.. ويصدر في كل ذلك عن احساس غريزي لا يخطئ أبدا.
رأيته وقد اكتسى بالوحل والتراب الأسود، فلم يبق ظاهرا منه إلا بياض عينيه، وخيل إلي أنه قد لجأ إلى التمويه وتنكر في صورة كتلة من الفحم حتى يستطيع مهاجمة غريمه على غرة منه، والانقضاض عليه في عقر داره.
ولم أستطع كتمان اعجابي فهتفت:
- أحسنت صنعا يا زوربا..
ولكنه لم يحاول أن ينظر إلي أو يحدثني، وكيف كان يمكنه في تلك اللحظة ان يتحدث إلي عن كثب، أيؤثر القلم والورق على المعول والفأس؟
ونظرت إلى ساعتي.
كانت الساعة قد بلغت العاشرة فقلت:
- لقد حان وقت الراحة أيها الأصدقاء.
وعلى الفور، ألقى العمال بأدواتهم إلى أحد الأركان. وجففوا العرق المتصبب على جباههم، وتأهبوا لمغادرة السرداب.
وكان زوربا لا يزال مستغرقا في العمل فلم يسمعني.. ولو سمعني لما تحرك قيد أنملة.
وفجأة، أرهف زوربا أذنيه مرة أخرى، وظهرت على وجهه دلائل القلق.
فقلت أحدث العمال: صبرا لحظة.. ريثما أقدم لكم بعض السجائر.
فدار العمال بي، بينما أخذت أبحث في جيوبي عن علبة السجائر.
وفي هذه اللحظة، كف زوربا عن عمله وألصق أذنه بجدار السرداب، ورأيته على ضوء المصباح يفغر فاه دهشة.. فصحت به:
- ماذا هنالك يا زوربا.
وقبل أن يجيب، حدثت فرقعة فوق رؤوسنا فصاح زوربا بصوت أجش:
- اخرجوا جميعا.. اخرجوا.
فانطلقنا نعدو نحو فوهة السرداب، وما كدنا نتجاوز السقالة الاولى حتى دوت فرقعة أخرى فوق رؤوسنا.
وكان زوربا قد حمل جذع شجرة ضخم، وراح يحاول أن يسند به السقف المتداعي، ولو نجح لاتاح لنا بضع ثوان قد نتمكن فيها من الفرار.
وصاح زوربا مرة اخرى:
- اخرجوا.
ولكن صوته في هذه المرة كان خافتا مختنقا كأنه صادر من بطن الارض.
وبالجبن الذي يصيب الناس عادة في لحظات الخطر. اندفعنا جميعا نحو فوهة السرداب، وقد نسينا زوربا تماما.
ولكني توقفت بعد بضع ثوان، وعدت ادراجي إلى السرداب وأخذت اصيح:
- زوربا.. زوربا.
توهمت أنني أصيح، ثم أدركت أن الخوف قد خنقني، وأن صوتي لم يغادر حنجرتي وأحسست بالخجل، فوثبت نحو زوربا ومددت له يدي.
وكان قد فرغ لتوه من دعم السقف وبدأ يعدو في الظلام طلبا للنجاة فاصطدم بي، وأحاط كل منا صاحبه بساعديه. وصاح زوربا:
- يجب أن نخرج.. اخرج..
وانطلقنا نعدو بأقصى سرعة حتى وصلنا إلى الفوهة. وكان العمال قد اجتمعوا عندها والرعب يملأ نفوسهم.
وما أن رأينا ضوء النهار، حتى سمعنا فرقعة ثالثة، أشبه بصوت شجرة تنكسر في العاصفة. اعقبها دوي كقصف الرعد هز المنطقة كلها.. وانهار السرداب.
وهتف بعض الرجال وهم يرسمون علامة الصليب على صدورهم:
- يا الهي.
بينما صاح زوربا في غضب:
- أرى أنكم تركتم معاولكم هناك.
فصمت الرجال، وصاح زوربا ثانية:
- لماذا لم تأخذوا الأدوات معكم؟
فقلت له:
- ليس هذا وقت البكاء على الأدوات يا زوربا، دعنا نحمد الله على أن الرجال نجوا بأنفسهم.. شكرا لك يا زوربا اننا جميعا ندين بحياتنا لك.
فقال زوربا:
- ان ما حدث جعلني أشعر بالجوع.
وتناول حقيبة، وكان قد تركها فوق صخرة بالقرب من المنجم ففتحها، وأخرج منها خبزا وزيتونا وبصلا، وقليلا من النبيذ.
وقال وفمه مملوء بالطعام:
- هلموا يا رجال.. دعونا نأكل.
وراح يأكل بنهم، دون أن ينطق بكلمة، ثم رفع اناء النبيذ إلى فمه، وشرب كل ما به.
وأفرغ روع العمال، واستردوا شجاعتهم ورباطة جأشهم، فحملوا طعامهم وجلسوا على الأرض حول زوربان وراحوا يأكلون دون أن يحولوا ابصارهم عنه.
كان بودهم أن يلقوا بأنفسهم على قدميه.. وان يقبلوا يديه.. ولكنه عرف بينهم بالشدة وغرابة الأطوار فلم يجرؤ أحدهم على الدنو منه.
وأخيرا جميع ميشيل – أكبر العمال سنا – أطراف شجاعته وقال محدثا زوربا:
- لولاك لأصبح أولادنا الآن أيتاماً أيها السيد اليكسيس.
فقال زوربا والطعام في فمه:
- صه.
ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على الكلام.


الفصل العاشر

من اذن خلق هذه المتاهة، هذا الصرح الذي يمثل الغطرسة والقحة، هذا الحقل الذي ينبت آلاف الخدع، هذا الباب الذي يؤدي إلى الجحيم، هذه السلة الملية بالدهاء، هذا السم الذي له مذاق العسل، هذه الأصفاد التي تغل البشر بالأرض المرأة.
وفي بطء وصمت، أخذت أسجل هذه الأغنية البوذية وأنا جالس على الأرض أمام الموقد.
كانت هذه الأغنية وأمثالها هي بعض التعاويذ التي حاولت بها أن أطرد من ذهني صورة مغرية لامرأة مثيرة، قد بلل ماء المطر ثوبها فألصقه بجسدها وأبرز مفاتنها... امرأة ظلت تلح على خيالي وتتهادي أمام عيني جيئة وذهابا ليلة بعد ليلة، طيلة الشتاء.
والواقع، انني منذ حادث انهيار السرداب الذي كاد يودي بحياتي، كنت أشعر بالارملة في دمي، وكانت تدعوني كما تفعل اناث الحيوان وتقول لي في الحاح وعتاب:
- تعال.. تعال.. ان الحياة تمر كومضة البرق. فتعال قبل فوات الاوان..
كانت تملأ الجو حولي في وحدتي، وتمر أمامي بلا انقطاع ، لتغريني بمفاتن جسدها، وكنت أقاوم الاغراء في النهار بقوة ارادتي ويقظة عقلي، ولكن ما أن يقبل الليل حتى تنهار ارادتي، ويلقي عقلي سلاحه، وتفتح الابواب.. وتدخل الارملة.
وهكذا كنت أستيقظ كل صباح خائر القوى مغلوبا على أمري، لكي أبدأ النضال من جديد.. وكنت أقول لنفسي: انني لست وحدي، فهناك قوة أخرى تخوض المعركة معي.. هي ضوء النهار.. هذا الضوء ينتصر تارة ويهزمه ظلام الليل تارة أخرى.. ولكنه لا ييأس.. وأنا أناضل وآمل مع ضوء النهار.
ولا بد أن يكون زوربا قد لاحظ بذكائه الفطري أي شيطان كنت أناضل، فقد قال لي في ليلة عيد الميلاد:
- فيم تفكر؟ انك على غير ما عهدتك.
فتظاهرت بأنني لم أسمعه ولكنه لم يكن الرجل الذي يتراجع بسهولة.
قال:
- انك لا تزال في مقتبل العمر..
ثم أردف في غضب ومرارة:
- انك شاب قوي البأس تأكل جيدا وتشرب جيدان وتستنشق هواء نقيا، وتختزن قوة هائلة فماذا تصنع بها؟ انك تنام وحدك كل ليلة، وهذا ضار بمن كان مثلك.. فاذهب إليها الليلة ولا تضيع الوقت، كل شيء في هذه الدنيا بسيط، فلا تعقد الأمور..
فأخذت اصغي إليه، وأقلب صفحات كتابي عن بوذا وأصفر بفمي لاخفي مشاعري.
ولاحظ زوربا أني لا أريد الاجابة فصاح:
- الليلة يا صديقي هي ليلة عيد الميلاد، فأسرع إليها قبل أن تغادر بيتها إلى الكنيسة.
فقلت له في ضجر:
- كفى يا زوربا.. ان لكل انسان ميوله الخاصة.. والانسان كالشجرة. فهل تشاجرت مع شجرة يوما ما لانها لا تثمر؟ بحسبنا هذا الآن.. لقد كاد الليل ان ينتصف فهلم بنا إلى الكنيسة.
فقال زوربا في يأس وهو يضع قبعته على رأسه:
- حسنا اذن، هلم بنا إلى الكنيسة..
كانت السماء صافية تماما والنجوم تبدو كبيرة متدلية من السماء ككرات من نار بينما بدا الليل كوحش أسود كبير يجثم على طول الشاطئ.
وازدحمت الكنيسة الدافئة بالقرويين ، فوقف الرجال في المقدمة أمام النساء، وعقد الجميع أيديهم فوق صدورهم.. بينما أخذ الأب ستيفانوس بقامته الطويلة، وثوبه الموشى بالذهب، ووجهه الشاحب بعد صيام أربعين يوما. يروح ويغدو بخطى واسعة، ويترنم بأعلى صوته، وبسرعة ، لكي يعود على عجل إلى بيته، حيث تنتظره مائدة مثقلة بالحساء والشواء وسائر الاطعمة الشهية..
ولو لم تقل الكتب المقدسة ان النور ولد في مثل هذه الليلة لما نشأت الاسطورة وملأت الدنيا.. ولمر الحادث كأية ظاهرة طبيعية عادية، دون أن يلهب الاخيلة.. ولكن النور الذي ولد في صميم الشتاء أصبح طفلا، والطفل أصبح الها دانت له النفوس والارواح عشرين قرنا.
وغادرنا الكنيسة إلى فندق مدام هورتنس، حيث كانت في انتظارنا مائدة حافلة بالطعام والشراب.
وكانت الغانية العجوز ترتدي غلالة طويلة ذات لون باهت وقد عقدت شعرها خلف رأسها، وأحاطت عنقها المجعد بشريط من الحرير الأصفر، وضمخت جسدها في سخاء بعطر زهور البرتقال.
وأجال زوربا البصر حوله ثم همس في اذني قائلا:
- لكن الظن أن العجوز لن تطلق سراحي الليلة..
وكان الوقت فجرا عندما غادرتهما في المخدع الصغير الدافئ، وسرت في طريقي إلى الكوخ.
كنت سعيدا ، وقلت لنفسي هذه هي السعادة الحقيقة ان يعيش الانسان بلا مطامع ويعمل ويكد كأن له ألف مطمع وان يحب الناس ويعمل لخيرهم دون أن يكون في حاجة اليهم وان يأكل ويشرب ويشترك في أعياد الميلاد دون أن يتورط في المتاعب او يقع في الفخاخ.. وان يسير على الشاطئ والنجوم فوقه، والبحر إلى يمينه والأرض إلى يساره وأن يشعر بأن الحياة قد انجزت معجزتها الكبرى فصارت قصة من وحي الخيال.
ومرت الأيام، وحاولت أن اصطنع المرح، رغم الحزن الذي كنت أشعر به في قرارة نفسي.. فقد أزال أسبوع الاعياد الغابر عني كثير من الذكريات. ذكريات عن موسيقى بعيدة، وأناس أحببتهم.. وراعني صدق العبارة القديمة التي تقول : ان قلب الانسان حفرة مليئة بالدم، واولئك الاحباب الذين ماتوا يلقون بأنفسهم على حافة الحفرة وينهلون من الدم، وهكذا يعودون إلى الحياة وكلما كان حبكم لهم عظيما زادت الكمية التي ينتهلونها من دمك.
وفي صباح اول يوم من العام الجديد. فتحت عيني على زوربا وهو يدق رمانة بباب الكوخ..
وانشقت الرمانة وتناثرت بذورها كحبات الياقوت الصافي الاديم، وسقط بعضها على الفراش.. فتناولت بضع حبات وأكلتها وشعرت بانتعاش.
قال زوربا:
عام سعيد يا صديقي.. ارجو أن يزخر بالمال والنساء ثم اغتسل وارتدى ثيابه ومعطفه الروسي وفتل شاربيه.
- سأذهب الان إلى الكنيسة بصفتي ممثلا للشركة التي تستغل المنجم ، فليس من مصلحة العمل ان يظن القرويون اننا من المفكرين الاحرار.. ان ذلك لن يكلفني شيئا، فضلا عن انه وسيلة لقضاء الوقت.
ثم انحنى فوقي وقال وهو يغمز بعينه:
- ومن يدري.. فربما اجد الارملة هناك.
وسمعت وقع خطاه وهو يبتعد، وعاودني الاحساس بالوحدة، فنهضت وارتديت ثيابي، وخرجت الى الشاطئ.
وكان الجو صافيا، والهوا باردا فسرت في الطريق إلى الشاطئ وأنا أسائل نفسي: ترى من سيكون اول انسان التقي به في هذا اليوم الاول من العام الجديد؟ آمل أن يكون طفلا يحمل بين يديه كومة من الهدايا، أو شيخا أشيب الشعر، يرتدي قميصه الابيض المزركش، ويمشي في كبر وخيلاء لأنه أدى واجبه في الحياة بشجاعة.
وفجأة أحسست بيداي ترتجفان.. فقد رايت الارملة بخصرها النحيل وجسمها المثير، ومرتدية ثوبا أحمر، وعلى رأسها منديل أسودن وهي تسير بخطى نشيطة في الطريق إلى القرية.
كانت تنساب ف رشاقة الفهد الاسود.
ووددت لو أستطيع الفرار..
أحسست بأن هذا الوحش لن يعرف الرحمة اذا غضب ، وأن أفضل وسيلة لاتقاء خطره.. هي الفرار.. ولكن كيف؟
كانت الارملة تقترب بسرعة، والحصى يصطك تحت قدميها كما لو كان جيشا برمته يسير فوقه.
وأبصرت بي وهزت رأسها – فانزلق المنديل وظهر شعرها اسود لامعا كخافية الغراب.
وألقت إلي نظرة مغرية وابتسمت.. وكانت في عينيها عذوبة غير مألوفة.
وبسرعة اعادت وضع منديلها على رأسها وكأنما اخجلها ان أرى سرا من أخص أسرار المرأة، وهو شعرها..
وأردت ان اتحدث اليها، واتمنى لها عاما سعيدا، ولكن الكلمات احتبست في حلقي كما احتبست يوم انهار السرداب وكانت حياتي في خطر.
وعبث النسيم باعواد النبات التي تحيط بحديقتها، وسقطت أشعة الشمس على ثمار الليمون والبرتقال. وازدهرت الحديقة أمام عيني حتى بدت كقطعة من الجنة.
وتوقفت الارملة عن السير ومدت يدها، وفتحت باب الحديقة ومررت بها في هذه اللحظة فانثنت ونظرت إلي.
وتركت الباب مفتوحا، وسارت بين أشجار البرتقال، وهي تهز ردفيها.
أي رجل في مثل هذا الموقف، كانت يجب ان يغلق الباب، ويلحق بها.
أو أن هذا ما كان يفعله جدي.. وما أرجوه أن يفعله حفيدي. أما أنا فقد جمدت في مكاني لازن الامور وافكر.
ثم ابتسمت بمرارة وتمتمت قائلا:
- قد اتصرف خيرا من ذلك اذا قدر لي ان أعيش في عالم آخر.
وأحسست بالبرد، ومرت بجسدي رعدة. وعبثا حاولت أن أطرد الارملة من مخيلتي، وأن أنسى حركة ردفيها، وابتسامتها وعينيها وصدرها.
كلها ظلت ماثلة أمامي حتى شعرت بأنني اختنق.
ولم تكن الاشجار قد اورقت بعد، ولكن أغصانها كانت تنبض بماء الحياة، حتى لتحس بأن وراء كل نتوء ورقة.
كانت معجزة الربيع الكبرى تتحفز سرا في صمت، ليلا ونهار، وفي وسط الربيع.. لكي تفجر الزهور والثمار من الخشب الجاف.
وتركت الطريق وجلست تحت احدى الاشجار. ولم أفكر في شيء وأحسست بالسعادة كما لو كنت أجلس تحت شجرة في الجنة.. إلى أن سمعت صوتا يقول فجأة:
- ماذا تفعل هنا يا سيدي. انني بحثت عنك في كل مكان وقد انتصف النهار او كاد.. ألم تشعر بالجوع؟ أم لعلك نسيت الخروف الصغير الذي ينتظر في الفرن؟؟ ان رائحة الشواء تثير لعابي! فهلم بنا.
كانت حاجات الرجل الاساسية، الطعام والشراب والنساء والرقص، لا تبارح ذهنه ابدا.
وكان يلوح في يده بحزمة ملفوفة بالورق الأحمر ومحزومة بخيط ذهبي فسألته وأنا أبتسم:
- أهذه هدية السنة الجديدة؟
فضحك ليخفي تأثره، وأجاب:
- أنا اردت ألا أدع للمرأة المسكينة سبيلا للشكوى.. وحتى تذكر عصرها الذهبي الذي مضى. أليست امرأة، أليس من شيم المرأة البكاء على مصيرها..
- هلم بنا..
وعندما دنونا من القرية، اقترب زوربا مني وقال بصوت خافت:
- لقد رأيتها في الكنيسة يا سيدي. كنت واقفا في الصف الأول عندما اضاءت الايقونات فجأة، وتألق النور في كل مكان فقلت لنفسي، ماذا حدث؟ هل دخلت الشمس الكنيسة؟
ونظرت حولي، واذا بي أرى الارملة.
فقلت وأنا أوسع الخطى.
- بحسبك هذا يا زوربا.. وكفى.
ولكنه أسرع ورائي ومضى يقول:
- لقد رأيتها عن كثب.. ورأيت الخال على خدها ، فطار لبي.
وهذا الخال يا سيدي !! انه كذلك لغز من الالغاز العويصة.
تكون البشرة لينة وناعمة، ثم فجأة تظهر بها نقطة سوداء، تصبح خالا يذهب بصوابك.. ماذا تقول الكتب في ذلك يا سيدي؟
- لتذهب الكتب إلى الشيطان.
فضحك زوربا وصاح:
- هذا كلام جميل.. الآن بدأت تفهم.
وكانت مدام هوريتش قد فرغت من طهو الحمل ووقفت بالباب تنتظرنا.
كانت كالعهد بها، تحيط عنقها بذلك الشريط الاصفر المقيت، وتضع ، على وجهها وشفتيها اكداسا من المساحيق والدهون، وتحرص بذلك على ان تجعل من نفسها شيئا يثير الاشمئزاز..
وأبصرت المرأة بنا فبدا السرور على جسمها كله ورقصت عيناها في محجريهما واستقرتا على شارب زوربا.
وأغلق زوربا الباب، واحتوى الغانية العجوز بين ساعديه وهو يصيح:
- عام سعيد يا بوبولينا.. انظري ماذا أحضرت لك!!
وما ان أطلقها زوربا حتى اختطفت الحزمة وفضتها وافلتت من فمها صيحة فرح.
فانحنيت الى الامام لارى الهدية.
كانت عبارة عن قطعة سميكة من الورق الكرتون.. رسم عليها زوربا بالالوان اربع بوارج ضخمة ترفرف عليها الاعلام.
وفوق الامواج، بين البوارج الاربع، صورة امرأة يتطاير شعرها في الهواء.. والمرأة تشبه مدام هورتنس بكل قسمات وجهها وجسمها، وبالشريط الاصفر الذي يحيط عنقها، وقد امسكت بزمام اربعة خيوط ثبتت اطرافها باربع بوارج ترفرف عليها الاعلام الانجليزية والروسية والفرنسية والايطالية، بينما برزت في أربعة اركان اللوحة اربع لحى، سوداء وشقراء وحمراء وشهباء.
وفهمت الغانية معنى الصورة على الفور وصاحت وهي تشير باصبعها إلى المرأة في اللوحة:
- هأنذا.
وتنهدت، وقالت في شيء من الخيلاء:
- لقد كنت في وقت ما قوة عظمى.
ورفعت مرآة صغيرة كانت مثبتة بالجدار على مقربة من قفص الببغاء، ووضعت اللوحة مكانها.
وكان زوربا قد تسلل إلى المطبخ. فجاء بالحمل المشوي وزجاجة نبيذ، وملأ الأقداح ثم صفق بيديه وصاح:
- إلى الطعام.
ثم التفت إلى الغانية واستطرد:
- المعدة أولا، وبعد ذلك نهتم بما عداها. ولكن الغانية العجوز عكرت الجو بتنهداتها.
كانت بداية كل عام جديد بمثابة يوم الدينونة بالنسبة اليها.. وكلما انصرم عام، نظرت وراءها، واستعرضت ماضيها، وبعثت من قيود ذاكرتها.. ذكريات مدن كبرى، وملابس حريرية، وزجاجات شمبانيا.. وذكريات مدن كبرى، وملابس حريرية، وزجاجات شمبانيا، ولحى معطرة.
غمغمت قائلة:
- لا رغبة لي في الطعام.
ونهضت الى الموقد فركعت امامه. وراحت تحرك النار بينما جلس زوربا مترددا بين المضي في تناول الطعام الشهي دون ان يعبأ بها، أو مواساتها بكلمة طيبة ترد عليها بهجتها وقابليتها للطعام. واتخذ قراره آخر الأمر فحثا بجانبها وقال يلاطفها :
- اذا لم تأكلي يا ساحرتي الصغيرة انتهى كل شيء.. فرحمة بالحمل الوديع، والتهمي هذه القطعة منه.
ودس في فمها قطعة من اللحم، ثم أحاطها بساعديه وانهضها وأجلسها بيننا.
ومسحت المرأة عينيها الحمراوين بظاهر يدها وأقبلت على الطعام.
وقال زوربا وهو يرفع قدحه:
- نخب صحتك يا بوبولينا.. اسأل الله أن يهبك في هذه السنة بعض الأسنان الجديدة.. وأن يملأ حاجبيك بالشعر الكثيف، وان يهديك إلى التخلص من هذا الشريط المزعج الذي تحيطين به عنقك، وأن تقوم في كريت ثورة جديدة حتى تعود اليك بوارجك الاربع، ومع كل بارجة اميرال بلحية معطرة، وان تسبحي فوق قمم الامواج مرة أخرى ويرتفع صوتك العذب.. وان تتحطم البوارج على هاتين الصخرتين البارزتين.
قال ذلك ومد يده الضخمة إلى صدرها المترهل، فتنهدت المرأة وقالت:
- هل يمكن ان يحدث ذلك يا زوربا، ان الشباب اذا ذهب لا يعود..
- اصغ إلي يا صغيرتي، لأحدثك عن الهدية التي سأقدمها اليك.. لقد ظهر طبيب جديد يقوم ببعض المعجزات.. انه يعطيك جرعة من دواء فتعودين إلى سن العشرين، او الخامسة والعشرين على أسوأ تقدير.. لا تبك ايتها العزيزة، فقد ارسلت إلى أوروبا في طلب هذا الدواء.
فبهتت الغانية، وأحاطت عنق زوربا بساعدها، وقالت وهي تحتك به كما تفعل الهرة.
- شكرا لك ألف شكر.. اذا كان الدواء سائلا فاطلب ملء زجاجة كبيرة، واذا كان مسحوقا..
- واذا كان مسحوقا فسأطلب ملء زكيبة.
وجلست الغانية على ركبتي زوربا والقت برأسها على كتفه وتنهدت.
كانت قد أسرفت في الشراب وثملت.
وسألها زوربا:
- فيم تفكرين يا بوبولينتي المحبوبة؟
- في الاسكندرية وبيروت والقسطنطينية.. في الاتراك والشوارب الطويلة والطرابيش الحمراء.
وتنهدت مرة أخرى، وازالت الغبار عن ذكرياتها.. قالت:
- عندما كان علي بك يقضي سهرة عندي، كان الموسيقيون يعزفون في فناء البيت وكان علي بك يلقي اليهم حفنات من النقود ليعزفوا حتى الفجر.. وكان جيراني يسمعون الموسيقى ويتميزون غيظا ويقولون في حسد: أن علي بك عندها.
وفي القسطنطينية، لم يكن سليمان باشا يسمح لي بمغادرة بيته في أيام الجمعة، خوفا من ان يراني السلطان وهو في طريقه الى في أيام الجمعة، خوفا من ان يراني السلطان وهو في طريقه الى المسجد فيبهره جمالي ويختطفني.. وكان كلما خرج إلى عمله في الصباح، أمر ثلاثة من الاغواث بملازمة بابي، ليمنعوا أي رجل من دخول غرفتي.. آه .. تلك الأيام .. ما كان أجملها !!
وتضايق زوربا وتخلص من المرأة بأن أجلسها على مقعد بجواره، وكانت هناك قطتان تموءان وتتشاجران في الخارج فتناول زوربا عصاه وانطلق إلى الخارج، فصحت به ضاحكا:
- من ستضرب بعصاك يا زوربا: سليمان باشا؟
- بل سأضرب القطتين اللعينتين اللتين لا تتركانا في سلام.
وعندما جاء زوربا كانت مدام هورتنس تغط في نومها وتحلم بالشرق والشوارب والبوارج فنظر اليها زوربا باحتقار وقال:
- لقد نامت الفاجرة.
- اظن ذلك يا زوربا باشا.. ولعلها تحلم الآن بانها قد تناولت العقار الجديد.. وعادت إلى سن العشرين.
قبحها الله من بقرة قذرة!! انظر إليها كيف تبتسم في نومها!! هلم بنا.
وخرجنا إلى الهواء البارد وإلى القمر المضيء.. وساد الصمت بيننا بضع لحظات إلى أن قال زوربا:
- رحم الله جدي.. قال لي، احذر المرأة فانها شيطان، واذا لمستها فقد لمست الشيطان.. لقد سرقت تفاحتين من جنات عدن وأخفتهما في صدرها، وهي الان تختال بهما، ومن أكل منهما فقد هلك.
ومررنا بحديقة الارملة، فتوقف زوربا عن السير.. وكانت الخمر والطعام الجيد ونور القمر كلها قد لعبت برأسه، فاشرأب بعنقه نحو الحديقة وقال بصوت أجش:
- وهنا شيطان آخر.
وكان الفجر قد بزغ عندما وصلنا إلى الكوخ، فاستلقيت على فراشي وانا متعب منهوك القوى، اما زوربا فقد اغتسل واشعل الموقد وصنع بعض القهوة ثم جلس على الأرض بجوار الباب وراح يدخن في هدوء. وينظر إلى البحر دون أن يأتي بحركة.
وتاملته وهو جالس في ضوء القمر كأنه صنم، واعجبت بالمرونة والبساطة اللتين يتأقلم بهما، وبالطريقة التي يتواءم بها جسده وروحه مع كل شيء آخر من نساء وخبز وماء ولحم، ليتكون من الجميع شيء اسمه زوربا.
والواقع ، انني لم ار قط مثل هذا التحالف الودي بين انسان والعالم الذي يحيط به.
ومال قرص القمر وشحب لونه، وهدأ البحر وسكنت امواجه ، والقى زوربا لفافة التبغ، وتناول قفصا واخرج منه حبلا وقطعا صغيرة من الخشب، ثم أشعل المصباح الزيتي وراح يقوم بتجاربه على انموذج مصغر للسلك الهوائي.
ومن الواضح انه كان يقوم بعمليات حسابية معقدة لأنه كان يحك رأسه حينا ويسب ويشتم حينا آخر.
وفجأة ضاق ذرعا بالعملية كلها، فركل الانموذج وارسل اجزاءه تتطاير في الهواء.


الفصل الحادي عشر

وغلبني النعاس فنمت، وعندما استيقظت في الصباح كان زوربا قد انصرف وكان البرد شديدا، ولم تكن بي رغبة إلى مغادرة الفراش فقررت أن أقضي وقتي مع الكتب.
ولم يعد زوربا إلا في المساء، وكان مشرق الوجه، وخيل إلي أنه وجد حلا لاحدى المشكلات.. فانتظرت لاعرف ما عنده..
وكنت قد بدأت أضيق به، ومنذ بضعة أيام دعوته إلي وقلت له في غضب:
- لقد فرغت نقودنا يا زوربا أو كادت، فإذا كان هناك ما يمكن عمله، فعجل به. انشئ ذلك السلك الهوائي، فاذا فشلنا في المنجم، أمكننا أن نفيد من الخشب. إنما يجب أن تعجل والا أفلسنا.
فحك رأسه وقال:
- تقول ان نقودنا فرغت؟ هذا لن يؤسف له.
- نعم يا زوربا لقد ابتلع المنجم بعضها، وأكلنا البعض الآخر، فافعل شياً، كيف انتهت تجاربك؟ ألم توفق بعد؟.
فأطرق برأسه ولم يجب، وبدا علي الخجل، وما لبث أن صاح في غضب:
- ذلك المنحدر اللعين!! سوف أظفر به مهما كلفني الأمر.
وها هو قد أقبل الآن بوجه مشرق، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة.. صاح:
- لقد نجحت ونجحت في معرفة الزاوية الصحيحة التي حيرتني كل هذا الوقت.
- اذن فعجل بالعمل يا زوربا لماذا تنتظر؟
- يجب أن أذهب إلى المدينة غدا صباحا لشراء أسلاك الصلب والطنابير والمسامير والادوات الضرورية وسأعود على وجه السرعة.
وأشعل الموقد بعد ذلك وأعد طعاما وأكلنا بشهية جيدة.
وفي صباح اليوم التالي، رافقت زوربا إلى القرية ودار بيننا في الطريق حديث جرى عن العمل في المنجم.
وفيما كنا نهبط منحدرا، ضرب زوربا بقدمه حجرا، فتدحرج الحجر في المنحدر، ووقف زوربا مبهوتا، وكأنه يرى هذا المنظر لأول مرة في حياته والتفت إلي وقال:
- هل رأيت؟ ان الحياة تعود إلى الحجارة في المنحدرات..
فلم أجبه، ولكني شعرت بسرور وبهجة، وقلت لنفسي:
- هكذا ينظر كبار الشعراء والمفكرين إلى الأشياء كأنهم يرونها لأول مرة.. والواقع أنهم لا يرونه وإنما يخلقونه.
وقد كانت الدنيا في نظر زوربا كما كانت في نظر الانسان الأول، مجرد مشهد كبير رائع، فالنجوم تتألق فوق رأسه، وأمواج البحر تنكسر تحت قدميه، وهو يعيش مع الأرض والماء والحيوان والله.. دون أن يفسد عليه التفكير العقيم متعة الحياة.
وعلمت مدام هورتنس بامر سفر زوربا، ووجدناها في انتظارنا بباب بيتها، وكذلك كان البغل الذي سيمتطيه زوربا في رحلته.
ووثب زوربا إلى ظهر البغل وأمسك بقيادة، واقتربت الغانية العجوز في حياء ووضعت يدها على صدر البغل، وكأنها تريد أن تمنع صاحبها من الرحيل.
ووقفت المرأة على أصابع قدميها وهمست:
- زوربا.. زوربا.
ولكن زوربا أشاح عنها بوجهه. كان يكره سماع سخف العشاق على قارعة الطريق.
ورأت المرأة النظرة الرهيبة التي ارتسمت في عينيه، فذعرت.. ولكنها ظلت ممسكة بصدر البغل، وعيناها تتطلعان إلى زوربا في ضراعة.
وصاح زوربا في غضب:
- ماذا تريدين؟
فقالت متوسلة:
- زوربا.. لا تنسني يا زوربا. وكن كريما.
فهز عنان البغل ولم يجب.. وانطلق به البغل فصحت:
- أرجو لك التوفيق يا زوربا. عد بعد ثلاثة أيام لا أكثر.. هل سمعتني؟
فتحول إلى الوراء ولوح لنا بيده، فبكت المرأة، ورسمت الدموع خطوطا وسط المساحيق والأصباغ التي تغطي وجهها.
وبعد لحظات، توارى زوربا بين أشجار الزيتون، فنظرت مدام هورتنس حولها كمن ينظر إلى فراغ.
لقد اقفرت دنياها بعد رحيل زوربا.
ولم أعد إلى الشاطئ فقد كنت أشعر بحزن ووحشة وانما سرت في الطريق إلى الجبل.
وقبل أن أخطو بضع خطوات، سمعت دقات الطبلة التي يعلن بها موزع البريد وصوله إلى القرية.. ورأيت الرجل يلوح لي بيده، فقابلته في منتصف الطريق، وأعطاني حزمة من الصحف والمجلات ورسالتين، وعلى الفور أودعت احدى الرسالتين جيبي لأقرأها في هدأة الليل، فقد كنت أعرف كاتبها، وأردت أن يطول شوقي إلى مضمونها قبل أن أفضها.
وكذلك عرفت صاحب الرسالة الثانية من خطه على غلافها، ومن طابع البريد العجيب الذي تحمله.
كان من زملائي القدامى في المدرسة، ويدعى كرايانيس وكان يقيم في ذلك الوقت في بلد جبلي بالقرب من (طنجانيقا).
وقد عرفته شابا أسود البشرة عصبي المزاج، يصيح أكثر مما يتكلم ، ويتشاجر أكثر مما يناقش.
كان أستاذاً في علم اللاهوت وراهبا، وقد فوجئ ذات يوم وهو يقبل احدى تلميذاته في أحد الحقول، فخلع مسوح الرهبنة ورحل في اليوم التالي إلى افريقيا حيث أنشأ مصنعا للحبال، وجمع ثروة طائلة.
وكان يكتب إلي بين وقت وآخر، ليدعوني إلى قضاء بضعة شهور معه في افريقيا.
جلست فوق حجر على جانب الطريق، وفضضت الرسالة، وقرأت فيها ما يلي:
" متى ستحزم أمرك وتأتي لزيارتك أيها الرجل الذي استعبدته جبال اليونان وشواطئها؟ أكبر الظن أنك أصبحت من عشاق الحانات والمقاهي كسائر المواطنين اليونانيين!!
" هذا يوم الأحد ، ولا عمل عندي، وأنا أكتب إليك من ضيعتي والشمس كالاتون، والامطار لم تهطل منذ بضعة شهور، ولكنها عندما تهطل في ابريل ومايو ويونية، تصبح كالطوفان.
يوجد هنا كثير من اليونانيين، انهم في كل مكان كالحشرات، ولكني لا أختلط بهم فهم يثيرون اشمئزازي وقد جلبوا معهم الجذام والقمار والجهل وسائر الخطايا.
انني أكره الاوروبيين، ولذلك لجأت إلى هذه الجبال، ولكني أكره اليونانيين أكثر من أي شعب آخر، ولن أعود إلى اليونان ما حييت وقد شيدت قبري هنا أمام بيتي ونقشت عليه هذه الكلمات بحروف كبيرة (هنا يرقد يوناني يكره اليونانيين).
أنا لا أعرف ملهاة غير العمل فأنا أكد وأكدح وأناضل الأرض والريح والمطر والعمال وانفق أموالي كما أريد، لأنني أستعبد المال والمال لا يستعبدني، ولكني عبد للعمل وأفخر بذلك، انني أشتغل بتجارة الأخشاب، وقد أنشأت مصنعا للحبال وسأشرع في زراعة القطن.
متى ستأتين ، لنتسلق معا هذه الجبال النقية العذراء؟
لقد رزقت بابنة من امرأة سوداء ولكن الأم أهدرت شرفي في وضح النهار وتحت كل شجرة في المنطقة فطردتها.
والطفلة الآن في الثانية من عمرها وقد علمتها من اللغة اليونانية القدر الذي يساعدها على سب اليونان وأهلها.
وهي تشبهني ولكن أنفها مفرطح كأنف أمها، وأنا أحبها كما تحب كلبا أو قطا.
تعال وتزوج من امرأة زنجية لترزق منها ولدا نزوجه من ابنتي.. لمجرد اللهو..
وتملكتني رغبة في الرحيل إلى افريقيا لا لأنني أفتقد السعادة والجدية في كريت، وانما لأنني كنت أصبو دائما إلى زيارة أكبر عدد من بلاد العالم قبل أن أموت.
وعدلت عن تسلق الجبل، وسرت في طريقي إلى الكوخ لكي أنعم بقراءة الرسالة الثانية.
وهناك أشعلت نارا وأعددت قدحا من الشاي وتناولت بعض الخبز والعسل ثم خلعت ثيابي وتمددت على فراشي وفضضت الرسالة وقرأت فيها ما يلي:
استاذي وصديقي...
انني أضطلع هنا بمهمة على جانب عظيم من الصعوبة والخطورة ، هي محاولة انقاذ نصف مليون يوناني في جنوب روسيا والقوقاز! وأكثرهم يتحدثون بالتركية أو الروسية، ولكن قلوبهم جميعا تتحدث باليونانية.
انهم جزء من شعبنا، وبحسبك ان ترى عيونهم اللامعة وبسماتهم الماكرة، ورؤوسهم المرفوعة في كبرياء وصلف وان تعرف كيف كافحوا وناضلوا حتى سادوا المنطقة وصار لهم عيد وخدم، لكي تدرك انهم حقا أحفاد بطلنا العظيم (اوديسيوس) وان من واجبنا أن نحبهم ونقاتل من اجلهم ولا ندعم يهلكون..
لقد فقدوا كل ما يملكون، وهم اليوم جياع عراة، يطاردهم الروس من ناحية، والاكراد من ناحية أخرى، وآلاف اللاجئين يفدون من شتى المناطق للاقامة في بعض مدن جورجيا وارمينيا. وليس ثمة طعام او دواء أو غطاء.. وآلاف آخرون يقفون بالموانئ وينظرون إلى الأفق في قلق، لعلهم يرون سفينة يونانية تعود بهم إلى أرض الوطن.
إن هذا الجزء العزيز من شعبنا يعيش في ذعر وهلع، واذا تركناه لمصيره فسوف يهلك، ولكنا بحاجة إلى كثير من الحب والفهم والحماسة والبذل والتفكير السليم لكي ننقذه ونعيده سالما إلى بلدنا الحر الذي هو بحاجة إلى كل ابن من أبنائه.
انني أذهب إلى القرى والمدن لأجمع اليونانيين معاً، كما أكتب التقريرات وأرسل البرقيات إلى المسؤولين في أثينا لكي يبعثوا إلينا بالسفن والطعام والثياب والأدوية، واذا كان النضال في حماسة واصرار يجلب لصاحبه السعادة، فأنا اذن جد سعيد.
انت الآن قابع على شاطئ (كريت) تنصت إلى أمواج البحر وتصغي إلى نغمات (السانتوري) لأن لديك متسعا من الوقت، أما أنا فانني في دوامة من العمل والنشاط وأنا سعيد بذلك.
ان العمل، والعمل المتواصل، يا أستاذي الخامل، هو صخرة النجاة لمن كان مثلنا.
انا الآن بمدينة (كارس) ، وقد جئت إليها أجمع اليونانيين من القرى المجاورة وحدث في يوم وصولي أن أختطف الاكراد معلما وقسا من اليونانيين ودقوا حدوة حصان في قدم كل منهما، وكانت النتيجة ان دب الذعر في قلوب رؤساء الجالية اليونانية فلجئوا إلى البيت الذي أقيم فيه..
ان دوي مدافع الاكراد يزداد اقترابا كل ساعة وعيون اليونانيين جميعاً تتعلق بي، كما لو كنت الانسان الوحيد الذي يستطيع انقاذهم.
لقد كان في نيتي الرحيل إلى (تفليس) غدا، ولكني وجدت ان من العار ان أرجل بينما الخطر يدنو من مواطني.
ولا أقول لك انني لست خائفا، الواقع اني خائف ولكني أشعر بالخجل.
ترى ماذا يفعل محارب (رمبران) لو أنه وجد نفسه في مثل مركزي؟
أعتقد أنه يبقى ، ولذلك سأبقى واذا دخل الاكراد المدينة فمن المحقق انني سأكون أول انسان يدق حدوة حصان في قدمه.. فهل خطر ببالك يوما يا أستاذي ان هذا سيكون مصير تلميذك؟
لقد قررنا.. بعد مناقشة حادة من تلك المناقشات اليونانية التي لا تنتهي ، ان يجتمع اليونانيون الليلة، وأن يجمعوا نساءهم وأطفالهم وبغالهم وجيادهم استعدادا للرحيل عند الفجر..
وسوف أكون انا الكبش الذي يتقدم القطيع عبر سلسلة من الجبال والوديان.
ستكون هجرة جماعية أشبه بهجرة بني اسرائيل وسأكون أنا (موسى) هؤلاء المهاجرين ودليلهم إلى الأرض الموعودة.
أرجو أيها الصديق والأستاذ أن تصلك هذه الرسالة، لانها قد تكون الأخيرة.
انني لا أؤمن بالقوى الخفية التي تحرس الناس، وانما أؤمن بالقوى الغاشمة التي تضرب يمينا ويسارا بلا حقد وبغير قصد، لتقتل من يوقعه سوء حظه في طريقها.
على انني اذا وجدت نفسي في خطر الموت، فسوف أتصل بك أينما كنت، لكي انذرك كما اتفقنا.


الفصل الثاني عشر


مرت ثلاثة أيام وأربعة وخمسة ولما يعد زوربا، وفي اليوم السادس تلقيت رسالة من مدينة (كانديا) تتألف من بضع صفحات من ورق عادي معطر وفي ركن كل ورقة صورة قلب يخترقه سهم.
ويبدو أن زوربا تعود أن يمسك بالقلم كما يمسك بالفأس، فقد كانت الصفحات مليئة بالثقوب وبقع الحبر.
وفيما يلي مضمون الرسالة بعد تصحيح أخطائها الهجائية واللغوية:
"عزيزي الرأسمالي،
يسرني أن أتناول القلم لأكتب إليك مستفسراً عن صحتك، أما أنا ففي خير حال والحمد لله.
لقد أدركت من بعض الوقت أنني لم أجيء إلى هذه الدنيا لأكون حصانا أو ثورا، فالحيوانات وحدها هي التي تأكل لتعيش، ولكي تنسحب على هذه الصفة، فإنني أخلق لنفسي عملاً ليلا نهارا، وكثيرا ما أضحي بمصدر رزقي من أجل فكرة، لأني أعمل بالمثل القائل "عصفور نحيل على الجسر، أفضل من ببغاء سمينة في القفص".
ان كثيرا من الناس يفخرون بوطنيتهم دون أن تكلفهم الوطنية شياً، أما أنا فلست وطنيا، ولن أكون، مهما كانت تكاليف الوطنية.
وكثير من الناس يفكرون طويلاً، ويعصرون أذهانهم أما أنا فلا حاجة بي إلى التفكير ، فالخبر الطيب لا يسرني، والخبر السيء لا يحزنني، وسيان عندي ان يستولي اليونانيون على القسطنطينية، أو يستولي الاتراك على أثينا.
الشيء الوحيد الذي يهمني، هو هل أنا حي أو ميت؟
وعلى ذكر الحياة والموت، أود أن أحدثك عن أمر يزعجني ويقض مضجعي، وأعني به الشيخوخة.
ان الموت لا يهمني، فالحياة شمعة تطفئها لفحة هواء.. أما الشيخوخة فانها عار وفضيحة ولهذا أبذل قصارى جهدي لأمنع الناس من الاعتقاد بأنني كبرت.
انني أرقص ، فيؤلمني ظهري، ولكني أواصل الرقص وأشرب، فتدور الدنيا بي ولكي أستمر في تناول الشراب كما يفعل الآخرون.. وأنا ألقي بنفسي في ماء البحر وأصاب بالبرد، ولكني أغالب السعال، حتى لا أتهم بالضعف والشيخوخة.. هل تذكر انك سمعتني مرة أسعل؟.. أبدا..
وأنا لا أخجل من الضعف والشيخوخة أمام الناس فحسب، وإنما أخجل منهما أمام نفسي كذلك.. أخجل منهما أمام زوربا ، فما قولك في ذلك يا أستاذي؟
ان في أعماقي شيطانا اسميه زوربا ، وزوربا الداخلي لا يحب الشيخوخة، ولم تتقدم به السن، ولن تتقدم.. أما زوربا الخارجي فقد ضمر جسده وشاب شعر رأسه وسقطت أسنانه وأحدثت الأيام شقوقا عميقة في وجهه.
ولكن إلى متى سيستمر الصراع بين هذين الزربيين؟ وأيهما سيظفر بصاحبه؟ اذا مت عاجلا كان ذلك الخير كله، أما اذا امتد بي الأجل طويلا فسيأتي يوم أخسر فيه الحرية والكرامة..
ستطلب إلى ابنتي وابني أن أحمل ذراريهما ، أولئك الشياطين الصغار، وأن أسهر على سلامتهم.. وأنظف قذارتهم..
ومن المحقق انك ستمر كذلك بمثل هذا العار يوما ما ولذلك أرجو أن تصغي إلي.. وأن تعمل بنصيحتي.. دعنا نذهب إلى الجبال لنخرج من مناجمها الفحم والحديد والنحاس فاذا نجحنا وأبحنا من ذوي الثراء احترمنا الاقارب ولعق الاصدقاء أحذيتنا ورفع الجميع قبعاتهم لنا.. أما اذا لم ننجح، فهناك ذئاب ووحوش يمكنها أن تتكفل بنا، فما خلق الله الوحوش الا لتأكل أمثالنا، وتجنبهم مذلة الفقر وضياع الكرامة.
وهنا رسم زوربا صورة لرجل طويل نحيل يلوذ باحدى الاشجار، بينما سبعة ذئاب تطارده وتجد في اثره وكتب تحت الصورة بحروف كبيرة: (زوربا والخطايا السبع).
ثم مضى في رسالته يقول:
سأقص عليم الآن ما حدث لي في (كانديا) لأنني بحاجة إلى نصائحك انك أصغر مني سنا بطبيعة الحال، ولكنك قرأت كتب الحكمة القديمة، وأصبحت إلى حد ما – ومعذرة من هذا التعبير – من الطراز القديم..
"أنا أعتقد أن لكل انسان رائحة خاصة.. واننا لا نلاحظ ذلك لأن روائحنا جميعا يمتزج بعضها ببعض، فيتعذر علينا تمييزها ورد كل رائحة إلى صاحبها..
كل ما نعلمه هو ان هذه الروائح في مجموعها تؤلف رائحة واحدة خبيثة هي التي نسميها (البشرية) وبعض الناس يحبون هذه الرائحة ويشمونها كما لو كانت عطرا، أما انا فانها تثير اشمئزازي.
بيد ان للنساء انوفا كأنوف الكلاب، يميزون بها رائحة الرجل الذي يرغب فيهن.. ولعل ذلك هو السبب في انني ما أكاد أضع قدمي في مدينة، وعلى الرغم من شيخوختي ودمامتي، ورثاثة ثيابي، حتى أجد امرأة أو امرأتين تطاردانني وتقطعان علي السبيل.
صفوة القول: انني عندما وصلت إلى (كانديا) في الغسق، كانت الحوانيت كلها مغلقة، فقصدت إلى إحدى الحانات، حيث تناولت بعض الطعام وعلفت البغل، ثم خطر لي أن أتجول قليلا في شوارع المدينة، لم أكن أعرف أحدا فيها، ولا أحد فيها يعرفني ، كنت حرا أصفر في الطريق واضحك وأتحدث إلى نفسي.. وكانت مصابيح الشوارع قد اضيئت.. والطرق حافلة بالنساء.. ورائحة العطور والمساحيق تختلط في الجو برائحة الشواء، فقلت لنفسي: كم بقي لك من العمر يا زوربا.. لماذا لا تستمتع بأيامك القليلة الباقية؟
وكنت في هذه اللحظة أجتاز الميدان الكبير، ولا شك أنك تعرفه فسمعت صيحات ونغمات موسيقى راقصة، فأرهفت اذني جيدا لأتبين مصدرها فاذا المصدر أحد الكباريهات الغربية.. وهذا ما كنت أنشده، فدخلت الكباريه وجلست أمام احدى الموائد.. ورأيت امرأة بدينه ترقص على المسرح، وترفع ذيلها، ولكني لم ألق لها بالا وطلبت قدحا من الجعة، وما هي الا لحظة حتى أقبلت مخلوقة سمراء صغيرة خفيفة الظل فجلست بجانبي وقالت وهي تضحك:
- أتسمح لي بالجلوس يا جدي؟
فصعد الدم إلى رأسي، ووددت لو ادق عنقها، ولكني تمالكت نفسي ودعوت الخادم وطلبت إليه أن يحضر زجاجتين من الشمبانيا.
ومعذرة يا سيدي اذا كنت قد انفقت بعض مالك، ولكن الاهانة كانت شديدة، وكان لا بد لي أن أنقذ شرفنا، شرفك وشرفي، وان أرغم هذه الصغيرة المستهترة على الركوع تحت أقدامنا، وأنا واثق أنك ما كنت لتتخلى عني في مثل هذا الموقف الدقيق.
وأحضر الخادم الشمبانيا، ومزيدا من الشمبانيا، ثم مر رجل يبيع الياسمين، فاشتريت السلة كلها، وافرغتها في حجر التافهة العابثة التي تجرأت على اهانتنا..
وشربنا، وأسرفنا في الشراب، وأقسم لك انني لم أحاول مغازلتها.. عندما كنت شابا، كانت المغازلة هي الخطوة الأولى ، أما الآن بعد أن كبرت ، فان أول شي أفعله هو أن أنفق، وأنفق ببذخ وسخاء.. والنساء يعجبهن ذلك، قد تكون مقوس الظهر وقذرا، وحطاما، ولكنهن يتناسين كل هذا.. ولا يرين الا اليد التي تخرج النقود وتبعثرها بغير حساب.
وهكذا انفقت في تلك الجلسة ثروة – بارك الله فيك ورد عليك اموالك اضعافا مضاعفة – وكانت النتيجة، ان ازدادت الفتاة قربا مني، وألصقت ركبتها بعظامي النخرة، ولكني تظاهرت بالبرود وقلة الاكتراث، رغم انني كنت في الواقع أتلظى..
وهذه هي الطريقة للعب بعقول النساء، ان تتظاهر بالاعراض عنهن، بينما انت تتحرق شوقا اليهن.. من الخير لك ان تعرف ذلك فقد تفيدك المعرفة اذا وجدت في مثل هذا الموقف.
وانتصف الليل، وشرع الخدم في اطفاء الانوار وغلق الابواب، فاخرجت من جيبي حزمة من اوراق النقد ذات الالف دراخمة ودفعت الحساب وأعطيت الخدم منحة سخية، وحينذ تعلقت الفتاة بساعدي وسألتني وهي ترمقني بنظرة اغراء:
- ما اسمك؟
- الجد.
فقرصتني الفاجرة قرصة آلمتني وهمست قائلة:
- تعال معي.
فضغطت يدها الصغيرة بين يدي وقلت لها:
- أهذا ما تريدينه؟ هلمي اذن.
وعندما استيقظت في اليوم التالي كان الوقت ظهرا.
وأجلت البصر حولي، فاذا بي في غرفة صغيرة أنيقة، بها مقاعد وثيرة، وزجاجات عطر متعددة الالوان، ومرايا من جميع الاحجام، وملابس أنيقة معلقة بالجدران، وحشد من الصور لبحارة وضباط، ونساء عاريات.
ووجدت إلى جانبي في الفراش الوثير، صاحبتنا السمراء اللعوب، فأغمضت عيني وقلت لنفسي:
- لقد دخلت الجنة وأنت على قيد الحياة يا زوربا.. هذا مكان جميل ويجب ألا تبرحه.
وأحسب انني قلت لك ذات مرة يا استاذي ان لكل انسان جنته المفضلة، فالجنة بالنسبة اليك خزانة زاخرة بالكتب وعدد لا يحصى من زجاجات الحبر، وبالنسبة إلى البعض براميل من نبيذ وعرق وروم، وبالنسبة للآخرين صناديق مليئة بالنقود.. اما بالنسبة الي فهذه جنتي: غرفة صغيرة معطرة، وملابس ذات الوان مرحة معلقة بالجدران، وفراش كبير وثير.. وامرأة إلى جانبي.
ان الاعتراف بالخطيئة هو نصف التوبة، واعترف لك بأنني لم أبرح الفراش في ذلك اليوم.. إلى أين أذهب؟ لقد كنت مرتاحا حيث أنا.
وأرسلت إلى أحد المطاعم الكبرى في طلب طعام من الكافيار والسمك وعصير الليمون والقطائف.
وفي المساء ، ارتديت ثيابي، وخرجت متأبطا ذراع صاحبتي في الطريق إلى الكباريه.
ولا أطيل عليك الحديث.. انني مازلت اتبع هذا البرنامج، ولكن لا تنزعج.. فانني لم أنس المهمة التي اوفدتني فيها، ولسوف أشتري الاسلاك والادوات الاخرى.. ان تأخير يوم أو أسبوع أو شهر لن يؤثر كثيرا، ومن مصلحتك ان أنتظر حتى يصفو ذهني فلا أخدع في البضائع أو الأسعار.. فصبرا وثق بي ولا ينبغي أن تقلق على صحتي.. فالمغامرات تفيدني، وقد ردتني الأيام الأخيرة إلى شبابي، حتى لاتوقع أن تنبت لي أسنان جديدة وفي كل مرة انظر إلى المرآة وأعجب كيف لم يسترد شعر رأسي لونه الطبيعي، ويصبح أسود كطلاء الأحذية.
ولعلك تسأل لماذا أكتب اليك كل هذا؟ والواقع.. انك لي بمثابة القس الذي يتلقى الاعتراف.. وأنا لا أستحي من الاعتراف لك بذنوبي وآثامي.. هل تعرف لماذا؟ لأني عهدتك حتى الآن لا تحفل بما أفعل ، سواء أكان خطأ أم صوابا.. وهذا ما يحفزني لأن أقول لك كل شيء.. فاصغ الي.
كان أمس عيد أحد القديسين في قرية قريبة من (كانديا) فقالت لي لولا، وهذا اسم صديقتي الصغيرة السمراء:
- هلم بنا يا جدي.. دعنا نشهد حفلات العيد.
فأجبتها:
- اذهبي أنت أيتها الجدة الصغيرة.
- ولكني أريد الذهاب معك.
- وأنا لا أريد الذهاب، لأني لا أحب القديسين.. اذهبي وحدك.
- حسنا.. لن أذهب اذن.
فنظرت إليها مبهوتا.
- ولماذا لا تذهبين؟
- اذا جئت معي ذهبت والا فلا..
- ولكن لماذا.. أليست لك كل الحرية؟
- كلا.
- ألا تريدين أن تكوني حرة؟
- كلا.. لا أريد..
وخيل إلي أنني لم أسمع جيدا وصحت بها:
- ألا تريدين أن تكوني حرة؟
- كلا.. لا أريد أن أكون حرة.
سيدي، انني أكتب إليك هذا من غرفة (لولا) على ورق (لولا) .. وأنا أعتقد أن الادميين وحدهم هم الذين يريدون الحرية.. ولكن النساء لا يرونها.. فترى هل هن ادميات؟
أرجو أن تكتب إلي على وجه السرعة.
(اليكسيس زوربا)

ما أن فرغت من تلاوة رسالة زوربا حتى تجاذبتني ثلاثة عوامل، فلم أدر هل أغضب ، أم أضحك ، أم أعجب بهذا الرجل البدائي الذي حطم غلاف الحياة بعناصره الثلاثة، المنطق والأخلاق والأمانة، ووصل مباشرة إلى اللباب.
كان يفتقر إلى جميع الفضائل الصغيرة التي لا غناء عنها، ولم تكن له الا فضيلة واحدة قلقة خطرة تلح عليه باستمرار وتدفعه ، دائما إلى آخر الحدود وإلى الهوة.
غمغمت أقول:
- بارك الله في زوربا لقد كان يجسد جميع الآراء والخواطر المجردة التي تعتمل في داخلي.. فيمنحها هيكلا حيا دافئا.. وعندما لا يكون هنا، تضطرب آرائي وخواطري من جديد..
وتناولت ورقة وقلما، وكتبت هذه البرقية التي بعثت بها إليه:
- "عد فورا".


الفصل الثالث عشر

بعد ظهر يوم السبت، وهو اليوم الأول من شهر مارس، كنت جالسا على صخرة في مواجهة البحر وبيدي كتاب اقرأه عندما سمعت فجأة وقع أقدام على الحصى. فرفعت عيني، ورأيت الغانية العجوز مقبلة تتدحرج على الشاطئ.
كانت لاهثة الانفاس بادية القلق، وسألتني على الفور:
- ألم تصلك رسالة؟
فنهضت لاستقبالها، وأجبيها ضاحكا:
- نعم، وهو يبعث اليك بتحيته، ويقول انه يفكر فيك ليل نهار، ولا يطيب له طعام أو شراب، وان الفراق يشق عليه.
فصاحت المرأة التعسة وهي تلتقط أنفاسها:
- أهذا كل ما يقوله؟
وشعرت بالاسف لها، وأخرجت الرسالة من جيبي، وتظاهرت بانني أقرأها، وكلما تعثرت بالكلام، تظاهرت بأن الخط مضطرب ومن الصعب قراءته:
وتلوت عليها:
" ذهبت أمس إلى أحد المطاعم الرخيصة لأتناول غذائي وكنت جائعا، ولكني ما كدت أدخل المطعم حتى وقع بصري على فتاة فاتنة كأنها ملكة جمال. ومن عجب انها تشبه بوبولينا تماما، وعلى الفور بدأت الدموع تنهمر من عيني، ولم أقو على ابتلاع الطعام فتركته دون أن أتناول منه شيئاً. وبلغ من تأثري أنني قصدت فورا إلى كنيسة القديس ميناس، وهناك أشعلت شمعة، وجثوت على ركبتي وابتهلت إلى الله قائلاً اللهم ابعث إلي بنبأ عن الملاك الذي أحبه، واعمل على أن تتلاقى أجنحتنا في أقرب وقت.
وهنا أشرق وجه الغانية وانفجرت ضاحكة، فتوقفت عن الكلام وسألتها لكي اكتسب فسحة من الوقت اخترع فيها مزيدا من الأكاذيب:
- ما الذي يضحك يا سيدتي؟ كنت أظنك ستبكين تأثرا.
- آه.. لو علمت.
- ماذا؟
- الاجنحة!! لقد اعتاد الوغد في خلوتنا أن يسمي أقدامنا أجنحة.. وها هو يقول: اللهم اعمل على أن تتلاقى أجنحتنا في أقرب وقت.. ها .. ها .. ها ..
- استمعي إلى مايلي وسوف تدهشين.
وعدت إلى القراءة: مررت اليوم بحانوت حلاق، كانت تنبعث منه رائحة عطرة.. فتذكرت بوبولينا على الفور وبكيت.. أواه يا سيدي.. انني اكاد أجن.. لم أستطع فراقها أكثر من ذلك.
فابتسمت المرأة وظهرت على وجهها دلائل السعادة وقالت:
- ألم يقل شيئاً آخر؟
- وماذا تريدين أكثر من ذلك يا مدام هورتنس.. ان الرسالة كلها هناك.. انظري.. اربع صفحات في ركن كل صفحة منها صورة قلب.
- أهذا كل شيء!
ورأيت في عينيها تلك النظرة التي نراها في عيني حيوان في مأزق فأخذتني الشفقة وقلت:
- انه يقول شيئا آخر على جانب عظيم من الاهمية ولذلك احتفظت به للنهاية.
- ما هو؟
- يقول انه عندما يعود، سيجثو على ركبتيه أمامك ويتوسل إليك والدموع في عينيه ان تقبليه زوجا.. انه يريد أن يجعل منك زوجته الصغيرة، مدام هورتنس زوربا. حتى لا تفترقا بعد ذلك ابدا.
وهنا امتلأت عيناها حقا بالدموع.. دموع الفرح لتحقيق الامنية التي راودتها طول حياتها.. وهي الاستقرار والنوم في فراش شرعي.. ولا شيء أكثر من ذلك.
قالت بلهجة سيدة عظيمة تتنازل بالقبول:
- حسنا، قبلت، انما أرجوك ان تكتب إليه بأنه لا يوجد بالقرية زهور برتقال لثوب الزفاف، ويجسن به ان يشتريها من (كانديا).. قل له كذلك ان يشتري شمعتين كبيرتين، وشريطا أحمر، ولا بأس ببعض الحلوى.. وعليه كذلك ان يشتري ثوب الزفاف وجواري حريرية.. وحذاء من الساتان الابيض.. قل له ان لدينا اغطية للفراش وانه لا ضرورة لراء اغطية جديدة.
وهكذا بدأت باصدار الاوامر، واعداد قائمة المطلوبات، زجعلت من زوجها صبيا تأمره بأن يشتري هذا وذاك فيطيع.
واعتدلت في رقفتها، وبدت عليها هيبة المرأة المتزوجة الكريمة.
قالت:
- أريد أن أسألك شيئا هاما..
- تكلمي يا مدام هورتنس.. انني في خدمتك.
- أنا وزوربا نحبك ونحترمك، فانك رجل كريم ولن تكون معرة لنا، فهل توافق على ان تكون شاهد الزواج؟
- يشرفني ان اكون شاهد الزواج يا مدام هورتنس.
- حسنا، طاب مساؤك، ارجو ان يعجل بالعودة الينا.
ورأيتها تبتعد، وتختال في مشيتها وتتمايل كفتاة في العشرين من عمرها..
كانت تمشي بمزيد من الثقة، وحذاؤها يترك في الرمال أثرا عميقا..
وما كادت تتوارى عن عيني حتى سمعت جلبة شديدة وصراخا يشق عنان السماء، كما لو كانت هناك جنازة، فتسلقت احدى الاشجار، ونظرت في اتجاه مصدر الصراخ، ورأيت بعض رجال القرية ونسائها يعدون في الطريق إلى الشاطئ والكلاب تعوي وراءهم، كذلك رأيت ثلاثة رجال يمتطون الجياد ويسبقون أهل القرية وفي اثرهم سحب كثيفة من الغبار.
قلت لنفسي:
- لا بد ان حادثا وقع.
وانطلقت اعدو نحو الخليج.
وفجأة رأيت مدام هورتنس مقبلة نحوي وهي تلهث، وتبكي وتصيح:
وتعثرت وكادت ان تسقط ، فأمسكت بها، وسألتها:
- ماذا حدث.. ولماذا تبكين؟
- انني خائفة.
- مم؟
- من الموت.
ولا بد انها شمت رائحة الموت في الهواء وأردت أن أساعدها على السير معي إلى الخليج ولكنها امتنعت وقامت وصاحت:
- كلا .. كلا.. لا أريد.
وجرت نفسها إلى احدى اشجار الزيتون، وجلست تحتها وهي ترتجف..
قلت:
- اذهب انت، وسأنتظرك هنا..
فأسرعت إلى الخليج، وكان الصراخ والنحيب وولولة النادبات يزداد وضوحا كلما قدمت، ورأيت ميميكو يمضي مسرعا بالقرب مني فسألته:
- ماذا حدث يا ميميكو؟
فصاح دون ان يتوقف:
- لقد اغرق نفسه.
- من؟
- بافيل، ابن مافراندوني.
- لماذا؟
- الارملة..
ولم يزد.. ولكن الكلمة دوت في الفضاء واومأت ضمنا إلى جسد الارملة وخطورة فتنته.
ووصلت الى الخليج، ووجدت هناك جميع أهل القرية. الرجال حاسروا الرؤوس صامتون، والنساء يمزقن شعورهن ويولولن، بينما وقف مافراندوني الشيخ بلا حراك امام جثة منتفخة مسجاة فوق رمال الشاطئ.
كان الشيخ يستند على عصاه باحدى يديه، ويمسك بيده الاخرى لحيته البيضاء.
وصاح فجأة صوت ثاقب:
- لعنة الله عليك ايتها الأرملة.. وسوف تدفعين ثمن هذا.
ووثبت امرأة وقفت بين الرجال وصاحت:
- أليس في القرية رجل يلقيها ارضا ويذبحها ذبح الشاة؟ تبا لكم من جبناء!!
وبصقت على الرجال، الذين راحوا ينظرون اليها ولا ينطقون.
وأخيرا اجابها كوندومانوليو صاحب المقهى بقوله:
- لا تحقرينا يا كاترينا.. لا تحقرينا ايتها المعتوهة فلا يزال في القرية رجال وسوف ترين.
ولما أتمالك نفسي فصحت قائلا:
- عار عليكم جميعا.. ماذا فعلت تلك المرأة لتسأل عما حدث؟ وما حدث كان مقدرا.. أفلا تخشون الله؟
ولكن احدا لم يجب.
وانحنى مانولاكاس، ابن عم الغريق، وحمل الجثة بين ساعديه، وسار في الطريق إلى القرية، وتبعته النساء وهن يصرخن ويخدشن وجوههن ويمزقن شعرهن، بينما تقدم مافراندوني الموكب في صمت.
واخيرا اختفى الموكب في الغسقن وساد الصمت والسكون.. فنظرت حولي ووجدتني وحيدا..
وفكرت ولم أتمالك من الاعجاب باولئك الذين جرفتهم دوامة الالام البشرية من أهل القرية.. هورتنس وزوربا والارملة وبافلي الذي ألقى بنفسه في البحر بشجاعة ليغرق احزانه، وكاترينا التي حضت رجال القرية على ذبح الارملة كما يذبح الشاة، ومافر اندوني الذي رفض باباء ان يبكي، او حتى ان يتحدث امام الآخرين.
انا الوحيد الذي لم أغضب ولم يغل الدم في عروقي.. بل ولم أحب قط بقوة ولم أكره بقوة.. انا الوحيد الذي اردت تصفية الأمر بسلام وبطريقة تنطوي على الجبن، فالقيت التبعة كلها على القدر.
وحانت مني التفاتة، فرأيت اناجنوستي لا يزال هناك جالسا على صخرة بجوار الشاطئ، ولم أكن قد فطنت اليه بعد رحيل الموكب.
كان يسند ذقنه على عصاه، وينظر إلى البحر، فناديته ولم يسمعني فذهبت إليه، ورآني، وهز رأيه وغمغم قائلا:
- وا أسفاه على الحياة الفتية التي اهدرت.. مسكين ذلك الشاب، لم يحتمل احزانه فألقى بنفسه في البحر وغرق.. وهكذا نجا.
- نجا؟ ماذا تعني؟
- نعم يا بني.. انه نجا.. ماذا كان بوسعه ان يفعل بحياته لو انه تزوج الارملة، لحدثت خلافات ومعارك، وربما حدث عدوان على العرض، وتلويث للشرف، ان الارملة امرأة مثيرة وفاجرة لا تكاد ترى رجلا حتى تشتهيه.
واذا لم يتزوجها قضى حياته حزينا معذبا.. فموقفه كما ترى كان كموقف رجل يقف بين هوتين احداهما امامه، والثانية وراءه.
- لا تتكلم هكذا ايها العم اناجنوستي، انك توقع اليأس في قلب من يسمعك.
- لا تجزع يا ولدي، فليس هناك من يسمعني سواك، وحتى لو سمعوني، هل تظنهم يصدقونني؟.. اصغ الي.. هل في هذه القرية من هو أسعد مني؟ انني أملك حقلا كبيرا وعددا ضخما من اشجار الزيتون والعنب، واملك بيتا ذا طابقين ولي زوجة كريمة وديعة لم ترفع عينيها في وجهي قط، وقد رزقت منها بابناء عديدين، اصبحوا بدورهم آباء كراما.. وليس هناك ما أشكو منه، فماذا أريد أكثر من ذلك! ومع هذا فانني لو بدات حياتي من جديد فلن اتردد في وضع حجر حول عنقي والقاء نفسي في البحر كما فعل بافلي.. ان الحياة شاقة يا ولدي.. لعنة الله عليها.
- ولكن ماذا ينقصك ايها العم اناجنوستي؟ ومم تشكو؟
- لا ينقصني شيء.. ولكن اذهب، وسل قلوب الرجال وصمت لحظة، ونظر الى البحر المظلم وصاح:
- انك أحسنت صنعا يا بافلي.. دع النساء يصرخن ويولولن... فهن نساء بلا عقل.. لقد نجوت الان يا بافلي وابوك يعلم ذلك. ولهذا لم ينطق بكلمة.
ونظر إلى السماء، ثم إلى الجبل الذي لفه الظلام وقال:
- لقد هبط الليل ويحسن بي ان اعود.
وصمت فجأة، وبدا عليه كانه ندم على ما قال وانه قد افشى سرا عظيما ويريد الآن ان يتراجع.. فالقى بيده على كتفي وقال:
- انك لا تزال شابا فلا تقم وزنا لما يقوله العجوز، ولو عمل الناس بكلام العجائز لخربت الدنيا.
اذا قابلتك ارملة في الطريق فلا تتركها.. تزوج، وانجب اطفالا. ولا تتردد.. انما خلقت المتاعب للشباب.
ووصلت الى الكوخ واوقدت نارا واعددت قدحا من الشاي. كنت متعبا وجائعا، فأكلت بنهم، وارضيت غرائزي الحيوانية.
وفجاة ، رأيت ميميكو يطل برأسه من النافذة ويبتسم لي في مكر.
سألته:
- ماذا جاء بك يا ميمكو؟
- لقد أحضرت لك شيئا من الارملة.. سلة مليئة بالبرتقال، قالت انها اخر ما تبقى من الثمار في حديقتها.
فهتفت وانا مبهوت:
- تقول من الارملة؟ ولماذا بعثت بها الي؟
- من اجل الكلمة الطيبة التي ذكرتها عنها للقرويين مساء اليوم.. هكذا قالت.
- أيه كلمة طيبة؟
- وكيف أعلم؟ انني انقل اليك عباراتها.. ولا شيء غير ذلك.
وافرغ السلة في الفراش وامتلأت الغرفة برائحة البرتقال.
- قل لها انني اشكرها من اجل هذه الهدية، وانني انصح لها بان تكون على حذر، وألا تذهب الى القرية مهما كانت الظروف.. هل سمعت؟ يجب عليها ان تلزم بيتها بعض الوقت ريثما تهدأ النفوس وينسى الناس هذا الحادث المؤلم.. هل فهمتني يا ميميكو؟
- هل هذا كل ما تريد؟
- نعم.. وفي استطاعتك ان تذهب الان.
فغمز ميميكو بعينه وسأل مرة أخرى:
- هل هذا كل ما تريد؟
- اذهب عني.
فانصرف وتناولت برتقالة وأزلت قرتها.. كانت حلوة كالعسل.
وتمددت في فراشي واستغرقت في النوم، ورأيت فيما يرى النائم انني اتجول في حديقة برتقال، وانني فلاح في العشرين من عمري.. وانني امشي بين أشجار البرتقال واصفر بفمي وانتظر.. فمن كنت انتظر؟ لا أعلم.
ولكن قلبي كان يفيض بالفرح..
ففتلت شاربي، وقضيت الليل كله انصت إلى البحر وهو يتنهد كما تتنهد امرأة وراء حديقة البرتقال.

الفصل الرابع عشر

عدت في مساء أحد الأيام من جولة في الجبل وما كدت أدنو من الكوخ حتى رأيت النور ينبعث من نافذته ، فأدركت على الفور، والسعادة تملأ جوانحي.. ان زوربا قد عاد أخيرا.
وهممت بأن أعدو إلى الكوخ ولكني أمسكت وقلت لنفسي: يجب أن أخفي سروري، وأتظاهر بالضيق، وأتحدث إليه في شده وقسوة، فقد أرسلته في مهمة عاجلة فبدد نقودي، وعاش مع احدى الساقطات، وها هو يعود بعد اثني عشر يوما.. يجب أن أتظاهر بالغضب.. يجب.
وحاولت جاهدا أن أغضب ، وقطبت حاجبي... وأطبقت يدي، وحاولت أن افعل كل ما يفعله الرجل الغاضب، ولكني لم أوفق.. وكلما دنوت من الكوخ، تضاعف شعوري بالسعادة.
وتسللت بالقرب من النافذة، وأطللت منها فرأيت زوربا جاثيا على ركبتيه أمام الموقد، وهو يعد القهوة:
وذاب قلبي بين ضلوعي وصحت:
- زوربا.
وبأسرع من لمح البصر، كان زوربا واقفا حافي القدمين أمام الكوخ وعيناه تفتشان في الظلام، وما ان تبين وجهي حتى بسط ساعديه ليعانقني، ولكنه عاد فارخاهما وقال في تردد:
- يسرني أن أراك.
فحاولت أن أرفع صوتي في غضب وقلت له ساخرا:
- يسرني أن أرى أنك تفضلت بالعودة.. لا تدن مني ان رائحة الصابون المعطر تفوح منك.
- آه، ليتك تعلم كيف حككت جسدي بالرمل، لكي أتخلص من هذه الرائحة اللعينة.. ولكنها ستزول مع الوقت عاجلا او آجلا.. وهذه ليست أولى تجاربي مع الصابون المعطر.
فقلت له وأنا أقهقه ضاحكا:
- هلم بنا ندخل.
ودخلنا الكوخ. وكانت تنبعث منه روائح العطر والمساحيق والنساء، فهتفت وأنا أشير إلى صندوق مليء بحقائب السيدات والجوارب وقطع الصابون وزجاجات العطر:
- ما كل هذا بحق السماء!!
- هدايا..
- هدايا؟
- نعم، هدايا لبوبولينا، فأرجو ألا تغضب.. ان عيد الفصح يقترب .. وبوبولينا امرأة كما تعلم..
فقلت محاولا كتمان الضحك:
- ولكنك لم تحضر لها أهم شيء..
- ماذا؟
- ماذا.. ماذا تعني؟ أنا لا أفهمك..
وهنا قصصت عليه كيف خدعت الغانية المدلهة، فحك زوربا رأسه بشدة وقال:
- ما كان يجب أن تفعل ذلك يا سيدي.. انت تعلم ان هذا النوع من الدعابة.. ان النساء ضعيفات ورقيقات كما قلت لك مرارا.. انهن أشبه بأواني الخزف.. ويجب أن يعاملن بعناية ورفق..
فشعرت بالخجل.. وكنت قد أسفت على ما فعلت ولكن بعد فوات الاوان.
قلت لاغير مجرى الحديث:
- والسلك الهوائي؟ والادوات؟
- لقد أحضرت كل شيء فلا تنزعج.
قال ذلك وملأ قدحي بالقهوة وقدم لي بعض قطع الحلوى مما أحضره معه.:
وقال:
- لا تظن أنني نسيتك، فقد جئتك بصندوق كبير مليء بالحلوى.. انني لم أنس أحدا، حتى الببغاء احضرت لها حقيبة مليئة بالفول السوداني.
وكان يحتسي القهوة ويدخن ويرقبني بعينين كعيني الثعبان.
سألته:
- هل حللت المشكلة التي حيرتك ايها الوغد العجوز.
- أية مشكلة يا سيدي؟
- مشكلة ما اذا كانت المرأة مخلوقا آدميا أم لا.
فأجاب وهو يلوح بيده:
- آه .. طبعا.. ان المرأة مخلوق آدمي مثلنا.. ما في ذلك شك.. كل ما هنالك انها أسوأ منا.. انها ترى نقودك فتفقد صوابها.. وتنزل لم عن حريتها ولكن ما ان تفرغ نقودك .. ان الباقي معروف ولا ضرورة للتكرار.
ثم نهض واقفا والقى بسيجارة من نافذة الكوخ وقال:
- دعنا نتحدث حديثا جادا.. لقد أحضرنا السلك والادوات.. وآن لنا أن نتعاقد مع الدير بشأن الغابة.. انما يجب أن يتم التعاقد قبل اقامة السلك الهوائي حتى لا يغالوا في مطالبهم.. هل فهمتني؟ يجب أن نبدأ العمل، فالوقت يمر بسرعة، وبحسبنا ما أضعنا من مال في رحلة (كانديا) ان الشيطان.
وصمت، وشعرت بالاسف له..
كان أشبه بطفل ارتكب حماقة ولم يعرف كيف يعالج الموقف فراح يرتجف.
وقلت لنفسي: عار عليك ان تدع رجلا كهذا يرتجف خوفا.. انك لن تجد ما حييت زوربا آخر.
صحت به:
- دعنا من الشيطان يا زوربا فلا شأن لنا به.. ان ما كان قد كان، فانس ما حدث.. وتناول السانتوري.
فوثب نحو الجدار ليتناول الالة الموسيقية، ولكنه ما كاد يضع يده عليها ، حتى سمعت وقع خطى ثقيلة في الخارج، فجمد زوربا في مكانه، ورفع حاجبيه متسائلا ثم قال بصوت خافت:
- يا للشيطان.. لقد اشتمت الكلبة العجوز رائحة زوربا في الهواء فجاءت تطلبه.
فقلت وأنا أنهض واقفا:
- لا أريد ان يكون لي شأن بهذا الموضوع.. سأقضي بعض الوقت على الشاطئ حتى تحسم الامر معها، ولا تنس انك وعدتها بالزواج، حذار ان تكذبني يا زوربا.
فتنهد وقال:
- ألا تكفي الزيجات السابقة حتى اتزوج مرة أخرى؟
واقتربت رائحة الصابون المعطر فقلت:
- تشجع يا زوربا.
وتسللت إلى الخارج.










الفصل الخامس عشر





كان أول انسان رأيناه عند عودتنا من الدير هو بوبولينا.
وكان زوربا قد استيقظ مبكرا في الصباح فأصدر تعليماته إلى عمال المنجم، ثم احضر بغلين امتطيناهما، وصعدنا إلى الجبل حيث اجتمعنا برهبان التل، ونجح زوربا في اقناعهم بمنحنا حق استغلال الغابة باجر أقل كثيرا مما سبق الاتفاق عليه.
قال لي زوربا ونحن في طريق العودة:
- اظن انني قد عوضتك بهذا الاتفاق عما بذوت من اموالك في (كانديا).
فاجبته:
- ألم نتفق على نسيان هذا الموضوع.
قال:
- لقد اتاحت لي هذه الرحلة إلى قمة الجبل تقدير الانحدار الصحيح للخط الهوائي وسوف ندعو الرهبان لاقامة ديني عظيم لمناسبة اقامة اول عمود للسقالات التي تتحرك عليها كل الخشب من القمة إلى شاطئ الخليج.
فعندما عدنا من رحلتنا الموفقة، رأينا مدام هورتنس جالسة فوق صخرة أمام الكوخ ولكني ما كدت أضيء المصباح الزيتي وانظر إليها حتى هالني امتقاع وجهها فلم اتمالك من ان اهتف:
- ماذا بك يا مدام هورتنس؟ هل أنت مريضة؟
ويبدو ان فكرة الزواج قد غيرت مجرى حياتها، فقررت أن تنسى الماضي، وان تقلع عن زينتها الصارخة التي الفتها منذ عهد الباكوات والباشوات، وهكذا ظهرت على حقيقتها، مخلوقة مسكينة لا أمنية لها الا الزاوج والاستقرار.
ولم ينطق زوربا بكلمة، وراح يتشاغل باشعال النار واعداد القهوة فصاحت المرأة فجأة بصوت أجش:
- أنت رجل قاسي القلب يا زوربا.
فرفع زوربا رأسه ونظر إليها ، وأخذته الشفقة بها.
كانت دمعة واحدة من عين امرأة كافية لن تغرقه.
قالت المرأة:
- لماذا كل هذا التسويف والمماطلة؟ لماذا لا تقطع برأي في أمر الزواج.. انني لم أعد أجسر على الظهور في القرية.. هذه فضيحة لي وسأقتل نفسي.
وكنت أشهد المأساة المضحكة ولا أجد ما أقوله.
واستطردت المرأة قائلة:
- لماذا لم تحضر زهور البرتقال؟
وأحس زوربا بيدها ترتجف فوق ركبته، ولكنه لزم الصمت، وراح يحرك السكر في اناء القهوة.
وقالت المرأة مرة أخرى بصوت يتهدج:
- لماذا لم تحضر زهور البرتقال؟
فأجاب باقتضاب:
- لأنني لم أجد منها شيئا مناسبا في كانديا.
ثم استطرد بعد قليل:
- لقد طلبتها من أثينا، وكذلك طلبت الشموع والحلوى.
ثم لمعت عيناه وحلق في سماء الخيال.. قال:
- ان زواجنا سوق يثير ضجة، صبراً حتى ترى ثوب الزفاف الذي أمرت باعداده لك، طالت اقامتي في كانديا لهذا السبب أيتها الحبيبة، ذلك لأنني استدعيت اثنين من كبار مصممي الأزياء في أثينا وقلت لهما: ان المرأة التي سأتزوجها لا مثيل لها في الشرق أو الغرب، لقد كانت الملكة غي رالمتوجة في أربع دول كبرى، وقد ماتت هذه الدول وهي الان ارملة، وستصبح زوجة لي، وأنا أريد أن يعد لها ثوب زفاف لا مثيل له.. ثوب موشى بالذهب واللالئ..
فقالا: ولكن مثل هذا الثوب سوف يبهر ابصار المدعوين فلا يرون جمال العروس.
فقلت لهما: وما أهمية ذلك طالما العروس راضية؟
فارتسمت على شفتي المرأة ابتسامة عريضة وقالت له:
- أريد أن أهمس في اذنك بكلمة..
فغمزني زوربا باحدى عينيه، وأحنى رأسه نحوها فهمست في أذنه قائلة:
- لقد أحضرت لك شيئاً.
وأخرجت من صدرها منديلا قد عقد أحد أطرافه وقدمته له.
وتناول زوربا المنديل، ووضعه على ركبته ثم أشاح بوجهه وأرسل بصره إلى البحر.
قالت المرأة:
- ألا تحل العقدة يا زوربا؟
- دعيني أحتس قهوتي وأدخن سيجارتي أولاً.. ولا ضرورة لأن أحل العقدة الآن، فأنا أعرف ما فيها.
- أرجوك أن تحلها.
- يجب أن أدخن سيجارتي أولاً كما قلت لك.
فنظر إلي عاتباً كمن يريد أن يقول: انظر ماذا صنعت بي!!
وراح يدخن في هدوء ويخرج الدخان من أنفه.. وينظر إلى البحر.
قال بعد لحظة:
- سنشهد عاصفة غداً، لقد تغير الجو، سوف تتفتح أكمام الزهر وتنمو صدور الفتيات.. ذلك هو الربيع.
فقالت له المرأة متوسلة:
- زوربا.. زوربا.
فقذف بسيجارته في غيظ، وحل عقدة المنديل ونظر إلى ما كان فيها ثم سأل في اشمئزاز :
- ما هذا يا مدام بوبولينا؟
فقالت المرأة وهي ترتجف:
- خاتمان أيها الحبيب.. وها هو الشاهد، بارك الله فيه، والجو رائع، والله يرقبنا.. فدعنا نعقد خطوبتنا.
فراح زوربا ينقل البصر بينها وبيني، وبين الخاتمين. وخيل إلي أن الشياطين تعترك في أعماقه.
ترى أي قرار سيتخذ؟
ونظرت إليه المرأة في ذعر.. ولكنه هز رأسه فجأة ونهض واقفاً وهو يقول:
- هلمي بنا إلى الخارج.. لتشهد النجوم خطوبتنا.
وفي الطريق إلى الخارج، اقترب مني وهمس في أذني قائلاً:
- بحق السماء.. لا تتركنا وحدنا.









الفصل السادس عشر



ارتدى زوربا ثيابه وخرج إلى الشاطئ ليرقب مقدم مدام هورتنس.
كنا قد أعددنا لها – على سبيل الجد والفكاهة- مأدبة عشاء في الهواء الطلق لمناسبة عيد الفصح، وأقمنا من غصون الاشجار قوس نصر لتمر تحته، وزينا القوس بأعلام الدول الاربع الكبرى، انجلترا وفرنسا وايطاليا وروسيا.
ولما لم يكن لدينا مدافع كمدافع البوارج، فقد استعرنا بندقتين من بعض القرويين، واتفقنا على أن نستقبلها، عند قدومها – بوابل من الطلقات وكان الهدف من هذا كله – أن نجعلها تعيش على هذا الشاطئ الموحش المهجور لمحة من مجدها القديم.
أما الطعام ، فكان يتألف من حلم مشوي، وعدد لا يحصى من البيض الملون.
قال زوربا متبرماً:
- لماذا تأخرت هذه البقرة العجوز.
فأجبته:
- انها ستأتي حتما.. دعنا ندخن لفافة تبغ ريثما تحضر.
فقال وهو يلقي على الطريق إلى القرية نظرة أخيرة:
- أرى صبياً قادما نحونا.
قال ذلك وخف لمقابلة الصبي في منتصف الطريق، ونهض الصبي على أصابع قدميه وهمس في أذنه كلاماً فصاح زوربا في غضب:
- مريضة!! تقول أنها مريضة؟ اذن فاغرب عن وجهي قبل أن أضربك.
والتفت إلي وقال:
- سأذهب إلى القرية لأرى ماذا أصاب البقرة العجوز. لن أغيب أكثر من بضع دقائق.. أعطني بيضتين لأقدمهما إليها.
ووضع البيضتين في جيبه.. وانطلق في الطريق إلى القرية.
وكان النسيم عليلاً، والبحر مضطربا.. فاستلقيت على الرمال انتظاراً لعودة زوربا..
وبعد ساعة، رأيته مقبلاً وهو يفتل شاربيه، وعلى وجهه دلائل الرضى.
قال:
- لقد أصيبت المسكينة ببرد قد يلزمها الفراش بضعة أيام، قالت انها كانت تتردد على الكنيسة طيلة الاسبوع الأخير لتصلي من أجلي، ويبدو انها أصيبت بالبرد خلال ذلك، بيد أنني دلكت جسدها جيدا بالكيروسين وجرعتها كأساً من الروم.
وجلسنا لتناول الطعام، ورفع زوربا قدحه قائلاً:
لنشرب نخب صحتها.. ولنسأل الشيطان الا يقبض روحها قبل فترة طويلة أخرى.
وأكلنا وشربنا في صمت، وحمل إلينا النسيم صوت قرع الطبول فصاح زوربا:
- انهم يرقصون في القرية فهلم بنا نرقص معهم..
- ليست لي رغبة في الرقص.. اذهب انت وارقص نيابة عني.
- ليت لي شبابك يا صديقي.. اذن لالقيت بنفسي رأسا على عقب في كل شيء.. في الخمر والعمل والحب.
وتناول عصاه وقبعته ونظر إلي مشفقاً وتحركت شفتاه كما لو كان يريد أن يضيف شيئا إلى ما قاله، ولكنه لم يتكلم، وسار مرفوع الرأس في الطريق إلى القرية.
وشيعته ببصري حتى توارى، وما كدت أجد نفسي وحيداً حتى نهضت واقفاً.
لماذا؟
ولكي أذهب إلى أين؟
لا أعلم..
ان عقلي لم يتخذ قراراً ، وقد تحرك جسدي تلقائيا، دون أن يستطلع رأيي.
وسرت في الطريق إلى القرية بخطى سريعة حازمة.. وتوقفت مرة أو مرتين لاملأ رئتي من نسيم الربيع. ومررت بموجة من عبير زهور الليمون والبرتقال ثم وجدتني اتوقف فجأة.. كما لو كنت قد بلغت المكان الذي أقصده.
ونظرت حولي، فاذا أنا واقف أمام حديقة الارملة.
وخيل إلي أنني أسمع صوتاً نسائيا خافتاً يترنم، فنظرت من فوق سور الحديقة، ورأيت تحت احدى أشجار البرتقال امرأة ذات صدر كبير بارز تقطع الاغصان وتغني بصوت خافت.
واستطعت أن أرى في الغسق استدارة نهديها العاريين المطلين من ثوبها الاسود.
قلت لنفسي،
- انها حيوان مفترس، وهي تعلم ذلك جيدا.. ولا ترى في الرجال الا مخلوقات تافهة مغرورة لا حول لها ولا قوة.
ترى هل أحست الارملة بنظراتي؟
ذلك انها كفت فجأة عن الغناء وأجالت البصر حولها.
والتقت عيوننا، وشعرت بانهيار، كما لو كنت قد رأيت نمرة مفترسة بين الاشجار.
وأرخت المرأة منديلها على صدرها، وأكفهر وجهها وصاحب بصوت مختنق:
- من هنا؟
وكدت ألوذ بالفرار.. ولكني تذكرت كل ما قاله لي زوربا وكل ما عيرني به وأجبت:
- أنا دعيني أدخل.
وما كدت أنطق بهذه الكلمات حتى تملكني الذهر وهممت مرة أخرى بالفرار.. ولكني تماسكت رغم شعوري بالحرج والخجل.
- من تكون؟
وخطت خطوة إلى الامام في حذر، وحملقت في الظلام، ثم خطت خطوة ثانية.
وفجأة أشرق وجهها، وبللت شفتيها بلسانها وقالت بصوت رقيق:
- صاحب المنجم!
وتقدمت في حذر تقدم المتحفز للوثوب وسألت مرة أخرى:
- انت صاحب المنجم؟
- نعم.
- تعال.
كان الوقت فجراً، وقد جلس زوربا على الشاطئ أمام الكوخ وراح يدخن وينظر إلى البحر.
كان ينتظرني، وما أن رآني حتى صعدني بعينيه وأخذ نفساً طويلا من أنفه وانبسطت أسارير وجهه.
لقد شم رائحة الارملة.
ونهض واقفا ببطء، وبسط ساعديه ومني إلى صدره وهو يقول:
- دعني أباركك.
وأويت إلى فراشي وأمضت عيني، وسمعت حركة الامواج المنتظمة في الخارج.. وخيل لي أنني أعلو وأهبط معها.. إلى أن غلبني النعاس فنمت نوماً عميقاً هادئاً.
واستيقظت حول الظهر وأنا أشعر بالراحة والرضى، كالحيوان حين يتمدد في الشمس بعد أن يكون قد طارد فريسته والتهمها.
وأخذت أستعرض أحداث الليلة الماضية، وأحاول أن اعيشها في الخيال مرة ثانية، حين أحسست بجسم يحجب الشمس عني، ففتحت عيني، ورأيت زوربا واقفا بالباب ينظر إلي ويبتسم.
قال في رفق، وبحنان الام على ولدها:
- لا تنهض.. فاليوم يوم عطلة وفي استطاعتك أن تنام كما تشتهي.
فاعتدلت جالساً في الفراش وأجبت:
- لقد نمت بما فيه الكفاية.
- حسناً، سأعد لك لبضة ترد عليك بعض القوة.
فلم أجب وأسرعت إلى البحر، والقيت بنفسي بين أمواجه، ثم جلست على الشاطئ لأجف تحت الشمس.
كان عطر زهر البرتقال الذي تضمخ به نساء كريت شعرهن لا يزال عالقاً بأناملي.
وكانت الارملة قد جمعت كمية من هذا الزهر لتحمله إلى الكنيسة في مساء اليوم عندما يكون القرويون في شغل بالرقص في الميدان..
ولحق بي زوربا على الشاطئ وحمل إلي البيضة وبعض الخبز والبرتقال.
كان يشعر بالسعادة وهو يرعاني بحدب الأم على وحيدها العائد من الحرب.
قال وهو ينظر إلي بحنان.
- سأذهب الآن لاقامة بعض أبراج السلك الهوائي.
فتناولت طعامي تحت الشمس وشعرت بسعادة لا عهد لي بمثلها، ثم عدت إلى الكوخ، حيث حزمت كتابي عن (بوذا)، وكنت قد فرغت من كتابته.
وفجأة، دخلت الكوخ فتاة صغيرة عارية القدمين ترتدي ثوبا أصفر وتحمل في يدها بيضة حمراء. ونظرت إلي الفتاة في هلع، ولكني ابتسمت لها مشجعا وسألتها:
- هل تريدين شيئاً؟
فأجابت وهي تلهث:
- لقد أرسلتني السيدة لأطلب اليك أن تذهب إليها هل أنت الشخص الذي يسمونه زوربا؟
- حسنا، سأذهب إليها.
ووضعت في يدها بيضة أخرى.. فأخذتها وانطلقت تعدو. وخرجت على الأثر، وقصدت إلى القرية.. وكانت الضوضاء والصخب يزدادان وضوحاً كلما اقتربت، فاختلطت نغمات القيثارة بقرع الطبول ودوي الرصاص وصيحات المرح، ولما وصلت إلى الميدان رأيت فتيان القرية وفتياتها قد اجتمعوا تحت اشجار الحور وأخذوا يرقصون الرقصات الشعبية، بينما جلس الشيوخ على المقاعد الخشبية المحيطة بالاشجار، واسندوا ذقونهم إلى مقابض عصيهم. ووقفت عجائز النساء ورائهم وراح الجميع يرقبون الراقصين والراقصات.
ووقف فانوريو، عازف القيثارة البارع، وسط حلقة الرقص، وخلف أذنه وردة حمراء، وراح يحرك المرقص ويشجي الراقصين بما يرسل من نغمات قيثارته.
وعندما مررت بحلقة الرقص، تحول إلي بعض الشباب وهتفوا:
- ألا تشترك معنا في الرقص.
ولكني ابتسمت لهم، ومضيت في طريقي إلى بيت مدام هورتنس، ووجدت المرأة ممدة في فراشها الكبير، وهو آخر قطعة من الاثاث الثمين استطاعت الاحتفاظ بها على مر السنين.. وكانت تسعل بشدة ، وقد احمرت وجنتاها من تأثير الحمى.
وما أن وقع بصرها علي، حتى جعلت تئن وتتوجع.
وقالت:
- زوربا! أين زوربا:
انه أصيب بوعكة منذ رآك طريحة الفراش.. ان صورتك أمام عينيه دائما.. وهو ينظر إليها ولا يكف عن التأوه.
فأغمضت الغانية المسكينة عينيها في سعادة وغمغمت قائلة.
- زدني حديثا عنه.
- لقد أرسلني إليك لأسألك عما اذا كنت بحاجة إلى شيء..
ولكي أقول لك أنه سيأتي لزيارتك هذا المساء رغم توعكه.. ويبدو أنه لم يعد يطيق فراقك.
- تكلم.. تكلم.. أرجوك.
- وقد تسلم برقية من أثينا تقول أن ثوب الزفاف قد تم اعداده، وكثير من زهور البرتقال. وقد أرسلت جميعا بطريق البحر، وستصل قريبا.. ومعها الشموع البيضاء الكبيرة والشرائط الحريرية الحمراء..
- تكلم.. امض في حديثك..
وقهرتها الحمى، فاضطربت أنفاسها، وراحت تهذي..
وكانت رائحة النشادر والعرق وماء الكولونيا تنبعث من الغرفة مختلطة برائحة مخلفات الدجاج والارانب في فناء الفندق، فنهضت وتسللت الى الخارج.. والتقيت عند خروجي بميميكو، وكان يرتدي قميصا جديدا وحذاء ويضع خلف أذنه فقلت له:
- ميميكو .. أسرع إلى قرية كالو واستدع طبيباً.
وقبل أن أكمل عبارتي، كان الفتى قد خلع حذاءه ووضعه تحت ابطه حتى لا يتلف في الطريق.
قلت له:
- ابحث عن الطبيب وأبلغه تحيتي وقل له ان يمتطي فرسه ويحضر فورا.. قل له ان السيدة مريضة بالحمى وان حياتها في خطر لا تنس أن تقول له ذلك والآن، اذهب..
- فورا..
وبصق في كفيه،، وصفق بهما، ولكنه لم يتحرك من مكانه فصحت به
- اذهب..
ولكنه لزم مكانه، وغمز بعينه وقال وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة:
- سيدي .. لقد أهداك بعضهم زجاجة من عطر البرتقال فحملتها إلى كوخك.
فتريث لحظة منتظراً أن أسأله عمن أرسل الهدية ولكني لم أفعل، فقال:
- ألا تريد أن تعرف من أرسلها؟ قالت السيدة انها أرسلتها اليك لتجعل رائحة شعرك طيبة.
- اذهب.. واسرع.. واقفل فمك.
فضحك وبصق في يده مرة أخرى، وأطلق ساقيه للريح.


الفصل السابع عشر


عندما رحلت إلى ميدان القرية، كانت رقصة عيد الفصح التقليدية تحت أشجار البلوط في عنفوانها، ويتزعمها شاب وسيم طويل القامة أسمر البشرة لم تصل الموسى قط إلى الشعر الذي نبت في وجهه..
لم يكن يرق وانما كان يطير في الهواء ويرنو بنظراته من حالق إلى بعض الفتيات وتتألق عيناه السوداوان في وجه لوحته الشمس.
وكنت قد كلفت احدى نساء القرية برعاية مدام هورتنس والعناية بها، وجئت خصيصا لشهود رقصات كريت التقليدية..
فجلست على المقعد الخشبي بجوار العم أناجنوستي وسألته:
- من هذا الشاب الذي يتزعم الرقص؟
فقال الرجل باعجاب:
- انه كالملاك.. اسمه سيفاكاس وهو راعي غنم يقضي العام كله في الجبل ولا ياتي إلا في عيد الفصح ليرى الناس ويرقص.
وتنهد واستطرد قائلا:
- لو كان لي شبابه لفتحت القسطنيطينية بحد السيف.
وصاح الشاب وهو يدور حول نفسه كالدوامة ويحلق في الهواء كالطير:
- اعزف يا فانوريو.. اعزف حتى يموت ملاك الموت نفسه..
منذ آلاف السنين، والفتيان والفتيات يرقصون في الربيع تحت اشجار الحور والبلوط والسنديان.. وسوف يرقصون عدة آلاف أخرى من السنين، بوجوه تعبر عن الرغبة المكبوتة..
وتتغير الوجوه، وتنهار، وتعود إلى الأرض، ولكن وجوهاً أخرى تظهر وتحل محلها..
راقص واحد فقط لا يترك الحلبة.
ان له ألف وجه.. وألف قناع.. وهو دائماً في العشرين من عمره.. خالد لا يموت أبداً.
ورفع الشاب الاسمر يده إلى وجهه ليفتل شاربه.. ولكن لم يجد له شارب.
صاح مرة أخرى:
- اعزف يا فانوريو .. اعزف..
ولعبت أصابع فانوريو على الاوتار واستجابت القيثارة للمساته، ووثب الشاب وثبة قوية، وصفق بقدميه ثلاث مرات في الهواء.. فصاح الفتيان:
- برافو سيفاكاس.
وأسلبت الفتيات أهدابهن في حياء ولكن الشاب لم ينظر إلى واحدة منهن.. كان يرقص وعيناه تنظران إلى الأرض..
وتوقف الرقص فجأة، عندما اندفع اندروليو إلى الميدان وهو يصيح:
- الارملة .. الارملة ..
وكان مانولاكاس، شرطي القرية، وابن عم الشاب الذي انتحر، أول من خرج من الحلبة ليسرع إلى اندروليو.
وامسك الراقصون عن الرقص، وصعد الدم إلى الروس، وترك الشيوخ مقاعدهم ، ووضع فانوريو قيثارته في حجرة.. وصاحت أصوات يتميز أصحابها غيظاً وغضباً:
- أين هي يا اندروليو.. أين هي؟
- في الكنيسة.. لقد دخلت إليها في التو واللحظة. وكانت تحمل حزمة من زهر الليمون والبرتقال.
فصاح مانولاكاس:
- هلموا بنا..
وتقدم الصفوف، واندفع الجميع نحو الكنيسة كالسيل الجارف.
وفي هذه اللحظة. ظهرت الارملة على عتبة الكنيسة وعلى رأسها منديل أسود، ورسمت علامة الصليب على صدرها..
وعلى الأثر؛ ارتفعت أصوات تصيح:
- التعسة الفاجرة.. القاتلة. كيف وجدت الجرأة على الحضور.. عليكم بها.. لقد جلبت العار على القرية.
وتبع بعضهم مانولاكاس.. الذي كان يتقدم الجميع نحو الكنيسة، بينما قذفها آخرون بالحجارة من النوافذ والاسطح..
وأصاب حجر كتفها فصرخت ، وغطت وجهها بيديها، مانولاكاس قد استل سكينه.
وتراجعت الارملة إلى الوراء وهي تصرخ في هلع – وانحنت إلى الأمام لتحمي وجهها، ثم دارت على عقبيها وأسرعت إلى الكنيسة لتحتمي بها ولكن مافراندوني الشيخ كان واقفاً كالطود على عتبة الكنيسة وقد بسط يديه يميناً ويساراً ليسد الباب في وجهها.
ووثبت الارملة إلى اليسار، وتعلقت بشجرة السرو الضخمة، القائمة أمام الكنيسة..
ومرق حجر في الهواء وأصاب رأسها ومزق منديلها.. فانسدل شعرها على كتفيها.
وصرخت الارملة وهي تتعلق بالشجرة:
- أناشدكم باسم المسيح .. باسم المسيح..
وكانت بنات القرية قد اصطففن في الميدان ورحن ينشبن أسنانهن في أطراف مناديلهن البيضاء، بينما صاحت العجائز من فوق جدران البيوت:
- اقتلوها .. اقتلوها ..
وتقدم شابان، عليها، فتمزق ثوبها وبرز صدرها أبيض كالرخام..
وبدأ الدم ينزف من رأسها ويسيل على وجهها وعنقها صاحت وهي تلهث:
- بحق المسيح.. بحق المسيح..
وأثار منظر الدماء والصدر الابيض الفاتن شباب القرية، فاستل بعضهم سكاكينهم من أحزمتهم، وكلن مافراندوني صاح بهم:
- قفوا .. انها لي..
وكان لا يزال واقفاً بباب الكنيسة، وقد رفع يده فوق رأسه، فتوقف الشبان على الفور.
واستطرد مافراندوني قائلاً بصوت عميق:
- مانولاكاس.. ان دم ابن عمك يناديك.. فدعه ينام في سلام.
وكنت قد تسلقت أحد الجدران لاشهد ما يحدث ، فوثبت من مكاني، واسرعت إلى الكنيسة وارتطمت قدماي بحجر فسقطت على الأرض.
واتفق في هذه اللحظة: أن كان سيفاكاس يمر بالقرب مني، فأمسك بياقتي كما يمسك الطفل القطة من عنقها وانهضني وقال:
- هذا المكان ليس لأمثالك .. فابتعد..
- الا تأخذك شفقة يا سيفاكاس: رحمة بها..
فضحك الراعي في وجهي وصاح:
- هل أنا امرأة لتطالبني أن أكون شفوقاً؟ أنا رجل.
وفي لحظة.. كان في وسط المعمعة.
وتبعته عن كثب، ولكن أنفاسي تقطعت، ولم أستطيع اللحاق به..
وكان الجميع قد داروا بالارملة وحاصروها من كل جانب، وساد صمت رهيب. لم يكن يسمع فيه سوى تردد انفاس الضحية.
ورسم مانولاكس علامة الصليب على صدره، وتقدم إلى الامام ورفع السكين في يده، فارتفعت صيحات الفرح من أفواه النساء فوق الجدران ورفعت الفتيات مناديلهن وحجبن بها وجوههن.
ورفعت الارملة عينيها، ورأت السكين فوق رأسها فصرخت في هلع وتهالكت تحت جذع الشجرة وغاص رأسها بين كتفيها، وانسدل شعرها على الأرض.
ورسم مافراندوني علامة الصليب على صدره بدوره وصاح:
- انني أطالب بعدالة السماء..
ولكننا سمعنا من ورائنا في هذه اللحظة صوتاً عالياً يصيح:
- اغمدوا أسلحتكم أيها القتلة.
فنظر الجميع حولهم في ذهول، ورفع مانولاكاس رأسه، ورأى زوربا واقفاً أمامه يلوح بيديه.. ويصيح:
- ألا تخجلون من أنفسكم؟ أي الرجال أنتم؟ قرية برمتها لتقتل امرأة وحيدة؟ انكم لتجلبون العار على كريت كلها!!
فصاح مافراندوني:
- لا شأن لك بهذا يا زوربا. هذا شأننا فلا تتدخل ثم نظر إلى ابن أخيه وقال:
- مانولاكاس.. اضرب باسم المسيح والسيدة العذراء.
فأمسك مانولاكاس بالارملة وطرحها ارضاً وركع على بطنها، ورفع السكين.
ولكن زوربا انقض عليه. وأمسك بذراعه.. وحاول بيده التي لفها بمنديل أن ينتزع السكين من قبضة مانولاكاس.
وانتهزت الارملة هذه الفرصة فنهضت على ركبتها ونظرت حولها باحثة عن ثغرة تفر منها.. ولكن القرويين ضموا صفوفهم حولها في حلقة محكمة. حتى أولئك الذين كانوا يقفون فوق المقاعد ما ان رأوها تبحث عن منفذ حتى وثبوا إلى الأرض وسدوا الثغرات.
وفي هذه الاثناء، كان زوربا يناضل بخفة وعزم وصلابة.. فأخذت أرقبه في قلقٍ من مكاني بالقرب من باب الكنيسة..
واحتقن وجه مانولاكاس غضباً، وتقدم سيفاكاس، ومعه عملاق آخر لمساعدته. ولكن مانولاكاس أوقفهما بنظرة صارمة وصاح:
- ابتعدا لا يجب أن يتقدم أحد.
وهاجم زوربا بوحشية، ونطحه برأسه كالثور، وعض زوربا شفته، ولم ينطق بكلمة..
كان ممسكا بساعد غريمه بأصابع كالكلابة. بينما راح يتحرك يميناً ويساراً ليتجنب رأس مانولاكاس.
وجن جنون هذا الاخير ، وألقى بنفسه على زوربا وتناول أذنه بأسنانه، وعضها بكل قوته حتى مزقها، وانفجر الدم منها..
فصرخت:
- زوربا..
وتقدمت لانقذه، ولكنه صاح:
- ابتعد يا أستاذ.. ابتعد..
وجمع قبضة يده، وسدد ضربة هائلة إلى الجزء الاسفل من بظن غريمه، فافلت مانولاكاس الاذن من بين أسنانه على الفور، واحتقن وجهه احتقاناً شديداً.
ودفعه زوربا بيده فألقاه أرضاً وانتزع السكين من يده.. وقذف بها بعيداً فوق سور الكنيسة.
ثم تناول منديله، وأوقف به سيل الدم المتدفق من أذنه.. ومسح العرق المتصبب على وجهه. وأجال البصر حوله.
كانت عيناه حمراوين منتفختين..
صاح بالارملة قائلاً:
- انهضي .. وتعالي معي..
فنهضت الارملة، واستجمعت ما بقي لها من قوة لتنجو بحياتها.. ولكنها لم تجد الفرصة لذلك، فقد انقض عليها مافراندوني الشيخ كالصقر، ولطمها فألقاها أرضاً، ولف شعرها الاسود الطويل حول ساعده، وبضربة واحدة من سكينه فصل راسها عن جسدها.
وصاح وهو يلقي برأس ضحيته على عتبة الكنيسة..
- انني اتحمل مسئولية هذا الاثم..
ورسم علامة الصليب على صدره..
ونظر زوربا خلفه ورأى المنظر الريب فأمسك بشاربه وراح ينتف شعراته بقوة وعنف..
ولحقت به وتأبطت ساعده .. فنظر إلي، ورأيت دمعتين كبيرتين تتعلقان بأهدابه.
قال بصوت مختنق.
هلم بنا..
ولم يتناول زوربا طعاما او شرابا في تلك الليلة قال:
- ان في حلقي غصة ولا أستطيع أن أبتلع شيئا.
وغسل أذنه بالماء البارد، وعصبها بقطعة قماش بللها بالعرق.
أما أنا فقد تمددت على أرض الكوخ، وجعلت وجهي إلى الجدار وأطلقت العنان لدموعي..
لم أكن أفكر في شيء. انما بكيت كما يبكي طفل غلبه الحزن والاسى..
وفجأة بدأ زوربا يفكر بصوت مسموع .. صاح،
- ان كل ما يحدث في هذه الدنيا خطأ وظلم.. لماذا يموت الشباب ويبقى العجائز المحطمون على قيد الحياة! لماذا يموت الأطفال؟ كان لي مرة ابن اسمه ديمتري.. وقد فقدته وهو في الثالثة من عمره وذلك، ما لن أغفره للسماء.
وضرب الارض بقبضة يده.. فانتكأ جرح أذنه، وسال منه الدم قلت له:
- صبراً يا زوربا. سأغسل لك الجرح وأضمده..
وغسلت الجرح بالعرق. وبللت قطعة من القطن بما البرتقال الذي بعثت به الارملة إلي وعصبت الاذن. فهتف زوربا:
- آه.. اني أشم رائحة البرتقال.. وأشعر كأنني في حديقة الارملة .. وتنهد واستطرد قائلاً:
- كم سنة يجب أن تمر قبل أن تنتج الارض جسداً فاتنا كجسدها!! كنت أنظر إليها وأقول: ليتني في العشرين من عمري. وليت الدنيا تقفر من الرجال والنساء جميعاً فلا يبقى عليها سواي أنا وهذه المرأة فأولدها أولاداً. يملئون سطح الأرض.
وامتلأت عيناه بالدموع وقال:
- انني لا أطيق التفكير في هذا الحادث.. يجب أن أرقي الجبل ثلاث أو أربع مرات هذه الليلة لكي تهدأ نفسي وأستطيع أن أنام.
واندفع إلى الخارج، وتوارى في الظلام..
أما أنا فقد تمددت في فراشي واطفأت المصباح، وبدأت بطريقتي اللاانسانية أن أنقل الحقائق إلى عالم التجريد.. وان أربطها بنواميس الطبيعة وشرائع الحياة حتى ولت إلى نتيجة مزعجة، هي ان ما حدث كان ضروريا بل انه للصالح العام وكان لا بد من حدوثه.
وغلبني النعاس فنمت، ولم أشعر بزوربا حين عاد أو حين خرج في صباح اليوم التالي، ولكني رأيته على سفح الجبل يصيح ويصرخ في وجوه العمال.. لا شيء يعجبه مما يفعلون، حتى لقد فصل ثلاثة منهم، وتناول معولاً وراح يضرب به الارض ليمهد لاقامة أحد أعمدة السلك الهوائي.
ثم صعد إلى قمة الجبل، وتحدث إلى الحطابين الذين يقومون بقطع الاخشاب.. وثار عليهم ثورة عارمة.
وعاد في المساء إلى الكوخ متعبا منهوك القوى وجلس بجانبي لا ينطق بكلمة، واذا تكلم فعن الفحم والخشب والسلك الهوائي.
وهممت مرة أن اتحدث عن الارملة ولكنه وضع يده الغليظة على فمي وصاح:
- صه ..
فصمت على استحياء.
وقلت لنفسي: هوذا رجل بكل معاني الرجولة.. رجل يبكي عندما يحزن ويضحك دون أن يدع للفلسفة أو المنطق سبيلا إلى افساد مرحه.
ومرت ثلاثة أو أربعة أيام على هذا النحو، قضاها زوربا في عمل متواصل، دون توقف من اجل طعام أو شراب.
وذات مساء، قلت له ان بوبولينا لا تزال طريحة الفراش، وان الطبيب لم يذهب لزيارتها وانها تردد اسمه دائما في هذيانها فقال:
- حسنا..
وخرج مبكرا في صباح اليوم التالي، وذهب إلى القرية وعاد بعد قليل فسألته:
- هل رأيتها؟ كيف حالها..
فأجاب:
- ليس بها من شيء.. انها ستموت.
وانطلق إلى عمله وعاد في المساء ولك يأكل، وتناول عصاه وخرج فسألته:
- اذهب أنت إلى القرية!
- كلا .. ساتريض قليلاً.
وسار في الطريق إلى القرية بخطى سريعة حازمة.
وكنت متعبا فعدت إلى فراشي، وطفقت أستعرض بعض الذكريات القديمة والحديثة. وطافت أفكاري بأشياء كثيرة وعادت إلى زوربا.. وقلت لنفسي:
" اذا التقى زوربا بمانولاكاس، فسوف يلقي هذا العملاق الكريتي بنفسه عليه.. لقد قيل لي انه لم يبرح بيته في الأيام الأخيرة خجلا من الهزيمة التي نزلت به على يد زوربا.. وانه لا يكف عن القول بانه سوف يمزق زوربا بأسبانه بمجرد ان يقع بصره عليه.. وقال لي احد العمال أنه رآه يطوف حول الكوخ تحت جنح الظلام وهو مدجج بالسلاح.
لا شك انهما اذا التقيا الليلة فسوف تقع جريمة قتل.
ووثبت من الفراش وأسرعت إلى ثيابي فارتديتها وانطلقت إلى القرية.
وكان الليل هادئا ساكنا والجو يزخر برائحة البنفسج البري.. ووقع بصري على زوربا بعد قليل، وكان يمشي ببطء مية المتعب المكدود. ويتوقف بين الفينة والفينة، وينظر إلى النجوم ويصيخ السمع، ثم يعود إلى مواصلة السير وهو يدق الارض بعصاه..
واقترب من حديقة الارملة، وانطلق من فوق أحد أشجار الحديقة. صوت بلبل يغرد بنغمات أصفى من ماء الينابيع.. واستمر البلبل يغرد تغريداً جميلاً يأخذ بالألباب فتوقف زوربا عن السير وقد أخذ بعذوبة التغريد.
وفجاة انفرجت أعواد سور الحديقة وهدر صوت غاضب:
- أهذا أنت أيها الأحمق العجوز؟ .. لقد وجدتك اخيراً.
فعرفت الوت، وجمد الدم في عروقي..
وتقدم زوربا رافعاً عصاه..
كنت أرى على ضوء النجوم كل حركة من حركاته.
ووثب بين الاعواد عملاق ضخم الجسم، فمد زوربا عنقه وصاح:
- من أنت؟
- أنا مانولاكاس.
- امض في سبيلك.
- لماذا أذللتني، وجلبت لي العار.
- انني لم أجلب لك العار يا مونولاكاس. فامض في سبيلك.. صحيح أنك شاب ضخم قوي.. ولكن الحظ لم يكن في جانبك، والحظ أعمى كما تعلم.
فقال مانولاكاس وهو يعض بأسنانه:
- حظ أو لا حظ .. اعمى أو غير أعمى.. يجب أن أمحو العار.. وفي هذه الليلة بالذات.. هل معك سكين.
- كلا .. معي عصا.
- اذهب وابحث عن سكين، وسأنتظرك هنا.. اذهب.
ولكن زوربا لم يتحرك من مكانه فصاح مانولاكاس ساخراً:
- أخائف أنت؟ قلت لك اذهب.
- وماذا أفعل بالسكين؟!. انني أذكر ما حدث أمام الكنيسة .. كان معك سكين وقتئذ، ولم يكن معي شيء .. ومع ذلك انتصرت فزمجر مانولاكاس في غضب:
- أتحاول اثارتي؟ لقد احترت أسوأ الاوقات لسخريتك..
هل نسيت أنني مسلح وانت أعزل؟ ابحث لنفسك عن سكين أيها المقدوني القذر، وسنرى بعد ذلك أينا الأفضل.
فرفع زوربا يده وألقى بالعصا، وسمعت صوت سقوطها بين الاعواد.
وصاح زوربا:
- الق بالسكين.
وكنت قد تسللت نحوهما، فرأيت نل السكين يتألق في ضوء النجوم قبل أن يغيب بين أعواد الغاب..
وبصق زوربا في يده وصاح وهو يثب في الهواء:
- تعال..
ولكني وثبت بينهما قبل أن يلتحما.. وصحت بهما:
- قفا.. انت يا مانولاكاس.. وأنت يا زوربا تعاليا.. هذا عار عليكما.
فتقدم الغريمان مني وهما يسيران في بطء، فتناولت اليد اليمنى لكل منهما. وقلت:
- تصافحا.. كلاكما طيب القلب، وكلاكما شجاع.. ويجب أن تصلحا ما بينكما.
فقال مانولاكاس وهو يحاول أن يجذب يده!
- لقد أهانني.
فقلت:
- لا أحد يستطيع اهانتك بهذه السهولة.. القرية كلها تعرف انك رجل شجاع، فانس ما حدث أمام الكنيسة في تلك الساعة المنحوسة.. ان ما كان قد كان.. ولا تنس أن زوربا غريب عن هذه الجزيرة. انه مقدوني، وعار علينا نحن الكريتيون ان نرفع أيدينا ضد ضيف بلدنا.. تعال أعطني يدك.. هذه هي الشهامة.. وهلم معنا إلى الكوخ لندعم صداقتنا بكأس نبيذ وقطعة من شواء.
واحطت خصره بساعدي وانتحيت به جانبا وهمست في أذنه:
- لا تنس أنه رجل متقدم في السن، وعار على شاب قوي مثلك ان يهاجم رجلاً في مثل سنه.
فلان مانولاكاس قليلا وقال:
- حسنا.. اكراماً لك فقط.
فدنا من زوربا وبسط له يده وهو يقول:
- تعال أيها الصديق، لقد انتهى كل شيء.. اعطني يدك..
فقال زوربا:
- انت أكلت أذني.. ومع ذلك هاك يدي.
وشد كل منهما على يد الآخر بقوة وعنف حتى خفت أن يتلاحما من جديد..
وفي الطريق إلى الكوخ، سرت بينهما وقلت لأغير مجرى الحديث:
- سيكون المحصول وفيراً هذا العام فيما أعتقد، فقد هطلت أمطار غزيرة..
فلم يجيبا، وأدركت أنه لا يزال هناك ما يوغر صدر كل منهما على الآخر، ووضعت كل أملي في الخمر لعلها أن تصلح بينهما.
وجلسنا على حجر أمام الكوخ، وأحضر زوربا ثلاثة أقداح وبعض الطعام، فقلت وأنا أرفع قدحي:
- نخب صحتك يا مانولاكاس.. نخب صحتك يا زوربا.
فسكب مانولاكاس بضع قطرات من نبيذ على الأرض وقال بصوت رصين
- يسيل دمي كهذا النبيذ اذا أنا رفعت يدي في وجهك يا زوربا.
فحذا زوربا حذوه، وسكب قطرة من النبيذ على الأرض وقال:
- يسيل دمي كهذا النبيذ اذا لم أكن قد نسيت فعلا كيف قضمت أذني.






الفصل الثامن عشر



جلس زوربا على حافة فراشه في الفجر وأيقظني بقوله:
- هل أنت نائم يا أستاذ؟
- ماذا حدث يا زوربا؟
- لقد رأيت حلماً مضحكاً، وأعتقد اننا سنقوم برحلة، في وقت قريب.. اصغ إلي.. أنني رأيت فيما يرى النائم سفينة كبيرة تهم بالابحار، فجئت من القرية مسرعاً ولحقت بها. وكنت أحمل في يدي ببغاء. وجاء ربان السفينة وسألني:
- أين تذكرتك؟
فقلت وأنا أخرج من جيبي حزمة من الأورق المالية:
- كم ثمنها؟
- ألف دراخمة.
- ألا تكفي ثمانمائة دراخمة!
- كلا.. ألف دراخمة بالتمام.
- معي ثمانمائة دراخمة فقط وفي استطاعتك أن تأخذها.
- بل ألف دراخمة .. أو تغادر السفينة.
- اصغ إلي يا كابتن.. أنصحك بقبول الثمانمائة دراخمة.. لأنك اذا رفضت، فانني استيقظ من النوم فلا تنال شيئاً وانفجر زوربا ضاحكاً وقال في دهشة!
- ان الانسان آلة عجيبة.. تطعمها خبزاً ونبيذاً وسمكاً، فتعطيك ضحكاً وأحلاماً ومناظر جميلة.
ثم وثب من الفراش فجأة وقال في قلق:
- ولكن لماذا الببغاء؟ ما معنى أن أصحب معي ببغاء.. أخشى أيها الصديق أن ..
ولم يتم عبارته فقد فتح الباب بعنف ودخل رسول قصير القامة أحمر الشعر، وقال وهو يلهث.
- بحق السماء.. ان المرأة المسكينة تصرخ في طلب طبيب وتقول أنها على شفا الموت وان وزر موتها يقع عليكما.
فخجلت .. كانت فجيعتنا في الارملة قد انستنا صديقتنا القديمة تماما.
قال الرسول:
- ان المرأة المسكينة تسعل بشدة، وسعلتها تهز جدران البيت. فتناولت ورقة كتبت عليها رسالة وقلت للرسول:
- اذهب بهذه الرسالة إلى الطبيب ولا تدعه حتى يرافقك إلى بيتها ويقوم بفحصها أمامك..
وانصرف الرسول، وارتدى زوربا ثيابه على عجل فقلت له؟
- صبراً لحظة.. فسأرافقك..
فأجاب:
- انني على عجل.
وأسرع بالخروج.
وبعد قليل، كنت في طريقي إلى القرية، وراني العم أناجنوستي وكان جالساً بباب بيته فهتف!
- أية مصادفة سعيدة جاءت بك في مثل هذه الساعة المبكرة؟
ولكنه قرأ دلائل القلق في وجهي، وأدرك ما هنالك وقال:
- عجل يا بني ، فلست واثقاً من أنك ستجدها على قيد الحياة.
كانوا قد وضعوا فراشها في وسط الغرفة، ونقلوا الببغاء إلى مكانها المألوف فوق رأس صاحبته.. وكانت الببغاء تدور بعينيها فيما حولها ولا تنطق وكأنها تدرك ما هنالك.
وكانت العجوز المسكينة تئن وتتوجع وتضرب الاغطية بيديها وتحاول التخلص من شعورها بالاختناق.
ورأيتها بلا مساحيق أو دهون.. شاحبة اللون، مورمة الوجه.. تنبعث منها رائحة العرق.. واللحم الذي يوشك على التحلل.
وكان منظر حذائها تحت فراشها أشد ايلاماً للنفس من منظر صاحبة الحذاء نفسها.
وجلس زوربا بجوار الفراش، ونظر إلى الحذاء، ولم يحول عينيه عنه، وراح يعض شفتيه ليغالب دموعه.
وكانت المرأة المسكينة تتنفس بصعوبة ، فتناول زوربا قبعتها العريضة المحلاة بالورود وجعل يروح بها فوق وجهها كما لو كان يحاول اشعال النار في قطعة فحم أدركها البلل.
وفتحت المرأة عينيها ونظرت حولها في هلع، ولكنها لم تر شيئاً في الظلام، بل ولم تر زوربا وهو يحرك القبعة فوق وجهها.
ونشبت المسكينة أظافرها في الوسادة المبللة بالدموع والعرق واللعاب وصاحت:
- لا أريد أن أموت.. لا أريد أن أموت..
ولكن ندابتان من القرية سمعتا عن حالها فجاءتا على الفور وتسللتا إلى داخل الرفة..
وبعد قليل، جاء شابان وأطلا على المرأة المريضة وتبادلا الغمزات وانصرفا.
ولم تمض بضع دقائق حتى سمعنا جلبة الدجاج في الخارج فقلت احدى الندابتين للاخرى:
- أرأيت أن الشابين يعجلان النهاية، وها هما يسرقان الدجاج.. ان مساكين القرية جميعا يملأون فناء الدار في انتظار النهاية لكي ينهبوا كل شيء.
ثم التفتت إلى المرأة المحتضرة وغمغمت في ضجر:
- عجلي بالرحيل أيتها الصديقة.. حتى نأخذ نصيبنا كالاخرين.
فقالت الندابة الاخرى:
- يبدو أن هؤلاء الفتيان على حق، فلطالما قالت لي أمي:
اذا أردت أن تأكلي شيئا فاخطفيه .. واذا أردت اقتناء شيء فاسرقيه، وعلين الان أن نندبها بسرعة، ثم نحمل ما تصل إليه أيدينا من الارز والسكر والاواني.. لكي نبارك ذكراها بعد موتها.. انها لا أهل لها ولا أولاد.. فمن ذا الذي سيرث دجاجها وأرانبها؟ ومن ذا الذي سيشرب نبيذها ويرث حانوتها؟
كل هذا سيكون مباحاً للجميع ويجب أن نأخذ منه نصيبنا.
وفي هذه اللحظة، تنهدت المريضة وراحت تهذي فقالت احدى الندابتين:
- قد آن الأوان.. فلنتناول مناديلنا ونشرع في عملنا.
فأجابت الأخرى:
- ألا تخافين الله.. كيف نندبها ولما تلفظ أنفاسها الأخيرة؟
وهنا هتفت مدام هورتنس بصوت خافت:
- لا اريد أن أموت.
فانحنى زوربا فوقها، ورفع خصلة من الشعر سقطت على جبينها وقال والدموع في عينيه:
- لا تخافي ايتها العزيزة.. انني هنا.. انا زوربا.
ولكنها لم تره ولم تسمعه.. وضربت الاغطية بقدمها بقوة، وأطلقت صرخة قصيرة ثاقبة، وسكنت حركتها..
وعلى الفور ، بدأت الندابتان عملهما المقيت، فمد زوربا يده، وتناول قفص الببغاء ، وغادرنا المكان.
وعندما جاء كوندومانوليو وناظر مدرسة القرية لجرد مخلفات المتوفاة.. لم يجدا سوى الجثة مسجاة فوق أحد الأبواب.
لقد نهب فقراء القرية كل شيء.. حتى الأبواب والنوافذ..







الفصل التاسع عشر



كان اليوم الأول من شهر مايو، من الأيام الخالدة التي لن أنساها ما حييت..
ففي ذلك اليوم.. كان كل شيء معدا للبدء في استغلال أخشاب الغابة. لا عمدة قائمة، والسلك الهوائي يلمع تحت أشعة الشمس، وجذوع الأشجار مكدسة فوق قمة الجبل في انتظار الاشارة ببدء العمل، وراية يونانية تخفق فوق الجبل، وأخرى تخفق على الشاطئ عند الخليج الذي سيتلقى جذوع الشجر تمهيداً لشحنها في السفن، وأمام الكوخ برميل كبير مليء بالنبيذ، وعلى مقربة منه عامل يشوي خروفا سمينا، فقد كان من المتفق عليه ان يقدم الطعام والشراب للمدعوين. عقب الاحتفال بتدشين المشروع وافتتاحه.
والواقع أن زوربا أعد العدة لكل شيء.. حتى الببغاء كان لها نصيبها في الاحتفال، فقد وضع زوربا قفصها على صخرة مرتفعة بالقرب من أول عمود.
وارتدى زوربا أفضل ثيابه ، وراح يستقبل اعيان القرية وكبراءها، ويوضح لهم طريقة عمل الخط الهوائي، وكيف سيعم الخير المنطقة كلها نتيجة للمشروع.
قال:
- انه عمل هندسي فذ، أهم ما فيه هو معرفة الانحدار المناسب للخط الهوائي، وقد قضيت عدة شهور في التفكير في هذه المعضلة ولكن دون جدوى.. وايقنت آخر الأمر أن المعضلة لن تحل الا بعون من عند الله.
وذات ليلة، حدثت المعجزة..
فقد رأيت فيما يرى النائم سيدة متشحة بالسواد.. تحمل في يدها انموذجاً للخط الهوائي في حجم الكف..
قالت لي:
- اصغ إلي يا زوربا، أنا السيدة العذراء، وقد جئتك بتصميم المشروع.. هو ذا حساب المنحدر الذي تبحث عنه.. وها هي بركتي..
واختفت.
فاستيقظت مذعوراً، وأسرعت إلى المكان الذي كنت أختبر فيه انموذجي للمشروع.. ورأيت المعجزة .. كان السلك موضوعاً في الزاوية المناسبة.. وكانت تنبعث منه رائحة البخور، مما يدل على ان يد السيدة العذراء قد لمسته.
وهم كوندومانوليو بأن يفتح فمه ليلقي سؤالاً، ولكنه رأى خمسة من الرهبان يمتطون جيادهم ويهبطون على سفح الجبل، وراهباً سادساً يتقدمهم حاملاً صليباً ضخماً من الخشب.
وشرع الرهبان يدورون بالاعمدة ويرتلون ويطلقون البخور بينما وقف حشد كبير من القرويين ينظرون في خشوع وينتظرون.
وكان من المقرر أن تجري التجربة على ثلاثة جذوع، تيمنا بالثالوث المقدس، الاب والابن والروح القدس.
ووثب زوربا إلى العمود الاول وجذب حبلاً، فارتفعت الراية إلى قمة العمود، وكانت هذه هي الاشارة المتفق عليها مع العمال فوق قمة الجبل لارسال الجذع الأول.
وتحولت الانظار جميعا إلى قمة الجبل وهتف أحد الرهبان:
- باسم الأب.
ومن المستحيل وصف ما حدث.. فقد نزلت الكارثة كالصاعقة.. وكدنا لا نجد الوقت الكافي للنجاة بانفسنا.. فقد ترنح البناء الخشبي كله.. وانحدر جذع الشجرة كشيطان هائل متمرد. فانبعث منه الشرر، وتطايرت أجزاء منه في الهواء.. ولما وصل إلى الأرض بعد بضع ثوان، كان مجرد كتلة خبية محترقة..
ودب الذعر في قلوب الرهبان، وراحوا يرسمون علامة الصليب على صدورهم ويتمتمون..
فقال زوربا:
- هكذا يحدث دائما في أول تجربة.. ولكني واثق من ان الجهاز سيكون أكثر انتظاما في التجربة الثانية.
ورفع الراية للمرة الثانية وهتف أكبر الرهبان سناً!
- باسم الابن..
وانحدر الجذع الثاني.. وهجم علينا كالوحش، لأنه تعثر في الطريق ودار حول نفسه وسقط من حالق.
- وعض زوربا شاربه وقال:
- يا للشيطان.. هذا المنحدر اللعين ليس كما يجب أن يكون .
ورفع الراية للمرة الثانية:
وفي هذه المرة، أسرع الرهبان بالاحتماء ورا بغالهم، وصاح كبيرهم؟
- باسم الروح المقدس.
وكان الجذع الثالث ضخماً جداً، ولم يكد ينطلق من قمة الجبل حتى سمعنا ضوضاء شديدة فصاح زوربا وهو يعدو:
- انبطحوا على الأرض بحق السماء.
فألقى الرهبان بانفسهم على الأرض، واطلق القرويون سيقانهم للريح.
وكان جذع الشجرة قد وثب وثبة واحدة.
وسقط على الأرض وتدحرج وغاص ماء البحر قبل أن ندرك تماما ما حدث.
واهتزت الاعمدة التي يقوم البناء الخشبي عليها بشدة، ومال بعضها بطريقة خطرة..
وصاح زوربا:
- لا تنزعجوا. أنا واثق ان الجهاز سيعمل الان بانتظام ، فلنجذب مرة رابعة.
ورفع الراية وصاح الراهب وهو يعدو نحو الصخور:
- باسم السيدة العذراء..
وانحدر الجذع الرابع بقوة ثم دار حول نفسه، وسمع القوم دوياً شديداً، وسقطت الاعمدة جميعاً. وانهار البناء الخشبي كله في طرفة عين..
وأصاب شظية متطايرة أحد الرهبان فجرحت فخذه ومرت أخرى بالقرب من عين راهب آخر..
وتوارى القرويون عن الأبصار، وحمل الرهبان صليبهم الخشبي وجمعوا بغالهم.. وبدأوا يتقهقهرون في غير نظام..
حتى العامل الذي كان يشرف على شي الخروف تولاه الذعر ولاذ بالفرار.. وترك الخروف طعمة للنيران..
صاح زوربا في جزع:
- الخروف يحترق.
وخف لانقاذه ، ثم جلس بجانبي.
وكان الشاطئ قد اقفر تماما، فنظر إلي زوربا في تردد لم يكن يعرف كيف كان وقع الكارثة علي، ولا كيف يمكن أن تنتهي هذه المغامرة.
وتناول السكين وقطع شريحة من لحم الخروف وتذوقها وقال:
- هكذا يجب أن يكون الشواء. هل لك في قطعة؟
- انني جائع.. هات الخبز والنبيذ ودعنا نأكل..
وأكلنا حتى أتينا على الخروف، وشربنا من النبيذ الكريتي الجيد حتى ارتوينا وترنحت الارض تحت أقدامنا كأنها سفينة في عرض المحيط، وبدت لنا الحياة أقل ثقلاً وأوفر بهجة.
ونهضت واقفاً وصحت بزوربا:
- زوربا.. علمني كيف أرقص.
فوثب واقفاً وقد أشرق وجهه وهتف قائلاً:
- أتريد حقاً أن ترقص؟ هذا احسن .. تعال..
- لقد تغيرت حياتي يا زوربا.. هلم.
فخلع حذاءه وقال:
- انظر إلى قدمي.. انظر.
ومس الأرض بأصابع قدمه بخفة، ثم خطا بالقدم الاخرى إلى الامام.. وكرر هاتين الحركتين بسرعة حتى اختلطتا ، ورددت الارض حركة القدمين وكأنها طبلة.
وألقى زوربا بيده على كتفي وقال:
- هلم ، سنرقص معاً..
وراح يدربني على الرقص ويصحح أخطائي في صبر وأناة ودعة حتى تشجعت ، وأحسست كأن قلبي قد نبت له جناحان كالطير..
- برافو.. أنت أعجوبة..
وراح يصفق بيديه لينظم خطواتي وحركة قدمي.. ويصيح:
- برافو.. إلى الجحيم بالكتب والاوراق.. إلى الجحيم بالمناجم والارباح.. هأنتذا يا بني قد تعلمت لغتي.. وسوف نروي لبعضنا أشياء كثيرة.
وجعل يثب على الحصى بقدميه العاريتين ويصفق بيديه.
قال:
- عندي أشياء كثيرة أريد ان أقولها لك، انني لم أحب أحداً كما أحببتك.. وهناك مئات الأشياء أود أن أقولها لك ولكن لساني لا يسعفني ولذلك سأرقصها لك.. انظر.
ووثب في الهواء وتحول ساعداه وساقاه إلى أجنحة..
وبدا ، والبحر من ورائه ، أشبه بملاك عجوز متمرد.
كان كمن يصيح في وجه السماء: ماذا تستطيعين أن تفعلي بي يا سماء.. كل ما تستطيعينه هو أن تقتليني.. اقتليني اذن فلست أبالي.. لقد قلت لك ما اريد قوله.. ورقصت ما شئت أن أرقص..
وحين شهدت زوربا وهو يرقص، أدركت لأول مرة مدى الجهد الذي يبذله الانسان للتغلب على ثقله، وأعجبت بصبر زوربا وخفته واعداده بنفسه.
واستيقظت مبكراً في اليوم التالي، فخرجت إلى الشاطئ وسرت في الطريق إلى القرية..
كان قلبي يثب بين ضلوعي.. وكنت أشعر بسعادة لم يسبق أن شعرت بمثلها في حياتي..
كانت سعادة غير عادية.. ليس لها ما يبررها.. بل ضد كل ما يمكن أن يبررها.. فلقد فقدت كل شيء.. ثروتي، ورجالي، وعرباتي والخط الهوائي.. وانشأت ميناءاً صغيراً لا أملك الآن ما أشحنه منها..
وفي هذا الوقت الذي فقدت فيه كل شيء.. غمر قلبي هذا الشعور غير المنتظر بالخلاص..
انها لمتعة أية متعة، ان يختبر الانسان شجاعته ومدى قدرته على الاحتمال حين تسوء أموره وتتقطع به الاسباب!!
وعدت إلى الكوخ حول الظهر وأنا متعب منهوك القوى.. ولكن راضي النفس.
واستلقيت على فراشي، وغلبني النعاس فنمت، ورأيت فيما يرى النائم أنني أسير وحدي في أحد شوارع أثينا.. وان الشوارع مقفرة، والحوانيت مغلقة.. وبينما أنا أمر بكنيسة (كابذيكاريا)، اذا بي ألتقي بصديقي ستافريداكي، الغائب في القوقاز.. فسألني بأنفاس لاهثة:
- ماذا تفعل هذه الأيام.. انني لم أرك منذ قرون.. قابلني الليلة لنتجاذب أطراف الحديث.
- أين؟
- في مقهى (نافورة الجنة).
- حسنا.. سأذهب إلى هناك..
فقال عاتباً:
- أنت تقول ذلك ولكنك لا تذهب.
- بل سأذهب .. وهاك يدي..
وأمسك بيدي.. وهالني أن شعرت بأن يده باردة كالثلج.. فنهضت من نومي مذعورا.. واتجهت ببصري نحو الشرق.. نحو القوقاز.. لا بد أن يكون صديقي هناك في خطر.
انتهى كل شي.. وجمع زوربا الاسلاك والادوات والعربات والاخشاب وقطع الحديد في كومة كبيرة على الشاطئ استعدادا لشحنها على احدى السفن.
قلت:
- انني اقدم كل هذه الاشياء هدية لك يا زوربا.. فخذها، وأتمنى لك حظا سعيدا..
فابتلع زوربا لعابه بصعوبة كمن في حلقه غصة وغمغم قائلاً:
- هل سنفترق؟ إلى أين ستذهب؟
- ربما ذهبت إلى أثينا.. هناك كتب يجب أن أقرأها وأخرى يجب أن أكتبها.
- ألم تتعلم بعد أشياء أفضل من القراءة والكتابة؟
- بل تعلمت الكثير يا زوربا، والفضل لك.
- وماذا سأفعل بدونك؟
- لا تحزن يا زوربا.. فسوف نلتقي مرة أخرى.
وجلس زوربا على الارض، وأسند ظهره إلى جدار الكوخ، وراح يشرب الكأس تلو الكأس.. دون أن ينطق بكلمة.
قلت لنفسي:
- يجب أن أنظر إليه جيدا.. حتى تنطبع صورته في ذهني.. لأننا لن نلتقي بعد ذلك أبداً .. أبداً.
ووددت أن ألقي برأسه على كتفي وأبكي، ولكني خجلت، ثم حاولت أن أضحك لأخفي تأثري وانفعالي، ففشلت.. وأحسست بغصة في حلقي.
نظرت إليه وهو يمط عنقه الطويل المغضي كأعناق الطيور الجارحة ليشرب في صمت، وعجبت للحياة! أن الناس يتقابلون ويفترقون، ويحاول الانسان ان يحتفظ في ذهنه بصورة لوجه الشخص الذي أحبه، أو لحركة من حركاته.. ثم تمضي الأيام والسنين فاذا هو لا يذكر حتى لون عينيه..
واستمر زوربا يشرب في صمت، دون أن يبدي حراكاً وخيل إلي أنه ينصت إلى وقع أقدام تقترب في الظلام، أو أقدام تنسحب من أعماق كيانه.
- فيم تفكر يا زوربا؟
- فيم أفكر؟ انني لا أفكر في شيء لا أفكر في شيء على الاطلاق.
- اذن فاعزف شيئا على السانتوري..
- ألم أقل لك ان العزف على السانتوري يتطلب البهجة والمرح والقلب السعيد؟ قد أستطيع أن أعزف بعد شهر أو شهرين، ويومئذ سوف أعزف قصة شخصين افترقا إلى الأبد.
فصحت في ذعر:
- إلى الأبد!!
والواقع أنني همست بهاتين الكلمتين لنفسي، ولكني لم أتوقع أن يقالا بصوت مسموع..
فقال زوربا وهو يبتلع لعابه بصعوبة:
- نعم.. إلى الأبد.. ان ما ذكرته الآن عن احتمال لقائنا يوماً ما، هو من قبيل الكلام الذي يقال لانسان مريض لتشجيعه على احتمال آلامه.. وأنا لا أقول هذا الكلام ولا اريده.. هل نحن ضعاف كالنساء لكي نحتاج إلى عبارات التشجيع والمواساة؟ نعم.. انا سنفترق.. إلى الأبد..
وصمت لحظة ثم استطرد:
- لقد آن لك أن تأوي إلى فراشك يا صديقي.. اذ يجب أن تستيقظ في الفجر اذا شئت أن تستقل السفينة إلى كانديا.. طابت ليلتك..
- ليست بي الرغبة إلى النعاس يا زوربا.. سأبقى معك.. فهذه ليلتنا الأخيرة معاً..
- ولهذا يجب أن ينتهي الأمر بسرعة.. طابت ليلتك.
وخرج إلى الشاطئ دون أن يلقي وراءه بنظرة واحدة وهناك تمدد فوق الحصى وأدار وجهه إلى البحر.
ولم أره بعد ذلك أبداً.. فقد رحلت في الفجر.. دون أن يقع عليه بصري.. وربما كان قد أختبأ في مكان ما ليرقبني حين أرحل.. حتى لا نضطر إلى تبادل كلمات الوداع المؤلمة والتلويح بالايدي والمناديل..
كان فراقنا قاطعا كالسيف.
وفي كانديا تسلمت برقية أرسلت رعدة في جسدي، فقد كنت أتوقع ما جاء فيها..
كانت تتضمن سطراً واحداً:
- "ستافريداكي أصيب بالتهاب رئوي وتوفي أمس".
ومرت خمسة أعوام.
خمسة أعوام طويلة مضنية حافلة بالآلام والاهوال، تغيرت خلالها الحدود، فاتسعت دول وانكمشت دول أخرى. وهلك ملايين الناس.
وخلال السنوات الثلاث الأولى، تلقيت بضع بطاقات من زوربا.. قال في احداها أنه وصل إلى دير مونت اتوس، وانه لا أمل في الحصول على عمل هناك، (لأن رهبان الدير من البخل والتقتير بحيث يسلخون براغيثهم) وقال في بطاقته الثانية، انه تعب من حمل الببغاء معه إلى كل مكان يذهب إليه.. وانه اهداها إلى أحد الرهبان وأستحلفه أن يعلمها الصلاة".
وقال في البطاقة الثالثة انه لا يزال على قيد الحياة، وانه يعمل في مناجم رومانيا ويأكل عصيدة الذرة ويشرب الفودكا.. ومنذ عامين بعث إلي برسالة من سيبيريا يقول فيها:
" البرد هنا مخيف، ولذلك اضطررت إلى الزواج، واذا قلبت هذه البطاقة، طالعك وجه زوجتي، انها متضخمة قليلا.. والسبب انها ستضع زوربا صغيرا.. انني أقف الى جانبها مرتديا الثوب الذي اهديتني إياه.. أما خاتم الزواج الذي في اصبعي فانه خاتم بوبولينا المسكينة..
الزوجة الجديدة تدعى ليوبا، ومعطف الفراء الذي أرتديه هو جزء من بائنة (دوطة) زوجتي. وقد أحضرت لي زوجتي فرساً وسبعة خنازير وطفلين من زوجها الاول..
انني أعيش كالباشوات.. فقد وجدت منجم نحاس في أحد الجبال، كما وجدت رأسماليا لتمويله..
وانقطعت أنباء زوربا بعد ذلك، إلى أن وردت لي أخيراً رسالة من قرية سكويلي في سيبيريا مكتوبة باللغة الالمانية بخط لا أعرفه وقد جاء بها:
" أكتب إليك، أنا ناظر مدرسة هذه القرية، لكي أنهي اليك نبأ وفاة اليكسيس زوربا صاحب منجم نحاس هنا الذي توفاه الله في الساعة السادسة من مساء يوم الاحد الماضي.
" وقد دعاني الفقيد قبل موته، وقال لي: اصغ إلي أيها الناظر.. ان لي صديقاً في اليونان فمتى مت، فاكتب إليه وقل له انني احتفظت بجميع حواسي حتى آخر لحظة.. وانني غير آسف على شيء فعلته .. وانني أرجوا له أن يعود إلى صوابه..
" وأصغ أيضاً أيها الناظر.. اذا جاء قس للصلاة على جثماني فاطرده، وبسرعة، وقل له انني أريد لعناته لا صلواته..
لقد فعلت أشياء كثيرة في حياتي.. ولكني لم أفعل كل ما كنت أريد أن أفعله، ان الرجال الذين على شاكلتي يجب أن يعيشوا ألف عام طاب مساؤك.
تلك كانت آخر كلماته، وقد جلس بعدها في فراشه. ثم حاول النهوض. فأسرعنا إليه، أنا وزوجته، وبعض الجيران، لكي نمنعه، ولكنه نحانا جميعاً بخشونة ووثب من الفراش وسار إلى النافذة، وتعلق بها، وأرسل بصره إلى الجبل.. وفتح عينيه وجعل يضحك..
ومات وهو واقف أمام النافذة وأظافره مغروسة في اطارها..
وقد طلبت إلي زوجته ( ليوبا) أن أكتب إليك وأبلغك تحيتها وأقول لك أن الفقيد كان يتحدث عنك كثيرا وانه أوصى لك بالسانتوري لكي تذكره به.
"والارملة ترجوك اذا مررت بهذه القرية ان تنزل في ضيافتها لكي تأخذ السانتوري معك عند رحيلك".


تمت