المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مائة عام من العزلة رواية جابرييل جارسيا ماركيز


AshganMohamed
10-21-2019, 09:06 AM
مائة عام من العزلة رواية جابرييل جارسيا ماركيز


مئة عام من العزلة
رواية
جابرييل جارسيا ماركيز




الفصل الأول

كان على الكونونيل أُوروليانو بوينديا أن يتذكر بعد سنين وهو يواجه فريق الرماة بالرصاص عصر ذلك اليوم البعيد عندما صحبه أبوه لاكتشاف الثلج .
في ذلك العهد كانت ماكوندو قرية مؤلفة من عشرين بيتا من الطوب النيئ ، بُنِيَت على ضفة نهر صافي المياه تبدو في قاعة أحجار مسقولة أشبه في بياضها وضخامتها ببيض الحيوانات ما قبل التاريخ ، وكانت الدنيا غضة إلى حد أن كثيرا من الأشياء كانت تنقصها المسميات ، فيُستعان على وصفها بالإشارة .
وفي كل عام كانت تفد على القرية في شهر مارس أُسرة من الغجر المهلهلين تنصب خيامها خارج القرية ، وبين لعلعة المزامير ودق الطبول المدوية تأخذ في عرض العديد من المخترعات ، وكان أول ما جاءوا به هو المغناطيس ، ووقتها قام غجري منهم متين البنيان منفوش اللحية قدم نفسه باسم مالكويداس بعرض جريء سماه العجيبة الثامنة لعلماء الكيمياء المتنورين في مقدونيا، ومن بيت إلى بيت راح يجر كتلتين معدنيتين فيثير ذهول الناس إذ يبصرون أوانيهم المعدنية وهي تتهاوى من مواضعها ، وإذ يسمعون الألواح الخشبية وهي تَصُّر صريرا بتأثير حركة المسامير وهي تكاد تُنتَزع من أماكنها ، بل وإذ يرون كثيرا من الأشياء التي كانت مفقودة بعد طول بحث وتفتيش تظهر من خ=مخابئها وتُسحب سحبا في إثر كتلتَي مالكويداس السحريتين .
وفي ذلك كان مالكويداس يقول للناس المذهولين بصوته الأجش : لكل شيء من الأشياء حياته الخاصة ، والمسألة ببساطة هي بعث اليقظة في أرواحها .
وعندئذٍ ذكر جوزيه أُوركاديو بوينديا الواسع الخيال في أنه من الممكن الانتفعا من هذا الاختراع العديم الجدوى في استخراج الذهب من باطن الأرض ،
ولكن مالكويداس الذي كان رجلا قويما قال له : إن الاختراع لا يتماشى مع هذا .
بيد أن جوزيه لم يكن يؤمن في ذلك الحين باستقامة الغجر ، وهكذا قايض على كتلتَي المغناطيس ببغلته وعنزتيه ولم تستطع زوجته أورسلا أجواران التي كانت تعتمد على هذه الحيوانات في زيادة دخلهم المتواضع أن تثنيه عن عزمه ،
إذ قال لها : عما قريب سيكون عندنا من الذهب ما يكفي لتبليط أرضية الأرض .
وقد ظل شهورا كثيرة يعمل دائبا لإثبات صحة فكرته ، فراح يستكشف كل شبر في المنطقة حتى قاع النهر ، ساحبا كتلتَي المغناطيس ومرددا تعاويذ مالكويداس بصوت مسموع .
وكان الشيء الوحيد الذي أفلح فيه هو استخراج جسم مدرع منذ القرن الخامس عشر تصلبت أجزاؤه بفعل الصدء ، وعندما تمكن جوزيه وأفراد بعثته الأربعة من تفكيك الجسم لم يجدوا بداخله سوى هيكل عَظمي متكلس تدلت حول عنقه أيقونة نحاسية بها شعر امرأة .
وفي مارس من كل عام كان الغجر يعودون إلى القرية وفي جعبتهم اختراع جديد ، جاءوا مرة بتلسكوب وعدسة مكبرة بحجم طبلة ، فجعلوا امرأة منهم في عند طرف القرية ووضعوا التلسكوب في مدخل خيمة وبثمن قدره 5 سنتات بالعملة المحليَة كان بمقدور من يدفع أن يرى من التلسكوب فيبصِر المرأة الغجرية على بُعد ذراع منه لا أكثر .
وكان مالكويداس يقول في هذا : إن العلم قد ألغى المسافات ، وبعد زمن قصير سيكون بقدرة الإنسان أن يرى ما يحدث في أي مكان في العالم دون أن يغادر بيته .
وفي عرض مثير آخِر وقت الظهيرة سَلَّطوا العدسة المكبرة الضخمة على كوم قش في وسط الشارع فاشتعلت نار حامية أتت عليه عن آخِرِه ، وسرعان ما أوحى ذلك بفكرة جريئة لجوزيه آوركاديو بوينديا تعزيه عن الفشل في استغلال المغناطيس لاستخراج الذهب وهي استخدام هذا الاختراع كسلاح حربي ، وهكذا قايض مالكويداس على اقتناء العدسة مقابل كتلتَي المغناطيس وثلاثة قطع من العملة الذهبية مما ورثته زوجته عن أبيها ، وكانت تخفيه في الأرض تحت الفراش انتظارا لاستغلال القطع كلها استغلالا نافعا في المستقبل غير عابئ ببُكائها وحزنها .
وإثباتا لآثار العدسة المحرِقة على جنود العدو فقد عرَّض جسده لأشعة الشمس المركزة من خلال العدسة الضخمة وكانت النتيجة إصابته بحروق خطيرة كادت تودي بحياته واستغرق وقتا طويلا للشفاء منها بل تعرض البيت كله للحريق ، ومع ذلك سرعان ما نشط جوزيه لإعداد تقرير مفصل عن اختراعه الخطير الذي سماه الحرب الشمسية وبعث به مع رسول خاص إلى الحكومة مبديا تمام استعداده للسفر وشرح كافة التفاصيل وتدريب الجنود على استخدام السلاح الفتاك متى ما جاءته الموافقة ، ولكن الرسول كاد يَهْلك في الطريق إلى العاصمة بين الجبال والمستنقعات والقفار ، وظل جوزيه ينتظر سنوات عديدة حتى يأس من وصول الرد .
ولما عاد مالكويداس في رحلة الغجر السنوية واستمع إلى شكوى جوزيه المحزونة بسبب فشل مشروعه الحربي طَيَّبَ خاطره ورد إليه القطع الذهبية مقابل استعادة العدسة المكبرة ، ثم أتحفه هذه المرة تدليلا على إخلاصه ومودته بخرائط جغرافية وأدوات ملاحية وفلكية أفرد لها جوزيه غرفة صغيرة خلف البيت ، وعكف على إجراء تجاربه العلمية مهملا شؤون أسرته ، تاركا زوجته وولدَيه يقصمون ظهورهم في فلاحة الأرض لاستنبات ما يأكلون .
وكم رَوَّع أفراد الأُسرة كلها ذات يوم من شهر ديسمبر عندما جمعهم وقال لهم برصانة وجِدٍّ بالغين : لقد اكتشفت من أبحاثي العلمية والفلكية أن الأرض مستديرة مثل برتقالة .
فعندئذٍ لم تتمالك زوجته اُوُرسولا أن صرخت به : إذا كان لابد أن تُجَنَّ فلتجن وحدك ، لكن لا تحاول أن تبث ترهات الغجر في عقول أطفالك .
بيد أن جوزيه لم يتأثر بما أبدته زوجته من جزع ويأس ، فقد جمع رجال القرية وشرح لهم نظريته بأن الإنسان يستطيع أن يعود إلى المكان الذي يبدأ منه رحلته إذا واصل الإبحار شرقا ، ولكنه زادهم اقتناعا بأنه فقدَ عقله .
وظل الحال كذلك إلى أن عاد مالكويداس وأثنى بينهم علناً على ذكاء رجل منهم استطاع باستدلالاته المحضة إثبات النظرية التي تم إثباتها فعلا وعملا في العالم الخارجي وإن لم تكن معروفة من قبل في القرية .
وتأكيدا لفرط إعجابه بهذا الرجل القدير فقد أهداه شيئا كان مقدرا أن يكون له تأثير عميق على مستقبل ماكوندو ، ألا وهو معمل كيميائي .
كان المعمل البدائي يشتمل على مجموعة كاملة من الأنابيب والقناني والأواني الزجاجية العجيبة إلى جانب مختلف الأحماض والمساحيق والمعادن التي قيل بينها المعادن السبعة الرامزة إلى الكوكب السبعة .
ولما كان جوزيه قد استهوته سهولة الوصفات التي اطلع عليها لمضاعفة أي كمية من الذهب فقد راح يتودد إلى اُوُرسولا مدى أسابيع لكي تسمح بإخراج جنيهاتها الذهبية المدفونة تحت السرير حتى يعمل على مضاعفتها لها أضعاف كثيرة ، وفي النهاية لم تستطع اُوُرسولا سوى النزول عند رغبة زوجها إزاء إلحاحه وإصراره ، وعندئذٍ ألقى جوزيه الجنيهات في إناء وخلط بها مقادير من النحاس والكبريت وكبريتور الزرنيخ والرصاص ثم جعلها تغلي في وعاء فيه زيت الخروع حتى استحالت إلى سائل كثيف بدا في شكله أقرب إلى الكراميلا العادية منه إلى الذهب الثمين ، وبعد عمليات خطرة للتقطير ثم الخلط بالمعادن الكوكبية السبعة والزئبق ثم التبريد في النهاية ، إذ بميراصث اُوُرسولا المسكينة يتحول إلى كتلة محترقة التسقت في قاع الإناء التساقا لا فكاك منه .
كانت هذهر التجربة المريرة باعثة على حزن جوزيه حتى نفض يديه بين عشية وضحاها من القيام بمزيد من التجارب في عالم الكيمياء وانصرف عن كل شيء حتى الأكل ، وراح يدور في أرجاء البيت مغموما ، ولكنه كان يقول لزوجته اُوُرسولا : هناك أشياء لا تُصَدَّق تحدث في الدنيا فيما وراء النهر الذي يحد قريتنا ، هناك كل الأدوات السحرية العجيبة ونحن نعيش هنا كالحمير .
والحق أن جوزيه آوُركاديو بوينديا كان طوال شبابه مجدا مكافحا متفانيا في رعاية أُسرته ومتعاونا مع جيرانه في العمل على رفاهية القرية وإليه يرجع الفضل في تخطيط ماكوندو على نظام منسَق بديع حيث أضحت بِسُكّانها ال 300 أفضل من كل قرية أخرى معروفة في ذلك العهد ، لا يزيد عمر كل من أبنائها عن الثلاثين ولم تحدث فيها وفاة واحدة ، بيد أن هذه الروح الاجتماعية الوثابة ما لبثت أن اختفت بعد ظهور حُمّاَ المغناطيسيات والأدوات والحسابات الفلكية وأحلام تحويل المعادن إلى ذهب ومضاعفة مقاديره وشهوة اكتشاف العالم ، وهكذا استحال جوزيه من إنسان نظيف نشط إلى شخص كسول في مظهره مهمل في ملابسه أشعث اللحية ، حتى اضطرت اُوُرسولا إلى تقليمها له بعد جهد كبير مستعين إلى تقليمها له بعد جهد كبير مستعينة بسكين المطبخ .
وكثيرون هم الذين اعتقدوا أنه أصبح ضحية لون من السحر الغامض الخفي ،
وفي هذا قالت له يوما : بدلا من أن تنهمك هكذا في اختراعاتك الجنونية ومشروعاتك المتهوسة يجب أن تنشغل بتربية أولادك ، انظر إلى الحالة التي وصلوا إليها وهم يجرون في كل مكان شاردين مثل الحمير .
وفعلا نظر جوزيه من النافذة فشاهد ولديه يلعبان في الحديقة حافيين ، وبدا له أنه لم يشعر بوجودهما إلا في هذه اللحظة ، وظل يتأملهما حتى ندت عينيه بالدموع ، وما لبث أن جففهما بظَهَر يده وقال وهو يتنهد ممتثلا : لا بأس ، قولي للولدين أن يأتيا لمساعدتي في جمع أدوات .
كان جوزيه آوُركاديو الابن الأكبر في الرابعة عشرة وكان مربع الرأس كثيف الشعر يماثل أباه في متانة البُنْية ولكن يَقْصُر عنه في التفكير وقوة التخيل وكان مولده أثناء رحلة الأُسرة بين الجبال قبل تأسيس قرية ماكوندو ، وقد حمدَ أبواه ربهما إذ لم يولد بملامح حيوانية .
وكان أُوروليانو أول مخلوق بشري وُلِد في ماكوندو يناهز السادسة من عمره وكان أميل للصمت والعزلة والانطواء .
لقد سَمِعَ بكاؤه وهو لايزال في رحم أمه وَوُلِدَ وهو مفتوح العينين ، وعندما قطعوا الحبل السري جعل يدير رأسه من جانب لجانب متطلعا إلى ما في الغرفة من أشياء ومتفحصا لوجوه من حوله في فضول لا يخالطه أي خوف وبعدها لم يعبأ بالنظر لمن اقتربوا منه للنظر إليه ، وركز نظراته في السقف المصنوع من النخيل والذي بدا كأنما يوشك أن يخر تحت وطأة المطر الدافق المنهمر .
ومنذ تلك اللحظة التي استرعت فيها اُوُرسلانظر الأب إلى ولديه عكف جوزيه على تعليمهما القراءة والكتابة ومبادئ الحساب ، ولم يَفُتْه أن يحدثهما عما في العالم الخارجي من عجائب مضيفا إليها حصيلته الّذاتية من التخيلات والأحلام بل والتخرصات والأوهام .
والواقع أن هذه الهلوسة ظلت محفورة في ذاكرة الصبيين إلى حد بعيد حتى أن الكونونيل أُوروليانو لم ينس بعد طول السنين وهو واقفٌ أمام فريق الرُماة ينتظر إشارة الضابط لإطلاق النار مشهد أبيه عصر ذلك اليوم الحار من شهر مارس إذ قطع درس الفيزياء الذي كان يلقنه لولديه ووقف مبهورا رافع اليد جامد العينين مرهفا سمعه إلى الأصوات البعيدة المتدانية الصادرة عن زمور وطبول الغجر القادمين إلى القرية مرة أخرى ليتحفوا أهلها بمَزيد من أعاجيب العالم الخارجي .
كانوا في الحق طرازا جديدا من الغجر شباناً ونساءً لا يتكلمون سوى لغاتهم ، لهم بَشَرة زيتية وأيدٍ بارعة بثت موسيقاهم ورقصاتهم البهجة والروعة في الشوارع ومعهم ببغاوات من كل الألوان تَرطُن الإيطالية ودجاجة تضع مائة بيضة ذهبية على دق الدفوف وقرد مدرب يقرأ الطالع وجهاز متعدد الفوائد التي تشمل الشفاء من الحُمِّيات ومساعدة الإنسان على نسيان ذكرياته الحزينة وعَشَرات أخرى من المخترعات المبتكرة الفريدة ، حتى أن جوزيه آوُركاديو بوينديا ود لو استطاع أن يخترع هو نفسه جهازا للذاكرة يُمَكِّنه من استيعاب كل هذه العجائب واختزانها جميعا في وعيه ، في لحظة واحدة سحر الغجر القرية كلها وألفى سُكّان ماكوندو أنفسهم تائهين في شوارع قريتهم مذهولين من فرط ما يروا من الأعاجيب ، وراح جوزيه آوُركاديو بوينديا وهو ممسك بولديه حتى لا يضيعا في غمار الزحام يشق طريقه بين بهلوانت ذوي أسنان مُذَهَّبة وحُوات ذوي ستة أذرع وروائح خانقة من السباخ والأتربة باحثا عن مالكويداس لكي يكشف له عن مزيد من الأسرار وفي هذا سأل عديد الغجر الذين لم يفهموا لغته إلى أن وصل في النهاية إلى الموضع الذي اعتاد مالكويداس أن ينصب فيه خيمته ، فوجد أرْمنياَ كان يعلن بالأسبانية عن شراب يجعل الإنسان مخفيا عن العيان فقد شرب كأسا من مادة عنبرية بجرعة واحدة عندما اقترب منه جوزيه وولديه بين الجمع المنبهر لمشاهدة هذه الخوارق واستطاع جوزيه أن يتجه إليه بسؤاله ، وإذا الغجري يرميه بنظرة شاملة مخيفة قبلَما يتحول إلى بركة دخانية خانقة تردد من فوقها صوته وهو يقول : إن مالكويداس قد مات .
لقد حزن جوزيه لهذا النبأ الأليم وجمد في مكانه برهة إلى أن تفرق الجمع منجذبين إلى فنون الألعاب السحرية الأخرى ، بينما تبخرت في خلال ذلك بركة الأرمني الدخانية ، وتحت إصرار ولديه لرؤية أعجوبة الأعاجيب المعلن عنها انتقل معهما إلى خيمة أخرى ، دخلوا إليها بعد دفع ثلاثين سنْتا فشاهدوا ماردا أشعر الجسد حليق الرأس تتدلى من أنفه حلقة نحاسية وتلتف حول كاحله سلسلة حديدية ثقيلة وأمامه صندوق قرصاني كبير ، وعندما فتح المارد الصندوق انبعثت منه رائحة ثلجية ولم يكن بداخله سوى كتلة شفافة ضخمة بداخلها إبر لا عداد لها وقد تكسر عليها ضوء الغروب بنجوم ملونة .
واجتزأ جوزيه أن يغمغم لولديه بتفسير لابد منه : هي أكبر ماسة في الدنيا .
ولكن المارد رد عليه مناقضا : لا ، إنها ثَلْج .
لم يفهم جوزيه ومد يده باتجاه الكتلة الكعكية .
بيد أن المارد ردها قائلا : 5 سنتات أخرى نظير اللمس .
فدفع جوزيه ووضع يده على كتلة الثَلْج وأبقاها بضع دقائق وقد امتلأ قلبه بالخوف والبهجة معا للمس هذا الجسم الخفي ، وما لبث أن دفع 10 سنتات أخرى تمكينا لولديه من ملامسة هذه الخارقة دون أن يُحِير قولا ،
فأما جوزيه أوركاديو الابن الأكبر فقد رفض اللمس وأما أُوروليانو قفقد تقدم خطوة ووضع يده عليها ثم سحبها في الحال هاتفا : إنها تغلي .
ولكن جوزيه الأب الذي أسكرته هذه المعجزة قد نسي مشروعاته المحمومة وحزنه لفقد مالكويداس معلمه ومُشِيره الحكيم ،
ودفع 5 سنتات أخرى ووضع يده من جديد على الكتلة المتلألئة بخشوع وقداسة وهتف قائلا : هذا أعظم اختراع في زماننا ...


الفصل الثاني

كان سر اهتمام جوزيه آوُركاديو بوينديا هو حلم تَراءَىله ذات ليلة وهو في الطريق إلى ماكوندو لأول مرة ، عن مدينة جدرانها من المرايا ولم يستطع أن يفسر هذا الحلم إلا يوم اكتشف الثَلْج عند الغجر وقد بدا له أنه سوف يستطيع في المستقبل القريب صنْع قطع هائلة من الثلج على نطاق واسع من مادة عادية كالماء ، ومن الكُتَل تُبنى بيوت جديدة للقرية ، وهكذا لا تبقى ماكوندو مكانا يتلظىَ بالحرارة بل تتحول إلى مدينة تحتمل الحياة فيها ، وإذا كان لم يثابِر في في محاولاته لإقامة مصْنع ثَلْج فذلك لأنه كان في ذلك الحين منهمكا أشد الانهماك في تعليم ولدَيه خصوصا أُوروليانو الذي تعلق تعلقا شديدا بالكيمياء وقد عكف الاثنان فعلا على محاولة فصل بقايا ثروة اُوُرسلا الذهبية الملتسقة بقاع الإناء واستخلاص ما يمكن استخلاصه منها .
أما جوزيه آوُركاديو الابن الأكبر فقد عزف عن المشاركة في هذه المحاولة ، والواقع أن هذا الابن كان ذا إرادة وعزم وقد نما جسمه بصورة مفرطة حتى إذا بلغ سن المراهقة كان أقرب إلى صورة مارد ، وفي تلك الأيام ترددت على البيت امرأة عُرِفت ببالمرح والإثارة وطلاقة اللسان للمساعدة في أعمال المنزل ، وكانت تعرف قراءة الطالع بأوراق اللعب وقد حدثتها اُوُرسولا عن ولدها وعن خشيتها من حجمه المجاوز لسنه ،
فأطلقت المرأة ضحكة رنانة وقالت لها : بل بالعكس ، إنه سيكون سعيد الطالع .
ولكي تُثبِت المرأة نبوءتها جاءت إلى البيت بعد أيام قلائل ومعها أوراق كشف الطالع وأغلقت على نفسها مع الفتَى باب الغرفة الخلفية فكانت هذه الخلوة إيذانا بانقلاب خطير في أطواره وإذكاء لمشاعره العاطفية .
كانت هذه المرأة تُدعى بلارتارنيرا وكانت من أفراد الفريق الذي وفدَ مع جوزيه الأب لتأسيس ماكوندو ، جاءت بها أسرتها عنوة للتفريق بينها وبين الرجل الذي أغواها وهي في سن الرابعة ععشرة وظلت علاقتهما سرا حتى بلغت الثانية والعشرين دون أن يحسمها بالزواج ، فهل كان عجبا أن تجد هذه المرأة في جوزيه الابن خير عوض لها عما فقدته في ذلك العشيق الآبِق بل إنها تمادت في هذا إلى حد أنه أصبح يتسلَّل كل ليلة إلى بيتها في غفلة من أهله وأهلها .
وكان جوزيه الابن يجلس نهاره غارقا في ذكريات نشوته الجديدة حتى أنه لم يكد يفهم معنى لهذه الضجة التي شملت البيت كله فجأة ، عندما راح أبوه وأخوه الأصغر أُوروليانو يعلنان في بهجة غامرة نبأ نجاحهما في استخلاص ذهب اُوُرسولا من قاع الإناء وتنقيته مما علق به من شوائب .
وكانت اُوُرسولا سعيدة غاية السعادة بهذه النتيجة إلى حد أنها راحت تحمد الله من أجل اختراع الكيمياء ، وذهبت تقدم الحلوى والفاكهة لأهل القرية الذين توافدوا على الدار لمشاهدة هذه العجيبة ، وكان جوزيه الأب يريهم الذهب مُزْهرا وكأنه استنبطه من لا شيء ،
وفي النهاية وقف به أمام ابنه الأكبر الذي لم يكن يره في المعمل الكيميائي في الأيام الأخيرة إلا نادرا وسأله : كيف تراه ؟
فأجاب جوزيه الابن ببساطة : مثل براز كلاب .
فما كان من الأب إلا أن لَطَمه بظَهَر يده لطمة أسالت دمه ودموعه ، وفي تلك الليلة وضعت بلارتارنيرا كمادات فوق الورم وبذلت له حبها ما جعله يهمس في سمعها لئلا يسمعه أحد من أهلها وهما في غرفة نومها : أريد أن أكون معك وحدنا ، سيأتي يوم أقول فيه للناس ما بيننا وبعدها لا نحتاج إلى التستر ز\.
فقالت له دون أن تحاول صده : لو تم هذا لكان شيئا جميلا ، إذا أصبحنا وحدنا فسيكون بالإمكان أن نترك المصباح مُضاء لكي أراك وتراني بدل هذا الظلام من حولنا ، وسيكون لي أن أرفع الصوت وأصرخ دون أن يتدخل أحد ، وسيمكنك أن تقول لي علناً ما يخطر ببالك .
إن هذا الحوار الهمس وغضبه لما ناله من أبيه وتشوقه للإنطلاق في غرامه هذا إلى أبعد مدى كل هذا قد بثر فيه روح الجرأة حتى اندفع في لحظة عفوية إلى مكاشفة أخيه بكل شيء .
وأول الأمر لم يفهم أُوروليانو الصغير سوى فكرة المجازفة واحتمال الخطر الذي تعنيه مغامرة أخيه ، ولم يستطع أن يفهم الإثارة التي اشتملت عليها ، وشيئا فشيئا سرت إليه عدوى القلق وأصبح يتساءل في نفسه عن كنه الأخطار ويتلمس تفاصيل المعاناة والبهجة التي يتعرض لها أخوه حتى لقد جعل يسهر انتظارا لعودته حتى الفجر ، ولم يَطُل بهما الوقت حتى أصبحا يُكابِدان آثار السهر ويشتركان في العزوف عن الكيمياء وما يَبُث فيهما الأب من تعاليم وحكمة ، ولم يجدا ملاذا إلا في العزلة والانطواء .
وعندما فطنت اُوُرسولا إلى حالهما قالت : إن الولدين قد اختل عقلهما ، لابد أن عندهما ديدانا .
وبادرت فأعدت لهما شوربة كريهة أرغمتهما على تناولها حتى لقد تبرز كلاهما إحدى عشرة مرة في يوم واحد مفرزين طفيليات وردية اللون أبهجهما أن يرياها للجميع ، إذ هيأة لهما ذلك خداع اُوُرسولا وتحويل نظرها عن المصدر الحقيقي لاضطراب أحوالهما .
وفي الساعة الثانية من صباح يوم خميس في يناير وضعت اُوُرسولا الحامل في شهرها التاسع ابنتها أماراندا ، وعندما فحصتها الأم وهي وحدها وجدتها خفيفة مائية مثل وَرَل صغير ولكنها حمدت الله إذ كانت كل أعضائها بشرية ، كان هذا الخوف المتكرر من جانب الأُم عَقِب كل ولادة مرجعه إلى أسطورة مؤداها أن زواجا بين اثنين من أسلاف أسرتها وأسرة زوجها من الأقارب قد أنجب ولدا له ذيل خنزير ، وقد عاش متخفيا حتى سن الأربعين في ملابس فضفاضة إلى أن قطع قِصاب ذيله بِسِكّين فنزف حتى الموت .
ومهما يكن فإن أُوروليانو لم يلاحظ هذا الحدث الجديد إلا عندما امتلأ البيت بالناس فانتهز فرصة الهرج وخرج للبحث عن أخيه الذي لم يبت معه في الفراش منذ الساعة الحادية عشرة ، وكانت هذه الفكرة مفاجئة إذ لم يخطر بباله كيف يمكنه استدراج أخيه من غرفة بلارتارنيرا في بيت أهلها .
لقد راح يدور حول البيت مدى ساعات مُصَفِّرا بِنِداءات خاصة بهما إلى أن اضطره اقتراب الفجر إلى العودة إلى داره ، وفي غرفة النوم وجد جوزيه آوُركاديو يلعب بأخته الوليدَة وعلى وجهه دلائل التظاهر بالبراءة .
وما أن جاوزت اُوُرسولا فترة أربعينها حتى عاد الغجر إلى القرية في دورتهم السنوية وكانوا هم نفس المشعوذين والحُواة الذين جاءوا معهم بالثلج من قبل وقد أظهروا منذ البداية أنهم على عكس قَبيلة مالكويداس ، ليسوا رسل تَقَدُّم وإنما أعوان ترفيه وتسلية وكانت كل معروضاتهم وأدواتهم من هذا الطراز .
ولقد أمضى جوزيه آوُركاديو الابن وبلارتارنيرا أوقاتا بهيجة وهما يتفرجان على ألعاب الغجر إلى أن فاجأته بيلار ذات مرة بنبأ قلَبَ الدنيا فوق رأسه إذ قالت له : الآن أنت رجل فعلا .
ولما لم يفهم قصدها عاجلته قائلة : سوف تصبح أبا .
لم يَجْسُر جوزيه آوُركاديو الابن على مغادرة بيته على مدى أيام وكان يكفي أن يسمع ضحكة بيلار الرنانة في المطبخ لكي يهرب ويلجأ إلى المعمل الكيميائي حيث كانت تجارب أبيه تجري الآن على قدم وساق بمباركة من اُوُرسولا ، والواقع أن جوزيه آوُركاديو بوينديا الأب تلقى ابنه الآبق بالبهجة وأشركه معه في البحث عن حجر الفلاسفة وهي أحدث محاولاته ، ولكن على الرغم من تظاهر الابن بالاهتمام فإنه لم يفلح بالهروب من عنائه وأفضى به الأمر إلى فقْدِ الشهية ومجافاة النوم وانحاز إلى الاكتئاب والغم حتى أَعفاه أبوه من المساعدة في المعمل الكيميائي ظنا بأنه لا يجد القابلية لذلك ،
وقد فهم أُوروليانو بالطبع أن اكتئاب أخيه لا علاقة له بالبحث عن حجر الفلاسفة وإن كان لم يستطع أن يَنْفذ إلى دَخائله بعد أن آنس منه الصمت والانطواء والبُعد عن كل تبسم كما كان حاله في الماضي ، وذات ليلة عندما ثَقُلَت عليه الوحدة التي أصبح جوزيه آوُركاديو الابن يعانيها واشتدت نَقْمَتُه على الدنيا ومن فيها ترك فراشه كالمعتاد بيد أنه لم يذهب إلى بيت بلارتارنيرا وإنما يَمَّمَ شطر ملعب الغجر حيث راح يتفرج على العروض ويطوف بأرجاء الملعب على غير هدى إلى أن استرعت نظره فتاة غجرية صغيرة السن كانت مثقلة بالعقود ، وبدت في نظره أجمل امرأة في الدنيا ، وقد وقفت بين الجمع الذي كان يشاهد الرجل الذي تحول إلى أفعى لأنه عصى أبويه .
لم يعبأ جوزيه آوُركاديو بالعرض وشق طريقه إلى حيث وقفت الفتاة في الصف الأول فوقف عن كَثَب منها وأخذ يقترب منها إلى أن شعرت الفتاة باهتمامه بها وتبسمت له ، وفي النهاية صحبته إلى خيمتها حيث تبادلا القبلات والعناق .
كان ذلك يوم الخميس وفي ليلة السبت لف جوزيه آوُركاديو الابن منديلا أحمر حول رأسه وارتحل مع الغجر وعندما اكتشفت اُوُرسولا غيابه بحثت عنه في كل أنحاء القرية ، ولم يبق في الساحة التي أقام فيها الغجر سوى بقايا النيران الخابية .
وتطوع واحد من أهل القرية فقال لها : إنه كان هناك في الليلة الماضية وشاهد ابنها في الزحام يدفع العربة التي تحمل قفص الرجل الأفعى .
وصرخت الأُم لزوجها :لقد أصبح واحدا من الغجر .
فقال الأب الذي لم ينزعج لإختفاء ابنه وهو يَطْحن في الهاون مواده الكيميائية للمرة الألف : يا ليت هذا يكون صحيحا ، بهذه الطريقة سوف يتعلم كيف يصبح رجلا .
وراحت اُوُرسولا تسأل عن الطريق الذي سلكه الغجر في رحيلهم ظنا منها أنها تستطيع اللحاق بهم ، وتبعت هذا الطريق إلى أن ابتعدت عن القرية مساحة كبيرة لا تستطيع إيزاأها العودة ،
ولم يعرف جوزيه آوُركاديو بوينديا بغياب زوجته حتى كانت الساعة الثامنة ليلا فترك خلائطه الكيماوية تبرد وذهب لرؤية أماراندا الوليدة التي بُحَ صوتها من الصراخ ، وبعد ساعات جمع بضعة رجال مزودين بما يلزم وعَهِد بالمولودة إلى امرأة أبدت استعدادا لرعايتها ، وغاب عن الأنظار مع رفاقه في أثر للبحث عن اُوُرسولا ، وكان أُوروليانو معهم وأبلغهم بعض الصيادين الهنود بالإشارات وهم لا يفهمون لغتهم أنهم لم يشاهدوا أحدا يمر في الطريق الذي سلكوه .
وبعد ثلاثة أيام من البحث العقيم عادوا أدراجهم إلى القرية ، ومضت أسابيع غير قليلة أطلق فيه جوزيه الأب العنان لجزعه وفي خلال ذلك عكف على رعاية أماراندا الصغيرة كأم ، فكان يُحَمِّيها ويُلبِسُها وكان يدفع بها إلى المرضعة 4 مرات في اليوم ، بل جعل يغني لها في الليل الأغنيات التي لم تكن اُوُرسولا تعرف كيف تغنيها .
وفي أحدى المناسبات تطوعت بلارتارنيرا بالقيام بالأعمال البيتية إلى حين عودة اُوُرسولا ، وقد أحس أُوروليانو ببديهته التي شحذتها هذه البلوة أن هذه المرأة مسؤولة على نحو مبهم لم يستطع إدراكه عن سبب هروب أخيه وما تلاه من إختفاء أمه ، فبادرها بعداء صامت لا هوادة فيه حتى كفت المرأة عن الحضور إلى الدار .
وفجأة بعد 5 أشهر كاملة من اختفاء اُوُرسولا إذا هي تعود على غير انتظار .
جاءت في حالة ابتهاج ونضارة مرتدية ملابس من طراز جديد لم يكن معهودا في القرية .
ولم يكد جوزيه الأب يستطيع أن يقيم عوده من وطأة المفاجأة حتى صاح قائلا : هذا هو ما كنت أعتقده ، كنت أعرف أن هذا سيحدث .
وكان ذلك يقينه حقا ، ففي خلال عكوفه الطويل بين معادنه ومواده الكيميائية كان يدعو في أعماق نفسه أن تكون المعجزة المنتظرة ليس اكتشاف حجر الفلاسفة ولا استخلاص الروح الخفية التي تجعل المعادن تتبدل كأنما دبت بها حياة جديدة ولا القدرة على تحويل اقفال ومفاصلات الأبواب إلى ذهب ، بل تكون المعجزة هي ما حدث فعلا ، أي عودة اُوُرسولا .
بيد أن اُوُرسولا لم تشاطره انفعاله فقد منحته قبلة تقليدية وكأنها لم تغب أكثر من ساعة وقالت له : انظر إلى خارج الباب .
والحق أن جوزيه لبث فترة في حيرته قبل ما خرج إلى الشارع وشاهد الجمع المحتشد .
لم يكونوا من الغجر بل كانوا رجالا ونساءً مثلهم ، ذوي شعور مستقيمة وبشرة سمراء يتكلمون نفس اللغة ويشكون من نفس الآلام ، وكانت معهم بغال محملة بمأكولات وعربات تجرها الثيران تحمل أثاثا وأدوات منزلية وأخرى معدىة للبيع يعرضها أُناس ببساطة دونما جلبة ولا ضجيج .
لقد جاءوا مما وراء أقْليم المستنقعات الشاسعة على مبعدة يومين لا أكثر ، حيث كان هناك بلدان تتلقى البريد كل شهر من شهور السنة وحيث يعرفون وسائل العيش التي تجعل الحياة طيبة مُيَسَّرة .
إن اُوُرسولا لم تستطع أن تلحق بالغجر لكنها وجدت الطريق إلى الحضارة الذي عجز زوجها عن اكتشافه في بحثه الحاذق عن المكتشفات الكبرى ...


الفصل الثالث

جيء بابن بَلارتارنيرا إلى بيت جدَيه بعد أسبوعين من مولده ، وقد تقبلته اُوُرسولا كارهة مغلوبة على أمرها مرة أخرى إزاء عناد زوجها الذي لم يحتمل فكرة تشرد سليل من دمه ، ولكنه اشترط ألا يعرف الطفل بأي حال هويته الحقيقية ، وعلى الرغم من أنهم سموه جوزيه آوُركاديو إلا أنهم انتهوا بتسميته آوُركاديو تجنبا للخلط والاتباس .
وفي ذلك الحين حدث نشاط كبير في البلدة ومشاغل كثيرة في البيت إلى حد أن رعاية الأطفال عُهِد بها الى امرأة هندية من قَبيلة جواجيرو كانت قد وفدت على البلدة مع أخ لها هربا من مرض وبائي هو الأرق الدائم ، كان قد تفشى في القبيلة منذ سنوات عديدة ، وقد عُرِف الاثنان بالوداعة والدماثة حتى لقد استعانت بهما اُوُرسولا بالمساعدة في الأعمال المنزلية ، وكان ذلك هو السبب أن آوُركاديو وأماراندا الصغيرين قد عرفا كيف يتكلمان لغة جواجيرو قبل اللغة الأسبانية وتعلما شرب حساء السحالي وأكل بيض العناكب دون أن تعرف اُوُرسولا هذا إذ إنها أصبحت مشغولة إلى حد كبير بعملية ناجحة تبشر بالربح هي صنع الحيوانات من الحلوى ، ذلك أن بلدة ماكوندو قد تغيرت ، فإن الوافدين الجدد مع اُوُرسولا راحوا يعلنون أنباء سارة عن خصوبة أرضها وعن موقعها الممتاز بالنسبة للمستنقعات المجاورة ، وهكذا تحولت القرية الضيقة إلى بلدة ناشطة قامت فيها المتاجر والمصانع الصغيرة ، وامتد منها طريق تجاري أصبح يفد منه التجار العرب بشتى السلع ، وفي خلال ذلك لم يجد جوزيه آوُركاديو بوينديا مجالا للراحة والدعة ، فعندما بهره الواقع الملموس كف عن تخيلاته الواسعة ونفض يديه من ترهات المعمل الكيميائي وعاد مرة أخرى إلى طبيعته السالفة كمخطط للعمران في البلدة ، وأصبح حجة لدى القادمين الجدد بحيث لا توضع أُسس ولا تُقام جدران إلا بمشورته ، وتقرر في النهاية أن يكون المشرف على توزيع الأراضي .
وفيما كان الأب منصرفا إلى تنظيم البلدة والأم منهمكة في زيادة دخل الأُسرة من خلال صنع الأسماك والحيوانات من الحلوى كان أُوروليانو يمضي الساعات الطوال في المعمل المهجور يتعلم صناعة طلاء المعادن بطريقته الخاصة حتى برع في ذلك ، ومع أن انتقاله الى طور المراهقة أكسبه صلابة وحصانة وانحيازا إلى الصمت والاعتكاف والعزلة ، إلا أنه شحذ فيه تلك الخاصة التي وُلِد بها وهي حدة البصر التي بلغت درجة البصيرة والقدرة على التنبؤ ، وذات يوم أذهل أمه بقوله على غير انتظار : هناك قادم جديد سيأتي إلينا .
وفعلا لم يحل يوم الأحد إلا وقد جاءت روبيكا ،
لم يكن سنها يتجاوز أحد عشر عاما وقد جاء بها بعد رحلة طويلة شاقة من بلدة مانور بعض تجار الجلود الذين عُهِد إليهم بتسليمها إلى جوزيه آوُركاديو بوينديا مصحوبة برسالة قال فيها مرسلها : إنه لايزال يُكِّنُّ له المحبة رغم تباعد المسافة والظروف وإنه أخذ على عاتقه هذا الواجب الخيري الإنساني وهو تسليم الطفلة اليتيمة المسكينة التي هي من سلالة أُسرة اُوُرسولا وجوزيه إليهما إكراما لذكرى والديها المرحومين نيكانور أورلوس وروبيكا مونتيل اللذين وضعت عظامهما في الصندوق المرافق للطفلة توطئة لدفنها في مثوى قريب من مقامها الجديد .
وفي الحق ما من أحد من الزوجين جوزيه اُوُرسولا عرف مرسل الرسالة ولا أبوَي الطفلة تلك التي انزوت منذ مَقْدَمِها في كرسيها الهزاز الصغير تمتص أصبعها وتتفرس فيهم جميعا بعينيها الواسعتين المجفلتين دون أن تبدي أدنى إشارة تنم عن فهم لما يقال لها ، وكانت تبدو معتلة الصحة وعليها علائم جوع أقدم من سنها ، وعندما قدموا إليها طعاما تركت الطبق فوق ركبتيها دون أن تتذوق منه شيئا ، بل بدا لهم أنها ربما كانت صماء بكماء إلى أن جاءت الهندية وسألتها بلغتها إن كانت تريد ماءً ، فحركت عينيها كأنما عرفتها وأجابت نعم برأسها .
لقد احتفظوا بالطفلة إذ لم يكن هناك ما يفعلونه غير ذلك وأطلقوا عليها اسم روبيكا أخذاباسم أمها .
ومضت فترة طويلة قبل ما اندمجت روبيكا في حياة الأُسرى ولم يستطيعوا حملها على الأكل أياما متعاقبة حتى عجبوا كيف لم تمت من الجوع وهي كذلك إلى أن فاجأها الهنديان وهي تأكل التربة الرطبة ومصيص الحوئط الأبيض تحتفره بأظافرها .
لقد أثارت هذه الظاهرة الشاذة فزع الأُسرة بيد أن اُوُرسولا لم تخلد الى اليأس ، ولم تزل بالطفلة تارة بالترغيب وتارة بالترهيب الى حد الضرب حتى حملتها على العدول عن ذلك وأصبحت في النهاية تأكل الطعام العادي مع الصغيرين أماراندا وآوُركاديو وتشاطرهما النوم في نفس الحجرة وتبين بعد ذلك أنها تتكلم الإسبانية بنفس الطلاقة التي تتكلم بها الهندية .
وتتعاقب الشهور الأعوام والأُسرة ماضية في حياتها ، الأب لا يكف عن نشاطه الدائب في التخطيط والابتكار ، والأُم منهمكة في صنع تماثيل الحلوى التي تدر على الأُسرة دخلا وفيرا ، والابن أُوروليانو يزيد براعة في فن طلاء المعادن وصنع المشغولات الفضية والذهبية مستهدفا لعناء المراهقة مارا بتجارب أليمة زادته انطواءً واعتزالا لما يهفو إليه إضرابه في مثل هذا الطور .
وتفتح اُوُرسولا عينيها ذات يوم وهي تصنع تماثيلها المُحلاة فيسترعي نظرها مشهد فتاتين جميلتين في سن المراهقة جالستين في الفناء منهمكتين في شغل الإبرة حتى بدا لها لأول وهلة أنها لا تعرفهما .
كانت إحداهما روبيكا وهي أحلاهما على غير ما كان يُتَوَقَع ، نضرة البشرة واسعة العينين المفعمتين بالسكينة بارعة اليدين في التطريز ، أما أصغرهما فكانت أماراندا رشيقة إلى حد ما متميزة بملامح أسرتها ، وعن كثب منهما جلس آوُركاديو الصغير الذي وإن كان ينحو إلى سرعة النمو مثل أبيه الآبق إلا أنه بدا كطفل بجانب الفتاتين ، وكان قد بدأ يتعلم فن المشغولات الفضية على يد عمه أُوروليانو الذي علمه القراءة والكتابة أيضا ، وهنا أدركت اُوُرسولا فجأة أن البيت قد أصبح مملوءً بالأبناء وأن هؤلاء الأبناء سوف يتزوجون حتما وينجبون أطفالا وأنهم سيضطرون الى التفرق لضيق البيت ، وهكذا عمدت الى نقودها التي تراكمت على مدار سِني العمل الدائب فأخرجتها للعمل على توسيع البيت ، وتولت بنفسها الإشراف على هذه العملية ، وفي النهاية قام في مكان البيت البدائي أكبر بيت في البلدة كلها ، بل وفي منطقة المستنقعات بأسرها مشتملا على تسع غرف نوم وحجرة استقبال كبرى للزائرين وقاعة للطعام تسع 12 مقعدا صُفَّت حول المائدة الكبيرة ومدخل مسقوف يقي من حرارة الشمس وتحف به اُص الأزهار وكرار كبير تُختَزَن فيه المؤونة الكافية وحمامين في الفناء أحدهما للرجال والثاني للنساء واسطبل كبير وحضيرة للدجاج وأخرى لبقر حلب اللبن ،
وقد أوشك بناء هذا الصرح على التمام عندما استدرجت اُوُرسولا زوجها من عالمه التخيلي لكي تبلغه أنها تلقت أمرا بطلاء الواجهة باللون الأزرق بدلا من الأبيض كما كانوا يريدون وأطلعته على الوثيقة الرسمية التي جاءت ، وقبل أن يفهم جوزيه آوُركاديو بوينديا ما قالته زوجته فك طلاسم التوقيع وسألها : من يكون هذا الشخص ؟
فأجابت اُوُرسولا في مضض : يقولون أنه من رجال السلطة وموفد من الحكومة .
كان دون أُوبولينارموسكوت القاضي قد وصل إلى ماكوندو بهدوء ونزل في فندق يعقوب الذي بناه أحد العرب الوافدين للتجارة ، وفي اليوم التالي استأجر غرفة صغيرة ذات باب يطل على الشارع على بُعد مربعين سكنيين من بيت مطلة بوينديا ، وقد وضع منضدة ومقعدا جاء بهما من عند يعقوب وثبت على الحائط شعار الجمهورية الذي جاء به معه ، وطلى على الباب كلمة القاضي ، وكان أول أمر أصدره هو وجوب طلاء جميع البيوت باللون الأزرق احتفالا بالذكرى السنوية للاستقلال الوطني .
ولما ذهب إليه جوزيه آوُركاديو بوينديا وبيده صورة من الأمر ، وجده ناعسا في أرجوحة نصبها في المكتب الصغير ،
فبادره قائلا : هل كتبت هذه الورقة ؟
كان دون أُوبولينارموسكوت رجلا مكتملا حَيِّياً مورد الوجه ، وقد رد بالإيجاب .
فسأله جوزيه : بأي حق ؟
فالتقط دون أُوبولينارموسكوت ورقة من درج المنضدة وأراه إياها قائلا : إنني عُيِّنْت قاضياَ لهذه البلدة .
فلم ينظر جوزيه آوُركاديو بوينديا حتى الى أمر التعيين ،
وقال دون أن يفقد هدوءه : نحن في هذه البلدة لا نُعطى أوامرا بِقِطَعٍ من الورق ، ولكي تعرف للمرة الأولى والأخيرة نحن هنا لا نحتاج إلى قضاة إذ لا يوجد ما يحوجنا الى التقاضي .
ووقف جوزيه في مواجهة دون أُوبولينارموسكوت وأنشأ يشرح له بالتفصيل ودون أن يرفع صوته حتى الآن كيف أَسسوا القرية وكيف وزعوا وشقوا الطرق وأدخلوا التحسينات التي اقتضتها الضرورة دون أن يعملوا على إزعاج الحكومة ودون أن يعمل أحد على إزعاجهم ،
واستطرد يقول : نحن أناس مسالمون جدا ، حتى إنه لم يمت بيننا أحد ولو موتا طبيعيا ، ولك أن ترى أنه ليست عندنا حتى الآن مَدافن ، ولم يتذمر أحد يوما ما لأن الحكومة لم تساعدنا بل بالعكس كنا جميعا سعداء لأنها تركتنا نتقدم في سلام والأمل معقود على أن تتركنا هكذا لأننا لم نؤسس هذه البلدة لكي يأتي أي مُدَّعٍ ويقول لنا ماذا نفعل .
وفي خلال ذلك ارتدى سترته البيضاء مثل بنطلونه دون أن يفقد في أي لحظة رشاقة حركاته .
بينما اختتم جوزيه آوُركاديو بوينديا كلامه قائلا : وهكذا إن أردت أن تبقى هنا مثل أي مواطن عادي فعلى الرحب والسعة لكن إذا كنت جئت كي تثير المتاعب بإجبار الناس على طلاء بيوتهم باللون الأزرق فلك أن تأخذ عزالك وتعود إلى حيث جئت ذلك لأن بيتي سوف يُطلى باللون الأبيض مثل الحمام .
والحق أن دون أُوبولينار موسكوت شحب وجهه وتراجع خطوة الى الوراء وقال وهو يضغط على فكيه : لابد أن أحذرك أنني مسلح .
ولم يدرِ جوزيه آوُركاديو بوينديا متى استردت يداه القوة التي كان يجبر بها الحصان على الركوع أرضا فقد جذب دون أُوبولينار موسكوت من طَيَتَي صدر السُّترة ورفعه الى مستوى عينيه قائلا : إنني أفعل هذا لأنني أفضل أن أحملك هكذا حيا بدلا من أن أطوف بك ميتا فيلازمني شبحك طول حياتي .
وعلى هذه الصورة حمله إلى وسط الشارع معلقا من طيتي السُّترة الى أن أنزله على قدمَيه في الطريق المؤدي الى المستنقعات .
وبعد أسبوع عاد دون أُوبولينار موسكوت برفقة ستة جنود حفاة مهلهلين ومسلحين ببنادق مزدوجة قصيرة تصحبهم مرْكبة تجرها الثيران حملت زوجته وسبع بنات وجاءت فيما بعد مركبتان أخريان تحملان الأثاث والأمتعة والأدوات المنزلية ، وقد أنزل أسرته في فندق يعقوب ريثما يجد مسْكنا للأسرة ، وعاد لفتح مكتبه تحت حماية الجنود .
إن مؤسسي ماكوندو الذين عقدوا العزم على طرد الغزاة ذهبوا مع أبنائهم الكبار لكي يضعوا أنفسهم تحت إمرة جوزيه آوُركاديو بوينديا بيد أنه كان ضد هذا الاتجاه ، فقد بَيَّن لهم أنه ليس من الرجولة أن يثيروا المتاعب لأي شخص أمام أسرته بعد أن عاد دون أُوبولينار موسكوت مع زوجته وبناته ، وهكذا حسم الموقف بهذا الأسلوب الحميد .
وذهب معهم أورليان ، وفي ذلك الحين كان قد بدأ يفتل شاربه الأسود بالشمع وغدا له صوت جهوري ، كان مقدرا أن يكون طابعه المميز وفي في الحرب .
ودخلوا الى مكتب القاضي بغير سلاح غير عابئين بالحرس فلم يفقد دون أُوبولينار موسكوت رباطته وهدوءه وقدمهم الى اثنتين من بناته كانتا موجودتين آنذاك ، أنبارو البالغة من العمر 16 عاما السمراء مثل أمها ، التي لم تزد عن التاسعة من عمرها ، وكانت صبية وافرة المَلاحة ذات بشرة زئبقية وعينين خضراوين ، وكانت كلتاهما موفورة الأدب .
وحالما دخل الرجال وقبل التعارف قدمتا إليهم مقاعد للجلوس ولزمتاهما الوقوف .
وقال جوزيه آوُركاديو بوينديا حسنا جدا صديقي لك أن تبقى هنا ، لا لأن معك قُطّاع الطرق هؤلاء الواقفين في الباب المسلحين بالبنادق ، ولكن مراعاة لزوجتك وبناتك .
لقد بدا دون أُوبولينار موسكوت منزعجا بيد أن جوزيه آوُركاديو بوينديا لم يدع له وقتا للرد واستطرد قائلا : هناك شرطان لنا فقط ، الأول أن يكون لكل واحد أن يطلي بيته باللون الذي يفضله ، والثاني أن يرحل الجنود في الحال ، إننا سنضمن لك استتباب النظام والأمن .
فرفع القاضي يمناه مبسوطة أصابعه الخمس قائلا : بكلمة شرف منك ؟
فأجاب جوزيه آوُركاديو بوينديا : كلمة شرف من عدوك .
وأردف بلهجة المرارة : لأني لابد أن أقول لك شيئا واحدا ، فأنت وأنا مازلنا عدوين .
وارتحل الجنود في نفس اليوم .
وبعد أيام قلائل وجد جوزيه آوُركاديو بوينديا بيتا للقاضي وأسرته ، وسادت السكينة كل إنسان فيما عدا أُوروليانو فإن صورة ريميديوس صُغرى بنات القاضي ظلت تطالعه وتثير ألمه على نحو ما رغم صغر سنها بالنسبة إليه ، كان ألما حِسيا يضايقه كَمَن يمشي وفي حذائه حصا ...


الفصل الرابع

أقيمت في البيت الكبير المجدد حفلة راقصة كبرى على نغمات البيانولا دُعِيَ إليها مؤسسو ماكوندو وأبناؤهم ، وكان نجْمُها هو الشاب الإيطالي الوسيم بيترو كرِيسبِيمندوب المتجر مُوَرِّد الآلة الموسيقية الجديدة الذي أوفِدَ للإشراف على إدارتها وتدريب الراقصين ، وكانت رفيقته في الرقص روبيكا التي أبدت براعة أثارت إعجابه حتى وعد أن يلقنها مزيدا من فنون الرقص في زيارته القادمة للبلدة .
وذات يوم جاءت أنبارو كبرى بنات القاضي لزيارة البيت الكبير ومشاهدة ما ازدان به من أثاث وتحف فاستقبلتها اُوُرسولا بالترحاب ثم عهدت بها إلى أماراندا وروبيكا بالطواف معها في أرجاء البيت ، وعند انتهاء الزيارة انتهزت أنبارو فرصة انشغال أماراندا ودست بيد روبيكا رسالة سارعت الفتاة في إخفائها في صدرها إلى أن صارت وحدها فوجدتها من بيترو كرِيسبِي الوسيم يبثها فيها مشاعر الإعجاب ويُثني على براعتها في الرقص ويعد بزيارة قريبة ،
والواقع إن هذه الصداقة المفاجئة بين أنبارو وروبيكا أنعشت آمال أُوروليانو فإن ذكرى ريميديوس الصغيرة ما فتئت تعذبه بيد أنه لم يجد الفرصة المناسبة لرؤيتها ، وهكذا كان ظهور أختها أنبارو في البيت مقدمة طيبة لحضورها معها في زيارة أخرى ، واستقر في نفسه خاطر يقيني في ذلك ظل يراوده حينا إلى أن سمع صوتها الطفولي عصر يوم لدى باب المعمل الكيميائي ، وعندما رفع نظره شعر أن قلبه يتجمد حين أبصرها في فستان وردي وحذاء مرتفع أبيض وأختها أنبارو تقول لها : لا يمكنك الدخول إلى المعمل يا ريمديوس ، إنهم يشتغلون
لكن أُوروليانو لم يدع لها وقتا للرد فقد نهض وبيده سلسلة تدلت منها سمكة ذهبية وقال لها : تفضلي بالدخول .
فدخلت ريميديوس ووجهت إليه أسئلة عن السمكة الذهبية .
بيد أن لسانه انعقد فجأة عن الرد وكلما استطاع أن يقوله في النهاية هو أنه سيهديها السمكة الصغيرة ، لكن الصبية أجفلت لهذا العرض وأسرعت بالانسحاب من المعمل .
في نفس هذا اليوم فقدَ أُوروليانو صبره الدفين وأهمل عمله وراح يبحث عنها في كل مكان ترتاده ولو في نافذة بيتها لكن مساعيه ذهبت سدى ولم تطالعه صورتها إلا في خياله ووحدته الأليمة وأصبح يمضي ساعات كاملة مع روبيكا يستمعان إلى عزف البيانولا ، هي لأن الموسيقى تذكرها بالشاب الإيطالي الوسيم بيترو كرِيسبِي الذي علمها الرقص ، وأُوروليانو لأن كل شيء حتى الموسيقى كانت تذكره بريميديوس .
فأما روبيكا فقد أمرضها طول انتظار الحبيب الذي تأخر عن موعده حتى رقدت طريحة الفراش .
وكان أُوروليانو وحده هو الذي فهم سرها الحقيقي إذ يكابد تباريح الهوى .
وفي غمرة حيرته ذهب مع بعض أصحابه إلى مشرب كتارينو ، وكان يضم ملحقا من غرف خشبية تقيم به نساء وحيدات وتعزف فيه الموسيقى .
وشرب الرفاق عصير قصب مخمر بصحبة النساء وداعبت إحداهن وكانت عجفاء مذهبة الأسنان أُوروليانو ولكن مداعبتها جعلته يرتعد حتى صد عنها ، وما لبث اكتشف أنه كلما شرب زاد تفكيره في ريميديوس وإن صار أقدر على احتمال عذاب ذكرياته .
ولم يدر بالضبط متى بدأ رأسه يدور ورأى أصحابه والنساء يسبحون جميعا في ضياء باهر دون وزن لهم ولا كتلة مرسلين كلاما لا يخرج من أفواههم ومبدين إشارات خفية لا تتطابق مع كلامهم وعندئذٍ وضع كتارينو يده على كتفه وقال له : الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلا .
وأدار أُوروليانو رأسه فرأى وجه كتارينو ضخما مشوها وقد رشق وردة صناعية خلف أذنه وعندئذٍ فقدَ ذاكرته تماما ، ولما استعادها وجد نفسه في غرفة غريبة عنه وفيها وقفت بَيلارتارنيرا أمامه بقميص نومها وهي حافية القدمين مرسلة الشعر رافعة مصباحا فوق رأسه تبدو عليها إمارات الانزعاج وعدم التصديق .
وهتفت : أُوروليانو .
ضغط أُوروليانو قدميه ورفع رأسه إنه لم يدرِ كيف جاء إلى هنا ، ولكنه وعرف مقصده وهو مقصد كان مخبوءً في داخله منذ الصغر .
وقد رد عليها قائلا : جئت لأني أريدك .
كانت ملابسه ملطخة بالوحل والقيء ، فجعلت تنظفه وهي تغمغم قائلة : يا طفلي المسكين .
وعندما أفاق من غمرات نَشوته وجد نفسه يبكي ، فانتظرت المرأة المجربة حتى فرغ من ذلك النحيب الذي هز وجدانه .
وقالت له بهدوء : من هي ؟
فأخبرها أُوروليانو فأطلقت ضحكة خافتة وقالت متهكمة : لابد أن تربيها أولا الى أن تكبر .
ولكن من ثَنايا الضحكة استشَفَّ أُوروليانو فَهْما عميقا ،
وعندما انصرف من غرفتها بعد أن انزاح من صدره ذلك الهَمّ المرير الذي أثقله طيلة الأشهر الماضية وعدته بَيلارتارنيرا قائلة : سأتكلم مع البُنَيَّة وستعرف ماذا يمكنني أن أفعل ، وقد بَرَّت بوعدها ولكنها اختارت وقتا عصيبا إذ كان البيت فقدَ ما كان يرفرف عليه من سكينة في الأيام الماضية ،
ذلك أن أماراندا عندما اكتشفت سر روبيكا العاطفي وكان محالا أن يبقى طي الكتمان أصيبت هي الأخرى بحُمّا نتيجة غرام لا عزائ فيه ،
وأصبحت اُوُرسولا لا تكاد تجد القوة لرعاية الفتاتين العَليلتين ولم تستطع رغم طول الاستجواب أن تتحقق من أسباب علة أماراندا .
وفي النهاية وبما يشبه الإلهام عثرت في صندوق أمتعة روبيكا على حفنة من الرسائل بللتها روبيكا بِدُموعها وعطرتها بالورود ولكنها لم ترسلها إلى الإيطالي بيترو كرِسبي ، فلم تتمالك اُوُرسولا وهي تبكي غضبا أن لعنَت اليوم الذي بدا لها فيه أن تطلب شراء البيانولا ، وأصدرت أمرها بمنع الدروس وأعلنت لونا من الحداد في البيت الى أن تتبخر آمال الفتاتين ولم تفلح وساطة جوزيه آوُركاديو بوينديا الأب الذي أُعْجِبَ ببراعة بيترو كرِيسبِيبإدارة البيانولا في تخفيف التََأَزُّم .
وهكذا رأة أُوروليانو عندما أخبرته بَيلارتارنيرا أن ريميديوس قد قبلته زوجا لها أن هذا النبأ سيؤدي الى زيادة متاعب والديه .
والواقع أن الأب ما كاد يسمع باسم الخطيبة المرشحة حتى احمر وجهه اهتياجا وصاح هادرا : الحب مرض ، ورغم وجود الكثير من البنات الجميلات والمهذبات حوالينا ، فالشيء الوحيد الذي يخطر لك هو الزواج من ابنة عدُوِّنا ؟
بيد أن اُوُرسولا قد وافقت على هذا الاختيار وراحت تُطْنِب في شمائل بنات القاضي موسكوت السبع وأطرت سداد رأي ابنها ،
فلم يجد جوزيه آوُركاديو بوينديا إزاء تحمس زوجته سوى النزول عند رأيها بشرط واحد هو أن تتزوج روبيكا بيترو كرِسبي وأن تصحب اُوُرسولا ابنتها أماراندا في رحلة الى عاصمة المقاطعة عندما يسمح الوقت لكي يؤدي الاختلاط بالناس من تخفيف خيبة أملها .
ولم تلبث روبيكا أن استردت صحتها حالما علمت بهذا الاتفاق وسَطَّرت الى خطيبها رسالة حارة بعد موافقة والديها وأرسلتها بالبريد دون حاجة إلى وسطاء ، وقد تظاهرت أماراندا بقبول القرار وتماثلت إلى الشفاء رويدا رويدا ولكنه نذرت في نفسها ألا يتم زواج روبيكا إلا على جثتها .
وفي يوم السبت التالي ارتدى جوزيه آوُركاديو بوينديا أحسن ملابسه وذهب لطلب يد ريميديوس موسكوت ، فاستقبله القاضي وزوجته بالترحاب والقلق معا إذ لم يكونا يعرفان سبب الزيارة المفاجئة ، ثم بدا لهما بعد ذلك ربما كان مخطئا في اسم العروس المطلوبة ، وإزالة لكل لَبْس ذهبت الأُم لإقاظ ريميديوس من نومها وأتت بها إلى غرفة الجلوس وآثار النوم لم تفارقها وقد سَأَلَتْها إن كانت قد قررت الزواج ؟
فردت منتحبة بأنهت لا تريد سوى أن يتركوها لتنام .
ولما أدرك جوزيه آوُركاديو بوينديا حالة الاضطراب التي بدت له من الأبوينعاد أدراجه لاستجلاء الحقيقة من أُوروليانو ، وعند رجوعه وجد الأبوين قد ارتديا الملابس الرسمية ورتبا الأثاث وغيَّرا الزهور في أوعيتها وجلسا ينتظران بصحبة بناتهما الأكبر ، ورغم إحساس جوزيه آوُركاديو بوينديا بحرج الموقف فقد أكد أن ريميديوس هي التي وقع عليها الاختيار حقا .
وعندئذٍ قال أُوبولينار موسكوت بلهجة الجزع : هذا شيء غير معقول ، عندنا ست بنات أخريات وكلهن غير متزوجات سنهن تؤهلهن لذلك تماما ويشرف كل واحدة منهن أن تكون زوجة لسيد محترم مُجِدّ مثل ابنك ، ومع ذلك فإن أُوروليانو لا يضع نظره إلا على البنت التي لا تزال تبلل فراشها .
بيد أن زوجته سارعت بالاعتذار عن هفوته ، وبعد أن فرغوا من تناول الفاكهة أعربوا عن قبول قرار أُوروليانو عن طيب خاطر مصحوبا بِرَجاء من الأُم أن تجتمع اُوُرسولا على انفراد ، فلم تمانع اُوُرسولا فذهبت إلى بيت القاضي في اليوم التالي ، وبعد نصف ساعة عادت لتقول أن ريميديوس لم تبلغ الحُلُم بعد .
بيد أن أُوروليانو لم يجد في هذا عائقا خطيرا فقد انتظر أمدا طويلا الى حد يستطيع أن ينتظر حتى تبلغ عروسه مرحلة القدرة على الإنجاب .
ونعود إلى أماراندا فقد وجدت أخيرا فرصتها التي كانت تتحينها لمكاشفة الشاب الإيطالي الوسيم بيترو كرِسبي بحبها الدفين الذي بر بوعده لروبيكا وحل بالبلدة حيث افتتح محلا لبيع الآلات الموسيقية واللعب الميكانيكية في حي التجار الشرقي ، والواقع أن الشاب الوسيم الذي كان مَرْآه يثير تنهدات النساء تلقى اعتراف أماراندا على أنه نزوة عابرة لصبِية لا يُأخَذ كلامها مأخذ الجد ،
حيث قال لها : لي أخ صغير وسيحضر لمساعدتي في المحل .
لقد شعرت أماراندا بالمهانة وقالت لِبيترو كرِيسبِي في غضب شديد إنها على استعداد لمنع زواج أختها حتى ولو كان الثمن هو ارتماء جثتها على الباب .
والواقع أن الشاب الإيطالي تأثر بهذا التهديد الدرامي الى حد أنه لم يستطع مقاومة إغراء ذِكْر الواقعة لروبيكا ، ونتيجة لهذا فإن رحلة أماراندا التي كانت اُوُرسولا تعمل على تأجيلها تم أمر ترتيبها في أقل من أسبوع ، ولم تُبْدِ أماراندا أي مقاومة بيد أنها عندما ودعت روبيكا مُقَبِّلَةً همست في أذنها قائلة : لا تطلقي العنان لآمالك حتى لو أبعدوني الى أطراف الدنيا فسوف أجد طريقة لمنع زواجك حتى لو كان لابد لي من قتلك .
وبغياب اُوُرسولا عن البيت بدا وكأنه خاوٍ على عروشه ، وقد تكفلت روبيكا بالإشراف على تصريف الشؤون المنزلية بينما تولت المرأة الهندية أعمال المَخْبَز .
وعندما كان بيترو كرِيسبِي يأتي لزيارة خطيبته عند الغروب كانت روبيكا تستقبله في الصالون الرئيسي مع فتح الأبواب والنوفذ دفعا لكل الظنون ، ولم يكن هذا التحوط لازما لأن الشاب الإيطالي كان يسلك مسلك الاحترام في تصرفاته الى حد أنه لم يكن يلمس يد المرأة التي ستغدو زوجته في غضون العام .
والواقع أن هذه الزيارات ملأت البيت بالكثير من اللعب الميكانيكية المتنوعة الأشكال والغريبة التصميمات الى حد أن جوزيه آوُركاديو بوينديا الأب وجد فيها تسلية كبرة إذ عاد الى أيامه الأولى في المعمل الكيميائي عاكفا على فكها وتركيبها لكي يضيف إليها نظاما جديدا يجعلها في حركة دائمة على نسق بندول الساعة ، وقد امتد التأثير الى أُوروليانو الذي أهمل عمله في المشغولات المعدنية وتفرغ لتعليم ريميديوس القراءة والكتابة ، وكانت الصبِية تقابل هذا بالنفور أول الأمر مفضلة التفرغ لألعابها بيد أن صبر أُوروليانو ومثابرته اكتسباها آخِر الأمر الى جانبه حتى أصبحت له في النهاية أطوع له من بنانه .
وكانت روبيكا وحدها هي التي تعاني القلق والتوجس بسبب نقمة أماراندا عليها وتهديداتها الغريبة والتماسا منها لما يخفف معاناتها فقد سعت الى بَيلارتارنيرا لتقرأ لها الطالع فتنبأت لها بعد سلسلة من المقدمات التقليدية قائلة : لن تعرفي السعادة طالما أن عظام أبويك لم تُدفَن .
ارتعدت روبيكا وقالت : لستُ أفهم .
فبدت بَيلارتارنيرا غير مبالية وقالت : ولا أنا ، ولكن هذا ما تقوله الأوراق .
لقد انشغل بال روبيكا واشتد انشغالها بهذا اللغز حتى أطلعت جوزيه آوُركاديو بوينديا على الخبر ، فما كان منه إلا أن زجرها لتصديقها مثل هذه النبوءات ولكنه مع ذلك انهمك صامتا في البحث في كل موضع عن كيس العظام الذي جيء به مع روبيكا وهي بعد طفلة لا تدرك شيئا ، وتذكر أنه لم يره منذ اضطلعوا بتجديد البيت ، فاتصل بالبَنّائين فأخبره أحدهم بأنه وضع الكيس داخل أحد الحوائط تخلصا من مضايقة وجوده عثرة في عمليات الترميم والبناء .
وبعد أيام من التسمع والدق على الجدران أمكن في النهاية تحديد المكان فنقبوا الحائط واستخرجوا كيس العظام ودفنوها في نفس اليوم في قبر بلا شاهد .
وعاد جوزيه آوُركاديو بوينديا في نفس اليوم وقد انزاح عنه عبء شديد أثقل ضميره ودخل على روبيكا مبتهجا وقبلها قائلا : اطردي تلك الأفكار السيئة من رأسك سوف تكونين من أهل السعادة .
إن الصداقة التي نشأت بين روبيكا بَيلارتارنيرا قد فتحت أمام هذه الأخيرة باب البيت الذي أغلقته اُوُرسولا بسبب مولد أوركاديو ووقبوله في عداد الأُسرة كما تقدم ، وهكذا أصبحت تتردد على البيت في أي ساعة وتطلق نشاطها المحموم في أشق الأعمال وأحيانا كانت تدخل المعمل وتساعد أوركاديو ابنها في تحميض الصور المطبوعة على المعادن بمقدرة وحنو كانا يثيران ارتباكه وعجبه من مسلكها حياله ، بل إن أنفاسها عن كثب وضحكاتها الغريبة في الغرفة المظلمة كانت تشتت باله وتنال من ضبطه للعمل ،
وفي إحدى المناسبات كان أُوروليانو في المعمل لإتمام بعض المشغولات الفضية فاتكأت بَيلارتارنيرا على المنضدة مبدية إعجابها بدأْبَه وصبره وفجأة لمع في خاطره ذلك الوميض الذي يُنْبئ بشيء قريب ، وقبل أن يرفع عينيه لملاقاة عينَي بَيلارتارنيرا استوثق من وجود أوركاديو في الغرفة المظلمة للتحميض تأهبا لاستقراء الخاطرة التي لمحها في عينَي بَيلارتارنيرا واضحة كالشمس في عين النهار ثم سألها : حسناً ، قولي ما عندك ؟
فعضت بَيلارتارنيرا على شفتها بابتسامة محزونة وقالت : إنك ستكون مُبْرَزا في الحرب أينما تلقي نظرك تصيب رصاصتك مقتلا .
ارتاح أُوروليانو لهذه النبوءة ورَكَّز من جديد على عمله وكأنه لم يحدث شيء .
ثم قال بصوت مشجع : سوف أعترف به ، سوف يحمل اسمي .
وأخيرا توصل جوزيه آوُركاديو بوينديا الى ما كان يبتغيه فقد أوصل جهاز الساعة بلعبة راقصة ميكانيكية وأخذت اللعبة ترقص بلا انقطاع على إقاع موسيقاها على مدى ثلاثة أيام كاملة .
والواقع أن هذا الاكتشاف أثاره الى أبعد حد حتى كف عن الأكل وعن النوم ، ولولا سهر روبيكا على رعايته لأفضت به تخيلاته الى حالة من الهذيان لا شفاء له منها ، ومع ذلك فقد كان يمضي الليالي وهو يدور في أرجاء غرفته مخاطبا نفسه بحثا عن طريقة تمكنه من تطبيق نظرية البندول على مركبات الثيران وعلى كل أداة أخرى تغدو ذات نفع إذا وُضِعَت في حالة حركية .
واستحال عليه النوم بطول الأرق والسهر ، وفي أحد الأيام خرج من غرفته والجميع نيام وعمد الى عضادة الباب فانتزعها وبقوته الهيرقلية أخذ يهشم أدوات المعمل الكيميائي وأدوات المَسْبَك وهو يَصرخ ويَهذي بكلام غير مفهوم وكاد ينتقل الى غرف البيت يعمل فيها تهشيما لولا أن استنجد أُوروليانو بالجيران ، فاحتاج الأمر الى عشرة رجال لطرحه أرضا وإلى 14 لتقييده و20 لجره الى شجرة الكستناء في الفناء حيث تركوه مربوطا بها وهو يهذي بكلامه المبهم ويرسل زبدا أخضر من شدقيه .
وحينما عادت اُوُرسولا وأماراندا من الرحلة كان لايزال مربوطا الى جذع شجرة الكستناء من قدميه ويديه غارقا في المطر وفي حالة شرود تام ، ولما كلمتاه نظر إليهما دون أن يعرفهما ، ويقول أشياء لم يفهم منها شيئا ، ولكن اُوُرسولا فكت قيد معصميه وكاحليه التي تسلخت من ضغط الحبال وتركته مربوطا من وسطه فقط ، وفيما بعد أقاموا له وقاءً من سعف النخل لكي يحميه من الشمس والمطر ...


الفصل الخامس

عُقِد زواج أُوروليانو بوينديا وريميديوس موسكوت يوم أحد من شهر مارس أمام الهيكل الذي أقامه الأب نيكانوريدا في قاعة الاستقبال في البيت الكبير ، وقد بذلت أُسرة العروس جهود مضنية في نقلها من المرحلة الصبيانية وسلوكياتها الامسؤولة الى مرحلة النضج والاتزان وتقدير الحياة الزوجية .
ومنذ ذلك اليوم كان إحساسها بالمسؤولية باهرا كما تجلى ذلك في الظروف العصيبة التي طرأت في المستقبل ، وعلى سبيل المثال فهي التي تطوعت من تلقاء نفسها باقتطاع قطعة كبيرة من ترتة الزفاف وحملتها في طبق مع شوكة الى جوزيه آوُركاديو بوينديا ، وقد تلقى العجوز المربوط في جذع شجرة الكستناء والمكوم فوق مقعد خشبي صغير في مأواه المؤلف من سعف النخل والذي سفعت وجهه الأمطار وأشعة الشمس ، تلقى هذه الهدية بابتسامة امتنان شاردة وأكل القطعة بأصابعه وهو يهمهم بكلام غير مُبَيَّن ولا مفهوم .
وكان الشخص الوحيد التعس في ذلك الحفل هو روبيكا المنكودة ، فقد كان مقررا من اُوُرسولا أن يُعقد زواجها هي في نفس اليوم ، ولكن حدث قبله بيومين أن تلقى بيترو كريسبي رسالة تنبئه بأن أمه في حالة احتضار .
وهكذا أُجِلَّ زواجهما بعد أن اضطر بيترو للسفر الى عاصمة المقاطعة بعد ساعة من تلقي الرسالة ، وكانت المفاجأة أن أمه وصلت ليلة زفاف أُوروليانو وريميديوس وغنت في الحفلة أغنية كانت قد أعدتها لزفاف ولدها .
ولما عاد بيترو كريسبي بعد رحلة شاقة كان الحفل قد انفض ولم يعرف من هو كاتب تلك الرسالة .
نعم إن اُوُرسولا حملت على أماراندا حملة شعواء ولكن هذه بكت وأقسمت على براءتها أمام الهيكل المؤقت ، ومهما يكن كان هذا الزفاف حافزا للأب نيكانوريدا على التفكير في بناء كنيسة خاصة للبلدَة لإتمام الطقوس الدينية على وجهها الكامل .
ولم يمض وقت طويل حتى جُمعَت التبرعات من أهل البلدة وبُدئَ في إقامت المبنى ، وبينما كان الأب نيكانور يتناول الغداء ذات يوم في بيت الأُسرة وهو يحدثهم عما ستكون عليه حفلات الزفاف المقبلة من الروعة والقداسة في الكنيسة الجديدة ،
إذ قالت أماراندا : إن العروس التي سوف تسعد بهذا هي روبيكا .
ولما لم تفهم روبيكا ما تعنيه شرحت أماراندا مرادها بابتسامة بريئة قائلة : سوف تكونين أنت العروس التي سيقام أول حفل زفاف لها في الكنيسة .
حاولت روبيكا أن تتجاهل هذا النذير فإن معدل البناء الحالي في بناء الكنيسة سوف يستغرق عشرة سنوات على الأقل بسبب عدم كثرة التبرعات ، ولكن اُوُرسولا التي فطنت الى خبث أماراندا تبرعت بمبلغ كبير للإسراع في عمليات البناء ، مما جعل الأب نيكانو يمكن اختصار المدة الى ثلاث سنوات .
ومنذ هذه الجلسة أعرضت روبيكا عن أماراندا بعد أن تجلى لها سوء طوبتها وفي المشاحنة الحامية التي جرت بين الاثنتين في تلك الليلة قالت لها أماراندا : هذا أقل شيء كان يمكن أن أوعز به ، فبتأثير إحائي لن أضطر الى قتلك قبل ثلاث سنوات .
ولكن روبيكا قبلت التحدي وأضمرت في نفسها أمورا ، فعندما رأت ما انتاب بيترو كريسبي من خيبة الأمل بسبب هذا التأجيل الجديد بادرته قائلة : يمكننا أن نهرب معا في أي وقت تشاء .
بيد أن بيترو كان ينقصه عنصر المجازفة الذي انطوى عليه طبع خطيبته ،
وقال : إن الاحترام يمنعه من خيانة الثقة التي وضعتها الأُسرة فيه .
وهكذا فكرت روبيكا في وسائل أجرأ .
فذات ليلة هبت ريح خفيفة أطفأت أنوار البيت ، وفاجأت اُوُرسولا العاشقين يتبادلان القُبَل في الظلام ،
وفي مناسبة أخرى نفد الوقود من المصابيح وفاجأتهما اُوُرسولا متعانقين .
وعندئذٍ لم تجد اُوُرسولا بدا من التخلي عن واجباتها المنزلية للمرأة الهندية وأخذت تجلس في كرسيها الهزاز عن كثب من الخطيبين أثناء الزيارات التي يقوم بها بيترو كريسبي ،
حتى لم تتمالك روبيكا أن قالت متهكمةً من شدة الغيظ : مسكينة أمي عندما تموت ستذهب الى الآخرة وهي في هذا الكرسي .
وبعد ثلاثة أشهر من هذا الحب تحت الحراسة وبعد أن تعب بيترو كريسبي من استمرار البطء في بناء الكنيسة قرر أن يذهب الى الأب نيكانور ويقدم له المال الذي ينقصه لإتمام العملية ، بيد أن أماراندا لم تفقد صبرها وأخذت تفكر في مكائد أخرى لتأخير زواج غريمتها قدر ما تستطيع ، فقد عملت خلسة على رفع النفتالين من فستان الزفاف وكان ذلك قبل شهرين من إتمام بناء الكنيسة ، وكانت روبيكا قد زادت لهفتها باقتراب موعد الزفاف وبدا لها أن تجرب الفستان وشد ما كان ارتياعها عندما وجدته مثقوبا بفعل العفن بحيث لا يصلح لهذه المناسبة الكبرى ، ومع أنها كانت واثقة من وضع النفتالين بيديها إلا أنها لم تجسر على إلقاء التبعة على أماراندا ذلك ولم يبق سوى شهر واحد على موعد الزفاف ، ولكن أنبارو موسكوت وعدت أن تخيط لها ثوبا جديدا في مدى أسبوع ، وعندما جاءت أنبارو بالثوب لتجربه على العروس شعرت أماراندا بيأس مطبق وأضمرت في نفسها أن تنفذ وعيدها في يوم الجمعة الأخير قبل الزفاف بدس جرعة من السم في القهوة التيستقدم الى روبيكا .
ورغم هذا كله فقد جدت عقبة لم تكن في الحسبان أدت الى إرجاء هذا الزفاف المنكود الى أجل غير مسمى ، فقبل أسبوع من موعد الزفاف استيقظت ريميديوس الصغيرة غارقة في دمها أثر نزيف حاد في أحشائها وقضت المسكينة نحبها بعد ثلاثة أيام مع جنين لتوأمين .
كانت الفجيعة شديدة الوقع في نفوس أفراد الأُسرة لما استأثرت به العروس الفتية المنكودة من محبة الجميع ، وأما أشدهم تفجعا فقد كان زوجها أُوروليانو الذي أحبها منذ اللحظة الأولى حبا يقرب من العبادة ، وروبيكا السيئة الحظ التي حطم هذا المصاب الجلل كل أمل لديها في إتمام الزفاف في موعده المحدد بل في أي موعد آخر خصوصا بعد أن أعلنت اُوُرسولا الحداد في البيت كله على نحو صارم لا هوادة فيه .
لقد بلغ اليأس من نفس روبيكا حده حتى عادت الى بلواها السابقة تأكل تراب الأرض من جديد .
ثم فجأة عندما طالت فترة الحداد الى أمد بعيد وبدأت نساء الأُسرة موسم التطريز التالي دفع أحدهم باب البيت الخارجي في الساعة الثانية من بعد ظُهر ذلك اليوم المشتد الحر دفعة عنيفة رجت البيت من أساسه ، حتى ظنت أماراندا وهي تشتغل مع صاحباتها لدى المدخل وظنت روبيكا وهي تمتص أصبعها كعادتها القديمة كلما استبد بها اليأس وظن أُوروليانو وهو عاكف في مسبك المعادن بل ظن جوزيه آوُركاديو بوينديا أن زلزالا حدث ويوشك أن يقوض البيت .
لقد وصل رجل ضخم كالمارد لا يكاد منكباه العريضان ينفذان من المدخل ، وكانت تتدلى من عنقه أيقونة وبدا ذراعيه وصدره مكسوين تماما بالوشم ، وكانت بشرته مصبوغة بملح الهواء الطلق وشعره قصيرا ورأسيا مثل معرفة بغل وفكاه من حديد وعلى شفتيه ابتسامة محزونة ، وكان يتمنطق بحزام غليظ ويلبس حذاء بازلك ومهماز وحديد في العاقبين ، كان مشهده كله يوحي بزلزال متحرك ، واجتاز قاعة الاستقبال وحجرة الجلوس حاملا خَرَج الدابة البالي بيده ، وبدا لأعين أماراندا وصواحبها كقصف الرعد حتى جمدن مشدوهات رافعات إبر التطريز في الهواء ، ولكنه ألقى الخَرَج فوق طاولة قريبة دون أن يزيد على كلمة هلو .
قالها بلهجة المكدود ، وكرر مثلها لروبيكا التي انتفضت لدى مروره ببابها وللكونونيل أُوروليانو المستغرق بكل حواسه في المسبك ، لكنه لم يُعَرِّج على أحد منهم بل تقدم الى المطبخ رأسا حيث توقف لأول مرة في نهاية رحلة بدأت من طرف العالم الآخر .
وعندما كرر كلمة هلو وقفت اُوُرسولا مدى ثانية وهي فاغرة الفم ونظرت في عينيه وإذا صرخة تبدو منها ثم إذا هي تقذف بذراعيها حول عنقه صارخة : باكية من الفرح .
كان ابنها البكر جوزيه آوُركاديو ، ولقد عاد إليها فقيرا مفلسا كما ارتحل عنها الى حد أنها اضطرت الى إعطائه أجر حصانه ، وكان يتكلم لغة إسبانية خالطتها لهجة بحارة عامية .
وقد سألوه أين كان فرد بقوله : في الخارج .
وقد علق أرجوحة نومه في الغرفة التي أفردوها له ونام ثلاثة أيام ، وعندما استيقظ أكل 16 بيضة نيئة وذهب مباشرة الى حانة كتارينو حيث أثار هيكله الضخم روع النساء ممزوجا بالفضول ثم طلب موسيقى وأمر بشراب القصب المخمر للجميع على حسابه ، ولما عرض مصارعة خمسة رجال معا على الطريقة الهندية قالوا له : إن هذا غير ممكن .
وعندئذٍ انبرى له كتارينو الذي لم يكن يؤمن بالشعوذة في ألعاب القوى وراهنه على 12 بيزو إذا استطاع تحريك منصة الشراب من موضعها .
وإذا جوزيه آوُركاديو يرفع المنصة فوق رأسه ويضعها في الشارع ، وتطلب الأمر 11 رجلا لإعادتها الى مكانها ، ولما ألفى نساء الحانة يحاصرنه حصار لا مهرب منه ، قدم نفسه لهن في مزاد علني فلم يترددن في الدفع .
على هذه الصورة أصبح يكسب قوت يومه ، لقد طاف حول العالم 65 مرة في زمرة بحارة ممن لا وطن لهم ،
وفي ليلته الأولى تلك ونساء حانة كتارينو أخرجنه عاريا الى صالة الرقص لكي يرى الناس أنه ليس في جسده بوصة مربعة واحدة خلت من الوشم أماما وخلْفا من عنقه الى أصابع يديه .
ولم يفلح في أن يدمج نفسه في حياة الأُسرة ، كان ينام طول نهاره ويقضي الليل في الحي الذي يعلوه الضوء الأحمر مراهنا على قوته في مختلف الصور .
وفي المناسبات النادرة التي استطاعت فيها اُوُرسولا حمله على الجلوس معهم الى مائدة الطعام كان يتصنع التبسط والفكاهة ولاسيما في حديثه عن مغامراته في البلاد النائية ، فقد تحطمت به السفينة مرة في بحر اليابان وقضى أسبوعين تتقاذفه الأموج بين بين الحطام ، فكان يأكل لحم رفيق له مات بضربة شمس، فوجد لحمه المالح جدا بعد إنضاج الشمس له لذيذا شهيا ،
وفي مرة أخرى قتلت سفينته في بحر البنغال وحشا بحريا هائلا فعثروا في معدته على خوذة وأسلحة وحزام محارب من العصور الماضية .
وكانت اُوُرسولا تسمع هذا والكثير من مثله وهي تبكي كما لو كانت تقرأ الرسائل التي لم تصل أبدا والتي كان فيها جوزيه آوُركاديو يحدثها فيها عن فعاله ومغامراته ومآزق أسفاره ، وفي ذلك كانت تقول : هنا كان بيع واسع ينتظرك يا ولدي ، وطعام كثير كان يرمى للخنازير .
ولكن من وراء هذا كله لم تكن تتصور أن ابنها الذي اصطحبه الغجر معهم هو نفسه هذا الشاب الخليع الرقيع ، الذي يأكل نصف خنزير في غدائه والذي كانت غازات بطنه تُذْبل الأزهار .
ولم تكن تستطع أماراندا أن تخفي اشمئزازها لدى المائدة وهي تراه يتجشأ بهذه الصورة الحيوانية .
وكان آوُركاديو الذي تكتمت الأُسرة سر علاقة الأبوة والبنوة بينهما لا يكاد يرد على الأسئلة التي يوجهها إليه اكتسابا لمودته .
وحاول أخوه أُوروليانو أن يَتَبَعَثّ ذكرى العهود الخوالي حين كانا ينامان في غرفة واحدة وأحاديث الطفولة وأفعالها المتواطئة ، لكن جوزيه آوُركاديو نسي كل هذا لأن الحياة في عرض البحار قد شحنت ذاكرته بالكثير والكثير مما يجاوز الاستيعاب والذاكرة ، إلا روبيكا وحدها التي انهارت تحت تأثيره منذ اللحظة الأولى ، فمنذ اليوم الذي شاهدته يمر بباب غرفة نومها بدا لها بيترو كريسبي مثل قطعة حلوى مزخرفة بالقياس الى هذا الفحل الذي كان تنفسه البركاني يتردد صداه في كل أرجاء البيت .
وذهبت تحاول الاقتراب منتحلة أي عذر .
وفي إحدى المناسبات قطع جوزيه آوُركاديو الى جسدها باهتمام وقح وقال لها : أنت امرأة فتاتي الصغيرة .
وهنا فقدت كل ما في السيطرة على نفسها ، وفي مخدعها عادت تأكل من تراب الأرض ومصيص الحوائط بتراهة الأيام السالفة ، وأمضت ليالي ساهرة مسهدة ترتعد من الحما وهي تنتظر حتى يهتز البيت بعودة جوزيه آوُركاديو في الفجر .
وفي أصيل يوم والكل نيام وقت القيلولة لم تستطع مغلبة نفسها وقصدت الى غرفة نومه فوجدته مستلقيا في الأرجوحة التي علقها في العوارض الخشبية بحبال سفينة ، ولقد اشتد تأثرها بجسامة الوشم الذي يكسو كل جسده العاري الى حد أنها فكرت في التراجع قائلة : معذرة لم أكن أعرف أنك هنا .
ولكنه قال لها : تعالي.
فأطاعت ، ووقفت قرب الأرجوحة وقد شعرت بالعرق البارد يغمرها .
أما هو فراح يربت عليها قائلا : آه يا صغيرتي ، ستكونين زوجتي .
وبعد ثلاثة أيام عُقِد زواجهما ، وفي اليوم السابق ذهب جوزيه آوُركاديو الى محل بيترو كريسبي حيث وجده يلقي درسا في الموسيقى فلم ينتحِ به جانبا وإنما قال له : سأتزوج روبيكا .
لقد امتقع وجه الشاب الإيطالي وبدر بصرف تلاميذه وما أن صارا وحدهما في الحجرة المكتظة بالأدوات الموسيقية واللعب الميكانيكية حتى قال له : إنها أختك .
فرد جوزيه آوُركاديو : لا يهمني .
فجفف بيترو كريسبي جبينه بالمنديل الذي كان مبللا بالعطر وقال له : ولكن هذا ضد الطبيعة وإلى جانب ذلك فضد القانون .
تضجر جوزيه آوُركاديو لا من مجادلة بيترو كريسبي ولكن لما بدا من شحوبه وقال : كل هذا لا قيمة له عندي ، وما جئت إلا لأقول لك أن تبتعد عن طريق روبيكا .
ومع ذلك فإن فضاضته تحطمت عندما رأى عينَي بيترو كريسبي تَتَنَديان وقال له بلهجة مختلفة : والآن إذا كنت تحب العائلة حقيقة فأمامك أماراندا .
لقد كشف الأب نيكانور في عظة يوم الأحد أن جوزيه آوُركاديو وروبيكا ليسا أخا وأختا بيد أن اُوُرسولا لم تغتفر قط ما عدته انتهاكا لواجب الحشمة في الأُسرة ،
وعندما عاد العروسان الجديدان من الكنيسة حرَّمت عليهما دخول البيت وعدتهما من الأموات ، وهكذا استأجرا بيتا فيما وراء المدافن وأقاما به دون أن يكون فيه من الأثاث أكثر من أرجوحة نوم جوزيه آوُركاديو .
وفي ليلة الزفاف تسلَّل عقرب الى شبشب روبيكا ولدغ قدمها حتى تورم لسانها غير أن هذا لم يمنع من أن يستمتعا بشهر عسل صاخب ترامت أصداؤه الى الجيران الذين أشفقوا أن تقظ مضاجع الموتى في قبورهم .
وكان أُوروليانو هو الوحيد الذي أقلقه حال العروسين فابتاع لهما بعض الأثاث وأعطاهما بعض المال الى أن ارتد أخوه جوزيه آوُركاديو الى عالم الواقع وأخذ يعمل في إصلاح رقعة الأرض المجاورة لفناء البيت لزراعتها .
أما أماراندا فلم تبرأ قط من حقدها على روبيكا رغم أن الظروف أتاحت لها ترضية لم تكن تحلم بها .
ولكن اُوُرسولا سعت الى إزالة ما لحق بالأُسرة من مهانة بمسلك جوزيه آوُركاديو وروبيكا وفي هذا أخذت ترحب بالشاب الإيطالي بيترو كريسبي في زياراته للأُسرة التي واضب عليها مودةً منه واستجابة لطبعه الدمث ، وهكذا توطدت الأواصر بينه وبين أماراندا ، ومع أنه كان يعاملها من قبل كطفلة إلا أن الأيام كشفت في طباعها أشياء محببة ، وهكذا فاجأها ذات يوم بطلب يدها زوجة له ، أما هي فلم تتوقف عن التطريز الذي كانت آخذة به وانتظرت برهة الى أن زالت الحمرة التي صبغت أذنيها ،
وقالت وقد أكسبت صوتها رنة النضج : طبعا يا كريسبي ، ولكن بعد أن يعرف أحدنا الآخر أكثر ، ليس من الخير أن يتسرع الإنسان في مثل هذه المسائل .
والواقع أن هذا أربك اُوُرسولا فعلى الرغم من التقدير الذي كانت تكنه للشاب الإيطالي إلا إنها لم تستطع أن تجزم إن كان هذا القرار طيبا أَم سيئا من الناحية الأدبية بسبب الخطبة الطويلة المشهورة بينه وبين روبيكا ،
ولكن أُوروليانو الذي أصبح رَب الأُسرة زاد من ارتباكها برأيه الفاصل الغامض عندما قال لها : ليست هذه الأوقات التي ينشغل فيها الناس بالتفكير في الزواج .
إن هذا الرأي الذي لم تفهمه اُوُرسولا إلا بعد مضي بعض الأشهر كان هو الرأي الوحيد الصادق الذي كان بوسع أُوروليانو أن يبديه في تلك الآونة ، ليس فقط بالنسبة للزواج ولكن بالنسبة لأي شيء لا يتصل بالحرب ، إنه هو نفسه وهو يواجه فريق الرماة بالرصاص لم يستطع أن يفهم حق الفهم ذلك الترابط الغريب لسلسلة الأحداث الرهيبة الغامضة التي أفضت به الى هذا الموقف .
إن وفاة ريميديوس لم يُولِّد في نفسه ذلك اليأس الذي كان يخافه ، كان شعوره أقرب الى تبلد حسي غاضب استحال تدريجيا الى لون من الإحباط شبيه بما كان يطبع شعوره وهو مستسلم لحياته كإنسان يعيش بغير امرأة ، وقد عاد الى الاستغراق في عمله من جديد بيد أنه حافظ على التردد على بيت صهره القاضي لملاعبته الدومينو ، وفي هذا البيت الذي كان يلفه الحداد تكفل الحديث الليلي بدعم أواصر الصداقة بين الرجلين .
وذات مرة قال له صهره : تزوج مرة ثانية يا أُوروليانو ، عندي ست بنات لك أن تختار إحداهن .
وفي إحدى المناسبات قُرب إجراء الانتخابات العامة عاد دون أبولينار موسكوت من إحدى رحلاته المتكررة الى عاصمة الإقليم يساوره القلق بسبب الموقف السياسي في البلاد ، فإن اللبراليين المعارضين للحكومة كانوا مصممين على معارضتها ، ولما كان أُوروليانو في ذلك الحين ليس له سوى أفكار مشوشة عن الفوارق بين اللبراليين والمحافظين فقد تكفل صهره بتوضيح ما غَمُض عليه من هذه الناحية خصوصا تمسك حكومة المحافظين بالحفاظ على سلطة الدولة والوحدة الوطنية ودعم روابط الدين والأُسرة ومناهضة تقسيم البلاد الى كيانات ذاتية الحكم ، ولكن مهما يكن من تعاطف أُوروليانو مع اللبراليين في بعض النواحي الإنسانية مثل الاعتراف بحقوق الأطفال الطبيعية فإنه لم يفهم قط كيف يتطرف بعض الناس الى حد إشهار الحرب الأهلية بسبب معتقدات قابلة للصواب والخطأ .
ومن هذا القبيل بدا له أنها مبالغة من صهره أن يسعى الى استقدام ستة جنود مسلحين بالبنادق تحت إمرة رئيس لهم بمناسبة إجراء الانتخابات ، وقد قام الجنود فور حضورهم بالطواف ببيوت البلدة بيتا بيتا يصادرون كل ما بها من أسلحة صيد ومحشاة زراعة حتى سكاكين المطابخ ، ويوزعون على الذكور فوق الحادية والعشرين بطاقات بأسماء المرشحين زرقاء للمحافظين وحمراء لللبراليين .
وبعد إجراء الانتخابات وفوز المحافظين لجأ اللبراليون بعد ما شاع من تزوير الانتخابات الى التطرف الى حد أنهم قرروا اغتيال دون أبولينار وبناته الست في من دبروا اغتيالهم من أعوان المحافظين .
وعندما نما هذا التدبير الى أُوروليانو الذي كان حتى ذلك الحين يقف موقف الحياد دون أن ينحاز الى أحد الفريقين ثارت ثائرته وواجه زعيم المتآمرين قائلا : لا أنت لبرالي ولا أي شيء ، ما أنت إلا جزار .
وعلى الأثر لزم أُوروليانو بيت دون موسكوت كل ليلة وقد رأى المتآمرون من عزمه مما جعلهم يرجئون تنفيذ المؤامرة الى أجل غير مسمى .
كانت هذه هي الظروف التي جاءته فيها اُوُرسولا تسأله الرأي في زواج بيترو كريسبي وأماراندا والتي رد فيها بقوله : ليست هذه بالأوقات التي ينشغل فيها الناس بالتفكير بالزواج .
وقد ظل على مدى أسبوع يحمل طبنجة عتيقة تحت قميصه وهو لا يغفل عن مراقبة حركات اللبراليين وفيهم كثير من أصحابه ، وكان يذهب في فترات الظُهر لشرب القهوة مع أخيه جوزيه آوُركاديو وزوجته روبيكا اللذين بدءا ينظمان بيتهما فإذا كانت الساعة السابعة قصد الى دار صهره للعب الدومينو في الظاهر والسهر على سلامته في الواقع ، أما وقت الغداء فقد كان يذهب الى آوُركاديو في المدرسة التي اختار أن يقيمها لتعليم الصغار والكبار ، وكان قد ترعرع وأصبح فتىً قويا مثل أبيه جوزيه آوُركاديو ، ولكن أُوروليانو وجده متحمسا للحرب الأهلية التي كانت نُذُرُها تلوح في الأفق بعد أن أعدته حما اللبرالية ، وعندئذٍ عمل أُوروليانو على تهدئته والحد من تطرفه وأوصاه بالتزام جانب الحكمة والاتزان جانب الحكمة والاتزان وإن كان ابن الأخ هذا قد تمادى في اندفاعه الى حد أنه عَيَّر أُوروليانو علنا ذات مرة بالضعف والاستكانة .
وفي النهاية وفي بداية شهر ديسمبر اندفعت اُوُرسولا الى داخل مَسْبَك المعادن حيث كان أُوروليانو منهمكا في العمل صائحة : لقد بدأت الحرب .
والواقع أن الحرب قد بدأت قبل ذلك بثلاثة أشهر فقد أُعلِنت الأحكام العرفية في البلاد كلها ، وكان الشخص الوحيد الذي عرف بأمرها مباشرةً هو دون أبولينار موسكوت بيد أنه لم يبلغ النبأ حتى لزوجته ، بينما كانت السريَة التي كان عليها أن تحتل البلدَة مُباغَتَةً في طريقها لتنفيذ هذه المهمة .
وفعلا دخلت السريَة البلدَة في سكون قبل الفجر مصحوبة بقطعتين من المدفعية الخفيفة تجرهما البغال ، واتخذت مقرها في المدرسة ، وفي الساعة السادسة مساءً أُعلِن حضر التجول ، وقد قاموا بتفتيش صارم من بيت الى بيت مصادرين حتى أدوات الزراعة وقبضوا على زعيم المؤامرة وربطوه في شجرة في الميدان وأعدموه رميا بالرصاص .
وحاول الأب نيكانور أن يتدخل ولكن أحد الجنود شج رأسه بكعب بندقيته ، وهكذا أُخْمِدَت النزعة اللبرالية في البلدة بهذا الإرهاب .
ومضى أُوروليانو في انطوائه وغموضه يلعب الدومينو مع صهره وقد أدرك أنه على الرغم من صفته الرسمية كزعيم مدني وعسكري للبلدة إلا أنه أصبح مجرد واجهة بعد أن صارت القرارات في يد قائد السريَة الذي درج كل صباح على جباية ضريبة غير عادية للدفاع عن الأمن العام ، وقام 4 جنود تحت أمرته بانتزاع امرأة عضها كلب مسعور من أحضان أسرتها وقتلوها بكعوب بنادقهم .
وبعد مضي 4 أسابيع على الاحتلال ذهب أُوروليانو يوم أحد الى دار صديقه أوكليردو ماركيز وكان من أبرز اللبراليين وفاجأه بعد شرب القهوة بلهجة آمرة لن تُعهَد فيه من قبل قائلا : اجمع الفتيان واستعدوا سندخل الحرب .
ولم يصدق أوكليردو ماركيز وقال له : وبأي أسلحة ؟
فأجاب أُوروليانو : بأسلحتهم .
وفي يوم الثلاثاء عند منتصف الليل وبعملية جنونية باغت 21 رجلا دون سن ال30 وبقيادة أُوروليانو بوينديا وهم مسلحين بسكاكين المطبخ والأدوات الحادة باغتوا أفراد الحامية وانتزعو أسلحتهم وفي الفناء أعدموا قائدهم مع الجنود الأربعة الذين قتلو المرأة .
وفي نفس الليلة بينما كان صوت فريق الرماة يتردد عُيِّن آوُركاديو قائدا مدنيا وعسكريا للبلدة ولم يكن المتزوجون من المتمردين يجدون وقتا لتوديع زوجاتهم وتركوهن لتدبير شؤونهن وحدهن ثم ارتحلو افي الفجر مُشَيَعين بالهتاف من أهل البلدة بعد أن خلصوهم من الإرهاب لكي ينضموا الى قوات القائد الثوري فكتوريو ميدينا الذي تواتر أنه في طريقه الى مدينة مانور .
وقبل الرحيل أخرج أُوروليانو القاضي دون أبولينار موسكوت من دولاب الملابس وقال له : لك أن تطمئن يا صهري ، إن الحكومة الجديدة تضمن بشرفها سلامتك الشخصية وسلامة أسرتك .
لقد كاد يتعذر على دون أبولينار موسكوت أن يتعرف على هذا المتآمر ذي الحذاء العالي والبندقية المعلقة على كتفه ، ذلك الشاب الذي كا يلاعبه الدومينو حتى الساعة التاسعة كل ليلة .
ولم يتمالك أن هتف باسم التدليل الذي كان يناديه به : هذا جنون يا أوروليتو .
فرد عليه أُوروليانو قائلا : ليس جنونا إنها الحرب ، ولا تنادني باسم أوروليتو بعد ذلك ، أنا الآن الكونونيل أُوروليانو بوينديا ...


الفصل السادس

نظم الكونونيل أُوروليانو بوينديا 32 تمردا مسلحا وخسرها جميعا ، وقد أنجب 17 طفلا من سبع عشرة امرأة ولكنهم هلكوا جميعا واحدا بعد الآخر في ليلة واحدة قبل أن يبلغ أكبرهم سن 35 عاما واُسْتُهْدِف لأربع عشرة مرة لاغتياله و73 كمينا ومرة لإعدامه بالرصاص أمام فريق الرماة ولكنه نجا منها جميعا كما نجا من الموت بجرعة سم تكفي لقتل جواد ، وقد رفض قبول وسام الجدارة الذي أنعمت به عليه الدولة بعد انتهاء الحرب الأهلية ، وارتقى الى مرتبة القائد العام لقوات المتمردين مع تقلده سلطات التشريع والقيادة حتى غدى أكثر رجل تخشاه حكومة المحافظين ، بيد أنه لم يسمح قط لأخذ صورته الفوتوغرافية ، ورفض قبول المعاش لمدى الحياة الذي قُدِّم له بعد الحرب وإلى أن أدركته الشيخوخة كان يكسب قوته اليومي من تماثيل الأسماك المذهبة الصغيرة التي كان يصنعها بمعمله في بلدة ماكوندو ، وعلى الرغم من أنه كان يقاتل دائما على رأس رجاله فإن الجرح الوحيد الذي تلقاه كان الجرح الذي أصاب نفسه به بعد توقيع معاهدة نيرلانديا التي وضعت نهاية لقرابة 20 سنة من الحرب الأهلية ، فقد أطلق رصاصة على صدره من طبنجة وخرجت الرصاصة من ظهره دون أن تعطب أي عضو من أعضائه الحيوية ، وكان الأثر الوحيد الذي بقي من كل هذا هو إطلاق اسمه على شارع ببلدة ماكوندو .
ومع ذلك وطبقا لما صرح به قبل سنوات قلائل من وفاته بالشيخوخة فإنه لم يكن يتوقع أي شيء من هذا كله في فجر ذلك اليوم الذي خرج فيه مع رجاله الواحد والعشرين للإنضمام الى قوات الجنرال فكتوريو ميدينا ، كان كل ما قاله لابن أخيه آوُركاديو عند الرحيل : إننا نترك ماكوندو تحت رعايتكم ، إننا نتركها في خير حال ، فلتحاول أن تجعلها في أحسن حال عندما نعود .
لقد ترجم آوُركاديو هذه الوصية ترجمة ذاتية منبعثة من شخصه ، فقد ابتكر كسوة مارشيل مزخرفة وتمنطق بحزام عريض تدلى منه سيف ذو خصلات ذهبية كان يحمله قائد السريَة الذي أعدموه ، ونصب قطعتَي المدفعية عند مدخل القرية وألبس تلاميذه السابقين كسية عسكرية أولئك الذين ألهب خيالهم بتصريحاته النارية ، وجعلهم يجولون في الشوارع مسلحين لكي يوحوا الى الغرباء بمَنَعَتِهِم .
وكان هذا التمويه سلاح ذو حدين ، لأن الحكومة لم تجسر على مهاجمة البلدة على مدى عشرة أشهر ولكنها عندما فعلت أطلقت عليهم قوة كبرى جامحة تكفلت بتصفية المقاومة خلال نصف ساعة .
ومنذ اليوم الأول لحكم آوُركاديو كشف عن هيامه بإصدار الأوامر العسكرية المتلاحقة التي كانت تصل إلى أربعة في اليوم الواحد وتتناول كل ما يطرأ على باله ، ومن ذلك أنه فرض الخدمة العسكرية الإجبارية على الرجال فوق سن الثامنة عشرة ، وأعلن الاستيلاء على الحيوانات التي تمشي في الشوارع بعد السادسة مساءً واعتبارها من الممتلكات العامة، وأمر أن يضع الرجال المسنون أشرطة حمراء حول أذرعهم ، وفرض الحراسة على الأب انيكانور في بيت الأبرشية ، وحضر إقامة القُداس ودق الأجراس إلا إذا كانت من أجل إعلان انتصار لللّبراليين .
وأول الأمر لم يأخذ أحد أوامره مأخذ الجد واعتبر الناس هذا من قَبيل لعب تلامذة المدارس يتقمصون دور الكبار ، ولكن حدث ذات ليلة عندما ذهب آوُركاديو الى حانة كاتارين أن حياه نافخ البروج وكان بين الموجودين بنفخ بوقه مما جعل رواد الحانة يضجون بالضحك ، فأمر آوُركاديو بإعدامه رميا بالرصاص بتهمة الإخلال بواجب الاحترام للسلطات .
وكانت اُوُرسولا في كل مرة تسمع فيها بعمل من أعماله التعسفية تصرخ في وجهه قائلة : يا قاتل ، يا سفّاك عندما يعرف أُوروليانو سوف يرميك بالرصاص وسأكون أول من يفرح بذلك .
ولكن آوُركاديو تمادى في أعمال القمع حتى غدا أقسى حاكم عرفته ماكوندو ، وفي هذا قال دون أبولينار موسكوت ذات مرة : فلندعهم الآن يعرفون الفرق ويتحملون ، هذا هو الفردوس اللبرالي .
وعندما ترامى هذا الكلام الى سمع آوُركاديو قام على رأس قوة من رجاله بمهاجمة البيت حيث دمرو اأثاثه وجلدوا بناته وسحبوا دون أبولينار موسكوت الى خارج البيت .
ولما اندفعت اُوُرسولا الى مقر القيادة بعد أن طافت بلبلدة تندد بهذا العار وتلوح في غضبتها بكرباج ملطخ بالقار ، وجدت آوُركاديو يستعد بإصدار الأمر الى فريق الرماة بإطلاق النار فصرخت قائلة : إنني أتحداك يا ابن الزنى .
وقبل أن يجد آوُركاديو وقتا لرد الفعل هوت عليه بأول ضربة من السوط صارخة : إنني أتحداك يا قاتل ، اقتلني أنا أيضا يا ابن المرأة الموبوءة بهذه الطريقة لن تبقى لي عينان أبكي بهما مَعَرَّتي لأنني ربيت وحْشا .
وجعلت تجلده بلا رحمة وتطارده الى خلف الفناء حيث انكمش آوُركاديو على نفسه مثل قوقعة ، وكان دون أبولينار موسكوت مقيدا الى عمود مغميا عليه ،.
وفي هذه الأثناء تفرق فتيان فريق الرماة خوفا من أن تحمل عليهم اُوُرسولا أيضا ، بيد أنها لم تكلف نفسها حتى عناء النظر إليهم ، وتركت آوُركاديو ممزق الكسوَة وهو يضج بالألم محنقا .
وفكت رباط دون أبولينار موسكوت وصحبته الى بيته ، وقبل أن تغادر مقر القيادة أطلقت سراح المعتقلين الذين زج بهم آوُركاديو الحبس تعسفا .
ومنذ ذلك الحين أصبحت هي التي تتولى زمام الحكم في البلدة ، فأعادت شعائر القُداس ، وألغت كافة الأوامر التعسفية المخبولة التي أصدرها آوُركاديو ، ولكن بالرغم من قوتها فإنها كانت تبكي حظها العاثر وقد شعرت بوحدة مُطْبِقة الى حد أنها كانت تسعى الى صحبة زوجها غير المجديَة وهو منسي منبوذ تحت شجرة الكستناء ،
وكانت تقول له في غمرة أمطار يونيو التي كانت تهدد بتقويض عشه الواهي : انظر الى ما صار إليه حالنا ، انظر الى بيتنا الخاوي وأطفالنا الذين تفرقوا في العالم ونحن الاثنين وحدنا مرة أخرى مثلما كنا في البداية ، إن أُوروليانو خرج للحرب منذ أكثر من أربعة أشهر ولم نسمع عنه شيئا حتى الآن ، وجوزيه آوُركاديو ابننا عاد إلينا رجلا ضخما وأطول منك وجسمه كله مغطى بإبر الوشم ولكنه لم يفعل أكثر من أنه جلب العار على البيت .
وعندما بدا لها أن زوجها كسته مسحة حزن في لحظات الوعي العابرة التي كانت تلم به للأخبار المُكدِرة رأت أن تلون كلامها بالكذب فمضت تقول في اختلاقها : لقد شاءت إرادة الله أن يتزوج جوزيه آوُركاديو وربيكا وهما الآن سعيدان ، وآوُركاديو هو الآن رجل جاد وباسل جدا وشاب جميل الصورة بكسوته العسكرية وسيفه ، هل تصدق أن الحظ بدأ يحالفنا من جديد ؟
فإن أماراندا وعازف البيانولا الإيطالي سوف يتزوجان .
والواقع أن أماراندا وبيترو كريسبي قد وطدا صداقتهما بحماية من اُوُرسولا حتى لم يَعُد أحد يشك في أنهما سيكونان زوجين موفقين .
ثم إن مدة الحداد على ريميديوسبدأت تتلاشى في ظل أثقال الحرب وغياب أُوروليانو ووحشية آوُركاديو وإقصاء جوزيه آوُركاديو وروبيكا من البيت .
وهكذا جاء اليوم الذي بلغ فيه حب وصبر بيترو كريسبي منتهاهما ، وتصادف أن اقترن هذا اليوم بأمطار أكتوبر المنحوسة وقد قال بيترو كريسبي لأماراندا أخيرا وهو يُنَحي سلة التطريز من يدها : سوف نتزوج في الشهر المقبل .
لم ترتعد أماراندا للمس يديه المثلجتين ، وجذبت يدها مثل حيوان صغير وجل ،
وعادت الى التطريز قائلة : لا تكن سليم النية يا كريسبي ، لن أتزوجك حتى لو كنت من الأموات .
عندئذٍ فقدَ بيترو كريسبي كل سيطرة على أعصابه وأجهش في البكاء بغير استحياء وهو يكاد يقصف أصابعه يأسا ، بيد أنه لم يستطع أن يثنيها .
وكان كل ما قالته أماراندا له : لا تضيع وقتك ، إن كنت تحبني الى هذا الحد فلا تضع قدمك في هذا البيت بعد الآن .
ولقد شعرت اُوُرسولا أنها ستفقد عقلها خجلا وخزيا ، وعلى الرغم من أن بيترو لم يدخر وسيلة إلا استعان بها لاسترضاء أماراندا إلا أن كل محاولاته ذهبت أدراج الرياح ، وظلت أماراندا على إبائها لا تلين لها قناة ولا يرق لها قلب .
وذات صباح من شهر نوفمبر فتح شقيق بيترو كريسبي الأصغر متجر اظلدوات الموسيقية واللعب
الميكانيكية الذي كان يديره نيابة عن أخيه فوجد جميع الأنوار مضاءة وكل الأدوات الموسيقية تعزف وكل الساعات تدق دقات الساعة متواصلة وفي إبان هذا العزْف المجنون عثر على بيترة كريسبي لدى المكتب في أقصى المتجر وقد قطع معصميه بموس والدم مصبوب بإناء تحت يديه .
أصرت اُوُرسولا أن تنقل جثة المتوفى الى بيتها للسهر عليه حتى يتم تشييع الجنازة ، وقد خرجت البلدة كلها في اليوم المحدد تودعه الى مثواه الأخير في موكب مهيب بالغ الأسى ، وكانت أماراندا في فراشها تسمع بكاء اُوُرسولا وخطا وهمسات جموع المعزين ونحيب النادبين دون أن تغادر مخدعها ، ولكن كان لديها من القوة والاحتمال ما نأى بها عن الوقوع فريسة الحما .
ولقد تجنبتها اُوُرسولا وصدت عنها ، بل إنها لم ترفع عينيها نحوها رثاءً ومشاطرةً عندما رأتها تدخل الى المطبخ عصر ذات يوم ، وتدس يدها داخل الفحم المتوهج في الموقد وتبقيها كذلك الى الحد الذي لم تَعُد تشعر فيه بألم ، حتى سرت الى أنفها رائحة اللحم المحترق .
وظلت أياما كثيرة وهي تنتقل في أرجاء البيت ويدها مغموسة في إناء فيه بياض البَيض ، وعندما التأمت الحروق بدا أن حروق قلبها لن تلتئم أبدا .
وكانت الآثار الوحيدة التي تخلت عن الفاجعة هي ضمادة من شاش أسود لفتها حول يدها المحترقة وظلت تحملها حتى مماتها .
وقد أبدى آوُركاديو كرما نادرا بإعلان الحداد الرسمي على بيترو كريسبي .
وفَسرت اُوُرسولا هذا على أنه بمثابة عودة الحمَل الشارد ، بيد أنها كانت مخطئة فقد فقدت آوُركاديو لا منذ ألبس نفسه الكسوَة العسكرية ولكن منذ البداية ، كانت تظن أنها أنشأته وربته كابن كما أنشأت وربت روبيكا دونما أي تمييز أو تفرقة وعلى الرغم من ذلك فإن آوُركاديو كان طفلا انعزاليا مرتعبا في كافة التقلابات التي مرت بالأُسرة ، وفي خلال أطوار الهوس التي طبعت حياة جوزيه آوُركاديو بوينديا وفي ظل اعتزال أُوروليانو لمباذل الشباب وفي ظل المنافسة الحامية بين أماراندا وروبيكا ، نعم إن أُوروليانو علمه القراءة والكتابة ولكن كما يفعل حيال شخص غريب انصرافا منه الى شؤون أخرى ، وكان يعطيه ملابسه المستعملة حتى كان آوُركاديو يقاسي من الأحذية المتسعة عليه ومن البنطلونات المرقعة ، وهو لم ينجح في التفاهم مع أحد بأحسن ما كان يتفاهم مع التابعَين الهنديَين بلغتهما ، ومن ثمة كانت المدرسة حيث كانوا يعيرونه الاهتمام ويحترمونه ، وحيث استمد منها القوة والصولة فيما بعد مقرونتين بالكسوَة العسكرية والأوامر النافذة .
كانت المدرسة هي التي حررته من مرارة الأثقال القديمة التي طالما اعتملت في صدره ، وذات ليلة تجاسر أحدهم في مشرب كتارينو وقال له : أنت لا تستحق اللقب الذي تحمله .
وخلافا لما توقعه الجميع لم يأمر آوُركاديو بإعدامه رميا بالرصاص وإنما رد قائلا : من دواعي عظيم شرفي أنني لست من أسرة بوينديا .
وقد ظن أولئك الذين يعرفون سر أبويه أن رده يعني أنه عليم أيضا بهذا السر ، بيد أنه لم يعلمه قط .
وكانت بَيلارتارنيرا أمه تلك التي كانت تضرم النيران حامية في عروقه كلما أشرفت عليه في غرفة التحميض المظلمة بالمعمل ، كانت امرأة تُذكي مشاعره بقوة عارمة مثلما كانت بالنسبة لجوزيه آوُركاديو أبيه ومن بعده أُوروليانو على الرغم من أنها فقدت مفاتنها وضحكتها الصادحة ،وكان يتعقبها ويستدل على أثرها من ذلك الأريج الدخاني الذي يفوح منها ، وقد حدث قبل الحرب بفترة قصيرة عندما تأخرت في الحضور الى المدرسة ظُهرا لاصطحاب طفلها الأصغر من أب مجهول ، أن راح آوُركاديو ينتظرها في الغرفة التي اعتاد أن ينام فيها قيلولته ، وفيما كان الطفل يلعب في فناء المدرسة كان آوُركاديو ينتظر في إرجوحته وهو يرتعد قلقا وتشوقا عارفا أن بَيلارتارنيرا لابد أن تمر من الغرفة ، وجاءت فعلا وإذا آوُركاديو يجذبها من معصمها محاولا حملها الى الأرجوحة فقالت بَيلارتارنيرا في هلع : لا يمكنني ، لا يمكنني ، لا يمكنك الى أي حد أود أن أسعدك ، ولكن يشهد الله أن هذا ليس في إمكاني .
فأمسك آوُركاديو بخصرها بقوته الهائلة الوراثية وقد شعر بالدنيا تغيب عنه من ملمس بشرتها وقال لها : لا تمثلي دور القديسة ، على كل حال الكل يعرفون أنك بغِي .
تغلبت بَيلارتارنيرا على التقزز الذي بعثه في نفسها حظها السيئ وغمغمت قائلة : إن الأطفال سيكتشفون الموقف ، الأفضل أن نترك الباب بدون مزلاج هذه الليلة .
وفي تلك الليلة انتظرها آوُركاديو في أرجوحته وهو يرتعد ارتعاد المحموم ، انتظر دون أن ينام والليل يمر بطيئا متثاقلا حتى أشرف على الفجر مما أقنعه أنه كان مخدوعا ، وفجأة عندما استحال الانتظار والقلق الى غضب فُتِح الباب أخيرا ، كانت الخطا متخبطة في الظلام بين تخت الفصل ، ولما مد يده وجد يدا أخرى متختمة خاتمين في أصبع واحد على غير ما عرف في بَيلارتارنيرا ، وإذ لم ينْفذ الى أنفه الأريج الدخاني واشتم رائحة عطر عادي فقد أيقن أن هذه ليست المرأة التي كان ينتظرها ، كانت فتاةً تدعى سانتا سوفيا بيدال وقد نقدتها بَيلارتارنيرا 50 بيزو وهو نصف ما ادخرته في حياتها لكي تذهب مكانها ، وكان آوُركاديو قد شاهدها مرارا كثيرة في محل البقالة الصغير الذي يملكه أبواها ، ولكنه لم يكن يهتم بها ، ولكن منذ تلك الليلة درجت على أن تذهب إليه في المدرسة في فترة القيلولة بموافقة أبويها اللذين منحتهما بَيلارتارنيرا النصف المتبقي من مُدَّخراتها وظل الحال كذلك الى أن أصبح آوُركاديو قائدا عسكريا مدنيا وله منها بنت ، وكان الأقرباء الوحيدون الذين يعرفون ذلك هما أبوه جوزيه آوُركاديو وزوجته روبيكا بعد أن وطد آوُركاديو صلاته بهما في ذلك الحين لا لِصِلَة القرابة ولكن لمصلحة خاصة جعلت منه ومن أبيه شريكين متواطئين ، فإن الزواج جعل من جوزيه آوُركاديو إنسانا طيعا عاملا يخرج الى الغابة كل يوم محتقبا بندقية الصيد المزدوجة بصحبة كلاب الصيد المدربَة ويعود الى البيت الذي جَملته روبيكا بحصيلته من الأرانب والبط البري والغزلان أحيانا .
وذات يوم زاره آوُركاديو في مستهل حكمه للبلدة زيارة مفاجئة دُعِيَ فيها للغداء ، وأثناء شرب القهوة كشف آوُركاديو عن الغرض من الزيارة وهو شكوى قُدِمَت إليه بشأن جوزيه آوُركاديو ، فقد قيل بأنه لم يكتف برقعة الأرض التي كان يفلحها بل عمل على زيادتها باغتصاب الأراضي المجاورة بالقوة الجبرية وتمادى في هذا الى حد فرض أتاوة على جيرانه يحَصِّلها كل يوم سبت تحت إرهاب كلابه وبندقيته المزدوجة ، ثم تبين أن آوُركاديو لم يأتِ لتصحيح الأوضاع ورفع الظلم بل لإدراج الأرض كلها ما لأخيه وما ليس له في سجل رسمي بشرط أن يترك للحكومة تحصيل الأتاوات ، وعلى هذا تم الاتفاق بين الاثنين .
وفي السنوات التالية عندما قام الكونونيل أُوروليانو بوينديا بفحص سجل الممتلكات العقارية تبين أنه قد سُجِلت باسم أخيه جوزيه آوُركاديو كافة الأراضي الممتدة بين التل حيث كانت رقعته الصغيرة وبين الأفق بما فيها أرض المدافن ، كما اكتشف أن آوُركاديو لم يكن يُحَصِّل فقط الإتاوات بل كان يتقاضى كذلك رسوما من الأفراد نظير دفن موتاهم في أرض جوزيه آوُركاديو ، وكان حتما أن تفوح رائحة الفساد الى أنف اُوُرسولا وأن تسمع أن اُوُرسولا ابتنى لنفسه بيتا واستجلب أثاثا فاخرا من الخارج ، ولكنها لم تعلم علم اليقين إلا بعد أن زارته في بيته الجديد ذات يوم وهو يلعب الورق مع ضباطه عندها ايقنت أنه يستغل الأموال العامة لِحسابه ،
ولم تتمالك أن صرخت فيه قائلة : أنت عار على اسم أسرتنا وسمعتها .
أما آوُركاديو فلم يَعبأ بها ويومها فقط عرفت أن له طفلة عمرها ستةة أشهر وأن سانتا سوفيا بيدال التي كان يعاشرها بغير زواج حامل مرة أخرى .
فاستقر عزمها على مكاتبة الكونونيل أُوروليانو بوينديا حيث ما يكون لإطلاعه على أحدث مجريات الأمور ، بيد أن الأحداث المتلاحقة بسرعة في تلك الأيام حالت دون تنفيذ عزمها ، ذلك أن الحرب التي كانت حتى ذلك الحين مجرد كلمة لوصف ظرف بعيد غامض قد استحالت الى واقع محسوس درامي ،
فقد حدث قرب نهاية شهر فبراير أن وصلت الى ماكوندو امرأة عجوز كالحة الوجه ، راكبة حمارا محملا بالمكانس ، وكانت علائم المسالمة بادية على المرأة الى حد أن الحرس تركوها تمر بلا سؤال باعتبارها بائعة متجولة مثل غيرها من الباعة الوافدين من منطقة المستنقعات .
وقد اتجهت المرأة العجوز الى الثكنات مباشرةً ، فاستقبلها آوُركاديو في فصل المدرسة الذي كان قد تحول الى معسكر خلفي للحرس عُلِّقَت على جدرانه أراجيح النوم وتناثرت على أرضه البنادق والطبنجات وحتى بنادق الصيد القصيرة ، وإذا المرأة العجوز تنتفض في وقفة انتباه وتحيِّ تحية عسكرية مُعَرِّفة نفسها قائلة :أنا الكونونيل غريغوريو ستيفنسون .
ولقد جاء معه بأنباء سيئة ، فإن آخر مراكز للبراليين قد بدأ تتصدع وتسقط تباعا ، وقد عهد إليه الكونونيل أُوروليانو بوينديا الذي تركه يقاتل متقهقرا قرب بلدة ريوهاشا برسالة لإبلاغها الى آوُركاديو ، وكان عليه أن يسلم ماكوندو دون مقاومة بشرط احترام حياة وممتلكات اللبراليين .
وقال آوُركاديو للرسول : وهو يتفحصه بنظرة عجب ورثاء معا : طبعا أحضرت معك رسالة خطيَة .
- فرد المبعوث قائلا : بالطبع لم أحضر معي شيئا من هذا القبيل ، فالمفهوم في مثل الظروف الحاضرة ألا يحمل الإنسان شيئا ممكن أن يدينه .
- وشفع هذا الكلام بأن مد يده في مشده النسائي وأخرج سمكة مذهبة صغيرة قائلا : أظن أن هذا سيكفي .
- أيقن آوُركاديو أنها من تلك الحلي الصغيرة التي كان يصنعها الكونونيل أُوروليانو بوينديا ، لكن كان من الممكن لأي إنسان أن يبتاعها قبل الحرب أو يسرقها فلا يمكن الاعتماد عليها كجواز مرور عسكري .
- وعندئذٍ لجأ الرسول كي يصدقوا هويته الى إفشاء سر حربي فقال : إنه موفد في مهمة الى بلدة كوراكو حيث يَأمل في تجنيد كل المهاجرين المنفيين من كل أنحاء البحر الكاريبي وجمع أسلحة وإمدادات تكفي لمحاولة النزول الى البر عند نهاية العام ، ونظرا لإيمان الكونونيل أُوروليانو بوينديا بهذه الخطة فإنه غير ميال الى بذل تضحيات لا جدوى منها في ذلك الحين .
- ورغم هذا كله فإن آوُركاديو لم ينزل عن إصراره فأمر بوضع الأسير تحت التحفظ الى أن يمكنه إثبات هويته وصمم الدفاع عن البلدة حتى الموت ، ولم يكن له أن يطول انتظاره ، فإن أخبار هزيمة اللبراليين قد غدت حقيقة واقعة ، فقرب نهاية شهر مارس في فجر يوم هطلت أمطاره على غير انتظار بدد سكون الأسابيع السابقة فجأة ، أصوات نفير ملعلعة وطلقة مدفع أطاحت ببرج الكنيسة الأمامي ،
- وفي واقع الأمر كان قرار آوُركاديو بالمقاومة جنونا لا شك فيه فلم يكن في أمرته أكثر من خمسين رجلا مسلحين سلاحا هزيلا وما معهم من الذخيرة لا يزيد عن عشرين طلقة لكل مقاتل ، ولكن التلاميذ السابقين بين الجنود قد هَبوا للدفاع والاستبسال حتى الموت مشحونين بالبيانات الحماسية التي كان آوُركاديو يبثها في صدورهم .
- وفي غمار هذا الوطيس الحامي أفلح الكونونيل ستيفنسون المزعوم في الاتصال بآوُركاديو وقال له : لا تدعني أتحمل مذلة الموت في الحبس فيوأنا في ملابس النساء هذه ، إن كان لا بد لي من الموت فدعني أموت مقاتلا .
- واستطاع إقناع آوُركاديو الذي أمر بإعطائه سلاحا وعشرين طلقة ومضى مع 5 رجال للدفاع عن مقر القيادة ، بينما انطلق آوُركاديو على رأس أركان حربه للإشراف على المقاومة ، ولم يتقدم بعيدا فقد تحطمت الاستحكامات وأصبح المدافعون يقاتلون مكشوفين في الشوارع حتى نفدت ذخيرتهم وغدوا يشتبكون بالأيدي .
- ومع اقتراب الهزيمة خرجت بعض النساء الى الشوارع مسلحات بالعصي وسكاكين المطابخ ، وفي غمرة الفوضى عثر آوُركاديو على أماراندا التي كانت تبحث عنه كمجنونة وهي في جلباب نومها ومعها طبنجتان قديمتان مملوكتان ل جوزيه آوُركاديو بوينديا ، فأعطى آوُركاديو بندقيته لضابط فقدَ سلاحه وتسلَّل مع أماراندا من شارع قريب لإعادتها الى البيت ، وكانت اُوُرسولا لدى الباب تنتظر غير عابئة بطلقات المدفع التي أحدثت ثغرة في واجهة البيت المجاور ، وترك آوُركاديو أماراندا مع اُوُرسولا وحاول مواجهة جنديين فتحا نيرانا ثقيلة لدى الناصية لكن الطبنجتين العتيقتين لم تعملا ،
- وفي هذه اللحظة عمدت اُوُرسولا الى حماية آوُركاديو بجسدها محاولة جذبه الى ناحية المنزل صائحة : تعال معي ناشدتك الله ، يكفي ما كان من جنون .
- فصاح أحد الجنديين بدوره : دعي هذا الرجل يا سيدة وإلا فلن نكون مسؤولين .
- فدفع آوُركاديو اُوُرسولا باتجاه البيت واستسلم .
- وبعد فترة قصيرة توقف إطلاق النار وبدأت الأجراس تُدَّق فقد أُبيدَت المقاومة عن آخِرِها في أقل من نصف ساعة ولم ينج رجل واحد من رجال آوُركاديو في هذه المعركة ولكنهم قتلو ثلاثة مائة من الجنود المهاجمين قبل مصرعهم ، وكان المعقل الأخير الباقي هو الثكنات ، وقبل مهاجمته أطلق الكونونيل غريغوريو ستيفنسون المزعوم سراح الأَسرى وأمر رجاله بالخروج والقتال في الشارع ، وقد أعطت سرعة الحركة ودقة التصويب اللتان استنفذ بهما العشرين طلقة التي أُعطيت له ، أعطت الانطباع بأن الثكنات تحت دفاع قوي حتى عمل المهاجمون على نسفها بنيران المدافع ، ولقد ُرُوِّعَ الضابط الذي قاد العملية إذ وجد أنقاض الثكنات خالية إلا من رجل واحد صريع في ملابسه الداخلية ومازالت يده المبتورة ممسكة ببندقية فارغة ، وكان للرجل الصريع شعر امرأة معقود خلف الرقبة بمشط وحول عنقه سلسلة تدلت منها سمكة ذهبية صغيرة ، وعندما أداره بطرف حذائه وسلط الضوء على وجهه لم يتمالك أن هتف متحيرا : يا إلهي .
- ولما اقترب منه الضباط الآخرون أضاف قائلا : انظروا من وجدنا في هذا القتيل إنه غريغوريو ستيفنسون .
- وعند الفجر وبعد محاكمة عسكرية قصيرة أُعْدِمَ آوُركاديو رميا بالرصاص عند حائط المدافن ، وعندما سُئِل قبل تنفيذ الإعدام عن رغبته الأخيرة ، قال بصوت متموج النبرات : قولوا لزوجتي أن تسمي طفلتنا باسم اُوُرسولا ، اُوُرسولا جدتها ، وقولوا لها أيضا أن المولود الذي سيولد إن جاء ذكرا فليسموه جوزيه آوُركاديو ، لا اسم عمه بل اسم جده ...


الفصل السابع

انتهت الحرب في شهر مايو وقبل أسبوعين من البيان الرسمي الذي أذاعته الحكومة بلهجة طنانة والذي توعدت فيه بإنزال عقاب صارم لا رحمة فيه لأولئك الذين بدأوا التمرد ، وقع الكونونيل أُوروليانو بوينديا أسيرا في الوقت الذي كان فيه موشكا على الوصول الى الحدود الغربية متنكرا في شخصية طبيب ساحر هندي .
ومن بين الواحد والعشرين رجلا الذين خرجوا معه للحرب لقي 14 منهم حتفهم في القتال وجُرِح 6 ورافقه واحد فقط لحظة الهزيمة النهائية .
وقد أُذيع نبأ أسره في ماكوندو في بيان خاص وعندها قالت اُوُرسولا لِزوجها : إنه على قيد الحياة ، لنبتهل الى الله أن يجعل أعداءه يرأفون به
وبعد ثلاثة أيام في بكاء متصل سمعت وهي تصنع حلوى باللبن في المطبخ صوت ولدها يتردد واضحا في سمعها ،
فصرخت وهي تهرول الى زوجها تحت شجرة الكستناء لإبلاغه ما سمعت : هو صوت أُوروليانو ، لا أعرف كيف حدثت هذه المعجزة ، لكنه حي يُرزَق وسنراه قريبا .
لقد سلمت لما بدا لها أنها سمعته تسليما ، وعكفت على كنْس غرف البيت وتغيير وضع الأثاث .
وبعد أسبوع سرت شائعة من مصدر ما دون أن يصاحبها أي بيان كانت بمثابة تحقيق درامي لنبوءة اُوُرسولا مؤداها أن الكونونيل أُوروليانو بوينديا قد حُكِم عليه بالإعدام وأن الحكم سوف يُنَفَذ في ماكوندو ليكون درسا للناس .
وصباح يوم اثنين بينما كانت أماراندا تُلبِس أُوروليانو جوزيه الصغير ابن أُوروليانو وبَيلارتارنيرا ملابسه إذ سمعت أصوات مَقْدَم جنود على البُعد ودوي نفير عسكري ،
حينها اندفعت اُوُرسولا صائحة : إنهم آتون به الآن .
وكان الجنود يجاهدون للتغلب على الجمهور المتدفقة بكعوب بنادقهم ، فأسرعت اُوُرسولا وأماراندا بالى الناحية تشقان طريقهما بين الناس وإذا هما تبصرانه ، لقد بدا كمتسول ، كان ممزق الثياب أشعث شَعر الرأس واللحية حافي القدمين وكان يمشي دون أن يشعر بتراب الأرض الملتهب مقيد اليدين خلف ظهره بحبل شده ضابط من الفرسان الى رأس جواده ، وعلى نفس الصورة من الرثاثة والهزيمة جاء الكونونيل كِريلدو ماركيز ، ولم يبدُ على الاثنين أي حزن وإنما كانا أكثر قلقا من أجل الجمهور الذي كان يصرخ بكل ألوان السُباب في وجوه الجنود .
لم تتمالك اُوُرسولا أن صاحت في خضم هذا الجمع الهادر : يا ولدي .
وصفعت الجندي الذي حاول صدها وارتفع جواد الضابط على قائمتيه الخلفيتين ، وما لبث أن توقف الكونونيل أُوروليانو بوينديا مشفقا متفاديا ذراعَي أمه وسلط نظرة صارمة على عينيها قائلا : ارجعي الى البيت يا أمي ، خذي إذنا من السلطات بزيارتي في السجن .
ونظر الى أماراندا وابتسم قائلا : ماذا حدث ليَدِكِ ؟
فرفعت أماراندا يدها المصوبة بالضمادة السوداء وأجابت : مجرد حرق .
وعملت على إبعاد اُوُرسولا لئلا تدوسها الخيل .
واستأنف الجنود سيرهم بعد أن أحيط الأسيران بحرس خاص متجهين الى السجن .
وعند الغروب زارت اُوُرسولا الكونونيل أُوروليانو في السجن ومعها لفافة بما أرادت أن تقدمه إليه ، ولقد لقيت في الحصول على الإذن عناءً شديدا بسبب حضر زيارة المسجونين المحكوم عليهم بالإعدام ، ولكن الضابط كان رفيقا بها ومنحها ربع ساعة للزيارة بعد أن فحص اللفافة ، وكان بها ملابس نظيفة والحذاء الذي لبسه يوم زفافه والحلوى باللبن التي احتفظت بها له يوم أن جاءها هاتف بقرب عودته ، وقد وجدته في الزنزانة ممدد على سرير صغير وقد دلى ذراعيه بسبب جروح تحت أبطيه ، وكانوا قد سمحوا له بحلاقة ذقنه ، وبدت عظام خديه بارزة بجانب شاربه الكثيف المفتول الطرفين ، ووجدته على علم بكل أحوال الأُسرة انتحار بيترو كريسبي وأفعال آوُركاديو العدوانية التي انتهت بإعدامه وبقاء أبيه جوزيه آوُركاديو بوينديا تحت شجرة الكستناء ، كما كان يعرف أن أماراندا بترملها العذري قد كرست نفسها لتربية أُوروليانو جوزيه الصغير ابن أُوروليانو من بَيلارتارنيرا وأنه أبدى نجابة مَكَّنته من تعلم القراءة والكتابة في نفس الوقت الذي بدأ يتعلم فيه الكلام .
ومنذ اللحظة التي دخلت فيها اُوُرسولا الزنزانة طالعتها علائم النضج في ابنها وهالة الأمر والسلطان التي كانت تشع منه ، وقد أدهشها علمه بكل أحوال الأُسرة ،
وفي هذا قال لها مداعبا مازحا : كنتِ تعرفين دائما أنني ساحر أتنبأ بالأحداث .
فتنهدت اُوُرسولا قائلة : وماذا كنت تتوقع غير هذا ؟ الأيام تمر .
فقال أُوروليانو مؤيدا : هذه هي سنة الحياة .
وعلى هذا النحو مضت الزيارة التي طال انتظارها في حديث عادي غير الذي أعده كلاهما في ذهنه مسبقا ،
وعندما أعلن الحارس انتهاء الزيارة نهضت اُوُرسولا لكي تُقَبِّله مُوَدِّعَة وقالت مغمغمَة :أحضرت لك مسدسا معي .
ولما رأة الكونونيل أُوروليانو بوينديا أن الحارس ساهٍ عنهما قال لها بصوت خافت : لن يكون له أي فائدة ، لكن هاتيه لئلا يفتشوكِ وأنت خارجة .
فأخرجت اُوُرسولا المسدس من مَشَدُّها ودسته تحت مرتبة السرير .
فقال لها بهدوء واعتداد : لا تقولي وداعا ، لا تستعطفي أحدا ولا تنحني أمام إنسان ، تصوري أنهم أعدموني منذ مدة .
فعضت اُوُرسولا شفتها حتى لا تبكي ، وقالت قبل أن تستدير خارجةً : ضع بعض أحجار ساخنة على تلك الجراح .
ووقف الكونونيل أُوروليانو بوينديا ينتظر ساهما حتى أُغلِق الباب ، فاستلقى ثانيةً على السرير مُدلى الذراعين ، وكان منذ صباه عندما بدأ يلامس تلك النُذُر السابقة التي تتجلى له كنوع من الإلهام ينْبئه بما سيقع إذ يتصور أن الموت عندما يحين حينه يقترن بإشارة مداهمة ، لكن لم تبق الآن سوى ساعات على موته ولم تطالعه تلك الإشارة بعد .
نعم إنهم عندما أصدروا الحكم بإعدامه سألوه أن يقول رغبته الأخيرة ، ولحظتها لم يجد أدنى صعوبة في انتهاز ما هبط عليه من إلهام جعله يقول : أطلب أن يكون تنفيذ الحكم في بلدتي ماكوندو .
ولقد إستاء رئيس المحكمة العسكرية من هذا الرد وقال له : دعك من هذا المكر يا بوينديا هذه مجرد خدعة لكسب وقت أكثر .
فرد عليه الكونونيل قائلا : إن كنت لا تريد تحقيق هذا فهو شأنك لكن هذه هي رغبتي الأخيرة .
ومنذ تلك الآونة هجره الإلهام وتراءى له أن الموت ربما لا تسبقه إشارة هذه المرة لأنه لا يعتمد على الحظ أو المصادفة بل هو منوط الى مشيئة جلاديه .
وأمضى يومين على هذه الحال ، وفي يوم الخميس تشاطر الحلوى باللبن مع حراسه وارتدى الملابس النظيفة والحذاء اللامع ، وحتى يوم الجمعة لم ينفذوا فيه الحكم بعد .
أما الواقع فهم لم يَجْسروا على تنفيذ الحكم ، فإن روح التمرد الفاشية في البلدة جعلت المسؤولين يرون أن إعدام الكونونيل أُوروليانو بوينديا قد يجر نتائج سياسية خطيرة لا في ماكوندو فقط بل في كافة أرجاء المستنقعات ، وهكذا لجأوا في استشارة السلطات العليا في عاصمة المقاطعة ، وفي يوم السبت ليلا قصد الكابتن روكارنيرو المنوط بتنفيذ أحكام الإعدام والملقب بالجزّار قصد مع بعض زملائه الى حانة كتانيرو فلم تقبل سوى امرأة واحدة وتحت التهديد مصاحبته الى غرفتها وفي هذا اعترفت له قائلة : إن زميلاتي لا يرغبن في مصاحبة رجل يعرفن أنه سيموت ، ولا أحد يعرف كيف سيحصل هذا ، لكن الجميع يقولون أن الضابط الذي سيطلق الرصاص على الكونونيل أُوروليانو بوينديا سوف يُقتَل هو وكل أفراد فريق الرماة دون مهرب وعاجلا أو آجلا حتى ولو اختفوا في أطراف الدنيا .
لقد نقل الكابتن روكارنيرو هذا الكلام الى زملائه فنقلوه بدورهم الى الرؤساء ، فلما حل يوم الجمعة كانت البلدة كلها تعرف أن الضباط كانوا على استعداد للتوسل بكافة المعاذير لتفادي مسؤولية تنفيذ الإعدام ، ثم جاء الأمر الرسمي يوم الاثنين يقول : لابد من تنفيذ الإعدام في خلال أربع وعشرين ساعة .
وفي تلك الليلة وضع الضباط 7 قصاصات ورق في كأس ، وبان مصير الكابتن روكارنيرو الأنكد في القصاصة التي سُحِبَت وبها اسمه .
وإذا هو يقول بمرارة : إن الحظ المنحوس لا تنْفذ منه ثغرة أمل ، لقد وُلِدْتُ ابن حرام وسأموت ابن حرام .
وعند الساعة الخامسة صباحا اختار فريق الرماة بالقرعة وشَكَّلَ الصف في الفناء ثم أيقظ المحكوم عليه بلهجة الأمر : هيا يا بوينديا لقد جاءت ساعتنا .
فرد الكونونيل قائلا : هذا إذن تفسير الحلم ، فقد رأيت في منامي أن جروحي تفجرت .
وفي نفس هذا الموعد كان أخوه جوزيه آوُركاديو قد استيقظ من نومه وشرب قهوته ،
ولم تلبث روبيكا التي كانت تراقب من نافذة غرفة النوم الاستعدادات الأخيرة لِتنفيذ حكم الإعدام أن تنهدت قائلة : إنهم آتون به للتنفيذ ، كم هو جميل .
فنَظَر جوزيه آوُركاديو من النافذة ورأة أخاه وقد وقف بظهره الى الحائط ويداه في خاصرته بسبب جروح أبطيه .
وكان الكونونيل أُوروليانو بوينديا يقول في وقتها : يظل الإنسان يكد ويجهد في حياته ثم يأتي في النهاية ستة رجال ضعاف فيقتلونه دون أن يستطيع شيئا ، وجعل يردد هذا الكلام في غضب واحتدام شديدين حتى تأثر الكابتن روكارنيرو إذ ظنه يُصَلِّي ويبتهل ، وعندما سدد الرماة بنادقهم استحال الغضب الى مَرارة عقدت لسانه وأطبقت عينيه ، وإذ ذاك تلاشى في وعيه وضح الفجر ورأى نفسه مرة أخرى في بنطلونه القصير ووالده يقوده الى داخل خيمة الغجر عصر ذلك اليوم الصحو ليريه الثلْج .
وعندما سمع الصيحة الآمرة ظن أنها الأمر النهائي لفريق الرماة ، ففتح عينيه وقد سرت به رعدَة فضول متوقعا أن يرى وهج الرصاص المنطلق بيد أنه لم يبصر سوى الكابتن روكارنيرو وقد رفع ذراعيه في الهواء وجوزيه آوُركاديو يجتاز الشارع وبندقيته المرهوبة على أُهبة الانطلاق .
وقال الضابط لِجوزيه آوُركاديو : لا تطلق النار ، إن العناية الإلهية هي التي أرسلتك .
وعلى الأثر نشبت حرب أخرى ، فقد ارتحل الكابتن روكارنيرو ورجاله الست مع الكونونيل أُوروليانو بوينديا لإطلاق سراح الجنرال فكتوريو ميدينا الذي حُكِم عليه بالإعدام في بلدة ريوهاشا ، ولكن وعورة الطريق حالت دون وصولهم قبل فوات الأوان إذ تم إعدام الجنرال فكتوريو ميدينا فعلا ، وعندها أعلن رجال الكونونيل أُوروليانو بوينديا الذين تضاعفت أعدادهم بمن انضم إليهم من اللبراليين في المناطق التي مروا بها ، أعلنوا الكونونيل أُوروليانو بوينديا قائدا للقوات المتمردة في إقليم الساحل الكاريبي مع منحه مرتبة الجنرال ، فقبِلَ منهم المنصب ولم يقبل اللقب طالما بقي المحافظون في الحكم .
وفي نهاية أشهُر ثلاثة نجحوا في تسليح أكثر من ألف رجل ، ولكنهم أبيدوا عن آخرِهم .
وأذاعت الحكومة بيان تناقلته جميع مكاتب البريد بأن الكونونيل أُوروليانو بوينديا لقي مصرعه ، ثم أُذِيعت بعد يومين برقية أخرى تُنبِئ بقيام تمرد جديد في أقاليم الجنوب ، وفي ظل هذا التضارب نشأت وتضخمت أسطورة وجود الكونونيل أُوروليانو بوينديا في كل مكان ، وقتها كان زعماء اللبراليين يفاوضون الحكومة للمشاركة في الكُونْكَرس فما كان منهم إلا أن وصفوه بالمغامر الذي لا يمثل الحزب ، ووضعته الحكومة في قائمة قُطّاع الطرق وجعلت ثمنا لرأسه 5000 بيزو .
وبعد سلسلة من الهزائم بلغ عددها 16 استولى الكونونيل أُوروليانو بوينديا على ريوهاشا وجعل فيها مقر قيادته معلنا الحرب ضد نظام الحكم القائم .
وكانت أول رسالة تلَقّاها من الحكومة هي التهديد بإعدام صديقه الحميم الكونونيل كِريلدو ماركيز في غضون ثماني وأربعين ساعة إذا لم ينسحب مع قواته الى الحدود الشرقية .
فكان رده قاطعا ، قال : إنه يتوقع جعل مقر قيادته في ماكوندو في مدى ثلاثة أشهُر فإذا لم يجد الكونونيل كِريلدو ماركيز على قيد الحياة فسوف يَعدم على الفَور جميع الضباط الأسرى لديه بدأً بالجنرالات وسيأمر رجاله أن يفعلوا المْثل الى نهاية الحرب .
وبعد ثلاثة أشهُر عندما دخل ماكوندو مظفرا كان أول عناق تلقاه في طريق المستنقعات خارج ماكوندو هو من ذراعَي الكونونيل كِريلدو ماركيز .
وبِوصوله بيت الأُسرة وجده مليئا بالأطفال ، فقد آوت اُوُرسولا عندها سانتا سوفيا بيدال أرملة آوُركاديو وطفلتها الكبرى مع وأخوين توأمين وُلِدا بعد 5 أشهُر من إعدام أبيهما آوُركاديو ، وخلافا لرغبته الأخيرة سمت الطفلة باسم ريميديوس الجميلة ،
وفي هذا قالت : أنا متأكدة أن هذا ما كان يقصده آوُركاديو ولن أسميها اُوُرسولا لأن الإنسان يعاني كثيرا من التسمية .
وسُمي التوأمان جوزيه آوُركاديو الثاني أُوروليانو الثاني وقد تولت أماراندا تربيتهم جميعا ، ووضعت لهم كراسي خشبية صغيرة في غرفة المعيشة ، وأقامت شبه دار حضانة ضمت إليها أطفال الأُسر المجاورة .
وعندما عاد الكونونيل أُوروليانو بوينديا وسط إطلاق الصواريخ المدوية والأجراس الرنانة ، رحب بمقدمه كورس من الأطفال وحياه ابنه أُوروليانو جوزيه وكان فارِعا مثل جده تحية عسكرية .
ولم تكن الأنباء كلها سارة ، فبعد سنة من فرار الكونونيل أُوروليانو بوينديا انتقل أخوه جوزيه آوُركاديو مع روبيكا للإقامة في البيت الذي ابتناه آوُركاديو ، ولم يعرف أحد بدور هذا الأخ في الحيلولة دون إعدام أُوروليانو ، وفي هذا المقر الجديد الذي غدا أشبه بدار للضيافة ، استأنفت روبيكا جلستها مع صواحبها السابقات للاشتغال بالتطريز وكان بينهن أربع من بنات دون أبولينار موسكوت اللائي ما زلن رهن العزوبة .
واستمر جوزيه آوُركاديو في الانتفاع بالأراضي التي اغتصبها والتي اعترفت حكومة المحافظين بمستندات ملكية لها ، وكان يُرى عصر كل يوم راجعا على ظَهر جواده وكلاب الصيد والبندقية المزدوجة وقد تدلى من سرج الجواد حصيلته من الأرانب التي صادها .
وذات يوم من سبتمبر لاحت فيه نُذُر عاصفة قريبة عَهِد الى البيت أبكر من المعتاد فحيا روبيكا في غرفة الطعام وربط الكلاب في الفناء وعلق الأرانب في المطبخ توطئةً لِتمليحها فيما بعد ، ثم دلف الى غرفة النوم لتغيير ملابسه ، وقد روت روبيكا فيما بعد أنه عندما دخل زوجها الى غرفة النوم كانت هي في الحمام ولم تسمع أي شيء .
وكانت روايتها يصعب تصديقها ، ولكن لم يكن ثمة رواية أخرى أقرب الى المعقول ولم يخطر ببال أي أحد أن يكون لها دافع بقتل الرجل الذي جعلها سعيدة في حياتها ، ولعل ذلك كان اللغز الوحيد الغامض الذي لم يُكْشَف النقاب عنه قط في ماكوندو، ذلك أنه حالما أغلق جوزيه آوُركاديوباب غرفة النوم عليه تردد في البيت صوت عيار ناري من طبنجة وسال خيط من الدم اخترق الكثير من الغرف والردهات حتى انتهى الى المطبخ في بيت الأُسرة الكبير حيث كانت اُوُرسولا تستعد لصنع كعكة بالبيض فلم تتمالك أن صرخت : رحماك يا ربي .
وهرعت تتتبع خيط الدم حتى انتهى بها الى بيت جوزيه آوُركاديوالذي لم تدخله من قبل ، ثم الى غرفة النوم التي دفعت بابها وكادت تختنق برائحة بارود محترق وعثرت على ابنها البكر منبطحا على الأرض على وجهه فوق سترته التي كان قد خلعها وعندها كانت بداية خيط الدم المترامي الذي كان قد توقف مسيله من الأذن ، هذا ولم يعثروا على أي جرح في جسده ولا على أي سلاح بقربه ، كما لم يستطيعوا إزالة رائحة البارود من الجثة رغم المحاولات التي بُذِلت بالماء والصابون والخل وما إليها ، وعندما بدا لهم أن يضعوا الجثة في الماء المغلي لإزالة رائحة البارود بدأت تتحَلَّل ، ولم يكن بد من دفنها على وجه السرعة ، فجاءوا له بتابوت طوله سبع أقدام ونصف وعرضه 4 ودعموه من الداخل بأطواق من الفولاذ ، وعلى الرغم من هذا فإن الرائحة كانت بادية في الشارع الذي سار فيه موكب الجنازة ، ومع أنهم في الشهور التالية دعموا القبر بحوائط من حوله تخللها نشارة الخشب والجير إلا أن المقبرة ظلت لسنوات عديدَة تفوح منها رائحة البارود الى أن جاءوا مهندسو شركة لإنتاج الموز التي أنشِئت بعد ذلك وكسوا القبر بطبقة من الإسمنت المسلح .
وأما روبيكا فقد أغلقت أبواب بيتها ودفنت نفسها فيه حية مسربلة بحجاب كثيف من الإعراض عن الدنيا واحتقارها لا تستطيع أي مغريات أرضية أن تنفذ منه أو تقوضه ، وآخر مرة رآها الناس على قيد الحياة كانت عندما أطلقت النار على لص حاول اقتحام باب البيت ، وفيما عدا خادمتها المقربة لم يَعُد لأي إنسان أدنى اتصال بها بعد ذلك حتى كهولتها ومماتها ، ونسيت البلدة كلها أمرها .
وعلى الرغم من عودة الكونونيل أُوروليانو بوينديا المظفرة فإنه لم يكن متحمسا لمجريات الأمور ، لقد أخلت القوات الحكومية مواقعها دون مقاومة مما أثار إحساسا وهميا بالانتصار بين السكان اللبراليين لم يكن يَجْمُل تبديده ، لكن المتمردين منهم كانوا يعرفون الحقيقة ، وكان الكونونيل أُوروليانو بوينديا أكثرهم معرفة بها ومع أنه كان لديه في ذلك الحين 5000 رجل تحت أمرته وأصبح مسيطرا على ولايتين ساحليتين إلا أنه كان يشعر أنه يُساق باتجاه البحر حيث يغدو في موقف عسير ، وبحثا عن مَنْفذ للإفلات من هذا الموقف كان يمضي ساعات بإكملها في مكتب التلكراف للتشاور مع قادة البلدان الأخرى ، وفي كل مرة كان يخرج بانطباع قوي هو أن حربهم خاسرة لا محالة ،
وكان يشكو الى ضباطه قائلا : إننا نضيع الوقت بينما الأنذال من أعضاء الحزب اللبرالي يستجدون مقاعد لهم في الكُنْكَرِس .
وفي إحدى ليالي البلبلة التي كانت تعتريه وهو مستلقي في أرجوحته يفكر في مَنْفذ للخلاص من هذا المأزق طلب من بَيلارتارنيرا التي كانت تغني مع الجنود في الفناء أن تقرأ له المستقبل في ورق الطالع ، فكان كل ما قالته بعد تقليب الورق ثلاث مرات هو : خلي بالك من فمك ، أنا لا أعرف ما معنى هذا لكن الإشارة واضحة جدا ، خلي بالك من فمك .
وبعد يومين أعطى أحدهم أبريق قهوة لِجندي مراسلة أعطاه هذا بدوره لآخر وظل ينتقل من يد لِيَد حتى وصل الأبريق الى مكتب الكونونيل أُوروليانو بوينديا ولم يكن قط قد طلب قهوة ، ولكن ما دامت قد جاءت فقد شربها الكونونيل ، كان بها جرعة من سُمٍّ زعاف تكفي لقتل جواد ، وعندما حملوه الى البيت كان متصلبا ومقوسا وقد برز لسانه بين أسنانه .
لقد راحت اُوُرسولا تصارع الموت لإنقاذه وبعد تفريغ معدته بالمقيآت لفته بأغطية ساخنة وأطعمته بياض البيض يومين كاملين الى أن استعاد جسمه المضعضع حرارته العادية .وفي اليوم الرابع خرج من مرحلة الخطر ، واضطر تحت ضغط اُوُرسولا وضباطه الى ملازمة الفراش أسبوعا آخر .
وفي فترات الصفاء الذهني التي كان يفكر فيها في الحال والمآل قال ذات ليلة لِصديقه القديم الكنونيل كريلدو ماركيز : قل لي يا صديقي الحميم لماذا تُحارب ؟
فأجاب الكنونيل كريلدو ماركيز : ولأي سبب آخر غير الرغبة في انتصار الحزب اللبرالي ؟
فقال الكونونيل أُوروليانو بوينديا : أنت محظوظ لأنك تعرف سببا ما تُحارب من أجله ، أما فيما يختص بي شخصيا فقد تأكدت الآن فقط أنني أُحارب من أجل كِبريائي وكرامتي .
- هذا شيء سيئ .
فبدا الكونونيل أُوروليانو بوينديا متفكها من انزعاج صاحبه وقال : لك حق ، لكن على أي حال فهذا أفضل من ألا تعرف لماذا تُحارب .
ثم تفرس في عينيه وأضافة في ابتسامة : أو أفضل من المحاربة كما تفعل أنت من أجل شيء ليس له أي معنى عند أي أحد .
والواقع أن كِبرياءه هي التي منعته من الاتصال مع الجماعات المسلحة في داخلية البلاد الى أن يصحح زعماء الحزب اللبرالي علانيةً تصريحهم بأنه من قُطّاع الطرق ، ومهما يكن فقد كان يعرف أنه ما إن يطرح جانبا هواجسه تلك فسيكون بوسعه أن يضرب ضربته المؤثرة في تطورات الحرب .
وبعد طول تفكير وتدبر أثناء فترة النقاهة استطاع حمل اُوُرسولا على أن تعطيه ما بقي من ميراثها الذهبي المخبوء وكذلك مدخراتها الكبيرة ، وأخيرا عَيَّن الكنونيل كريلدو ماركيز قائدا عسكريا ومدنيا في ماكوندو ، وانطلق بقواته للاتصال بجماعات المتمردين في داخلية البلاد .
وفي خلال ذلك كان الكونونيل أُوروليانو بوينديا يقتطع من وقته جزءً لإرسال تقارير مفصلة الى ماكوندو عن تطورات الحرب كل أسبوعين ، بيد أنه لم يكتب سوى مرة واحدة ، وبعد ثمانية أشهر من رحيله مع قواته جاء رسول خاص الى بيت الأُسرة يحمل مظروفا مغلقا بالشمع وبداخله ورقة بخط الكونونيل قال فيها : اعتنوا جدا بأبي لأنه سيموت .
فانزعجت اُوُرسولا قائلة : إذا كان أُوروليانو يقول ذلك فذلك لأن أُوروليانو يتنبأ ويعرف .
وطلبت من أهل البيت مساعدتها في نقل جوزيه آوُركاديو بوينديا الى غرفة نومه في الداخل ، وكان قد زاد امتلاءً تحت شجرة الكستناء طوال تلك الأعوام حتى عجز سبعة رجال عن حمله واضطروا الى جره جرا .
وفي اليوم التالي لم يكن في فراشه ، وإذا كان قد عاد الى شجرة الكستناء فذلك بحكم عادة الجسد ، ولكنهم أعادوه مرة أخرى الى غرفته وكانت اُوُرسولا تطعمه وتبلغه أخبار أُوروليانو ، وبعد انقضاء أسبوعين دخلوا عليه وهزوه بشدة وصرخو في أذنه ووضعوا مرآة أمام خياشيمه بيد أنهم لم يستطيعوا إقاضه .
وبينما كان النجار يأخذ مقاسات التابوت رأوا من خلال النافذة مَطَرا خفيفا من زهور صفراء صغيرة يتساقط ، وظلت تسقط على البلدة طوال الليل في عاصفة ساكنة حتى غطت الأسقف وسدت الأبواب وخنقت أنفاس الحيوانات التي كانت تبيت في الخارج ، بلغ من كثرة الزهور التي تساقطت أنها غطت الشوارع ببساط سميك حتى اضطروا الى جرفها لكي يمكن أن يسير موكب الجنازة ...


الفصل الثامن

جعلت أمارانتا تراقب من مقعدها الهزاز أثناء فترة الراحة من التطريز أُوروليانو جوزيه وهو يكسو ذقنه بِرَغوَة الصابون توطئة لحلاقتها لأول مرة ، فما كان منه إلا أن أدنى شفته العليا وهو يحاول تنميق الشارب الصغير الأشقر ولم تتمالك أمارنتا أن شعرت بأنها بدأت تَشيخ منذ تلك الآونة ،
وقالت له : إنك تشبه أباك أُوروليانو عندما كان في سنك ، أنت الآن رجل .
والواقع أنه كان يافعا.
منذ اليوم الأول الذي عهدت به أمه بَيلارتارنيرا الى أمارانتا لتربيته كان أول الأمر يزحف الى فراش أمارانتا لينام بجانبها خوفا من وحدة الطفولة ، ثم تطور هذا الى مشاعر غريبة بدأت تلامسه في مدارج العمر الى أن تحولت الى افتتان مما جعلها تصده بعد أن فاجأتهما اُوُرسولا ذات يوم في الكوار وهما يتبادلان القبلات ، ولكنها قالت له ببراءة : هل تحب عمتك الى هذا الحد ؟
وعندما رد بالإجاب قالت له : هذا شيء طيب .
وتركتهما بعد أن أخذت الدقيق الذي جاءت في طلبه ،
منذ تلك الآونة أفاق كلاهما من غمرة الحُمّا التي انتابتهما ، وانتقل أُوروليانو جوزيه للإقامة ةفي الثكنات إذ كان في فترة التدريب العسكري .
وبعد ذلك بفترة قصيرة بدأت تتوارد أنباء متناقضة عن سير الحرب ، ففي حين اعترفت الحكومة ذاتها بتقدم حركة التمرد تلقى الضباط الموجودون في ماكوندو أنباء خاصة عن مفاوضات للصلح وقُرب عقد هدنة ، وحاولَي أول أبريل جاء رسول خاص الى الكنونيل كريلدو ماركيز وأكد له أن زعماء الحزب اللبرالي قد اتصلوا فعلا بقادة التمرد في داخلية البلاد وأنهم بسبيل عقد هدنة في مقابل الحصول على ثلاثة مقاعد وزارية للبراليين مع تمثيل محدود في الغونغرس وعفو عام عن المتمردين الذين يضعون أسلحتهم ، وقد نقل الرسول أمرا سريا من الكونونيل أُوروليانو بوينديا الذي لم يقبل شروط الهدنة مؤداه أن يختار الكنونيل كريلدو ماركيز خمسة من أفضل رجاله ويستعد لمغادرة البلاد معهم .
وقبل إعلان الاتفاق بأسبوع وفي إبان عاصفة من الشائعات المتناقضة وصل الكونونيل أُوروليانو بوينديا الى ماكوندو سرا بعد منتصف الليل مع عشرة من ضباطه الموثوق بهم وفي عدادهم الكونونيل روكارنيرو وصرفوا الحامية ودفنوا أسلحتهم ودمروا سجلاتهم وما أن أقبل الفجر حتى ارتحلوا عن البلدة يرافقهم الكنونيل كريلدو ماركيز وضباطه الخمسة المختارون .
ولقد بلغ من تكتم هذه العملية أن اُوُرسولا لم تعلم بها إلا في اليوم التالي كما اكتشفت أن أُوروليانو جوزيه قد ارتحل مع أبيه .
وبعد عشرة أيام صدر بَلاغ مشترك من الحكومة والمعارضة يعلن انتهاء الحرب مقترنا بنبأ حركة التمرد الأولى من جانب الكونونيل أُوروليانو بوينديا عند الحدود الغربية ، ولم تحتمل قوته الصغيرة المحدودة التسليح أكثر من أسبوع لتفريقها ، ولكن في خلال تلك السنَة بينما كان اللبراليون والمحافظون يحاولون إقناع البلاد بالمصالحة الوطنية ، قام الكونونيل أُوروليانو بوينديا بسبع محاولات أخرى للتمرد وفي إحدى المناسبات اقترب من ماكوندو الى أقل من خمسة عشر ميلا ثم اضطر الى الاختفاء في الجبال تحت ضغط الدوريات الحكومية ، وانقطعت أخباره عن اُوُرسولا مدى سنوات تردد فيها أنه كف عن مناوأَة حكومة بلاده وانضم الى حركة الفدراليين في الجمهوريات الأخرى بهدف توحيد الحركة الفدرالية في أمريكا الوسطى سعيا للقضاء على أنظمة حكم المحافظين من أَلَاسكا في الشمال الى بتاجونيا في الجنوب .
وكانت أول رسالة تلقتها اُوُرسولا منه بعد سنوات عديدَة من ارتحاله مثنية وباهِتَة لتبادلها بين أيدٍ متعددة حتى لم تتمالك بعد أن علمت بمضمونها أن هتفت : لقد فقدناه الى الأبد ، إذا واصل هذا الطريق فسيبقى مشَرَدا في أرجاء الدنيا الواسعة .
كان الذي قالت له هذا الكلام وهو أول شخص أطلعته على الرسالة هو الجنرال راكيل مُوكادا عمدة ماكوندو المحافظ الذي عُيِن في هذا المنصب منذ نهاية الحرب .
وقد رد عليها بقوله : من المؤسف أن أُوروليانو هذا ليس من حزب المحافظين .
والواقع أن هذا الرجل كان معجبا بأُوروليانو رغم اختلاف انتماءاتهما ، وكان شخصية دمثَة استطاعت أن تكتسب قلوب أهل البلدة بعد أن طرح حزبيته جانبا وقام فيها بإصلاحات واسعة أدت الى ازدهارها ، وقد حدث ذات مرة عندما اضطرته المناورات الحربية الى التخلي عن أحد المواقع الحصينة الكونونيل أُوروليانو بوينديا أن ترك له رسالتين ، تضمنت الأولى دعوة له لمشاركته في حملة واسعة لجعل الحرب أكثر إنسانية ، وكانت الرسالة الثنية موجهة الى زوجته التي كانت باقية في منطقة تحت سيطرة اللبراليين ، وشفعها برَجاء منه لتوصيل رسالته إليها ، ومنذ ذلك الحين درج القائدان العدوان حتى في أشد مراحل الحرب ضراوة على ترتيب هدنات لتبادل الأسرى وقد أدى ذلك الى توثيق عُرى الصداقة بين الاثنين ، بل إنهما فَكَرَا في في التنسيق بين المعطيات الأساسية للحزبين بهدف تجاوز تأثيرات السياسيين المحترفين والعسكريين واستخلاص نظام حكم إنساني يجمع أفضل ما في مبادئ كل من الفريقين .
وفي خلال ذلك كانت اُوُرسولا رغم ضربات الزمن ترفض بعناد وإصرار الاستسلام للشيخوخة ومضت في توسيع صناعة الحلوى التي بدأتها منذ حين ، واستطاعت بمساعدة سانتا سوفيا بيدال أرملة آوُركاديوأن تجعل منها صناعة مزدهرة ضاعفت من مدخراتها ، وكان ذلك هو الموقف عندما هجر أُوروليانو جوزيه ابن أُوروليانو وبَيلارتارنيرا صفوف القوات الفدرالية في نيكراجوا وظَهر أمام اُوُرسولا في المطبخ قويا كحصان أسمر مرسل الشعر كالهنود مصمما بعزم على الزواج من أمارانتا ، وحالما رأته أمارانتا عرفت في الحال سبب قدومه بيد أنها تحاشت الاجتماع به على انفراد ، غير أنه بعد شهرين من اعتكافها عنه تسلَّلَ ليلا الى مخدعها ،
فصدته عنها قائلة : اخرج ، اخرج وإلا صصرختأنا عمتك إنني كأمك لا بسبب السن ولكن لأنني ربيتك .
وفي مناسبة أخرى قالت له بعد أن أرهقها بإلحاحه : أنت وحش ، لا يمكنك أن تتزوجني إلا بتصريح خاص من روما .
ولما وعد أُوروليانو جوزيه أن يذهب الى روما ولو سعيا على ركبتيه خلال أوربا كلها لتقديم التماسه تحقيقا لأمنيته المضطرمة ،
ردت عليه أمارانتا بقولها : ليس هذا فقط ، إن زواج كهذا سيثمر أولادا لهم ذيول خنازير .
بيد أنه صم أذنيه عن كافة الحجج قائلا : لا يهمني حتى لو ولدوا خنازير كاملة .
ولكن رفض أمارانتا كان قاطعا .
وبعد شهرين من عودة أُوروليانو جوزيه جاءت الى البيت الكبير امرأة وافرة النمو والقوة معطرة بالياسمين ومعها طفل الخامسة من عمره وقالت إنه ابن الكونونيل أُوروليانو بوينديا وأنها جاءت به الى اُوُرسولا لتتولى تعميده .
ولم يشك أحد لحظة في منبته إذ كان صورة مطابقة للكنونيل وهو في طفولته وقد عمده باسم أُوروليانو مشفوعا بلقب أمه نظرا لأن القانون لا يسمح بحمل اسم الأب إلا بعد اعترافه بأبويته للابن .
كانت اُوُرسولا في ذلك العهد لم تسمع بالعادة السارية وهي إرسال العذارى الى مخادع مشاهير القادة لإنجاب ذرية ممتازة ، ولكنها خلال هذا العام لم تلبث أن سمعت وعرفت ، وفي أقل من اثنتي عشرة سنة تولت التعميد باسم أُوروليانو ولقب الأم لكافة الأبناء الذين أنجبهم الكونونيل أُوروليانو بوينديا في مختلف ميادين الحروب التي خاضها وعددهم سبعة عشر .
وأول الأمر كانت اُوُرسولا تملأ جيوب هؤلاء الصغار بالنقود وتحاول أمارانتا استبقاءهم لتربيتهم ولكنهم كانوا ينصرفون تباعا مع أمهاتهم اكتفاءً بالتعميد وما نالوا من نقود ، وكانت اُوُرسولا تدون أسماء الأبناء وعناوين الأمهات في سجل خاص أعدته لهذا الغرض قائلة : إن أُوروليانو في حاجة الى وثائق منظمة حتى يمكنه أن يبت في الأمور عندما يعود إلينا .
وفي هذا قالت يوما للعمدة مُوكادا أثناء دعوة للغداء وهي تعقب على هذا الخصب الفريد : أنها تتمنى أن يعود الكونونيل أُوروليانو بوينديا يوما ما لكي يجمع كل هؤلاء الأبناء في البيت الكبير .
فرد عليها العمدة قائلا بأسلوب غامض : لا تقلقي يا صديقتي العزيزة إنه سيعود بأسرع مما تتصورين .
إنما كان الجنرال مُكادا يعرفه ولم يكن يرغب بإماطة اللثام عنه على مائدة الغداء هو أن الكونونيل أُوروليانو بوينديا كان فعلا في طريقه للقيام بأطول وأعنف حركة في سلسلة حركات التمرد التي قام بها حتى الآن ، لقد عاد الموقف الى التأزم مثلما كان قبل الشهور التي سبقت الحرب الأولى ،
وتولى الكابتن أوكويرليكاردو قائد الحامية في ماكوندو تدريب قوات الاحتياط ، وكان اللبراليون يعدونه رجلا استفزازيا ،
حتى قالت اُوُرسولا تحذر أُوروليانو جوزيه منه : سوف تقع هنا أحداث رهيبة ، نصيحتي لك ألا تخرج الى الشارع بعد الساعة السادسة .
بيد أن نصائحها ذهبت أدراج الرياح إذ كان أُوروليانو جوزيه مثل آوُركاديومن قبل قد شق عصا الطاعة عليها ودفعه يأسه من حب أمارانتا التمرد على كل شيء، وبعكس آوُركاديوالذي لم يعرف أبويه اكتشف هو أنه ابن بَيلارتارنيرا تلك التي أعدت له أرجوحة في بيتها لكي يقضي ساعة القيلولة كل يوم ، وكما فعلت اُوُرسولا من قبل قالت له بيلار ناصحَةً : لا تخرج هذه الليلة ابقَ معي واقضِ ليلتك هنا إن صديقتك كارمليتا مونتير تعبت من كثرة ما سألتني أن أدعها تقابلك عندي .
فلم يَعْدُ أن قال لها : قولي لها أن تنتظرني عند منتصف الليل .
وذهب الى المسرح لمشاهدة مسرحية خنجر الثعلب ولم يعرف إلا بعد أن قدم تذكرة الدخول أن الكابتن أوكويرليكاردو كان يقوم مع اثنين من الجنود المسلحين بتفتيش رواد المسرح .
فقال له أُوروليانو جوزيه محذرا : احذر يا كابتن ، لم يولد الرجل الذي يمكنه أن يضع يده علي .
فحاول الكبتن تفتيشه بالقوة وإن لم يكن أُوروليانو جوزيه مسلحا فقد لجأ الى الفرار ، وقد عصى الجنديان الأمر بإطلاق النار عليه حتى قال أحدهما : إنه من أسرة بوينديا .
فما كان من الضابط الذي أعماه الغضب إلا أن انتزع منه البندقية وخرج الى وسط الشارع وسدد البندقية صائحة : يا جبناء ليته كان الكونونيل أُوروليانو بوينديا .
كانت كارمليتا مونتير بنت العشرين قد أتمت زينتها وتعطرها في بيت بَيلارتارنيرا \عندما دوى صوت العيار الناري ، لقد تنبأت بَيلارتارنيرا ذات مرة بعد قراءة الطالع أن أُوروليانو جوزيه سوف يجد عند كارمليتا السعادة التي ضنت بها عليه أمارانتا وأنه سوف يُرزَق منها بسبعة أبناء وأنه سوف يموت بين ذراعيها ميتة الشيخوخة ، لكن الرصاصة التي دخلت ظهره وحطمت صدره قد ضلت طريقها بتأويل خاطئ لأوراق الطالع .
وأما الكابتن أوكويرليكاردو الذي كان مقدر له أن يموت حقا في تلك الليلة فقد مات فعلا قبل أن يلفظ أُوروليانو جوزيه أنفاسه الأخيرة ، فحالما دوى العيار الناري الذي صرع الشاب خر الضابط صريعا برصاصتين في لحظة واحدة لم يُعرَف أبدا مصدرهما ، ودوت في سكون الليل صيحة من أفواه عديدة : يحيا الحزب اللبرالي ، يحيا الكونونيل أُوروليانو بوينديا .
وعند منتصف الليل بعد أن فاضت روح أُوروليانو جوزيه تقاطر أكثر من أربعة مائة شخص أمام المسرح وأفرغوا مسدساتهم في جسد الكابتن أوكويرليكاردو الطريح في الشارع واضطرت إحدى الدوريات الى نقل جثمانه فوق عربة يد لشدة ثقلها بما استقر فيها من رصاص .
وبحلول شهر سبتمبر كانت الأنباء متضاربة فبينما أعلنت حكومة المحافظين أنها وطدت سلطانها في كافة أرجاء البلاد كانت الأنباء السريَة تتوارد على اللبراليين عن قيام حركة تمرد حركة مسلحة في الداخل .
ولم تعترف الحكومة بقيام حالة الحرب إلا بعد صدور مرسوم بهذا أعقبه إجراء محاكمة عسكرية صدر فيها الحكم بإعدام الكونونيل أُوروليانو بوينديا غيبيا ، وصدر الأمر بأن أول وحدة عسكرية تتمكن من أسره عليها تنفيذ الحكم فورا .
وفي هذا قالت اُوُرسولا للجنرال مُكادا بلهجة الفرح : يعني هذا أنه عاد .
والواقع أن الكونونيل أُوروليانو بوينديا قد عاد الى البلاد منذ أكثر من شهر ولم يسلم الجنرال مُكادا بعودته إلا بعد أن أُعلن رسميا أنه استولى على ولايتين على الساحل ، وفي هذا قال لاُوُرسولا وهو يريها البرقية التي تلقاها : تهانِيَ يا صديقتي العزيزة ، قريبا سيكون عندك .
ولأول مرة شعرت اُوُرسولا بالقلق وقالت : وما الذي ستفعله ؟
إن الجنرال مُوكادا سأل نفسه هذا السؤال عديد المرات وما لبث أن رد عليها قائلا : نفس ما سيفعله هو يا صديقتي ، سأقوم بواجبي .
وفي فجر اليوم الأول من شهر أكتوبر هاجم الكونونيل أُوروليانو بوينديا ماكوندو بألف رجل مسلحين تسليحا قويا ، وتلقت الحامية أوامر أن تقاوم حتى النهاية ، وعند الظُهْر بينما كان الجنرال مُوكادا يتناول طعام الغداء مع اُوُرسولا انطلق مدفع لمتمردين دوى صوته في البلدة كلها ونسف الواجهة الأمامية لدار الخزانة نسْفا .
فتنهد الجنرال مُوكادا قائلا : إنهم مسلحون تسليحا جيدا مثلنا ، لكن الى جانب هذا فإنهم يحاربون لأنهم يريدون الحرب .
وفي الساعة الثانية بعد الظُهر والأرض ترتج ارتجاجا بنيران المدفعية من الجانبين ، استأذن من اُوُرسولا وهو على يقين من أنه يقاتل في معركة خاسرة وقال لها : ادعُ الله ألا يجيءك أُوروليانو في البيت هذه الليلة ، فإذا حدث هذا فلتقبليه عني لأنني لا أتوقع أن ألتقي به أبدا مرة أخرى .
وفي تلك الليلة وقع أسيرا أثناء محاولته للفرار من ماكوندو بعد أن كَتب رسالة الكونونيل أُوروليانو بوينديا ذَكَّره فيها بهدفهما المشترك بجعل الحرب إنسانية ، وتمنى له الانتصار على دعاة الحرب ومطامع السياسيين في كلا الحزبين .
وفي اليوم التالي تناول الكونونيل أُوروليانو بوينديا معه الغداء في بيت اُوُرسولا حيث جرى احتجازه الى أن تبت محكمة عسكرية في مصيره ، وكان في الحق اجتماعا وديَا ، ولكن في الوقت الذي نسي فيه الغريمان الحرب لتذكر أحداث الماضي أحست اُوُرسولا بالوجوم لما طالعها من تبدل أطوار ولدها واتجاهاته العدوانية لقد شعرت بهذا منذ أن شاهدته يدخل مصحوبا بحاشية عسكرية كبيرة عمدت الى تفتيش غرف النوم وقلبها رأسا على عقب حتى اطمأنوا الى عدم وجود أي خطر ، ولم يتقبل الكونونيل أُوروليانو بوينديا هذا فقط بل إنه أصدر أوامر مشددة بعد السماح الى أحد بالاقتراب الى أكثر من عشر أقدام حتى اُوُرسولا ذاتها ، في حين راح أفراد حرسه الخاص يكملون وضع الحراس حول البيت ، وكان يرتدي كِسْوَة عسكرية عادية بغير أية شارات ، وحذاءً مرتفعا بمهماز لطخه الطين والدم الجاف وتمنطق بحزام تدلى منه حامل مسدس مفتوح اللسان ، وكشفت يده التي كانت دائما على مقبض المسدس مدى اليقظة والتحفز اللذين شفت عنهما نظراته ،
حتى لم تتمالك اُوُرسولا أن قالت لنفسها حين لمحت كل هذا وأكثر منه : رحماك يا ربي ، إنه يبدو الآن رجلا لا يتردد عن شيء .
وحالما تم تنفيذ الأمر بدفن الموتى بقبر جماعي عُهِد الى الكونونيل روكارنيرو بمهمة تشكيل محكمة عسكرية ، وانهمك هو على الأثر بمهمة شاقة هي فرض إصلاحات راديكالية لا تدع حَجرا في حكم المحافظين في مكانه ، وقال لِمساعديه في هذا الصدد : علينا أن نسبق السياسيين في الحرب فعندما يفتحون أعينهم على الواقع سوف يجدون أمامهم حقائق قائمة .
وكان من قراراته مراجعة عقود تملك الأراضي التي يرجع تاريخها الى مائة سنة ، فاكتشف المظالم الصارخة التي ألبسها أخوه جوزيه آوُركاديو ثوب القانون وسرعان ما ألغى تسجيلاتها بِجَرَّة قلم ، ولكي يقوم بلفتة ودية ترك مهامه ساعة من زمن وزار أرملته روبيكا ليطلعها على نواياه ، والحق أنه وجد هذا الأرملة التي كانت موضع سره في غرامياته والتي كان لها الفضل في إنقاذه في الكثير من المآزق وهي في عزلتها في ظلال بيتها أقرب الى شبح من أشباح الماضي ، وقد بدأ ينصحها أن تخفف من صرامة أحزانها وأن تدع الهواء يتجدد في المنزل وأن تغفر للدنيا ما نالها من قتل جوزيه آوُركاديو ، بيد أن روبيكا كانت بمنأى عن هذا كله وقبعت في مقعدها الهزاز تنظر إليه وكأنه هو ذلك الشبح من أشباح الماضي ، بل إنها لم تنزعج بالنبأ الذي ساقه إليها عن الأراضي التي اغتصبها جوزيه آوُركاديو وقُرب إعادتها الى مُلّاكها الشرعيين .
وإنما تنهدت قائلة : إن كل ما تقرره يا أُوروليانو سيكون أمرا نافذا ، كان رأيي فيك دائما وقد لمستُه الآن بالدليل ، إنك شخص مرتد عن كل معتقَد كان لك .
وقد تمت مراجعة وتعديل عقود التمليك في نفس الوقت الذي انعقدت فيه المحكمة العسكرية برائاسة الكنونيل كريلدو ماركيز وانتهت بإعدام كل الضباط الذين أسرتهم قوات المتمردين ، وكان آخِر من حوكِم هو الجنرال راكيل مُوكادا .
وقد بادرت اُوُرسولا بالتوسط من أجله وفي هذا قالت الكونونيل أُوروليانو بوينديا : إن حكمه من أفضل ما رأينا في ماكوندو ، ولن أحدثك عن طيبة قلبه وعن مودته لنا لأنك تعرف هذا أكثر من أي أحد آخر .
فما كان من الكونونيل أُوروليانو بوينديا إلا أن نظر إليها مستنكرا ورد عليها قائلا : لا يمكنني أن آخذ على عاتقي مهمة تصريف العدالة ، إن كان عندكِ ما تقولينه فقوليه للمحكمة العسكرية .
وفي الحق أن اُوُرسولا لم تفعل هذا فقط بل إنها جمعت كل أمهات الضباط المتمردين المقيمات في ماكوندوو للشهادة ،
فأقبلن كلهن واحدة واحدة وبينهن كثيرات ممن اشتركن في تأسيس البلدة عبر الجبال والمستنقعات على أداء الشهادة وامتداح فضائل الجنرال مُوكادا ، وكانت آخرِهن اُوُرسولا وقد أدت حرارة دفاعها وقوة إقناعها وما تهيأ لها من مهابة واعتبار بين الجميع الى جعل ميزان العدالة يتأرجح فترة إذا راحت تقول لهم : إنكم أخذتم هذه العملية مأخذ الجد الخطير ، وخيرا فعلتم لأنكم تقومون بواجبكم ، لكن لا تنسوا أنه طالما أنعم الله علينا بالحياة فسنظل نحن أمهات ومهما كنتم ثوريين فلنا الحق في خلع بنطلوناتكم وتأديبكم بالعصا لأول بادرة عدم احترام لنا ، نحن أمهاتكم .
وقد انسحبت المحكمة للمداولة ومازالت هذه الكلمات تتردد في الأسماع .
وعند منتصف الليل صدر الحكم بإعدام الجنرال مُوكادا وقد رفض الكونونيل أُوروليانو بوينديا تعديل الحكم على الرغم من مُهاترات اُوُرسولا ، وقبل الفجر بقليل زار المحكوم عليه في السجن وقال له : تَذَكَّر أيها الصديق القديم أنني لا أعدمك وإنما الثورة التي تعْدمك .
لم يكلف الجنرال مُوكادا نفسه عناء النهوض من السرير الصغير عندما رآه داخلا .
ورد عليه قائلا : اذهب الى جهنم يا صاحبي .
لم يكن الكونونيل أُوروليانو بوينديا قد منح نفسه حتى هذه اللحظة فرصة لقاء الرجل قلبيا وقد رَوَّعه الآن ما رآه من تقدمه في السن ورعشة يديه وانتظاره للموت من امتثال المأثور عمن في موقفه ، وإذا هو يشعر بتقزز بالغ من نفسه مشوب ببوادر الرثاء ،
ومهما يكن فإنه قال : أنت تعرف خير مني أن المحاكمات مهازل ، وإنك في الواقع تدفع ثمن جرائم غيرك ذلك لأننا مصممون هذه المرة على كسب الحرب بأي ثمن ، أما كنت تفعل نفس الشيء وأنت في مكاني ؟
نهض الجنرال مُوكادا لكي يمسح نظارته السميكة في ذيل قميصه ورد قائلا : جائز ، ولكن ما يقلقني ليس هو إعدامك لي لأن هذا بالنسبة لأناس مثلنا هو موت طبيعي .
ووضع نظارته على الفراش ونزع ساعته وسلسلته واستطرد يقول : إنما يقلقني أنه بعد كل أحقادك علينا ومحاربتنا بكل هذا العنف قد انتهيت الى صيرورتك أسوأ منا ولم يَعُد في الحياة شيء يوازي هذه الوضاعة .
ونزع خاتم زواجه وأيقونة العذراء ووضعهما بجانب النظارة والساعة ثم اختتم قائلا وبهذا المعدل لن تكون فقط أشد دكتاتور طغيانا ودموية في تاريخنا بل سوف تعدم صديقتي اُوُرسولا في محاولة تهدئة ضميرك .
ووقف الكونونيل أُوروليانو بوينديا في مكانه جامدا ، وما لبث الجنرال مُوكادا أن أعطاه النظارة والساعة والإقونة والخاتم ، ثم غيَّر نبراته قائلا : لكنني لم أبعث إليك لتأنيبك إنما أردت أن أطلب منك معروفا ، أن ترسل هذه الأشياء الى زوجتي .
ووضع الكونونيل أُوروليانو بوينديا الأشياء في جيوبه قائلا : أهي لاتزال في بلدة مانورد
فأيده الجنرال مُوكادا قائلا : لا تزال في مانور ، في نفس البيت القائم خلف الكنيسة .
فقال الكونونيل أُوروليانو بوينديا : يسرني أن أفعل هذا .
وعندما خرج الى الهواء المشبع بالضباب شعر بالرطوبة تلفح وجهه ، واستقبله فريق الرماة بالرصاص المصطفين تجاه الباب مُحيينه بتحية رئيس الدولة فأمرهم قائلا : ليخرجو به الآن ...


الفصل التاسع

كان الكنونيل كريلدو ماركيز هو أول من أدرك عقم هذه الحرب وخواءها ، وفي وضعه الأخير كقائد عسكري ومدني في ماكوندو كان يتبادل الاتصال البرقي مرتين في الأسبوع مع الكونونيل أُوروليانو بوينديا للاطلاع على آخِر تطورات الاشتباكات والبت في اتجاهاتها المستقبلية ، وعلى الرغم من طول المحادثات البرقية بينهما فقد لاحظ الكنونيل كريلدو ماركيز في الاونة الأخيرة فتورا غريبا في حماس الكونونيل أُوروليانو بوينديا للخوض في تفاصيل المعارك الدائرة حتى انتهى به الأمر الى هذا الإحساس بعقم الحرب وخوائها ، وأصبح ملاذه الأخير لقتل الوقت والتخلص من أثقال الوحدة هو قضاء فترات بعد الظُهر عند أمارانتا التي أحبها حبا عميقا ، لم تقابله إلا بالفتور المهذب ، ورغم ذلك ظل يتابعها بزياراته اليومية على أمل أن يلين قلبها يوما ما .
ثم كانت المفاجأة بعد شهرين عندما ظَهر الكونونيل أُوروليانو بوينديا في ماكوندو وعلى غير انتظار ، تلك المفاجأة التي أذهلت صديقه الحميم وأذهلت حتى اُوُرسولا لما رأوه من تبدل أحواله ، فقد جاء هذه المرة بلا ضجيج أو حرس ملتفا بعباءة رغم شدة الحر بصحبة محضيات أسكنهن معه في نفس البيت ، وأخذ يقضي معظم وقته ممددا في إرجوحته وقَلما كان يطلع على البرقيات التي كانت ترد عن العمليات العسكرية العادية .
وفي إحدى المناسبات زاره الكنونيل كريلدو ماركيز يسأله عن تعليماته بصدد إخلاء موقع على الحدود حيث كان ثمة خطر من تحول الصراع الى مشكلة دولية ،
فكان الرد هو : تضايقني بالتفاهات ، سل السماء .
في ذلك الحين كانت الحرب تمر بمرحلة عصيبة ، فإن مُلّاك الأراضي اللبراليين الذين ساندوا الثورة في البداية قد تحالفوا سرا مع مُلّاك الأراضي المحافظين بهدف وقف عملية مراجعة وتعديل عقود الملكية ، وعمد السياسيون الذين كانوا يزودون الثورة بالأموال وهم في المنفى الى التبرؤ علانيةً من أهداف الكنونيل أُوروليانو بوينديا المبالِغة في الشدة والتطرف ، هكذا انتابه ضيق بالغ جعله ينصرف عن كل شيء ويخلد الى الاسترخاء واللامبالاة بعد أن بلغت الحرب مرحلة ركود شامل ، وقد ظل على هذه الحال الى أن جاءت لجنة من الحزب اللبرالي كانت مخولة لدراسة أسباب هذا الركود الذي انتهت إليه الحرب ، وفي مجلسه بين مستشاريه السياسيين راح يستمع في صمت الى مقترحات المبعوثين .
فطلبوا أولا نبذ مراجعة وتعديل عقود الملكية عملا على استعادة تأييد مُلّاك الأراضي اللبراليين ، وطلبوا ثانيا أن يتخلى عن محاربة النفوذ الإكنيليكي لكي يحصلوا على تأييد الجماهير التي تدين بالمذهب الكاثوليكي ، ثم طلبوا أخيرا أن يعدل عن هدفه الخاص بالحقوق المتساوية للأطفال الشرعيين وغير الشرعيين حفاظا على تماسك البيت.
وهنا قال الكنونيل أُوروليانو بوينديا باسما بعدما فرغوا من قراءة المطالب : معنى هذا أن كل ما نحارب من أجله هو السلطة ؟
فرد أحد أعضاء اللجنة قائلا : هذه مجرد تغييرات تكتيكية ، المسألة الأساسية في المرحلة الراهنة هي توسيع القاعدة الشعبية للحرب وبعد ذلك سوف تكون لنا نظرة أخرى .
وعندئذٍ سارع أحد مستشاري الكونونيل أُوروليانو بوينديا الى التدخل قائلا : هذه تناقضات ، ومعناها أننا كنا نحارب مدى عشرين عاما ضد مشاعر الأمة ، إن ...
بيد أن الكونونيل أُوروليانو بوينديا أوقفه عن الاسترسال بإشارة من يده قائلا : لا تضيع وقتك يا دكتور ، الشيء المهم أننا منذ الآن فصاعدا سنحارب من أجل السلطة فقط .
وتناول الوثائق التي جاء بها المبعوثون وتأهب للتوقيع عليها ومازال يبتسم قائلا : لما كان هذا هو الموقف فلا اعتراض عندنا للقبول .
جعل رجاله يتبادلون النظر الى بعضهم البعض في جزع .
وقال الكنونيل كريلدو ماركيز في صوت خافت : معذرةً يا كونونيل ، ولكن هذا يعتبر خيانة .
فرفع الكونونيل أُوروليانو بوينديا القلم في الهواء وأفرغ جِماع سلطته عليه آمرا : سَلِّم سلاحك .
فنهض الكنونيل كريلدو ماركيز ووضع سلاحه على المنضدة ، بينما مضى الكونونيل أُوروليانو بوينديا في أوامره قائلا : ارجع الى الثكنات وضع نفسك تحت تصرف المحكمة الثورية .
وما لبث أن وَقَّع الوثائق وأعطاها الى المبعوثين قائلا : إليكم أوراقكم أيها السادة ، وأرجو أن تحصلوا منها على المزايا المطلوبة .
وبعد يومين حوكِم الكنونيل كريلدو ماركيز بتهمة الخيانة العظمى وحُكِم عليه بالإعدام .
وقد أعار الكونونيل أُوروليانو بوينديا آذانا صماء لكل طلبات الاسترحام التي قُدِمت إليه .
وفي ليلة التنفيذ خالفت اُوُرسولا كل الأوامر الصادرة بعدم إزعاجه ، ودخلت عليه في مخدعه متشحة بالسواد بالغة الرصانة وابتدرته قائلى وهي واقفة طيلة الدقائق الثلاث التي حُدِدت للمقابلة : أنا أعرف أنك ستعدم كريلدو ، وليس في قدرتي أن أفعل أي شيء لمنع إعدامه ، لكنني أوجه إليك تحذيرا واحدا ، في اللحظة التي أرى فيها جثته فأقسم لك بعظام أبي وأمي وأقسم لك بذكرى جوزيه آوُركاديو بوينديا وأقسم لك أمام الله أنني سأجرك جرا من حيث ما كنت مختبئا وأقتلك بيدَي هاتين .
وقبل أن تبرح الغرفة ودون انتظار لأي رد اختتمت قائلة : إن هذا يساوي عندي كما لو كنت ولدتك بذيل خنزير .
وفي ليلة عصيبة أمضاها في التأمل واستعراض الماضي والحاضر ، ظَهَر عند الفجر في زنزانة الكنونيل كريلدو ماركيز قبل ساعة واحدة من موعد تنفيذ حكم الإعدام وقال له : انتهت المهزلة أيها الصديق القديم هَلُمَّ بنا من هنا قبل أن يتكفل البعوض بتنفيذ الإعدام .
فلم يستطع الكنونيل كريلدو ماركيز أن يكتم رنة الارتواء التي ابتعثها فيه هذا المَسلك ورد قائلا : لا يا أُوروليانو ، خير عندي أن أموت منأن أراك تتحول الى طاغية دموي .
فقال له الكونونيل أُوروليانو بوينديا : لن تراني هكذا ، الْبِس حذاءك وساعدني لوضع حد لهذه الحرب القذرة .
والحق أنه حين قال قولته تلك لم يكن يعرف أن شن الحرب أيسر من وضع حد لها ، فقد لبث قرابة عام وهو يبذل جهود عنيفة لإجبار حكومة المحافظين على عرض شروط صلح مقبولة لدى المتمردين ، ولبث عام مثله وهو يجاهد في لإقناع رفاقه في حمل السلاح بقبولها ، وقد توسل بكافة أساليب التشدد والقسوة لإخماد تمرد ضباطه الذين قاوموا وطالبوا بالنصر ، حتى اضطر في النهاية الى الاعتماد على قوات العدو لحمل رفاقه على الامتثال .
وباقتراب موعد الهدنة اغتبطت أسرة الكونونيل أُوروليانو بوينديا بقرب عودته الى العيش في أحضانها بعيدا عن ويلات الحرب وأعبائها الباهضة ليكون بشرا عاديا مثل سائر الناس ،
حتى قالت اُوُرسولا في هذا : سيكون لنا أخيرا رجل في البيت كما كنا في الماضي .
ومن عجب أن الجيش الحكومي كان عليه أن يتولى حماية البيت عند هذه العودة المرتقبة ، إذا كان وصوله مقترنا بالشتائم والإهانات والاتهام من أنه قد عَجَّل بإنهاء الحرب بثمن باهض .
وفي خلال الأيام التالية التي استسلم فيها لمداواة جراحه الجسدية والنفسية عمد الى إتلاف كل أثر يربطه بحياته الماضية ، فجرد مَسْبك المعادن من كل ما له قيمة ووزع ملابسه على أتباعه من رجال المراسلة ، ولم يحتفظ إلا بطبنجة فيها رصاصة واحدة ، وقبل ذلك بساعات جاءت بَيلارتارنيرا لزيارته فراعه تقدمها في السن وترهل بدنها وانحسار ضحكتها الرنانة المرحة ، وإنما راعه أكثر من هذا نفاذ نبوآتها العجيبة في قراءتها للطالع ، إذ حذرته مرة أخرى مثلما حذرته وهو في قمة مجده : خلي بالك من فمك .
وجاءه طبيبه الخاص ، وبعد أن فرغ من مداواة جروحه طلب منه بلهجة عرضية ودونما اهتمام معين أن يشير له بالتحديد الى موضع القلب .
فتسمع الطبيب بالسماعة ثم رسم دائرة على الصدر بقطعة قطن مغموسة باليود دون أن يعقب بسؤال .
وحل يوم توقيع الهدنة ، ففي الخامسة صباحا دلف الكونونيل أُوروليانو بوينديا الى المطبخ حيث شرب قهوته السوداء بغير سكر كعادته .
وقالت له اُوُرسولا : لقد جئت الى الدنيا في يوم ثلاثاء كهذا اليوم وكان الجميع في ذهول من عينيك المفتوحتين .
بيد أنه لم يكن ملقيا لها بسمعه ، إذ أنه كان مُنْصِتا الى أصوات تشكيلات الجنود وصدى الأوامر العسكرية ودوي الأبواق وهي تمزق سكون الفجر .
ومن عجب أن هذه الأصوات المألوفة لديه جعلته يغص بطعام الإفطار ويصد عنه ، وعندما أقبل الكنونيل كريلدو ماركيز مع زمرة من الضباط المتمردين لمرافقته الى مكان الاجتماع ألفاه صامتا بالغ الوجوم والسهوم .
وحاولت اُوُرسولا أن تلقي بعباءة جديدة على كتفيه قائلة : ماذا سيظن رجال الحكومة عنك ؟ سيظنون أنك استسلمتَ لأنه لم يبقَ عندك شيء يكفي لشراء عباءة لك .
لكنه لم يقبل العباءة ، وعندما خرج الى الباب تركها تضع على رأسه قبعة قديمة من اللبان كان يلبسها أبوه جوزيه آوُركاديو بوينديا وقالت له أخيرا : أُوروليانو عدني أنك إذا وجدتها ساعة شديدة على نفسك هناك فلتتذكر أمك .
فرد عليها بابتسامة متباعدة ، وخرج من البيت لمواجهة الصيحات والشتائم والحملات التي كان مقدرا أن تلازمه حتى مغادرته ماكوندو .
وارتدت اُوُرسولا الى الباب الخارجي فشدت رتاجه وفي عزمها ألا تُفتَح حتى نهاية حياتها وهي تدير هذه الخواطر في نفسها : سوف نفنى هنا ونتحول الى تراب في هذا البيت الذي لم يبق فيه رجال ، لكننا لم ندع لهذه البلدة النكدة فرصة الشماتة بنا ورؤية دموعنا .
وأمضت ساعات الصباح كلها تبحث عن أي شيء يذكرها بولدها ، بيد أنها لم تعثر على آثار تنفع للذكرى .
ووصل الكونونيل أُوروليانو بوينديا الى مكان الاجتماع على بُعد 15 ميلا من ماكوندو حيث تلاقى الوفد الحكومي المحافظ مع وفد المتمردين اللبراليين في خيمة كبرى بجوار نيرلانديا ، وكان راكبا بغلا موحلا وترك لحيته بغير حلاقة وكان يقاسي من آلام جروحه أشد من مُقاساته من حبوط أحلامه ذلك لأنه وصل الى الحد الذي انتهت فيه كل الآمال والأحلام وتلاشت كل الأمجاد والانتصارات ، وعملا بالتدابير التي طلبها فقد خلا الاحتفال من الموسيقى أو الألعاب النارية أو دق الأجراس أو هتافات النصر أو غير ذلك من المظاهر التي تغير الطابع الحزين للهدنة ، ولم يستغرق الاحتفال سوى الوقت اللازم لتوقيع الوثائق ، وكان بين أعضاء الوافدين أواخر الضباط الذين بقوا على ولائهم للكونونيل أُوروليانو بوينديا .
وعندما هَمَّ رئيس الوفد الحكومي بتلاوة بنود الاستسلام أبى الكونونيل أُوروليانو بوينديا قائلا : دعونا لا نضيع الوقت في الشكليات .
وتأهب لتوقيع الوثائق دون قراءتها ، وعندئذٍ قطع أحد ضباطه السكون الثقيل قائلا له : يا كونونيل أرجوك أن تكرمنا بأن لا تكون أول الموقعين .
فنزل الكونونيل أُوروليانو بوينديا على رجائه ، وجرت التوقيعات في صمت رهيب الى أن بقي السطر الأول في كل وثيقة خاليا حتى إذا هَمَّ الكونونيل بملئه قال له ضابط آخر من رجاله : يا كونونيل لايزال هناك وقت لتصحيح كل شيء .
بيد أنه أجرى قلمه على الأوراق في المكان الخالي دون أن يتبدل شيء من ملامح وجهه ، وما كاد يفرغ من التوقيع حتى ظَهر في المدخل ضابط شاب يقود بغلا محمل بصندوقين كبيرين ، كان أمين الصندوق المتمردين في منطقة ماكوندو وقد أمضى ستة أيام في رحلة شاقة وهو يسحب البغل المائت من الجوع لكي يصل الى مكان الهدنت قبل فوات الأوان ، وما لبث أن أنزل الصندوقين وأخذ يُخرج منهما قوالب من الذهب بلغ عددها 72 وضعها فوق المنضدة .
لقد نسي الجميع وجود هذا الرصيد الضخم ، ففي فوضى العام الفائت عندما دب الانقسام الى القيادة المركزية لحركات التمرد وشاعت المنافسات الفردية بين زعمائها كان من المستحيل قيام مسؤولية عن أي شيء ، وفي الحال أدرج الكونونيل أُوروليانو بوينديا قوالب الذهب جميعا في صلب وثائق الاستسلام ، واختتم الاجتماع دون أن يسمح بأي خلط أو تعقيد .
بيد أن الضابط الشاب وقف في مواجهته متفرسا بعينيه الهادئتين حتى سأله الكونونيل : أي شيء آخر ؟
فأجاب الضابط وهو يشد على فمه : الإيصال .
فكَتب الكونونيل أُوروليانو بوينديا إيصال تسلم الذهب بخطه وانسحب على الأثر الى خيمة ميدان أُعِدَّت له ليستريح إذا شاء ، فلما خلا الى نفسه نزع قميصه وجلس الى حافة الفراش الصغير .
وفي الثالثة والربع أخرج طبنجته وأطلق رصاصتها على نفسه في نطاق دائرة اليود التي رسمها طبيبه على صدره .
وفي تلك اللحظة رفعت اُوُرسولا وهي في ماكوندو غطاء وعاء اللبن فوق الموقد وهي تعجب كيف استغرق فترة طويلة لكي يغلي فوجدته مليئا بالديدان فهتفت : إنهم قتلوا أُوروليانو ، لقد أطلقوا عليه النار في ظهره ولم يجد إنسانا خَيِّرا يغْمض له عينيه .
وعند الغروب جاءوا وهي تنتحب حاملين الكونونيل أُوروليانو بوينديا ملفوفا بملاءة كانت لا تزال مُتَيَبِسَة بالدم الجاف وعيناه مفتوحتان حنقَا .
لقد نجا من الخطر فإن الرصاصة سلكت مسارا مستقيما حتى استطاع الطبيب أن يدس فتيلا مغمسا من اليود ويسحبها من الظَهر ،
وقال وهو في غاية الرضا : كانت هذه آية البراعة مني ، كانت هذه النقطة التي حددتُها هي المسار الوحيد الذي يمكن أن تمر فيه الرصاصة دون أ، تعطب أي عضو حيوي .
عندها نَقِمَ الكونونيل أُوروليانو بوينديا على نفسه إذ لم يطلق الرصاصة في سقف حلقه كما كان في نيته أن يفعل حتى ولو بقصد السخرية من نبوءة بَيلارتارنيرا ، وقال للطبيب : لو كانت لي سلطتي الماضية لأمرت بإعدامك رميا بالرصاص في الحال .
ولقد أدى حبوط موته الى استعادة مكانته الذاهبة في غضون ساعات معدودات .
إن نفس الجماهير التي اختلقت قصة تقول ، إنه باع الحرب مقابل غرفة جدرانها من قوالب الذهب ، قد وصفت محاولة الانتحار بأنها عمل من أعمال الشرف وأسبغوا عليه منزلة الشهيد .
وفي مدى شهرين استطاع الكونونيل أُوروليانو بوينديا أن يغادر غرفته وكانت نظرة واحدة الى مدخل البيت كافية لكي تعدل به عن كل تفكير في استئناف الحرب مرة أخرى ،
فإن اُوُرسولا قد انبرت بحيوية تفوق سنها الى تجديد البيت ، إذ قالت عندما رأت أن ابنها سيبقى على قيد الحياة : الآن سوف يرى الجميع من أنا ، لن يكون في الدنيا كلها بيت أَرْحَب ولا أجمل من بيت المجانين هذا .
فقد أجرت تنظيفه وطلاءه وغيَّرت أثاثه وأعادت الحديقة الى سابق رونقها وغرست فيها أزهارا جديدة وفتحت الأبواب والنوافذ حتى تتسرب أضواء الصيف الباهرة الى كافة الغرف حتى غرف النوم ، وأعلنت انتهاء فترات الحداد التي فرضتها من أجل الراحلين من أفراد الأُسرة ، وأبدلت هي نفسها بثياب الحزن الكالحة ملابس أخرى أدنى الى طابع الشباب ، وانطلق عزْف البيانولا ليصدح من جديد في أرجاء البيت ويملأ جوه مرحا ،
ولم تتمالك أمارانتا إذ ذاك أن تذكرت بيترو كرِيسبي وتحركت أشجانها التي كانت هاجعة في قلبها الذاوي ، ولكن الزمن طهره ونزع عنه كل حقد دفين .
وذات يوم بدا لاُوُرسولا أن تستعين بجنود الحرس الذين كانوا يشرفون على حراسة البيت بأمر الحكومة بدعوى حمايته ، فلم يمانع رئيسهم الشاب وشيئا فشيئا أخذت اُوُرسولا تعهد إليهم ببعض الأعمال ، وكانت تدعوهم لتناول الطعام وتعطيهم ملابس وأحذية وتكفلت بتعليمهم القراءة والكتابة .
وعندما أمرت الحكومة بسحبهم استمر واحد منهم في الإقامة في البيت وظل في خدمة الأسرة سنين طويلة .
وفي عيد رأس السنة الجديدة عُثِر على قائد الحرس الشاب ميتا تحت نافذة ريميديوس الجميلة بعد أن جن جنونه لطول ما صدته عنها ...


الفصل العاشر

عندما كبر الشقيقان التوأمان جوزيه آوُركاديو الثاني وأُوروليانو الثاني ابنا آوُركاديو فقد بلغت المشابهة بينهما والمشاكسات الصادرة منهما حدا جعل حتى أمهما سانتا سوفيا بيدال تعجز عن التافريق بينهما ومعرفة من منهما مسمى بالاسم الذي أُطلق عليه دون خلط أو التباس على أ، هذا اللبس ما لبث أن تغير عندما تجاوزا سن المراهقة ، فإن أُوروليانو الثاني استحال الى فتى ضخم البنية مثل أجداده بينما شب جوزيه آوُركاديو الثاني بادي العظام مثل الكونونيل ، وكانت المشابهة المشتركة بينهما هي سمة الانطواء والعزلة ، ثم تكشف الفارق الحاسم بينهما في إبان الحرب ، عندما طلب جوزيه آوُركاديو الثاني من الكنونيل كريلدو ماركيز أن يدعه يشهد عملية من عمليات تنفيذ حكم الإعدام بعكس أخيه أُوروليانو الثاني الذي ارتاع من هذه الفكرة مفضلا البقاء في البيت ، وفي هذه المناسبة طلب من جدته اُوُرسولا أن تريه الغرفة المغلقة التي كانت معملا لجده الأكبر جوزيه آوُركاديو بوينديا والتي أُطلق عليها فيما بعد غرفة مالكويداس، وجمع فيها كل ما تركه ذلك الغجري الحكيم من كُتب ومخطوطات ، فلم تجد اُوُرسولا إزاء إلحاحه إلا أن تعطيه مفتاح الغرفة ، ومن عجب أن أُوروليانو الثاني عندما فتح الغرفة لم يجد فيها آثارا للأتربة والعناكب كما تصور ، ووجد الكتب مصفوفة والمخطوطات منسقة ، وحين تناول أحد الكتب وقرأ ما فيه راعته أعاجيب القصص التي تضمنها ، أما المخطوطات فقد عجز عن فك طلاسمها إذا كانت بخط أقرب الى الرموز الموسيقية ، وقد بلغ من فرط انبهاره بالغرفة وما فيها أن ساوره ذات يوم إحساس خفي بأنه يرى شبح مالكويداسدائما في ظلال الغرفة على استعداد لِتنويره بكل ما يستعصي عليه فهمه وتزويده بالحكمة التي نهل منها جده الأكبر .
أما جوزيه آوُركاديو الثاني فقد خرج من مشاهدة تجربة عملية تنفيذ الإعدام بفزع بالغ جعله يمقت الحرب ويهرب الى برج الكنيسة ليدق ناقوسها لمساعدة الأب أنطونيو إزابيل والعناية بديوك المصارعة في حوش الأبرشية .
ولما اكتشف الكنونيل كريلدو ماركيز الحقيقة زجَرَه بشدة لاهتمامه بأمور يكرهها اللبراليون .
فرد قائلا : الحقيقة أني صرت من المحافظين كما أظن .
وعندما تضايق الكنونيل كريلدو ماركيز وأبلغ اُوُرسولا قالت له متعاطفة مع حفيدها : هذه الكيفية أفضل ، ندعو الله أن يصبح قصسيسا لكي يحل الإيمان في بيت المجانين هذالأُسرة قتل أحد منافسا له بسبب هذه الديوك .
ولكن جوزيه آوُركاديو الثاني احترف مصارعة الديوك ، ولما رأته اُوُرسولا يدخل البيت لأول مرة بديوكه عارضته بشدة قائلة أنها تجلب النحس ، وأن أحد أسلاف االمشؤومَة ، ولكنه استمر في تربيتها في بيت بَيلارتارنيرا جدته التي أعطته كل ما يحتاج في مقابل إقامته عندها .
أما أخوه أُوروليانو الثاني فكانت أطواره أدنى الى العجب ، ففي الفترة التي أمضاها عاكفا على القراءة في غرفة مالكويداسكان منطويا على نفسه مثلما كان الكونونيل أُوروليانو بوينديا في شبابه ، ولكن بعد توقيع معاهدة الصلح في نارلانديا حدث ما أَخرجه عن انطوائه وجعله يواجه واقع الدنيا .
فقد التقى ذات مرة بامرأة شابة كانت تبيع يانصيب الكارتيلا لجائزة أوكورديون وحيته بحفاوة ومعرفة أكيدة ، فلم يُدهَش أُوروليانو الثاني إذا كثيرا ما خلط الناس بينه وبين أخوه التوأم ، بيد أنه لم يعمل على توضيح هذا الخلط وانتهى اللقاء بأن أخذته المرأة الى حجرتها ، والواقع أن المرأة أحبته حبا شديدا منذ لقائهما الأول حتى دبرت الأمور بحيث تكون جائزة أوكورديون من نصيبه عند سحب أوراق الكارتيلا .
وبعد انقضاء أسبوعين تحقق أُوروليانو الثاني أن المرأة كانت تعاشره بالتناوب مع أخيه معتقدة أنهما شخص واحد ، وبدلا من أن يعمل على تصحيح الخطأ قرر أن يطيل أمد الموقف ، ولم يَعد يذهب الى غرفة مالكويداسوإنما كان يمضي عصر كل يوم في فناء البيت يتدرب على العزْف على الأوكورديون بالرغم من اعتراضات اُوُرسولا التي كانت في ذلك الحين قد حَرمت عزف الموسيقى في البيت بسبب الحداد العائلي ولأن الأوكورديون في نظرها كان صنعة المتسولين ، وعلى الرغم من ذلك فإن أُوروليانو الثاني غدا بارعا في العزف على الأوكورديون وظل كذلك حتى بعد أن تزوج وأنجب أولادا وأصبح من أكثر الناس احتراما في ماكوندو .
لقد دامت العلاقة بين الأخوين وبائعة الكارتيلا شهورا ولكن جوزيه آوُركاديو الثاني مَرِضَ وانسحب ، أما أُوروليانو الثاني فقد صارحها بالحقيقة والتمس صفحها وبقي معها حتى مماته ، كانت المرأة تدعى بيترا كوتيس وكانت قد جاءت الى ماكوندو في إبان الحرب مع زوج عرضي يرتزق من الكارتيلا ، وبعد وفاته استمرت في المهنة ، كانت شابة مولدة ذات عينين لوزيتين أسبغت على وجهها شراسة أفعى البانثا ، بيد أنها كانت طيبة القلب فوارة العاطفة .
وبعد أن تأكدت اُوُرسولا أن جوزيه آوُركاديو الثاني قد احترف مصارعة الديوك وأن أُوروليانو الثاني يَعْزف على الأوكورديون في تلك الحفلات الصاخبة التي كانت تقام في بيت عشيقته بدا لها أنها توشك أن تفقد عقلها بشذوذ أطوار هذا الثنائي العجيب ، حتى لكأن نقائص الأُسرة دونما شيء من محامدها قد تركزت في الاثنين .
وعلى الرغم من أن اُوُرسولا قد بلغت المائة من عمرها وأوشكت أن تفقد البصر بسبب المياه البيضاء فقد ظلت محتفظة بحيويتها البدنية الفائقة واستقامتها الخلقية المأثورة واتزانها العقلي الموفور ، وقد نذرت في نفسها إذا تزوج أحد حفيديها وأنجب ولدا أن تتولى هي تربيته وصياغته ليكون الرجل الفاضل الذي يعيد للأسرة مكانتها الذاهبة ، الرجل الذي لا يغامر في الحروب والذي لا يحترف مصارعة الديوك والذي لا يعاشر النساء الساقطات ، وهي النواقص التي عدتها عوامل فاعلة في تقويض مكانة أسرتها .
أما أُوروليانو الثاني الذي مضى رغم ذلك في حياته العابثة ، قفقد اعتبر أن ما ناله من ثراء بعد ذلك إنما كان وليد علاقته مع بيترا كوتيس كما سيرى القارئ فيما يلي .
إن بيترا كوتيس ظلت حتى نهاية الحرب تعول نفسها بما تربحه من بيع الكارتيلا وكان أُوروليانو الثاني يساعدها بما يسطو عليه بين حين وآخر من مدخرات اُوُرسولا ، وظل الاثنان يعيشان عيشة ماجنة حتى إذا عاد أُوروليانو الى بيته عند الفجر كانت اُوُرسولا تتلقاه صائحة : إن هذه المرأة هي سبب ضياعك ، إنها سلطت عليك سحرها الى حد أنني سأراك يوما وأنت تتلوى من المرض والآلام .
بيد أن أُوروليانو الثاني لم يفكر وقتها إلا في إيجاد حرفة تمكنه لإقامة بيت لِبيترا كوتيس يعيش معها بين جدرانه متفانين في الحب الى الممات ، وعندما فتح الكونونيل أُوروليانو بوينديا مَسْبَكه المعدني مرة أخرى بدا لِأُوروليانو الثاني أن يتعلم صناعة الأسماك الذهبية ليتخذ منها مَوْرِدا للعيش ، بيد أن المشقة التي كابدها في فترة ثلاثة أسابيع من التدريب جعلته يهرب من المَسْبَك .
وحدث في خلال هذه المدة أن بيترا كوتيس خطر لها أن تجعل الأرانب جائزة الربح في الكارتيلا ، والواقع أن الأرانب تكاثرت بسرعة غريبة الى حد أن الوقت لم يكن يتسع لبيع تذاكر الكارتيلا بالتوازي مع تكاثر الأرانب .
ولم يتمالك أُوروليانو الثاني أن قال لها ذات صباح وقد أذهلته كثرة الأرانب في الحوش : لماذا لا تجعلين جائزة الكارتيلا على البقر ؟
وفي محاولة بيترا كوتيس لتنظيف الحوش قايضت على الأرانب ببَقرة أنجبت بعد شهرين ثلاثة عجول ، كانت هذه هي البداية ، وفي سنوات قلائل ودونما جهود تُذكَر وإنما بعامل الحظ وحده جمع أُوروليانو الثاني ثروة من أكبر الثروات في منطقة المستنقعات بسبب ذلك التكاثر الخارق للمواشي ، كانت الأفراس تلد ثلاثاً والدجاج يبيض مرتين في كل يوم والخنازير تسمن بسرعة غريبة الى درجة أن أحد لم يصدق هذه الخصوبة الفذة إلا إذا كانت من قَبيل السحر الأسود .
ورسخ في ذهن أُوروليانو الثاني أن حظه العجيب هذا إنما هو بتأثير بيترا كوتيس حتى أنه كان يحرص دائما على عدم إبعادها عن مَراعيه وحضائره ، بل إنه بعد أن تزوج وأنجب أبناءً استمر يعايشها بموفقة زوجته فرناندا .
هكذا أصبح أُوروليانو الثاني بين عشية وضحاها مالكا لأراضي وماشية متزايدة لم يكن يجد حتى الوقت لتوسيع حضائرها ، وأضحت حفلاته الصاخبة التي كان يريق فيها الشمبانيا بغير حساب مثار العجب في أرجاء ماكوندو ، وعبثا كانت اُوُرسولا تزجره لهذا الإسراف الذي لا حد له لهذا التبذير ، إذ كان يقابل زجرها بالتمادي وهو يضحك طربا واستخفافا بل إنه جاء ذات مرة بصندوق مليء بأوراق البنكنوت وإناءً به معجون وأخذ يلسق الأوراق على حوائط البيت داخلا وخارجا بين انفعال الأسرة وتفجع اُوُرسولا وطرب الجمهور الحاشد في الشارع حتى صاح أخيرا بأعلى صوته : الآن لن يكلمني أحد في هذا البيت عن النقود مرة أخرى .
وقد عمدت اُوُرسولا الى انتزاع أوراق البنكنوت وطلاء البيت من جديد وهي تدعو قائلة : سألتك يا إلهي أن تعيدنا فقراء كما كنا عندما أنشأنا هذه البلدة حتى لا نُجزى بهذا الإسراف في آخرتنا .
ومن عجب أن الدعاء جاء بعكس ما استهدفت ، فإن أحد العمال القائمين بنزع أوراق البنكنوت اصطدم بتمثال ضخم من المصيص للقديس يوسف تركه أحدهم في البيت أثناء السنين الأخيرة للحرب ، وسقط التمثال الأجوف محطم على الأرض ، كان التمثال محشوا بالعملات الذهبية ولم يستطع أحد أن يتذكر من الذي جاء بهذا التمثال .
وفي هذا قالت أمارانتا : إن ثلاثة رجال جاءوا به ورجونا أن نبقيه عندنا الى أن تنتهي الأمطار ، فطلبت منهم أن يضعوه هناك في الركن حتى لا يصطدم به أحد ، ففعلوا وبقي في مكانه منذ ذلك الوقت لأن أحدا لم يَعد قط للمطالبة به .
إن هذا الحادث ضايق اُوُرسولا إذ كانت تعتقد بادئ الأمر أنه تمثال قديس حقيقي حتى إنها وضعت شمعة فوقه وأخذت تصلي أمامه ، فلما تبينت الحقيقة الآن لم تتمالك أن بسقت على كوم الذهب البراق وعمدت الى وضعه في ثلاثة أكياس من القِنَّب دَفنتها في مكان سري مؤملَة أن يعود الرجال المجهولون عاجلا أو آجلا لاستردادها .
في ذلك العهد كانت ماكوندو تنعم بالرخاء ، وقد استحالت بيوتها القروية الى أبنية ذات مصاريع خشبيَة وأرضية من الإسمنت مما جعل حَر الظهيرة الخنق أقرب الى الاحتمال ،
ثم بدا جوزيه آوُركاديو الثاني أن يُنشئ مشروعا مِلاحيا يربط البلدة بالعالم الخارجي ، فعمل على تطهير النهر من صخوره وشق قناة تصله بالبحر ، ولما أطلع أخاه أُوروليانو الثاني على مشروعه لم يبخل عليه بالمال ، واختفى عن الأنظار مدة طويلة حتى ظن الكثيرون أن خطته لشراء سفينة لم تكن سوى خدعة للهرب بمال أخيه ، الى أن جاء يوم هرع فيه سكان ماكوندو الى النهر وعيونهم جاحظة من الذهول ، إذ شاهدوا جوزيه آوُركاديو الثاني يتصدر أول وآخِر سفينة تَمْخُر مياه النهر الى البلدة ، لم تكن في الواقع سوى طوف خشبي كبير يجذبه بالحبال عشرون رجلا يتقدمون بمحاذته على الضفَة وقد وقف في مقدمته جوزيه آوُركاديو الثاني تلمع عيناه زهوا وهو يشرف على العملية ، ولقد وصلت معه مجموعة من نساء فرنسيات تحت مظلات ملونة تقيهن حرارة الشمس المتقدة وقد تدلت فوق أكتافهن مناديل حريرية كبيرة هفهافة ، وازدانت وجوههن بمعاجين ملونة ورشقن الزهور الطبيعية في شعورهن والتفت حول أذرعهن ثعابين من الذهب ولمعت أسنانهن بالماس .
ومن عجب أن جوزيه آوُركاديو الثاني بعد أن أطلع أخاه على تفاصيل المغامرة التي عدها دليلا على قوة الإرادة لا أكثر ما لبث أن عاد الى ديوكه المتصارعة وقضى على مشروع الخط الملاحي بالفشل ، وكان الأثر الوحيد الذي بقي من هذه المحاولة الفاشلة هو روح التجديد التي جاءت بها النساء الفرنسيات بما أدخلنه من التطور الاجتماعي والسلوكي في هذا المجتمع المنعزل المنغلق الى حد أن هذا الأثر امتد الى حانة كتارينو العتيقة التي أغلقت أبوابها كسادا ، واستحال الشارع ذاته الى ساحة تضيئها المصابيح البدائية وآلات العزف العصرية ، بل إنهن كن صاحبات السبق في إقامة الكرنفلات التي جعلت ماكوندو تعيش ثلاثة أيام في جو مرح صاخب محموم ، وكانت النتيجة النهائية لهذا كله هي إتاحة الفرصة لِأُوروليانو الثاني للإلتقاء بزوجته فرناندا ديل كاريبو
لقد أُختِيرت ريميديوس الجميلة ملكة لمهرجان الكرنفالات ، ولم تستطع اُوُرسولا التي كانت مرَوَّعة لجمال حفيدتها الصغرى الصاعق أن تمنع هذا الاختيار ، وكانت حتى ذلك الحين قد أفلحت عن إبعادها عن أعين الناس خارج البيت اللهم إلا عند الذهاب الى الكنيسة لحضور القُدّاس مع أمارانتا ، ولكنها كانت تحملها ووجهها خلف شال أسود ومن الناس من كانوا يذهبون هناك لمجرد إلقاء نظرة خاطفة على محيا ريميديوس الجميلة ، التي كانت ملاحتها الفاتنة مثار الأحاديث المحمومة في أرجاء المستنقعات ، والحق أن ريميديوس الجميلة لم تكن مخلوقة لهذه الدنيا ، لقد ظلت حتى سن المراهقة تحت رعاية أمها سانتا سوفيا بيدال التي كانت تتولى تحميمها وإلباسها ، وكانت تضعها تحت المراقبة لئلا تشوه الحوائط بالرسوم الغريبة التي كانت تَنْقُشها ، وبلغت العشرين من عمرها دون أن تعرف القراءة والكتابة جاهلة باستعمال أدوات المائدة جائلة في أرجاء البيت عارية إذ كانت طبيعتها تنبذ التستر ، وعندما طالعها قائد الحرس الشاب بحبه صدته عنها ببساطة لأن مجونه رَوَّعها،
وفي هذا قالت لِأمارانتا : انظري الى سذاجته قال لي إنه سيموت بسببي ، كأنني مرض معدٍ يؤدي الى الموت .
وعندما عثروا على الضابط الشاب صريعا تحت نافذتها لم تَعْدُ أن قالت لِأمارانتا : ألم أقل لك إنه ساذج .
إن اُوُرسولا من ناحيتها قد حمدت الله أن منح الأُسرة مخلوقة لها مثل هذا الطهر الخارق ، وإن كانت في نفس الوقت يقلقها هذا الجمال الذي عَدَّته شَرَكا شيطانيا تحت طابع البراءة ، ومن أجل هذا كان حرصها على إبعاد ريميديوس الجميلة عن الدنيا حماية لها من كل إغراء دنيوي غير عالِمة بأنها كانت حتى وهي في رحم أمها بمنأى عن كل عدوى ، ولم يخطر ببالها قط أنهم سيختارونها ملكة جمال الكرنفال الجنوني ، ولكن أُوروليانو الثاني الذي استبدت به نزوة التنكر في إيهاب نمر استقدم الأب أنطونيو إزابيل الى البيت لإقناع اُوُرسولا بأن الكرنفال ليس من الطقوس الوثنية كما قالت بل هو من الممارسات التي لا تتنافى مع العقيدة ، ولما اقتنعت في النهاية ولكن على كره منها وافقت على التتويج .
وسرعان ما انتشر خبر اختيار ريميديوس بوينديا لتتويجها ملكة في المهرجان حتى تجاوز حدود إقليم المستنقعات في ساعات معدودة ووصل الى مناطق بعيدة لم تسمع بجمالها ، الأمر الذي أثار قلق الدوائر التي مازالت ترى في لقبها العائلي بوينديا رمزا لحركات التمرد ، ولم يكن ثمة أساس لهذا القلق ، فلو كان هناك أحد قد انحاز الى السلم والمهادنة فقد كان هو الكونونيل أُوروليانو بوينديا الذي دبت إليه الكهولة وبَعُدَت صلاته بكافة أحوال أمته والذي اعتكف في مَسْبَكه المعدني يقتل الوقت بصياغة الأسماك الذهبية الصغيرة ، هكذا لم يكن ثمة أساس للقلق الناجم عن عودة اسم عائلة بوينديا للظهور على نطاق شعبي لمناسبة اختيار ريميديوس بوينديا لكي تتوج ملكة في مهرجان الكرنفالات ، وإن كان هناك العديدون ممن لم يروا هذا الرأي .
ومهما يكن فإن البلدة التي كانت غافلة عن الفاجعة التي تَتَهددها تدفقت الى الميدان الرئيسي في موجات صاخبة من المرح ، وقد بلغ المهرجان ذروته من الهوس ، وحقق أُوروليانو الثاني حلمه أخيرا بالتنكر في إيهاب نمر والسير في غمار الزحام ، وقد بُحَ صوته من فرط الصياح والانفعال عندما ظَهَر على طريق المستنقعات موكب من عديد الأشخاص يحملون في محفة مُذَهَّبة أبهى امرأة يمكن أن يتصورها الخيال ، وفي مدى لحظة نزع أهل ماكوندو أقنعتهم لكي يحسنوا النظر الى الإنسانة المنمقة الزهراء ذات التاج الزمردي والعباءة المحفوفة بالفراء الثمين والتي بدا وكأنها ملكة شرعية لا مجرد صورة مصنوعة وكان لكثير من الفطنة ما جعلهن يَعُدّون هذا البهاء من قَبيل الإغراء والإثارة ، ولكن أُوروليانو الثاني سرعان ما تغلب على حيرته وأعلن أن الوافدين الجدد هم ضيوف شرف ، وبادر فأجلس ريميديوس الجميلة والملكة الدخيلة على نفس العرش الذي أُعدَّ للتتويج .
وحتى منتصف الليل ظلالاوافدون الغُرباء المتنكرون في أزياء بدوية يشاركون في البهجة المحمومة بل إنهم ضاعفوا من أسباب المرح والبهجة بإطلاق ألعاب نارية وممارسة عروض بهلوانية جعلت الناس يتذكرون أفانين الغجر ، ثم فجأة وفي ذروَة الابتهاج والحبور صاح أحدهم هاتفا : يحيا الحزب اللبرالي ، يحيا الكونونيل أُوروليانو بوينديا .
وسرعان ما دوت طلقات الرصاص تغطي قصف الألعاب النارية وانبعثت صيحات الفزع تبتلع عزف الموسيقى واستحالت البهجة الى ذعر وهلع ، وبعد انقضاء سنوات عديدَة على هذه الفاجعة ظل الكثيرون يؤكد أن حراس الملكة الوافدة الدخيلة كانوا من الجنود النظاميين الذين أخفوا بنادقهم الحكومية تحت العباءات البدوية الفضفاضة ، برغم ما أذاعته الحكومة في بيان رسمي من دحض هذا الاتهام .
وبعد أن ساد الهدوء لم يبقَ في البلدة من أحد من البدو الزائفين ، وتناثرت على أرض الميدان جثث القتلى والجرحى في ثياب التنكر أربع راقصات بانتوميم 17 من ملوك ورق اللعب وشيطان وثلاث مغنيات واثنان من نبلاء فرنسا وثلاث أمبراطورات يابانيات .
وفي غمرة الفزع أفلح جوزيه آوُركاديو الثاني في إنقاذ ريميديوس الجميلة ، وحمل أُوروليانو الثاني الملكة الدخيلة الى البيت بين ذراعيه وقد تمزق رداؤها وتلوثت عباؤتها بالدم ، كان اسمها فرناندا ديل كاريبو وكان الاختيار قد وقع عليها كواحدة من أجمل 5000 من أجمل نساء البلاد ، وقد جاءوا بها الى ماكوندو بناءً على وعد بتسميتها ملكة مدغشقر.
وتولت اُوُرسولا العناية بها كما لو كانت ابنة لها ، وبدلا من أن ترتاب البلدة في أمرها فقد عطفت عليها ورثت لما نالها .
.وبعد ستة أشهر من المجزرة وبعد أن شُفِيَ الجرحى وذَبُلَت الزهور فوق القبر الجماعي للقتلى مضى أُوروليانو الثاني لاستقدامها من المدينة البعيدة التي كانت تقيم فيها مع أبيها وعقد قرانه عليها في ماكوندو في احتفال كبير امتد عشرين يوما ...


الفصل الحادي عشر

كاد الزواج أن يتحطم بعد شهرين لأن أُوروليانو الثاني في محاولة منه لإسترضاء بيترا كوتيس عمل على تصويرها في زي ملكة مدغشقر ، وعندما اكتشفت فرناندا ما حدث حزمت حقائب العرس وغادرت ماكوندو دون كلمة وداع ، واستطاع أُوروليانو الثاني أن يلحق بها على طريق المستنقعات ، وبعد توسلات كثيرة ووعود بالاستقامة أفلح في إعادتها الى بيت الزوجية وهجر عشيقته .
وثقةً من بيترا كوتيس في قدرتها فإنها لم تُبدي أي قلق أو إنزعاج وهي التي أخرجته من عزلته وقلة خبرته وصاغت منه رجلا يعرف كيف يستمتع بالحياة فضلا عن تأثيرها في إنماء ثروته ، وكان الشيء الوحيد الذي استبقته عندها من ملابسه هو زوج الحذاء الفاخر الذي قال إنه يريد الاحتفاظ به للبسه في التابوت حين وفاته .
وفي هذا قالت بيترا كوتيس لنفسها مصابرة : سوف يعود إلي عاجلا أو آجلا حتى لو لمجرد لبس الحذاء .
ولم يكن لها أن تنتظر طويلا فالحقيقة أن أُوروليانو الثاني قد أدرك منذ ليلة الزفاف أنه عائد الى بيت بيترا كوتيس لا مَحالة ، فإنفرناندا كانت امرأة غريبة الأطوار هائمة في هذه الدنيا ، لقد نشأت في تلك المدينة القاتمة التي تبعد 600 ميل والتي تدرج فيها المركبات الملكية ، نشأة قوامها التزمت والاعتكاف في بيت أبوين من أسرة رفيعة ، وكثيرا ما سمعت أمها المريضة تردد على سمعها : كانت جدتك الكبرى ملكة وسوف تصبحين أنت ملكة ذات يوم .
لقد صدقت فرناندا هذا الكلام حتى بعد وفاة أمها وإدخالها الدير وهي في الثانية عشررة من عمرها للتعليم ، وحتى بعد اضطرار والدها دون فرناندو لرهن بيت الأسرة ليتمكن من شراء جهاز العرس طبقا للتقاليد .
وبعد ثماني سنوات عادت الى البيت لتجده مجردا من الأثاث الفاخر والتحف الثمينة التي اضطر أبوها لبيعها سدادا لنفقات تعليمها .
وهكذا مضت فرناندا في عيشتها المنزويَة لا أصدقاء لها ولا تعرف شيئا من أحوال الدنيا حولها ، حتى ولا أنباء الحرب التي كانت تمزق البلاد ، ولا يشغلها سوى تعلم دروس البيانو وصنع أكاليل الموتى ، بل إنها بدأت تفقد الحلم الذي راودها بأن تصير ملكة في يوم ما بتأثير ما ثبتته أمها في رأسها ، الى أن جاء يوم سمعت فيه دقا آمرا على الباب الخارجي ، ولما فتحته طالعها ضابط شاب أنيق وطلب مقابلة أبيها ، وبعد أن اختلى به ساعتين خرج الأب إليها في غرفة الحياكة وقال لها :
- جهزي أمتعتك ستقومين برحلة طويلة .
وعلى هذه الصورة كانت رحلتها الى ماكوندو التي صحبها إليها دون أن تعرف ما يُراد بها ، وفي ليلة واحدة صدمتها الدنيا صدمة قاسية عنيفة بواقعها المرير وحقيقتها المروعة .
وبعد عودتها الى البيت أغلقت على نفسها باب غرفتها واستسلمت للبكاء والنحيب غير عابئة باستعطاف الدون فرناندو لها ومحاولة الشرح والتفسير رغبة في تلافي آثار الجراح العميقة التي خلفتها تلك الدعابة الالخادعة الغريبة ، وقد أقسمت ألا تبرح غرفتها حتى الموت عندما جاء أُوروليانو الثاني للزواج منها ، كان ذلك هو بداية حياتها الفعلية ، وكان في نفس الوقت هو البداية والنهاية لِسعادة أُوروليانو الثاني .
منذ ليلة الزفاف أبدت فرناندا تزمتا غريبا حتى صدفت عن فراش الزوجية مدى أسبوعين كاملين ، مما اضطر أُوروليانو الثاني الى إطالة أيام الفرح عشرين يوما ، دارت فيها الشمبانيا ونُحِرَت فيها الذبائح وأقيمت الولائم بكرم باذخ ، والسر كما اكتشفت اُوُرسولا أن فرناندا كانت ملتزمة بمراعاة أيام معينة طبقا لتقويم لُقِنَته وهي في الدير ، ولما ثابت إليه في النهاية عانى من تزمتها الأمرين ، حتى لم يمض شهر إلا وقد رجع الى بيت بيترا كوتيس وأخذ لها تلك الصورة في زي الملكة على ما تقدم .
وبعد أن أفلح في إعادة فرناندا الى بيت الزوجية وخفت حدة تزمتها أحس في النهاية أنها لا تستطيع أن توفر له تلك السعادة التي راودت خاطره حين سعى إليها في تلك المدينة البعيدة للفوز بالزواج منها .
ثم ذات ليلة قبل فترة قصيرة من مولد طفلهما الأول عرفت فرناندا أن زوجها عاد سرا الى بيت بيترا كوتيس ، وقد اعترف لها بذلك وقال يشرح لها الموقف بلهجة المستسلم لقضائه :
- هذا ما حدث ، وكان لابد لي أن أفعل هذا لكي تستمر المواشي في التكاثر والزيادة .
ولم يستغرق إلا وقتا قليلا في إقناعها بصدق هذه الدعوى الغريبة وبما قدمه من براهين بدا لا سبيل لدحضها ، وكان الوعد الوحيد الذي طلبته منه فرناندا هو ألا يدع الموت يفاجئه في فراش عشيقته .
وعلى هذه الصورة مضى الثلاثة في حياتهم دون أن يضايق أحدهم الآخر ، أُوروليانو الثاني المحب المتفاني لكل منهما وبيترا كوتيس المزهوة المنتصرة وفرناندا المتظاهرة بأنها لا تعرف شيئا ، بيد أن هذا الميثاق الغرامي لم ينجح في إدماج فرناندا في حياة أسرة بوينديا ، فمنذ أول يوم فشلت اُوُرسولا في إقناع فرناندا باستخدام دورة المياه بدلا من القعادة الذهبية التي جاءت بها في جهاز العرس ، ولكي تعطيها الى الكونونيل أُوروليانو بوينديا لصهرها وصنع أسماك ذهبية صغيرة منها .
وقد شعرت أمارانتا بالضيق من التزام فرناندا أسلوب التحذلق في الكلام حتى كانت تتهكم عليها ، مما أدى في النهاية الى القطيعة بين الاثنتين وأصبحتا لا تتصلان إلا بالمذكرات الكتابية ، وعلى الرغم من العداوة الظاهرة من جانب الأُسرى لِفرناندا فإنها لم تنفض يدها من فرض اتجاهاتها وعادات أسلافها على هذه البيئة الجديدة ، فقد وضعت حدا لِتناول الطعام في المطبخ كلما شعر أحدهم بالجوع وألزمتهم أن يكون هذا في مواعيد منتظمة وحول المائدة الكبرى في قاعة الطعام مكسوَة بمفرش كتاني وعليها أدوات المائدة ومن فوقها الثريات ، وعلى هذا النحو صارت هي المتصرفة في شؤون البيت خصوصا بعد أن طعنت اُوُرسولا في السن وكُفَّ بصرها واضطرها ثقل السنين الى الانزواء في أحد الأركان ، ثم إن أبواب البيت التي كانت تُفتح على مصاريعها منذ الفجر حتى موعد النوم أضحت توصد أثناء فترات القيلولة بدعوى أن الشمس تسخن غرف النوم وفي النهاية كان إغلاقها دائما ، وعندما قرر زوجها تسمية ابنهما الأول باسم جده الأكبر جوزيه آوُركاديو لم تلجأ فرناندا الى مخالفته إذ لم يكن قد مضى على وجودها في البيت أكثر من عام ولكن عندما ولدت البنت الأولى صَممت على تسميتها ريناتا وهو اسم أمها ، في حين أرادت اُوُرسولا أن تسميها ريميديوس ، وبعد احتدام الخلاف الذي كان الأب يقوم فيه بدور الوسيط الضاحك تم الاتفاق على تسميتها ريناتا ريميديوس ، ثم اُشتُهِرَت في البلدة باسم مِيم .
ثم توالت الأيام وتعاقبت الأعوام وفي خلال ذلك شهدت بلدة ماكوندو تطورات كبرى غيرت معالم الحياة فيها حتى أصبحت تعج بالنشاط ، فقد مُدَت إليها خطوط السَكك الحديدية وأُدخل التليفون والكهرباء وأُنشئ مصنع للثلج وبعض المشروبات المثلجة ، ولكن كان أكبر تطور مؤثر في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية هو زراعة الموز على نطاق واسع بعد أن تولته شركة خارجية جلبت معها مئات الخبراء والفنيين الذين أُقيمت لهم مساكن خاصة ومرافق معيشية وترفيهية منوعة حتى كان ذلك في نظر أهل البلدة أقرب الى الغزو منه الى التعمير ،
واحد فقط رحب بهذا الغزو الخارجي وسَعُدَ به الى حد كبير هو أُوروليانو الثاني ، فقد كان القادمون الجدد ينزلون ضيوف على البيت الكبير قبل استقرارهم في منشآتهم الجديدة ، فكانت المآدب تقام لهم بغير حساب ، وإذا كانت اُوُرسولا قد أبدت كرمها المعهود فإن أمارانتا استبشعت ما عدته اقتحاما للبيت وعادت الى تناول طعامها في المطبخ مثلما كان في الماضي .
وعمد الكونونيل أُوروليانو بوينديا الى إغلاق صومعة السبك على نفسه اعتزالا للوافدين الذين وإن تظاهروا بأنهم يؤدون واجب التحية لبطل قومي إلا أنه عدهم دخلاء متطفلين يرونه في واقع الأمر أثرا من مخلفات الماضي .
وكانت فرناندا بالطبع أشد الجميع جزعَا إزاء هذه الفوضى التي شملت البيت وعصفت بكل ما وضعته من ترتيبات ونظم ، إلا ريميديوس الجميلة التي كانت في منعة من التأثر بشيء من هذا كله بحكم طبيعتها الهادئة ونفورها من المظاهر وإعراضها عن كل تشكك وسوء ظن وسعادتها بدنياها الخاصة القائمة على الواقعية والبساطة ، ومن قَبيل ذلك أنها لم تكن تفهم لماذا تلجأ النساء الى التعقيد والتكلف بارتداء الجونلات والمشدات ، ولهذا خاطت لنفسها ثوبا خشنا فضفاضا كالجلباب حسمت به مسألة الفستان ، وإن لم تغفل عن الإحساس بأنها تبدو فيه شبه عارية ، ولكنها عدته الرداء الوحيد المناسب للبيت ، ولما رأتهم ينتقدونها بسبب شعرها المرسل الذي استطال الى الفخذين ويطالبونها بعقده جدائل وتمشيطه ورشق الفيونكات الحمراء فيه ، حلقت رأسها ببساطة واستخدمت الشعر في عمل عاريات لتماثيل القديسين ، وكانالشيء المروع لتبسيطها لكل شيء هو أنها كلما استغنت عن متطلبات الهندام اللئق إثارا لراحة البدن وكلما تجاوزت عن العرف والتقاليد استجابة لِعفويتها كلما بدا جمالها الصارخ أشد إثارة وإغراؤها للرجال أكثر وأفدح .
والوقع أن ريميديوس الجميلة ظلت حتى آخِر لحظة لها على الأرض غير مدركة ولا مقدرة أن قدرها الذي لا تبديل له كامرأة مثيرة للقلق واضطراب المشاعر هو كارثة يومية ، كانت في كل مرة تدخل فيها قاعة الطعام على الرغم من نواهي اُوُرسولا تثير في نفوس الغرباء الوافدين موجة من البلبلة والجزع إذ كان يبدو بكل وضوح إنها متجردة تماما تحت ردائها البدائي الخشن ، ولم يستطع أحد أن رأسها الحليق وجمجمتها البديعة التكوين ليسا ضربا من ضروب التحدي وأن جرأتها في الكشف عن ساقيها تلطيفا للحر ليس من قضَبيل الاستفزاز والإثارة الآثمة ومثل ذلك ما كانت تعمد إليه من لعق أصابعها بعد الأكل ، أما هي فقد كانت غافلة تماما عن البلبلة والاضطراب الذين كانت تتقلب فيهما وعن البلاء الذاتي الذي كانت تحدثه كلما مرت بمكان ، ومن ثمة كانت تعامل الرجال دونما أدنى سوء طويَة ولا خبث ، وإن كانت في نهاية الأمر تزلزلهم بهدوئها البريء ، وحينما أصرت اُوُرسولا على جعلها تتناول الطعام في المطبخ مع أمارانتا لكي لا يبصرها الغرباء الوافدون كان ارتياحها بالغا إذ كانت أبعد الناس عن التزام التقاليد والمجاملات والنظام المرسوم ، والواقع لم يكن يعنيها أين ولا متى تأكل ، أحيانا كانت تستيقظ من النوم في الثالثة صباحا لتناول طعام الغداء ثم تنام النهار طوله بل كانت تمضي شهورا متوالية ومواعيد طعامها في منتهى الاختلال ، ثم إذا طرأ تحسن على هذا الجدول الزمني كانت تستيقظ في الحادية عشرة صباحا وتغلق على نفسها الحمام حتى الساعة الثانية بعد الظهر وهي عارية تماما تتسلى بقتل العقارب الى أن تفيق من تأثير نوم عميق ثم تأخذ بصب الماء عليها بكوز من الحوض ، وكانت تطيل أمد هذه العملية وتبالغ في طقوسها الى حد أن من لا يعرفها جيدا يظن أنها قد كرست نفسها لعبادة جسدها ، أما بالنسبة لإليها فإن هذه الطقوس الفردية كان يعوزها كل إحساس ذاتي وكانت مجرد ملهاة لإزجاء الوقت الى أن تشعر بالجوع .
وذات يوم حين بدأت بالاستحمام رفع أحد الضيوف الغرباء بلاطة من سقف الحمام فتوقفت أنفاسه لدى المشهد الصاعق الذي صافح عينيه ، ولقد رأت هي عينيه البائستين من خلال البلاطة المكسورة فلم يخامرها رد فعل ينم عن الخجل بل عن الانزعاج وهتفت :
- احترس ، ستقع .
فغمغم الغريب قائلا : أردت فقط أن أشاهدك .
فقالت : لا بأس لكن احترس فإن هذا البلاط مخلخل .
لقد شاعت أمارات الذهول الممزوج بالتألق في وجه الغريب وبدا كأنه يكافح في صمت ضد مشاعره لئلا يتلاشى من أمام عينيه هذا السراب ، أما ريميديوس الجميلة فقد ظنت أنه يقاسي من الخوف من احتمال تكسر البلاط كله ، فأخذت تتعجل إتمام حمامها بأسرع من المعتاد لئلا يتعرض الرجل للخطر ، وفيما كانت تصب الماء فوق جسدها من الحوض قالت له ، إن السقف بهذه الحالة السيئة لأن ورق الشجر الذي يحشوه قد دب إليه العطل بسبب الأمطار على ما تظن وأن هذا هو سبب امتلاء الحمام بالعقارب .
وقد توهم الغريب أن كلامها هذا هو مجرد تغطية لهدوئها المذهل ، ولذلك ما أن رآها تضع الصابون على جسدها حتى استسلم للإغراء وتقدم خطوة أخرى مغمغما :
- دعيني أضع لك الصابون .
فقالت : أشكر لك حسن نواياك ، لكن يدَي فيهما كل الكفاية .
فقال راجيا : حتى ولو كان الصابون لظهرك فقط ؟
فقالت : هذه بلاهة ، الناس لا يضعون الصابون على ظهورهم أبدا .
وعندئذ وبينما كانت تجفف نفسها توسل إليها الغريب وقد امتلأ عيناه بالدموع أن تتزوجه .
فردت عليه بلهجة مخلصة قائلة أنها لا يمكن أن تتزوج رجلا بلغت به السذاجة الى حد أن يضيع ساعة من وقته بل حتى أن يحرم نفسه من طعام الغداء لمجرد أنه شاهد امرأة تستحم .
وأخيرا وعندما كانت تلبس جلبابها لم يحتمل الرجل البرهان الذي رآه بعينَي رأسه عما كانوا يستريبون فيه من أنها لا تلبس شيئا غير الجلباب ، وأحس أن كشف هذا السر كان له وقع حديد محمي في النار عليه ، وعندئذٍ نزع بلاطتين أخريين من السقف لكي ينزل الى الحمام .
فقالت تحذره مروعة : السقف عالٍ جدا ستقتل نفسك .
ولقد انكسر البلاط المعطوب يقصف له نذير الشؤم ولم يمهل الرجل لإكمال صرخة الهلع التي أطلقها إذ تهشمت جمجمته على الأرض الأسمنتية ولقي مصرعه على الأثر .
كان هذا الحادث البشع مقترنا بمصرع ضابط الحرس الشاب عند نافذة ريميديوس الجميلة ومصدر الاعتقاد الذي ساد على الأثر بأن جمالها الطاغي يجلب الموت .
ومن ثمة تخلت اُوُرسولا عن قلقها على الفتاة ورقابتها الدائمة لها وتركتها لِمصيرها خصوصا بعد مولد الحفيد الأصغر جوزيه آوُركاديو وما نذرته اُوُرسولا من السهر على تربيته ليكون من رجال الدين .
هكذا مضت ريميديوس الجميلة تهيم في بيداء وحدتها واعتزالها تضج في أحلامها بغير كوابيس وتواصل حماماتها التي لا تنتهي وتتناول طعامها دون الاتزام بأي موعد ، مستسلمة لصمتها الذي لا تعره ذكريات الى أن جاء يوم ،
وقفت فيه فرناندا في الحديقة تطوي ملاءتها طالبة مساعدة نساء البيت ، وما كادت تبدأ حتى لاحظت أمارانتا أن ريميديوس الجميلة يغطيها شحوب بالغ ،فسألتها :
- هل تشعرين بأي انحراف ؟
فأجابت ريميديوس الجميلة بابتسامة راثية وهي ممسكة بطرف الملاءة : بالعكس أنا في أحسن حال .
وما أن فاهت بهذا الرد حتى شعرت فرناندا بلفحة هواء وضياء جذبت الملاءة من يدها ودفعت وسطها الى أعلى ، وشعرت أمارانتا بدورها برفرفة خفية في أشرطة جونلتها حتى حاولت أن تشد قبضتها على طرف الملاءة لئلا تقع ، في اللحظة التي بدأت فيها ريميديوس الجميلة ترتفع .
وكانت اُوُرسولا التي كاد بصرها يذهب تماما في ذلك الحين من الهدوء بحيث فهمت طبيعة لفحة الهواء والضياء هذه وتركت الملاءة تحت رحمتهما وهي تراقب ريميديوس الجميلة تلوح مودعة في وسط الملاءة الخفاقة التي ارتفعت معها مخلفة وراءها بيئة الهوام والزهور صاعدتين في الهواء الى أن غابتا عن الأنظار في أطباق الجو الى حيث لا تدركهما حتى أطيار الذكريات .
ولقد فكر الخارجون عن نطاق البيت بالطبع أن ريميديوس الجميلة قد انتهت النهاية المحتومة لملكة نحل ، وأن أسرتها إنما حاولت بتسريب حكاية الارتفاع عن الأرض تلك إنقاذ شرفها ، أما فرناندا التي كانت تحترق حسدا لمنافستها في الجمال فقد تقبلت هذه المعجزة في النهاية وظلت وقتا طويلا وهي تبتهل وتصلي عسى أن تُعاد إليها ملاؤتها الثمينة ، وقد صدق أكثر الناس المعجزة ومنهم من ذهبوا يضيئون الشموع تبركا ...


الفصل الثاني عشر

أصرت اُوُرسولا بعناد شديد على أن تختص هي بتربية حفيدها الأصغر جوزيه آوُركاديو تربية دينية تأهله لترقي فيمراتب الكهنوت العليا الى ذروتها ، وبذلت في هذا أقصى الجهد على الرغم من إشرافها على المائة عام وانطماس بصرها تماما ، وإن كان لها من حدة حواسها الأربعة الأخرى وبأسها الماضي الطويل طوع لها في أن تمضي في حياتها العائلية كالمبصرين الى حد ما ، ثم جاء الوقت الذي أخذوا يستعدون فيه لإرسال جوزيه آوُركاديو الى المدرسة العليا ، وفي نفس الوقت كانت أخته مِيم الموزعة بين صرامة فرناندا وأحقاد أمارانتا تستعد هي أيضا لإرسالها الى مدرسة الدير حيث تُؤهَل أثناء تعليمها للتفوق للعزف على الكلافيكورد ، وأما أبوهما أُوروليانو الثاني فما لبث أن عاد الى حياته اللاهية العابثة ، فامتلأ البيت من جديد بالسكارى يسكبون الشمبانيا بغير حساب وبعزف الأوكوروديون يتردد صداه بلا انقطاع ، حتى لم تتمالك اُوُرسولا أن تمنت الموت لكي يريحها من أثقال هذا البيت المجنون على حد تعبيرها .
ثم حل اليوم المحدد لِرحيل جوزيه آوُركاديو الى المدرسة العليا فبدا هادئا رصينا لا يذرف دمعا وظل كذلك طوال وليمة الغداء الوداعية التي أقيمت لهذه المناسبة ، وفي خلالها كانت الأُسرة تتكلف السكينة والمرح ، ولكن ما أن نُقِلَت حقيبة أمتعته الى الخارج حتى بدا لهم وكأن تابوتا يُحمَل الى خارج البيت ، وكان الوحيد الذي أبى أن يشارك في الوداع هو الكونونيل أُوروليانو بوينديا المعتزل إلا من العكوف في صومعة السبك على صنع أسماكه الذهبية الصغيرة قتلا للوقت وزهدا في كل شيء حتى الحياة ذاتها ، إذا غمغم يقول :
- كاهن ، كأن هذا كل ما نحتاج إليه .
وبعد ثلاثة شهور صحب أُوروليانو الثاني وفرناندا ابنتهما مِيم الى المدرسة وعادا ومعهما معزف الكلافيكورد الذي وضعاه في مكان البيانولا .
وحوالي هذه الفترة بدأت أمارانتا تخيط قماش كفنها واقترن ذلك بفتور الحُما التي جاءة بها شركة زراعة الموز في المنطقة ، وبعد أن وجد سكان ماكوندو القدامى أنفسهم محاطين بأفواج الغرباء الوافدين مما دفعهم للإستمساك بمواردهم المحدودة التي كانت لهم منذ الأزمان الخوالي ، ولكن كان عزاؤهم على أي حال أنهم استطاعوا الصمود والنجاة في خلال هذا الغرق الأكبر .
أما في البيت الكبير فكان الضيوف لا يزالون يتوافدون لتناول الغداء ، ولم يتمكن أصحابه من استعادة أنماط حياتهم القديمة إلا بعد رحيل شركة الموز بعد ذلك بسنوات ، ومع ذلك فقد طرأت تغيرات أساسية على نظم الضيافة القديمة لأن فرناندا هي التي اضطلعت الآن بإقرار نُظُمها الجديدة ، فإنه بتنحية اُوُرسولا الى الخلف بعد أن طعنت في السن وفقدت البصر وبانهماك أمارانتا في إعداد لفائف الكفن ، فقد تهيأت لملكة الكرنفال الحرية في اختيار الضيوف وفرض النظم والتقاليد المنقولة عن أبويها ، ولقد جعلت صرامتها من البيت مثابة للعادات والتقاليد في بلدة رُوِّعَ أهلها بالسفاهة التي كان الغرباء الوافدون يبعثرون بها أموالهم ، وكان أفاضل الناس عندها هم أولئك الذين لا صلة لهم بشركة الموز ، وحتى جوزيه آوُركاديو الثاني شقيق زوجها لم يَسْلم من هذا التغيير ، إذ اضطر الى التخلي عن هواية مصارعة الدِيَكَة مرة أخرى والالتحاق بالعمل كرئيس عُمال في شركة الموز ،
وفي هذا قالت فرناندا : لا يصح بعد هذا أن يعود الى البيت طالما انتقلت إليه لوثه الأغراب .
على هذه الصورة فُرِضَ التشدد في البيت الى حد أن أُوروليانو الثاني أحس أنه أوفر راحة عند بيترا كوتيس ، أولا بدعوى رفع العبء عن زوجته والتخفيف عنها ، فقد نقل مقر ولائمه وحفلاته من البيت الكبير ، وثانيا بدعوى أن مواشيه بدأت تفقد خصوبتها ووفرتها ، فقد نقل اصطبلاته وملحقاتها ، وثالثا بدعوى أن حرارة الطقس أخف في بيت عشيقته ، فقد نقل مكتبه الصغير الذي كان يباشر عليه أعماله .
وعندما أدركت فرناندا أنها أرملة لم يتوفَ زوجها بعد كان الوقت قد فات لكي تعود الأمور الى حالتها السابقة وأصبح أُوروليانو الثاني لا يأكل في بيته إلا لِماما .
وكانت المظاهر القليلة التي حاول أن يستر بها موقفه مثل النوم في فراش الزوجية من الندرة بحيث لا تقنع أحدا ، وذات اليلة طلع عليه النهار بعامل الإهمال وهو في مخدع بيترا كوتيس ، بيد أن فرناندا بعكس كل التوقيتات لم تبدِ أي إستياء إنما أرسلت في نفس اليوم صندوقين كبيرين مملوئين بملابسه الى دار عشيقته ، ولقد أرسلتهما في رائعة النهار وحرصت على أن يكون المرور بهما في وسط الشارع حتى يستطيع كل إنسان رؤيتهما ظنا منها بأن زوجها الآبق لن يقوى على احتمال هذا العار ويبادر الى العودة الى الحضيرة مطأطئ الرأس ، ولكن هذه البادرة البطولية من جانب فرناندا كانت مجرد برهان آخر على مبلغ جهلها بطباع زوجها الذي ابتهج بهذه الحرية التي جاءته إليه تسعى بإقامة حفلة دامت ثلاثة أيام .
وفي مواجهة هذه الفترة من حياة الزوجية التي التزمت فيها فرناندا بملابسها القاتمة الطويلة وحليها العتيقة وترفعها النابي عن المكان ، بدت العشيقة وهي تكاد تتفجر بِشَباب متجدد بملابسها الحريرية الزاهية وعينيها البارقتين بوميض الظفر والتشفي ، وهكذا أسلم أُوروليانو الثاني نفسه إليها بعنفوان الفتوة والمراهقة ، وكان ينحر بلا حساب عديد الأبقار والخنازير والدجاج من أجل ولائمه المتلاحقة حتى أسود الوحش ملطخا بالوحل والدم وتكدست فيه العظام والأمعاء الى حد أنهم كانوا يفجرون الديناميت في كل وقت إبعادا للجوارح المُنْقَضَّة لئلا تفقأ أعين الضيوف .
ولقد أصبح أُوروليانو الثاني بدينا مورد الوجه مكورا كسلحفاة بَحْريَة بسبب شهيته التي لا يباريه فيها أحد ، بل إن شهرته كمضياف كبير ومبذر أكبر تجاوزت حدود أقليم المستنقعات واجتذبت الى دار عشيقته الأكولين من الأقاليم الساحلية ، فتوافد مشاهيرهم الى الدار للمساهمة في تلك الولائم الخرافية التي كانت تدور فيها المباريات بينهم .
كان فيها أُوروليانو الثاني الفارس المُجَلى والأكول الذي لا يشق له غبار وظل الحال كذلك الى أن جاءت الساعة المحتومة التي أصيب فيها أُوروليانو الثاني بتخمة عاتية أفقدته الوعي وبدا أنه ملاقٍ حتفه بسببها ، ولم يتمالك في بارقة صحو عابرة أن غمغم :
- خذوني الى فرناندا .
وهكذا حمله أصحابه الى البيت الكبير ظنا منهم بأنهم قد ساعدوه على تحقيق وعده لِزوجته بأن لا يموت في فراش عشيقته .
وبادرت بيترا كوتيس الى تلميع حذائه الذذي كان يريد لبسه في تابوته ، وأخذت تفكر فيمن ترسله بالحذاء عندما جاءوها ليقولوا إنه نجا من الخطر ، والواقع أنه ثاب من غاشية التخمة في أقل من أسبوع ، وبعد أسبوعين كان يحتفل بنجاته من الموت بولائم لم يسبق لها مثيل .
واستمر يعيش مع بيترا كوتيس بيد أنه كان يزور فرناندا كل يوم ، وكان أحيانا يبقى ليأكل مع الأُسرة .
وكان القدر قد عكس الموقف وجعله زوج عشيقته وعشيق الزوجة ، كان ذلك بمثابة راحة لِفرناندا ، وفي غمرة الملل أثناء هذا الهَجْر كانت تسليتها الوحيدة دروس فرناندا وقت القيلولة والرسائل التي كانت تكتبها لِولدها وابنتها ، والحق أن جميع الرسائل المطولة التي كانت تبعث بها كل أسبوعين لم تتضمن سطرا واحدا ينطوي على الصدق ، فقد حرصت على إخفاء متاعبها عن ولديها ، وكانت تهيم وحدها بين الأشباح الثلاثة الحية في البيت الكبير وشبح جوزيه آوُركاديو بوينديا مؤسس الأسرة الراحل والذي كانت اُوُرسولا كثيرا ما تعرج على مكانه تحت شجرة الكسْتناء تتحدث وتناجي وتنفض متاعبها وأحزانها وكأنه لا يزال على قيد الحياة .
وكان أشد ما يقلق فرناندا في سنوات الهجر تلك هو خشيتها من عودة مِيم في إجازتها السنوية الأولى فلا تجد أباها أُوروليانو الثاني في البيت ، ولكن الوعكة التي نزلت به وضعت حدا لهذا التخوف ، فعندما رجعت مِيم كان الاتفاق قد تم بين الاثنين على أن يكون أُوروليانو الثاني موجودا في البيت كزوج مثالي وعلى ألا تلاحظ الصبية شيئا عن علائم الكآبة المخيمة على البيت ، وعلى مدار شهرين من كل عام كان أُوروليانو الثاني يقوم خير قيام بدور هذا الزوج المثالي ويقيم حفلات لها تُقدَم فيها الحلوى ويدور فيها عزف الكلافيكورد ، وقد بدا جليا منذ ذلك الحين أن الصبية لم ييخالطها ذلك المزاج الانطوائي الذي كان طابع الأُسرة وأنها على وئام مع دنياها بغير عقد ولا أشجان وقد تجلى هذا في عكوفها على الكلافيكورد في فترة القيلولة تتدرب عليه وعلى ترحيبها بصحبة الشباب الذين كان مَقْدَمها يجيء بهم الى البيت الذي كان يوحي بأنها لم تكن بعيدة عن التطبع بطباع والدها المنبسطة السخية ، وكانت أول علامة على هذا الميراث المحفوف بالكوارث هو قدومها الى البيت الكبير في إجازتها السنوية الثالثة برفقة أربع راهبات وأربعين من زميلاتها في الدراسة اللاتي دعتهن من تلقاء نفسها الى قضاء أسبوع مع أسرتها ودون سابق إخطار .
إن فرناندا لم تتمالك أن هتفت نائحة : يا للفضاعة ، إن هذه الطفلة همجية مثل أبيها .
ولم يكن هناك مفر من اقتراض أَسرة وأراجيح نوم من الجيران وتخصيص تسع نوبات للجلوس الى مائدة الطعام وتحديد مواعيد للاستحمام واقتراض أربعين مقعدا خشبيا صغيرا حتى لا تقضي الفتيات طوال نهارهن وهن يجرين من مكان الى مكان .
كانت هذه الزيارة في الواقع فشلا ذريعا لأن التلميذات الصاخبات كن لا يفرغن من طعام الإفطار حتى تُتَخَذ الاستعدادات لطعام الغداء ثم للعشاء ، وفي مدى الأسبوع كله لم يتسع لهن الوقت لزيارة مزارع الموز سوى مرة واحدة ، وعند حلول الليل كانت الراهبات يغلبهن الإعياء ويعجزن عن كل أمر أو نهي ، في حين تبقى الفتيات المتوثبات في الحوش يرددن الأناشيد المدرسية بنغم كله نشاز ، وذات مرة كدن يدسن اُوُرسولا بأقدامهن لاعتراضها الطريق وهي تظن في ظلمة بصرها أنها تخدم وتفيد .
ومرة أخرى كادت أمارانتا تثير الفزع عندما دخلت عليها إحدى الراهبات في المطبخ وهي تضع الملح في الحساء وكان أول ما خطر لها أن تقوله هو السؤال عن نوع ذلك المسحوق الأبيض الذي تضعه .
فردت أمارانتا بكلمة واحدة : زرنيخ .
وعلى الرغم أن بعضهن أصبن بالحُما وبلذعة البعوض إلا أنهن أبدين روح الجَلَد الوافر وهن يقاومن أشد المصاعب ، وحتى في خلال فترات الحر المُلْهِب كن يلهون ويتواثبن في الحديقة ، وعند رحيلهن في النهاية كانت الزهور مقطوعة والأثاث مكسورا والحوائط مغطاة بالرسوم والكتابة ، غير أن فرناندا سامحتهن بعد ارتياحها للرحيل ، وفي خلال تلك الأيام عاد جوزيه آوُركاديو الثاني الشقيق التوأم لرب البيت الى الظهور فيه ، لقد دلف في المدخل دون أن يبتدر أحدا بتحية واعتكف على الأثر مع الكونونيل أُوروليانو بوينديا في مَسْبَك المعادن ، ولم يكن هذا التصرف مثار دهشة اُوُرسولا عندما عرفت بحضوره من وقع خُطا حذائه العُمالي الثقيل وهي التي عهدته متنائيا عن الأسرة مختلفا عن أخيه التوأم أُوروليانو الثاني على الرغم من تشابه أطوارهما في الصغر وبلبلة أفكار الأُسرة والجيران بما كانا يقومان به من الخدع والأحاييل الماكرة التي يولدها هذا التشابه ، كان الآن مختلفا عن أخيه تماما أدنى الى النحول والجد والسهوم والوجوم ، ولم يكن أحد يعرف الآن دقائق حياته ،
وفي فترة ما عُرِف أنه ليس له مقر معين وأنه يربي ديوك المصارعة في بيت بَيلارتارنيرا حيث ينام لديها أحيانا ، ولكنه كان يمضي أكثر لياليه متنقلا من مكان الى مكان دون أن تربطه مودة بأي أحد ودونما أي هدف محدد وكأنه نجم شارد في نظام اُوُرسولا الكوكبي .
ولقد حاولت اُوُرسولا أن تستعين جوزيه آوُركاديو الثاني لحمل الكونونيل أُوروليانو بوينديا على الخروج من حبسه الاختياري في المَسْبَك ، وفي هذا قالت له :
- اجعله يذهب الى السينما وحتى إذا كان لا يحبها فعلى الأقل سوف يتنفس الهواء النقي .
لكنها لم تلبث أن أيقنت أنه مثل الكونونيل تماما ، لا يُعِيرُهَا أُذنا صاغية وأن كليهما قد صيغ من معدن واحد لا تنْفذ منه خوالج المودة والتآلف ،
وعلى الرغم من أنها لم تكن تعرف لا هي ولا غيرها كنه تلك الأحاديث التي يتبادلانها في المَسْبَك إلا أنها قد درت أنهما العضوان الوحيدان في الأسرة اللذان يبدو أن بينهما رابطة وثيقة .
وحل اليوم الحادي عشر من أكتوبر والكونونيل لا ينسى هذا اليوم ما عاش ، إذ هو اليوم الذي استيقظ فيه من نومه فوجد زوجته ريميديوس قد فارقت الحياة فجأة وتركت له مرارة الذكريات ، ولكن جوزيه آوُركاديو الثاني لم يحضر للقائه في المَسْبَك كعادته أخيرا ، ثم تذكر أنه يوم دفع الأجور في مزارع شركة الموز ، ثم بدا له أن يذهب الى الحمام فوجد أمارانتا قد سبقته إليه فعكف في المَسْبَك على صنع أسماكه الذهبية حتى إذا كانت الساعة الرابعة سمع موسيقى بعيدة صادرة عن آلة نحاسية وطبول مقترنة بصياح أطفال ، ولأول مرة منذ شبابه وقع في حنين الذكريات عندما تذكر بعد ظُهْر ذلك اليوم الذي صحبه فيه أبوه الى مضارب الغجر للفرجة الى ألعابها وغرائبها ، وفي هذه اللحظة تركت سانتا سوفيا بيدال ما كان بيدها في المطبخ وجرت الى الباب قائلة :
- هذا هو السرك .
ومن عجب أن الكونونيل أُوروليانو بوينديا ذهب هو أيضا الى الشارع واختلط بالمتفرجين الذين كانوا يراقبون مرور الموكب ، فرأى امرأة مرتدية ملابس موشاة بالذهب جالسة على رأس فيل ورأى دبا في زي فتاة هولندية يواكب نغمات الموسيقى بمغرفة وإناء حساء ورأى البهلوانات يدورون في الهواء في آخِر الموكب ، ومرة أخرى ألفى نفسه في وحدته المُطْبِقة بعد أن مر الموكب كله ولم يبق أمامه سوى الشارع المهجور إلا من بعض المتفرجين المتسكعين ، فعاد الى الداخل وقصد الى الحوش للتبول تحت شجرة الكسْتناء ، وفي خلال ذلك حاول أن يستعيد ذكرى السرك ولكنه لم يستطع ، فجلس واضعا رأسه بين كتفيه مثل كتكوت ، وظل جامدا في مكانه مسندا رأسه الى جذع الشجرة ، ولم تعثر عليه الأسرة إلا في صباح اليوم التالي في الساعة الحادية عشرة ، عندما خرجت سانتا سوفيا بيدال لِإلقاء القمامة فاسترعى نظرها مشهد الجوارح المحلقة فوقه ...


الفصل الثالث عشر

تصادف وقوع إجازة مِيم الأخيرة في فترة الحداد على الكونونيل أُوروليانو بوينديا ، فإن البيت الموصد الأبواب والنوافذ ليس بالمكان الملائم لإقامة الحفلات ، كانوا يتكلمون همسا ويأكلون سكوتا ويرددون الصلوات والأدعية ثلاث مرات يوميا ، وكانت فرناندا هي التي فرضت صرامة الحداد متأثرة بما أبدته الحكومة من تكريم لذكرى عدوها الراحل ، وعاد أُوروليانو الثاني للنوم في البيت الكبير أثناء إجازة ابنته ، ولابد أن فرناندا قد أوفت بمقتضيات الزوجية إذ وجدت مِيم في العام التالي أختا لها وليدَة تم تعميدها وتسميتها على غير رغبة فرناندا باسم أمارانتا اُوُرسولا .
لقد أتمت مِيم دراستها ونالت دبلوما يقرر بأنها عازفة كلافيكورد متخصصة في حفل رسمي اقترن بانتهاء فترة الحداد ، وكان ذلك إذانا باختتام مرحلة الطفولة وانتقالها الى مرحلة الشباب ، أما الحقيقة فمِيم التي كانت تعاني الأمرين من تزمت أمها وتحكمها في كل تصرفاتها والتي كانت في دخيلتها مطبوعة على حب المرح والإنطلاق ، لم تختر هذا التخصص إلا استرضاءً للأم خصوصا وأن الراهبات لم يمنعنه باعتباره ملاهاة بريئة موروثة من الماضي .
وفعلا كان ذلك ثمنا لحريتها المنشودة ، إذ أصبحت فرناندا مزهوة ببراعة ابنتها في العزف حتى لم تعد تمانع بعد انتهاء فترات الحداد في استقدام صديقات مِيم الى البيت وفي قضائها معهن فترات بعد الظُهر في المروج والبساتين وفي ارتياد السينما مع أبيها أُوروليانو الثاني وبعض السيدات الفاضلات طالما كان الفيلم المعروض مما يجيزه الأب أنطونيو إزابيل ، وفي خلال فترات الاسترواح هذه تكَشَفت ميول مِيم على حقيقتها ، إذ كانت سعادتها قائمة على النقيض من تطرف أمها وأنظمتها الصارمة على الحفلات الصاخبة والثرثرة بأحاديث العشاق والخلوات الطويلة مع صاحباتهاحيث تعلمن التدخين وحيث امتد أيديهن الى شراب مسكر من عصير القصب أفضى بهن الى التجرد من ملابس واستعراض أعضاء الجسد في تلك الخلوات .
إن مِيم لم تنس قط تلك الليلة التي عادت فيها الى البيت بعد قضاء ساعتين في مخدع صديقتها تضحكان بلا حساب وتذرفان الدمع من الخوف ، لتجد فرناندا وأمارانتا تتناولان طعام العشاء دون تبادل للكلام ، لقد راعها مشهدهما ذاك حتى بذلت جهدا كبيرا لئلا تصارحهما بحقيقة شعورها حيالهما ، وتقذف في وجهيهما تزمتهما وفقر مشاعرهما وأوهام عظمتهما المصطنعة ، والواقع أن مِيم عرفت في ثاني إجازة لها أن أباها يقيم في البيت سترا للظواهر فقط ، ولمعرفتها بأطوار أمها فقد بدا لها أن أباها محق في مسلكه ، ولم تتمالك في جلستها هذه الى المائدة ورأسها يدور مما شربته أن بدرت منها ابتسامة خبث ودهاء ، إذ فكرت في مدى الفضيحة التي كانت تحدث لو أنها صارحت الاثنتين بحقيقة خواطرها ،
وإذا فرناندا التي فطنت لحالها تقول لها : ماذا جرى ؟
فأجابت مِيم : لا شيء ، اكتشفت الآن الى أي حد أحبكما .
إن أمارانتا قد رِيعت مما انطوى هذا التصريح من كره دفين ، أما فرناندا التي تأثرت به فقد كان جزعها هذه الليلة لا حدود له عندما استيقظت مِيم في منتصف الليل وهي تشكو من صداع حاد عنيف وقد أخذت في القيء فسارعت الى إعطائخا زيت الخروع ، ووضعت الزيت على معدتها ومكعبات ثلج على رأسها وألزمتها الفراش مدى أيام ، كانت تقتصر في خلالها على الغذاء الذي وضعه الطبيب الفرنسي الوافد والذي قرر بعد فحص على مد ساعتين أنها تشكو من داء غير معروف في أمراض النساء .
ولم يكن أمام مِيم التي انهارت كل شجاعة كانت عندها إلا أن تصمد الى النهاية .
إلا اُوُرسولا رغم عماها المطبق محتفظة بحيويتها وشفافيتها فهي وحدها التي عرفت حقيقة التشخيص ، إذ قالت : بقدر ما يصل إليه علمي فإن هذا ما يحدث للسكارى .
ورغم ذلك فإنها نبذت هذه الفكرة بل أنبت نفسها للتفكير فيها .
أما أُوروليانو الثاني فقد شعر بوخز الضمير عندما رأى حالة ابنته وأخذ على نفسه عهدا بأن يوليها رعايته في المستقبل ، وهكذا كانت بداية تلك الصحبة الودودة بين الأب والابنة ، تلك التي خلصته الى حين من أثقال مجونياته وكفلت للفتاة أن تتحرر من عين فرناندا الدائمة اليقظة ودرأت عنهم جميعا تلك الأزمات العائلية التي كان محتما أن تحدث في المستقبل ، فكان يصحبها الى السينما أو السرك وأخرجها من غرفة نومها الكالحة التي كانت حبيسة فيها منذ أول طفولتها وأعد لها غرفة نوم أخرى وفيرة الأثاث مزودة بكل العطور وأدوات التجميل للمرأة العصرية ، ولقد رُوِعت فرناندا حقا عندما شاهدت هذا المخدع بيد أنها كانت موزعة الجهد في تلك الأيام بين رعاية طفلتها الوليدة أمارانتا اُوُرسولا وبين أطبااء خارج ماكوندو كانت تراسلهم سرا في لاستشارتهم في أمور صحية تعنيها ، وهكذا فإنها عندما لمست هذا التواطئ والتوافق بين الأب ولابنة كان الوعد الوحيد الذي استخلصته منه هو ألا يأخذ مِيم أبدا الى دار بيترا كوتيس ، ولم يكن لهذا من موجب لأن العشيقة كانت في ضيق واستياء من هذه الصحبة بين عشيقها وابنته بحيث لم تكن تريد أن تكون لها شأن بالفتاة ، ولكن لعلمها بطبيعة أُوروليانو الثاني وفرط ثقتها في مبلغ سلطانها عليه فإنها لم تنفذ ما كان في خاطرها من إعادة صندوقَي ملابسه المتجولين والى البيت الكبير واستبقتهما لديها الى أن يعود إليها مستكينا متزلفا .
وكان بين صديقات مِيم ثلاث فتيات أمريكيات نشأت صداقة بينهن وبين فتيات ماكوندو ، وكانت إحداهن باتريشيا براون ابنة مستر براون من مديري شركة الموز الذي أعرب عن امتنانه لما لقيه من كرم الضيافة في بيت أُوروليانو الثاني بدعوة مِيم الى داره للمشاركة في حفلات راقصة أيام الأحد ، وهو المكان الوحيد الذي يختلط فيه الأجانب الوافدون بالأهلين ، ولكن ما أن سمعت فرناندا بهذا حتى هاجت وماجت واستنجدت اُوُرسولا لولا أن هذه رأت بعكس ما كانت ترى فرناندا تتوقع ، أنه لا مأخذ على مِيم في الذهاب الى الحفلات الراقصة الخاصة هذه ومصاحبة فتيات أمريكيات من سنها ، بل إن مِيم خصصت حفلا عزفت فيه على الكلافيكورد فاستأثرت بأشد الإعجاب ، مماهيأ للأم أن تهدأ في النهاية وتطيب خاطرا ، وبعدها كانت تدعى الى حفلات السباحة أيام الآحاد وتناول الغداء مرة في الأسبوع ، وقد أبدت براعة في السباحة ولعب التنس وتعلم اللغة الإنجليزية ، حتى أن أُوروليانو الثاني ابتاع لها دائرة معارف إنجليزية مصورة من ستة أجزاء كانت مِيم تطلع عليها وقت فراغها الأمر الذي باعد بينها وبين الخلوات الماضية مع صاحباتها للثرثرة في أحاديث العشاق ومكاشفة بعضهن البعض بما لا يباح ، بل إنها استنكرت مغامرة السكر الماضية وعدتها من قَبيل الطفوليات ولم تتردد في مكاشفة والدها بها فأغرق في الضحك وامتدح شجاعتها في الصدق ، وطلب منها وعدا أن تخبره يوم تقع بالحب بنفس الصراحة والصدق هذين .
هكذا رد نضج مِيم الوآم والسكينة الى البيت الكبير ومكن أُوروليانو الثاني من أن يكرس وقتا أكثر قتا بيترا كوتيس وإن غدا الآن اكثر اعتدالا بعد الوعكة الصحية التي ألمت به ، ثم قطع هذه السكينة وفاة أمارانتا فجأة ، وسرعان ما عاد الاضطراب الى البيت الكبير ، وكانت ميِم تعزف الكلافيكورد في حفل خاص خارجي عندما أُبلِغت النبأ ، فقطعت الحفل وعادت بسرعة الى البيت لتجد والدها أُوروليانو الثاني يشق طريقه بين جمهور المعزين ليلقي نظرة على جثة العذراء العجوز بوجهها الممتقع الكالح ويدها المعصوبة بالسواد منذ مغامرتها الغرامية الفاشلة إثر انتحار بيترو كرِيسبي ، وقد سُجِيَت في الفراش ملفوفة بالكفن الفاخر الذي تأنقت في إعداده .
ولم تعد اُوُرسولا تقوم من مكانها مرة أخرى بعد أيام الحداد التسع ، وتولت سانتا سوفيا بيدال العناية بها ، وكانت متعلقة بأمارانتا اُوُرسولا الصغيرة حتى علمتها القراءة ،وفي اعتكافها هذا الذي فرضته المائة عام والنيف من عمرها تيسر لها من الفراغ ما أصبح يُمَكِّنها من التسمع والإحاطة بكل ما يدور في البيت حتى كانت أول من لاحظ بلوى مِيم الصامتة فاستدعتها إليها وقالت لها : نحن الآن وحدنا ، فاعترفي لجدتك الكبرى العجوز بما يقلقك.
فتحاشت مِيم الحديث بضحكة قصيرة ، ولم تلح عليها اُوُرسولا ولكنها استخلصت ما أكد شكوكها بعد أن كفت مِيم عن زيارتها .
كانت تعرف أن مِيم تستيقظ في ساعة أبكر في الصباح من عادتها ، وأنها لم تكن على استقرار وهي تنتظر ساعة الخروج المعهودة وأنها كانت تمضي الليالي بطولها وهي تروح وتجيء في غرفة النوم المجاورة وكان واضحا كل الوضوح أن مِيم منغمسة في شؤون خفية وأمور مقلقة قبل فترة طويلة من تلك الليلة التي أقامت فيها فرناندا البيت وأقعدته بعد أن ضبطتها تقبل رجلا في السينما .
والواقع أن فرناندا رغم انشغالها في شؤونها الخاصة والبيتية لم تلبث هي الأخرى أن استرعى انحياز مِيم الى الصمت العميق وبوادر الحدة الفجائية واختلال المزاج والسلوك المتناقض من جانب فتاتها ، حتى قررت في النهاية أن تسهر عليها وتراقبها سرا ، وقد توسلت في هذا بالحذر حتى لقد تركتها تمارس حريتها المحدودة في الاختلاف الى حفلات الرقص والسباحة لكي لا تثير ارتيابها الى أن كانت ليلة قالت فيها مِيم أنها ذاهبة الى السينما مع أبيها ، ولكن لم تمض فترة قصيرة حتى سمعت فرناندا صخب إحدى الحفلات التي درج زوجها أُوروليانو الثاني على إقامتها في بيت عشيقته بيترا كوتيس مقترنة بقصف الألعاب النارية وعزف الأكورديون ، وسرعان ما قامت فرناندا الى ملابسها وقصدت من فورها الى دار السينما واستطاعت في ظلام المقاعد أن تعرف ضحك ابنتها ، إن وقع المفاجأة على نفسها حال دون أن تتبين الرجل الذي كانت ابنتها تُقَبِّله ، ولكن صوته المتهدج سرى الى سمعها رغم جلبة الضحك واللغط وهو يقول لها : أنا آسف يا حبيبتي .
وفي الحال انتزعت مِيم من مكانها دون أن تقول شيئا ، وعَرَّضتها لمهانة المرور بها في الشارع تحت أنظار أصحاب الدكاكين ، ثم حبستها في غرفة نومها .
وفي الساعة السادسة من بعد ظُهر اليوم التالي عرفت فرناندا صوت الرجل الذيجاء لزيارة مِيم ، كان شابا أسمرا شاحبا تشف عيناه السوداوان عن الاكتئاب وتشيع في وجهه سمات حالمة تكفي لأن تجعل أي امرأة أقل صلابة من فرناندا تفهم بواعث ابنتها في التعلق به .
وكان يرتدي بدلة رثة وحذاء لم يفلح الطلاء المتراكم في إخفاء ترقيعه وقبعة من الخوص اشتراها منذ عهد قريب ، وبدا أنه في كل حياته الماضية لم يشعر بوجل ورهبة كاللذين كان يشعر بهما في هذه اللحظة ، ولكن كان به من الكرامة والاعتداد ما نفى عنه المهانة وإن نال منهما ما بدا من تلوث يديه وأظافره بآثار قَدَّرت منهما فرناندا أنه ليس أكثر من ميكانيكي ، وقد صح ظنها إذ لمحت في صدر قميصه إشارة العاملين في شركة الموز .
ومهما يكن فإن فرناندا لم تدع له فرصة للكلام بل إنها لم تدع له سبيلا حتى للدخول من الباب الذي اضطرت بعد قليل الى إغلاقه إذ امتلأ البيت بفراش أصفر .
قالت له : اذهب ، لا حق لك في الحضور وزيارة الناس الشرفاء .
كان يُدعى موريشيو بابيلونيا وُلِد ونشأ في ماكوندو وعمل مساعد مكانيكي في كراجات شركة زراعة الموز ، وقد التقت به مِيم مصادفة عصر يوم عندما ذهبت مع صاحبتها باتريشا الأمريكية لاستحضار سيارتها للنزهة لين البساتين ، ولما كان السائق الخاص مريضا فقد تهيأت الفرصة لمِيم لِجلوسها الى جانب موريشيو بابيلونيا وتلقي الدرس الأول في تعليمها قيادة السيارات ثم تلته دروس أخرى ، ويوم ذهبت مِيم الى السينما مع والدها شاهدت موريشيو بابيلونيا جالسا في مقعد غير بعيد ، ولاحظت أنه ظل طول الوقت منصرفا عن متابعة الفيلم متجها بكليته نحوها .
لقد صعقها هذا الشاب ، واكتسح قلبها اكتساحا ولم تعبأ بوضعه المتواضع ، وتكررت لقاءاتهما بمعزل عن أعين الرقباء ، وإنما استرعى نظرها تلك الفراشات الصفراء التي كانت تحلق لدى ظهور موريشيو بابيلونيا ، ولكنها قَدَّرت أن لها ارتباطا به على نحو ما .
وتكررت اللقاءات والخلوات على مدار الأيام والأسابيع الى أن كانت تلك الليلة التي فاجأتهما فرناندا فيها في دار السينما .
في أعقابها شعر أُوروليانو الثاني بِوَقْر باهض يثقل ضميره ، وزار مِيم في غرفة نومها حيث حبستها فرناندا واثقا أن مِيم سوف تكاشفه بسرها على ما تعاهدا عليه ، بيد أنها أنكرت كل شيء وأبدت من التباعد ما جعله يرى أن كل رابطة بينهما قد انتهت ، وأنما حسبه صحبة ومشاركة بينهما إنما كان وهما مضى .
وهكذا ترك الموقف كما هو على أمل أن احتجازها في غرفة النوم سوف يكون فيه ختام متاعبها .
ولم يبدر من ناحية مِيم ما ينم عن أي ابتئاس .
وكان الشيء الوحيد الذي حيَّر اُوُرسولا بعد شهرين من العقاب هو أن مِيم لم تعد تأخذ الحمام في الصباح مثل الباقين بل في السابعة مساءً ، وكانت الظاهرة الغريبة هي أن الفراش الأصفر كان يجتاح البيت عند الأصيل ، وفي كل ليلة عندما كانت مِيم تعود من الحمام كانت ترى فرناندا في حالة حنق وهي تقتل الفراش بمبيد حشري ،
وكانت تسمعها تقول : هذا شيءء فضيع ، سمعتهم طول حياتي يقولون أن الفراش في الليل يجلب الشر.
وذات ليلة دخلت فرناندا الى غرفة مِيم بينما كانت في الحمام فوجدتها مملوءة بالفراش الى حد أنها عجزت معه عن التنفس ، فاختطفت أقرب قطعة قماش أمامها لِهش الفراش ، وإذا قلبها يكاد يجمد من الرعب إذ سرعان ما ربطت بين حمامات ابنتها المسائية وبين دواء الإجهاض الذي تدحرج من القماش على الأرض ، لم تنتظر فرناندا لحظة أخرى .
وفي اليوم التالي دعت عمدة ماكوندو الجديد لتناول الغداء وكان مثلها من أقليم المرتفعات وقد طلبت منه أن يقيم حارسا على الحوش الخلفي لشكها في وجود لصوص يسرقون الدجاج .
وفي نفس الليلة صرع الحارس موريشيو بابيلونيا برصاصة وهو يرفع البلاط للتسلُّل الى الحمام حيث كانت مِيم تنتظره على أحر من الجمر غير عابئة بالعقارب والفراش كما كانت تفعل كل ليلة طوال الأشهر القليلة الماضية .
إن الرصاصة التي استقرت في عموده الفقري أقعدته الفراش بقية حياته وقد مات بالشيخوخة في عزلته دون أن يبوح بشيء ، تعذبه الذكريات والفراش الأصفر مَدموغا بأنه لِصُّ دجاج ...


الفصل الرابع عشر

إن الأحداث التي كان مقدرا أن توجه الى ماكوندو ضربة قاصمة لم تلبث أن بدت بواكيرها حينما جيء بابن مِيم بوينديا الى البيت الكبير .
كان الموقف الشعبي مزعزعا الى حد أن الناس لم يكن لديهم الاستعداد الكفي للزج بأنفسهم في فضائح شخصية ، وهكذا استطاعت فرناندا أن تعتمد على جو عام مكنها من إبقاء الطفل مخفيا عن العيان وكأنه لم يوجد قط ، ولقد اضطرت الى قبوله لأن الظروف التي جيء به فيها جعلت رفضه أمرا مستحيلا ، ولم يكن أمامها من احتماله ضد إرادتها طوال حياتها ، إذ أوعزتها الشجاعة في اللحظة الفاصلة لتنفيذ ما اعتزمته من إغراق الطفل في صهريج الحمام ، وكذلك أغلقت الباب في مَسْبَك الكونونيل أُوروليانو بوينديا ، وقد أفلحت في إقناع سانتا سوفيا بيدال بأنها وجدته في سلة طافية في النهر ولسوف تموت اُوُرسولا قبل أن تعرف منشأه ، وصدقت أمارانتا اُوُرسولا الصغيرة التي دخلت عليها المَسْبَك وهي تطعم الطفل هي أيضا حكاية السلة الطافية ولم يعرف أُوروليانو الثاني الذي انفصل عن زوجته نهائيا بوجود حفيده إلا بعد ثلاث سنوات من المجيئ به الى البيت الكبير إثر فرار الطفل من الأسر نتيجة سهو من جانب فرناندا حين ظهر في مدخل البيت مدى لحظة خاطفة ، عاري الجسد ملبد الشعر كمخلوق متوحش .
وما كان لِفرناندا أن تغالط نفسها وهي تعلم أن الطفل يمثل عارا حسبت أنها تخلصت منه الى الأبد ، إذ أقصت ابنتها عن البيت ، فعندما حملوا موريشيو بابيلونيا من البيت وقد تحطم عموده الفقري وضعت فرناندا خطة رتبت تفاصيلها بكل دقة مستهدفة إزالة كل أثر لتلك الكارثة ، ودونما استشارة لِزوجها حزمت حقائبها ووضعت لِابنتها الملابس الضرورية في حقيبة صغيرة وذهبت إليها في غرفة نومها قبل وصول القطار في نصف ساعة وقالت لها :
- هيا بنا .
لم تبادرها بأي بيان أو تفسير ، ومن ناحية مِيم فإنها لم تتوقع غير هذا ، إنها فقط لم تعرف الى أين تذهبان ، بل كان سيان لديها لو سيذهبون بها الى المجزرة ، إنها لم تفه بكلمة واحدة ولن تفوه بكلام مدى حياتها منذ اللحظة التي سمعت فيها صوت العيار الناري في الحوش وصيحة الألم التي اقترنت بها صادرة من موريشيو بابيلونيا ، وعندما أمرتها أمها بالخروج من غرفة نومها لم تمشط شعرها ولم تغسل وجهها ، ودلفت معها الى القطار وهي كمن يمشي في نومه ، ولم تلاحظ حتى الفراش الأصفر الذي ما فتئ يصاحبها ، ولم تعرف فرناندا قط ولا حاولت أن تعرف إن كان ذلك الصمت المطْبِق هو وليد تصميم جازم أو أن الفتاة أصيبت بالخرس من وطأة الفاجعة ، وظل ذلك حالها أثناء الرحلة الطويلة في القطار وفي السفينة النهرية التي أقلتهما الى تلك المدينة البعيدة القائمة وراء التلال .
وغداة وصولهما صحبتها فرناندا الى مبنى قاتم عرفت فيه فرناندا الدير الذي رُبيَت فيه كي تصبح ملكة ، وعندها فقط أدركت أنهما وصلاتا الى خاتمة المطاف .
وبينما كانت فرناندا مجتمعة بشخص في المكتب المجاور وقفت مِيم تنتظر في بهو الاستقبال وهي لا تكف عن التفكير في موريشيو بابيلونيا ، الى أن أقبلت راهبة مبتدئة موفورة الحسن من غرفة المكتب وبيدها حقيبة ملابسها الصغيرة فأخذت بيدها دون توقف قائلة :
- تعالي معي .
وكانت آخر مرة رأتها فيها فرناندا وهي تمشي الى جانب الراهبة عندما أُغلِق الباب الكبير خلفهما ، وفي كل ذلك لم تكف مِيم لحظة عن التفكير في موريشيو بابيلونيا وهالت الفراش التي تلاحقه ولم تكف عن هذا التفكير طوال حياتها حتى ذلك اليوم البعيد من أيام الخريف عندما توفيت بالشيخوخة وقد تغير اسمها وحُلِق شعرها ودونما كلمة واحدة فاهت بها في مستشفى قاتم في مدينة كراكاو .
وعادت فرناندا الى ماكوندو وفي قطار يحرسه جنود البوليس المسلحون ، ولاحظت أثناء الرحلة جو التأزم الذي كان يسود الركاب والاستعدادات العسكرية في البلدان القائمة على طول الطريق مما استشفت منه قرب وقوع أحداث خطيرة ، بيد أنها لم تعرف حقيقة الموقف إلا عند وصولها الى ماكوندو ، حيث علمت أن جوزيه آوُركاديو الثاني شقيق زوجها التوأم يقوم بتحريض عمال شركة زراعة الموز على الإضراب ، فلم تتمالك فرناندا أن قالت لِنفسها :
- هذا ما كان ينقصنا ، فوضوي في العائلة .
والواقع أن جوزيه آوُركاديو الثاني كان بعد المصادمات الأولى بين الشركة الأجنبية وبين العمال المطالبين بتحسين أوضاعهم الاجتماعية قد استقال منها منضما الى جانب العمال ، وعلى الأثر اُتُّهِمَ بأنه عميل لمؤامرة دولية ضد الأمن القومي .
وذات ليلة في أسبوع اتسم بالشائعات المبلبلة للأفكار نجا بمعجزة من أربع رصاصات أطلقها عليه مجهول وهو يغادر أحد الاجتماعات السرية ، وكان الجو السائد طيلة الشهور التالية بالغ التأزم الى حد أن اُوُرسولا أحست به حتى وهي في ركنها المظلم في البيت الكبير ، وبدا لها أنها تعيش مرة أخرى في حياة المخاطر عندما سلك ابنها الكونونيل أُوروليانو بوينديا مثل هذه المسالك المهلكة .
وقد حاولت أن تكلم جوزيه آوُركاديو الثاني ناصحة محذرة ، غير أن أُوروليانو الثاني أخبرها أن أحدا أصبح لا يعرف مكانه منذ الليلة التي تعرض فيها للاعتداء على حياته .
فما كان من اُوُرسولا إلا أن هتفت قائلة : مثل أُوروليانو تماما ، كأن التاريخ يعيد نفسه .
أما فرناندا فقد كانت مُعرِضة عن أحداث تلك الأيام ، فلم يكن لها أي اتصال بالعالم الخارجي منذ تلك المشادة العنيفة التي حدثت بينها وبين زوجها بعد أن قررت وحدها مصير ابنتها بإدخالها الدير ، وكان أُوروليانو الثاني على استعداد لإنقاذ ابنته بمساعدة البوليس لو لزم الأمر ، بيد أن فرناندا اطْلَعته على أوراق تُثبت أن مِيم دخلت الدير بمحض إرادتها الحرة .
والواقع أن مِيم وقعت مرة على وثيقة تتضمن هذا المعنى ، وقد فعلت هذا بنفس اللامبالاَة التي كانت منها عندما اُقتيدت الى هذا المصير .
ومع أن أُوروليانو الثاني لم يؤمن بمصداقية هذا الإجراء وشرعيته إلا أنه وجد فيه ما يريح ضميره لكي يعود دونما وخز من ضمير الى حضيرة بيترا كوتيس وإلى لياليه وحفلاته الصاخبة الماجنة .
وأما فرناندا التي أعارت أذنا غير صاغية لقلاقل البلدة وتنبؤات اُوُرسولا المتوجة فلم تلبث أن مضت في خطتها الشاملة الى النهاية ، إذ كتبت الى ابنها جوزيه آوُركاديو البعيد في المدرسة العليا والذي كان يوشك على التخرج في دراسته اللاهوتية تبلغه فيها أن أخته مِيم قد توفيت الى رحمة الله نتيجة لعدوى وبائية ، ثم عهدت بابنتها الصغيرة أمارانتا اُوُرسولا الى رعاية سانتا سوفيا بيدال جدتها وبعد ذلك تفرغت لمراسلاتها مع أطبائها الخصوصيين طالبة تحديد موعد لِإجراء عملية استئصال لذلك الورم الذي شخصوه في الرحم ، غير أنهم ردوا عليها مستصوبين إرجاء العملية بالنظر الى حالة الاضطرابات المشتدة في ماكوندو ، ولكنها عادت تخبرهم في رسالة جديدة أن الموقف ليس بالخطورة التي تصوروها ، وأن كل ما يحدث نتيجة تهوس من جانب شقيق لِزوجها تورط في هذه الأعمال بعد أن كان يضيع وقتفي مصارعة الديوك والى ما ذلك من العبث .
وظلت الشهور تمضي وفرناندا في هذا التعارض بينها وبين الأطباء الى أن جاء ذلك الأربعاء الحار الذي أقبلت فيه راهبة مسنَة تطرق الباب ومعها سلة صغيرة ، وعندما فتحت سانتا سوفيا بيدال الباب حسبت القادمة تحمل هدية ، فحاولت أن تأخذ منها السلة الصغيرة التي كانت مغطاة بمفرش مطرز جميل ، غير أن الراهبة حالت دونها قائلة : إن عندها تعليمات دقيقة أن تعطي السلة شخصيا وبصورة سريَة الى الدونا فرناندا ديل كاريبو بوينديا .
كان في السلة ابن مِيم المولود ، وقد أبلغتها رئيسة الدير ومربيتها الروحيةَ السابقة في رسالة خاصة أنه وُلِد منذ شهرين وأنهم تصرفوا من تلقاء أنفسهم فسموه أُوروليانو باسم جده نظرا لأن أمه لم تفتح فمها لتخبرهم برغبتها في هذا الشأن .
ولقد ثارت فرناندا في دخيلتها ضد هذه الخدعة القدرية ، بيد أنها سيطرت على أعصابها لإخفاء شعورها عن الراهبة وقالت لها باسمة :
- سنقول لهم أننا وجدناه في سلة طافية في النهر .
فقالت الراهبة : لن يصدق أحد هذا .
فردت فرناندا قائلة : إذا كانوا قد صدقوه في الماضي فلِمَ لا يصدقوه الآن ؟
وتناولت الراهبة طعام الغداء في البيت انتظارا لِعودة القطار ، وعملا بالتوجيهات التي صدرت إليها لم تذكر شيئا عن الطفل ، ولكن فرناندا عدتها شاهدا غير مرغوب فيه على عارها ، وتحسرت على انقراض تلك العادَة التي كانت متبعة في العصور الوسطى من شنق الرسول الذي يحمل أنباء مشؤومَة ، وعند هذا الحد قررت أن تغرق الطفل في الصهريج حالما ترحل الراهبة ، غير أن قلبها لم يكن بهذه القوة وآثرت أن تنتظر صابرة الى أن تَسنح لها الفرصة المواتية للخلاص منه .
وكان أُوروليانو الصغير قد أتم العام الأول من عمره عندما اشتدت الأزمة بين العمال وبين شركة زراعة الموز الى حد إعلان الإضراب الذي تطور الى أعمال للعنف وإتلاف للمزارع ، وبقي الموقف على تأزمه حتى أصدرت السلطات المحليَة بيانا دعت فيه العمال الى الاجتماع في ماكوندو للإستماع الى القائد العسكري والمدني للأقليم الذي سيصل في اليوم التالي للتوسط في الخلاف الناشب ووضع حد له بما يرضي الفريقين .
وكان جوزيه آوُركاديو الثاني بين الجماهير التي احتشدت في ميدان المحطة والتي قدر عددها بما لا يقل عن 3000 ، ولاحظ أن القوات قد حاصرت المكان مزودَة بمدافع رشاشَة ، وما أن انتصف النهار حتى سرت شائعات تقول أن القائد قد أجل حضوره الى اليوم التالي ، وبعدها اعتلى قائد القوات المنصة وأعلن في المايكرفون نص الأمر الصادر من الحاكم العسكري ، يصف المضربين بأنهم مجموعة من المشاغبين وأنه خَوَّل القوات إطلاق النار عليهم إذا لم يبادروا في التفرق .
وفي غمار الهياج والهرج الذي ساد على الأثر لم يستطع أحد أن يعرف على وجه التحديد كيف بدأ إطلاق النار وكيف أصبح الميدان كله ساحة اختلط فيها الحابل بالنابل ، وتدافع الناس في كل مكان يلتمسون النجاة بأنفسهم من وابل الرصاص .
وبعدها استمر تعقب زعماء الإضراب واقتناصهم واحدا بعد الآخر .
وكان جوزيه آوُركاديو الثاني إثر إفلاته مختبئا في غرفة مالكويداس عندما طُرِقَ الباب ليلا بكعوب البنادق ودخل 6 جنود بقيادة ضابط لتفتيش البيت بحثا عن الهارب والمطر يقطر من ملابسهم في إبان عاصفة مطيرة استمرت أياما وليالي بعد جفاف طويل ، وكان أُوروليانو الثاني بعد أن عاقه المطر الغزير الى الانتقال الى بيت عشيقته ، ودونما كلمة أخذوا يفتشون البيت غرفةً غرفة من قاعة الاستقبال الى المطبخ ، وقد استيقظت اُوُرسولا عندما سلطوا الضوء عليها ، فلم تكد تتنفس أثناء عملية التفتيش وجعلت أصابيعها على شكل صليب أخذت توجهه الى حيث كانوا يوالون تفتيش بقية الغرف .
وفي خلال ذلك استطاعت سانتا سوفيا بيدال تحذير ابنها جوزيه آوُركاديو الثاني حيث كان نائما في غرفة مالكويداس ، بيد أنه رأى أنها جاءت بعد فوات الأوان وأنه يستحيل عليه الهرب ، وبعد أن أغلقت عليه الباب بالقفل لبس قميصه وحذاءه وجلس على حافة السرير الصغير منتظرا حضورهم ، وفي تلك اللحظة كانوا يفتشون غرفة المَسْبَك ، فقد أمر الضابط جنوده برفع القفل وسلط ضوء مصباحه بحركة شاملة في أرجاء الغرفة ، ولما رآ الدواليب الزجاجية وزجاجات الأحماض سأل أُوروليانو الثاني إن كان يشتغل بسبك المعادن ؟
فأجاب : أن هذا مَسْبَك الكونونيل أُوروليانو بوينديا .
فهز الضابط رأسه هزَة العارف وتناول إناءً كان فيه مجموعة من الأسماك الذهبية الصغيرة وبعد أن فحصها مليا قال وقد هزته عاطفة إنسانية :
- بودي أن آخذ واحدة منها إذا أمكن ، في وقت ما كانت هذه الأسماك رمزا للعمل السري أما الآن فهي شيء تذكاري .
فأعطاه أُوروليانو الثاني ما طلب .
ووضع الضابط السمكة في جيب قميصه قائلا : هذا تذكار جميل ، إن الكونونيل أُوروليانو بوينديا كان واحدا من عظماء رجالنا .
ومع ذلك فإن هذه البادرة الإنسانية لم تغير من سلوكه الوظيفي ، وعند باب غرفة مالكويداس التي أعيد إغلاقها بالقفل حاولت سانتا سوفيا بيدال التعلق بأمل أخير فقالت :
- لم يسكن أحد في هذه الغرفة منذ عشرات السنين .
ولكن الضابط أمر بفتحها وسلط ضوء مصباحه عليها ، وأبصر أُوروليانو الثاني وأمه عينَي أخيه جوزيه آوُركاديو الثاني في اللحظة التي مر فيها شعاع الضوء على وجهه ، وشعرا بأن النهاية قد حانت ، بيد أن الضابط استمر في فحص الغرفة بالمصباح ولم يبد منه اهتمام بأي شيء ، وكان جوزيه آوُركاديو الثاني جالسا على حافة الفراش على استعداد للذهاب وقد اشتدت على وجهه علائم الرصانة والسهوم ،ووقف الضابط برهة موجها نظره الى الفراغ الذي كانت فيه الأم وابنها يبصران فيه جوزيه آوُركاديو الثاني ، وقد أدركا أن الضابط كان ينظر أيضا دون أن يبصره ، وما لبث الضابط أن أطفأ المصباح وأغلق الباب ثم قال لِرجاله :
- من الواضح أن أحدا لم يكن في هذه الغرفة منذ مائة سنة على الأقل ولابد أن فيها ثعابين أيضا .
منذ هذه اللحظة زاد جوزيه آوُركاديو الثاني اقتناعا بأن غرفة مالكويداس هي حِصْنه الحصين وملاذه من الخوف في العالم الخارجي المضطرب بالقلاقل والحروب ...


الفصل الخامس عشر

انهمرت الأمطار في ماكوندو وظلت تنهمر مدى أربع سنوات وأحد عشر شهْرا وثلاثة أيام ، وكانت تحدث فترات يقل فيها انهمار المطر الى رذاذ فكان الناس يخرجون من بيوتهم احتفاءً به ، ثم ليلبثون أن يجدوها فترة صحو عابرة يتضاعف بعدها انهمار المطر ، وكانت السماء ترسل عليهم عوصف مدمرة ، ومن الجانب الشمالي كانت تهب أعاصير تنتزع السقوف وتقوض الجدران وتستأصل زراعة الموز من منابتها ، وفي البيت الكبير اضطروا الى حفر قنوات لِتصريف مياه الأمطار الى الخارج والعمل على تجفيف الأرضيات تخلصا من الضفادع والقواقع المتخلفة والأسماك أحيانا .
وفي خلال ذلك احتبس أُوروليانو الثاني في البيت بعد أن كان قد عرَّج عليه لبعض شأنه مؤملا أن يتحسن الطقس ليعود الى بيت عشيقته بيترا كوتيس .
ومضى عام على هذه الحال تشاغل في خلاله بالانهماك في إصلاح ما أفسده المطر من أبواب ونوافذ البيت وسائر أثاثه دون أن يتوقف انهمار المطر .
وفي خلال هذه الفترة وقع ذلك التهاون الذي كان من جرائه ظهور أُوروليانو الصغير في مدخل البيت وما أدى إليه من تصرف جده أُوروليانو الثاني على هويته ، فقص شعره وكساه بعد عري وعلمه ألا يخاف من الناس ، وبعد فترة وجيزة بدا واضحا أنه من سلالة بوينديا بما لا يدع مجالا لأي شك بعظام الخدين العالية وسمات الانطواء والعزلة ، وكان ذلك مبعث ارتياح فرناندا ، فلو كانت تعلم أن أُوروليانو الثاني سيَسْلك هذا المَسلك وسيُسر بصيرورته جَدا لما عرضت نفسها لكل ما تعرضت له من عناء وكرب ، وأن أمارانتا اُوُرسولا التي بدلت أسنانها فقد وجدت في ابن أختها لعبة تلهو بها في مواجهة متاعب الأمطار ، ولم يلبث أُوروليانو الثاني أن تذكر دائرة المعارف الإنجليزية المصورة التي بقيت سالمة في غرفة مِيم القديمة ، فبدأ يُطلع الطفلين على الصور خصوصا صور الحيوانات وانتقل من ذلك الى صور الخرائط والأقطار البعيدة ومشاهير الناس ، ولما كان لا يعرف اللغة الإنجليزية ولم يكن بوسعه إلا أن يتعرف على المدائن المشهورة وأبرز زعمائها فقد كان يخترع الأسماء والأساطير اختراعا لإشباع فضول الطفلين الذي لا يرتوي .
وكانت فرناندا تعلم يقينا أن زوجها ينتظر تحسن الأحوال الجوية لكي يعود الى معشوقته بيترا كوتيس ، ومع ذلك لم تتضايق لأن علتها التي كانت تخفيها عن كل إنسان وهي تورم الرحم والتي كانت تراسل بسببها أطباءها الخصوصيين البعيدين عنها أصبحت حائلا بينها وبين زوجها ، والآن وقد أدى استمرار هطول الأمطار الى قطع كل سبل التراسل والاتصال فلم يكن أمامها سوى الاعتصام بالصبر والانتظار .
وزادت الأحوال الجوية سوءً حتى لم يَعُد أحد يخرج الى الشارع ، وبلغ من تشاؤم اُوُرسولا أن قالت إنها لا تنتظر سوى انقطاع الأمطار لكي تقضي نحبها وتستريح .
والواقع أن حالة الشوارع قد أزعجت أُوروليانو الثاني وتزايد انزعاجه بشأن مواشيه حتى اضطر أخيرا أن يغطي رأسه بمشمع ويذهب الى بيت بيترا كوتيس ، فوجدها في الحوش غارقة في المياه الى وسطها وهي تحاول تعويم جثة حصان ، فساعدها بواسطة رافعة حتى أمكن دفع الجثة الى تيار الوحل المتدفق ليحملها بعيدا ، وكان هم بيترا كوتيس منذ أن بدأت الأمطار هو تطهير الحوش من الحيوانات الميتة ، وفي خلال الأسابيع الأولى كانت تبعث برسائل الى أُوروليانو الثاني لاتخاذ الاجراءات العاجلة التي يقتضيها الموقف بعد أن زاد تفاقما ، فكان يرد عليها أن لا لزوم للعجلة وأن الوقت سيكون متسعا للتفكير فيما يجب عمله بعد أن ينكشف الجو ، وكان مما قالته أن مَراعي الخيل قد غمرتها المياه وأن المواشي تهرب الى المناطق المرتفعة حيث لا يوجد ما تأكله وحيث تكون تحت رحمة الوحوش والأمراض ، والواقع أن بيترا كوتيس كانت ترى الحيوانات تنفق جماعات ، وكانت تعمد الى ذبح بعضها وهي غارقة في الوحول ، بل رأت وهي عاجزة عن أي فعل أن الفيضان كان يستأصل بكل قسوة ثروة كانت معدودة في وقت من الأوقات أضخم ثروة في ماكوندو ثم ذهبت بددا .
وعندما قرر أُوروليانو الثاني في النهاية أن يذهب إليها لِيرى ما هو حادث لم يجد سوى جثة حصان وبغل قذر في الإسطبل ، ولما رأته بيترا كوتيس تلقته بنظرة لا هي نظرة دهشة أو فرحة أو استياء ،
وابتسمت سخرية قائلة : جئت في وقتك .
لقد تقدمت بها السن وبدت كتلة عظام وجلد وغدت عيناها الوحشيتان مستأنستين مكتأبتين بطول النظر الى الأمطار ، ولبث أُوروليانو الثاني في بيتها أكثر من ثلاثة أشهر ، لا لأن المقام فيه كان أفضل من بيت أسرته ولكن لأنه احتاج لكل هذه المدة لكي يحزم أمره ويضع قطعة المشمع الواقية فوق رأسه مرة أخرى .
وفي خلال الأسبوع الأول من إقامته اعتاد ما فعلت الأمطار والزمن بمحاسن عشيقته وشيئا فشيئا غدا يراها كما كانت تبدو له في ماضي أيامها المليئة بالمغريات ، ولكنها صدته عنها برفق مذكرة إياه بما فعلت بهم الأيام والسنون مما لا يَدع مجالا لأي عبث أو فتون .
وعاد أُوروليانو الثاني الى البيت الكبير مع حقائب ملابسه وقد اقتنع بأنه ليست فقط اُوُرسولا هي التي كانت تنتظر انقطاع الأمطار لكي تموت بل كل سكان ماكوندو ، فقد أبصرهم في الطرقات جاثمين في ردهات بيوتهم بأذرع مشبكة وأعين محدقة في الأمطار التي لا تنقطع حتى ما عاد لتعاقب الأيام والأسابيع والشهور حساب عندهم ، ولكن الطفلين تلقيا عودته بالاحتفال والفرحة ، ومرة أخرى كان يصطحبهما الى غرفة مِيم لِيريهما دائرة المعارف الإنجليزية المصورة ويلاعبهما باللعب المختلفة في الغرفة .
وظلت الأيام تمضي على هذه الوتيرة الى أن جاء يوم قالت له فيه زوجته فرناندا : إنه لم يبق في الكرار إلا ثلاثة أرطال من اللحم المقدد وكيس أرز واحد .
فقال لها : وماذا تريدين مني أن أفعل من أجل هذا ؟
فردت فرناندا قائلة : لا أعرف هذا اختصاص الرجال .
فقال أُوروليانو الثاني : لا بأس ، سنفعل عندما يتكشف الجو .
كان أُوروليانو الثاني أكثر اهتماما بدائرة المعارف المصورة منه بالشؤون المعيشية حتى عندما راض نفسه على الاكتفاء بنزقة لحم وقليل من الأرز في طعام الغداء ، وكان يقول لِزوجته : لا يمكن أن تستمر الأمطار الى آخِر حياتنا ، أما الآن فيستحيل عمل أي شيء .
وبقد ما كان رصيد الكرار يتناقص ويتضاءل كان اهتياج فرناندا يشتد ويتزايد الى أن تفجرت غضبتها المكظومة حتى صارت كالسيل الدافق ، إذ بدأت ثورتها العارمة في الصباح وامتدت طيلة النهار وهي تدور في أرجاء البيت شاكية أنهم ربوها في بيت أبويها كمَلِكة لكي تصبح في النهاية خادمة في بيت مجانين مخبولين مع زوج كسول عِْربيد يستلقي على ظهره انتظارا لخبز ينزل من السماء ، بينما تكد وهي وتكدح طول النهار لِتدبير شءون بيت مفكك الأوصال لا صلاح لأمره .
أما أُوروليانو الثاني فقد ظل يستمع الى هديرها الساعات وهو جامد الملامح وكأنه أصم ، ولم يرد عليها ولم يقاطعها حتى كاد النهار أن ينصرم وعندها لم يطق صبرا .
قال لها : أرجوكِ أن تسكتي .
ولكن فرناندا بالعكس زاد صوتها ارتفاعا قائلة : لا سبب يدعوني الى السكوت ، من لا يريد أن يسمعني فليذهب الى مكان آخر .
عندئذ فقدَ أُوروليانو الثاني كل سيطرة ا=على أعصابه وفي سورة الاحتدام التي تملكته راح يحطم أصص الزهور والأطباق والكؤوس وكل ما يمكن تحطيمه حتى تناثر الحطام في كل مكان ، بل امتدت سورته الى الصور الزيتية المعلقة فمزقها تمزيقا وإلى أواني المطبخ فهشمها تهشيما ، ثم غسل يديه وألقى قطعة المشمع الواقي على رأسه وخرج ، وقبل منتصف الليل عاد ومعه مزق من اللحم المقدد وبعض أكياس الأرز والقمح وعنقود موز أعجف ، وبعدها لم يَعد البيت يشكو نقصا في القوت .
وفي خلال ذلك كان الصغيران أمارانتا اُوُرسولا وأُوروليانو يتذكران الأمطار كشيء جالب للبهجة ، وعلى الرغم من صرامة فرناندا فإنهما كانا يلهوان بفقاقيع المياه في الحوش ويقتنصان السحالي ويقومان بتشريحها بدعوى أنها تعمل على تسميم الحساء بالغبار الذي تنثره أجنحة الفراش وذلك في غفلة من فرناندا وسانتا سوفيا بيدال ، وكانت اُوُرسولا هي لعبتهما المفضلة كانا ينظران إليها على أنها عروس كبيرة مكسورة ينقلانها من مكان الى آخر ، وكادا مرة أن يفقأا عينيها بمقص تقليم الزهور كما كانا يفعلان بالضفادع ، وما كان لشيء أ يستهويهما ويمتعهما سوى شطحات شرود العقل التي كانت تلم بها في العام الثالث من تساقط الأمطار المستمر ، وفيها كانت تفقد الإحساس بالواقع وتخلط الزمن الحاضر بعهود حياتها الماضية ، إذ يمضي الوقت وهي تبكي أقرباء لها ماتوا منذ أزمان غابرة وتحسب الحفيدين أبناءها المُغَيَبين تحت الثرى ، ثم كانت تعود الى الصحو والرشد فتذكر رجلا جاء الى البيت الكبير بتمثال للقديس يوسف طالبا حفظه الى أن ينقطع المطر فيعود لاسترداده ، فكان من جراء ذلك أن تذكر أُوروليانو الثاني الثروة المدفونة في مكان لا يعرفه سوى اُوُرسولا ، ولكن كلما توسل به من أسئلة والمناورات لم يفلح في استدراجها الى البوح بالسر ، إذ إنها رغم خبالها قد بقيت لها بارقة تعقل جعلتها تحرص على الاحتفاظ بالسر إلا للرجل الذي يقدم الدليل على أنه هو صاحب الكنز الذهبي الدفين ، بل لقد بلغ من فكرها وتدقيقها أنه عندما لَقَّن أُوروليانو الثاني واحدا من بطانة مَباذِلِه ومجونه للتقدم الى العجوز على أنه هو صاحب الثروة ، لم تزل اُوُرسولا بهذا الدَعِيّ تستجوبه وتضيق الخناق عليه بأسئلتهاا الماكرة حتى تخلى أُوروليانو الثاني في النهاية .
وكما أن لكل شيء بدايته فلكل شيء في الحياة نهايته ، فذات يوم من أيام شهْر يونيو بعد تلك السنوات المطيرة الطوال بدأت الأمطار تقل والسحب تنقشع وبدا واضحا بين لحظة وأخرى أن الجو يوشك أن يتكشف وهذا ما حدث ، ففي الساعة الثانية من بعد ظُهْر يوم الجمعة أضاءت السماء بأشعة قُرْمُزية لِشمس مُترنحَة وبعدها لم يسقط المطرة مرة أخرى على مدى عشر سنوات .
وكانت ماكوندو قد استحالت الى خرائب ، ففي الشوارع تناثرت بقايا الأثاث المحطم وهياكل الحيوانات ، وغدت البيوت التي بُنيت على عجل للعاملين في زراعة الموز قاعا صفصفا بعد أن فر منها سكانها ، وقوضت شركة الموز ذاتها منشآتها ومرافقها .
أما الناجون من الكارثة من سكان ماكوندو الأصليين فقد وجدهم أُوروليانو الثاني عند خروجه أخيرا لِتفقد الأحوال جالسين في وسط الشوارع يستمتعون بِدِفء الشمس غفرحين باستعادة البلدَة التي وُلِدوا فيها رغم الدمار الذي حل بها .
وكانت بيترا كوتيس هي أكثر سكان البلدة تجلدا ، فقد شاهدت الدمار الشامل لإسطبلاتها واكتساح العاصفة لمخازن حبوبها بيد أنها أفلحت في استبقاء بيتها قائما ، ولما رأت تقاعس أُوروليانو الثاني عن نجدتها عندما استغاثت به أكثر من مرة أقسمت على أن تعمل لإستعادة الثروة التي بعثرها عشيقها ثم أتى عليها الفيضان ، ولقد كان عزمها في هذا القرار راسخا الى حد أنه عندما زارها أُوروليانو الثاني بعد ثمانية أشهر من رسالتها الأخيرة إليه ، ألفاها ممتقعة غائرة العينين ولكنها كانت تكتب أرقاما في قطع صغيرة من الورق لاستئناف عملية يانصيب الكارتيل السالفة .
لقد دُهِش أُوروليانو الثاني حقا ، أما هي فقد بدا لها من فرط ما رأته من علائم التشفع في مظهره أن القادم ليس عشيقها بل شقيقه التوأم .
وقال يعبر لها عن دهشته : أنت مجنونة إلا إذا كنت ستعرضين في الكارتيلا العظام .
وعندئذ طلبت منه أن ينظر في غرفة النوم فرأى أُوروليانو الثاني بغلا كان جلده ملتسقا بعظامه مثل صاحبته ، بيد أنه كان حيا ومتماسكا مثل صاحبته أيضا ، لقد أطعمته بيترا كوتيس من غضبها ، وعندما لم يبق لديها قمح ولا عُلَيْق ولا جذور آوته في غرفة نومها وجعلت تطعمه قماش الشيت ثم السجاد ثم الستائر المخملية ثم مظلة السرير الموشاة بخيوط الذهب وكلها من مخلفات غرفة النوم الفاخرة التي تفنن أُوروليانو الثاني في تأثيثهَا عندما كان في أوج النشوة والافتتان ...


الفصل السادس عشر

كان على اُوُرسولا أن تبذل جهدا كبيرا لكي تفي بنبوءتها أن تموت بعد انقطاع الأمطار ، فإن موجات الصحو والشفافية التي كانت تلم بها نادرا إبان فصل الأمطار غدت كثيرة بعد أن بدأت الرياح الجافة تهب على البلدة وترد إليها بعض الذاكرة ، ولقد بكت اُوُرسولا الى حد العويل والندب عندما اكتشفت أن الطفلين أُوروليانو أمارانتا اُوُرسولا جعلا منها ألعوبة يتقاذفانها على مدار ثلاث سنوات ونيف ، ولأول مرة منذ وفاة ابنتها أمارانتا قامت من الفراش بغير مساعدة من أحد لكي تشترك في حياة الأُسرة من جديد ، وكان لها من روح العزم في قلبها الذي لا يُقهر ما جعلها تدرج في أرجاء البيت رغم عماها مستهدية بحواسها الأخرى ، ومنذ قومتها تلك لم تسمح لنفسها بلحظة راحة ، بل جعلت كل أفراد الأُسرة يشاركونها في تنظيف البيت وإصلاح ما أفسدته الأمطار من متاع وأثاث ، إلى أن وصل بها المطاف الى غرفة مالكويداسالمغلقة بالقفل من الخارج تنفيذا لمطلب جوزيه آوُركاديو الثاني من أمه سانتا سوفيا بيدال ألا تفتحها إلا بعد وفاته ، فقد أصرت على أن يفتحوا لها الغرفة خصوصا ، وقد تذكرت أنه في إحدى الليالي المطيرة جاءت شلة من الجنود وفتشت البيت بحثا عن جوزيه آوُركاديو الثاني ولم تستطع اكتشاف وجوده .
ولما نزلوا على إصرارها كادت تسقط في المدخل من فساد الهواء لولا أن تعلقت بالباب هاتفة وكأنها رأت ما في الداخل : الرحمة يا ربي ، علمتك طول حياتي النظافة يا بني ، فإذا بك تنتهي مثل خنزير .
كان جوزيه آوُركاديو الثاني لا يزال عاكفا على فك طلاسم المخطوطات وكان الشيء البادي هو الشعر القليل المتناثر في رأسه وأسنانه المخضرة وعيناه الجامدتان ، وعندما سمع صوت جدته الكبرى أدار رأسه نحو الباب وحاول الابتسام ، ولم يسعفه من الكلام سوى العبارة التي طالما سمع اُوُرسولا ترددها : وماذا نتوقع ، الزمن يمر .
ولكنها لم تبالِ بقوله وراحت توبخه كأنه طفل ، وأصرت على أن يأخذ حماما ويَحْلق ويمد يده لإصلاح ما حل بالبيت ، والواقع أن فكرة خروجه من الغرفة التي أعطته الأمان والسكينة قد أفزعته حتى أنه قد صاح : لا توجد قوة بشرية يمكن أن تحمله على الخروج لأنه لا يريد أن يرى القطار المحمل بالموتى الذي غادر ماكوندو ليلا متجها الى البحر ، وعندئذ فقط أدركت اُوُرسولا أنه يعيش في عالم من الخيالات أكثف من عالمها وأشد عزلة من عالم جده الأكبر جوزيه آوُركاديو بوينديا عندما أطبق عليه الجنون .
وهكذا تركته في الغرفة ولكنها أصرت أن يرفعو القفل عن الباب وأن يجعلوه نظيفا لائقا مثلما كان حال جده الأكبر تحت شجرة الكستناء .
وأول الأمر فسرت فرناندا تلك الجلبة كنوبة من خيال الشيخوخة وكان من الصعب أن تكتم سخطها ، ولكن حدث في ذلك الوقت أن ولدها جوزيه آوُركاديو بعث لها برسالة قال فيها إنه ينوي القدوم الى ماكوندو من روما قبل أن يُرَسَّم في منصبه الديني بصورة نهائية ، فكان في هذا النبأ ما أفعم نفسها حماسَةً حتى راحت تروي الزهور أربع مرات في اليوم لكي لا ينطبع في نفس ولدها أثر سيئ عن البيت .
وكان أُوروليانو الثاني الذي أعد صناديق ملابسه المتجولة الى دار بيترا كوتيس يجاهد ما وسعه الجهد لكي لا تتضور أسرته جوعا ، فقد استطاع هو وبيترا كوتيس بعد عرض البغل في يانصيب الكارتيلا أن يشتريا بعض حيوانات أخرى مما مكنهما من إدارة عملية يانصيب جديدة كان أُوروليانو خلالها يطوف بالبيوت لبيع التذاكر وإن نال ذلك من صحته حتى ذهبت عنه البدانة والتورد وغدا أقرب الى النحول والضعف ، ولكنهما كانا يقتران على نفسيهما لتوفير أسباب المعيشة الضرورية لأهل البيت الكبير .
وقد أدى انهماك أُوروليانو الثاني في عمليات اليانصيب هذه الى إهمال رعاية الطفلين ، فعمدت فرناندا الى إلحاق ابنتها أمارانتا اُوُرسولا بمدرسة خاصة صغيرة لا يجاوز عدد تلميذاتها ست بنات ، ولكنها رفضت السماح لحفيدها أُوروليانو الصغير ابن مِيم بالذهاب الى مدرسة عامة ، فقد اعتبرت أنها تسامحت أكثر من اللازم إذ تركته يبارح الغرفة ، وفضلا عن ذلك فإن المدارس في ذلك العهد لم تكن تقبل سوى الأبناء الشرعيين في حين قد ورد في شهادة ميلاده التي جاءت معه من الدير أنه لقيط .
وهكذا بقي أُوروليانو الصغير معزولا تحت رحمة سانتا سوفيا بيدال الطيبة ونزوات اُوُرسولا المتقلبة بين الصحو والخيال لا يتعلم في دائرة البيت الضيقة سوى ما يتلقاه من جدتيه ، كان في الحق مخلوقا نحيلا رقيقا شديد حب الاستطلاع الى حد يضايق الكبار ، لا تكف عيناه عن الاختلاج ، وفي حين كانت أمارانتا اُوُرسولا في روضة الأطفال كان هو يصيد الديدان ويعذب الحشرات في الحديقة ، ولكن عندما ضبطته فرناندا يوما يضع بعض العقارب في علبة لِدسها في فراش اُوُرسولا حبسته في غرفة مِيم القديمة حيث أصبح يمضي ساعات العزلة في تصفح صور دائرة المعارف ، وعندما وجدته اُوُرسولا في هذه الغرفة عصر ذات يوم وعلى الرغم من أنها كانت معه مرارا فإنها سألته من يكون ؟
فأجابها : أنا أُوروليانو بوينديا .
فردت عليه قائلة : تمام ، والآن جاء الوقت كي تتعلم سبك المعادن .
لقد خلطت بينه وبين ابنها الكونونيل أُوروليانو بوينديا في صغره ، فإن الرياح الحارة التي جاءت في أعقاب الفيضان وكانت تجلب لها فترات الصحو والإدراك قد ولت ولم تسترد عقلها بعد ذلك قط ، وأصبحت تجلس في فراشها تكلم نفسها وتبتعث سير الموتى من أقربائها ومعارفها وتخلط الماضي بالحاضر على نحو يثير الرثاء وغدت تزيد انكماشا وضآلة بمرور الأيام حتى أصبحت في الشهور الأخيرة مثل ثمرة ذابلة في فراغ جلبابها .
وذات يوم ظلت جامدة عدة أيام حتى راحت سانتا سوفيا بيدال تهزها لكي تقتنع أنها على قيد الحياة ، ثم أجلستها في حِجْرِها وسقتها بضع ملاعق من ماء مُحلا بالسكر ، ومرة أخرى أخفاها أُوروليانو وأمارانتا اُوُرسولا في دولاب الكرار حيث كان يمكن أن تنهشها الفئران ، ثم وجدوها ميتة صباح يوم الجمعة الحزينة ، وكانت آخِر مرة سألوها أن تقدر عمرها التقريبي أيام وجود شركة زراعة الموز قدرته فيما يتراوح بين مائة وخمس عشرة سنة وبين مائة واثنتين وعشرين ، وقد دفنوها في تابوت لا يزيد حجمه عن حجم السلة التي جاء بها أُوروليانو الصغير ، ولم يشهد جنازتها إلا نفر معدود من الناس ومرجع الى ذلك الى قلة من يتذكرونها من أهل البلدة ثم الى شدة القيظ في ذلك اليوم الى حد أن الطيير في اضطرابها كانت تترامى على جدران البيوت وتشق ستائر النوافذ لكي تموت أفواجا في غرف النوم .
وبوفاة اُوُرسولا ارتد البيت الكبير مرة أخرى الى حالة من الإهمال لا يمكن أنقاذه منها حتى بعزيمة قوية مثلم عزيمة أمارانتا اُوُرسولا تلك التي تهيأ لها بعد تعاقب أعوام كثيرة وبعد أن أصبحت امرأة عصرية سعيدة خالية من العقد أن تفتح أبواب البيت ونوافذه على مصاريعها لكي تطرد عنه الدمار وتعيد الى الحديقة نضارتها وتستأصل النمالة التي أصبحت تسعى في المدخل في وضح النهار ، وإن حاولت عبثا أن تبعث في البيت روح الضيافة الذاهبة .
كانت هي تلك كلها الصورة بعد الأمطار والفيضان ، وفي خلال ذلك كانت فرناندا مشغولة بمرضها الذي لم تكاشف أحدا من أهل البيت بحقيقته ترفعا واستعلاءً وإن كان الباقون منهم على قيد الحياة لا يعيرونها اهتماما ، فإن سانتا سوفيا بيدال كانت تمضي أيام شيخوختها الهادئة في طهي الطعام القليل الذي يأكلونه متفرغة أكثر الوقت لِرعاية ابنها جوزيه آوُركاديو الثاني ، وكانت أمارانتا اُوُرسولا التي ورثت بعض محاسن ريميديوس الجميلة تقضي وقتها الذي كانت تضيعه من قبل في تعذيب اُوُرسولا في استذكار دروسها وقد أبدت في هذا من التقدم ولتفاني ما جعل أُوروليانو الثاني يَعِد ببإيفادها الى مدينة بروكسل لإتمام تعليمها ، وكانت المرات القليلة التي زار فيها البيت الكبير من أجل أمارانتا اُوُرسولا ، فقد أصبح يمضي الوقت غريبا عن زوجته فرناندا وغدا أُوروليانو الصغير أكثر انطواءً وهو يقترب من دور المراهقة ، وكان أُوروليانو الثاني يَؤْمُل أن يلين قلب فرناندا بتقدمها في السن حتى يتهيأ للطفل أن يندمج في حياة بلدته إذ أصبح أهلها لا يتشددون في شيء مثل الاهتمام بمنبته ، بيد أن أُوروليانو الصغير ذاته كان يفضل العزلة ولا يبدي أي رغبة في معرفة العالم الذي يبدأ من باب الشارع في البيت الكبير ، وعندما عملت اُوُرسولا على فتح باب غرفة مالكويداسأخذ أُوروليانو الصغير يتلصص بنظراته الى داخلها ، ولم يعرف أحد في أي لحظة توثقت الصلة بينه وبين جوزيه آوُركاديو الثاني حتى استحالت الى مودة مشتركة ، وقد اكتشف أُوروليانو الثاني هذه المودة بعد وقت طويل من بدئها حين وجد الصبي يردد ما كان يقوله جوزيه آوُركاديو الثاني عن مذبحة القتل في ميدان محطة سكة الحديد ونقل القتلى بالقطار الليلي لإلقائهم في البحر ، لقد ردد الصبي هذا الكلام أثناء الجلوس الى المائدة بين أفراد الأُسرة بلهجة إنسان ناضج مؤكدا أن هذا من تدبير شركة زراعة الموز خلاصا من الاستجابة لمطالب العمال ، ولما كانت فرناندا مقتنعة بما جاء في البيانات الرسمية من دَحض لهذه الدعوى فقد بدا لها أن الصبي ورث الآراء المتطرفة عن الكونونيل أُوروليانو بوينديا وانتهرته لكي يصمت ، أما أُوروليانو الثاني فقد عرف في كلام الصبي تأثير أخيه التوأم ، وعلى الرغم من أن الجميع كانوا يعدون جوزيه آوُركاديو الثاني من المجانين فإنه كان أكثر أهل البيت تعقلا إذ ذاك ، فقد عَلَّم أُوروليانو الصغير القراءة والكتابة وكان يشركه في محاولة فك طلاسم المخطوطات ويعمل على توسيع دائرة معلوماته .
وتتعاقب الأيام والشهور على هذا النحو الى أن يأتي يوم يستيقظ فيه أُوروليانو الثاني في منتصف الليل وهو يشعر باختناق شديد في حلقه وكأنما أنشب فيه سرطان بحري مخالبه ، وكانت هذه أول بادرة أحس فيها بقرب دنو أجله لكنه لم يخبر أحدا ، كان يعذبه في ذلك الحين أن يموت قبل أن يحقق وعده بإرسال أمارانتا اُوُرسولا الى بروكسل لإتمام تعليمها ، وهكذا راح يجهد نفسه في العمل بما لم يفعل مثله في كل حياته الماضية ، وبدلا من السعي لِتوزيع يانصيب كارتيلا واحدة في الأسبوع اتجه الى تزيع ثلاث كارتيلات، فكان يبدأ في ساعة مبكرة من الصباح طوافه في البلدة الى ساعة متأخرة من الليل ملحا على الناس لِشراء تذاكر اليانصيب وهو في ذلك يتعرض لِنوبات الألم الفتاكة في حلقه الى حد يقعده في حالة يرثى لها في الطريق ، وكثيرا ما غدا يتعرض لِسخرية الناس واستهزائهم لفرط ما كان يبدي من إلحاح وترغيب في الشراء ، وبعد وقت بدا له أن عملية عرض الخنازير والماعز وما إليها في يانصيب الكارتيلا لن تكفي لإرسال ابنته الى بروكسل ، وهكذا هداه طول التفكير الى عرض البور التي أتلفها الفيضان في هذا اليانصيب ، وعندما عرض هذه الفكرة على عمدة البلدة رحب بها وتكونت على الأثر روابط لِشراء تذاكر بقيمة مائة جنيه للتذكرة الواحدة بيعت كلها في أقل من أسبوع .
وفي ليلة السَحب أقام الفائزون حفلا كبيرا ، عزف فيه أُوروليانو الثاني على الأكوروديون لآخِر مرة ، ولم ينقضِ شهران حتى ذهبت أمارانتا اُوُرسولا الى بروكسل وقد أعطاها أُوروليانو الثاني كل النقود التي جمعها من يانصيب الأراضي مضافا إليها ما ادخره في الماضي مما عده كافيا للوفاء بنفقات الدراسة والمعيشة ، وكانت فرناندا في أول الأمر ضد الرحلة بعد أن رَوَّعها رحيل ابنتها الى بروكسل القريبة من باريس مدينة اللهو والمفاتن لولا أن الأب أنجل الكاهن الجديد زود الفتاة بتوصية الى دار للإقامة مخصصة للفتيات تشرف عليها راهبات ، وقد أعدت لها فرناندا مع الملابس والمتعا الضروري حزاما من القنب تحفظ فيه نقودها وشددت عليها ألا تخلعه حتى في نومها .
وبعد أشهر معدودة عندما حانت ساعة أُوروليانو الثاني الأخيرة وهو على فراش الموت لم تبرح ذاكرته صورة فتاته وهي تطل من نافذة القطار ملوحة لِوالديها على رصيف المحطة وقد تجلت رشاقتها ونضوجها ولكن دون دموع ولا ضعف مما دل على قوة عزم مبكر وظلا واقفين على الرصيف يلوحان مودعين وقد تأبطا ذراعيهما لأول مرة منذ الزواج الى أن غاب القطار عن الأنظار .
وفي التاسع من شهر أغسطس قبل ورود الرسالة الأولى من بروكسل كان أُوروليانو الصغير يتحدث مع جوزيه آوُركاديو الثاني في غرفة مالكويداس ودون سابق تمهيد قال له هذا : تذكر دائما أنهم كانوا أكثر من ثلاثة آلاف رجل وأنهم ألقي بِجُثَثِهم في البحر .
وعلى الأثر وقع جوزيه آوُركاديو الثاني على ظهره فوق المخطوطات وفاضت روحه وهو مفتوح العينين ، وفي اللحظة نفسها تقريبا وفي فراش فرناندا كانت نهاية أخيه التوأم أُوروليانو بعد المرض الطويل المفترس الذي أكل حلقه وغَيَّب صوته تماما في الأسابيع الأخيرة وحبس أنفاسه أو كاد وفاءً بما وَعد بأن يكون موته بجانب زوجته .
وكانت بيترا كوتيس قد عاونته في الفترة الأخيرة في جمع ملابسه وودعته قبل رحيله من دارها دون أن تذرف دمعة واحدة ، ولكنها نسيت أن تعطيه الحذاء الفاخر الذي كان يريد لبسه في تابوته ، وهكذا ما أن سمعت بوفاته حتى اتشحت بالسواد ولفت الحذاء في جريدة وطلبت الإذن من فرناندا لإلقاء نظرة أخيرة على الجثة ، فلم تسمح لها فرناندا بأن تطأ قدمها عتبة البيت .
فقالت بيترا كوتيس مستعطفةً ضعي نفسكِ مكاني ، تصوري مقدار حبي له بحضوري إليك والتعرض لهذه المهانة .
فردت عليها فرناندا قائلة : ليست هناك مهانة لا تستحقها عشيقة ، ولكِ أن تنظري حتى يموت واحد آخر من عشاقكِ الكثيرين لكي تلبسيه الحذاء .
وعملا بِوَصية جوزيه آوُركاديو الثاني الذي طالما خشي أن يدفن حيا بعد موته متأثرا بما رآه في صغره مرة من المحكوم بإعدامهم وعيونهم لا تزال مفتوحة ، فقد تولت أمه سانتا سوفيا بيدال حز رقبته بسكين المطبخ .
وقد وُضِعَت جثتَي الأخوين في تابوتين متماثلين ، وهكذا تحقق في الموت عودة التماثل بينهما كما كانا حتى عهد المراهقة ، وجاء أصحاب أُوروليانو الثاني في اللهو لِوداعه الأخير ومعهم أكليل زهور محفوف بشريط وردي كُتِبَت عليه عبارة كانت شعارهم في مجونهم (تمتع فالحياة قصيرة) ، بيد أن فرناندا التي أسْخَطَها هذا الاجتراء على حرمة الموتى رفعت الأكليل وألقته في القمامة ، وفي ثنايا الهرج الذي ساد في اللحظة الأخيرة خلط السكارى المحزونون التابوتين وهم يحملونهما ، وهكاذا دُفِن التوأمان في القبرين المغلوطين ...

الفصل السابع عشر

لم يفارق أُوروليانو الصغير غرفة مالكويداسزمنا طويلا ، لقد لفظ عن ظهر قلب الأساطير الخرافية التي تضمنتها تلك الكتب العنيفة من مذكرات عن علوم الجن والشياطين ومفاتيح الوصول الى حَجَر الفلاسفة وحوليات نوستراداموس وأبحاثه الى غير ذلك مما جعله يبلغ سن المراهقة دون أن يعرف شيئا عن الزمن الذي يعيش فيه ، مزودا فقط بالمعرفة الأساسية لإنسان من العصور الوسطى ، وكلما دخلت عليه جدته سانتا سوفيا بيدال وجدته مستغرقا في القراءة ، وكانت تأتيه عند الفجر بأبريق القهوة بغير سكر وعند الظهر بطبق الأرز وشرائح الموز المقلي ، وهو الطعام الوحيد الذي كان يُؤكَل في البيت منذ وفاة أُوروليانو الثاني ، وكانت تعمل على قص شعره وإلباسه الملابس القديمة التي تعثر عليها بعد جعلها على مقاسه ، وعندما نبت شاربه جاءته بموس الكونونيل أُوروليانو بوينديا والإناء الصغير الذي كان يستخدمه في حلق ذقنه ، وكان يبدو لها أحيانا أنه يكلم نفسه ، أما الواقع فإنه كان يكلم طيف مالكويداس، فقد حدث ظُهر يوم متقد الحر بعد وفاة الأخوين التوأمين أن أبصر منعكسا من وهج النافذة طيف مالكويداسكما كان يتصوره .
وقد سأله مالكويداسبعد أن رآه يراجع الحروف الأبجديَة للمخطوطات كما تلقاها عن جوزيه آوُركاديو الثاني عما إذا كان قد اكتشف اللغة التي كُتِبَت بها المخطوطات ؟
فأجاب أُوروليانو : اللغة .
فبَيَّن له طيف مالكويداسأن ظروف عودته الى هذه الغرفة محدودة لأنه عائد في سلام الى رحاب الموت الكلي ، ومن ثمة سيجد أُوروليانو الوقت متسِعا لتعلم اللغة السنْسكريتية خلال السنوات الباقية على بلوغ عمر المخطوطات مائة عام وعندها سيحين أوان فك رموزها ، وكان هو الذي دل أُوروليانو على أنه يوجد في الشارع الضيق المؤدي الى النهر رجل حكيم من أبناء قطالونيا عنده مكتبة بها مفتاح اللغة السنْسكريتية في كتاب مزخرف سيأتي عليه العفن في مدى ست سنوات إذا لم يبادر بشرائه ، وشد ما كانت دهشة سانتا سوفيا بيدال التي لا يدهشها شيء عندما طلب منها أُوروليانو أن تجيءه بالكتاب الذي يمكن العثور عليه بين مُجَلَدَي تاريخ أورشليم وأشعار ميلتون في أقصى الجانب الأيمن للرف الثاني من رفوف المكتبة ، وإذا كانت لا تعرف القراءة فإنها وعت هذا افي ذاكرتها ودبرت مبلغا من بيع الأسماك الذهبية الصغيرة السبعة عشر الباقية في المَسْبَك والتي لم يكن أحد غيرها هي وأُوُرسولا يعرف مكانها منذ الليلة التي فتش فيها الجنود البيت .
وتقدم أُوروليانو في دراسة اللغة السنْسكريتية فيما كانت زيارات طيف مالكويداستتناقص ويزيد الطيف شحوبا في ضوء الظهيرة الشديد ، وآخِر مرة شعر أُوروليانو بوجود الطيف عندما همس في سمعه كيان غير منظور بهذه العبارة : لقد توفيت بالحُمَا في رمال سنغافورا ، وبعدها لم تعد الغرفة في منعة من الأتربة والحرارة وحشرات الترميت والنمل والعث وهي كفيلة بإحالة المخطوطات الى نشارة .
ولم يَعُد البيت يعاني من نقص القوت فغداَة يوم وفاة أُوروليانو الثاني جاء رجل من بطانة السكر الذين أحضروا الإكليل غير المحتشم لِيدفع الى فرناندا نقودا كانت عليه لِأُوروليانو الثاني ، وبعد هذا كان يأتي كل يوم أربعاء صبي ومعه سلة طعام كانت تكفي قوت أسبوع ، ولم يعرف أحد قط أن هذه المؤونة كانت ترسلها بيترا كوتيس وفي ضميرها أن هذا الإحسان المستمر هو طريقة لإذلال فرناندا التي أذلتها ، غير أن هذه الضغينة ما لبثت أن تلاشت بمرور الأيام ، وبعدها استمرت في إرسال القوت من قَبيل التكبر ثم في النهاية من قَبيل الرحمة .
وكثيرا ما كانت بيترا كوتيس بعدما كانت لا تجد حيوانات لليانصيب وبعد فقدِ الناس الاهتمام بذلك كثيرا ما كانت هي تبقى بدون طعام لكي تجد فرناندا ما تأكله ، وظلت وفية لعهدها هذا الى أن رأت جنازة فرناندا تمر في الشارع ، وفي خلال ذلك كانت سانتا سوفيا بيدال دائبة في خدمة البيت وتنظيفه من الأتربة والعناكب والحشرات القارضة فلا تمضي ساعات حتى يعود كل هذا الى سيرته الأولى ، الى أن شعرت في النهاية أن شيخوختها وعظامها المكدودة لا تحتمل هذا الجهد الشاق ، وإذا هي تحزم ما بقي لها من متاع قليل وتتأهب للرحيل عن البيت .
وعندما سألها أُوروليانو الى أين هي ذاهبة ؟
أجابته بلهجة غامضة : أن لها أقرباء في بلدة ريوهاشا ستقيم عندهم وإن موهت عليه في ذلك ، فأعطاها أُوروليانو 14 من الأسماك الذهبية بعد أن وجدها مصرة على الذهاب بما معها وهو لا يجاوز بيزو واحد وبضعة سنتات .
وبعد رحيلها لم يسمع عنها شيء بعد ذلك .
وعندما سمعت فرناندا برحيلها هاجت وماجت يوما بطوله ، وقد أصيبت بحروق في أصابعها وهي تحاول إيقاد النار لأول مرة في حياتها ، واضطرت أن ترجو أُوروليانو ليريها كيف تُعمَل القهوة ، وبمضي الوقت كان أُوروليانو هو الذي يباشر شؤون المطبخ ، فكانت فرناندا تجد إفطارها معدا عندما تقوم من النوم ، وكانت تبرح غرفتها مرة ثانية لتجد طعامها فوق الموقد مجهزا فتحمله الى المائدة لتجلس على رأسها في مواجهة 15 مكانا خاليا فوق مفرش من الديل وبين الثريات ، لقد كانت فرناندا تعيش في عالم خاص بها ولا شاغل لها سوى مكاتبة ولديها وتلقي رسائلهما حتى لم يَعُد يعنيها شيء من مرور الزمن انتظارا لِعودتهما ، وعلى سبيل المثال ، لم تتضايق عندما أخبرها ابنها جوزيه آوُركاديو بعد مضي سنوات من قرب إعلان تخرجه النهائي أنه سينتظر لإتمام دراساته في علوم اللاهوت المتقدمة ، فقد سُرَت بهذا التأخير وسعُدَت به وهي تعرف الطريق الشاق الى المناصب الكهنوتية العليا ، كما كان سرورها وسعادتها بالمثل عندما أخبرتها ابنتها أمارانتا اُوُرسولا أن دراستها ستطول أكثر من المقدر لها لأن تفوقها في الدرجات قد هيأ لها مزايا لم في الحسبان عندما قدر والدها موقفها الدراسي .
وانقضت ثلاثة أعوام ونيف منذ أن أحضرت سانتا سوفيا بيدال الى أُوروليانو كتاب القواعد الذي مكنه من ترجمة الصفحة الأولى ، ولم يكن هذا جهدا ضائعا ولكنه كان خطوة أولى في طريق لم يمكن التنبؤ بطوله ، لأن النص الأسباني لم يفصح عن أي شيء ، إذ كان مكتوبا بشفرة خاصة تعذر على أُوروليانو أن يحلها ، غير أنه لما كان مالكويداسقد أخبره أن الكتب التي يحتاج إليها للتوصل الى أعماق المخطوطات موجودَة في مكتبة القطالوني ، فقد قرر أن يكلم فرناندا لكي تسمح له بالذهاب ، ولهذا قص شعره الذي طال وحلق ذقنه ولبس بنطلونا قصيرا وقميصا بياقة صناعية ورثهما ممن لا يدري ، ثم جلس في المطبخ ينتظر حضورها لأخذ طعام الإفطار ، لكن المرأة التي عهدها كل يوم والتي كانت ترفع رأسها شموخا وتعاليا لن تصل ، وإنما جاءت امرأة عجوز ذات جمال خارق تتشح بحرْمَلَة من الفرو الثمين وتاج من الورق المقوى المُذَهب وتبدو عليها علائم إنسان كان يبكي لنفسه ليلا ، والواقع أن فرناندا منذ أن عثرت على زيها كمَلِكة في أمتعة زوجها أُوروليانو الثاني راحت ترتديه مرارا رغم ما أكل منه العث ، ولو قُدِّر لأحد أن يراها وهي تختال أما المرآة بهذا الزي الزائف لظنها مجنونة ، لكنها لم تكن ، وإنما كانت تفعل للذكرى وحنينا الى الماضي المُوَلّي وتسريةً لنفسها عن سوء حالها الراهن .
هكذا عَدِلَ أُوروليانو عن طلب الإذن منها بالخروج إذ كان مفتاح البيت لديها ، وإن كان بوسعه أن يتسلل خارجا وعائدا دون أن تفطن إليه لولا أن طول سجنه في البيت وخوفه من مواجهة الناس والعالم الخارجي واعتياده طاعة الأوامر ، كل ذلك قضى على روح التمرد في نفسه وفرض عليه عزلته الغريبة ، وكذلك عاد الى محبسه عاكفا على قراءة المخطوطات مرارا وتكرارا ، متسمعا في الليل صوت فرناندا وهي تنتحب في غرفة نومها ، الى أن ذهب الى المطبخ ذات صباح لإيقاد النار كالمعتاد فوجد الطعام الذي تركه لِفرناندا في الأمس لم تمسه يد ، وعندئذ نظر في غرفة نومها فرآها مُمَددَة فوق الفراش مغطاة بحَرمَلَة الفراء وهي أوفر جمالا مما عهد وقد استحالت بشرتها الى لون العاج .
ولما عاد ابنها جوزيه آوُركاديو يبعد أربعة أشهر وجدها في نفس تلك الصورة ، كان من المستحيل أن يتصور أحد شابا أكثر منه مشابهة لأمه ، كان يرتدي بدلة من الحرير وقميصا بياقة صلبة مستديرة وشريطا حَريريا بمكان ربطة العنق ، وكان مليء الوجه مورده ، وأقرب الى الاسترخاء والترهل ، وكان شعره الأسود اللامع الناعم مفروقا من وسط الرأس ، وكان يتختم في يديه الناصعة البياض بخاتم ذهبي مرصع بحجر من العقيق حول سبابة يده اليسرى ، وعندما فتح باب الشارع لم يحتج أُوروليانو الفتى الى من يدله على اأنه جاء من سفر بعيد ، وما أن خَطا بضع خطوات في البيت حتى فاحت منه رائحة العطر الذي طالما نثرته اُوُرسولا عليه وهو طفل ين لكي تستدل من الرائحة على مكانه بعد أن كُفَ بصرها ، وقد تقدم جوزيه آوُركاديو من فوره الى مخدع أمه حيث كان أُوروليانو قد تولى غلي زئبق على مدى أربعة أشهر كاملة لِحفظ الجثة طبقا لتعاليم مالكويداسالمتوارثة ، ولم يبادله جوزيه آوُركاديو بأي سؤال وإنما قَبَّلَ الجثة فوق الجبين ، ثم جذب من ثنايا ملابسها مفتاح دولاب صاحبتها الخاص ولما فتحه أخرج منه علبة صغيرة كان بداخلها الرسالة المطلوبة التي باحت فيها فرناندا بكافة الحقائق التي كانت حريصة دائما على إخفائها عنه في رسائلها إليه ، فعكف على قراءتها واقفا بلهفة ولكن دون قلق وما أن وصل الى الصفحة الثالثة حتى توقف وتفرس في أُوروليانو بنظرة تُعرَف بعد النظرة الأولى العابرة ،
وقال له بصوت كحد الموس : أنت ابن الحرام .
- أنا أُوروليانو بوينديا .
فقال جوزيه آوُركاديو : اذهب الى غرفتك .
فذهب أُوروليانو ولم يخرج حتى من باب الفضول عندما سمع صوت موكب الجنازة ، وأحيانا كان يرى من المطبخ جوزيه آوُركاديو وهو يتنقل في البيت ، ويسمع خطواته في غرفة النوم المهجورة بعد منتصف الليل بيد أنه لم يسمع صوته مدى شهور كثيرة ، لا لأن جوزيه آوُركاديو لم يتجه إليه بكلام بل كذلك لأن أُوروليانو نفسه لم يرد أن يحدث هذا ولم يحن الوقت ليفكر في أي شيء آخر غي المخطوطات .
فعقب وفاة فرناندا حمل سمكة ذهبية وذهب الى مكتبة القطالوني الحكيم بحثا عن الكتب التي يحتاج إليها ، فوجده عاكفا على منضدة مستطيلة بين أكداس الكتب العتيقة البالية فوق الرفوف والأركان وهو مستغرق في الكتابة بأحرف حمراء في كراسة مدرسية مفككة الصحائف ، وبدا له أبيض الشعر أزرق العينين تلوح عليه مخائل إنسان مهَذَب قرأ كل الكتب ، ولم يرفع الرجل رأسه ليرى من القادم ، غير أُوروليانو لم يجد صعوبة في استخلاص الكتب الخمسة التي جاء يبحث عنها في الفوضى الضاربة أطنابها حوله لأنه عثر عليها في الموضع الذي أرشده ا
إليه طيف مالكويداس، ودون كلمة واحدة وضع أُوروليانو السمكة الذهبية والكتب أمام القطالوني الذي ما أن نظر حتى ضاقت عيناه قائلا : لا بد أنك مجنون .
بيد أنه هز منكبيه ورد إليه الكتب والسمكة الذهبية قائلا : لك أن تأخذها إن آخر رجل قرأ هذه الكتب أصيب بالعمى ، وإذن فلتتدبر جيدا ما أنت فاعل .
وأما جوزيه آوُركاديو فقد أصلح غرفة نوم أخته مِيم وحوض الاستحمام الإسمنتي ، وكان ينام حتى الحادية عشرة صباحا أو ما بعدها ، فيذهب الى الحمام ويعطر الحوض بأملاح جاء بها ويمكث في الحوض ساعتين طافيا على ظهره مستمتعا بالطراوة ، وبعد أيام من وصوله وضع جانبا بدلته الحريرية وهي الوحيدة التي جاء بها واستبدل بها بنطلونا ضيقا وقميصا حَريريا نُقِش مكان القلب منه الحرفان الأولان من اسمه ، ومرتان في الأسبوع كا نيغسل هذا اللباس ويرتدي روب الحمام الى أن يجف إذ لم تكن لديه ملابس غيرها ، ولم يكن يأكل في البيت قط ، كان يخرج بعد أن تخف وقدة القيلولة ولا يعود إلا في وقت متأخر ليلا ، كانت الخدعة الكبرى التي أجازها على الجميع هي دراسته للاهوت ، أما الحقيقة فهي أنه لم يكد يستقر في روما حتى هجر المعهد واستمر يغذي برسائله هذه الخرافة لكي لا يخاطر بذلك الميراث الكبير الذي كان ينتظره من أمه على ما نحو ما كانت تمنيه هي به اختلاقا هي الأخرى طبقا لطبيعتها التي كانت تجانب الحقيقة في كل شيء وتتعلق بعالم الأوهام .
كان تفكيره منحصرا في ذلك الميراث الوهمي الذي يخلصه من البؤس وشضف العيش مع صاحبين له في غرفة على السطح ، وعندما تلقى رسالة فرناندا الأخيرة التي أملاها عليها إحساسها بدنو الأجل جمع ما تبقى من العز الزائف في حقيبة صغيرة عبر بها المحيط في سفينة مع مهاجرين تكدسوا فيها مثل ماشية في مجزر ، يأكلون المعكرونة الباردة والجبن بالديدان .
وقبل أن يقرأ وصية فرناندا في رسالتها المطولة وهي لم تكن أكثر من اعتراف تفصيلي ومتأخر بحقيقة الحال والبلايا الماثلة ، كان أثاث البيت المحطم والحشائش البرية النامية لدى المدخل برهانا صادقا على أنه وقع في فخ لا مهرب له فيه .
وبعد عام من عودته المهيضة تلك والتي اضطر فيها أن يبيع الثريات الفضيَة وغيرها مما بقي له قيمة كي يأكل كانت سلواه الوحيدة في عزلته هي فتح أبواب البيت لِصِبية الحي لكي يلعبوا في البيت ويؤنسوا وحشته ، فكانوا يثبون فوق الحبل في الحديقة ويغنون لدى المدخل ويقمون بألعاب بهلوانية بين أثاث حجرة المعيشة الى وقت متأخر من الليل حتى صار البيت أشبه بمدرسة داخلية مجردة من كل نظام ، ولم ينزعج أُوروليانو من هذا الغزو طالما كانوا لا يعملون على مضايقته في غرفة مالكويداس، ثم حدث ذات صباح أن دفع أحد الصِبية باب الغرفة فرَوَعهم مشهد رجل متسخ أشعث كان لا يزال عاكفا على فك طلاسم المخطوطات فوق المنضدة ولم يتجاسروا على دخول الغرفة ولكنهم ما برحوا يراقبونه ، ومرةً ألقوا فيها حيوانات حية من فوق عارضة الباب ، وفي مناسبة أخرى سمروا الباب والنافذة حتى أمضى أُوروليانو نصف نهار في رفع المسامير وفتحهما ، ولما شجعهم عدم تعرضهم للعقاب في كل هذا دخلوا الغرفة ذات صباح بينما كان أُوروليانو في المطبخ وهموا بإتلاف المخطوطات غير أنهم ما كادوا يضعون أيديهم على الصحائف المُصفرة حتى شعروا بقوة خفية تكاد ترفعهم عن الأرض الى أن عاد أُوروليانو وانتزع المخطوطات من أيديهن ، وبعدها لم يعملو على مضايقته ، وكان أربعة منهم في سن المراهقة مثل جوزيه آوُركاديو يشاطرونه الاستحمام في الحوض ، وقد توثقت بينه وبين أحدهم وهو أجرؤهم أواصر الصداقة حتى كان يشاطره المبيت في البيت بعض الليالي حيث يقضيان الساعات في السمر والطواف في البيت وغرفه الخالية ، وذات ليلة استرعى نظرهما في غرفة اُوُرسولا وهج أصفر منبعث من شقوق الأرضية المتآكلة وكأن شمسا تحت الأرض قد غيرت أرض الغرفة الى لوح من الزجاج ، ولم تكن بهما حاجة الى إضاءة النور كان يكفي أن يرفعا البلاطة المكسورة في الركن الذي كانت تنام فيه اُوُرسولا والذي كان ينبعث منه الوهج على أشده لكي يعثروا على الكنز السري المليء بالذهب في أكياسه الثلاثة والذي كان يتوهج مثل جمرات في الظلام .
كان اكتشاف هذا الكنز الذهبي مفاجأةً مذهلة وبدلا من أن يعود جوزيه آوُركاديو الى روما بالكنز الذي هبط عليه من حيث لا يحتسب فإنه أحال البيت الى فردوس ، إذ أعاد تأثيث غرفة النوم بأفخر مما كانت عليه وكسا أرضية الحمام وحوائطه بالبلاط ، وملأ دولاب قاعة الطعام باللحم المقدد وعلب الفاكهة المحفوظة والمشهيات ، وفتح غرفة الكرار من جديد لتخزين الأنبذة والمشروبات الكحولية التي كان يستجلبها من محطة سكة الحديد في لفائف معنونة باسمه ، وذات ليلة أولم مع الفتيان الأربعة وليمة دامت حتى الفجر وعند الساعة السادسة صباحا قاموا بتصفية حوض الحمام من المياه وملؤوه بالشمبانيا ثم تواثبوا فيه وراحوا يسبحون مثل طيور سابحة في سماء مذهبة بفقاقيع يفوح شذاها العطر وقد تخلف عنهم جوزيه آوُركاديو ، وعندما خرجوا من الحوض وبقي طافيا على ظهره في المياه مستغرقا في التفكير وعندما لحق بهم في النهاية ألفاهم قد أتلفوا غرفة النوم حتى أصبحت حطاما فاشتد سخطه عليهم حتى طردهم من البيت وهو يشبعهم ضربا ، وبقي وحده ثلاثة أيام يعاني من أزمة ربو مستحكمة ، ولما اشتدت عليه الأزمة ذهب الى غرفة أُوروليانو ورجاه أن يشتري له مسحوقا خاصا للاستنشاق من صيدلية قريبة ، وكانت هي المرة الثانية التي خرج فيها أُوروليانو من البيت ، ولما وصل الى الصيدلية قابلته فتاة لها جمال الأفعى وأعطته الدواء الذي عاد به الى جوزيه آوُركاديو الذي قدَّر منه هذا الصنيع حتى أنه بعد أيام قليلة أخل بعهده لأمه وترك أُوروليانو حرا يخرج من البيت كما يشاء .
ومن عجب أن أُوروليانو رد عليه قائلا : ليس لي ما أفعله في الخارج .
وبقي حبيسا م=في البيت منهمكا في فك طلاسم المخطوطات ومحاولة فهم مضامينها التي ظلت رغم ذلك مستغلِقة عليه .
وكان جوزيه آوُركاديو يجيءه ببعض اللحم المقدد والفاكهة المحفوظة وشيء من النبيذ في مناسبتين ، لكنه لم يهتم بالمخطوطات التي عدها من ترهات الماضي ، ولكن اهتمامه غدا منحصرا في ابن أخته هذا الذي ألفاه غزير المعلومات واسعة المعرفة على نحو غريب ، إذ وجده يفهم اللغة الإنجليزية الى جانب إلمامه بكل ما جاء بدائرة المعارف المصورة التي قرأ أجزاءها الست من أول صفحة الى آخِر صفحة كما يقرأ إحدى الروايات ، ومهما يكن فقد توطدت الأواصر بين هاتين الشخصيتين المنعزلتين اللتين يسري فيهما دم واحد وهي إن لم تكن صداقة بمعنى الكلمة فقد كانت صحبة أعانتهما على احتمال حياتهما الغريبة هذه .
وكان جوزيه آوُركاديو منذ أن طرد الفتيان من البيت ينتظر أخبار باخرة من عابرات المحيط ينوي الارتحال فيها الى نابولي قبل عيد الميلاد وقد أخبر أُوروليانو بهذا ، بل فكر في خطة لإلحاقه في عمل لكسب قوته إذ أن سلال الطعام قد انقطع ورودها الى البيت بعد دفن فرناندا .
وفي صباح يوم من سبتمبر بعد أن فرغ جوزيه آوُركاديومن شرب القهوة مع أُوروليانو في المطبخ ، وكان على وشك أن الانتهاء من حمامه اليومي إذ اندفع الى الحمام الفتيان الأربعة الذين طردهم من البيت من خلال البلاط المكسور ، وقبل أن يجد فرصة للدفاع عن نفسه قفزوا الى الحوض بكامل ملابسهم وجذبوه من شعره وأغرقوا رأسه في المياه ممسكين به هكذا الى أن توقفت من سطح المياه فقاقيع حشرجة الموت وغاصت جثته الشاحبة الى قاع الحوض المعطر ، وبعد ذلك أخرجو أكياس الذهب من المخبأ الذي لم يكن معروفا لهم وللضحية ، وكانت في الواقع عملية خاطفة ووحشية ومدبرة بعناية حتى كانت أشبه بعملية حربية .
ولم يشعر أُوروليانو بأي شيء وبابه مغلق عليه في غرفته ، وعندما افتقده في المطبخ بعد ظهر هذا اليوم ذهب يبحث عنه في كل أنحاء البيت الى أن عثر عليه طافيا فوق صفحة مياه الحوض المعطرة وقد انتفخت وتضخمت جثته ، وعندئذٍ فقط أدرك أُوروليانو الى أي حد كان قد بدأ يتعلق به ...


الفصل الثامن عشر

عادت أمارانتا اُوُرسولا في أوائل شهر ديسمبر وهي تقود زوجها بحبل من حَرير مربوط حول رقبته ، ظهرت في البيت الكبير دون سابق إخطار مرتدية فستانا في لون العاج وعقدا من اللآلئ يكاد يتدلى الى ركبتيها وخواتم من الزمرد والعقيق وشعرها الطويل معقود خلف أذنيها ، وكان الرجل الذي تزوجته منذ ستة شهور هولنديا نحيلا يكبرها سنا .
وما كاد عليها إلا أن تدفع الباب الى البهو لكي تدرك أن غيابها كان أطول وأحفل بالدمار مما كانت تتصور حتى هتفت بلهجة كانت أكثرا مرحا منها انزعاجا : يا إلهي من الواضح أنه لا توجد امرأة في هذا البيت .
وكانت الأمتعة التي جاءت بها أكثر من أن يسعها المدخل ، ففضلا عن الصندوق الكبير الذي ذهبت به الى المدرسة جاءت بست حقائب بين الكبيرة والصغيرة وثمانية علب قبعات وصندوق خاص به دراجة زوجها ذات العجلة الأمامية الأكبر مفككَة ، بل إنها لم تَخْلُد الى الراحة يوما واحدا بعد رحلتها الطويلة ، فقد اشتملت برداء قديم وبدأت على الفور تنظيف وتجديد البيت فطردت النمل الأحمر الذي كان قد سيطر على المدخل واستأصلت الحشائش الطويلة وغرست الزهور في الأصص ، واستعانت بفريق من النجارين والحدادين والبنائين لإصلاح الأبواب والأثاث والنوفذ وسد الشقوق وطلاء الجدران ، وهكذا لم تمض ثلاثة أشهر على وصولها حتى كان الإنسان يتنفس من جديد جو الشباب والانتعاش الذي كان يسود البيت الكبير في أيام العز الماضية ، والحق أنها كانت ذات روح متحررة وعصرية الى حد أن أُوروليانو ابن أختها مِيم لم يعرف كيف يداري هيأته لدى مَقْدَمِها .
أما هي فقد هتفت بلهجة السعادة وقد فتحت ذراعيها : مدهش مدهش ، انظروا كيف كبر متوحشنا العزيز .
وقبل أن يجد فرصة لرد الفعل كانت قد وضعت إصطوانة فوق الفُنوكراف المتنقل الذي جاءت به معها وأخذت تحاول تعليمه أحدث خطوات الرقص ، ثم إنها حملته على تغيير بنطلونه المتسخ الذي ورثه عن الكونونيل أُوروليانو بوينديا وأعطته بعض القمصان الشبابية وحذاء بلونين ، وكانت تدفعه الى الشارع دفعا عندما كان يمضي في غرفة مالكويداسوقتا أطول مما ينبغي .
كانت عصرية مائة بالمائة حتى كان من غير المفهوم أن تعود مثلها الى بلدة ميتة مثقلة بالأتربة والحَر القائظ ومع زوج كان عنده من المال ما يكفي للعيش في أي مكان في العالم ، وهو يحبها حبا جما جعله يرتضي أن يُقاد بطوق حَريري حول رقبته .
وبعد عام من عودتها وعلى الرغم من أنها لم تفلح في اتخاذ أي أصدقاء أو إقامة أي حفلات فإن أمارانتا اُوُرسولا ظلت على اعتقادها بأن في الأمكان إنقاذ هذه البيئة التي انفردت بالعزلة وبما تعاقب عليها من كوارث ، وقد حرص زوجها جاستون على عدم معارضتها وإن كان منذ أن نزل من القطار قد أيقن أن زوجته قد تعلقت بسراب خادع ، ولما ألفاها منهمكة في عمليات الإصلاح والتجديد ما لبث أن تفرغ بدوره للطواف بدراجته في المنطقة لإقتناص كل ما استطاع من الحشرات المحليَة واإرسالها معلبةً الى أستاذه السابق في التاريخ الطبيعي في جامعة ليك حيث كان له نشاط متقدم في علم الحشرات وإن كانت مهنته الإساسية هي قيادة الطائرات ، وعلى الرغم من أنه كان يكبر زوجته بخمسة عشرا عاما على الأقل إلا أن عزمه الراسخ على توفير أسباب السعادة لها في حياتهما الزوجية هذه قد عوضها عن فارق السن .
وكان لقاؤهما قبل عامين من زواجهما عندما اختل توازن الطائرة الصغيرة ذات الجناحين التي كان يستقلها فوق المدرسة التي كانت تتعلم فيها أمارانتا اُوُرسولا إثر ارتطامها ببعض الأسلاك الكهربائية العالية ، مما أدى الى إصابته برضوض غير خطيرة لحسن حظه ، ومن وقتها درج على اصطحاب أمارانتا اُوُرسولا أيام العطلات من بيت الراهبات الذي كانت تقيم به الى حيث يقضيان وقتا طيبا في ناديه الخاص ، وقد نبت الحب في قلبيهما وهما يحلقان بالطائرة أيام الآحاد على ارتفاع 1500 قدم فوق البراري والمروج ، وكانت تحدثه عن مسقط رأسها في ماكوندو مؤكدة أنها أجمل بلدة في الدنيا ، وقد فَهِم جاستون أنها لن تتزوجه إلا إذا صحبها للإقامة في ماكوندو ، فقَبِلَ عن طيب خاطر كما قَبِلَ وضع الطوق الحَريري في رقبته معتقدا أنها نزوة عابرة ستتكفل الأيام بالتغلب عليها ، غير أنه بعد مضي عامين في ماكوندو ، وبعدما رأى أن أمارانتا اُوُرسولا ظلت هانئة سعيدة كأول يوم لوصولها دب القلق الى نفسه خصوصا وقد تعقب جميع الحشرات في ماكوندو واستوفى إرسال النماذج التي يريدها ، ورغبةً منه في ملء وقت فراغه الطويل فإنه درج على تمضية ساعات الصباح في غرفة مالكويداسمع أُوروليانو الخجول وقد أعجبه منه اطلاعه الواسع ومعرفته لا باللغة السنْسكريتية فقط بل كذلك بالإنجليزية والفرنسية وقليل من اللاتينية واليونانية القديمة .
ولما صار أُوروليانو يخرج من البيت عصر كل يوم في العهد الأخير وكانت أمارانتا اُوُرسولا تعطيه مبلغا من النقود كل أسبوع لمصروفه الشخصي فإن غرفته تحولت لما يشبه فرعا لمكتبة القطالوني ، كان يقرأ بشراهة حتى وقت متأخر من الليل ، ولكن أكثر ما كان يستغرق اهتمامه هو التركيز على المخطوطات التي كان يخصص لها معظم ساعات الصباح .
وكان بود جاستون أمارانتا اُوُرسولا ضمه الى الحياة العائلةي بيد أن أُوروليانو كان زاهدا تحف به سحابة من الغم والخفاء كانت تزداد كثافة مع الأيام .
وعندما فشل جاستون في مصادقة أُوروليانو لم يلبث أن تحول عنه لإلتماس سبل أخرى لقضاء وقته الطويل ، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء خط جوي يربط ماكوندو بالعالم الخارجي ، وفي الحق أن هذا المشروع لم يكن بالجديد عند جاستون مختمرا في ذهنه عندما التقى أمارانتا اُوُرسولا ، فيما عدا أن التفكير في الخط الجوي لم يكن في ماكوندو بل في الكونغو البلجيكي ، وكانت لأُسرته استثمارات قائمة ، وقد أدى زواجه وما تقرر أول الأمر في الإقامة شهورا معدودة في ماكوندو الى إرجاء تنفيذ الفكرة ، وعندما تبين إصرار أمارانتا اُوُرسولا على التوطن في البلدة والعمل على تحسين أحوالها لم يكن أمامه إلا أن يعيد الاتصال بشركائه في بلجيكا لتعديل المشروع وإنشائه في منطقة الكاريبي بدلا من أفريقيا .
وهكذا قام برحلات متتالية خارج الأقليم والتقى بالجهات المسؤولة حيث حصل على التراخيص والعقود الخاصة بإنشاء الخط الجوي ولم يبق سوى وصول الطائرة على الخط الجوي .
لقد أحدثت عودة أمارانتا اُوُرسولا الى البيت الكبير تغيرا في حياة أُوروليانو وإن لم تلاحظ هي ذلك ، كانلا يزال على انفراد عندما عانقته كأُخْت وتركته لاهث الأنفاس ، وفي كل مرة وخاصة عندما كانت تريه الرقصات الجديدة كان يلابسه ذلك الإحساس الغامر الذي لابس جده الأكبر عندما أخذته بَيلارتارنيرا الى بيتها بدعوى قراءة طالعه من واقع أوراق اللعب ، ولكي يخمد ما كان يحسه من عذاب فقد انكب بكل قوته على المخطوطات هربا من مداعبات أمارانتا اُوُرسولا الفتية ، التي رغم براءتها كانت تسمم لياليه وتقظ مضجعه ، ولكن كلما كان تحاشى لقاءها اشتد به القلق والاضطراب وهو يسمع ضحكاتها الطروبة السعيدة تردد ليلا في أرجاء البيت وهي تسامر زوجها الى وقت متأخر ، لم يكن فقط يبيت ليله ساهرا مسهدا حليف الضنا ولكنه كان أيضا يمضي نهاره التالي محموما منتحبا من الحنق والاحتلام ، وكان يهيم على وجهه في الطرقات شارد الفكر مضطرم الجوانح ، فإذا عاد الى البيت وقت الغروب دخل من الباب كغريب دون أن يسلم على أمارانتا اُوُرسولا أو جاستون وهما يتناولان طعام العشاء في مثل هذا الموعد عادةً ، فيغلق على نفسه بابا الغرفة عاجزا عن القراءة أو الكتابة أو حتى التفكير ، مضطربا من تلك الضحكات الدافئة والهمسات المثيرة التي كانت تأجج مشاعره .
لقد ظل على هذه الحال من المعاناة والضنى الى أن جاء ذلك اليوم الذي شعرت فيه أمارانتا اُوُرسولا بالضجر من وحدتها لإنهماك جاستون في مشروع الطيران ، فجاءت الى أُوروليانو في غرفته ،
قالت له : ، سلاما يا متوحش ، أما زلت ملازما كهفك ؟
كانت ذات إغراء لا يُقاوَم ، وكانت مرتدية فستانا جذابا وعقود متراكبة صنعتها جميعا بيديها ، وكانت قد توقفت عن استخدام الطوق لِزوجها بعد أن اقتنعت بإخلاصه ، ولأول مرة منذ عودتها الى البيت الكبير بدت وهي تنعم بالصفاء والدعة ، ولم يكن أُوروليانو بحاجة الى رؤيتها رأي العين لِيعرف أنها قد جاءت ، ولم تلبث أن وضعت مرفقيها على المنضدة بقربٍ كبير من مكانه حتى لقد سمع أُوروليانو طقطقة عظامها ، وأبدت اهتمامها بالمخطوطات ، وفي محاولة من أُوروليانو للتغلب على اضطرابه جاهد لاستبقاء صوته الذي كاد يخونه وأنشأ يحدثها عن قداسة اللغة السنْسكريتية والاحتمالات العلمية للتنبؤ بالمستقبل وضرورة المواضبة على محاولة فك رموز المخطوطات للكشف عن مضامينها الخفية التي استهدفها حكماء القرون الماضية .
ثم فجأة ودون أن يقطع أُوروليانو الحديث وضع يده على يدها استجابة لِرغبة كامنة في أعماقه ظنا بأن هذا القرار النهائي سيضع حدا لِهواجسه ، وإذا هي تُمْسِك بأصبعه السبابة بتلك المودة البريئة التي كانت تبدي مثلها أيام الطفولة ، وظلت ممسكة به وهو يتابع الرد على أسئلتها واستفساراتها ، وظلا متماسكين بالإصبع على هذا النحو الذي لم ينضح بأي إحساس الى أن أفاقت من حلمها العارض ولطمت جبينها بيدها هاتفة : النمل .
وهنا نسيت كل شيء عن المخطوطات واتجهت الى الباب بخطوة راقصة ، ومن هنا طوحت لِأُوروليانو بقُبْلة على أطراف أصابعها تلك التي وجهتها الى أبيها عصر ذلك اليوم الذي ارتحلت فيه الى بروكسل ،
وقالت له : يمكنك أن تحكي لي فيما بعد ، نسيت أن اليوم هو موعد رش الجير على جحور النمل .
واستمرت تعرج على غرفة أُوروليانو بين فينة وأخرى كلما اقتضت الأحوال أن تفعل شيئا في ذلك الجناح من البيت فتمكث دقائق معدودة ، بينما يكون زوجها منهمكا في مشروعاته .
ولما تشجع أُوروليانو بهذا التغيير أصبح يتناول الطعام مع الأُسرة كما لم يفعل ذلك منذ عودة أمارانتا اُوُرسولا الى البيت ، وهو ما أدخل السرور على نفس جاستون ، وخلال الحديث الذي كان يدور بينهم بعد الطعام كان جاستون يشكو من بعض التعقيدات التي عاقت تنفيذ مشروع الخط الجوي في الموعد المقدر ، حتى لقد أعرب عن رأيه ذات مرة في القيام برحلة قصيرة الى بروكسل لتسوية الموقف شخصيا والعودة مع الطائرة المنتظرة ذاتها ، بيد أن هذه الفكرة لم تلبث أن تبخرت حالما كررت أمارانتا اُوُرسولا عزمها على ألا تبرح ماكوندو حتى ولو فقدت زوجها .
وفي الأيام الأولى من وصول الزوجين كان أُوروليانو يشارك في الاعتقاد العام بأن جاستون شخصية بلهاء تركب دراجة كبيرة العجلة الأمامية مما أثار في نفسه إحساسا غامضا قوامه الرثاء ، ولكنه لم يلبث بعد أن درس أطواره عن كثب أن قدر أن طبعه الحقيقي يعكس مسلكه الخاضع المستكين ، وقام في نفسه شك خبيث بأن انتظار وصول الطائرة ليس إلا من قَبيل الافتعال والتمويه ، وعندئذٍ بدا له أن جاستون ليس بالبلاهة التي يصور نفسه بها بل هو بالعكس رجل في تمام القدرة والصبر ، رسم لنفسه أن يقهر زوجته بأن يضجرها بموافقته الدائمة على كل شيء ، وبعدم رفضه لأي رأي لها حتى يجيء اليوم الذي لا تعود فيه تطيق هذا المَسلَك فتبادر بحزم حقائبها عائدةً الى أوربا .
وهكذا استحال رثاء أُوروليانو الى نفور عنيف ، ولم يتمالك أن اجترأ على تحذير أمارانتا اُوُرسولا من هذا الأسلوب فإذا هي تستخف بشكوكه من دون أن تفطن الى ما يعتمل في نفسه من ضرام الحب ووالحسد ، بل لم يخطر ببالها قط أنها تُذكي فيه شيئا أكثر المودة الأخوية الى أن جرحت أصابعها ذات مرة وهي تحاول فتح معلبة للخوخ ، وسرعان ما اندفع إليها يمتص الدم بشراهة وتفانٍ أرسل قشعريرة في ظهرها ،
ثم ضحكت في شيء من القلق قائلة : أُوروليانو من يراك يظنك خفاش مصاص للدماء .
وعندئذٍ انهار أُوروليانو وع تماما فأهوى بقبلات متلاحقة على راحة كفها الجريح وكشف عن جوانحه المضطرمة في سيل متدفق من الاعترافات قال فيها أنه طالما استيقظ من نومه في صميم الليالي يبكي من الوحدة كلما سمع ضحكاتها الطروبة الدافئة ، وطالما تسلَّل الى مخدعها في غيابها ليلقي نظرة محسورة على ملابسها ، وطالما سطا على زجاجات عطرها متطيبا بها لكي تبقى ماثلة في دنياه أطول أمد ممكن ، والحق أن أمارانتا اُوُرسولا قد فزعت من هذه الفورة العاطفية الى حد جعلها تطبق يدها بعنف وتقول له بلهجة كانت أقرب بسقه : يا أحمق ، أنا مسافرة على أول باخرة تتجه الى بروكسل .
وفي بلواه المتعاظمة هذه لم يجد ملاذا إلا في حِمى جدته الكبرى بَيلارتارنيرا وإن لم يعرف نسبه إليها ، لقد سمع في جولاته الأخيرة في ماكوندو أنها تقرأ الطالع وتواسي المحزون وتطيب القلوب الجريحة .
كانت جالسة في مقعدها الهزاز لا تحفل بمر الزمن بعد أن جاورت المائة والعشرين من عمرها ولم يبق لها إلا تجتر الذكريات حلوها ومرها ، وما أن رأت أُوروليانو حتى أيقنت من بروز عظمتَي وجنتيَه وملامح الانطواء البادية عليه أنه من سلالة بوينديا ، وكان على استعداد للتدفق بالكلام حتى يجد التعاطف الذي يذيب عقدة الكرب التي كانت تخنقه ، بيد أنه لم يفلح إلا في بكاء مرير هز كيانه من الأعماق ، فتركته يسترسل حتى جفت دموعه وهي تخدش رأسه بأطراف أصابعها ، ودون أن يكشف لها أنه يبكي من ضنى الحب فقد عرفت هي من فورها علَّة هذا البكاء ،
وقالت له مواسية : كل شيء بخير يا طفلي ، والآن قل لي مَنْ هي ؟
وعندما أخبرها أُوروليانو أطلقت ضحكة عريضة تفيض بالحنان ، فهي تعرف أن قلوب أفراد أسرة بوينديا لا تخفى عليها فيها خافية ، وقد علمتها التجربة وتداول أوراق الطالع طوال قرن من الزمان أن تاريخ الأُسرة هو بمثابة آلة تتكرر دوراتها عبر الزمان متشابهة متماثلة .
وفي النهاية قالت له باسمة : لا تقلق ، حينما تكون هي الآن فستجدها في انتظارك .
وكانت الساعة هي الرابعة والنصف حينما خرجت أمارانتا اُوُرسولا من الحمام ورآها أُوروليانو تمر قرب غرفته بروب الحمام وقد لفت رأسها بمنشفة ، فتبعها على أطراف أصابعه وهو يتعثر من سَكْرته ، ودلف الى مخدعها في اللحظة التي فتحت فيها الروب ثم أطبقته مرة ثانية فزعةً مرَوَّعةً ، فأشارت صامتة الى باب الغرفة المجاورة التي كان بابها مواربا والتي كان أُوروليانو يعرف أن جاستون جالس فيها يهم بكتابة رسالته .
قالت له بلا صوت : اذهب .
ابتسم أُوروليانو وطوقها بقوة فدافعت عن نفسها دفاعا عنيفا أسالت فيه دم وجهه بأظافرها ، وفي غمرة هذا الصراع الرهيب لم تستطع أن تفتح فمها بصُراخٍ جزعا من الفضيحة المؤكدة ، ولم تلبث أن خارت قواها ...


الفصل التاسع عشر
الأخير

على الرغم من أن ماكوندو أصبحت بلدة شبه مهجورة تكسوها الأتربة ويشوبها القيظ اللافح فإن أُوروليانو وأمارانتا اُوُرسولا كانا المخلوقين الوحيدين السعيدين فيها ، بل أسعد من في الأرض جميعا .
لقد عاد جاستون الى بروكسل ، فعندما مل انتظار طائرة قام ذات يوم وجمع ضرورياته في حقيبة صغيرة وأخذ ملف أوراقه ومراسلاته وارتحل وفي النية أن يعود بالطائرة قبل أن يعلم آخِر المطاف أن الشركة التي كان يفاوضها قد حولت الاتفاق الى جماعة من الطيارين الألمان عرضوا على الجهات المختصة مشروعا أكثر طموحا من مشروعه ، وهكذا خلا الجو لِأُوروليانو وأمارانتا اُوُرسولا لكي يطلقا العنان لغرامهما حتى لم يحفلا بالنمل وهو يجتاح البيت اجتياحا ، كما هجر أُوروليانو المخطوطات ولم يَعُد يغادر البيت ، وفي فترات الصحو من حُمَا غرامهما العنيف كانت أمارانتا اُوُرسولا ترد على رسائل جاستون وقد بدا لها بعيدا عنها بُعدا سحيقا وغارقا في مشروعاته الى حد خالت معه عودته غدت مستحيلة ، وفجأة ومثل صاعقة تنقض من السماء تلقت أمارانتا اُوُرسولا في غمرة النشوة نبأ قرب عودة جاستون بعد فشل مشروعه .
لقد فتحت هي وأُوروليانو أعينهما بعد زوال الغشاوة وغاصا في أعمق أعماق نفسيهما وتطلعا الى الرسالة وأيديهما على قلبيهما وأيقنا أنهما لَسيقان أحدهما بالآخر الى حد يؤثران معه الموت على الافتراق ، وهكذا سطرت لِزوجها رسالة كانت هي النقائض بعينها ، كررت فيها الإعراب عن حبها له وشوقها لرؤياه من جديد ، ولكن في نفس الوقت اعترفت اعترافا قدريا باستحالة العيش بغير أُوروليانو .
وعلى عكس ما كانا يتوقعانه فقد بعث إليهما جاستون برد هادئ شبه أبوي أفرد فيه صفحتين كاملتين كانتا بمثابة تحذير من تقلبات العاطفة مع فقرة أخيرة أعرب فيها عن أصدق تمنياته لهما بسعادة تماثل سعادته في فترة زواجه القصيرة ، والحق أن هذا المَسلك كان أبعد ما يكون عن تصور أمارانتا اُوُرسولا الى حد أنها شعرت بالمهانة ، إذ رأت أنها أعطت زوجها الذريعة التي كان يريدها لكي يهجرها لِمصيرها ، أما أُوروليانو فقد راح يسري عنها ويبذل الجهد لِيُبَيِّن لها أنه يستطيع أن يكون في مرتبة الزوج في الضراء كما في السراء ، حتى أن المطالب اليومية التي حاصرتهما بعد أن نفدت البقية الباقية من نقود جاستون خلقت بينهما لونا من التضامن إن لم يكن في قوة الغرام المتقد ، إلا أنه لم ينل من عاطفتهما المشبوبة .
وأصبحا ينتظران مولودا ، وخلال فترة الحمل حاولت أمارانتا اُوُرسولا التكسَّب من صنع عقود للِزينة من عظام الأسماك ، ولكن باستثناء فتاة الصيدلية المجاورة التي ابتاعت عددا محدودا منها لم تستطع إيجاد زبائن آخرين ، وأدرك أُوروليانو لأول مرة أن حذقه في اللغات ومعرفته الواسعة التي اكتسبها من دائرة المعارف المصورة وبراعته في إحاطته بالوقائع والأماكن البعيدة دون أن تتوافر له رؤيتها كل ذلك كان غير ذي جدوى مثل علبة المجوهرات الحقيقية الخاصة بزوجته والتي أن لابد أن قيمتها كانت تساوي أكثر من كل ما كان يملكه سكان ماكوندو السابقون جميعا .
لقد استطاعا البقاء بين الأحياء بمعجزة ، وعلى الرغم من أن أمارانتا اُوُرسولا لم تفقد بهجتها وبشاشتها فقد اعتادت أخيرا أن تجلس في مدخل البيت بعد الغداء في لون من القيلولة تشوبه اليقظة والسهوم ، وكان أُوروليانو يصاحبها في هذه الجلسات ، وكانا أحيانا يبقيان هكذا صامتين حتى حلول الليل متقابلين بأعين تتبادل النظرات متحابين بتلك الفورة التي كانت لهما في أول العهد بالغرام الفاضح ، فلا يملكان إزاء الشك بالمستقبل إلا أن يديرا قلبيهما الى الماضي ، وفي هذا الماضي كانا يستعيدان صور الطفولة السعيدة عندما كانا يخوضان في مياه الأمطار ويعبثان بالفقاقيع ، وعندما كانا يقتلان السحالي بوضعها حول رقبة اُوُرسولا العجوز الكفيفة .
وعندما يَمَّمت أمارانتا اُوُرسولا شطر المَسْبَك عصر ذات يوم وأخبرتها أمها فرناندا أن أُوروليانو الصغير ليس له أب معروف لأنهم عثروا عليه في سلة طافية في النهر ، وكلما استطاعا التوصل إليه بعد دراسة كافة الاحتمالات هو أن فرناندا لم تكن أم أُوروليانو ، ومالت أمارانتا اُوُرسولا الى الاعتقاد بأنه ابن بيترا كوتيس تلك التي لم تذكر من أمرها سوى الحكايات الشائنة عنها ، وما لبث هذا الافتراض أن ولَّدَ في في قلبها شيء من الهلع .
وعندما تعذب أُوروليانو بما بدا له من أنه أخ لِزوجته فقد هرع الى الأبرشية للبحث في سجلاتها العفنة التي أكلها العفن عن أثر يرشده الى أبويه ، ولما طال بحثه دون
جدوى نظر إليه القس الكهل المقعد في مكانه بسبب الروماتزم وسأله بإشفاق عن اسمه .
فأجاب : أُوروليانو بوينديا .
فقال له القس بلهجة قاطعة : إذن لا تتعب نفسك في البحث ، منذ سنوات بعيدة كان هنا شارع بهذا الاسم ، وفي تلك الأيام كان من عادة الناس أن يسموا مواليدهم بأسماء الشوارع .
فقال أُوروليانو وهو يرتجف حنقَا : هكذا أنت أيضا لا تصدق .
- أُصَدِّق ماذا ؟
فرد أُوروليانو بقوله : إن الكونونيل أُوروليانو بوينديا خاض اثنتي وثلاثين حربا أهلية وخسرها جميعا ، وإن رجال الحكومة قتلوا بالرصاص 3000 رجل في ميدان المحطة وحملوهم بالقطار وألقوا جثثهم في البحر .
فتفرس فيه القس بنظرة رثاء وتنهد قائلا : آه يا ولدي ، يكفيني أن أتأكد أنك وأنا موجودان في هذه اللحظة .
وهكذا تقَبَّل أُوروليانو وأمارانتا اُوُرسولا قصة السلة الطافية لا لأنهما صَدَّقاها بل لأنها وفرت عليهما الهلع .
وبتقدم عهد الحمل ازداد ارتباطهما واندماجهما في العزلة المُطْبِقة على البيت ، ذلك البيت الذي لم يكن يحتاج إلا الى نفخة واحدة وأخيرة لكي يتداعى ويتقوض ، وقد اقتصر وجودهما على جانب محدود فيه هو الذي يبدأ من مخدع فرناندا حتى بداية المدخل حيث كانت أمارانتا اُوُرسولا تجلس لكي تخيط ثياب المولود المنتظر ، أما باقي المنزل فقد أصبح نهبا للدمار بفعل النمل وسائر الحشرات ، حتى اضطر الاثنان الى تحصين منطقتهما بعوازل من الجير ضد جحافل النِمال ، وكان من جراء شعرها الطويل المهمل والبقع التي بدأت تظهر على وجهها وتورم ساقيها وتشوه قوامها كان من جراء هذا كله أن تغيرت أمارانتا اُوُرسولا تماما ، فلم تعُد ذلك المخلوق الذي ينضح شبابا عند وصولها الى البيت لأول مرة مع زوجها الأسير بالطوق حول رقبته ، ولكن ذلك لم يغير من حيويتها وروحها الوثابة إذ قالت مرة ضاحكة : من كان يصدق أن الأمر سينتهي بنا الى أن نعيش كالمتوحشين .
ومع هذا فقد أمضى أُوروليانو وأمارانتا اُوُرسولا الشهور الأخيرة وأيديهما متشابكة ، وانتهى بهما الحب الى الولاء للطفل الذي جاءت بذرته في سُعار الحرام ، فإذا كان الليل وهما متعانقان ما كانا لِيَفزعا من تلك الطقطقة التي يُحدثُها النمل والعفن وذلك الحفيف لنماء الحشائش في الغرف المجاورة ، وكثيرا ما أيقظهما مسرى أشباح الموتى في الظلام ، كان يخيل إليهما أنهما يسمعان اُوُرسولا العجوز وهي تغالب قوانين الخليقة للحفاظ على تسلسل الأسرة ، و جوزيه آوُركاديو بوينديا الكبير وهو دائب في سعيه وراء المخترعات ، وفرناندا في صلواتها والكونونيل أُوروليانو بوينديا وهو يخادع نفسه بالحروب وصنع الأسماك الذهبية الصغيرة ، وأُوروليانو الثاني وهو يقضي نحبه وحيدا في غمار مجونه وفتونه ، وعندئذـٍ يبدو لهما هذا التحول الشبحي قادرا على الانتصار على الموت ، فكان يسعدهما أن يمضيا في حبهما في كينونتهما الطيفية هذه الى أبد الآبدين .
ثم جاء عصر يوم الأحد الذي شعرت فيه أمارانتا اُوُرسولا بآلام المخاض ، ولما جاءت القابلة مددتها على مائدة الطعام وجعلتها تقوم بحركات عنيفة الى أن غطت صيحاتها صراخ المولود الذكر الضخم الذي بزغ الى نور الوجود ، ومن خلال دموعها رأت أمارانتا اُوُرسولا أنه سيكون واحدا من سلالة بوينديا الجبابرة بقوته ومخائل عزمه البادية عليه مثل جوزيه آوُركاديو الفحل وبعينيه المفتوحتين العرافتين مثل أعين من تسموا باسم أُوروليانو وكأنه نبوءة لبداية تسلسل الأسرة من جديد وتطهيرها من دنس الفواحش والفسوق وأثقال العزلة والوحدة ،
وفي هذا لم تتمالك أمارانتا اُوُرسولا أن قالت : هو متوحش حقيقي سنسميه رودريكو .
ولكن زوجها عارضها قائلا : لا ، سنسميه أُوروليانو وسوف ينتصر في الحروب الثانية والثلاثين .
وبعد قطع الحبل السري بدأت القابلة تمسح بخِرْقة ما علق بجسد الطفل في ضوء المصباح الذي رفعه أُوروليانو ، وعندئذٍ لم يروا إلا بعد أن أداروا الطفل على بطنه أ، به شيئا أكثر مما في سائر الذكور ، فلما انحنوا فوقه لفحصه إذا هو ذيل خنزير .
لم ينزعج كلاهما فإن أُوروليانو وأمارانتا اُوُرسولا لم يكونا عارفين بما كان في سوابق الأسرة ، ولا تَذّكَّرَا تلك المحاذير المروعة التي قالتها اُوُرسولا العجوز عما ينجم من تزاوج الأقارب أبناء الأسرة الواحدة ، كما أن القابلة سكنت روعهما بقولها : إن الذيل يمكن قطعه بعد أن يصل الطفل الى مرحلة التسنين .
ثم حدث ما أنساهما حالة الطفل فقد أصيبت أمارانتا اُوُرسولا بنزف حاد عجز عن وقفه كل التطبيب القابلة .
وفي خلال الساعات الأولى حاولت أمارانتا اُوُرسولا الاحتفاظ بمرحها ودعابتها حتى أمسكت بيد أُوروليانو المرتاع ورجته ألا يقلق لأن من كانت مثلها لا تموت ضد إرادتها ، هكذا قالت ، وانفجرت ضاحكةً سخريةً من محاولات القابلة ، ولكن عندما بدأ أُوروليانو يفقد الأمل أخذت بنيتها تتضائل الى أن انتابها خدر النعاس ، وبعد جهود 24 ساعة مضنية استعانوا فيها بكل ما قدروا عليه حتى الرقا والتعاويذ والابتهالات توقف النزف فجأة دون مزيد من الإسعاف ، واستحال محياها الى النحول وزالت البقع من وجهها مخلفة هالة المرمر وعادت إليها البسمة .

كانت داهية لم يُمْنى أُوروليانو بأشد منها في حياته ، وفي غمرات بلواه وضع الوليد في السلة التي أعدتها أمه سلفا ، وغطى وجه الجثة بملاءة وغادر البيت هائما على وجهه في البلدة ، كان يبحث عن أحد ما يبثه مصابه ، ولما قادته قدماه الى مكتبة القطالوني وجده قد ارتحل عائدا الى بلاده ، فلم يستطع أن يغالب دموعه التي تفجرت لطول ما حبسها في مآقيه أمام فراش أمارانتا اُوُرسولا وهي في دور الاحتضار ، وراح يلطم الجدار بقبضة يديه حتى أدماهما ، وفي النهاية تذكر الطفل فقفل عائدا الى البيت ، لم يعثر على السلة تملكته أول الأمر فرحة غامرة فقد ظن أن أمارانتا اُوُرسولا قد استيقظت من الموت لكي ترعى الطفل ، لكن جثتها كانت كوما من العظام تحت الملاءة ، وعندما فطن أنه عندما وصل ألفى باب غرفة النوم مفتوحا لم يلبث أن يمَّمَ شطر غرفة الطعام ونظر فيها ، كانت الآثار والبقايا المتخلفة عن الولادة لاتزال كما هي ، فقد بدا له أن القابلة ربما عادت في وقت ما من أجل الطفل ، ووجد في هذا الخاطر وقفة للراحة والتفكير ، فجلس في المقعد الهزاز وهو نفس المقعد الذي جلست فيه من قبل أمارانتا وهي تلاعب الكنونيل كريلدو ماركيز الشطرنج ، والذي جلست فيه فيما بعد أمارانتا اُوُرسولا لتخيط ملابس الطفل قبل أن يولد ، وفي لحظة الذكرى الخاطفة شعر بأنه عاجز عن احتمال وقر ذلك الماضي في قرارة روحه فإذا أضيفت إليه أثقال الحاضر كان الوقر أبهض من أن يحتمله إنسان ، وفي خلال ذلك راعه إصرار العناكب وهي تعمل دائبة بين شجيرات الورود الميتة وحفيف الهواء وهو لا يكل ولا يتوقف وعند هذا الحد وقع نظره على الطفل ، كان كيسا يابسا منتفخا من الجِلْد التفت حوله نمال الدنيا كلها تسحبه شطر جحورها على امتداد الممشى الحجري في الحديقة .
لقد عجز أُوروليانو عن الحركة لا لأنه شُلَّ من الهلع بل لأنه تَذكَّر في هذه اللحظة الرهيبة المروعة تلك العبارة التي قرأها في مخطوطات مالكويداسوالتي تقول : إن أول السلالة سسَيُربَط في شجرة وآخِرُها سوف تأكله النِمال .
لم يكن أُوروليانو في كل حياته الماضية أصفى ذهنا مما كان الآن وهو يسمر أبواب البيت ونوافذه بالعوارض المتصلبة المتخلفة من عهد فرناندا حتى لا تستدرجه أي مغريات من العالم الخارجي ، إذ قد عرف الآن أن مصيره مكتوب في مخطوطات مالكويداس، وجدها سالمة من أي سوء وراح يفك طلاسمها مستعينا بمفاتيح الشفرة التي وُفِقَ إليها في دراساته الطويلة الماضية ، والتي أدت تطورات حياته الأخيرة الى انقطاعه عن إتمامها .
لقد حشد مالكويداسوقائع تاريخ الأسرة على مدار قرن من الزمان ، وإن ركزها في مدى واحد سبق به الزمن .
وكان أُوروليانو في لهفة بالغة لمعرفة مَنْشئه فجعل يتخطى الصفحات متعجلا في الوقت الذي بدأت الريح تهب فيه حارة مليئة بأصوات الماضي وحفيف الزهور الذابلة ، بيد أنه لم يحفل بها لأنه ما لبث أن اكتشف بواكير وجوده في ذلك الجد الماجن الذي سعى عبر الجبال للفوز بامرأة جميلة لم يجد عندها السعادة التي كان يَنشدها ، عرَف فيهما أُوروليانو الثاني وفرناندا .
وأسرع يتابع خفايا مَنْبته الى أن اطلع على واقعة حملأمه مِيم له بين العقارب والفراش الأصفر في حمام وقت الغروب ، حيث أطفأ شاب ميكانيكي سَوْرة عاطفته بين ذراعَير امرأة منحته نفسها تمردا على كافة القيم .
ولقد بلغ من شدة استغراق أُوروليانو أنه لم يشعر بالريح وهي تعنف وتستحيل الى عاصفة خلعت الأبواب والنوافذ وأطاحت بسقف الجناح الشرقي وخلخلت دعائم البيت ، فعندئذٍ فقط اكتشف أن أمارانتا اُوُرسولا لم تكن أخته بل كانت خالته ، وكان ثمرة خطيئتهما ذلك المولود الأسطوري الذي كُتِب عليه أن يكون آخِر سلالة الأسرة .
عند هذا الحد كانت ماكوندو إعصارا مروعا من الأتربة والأنقاض المتطايرة ، ولكن أُوروليانو مضى يقلب الصفحات ليجاوز وقائع حياته الراهنة ويَطَّلع على الفقرات التي تتنبأ بتاريخ وظروف وفاته ، وقبل أن يصل الى الصفحة الأخيرة كان قد أدرك مسبقا أنه قد كُتِبَ عليه ألا يبرح هذه الغرفة قط إذ خُطَّ في لوح القدر أن بلدَة السراب هذه ستمحوها الرياح من على ظَهْر الأرض محوَاوتزول ذكراها من الأذهان لحظة أن يفرغ أُوروليانو بابيلونيا من فك طلاسم المخطوطات ، وأن كل ما ورد بها لن يتكرر في مسار الزمان الى الأبد لأن السلالة التي قضى عليها أن تعيش مائة عام من العزلة لن تُتاح لها فرصة أخرى لامتداد البقاء على وجه الأرض ...



انتهت