المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أغنية الجليد والنّار


روضة الكتب
10-20-2019, 03:47 PM
https://6.top4top.net/p_1388qtxdt1.jpg

الكتاب الرابع من أغنية الجليد والنار
جورج ر. ر. مارتن


وليمة الغربان
ترجمة هشام فهمي 




تمهيد
- "التَّنانين"، قالها مولاندر واختطفَ تفَّاحةً ذابلةً من على الأرض وراحَ يتقاذَفها بين يديه.
قال أليراس أبو الهول مستحثَّا إياه: "ارمِ التُّفَّاحة"، والتقط سهمًَا من جَعبته وسحبَه على وتر قوسه.
قال روون: "كم أودْ أن أرى تنِّينًا، أودْ هذا حقًا". الصَّبي الممتلئ أصغرهم سِنًا، وما زالَ يفصله عامان كاملان عن بلوغ مبلغ الرِّجال.
فكَّر بايت مبدِّلًا جلسته على الدِّكَّة بتملمُل: وكم أودْ أن أنام بينما تُطَوِّقني روزي بذراعيها. بحلول الغد ستكون الفتاة قد أصبحَت له. سآخرها بعيدًا عن (البلدة القديمة)، أعبرُ بها (البحر الضيِّق) إلى واحدةٍ من المُدن الحُرَّة. هناك لا يوجَد مِايسترات، لا أحد يتَّهمه.

تناهَت إلى مسامعه ضحكات إما الآتية من نافذةٍ مغلَقة المصراعين بالأعلى، ممتزجةً بالصَّوت الأعمق للرَّجل الذي تستضيفه. إنها أكبر العاملات سِنًا في (الرِّيشة والذَّورق)، في الأربعين من العُمر على الأقل، وإن كانت لا تزال تتمتَّع بنوعٍ معيَّن من حُسن ممتلئات الجسد. أمَّا روزي فابنتها، فتاة في الخامسة عشرة أزهرَت لتوَّها، وقد قضَت إما أن بكارة روزي ستُكَلِّف مَن يفضَّها تنِّينًا ذهبيًا كاملًا. كان بايت قد ادَّخر تسعة أيائل فضِّيَّة ومِلء جرَّة من النُّجوم والبنسات النُّحاسيَّة، وعلى الرغم من هذا لا يزال بعيدًا كلِّ البُعد عن المبلغ المطلوب، وفُرصة أن يجعل بيضة تنِّينٍ حقيقي تفقس أفضل من فُرصة ادِّخاره ما يكفي من مالٍ لتنِّينٍ ذهبي.
قال آرمن المُعاون لروون: "وُلِدتَ متأخِّرًا للغاية على رؤية التَّنانين يا فتى". يضع آرمن حول عُنقه شريطًا جلديًَّا علْق منه حلقاتٍ من القصدير والصَّفيح والرُّصاص والنْحاس، ويبدو أنه- كأغلب المُعاونين- يعتقد أن ما على أكتاف المبتدئين ثمار لِفت لا رؤوس. "آخِر تنِّين ماتَ في عهد الملك إجون الثَّالث".
رَدَّ مولاندر بإصرار: "آخِر تنِّين في (وستروس) فقط".

عادَ أليراس يستحثُّه قائلًا: "ارمِ التُّفَّاحة". الشَّاب وسيم الطَّلعة، صديقهم أبو الهول الذي صارَ محطَّ شغف جميع العاملات في المكان، وحتى روزي تمش ذراعه أحيانًا عندما تُقَدَّم له النَّبيذ، فيضطرُّ بايت إلى الضَّغط على أسنانه والتَّظاهُر بأنه لم يرَ.
قال آرمن بعناد: "آخِر تنِّين في (وستروس) كان آخِر تنِّين، هذا معلوم للجميع".
كرَّر أليراس: "التُّفَّاحة، ما لم تكن تنوي أن تأكلها".
قال مولاندر: "هاك"، وجَرَّ قدمه المعوجَّة ووثبَ وثبةً قصيرةً، ثم دارَ وألقى التُّفَّاحة بزاويةٍ مستقيمة في الضَّباب العالق فوق (نهر البِتع)(1). لولا التشوُّه في قدمه لكان قد أصبحَ فارسًا كأبيه، ففي ذراعيه الغليظتين وكتيفه العريضتين من القوَّة ما يَكفُل له هذا. هكذا حلَّقت التُّفَّاحة مبتعدةً بسُرعة...
... ولكن ليس بسُرعة السَّهم الذي انطلقَ وراءها صافرًا في الهواء، قناته طولها ياردة كاملة من الخشب الذَّهبي المزوَّد بالرِّيش القِرمزي. لم يرَ بايت السَّهم يُصيب التُّفَّاحة، لكنه سمعَ صدى الارتطام الخافت يتردَّد عبر النَّهر، يتبعه صوت سقوط الثَّمرة في الماء.
صفرَ مولاندر، وقال: "قوَّرتها، جميل!".

لكن ليس بنِصف جَمال روزي. يحبُّ بايت لون البُندق في عينيها ويحبُّ ثدييها النَّابتين، والطَّريقة التي تبتسم بها كلَّما رأته، ويحبُّ الغمَّازتين في وجنتيها. أحيانًا تمشي حافيةً وهي تدور على الزَّباين، لتَشعُر بملمس العُشب تحت قدميها، وهذا أيضًا يحبُّه بايت، تمامًا كما يحبُّ رائحتها النَّظيفة المُنعشة وشَعرها الذي يتلولَب وراء أُذنيها، بل ويحبُّ أصابع قدميها. ذات ليلةٍ ستدعه يُدَلِّك هاتين القدمين ويُداعِبهما، وسيُؤَلِّف لها حكايةً طريفةً عن كلِّ إصبعٍ ليجعلها تضحك بلا انقطاع.
لعلَّ الأصلح له أن يبقى على هذا الجانب من (البحر الضيِّق). يُمكنه أن يبتاع حمارًا بالنُّقود التي ادَّخرها، ويتبادَل هو وروزي ركوبه بينما يجولان في أنحاء (وستروس). ربما لا يراه إيبروز جديرًا بوضع حلقةٍ فضِّيَّة في سلسلته، لكن بايت يعرف كيف يُجَبِّر العظام المكسورة ويُعلِّق العَلق(2) للمصابين بالحُمَّى. سيمتنُّ العامَّة لمساعَدته، وإذا تعلَّم أن يقض الشَّعر ويحلق اللِّحى فمن الممكن أن يصير حلَّاقًا كذلك. قال لنفسه: يكفيني هذا ما دامَت معي روزي. من الدُّنيا كلِّها لا يُريد إلَّا روزي.

على أن الأمر ل ميكن هكذا دائمًا. في السَّابق كان حُلمه أن يُصبِح مِايستر في قلعة، في خدمة لورد سخي يُكَرِّمه لحكمته ويهِب له حصانًا أبيض مطهَّمًا عرفانًا بخدمته. كان ليمتطيه بسُمُوٍّ ونُبل، ويبتسم للعوام من أعلى حين يمرُّ بهم على الطَّريق...
ذات ليلة في قاعة (الرِّيشة والذورق) العامَّة، بَعد أن شربَ دورقه الثَّاني من خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية، قال بايت متبجِّحًا إنه لن يظلْم بتدئًا إلى الأبد، فرَدَّ ليو الكسول: "صحيح تمامًا، ستكون مبتدئًا سابقًا يرعى الخنازير".
أفرغَ ثُمارة الشَّراب في جوفه. كانت شُرفة الخان المضاءة بالمشاعل جزيرةً من الضَّوء في بحرٍ من الضَّباب هذا الصَّباح، وفي اتِّجاه مصبَّ النَّهر تسبح منارة (البُرج العالي) البعيدة في رطوبة اللَّيل كقمرٍ برتقاليٍّ مبهَم، لكن الضَّوء لم يُفلِح في رفع معنويَّاته إلَّا قليلًا.

كان يُفترَض أن يأتي الخيميائي. هل المسألة كلُّها دُعابة قاسية أم أن شيئًا جرى للرَّجل؟ لن تكون المرَّة الأولى التي يعبس فيها الحَظُّ في وجه بايت، فقد حدثَ أن عَدَّ نفسه محظوظًا من قبل عند اختياره لمساعَدة المِايستر الرَّئيس والجريف العجوز على العناية بالغِدفان، دون أن يتصوَّر أنه سرعان ما سيُكلَّف أيضًا بإحضار وجبات الرَّجل وكنس مسكنه وإلباسه ثيابه كلِّ صباح. يقول الجميع إن والجريف نسيَ عن حِرفة الغِدفان أكثر مما يتعلَّمه معظم المِايسترات في حياتهم كلَّها، فقدَّر بايت أن حلقةً من الحديد الأسود هي أقلُّ ما يأمله، فقط ليكتشف أن والجريف لا يستطيع أن يمنحه إياها، لأن العجوز ما زالَ مِايستر رئيسًا على سبيل المجامَلة لا أكثر، وعلى الرغم من أنه كان مِايستر عظيمًا في الماضي، فالآن يُواري رداؤه ثيابًا داخليَّةً متَّسخةً أكثر الوقت، وقبل نِصف عامٍ وجدَه عدد من المُعاونين يبكي في المكتبة وقد عجزَ عن العثور على طريق العودة إلى مسكنه. حاليًا يجلس المِايستر جورمون تحت القناع الحديد بدلًا من والجريف، جورمون نفسه الذي سبقَ أن اتَّهم بايت بالسَّرقة.

على شجرة التُّفَّاح المجاورة للماء بدأ عندليب يُغَنِّي، صوته الجميل راحة مستحبَّة من صريخ الغِدفان الخشن ونعيقها المتَّصل بَعد أن ظَلَّ بايت يعتني بها طيلة اليوم. تعرف الغِدفان البيضاء اسمه ويُتَمتِم بعضها به لبعض كلَّما وقعَت أعيُنها عليه، فتُرَدَّد "بايت، بايت، بايت" إلى أن تنتابه الرَّغبة في الصُّراخ. تلك الطُّيور البيضاء الكبيرة مفخرة المِايستر الرَّئيس والجريف، ويُريدها أن تأكله عندما يموت، وإن كان بايت يظنُّ أنها تُريد أن تأكله أيضًا.

ربما تكون خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية السَّبب- ولم يكن بايت قد أتى ليشرب، غير أن أليراس دعاهم إلى الشَّراب احتفالًا بحصوله على حلقته النُّحاسيَّة، والشُّعور بالذَّنب أصابَ بايت بالظَّمأ- ولكن بدا له كأن العندليب يُرَدِّد بصوتٍ راجف: "الذَّهب مقابل الحديد، الذَّهب مقابل الحديد، الذَّهب مقابل الحديد"، وهو العجيب نوعًا، لأن هذا ما قاله الغريب ليلة رتَّبت روزي لقاءهما. حينها سألَه بايت: "مَن أنت؟"، فأجابَ الرَّجل: "خيميائي، أستطيعُ تحويل الحديد إلى ذهب"، ثم ظهرَت قطعة العُملة في يده، تتراقَص على مفاصل أصابعه ويلمع ذهبها الأصفر الخالص في ضوء الشُّموع، على أحد وجهيها تنِّين ذو ثلاثة رؤوس، وعلى الآخَر رأس ملكِ ميت ما. تذكَّر بايت ما قاله الرَّجل: الذَّهب مقابل الحديد، لن تجد صفقةً أفضل. هل تُريدها؟ هل تُحِبُّها؟ قال للرَّجل الذي دعا نفسه بالخيميائي: "لستُ لصًَّا، إنني مبتدئ في (القلعة)"، فحنى الخيميائي رأسه مجيبًا: "إذا غيَّرت رأيك، سأعودُ بَعد ثلاثة أيام من الآن ومعي تنِّيني".

تحميل الكتاب (https://up.top4top.net/downloadf-13881k0pr1-rar.html)

روضة الكتب
10-20-2019, 03:48 PM
ومرَّت ثلاثة أيام، وعادَ بايت إلى (الرِّيشة والدَّورق) وهو غير واثقٍ بعدُ إن كان لصًّا حقًا أم لا، لكن بدلًا من الخيميائي وجدَ مولاندر وآرمن وأبا الهول وفي أعقابهم روون، ولو لم ينضمْ إليهم لأثارَ شكوكهم.
 
(الرِّيشة والدَّورق) مفتوح دائمًا. طيلة ستمئة عامٍ وهو قائم على جزيرته في (نهر البِتع)، دون أن تنغلق أبوابه في وجه الزَّبائن قَطُّ، ومع أن المبنى الخشبي يميل نحو الجنوب كما يميل المبتدئون فوق دوارق الشَّراب أحيانًا، فإن بايت يتوقَّع أن يظلَّ الخان قائمًا ستمئة عامٍ أخرى، يبيع النَّبيذ والمِزر(3) وخمر التُّفَّاح القويَّة للغاية لملَّاحي النَّهر والبحر، والحدَّادين والمطربين، والرُّهبان والأمراء، ومبتدئي (القلعة) ومُعاونيها.
أعلنَ مولاندر بصوتٍ أعلى من اللَّازم: "(البلدة القديمة) ليست العالم". إنه ابن فارس، وسكران الآن لأقصى درجة، فمنذ أتوه بخبر مقتل أبيه في معركة (النَّهر الأسود) وهو يسكر كلَّ ليلةٍ تقريبًا. لقد مسَّتهم حرب الملوك الخمسة جميعًا على الرغم من كونهم آمنين وراء أسوار (البلدة القديمة) بعيدًا عن القتال... وإن كان المِايستر الرَّئيس بنيدكت يصرُّ على أن الحرب لم تكن بين خمسة ملوكٍ حقًا، بما أن رنلي باراثيون ماتَ قبل أن يُتَوِّج بالون جرايجوي نفسه. واصلَ مولاندر: "كان أبي يقول دومًا إن العالم أكبر من قلعة أيْ لورد. لابدَّ أن التَّنانين أقلُّ ما يُمكن أن يجده المرء في (كارث) و(آشاي) و(يي تي). حكايات البحَّارة تلك...".
 
قاطعَه آرمن: "... ليست أكثر من حكايات بحَّارة. إنهم بحَّارة يا عزيزي مولاندر. اذهب إلى أرصفة الميناء وأراهنُ أنك ستجد بحَّارة يحكون لك عن عرائس البحر اللاتي ضاجعوهن، أو كيف قضوا عامًا في بطن سمكة".
قال مولاندر وهو يبحث بقدمه في العُشب عن المزيد من التُّفَّاح: "وكيف تعلم أنهم لم يفعلوا؟ عليك أن تدخُل بطن السَّمكة بنفسك لتجزم بأن هذا لم يَحدُث. حكاية من بحَّارٍ واحد، نعم، من الممكن أن تسخر منها، لكن حين يحكي بحَّارة من أربع سُفنٍ مختلفة الحكاية نفسها بأربع لُغاتٍ مختلفة...".
رَدَّ آرمن بإصرار: "الحكايات ليست واحدةً. تنانين في (آشاي)، تنانين في (كارث)، تنانين في (ميرين)، تنانين مع الدوثراكي، تنانين تُحرِّر العبيد... كلُّ حكايةٍ تختلف عن الأخرى".
- "في التفاصيل فقط"، قال مولاندر الذي يزداد عنادًا عندما يشرب، وهو متصلِّب الرَّأي أصلًا حتى وهو مفيق. "الجميع يحكون عن التَّنانين، وملكةٍ شابَّة جميلة".
التنِّين الوحيد الذي يُبالي به بايت مصنوع من الذَّهب الأصفر. تساءلَ عمَّا جرى للخيميائي. اليوم الثالث، قال إنه سيكون هنا.
خاطبَ أليراس مولاندر قائلًا: "ثمَّة تفَّاحة أخرى قُرب قدمك، وما زال معي سهمان في جَعبتي".
 
قال مولاندر: "سُحقًا لجَعبتك"، ثم التقطَ ثمرةً أسقطَتها الرِّيح من الشَّجَرة، وأضافَ متذمِّرًا: "فيها ديدان"، لكنه رماها رغم ذلك، وأصابَ السَّهم التُّفَّاحة إذ بدأت تَسقُط وشطرَها نِصفين، هبطَ أحدهما على سطح بُرجٍ ثم هوى إلى سطحٍ أدنى وارتدَّ وأخطأ آرمن بقدمٍ واحد، فقال لهم المُعاون: "إذا قطعت دودةً نِصفين تُصبِح هناك دودتان".
رَدَّ أليراس بواحدةِ من ابتساماته النَّاعمة: "ليت الأمر كان كذلك مع التُّفَّاح، فما كان أحد ليجوع أبدًا". دائمًا يبتسم أبو الهول كما لو أنه مطَّلع على دعابةٍ سرِّيَّة ما، وقد منحَه هذا مظهرًا خبيثًا يتماشى جيِّدًا مع ذقنه البارز ومقدِّمة شَعره المدبَّبة وخُصلاته الفاحمة الكثيفة المشذَّبة بعناية.
سوف يُصبِح أليراس مِايستر ذات يوم. لقد جاءَ (القلعة) منذ عامٍ واحد فقط، لكنه كوَّن ثلاث حلقاتٍ من سلسلته بالفعل. صحيحٌ أن حلقات آرمن أكثر، إلَّا أنه استغرقَ عامًا كاملًا حتى استحقَّ كلًّا منها، ومع ذلك سوف يُصبِح مِايستر أيضًا. روون ومولاندر ما زالا مبتدئين عاريَي العُنق، لكن روون صغير جدًا، ومولاندر يُؤثِر الشُّرب على القراءة.
أمَّا بايت...
 
إنه في (القلعة) منذ خمسة أعوام، جاءَها وهو في الثَّلثة عشرة من العُمر لا أكثر، لكن عُنقه لا يزال عاريًا كما كان يوم وصلَ من أراضي الغرب. مرَّتين اعتقدَ نفسه مستعدًا؛ الأولى مثلَ فيها أمام المِايستر الرَّئيس فايلين ليُدَلِّل على معرفته بالأجرام السَّماوية، وبدلًا من هذا تعلَّم كيف حصلَ فايلين على لقب "الخَل"، ثم استغرقَ الأمر بايت عامين ليستجمع شَجاعته من جديد ويُحاوِل ثانيةً. تلك المرَّة قدَّم نفسه إلى المِايستر الرَّئيس إيبروز العجوز العطوف، الشَّهير برقْة نبرته وخفَّة يديه، غير أن زفرات إيبروز كانت بوسيلةٍ ما مؤلمةً ككلمات فايلين الشَّائكة.
وعدَهم أليراس قائلًا: "تفَّاحة أخيرة وسأخبركم بظنوني بتلك التَّنانين".
دمدمَ مولاندر: "وما الذي تعرفه وأجهله أنا؟"، ولمحَ تفَّاحةً على فرعٍ فوثبَ وقطفَها ورماها، فسحبَ أليراس وتر قوسه إلى أذنه وهو يدور برشاقةٍ متابعًا هدفه المحلِّق، وأطلقَ سهمه لحظة أن بدأت التُّفَّاحة تَسقُط.
قال روون: "دائمًا تُخطئ الرَّمية الأخيرة".
وسقطَت التَّمرة في النَّهر دون أن يمسَّها السَّهم.
قال روون: "أرأيت؟".
 
أجابَ أليراس: "إذا أصبتها جميعًا ستكفُّ عن التَّحسُّن"، وأرخى وتر قوسه الطَّويل ودَسِّه بخفَّةٍ في قِرابه الجِلدي. القوس منحوت من القلب الذَّهبي، ذلك الخشب النَّادر الممتاز الذي يأتي من (جُزر الصَّيف)، وقد جرَّب بايت أن يسحب الوتر عليه مرَّةً وفشلَ. قال بايت لنفسه متأمِّلًا: أبو الهول يبدو هزيلًا، لكن ثمَّة قوَّة في هاتين الذِّراعين النَّحيلتين، فيما جلسَ أليراس وساقاه على جانبَي الدِّكَّة ومَدَّ يده إلى كأس نبيذه معلنًا بلهجته الدورنيَّة المتشدِّقة: "التنِّين له ثلاثة رؤوس".
تساءل روون: "أهذه أحجية؟ دائمًا ما يكون كلام آباء الهول ملغَّزًا في الحكايات".
رشفَ أليراس من النَّبيذ مجيبًا: "ليست أحجيةً". كانت بقيَّتهم تعبُّ من خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية التي يشتهر بها (الرِّيشة والدَّورق)، لكنه يُفَضِّل الخمور المحلَّاة الغريبة من بلاد أمِّه، وحتى في (البلدة القديمة) لا تُباع تلك الخمور بثَمنٍ رخيص.
كان ليو الكسول هو من لقَّب أليراس بأبي الهول. أبو الهول كائن هجين؛ وجهه وجه إنسان وجسمه جسم أسد وله جناحًا صقر، وأليراس مِثله، فأبوه دورني وأمُّه امرأة سوداء البشرة من (جُزر الصِّيف)، أمَّا بشرته هو فداكنة كخشب السَّاج، وكتمثالَي أبي الهول وأم الهول المنحوتين من الرُّخام الأخضر ويقفان على جانبَي بوَّابة (القلعة) الرَّئيسة، لأليراس عينان من الجزع الأخضر.
 
قال آرمن المُعاون بحزم: "ليست هناك تنانين بثلاثة رؤوس إلَّا على التُّروس والرَّايات. إنه رمز لا أكثر، ثم إن آل تارجاريَن ماتوا جميعًا".
رَدَّ أليراس: "ليس جميعهم. الملك الشَّحَّاذ كانت له أخت".
قال روون: "حسبتهم هشَّموا رأسه على جِدار".
قال أليراس: " لا. إجون ابن الأمير ريجار الصَّغير هو من هشَّم رجال الأسد لانستر الشُّجعان رأسه على جِدار. إننا نتكلَّم عن أخت ريجار التي وُلِدَت في (دراجونستون) قبل سقوطها، تلك المسمَّاة دنيرس".
قال مولاندر: "وليدة العاصفة، تذكَّرتها الآن"، ورفعَ دورقه عاليًا ليدور ما تبقَّى فيه من خمر التُّفَّاح، وصاحَ: "نخبها!"، ثم جرعَ وضربَ المائدة بالدَّورق الخالي وتجشَّأ، قبل أن يمسح فمه بظَهر يده ويسأل: "أين روزي؟ ملكتنا الشَّرعيَّة تستحقُّ دورًا آخر من الشَّراب، أليس كذلك؟".
لاحَ الانزعاج على آرمن المُعاون وهو يقول: "اخفض صوتك أيها الأحمق. لا يَجدُر بك أن تمزح مجرَّد مُزاح بشأن تلك الأشياء، فلست تدري من يتنصَّت. العنكبوت له آذان في كل مكان".
- "آه، لا تَبُل في سراويلك يا آرمن. كنت أقترحُ شرًابًا لا ثورةً".
 
سمعَ بايت قهقهةً، ثم نادى صوت خبيث ناعم من ورائه قائلًا: "لطالما عرفتُ أنك خائن أيها الضُّفدع النَّطَّاط". كان ليو الكسول واقفًا بتراخٍ عند قدم الجسر الخشبي القديم، يرتدي الساتان المخطَّط بالأخضر والذَّهبي تحت حرملةٍ(4) من الحرير الأسود، يُثَبِّتها إلى كتفه مشبك على شكل وردةٍ من اليَشب، وقد بدا من البُقع على صدره أن النَّبيذ الذي شربَه كان أحمر قانيًا، بينما سقطَت خُصلة من شَعره الذَّهبي الشَّاحب على إحدى عينيه.
اشتعلَ مولاندر غضبًا لمرآه، وقال: "تبًا لهذا، ارحل، ليس مرحَّبًا بك هنا"، فوضعَ أليراس يده على ذراعه ليُهَدِّئه، في حين عبسَ آرمن قائلًا: "ليو، سيِّدي، حسبتك ستظلُّ محتجزرًا في (القلعة)...".
 
قاطعَه ليو: "... ثلاثة أيام أخرى"، وهَزَّ كتفيه مضيفًا: "بيرستان يقول إن العالم عُمره أربعون ألف عام، ومولوس يقول إنها خمسمئة ألف، فما قيمة ثلاثة أيام؟"، وعلى الرغم من وجود دستة من الموائد الخالية في الشُّرفة، فقد جلسَ ليو إلى مائدتهم مردفًا: "ادعُني إلى كأسٍ من نبيذ (الكرمة) الذَّهبي أيها الضُّفدع النَّطَّاط ولن أخبر أبي بأمر نخبك. الحَظُّ لم يُحالِفني في لعب البلاطات في (النَّرد المربَّع) وبدَّدتُ أيلي الفضِّي الأخير على العَشاء. خنزير رضيع في صلصة البرقوق، محشو بالكستناء والكمأة البيضاء. الإنسان يحتاج إلى الطَّعام. وماذا أكلتم أنتم يا أولاد؟".
غمغمَ مولاندر وقد بدا مستاءً من الإجابة: "أكلنا ضأنًا، تقاسَمنا فخذ ضأنٍ مسلوقةط.
قال ليو: "أنا واثق بأنها كانت مشبعةً"، والتفتَ مخاطبًا أليراس: "المفترَض أن يكون ابن لورد مِثلك سخيًّا يا أبا الهول. بلغَني أنك فُزت بحلقتك النُّحاسيَّة. سأشربُ نخب هذا".
ابتسمَ أليراس مجيبًا: "لستُ أدعو إلَّا الأصدقاء إلى الشَّراب، ثم إنني لستُ ابن لورد كما أخبرتك. أمِّي كانت تاجرةً".
 
قال ليو وفي عينيه البندقيَّتين لمعة النَّبيذ والنِّقمة: "أمُّك كانت قردةً من (جُزر الصَّيف). الدورنيْون يُضاجِعون أيَّ شيءٍ له فتحة بين ساقيه. لا أقصدُ إساءةً. ربما تكون بنِّيًَّا كحبَّةٍ من الجوز، لكنك تستحمْ على الأقل، على عكس فتى الخنازير المبقَّع هذا"، ولوَّح بيده نحو بايت.
فكَّر بايت: إذا ضربته في فمه بدورقي فيُمكنني أن أكسر نِصف أسنانه. بايت المبقْع فتى الخنازير هو بطل ألفٍ من القصص البذيئة، صعلوك أبله طيِّب القلب استطاعَ دومًا أن يتغلَّب على السَّادة السُّمان والفُرسان المتغطرسين والسَّبتونات المبهرجين الذين يُزعِجونه، وبشكلٍ ما يتَّضح أن غباءه نوع من الدَّهاء غير المألوف، ودائمًا تنتهي به الحكايات جالسًا على مقعد لورد عالٍ أو في الفِراش مع ابنة أحد الفُرسان. لكنها مجرَّد قصص، ففي عالم الواقع لا يُحالِف التَّوفيق صِبية الخنازير. أحيانًا يُفَكِّر بايت أن أمِّه كانت تكرهه بالتَأكيد ما دامَت قد أطلقَت عليه هذا الاسم.
قال أليراس وقد غابَت ابتسامته: "ستعتذر".
- "حقًّا؟ وكيف أعتذرُ وحَلقي بهذا الجفاف؟".
قال أليراس: "إنك تجلب العار على عائلتك مع كلِّ كلمةٍ تقولها، وتجلب العار على (القلعة) بكونك واحدًا منا".
 
- "أعرفُ، فادعُني إلى القليل من النَّبيذ إذن كي أغرِق عاري".
قال مولاندر: "أريدُ أن أقتلع لسانك من جذوره".
رَدَّ ليو: "حقًّا؟ وكيف أحكي لكم عن التَّنانين إذن؟"، وعادَ يهزْ كتفيه متابعًا: "الهجين على حق، ابنة الملك المجنون حيَّة ومعها ثلاثة تنانين".
ردَّد روون مندهشًا: "ثلاثة؟".
ربَّت ليو على يده مجيبًا: "أكثر من اثنين وأقلُّ من أربعة. لو كنتُ مكانك لما حاولتُ الحصول على حلقتي الذَّهبيَّة بعدُ".
قال مولاندر منذرًا: "دعه وشأنه".
- "يا لشهامتك أيها الضُّفدع النَّطَّاط. كما تشاء. كلْ رجلٍ من كلِّ سفينةٍ أبحرَت على مسافة مئة فرسخٍ من (كارث) يتحدَّث عن تلك التَّنانين، وستجد بعضهم يقول إنه رآها بنفسه. المُشعوذ يميل إلى تصديقهم".
زَمْ آرمن شفتيه استنكارًا، وقال: "ماروين معتلْ العقل. المِايستر الرَّئيس بيرستان أكول من سيقول لك هذا".
قال روون: "هذا ما يقوله المِايستر الرْئيس ريام أيضًا".
تثاءبَ ليو، وقال: "البحر مبتلُّ والشَّمس دافئة ومعرض الوحوش يكره الدَّرواس(5)".
 
فكَّر بايت: لديه اسم ساخر لكلِّ أحد، لكنه لا يستطيع أن يُنكِر أن ماروين يبدو أقرب إلى دِرواس من مِايستر بالفعل. كأنه يُريد أن يعضَّك. ليس المُشعوذ كبقيَّة المِايسترات، ويقول النَّاس إنه يُرافِق العاهرات والسَّحرة الجوَّالين، ويُكَلِّم الإيبنيزيَّين المُشعرين وأهل (جُزر الصَّيف) ذوي البشرة السَّوداء كالقار بلُغتهم، ويُقَدِّم القرابين لآلهةٍ غريبة في معابد البحَّارة الصَّغيرة عند أرصفة المرفأ، وهناك من يتكلَّمون عن رؤيته في الأنحاء الكريهة من المدينة، في حلبات الجرذان(6) والمواخير السَّوداء، يُسامِر الممثِّلين والمُطربين والمرتزِقة، بل والمتسوِّلين أيضًا. ثم إن هناك من يتهامَسون قائلين إنه قتلَ رجلًا ذات مرَّةٍ بقبضتيه العاريتين.
حينما رجعَ ماروين إلى (البلدة القديمة)، بَعد أن أمضى ثمانية أعوام في الشَّرق يرسم خرائط الأراضي البعيدة ويبحث عن كُتبٍ مفقودة ويدرس مع الدَّجَّالين وآسري الظِّلال، لقَّبه فايلين الخَل بماروين المُشعوذ، وسرعان ما انتشرَ اللَّقب في جميع أنحاء المدينة، وهو ما أثارَ ضيق فايلين لأقصى درجة. في مرَّةٍ قال المِايستر الرَّئيس ريام لبايت على سبيل النَّصيحة: "دَع الصَّلوات والتَّعاويذ للرُّهبان والسَّبتونات، وكرِّس عقلك لتعلُّم الحقائق التي يستطيع أن يثق بها الإنسان"، لكن خاتم ريام وصولجانه وقناعه من الذَّهب الأصفر، وسلسلته تخلو من حلقةٍ من الفولاذ الفاليري.
 
لآرمن أنف طويل رفيع مدبَّب، مناسب تمامًا للنَّظرة التي رمقَ بها ليو الكسول من فوقه وهو يقول: "المِايستر الرَّئيس ماروين يعتقد بالعديد من الأشياء الغريبة، لكنه لا يملك دليلًا على وجود التَّنانين أكثر من مولاندر. مزيد من قصص البحَّارة لا أكثر".
قال ليو: "أنت مخطئ. ثمَّة شمعة زُجاجيَّة متَّقدة في مسكن المُشعوذ".
رانَ الصَّمت على الشُّرفة المضاءة بالمشاعل، ثم تنهَّد آرمن وهَزَّ رأسه، وبدأ مولاندر يضحك، وتفرَّس أبو الهول في وجه ليو بعينيه السَّوداوين الواسعتين، وبدَت الحيرة على روون.
يعرف بايت بأمر الشُّموع الزُّجاجيَّة، وإن لم يرَ واحدةً مشتعلةً من قبل قَطُّ. إنها السِّر الأكثر انفضاحًا في (القلعة)، ويُقال إنها حُلِبَت إلى (البلدة القديمة) من (فاليريا) قبل ألف عامٍ من هلاكها. كان بايت قد سمعَ بوجود أربعٍ منها، إحداها خضراء والبقيَّة سوداء، وكلُّها طويلة ملتوية.
سألَ روون: "ما تلك الشُّموع الزُّجاجيَّة؟".
 
تنحنحَ آرمن المُعاون، وأجابَ: "في اللَّيلة السَّابقة لحلف كلِّ مُعاون اليمين، عليه أن يسهر في القبو، وغير مسموحٍ له أن يأخذ معه فانوسًا أو مشعلًا أو مصباحًا أو فتيلًا مكسوًّا بالشَّمع... فقط شمعة من الزْجاج البُركاني. هكذا يجب أن يقضي اللَّيل في الظَّلام ما لم يستطِع أن يُشعِل تلك الشَّمعة. بعضهم يُحاوِل، الحمقى والعنيدون، أولئك الذين درسوا الغوامض العُليا إياها، وكثيرًا ما يجرحون أصابعهم، لأن حواف الشَّمعة حادَّة كالموسى حسب ما يُقال، ثم يكون عليهم أن ينتظروا بزوغ الفَجر بأيدٍ دامية وهُم يُفَكِّرون في فشلهم. الحُكماء يَخلُدون إلى النَّوم ببساطة، أو يقضون اللَّيل في الصَّلاة، لكن هناك دائمًا من يُصِرُّون على التَّجربة كلَّ عام".
قال بايت الذي سمعَ القصص نفسها: "نعم، لكن ما الفائدة من شمعةٍ لا تُلقي ضوءًا؟".