روضة الكتب
10-20-2019, 03:47 PM
https://6.top4top.net/p_1388qtxdt1.jpg
الكتاب الرابع من أغنية الجليد والنار
جورج ر. ر. مارتن
وليمة الغربان
ترجمة هشام فهمي
تمهيد
- "التَّنانين"، قالها مولاندر واختطفَ تفَّاحةً ذابلةً من على الأرض وراحَ يتقاذَفها بين يديه.
قال أليراس أبو الهول مستحثَّا إياه: "ارمِ التُّفَّاحة"، والتقط سهمًَا من جَعبته وسحبَه على وتر قوسه.
قال روون: "كم أودْ أن أرى تنِّينًا، أودْ هذا حقًا". الصَّبي الممتلئ أصغرهم سِنًا، وما زالَ يفصله عامان كاملان عن بلوغ مبلغ الرِّجال.
فكَّر بايت مبدِّلًا جلسته على الدِّكَّة بتملمُل: وكم أودْ أن أنام بينما تُطَوِّقني روزي بذراعيها. بحلول الغد ستكون الفتاة قد أصبحَت له. سآخرها بعيدًا عن (البلدة القديمة)، أعبرُ بها (البحر الضيِّق) إلى واحدةٍ من المُدن الحُرَّة. هناك لا يوجَد مِايسترات، لا أحد يتَّهمه.
تناهَت إلى مسامعه ضحكات إما الآتية من نافذةٍ مغلَقة المصراعين بالأعلى، ممتزجةً بالصَّوت الأعمق للرَّجل الذي تستضيفه. إنها أكبر العاملات سِنًا في (الرِّيشة والذَّورق)، في الأربعين من العُمر على الأقل، وإن كانت لا تزال تتمتَّع بنوعٍ معيَّن من حُسن ممتلئات الجسد. أمَّا روزي فابنتها، فتاة في الخامسة عشرة أزهرَت لتوَّها، وقد قضَت إما أن بكارة روزي ستُكَلِّف مَن يفضَّها تنِّينًا ذهبيًا كاملًا. كان بايت قد ادَّخر تسعة أيائل فضِّيَّة ومِلء جرَّة من النُّجوم والبنسات النُّحاسيَّة، وعلى الرغم من هذا لا يزال بعيدًا كلِّ البُعد عن المبلغ المطلوب، وفُرصة أن يجعل بيضة تنِّينٍ حقيقي تفقس أفضل من فُرصة ادِّخاره ما يكفي من مالٍ لتنِّينٍ ذهبي.
قال آرمن المُعاون لروون: "وُلِدتَ متأخِّرًا للغاية على رؤية التَّنانين يا فتى". يضع آرمن حول عُنقه شريطًا جلديًَّا علْق منه حلقاتٍ من القصدير والصَّفيح والرُّصاص والنْحاس، ويبدو أنه- كأغلب المُعاونين- يعتقد أن ما على أكتاف المبتدئين ثمار لِفت لا رؤوس. "آخِر تنِّين ماتَ في عهد الملك إجون الثَّالث".
رَدَّ مولاندر بإصرار: "آخِر تنِّين في (وستروس) فقط".
عادَ أليراس يستحثُّه قائلًا: "ارمِ التُّفَّاحة". الشَّاب وسيم الطَّلعة، صديقهم أبو الهول الذي صارَ محطَّ شغف جميع العاملات في المكان، وحتى روزي تمش ذراعه أحيانًا عندما تُقَدَّم له النَّبيذ، فيضطرُّ بايت إلى الضَّغط على أسنانه والتَّظاهُر بأنه لم يرَ.
قال آرمن بعناد: "آخِر تنِّين في (وستروس) كان آخِر تنِّين، هذا معلوم للجميع".
كرَّر أليراس: "التُّفَّاحة، ما لم تكن تنوي أن تأكلها".
قال مولاندر: "هاك"، وجَرَّ قدمه المعوجَّة ووثبَ وثبةً قصيرةً، ثم دارَ وألقى التُّفَّاحة بزاويةٍ مستقيمة في الضَّباب العالق فوق (نهر البِتع)(1). لولا التشوُّه في قدمه لكان قد أصبحَ فارسًا كأبيه، ففي ذراعيه الغليظتين وكتيفه العريضتين من القوَّة ما يَكفُل له هذا. هكذا حلَّقت التُّفَّاحة مبتعدةً بسُرعة...
... ولكن ليس بسُرعة السَّهم الذي انطلقَ وراءها صافرًا في الهواء، قناته طولها ياردة كاملة من الخشب الذَّهبي المزوَّد بالرِّيش القِرمزي. لم يرَ بايت السَّهم يُصيب التُّفَّاحة، لكنه سمعَ صدى الارتطام الخافت يتردَّد عبر النَّهر، يتبعه صوت سقوط الثَّمرة في الماء.
صفرَ مولاندر، وقال: "قوَّرتها، جميل!".
لكن ليس بنِصف جَمال روزي. يحبُّ بايت لون البُندق في عينيها ويحبُّ ثدييها النَّابتين، والطَّريقة التي تبتسم بها كلَّما رأته، ويحبُّ الغمَّازتين في وجنتيها. أحيانًا تمشي حافيةً وهي تدور على الزَّباين، لتَشعُر بملمس العُشب تحت قدميها، وهذا أيضًا يحبُّه بايت، تمامًا كما يحبُّ رائحتها النَّظيفة المُنعشة وشَعرها الذي يتلولَب وراء أُذنيها، بل ويحبُّ أصابع قدميها. ذات ليلةٍ ستدعه يُدَلِّك هاتين القدمين ويُداعِبهما، وسيُؤَلِّف لها حكايةً طريفةً عن كلِّ إصبعٍ ليجعلها تضحك بلا انقطاع.
لعلَّ الأصلح له أن يبقى على هذا الجانب من (البحر الضيِّق). يُمكنه أن يبتاع حمارًا بالنُّقود التي ادَّخرها، ويتبادَل هو وروزي ركوبه بينما يجولان في أنحاء (وستروس). ربما لا يراه إيبروز جديرًا بوضع حلقةٍ فضِّيَّة في سلسلته، لكن بايت يعرف كيف يُجَبِّر العظام المكسورة ويُعلِّق العَلق(2) للمصابين بالحُمَّى. سيمتنُّ العامَّة لمساعَدته، وإذا تعلَّم أن يقض الشَّعر ويحلق اللِّحى فمن الممكن أن يصير حلَّاقًا كذلك. قال لنفسه: يكفيني هذا ما دامَت معي روزي. من الدُّنيا كلِّها لا يُريد إلَّا روزي.
على أن الأمر ل ميكن هكذا دائمًا. في السَّابق كان حُلمه أن يُصبِح مِايستر في قلعة، في خدمة لورد سخي يُكَرِّمه لحكمته ويهِب له حصانًا أبيض مطهَّمًا عرفانًا بخدمته. كان ليمتطيه بسُمُوٍّ ونُبل، ويبتسم للعوام من أعلى حين يمرُّ بهم على الطَّريق...
ذات ليلة في قاعة (الرِّيشة والذورق) العامَّة، بَعد أن شربَ دورقه الثَّاني من خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية، قال بايت متبجِّحًا إنه لن يظلْم بتدئًا إلى الأبد، فرَدَّ ليو الكسول: "صحيح تمامًا، ستكون مبتدئًا سابقًا يرعى الخنازير".
أفرغَ ثُمارة الشَّراب في جوفه. كانت شُرفة الخان المضاءة بالمشاعل جزيرةً من الضَّوء في بحرٍ من الضَّباب هذا الصَّباح، وفي اتِّجاه مصبَّ النَّهر تسبح منارة (البُرج العالي) البعيدة في رطوبة اللَّيل كقمرٍ برتقاليٍّ مبهَم، لكن الضَّوء لم يُفلِح في رفع معنويَّاته إلَّا قليلًا.
كان يُفترَض أن يأتي الخيميائي. هل المسألة كلُّها دُعابة قاسية أم أن شيئًا جرى للرَّجل؟ لن تكون المرَّة الأولى التي يعبس فيها الحَظُّ في وجه بايت، فقد حدثَ أن عَدَّ نفسه محظوظًا من قبل عند اختياره لمساعَدة المِايستر الرَّئيس والجريف العجوز على العناية بالغِدفان، دون أن يتصوَّر أنه سرعان ما سيُكلَّف أيضًا بإحضار وجبات الرَّجل وكنس مسكنه وإلباسه ثيابه كلِّ صباح. يقول الجميع إن والجريف نسيَ عن حِرفة الغِدفان أكثر مما يتعلَّمه معظم المِايسترات في حياتهم كلَّها، فقدَّر بايت أن حلقةً من الحديد الأسود هي أقلُّ ما يأمله، فقط ليكتشف أن والجريف لا يستطيع أن يمنحه إياها، لأن العجوز ما زالَ مِايستر رئيسًا على سبيل المجامَلة لا أكثر، وعلى الرغم من أنه كان مِايستر عظيمًا في الماضي، فالآن يُواري رداؤه ثيابًا داخليَّةً متَّسخةً أكثر الوقت، وقبل نِصف عامٍ وجدَه عدد من المُعاونين يبكي في المكتبة وقد عجزَ عن العثور على طريق العودة إلى مسكنه. حاليًا يجلس المِايستر جورمون تحت القناع الحديد بدلًا من والجريف، جورمون نفسه الذي سبقَ أن اتَّهم بايت بالسَّرقة.
على شجرة التُّفَّاح المجاورة للماء بدأ عندليب يُغَنِّي، صوته الجميل راحة مستحبَّة من صريخ الغِدفان الخشن ونعيقها المتَّصل بَعد أن ظَلَّ بايت يعتني بها طيلة اليوم. تعرف الغِدفان البيضاء اسمه ويُتَمتِم بعضها به لبعض كلَّما وقعَت أعيُنها عليه، فتُرَدَّد "بايت، بايت، بايت" إلى أن تنتابه الرَّغبة في الصُّراخ. تلك الطُّيور البيضاء الكبيرة مفخرة المِايستر الرَّئيس والجريف، ويُريدها أن تأكله عندما يموت، وإن كان بايت يظنُّ أنها تُريد أن تأكله أيضًا.
ربما تكون خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية السَّبب- ولم يكن بايت قد أتى ليشرب، غير أن أليراس دعاهم إلى الشَّراب احتفالًا بحصوله على حلقته النُّحاسيَّة، والشُّعور بالذَّنب أصابَ بايت بالظَّمأ- ولكن بدا له كأن العندليب يُرَدِّد بصوتٍ راجف: "الذَّهب مقابل الحديد، الذَّهب مقابل الحديد، الذَّهب مقابل الحديد"، وهو العجيب نوعًا، لأن هذا ما قاله الغريب ليلة رتَّبت روزي لقاءهما. حينها سألَه بايت: "مَن أنت؟"، فأجابَ الرَّجل: "خيميائي، أستطيعُ تحويل الحديد إلى ذهب"، ثم ظهرَت قطعة العُملة في يده، تتراقَص على مفاصل أصابعه ويلمع ذهبها الأصفر الخالص في ضوء الشُّموع، على أحد وجهيها تنِّين ذو ثلاثة رؤوس، وعلى الآخَر رأس ملكِ ميت ما. تذكَّر بايت ما قاله الرَّجل: الذَّهب مقابل الحديد، لن تجد صفقةً أفضل. هل تُريدها؟ هل تُحِبُّها؟ قال للرَّجل الذي دعا نفسه بالخيميائي: "لستُ لصًَّا، إنني مبتدئ في (القلعة)"، فحنى الخيميائي رأسه مجيبًا: "إذا غيَّرت رأيك، سأعودُ بَعد ثلاثة أيام من الآن ومعي تنِّيني".
تحميل الكتاب (https://up.top4top.net/downloadf-13881k0pr1-rar.html)
الكتاب الرابع من أغنية الجليد والنار
جورج ر. ر. مارتن
وليمة الغربان
ترجمة هشام فهمي
تمهيد
- "التَّنانين"، قالها مولاندر واختطفَ تفَّاحةً ذابلةً من على الأرض وراحَ يتقاذَفها بين يديه.
قال أليراس أبو الهول مستحثَّا إياه: "ارمِ التُّفَّاحة"، والتقط سهمًَا من جَعبته وسحبَه على وتر قوسه.
قال روون: "كم أودْ أن أرى تنِّينًا، أودْ هذا حقًا". الصَّبي الممتلئ أصغرهم سِنًا، وما زالَ يفصله عامان كاملان عن بلوغ مبلغ الرِّجال.
فكَّر بايت مبدِّلًا جلسته على الدِّكَّة بتملمُل: وكم أودْ أن أنام بينما تُطَوِّقني روزي بذراعيها. بحلول الغد ستكون الفتاة قد أصبحَت له. سآخرها بعيدًا عن (البلدة القديمة)، أعبرُ بها (البحر الضيِّق) إلى واحدةٍ من المُدن الحُرَّة. هناك لا يوجَد مِايسترات، لا أحد يتَّهمه.
تناهَت إلى مسامعه ضحكات إما الآتية من نافذةٍ مغلَقة المصراعين بالأعلى، ممتزجةً بالصَّوت الأعمق للرَّجل الذي تستضيفه. إنها أكبر العاملات سِنًا في (الرِّيشة والذَّورق)، في الأربعين من العُمر على الأقل، وإن كانت لا تزال تتمتَّع بنوعٍ معيَّن من حُسن ممتلئات الجسد. أمَّا روزي فابنتها، فتاة في الخامسة عشرة أزهرَت لتوَّها، وقد قضَت إما أن بكارة روزي ستُكَلِّف مَن يفضَّها تنِّينًا ذهبيًا كاملًا. كان بايت قد ادَّخر تسعة أيائل فضِّيَّة ومِلء جرَّة من النُّجوم والبنسات النُّحاسيَّة، وعلى الرغم من هذا لا يزال بعيدًا كلِّ البُعد عن المبلغ المطلوب، وفُرصة أن يجعل بيضة تنِّينٍ حقيقي تفقس أفضل من فُرصة ادِّخاره ما يكفي من مالٍ لتنِّينٍ ذهبي.
قال آرمن المُعاون لروون: "وُلِدتَ متأخِّرًا للغاية على رؤية التَّنانين يا فتى". يضع آرمن حول عُنقه شريطًا جلديًَّا علْق منه حلقاتٍ من القصدير والصَّفيح والرُّصاص والنْحاس، ويبدو أنه- كأغلب المُعاونين- يعتقد أن ما على أكتاف المبتدئين ثمار لِفت لا رؤوس. "آخِر تنِّين ماتَ في عهد الملك إجون الثَّالث".
رَدَّ مولاندر بإصرار: "آخِر تنِّين في (وستروس) فقط".
عادَ أليراس يستحثُّه قائلًا: "ارمِ التُّفَّاحة". الشَّاب وسيم الطَّلعة، صديقهم أبو الهول الذي صارَ محطَّ شغف جميع العاملات في المكان، وحتى روزي تمش ذراعه أحيانًا عندما تُقَدَّم له النَّبيذ، فيضطرُّ بايت إلى الضَّغط على أسنانه والتَّظاهُر بأنه لم يرَ.
قال آرمن بعناد: "آخِر تنِّين في (وستروس) كان آخِر تنِّين، هذا معلوم للجميع".
كرَّر أليراس: "التُّفَّاحة، ما لم تكن تنوي أن تأكلها".
قال مولاندر: "هاك"، وجَرَّ قدمه المعوجَّة ووثبَ وثبةً قصيرةً، ثم دارَ وألقى التُّفَّاحة بزاويةٍ مستقيمة في الضَّباب العالق فوق (نهر البِتع)(1). لولا التشوُّه في قدمه لكان قد أصبحَ فارسًا كأبيه، ففي ذراعيه الغليظتين وكتيفه العريضتين من القوَّة ما يَكفُل له هذا. هكذا حلَّقت التُّفَّاحة مبتعدةً بسُرعة...
... ولكن ليس بسُرعة السَّهم الذي انطلقَ وراءها صافرًا في الهواء، قناته طولها ياردة كاملة من الخشب الذَّهبي المزوَّد بالرِّيش القِرمزي. لم يرَ بايت السَّهم يُصيب التُّفَّاحة، لكنه سمعَ صدى الارتطام الخافت يتردَّد عبر النَّهر، يتبعه صوت سقوط الثَّمرة في الماء.
صفرَ مولاندر، وقال: "قوَّرتها، جميل!".
لكن ليس بنِصف جَمال روزي. يحبُّ بايت لون البُندق في عينيها ويحبُّ ثدييها النَّابتين، والطَّريقة التي تبتسم بها كلَّما رأته، ويحبُّ الغمَّازتين في وجنتيها. أحيانًا تمشي حافيةً وهي تدور على الزَّباين، لتَشعُر بملمس العُشب تحت قدميها، وهذا أيضًا يحبُّه بايت، تمامًا كما يحبُّ رائحتها النَّظيفة المُنعشة وشَعرها الذي يتلولَب وراء أُذنيها، بل ويحبُّ أصابع قدميها. ذات ليلةٍ ستدعه يُدَلِّك هاتين القدمين ويُداعِبهما، وسيُؤَلِّف لها حكايةً طريفةً عن كلِّ إصبعٍ ليجعلها تضحك بلا انقطاع.
لعلَّ الأصلح له أن يبقى على هذا الجانب من (البحر الضيِّق). يُمكنه أن يبتاع حمارًا بالنُّقود التي ادَّخرها، ويتبادَل هو وروزي ركوبه بينما يجولان في أنحاء (وستروس). ربما لا يراه إيبروز جديرًا بوضع حلقةٍ فضِّيَّة في سلسلته، لكن بايت يعرف كيف يُجَبِّر العظام المكسورة ويُعلِّق العَلق(2) للمصابين بالحُمَّى. سيمتنُّ العامَّة لمساعَدته، وإذا تعلَّم أن يقض الشَّعر ويحلق اللِّحى فمن الممكن أن يصير حلَّاقًا كذلك. قال لنفسه: يكفيني هذا ما دامَت معي روزي. من الدُّنيا كلِّها لا يُريد إلَّا روزي.
على أن الأمر ل ميكن هكذا دائمًا. في السَّابق كان حُلمه أن يُصبِح مِايستر في قلعة، في خدمة لورد سخي يُكَرِّمه لحكمته ويهِب له حصانًا أبيض مطهَّمًا عرفانًا بخدمته. كان ليمتطيه بسُمُوٍّ ونُبل، ويبتسم للعوام من أعلى حين يمرُّ بهم على الطَّريق...
ذات ليلة في قاعة (الرِّيشة والذورق) العامَّة، بَعد أن شربَ دورقه الثَّاني من خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية، قال بايت متبجِّحًا إنه لن يظلْم بتدئًا إلى الأبد، فرَدَّ ليو الكسول: "صحيح تمامًا، ستكون مبتدئًا سابقًا يرعى الخنازير".
أفرغَ ثُمارة الشَّراب في جوفه. كانت شُرفة الخان المضاءة بالمشاعل جزيرةً من الضَّوء في بحرٍ من الضَّباب هذا الصَّباح، وفي اتِّجاه مصبَّ النَّهر تسبح منارة (البُرج العالي) البعيدة في رطوبة اللَّيل كقمرٍ برتقاليٍّ مبهَم، لكن الضَّوء لم يُفلِح في رفع معنويَّاته إلَّا قليلًا.
كان يُفترَض أن يأتي الخيميائي. هل المسألة كلُّها دُعابة قاسية أم أن شيئًا جرى للرَّجل؟ لن تكون المرَّة الأولى التي يعبس فيها الحَظُّ في وجه بايت، فقد حدثَ أن عَدَّ نفسه محظوظًا من قبل عند اختياره لمساعَدة المِايستر الرَّئيس والجريف العجوز على العناية بالغِدفان، دون أن يتصوَّر أنه سرعان ما سيُكلَّف أيضًا بإحضار وجبات الرَّجل وكنس مسكنه وإلباسه ثيابه كلِّ صباح. يقول الجميع إن والجريف نسيَ عن حِرفة الغِدفان أكثر مما يتعلَّمه معظم المِايسترات في حياتهم كلَّها، فقدَّر بايت أن حلقةً من الحديد الأسود هي أقلُّ ما يأمله، فقط ليكتشف أن والجريف لا يستطيع أن يمنحه إياها، لأن العجوز ما زالَ مِايستر رئيسًا على سبيل المجامَلة لا أكثر، وعلى الرغم من أنه كان مِايستر عظيمًا في الماضي، فالآن يُواري رداؤه ثيابًا داخليَّةً متَّسخةً أكثر الوقت، وقبل نِصف عامٍ وجدَه عدد من المُعاونين يبكي في المكتبة وقد عجزَ عن العثور على طريق العودة إلى مسكنه. حاليًا يجلس المِايستر جورمون تحت القناع الحديد بدلًا من والجريف، جورمون نفسه الذي سبقَ أن اتَّهم بايت بالسَّرقة.
على شجرة التُّفَّاح المجاورة للماء بدأ عندليب يُغَنِّي، صوته الجميل راحة مستحبَّة من صريخ الغِدفان الخشن ونعيقها المتَّصل بَعد أن ظَلَّ بايت يعتني بها طيلة اليوم. تعرف الغِدفان البيضاء اسمه ويُتَمتِم بعضها به لبعض كلَّما وقعَت أعيُنها عليه، فتُرَدَّد "بايت، بايت، بايت" إلى أن تنتابه الرَّغبة في الصُّراخ. تلك الطُّيور البيضاء الكبيرة مفخرة المِايستر الرَّئيس والجريف، ويُريدها أن تأكله عندما يموت، وإن كان بايت يظنُّ أنها تُريد أن تأكله أيضًا.
ربما تكون خمر التُّفَّاح القويَّة للغاية السَّبب- ولم يكن بايت قد أتى ليشرب، غير أن أليراس دعاهم إلى الشَّراب احتفالًا بحصوله على حلقته النُّحاسيَّة، والشُّعور بالذَّنب أصابَ بايت بالظَّمأ- ولكن بدا له كأن العندليب يُرَدِّد بصوتٍ راجف: "الذَّهب مقابل الحديد، الذَّهب مقابل الحديد، الذَّهب مقابل الحديد"، وهو العجيب نوعًا، لأن هذا ما قاله الغريب ليلة رتَّبت روزي لقاءهما. حينها سألَه بايت: "مَن أنت؟"، فأجابَ الرَّجل: "خيميائي، أستطيعُ تحويل الحديد إلى ذهب"، ثم ظهرَت قطعة العُملة في يده، تتراقَص على مفاصل أصابعه ويلمع ذهبها الأصفر الخالص في ضوء الشُّموع، على أحد وجهيها تنِّين ذو ثلاثة رؤوس، وعلى الآخَر رأس ملكِ ميت ما. تذكَّر بايت ما قاله الرَّجل: الذَّهب مقابل الحديد، لن تجد صفقةً أفضل. هل تُريدها؟ هل تُحِبُّها؟ قال للرَّجل الذي دعا نفسه بالخيميائي: "لستُ لصًَّا، إنني مبتدئ في (القلعة)"، فحنى الخيميائي رأسه مجيبًا: "إذا غيَّرت رأيك، سأعودُ بَعد ثلاثة أيام من الآن ومعي تنِّيني".
تحميل الكتاب (https://up.top4top.net/downloadf-13881k0pr1-rar.html)