المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح زاد المستقنع - جزء ثالث


gogo
10-19-2019, 02:09 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: شرح زاد المستقنع
المؤلف: حمد بن عبد الله بن عبد العزيز الحمد
[الكتاب مرقم آليا]
ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي: من حديث وائل بن حجر، وهو حديث طويل وفيه: (وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد) (1)
المسألة الثالثة:
في محل الوضع، هل المستحب أن يده على الصدر أو تحت السرة أو فوقها تحت الصدر؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم:
1- المشهور عند الحنابلة: أن المستحب أن يضع يديه تحت السرة.
واستدلوا:
بما روى أحمد وأبو داود عن علي قال: (من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة) (2) وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك الحديث، فعلى ذلك إسناده ضعيف جداً.
2- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو المشهور عند الشافعية: أنه يضعهما فوق سرته وتحت صدرته (3) .
واستدلوا:
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة (889) بلفظ: " أن وائل بن حجر أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد أن يركع … ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (120) وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (756) قال: " حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد بن زيد، عن أبي جُحيفة، أن عليا رضي الله عنه قال: " من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ".
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صدره.
(5/28)
________________________________________
بما رواه ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) (1) ، والحديث فيه مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف لكن له شاهدان:
الشاهد الأول: عند أحمد مرفوعاً وموصولاً من حديث هُلْب الطائي لكن الحديث ضعيف.
والثاني عند أبي داود من حديث طاووس مرسلاً وسنده صحيح إلى طاووس، ويصلحان شاهدين له فيكون الحديث حسناً بشواهده فالحديث من ثلاثة أوجه.
لكن الاستدلال به على هذا القول فيه نظر؛ لأن أهل هذا القول لا يقولون بأنه يضع يديه على الصدر بل تحت الصدر وفوق السرة.
وإنما يصلح دليلاً لأهل القول الثالث، وهو قول للشافعي وقول إسحاق بن راهوية وهو مذهب لبعض المالكية: أن السنة أن يضع اليدين على الصدر.
وهذا أوجهها لما تقدم فالحديث حسن بشاهديه، ولم يعارضه معارض ينظر فيه، والحديث المتقدم إسناده ضعيف جداً.
فالراجح: أن السنة أن يضع يديه على صدره أي بأن يضعهما قريباً من النحر على عظام الصدر وبين الثندؤتين.

قال: (وينظر مسجده)
هذه سنة من سنن الصلاة وهي أن ينظر إلى مسجده أي إلى موضع سجوده.
قالوا: لأن ذلك أخشع للصلاة، وهو كذلك أبعد عن النظر إلى السماء المنهي عنه وهي حالة يتبين فيها خشوع الأعضاء لله عز وجل، وقد وردت فيها بعض الآثار.
__________
(1) وأخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب 120، (759) قال: " حدثنا أبو توبة، حدثنا الهيثم - يعني ابن حميد - عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاووس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة ".
(5/29)
________________________________________
فقد روى البيهقي عن سليمان الخولاني عن أبي قلابة قال: حدثني عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين - يعني عمر بن عبد العزيز – قال سليمان: (فرمقت عمر في صلاته فكان ينظر إلى موضع سجوده) (1) والحديث فيه صدقة وهو ضعيف.
لكن له شاهد مرسل عند الحاكم، ورواه الحاكم موصولاً من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد أخطأ بعض الرواة فوصله، وعامة الرواة أنه مرسل، قال الذهبي: " والصحيح مرسل ".
ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} طأطأ رأسه) (2) فهذا يدل على أنه يطأطأ رأسه وحيث كان كذلك فإن بصره إلى موضع سجوده.
إذن: المستحب كما قرر الحنابلة ويد عليه ما تقدم من الآثار ويعضدها المعنى: أن المستحب للمصلي أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، سوى ما يأتي من التشهد من كونه يستحب له أن يرمي ببصره إلى السبابة كما ثبت هذا في صحيح ابن خزيمة وسيأتي.

قال: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)
" سبحانك اللهم ": أي تنزيهاً لك اللهم.
" وبحمدك ": أي وبحمدك سبحتك.
" وتبارك اسمك ": أي كثر خير أسمائك وثبت.
" وتعالى جدك ": أي تعالت عظمتك وشرف قدرك.
" لا إله غيرك ": أي لا إله في الوجود على الحقيقة غيرك.
هذا هو الاستفتاح، فيستحب أن يستفتح الصلاة بشيء مما ورد من الاستفتاحات عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [2 / 402] كتاب الصلاة، باب (369) لا يجاوز بصره موضع سجوده (3543) قال البيهقي: " وليس بالقوي ".
(5/30)
________________________________________
وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يستفتح صلاته فيقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) (1) الحديث.
وهو ثابت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري (2) وهو ثابت من قول عمر في مسلم منقطعاً ووصله الدارقطني بإسناد صحيح: (أن عمر كان يستفتح بسبحانك اللهم يجهر بذلك يُسمعنا ويُعلمنا) (3)
وقد اختاره الإمام أحمد لكون عمر كان يعلمه الصحابة وإلا فسائر الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسنة، بل السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (122) من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (776) .قال أبو داود: " وهذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب، لم يروه إلا طلق بن غنام، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة لم يذكروا فيه شيئا من هذا ". سنن أبي داود [1 / 491] .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق حديث (775) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل كبر ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يقول: (لا إله إلا الله) ثلاثا ثم يقول: (الله أكبر كبيرا) ثلاثا، ثم (أعوذ بالله السميع العلم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ثم يقرأ "، وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي حديث 242، سنن أبي داود [1 / 490] .
(3) قال الإمام مسلم في صحيحه في باب (13) حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) : " حدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة: أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب (28) دعاء الاستفتاح بعد التكبير (1138) .
(5/31)
________________________________________
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كبر للصلاة سكت هنيهة فسألته فقال: أقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) (1) ، وهي أنواع كثيرة هذا منها.
ولعل عمر إنما كان يستفتح بما تقدم لسهولة حفظه ولما فيه من الوحدانية لله والتعظيم له، ولذلك اختاره الإمام أحمد واستحسن غيره من الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن: الاستفتاح سنة.
والسنة فيه الإسرار كما تقدم من حديث أبي هريرة فإنه قال: (سكت هنيهة) فلم يكن يسمعه، وإلا لم يحتج إلى سؤاله.
وإنما كان عمر يجهر به للتعليم، فحيث كان ذلك بأن يكون الناس محتاجين إلى تعليم فلا بأس به فهو فعل عمر، وإلا فالسنة الإسرار.
ومن مسائله:
أنه إن نسيه أو تركه عمداً حتى شرع في الاستعاذة فلا يشرع له أن يستفتح بعد؛ لأنها سنة وقد فات محلها – كما قرر هذا الحنابلة وغيرهم.

قال: (ثم يستعيذ)
يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم للقراءة قال تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (2)
وثبت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استعاذته في الصلاة: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) (3)
همزه: أي الجنون وهو مس الجن.
ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر القبيح، والحديث حسن.
فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (744) ، وأخرجه مسلم (598) في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة. وفيهما: ".. سكت هُنيَّة.. "
(2) تقدم قريبا في الحاشية (158) .
(5/32)
________________________________________
فإن استعاذ بقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً لقوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
وإن قال: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً لورود آية أخرى فيه.
وهل هي سنة أم واجب؟
جمهور أهل العلم: أنها سنة، وهي عندهم سنة في القراءة مطلقاً في الصلاة وغيرها.
وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من كبار أصحابه المتقدمين وهو مذهب الظاهرية ومذهب عطاء: أنها واجبة للأمر القرآني: {فاستعذ بالله} وظاهر الأمر الوجوب، وهو قول قوي.
واختلف أهل العلم هل تشرع الاستعاذة في كل ركعة أم لا تشرع إلا في الركعة الأولى؟
- المشهور عند الحنابلة: أنها لا تشرع إلا في الركعة الأولى، أما في الركعات الثانية فلا يقال باستحباب ذلك وتأكيده فإن فعل فذلك حسن وإلا فلا يقال بمشروعيته كمشروعيته في الركعة الأولى.
واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1)
قالوا: هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بالحمد لله رب العالمين ولا يسكت، والاستعاذة تحتاج إلى سكوت.
- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية: أنه يشرع له أن يستعذ في كل ركعة.
ذلك لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (2) وظاهر الآية أنه يشرع له كلما قرأ أن يستعيذ، وكل ركعة لها قراءتها فإن بين الركعات فواصل من ركوع وسجود وقيام ونحو ذلك وذكر ونحوه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة (599)
(5/33)
________________________________________
بخلاف سجدة التلاوة، فإن سجدة التلاوة التي تخلل الصلاة من متعلقات القراءة فهي سجدة للقراءة، أما هذا السجود وهذا القيام والركوع في الصلاة فهي منفصلة عنها، فالقراءة ركن كما أن ما تقدم ذكره أركان من أركانها فليست بمتصلة فيها إلا حديث أنها من الصلاة، ففرقٌ بينهما.
وأجابوا عن الحديث المتقدم: بأن قول أبي هريرة: (لم يسكت) أي لم يسكت سكوتاً كسكوته في الركعة الأولى وهو السكوت الذي نقله هنا، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سكوته في الصلاة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (اللهم باعد ….) ، فقد سأله عن تلك السكتة لكونها سكتة خارجية عن طبيعة السكوت الذي يكون الذي يكون قبيل القراءة، وأما المذكور في قوله: (ولم يسكت) أي لم يسكت كسكوته في الاستفتاح ولهذا نجمع بين الآية وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيكون قول أبي هريرة " لم يسكت " أي لم يسكت سكوتاً خارجاً عن السكوت الطبيعي الذي يكون قبيل القراءة للاستعاذة والبسملة، وإنما شرع بالحمد لله رب العالمين لم يسكت كسكوته الأول للاستفتاح فيكون ذلك لنفي الاستفتاح وأنه إنما هو مشروع في الركعة الأولى دون الركعات الأخر.
وهذا القول هو الأرجح وأنه يستعيذ في كل ركعة.

قال: (ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة)
أي يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " يقولها سراً.
(5/34)
________________________________________
أما كونه يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " لما ثبت في النسائي عن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن) وفيه أنه قال بعد ذلك " والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1)
ولأن البسملة يشرع أن يفتتح بها السور مطلقاً كما ثبت في مسلم وغيره من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {إنا أعطيناك الكوثر} لما نزلت عليها (2) فقرأ: (" بسم الله الرحمن الرحيم " {إنا أعطيناك الكوثر} …) (3)
وثبت في أبي داود بإسناد صحيح إلى أن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الفصل بين السور إلا إذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم) (4)
فهي مما تفتتح به السور وهو كذلك فاصل بين السور.
ومشروعية البسملة مما اتفق عليه أهل العلم.
" سراً ": لا جهراً، فلا يشرع الجهر بها.
وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
1- فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل العلم: إلى القول باستحباب الإسرار بالبسملة وعدم مشروعية الجهر بها وهو مذهب الحنابلة.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) (5) .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (21) قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (905) قال: " أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، حدثنا الليث، حدثنا خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال: صليت.. "
(2) كذا في الأصل، ولعلها: عليه.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (14) حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (125) من جهر بها (788) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (743) . ومسلم (399) .
(5/35)
________________________________________
زاد مسلم: (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا آخرها) وفي أحمد والنسائي: (لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) (1) وعند ابن خزيمة: (يسرون) (2) .
وثبت في الترمذي من حديث ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال أي بني محدث إياك والحدث قال: ولم أر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها " جهراً " فلا تقلها إذا أنت صليت فقل: " الحمد لله رب العالمين " (3) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال وأما ما ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما: أن الحديث فيه جهالة ابن عبد الله، فإن هذا ليس بصحيح، كما قرر ذلك الزيلعي، وأن ابن عبد الله بن مغفل قد روى عنه ثلاثة فزالت عنه بذلك جهالة العين، ولم يأت بحديث منكر بل أحاديثه كلها مستقيمة تجد لها المتابع والشاهد فليس من أحاديثه ما ينكر عليه، وقد حسن حديثه الترمذي وهذا حديث يوافق ما ثبت عن أنس؛ فالحديث حسن لا بأس به.
2- والقول الثاني، وهو مذهب الشافعية فقالوا بمشروعية الجهر بالبسملة.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (22) ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (907) بلفظ: " عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …. فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ".
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (66) ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (244) بنفس اللفظ، قال أبو عيسى: " حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن ".
(5/36)
________________________________________
وعامة أدلتهم لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكلها موضوعة أو ضعيفة كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره. إلا ما رواه النسائي وغيره بسنده الصحيح إلى نعيم المجمر: قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن وفيه أنه قال: (إني أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1)
قالوا: فهذا يدل على مشروعية الجهر إذ لو لم يجهر أبو هريرة لم يسمعه نعيم وقد عزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إني لأشبهكم)
لكن الحديث ليس بصريح في الدلالة:
فيحتمل أن يكون نعيم قد سمعه وهو يسر بها وكان من الصالحين وكان هو الذي يجمر مسجد المدينة فلا يبعد أن يكون قريباً من أبي هريرة فسمعه وهو يقولها، كما سمع رجل أبا بكر في الركعة الثالثة من صلاة المغرب وهو يقرأ {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (2) .
ثم إن نعيماً قد تفرد برواية هذه اللفظة عن سائر الرواة عن أبي هريرة كما قرر ذلك ابن القيم، فكل الرواة لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها نعيم فكانت مظنة الضعف، وقد خالفها ما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
وهناك احتمال آخر وهو أن أبا هريرة إنما جهر بها للتعليم، وللإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها كما كان عمر يجهر بالاستفتاح للتعليم.
وقد قال: " إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمشابهة لا تقتضي المماثلة.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) قال شيخنا في شرحه للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه: " كما سمع مَنْ سمع أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو يقرأ: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} ، وكان رضي الله عنه يقرأ هذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب كما في موطأ الإمام مالك بإسناد صحيح ". وقد رواه مالك في موطئه في باب القراءة في المغرب والعشاء (170) من كتاب الصلاة.
(5/37)
________________________________________
فالأحاديث التي استدلوا بها: إما أحاديث ضعيفة وعامتها كذلك، أو صحيحة وليست صريحة وهذا إنما هو حديث نعيم المجمر مع ما تقدم من تفرد نعيم وهو مظنة الضعيف، وعلى القول بقبوله وتحمل تفرده فله احتمالان:
أن يكون سمعه وهو قريب منه يسرّ بها.
أن يكون إنما جهر بها للتعليم كفعل عمر ولم يخبرهم بذلك لكونهم قد تقرر عندهم عدم مشروعية ذلك وأن هذا من الأمور المحدثة والعلم عند الله تعالى.
قال: " وليست من الفاتحة ":
فهي ليست من الفاتحة كما هو مذهب الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام.
كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: العبد الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: " أثنى عليَّ عبدي " (1) الحديث
ولم يذكر البسملة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.. (395) بلفظ: " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) ثلاثا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أنثى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي - فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .
(5/38)
________________________________________
وقد تقدم أنها إنما نزلت للفصل بين السور كما قاله ابن عباس (1) .
ولو قلنا إنها من الفاتحة لوجبت قراءتها وكانت فريضة سواء قلنا بالإسرار أو الجهر، ولقلنا بالجهر بها لأنها أسوة غيرها من آيات الفاتحة.
لكن الراجح ما تقدم وأنها ليست بآية من الفاتحة (2) .
والحمد لله رب العالمين

الدرس الثالث والسبعون
(يوم الثلاثاء: 23 / 3 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقرأ الفاتحة)
فيقرأ المصلي فاتحة الكتاب فرضاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا يقرأ بأم القرآن) (3) متفق عليه.
وقد اتفق أهل العلم على فرضية قراءتها على الإمام والمنفرد.
واختلفوا في حكم قراءتها على المأموم:
- والمشهور في المذهب: عدم وجوب قراءتها عليه، وسيأتي البحث في هذا عند قول المؤلف في باب صلاة الجماعة " ولا قراءة على مأموم "
فإذن: يقرأ الفاتحة بشداتها وآياتها كلها وقد تقدم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليس منها فيقرأ من قوله {الحمد لله رب العالمين} إلى {ولا الضالين} وأما لفظة " آمين " فهي ليست من الفاتحة إجماعاً.
وشدات الفاتحة إحدى عشرة شدة – وإذا أسقط شدة فقد أسقط حرفاً، ومتى أسقطها فقد أنقص في قراءتها.
__________
(1) رواه أبو داود وقد تقدم.
(2) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه " وأما ما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفيه أن البسملة إحدى آياتها، فإن الحديث معلول، والصواب وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه، فلا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ذكر هذا غير واحد من الحفاظ ".
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) .
(5/39)
________________________________________
ويقرأها قراءة عربية لا تحيل المعاني، فإذا قرأها قراءة غير عربية لم تجزئه لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} (1) وقال تعالى: {بلسان عربي مبين} (2) ولا يكون قرآناً إذا قرأ بغير العربية أي ترجم؛ للآية المتقدمة، فإذا قرأ بغير العربية لم يجزئه.
وإذا قرأ بالعربية ولحن فإن قراءته إن كان اللحن فيها يحيل المعاني فإنها لا تصح فإذا قال: {أنَعمتُ} أو {إياك} (3) ونحوها، فإن القراءة لا تصح، لأن هذه تحيل المعاني.
أما إذا كان لا يحيل المعنى فالقراءة لا تبطل به.
ويجب أن يقرأها مرتبة متوالية فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها كذلك وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (4) .
فإن كان غير حافظ للفاتحة فيجب عليه أن يتعلمها ما لم يتضايق الوقت، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي على حسب حاله.
* وهنا مسائل يذكرها الفقهاء عند هذه المسألة:
فمنها: إذا كان يحسن من الفاتحة آية فأكثر فإنه يقرؤها لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فاتقوا منه ما استطعتم) (6)
وهل يجب عليه أن يكررها بقدر الفاتحة؟
__________
(3) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [1 / 24] : " وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر، وهي قراءة شاذة مردودة، لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم " أياك " بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم " هياك " بالهاء بدل الهمزة، كما قال الشاعر: فهياك والأمر الذي إن تراحبت موارده ضاقت عليك مصادره ".
(4) أخرجه البخاري رقم (631) في كتاب الأذان / باب (18) وسيأتي في صْ 181.
(5) سورة التغابن.
(6) تقدم، وهو متفق عليه، وقد ذكره النووي في الأربعين.
(5/40)
________________________________________
- قال الفقهاء: يجب أن يكررها بقدر الفاتحة سواء كان يحسن غيرها أم لم يكن يحسنه، فإذا كان يحفظ آية فإنه يجب أن يكررها سبعاً، سواء كان يحسن آيات من غير هذه السورة أم لم يكن ذلك.
- وهناك قول في المذهب: أنه يتم قدر الفاتحة فيما يحفظه من القرآن، وهذا أظهر، لأنه إذا قرأ منها ما يحفظه فإنه يسقط فرضه؛ لأن الواجب هو قراءتها وحيث قرأه فإنه يسقط بذلك فرضه حيث قرأه فكان الأولى أن يأتي بآيات أخر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله) (1) فهنا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم القول ولم يقيد التكرار في مثل الفاتحة وغيرها، وظاهر إطلاقه أنه يقرأ ما يتمكن منه من القرآن من غير أن يكرر ذلك، بل يقرأ ما أمكنه منه ويسقط عنه الباقي، وحيث أنه يمكنه أن يتم قدر الفاتحة بآيات أخر فإنه يتمها؛ لأن البدل له حكم المبدل منه.
أما إذا كان لا يحفظ منها إلا بعض آية، فإنه لا يقرأ ذلك ولا يكرره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم من لا يحسن شيئاً القرآن علمه الذكر، وفيه لفظة " الحمد لله " وهي بعض من آية من الفاتحة ومع ذلك لم يأمره بتكرارها ولم يجعلها قائمة مقام التكرار، بل كانت من الذكر المجزئ عن القرآن.
فإن كان لا يحفظ من الفاتحة شيئاً قرأ من غيرها بقدرها.
والمذهب قولاً واحداً في عدد آياتها أي لا تجزئه إلا أن يقرأ عدد آياتها أي بأن يقرأ سبع آيات.
وهل يجزئه أن تكون هذه الآيات أنقص حروفاً من الفاتحة أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أن الواجب أن تكون بعدد حروفها فأكثر.
القول الثاني: أنه يجزئ أن تكون أقل منها حروفاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (861) .
(5/41)
________________________________________
والقول الأول هو الأحوط وهو أن يختار آيات بعدد حروفها فأكثر، أي أن تكون الآيات سبعاً وتكون ما تضمنته من الحروف مساوية لما تضمنته سورة الفاتحة فأكثر؛ لأن الحرف له أثر في القراءة بدليل إن قرأ حرفاً من القرآن كان له حسنة والحسنة بعشر أمثالها كما ثبت في الحديث (1) هذا هو الأظهر لأن البدل له حكم المبدل منه.

ولو قيل: إنه لا يجب عليه ذلك مطلقاً لا في حروفها ولا في آياتها لكان فيه قوة، لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن كان معك قرآن فاقرأ) (2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يكون ذلك بقدر الفاتحة.
إلا أن يقال: إن البدل له حكم المبدل منه وهنا يمكنه أن يقرأ بقدر فاتحة الكتاب وحيث أمكنه ذلك فإنه يجب عليه أن يفعله ليكون ذلك قائماً مقام فاتحة الكتاب وهذا هو الأحوط.
فإن لم يكن معه إلا بقدر بعض الفاتحة، فإنه يكررها كما تقدم.
والأظهر كذلك أنه لا يكرر لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كان معك قرآن فاقرأ) فأطلق.
كأن يكون رجل يحفظ ثلاث آيات مثلاً من غير الفاتحة فإنه يقرأ هذه الثلاث ويكتفي بها من غير تكرار.
وإن لم يكن معه شيء من القرآن فإنه يجزئه الذكر الوارد، وهو ما ثبت في سنن أبي داود والحديث حسن، من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه فقال: (قل سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (3)
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) تقدم.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (139) ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة (832) بنفس اللفظ إلا أنه في بدايته قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه.. "
(5/42)
________________________________________
فإن لم يحسن شيئاً من ذلك كحديث عهد بإسلام لا يحسن العربية ونحوه فإنه يقف بقدر فاتحة الكتاب لأن الواجب القيام والقراءة وحيث سقطت عنه القراءة فيجب عليه القيام بقدرها لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .
وإن لقن من خارج عن الصلاة فإن ذلك يجزئه، كما لو فتح أحد على الإمام وهو خارج عن الصلاة فكذلك هنا.
وإن كان يمكنه أن يصلي خلف إمام يحسن الفاتحة وقلنا: إن الفاتحة لا تجب خلف الإمام كما هو المشهور في المذهب، فإنه يجب عليه ذلك.

قال: (فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال …)
" بذكر ": كأن يسأل الله الرحمة أو يستعيذ به من النار أو يدعو الله ونحو ذلك.
" أو سكوت ".
" غير مشروعين ": فليس من السنة وليس مما فيه مصلحة الصلاة وليس مما تبطل به الصلاة وسيأتي في بابه.
فمثلاً: قرأ آيتين من الفاتحة ثم يسكت سكوتاً طويلاً عرفاً غير مشروع، أو يتكلم بذكر الله ذكراً غير مشروع طويلاً عرفاً فإن الفاتحة تبطل ويجب أن يعيدها.
إذن: لا تبطل الفاتحة بالقطع إلا إذا كان القطع طويلاً عرفاً وكان القطع غير مشروع.
فعندنا ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يكون القاطع قصيراً عرفاً، كأن يسكت سكتة وإن كانت غير مشروعة أو تكلم بذكر وإن كان غير مشروع وكان يسيراً عرفاً فإن الفاتحة صحيحة ولا يجب إعادتها وهذا القاطع لا يضره لأنه يسير.
قالوا: لأن الواجب في الفاتحة موالاتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
والموالاة ألا يكون هناك قاطع عرفاً، وحيث كان القاطع يسيراً فإن المولاة لا تنتفي بذلك، فالموالاة في الشيء لا تنتفي بالقاطع اليسير.
الحالة الثانية: أن يكون القاطع مشروعاً وهو طويل عرفاً فتصح.
(5/43)
________________________________________
مثال: أن يقرأ بعض الفاتحة ثم سكت سكوتاً طويلاً ليسمع قراءة الإمام، فهذا سكوت مشروع له؛ لأنه يشرع أن يستمع قراءة إمامه فحينئذٍ لا تبطل بذلك الفاتحة.
هذا هو المشهور في المذهب.
والأظهر أنه يبطل الفاتحة ويجب عليه أن يستأنفها؛ ذلك لأنه وإن كان مشروعاً لكنه قاطع عرفاً والموالاة تنتفي وهي واجبة، وحيث قطعه بقاطع طويل عرفاً وإن كان مشروعاً فإنها تنتفي.
ومثله على الراجح – خلافاً للمشهور من المذهب - لو كان القاطع طويلاً عرفاً وهو معذور فيه كأن يسكت عن نسيان أو يخطئ فيقرأ في سورة أخرى وكان ذلك طويلاً عرفاً، فإنه يقطع القراءة فهو وإن كان معذوراً في نسيانه لكن الموالاة قد انقطعت فيجب عليه أن يستأنف القراءة من الجديد (1) لانقطاع موالاتها.
فالواجب شرعاً هو الموالاة وحيث قطعها بقاطع طويل سواء كان مشروعاً وسواء كان معذوراً فيه أم لم يكن معذوراً فيه فإنه يجب أن يستأنف قراءته من جديد لفساد الموالاة وانتفائها.
الحالة الثالثة: أن يكون القاطع يسيراً وهو مشروع، فلا تؤثر في الموالاة وهو أولى من الصورة الأولى لكونه مشروعاً.
فلو قطع الفاتحة بقوله: " آمين " مع تأمين الإمام، أو فتح على الإمام في قراءته – فإن هذا لا يؤثر في الموالاة – لأنه قاطع يسير.
إذن: مناط الحكم – على الراجح – أن يكون القاطع يسيراً فحينئذٍ لا يكون مؤثراً سواء كان مشروعاً أم لم يكن مشروعاً.
فالعبرة بطول القاطع، فإن كان طويلاً عرفاً فإنه يفسد الموالاة فيجب استئناف القراءة وإن كان قصيراً فلا يجب ذلك.

قال: (أو ترك منها تشديدة، أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها)
" ترتيباً ": كأن يقدم ما حقه التأخير من آياتها أو يؤخر ما حقه التقديم، فيلزمه الإعادة إن كان غير مأموم.
ويستثنى المأموم؛ لأنه لا يجب عليه القراءة خلف الإمام، على المشهور في المذهب.
وقوله: " إعادتها " يعود على الفاتحة.
__________
(1) كذا في الأصل.
(5/44)
________________________________________
وحيث قلنا بأن المأموم يجب عليه أن يقرأ بفاتحة الكتاب والحكم كذلك فكذلك هنا فيجب عليه أن يعيد إن أخطأ بما يبطلها.

قال: (ويجهر الكل بآمين) في الجهرية.
" آمين " بمعنى اللهم استجب.
وفيها ضبطان وكلاهما بتخفيف الميم.
الأول: القصر: وهو بهمزة الوصل " أمين "
الثاني: المد " آمين " وهما لغتان فيها ولكن مع تخفيف الميم.
أما إذا شدد الميم فإن المعنى يتحول إلى معنى آخر وهو " قاصدين " كما قال تعالى: {ولا آمَّين البيت} (1) أي قاصدينه.
أي من القراءة قرأ فهي صحيحة (2) .
فيجهر الكل من إمام ومنفرد حيث جهر ومأموم، فكل من جهر أو جهر له من إمام أو مأموم أو منفرد فيشرع له الجهر بالتأمين.
ودليل مشروعية التأمين: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له) (3)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له) (4)
__________
(2) أي سوى قراءة التشديد.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (111) جهر الإمام بالتأمين (780) بلفظ: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وانظر (6402) ، وأخرجه مسلم (410) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) بلفظ: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقالوا آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وأخرجه مسلم (410) .
(5/45)
________________________________________
وقد ثبت التأمين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: فروى أبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا قال: " ولا الضالين " قال: " آمين " (1) ، في رواية أبو داود: " ورفع صوته "، وفي الترمذي: " يمد بها صوته "، وفي ابن ماجه والحديث حسن: (أن المسجد – أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم – كان يرتج بها) أي من رفع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتأمين.
ويستحب كذلك: أن يمد بها صوته كما تقدم في حديث وائل بن حجر في رواية الترمذي، وورد من حديث وائل بن حجر في أبي داود إلا أن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه وهو انقطاع يسير يعضده ما تقدم.
وثبت هذا من فعل أبي هريرة: أنه إذا كان وراء الإمام قال: " آمين " يمد بها صوته ويقول: (إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم) (2) رواه البيهقي بإسناد صحيح.
فعلى ذلك: يشرع للإمام والمنفرد والمأمومين أن يجهروا به ويمدوا أصواتهم به.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (172) التأمين وراء الإمام (932) ، والترمذي حديث 28، وابن ماجه حديث 855، وقال الترمذي: حديث حسن "، وقال ابن القيم: " حديث وائل بن حجر رواه شعبة وسفيان، فأما سفيان فقال: " ورفع بها صوته، وأما شعبة فقال: خفض بها صوته، ذكره الترمذي " قال البخاري: " حديث سفيان أصح، وأخطأ شعبة في قوله: خفض بها صوته "، سنن أبي داود [1 / 574] .
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة،باب (163) جهر المأموم بالتأمين (2453) .
(5/46)
________________________________________
* والسنة أن يكون ذلك بعد قول الإمام "غير المغضوب عليهم ولا الضالين " لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قُولوا: آمين) (1) أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا) (2) فإن معناه إذا شرع بالتأمين، فإذا شرع الإمام بالتأمين ووافق ذلك عقيب قوله " غير المغضوب عليهم ولا الضالين: فقولوا: آمين.
* وإذا تركها الإمام فإنها تشرع للمأمومين للحديث المتقدم: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين) .
فتشرع للمأمومين مطلقاً قالها الإمام أم لم يقلها، فترك الإمام لها لا يعنى ذلك أن تترك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها إماماً، إذا تركها الإمام فإن ذلك تفويت منه للسنة.
* فإن فات محلها وشرع بالقراءة بعدها ولم يؤمن فهي سنة فات محلها، فلا يشرع فعلها.
والحمد لله رب العالمين

الدرس الرابع والسبعون
(يوم الأربعاء: 24 / 3 / 1415هـ)

قال المصنف رحمه الله تعالى: (ثم يقرأ بعدها سورة)
أي بعد الفاتحة، فيشرع ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة من القرآن، وهذا على سبيل الاستحباب عند عامة العلماء، لما ثبت في الصحيحين: من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) (3) فهذا الفعل يدل على مشروعيته.
__________
(1) تقدم قريبا، وهو في الصحيحين.
(2) متفق عليه، وقد تقدم قريبا.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب (776) بلفظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب، وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية.. "
(5/47)
________________________________________
وستأتي الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سوراً من القرآن مع الصلوات الجهرية.
وذهب طائفة من الصحابة وهو مذهب بعض المالكية وبعض الأحناف وحكي رواية عن الإمام أحمد: إلى أن ذلك واجب أي يجب على الإمام والمنفرد أن يقرأ مع فاتحة الكتاب ما تيسر.
واستدلوا بدليلين صحيحين:
كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) (1) .
قالوا: فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم " فصاعداً " فدل ذلك على أنه يجب عليه أن يقرأ مع فاتحة الكتاب سورة وأنه لا يجزئه سوى ذلك.
ما ثبت في أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري: قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ أم الكتاب وما تيسر) (2) .
قالوا: فهذا أمر وظاهر الأمر وجوب ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.. (394) قال: " وحدثناه إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، قالا: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري بهذا الإسناد مثله، وزاد (فصاعدا) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (822) .
(2) أخرجه أبو داود في أول باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، من كتاب الصلاة (818) .
(5/48)
________________________________________
وأما الجمهور فاستدلوا: بما ثبت في أبي داود في قصة صلاة معاذ بأصحابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفتى: ما تصنع يا ابن أخي إذا أنت صليت؟ فقال: " أقرأ بفاتحة الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني ومعاذاً حول هاتين ندندن) (1) وفي رواية " حولها ندندن ".
والدندنة هو الصوت الذي يسمع ولا يفقه.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، ولم يقرأ إلا بالفاتحة.
وأجابوا عن الحديثين الأولين:
أما ما رواه مسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) .
قالوا: فالجواب عليه: من جهتين:
الجهة الأولى: في ثبوته.
الجهة الثانية: في الاستدلال به.
أما الجهة الأولى: فإن الحديث قد أعله البخاري بتفرد معمر فعامة الرواة يرونه بلفظ: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (2) وتفرد معمر فرواه بهذا اللفظ عن سائر الرواة فيكون اللفظ شاذاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (127) في تخفيف الصلاة (793) بلفظ عن جابر، ذكر قصة معاذ، قال، وقال - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - للفتى: (كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت) قال: اقرأ بفاتحة الكتاب، وسأل الله الجنة.. "، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (26) ما يقال بعد التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (910) ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، قال (حولها ندندن) .
(2) تقدم قريبا.
(5/49)
________________________________________
لكن وردت متابعة له في سنن أبي داود من حديث سفيان ابن عيينة بلفظة " فصاعداً " لكن الذي يظهر أن هذه المتابعة لا تزيل الحكم عن الشذوذ؛ لأن سائر الرواة سوى سفيان ومعمر رووه باللفظ المتقدم، فتكون المخالفة منهما.
ولو قلنا بثبوته، فهنا الجواب الثاني، من جهة الاستدلال به: فإن هذا الحديث نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) (1) ومعلوم من الأدلة الشرعية والذي عليه أهل العلم أنها تقطع في ربع دينار فالحديث معناه: تقطع اليد في ربع دينار فأكثر.
وكذلك هذا الحديث يحمل على هذا الحمل وهو ظاهر في ذلك، فيكون المعنى: لا صلاة مجزية إلا بالفاتحة ومع فاتحة الكتاب آيات أخر.
وأما الجواب على حديث أبي سعيد: فإن الأمر فيه يحمل على الإرشاد والاستحباب.
والواو هنا إنما تفيد دلالة الاقتران ودلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، والذي حملنا على ذلك ما تقدم من حديث أبي داود فإن فيه الإجزاء بقراءة فاتحة الكتاب.
فالراجح: مذهب عامة العلماء من أن فاتحة الكتاب تجزئ في الصلاة، أما قراءة آيات أخر أو سورة أخرى فذلك مستحب.

قال المؤلف: (تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه)
المفصل اتفق العلماء على أن نهايته سورة الناس واختلفوا في أوله:
فذهب الجمهور: إلى أن أوله سورة الحجرات.
وذهب الحنابلة: إلى أن أوله سورة " ق ".
…وما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح الصحيح، وصححه الحافظ في الفتح.
(5/50)
________________________________________
ويدل عليه: ما ثبت في أبي داود وابن ماجه ومسند أحمد والحديث إسناده حسن كما قال ذلك ابن كثير في فضائل القرآن وهو كما قال: من حديث أوس بن حذافة (1) الثقفي قال: سألت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: (ثلاث ثم خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشر ثم ثلاث عشرة ثم المفصل) (2)
ويتم العدد المتقدم وهو عدد ثلاث مع خمس مع سبع وتسع وإحدى عشر وثلاث عشر فيتم بما دون سورة " ق " فيكون شروع المفصل بسورة " ق " فهو الحزب السابع من أحزاب القرآن.
وسمي مفصلاً لكثرة الفواصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لقصرها.
فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن أول المفصل سورة " ق "، وطواله إلى النبأ، وأوساطه إلى الضحى، وقصاره إلى الناس.

قال: (تكون في الصبح بطواله وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بوسطه)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: حذيفة، كما سيأتي.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (326) تحزيب القرآن (1393) قال: " حدثنا مسدد، أخبرنا قُران بن تمام ح وحدثنا عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو خالد، وهذا لفظه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده، قال عبد الله بن سعيد في حديثه: أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف..، وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (178) في كم يستحب يختم القرآن (1345) عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة قال: " قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة … قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن، قالوا: ثلاث وخمس.. ".
(5/51)
________________________________________
كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح (1) .
قوله: " فلان " لم يسم وليس عمر بن عبد العزيز؛ لأنه لم يولد إلا بعد وفاة أبي هريرة.
سلمان بن يسار قال: كان فلان يطيل الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بوسطه وفي الفجر بطواله " فقال أبو هريرة: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا ".
هذا هو المستحب في الغالب، وإلا فقد وردت الأدلة الشرعية بخلاف هذا.
بل المداومة على ذلك ينبغي القول بعدم استحبابها وأنها خلاف السنة، فقد ثبت في البخاري عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: " ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطول الطوليين " (2) وهي سورة الأعراف.
والطوليان هما سورة الأنعام وسورة الأعراف، والطولى هو أطول السورتين هي سورة الأعراف.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (61) تخفيف القيام والقراءة (982) قال: " أخبرنا هارون بن عبد الله، قال حدثنا ابن أبي فُديك عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما صليت رواء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، قال سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطول المفصل ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (764) بلفظ: عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصارٍ، وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين؟ ". وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (132) قدر القراءة في المغرب (812) . والنسائي في كتاب الافتتاح، باب (67) القراءة في المغرب بـ " المص " (991) .
(5/52)
________________________________________
وقد ثبت التصريح بها في سنن أبي داود وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب، وفي النسائي أنه يقرأ بها في الركعتين كلتيهما (1) .
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في المغرب بالطور) (2)
وفي الصحيحين أيضاً: (أنه قرأ بالمرسلات) (3) .
وفي الطبراني في الكبير بإسناد صحيح: (أنه قرأ بالأنفال) (4) .
وفي ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أنه قرأ بسورة محمد) (5)
والفجر الغالب أن يقرأ فيها بطوال المفصل لكنه ربما قرأ فيها بقصار المفصل؛ فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر في سفر: بـ (قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " (6)
وفي أبي داود بإسناد صحيح: أنه قرأ بـ " إذا زلزلت الأرض زلزالها في الركعتين كلتيهما" (7) أي في كل ركعة قرأها.
__________
(1) تقدما قريبا.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب (765) ، ومسلم (578) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (763) ، ومسلم (462) .
(6) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (354) في المعوذتين (1462) .
(7) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (134) الرجل يعيد سورة واحدة في الركعتين (816) .
(5/53)
________________________________________
وفي مسلم: أنه قرأ بـ " إذا الشمس كورت " (1)
كما أنه ثبت عنه " أنه قرأ في الروم " (2) كما ثبت في سنن النسائي.

قال: (وفي الباقي من أوساطه)
في الباقي: في صلاة العشاء وصلاة الظهر والعصر يقرأ بأوساط المفصل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (35) القراءة في الصبح (456) بلفظ: " عن عمرو بن حُريث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح {والليل إذا عسعس} ، وفي باب (39) متابعة الإمام والعمل بعده (475) بلفظ " عن عمرو بن حريث قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر فسمعته يقرأ {فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس} ، وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدا ". وأخرجه النسائي بلفظ " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر إذا الشمس كورت "، كتاب الافتتاح، باب (44) القراءة في الصبح بـ إذاالشمس كورت (951) .
(2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (41) القراءة في الصبح بالروم (947) قال رحمه الله: " أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: أنبأنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبي روح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الصبح فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلى قال: (ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور، فإنما يلبس علينا القرآن أولئك) . قال الألباني رحمه الله في تحقيقه لمشكاة المصابيح، [1 / 97] حديث (295) : " ورجاله ثقات إلا أن عبد الملك بن عمير كان تغير حفظه، بل قال فيه ابن معين: مختلط، وقال ابن حجر: وربما دلس ".
(5/54)
________________________________________
أما صلاة العشاء فتقدم الحديث الوارد فيها (1) ، وأما الظهر والعصر فثبت في أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر بـ " والسماء ذات البروج " و " والسماء والطارق ") (2) وهما من أوساط المفصل.
لكن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غالب أمره على هذا، فالظاهر أنها كانت غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها الإطالة، فقد ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الظهر بقدر " الم تنزيل السجدة " وفي رواية " بقدر ثلاثين آية " وفي الأوليين من العصر على النصف من ذلك) (3) .
- وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي وطائفة من أصحابه: وأنه يستحب أن يطول والظهر وأن تكون صلاة العصر على النصف من الركعتين الأوليين من صلاة الظهر.
ومما يدل عليه ما ثبت في مسلم قال الراوي: (كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يأت النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها) (4) فهذا يدل على أن سنته في الظهر الإطالة.
__________
(1) أخرجه النسائي، وقد تقدم صْ 85.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (131) قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر (805) بلفظ: عن جابر بن سمرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج ونحوهما من السور " وأخرجه النسائي والترمذي (307) وقال: " حديث حسن صحيح ". سنن أبي داود [1 / 506] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (452) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (454) .
(5/55)
________________________________________
وفي النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع وهو يقرأ في الظهر بالذاريات) (1) .
فالسنة – على الراجح – في الظهر أن تكون طويلة بنحو ما يكون في صلاة الفجر، وصلاة العصر تصلى على النصف من ذلك.
وقد تقدم حديث سلمان بن يسار: (كان فلان يطول الظهر ويخفف العصر) ، " قال أبو هريرة ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم من هذا ".
وهنا مسائل في القراءة بعد الفاتحة:
اعلم أن المشروع له أن يرتب السور كما وردت في المصحف فيقرأ في الركعة الأولى سورة مقدمة على الركعة الثانية – هذا المستحب جرياً على ترتيب المصحف – الذي جرى عليه الخلفاء الراشدون.
المشهور في المذهب كراهية عكس ذلك.
وعن الإمام أحمد: أنه لا كراهية في ذلك وهذا هو الأظهر، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران) (2) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب بين السور فدل على جوازه.
وثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر قرأ في الصبح في الركعة الأولى بالكهف وفي الركعة الثانية بسورة يوسف أو يونس) (3) والشك في الرواية.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (55) القراءة في الظهر (971) قال: " أخبرنا محمد بن إبراهيم بن صُدْران، قال حدثنا سَلْمُ بن قُتيبة، قال حدثنا هاشم بن البريد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) .
(3) قال البخاري: " وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما " في باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة، من كتاب الأذان.
(5/56)
________________________________________
وحيثما كان اليقين من الشك هنا فإن السورتين كليهما متقدمة على سورة الكهف.
فالأظهر جوازه لكن المستحب أن يرتبها على الترتيب في المصحف.
وقد يقال بكراهية المداومة على ذلك، فإن في المداومة على ذلك مخالفة صريحة ظاهرة للترتيب الذي جرى عليه المصحف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عدم الترتيب بين الآيات، وذلك بأن يقرأ في الركعة الأولى بآيات من آخر السورة وفي الثانية آيات من وسطها أو أولها: فجمهور العلماء على أن ذلك مكروه، وكراهيته أشد من كراهية الأول، لأن ترتيب الآيات ترتيب وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنص.
وأما ترتيب السور فإن المشهور عند جمهور العلماء إنه بالاجتهاد أي اجتهاد الصحابة. ثم إنه مظنة تغيير المعاني، فكان ذلك مكروهاً.
وعند الإمام أحمد أنه جائز، وهذا القول لا بأس به وهو قول قوي لكن بحيث تثبت من عدم تغيير المعاني وحيث لم يعتد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وهذا ما تيسر سواء قدم أو أخر فلا حرج.
أما تنكيس الكلمات في الآية نفسها فهو محرم إجماعاً ومبطل للصلاة، لأنه يخرج عن أن يكون قرآناً حيث نكس، وحيث خرج من أن يكون قرآناً فهو كلام أجنبي عن الصلاة – وحيث كان كلاماً أجنبياً فهو مبطل للصلاة مفسد لها.
إذن: هي ثلاث صور:
تنكيس الكلمات وهذا محرم وهو مبطل للصلاة.
تنكيس الآيات وهذا مكروه عند أكثر الفقهاء وهو مذهب الجمهور، وعن الإمام أحمد عدم كراهيته.
تنكيس السور، والمشهور عند الحنابلة والشافعية أنه مكروه والأظهر عدم كراهيته.
واعلم أن قراءة شيء من الآيات القرآنية من وسط سور القرآن أو أوله أو آخره لا بأس به ولا حرج.
أي يقرأ من وسط سورة وأولها أو آخرها فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي سعيد: " ما تيسر " وقراءة شيء من وسط السورة ونحوه مما تيسر.
(5/57)
________________________________________
لكن مداومته كما قال شيخ الإسلام مكروهة، لأنها تتضمن ترك السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه يجوز للمصلي أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتين فأكثر ومما يدل عليه ما ثبت في البخاري: (أن إمام مسجد قباء كان يقرأ قل هو الله أحد " يفتتح بها السورة التي بعد الفاتحة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إني أحبها فقال: حبك إياها أدخلك الجنة) (1) .
وثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السورتين في الركعة من حديث ابن مسعود في البخاري (2) ، وكذلك لأنه داخل فيما تيسر من القرآن.
كما أنه لا بأس أن يقرأ آية من كتاب الله فإذا قرأ آية بعد الفاتحة فإنه يجزئه ذلك عن السورة التي تقرأ بعد الفاتحة.
واعلم أن محل القراءة بعد الفاتحة، فلو سبق بها الفاتحة فإنها لا تجزئه ولا يعتد بها لأنها سنة فُعلت في غير محلها، لكن الفاتحة تجزئه.

قال: (ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان)
فإذا قرأ بقراءة هي داخلة في المصحف العثماني أجزأته اتفاقاً كأن يقرأ بشيء من القراءات السبع أو العشر أو نحوها من القراءات التي يشملها الرسم العثماني.
أما إن قرأ بقراءة لا توافق المصحف العثماني فلا يجزئ عنه هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور كقراءة ابن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " (3) فالمشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يجوز أن يقرأ بشيء من القراءات الثابتة بالسند الصحيح لكنها لا تدخل في المصحف العثماني.
ودليل هؤلاء: أنها ليست متواترة والمشروع من القراءة أن تكون متواترة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة (774) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة (775) ، وفي كتاب فضائل القرآن، ومسلم (822) .
(5/58)
________________________________________
- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد والإمام مالك واختاره ابن تيمية وابن القيم: أنه يجزئه ذلك لأنه بثبوته بالسند الصحيح يثبت قرآناً، وقد كان هؤلاء الصحابة الذين ثبتت عنهم قراءات لا تدخل في الرسم العثماني كانوا يقرؤون بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وكانت ولا شك تجزئ عنهم.
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على أخذ القرآن عن ابن مسعود وقد ورد عنه مثل هذه الآية التي تخالف ما استقر عليه المصحف عهد عثمان.
ومعلوم أن ما استقر عليه المصحف في عهد عثمان ليس حاوياً للمصحف كله بل هو حاوٍ لشيء فيه وضع على هذه الهيئة درءاً للخلاف والفتنة والفرقة في كتاب الله تعالى – وحيث أنه من القرآن لثبوته بالسند الصحيح إلى هذا الصحابي فإنه لا مانع من أن يقرأ به – وهذا هو القول الراجح.
وكونه ليس بمتواتر يقال: ليس بشرط هذا فإن كثيراً من أفراد القراءات الواردة عن القراء السبعة ليست بمتواترة، وادعاء أنها متواترة ليس بصحيح، بل إن كثيراً منها ليس بمتواتر وإنما يعود إلى غرابة السند أو عزته أو شهرته وليس كلها متواتر.
وإنما القرآن متواتر في مجموعه، وأما آحاد القراءات وأفرادها فإن القول بتواترها مجرد دعوى.
فعليه: إذا ثبت بالسند الصحيح إلى الصحابي فإنه يقرأ به وتصح به الصلاة، لكن ينبغي فعل هذا حيث لا تكون هناك فتنة وفرقة.
إذن: كل قراءة وافقت المصحف فيجوز القراءة بها في الصلاة اتفاقاً.
فإن لم توافق المصحف وصح سندها:
فالمشهور في المذهب أن القراءة لا تصح بها (1) .
والراجح – وهو رواية عن الإمام أحمد – بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هي أنصهما " أي أنص الروايتين عن الإمام أحمد هذه الرواية التي فيها أن القراءة التي لا تدخل في المصحف العثماني مع صحة سندها قرآن يقرأ به ويحتج به في الأحكام الشرعية.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الخامس والسبعون
__________
(1) في الأصل: فيها.
(5/59)
________________________________________
(يوم السبت: 27 / 3 / 1415هـ)

قال المصنف رحمه الله: (ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ويضعهما على ركبتيه مفرجي الأصابع مستوياً ظهره)
قوله: " ثم يركع " لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (1) وقال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (3) في حديث المسيء صلاته، وهو ركن من أركان الصلاة وسيأتي الكلام عليها.
" مكبراً " أي بأن يقول: " الله أكبر " وهي تكبيرة الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يرفع رأسه من المثنى) (4) أي الجلوس أي حين يقوم من الركعتين الأولين في الصلاة الرباعية أو الثلاثية.
__________
(1) الحج: من الآية77)
(2) البقرة: من الآية43
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود (789) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حن يرفع رأسه، ثميفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس "، وأخرجه مسلم (392) .
(5/60)
________________________________________
فهذا الحديث فيه تكبيرات الانتقال.
" رافعاً يديه ": إما حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه.
أما كونه يرفعهما حتى يحاذي بهما منكبيه فلحديث ابن عمر المتقدم، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حين يقوم إلى الصلاة وإذا أراد الركوع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع) (1) .
وأما كونه يرفعها إلى حيال أذنيه فلما روى النسائي بإسناد صحيح إلى مالك بن الحويرث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) (2) .
فكما أنه يستحب له ذلك – أي الرفع إلى حذو المنكبين أو فروع الأذنين – في تكبيرة الإحرام، فكذلك يستحب عند الركوع، وعند رفع اليدين.
- والمشهور في المذهب: أنه يستحب له أن يرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، يستحب ذلك مع تكبيرة الانتقال فيكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه.
وهو مشكل على مذهبهم من أن تكبيرات الانتقال إنما تشرع عند الانتقال وتنتهي بانتهائه، فإذا كبر للركوع فإنه يشرع بالتكبير وينتهي من التكبير إذا انتهى إلى الركوع وهو قائم يقول: الله أكبر، فيمد التكبير حتى يصل إلى الركوع، فيكون الانتقال قد شمله التكبير، وحينئذ يكون الرفع لليدين فيه إشكال.
__________
(1) تقدم صْ 61، حاشية رقم (131) . وهو متفق عليه.
(2) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (36) رفع اليدين للسجود (1085) ، (1086) ، (1087) .
(5/61)
________________________________________
- والأظهر أن رفع اليدين والتكبيرة إنما يشرعان قبل الركوع، فيكبر ويرفع يديه ثم يركع، وهو ما دل عليه حديث أبي حميد الساعدى في سنن أبي داود بإسناد صحيح قال: (ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه ثم يركع) (1) وظاهر ذلك أن التكبير والرفع قبل الركوع.
فعلى ذلك المشروع أن يكبر رافعاً يديه ثم يركع، فيكونان أي التكبير والرفع قبل الانتقال.
(ويضعهما على ركبتيه)
لما ثبت في الصحيحين من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: " ركعت فجعلت يدي بين فخذي أو قال بين ركبتي فنهاني أبي وقال: كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (729) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ح، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى، وهذا حديث أحمد، قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - أخبرني محمد بن عمر بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو قتادة قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة … ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه … ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (118) وضع الأكف على الركب في الركوع (790) بلفظ: " قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: صليت إلى جنب أبي، فطبَّقْتُ بين كفيَّ،ثم وضعتُهُما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وأمرنا أننضع أيدينا على الركب " وأخرجه مسلم (535) .
(5/62)
________________________________________
ويمكنهما من ركبتيه كما في البخاري من حديث أبي حميد الساعدى قال: (ثم ركع فأمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره) (1) أي ثناه.
ويكون كالقابض لهما، لما ثبت في سنن أبي داود وعن أبي حميد الساعدى قال: (ثم أمكن يديه من ركبتيه كأنه قابض عليهما) (2)
(مفرجي الأصابع)
قال أبو حميد – في حديثه المتقدم في أبي داود -: (ثم أمكن يديه من ركبتيه وفرَّج بين أصابعه) (3) .
كما أنه يستحب له أن يجافي يديه عن جنبه، كما في حديثه في أبي داود أيضاً بإسناد صحيح وقال: (ووتَّر يديه فجافي عن جنبيه) (4) " ووتر: أي نحاهما.
قال: (مسوياً ظهره)
__________
(1) أخرجه البخاري في باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) بلفظ: " فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره.. ".أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد - يعني ابن أبي حبيب - عن محمد بن عمرو بن حلْحَلة عن محمد بن عمرو العامري قال: كنت في مجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حميد، فذكر بعض هذا الحديث وقال: " فإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. "
(2) وأخرجه أبو داود في الباب السابق برقم (734) ولفظه: " ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ".
(3) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) بلفظه: " فإذا ركع أمكن كفَّيْه من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. ".
(4) أخرجه أبو داود في الباب السابق (734) ولفظه: ".. ووتَّر يديه فتجافى عن جنبيه.. "
(5/63)
________________________________________
فيكون الظهر مستوياً، وقد تقدم: (ثم هصر ظهره) (1) أي ثناه.
وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته: (وامدد ظهرك) (2) وفي ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) ، وذكره معلقا في باب (120) استواء الظهر في الركوع من كتاب الأذان أيضا.
(2) أخرجه أبو داود في باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رقم (859) قال: " حدثنا وهب بن بقيه، عن خالد، عن محمد - يعني ابن عمرو - عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر … وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدُدْ ظهرك ".
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (16) الركوع في الصلاة (872) قال: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا عبد الله بن عثمان بن عطاء حدثنا طلحة بن زيد عن راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فكان إذا ركع سوَّى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر " قال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف، فيه طلحة بن زيد، قال فيه البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال أحمد وابن معين: يضع الحديث، قلت: وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسند "، وانظر السلسلة الصحيحة (3331) .
(5/64)
________________________________________
ويكون رأسه غير مصوَّب ولا مشخص بل يكون بإزاء ظهره، كما ثبت هذا في حديث عائشة في صحيح مسلم قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) (1) .
(لم يشخصه) أي لم يرفعه، (لم يصوبه) أي لم يخفضه.
كما أن رأسه يكون معتدلاً غير منحرف عن اليمين ولا عن الشمال، ففي أبي داود – من حديث أبي حميد المتقدم -: (ولا صافح بخده) (2) أي قد مال بأحد صفحتي رأسه فظهرت من أحد الجنبين فهذا ليس بمستحب.
قال: (ويقول سبحان ربي العظيم)
كما ثبت في مسلم من حديث حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى ") (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (46) ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح … (498) وهو آخر حديث في هذا الباب، وأخرجه أبو داود في باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وابن ماجه، والإمام أحمد في المسند 6 / 31، 194. المغني [2 / 176] .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) وفيه: ".. ثم هصر ظهره غير مُقنع رأسه ولا صافح بخده.. "
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772) بلفظ: " عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة … ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال …. ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلى) ".
(5/65)
________________________________________
ويستحب أن يكون ذلك ثلاثاً وذلك أدناه ن لما روى أبو داود عن ابن مسعود بإسناد منقطع وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات وذلك أدناه) (1) .
قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم.
وهل يستحب له أن يزيد لفظة (وبحمده) ؟
اختلفت الرواية عن الإمام أحمد:
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (886) قال: " حدثنا عبد الملك بن مروان الأهوازي، حدثنا أبو عامر وأبو داود، عن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه " قال أبو داود: هذا مرسل، عون لم يدرك عبد الله، وأخرجه ابن ماجه والترمذي 261 وقال: " حديث ابن مسعود ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد الله بن عتبة لم يلق ابن مسعود "، وقال المنذري في مختصره: وذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال: مرسل " سنن أبي داود [1 / 550] .
(5/66)
________________________________________
فعن الإمام احمد: كراهية ذلك لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند مقبول، وإنما رواها أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر (1) ، ثم قال أبو داود: " لكن يخاف ألا تكون محفوظة " وفيها رجل لم يسم، وعامة ما ورد من الشواهد لها فهي معللة فلا يصح لها شاهداً.
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بها واختارها المجد بن تيمية ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (870) قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الليث - يعني ابن سعد - عن أيوب بن موسى أو موسى بن أيوب، عن رجل من قومه، عن عقبة بن عامر بمعناه زاد قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: (سبحان ربي الأعلى – كذا في السنن، ولعلها: العظيم - وبحمده) ثلاثا، وإذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) ثلاثا " قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة، قال أبو داود: انفرد أهل مصر بإسناد هذين الحديثين، حديث الربيع وحديث أحمد بن يونس "، وقال الألباني في صفة الصلاة صْ 100: " صحيح رواه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي ". وأخرج في باب (154) مقدار الركوع والسجود (885) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا سعيد الجريري عن السعدي، عن أبيه أو عن عمه قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده) ثلاثا، قال المنذري: السعدي مجهول، سنن أبي داود [1 / 550] .
(2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ في كتاب الأذان، باب (139) التسبيح والدعاء في السجود (817) ، وانظر (794) ، ومسلم (484) .
(5/67)
________________________________________
لكن الأظهر القول الأول، لأنها وإن ثبتت بهذا الحديث المتفق عليه، فإنها لا تثبت مع اللفظ الأول وهو لفظ " سبحان ربي العظيم ".
لكن مع ذلك فإن كراهيتها محل نظر، والأولى تركها لكن إن فعلها فلا بأس بذلك والعلم عند الله تعالى.
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده: ما ثبت في صحيح مسلم: أنه كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (1) وتقدم الحديث المتفق عليه: (وأنه يكثر القول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ركع: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) (3) فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الباب.
إذن: أدنى الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى ثلاثاً.
واختلفت في أتم الكمال:
__________
(1) أخرجه مسلم (487) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (872) .
(2) تقدم قريبا.
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (26) الداء في صلاة الليل وقيامه (771) بلفظ: " عن علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض …، وإذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت …) بنفس اللفظ.
(5/68)
________________________________________
فاحتمل الموفق أن يكون ذلك عشر تسبيحات لما روى أبو داود في سننه عن أنس قال: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني عمر بن عبد العزيز – قال فحرزنا سجوده بعشر تسبيحات وركوعه بعشر تسبيحات) (1) لكن الحديث في إسناده جهالة.
كما أن هذا الركوع الطويل الذي حرز بعشر تسبيحات ليس هناك ما يدل على أنه كان يقول " سبحان ربي العظيم: عشراً، فيحتمل أن يكون قد قال غيره مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا الاحتمال هو قوي لو صح الحديث في مقدار الركوع وهو أن يكون مقدراً بعشر تسبيحات، أما أن يكون لتقدير عدد التسبيحات فهذا محل نظر لما تقدم.
وقال القاضي من الحنابلة: إن كان منفرداً فبحيث لا يسهو. وينبغي – كذلك – أن يقال: ولا يمل، لأن الملل في العبادة غير مشروع، وإن كان إماماً فحيث لا يشق على المأمومين – وهذا ضابط حسن تدل عليه الأحاديث.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في ركوعه لكنا لا نجزم أن ذلك بلفظة " سبحان ربي العظيم " فحسب بل كان – فيما يظهر – يقول غيره مما ورد عنه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (888) قال: حدثنا أحمد بن صالح وابن رافع قالا: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان، حدثني أبي، عن وهب بن مأنوس قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فخَرزْنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات " قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قلت له: مأنوس أو مأبوس؟ قال: أما عبد الرزاق فيقول: مأنوس، وأما حفظي فمأنوس، وهذا لفظ ابن رافع، قال أحمد: عن سعيد بن جبير عن أنس بن مالك "، وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [1 / 551] .
(5/69)
________________________________________
وفي الصحيحين من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان قيامه فركوعه فسجوده فجلسته بين السجدتين فجلسته للتشهد قريباً من السواء) (1) أي معتدلة متقاربة وليس المراد أنها بدرجة واحدة في الطول، وإنما المراد أنها متناسبة في الطول، فإذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وغيره، وإذا خففه خففها فتكون الصلاة معتدلة.
وسيأتي الكلام على القدر المجزئ من الألفاظ في الركوع وفي القدر المجزئ من الركوع في الكلام على أركان الصلاة وواجباتها.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس السادس والسبعون
(يوم الأحد: 28 / 3 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً)
يرفع رأسه من الركوع، ويرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، وتقدم دليل ذلك من حديث ابن عمر وكذلك من حديث مالك بن الحويرث وغيرهما.
وهنا متى يرفع يديه حذو منكبيه هل عند شروعه بالرفع من الركوع أم عندما يستوي قائماً؟
فيه تفصيل على المذهب:
- أما الإمام والمنفرد فيكون ذلك عند الاستواء بالقيام فإذا استويا قائمين شرع رفع اليدين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين (820) بلفظ: " عن البراء قال: كان سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وركوعه وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء ". وفي باب (121) حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة (792) بلفظ: " كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء " وانظر (801) . وأخرجه مسلم (471) .
(5/70)
________________________________________
ودليل ذلك: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: (ثم رفع يديه بعدما رفع رأسه) (1) الحديث متفق عليه.
- أما المأموم فقالوا: يرفع يديه أثناء رفع صلبه، فإذا شرع في رفع صلبه رفع يديه حتى يستوي قائماً قالوا: لأن المأموم لا يشرع في حقه ذكر بعد الاستواء قائماً، فعلى المشهور من المذهب يقول: " ربنا ولك الحمد " إذا شرع بالرفع فينتهي منها إذا استوى قائماً فلا يشرع له حينئذ أن يقول ذكراً بعد رفع رأسه وحينئذ يقارن بين رفع اليدين والذكر.
والراجح: أن المأموم إنما يقول: ربنا ولك الحمد إذا استوى قائماً كالمنفرد والإمام، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (وهو قائم ربنا ولك الحمد) (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) فيدخل في ذلك المأموم ولا دليل يدل على تخصيصه.
__________
(1) تقدم صْ 61، وهو في البخاري بلفظ (737) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه " وبلفظ (735) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا "، وبلفظ (736) " ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع "، وبلفظ (738) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فعل مثله "، وبلفظ (739) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه " وفي مسلم بنحو هذه الألفاظ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود (789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك الحمد، … "، وأخرجه مسلم (392) في كتاب الصلاة، باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. .
(3) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.
(5/71)
________________________________________
وأما قوله صلى الله عليه وسلم – في المتفق عليه – وهو دليل الحنابلة قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به … فإذا قال: " سمع الله لمن حمده " فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (1) فليس في هذا ما يدل على أنه يقول ذلك أثناء رفعه، وإنما فيه أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " بعد قول إمامه: " سمع الله لمن حمده ".
والأدلة الشرعية في الصلاة تدل على أن كل ركن من أركان الصلاة يشرع له ذكر وارد، والرفع من الركوع أسوة غيره من الأركان فيشرع فيه ما يشرع في غيره من قول: " ربنا ولك الحمد ".
إذن: هنا مسألتان: أحدهما تترتب على الأخرى:
الأولى: هل يقول المأموم ربنا ولك الحمد عند شروعه في رفع صلبه إلى أن يستوي قائماً أم يقوله بعد استوائه قائماً؟
قولان: أصحهما أنه يقول ذلك بعد استوائه قائماً.
الثانية: متى يرفع المأموم يديه هل يرفعهما إذا رفع رأسه من الركوع إلى أن يستوي قائماً أو بعد الاستواء قائماً؟
قولان لأهل العلم:
وقد استدل القائلون بأنه يقولهما بعد رفع رأسه من الركوع بأنه يقول: " ربنا ولك الحمد " فكانا مقترنين، والجواب على ذلك من جهتين:
الجهة الأولى: أن يقال: إن الراجح والذي دلت عليه الأدلة أنه إنما يقول: " ربنا ولك الحمد " عند رفع رأسه واستوائه قائماً.
الوجه الثانية: أن يقال: لا تلازم بين الأمرين، فلو ثبت أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " أثناء رفع رأسه، فلا تلازم بينه وبين رفع اليدين، وقد دل الدليل على أن رفع اليدين إنما يكون بعد الرفع من الركوع في الحديث المتقدم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
فالراجح أن المأموم كالإمام يرفع يديه إذا استوى قائماً.
قال: (قائلاً إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) .
(5/72)
________________________________________
أي استجاب الله تعالى حَمْد من حَمِدَه بأن يجازيه على الحمد ويثنيه عليه وهذه اللفظة " سمع الله لمن حمده " يقولها الإمام والمنفرد دون المأموم – هذا هو المشهور في المذهب –.
واستدلوا بالحديث المتقدم وهو ما اتفق عليه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (1)
قالوا: والفاء تفيد التعقيب أي يقول المأموم ذلك عقب قول إمامه " سمع الله لمن حمده " وعليه فلا يشرع أن يقول: سمع الله لمن حمده، لأنه إذا قال ذلك فلم يقلها عقيب قول إمامه، وهو مذهب الجمهور.
- وذهب الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: أن المأموم يقول ذلك ويشرع له.
واستدلوا: بأدلة منها:
ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) فهذا العموم شامل للمأموم كما هو شامل للأئمة والمنفردين (3) .
واستدلوا: بحديث المسيء صلاته في رواية أبي داود وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] : (إنه لا تتم صلاة لأحدٍ من الناس) الحديث وفيه: (ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً) (4) .
وفي هذا الحديث فائدة: وهي أن لفظة " سمع الله لمن حمده " تقال عند رفع الصلب من الركوع إلى أن يستوي قائماً.
قالوا: فهذا الحديث عام في المنفرد والإمام والمأموم.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.
(3) وأصرح منه ما رواه الدارقطني في سننه [1 / 700] باب (39) رقم (1290) قال: " حدثنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا الحسن بن محمد، ثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون، قال: قال محمد: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال من خلفه: سمع الله لمن حمد، اللهم ربنا لك الحمد ".
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (857) .
(5/73)
________________________________________
وأجابوا عن الحديث المتقدم وهو ما استدل به الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) إنما ورد هذا في بيان عدم مشروعية قوله: " ربنا ولك الحمد " من المأموم إلا بعد قول الإمام: " سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يقول: سمع الله لمن حمده.
ونحن قلنا: إن المأموم يشرع له أن يقول: " ربنا ولك الحمد " وهو قائم كما دلت عليه الأدلة الشرعية.
فعليه إذا رفع المأموم صلبه من الركوع حتى يستوي قائماً فقال: " سمع الله لمن حمده " فإن هذا لا يؤثر لثبوت الانفصال فإن الانفصال ثابت سواء سكت أو تلفظ، فسكوته أو تكلمه لا يؤثر في كونه قد قال: " ربنا ولك الحمد " بعد قوله " سمع الله لمن حمده "، فإن الانفصال ثابت في السكوت وعليه فما فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟
والجواب أن يقال: إن فائدته تعليم المأمومين ألا يقول: " ربنا ولك الحمد " إلا بعد قول الإمام " سمع الله لمن حمده " وذلك لثبوت الفصل في ذلك، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له) (1) .
فهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين) (2) ليوافق التأمين تأمين الملائكة ليغفر الله [لهم] (3) ، وليس فيه أن المأمومين لا يقرؤون بفاتحة الكتاب وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (125) فضل اللهم ربنا ولك الحمد (796) ، وانظر (3228) ، ومسلم (409) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) ، وانظر باب (111) جهر الإمام بالتأمين. (780) ، ومسلم (410) .
(3) ليست في الأصل.
(5/74)
________________________________________
والأقوى والأقرب ما ذهب إليه الشافعية وهو الأحوط والعلم عند الله تعالى.
قال: (سمع الله لمن حمده، وبعد قيامهما: ربنا ولك الحمد)
قيامهما: أي قيام الإمام والمنفرد.
" ربنا ولك الحمد " بحذف " اللهم " وزيادة الواو وهي صفة من صفات أربع ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح.
الصفة الأولى: ربنا لك الحمد (1) بحذف الواو، و " اللهم ".
الصفة الثانية: ربنا ولك الحمد (2) : بحذف " اللهم " وإثبات الواو.
الصفة الثالثة والرابعة بزيادة " اللهم وبحذف الواو وبإثباتها " اللهم ربنا لك الحمد " (3) " اللهم ربنا ولك الحمد " (4) هذه صفات واردة رواها البخاري في صحيحه وروى بعضها مسلم.
فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض – وفي رواية في مسلم (ملء السموات وملء الأرض) ، وفي رواية (وما بينهما) - وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " (5)
يقول الإمام والمنفرد هذا التحميد الوارد بعد قيامهما من الركوع بعد أن يستويا قائمين.
قال: (ومأموم في رفعه: ربنا ولك الحمد، فقط) .
هنا مسألتان:
1- المسألة الأولى: أنه يقول ذلك أثناء الرفع قبل أن يستوي قائماً.
__________
(1) البخاري حديث (789) .
(2) البخاري (789) ، ومسلم (392) .
(3) البخاري (796) .
(4) البخاري (795) . وفي مسلم (476) بلفظ " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (477) " ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (476) " اللهم لك الحمد، ملء السموات.. "
(5) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (40) ما يقول إذا رفع رأسه من.. (477) ، (478) .
(5/75)
________________________________________
والراجح أنه يقوله: بعد أن يستوي قائماً لما تقدم وهو مذهب الشافعية.
ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد " وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ، واستثناء المأموم من هذا العموم الشامل له يحتاج إلى دليل ولا دليل.
2- المسألة الثانية: أنه لا يزيد على لفظة " ربنا ولك الحمد " وهو رواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا بما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (2) فأمر المأمومين بأن يقولوا: ربنا ولك الحمد، وظاهره أن المشروع لهم ذلك وأن الزيادة ليس بمشروعة.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه كالمجد بن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية: أن المأموم كالإمام والمنفرد، يزيد ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يزيد ما تقدم.
وأما الحديث الذي استدللتم به فإنه لم يسق لبيان ما يقول الإمام ولا ما يقول المأموم، بدليل أن هذا الحديث فيه قول الإمام: سمع الله لمن حمده، وليس فيه زيادة على ذلك، وكذلك قوله: (ربنا ولك الحمد) فإنما سيق ذلك لبيان أن المأموم لا يشرع له التلفظ بلفظة " ربنا ولك الحمد " إلا عقب قول إمامه: " سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يشرع له الزيادة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم – هذا هو الراجح -.
إذن: الإمام والمأموم والمنفرد في حكم واحد في عامة مسائل هذا الباب، في لفظة (سمع الله لمن حمده) ، وفي الزيادة على لفظة " ربنا ولك الحمد " على الأظهر، وفي وقت الرفع وأن يكون ذلك بعد أن ينتصبوا قائمين، وغيرها.
وهنا مسألة:
صفة وضع اليدين، هل يضع اليد اليمنى على اليسرى أم يرسلهما أم هو مخير؟
ثلاثة أقوال:
__________
(1) تقدما.
(2) تقدم.
(5/76)
________________________________________
نص الإمام أحمد: على أنه يخير بين الإرسال وبين الوضع، وكأنه تردد في إدخال القيام المشروع بعد (1) الركوع في القيام المشروع قبله، لهذا التردد قال بالتخيير.
وهو مذهب الأحناف: أنه يرسلهما، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
أنه يستحب له أن يضع اليمنى على اليسرى كوضعها قبل الركوع، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
واستدل أهل القول الثاني: بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في هذا الباب، حيث لم يثبت فلا يشرع فعليه أن يرسلهما ويبقيهما على طبيعتهما فإن الأصل في طبيعتها الإرسال، ولما لم يرد الوضع فإنا نبقى على الإرسال ويكون هو المشروع وغيره بدعة.
أما دليل أهل القول الثالث - وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد: وهو أرجحها - دليله عمومات الأحاديث ومنها حديث سعد بن أبي وقاص: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (2) رواه البخاري.
وهذه صفة خشوع وتذلل وخضوع لله تعالى، وهذا عام في الصلاة كلها إلا ما استثني من جلوس للتشهد ومن سجود ونحو ذلك، أما الرفع من الركوع والقيام بعده فلا دليل على استثنائه فيبقى في العموم.
وأوضح منه الحديث الذي تقدم وهو حديث وائل بن حجر في سنن النسائي بإسناد صحيح أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله) (3) وهذا عام في كل قيام فيدخل في ذلك القيام بعد الركوع.
__________
(1) في الأصل: بعدد.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في الصلاة (887) . وهو في مسلم (401) بلفظ: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة … ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. ".
(5/77)
________________________________________
ثم إن هذا من باب إلحاق النظير نظيره، فإن القيام بعد الركوع شبيه ونظير للقيام قبله، فكلاهما قيام في الصلاة، وهذه صفة فيها خشوع وخضوع وتذلل لله عز وجل فهي أولى من الإرسال.
إذن: الراجح أنه يضع يده اليمنى على اليسرى كوضعها في الصفات المتقدمة كوضعها قبل الركوع.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس السابع والسبعون
(يوم الاثنين: 29 / 3 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ثم يخر مكبراً ساجداً على سبعة أعضاء)
" يخر ": خر: أي سقط وانكب.
" مكبراً " أي قائلاً الله أكبر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفيه: (ثم يكبر حين يهوى ساجداً) (1) فمن تكبيرات الانتقال التكبير عند الانتقال من القيام بعد الركوع إلى السجود وهو مشروع بينهما، فيبدأ بالتكبير عند انخفاضه وينتهي عند انتهائه.
ولم يذكر المؤلف هنا: رفع اليدين؛ لأن المشهور في المذهب عدم مشروعية ذلك، وأنه لا يشرع الرفع عند السجود والرفع منه.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (ولا يفعل ذلك في السجود) وفي رواية مسلم: (ولا يرفع يديه إذا سجد ولا إذا رفع رأسه من السجود) (2) .
__________
(1) رواه البخاري باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد من كتاب الأذان رقم (803) عن أبي هريرة بلفظ: ".. ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجداً.. "، ومسلم رقم (392) في باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. من كتاب الصلاة بلفظ ".. ثم يكبر حين يهوي ساجداً ".

(2) رواه البخاري باب (83) رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء رقم (735) وباب (84) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رقم (736) ، ومسلم رقم (390) باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. / كتاب الصلاة بلفظ: ".. ولا يرفعهما بين السجدتين " وفي لفظ: " ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ".
(5/78)
________________________________________
- الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين: أنه يشرع له الرفع، وأنه يشرع رفع اليدين في كل خفض ورفع.
وهذا القول هو الراجح ويدل عليه حديث مالك بن الحويرث في النسائي بإسناد صحيح وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) (1) .
والمثبت مقدم على النافي، فحديث ابن عمر ليس فيه إلا النفي وغاية ما عند النافي عدم بلوغ علمه ما نفاه فإذا أتى ما يثبت ذلك فإن هذا المثبت حجة عليه؛ لأنه حفظ ما لم يحفظ وعلم ما لم يعلم.
إلا أن رواية ابن عمر وهو المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم والحافظ لحديثه تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك ذلك أحياناً فعلى ذلك ينبغي أن يكون ذلك مستحباً أحياناً.
فعدم رواية ابن عمر وعدم إحصائه هذا الفعل عند السجود والرفع منه يدل على أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوات كثيرة لم يفعل فيها هذا الرفع، وهذا يدل على أنه لم يكن يداوم على ذلك.
فالراجح: أنه يستحب أن يرفع يديه إذا سجد ورفع رأسه أحياناً.
قال: (ساجداً على سبعة أعضاء رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهة مع أنفه)
في هذه الجملة مسألتان:
المسألة الأولى: فرضية السجود على سبعة أعظم وهي: الجبهة والأنف وهما عضو واحد، واليدان وهما عظمان (2) ، والركبتان وهما عظمان وأطراف القدمين وهما عظمان.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (84) رفع اليدين عند الرفع من السجدة الأولى، رقم (1143) بلفظ: " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك كلَّه يعني رفع اليدين ".
(2) كذا في الأصل.
(5/79)
________________________________________
لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن اسجد على سبعة أعظم الجبهة وأشار إلى أنفه) (1) - وفي رواية النسائي: (الجبهة والأنف) (2) – واليدين، وفي رواية مسلم: (والكفين) والركبتين وأطراف القدمين) .
المسألة الثانية: هي في قوله: (رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته) .
هنا ما ذكره من الترتيب هو الترتيب الطبيعي فالرجلان ثابتتان ثم بعد ذلك الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف هذا هو الذي يقتضيه الهوي والخرور.
لكن السنة قد دلت على أن اليدين مقدمان على الركبتين، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد.
وفي هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول، وهو مذهب عامة الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن المستحب أن يقدم الركبتين على اليدين.
واستدلوا:
بما رواه أبو داود عن وائل بن حجر وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) (3)
__________
(1) رواه البخاري باب (134) السجود على الأنف رقم (812) وانظر (809) ، ومسلم (490) باب (44) أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر.. من كتاب الصلاة.

(2) رواه النسائي في كتاب التطبيق، باب (43) السجود على الأنف رقم (1096) بلفظ: " عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أسجد على سبعة لا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين ".
(3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ رقم (838) ، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحداً رواه غير شريك "،وذكر أن هماما رواه عن عاصم مرسلا لم يذكر فيه وائل بن حجر، وقال النسائي: لم يقل هذا عن شريك غير يزيد بن هارون، من مختصر المنذري، سنن أبي داود [1 / 524] .
(5/80)
________________________________________
وبما رواه ابن خزيمة من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين) (1)
أما أهل القول الثاني، وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أهل الحديث: إلى استحباب تقديم اليدين على الركبتين، واستدلوا بدليلين:
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 100
2469 أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني الفقيه أنبأ أبو محمد بن حيان ثنا بن الظهراني ح وأخبرنا محمد بن أحمد بن زكريا أنبأ محمد بن الفضل بن إسحاق بن خزيمة أنبأ جدي قالا ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن أبي سلمة بن كهيل ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين كذا قال والمشهور عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق والله أعلم
صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 319
628 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين، من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/81)
________________________________________
1- الأول: ما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) (1) قالوا: ركبة البعير، وركبة كل ذي أربع في يديها، ومعلوم أن البعير إذا سجد، سجد في مقدمه ثم بعد ذلك لحقه المؤخر والركبتان في مقدمه كما نص على ذلك صاحب لسان العرب وغيره.
وقد روى البخاري في صحيحه في قصة سراقة بن مالك وفيه قال: (فساخت يد الفرس في الأرض حتى بلغتا الركبتين) (2) فهذا يدل على أن ركبة الفرس وهكذا ذوات الأربع أنها في اليدين، فالبعير ركبتاه في يديه ولا يصح إنكار ابن القيم لذلك في الزاد فإن هذا الإنكار يخالفه ما ثبت في لغة العرب.
ومعلوم أن البعير يخر على ركبته، فنهي المصلي عن ذلك، وزاد ذلك وضوحاً بقوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) وهذا الحديث إسناده صحيح ورواته كلهم ثقات وسنده متصل.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه رقم (840) ، قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا، وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ، وروي فيه خبراً عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد – كذا في النسخة التي بين يدي – قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين ".
(2) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1422 رقم 3696 كذا في الاسطوانة، وفي نسخة عندي رقم (3906) باب (45) هجرة النبي وأصحابه من كتاب مناقب الأنصار، وهو في صحيح مسلم ج: 3 ص: 1592 رقم 2009، كتاب الأشربة بدون ذكر الركبتين، اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/82)
________________________________________
والثاني: ما رواه ابن خزيمة عن ابن عمر: (أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (1) وروى ذلك البخاري في صحيحه معلقاً القسم الموقوف فيه: (أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه) (2) ومعلوم أن ابن عمر كان من أتبع الناس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يغلو في نظر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فكانوا ينكرون عليه، فكان في غاية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا كما هو معلق فقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو القول الراجح.
وأما ما استدل به أهل القول الأول:
فأما حديث أبي داود ففيه شريك بن عبد الله وهو ضعيف إذا تفرد وقد خالف هنا فقد خالف همام وهمام قد رواه مرسلاً، فكان فيه تفرد ومخالفة لذا ضعفه البخاري والبيهقي والدراقطني، فإسناد الحديث ضعيف.
أما الحديث الثاني ففيه إسماعيل بن يحيى وهو متروك.
والصحيح ما تقدم في الحديث المتفق عليه في التطبيق.
فالصواب أن هذا وهم وخطأ بل نكارة لأن الصحيح المشهور هو نسخ التطبيق.
ومن هنا فالراجح مذهب أهل القول الثاني (3)
__________
(2) ذكره البخاري في كتاب الأذان،باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد قبل رقم (803) .
(3) تراجع شيخنا عن هذا القول فقال في شرحه للزاد برأس الخيمة ما نصه: " إذاً: استدلوا بحديث وائل بن حجر، وهو من حديث شريك عن عاصم بن كُليب عن أبيه عن وائل بن حجر، وشريك إذا تفرد بالحديث، فإن الحديث لا يقبل، يعني ضعيف إذا تفرد، وقد روى هذا الحديث همام عن شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه مرسلا، يعني ليس فيه ذكر وائل بن حجر، إذاً: الصواب في هذا السند الإرسال.
فشريك رواه موصولا، وهمام رواه عن شقيق عن عاصم مرسلا.

لكنه ورد من طريق آخر عن وائل بن حجر من حديث محمد بن جُحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وعبد الجبار لم يدرك أباه، وهذا طريق آخر، وعلى ذلك: يكون الحديث حسنا لغيره، فإن الحديث قد ورد عن وائل بن حجر من طريقين، والحديث صححه ابن خزيمة وغيره، وقد صح هذا أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في مصنف ابن أبي شيبة: أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ".
القول الثاني في المسألة، وهو قول المالكية، وقال أبو بكر بن أبي داود: " وهو قول أهل الحديث "، ومراده - كما قال ابن القيم - أي بعض أهل الحديث، فإن أحمد والشافعي وإسحاق على خلافه.
استدل أهل هذا القول بما روى أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، واستدلوا أيضا: بما روى ابن خزيمة أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله.
والأرجح هو القول الأول، وأما الجواب عن الحديثين:
أما الحديث الأول، وهو حديث أبي هريرة (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فأولاً: قوله (وليضع يديه قبل ركبتيه) قد تفرد بها عبد العزيز الدَّروردي عن محمد بن الحسن، وروى هذا الحديث عبد الله بن نافع عن محمد بن الحسن بلفظ (يعمد أحدكم إذا سجد، فيبرك كما يبرك البعير) ولم يقل (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فتفرد بهذه الجملة (وليضع يديه قبل ركبتيه) عبد العزيز الدروردي، وهو كما قال الحافظ: " صدوق يهم " وقال أبو زرعة: " سيء الحفظ "، فقد تفرد بهذه الزيادة، وقد وهم في ذلك، فعلى هذا التقرير، يبقى الحديث (يعمد أحدكم، فيبرك كما يبرك البعير) وليس فيه (وليضع يديه قبل ركبتيه) .
وعليه: فما صورة بروك البعير؟
معلوم أن البعير إذا برك، فإنه يبدأ بمقدَّمه، ويبقى المؤخر منتصبا، سواء كان قلنا أن ركبة البعير في يديه أو أنها في رجليه، فإنه يبدأ بالمقدَّم، ويبقى المؤخر منتصبا.
ثانيا: أن الحديث من أصله – يعني جملة – حديث معلول، فقد أعلَّه الإمام البخاري والدارقطني والترمذي، قال الترمذي رحمه الله تعالى: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " اهـ، فالحديث من حديث محمد بن الحسن عن أبي الزناد، أبو الزناد من المكثرين من الحديث، وهو ممن تدور عليهم السنة، فأين أصحابه عن هذه السنة، حتى يتفرد بها محمد بن الحسن؟! وقد ذكر الإمام البخاري محمد بن الحسن في كتابه في الضعفاء، وقال: " لا يُتابع عليه "، وقال: " لا أدري هل سمع من أبي الزناد أم لا؟ "، فإذا كان ممن لا تعرف روايته عن أبي الزناد، فلا يدري الإمام البخاري رحمه الله، هل سمع من أبي الزناد أم لا، فكيف يتفرد بهذه السنة عن سائر أصحاب أبي الزناد. إذاً: الحديث، كما قال الترمذي: " غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " يعني أين أصحاب أبي الزناد عن هذا الحديث؟! فقد تفرد به من لا يُعرف له عنه سماع، ولم يتابع على ذلك، ولذا كما تقدم أعله البخاري والدارقطني والترمذي، وكذلك حمزة الكِناني، وهو من شيوخ ابن مندة والدارقطني، كما ذكر هذا ابن رجب رحمه الله تعالى. إذاً: الحديث، الصواب أنه معلول.
نأتي إلى الحديث الآخر، وهو حديث ابن عمر عند ابن خزيمة:
الحديث من حديث عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله " وعبد العزيز الدروردي، كما تقدم، صدوق له أوهام، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: " كان يقلب أحاديث عبد الله بن عمر، يرويها عن عبيد الله بن عمر " وهذا الحديث منها، فإن هذا الحديث يرويه عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ولذا قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في هذا الحديث: " لا أراه إلا وهما، والمحفوظ من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا سجد أحدكم، فليضع يديه، وإذا رفع وجهه، فليرفعهما) يعني أن الواجب على من سجد أن يضع يديه كما أنه يجب عليه أن يضع وجهه.
وهذا الأثر قد ذكره البخاري رحمه الله تعالى معلقا موقوفا، ففي البخاري: " كان ابن عمر رضي الله عنه إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه " ولم أقف على سند لهذا، لكن معلقات الإمام البخاري رحمه الله صحيحة إذا جزم بها، ومع ذلك فإن هذا الأثر لم يُغلقه الحافظ ابن حجر في كتابه " تغليق التعليق "، فإنه لم يذكر سند هذا المعلَّق.
إذاً: الصواب أن هذا لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو وهم، وعلى ذلك فالراجح أن المستحب له أن يضع ركبتيه قبل يديه، كما هو مذهب جمهور العلماء. والله أعلم.
(5/83)
________________________________________
وتقدم من ذهب إليه، وقال الأوزعي فيما رواه المروزي عنه: (أدركت الناس وهم يضعون أيديهم قبل ركبهم) (1) وإسناده صحيح.
(والجبهة والأنف)
للحديث المتقدم في قوله: (والجبهة وأشار إلى أنفه) ففرض في السجود أن يسجد المصلي على الجبهة والأنف جميعاً لصحة الحديث الوارد في هذا: وهو أصح الوجهين في المذهب وهو أشهرهما.
قال: (ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده)
فلو سجد وبينه وبين الأرض حائل سواء كان متصلاً أو منفصلاً أي متصل بالمصلي كأن يضع طرف ثوبه فيصلي عليه، أو منفصلاً كأن يأتي بشيء آخر من سجادة ونحوها.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف ثوبه من شدة الحر في مكان السجود) (2) .
وروى البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على قلنسوته وعمامته) (3)
لكن استثنى من ذلك (ليس من أعضاء سجوده) :
فإذا وضع يديه ثم سجد عليها فلا يصح ذلك.
قالوا: لأن هذا الفعل يداخل أعضاء الساجد، فالشارع قد أمره بالسجود على هذه الأعظم السبعة وحيث جعل بعضها فوق بعض فإن ذلك تداخل فيما بينها ويجعلها متفرقة كما أمر الشارع فهو قد أمر بها متفرقة وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد.
__________
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب (23) السجود على الثوب في شدة الحر رقم (385) ، ومسلم رقم (620) .
(3) ذكره البخاري في الباب السابق، ورواه البيهقي في الكبرى [2 / 153] رقم (2667) باب (202) من بسط ثوبا فسجد عليه من كتاب الصلاة. وعبد الرزاق في مصنفه [1 / 400] رقم (1566) في باب السجود على العمامة مختصراً.
(5/84)
________________________________________
* اعلم أن المشهور في المذهب: أنه يسجد ببعض عضوه فإذا وضع أطراف الأصابع في السجود أجزأه ذلك وإن رفع راحتيه.
وذهب بعض الحنابلة كابن حامد وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد: إلى أنه لا يجزئه ذلك – وهذا هو الراجح – لظاهر الحديث، فإن في الحديث: (واليدين) وفي رواية: (والكفين) وحيث سجد على أطراف الأصابع فإنه لم يسجد على الكفين، وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فيجب أن يفعل كله لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) فيدل على أنهم إذا استطاعوا أن يأتوا به كله فلا يجزئهم سوى ذلك.
وهنا أمره - صلى الله عليه وسلم – السجود على الأعضاء السبعة بتمامها وكمالها فلا يجزئه سوى ذلك.
فالراجح أنه لا يجزئه أن يسجد على بعض عضوه بل لابد أن يسجد على العضو كله.
قال: (ويجافي عضديه)
__________
(1) تقدم مراراً.
(5/85)
________________________________________
أي يجافي عضديه عن جنبيه، لما روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي عضديه عن جنبيه) (1) وثبت في الصحيحين من حديث ابن بحينة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى فسجد فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) (2) حتى قالت ميمونة – كما في مسلم -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت) (3) البهمة: صغار المعز.
فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي عضديه عن جنبيه.
ويستحب له أن يرفع مرفقيه ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) (4) .
قال: (وبطنه عن فخذيه)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (900) قال: " حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أحمر بن جَزْء صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى نأوي له " أي نرثي له ونشفق عليه ونرق له، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 555] .
(2) أخرجه البخاري 390، 807، 3564، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (495) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (496) بلفظ عن ميمونة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو شاءت بَهْمَةٌ أن تمر بين يديه لمرت "، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (898) عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى بين يديه حتى لو أن بهْمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت ".
(4) أخرجه مسلم بنفس اللفظ آخر حديث في باب (45) الاعتدال في السجود ووضع الكفين.. من كتاب الصلاة (494)
(5/86)
________________________________________
يستحب أن يجافي بطنه عن فخذيه، وفخذاه عن ساقيه فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه) (1) وفي النسائي وأبي داود بإسناد صحيح عن البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد جخَّ) (2) أي نحى وهي تنحية عامة، فينحي البطن عن الفخذين والفخذين عن الساقين.
قال: (ويفرق ركبته)
للحديث المتقدم حديث أبي حميد الساعدى وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه) (3) ومقتضاه التفريج بين الركبتين أيضاً.
ويستحب له في قدميه أن يضمهما وأن يتوجه بأطراف أصابعه إلى القبلة وأن يرص القدمين بعضهما إلى بعض.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (735) قال: " حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية، حدثني عتبة، حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل الساعدي، عن أبي حميد، بهذا الحديث، قال: وإذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود، والنسائي في باب صفة السجود، من كتاب التطبيق، المغني [2 / 201] .
(3) رواه أبو داود، وقد تقدم قريباً.
(5/87)
________________________________________
يدل على مسألة نصب القدمين: ما ثبت في الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نضع اليدين وننصب القدمين) (1) أي العقبان إلى أعلى وأطراف القدمين إلى أسفل.
وأما استقبال القبلة في الأصابع: فلِما ثبت في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) .
ويستحب أن يفرج بين أصابعه، لما ثبت في الترمذي: (وفتح أصابع رجليه) (3) .
وأما رص القدمين بعضهما ببعض فثبت هذا في ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رص بين قدميه) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين في السجود (277) قال: " حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين " قال أبو عيسى: " وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد – دون أبيه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين مرسل. وهذا أصح من حديث وُهَيب، وهو الذي أجمع عليه أهل العلم واختاروه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد..، المغني [2 / 123] .
(3) سنن الترمذي ج: 2 ص: 106 بلفظ ".. ثم جافى عضديه عن أبطيه وفتح أصابع رجليه.. " في باب (227) منه، رقم (304) ، سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 116 رقم 2551، صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 297 رقم 587، وفي مواضع أخرى، كما في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(4) قال الألباني رحمه الله تعالى في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صْ 109: " الطحاوي وابن خزيمة (رقم – 654 – طبع المكتب) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ". وانظر تلخيص الحبير ج: 1 ص: 256 رقم 385، اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/88)
________________________________________
وأما الكفان فيستحب أن يكونا حيال المنكبين أو يكونا حيال الأذنين أو الوجه، فهنا صفتان:
الأولى: أن تكون الكفان حذو المنكبين ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو منكبيه) (1) .
الثانية: أن يكون حذو أذنيه، فدليله ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو أذنيه) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد سجد بين كفيه) (3) أي جعل وجهه بين كفيه أي قريباً من حيال الأذنين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح الصلاة.المغني [2 / 201] ، ولفظه في باب افتتاح الصلاة (736) : " فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه "، وفي باب رفع اليدين في الصلاة (723) بلفظ: ".. ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه "، وبلفظ (726) ".. فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه.. "
(5/89)
________________________________________
ويستحب أن يضم أصابعه ويستقبل بهما القبلة كما ثبت ذلك في البيهقي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضم أصابعه واستقبل بأطرافهما القبلة) (1)
قال: (ويقول: سبحان ربي الأعلى)
تقدم الكلام على هذا، وذكر الأدلة عليها وذكر ما يستحب ذكره في السجود – في الكلام على لفظة: (سبحان ربي العظيم في الركوع)
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثامن والسبعون
(الثلاثاء: 1 / 4 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرفع رأسه مكبراً)
أي يرفع رأسه من السجود إلى الجلسة بين السجدتين.
" مكبراً ": أي قائلاً: " الله أكبر " لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: (ثم يكبر حين يهوي ساجداً ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود) (2) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، باب يضم أصابع يديه في السجود ويستقبل بها القبلة (2695) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه، ثنا الحسن بن سفيان بن عامر، عن الحارث بن عبد الله بن إسماعيل بن عقبة الخازن، ثنا هشيم، عن عاصم بن كليب، عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع فرج أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه " وقال (2696) : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر، أنبأ عياش بن تميم السكري، ثنا مخلد بن مالك بن جابر، ثنا محمد بن سلمة، عن الفزاري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فوضع يديه بالأرض استقبل بكفيه وأصابعه القبلة ".
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود رقم (789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر … ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه … "، ورواه مسلم (392) .
(5/90)
________________________________________
وهي – أي الجلسة بين السجدتين – ركن من أركان الصلاة وفي حديث المسيء صلاته المتفق عليه: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (1) .
وقد تقدم مشروعية رفع اليدين إلى المنكبين أو فروع الأذنين أحياناً.
قال: (ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه)
أي يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى، وهذه هيئة الجلوس بين السجدتين.
لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة وفيه: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61
(2) صحيح مسلم ج: 1 ص: 357 رقم 498 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو خالد يعني الأحمر عن حسين المعلم ح قال وحدثنا إسحاق بن إبراهيم واللفظ له قال أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا حسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة قالت ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب الحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/91)
________________________________________
وقد ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي في قصة صلاته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها حتى رجع كل عضو موضعه ثم هوى ساجداً) (1) وفيه أنه اطمأن في جلسته.
ويستحب أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه اليمنى – وهي المنصوبة – أن يستقبل بها القبلة كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) يعني في الجلسة بين السجدتين كما هو ظاهر الرواية.
ويضع يديه على فخذيه كما سيأتي في الكلام على وضع اليدين في التشهد، ومثله الجلوس بين السجدتين.
ولا يستحب أن يشير بأصبعه – في الجلسة بين السجدتين – خلافاً لابن القيم، حيث ساق في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة في الجلسة بين السجدتين، ولا دليل على ذلك، وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (3) فإنها رواية شاذة عند أهل العلم، ولم أر أحداً من أهل العلم ذكرها سوى ابن القيم.
قال: (ويقول: رب اغفر لي)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (730) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه …ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد ويسجد ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك.. ". ومعنى يفتخ كما قال الخطابي: يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة، والفتخ لين واسترسال في جناح الطائر.
(2) روى النسائي في كتاب التطبيق، باب (96) الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد عن عبد الله عمر قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى ".
(5/92)
________________________________________
لما ثبت في سنن النسائي: بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) (1) أي يكررها ما شاء الله، فالمستحب هذا اللفظ " رب اغفر لي "
وهو كالمستحب في " سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى " الواجب مرة، وأدنى الكمال ثلاثاً، والمستحب أن يكررها ما شاء بقدر جلوسه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يطيل الجلسة بين السجدتين حتى يقال: قد نسي) يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (لا آلُ (2) أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان – أي أنس – إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي أو وهم وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد وهم أو نسي) (3) في رواية " نسي " وفي رواية أخرى " وهم ".
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (86) الدعاء بين السجدتين رقم (1145) .
(2) كذا في الأصل، وفي البخاري: آلو، بالمد.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين رقم (821) ولفظه: " عن أنس رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي. وانظر (800) ، ومسلم (472) .
(5/93)
________________________________________
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم – من الأذكار في هذا الموضع ما رواه الأربعة إلا النسائي – وهذا لفظ أبي داود – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقول بين السجدتين " رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني ") (1) وفي رواية الترمذي: (واجبرني) (2) في موضع (عافني) وزاد ابن ماجه لفظة (وارفعني) (3) – والحديث إسناده حسن.
وحسن أن يجمع بينهما – أي هذه الألفاظ – لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذان الحديثان الوارد فيهما من باب الدعاء، ومنه يستفاد أن هذا الموضع موضع دعاء، وحيث كان موضع دعاء وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس حتى يقال قد نسي فإن فيه: أنه لا بأس أن يزيد من الأدعية ما شاء من غير أن يتخذ شيئاً من الألفاظ سنة مستحبة في هذا الموضع.
قال: (ويسجد الثانية كالأولى)
أي يسجد السجدة الثانية كهيئة السجدة الأولى فيستحب فيها ما يستحب في الأولى وما يجب من الأقوال والأفعال.
قال: (ثم يرفع مكبراً)
أي قائلاً: " الله أكبر " وقد تقدم هذا في حديث أبي هريرة.
قال: (ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبته إن سهل)
فيها مسائل:
المسألة الأولى: هل يستحب له أن يجلس جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى أو الثالثة أم لا؟
على قولين:
1- القول الأول: وهو مذهب أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يستحب له ذلك لذا لم يذكرها المؤلف.
واستدلوا:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة،باب (145) الدعاء بين السجدتين (850) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (95) ما يقول بين السجدتين رقم (284) .
(3) رواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (23) ما يقول بين السجدتين رقم (898) بلفظ: " عن ابن عباس قال: كان رسو الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني وارفعني ".
(5/94)
________________________________________
بأن أكثر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة لم تذكر هذه الجلسة.
2- القول الثاني: وهو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخلال من أصحابه وذكر أن الإمام أحمد قد رجع إلى القول بها، وهو مذهب أهل الحديث: وأنه تستحب هذه الجلسة.
واستدلوا بحديثين ثابتين:
الحديث الأول: حديث مالك بن الحويرث في البخاري قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً) (1)
الحديث الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي، وقد قاله بمحضر عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو قتاده وقالوا له – لما ذكر صفة الصلاة – من جملتها جلسة الاستراحة قالوا له: (صدقت هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي) وفيه: (ثم ثنى رجليه وجلس حتى رجع كل عضو موضعه ثم نهض) (2) .
قالوا: فهذان الحديثان فيهما إثبات جلسة الاستراحة.
أما حديث أبي حميد: فإنه قد أقره على ذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان،باب (142) من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض رقم (823) وانظر (824) ففيه: قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام، وانظر (677) .
(2) سنن الترمذي ج: 2 ص: 105 باب (227) باب منه رقم 304، قال في خلاصة البدر المنير ج: 1 ص: 136 رقم 451: " حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه وصف صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ثم هوى ساجدا ثم ثنى رجله وقعد حتى يرجع كل عظم موضعه ثم نهض رواه الترمذي وقال حسن صحيح قلت وقول الطحاوي جلسة الاستراحة ليست في حديث أبي حميد غريب منه مع جلالته " انتهى من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله، ولم أجده في سنن أبي داود
(5/95)
________________________________________
وأما حديث مالك بن الحويرث: فإن راويه – وهو مالك بن الحويرث – هو راوي أصل هذا الباب، وهو حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) وقد ذكر فيه جلسة الاستراحة وهذا هو القول الراجح (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. (631) راجع 628، ومسلم (674) .
(2) تراجع شيخنا عن ذلك في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 هـ فقال ما نصه " ومثل هذه المسألة في الخلاف بين أهل العلم، جلسة الاستراحة:
فإن من أهل العلم من استحبها كالشافعية.
ومنهم من لم يستحبها، كالجمهور.
ومنهم من قال: إنها إنما تُفعل عند الحاجة.
من لم يستحبها قال: إن أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها ذكر جلسة الاستراحة، وكذلك ما تقدم عن الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم.
وأما من استحبها، فاعتمد على حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، فإن في البخاري أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا، وفي أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أنه كان إذا قام من السجدة، ثنَى رجله ثم جلس عليها حتى يرجع كل عضو موضعه، قال: ثم نهض ".

أما حديث أبي حُميد، فإن ذكر جلسة الاستراحة فيه وهم، كما قرر هذا ابن رجب في فتح الباري، ولذا قال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث: " ليس لهذا الحديث ثانٍ " أي ليس له من أحاديث الصحابة ما يشهد له، وهذا ليس فيه رد له، لكن المقصود أن سائر الصحابة لم يذكروها، فتفرد بذكرها مالك، فدل على أنها لا تستحب إلا في الحال التي أدركه عليها، ومالك بن الحويرث قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقل، والمعنى يتقضي ذلك: فإن هذه الجلسة للاستراحة، كاسمها عند أهل العلم، فالذي يحتاج إليها، يجلسها، سواء كان مريضا أو ثقيلا. فالأصح، وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد والشافعي، أن هذه الجلسة إنما تستحب عند الحاجة. إذاً: لأهل العلم في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أقربها أن هذه الجلسة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كبُر وثقل، وعلى ذلك فتستحب عند الحاجة ".
(5/96)
________________________________________
أما ما ذكره أهل القول الأول: من أن هذه السنة لم تثبت إلا في هذين الحديثين.
فالجواب: أن هذا في الحقيقة كاف في إثباتها ولا يشترط أن يروي من غير هذين الحديثين بل لو ثبتت السنة في حديث واحد لكانت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقيل وهو اختيار الموفق: يستحب لمن ضعف وكبر. وعليه حمل الحديثان المتقدمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما على كبر.
لكن هذا وإن كان قد يكون واقعاً – فإن مالكاً راوي هذا الحديث قد يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد كبر، لكن هذا لا يعني أنه لا يستحب لغيره.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (صلوا كما رأيتموني أصلي) لم يستثن من ذلك شيئاً، وكانوا قد رأوه وقد جلس جلسة الاستراحة، فلو لم تكن مستحبة لاستثناها النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي حميد حديث مطلق ليس فيه ما يدل على أنه فعله حين الكبر.
كما أن إقرار هؤلاء العشرة وسكوتهم عن روايته وعدم اعتراض أحد منهم على ذلك بأنه قد فعلها حين الكبر، فسكوتهم يدل على أن ذلك سنة مستحبة مطلقاً.
إذن: الراجح سنية جلسة الاستراحة.
ويستحب أن يطمئن بها كما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي: (ثم جلس حتى رجع كل عضو) وهي جلسة لطيفة لم يرد فيها ذكر.
مسألة:
على القول باستحباب هذه الجلسة متى يكون التكبير؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم هي ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية:
الأول: أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم ينهض بلا تكبير.
الثاني: أنه لا يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم يكبر وينهض.
الثالث: أنه يكبر إذا رفع رأسه ويمد تكبيره حتى يجلس ثم ينهض.
وهذا أصحها عند الشافعية وهو المشهور عندهم.
والراجح عدم استحباب ذلك لأن هذه الصفة لو كانت ثابتة لنقلت إلينا لاختلاف الصفة عن غيرها من التكبيرات.
ثم إن هذه الجلسة إنما شرعت لإعطاء البدن شيئاً من الراحة وحيث كان على هذه الهيئة فإنه ينافي هذا.
(5/97)
________________________________________
وأصحها أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير، والذي يدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه من رآه ممن حكى لنا هذا، ولو كان يكبر عن إرادة النهوض لما رويت لنا لعد رؤيتها، وهذا يضعف القول بأنه يكبر عند النهوض.
وقد تقدم تضعيف القول بمد التكبير بحيث يكون شاملاً للرفع والجلسة والنهوض.
فيبقى أصح الأقوال أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير ويؤيده قول أبي هريرة – في الحديث المتقدم -: (ثم يكبر حتى يرفع رأسه) وهذا إنما يصدق على فعله بعد الرفع مباشرة.
وهذا القول هو قول في مذهب الحنابلة.
وقد اختار بعضهم الرواية الأخرى عن الإمام أحمد ورتبوا عليها ذلك كما ذكر الموفق في المغني.
المسألة الثانية:
أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته.
أما قيامه على صدور قدميه، فلما روى الترمذي من حديث خالد بن إلياس وهو متروك الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا نهض ينهض على صدور قدميه) (1) وإسناده ضعيف جداً.
واستدلوا على استحباب اعتماده بيديه على ركبتيه أو فخذيه: بحديث وائل بن حجر في سنن أبي داود: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض ينهض على ركبته واعتمد بيديه على فخذيه) (2)
__________
(1) سنن الترمذي ج: 2 ص: 80 باب 214 باب منه أيضا رقم 288 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا أبو معاوية حدثنا خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه قال أبو عيسى حديث أبي هريرة عليه العمل ثم أهل العلم يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه وخالد بن إلياس هو ضعيف ثم أهل الحديث قال ويقال خالد بن إياس أيضا وصالح مولى التوأمة هو صالح بن أبي صالح وأبو صالح اسمه نبهان وهو مدني " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (736) .
(5/98)
________________________________________
واستدلوا: بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة) (1) .
- وذهب المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن المستحب له أن ينهض معتمداً على يديه.
فإذا جلس للاستراحة أو قام من التشهد الأول فإنه يعتمد على الأرض بيديه.
واستدلوا: بما ثبت في البخاري من حديث مالك بن الحويرث وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا رفع من السجدة الثانية جلس واعتمد بيديه على الأرض ثم قام) (2)
وأما الحديثان اللذان استدللتم بهما:
فالأول: ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه فإنه لم يدرك أباه.
وأما الثاني: فإن مداره على عبد الرزاق صاحب المصنف، وقد رواه الثقات كالإمام أحمد وغيره عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة) (3) وأخطأ بعض الرواة فرواه باللفظ المتقدم.
__________
(1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 260 باب 188 كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / كتاب الصلاة، رقم 992 حدثنا أحمد بن حنبل وأحمد بن محمد بن شبويه ومحمد بن رافع ومحمد بن عبد الملك الغزال قالوا ثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر ثم قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن حنبل أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده وقال بن شبويه نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة وقال بن رافع نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده وذكره في باب الرفع من السجود وقال بن عبد الملك نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة ". اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (143) كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة رقم (824) وفي آخره: " قل أيوب: " وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام " وليس فيه " بيديه ".
(5/99)
________________________________________
إذن الراجح أن المستحب له أن يعتمد بيديه على الأرض فيقوم (1)
__________
(1) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 ما نصه: " وأجاب الحنابلة: بأن أكثر الأحاديث الواردة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر الاعتماد على اليدين، وتفرد بهذه السنة الصحيحة مالك بن الحويرث، وكان من متأخري الإسلام، فقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كبُر عليه الصلاة والسلام، وهذا هو ما يسمى بالعجن، يعني فعل العاجن أو العاجز، يعني إذا قام اعتمد على يديه، فيكون قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقُل، وهذا هو الأصح، وأن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه، ولذا فإن هذه السنة هي الثابتة عن الأكابر من أصحاب النبي كما روى ذلك ابن أبي شيبة، فقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة أن عليا وابن مسعود وابن عمر كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، يعني كانوا إذا قاموا في الصلاة ينهضون على صدور أقدامهم، فعامة الأحاديث في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر الاعتماد على اليدين، وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهضون على صدور أقدامهم، وهذه السنة قد رواها مالك بن الحويرث، وهو من متأخري الإسلام، فدل هذا على أن هذه السنة، إنما تفعل عند الحاجة.

وصورة العجن: أن يضع اليدين على الأرض ثم يقوم، وأما تخصيص الاستحباب بأن يكون كما يضع العاجن – الذي يعجن العجين – فيعجن، فإن هذا التخصيص ضعيف، وأما ما رواه الطبراني في الأوسط، والحربي الحنبلي في غريبه من حديث الهيثم بن عمران، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يعجن يعتمد على يديه إذا نهض في الصلاة، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله " فإن هذا الحديث لا يصح، فإن الهيثم بن عمران لم يوثقه سوى ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكونه روى عنه جماعة، هذا يُقبل حيث لم يأت بسنة غريبة، ولذا فإن هذا الحديث قد أعرض عنه سائر الأئمة، فلم يعتمدوا عليه، وقد قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى فيه: " لا يصح ولا يعرف، ولا يحتج به "، وقال النووي: " ضعيف باطل لا أصل له " ذكر هذا ابن حجر في تلخيص الحبير، ولم يتعقب ذلك، وأول من ذكر هذه السنة هو الغزالي في بعض كتبه، وأنكر عليه أئمة الشافعية، ولما ذكر ابن رجب هذا الحديث في فتح الباري قال فيه: " غريب، والهيثم لا يعرف "، فهذا الحديث حديث ضعيف، وعلى ذلك: فالمستحب له إن قلنا بالاعتماد، أن يعتمد على أي شكل، سواء هكذا أو هكذا، من غير تخصيص باستحبابه، يعني لا نقول: إن المستحب فقط أن يقول هكذا. على أن الراجح أن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه ".
(5/100)
________________________________________
قال: (إن سهل) :
تقدم أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته، يفعل هذا إن سهل.
فإن كان فيه مشقة فإنه يعتمد على يديه دفعاً للمشقة.
وقد أجابوا عن حديث مالك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لكونه كبر وثقل فكان يعتمد على يديه، وقد تقدم الجواب عن نحو هذا.
قال: (ويصلي الثانية كذلك)
فيصلي الركعة الثانية كصلاته الركعة الأولى.
قال: (ما عدا التحريمة)
فإنها تشرع في أول الصلاة.
قال: (والاستفتاح)
لحديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1) أي لم يسكت للاستفتاح.
قال: (والتعوذ)
فإنه يسقط على المشهور في المذهب.
وتقدم أن الراجح أنه يتعوذ كل ركعة للقراءة.
قال: (وتجديد النية)
فإن النية في أول الصلاة شاملة، لأولها ووسطها وآخرها فلا يحتاج إلى تجديد النية فيه.
وقد ثبت في الصحيحين في حديث المسيء صلاته وفيه أنه أمره بقراءة ما تيسر من القرآن ونحو ذلك وفيه: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (2) فيفعل ما ذكر من الواجبات والأركان في الثانية كما فعله في الأولى.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة رقم (599) بلفظ: " سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} ولم يسكت ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . تقدم صْ 61.
(5/101)
________________________________________
ثبت في مسلم جلسة الإقعاء وهي أن ينصب قدميه ويقعد عليهما وهي صفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ابن عباس: (سنة نبيكم) (1) .
مسألة:
إذا كان الإمام لا يجلس جلسة الاستراحة فهل يجلسها المأموم أم لا؟
الجواب: إن جلسها فلا بأس؛ لأنها سنة مستحبة وإن لم يجلسها فهو أولى، قال شيخ الإسلام: " وهذا الأقوى؛ لأن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب " (2) .
__________
(1) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) . وسيأتي صْ 152.
(2) جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ما نصه [22 / 451] : " وسئل: عن رجل يصلي مأموماً ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام، فهل يجوز ذلك له؟ وإذا جاز: هل يكون منقصا لأجره لأجل كونه لم يتابع الإمام في سرعة الإمام؟ فأجاب: جلس الاستراحة قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسها، لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة أو فعل ذلك لأنه من سنة الصلاة، فمن قال بالثاني استحبها، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، ومن قال بالأول لم يستحبها إلا عند الحاجة، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الرواية الأخرى، ومن فعلها لم ينكر عليه، وإن كان مأموماً، لكون التأخر بمقدار ما ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول باستحبابها، وهل هذا إلا فعل في محل الاجتهاد فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده والمبادرة إلى موافقة الإمام فإن ذلك أولى من التخلف، لكنه يسير، فصار مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء، هل يسلم أو يتمه؟ ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب، والله أعلم ".
(5/102)
________________________________________
هذه المسألة لها صور، كأن يتخلف المأموم عن السلام بعد سلام إمامه بدعاء أو نحوه أو يتخلف عن القيام معه لاشتغاله بذكر أو نحوه فالأولى متابعة الإمام وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا كبر فكبروا ….) (1) وظاهره الإسراع والمبادرة بفعله بمجرد ما يفعله الإمام.
إذن: إن فعل ذلك فلا بأس؛ لأن هذا شيء يسير لا يخل بالمتابعة، لكن إن تركها متابعة للإمام فهو أولى.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس التاسع والسبعون
(يوم الأربعاء: 2 / 4 / 1415هـ)

ذكر المؤلف – فيما سبق – تفاصيل الركعة الأولى، وذكر الركعة الثانية مجملة، فيبقى الكلام على التشهد الأول وسننه.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يجلس مفترشاً (يسراه) ويداه على فخذيه …. إلى آخره)
في هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى:
في صفة جلوس التشهد، وهو أنه يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى – كما تقدم – في حديث عائشة (2) وهو ثابت من حديث ابن عمر كما في البخاري (3) ، فالسنة في التشهد أن يجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه.
المسألة الثانية: (ويداه على فخذيه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) ،وقد تقدم صْ 98.
(2) رواه مسلم، وقد تقدم صْ 113.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد رقم (827) ، وكذلك من حديث أبي حميد الساعدي في البخاري رقم (828) .
(5/103)
________________________________________
فاليدان يوضعان على الفخذين، لحديث وائل بن حجر عند الخمسة بإسناد صحيح وفيه: (ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى (1) وحد مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن وقبض اثنتين وحلق، ورأيته يقول: هكذا، وحلق بشر – وهو الراوي – الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة) (2) .
إذن يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بأصبعه السبابة.
وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يضع يديه على الركبتين وأنه يقبض أصابعه كلها ويشير بالسبابة، كما ثبت ذلك في مسلم من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إن قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثاً وسبعين (3) - وهي طريقة الحساب عند العرب - وأشار بالسبابة) (4) .
وهذه الطريقة هي: أن يضم أصابعه الأربع ويشير بالسبابة وفي رواية: (قبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) (5) فهاتان صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: (ويشير بسبابتها في تشهدها)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم وأن يشير بها بلا تحريك أي لا يحرك إصبعه السبابة.
__________
(1) كذا في الأصل وهي موافقة للفظ الحديث كما في أبي داود وغيره.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (180) كيف الجلوس في التشهد (957) ، قال في حاشية سنن أبي داود [1 / 587] : " وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا حديث 867 ".
(3) كذا في الأصل وفوقها كلمة: خمسين، وهي الموافقة للفظ الحديث.
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد / باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين / رقم (580) بلفظ: " ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة ".
(5) رواه مسلم في الباب السابق رقم (580) .
(5/104)
________________________________________
واستدلوا: بأن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا ذكر الإشارة كما تقدم في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد ذلك صريحاً – كما في سنن أبي داود- عن ابن الزبير بإسناد جيد وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يشير بإصبعه ولا يحركها) (1) .
- وذهب المالكية: إلى استحباب تحريك الأصبع.
واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث وائل بن حجر بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يحركها يدعو بها) (2)
والصحيح المذهب الأول، لأن هذا الحديث شاذ فعامة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها التحريك وإنما فيها الإشارة فحسب.
بل قد خالف صراحة حديث ابن الزبير وفيه عدم التحريك بل عامة الرواة عن وائل لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها بعض الرواة.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (186) الإشارة في التشهد رقم (989) .
(2) عزاه الحافظ كما في تلخيص الحبير لابن خزيمة والبيهقي، ولم يعزه لأبي داود، ولم أجده في سنن أبي داود لكن عزاه غير واحد إليه. وقد رواه النسائي - المجتبى ج: 2 ص: 126 باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة رقم (889) وج: 3 ص: 37 باب (34) قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى وعقد الوسطى والإبهام منها رقم 1268، وصحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 354 باب (224) صفة وضع اليدين على الركبتين في التشهد وتحريك السبابة ثم الإشارة بها رقم (714) . اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/105)
________________________________________
ومما يدل على ذلك: ما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مرَّ على رجل وهو يشير بأصبعيه يدعو بهما فقال: (أحِّد أحِّد) وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة) (1)
فإن هذا من جنس من يرفع اليدين للدعاء، فيشير بإصبعه إشارة إلى توحيد الله وأن هو المدعو وحده، وأن الدعاء يوجه إليه دون غيره.

قوله: (في تشهدها)
المستحب عند الحنابلة في المشهور عنهم: أنه يشير بها عند التشهد - وذكر الله – فإذا ذكر الله أشار ثم يعيدها، وكلما ذكر الله أشار.
وعن الإمام أحمد: أنه يشير بها في تشهده كله، فيرفع أصبعه السبابة فيشير بها في تشهده كله.
أما ما ذكره الحنابلة وغيرهم في هذا الباب فلا دليل عليه وظاهر الحديث المتقدم أنه أشار بها في تشهده كله.
والتشهد في الحقيقة دعاء، لأنه ما بين ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهما من مقدمات الدعاء وسؤال المغفرة ونحو ذلك فكله في الحقيقة دعاء.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر: (فأشار بأصبعه فدعا بها) (2) فإذن التشهد كله دعاء.
__________
(1) رواه النسائي في كتاب السهو، باب (37) النهي عن الإشارة بأصبعين وبأي أصبع يشير رقم (1372) بلفظ: " عن أبي هريرة أن رجلاً كان يعدو بأصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحد، أحد) ، و (1373) بلفظ: " عن سعد قال: مر علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة ".
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين رقم (580) بلفظ: " عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها ".
(5/106)
________________________________________
ومعلوم أن الداعي لله عز وجل إذا دعاه فإنه يرفع يديه ويتضمن ذلك ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهما داخلان في الدعاء لأنهما من مقدماته.
فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه من أنه يشير بها في تشهده كله.
ويستحب له أن يديم النظر إليها وحينئذ يكون استثناءً من النظر إلى موضع سجوده، فقد ثبت في المسند وغيره بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يديم نظره إليها) (1)
المسألة الرابعة: (ويبسط اليسرى)
أي يبسطها على فخذه.
أو يلقمها ركبته، فقد صح في مسلم من حديث ابن الزبير وفيه: (وألقم ركبته كفه) (2) فيستحب أن يبسطها على فخذه أو يلقمها ركبته.
قال: (ويقول: التحيات لله ….)
(التحيات لله) بمعنى: البقاء والعظمة والملك والسلامة لله تعالى.
(والصلوات) كلها فرضها ونفلها، والصلاة الشرعية واللغوية وهي الدعاء كل ذلك لله تعالى مستحق له مصروف إليه بل (والطيبات) كلها فكل عمل أو قول طيب فهو إلى الله يوجه ويصرف إليه.
(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) هكذا في الرواية وهو ما كان يعلمه عمر بن الخطاب على المنبر – كما في الموطأ بإسناد صحيح (3) .
__________
(1) رواه أحمد في المسند رقم (6000) ، وفي طبعة برقم (5964) قال: " حدثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري، حدثنا كثير بن زيد، عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه وأتبعها بصره ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لهي أشد على الشيطان من الحديد) يعني السبابة
(2) رواه مسلم في الباب السابق قبل رقم (519) قبل رقم (580) . بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده … ويلقم كفه اليسرى ركبته "
(3) الموطأ / كتاب الصلاة / باب التشهد في الصلاة / رقم (200) .
(5/107)
________________________________________
وذهب كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى القول بعد وفاته: (السلام على النبي) ، كما روى البخاري عن ابن مسعود قال: (لما كان بين ظهرانينا فلما قبض قلنا: السلام) قال البخاري: (يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -) (1) وقد ورد تصريحاً في مصنف ابن أبي شيبة ومستخرج الإسماعيلي: (السلام على النبي) (2) .
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يقولون: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي) (3) .
__________
(1) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2311 رقم (5910) حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف قال سمعت مجاهدا يقول حدثني عبد الله بن سخبرة أبو معمر قال سمعت بن مسعود يقول ثم علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم " اسطوانة مكتبة الحديث، وفي نسخة عندي برقم (6265) باب (28) الأخذ باليدين / كتاب الاستئذان
(3) مصنف عبد الرزاق [2 / 204) رقم (3075) بلفظ:" عن عطاء: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلمون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا السلام على النبي ورحمة الله وبركاته "
(5/108)
________________________________________
والأولى الوقوف على الرواية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لفظ علمه الصحابة في حضرته وغيبته، فهو وهو غائب عنهم يصلون في بيوتهم أو في بواديهم أو في مدنهم الخارجة عن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وفي مساجدهم الخارجة عن مسجده وهم في حكم الغائب عنه، وهو في حكم الميت، لأنه لا يسمع لفظهم، بل وهم يصلون خلفه لا يسمع – من حيث الطبيعة – لا يسمع تسليمهم فإنه في حكم الغائب الميت صلى الله عليه وسلم.
وإذا قلنا: بأنه يسمع كلامهم وهو حي فكذلك وهو ميت كما ورد في الحديث الصحيح: (أنه ما من أحد يمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه فرد عليه السلام) (1) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإن تسليمكم ليبلغني حيث كنتم) (2) .
فحينئذ: لا فرق بين كونه حياً وميتاً، وهذا ما كان عليه عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كان يعلمه بمحضر الصحابة.
وأما ما رواه ابن مسعود وغيره فإن هذا اجتهاد منهم ونظر.
__________
(1) قال في تلخيص الحبير ج: 2 ص: 267: " وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد وأبو داود من طريق أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعا ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب "، رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب (100) زيارة القبور رقم (2041) .
(2) قال في مجمع الزوائد ج: 4 ص: 3 " رواه أبو يعلي وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا وبقية رجاله ثقات " وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسي في مختاره عن علي رضي الله عنه كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى.، ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا … فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) . في كتاب المناسك / باب (100) زيارة القبور رقم (2042) .
(5/109)
________________________________________
فالراجح أنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) .
قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)
هكذا في الرواية المتفق عليها (1) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف مرفوعاً: (وحده لا شريك له) (2) وهي ثابتة في سنن أبي داود موقوفة على ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال: (وزدت وحده لا شريك له) (3) .
إذن: المستحب – كما هو المشهور في المذهب أنه لا يزيد عليها ذلك كما أنه لا يزيد عليها التسمية، فإنها قد وردت من حديث جابر في النسائي وابن ماجه (4) لكنها ضعيفة.
وهذا النوع من التشهد هو أشهرها، وهو تشهد ابن مسعود الثابت في الصحيحين.
__________
(1) صحيح البخاري / كتاب الاستئذان،باب (28) الأخذ باليدين / رقم (6265) ،ومسلم رقم (402) .
(3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (182) التشهد / رقم (971)
(4) أخرجه النسائي في كتاب السهو، باب (45) نوع آخر من التشهد (1281) قال: " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا أيمن بن نابل قال حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار) . قال أبو عبد الرحمن: " لا نعلم أحدا تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، والحديث خطأ، وبالله التوفيق " ورواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (24) ما جاء في التشهد / رقم (902) قال الألباني " ضعيف ". وانظر مصنف عبد الرزاق رقم (3071) [2 / 203] .
(5/110)
________________________________________
فقد صح عنه أنه قال: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) .
وقد اختاره الإمام أحمد مع ورود أنواع أخرى؛ وقد اختاره الإمام أحمد لأنه ثابت في الصحيحين ولأن أكثر أهل العلم عليه، فقد ذكر الترمذي: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على ذلك (2) .
ومع ذلك فإنه – باتفاق أهل العلم – أنه لو قال أي تشهد وارد فإن ذلك يجزئه – قال الإمام أحمد: " وتشهد عبد الله أعجب إلي وإن كان غيره جائزاً ".
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
(2) جامع الترمذي / كتاب الصلاة / باب (99) ما جاء في التشهد / تحت رقم (289) قال: " والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ".
(5/111)
________________________________________
فقد وردت تشهدات أخرى كتشهد ابن عباس في مسلم وغيره (1) ، لكن الإمام أحمد اختار تشهد ابن مسعود لثبوته في الصحيحين ولكونه محفوظاً حفظاً ثابتاً حتى قال الأسود: " كنا نتحفظه من عبد الله كما نتحفظ السورة من القرآن " (2) .
وإن فعل هذا تارة وهذا تارة فهو أولى لثبوت ذلك كله.
قال: (هذا التشهد الأول)
ولا يستحب – كما تقدم - أن تزيد عليه " وحده لا شريك له " ولا التسمية.
أما النقص: فهل يجزئه إذا نقص أم لا؟
قولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه يجزئه ذلك.
فإذا نقص منه بحيث ذكر أصوله فإن ذلك يجزئه، وذلك بأن يقول: " التحيات لله، والسلام عليك أيها النبي والسلام على عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
وهذا القول هو المرجح في المذهب وعليه أكثر أصحاب الإمام أحمد.
القول الثاني في المذهب وهو قول ابن حامد: وأن ذلك لا يجزئه حتى يأتي بالتشهد الوارد بتشهد ابن مسعود أو غيره من الوارد.
وهذا أولى وأحوط.
أما كونه أولى؛ فلأن هذا ذكر والأذكار يجب أن تؤدى كما رويت لذا لا يجوز أن تروى بالمعنى وذلك لأن ألفاظها متعبد بها.
__________
(1) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (16) التشهد في الصلاة / رقم (403) بلفظ: " عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) .
(2) رواه أحمد في المسند رقم (4382) بلفظ: " عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد.. قال: فكنا نحفظ من عبد الله حين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إياه.. "، وانظر المغني [2 / 222] .
(5/112)
________________________________________
وأما كونه أحوط فهو ظاهر، فإنه احتياط في الديانة فهؤلاء يقولون يجزئ، والآخرون يقولون: لا يجزئ، والسنة فعله، فهو الثابت، فالأولى والأحوط أن يقوله كاملاً سواء كان تشهد ابن عباس أو ابن مسعود أو غيرهما.
ولا يستحب له أن يطيل الجلوس بعد التشهد، بل يقوم بعد ذكر التشهد.
ودليل ذلك ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد من طريق أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود ولم يسمع أباه ففيه انقطاع،- وله شواهد سيأتي ذكرها – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف) (1) وهي الحجارة المحماة.
وله شاهد من السنة المرفوعة وهو ما رواه أحمد بإسناد جيد من حديث محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث وفيه: (فإذا كان وسط الصلاة نهض حين يتم التشهد) (2) وله شاهد من السنة المرفوعة وهي سنة أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف عبد الرزاق: (أنه كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف) (3)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (188) في تخفيف القعود / رقم (995) ، وأخرجه الترمذي حديث 366، قال الترمذي: " هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ". سنن أبي داود [1 / 606] .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (4382) في مسند عبد الله بن مسعود قال: " حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عن تشهد رسول الله في وسط الصلاة وفي آخرها عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها … ".
(3) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 263 رقم (3017) حدثنا جرير عن منصور عن تميم بن سلمة قال كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف يعني حتى يقوم ".

ولم أجده في مصنف عبد الرزاق في الاسطوانة، ولم يعزه إليه في تلخيص الحبير حيث قال في ج: 1 ص: 263 ما نصه: " وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف، إسناده صحيح وعن ابن عمر نحوه قال ابن دقيق العيد المختار أن يدعو في التشهد الأول كما يدعو … " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/113)
________________________________________
إسناده صحيح وكذلك رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر.
ويسن له كما تقدم أن يعتمد على يديه إذا أراد القيام، كما هو القول الراجح.
ويستحب له إذا نهض من التشهد الأول أن يرفع يديه خلافاً للمشهور في المذهب، وهذا هو رواية عن الإمام أحمد واختاره المجد ابن تيمية وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدلوا: بما روى البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام من الركعتين رفع يديه) (1) فهذه سنة صحيحة لا يجوز العدول عنها.
ثم يصلي الركعة الثالثة من المغرب والركعتين الأخريين من صلاة الظهر والعصر والعشاء، ويقرأ فيها بفاتحة الكتاب فحسب؛ لحديث أبي قتادة المتقدم: (أنه كان يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) (2)
ويستحب له تارة – كما هو رواية عن الإمام أحمد: أن يقرأ بسورة بعد الفاتحة – كما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين الأخريين على النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وفي الأخريين على النصف من ذلك) (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان / باب (86) رفع اليدين إذا قام من الركعتين / رقم (739) .
(2) رواه البخاري / كتاب الأذان / باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب / رقم (776) , ومسلم رقم (451) .
(3) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (34) القراءة في الظهر والعصر / رقم (452) بلفظ: عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك ".
(5/114)
________________________________________
وحينئذ: تكون قراءته في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر بقدر الفاتحة مرتين أي الفاتحة وسورة.
فهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما قرأ مع فاتحة الكتاب سورة في الركعتين الأخريين من الظهر، وهو جائز ولا حرج فيه، بل يستحب أحياناً.
وقد أشار المؤلف إلى هذه المسائل التي تقدم ذكرها أشار إليها – بعد ذكر جملة من المسائل –
فقال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول)
(نهض مكبراً) للحديث المتقدم – حديث أبي هريرة – في الصحيحين: (وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط) (1) هذا هو المشهور في المذهب وأنه يقرأ بالحمد فقط، فإن قرأ بها وبغيرها فإنه يباح.
بل عن الإمام أحمد استحباب ذلك أحياناً.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثمانون
(يوم السبت: 5 / 4 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
هذا لفظ من الألفاظ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه في الصلاة، وهو أصحها؛ لثبوته في الصحيحين ولذا اختاره الإمام أحمد.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: (قلنا يا رسول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك – في رواية مسلم " إذا نحن صلينا " فقال: قولوا: اللهم صل على محمد ... ) (2) الحديث.
وبأي نوع صليت عليه أجزأك ذلك وفعلت السنة.
* وهل يجزئه أن يكتفي بقول: " اللهم صل على محمد " أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا يجزئه حتى يصلي عليه بالصلاة الواردة، واستدلوا: بورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان المشروع أن يقال كما ورد.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر (4797) (63357) ، ومسلم (406) .
(5/115)
________________________________________
القول الثاني: وهو المشهور عند الحنابلة واختاره الموفق: أنه يجزئه ذلك ولا يشترط أن يأتي به بتمامه بل يجزئه صلاة مطلقة، واستدل: بأن الصلاة الواردة عنه كانت عن سؤال، وما كان طريقه السؤال فليس بواجب، إذ لو كان واجباً لابتدأ به.
فهنا قال ذلك بعد سؤال الصحابة: فقالوا: " قولوا " وليس في هذا وجوب ذلك إذ لو كان واجباً لعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فسكوته عن تعليمهم ذلك حتى يسألوه يدل على أن ذلك إنما هو على وجه الإرشاد والتعليم وليس على وجه الوجوب والشرطية للإجزاء، وهذا القول هو الأرجح وأنه متى قال: " اللهم صل على محمد " أجزأه ذلك.
* ولكن هل يجب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في تشهده أم لا؟
ذهب الشافعية والحنابلة: إلى فرضية ذلك، أما الحنابلة فيوجبونها في التشهد الثاني فقط، وأما الشافعية ففي كل تشهد، واستدلوا: بقوله: " قولوا " قالوا: وهذا أمر والأمر للوجوب.
وذهب المالكية والأحناف: إلى عدم وجوب ذلك، ولكنه سنة.
وهذا القول أظهر؛ لما تقدم من التعليل السابق فإن هذا إنما ورد على هيئة سؤال، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم الصلاة عليه في الصلاة حتى سألوه عنها، وما كان طريقه ذلك فليس بواجب وإنما هو مستحب.
ومع ذلك ففيما قاله الحنابلة قوة، والاحتياط الالتزام بذلك وعدم تركه، بل الاحتياط أن يقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تماماً لا يسقط من ألفاظه شيئاً.

قال: (ويستعيذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال)
(5/116)
________________________________________
لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن [شر] فتنة المسيح الدجال ") (1)
وجماهير العلماء على: أن هذه الاستعاذة أنها سنة في الصلاة.
وعند الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من أهل العلم: أن الاستعاذة على هذه الصفة فرض في الصلاة.
حتى عن الإمام أحمد: أنه يعيد صلاته إن تركها، وهو قول طاووس بن كيسان من كبار التابعين.
واستدلوا: بالأمر الوارد: " فليستعذ "
وذهب جماهير العلماء إلى أنها مستحبة وإن الأمر الوارد فيها إنما هو على وجه الاستحباب.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود وفيه – بعد أن ذكر التشهد – قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (2)
فهذا يدل على أنه لا يجب عليه نوع من أنواع الأدعية أو الاستعاذات وإنما يدعو بما شاء ويتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيكون هذا الأمر من باب الإرشاد، وهذا هو الأظهر.

قال: (ويدعو بما ورد)
__________
(1) هذا لفظ مسلم، أخرجه في كتاب المساجد، باب (25) ما يستعاذ منه في الصلاة / رقم (588) ، وأخرجه البخاري بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال) في كتاب الجنائز / باب (88) التعوذ من عذاب القبر / رقم (1377) ، ورواه البخاري عن عائشة بلفظ مختلف بدون ذكر عذاب النار في كتاب الأذان، وبألفاظ أخرى عنها في أبواب أخرى.
(2) أخرجه البخاري بلفظ: " ثم يتخير " دون اللام. في كتاب الأذان، باب (150) ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب / رقم (835) ، ومسلم (402) .
(5/117)
________________________________________
كما في الصحيحين من حديث أبي بكر قال: (قلت يا رسول الله علمني شيئاً أدعو به في صلاتي فقال: قل " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ") (1)
أو نحوه مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين أيضاً من الاستعاذة من المأثم والمغرم (2) .
وظاهر قوله: " بما ورد " أي بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب لكن هذا غير مراده، إنما المراد ما ورد في الشريعة، كأن يقول: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " و " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " ونحو ذلك مما ورد.
وظاهره أنه إذا دعا بدعاء من ملاذ الدنيا ونعيمها فإنه لا يشرع له ذلك ولا يجوز بل قد صرح فقهاء الحنابلة بأن الصلاة تبطل بذلك، لأنه كلام أجنبي والكلام الأجنبي يبطل الصلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (149) الدعاء قبل السلام / رقم (834) وفي كتاب الدعوات / باب (17) الدعاء في الصلاة / رقم (6326) ، ومسلم رقم (2705) .
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 286 رقم (798) حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) ،ومسلم رقم (589) اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(5/118)
________________________________________
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بذلك، واختاره الموفق من فقهاء الحنابلة، وقد نص عليه الإمام أحمد، وهذا القول هو الراجح، وظواهر الأدلة تدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) وعند البيهقي: (ثم ليدعو بما بدا له) (2) . فظواهرها أنه يتخير من الدعاء أعجبه إليه، والدعاء عام فيما ورد وما لم يرد.

قال: (ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك)
في هذه الجملة ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
أن المستحب أن يسلم عن يمينه وعن شماله فيقول عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله " وعن يساره " السلام عليكم ورحمة الله.
__________
(2) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 142
2656 وأما الرواية عن ابن عمر فأخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن العدل أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي أنبأ محمد بن إبراهيم ثنا بن بكير ثنا مالك عن نافع ثم أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول بسم الله التحيات لله والصلوات الزاكيات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين شهدت أن لا إله إلا الله وشهدت أن محمدا رسول الله يقول هذا في الركعتين الأوليين ويدعو إذا قضى تشهده بما بدا له فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضا إلا أنه يقدم التشهد ثم يدعو بما بدا له فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام عليكم على يمينه ثم يرد على الإمام فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه "، ومالك في الموطأ برقم (204) . الاسطوانة.
(5/119)
________________________________________
ويستحب له في سلامه أن يبدو بياض خده للمأمومين لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم حتى يبدو بياض خده عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره حتى يبدو بياض خده، السلام عليكم ورحمة الله) (1)
المسألة الثانية:
أن الوارد هو لفظة: " السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه وعن شماله في هذا الحديث المتقدم وقد وردت أنواع أخر:
فمن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم عن يمينه بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله) (2)
والنوع الثالث: ما رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم) (3)
__________
(1) رواه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (189) في السلام / رقم (996) بلفظ: " عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خده: السلام عليك ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) . والترمذي حديث 295، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي حديث 1323، وابن ماجه حديث 914، سنن أبي داود [1 / 607] .
(2) لم أجده بهذا اللفظ في سنن أبي داود في باب (189) في السلام / كتاب الصلاة، وإنما هو فيه بلفظ: " عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وعن شماله (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ورقمه (997) ، كذا في النسخة التي بين يدي، لكن في اسطوانة مكتبة الفقه في الحاسب الآلي بدون (وبركاته) في شماله. فليراجع.
(3) رواه النسائي في كتاب السهو / باب (17) كيف السلام على الشمال / رقم (1321) بلفظ: " وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم، عن يساره ".
(5/120)
________________________________________
وهناك صفة رابعة رواها سعيد بن منصور كما في المغني – لكن الاطلاع على سندها غير متيسر لأن الجزء المذكور فيه هذا الحديث لم يطبع ويخشى أن يكون مفقوداً – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي -: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم وعن يساره السلام عليكم) (1) هذه الصفة يتوقف فيها حتى تثبت.
وهناك صفة خامسة لكن الحديث فيها ضعيف: وهي ما رواه الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم تسليمة قبل وجهه يأخذ عن يمينه قليلاً) (2) وقد أعله أبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم من الأئمة المتقدمين.
والحديث من حديث زهير بن محمد ويروي هذا الحديث عن الشاميين وروايته عنهم ضعيفة منكرة فعلى هذا لا يثبت هذا الحديث.
المسألة الثالثة:
__________
(1) المغني لابن قدامة [2 / 245] .
(2) رواه الترمذي / كتاب الصلاة / في الباب الذي بعد باب (105) ما جاء في التسليم في الصلاة، وهو باب (106) منه أيضا رقم (296) قال: " حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التِّنِّيسي عن زُهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئاً " قال: وفي الباب عن سهل بن سعد، قال أبو عيسى: " وحديث عائشة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زُهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير،ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصح. قال محمد: وقال أحمد بن حنبل: كأنّ زهير بن محمد الذي كان وقع عندهم ليس هو هذا الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه. قال أبو عيسى: وقد قال به بعض أهل العلم في التسليم في الصلاة، وأصح الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسليمتان، وعليه أكثر أهلا لعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم ".
(5/121)
________________________________________
- ظاهر قول المؤلف هنا أن هذا السلام يكون عن اليمين وعن الشمال، فيتجه إلى يمينه ويقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ثم يلتفت إلى يساره فيقول: " السلام عليكم ورحمة الله " هذا هو ظاهر قول المؤلف، وهو ظاهر الأدلة الشرعية المتقدمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يسلم عن يمينه "، " كان يسلم عن يساره "، وغيرها، فظاهر هذه الأحاديث ما تقدم.
- وقال ابن عقيل: يبتدئ بالسلام إلى القبلة ثم يلتفت يميناً وشمالاً أي: يقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليمين، " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليسار مبتدئا السلام إلى القبلة ثم يتمه إلى اليمين، ويبدؤه إلى القبلة ثم يتمه إلى اليسار.
وهذا ضعيف لعدم الدليل الدال عليه، ولأن ظاهر الأحاديث المتقدمة تخالفه.
* هل يجزئه أن يقول " السلام عليكم "؟
أما لو صح الحديث المتقدم في سنن سعيد بن منصور فلا إشكال في الجزم بصحة ذلك لثبوت السنة فيه، ولكن تقدم التوقف فيه لعدم معرفة سنده.
واختلف في ذلك على قولين:
1- القول الأول: وهو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية: أنه يجزئه ذلك.
2- قال ابن عقيل من الحنابلة: لا يجزئه ذلك.
قال: لأنه ليس بوارد هكذا، وإنما الوارد بزيادة لفظة: " ورحمة الله " فلم يجزئه لأنه لم يأت بما ورد بتمامه.
واستدل أهل القول الأول: بأن هذا تسليم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) (1)
وبالنظر إلى هذين الدليلين تبين ضعف ما استدل به أهل القول الأول، لأن هذا وإن كان تسليماً لكنه ليس هو الوارد.
لذا قال الحنابلة لو قال: " عليكم السلام " أو " سلام عليكم " لم يجزئه لأنه ليس وارداً؛ وهنا كذلك فإن الوارد أن يقول ذلك بتمامه.
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي، وقد تقدم صْ 3.
(5/122)
________________________________________
لكن يستدل لأهل القول الأول بالحديث المتقدم: الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عن يساره " السلام عليكم ") فحيث أجزأ في التسليمة الثانية فإنه يجزئ في التسليمة الأولى لأن بالهما (1) واحد، فهما تسليم في الصلاة فحيث ثبت في التسليمة الثانية فكذلك في التسليمة الأولى فالراجح إجزاء ذلك: " السلام عليكم "
فهذا هو القدر المجزئ – وأما المستحب فهو أن يسلم بأحد الأنواع الواردة المتقدمة.
* ولو قال: " سلام عليكم " ونحو ذلك من الألفاظ الواردة فإنه لا يجزئه فهو وإن كان تسليماً لكنه تسليم غير وارد والواجب هو الوقوف على هديه.
مسألة:
هل التسليم عن اليمين واليسار واجب أم مستحب؟
قال جمهور العلماء: أن ذلك مستحب فلو سلم تسليمة واحدة أجزأه.
وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض المالكية وهو اختيار القاضي من الحنابلة: أنه لا يجزئه ذلك إلا أن يسلم تسليمتين.
استدل: أهل القول الأول بالحديث المتقدم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسلم تسليمة واحدة. ولكن تقدم ضعف الحديث.
والراجح هو القول الثاني: وأن التسليمتين فرض.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك فيكون فعله بياناً لمجمل قوله: (وتحليلها التسليم)
ولا يثبت ذلك إلا بالتسليم الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بيان لمجمل، وما كان بياناً لمجمل من الفعل فحكمه حكم المجمل.
فقوله " تحليلها التسليم ": كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمتين لم يثبت عنه سوى ذلك، فلم يدع أحد التسليمتين في أي حديث.

قال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول وصلى ما بقي من الثانية بالحمد فقط)
تقدم شرح هذا في الدرس السابق.

قال: (ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً)
هذا هو المستحب في الجلوس بالتشهد الأخير: أن يجلس متوركاً.
__________
(1) كذا في الأصل.
(5/123)
________________________________________
وصفة التورك: أن يقدم رجله اليسرى وينصب اليمنى ويقعد على مقعدته.
لما ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي والحدث صحيح – في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس بعد الركعة الأخيرة قدم اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته) (1) .
فإذا كانت الصلاة ذات تشهدين فيستحب في تشهدها الثاني.
وأما أن كانت الصلاة ذات تشهد واحد، كصلاة الفجر أو السنن التي تصلى مثنى مثنى، فإنه يجلس مفترشاً.
لما تقدم: فإنه ذكر الافتراش ثم ذكر السلام، وظاهره أن الصلاة إذا كانت ذات تشهد واحد فإنه يجلس فيها مفترشاً – هذا هو المشهور في المذهب وأن التورك لا يشرع إلا في الصلاة ذات التشهدين في تشهدها الثاني.
- واستحبه الشافعية في التشهد الأخير من الصلوات كلها سواء كانت ذات تشهد واحد أو تشهدين.
واستدلوا: بعموم الحديث المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعة الأخيرة) الحديث، والركعة الأخيرة تقع في الصلوات ذات التشهد الواحد كما تقع في الصلوات ذات التشهد الثنائي.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (117) افتتاح الصلاة / رقم (730) ، وفي باب (181) من ذكر التورك في الرابعة / رقم (963) بلفظ: " …حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر..) ، وبلفظ (964) : " … فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى وجلس على مقعدته ". والترمذي في كتاب الصلاة / باب (110) رقم (304) بلفظ: ".. حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي بها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم "
(5/124)
________________________________________
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح جلس مفترشاً) (1)
فعلى هذا يكون تخصيص للعموم المتقدم، وأنه إذا كان في الركعة الأخيرة في صلاة ذات تشهدين جلس متوركاً وأما إذا كانت ذات تشهد واحد كصلاة الفجر فإنه لا يجلس متوركاً فيها، بل مفترشاً.

قال: (والمرأة مثله)
فإن النساء شقائق الرجال كما ثبت في مسند أحمد (2) وغيره بإسناد صحيح.
فما ثبت للرجل فهو ثابت للمرأة إلا أن يأتي دليل يخصص الرجل بالحكم، لكن استثنى من ذلك مسائل:
قال: (لكن تضم نفسها وتستدل (3) رجليها في جانب يمينها)
يعني: فإنها إذا جلست في محل التورك فإنها لا تتورك وإنما تستدل (4) رجليها في جانب يمينها. هذا هو المشهور في المذهب.
والأظهر: أن المرأة مثل الرجل مطلقاً في جلوسها ورفع اليدين، لكن يستثنى من ذلك المرأة في حضور الأجانب فإنها – حينئذ – تفعل ما يكون فيه ستر لها فتضم نفسها وتستدل رجليها ولا تبالغ في رفع يديها ولا تجافي يديها ونحو ذلك مما يكون فيه تمام لسترها، كأن تصلي في مسجد مكشوف.
وأما أن كانت لا تقع عليها نظرة الأجانب كأن تصلي وحدها أو بين نساء أو في بيتها بنظر محارمها فإنها في حكم الرجل تماماً إذ لا دليل يدل على التخصيص.
__________
(1) لم أجده في النسائي طبعة بيت الأفكار، ولا في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله، ولم يتطرق إلى هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد [1 / 243، 252] ، ولا الشوكاني في نيل الأوطار [2 / 274] .، ولكن عزاه الألباني رحمه الله في صفة الصلاة صْ 121 للنسائي [1 / 173] ، فالله أعلم.
(2) تقدم.
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: تسدل، كما في النسخ الأخرى للزاد، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله [3 / 302] .
(4) كذا في الأصل، ولعلها: تسدل.
(5/125)
________________________________________
وإنما استثنى ما يكون في نظر الأجانب لأن أصول الشريعة قد دلت على ذلك من النهي عن الفتنة، وقد وردت صور كثيرة على ذلك – كما أن المرأة لا ترمل في طوافها ولا تسرع بين الميلين ونحوه مما يكون ظاهراً للرجال لسد باب الفتنة، وإن كان الأصل أنها تفعل ذلك لفعل الرجال له، لكن استثني من ذلك لما فيه من الستر لها والحفظ من الوقوع في الفتنة بها فكذلك في الصلاة.
وبقيت مسائل: في الذكر الوارد بعد الصلاة وفي التفات الإمام ونحو ذلك سيأتي ذكرها في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الحادي والثمانون
(يوم الأحد: 6 / 4 / 1415هـ)

مسائل في صفة الصلاة وتمامها:
فمن مسائل صفتها:
أنه يستحب إخفاء التشهد أي أن يكون سراً، لما ثبت في أبي داود والترمذي – والحديث صحيح – من حديث ابن مسعود قال: (من السنة إخفاء التشهد) (1) وهو مستحب اتفاقاً.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (185) إخفاء التشهد / رقم (986) عن عبد الله قال: " من السنة أن يخفي التشهد) ، والترمذي حديث 291 وقال: " حديث حسن غريب "، والحاكم في المستدرك ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". سنن أبي داود [1 / 602] .
(5/126)
________________________________________
ويستحب له - في باب السلام – أن يحذفه ولا يمده بل يكون حذفاً، لما روى الترمذي من حديث أبي هريرة قال: (حذف السلام من السنة) (1) لكن الحديث فيه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، لكن عليه العمل عند أهل العلم: حتى قال الترمذي: " لا يعلم بين أهل العلم فيه خلاف" وقال الدارقطني: " والصحيح أنه من قول أبي هريرة فثبوته عن أبي هريرة ولا يعلم له مخالف يحتج به، والمسألة اتفاقية فلا خلاف فيها، فيستحب له أن يحذفه حذفاً.
ومما يكون من تمام الصلاة:
ويستحب للإمام أن ينفتل إلى المصلين مقبلاً بوجهه إليهم لا يخص ناحية دون ناحية، لما ثبت في البخاري من حديث سمرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا صلى أقبل علينا بوجهه) (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (192) حذف التسليم / رقم (1004) من الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حذف السلام سنة) . وأخرجه الترمذي في الصلاة / باب حذف السلام سنة حديث 297، وقال " حسن صحيح ". سنن أبي داود [1 / 610] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (156) يستقبل الإمام الناس إذا سلم / رقم (845) بلفظ: " عن سمرة بن جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه "، وأخرجه مسلم بلفظ: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: (هل رأى أحدٌ منكم البارحة رؤيا؟) [صحيح مسلم / كتاب الرؤيا / باب (4) رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - / رقم (2275) ] .
(5/127)
________________________________________
وينفتل عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى، ففي مسند أحمد بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت عن يمينه وعن يساره) (1) أي وهو متوجه إلى القبلة، في إقباله على المأمومين ينصرف تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار حتى قال ابن مسعود – كما في الصحيحين -: (لا يجعل أحدكم للشيطان نصيباً من صلاته يرى أن حقاً عليه أن ينصرف عن يمينه ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن شماله) وفي مسلم: (أكثر ما ينصرف عن شماله) (2)
لكن في مسلم عن أنس بن مالك قال: (أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه) (3)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند آل العباس رقم (2792) قال: " حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، قال: حدثني ثورٌ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالا ولا يلوي عنقه "، ورقم (2485) قال: " حدثنا الحسن بن يحيى والطالقَاني، قالا: حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي يلتفت يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلفه ظهره ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (159) الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال / رقم (852) بلفظ قال عبد الله: " لا يجعل أحدُكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره "، وأخرجه مسلم (707) .
(3) تقدم.
(5/128)
________________________________________
ومن هنا يكون كل صحابي منهما قد حدث بما رأى، فهذا رأى أن أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وهو إليه، وأنس رأى أن أكثر انصرافه عن يمينه، فعلى ذلك كلاهما سنة ويستحب له أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ويكره أن يرى حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، فإنه حينئذ: يكون قد جعل للشيطان نصيباً من صلاته باعتقاد ما ليس بواجب.
فإذا أقبل على المأمومين: استغفر ثلاثاً وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام "
فقد ثبت في مسلم عن ثوبان قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (1)
وفي مسلم عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) (2)
قال ابن القيم مستدلاً بهذا الحديث أنه يستحب للإمام أن يقول ذلك تجاه القبلة فينصرف إلى المأمومين وقد قال: " اللهم أنت السلام …. إلى قوله: " ذا الجلال والإكرام " أي لا ينصرف عن القبلة إلى المأمومين حتى يقول ذلك واستدل بحديث عائشة: (كان لا يقعد إلا مقدار ما يقول)
وقد سئل عن ذلك الإمام أحمد فقيل له: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقعد إلا مقدار ما يقول " أي لا يقعد إلى القبلة ثم ينصرف فقال: " لا أدري " أ. هـ.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته / رقم (591) بلفظ: " عن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله ".
(2) صحيح مسلم رقم (592) .
(5/129)
________________________________________
والمستحب عند الحنابلة والشافعية: أن ينفتل بمجرد سلامه فيكون قوله: " اللهم أنت السلام … ذا الجلال والإكرام " بعد إقباله بوجهه إلى المأمومين.
والحديث ليس فيه ما يدل على ما ذهب إليه ابن القيم؛ إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول وليس في ذلك أنه لا يقعد تجاه القبلة إلا مقدار ما يقول، فالحديث مطلق وظاهره أنه لا يقعد مطلقاً، أي لا يقعد في مصلاه الذي صلى فيه إلا بمقدار ما يقول، بل ليتعجل في القيام من مجلسه وينفتل عنه منصرفاً، وهذا ما كان عليه أبو بكر كما صح في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح أنه: (كان إذا سلم من الصلاة فقال: السلام عليكم ورحمة الله، انفتل ساعتئذٍ كأنه على الرضف) (1)
إذن الراجح: أن المستحب له ألا يقعد في مجلسه الذي صلى فيه إماماً كان أو مأموماً إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام … ".
هذا ما ذهب إليه الموفق في المغني وظاهر ذلك أنه مذهب الحنابلة وهو المشهور عند الشافعية.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان هناك نسوة يصلين في المسجد فإنه لا يستحب للإمام ولا المأمومين أن ينصرفوا حتى ينصرفن.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف [2 / 242] رقم (3214) في باب مكث الإمام بعدما يسلم، قال: " عبد الرزاق عن معمر والثوري عن حماد وجابر وأبي الضحى عن مسروق: أن أبا بكر كان إذا سلم عن يمينه وعن شماله قال: السلام عليك ورحمة الله ثم انفتل ساعتئذ كأنما كان جالسا على الرضف " قال المحقق: " وأخرجه الطحاوي في التسليم ".
(5/130)
________________________________________
فقد ثبت في البخاري عن أم سلمة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته انصرف النساء اللاتي صلين معه فدخلن في بيوتهن قبل أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم) (1)
وذلك لئلا يختلط الرجال بالنساء فتقع الفتنة، فلذلك يكره أن ينصرف المأموم والإمام قبل انصراف النساء وذهابهن عن المسجد.
ومع ذلك فإنه إن جلس في مجلسه فقد أحسن لما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له اللهم وارحمه) (2) فهذا الحديث يدل على فضيلة الجلوس فإنه فاضل وحسن، وإذا انصرف فقد فعل السنة.
ولو قيل، وهو فيما يظهر لي تفصيل حسن: أنه يستحب للإمام أن ينصرف إذا قال ذلك ويبقى في مجلس آخر في المسجد - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين – أو ينصرف عن المسجد فيسبح الله في طريقه، لأن الحديث المتقدم في النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر وكانا إمامين – هذا ما لم يكن هناك نسوة – وأما المأمومون فإنهم يستحب لهم أن يجلسوا مصلاهم فيذكروا الله فيه - للحديث المتقدم – فإنه فيه الترغيب في ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (157) مكث الإمامفي مصلاه بعد السلام / رقم (850) عن أم سلمة بلفظ: " قالت: كان يُسلِّم فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن، من قبل أن ينصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (61) الحدث في المسجد من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) . وانظر (176) و (477) .
(5/131)
________________________________________
ولمصلحة أخرى وهي أن في استعجال المأمومين في الخروج وقد يكون ذلك قبل خروج الإمام أن فيه مفسدة متوقعة وهي أن يكون في الصلاة نقص، أو أن يحب الإمام إرشاد الناس وتعليمهم فيسبقوه بالانصراف – فلو قيل بهذا التفصيل فهو حسن.
– وفي انصراف الإمام عن مكانه تمام للإخلاص في الذكر وأكثر إقبالاً على الله تعالى.
ويستحب له أن يذكر الله تعالى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما ثبت في مسلم من حديث ابن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) (1)
وثبت في مسلم من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا انصرف من صلاته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (2)
وفي النسائي وابن خزيمة بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) ثلاث مرات.
وفي الطبراني بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير هو على كل شيء قدير) (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (594) .
(2) صحيح مسلم الباب السابق / رقم (593) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (86) كم مرة يقول ذلك / رقم (1343)
(4) قال في فتح الباري ج: 2 ص: 332
زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير إلى قدير ورواته موثقون وثبت مثله في البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف ".
(5/132)
________________________________________
ويستحب له أن يسبح الله ويحمده ويكبره، ويهلله في نوع من الذكر الوارد وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع من الذكر بعد صلاته المكتوبة وهي:
1- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين؛ لما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة من حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور ... ) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) وفي رواية قال بعض الرواة: (حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثون (1)) (2) .
2- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويقول: تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ؛ لما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، وقال: تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (3)
__________
(1) كذا في الأصل،ولعل الصواب: " ثلاثاً وثلاثين " كما في البخاري.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم (843) ، وفي كتاب الدعوات / باب (18) الدعاء بعد الصلاة / رقم 6329. وأخرجه مسلم رقم (595) باختلاف.
(3) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (597) بلفظ: " عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون،وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) .
(5/133)
________________________________________
3- أن يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين. لما ثبت في مسلم من حديث كعب بن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن يسبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين) (1)
4- أن يسبح الله عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، وهو ثابت في مسند أحمد وسنن الأربعة بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان أو خلتان من حافظ عليهن دخل الجنة هما قليل ومن يحافظ عليهن قليل أن يسبح الله دبر كل صلاة مكتوبة عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، فذلك مائة وخمسون باللسان وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر الله أربعاً وثلاثين عند مضجعه ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويسبحه ثلاثاً وثلاثين فذلك مائة باللسان وألف في الميزان) (2)
5- أن يسبح الله خمساً وعشرين ويحمده خمساً وعشرين ويكبره خمساً وعشرين ويهلله خمساً وعشرين.
__________
(1) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم (596) بلفظ: "عن كعب بن عجرة عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال: (معقبات لا يَخيبُ قائلهن أو فاعلهن، دُبُرَ كل صلاة مكتوبة، ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) وفي لفظ: " معقبات لا يَخيب قائلهن أو فاعلهن ثلاث وثلاثون تسبيحة،وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة ".
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الأدب / باب (109) في التسبيح عند النوم / رقم (5095) ، والترمذي في الدعوات حديث 3410 باب كم يسبح بعد الصلاة – في نسخة: باب منه، وهو بعد: باب ما جاء في التسبيح والتكبير والتحميد عند المنام - وقال: " حسن صحيح "، والنسائي في الافتتاح حديث 1349 باب عدد التسبيح بعد التسليم. ولم أجده في فهرس ابن ماجه.
(5/134)
________________________________________
لما ثبت في الترمذي والنسائي بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره أربعاً وثلاثين فرأى رجل من الأنصار أن قائلاً يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمكم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين وتكبروه أربعاً وثلاثين فاجعلوها خمساً وعشرين واجعلوا فيها التهليل) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اجعلوها كذلك) وفي رواية: (فافعلوا) (1)
وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على النوع المتقدم من أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين، والله أعلم.
ويستحب له أن يقرأ آية الكرسي لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (25) منه / رقم 3413 بلفظ: " عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أُمرنا أن نسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمده ثلاثا وثلاثين ونكبره أربعا وثلاثين، قال: فرأى رجل من الأنصار في المنام، فقال: أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدوا الله ثلاثا وثلاثين وتكبروا أربعا وثلاثين؟ قال: نعم، قال:فاجعلوا خمسا وعشرين، واجعلوا التهليل معهن، فغدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه، فقال: (افعلوا) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قال صاحب الطبعة: " ولم يذكر في النسخ ولا ذكره المزي ".
(2) السنن الكبرى ج: 6 ص: 30

9928 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا ان يموت " الاسطوانة.
الحسين بشر الطرسوسي: لا بأس به، التقريب.
محمد بن حمير: صدوق.
محمد بن زياد: هو الألهاني الحمصي، ثقة من الرابعة، وقد روى عن أبي أمامة كما في تهذيب الكمال.
عمل اليوم والليلة ج: 1 ص: 182
ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة 100 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال آح حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
وصحح الحديث ابن حبان كما في نيل الأوطار.
(5/135)
________________________________________
وعند الطبراني: استحباب قراءة " قل هو الله أحد " (1) وإسناده صحيح بعد كل صلاة.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي من حديث عقبة بن عامر قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة) (2)
__________
(1) مجمع الزوائد ج: 10 ص: 102
وفي رواية وقل هو الله أحد " رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد. الاسطوانة.
(2) لم أجده في أبي داود، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن / باب (13) ما جاء في فضل قارئ القرآن / رقم (2903) فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حَبيب، وقد عنعن. قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب ". سنن النسائي - المجتبى ج: 3 ص: 68
80 باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1336
السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 397
التكبير بعد تسليم الإمام 1258 أخبرنا بشر بن خالد العسكري أنا يحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن بن عباس قال ثم إنما كنت أعلم انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1259 أخبرنا محمد بن سلمة نا بن وهب عن الليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال ثم أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة الاستغفار بعد التسليم
صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 372
8 باب الأمر بقراءة المعوذتين في دبر الصلاة 755 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر قال قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فأخبرني أن أباه أخبرهم قال أخبرنا الليث وحدثنا الحسن بن محمد وحدثنا عاصم يعني بن علي حدثنا ليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح وفي حديث بن عبد الحكم عن علي بن رباح عن عقبة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة لم يقل الحسن بن محمد لي.
صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 344

ذكر الأمر بقراءة المعوذتين في عقب الصلاة للمصلي 2004 أخبرنا بن خزيمة قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبيه عن الليث بن سعد عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة.
(5/136)
________________________________________
والظاهر أن ذلك عام في الصلوات المكتوبة كلها، وأما مضاعفة ذلك في صلاة المغرب والفجر فالظاهر أن ذلك ليس لصلاة المغرب والفجر، وإنما ذلك للمساء والصباح فهو من أذكار الصباح والمساء.
ويستحب له أن يعقد التسبيح والتحميد والتكبير – بيده اليمنى لما ثبت في الترمذي والحاكم بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه) (1)
ويستحب أن يكون عقده بأنامله لما ثبت في أبو داود ومسند أحمد والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات) (2)
والأنامل: جمع أنمله وهي أعلى الإصبع.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (359) التسبيح بالحصى / رقم 1502. أخرجه البيهقي رقم (2850، الاسطوانة) ، وفي الترمذي عن عبد لله بن عمرو: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده " كتاب الدعوات / باب (71) ما جاء في عقد التسبيح باليد / رقم (3486) وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب "، ولم أجد لفظة: " بيمينه " في الترمذي والحاكم في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة /باب (359) التسبيح بالحصى / رقم (1501) عن يُسَيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يُراعين التكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ". وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (120) في فضل التسبيح والتهليل والتقديس / رقم (3583) بلفظ: " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ولا تغفلن فتنسين الرحمة " قال: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث هانئ بن عثمان، وقد رواه محمد بن ربيعة عن هانئ بن عثمان "، ورواه الترمذي أيضا تعليقا (3486) بلفظ: " يا معشر النساء اعقدن بالأنامل … ".
(5/137)
________________________________________
وإن عقد بأصابعه فلا بأس، فيكون من باب ذكر البعض وإرادة الكل، وإن عقد بأنامله فهو أولى لموافقة اللفظ.
* ولا يستحب له أن يكون بغير الأنامل كأن يعقد بحصى ونحوها.
* وهل يستحب له أن يرفع صوته بالذكر بعد الصلاة المكتوبة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
1- مذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المستحب له أن يسر به، للحديث المتفق عليه وأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصحابه في سفر وقد رفعوا أصواتهم بالذكر فقال: (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ... .) (1) .
قالوا: فهذا يدل على أن المستحب هو خفض الصوت بالذكر وعدم الرفع فيه.
2- وذهب طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى استحباب رفع الصوت بالذكر.
واستدلوا: بالحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس قال: (كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) (2)
قالوا: فهذا الحديث واضح ظاهر في مشروعية ذلك، فهذا ابن عباس يخبر أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحيث كان على عهده صلى الله عليه وسلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقره، وحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره من أصحابه فيبعد أن أصحابه كانوا يفعلونه من تلقاء أنفسهم وإنما كانوا يقتدون به عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول هو الراجح لهذا الحديث المتفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي / باب 38 غزوة خيبر / رقم (4205) ، وفي كتاب الجهاد والسير / باب (131) ما يكره من رفع الصوت في التكبير / رقم (2992) . وفي مواضع أخرى، وأخرجه مسلم رقم (2704) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم (841) ، (842) . ومسلم (583) .
(5/138)
________________________________________
وأجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فحيث اُحتيج إلى التعليم استحب وإلا فلا.
والجواب على ذلك: إنه لا دليل على ذلك، بل الحديث فيه أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عامة وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فهذا تقييد لا دليل عليه.
ثم لو كان المراد منه التعليم، وسلمنا أن التعليم يحتاج إلى فترة زمنية محددة لما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كله ولاكتفى برفع الصوت بقدر التعليم، فلما تعلم الناس اكتفى عن ذلك.
كما أن التعليم لا يحتاج إلى أن يرفع الناس أصواتهم بالذكر، بل إذا اكتفى الإمام برفع صوته بالذكر اكتفى بذلك ولم يشرع لبقية الناس.
ثم إنَّا لا نسلم أن التعليم يكتفى به لفترة زمنية محدودة بل الناس محتاجون إلى التعليم، والتعليم في كل زمن، فلا يخلو زمن من جاهل يحتاج إلى تعليم الذكر الوارد.
فإن قيل: إن فيه تشويشاً على المتم صلاته؟
فالجواب: أن هذا الوقت حق لهذا الذاكر فإن الأصل أن يصلي المأمومون مع الإمام فينصرفوا جميعاً، أما هذا المتم صلاته فإن الأصل فيه أن ينصرف مع الناس.
الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي وأبي داود بإسناد صحيح من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (361) في الاستغفار / رقم (1522) بلفظ: " يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فلقال: (أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأخرجه النسائي دون ذكر الوصية في الافتتاح باب الدعاء حديث (1304) .
(5/139)
________________________________________
* متى يقال هذا الدعاء ونحوه قبل السلام أم بعده؟
في ذلك قولان:
الأول: أنه يقوله بعد سلامه لظاهر قوله: " دبر كل صلاة "
والثاني: أنه يقوله بعد تشهده قبل السلام، وهذا القول هو الراجح، وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وإنما رجح ذلك:
لأن دبر الصلاة يطلق ويراد به آخرها مما هو منها، ويطلق ويراد به ما بعدها، كما أن دبر كل شيء كذلك، فدبر كل شيء هو آخره أو هو ما بعده.
وإنما رجحنا هنا: أن يكون بمعنى آخرها قبل سلامها: لأن الدعاء الأولى فيه أن يكون حال الإقبال على الله ومناجاته وإنما هذا قبل سلامه، فلا يليق أنه إذا انصرف وسلم وأقبل على المخلوقين بعد انصرافه من خطاب الله تعالى أن يدعو الله بل اللائق أن يدعو الله قبل سلامه، لذا في الحديث بعد التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1)
استدراك:
الإجابة على ما استدل به الجمهور في عدم سنية رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة؟
أن يقال: هذا حديث عام وحديثنا خاص، والمقرر هو الإسرار كالنية فإن المقرر فيها أن تكون في القلب وألا يتلفظ بالمنوي به، هذه قاعدة لكن وردت النصوص بالتلفظ بالنية في الأضحية والحج فنخصص ذلك ويكون هذا لمعان رجحت ذلك.
وهنا كذلك، فإن الأصل بالذكر أن يكون بصوت خافض لأنه هو الأليق، فإن الله ليس بأصم ولا غائب.
لكن في هذا الموضع رجح رفع الصوت بالذكر لمعان منها:
إظهار هذه الشعيرة ومعرفة الناس انصراف الإمام بذلك، فقد يكون صوت الإمام غير واضح بسلامه فيسمع برفع الصوت بالذكر ونحو ذلك من المعاني، وأظهرها إظهار هذه الشعيرة.
فهذه معان رجحت الرفع على الخفض.

وبهذا انتهى من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
والحمد لله رب العالمين
فصل
الدرس الثاني والثمانون
(يوم الاثنين: 7 / 4 / 1415هـ)

هذا فصل في مكروهات الصلاة وشيء من مستحباتها، وكذلك البحث في مبطلاتها.
__________
(1) تقدم.
(5/140)
________________________________________
قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة التفاته)
المكروه هو: ما يثاب العبد على تركه امتثالاً، ولا يأثم على فعله.
فيكره في الصلاة الالتفات، أي أن يلتفت عن يمينه وشماله برأسه وهذا باتفاق أهل العلم.
أما الالتفات ببدنه فهذا مبطل للصلاة؛ لأنه ينقل عن القبلة، فإذا التفت حتى استدار عن القبلة وانحرف عنها فصلاته باطلة.
أما الالتفات برأسه فإنه مكروه كما تقدم، لما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (1) والاختلاس هو الاختطاف بسرعة.
وفي أبي داود – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه) (2) فهذا يدل على كراهيته.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم (751) ، وانظر (3291) .
(2) أخرجه أبوداود بنفس اللفظ في كتاب الصلاة / باب (165) الالتفات في الصلاة / رقم (909) ، والنسائي، وفي سنده أبو الأحوص، لا يعرف له اسم، وهو مولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار، ولم يرو عنه غير الزهري،قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو أحمد الكرابيسي:ليس بالمتين عندهم (من مختصر المنذري) . سنن أبي داود [1 / 560] .
(5/141)
________________________________________
والذي يدل على جوازه للحاجة وزوال الكراهية بها كأن يسمع صوتاً أو حركة فيحتاج إلى الالتفات؛ ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث سهل بن الحنظلية قال: (ثُوِّب بالصلاة – يعني صلاة الصبح – فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب) قال: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس " (1)
فهو مكروه ليس بمبطل للصلاة وهذا مذهب عامة أهل العلم لكن هذه الكراهية تزول حيث اُحتيج إليه.

قال: (ورفع بصره إلى السماء)
أي يكره رفع بصره إلى السماء وهو يصلي، لما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو ليتخطفن أبصارهم) (2)
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (168) الرخصة في ذلك / رقم (916) قال: " حدثنا الربيع بن نافع، حدثنا معاوية، يعني ابن سلام عن زيد، أنه سمع أبا سلام قال:حدثني السلولي - هو أبو كبشة – عن سهل بن الحنظلية قال: " ثُوِّب بالصلاة، يعني صلاة الصبح، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس. والحنظلية: أمه وقيل:أم جده، وسهل: هو سهل بن الربيع. سنن أبي داود [1 / 563] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (92) رفع البصر إلى السماء في الصلاة / رقم (750) بلفظ: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) .
(5/142)
________________________________________
ورواه مسلم من حديث أبي هريرة نحوه (1) ، ورواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة وفيه: (لينتهون (2) عن ذلك أو لا ترجع إليهم) (3) وهذا الحديث ظاهره فوق الكراهية، فإن ظاهره التحريم وهو قول في مذهب أحمد، وهو مذهب الظاهرية ومذهب الظاهرية أن الصلاة تبطل به.
والراجح أنها لا تبطل فهو محرم لا تبطل الصلاة به.
أما كونه محرماً فلظاهر الحديث المتقدم، فإن فيه وعيداً ولا يكون الوعيد إلى على فعل محرم.
لكنه لا تبطل به الصلاة خلافاً للظاهرية لأن النهي لا يعود إلى ذاتها، فالصلاة قد ثبتت بشروطها وأركانها وهذا خارج عن ذاتها.
إذن الراجح: أنه محرم كما هو قول في المذهب وهو مذهب الظاهرية، والراجح عدم بطلان الصلاة به وهو قول في المذهب خلافاً للظاهرية.

قال: (وتغميض عينيه)
فيكره في الصلاة تغميض عينيه، فالمستحب له أن يفتحهما واستدلوا: بمجموع الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل وفيها دلالة على أنه كان يفتح عينيه في الصلاة فمن ذلك: أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (26) النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة / رقم (329) بلفظ: " ليَنتَهِيَنَّ أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ليَنْتَهينّ، كما في مسلم.
(3) في الباب السابق /رقم (428) بلفظ: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم) .
(4) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 283
402 باب لا يجاوز بصره موضع سجوده رقم (3354) وما بعده. سنن البيهقي الكبرى ج: 5 ص: 158

9507 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عيسى بن زيد بن عبد الجبار بن مالك اللخمي بتنيس ثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي ثنا زهير بن محمد المكي عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة ثم كانت تقول عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف يدع ذلك إجلالا لله وإعظاما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ".
صحيح ابن خزيمة ج: 4 ص: 332
389 باب الخشوع في الكعبة إذا دخلها المرء والنظر الى موضع سجوده إلى الخروج منها رقم (3012) .
فتح الباري ج: 2 ص: 232
وقال الشافعي والكوفيون يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب للخشوع وورد في ذلك حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين ورجاله ثقات وأخرجه البيهقي موصولا وقال والجواب هو المحفوظ وفيه أن ذلك سبب نزول قوله تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للأمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام والله أعلم.
(5/143)
________________________________________
، وكذلك أنه كان يرمي ببصره إلى إشارته (1) وكذلك الحديث المتفق عليه في قصة انبجانية أبي جهم وفيه: (فنظر إلى أعلامها نظرة) (2) وكذلك حديث سهل بن الحنظلية المتقدم، فهذه الأحاديث وغيرها بمجموعها تفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفتح عينيه فيها.
وكرهه الإمام أحمد وغيره من أهل العلم؛ لكونه من فعل اليهود كما قال الإمام أحمد وسفيان بن عيينة وغيرهم.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 355
227 باب النظر إلى السبابة ثم الإشارة بها في التشهد 718 أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا بندار نا يحيى بن سعيد نا بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة لا يجاوز بصره إشارته ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (14) إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى عَلَمِها / رقم (373) ، وفي كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم (752) ، وأخرجه مسلم (556) .
(5/144)
________________________________________
فعلى ثبوت ذلك وهو قول هؤلاء الأئمة الذي يتلقى خبرهم بالقبول - على قولهم - يكون ذلك محرماً لأن التشبه باليهود وغيرهم من الكفار محرَّم، لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) (1)
- وذهب طائفة من أهل العلم – كما قال ذلك ابن القيم في زاد المعاد –: إلى إباحة ذلك.
واختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة:
فقال: إن كان الخشوع يثبت مع فتح عينيه فهو المستحب له، ولا يغمض عينيه.
وإن كان أمامه شيء يحول بينه وبين الخشوع كزخرفة وبريق ونحوه يشوش عليه صلاته وكان في تغميض عينيه خشوع فهو المستحب له قطعاً، واستحبابه أقرب إلى مقاصد الشرع من القول بكراهيته.
قال شيخنا حفظه الله: " والذي تميل إليه النفس ما ذهب إليه أهل القول الأول مع ثبوت ما ذكروه من فعل اليهود، وحيث كان ذلك فإنه لا يشرع مطلقاً، بل القول بتحريمه أظهر لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) "
ومعلوم أن المصلي غالباً تحول بينه وبين القبلة لا سيما إذا كان في فضاء ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفتح عينيه.
ومع ذلك فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي فتح العينين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة (4031) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه، ولفظه (بعثت بالسيف بين ... ) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد. وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان، قال العراقي: سنده ضعيف، (من تعليق محي الدين عبد الحميد) ، سنن أبي داود مع المعالم [4 / 314] . وقد تقدم في الطهارة.
(5/145)
________________________________________
فالأظهر أن ذلك مكروه مطلقاً بل القول بتحريمه قول قوي؛ لأنه من فعل اليهود وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)
قال: (وإقعاؤه)
فيكره ذلك أي الإقعاء.
وصفته: عندهم: أن يجلس على عقبيه فقالوا: هذا مكروه.
وأما إقعاء الكلب وهو أن يجلس على أليته (1) وينصب فخذيه فهو مكروه اتفاقاً لحديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) (2) وهو إقعاء الكلب كما فسره أبو عبيدة وغيره.
أما الإقعاء المتقدم – وهو أن يجلس على عقبيه فهو مكروه عند الحنابلة، واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقعاء بين السجدتين) (3) .
والصحيح عدم كراهية ذلك وعليه عمل العبادلة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه ثبتت السنة فقد ثبت في مسلم من حديث ابن عباس: أنه قال له طاووس وسأله عن الإقعاء فقال: (هو السنة، فقال: إنا نراه من جفاء الرجل فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) (4) .
فهو إذن من السنن الثابتة – وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد – خلافاً للرواية الأخرى المشهورة.
__________
(1) الأَلْيَة: إحدى الأليتين، وهما: العجيزة أو ما رَكِبَها من شحم ولحم. (ج) : أَلاَيا. المعجم الوجيز.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (46) ما يجمع صفة الصلاة … / رقم (498) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (22) الجلوس بين السجدتين / رقم (894) عن علي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقع بين السجدتين) قال الألباني " ضعيف ". ورقم (895) بلفظ (يا علي لا تقع إقعاء الكلب) قال الألباني: " حسن ".
(4) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) ، وقد تقدم صْ 121.
(5/146)
________________________________________
ويكره له أن يعتمد على يديه في الصلاة، لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يقعد الرجل في الصلاة معتمداً على يديه) (1) وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر: (رأى رجلاً وهو يصلي وقد اعتمد على يده اليسرى ومال إلى شقه الأيسر فقال: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون) (2) فهذه الجلسة في الصلاة منهي عنها وهي أن يجلس معتمداً على يديه أو أحدهما.
قال: (وافتراش ذراعيه ساجداً)
تقدم أن الصفة المستحبة في السجود أن يضع كفيه ويرفع مرفقيه.
فإذا افترش ذراعيه بأن يضع مرفقيه على الأرض باسطاً ذراعيه فإن هذا مكروه عند الحنابلة لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) (3) وظاهره تحريم ذلك.
قال: (وعبثه)
يكره في الصلاة أن يعبث بيديه أو ثوبه أو نحو ذلك؛ لأن في ذلك منافاة للخشوع، وحيث كان كذلك كان مكروهاً وهذا باتفاق أهل العلم.
وهذا ما لم يكن هذا العبث كثيراً يخرجه عن الصلاة فإنه يكون مبطلاً لها – كما سيأتي تقريره إن شاء الله.
قال: (وتخصره)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / رقم (992) .
وفي مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 197
3054 عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه ".
(2) أخرجه أبوداود في الباب السابق رقم (994) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة / باب (8) المصلي يناجي ربه عز وجل / رقم (532) ، وفي كتاب الأذان / باب (141) لا يفترش ذراعيه في السجود / رقم (822) . ومسلم (493) .
(5/147)
________________________________________
التخصر هو أن يضع يديه على خاصرته أي شاكلته وقد صرح المؤلف بكراهيته كما هو المذهب ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يصلي الرجل مختصراً) (1) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث زياد بن صُبيح: (أنه صلى إلى جنب ابن عمر فوضع يده على خاصرته فلما انصرف – أي ابن عمر – قال: هذا الصلب في الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه) (2)
وهذا النهي هل هو للتحريم أم للكراهية؟
ظاهر النهي التحريم.
وقد صرح الحنابلة بالكراهية، والظاهر تحريم ذلك ويؤكده ما ثبت في البخاري عن عائشة: (أن هذا فعل اليهود في صلاتهم) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (17) الخصر في الصلاة / رقم (1220) بلفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرا " ورقم (1219) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نُهيَ عن الخَصْر في الصلاة. وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومسلم (545) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (160) في التخصر والإقعاء / رقم (903) عن زياد بن صُبَيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه ".
(3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء / باب (50) ما ذُكر عن بني إسرائيل / رقم (3458) عن عائشة رضي الله عنها: كانت تكره أن يَجعل يده في خاصرته وتقول: إن اليهود تفعله ". والظاهر أن زيادة " في صلاتهم " ليست في البخاري، لقول ابن حجر فتح الباري ج: 3 ص: 89: " وقيل لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة زاد بن أبي شيبة فيه في الصلاة ". الاسطوانة.
(5/148)
________________________________________
فالراجح أن الاختصار في الصلاة منهي عنه نهي تحريم لأنه من فعل اليهود، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وظاهر النهي التحريم.
قال: (وتروحه)
أي تروحه بمروحة ونحوها فيكره ذلك؛ لأنه عبث في الصلاة وينافي الخشوع.
لكن إن احتاج إليه كأن يكون هناك حر شديد فيحرك يده بشيء ليحرك الهواء إلى بدنه من غير أن يكون ذلك مبطلاً للصلاة بأن يكون كثيراً عرفاً – فإنه لا بأس به للحاجة إليه أما دون حاجة فهو مكروه لأنه عبث.
وأما المراوحة بين القدمين: وهي أن يتكئ على أحد رجليه بثقل بدنه، فتكون القدم الأخرى في راحة من حمل بدنه، ثم يحمل بدنه على القدم الأخرى – هذه تسمى المراوحة.
وقد ورد في النسائي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود: (أنه رأى رجلاً وقد رص (1) قدميه فقال: (أخطأ هذا السنة لو رواح في صلاته لكان ذلك أعجب إليّ) (2) .
واستدل به الإمام أحمد على استحباب ذلك، لكن الحديث ضعيف للانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه ولكن مع ذلك يقوى القول باستحبابه حيث طال القيام لما فيه من الثبوت على العبادة وتهيئة النفس للاستمرار عليها لأنه إذا فعل ذلك فتكون عنده قدرة على الإطالة أكثر مما لو لم يفعل ذلك.
قال الأثرم: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه ورأيته وهو يراوح بينهما)
فاستحب ذلك الإمام أحمد، ولو قيل باستحبابه لكان قوياً لما فيه من التشجيع على الإطالة.
وقوله: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صف بين قدميه، كما في النسائي.
(2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح / باب (13) الصف بين القدمين في الصلاة / باب (893) : " عن عبد الله أنه رأى رجلا يصلي قد صف بين قدميه، فقال: أخطأ السنة ولو راوح بينهما كان أعجب إلي ".
(5/149)
________________________________________
هذا هو الأولى، لأن قبل هذا الفعل يجعل القدمين على طبيعتها، وحيث لم يرد نص في قدميه حال القيام فإنه يبقيهما على الطبيعة، وطبيعتهما أن يكونا بحيال المنكبين، فليستا بمرصوصتين بل يكون مفرجاً بينهما.
ومما يدل على ذلك: أن المصلي يستحب له أن يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبيه بمنكبه وحيث كان ذلك فإنه لا يثبت إلا بأن يفرج بين قدميه، فعلى ذلك رص القدمين حال القيام غير مشروع، بل المستحب التفريج بينهما.
قال: (وفرقعة أصابعه)
أي يكره أن يفرقع أصابعه في الصلاة، لأنه عبث وهو – أي العبث – مكروه اتفاقاً.
وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن شبيبة مولى ابن عباس صلى إلى جنب ابن عباس ففقع أصابعه فلما انصرف قال له ابن عباس: لا أم لك تفقع وأنت في الصلاة) (1) فهذا إنكار منه لذلك يدل على أنه مكروه.
قال: (وتشبيكهما)
__________
(1) سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 310
965 حدثنا يحيى بن حكيم ثنا أبو قتيبة ثنا يونس بن أبي إسحاق وإسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة) .
(5/150)
________________________________________
فتشبيك الأصابع مكروه، لما ثبت عند الدارمي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد فهو في صلاة فلا يفعل هكذا وشبّك بين أصابعه) (1) فإذا كان يكره له هذا وهو في طريقه إلى المسجد لكونه في حكم المصلين، فأولى من ذلك أن يكره أثناء الصلاة.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر سئل عن التشبيك في الصلاة فقال: (تلك صلاة المغضوب عليهم) (2) ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم هم المغضوب عليهم وحيث كان هذا فهو يقوي التحريم لأنه تشبه بهم.
وحيث قلنا بالإطلاق أي عامة المغضوب عليهم فينهى العبد عن التشبه بهم لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وظاهر الحديث: (فلا يفعل هكذا، وشبك بين أصابعه) ظاهره التحريم.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثالث والثمانون
(يوم الثلاثاء: 8 / 4 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يكون حاقناً)
__________
(1) أخرجه الدارمي في كتاب الصلاة / باب (121) النهي عن الاشتباك إذا خرج إلى المسجد / رقم (1440) عن كعب بن عجرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداًَ إلى الصلاة فلا يشبك بين أصابعه) ، ورقم (1441) عن كعب بن عجرة أيضا قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد، فلا تشبكن بين أصابعك، فإنك في صلاة) ، ورقم (1442) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة، فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، فلا تقولوا هكذا) يعني يشبك بين أصابعه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة / رقم (993) .
(5/151)
________________________________________
فيكره أن يصلي وهو حاقن، والحاقن: هو المحتسب بوله ومثله من احتبس غائطه أو ريحه، فإن الصلاة تكون مكروهة في هذه الحال، لأن هذا ينافي كمالها ويؤثر في الخشوع بها والإقبال على الله فيها.
ويدل عليه: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) (1) أي الغائط والبول ومثل ذلك الريح فإن الصلاة تكون مكروهة.
لكن الصلاة تصح إجماعاً كما حكاه ابن عبد البر.
ولهذا الإجماع فإن الحديث يؤول على (لا صلاة كاملة) أو - لو قلنا بالتحريم - (لا صلاة جائزة) ولا يقال: (لا صلاة صحيحة) لإجماع أهل العلم على صحة الصلاة فهذا الفعل مكروه أو محرم لظاهر الحديث المتقدم لكن الصلاة صحيحة إجماعاً.
قال: (أو بحضرة طعام يشتهيه)
أي تتوق إليه نفسه، فإن الصلاة مكروهة أيضاً للحديث المتقدم: (لا صلاة بحضرة طعام) ، ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قدم العشاء فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب ولا تعجلوا [عن] عشاءكم) (2) وثبت في البخاري نحوه من حديث ابن عمر – نحوه – وفيه: (وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يعجل عن عشائه حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإمام) (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله.. /رقم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه قصة حديث ابن أبي عتيق مع القاسم عند عائشة.
(2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ عن أنس رقم (671) و (5465) كتاب الأذان / باب (42) إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطام / رقم (557)
(3) صحيح البخاري الباب السابق / رقم (673) بلفظ: " وكان ابن عمر: يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام ".
(5/152)
________________________________________
وثبت في ابن شيبة بإسناد صحيح: (أن ابن عباس وأبا هريرة كانا يأكلان طعاماً في التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تقم لئلا نعجل وفي أنفسنا شيء) وفي رواية (لئلا يعرض في الصلاة) (1) .
وفي هذا الأثر الصحيح يتبين أن هذا إنما هو خاص فيما إذا كان الطعام تتوق إليه النفس ويشتهى، وللنفس حاجة إليه – فيخشى أن يعرض في الصلاة فيؤثر في خشوعها، ومما يدل أنه ليس في مطلق الطعام ما ثبت في البخاري من حديث عمرو بن أمية قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل كتفاً يجتز منها فدعي إلى الصلاة فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ) (2) .
فهذا يدل على أنه إذا كان عنده طعام لا يشتهيه وليس للنفس حاجة فيه فإنه يصلي.
وإنما الذي ينهى عن الصلاة حيث وجد هو الذي تتوق إليه النفس (3) .
ومثل ذلك الشراب والجماع قياساً وقال صاحب الإنصاف: " بل هما أولى بالكراهية ".
فعلى ذلك يكره له أن يصلي حاقناً أو بحضرة طعام يشتهيه وإن أدى ذلك إلى فوات الجماعة.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 2 ص: 184 رقم (7925) حدثنا وكيع عن شريك عن عثمان الثقفي عن رجل يقال له زياد قال كنا عند ابن عباس وشواء له في التنور وحضرت الصلاة فقلنا له فقال لا حتى نأكل لا يعرض لنا في صلاتنا ".
قال في ابن حجر في فتح الباري ج: 2 ص: 161: " وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس انهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء فأراد المؤذن أن يقيم فقال له بن عباس لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء وفي رواية بن أبي شيبة لئلا يعرض لنا في صلاتنا ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (43) إذا دُعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل / رقم (675) ورقم (210) و (208) من كتاب الوضوء باب (50) . وأخرجه مسلم في كتاب الحيض / باب (24) نسخ الوضوء ما مست النار / رقم (355) .
(3) كذا في الأصل.
(5/153)
________________________________________
لكن إن أدى ذلك إلى خروج وقت الصلاة فلا، لأن فوات الخشوع أهون من خروج وقت الصلاة وفواتها فإنه إذا صلاها بعد الوقت فإنه يكون قد خرج عليه وقتها، ولا شك أن فوات الخشوع أهون من فوات الصلاة.
فعلى ذلك: لا صلاة حيث كان الوقت متسعاً، أما إذا كان ضيقاً ويخشى خروج الوقت وفوات الصلاة فإنه يصلي على حاله ويجب عليه ذلك لئلا يخرج وقت الصلاة.
قال: (وتكرار الفاتحة)
فهو مكروه في الصلاة، وذلك لأنه (1) لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يكررها بل يقرؤها في كل ركعة من صلاته بلا تكرار وحيث كان ذلك، فإن هذا الفعل من المكرر خلاف هديه عليه الصلاة والسلام وحيث كان ذلك فهو محدث في الدين.
قال: (ولا جمع سور في فرض كنفل)
أي لا يكره جمع سور، فلو جمع السور في الركعة فلا يكره ذلك، وقد تقدمت الأدلة على ذلك كقراءته – صلى الله عليه وسلم – البقرة والنساء وآل عمران في ركعة (2) وكقول ابن مسعود: إنه يعرف القرائن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بها في الصلاة (3) .
وقراءة الرجل بقل هو الله أحد وسورة في كل ركعة (4) .
فلا يكره أن يجمع بين السورتين فأكثر في الركعة، لا كراهية فرضاً ولا نفلاً كما تقدم في الأحاديث.
وإنما قال: (كنفل) لأن النفل مجمع عليه، فكذلك الفرض؛ لأن ما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً، فلم يثبت دليل يدل على التخصيص.
__________
(1) في الأصل: لأنها.
(2) أخرجه مسلم من حديث حذيفة في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (49) ترتيل القراءة واجتناب الهذ.. وإباحة سورتين فأكثر في ركعة / رقم (822) ، والبخاري (4996) ، (5043) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين / باب (45) فضل قراءة قل هو الله أحد / رقم (813) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5/154)
________________________________________
على أن الأحاديث الواردة في هذا الباب منها ما هو في الفريضة كما كان من الإمام الذي يفتتح قراءته بعد الفاتحة بـ {قل هو الله أحد} فإنها كانت في الفريضة (1) .
ومما يكره له الإكثار من تسوية التراب حيث يسجد، فإنه مكروه أو خلاف الأولى.
لما ثبت في الصحيحين من حديث معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الرجل يسوي التراب حيث يسجد فقال: (إن كان لابد فاعلاً فواحدة) (2) ، أما الإكثار من ذلك فإنه مكروه أو خلاف الأولى فإن كان لابد فاعلاً فليكتفي بواحدة يسوي بها التراب وإلا فإنه ينبغي أن يسوي التراب قبل صلاته لئلا ينشغل بتسويته أثناء الصلاة.
ومثل ذلك – أيضاً – مسح التراب عن الجبهة فإنه خلاف الأولى.
__________
(1) لفظه في مسلم: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قل هو الله أحد} ، فلما رجعوا ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (سلوه لأي شيء يصنع ذلك) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن،فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أخبروه أن الله يحبه) .
(2) أخرجه البخاري رقم (1207) ،ومسلم في كتاب المساجد / باب (12) كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة / رقم (546) .
(5/155)
________________________________________
يدل عليه: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود أنه قال: (أربع من الجفاء أن يبول الرجل قائماً " والسنة وردت بخلاف ذلك والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره " وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره ومسح التراب عن جبهته وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه [في قوله] ) (1) فهذه هن الجفاء وهو غير مشروع في الصلاة فعلى ذلك هو خلاف الأولى أو مكروه.
فيكره أن يمسح التراب عن وجهه وهو يصلي وأولى من ذلك الإكثار منه لما فيه من الانشغال والإقبال على أمر آخر في الصلاة.
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة / با ب (371) لا يمسح وجهه من التراب في الصلاة حتى يسلم / رقم (3552) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، أنبأ سعيد عن قتادة عن ابن بريدة عن ابن مسعود أنه كان يقول: " أربع من الجفاء أن يبول.. " وكذلك رواه الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود، ورواه سعيد بن عبيد الله بن زيادة بن جبير بن حية / عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه إلا أنه قال: والنفخ في الصلاة بدل المرور، ولم يقل أربع. قال البخاري: هذا حديث منكر يضطربون فيه " " ا. هـ كلام البيهقي.
(5/156)
________________________________________
ويكره ألا يكظم التثاؤب أو أن لا يضع يده على فيه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم - في الترمذي: في الصلاة - فليكظم ما استطاع) وفي مسلم: (فليمسك يده على فيه فإن الشيطان يدخل) (1)
قالوا: ويكره له أن يصلي إلى نار أو قنديل أو نحو ذلك كأن يصلي إلى مدفئة ونحوها مما هو نار.
وظاهر ذلك – وهو قول – أنه يكره أن يصلي إلى شيء من الضوء وإن كان متولداً من كهرب ونحوه لأنه نار، فهذا كله مكروه، وهو مذهب الشافعية أيضاً.
واستدلوا بأن هذا من فعل المجوس من كونهم يصلون إلى نيرانهم فيكون في ذلك تشبه بهم.
وهو قول طائفة من السلف كابن سيرين ومقتضى هذا التعليل التحريم؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق / باب (11) صفة إبليس وجنوده / رقم (3289) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان) ومسلم دون اللفظة الأخيرة في كتاب الزهد والرقائق / باب (9) تشميت العاطس وكراهة التثاؤب / رقم (2994) من حديث أبي هريرة، ورقم (2995) من حديث أبي سعيد الخدري باللفظ الثاني، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة بالزيادة في كتاب الصلاة / باب (156) ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة / (370) قال الترمذي: " وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وجدّ عَدي بن ثابت " وقال: " حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ".
(5/157)
________________________________________
وظاهر تبويب البخاري جواز ذلك حيث قال: (باب: من صلى وقدامه شيء من تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله) وذكر الحديث في صلاة الكسوف وفيه: (وعرضت لي النار وأنا أصلي) (1) فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرضت له النار فكانت بين يديه وهو يصلي، ولو كان ذلك مكروهاً لما كان ذلك بين يديه.
وما ذهبت إليه البخاري أظهر وذلك لما استدل به من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولما ثبت في سنن النسائي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استتر بشجرة وصلى إليها) (2) ومعلوم أن الشجرة تعبد من دون الله.
وهذا العبد يصلي وبين يديه الأحجار، بل الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون إنما هي من الأحجار، ومعلوم أن الأحجار تعبد من دون الله: لكن العبد أراد بتوجهه الله تعالى.
وأما ما ذكروه من أن ذلك فيه تشبه بالمجوس.
فيجاب عنه: أن هذه النار التي عرضت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا القنديل الذي يصلي إليه العبد ونحو ذلك أنه ليس هو ذات النار التي تعبد من دون الله.
__________
(1) ذكره البخاري تعليقا في كتاب الصلاة / باب (51) من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله / قبل حديث (431) فقال: " وقال الزهري: أخبرني أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت علي النار وأنا أصلي) .
(2) السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى ".
(5/158)
________________________________________
فإن النار أنواعها كثيرة، وأما النار التي عبدت من دون الله فهي بخصوصها ينهى عن التوجه إليها، وأما أن يتوجه إلى نار أخرى فإنه لا يقال: إنه توجه إلى شيء يعبد من دون الله بذاته بل توجه إلى جنس ذلك.
فالنار التي تعبد من دون الله لا يجوز للعبد أن يصلي إليها لما فيه من التشبه بالمجوس، وأما عموم النار فإنه لا يمنع من ذلك؛لأن من النار ما لا يتوجه إليه ولا يصرف العبادة إليه.
كما أنه لو صلى بين يديه صنم يعبد من دون الله فإنه يمنع من ذلك، " فإن صلى وبين يديه حجارة ونحو ذلك لا يعبد، فلا يمنع من ذلك " (1) .
فالأرجح ما ذهب إليه البخاري في صحيحه، هو ظاهر تبويبه، وأن الصلاة إلى قنديل أو نار أو شمعة أنه ليس بمكروه خلافاً للشافعية والحنابلة.

قال: (وله رد المار بين يديه)
بل يسن له ذلك، فإن ظاهر لفظه " له " أنه يباح لكن ذلك مسنون ومستحب عند الحنابلة في المشهور عندهم لذا ذكر الشارح في الشرح بعد لفظة " ويسن ".
ودليل ذلك، ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) (2) وفي مسلم من حديث ابن عمر: (فإن معه القرين) وبه يفسر قوله " فإنما هو شيطان " أي معه شيطان أو القرين.
أو أنه فعل ما يفعله الشيطان من تنقيص صلاة العبد وصرف قلبه عنها بمروره بين يديه.
__________
(1) في المطبوع بدل هذه العبارة ما نصه: " لكن لو كان مطلق حجر لا يتوجه إليه العبادة فإنه لا يمنع منه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (100) يرد المصلي من مر بين يديه / رقم (509) ، ومسلم (505) .
(5/159)
________________________________________
فيشرع له أن يدفع المار بين يديه، فإن أبى فليقاتله أي يدفعه دفعاً شديداً، ومما يدل على أن المراد ذلك قصة هذا الحديث فقد بين في الصحيحين: (أنه صلى في يوم جمعة وبين يديه شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه فدفعه في نحره فنظر الشاب فلم يجد مساغاً فعاد يجتاز فدفعه أشد من الأولى) (1)
وحينئذٍ: لو ترتب على دفعه أذى في بدنه فإنه لا يضمنه لأن ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون.
- وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك وهو الراجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فليدفعه " وظاهر الأمر الوجوب.
إذن: عن الإمام أحمد روايتان:
أصحهما وهي غير المشهورة عنه وجوب ذلك لظاهر الحديث وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (2) فلا يجوز له أن يمر بين يدي المصلي سواء كان بين يديه سترة أم لا، بأن يمر بين يديه في موضع صلاته.
وللمصلي اتفاقاً دفعه إن مر وهل هو واجب أو مستحب؟ الراجح وجوبه كما هو رواية عن الإمام أحمد.

قال: (وعد الآي)
له أن يعد آيات القرآن التي يقرؤها، وهو وارد عن طائفة من السلف؛ وهل له أن يعد التسبيح فيه قولان في المذهب، وقد توقف الإمام أحمد فيه لعدم وروده عن أحد من السلف، وأجازه طائفة من أصحابه.
فعلى ذلك: عد الآي وجه واحد في المذهب أنه مباح وليس بمكروه، وأما التسبيح فهل يكره أم يباح؟
قولان في المذهب:
الصحيح في المذهب عندهم أنه يباح أيضاً.
وذهب الشافعية والأحناف: إلى أنه مكروه.
__________
(1) متفق عليه، الباب السابق.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (101) إثم المار بين يدي المصلي / رقم (510) ، ومسلم (507) .
(5/160)
________________________________________
وهذا أظهر فإن فعل طائفة من السلف من التابعين لا يفيد إباحته حيث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد ثبتت الأدلة في أن الصلاة شغل وإقبال إلى الله تعالى وحيث انشغل في العد فإن ذلك انشغالاً عن الصلاة وعن إتمام خشوعها والخضوع لله فيها.
وهو متى قام بالواجب فإن الله عز وجل يجازيه على ما فعله بعده وإن لم يعرف حسابه، ولو فعل ذلك فإن الصلاة صحيحة لكنه مكروه.

قال: (والفتح على إمامه)
أي: وله الفتح على إمامه، بأن يفتح عليه في قراءته.
فإذا لُبس على الإمام في القراءة، فيشرع له أن يفتح عليه بأن يرد عليه ما أخطأ فيه في قراءته.
ودليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى صلاة فلُبس عليه فيها، فلما انصرف قال لأُبي أصليت معنا؟ قال نعم قال: " ما منعك " أي ما منعك أن تفتح عليَّ في الصلاة) (1) .
إلا أن التعجل في ذلك بحيث يكون في ذلك تلبيس على الإمام هذا غير مشروع، بل يترك الإمام حتى يتبين أن الخطأ عنده صواب وأنه يظن هذا الخطأ صواباً.
أما حيث كان في مهلة من أمره وهو ما زال يمكنه أن يصلح خطأه كأن يخطئ في صدر آية وهو لم يصل إلى منتصفها أو آخرها فهو ما زال يمكن أن يصلح خطأه فلا ينبغي التعجيل في ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب الفتح على الإمام (907) ، وابن حبان (2242) ، والطبراني في الكبير (13216) ، والبيهقي [3 / 212] ، والبغوي (665) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال الخطابي في معالم السنن [1 / 216] : " إسناد حديث أبي جيد "،وقال النووي في المجموع 4 / 241: " رواه أبو داود بإسناد صحيح ". من حاشية الشرح الممتع لابن عثيمين [3 / 347] .
(5/161)
________________________________________
وقد قال علي – في البيهقي بإسناد صحيح – " إذا استطعمك الإمام فأطعمه " (1) أي إذا طلب منك أن تفتح عليه فافعل.
والفتح على الإمام بالفاتحة واجب، لأن الصلاة لا تصح إلا بها، وحيث أخطأ الإمام في الفاتحة فإن الصلاة تبطل بذلك. وأما غير الفاتحة فإن ذلك مشروع حيث كان الإمام محتاجاً إليه للحديث المتقدم في قصة أبي بن كعب.

قال: (ولبس الثوب ولف العمامة)
هذا لا بأس به في الصلاة.
فلا بأس أن يلبس ثوبه، كأن يقع ردائه فيرفعه إلى عاتقه أو أن يلبس عمامته هذا لا بأس به ولا كراهية إذا احتاج إليه لأنه عمل يسير في الصلاة والعمل اليسير في الصلاة مباح لا كراهية فيه إلا إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لكونه عبثاً فيها. ومما يدل عليه حديث حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة (2) .
ولما ثبت في أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (فتح لعائشة الباب وهو يصلي) (3)
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الجمعة / باب (48) إذا حصر الإمام لقن / رقم (5792) وما بعده. وفيه: " قلنا ما استطعامه؟ قال – أي الراوي -: إذا تعايا فسكت فافتحوا عليه ".
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 193 باب 16 إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة رقم (494) ، ومسلم رقم (543) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (169) العمل في الصلاة / رقم (922) . والنسائي في كتاب السهو / باب (14) المشي أمام القبلة خطى يسيرة / رقم 1206 عن عائشة قالت: استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا والباب على القبلة فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب ثم رجع إلى مصلاه "، والترمذي وقال: " حسن غريب ". وحسنه الألباني.
(5/162)
________________________________________
فالحركة اليسيرة إذا احتاج إليها المصلى فلا بأس بها ولا كراهية لأنها عمل يسير فيباح في الصلاة ولا كراهية إذا احتاج إليه.أما إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لأنه عبث، وكل عبث في الصلاة فهو مكروه كما تقدم.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والثمانون
(يوم الأربعاء: 9 / 4 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (وقتل حية وعقرب وقمل)
أما الحية والعقرب؛ فلثبوت النص بذلك، فقد ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) (1) ويقاس عليهما القمل ونحوه مما فيه ضرر ويجوز قتله، فيقاس عليه وقد ثبت عن طائفة من الصحابة والتابعين.
والحديث إنما يقيد بحيث لا تختل الصلاة، فإن اختلت الصلاة، فاحتاج قتل الحية والعقرب إلى عمل كثير ينافي الصلاة فإنه يبطل الصلاة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (في الصلاة) ، وظاهره أن ذلك في الصلاة مع ثبوتها، وجبت كان قائماً بعمل كثير ينافي الصلاة فإنه يكون خارجاً عنها، قياساً على إنقاذ الغريق، فإنه إن احتاج إلى إنقاذه وهو يصلي ولا يمكن أن ينقذه إلا بعمل كثير يبطل الصلاة، فيبطلها وينقذه.
هذا تقرير مذهب جماهير أهل العلم، وأن قتل الحية والعقرب إنما يكون حيث كانت الصلاة ثابتة ولم يكن هذا القتل بفعل كثير عرفاً يبطلها، فإن كان بفعل كثير يبطلها، فإن الصلاة تبطل.
قال: (فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة ولا تفريق بطلت ولو سهواً)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الباب السابق / رقم (921) ، وأخرجه النسائي في الصلاة حديث 1203 بلفظ (أمر) ، وابن ماجه في الصلاة حديث 1245 بلفظ (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، والترمذي حديث 390 وقال: " حسن صحيح "، سنن أبي داود [1 / 566] .
(5/163)
________________________________________
فمرجع معرفة الطويل والقصير في الصلاة هو العرف وهي قاعدة شرعية: في كل ما لم يثبت تحديده في الشرع فإنه يرجع في تحديده إلى العرف ويرجع فيه إلى أوساط الناس وقد اتفق أهل العلم على أن العمل الكثير مبطل للصلاة وأن العمل اليسير ليس بمبطل لها.
وقد تقدمت أمثلة للعمل اليسير كأن يفتح باباً أو يلبس ثوباً أو نحو ذلك.
فالعمل الكثير يقطع الصلاة اتفاقاً؛ لأنه ينافي الصلاة ويقطع موالاتها، وهو ليس على الهيئة الشرعية ولا مما أجازه الشارع فيها، وحيث كان كذلك كانت الصلاة خارجة عن الهيئة الشرعية الصحيحة وكل عمل خارج عن هديه – صلى الله عليه وسلم – فهو مردود.
قال: (من غير ضرورة) :
وعليه: فإن كان مضطراً إلى فعل كثير في الصلاة فإن الصلاة لا تبطل بذلك، كأن يكون هارباً من عدو أو سبع ونحوه فإنه يصلي على هيئته وحسب حاله، وإن كان في الصلاة عمل كثير ينافيها في الأصل لكنه مضطر إلى ذلك فتصح صلاته.
كما أجاز الشارع الصلاة حال الخوف رجالاً وركباناً كما سيأتي في باب صلاة الخوف – إن شاء الله تعالى -.
قال: (ولا تفريق) :
بأن كان هذا الكثير متوالياً
أما إن كان بمجموعه كثير لكنه بآحاده يسير (1) ، كأن يعمل عملاً يسيراً في الركعة ثم يعود إليها ثم يعمل عملاً يسيراً في الركعة الثانية وهكذا – ويكون هذا اليسير بمجموعه كثيراً فلا تبطل الصلاة به.
لأنه حيث لم يبطلها وهو يسير بمفرده فلا يبطلها وهو كثير بمجموعه، فما دام أن الصلاة صحت مع ثبوت العمل اليسير فيها بمفرده فكذلك لا يبطلها بمجموعه، فهذا عندما يفعل فعلاً يسيراً ثم يعود إلى صلاته فهي صحيحة، وإذا فعل فعلا آخر يسيراً ثم عاد فالصلاة صحيحة، وهو لم يقطع موالاتها بمفرده فكذلك إذا كان متفرقاً لكنه بمجموعه كثيرة عرفاً.
(بطلت ولو سهواً) :
__________
(1) في الأصل: يسيراً.
(5/164)
________________________________________
فلو عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فإن الصلاة تبطل، وهذا هو المشهور في المذهب وعللوا ذلك بما تقدم: من انقطاع الموالاة.
- وعن الإمام أحمد: أن العمل الكثير الساهي صاحبه لا يقطع الصلاة بل تصح الصلاة مع العمل الكثير إن كان صاحبه ساهياً.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين في قصة ذي اليدين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين ساهياً ومشى وخرج من المسجد وأتى بيته ثم بعد ذلك أتم صلاته) (1) فقد قام أثناء الصلاة بعمل كثير عرفاً خارج عن الصلاة منافياً لها، ومع ذلك لم تبطل به الصلاة بل أتم صلاته لكونه ساهياً – وهذا هو الظاهر – وهو اختيار المجد بن تيمية.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب 19 السهو في الصلاة والسجود له / رقم (574) عن عمران بن حصين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فسلم في ثلاث، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخِرْبَاق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضْبَانَ يَجُرُّ رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا) قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم ثم سجد سدتين ثم سلم ". وفي لفظ له قال عمران: سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مُغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم ". وقد أخرج البخاري قصة ذي اليدين من حديث أبي هريرة في مواضع منها (482) ، (714) ، (1228) ، (6051) ، (7250) ، ومسلم (573) ، ولكن ليس في شيء من هذه الألفاظ أنه دخل بيته، وإنما ذلك في حديث عمران المتقدم في مسلم.
(5/165)
________________________________________
وأما مسألة الموالاة فإنها ليست هي العلة التي من أجلها أبطلت الصلاة، بدليل أن العمل اليسير لا يبطلها مع كونه قاطعاً للموالاة، فإن العمل اليسير فعل يجانب الصلاة، ومع ذلك فإنه لا يبطلها، وحيث لم يبطلها، فإن العمل الكثير لا يبطلها إن كان صاحبه ساهياً؛ لأنه فعل ما هو منافي للصلاة من غير تقصير ولا تعمد، وحينئذ [حيث] كان كذلك، فإنه لا يعد فاعلاً شيئاً.
والحديث المتقدم ظاهر في ذلك فإنه عمل كثير ومع ذلك لم يعد الصلاة ولم يستأنفها وقد عمل عملاً كثيراً منافياً الصلاة لكنه ساهياً.
إذن الراجح: أنه إذا عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فلا تبطل صلاته.
قال: (ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها)
أي يباح للمصلي أن يقرأ من أواخر السور وأوساطها سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً.
لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر في الأولى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} وفي الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء …} (1)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (14) استحاب ركعتي سنة الفجر.. / رقم 727. من حديث ابن عباس، وفي رواية أخرى له: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} التي في البقرة،وفي الآخرة منهما {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} ".
قلت: وبدايتها: {فلما أحس عيسى منهم الكفر..} .

يقول بعض طلبة العلم: وأكثر الرواة على هذه الرواية الأخيرة، وأما الرواية الأولى والتي فيها في الركعة الثاني {تعالوا إلى كلمة سواء..} فقد تفرد بها خالد الأحمر عن بقية الرواة. والله أعلم.
(5/166)
________________________________________
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) (1) وأوساط السور وأواخرها مما تيسر.
وقد تقدم أن هذا مباح، لكن اتخاذه عادة وسنة خلاف الأولى، لأن في ذلك تركاً للسنة، فكونه يقرأ من أواخر السور وأوساطها مداوماً على ذلك، ففي ذلك ترك لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة السور بتمامها، ومما كان ظاهراً وغالباً في صلاته – عليه الصلاة والسلام -.
فإذن: هو مباح لكن إذا داوم عليه فهو خلاف الأولى مع كونه مباحاً.
وقد تقدم حديث زيد بن ثابت وإنكاره على مروان لأنه يداوم على قصار السور في المغرب.
قال: (وإذا نابه شيء سبح رجل وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى)
إذا عرض شيء في الصلاة كسهو إمام أو تنبيه أو نحو ذلك فيقول الرجل " سبحان الله " وتصفق المرأة.
وصفة التصفيق ببطن كفها على ظهر الأخرى هذه هي الصورة المشروعة، ونحوها كأن تضرب ببطن أصبعين من أحدهما على كف الأخرى.
أما ضرب بطن أحدهما بالأخرى فإنه تصفيق وهو من اللهو واللعب المحرم.
ومثل ذلك: ما قال: عيسى بن أيوب كما في سنن أبي داود وهو من رواة هذا الحديث قال: (تضرب بأصبعين من اليمينى على كفها اليسرى) وفي رواية أبى داود: (تصفيح) (2) .
والتصفيح: بأن يضرب بطن أحدهما بظهر الأخرى أو بأصبعين من أحدهما على كف الأخرى.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (757) و (793) و (6252) ، ومسلم في كتاب الصلاة / باب (11) وجوب قراءة الفاتحة / رقم (397) ، وقد تقدم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب 173 التصفيق في الصلاة / رقم 942 عن عيسى بن أيوب قال: " قوله: " التصفيح للنساء " تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى ". وفيه أيضا (941) حديث سهل مرفوعاً: (إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح – كذا - النساء)
(5/167)
________________________________________
أما التصفيق المتقدم فهو من اللهو واللعب في الصلاة وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) (1) وفي رواية: (في الصلاة) (2) وفي رواية: (إذا نابكم أمر فليسبح الرجال ولتصفق النساء) (3) .
ولا يستحب له أن يعدل إلى غير التسبيح كالنحنحة قد روى النسائي وابن ماجه عن علي قال: (كان لي من النبي صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا أتيتبه وهو يصلي تنحنح لي) (4) لكن الحديث إسناده ضعيف ففيه جهالة عين فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويبصق في الصلاة عن يساره، وفي المسجد في ثوبه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (5) التصفيق للنساء / رقم (1203) من حديث أبي هريرة، و (1204) من حديث سهل بن سعد، ومسلم رقم (422) كتاب الصلاة / باب (23) تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة.
(2) رواية (في الصلاة) عند مسلم برقم (422) كتاب الصلاة /باب (23) تسبيح الرجل … من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام / باب (36) الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم / رقم (7190) عن سهل وفيه وقال – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - للقوم: (إذا رابكم أمر فليسبح الرجال وليصفِّح النساء) . وفي رواية (684) : (ما لي أراكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) في كتاب الأذان باب (48) . ومسلم في كتاب الصلاة / باب (22) تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم / رقم (421) .
(4) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (17) التنحنح في الصلاة / رقم (1212) و (1211) ، قال الألباني: ضعيف الإسناد "، وابن ماجه في كتاب الأدب / باب (17) الاستئذان / رقم (3708) .
(5/168)
________________________________________
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه) (1) متفق عليه.
فإن كان عن شماله مأموم فإنه يبصق تحت قدمه، لما ثبت في رواية للبخاري: (فليبصق عن يساره أو تحت قدمه) (2) .
وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ طرف ثوبه فبصق فيه ثم رد بعضه وقال: (أو يفعل هكذا) (3) ففي المسجد يبصق في ثوبه لأنه بقعة ظاهرة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البصاق (4) في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) (5)
فإذن في المسجد يبصق في ثوبه، وأما في غير المسجد فإنه يبصق عن يساره أو تحت قدمه.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الخامس والثمانون
(يوم السبت: 12 / 4 / 1415 هـ)

قال المؤلف رحمه الله: (ويسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرحل)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جماهير العلماء وأن السترة في الصلاة سنة وليست بواجبة.
وقد اتفق أهل العلم على مشروعية السترة، والسنة ظاهرة في ذلك وأن السترة سنة في الصلاة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعها حضراً ولا سفراً.
وإنما اختلف العلماء في هل تجب أم لا؟
قولان:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (33) حك البزاق باليد من المسجد / رقم (405) من حديث أنس، وباب (34، 35، 36، 37، 38، 39) من رقم (406) إلى (417) بألفاظ مختلفة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد (547) إلى (551) بألفاظ مختلفة.
(2) البخاري الباب السابق رقم (416) بلفظ: " وليبصق.. ".
(3) صحيح البخاري الباب السابق.
(4) لعلها البزاق كما في الصحيحين، وقد ورد أيضاً " فلا يبصق " في الصحيحين.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (37) كفارة البزاق في المسجد / رقم (415) ، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد.. / رقم (552) .
(5/169)
________________________________________
فذهب الجمهور: إلى أن الصلاة إلى السترة سنة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت من بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فلم ينكر ذلك علي أحد) (1)
وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى في فضاء وليس بين يديه شيء) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم / باب (18) متى يصح سماع الصغير / رقم (76) ، وفي كتاب الأذان / باب (161) وضوء الصبيان / رقم (861) ، وفي أبواب أخرى، ومسلم (504) .
(2) قال في مجمع الزوائد ج: 2 ص: 63: " رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف ". ورواه في سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 273 (3294) حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف إملاء أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة ح وأخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار قالا ثنا سعدان بن نصر المخرمي ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطأة عن الحكم بن عتبة عن يحيى بن الجزار عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء، وله شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس وسيرد بعد هذا إن شاء الله تعالى "، وعزاه صاحب المنتقى إلى أبي داود، والمنذري إلى النسائي، نيل الأوطار [3 / 5] ، ولم أجده فيهما بهذا اللفظ، وإنما هو في أبي داود [1 / 459] كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث 754..
(5/170)
________________________________________
وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن الفضل بن عباس قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وعباس في بادية لنا، فصلى في صحراء وليس بين يديه سترة، وحمارة وكلبة لنا تعبث بين يديه) (1)
2 - وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب البخاري وطائفة من أهل العلم: إلى وجوب السترة.
واستدلوا:
بما ثبت في أبي داود والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) (2) وظاهر الأمر الوجوب.
__________
(1) رواه داود [1 / 459] في كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث 754..

(2) أخرجه النسائي في كتاب القبلة / باب (5) الأمر الدنو من السترة / رقم (748) عن سهل بن أبي حَثْمَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) ، وقال الألباني: صحيح " وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (108) ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه / رقم (698) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة،وليدن منها " ثم ساق معناه. أي معنى الحديث السابق وهو: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر … فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان "، وليس فيه: " لا يقطع الشيطان عليه صلاته ".
(5/171)
________________________________________
وروى أحمد والحاكم - والحديث حسن – من حديث سبرة بن معبد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1)
قالوا: فهذه أحاديث ظاهرها الوجوب، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه تركها حضراً ولا سفراً.
وأما ما ذكره أهل القول الأول:
فالحديث الأول حديث صحيح غير صريح، والحديثان بعده ضعيفان لا يثبتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما كون حديث ابن عباس حديث صحيح فلثبوته في الصحيحين.
أما كونه غير صريح؛ فلأنه نفى أن يكون قد صلى إلى جدار وإنما نفى أنه صلى إلى جدار ولم ينف أنه صلى إلى سترة وظاهر لفظة " غير " أنه قد صلى إلى شيء، فإن لفظة " غير" في الغالب أنها تأتي صفة وهي هنا صفة لمحذوف تقديره " شيء " أي إلى شيء غير جدار.
فالحديث ليس فيه نفي السترة مطلقاً وإنما نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار يحجز بينه وبين الدواب أن تمر بين يديه.
__________
(1) قال في نصب الراية ج: 2 ص: 80: " وروى البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة سبرة بن معبد الجهني " وذكره بسنده.
وفي المستدرك على الصحيحين ج: 1 ص: 382 رقم (925) حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليستر أحدكم صلاته ولو بسهم "، وبلفظ (926) : " استتروا بصلاتكم ولو بسهم، على شرط مسلم "، وفي مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 24، رقم (2862) ، السنن الصغرى للبيهقي ج: 1 ص: 531 رقم (952) وفي سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 270 رقم (3276) صحيح ابن خزيمة ج: 2 ص: 13، باب (284) / رقم (810) ، ورقم (841) . الاسطوانة.
(5/172)
________________________________________
ومعلوم أن المصلي إذا صلى إلى سترة غير جدار فإن الدواب قد تمر بين يديه فيحتاج إلى دفع منه، بخلاف ما إذا صلى إلى جدار فإنه يحجز بينه وبينها فلا يحتاج إلى دفع وقد مر ابن عباس بالحمار بين يدي بعض الصف لعدم وجود الحاجز والجدار، فلم تكن الصلاة في مبنى ذي جدران يحجز المصلين عن مرور الدواب.
وأما الحديث الثاني فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وأما الحديث الثالث ففيه انقطاع وجهالة.
قالوا: فهذه أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حديث صحيح غير صريح، فلا يعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك فيبقى الأمر محكماً وأن ذلك للوجوب.
ومما يقوي ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف عن أن يمر بين يدي المصلي ونهاه عن ذلك وقال: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (1) وترك السترة بين يديه ذريعة لمرور الناس بين يديه فيقعون في محرم، ويقطعون من صلاته ما يقطعون.
وقد قال ابن مسعود – في المرور بين يدي المصلي -: " يقطع نصف الصلاة " (2) فإذا مر أحدهم بين يديه فإنه مع تفريطه في ذلك يذهب عنه نصف أجر صلاته.

قال: (كمؤخرة الرحل)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب (101) إثم المار بين يدي المصلي / رقم (510) ، ومسلم (507) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 252 باب 61 في الرجل يمر بين يدي الرجل يرده أم لا رقم 2908 حدثنا أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال نا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال كان ابن مسعود إذا مر أحد بين يديه وهو يصلي التزمه حتى يرده ويقول: إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه ".
قال في فتح الباري ج: 1 ص: 584: " وقد روى بن أبي شيبة عن بن مسعود إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته " الاسطوانة.
(5/173)
________________________________________
ظاهره أن هذا هو القدر المجزئ وأنه مثل مؤخرة الرحل وهي ما يتكئ عليه راكب الإبل، فإنه يتكئ على خشبة نحو الذراع، فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سُئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: مثل مؤخرة الرحل) (1)
وفي مسلم – أيضا – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار – والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (2) وظاهره هذه الأحاديث أن المجزئ – مع القدرة ذلك – أي طولاً.
واختلف العلماء في قدر المؤخرة:
فعن الإمام أحمد: أنه ذراع، وهو مذهب الأحناف وهو قول عطاء، قال عطاء – في سنن أبي داود - في مؤخرة الرحل قال: (ذراع فما فوق) (3) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والمالكية: أنه قدر عظم الذراع أي بإخراج الكف من اليد.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (47) سترة المصلي / رقم (499) عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي؟ فقال: (كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (102) ما يستر المصلي / رقم (686) عن عطاء قال: " آخرة الرحل ذراع فما فوقه ".
(5/174)
________________________________________
والأظهر – كما قرر ذلك الموفق – أن هذا إنما هو على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كمؤخر الرحل) سواء كان ذلك ذراعاً فما فوق [أو] فما دونه بقليل لا حرج في ذلك وأنه ذكر على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد.
بدليل الاختلاف في مؤخرة الرحل – طولاً – في الحقيقة والواقع فإنها ليست بقدر واحد بل هي مختلفة فيها الذراع وفيها ما هو فوق ومنها ما هو دون.
فعلى ذلك: القدر المجزئ في الطول أن تكون كمؤخرة الرحل ذراعاً فما فوق أو عظم الذراع فما فوق.
وأما من حيث غلظها، فإن الحديث الذي في المستدرك ومسند أحمد – يدل على أنه لا يشترط لها حجماً محدداً في الغلظ بل لو كانت كسهم أو نحوه فلا بأس – في قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1) .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين -: (كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر ومن ثم اتخذها الأمراء) (2) والحربة أدق من مؤخرة الرحل. وثبت أنه كان يصلي إلى العنزة كما ثبت في البخاري (3) وغيره.
فعلى ذلك: كل ذلك جائز ولا يشترط أن يكون محدداً في العرض – بل لو كان ذلك دقيقاً فلا حرج.
وهذا حيث كان قادراً، وإلا فلو كانت دون ذلك وهي التي قد قدر عليها فإنه لا بأس بذلك ولا حرج.
قال: (فإن لم يجد شاخصاً فإلى خط)
__________
(1) تقدم قريباًَ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (90) سترة الإمام سترة من خلفه / رقم (494) ، وانظر (972) ، ومسلم (501) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب العيدين / باب (14) حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد / رقم (973) عن ابن عمر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنَزَة بين يديه تُحمل وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها ".
(5/175)
________________________________________
أي إن لم يجد شاخصاً يضعه بين يديه من خشب أو حجر أو شجر أو سارية أو نحو ذلك، ومثله لو صلى وبينه وبين القبلة آدمي، فقد ثبت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر يقولون لنافع إن لم يجد سترة: (ولني ظهرك) (1) وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة (2) – كما ثبت في الصحيحين –، وكان الصحابة يتبادرون سواري المسجد فيصلون إليها (3) كما في البخاري.
وثبت في النسائي أنه صلى إلى شجرة (4) .
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 250 رقم (2878) حدثنا أبو بكر قال نا وكيع عن هشام بن الغاز عن نافع قال كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلي سارية من سواري المسجد قال لي ولني ظهرك " الاسطوانة.
قال في نصب الراية ج: 2 ص: 96: " وأما ما روى من النهي خلف النائم والمتحدث فأخرجه أبو داود وابن ماجة عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث انتهى في سند أبي داود رجل مجهول وفي سند بن ماجة أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه وقال الخطابي هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وبسط القول فيه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (103) الصلاة خلف النائم / رقم (512) وانظر (513) .
(3) صحيح البخاري ج: 1 ص: 225
14 باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة رقم (599) . وانظر البخاري رقم (504) .
(4) السنن الكبرى ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى "، وقد تقدم صْ 159.
(5/176)
________________________________________
فالمقصود: أنه يصلي إلى شاخص مثل مؤخرة الرحل فما فوق ولا ينظر إلى كونه دقيقاً أو غليظ فإن تحديد ذلك ليس بشرط في الإجزاء بل هو ليس شرطاً في ثبوت السنية والاستحباب؛ لثبوت ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فإلى خط) :
دليله: ما رواه أحمد وأبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطاً ثم لا يضره ما مَّر بين يديه) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف مضطرب، ففيه جهالة، مع الاضطراب الوارد في سنده وهو من حديث أبي محمد محمد بن عمرو بن حُريث (2) عن جده، على أثبت الأسانيد في ذلك وهما مجهولان.
ولذا ضعفه ابن عيينة والبخاري وغيرهم، فالحديث ضعيف.
وكرهه الشافعي في قوله الجديد، وكذلك الأحناف والمالكية، وكرهه – كذلك – الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه – وهو الراجح؛ لأن الحديث الوارد في الخط ضعيف لا يثبت.
فعلى ذلك: لا يشرع له أن يخط خطاً فأن لم يجد شيئاً شاخصاً فإنه يصلي حسب حاله، ويكون قد سقط عنه وجوب ذلك أو سنيته على القول بها.
والمشهور عن الإمام أحمد: أن الخط يقوس كالهلال.
وقيل: أنه يوضع طولاً.
وقيل: عرضاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (103) الخط إذا لم يجد عصا / رقم (689) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا إسماعيل بن أمية، حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثا يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن مع عصا فليخططْ خطاً لا يضره ما مر أمامه) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبي محمد بن عمرو بن حريث، قال في التقريب: " أبو عمرو بن محمد بن حُريث، أو ابن محمد بن عمرو بن حريث، وقيل: أبو محمد بن عمرو بن حريث، مجهول من السادسة. / د ق ".
(5/177)
________________________________________
ولا دليل على شيء من ذلك فالخط مطلق، وإن كان أقربها أن يكون عرضاً؛ لأنه ظاهر الإطلاق، لكن الحديث ضعيف كما تقدم.
وفي قوله: (فليجعل تلقاء وجهه) :
ظاهره أن السترة تكون بين يديه وهو ظاهر الأحاديث، كما تقدم في المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالحربة فتوضع بين يديه " ظاهر ذلك أنها تكون قبلته وتلقاء وجهه.
- لكن المشهور في المذهب أنه لا يستحب أن يصمد إليها صمداً أي لا يتوجه إليها توجهاً تاماً بل يجعلها إلى حاجبه الأيمن أو الأيسر.
لما روى أحمد وابن ماجه (1) من حديث المقداد بن الأسود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله تلقاء حاجبه الأيسر أو الأيمن ولا يصمد له صمداً) (2)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبو داود [1 / 445] رقم (693) .
(2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 184
106 باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها أين يجعلها منه 693 حدثنا محمود بن خالد الدمشقي ثنا علي بن عياش ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل عن المهلب بن حجر البهراني عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها قال ثم ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا ".
الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج: 1 ص: 181
أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن عدي في ترجمة الوليد بن كامل عن المهلب ابن حجر عنها وأخرجه ابن الموطأ من وجه آخر عن الوليد فقال عن ضبيعة بنت المقدام بن معد يكرب عن أبيها والإضطراب فيه من الوليد وهو مجهول "
نصب الراية ج: 2 ص: 83

ورواه أحمد في مسنده والطبراني في معجمه وابن عدي في الكامل وأعله بالوليد بن كامل ونقل عن البخاري أنه قال عنده عجائب وأما بن القطان فإنه ذكر فيه علتين علة في إسناده وعلة في متنه أما التي في إسناده فقال إن فيه ثلاثة مجاهيل فضباعة مجهولة الحال ولا أعلم أحدا ذكرها وكذلك المهلب بن حجر مجهول الحال والوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم يثبت عدالتهم وليس له من الرواية كثير شيء يستدل به على حاله وأما التي في متنه فهي أن أبا علي بن الموطأ رواه في سننه هكذا حدثنا سعيد بن عبد العزيز فلهذا ثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك ثنا بقية عن الوليد بن كامل ثنا المهلب بن حجر البهراني عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على حاجبه الأيسر انتهى قال بن الموطأ أخرج هذا الحديث أبو داود عن رواية علي بن عياش عن الوليد بن إسناده ومتنه فإنه عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها وهذا الذي روى بقية هو عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها وذاك فعل وهذا قول قال بن القطان فمع اختلافهما في المتن بقية يقول ضبيعة بنت المقدام وابن عياش يقول ضباعة بنت المقداد فالوهن من حيث هو اختلاف على الوليد بن كامل ومورث للشك فيما كان عنده من ذلك على ضعف الوليد بن كامل وأنه يروى عن ضباعة بنت المقداد وأما ضبيعة بنت المقدام فجاء هو بأمر ثالث وذلك كله دليل على الاضطراب والجهل بحال الرواة انتهى "
(5/178)
________________________________________
لكن الحديث ضعيف فيه: الوليد بن كامل البجلي الشامي وهو ضعيف فلا يستدل به.
ونبقى على ظواهر الأحاديث المتقدمة، وأنه يجعل السترة إلى تلقاء وجهه دون ما تقدم.
* واعلم أن ظاهر الأحاديث أن السترة مشروعة في مكة وغيرها من غير استثناء لمكة بل هي كغيرها في مشروعية السترة ورد لمار بين يدي المصلي وغير ذلك لعمومات النصوص الشرعية الواردة في ذلك.
ومعلوم أن ترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان الاستثناء وارداً لصح في ذلك حديث، ولم يثبت عنه في ذلك شيء.
والمشهور في المذهب خلاف ذلك وأنه لا بأس بترك السترة في مكة، وكذلك رد المار لا يكون فيها لازدحام الناس فيها.
ومذهب الشافعية والمالكية خلاف ذلك وأن مكة كغيرها، وهو الراجح لظاهر الأحاديث.
وأما كون مكة تكون محلاً للازدحام فإننا نخصص الأوقات التي يزدحم الناس فيها بحيث يشق رد المار كأن يكون ذلك في حج أو في مواسم، ففي هذه الحال لا بأس بالقطع لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه مشقة عامة، بخلاف المشقة الخاصة التي يلحق الواقف نفسه فيها مشقة خاصة لا يترتب عليها إلا فوات بعض المصالح المترتبة عليه أو نحو ذلك، أما هنا فقد ترتب عليها مفاسد كبيرة وأذية لعموم الناس.
فحينئذ لا يقال بالمنع فيها عند ازدحام الناس.
وأما إن لم يكن هناك ازدحام شديد وكانت مكة كغيرها من المساجد في الازدحام فإنه يجب وضع السترة ورد المار بين يدي المصلي.
قال: (وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط)
البهيم هو الذي لا يخالطه غير لونه الظاهر فالأسود البهيم هو الذي ليس فيه إلا السواد، وهذا في كل الألوان فالبهيم هو ما كان لوناً لا يخالط بغيره.
فالكلب الأسود البهيم، ومثله – على الراجح – ذي النقطتين وهو ما يكون بين عينه نقطتان فهو شيطان كما ثبت في الحديث وأمر بقتله، فهذه كلها قاطعة للصلاة.
(5/179)
________________________________________
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (1) وفي مسلم من حديث أبي ذر الغفارى قال: (والكلب الأسود شيطان) (2) وفيه أنه قد قيد الكلب بالأسود.
وهذا الحديث المتقدم ظاهره أن هذه الثلاث تقطع الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد " الرواية الأخرى " وهو اختيار المجد وشيخ الإسلام وتلميذه، وقال ابن تيمية: " وهو مذهب أحمد " (3) أي هو المذهب الذي ينبغي أن يثبت إليه ففيه قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم.
القول الثاني: أن الثلاث كلها قاطعة للصلاة لعموم الحديث المتقدم وهو الأرجح.
وإنما استثنى - من القول بقطع الصلاة - الحنابلة الحمار والمرأة؛ لأن الحمار قد تقدم في حديث ابن عباس أنه مر بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك.
فدل على أن مروره بين يدي المصلي لا يقطع حيث لم ينكر ذلك.
وأما كون المرأة لا تقطع الصلاة: فلما ثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه اعتراض الجنازة) (4) .
وحيث ثبت ذلك فلا يبقى إلا الكلب الأسود البهيم فهو قاطع للصلاة دون غيره.
والراجح ما تقدم: واستدلوا بالعموم المتقدم.
وأجابوا عن الحديثين:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) . وقد تقدم.
(2) الباب السابق.
(4) تقدم.
(5/180)
________________________________________
أما حديث ابن عباس: فإنه قد مر بين يدي بعض المأمومين من الصف والإمام كان بين يديه سترة – كما تقدم ترجيحه – وحيث كان ذلك فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه، فمرور شيء من قاطعات الصلاة بين يدي المأمومين - وهم يأتمون بالإمام، والإمام له سترة - هذا لا يقطع صلاة المأموم.
فسترة الإمام سترة لمن خلفه، فإذا مر بين يديه شيء فكأنه قد مر من وراء السترة لأنه غير مبطل لصلاة الإمام فلم يكن مبطلاً لصلاة المأموم.
واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأخذ الحربة فيضعها بين يديه ويصلي وراءه الناس) (1) وليس فيه أن الناس كانوا يتخذون السترة، وإنما كانوا يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيصلون وراءه وقد اتخذ سترة ولا سترة لأحد منهم، فدل على أن سترة الإمام سترة لهم، وهو مذهب عامة أهل العلم.
وبوب البخاري باباً بهذا اللفظ: (وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه) وفيه حديث عند الطبراني في الأوسط (2) فيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (3) بهذا اللفظ وإسناده ضعيف أيضاً.
وعامة أهل العلم عليه؛ للحديث المتفق عليه المتقدم.
فعليه: هذا الحديث الذي رواه ابن عباس: إنما لم تبطل صلاة البعض من المأمومين حيث مر الأتان بين أيديهم لكونهم مؤتمين بإمام والإمام له سترة وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
__________
(1) تقدم.
(2) مجمع الزوائد ج: 2 ص: 62
باب سترة الإمام سترة من خلفه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سترة الإمام سترة من خلفه رواه الطبراني في الأوسط وفيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف " وقال في موضع آخر: " مجمع على ضعفه ".
(3) مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 18
2317 عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال سترة الإمام سترة من ورائه قال عبد الرزاق وبه آخذ وهو الأمر الذي عليه الناس
(5/181)
________________________________________
وأما اعتراض عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم اعتراض الجنازة فإنها ماكثة والكلام في المار.
والفرق بينهما واضح: فإن المرور هو التجاوز بين المصلي وبين سترته.
وأما الماكث فهو باقي أمامه قبلة له كالشيء الذي يستتر به وقد تقدم قول ابن عمر (ولني ظهرك) (1) .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد المار بين يديه من بهيمة ونحو ذلك، ولو كانت ثابتة مستقرة لما فعل ذلك؛ لما ثبت أنه قد صلى إلى راحلته ولو كانت مارة غير ماكثة لدفعها النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن المستحب في السترة أن تكون عن المصلي ثلاثة أذرع فيما بين قدمه والسترة.
أو بينها وبين مواضع سجوده ممر شاة كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أن بلالاً أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع) (2) وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد: (كان بين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم والجدار ممر شاة) (3) أي بين موضع سجوده وبين الجدار المستتر به ممر شاة.
فعلى ذلك: السترة يدنو منها المصلي فتكون منه على قدر ثلاثة أذرع أو بين السترة وبين موضع سجوده ممر شاة.
فإن لم يكن بين يديه سترة فإنه لا يجوز المرور بين يديه ويجب عليه أن يدفع المار بين يديه كما تقدم.
وموضع ذلك حيث كان يمكنه دفعه بحيث أنه يمكنه أن يمد يده إليه أو يتقدم يسيراً فيدفعه، فمثل هذا الموضع لا يجوز المرور، وإذا مر بينه وبين ذلك شيء مما تقدم فإنه يبطل الصلاة أو ينقصها.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (97) / رقم (506) ، وفي باب (51) الصلاة في الكعبة / رقم (1522) وفي نسخة رقم (1599) من كتاب الحج، وأخرجه مسلم (1329) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة /باب (19) قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة / رقم (496) .
(5/182)
________________________________________
فالقدر حيث لم يضع سترة بحيث أنه يمكنه من غير إخلال بالصلاة أن يتقدم تقدماً يسيراً فيدفع، هذا تقريباً ثلاثة أذرع.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن ذلك يحدد بقدر رمي حجر، وهذا ضعيف.
والراجح ما تقدم من أنه ثلاثة أذرع ونحوها.
* والمشهور عند جمهور أهل العلم أن الصلاة لا تنقطع بشيء مما تقدم ذكره.
واستدلوا بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم) (1) لكن الحديث فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف فلا يعارض به ما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
فعلى ذلك: الراجح: أن الحمار والكلب الأسود والمرأة الحائض مرورهم يقطع الصلاة.
وقد ورد في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح: تقييد المرأة الحائض (2) ، وإنما يراد بالحائض البالغة.
فإن لم تكن حائضاً فإنها تنهى عن المرور وتدفع لكنها لا تقطع الصلاة.
قال: (وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عن آية رحمة ولو في فرض)
لما روى مسلم من حديث حذيفة – في قصة قيامه الليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ) (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (115) من قال لا يقطع الصلاة شيء / رقم (719) بلفظ: " لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (110) ما يقطع الصلاة / رقم (703) ، والنسائي حديث 752. سنن أبي داود [1 / 452] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين.. / باب (27) استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) عن حذيفة قال: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المئة … إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع.. ".
(5/183)
________________________________________
وقوله: (ولو فرض) قياساً على النفل، فإن الحديث ثابت في النفل وما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يخصص ذلك.
وكره ذلك الأحناف والمالكية وقالوا: إنما هو خاص في النفل دون الفرض، فلا يستحب له في الفرض.
وهذا قوي في الغالب، فإن الغالب في فعل ذلك أن فيه إشقاقا (1) ً على المأمومين، فوقوف الإمام عند الرحمة يسألا والعذاب يستعيذ منه هذا يكون فيه إطالة على المأمومين فيكون فيه مشقة، والمشروع في الصلاة الجماعية أن يخففها الإمام بحيث لا يشق على المأمومين.
لذا لم يُنقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مثل ذلك ثابت في الفرض لنقل لنا ذلك نقلاً بيناً.
وأما المأموم فإن في فعل ذلك انشغالاً عن الإمام في متابعة قراءته، وقد قال تعالى: {فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} (2) فكان الأولى عدم فعله في الفرض كما تقدم، لكن لو تبين أنه ليس في فعله مشقة على المأمومين، كأن يكون المأمومون محصورين بعدد يعلم أن لا يشق عليهم فإنه لا معنى لكراهية ذلك؛ لأن الأصل أن ما ثبت في الفرض فهو ثابت في النفل.
وحينئذ: فيشرع للمأموم ذلك.
فإذن: الأصل أو الغالب أن في فعله مشقة على المأمومين، وفعله للمأموم يشغله عن متابعة قراءة الإمام أو عن تمامها، فإن فعلها الإمام حيث لا مشقة فلا ينبغي القول بكراهيتها.
وحينئذ يفعلها المأموم ما دام الإمام يسكت لها، فسكوت الإمام لها وفعل المأموم لها أثناء السكوت لا يشغله عن متابعة قراءته.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس السادس والثمانون
(يوم الأحد: 13 / 4 / 1415هـ)

فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأركانها)
أي أركان الصلاة.
والأركان: جمع ركن وهو جانب الشيء الأقوى وقد تقدم الفارق بينه وبين الشرط.
أن الشرط هو الفرض المرتبط بالصلاة من غير ماهيتها وغير حقيقتها.
وأما الركن فهو المرتبط بها وهو من حقيقتها وذاتها.
__________
(1) أي مشقة.
(5/184)
________________________________________
فالنية من شروط الصلاة وهي قضية خارجة عن حقيقة الصلاة، وأما الركن فهو من حقيقتها وذاتها كالركوع والسجود ونحو ذلك.
والركن هو الفرض في تعبير بعض فقهاء الحنابلة وهذا على التفريق بين الفرض والواجب كما هو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
والركن لا يسقط سهواً ولا عمداً، بخلاف الواجب فإنه يسقط سهواً ويجبر بالسجود، فأركان الصلاة لا تسقط سهواً ولا عمداً وسيأتي بيان ذلك في سجود السهو.
قال: (القيام)
هذا هو الركن الأول من أركان الصلاة وهو القيام مع القدرة، فهو فرض في الفريضة بإجماع العلماء لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم في البخاري من حديث عمران بن حصين: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تسطع فعلى جنب) (2) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به المسيء صلاته وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) .
وهو فرض بالإجماع مع القدرة لا مع العجز فإن العجز يسقط الواجبات.
وهو فرض في الفريضة دون النافلة، وقد تقدم جواز صلاة النافلة على الراحلة، فالقعود جائز هناك لكونها نافلة.
وقد اختلف أهل العلم في حقيقة القيام:
1- فقال الحنابلة: حقيقته: ما لم يصلِّ راكعاً، فإذا لم يثبت ركوعه فهو قائم قياماً مجزئـ[ـاً] .
فعليه: لو انحنى بحيث لا تصل راحتاه إلى ركبته وإن كان قريباً إلى ذلك فإن القيام يجزئ عنه.
2- وقال الشافعية: هو الانتصاب أي انتصاب فقار الظهر فإذا كانت منتصبة وإن كان هناك انحناء يسير كأن يكون قد طأطأ رأسه وكأن [يكون] في ظهره انحناء يسير فإن هذا مجزئ.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة / باب (19) إذا لم يطق قاعداًَ صلى على جنب / رقم (1117) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. (631)
(5/185)
________________________________________
وما ذكروه هو الأظهر: وهو أن يكون قائماً في العرف وهو أن يكون منتصب الظهر، والانحناء اليسير معفو عنه لأن حقيقة القيام ثابتة له عرفاً.
وعلى هذا: فلو انحنى انحناء يقرب من الركوع فإن هذا ليس بقيام مجزئ، فلا يجزئه.
والواجب والفرض عليه هو قيام مثله، فإن كان في ظهره شيء من الحُدبة أو كان في سجن قصير سقفه، فالواجب عليه أن يقوم بقدر استطاعته وإن كان فيه انحناء لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فهذا هو قيام مثله.
* وهل يجزئه أن يكون قائماً مستنداً إلى شيء أم لا؟
لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون على هيئة المتعلق بحيث تكون القدمان لا عمل لهما في القيام مطلقاً، بحيث لو أزيلت قدماه لم يقع، فمثل هذا ليس بقيام على الإطلاق ولا يجزئ بلا خلاف بين أهل العلم فلا خلاف فيه.
الحالة الثانية: أن يستند إلى جدار أو عصا أو نحوه، وكان بحيث لو أزيل هذا الجدار أو العصا لاختل قيامه فسقط، ففيه قولان لأهل العلم:
1- القول الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن الصلاة تبطل.
وعليه: لو كان الرجل قادراً على القيام فانتصب مستنداً إلى عصا أو جدار، فلا يجزئ عنه في مذهب جمهور أهل العلم، وعليه فالصلاة باطلة؛ لأنه ترك القيام مع القدرة عليه.
2- القول الثاني، وهو وجه للشافعية اختاره النووي وغيره قالوا: القيام مجزئ عنه؛ لأنه قائم قد فعل القيام، وكونه مستنداً إلى شيء لا يؤثر هذا الحكم؛ لأن القيام قد ثبت، فسواء كان قائماً بنفسه أو قائماً بغيره فقد ثبت القيام وهذا هو الواجب عليه.
وهذا القول هو الأرجح، لأن هذا القيام صحيح، ولا ننظر بعد ذلك هل هو قام بنفسه من غير اعتماد على غيره أو كان بالاعتماد على الغير. فهو قيام صحيح فحقيقة القيام موجودة فيها.
واعلم أن العاجز عن القيام إن كان يمكنه أن يقوم على هذه الصورة فيجب عليه فعل ذلك.
(5/186)
________________________________________
وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأصح الوجهين في مذهب الشافعية.
أي لا يستطيع القيام بنفسه لكن يستطيع القيام (1) على عصا ونحوه فيجب عليه ذلك؛ لأنه قادر على القيام وقد اتقى الله ما استطاع، ولو لم يفعل بطلت صلاته فلا يصح فيه القعود، لأن هذا قيام صحيح، وحيث كان قياماً صحيحاً فيجب عليه فعله وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيجب أن يعتمد على عصا أو نحوه.
- وهناك وجه للشافعية يقدم وجوب ذلك وفرضيته عليه. وهذا يبنى على المسألة السابقة.
فحيث قلنا: إنه ليس بقيام مجزئ فلا يجب عليه؛ لأنه في الحقيقة ليس بقائم وهو حيث جلس فقد اتقى الله ما استطاع، ولا فائدة من اعتماده على شيء؛ لأنه لا يعد قائماً.
والراجح ما تقدم في المسألتين كلتيهما.
قال: (والتحريمة)
هي ركن من أركان الصلاة وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة.
قال: (والفاتحة)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (2) وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة.
قال: (والركوع)
وهو ركن، لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (3) ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته -: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (4) .
وقد تقدم ذكر صفته المستحبة.
وأما القدر المجزئ فيه فهو – عند جمهور أهل العلم – هو: أن ينحني بحيث تمس راحتاه ركبتيه فإذا مست الراحتان الركبتين فهذا هو القدر المجزئ منه.
__________
(1) في الأصل: بالقيام.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم (756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) . وقد تقدم.
(3) سور الحج 77.
(4) تقدم.
(5/187)
________________________________________
وهذا حيث كان منتصباً في رجليه غير حان أو مقدم لركبتيه، أما إذا قدم ركبتيه فلا، لأنه إذا مس بالراحتين حيث قَدَّم الركبتين فهذا المس لم يحصل بسبب الانحناء وهو الركوع، وإنما حصل بسبب تقديم الركبتين.
فعليه: تنصب الرجلان وتكون الركبتان في موضعهما الطبيعي غير مقدمتين، فينحني حتى تمس الراحتان الركبتين – هذا هو القدر المجزئ عند جماهير أهل العلم؛ لأن هذا هو حقيقة الركوع، فإن حقيقة الركوع هو الانحناء.
وليتميَّز عن القيام فإنا نحتاج إلى أن يكون ذلك على هذه الصورة المتقدمة.
وما ذكروه من الاستدلال في الحقيقة، غير واضح وينبغي الاستدلال بما ثبت في حديث المسيء صلاته في أبي داود وغيره – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمره أن يضع يديه على ركبتيه) وفي رواية لابن حبان وابن خزيمة: (فضع راحتيك على ركبتيك) (1) .
__________
(1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 227 رقم (859) عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك …) .
صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 206 رقم (1887) : عن ابن عمر قال جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن قال اجلس وجاء رجل من ثقيف فقال يا رسول الله كلمات أسأل عنهن فقال صلى الله عليه وسلم سبقك الأنصاري فقال الأنصاري إنه رجل غريب وإن للغريب حقا فابدأ به فأقبل على الثقفي فقال إن شئت أجبتك عما كنت تسأل وإن شئت سألتني وأخبرك فقال يا رسول الله بل أجبني عما كنت أسألك قال جئت تسألني عن الركوع والسجود والصلاة والصوم فقال لا والذي بعثك بالحق ما أخطأت مما كان في نفسي شيئا قال فإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك ثم فرج بين أصابعك … ".
(5/188)
________________________________________
وحيث قلنا: إن الفعل واقفاً – ليس بواجب – كما هو مذهب الجمهور وهو أن وضع الراحتين على الركبتين ليس بواجب وإنما الواجب هو الانحناء. فحيث قلنا بذلك فإنه لابد وأن يكون متمكناً من وضع الراحتين على الركبتين ولا يكون ذلك إلا بالانحناء المتقدم الذي ذكره الجمهور لكنهم لا يوجبون وضع الراحتين على الركبتين.
وحديث المسيء صلاته يوجب ذلك وبفرضه وإلا فحقيقة الركوع في اللغة مجرد الانحناء، فالانحناء في الحقيقة ركوع وإن لم يصل الراحتان إلى الركبتين، لكن حديث المسيء صلاته يدل على فرضية وضع الراحتين على الركبتين أو على قول الجمهور يدل على أنه لابد أن يتمكن من وضع الراحتين على الركبتين.
فعلى ذلك: حقيقة الركوع أن ينحني انحناء بحيث إذا مد يديه والمراد بذلك حيث كانت اليدان ليس فيهما طول أو قصر بل هما معتدلان في الخلقة، فمدهما فوضع الراحتين على الركبتين فهذا هو المجزئ.
قال: (والاعتدال عنه)
لقوله صلى الله عليه وسلم: - في حديث المسيء صلاته -: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) (1) .
وما قلناه في القيام قبل الركوع يقال في القيام بعد الركوع وأن الفرض فيه أن ينتصب قائماً بحيث تكون فقار ظهره منتصبة.
قال: (والسجود على الأعضاء السبعة)
تقدم الكلام عليه، وفيه حديث ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة من فرضية السجود على الأعضاء السبعة.
قال: (والاعتدال عنه)
لقوله في حديث المسيء صلاته: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (2)
قال: (والجلسة بين السجدتين)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (3) ولم أر لفقهاء الحنابلة ذكر [اً] للقدر المجزئ في الجلوس كما ذكروا القدر المجزئ في القيام ونحوه.
ورأيت عند فقهاء الشافعية: أن الواجب هو مطلق الجلوس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام (6251) ، وأخرجه مسلم (397) .
(2) تقدم قريباً.
(3) تقدم قريباً.
(5/189)
________________________________________
فإذا تورك أو افترش أو مد رجليه أو نصب أحد رجليه أو نحوه فإنه يجزئ عنه في المواضع كلها التي فيها الجلوس كالتشهد الأول والثاني والجلسة بين السجدتين فهذه المواضع كلها القدر المجزئ فيها مطلق الجلوس.
وسكوت الحنابلة يدل على مثل ذلك وأن القدر المجزئ في الجلوس هو مطلقه.
والقدر المجزئ هو مطلق الجلوس؛ لأن الشارع أوجب الجلوس، فأي جلوس فعله قد صح منه الجلوس، والقدر المستحب تقدم الكلام عليه: من الافتراش في موضعه، والتورك في موضعه، والإقعاء بين السجدتين.
قال: (والطمأنينة في الكل)
لحديث المسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تطمئن قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً …) (1) الحديث. ولقول حذيفة – لما رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده قال له: (ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر [الله] عليها محمد صلى الله عليه وسلم) (2) .
*واختلف فقهاء الحنابلة في حقيقة الطمأنينة:
فالصحيح من المذهب - والمراد الذي صححه الحنابلة والمرجع عندهم –: هو السكون وإن قل، فإذا سكن واستقر راكعاً أو جالساً أو قائماً فإن هذه هي الطمأنينة الواجبة.
أما إذا وصل إلى السجود فرفع من غير سكون فيه ولا استقرار فذلك لا يجزئ عنه.
__________
(1) تقدم قريباً.
(2) أخرجه البخاري بهذا اللفظ بتأخير " عليها " في كتاب الأذان / باب (119) إذا لم يتم الركوع / رقم (791) ، وفي كتاب الصلاة، باب (26) إذا لم يتم السجود / رقم (389) بلفظ: " عن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته ئ، قال له حذيفة: " ما صليت - قال: وأحسبه قال - لو مت مت على غير سنة محد - صلى الله عليه وسلم - ".
(5/190)
________________________________________
والقول الثاني في المذهب: أنه بقدر الذكر الواجب، فهو في القيام بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وفي الركوع بقدر (سبحان ربي العظيم) ، وفي الرفع منه بقدر (ربنا ولك الحمد) – حيث قلنا بوجوبه بعد الرفع، وإلا فالحنابلة يقولون بوجوبه أثناء الانتقال وعليه فهذا الركن ثابت فيه مجرد السكون وإن قل. وفي السجود بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى) .
ويترتب على ذلك: معلوم أن الطمأنينة ركن، وأن ترك الذكر ترك لواجب، وأن الأذكار في الصلاة واجبة لا فرض.
فإذا سجد وسكن في سجوده ورفع لم يذكر الله تعالى (سبحان ربي الأعلى) ساهياً، فهل يكون قد ترك فرضاً أو واجباً؟
لا شك أنه تارك لواجب.
لكن هل يضاف لذلك تركه للركن؛ لأنه لم يطمئن بقدر قوله: (سبحان ربي العظيم) أو (سبحان ربي الأعلى) فهو قد سكن لكن ليس بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى) ولم يقل هذا الذكر، فهل يعد تاركاً للواجب فقط فيجبره سجود السهو أو يعد تاركاً للركن لأن الركن شرط فيه الطمأنينة؟
على القولين السابقين:
والراجح القول الأول وأن مجرد السكون وإن قل هو الطمأنينة؛ لأن هذه هي حقيقة الطمأنينة.
وأما قضية الذكر الواجب فهو ذكر يجب في الصلاة ويجب أن يطال في الركوع أو السجود لأجله؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لكنه ليس بركن فيها بل الركن هو مجرد الطمأنينة وهذه يحصل بمجرد السكون ولو كان ذلك بمقدار (سبحان ربي) وإن لم يقل (الأعلى) فإن هذا يعتبر سكوناً، وإن كان ليس بقدر الذكر الواجب.
فيقال: فرض عليه أن يستقر ويسكن في سجوده، وواجب عليه أن يكون هذا السكون بقدر الذكر الواجب.
فعلى المسألة السابقة لا يعد تاركاً للركن بل للواجب وهو الذكر.
قال: (والتشهد الأخير وجلسته)
(5/191)
________________________________________
هو ركن لحديث ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (1)
فهذا يدل على أن التشهد فرض في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعله ولم يثبت عنه تركه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلى) والعلم عند الله تعالى.
فالمشهور في المذهب: فرضية التشهد الأخير والجلوس له كذلك؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
ولأن التشهد لا يصح إلا بالجلوس وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض.
وتقدم أن التشهد ينتهي بقوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) .
قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه)
كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وأنه فرض، وهو عند الحنابلة فرض في التشهد الأول (2) فقط، وأما الشافعية فهو فرض في التشهد كليهما.
وقد تقدم القول حول هذه المسألة وأن الراجح أنه ليس بفرض في التشهد الأول.
وأما التشهد الثاني أي الصلاة فيه فالمشهور في المذهب فرضيتها.
__________
(1) سنن الدارقطني ج: 1 ص: 350 (4) وقال: " هذا إسناد صحيح "، والبيهقي في السنن الكبرى رقم (2644) و (3777) . تلخيص الحبير ج: 1 ص: 262 رقم (403) قال: " الدارقطني والبيهقي من حديثه بتمامه وصححاه وأصله في الصحيحين وغيرهما دون قوله قبل أن يفرض علينا ".
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الثاني أو الأخير، انظر الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله تعالى [3 / 423] .
(5/192)
________________________________________
- وعن الإمام أحمد: أنها ليست بفرض بل سنة، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو الراجح؛ لأنه لا دليل على فرضيتها وليس في الباب إلا الحديث المتقدم في قول الصحابي: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال: قولوا) (1) فهذا أمر ورد بعد سؤال، والأمر بعد سؤال ليس ظاهراً في الوجوب بل هو للاستحباب كما قرر ذلك غير واحد من الأصوليين.
وقد قال ابن مسعود – وهو راوي حديث التشهد – ورواه أبو داود مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح وقفه قال: (أما إذا قلت هذا أو قضيت هذا) يعني التشهد المذكور في حديثه إلى قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد قضيت صلاتك) (2) .
فهذا يدل على أن ما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليس بواجب وهو قول ابن مسعود وهو مذهب أكثر الفقهاء.
والأصل عدم الوجوب حتى يرد دليل على ذلك، وما استدل به ليس فيه الإيجاب بل فيه مشروعية ذلك واستحبابه والعلم عند الله تعالى.
قال: (والترتيب)
فرض بالإجماع بين فرائض الصلاة وأركانها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في بيان مجمل القرآن في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [سورة البقرة 2/43] وما كذلك فهو فرض ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه المسيء صلاته، فيعلمه لصلاة مرتبة فكان الواجب الترتيب فيها، فإذا قدم الركوع على القيام لم تصح الصلاة وإذا ترك الترتيب سهواً فلا يجبر إلا بفعله.
قال: (والتسليم)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات / باب (32) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - / رقم (6357) ، وانظر رقم (4797) و (3370) ، ومسلم (406) في كتاب الصلاة / باب (17) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.. .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (183) التشهد / رقم (970) ، والبيهقي والدارقطني وابن حبان. الاسطوانة.
(5/193)
________________________________________
هو ركن كذلك، وتقدم دليله في قوله: (وتحليلها التسليم) (1) ، فهذا يدل على أن من شرع في الصلاة لا يحل له ما نهي عنه خارج الصلاة إلا بالسلام فهو فرض فيها.
وهذا باتفاق أهل العلم.
وقد اتفق أهل العلم على أن التسليمة الأولى فرض.
* لكن اختلفوا في الثانية:
فذهب جمهور أهل العلم (2)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم (14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] . وقد تقدم صْ 61.

(2) الكافي لابن قدامة [1 /143] ، الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 117

والتسليمة الثانية في رواية وكذا قال في الهادي والمذهب الأحمد وهذه إحدى الروايات مطلقا جزم بها في الإفادات والتسهيل قال القاضي وهي أصح وقال في الجامع الصغير وهما واجبان لا يخرج من الصلاة بغيرهما وصححها ناظم المفردات وهو منها وقدمها في الفائق والرواية الثانية أنها ركن مطلقا كالأولى جزم به في المنور والهداية في عد الأركان وقدمه في التلخيص والبلغة والرعايتين والحاويين والنظم والزركشي وإدراك الغاية قال في المذهب ركن في أصح الروايتين وصححها في الحواشي واختاره أبو بكر والقاضي والأكثرون كذا قاله الزركشي مع أن ما قاله في الجامع الصغير يحتمله وهي من المفردات وعنه أنها سنة جزم به في العمدة والوجيز واختارها المصنف والشارح وقدمه ابن رزين في شرحه.. " ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، لكن قال في الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 118: " قلت هذا مبالغة منه وليس بإجماع قال العلامة ابن القيم وهذه عادته إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعا وعنه هي سنة في النفل دون الفرض وجزم في المحرر والزركشي أنها لا تجب في النفل وقدم أبو الخطاب في رؤوس مسائله أنها واجبة في المكتوبة.. " الاسطوانة.
(5/194)
________________________________________
: إلى أن الثانية ليست بفرض.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وذهب إليه بعض المالكية: إلى أنها فرض.
وهذا القول هو الراجح، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) مجمل بينته السنة في كونه يسلم عن يمينه وعن شماله.
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنه اكتفى بالتسليم عن يمينه لا في فرض ولا في نفل، وما ورد في ذلك فهو إما حديث ضعيف أو حديث ليس بصريح فعليه التسليمة الثانية فرض في الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد.
فهذه أركان الصلاة التي لا تصح الصلاة إلا بها وهي لا تسقط عن المصلي سهواً ولا عمداً.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع والثمانون
(يوم الاثنين: 14 / 4 / 1415هـ)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها)
أي واجبات الصلاة وهي ما تجبر بسجدتي السهو وتركها عمداً مبطل للصلاة.

قال: (التكبير غير التحريمة والتسميع)
فمن واجباتها التكبيرات التي هي تكبيرات الانتقال، والتسميع كذلك.
فالألفاظ التي يتلفظ بها الإمام والمأموم والمنفرد فيما بين الأركان من تكبيرات أو تسميع واجب في الصلاة.
واستدلوا على ذلك: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح من حديث المسيء صلاته وفيه: (ذكر تكبيرات الانتقال والتسميع) (1) والحديث صحيح.
- وذهب جمهور العلماء: إلى أنه ليس بواجب وهكذا ما بعده فيما ذكر في هذا الباب من الواجبات.
وقالوا: إنه لم يذكر في حديث المسيء صلاته.
والصحيح أنه مذكور كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح وفيه: (لا تتم صلاة أحدكم – الحديث – وفيه ذكر التكبيرات والتسميع) (2) فالصحيح أنه واجب في الصلاة.
- بل عند الإمام أحمد: أنه ركن، وهذا الذي يقتضيه حديث المسيء صلاته، وأن الصلاة لا تتم إلا به وهذا هو الركن.
__________
(1) تقدم. وهو في أبي داود، كتاب الصلاة،باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (857)
(2) تقدم قريبا.
(5/195)
________________________________________
إذن: المشهور في المذهب أن تكبيرات الانتقال والتسميع واجبات وتركها يجبر بالسجود.
وعن الإمام أحمد أنها ركن فيه، فعلى ذلك لا تجبر بالسجود بل يجب أن يأتي بها، والحديث يدل على ما ذهب إليه أهل القول الثاني، لكن المشقة واردة في الحكم بركنية التكبير، والتكبير إنما يقصد منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر ومثل هذا يصعب الجزم بركنيته مع ما فيه من المشقة وصعوبة التحرز عن ترك شيء منه لاسيما للمنفرد والمأموم، فينبغي أن يقال: إنه واجب لما في القول بركنيته من المشقة والمشقة تجلب التيسير.
مسألة:
تقدم أن هذه التكبيرات إنما تشرع في حالة الانتقال ما بين الركن إلى الآخر.
وعليه: فإنها تفعل أثناء الانتقال، فإذا شرع برفع رأسه من الركوع – مثلاً – شرع يقول: سمع الله لمن حمده، فينتهي وقد وصل إلى القيام، فلا يشرع فيه في ركوعه ولا يتمه أثناء قيامه، بل يقوله أثناء الانتقال، هذا هو مقتضى كونه مشروعاً أثناء الانتقال.
- واعلم أن المشهور في المذهب أن هذا فرض وشرط فيه فلا يصح التكبير إلا حيث كان ذلك.
فلو أنه كبر أثناء ركوعه ثم رفع، أو كبر وقد رفع من الركوع فأتمه أثناء القيام فإنه لا يجزئ عنه ولا يصح ذلك منه، وعليه فإنه تارك للواجب فيجب عليه سجود السهو مع النسيان، وإلا فإن صلاته تبطل.
قالوا: كما أن القراءة لا تصح قبل القيام ولا بعده.
فلو أنه شرع في الفاتحة وهو يرتفع من الركعة إلى ما بعدها فشرع في القراءة أثناء نهوضه قبل أن يصل إلى القيام فلا يجزئ عنه، وإذا أتمها وهو راكع فكذلك لا يجزئ عنه. فكذلك تكبيرات الانتقال، وهذا القول أقيس من القول الثاني.
- والقول الثاني في المذهب: أن ذلك يجزئ عنه، ومع ذلك فإن هذا القول هو الراجح مع كون القول الأول أقيس، واختاره المجد ابن تيمية.
(5/196)
________________________________________
وكونه هو الراجح، لما في القول الأول من المشقة وصعوبة التحرز، حتى قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذا القول: " وهو الذي لا يسع الناس غيره " (1)
فالتحرز عنه شاق، والمشقة تجلب التيسير، ولأن المقصود منه إنما هو إظهار الانتقال ما بين ركن إلى آخر، وهذا يحصل في الحقيقة وإن قاله أثناء الركن المنتقل منه، أو الركن المنتقل إليه.
ومع ذلك فإنه لا يتساهل بهذا، إلا ما يقع من الناس وهذه مسألة لا شك يكثر الوقوع فيها فيشق التحرز منها، والمشقة تجلب التيسير، وهذا لا شك أن السهو فيه يكثر، والجهل فيه يفشو، فمثله ينبغي أن يتساهل فيه لا سيما وأن المقصود منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر.
كما أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان فرضية هذا - مع كونه لا شك في وقوعه وكثرته في الناس، سكوت النبي صلى الله عليه وسلم - يقتضى عدم وجوبه والتسامح فيه، لأن عدم البيان مع الحاجة لا يجوز، والناس يقع منهم هذا ولا شك، بل كان التكبير في عصور المتقدمين مشروعيته أصلاً مجهولة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره – كما يدل عليه روايات كثيرة – بسبب إمامة الأمراء وكانوا يتساهلون بالتكبيرات أي التلفظ [بها] .

قال: (والتحميد)
تقدم دليل ذلك ومشروعيته للإمام والمنفرد والمأموم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (2) والأمر للوجوب.

قال: (وتسبيحتا الركوع والسجود وسؤال المغفرة مرة مرة ويسن ثلاثاً)
أي قوله: " سبحان ربي العظيم " في ركوعه، و " سبحان ربي الأعلى " في سجوده.
__________
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (51) إنما جعل الإمام ليؤتم به (689) ، وفي باب (128) الهوي بالتكبير حين يسجد (805) ، وفي أبواب تقصير الصلاة، باب (17) صلاة القاعد (1114) . وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة،باب ائتمام المأموم بالإمام (411) .
(5/197)
________________________________________
لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر قال: (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال: النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك الأعلى " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في سجودكم ") (1) والأمر يقتضي الوجوب.
وسؤال المغفرة كذلك، بالقياس وإلحاق الشيء بنظيره والشبيه بشبيهه.
فإن هذا الجلوس ركن من أركان الصلاة، فيشرع فيه ما يشرع في غيره ويجب فيه ما يجب في غيره، فكما أن الركوع فيه ذكر واجب، والرفع منه فيه ذكر واجب والسجود والجلوس الأخير والجلوس وسط الصلاة كل ذلك فيه ذكر واجب، فكذلك الجلسة بين السجدتين.
فعلى ذلك يجب عليه أن يقول: (رب اغفر لي) في جلوسه بين السجدتين، وهو المشهور في المذهب وكل هذه المسائل عند جمهور العلماء ليست بواجبة والراجح ما تقدم.
أما ما ورد فيها في حديث المسيء صلاته فهذا الحديث حجة في وجوبها.
وأما ما لم يرد فإنها قد وردت بالأمر، وكونها لم ترد في حديث المسيء صلاته لا يدل ذلك على عدم وجوبها إذ الحديث لا يحيط بأركان الصلاة وواجباتها، وفيه ما هو ثابت بالسنة الصحيحة فرضيته ووجوبه ولم يرد في حديث المسيء صلاته، لقول ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (2) والتشهد وجلوسه ليسا مذكورين فيه.
فالحديث لا يحصر ذلك كله، فإن من الواجبات ما يحتمل أن يكون قد فرض بعد حديث المسيء صلاته.
وفيها ما لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانه للمسيء صلاته لكون ذلك واضحاً ومعروفاً له، وقد قام به على وجهه فلا يحتاج إلى بيانه.
(مرة مرة) : في كل مما تقدم في قوله: (سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى) و (رب اغفر لي) فكلها تجب مرة.
(ويسن ثلاثاً) : وقد تقدم.
قال: (والتشهد الأول وجلسته)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869)
(2) تقدم.
(5/198)
________________________________________
فالتشهد الأول من واجبات الصلاة، لما ثبت في حديث ابن مسعود وفيه: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) .
والجلوس له واجب أيضاً؛ لأن التشهد لا يتم إلا بجلوس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وليسا بركنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام عن التشهد الأول وانتصب قائماً لم يعد إليه وجبره بسجدتين، وهذا لا يفعل بالركن.
وهذا – أي وجوب التشهد الأول وجلسته – مشكل على المذهب حيث أن الدليل واحد في التشهد وقد أوجبوا التشهد الأول، وفرضوا التشهد الثاني وجعلوه من أركان صلاة، مع أن الحديث الوارد في التشهد حديث واحد وهو حديث ابن مسعود.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن التشهد الثاني والجلوس له واجبان وليسا بركنين – كما أن التشهد الأول واجب – لأن الحديث الوارد فيها واحد، وحكمهما في الحقيقة واحد.
وهذا قول قوي، لكن يشكل عليه قضية الجلوس له، لأن الجلوس له لا يتم السلام – وهو ركن من أركان الصلاة – إلا بهذا الجلوس فينبغي أن يكون الجلوس ركن من أركان الصلاة.
وهذا قول في مذهب أحمد: وهو أن الجلوس للتشهد الثاني ركن والتشهد واجب.
وهذا – فيما يظهر لي – أرجح الأقوال.
قال: (وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة)
فكل ما لم يكن واجبـ[ـاً] ولا شرطـ[ـاً] ولا ركنـ[ـا] فهو سنة، وهذا ضابط واضح.
قال: (فمن ترك شرطاً بغير عذر غير النية فإنها لا تسقط بحال بطلت صلاته)
فمن ترك شرطاً لغير عذر – كالوضوء مثلاً – فإن الصلاة تبطل ولو كان ساهياً ناسياً.
إلا أنه استثني المعذور، كالعاجز عن الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة، فإن صلاته تصح، لأنه معذور في ترك الواجب لكونه عاجزاً عنه.
(5/199)
________________________________________
(غير النية) : فالنية لا تسقط بحال، لأنه لا يتصور سقوطها، فالنية محلها القلب، ولا يتصور أبداً أن يعجز عنها المكلف فهو قادر عليه على الإطلاق، لذا وجب استثناؤها لأنه لا يمكن أن يكون العبد معذوراً في تركها، إذ محلها القلب وحيث كان محلها القلب فلا عذر في تركها.
قال: (أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته)
فمن ترك واجباً أو ركناً عمداً في الصلاة، فإن الصلاة تبطل.
أما إذا تركه على سبيل السهو فلا تبطل الصلاة وتجبر بسجود السهو في الواجبات.
وأما الأركان فإنها لا تصح الصلاة إلا أن يؤتى بها.
فهما في التعمد باب واحد، فكلاهما أمر الشارع به، فإذا ترك واجباً أو ركناً فقد أدى الصلاة على غير أمر الله وشرعه، وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد.
قال: (بخلاف الباقي)
أي بخلاف الباقي من السنن فإنه إذا تركها عمداً لا تبطل صلاته. كمن ترك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام أو إرادة الركوع أو نحو ذلك.
قال: (وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال)
سنن أقوال: كزيادة (سبحان ربي العظيم) مرتين على المرة الواجبة فيكون المجموع ثلاثاً.
وسنن الأفعال: كجلسة الاستراحة – على القول بها – وكرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وإرادة الركوع والرفع منه (1) .
قال: (ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس)
هذا قول في المذهب: وهو أنه لا يشرع له السجود لتركه لكن إن سجد فذلك جائز.
__________
(1) في الأصل منها.
(5/200)
________________________________________
لحديث رواه أبو داود من حديث إسماعيل بن عياش عن زهير بن سالم الشامي (1) – إلى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل سهو سجدتان) (2) وهذا عام في كل سهو، فإذا سها في ترك سنة شرع له أن يسجد لها لكن الحديث ضعيف، ضعفه البخاري بقوله: (مضطرب) وفيه إسماعيل بن عياش ويروى عن الشاميين وروايته عنهم ضعيفة.
وزهير بن سالم ضعيف أيضاً فالحديث لا يثبت.
فعلى ذلك: لا يشرع له أن يسجد وعليه أيضاً فلا يجوز له أن يسجد – كما هو رواية عن أحمد – لأن السجود زيادة في الصلاة لا يشرع إلا في موضعها الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه السجود عن ترك سنة.
فعلى ذلك: فلا يشرع ولا يجوز له أن يسجد للسهو لأن السجود زيادة في الصلاة لا تشرع إلا حيث شرعها النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا تصح إلا حيث وردت ولم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم – وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين

باب سجود السهو
أي السجود المشروع بسبب السهو وهو النسيان والذهول الواقع في الصلاة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يشرع)
__________
(1) في أبي داود: أن ابن عياش حدثهم عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير.. "
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (201) من نسي أن يتشهد وهو جالس (1038) قال: حدثنا عمرو بن عثمان والربيع بن نافع وعثمان بن أبي شيبة وشجاع بن مخلد، بمعنى الإسناد أن ابن عياش حدثهم، عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهير - يعني ابن سالم العنس - عن عبد الرحمن بن جبير ابن نُفير، قال عمرو وحده: عن أبيه عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) ولم يذكر " عن أبيه " غير عمرو.
(5/201)
________________________________________
أي يشرع السجود، وهي لفظة تعم الواجب والمستحب وقد تقدم بيان الراجح في مسألة السجود لترك سنة وأنه لا يشرع السجود لترك سنة، بل هو إما سجود واجب تبطل الصلاة بتركه وإما غير مشروع فلا يجوز في الصلاة.
فقوله: " يشرع " بناء على المشهور في المذهب من استحباب سجود السهو لترك سنن الأقوال والأفعال أو ترك سنن الأقوال على قول.
" لزيادة ": في الصلاة بقيام أو قعود أو ركوع ونحوه.
" ونقص ": إما بترك سجدة أو التشهد الأول أو نحو ذلك.
" أو شك ": إما شك استوى طرفاه، وإما شك مع عليه لأحد الطرفين.
فيشرع لثبوت ذلك الأحاديث فيه، فقد ثبتت الأحاديث في هذه الأنواع الثلاثة.
قال: (لا في عمد)
فلو تعمد عمل فعل من جنس الصلاة فزاد قياماً أو قعوداً أو نحو ذلك أو نقص أو نحو ذلك، فالصلاة تبطل، بالإجماع كما تقدم.
قال: (في الفرض والنافلة)
فسجود السهو مشروع أو واجب – على ما تقدم صحة خلافاً للمذهب – في الفرض والنفل، فكما أن الفريضة يشرع فيها السجود فكذلك في النافلة، وهذا باتفاق أهل العلم.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم – من حديث ابن مسعود: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (1) وهذا الحديث عام في الفريضة والنافلة، وهذا الحديث يستدل به على المسألة السابقة وهي أنه لا يسجد في عمد لقوله: " فإذا نسي " فالسجود إنما شرع للنسيان، ومفهوم المخالفة لهذا الحديث أنه لا يشرع إلا فيه، والأصل عدم ثبوته إلا لوروده فكرره إلا فالنسيان فلا يشرع في التعمد.
فسجود السهو مشروع فرضاً ونفلاً، لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً إلا بدليل على تخصيص أحدهما.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة (572) بلفظ: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس … "
(5/202)
________________________________________
ولذا نص الإمام أحمد: على أن من كان يصلي لليل مثنى مثنى فقام إلى الثالثة ساهياً فيجب عليه أن يسجد سجدتين لأن صلاة الليل مثنى، وهذا مذهب جمهور العلماء لأنه قد فعل ذلك ناسياً أو ساهياً وصلاة الليل مثنى، وهذا هو المشهور في المذهب.
والمشهور في المذهب أنه إن فعل ذلك في الصلاة في السفر فصلاها أربعاً فالحكم ليس لذلك بل يتم أربعاً، وهذا ضعيف، فإن حكمها واحد.
فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في السفر ركعتين ركعتين لم يثبت عنه سوى ذلك فهو بمنزلة قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) (1) فكأنه قال: " صلاة السفر مثنى مثنى) وعليه فالقياس على المذهب: أن يقال: إنه قام إلى الركعة الثالثة في صلاة في السفر فإنه يجب عليه أن يجلس فيسجد سجدتي سهو.
فإن قالوا: إنه إن زاد زيادة جائزة، فإن صلى الصلاة في السفر أربعاً كصلاة صحيحة كما هو مذهب جماهير العلماء.
قلنا: وكذلك في صلاة الليل فإنه لو صلاها خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة فذلك يصح لورود السنة فيه. وهذا الالتزام أولى – فيما يظهر لي – وهو أن يقال: أنه قام إلى ركعة يصح أن يصليها فلا يجب عليه أن يسجد للسهو فلو أنه قام – وهو يريد أن يوتر باثنين – قام إلى الثالثة فإنها تصح فيه ولا يسجد للسهو، لأن هذه الركعة صحيحة في هذه الصلاة ولا غيره بنيته والعلم عند الله تعالى.
قال: (فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، سهواً يسجد له)
فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة أن يكون من جنس الصلاة فلو لم يكن من جنسها بأن كان فعلاً خارجاً عن الصلاة، كحركة ليست من أفعال الصلاة فحكمها من التقدم من التفصيل السابق منها، وأنها متى كانت كثيرة عرفاً أبطلت الصلاة وأما إذا زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت وهذا بالإجماع.
(5/203)
________________________________________
(وسهواً يسجد له) فيسجد سجدتي السهو، فإذا زاد سجدة أو قياماً أو ركوعاً أو نحو ذلك سهواً فإنه يجبر هذا سجود السهو.
وظاهر قوله: (قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً) وأن قل. فلو أنه جلس بقدر جلسة الاستراحة ولم ينوها كذلك فإن الصلاة تجبر بالسهو فيجب عليه أن يسجد سجدتين لأنه قعود هذا هو المشهور في المذهب واختار طائفة من الحنابلة كالزركشي وغيره، وذكره وجهاً في المغني: أن الصلاة لا تبطل به ولا من الفعل اليسير، قالوا: لأنه لا يبطل على وجه التعمد، فكذلك لا يبطل على وجه السهو فلو أنه جلس جلسة للاستراحة ولم ينوها السنة، فإنها لا في صلاته أن فعلها عمداً فكذلك أن فعلها سهواً وهذا هو القول الراجح فإن هذا الفعل اليسير في الصلاة وأن كان قعوداً لكنه فعل يسير لو فعله عمداً لم يغيره فكذلك إذا فعله على وجه السهو ومثله العمل اليسير، فإنه إذا كان خارجاً عن الصلاة ليس من جنسها، فإذا فعله فلا يبطل صلاته، فمثله ما كان من أفعال الصلاة وكان يسيراً، فلا يجب سجود السهو فيها، ولا تبطل إذا تعمدها.
قال: (وأن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منه سجد)
رجل صلى الظهر خمساً أو الفجر ثلاثاً أو المغرب أربعاً فلما أنصرف من صلاته علم أنه زاد في صلاته ركعة سهواً فإنه يسجد بعد أن يفرغ وهذا لا شك فيه فإنه لا يمكنه إلا أن يفعل ذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة قال: وما ذاك قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم)
قال: (وإن علم فيها جلس في الحال فتشهد أن لم يكن تشهد وسلم)
رجل صلى الظهر خمساً فلما كان في الخامسة، فلما انتصف قائماً أو هو راكع وهو رافع من الركوع أو وهو ساجد أو وهو بين السجدتين أو نحو ذلك علم أنه قد زاد في الصلاة جلس في الحال، فتترك الركن الذي هو مشتغل فيه وعاد إلى التشهد ليسلم.
(5/204)
________________________________________
فإن لم يجلس في الحال بطلت صلاته لأنه يكون بفعل أفعالاً عمداً وزيد في الصلاة ما ليس منها عمداً فما تبطل الصلاة به.
فيجب عليه أن يعود إلى الجلوس بغير تكبير، فيجلس لتسلم من صلاته. " فيتشهد إن لم يكن تشهد " وإلا فيكفيه التشهد الذي قد تشهده.
فلو أنه تشهد ثم قام يظن أنه التشهد الأول وهو في الحقيقة التشهد الثاني، فإنه يعود فيجلس ويكفيه التشهد الذي تشهده سابقاً.

قال: (تشهد وسجد وسلم)
إذن: السجود هنا قبل السلام فهنا زادت الصلاة فإن قام إلى ركعة خامسة في رباعية فعليه سجود قبل السلام هذا المشهور في المذهب.
وقاعدة المذهب في سجود السهو: أن السجود مشروع قبل السلام مطلقاً إلا ما وردت به الشريعة، وهي المواضع التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها بعد السلام فإنها تسجد بعد السلام، سواء كان ذلك زيادة أو نقصاً أو شكاً.
والراجح – الذي يدل عليه الأحاديث – ما ذهب إليه الإمام مالك من الزيادة يكون السجود لها بعد السلام والنقص قبله. واختاره ابن تيميه لكن ظاهر مذهب مالك استحباب ذلك، واختار شيخ الإسلام وجوبه وهو الراجح. لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فوجب أن يسجد كما سجد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله، وسيأتي ذكر الأحاديث التي تدل على ذلك.
وفيها: حديث أبي هريرة – المتفق عليه – أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى إحدى صلاتي الظهر ركعتين، فسلم واتكأ على خشبه معروضة في المسجد فقام رجل يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال: لم أنس ولم نقصر فقال: بلى قد نسيت فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فقالا – ومن معهما – بلى يا رسول الله، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك ثم سلم ثم سجد سجدتين) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد زاد سلاماً فسجد بعد الكلام لهذه الزيادة.
(5/205)
________________________________________
قال: (وأن سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته)
فلابد أن يكون ثقتين لا ثقة واحد.
(فإذا سبح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته) فإذا سبح بالإمام ثقتان من المأمومين أو غيرهم، ونيته على أن الصلاة فيها سهو لكنه أصر ولم يجزم لصواب نفسه.
فإذا جزم بصواب نفسه وتيقن أن الصلاة على صواب فإن الصلاة لا تبطل ولا يستجب لتسبيحهما لأنه متيقن واليقين لا يزول بمثل هذا، فإن غاية تسبيح التيقن غلبة ظن، وعنده يقين.
فإن لم يتيقن وسبح به ثقات سواء غلب على ظنه صدقهما أو غلب على ظنه خطؤهما – فأصر فالصلاة تبطل وذلك لأن غلبة ظن الاثنين أعظم وأرجح من غلبة ظن الواحد – فعلى ذلك يجب عليه أن يستجب لتسبيحهما فإن لم يفعل بطلت صلاته وأن كان في قلبه غلبة ظن أنه على صواب فتبطل صلاته، لنه يجب عليه أن يستجب لتسبيحهما وحيث لم يستجب فقد ترك واجباً في الصلاة متعمداً وترك الواجب على جهة التعمد يبطل الصلاة. فسواء كان عنده غلبة ظن أو سك أو غلبة ظن لصوابها لكنه لم يقبل تسبيحهما فقد ترك واجباً في الصلاة.
فإذا سبح به ثقة فلا يعتمد حينئذ إلا إذا غلب على ظنه صدقه ولا تسبيح ذلك الرجل بل لغلبة الظن، فوجب عليه أن يتبع غلبة الظن الواقعة في قلبه.
وعليه فإن سبح به ثقات ولم يغلب على ظنه صدقه أو غلب على ظنه عدم صدقه فإنه لا يستجيب لتسبيحه ولا يضر ذلك صلاته. فتسبيح الثقة لا يبطل الصلاة، لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة بعد إخبار ذي اليدين له ولم يكتف بخبره فدل على أن الصلاة هنا لا يقبل فيها خبر الواحد، وإنما يقبل فيها خبر الاثنين فأكثر.
قال: (وصلاة من تبعه عالماً)
إمام قام إلى متبعة بعض المأمومين، فما حكم صلاتهم؟
(5/206)
________________________________________
فتبطل الصلاة أن تبعه عالماً بمعنى قام وهو يعلم أن هذه زيادة في الصلاة وأن الإمام ناسي فتبطل صلاته لأنه قد زاد في الصلاة فيها، وفعل في الصلاة من زيادة على المشروع على وجه لتعمد فتكون الصلاة باطلة وأما إن كان جاهلاً أو ناسياً ساهياً كالإمام فلا تبطل صلاته لحديث ابن مسعود، فإن الصحابة قاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إما جاهلون وإما ساهون فمنهم الناسي والساهي ومنهم الجاهل فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة.
قال: (ولا من فارقه)
فلا تبطل صلاة من فارق الإمام.
بمعنى: قام الإمام إلى الخامسة فجلس بعض المأمومين فتشهدوا وسلموا فهنا فارقوا الإمام.
قالوا: لأنهم معذورون بالمفارقة، فإن الإمام قد فعل في الصلاة ما ليس منها ففارقوه معذورين فكان كالمسألة المتقدمة فيمن فارق الإمام فصلى منفرداً بعذر قالوا: فكذلك هنا.

والمشهور في المذهب أن المفارقة وإتمام الصلاة والتسليم واجب، فيجب عليه إذا قام الإمام للخامسة أن يجلس فيتشهد ويسلم، هذا قول في المذهب وهو المشهور فيه.
وهناك أقوال هي روايات عن الإمام أحمد:
القول الأول: أنه يفارقه في موضعه الذي خالف فيه لكنه ينتظره، وهذا الانتظار هل هو واجب أو مستحب أو مباح ثلاث روايات عن الإمام أحمد أصحها وجوب الانتظار، لأن المتابعة للإمام واجبة في فعل أركان الصلاة كلها، وحيث وقع الإمام في مخالفة في الصلاة فإنه ينهي مسابقته وتنتظره حتى تتابعه في بقية الصلاة وإلا فليزم من ذلك أن الإمام لو اختل في الركعة الأولى فزاد فيها فإن للمأموم أن ينفرد عنه وحينئذ ينفتح باب واسع نهى عنه الشارع.
مسألة:
مسبوق إذا زاد الإمام خامسة، وكان معه مسبوقون فتابع الإمام فيها ساهياً أو جاهلاً فهل يعتد بها أم لا؟
(5/207)
________________________________________
القول المشهور في المذهب: أنه لا يعتد بها لأنها زيادة لاغية لا قيمة لها، فإنها في حق الإمام لا قيمة لها فهي زيادة لا غية.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق: أن هذه الركعة معتد بها للمأموم لأنها وإن كانت لا غية في حق الإمام لكنها ركعة صحيحة في حق المأموم فوقعت في محلها وإن كان الإمام هذه الركعة لاغية له لأن الحكم هنا إنما هو في حق المأموم لا في حق الإمام.
كما أنه لو صلى الإمام وثبت له بطلان صلاته لفعله ما يبطلها فإن صلاة المأموم صحيحة لأن هذه الركعات باطلة بالنسبة إلى الإمام وهي صحيحة بالنسبة إلى المأموم.
فعلى ذلك هذه الركعة يعتد بها - إن كان ساهياً أو جاهلاً بخلاف إذا كان عالماً – فإذا علم أنها زيادة فلا يتابعه بل يفارقه لأنه قد ثبت له أن الإمام يزيد في الصلاة ما ليس منها فلا يحل له والحالة هذه أن يتابعه لأن الإمام يفعل ما ليس من الصلاة، وما كان ليس من الصلاة في اعتقاد المأموم فإنه لا يحل له متابعته عليه فالبحث فيما إذا كان ساهياً أو جاهلاً. فلو أتى وقد بقي ركعة من الصلاة فزاد الإمام ركعة ناسياً وتابعه المأموم ساهياً أو جاهلاً فإن الركعة يعتد بها ويسلم معه، وتنتهي بذلك صلاته.
والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وشهده
هذا هو المشهور في المذهب وتقدم ترجيح أن العمل الكثير في الصلاة سهواً لا يبطل الصلاة فإذا فعل فعلاً كثيراً من غير جنس الصلاة ساهياً جاهلاً فلا يبطل الصلاة بذلك.
قال: (ولا يشرع ليسره سجود)
هذا الشاهد في باب سجود السهو، أنه لا يشرع ليسره سجود.
تقدم أن الفعل اليسير وهو ظاهر قول المؤلف هنا – أن اليسر لا يبطل الصلاة فمن فعل فعلاً من غير جنس الصلاة وكان يسيراً كفتح باب ولبس ثوب ولف عمامة ونحو ذلك فلا يبطل الصلاة، وهل يشرع له سجود سهو أم لا؟
(5/208)
________________________________________
قال هنا: (ولا يشرع ليسره سجود) لعدم وروده مع ثبوت داعيه، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً يسيراً في الصلاة كفتح الباب ولم يثبت أنه سجد سجدتي السهو، ولأن هذا يقع من المكلف كثيراً فيشق الأمر بالسجود له.
قال: (ولا تبطل يسير أكل أو شرب سهواً ولا نفل يسير شرب عمداً)
هذه المسألة في مبطلات الصلاة، وقد ذكرت للمنا.
وهي: أن الصلاة لا تبطل يسير أكل أو شرب سهواً وإذا أكل أو شرب في الفريضة عامداً فالصلاة باطلة بالإجماع مثل ذلك أو كثر عرفاً والصلاة – كما تقدم – أن إنها لا تبطل أن أكل أو شرب في الفريضة أو النافلة يسيراً سهواً لأن الله تجاوز عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، في قوله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فالسهو نسيان، والجهل من الخطأ وهنا قيده باليسير لأنه أن كان كثيراً، فإنه عمل كثير والعمل الكثير تقدم أنه يبطل الصلاة عمداً وسهواً - على المذهب – وتقدم الراجح.
وعن الإمام أحمد: أن الكثير كذلك للسهو – وهو الراجح – فعلى ذلك يقيد هذه المسألة باليسير تقييد رجوح والراجح عدم تقييده.
فالمشهور في المذهب: أن اليسير من الأكل والشرب لا يبطل الصلاة، أما الكثير مبطلها، ذلك لأن الفعل الكبير وأن كان سهواً يبطل الصلاة والأكل والشرب الكبير كذلك.
والصحيح في هذه المسألة والتي ألحقوها، أن السهو يعذر في المكلف فلا يبطل به الصلاة – وهو رواية عن أحمد.
(ولا نفل يسير شرب عمداً) فالنفل أن شرب فيه يسيراً كأن يشرب أو نحو ذلك، عامداً فلا يبطل الصلاة وهو مروي عن ابن الزبير.
قالوا: لأن النافلة يستحب إطالتها وحيث شرب فيها فإن هذا على إطالتها، والصلاة النافلة يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها.
(5/209)
________________________________________
وظاهره أن الأكل اليسير عمداً يبطل النافلة كما يبطل الفريضة للفارق بين الأكل والشرب فيما تقدم، فإن المصلي يحتاج إلى شرب مالا يحتاج إلى الأكل.
والقول الثاني في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد أن الأكل كذلك، وأن الأكل والشرب اليسير في النافلة جائز وهو قول إسحاق بن إبراهيم.
وحجتهم: أنه أكل يسيراً أو شرب يسير فأشبه العمل اليسير في الصلاة لكن هذا منتقض فإن العمل اليسير جائز في الفريضة أيضاً، والأكل لا الشرب اليسير لا يجوز فيها مع أن العمل اليسير لا يؤثر فيها فالحكم على النافلة – هنا – يجوز الأكل والشرب اليسير لأن العمل اليسير جائز فهنا يقال: مقتضاه أن الفريضة يجوز الأكل والشرب اليسير فيها، لأن العمل اليسير جائز أيضاً ومقتض الإجماع المتقدم خلاف هذا، فأن فيه أن الأكل والشرب مبطل مطلقاً قل أو كثر.
لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى، قال الموفق فيها: (وهي الصحيح من المذهب، وهو مذهب الجمهور – أن الأكل والشرب اليسير عمداً في النافلة مبطل لها وهذا هو الذي يقتضيه القياس، فأن ما أبطل الفريضة فإنه مبطل النافلة إلا أن يدل دليل على تخصيص أي منهما بحكم، وحيث لا دليل على تخصيص فأنا نبقى الحكم على عمومة فيشمل الفريضة والنافلة.
فالراجح: أنه لا يجوز له مطلقاً الأكل والشرب في النفل واحد كان يسيراً خلافاً للمشهور عند المتأخرين من الحنابلة وهو الصحيح في المذهب كما قال الموفق: وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: (وأن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود وقعود وتشهد في قيام، وقراءة سورة في الأخير تبين لم تبطل ولم يجب له سجود بل يشرع) .
إذا أتى بقول مشروع كالفاتحة في غير موضعه، كأن يقرأ الفاتحة في ركوعه أو سجود أو نحو ذلك، أو يقول: " سبحان ربي العظيم " في غير موضعه كالسجود – مع قيامه بما وجب عليه.
(5/210)
________________________________________
فمثلاً: قرأ الفاتحة فقام بالواجب عليه لكنه قال ذكر مشروعاً في قيامه لا يشرع فيه القيام – فلا تبطل الصلاة بذلك وأن كان عامداً – ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
(أو لم يجب له سجود بل يشرع له) فيشرع له السجود من غير وجوب أما كونه يشرع له فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) قالوا: وهذا نسيان في الصلاة وأما كونه غير واجب، فلأنه جبر لما لا يجب، ففي الأصل لا يجب عليه ألا يفعل ما فعل، وإنما يستحب له ويشرع له ألا يفعل ذلك فعلى ذلك سجوده ليس بواجب – هذا هو المشهور في المذهب وعن الإمام أحمد أنه لا يشرع له مطلقاً أن يسجد، وهذا هو الراجح ذلك، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود في هذا الموضع ولم يرد أيضاً السجود فيما هو بمعناه، فإن السجود الوارد عن البيهقي في فعل يبطل الصلاة كأن يعهدمما ترك تشهد تبطل الصلاة ويتركه عمداً ونحو ذلك، وهنا ليس الأمر كذلك فقد سهى في أمر أن فعله متعمداً لا يؤثر في صلاته ولا يبطلها، أما سجود السهو فإنه جبر لما لو تعمده يتطلب الصلاة لكنه لم يتعمد فوجب عليه سجدة السهو.
أما هنا فالأمر خلاف ذلك. فأنه يسجد فهو لما لو تركه تعمداً لم تبطل صلاته وليس هذا في معنى المشروع ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله لا يبعد وقوعه.
قال: (وأن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت)
إذا سلم قبل إتمام الصلاة عمداً فالصلاة باطلة لأنه تحلل منها قبل محل التحلل وقبل أن تصح منه وتتم على المشروع وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: (وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد)
(5/211)
________________________________________
رجل سلم من ركعتين والصلاة رباعية – ساهياً، ثم ذكر ذلك قريباً في العرف فليس هناك فاصل طويل عرفاً وأن خرج من المسجد أو دخل منزله لكن الفاصل قريب عرفاً فحينئذ يتمها ويسجد بعدها، لحديث ذي اليدين المتقدم وثبت من حديث عمران بن حصين – في مسلم – قال: (سلم النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام إليه رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة فخرج مغضباً فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم دخل الحجرة وهذا يعتبر فاصلاً، ومع ذلك فأن النبي صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة ولم يستأنفها.
وسيأتي كلام شيخ الإسلام في مسألة قريبة من هذه المسألة وهي مسألة من سها في صلاته فنسى سجود السهو فطال الفاصل أو قصر فما حكم ذلك؟ سيأتي الكلام عليه أن شاء الله.
فأذن: أن قصر الفاصل عرفاً وأن خرج من المسجد ودخل منزله ونحو ذلك فإنه لا يؤثر في صلاته بل يتمها – ما لم يحدث – فإن أحدث فهو مبطل للصلاة باتفاق العلماء، لأن الصلاة في حكم المتصل فإن أحدث فقد قطعها.
قال: (فأن طال الفصل عرفاً أو تكلم لغير مصلحتها بطلت)
" تكلم في غير مصلحتها " كأن يكون تكلم مع أحد من الناس في غير مصلحة الصلاة – كما كان محتملاً من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد خرج فيحتمل أنه سلم على أهله ونحو ذلك – فإذا تكلم لغير مصلحتها بطلت.
أما لو تكلم لمصلحتها كأن يتكلمون في السهو ويسأله المأمومون عنه فتباحث معهم في ذلك فأن هذا لا يؤثر لكن المؤثر هو أن يتكلم فيما هو خارج عن مصلحتها لكنه فعل ذلك على سبيل السهو أو الجهل " وسيأتي البحث في هذه المسألة الدرس القادم أن شاء الله " وترجيح أن الكلام في الصلاة سهواً أو جهلاً لا يبطلها وسيأتي دليل على ذلك.
(5/212)
________________________________________
وحينئذ فأن الحكم في هذه المسألة كذلك، وعليه فإذا تكلم جاهلاً أو ناسياً بعد أن سلم فإن الصلاة لا تبطل لذلك وأن كان في غير مصلحتها لأنه وأن كان في حكم المصلين لكنه تكلم ساهياً أو جاهلاً فيكون معذوراً – هذا هو الراجح –
أما على المذهب: أنه إذا طال الفصل أو تكلم في غير مصلحة الصلاة فإنها تبطل.
مسألة: الطعام الذي يكون في الفم، ما حكمه؟
له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يضع الطعام في فيه من غير أن يمضغه فيكره ذلك في الصلاة.
فلو أن رجلاً وضع لقمة في فيه فصلى مع إمكان القراءة ونحوها فالصلاة صحيحة مع الكراهية.
الصورة الثانية: أن يضع في فمه شيئاً يتحلل قالوا: كسكر ونحوه فتحلل ودخل، فالصلاة باطلة بالاتفاق لأن هذا أكل.
الصورة الثالثة: أن ما يكون بين أسنانه ونحوه فله صورتان:
الأولى: أن يكون مما يجري في الريق، يعني: شيء متحلل بين الأسنان لكنه يجري في الريق فهذا لا يؤثر قولاً واحداً في المذهب وذلك لمشقة التحرز منه.
الثاني: أن يكون يحتاج إلى دفع، فقولان في المذهب:
القول الأول: أنه يبطل الصلاة، فإذا دفعه فدخل في الجوف فأن الصلاة تبطل به، لأن أكل فلا يشق التحرز منه.
القول الثاني: أنه لا يبطلها فهو له حكم ما يجري بالريق والأظهر والأحوط القول الأول: لأنه في الحقيقة أكل، ولا يشق التحرز منه.
مسألة: رجل صلى مع الإمام، فسها الإمام فصلوا ثلاثاً في رباعية، فلما أراد أن يخرج أخبره رجل أنهم صلوا ثلاثاً فكبر وهو قائم وأتى بركعة فما حكم ذلك؟
الحنابلة قالوا: تبطل صلاته لأنه ترك النهوض بل يجب عليه أن يجلس ثم يقوم وهذا غير معتبر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين – لم ينقل عنه أنه جلس ولو كان ذلك تنقل إلينا.
(5/213)
________________________________________
والتعطيل بذلك: أن يقال: أن هذا الانتقال ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود القيام، فهو وسيلة إليه، فما دام أنه وصل إلى القيام بعد ذلك مع العذر فلا بأس بذلك وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (بطلت ككلامه في صلبها)
الكلام في الصلاة يبطلها هذا في الجملة – وذلك بإجماع أهل العلم – فالكلام في الصلاة عمداً بغير مصلحتها يبطل الصلاة.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم بالصلاة يكلم أحدنا صاحبه إلى جنبه نزلت: {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت) زاد مسلم: (ونهينا عن الكلام) وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: (كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيرد علينا، فقلنا يا رسول الله إن كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: (أن في الصلاة لشغلاً) وفي مسلم: (أن هذه التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فهذه الأحاديث مستند إجماع العلماء على أن من تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها ولغير واجب وجب عليه ولا خروج منه إلا بالكلام فيبطل صلاته إجماعاً، وقد اختلف أهل العلم في مسائل ذكرها المؤلف لقوله: (ككلامه في صلبها) فهذا لفظ عام فيه أن الكلام في الصلاة مبطل لها مطلقاً سواء كان لمصلحتها أو لإنقاذ مسلم من هلكة أو كان عن جهل أو إكراه أو نسيان أو نحو ذلك فكله مبطل لها ودليلهم: عموم الأحاديث المتقدمة، فعموم الأحاديث تدل على هذا، وأن الكلام لا يصلح في الصلاة مطلقاً وأن كان عن نسيان أو جهل أو إكراه سواء كان من إمام أو مأموم وسواء كان لمصلحة الصلاة أو لغير مصلحتها أو كان إنقاذاً أو لم يكن فكله مبطل لها ما دام في صلبها.
(5/214)
________________________________________
وقوله: (في صلبها) احترازاً من الكلم بعد السلام عند السهو فيه، فإذا سهى مسلم قبل وقته فتكلم في مصلحة الصلاة فسيأتي استثناؤه وأما ما سواها فكله إلى عدم البطلان بما تقدم: الإكراه والنسيان والإنقاذ والجهل ".
أما النسيان: فإذا تكلم في صلب الصلاة ناسياً فما حكم صلاته؟
فالصحيح ما ذهب إليه الشافعية في أن النسيان لا يبطل الصلاة.
ودليل ذلك: حديث ذي اليدين المتقدم فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بعد السلام ناسياً وتكلم أصحابه وهذا أمر ظاهر فإن المتكلم ناسياً ليس كالمتعمد، فأن المتعمد مناقض لأمر الشارع مخالف له، وأما الأخر فلا.
والحقيقة: أن هذا الفارق إنما هو مؤثر في الإثم، بخلاف الإعادة، فلا مانع أن يؤمر الناس بالإعادة مع رفع الإثم عنه لأنه غير مناقض للشرع، لكن لما كان النسيان يقع من المكلف كثيراً فشق إبطال الصلاة به، والمشقة تجلب التيسير شرع هذا الحكم فأن الناسي إذا تكلم في صلاته فلا تبطل صلاته – وهذا هو الراجح –
أما المكره: ففيه قولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أن الصلاة تبطل إذا أكره على الكلام.
القول الثاني: أنها لا تبطل وهو مذهب الشافعية.
ودليلهم: قياس المكره على الناسي فأن الشارع لم يفرق بينهما في قوله: (أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
أما القول الأول فإن الصلاة تبطل به وهو الراجح، وذلك لأن الشارع قد جمع بين الإكراه والنسيان في رفع الحرج والإثم، فالمكره لا حرج عليه لكنه يؤمر بالإعادة فلا يؤثم على كلامه في الصلاة كما أن الناسي لا يؤثم أما مسألة إبطال الصلاة فهي مسألة خارجة عن هذا الحديث.
والقياس المتقدم قياس مع الفارق، والفارق بين الإكراه والنسيان: أن النسيان يكثر فيشق التحرز فيه، وأما الإكراه فيقل بل يندر، فعلى ذلك يرفع عنه الإثم ويبقى عليه إعادة الصلاة.
(5/215)
________________________________________
أما إنقاذ الهالك: كأن يتكلم رجل في الصلاة لينبه من هو في طريق هلكه، ولا يمكن تنبيهه إلا بذلك فما الحكم؟
الشافعية قالوا: لا تبطل الصلاة بذلك، لأن المصلي هنا قد تكلم بما يجب عليه، كما ثبت في الصحيحين من كلام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم تكلموا فيما يجب عليهم من بيان سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وهم في الصلاة ليسوا بناسين ولا ساهين، فمن تنبهه من الصحابة فإنه يعلم أنه ناسي فينتبه.
والحنابلة: قالوا تبطل الصلاة.
وأجابوا عن استدلالهم بكلام الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: أن هذا الكلام خارج عن هذا الباب، فالكلام الوارد عن الصحابة إنما لمصلحة الصلاة، أما هنا فليس لمصلحتها، فإن من مصلحة المأموم إصلاح صلاة إمامه، وعلى ذلك فلو أن المأموم لم يمكنه أن ينبه إمامه إلا بقوله: (أركع أو أسجد) فإنه يفعل ذلك ولا حرج عليه.
أما إذا نبه خارج الصلاة، فإن الصلاة تبطل بذلك للفارق بين المسألتين.
فأن تنبيه الصحابة كان لواجب يتعلق بصلاتهم، وأما هنا فهو واجب أخر يخرج عنها.
فعلى ذلك: يجب عليه تنبيه هذا الذي هو في طريقه إلى الهلكة لكن صلاته تبطل بذلك.
أما الجاهل: فلو تكلم رجل في الصلاة جاهلاً فما حكم صلاته؟
قال الحنابلة: تبطل الصلاة، لأنه كلام داخل في عموم الحديث.
وقال الشافعية: لا تبطل الصلاة.
(5/216)
________________________________________
واستدلوا بما روى مسلم في صحيحه: أن معاوية بن الحكم السلمي قال: (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: (وأثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلى فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فرأيتهم أنهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما نهرني " أي قهرني " ولا ضربني ولا شتمني، قال: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) فهذا الحديث ظاهر في هذه المسألة ترجيح لمذهب الشافعية.
فالراجح: إذا تكلم في الصلاة جاهلاً فلا تبطل الصلاة.
فالراجح: أن الصلاة لا تبطل بالكلام عن النسيان أو جهل وإنما تبطل بالتعمد أو الإكراه أو التنبيه على أمر خارج عن الصلاة.
قال: (ولمصلحتها أن كان يسيراً لم تبطل)
والمراد إن كان خارجاً عن صلبها، في المسألة المذكورة سابقاً وهي ما إذا سلم قبل إتمام صلاته ساهياً فبعد السلام تكلم هو والمأمومون لمصلحة الصلاة فهذا يستثنى عند الحنابلة بشرط أن يكون يسيراً لأن ما ثبت العفو عنه إنما هو التيسير.
والراجح: ما تقدم وأن الكلام مطلقاً لمصلحة الصلاة سواء كان يسيراً أو كثيراً ما دام لمصلحتها فإنه لا يبطل الصلاة.
لكن متى ثبتت للإمام أن الصلاة ناقصة ويجب إتمامها فلا يجوز أن يستمر في الكلام مع المأمومين وأن كان في مصلحة الصلاة، بل يكون ذلك بقدر ما يحتاج إليه لمعرفة الخطأ في صلاته.
قال: (وقهقهة ككلام)
القهقهة: هو الضحك الذي يخرج منه الصوت.
فهو مبطل للصلاة بالإجماع، وذلك لمنافاته للصلاة وقد قال جابر: (القهقهة تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء) رواه الدارقطني مرفوعاً وصوب وقفه، فالصواب أنه موقوف.
(5/217)
________________________________________
وأما التسبيح فلا يبطل الصلاة بالاتفاق لأنه ليس مناف للصلاة ولا دليل يدل على بطلان الصلاة به.
قال: (وأن نفخ أو انتحب من غير خشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت)
" أن نفخ " أي قال: " أف " في الصلاة.
" أو انتحب " أي رفع صوته بالبكاء.
أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت الصلاة أي خرج منه، من تنحنحه أو نفخ أو بكاء أو أنين أو تأوه أو نحو ذلك فإنه – أن كان من غير حاجة فأن الصلاة تبطل به.
وعليه أن كان وقع منه عن غلبة فإنه لا يؤثر، فلو تنحنح أو نفخ عن غلبة فلا يؤثر.
وعلة هذه المسألة: أن الكلام يثبت بالحرفين " لا " و " نعم " و " أب " و " أخ " فالكلام يقع من حرفين فأكثر، فإذا تنحنح فخرج منه حرفين أو أكثر فذلك يكون كلاماً فيكون مبطلاً للصلاة.
والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الإمام مالك أن الصلاة لا تبطل كذلك، لأن مثل ذلك ليس بكلام فالنفخ والنحنحة ونحوها ليس بكلام وأن بان فيها حرفان.
فالكلام – من حيث كلماته ومفرادته – وهو ما أفاد معنى. والكلام المحذور في الصلاة ما أفاد معنى مخاطباً به الآدمي فلفظه " نعم أو " لا " وليس في لغة العرب أن النحنحة أو البكاء أو النفخ – أن ذلك يعد كلاماً –
فالراجح: أنه ليس بكلام فإذا وقع ذلك منه سواء كان عن غلبة أو لم يكن عن غلبة وسواء كان عن حاجة أو عن غير حاجة فأن ذلك لا يبطل الصلاة – وقد روى – أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال: فكأن يقول في سجوده " أف، أف " فلم يكن هذا مبطلاً للصلاة ولا مؤثراً فيها ومعلوم أن الكلام وأن احتاج ومعلوم أن الكلام وأن احتاج إليه المصلي –
(5/218)
________________________________________
كما هي قاعدة المذهب – لا يبطل الصلاة فكيف جعلوا هذا كلاماً ولا يبطلها مع الحاجة، وما تقدم يبطلها ولو كان ذلك لمصلحتها أو لمصلحة من يجب تنبيهه بما بها تصل إلى الضرورة في المسائل المتقدمة، ومع ذلك ابطلوا الصلاة بها، واعتبروا هذا كلاماً وأجازوه في لحاجة فهذا مما يبين ضعف هذه المسألة عندهم.
والقاعدة: أنه لو ثبت أنه كلام لكان حكمه كحكم الكلام تماماً لا فرق بينهما فيبطل به الصلاة ضرورة أو حاجة ما لم يكن مما يستثنى كما تقدم في المذهب.
وقد تقدم حديث علي في تنحنح النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لكن الحديث ضعيف، وما ذكر كاف فيه وهو أنه ليس بكلام ولا دليل على إبطال الصلاة فيه مع أنه يقع من المصلي كثيراً فيشق أن تبطل الصلاة به.
مسألة: إذا قرأ في الصلاة آيةً أو جزءاً منها مخاطباً ونحو ذلك، كأن يطرق عليه الباب فيقول: " أدخلوها " أو نحو ذلك؟
قال شيخنا: (هذا لا يخلو – فيما يظهر لي – من حالتين وما أتذكر كلاماً لأهل العلم في ذهني الآن)
الحالة الأولى: أن يكون قد جمع بين هذا وبين خطاب الله فاكتفى بآية خاطب بها الله وخاطب بها الآدمي.
فحينئذ: لا يعدو الأمر ألا أن يكون إسماعاً للآدمي بما يخاطب الله به مما يكون مناسباً للآدمي فحينئذ لا يبطل به الصلاة.
الحال الثانية: أن يخاطبه بغير نية خطاب الله والتعبد له، فحينئذ: تبطل به الصلاة، لأن هذا لا يعتبر قرآن، بدليل أن قرأ الآية وهو جنب، وقلنا أن الجنب لا يجوز أن يقرأ القرآن كما هو مذهب الجمهور. فالجمهور يقولون: لا يضر لأنه ليس قرآن، لأنه خرج عن أن يكون قرآن. فهذه الطريقة – من كونه يخاطب به آدمي لمقصد حادث – أخرجه عن أن يكون قرآن فحينئذ يبطل الصلاة.
ثم ذكر لنا – شيخنا بعد ذلك أن هذا ما يقرره الشافعية فقد قرره الشيرازي في كتابه " المهذب " الذي شرحه النووي في المجموع.
والحمد لله رب العالمين.
(5/219)
________________________________________
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده)
من ترك ركناً من أركان الصلاة غير التحريمة فإنها لا تدخل في هذا الباب، لأن الصلاة لا تصح إلا بتكبيرة فمن صلى بلا تكبيرة إحرام فالصلاة باطلة وأن كان عن سهو فالصلاة لا تنعقد إلا بها فمن ترك ركنا سوء تكبيرة الإحرام، كأن يترك سجوداً أو ركوعاً أو نحو ذلك.
مثال: رجل صلى وهو في الركعة الأولى سجد الأولى فقام إلى الركعة الثانية فترك ركعتين الجلسة بين السجدتين والسجدة الثانية فلهذه المسألة صورتان: ذكرهما المؤلف:
الأولى: أن يذكر السهو الواقع منه بعد قيامه وقبل أن يشرع في القراءة.
الثانية: أن يذكره بعد شروعه في القراءة.
أما في الصورة الأولى: وهي ما إذا ذكر ذلك قبل شروعه بالقراءة فأنه يرجع وجوباً – هذا الإجماع كما حكاه المجد ابن تيميه وقال الموفق: (لا نعلم فيه مخالفاً) فيرجع ويجلس بين السجدتين ويسجد السجدة الثانية وما بعده وما قامه فإنه لأنه وقع في غير محله وموضعه.
أما الصورة الثانية: وهي ما إذا ذكره بعد شروعه بالقراءة ,
فقال: (فذكره بعد شروعه في ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها)
فتبطل الركعة وتلغو لأنه قد ترك ركناً منها، فتكون الصلاة صحيحة لكن هذه الركعة باطلة، فتقيم الركعة الثانية مقام الركعة الأولى – هذا هو المشهور في المذهب – وهناك قول في المذهب – وهو مذهب الشافعية – أنه يجب عليه الرجوع وأن شرع في القراءة ما لم يصل إلى الركن الذي يقابل الركن الذي تركه، فإذا وصل إليه فإنه يقوم مقامه وهذا القول أرجح، لأنه لا دليل على التعريف بين ما إذا ذكره قبل الشروع وبين ما إذا ذكره بعد الشروع.
(5/220)
________________________________________
قالوا: أن تذكره له أثناء شروعه بالفاتحة قد شرع في ركن مقصود وأما قبل ذلك فالقيام ركن غير مقصود لكن هذا ليس بصحيح، فأن القيام ركن مقصوداً أيضاً بدليل وجوبه على من لم يكن قائماً، فيجب عليه القيام، فالقيام ركن، وهو قد شرع في ركن، فكما أوجبنا عليه وقد شرع في الركن الذي هو القيام قبل القراءة، فكما أوجبنا عليه الرجوع في هذا، فكذلك يجب عليه أن يعود إذا شرع في القراءة فليس هناك فرق مؤثر ثم أنه يلزم من القول الأول إبطال ما ثبت صحته فأنه قد كبر وقرأ الفاتحة وركع وسجد كل ذلك أوقعناه صحيحاً له وليس هناك ما يدل على بطلانه.
وكوننا نلغي الركعة كما ذكر الحنابلة، فيه إبطال لما وقع صحيحاً ثابتاً ولم يرد دليل على إبطاله
وكذلك فيه إثبات لزيادة لم تقع سهواً، فإنه لما قام في الركعة الأولى وركع وسجد كل ذلك – كان عمداً لا سهواً، فإذا ألغيناه فقد أثبتنا في الصلاة زيادة قد تعمدها صاحبها.
لذا الراجح ما ذهب إليه الشافعية وهو أحد القولين في المذهب وأنه يجب عليه الرجوع مطلقاً ما لم يصل إلى الركن المقابل إلى الركن المتروك فحينئذ يقوم مقام الذي ترك.
وهنا صورة ثالثة لم يذكرها المؤلف: وهي ما إذا ذكره أثناء الركعة فأنه يجب عليه الرجوع بالإجماع كرجل كبر للصلاة وركع ثم سجد مباشرة ساهياً، وذكر في أثناء الركعة فإنه يرجع إليه وجوباً.
قال: (وأن علم بعد السلام فترك ركعة كاملة)
أي أنه لما سلم علم أنه ترك سجوداً، يقيناً لا شكاً (فترك ركعة كاملة) لأن هذه الركعة قد اختلت بترك ركن من أركانها وتبطل ولا تصح لأنه قد ترك فيها ما هو من قوامها مما لا تصح إلا به، فتكون الصلاة صحيحة وما تركه من الركن يجبره بفعل ركعة كاملة ويسجد للسهو أما قبله أو بعده على الخلاف المتقدم.
والقول الثاني في المذهب: وهو قول غير مشهور في المذهب: أنه يأتي بالركن الذي تركه وما بعده.
(5/221)
________________________________________
فإذا ترك مثلاً السجدة الثانية من الركعة الأولى، فإنه يكبر فيأتي بالسجدة وما بعدها.
وهذا هو الأرجح لأن ما فعله قبل ذلك الركن قد ثبت صحيحاً وهذا الركن المتروك وما بعده باطل أما المتروك فظاهر لأنه لم يفعل، وأما ما بعده فلأنه لم يقع في موقعه: فكان الواجب عليه أن يأتي بالركن وما بعده من الركعات فعلى ذلك: إذا كان سهوه في الركعة الأولى فإنه يأتي بما بعدها من الركعات.
فإن كان الركن الذي تركه ليس متعلقاً بركعة من الركعات وإنما هو ركن منفرد بنفسه كالتشهد الثاني، فإذا تركه فأنه يأتي به فقط ويسلم.
قال: (وأن نسى التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينصب قائماً فإن قائماً كره رجوعه، وأن لم ينصب لزمه الرجوع) .
إذا نسى التشهد الأول فنهض فيلزمه الرجوع وهو في حالة النهوض ما لم يصل إلى القيام، فيجب عليه الرجوع لأنه ترك واجباً يجب عليه فعله، ولم يشتغل بركن، ولا ترتب على فعل الواجب الذي فعله فإنه زيادة ركن في الصلاة – وهذا مذهب الجمهور – وقد روى أبو داود بإسناد فيه جابر الجعض وهو ضعيف – من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فلا يعود وليسجد سجدتين فأن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه) وهذا حديث ضعيف لكن المعنى المتقدم يدل عليه، فقد ترك واجباً ولم يشتغل بعد بركن فوجب عليه أن يأتي به إذ هو متعلق في ذمته ويمكن فعله من غير بدل ولا ترتيب زيادة في الصلاة ولا ترك ركن بسبب فعله.
(5/222)
________________________________________
(فأن استتم قائماً كره رجوعه) فإذا استتم قائماً فيكره رجوعه، لكن لو رجع تصح لكنه مكروه لأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأولين ولم يجلس فقام الناس معه حتى قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه وكبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قام من الجلوس، وظاهر لفظة (قام) أنه قد ثبت قيامه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإنما يكره لمخالفته السنة. ولذا فالراجح أن استمراره بالقيام واجب، فلا يجوز له الرجوع كما هو قول في المذهب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يجب عليه أن يجلس فتركه للوجوب يدل على أنه لا يجوز فعله، وقد استتم قائماً فلم يرجع ولأنه قد اشتغل بركن لا يجوز تركه، فإنه قد اشتغل بالقيام، فهو كما لو اشتغل بالقراءة، وقد اتفق العلماء على أنه لو اشتغل بالقراءة فلا يجوز له أن يرجع ولا فرق بين الصورتين لأن القيام ركن والقراءة ركن.
فالراجح: أنه إذا استتم قائماً سواء شرع في القراءة أم لم يشرع فلا يجوز له الرجوع.
قال: (وأن لم ينصب لزمه الرجوع) هذا تكرار للمسألة السابقة في قوله: (وأن نسي التشهد الأول لزمه الرجوع)
قال: (وأن شرع في القراءة حرم الرجوع)
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، وهو مما اتفق عليه أهل العلم.
واعلم أن القاعدة: أنه إذا مضى فيما يجب عليه الرجوع فيه أو رجع فيما يجب عليه المضي فيه عامداً فالصلاة باطلة.
مثال: ما إذا مضى فيما يجب عليه الركوع: كرجل قبل أن يستتم قائماً مضى مع علمه بالوجوب فإن الصلاة تبطل لأنه ترك واجباً من واجبات الصلاة.
(5/223)
________________________________________
(وإذا رجع فيما يجب عليه المضي فيه) كأن يرجع بعد أن يشرع في القراءة فإذا رجع فصلاته تبطل أن كان عامداً عالماً بالحكم أما الجاهل والناسي فلا شيء عليه.
واعلم أن الإمام إذا استتم قائماً فسُبح به فرجع فأنه يكون مخطئاً وعليه فإن المأمومين في خطئه أما إذا قاموا فنتصبن، ورجع الإمام قبل أن يستتم قائماً لكنهم سبقوه بالانتصاب فإنه يجب عليهم الرجوع لأن الإمام مصيب بفعله ويجب عليهم أن يتابعوه، لأن الإمام يتابع حيث كان مصيباً أو ساهياً سهواً نتابع بمثله وأما متابعته في القيام عن ترك التشهد فأن السنة قد دلت عليه كما في حديث ابن بحينة المتقدم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد وقام مقام الصحابة وراءه وفي ابن خزيمة: (فسبحوا به فمعنى) فهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساهياً في عن هذا الواجب ولم يفارقوه بل تابعوه ولم ينكر ذلك عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أمرهم عليه.
لذا اتفق أهل العلم على أنه الإمام إذا سهى فتركه الجلسة للتشهد فإن المأمومين يتابعونه.
مسألة:
ترك التشهد ترك واجب من واجبات الصلاة، فهل غيره من الواجبات كغيره في هذا الحكم – كالتسبيح والتحميد وغيرها من الأذكار الواردة في الأركان؟
الجواب: فارق بين مسألة القيام عن التشهد الأول وبين ترك التسبيح والتحميد ونحوها من الواجبات التي في الأركان في تلك الجلوس للتشهد تبع للتشهد وإنما شرع له وأما هنا فإنه إذا رجع إلى الواجبات ليأتي بها وأن لم يصل إلى الركن فإنه يلزم فيه أن يأتي بالركن مرة أخرى، فيكون في الصلاة زيادة متعمدة. لذا هذه الواجبات إذا خرج عن محلها فأنه لا يعد ويجبرها بالسجود، وأن لم يصل الركن الذي بعدها، لأنه برجوعه يفعل الركن مرة أخرى.
أما في التشهد: فإنه لو جلس للتشهد ولم يتلفظ بالتشهد فقام فإنه يرجع لأن الجلوس مشروع للتشهد أما هذا فالركوع ركن وهذه الأذكار واجبة فيه، وهي أركان مقصودة بذاتها.
(5/224)
________________________________________
قال: (وعليه السجود للكل)
للمسألتين، والسجود – كما تقدم في المذهب – قبل السلام.
أما المسألة الثانية فالحديث الصحيح يدل عليها وهو حديث عبد الله بن بحينة، والقاعدة تدل عليها فإنها نقص في الصلاة.
وأما المسألة الأولى فهي زيادة في الصلاة، فقد زاد في الصلاة أركاناً على سبيل السهو. فالواجب أن يكون سجد بعد السلام، لأن ما كان عن زيادة فإنه بعد السلام على الراجح كما تقدم – وهو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمهما الله جميعاً.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن شك في عدد الركعات أخذنا بالأقل)
من شك في عدد الركعات، فلا يدري أصلى ثلاثاً أم أربعاً فإنه يبني على اليقين فيأخذ بالأقل.
واستدلوا بما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً له صلاته وأن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) ومثله لو شك وقد ركع هل أدرك الإمام في ركوعه أم لا، كأن يأتي متأخراً فيسجد الإمام راكعاً فيركع ثم يشك هل رفع الإمام رأسه قبل أن يدركه أم بعد أن أدركه ومثل ذلك لو شك في ركن هل فعله أم لا؟ فأنه يبني على اليقين وهو أنه لم يفعل أو لم يزدهن الزيادة.
وظاهر كلام المؤلف مطلقاً سواء كان إماماً أو منفرداً، وسواء كان الشك مع علته ظن أو مع استواءت الطرفين.
فظاهر كلام المؤلف أن الصورتين كليهما داخلة في البناء على التيقن وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور.
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد وهي ظاهر مذهبه (أي المشهور فيه) .
التفريق بين الإمام والمنفرد:
(5/225)
________________________________________
أما المنفرد فإنه يبني على اليقين مطلقاً فلا يحكم عليه ظنه وأما الإمام فإنه أن أمكنه غلبه ظن تسبيح الناس خلفه فإنه يعمل به، وأن لم يمكنه ذلك إما بأن يختلف المأمومون أو لا ينتبه أحد منهم – فإنه يبني على اليقين.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسجد سجدتين) وفي رواية البخاري: (فليتم ثم يسلم ثم يسجد) فهذا الحديث فيه أن من أمكنه أن يتحرى الصواب فإنه يتم عليه ويسجد بعد السلام.
وقد حمل الحنابلة هذا الحديث على الإمام الذي يمكنه أن يتحرى الصواب بنية المأمومين.
فإن لم يمكنه تحري الصواب كأن يختلف المأمومون أو لا يحدث تنبيه مع الشك الواقع فيه فإنه – حينئذ يبني الإمام على اليقين.
وهناك رواية ثالثة عن الإمام اختارها شيخ الإسلام: وهي الراجحة إلى أن الإمام والمنفرد كليهما على غلبة الظن ويتحرى الصواب فأن لم يكن هناك صواب يتحراه فإنه يبني على اليقين وهذا هو القول الراجح لعمومات الأحاديث.
فأن حديث أبي سعيد الشك عام من الإمام والمنفرد: (إذا شك أحدكم في صلاته) سواء كان إماماً أو منفرداً فإنه يبني على اليقين مادام الشك مع استواء في الطرفين كما أن حديث ابن مسعود حديث عام في الإمام والمنفرد ثم إن غلبة الظن يحصل من المنفرد كما حصل من الإمام، فغلبة الظن التي تحصل بنيته المأمومين يمكن أن يحصل هذا الغلبة للمفرد وأن لم يكن هناك تنبيه فإن يكون الواقع في قلبه أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً أو نحو ذلك، وهذا هو المقصود، فأن تنبيه المأمومين لا يعدوا إلا أن يكون وسيلة إلى غلبة الظن، فإذا حصلت غلبة الظن بدون تنبيه من المأمومين فيحكم بها لأنها هي المقصودة في الحكم.
تقدم أن المذهب أن غلبة الظن يحصل للإمام دون المنفرد في هذه المسألة، بسبب تسبيح المأمومين.
(5/226)
________________________________________
وعليه: فإذا كان الإمام ليس وراءه إلا مأموم واحد فإن هذا المأموم لا يرجع إلى قوله – كما تقدم – في المشهور من المذهب.
وعليه فأن هذه المسألة السابقة: حيث كان مع الإمام مأمومان فأكثر يحصل بتسبيحها الظن الغالب أما إذا سبح به واحد أو لم يكن وراءه إلا مأموم فأن الإمام لا يحكم بغلبة ظنه هنا، لأن المأموم واحد، والواحد لا يرجع إلى قوله – كما تقدم – هذا تقرير المذهب –
وعليه – وهو على المذهب – إذا شك المأموم في صلاة إمامه فأن المأموم يبني على اليقين لأن الإمام لا يرجع إليه لكونه واحداً – وهذا خلاف الظاهر، لأن الشارع قد أمر بمتابعة الإمام ما لم يثبت في صلاته خلل، ومجرد الشك لا تعارض الظاهر.
فالظاهر أن صلاة الإمام صحيحة يجب على المأموم أن يتابعه عليها، وحيث شك المأموم فأن شكه لا تعبير لأنه مخالف للظاهر.
هذان التفريقان على مذهب الحنابلة – وألا فالراجح – كما تقدم – هو اعتبار غلبة الظن مطلقاً للإمام والمنفرد.
قال: (ولا شك في ترك ركن فكتركه)
فإذا شك في ركن فلما لو تركه، كأن يشك هل ركع أم لا؟ فهو كما لو ترك الركوع.
وقد تقدم حكم ترك الركن – وأنه في المشهور من المذهب إذا شرع في القراءة في الركعة الثانية لم يرجع إليه وقامت الركعة الثانية فقام الركعة الأولى التي سقط ركنها نسياناً.
وإذا لم يشرع فإنه يعود إلى الركن فيأتي به.
كذلك إذا شك، فقبل الشروع بالقراءة يرجع إلى الركن فيأتي به، لأن الأصل أنه لم يأت به فهذا ركن إيجادي يجب إيجاده فالأصل عدمه، فما دام أنه شك فإننا نبقى على الأصل وهو عدم فعله منه وقد تقدم الكلام إذا ترك ركناً من أركان الصلاة، فكذلك إذا شك في تركه فإنه يعطي حكم الترك مطلقاً.
وظاهر كلامه – إنقاذ – أنه يبني على التيقن مطلقاً واليقين هنا أنه لم يفعل هذا الركن، فعليه أن يرفع إليه قبل الشروع بالفاتحة، وإذا شرع بطلت الركعة التي شك في ركن من أركانها.
(5/227)
________________________________________
والقول الثاني: في المذهب أنه يبني على غلبة الظن إن كان هناك غلبة ظن.
كان يشك هل ركع أم لا، ويمكنه ظنه أنه ركع، فحينئذ حكمه أنه أتى به فيتم الصلاة على أنه قد أتى بهذا الركن ثم إذا سلم سجد سجدتين وهذا هو الراجح – كما تقدم –
فالراجح في هذه المسألة – كالراجح في المسألة المتقدمة استدلالاً ودليلاً، فإن هذه المسألة داخلة في عمومات الأحاديث، فينظر في شكه فأن كان عنده غلبة ظن فأنه يعمل به، ويسجد سجدتين بعد السلام وإلا بنى على اليقين وسجد قبل السلام – واليقين هنا – أنه لم يفعل –
قال: (ولا يسجد لشكه في ترك واجب أو زيادة)
لما رفع من الركوع شك هل سبح فيه أم لا؟
والشك: المعتبر هو الذي لا يقع عن وسوسة من الشيطان وهو الذي يكثر في الصلاة وبتحديث كثيراً فيعلم أنه من الشيطان.
وكذلك الشك بعد السلام ليس بمعتبر، فإذا صلى وشك هل تركت الركن أو هل صليت ثلاثاً أم أربعاً أو هل تركت الواجب – فهذا ليس بمعتبر اتفاقاً لأن الظاهر أن الصلاة قد تمت وصحت فلا يفارقها هذا الشك الوارد إليها.
فإذا شك من ترك واجب، فلا يشرع له السجود سواء عنده غلبة ظن أو لا.
قال: لأن الأصل عدم السجود وقد شك في سببه، لكن هذا ضعيف، لأن المسائل المتقدمة، كذلك فأن الأصل عدم سجود السهو وقد شك في السبب، لما تقدم في حديث: (فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً) فإنه شك والأصل عدم السجود، فالصحيح الشك في ترك الواجب كالشك في ترك الركن وهو قول في المذهب، لأن الأصل عدم فعل الواجب، فلما شك ما استوى الطرفان رجعنا إلى الأصل وهو عدم الفعل، لأنه واجب إيجادي كما تقدم في الركن وأنه ركن إيجادي، فالأصل أنه لم يفعله، فما دام أنه لم يتيقن أو أنقلب على ظنه فعله فإنا نحكم أنه لم يفعل وهذا القول هو الراجح.
وعليه: ترك الواجب كترك الركن، لكن تقدم أن ترك الركن يرجع إليه.
(5/228)
________________________________________
لكن هنا نقول: يبنى على إنه لم يفعل مطلقاً، فلا يرجع لأن الرجوع ممتنع ويسجد قبل السلام.
إلا إذا كانت عنده غلبة ظن، كأن يشك في التسبيح في الركوع ويغلب على ظنه قوله فإنه يسجد بعد السلام وإلا فإنه يسجد قبله.
إذن: إذا كان عنده شك في فعل الواجب – وكان شكاً فاستوى الطرفين فالسجود قبل السلام.
وإذا كان مع ترجيح الفعل فإنه يسجد بعد السلام.
قال: (أو زيادة)
فإذا شك في زيادة فلا يشرع له أن يسجد، كأن يشك هل صلى أربعاً أم خمساً أو يشك أنه ركع في ركعة ركوعين أو ثلاث سجودات أو نحو ذلك فهذا شك زيادة فلا يشرع له السجود لأن الأصل عدم الزيادة وعدم السجود.
فحينئذ: نبني على الأصل، فلا يشرع له أن يسجد لأن هذا الشك الوارد شك زيادة والأصل عمها والأصل عدم السجود: فلا يشرع له أن يسجد.
كما أنه لا يشرع له السجود إذا زال شكه وزال موجب سجوده وكأن يشك رجل هل صلى ثلاثاً أم أربعاً فبنى على اليقين، فلما شرع في الرابعة تيقن أنه لم يكن مخطئاً وأنه ليس هناك شك وإنه مجرد خاطر وقع في قلبه فحينئذ: لا يشرع له السجود لأنه موجبة الشك وقد زال الموجب، فلا يشرع له السجود – كما ذكر ذلك الحنابلة وهو قول ظاهر، ودليله ما تقدم من زوال موجبة وهو الشك.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه)
فإذا سهى المأموم فلا يسجد للسهو إلا تبعاً لإمامة فإذا سهى ووافق سهوه سهو الإمام، أو سهى الإمام فإنه يسجد معه.
ويستثنى من ذلك: ما إذا كان السهو للمأموم في حال القراءة عن إمامه، كأن يكون مسبوقاً، فيقع السهو منه في حال إتمامه للصلاة، لأنه لإمام إنما يحتمل سهوه حيث كان تبعاً له متصلاً به مأموماً، وأما والحالة هذه فإنه يسجد ولا يحتمل عنه الإمام لأن صلاته التي وقع فيها السهو ومنفرداً فيها عن إمامه.
(5/229)
________________________________________
فإذا سهى المأموم مع إمامه فلا يسجد للسهو إلا في الصور المتقدمة – هذا مذهب جماهير العلماء حتى حكاه إسحاق وابن المنذر إجماعاً وأن المأموم إذا سهى خلف إمامه متى تابع فيه إمامه فإنه لا يسجد – وهو مذهب عامة أهل العلم.
وذهب طائفة من أهل العلم وهو مذهب الظاهرية ومذهب الشوكاني والصنعاني من المتأخرين إلى أنه يسجد للسهو الذي وقع منه خلف إمامه.
استدل أهل القول الأول:
بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من تكلم جاهلاً خلفه – لم يأمره بالسجود فلو كان السجود واجباً خلف الإمام لأمره بالسجود وهذا استدلال ضعيف لأنا لا نسلم أصلية السجود في مثل هذا وأن الإمام والمأموم إذا تكلم ساهياً أنه يسجد بل الظاهر أنه لا يسجد لعدم الدليل الدال على مشروعية السجود هنا وليس بمعنى ما ورد به النص.
واستدلوا: بحديث رواه الدارقطني لكن إسناده ضعيف جداً من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على من خلف الإمام سهو فإذا سهى الإمام فعليه وعلى من خلفه) .
واستدل بعضهم: بأن الصحابة يبعد جداً ألا يقع منهم السهو خلف النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل لنا أن أحداً منهم سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم سهو وقع منه.
وأجيب عن هذا: بأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، والصحابة لا يشترط أن يثبت لنا أنهم طبقوا عموماً من العمومات أما إذا خالفوه فنعم، فإن هناك من العلماء من يرى التخصيص بعملهم أو قولهم.
(5/230)
________________________________________
واستدلوا – وهو أصح أدلتهم – بأن الإمام يتابعه المأموم في سجوده وهذه زيادة في الصلاة أوجبنا على المأموم أن يتابع إمامه فيها، كما أن الإمام يتحمل عنه عمده، فإن الإمام إذا قام عن التشهد الأول ساهياً وجب على المأموم أن يتابعه فيقوم عمداً، والنقص مثل ذلك، فإن السجود إنما هو جبر لنقص حدث في الصلاة ترك يبطل الصلاة عمداً، وقد وقع من المأموم سهواً وهناك كذلك، فإن الزيادة في الصلاة مبطلة لها ومن أجل متابعة الإمام وألا يحدث في الصلاة خلاف بين المأمومين وإمامهم – من أجل ذلك أمر الشارع المأموم أن يريد في صلاته هاتين السجدتين لمتابعة الإمام، فهذه زيادة وترك السجود نقص فكان هذا قياساً ظاهراً.
وأما أهل القول الثاني: فاستدلوا بعمومات الأدلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) فهذا حديث عام في الإمام والمنفرد والمأموم لكن الصحيح ما تقدم من باب القياس الصحيح المذكور فإن الإمام يتحمل عن مأمومه الزيادة في الصلاة " في سجدتين السهو " ومتابعة في تعمد ترك واجب من الواجبات فيقوم عن التشهد متعمداً ليتابع إمامه كل ذلك ليحصل الموافقة بين صلاة المأموم وصلاة إمامه.
فالراجح أنه لا يشرع للمأموم أن يسجد للسهو خلف إمامه إلا تبعاً لإمامه.
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: - لعدم ذكرها – وهو أنه إذا سهى المأموم خلف إمامه فيما انفرد به من الصلاة فإنه يجب عليه السجود قولاً واحداً.
المسألة الثانية: وإذا سهى الإمام فيجب على المأموم أن يتابعه في السجود كما تقدم – وحينئذ – فأن كان المأموم مسبوقاً في صلاته وكان الإمام عليه سجود لسهواً قبل السلام أو يعده، فكيف يتابعه؟ هل يجب عليه أن يتابعه عند سجوده أو يجب عليه أن يؤخر ذلك؟
قولان لأهل العلم:
(5/231)
________________________________________
القول الأول: وهو مذهب الحنابلة: أنه يجب عليه أن يسجد مع إمامه، سواء كان سجوده قبل السلام أو بعده فإذا سلم الإمام قام فأتم صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا) فإذا سجد الإمام للسهو وجب على المأمومين عامة أن يسجدوا سواء من كان منهم مسبوقاً أو لم يكن مسبوقاً.
فالمسبوق: أن كان السجود قبل السلام فلا أشكال فإنه يسجد مع الإمام فإذا سلم قام فأتم صلاته وأما إذا كان بعد السلام فإنه لا يسلم مع الإمام، فإذا سلم الإمام وكبر سجد للسهو سجد معه ثم إذا سلم الإمام قام فأتم صلاته ويجزئه ذلك عن السجود.
القول الثاني: وهو مذهب الشافعية والمالكية: إذا كان قبل السلام فإنه يسجد مع الإمام، لحديث: (وإذا سجد فاسجدوا) وهو عموم.
وأما إذا كان بعد السلام فإن المأموم يقوم بعد سلام الإمام من الصلاة ولا يسجد معه سجدتي السهو، ويتم صلاته ويسجدهما بعد السلام.
قالوا: لأن هاتين السجدتين إنما هما مشروعتان خارج الصلاة فتمام المتابعة للإمام أن يفعلا خارجها، فكان المشروع للمسبوق ألا يسجد مع إمامه بل يسجدهما بعد السلام وهذا القول أرجح.
وهناك قول ثالث: بالإطلاق وأنه لا يسجد مع الإمام مطلقاً سواء كان السجود قبل السلام أو بعده وهو قول الأوزعي بل يسجد بعد إتمام صلاته سواء كان بعد السلام أو قبله.
والراجح مذهب أهل القول الثاني: وأنه يسجد معه أن سجد قبل السلام لعموم قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) وكونه ينتظر ولا يسجد معه مفارقة للإمام والواجب أن يتابعه، أما بعد السلام فإنه يتم صلاته ولا يتابع الإمام في سجدتي السهو ثم يسجدهما بعد سلامه وهذه هي المتابعة فأن السجدتين إنما شرعاً بعد السلام فلا يشرع للمأموم أن يتابع إمامه فييفعلهما في صلب صلاته.
(5/232)
________________________________________
وإذا قلنا بالمذهب: فهنا مسألة متفرعة وهي: ما إذا كان على الإمام سجدتين للسهو فقام المأموم قبل أن يشرع في القراءة أن يسجدهما ساهياً، فينظر أن انتصب قائماً لم يجز له الرجوع، وأن لم ينتصب قائماً فيجب عليه الرجوع.
هذا على المذهب المرجوح، وألا فالراجح أن المأموم لا يتابع إمامه في هذا الموضع وسجدتي السهو واجبتان فكان حكمهما كحكم من قام عن التشهد، فإنه إذا شرع في القيام فقد شرع في ركن فلا يجوز له أن يدعه إلى الواجب فيعود بل ينتصب قائماً ثم يسجد بعد ذلك.
- المسألة الثالثة: إذا سهى الإمام في صلاته ولم يسجد فهل يسجد المأموم أم لا؟
قولان لأهل العلم:
أ – قال جمهور أهل العلم: يجب على المأموم أن يسجد لأن الصلاة قد وقع فيها نقص من جهة الإمام فيلحق هذا النقص المأمومين، ويجبر ذلك بالسجود ولم يحدث ذلك من الإمام فكانت الصلاة فيها نقص من جهة المأمومين فوجب عليهم السجود.
ب- القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا يسجدون لأن سجود المأموم تبع لسجود إمامه، فالأصل أنه لا يشرع للمأموم أن يسجد هاتين السجدتين، إنما يسجدهما تبعاً لسهو إمامه فهو لم يقع فيه سهو بل وقع من الإمام لكنه شرع له تبعاً لإمامه فإذا لم يوجد موجب السجود فإنه لا يسجد له تبعاً لإمامه فإذا لم يوجد فوجب السجود فإنه لا يسجد وموجبة هو وقوع ذلك من الإمام، فحيث لم يقع ذلك من الإمام فإنه لا يشرع له السجود ألا أن يكون السهو منهم فهي مسألة أخرى، أما ما تقدم فالكلام على ما إذا كان السهو واقعاً من الإمام فحسب.
فالراجح أنه إذا لم يسجد لم يشرع للمأمومين السجود لزوال الموجب.
قال: (وسجود السهو لما يبطل عمده واجب)
(5/233)
________________________________________
والأحاديث ظاهرة في وجوب سجود السهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) وظاهر الأمر الوجوب وهنا ذكرها قاعدة وهي: أن ما يبطل عمده يجب السجود له لكن هذا ليس على إطلاقه، فأن الكلام يبطل الصلاة عمده ومع ذلك فالراجح أنه لا يشرع له السجود فهي قاعدة ليست مطلقة بل حيث ورد الدليل فالأصل عدم السجود ألا أن يرد دليل يدل عليه أو يرد صوره بمعنى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود فيه.
قال: (وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط)
هنا ثلاث مسائل:
الأولى: أن من ترك السجود الذي أفضليته قبل السلام فالصلاة باطلة فإذا ترك السجود قبل السلام في شك قد استوى طرفاه وهو مستحب له السجود قبل السلام، فإذا ترك السجود فإن الصلاة تبطل، لأنه يكون تاركاً لواجباً من واجباتها وترك الواجب عمداً تبطل الصلاة.
الثانية: إذا ترك سجوداً للسهو مشروعاً بعد السلام فأن الصلاة لا تبطل به – هذا هو المشهور في المذهب – لكنه يكون آثماً لتركه واجب.
قالوا: هو يشبه – حينئذ – ما هو واجب خارج الصلاة، كالإقامة والأذان فأنها من واجبات الصلاة التي هي خارجة عنها، فالسجود بعد السلام هو واجب لكنه خارج عنها فاشبه الإقامة والأذان وقد تقدم أن من ترك الأذان والإقامة مع وجوبهم فأن الصلاة تصح ويكون آثماً لتركه هذا الواجب.
وهناك قول في المذهب اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الصلاة – تبطل بذلك، لأن السجود متمم للصلاة جابر لها فالصلاة ناقصة دونه، وإنما شرع بعد السلام لا لكونه شبهاً للإقامة والأذان وإنما شرع بعدها لأن الأليق في حقه أن يكون بعدها، فإنه يكون عن زيادة فإذا شرع قبل السلام اجتمع في الصلاة زيادتان، وأما إذا شرع بعده فلا يجتمع في الصلاة زيادتان ومع ذلك فإنه يبقى بلفظ الزيادة ويذهب أثرها.
وهذا القول أرجح، لأنه واجب متصل بالصلاة وأن كان خارجاً عنها، متمم لصلبها فهو منها.
(5/234)
________________________________________
الثالثة: قوله: (أفضليته) هذا المشهور في المذهب حكى ذلك إجماعاً وهو أن السجود في كونه قبل السلام أو بعده أنه وأن كان السجود واجباً فإن كونه قبل السلام أو بعده هذا ليس على الوجوب بل على الاستحباب فمثلاً إذا شك في الصلاة استحب أن يكون سجوده قبل السلام فإن سجد بعده أجزأه ذلك.
وإذا سلم قبل تمام الصلاة استحب له – عندما يتم الصلاة - أن يكون سجوده بعد السلام وأن سجد قبله أجزأه.
وقد تقدم أن الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن الإمام أحمد أن النقص يجب أن يكون سجوده قبل السلام: (وهو ظاهر كلام أحمد " وقال الزركشي " وهو ظاهر كلام أبي محمد – يعني الموفق – وأكثر أصحابنا) لكن المصرح به في كتب الحنابلة أن ذلك على الاستحباب.
والراجح وجوبه وهو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقد أمر بذلك كما قوله: (فليسجد سجدتين) وهذا أمر وهو للوجوب.
قال: (وأن نسيه وسلم سجد أن قرب زمنه)
إذا نسى السجود سواء كان قبل السلام أو بعده، فإنه يسجد أن قرب زمنه عرفاً، والمشهور في المذهب مادام في المسجد أو في موضعه الذي صلى فيه فإنه في حكم المسجد وهناك رواية عن الإمام أحمد: أنه لا فرق بين المسجد وغيره وإنما العبرة بطول الزمن عرفاً أو قصره.
وعن الإمام أحمد رواية ثالثة اختارها ابن تيميه أنه يسجد وأن بعد الزمن أي لو تذكر سجود السهو بعد أيام فإنه لا يعيد الصلاة بل يسجد سجدتي السهو.
قال شيخ الإسلام: (لأن تحديد ذلك يختلف في عادات الناس وأعرافهم) فليس له حد معروف عندهم، فكوننا نربط الناس به يكون فيه مشقة بل لا يمكنهم معرفة ذلك لأن الناس يختلفون في حده عرفاً أو ليس له حد في أعرافهم.
وقال أيضاً: (وليس لهذا أصل في الشريعة) فليس هناك دليل يدل على التفريق بين طول الزمان وقصره وهذا القول هو الراجح.
(5/235)
________________________________________
وظاهر كلام ابن تيميه: كذلك في المسألة السابقة وهي من ترك شيئاً من الصلاة ناسياً كأن يسلم من ثلاث ركعات فإنه يأتي بها وأن طال الزمن.
وقد استدل شيخ الإسلام بحديث عمران بن حصين المتقدم وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حجرته فأخبر ما في المسجد فأتم الصلاة) – وظاهر ذلك أن هذا طويل عرفاً ولا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها وأن كان شيخ الإسلام لم ينص على المسألة التي قبلها لكن في حكم هذه المسألة دليلاً واستدلالاً.
فالراجح: أنه وأن طال الزمن فإنه يأتي بما ترك – وحينئذ – تكون الموالاة الواجبة قد سقطت عند العذر، فعذر النسيان اسقط الموالاة الواجبة في إتمام الصلاة فمن ترك شيئاً واجباً في الصلاة فالواجب أن يكون موالياً للصلاة لكن النسيان عذر اسقط الموالاة وقد دلت الشريعة على اعتباره – كما تقدم – لكون النبي صلى الله عليه وسلم مع فرضية الموالاة يأتي حجرته فيتحر فيأتي فيصلي ركعة، فهنا الموالاة منتفية والعذر موجود.
أما من ترك سجود السهو متعمداً أي ترك الموالاة فيه ففعله متأخراً فالصلاة تبطل به لأن الواجب هو الموالاة وحيث تركها عمداً فتبطل الصلاة.
قال: (ومن سها مراراً كفاه سجدتان)
رجل سهى في الصلاة، مرتين أو أكثر فما الحكم؟
فيه تفصيل:
أما أن كانا – أي السهوان – من جنس واحد، والمراد بذلك أن يشرع لهما سجود أما قبل السلام أو بعده أي هما من نوع واحد أما بالنقص أو زيادة.
فحينئذ: لا خلاف بين أهل العلم أنه يكفيه سجود واحد، فإذا كانا زيادة فيسجد بعد السلام سجدتين وتكفيه عنهما، وكذلك إذا كانا نقصاً فيسجد قبل السلام ويكفيه عنهما، وهذا باتفاق أهل العلم.
وإنما اختلفوا فيما إذا كانا من نوعين: أي أحدهما يشرع له السجود قبل السلام والأخر بعده.
(5/236)
________________________________________
مذهب جمهور أهل العلم أنه يكتفي بسجدتين قبل السلام لأنه هو الأحق بذلك فهو المتقدم ويكون ذلك أي سجوده قبل السلام استحباباً، والراجح وجوبه كما تقدم.
وذهب الأوزعي إلى أنه أن كان السهو من جنس واحد فيكفيهما سجود واحد بعد السلام أو قبله فقد وافق الجمهور وخالفهم فيما إذا كان الأمر على خلاف ذلك وهو ما إذا كان السهوان من جنس مختلف.
واستدل: بما رواه أبو داود وغيره من حديث ثوبان: (لكل سهو سجدتان) لكن تقدم أن الحديث ضعيف. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نسى أحدكم فليسجد سجدتين) وهذا عام فيما إذا كان موضعه قبل السلام أو بعده، وسواء كان ذلك في موضعين أو موضع واحد، سواء كان منه سهوان أو أكثر من ذلك فهو حديث عام.
مسألة: إذا كان السجود بعد السلام فهل يشرع له تشهد أم لا؟
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن يشرع له التشهد فإذا كبر للسجدتين – كما في حديث أبى هريرة – وسجد السجدتين وجب عليه التشهد.
واستدلوا: بحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم) رواه أبو داود والترمذي.
وذهب محمد بن سيرين وهو اختيار ابن تيميه وقال إليه الموفق إلى أنه لا يشرع له التشهد لظاهر حديث ابن مسعود وأبي هريرة الواردين في السجود بعد السلام وليس فيهما ذكر التشهد.
قالوا: وقياساً على سجدة التلاوة فهي سجدة خارج الصلاة كما أن هاتين السجدتين خارج الصلاة، فكما أن سجدة التلاوة لا يشرع لها تشهد فكذلك سجدتا السهو.
وأجابوا عن حديث عمران: بأنه حديث ضعيف شاذ وقد ضعفه ابن المنذر والبيهقي وابن عبد البر وشيخ الإسلام ضعفوه وتفرد اشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وقد تفرد به عن عامة الرواة عن ابن سيرين وهو المحفوظ عنه فلم يذكروا التشهد فتفرد اشعث بذكر التشهد.
(5/237)
________________________________________
والمحفوظ من حديث ابن سيرين عدم ذكر التشهد بدليل أن مذهبه عدم القول بالتشهد ولو كان عنده رواية يقال بها.
فالحديث شاذ لذا قال عنه الترمذي: (حديث غريب) والصواب ما ذهب إليه أهل القول الثاني وأنه لا يشرع التشهد لأن حديث ابن مسعود وحديث أبى هريرة ليس فيه ذكر التشهد مع توفر الهمم والدواعي لذكره، فإنه طويل لو كانا ثابتاً لذكر، فلما لم يذكره مع توفر الهمم والدواعي لنقله فهو لهذا طويل، فدل ذلك على عدم ثبوته ,
وأما حديث عمران فهو حديث شاذ كما تقدم.
والحمد لله رب العالمين.
(5/238)
________________________________________
باب سجود السهو

قوله: [يشرع - سجود السهو- لزيادة ونقص وشك]
إذاً عندنا ثلاثة أحوال: 1- زيادة. 2- وعندنا نقص. 3- وعندنا شك.
زيادة: كأن يصلي الظهر خمسا.
نقصا: كأن يقوم في الركعتين، فلا يجلس للتشهد الأول.
شك: كأن لا يدري هل صلى ثلاثا أم أربعا.
وسيأتي تفاصيلها إن شاء الله.
قوله: [لا في عمد]
إذاً السجود في سهو لا في عمد، أما في ترك واجب أو ركن عمداً، فإن الصلاة تبطل كما تقدم، وهذا باتفاق العلماء، وإن كان القول بأن هناك واجب هذا من مفردات المذهب، فترك الواجب عندهم كترك الركن، فمن ترك واجبا أو ترك ركناً بطلت صلاته إن كان عمداً، ولأنه لم يفعل ما أمره الله به فلم يصل كما أمر الله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (1) .
إذاً سجود السهو خاص بالسهو، ولذا قال عليه الصلاة والسلام كما صحيح مسلم: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) (2) .
قوله: [في الفرض والنافلة]
يعني يُشرع في الفرض، ويُشرع في النافلة، أما الفرض فظاهر، وأما النفل؛ لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً، ولعمومات الأدلة، فقوله: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، هذا عام في الفرض وفي النفل. فإذا سها في سنة الظهر أو سنة الضحى ونحو ذلك، فإنه يسجد للسهو.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة [1718] ، زاد المعاد [5 / 224] .
(2) أخرجه مسلم باب السهو في الصلاة من كتاب المساجد، وابن ماجه باب السهو في الصلاة من كتاب إقامة الصلاة، المغني [2 / 418] .
(6/1)
________________________________________
وهنا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها، هناك يصلي فرضاً أو نفلاً، ثم يترك سنة في هذه الصلاة، فنقول: لا يسجد للسهو، لكن هنا يترك ركناً أو واجباً سهواً في صلاة نفل، كأن يترك التسبيح في الركوع أو التسبيح في السجود في سنة الفجر مثلاً، فإنه يسجد؛ لأن ما ثبت فرضاً فهو ثابت نفلاً، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) .
ومن صور السجود في النفل:
لو قام لثالثة في الليل، وصلاة الليل كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثنى، مثنى) ، فإذا قام لثالثة سهواً، فإنه يجلس ويسجد سجدتين للسهو؛ لأن صلاة الليل مثنى مثنى، وأما إذا كان في النهار فقام إلى ثالثة، فله أن يُتم أربعاً، وفي صلاة الليل له أن يصلي خمساً أو سبعاً أو تسعاً، لكن ليس له أن يصلي أربعاً. فإذا دخل على أن يصلي مثنى مثنى، فصلى فقام إلى ثالثة، فإنه يجلس ويسجد للسهو، لأن صلاة الليل مثنى مثنى.
قوله: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة]
قيَّد الفعل بكونه من جنس الصلاة، فلو كان الفعل من غير جنسها، فإنه يدخل في المسألة السابقة، وهي مسألة الأفعال الكثيرة، أو مسألة الفعل في الصلاة، ما الذي يُبطل الصلاة منه؟ تقدم هذا، وأن الذي يبطله ما كان بحيث من يراه يقول: إنه لا يصلي، لكن هنا الكلام إذا كانت الزيادة من جنس الصلاة، وأما إذا كان الزيادة من غير جنس الصلاة، فننظر، إذا كانت كثيرة، فإنها تبطل الصلاة، وهي التي بحيث إذا رُئي المصلي قيل: إنه لا يصلي، وأما إذا كانت يسيرة، فإنها لا تبطل الصلاة، كما تقدم تقريره، ولذا قيد هنا المسألة بقوله: " من جنس الصلاة ".
قوله: [قياماً]
أي زاد قياما، كأن يقوم إلى ركعة خامسة.
قوله: [أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، وسهواً يسجد له]
(6/2)
________________________________________
قوله هنا " أو قعوداً " أي قعوداً في غير محل القعود، لكن إن كان القعود في محل القعود فإن هذا لا يجب له سجود السهو.
مثاله: جلس في محل التشهد يظن أنه جالسٌ بين السجدتين، فتذكر. هل نأمره بالسجود؟
الجواب: لا نأمره بالسجود، لأن هذا في محله، وليست الزيادة ظاهرة – فليست هناك زيادة -، غاية الأمر أنه تذكَّر أن هذا القعود ليس هو القعود الذي نواه، فكان يظن أنه في قعود للجلسة بين السجدتين، فتبين أنه في قعود للتشهد، فهنا القعود الآن في محل القعود، فقعد في محل قعود، لا في محل قيام.
لكن لو أنه جلس بعد أن رفع من السجدة الثانية في الركعة الأولى، فلما أراد أن يقوم للركعة الثانية جلس وأطال الجلوس، يظن أن هذا هو التشهد الأول، - يظن أنه قد صلى ركعتين، وهو لم يصل إلا ركعة واحدة -، فتذكر فقام، أو نُبِّه، فهل يجب عليه سجود؟
الجواب: نعم، يجب عليه سجود؛ لأنه ليس في محل قعود.
لكن لو كان في محل قعود، فغاية الأمر أن يكون قد نوى غير ما هو واجب عليه، ثم عاد فنواه، فلا يؤثر ذلك. وهذا التقييد في المذهب.
هنا ظاهره أيضاً: أنه ولو كان ذلك بقدر جلسة الاستراحة، فلو أن رجلاً لا يرى جلسة الاستراحة، لما قام من الركعة الأولى جلس بقدر هذه الجلسة، ثم قام، فظاهر كلام المؤلف، وهو المذهب أنه عليه سجود السهو.
(6/3)
________________________________________
والقول الثاني، وذكره صاحب المغني وجهاً في المذهب، واختاره الزركشي من الحنابلة، وهو القول الثاني في المسألة: أنه لا يسجد له. وهذا هو الراجح، وذلك لأن تعمده لا يبطل الصلاة، فلو تعمد رجل هذه الجلسة اليسيرة، فهل نبطل صلاته؟ لا نبطل صلاته، فكذلك إذا سها؛ لأن المسائل السابقة إذا فعلها تعمداً بطلت صلاته، وإذا فعلها سهواً سجد، فهنا هذه الجلسة لو أن رجلاً جلس عجزاً أو تثاقلاً، ثم قام، وهو لا يرى استحبابها، فهل تبطل صلاته؟ الجواب: لا تبطل، حتى في المذهب، فكذلك إذا زادها سهواً. إذاً الراجح أنه لو جلس بقدر هذه الجلسة اليسيرة، ما دام أنها بنحو جلسة الاستراحة، فإنها لا تؤثر.
قوله: [وإن زاد ركعة ولم يعلم حتى فرغ منها سجد]
إن زاد ركعة في الصلاة، كأن يصلي خمسا، فلم يعلم حتى فرغ منها، سجد.
رجل صلى الظهر خمسا، فلما سلّم نُبِّه، فما الواجب عليه؟
أن يسجد سجدتين، لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له عليه الصلاة والسلام: أزيد في الصلاة؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: إنك صليت خمساً، فقام عليه الصلاة والسلام فسجد سجدتين بعد ما سلّم. إذاً المذهب أنه إذا صلى الظهر خمساً، ثم علم بعد الصلاة أنه قد زاد خامسة، فإنه يسجد للسهو بعد السلام، وتكون حال ضرورة، لأن الواجب عندهم أن يسجد قبل السلام، لكن هنا لم يعلم إلا بعد السلام، فتكون حال ضرورة.
وتحرير مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: أنه يجب سجود السهو قبل السلام إلا ما ورد به النص، وهو في ثلاثة صور.
إذاً الأصل عنده أن السجود قبل السلام، لأن السجود يتمم الصلاة، فكان قبل الصلاة، ولم يستثن إلا ثلاث صور قد وردت بها الأحاديث:
الصورة الأولى: هذه الصورة، وهي أن يزيد في الصلاة، فيعلم بعد السلام، فيسجد بعد السلام، لأنها حال ضرورة.
(6/4)
________________________________________
الصورة الثانية: أن يَنقص من الصلاة ركعة فأكثر، فيسلِّم، ثم بعد أن يسلم الواجب عليه أن يتم صلاته، قالوا: ويسجد للسهو بعد السلام.
يعني إذا صلى الظهر ثلاثا، فسلم أو صلى الظهر اثنتين، فسلم، فهنا نقص ركعة فأكثر، فيجب عليه أن يتم صلاته، ثم يسجد للسهو بعد السلام، لحديث عمران وأبي هريرة، وحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إحدى صلاتي العَشيِّ ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله، أنسيت أم قُصرت الصلاة؟ قال: (لم أنس ولم تقصر) ، لما قال له ذلك، علم الرجل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُوح إليه بوحي جديد يوجب قصر الصلاة، فقال: بلى قد نسيت، وفي القوم أبو بكر وعمر، وقد هابا أن يكلماه، فلما سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: صدق ذو اليدين، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتين " إذا كان السجدتان للسهو بعد السلام. إذاً الصورة الثانية أن يُنقص من صلاته ركعة فأكثر، يعني يسلم قبل تمام الصلاة، فيجب عليه أن يتم ثم يسلم، ثم يسجد للسهو بعد السلام.
الصورة الثالثة: أن يشك، فيتحرى.
يعني يكون عنده شك، يقول: ما أدري هل صليت ثلاثاً أم أربعاً، فيتحرى، فيترجح عنده أنه قد صلى أربعاً، فهنا قال: يسجد للسهو بعد السلام، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه، وسيأتي إن شاء الله.
إذاً الإمام أحمد استثنى هذه الصور الثلاث.
(6/5)
________________________________________
وفي هذه المسألة ستة أقوال لأهل العلم أوردها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في فتح الباري، وأصح هذه الأقوال ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو قريب من مذهب مالك: أن الصلاة إن كان فيها نقص، فإن السجود يكون قبل السلام، وإن كان فيها زيادة، فإن السجود يكون بعد السلام، وهنا يوافقه الإمام مالك في هاتين الصورتين، والصورة الثالثة في الشك، فالإمام مالك عنده الشك قبل السلام، وأما شيخ الإسلام فيقول: إن كان الشك عند تحر، فبعد السلام فيوافق مذهب الإمام أحمد في هذا، وإن كان بلا تحر – يعني شك يستوي فيه الطرفان – فإنه يكون قبل السلام. إذاً الإمام مالك ليس عنده القول بالتحري، ويرى السجود قبل السلام. إذاً شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يختار، - وهو أصح الأقوال - أنه إن كانت في الصلاة زيادة، فالسجود بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، لأنه قد زاد، فإذا أوجبنا عليه السجود قبل السلام، كان فيه زيادتان، ولأن المقصود من هاتين السجدتين ترغيم الشيطان، فشُرع ذلك بعد السلام، ليكون إرغاماً للشيطان، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى الظهر خمساً، سجد بعد السلام، ولو كان السجود قبل السلام، لنبه الصحابة، ولقال لهم: إذا صليتم فاسجدوا قبل السلام، وإنما سجدت بعده لأن هذه حال ضرورة، فلما لم ينبههم عليه الصلاة والسلام لهذا عُلم أن هذا هو المشروع، فإن كان نقصاً فإنه يكون قبل السلام، فلو ترك التشهد الأول، فالواجب عليه أن يسجد قبل السلام، لأن السجود إنما يشرع الآن لتتميم الصلاة، وتتميمها إنما يكون قبل الفراغ منها، لأن الصلاة فيها نقص، فيسجد للسهو قبل السلام ليتمم نقصها، فكان جبرانا، فكان المشروع إن كان عن نقص أن يكون قبل السلام، وأما إذا كان مع تحر، فإنه يكون بعد السلام، لأنه قد تحرى، وغلب على ظنه صحة صلاته، وأن الصلاة على هذه الصورة، فكان
(6/6)
________________________________________
سجوده بعد السلام ترغيماً للشيطان، وأما إذا كان بلا تحري، فلأنه يُحتمل أن يكون قد زاد، فيحتمل أن يكون قد صلى خمسا، فتكون هاتان السجدتان تشفعان له صلاته. إذاً الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو قريب من مذهب مالك، وما خالف فيه مذهب مالك، فهو موافق فيه مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وهنا: هل لو سجد قبل السلام لِمَا السجود مشروع بعده، فهل يجزئه؟ وهل إذا سجد بعد السلام لِما السجود مشروع قبله، هل يجزئه ذلك؟ وهل خلاف أهل العلم المتقدم في الإجزاء أم في الأفضلية؟
يعني رجل نقص، فلو سجد بعد السلام هل يجزئه؟ ورجل زاد، فهل لو سجد قبل السلام – هذا على القول الراجح، وكذلك على الأقوال الأخرى –هل يجزئه؟
اختلف أهل العلم في هذا الخلاف:
فمن أهل العلم كابن عبد البر من قال: إن خلاف أهل العلم فيما هو دون الإجزاء، هذا هو معنى كلامهم رحمهم الله تعالى، وأنهم لا يختلفون في أنه لو سجد قبل السلام لِما كان السجود مشروعا له بعده، أجزأه، وكذلك إذا سجد بعد السلام لما كان السجود مشروعا له قبله، فلا بأس، وهذا أيضا مذهب طائفة من أهل العلم.
وذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد، وأصحاب الإمام الشافعي إلى: أن هذا الخلاف ليس في الأفضلية، وإنما في الإجزاء. وهذا هو ما قرره أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن أصح القولين كما قال رحمه الله في مذهب أحمد وغيره أنه يجب السجود قبل السلام لِما شُرع السجود له قبل، ويجب بعده لما شرع بعده، قال: " وهو أصح القولين في مذهب أحمد وغيره " قال: " وعليه يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة ".
(6/7)
________________________________________
إذاً عندنا بين أهل العلم خلاف، والذي يترجح هو القول الثاني، وأن هذا الخلاف في الإجزاء، وعلى ذلك فلو سجد قبل السلام لما يجب السجود فيه بعده، لم يجزه، وكذلك العكس، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لورود السنة في ذلك، والسنة متنوعة على حسب ما تقدم تقريره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وقال في بعض الأحاديث: (فليسجد سجدتين بعدما يسلم) ، إلى غير ذلك، وهذا القول هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وغيره.
قوله: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد، وإن علم فيها جلس في الحال]
إن علم بالزيادة فيها – أي في الركعة – فإنه يجلس في الحال.
رجل وهو قائم في الخامسة، علم أنه في زيادة، فالواجب عليه أن يجلس في الحال، ولو استمر لبطلت صلاته؛ لأنه يكون قد زاد أفعالاً عمداً.
قوله: [فيتشهد إن لم يكن تشهد]
إذا لم يكن تشهد، نقول: تشهد.
هل يُحتمل أن يكون قد تشهد؟
يحتمل، فقد يجلس في التشهد الأخير، ويظن أنه في التشهد الأول، فيتشهد ثم يقوم يظن أن هذا هو التشهد الأول، فإذا لم يكن تشهد، نقول: تشهد.
قوله: [وسجد وسلَّم]
وتقدم أن الراجح هنا: أنها لما كانت زيادة، فالواجب عليه أن يكون السجود بعد السلام. والله أعلم. انتهى الدرس الأول من باب سجود السهو في ليلة الاثنين التاسع من شهر رجب لعام 1420 للهجرة.
قوله: [وإن سبَّح به ثقتان فأصر ولم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته]
إن سبح به ثقتان لا فاسقان؛ لأن الفاسق لا يقبل خبره.
فإن سبح به ثقتان ولو امرأتان فكذلك؛ لأن هذا خبر ديني فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى.
(6/8)
________________________________________
إذاً لو سبح به ثقة فلا يرجع إلى قوله، وإنما يرجع إذا سبح به ثقتان أو أكثر، خلافا لما ذهب إليه إسحاق وأبو حنيفة من أنه يرجع إلى تسبيح الثقة. إذاً المذهب وهو مذهب الجمهور أن الإمام إنما يرجع بتسبيح ثقتين،لا بتسبيح ثقة. وهذا هو الراجح، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى سأل القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا الحديث المشهور وهو حديث ذو اليدين الثابت في الصحيحين وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إحدى صلاتي العشي ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، فقام رجل يقال له ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قُصرت الصلاة؟ فقال: (لم أنس ولم تُقصر!) فقال ذو اليدين: بلى قد نسيت، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، فلما قال له ذو اليدين ما قال، قالوا: بلى يا رسول الله، - أي لقول ذو اليدين – فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ركعتين، ثم سلم ثم سجد سجدتين بعدما سلَّم) ، واحتج الحافظ ابن حجر بهذا الحديث على ما يقرره أهل العلم من أهل الحديث في باب العلل من رد تفرد الثقة عن الثقات، وأنه لا يُقبل ما تفرد به الثقة عن الثقات، قال: " لاسيما إذا كان مجلس سماعهم واحدا "، فهنا الأصل قبول خبر الواحد، لأنه خبر ديني، كما يُقبل الحديث الذي يتفرد به الراوي، لكن لما تفرد أحد المأمومين عن سائر المأمومين كان ذلك مظنة الخطأ والريبة في خبره، ومن ثم لم يقبل الواحد حتى يعضده خبر ثان.
هنا إن سبح به ثقتان:
فقد يكون يترجح عنده خطؤه.
وقد يترجح عنده صوابه.
وقد يتيقن أنه على صواب.
إذاً هذا الإمام الذي سبح به ثقتان:
إما أن يترجح عنده خطؤه، فهنا يجب عليه أن يرجع إلى خبر الاثنين.
الحال الثانية: أن يترجح عنده صوابه، فهنا كذلك يجب عليه أن يرجع، لأن ظن الاثنين أقوى من ظن الواحد.
(6/9)
________________________________________
لكن هنا استثنى المؤلف الصورة الثالثة: وهي ما إذا تيقن صواب نفسه يعني إذا كان يتيقن أنه على صواب، وخبرهما غايته الظن، وهو ظن غالب، ولكن لا يصل إلى اليقين، وعلى ذلك فلا يرجع إلى قولهما لأن قولهما ظن، وما يحصل في نفسه يقين.
إذاً إن لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته، لكن إن جزم بصواب نفسه، فإن صلاته لا تبطل، بل لا يجوز له أن يرجع إلى قولهما وهو يرى أنه على صواب.
قوله: [بطلت صلاته]
إن لم يرجع هذا الإمام الذي قام خامسة يظنها رابعة، فسبح به ثقتان، ولم يعتقد صواب نفسه، فهنا إن لم يرجع فصلاته باطلة، لأنه واجب عليه الرجوع، فإذا ترك هذا الواجب عمدا فصلاته باطلة.
قوله: [وصلاة من تبعه عالما لا جاهلا أو ناسيا]
عالما: بحيث يعلم أن الإمام زاد خامسة، ويعلم أن الواجب على المأموم ألا يتابع الإمام إذا زاد خامسة، فإذا قام وهو يعلم أن ذلك لا يجوز، فإن صلاته أيضا تبطل، لأنها زيادة في الصلاة متعمدة.
قال " لا جاهلا أو ناسيا ": إذا قام جاهلا، يظن أن عليه أن يتابع الإمام إذا زاد. أو ناسيا: قد حصل له من السهو ما حصل لإمامه، فهنا صلاته صحيحة. إذاً إذا تابعه ناسيا ساهيا أو تابعه جاهلا، فإن صلاته صحيحة. والذين تابعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما زاد خامسة في حديث ابن مسعود الذي تقدم، منهم من هو جاهل بالحكم، ومنهم من هو ناس، فلم يبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاتهم.
هل للمسبوق أن يتابع الإمام إذا زاد خامسة؟
الجواب: ليس له أن يتابعه، بل يفارق؛ لأنها زيادة لاغية.
فإن تابعه ساهياً أو جاهلاً، فهل يعتد بهذه الركعة؟
- المذهب: أنه لا يُعتدُّ بهذه الركعة؛ لأنها زائدة لاغية في حق الإمام، فكذلك في حق المأموم.
(6/10)
________________________________________
- والقول الثاني، وهو الراجح، وهو قول في المذهب، واختاره الموفق ابن قدامة: أنه يعتد بهذه الركعة؛ وذلك لأنه لم يعتقدها زائدة، فهذا المأموم تابع الإمام على اعتقاده، فكما لو صلى الإمام وهو لم ينو إقامة الصلاة، فلو أن إماماً صلى وهو لم ينو، كأن يكون محدثا، لكن صلى بالناس، فصلاته باطلة، لكن المأمومين – كما تقدم، وكما سيأتي في الكلام على الإمامة - صلاتهم صحيحة، فكذلك هنا. إذاً الراجح أن المسبوق إذا تابعه ناسياً أو جاهلاً، فإنه يعتد بهذه الركعة؛ لأنها وإن كانت زائدة لاغية في حق الإمام، لكنه قد تابعه على وجه يُعذر فيه، فاعتد بهذه الركعة.
قوله: [وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه]
تقدم هذا، وأن الفعل الكثير يبطل الصلاة، عمده وسهوه. والراجح أن سهوه لا يبطل الصلاة، وذلك لما تقدم في غير ما مسألة من أن باب المنهيات إن فُعل على جهة النسيان، فإن العبد يكون معذوراً لا يؤاخذ وتكون العبادة صحيحة، وهنا الرجل عمل أعمالا كثيرة، لكن على جهة النسيان والسهو، فتحرَّك مثلا حركات كثيرة على جهة السهو، وعلى ذلك فيكون معذورا، وعليه فالصلاة صحيحة، لأن باب المنهيات كما تقدم، لا تُعاد العبادة عند النسيان والجهل، كما تقدم تقريره من الفرق بين باب المنهيات وباب المأمورات.
قوله: [ولا يشرع ليسيره سجود]
رجل الباب بجواره، فطرق الباب طارق، ففتح الباب، أو تحرك بحركات يسيرة لا تبطل الصلاة، قال هنا: لا يشرع له سجود السهو؛ لعدم وروده عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك فلا يشرع له أن يسجد للفعل اليسير الذي لا يبطل الصلاة. إذاً مراده بالفعل اليسير هو الذي لا يبطل الصلاة، قال: فلا يشرع له سجود، وهو كما قال.
قوله: [ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً أو جهلاً، ولا نفل بيسير شرب عمداً]
(6/11)
________________________________________
قال: لا تبطل الصلاة بيسير أكل، فقال " بيسير "، وهذا القيد يُخرج الكثير.
لِمَ قيَّد هنا باليسير؟
لأن الأكل الكثير عملٌ كثير، والعمل الكثير في المذهب يستوي فيه السهو والخطأ، فإذا أكل كثيرا سهوا، فالصلاة تبطل.
والراجح وهو رواية عن أحمد: أنه لا فرق بين يسير ولا كثير، فكما أن الكثير في الفعل لا يبطل الصلاة سهوا، فإن الأكل الكثير سهوا لا يبطل الصلاة.
إذاً قوله " بيسير " احتراز من الكثير، فهي فرع عن المسألة، وقد تقدم أن الفعل الكثير يُعذر فيه المكلف بالنسيان، وتُصحَّح عبادته بالسهو، فكذلك الأكل الكثير.
أما لو أكل يسيرا أو كثيرا عمدا، فإن صلاته تبطل بالإجماع؛ لمنافاة ذلك للصلاة، فإن الأكل والشرب ينافي الصلاة، وعلى ذلك فتبطل به الصلاة، وهذا بإجماع العلماء.
وهنا إذا وضع طعاما في فيه، فلا يخلو من حالين:
إما أن لا يمضغه، فهنا لا تبطل الصلاة مع الكراهية، فهذا لا يُعدُّ آكلاً، ولو وضع عِلْكاً في فيه لكنه لم يمضغه، فإن صلاته لا تبطل بذلك.
فإن كان الطعام وضعه في فيه بحيث يتحلل، كما لو وضع سُكَّراً أو نحو ذلك في فيه، فيتحلل هذا السكر، فيدخل جوفه، فإن هذا يُعدُّ آكلاً، وعلى ذلك: فتبطل صلاته.
وأما ما يكون في الأسنان، كأن يطعم ثم يُكبِّر للصلاة، وهناك شيء من الطعام بين أسنانه، فهنا إن كان يجري مع الريق فيدخل الجوف، فإنه لا يبطل الصلاة؛ لأن هذا يشق التحرز منه، وأما إن كان هذا الطعام الذي يكون بين الأسنان يحتاج إلى دفع، يعني لا يجري مع الريق، بل يدفعه ثم يدخله إلى جوفه، ففيه قولان:
والمذهب: أنه يبطل الصلاة. وهذا هو الأظهر؛ لأن هذا أكلٌ، فإذا أخرج ما بين أسنانه ثم ابتلعه، يعني دفعه بريقه حتى دخل جوفه، ففيه قولان لأهل العلم، أظهرهما أنه يبطل الصلاة.
إن أكل يسيرا على سبيل الجهل أو النسيان، فإن صلاته لا تبطل.
قوله: [ونفلٌ بيسير شرب عمدا]
(6/12)
________________________________________
فلو كان يصلى النفل، فشرب عمدا شربا يسيرا، واليسير هنا يرجع إلى العرف، فإن صلاته لا تبطل إن كانت نفلا. وقوله " شرب " يعني سواء كان ماء أو لبنا مما هو شرب ولا يحتاج إلى مضغ.
وأما الأكل اليسير فإنه يبطل النافلة؛ لأن الأكل يحتاج إلى تحريك فم.
إذاً المذهب أنه إن شرب يسيرا في العرف، فإن صلاته لا تبطل إن كانت نفلا لا فرضا، إذاً الفرض لا فرق فيه بين الأكل والشرب، فكلاهما يبطل الصلاة، وأما النفل فقالوا: إن الأكل يبطل الصلاة، وأما الشرب فلا يبطل الصلاة إن كان يسيرا؛ قالوا: لأن النفل يُتسامح فيه ما لا يتسامح في الفرض، ولأن هذا مما يقويه على إطالة التطوع، فبعض الناس يصلي الليل ويطيل، فيحتاج إلى أن يشرب شيئا من الماء، قالوا: فلا بأس بذلك، وذكروا ذلك عن ابن الزبير رضي الله عنه، ولم يعزوه، ولم أقف على هذا الأثر.
وقال جمهور العلماء: بل الصلاة تبطل، قال الموفق: " وهو الصحيح في المذهب " إذاً هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وهو الصحيح في المذهب عند الموفق، وهو مذهب الجمهور، أن ذلك يبطل الصلاة؛ لأن ما ثبت فرضا فهو ثابت نفلا. وهذا هو القول الأرجح في هذه المسألة، وقد يُتردَّد حيث كانت الصلاة طويلة كقيام الليل، فقد يقال بما ذهب إليه الحنابلة تسامحا وترغيبا في التطوع، لاسيما لمن يحتاج إلى الشرب، فإن بعض الناس قد لا يصبر، كأن يكون مريضا ويحتاج إلى تكرار الشرب. والله أعلم.
قوله: [وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه، كقراءة في سجود وقعود، وتشهد في قيام وقراءة سورة في الأخيرتين]
قرأ مثلا الفاتحة في السجود أو الركوع.
" وقعود ": قرأ القرآن مثلا في القعود.
" وقراءة سورة في الأخيرتين " وهذا على القول بأنه لا يشرع، وتقدم أنه يستحب أحيانا.
(6/13)
________________________________________
هنا إذا أتى بقول مشروع في الصلاة، لكنه في غير موضعه، كأن يقرأ القرآن في غير القيام، أو أن يتشهد في غير الجلوس في الركعتين، والجلوس في آخر الصلاة، وكأن يسبح في القيام والرفع في من الركوع أو يحمد الله في ركوعه أو سجوده أو غير ذلك، فهنا أتى بقول مشروع في غير موضعه، فلا تبطل الصلاة به.
قوله: [ولم يجب له سجود بل يُشرع]
فالصلاة لا تبطل، لأن الأصل أن الصلاة صحيحة، ولا دليل يدل على بطلانها، لكن هل عليه سجود سهو أم لا؟
قال هنا " ولم يجب له سجود، بل يشرع "، يعني لا يجب أن يسجد، لكن يستحب له السجود.
وعن الإمام أحمد: أنه لا يستحب، يعني لا يشرع أيضا. وهذا هو الراجح؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أحاديث سجود السهو، ليس فيها السجود عن قراءة أو ذكر في غير موضعهما – ليس ذلك في سجدات النبي عليه الصلاة والسلام -، فليس بمنصوص عليه، وليس بمعنى المنصوص – يعني ولا مُلحقاً بالمنصوص عليه -.
إذاً المذهب لا يجب السجود، لكنه يشرع، إذاً جعلوها كالمسألة السابقة فيما لو ترك بعض المستحبات، فلو ترك مستحبا من المستحبات فإنه لا يجب السجود، لكن يشرع، وتقدم أن الراجح أنه لا يشرع. إذاً لا يشرع له سجود سهو، فالسجود إنما ورد بالأفعال، ولم يرد في باب الأقوال، يعني في باب الزيادة.
قوله: [ولم سلَّم قبل إتمامها عمدا بطلت]
إن سلم قبل إتمام الصلاة عمدا، بطلت، وهذا باتفاق العلماء، وهذا واضح، كما لو تكلَّم عمدا، فهنا قد تحلَّل من صلاته حيث لم يؤمر، وصلى صلاة على غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وكل ما كان على غير هديه وأمره، فهو رد.
قوله: [وإن كان سهواً ثم ذكر قريبا أتمها وسجد]
(6/14)
________________________________________
سلَّم في الظهر عن ركعتين أو ثلاث، سهوا، فهنا أتمها وسجد، كما تقدم في حديث ذي اليدين. إذاً إن سها فسلَّم قبل إتمامها، فإن الواجب عليه أن يتم الصلاة وأن يسجد بعد السلام كما تقدم.
لكن قال هنا " ثم ذكر قريبا " يعني قريبا في العرف، فلو أن الإمام سلَّم في صلاة العشاء مثلا عن ركعتين، ثم إنه جلس يذكر الله، وكلّمه بعض الناس ببعض الشيء، ثم قال له اثنان من المصلين: إنك قد سلمت عن ركعتين، ولم يتيقن صواب نفسه، هل هذا قريب في العرف؟ هذا قريب في العرف، وعلى ذلك: يصلي ركعتين ثم يسجد سجدتين ثم يسلم، فإن خرج إلى بيته، وتذاكروا بعد خروجه، أو أخبروه لما حضر إلى الصلاة الأخرى، فالواجب عليهم هنا الإعادة؛ لأنهم لم يذكروا قريبا – في العرف – يعني بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، فإن هذا بعيد في العرف. هذا هو مذهب جمهور العلماء. إذاً جمهور العلماء قالوا: إن ذكرها قريبا، فإنه يتمها ويسجد، وإن لم يذكر قريبا، فإنه يعيد.
(6/15)
________________________________________
وذهب طائفة من السلف، وهو قول الأوزاعي ومكحول، وهو منقول عن الإمام أحمد رحمه الله، يعني نُقل عن الإمام أحمد ما يدل عليه، كما قال ذلك ابن رجب، قالوا: إنه يتمها ولو طال الفاصل عرفا، فلو صلوا العشاء مثلا ثلاث ركعات، فلما أتوا الفجر، نبههم بعض المصلين، فإنهم يتمونها، ولا تجب عليهم الإعادة. وهذا هو ظاهر حديث عمران في صحيح مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلَّم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحُجرة، فقام إليه رجلٌ بسيط اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة؟ فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُغضَباً، فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم " فهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المسجد ودخل حجرته، ثم قام إليه هذا الرجل، وفي الغالب يكون في ذلك تأخر، لما عُلم من الصحابة من هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترددهم لعل الصلاة تكون قد قُصرت، ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجرته وأتم صلاته ولم يستأنفها عليه الصلاة والسلام. وهذا القول هو الأقرب. وجمهور العلماء على أنه إن كان ذلك قصيرا في العرف، فإنه يبني وإلا فإنه يستأنف.
فإن دخل في صلاة، كأن يصلى ثلاث ركعات، ثم وهو يتنفل تذكر أنه صلى ثلاث ركعات، أو علم الإمام فنبه المأمومين، فقاموا ليصلوا: فيُبطل الصلاة الذي هو فيها ويقطعها؛ لأنه ما زال في الصلاة الأولى، فيقطع الصلاة التي هو فيها، ثم يتم صلاته التي لم يتمها. إذاً: إذا شرع في صلاة، فإنه يقطعها ويتم الصلاة التي قد نسي منها.
قوله: [فإن طال الفصل – عرفا بطلت – أو تكلم لغير مصلحتها بطلت]
الإمام بعد أن سلَّم من ثلاث ركعات، قال: يا فلان أطفئ الميكرفون، فهذا لغير مصلحتها، ثم قالوا له: إنك لم تصل إلا ثلاث، وثبت له ذلك، فأراد أن يقوم ليصلي؟
نقول: لا، عليك أن تستأنف؛ لأنه تكلم لغير مصلحتها.
(6/16)
________________________________________
والراجح خلاف هذا، كما سيأتي في باب الكلام، وأن من تكلم سهوا فإن صلاته لا تبطل، وكذلك هنا، ولذا قال المؤلف:
[ككلامه في صلبها]
لو أن رجلا سها في الصلاة، فمر عليه أحد أولاده، فناداه سهوا، أو قال يا فلان سهوا، فهنا الكلام ليس لمصلحة الصلاة. فيبطلها في المذهب. والراجح أنه لا يبطلها كما سيأتي، فكذلك هنا، فلو قال: أطفئ الميكروفون، أو افعل أو لا تفعل، فإن الصلاة لا تبطل؛ لأن ذلك على سبيل السهو، لكن إن علم، فهل له أن يتكلم بعد، علم أن في الصلاة نقص، فتكلم عالما، فالصلاة تبطل؛ لأنه لما سلَّم قبل، ما زال في الصلاة حتى يتمها. إذاً الكلام هنا لغير مصلحتها سهوا، لكن لو تكلم على سبيل العمد، فإن الصلاة تبطل بذلك، وهذا واضح.
إذا تذكر الإمام أنه لم يصل الرابعة؟
– فالمذهب: أنه يجب أن يقعد ثم يقوم فيتم الرابعة؛ لأن الواجب عليه أن ينتقل من الركن إلى الركن، فإن هذا الرجل سلم من ثلاث، فالواجب عليه إذا أراد أن يتم الرابعة أن يقعد، ثم يقوم، ليأتي بالانتقال إلى الرابعة.
– والقول الثاني في المسألة، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: أنه لا يجب ذلك، ولا يشرع، بل يتمها عن قيام، يعني إذا كان قائما، فإنه يتمها عن قيام، لأن هذا الانتقال ليس مقصودا لذاته، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عمران وحديث أبي هريرة لم يثبت أنه قعد ثم قام، ولو كان ذلك ثابتا لنقل لنا.
قوله: [ككلامه في صلبها]
(6/17)
________________________________________
الكلام السابق ليس في صلبها، فإنه قد سلم، ثم نُبِّه فتنبه، لكن إذا تكلم في صلبها، فإن الكلام في الجملة يبطل الصلاة، على خلافٍ في التفاصيل. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: " كنا نتكلم في الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه عن جنبه، حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام " متفق عليه، وقوله " ونهينا عن الكلام " تفرد بهذه الزيادة مسلم، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة نسلِّم عليه فيرد علينا، فلما أتينا من الحبشة سلمنا عليه، فلم يردَّ علينا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا) ، وقال كما في صحيح مسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، فالكلام مبطل للصلاة في الجملة باتفاق العلماء، لكن الخلاف في تفاصيل ذلك. والمذهب - كما قال المؤلف هنا " ككلامه في صلبها " -: أن الكلام مطلقا يبطل الصلاة، مطلقا يعني سواء كان سهوا أو عمدا، سواء كان عالما أو جاهلا، سواء كان كلامه واجبا أم لم يكن واجبا. واجبا: كما لو كان لانقاذ من يُخشى عليه الهلكة، أو لم يكن ذلك، سواء كان مكرها أم لم يكن مكرها، قالوا: فإن الصلاة تبطل بذلك. هذا هو المشهور في المذهب.
(6/18)
________________________________________
والراجح في هذه المسألة، وهو مذهب الشافعية: أن من تكلم جاهلاً أو ساهياً أو مكرهاً أو لانقاذ من يخشى هلكته – يعني كان كلامه واجباً -، فإن الصلاة لا تبطل، ويدل على هذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، فإنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إذ عطس رجل من القوم، فقال: الحمد لله، فقلت: يرحمك الله؛ لأنه كان حديث عهد بالإسلام، قال: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكْل أُمِّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمتُ أنهم يصمِّتونني، لكني سكتُّ " يعني كدتُ أن أتكلم وأن أقابلهم بشيء من الكلام لكني سكت، قال: " فلما سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي وأمي، ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، والله ما كَهَرَني – أي ما قهرني - ولا شتمني ولا ضربني، ولكن قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، قالوا: فهذا يدل على أن الجاهل لا تبطل صلاته إن تكلم، قالوا: والجاهل هو الذي يكون حديث عهد بإسلام أو نحوه، كالذي يكون في بادية، كبعض الأعراب، وأما إن لم يكن كذلك، فصلاته تبطل لتقصيره في التَّعلُّم. إذاً يُعذر بالجهل حيث لم يكن مفرِّطا في التعلم.
قالوا: وإن كان يتكلم، وهو يعلم أن الكلام حرام، لكنه يخفى عليه أنه يُبطل الصلاة، فإنه صلاته تبطل، كما لو زنى وهو لا يعلم حدَّ الزنا، فإنه يقام عليه الحد.
وأما النسيان والسهو، قالوا: فالأحاديث المتقدمة، لما سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم مع أصحابه، وكان ذلك سهوا، فلم يُبْطِل الصلاة.
(6/19)
________________________________________
قالوا: ويقاس عليه المُكرَه، إذاً يقاس الناسي على الجاهل، ويقاس المكره على الجاهل. ويقاس أيضا من تكلم كلاما واجبا، كأن يكون هناك رجل أعمى يريد أن يسقط في بئر أو طفل يريد أن يمس الكهرب، فينادي هذا المصلي أمَّ هذا الطفل لتحمله، فهنا هذا الكلام لانقاذ من تُخشى هلكته، قالوا: والكلام هنا واجب، والمتكلم هنا معذور، فيكون ككلام الجاهل والناسي. وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة. فالراجح ما ذهب إليه الشافعية في هذه المسائل، وأن كلام الجاهل والناسي والمكره وكلام من لابد له من الكلام لانقاذ من تُخشى هلكته، فلا يكفي التنبيه والتسبيح، بل لابد من الكلام، فتكلم، فلا حرج عليه.
قوله: [وإن كان لمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل]
هذا إذا كان الكلام في غير صلبها، وأما إذا كان في صلبها، فإن الصلاة تبطل، في المذهب. يعني الكلام هنا راجع إلى المسألة السابقة، يقولون: إذا تكلَّم لمصلحتها يسيرا لم تبطل، وإن تكلم لمصلحتها كثيرا بطلت، هذا فيمن سلَّم يظن أن الصلاة قد تمت.
قوله: [وقهقهة ككلام]
القهقهة: هي الضِّحكة التي يكون معها صوت، فهذه تبطل الصلاة، وفي الدارقطني عن جابر مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (القهقهة تنقض الصلاة، ولا تَنْقُض الوضوء) ، ولا يصح مرفوعا، بل الصواب وقفه على جابر، ولا يُعلم لجابر مخالف، وهذا هو مذهب عامة العلماء، وأن القهقهة تبطل الصلاة.
* لكن إن غلبه ذلك، ولم يكن ذلك عن اختيار، فهل تبطل الصلاة أم لا تبطل؟
الذي يترجح أنها لا تبطل، كما لو سبقه الكلام، حتى في المذهب.
(6/20)
________________________________________
رجل وهو يقرأ القرآن في رمضان، ردوا عليه، فالذي اعتاد على التسميع، قد يتكلم، فيقول: لا، أو: نعم، فهذه كلمة، لكنها سبق لسان، غلبت عليه، فهنا لا تبطل الصلاة حتى في المذهب، لأن هذا يشق التحرز منه كبعض الناس يمشي طفل أمامه فيريد أن يسقط، فيقول: لا، أو نحو ذلك، فتخرج على غلبة لا عن اختيار، فهذه لا تبطل حتى في المذهب، فكذلك أيضا في القهقهة.
وأما التبسم، فإنه لا يبطل الصلاة عند عامة العلماء، وليس هناك ما يدل على الإبطال.
قوله [وإن نفخ – قال: أُف في الصلاة – أو انتحب – يعني رفع صوته بالبكاء – من غير خشية الله تعالى]
يعني لم يكن ذلك من خشية الله تعالى، فإذا انتحب من غير خشية الله تعالى أو قال: أُف، من غير خشية الله.
قوله: [أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت]
فإن قال: أُف، بان الآن حرفان، أو تنحنح، بان أيضا حرفان، هما الهمزة والحاء، أو انتحب، يعني بكى، فخرج شيء من الصوت، وكان ذلك حرفين، فإن الصلاة تبطل. وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
(6/21)
________________________________________
والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وإحدى الروايتين عن الإمام مالك، بل هو ظاهر مذهب مالك، كما قال شيخ الإسلام، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن ذلك لا يبطل الصلاة؛ لأن هذا ليس بكلام، فإن كلمة أف، أو التنحنح أو نحو ذلك، ليس بكلام في لغة العرب، وإنما هو بالطبع دال على المعنى، يعني بالطبع يدل على المعنى لا بالوضع، ولذا تجد أن اللغات تتفق عليه، فكل البشر يتفقون على النحنحة والتأفيف، كالبكاء يدل على التحسر، وكالضحك يدل على الاستبشار، فكذلك هذه الأصوات، فهي ليست كلاماً بالوضع، وإنما هي كلام بالطبع، وعلى ذلك يكون لها حكم الحركات، ومعلوم أن الحركات اليسيرة لا تبطل الصلاة، وقد روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده في صلاة الكسوف: أف، أف، وإن كان هذا من خشية الله، والحنابلة لا يربطون بذلك، لكن الحجة والعمدة على ما تقدم تقريره، ولذا فإنهم يقولون: " أو تنحنح من غير حاجة "، نقول: لو قال رجل " لا " عمدا لحاجة، فهل تبطلون صلاته؟
صلاته تبطل في المذهب، وإذا تنحنح لحاجة، قالوا: لا تبطل صلاته، فإذا كان كلاما، فلا ينبغي التفريق بينهما، ما دام أن كليهما كلام فلا يصح التفريق بينهما، فهذا التفريق يدل على ترجيح القول السابق. إذاً الراجح أن النحنحة أو التأوُّه، وهو قول: آه، بالمد أو الأنين وهو بالهمزة والهاء يعني بالقصر " أه " يعني يئنُّ، فإن هذا ليس بمبطل للصلاة كما تقدم تقريره. والله أعلم. انتهى الدرس الثاني في ليلة الاثنين السادس عشر من رجب لعام 1420 للهجرة.
فصل

قوله: [ومن ترك ركنا فذكره بعد شروعه في قراءة أخرى بطلت التي تركه منها، وقبله يعود وجوبا فيأتي به وبما بعده]
(6/22)
________________________________________
هذه المسألة فيمن ترك ركنا من أركان الصلاة، ويستثنى من ذلك تكبيرة الإحرام، لأن تكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة إلا بها، فمن نسي تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته.
فإذا نسي ركنا سوى التكبيرة، كركوع أو سجود أو قيام أو غير ذلك من أركان الصلاة، فإما أن يذكر ذلك بعد أن يشرع في قراءة الفاتحة من الركعة الثانية، وإما أن يذكر ذلك قبلُ:
مثال للصورة الثانية: لو أنه ترك السجود الثاني، يعني سجد سجدة ثم قام ولم يجلس للفصل بين السجدتين، ولم يسجد السجدة الثانية، فتذكر قبل أن ينتصب قائما أو تذكر بعد أن انتصب قائما ولم يشرع في قراءة الفاتحة فما الحكم؟ هذه الصورة الثانية، فهذه الصورة أجمع أهل العلم، كما حكى الإجماع المجد ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقال الموفق: " ولا أعلم في هذه المسألة مخالفا "، على أنه يرجع إلى الركن الذي تركه، فيأتي به. فقبل أن يستتم قائما تذكر أنه إنما سجد سجدة واحدة، فنقول له: ارجع فاجلس للفصل بين السجدتين، ثم اسجد السجدة الثانية، وكذلك إذا تذكره وقد انتصب قائما قبل أن يشرع في الفاتحة، فنقول أيضا: ارجع، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. لو ترك مثلا الركوع، وهو منتصب قائما حصل له سهو، فسجد ولم يركع، فتذكر أنه لم يركع وهو ساجد، نقول له: ارجع فاركع، ثم اعتدل قائما، وإذا تذكره وهو في الجلسة بين السجدتين، نقول له: ارجع فاركع. إذاً الواجب عليه أن يرجع ما لم يشرع في الفاتحة، هذا بالإجماع.
فإن شرع فما الحكم؟
(6/23)
________________________________________
قال الحنابلة: إن شرع لغت التي قبل، وقامت التي بعدُ مكانها، فتلغى الركعة وتقوم الأخرى مكانها. لمّا شرع في فاتحة الكتاب تذكَّر أنه ترك سجدة أو ركوعا في الركعة التي قبل، فنقول له: تقوم الركعة الثانية مقام الركعة الأولى، ولو تذكر في الركعة الثالثة أو الرابعة، تكون رابعته ثالثة، وتكون ثالثته ثانية، وهكذا، يعني هذه تقوم مقام هذه وإن لم ينو، فلو تذكر في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة في الركعة الأولى، فنقول له: قد قامت الثانية مقام الأولى، وقامت الثالثة مقام الثانية، إذاً تَلغى الركعة التي سها فيها وترك ركنا، إذا شرع في قراءة التي بعدها.
(6/24)
________________________________________
وقال الشافعية، وهو قولٌ في المذهب: بل لا تلغو هذه الركعة، وإنما إن وصل إلى الركن الذي يقابلها، قام هذا الركن الذي يقابل، مكان الركن الذي ترك، وإما إن لم يصل فيجب عليه الرجوع وإن شرع في الفاتحة، فعلى المثال المتقدم في الذي ترك الفصل بين السجدتين وترك السجدة الثانية، فلمَّا شرع في الفاتحة تذكَّر، فيقول الشافعية: ارجع فائتي بالجلسة بين السجدتين والسجود الثاني، وإذا ذكره وهو راكع نقول كذلك: ارجع، وإذا ذكره بعد أن رفع من الركوع، نقول كذلك: ارجع، وإذا ذكره وهو في السجدة الأولى، نقول كذلك: ارجع، فلما وصل إلى الفصل تذكَّر يعني لما جلس بين السجدتين في الركعة الثانية تذكر أنه لم يكن جلس للفصل بين السجدتين في الركعة الأولى، فنقول: قام هذا الجلوس مقام الذي تركت، وأما ما حصل بين ذلك، قد وقع في غير موقعه، فيكون لاغيا , وهذا القول أصح، وذلك لأن القول بأن الركعة تلغو فيه إبطال لما قد وقع في موقعه وصح، لأنا على ذلك سوف نبطل فاتحته وركوعه والرفع من الركوع وسجدته الأولى، فهذه كلها وقعت في موقعها وكانت صحيحة، وأما على مذهب الشافعية فإنهم يصححون ما وقع في موقعه، وأما الذي لم يقع في موقعه، فإنهم يقولون إنه باطل. أيضا نقول: ما الفرق بين ما إذا انتصب قائما وبين ما إذا شرع في القراءة؟
تقدم لكم أنه إن انتصب قائما، فإن الإجماع على أنه يرجع إلى الركن الذي تركه، فما هو الفرق بين القيام وبين ما إذا شرع؟
(6/25)
________________________________________
قالوا: إن القيام ركن غير مقصود. وهذا فيه نظر، بل القيام ركن مقصود، بدليل أن من لم يكن قارئا يجب عليه القيام. إذاً الراجح ما ذهب إليه الشافعية، وهو قول في مذهب أحمد: أنه إن ترك ركنا في ركعة، فنقول: إن وصل إلى هذا الركن في الركعة التي بعد، قام هذا الركن مقام الذي ترك، وأما إذا لم يصل، فيجب عليه الرجوع، فإذا لم يتذكر إلا بعد، فكما تقدم في ما ذكره الحنابلة، فإذا لم يتذكر إلا في آخر الصلاة، كأن يتذكر في الركعة الرابعة أنه لم يكن قد سجد ولم يكن قد جلس للفصل في الركعة الأولى، نقول: أنت الآن في الركعة الثالثة.
قوله: [وقبله يعود وجوبا]
يعني قبل الشروع في القراءة يعود وجوبا.
[فيأتي به وبما بعده]
قوله: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة]
رجل لما سلّم، ذَكَر– وليس شكا، لأن الشك بعد العبادة لا يؤثر اتفاقا – أنه قد ترك ركنا من أركان الركعة الأولى، أو من أركان الركعة الثانية، فما الحكم؟
قال هنا " يأتي بركعة كاملة "، فإذا تذكر مثلا أنه لم يكن قد سجد السجدة الثانية، ولا الجلوس التي بعده في الركعة الرابعة، يعني سجد السجدة الأولى، ثم جلس فتشهد فسلّم، فقالوا: يأتي بركعة كاملة.
(6/26)
________________________________________
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أنه يأتي بما ترك وما بعده، فنقول له: اجلس الجلسة بين السجدتين، ثم اسجد، ثم اجلس فتشهد، وكذلك ما لو ترك ذلك في الركعة الأولى، فتكون الجلسة في الركعة الثانية، والسجود الذي بعدها قام عن الركعة الأولى، والثالثة قام عن الثانية، والرابعة قام عن الثالثة، فأصبح النقص راجع إلى الرابعة، وإن كان في الأولى؛ لأن كل ركعة تقوم مقام التي قبلها حتى نصل إلى الركعة الرابعة. وهذا القول أصح، وعلى ذلك: فنأمره أن يأتي بما ترك، لأنه إنما ترك شيئا من الركعة، ولم يترك الركعة كاملة، فيصلي ما ترك، ويسجد سجدتين للسهو. إذاً الراجح أنه يأتي ما ترك وما بعده، أما الذي قبله فلا يأتي به؛ لأنه قد وقع موقعه، فإذا قلنا بأن الركعة كاملة تلغو، فإن في ذلك إبطالا لما وقع في موقعه، بل نأمره بأن يأتي بما ترك؛ لأنه لم يفعله، وأن يأتي بما بعده؛ لأن ما بعده ترتب على خطأ فوقع في غير موقعه. إذاً الراجح أنا نأمره بأن يفعل ما ترك، وما بعده، لكن كما تقدم يُتنبه أن كل ركعة تقوم مقام التي قبلها، فالخلل الذي يكون في الركعة الأولى يُسدُّ بالركعة الثانية، والنقص الذي حصل في الثانية يُسدُّ في الثالثة، ويلغو ما بين ذلك، حتى نصل إلى الرابعة.
قوله: [وإن نسي التشهد الأول]
وتقدم أن التشهد الأول على الراجح واجب من واجبات الصلاة.
قوله: [ونهض]
بأن فارق فخذاه ساقيه، وأما إن لم ينهض كأن يتهيأ للقيام، ثم يتذكر، فهذا لا شيء فيه، لكن الكلام هنا حيث نهض، ففارق الفخذان الساقين، ونهض للقيام.
قوله: [لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً، فإن استتم قائما كره رجوعه، وإن لم ينتصب - قائما – لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرُم الرجوع]
إذاً أصبح عندنا ثلاثة أحوال، ولك أن تقول أربعة أحوال:
(6/27)
________________________________________
الحال الأولى: ألا ينهض، كأن يتهيأ للقيام ثم يتذكر، فهذا لا شيء فيه، ولا يلزم سجود سهو.
الحال الثانية: أن ينهض ولا يصل إلى القيام.
الحال الثالثة: أن ينتصب قائما.
الحال الرابعة: أن يشرع في القراءة.
فقالوا: إذا شرع في القراءة، فليس له أن يرجع. وهذا بالاتفاق.
الحالة التي قبلها، انتصب قائما، وقبل أن يشرع في القراءة تذكر أنه قد ترك الجلوس للتشهد، فما الحكم؟
قال هنا: " كُره الرجوع "، لكن لو رجع، فلا بأس بذلك.
الحال التي قبلها: أن يكون في الحالة النهوض ولم ينتصب بعد – لم يصل إلى القيام -، فهنا يجب عليه الرجوع.
إذاً باستثناء الحالة السابقة التي لم ينهض فيها، نقول: إذا نهض ولم يستتم قائما بعد، فيجب عليه الرجوع، فإن انتصب قائما، كره الرجوع، فإن شرع في القراءة حرم الرجوع.
أما ما ذكروه في أنه يحرم الرجوع إذا شرع في القراءة، فقد تقدم لكم أن هذا بالاتفاق.
وأما ما ذهبوا إليه من أنه إذا انتصب قائما، فليس له الرجوع، فهذا هو المشهور في المذهب، فإذا انتصب قائما كره الرجوع، ولم يحرم الرجوع، هذا قول في المذهب، وهو المشهور فيه.
(6/28)
________________________________________
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أنه يحرم الرجوع أيضا. وهذا هو الراجح؛ وذلك لأنه اشتغل بركن، لأن القيام ركن، فاشتغل بركن، كما لو اشتغل بالقراءة، فإنه إذا اشتغل بالقراءة فليس له الرجوع، فكذلك إذا انتصب قائما، لأنه شرع في ركن. وأما التفريق بينهما بأن القيام ركن غير مقصود، وأن القراءة ركن مقصود، فهذا فيه نظر كما تقدم، وعلى ذلك فالراجح أنه ليس له أن يرجع، وقد ثبت في الصحيحين، وهو الأصل في هذه المسألة التي يذكرها المؤلف هنا من حديث عبد الله بن بُحينة رضي الله تعالى عنه قال: " صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر فقام في الركعتين ولم يجلس، وقام الناس معه، فلما قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه، كبَّر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم ثم سلَّم " فهذا الحديث هو الأصل في هذه المسألة، وهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام، ولم يرجع، وهذا القيام عام فيما إذا قام ولم يشرع في القراءة بعد، وفيما إذا شرع في القراءة. إذاً الراجح أنه إذا انتصب قائما فليس له الرجوع. أما إن لم ينتصب قائما فهنا لا إشكال أنه يرجع، لأنه لم يشتغل بركن، فيجب أن يرجع ويأتي بالواجب الذي تركه؛ وذلك لأنه لم يدخل في ركن، لأنه إذا دخل في ركن ثم رجع، كان في ذلك زيادة هذا الركن الذي اشتغل فيه، ثم تركه ثم عاد إليه. إذاً على ذلك نقول: أنه إن تذكر قبل أن ينتصب قائما فإنه يجب عليه الرجوع، وأما إذا انتصب قائما فليس له الرجوع على الصحيح، سواء شرع في القراءة أو لم يشرع فيها.
قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع]
فإن رجع عمدا بطلت صلاته، لأن القاعدة أنه إن مضى حيث يجب الرجوع، أو رجع حيث يجب المضي، فإنه يكون تاركا للواجب، ومن ترك الواجب عمدا بطلت صلاته:
(6/29)
________________________________________
يعني إذا كان بحيث يجب عليه الرجوع، مضى، - ويجب عليه الرجوع فيما إذا لم يستتم قائما – عامدا وعالما بالحكم، فنقول: إن الصلاة تبطل، لأنه ترك واجبا في الصلاة عمدا.
وإذا رجع حيث يجب المضي، فكذلك: فإذا استتم قائما أو شرع في القراءة، فإنه يجب عليه المضي، فإذا رجع فإنه يكون قد رجع حيث يجب المضي عامدا، فتبطل الصلاة.
وهذه المسألة، وهي ترك التشهد الأول، يُلحق فيها ترك كل واجب، فإذا ترك التسبيح في الركوع، فتذكر قبل أن يستتم قائما، فنقول له: راجع فسبِّح، فإن استتم قائما، فنقول: لا ترجع. إذا ترك قول: رب اغفر لي، في الجلسة للفصل بين السجدتين، فتذكر أن قبل أن يصل إلى السجود، نقول له: ارجع، فإن تذكر وقد وصل إلى السجود، نقول له: لا ترجع. إذاً هذه المسألة عامة في ترك كل واجب، كما هو الصحيح في المذهب.
قوله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل]
إذا شك في عدد الركعات، فلا يدري أصلى ثلاثا أم أربعا، قال: " أخذ بالأقل "؛ لما ثبت في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم، وفيه زيادات ليست في البخاري، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن – والمتقين هو الأقل -، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته – أي شفعت هاتان السجدتان له صلاته – وإن كان صلى تماما كانتا ترغيما للشيطان) ، إذاً يأخذ بالأقل.
ولا فرق في هذه المسألة بين الإمام والمنفرد، وظاهر المذهب أن ذلك في المنفرد، وأما الإمام فإنه إنما يأخذ بالأقل حيث لم يكن عنده تحري، وأما إذا كان عنده تحري فإنه يأخذ بما تحراه.
ظاهر المذهب التفريق بين المنفرد وبين الإمام.
وظاهر كلام المؤلف هنا، هو قول في المذهب أنه لا فرق بين الإمام ولا المنفرد.
(6/30)
________________________________________
وأما ظاهر مذهب الإمام أحمد فإنه قال في الإمام: أنه يتحرى، فإذا كان الشك يستوي فيه الطرفان، فيأخذ بالأقل، وأما إذا كان هناك تحرٍّ بتسبيح المأمومين خلفه، لكن لم يكن عنده يقين، بأن يسبِّح واحد فقط بحيث لا يجب عليه الرجوع، فحصل عنده تحر، فرجَّح أحد الطرفين، فهنا يبني على ما تحرى.
كأن يقول الإمام: أنا أشك، هل صليت ثلاثا أم أربعا؟ لكنه لما جلس للثالثة سبَّح به المأموم الذي خلفه، فأصبح عنده ترجيح أنه قد شك، وأنه إنما صلى ثلاثا، فهنا يصلي رابعة، ويكون سجوده بعد السلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا شك أحدكم في صلاته فيتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) ، متفق عليه، وفي رواية للبخاري (فليتم ثم يسلَّم ثم يسجد) (1) ، إذاً السلام قبل السجود.
واختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد: أن لا فرق بين منفرد ولا إمام، وهذا هو الراجح، وعلى ذلك تكون القاعدة واضحة وهي: أنه إن كان عنده تحر، سواء كان منفردا أم إماما، فإنه يعمل بتحريه وليسجد سجدتين بعد السلام، وإما إذا كان ليس عنده تحري، فليبن على الأقل، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم.
__________
(1) قال ابن حجر في الفتح: " تنبيه لم يقع في هذه الرواية تعيين محل السجود ولا في رواية الزهري التي في الباب الذي يليه، وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعاً: " إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم " إسناده قوي، ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ: " وهو جالس قبل التسليم "، وله من طريق ابن إسحاق، قال حدثني الزهري بإسناده، وقال فيه: " فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم " قال الملائي: هذه الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به، والله أعلم ".
(6/31)
________________________________________
شك وهو في الرابعة، هل هي الثالثة أم الرابعة؟ فترجَّح في نفسه أنها الرابعة، سواء كان منفردا أم إماما، فنقول: اجعلها الرابعة، ولا تبن على الأقل، وسلِّم، ثم اسجد سجدتين بعد السلام. إذاً الراجح وهو اختار شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه لا فرق بين الإمام والمنفرد. فإذاً عندنا الشك نوعان:
شك مع استواء الطرفين، وشك مع الترجيح.
فإذا كان مع استواء الطرفين، فيبني على الأقل، ويسجد سجدتين قبل السلام.
والثاني: شك مع التحري، يعني مع الترجيح، فهنا: يبني على ما تحرى ويسجد سجدتين بعد السلام.
ويُلحق بذلك المأموم الذي أتى والإمام راكع، فشك وقد كبَّر تكبيرة الإحرام، هل أدرك الإمام راكعا أم لا؟
نقول له: هل عندك تحرٍّ؟ فإن قال: نعم، نقول: ابن على تحريك. وإن كان عنده شك بلا ترجيح، فنقول: ابن على أنك لم تدرك الإمام، وعلى ذلك فلا تحسب هذه ركعة لك.
إذا شك المأموم الواحد؟
رجل خلف إمام، وهو واحد، فشك هل صلى إمامه ثلاثا أم أربعا، فشك هذا المأموم في صلاة إمامه، فما الحكم؟
المذهب: أن المأموم لا يرجع إلى إمامه، فلو سلَّم الإمام والمأموم عنده شك، فنقول له: ابن على الأقل، وقم وصل ركعة.
والقول الثاني وهو الصواب: أنه يرجع إلى قول إمامه، ولو كان المأموم واحدا، أما لو كان مع المأموم مأموم آخر، لحصل له بسكوت المأموم الآخر عن التسبيح زوال للشك، لكن هنا المأموم واحد. فنقول: بل يرجع إلى الإمام ولو كان واحدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الإمام ضامن) ، وعلى ذلك فيرجع إلى قوله.
إذا حصل تيقن بعد؟
رجل شك، وأثناء الصلاة زال الشك وحصل اليقين، فهنا لا عبرة بهذا الشك، ولا يسجد للسهو؛ لأنه لما زال الشك، زال موجَبُه، فموجب الشك السجود، فلما زال الشك زال موجَب الشك وهو السجود. وهذا واضح.
قوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه]
(6/32)
________________________________________
رجل شك، هل ترك الركن أم لم يتركه؟
نقول له هذا كتركه؛ لأنه يُبنى على الأقل كما تقدم في المذهب، والأقل – المتيقَّن – هو الترك، وعلى ذلك نقول: ارجع إليه إن لم تكن قد شرعت في القراءة، هذا على المذهب.
وعلى القول الثاني، نقول: ارجع إليه ما تصل إلى الركن الذي بعده.
يعني لما انتصب قائما قال: أنا لا أدري هل سجدت وجلست للفصل بين السجدتين أم لا – عنده شك -، نقول له: ارجع، وكذلك إذا شرع في القراءة على الصحيح.
والراجح أيضا أنه إن كان عنده تحري، فإنه يرجع إلى تحريه، وذلك لعموم الحديث، فيقول: هل جلست للفصل وسجدت أم لا، لكن الراجح عندي أني جلست وسجدت، فنقول له: ابن على ذلك، واسجد سجدتين بعد السلام. إذاً الراجح أن هذه المسألة داخلة أيضا في عموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
قوله: [ولا يسجد لشكه في ترك واجب أو زيادة]
إذا شك في ترك واجب، فقال: أنا لا أدري هل جلست للتشهد الأول أم لا؟ أو قال: لا أدري هل سبَّحتُ في الركوع أم لا؟
فيقول هنا " ولا يسجد لشكه في ترك واجب؛ قالوا: لأن الأصل عدم السجود.
إذاً قالوا: إذا ترك الركن، فهذا كترك الركن، لكن إن شك في ترك واجب، فهل يكون كترك الواجب؟
قالوا: ليس كترك الواجب، وعلى ذلك: فإنه لا يسجد، لأن الأصل عدم السجود.
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب: أن الشك في ترك الواجب كتركه أيضا، وهذا هو الراجح؛ لعمومات الأدلة.
وأما قولهم " الأصل عدم السجود "، فنقول لهم أيضا: الأصل عدم فعل الواجب مع الشك، رجل شك، يقول: لا أدري أجلست للتشهد الأول أم لا، فما هو الأصل؟
الأصل أنه لم يجلس، وعلى ذلك فنبني على هذا الأصل، ونوجب عليه سجود السهو.
(6/33)
________________________________________
إذاً المذهب: أن من شك في ترك ركن فكتركه، ومن شك في ترك واجب فليس كتركه، لكن الراجح أنهما سواء، فمن شك في ترك ركن فكتركه، ومن شك في ترك واجب فكتركه أيضا، فيجب السجود في المسألتين جميعا.
قوله: [أو زيادة]
هنا شك، قال: لا أدري أصليت أربعا أم خمسا؟ فالشك هنا في الزيادة، الحديث الذي تقدم قال فيه (ثلاثا أم أربعا) ، لكن هنا شك، فلا يدري أصلى أربعا أم خمسا، أو شك هل ركع ركوعا أو ركوعين، أو هل سجد سجودين في الركعة أم ثلاث سجودات، فحصل له شك، لكن الشك هنا في الزيادة؟
فهنا لا يجب عليه السجود، لأن الأصل عدم الزيادة، والأصل أيضا عدم السجود. هناك في النقص قلنا: عدم الفعل، لكن هنا نقول: الأصل عدم الزيادة، ولذا إذا شك، لما جلس للتشهد حصل عنده شك يقول: لا أدري هل صليت خمسا أم أربعا؟
فنقول له: لا تسجد؛ لأن الأصل عدم الزيادة. والله أعلم. اتنهى الدرس الثالث من سجود السهو في ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب لعام 1420 للهجرة.
قوله: [ولا سجود على مأموم إلا تبعا لإمامه]
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: فيما إذا سها الإمام، فيجب على المأموم أن يتابعه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا) ، فإذا سها الإمام فيجب على من خلفه السجود، سواء حصل منهم سهو مع الإمام أم لم يحصل منهم، فهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام (وإذا سجد فاسجدوا) .
فإن لم يسجد الإمام وقد حصل منه ما يوجب السجود، فإذا لم يسجد وكان واجبا عليه السجود، فهل يجب على المأموم - حيث ترك الإمام السجود – السجود؟
(6/34)
________________________________________
قال جمهور العلماء: يجب عليه السجود؛ وذلك لأن الصلاة فيها نقصٌ، لأنه لما سها الإمام حصل في الصلاة نقص، وعلى ذلك: فلابد من جبران هذا النقص، لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام، فإذا حصل سهو من الإمام، كأن يقوم إلى خامسة مثلا، فلا يتابعه المأمومون، ثم إنه جلس، فيجب على المأموم هنا سجود سهو، فإذا لم يسجد الإمام، فهل يسجد من خلفه أم لا؟ قال جمهور العلماء: يجب، لأن الصلاة فيها نقص، وعلى ذلك فيجب جبران هذا النقص. وهذا القول قول ظاهر، لكن يستثنى من ذلك على الصحيح ما لو كان الإمام لا يرى وجوب السجود عليه، كأن يكون ممن يختار عدم السجود في هذا الموضع، فحينئذ لا يجب على المأموم أن يسجد، وذلك لأنه لا نقص في الصلاة، فلا نقص في صلاة الإمام، وإنما يكون فيها نقص حيث ترك سجودا يجب عليه أن يسجده.
إذاً: إذا حصل من الإمام سهو فلم يسجد، وكان يرى وجوب السجود، فإن في صلاته نقصا، وهذا النقص يلحق المأموم، وعلى ذلك: إن لم يسجد الإمام، فيجب على المأموم أن يسجد، لأن في الصلاة نقصا، فلابد من جبره. وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
فإن كان المأموم مسبوقا، فسجد الإمام قبل السلام، فإنه يتابعه اتفاقا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا سجد فاسجدوا) .
فإن كان سجوده بعد السلام، يعني سلَّم الإمام، فسجد سجدتين بعد السلام، وهذا المأموم مسبوق، فهل يسجد معه، بمعنى أنه لا يسلم إذا سلم الإمام، فإذا سجد الإمام سجدتين، سجد، فإذا سلَّم الإمام السلام الثاني قام فأتم، أم أنه يقوم فيتم صلاته، ثم يسجد سجدتين بعد السلام؟ قولان لأهل العلم:
(6/35)
________________________________________
فالمذهب: أنه يتابعه، وعلى ذلك: فلو أنه نهض، إذ بالإمام – قبل أن يستتم المأموم قائما – يسجد، فنقول: عليك أن ترجع فتسجد مع الإمام سجدتين، وأما إذا شرع المأموم في القراءة، فليس له أن يرجع. وهذا هو المذهب، قالوا: لعموم قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) .
والقول الثاني، وهو قول المالكية والشافعية، قالوا: إذا سها الإمام فسجد بعد السلام، فإن المسبوق لا يتابعه، وإنما يسجد بعد سلامه؛ قالوا: لأن تمام المتابعة للإمام أن يكون سجوده بعد السلام، لأن هذا السجود إنما يشرع بعد السلام، فتكون متابعته للإمام بسجوده هاتين السجدتين، بعد سلام إمامه. وهذا القول هو الأرجح، فالأقرب والأرجح في هذه المسألة أنه ينهض، فيتم صلاته، فإذا سلَّم سجد سجدتين، لأن هاتين السجدتين إنما يشرعان بعد السلام، وعلى ذلك: فيكون من تمام متابعته للإمام أن يكون سجوده بعد السلام. هذا هو القول الراجح.
إذاً: إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السجود، فإذا لم يسجد، فإن على المأموم أن يسجد؛ لأن في ذلك نقصا في الصلاة، فإن كان سجوده قبل السلام تابعه فسجد حيث يسجد الإمام، وأما إذا سلَّم الإمام فسجد بعد السلام، فإنه لا يسجد معه، وإنما يسجد بعد أن يتم صلاته؛ لأن هذا هو تمام المتابعة في أصح القولين. هذا هو الشق الأول.
الشق الثاني: فيما إذا سها المأموم خلف الإمام، فلسهوه حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون مسبوقا قد سها فيما انفرد به، يعني لما قام ليتم الصلاة سها، فهنا يجب عليه السجود قولا واحدا، فالإمام لا يتحمل، وعلى ذلك: فعليه السجود، لعموم الحديث: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) . إذاً المسبوق إذا سها فيما انفرد به، فإن عليه السجود.
الحالة الثانية: أن يسهو خلف إمامه، سواء كان مسبوقا أم غير مسبوق، فهنا قد حصل له سهو حال اقتدائه بإمامه، لا حال انفراده عنه؟
(6/36)
________________________________________
فذهب العامة والجماعة من أهل العلم: على أنه لا يجب عليه السجود، وأن الإمام يتحمل ذلك عنه.
وقال أهل الظاهر، وهو قول مكحول: بل يجب على المأموم السجود.
استدل أهل القول الثاني بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، قالوا: وهذا عام، فيدخل فيه فيما إذا سها خلف إمامه.
وأما أهل القول الأول، فاستدلوا بأدلة منها:
أن الإمام يتحمل عن المأموم عمده، يعني عمده في النقص وعمده في الزيادة.
يتضح هذا بمثالين، المثال الأول: فيما إذا قام الإمام من الركعتين تاركا للتشهد، فهنا المأموم يتابعه ويترك التشهد، فيكون قد ترك التشهد الأول، وترك التشهد الأول عمده يبطل الصلاة، وقد تركه عمدا متابعة للإمام، وقد تحمل الإمام عنه ذلك.
(6/37)
________________________________________
المثال الثاني: وهو تحمل الزيادة عمدا: فيما إذا سها الإمام، فسجد الإمام سجدتين، والمأموم لم يسهو، كأن يترك الإمام التسبيح في الركوع أو السجود، فإن الإمام يسجد، وهذا السهو قد حصل من الإمام، ولم يحصل من المأموم، ويجب على المأموم أن يتابع إمامه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا سجد فاسجدوا) ، وهذه زيادة في الصلاة، قالوا: فإذا ثبت هذا في عمده، فأولى من ذلك سهوه، وعلى ذلك: فنقيس السهو هنا على العمد، وهذا القياس الصحيح يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، فإن في ذلك تحصيل لمقصود الشرع من متابعة الإمام. قالوا: وأيضا إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون خلفه، ولا يخلو ذلك من سهو، فلابد أن يقع من أحد منهم سهو في الصلاة، ولم ينقل لنا أن أحدا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سجد للسهو خلفه، ولو كان ذلك واقعا، لنقل لنا نقلا بينا. يعني لابد أن يقع من المأمومين سهو خلف الإمام، لاسيما في القديم، لأن الصوت مع كثرة المصلين قد لا يبلغهم، فيحصل شيء من السهو من المأمومين، وقد يترك المأموم بعض التسبيحات، ونحو ذلك، ولم ينقل لنا أن ذلك قد وقع منهم، ولو كان ذلك واقعا لنقل لنا نقلا بينا، وعلى ذلك فهذا القول هو القول الراجح، فإذا سها المأموم خلف إمامه، فإنه لا يسجد للسهو، وأما ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه، وإذا سها المأموم فلا سجود عليه) ، فهذا الحديث إسناده ضعيف جدا، فلا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله: [وسجود السهو لِمَا يبطل عمده واجب]
سجود السهو لما يبطل عمده، إن كان من جنس الصلاة، فإذا حصل سهوا فعل ما يبطل عمدا، فلا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون هذا من جنس الصلاة، كأن يزيد قياما أو ركوعا أو سجودا، فهذا فيه السجود.
(6/38)
________________________________________
الحال الثانية: ألا يكون من جنس الصلاة، كأن يتكلم في الصلاة مثلا، أو يفعل أفعال كثيرة في الصلاة سهوا، فهل تبطل الصلاة بذلك؟ لا تبطل، لكن هل عليه سجود سهو؟ ليس عليه سجود سهو كما تقدم تقريره.
إذاً هنا نقيِّد هذه القاعدة بقيد، وهو أن يكون ذلك من جنس الصلاة كما تقدم. إذاً سجود السهو لما يبطل عمده إن كان من جنس الصلاة، فإن لم يكن من جنس الصلاة، كأن يفعل أفعالا ليست من جنس سهوا وتكون كثيرة، فإنها لا يشرع لها سجود السهو، كذلك لو تكلم، فإنه لا يشرع له سجود.
قوله: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام]
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: قوله " أفضليته قبل السلام "، وعلى ذلك فالسجود الذي يشرع قبل من باب الأفضلية، والذي يشرع بعد، هذا من باب الأفضلية، وتقدم الكلام على هذه المسألة، وأن الراجح أن ما شُرع قبل السلام، فيجب قبل السلام، وما شرع بعد السلام فيجب بعد السلام، وأن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ورواية عن أحمد، وأحد القولين في المذهب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما قال شيخ الإسلام، وقال الزركشي: " وهو ظاهر كلام أبي محمد " يعني الموفَّق رحمه الله تعالى. وهذا هو القول الراجح. إذاً المذهب: أن المسألة أفضلية، فإن كان زيادة، فإن له أن يسجد قبل السلام أو بعده، وإن كان نقصا فله أن يسجد قبله أو بعده، وإن كان عن شك، فله أن يسجد قبل أو بعده، لكن الأفضلية على ما تقدم تفصيله في المذهب في درس سابق، ولكن الراجح ما تقدم من أن من شُرع قبل السلام فيجب قبله، وما شرع بعد السلام فيجب بعده.
(6/39)
________________________________________
الثانية: أنه إن ترك السجود الذي أفضليته قبل السلام، فإنه يبطل الصلاة، وأما إذا كانت الأفضلية بعد السلام فلا يبطل الصلاة، فإذا كان عنده شك مع تحر، تقدم أنه يشرع بعد السلام، فلو تركه فلم يسجد، فلا تبطل صلاته، والشك إذا كان بلا تحر، فإنه له السجود قبل السلام، فإذا تركه عمدا تبطل صلاته، وإذا كان عن زيادة، تقدم أن الراجح أنه يكون بعد السلام، فإذا تركه فلا تبطل الصلاة، ولو كان عمدا، وإذا كان مما يشرع قبل السلام، فتركه عمدا، فإن الصلاة تبطل. هذا هو المشهور في المذهب، قالوا: مع الإثم، كما لو ترك الأذان أو الإقامة، لأنه مشروع خارج الصلاة، فأشبه الأذان والإقامة، يقولون: ما يشرع بعد السلام، هذا إنما شُرع خارج الصلاة، فأشبه الأذان والإقامة، ولو ترك الإذان والإقامة، تصح صلاته، لكن مع الإثم، قالوا: فكذلك إذا ترك هذا السجود الذي يشرع بعد السلام.
والقول الثاني في المسألة، وهو قول في المذهب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه إن ترك ما أفضليته بعد السلام – وعلى الراجح ما هو واجب بعد السلام – يبطل الصلاة أيضا، وهذا أصح، وذلك لأن الصلاة ناقصة، وهذا السجود جبرانها، وإنما شرع خارج الصلاة لأن المناسب واللائق أن يكون كذلك؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان - زيادة قبل، ثم نسجد للسهو قبل -. إذاً القول الثاني في المسألة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ترك سجود السهو سواء كان مشروعا قبل السلام أو بعده – تركه – عمدا يُبطل الصلاة، والمذهب أن ما كان مشروعا قبل الصلاة فإن تركه عمدا يبطل الصلاة، وإن كان مشروعا بعد السلام فإن تركه عمدا لا يبطلها.
قوله: [وإن نسيه سجد إن قرُب زمنه]
في المسألة السابقة تعمد، وهنا الكلام في السهو.
إذا نسيه، سواء كان قبل السلام أو بعده، قال: " سجد إن قرب زمنه " فإن قرُب زمنه عرفا، فإنه يسجد.
(6/40)
________________________________________
فلو أنه بعد أن سلَّم ذُكِّر، فتذكَّر فسجد سجدتين، فإن صلاته تتم بذلك، سواء كان مشروعا قبل السلام أو بعده.
لكن لو أنه ذُكِّر بعد زمن طويل عرفا، فإنه لا يبني، وإنما يستأنف الصلاة من جديد، هذا إذا كان السجود قبل السلام، وأما إذا كان بعدها، فإن تركه عمدا لا يبطل الصلاة. هذا هو المذهب.
قالوا: وإذا خرج من المسجد أيضا، فإنه يستأنف الصلاة، وعلى ذلك يشترط أن يكون الزمن قريبا عرفا، ويشترط أن يكون في المسجد أيضا، فإذا خرج من المسجد، ولو كان الزمن قصيرا – سلَّم فخرج، فذُكِّر وهو خارج المسجد – فعليه أن يستأنف الصلاة من جديد.
وعن الإمام أحمد، وهو أصح، أنه لا فرق بين كونه في المسجد أو خارج المسجد ما دام الزمن قريبا.
وأصح من القولين كليهما ما اختاره شيخ الإسلام، وهو رواية عن الإمام أحمد، وتقدم ذكر ما يدل عليه من حديث عمران: وهو أنه يسجد ولو طال الزمن عرفا، سواء كان في المسجد أو لم يكن في المسجد، فإن حديث عمران في مسلم فيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الحجرة بعد أن صلى العصر ثلاثا، ثم قام إليه رجل بسيط اليدين، فقال: أنيست أم قصرت الصلاة؟ ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغْضَباً، فصلى عليه الصلاة والسلام ما ترك، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين بعد أن سلَّم، ثم سلَّم " كما تقدم، فهنا الزمن طويل عرفا، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد. هذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام هنا، وهو رواية عن الإمام أحمد. إذاً الراجح أنه لو ترك سجود السهو سواء كان قبل السلام أو بعده، ثم تذكر، فإن يسجد سجدتين ولو كان الزمن طويلا. لما أتى الإمام ليقيم صلاة العصر أخبروه أنه حصل سهو في صلاة الظهر، وأنه لم يسجد قالوا: إنك قد قمت عن التشهد ولم تسجد، فيسجد سجدتين ولا شيء عليه. إذاً الراجح ولو طال الزمن عرفا، فإنه يبني.
(6/41)
________________________________________
قوله: [ومن سها مرارا كفاه سجدتان]
إذا سها مرارا، حصل منه في الصلاة أكثر من سهو، زاد في الصلاة ونقص، أو نقص ونقص، أو زاد وزاد، فقد يكون سها فزاد مرتين أو ثلاثا، أو سها فنقص مرتين أو ثلاثا أو سها فجمع بين زيادة ونقص، فهنا حصل من الإمام أكثر من سهو، سها مرتين أو أكثر، فهنا لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الموجِب لسجود السهو غير مختلف، يعني مما يشرع فيه السجود إما قبل السلام، وإما بعده.
رجل قام عن التشهد الأول، فالواجب عليه أن يسجد للسهو قبل السلام، وترك تسبيح الركوع أو السجود، فالواجب عليه السجود قبل السلام كذلك، وشك، هل صلى ثلاثا أم أربعا ولم يرجح، فهنا حصل له نقص، وكل هذه المسائل فيها سجود قبل السلام، فهنا الواجب عليه أن يسجد قبل السلام، لأن موجِب السجود هنا غير متفرق وغير مختلف، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
المسألة الثانية: أن يكون هناك موجِب مختلف، فيكون هناك ما يوجب السجود قبل السلام، وما يوجب السجود بعده.
قام فترك التشهد الأول، فالواجب عليه أن يكون قبل السلام، ثم شك هل صلى ثلاثا أم أربعا، ورجَّح أنه صلى أربعا، فالواجب عليه السجود بعد السلام، فهنا هل يكفيه سجدتان كما قال المؤلف هنا، أم لا يكفيه ذلك، قولان لأهل العلم:
فقال الجمهور: يكفيه سجدتان، كما هو قول المؤلف هنا.
وقال الأوزاعي: بل يجب عليه سجود قبل السلام، وسجود بعده، يعني يشرع له سجدتان قبل السلام، وسجدتان بعد السلام.
والقول الأول هو الراجح، استدل أهل القول الأول بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) ، قالوا: وهذا الحديث عام، سواء كان السجود واحدا أم متكررا، وإذا كان متكررا، سواء كان موجَبه واحدا أو كان موجَبه مختلفا.
(6/42)
________________________________________
وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث (لكل سهو سجدتان) ، وتقدم لكم أن الحديث ضعيف، وعلى ذلك فالراجح هو القول الأول، وعلى ذلك: فيسجد قبل السلام، ويكون سجوده قبل السلام يجزئه عن السجود بعد السلام، هذا هو الراجح، وهو مذهب جمهور العلماء، خلافا للأوزاعي، وقول الأوزاعي أيضا هو وجه في مذهب أحمد.
مسألة: هل يشرع لسجدتي السهو بعد السلام تشهد أم لا؟
يعني إذا سلَّم فسجد سجدتين، فهل يُشرع أن يتشهد أم لا؟
قال الجمهور: يشرع له أن يتشهد، يعني يسلم ثم بعد أن يسلم يسجد سجدتين ثم يتشهد، ثم يسلم، إذاً يستحب للسجدتين بعد السلام التشهد. واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي من حديث أشعث بن عبد الملك الحُمْراني عن محمد بن سيرين عن عمران، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشهد ثم سلم.
والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام، ومال إليه الموفق ابن قدامة، وهو قول محمد بن سيرين: أنه لا يشرع التشهد. استدلوا بحديث أبي هريرة، وحديث ابن مسعود، فإن الرواة لم يذكروا تشهدا، وقد تقدم سياق حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وحديث عمران بن حُصين في قصة بسيط اليدين، وكذلك في حديث ابن مسعود في التحري، وليس فيها ذكر التشهد، والتشهد كما تعلمون طويل، فلو كان ثابتا لنقل، فهذا مما تتوافر الدواعي على نقله.
يبقى الجواب عن حديث عمران في أبي داود والترمذي؟
(6/43)
________________________________________
هذا الحديث حديث شاذ، فهذه الزيادة (ثم تشهد) معلولة، وقد أعلَّها ابن المنذر والبيهقي وابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا التعليل هو الصواب، فإن الزيادة معلولة، فقد تفرد بها أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين، وغيره من الرواة لم يذكروها، وهذا هو المحفوظ عن محمد بن سيرين، أي عدم ذكر التشهد، فقد تفرد بها أشعث بن عبد الملك، فهو وإن كان ثقة، لكنه تفرد عن غيره من الثقات، وعلى ذلك فهذه الزيادة معلولة، ولذا استغرب – أي ضعّف – هذا الحديث الترمذي أيضا بعد أن رواه. وعلى ذلك فالراجح أن التشهد لا يشرع، وهو رأي محمد بن سيرين الذي قد روى عنه أشعث هذه الزيادة، ولو كانت مروية له لما خالفها، هذا أيضا مما يقوي التعليل المتقدم.والله أعلم
تم بحمد الله شرح باب سجود السهو من زاد المستقنع في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من رجب لعام 1420 للهجرة، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، …حفظه الله تعالى.
فهرس الأحاديث والآثار
إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ... ….. 1
فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ... … 1
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ... ... 1
(6/44)
________________________________________
باب: صلاة التطوع
التطوع لغة: فعل الطاعة.
اصطلاحاً: الطاعة غير المفترضة، وهي النفل والمستحب.
فقوله: " صلاة التطوع " أي الصلاة التي يتطوع بها صاحبها لله تعالى.
قال: (آكدها كسوف ثم استسقاء ثم تراويح ثم وتر)
قوله: " آكدها " أي آكد الصلاة المتطوع بها.
وذكر المؤلف أن أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الكسوف ثم صلاة الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر.
أما الكسوف: فلأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها مع ثبوت سببها وهو خسوف الشمس أو القمر، فكلما قام سببها صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي الكلام عليها في بابها.
وأما الاستسقاء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما تركها مع وجود سببها وهو قحط الأرض فكانت الكسوف أفضل منها.
وفضلت صلاة الاستسقاء على غيرها لأنها تُصلى جماعة فأشبهت الفريضة.
ثم التراويح لأنها تُصلى جماعة، ثم الوتر لأنه يصليه منفرداً، وفُضِّل على السنن الراتبة بما فيه من الأحاديث المؤكدة له، هذا ما ذكره المؤلف.
والراجح وهو رواية عن الإمام أحمد أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل – كما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)
قال الإمام أحمد: " ليس بعد المكتوبة أفضل من قيام الليل "
والراجح أن صلاة الكسوف واجبة كما سيأتي دليل ذلك في بابه.
وعلى ذلك فإنه لا يفضل بينها وبين المستحبات فهي لا تدخل في هذا الباب لأنها ليست بتطوع بل فريضة.
وعن الإمام أحمد: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة ركعتا الفجر لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح)
(7/1)
________________________________________
والحديث وإن دل على فضلها وأنها أفضل السنن الراتبة، لكنه لا يدل على تفضيلها على قيام الليل، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم بتفضيله.
فالراجح: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل.
ثم إن قضية أن هذه الصلاة تُصلى جماعة أو فرادى، هذه ليس سبباً للتفضيل، فقد يكون المعنى الذي شرعت من أجله الصلاة إنما تشرع فيه الجماعة، فليس هذا بكونه فاضلاً على صلاة أخرى لا تشرع فيه الجماعة، وإنما شرعت فيه الجماعة لما فيه من المعاني المقتضية لأن يكون جماعة ولا يدل هذا على شيء من التفضيل.
كما أن تفضيلهم لصلاة الاستسقاء على صلاة التراويح – مع ثبوت الجماعة فيهما – يقتضي أن يكونا سواء بل صلاة التراويح أولى بأن تكون هي الفضلى من صلاة الاستسقاء لأنه قد ورد في التراويح من الترغيب ما لم يرد في صلاة الاستسقاء.
قال: " ثم وتر " إذن: الوتر مستحب، وليس بواجب وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الوتر ليس بواجب مع ما ورد من التشدد فيه، فقد قال الإمام أحمد – ونحوه قول الإمام مالك -: (من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة)
فهذا يدل على أن الوتر مؤكد غاية التأكيد، ومن تركه فإنه مظنة الضعف وشهادة الزور ونحو ذلك.
ودليل استحبابه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الأعرابي عن الصلوات المكتوبة فذكر له ما أوجبه الله فيها قال: هل على غيرها قال: " لا إلا أن تطوع ".
فدل على أن ما سوى الفرائض الخمس ليس بواجب إلا ما سيأتي استثناؤه من صلاة الكسوف لأنها ليست من الصلوات الدائمة بخلاف الوتر فإنها صلاة يومية فلو كانت واجبة لذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - له.
ولما ثبت في الترمذي والحديث حسن عن علي قال: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -) .
(7/2)
________________________________________
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى الوتر على الراحلة) وهذا يقتضي عدم وجوبها إذ لو كانت واجبة لفرض فيها القيام، لأن القيام فرض في المكتوبة.
- وذهب الأحناف إلى فرضية الوتر.
واستدلوا: بما ثبت في سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا) والحديث منكر فلا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالصحيح أنها سنة وليست بفرض.
- لكن ذهب شيخ الإسلام إلى أن الوتر واجب على المتهجد لمن قام الليل فيجب أن يوتر فيه.
فأصل قيام الليل والوتر ليس بواجب لكن من قام الليل فلا يجوز ألا يوتر بل يجب أن يوتر.
وهذا قول قوي ظاهر يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) فهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب – والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر -.
ورواه أبو عوانة والحاكم والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر بلفظ: (من صلى من الليل فليوتر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك) وهذا الحديث لا صارف له عن الوجوب.
بخلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا يا أهل القرآن) ونحوه من الأحاديث التي فيها الأمر بالوتر فإن صارفها عن الوجوب قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إلا أن تطوع) .
وأما هنا فهذا الواجب قد طرأ بسبب كونه قد صلى الليل فلا يجوز والحالة هذه إلا أن يصلي وتراً. وهذا القول قوي ظاهر.
قال: (يُفعل بين العشاء والفجر)
فالوتر يُفعل بين العشاء والفجر وهكذا قيام الليل فهو مشروع ما بين صلاة العشاء والفجر.
والمراد بصلاة العشاء أداؤها ولو كان ذلك بغير وقتها كأن يجمع إلى المغرب جمع تقديم فإنه يبدأ وقت الوتر وإن لم يغب الشفق.
(7/3)
________________________________________
فوقته من صلاة العشاء سواء كانت صليت في وقتها أو جمعت إلى ما قبلها، ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرها والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله زادكم صلاة هي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر)
فتفعل بين صلاة العشاء وأذان الفجر، فإذا أذن الفجر فقد انتهى وقت الوتر فقوله الفجر: " أي أذان الفجر ".
ويدل عليه الحديث المتقدم وفيه: (ما بين العشاء إلى طلوع الفجر) وثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوتروا قبل أن تصبحوا) من حديث أبي سعيد الخدري.
وثبت في الترمذي – والحديث صحيح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر)
- وعن الإمام أحمد أن وقتها إلى صلاة الفجر، فما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر وقت بصلاة الوتر.
وظاهره مطلقاً للمعذور وغيره، وظاهره أنه أداء وليس بقضاء.
ودليله ما رواه النسائي بإسناد صحيح عن ابن مسعود أنه سُئل عن الوتر فقال: (أوتر وإن أذن، فقال السائل: " أوتر بعد الأذان؟ " فقال: " نعم وبعد الإقامة " ثم حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس فصلى)
وهنا يحتمل أن يكون مراد ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم صلى صلاة الفجر قضاء فحينئذ يكون هذا من باب القياس فهو يلحق النظير بنظيره، فكما أن صلاة الفجر تقضي بعد وقتها فكذلك الوتر.
ويحتمل أن يكون مراده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الوتر فقضاها، وهو الذي يقتضيه السياق، لكنه ضعيف لقوله: (حتى طلعت الشمس) وطلوع الشمس ليس وقتاً نهائياً لصلاة الوتر، بل هو وقت نهائي لصلاة الفجر.
(7/4)
________________________________________
فالظاهر أن ابن مسعود استدل بالقياس فذكر هذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه حتى طلعت الشمس ثم صلاها، وهو فريضة، فكذلك النافلة فإذا نام عنها فإنه يقضيها بين الأذان والإقامة وبعد الإقامة.
وروى محمد بن نصر آثاراً عن عائشة وغيرها فيها الإيتار بين الأذان والإقامة. وهذا القول يخالف الأحاديث المصرحة بأن الوتر ينتهي إذا طلع الفجر.
والراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في المشهور عنه وأن طلوع الفجر ينتهي به وقت صلاة الوتر.

أما هذه الآثار فتحمل على أن ذلك من باب القضاء والوتر يقضى على القول الراجح الظاهر.
فقد روى الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن الوتر ونسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر)
وظاهر الحديث في قضائه أنه يقضي وتراً.
وأما ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسلم من حديث عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) فهذا الحديث نوع آخر وصفة أخرى للقضاء، فعلى ذلك يكون القضاء له صفتان.
الأولى: أن يقضيه وتراً.
الثانية: أن يقضيه شفعاً.
أما قضاؤه وتراً فهو ظاهر حديث أبي سعيد وعليه أفعال الصحابة وأما قضاؤه شفعاً فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قيل: لِمَ لم تفسروا الحديث الأول بالحديث الثاني؟
فالجواب: أن يقال: هو قول قوي، لكن الذي جعلنا لا نقول به هنا هو تقوية القول الأول – وهو ظاهر الحديث تقويته - بأقوال الصحابة، فإنهم كانوا يقضونه وتراً كما تقدم في الأثر السابق عن ابن مسعود في الأثر المتقدم عن عائشة.
فعلى ذلك: من نام عن الوتر أو نسيه حتى طلع الفجر فقد ذهب وقت الأداء ويشرع له أن يقضيه شفعاً وله أن يقضيه وتراً.
(7/5)
________________________________________
فإن كان وتره بالليل سبع ركعات مثلاً، فله أن يقضيها بالنهار سبعاً وله أن يقضيها ثمان بأن يزيد ثامنة يشفع بها صلاته.
واعلم أن المستحب في صلاة الليل أن يصليها من آخره ما لم يخف عدم الاستيقاظ، فإن خاف ألا يستيقظ فيستحب له أن يصليها في أوله؛ لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل) .
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقله ركعة)
أقل الوتر ركعة، فإذا صلى ركعة فقد أوتر ويجزئه ذلك عما يشرع له من فعل الوتر.
والمشهور في المذهب أنه لا يكره ذلك، وقد صح عن عثمان وسعد بن أبي وقاص الوتر بواحدة. أما أثر عثمان فرواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بإسناد صحيح، وأما أثر سعد فرواه الطحاوي بإسناد حسن.
قال: (وأكثره إحدى عشرة ركعة مثنى مثنى)
فأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، أي أكثره المستحب وسيأتي الكلام عن أكثره الجائز، فأكثره المستحب إحدى عشرة ركعة.
يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً)
- وقد قال بعض الحنابلة: المستحب أن أكثره ثلاثة عشرة ركعة.
واستدلوا: بحديث ابن عباس المتفق عليه، وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر) فهذه ثلاث عشرة ركعة.
والراجح هو القول الأول.
(7/6)
________________________________________
أما ما ذكره ابن عباس فهذا بإضافة الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما قيام الليل، فإن عائشة لم تذكرهما في الحديث المتقدم، فقد قالت: (صلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) مع أنها قالت في صحيح مسلم: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين) .
وثبت الأمر بهما من حديث أبي هريرة في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم في الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين) .
فعائشة لم تذكر الركعتين الخفيفتين، وذكرهما ابن عباس ومما يدل على ذلك ما ثبت في مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال قلت: (لأرمقن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فافتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة)
فعلى ذلك أكثره المستحب إحدى عشرة ركعة.
قال: " مثنى مثنى " فيصلى قيام الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين، يسلم من كل ركعتين، يدل عليه حديث ابن عباس وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلى ركعتين ثم ركعتين …الحديث.
وحديث عائشة المتقدم في رواية لمسلم: (يسلم بين كل ركعتين) ، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) وهو نوع من الأنواع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر. وسيذكر المؤلف الأنواع الأخر.
قال: (وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها)
ما تقدم – أي إذا صلى مثنى مثنى – فإن وتره يكون بواحدة، لكن إن أحب أن يوتر بخمس أو سبع فإنه يصليها سرداً لا يجلس إلا في آخرها بمعنى يصلي مثنى مثنى ثم يوتر بخمس سرداً أو بسبع سرداً فهي السنة.
(7/7)
________________________________________
فالسنة لمن صلى الوتر سبعاً أو خمساً ألا يجلس إلا في آخرها.
ومرادنا بالإيتار بخمس أو سبع، سواء كان الوتر بخمس صلاته كلها أو كان صلى قبله مثنى مثنى.
دليل ذلك: ما ثبت في مسند أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام)
وقد ثبت في الصحيحين ما يؤيد الصورة الثانية فيما إذا أوتر بخمس عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر، من الليل بثلاث عشرة ركعة " فقد أضافت الركعتين اللتين يفتتح بهما القيام " يوتر فيها بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها) فلم يفصل بينهن بجلوس ولا كلام.
أما الوتر بالسبع فقد ثبت في أبي داود ما يخالف ما تقدم في حديث أم سلمة، فقد روى أبو داود في سننه وأصله في مسلم وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة) وفي رواية لمسلم: (أنه أوتر بسبع) .
بمعنى: صلى ست ركعات ثم قام ولم يسلم ثم جلس جلوساً ثانياً فسلم فيه.
وهذا هو مذهب الموفق ابن قدامة وهو وجه في مذهب الحنابلة وأنه إذا أوتر بسبع فإنه يصلي ستاً سرداً ثم يجلس بعد السادسة ثم يقوم فيصلي السابعة ثم يجلس فيها ويسلم.وهذا هو الأرجح.
أما حديث أم سلمة فهو على الشك، فإن فيه شك ومثله يوجب التوقف، فإنها قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس) وهنا شك، وقد ثبتت الرواية في المتفق عليه فيما إذا أوتر بخمس وأنه لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام، أما السبع فإن هذا الشك يوجب التوقف فيها لا سيما وقد وردت في الرواية الأخرى المخالفة.
فعلى ذلك: الأرجح خلاف المشهور في المذهب وهو قول الموفق أنه إن أوتر بسبع فإنه لا يسردها كلها بل يسرد فيها ستاً فيجلس بعد السادسة فيذكر الله، ويدعو ثم يقوم من غير سلام فيصلي السابعة ثم يجلس فيتشهد ويسلم.
(7/8)
________________________________________
قال: (وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم)
فإذا أوتر بتسع، فيصلي ثماني ركعات سرداً لا يجلس في شيء منهن فإذا انتهى من الثامنة جلس فذكر الله وحمده ودعاه ثم قام فصلى التاسعة ثم جلس فتشهد وسلم، فحينئذٍ يتم له تسع ركعات بتشهدين وسلام واحد.
وهذه الصفة ثابتة في مسلم من حديث عائشة - وهو الذي تقدمت الإشارة إليه عند ذكر رواية أبي داود وأن أصلها في مسلم – عن عائشة أنها سألها سعد بن هشام فقال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كنا نعدُّ له سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس في شيء منها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعو وينهض ولا يسلم ويقوم إلى التاسعة ثم يجلس فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم)
قالت: - أي عائشة -: (ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسنَّ وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول)
وهاتان الركعتان ثبت فعلهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي أمامة، فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد وتره ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما " إذا زلزلت الأرض زلزلاها " و " قل يا أيها الكافرون ") .
قال ابن القيم: " هي كالسنة للفريضة ". أ. هـ.
فهنا الوتر كأنها عبادة مستقلة تشبه الفرائض فكان لها سنة كالفرائض فهذه كالفرائض فهذه سنتها، فحينئذٍ: لا يعارض هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) .
فإنه إذا أوتر استحب له أحياناً أن يصلي بعد وتره ركعتين خفيفتين وهو قاعد.
وقد قال الإمام مالك بعدم المشرعية.
وقال أحمد: إن فعلها فلا بأس وإن تركها فلا بأس.
قال: (وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين)
(7/9)
________________________________________
هذا أدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات، فالإجزاء أن يصلي ركعة، وأدنى الكمال أن يصلي ثلاث ركعات لكن بسلامين هذا هو المستحب.
فلا يستحب الوتر بثلاث بمعنى: أن يصلي ثلاثاً سرداً لا يفصل بينهن بسلام، بل المستحب أن يفصل بينهن بالكلام والسلام.
فإن صلى ثلاثاً سرداً قالوا: فلا بأس.
وذهب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القول بالكراهية، فقد صح عن ابن عباس قال: (ولا أحب ثلاثاً تتراً) أي سرداً.
وعن عائشة قالت: (وأكره ثلاثاً تتراً) .
والأثران رواهما محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل.
ويدل على ذلك ما ثبت عند ابن حبان والحاكم بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب) .
فهذا فيه النهي عن الإيتار بثلاث، وهو حديث مطلق وظاهر إطلاقه النهي عن ذلك سواء كانت الثلاث سرداً بلا تشهد، أو كان فيها تشهد بلا سلام، لقوله: (لا توتروا بثلاث) ثم قال: (لا تشبهوا بصلاة المغرب)
فإن قيل: أنه إن سردها من غير تشهد فإنها لم يتشبه بصلاة المغرب؟
فالجواب: إن أصل المشابهة ثابت، إذ المشابهة لا تقتضي المماثلة.
ثم إن قوله: (لا توتروا بثلاث) شامل للصفتين كلتيهما، وأما قوله: (ولا تشبهوا بصلاة المغرب) فلا يخرج الصفة التي ليس فيها تشهد؛ لأن التشبيه ثابت لعدم السلام ولكونها ثلاثاً.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف المخاطب إلى أن أمره أن يوتر بخمس أو سبع، فدل ذلك على أن الإيتار بثلاث مكروه مطلقاً، وهذا هو الأظهر وأنه مكروه مطلقاً، وأن المستحب له أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي الثالثة.
وقد صح عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح: (أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته)
إذن: الإيتار بثلاث مكروه سواء جلس للتشهد أو لم يجلس والمستحب أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يأتي بالثالثة.
(7/10)
________________________________________
والحمد لله رب العالمين.

الوتر: في لغة العرب: هو الفرد.
اصطلاحاً: فهو الركعة الواحدة وما أضيف إليها مما اتصل بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالكافرون وفي الثالثة بالإخلاص)
لما روى أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي بن كعب – حديث صحيح -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد)
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يشرع له أن يقرأ في الثالثة بالمعوذتين مع سورة الإخلاص.
وهو المشهور في المذهب.
ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين.
لما روى أبو داود من حديث عائشة وفيه: (ويقرأ في الثالثة بقل هو الله أحد، والمعوذتين) والحديث فيه خصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف.
لكن الحديث ورد من طريق آخر عند الحاكم فحسن به الحديث، فعلى ذلك الحديث حسن بطريقه، وعليه فيشرع له أن يقرأ مع سورة الإخلاص بالمعوذتين.
ولا بأس له أن يقرأ سواها من السور في الركعات الثلاث، وأما ما تقدم فهو على سبيل الاستحباب للقاعدة المشهورة: مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاقرأ ما تيسر معك من القرآن) .
قال: (ويقنت فيها)
أي يقنت في ركعته الثالثة، فيدعو الله بالدعاء الوارد كما سيذكره المؤلف، أو بما شاء.
فالقنوت هو الدعاء الواقع في الركعة الأخيرة من صلاته.
– وظاهره أنه يقنت مطلقاً في جميع السنة، وأن القنوت مستحب في جميع السنة. وهو المشهور في المذهب، وإليه رجع الإمام أحمد فقال: " كنت أذهب إلى أن القنوت في النصف الأخير من رمضان ثم قنت هو دعاء بخير " وهو قول بعض الصحابة حكاه ابن تيمية عن ابن مسعود وغيره.
والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد أنه لا يستحب بحال لا في رمضان ولا في غيره.
(7/11)
________________________________________
والقول الثالث: أنه يستحب في النصف الأخير من رمضان.
هذه ثلاث أقوال لأهل العلم هي روايات عن الإمام أحمد وقد حكى ابن تيمية هذه الأقوال عن الصحابة - رضي الله عنهم - واختار ابن تيمية التخيير بين الفعل والترك وقال: (حقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة فمن شاء فعله ومن شاء تركه)
والظاهر: أنه يستحب لكن استحبابه ينبغي ألا يكون على هيئة الدوام بل يفعله تارة ويتركه تارة أخرى، لأن القنوت قد ثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تعليمه.
فقد ثبت في سنن النسائي بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقنت في الوتر قبل الركوع)
وثبت عند الخمسة، وفيه أن الحسن قال: (علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر) وإسناده جيد.
وثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن علي قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)
فهذه الأحاديث تدل على مشرعية القنوت.
وإنما لم نقل باستحباب مداومته، لأن من نقل لنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل كعائشة وابن عباس وزيد بن خالد وغيرهم لم يحكوا لنا قنوته، وإنما حكاه علي والحسن، وأبي بن كعب فكون عائشة وابن عباس ومن روى ذلك من الصحابة لا يذكر القنوت مع حرصه على استقصاء صفة قيامه، طولاً وقصراً وما كان يقرأ فيها ونحو ذلك، يدل هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إذ الهمم والدواعي متوفرة لنقله منهم فلما لم ينقلوه دل على أنهم لم يروه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وحكاه من رآه كأبي بن كعب وعلي فدل على أنه كان يفعله برؤية هؤلاء ولم يكن يداوم عليه لعدم حكاية أولئك له.
(7/12)
________________________________________
فعلى ذلك، يستحب أحياناً من غير مداومة، لكن إن دوم عليه فلا بأس والمستحب له ألا يداوم لأنه من جنس الدعاء والمسألة في الصلاة. هذا الذي يتبين في هذه المسألة والله أعلم.
قال: (بعد الركوع)
ندباً، فيستحب القنوت بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للنازلة وفيه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع) وهو من حديث ابن عمر وغيره.
وهذا من جنسه، فالقنوت في الوتر من جنس القنوت في النوازل، وهذا التنظير وإن كان راجحاً لكن السنة تخالفه، فقد ثبت في النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قنت في الوتر قبل الركوع) .
وإليه ذهب الإمام مالك وهو الراجح، وأن المستحب أن يقنت قبل الركوع، فإن قنت بعده فلا حرج إن شاء الله.
قال: (ويقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد وآل محمد)
أما قوله: " اللهم اهدني " إلى قوله: " تباركت ربنا وتعاليت " فقد ثبت عند الخمسة بإسناد جيد عن الحسن بن علي قال: (علمني النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر ... الحديث) إلا أن لفظة " ولا يعز من عاديت " تفرد بها النسائي وإسنادها صحيح.
وقوله: " اللهم اهدني فيمن هديت ": أي وفقني إلى معرفة الحق والعمل به.
" وعافني يمن عافيت ": أي عافني من الشرك والمعاصي وعافني من الأمراض والبلايا ونحوها.
" وتولني فيمن توليت ": أي قربني إليك وتولني بعنايتك وحفظك وتسديدك.
(7/13)
________________________________________
" وبارك لي فيما أعطيت " من الخير الديني والدنيوي، اجعله لي مباركاً من علم نافع أو رزق دنيوي.
" وقني شر ما قضيت ": أي قني المقضيات التي فيها شر والشر يُنسب إلى مقضيات الله لا إلى فعله كما في الحديث: (والشر ليس إليك)
" إنك تقضي ولا يُقضى عليك ": وفي رواية: " فإنك تقضي ... " وزاد ابن خزيمة بعده: (لا منجى منك إلا إليك)
وقوله: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك " ثابت عند الأربعة بإسناد صحيح من حديث علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في وتره …
أما قوله: " اللهم صل على محمد وآل محمد " فقد روى النسائي بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث تعليمه للحسن: " اللهم صل على النبي" لكن الحديث إسناده ضعيف، فلا يثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لكن فعله حسن لثبوته عن أُبي بن كعب كما عند ابن خزيمة فقد صح عنه في ابن خزيمة أنه كان يقول في آخر قنوته: " اللهم صل على آل محمد " فعلى ذلك هو مستحب لفعل هذا الصحابي له.
قال: (ويمسح وجهه بيديه)
كما روى الترمذي من حديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا رفع يديه في الدعاء لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) .
لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه: إلى أنه لا يشرع له ذلك لضعف الحديث فيه. وهذا هو الراجح؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف.
وهذه المسألة متضمنة لرفع اليدين وأنه يستحب له ذلك في دعاء قنوت الوتر، وهذا ظاهر لأنه من جنس الدعاء في قنوت النوازل.
وقد ثبت في مسند أحمد – في قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - – للنوازل: (أنه كان يرفع يديه) ففيه مشروعية رفع اليدين لثبوت ذلك في قنوت النوازل.
(7/14)
________________________________________
وهنا ما ذكره من الدعاء هو دعاء المنفرد في قوله: " اللهم اهدني ... … " أما دعاء الإمام فإنه يكون بصيغة الجمع فيقول: " اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلى آخره "
فإذا دعا الإمام أمَّن المأمومون خلفه ورفعوا أصواتهم بالتأمين بالاتفاق، قال الموفق: " لا نعلم فيه خلافاً "،
ويدل عليه ما رواه أبو داود في قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - للنوازل وفيه: (يؤمن من خلفه) فعلى ذلك: يستحب لمن خلف الإمام أن يؤمن.
* وهنا اقتصار المؤلف وغيره من الحنابلة على الدعاء الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت هل يدل على أنه لا يشرع سواه أم أنهم اكتفوا به لأنه هو المستحب وإن لم يكن متعيناً؟
هذا ما ذكره صاحب الفروع – إجمالاً – فقال: - أي من اقتصر على ذكر ذلك – لعله أراد أنه يستحب وإن لم يتعين؛ وذلك لأن الإمام أحمد نصَّ أن له أن يدعو بما شاء.
وصرَّح بذلك طائفة من أصحابه – وهذا هو الأظهر –، فهو محل للدعاء فله أن يدعو بما شاء من الدعاء فكما أن السجود محل للدعاء وله أن يدعو بما ورد وما لم يرد، نعم المستحب له أن يأتي بالوارد، فإن أطال فدعا بما لم يرد فلا بأس ومثل ذلك الدعاء في التشهد، فالمستحب أن يدعو بما ورد فإن زاد ما لم يرد أو دعا أصلاً بما لم يرد فلا بأس ولا حرج.
إلا أن يصحب ذلك اعتقاد ينقل الحكم كأن يعتقد في هذا الدعاء أنه أفضل من الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنه أرجى للإجابة أو اعتقاد أنه سنة أو نحو ذلك فله حكم آخر.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض)
فيكره قنوت المصلي في غير الوتر – من الصلوات – كأن يقنت في صلاة الفجر أو صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فهو مكروه في المشهور من المذهب.
وهذا له حالتان:
الحالة الأولى: أن يقنت في صلاة الفجر.
(7/15)
________________________________________
الحالة الثانية: أن يقنت في بقية الصلوات.
أما القنوت في صلاة الفجر أي مشروعيته فقد ذهب إليه المالكية والشافعية وأنه مستحب.
وأما القنوت في بقية الصلوات فذهب إليه بعض الشافعية، وقد بدَّع شيخ الإسلام هذا الفعل، ولا ينسب إلى إمام من الأئمة وإنما هو قول قاله بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي.
أما القنوت في صلاة الفجر فهو مذهب الشافعية والمالكية.
وذهب الأحناف والحنابلة وعليه العمل عند أهل العلم كما قاله الترمذي: أنه لا يشرع.
استدل القائلون بالمشروعية: بما روى أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك وفيه: (أما الصبح فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت حتى فارق الدنيا)
واستدل القائلون بعدم المشروعية بأحاديث:
منها: ما ثبت في الصحيحين عن انس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً في صلاة الفجر يقول: " اللهم أنج الوليد ابن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وفي مسلم: (ثم تركه) .
وفي أبي داود: قال: (فأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال: " أو ما تراهم قد قدموا ") فكانت نازلة فانتهت فترك القنوت لزوالها.
ومنها ما رواه ابن خزيمة وابن حبان بإسناد صحيح عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم)
ومنها – وهو أصرح الأدلة – بما ثبت في الترميذي وصححه وهو كما قال من حديث: سعد بن طارق الأشجعي قال: (قلت لأبي: إنك صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفكانوا يقنتون؟ فقال: أي بني محدث) أي هو بدعة. وهو حديث صحيح وعليه العمل كما ذكر الترمذي.
(7/16)
________________________________________
أما حديث: (أما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) فالحديث فيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف إذا تفرد، وقد تفرد بهذه الرواية وهو صاحب مناكير فلا يقبل حديثه.
ثم لو سلمنا بصحة الحديث فإنه يحتمل – جمعاً بينه وبين ما تقدم من الأدلة – بأن المراد إطالة القيام في الصلاة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يطيل قيام صلاة الفجر.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصلاة طول القنوت " أي طول القيام ") رواه مسلم.
فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة من عدم مشروعية القنوت في غير النوازل وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه.
وهل يكره أم يحرم؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: هو الكراهية.
القول الثاني: أنه محرم وهو قول قاله بعض الحنابلة، وقال بعضهم هو بدعة.
أما ابن القيم فذكر في زاد المعاد أنه ليس ببدعة وأنه من الخلاف السائغ، وحكاه عن أهل الحديث.
أما ما ذكره عن أهل الحديث من اتفاقهم على عدم تبديع هذا الفعل فإنه يحتاج إلى تثبت في نسبته إلى أهل الحديث لأنه جارٍ مجرى البدع وكون الأمر بدعة لا يعني أن فاعله مبتدع ما دام أنه مجتهد في فعله.
فكون الإمام الشافعي يشرع ويستحب القنوت استدلالاً بالحديث المتقدم، لا يعني ذلك أن ينسب إلى شيء من البدعة، وإن كان هذا الفعل بدعة كما أن البدعة قد نسبت إلى فعل بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما تكون غير مشروعة والسنة بخلافها.
فعلى ذلك – وكما نص الصحابي المتقدم – وهو طارق الأشجعي في قوله: " أي بني محدث " فهو محدث وكل محدثة بدعة.
فالراجح: أنه بدعة لعدم ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما من فعله على أنه سنة فإن له نصيبه من الأجر والاجتهاد فإنه مجتهد مخطئ فله أجره على اجتهاده.
فالراجح من قولي المذهب: خلاف المشهور عندهم: أن ذلك محرم وأنه بدعة.
(7/17)
________________________________________
والمالكية والشافعية – كما تقدم – يستحبون القنوت في صلاة الفجر، لكن بينهم فيه اختلاف.
فمذهب المالكية: أنه مشروع قبل الركوع سراً.
ومذهب الشافعية: أنه مشروع بعده جهراً.
واختلفوا أيضاً: في اللفظ الذي يقنت به.
فالمشهور عند الشافعية أنه يقنت بحديث الحسن بن علي: (اللهم اهدني فيمن هديت) وهو قول ظاهر الضعف، لأن الحديث إنما ورد في قنوت الوتر ولم يثبت في قنوت الصلاة.
وذهب المالكية إلى القنوت بما ورد عن عمر - رضي الله عنه -، فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى أنه صلى خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الفجر فسمعه يقول: قبل الركوع وبعد القراءة: (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد " أي نسارع " نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك في الكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك)
فبه استدل المالكية على استحبابه سراً وعلى أنه قبل الركوع لفعل عمر فإنه قد قنت قبل الركوع سراً لأنه لم يظهر من عمر بل سمع منه.
وهذا الأثر يحمل على أنه من قنوت النوازل كما تقدم.
أما قنوت النوازل فهو مشروع، كأن تقع بالمسلمين نازلة من تسلط عدو ونحو ذلك، للحديث المتقدم من حديث أنس وحديث أبي هريرة الذي فيه: (اللهم أنج الوليد بن الوليد…الحديث) .
واعلم أن السنة أن يكون بعد الركوع بعد قوله: " سمع الله لمن حمده " لرواية في الصحيحين للحديث المتقدم: (أنه كان يقول ذلك بعد الركوع بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) .
فإن كان قبل الركوع فلا بأس للأثر المتقدم عن عمر، مع أنه قد صح عن عمر في البيهقي أنه (قنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء) .
ويدعو بألفاظ منبعثة عن هذه النازلة التي وقعت على المسلمين.
واعلم أن قنوت النوازل ليس خاصاً في صلاة الفجر بل عام فيها وفي غيرها من الصلوات المكتوبة.
(7/18)
________________________________________
فقد ثبت في أبي داود من حديث ابن عباس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر إذا قال: سمع الله لمن حمده، دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) .
ففيه أن القنوت مشروع في كل الصلوات المكتوبة، لذا قال المؤلف هنا: " فيقنت الإمام في الفرائض " فهو عام في الفرائض كلها.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (القنوت في الظهر العشاء والفجر) . وثبت في البخاري من حديث أنس: (القنوت في المغرب والفجر) ، ونحوه من حديث البراء بن عازب في مسلم في قنوت المغرب والفجر.فهذه أربع صلوات ثبتت في الصحيحين أو أحدهما.
وأما العصر فقد ثبت فيما تقدم من حديث ابن عباس في سنن أبي داود وهو جامع للصلوات الخمس.
والظاهر أنه يجهر بالقنوت مطلقاً سواء كانت الصلاة جهرية أم سرية.
وقد صرح بعض الحنابلة بخلاف ذلك وأنه يجهر فيما يجهر به من الصلوات.
وأطلق بعضهم، وظاهر إطلاقه أنه يجهر بها كلها، وهو الظاهر لحديث ابن عباس المتقدم: (دبر كل صلاة مكتوبة يؤمن من خلفه) فظاهره أنه قد رفع صوته وجهر به فسمعه من خلفه فأمَّن.
فعلى ذلك لو قنت في صلاة الظهر أو العصر فإنه يجهر بالقنوت.
قوله: (غير الطاعون)
- المشهور في المذهب: أن الطاعون لا يشرع فيه القنوت، وذلك من وجهين:
الأول: أنه قد وقع في عهد الصحابة، كما وقع في عهد عمر في ناحية الشام فلم يثبت أنهم قنتوا.
الثاني: أنه شهادة، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطاعون شهادة لكل مسلم)
- والمشهور عند الشافعية القنوت في الوباء من طاعون وغيره أي مشروعية ذلك.
ويُجاب عما استدل به الحنابلة من الوجهين:
أما كونه لم يثبت لنا عن الصحابة وأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فلا يقضي أنهم لم يفعلوه.
(7/19)
________________________________________
وأما كونه شهادة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا فيما تقدم للوليد بن الوليد ومسلمة بن هشام وما هم عليه إنما هو شهادة أو بمعنى الشهادة فهم معرضون للشهادة أو بمعنى الشهادة من التعذيب في سبيل الله، فكونه شهادة لا يعني ذلك أنه لا يقنت منه.
فالأظهر ما ذهب إليه الشافعية من مشروعية القنوت فيه، وأنه من النوازل فيجوز للمسلمين أن يقنتوا فيه إذا نزل بهم الطاعون أو غيره من الأوبئة الخطيرة التي تهلك الحرث والنسل.
واعلم أن ظاهر حديث أبي هريرة: أن النازلة وإن وقعت في طائفة من المسلمين من أسر أو تعريض لقتل أو وباء على القول به أنه وإن نزل في طائفة من المسلمين ولم يكن عاماً فإنه يشرع ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قنت لطائفة مأسورة عند قريش.
قوله: (فيقنت الإمام)
أي الإمام الأعظم.
هذا هو المشهور في المذهب وأنه إنما هو الإمام الأعظم أي الحاكم أو السلطان أو الخليفة.
وعن أحمد: أنه نائبه إن أذن الإمام.
وعن أحمد: أن إمام الجماعة يشرع له ذلك.
وعن أحمد: كل مصل له ذلك.
فهذه أربع روايات عن الإمام أحمد: أظهرها وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه مشروع لكل مصل لأنه دعاء لله عز وجل لا يترتب عليه فتنة وشر ولا افتيات على السلطان والحاكم.
وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وقد تقدم أثر عمر، وفيه أنه دعا سراً، فهذا يدل على أنه وإن لم يكن مجهوراً به مختصاً بالمصلي نفسه فإنه يبقى مشروعاً.
فإذا فعله من يصلي وحده أو المرأة، فلا حرج في ذلك ويبقى على مشروعيته.
إلا أن يترتب على فعله فتنة أو يمنع منه السلطان أو الحاكم فيترتب على فعله مفاسد، فينهى عنه لهذه المفاسد. أما إن لم يكن ذلك، فإنه دعاء لله، الأصل فيه ألا مفسدة فيه، فلا ينهى عنه وإن لم أذن السلطان.
[في الفرائض]
تقدم أن القنوت عام في الفرائض كلها.
(7/20)
________________________________________
وتقدم أنه يستحب له أن يرفع يديه كما في أثر عمر بن الخطاب، وتقدم في مسند أحمد عند الكلام على رفع اليدين في قنوت الوتر.
ويجهر الإمام كما هو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا من قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في حديث أبي هريرة، فظاهر أنه جهر، وحديث ابن عباس، وظاهر في ذلك، وأثر عمر فيه أنه جهر.
ويؤمن من خلفه كما تقدم في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، فعلى ذلك: يرفع يديه ويدعو الله بما يناسب المقام من الدعاء مما وقع في المسلمين من نازلة، ويؤمن من خلفه.
وقد استثنى الحنابلة في المشهور عندهم صلاة الجمعة، فقالوا: لا يشرع فيها القنوت.
واستدل بعضهم: على أنها يوم عيد، فلا يناسب ذكر النازلة فيه.
وقال بعض الحنابلة، وهو مذهب القاضي من الحنابلة: إلى أن الجمعة كغيرها، يشرع فيها القنوت.
وهذا هو الأظهر؛ فإن حديث ابن عباس المتقدم عام في الجمعة وغيرها، في قوله: " دبر كل صلاة مكتوبة "، فيشمل الجمعة كما يشمل غيرها.
وليس هناك معنى يناسب لإخراج الجمعة عن هذا الحكم، فإن وقوع النازلة في المسلمين يقتضي دعاء الله - عز وجل -، وسواء كان ذلك في صلاة الجمعة أو غيرها.
مسألة:
إذا قنت إمام في غير نازلة، كأن يقنت في صلاة الفجر، كما يقع هذا من الشافعية أو من المالكية بالسكوت منهم، فما الحكم في حق المأموم؟
المشهور في المذهب: أن المأموم يتابع الإمام، فيؤمن بدعائه، وعليه فإنه يرفع يديه وغير ذلك. وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام: في أن الإمام إذا فعل ما يسوغ له مما هو من الاجتهاد، فإن المأموم يتابعه، كأن يقنت أو أن يصل الوتر. هكذا قال شيخ الإسلام.
وقال بعض الحنابلة: لا يتابعه.
وهذا القول ضعيف من جهة إطلاقه، وفيه معنى صحيح.
(7/21)
________________________________________
أما إطلاقه فظاهره أنه يفارق الإمام، وهذا ليس بصحيح، فإن هذا من الإمام فعل يسير في الغالب، ويمكن للمأموم أن ينتظره، ولا يعدو ذلك إلا أن يكون إطالة في ركن مشروع، فكونه يتابعه، هذا لا يؤثر في صلاته. وأما المعنى الصحيح فيها فهو كونه يفارقه في الفعل والقول، فهذا هو المعنى الراجح في ذلك.
فالأظهر أنه يتابعه في القيام والانتظار، فلا يسبق الإمام إلى النزول إلى السجود أو إلى الركوع إن قنت قبل الركوع، لكنه لا يرفع يديه ولا يؤمن على دعائه، وإنما ينشغل بذكر مشروع في هذا الموضع، كأن يطيل من تمجيد الله - عز وجل - والثناء عليه؛ لأن المقصود من متابعته عدم الخلاف على الإمام بأن يتقدم عليه في ركوع ونحوه.
أما أن يخالفه فيما يمكن مخالفته فيه من غير أن يكون ذلك مؤثراً في الصورة الظاهرة، فهذا لا حرج فيه.
فالظاهر أنه لا يتابعه وقد فعل أمراً محدثاً، لكنه يبقى منتظراً له قائماً مشتغلاً بما يشرع من غير أن يقع منه الحدث.
والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والتراويح عشرون ركعة)
التراويح: جمع ترويحة، وهي الجلسة اليسيرة للاستراحة وسمي قيام الليل تراويحاً: لأنهم – أي السلف – كانوا يجلسون بعد كل أربع ركعات جلسة يسيرة، وقد حكى صاحب الفروع اتفاق أهل العلم عليها.
ويستدل لذلك بحديث عائشة في الصحيحين أنها قالت: (ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً ... …ثم يصلي ثلاثاً) فأتت بلفظة " ثم " التي تفيد التراخي، بينما جمعت بين الأربع في قولها: " يصلي أربعاً " مع أنها قالت: " يسلم من كل ركعتين " كما في رواية مسلم فهذا يدل على ثبوت هذه الجلسة بين الأربع ركعات.
(7/22)
________________________________________
إلا أن الحديث المتقدم ليس فيه اختصاص هذه الجلسة لقيام رمضان فحسب، بل القيام كله، وأنه يستحب الراحة بعد صلاة أربع ركعات مطلقاً في رمضان وفي غيره.
وقد تقدم أن صاحب الفروع حكى اتفاق أهل العلم على استحبابها وقال: " وفعله السلف ولا بأس بتركه " وهو كما قال فهي سنة مستحبة من تركها فلا بأس.
وهي – أي التراويح – سنة مستحبة باتفاق العلماء وإجماعهم فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ذات ليلة فصلى أناس بصلاته، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: قد رأيت ما صنعتم، فلم يمنعني من الخروج عليكم إلا أني خشيت أن تفرض) قال الراوي: وذلك في رمضان ".
فهذا هو أصل مشروعيتها من السنة النبوية.
وبقي الأمر كذلك في عهد أبي بكر الصديق وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما: ثم سنها عمر فجمع الناس إليها على أبي بن كعب.
كما ثبت في البخاري عن عبد الرحمن القارئ قال: (خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون فقال: نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها خير من التي يقومون، كان وكان الناس يقومون أوله)
" التي ينامون عنها " من صلاة الليل في آخره فهي أفضل.
وكانوا مراعاة لمصلحة عامة الناس يصلون في أوله لا سيما قبل العشر الأواخر، فكان عمر يقول ذلك.
(7/23)
________________________________________
فهي سنة نبوية أولاً، فلما زال ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشاه من كونها تفرض بوفاته عليه الصلاة والسلام وانتهاء التشريع كان من عمر أن استأنف شرعيتها فجمع الناس إليها وهذا من موافقة أمير المؤمنين للحق كما هو معلوم فيما هو عليه - رضوان الله عليه – وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) .
(عشرون ركعة) فتصلى عشرون ركعة كما هو مذهب جماهير العلماء وهو فعل أهل مكة حكاه عنهم الشافعي وغيره.
أما فعل أهل المدينة فكما حكاه الشافعي وغيره أنهم يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث.
فجمهور العلماء وهو مذهب أكثر الفقهاء كما حكى ذلك الترمذي وغيره على القول باستحباب صلاة عشرين ركعة ثم يوتر بواحدة أو بثلاث.
واستدلوا: بما رواه البيهقي بإسناده الصحيح وصححه شيخ الإسلام وغيره عن السائب بن يزيد قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان عشرين ركعة) الأثر إسناده صحيح ورواه مالك في موطئه عن يزيد بن رُومان قال: (كان الناس يقومون في عهد عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة) فذكر فيها الوتر بثلاث، لكن السند هنا منقطع فإن يزيد بن رومان لم يدرك عمر - رضي الله عنه -.
فهذا الأثر يدل على أنها كانت تصلى في عهد عمر عشرين ركعة، وهو فعل أهل مكة.
وروى مالك في موطئه عن السائب بن يزيد قال: (أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نتكأ على العصي من طول القيام قال: فما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر) .
ولعل هذا يحمل – للجمع بينه وبين الرواية المتقدمة – على حدوث ذلك في العشر الأواخر وأنهم لا ينصرفون إلا عند طلوع الفجر، بخلاف صلاتهم قبل ذلك فإنهم يتركون قيام آخره كما في قول عمر: " والتي ينامون عنها خير من التي يقومون ".
(7/24)
________________________________________
والجمع بين الأثرين الصحيحين: أنه لا مانع من ثبوتهما جميعاً لاختلاف الأحوال فإن عصر أمير المؤمنين عمر، ثبت سنين طويلة فلا مانع أن يثبت هذا في بعض السنين ويثبت الآخر في بعضها الآخر أو أن يكون إمامين " أبي وتميم " ويكون ذاك من أئمة أخر.
ويحتمل أيضاً: أن هذا بالاختلاف في تطويل القراءة وتخفيفها فإذا طولت القراءة خفف الركعات، وإذا خففت القراءة أكثر الركعات، كما نص على ذلك الشافعي.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذين الاحتمالين للجمع بين الأثرين، فذكر أنه يحتمل أن يكون على اختلاف الأحوال أو اختلاف القراءة تطويلاً وتخفيفاً. وهذا جمع ظاهر بين الآثار.
قال شيخ الإسلام: " فإن فعل ذلك أو صلى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فقد أحسن " ونص على ذلك الإمام أحمد.
وقال شيخ الإسلام: " من ظن أن قيام الليل مؤقت بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص فقد أخطأ " وهذا ما نص عليه الأئمة أحمد والشافعي وغيرهما.
فليس هناك في قيام رمضان ولا غيره عدد مؤقت لا يزاد فيه ولا ينقص.
نعم المستحب أن يصلي إحدى عشرة ركعة مع تمام ركوعها وسجودها وإطالة القيام فيها.
لكن إن خفف ذلك – أي القراءة – فالأحب أن يزيد في السجدات فثبت له فضيلة السجود. فليس للقيام عدد مؤقت، والأدلة على ذلك كثيرة.
فمن ذلك الأثر المتقدم عن زمن عمر.
ومن ذلك – وهو أولى بالاستدلال – ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " صلاة الليل مثنى مثنى " وهذه اللفظة تفيد التكرار ولم يوقته بعدد، فلم يقل: " ولا يزيد على إحدى عشرة ركعة " ومعلوم أن فعله لا يقتضي الوجوب.
ومن ذلك: ما في مسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر) .
(7/25)
________________________________________
وعليه الصحابة، فقد روى البخاري بسنده الصحيح عن ابن عمر قال: (أصلى كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها)
وهذا – أيضاً – ما تقتضيه الأدلة الشرعية التي فيها النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فظاهرها أنه يصلي في غير وقت النهي ما شاء، وهذا ما يدل عليه ما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عبسة وسيأتي ذكره في أوقات النهي.
وعليه عمل السلف الصالح فإنهم يصلون بألوان كثيرة وأعداد مختلفة من غير أن يثبت نكير في ذلك والسنة تقرر هذا وتدل عليه.
قال: (تفعل في جماعة)
هذا هو المستحب في المشهور من المذهب، أن المستحب في قيام رمضان أن يكون في جماعة، ويكون في المسجد، كما دلت عليه الآثار المتقدمة من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلاته في المسجد، ومن حديث عمر في البخاري ففيه أنها تشرع في المسجد.
قال صاحب الإنصاف: " وتُصلى في المسجد في كل عصر ومصر " فهذا عمل الأمة في كل أعصارها وأمصارها أنها تصلي في المساجد.
وذهب الإمام مالك إلى أن المستحب أن تُصلى في البيت.
واستدل بما في مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن أتى ليصلي بصلاته وقد صلى بصلاته أناس فأتى قوم من الليلة القابلة ليصلوا بصلاته فقال: (ما زال صنيعكم بكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فصلوا الصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)
أما أهل القول الأول: فدليلهم: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها وسنية عمر، لكن هذا الدليل دليل على فضيلة ذلك ومشروعيته لا على أفضليته مع المعارض.
والدليل الثابت في مسلم يدل على أن الصلاة في البيت أفضل وهو قول بعض الأحناف وقول لبعض الشافعية، بل هو رواية عن الإمام أحمد.
فعلى ذلك المستحب له أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.
(7/26)
________________________________________
ومحل هذا – أي استحباب صلاته في البيت – حيث كان لا يكسل عن صلاتها في البيت، وحيث لا تتأثر الجماعة في المسجد بعدم حضوره كالإمام، فيشرع له أن يصليها في المسجد وتكون صلاته في المسجد في حقه أفضل من صلاته في البيت أما سوى ذلك وهو من لا يكسل عن الصلاة في البيت بل يقوى عليها ولا تتأثر الجماعة به فإن المستحب أن يصلي في بيته للحديث المتقدم.
قال: (مع الوتر)
فيصلي التراويح عشرين ركعة في الجماعة مع الوتر، فالوتر يصلى جماعة في المسجد، يدل عليه حديث أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة) ففيه أنه يصلي معه الوتر أيضاً.
وقد أمر عمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة فهو ظاهر في أنه أمره بالوتر وأن يقوم للناس بذلك.
قال: (بعد العشاء)
فهي سنة بعد العشاء كالوتر وقد تقدم دليله.
وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد فمن صلى قبل العشاء فلا تصح منه ولا تقبل.
أما قيام الليل فالمشهور في المذهب أن وقته يبدأ من بعد صلاة المغرب.
وقد أجازها بعض متأخري الحنابلة، وأنكر ذلك شيخ الإسلام وقال: " ومن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعين المخالفين للسنة " فهي مخالفة صريحة للسنة.
ويستحب أن يصليها بعد سنة العشاء لترتبط السنة بالفريضة، فإن الأصل في السنة أن تكون مرتبطة بفريضتها. لكنه إن صلى قبلها فلا بأس. فتسن بعد العشاء وسواء صُليت العشاء في وقتها أو قدمت جمعاً مع المغرب.
قال: (في رمضان)
فالتراويح إنما تُشرع في رمضان.
وقد تقدم الحديث المتفق عليه، قوله: (وذلك في رمضان)
فإن صلوا في غير رمضان جماعة فلا بأس لكن من غير أن يتخذ ذلك سنة ومن غير أن تكون ظاهرة في المساجد.
(7/27)
________________________________________
ودليل جوازه ما ثبت في الصحيحين من صلاة ابن عباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك صلاة جابر وجبار - في مسلم – مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل في سفر.
فهذا يدل على جوازه لكن من غير أن يتخذ سنة ومن غير أن يظهر في المساجد.
قال: (ويوتر المتهجد بعده)
بعده: أي بعد التهجد.
فمن أراد أن يصلي بعد التراويح، فإنه يجعل الوتر بعد تهجده، وعلى ذلك فإذا قام الإمام للوتر انصرف للحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه.
قال: (فإن تبع إمامه شفعه بركعة)
إذا تابع إمامه فقام فصلى معه الوتر فإنه يشفعه بركعة فإذا سلم الإمام قام يصلي ركعة تشفع له ركعة الإمام، ليصيب الفضيلة المتقدمة في حديث أبي داود: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)
وإن سلم معه وتهجد بلا وتر فصلى من الليل بعد ذلك مثنى مثنى فلا بأس كما ثبت هذا من فعل أبي بكر وأقره على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في أبي داود.
وقد تقدم ثبوت ركعتين بعد الوتر، فهنا صلى مع الإمام اقتداءً وانصرف معه، وأحب أن يتهجد من آخر الليل فله أن يتهجد ويصلي مثنى مثنى.
وليس له نقض وتره، وصفة نقضه: أن يصلي ركعة واحدة تشفع له وتره المتقدم، فهذا غير مشروع لأنه وتر أيضاً وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا وتران في ليلة) رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما والحديث حسن. فلا يشرع في الليل إلا وتر واحد، له أن يشفع ذلك ما دام مع الإمام – كما تقدم – أما بعد ذلك فهو غير مشروع اتفاقاً.
قال: (ويكره التنفل بينهما)
فيكره أن يتنفل بين ركعات التراويح، وقد حكى الإمام أحمد كراهيته عن ثلاثة من الصحابة فقال رحمه الله: " عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة وأبي الدرداء وعقبة بن عامر "
(7/28)
________________________________________
ولما فيه من الزيادة عن الإمام والرغبة عن البقاء على ما هو عليه من الصلاة، فلا يشرع له أن يتنفل ما دام في المسجد، أما لو كان هناك زمن طويل بينها، كأن يصلي الإمام بعض الركعات في أول الليل، ثم يصلي بعضها في آخره فهذا فاصل كثير له أن يتنفل به كما صرح بذلك الحنابلة.
قال: (لا التعقيب في جماعة)
صفة التعقيب: أن يصلي بعد التراويح التي صلاها مع الإمام يصلي جماعة.
كأن يشهد رجل التراويح مع المسجد في أول الليل، فصلى في مسجد آخر في آخر الليل، فله أن يصلي مع المسجد آخر.
أو أناس صلوا مع الإمام ثم أحبوا أن يجتمعوا فيصلوا جماعة فلا بأس بذلك، نصَّ عليه الإمام أحمد، لأنه لا مانع منه شرعاً، وأصل الاجتماع في ليالي رمضان مشروع فلا بأس به وإن تكرر.
واستحب الحنابلة أن يختم القرآن كله في التراويح لا يزيد على ذلك ولا ينقص إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة.
وقال بعض الحنابلة: بل ينظر إلى المأمومين مطلقاً، فله أن ينقص عن الختمة إذا آثر المأمومون ذلك.
والأظهر أنه ينظر فيها إلى السنة لأنها صلاة مستحبة ليس في فعلها إلزام فيطبق بها السنة، وإن شق ذلك على بعض المأمومون.
وكونه يختم بختمة أو بختمتين أو ثلاث لم أر دليلاً من السنة يدل على شيء من ذلك إلا ما تقدم من أثر عمر وفيه: (أن الناس يتكئون على العصي في صلاة أبي بن كعب وتميم الداري) .
فإن قيل: بالتخفيف في أول رمضان والتطويل في آخره فلا بأس بمثل هذا القول، ولم أر في السنة حداً محدداً.
ولو قيل: أنها من جنس قيام الليل إلا أنها يصحبها شيء من التخفيف لاجتماع الناس إليها، فإن هذا قول حسن، لكن لا ينبغي أن يكون هذا راجعاً إلى المأمومين مطلقاً بحيث أنه لو شق على طائفة منهم أن يصلي بختمة مثلاً فإنه يخفف. القول بهذا ضعيف؛ ذلك لأن تلك المشقة إنما هي في الفريضة.
(7/29)
________________________________________
أما في النافلة فإنها ليست إلزامية فمن أحب أن يصلي صلى مع الإمام ومن أحب أن يصلي وحده صلى وحده.
إلا أن يقال: إنها تدخل في عموم حديث: (من أمَّ الناس فليخفف، ومن صلى بنفسه فليطول ما شاء) فيكون قدرها ليس كقيام الليل، وإنما فيها شيء من الإطالة وإن كانت ليست كقيام الليل.
والمقصود من ذلك: أنه ليس في السنة تحديد لقدر الختمات أو نحو ذلك، وإنما تبقى أن تكون من قيام الليل إلا أنه يصحبها شيء من التخفيف الذي يطيقه المأمومون.
لكنها أن تكون تحت رغباتهم، فهذا محل نظر فإنها تذهب بالعبادة، فإن العبادة شرعت – في الأصل قياماً لليل – لا سيما في العشر الأواخر التي يشرع فيها إطالة العبادة والإكثار منها، والله أعلم.
ونص الإمام أحمد: أنه يستحب أن يفتتح قيام الليل في أول ليلة بأن يقرأ بسورة: " اقرأ " لكونها أول ما أنزل من القرآن. ولم أر أثراً يدل على ذلك، وقد قال صاحب شرح منتهى الإرادات في شرحه" ولعل عنده أثر ". وهذا الغالب في مثل الإمام أحمد أنه لا يذكر مسألة إلا وعنده أثر منها لكن الأثر لم يذكر.
وعن الإمام أحمد، وقال شيخ الإسلام: " وهو أحسن " أي من القول الذي قبله – أنه يقرأ بسورة " اقرأ " في صلاة العشاء الآخرة ثم يشرع في البقرة في التراويح.
وهذا لا دليل عليه، فيتوقف عن القول به إلا أن يرد دليل يدل عليه أو أثر عن الصحابة.
فعلى ذلك: الأولى – ما دام الأثر لم يثبت لنا – أن يشرع بسورة البقرة.
ثم إن ظاهر كلام الإمام أحمد استحباب قراءة سورة " اقرأ " كاملة، مع أن أول ما نزل منها إنما هو صدرها؟
ولقائل أن يقول: إنما شرع إتمامها لا لكونه أول ما نزل ولكن لاتصاله بأول ما نزل في السورة، والمستحب في السور أن تتم.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم السنن الراتبة)
أي في الفضيلة، فلفظة " ثم " تفيد الترتيب، فبعد الوتر والتراويح تأتي فضيلة السنن الراتبة.
(7/30)
________________________________________
وقد تقدم تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل على الصلاة مطلقاً، وأن أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل والتراويح من صلاة الليل فتكون داخلة في عموم هذا اللفظ فعلى ذلك: الراجح ما تقدم وأن صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة ومن ذلك الوتر وقيام الليل ومنه التراويح.
وكون المؤلف يفرِّق بين التراويح وبين غيره من الصلاة محل نظر، بل التراويح نوع من أنواع صلاة الليل وصلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة.
" ثم السنن الراتبة " وهي السنن المؤكدة مع الفرائض.
والرواتب ذكرها المؤلف عشراً فقال:
: (ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر)
هذا المشهور في المذهب وأن الرواتب عشر وهي ما تقدم ذكره.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل صلاة الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد صلاة المغرب في بيته، وركعتين بعد صلاة العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح في بيته) وفي رواية (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فذكر عشر ركعات ومنها ركعتان قبل الظهر.
- وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أن المستحب أربع قبل الظهر فتكون الرواتب اثنتي عشرة ركعة.
واستدلوا: بما ثبت في البخاري عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)
وثبت في مسلم من حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته يبنى له بهن بيت في الجنة) وفي رواية: (تطوعاً) .
ورواه الترمذي وزاد: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الصبح) .
ففيه أن السنن الرواتب اثنتا عشرة ركعة.
(7/31)
________________________________________
وهذا القول هو القول الراجح، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وفي حديث عائشة وأم حبيبة زيادة علم على ما في حديث ابن عمر.
وجمع ابن القيم بين هذه الأحاديث بجمع آخر: فذكر احتمالين استظهر أولهما:
الاحتمال الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين في المسجد وأربعاً في بيته واستظهر هذا.
والاحتمال الثاني: أنه كان يصلي تارة ركعتين وتارة أربعاً.
والأولى ما تقدم.
أما ما ذكره من الاحتمال الأول، فإن فيه نظر، لأن صلاة البيت أفضل من صلاة المسجد، فاللائق أن تكون الصلاة في المسجد مكررة زائدة على صلاة البيت ليجبر ما يكون من النقص في صلاة البيت، فتكون أربعاً في المسجد وركعتين في البيت. وصلاة البيت أفضل، فلو أن هذا يحتمل في هذه الأحاديث لكان أقوى، لكن هذا غير محتمل؛ لأن من حدثتنا وهي عائشة عن صلاة قبل الظهر فإنما حدثتنا عن صلاته في بيته – كما سيأتي التصريح في مسلم -.
وأما الاحتمال الثاني: فإنه وإن كان فيه شيء من القوة لكن ما تقدم ذكره أقوى، لأن غاية حديث ابن عمر الإخبار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين، وليس فيه نفي أن يكون قد صلى أربعاً لا سيما إذا صلى في بيته.
أو يحتمل أن يكون ابن عمر قد رآه صلى ركعتين في المسجد وكان قد صلى ركعتين في البيت مرة أو مرتين فحدث بذلك.
وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إذا زالت الشمس أربعاً ويقول: (أنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) فالراجح: أن المستحب له أن يصلي أربعاً قبل الظهر.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - – كما عند الخمسة بإسناد صحيح -: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار) .
والراجح أن السنن الراتبة اثنا عشرة ركعة.
قال: (وركعتان قبل الفجر وهما آكدها)
أي الركعتان قبل الفجر آكد السنن الراتبة.
(7/32)
________________________________________
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) وفي مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)
ومن السنن المتصلة بركعتي الفجر:
فمن ذلك: أن المستحب له أن يقرأ بهما: {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} .
أو {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... } الآية من سورة آل عمران.
فقد ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ: ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} ) .
وثبت فيه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين قبل صلاة الفجر، في الأولى بـ: ( {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية من سورة البقرة. و {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... } الآية من سورة آل عمران) (1) .
فالمستحب أن يفعل هذا تارة وهذا تارة.
كما أن المستحب له أن يقرأ بالسورتين في الركعتين بعد صلاة المغرب، فقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقرأ في الركعتين بعد صلاة المغرب بـ ( {قل يا أيها الكافرون} و {وقل هو الله أحد} )
ومن ذلك: أن يخففهما، فالسنة في سنة الفجر التخفيف، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني أقول أقرأ بأم الكتاب) وهذا من باب المبالغة.
ومن ذلك: أن يضطجع على شقه الأيمن بعد هذه السنة أو أن يتحدث مع أهل أو غيرهم.
أما دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)
__________
(1) أخرجه مسلم.
(7/33)
________________________________________
وفي الصحيحين من حديثها قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) .
وفي أحمد وأبي داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على شقه الأيمن) . والحديث معلول، فإنه من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش وروايته عن الأعمش فيها مقال كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
ورواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)
فالحديث المعلول فيه الأمر بذلك وبه استدل من ذهب على الوجوب، وأما الحديث الثاني فإنه يصف الفعل ثم لو صححناه قولاً فإن هذا الأمر ليس للوجوب بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ما ذكرته عائشة من قولها: (فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع) فهذه من سنن ركعتي الفجر.
ويستحب في هذه الصلوات الراتبة أن يصليها في بيته لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)
وفي مسلم عن عائشة – وهو الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه – قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في بيته أربعاً قبل الظهر ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم كان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء ثم يدخل في بيته فيصلي ركعتين) فذكرت أن من سنته صلاة السنن الرواتب في البيت.
وآكد ذلك: سنة المغرب حتى روى عن الإمام أحمد القول بعدم الإجزاء إذا صليت في المسجد.
والقول المشهور عنه خلاف ذلك وهو الذي تدل عليه الأدلة.
(7/34)
________________________________________
ودليله ما ثبت عند أبي داود والحديث صحيح: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مسجد بني عبد الأشهل فلما قضوا صلاة المغرب قاموا يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)
فهذه الصلاة لا تشرع أن تصلى إلا في البيوت، لكن مع ذلك إن صليت في المسجد فهي صلاة مجزئة صحيحة.
قال: (ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه)
فمن فاته شيء من النوافل سواء كانت ركعتي الفجر أو غيرها سن له قضاؤه.
لعموم قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) و " صلاة " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم.
وثبت ذلك من فعله، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام في سفره حتى طلعت الشمس صلى ركعتي الفجر ثم صلى الفجر) .
وثبت عن أم سلمة في الصحيحين: (أنه شغله وفد عبد القيس عن الركعتين التي بعد صلاة الظهر فصلاهما بعد صلاة العصر)
وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس فليصليهما بعدها)
فهذه أحاديث تدل على مشروعية القضاء للسنن الرواتب.
واعلم أن وقت النافلة هو وقت الفريضة مجزءاً، فما كان من السنن قبلياً فوقته من دخول وقت الصلاة إلى صلاة الفريضة.
وما كان بعدياً فوقته من نهاية الصلاة إلى خروج الوقت.
فركعتا الفجر القبلية من أذان الفجر إلى صلاة الفجر.
وسنة المغرب البعدية وقتها إذا صلى المغرب ما لم يغب الشفق – كما ذكر ذلك الموفق – ولم يذكر فيه خلافاً والنظر يدل عليه.
فإذا صلى القبلية في وقت البعدية فهذا من القضاء، ومن ذلك ما ثبت في أبي داود والحديث صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين فقال له: (صلاة الصبح ركعتان) فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلها فصليتهما الآن فسكت مقراً له.
(7/35)
________________________________________
فإذا فاتته سنة الفجر القبلية فله أن يصليهما بعد الصلاة وله أن يؤخرها حتى تطلع الشمس، والأولى له أن يصليها بعدها لأن السنة في القضاء المسارعة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصلها إذا ذكرها) .
وما ذكره المؤلف هنا هي السنن الرواتب اليومية.
وهنا سنن غير راتبة فهي صلوات مستحبة لكنها لا تتخذ راتبة كالسنن الراتبة المتقدمة.
فمن ذلك: أن يصلي ركعتين بعد الظهر زيادة على الركعتين اللتين تقدم ذكرهما، فتكون صلاته أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها.
ودليل ذلك الحديث المتقدم عند الخمسة بإسناد صحيح: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار)
ومن ذلك: أن يصلي قبل صلاة العصر أربعاً، فقد ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وحسنه وهو كما قال فالحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً)
قالوا: ومن السنة أن يصلي ستاً بعد المغرب، ولعل مرادهم أربع مع الركعتين المتقدمتين فيكون مجموعها ستا.
واستدلوا: بحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ضعيف جداً في الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى بعد المغرب ستاً لا يتكلم بينهن بسوء عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة) لكن الحديث لا ثبت.
واستحبوا: أن يصلي بعد العشاء أربعاً أو ستاً.
واستدلوا: بما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل عليَّ إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات) لكن الحديث فيه مقاتل بن بشر البجلي وهو مجهول، فالحديث ضعيف.
وذكروا أن الركعتين قبل صلاة المغرب مباحتان أي بعينها مباحة وإن كانت مستحبة بالنظر إلى عموم الصلاة.
واستدلوا: - بما يقتضي استحبابهما – وهو الراجح.
(7/36)
________________________________________
ودليل ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)
في رواية أبي داود: (صلوا قبل المغرب ركعتين)
وثبت في ابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلى قبل المغرب ركعتين)
وفي البخاري ومسلم: (أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يبتدرون السواري فيصلونها) حتى ثبت في مسلم: (فيأتي الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها)
وهذا في الحقيقة ليس خاصاً في صلاة المغرب بل هو عام فيها وفي غيرها من الصلوات، وأنه يستحب أن تقدم بين يديها ركعتان ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بين كل أذانين صلاة)
وثبت في ابن حبان بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من صلاة مكتوبة إلا بين يديها ركعتان)
فهذا الحديث يدل على أنه يستحب بين الأذان والإقامة في العشاء أن يصلي ركعتين، وأن هذا مستحب بين الأذان والإقامة في الظهر وفي الفجر، لكن تلك قد وردت بها السنة في الصلاة المتقدمة، فعلى ذلك ما لم يرد فيه السنة يستحب أن يصلي ركعتان فيه بين الأذان والإقامة.
والصلاة بين أذان المغرب وإقامته آكد لحديث عبد الله بن مغفل ولفعل الصحابة ومواظبتهم عليها، فهذا يدل على أنها آكد لكن مع ذلك بين كل آذانين صلاة.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار)
أي قيام الليل المطلق، فيخرج من ذلك التراويح والوتر فقد تقدم الكلام عليها – فهي – أي صلاة الليل المطلقة أفضل من صلاة النهار المطلقة " فيخرج الرواتب فقد تقدم ذكرها ".
فصلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.
(7/37)
________________________________________
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)
وهذا الدليل أعم من المسألة، فهو يعمها ويعم المسائل المتقدمة فهو يدل على تفضيل صلاة الليل مطلقاً على صلاة النهار.
فقيام الليل أفضل الصلوات مطلقاً سواء كانت راتبة أو كانت استسقاء أو نهارية مطلقة، فصلاة الليل أفضل منها لعموم الحديث المتقدم.
فهم استدلوا بهذا الحديث وذكروا هذه المسألة لكن ليس على وجه التعميم المتقدم بل على وجه التخصيص المقيد أي صلاة الليل المطلقة، أفضل من صلاة النهار المطلقة.
قال: (وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه)
فثلث الليل بعد نصفه أفضل وقت لصلاة الليل.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه) فهذه أفضل الصلاة أن يصلي ثلث الليل بعد نصفه وهذا الثلث يأخذ من الثلث الأوسط نصفه الأخير، من الثلث الأخير نصفه الأول.
قال: (وصلاة ليل ونهار مثنى)
أما صلاة الليل فلحديث ابن عمر المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) فيكره أن يصلي أربعاً أو ستاً أو ثمانياً إلا ما تقدم مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وصلاة النهار كذلك قالوا: لما روى الخمسة بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وهذا الحديث معلول، فلفظة (والنهار) تفرد بعض الرواة، والمحفوظ (صلاة الليل مثنى مثنى) أما لفظة (النهار) فهي لفظة معلولة، وقد نص على خطئها النسائي والدارقطني وغيرهم من الأئمة. [نيل الأوطار: 3 / 31]
وإنما هي ثابتة عن ابن عمر كما عند ابن وهب – كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح، فهي من قول ابن عمر.
(7/38)
________________________________________
ولكن مع ذلك فالسنة دلت على ذلك، ومن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لما صلى بمكة ضحى ثماني ركعات سلم بين كل ركعتين) فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النهار مثنى مثنى، فالمستحب فيها أن تكون مثنى مثنى. كما دل هذا الحديث وغيره.
قال: (وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس)
فإن صلى صلاة النهار أربعاً فلا بأس ولا كراهية أما صلاة الليل تكره كما تقدم.
أما النهار فلا بأس بذلك، لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لها أبواب السماء) والحديث فيه عُبيدة الضبي وهو ضعيف.
وروى أحمد والترمذي والحديث إسناده جيد عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين) فهذا الحديث وإن كان إسناده جيد، لكن الاستدلال به محل نظر لأن لفظة التسليم فيها احتمال قوي مخالف.
فيحتمل أن المراد سلم التسليم الشرعي بأن قال: (السلام عليكم ورحمة الله) يميناً وشمالاً فإن هذا تسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين.
ويحتمل أن يكون هذا لأنه جلس للتشهد بين الأربع فتشهد وقام ولم يسلم وفي الحديث في التشهد: (السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباده الله الصالحين) وهذه تشمل الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين.
وكلا الاحتمالين قوي، وحملها على الاحتمال الأول هو الأولى لموافقة ما هو معلوم من النبي - صلى الله عليه وسلم - من كونه يصلي من النهار مثنى مثنى فالأظهر الاحتمال الأول.
(7/39)
________________________________________
وإنما ذكر ذلك ليبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها متوالية لم يفصل بينها إلا بالسلام المشروع الذي هو سلام على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، ولم يفصل بينها بكلام ولا غيره.
ولكن يستدل لها: بما ثبت من فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح: (أنه كان يصلي من النهار أربعاً أربعاً) وليس فيه إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدال على استحباب صلاة النهار مثنى، وابن عمر فعله يدل على الجواز وهو راوي حديث (صلاة الليل مثنى مثنى) بخلاف صلاة الليل فقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن المشروع فيها أن تصلى مثنى مثنى.
بل لو قيل: أن صلاة الليل لا تصح إلا مثنى مثنى لكان قوياً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر بهذا الحديث أن صلاة الليل إنما تشرع مثنى مثنى وخلاف المشروع مردود لا يصح.
فعلى ذلك: صلاة الليل لا تشرع إلا مثنى مثنى.
أما صلاة النهار فالمستحب فيها أن تصلي مثنى مثنى فإن صلاها أربعاً فلا بأس لفعل ابن عمر.
قالوا: ولا كراهية أيضاً.
قال: (وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم)
فصلاة القاعد غير المعذور على نصف أجر صلاة القائم، لما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً - قال البخاري: " أي مضجعاً " - فله نصف أجر القاعد) فالمراد من كان بغير عذر.
أما إن كان معذوراً فقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري: (إن العبد إذا مرض أو سافر ثبت له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) فالمعذور يكتب له أجر غيره لا ينقص له من أجره شيئاً.
وقد أجمع العلماء على صحة صلاة التطوع قاعداً مطلقاً، سواء كانت وتراً أو سنة فجر أو غير ذلك من الصلوات التطوعية لكن للمصلي أجر لا يساوي أجر القائم بل هو على النصف منه.
(7/40)
________________________________________
* وهل تصح صلاة المضطجع تطوعاً أم لا؟
قولان لأهل العلم:
المشهور في المذهب، وهو مذهب جماهير العلماء: أن ذلك لا يجوز، حتى قال شيخ الإسلام - فيمن قال: إن صلاة المضطجع صحيحة في التنفل -: " وهو قول شاذ لا يعرف له أصل في السلف ".
وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك،قالوا: يصح للحديث المتقدم ففيه: (من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) فهذا حديث ثابت، وبثبوت أصل الثواب يدل على الصحة، ولا يحمل هذا على المعذور؛ لأن المعذور له الأجر كاملاً فوجب حمله على غير المعذور.
وأما ما ذكره شيخ الإسلام: أن هذا ليس له أصل في السلف، فهذا فيه نظر، فهذا القول قد ذهب إليه الحسن البصري كما رواه عنه الترمذي وغيره، وذهب إليه الإمام أحمد في رواية محكية عنه، وهو مذهب بعض أصحابه. والسنة تدل عليه لكن الأجر كما تقدم على النصف من صلاة القاعد. فالحديث ظاهر في ذلك.
هنا مسألتان في صلاة التطوع:
المسألة الأولى: جواز صلاة التطوع جماعة:
فيجوز - في المشهور في المذهب – أن تصلى صلاة التطوع سواء كانت نهارية أو ليلية أن تصلى جماعة.
ومما يدل عليه ما في الصحيحين عن أنس مالك من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سليم قال: (فصليت أنا واليتيم خلفه وأم سليم خلفنا) .
وثبت نحو هذا من حديث عتبان بن مالك في البخاري عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوره فيصلي في بيته فيتخذه مسجداً، فكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذهب إليه فصلى في بيته وصلى خلفه أصحابه.
وتقدم حديث ابن عباس المتفق عليه، وحديث جابر وجبار الذي رواه مسلم في صلاتهما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الليل.
فهذه الأحاديث تدل على صحة وجواز صلاة التطوع جماعة.
وقيَّد ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد بقيد صحيح معتبر وهو: ألا تتخذ سنة فتضاهي ما شرعت لها الجماعة.
(7/41)
________________________________________
فإن الشارع قد شرع لبعض الصلوات الجماعة كالتراويح في رمضان وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف على القول بسنيتها - ونحو ذلك – فكوننا نتخذ هذه الصلاة تطوعاً جماعة - نتخذها - سنة، يضاهي ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشروعية تلك جماعة، ولما كان مضاهياً للمشروع لم يشرع.
المسألة الثانية: هل الأفضل الإكثار من الركوع والسجود أم الأفضل أن يطيل القيام؟
1- المشهور في المذهب: أن المستحب له أن يكثر من الركوع والسجود وأن ذلك أفضل من إطالة القيام.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم من حديث ربيعة الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (سل) فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال (أو غير ذلك؟) قال: هو ذاك قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) .
وفي مسلم من حديث ثوبان أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحب العمل إلى الله وما يدخل العبد الجنة؟ فقال: (عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعت بها درجة وحط عنك بها خطيئة) .
2- وعن الإمام أحمد، وهو اختيار بعض أصحابه كالمجد ابن تيمية. قالوا: الأفضل هو طول القيام.
لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي طول القيام. ونحن إذا نظرنا من غير ما ذكروه من الأدلة: فإنك ترى أن لكل منهما فضيلة، فالركوع والسجود لا شك أنه أفضل من ذات القيام، فإن في الركوع والسجود من التذلل لله والانكسار بين يديه ما ليس في القيام.
وإذا نظرت إلى ما في القيام من القراءة التي هي كلام الله تعالى، وجدت أنه أفضل مما في الركوع والسجود من ذكر الله تعالى، فإنه ليس فيه إلا الذكر حتى ثبتت الأدلة في النهي عن قراءة القرآن فيه، ولا شك بفضيلة القرآن على ذكر الله.
(7/42)
________________________________________
فلكل منهما فضيلة، ونصت السنة على فضيلة طول القنوت - فيما ذكره أهل القول الثاني – وهو الراجح؛ لتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفضيل.
والقيام وإن كان مفضولاً بالنسبة إلى الركوع والسجود فهو فاضل لما فيه من قراءة القرآن.
والأحاديث التي ذكرها أهل القول الأول تدل على ففضيلة الإكثار من الركوع والسجود لكن ذلك لا يدل على الأفضلية، بخلاف دليل أهل القول الثاني فهو يدل على الأفضلية.
وهذا ما تشير إليه الآيات القرآنية لقوله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} فسمى الله الصلاة قرآناً والمراد من ذلك صلاة الفجر في الآية – كما ثبت في الصحيحين.
ولا شك أن الجمع بين الإكثار من الركوع والسجود مع طول القنوت أفضل لكن المسألة هنا في التفضيل بينها في التعارض.
وعليه: فإذا صلى في التراويح إحدى عشرة ركعة فأطال قيامها وأطال القراءة فيها. فهو أفضل ممن صلى عشرين أو أكثر من ذلك وخفف قراءتها.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وتسن صلاة الضحى)
لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد) ورواه مسلم من حديث أبي ذر نحوه، ورواه أحمد والنسائي من حديث أبي الدرداء ونحوه.
فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على استحباب صلاة الضحى وهل يستحب ذلك على هيئة الدوام أم المستحب عدم المداومة بل يفعلها أحياناً؟
قولان لأهل العلم هما قولان في المذهب:
القول الأول، وهو المشهور: أنه لا يستحب أن يداوم عليها.
(7/43)
________________________________________
القول الثاني، وهو اختيار طائفة من الحنابلة كالمجد ابن تيمية والقاضي وغيرهما قالوا: باستحباب المداومة عليهما.
استدل من لا يرى استحباب المداومة: بما ثبت من الأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحافظ عليها.
ممن ذلك ما ثبت في الصحيحين: أن ابن عمر سئل: (أتصلي الضحى؟ قال: لا، فقيل:فعمر؟ قال: لا، فقيل: أبو بكر؟ قال: لا، قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله) أي لا أظنه.
ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها) .
وثبت في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى إلا أم هانئ) – الحديث وسيأتي تمامه –.
قالوا: فهذه الأحاديث تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ظاهراً يحافظ عليها، بل ظاهر هذه الأحاديث أنه لم يكن يصليها.
أما القائلون باستحباب المداومة فاستدلوا: بالأحاديث التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها، فمن ذلك:
ما ثبت في مسلم – عن عائشة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله) .
والجمع بينه وبين حديثها المتقدم: أن الحديث الأول فيه نفي الرؤية، أما هذا الحديث فهو رواية، فهي تروي عن غيرها ممن حدثها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى، ولم تنسب ذلك إلى رؤيتها، وإنما نسبت إلى رؤيتها نفي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهو فعلها فقد ثبت في الموطأ بإسناد صحيح أن عائشة: (كانت تصلي الضحى ثماني ركعات وتقول: لو نُشر أبواي ما تركتهما) فهذا فيه تمام محافظتها ومداومتها على صلاة الضحى.
(7/44)
________________________________________
ومما يدل عليه أيضاً: ما ثبت في الحاكم بإسناد حسن من حديث علي ومن حديث جبير بن مطعم والحديثان إسنادها حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الضحى) .
ومن حديث جابر في المستدرك بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الضحى ست ركعات) .
وهذا الأحاديث وإن دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى فإنها لا تدل على المحافظة، كيف وقد نفى ذلك من هو أعلم الناس به عليه الصلاة والسلام وهي عائشة، وقد نفاه من هو من أتبع الناس لسنته وهو ابن عمر فقد ظن ظناً غالباً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصليها، فهو نفي منه للرؤية والسماع.
لكن هذه الأحاديث وإن دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحافظ عليها فإنها لا تدل على أن أصل المحافظة غير مستحب، فقد ثبت عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) .
فهنا عائشة كأنها تستدل على استحباب المحافظة والمداومة على صلاة الضحى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - – وإن لم يكن يحافظ عليها فإنه - كان يدع العمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. والأحاديث القولية المتقدمة تدل على استحباب ذلك مطلقاً.
فالأظهر استحباب المداومة عليها.
وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحافظ فعلاً، فإنه قد حث عليها قولاً في الأحاديث المتقدمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
(7/45)
________________________________________
ومما ثبت في فضل ركعتي الضحى إن سبقتا بذكر بعد صلاة الفجر – ثبت في ذلك ثواب عظيم – فقد روى الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) والحديث حسن لشواهده.
قال: (وأقلها ركعتان)
للحديث المتقدم: (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) وقول أبي هريرة: (وركعتي الضحى) .
* وهنا مسألة في التطوع عامة وهي:
هل يجزئ في التطوع – سوى الوتر – أن يصليه ركعة أم لا يجزئه ذلك؟
قولان لأهل العلم:
فالمشهور عند الحنابلة: الإجزاء.
القول الثاني وهو اختيار الموفق: أنه لا يجزئ ذلك. وهو أصح القولين؛ لقول - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس من هديه صلاة التطوع واحدة وهديه - صلى الله عليه وسلم - – حاكم على العبادات وكل عمل ليس على هديه فهو مردود.
قال: (وأكثرها ثمان) .
لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (ما حدثني أحد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إلا أم هانئ، فإنها حدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعات قالت: لم يصل صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود) ، وقد صلاها في بيتها ضحى.
قالوا: هذا يدل على أن صلاة الضحى أكثرها ثماني ركعات هذا هو المشهور في المذهب.
- وعنه – رحمه الله – وهو اختيار طائفة من أصحابه: أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة.
واستدلوا: بما رواه الترمذي وضعفه – لجهالة فيه – من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى الضحى اثنى عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) والحديث إسناده ضعيف عند الترمذي لكن له شاهدان:
1- الشاهد الأول: عند البزار من حديث أبي الدرداء.
(7/46)
________________________________________
2 - والثاني: عند الطبراني في الكبير من حديث أبي ذر.
قال الحافظ ابن حجر: " فإذا صح عليه حديث أبي الدرداء وحديث أبي ذر قوي وصلح للاحتجاج ".
وهو كما قال فالحديث حسن بشواهده ويشهد له حديث أم حبيبة المتقدم فيمن صلى اثتني عشرة ركعة تطوعاً، وإن كانت السنن الرواتب هناك، فإن هنا كذلك فإن العمل مستوٍ، وهذا يقتضي في الغالب استواء الأخر لاسيما وقد ورد الحديث هنا مع تعدد شواهده.
فالأظهر حسن الحديث، وعليه فالمستحب له – كما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار طائفة من أصحابه أن يصلي اثنتي عشرة ركعة، وذلك أكثر صلاة الضحى.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - – كما في مسلم - يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله.
فلو زاد على اثنتي عشرة ركعة فلا بأس كما تقدم من قول ابن عمر: (ولا أنهى أحداً يصلي بليل ولا نهار ما شاء) .
وتقدم حديث جابر في أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات.
إذن: القدر المجزئ من صلاة الضحى ركعتان، فإن زاد على ذلك فهو حسن، وأكثر ذلك اثنتا عشرة ركعة فإن زاد على ذلك فلا بأس وهو مأجور على زيادته.
قال: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال]
وعبَّر بعضهم:" إلى الزوال ".
وإنما عبّر بـ" قبيل الزوال " ليبين أن الزوال ليس من وقتها.
والتعبير بقوله: (إلى الزوال) أولى؛ لأن الأصل فيما ورد في السنة من تحديد الوقت الثاني ألا يكون داخلاً في الوقت الأول كما تقدم في حديث المواقيت.
فهنا إذا قال: (إلى الزوال) فمعنى ذلك أنه ينتهي إلى الزوال وليس فيه أن الزوال داخل فيه كما نبَّه على ذلك صاحب الإنصاف.
وأما قوله: (إلى قبيل الزوال) فهذا للإيضاح، لكن ينبغي ألا يتوهم أن ذلك إلى وقت غير محدد؛ لأنه قد يفهم من ذلك أنه ينتهي بوقت قبيله أي بقليل وحينئذ يقع الإشكال في تحديد هذا الوقت الذي تحدد إليه الصلاة.
(7/47)
________________________________________
فالمراد من قوله: (قبيل الزوال) وقتها الداخل في الصحة، أي الوقت الذي هو وقت أداء لها فليس هو وقت تحريم أو نهاية وإنما وقت النهاية هو الزوال.
وما ذكره المؤلف يدل عليه المعنى، فإنها صلاة ضحى وتشرع في الضحى، والضحى من خروج وقت النهي وهو – ارتفاع الشمس قيد رمح – إلى الزوال.فإذا صلى الضحى في أي وقت فيه أجزأت عنه.
إلا أن المستحب أن يؤخرها إلى [أن] يشتد الحر، لما ثبت في مسلم من حديث زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) .
والفصال: جمع فصل وهي ولد الناقة، فإذا اشتد الحر قامت من مواضعها لشدة الحر.
* ومن الصلوات المستحبة – ولم يذكرها المؤلف هنا –:
صلاة التوبة: وهو أن العبد إذا أذنب ذنباً استحب له أن يتوضأ فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عن ذنبه.
لما روى الأربعة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ: {والذين فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} ) فهذه صلاة التوبة وهي صلاة مستحبة.
ومن الصلوات المستحبة: صلاة الحاجة: وهي إذا ما احتاج إلى أمر من أمور دينه أو دنياه صلى ركعتين ودعا الله تعالى.
(7/48)
________________________________________
ويدل عليه ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي والنسائي: أنه أعمى قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه قد شق علي ذهاب بصري، فادع الله لي، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد أتوجه إلى الله بك اللهم شفِّعه فيَّ وشفعني في نفسي) [اقتضاء الصراط المستقيم: 2 / 784] وفي رواية لأحمد: (وشفعني فيه) وهذه اللفظة تدل على أن المراد من ذلك الدعاء، أي كما أني توجهت إليك بدعائه فكذلك شفعني في دعائه فهو وسيلتي إليك في الدعاء وأنا وسيلته إليك.
وهذا اللفظ وإن كان الظاهر أنه إنما يكون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن فيه أصل الصلاة ثم يدعو بما شاء.
أما ما رواه الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان لأحدكم إلى الله حاجة – أو إلى أحد من بني آدم حاجة فليقل: (لا إله إلا الله إلى قوله: والفوز بالجنة والنجاة من النار) وهو دعاء طويل فالحديث إسناده ضعيف جداً لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن فيه راو متروك.
ومن الصلوات المستحبة: سنة القدوم من السفر:
فيستحب لمن قدم من السفر أن يصلي ركعتين في المسجد، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) .
ومن الصلوات المستحبة: ركعتا سنة القتل.
فقد ثبت في الصحيحين: (أن خبيب بن عدي لما أتى به ليقتل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار وقد أسر في أيديهم قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين، قال الراوي: فكان أول من سن الركعتين عند القتل) فيستحب ذلك لمن حكم عليه بقتل يكون فيه شهادة.
*ومن ذلك صلاة الوضوء:
(7/49)
________________________________________
فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة فقال: ما عملت عملاً هو أرجى عندي إلا أني ما تطهرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) .
ومن ذلك صلاة الاستخارة:
لما ثبت في البخاري عن جابر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من دون الفريضة) .
فلا يجزئ أن تكون الركعتان اللتان يصليها فريضة.
وظاهره أنه يجزئ وإن كانت نفلاً مقيداً إلا أن الأولى أن يفردها بركعتين لها.
وقد يقال – وهذا محل بحث – أن قوله: (فليركع ركعتين) إنشاء ركعتين لهذه الصلاة، بخلاف سنة الضحى أو الفجر فإنهما أصليتان سابقتان.
(ثم ليقل) ظاهره أن القول يكون بعد الصلاة.
واختار شيخ الإسلام أنه يدعو قبل أن ينصرف، لما دلت عليه السنة من ذلك من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل انصرافه وهو الأليق فإن العبد في حال مناجاة لله تعالى.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) وعلى ذلك يكون قوله: (ثم ليقل) أي قبيل السلام، ومعلوم أن الصلاة قبيل سلامها في حكم المنتهية، مما بقى إلا السلام منها، وهذا لا شك أنه تأويل لكن يرجحه المعنى من أن الأليق للعبد أن يدعو الله في حال مناجاته لله ولحديث: (ثم ليدع بما بدا له) .
(7/50)
________________________________________
فإن دعا بعد السلام فلا بأس: (اللهم أني أستخيرك بعملك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر " وفي أبي داود " ويسميه بعينه " خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أوقال: عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسميه بعينه – شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال: وسمى حاجته) والواو لا تفيد الترتيب، ورواية أبي داود في كل موضع قال: (ثم يسمي حاجته بعينها) فهذه صلاة الاستخارة.
وظاهر الأحاديث أنها مستحبة في كل أمر ديني أو دنيوي.
أما الدنيوي فلا إشكال فيه.
أما الديني فقد يقال: كيف يستخار الله في أمر قد أمر به، فإن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما تركه خير؟
فالجواب: أن الأمر الذي يأمر به الشارع أو ينهى عنه وإن كان فيه خير مطلقاً وليس محلاً للاستخارة لكن قد يعتريه ما يجعل العبد يتردد به، كأن يتردد بين عملين صالحين كعلم وجهاد، وبين أن حج هذه السنة أو يتنفل بعمل آخر فهذه أمور تحتاج إلى استخارة، فإذا ثبت مثل هذا شرع له أن يستخير لعموم قول الراوي: (في الأمور كلها) .
مسألة: في صلاة التسابيح:
روى صلاة التسابيح الترمذي وغيره في حديث ابن عباس وفيه أن صفتها أن يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة ثم يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) خمس عشرة مرة، ثم يركع فيقولها عشراً ثم يقول سمع الله لمن حمده فيقولها عشراً، ثم كذلك في السجدتين وبين السجدتين عشراً، ويفعل ذلك في الأربع ركعات كلها – يفعل ذلك في كل يوم أو في كل جمعة أو في كل شهر أو في العمر مرة) كما وردت الرواية.
(7/51)
________________________________________
والحديث من حيث سنده مقبول، فالحديث حسن أو صحيح لكن النكارة في متنه، إذ مثل هذه الصلاة ليست كهيئة غيرها من الصلوات.
ولذا اختلف أهل العلم في تصحيحها، فصححتها طوائف كثيرة من المتأخرين كالعلائي وابن الصلاح وقبلهم الخطيب وابن مندة والآجري.
وضعفها الإمام أحمد والعقيلي وابن تيمية والنووي وغيرهم لنكارتها، فأنكرها الإمام أحمد ولم يستحبها. وصلاة التسابيح لم يستحبها إمام مطلقاً من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يستحبها إلا ابن المبارك لكن على غير الصفة الواردة في الخبر.
وهي صلاة محلها محل التوقف والتردد فالحديث فيه من ضعفه من الأئمة الكبار كالإمام أحمد ولم يستحبها إمام وهي صلاة تخالف الصلاة المشروعة مطلقاً فليست على هيئة غيرها من الصلوات ولذا فإن الأولى هو التوقف في فعلها حتى يثبت له ذلك بحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
حتى القائلون من أهل العلم كالنووي وغيره من العمل بالحديث الضعيف لم يقولوا بالعمل هنا لأن هذه الصفة لا شاهد لها من السنة، فالتوقف عن فعلها أولى.
أما الإمام أحمد فقد نص على أن الحديث فيها منكر أو أنها غير مشروعة.
وأما ابن تيمية فقد حكم على الحديث بأنه كذب ووضع وأدخله ابن الجوزي في الموضوعات وأنكر ذلك عليه الحافظ.
والحديث كما تقدم: أما في متنه فهو إلى الوضع أقرب وأما في سنده فالسند فيه حسن أو صحيح.
والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وسجود التلاوة صلاة) .
سجود التلاوة هي: السجدة المشروعة عند تلاوة آيات فيها ذكر السجود.
وسجود التلاوة صلاة فهو صلاة فيفرض فيه ما يفرض في الصلاة فيشترط فيه ستر العورة واستقبال القبلة والطهارة وغيرها من الشروط لأنها صلاة.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
واستدلوا: بأنها صلاة ذات تحريم وتحليل وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) .
(7/52)
________________________________________
قالوا: ويشرع في سجود التلاوة التكبير والتسليم فهي صلاة، لأن كل ما شرع فيه تحريم وتحليل فهو صلاة، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور العلماء.
2- وذهب طائفة من السلف وهو اختيار ابن جرير الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية: إلى أن سجود التلاوة ليس بصلاة وعليه فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من استقبال القبلة أو طهارة أو غير ذلك، فلو سجد محدثاً أو غير مستقبل القبلة فإن سجوده صحيح وإن كان يسن له ذلك.
واستدل: بأن الشارع إنما سماها سجدة فأثبت لها مطلق السجود ولم يثبت دليل شرعي يدل على أنها صلاة.
وأما ما ذكروه من ثبوت التحريم والتحليل فيها فليس بصحيح.
وسيأتي تقرير الأدلة على ذلك وأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجدة التلاوة تكبير ولا تشهد ولا تسليم.
فعلى ذلك هي مطلق سجود وليست بصلاة فلا يجب فيها ما يجب في الصلاة إلا ما دل الدليل عليه
وهذا القول هو الراجح.
وقد ثبت في البخاري في صحيحه تعليقاً صحيحاً وصله ابن أبي شيبة: (أن ابن عمر سجد على غير وضوء) .
فالراجح: أن سجدة التلاوة ومثلها سجدة الشكر ليستا بصلاة خلافاً للحنابلة ومن وافقهم في أنهما صلاة.
قال: (يسن للقارئ والمستمع دون السامع)
" يسن " أي السجود فهو سنة وليس بواجب – وهو مذهب الجمهور، ودليل سنيته ما ثبت في الصحيحين عن زيد بن ثابت: (أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم فلم يسجد عليه الصلاة والسلام) فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسجودها يدل على عدم وجوبه إذ لو كان واجباً لسجدها.
ويدل عليه ما ثبت في البخاري عن عمر بن الخطاب: (أنه كان يقول على المنبر في المدينة: (يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه)
وفي الموطأ: (إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء) .
وذهب بعض العلماء إلى أن السجود واجب.
(7/53)
________________________________________
واستدلوا: بألفاظ الآيات التي هي السجدات فإن من هذه الآيات ما فيه أمر صريح كقوله تعالى: {فاسجدوا لله وعبدوا} . {فاسجد واقترب} أو فيه تأنيب لعدم السجود كقوله تعالى: {ألا يسجدوا لله} وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الباب.
والجواب عن هذا أن يقال: إن هذه الآيات قد دلت على وجوب السجود مطلقاً وأنه يجب على المسلم أن يسجد لله عز وجل وأن يخضع له سبحانه بالسجود المطلق، وليس المراد هذه السجدة فإنها يسجدها من يقيم الصلاة ويسجد لله عز وجل السجدات الكثيرة، فالمراد مطلق السجود ومع ذلك فقد شرع استحباباً أن يسجد عندها.
ونظير هذا ما يذهب إليه كثير من العلماء من وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرون استحباب الصلاة عليه عند ذكره عليه الصلاة والسلام.
فالأمر في السجود ليس موجهاً إلى سجدة التلاوة المشروعية عند سماع هذه الآيات بل وموجه إلى مطلق السجود له سبحانه وإنما شرع للمسلم أن يسجد عند سماع هذه الآيات لبيان أنه خاضع لله وسامع لأمره بدليل ما تقدم من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه لم يسجد عندما قرئت عليه سورة النجم مع أن لفظها صريح في الوجوب في قوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} وكذلك قول عمر على المنبر وكان يقوله بمحضر المهاجرين والأنصار في المدينة، فلم يثبت منكر لقوله منهم.
فالراجح أن سجدة التلاوة سنة مستحبة.
(للقارئ والمستمع) فيسن للقارئ والمستمع السجود لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) [فتح الباري لابن حجر: 2 / 647، 652] .
(7/54)
________________________________________
(دون السامع) فلا يسن له السجود لما ثبت في البخاري ووصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح: (أن عثمان قال: " إنما السجود على من استمع " والمستمع هنا هو من قصد الاستماع وأقبل إلى الآيات التي يقرؤها القارئ وقصد ذلك بالسماع.
أما المار والذي تقع في أذنه الآية والآيتان وفيها سجدة فلا يشرع له السجود.
قال: (وإن لم يسجد القارئ لم يسجد)
فإذا لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع فلا يشرع له ذلك وظاهره مطلقاً سواء كانت السجدة في صلاة أو في غير الصلاة.
فإذا قرأ الإمام آية فيها سجدة فلا يشرع للمأموم أن يسجد إن لم يسجد إمامه.
أو كان خارج الصلاة فقرأ القارئ سجدة فلم يسجد فلا يشرع للمستمع السجود.
وهذا الإطلاق محل نظر.
وقد ذهب بعض الحنابلة فهو قول في مذهب أحمد، وفاقاً للشافعية: إلى أنه يسجد خارج الصلاة وإن لم يسجد القارئ بخلاف الصلاة فلا يشرع له ذلك لأن الصلاة ينهى المأموم فيها عن أن يسجد سجدتي السهو خلف إمامه فأولى من ذلك السجود المستحب لمتابعة الإمام، لحديث: (ولا تسجدوا حتى يسجد) .
أما خارج الصلاة فإذا لم يسجد القارئ فالأظهر أن المستمع يسجد؛ لأن السجود مشروع فكون القارئ أو الإمام لا يسجدها ليس هناك دليل يدل على منع المستمع من السجود، وإن كان قد يقال بأنه لا يتأكد له كتأكده عند سجود القارئ، لكن مع ذلك ليس هناك دليل يمنع، والأدلة عامة فيما لو سجد الإمام أو القارئ أو لم يسجد فهذا هو الراجح وهو قول في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية.
(7/55)
________________________________________
وقد روى البخاري في صحيحه معلقاً ووصله سعيد بن منصور أن ابن مسعود وقد قرأ عليه تميم بن حذْلَم – وهو غلام - فقال له: (اسجد فأنت أمامنا فيها) [الفتح لابن حجر: 2 / 647] فهذا يدل على أنه إمام لهم سابق لهم بالسجود فيسبقهم في السجود استحباباً، وهذا هو الأليق فإن هم مستمعون وهو قارئ فالأليق أن يكون شروعه في السجود قبل شروعهم لكن هذا الأثر لا يدل على أنه إن لم يسجد فإنهم لا يسجدون، والأدلة مبقية لهذا الحكم ولا دليل صارف عنه.
واعلم أن المشهور عند الحنابلة – كما تقدم – أنه إن لم يسجد القارئ فإن المستمع أو المأموم لا يسجد ومثل ذلك لو كان القارئ لا تصح إمامته، فالقاعدة عندهم أن القارئ هنا في حكم الإمام فلا يجوز أن يقتدي به في السجود إن كانت لا تصح إمامته فلو كان القارئ امرأة أو صبياً فلا يصح السجود معهما – - على قول في المذهب –.
والمشهور في المذهب إن إمامة الصبي تصح في النافلة.
ولا يصح أن يتقدم عليه ولا أن يكون المصلي عن يساره يعني أنه في حكم الإمام مطلقاً.
وهذا في الحقيقة قول لا دليل عليه والسنة واردة في باب سجود التلاوة، ومثل هذا مما تتوافر الدواعي لنقله فلما لم ينقل دل على عدم مشروعيته وهذا بناء على أنه صلاة وأن القارئ فيه إمام وهذا لا دليل عليه.
قال: (وهو أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان)
فسجدات التلاوة - في المشهور من المذهب – أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان، وفي المفصل منها ثلاث وهي في سورة الانشقاق، وسورة اقرأ وسورة النجم فهذه خمس سجدات، وتسع سجدات في بقية القرآن من سوى المفصل وسورة الحج، وهي سجدات معروفة مشار إليها في المصحف العثماني.
ودليل ذلك: ما روى أبو داود من حديث عمرو بن العاص قال: (أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة ثلاث منها في المفصل وسجدتان في الحج) .فهنا ذكر خمس عشرة سجدة وهذا بإضافة سجدة سورة (ص) .
(7/56)
________________________________________
هذا الحديث إسناده ضعيف لجهالة في بعض رواته لكن هذا الحديث له شواهد، فقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي الدرداء قال: (سجدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء) فهذا يشهد لبعض حديث عمرو بن العاص.
أما الشاهد لسجدات المفصل فهي شواهد صحيحه ثابتة فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: (سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك الذي خلق) .وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرأ بالنجم في مكة فسجد وسجد الناس معه) .
وأما شاهد السجدتين في الحج، فما رواه أبو داود في مراسيله من حديث خالد بن معدان وهو تابعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) والحديث مرسل لكنه يصح شاهداً.
وله شاهد من حديث عقبة في الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) .
وله شاهد موقوف من قول ابن عمر في الموطأ قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) وهو ثابت من فعله في موطأ مالك أنه سجد في الحج سجدتين.
وهو في مصنف ابن أبي شيبة من فعل علي بن أبي طالب وابن عباس.

أما سجدة (ص) فحديث عمرو بن العاص وشاهده يدل على مشروعيتها.
ويدل على مشروعيتها ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: " (ص) ليست من عزائم السجود ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجدها) .
وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قرأ يوماً [وهو] على المنبر (ص) [فلما بلغ السجدة] نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس -أى تهيؤوا - للسجود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزَّنتم) فنزل فسجد وسجدوا) وإسناده صحيح.
(7/57)
________________________________________
وفي البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس عن سجدة سورة (ص) فقرأ: {ومن ذريته داود} إلى قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} قال ابن عباس: (فكان داود ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها النبي - صلى الله عليه وسلم -) [الفتح: 8 / 405] .
وفي أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً) .
* وقد اختلف أهل العلم فيها على قولين:
الأول، وهو المشهور عند الحنابلة والشافعية: أنه لا يشرع السجود فيها في الصلاة، أما خارج الصلاة فسجودها من باب سجود الشكر، أما سجودها في الصلاة فلا يشرع وتبطل الصلاة به عمداً، فإن كان غير متعمد ناسياً أو جاهلاً فإن الصلاة تصح به وتكون من باب السهو فيسجد.
فإن فعلها الإمام لم يجز للمأموم أن يتابعه – إن كان يرى أنها ليست سجدة – بل إما ينتظره أو يفارقه. والأولى كما تقدم في مسألة نظيرة لهذه أن ينتظر حتى يأتي.
2- الثاني، وهو مذهب المالكية والأحناف وهو قول في مذهب أحمد: أن السجود لسورة (ص) مشروع في الصلاة وخارجها وإن كانت ليست من عزائم السجود.
وبالنظر إلى الأدلة المتقدمة يظهر التجاذب بين هذين القولين، فقد قال ابن عباس: (هي ليست من عزائم السجود) أي ليست مما يتأكد سجوده، ولم ينف السجود فيها، وقوله: (من عزائم السجود) مطلقاً في الصلاة وخارجها ونفى أن تكون عزيمة ولم ينف أصل السجود فيها.
وأثره المتقدم من الاقتداء بالأنبياء في الاستدلال بالآية يدل على مشروعيته في الصلاة لأن الاقتداء بهم مشروع في الصلاة وفي غيرها، فالقول بأن المصلي لا يشرع له أن يسجدها مبناه: أنها سجدة شكر كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ونسجدها شكر) ، والشكر بالاتفاق لا يشرع السجود له في الصلاة.
(7/58)
________________________________________
ومبنى من قال بمشروعيتها في الصلاة: أن سببها التلاوة فإنها سجدة مشروعة عند التلاوة لا مطلقاً كما في سجدة الشكر، بل عند التلاوة فهي مرتبطة بها، والتلاوة من الصلاة.
وهذا في الحقيقة قول قوي وقد قال تعالى: {فخر راكعاً وأناب} والركوع هنا هو السجود باتفاق المفسرين، فهذه الآية هي سبب السجدة، فهي وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها سجدة شكر وسماها ابن عباس سجدة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجدها عند قراءة هذه الآية فهذا يدل على أنها تشرع عند التلاوة أي مشروعة عند التلاوة.
وأما كونها سجدة شكر فهو معنى من معانيها فليس مستقلاً بالسببية بل هناك سبب التلاوة، فيقتدي به عند تلاوتها فيسجد، وهي سجدة للاقتداء وهي متصلة بالتلاوة والتلاوة من الصلاة فليست بخارجه عنها فحينئذ تكون مشروعة لا تؤثر في الصلاة – فالأدلة متجاذبة في هذه المسألة.
والأحوط للإمام ألا يسجد عندها فإن سجد عندها فالأظهر أنه لا بأس بذلك كما هو مذهب الأحناف والمالكية وهو قول في المذهب.
مسألة:
هل يشرع عند سجود التلاوة القيام، بمعنى إذا قرأ بالسجدة قام فسجد؟
المشهور في المذهب وهو وجه عند الشافعية: أنه يشرع له أن يسجد عن قيام، وهو اختيار شيخ الإسلام ورواه البيهقي عن عائشة.
والوجه الثاني عند الشافعية واختاره النووي وغيره: أن ذلك لا يشرع وأن الأثر عن عائشة ضعيف لجهالة بعض رواته.
واستدل من ذهب إلى مشروعية ذلك بقوله تعالى: {ويخرون للأذقان سجداً} {خروا سجداً وبكياً} والخرور إنما يكون عن قيام ونحوه لا عن قعود.
(7/59)
________________________________________
والأظهر أنه لا يشرع ذلك، نعم وإن وافق قياماً شرع له ذلك وكان فيه فضيلة الخرور، لكنه لا يشرع له أن يقوم فيسجد بدليل أن الصحابة رواة سجدة التلاوة لم يذكروها مع أنهم ذكروا ذلك في سجدة الشكر، مع كون سجدة الشكر الأحاديث فيها ثبتت كالأحاديث في سجدة التلاوة كثرة في المتون وكثرة في رواتها من الصحابة وكونها أصح وأبين، مع ذلك لم تذكر، وذكرت في سجدة الشكر.
فكونها لم تنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ما ذكر الله في القرآن إنما هو من باب الموافقة كأن يكون في صلاة ونحو ذلك.
ولا شك أن القيام أحد ثلاثة أنواع لا يخلو الإنسان منها إما اضطباع أو قيام أو قعود فهي حال كثيرة. وكذلك ليس هذا في كل ألفاظ السجود، بل في بعضها الحث على السجود من غير ذكر للخرور.
ومن فعل ذلك فلا ينكر عليه، لكنه لا يشرع.
مسألة: ما يقال في سجود التلاوة؟
يقال فيها ما يقال في عامة السجود بأن يقال (سبحان ربي الأعلى) وما ورد في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
وورد في الترمذي بإسناد حسن: (أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شجرة ساجدة تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود " فأخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقولها في السجود) والشجرة هنا رمز لأمر آخر. هذا فيما يستحب أن يقال في سجدة التلاوة.
والحمد لله رب العالمين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع)
يكبر إذا سجد للتلاوة. هذا هو المشهور في المذهب وأنه يشرع له ذلك.
(7/60)
________________________________________
واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع عن ابن عمر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجود كبر وسجد وسجدنا معه)
والقول الثاني في المذهب: أنها لا تشرع.
واستدلوا: بأن ذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح مع توافر الدواعي والهمم لنقله وهذا يدل على عدم ثبوته.
وأما الحديث فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف وقد خالفه عبيد الله بن عمر العمري المصغر وهو معه قراءة عن نافع عن عبد الله بن عمر من غير ذكر التكبير وهو اللفظ المتقدم عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) الحديث متفق عليه، فعلى ذلك ذكر لفظة التكبير منكر هذا هو القول الراجح.
وقوله: " إذا رفع " كذا ذكر المؤلف وغيره من متأخري الحنابلة وأما متقدموا أصحاب الإمام أحمد فلم يذكروا التكبير عند الرفع وليس له أصل في السنة.
والراجح أنه لا يشرع التكبير عند الرفع، فلا يشرع التكبير عند الخفض ولا عند الرفع.
هذا في غير الصلاة.
أما في الصلاة فيشرع له لعموم قول أبي هريرة: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفض ورفع) وهذا عام يدخل فيه من صلب الصلاة وما يطرأ على الصلاة من سجدات السهو وسجدات التلاوة، وكذلك لما فيه من مصلحة الصلاة في تمام اقتداء المأموم بإمامه.
قال: (ويجلس ويسلم)
هذا كذلك لا أصل له في السنة – حتى قال شيخ الإسلام في التسليم -: " بدعة "، وهو كما قال.
فإن الجلوس والتسليم لا أصل له في السنة، وقد تقدم أن الدواعي والهمم متواترة للنقل ومع ذلك لم ينقل فهذا يدل على أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل عمل ليس عليه هديه فهو رد.
قال: (ولا يتشهد)
(7/61)
________________________________________
من غير تشهد لعدم ثبوته، وهو كما قال فإن التشهد لا أصل له في السنة.
هذه صفة سجود التلاوة وهي: أن يسجد سواء كان ذلك خروراً عن قيام أو كان ذلك عن جلوس من غير أن يكبر خافضاً ولا رافعاً ومن غير أن يتشهد ولا يسلم. ويستحب له أن يقول فيها بما ورد في عموم السجود وقد نص عليه الإمام أحمد لعمومات الأحاديث.
فمن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر لما نزل قول الله تعالى: ( {سبح اسم ربك الأعلى} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في سجودكم) فقوله: " سجودكم " عام في سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجود الشكر.
ويستحب له أن يقول: ما رواه الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجود القرآن: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
والمستحب أن يقول ما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن: (اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزراً وجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود) .
قال: (ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر، وسجوده فيها)
فهذه المسألة ذات شقين:
الأول: أنه يكره له أن يقرأ في الصلاة السرية سورة فيها سجدة وإن لم يسجد.
الثاني: أنه يكره له أن يقرأها فيسجد.
هذا هو المشهور في المذهب.
قالوا: يكره للإمام أن يقرأ في الصلاة السرية آية فيها سجدة، فإن لم يسجد عندها فيكره لأنه قد ترك سنة وإن سجد فإن في ذلك تشويشاً وخلطاً على المأمومين.
وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى أنه لا يكره ذلك، وهذا هو الراجح.
وبيانه: أنه إذا قرأها فلم يسجد فقد قرأ آية من كتاب الله وترك سجوداً لا بأس له بتركه.
(7/62)
________________________________________
فإن سجود التلاوة إنما يكره تركه مطلقاً، وأما أنه يسجد أحياناً ويدع أحياناً فقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فُقرأت عليه سورة النجم كما في البخاري ومسلم من حديث زيد بن ثابت، وقال عمر: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) .
والكراهية تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على أنه إن قرأ السجدة فتركها فقد فعل أمراً مكروهاً.
إلا أن يكون راغباً مطلقاً عن السجود فيقرأ الآيات كلها فلا يسجد مطلقاً للتلاوة فإن ذلك رغبة عن السنة.
أما إن سجد فلا يُقال هو مكروه مطلقاً، نعم ينبغي عليه أن يترك حيث كان فيه إرباك وتشويش على المأمومين.
أما إذا لم يقع من ذلك كأن يبين لهم قبل الصلاة أو أن تكون الصفوف قليلة بحيث يبين لهم أنه قد سجد سجوداً للتلاوة أو أن يسبح فيقول: سبحان الله، فيزول عنهم التشويش فإنه لا يكره فإنه لا كراهية في ذلك. إنما يُنهى عنه حيث كان ذريعة للتشويش وعلم أو ظن ظناً غالباً أنه يحدث لهم التشويش في ذلك فإنه قد يقال بالنهي عنه.
على أن المأموم إذا وقع في مثل ذلك فإنه لا حرج عليه ولا يؤثر في صلاته ومع ذلك فإنه ينبغي أن ينهى عنه حيث ثبت له أو ظن ظناً غالباً بثبوت التشويش على المأمومين.
أما إن لم يثبت له ذلك ودرأه بما استطاع من تسبيح أو تبيين قبل الصلاة أو كانت الصفوف قليلة يظن أنه لا يحدث لهم تشويش فإنه لا كراهية في ذلك.
وقد ورد في أبي داود: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر) لكن الحديث إسناده فيه جهالة.
قال: (ويلزم المأموم متابعته في غيرها)
هنا هذه الجملة متضمنة لمسألتين:
المسألة الأولى: أنه يجب على المأموم أن يتابع الإمام في سجود التلاوة حيث سجد فيما يشرع له السجود " في الجهرية ".
فإذا سجد الإمام عند آية في صلاة جهرية فيلزم المأموم أن يتابعه فيسجد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا سجد فاسجدوا) وهذا عام في كل سجود مشروع.
(7/63)
________________________________________
فالسجود مستحب للإمام واجب على المأموم إن سجد إمامه.
أما كونه مستحب للإمام فللأدلة المتقدمة من استحباب سجود التلاوة.
وأما كونه واجباً على المأموم فلوجوب المتابعة كما يتابعه في سجود السهو، وفي الحديث: (وإذا سجد فاسجدوا) .
المسألة الثانية: أنه إذا سجد فيما لا يشرع السجود فيه كما يكون في الصلاة السرية فلا يلزم المأموم متابعته. وهذا ضعيف.
والقول الثاني في المذهب: أنه يجب عليه أن يتابعه أيضاً، فإذا سجد الإمام في صلاة سرية وقلنا بالكراهية كما هو المشهور في المذهب فالراجح في المذهب وهو أحد القولين وهو خلاف المشهور عند الحنابلة، أنه يلزمه السجود.
وهذا لعوم حديث: (وإذا سجد فاسجدوا) .
فالراجح أن المأموم يجب أن يتابع إمامه مطلقاً فتكون المسألة ذات شق واحد، وهو أنه يجب على المأموم أن يتابع إمامه إن سجد سواء كان سجود الإمام في صلاة جهرية أو سرية.
مسائل:
المسألة الأولى: ورد في مسلم ما يدل على فضل سجدة التلاوة قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان فبكى وقال: يا ويلاه أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار)
المسألة الثانية: أن المسافر إن قرأ آية فيها سجدة فإنه يومئ أي الراكب المسافر كما يومئ في سجود النافلة.
المسألة الثالثة: أنه إن قرأ آية فيها سجدة فركع فإن الركوع لا يجزئه كما أن السجود الأول من الركعة لا يجزئه؛ لأن ظاهر الأدلة الشرعية أن هذا السجود مشروع للتلاوة فهي سنة مستقلة كما أن الرواتب مستقلات عن الفرائض، فلذلك السجدة مستحبة وهي مستقلة عن السجدات التي هي من صلب الصلاة، فالركوع لم يشرع لها بل شرع لها السجود.
فلا يجزئه الركوع لأن المشروع إنما هو السجود والركوع ولم يرد في السنة قيامه مقام سجود التلاوة.
(7/64)
________________________________________
وأما السجدة الأولى فهي سجدة من صلب الصلاة والمشروع إنما هي سجدة مستقلة فشرع أن تكون مستقلة، فلا يجزئه أن ينوي السجدة الأولى سجدة عن التلاوة وعن الصلاة.
المسألة الرابعة: إن كانت السجدة في آخر السورة فإن قام فقرأ شيئاً من القرآن فهو حسن، فإن لم يقرأ فلا بأس بذلك. فيجب عليه أن ينصب قائماً لأن الركوع واجب عن قيام، فإن قرأ شيئاً من القرآن فهو حسن. وقد صح ذلك عن عمر كما عند الطبراني في الكبير: (أنه قرأ بالنجم فسجد ثم قام فقرأ سورة أخرى) وفي رواية: (أنها إذا زلزلت الأرض زلزالها) .
هذه مسائل من سجدة التلاوة يتمم بها المسائل التي ذكرها في الزاد.
قال: (ويستحب سجود الشكر)
فهو مستحب وقد دلت السنة على استحبابه.
فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد حسن من حديث أبي بكرة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله)
وقد ثبت عند الحاكم وأحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عوف: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال أتاني جبريل فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت، فسجدت لله شكراً) والحديث إسناده حسن.
وثبت عند البيهقي بإسناد صحيح عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن فكتب إليه بإسلامهم فلما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خر ساجداً شكراً له على ذلك)
فهذه الأحاديث الثابتة تدل على مشروعية سجود الشكر.
والمستحب أن يكون عن قيام أي يقوم فيسجد، لما تقدم من قوله: (خر ساجداً لله) ، وفي رواية في المسند في حديث أبي بكرة قال: (قام ثم سجد) فدل على أنه قد أحدث قياماً فهذا يدل على مشروعيته.
قال: (عند تجدد النعم واندفاع النقم)
(7/65)
________________________________________
سواء كانت عامة أو خاصة وسواء كانت دينية أو دنيوية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد سجد لخبر ديني وذلك لما أخبره جبريل وكذلك في خبر إسلام أهل اليمن.
فالأخبار الدينية والدنيوية داخلة في عموم قوله: (إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) وهو كذلك عام في الخير المختص والخير العام.
وإن كان الاستحباب ليس مطلقاً بل يفعله تارة ويدعه تارة كما تدل عليه السنة العملية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسجد لكل خبر.
فعلى ذلك يستحب أن يفعله وإن تركه أحياناً فإن ذلك حسن لموافقة فعله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا يشرع له تكبير عند الخفض ولا عند الرفع خلافاً للمشهور عند الحنابلة فإنهم عندهم أن عامة أحكام سجدات التلاوة يشرع في سجود الشكر، فسجود الشكر عندهم صلاة ويشرع له ما يشرع في سجود التلاوة.
والراجح خلاف ذلك كما تقدم ترجيح أن سجود التلاوة ليس بصلاة فكذلك سجود الشكر، ولا دليل من السنة يدل على استحباب تكبير عند الخفض ولا عند الرفع ولا تشهد ولا تسليم.
ويستحب له أن يقول ما يقوله في سجود الصلاة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوها في سجودكم)
قال: (ويبطل به صلاة غير جاهل وناس)
فإن صلى فسجد شكراً بطلت الصلاة لأنه فعل أجنبي عنها، وإن كان فعلاً مشروعاً.
بخلاف سجود التلاوة فإنه فيها فهو متصل بالتلاوة فكان مشروعاً، وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في بعض الأحاديث. أما سجود الشكر فلا تعلق له بالصلاة بل هو أجنبي عنها هذا إن كان عمداً – أي يبطلها إن كان عمداً -.
أما إن كان عن جهل ونسيان فإنه لا يبطل الصلاة لكن يشرع منه مع النسيان السجود لما تقدم من الأفعال الأجنبية عندما يفعلها الجاهل أنها لا تبطل صلاته، والناسي عليه أن يسجد للسهو، والله أعلم.
مسألة:
إذا كرر آية فيها سجدة فهل يشرع له أن يكرر السجود أم لا؟
وجهان في المذهب:
(7/66)
________________________________________
الوجه الأول: مشروعية ذلك.
الوجه الثاني: عدم مشروعيته.
والأظهر أنه يستحب ذلك إلا لحاجة كأن يكرر ليحفظ أو ليتدبر أو ليستنبط، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأوقات النهي خمسة)
أوقات النهي هي الأوقات التي لا تصح الصلاة فيها، فالصلاة فيها باطلة لا تنعقد ولا تقبل وإن كان المصلي جاهلاً لأن هذه الصلاة قد انعقدت في غير وقتها.
ودليل بطلانها الأحاديث الصحيحة الثابتة في النهي عن الصلاة فيها.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)
وفي مسلم من حديث عقبة بن عامر قال: (ثلاث ساعات نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن أو أن ندفن فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) .
قوله: " حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع " فإذا طلعت الشمس بازغة فهو وقت نهي حتى ترتفع قيد رمح أي: " بقدر الرمح في رأي العين "
" وحين يقوم قائم الظهيرة " أي حين تقف الشمس في السماء وذلك قبيل زوال الشمس وذلك زمن قصير لا يتسع للصلاة لكنه يتسع لتكبيرة الإحرام فلا تنعقد الصلاة فيه.
" وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب " أي حين تميل فتأخذ في الغروب حتى يتم غروبها.
قال: (من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس)
هذا هو الوقت الأول.
" من طلوع الفجر الثاني " أي من الوقت الذي يؤذن فيه للفجر الأذان الثاني وهو الذي تصح فيه صلاة الفجر ويحرم الطعام فيه على الصائم - وذلك بظهور الفجر الصادق – إلى طلوع الشمس.
أما دخول النهي عن الصلاة فيما كان بعد صلاة الفجر، فقد تقدم حديث أبي سعيد: (لا صلاة بعد الفجر) وفي مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) .
(7/67)
________________________________________
وأما دخول ما بين الأذان والإقامة في وقت النهي فلما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم والحديث صحيح بشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) أي إلا سنة الفجر.

وقال الشافعية والمالكية: بل وقت النهي من بعد صلاة الفجر فلا يدخل فيه ما بين الأذان والإقامة.
لأن الحديث المتقدم فيه: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) وظاهر الحديث أن ما كان قبل الصلاة فلا ينهى عن الصلاة فيه – وهو مفهوم مخالفة له -.
ولما ثبت في مسلم من حديث عمرو بن عَبَسَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها الكفار) [صحيح مسلم بشرح النووي: 6 / 116]
والشاهد قوله: صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة. قالوا: فهذا الحديث يدل على أن وقت النهي أوله صلاة الصبح.
والراجح: القول الأول للحديث الصحيح: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتي الفجر) .
وثبت في الصحيحين عن حفصة قالت: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين)
فهذان الحديثان دلالتهما دلالة منطوق، وأما ما ذكروه فإن غايتها النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح وليس فيها إلا مفهوم المخالفة، ولا شك أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة مفهوم المخالفة.
ولنا أن نقول: إن أوقات النهي ستة:
الأول: بين أذان الفجر وصلاتها وقد دل عليه حديث أبي داود المتقدم.
(7/68)
________________________________________
والثاني: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وقد دل على حديث أبي سعيد المتقدم: (لا صلاة بعد الصبح) وفي رواية مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) .
قال: (ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح)
هذا هو الوقت الثاني من أوقات النهي، وقد دل عليه حديث عقبة المتقدم وفيه: (وحين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) وفي بعض الروايات: (قيس رمح) أي برأي العين.
قال: (وعند قيامها حتى تزول)
وهذا الوقت الثالث: إذا قام قائم الظهيرة، واستقل الظل بالرمح فكان ظل الشاخص محتسب ولم تزل الشمس بعد، وهذا لحظات يسيرة قد تقع التحريمة للصلاة فيها.
* وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً فيدخل في ذلك يوم الجمعة.
وهذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية: إلى استثناء يوم الجمعة من ذلك.
واستدلوا: بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] مستثنياً من هذا الوقت: (إلا الجمعة) من حديث أبي قتادة لكن الحديث إسناده ضعيف جداً.
ومع ذلك فالراجح مذهب الشافعية لأدلة أخرى، فمن ذلك: ما ثبت في البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] فيمن ذهب إلى الجمعة (فصلى ما كتب له) ولم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك شيئاً.
وهو ما كان يفعل في زمن عمر بمحضر المهاجرين والأنصار كما روى ذلك مالك في موطئه عن كعب القرظي قال: (كان الناس يصلون قبل الجمعة في زمن عمر حتى يقوم الخطيب) هذا من جهة الأثر.
وأما من جهة المعنى، فإن هذا الوقت كما تقدم، وقت يسير وملاحظته - في مثل يوم الجمعة في اجتماع الناس وقد يكونون في أماكن مظللة ونحو ذلك - فيه مشقة فعُفي عنه في يوم الجمعة للمشقة الحاصلة في تتبعه.
قال الحنابلة: لا ينهى عن الصلاة حتى يثبت له الوقت المنهي عنه، أما إذا كان شاكاً فلا بأس وحينئذٍ يندفع ما ذكرتموه من مشقة انتظار ذلك الوقت والنظر فيه.
(7/69)
________________________________________
والجواب عن هذا أن يقال: إن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، فلو قلنا بالنهي عنه في يوم الجمعة فلا يجوز له أن يقدم على الصلاة حتى يتثبت من أنه ليس بوقت نهي، لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فيجب فعله، ولا يتم ترك الحرام من وقوع الصلاة في ذلك الوقت المنهي عنه إلا بتتبع ذلك والنظر فيه، هذا هو محل المشقة.
فالراجح: مذهب الشافعية، وهو اختيار شيخ السلام وتلميذه ابن القيم من أنه يستثنى من ذلك يوم الجمعة فيصلي وإن ثبت له قائم الظهيرة.
قال: (من صلاة العصر إلى غروبها)
اتفق أهل العلم على أن ما بين أذان العصر وصلاتها أنه ليس من أوقات النهي، وأن وقت النهي مربوط بفعل صلاة العصر.
وعليه: فلو أن الصلاة قد شرع فيها من غيره وصليت لكنه لم يصلها فليس هذا بوقت نهي في حقه. ومثل ذلك من صلى العصر جمع تقديم فإنه يثبت النهي عليه لأنه قد صلى صلاة العصر لحديث: (لا صلاة بعد صلاة العصر) ، فمتى صلى العصر سواء كانت في وقتها أو جمعها جمع تقديم فما بعدها وقت نهي.
قال: (وإذا شرعت فيه حتى يتم)
أي إذا شرعت الشمس في الغروب حتى تغرب.
ودليل قوله عقبة فيما يحكيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) فهذا وقت النهي.
فهذه أوقات النهي التي لا يُصلى فيها.
ويُضاف إلى ذلك النهي عن الدفن في ثلاثة أوقات فيها وهي التي ذكرها عقبة بن عامر في الحديث المتقدم.
قال: (ويجوز قضاء الفرائض فيها)
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) متفق عليه.
فقوله: " إذا ذكرها " يدخل فيه التذكر في وقت النهي، فإنه يصليها فيه وكذلك من استيقظ في وقت نهي فإنه يدخل فيه، وهذا مذهب جمهور العلماء.
قال: (وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف وإعادة جماعة)
(7/70)
________________________________________
" في الأوقات الثلاثة ": ولا يعني ذلك أنه لا يفعلها في الوقتين اللذين هما تمام الخمسة، بل ذكره ذلك في الأوقات الثلاثة يدل من باب أولى على ثبوته في تمام الخمسة لأنهما آكد.
فالعلة مرتبطة في هذه الأوقات أكثر من ارتباطها في الأوقات الأخرى، وقد تقدم حديث عمرو بن عَبَسَة وفيه التعليل المتقدم ذكره.
وهي مرتبطة بهذه الأوقات الثلاثة، وقد خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي كما في حديث عقبة وأضاف إلى ذلك النهي عن الدفن فيها.
فمراد المؤلف هنا دفع قول قاله بعض الحنابلة في أن أوقات النهي الثلاثة لا تصح فيها هذه الصلوات، فهذا إشارة إلى خلاف عند فقهاء الحنابلة.
والمشهور عندهم ما ذكره المؤلف هنا، من أن أوقات النهي كلها يصح أن يصلي فيها ركعتي الطواف لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) وهذا عام في الأوقات كلها.
" وإعادة الجماعة ": لما ثبت في المسند وأبي داود والترمذي والحديث صحيح: من حديث يزيد بن الأسود قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف صلاة الفجر فلما انصرف رأى رجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلوا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معه تكن لكما نافلة)
فما بعد صلاة الفجر وقت نهي ومع ذلك أمر الرجلين أن يعيدا الصلاة جماعة، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بتفاصيلها في باب صلاة الجماعة.
قال: (ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب)
فيحرم أن يتطوع في غير ما تقدم ذكره.
(7/71)
________________________________________
ويستثنى من ذلك في المشهور عند الحنابلة صلاة الجنازة فهي جائزة في وقت النهي، إلا أنهم استثنوا في المشهور عندهم أوقات النهي الثلاثة لحديث عقبة المتقدم، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة وعن الدفن، فذكر الدفن مع ذكر الصلاة إشارة إلى النهي عن صلاة الجنازة.
- وذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يجوز له أن يصليها حتى في أوقات النهي الثلاثة؛ ذلك لأن جوازها في وقتي النهي يدل على جوازها في أوقاته الثلاثة، والحديث ليس ظاهراً في ذلك، فإن فيه النهي عن الصلاة مطلقاً ونهي عن دفن الميت.
وما ذكره الحنابلة هنا قوي، لكن الذي يضعفه أن صلاة الجنازة من ذوات الأسباب وسيأتي ترجيح جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.
فالحنابلة: استثنوا صلاة الطواف وإعادة الجماعة وصلاة الجنازة، كلها على سبيل الإطلاق سوى صلاة الجنازة فإنها تستثنى من ذلك أوقات النهي الثلاث.
" ويحرم التطوع بعدها " كصلاة الوضوء وتحية المسجد وصلاة الجنازة في المشهور من المذهب وصلاة الاستخارة فهذه تحرم في شيء من الأوقات الخمسة، حتى ما كان له سبب فإنه ينهى عنه، وهذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا: بحديث: (لا صلاة بعد العصر) (لا صلاة بعد الفجر) فهذا يدل على النهي مطلقاً فيدخل في ذلك الفرائض والنوافل إلا ما ورد استثناؤه من إعادة الجماعة وركعتي الطواف ومن صلاة الجنازة.
- وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه خلافاً للرواية المشهورة عنه، واختارها كثير من أصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب وهي ظاهر كلام الموفق في كتاب الكافي واختارها ابن تيمية وابن القيم وهي مذهب الشافعية: أن الصلوات التي لها سبب جائزة في أوقات النهي كتحية المسجد وسنة الوضوء وغيرها من التطوعات. والمنهي عنه التطوع المطلق الابتدائي الذي يفعله العبد من غير أن يكون له سبب.
(7/72)
________________________________________
قالوا: لثبوت الأحاديث فيها فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهذا عام فمتى دخل المسجد في وقت نهي أو غيره فيصلي ركعتين.
فإن قيل: كذلك حديث: (لا صلاة بعد العصر) حديث عام.
فالجواب: الأول حديث عام محكم لا تخصيص له.
وأما الثاني فهو حديث عام مخصص، ولا شك أن العام المحكم أرجح من العام المخصص.
واستدلوا: بصلاة الكسوف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا رأيتموهما فصلوا) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ربط الصلاة بسبب يثبت في وقت النهي وغيره وهو رؤية خسوف الشمس أو كسوف القمر.
وأما سنة الوضوء فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال في قوله: (لم أتطهر طهوراً في أي ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)
قالوا: والرابط بين هذه الصلوات التي ذكرناه والتي ذكرتموها أنتم - التي يجوز أن تصلي في وقت النهي - الربط بينهما أنها صلوات ذات أسباب والشارع لا يفرق بين المتماثلات فما كان مثيلاً لها من الصلوات ذات الأسباب كصلاة الاستخارة مما يخاف فوته، ونحو ذلك.
قالوا: ويدل على ذلك أن الصلاة ذات السبب ليس العبد متحرياً لها متقصداً لها بل قد فعلها لثبوت سنيتها بخلاف التنفل المطلق، إن العبد يفعله ابتداء من غير سبق سبب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) متفق عليه من حديث ابن عمر.
ويدل عليه حديث عمرو بن عبسة فإن ظاهره في التطوع المطلق في قوله: (ثم صل) والظاهر أن غالبه من باب التطوع المطلق.
وهذا هو الراجح.
ومن ذلك قضاء النوافل، فهو منهي عنه عند الحنابلة لكونه ليس مما تقدم ذكره.
والحديث يرد عليه، فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة المتفق عليه شغل عن صلاة الظهر فصلاها بعد العصر، ولعموم حديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) .
(7/73)
________________________________________
وقد أقَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره فيمن صلى الركعتين بعد الفجر وهو وقت النهي.
فالراجح مذهب الشافعية من أن الصلوات لا ينهى عنها إلا ما كان لا سبب له، وهو التطوع المطلق.
والحمد لله رب العالمين.

باب: صلاة الجماعة

صلاة الجماعة مشروعة، ومن أدلة مشروعيتها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) .
وفي البخاري: (وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) .
وفي المسند وأبي داود والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما أكثر فهو أحب إلى الله) وهو حديث صحيح.
وهو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وما كان يتخلف عنها – كما قال ابن مسعود – إلا رجل معلوم النفاق.
قال المؤلف رحمه الله: (تلزم الرجال)
" تلزم ": أي تجب عيناً
" الرجال ": أي تجب على الرجال عيناً، فهي واجب عيني.
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر السلف كما قال ذلك شيخ الإسلام وهو مذهب طوائف كثيرة من أهل الحديث، كابن حبان وابن خزيمة والإمام البخاري وغيرهم من أهل العلم.
وذهب الشافعية إلى أنها فرض كفاية.
وذهب المالكية والأحناف إلى أنها سنة مؤكدة.
والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة وأكثر السلف على القول به وأدلة ذلك كثيرة.
(7/74)
________________________________________
وفمن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى قوم لا يشهدو الصلاة – في مسند أحمد: لا يشهدون الصلاة في الجميع، وفي أبي داود: يصلون في بيوتهم - فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً " أي عظماً ذا لحم " أو مرماتين حسنتين " المرماة: هي اللحم بين أظلاف الشاة أي أظافرها " لشهد العشاء) .
وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله إني لا أجد قائداً يقودني، فرخص له فلما ولى دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والأمر للوجوب.
وفي أبي داود بإسناد صحيح أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة في أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة) .
وثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - من حديث مالك بن الحويرث - قال: (ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) فهذه الأحاديث تدل على فرضيتها على الأعيان.
واستدل من قال بسنيتها: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) .
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن صلاة الفذ فيها ثواب وأجر وفضيلة، فلو كانت محرمة لم يثبت فيها ذلك.
وهذا استدلال ضعيف، فإن ثبوت الفضل لا ينافي ثبوت الإثم فهي صلاة فيها فضل من جهة: لكونها صلاة مؤداة، لكنه آثم من جهة أخرى لكونه قد صلاها ناقصة نقصاً يجلب له الإثم وتوقعه بالتحريم.
(7/75)
________________________________________
بل الأحاديث التي تقدم ذكرها منها ما يدل على أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب كما استدل على ذلك ابن القيم في حديث: (فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا الحديث ظاهر أن ترك الصلاة جماعة من كبائر الذنوب.
والحديث الذي تقدم، وهو حديث أبي هريرة في رواية البخاري منه، فيها أن الثواب المذكور وهو أن يكون له سبع وعشرون درجة أو خمس وعشرون درجة كما في حديث أبي هريرة ظاهره أن ذلك إن صلاها في المسجد لا في الجماعة مطلقاً فقد قال: (ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلا للصلاة) فشرط في ذلك حضور الصلاة في المسجد.
والظاهر أن الثواب المضاعف في صلاة الجماعة ليس ثابتاً له على هذه الهيئة إلا إذا حضرها في المسجد.
فالراجح مذهب الحنابلة من أن صلاة الجماعة واجب عيني، وأن من صلى في بيته فهو مثاب على صلاته لكنه آثم لكونها لم تكن في جماعة.
وقد ثبت في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) .
لكن هذه الفريضة مخصوصة بالرجال دون النساء، لذا قال المؤلف " تلزم الرجال " أما النساء فلا تجب عليهن الصلاة جماعة باتفاق أهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن) .
(7/76)
________________________________________
بل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها بل في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كلما صلت فيما هو أستر من بيتها كلما كان أفضل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند أحمد بإسناد جيد قال لأم حميد الساعدي، وقد قالت: (إني أحب الصلاة معك، فقال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، فصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك " والبيت هنا أستر من الحجرة فهي الغرفة التي تكون داخل الحجرة " وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك أفضل من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك أفضل من صلاتك في مسجدي) .
وفيه أن صلاة المرأة في بيتها بل فيما يكون من الغرف الداخلية في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أفضل من الصلاة في الحرم المكي.
فصلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد لكنها لا تمنع من ذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يخشى فتنة أو ضرر فينهى عن ذلك للفتنة والضرر من باب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
قال: (لا شرطاً)
أي ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة فلو صلى في بيته فصلاته صحيحة لكنه قد فوت على نفسه أجراً كثيراً وألحق نفسه إثماً عظيماً.
ودليل ذلك حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة المتقدمان: (صلاة الرجل جماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وحديث أبي هريرة: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين درجة) .
فهذان يدلان على ثبوت الفضل والأجر والثواب على صلاته في بيته فثبوت ذلك يدل على التصحيح، إذ إثبات الأجر فرع التصحيح فلا أجر إلا مع الصحة.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد واختيار جماهير أصحابه.
وذهب طائفة من أصحابه وهو رواية عنه وهو مذهب الظاهرية: إلى أن الجماعة شرط في صحة الصلاة وعليه فلو صلى فرداً بلا عذر فصلاته باطلة.
(7/77)
________________________________________
واستدلوا بما رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني وغيرهم والحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) .
والحديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً إلى ابن عباس. وثبت موقوفاً إلى أبي موسى في سنن البيهقي بإسناد صحيح.
قالوا: فهذا الحديث فيه نفي الصلاة والأصل في النفي نفي الذات ثم نفي الصحة ثم نفي الكمال فلما امتنع نفي الذات لأن الصلاة قد توجد من بعض المكلفين بقي نفي الصحة مقدماً على نفي الكمال، أي لا صلاة صحيحة فهي صلاة باطلة.
والراجح: ليست بشرط بدليل إثبات الفضل في صلاة الفذ، فإن صلاة الفذ فيها فضل، فثبوت الفضل فيها يدل على صحتها ومن هنا وجب أن ينصرف إلى الاحتمال الثالث في تفسير الحديث المتقدم، وهو أن يكون المعنى لا صلاة كاملة فلا صلاة كاملة لمن سمع النداء فلم يجب.
إلا أن كان معذوراً فصلاته كاملة وله الأجر واف لحديث: (أن العبد إذا مرض أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) رواه البخاري.
وهل يجب أن تصلى الجماعة في المسجد أم له أن يصليها في بيته؟
روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى، وهي الرواية المشهورة: أن له أن يصليها في بيته، فإذا صلى في البيت جماعة فلا إثم والصلاة صحيحة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) .
قالوا: فهذا يدل على أن أي بقعة صلى فيها العبد فصلاته مقبولة سواء كانت المساجد أو غيرها.
والرواية الثانية، وهي اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المساجد.
وهذا القول الراجح، لما تقدم من الأحاديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب) والنداء إنما يكون في الأصل في المساجد.
(7/78)
________________________________________
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجميع) أي لا يشهدون الصلاة معه مع أنه يحتمل [أنهم] كانوا يصلون في بيوتهم جماعة، وكذلك حديث الأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة) .
وأما الجواب عما ذكروه فيقال: هو حديث عام وإنما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم من أن الصلاة ليست مخصوصة بمواضع، بل هي عامة في المساجد وغيرها ولا يعني ذلك أنه مع سماع النداء لا يحضره ولا يجيبه فيصلي في بيته جماعة وغيره، لا يدل على هذا.
وقد تقدمت الأحاديث وهي تدل على وجوب الإجابة فهو حديث عام مخصص بها. فيكون للعبد أن يصلي في أي بقعة شاء إلا أن يسمع نداء فيجب عليه أن يجيب نداء الله في المساجد
فالراجح إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهي غير المشهور عنه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: وجوب صلاة الجماعة في المسجد ولا يثبت الثواب المذكور إلا بذلك. والله أعلم.
قال: (وله فعلها في بيته)
هذا على المشهور في المذهب وقد تقدم ترجيح خلافه.
قال: (ويستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد)
الذين يكونون على مواضع المخافة وهي الثغور الإسلامية التي تكون في حدود المسلمين مع الكفار ويخشى أن يتطرق إليها العدو فينبغي لهم أن يصلوا في مسجد واحد لأنه أهيب للعدو وأجمع للكلمة وأسرع للرأي وأسهل للمشورة ونحو ذلك من المصالح.
قال: (والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)
مثلاً كأن يحتاج لأن يكون إماماً، لما فيه من مصلحة عمارة المسجد وإقامة الجماعة وإعانة المكلفين على القيام بالواجب عليهم، فهذه مصالح ترجح على ما سيذكره المؤلف بعد ذلك.
قال: (ثم ما كان أكثر جماعة)
(7/79)
________________________________________
فإذا كثرت الجماعة في المسجد وكان أكثر من غيره، فالصلاة فيه أفضل لحديث (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
قال: (ثم المسجد العتيق)
لسبق الطاعة فيه.
والمشهور عند الحنابلة تقديمه على الأكثر جماعة خلافاً لما ذكره المؤلف هنا، وهو قول لبعض الحنابلة.
وفضيلة المسجد العتيق تحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل يدل على ذلك، فكونه عتيقاً لا يستفاد أنه أفضل من غيره لا سيما ما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تفضيله في قوله: (وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
قال: (وأبعد أولى من أقرب)
فالأبعد من المساجد أولى من الأقرب لما فيه من كثرة الخطا إلى المساجد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم ممشى فأبعدهم) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني سلمة وقد أرادوا أن يتركوا منازلهم وينزلوا قريباً من المسجد قال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) .
وما ذكروه من الأدلة صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر.
أما كونه يدل على فضيلة من كان يأتي إلى المساجد وبيته بعيد والآثار له تكتب وأنه أعظم الناس أجراً في الصلاة فنعم. وأما كونه يدل على ترك المسجد الأقرب إلى مسجد أبعد فإن الصحابة لم يكونوا يتكلفون ذلك، ولم يرد أن أحداً منهم ممن كان قريباً إلى المسجد تكلف البعد عنه لينال ذلك الثواب المذكور بل هذا الحديث فيه ترغيب من كان بعيداً عن المسجد أن يحضر إلى المساجد وأن يشهد الجماعة مع بعد منزله. ولا يدل على أنه يشرع تكلف ذلك وترك المساجد القريبة إلى مساجد بعيدة، كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد جيد: (ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبَّع المساجد) .
(7/80)
________________________________________