المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح زاد المستقنع - جزء خامس


gogo
10-19-2019, 01:33 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب : شرح زاد المستقنع
المؤلف : محمد بن محمد المختار الشنقيطي
مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 417 درسا]
عدم اشتراط الطهارة للأذان

السؤال
هل تشترط الطهارة للأذان؟

الجواب
الطهارة للأذان لا تشترط، وبناءً على ذلك يجوز للإنسان أن يذكر الله في الأذان ولو لم يكن متوضئاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن وهو على غير وضوء، فمن باب أولى الأذان الذي هو دون القرآن؛ لأن القرآن أفضل، وقد جاء في الأثر: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)، كما في الصحيح، فإذا كان القرآن الذي هو أفضل الأذكار وأشرفها وأعظمها لا تشترط له الطهارة لتلاوته فمن باب أولى الأذان الذي هو دون ذلك، وبناءً على هذا يصح الأذان من المحدث، ولكن ليس الإشكال هنا، فالإشكال أنه إذا دخل المسجد وأذن سيضطر إلى الخروج بعد الأذان، وهذا أمر منكر يقع حتى من بعض طلاب العلم؛ فإن الإنسان إذا سمع الأذان وهو في المسجد لا يخرج ولو إلى مسجد أفضل من المسجد الذي هو فيه، بل يجب عليه أن يبقى في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج بعد الأذان، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه لما رأى رجلاً خرج بعد الأذان قال: أما هذا فقد عصى الله ورسوله فلا يجوز الخروج بعد الأذان إلا لمن كان محدثاً، قالوا: فهذا محدث، ويكون حدثه عالماً به قبل الأذان، فكأنه يتعاطى أسباب التقصير، بخلاف من أحدث أو تذكر أنه محدث بعد الأذان، لكن إذا أحدث قالوا: يضع يده على فيه كما ورد في السنة، ثم يخرج أما أن الإنسان يؤذن ثم يخرج من المسجد، خاصة ما يجعله بعض المؤذنين الآن -أصلحهم الله- من التساهل في مثل هذه الأمور، فتجده لا يحضر إلا عند الإقامة، فيؤذن ثم يخرج، وقد يخرج خارج المسجد، وقد يخرج إلى مصالح دنيوية، وهذا من بالغ الغفلة -نسأل الله السلامة والعافية- وبسبب تقصير كثير من الناس في تعظيم شعائر الله عز وجل بعد أن كان الأئمة والمؤذنون لا يفارقون المساجد، وترى الرجل منهم وتعرفه كحمامة المسجد، وإذا أردت أن تبحث عن إنسان منهم وتعلم أين هو فانظر إليه في المسجد، فلا يؤذن للصلاة إلا وجدته في الصفوف الأول حريصاً عليه، أو قريباً من المسجد، لكن الآن قد تجده يؤذن ثم يخرج في صلاة الفجر ويجلس مع أصحابه أو أولاده، ثم لا يخرج إلا وقت الإقامة، كأنه أمر من أمور الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.
فينبغي التناصح في مثل هذا، حتى لطلاب العلم الذين يخرجون بعد الأذان، ولو كانوا أئمة لا يخرجون، فإذا أرادوا أن يخرجوا فعليهم أن يخرجوا قبل الأذان.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للسداد والرشاد، وأن يلهمنا لما فيه مرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
(59/17)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [1]
مما يتعلق بصلاة الجماعة: أحكام الإمامة، ويقدم فيها الأقرأ للقرآن العالم فقه الصلاة، ثم الأكبر سناً، ثم الأقدم هجرة، ثم يقرع فمن خرجت قرعته تقدم، وهناك أئمة أحق من غيرهم؛ كصاحب البيت، وإمام المسجد الراتب.
ويقدم الحر والحاضر والمقيم والبصير على غيره، ولا تصح الصلاة خلف الكافر، ولا خلف امرأة أو خنثى.
(60/1)
________________________________________
أحكام الإمامة
(60/2)
________________________________________
تقديم أقرأ الناس للإمامة في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصلٌ: الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته] الإمامة منصبٌ شريف ومقام عزيز مُنيف لا ينبغي لكل أحدٍ أن يتصدّر له، ولا ينبغي لكل أحدٍ أن يكون فيه إلا إذا كان أهلاً لهذا المقام، فحينئذٍ يجوز له أن يتقدم على الناس، وأن يتشرف بهذا المكان الذي يكون فيه مؤتمناً على صلاتهم، وإقامة هذه الشعيرة لهم، والناس تقتدي بالأئمة، فكلما كان الإمام على صلاح وتقوى لله عز وجل وعلمٍ بالشريعة وفقه في الدين ومعرفةٍ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم كلّما كان ذلك أدعى لحبِّه وحب الصلاة وراءه، والتأثر بقراءته ومواعظه وخطبه، الأمر الذي يكون له أحمدُ العواقب، وأحسنُ الثمرات، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن تهيئ لهذا المقام من توفرت فيه شروط الأهلية، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي مسعود في الصحيح-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
فأمرنا عليه الصلاة والسلام أن نقدم الأقرأ لكتاب الله عز وجل، والسبب في ذلك أنّ الغالب في الإنسان إذا شرّفه الله وكمّله وفضّله بحفظ كتابه فالأصل فيه أن يكون من أهل كتاب الله العالمين به، العاملين بما فيه، ومثل هؤلاء أئمة يُقتدى بهم إذا كان القرآن إماماً لهم في القول والعمل والاعتقاد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
فلما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحفظ كتاب الله عز وجل إلا من علمه وعمل به كان ذلك أدعى لتقديم هؤلاء الخيرة البررة الذين هم صفوة الله عز وجل من الخلق، أعني العلماء بكتاب الله العاملين به.
فالمصنف رحمه الله بعد أن بين لنا حكم صلاة الجماعة، والمسائل المتعلقة بمباحث صلاة الجماعة شرع في بيان من الذي يُقدّم للإمامة لكي يُصلِّي بالناس جماعة، فقال رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ] وفي هذه النسخة [العالم فقه صلاته]، وفي غيرها الإطلاق: [الأقرأ]، وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، ولذلك لا بد من بيان المراد بقولهم: (الأقرأ) ثم بعد ذلك نبيِّن أقوالهم وأدلتهم، والراجح من الأقوال والأدلة.
فلفظ (الأقرأ) اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين: قال بعض العلماء: الأقرأ: هو الأكثر أخذاً للقرآن، والمراد بذلك أن يكون حفظُه أكثر من غيره، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال ذلك فَهِم منه الصحابة هذا الفهم، كما في الحديث في الصحيح أن سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما كان يؤم المهاجرين والأنصار، وذلك في المدينة قبل مقدِم النبي صلى الله عليه وسلم قال الراوي: وكان أكثرهم قرآناً.
فقوله: كان أكثرهم قرآناً، أي: كان حفظه أكثر.
وكذلك استدلوا بحديث عمرو بن سلمة، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا فارقه قوم أبي سلمة قال لهم: (وليؤمكم أكثركم قرآناً) قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذاً للقرآن، فقدموني.
ووجه الدلالة أنه علَّق التقديم على كثرة الحفظ، فدلّ على أن المراد بالأقرأ الأكثر حفظاً للقرآن، وعلى هذا يُقدم حافظ القرآن كله على من حفظ ثلاثة أرباعه، ويقدم من حفظ ثلاثة أرباع القرآن على من حفِظ النصف ولو كان أكثر ضبطاً لأحكام التجويد والترتيل، فهذا هو الوجه الأول، فالعبرة عندهم بكثرة الحفظ، ولكن يلاحظ أنهم يرون مع كثرة الحفظ أن يكون ضابطاً لما ينبغي أو يُشترط لصحة التلاوة واعتبارها.
القول الثاني يقول: إن المراد بالأقرأ الأتقن في مخارج الحروف وضوابط القراءة، وهو المجوِّد لكتاب الله عز وجل الذي يحسن ترتيله ويحسن تحبيره وتتأثر الناس بقراءته أكثر، وهذا القول يعتمد على ظاهر اللفظ في قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؛ فإن اللغة العربية تدل على أن (الأقرأ) أفعل تفضيل، والمراد به أنه فَضُل على غيره بحسن التلاوة وحسن الأداء للقراءة، فقالوا: المهم عندنا أن يكون محبِّراً لكتاب الله عز وجل، وعلى هذا الوجه.
فلو اجتمع حافظٌ للقرآن كله وحافظٌ لنصف القرآن، والذي يحفظ نصف القرآن أكثر ضبطاً لأحكام القراءة، والناس تتأثر بقراءته أكثر، ويُحسن تحبيره وتجويده قالوا: يُقَدَّم على من هو أكثر حفظاً منه.
والذي يظهر -والعلم عند الله- أن العبرة بكثرة الحفظ، وليس المراد التحبير وحسن النغمات والمبالغة في التجويد، وعلى هذا فلو اجتمع من هو أكثر حفظاً للقرآن مع من هو أحسن أداءً وأحسن ترتيلاً وتجويداً فإنه يُقَدَّم الأحفظ؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فَهِموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنه هو المعوَّل وعليه العمل.
وإذا عرفنا ما هو المراد بالأقرأ ف

السؤال
لو اجتمع عندنا رجلان أحدهما أقرأ، سواءٌ أكان أكثر أخذاً للقرآن أم أكثر ضبطاً للقرآن، والآخر أفقه، بمعنى أنه يعلم أحكام الصلاة وما يكون فيها من أحكام السهو ونحوه، وما يطرأ فيها من الطوارئ التي يحتاج الأئمة فيها إلى جبر النواقص والزوائد، أو كان عالماً بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، فهل نُقدِّم الأقرأ أو نقدم الأفقه؟ في ذلك قولان للعلماء: القول الأول: ذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، ووافقه جمعٌ من المحدثين، وبه قال بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الأقرأ لكتاب الله يقدم على الأفقه.
القول الثاني -وهو قول الجمهور-: أن الأفقه يقدم على الأقرأ، فلو اجتمع حافظٌ للقرآن ومن هو أكثر منه علماً وفقهاً في الدين فإنه يقدم الأفقه والأعلم بالحلال والحرام على الحافظ لكتاب الله عز وجل.
واستدل الذين قالوا بتقديم الأقرأ بظاهر حديث أبي مسعود رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، ووجه الدلالة من هذا الحديث واضح، حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، قالوا: فقدّم الأقرأ على الأعلم بالسنة فدل على أن القارئ مقدمٌ على الفقيه.
وأصحاب القول الثاني احتجوا بحديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامته، كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم أبا بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه من أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: قُدِّم لفقهه لا لقراءته؛ لأن أُبياً رضي الله عنه أعلم منه بالقراءة، ومع هذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فدل هذا على أن الأفقه مُقدمٌ على الأقرأ، وهناك أدلة أخرى، ولكن المعوَّل على هذين الدليلين، فالأول حديث أبي مسعود رضي الله عنه، والثاني حديث أبي بكر في إمامته.
ومما علل به الجمهور لمذهبهم أن قالوا: إن الأقرأ نحتاج إليه للقراءة، والقراءة تتعلق بركنٍ واحدٍ وهو القيام.
وأما بالنسبة للأفقه فنحتاج إليه في أركان الصلاة؛ فإن الصلاة قد يطرأ فيها السهو، فتطرأ فيها الزيادة ويطرأ فيها النقص، وتختلج الصلاة على الناس، فإذا كان الأفقه موجوداً أو هو الإمام فإن ذلك أدعى لتعليم الناس، وهو أعرف وأعلم بما ينبغي فِعله على الإمام في مثل هذه الأحوال الطارئة.
فكأن الفقه يُحتاج إليه لأركانٍ، والقراءة يُحتاج إليها لركن، فقُدِّم ما يحتاج إليه لأركانٍ على ما يحتاج إليه لركنٍ واحد.
والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بتقديم الأقرأ لكتاب الله، وذلك لظاهر السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن سالماً مولى أبي حذيفة -كما في الصحيح- كان يؤم المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فإنها لم تتمحض بإمامة الصلاة، وإنما قُصِد منها الإشارة إلى استخلافه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج الدليل عن موضع النزاع، ولذلك يُعتبر تقديم الأقرأ لكتاب الله هو المعوّل عليه، لكن ينبغي أن يُنبه على أن الأقرأ يُقدَّم إذا كان عنده إلمام بضوابط الصلاة، وليس المراد أن يُقدَّم مطلقاً حتى ولو كان جاهلاً ببعض الضوابط، كالأمور التي تطرأ في السهو ونحوه.
فقول المصنف رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ]، أي: أقرأ الناس لكتاب الله عز وجل.
والسبب في هذا ظاهر؛ فإن القرآن يشرِّف أهله، ويرفع من مكانتهم في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعمله)، وما أوتي أحدٌ عطاءً أشرف ولا أكمل -بعد الإيمان بالله عز وجل- من حفظ كتاب الله عز وجل والعمل بهذا الكتاب؛ فإنه نور في قلبه، ونورٌ له في حشره، ونورٌ له بين يدي ربه ولذلك إذا أنعم الله على العبد بهذا الكتاب فإنه يشرِّفه ويكرِّمه، ولم يبق إلا أن يُكرم قارئ القرآن ما في قلبه، فيصونه -أو يصون نفسه- عن الأمور التي لا تليق بمثله.
وقوله: [العالم فقه صلاته] هذا إضافة في بعض النسخ، فنُقدِّم الأقرأ إذا كان عنده إلمام بفقه الصلاة، لكن لو كان عندنا إنسان يحفظ القرآن ولكنه يجهل أحكام الصلاة، ولربما يقع الناس في لبس في صلاتهم فحينئذٍ لا يُقدَّم؛ لأنه قد يُعرِّض صلاة الناس للفساد.
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأفقه].
(ثم) تقتضي الترتيب، فيُقدم بعد الأقرأ الأفقه، والأفقه: أفْعَلٌ، من فقه الشيء: إذا فَهِمه.
ويقال: إن الفقه يختص بالمعضلات، ولا يكون إلا في المسائل الدقيقة، والفقه شرف ونعمةٌ عظيمة يُنعم الله عز وجل بها على من شاء من عباده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين
(60/3)
________________________________________
الأدلة على تقديم الفقيه للإمامة
أما الدليل على تقديم العالِم بالحلال والحرام فحديث أبي مسعودٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة).
والعلم بالسنة يكون على ثلاثة أضرب: الأول: أن يحفظ السنة ويكون من حفّاظها، وهذا الذي يسميه العلماء الحافظ والمحدّث، وهو الذي يُسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظ الأحاديث، ويكون عالماً بما قاله عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن يعرف، أو يفهم ويفقه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام التي تتضمنها هذه الأحاديث، ولكن حفظه للأحاديث قليل، وليس عنده حفظ للأحاديث، ولكن إذا جاء النص من الأحاديث يحسن فهمه، ويحسن تخريجه، ويعرف ما تعارض من الأحاديث وكيفية الجواب عنها، وكيف الخروج من إشكالها، فالأول حافظٌ للحديث، والثاني فقيه بالحديث.
الثالث: من جمع الله له بين الحسنيين فحفظ الأحاديث مع الفهم، فيكون عنده إلمام بما قال عليه الصلاة والسلام، بحيث يحفظ الأحاديث والآثار، وعنده شغف وتلهف لمعرفة ما ورد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم القولي والفعلي والتقريري، ثم كذلك إذا جاءته السنة فإنه يعرف كيف يفهمها، وعلى أي محملٍ يحملها عليه، فهذه أشرف المراتب، وهي أعلى مراتب السنة، فيكون حافظاً لها فقيهاً بما فيها من المعاني، وكل هذه المراتب مراتب شرف.
وأما المرتبة الأولى -وهي مرتبة الحفظ- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: (نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها -وفي رواية: فوعاها- فأداها كما سمعها)، فقوله: (نضّر الله) قال بعض العلماء: هو من النضارة، وهي الحسن.
وقال بعض العلماء: يُحشر أهل الحديث وهم بيض الوجوه لهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: نضر الله له وجهه في الآخرة.
وقال بعض العلماء: بل الحديث على إطلاقه، أي: نضّر الله وجهه في الدنيا والآخرة.
فمن حفظ حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه فإنه داخلٌ تحت هذا الفضل، فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (نضّر الله) وأطلق، وقال بعض العلماء: لأهل الحديث نورٌ في وجوههم بحفظهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما فقه الأحاديث فهذا هو المقصود في النصوص، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، ولم يجعله للحفظ وحده، وإنما قال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29].
وقد عتب على بني إسرائيل حين حفظوا ولم يعملوا، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فالمهم مرتبة الفقه والعمل، وإذا جمع الله للعبد الحسنيين فقد حاز تلك الفضيلتين، فلو اجتمع من يحفظ الأحاديث ومن يحفظ القرآن فإننا نقدم من يحفظ القرآن، ثم لو اجتمع من يحفظ السنة أكثر ومن هو أقل منه حفظاً للسنة فإننا نقدم من هو أحفظ للسنة.
(60/4)
________________________________________
تقديم الأكبر في السن للإمامة عند التساوي في الحفظ والعلم
قال رحمه الله: [ثم الأسن] الأسنَّ: مأخوذ من السِّن، والمراد بذلك: الأكبر سناً، فلو كان عندنا رجلان كلاهما حافظٌ للقرآن، وكلاهما فقيه أو عالم بالحلال والحرام من السنة، فحينئذٍ استوت مرتبتهما في الكتاب والسنة، فنرجع إلى التفضيل بالسن، والسبب في ذلك أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منعقد على تفضيل الكبير وإكرامه وإجلاله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا -أي: ليس على هدينا الكامل- من لم يوقر كبيرنا)، فتوقير الكبار وإجلالهم ومعرفة قدرهم شأن الفضلاء، فلا يُجلهم إلا الكرام ولا يحتقرهم إلا اللئام، فالكبير له حق على الصغير، ومن هنا قدَّمت الشريعة الإسلامية الكبير في السن حتى في الإمامة، فلو كان أحدهم أسن فإنه يقدم.
قال العلماء: الدليل على التقديم بالسِّن حديث مالك بن الحويرث، وذلك أن مالكاً هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجلٌ من قومه، فجلسا قرابة عشرين يوماً فقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليماً رحيماً رفيقاً بأصحابه، فرأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما)، ووجه الدلالة أن مالكاً رضي الله عنه والذي معه اجتمعا في الحفظ والفهم، فعلما وسمعا القرآن، وسمعا السنة، فاستوت مرتبتهما في العلم، فقال: (وليؤمكما أكبركما).
قال العلماء: في هذا دليل على التقديم للإمامة بالسن، فلو اجتمعت مراتب المتقدمين علماً بالقرآن والسنة فإننا نقدم بالسن.
وهذا يدل على ما ينبغي من تقديم الكبار وإجلالهم، وقال العلماء: تقديم الكبار له فضيلة، فإن الكبير -خاصةً إذا كان كبير السن ضابطاً لصلاته- يكون أخشع في الصلاة وفي القراءة؛ لأنه قريبٌ من الآخرة، فيتأثر أكثر من تأثر الشاب الحدث.
ثانياً: أن كبير السن أكثر هيبةً وأكثر إجلالاً، فتهاب الناس المحراب، وتهاب المنبر، وتُحس بهيبته ورهبته إذا تقدم كبار السن والأجلاء والعُقلاء.
الأمر الثالث: أنهم أناس لهم بصيرة ولهم علم ومعرفة بالحوادث وبما يكون، فإذا وقع أمرٌ ما على الناس واحتاجوا إلى من عنده تجربة ومعرفة وجدوا عند الإمام ما يعينهم على صلاح دينهم ودنياهم، فهذه كلها أمور تدل على حكمة الشريعة في تقديم الأكبر سناً، ولكن إذا استوت مرتبة العلم بكتاب الله والعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأشرف].
الأشرف: مأخوذ من الشّرف، والشرف يرجع إلى النسب؛ فإن الإنسان إذا شرُف نسبه فكان من أهل البيوت الشريفة، وفضّله الله عز وجل بنسبه فإنه يُقدَّم، وهذا مذهب بعض العلماء، والصحيح أن النسب لا دخل له في التقديم بالإمامة، ولكن على سبيل الاستحباب، فلو وُجِد من ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وله شرف النسب فإنه يقدم، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش)، ففضَّل بالنسب، وقالوا: لأنه لما يكون نسيباً فإن الناس تهابه وتجله وتكرمه، وكل ذلك المراد منه أن تتهيأ الأمور التي تعين على إجلال الإمامة وتشريفها وتشريف من يقوم بها.
فالصحيح أن الشّرف لا يُقدَّم به، أي: أنه لا يُلزم بالتقديم به كما تقدم في القراءة وفي السنة وفي السِّن، فلو اجتمع عندنا من هو أتقى لله عز وجل، ومن هو أشرف فإننا نقدِّم الأتقى لله عز وجل، قال علي رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قال: ذهب النسب اليوم.
ولكن قوله هذا معناه -كما قال العلماء-: ذهبت المفاخرة بالنسب، لكن لو وجد إنسان عنده دين وصلاح وأعطاه الله شرف النسب فإنه يُقدّم؛ لأن الله جمع له بين الحسنيين، وشرّفه بهاتين الفضيلتين، فهو مقدمٌ على من دونه.
(60/5)
________________________________________
تقديم الأقدم هجرة والأتقى للإمامة
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأقدم هجرة].
وهذا ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) وهذه رواية صحيح مسلم، ومعنى (أقدمهم سِلماً): أي: إسلاماً.
ويمكن الآن أن يُنظر إلى التزام الشخص واستقامته وهدايته، فلو كان كِلا الشخصين حافظاً للقرآن عالماً بالسنة، ولكن أحدهما أقدم وأسبق في الالتزام وسنهم سواء؛ فإننا نقدم من نشأ في طاعة الله عز وجل على من هو دونه؛ ولذلك له شرف السَّبق والالتزام بدين الله عز وجل فحملوا عليه رواية الصحيح: (فأقدمهم سِلماً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن كانوا في السِّلم سواء فأقدمهم هجرةً) وفي رواية الأشج في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأقدمهم سناً) بدل (سِلماً)، وعليها حُملت الرواية بتقديم الأسن، ثم بعد السن جاء التفضيل من جهة الهجرة، وكانت الهجرة -ولا زالت- سنة من السنن، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولذلك الهجرة باقية، وإذا كان أحدهم أقدمهم هجرة فإنه يقدم لسبقه إلى الإسلام، وابتلائه في ذات الله عز وجل، وصبره على هذا الابتلاء أكثر من غيره، وهذا يدل على أن التقديم كله من جهة الدين، وهذا شرفٌ للإنسان من جهة الدين لا من جهة الدنيا.
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأتقى].
الأتقى: أي: الأكثر تقوى لله عز وجل، وهذا بلا إشكال؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم أشخاصاً للإمامة ومفاضلته بين المتقدمين يدل على أن الأتقى لله عز وجل مُقدّم؛ فإن الأتقى لله عز وجل ينفع الله بقراءته، وينفع الله بمواعظه، وينفع الله بهديه واستقامته، بخلاف الفاسق الفاجر المتهالك المتهافت، فإنه قد يدعو الناس إلى الرذائل، وقد يستخف الناس بالحرام بسبب وجود هذا الفاجر والعياذ بالله، وقد ترى هذا الفاجر وهو إمام يصلي بالناس يفعل أموراً لا تليق بمثله، فيُشِين الإمامة ويجعل الناس في نفرة من دين الله عز وجل، ولكن الأتقى لله عز وجل على العكس من ذلك؛ فإنه لا يزال الإنسان يتمسك بشريعة الله عز وجل ويلتزم بدين الله حتى يتأثر به من يراه، ويحبه من يسمع قوله ويرى هديه، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: سيجعل الله لهم في القلوب حباً.
ولكن بالإيمان والعمل الصالح، فإذا كان الإمام تقياً نقياً يخاف الله عز وجل ورعاً بعيداً عن الحرام فإن هذا أدعى لتأثر الناس به واقتدائهم به.
(60/6)
________________________________________
العمل بالقرعة عند التنازع على الإمامة
قال رحمه الله تعالى: [ثم من قرع].
أي: من أصابته القرعة، فلو كان عندنا جماعة تقدموا للإمامة حفظهم لكتاب الله على حدٍ سواءً، وكلهم عالمٌ بالسنة بمرتبة واحد، وكلهم في سنٍ واحد، والتزامهم واحد، وتقواهم وديانتهم وصلاحهم واحد فإننا حينئذٍ نرجِع إلى التفضيل بالقرعة، والسبب في ذلك أن القرعة تُخرج عند المشاحّة، وقد عمل بها العلماء والأئمة والسلف رحمة الله عليهم، واعتبرها العلماء رحمهم الله حتى في مسائل عديدة مسائل القضاء، فإذا تشاح القوم فإن الناس سيفترقون بسبب أن كل طائفة تريد فلاناً أن يتقدم، فتقع فتنة ويقع شر، ولذلك يُقرع، أي: تُكتب أسماؤهم، ثم بعد ذلك يؤخذ بالقُرعة، فمن خرج اسمه فقد اختارهُ الله عز وجل، فيُقدم على غيره.
(60/7)
________________________________________
صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره
قال رحمه الله تعالى: [وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان].
قوله: (وساكن البيت) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يؤمن الرجل في داره، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فدل على أن صاحب البيت أحق، وهذا فيه حِكم ذكر العلماء رحمهم الله منها: أولاً: أحقيته بالدار.
ثانياً: أنه ربما كان يحتاج في ضيافته للناس إلى أن يستعجل، وإذا تقدم الإنسان الذي ليس وراءه مثل هذه الأمور فقد يُجحف برب البيت، فحينئذٍ يقدم للإمامة صاحب الدار، وشرط هذا ألا يكون فيه ما يمنع من إمامته، فإذا كان أهلاً للإمامة قُدِّم، وإلا تقدم من هو أهل على الصفة التي ذكرنا، إلا من ذي سلطان؛ فإن السلطان إمام للإنسان ولو في بيته، كالأمير ونحو ذلك، فإنه يلي أمره ويُقدَّم؛ لأنه ولي أمر الإمامة العامة، فمن باب أولى أن يلي ما دون ذلك، وهذا هو الأصل، وبناءً على ذلك يتقدم عليه، وفيه استثناء حديث السنن، فإذا حضر على بساطه، أو في بيته يتقدم عليه، وقال العلماء: ينبغي لصاحب البيت إذا رأى من هو أعلم وأفقه منه أن يقدمه ويشرِّفه بالإمامة، وهو مثاب على ذلك؛ لأنه من إنزال الناس منازلهم.
(60/8)
________________________________________
إمام المسجد أحق بالإمامة من غيره
قال رحمه الله تعالى: [وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان].
إمام المسجد هو الذي يسميه العلماء: الإمام الراتب.
والإمام الراتب سواءٌ أكان من قبل ولي الأمر كما يحصل الآن، حيث يكون الإنسان مرتبطاً بالإمامة ومعيناً فيها، فهو أحق ويُقدم على غيره، أم كان راتباً لأن أهل الحي أحبُّوه، ورضوا به أن يتقدمهم، فهو إمامٌ راتب، فيُقدم ولا يتقدم عليه أحد إلا بإذنه.
أما الدليل على تقديمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- لما تأخر في قُباء ليُصلح بين حيين من بني عوف جاء إلى المسجد وقد تقدم أبو بكر يصلي، فسبّح القوم فلم يلتفت أبو بكر -وكان رضي الله عنه خشوعاً في صلاته مقبلاً-، فلما أكثروا عليه التشويش التفت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فتأخر رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا لمكان أحقية النبي صلى الله عليه وسلم مع النبوة ومع الولاية، وأحقيته كذلك بالإمامة الراتبة ولذلك استنبط العلماء رحمهم الله أنه إذا حضر الإمام الراتب في الركعة الأولى حُقَّ له أن يتقدم، وهذا نص عليه غير واحدٌ من السلف، فلو حضر أثناء إمامة هذا المستخلَف الذي وُضِع من قبل الناس، أو تقدم من نفسه وحضر الإمام الراتب فمن حقه أن يؤخِّره ويتقدم ويُتم بالناس صلاتهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء، وتدل عليه السنة.
وذهب بعض العلماء إلى تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لقول أبي بكر: (ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: كان يتأوّل آية الحجرات.
والصحيح أنه على ظاهره، وإمام الحي إذا حضر فإن إمامة من دونه إنما كانت لضرورة وحاجة، وما أبيح للضرورة والحاجة يبطل بزوالها، فيتأخر ويتقدم الإمام الراتب، وهذا إذا كان في الركعة الأولى، أما إذا كان في أثناء الركعة الثانية والثالثة فمن حقه أن يتقدم، ثم الناس يثبتون بعد تمام صلاتهم، ويُتِم كصلاة الخوف، ولكن نظراً لجهل كثير من الناس وعدم معرفتهم بالسنن وحدوث التشويش، إذ قد يُحدث هذا إرباكاً في المسجد، فحينئذٍ إذا اقتصر الإمام وبقي في آخر القوم فلا حرج، ولكن لو أراد الفضل فله أن يتقدم؛ لأن صلاته بالناس لها فضل، ولا إيثار في الفضل؛ لأنه إذا تأخر فقد آثر غيره بهذا الفضل، ولذلك قالوا: لو رضي أن يتنازل عن هذا فلا حرج.
وقوله: [إلا من ذي سلطان] هو لمكان الولاية كما قلنا.
(60/9)
________________________________________
استحباب بعض العلماء لبعض صفات الإمام
قال رحمه الله تعالى: [وحرٌ وحاضر ومقيم وبصير ومختون ومن له ثياب أولى من ضدهم].
قوله: [وحر].
هذه من باب الأفضلية، فالحر يُقدم على العبد والرقيق؛ لأن الرِّق يكون بسبب الكفر، كما هو معلوم أنهم يؤخذون في الجهاد ويُضرب عليهم الرق، فلِمكان النقص الموجود في الرقيق يُقدَّم عليه الحر، فهو أولى، ولكن ليس هناك نص، بل لو كان العبد حافظاً لكتاب الله عز وجل، أو عالماً بالسنة فإنه يُقدم ولو كان مولىً أو عبداً، خلافاً لمن قال: إنه لا يؤُم العبد، وهذا قولٌ ضعيف، والصحيح أن القرآن يُقدِّمه وعلمه يقدمه ولذلك لما سُئِل بعض السلف رحمة الله عليهم عن إمامة العبد قال: سبحان الله! ومن لا يصلّ وراء عكرمة؟ ثم ذكر غيره ممن كان من الموالي كـ نافع وغيره، فمن الذي لا يستطيع أن يصلي وراء هؤلاء الأئمة الأجلاء، فالإسلام وإن كان قد ضرب الرِّق عليهم فإن هذا لا يعني عدم إعطائهم حقوقهم إذا كانوا أهلاً لهذه الإمامة بحفظهم لكتاب الله عز وجل وعلمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقههم في الدين، فإنهم يُقدمون ولو كان فيهم شائبة الرق.
وقوله: [وحاضر].
قالوا: يُقدم الحاضر على البادي.
والسبب في ذلك غلبة العلم في الحاضر أكثر من البادي، ولكن لو كان من بالبادية أعلم وأفقه فإنَّه يقدم، والصحيح أنه لا تُمنع إمامة البادي إذا كان عالماً أو فقيهاً أو عارفاً بالسنة؛ لأن العبرة في الإمامة بالأوصاف التي ذكرناها، وأما ما ذكره العلماء رحمةُ الله عليهم من هذه الأوصاف فهذه كلها أمورٌ اجتهادية، والنص الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً، فإن كانوا في السلم سواء فأكبرهم سناً) يدل على التفضيل بهذه الأمور، وأما ما عداها فإنه لم يرد به نص مما اجتهد به العلماء رحمهم الله، كالعبد والحاضر ونحو ذلك، فكل هذا مما لا نص فيه، بل قد تجد غير الحاضر أكثر ديانةً واستقامةً، وأبعد عن المعاصي والفواحش من غيره، وأكثر تمسكاً بالدين، وقد يكون على فطرته التي فيها استقامة في الأخلاق، وكمال في العقل، فالعبرة بالديانة والاستقامة، بغض النظر عن كون هذا حاضراً أو غير حاضر، فهذا كله لا تأثير له مع وجود الدين والاستقامة والعلم بأحكام الصلاة.
وقوله: [ومقيم].
قالوا: يُقدم المقيم على المسافر، والسبب في ذلك أن المسافر سيقصر الصلاة، وبناءً على ذلك قالوا: ربما اختلجت على الناس صلاتهم؛ لأنه سيصلي ركعتين في الرباعية، فإذا تقدّم بالناس وصلى بهم فإنهم يظنون أنه وَهِم فربما سبّحوا له، وربما سلّم بعضهم معه؛ لأن الناس بعضهم فيه غفلة فيدخل في الصلاة ولا يعي عدد ما صلّى، فإذا قال الإمام: (السلام عليكم) ظن أنه على الكمال فسلّم معه، ولذلك قالوا: يُقدَّم المقيم على المسافر.
وكل ذلك من باب الاجتهاد، ولكن المسافر إذا كان على عِلمٍ، وكان حافظاً لكتاب الله عز وجل، وأحب القوم أن يقدموه فإنه يقدم.
وقوله: [وبصير].
قالوا: البصير يقدم على الأعمى.
وهذا لا نص فيه، وإنما هو اجتهاد من العلماء رحمة الله عليهم، ولكن قالوا: إن وُجِد من هو أعمى ومن هو بصير، فإن البصير ربما يكون أرفق بالناس.
ولكن الحقيقة أن العبرة بالديانة والاستقامة، وأما البصير والأعمى فهما على حدٍ سواء؛ فإنه لا يُفضَّل بينهما إلا بنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من أَعمى قد كُف بصره ولكن استنارت بصيرته، والعمى عمى القلب، ولذلك إذا جمع الله للإنسان الفقه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقدَّم ولو كان كفيف البصر.
وقوله: [ومختونٌ].
قالوا: يُقدم على الأقلف وهو غير المختون؛ لأن غير المختون تنحبس النجاسة في الموضع المعروف، ولذلك يكون المختون أكمل طهارة من غير المختون، وهذا ذكره العلماء رحمة الله عليهم من باب الاحتياط للصلاة، وعندهم كلام في إمامة الأقلف، ولكن ليس هناك نص على بطلانها وعدم صحتها، والصحيح أنه يجوز أن يُصلي بالناس، ومثاله: أن يسلم رجلان، ثم أحدهما اختتن، وكلاهما حفظ القرآن، أو حفظا مع بعضهما من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان علمهم على حدٍ سواء، ولكن أحدهم اختتن والثاني لم يختتن، فقالوا: نقدِّم المختون.
وفي مثل هذا يستقيم، فيُقدم المختون على غير المختون؛ لأن هذا تقديم من جهة الدين، والسبب في ذلك أنه التزم بشرع الله أكثر من غير المختون؛ فإنه بادر واختتن، ولذلك يكون هنا التقديم من جهة الدين، ويعتبر زيادة في تقوى الله عز وجل، والتزاماً بحدود الله سبحانه وتعالى.
وقوله: [ومن له ثياب].
لأن شرط صحة الصلاة ستر العورة، فإذا وُجِد العاري وغير العاري فإن الذي يؤم هو الذي قد ستر عورته، ولا يتقدم العاري؛ لأنه إذا تقدم انكشف، وتكون إمامته سبباً في انكشافه ولذلك يتقدم غير العاري على العاري.
وقوله: [أولى من ضدهم].
ولا يُشترط أن يكون العري كاملاً، فلو كان أحدهم عنده ثوبٌ كامل، وآخر عنده ثوب يستر العورة، والثاني عنده ثوب إلى نصف العورة فإننا نقدم من كمُل ستر عورته على من هو دونه.
(60/10)
________________________________________
حكم الصلاة خلف الكافر والفاسق
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
بعد أن بين لنا رحمه الله من الذي يُقدم للإمامة ومراتب الأئمة والمفاضلة بينهم شرع رحمه الله في حكم إمامة من لا تصح الصلاة وراءه، فقال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
والفاسق: مأخوذٌ من قولهم: فسقت الرُّطبة، أو الثمرة عن قِشرها إذا خرجت، فأصل الفِسق في لغة العرب: الخروج، وسُمِّي الفاسق فاسقاً لأنه خارج عن طاعة الله -والعياذ بالله-، وذلك بعصيانه والتمرد عليه سبحانه وتعالى، والفسق يكون على حالتين: الأولى: أن يصل بالإنسان إلى الكفر والعياذ بالله، فإن الكافر يُوصف بكونه فاسقاً لأنه على أعلى درجات الفسق والخروج عن طاعة الله عز وجل.
الثانية: أن يكون دون حد الكفر، بمعنى أن فِسقه لا يُخرجه من الإسلام، ولذلك تجد في القرآن وصف الكفار بالفسق؛ لأنهم خرجوا عن طاعة الله عز وجل على أكمل ما يكون عليه الخروج.
فأما إذا كان الإمام كافراً فالصلاة لا تصح وراءه بإجماع العلماء؛ لأن إمامة الكافر لا تجوز، ولا يجوز تقديمه، ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أنّهم يُلزمون بإعادة الصلاة فلو أن كافراً قُدِّم للصلاة بالناس ولم يعلموا إلا بعد خمس سنوات فإنهم يُلزموا بإعادتها خمس سنوات، ووقع هذا في بعض الأماكن، حيث قدّموا بعض الكفار فصلّوا وراءه أكثر من خمس سنوات، ثم تبين أنه كافر فأعادوا صلاتهم خمس سنوات، وهذا يكون بالترتيب في الفروض على الصفة التي ذكرناها في قضاء الفوائت.
فلا تجوز إمامة الكافر، ولا يجوز تقديمه، ولا تجوز الصلاة وراءه.
وبناءً على ذلك قال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
والفاسق الذي يرتكب الكبائر أو يصر على الصغائر ضد العدل، فالعدل: الذي لا يرتكب الكبيرة ولا يصر على الصغيرة.
كما قيل: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالذي يرتكب الكبائر ولو كبيرة واحدة، أو يصر على الصغائر ويداوم عليها يُوصف بكونه فاسقاً، فلا تصح الصلاة وراءه، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فلو أن إنساناً فاسقاً تقدم وصلى بالناس، فهل صلاتهم وراءه صحيحة أو ليست بصحيحة؟ فللعلماء قولان فيها: القول الأول: الصلاة وراء الفاسق صحيحة، ما دام أن فِسقه لم يخرجه عن الإسلام، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: الصلاة وراء الفاسق باطلة لا تصح إمامته، ولا تصح الصلاة وراءه، وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه.
واستدل الذين قالوا بصحة الصلاة وراء الفاسق بأدلة، أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن أخطأوا فلكم -أي: لكم صلاتكم كاملة- وعليهم): أي عليهم خطؤهم.
فبين أنه لا علاقة للإنسان بفسق الإمام أو صلاحه، فالعبرة بصلاتك، فقال: (يصلون لكم، فإن أصابوا -أي: إن كانوا صالحين- فلكم ولهم -أي: الصلاة على ما هي عليه- وإن أخطئوا -أي: كانوا على خطأ- فلكم -أي: صلاتكم لكم وعليهم خطؤهم-.
وهذا الحديث نصٌ واضح في صحة إمامة الفاسق.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا ذرٍ رضي الله عنه أن يصلي مع الجماعة، وقال: (صلها معهم فإنها لك نافلة)، كما في الصحيح، ووجه الدلالة أنه صحّح صلاته وراء الفسّاق، وأثبت كونها نافلة؛ إذ لو كانت باطلة لم تكن نافلة ولا فريضة.
الدليل الثالث: هدي السلف وإجماع السلف الصالح رحمةُ الله عليهم، فإن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع صليا وراء الحجاج، ومع ذلك لم يحكم أحدهما ببطلان الصلاة وراءه، ولم ينكر عليهما أحد، فدل على أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة.
الدليل الرابع من العقل: قالوا: الفاسق صلاته في نفسه صحيحة، أي: مجزئة لنفسه، فمن باب أولى أن تُجزئ إمامته لغيره.
وتوضيح ذلك أنهم قالوا للحنابلة: الفاسق لو صلى الظهر وصلى العصر فهل تطالبونه بإعادة الظهر والعصر؟ قالوا: لا.
قالوا: ما دام أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره.
أما بالنسبة لمن قال بعدم صحة الصلاة وراء الفاسق ففي الحقيقة ليس لهم دليل واضح صحيح صريح يدل على بطلان الصلاة وراء الفاسق.
ولكن لهم أُصول، منها: أنه إذا تقدم الفاسق وأمّ بالناس فإنه لا يُؤمن أن يحملهم على المحرمات، أو يدعوهم إلى المنكرات، ثم إن هذا فيه انتقاصٌ من مكانة الإمامة، وامتهانٌ لهذه الإمامة التي تقوم عليها أعظم شعائر الدين بعد الشهادتين وهي الصلاة، ولهم في ذلك اجتهادات، لكن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة، وأن الفاسق له صلاته، فكما أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره.
فقوله رحمه الله: [ولا خلف فاسق ككافر] جمع به رحمه الله بين هذه المسائل: أولاً: عدم صحة الصلاة وراء الفاسق، وهذا مذهب مرجوح.
ثانياً: عدم صحة الصلاة وراء الكافر، وهذا يكاد يكون إجماعاً.
ثالثاً: الدليل في قوله: [خلف فاسق ككافر] قياس.
(60/11)
________________________________________
أدلة تقديم الفقيه للإمامة
(60/12)
________________________________________
حكم صلاة الرجال خلف امرأة أو خنثى
قال رحمه الله تعالى: [ولا امرأة وخنثى للرجال] أي: ولا تصح الصلاة وراء امرأةٍ، أي: الرجال أن تكون إمامتهم امرأة، فلا تجوز إمامة المرأة للرجال، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن شذّ بعض العلماء -ويُنسب الشذوذ إلى الطبري وداود - فقالوا: يجوز أن تؤم المرأة الرجال.
وهذا قولٌ شاذ، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)، وقال في الحديث: (استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فخير الأمور الصلاة، فإذا لم تصح إمامتها فيما هو دونها، وورد الوعيد فيما دونها فمن باب أولى في الصلاة نفسها، فلا تُقدَّم المرأة للإمامة بالرجال، ولأنها إذا تقدمت بالرجال فَتنت أو فُتِنت، أو اجتمعت الفتنتين، فكانت الإمامة فتنةً لها في نفسها وفتنةً لغيرها، فلا تتقدم المرأة على الرجال.
قوله: [وخنثى] كذلك الخنثى؛ لأن الخنثى محكومٌ بكونه أنثى، ولا يؤم الرجال، وإنما يؤم من هو مثله، أو يؤم من هو دونه وهي المرأة.
(60/13)
________________________________________
الأسئلة
(60/14)
________________________________________
الفرق بين الإمامة والأذان من حيث الفضل

السؤال
أيهما أفضل: الإمامة أم الأذان؟

الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك: فمذهب الجمهور أن الإمامة أفضل، وذلك لأن الإمامة هي المقصد، والأذان وسيلةٌ للإمامة والصلاة جماعة، ولأن الإمامة يُشترط فيها من الفضائل ما لا يشترط في الأذان، ويشترط لصحة الصلاة نفسها ما لا يشترط لصحة الأذان، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أم، وأمّ مِن بعده الخلفاء الراشدون، وكذلك أيضاً لم يُحفظ عنه عليه الصلاة والسلام نصٌ صحيح بتقديم الأذان على الإمامة، ولهذا قالوا بتقديم الإمامة على الأذان.
القول الثاني: الأذان أفضل.
وهو روايةٌ عن الإمام أحمد رحمةُ الله عليه اختارها جمعٌ من أصحابه، وقيل: إنها هي المذهب، فالأذان أفضل من الإمامة.
واحتجوا بما أُثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لولا الخلافة لأذّنت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، وهو حديث أبي داود وأحمد في مسنده عن أبي هريرة.
قالوا: هذا يدل على أن الأذان أفضل من الإمامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا حجرٌ ولا شجرٌ إلا شهد له يوم القيامة)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذنون) قالوا: هذا يدل على فضل الأذان، وأنه أفضل من الإمامة.
والصحيح أن الإمامة أفضل من الأذان؛ لأن الله اختارها لنبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يحفظ في حديث واحدٍ أنه تولّى عليه الصلاة والسلام الأذان.
وأما كونه يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على فضل الأذان فإن هذا لا يدل على أنه أفضل من الإمامة، ألا ترى الصلوات النوافل وردت فيها أحاديث بفضلها، ولم يرد بخصوص صلاة الفرائض كصلاة الفجر والعشاء والمغرب مثل الأحاديث التي وردت في النوافل، ولذلك الإمامة مقدمة من وجوهٍ عديدة، فإن الإنسان إذا نظر إلى ما للإمامة من مسئولية ومن تحمل أعباء أدرك ذلك، ولما فيها من الفضل، كما قال بعض السلف: من صلى بالناس كُتب له أجره.
يعني أن الإمام له أجر من يصلي وراءه قلُّوا أو كثروا، وهذا فضل عظيم، مع ما في مواعظهم وتذكيرهم؛ فإن الإمام يذكِّر الناس في الخطب، وفي المواعظ العابرة، وفي المناسبات المقتضية لذلك، وهذا التذكير فيه حياةٌ للقلوب، ودلالةٌ على الخير، وانشراحٌ للصدور، وهداية إلى سبيل الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، فإن (مَنْ): بمعنى (لا)، أي: ولا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله.
وقد يقول قائل: إن هذه وردت في المؤذن! فنقولك هذا قول مرجوح، وإنما هي عامة.
وعلى هذا نقول: المؤذن داعٍ إلى شيء معين وهو الصلاة، والإمام الخطيب داعٍ إلى أشياء، بل داعٍ إلى شعائر الإسلام كلها، فإن قلت بتفضيل المؤذن لكونِه يدعو إلى الصلاة فإن الإمام يقوم بها، وإن قلت إنه يدعو فإن الإمام يدعو إلى الصلاة، ويدعو إلى ما هو أعظم وأجل، كدعوته إلى توحيد الله عز وجل، وخطبته في الناس وتذكيره، فالذي يظهر -والعلم عند الله- أن القول بترجيح الإمامةَ أولى وأحرى، وأن الإمامة لها فضلٌ عظيم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) دليلٌ لنا لا علينا؛ فإن قوله: (اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) يدل على فضل الإمام؛ لأنه لعظم مسئوليتها صرف الدعوة إلى أن يعينهم على أدائها حتى يكون أجرهم أكثر، وقال عليه الصلاة والسلام: (واغفر للمؤذنين) فلخفة أعباء الأذان كان الدعاء لهم بما يناسبهم، وقال بعض العلماء: إنما هو دعاءٌ بما يناسب الحال لا علاقة له بالتفضيل، والذي يظهر -والله أعلم- أن تفضيل الإمامة أولى وأحرى، وذلك لما ذكرناه من الوجوه التي بُنِيت على النقل والعقل والقول بتفضيلها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.
والله تعالى أعلم.
(60/15)
________________________________________
حالات المأمومين أثناء سهو الإمام

السؤال
إذا قام الإمام لركعةٍ خامسة فهل المسبوق بركعة يصلى معه الخامسة وهي له رابعة، أم ماذا يفعل؟

الجواب
إذا قام الإمام لخامسة فحينئذٍ الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من منهم تامةٌ صلاته ويعلم بخطأ الإمام، فحينئذٍ يجب عليه أن يبقى في التشهد، ويترك الإمام يُتم الخامسة ويتشهد معه ويسلم، أي: يتشهد ويطيل في الدعاء حتى ينتهي الإمام من الركعة الخامسة الزائدة، فأنت معذور لأن الواجب عليك أربع، والإمام معذور لأنه مأمور إذا شك أن يُتِم الخامسة، وأما المأموم فيبقى على ما هو عليه وصلاته صحيحة.
القسم الثاني: من يكون غير عالم بزيادة الإمام، فتلزمه متابعة الإمام ولا يجوز له أن يبقى؛ لأنه ملزم بالمتابعة حتى يتيقن أنها الخامسة فيجلس كالطائفة الأولى، وبناءً على ذلك إذا لم تعلم هذه الزيادة، ولم تدرِ هل زاد أم لم يزد.
فالأصل أنك تتابع، فتصلي معه، فإن تبيّن أنها خامسة فصلاتك صحيحة؛ لأنك كالإمام لمكان العذر بالسهو.
القسم الثالث: هم الذين سُبِقوا بأجزاء من الصلاة، أو بكل الصلاة، فهؤلاء يتابعون الإمام ويصلون معه الركعة الخامسة؛ لأنهم مأمورون بالاقتداء بالإمام، والإمام معذورٌ فيما زاد، وبناءً على ذلك: ركعة الإمام صالحةٌ له وصالحةٌ لمن وراءه، فلو أنك علمت أنها زائدة وقد فاتتك ركعة دخلت وراءه وأتممت وسلمت معهم، فتسلم معه لأنه قد تمت لك أربع ركعات، فأنت مأمورٌ بالصلاة أربعاً، ومأمور بمتابعة الإمام، فتابعت الإمام فيما يُشرع لا فيما يُمنع، والطائفة الأولى إنما تعذرت عليها المتابعة لأنها في الممنوع لا في المشروع، والله تعالى أعلم.
(60/16)
________________________________________
حكم الصلاة في مسجد فيه قبر

السؤال
ما حكم الصلاة في المسجد الذي به قبر؟

الجواب
لا تجوز الصلاة في القبور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى، واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: يحذر مما صنعوا.
أي: يُحذِّر أمته أن تصنع كما صنعت اليهود والنصارى.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح يبيِّن لنا أنه لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، فلا تجوز الصلاة على قبر، ولا عند قبر، ولا بين القبور، وكذلك لا تجوز الصلاة إلى القبور، كأن تكون جدرانها متصلة بالمساجد.
وهذا القول قال به جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقال جمعٌ منهم بعدم صحةِ الصلاة، وأنها باطلة ولو صلى في المقابر فإن صلاته غير صحيحة.
ويستثنى من هذا الصلاة على الجنازة في القبر إذا دُفِن وقُبر، فقال بعض السلف بجواز الصلاة على الميت بعد قبره، ثم اختلفوا في المدة فقال بعضهم: في حدود ثلاثة أشهر.
وقال آخرون: في حدود ستة أشهر.
وقال آخرون: ما لم يبلَ.
فهي ثلاثة أقوال للعلماء الذين يقولون بجواز الصلاة على القبر بعد دفنه، وإن كان الأقوى والأولى من ناحية الدليل أن الصلاة على القبر مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما صلّى على المرأة التي كانت تقيم المسجد قال: (إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم)، فهذا يقتضي التخصيص كما يقول الجمهور، حيث قال: (ينورها بصلاتي)، وهذه رواية مسلم، لكن لو أن إنساناً صلّى على قبر يتأول قول من يقول بالجواز فلا حرج.
فالشاهد أنه لا تجوز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لعدم صحة الصلاة فيه، ولأنه ذريعة إلى الشرك والعياذ بالله؛ فإن الصلاة على القبور أو عند القبور تفضي إلى تعظيمها، وقد حدث الشرك أول ما حدث في قوم نوح بتعظيم الصالحين، وذلك حينما صوّروا صورهم، ثم جاء مِن بعدهم جيل فعبدوهم والعياذ بالله، وكان السبب في عبادتهم تعظيم الأوائل لهم.
فالصلاة عند القبر تعظيم له، فقد يُعتقد أن هذه البقعة لها فضل ولها مزيَّة، ولذلك إذا فُتح هذا الباب للجهال فإنهم يسترسلون ويقعون في الشرك -والعياذ بالله-، كما هو واقع في بعض الأماكن -نسأل الله السلامة والعافية-؛ فإنه لما بُنِيت المساجد على القبور طافوا واستغاثوا بها، وذبحوا ونذروا لها -نسأل الله السلامة والعافية- حتى إنهم يعظمونها كتعظيمهم لبيت الله الحرام -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم لو دُعي إلى تعظيم شيء من هذه الأمور فإنه قد يُعظمها أكثر من البيت، فلو دُعي للحلف عند قبر فلان من الصالحين ودعي للحلف عند الكعبة لربما وجد أن الحلف عند قبر الصالح أشد وأعظم من الحلف عند البيت، وقيل لرجل: أتحلف بالله؟ فحلف بالله أيماناً مغلظة أنه ما فعل.
فقيل له: احلف بفلان الصالح؟ قال: لا.
فأصبح -والعياذ بالله- تعظيمه لهذا أكثر من تعظيمه لله، وهذا بسبب الجهل، وبسبب التساهل في الذرائع التي تُفضي إلى الشرك، فلا تجوز الصلاة في القبور أو عندها أو الصلاة إليها.
والله تعالى أعلم.
(60/17)
________________________________________
حكم من صلى بالناس وهو محدث وعلم ذلك بعد الصلاة

السؤال
لو صلى الإمام بجماعةٍ وهو محدث، ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة، فهل يخبر المأمومين ويُعتبر من واجبات الإمامة بيان هذا الأمر؟

الجواب
إذا صلى الإمام وهو محدث ثم تبيّن له بعد الصلاة وبعد تمام الصلاة أنه كان محدثاً فصلاة من وراءه صحيحة، ولا يلزمه أن يخبرهم، بل يقتصر على الوضوء إذا كان محدثاً حدثاً أصغر، أو الغسل وإعادة الصلاة إن كان محدثاً حدثاً أكبر، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه -كما روى مالك في الموطأ- أنه صلى بالناس الصبح -أي: الفجر- ثم انطلق إلى مزرعةٍ له بالجرف -وهي من ضواحي المدينة- فلما جلس على الساقية -أي: على القنطرة التي فيها الماء- رأى أثر المني على فخِذه، فقال: ما أُراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت.
وهذا بعد طلوع الشمس، ثم اغتسل رضي الله عنه، وفي رواية قال: إنا لما أصبنا الودك لانت العروق.
اغتسل رضي الله عنه وصلى، ولم يأمر الناس بالإعادة.
قالوا: وهذا القول هو قول جمهور العلماء رحمةُ الله عليهم، وله أصل في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في صحيح البخاري: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم صحيحة وعليهم خطؤهم.
ولكن لا يجوز للإمام أن يتقدم بالناس وهو مُحدِث، ولا يجوز للمأموم أن يأتم به إذا علم حَدَثَه، أو رأى عليه نجاسة، فإنك إذا رأيت حدثه وعلمت كونه مُحدِثاً، أو رأيت الإمام وقد دخل وقضى حاجته وانتقض وضوؤه، أو سمعت منه ما يُوجب انتقاض وضوئه، ثم رأيت منه الذهول والنسيان، فتقدم بالناس وصلَّى فلا يجوز لك أن تأتم به، وإن ائتممت به فذهب طائفة من العلماء إلى أن الصلاة باطلة ولا تصح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(60/18)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [2]
من المسائل المتعلقة بالإمامة: من هم الذين تصح خلفهم الصلاة والذين لا تصح خلفهم الصلاة؟ وهنا بيان للذين لا تصح الصلاة خلفهم، وهم: الصبي غير البالغ، إلا أن فيه خلافاً والصحيح الجواز، ومنهم: الأخرس والعاجز عن الركوع أو السجود أو القيام أو القعود.
وتصح الصلاة خلف من به سلس البول بمثله، ولا تصح خلف محدث ولا متنجس، ولا أمي لا يحسن القراءة.
وهناك من تكره إمامتهم في الصلاة ذكرهم العلماء في باب الإمامة.
(61/1)
________________________________________
تابع أحكام الإمامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر، ولا امرأة وخنثى للرجال، ولا صبي لبالغ].
ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأمور التي تؤثر في الإمامة، فبين رحمه الله من لا تصح إمامته، وذكرنا عدم صحة إمامة الكافر بالمسلمين وبينا وجه ذلك، ثم تعرض رحمه الله لإمامة الفاسق، وبينا أن مذهب الحنابلة رحمة الله عليهم وجمهور أهل العلم على أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة؛ لثبوت الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم.
وقال العلماء: إن الفاسق تجزئه في حق نفسه، ولذلك تصح إمامته لغيره.
وبينا أن السلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يصلون خلف الفساق وما كانوا يبطلون الصلاة، كما هو فعل أنس بن مالك وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.
ثم بعد ذلك ذكرنا إمامة المرأة للرجال، وقلنا: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وأما إمامتها للنساء فللعلماء فيها قولان.
وأما الدليل على أن المرأة لا تؤم الرجال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)، فالنساء جبلن على الضعف الذي هو كمال لهن في أمورهن الخاصة، وجعل الله هذا الضعف رفقاً بهن وبغيرهن، وفيه خيرٌ لهن ولغيرهن، ثم جعل في الرجل ما لم يجعله للمرأة من إمامة الرجال لافتتان الرجال بها وافتتانها بهم، ولذلك يضيع المقصود من الإمامة والصلاة من قصد القربة إلى الله عز وجل، وبناءً على ذلك لا تصح إمامة المرأة للرجال، وشذ داود والطبري رحمة الله عليهما، فقالا بصحة إمامة المرأة للرجال، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
وهذا القول ضعيف لمعارضته للسنة الصحيحة التي دلت على عدم ولاية المرأة، والإمامة ولاية، والصلاة كذلك من أعظم الأمور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).
وأما بالنسبة لاحتجاجهم بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فمحل نظر؛ لأن لفظ (القوم) يطلق بمعنى الرجال، كما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11]، فقيل: إن القوم يطلق ويراد به الرجال خاصة، بدليل عطف النساء عليه بعد ذلك بقوله تعالى: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، فلم تجتزئ الآية بذكر القوم حتى خصصت ذكر النساء، فدل على أن القوم يطلق ويراد به الرجال.
وأيضاً قول الشاعر: فما أدري ولست إخال أدري أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ؟ فقوله: أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ؟ أي: هل هم رجال أم نساء؟ فدل على إطلاق القوم وإرادة الرجال وحدهم، وهذا هو لسان العرب الذي نطق به القرآن، وكذلك نطقت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على ذلك لا تؤم المرأة الرجال، ولكن يرد

السؤال
هل المرأة تؤم النساء؟ في هذه المسألة قولان: فقالت الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم: إن المرأة تؤم النساء.
واحتجوا بحديث أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده: (أن أم ورقة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت امرأة صالحة- أن تؤم أهل دارها، فأذن لها -عليه الصلاة والسلام- بذلك)، وكان يؤذن لها رجلٌ أعمى كفيف البصر، قال الراوي: فلقد رأيته قد سقط حاجباه فكان يؤذن لها، ثم تؤم أهل دارها، فدل على أنها تؤم النساء مثلها.
وقالت الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم: إن المرأة لا تؤم النساء.
وهذا قولٌ ضعيف، وقد احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (آخروهن حيث أخرهن الله)، وهو حديث ضعيف.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، فقالوا: إن الإمامة تكون فضلاً، ولكن على هذا الوجه تكون بخلافه فتعارض مقصود الشرع من تأخير النساء.
والصحيح جواز إمامة المرأة للنساء، وبناءً على ذلك فلا حرج أن تصلي المرأة بمثلها من النساء.
ثم قال رحمه الله: [ولا صبي لبالغ].
أي: لا تصح إمامة الصبي للبالغ.
والصبي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون غير مميز، وهو الصبي الطائش الذي لا يضبط أمور الصلاة ولا يعيها ولا يعقلها، فهذا لا يؤم البالغين بالإجماع.
والحالة الثانية: أن يكون الصبي يميز، والمميز للعلماء فيه ضابطان: فمنهم من يضبطه بالسن فيقول: هو الذي بلغ سبع سنين، وهو المميز، فمن كان دون سبع سنين فليس بمميز.
واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل هذا الحديث على أن سن السبع هو سن التمييز، وأن الصبي يؤمر بالصلاة لسبع، وما دون سبع لا يؤمر لها، فدلنا على أن السبع فاصل بين التمييز وعدمه.
وهناك قولٌ ثانٍ ضبط الصبي المميز بضابط الحال، فقالوا: الصبي المميز هو الذي يفهم الخِطاب ويحسن الجواب.
أي: إذا كلمته فهم ما تريد، وإذا أجابك أحسن الجواب على الوجه الذي تطلب والفرق بين القولين: أن الصبي قد يكون قوي الذكاء فيحسن الجواب والخطاب وعمره خمس سنوات، أو ست سنوات؛ فحينئذٍ -على القول الأول- ليس بمميز، وعلى القول الثاني هو مميز، والصحيح اعتبار السن.
فقوله: [ولا صبي لبالغ] أي: ولا تصح إمامة الصبي، والصبي من هو دون البلوغ، ومحل الخلاف في المميز، واختلف العلماء لو أن صبياً كان حافظاً لكتاب الله عز وجل، وأمّ البالغين فهل تصح إمامته أو لا تصح؟ وجمهور العلماء على أن الصبي لا يؤم البالغين، وأنه لا يؤم البالغين إلا البالغ.
وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة رحمةُ الله على الجميع.
القول الثاني: إن الصبي إذا كان أحفظ القوم فإنه يؤم البالغين ولا حرج في ذلك، وبهذا القول قال الإمام الشافعي، وهو كذلك قولٌ لطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله على الجميع.
والذين قالوا: لا يؤم الصبي البالغين احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب البالغين فقال في الحديث الثابت في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يخاطب البالغين، فدل على أنه لا يؤم البالغين إلا واحد منهم.
وقالوا أيضاً: إن الصبي كالمجنون؛ لأن الصبي لم يبلغ الحلُم ولم يكتمل عقله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع القلم عن ثلاثة) ثم قال: (وعن الصبي حتى يحتلم)، فأخبر أنه لا يبلغ الحلم والعقل، وهذا معروف ومجمع عليه، فالصبي لا عقل عنده بمعنى الكمال، وبناءً على ذلك قالوا: إنه كالمجنون وهذا ضربٌ من القياس والنظر.
الوجه الثالث: قالوا: إن الصبي إذا أمّ البالغين فإنه متنفل؛ لأن الصلاة ليست بواجبةٍ عليه، والذين يصلون وراءه من البالغين مفترضون، ولا يؤم المتنفل المفترض.
فهذه هي أوجه من قال بعدم صحة إمامة الصبي للبالغين.
أما الذين قالوا بصحة إمامة الصبي للبالغين فاحتجوا بحديث عمرو بن سلمة -وهو ثابت في الصحيح- أنه قال: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة ومعنى هذه العبارة: أن العرب كانوا يقولون: اتركوا هذا الرجل وقومه، وكانوا يجلون قريشاً ويقدرونها ويعظمون أمرها، وكانوا يقولون: أهل الحرم -أي: أهل مكة- لا يقصدهم ظالم إلا آذاه الله عز وجل، ولا يسلم من نقمة الله عز وجل.
فقالوا: إن كان محمدٌ ظالماً فسيكفيكم أمره ظلمه لقريش، وإن كان على حق وغلبهم أسلمنا وأطعنا، فقال عمرو بن سلمة: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة.
أي: تنتظر ما الذي سيجري بين محمدٍ وأهل مكة، فلما فتحت مكة ظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم دينه دين حق؛ لأنه لو لم يكن على حق لما فتحت له مكة، كما قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، قال: فقدم أبي وقومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهم ما شاء الله أن يعلمهم من أمور الإسلام وشرائعه.
قال: ثم قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا صلاة كذا في حين كذا وكذا وليؤمكم أكثركم قرآناً)، والرواية في الصحيح تقول: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذاً للقرآن فقدموني.
قالوا: وهذا الحديث فيه أن عمرو بن سلمة وهو غلام ابن تسع سنوات قد أمَّ هؤلاء البالغين، وكان في عصر التشريع والوحي، فلو كانت إمامة الصبي للبالغين لا تصح لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك.
ووجه هذا أنهم قالوا: إن عموم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يدل على أن الصبي إذا كان حافظاً للقرآن فإنه يقدم.
وناقش الجمهور هذا الحديث من وجوه: فكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا ذكر هذا الحديث -كما نقل عنه الإمام ابن قدامة وغيره- يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيء هذا؟ دعه فإنه ليس ببين.
والسبب في هذا أن حديث عمرو بن سلمة فيه إشكال، ووجهه أنه يقول: (كنت أؤمهم) وكان من التابعين ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سجد بدت عورته كما في رواية البخاري، فقالت امرأة: استروا عنا است قارئكم.
فالإمام أحمد فطن إلى هذا المأخذ؛ إذ إن الإنسان لو صلى مكشوف العورة بالاختيار لبطلت صلاته، فدل على أنهم مجتهدون وهم قريبوا العهد بالجاهلية كما هو ظاهر الرواية في الصحيح، فكان رحمه الله يقول: أي شيءٍ هذا؟ دعوه فإنه ليس ببين.
أي: إذا أُخذ على ظاهره من أنهم اجتهدوا؛ لأنه قال: فرجعوا فنظروا.
فقوله: (فنظروا) واضح في الدلال على أنهم اجتهدوا.
كما رد الجمهور على هذا الحديث
(61/2)
________________________________________
حكم إمامة الأخرس
قال رحمه الله: [وأخرس].
أي: ولا تصح الإمامة من أخرس، وهو الذي لا ينطق، وكل من كان مبتلىً بالخرس -على أحد الوجهين- فإنه لا يتقدم الناس، والسبب في ذلك أن الإمام يتحمل القراءة، قال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن)، فالأخرس لا يستطيع القراءة، فكيف يتحمل عن الناس قراءتهم؟ وكيف يقوم بواجبات الصلاة وأركانها المشتملة على قراءة الفاتحة، وهكذا بالنسبة لأذكار الانتقال من التكبير والتسميع ونحو ذلك؟ فلا تصح إمامة الأخرس.
(61/3)
________________________________________
حكم إمامة العاجز عن الركوع أو السجود
قال رحمه الله: [ولا عاجز عن ركوعٍ أو سجود أو قعود أو قيام].
هذه كلها أركان للصلاة، فالقيام مع القدرة والركوع والسجود والجلوس كلها من أركان الصلاة، فقالوا: إذا كان الإمام عاجزاً عن القيام أو الجلوس أو الركوع أو السجود فإنه لا يصلي بغيره، والسبب في ذلك أنه معذورٌ في نفسه وغيره غير معذور، فعذره لا يتعدى إلى الغير، ومن ثم قالوا: لا يؤم العاجز عن القيام والعاجز عن الركوع والسجود غيره، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالساً في موضعين: الموضع الأول: حينما وقع من على فرسه وجرح شقه الأيمن، قال أنس -كما في صحيح مسلم-: (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على فرس فجحش شقه الأيمن -أي: جرح-، فصلى قاعداً فصلى وراءه أصحابه قياماً، فلما سلم قال: لقد كدتم أ، تفعلوا فعل الأعاجم.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا.
وإذا رفع فارفعوا، إلى أن قال: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)، فهذا يدل على أنهم يقتدون بالإمام إذا كان جالساً، وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان معذوراً وهو الإمام الراتب جاز أن يصلي بالناس قاعداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمامٌ راتب.
والذين يقولون بالمنع من إمامة من يعجز عن الركوع والسجود والقيام السبب عندهم أن العجز مختصٌ به والإمام ضامن، وبناءً على ذلك لا يكون الناقص ضامن للكامل، وعلى هذا لا يحمل ولا يضمن للناس صلاةً فلا يصح أن يتقدم بهم، وهناك حديث: (لا يؤمن أحدٌ بعدي جالساً)، وهو حديث ضعيف.
قال رحمه الله: [إلا إمام الحي المرجو زوال علته، ويصلون وراءه ندباً].
هذه المسألة فيها خلاف، فقال بعض العلماء: لا يؤم الإمام الجالس أو القاعد مطلقاً، سواءٌ أكان إمام حيّ أم غيره.
ويحتجون بالحديث الذي ذكرناه، ومنهم من قال: يؤم الإمام ولو كان جالساً إذا كان إماماً راتباً أو إمام الحي فإنه يؤم جالساً ويصلي الناس وراءه، واختلفوا في المأمومين على قولين، فقيل: يصلون قياماً.
وقيل: يصلون جلوساً مثله.
فالذين قالوا: يؤم ويصلي الناس وراءه جلوساً يحتجون بحديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط من على الفرس وصلى جالساً عتب على الصحابة أن صلوا وراءه قياماً، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا يدل على أن الإمام لا يصلى وراءه إلا بالصفة التي هو عليها، فإن صلى معذوراً جالساً صلينا وراءه جلوساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين).
القول الثاني يقول: لا يصلون وراءه جلوساً، وإنما يصلون وراءه قياماً؛ لأن الإمام معذورٌ في حق نفسه ومن وراءه غير معذور، فهو مخاطبٌ بأن يقوم كما أمره الله، فيبقى العذر مخصوصاً بصاحبه ويبقى غيره على القيام، فقيل لهم: كيف تجيبون عن حديث أنس؟ قالوا: حديث أنس كان في أول الأمر، ثم نسخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرضه.
فإنه لما مرض مرضَ الموت وتقدم أبو بكر ليصلي بالناس جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ثم قعد فصلى، فصلى أبو بكر بصلاته يسمع الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً والصحابة من ورائه قياماً، فقالوا: هذا وقع في آخر إمامةٍ أَمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، ويؤكدون هذا بأن النصوص قوية في الدلالة على مخاطبة المكلف بالقيام، فنبقي هذه النصوص التي أوجبت القادر على القيام على دلالتها، ثم يستثنى الإمام لمكان العذر، وتكون صورة الصلاة كصورة إمامته عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة التي كانت آخر حياته، بل كانت آخر إمامةٍ وقعت منه عليه الصلاة والسلام للصحابة.
وجمع الإمام أحمد رحمةُ الله عليه بين هذه النصوص فقال: إذا كان إمام الحي المرجو زوال علته فإنهم يصلون وراءه جلوساً -على الصفة التي ذكرناها، ويكون ذلك ندباً كما ذكر العلماء رحمةُ الله عليهم، وهذا بأمره عليه الصلاة والسلام- وأما إذا كان طرأ عليه العذر أثناء الصلاة فإنهم يصلون وراءه قياماً.
فجمع بين الحديثين بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعين) عام سواءٌ أبتدأ الصلاة جالساً أم طرأ عليه الجلوس أثناءه، وأما حديث مرض الموت فإن الجلوس من الإمام طرأ ولم يكن في أول الصلاة؛ لأن الذي استفتح الصلاة إمامٌ قائم وهو أبو بكر، والجلوس طرأ بعد هذه الإمامة، وبناءً على ذلك يقول: كأنه وجب عليهم أن يقوموا في مرض الموت، وبقي حديث أنس على العموم.
فكأنه يرى أنه لا يصلي المأمومون وراء الإمام قياماً إلا في حالةٍ واحدة، وهي أن يستفتح الصلاة بهم وهو صحيح ثم يشتد عليه مرضه فيجلس، فإذا استفتح بهم الصلاة وهو صحيح واشتد عليه المرض وجلس فيصلي المأمون وراءه قياماً، وأما في غيرها، كأن يصلي من بداية الصلاة جالساً فيصلي الناس وراءه جلوساً.
فهذا في الحقيقة فيه الجمع بين النصوص وهو أقوى الأقوال -إن شاء الله- وأقربها إلى الصواب.
وقوله: [ويصلون وراءه جلوساً ندبا].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، فصُرِف الأمر من الوجوب إلى الندب لوجود حديث مرض الموت؛ لأنه معارض لحديث الأمر، فحملوا الأمر على أنه محمول على الندب، وأكدوا هذا بأن الصحابة لما صلوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم قياماً لم يؤثمهم.
وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.
قال رحمه الله: [وإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياماً وجوباً].
هذا على ظاهر حديث مرض الموت، فإن الصحابة بقوا على حالتهم وهم قائمون، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وبناءً على ذلك نقول: إذا دخلت المسجد والإمام الراتب يريد أن يصلي جالساً واستفتح الصلاة جالساً فصل وراءه جالساً، ودليلك حديث أنس: (وإذا صلى جالساً فصلوا وراءه جلوساً أجمعين)، وأما إذا دخلت والإمام يستفتح الصلاة وليست به علة، ثم طرأ عليه المرض، أو طرأ عليه العذر فاحتاج للجلوس فإنك تبقى على القيام حتى تتم الصلاة لحديث مرض الموت.
(61/4)
________________________________________
حكم إمامة من به سلس البول
قال رحمه الله: [وتصح خلف من به سلس البول بمثله].
بعد أن ذكرنا المعذور في الأركان انتقل إلى المعذور في الشروط، فابتدأ بالمعذور في شرط الطهارة.
فلو كان الإمام به علة، أو به مرض كسلس البول، فهذا المرض -في الأصل- يقتضي أنه معذور، وبناءً على ذلك فإن طهارته لا تأتي على الوجه الكامل، وإنما رُخّص له أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وإلا فإنه غير متوضئ؛ لأن السلس لا يمكنه من إبقاء طهارته على ما هي عليه، فكأنك تصلي وراء إنسانٍ محدث، وبناءً على ذلك قالوا: هذا عذرٌ في حق نفسه أن يصلي وبه سلس، والإمام -خاصة على مذهب الحنابلة والحنفية- يحمل الفاتحة عن المأموم، ويحمل الأركان، فقالوا: لا بد وأن يكون على صفةٍ يكون بها حصول براءة الذمة، وهي أن يكون متطهراً، فلا يكون محدثاً، أو في حكم المحدث، فقالوا: صحيح أن الشرع عذره أن يصلي وبه سلس البول، ولكن عذره في حق نفسه، ولم يأتنا دليل أن من به سلس يصلي بالناس، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي بغيرهِ، وإنما يصلي بمن هو مثله، فلو وجد إنسان به سلس البول إماماً به سلس بول فإنه يصلي معه؛ لأن حالتهما واحدة، فيبني المثل على مثله، أما القوي فلا يبنى على الضعيف.
(61/5)
________________________________________
حكم صلاة المأمومين خلف محدث
قال رحمه الله: [ولا تصح خلف مُحدِث].
قوله: [ولا تصح خلف محدث] عموم، سواءٌ أحدث حدثاً أصغر أم أكبر، وصورة ذلك أن يعلم المأمومون أن إمامهم محدث، فإن علموا أن إمامهم محدث فإنه لا يجوز لهم أن يأتموا به، ولو وقع الحدث أثناء الصلاة وتابعوه بركنٍ واحد بعد الحدث بطلت صلاتهم، وإنما يلزمهم بمجرد حدث الإمام أن ينووا مفارقته.
فلو أن إماماً تقدم، ثم أحدث أثناء صلاته وإمامته، سواءٌ في أول الصلاة أم في وسطها أم في آخرها قبل تمامها، فالذي يفعله الإنسان هو أنه إذا أمكن أن يستخلف فلا إشكال، لكن لو كان جاهلاً، أو لا يمكنه الاستخلاف فإنك تنوي المفارقة، وتنوي مفارقته كأنك منفرد، وتحتسب لنفسك ما كان من صلاتك، وبناءً على ذلك لو أحدث في الركعة الثانية وأنت في الظهر فتتم الثانية ثم الثالثة والرابعة وتسلم، وهذا إذا أحدث وعلمت بحدثه أثناء الصلاة، أما لو علمت بحدثه قبل الصلاة فلا يجوز لك أن تأتم بإمام محدث، وبناءً على ذلك لو ائتم به وهو يعلم بحدثه قبل الصلاة بطلت صلاته.
وهناك صورةٌ ثالثة وهي لو أن هذا الإمام كان محدثاً ولم يعلم المأمومون إلا بعد انتهاء الصلاة، كما لو قام إلى صلاة الفجر يظن أنه على غير جنابة، فتوضأ ثم صلى بالناس، وبعد أن سلم وانتهى تبين له أنه محدث، أو أحدث حدثاً أصغر ثم نسي أنه محدث، فتذكر أنه على طهارة ولم يذكر الحدث الذي بعد طهارته، ثم تقدم وصلى بالناس، وبعد أن صلى تذكر أنه أحدث قبل صلاته، فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إذا كان الإمام محدثاً ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الصلاة فإن صلاتهم صحيحة.
وبهذا قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث.
أي أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للحدث، ثم لم يتذكر إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاة المأمومين وراءه صحيحة، ولو كان بعد تسليمه مباشرة.
القول الثاني: إن صلاة المأمومين فاسدة وتلزمهم الإعادة حتى ولو بعد سنوات وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمةُ الله على الجميع.
واستدل الجمهور على صحة صلاة المأمومين بما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأو فلكم وعليهم)، فوجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: (وإن أخطأوا فلكم) أي: لكم صلاتكم كاملة، (وعليهم) أي: عليهم خطؤهم.
وهذا عام يشمل خطأ الشروط وخطأ غيرها.
وبناءً على ذلك يقولون: إن هذا يدل على صحة الصلاة وراء الإمام المحدث.
وكذلك احتج الجمهور بإجماع الصحابة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما روى مالك عنه في الموطأ- صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف بضاحية المدينة، فلما جلس على الساقية -على قنطرة الماء- نظر إلى فخذه فإذا هو بأثر الماء من الاحتلام فقال: ما أُراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت.
فقام رضي الله عنه مباشرة واغتسل وأعاد صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، ولم يأمر الناس بالإعادة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم.
فهذه سنةٌ راشدة عن خليفةٍ راشد في نفس المسألة المتنازع عليها، ولم ينكر عليه أحدٌ من فقهاء الصحابة وأجلائهم، وبناءً على ذلك فكأنه إجماع منهم أن الإمام إذا صلى بالناس وهو لا يعلم بحدثه فإن صلاتهم صحيحة، ولا تلزمهم الإعادة.
وأما الذين قالوا بأنه تلزمهم الإعادة فإنهم احتجوا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم رأى أثر الاحتلام، فأمر منادياً أن ينادي في الناس بإعادة صلاة الفجر.
ووجه الدلالة أن علياً أعاد الصلاة، ولم تكن الإعادة لازمة حتى ألزم الناس بها.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بعدم الإعادة، وأن الصلاة صحيحة؛ لظاهر الأدلة من السنة والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من أثر علي ففيه كلام، ولو صح فإنه معارض بما هو أقوى، ويحتمل أن علياً لم يبلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ونقول: إن فعل علياً قد عارضه فعل عمر، ولا شك أن عمر رضي الله عنه محدَّثٌ ملهم مقدم؛ لأنه إذا تعارضت آراء الصحابة نظر إلى الفضائل، ففضل عمر رضي الله عنه لا شك أنه مقدمٌ على فضل علي رضي الله عن الجميع.
وبناءً على هذا فإن الذي يترجح هو القول بصحة الصلاة، وأن المأمومين لا تلزمهم الإعادة، ودرج على هذا المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور كما قلنا.
(61/6)
________________________________________
حكم صلاة المأمومين خلف متنجس
قال رحمه الله: [ولا متنجس يعلم ذلك، فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده).
قوله: [ولا متنجس] أي: ولا تصح الصلاة وراء متنجس يعلم بنجاسته، كإنسان -مثلاً- كان على ثوبه بول، أو غيره من النجاسات، فإنك إذا رأيت النجاسة في ثوب الإمام فإن أمكنك أن تريه النجاسة وينصرف ويستخلف فلا إشكال، فلو أن النجاسة في طرف كمه فإنك تتقدم إلى جوار الإمام وتسحب كمه لتريه -لأنها حركة لمصلحة الصلاة- حتى يستخلف وتصح صلاة من وراء.
وإذا تعذر عليك إعلامه، أو كان الإمام جاهلاً فحينئذٍ بمجرد رؤيتك للنجاسة والخلل في الإمام فإنك تنوي مفارقته -أي: تنوي أنك منفرد-، وتتم لنفسك وصلاتك صحيحة، أما لو رأيت النجاسة وبقيت وراءه عالماً بنجاسته التي في ثوبه فإن صلاتك وراءه باطلة، وتبطل بأداء ركنٍ واحد بعد العلم.
قوله: [فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأمومٍ وحده].
هنا مسألتان: المسألة الأولى: أن يصلي الإمام وهو مُحدث غير عالمٍ بحدثه؛ فلا إشكال أنه يطالب الإمام بالإعادة ولا يطالب المأمومون.
الحالة الثانية: أن يصلي بنجاسته التي لا يعلمها حتى ينتهي من الصلاة فلا يعيد هو ولا المأمومين.
فإذا كان الإمام محدثاً فحينئذٍ تلزمه الإعادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وأما إذا كان في ثوبه أو بدنه نجاسة لا يعلمها، فإن الإعادة لا تلزمه ولا تلزم المأمومين، والسبب في ذلك حديث أنس الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالصحابة فخلع نعاله أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم -عليه الصلاة والسلام- قال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين)، أي: خلعتهما لعذر، وهو وجود النجاسة.
ووجه الدلالة من هذا الحديث -وهو دقيق- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها، حيث كبر تكبيرة الإحرام، ويحتمل أنه فعل بعض الركعات، ومع ذلك لم يستأنف الصلاة بعد العلم بالنجاسة، وإنما بنى، فكما صحت أجزاء الصلاة والإحرام بتكبيرة الإحرام التي هي الركن، فكذلك تصح الصلاة في كمالها إذا علم بعد السلام، وبناءً على ذلك يفرق في الإمام بين أمرين: الأول: أن يكون محدثاً ولا يعلم بحدثه أو لا يتذكر أنه محدث إلا بعد الصلاة.
فإنه حينئذٍ تلزمه الإعادة.
والثاني: أن يكون الإمام عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه ولا يعلم بها، أو كانت في المكان الذي يصلي به ولا يعلم بها إلا بعد انتهاء الصلاة، فصلاته وصلاة من وراءه صحيحة.
(61/7)
________________________________________
حكم إمامة الأمي
قال رحمه الله: [ولا إمامة الأمي، وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يدغم، أو يبدل حرفاً، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله].
أي: ولا تصح إمامة الأمي، والأمي نسبة إلى أمه، أي: الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب.
والأمية وصفٌ لهذه الأمة، والعلماء رحمةُ الله عليهم يقولون: الأمية وصف شرف لهذه الأمة.
على خلاف ما يظن بعض المتأخرين -وخاصة في هذه الأزمنة- أن الأمية وصف ذلة، أو وصف نقص.
فهذا ليس بصحيح، بل الأمية وصف شرف لهذه الأمة، قال تعالى: {الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، وقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: (إنا أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا).
وانتبه رحمك الله: فإن الأمية لا تستلزم الجهل، وفرق بين الأمية والجهل؛ لأن الإنسان قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب وهو عالم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام العلماء وقدوتهم صلوات الله وسلامه عليه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فليست الأمية مستلزمةً للجهل، وفرق بين الجهل والأمية، إلا أنهم قالوا: الغالب في الشخص إذا بقي على حاله منذُ أن ولدته أمه أن يكون جاهلاً أي: أنه يكون به الجهل، ولكن ليس هذا مطرداً، فكم من علماء لا يقرؤون ولا يكتبون، وكم من كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك قد يكون أعلم الناس وأعرفهم بالحلال والحرام.
فعدم القراءة والكتابة الذي هي وصف الأمية لا يستلزم الجهل، ولذلك قالوا: إن الأمية وصف شرف لهذه الأمة، وليست بوصف نقص.
ف (الأمي) الذي يجهل، فالجاهل الذي لا يعلم أحكام الصلاة ولا يعرف ما يقرأ فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله، وبعض العلماء يضع ضابطاً للأمي فيقول: هو من لا يحسن الفاتحة.
وهذا ضابط خاص بالإمامة وهو الصحيح، فالمراد بالأمي: الذي لا يحسن الفاتحة، وبناءً على ذلك إذا كان لا يحسن الفاتحة فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله أو من هو دونه، ولكن إذا كان أعلم منه فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا أمّ الأمي غيره ممن هو أحسن منه وأعلم منه بطلت صلاة من وراءه وصحت صلاة الأمي.
وقال الحنفية: إذا حضر القارئ والأمي في الصلاة بطلت صلاة الأمي ومن وراءه والقارئ معه؛ لأن الواجب أن يقدم القارئ، وكانوا معذورين قبل حضور القارئ، فلما حضر القارئ بطل عذرهم، ووجب عليهم أن يأتموا بالقارئ؛ لأنه عندهم، والإمام لا بد وأن يكون على وجه يضمن به، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن)، وبناءً على ذلك لا تصح إمامة الأمي إلا بمثله أو من هو دونه.
قوله: [وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يُدغَم، أو يبدل حرفاً].
هذا كله من صفات الأمي فمن ذلك أن لا يحسن الفاتحة، أو يدغم ما ليس يُدغم، فتجده يغير في أوضاع الحروف وصفاتها التي هي من حقوق الحرف، فإذا كان بهذه الصفة فلا تصح إمامته، ولو كان يبدل المعنى ويلحن لحناً يحيل المعنى كأن يقول: (أَهدنا الصراط المستقيم)، أو يقول: (إِياكِ نعبد)، فإن (إياكَ) و (إياكِ) معناهما مختلف؛ فإنه إذا قال: (إياكِ) خرج عن المعنى المقصود، ويعتبر لحناً محيلاً للمعنى، فتبطل صلاته، فإذا صُلي وراء مثل هذا تبطل صلاة من وراءه، ويعذر إذا كان جاهلاً وليس هناك من يعلمه.
أما لو كان هذا الأمي يمكنه أن يتعلم وقصر في التعليم فإنه تبطل صلاته وصلاة من رواءه وتلزمه الإعادة مدة تقصيره.
فلو كان الأمي في بادية بعيداً عن الناس، وليس عنده من يعلمه فإنه يعذر، وبناءً على ذلك يعتبر بُعده وعدم وجود من يعلمه عذراً له، لكن لو فرض أنه كان بموضعٍ قريب من العلماء ويمكنه أن يأتيهم، أو جاء أناس من أهل العلم إلى الموضع الذي هو فيه وأمكنه أن يصحح قراءته فقصر وترك التصحيح، ولم يتعرض لهم بشيء ليتيسر له أن يصحح قراءته ولم يفعل؛ فتعتبر صلاته وصلاة من وراءه باطلة؛ لأنه غير معذورٍ حينما كان عاجزاً عن إتقان الفاتحة، لكنه لما تيسر له أن يتقنها قالوا: فإنه يأثم، ويكون عليه إثمه وإثم من يصلي وراءه -نسأل الله السلامة والعافية-.
وقالوا: لو صلى بالناس عشر سنوات بهذه الصفة تلزمه الإعادة عشر سنوات.
فالأمر جد عظيم، فإذا كان يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى ويمكنه أن يجلس مع العلماء ولا يتعلم، أو جاءه عالمٌ، أو من يستطيع أن يصحح له قراءته فامتنع وتكبر، أو استنكف، أو اعتذر بأعذار لا تغني فإنه يأثم ويتحمل وزره ولو مرت عليه سنوات، نسأل الله السلامة والعافية.
قوله: [أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى].
هذا كما لو قال: (أنعمتُ عليهم).
فإذا قال: (أنعمتُ عليهم) أو: (إياكِ نعبد) أو: (أََهدنا الصراط المستقيم)، أو أبدل حرفاً بحرف، أو أدغم بعض الحروف ببعضها يجعل في موضع لا يصح فيه الإدغام فإنه في هذه الحالة يعتبر لحناً مؤثراً، وهكذا إذا لحن، أو كان في لسانه علة يبدل بها حرفاً مكان حرف، كأن يقول: أهدنا الشراط.
بدل الصراط، فإنه في هذه الحالة يكون إبداله مؤثراً، وهكذا بالنسبة للتمتام والفأفاء ونحوهم ممن فيه آفة في لسانه لا تمكنه من إعطاء الحروف حقوقها من الصفات المعتبرة.
وقوله: [إلا بمثله].
أي: إذا أم الأمي مثله صحّت.
قال رحمه الله: [وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته].
أي: وإن قدر على إصلاح خطئه لم تصح صلاته؛ لأنه مفرط ويلزم بعاقبة تفريطه، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من التكبر والاستنكاف عن الحق، ومثل هذا لا يجوز أن يقدم إذا كان يلحن لحناً يحيل المعنى وهناك من يستطيع أن يقرأ بدون لحن، فيجب على الناس أن يقدموا القارئ، وإذا لم يقدموه فإنهم يأثمون.
(61/8)
________________________________________
من تكره إمامته للناس
قال رحمه الله: [وتكره إمامة اللحان والفأفاء والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف، وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق].
أي: الذي يلحن لحناً لا يحيل المعنى، أما لو كان لحناً يحيل المعنى فكما تقدم في الأمي.
وقوله: [والفأفاء والتمتام].
الفأفاء: الذي إذا جاء يقرأ يكثر من الفاء أثناء حديثه بقوله: (ف ف ف)، فتجده يرددها مرات.
والتمتام في التاء، فتجده إذا أراد أن يتكلم يتأخر ويأتي بالتاء مكررة.
قوله: [ومن لا يفصح بعض الحروف].
كأن يقول: (الشراط) بدل الصراط، أو تكون صفات الحروف متداخلة عنده بطبيعة لسانه، أو يكون فيه عجمة، كأن يقول في (الرحمن): الرهمن، بالهاء، فهذا أيضاً يعتبر إبدال حرف بحرف، وهكذا بالنسبة للراء إذا كان ألثغ.
قوله: [وأن يؤم أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن].
أي: ويكره له أن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن، وذلك لأنه منهي عن الدخول على النساء والخلوة بهن إذا لم يكنّ من المحارم، قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء.
قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)، وإذا خلا بأجنبية فإنه منهي عن هذه الخلوة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة) فهذا نهي، قالوا: وبناءً على ذلك لا يصلي الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية على خلوة؛ لأنه قد يخرج عن مقصود الصلاة إلى الفتنة.
وقوله: [أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق].
لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يؤم القوم وهم له كارهون)، وفي هذا الحديث وعيد شديد، حتى عد بعض العلماء هذا من الكبائر.
والكراهة تنقسم إلى قسمين: إما تكون كراهةً مشروعة، وإما أن تكون كراهةً غير مشروعة.
فالكراهة المشروعة التي تكون لخلل في الإمام لدينه، أو يكون إنساناً يعسر عليهم ويؤذيهم ويخرج عن حدود السنة، فتجده يطوّل عليهم وأسلوبه منفر، فمثل هذه الكراهة شرعية، ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يتأخر عن الصلاة مما يطول فلان قال عبد الله فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعظ موعظةً أشد من تلك الموعظة وقال: (إن منكم منفرين) فأقر الرجل حينما كره من هذا الإمام إطالته، ولما شكي بـ معاذ في الإطالة لم يعتب على الشاكي في ذلك، وإنما سمع شكواه، وعنف معاذاً وقال له: (أفتانٌ أنت يا معاذ)، فهذه كراهة مشروعة، فكون الإمام إذا دخل المحراب نسي من وراءه، فلم يرحم الشيخ الكبير، ولا يراعي السقيم، ولا يراعي ذا الحاجة، ولربما يكون المسجد في مكانٍ فيه الناس في شغل فلا يراعي أوضاعهم، ويحاول أن يطول بهم ويعنفهم، وقد تكون فيه شدة وغلظة وعنف فمثل هذا يكره كراهة جبلية لا يستطيع الإنسان أن يمسك عنها نفسه، خاصةً وأنه على خلاف السنة، وعلى خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه، فقال: (إن منكم منفرين)، فإذا كرهوه لهذا الوجه من وجود العنف والمشقة والإضرار بهم فالكراهة شرعية، ومثل هذا ينطبق عليه الوعيد الشديد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر: -أي: لا تقبل منهم نسأل الله السلامة والعافية، ولا ترفع إلى السماء- رجلٌ أم قوماً وهم له كارهون، وعبدٌ أبق عن سيده حتى يعود إليه، وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط)، فهؤلاء الثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر، فنسأل الله السلامة والعافية.
وإذا كان الإمام لا يبالي فالأمر أشد وأعظم، فإذا قيل له: إن الناس يكرهونك.
أو: لا تطول على الناس ولا تؤذهم، قال: من أعجبه فالحمد لله، ومن لم يعجبه فلينصرف.
فهذه جرأة، ومثل هذا على خطر، فينبغي عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يراقب نفسه، وأن يستشعر أنه على نقص وأنه بشر، وقد يكون من الإنسان الخطأ وهو لا يدري، فالعين لا ترى ما بها إلا بالمرآة، فالإنسان لا يستطيع أن يرى ما بعينه إلا بمرآة، والمرآة هم الناس، فإذا جاءك الناس وقالوا لك: إنك تطول أو جاءك أكثر من شخص، أو شخص تثق بدينه وبأمانته فاعذر الناس وأنصفهم من نفسك.
وأما الكراهة غير الشرعية فهي التي تكون من أناس متساهلين في أمور دينهم والإمام يدعوهم إلى السنة، ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فيكرهونه لأنه يدعوهم إلى الخير، ويكرهونه لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويكرهونه؛ لأنه لا يحابيهم، ويصدع بالحق، فهذه الكراهة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، ومثل هذا ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، فهذا على خير وعلى سنة ورشد، فإن كان الإمام مكروهاً فإنه لا يقدم على الناس من يكره؛ لأنه إذا تقدم على الناس من يكره لا ترتاح الناس للصلاة وراءه، ولا تتأثر بقراءته، ولا تتأثر بمواعظه، وفي هذا صرف للناس عن الخير، ولذلك عاتب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، وأمره أن يهيئ لنفسه ما يدعو إلى قبول إمامته وحبه والإقبال عليه.
(61/9)
________________________________________
حكم إمامة ولد الزنا والجندي
قال رحمه الله: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما].
تصح إمامة هذين إذا كانا على ديانةٍ واستقامة، فولد الزنا الذنب ذنب غيره وليس بذنبه، وقد قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وكره بعض العلماء أن يقدم ابن الزنا للإمامة بالناس، وهذا قولٌ فاسد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وقد يكون على صلاح وديانةٍ واستقامة، والذنب ذنب غيره وليس بذنبه هو، وليس عليهم من وزر والده شيء، وما ورد من أنه لا يدخل الجنة فباطل وقولٌ مردود مصادمٌ للنصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قولٌ شاذ لا يعول على مثله، وهذا قول رده العلماء وأبطلوه؛ لأنه يصادم النصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يضيع الله صلاحه وقد صلح واستقام؟! وقد أخبر الله تعالى أنه يخرج الحي من الميت، فقد أخرج عكرمة من رأس الكفر أبي جهل، فلذلك لا يمتنع أن يخرج العبد الصالح من أصل فاسد، وقد يكون الرجل زنى ثم تاب إلى الله فتاب الله عليه، وهكذا بالنسبة لأمه، فالمقصود: أن ولد الزنا تصح إمامته إذا استقام، لكن بعض العلماء يقول: إذا وجد غيره وهو مثله -أي: في مثل حاله- يقدم عليه؛ لئلا يغتابه الناس، ولأجل صيانة الإمام إذا وجد غيره، أما إذا لم يوجد غيره، أو كان أفضل الموجودين فخليقٌ بها، ونعما هو عليه.
وقوله: [والجندي].
كذلك الجندي تصح إمامته ويصلي بالناس إذا كان على استقامةٍ وخير.
(61/10)
________________________________________
حكم صلاة من يصلي قضاءً خلف مؤدٍ والعكس
قال رحمه الله: [ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه].
مثال ذلك: لو أنك دخلت على أخيك وهو يصلي العصر -خاصةً عند من يقول: إنه يجوز أن تصلى الظهر وراء العصر- وأنت تنوي الظهر قضاءً فإنه يجوز ذلك ولا حرج فيه، فصلاتك مقضية وراء مؤدٍ، وهكذا لو قضى الظهر فجئت وصليت وراءه العصر أداءً صح هذا، فيصح الأداء خلف القضاء والقضاء خلف الأداء إذا اتحدت صورة الصلاتين، وبناءً على ذلك لا حرج، ويعتبر العلماء هذا مع اختلاف النية لحديث معاذ رضي الله عنه الثابت في الصحيح حينما كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وينطلق إلى قومه يصلي بهم العشاء فهو متنفل وهم مفترضون، فاختلفت نيته معهم، وقالوا: فلا يؤثر أن ينوي القضاء وينوي غيره الأداء، أو ينوي هو الأداء وغيره ينوي القضاء، فلا حرج في هذا.
وقوله: [وعكسه].
أي: كذلك لو صلى أداءً وصليت وراءه قضاء فلا حرج، وهكذا بالنسبة لصلاة الظهر، فلو أن إنساناً نسي صلاة الظهر البارحة ولم يذكرها إلا اليوم، ودخل عليك وأنت تصلي الظهر، فإنه هو قاضٍ وأنت مؤدٍ، فيصح القضاء خلف الأداء، ولو ابتدر هو بصلاة الظهر وصلاها بنية القضاء، ثم دخلت عليه بعده فنويت وراءه الأداء صح ذلك ولا حرج.
(61/11)
________________________________________
حكم صلاة مفترض خلف متنفل
قال رحمه الله: [لا مفترض بمتنفل].
أي: لا يصح أن يصلي المفترض وراء إمامٍ متنفل.
وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: القول الأول يقول: يجوز أن يصلي المفترض وراء المتنفل.
وبهذا القول قال فقهاء الشافعية وجمعٌ من أصحاب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمةُ الله على الجميع.
القول الثاني: لا يصح أن يؤم المتنفلُ المفترضين.
وبهذا القول قال جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والحنفية.
أما الذين قالوا بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل فاحتجوا بحديث معاذ الذي سبقت الإشارة إليه الثابت في الصحيح أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم عشاءً، ثم ينطلق إلى قومه فيصلي بهم وهو متنفل وهم مفترضون.
وفي الرواية عن جابر: (هي له تطوع ولهم فريضة)، ووجه الدلالة أن هذا وقع من معاذ رضي الله عنه وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، فدل على صحة إمامة المتنفل بالمفترض.
وذهب الجمهور -كما قلنا- إلى عدم صحة إمامة المتنفل بالمفترض، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به إلى أن قال: فلا تختلفوا عليه)، فوجه الدلالة أن هذا نهي، فإذا كانوا ناوين للفريضة وراءه فقد اختلفوا عليه، وبناءً على ذلك لا يصح أن يوقع الفريضة مع إمام متنفل، ثم إن الفريضة أقوى من النافلة، وقد عهدنا بناء الضعيف على القوي لا بناء القوي على الضعيف، خاصةً أن الإمام ضامن.
ثم أجابوا عن حديث معاذ بوجوه، فقالوا: إن حديث معاذ محمول على أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم النافلة ويأت قومه فينوي الفريضة.
وهذا مردود وباطل، خاصةً وأنه يصادم الراوية الصحيحة عن جابر أنه كان ينوي وراء النبي صلى الله عليه وسلم الفريضة ثم يصلي بقومه نافلة.
ولا يعقل أن معاذاً رضي الله عنه -وهو الفقيه- يضيع صلاته وراء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفريضة أفضل.
كما أجابوا -أيضاً- عن حديث معاذ بقولهم: سلمنا في حديث معاذ أن قومه مفترضون وهو متنفل، ولكن نقول: قد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولذلك يقول فقهاء الحنفية أنه منسوخ.
وبناءً على ذلك لا يصلح للاحتجاج به لرواية السنن: (إما أن تصلي معنا أو تصلي مع قومك)، فقالوا: فهذا يدل على أن هذا الفعل منسوخ.
وهذا باطل؛ لأن الرواية متكلم في سندها، وبناءً على ذلك لا يسلم النسخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة أنكر عليه الإطالة، ولم ينكر عليه إمامته بقومه وهو متنفل، وإنما قال: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟)، ثم بين له السبيل الأمثل والسنة في إمامة الناس، فدل هذا على أن النبي صلى الله وسلم قد أقره على إمامته، وأن إمامته صحيحة، وأن هذا الفعل يعتبر في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الإقرار؛ أي أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقراره، وعلى هذا يعتبر القول بجواز إمامة المتنفل للمفترض هو القول الراجح، فالصحيح أنه لا حرج للمتنفل أن يؤم المفترضين، ولهذه المسألة نظائر وصور منها: لو أنه دخل وراء متنفل فإن اتحدت صورة الصلاة فلا إشكال، وإن اختلفت فلا، وبناءً على ذلك لو أنه دخل والمتنفل يصلي التراويح فإنه يجوز له أن يصلي وراءه العشاء، سواءٌ أكان مسافراً فيسلم بتسليم الإمام أم كان مقيماً فبعد تسليمه من الركعتين يقوم ويأتي بركعتين كأنه مسبوق، وهكذا الحال بالنسبة لبقية الصور، أما لو اختلفت صورة الصلاتين، كأن تكون المغرب وراء العشاء، أو العشاء وراء المغرب فإنه لا يصح الائتمام في هذه الحالة؛ لأنه يؤدي إلى اختلاج الصلاة، والمحفوظ من إقراره عليه الصلاة والسلام إنما هو في اتحاد صورة الصلاتين، أما في الاختلاف فإنه لم يثبت، فيبقى الأصل في متابعة الإمام على ما هو عليه.
وأما ما استدل به من قال بالمنع من قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه)، فإنه محمول على الاختلاف في الأفعال، وليس المراد به الاختلاف في النيات؛ لحديث معاذ الذي دل على تخصيص هذا الأمر.
(61/12)
________________________________________
حكم صلاة الظهر خلف من يصلي العصر وغيرها
قال رحمه الله: [ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها].
هذا بناءً على المذهب الذي يقول: إنه لا يُصلّى مع اختلاف النيات.
والصحيح أنه يجوز أن يصلي مع اختلاف النية، أما لو كانت نيتك النافلة والإمام مفترض فإنها تصح بالإجماع، كأن تكون قد صليت الظهر، ثم دخلت المسجد والإمام يصلي، فإنك تصلي وراءه الظهر، فهي لك نافلة ولهم فريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك الصحابيين، كما في حديث خيف منى، وهو ثابت في الصحيح، وكذلك أمر أبا ذر رضي الله عنه لما أخبره عن الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.
(61/13)
________________________________________
الأسئلة
(61/14)
________________________________________
حكم الأذان للمرأة

السؤال
إذا صلى النساء جماعة فهل يجوز أن تؤذن إحداهن وتقيم؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فالثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يؤذن لـ أم ورقة الشهيدة وكانت تسمى الشهيدة؛ لأنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في خروجها لبدر فمنعها عليه الصلاة والسلام فأخبرته أنها تريد الشهادة، فقال لها: (امكثي في بيتك وستأتيك الشهادة)، فمكثت حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر، حتى إذا كان زمان عثمان قام غلامان من غلمانها فغطاها بقطيفة حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المرأة الكريمة الفاضلة رضي الله عنها وأرضاها أمرها أن يؤذن لها، فدل على أن الأذان ليس للنساء، ومن ثم قالوا: ليس على النساء أذانٌ ولا جماعة، وإنما هو للرجال.
والغالب في صوت المرأة أنه فتنة، وبناءً على ذلك فإن الأذان إنما يكون لرجلٍ يؤذن لها على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم.
(61/15)
________________________________________
استخلاف الإمام غيره في الصلاة إذا خرج منها

السؤال
إذا خرج الإمام من الصلاة بسبب تذكره أنه محدث واستخلف، فهل يستأنف النائب أم يبني؟

الجواب
يبني ولا يستأنف، وهذا هو المقصود من الاستخلاف، فيبني على الصلاة ولا يستأنف، وظاهر حديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت يدل على الاستخلاف في صورة العكس.
والله تعالى أعلم.
(61/16)
________________________________________
حكم من وجد ببدنه أو ثيابه نجاسة أثناء الصلاة

السؤال
من علم أن ببدنه نجاسة، أو بثوبه أثناء الصلاة وهو إمام فماذا يفعل؟

الجواب
هذا فيه تفصيل، فإذا كان الماء قريباً، وأمكنه أن يصل إليه دون أن ينحرف عن القبلة فإنه يجوز له أن يمضي إلى الماء، وأن يغسل هذه النجاسة، ثم يبني على صلاته ويستمر، كأن يكون بجواره صنبور ماء، أو بجواره وعاءٌ فيه ماء وأمكنه أن يأخذ منه ويغترف دون أن ينحرف عن القبلة، فإن الجماهير على أن له ذلك ويتم صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه، فخلع النعال فعلٌ لإزالة النجاسة، فلما خلع النعال وفعل فإنه كذلك يخلع النجاسة عن ثوبه بالغسل؛ لأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه، فلما أُذِن له بأن يزيل نجاسته أذن له بلازم ذلك من الأفعال التي لا يخرج بها عن كونه مصلياً ولا ينحرف بها عن القبلة.
أما لو كان الإمام بعيداً عن الماء، أو يتعسر عليه، أو لا يمكنه أن يصل إلى الماء إلا بفعل كثير، أو ينحرف عن القبلة فإنه يستأنف ولا يبني، وبناءً على ذلك يقطع الصلاة ويخرج منها، ويستخلف غيره إن كان إماماً.
والله تعالى أعلم.
(61/17)
________________________________________
حكم الصلاة خلف الفاسق فسقاً أكبر

السؤال
إذا كان الإمام فاسقاً فسقاً أكبر، كأن يكون ممن يستغيث بالقبور ويقع في الشركيات، فهل تجوز الصلاة خلفه؟

الجواب
لا تجوز الصلاة وراء كافرٍ، وهكذا الحكم فيمن ثبت شركه، فإنه لا يصلى وراءه، أي: إذا ثبت أن في عقيدته خللاً يوجب بطلان صلاته فإنه لا يصلى وراءه، إنما المراد الفسق الذي لا يخرج عن الملة، أما لو كان فسقه -والعياذ بالله- أكبر مخرجاً عن الملة فإنه لا يصلى وراءه.
(61/18)
________________________________________
حكم من فاتته بعض تكبيرات صلاة الجنازة

السؤال
كيف يقضي المصلي صلاة الجنازة إذا دخل مع الإمام بعد التكبيرة الثالثة؟

الجواب
إذا دخل المصلي مع الإمام في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثالثة فإنه إذا سلم الإمام لا تخلو الجنازة من حالتين عند المحققين من العلماء، فإن كانت الجنازة تترك برهة لقضاء من فاتته الصلاة لكي يقضي فحينئذٍ يكبر ويقول الأذكار التي بين التكبيرات، أما لو كانت ترفع -كما هو الحال في غالب الجنائز الآن- فإنه يوالي بين التكبيرات ويسلم، وهذا اختيار جمع من أهل العلم رحمةُ الله عليهم.
ووجهه أن الصلاة إنما شُرعت بحضور الجنازة، ولذلك لا يصلى في المسجد قبل حضور الجنازة، وإنما يصلى بعد حضورها، وبناءً عليه فرفعها يعتبر موجباً لانتهاء الصلاة عليها، فمتى ما رفعت من المسجد، أو من الأرض فقد انتهت الصلاة عليها، فيوالي بين التكبير، فإن فاتته تكبيرتان فعند سلام الإمام يقول: الله أكبر.
الله أكبر.
السلام عليكم ورحمة الله.
وإن فاتته ثلاث تكبيرات فإنه عند سلام الإمام يقول: الله أكبر.
الله أكبر.
الله أكبر.
السلام عليكم ورحمةُ الله، فيوالي بين التكبيرات ولا يقول الأذكار التي بينها.
والله تعالى أعلم.
(61/19)
________________________________________
حكم صلاة المغرب خلف من يصلي العشاء

السؤال
شخصٌ مسافر أراد أن يؤخر صلاة المغرب جمع تأخير مع صلاة العشاء، وعندما حضر وقت صلاة العشاء، فهل يصلي العشاء مع الجماعة ثم يصلي المغرب؟

الجواب
يصلي العشاء بنية النفل، ثم يقيم للمغرب ويصليها، ثم يصلي العشاء، ووجه ذلك أن صلاة العشاء لا تصح قبل المغرب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى الصلوات مرتبة، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وبناءً على ذلك لا يصح إيقاع فريضة قبل فريضة إلا إذا كانت مرتبة على الوجه الذي وقعت عليه.
وعلى هذا فلو قلنا له صلِّ العشاء ثم صلِّ المغرب فقد خالفنا مقصود الشرع من مراعاة الترتيب، حيث لا يخاطب بصلاة العشاء إلا بعد أن تبرأ ذمته بصلاة المغرب، وعلى هذا قال العلماء يدخل بنية النافلة في العشاء، ثم بعد ذلك يقيم للمغرب فيصليها، ثم يصلي بعد ذلك العشاء، وهذا إذا كان المسجد لا يسع أكثر من جماعة، أما لو كان مسجداً سابلاً كمساجد السفر التي على طرقات السفر فإنك تقيم للمغرب وتحدث جماعةً ثانيةً للمغرب وتصلي بمن شئت؛ لأن المساجد السابلة رخص فيها تكرار الجماعات، شريطة ألا يشوش بعضها على بعض.
والله تعالى أعلم.
(61/20)
________________________________________
مسألة مضاعفة صلاة الفرض والنافلة في المسجد الحرام

السؤال
هل الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاةٍ في الفريضة والنافلة، أم ذلك خاصٌ بالفريضة؟

الجواب
هذه المسألة فيها وجهان للعلماء: أصحهما أن المضاعفة في مسجد مكة والمدينة والمسجد الأقصى شاملةٌ للفرض والنفل لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاةٌ في مسجدي هذا بألف صلاة)، فإنها نكرة، والقاعدة في الأصول أن النكرة تفيد العموم.
فشملت الفريضة والنافلة.
وقال جمعٌ من أهل العلم: إن المضاعفة تختص بالفريضة دون النافلة، واحتجوا بوجوه.
أولها وأقواها حديث رمضان، حينما أمّ النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في قيام الليل، ثم في الليلة الثالثة امتنع من الخروج.
وقال: (صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، ووجه الدلالة أنه صرفهم عن صلاة القيام في المسجد إلى صلاتها في البيت، فدل على أن المضاعفة مختصة بالفريضة دون النافلة وأكدوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في بيته، ولم يكن يصليها في مسجده إلا ما ورد من الاستثناء في صلاة الجمعة البعدية، فقالوا: إن هذا كله يؤكد أن النوافل الأفضل فيها أن تكون في البيوت، وأن المضاعفة هذه المساجد مختصة بالفرائض دون النوافل.
والذي يترجح القول الأول الذي هو للجمهور، وهو أن المضاعفة شاملة للفرض والنافلة لعموم الحديث الذي ذكرناه، وهذا أولاً.
ثانياً: الاستدلال بحديث: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، الذي يظهر أنه لا تعارض بين النصين؛ فإن المضاعفة في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه) مضاعفة متجهةٌ إلى العدد، وحديث: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) راجع إلى البعد عن الرياء، فانفكت الجهة بين النصين، والقاعدة في الأصول أنه لا يحكم بالتعارض إلا إذا اتحد مورد النصين.
أي: أن يأتي حديث ويقول: بألف صلاة، وحديث يقول: هي بصلاة وبناءً على ذلك لا نسلم أن الحديثين متعارضان، وإنما كلٌ منهما في جهة، ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته؛ فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً)، وهذا من جهة بعده عن الرياء وعمارته لهذا البيت حتى لا يكون كالقبر الذي لا يصلى فيه، فالذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود بذلك إحياء البيوت بالذكر؛ لكي لا تشابه القبور، ولكي تعود بالبركة والخير عليه وعلى أهل بيته، وأما بالنسبة لمضاعفة الصلاة في المساجد فهي باقيةٌ على عمومها لثبوت السنة فيها على العموم.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.
(61/21)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: يقف المأمومون خلف الإمام
يجب على المأمومين التأخر خلف الإمام إن كانوا جماعة، والواحد يقف عن يمينه إلا المرأة فخلفه، ولا يجوز لمنفرد أن يصلي خلف الصف وحده إلا المرأة، ولا تعتبر المصافة مع الكافر والمحدث والمرأة، ومن وجد فرجة دخل فيها وإلا جذب من يصلي معه، ولابد من سماع لمن صلى في المسجد أن يسمع الإمام، وإن لم يره، وإن كان خارج المسجد فلابد أن يرى الإمام وتكره الصلاة بين السواري، وهناك آداب ينبغي للإمام أن يتحلى بها.
(62/1)
________________________________________
تابع أحكام الإمامة
(62/2)
________________________________________
موقف المأموم من الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: يقف المأمومون خلف الإمام] تقدم في المواضع السابقة بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالإمام، وما ينبغي أن يكون عليه من صفات قبل إمامته للناس، وكذلك حال إمامته.
وهنا شرع المصنف في مسألة مهمة من مسائل الإمامة وصلاة الجماعة، وهي التي تعرف بموقف المأموم مع الإمام، وذلك أن الجماعة تتحقق بواحد مع الإمام، ولا تكون الجماعة لواحد منفرد.
وعلى هذا يرد السؤال عن موقف الواحد مع الإمام، وعن موقف الاثنين، وعن موقف الثلاثة وأكثر.
ثم بعد ذلك يرد السؤال عن موقف الرجال وموقف النساء وموقف الصبيان والخناثى، ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بالمواقف.
قال رحمه الله: [يقف المأمومون خلف الإمام].
السنة للمأموم أن يقف وراء الإمام، وهذا إذا كان المأمومون أكثر من واحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
والإمام -كما يقول العلماء رحمهم الله-: مأخوذ من الأمام، وهو الخط الذي يخط في أول الدار؛ فكأنه ينبني عليه غيره، ولذلك يكون متقدماً متميزاً على غيره بهذا التقدم، ولا يكون مساوياً للمأمومين، فهذا في الأصل.
فقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، معناه أن يكون المأموم تبعاً للإمام، وهذا يشمل ما يكون في الأفعال وما يكون في الصورة، فصورة المأموم في موقفه، فالأصل إذا كان المأمومون أكثر من واحد أن يكونوا وراء الإمام، أما لو كان المأموم واحداً فسيرد التفصيل في أحكامه، لكن الأصل في المأموم أن يقف وراء الإمام.
وقوله: [يقف المأمومون] عبر فيه بالجمع، وهذا يقتضي أن موقف الجماعة يكون وراء الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر، وإذا وقف الاثنان عن جانبه الأيمن صحت صلاتهم؛ لأنه موقف معتبر.
وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه لما قام عليه الصلاة والسلام بعد هوي من الليل وتوضأ ووقف قال ابن عباس: (فقمت فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فقمت عن يساره فأدارني فجعلني عن يمينه).
فدل على أن ميمنة الإمام موقف، لكن إذا كان المأمومون أكثر من واحد فإنهم يقفون وراء الإمام، فلو وقف الاثنان عن يمينه فقد وقفا في موقف معتد به شرعاً فيصح ائتمامهم.
قال رحمه الله تعالى: [ويصح معه عن يمينه] هذا يقع في الأحوال التي قد توجد فيها حاجة، أو توجد فيها ضرورة، كما لو كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام، فإذا كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام فإنهم يقفون ويصلون عن يمينه، ثلاثة كانوا أو أكثر، ولو كان صفاً طويلاً فلا حرج، كأن يكون هناك ممر وليس هناك متسع أن يكون الإمام متقدماً، فحينئذٍ يقفون عن يمينه.
وقال بعض العلماء: إنهم لو جعلوا الإمام أمامهم ثم تأخروا قليلاً عنه، وجعلوا فسحة بينهم وبينه فإنه لا حرج، واغتفروا هذا الفاصل اليسير، لكن شدد فيه بعض العلماء؛ لأنه بمثابة قطع الصف.
فالحاصل أنهم لو كانوا محتاجين ووقفوا عن يمينه فلا حرج، وهكذا إذا كانت ثَمَّ مشقة، بأن قطع الإنسان الصفوف وجاء ووقف عن يمين الإمام فلا حرج.
قال رحمه الله تعالى: [أو عن جانبيه].
يعني عن جانبي الإمام، فإنه لا حرج في أن يقف المأمومان أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا ثابت في حديثٍ أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى بـ علقمة والأسود صاحبيه، فأقام أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان هذا الحديث فيه إشكال في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه إن صح موقوفاً فـ ابن مسعود ناهيك به علماً وفقهاً، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، فيرون أن الاثنين يقف أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره.
وخالفهم الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا -وهو الصحيح-: إن الاثنين يقفان وراء الإمام؛ لحديث جابر وجبار فإنه لما قام جابر عن يمينه صلى الله عليه وسلم وجاء جبار دفع صلوات الله وسلامه عليه بصدورهما وراءه، كما في الحديث الصحيح، فدل على أن الاثنين يقفان وراء الإمام، ولا يقفان بحذاء الإمام عن يمينه وعن يساره.
وأما حديث ابن مسعود فالذي يظهر -والعلم عند الله، كما هو جواب طائفة من المحققين- أنه كان في أول الإسلام، وهي الصلاة المكية، ثم نسخت بالتشريع المدني.
والسبب في ذلك أن ابن مسعود لما صلى بـ علقمة والأسود رحمة الله عليهما ركع فطبق بين يديه، والتطبيق: هو أنه حينما يركع يجعل كفه اليمنى مع كفه اليسرى مجموعتين غير متداخلتين -أي: بدون تشبيك-، ويجعلهما بين الفخذين.
وكانت الصلاة بهذه الصفة كالتعظيم لله سبحانه وتعالى، ثم نُسِخت بوضع الكفين على الركبتين وإلقامهما، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم معنا في صفة الركوع.
فكانت سنة مكية أنه إذا صلى الإمام يجعل أحد المأمومين عن يمينه والثاني عن يساره، ثم نسخ هذا بحديث جابر وجبار، وكما يقول العلماء: إنه يستفاد من رواية الراوي ما يدل على النسخ، فلما كان ابن مسعود من أحفظ الناس للتشريع المكي، وهو من أسبق الصحابة رضوان الله عليهم وأعرفهم بالفقه المكي، وحديث جابر وجبار إنما كان بالمدينة قالوا: هذا يشير إلى أنه كان منسوخاً، بدليل أن جباراً لما جاء وقف عن اليسار، فدل على أنه كان معهوداً في أول الأمر أن يقف أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا هو أعدل الأوجه وأقواها في الجواب عن هذه السنة الواردة، والتي حفظها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
فالخلاصة أن الاثنين فأكثر يقفون وراء الإمام، والأصل في ذلك حديث أنس (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو أنه وقف الإمام بينهم لم يكن ائتماماً بالصورة، ولذلك قالوا: يتقدم ويتأخران.
قال رحمه الله تعالى: [لا قدامه].
أي: لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام، وذلك لنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو تقدم عليه لم يأتم به، وإنما صار المأموم كأنه إمام لإمامه، وهذا خلاف المقصود شرعاً.
ثم إنَّ تقدمَ المأموم على الإمام فيه مفاسد، ومن أعظمها أنه تختلف عليه أفعال الإمام، ولربما يحصل منه اختلاج في صلاته، والسبب في ذلك واضح، فلو صلى وراء الإمام رباعية وسها الإمام ولم يجلس للتشهد الأول فقام ووقف، فإن المأموم سيجلس للتشهد؛ لأن ظنه أن الإمام جلس للتشهد، فلا يشعر إلا والإمام راكع، وحينئذٍ تختلف صلاة المأموم مع إمامه.
قال رحمه الله تعالى: [ولا عن يساره فقط].
الدليل على أن اليسار ليس بموقف حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة رضي الله عنه وعنها قال: (فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى شنِّ فتوضأ، ثم قمت فصنعت مثلما صنع فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك ابن عباس، وحصل هذا الفعل لمصلحة الصلاة، فدل على أن يسار الإمام ليس بموقف، وأنه إذا وقف المأموم في يسار الإمام وجب أن يحوله إلى يمينه.
(62/3)
________________________________________
بطلان صلاة المنفرد خلف الصف غير المرأة
قال رحمه الله تعالى: [ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة].
أي: لا تصح صلاة الفذ إذا وقعت خلف الصف، فإنه إذا صلى منفرداً خلف الصف لم تصح صلاته، إلا المرأة، فإن النص ورد باستثنائها.
أما الدليل على أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف فحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف).
وكذلك حديث علي بن شيبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفتل من صلاته ورأى رجلاً يصلي وحده فقال له: (استقبل الصلاة -أي: أعد الصلاة- فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، فدل على أن من صلى وراء الصف ركعة كاملة فأكثر أن صلاته باطلة وتلزمه الإعادة.
قوله: [إلا أن يكون امرأة] أي: إلا أن يكون الواقف امرأة، وهذا الأصل فيه حديث أنس رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس: فقال لنا: (قوموا فلأصلي لكم) -وهذا في الضحى- قال أنس: (فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس فنضحته، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا).
ووجه الدلالة أن العجوز -أي: المرأة- صلت وراءهم وهذا يدل على أن المرأة إذا انفردت فصلاتها صحيحة، وعلى هذا قالوا: إن عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يخصص، وتستثنى منه المرأة لثبوت الحديث الصحيح باستثنائها، وللشرع في ذلك حكم، منها: دفع المفاسد باختلاط الرجال مع النساء.
(62/4)
________________________________________
موقف إمامة النساء
قال رحمه الله تعالى: [وإمامة النساء تقف في صفهن].
ذكرنا أن النساء يُشرع لهن أن تكون بينهن جماعة، وأن تكون إمامتهن منهن، ولا حرج في ذلك؛ لحديث أم ورقة الأنصارية رضي الله عنها، حيث أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي بأهل دارها.
فلما أذن لها عليه الصلاة والسلام أن تصلي بأهل دارها دل هذا على أن المرأة تكون إماماً، ولكن للنساء، وعلى هذا يرد

السؤال
حيث عرفنا أن موقف المأموم يكون وراء الإمام فهل هذا الحكم عام للرجال والنساء؟ والجواب أنه يختص بالرجال دون النساء، أما النساء فلو كانت الإمامة منهن فإنها تقف بينهن ولا تقف أمامهن، وهذا فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك أم سلمة رضي الله عن الجميع، وروى ذلك سعيد بن منصور في السنن.
فقالوا: إنه لا يمكن أن تفعل أم المؤمنين رضي الله عنها وهي الفقيهة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، لا يمكن أن تفعل هذا دون توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن مقاصد الشرع تؤكد هذا، حيث إن المرأة إذا صلّت بين النساء كان هذا أستر لها وأحفظ، بخلاف ما لو تقدمت عليهن، ولأن للرجال درجة على النساء، وفرق ما بين النساء والرجال، فقُدِّم الرجال لأمن الفتنة، وتأخرت النساء لوجود الفتنة.
(62/5)
________________________________________
ترتيب المأمومين خلف الإمام
قال رحمه الله تعالى: [ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم].
أي: يلي الإمام الرجال، والأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام).
فدل على أن السنة أن يلي الإمام الكبار والعقلاء، خاصة أهل العلم والحلم والعقل والفضل، ويكون هذا المكان -الذي هو خلف الإمام مباشرة- لأمثال هؤلاء.
والمطلوب أن يبكروا، وأن يبادروا بالحضور لا أن يتأخروا ويتخطوا رقاب الناس، أو تحجز لهم أماكن، فإن المساجد لا يجوز فيها حجز الأماكن إلا لمن خرج لضرورة وحاجة بعد أن يجلس وينال حق المكان، أما أن يحجز لأمثال هؤلاء الأماكن ويمنع منها من سبق فهذا لا يجوز، وهذا من الظلم الذي يعتبر أذية للناس، والله تعالى منع أن يمنع الإنسان أحداً أن يصلي في مساجده، فإذا جاء شخص إلى الصف الأول مبكراً فهذا حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من سبق إلى شيء فهو أحق به).
وبعض الناس يفهم من قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أنه يحجز ما وراء الإمام للكبار وأهل العقل ونحوهم، وهذا ليس بصحيح، فإن الناس في المساجد على حد سواء.
ولذلك مَن سَبق فهو أحق، وإنما مراده عليه الصلاة والسلام في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أن يبادروا وأن يبكروا بالمضي، حتى يكون ذلك أدعى لحفظ صلاة الإمام.
والسبب في الأمر بأن يليه الرجال وأهل العقل أنه ربما طرأت أمور، بمعنى أن الإمام قد يسهو، وكذلك أيضاً ربما يصيبه السهو في القراءة، فيحتاج إلى من يرد عليه، وكذلك ربما التبس عليه الأمر ماذا يصنع في صلاته، فإذا كان وراءه من يعقل ويفهم فإنه ينبهه.
ثم إنه يكون على درجة من الوعي والإدراك لما يفعله الإمام، بخلاف العوام وهيشات الناس فإنهم دون ذلك لانشغالهم بمصالحهم، وبعدهم عن استشعار الصلاة مثل أولي الأحلام والنهى.
فيتقدم الرجال، ثم بعد الرجال الصبيان، كما ورد في حديث أنس وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع، فكان صلى الله عليه وسلم يكون الرجال وراءه، ثم وراءهم الصبيان، ثم من بعد ذلك النساء، فهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والخناثى يكونون بين الرجال والنساء، ولا يكون الخناثى مع النساء ولا مع الرجال؛ لأنهم لم يبلغوا درجة الرجال، وليس بمتحقق أنهم نساء، فهم بين الأمرين، ونظراً لهذا يكون موقفهم بينهما، أي بين الرجال والنساء.
وقوله: [كجنائزهم].
يعني مثلما تقدم في الجنائز.
(62/6)
________________________________________
صلاة المنفرد خلف الصف وما يتعلق بها
قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقف معه إلا كافرٌ أو امرأة أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض ففذ].
هذا نوع من التسلسل في الأفكار، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون لك الأصل، وبعد تقريرهم للأصل يبينون ما استُثني من الأصل، أي يبين الأصل الذي دلت عليه النصوص، ثم بعد ذلك يرد السؤال في الأحوال الطارئة.
فنحن لو قلنا: إن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف، فهذا يأتي على صور، فإن كان المنفرد جاء وصلى وحيداً وراء الصف فلا إشكال في أن هذا انفراد حقيقي.
وهناك نوع ثانٍ وهو الانفراد الحكمي، وصورة ذلك: أن يصلي معه صبي، أو يصلي معه كافر، أو يصلي معه محدِث يعلم بحَدَثه، فهؤلاء وإن كانت صورة حالهم أنهم مؤتمون، ولكنهم في الحقيقة وجودهم وعدمهم على حد سواء، فإن الكافر لا تصح صلاته، والصبي لا تعتبر مصافته على هذا القول الذي درج عليه المصنف رحمه الله، والمحدِث كذلك صلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).
فمعنى ذلك أن المحدث الذي يصلي بجانبه لا صلاة له، وإذا كان لا صلاة له فإنه حينئذٍ لا تعتبر مصافّته، فوجوده وعدمه على حد سواء.
وأما الكافر فإنه لا إشكال أن الكافر وجوده وعدمه على حد سواء، والمحدث لا إشكال أن وجوده وعدمه على حد سواء، وبقي عندنا اثنان: أحدهما الصبي، والثاني المرأة.
فلو فرضنا أنك جئت والإمام في ركعة من الركعات، فجئت وكبرت وبجوارك صبي ليس هناك غيره، وأنت وإياه دون الصفوف، فهل تعتد بهذه الركعة وتصح صلاتك، وتعتبر في حكم من دخل الصف، أم أن وقوف الصبي بجوارك وجوده وعدمه على حد سواء فأنت منفرد، ولو كنت في الظاهر مع غيرك؟

الجواب
هذه المسألة فيها قولان للعلماء: فالجمهور على أن الصبي يُعتبر من صلى بجواره غير فذ وصلاته صحيحة.
وذهب بعض الحنابلة رحمة الله عليهم -ونص البعض أنه هو مذهب الإمام أحمد - إلى أنه لا يُعتد بالصبي، وأنه يلزمه أن يعيد صلاته إذا لم يأتِ بالغ يعتد بموقفه.
والصحيح مذهب الجمهور أن وقوف الصبي معك معتد به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل على صحة الصلاة واعتبارها منهم، وأمر بضربهم عليها لعشر.
والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره أداره عن يمينه، فدل على أنه معتد بموقفه، إذ لو لم يكن لموقفه اعتداد لما كان لإدارته من فائدة؛ لأنه يستوي أن يقف هنا أو هنا إذا كان لا يُعتد به.
فدل على أن الصبي يُعتبر وقوفه مع الإنسان رافعاً لوصف الفردية، كذلك أيضاً مما يؤكده حديث أنس في الصحيحين: (وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا) فقوله: (وصففت أنا واليتيم وراءه) يدل على أن الصبي يعتبر رافعاً لوصف الانفراد.
إذ لو لم يكن رافعاً لقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم أنساً يصلي بجواره، فلو قال قائل: إن أنساً ربما كان صبياً، أو صغير السن، فجوابه: ولو قلنا بذلك! ألا تراه عليه الصلاة والسلام أخَّرهما، فدل على أنهما اثنان، وإذا كانا اثنين فمعنى ذلك أنه معتدُّ بوقوف اليتيم مع أنس، فبوقوف أنس مع اليتيم صارا بمثابة الصف، وعلى هذا فمن وقف بجوار صبي صحت صلاته، ولا يعتبر منفرداً على الصحيح.
وأما المرأة ففيها خلاف أيضاً: فمن العلماء من قال: إن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل وهو فذ فصلاته صحيحة، ويرتفع عنه الوصف المؤثر الموجب لبطلان صلاة الفذ؛ لأنه ليس بفذٍ.
وهذا مذهب المالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إن وقوف الرجل بجوار المرأة لا يعتبر رافعاً لوصف الفذ، بل هو فذ وشدد الحنفية وقالوا: لو وقف الرجل بجوار امرأة، أو صف الرجل بجوار النساء ولو كان معه رجال من الطرف ونساء من الطرف، ولو امرأة واحدة بالغة بطلت صلاة الرجال الذين صفوا والنساء.
وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل، وبينا أن الصحيح أن الرجال إذا حاذوا النساء لا تبطل صلاة الرجال؛ لأنه ليس ثم دليل على أن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل تُبطِل صلاته، لكن المسألة التي معنا هي أنه لو وقفت المرأة مع الرجل فإنه فذ على الصحيح، وهو المذهب، والسبب في ذلك واضح، وهو أن الشرع أمر المرأة في هذه الحالة أن تتأخر، فإن تقدمت وصافت الرجل فإن هذا التقدم منهي عنه شرعاً، والمنهي عنه شرعاً لا يُعتد به ولا يُحتسب، فصار وجوده وعدمه على حد سواء.
(62/7)
________________________________________
الدخول في الفرجة والتفصيل فيه
قال رحمه الله تعالى: [ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام].
أي: من وجد فرجة في الصف فمن حقه أن يدخل، بل يجب عليه أن يسد ما بين الصفوف من الفرج، وهذا هو الأصل، حتى لا يتخلل الشيطان.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكل ذلك حتى لا يتخلل الشيطان، وبناءً عليه فمن وجد فُرجة فإنه يُحاول أن يتمكن منها ويدخل.
والفرجة فيها تفصيل، فالفرجة في بعض الأحيان تكون دون الشخص، فلو وجد فرجة ولكنها دونه بحيث لو دخل في الصف فإنه يضايق الناس فهذا لا يدخل في الصف لوجود الحرج والأذية، والذين سبقوا أحق بذلك.
والحل في هذه الحالة أنه إذا وُجِدت الفرجة سحب بعضهم بعضاً، والعبرة بجهة الإمام، فإن كانت الفرجة عن اليمين والإمام في المنتصف فإن معنى ذلك أن ينسحبوا إلى جهة اليسار؛ لأن العبرة بجهة الإمام، وإن كانت الفرجة في اليسار والإمام في المنتصف فإنهم ينسحبون إلى جهة اليمين، فيسحب بعضهم بعضاً إلى جهة اليمين حتى تصير الفرج في الأطراف.
فإن صارت الفرجة في الطرف ففيها تفصيل: فإن كانت الفرجة تسع الرجل أثم من تأخر من الرجال في الصف الذي يليه، وإن كانت الفرجة لا تسع بأن كانت لا يمكن دخول الرجل فيها فإنهم يُعذرون في ذلك، ولا تؤثر شيئاً، كما لو صلوا وانتهى حد الصف عند هذا القدر.
قوله: [وإلا عن يمين الإمام].
أي: إن وجد الفُرجة دخل حتى لا يصلي منفرداً، وإلا صلى عن يمين الإمام حتى تصح صلاته، ويصح له أن يأتي عن يمين الإمام، ولا حرج عليه.
(62/8)
________________________________________
حكم جذب المنفرد لشخص من الصف
قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه] إذا جئت فوجدت الصفوف مكتملة بينك وبين الإمام، ولا تستطيع أن تتخطى هذه الصفوف، ولم تجد فرجة أمامك، فلك أن تنبه من أمامك، قالوا: فإذا أمسك الساحب بطرف ثوبه يتراجع، وإذا رجع كان هذا من التعاون على البر والتقوى، ولا إثم عليه.
وقالوا: إنه إذا رجع فقد أعان على صحة صلاةٍ، خاصة إذا لم يوجد شخص آخر، فإعانته على صحة الصلاة له فيها الأجر؛ لأن الصلاة لهذا المنفرد لا تصح إلا مع وجود من يقوم معه، وهذا قد فعل السبب الذي صحّت به صلاته فكان له كأجره؛ لأنه أعان على خير.
وقد ورد في هذا حديث عند الحاكم، ولكن تُكلِّم في إسناده ولم يخل من مقال، ففي هذا رواية معضلة، وفيه رواية مرسلة وهي رواية الجذب: أي أنه يجذب أحداً من الصف، وقال بعض العلماء: إنه لا يجذب، وإذا جذب أحداً فإنه يأثم، ولا ينبغي للمجذوب أن يستجيب لمن يجذبه.
وإن كان الأقوى والأشبه أنه إن جذبه واستجاب فبها ونعمت، وإن لم يجذبه فإنه يُصلي، فإن جاء أحد فبها ونعمت، وإن لم يجئ أحد فإنه يستقبل صلاته ويصليها.
وشدد بعض العلماء حتى قال ابن حزم الظاهري: إنه إذا لم يجد أحداً فإنه يرجع إلى بيته، وهذا أمر الصعوبة منه بمكان؛ فإن المساجد بنيت لإقامة الجماعة، وكونه يؤمر بالرجوع إلى بيته فيه مخالفة لمقصود الشرع.
والذي يظهر -والله أعلم- أنه يحاول الجذب حتى يجد من يستجيب، فإن رجع الإنسان بالجذب فعلى حالات: الحالة الأولى: أن تمكث معه بقية الصلاة ولا يأتي أحد فلا إشكال، فتصير الفرجة التي حدثت في الصف يمكن سدها بجذب بعض الناس لبعض حتى تصير في طرف الصف، ويصير الناس معذورين بهذا، وأنت معذور بتصحيح صلاة من معك.
قالوا: إن مفسدة الفرجة أهون من مفسدة فساد الصلاة وهذا صحيح؛ فإنك لو تأمَّلت أنه لو سُحِب صارت فرجة فإن هذه الفرجة يمكن سدها لو حضر شخص معه، وإذا لم يمكن سدها وبقيت فإن مفسدتها أهون من مفسدة فوات الصلاة على هذا المصلي.
وعلى هذا فإن لم يجئ أحد وبقيت معه فلا إشكال، فلك أجر إعانته على صحة صلاته، وإن جاء أحد تقدمت إلى الفرجة وسددتها؛ لأن القاعدة تقول: (ما شرع لعذر بطل بزواله)، وبعضهم يقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله)، وهذا جاز لعذر -وهو تصحيح صلاته معك- وقد صحت، ثم لما جاء الثاني زال العذر، فحينئذٍ يبطل تأخرك عن الصف، فتتقدم للصف الذي كنت فيه.
قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فذاً ركعة لم تصح].
قيل: لم تصح صلاته، وقيل: لم تصح الركعة التي صلاها دون الصف، وعلى هذا لو أدركه أحد في الركعات الباقية فإنه يقضي هذه الركعة وحدها، فتبطل الركعة التي دون الصف ويلزم بإتمامها، وقال بعض العلماء: بل تبطل جميع الصلاة.
(62/9)
________________________________________
حكم الركوع فذاً قبل الدخول في الصف
قال رحمه الله تعالى: [وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف، أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت].
هذه مسألة اعترض بها الجمهور على القائلين بأن صلاة الفذ لا تصح، فالإمام أحمد رحمة الله عليه يقول: من صلى فذاً أو منفرداً دون الصف بطلت صلاته إلا المرأة.
فاعتُرض عليه بحديث أبي بكرة، وحاصل حديث أبي بكرة أنه (دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فخاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم فكبر دون الصف، ثم دب ودخل في الصف، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام قال: من فعل كذا وكذا؟ قال أبو بكرة: أنا.
قال: زادك الله حرصاً ولا تَعُد)، فروي في لفظ الحديث: (لا تَعُد)، (ولا تُعِد)، (ولا تعدُ).
وأقوى الروايات: (ولا تَعُد) قيل معناها: لا تعد إلى التأخر عن الصلاة حتى لا تضطر إلى مثل هذا الفعل.
وهذا عند من يرى صحة هذا الفعل وبقاء التشريع به.
وقيل: ولا تعد إلى مثل هذا الفعل مرة ثانية.
وقيل: لا تَعُد إلى الإسراع؛ لأنه كأنه أسرع بعد ركوعه فصار فيه تشويش؛ لأن المساجد كانت في الرمال، ومشي الناس بسرعة يزعج المصلين.
ولذلك قالوا: هذا هو المقصود من قوله (ولا تَعُد)، وأما (ولا تُعِد)، و (ولا تَعْدُ) فلا إشكال فيهما.
فعلى هذا اعترض الجمهور، فقالوا: أنتم تقولون: إن المنفرد إذا صلى خلف الصف بطلت صلاته، وهذا أبو بكرة قد كبر تكبيرة الإحرام وركع ودب إلى الصف، فانعقد ركنه دون الصف! فلو كانت صلاة الفذ لا تصح لبطلت صلاته، ولأمره عليه الصلاة والسلام بإعادتها.
والجواب عن ذلك ما قاله الإمام أحمد حيث قال: أُبقي حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على عمومه، وأستثني من فَعل فِعل أبي بكرة وهذا هو الفقه، وهو الجمع بين النصوص على حسب دلالتها، فأعمل رحمة الله عليه عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، واستثنى حالة أبي بكرة، وقال: لا إشكال فيمن فَعل فِعل أبي بكرة، فإني أصحح صلاته، بمعنى أنه يكبر ثم يدب إلى الصف.
قال: وفي حكمه ما لو ركع وجاء رجل معه وركع قبل أن يرفع الإمام فإنه تصح صلاته وتجزيه.
وهذا القول لا شك أن السنة تدل عليه، خاصة أنه مسلك أصولي صحيح، فأنت إذا تأملت حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وجدت أن هذا العموم دخله التخصيص، والدليل على ذلك أنه استثني منه المرأة فيما ذكرناه من حديث أنس، فإذا استثنيت المرأة فمعنى ذلك أنه عام مخصص، فلا مانع أن تخصص منه الأحوال في جنس ما قيل بالعموم فيه، أعني الرجال.
(62/10)
________________________________________
حكم الاقتداء بالإمام مع رؤيته وعدمها
يقول رحمه الله: [فصل: يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره].
هذا كما في الأعمى، فإنه يصح اقتداؤه به، خاصة أنه إذا كان داخل المسجد فإنه سيرى من يقتدي بالإمام، وسيعلم بأفعال الإمام من جهة المأمومين الذين يصلون معه.
قال رحمه الله تعالى: [ولا من وراءه إذا سمع التكبير وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين].
أي: كذلك إذا لم ير من وراءه، بشرط سماعه للتكبير، وهذا أحد المذاهب عن العلماء رحمة الله عليهم، فيقولون: المهم عندنا أن يكون في المسجد، كما هو مذهب الحنابلة، ووافقهم الشافعية رحمة الله على الجميع.
فيقولون: ما دام أنه داخل مسجد واحد وموضع واحد يصلي مع الإمام، فيستوي ألا يراه ويرى المأمومين، أو لا يراه ولا يرى المأمومين، لكن المهم أن يسمع الصوت.
قوله: [وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين].
ظاهر السنة أن الصلاة تصح إذا رأى المأموم الإمام أو المأمومين.
فيقولون: إن هذا يدل على أن الأصل أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام داخل المسجد؛ لأنه إذا لم ير الإمام لم يأمن أن تختلج أفعاله، ولا يأمن عند سهو الإمام ألا يدري ماذا يصنع، كما لو سها في الرباعية فقام الإمام بدل أن يجلس للتشهد، فإنه لا شك إذا لم ير الإمام ولا من يقتدي بالإمام أن يقع منه هذا اللبس.
لكن قالوا: إنه يصح الاقتداء ولو لم يرَ أحداً قياساً على الأعمى.
وأكدوا هذا بحديث الحجرة أيضاً، فإنهم ائتموا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون صوته ولا يرون شخصه، قالوا: لأن الحجرة مع المسجد كالشيء الواحد، فاستثني هذا.
فهذا حاصل ما قيل إذا كان داخل المسجد، أما إذا كان خارج المسجد فجماهير أهل العلم لا يصححون الصلاة إلا برؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولا يكون هذا إلا باتصال الصفوف؛ لأنها هي الإمامة الحقيقية، وهي السنة والهدي والاقتداء.
أما لو كان لا يرى الإمام ولا يرى المأمومين وهو منفصل عن المسجد، كأن يكون في بيت بينه وبين المسجد طريق، أو بينه وبين المسجد بيوت، ويسمع عن طريق الأجهزة الموجودة الآن فإنه لا يصح اقتداؤه ولا تصح متابعته.
وهكذا لو سمع عن طريق الأجهزة التي تنقل، كالراديو ونحوه، فإنه لا تصح صلاته؛ لأنه غير مؤتم حقيقة بالإمام.
فلذلك قالوا: لابد وأن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام.
(62/11)
________________________________________
حكم ارتفاع الإمام على المأمومين
قال رحمه الله تعالى: [وتصح خلف إمام عالٍ عنهم].
إن كانت الأرض التي يقف عليها الإمام والمأموم واحدة فلا إشكال، وهذا الأصل في موقفه عليه الصلاة والسلام.
لكن هناك حالة يرتفع فيها الإمام ويكون المأموم أنزل منه، وحالة يكون الإمام في أرض هي أدنى في الارتفاع من أرض المأموم.
فأما إذا علا الإمام فإنه لا يعلو إلا من ضرورة وحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه قال لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها) فصنع أعواد المنبر، قال سهل: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليها فكبر -أي: كبر تكبيرة الإحرام على المنبر- ثم ركع، ثم رفع -وهو على المنبر- ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، ثم رفع ثم سجد، ثم رفع ثم صعد المنبر، ثم كبر فركع، ثم رفع، ثم رجع القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم قال: إنما صنعت هذا -أي: كوني صليت على المنبر- لتأتموا بي)، واللام للتعليل، أي: من أجل أن تأتموا بي فتروني، (لتأتموا بي ولتعلّموا صلاتي).
فللعلماء في هذا وجهان: فمنهم من قال: لا حرج عندي في ارتفاع الإمام عن المأمومين، ولا بأس بذلك؛ لأن السنة دلت عليه فلا حرج.
ومنهم من قال: لا يجوز للإمام أن يرتفع عن المأمومين، وإن ارتفع من غير حاجة فإنه يأثم.
وشدد بعضهم فقال بعدم صحة الصلاة والاقتداء إذا كان الارتفاع بدون حاجة، خاصة إذا قصد به الكبر والترفع، والعياذ بالله.
وأكدوا هذا بما جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع ابن مسعود، فإن حذيفة حينما صلى بأصحابه وهو على دفة الدكان القديمة وقف عليها رضي الله عنه والمأمومون وراءه، فلما رآه ابن مسعود جاء وجذبه فأنزله، فلما سلم قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا؟ قالوا: فدل على أنه منهي عنه، وأنه لا يجوز، قال: قد علمت، أو تذكرت حينما جذبتني.
فدل على أن ارتفاع الإمام عن المأمومين الأصل فيه الحظر والمنع.
وهذا القول هو الصحيح، فلا يرتفع الإمام عن المأمومين إلا إذا وُجدت حاجة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)، فكأنه ارتفع بقصد التعليم، فقالوا: لو زار عالم أناساً لا يعرفون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فأحب أن يكون في موضع يراه الجميع فيعلمون صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في انتقاله وفي وقوفه وفي ركوعه وسجوده، فصلى على نشز أو مرتفع فلا حرج.
ويكون بقدر المنبر، فلا يرتفع ارتفاعاً فاحشاً؛ لأنه هو الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحاجة تتحقق بمثل هذا، فقالوا: لا حرج.
أما إذا لم توجد الحاجة فلا.
قال رحمه الله تعالى: [ويكره إذا كان العلو ذراعاً فأكثر كإمامته في الطاق].
ذلك لأنهم حزروا وقدَّروا منبره عليه الصلاة والسلام -الذي هو ثلاث درجات- بهذا القدر؛ لأنه لا يقل عن ثلاثة أشبار، وبناءً على ذلك قالوا: لا يزيد على ذراع، فإذا زاد على ذراع قالوا: إنه في هذه الحالة يكون مكروهاً.
ونص بعض العلماء على حرمته؛ لقوله: كانوا ينهون عن ذلك.
والأصل في النهي أنه يُحمل على أعلى درجاته، إلا إذا دل دليل على ما هو أدنى من ذلك، أعني الكراهة.
قوله: [كإمامته في الطاق] الطاق هو: المحراب، أي: دَخْلة المحراب، وكان السلف كـ ابن مسعود وغيره يشددون في ذلك ويمنعون منه، خاصة أن في القديم ما كان هناك سماعات، فإذا دخل الإمام في الطاق داخلاً لم يروه، وبناءً على ذلك تخفى على بعض الناس الذين هم في أطراف الصف أفعاله، ولذلك قالوا: لا يصلي داخل الطاق، وكرهوا ذلك، وشدد فيه بعض أئمة السلف كالإمام مالك رحمة الله عليه وغيره.
(62/12)
________________________________________
حكم تطوع الإمام في موضعه
قال رحمه الله تعالى: [وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة] أي: لا يتطوع الإمام موضع المكتوبة، وهذا فيه تفصيل، فبعضهم يقول: الإمام لا يصلي النافلة في موضع إمامته.
وهذا القول وجيه، وسبب ذلك أن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا صلى بالناس وانتهى من الأذكار ينصرف.
يقول العلماء: الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن الإنسان إذا تقدم على الناس تميز وصار له فضل، وحينئذٍ يكون الناس وراءه، وهذا الفضل شُرِع لحاجة وهي الإمامة، ثم أعطي قدر الأذكار، فبقي ما عداها على الأصل، فلا ينبغي له أن يبقى في موضع إمامته.
ولذلك شدد العلماء رحمة الله عليهم، وبعض المتقدمين شددوا على الإمام أن يطول في الأذكار ويطيل الجلوس في المحراب، ولا يتذكر أنه متقدم على الناس؛ لأن هناك أناساً لهم فضلهم ولهم مكانتهم، فلا يتقدم عليهم إلا بقدر ما أذن له الشرع بالتقدم.
وهذه من آداب الإمامة التي ينبغي أن يتنبه لها الإمام، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لا يبقى في موضعه إلا بعد صلاة الفجر، فكان عليه الصلاة والسلام يجلس -كما ثبت في الصحيح- ويتحلّق حوله أصحابه، واستثنى بعض العلماء إذا وُجدت حاجة كالتعليم، كأن يكون عند الإمام درس علم ونحو ذلك، ويكون في موضع المحراب، قالوا: لا حرج في هذا.
وإن كان بعضهم يستحب له أن ينتقل.
فالشاهد أنهم قالوا: لا يتطوع في موضع المكتوبة، وجاء فيه حديث ضعيف عند ابن حبان، أو ابن ماجة ينهى عن التطوع في موضع المكتوبة.
واختلف الأئمة في تعليل ذلك، فقال بعض العلماء: إنما هو للتميز -كما ذكرنا-، وقال بعضهم: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يوصل بين الصلاتين، فلا يصل بين الصلاتين حتى يتكلم، أو يفعل فعلاً يخرج به عن الصلاة، وهذه من سماحة الإسلام، حتى يخرج المسلم عن رهبنة النصارى والغلو في العبادات.
ولذلك قالوا: إنه لا يصل الصلاة بالصلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصل الصلاتين ببعضهما ما لم يتكلم أو يعمل، قالوا لا يصلي حتى يكلم أحداً، أو ينتقل من موضعه، وقالوا: فإذا انتقل من موضعه صلى ولا حرج عليه.
وقال بعض الأئمة في تعليل ذلك: إنه إذا صلى في موضع المكتوبة فإنه يشهد الموضع له بالصلاة، فإن أراد أن يصلي النافلة فليستكثر من الخير وليتقدم أو يتأخر أو يتيامن أو يتياسر، وقد حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي على يمين منبره، وهو الموضع الذي ورد في الصحيح أنه كان يتحرى الصلاة عنده عليه الصلاة والسلام.
فهذا يدل على أن الإمام لا يتعطَّن، كأنهم يقولون: إنه إذا صلى في هذا الموضع كأنه تعطَّنه؛ لأنه إمام يصلي المكتوبة ويصلي النافلة في هذا الموضع، قالوا: كأنه تعطَّن، وقد نهي عن تعطن المواضع في المساجد.
فهذا حاصل ما ذُكِر في تنفِّله في موضع المكتوبة، وإن كان الأشبه أن المراد به ألا يتميز على الناس، وألا يتقدم عليهم، فبعد انتهائه من الأذكار يدخل إلى بيته متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ويصلي الراتبة، إلا ما ورد فعله منها في المسجد، أو يصلي في أي ناحية من المسجد، حتى لا يكون متميزاً على الناس.
(62/13)
________________________________________
حكم إطالة الإمام القعود في موضعه بعد الصلاة وكيف ينصرف
قال رحمه الله تعالى: [وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة].
السنة للإمام إذا صلى بالناس وانتهى أن يستغفر وهو مستقبل القبلة ولا يلتفت.
والسبب في هذا أنه يمكث بقدر ما يقول: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله ثلاثاً، قالوا: لاحتمال أن تكون الصلاة فيها نقص، واحتمال أن يكون قد سها في صلاته، فإذا انتقل مباشرة فإنه لا يكون بحالة أكمل مما لو بقي في موضعه.
ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لا يتحول مباشرة، فعلى الإمام أن يبقى، قالوا: فيه مصالح، منها: قضية تدارك ما فات، سواءٌ أكان بسجود سهوٍ، أم بقضاء ركعة بقيت وسلم قبل أن يفعلها، وكذلك أيضاً قالوا: إنه قد يكون هناك نساء يُرِدن الانصراف، فإذا عجل فإنه لا يأمن الفتنة، ولذلك قالوا: لا يبادر بالانصراف.
وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يتأخر في انصرافه قليلاً ليتمكن النساء من الانصراف، كما ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.
فهذا من آداب الإمامة، فإذا ثبت أنه لا يستعجل فكذلك أيضاً لا يتأخر، فلا يبقى معطياً للناس ظهره؛ لأنها صفة لا تليق؛ لما فيها من الانتقاص؛ لأن تولية الظهر للشيء انتقاص له.
ولذلك وصف الله عز وجل من أعرض عن القرآن بأنه اتخذه وراءه ظهريا، فإذا كان الإنسان معطياً لغيره ظهره فإن هذا لا يكون إلا بقدر الحاجة، فلما وُجِدت الحاجة بالإمامة وانتهت الإمامة فإنه ينفتل إلى الناس ويستقبلهم.
وللعلماء أوجه في جهة الانصراف: فقيل: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُكثر الانصراف عن يساره، وقال: (لا يجعل أحدكم للشيطان حظاً من صلاته)، قالوا: إذا انصرف فلا ينصرف دائماً عن يمينه وإنما ينصرف عن يساره، وقال بعض العلماء: بل ينصرف عن يمينه كابتداء انفتاله من الصلاة؛ لفضل اليمين وشرفه، ثم إذا قام وهبَّ إلى بيته، أو هب إلى موضع درسه، أو إلى موضع في المسجد فإنه يكون انصرافه عن اليسار تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا ضعيف؛ لأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان في اليمين بعد أن ينفتل، ولم يكن في اليسار.
فلو كان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم دائماً المراد به عن يمينه ثم ينفتل عن يساره، لأصبح في هذا مشكلة أنه عن يساره سينفتل إلى الجهة الغربية في المدينة، والجهة الغربية جهة الخوخات في المسجد، وهي بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه وغيرهما من الصحابة، وليس ببيته وحجراته عليه الصلاة والسلام، ولم تكن إلا حجرة بعض نسائه عند باب الرحمة، وهي الجهة الغربية، ولا يمكن أن يقصدها ابن مسعود في إخباره عن أكثر انفتاله عليه الصلاة والسلام في قوله: (أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ينفتل عن يساره).
والذي يظهر أن الإنسان لا يجعل حظاً للشيطان، فينفتل تارة عن يمينه وتارة عن يساره، والناس تُنكر هذه السنة، فإحياؤها طيب، ومستحب أن يحيي الإنسان هذه السنة، والأفضل أن يسبق ذلك بتنبيه للناس حتى لا يحدث تشويشاً عليهم.
قال رحمه الله تعالى: [فإن كان ثم نساء لبث قليلاً لينصرفن].
هذا من باب الرفق بهن حتى يكون ذلك أدعى لسترهن وأبعد عن فتنته.
(62/14)
________________________________________
حكم الصلاة بين السواري
قال رحمه الله تعالى: [ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف] الصلاة بين السواري قد جاء فيها حديث أنس رضي الله عنه أنهم كانوا يُطردون عنها طرداً.
وقال بعض العلماء: إنه لا تجوز الصلاة بين السواري، واختلفوا، فقال بعضهم: إنما نهي عن الصلاة بين السواري لأنها تقطع الصفوف، وهذا وجه للتعليل.
والوجه الثاني أنها كانت موضع الأحذية، وليست موضع الِعبادة، ولذلك مُنِع منها تنزيهاً وتشريفاً للصلاة، كما هو معهود في غير ما مثال من الشرع.
فلذلك قالوا: لا يصلى بين السواري لهذا، وإنما يصلى في الصف التالي، واغتفر بعض العلماء رحمة الله عليهم القاطع اليسير والقاطع المضطر إليه كقاطع المنبر ونحوه، قالوا: إن هذا يغتفر، وهكذا إذا كان القاطع يسيراً لا يمنع العلم بأطراف الصلاة، كما كان في المسبوقات القديمة التي تكون للأئمة ونحوهم.
قالوا: إن هذه القياسر ونحوها تستثنى ولا حرج فيها، خاصة إذا كانت قدر شبر ونحوه، أي: يسيرة، قالوا: إن هذا يغتفر ولا حرج فيه.
(62/15)
________________________________________
الأسئلة
(62/16)
________________________________________
حكم التقدم على الإمام من غير جهته في الكعبة

السؤال
الصلاة في الحرم المكي أمام الصف الأول مما يلي الكعبة في غير جهة الإمام هل تعتبر من التقدم على الإمام أم لا؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن صلى داخل المسجد الحرام فإنه على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون في الجهة التي فيها الإمام.
والحالة الثانية: أن يكون في غير جهة الإمام.
فأما من كان في جهة الإمام فإنه لا يجوز له أن يتقدم على الإمام، وهذا هو الأصل الذي ذكرناه وقررناه.
توضيح ذلك: لو صلى الإمام في الجهة التي تلي باب الكعبة وكان بينه وبين الكعبة ثلاثة أذرع، فلا يجوز لأحد أن يتقدم على هذا القدر، وإنما يكون وراء الإمام.
وأما بالنسبة للجهات الأُخَر فإنه يجوز له أن يكون على بعد ذراع من الكعبة، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا قول جماهير العلماء، وأفتى به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وكان معروفاً في مكة في أزمنة الأئمة رحمة الله عليهم، ونقله الإمام الشافعي رحمه الله، قالوا: إن هذا لم يكن أحد ينكره، أي: التقدم في غير جهة الإمام.
والسبب في ذلك أن غير جهة الإمام لا يكون الإنسان فيها مطالباً بالتأخر عن الإمام؛ إذ لو قلنا: إنهم مطالبون بالتأخر إلى حد الإمام لوجب عليهم أن يرجعوا ويصلوا وراءه فتتعطل الجهات الأُخَر، فلما أُذِن بالصلاة في الجهات الأخر استوى أن يكونوا قريبين أو بعيدين.
والأمر الثاني: أن المفسدة التي من أجلها نهي عن التقدم على الإمام غير موجودة في هذه الحالة، والسبب في ذلك أنهم في الجهة هذه يرون الإمام أو من يقتدي بالإمام، وعلى هذا قالوا: إنه إذا لم يره بشاخص الكعبة فإن أطراف الصف يرون، فينتقل العلم بطرف الصف.
وإذا ثبت أنه يجوز في الجهة التي هي غير جهة الإمام أن يتقدم فلو كان الإمام من جهة الباب، أو من جهة المقام بينه وبين الكعبة متر حيث يجوز أن يكون بينك وبين الكعبة قدر ذراع، فيجوز أن تكون أقرب إلى الكعبة، فإنه يرد السؤال: هل العبرة في الصف الأول بمن يلي الإمام من حدِّه دائراً على الكعبة؟ أم العبرة في الصف الأول في غير جهة الإمام بمن كان أقرب للكعبة؟ وجهان للعلماء: أصحهما وأقواهما أن من كان أقرب للكعبة فإنه هو الصف الأول؛ لأنه لما أُذِن بالشرع بتقدمهم فإنه يعتبر صفهم هو الأول، ولا يستقيم أن يُقال عن صف: إنه الصف الأول، وقد تقدم عليه غيره؛ لأن الوصف لا يتحقق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول).
فالصف الأول من غير جهة الإمام الذي أذن به الشرع هو أقرب الصفوف إلى الكعبة، فكما أن الصف الأول من جهة الإمام أقربها إليه كذلك من غيرها الصف الأول أقربها إلى الكعبة، وهو أولى الأقوال وأقواها إن شاء الله تعالى.
(62/17)
________________________________________
حكم القصر إذا سافر دون مسافة القصر

السؤال
إذا وصل المسافر إلى ضاحية أو قرية من قرى مدينته التي لا تبعد عنها مسافة القصر، فهل له أن يقصر الصلاة إذا قفل راجعاً من سفره؟

الجواب
من خرج من مدينته إلى موضع دون مسافة القصر فإنه لا يقصر الصلاة، فلا بد في جواز القصر من وجود المسافة، وهذا هو مذهب طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتدل عليه السنة في ظاهرها.
أما دليل السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم)، فوصف مسيرة اليوم بكونها سفراً، ولو كان ما دون اليوم يسمى سفراً لمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن تسافر.
الأمر الثاني: أن الصحابة رضوان الله عليهم أفتوا بذلك، فإن ابن عباس رضي عنه سئل وهو بمكة عن قصر الصلاة إلى مر الظهران وما قرُب من مكة فقال: لا، إنما يقصر إلى عسفان وجدة والطائف، وكانت عسفان وجدة والطائف على مسافة القصر.
ولذلك قالوا: إن هذا يدل دلالة واضحة على أن مسافة القصر مؤقتة، ويؤكد هذا السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد وهي بضاحية المدينة ولم يقصر الصلاة، ومكث بالخندق وهي تبعد ميلين عن المدينة إبان عهده عليه الصلاة والسلام ولم يقصر الصلاة، وخرج إلى بني النضير خمسة عشر يوماً وحاصرهم ولم يقصر الصلاة، وخرج إلى بني قريظة وصلى بأصحابه العصر ولم يقصر الصلاة، وكلها ضواحٍ، مع أنه في حكم المسافر؛ لأنه حينما نزل على بني قريضة إنما قصد حصارهم وحربهم، وهذا سيكون بلا شك أنه في حكم السفر، ومع ذلك لم يقصر الصلاة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري مع تمسكه بظواهر النصوص والتزامه بها رحمة الله عليه يقول: علمنا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يقصر في القليل والكثير، وإنما كان يقصر في المسافة.
فدل على أنه يؤقت السفر بالمسافة، وهذا هو الذي أفتى به جمهور العلماء، وعليه العمل، فالعبرة في السفر بالمسافة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى ضواحي المدينة لم يقصر.
وعلى هذا إذا كان المكان الذي تريد قصده دون مسافة القصر كضاحية فإنك لا تقصر، لكن لو أنك قصدت مدينة بعيدة، كأن تخرج من مكة إلى المدينة، ثم لما خرجت من مكة نزلت بعد بُعدِك عن مكة بعشرة كيلو مترات، أو بخمسة كيلو مترات في موضع أو في ضاحية حل لك أن تقصر.
فمتى خرجت عن آخر عمران مكة جاز لك أن تترخص بالقصر في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة العصر ركعتين.
فدل على أن القصر يكون بمجاوزة آخر العمران، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما يفهم من حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه وأرضاه.
والله تعالى أعلم.
(62/18)
________________________________________
حكم إعادة تحية المسجد عند الخروج والدخول للمسجد

السؤال
يصلي كثير من الطلاب مع الجماعة في الصف الأول، ثم يصعدون للحلقات في الدور الثاني، فهل عليهم إعادة تحية المسجد مرة أخرى؟

الجواب
هذا فيه تفصيل، فإن خرجوا من باب المسجد ودخلوا من باب ثان صاعدين إلى المسجد فالسنة واضحة: (إذا دخل أحدكم المسجد)، ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين طول العهد وقصر العهد، والأصل في العام أن يبقى على عمومه.
فلو قيل: إنه إذا كان حديث العهد جاز، وإن كان طال العهد لم يجز، أو: إذا خرج بالنية جاز له أن يدخل ولا يصلي فإن هذا فيه نظر؛ لأنه إذا خرج وكان خروجه قريباً ورجع فإنه يحتاج إلى تأقيت يُفرَّق فيه بين القليل والكثير، وهذا ليس فيه دليل من الشرع، ولذلك يقولون: تأقيت بدون مؤقت.
وقالوا: إن التفريق بين كونه قريباً وبعيداً مبني على الاستحسان، والأصل أن إعمال عموم النص أولى من إعمال الاستحسان في مثل هذا، خاصة وأنه شُرِع على وجه التعبد؛ فقال: (إذا دخل أحدكم المسجد)، ولم يفرق بين هذا وذاك.
وقال بعض العلماء: لو خرج بكامل جسمه ثم رجع مباشرة لزمه أن يعيد تحية المسجد، أما لو خرج من المسجد ناوياً الرجوع، أو خرج من المسجد على نية أن يبقى فهذا مبني على إلغاء الظاهر وإعمال النية والباطن.
وتوضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا دخل أحدكم المسجد)، علق هذا على ظاهر المكلف ولم يعلقه على نيته.
وما من إنسان يخرج من المسجد -إذا كان عبداً صالحاً أو يريد الخير- إلا وفي نيته غالباً أن يعود إليه، ولذلك ورد في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).
بل قل أن تجد إنساناً صالحاً يخرج إلا وفي نيته أن يعود إلى الفرض الذي بعده، وعلى هذا تسقط تحية المسجد، والذي يظهر والله أعلم أن العبرة بعموم النص، وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا دخل أحدكم المسجد)؛ حيث لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين دخول يطول الفصل فيه ودخول يقصر فيه الفصل، ولم يفرق بين كونه ناوي الرجوع، أو غير ناوٍ.
والله تعالى أعلم.
(62/19)
________________________________________
حكم قطع الطواف لصلاة الجنازة

السؤال
من كان يطوف فهل له أن يقف ويصلي على الجنازة، أم يمضي في طوافه؟

الجواب
الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يُتم طوافه ولا ينشغل بصلاة الجنازة، أما لو كان الطواف فرضاً كطواف الإفاضة ونحوها من الأطوفة الواجبة واللازمة كطواف الوداع فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الطواف بالبيت بأنه صلاة، ولا يترك الصلاة المفروضة اللازمة لما هو دونها في المرتبة، فإن الصلاة على الجنازة من فروض الكفايات، وقد قام حقها بصلاة غيره عليها، فلا يترك الفرض العيني المتعلِّق به إلى فرضٍ قد سقط عنه بفعل غيره، ولذلك يبقى في طوافه ولا يقطع.
ولكن إذا أُقيمت صلاة فريضة فإنه ينسحب ويصلي، ثم إذا صلى الفريضة كالعصر والظهر ونحوها ورجع فهل يرجع من أول الطواف، أو يرجع من الموضع الذي قطع فيه؟ أصح الأقوال أنه يرجع من الموضع الذي قطع فيه.
وبناءً على ذلك يرجع إليه ويُتِم طوافه، والأحسن أن يبتدئ من بداية الشوط الذي قطعه على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.
والله تعالى أعلم.
(62/20)
________________________________________
نصائح وتوجيهات لطلبة العلم

السؤال
نود ذكر ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من حيث ضبط المسائل ومراجعتها؟

الجواب
أولاً: أوصي الإخوان وأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، فيتقي الإنسان ربه، وهذا العلم يراد به ما عند الله سبحانه وتعالى.
وكان العلماء رحمة الله عليهم يوصون دائماً بالإكثار من التواصي بالإخلاص في العلم، فإن الله يضع البركة فيه، ويكثر خيره، وينمي ما فيه من نفع المسلمين بحسن نية صاحبه.
فينوي الإنسان بهذا العلم أن ينقذ نفسه من الضلال، وأن يعمل به، وأن يعلمه الناس، وأن يكون في نيته ألا يبخل على أحد بحكمة رزقه الله علمها، فهذا من أفضل ما يكون في توفيق الإنسان، وكلما صلحت نية طالب العلم كان ذلك أدعى لتوفيق الله ورحمته به.
فإن الله اختار القلوب للنظر، ففي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فأَرِ الله من نفسك حسن النية.
الأمر الثاني: لا تعجب، ودائماً كن في احتقار وانتقاص لنفسك؛ فإن الله يرفع قدرك، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً أظن نفسي أني أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، وما جلست مجلساً أرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم.
فإذا احتقر الإنسان نفسه وقال: من أنا، وأخذ يظن بنفسه أنه دون الناس رفع الله قدره، وجعل بين الناس حبه والثقة بما يقول.
الأمر الثالث: أن تضبط هذا العلم حق ضبطه، فتأخذه كما ينبغي أن يأخذه طالب علم بجد واهتمام وصدق كما قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، فيحتاج العلم إلى عزيمة، ولا يكون بكسل أو خمول أو توانٍ، فتأخذ العلم بهمة صادقة وعزيمة على الخير وحب للانتفاع به.
قال صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا)، فأرِ الله منك الجد والاجتهاد والصبر والتحمل.
ولذلك موسى عليه السلام لما بلغه أن هناك من هو أعلم منه قال: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60] ومعنى (حقبا) أي: إلى آخر الدهر حتى أبلغ هذا الذي هو أعلم مني.
وهذا يدل على الهمة الصادقة في العلم، فإن وجدت من هو عالم ويوثق بدينه وما عنده من العلم فخذ العلم كما ينبغي أن يؤخذ، فتكون عندك الهمة الصادقة فيه، والجد والاجتهاد والتفاني فيه، وبقدر ما تضحي للعلم يضع الله لك البركة والخير والنفع للمسلمين.
فمن تعب اليوم فإنه يجني الثمار غداً، فيجنيها في الدنيا والآخرة، ويجنيها من الله سبحانه وتعالى في عاجل أمره وآجله؛ لأن المعاملة مع الله رابحة على أتم الوجوه وأكملها.
الأمر الرابع: أول ما تُعنى به تطبيق العلوم بعد أن تعلمها وتعرف حلالها وحرامها، فتعمل بهذا العلم الذي علمته، ولذلك قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله.
فإذا علمت أن الله أحل فأحِل، وإذا علمت أن الله حرم فحرم، وكن عاملاً بهذا العلم، فإذا وفقك الله للعمل بما علمت فإن الله يرزقك علم ما لم تعلم.
قالوا: من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، أي: رزقه ما لم يكن له على الحسبان، وفتح الله له البركة؛ لأن العمل توضع بسببه البركة في علم العالم.
الأمر الآخر الذي أحب أن أوصي به بعد العمل: أن تدعو الناس، وتهدي الناس إلى هذه السنن، وتحس أنها في رقبتك أمانة، فتبين للناس حلال الله وحرامه، وتدعوهم بالتي هي أحسن إلى أن يعملوا بالحلال وأن يحلوه، وأن يجتنبوا الحرام ويبتعدوا عنه وينبذوه.
فمن خير المنازل الدعوة إلى الله عز وجل بالعلم، حتى تكون ممن عناهم الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت:33].
وينبغي عليك أن تتنبه لأمور: أولاً: شيء لا تعلمه لا تتكلم فيه؛ فإن الله عز وجل إذا أراد أن يسلم العبد من تبعة هذا العلم رزقه الأمانة فيه، فلا تتكلم إلا بقدر ما علمت، وكلما كان طالب العلم دقيقاً من أول طلبه للعلم، فلا يتكلم إلا في حدود ما يعلم كان أدعى لضبطه للعلم، وأدعى -أيضاً- لسلامته من تبعة العلم.
فإن الإنسان تزل قدمه بكلمة واحدة، وقد يمقت الله العبد بكلمة من غضبه حينما يفتري على الله كذباً فيقول: هذا حلال، والله حرَّم، أو: هذا حرام، والله أحل، خاصة إن كان عن جهل وجرأة على الله، نسأل الله السلامة والعافية.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:21]، فلو وقفت أمام الناس والخلق أجمعين يسألونك عن شيءٍ لا تعلمه فقل بكل عزة وإباء: الله أعلم، فمن قال: لا أدري، فقد أُنفذت مقاتله، ويكون الله أعلم في قلبك من كل أحد، ولا تبال بأحد.
ولو ضاقت عليك الأرض بما رحبت فلا تقل في دين الله وشرع الله ما لا تعلم أبداً، فلا تتقدم، فإنك إن فعلت فقد تقحّمت النار على بصيرة، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن كانت عنده الجرأة على الاجتهادات والخوض في الآراء وكثرة الجدل حتى يُحدث لنفسه أقيسة وفروعاً فقد زلت به القدم -نسأل الله السلامة والعافية- إن عاجلاً أو آجلاً، وقل أن يسلم من مكر الله به والعياذ بالله، فينبغي أن تكون أميناً.
فاتق الله يا طالب العلم، فإن الناس إن جلست بين يديك تريد علماً صادقاً، ولا تريد الكذب، ولا تريد الغش، ولا تريد إحلال الحرام وتحريم الحلال، وإنما تريد الأمانة.
وقد قال تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن العالم لا يكون صادقاً إلا إذا تتبع الأثر.
ولذلك تجد في بعض الأحيان بعض الكتب تنقل ولا تزيد، حتى إن الكلمات مكررة، وهذا يدل على أمانة العلماء، وهم قادرون على أن ينظِّروا، وأن يجتهدوا، وأن يفرعوا، وأن يؤصِّلوا، ولكن الخوف من الله حبسهم.
فينبغي لطالب العلم أن يكون بهذه المثابة، فلا تتكلم في شيء لا تعلمه، وإذا أصبحت من الآن لا تخطو خطوة إلا وأمامك دليل وحجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فأنت على خير.
والوصية التي أحب أن أنبه عليها أيضاً أنك لا تدخل في مماراة السفهاء ومجادلة العلماء، فلا تتعلم العلم لتماري به السفهاء، أو تجادل به العلماء، فمن تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار.
وليكن أهم شيء عندك رضوان الله العظيم، وأهم شيء أن الله يرضى عنك حينما علمت فعملت وعلّمت ودعوت، فإذا بلغت هذا وضع الله في قلوب العباد الثقة بعلمك، ووضع الله في قلوب العباد حبك، وتجد من تيسير الله لك في العلم، حتى إنه في بعض الأحيان تقول: (الله أعلم) فتخاف الله عز وجل وتتورع، فلا تجاوز مكانك حتى يفتح الله عليك بالحق فيها، وهذا مجرب، فربما تتذكر أدلة ونصوصاً في المسألة، وكأن الله يمتحنك، وكأن الله يبتليك ويختبرك، فإذا كنت بهذه المثابة فإن الله يفتح عليك.
ثم عليك أن تشوب العلم بالصلاح والتقوى والورع، فكلما نظرت إلى الله سبحانه وتعالى كيف علّمك وفهمك وهداك وأرشدك فينبغي أن تشكر هذه النعمة؛ فإن الله تأذن بالزيادة لمن شكر، وتأذن بمحق البركة لمن كفر.
ولذلك يقول العلماء: قرينان لا يمكن أن يكون الإنسان إلا على واحد منهما، إما شكر وزيادة، وإما كفر -والعياذ بالله- فمحق للبركة وخسارة، فإذا أردت أن يبارك الله لك في هذا العلم فدائماً اذكر فضل الله عليك، وأثن على الله بما هو أهله.
ودائماً ينبغي أن تدمع عينك، خاصة إذا كنت في خلوة بينك وبين الله، فتقول: يا رب: لك الحمد، علمتني وكنت جاهلاً، وهديتني وكنت ضالاً، وأرشدتني وكنت حائراً.
إلى غير ذلك.
فلا تزال تثني على الله وتصعد منك هذه الكلمات، ففي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها).
فلربما أنك تجلس خالياً فتذكر ولو مجلساً واحداً جلسته، ولو فتوى واحدة سمعتها من أهل العلم، فإن الله يرفعك بها درجات، فإن شكرت بارك الله لك.
والوصية الأخيرة: أن تتأدب مع العلماء والسلف الصالح رحمة الله عليهم، فأنت لم تتعلم العلم لكي تضع نفسك في مكان لست بأهله، فلا تكن جريئاً على تخطئة الأسلاف، وكذلك بيان عوارهم وانتقاصهم، وإنما تأدب مع السلف الصالح والأئمة، وتأدب مع من هو أعلم منك.
وإن جلست في مجلس وهناك من هو أعلم منك فأعط الزمام له، قال صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، فاحفظ حق من هو أكبر منك، ومن هو أسبق منك، ولا تتعال على الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا نافعاً، وعملنا صالحاً خالصاً لوجهه الكريم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيما علمنا وعملنا، وأن يجعله خالصاً لوجهه ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(62/21)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: أعذار ترك صلاة الجماعة
المرض هو أحد الأعذار التي يعذر بها صاحبها عن ترك صلاة الجمعة والجماعة، وقد قسم العلماء المشقة فيه إلى مشقة مقدور عليها ومشقة غير مقدور عليها، ومن الأعذار التي يعذر بها صاحبها عن التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة: مدافعة أحد الأخبثين، وحضرة الطعام مع الحاجة إليه، وكذلك الضرورة التي يقاس عليها بعض الأعذار وغيرها، ولأهل الأعذار كالمريض كيفية خاصة في الصلاة كما جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(63/1)
________________________________________
أعذار ترك صلاة الجمعة والجماعة
(63/2)
________________________________________
المرض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض].
قوله: [يعذر بترك] أي: بالتخلف.
فالجمعة والجماعة لا تجب على المريض الذي لا يستطيع شهودها وحضورها، والسبب في ذلك أن تكاليف الشرع مبنية على التيسير على الناس، لا على التعسير عليهم.
وقد بعث الله نبيه رحمة للعالمين، ولم يبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- بما فيه حرج ومشقة لا يطيقها الناس، والمرض فيه مشقة وحرج.
ولذلك لما مرِض عليه الصلاة والسلام لم يشهد الجماعة، كما في الصحيحين أنه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فتخلف عليه الصلاة والسلام عن شهود الجماعة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن من كان مريضاً يُعذر بترك الجماعة.
والمرض له أحوال، فتارةً يمتنع الإنسان بالكلية عن شهود الجماعة، كأن يكون مشلولاً أو به ألم لا يطيق معه الخروج من بيته، فهذا يُعذر، ويعتبر وجود مثل هذا الأذى رخصة له في ترك الجمعة والجماعة.
وتارة يكون مرضه يستطيع معه الخروج، ولكن يتضرر بالخروج؛ فتارة يزداد عليه المرض، كأن يكون مصاباً بالزكام، فلو خرج في شدة البرد زاد عليه زكامه، ولربما ساءت صحته، واشتدت عليه علّته، وتارةً يستطيع الخروج ولا يزداد المرض، ولكن يجد الأذى والمشقة في النقلة، كأن يكون مرضه في قدميه، فلو سار عليهما أو حمل بين اثنين فإنه يتضرر بالمشي.
ففي الحالة الأولى اختار بعض العلماء والمحققين أنه إذا خاف زيادة المرض، وغلب على ظنه أن المرض يزداد والعلة تشتد فإنه يترك شهود الجماعة، فلو أنه أصابه الزكام، وغلب على ظنه أنه لو خرج لهذه الصلاة تشتد عليه العلة ويعظم عليه البلاء فإنه يتخلف.
وهكذا لو كان خروجه فيه المشقة والحرج والأذية، أما لو كانت به مشقة يستطيع أن يتحملها فعليه أن يخرج، ولذلك يقول العلماء: المشقة مشقتان: مشقة مقدور عليها، ومشقة غير مقدور عليها، فالمشقة غير المقدور عليها لا يكلف معها إجماعاً وإذا كان الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن يأتي بالشيء مع وجودها، فلو أن إنساناً أصابه مرض لا يستطيع معه القيام ألبتة -كالشلل- فإنه لا يكلف إجماعاً بالقيام.
والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين: الأول: أن تكون مقدوراً عليها وفيها حرج وضيق وعناء.
الثاني: أن تكون مقدوراً عليها، ولا يلحق الإنسان بها حرج ولا ضيق.
فمثال الأول -إذا أصابته المشقة وأجحفت به- أن يكون في سفر وتشتد عليه المخمصة، فلو كان في سفر وهو صائم، فإنه في حال السفر يمكنه أن يصبر على الصيام، ولكن تصل نفسه إلى الضيق والحرج، فهذا يرخص له في الفطر.
ومثال الثاني: مشقة الخروج لصلاة الفجر، فإنه يترك النوم ويخرج، ومشقة الوضوء في الشتاء، فإنه يكلف بها، فأصبحت المشقة ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يُقدر عليه، كالمخمصة التي تفضي به إلى الموت.
فهذه يسقط فيها التكليف، وينتقل إلى الرخصة بأكل الميتة.
الثاني: مشقة مقدور عليها مع الحرج، كالصوم في السفر، فيخير بين الفعل والترك، والرخصة له أن يترك، فالإنسان في السفر يخير بين أن يفطر ويصوم.
الثالث: مشقة مقدور عليها بدون حرج، فيلزم فيها بالتكليف، ولذلك قال العلماء: سميت التكاليف تكاليفاً لوجود الكلفة والمشقة فيها.
وبناءً على ذلك فالمريض الذي إذا خرج من بيته أجحف به الخروج وحصل له العناء والضررله أن يترك شهود الجماعة، ولا حرج عليه في ذلك.
أما لو كان يطيق -ولو مع يسير المشقة- فإنه يشهد، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
فهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على شهود الجماعة، ويدل على تأكدها ولزومها.
(63/3)
________________________________________
مدافعة أحد الأخبثين
قال رحمه الله تعالى: [ومدافع أحد الأخبثين] أي: يعذر بترك الجماعة من كان يدافع أحد الأخبثين.
والمدافعة: مأخوذة من دفع الشيء، والمراد به كفه.
وهناك (دفع) و (رفع)، والعلماء يقولون في القاعدة المشهورة: (الدفع أسهل من الرفع).
وسأل بعضهم: ما الفرق بين الدفع والرفع؟ فقالوا: الدفع لما لا يقع، والرفع لما وقع.
فأنت ترفع شيئاً قد وقع وحصل، كأن ترفع شيئاً على الأرض، فإنه بعد سقوطه على الأرض يرفع.
وأما بالنسبة للدفع فإنه يكون لشيء لا يراد وقوعه، فمدافعة الأخبثين المراد بها: أن يكون حاقناً بالبول أو الغائط أو بهما معاً، فمثل هذا لا يستطيع أن يكون مستحضراً للخشوع في صلاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من يدافع الأخبثين أن يصلي حال مدافعته للأخبثين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، والأخبثان -كما قلنا-: البول والغائظ.
ومدافعة الأخبثين تكون على صور: الصورة الأولى: أن تكون إلى درجة لا يعي الإنسان معها الصلاة، بأن تشتد عليه، وتبلغ به إلى مقام تذهله عن صلاته، وكذلك عن خشوعه وموقفه بين يدي ربه.
الصورة الثانية: أن تكون في بدايتها، بحيث يطيق الصبر إلى انتهاء الصلاة، فيرجع إلى صلاته تارة ويغيب عن صلاته تارة.
فإن وصلت به إلى حد لا يستطيع معه أن يدرك صلاته فإن صلاته لا تصح في قول طائفة من العلماء، وهو مذهب الظاهرية، وكذلك قال به الإمام مالك، وكذلك قال به بعض السلف رحمة الله على الجميع.
فإذا وصلت المدافعة إلى درجة لا يعي معها صلاته، فإن صلاته غير صحيحة، ويُلزم بإعادة الصلاة.
والقول الثاني: صلاته مكروهة، وتقع مجزئة؛ لأنه صلى وهو متوضئ وغير محدث، وإنما كانت مدافعة الأخبثين متعلقة بالخشوع، وفوات الخشوع لا يؤثر في ذات الصلاة، وإنما يؤثر في كمالها وحصول الأجر فيها، وهذا مذهب الجمهور.
وهذا المذهب يقول: لا يستلزم فوات الخشوع بطلان الصلاة، فغاية ما هو فيه -أي: الذي يدافع الأخبثين- أنه لا يعي صلاته، بمعنى أنه لا يخشع فيها الخشوع المعتبر.
وبناءً على ذلك قالوا: إن صلاته صحيحة.
والحقيقة أنه إذا دافع مدافعة يذهل فيها عن صلاته بالكلية فإن القول بالإعادة من القوة بمكان.
وأما إذا كانت المدافعة يسيرة، بأن تغلبه تارة ويرجع تارة إلى الصلاة، فإن الظاهرية يقولون ببطلان الصلاة، وبعض أهل الحديث يوافقهم، والجمهور على صحة الصلاة، وقالوا: لكن يُكره له أن يصلي على هذه الحالة.
والصحيح أنه إذا كان في بداية المدافعة بحيث يرجع إليه الشعور تارة ويغيب عنه تارة فإن صلاته صحيحة.
والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لأم المؤمنين عائشة: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، فقوله: (أميطي) أي: أزيلي.
(قرامك) القرام: هو الستارة، وكانت فيها صور، فقال: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، ولم يبطل صلاته ولم يقطعها.
فدل على أنه إذا فاء تارة وغلبه فذلك لا يؤثر في الصلاة، وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فأمر عليه الصلاة والسلام فقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، وائتوني بأنبجانية أبي جهم)، فهذا الحديث يدل على أن من ذُهل عن صلاته بحيث يفيء تارة ويغلب تارة فصلاته صحيحة.
وبناءً على ذلك يفرق فيمن يدافع الأخبثين بهذا التفريق، فإن غلبته المدافعة إلى درجة لا يعي معها الصلاة بالكلية فإنه حينئذٍ يعيد، وأما إذا كان تغلبه تارةً وتارةً يغلبها فإنه تصح صلاته وتجزيه، لما ذكرنا من الأحاديث.
فمن يدافع الأخبثين إذا أقيمت الصلاة يشرع له أن يخرج ويتوضأ، أو يعيد وضوءه، والسبب في ذلك واضح إذا كانت المدافعة قوية؛ لأن صلاته محكوم ببطلانها، أما إذا كانت المدافعة يسيرة فإنه يصلي.
وقال بعض العلماء: لا حرج أن يخرج من المسجد وأن يعيد وضوءه في هذه الحالة ولو كانت يسيرة.
(63/4)
________________________________________
حضرة الطعام مع الحاجة إليه
يقول المصنف: [ومن بحضرة طعام محتاج إليه] الطعام قد يكون غداءً أو عشاءً، وحضور الطعام مع الصلاة هو المعبر عنه في الحديث في قوله في حديث أم المؤمنين عائشة: (لا صلاة بحضرة طعام)، وحضور الطعام كمال نضجه واستوائه وتهيؤه لتناوله، فالمراد بذلك أن تحضر الصلاة في حال حضور الطعام.
بمعنى أن يكون فعل الجماعة للصلاة وقت وضع الطعام بين يديه، أو يكون مشغولاً بالأكل فتقام الصلاة أثناء اشتغاله بالأكل، فإذا كان الطعام يحتاج إليه وتتعلق نفسه به فإنه حينئذٍ ينصرف إلى الطعام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء).
وهذا من سماحة الشريعة، وفيه دليل على كمال منهجها ورحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن الإنسان ضعيف، إذ لو صلى وهو بحضرة الطعام تنشغل نفسه فيفوته الأجر، فأُذِن له أن يشتغل بالطعام.
وقوله: [محتاج إليه] خرج به الطعام الذي لا يحتاج إليه، فلو دعي إلى صلاة العِشاء، وكان بحضرة طعام لا يحتاج إليه، كأن يكون في شبع، أو يكون شراباً كالشاهي أو نحوه، كما هو موجود في زماننا الآن فإنه ينصرف إلى الجماعة، ولا يجوز له أن يتخلف عنها.
أما إذا كان محتاجاً إليه، كمن أصابه الجوع وحضرته صلاة العصر والطعام بين يديه فإنه يتخلف، وينبغي أن يُنبه أنه لا يجوز اتخاذ هذا وسيلة لترك الجماعة، كأن يُهيئ طعامه عند حضور الصلوات بقصد التخلف عنها، فإنه يعامل بنقيض قصده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
فإذا نوى مخالفة الشرع وتفويت هذه الفريضة عليه من شهود الصلاة مع الجماعة فإنه يأثم بهذا الفعل، وقال طائفة: لا يرخص له.
فتسقط الرخصة عنه معاملة له بنقيض قصده، والمعاملة بنقيض القصد الفاسد معروفة شرعاً ومعهودة عند العلماء رحمة الله عليهم.
فالمقصود أن حضور الطعام المراد به نضجه وتيسر أكله له مع تعلق نفسه به، فإن كان الطعام لم ينضج بعد فإنه ينصرف إلى صلاته، وكذلك إذا كانت نفسه لا تتعلق بهذا الطعام، بمعنى أنه في شبع ولا يجد الحاجة لهذا الطعام، فيجب عليه شهود الجماعة إعمالاً للأصل.
(63/5)
________________________________________
الخوف من ضياع المال أو فواته
قال المصنف: [وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه] أي: يرخص للإنسان إذا كان عنده مال ويحرس هذا المال ويقوم عليه أن يتخلف عن الجماعة إذا خاف بذهابه إليها أن يسرق هذا المال، أو يضيع عليه.
فمن كان عنده مال أمانة، أو ماله هو يملكه، ولا يستطيع أن يدخله معه فإنه يرخص له في ترك الجماعة لوجود الضرر.
وقد نبه الشرع بالنهي عن الصلاة بحضرة الطعام على اعتبار حاجة الإنسان، والمال من حوائجه، ولذلك لا حرج عليه في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم في ترك الجماعة، خاصة إذا كانت هناك جماعة أخرى كأهله وزوجه ونحو ذلك.
فإن خاف على ماله، أو مال يكون أمانة عنده فإنه حينئذٍ يُشرع له أن يحفظ المال، وأن يتخلّف لوجود الحاجة، والحاجة تنزل منزلة الضرورة للقاعدة التي تقول: (الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة).
وهذا بالنسبة لفوات المال، ويكون أيضاً ضياع المال في حكم الفوات، كأن يكون عنده دابة ولا يجد مكاناً يحفظ فيه هذه الدابة، فإن أقيمت الصلاة وإذا تركها فإنها تضيع فحينئذٍ يجوز له أن يتخلف عنها، خاصة إذا كان في سفر وفواتها يضر به ويجحف.
(63/6)
________________________________________
الخوف من موت قريب إذا تركه بمفرده
يقول المصنف: [أو موت قريبه].
أي: إذا خاف موت القريب فإنه يُشرع له أن يتخلف لمداواته والقيام عليه وتجهيزه للصلاة عليه، وقد أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه -وقد كان خرج للجمعة- ترك الجمعة، وانصرف إليه وأقام حاله.
وهذا من باب التيسير، وبناءً على ذلك فإذا أقيمت الصلاة والإنسان يخاف على والدته أو على والده أن يموت، أو كان في شدة المرض يحتاج إلى قيامه عليه ورعايته له، فلا حرج عليه أن يتخلف للقيام عليه ورعايته.
وكذا لو غلب على ظنه أنه لو ترك المريض وذهب فإنه يموت، أو ربما يحصل له ضرر، كالأطباء في بعض الأحوال التي يقومون فيها على المرضى، فيشرع لهم أن يتخلفوا عن الجماعة في الحالات الطارئة.
فالأطباء الذين يستقبلون الحالات التي تطرأ على الناس، ويغلب على الظن فيها فوات الأنفس يشرع لهم أن يصلوا جماعة مع بعضهم، وأن يتخلفوا عن الجماعة العامة إحياءً للأنفس إذا غلب على ظنهم وجود الضرر أو التلف.
وهكذا بالنسبة لمن يحفظ الأموال وخاصة عند وجود الفساد، فإنه يُشرع لهم أن يتخلفوا لوجود الحاجة، وهكذا الخوف على العرض، فإذا كان الإنسان في سفر ومعه زوجه أو معه أخته، وهو في موضع لا يجد فيه أين يضع أهله، ويخشى لو فارقهم أن يُعتدى عليهم، أو يحصل الضرر عليهم، فإنه يجوز له أن يصلي معهم جماعة، ولا حرج عليه في مثل هذه الأحوال.
(63/7)
________________________________________
الخوف على النفس من ضرر أو سلطان
يقول المصنف: [أو على نفسه من ضرر أو سلطان].
إذا خاف على نفسه من ضرر فإنه يجوز له -في قول جماهير العلماء- أن يتخلف عن الجماعة، وذلك لأنه إذا تعارض حق الله وحق العبد فحقوق الله مبينة على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة.
ولذلك أباح الله عز وجل للعبد أن يأكل من الميتة في حال خوفه على نفسه، فسقط التكليف بالحرمة، فإذا خاف على نفسه سقط التكليف بوجوب شهادة الجماعة، وجاز له أن يتخلف.
والأمثلة التي ذكرها إنما هي أمثلة أنواع، وليست أمثلة تقييد، فإذا خاف على نفسه الضرر من أي جهة كانت فإنه يشرع له ويجوز له أن يتخلف دفعاً لهذا الضرر، فإن الشرع دفع الضرر عن المكلف كما في الصوم، وكما في المخمصة.
ولذلك قالوا: إن الشرع قصد المحافظة على الأنفس فيخفَّف في شهود الجمعة والجماعة، فيصليها في بيته إذا خاف الضرر، ولا حرج عليه في هذه الأحوال.
قالوا: وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذا ليس في وسعه أن يعرض نفسه للهلاك والتلف.
وكذلك أيضاً يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلو أُلزِم بشهودها كان ضررا يخالف القصد الذي بُنيت الرسالة عليه من الرحمة بالناس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير دين الله أيسره)، وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
فلو أوجبنا عليه شهود الجماعة مع وجود هذه الأضرار كان هذا مخالفة للأصول التي دلت عليها هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنبط الجماهير رحمة الله عليهم من هذا الحكم بجواز التخلف عن شهود الجماعة في مثل هذه الأحوال.
(63/8)
________________________________________
ملازمة غريم
قال رحمه الله تعالى: [أو ملازمة غريم ولا شيء معه] ملازمة الغريم تكون على حالتين: الأولى: أن يكون الإنسان معذوراً بالتخلف عن سداد الدين.
الثانية: أن يكون غير معذور.
فإن كان معذوراً لا يجد السداد والغريم يسيء إليه، فيؤذيه بالكلام، أو يتسبب في التضييق عليه، أو الاستعداء عليه، بحيث يكون سبباً في لحوق ضرر به، أو يخاصمه أمام الناس، فيقول له: يا ظالم.
يا مماطل.
أو يؤذيه بدون حق فيجوز له أن يتخلف في هذه الأحوال.
والسبب في ذلك -كما يقول العلماء رحمة الله عليهم- أنه لو خرج لحقت به المشقة والحرج، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فإن الإنسان إذا أوذي أمام الناس وانتقصت كرامته، وأوذي بسبه وشتمه قد يكون الأذى والضرر عليه أكبر مما لو أُوذِي بجرحه والضرر في جسده.
ولذلك قالوا: جرح اللسان أعظم من جرح السنان.
فالمقصود أن الإنسان إذا خاف من أذية صاحب الدين وكان مظلوماً بهذه الأذية وليس عنده سداد شرع له التخلف.
أما لو كان عنده سداد ويستطيع أن يدفع فإنه ظالم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) فإذا امتنع عن السداد وهو قادر عليه، وعنده ما يتمكن به من سداد الحقوق التي عليه فإنه لا يشرع له أن يتخلف عن الجماعة، بل يجب عليه أن يخرج، وإذا أُوذِي فإنه يستحق الأذية بإذن الشرع بذلك.
(63/9)
________________________________________
فوات الرفقة
قال رحمه الله تعالى: [أو فوات رفقة] إذا كان في سفر وكان فوات الرفقة قد يعرضه للهلاك فقد قالوا: يشرع له أن يترك الجماعة.
أما لو كانت هناك رفقة بديلة عن هذه الرفقة، أو يستطيع أن يمشي وحده ولا حرج عليه فإنه حينئذٍ يتخلف ويصلي، فإن أدركهم فبها، وإلا أقام حق الله عز وجل عليه بشهود الجماعة.
(63/10)
________________________________________
غلبة نعاس
قال رحمه الله تعالى: [أو غلبة نعاس] مثال هذا: لو أن إنساناً اشتغل من الصباح الباكر، فجاء قبل صلاة الظهر وإذا به في شدة الإعياء والإرهاق، ثم إنه غلب على ظنه أنه لو نزل إلى المسجد فإنه سينتظر بقدر ربع ساعة إلى ثلث ساعة وهو في غاية الإرهاق، وغلب على ظنه أنه لو نزل لا يعي الصلاة من شدة ما يجد من العناء والتعب، أو قد لا يستطيع ذلك إلا بعناءٍ شديد ومشقة، فحينئذٍ يصلي في موضعه، ولا حرج عليه في التخلف عن الجماعة.
(63/11)
________________________________________
الأذى بمطر أو وحل
قال رحمه الله تعالى: [أو أذى بمطر أو وحل] وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا نزل المطر وحضرت الصلاة كان ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال الصلاة في الرحال).
وهذا بعد قوله: حي على الصلاة.
وهذا من سماحة الشرع ويسره، وذلك أن الخروج في المرض أو في المطر لا يخلو من وجود الضرر والأذية، ولذلك يقولون: إذن الشرع بالتخلف عن الجماعة في حال المطر يدل على اعتبار الأضرار مرخِّصة في ترك الجماعة.
فكون الشرع مع وجود المطر يأذن في ترك الجماعة ينبِّه على أنه لو وُجِد الضرر الذي ذكرناه من خوف النفس والخوف على الأموال ونحوها يُشرع له التخلف؛ فإنها في مقام ضرورة، أو مقام حاجة قد تكون أشد من أذية المطر وما يكون فيه من مشقة.
وبعض العلماء يقول: يسير المطر وكثيره سواء، وهذه سنة ضائعة اليوم إلا ممن رحم الله، وينبغي للمؤذنين أن يحيوها، وأن يُنبه على المؤذنين بإحيائها، فإن الأذان يؤذن -سواءٌ هناك مطر أم لم يكن هناك مطر- وقل أن تسمع هذه السنة، بحيث يقال: الصلاة في الرحال.
فينبغي إحياء هذه السنة والتنبيه عليها، وأنه إذا وجد المطر يقول المؤذن: (الصلاة في الرحال الصلاة في الرحال) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه ذلك، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لا يقتصر على الأذان وحده، وإنما يدخل هذه العبارة؛ لأنها من ألفاظ الأذان المشروعة.
والمطر إن كان شديداً فقولاً واحداً أنه يتخلف ويعذر بالتخلف عن الجمعة والجماعة.
وأما إذا كان يسيراً فقال بعض العلماء: إن يسيره لا يوجب الترخيص، وإنما يوجب الترخيص إذا كان فيه ضرر.
بمعنى أن يكون شديداً.
وإن كان ظاهر النص على أنه يُرخص في المطر مطلقاً، والاحتياط أنه إذا كان يسيراً وأمكن الإنسان أن يشهد معهم الجماعة دون وجود ضرر فإنه يشهدها.
قوله: [أو وحل].
هو الذي يكون ناتجاً عن المطر، كالطين الذي يكون في الطريق، فإذا كان طريقه فيه وحل فحينئذٍ لا حرج أن يتخلف عن الجماعة؛ لأن الشرع لما أذن بالصلاة في البيوت مع وجود المطر فإن الوحل أثر من الآثار التي أوجبت الرخصة.
(63/12)
________________________________________
الريح الشديدة البرودة في الليلة المظلمة
قال رحمه الله تعالى: [أو بريح باردة شديدة في ليلة مظلمة].
الريح فيها حرج ومشقة، وخروج الناس مع وجود الريح في شدة البرد يُضر بهم، وقد يتسبب في حصول الضرر بالإنسان، ولذلك قالوا: يشرع له أن يتخلف عن الجماعة إذا كانت الريح باردة، والريح الساخنة التي تسمى بالسموم يمكن الصبر عليها، ويمكن اتقاؤها وإذهاب حرها بما يكون من الملابس ونحوها.
والريح الباردة أقوى في الإضرار بالجسد من الحارة، ولذلك رخِّص في الباردة دون الحارة، فالأمر الأول: أن تكون الريح باردة.
الأمر الثاني: أن تكون شديدة، فإذا كانت يسيرة وجب عليه أن يشهد الجماعة؛ لأنه الأصل.
الثالث أن تكون في ليلة مظلمة، والسبب في ذلك أن الضرر بها يكون أبلغ ما يكون إذا كان بهذه الصفة، أما لو كانت الريح باردة وشديدة، ويمكنه أن يخرج ويرى فحينئذٍ يخرج، فقوله: [مظلمة] إشارة إلى أنه لا يرى الطريق، فلما كان الشرع يأذن بالتخلف عن الجماعة مع وجود المطر الذي يعيق السير كان تنبيهاً إلى الريح الشديدة الباردة وما في حكمها.
قالوا: فحينئذٍ يتخلف، لكن بشرط أن يكون متأذياً، أو متضرراً ببرودة هذه الريح وشدتها وكونه في ليلة ظلماء، أما لو اتقى الريح بركوب سيارة، أو كان عليه ما يحفظه من الأذى والضرر فإنه يشهد الجماعة، ولا يتخلف عنها؛ لأن العلة في مثله ليست بمتحققة، فيشهد الجماعة ويصلي مع الناس.
وهذا كله من سماحة الشرع وتيسير الله عز وجل على عباده، والعلماء ذكروا هذه الصور، وهي إما منصوص عليها كمدافعة الأخبثين والصلاة بحضرة الطعام ونحوها من الأعذار التي نص عليها.
وإما أن تكون في حكم المنصوصة، كالخوف على النفس، وما يوجب الحرج على الإنسان، سواء أكان ذلك في نفسه أم في ماله، فإنه يجوز له أن يتخلف للمعنى الذي استنبط من النصوص.
فعندنا أعذار نصية وأعذار اجتهادية، فالأعذار النصية مثلما ذكرناه، والأعذار الاجتهادية آخذة حكم الأعذار المنصوصة؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب أبا موسى: (اعرف الأشباه والنظائر).
فإنه قد ينبه الشرع على شيء لكي يكون أصلاً لغيره، فلما نبه الشرع على المطر، وكان ذلك موجباً للترخيص في ترك الجمعة والجماعة كان أصلاً في دفع كل ما فيه ضرر لشهود الجماعة.
(63/13)
________________________________________
الأسئلة
(63/14)
________________________________________
أكل الثوم أو البصل ونحوهما ومدى تأثير ذلك في حضور الجماعة

السؤال
هل يعذر من أكل ثوماً أو بصلاً في ترك الجمعة والجماعة على ظاهر حديث النهي عن أكلهما قبيل الصلاة؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أكل الثوم والبصل فإنه لا يشهد الصلاة في المسجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، وحينئذٍ يصلي في بيته، ولكن هناك فرق بين من أكل الثوم والبصل من غير عذر ومن كان معذوراً، فإن المعذور يكتب له أجره كاملاً، وأما من أكل الثوم والبصل من غير عذر فقد فاته الأجر.
ومن أمثلة المعذور: من أكله للتداوي، بمعنى أن الطبيب أمره بأكل الثوم والبصل للدواء فأكله، أو أكل دواءً له رائحة نتنة ومضرة، فإنه حينئذٍ يكون في حكم المريض، ويُكتب عمله كاملاً ولا ينقص أجره، والله تعالى أعلم.
(63/15)
________________________________________
قياس مدافعة الريح بمدافعة الأخبثين

السؤال
هل تنزل مدافعة الريح منزلة من يدافع الأخبثين وتأخذ نفس الحكم؟

الجواب
مدافعة الريح قال بعض العلماء بالرخصة فيها، ونص بعض العلماء على أن من يدافع الريح فإنه آخذ حكم من يدافع الأخبثين ولكن في الريح فرق بينه وبين البول والغائط، ولذلك يجعلون ضرر البول والغائط أعظم من الريح، فيخففون في البول والغائط ولا يخففون في الريح.
وهنا مسألة ذكرها بعض العلماء، فلو أن إنساناً فيه بعض الأمراض، وإذا وقف استطلقت بطنه، أو كان معه الريح، وإذا صلى جالساً فإنه لا يحصل معه شيء من ذلك، فهل نقول له: صل جالساً حتى لا ينتقض وضوءك، أو نقول له: صل قائماً ولو انتقض وضوءك؟ وهذا إذا كان معه المرض باستمرار، أو يكون المرض لا يستطيع معه أن يحافظ على طهارته، فالصحيح أنه يصلي قائماً ولو استطلقت بطنه بالريح، وهذا يتفرع على مسألة اعتنى العلماء رحمهم الله بها وهي مسألة الازدحام.
والازدحام يكون على صور: منها: ازدحام الفروض مع الفروض، وازدحام الشروط مع الشروط، وازدحام الواجبات مع الواجبات، وازدحام الفروض مع الشروط، وازدحام الشروط مع الواجبات، وازدحام الفروض مع الواجبات، فهذه من مسائلها التي تكلم عليها الأصوليون.
فمن مسائل الازدحام ازدحام الركن -وهو هنا القيام والركوع- مع شرط الصحة وهو الطهارة، فلو قلنا له: صل قاعداً حتى لا ينتقض وضوؤك، فإننا قدمنا شرط الصحة على الأركان فأسقطنا الأركان واعتبرنا الشرط، والركن أقوى من الشرط.
وحينئذٍ يُقدَّم الركن على الشرط، فالصحيح أنه يصلي قائماً ولو استطلق بطنه ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(63/16)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة أهل الأعذار
الإسلام دين يسر ورحمة، ومن تيسيره على العباد أن جعل لمن كان به عذر صفة خاصة في الصلاة بحسب استطاعته، فمن كان مريضاً صلى قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، ويومئ إيماءً، ومن كان في سفينة وقدر على القيام في الصلاة قام، وإن لم يقدر صلى قاعداً، ومن كان على راحلة وحضر وقت الفرض وكان هناك وحل ونحوه، صلى على راحلته وهذا كله يدل على يسر الإسلام ورحمته بالناس.
(64/1)
________________________________________
صفة صلاة أهل الأعذار
(64/2)
________________________________________
كيفية صلاة المريض
ذبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة أهل الأعذار].
أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالمعذورين.
وهذا الباب من أهم الأبواب، نظراً لأنه تعم به البلوى، خاصة وأن المرضى يكثر تساؤلهم: كيف يصلون؟ وقد يكون الإنسان مريضاً في نفسه أو في جسده، وقد يكون في بيته المريض فيسأله، وقد يسأل عامة الناس عن مثل هذه المسائل والأحكام.
وقد اعتنت نصوص الكتاب ونصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان الرخص وأهل الأعذار.
فبعد أن فرغ رحمه الله من أهل الأعذار في شهود الصلاة مع الجماعة شرع في أهل الأعذار الذين يعذرون في صفة أداء الصلاة.
فهناك من يعذر في شهود الصلاة، وهناك من يعذر في كيفية أداء الصلاة، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن مسائل الناس تكثر عنه، وهو صلاة المريض وما في حكمه.
قال رحمه الله تعالى: [تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب] قوله: [تلزم المريض الصلاة قائماً] أي: إذا أطاق ذلك وقدر عليه، والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، فدل على أن من يصلي يكون قائماً.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين: (صل قائماً).
فالأصل أن يصلي الإنسان قائماً، والمريض مطالب بالصلاة قائماً، ولكن إذا أطاق القيام، وأما إذا كان عاجزاً عنه ففيه التفصيل.
وهذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عمران بن حصين، وكانت بـ عمران رضي الله عنه وأرضاه بواسير فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً)، فدل هذا على الأصل.
ولذلك نقول: الأصل في المصلي أن يصلي قائماً بنص الكتاب ونصوص السنة التي ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمران وهو مريض: (صل قائماً).
قوله: [فإن لم يستطع فقاعداً].
أي: لا يستطيع أن يقوم، كأن يكون الإنسان مصاباً بالشلل والعياذ بالله، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى الرخصة، فشرط إيجاب القيام الاستطاعة والقدرة، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والمريض إذا لم يستطع القيام فله حالات: الحالة الأولى: أن لا يستطيعه بالكلية، فحينئذٍ يصلي جميع الصلوات قاعداً بلا إشكال.
الحالة الثانية: أن يطيق بعض القيام دون بعض، فحينئذٍ يلزمه القيام بقدر ما يطيق، ويأتي هذا على صورتين: الأولى: أن يستطيع القيام من أول الصلاة ثم يضعف، فالرخصة له بعد ضعفه، فنقول له: افتتح الصلاة وصل قائماً، فإذا أحسست بالعناء والمشقة جلست.
الثانية: أن يكون العكس، كأن يبتدئ الصلاة عاجزاً ثم يجد الخفة والنشاط، فنقول: تُلزَم بالقيام، ويلزمك أن تتم قائماً.
وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصورة الثانية، حيث كان في قيام الليل يصلي قاعداً لما بدُن وكثر لحمه عليه الصلاة والسلام وأسن صلوات الله وسلامه عليه، فكان لا يطيق طول القيام؛ لأنه كانت ركعته بما يقارب البقرة وآل عمران والمائدة، حتى إن قدمه تتفسخ من طول القيام صلوات الله وسلامه عليه.
فلما كبر وضعف في آخر سنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قاعداً، تقول أم المؤمنين: حتى إذا بقي قدر مائة قام.
فجعل الإطاقة بعده، ولذلك يقولون: إذا كان الإنسان بمثل هذه الحالة فالأفضل أن يجعل ذلك في الثانية.
أما إذا كان في الفرض فإنه يبتدئ بقدرته، ثم إذا وجد الضعف ترخص عند وجود الضعف.
وأما جلسة المريض فهناك من يجلس متربعاً، وهناك من يجلس مفترشاً، وهناك من يجلس متوركاً كجلسة التشهد، فهل يصلي قاعداً متربعاً، أو يصلي قاعداً كقعدة التشهد؟ هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فمن العلماء من قال يتربع.
وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن بعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بعضهم بل يفترش.
وقد أشار إليهما الإمام ابن المنذر رحمه الله في الأوسط، وكذلك أشار إليها الإمام الطبري في اختلاف الفقهاء.
هذان الوجهان مشهوران عن أهل العلم، فالذين يقولون: يجلس جلسة المتشهد قالوا: لأنها جلسة صلاته، إذ لا يعرف في الصلاة أن يجلس متربعاً، وإنما جلسته في الصلاة لما يُصلي ويبلغ الجلسة بين السجدتين أو التشهد، ما عهدنا من الشرع أنه يجلس كجلسة التشهد.
وبناءً على ذلك قالوا: إنه يجلس مفترشاً.
والصحيح أنه يجلس جلسة المفترش، ولا حرج عليه أن يجلس جلسة المتربع، خاصة إذا كان يحتاج إليها، أما جلسة الافتراش فإنها أشبه عند طائفة من السلف رحمة الله عليهم؛ لأنها هي جلسة الصلاة.
والحديث الذي ورد في تربعه عليه الصلاة والسلام فيه كلام لا يخلو من ضعف، فقالوا: إنه يجلس جلسة المتشهد.
والدليل على أنه يجوز له أن يصلي على هذه الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، فقال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فمن جلس متربعاً فهو قاعد، ومن جلس مفترشاً فهو قاعد، لقوله عليه الصلاة والسلام في المفترش: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، فسمَّى جلسة التشهد ووصفها بكونها قعدة.
ولذلك يكون الافتراش أولى وأشبه لأنه على صفة الصلاة؛ لقوله: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، ولأنها جلسة معهودة، فهو أولى وأحرى.
لكن هنا مسألة وهي: لو أن إنساناً يصلي قاعداً بين القائم والجالس، كمن يصلي على كرسي ونحوه، فهذا فيه تفصيل، فإن كان جلوسه لوجود العلة وما يوجب ارتفاقه بعلو ونشز فلا إشكال في جواز ذلك وحله.
وأما إذا كان من دون حاجة، كأن يرى ذلك أيسر له، وأريح لنفسه وأجم لجسمه فإنه حينئذٍ ينبغي عليه أن يجلس في الأرض؛ لأنه ليس هناك ما بين القيام والقعود، فإما أن يقف على الأصل الذي أمر به الشرع، وإما أن يجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فلم يجعل ما بينهما موضعاً للرخصة، وإذا كان به علة أو مرض يمتنع معه نزوله إلى الأرض، كمن يكون به الضرر تحت ركبته، أو يكون عنده مرض يمنعه من النزول إلى الأرض فحينئذٍ يجلس على كرسيه.
فإذا جلس على كرسيه يبتدئ تكبيرة الإحرام واقفاً فيكبر، ثم إذا أطاق القيام قرأ الفاتحة وصلى قائماً بقدر ما يطيق، ثم يجلس إذا لحقه العناء والمشقة، أما أن يكون قادراً على القيام ويجلس مباشرة ويكبر وهو جالس فلا يجزيه، إنما يجزيه أن يكبر قائماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة وكبر).
فدل على أن التكبير يكون حال القيام، وعلى هذا فلابد وأن يفصل في مثل هذا بالآتي: أولاً: أنه لا يجلس على الكرسي من دون حاجة، وإن جلس خالف الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لـ عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فهذا ليس بقائم ولا قاعد في الصورة، وإن كان قاعداً في الحكم.
ثانياً: أن يكون محتاجاً لهذا الجلوس، فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يجلس، ولا يكبرها وهو جالس متى أطاق التكبير وهو قائم.
قوله: [فإن لم يستطع فعلى جنب] هذا هو تكملة حديث عمران: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، والجنب: هو شق الإنسان الأيمن أو الأيسر.
وقد اختلف العلماء في تعيين الجنب، فقال بعضهم: على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة، وذلك لأنها صفة مَن في اللحد؛ إذ يوجه للقبلة على هذه الصفة.
وقال بعضهم: على شقه الأيمن أو الأيسر أيهما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق.
والمذهب الأول أحوط، خاصة وأن الحديث يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمة الله عليهم، والعمل بالإجماع عليه في القبور.
وبناءً على توجيه الميت في قبره على هذه الصفة لفضل اليمين نقول: إذا أطاق الجنب الأيمن فإنه أولى وأحرى وفيه خروج من الخلاف، وفيه استئناس بالسنة المقيدة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً).
فدل على أن استقبال القبلة حال الاضطجاع إنما يكون بالشق الأيمن لا بالشق الأيسر، وهذا إذا أطاقه.
وأما إذا لم يطق الشق الأيمن فإنه ينتقل إلى الشق الأيسر ولا حرج، فإذا انتقل إلى الشق الأيسر فإنه يجعل القبلة في وجهه.
فيصلي على جنبه على التفصيل الذي ذكرناه من كونه إذا كان يطيق الجنبين يصلي على جنبه الأيمن للحديث الذي ذكرناه، ولاستقبال القبلة استئناساً بالفعل بالميت حال تقبيله في لحده.
وأما إذا كان لا يطيق الأيمن، أو فيه حرج عليه ومشقة فينتقل إلى الأيسر، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فيدخل الشق الأيسر لعموم قوله: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، وهذا على جنب.
قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى ورجلاه إلى القبلة صح].
وذلك بأن يكون مستلقياً كهيئة النائم، فقالوا: تصح صلاته.
وهذا قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وله أصل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، فجعل النائم -وهو من استلقى- آخذاً نصف صلاة القاعد، كما في حديث: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، قالوا: فسماه مصلياً حال استلقائه على قفاه.
وبناءً على ذلك فإنه إذا اضطجع ونام على قفاه ووجهه إلى السماء قالوا: يُرفع صدره قليلاً، وهو التقبيل للميت، فيكون جذعه الأعلى إلى جهة القبلة، بحيث لو قام كان أول ما يباشره القبلة، وهكذا يكون التقبيل، وكذلك في الصلاة.
وهذا وج
(64/3)
________________________________________
صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على القيام للمداواة
قال رحمه الله تعالى: [ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم] قوله: [لمريض الصلاة مستلقياً] هذا إذا كان العذر الدواء والعلاج، كما في بعض الأمراض الجراحية في بعض الأعضاء التي لا يستطيع معها أن يركع ولا يسجد ولا يقف، فحينئذٍ إذا كان على الفراش بحيث لا يستطيع أن يقوم فإنه يصلي على هذه الحالة.
كذلك لو كان يتداوى، فلو كان المرض في عينيه وأُلزم بوضع معين لا يستطيع معه القيام ولا يستطيع معه الركوع ولا السجود، وقيل له: إن قمت أو ركعت أو سجدت فإنه سيحدث الضرر فإنه في هذه الحالة يصلي وهو مستلقٍ، لكن بشرط أن يكون ذلك بشهادة طبيب مسلم.
ووجه هذا أن احتمال وقوع الضرر بغلبة الظن كوجوده؛ لأن القاعدة: (الغالب كالمحقق)، فلما غلب على ظننا أنه لو صلى قائماً أو ركع أو سجد يصاب بالضرر والأذى، أو أن علاجه لا يتمكن منه الطبيب، فإنه حينئذٍ يعتبر هذا رخصة، كما لو كان مريضاً لا يطيق القيام والركوع والسجود.
وهذا قول جمع من السلف، وأُثر عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً روي عن ابن عباس أنه شدد في ذلك، حتى قالوا: إن سبب العمى الذي بلي به رضي الله عنه وأرضاه أنه نصحه الطبيب في علاجٍ وضعه له أن لا يسجد، فامتنع وسجد فكُفَّ بصره رضي الله عنه وأرضاه، فهذا مما ذكروه.
فالشاهد أنه كان بعض السلف يشدد في هذه المسألة ويقول: التداوي ليس كالمرض الذي يمنع.
والصحيح أنه ينزل منزلة المرض المانع، وإنه إذا كان بالإنسان عملية جراحية، أو يتداوى من مرض في جوفه أو في صلبه أو في عينيه، أو نحو ذلك من الأمراض التي تكون في مواضع الجسم المختلفة، وقيل له: إنه لا يتم علاجك إلا إذا امتنعت من الركوع، أو امتنعت من السجود، أو امتنعت من القيام فإنه يمتنع، بشرط أن يكون الطبيب الذي يخبره عدلاً مسلماً.
والسبب في ذلك أنها أمور الديانات، وأمور الديانات لا يُجتزأ فيها إلا بشهادة الثقة العدل، وأما إذا كان غير ثقة وغير عدل فإنه يُنتقل إلى من هو أعدل منه.
فإذا وجد الطبيب المسلم الذي يشهد له بهذا فلا إشكال، وحينئذٍ إذا قال له الطبيب الكافر: ينبغي عليك أن تصلي مستلقياً.
فإنه لا يسمع قوله حتى يشهد الطبيب المسلم؛ لأن وجود الطبيب المسلم يغني عن شهادة الكافر.
والسبب في ذلك أن الكافر لا يُوثق بقوله في الديانات، وقد كان بعض أئمة السلف رحمة الله عليهم -مثل الإمام أحمد رحمه الله- يستطب عند اليهودي والنصراني، فيقول الراوي: كان يستطبه بمعنى أنه يتعالج عنده ويعتمد على ما يصفه له من دواء.
فإذا نهاه عن أمر من أمور الديانة، كأن يقول له: لا تصم.
أو: صلِّ قاعداً.
لم يطع في ذلك لمكان التهمة، وهذا إذا لم يوجد المسلم، وإذا وجد المسلم فعلى حالتين: الأولى: أن يوجد العدل وغير العدل، فحينئذٍ ينبغي اعتبار شهادة العدل دون غير العدل.
الثانية: أن لا يوجد العدل، بأن يكون الأطباء ليس فيهم مَن تتوفر فيه شروط الشهادة المعتبرة، فحينئذٍ يؤخذ بأمثلهم.
وهذه قاعدة قررها جمع من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن فرحون في تبصرة الحكام، حيث بين فيها أنه يرجع إلى الأمثل في مثل هذا إذا تعذر وجود العدل في أهل الصنعة.
فالقاضي لو احتاج إلى قول أهل الخبرة في الخصومات والنزاعات من مهندسين أو أطباء ولم يجد العدل فإنه يأخذ أمثلهم، وهو من وُجدت فيه صفات أفضل من غيره.
وعلى هذا فإما أن يوجد المسلم والكافر، فلا يجوز أن يقبل شهادة الكافر مع وجود شهادة المسلم، وإما أن لا يوجد الطبيب المسلم، كأن يكون هذا المرض الذي به لا يحسنه إلا طبيب كافر، أو في بلد ليس فيه إلا كفار، فحينئذٍ يأخذ بشهادة أمثلهم، وله أن يأخذ بذلك.
وهذه المسألة تكلم عليها الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام نفيس في الفتاوى المصرية، بيّن فيه رحمة الله عليه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالكافر والمشرك إذا أُمنت منه المفسدة، وذكر لذلك الأدلة الصحيحة، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً).
وهو عبد الله بن أريقط، والحديث ثابت في الصحيحين، ووجه ذلك أنه مكَّنه من السير معهما في الهجرة، والهجرة يُسلك فيها مسالك وعرة، ومسالك لا يسلكها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد التخفي عن العيون، ومع ذلك مكنه النبي صلى الله عليه وسلم من السير بهما لمكان الثقة.
وكذلك ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد، فقال: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم وكافرهم.
فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بأخبارهم مع أنهم مع الشرك والكفر، لكن علم فيهم الثقة والأمانة.
وكذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان على دين قومه، ومع هذا قال: لم يمنعه الكفر أن يأمرهم أن يستطبوه.
فالشاهد من هذا كله أنه لا مانع من أخذ شهادة الطبيب الكافر إذا لم يوجد طبيب مسلم في هذا المرض الذي يحتاج المسلم لعلاجه، أو كان المسلم في بلد فيه كفار وأطباء كفار ولا يوجد المسلم فإنه يعمل بشهادتهم وقولهم.
(64/4)
________________________________________
كيفية الصلاة في السفينة
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادرٌ على القيام] الإشكال في الصلاة في السفن أنها تتقاذفها الأمواج، ولا يستقر الراكب فيها، خاصة عند اشتداد الموج.
ولذلك تكون أحوالهم مختلفة -أعني الملاَّحين، أو من يكون في السفينة-، فإن أطاقوا القيام بأن سكن الموج، وأمكنهم أن يقوموا فإنه يجب عليهم أن يقوموا ويصلوا قياماً، فلو أنهم في هذه الحالة وهم قادرون على الصلاة قياماً صلوا قعوداً بطلت صلاتهم؛ لأن الفريضة القيام فيها ركن كما بيناه، وهذا في الحالة الأولى، وهي أن يطيقوا القيام ويؤمن الضرر.
الحالة الثانية: أن يوجد الضرر في قيامهم، كأن يسقط الإنسان، أو يغرق، أو يسقط ويتضرر بسقوطه، كما يكون بجوار شيء عالٍ، أو على نشز داخل السفينة، فلو اضطربت به الأمواج وهو قائم ربما سقط، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن ينتقلوا إلى القعود إن غلب على ظنهم فوات الوقت.
أما لو غلب على ظنهم أن الموج سيهدأ كأن يقطعوا مسافة ويغلب على ظنهم سكون الموج، فإنهم يؤخرون الصلاة حتى يقطعوا هذه المسافة ويهدأ الموج، ثم يصلون الفرض.
فإن أُمن الضرر فإنهم يصلون قياماً.
وإن لم يؤمن الضرر فإنهم يصلون قعوداً.
وإن شكوا فإن الأصل وجوب القيام عليهم ولزومه، فيصلون قياماً حتى يطرأ الضرر، فإن طرأ عليهم الضرر أثناء القيام قعدوا.
(64/5)
________________________________________
جواز الصلاة على الراحلة خشية التأذي
قال رحمه الله تعالى: [ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي لوحل لا للمرض] أي: تصح الصلاة -أي: الفريضة- على الراحلة إذا خشي الأذى من الأرض إذا كانت السماء قد أمطرتها، وفي هذا حديث الترمذي، وكذلك أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة عند المضيق والسماء ممطرة والأرض بها بلة، فأقام عليه الصلاة والسلام الصلاة ثم تقدم وصلى بهم).
وهذا الحديث حديث ضعيف، وذكر الإمام الترمذي رحمه الله بعد إيراده للحديث أن العمل عند أهل العلم على هذا الحديث، واختاره جمع من السلف رحمة الله عليهم، فعندهم يصلي إذا كان هناك ضرر ومشقة بالطين والوحل.
ولكن -نظراً لضعف الحديث- إذا أمكن الإنسان أن يحتاط ويستبرئ لدينه فإنه أولى وأحرى.
(64/6)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [1]
السفر مظنة لوجود المشقة والتعب، والله سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده، ومن رحمته أن خفف عليهم الصلاة في السفر، فشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين.
(65/1)
________________________________________
صلاة المسافر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد ذكر المصنف رحمه الله باب صلاة الجماعة، وبين الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة والمسائل التي تندرج تحت هذا الباب.
ثم بعد ذلك عقد فصلاً في آخر باب صلاة الجماعة في الأعذار التي تُسقط عن المكلف الجمعة والجماعة، ثم بعد أن انتهى من الأعذار شرع في باب صلاة أهل الأعذار، وذكر صلاة المريض، ثم انتقل إلى صلاة المسافر، وهذا الترتيب فيه تسلسل في الأفكار، ومراعاة لما تتضمنه هذه الفصول من معان شرعية.
وذلك أن التخفيف في الشرع يكون فيه شيء من الإسقاط، وهذا الإسقاط تارة يكون لذات العبادة، بحيث تسقط العبادة عن المكلف، وهذه أعلى درجات الإسقاط في العبادات، وتارة يُخفف عنه في هذه العبادة ولا تسقط عنه، وهذا التخفيف بالنسبة للصلاة، أما بالنسبة للرخص عامة فلها تقسيمات أخر واعتبارات أخر، لكن التخفيف في الصلاة إما إسقاط للصلاة، وإما تخفيف في الأركان، وإما تخفيف في الشروط، كما سنبين إن شاء الله.
فابتدأ رحمه الله بالفصل الذي قبل صلاة أهل الأعذار، وهو سقوط الجمعة والجماعة، فهذا إسقاط كلي لعبادة الخروج إلى الجمعة وشهودها، وكذلك صلاة الجماعة.
وبعد أن انتهى من التخفيف بالإسقاط شرع في التخفيف الجزئي، وهو التخفيف في هيئة الصلاة، فابتدأ بالتخفيف في أركانها بعذر المرض، ثم شرع في التخفيف في ذات الصلاة من حيث الأعداد، وذلك في صلاة المسافر، فإن الشرع خصص بعذر السفر عدد الصلوات، وذلك في الرباعية وحدها، فجعل الرباعية تقصر إلى ركعتين، وهذا نوع من التخفيف، وهو التخفيف في أعداد الصلاة.
وأما التخفيف في شروط الصلاة؛ فكاستقبال القبلة بالنسبة للمصلي في السفر، فقد خفف الشرع عنه لو كان على راحلته بأن يصلي حيثما توجهت به، وكذلك التخفيف على المريض الذي به سلس بول فإنه يخفف عنه في شرط الطهارة، وكذلك بالنسبة للنجاسة التي يحملها يخفف عنه.
فالتخفيف إما بإسقاط الصلاة، أو بالنقص من أعدادها، أو بالتخفيف في أركانها وشروطها.
(65/2)
________________________________________
معنى السفر وسبب تسميته
السفر في لغة العرب: مأخوذ من قولهم: أسفر الشيء: إذا بان واتضح.
ومنه قولهم: أسفر الصبح: إذا بان ضوؤه واتضح.
وسمي السفر سفراً لمناسبات، فقيل: لأن الإنسان يُسفِر، بمعنى أنه يَبِيْن عن العمران، فإن المسافر يبِيْن عن القرى والأمصار والمدن، فينفرد عنها ويبِيْن منها.
كما سمي بذلك لأن فيه معنى الوضوح، وذلك أنه يسفر عن حقيقة الإنسان من ناحية صبره وضعفه وجلده وخوفه وقوة شكيمته إلى غير ذلك من أخلاقه.
ولذلك قالوا: سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجه صاحبه، وفي سنن البيهقي لما شهد الشاهد عند عمر قال له عمر: إني لا أعرفك، فاذهب وائتني بمن يزكيك.
فجاءه برجل فقال عمر للرجل: أتعرفه؟ قال: أعرفه بالعدالة والأمانة.
قال: أهو جارك الذي تعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا.
قال: أعاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به صدق الرجل من كذبه؟ قال: لا.
قال: أسافرت معه؟ قال: لا.
قال: لا تعرفه.
ثم قال للرجل: اذهب وائتني بمن يعرفك.
فالسفر من حيث هو يعين على معرفة حقيقة الإنسان ويسفر عن وجهه.
والسفر له ضوابط معينة، فلا يحكم بكون الإنسان مسافراً إلا بها.
(65/3)
________________________________________
أحوال المسافر
لا يخلو الإنسان الذي يريد أن يخرج للسفر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستقراً في بيته ناوياً السفر، فيكون السفر في باطنه -أي: في نيته-، ويكون ظاهره أنه غير مسافر.
الحالة الثانية: أن يخرج من بيته.
فإذا كان في بيته ناوياً السفر فإنه ليس بمسافر في قول جماهير العلماء حتى يخرج من البلد، فإن خرج من البلد فإنه يحكم بسفره على التفصيل الذي سنذكره، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
فلو أصبحت فنويت الخروج إلى بلد ما بعد الظهر، فإنك -على هذا القول- لست بمسافر حتى تخرج، فلا يكفي باطنك حتى يجتمع مع الباطن دليل الظاهر على السفر.
وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو رواية عن عطاء، وقال به موسى بن سليمان - إلى أنه يحكم بكونه مسافراً بالنية، فلو نوى السفر فإنه يأخذ برخص السفر وهو في البلد.
مثال ذلك: لو أنه نوى السفر بعد الساعة الحادية عشرة ولم يخرج إلا بعد الثانية فإنه سيؤذن عليه الظهر وهو في بيته، وحينئذٍ قالوا: يصلي ركعتين.
وهكذا لو كان صائماً يجوز له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج.
وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجماهير لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.
أما دلالة الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، فقوله: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) [النساء:101] يدل على أنه شرع وضرب في الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالخروج.
وقوله سبحانه وتعالى في شأن الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، ولا يمكن أن نحكم على الإنسان بأنه على سفر إلا إذا كانت صورته تدل على أنه مسافر، وبناءً على ذلك فظاهر التنزيل على أنه لا يكون مسافراً إلا إذا ضرب في الأرض.
وأما دليل السنة -وهو أقوى الأدلة- فحديث أنس الثابت في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فإنه قد كان نوى حجة الوداع عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يترخص برخص السفر إلا بعد أن خرج إلى ذي الحليفة.
وهذا يدل على أن نية السفر لا تكفي في ترخُّص الإنسان بالرخص.
وأما ما أُثر عن الصحابة فإنهم إذا قالوا: (إنها السنة) تردد ذلك عند جماهير العلماء رحمة الله عليهم بين أن يكون الصحابي فاهماً لها أنها السنة، وبين أن تكون من صريح فعله عليه الصلاة والسلام.
فلما جاء فعله يخالف ما فعله هؤلاء الصحابة -مع أنهم عزَوا ذلك إلى السنة- فهِمنا أنه فهمهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
فإذا تبيَّن لنا أن من كان ناوياً للسفر لا يترخص إلا إذا خرج، فحينئذٍ لا يخلو الذي يريد أن يخرج للسفر إما أن يكون في المدينة، بمعنى أن يكون داخل المدن والقرى -أي: البناء والعمران- وإما أن يكون في البر، كأهل العمود والخيام في البادية، فخيمته هي منزله ومكانه.
فإن كان في البلد والعمران فإنه لا يُحكم بكونه مسافراً، ولا يَتَرخَّص برخص السفر إلا إذا خرج من آخر العمران، وهي البيوت، فإذا انقطع عن البيوت فحينئذٍ يصدق عليه أنه سافر.
وبناءً على ذلك لا تخلو المدن من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصل بناؤها ويكون حد نهايتها معروفاً، كأن تكون بيوتاً متصلة آخرها محدود، فإذا بلغ هذا الآخر وبعده تنقطع الأرض فإنه مسافر.
فهذه الحالة لا إشكال فيها، فيحكم بأنه أنه مسافر بمجاوزته لآخر بيت من العمران، فلو أذَّن عليه الظهر بعد مجاوزته آخر بيت من العمران فإنه يصليها ركعتين.
ولو أذن عليه الظهر قبل أن يخرج من آخر بيت من العمران -كأن يقف عند إشارة، أو يقف عند المحطات يريد أن يتزود منها، أو يأخذ زاده من طعام أو غير ذلك- فإن قلنا: العبرة في الصلوات بالأذان فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً؛ لأنه لما أذن للصلاة وهو داخل العمران توجه عليه الخطاب أن يصلي الظهر أربع ركعات.
وعلى هذا لا تسقط عنه لكونه لم يتلبس بالسفر بعد.
الحالة الثانية: أن تتصل المباني ويكون وراءها خراب، كما يقع في بعض المدن، حيث تكون المباني المعمورة والتي فيها السكان متصلة، ثم بعد ذلك تأتي خرابات، أو بساتين مهجورة، أو نحو ذلك، فللعلماء وجهان: قال بعض العلماء: هذه البيوت الخربة في حكم العامر ولا يترخص حتى يجاوزها.
واختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الحنابلة.
القول الثاني: يترخص بانقطاع العمران، ولو دخل في الخرابات ونحوها فإنه مسافر.
وهذا مذهب الشافعية رحمة الله على الجميع.
والصحيح أنه إذا انقطع العمران فقد أسفر وصار مسافراً؛ لأن هذا الخراب لا يُعتد به، وليس في حكم العامر.
وبناءً على ذلك يكون في العمران التفصيل، فإن اتصل فلا إشكال، وإن كان هناك خرابات فالعبرة بمجاوزة العمران، ولا تأثير للخراب في إسقاط الركعتين.
وأما إذا كان في البادية، كأن يكون عنده خيمة، فلا يخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: أن تكون خيمته متصلة بفريق، وهم القوم والجماعة الذين ينزلون مع بعضهم، كأبناء عمٍ وقبيلةٍ ونحو ذلك، فالعبرة بآخر الخيام حتى يجاوز آخر خيام محلته، بشرط أن تتصل خيمته بهم.
الحالة الثانية: أن تكون خيمته منفردة، فإنه بخروجه من خيمته يكون مسافراً ويَترخص برخص السفر.
وفائدة ذلك أنه إذا قلنا: إن العبرة بمجاوزة آخر الخيام، فإنه لو أذَّن الظهر وقد جاوز آخرها وجب عليه الظهر ركعتين، وأما لو أُذن قبل أن يجاوز آخرها فقد وجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً.
وهكذا الحال لو كانت الخيام متفرقة، فإننا نقول: بمجرد خروجه من خيمته يأخذ برخص السفر.
وهكذا لو كانت خيمته ليس بجوارها أحد، فإنه بمجرد ركوبه على دابته -كما يقول العلماء- أو بمجرد أخذه في الطريق يُحكم بكونه مسافراً، ويأخذ برخص السفر.
(65/4)
________________________________________
أنواع السفر
يقول العلماء: السفر تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ومندوباً، ومباحاً، ومكروهاً، وحراماً.
فيكون السفر واجباً إن اشتمل على واجب، كسفر حج الفريضة، وكذلك السفر لبر الوالد والوالدة، فلو أن الوالد أمر ولده أن يأتيه في مدينته والولد في مدينة أخرى، وليس عند الولد عذر يمنعه من السفر وجب عليه أن يسافر، ولزمه برُّ أبيه بالسفر، فهذا السفر يكون واجباً.
وهكذا بالنسبة للسفر الذي يكون الإنسان فيه يؤدي أمراً واجباً عليه، فإنه يعتبر من الأسفار الواجبة.
ويكون السفر مندوباً ومستحباً لو اشتمل على أمر مندوب ومستحب كحج النافلة والعمرة، فهذا مندوب ومستحب، فإنه إذا سافر يقال: هذا سفر مندوب.
ويكون السفر مباحاً إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة، ومن أمثلته: السفر للتجارة، فإنه يعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة.
ويكون السفر مكروهاً إذا اشتمل على أمر مكروه لا يصل إلى درجة الحرمة، فلو أنه سافر على وجه لا يتضمن الحرام، كما لو كان مشتغلاً بطلب العلم، وهذا السفر يشغله عن طلب العلم فإنه يكون في حقه مكروهاً إذا اتصل هذا السفر بما يوجب شغله عن طلب العلم.
ويكون حراماً إذا تضمن أمراً محرماً، كسفره -والعياذ بالله- للزنا، أو لشرب خمر، أو لقطع طريق، أو عقوق والدين، ونحو ذلك، فهذه خمسة أحوالٍ للسفر.
فإذا كان سفره مباحاً جاز له أن يترخص، وإذا كان مندوباً جاز له أن يترخص؛ لأن المندوب فيه الإباحة وزيادة، وهكذا إذا كان واجباً؛ لأن الواجب فيه الإباحة وزيادة.
ففي هذه الثلاثة الأحوال يجوز له أن يترخص برخص السفر.
أما لو اشتمل سفره على معصية كأن يسافر لقطع طريق، أو عقوق والدين -والعياذ بالله- فإن هذا السفر المحرم قد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إن السفر المحرم لا يحل لصاحبه أن يترخص فيه، فيجب عليه فيه أن يُتِم الصلاة أربعاً، ولا يأخذ برخص السفر.
وهذا مذهب الجمهور رحمة الله عليهم.
القول الثاني: من سافر سفر معصية يجوز له أن يترخص.
وهو مذهب الحنفية، واختيار بعض المحققين من العلماء رحمة الله على الجميع.
أما من قال: إنه لا يترخص فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] قالوا: إن الاضطرار شرطه أن لا يكون بغياً ولا عدواناً، ولذلك لما فسر حبر الأمة وترجمان القرآن هذه الآية قال: غير قاطع للطريق وذكر المحرمات.
فكأنه يرى أنه إذا كان باغياً أو عادياً لا ضرورة له فلا رخصة له.
قالوا: وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن وقد فسر كتاب الله عز وجل، وهو المدعو له أن يُفقَّه في الدين، وأن يُعَلَّم تأويل الكتاب، فقصر الرخص على انتفاء وجود البغي والعدوان، فهذا أولاً.
ثانياً: أن السفر إذا أُطلق في الشرع ينبغي أن يتقيد بالمعروف شرعاً، والمأذون به شرعاً؛ لأنه لا يعقل أن الشرع يأذن له بالرخصة مع كونه يمنعه من السفر، فيعتبر السفر من وجهٍ ويحرمه من وجه.
قالوا: فهذا شيء من التناقض، فلما كان هذا السفر غير مأذون به شرعاً لم تتصل به الرخص؛ لأنه مأمور بإلغاء هذا السفر، فكيف يباح له أن يترخص فيه؟ والعجيب أن هذا القول من القوة بمكان من جهة الأصل؛ فإن القاعدة تدل على أنه إذا شك في الرخصة فإنه يرجع إلى الأصل، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أربعاً بناءً على أنه مقيم.
ولا نعني بالأصل ما سبق التشريع من كون الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فهذا أصل الوصف وليس له تأثير في الاستدلال، وإنما نعني أن الأصل فيه أنه مقيم.
ولما شككنا هل هذا السفر سفر رخصة أو ليس برخصة رجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بفعل الصلاة أربعاً.
وأما الذين قالوا: إنه يقصر فقالوا: إن الله عز وجل أطلق فقال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]، ولم يفرق بين كونه ضرباً بسفر مباح، أو ضرباً بسفر محرم.
وهكذا قالوا: إن الأدلة التي وردت في القصر مطلقة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه.
وقد ناقش الجمهور هذا فقالوا: إن المطلق في الشرع مقيد بالمعهود، فنحن نعني بالسفر ما أُذن به شرعاً، فحينئذٍ يستقيم التقييد بما عرف شرعاً.
والنفس تميل إلى أنه يُحتاط، فالسفر القائم على المعصية لا يُتَرخص فيه ما أمكن؛ إعمالاً للأصل الذي ذكرناه، وإعمالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؛ فإن أقل درجاته الشبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
وعلى هذا فإنه يتم الصلاة ويبقى على الأصل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك أمر ينبغي التنبه له، وهو أن العلماء رحمة الله عليهم فرقوا بين كون السفر سفر معصية، وكونه سفراً تُفعَل فيه المعصية.
فالمعصية في السفر كأن يسافر لأمر مباح، ثم يفعل معصية أثناء سفره، فهذا لا يشمله هذا الحكم، فلو أن إنساناً سافر لقصد التجارة ثم -والعياذ بالله- زنى أثناء سفره، أو شرب الخمر، فإن هذا لا ينطبق عليه ما ذكرناه؛ لأنه ما خرج أصلاً لفعل الحرام، وإنما خرج للمباح وهو التجارة.
ولو أنه سافر للمباح ولفعل الحرام، فإنهم قالوا: يأخذ حكم من سافر للحرام أصلاً.
(65/5)
________________________________________
الأسئلة
(65/6)
________________________________________
الجمع بين عدم الإذن للأعمى بالتخلف عن الجماعة والإذن بالتخلف لعذر المطر ونحوه

السؤال
كيف نجمع بين مشروعية التخلف عن صلاة الجماعة لعذر خوف الضرر الشديد حال المطر والوحل والريح الشديدة، وعدم إذن النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الكبير في السن بالتخلف عن صلاة الجماعة بعد أن سمع النداء؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن العلماء رحمهم الله أخذوا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن المؤذن إذا بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح قال: الصلاة في الرحال.
فأخذوا من إذن الشرع بالصلاة في الرحال وسقوط الجماعة مع وجود المطر دليلاً على أنه إذا وُجِدت المشقة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة فإنه يترخص بترك الجماعة، وهذا معنىً صحيح.
وأما حديث الأعمى الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟) قال: نعم.
قال: (فأجب)، وفي رواية أخرى: (ما أجد لك رخصة) فقد قال العلماء فيه: سماعه يدل على قربه، ولذلك أمره بشهود الجماعة لمكان القرب.
ثم إنه إذا حضر ليست هناك ريح شديدة، فإن الريح الشديدة تعيق الإنسان وتدفعه عن المضي إلى المسجد وإلى شهود الجماعة، بخلاف العذر الذي هو مطلق، كقول الأعمى رضي الله عنه (تكون الظلمة والسيل والمطر)، فإنه لا يدل على سقوط الجماعة بعد وجوبها.
ولبعض العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين جواب آخر لو صح لكان أقوى، حيث قالوا: الذي يظهر أن حديث الأعمى متقدم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الصلاة بعذر المطر فقال: الصلاة في الرحال.
لأن الأعمى قال: (إنه تكون الظلمة والسيل والمطر، وليس لي قائد يقدوني)، فكانت عزيمة في أول الأمر، ثم جاء التخفيف، فيكون من نسخ الأثقل بما هو أخف.
وهذا القول لو صح فثبت أن التخفيف بالمطر ونحوه متأخر، وثبت ما يدل على التأخر فلا شك أنه يزيل الإشكال.
والله تعالى أعلم.
(65/7)
________________________________________
موضع جواز جمع الصلاة للمسافر

السؤال
نويت السفر قبل صلاة الظهر، ولم أخرج من بيتي إلا بعد الظهر، فصليت الظهر أربعاً مع جماعة، فهل أصلي العصر جمع تقديم، مع العلم أن صلاة العصر تدركني وأنا في الطائرة، ولا تهبط إلا بعد خروج الوقت؟

الجواب
بعض العلماء يقول: إنه لا يترخص بالجمع إلا بعد الخروج من المدينة.
وهذا -مثلما ذكرناه- على ظاهر نص الكتاب والسنة، فالمسافر لا يترخص إلا بعد الخروج من العمران.
وعليه فإنه لا يحق له أن يجمع ما دام داخل مدينته حتى يخرج ويبرز إلى العمران، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص بالجمع، والله تعالى أعلم.
(65/8)
________________________________________
التفصيل في كمية تناول الطعام عند حضور وقت الصلاة

السؤال
هل يكون الأكل عند حضرة الطعام بمقدار ما تنكسر نهمته، أو له أن يشبع؟

الجواب
من حضرته الصلاة وحضره الطعام فإنه إما أن يمكنه أن يكسر شهوته ونهمة نفسه، ثم يدرك الجماعة، ولا يفسد الطعام بحيث يعود ويتمه، فإنه حينئذٍ يفعل ذلك إعمالاً للأصل، وبكسره لشهوة نفسه يزول المعنى الذي من أجله سقطت الجماعة.
وأما إذا كان تركه لبقية الأكل يُفسد الأكل ولا يمكنه أن يدركه بعد الصلاة، فحينئذ يقضي نهمته ولو فاتته الصلاة؛ لنص حديث عائشة رضي الله عنها.
والله تعالى أعلم.
(65/9)
________________________________________
البدء بالصلاة الفائتة قبل الحاضرة

السؤال
إذا كنت مسافراً من مكة الساعة الحادية عشرة -مثلاً-، وأخرت صلاة الظهر مع العصر، ودخلت المسجد والناس يصلون العصر فماذا أفعل؟

الجواب
إذا دخل المصلي المسجد والناس يصلون العصر وهو لم يصل الظهر فإنه يدخل وراءهم بنية الظهر، ثم إذا سلموا أقام للعصر وصلاها.
والله تعالى أعلم.
(65/10)
________________________________________
جواز ترك الجماعة لمن خرج خارج البنيان ولا يسمع الأذان

السؤال
نخرج غالباً خارج البنيان ونحن جماعة، وذلك للتنزه وغير ذلك، ولا نسمع الأذان، فهل نعذر في ترك الجماعة العامة في المساجد؟

الجواب
من خرج خارج العمران، أو خرج إلى مكان لا يسمع فيه النداء فإنه يجوز له أن يصلي بمكانه، وإن كانت معه جماعة فإنه يؤذِّن ويقيم ويصلي بهم جماعة، وأما إذا كان قريباً من العمران بحيث يسمع النداء فإنه يلزمه أن يمضي إلى أقرب المساجد إليه ويجيب داعي الله عز وجل له، والله تعالى أعلم.
(65/11)
________________________________________
حكم الصلاة في الرحال

السؤال
إذا سافر شخصان إلى مدينة ما، وأرادا الإقامة بها يومين فقط، فهل يصح لهما قصر الصلاة في المنزل وترك الجماعة؟

الجواب
إذا كان الإنسان مسافراً ومعه جماعة وكلهم مسافرون فإنه يجوز لهم أن يصلوا جماعة في رحالهم، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر بخيف مِنى فرأى رجلين فقال: (علي بهما، فأُتي بهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.
قال: فلا تفعلا.
إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على فعل الجماعة في الرحال مع أن جماعة النبي صلى الله عليه وسلم قد انعقدت في الخيف، فدل هذا -كما يقول العلماء- على جواز أن يصلي المسافر جماعة في رحله، ثم إذا حضر المسجد فإنه يصلي مع جماعة المسجد نافلة، ولو كانت الصلاة عصراً أو صبحاً أو مغرباً على أصح أقوال العلماء.
والله تعالى أعلم.
(65/12)
________________________________________
وقت ذكر دعاء السفر

السؤال
متى يشرع قول دعاء السفر، هل عند ابتداء ركوب الدابة، أم إذا لزم جهة السفر، أم إذا تجاوز البنيان؟

الجواب
بعض الأحاديث فيها التكبير عند ركوب الدابة، كما في السنن، فيكبِّر إذا وضع رجله في الغرز، أو إذا ركب السيارة كما هو موجود الآن، ويقول الدعاء: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) قالوا: لِحَمْد نعمة الله عز وجل على المركوب، ولا علاقة له بالسفر، وإنما شُرِع في السفر لمكان المناسبة.
وأما بقية الأدعية التي نص فيها على السفر فإنها لا تكون إلا بعد مجاوزته للعمران، لأنه يسأل الله عز وجل في وجهه الذي هو ماض إليه، والله تعالى أعلم.
(65/13)
________________________________________
الأخذ برخص السفر لا يشترط فيه مدة معينة

السؤال
من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فهل يجوز له القصر؟

الجواب
من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فإنه مسافر، وبناءً على ذلك يجوز له أن يترخص برخص السفر إعمالاً لحالته، ويصدق عليه ظاهر التنزيل وظاهر ما ورد من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكونه يرجع في نفس اليوم أو غيره من الأيام الأخرى لا تأثير له؛ لأننا لا نحفظ دليلاً يدل على تقييد الرجوع بزمان معين، وإنما وردت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة للمسافر مطلقاً.
وعلى هذا فلو خرج إلى تدريس أو تعليم بمكان يبعد مسافة القصر حل له أن يترخص بِرُخَص المسافر في الطريق ذاهباً وراجعاً.
والله تعالى أعلم.
(65/14)
________________________________________
حكم المريض إذا مات وعليه بعض الصلوات

السؤال
كان عندنا مريض يصلي بعض الأوقات، وبعض الأوقات لا يصليها، وذلك لشدة المرض، وأحياناً يصلي فيغلبه النوم أثناء الصلاة، وقد مات وعليه فروض لم يصلها، فهل عليه شيء؟

الجواب
هذا المريض ظاهره أنه قد حيل بينه وبين الصلاة بالمرض، وهذا الذي يظهر، بدليل أنه إذا حضرته الصلاة صلى، وإذا عجز لم يصلِّ.
أما بالنسبة لأهله فلا شيء عليهم، وبالنسبة له هو فقد مضى إلى الله عز وجل، وإلى الله حكمه، ولا يلزمهم في ذمتهم من شيء، فإن كان يترك الصلاة تساهلاً وتكاسلاً فحكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان تركها لعذر من غيبة عقلٍ وإغماء ونحو ذلك فهذا حكمه حكم المعذور، والله تعالى أعلم.
(65/15)
________________________________________
حكم من أكل ثوماً أو بصلاً قبل صلاة الجمعة

السؤال
هل يعذر الإنسان بترك صلاة الجمعة إذا أكل ثوماً أو بصلاً؟

الجواب
من أكل الثوم والبصل في يوم الجمعة قاصداً التخلف عن الجمعة فإنه آثم، وقال بعض العلماء: إنه لا يحضر الجمعة ويكون عليه وزر من تعمد تركها.
وذلك أنه تقصد أن يتخلف واحتال على الشرع، والحيلة على الشرع لاغية.
فيكون فعله المحتال به كما لو قصده، وأما لو أنه أكل طعاماً وهو لا يدري أن فيه الثوم والبصل، أو أكل الثوم والبصل ناسياً أنه يوم جمعة، فلما أكل وتلبَّس به، شعر أنه في يوم جمعة، فإنه يعتبر معذوراً لنص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، والله تعالى أعلم.
(65/16)
________________________________________
حكم الصلاة بين السواري

السؤال
قيد بعض العلماء كراهة الصلاة بين السواري بأن يكون بين السارتين ثلاثة أذرع، ومعنى هذا أن السواري الموجودة اليوم لا تأخذ هذا الحكم، وأن الصف بينهما صحيح، فهل هذا صحيح؟

الجواب
هذا التحديد الذي ذُكِر تحديد بدون دليل نعلمه، والأصل في التقديرات والتحديدات أنها تكون مستندة إلى نصوص الكتاب أو السنة، وأما هذا التحديد فلا أحفظ له دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على ذلك فإنه لاغٍ ولا يُعتد به، ويبقى الحكم بالصلاة بين السواري على ما هو عليه، لكن قال العلماء في السواري المنفصلة المتباعدة بعداً قوياً: إنها لا تؤثِّر.
وقالوا: إنه يجوز أن يصلى بينها كما لو صلى بين جدارين، فإنه لا حرج عليه، ويعتبر هذا مأذوناً به، وليس داخلاً في النهي، والله تعالى أعلم.
(65/17)
________________________________________
حكم قضاء السنن الرواتب

السؤال
هل يجوز قضاء السنن الرواتب إذا لم يصلها في أوقاتها أم لا؟

الجواب
قضاء السنن الرواتب ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فعل ذلك في السفر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه: (لما نام عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر واستيقظ بعد طلوع الشمس أمر بلالاً فأذن بالصلاة، ثم صلى رغيبة الفجر، ثم أمر فأقام فصلى الفجر).
فدل على مشروعية قضاء الراتبة بعد خروج وقتها، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، فقالت: يا رسول الله: رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟! قال: (أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان).
فدل هذا الحديث على مشروعية قضاء السنن الرواتب إذا كان الإنسان عذر بتركها، كما لو نام عن صلاة الفجر لعذر ثم استيقظ بعد طلوع الشمس، وهكذا إذا دخل والإمام يصلي الظهر ولم يتمكن من صلاة السنة القبلية، فإنه بعد سلام الإمام يجوز له أن يصلي القبلية، ثم يصلي بعدها السنن الراتبة البعدية، والله تعالى أعلم.
(65/18)
________________________________________
حكم الجهر في الصلاة

السؤال
إذا نسي الإمام الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية هل يسجد للسهو؟

الجواب
للعلماء في الجهر في الصلاة وجهان: قال بعضهم: إنه من الواجبات، ويلزمه إذا نسيه أن يسجد له سجود السهو.
وهذا قول يختاره بعض السلف رحمة الله عليهم، وهو في مذهب بعض العلماء، كـ مالك رحمة الله على الجميع.
وقال بعض العلماء: الجهر ليس بواجب، ولذلك لو أسرّ في جهرية أو جهر في سرية ولو كان متعمداً صحت صلاته، والأحوط أنه يسجد إذا كان يريد الخروج من الخلاف، أما لو ترك السجود فإنه لا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
(65/19)
________________________________________
حكم من أفطر في رمضان ولم يعلم بوجوب القضاء إلا بعد فترة طويلة

السؤال
امرأة أفطرت شهر رمضان كاملاً بسبب الحمل والولادة، ولم تكن تعلم أنه يجب عليها القضاء، فلم تقض ذلك الشهر حينها، وبعد عشرين سنة تبين لها أنه يجب عليها القضاء، فماذا تفعل؟

الجواب
يلزمها قضاء هذا الشهر، وللعلماء رحمهم الله في الجاهل وجهان: قال بعضهم: الجهل عذر، ويُسقط التكليف، ولا كفارة لمكان العذر.
وقال بعضهم: ليس بعذر بعد استقرار الشرع.
وهذا واضح، خاصةً إذا كانت في المدن والعمران؛ لأنه يتيسر وجود العلماء وسؤالهم، ومع ذلك تسكت عن سؤالهم ثم تأتي وتقول: إنها جاهلة.
فقالوا: مثل هذه لا يُعذر، إنما يُعذر من كان في البوادي بعيداً عن العلماء، أو كان في زمان التشريع.
وهذا القول من القوة بمكان، فإنه لا يفتح للناس الترخص بالجهل؛ لأنهم إذا كانوا في حاضرة وأمكنهم سؤال العلماء فهم مقصرون مستهترون، ومن قصر في الشرع يُلزم بعاقبة تقصيره.
ولذلك يُفصَّل في هذه المرأة، فإن كانت في العمران وأمكنها سؤال العلماء فإنها آثمة بالتقصير ومعرفة حكم الله عز وجل.
وأما إذا كانت في مكان لا يتيسر معه أن تبعث من يسأل لها أو لا يتيسر فيه وجود العالم الذي تسأله فإنها معذورة، ولا كفارة عليها، على القول بأن الجهل عذر مطلقاً، فلا كفارة عليها ولا إثم.
وعلى القول بالتفصيل -وأميل إليه- أنها تأثم إن كانت قصّرت ولا تأثم إن لم تقصر، ثم إذا قلنا: إنها قصرت.
وحكمنا بإثمها فمذهب جمهور العلماء أن من قصّر فدخل عليه رمضان الثاني ولم يقض رمضان الأول فعليه عن كل يوم ربع صاع، وهو قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جمع من العلماء يُنسب إلى جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم، ويُفتى به على سبيل الاحتياط، وإلا فقول الظاهرية بعدم وجوب التكفير من القوة بمكان.
والله تعالى أعلم.
(65/20)
________________________________________
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)

السؤال
ما المقصود بالأذانين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، والصلاة بينهما هل هي النافلة والمكتوبة؟

الجواب
هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بين كل أذانين صلاة) من باب التغليب، والعرب تقول: القمران والعشاءان والظهران والعمران، كل ذلك من باب التغليب، فقوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين) أي: بين الأذان والإقامة فغُلِّب الأذان على الإقامة).
ووجه ذلك أن الأذان في لغة العرب الإعلام، فلما كان الأذان الأول أذاناً -بمعنى أنه يُعلم بدخول وقت الصلاة- وكانت الإقامة إعلاماً بقيام الصلاة وُصِفت بكونها أذاناً من هذا الوجه.
وعلى هذا فإنه يصلي بين الأذان والإقامة، وهذه النافلة ليست براتبة، وإنما هي نافلة مستحبة يفعلها الإنسان، وليست من السنة الراتبة، إلا إذا كانت للصلاة الذي أُذِّن لها راتبة قبلية كالظهر والفجر ونحو ذلك.
أما إذا لم تكن لها راتبة قبلية كصلاة المغرب، فإنه إذا أذن المغرب يُشرع للإنسان ويسن له أن يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وهكذا لو أذن العشاء فله أن يصلي بين الأذان والإقامة ركعتين.
والله تعالى أعلم.
(65/21)
________________________________________
حكم التقصير في حق الوالدين بعذر طلب العلم والدعوة

السؤال
لي أبٌ عاجز، وأشتغل بطلب العلم وبعض المشاريع الدعوية، وأقصر في حق الوالد، فهل أنا معذور بهذا التقصير؟

الجواب
أخي في الله! اتق الله في أبيك، واتق الله في والديك، وابدأ بهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بتوحيده ثم ثنى ببر الوالدين، فاتق الله عز وجل في أبيك عند المشيب والكبر، فارحم ضعفه واجبر كسره، وكن إلى جواره، والزم قدمه؛ فإن الجنة ثم.
قال سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
وفي الحديث:: (رغم أنف رجل أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة.
قل: آمين.
قلت: آمين)، فاحمد الله عز وجل إذ متّع ناظريك بوجود والديك، واغتنم هذه الفرصة، خاصة إذا كان الوالد ضعيفاً فقم على حالته، واقض حوائجه وفرج كربته، وكن إلى جواره، فإنه فرضٌ لازم عليك مقدم على النوافل، ومقدم على حلق الذكر، ومقدَّم على مجالس الصالحين إذا كانت على سبيل النفل ولم تكن واجبة.
وما تقرب العبد إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليه، فابدأ بوالديك، وفي الحديث أن صحابياً قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد.
-يريد أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجر لكي يكون تحت ظله، يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)، وفي رواية: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، وأبى أن يخرج معه.
فبر الوالدين فرض لازم ينبغي على المسلم أن يبدأ به قبل النوافل والطاعات، فابدأ بنفسك وبمن تعول، وارحم ضعفه وارحم كبره، وكن مع الوالدين ولا تسأم ولا تمل، ولا تتعب ولا تضجر، فإنك تخوض في رحمات الله جل جلاله.
فكل لحظة وأنت في جواره تُدخل السرور عليه، وتذهب الوحشة عنه بأنسه برؤية وجهك، فكم من قلوب للوالدِين تتعطش وتتألم، ولكن يزول ألمها ويروى عطشها إذا اطلعت ورأت أبناءها وبناتها.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما احتضر ابنه إبراهيم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).
فالوالدان فيهما رحمة، وفيهما حنان للولد وشوق وحنين، ولو أمرك أن تسافر أو تذهب للدعوة فينبغي أن تكون أحرص على الخير منه.
فالوالد قد لا يحب أن يزعجك، ولا يحب أن يضيق عليك، فيراك تحب السفر فيقول لك: سافر.
وتحب أن تكدح وتتاجر وتذهب هنا وهناك فيقول لك: اذهب.
ولكن ينبغي أن تكون فطناً لبيباً حكيماً أريباً، فهذا الوالد في آخر عمره وضعفه ومشيبته وكبره بحاجة إليك.
فالدنيا تُدرك، ولكن بر الوالدين ليس إلا ساعات ولحظات، اختار الله عز وجل والديك فسوف تعض على أصابع الندم، ولات ساعة مندم.
فاتق الله عز وجل في والديك، واشكر نعمة الله سبحانه وتعالى إذ متع عينيك برؤية الوالدين.
فينبغي ألا ينام الإنسان إلا وهو يفكر كيف يبر والديه، وأول الفروض بعد توحيد الله عز وجل بر الوالدين، فتكون إلى جواره، ولو أدى ذلك إلى انقطاعك عن بعض الدروس، فإن الوالد في أشد الحاجة أن تجلس معه، فإن كان مريضاً تداويه، وإن كان محتاجاً إلى معونة تعينه وتساعده، حتى ولو كان الإنسان يجد من والديه الأذية، فإن أفضل البر وأحسنه وأكمله وأجمله إذا كنت تُحسن إلى الوالدين ويسيئان إليك، وإذا كنت ترحمهما فتجد منهما الغظاظة، ولربما تجد منهما أنهما يكرمان غيرك ويهينانك، فإذا رأيت من الوالدين السباب والشتام والاحتقار فاعلم -إن شاء الله- أن ذلك من دلائل القبول، فما دمت لا تتسبب في غضبهما، وكأن الوالد لا يحفظ معروفك، ولا يشكر إحسانك، فلعل الله لحكمة يريد أن يرفع درجتك ببرك بوالديك.
واعلم رحمك الله أنها من فواتح الخير، فكم من علماء وأفاضل وصلحاء بلغوا الخير بفضل الله جل جلاله ثم برضا الوالدين.
وأعرف عالماً من العلماء الذين بلغوا شأواً عظيماً في العلم كتب ترجمته بيده فقال: لا أعرف أمراً وفقني الله عز وجل إليه بعد توحيده بلغت به بفضل الله عز وجل هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل.
فإذا وفقك الله لبر الوالدين كسبت منهما الدعوات الصالحات، وخضت في رحمات الله سبحانه وتعالى، فتخرج من عند والديك والأكف ترفع إلى الله أن يسعدك، وأن يوفقك، وأن يكون معك، فأبشر بكل خير في دينك ودنياك وآخرتك.
فلا يشتغل الإنسان بالنوافل ويترك الفرائض، وبعض طلاب العلم يجد السآمة، ويجد الضيق، ويجد الملل، ولا يدري من أين جاءه هذا الهم والغم والنصب والتعب، فقد يكون عق أباه؛ لأن الإنسان قد يعق والده بكلمة واحدة، فتغيب عليه شمس ذلك اليوم وهو من العاقين -والعياذ بالله-.
فكيف يحتاج والدك إلى حاجة ويأتيك قبل أن تأتيه، وهو الذي طالما سهِر وتعب عليك؟ والله إن الإنسان ليكاد يذوب خجلاً -لو أن القلوب والضمائر والنفوس حية- حينما ينظر إلى والده يسأله حاجة.
فالمفروض أنك لا تنتظر من الوالد أن يسألك، ولا تنتظر من الوالد أن يعرض حاجته عليك، بل عليك أن تلبي حاجته، وأن تفرج -بإذن الله- كربته، وتسعى في تحقيق مصالحه وإدخال السرور عليه، وبذل كل ما تستطيع من الخير.
فقبل الجلسات، وقبل الأصدقاء والأصحاب والأحباب بر الوالدين، فالواحد منا يجلس مع أصحابه وأحبابه ساعات متأخرة من الليل لا يسأم، ولا يمل ولا يضجر، وقد يكون في فضول الحديث، ولكن بمجرد أن يجلس مع أبيه لحظة واحدة يتذمر، وتجده إذا دخل عليه رجل من أهل الدنيا يقوم من مكتبه يقضي حوائجه، ويفرج كربته، فإذا قال له الرجل: أشكرك على ما قدمت.
يقول: هذا واجب.
وإذا جاء والده في أبسط حاجة أو أقل معروف أعرض عنه، ولربما جاء وقضى الحاجة بتذمر، حتى إن الوالد يكره هذه الحاجة مما يرى من السآمة والملل من ابنه.
فالله الله في هذه القلوب الضعيفة، فارحموا ضعف الوالدين.
وينبغي على الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يذكِّر بعضهم بعضاً ببر الوالدين، فهذه فواتح رحمة، وهذه من الأمور التي كان العلماء رحمهم الله يتفقدون فيها طلابهم، فلا تمر فترة إلا وهم يذكرون، وقد عهِدت بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه كان لا يجلس معه طلابه إلا وهو يتفقدهم في أمرين، ويقول: أمران لا أسأم منهما: الإخلاص وبر الوالدين.
فتجده دائماً يقرع طلابه ويذكرهم بهذا.
وإن كنت في حيِّك، أو في مسجدك، فاذكر فضل بر الوالدين، وأَشِدْ بهما؛ لأن الناس تناست، وكلما طال العهد عن النبوة كان الناس في فتنة ومحنة وغربة عن الدين، فقد أصبح اليوم قضاء حوائج الوالدين كائناً مع الضيق والسآمة والملل، حتى إن كثيراً من الآباء يضجرون، فتجد الأب تُقضى حاجته، لكن تُقضى بدون رغبة.
وقد اتصل بي ذات مرة رجل من الأخيار، وكان من خيار طلاب العلم والدعاة، فقال لي: إني أريد أن أخرج إلى كذا وكذا -وهي قربة من أجل القربات- فقلت له: يا أخي! هل والداك موجودان؟ قال: الوالد موجود.
قلت: هل أذن لك في الخروج؟ قال: أذن لي.
قلت: لو كنت تريد مني الرأي فأنا أنصحك أن تبقى عند والدك.
قال: لماذا؟ قلت: والدك كبير، ولو أذن لك فالمفروض أن تستحي من الله عز وجل أن تتركه على ضعف وخور في هذا العمر وتخرج تتنفل بالطاعات، فقال: أنا واثق أنه راض.
قلت له: تأكد.
وثلاث مرات وأنا أراجعه، ولكن يأبى الله عز وجل، وأرجو أن الرجل كان فيه الخير والصلاح، أحسبه ولا أزكيه على الله.
فيشاء الله عز وجل أنه يُقدم على ما هو طالبه من الخير، فخرج، فلما خرج وابتعد عن المدينة التي هو فيها مسافة تذكر شيئاً في البيت أنه لم يأخذه معه، وكان من لوازم سفره.
قال: فرجعت، فلما رجعت وجدت الوالد في حالة من البكاء والحزن والهم والغم ما الله به عليم، قال: فلما رأيت الوالد ذُهِلت حتى عن الشيء الذي أتيت من أجله، فقلت: ما هذا يا والد؟ قال: يا بني! ماذا أفعل؟ رأيتك تحب هذا الشيء ولا أحب أن أمنعك عما تريد، أما لو كان باختياري وهواي فلا أريدك أن تفارقني.
قال: والله ما هو إلا أن قبلت قدمه، وجلست أبكي عنده.
فالوالدان فيهما رحمة، ولا يستطيع الوالد إذا رآك تريد شيئاً أن يصدّك عنه، والوالدة أرحم من الوالد، فلا يغتر الشاب لقول الوالد: اذهب.
فإذا قال: اذهب.
فقل: لا أذهب، بل أجلس عند قدمك وأقضي حوائجك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الزم رجلها فإن الجنة ثم).
فالوالدان يحتاجان إلى وفاء، وإلى رد جميل، وإلى الإحسان مهما كان، حتى ولو كان الوالد يقول لك: اذهب إلى طلب العلم.
فلتذهب إلى طلب العلم ولكن بقدر، ولتجعل حاجته بين عينيك، ولا تنتظر منه -إذا كنت تريد الرحمة والرضوان والتوفيق من الله، وسعادة الدنيا والآخرة- يوماً من الأيام أن يطلب منك شيئاً، وإنما تكون أنت الذي تقضي حوائجه، وأنت الذي تبادره وتسبقه إلى حوائجه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بالبر، وأن يجعلنا من أهله، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا في هذا المجلس المبارك أن يسبغ شآبيب الرحمات على من كان منهم من الأموات من الآباء والأمهات.
اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، وأوسع مدخلهم، واجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولده، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، واجعلهم عندك في نعيم الجنات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
(65/22)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [2]
السفر غالباً تصحبه مشقة وعناء، ولذلك خفَّف الله عن المكلفين في السفر وشرع لهم قصر الصلاة فيه، لمسافة معلومة ومدة معلومة، وبشروط معينة، على أن يراعى وقت أداء الصلاة ووقت وجوبها، وكذلك حال الاقتداء بالمقيم، ومن التخفيف عن المسافر: مشروعية الجمع بين الصلاتين، مراعاة لحال المسافر وتيسيراً عليه، وقد يكون الجمع في غير حال السفر كالجمع في عرفة ومزدلفة.
(66/1)
________________________________________
تابع أحكام صلاة المسافر
(66/2)
________________________________________
حكم القصر في السفر المحرم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة المسافر، والله سبحانه وتعالى جعل الصلاة في السفر إذا كانت رباعية ركعتين، كما شهد بذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر).
وقد بينا أن السفر يعتبر من الأمور التي توجب التخفيف عن العباد والمكلفين في الصلاة.
قوله: [من سافر سفراً مباحاً] يفيد أنه يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة أن يكون سفراً مباحاً وليس بسفر معصية، فإن كان السفر سفر معصية فإنه لا يحل له أن يقصر الصلاة، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]، فقد فسر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الاضطرار في حال البغي والعدوان فقال: (أن يسافر سفر بغي، أو سفر عدوان).
فإذا كان مسافراً سفراً محرماً فإن الخطاب يتوجه عليه بالرجوع، فكأن السفر وجوده وعدمه على حد سواء، فلو قال قائل: إنه مسافر في الصورة! قلنا: إن الصورة يشترط فيها أن يعتد بها شرعاً، فلما كانت لاغية في حكم الشرع لم يترخص برخصه.
(66/3)
________________________________________
المسافة التي يقصر فيها المسافر
قوله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد].
البرد: جمع بريد، والبريد كلمة أصلها فارسي وهو: (برده ذم)، قالوا: كان أصل البريد في اللغة الرسول، وكانوا يستخدمون البغال في إيصال الرسائل، فعلى كل مرحلة يجعلون محطة تكون فيها بغال مهيأة، فإذا أخذ الرسول الرسالة من محطة انطلق إلى المحطة الأخرى، فيجد رسولاً آخر ينتظره في المحطة فيعطيه الرسالة، فينطلق إلى المحطة التي تليها، فيكون أبلغ في وصول الرسالة في أقرب وقت، أو ينطلق نفس المسافر، فإذا وصل إلى المحطة الأولى وجد دابة فركب عليها إلى المحطة التي تليها، وهكذا حتى يبلغ المكان الذي يريده لرسالته، فسمي بريداً.
فالبريد نفس المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم وهي المرحلة الكاملة، وهذه المسافة -التي هي أربعة برد- توقيت وتحديد ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، فالمسافر لا يكون مسافراً إلا إذا قصد هذه المسافة فما فوقها، فلو كانت المنطقة أو المدينة التي يريد بلوغها دون أربعة برد فإنه لا يوصف بكونه مسافراً، فكما أن من خرج من مدينة إلى ضواحيها لا يعتبر مسافراً في حكم الشرع، فكذلك من انتقل إلى مسافة دون هذه المسافة.
أما الدليل الذي دل على اعتبار هذه الأربعة البرد فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة -وفي رواية: مسيرة يوم- إلا ومعها ذو حرمة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، ولم يذكر مسافة توصف بكونها مسافة سفر دون اليوم والليلة، فدل على أن مسافة اليوم والليلة ومسيرة اليوم والليلة هي السفر.
وقالوا: إن الأربعة البرد من إنسان يسير يوماً كاملاً تكون على هذا الوجه؛ لأنه إذا مشى من أول النهار إلى أوسطه فإنه يقطع بريداً، ثم من أوسطه إلى آخره يقطع بريداً، فيتم له في النهار بريدان، ثم في الليلة بريدان، فأصبح المجموع أربعة برد، فهي مسيرة اليوم والليلة، فإن قالوا: مسيرة يوم وليلة فإنها مسيرة أربعة برد.
والبريد من الفراسخ أربعة، والفرسخ ثلاثة أميال، وبناء على ذلك لتكون المسافة ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، وتقدر بالكيلو مترات، فبعض المتأخرين -قبل ما يقرب من أربعين سنة- اختبر سير الإبل، فذكر أن الإبل في اليوم تسير ما يقارب أربعين كيلو متراً، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تسير دون الأربعين شيئاً قليلاً، وقد تصل إلى الأربعين، فإذا كان السير معتاداً في الزمان المعتاد الذي ليس بشديد الحر ولا بشديد البرد، فإنه يصل السير إلى ما يقارب الأربعين كيلو متراً، فإذا حسبت في النهار أربعين كيلو متراً وفي الليل أربعين كيلو متراً فهي إلى الثمانين، فهو يقول: إنها تصل إلى ما يقارب ثمانية وسبعين كيلو متراً.
ومن العلماء من يقول: اثنان وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول: ستة وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول: ثمانون كيلو متراً.
فهي ما بين اثنين وسبعين كيلو متراً إلى ثمانين كيلو متراً، فإن احتاط فإنه يوصلها إلى الثمانين، ولكن الأشبه -فيما ذكره غير واحد- أنه إلى اثنين وسبعين يرخص له برخص السفر.
وقلنا: إن الدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، فدل هذا النص الشرعي على أن من سار مسيرة اليوم والليلة فهو مسافر.
فإن قال قائل: كيف أسقطت ما دون اليوم والليلة عن كونه سفراً؟ وما هو الدليل على أن من خرج دون اليوم والليلة لا يكون مسافراً؟ قلنا: السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مواضع دون هذه المسافة -أي: دون مسيرة اليوم والليلة-، ومكث فيها ولم يقصر الصلاة، فقد خرج إلى الخندق وهو يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقل أو تكثر، خاصة إذا خرج من طريق بطحان، ومع ذلك لم يقصر رباعية، وخرج إلى أحد ولم يقصر رباعية، وكذلك ثبت عنه في الأحاديث أنه خرج إلى بني النضير وحاصرهم خمس عشرة ليلة في شهر ربيع ومع ذلك لم يقصر الصلاة، وبنو النضير على أميال من المدينة، وكذلك خرج إلى بني قريظة ولا تقل المسافة بينه وبينهم عن ستة أميال كما ذكر غير واحد، وهذه كلها ضواحٍ من المدينة بينها وبين المدينة دون اليوم والليلة، فكونه يخرج إلى هذه المسافات التي هي دون اليوم والليلة قاصداً إياهم -حيث قصدهم بالحصار والقتال- ومع ذلك لم يقصر الصلاة يدل على أن ما كان دون اليوم والليلة لا يحكم بكونه سفراً.
ولذلك قالوا: نرجع إلى أقل ما سماه الشرع سفراً، فنحكم بكون الإنسان مسافراً إذا قطعه، وأما ما دونه -كما لو خرج إلى قرية دون مسافة اليوم والليلة -فإنه في حكم من خرج إلى ضواحي المدينة وما قاربها.
وأكدوا هذا بأن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان لا يجيز لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بعرفة، فقد سألوه رضي الله عنه وأرضاه: أنقصر الصلاة في عرفة؟ قال: لا.
ولكن إلى جدة وعسفان، أو الطائف.
وهذا السند صحيح عنه رضي الله عنه، ولم يختلف على ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بهذه المسألة، وقد كانت عسفان مسيرة يوم وليلة، وكانت جدة في ذلك الزمان مسيرة يوم وليلة، وكانت الطائف تربو على مسافة اليوم والليلة بشيء.
قالوا: فهذا يدل على أن الخروج المطلق لا يوصف بكونه سفراً، وإنما يكون سفراً إذا كانت المنطقة التي يريدها تبعد بمقدار اليوم والليلة فأكثر.
ثانياً: أنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قصر الصلاة حينما خرج إلى وادي ريم، ووادي ريم يبعد عن المدينة ما يقارب ستين إلى سبعين كيلو متراً يقل قليلاً أو يكثر على حسب الطريق، وقد يزيد على السبعين قليلاً إذا قصدت آخر الوادي، وعلى هذا فهو يقارب مسيرة اليوم والليلة، وجاء عنه أيضاً في الرواية الأخرى -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قصر في الأربعة البرد، وما ورد عنه من أنه كان يقصر في الثلاثة الأميال فهو ابتداء قصره، بمعنى أنه لو خرج مسيرة اليوم والليلة كان إذا سار ثلاثة أميال قصر، بل حتى لو خرج من العمران يقصر، فعلى هذا لا تعارض بين الروايات عن ابن عمر، فإن الروايات القوية واردة عنه رضي الله عنه بالتأقيت في الأربعة برد ومسيرة اليوم والليلة، وإذا نظرنا إلى الأسانيد عن ابن عمر وجدنا أصحها وأقواها ما جاء عنه في القصر في الأربعة البرد، وهي عن أوثق أصحابه وأقربهم منه كـ سالم ابنه، وكذلك نافع مولاه رحمة الله على الجميع، خاصة وأنه ورد عنه أنه أمر بالقصر في هذه المسافة، فيقوى مذهب من قال -أعني: الجمهور-: إنها أربعة برد، وما ورد عنه من القصر في الثلاثة الأميال فإنه محمول على أنه ابتدأ القصر، بمعنى أنه خرج من المدينة ثلاثة أميال فحضرته الصلاة فصلى وهو قاصد لمسيرة اليوم والليلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من المدينة، فإنه بمجرد أن وصل إلى ذي الحليفة قصر الصلاة، مع أن ذا الحليفة ليست على مسيرة مرحلة كاملة.
فهذا حاصل ما ذكر بالنسبة لأدلة السنة، وكذلك الآثار الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو لم نقل بالتحديد فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاج الأحكام، فلو قلنا: إنه يرجع فيه إلى عرف الناس لاختلفت أعرافهم، فتجدنا نقول: عند هؤلاء يعتبر سفراً وعند غيرهم لا يعتبر سفراً.
ولأن نوايا الناس تختلف، فقد أراه على سفر ولا يراه غيري على سفر مع أن المسافة قد تكون واحدة.
وعلى هذا فإن نص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مسيرة يوم وليلة) يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: أن يعتد بالزمان.
المسألة الثانية: أن يعتد بالمكان.
فعند اختلال إحداهما يرجع إلى الآخر، فإذا كانت المسافة الزمنية التي تقطع فيها المسيرة قاصرة عن اليوم والليلة رجعنا إلى مسافة المكان، وإن كانت مسافة المكان شاقة فيمشي الإنسان ويواصل بحيث يمضي يوماً وليلة وهو يمشي فإنه يرجع إلى التأقيت بالزمان.
توضيح ذلك أن الإنسان لو قطع مسافة السفر في سيارة في نصف ساعة أو ساعة فإنه مسافر؛ لأنها مسيرة يوم وليلة، وبنص الحديث مسيرة اليوم والليلة سفر، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) يدل على أن المسافة معتد بها، وعلى هذا فلو سافر بالطائرة أو بالسيارة في برهة يسيرة أو زمان يسير فإننا نقول: هو مسافر التفاتاً إلى المكان الذي قطعه، أما لو كان المكان شاقاً كالأماكن الوعرة والجبال التي يصعب تسلقها والوصول إليها وشق عليه أن يقطع هذه المسافة فإننا نرجع إلى التأقيت بالزمان، ولذلك قالوا: إن الحديث تضمن التحديدين: تحديد الزمان إن تعذر المكان، وتحديد المكان إن تعذر الزمان، والاعتداد بهما إن تسايرا وتوافقا.
فالحاصل أن البريد أرعبة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ ثلاثة أميال ضعوا فمسافة القصر أربعة برد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعون ميلاً، وما دونها فليس بسفر، فإذا قلنا: إن المسافة -مثلاً- ثمانية وأربعون ميلاً فلو أن إنساناً سافر سبعة وأربعين ميلاً فليس بمسافر، إلا أننا نقول: هذا لا حرج فيه، فإن الرجل إذا خرج إلى العمرة وحاذى الميقات ثم خطا خطوة واحدة ولبى ولم يحرم فإنه يجب عليه الدم، وإذا رجع إليه وأحرم منه سقط عنه الدم، فالشرع إذا حدد المكان فإنه لا يختلف فيه القليل ولا الكثير، ما دام أن هذا تحديد الشرع وهذا نصه، وهذه مكة فإنك قد تقف على آخر حدها فلو أن إنساناً دخل هذا الحد ونوى فيه -نسأل الله العافية- الظلم والإثم فإنه متوعد بالوعيد، ولو خرج شبراً واحد لم يحصل له ذلك الوعيد؛ لأن هذا تأقيت من الشرع، فلو سافر دون ثمانية وأربعين ميلاً ولو باليسير فإننا لا نقول -على ظاهر هذا النص-: إنه لا يحكم بكونه مسافراً.
هذا حاصل ما ذكره العلماء رحمه الله عليهم في مسافة السفر.
(66/4)
________________________________________
حكم القصر في السفر ومن أين يبتدئ به
[سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
[سن له] أي: لا يجب عليه القصر.
وهذا مذهب الجماهير؛ لأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أتم الصلاة بالناس في حجه، ومع ذلك صلى وراءه الصحابة، فدل على أن الإتمام لا يعتبر موجباً لبطلان الصلاة، ولا يحكم فيه بإثم صاحبه، وعلى ذلك فإنه من السنة، ولكن ينبغي على الإنسان أن لا يجاوز هذا الهدي، فإنه إذا قال: أريد أن أتم الصلاة وأنا مسافر طلباً للفضل فإنه تخشى عليه الفتنة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لطلب الفضل، وإذا صلى زيادة على الركعتين فجعل الرباعية المقصورة أربعاً معتقداً أنه يكون له فضل الركعتين وأنه أفضل فإنه مبتدع في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
إنما الكلام فيما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إتمام عثمان، وقد أجيب عنه بأجوبة: فقيل: إن عثمان رضي الله عنه تزوج من أهل مكة، كما ورد في مسند أحمد أنه قال: (إني تأهلت بمكة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلد فليتم فيه)، فيعتبر كأنه مكي من هذا الوجه.
وقيل: إنه سمع أعرابياً يقول: ما زلت أصليها ركعتين منذ أن فارقتك عام أول.
قالوا: إن هذا يدل على أن عثمان رضي الله عنه خاف أن الجهال يعتقدون أن الرباعية ركعتان، ولذلك قالوا: إنه أتم لخوف هذه المفسدة، فزاد في الصلاة من هذا الوجه.
فهذه من أقوى الأوجه التي اعتذر بها لأمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقوله رحمه الله: [سن له قصر الرباعية] يدل على أن القصر يختص بالرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، أما صلاة الفجر والمغرب فإنها لا تقصر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
قوله: [إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
الإنسان له حالتان: فإما أن يكون في مدينة وقرية ونحو ذلك، وإما أن يكون في خيام وبر.
فإن كان في مدينة قلنا: إنه إذا خرج من آخر بنائها فإنه يعتبر مسافراً، فلو أن البنيان اتصل بالبساتين والحوائط فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن تكون الحوائط عامرة، فحينئذٍ بعد أن يخرج منها يقصر.
الثانية: أن تكون الحوائط مهجورة والبيوت مهجورة فإن العبرة بالعمران، فبمجرد خروجه من المواضع التي فيها العمران يقصر الصلاة ويستبيح رخص السفر من الفطر ونحوه.
وإذا كان في الخيام فإما أن تكون له خيمة منفردة، فحينئذٍ يبتدئ الرخص بمجرد ركوبه على دابته ومفارقته لخيمته، كأن يولي قفاه لها.
وإما أن يكون مع خيام جماعته وقرابته أو قوم معه، فحينئذٍ إذا جاوز آخر خيمة من هذه الخيام فإنه يترخص برخص السفر، ويأخذ حكم المسافر بمجاوزتها.
(66/5)
________________________________________
حالات القصر والإتمام للمسافر
(66/6)
________________________________________
الإحرام بالصلاة حضراً ثم الشروع في السفر
[وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر عند إحرامها، أو شك في نيته، أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، أو ملاحاً، معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].
قوله: [وإن أحرم حضراً ثم سافر] مثاله -كما ذكر العلماء- أن يكون في سفينة، وتكون هذه السفينة على شاطئ البحر، فحينئذٍ ما دامت السفينة واقفة فإنه لا يحكم بكونه مسافراً؛ لأنها لا تزال متصلة بالعمران، وأما إذا تحركت السفينة فإنه يستبيح الرخص بمجرد حركتها، فلو أنه أحرم وكبر تكبيرة الإحرام ولم تتحرك السفينة، ثم لما كبر وانتهى من التكبير وأراد أن يشرع في القراءة تحركت السفينة في السفر، فإنّا إن نظرنا إلى ابتدائه الصلاة وجدناه مقيماً، وإن نظرنا إلى حاله في الصلاة وجدناه مسافراً، فهل العبرة بالابتداء والشروع، أم العبرة بما ينتهي إليه أمره؟ قال بعض العلماء: العبرة بإحرامه، فإن أحرم حال السفر ثم دخل إلى الحضر فإنه يتمها سفراً، وإن أحرم وهو حاضر ثم مضت السفينة فإنه يتمها حضراً كأنه حاضر.
فهذا وجه لبعض العلماء رحمة الله عليهم، وهم الظاهرية ومن يوافقهم من أهل الحديث.
الوجه الثاني -وهو للشافعية والحنابلة ومن وافقهم-: إذا أحرم وهو حاضر وتحركت السفينة فإنه يتمها أربع ركعات حضراً، لقاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، وهذه قاعدة شرعية حاصلها أنك إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فيه رخصة من الشرع فإن كنت تشك في كونك من أهل الرخصة رجعت إلى الأصل، فلو شككت في كونك من أهل الرخصة فتخفف الصلاة وتقصرها، أو لست من أهل الرخصة فتكون في حكم المقيم وتتمها، فالقاعدة أن تبني على أنك مقيم حتى تتحقق من كونك من أهل الرخص؛ لأن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.
وربما يعترض معترض ويقول أيضاً: قد أحرم بصلاته وهو حاضر، فمعنى ذلك أنه قد وجب عليه أن يصلي صلاة الحاضر.
وهذا هو أقوى الوجهين، فيتمها أربع ركعات، والسبب في هذا واضح، بل إن بعض العلماء يقول: إذا أذن المؤذن وأنت في داخل المدينة فإنك تعتد بالأذان، وهذا القول النفس إليه أميل؛ لأنه عندما أذن أذان الظهر قبل أن تخرج من المدينة فإنه قد توجه عليك الخطاب الشرعي أن تصلي أربع ركعات، ولم تسقط عنك الركعتان اللتان هما تمام الأربع، فلا تسقطان باحتمال وشك، وعلى هذا قالوا: إنه عندما أذن المؤذن وجبت عليه أربعاً، فيتم الصلاة ولو سافر بعد ذلك، فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأذان الصلاة، فإن أذن المؤذن وهو داخل المدينة صلى مقيماً، وإن أذن المؤذن بعد خروجه من المدينة صلى مسافراً.
والوجه الثاني يقول: العبرة عندي بالصلاة.
ويعتدُّ بالصلاة على حسب أحوالها، ومنهم من يعتد بتكبيرة الإحرام كما أشار إليه المصنف.
لكن أعدل هذه الأقوال أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل، وهذه القاعدة هي التي ذكر فيها المصنف هذه المسائل التي منها: أن تكبر تكبيرة الإحرام وأنت في المدينة، ثم تتحرك بك الدابة أو السيارة، فتبقى بقية الصلاة وأنت متلبس بصفة السفر فإنك تتمها صلاة مقيم.
(66/7)
________________________________________
الإحرام بالصلاة سفراً ثم دخول الحضر قبل تمامها
قال: [أو سفراً ثم أقام].
مثاله: لو كان في السفينة فكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يصل إلى الشاطئ والميناء، فلما كبر تكبيرة الإحرام، أو شرع في الفاتحة إذا بالسفينة قد رست، فإننا إن نظرنا إلى دخوله في الصلاة فإنه مسافر ويتم ركعة واحدة، وإن نظرنا إلى ما آل إليه أمره فإننا نقول: يتمها بثلاث ركعات، فقالوا: في هذه الحالة يجب عليه إتمامها صلاة حضر؛ لأننا شككنا في كونه يستبيح الرخصة، والأصل أنه واجب عليه أن يتم أربع ركعات، فيجب عليه أن يصلي أربع ركعات تامة، وهذا -كما ذكرت- وجهه أن من شك في الرخصة وجب عليه الرجوع إلى الأصل؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على صحة هذه القاعدة، ومن هذه الأدلة: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وهو إذا صلى في هذه الحالة ركعتين استراب؛ لأنه يشك هل الرخصة مطردة، أو ليست بمطردة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر طمأنينة والإثم ريبة)، فوصف الشيء الذي فيه براءة الذمة وكمال الطاعة في البر بأنه لا ريبة فيه، وبناء على ذلك قالوا: يخرج من الريب، خاصة في الصلاة التي هي عماد الدين، ولها حظها في الإسلام، فينبغي له أن يخرج منها بما يوجب براءة ذمته على الوجه المعتبر.
(66/8)
________________________________________
ذكر صلاة الحضر في السفر والعكس
قال: [أو ذكر صلاة حضر في سفر].
ذِكر صلاة الحضر في السفر، مثاله: أن يخرج من مكة بعد انتهاء وقت صلاة الظهر، ثم في الطريق تذكر أنه لم يصل الظهر، فيكون ذكر الحضرية؛ لأن وقت الظهر كان فيه مقيماً، فهو ذكر الحضرية -وهي الظهر- في السفر، فبعض العلماء يقول: إذا ذكر الحضرية في السفر فإنه يصليها كاملة؛ لأن الخطاب توجه عليه بإتمامها أربعاً، ولذلك يجب عليه أن يصليها صلاة حاضر، ولا عبرة بحاله أثناء الأداء، والعكس أيضاً لو ذكر سفرية في حضر، فلو أنه قدم المدينة وكان مسافراً ومضى عليه وقت العشاء ودخل الفجر فنسي أن يصلي العشاء، وصلى الفجر ثم وصل الصباح، ثم تذكر بعد أن وصل إلى بيته أنه لم يصل العشاء البارحة، فإنهم قالوا: إنه يصليها أربعاً؛ لأنه يشك في استباحة الرخصة، فيرجع إلى الأصل، على القاعدة التي قررناها وأشرنا إليها.
(66/9)
________________________________________
الائتمام بالمقيم
قال: [أو ائتم بمقيم].
وفيه حديث ابن عباس: (من السنة إذا صلى المسافر وراء المقيم أن يتم)، والمسافر إذا صلى وراء المقيم له صور: الصورة الأولى: أن يدخل معه في الصلاة من أولها، فهذا يتم صلاته، وعليه يتنزل ما ورد عن ابن عباس، وهو قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم).
الصورة الثانية: أن يدخل معه في الصلاة في أغلبها بحيث يتعذر عليه القصر، وصورة ذلك أن يدخل في الركعة الثانية من الظهر، فإنه في هذه الحالة يصعب عليه القصر، وكذلك أيضاً بالنسبة للركعة الثانية من العصر، أو الثانية من العشاء، فكل هذه يصعب عليه فيها أن يقصر، وإن كان هناك وجه ضعيف يقول: إذا دخل في الظهر يصلي وراءه، ثم يجلس بعد الركعة الثالثة للتشهد، وينتظر الإمام حتى يأتي بالرابعة ثم يتشهد مع الإمام ويسلم قياساً على صلاة الخوف، وهذا من أضعف الأقوال، وهو وجه شاذ عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
الصورة الثالثة: أن يدخل وراء المقيم موافقاً له في صفة صلاته، كأن يدخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الظهر، أو الركعتين الأخريين من العصر، أو الركعتين الأخريين من العشاء، فللعلماء فيه وجهان: فمنهم من قال: يتم.
وهذا مذهب الجمهور.
ومنهم من قال: إنه يقصر ويسلم؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، وهو مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وأحد الوجهين عند الشافعية، وهذا الوجه من القوة بمكان، فله أن يسلم مع الإمام؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، فإذا دخل ونوى القصر وسلم مع الإمام فلا حرج عليه.
الصورة الرابعة: أن يدخل وراء الإمام مدركاً ركعة واحدة، فهنا يضيف إليها ركعة، وقد قال به جمع من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فقالوا: إذا أدرك ركعة فإنه يضيف إليها ركعة ثانية ويسلم.
الصورة الأخيرة: أن لا يدرك شيئاً من الركعات، فيتمها صلاة سفرية، أي: يتمها ركعتين، وهذا إذا نوى وراء المقيم القصر، أما إذا لم ينو القصر فإنه بتمها صلاة حضرية وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
(66/10)
________________________________________
الائتمام بمن يشك في إقامته أو سفره
قال: [أو بمن يشك فيه].
هذا عند من يقول: إن المسافر وراء المقيم يتم، فإن المساجد في السفر لا تخلو من حالتين: الأولى: أن يكون لها غالب وظاهر حال.
الثانية: غالب ولا ظاهر حال.
فالجماعة أو المساجد التي لها غالب حال مثالها مساجد مكة، فإنه إذا دخل المسافر مكة فإن مساجد مكة ظاهر حال أهلها أنهم متمون، فحينئذٍ لا إشكال إذا دخل وراء إمامهم أنه ينوي الإتمام بدون أي شك، وليس هناك مجال للشك؛ لأن المسجد ظاهر حاله أنه مسجد إتمام، وكذلك الجماعة ظاهر حالها أنها متمة.
وأما ما لا يعرف لها ظاهر حال، حيث تكون في موضع وتشك في كون المصلين من أهل الموضع فمثاله ما يحدث في القرى، فإنك تدخل فترى جماعة فتشك في هذه الجماعة في كونها جماعة سفر فتنوي القصر وراءهم وتسلم معهم، أو أنها جماعة مقيمة فتدخل وراءهم ناوياً الإتمام، فقالوا: في هذه الحالة ينوي الإتمام ويتم الصلاة.
لكن هناك وجه عند بعض العلماء يخرج من الإشكال، وهو أنك إذا شككت تنوي وراءهم القصر، فإن كانوا مسافرين فلا إشكال، وإن كانوا غير مسافرين فإنه لا حرج في الإتمام بعد نية القصر، ولذلك يقولون: لا حرج فيه ويغتفر، وإنما يصعب أن ينتقل من الإتمام إلى القصر، أما أن ينتقل من القصر إلى الإتمام فإنه لا حرج فيه، والأمر واسع.
فإذا قلنا: يجوز أن تدخل وراء الإمام في الركعتين الأخيرتين وتسلم معه، ففي هذه الحالة إذا دخلت في صلاة الظهر ولا تدري هل الإمام المقيم في الركعتين الأخريين، أم في الركعتين الأوليين، فإنك تنوي القصر، فإن ظهر أنه في الأخيرتين سلمت معه وصحت نيتك، وإن ظهر أنه في الأوليين فإنك حينئذٍ تتم معه، وتنتقل من الأدنى إلى الأعلى ولا حرج، وإنما يحظر عليك أن تنتقل من الأعلى إلى الأدنى، كأن تنتقل من نية الإتمام إلى نية القصر، قالوا: لأنك إذا نويت الإتمام وجبت عليك أربعاً، وإن نويت القصر وجبت عليك اثنتان، فلا مانع أن تزيد على ما شرعت فيه الزيادة.
(66/11)
________________________________________
الإحرام بصلاة يلزمه إتمامها ثم بطلانها
قال: [أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها].
إذا كنت على سفر فدخلت وراء إمام يتم فإنه يلزمك إتمام الصلاة على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله، فإن دخلت وراءه وأصابك عذر يوجب انفصالك عنه أو خروجك من الصلاة وراءه فإنك تخرج، وحينئذٍ يرد

السؤال
هل يجب عليك أن تقضيها أربعاً، بناء على أنك حينما دخلت وشرعت تعين عليك بالخطاب الشرعي أربع ركعات؛ لأنك نويت الإتمام، فأصبحت ذمتك مشغولة في الصلاة بأربع ركعات، أم أن العبرة بحالك عند الأداء، فإنه وجب عليك أن تتم لما كنت مع هذا الإمام، ولما فارقته أصبح حكمك سارياً على الأصل؟ فمن العلماء من اختار الوجه الأول، وقال: إنه لما دخل وراء الإمام المقيم فقد ألزم ذمته بأربع ركعات، فإذا ألزم ذمته بأربع ركعات فإنه ليس عندنا دليل على إسقاطها، وهو وإن كان إنما يلزمه إتمامها مدة اتصاله بالإمام لكن الذمة انشغلت بالأربع الركعات.
ولذلك قالوا: يلزمه أن يتم.
ومن العلماء من اختار الوجه الثاني فقالوا: لزمه الإتمام حال متابعته لهذا الإمام، وقد بطلت فرجع إلى الأصل، وبناء على ذلك يكون الواجب عليه أن يصلي قصراً لا أن يتم.
ولا شك أنه لو احتاط فهو أفضل.
(66/12)
________________________________________
ترك نية القصر حال الصلاة والشك فيها
قال: [أو لم ينو القصر عند إحرامها].
إذا صلى مسافر وراء مسافر، ونوى القصر فلا إشكال، في أنه يقصر ويسلم معه وجهاً واحداً عند العلماء.
وإن صلى وراءه ولم ينو القصر ونوى الإتمام كأن يكون نسي أنه في سفر فنوى أن يتم أو ظن أن إمامه يتم فنوى الإتمام وراءه لزمه أن يتمها أربعاً.
قال: [أو شك في نيته].
إذا شك هل نوى القصر فيبقى على الركعتين، أم نوى الإتمام، فقد قالوا: يتم.
وإن كان الأقوى في هذه الحالة أن يبقى على الركعتين لأنهما هما الواجبتان في ذمته، وظاهر حاله أنه ينوي القصر فيرجع إلى تغليب الحال مع اعتضاده بالأصل، فتسقط عنه الركعتان، فإن احتاط بالإتمام فهو أفضل.
(66/13)
________________________________________
نية الإقامة فوق أربعة أيام
قال: [أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام].
هذه مسألة مبنية على وصف السفر إن قلنا: إن للسفر حداً معيناً، وإنَّ المسافر ينتهي إلى أمد يحكم فيه بكونه مقيماً، فالناس ثلاثة أقسام: القسم الأول: مسافر، وقد بينا حكمه.
والثاني: المقيم، ولا إشكال في حكمه.
والثالث: من هو في حكم المقيم، فهو مسافر في الأصل لكنه يأخذ حكم المقيم.
وهذا التقسيم مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم، فالسفر قد ينتقل الإنسان به إلى حكم المقيم، فيكون الإنسان مقيماً ومسافراً ومسافراً في حكم المقيم، والذي في حكم المقيم للعلماء فيه خلاف مشهور، وفيه أكثر من خمسة عشر قولاً بين العلماء رحمة الله عليهم في ضابطه، والسبب في ذلك اختلاف الأدلة، فالجمهور يقولون -من حيث الجملة- العبرة بأربعة أيام، ولا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج.
وتوضيح ذلك أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر وقصر الصلاة، والنصوص تدل على أن المقيم يجب عليه إتمام الصلاة، فأصبحت عندنا حالتان: حالة سفر، وحالة حضر.
فمن كان حاضراً فإنه يتم، ومن كان مسافراً فإنه يقصر، فجئنا ننظر إلى تأقيت السفر فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينقل المسافر عن كونه مسافراً إلى كونه مقيماً بالزمان، وذلك في حديث المهاجرين حينما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام، فإنه لما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام دل على أنهم في اليوم الرابع ينتقلون إلى حكم المقيم، وتوضيح ذلك أنهم تركوا مكة لله، والعلماء يقولون: من هاجر من بلد لله -كأهل مكة حينما هاجروا من مكة إلى المدينة- لا يجوز له أن يرجع إليها ويقيم فيها؛ لأنه لما هاجر عنها تركها لله عز وجل، ولذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا بمكة، وقال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ثم قال: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم خائبين).
ووجه الدلالة أن المهاجرين لا يبقون في مكة، وإذا كانوا لا يبقون بمكة فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الثلاثة الأيام دل على أنهم لو بقوا اليوم الرابع انتقلوا إلى حكم المقيم بمكة، وأكدوا هذا بأنه عليه الصلاة والسلام حينما قدم في حجته قدم لصبح رابعة، ثم انطلق في اليوم الثامن يوم التروية إلى منى، فدل هذا على أن أقصى ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام هذه المدة.
أما ما ورد عنه في تبوك فإنه كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم مدة إقامته، ونحن نتكلم على علم مدة الإقامة، أي: إذا علم المسافر مدة إقامته، فلما رخص للمهاجرين هذا القدر تحددت المدة.
أما إذا لم تعلم المدة كإنسان قدم مدينة لا يدري كم يمكث فيها لحاجة أو لغرض، فحينئذٍ يقصر الصلاة مدة جلوسه ولو جلس سنة كاملة، فإن أنساً رضي الله عنه مكث ستة أشهر -حينما حاصرهم الثلج في الفتوحات- يقصر الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، وحملوا عليه حديث تبوك، فإن غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى بني الأصفر يريد قتالهم فأرسل العيون، ومعلوم أنه إذا أرسلت عيون الجيش فربما بعد لحظة يأتي العين ويقول: إنهم على ماء كذا، كما هو معلوم، وربما يأتي بعد يوم، وربما يأتي بعد يومين أو بعد ثلاثة، فالأمر محتمل، ولا يدرى كم القدر، فجماهير العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إنه محمول على من جهل المدة وهذا واضح من ظاهر السنة؛ لأنه لما قدم إلى تبوك جهل مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، وليس هناك نص واضح أنه نوى إقامة مدة معينة، ولذلك قالوا: أرسل العيون على حسب الحال، فإن وجد حالاً يقتضي القتال بإخبار العيون تقدم، وإن لم يجد رجع عليه الصلاة والسلام، فمكث هذه المدة جاهلاً بالأمد، فقسموا حالة المسافر إلى حالتين: الحالة الأولى: أن يعلم مدة إقامته.
الحالة الثانية: أن لا يعلم مدة إقامته.
فإن لم يعلم مدة إقامته فإنه يقصر أبداً، ولو جلس سنة كاملة.
وإن علم مدة إقامته فحينئذٍ إما أن تكون دون أربعة أيام، وإما أن تكون أربعة أيام فأكثر، فإن كانت دون أربعة أيام قصر، وإن كانت فوق الأربعة الأيام فإنه يتم صلاته ويأخذ حكم المقيم.
(66/14)
________________________________________
المسافر الذي لا ينوي الإقامة ببلد
قال: [أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].
الملاح: هو صاحب السفينة، أو قبطان السفينة، فالشخص الذي يعمل في نقل الناس بين المدن، ويدمن السفر والرحلة، والذي تمضي عليه أيام متنقلاً بين المدن سواءٌ في بر أم بحر أم جو إذا لم يكن له مكان يستقر فيه ومعه أهله فإنهم قالوا: إنه يتم في كل موضع.
فهذا الملاح في كل مكان مقيم، وهذا مذهب طائفة من العلماء.
ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الملاح ومن في حكمه يأخذ حكم السفر على ظاهر حاله، وهو أقوى من جهة النصوص.
(66/15)
________________________________________
حكم سالك أبعد الطريقين ليقصر الصلاة، ومن تذكر صلاة سفرية في سفر
قال رحمه الله: [وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر].
قوله: [وإن كان له طريقان] مثاله: إنسان في قرية تبعد عن مكة ولها طريقان: طريق تبعد به مسافة القصر ثمانين كيلو متراً، وطريق تبعد به ستين كيلو متراً، فإننا إذا جئنا ننظر إلى الطريق الذي فيه ثمانون كيلو متراً نقول: من سلك هذا الطريق فهو مسافر، ومن سلك الطريق الذي هو ستون كيلو متراً فليس بمسافر.
وبناء على ذلك يقولون: إنه يأخذ حكم المسافر بالمسيرة، فإن سلك الطريق الذي هو طريق سفر فمسافر؛ لأن ظاهر السنة يدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن نهي المرأة أن تسافر بغير محرم: (أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، وهذا سافر مسيرة اليوم والليلة، ولذلك تنطبق عليه السنة، ويترخص برخص المسافر.
قوله: [أو ذكر صلاة سفر في آخر] أي: في سفر آخر، كأن تكون سافرت من المدينة إلى جدة أو إلى مكة، فلما رجعت تذكرت وأنت مسافر أنك البارحة لم تصل صلاة العشاء وهي سفرية، فإنه حينئذٍ تصليها صلاة سفر، سواءٌ أكان السفر اعتبارياً مع اتحاد الجهة، كأن تكون ذهبت إلى جدة ورجعت إلى المدينة، فالسفر واحد، فحينئذٍ لو نسيتها في ذهابك وتذكرتها في إيابك فهي في حكم السفر الواحد.
أم كان السفران مختلفين، كأن تكون سافرت من جدة إلى المدينة وأنت من أهل المدينة، فلما سافرت من جدة إلى المدينة نسيت صلاة العشاء وقد وجبت عليك في السفر، فجلست في المدينة إلى الضحى، ثم تحركت من المدينة في الضحى إلى القصيم، وفي طريقك للقصيم -بعد أن خرجت من المدينة- تذكرت أنك لم تصل صلاة العشاء البارحة، فإنك تصليها صلاة سفر، أي: تصلي ركعتين؛ لأنه في هذه الحالة لا يختلف الحكم.
قال رحمه الله تعالى: [وإن حبس ولم ينو الإقامة، أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة قصر أبداً].
هذا ما ذكرناه، فالشخص الذي لا يدري كم يمكث في مكان إقامته فإنه يصلي قصراً ولو طالت مدة إقامته؛ لظاهر حديث تبوك، فقد جلس النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة بتبوك، ولا حرج عليه في هذه الحالة أن يقصر ولو طالت مدة جلوسه.
(66/16)
________________________________________
الأسئلة
(66/17)
________________________________________
حكم القصر لمن يسافر ويعود في نفس اليوم

السؤال
إذا كانت المدة دون أربعة أيام، فهل يدخل تحتها لو سافر ورجع في غضون ساعات وكان سفره أكثر من مسافة قصر، كما هو الحال في من يعمل خارج منطقته ويرجع إليها في نفس اليوم؟

الجواب
من كان عنده عمل، أو كانت عنده مزرعة تبعد عن موضعه مسافة القصر، فخرج إليها في سويعات، أو خرج إليها أثناء النهار وعاد في نفس اليوم فإنه يترخص في طريقه، وذلك على ظاهر السنة لما ذكرناه من النصوص، فلو حضرته صلاة الظهر وهو في طريقه بين المنطقتين فإنه يقصر، لكن لو أنه -مثلاً- كان في مكة ومزرعته بعسفان، فخرج من مكة إلى عسفان ففي الطريق يقصر، وإن حضرته الصلاة وهو في مزرعته فإنه يتم، فيعتبر مكياً إن كان في مكة، ويعتبر أيضاً من أهل عسفان إذا نزل في مزرعته ووصل إليها، فيترخص في الطريق، ولكن لا يترخص في موضعه الذي تأهل فيه، أو كانت له فيه تجارة، أو كان له ملك، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حينما كان له مال بوادي الفرع، وكذلك زرعه بخيبر وزرعه بوادي ريم كما ذكرنا.
والله تعالى أعلم.
(66/18)
________________________________________
حكم الانتقال من نية الفرض إلى النافلة والعكس

السؤال
إذا كان يجوز أن ينتقل المسافر من نية القصر إلى نية الإتمام، فهل يجوز للمصلي أن ينتقل من صلاة الفرض إلى النفل والعكس؟

الجواب
أما انتقاله من صلاة الفرض إلى النفل فلا حرج فيه، كأن يكون دخل وراء شخص يريد أن يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الظهر، فإنه يقلبها إلى نافلة ويجزيه ويصح منه ذلك.
أما انتقاله من الأدنى إلى الأعلى فلا، كأن يحرم متنفلاً وراء إمام وهو يظن أنه قد صلى الظهر، ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه لا ينتقل من الأدنى -وهو النافلة- إلى الأعلى -وهو الفريضة- وحينئذٍ يبقى مع هذا الإمام بنية النافلة ويسلم، ثم بعد انتهائه يقيم ويصلي صلاة الظهر، فإن كان الوقت ضيقاً بحيث لو سلم مع الإمام خرج الوقت فإنه يلزمه أن يقطع صلاته وراء الإمام ولا يشتغل بالنفل، وعليه أداء الفرض إذا ضاق الوقت، وحينئذٍ يقطع صلاته، ثم يكبر وينوي وراءه نية الفرض.
والله تعالى أعلم.
(66/19)
________________________________________
حكم تسليم المسبوق المسافر مع الإمام

السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فكيف نوفق بين هذا، وقول من قالوا: إن المسافر إن أدرك الركعتين الأخريين مع الإمام اكتفى بهما إن نوى القصر؟

الجواب
لا حرج في كونه يصلي ركعتين مع الإمام، فإنه إذا سلم مع الإمام فقد ائتم بالإمام، الإمام سلم وهو سلم، فيكون قد صلى وراء الإمام، فكبر وراءه، وقرأ الإمام فأنصت، وركع فركع، وسجد فسجد، ثم قرأ التحيات، وسلم الإمام فسلم معه، فوجبت عليه ركعتان فصلاهما وراء الإمام سواء بسواء، فأين المخالفة؟ ولذلك ليس في هذا النص معارضة بينة، بل هذا حجة على مشروعية أن يصلي وراء الإمام ركعتين.
(66/20)
________________________________________
حكم القصر بين البلدين المتباعدين عند اتصال البنيان

السؤال
إذا كان السفر مسافة قصر، وكان البنيان متصلاً طوال الطريق حتى يصل المسافر إلى المدينة الأخرى التي يريدها، فهل يقصر الصلاة.
أم لا؟

الجواب
إذا اتصل البنيان بين موضعين، أو كان البنيان كثيراً بحيث كانت المسافة دون مسافة القصر فحينئذٍ لا يكون ذلك سفراً، فلو أن الذي بين مكة وعسفان انتشر فيه البنيان من جهة عسفان، أو انتشر فيه البنيان من جهة مكة حتى تقاصرت المسافة، وأصبح ما بينهما قدر خمسين كيلو متراً فإنه لا يعتبر سفراً؛ لأنه لا يعتبر مسافراً ظاهراً إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من عسفان، كما أنه ليس بمسافر إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من مكة، والذي يقطعه بينهما ليس مسيرة اليوم والليلة، فليس بمسافر من هذا الوجه، ولذلك تعتبر جدة في هذه الحالة دون مسافة القصر، وإن كانت في القديم مسافة قصر، وذلك لسعة العمران وامتداده، حتى تقاصرت المسافة عن مسافة القصر، أما لو خرج أهل جدة للحج فإنهم قاصدون لعرفة، فإنهم مسافرون ويشرع لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأن التقاصر الذي حصل في المسافة قد ازداد ببلوغ عرفات، فإنه تزيد المسافة حتى تصل إلى قدر السفر، وحينئذٍ يترخصون.
والله تعالى أعلم.
(66/21)
________________________________________
حكم إجابة النداء للمسافر النازل

السؤال
إذا كان سفري دون أربعة أيام، ولكنني أسمع النداء، فهل تلزمني صلاة الجماعة؟ المسافر إذا سمع النداء وهو نازل في المدينة التي هي غير مدينته اختلف العلماء رحمهم الله فيه: فقال جمع من أهل العلم: يجوز له أن يترك الجماعة، وأن يصلي إذا وجدت جماعة ثانية كرفقته في السفر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين حينما تركا صلاة الفجر في خيف منى، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يترك الجماعة إذا كان مسافراً.
وهذا هو أصح القولين وأولاهما بالصواب، فلا حرج على المسافر أن يترك الجماعة ولو سمع النداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، ولم ينكر عليهما، بل أذن لهما أن يصليا في رحالهما.
والله تعالى أعلم.
(66/22)
________________________________________
كيفية صلاة المسافر إذا وصل قبل خروج الوقت

السؤال
رجل كان على سفر، فلم يصل صلاة العشاء وهو مسافر، ودخل بلدته قبل خروج الوقت، فهل يصلي صلاة مسافر، أم يتم؟

الجواب
إذا كان الإنسان مسافراً وترك الصلاة الرباعية ودخل بلده، أو وصل إلى بلده قبل انتهاء وقتها فإنه يلزمه الإتمام، وذلك أنه لما أخر الصلاة خوطب بالصلاة في آخر وقتها، ولزمه الإتمام في قول جماهير العلماء رحمهم الله.
والله تعالى أعلم.
(66/23)
________________________________________
حكم صلاة المسافر خلف من يخالفه في النية

السؤال
إذا دخل المسافر على جماعة مقيمين فيما بين الأذان والإقامة لصلاة العصر وهو لم يصل الظهر، فهل يصلي الظهر، أم ينتظر الجماعة ويصلي معهم بنية الظهر؟

الجواب
يجوز للإنسان أن يصلي الظهر وراء من يصلي العصر، والعصر وراء من يصلي الظهر، فيصلي وراءهم في هذه الحالة لكي يدرك فضل الجماعة، ولو اختلفت نيته مع نيتهم؛ فإن حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه يدل على مشروعية صلاة الفرض وراء من يصلي الفرض مع اختلاف النية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، بشرط اتحاد صورة الصلاتين، فالظهر وراء العصر والعصر وراء الظهر قد اتحدت فيهما صورة الصلاتين، فلا حرج عليه في هذه الحالة أن يوقع الصلاة وراء الصلاة، لكن في مسألة الجمع منع العلماء رحمهم الله أن يصلي وراء هؤلاء جماعة ثم أقيم للثانية دخل معهم بنية العصر بعد أن صلى الظهر مع الجماعة الأولى، ويرون أن الجمع صورته مخصوصة بما ورد، وهذه الصورة تخالف ما ورد، فلا يصح جمعه على هذا الوجه.
والله تعالى أعلم.
(66/24)
________________________________________
حكم الصلاة إلى غير القبلة

السؤال
إذا صلى الإنسان في مكان لا يعرف اتجاه القبلة فيه، وبدأ في الصلاة، ثم مر به شخص يعرف القبلة فأدارها إلى اتجاهها، فما حكم الركعات التي صلاها في غير اتجاه القبلة؟

الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان الإنسان في موضع يمكنه أن يرجع إلى أهله، أو يعتمد دلائل البلد الذي هو فيه على القبلة وقصر في ذلك فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، فيلزمه أن يقطع صلاته وأن يستأنف الصلاة على الجهة الجديدة، بشرط أن تكون الجهة فرعيةً ينتقل بها من فرع إلى فرع، أما لو كان انحرافه قليلاً فإنه لا يؤثر إذا كانت الجهة هي الجهة.
مثال ذلك: أن يصلي إلى الجنوب منحرفاً انحرافاً لا ينصرف به من الجنوب المحض إلى الجنوب الفرعي الذي هو الجنوب الغربي، فإذا لم ينصرف من الجنوب المحض إلى الجنوب الغربي فهذا الانحراف لا يؤثر.
أما لو انحرف انحرافاً بيناً يخرجه من جهة إلى جهة فحينئذٍ إن قصر في السؤال والتحري فإن صلاته تعتبر باطلة، ويقطع الصلاة ويستأنف، وإن كان معذوراً حيث لم يجد من يدله، أو اجتهد بناء على عدم وجود من يدله فإنه حينئذٍ إذا حضر من هو أعلم، أو وجد من هو من أهل البلد أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى الأصل الذي هو العمل بقول هذا العالم، أو هذا الخبير، أو هذا الذي هو من أهل البلده ويتم بقية الصلاة ويعذر فيما مضى.
والله تعالى أعلم.
(66/25)
________________________________________
حكم دخول الجد لأم على الزوجة

السؤال
هل الجد لأم يكون محرماً لزوجة حفيده مثل الجد لأب؟

الجواب
الجد لأم يعتبر محرماً لزوجة حفيده، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فإن ابن البنت ابن لأبيها، فابن البنت يعتبر ابناً للجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، فجعله ابنه، وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن بنته الذي هو الحسن ابناً دل على أنه لا فرق بين الجد المتمحض بالذكور والجد المتمحض بالإناث والجد الذي جمع بين الذكور والإناث، فإنه في هذه الحالة تثبت له محرمية المصاهرة، فتصبح زوجة ابن بنته أو ابن ابنه محرماً له.
والله تعالى أعلم.
(66/26)
________________________________________
حكم استخدام حبوب منع الحمل

السؤال
هل يجوز أن تأخذ زوجتي ما يمنع الحمل، وذلك لأجل الراحة من الحمل مدة معينة، وتُمنع بعد ذلك؟

الجواب
لقد ذهبت البركة في كل شيء، حتى النساء ذهبت منهن البركة، وقد كانت المرأة في القديم تضع أربعة عشر ولداً وخمسة عشر ولداً ويضع الله فيها البركة، ويكون من الخير ما الله به عليم، والمرأة الآن تجدها تحمل بمشقة وعناء، وتذهب تلتمس الرخص وتلتمس الأعذار، وتتكلف في ذلك حتى تحرم الأمة من الخير الذي يكون في النسل والذرية، فلولا الأبناء والأولاد لما خرجنا إلى هذه الدنيا، ولو كنا ولدنا في هذا العصر لكان كثير منا لم يوجد، بسبب تعاطي هذه الحبوب التي تمنع الحمل -نسأل الله السلامة والعافية-.
فمن الأمور التي ينبغي تنبيه النساء عليها وتذكيرهن بالله عز وجل فيها أن الشرع يقصد تكثير النسل وتكثير سواد الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، وكأنه يقول: شرع لكم النكاح من أجل الولد، وتجد المرأة تتبع الرخص من هنا وهناك وتحتج بأنها تتعب، والله عز وجل شرّف الأم وأمر ببرها، وجعل لبرها ثلاثة أضعاف ما للأب، وقد قال تعالى عنها: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، فأخبر أن الحمل كره، وأخبر عن مريم ابنت عمران عليها السلام أنها لما جاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فهكذا الحمل، فكونها تتألم من الحمل أو تجد المشقة ليس بعذر لها أن تقطعه، ولا يرخص فيه، وإنما يكون العذر إذا خيف عليها الهلاك، وهي حالات مخصوصة ومعينة يقررها الأطباء، أما أن المرأة تأتي فتمنع الزوج من نسله وذريته حتى يضع الله البركة في هذا النسل وهذه الذرية، وتحرمه من هذا الخير فإنه أمر من الصعوبة بمكان.
وأصبح الرجال يسترسلون مع النساء، وأصبح النساء يتتبعن الرخص، وما يدري المرأة أن هذه الآلام وهذه المتاعب درجات لها في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.
وليس من عيب على امرأة جاهلة أن تفعل هذا، ولكن العيب أن تجد المرأة طالبة علم، أو تجدها من الصالحات القانتات الفاضلات وتجدها تتعاطى حبوب منع الحمل، فأين الإيمان بالله عز وجل وحب النسل والذرية، والصبر على النسل والذرية؟! وقد كان النساء يرعين الغنم في البادية على فطرتهن، فلا طبيب ولا مغيث ولا مجير إلا الله سبحانه وتعالى، وتجدها وهي ترعى بهائمها تضع ولدها، وليس معها أحد، ولا يعلم بحالها إلا الله سبحانه وتعالى، فتضع الولد ثم تنتقل به إلى بيتها، وهذا حدث لأكثر من امرأة، وكان مشهوراً معروفاً، لكن لما ضعفت عقائد الناس، وأصبح الإنسان ضعيف الإيمان بالله عز وجل -نسأل الله السلامة- محقت البركة حتى من النساء، فأصبحت المرأة تشتكي من القليل والكثير، فإذا كانت تشتكي بسبب الدراسة والتدريس فليس هذا هو الأصل، فالأصل أنها أم، والأصل أنها مربية، والأصل أنها أم للأطفال والأولاد، وأنها هي التي تقوم على هذا الأمر الذي شرّفها الله وكرمها به.
فلذلك لا ينبغي للنساء أن يبحثن عن هذه الرخص، ولا ينبغي للمرأة أن تقول: إنها تريد أن ترتاح من الحمل.
وما يدريك لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الولد الذي تفرين منه هذا العام من الذرية الصالحة.
وقد ذكروا عن امرأة أنها كانت تلد بنات، حتى ولدت تسع بنات متتابعات، فسئمت من البنات -وهذا الكلام قبل أكثر من مائة سنة، وهي قصة مشهورة عن أحد أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل-، وكانت بمكة، فأخذت دواء من العطار تتناوله في السَحَر -أي: في الصباح الباكر- قبل الأكل وقبل الشراب لأجل أن تسقط هذا الحمل العاشر؛ لأنها لا تريد البنات، وهي لا تحمل إلا بنات، فأرادت أن تسقط هذا الجنين، فلما أرادت أن تستعمل هذا الدواء سمعت صائحاً في الفجر يصيح ويقول: يا أرحم الراحمين.
فاقشعر بدنها، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى ليضع الله لها الخير في هذا الولد، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يكون ذكراً، وأن يكون من حفاظ كتاب الله، والله لقد أدركته -وكان من أصدقاء الوالد- من أفضل الناس ديانة واستقامة وطاعة لله عز وجل، فلو أنها تعاطت هذا الدواء فكم كانت ستحرم من الخير؟ وكم كانت ستحرم من الدعوات الصالحات؟ ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون قوية الإيمان بالله عز وجل، وأن تتوكل على الله، وأن يكون عندها حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث الصحيح: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ورؤي سلمان الفارسي بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت أفضل بعد الإيمان من حسن الظن بالله عز وجل.
والمرأة إذا أحسنت الظن بالله وقالت: أصبر وأتوكل على الله عز وجل.
فتح الله لها أبواب رحمته، وفي الحديث الصحيح: (من يصبر يصبره الله)، فتحس أن هذا الحمل كأنه يمر في ساعة، وكأنه طيف من الخيال والأحلام، ثم إذا بها يبارك لها الله عز وجل في هذه الذرية وهذا النسل، فلعله أن يذكرها بدعوة صالحة، وما يدريها لعل هذا النسل الذي تريد أن تمتنع منه يكون من أبر أولادها بها بعد مشيبها وكبرها، وما يدريها لعل الله أن يسخر لها بعد موتها بالدعوات الصالحات.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
(66/27)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [3]
الجمع بين الصلاتين مما أجازته الشريعة في أحوال خاصة تخفيفاً وتيسيراً على المكلفين، سواء بالتقديم أو التأخير، ولها أعذار موجبة للترخص بها كالسفر والمطر، ولكن يراعى فيها شروطها المعتبرة، ومفسداتها المبطلة للجمع، ونحوها من الأحكام.
(67/1)
________________________________________
الجمع بين الصلاتين
(67/2)
________________________________________
حكم الجمع بين الصلاتين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما].
هذا الفصل يتعلق بمسألة الجمع بين الصلاتين، والجمع بين الصلاتين رخصة رخص الله بها لعباده، تقع في الحضر وتقع في السفر، فقد يجمع الإنسان بين الصلاتين في سفره، وقد يجمع بين الصلاتين في حال حضره.
والجمع بين الصلاتين فيه خلاف مشهور بين العلماء: فمن أهل العلم من قال: يجوز الجمع مطلقاً.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة من حيث الجملة.
ومنهم من يقول: لا يجوز الجمع مطلقاً إلا في حالة الجمع في النسك، وذلك بتقديم الظهر مع العصر بعرفة، وتأخير المغرب مع العشاء بمزدلفة.
وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث: أن الجمع يجوز للمسافر إذا جدّ به السير.
وهو مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه، ويختاره بعض المحققين كـ ابن القيم وغيره رحمة الله على الجميع، فيقولون: تجمع إذا جدّ بك السير، فلو كنت تريد أن تسافر من مكة إلى المدينة، وخرجت من مكة قبل أن يؤذن الظهر، وأذن الظهر وأنت في الطريق تريد أن تكسب الوقت فلم تنزل للصلاة، حيث تريد أن تدرك حاجة بالمدينة، فحينئذٍ يقولون: يجوز لك أن تؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر؛ لأنه جدّ بك السير وأنت محتاج إلى الوقت فتجمع.
وهكذا إذا كان جمع تقديم، فلو خرجت من مكة ونزلت بقرية بين مكة والمدينة، ثم أردت أن تمشي بعد دخول وقت الظهر وتريد أن تكسب الوقت لوصول المدينة، فحينئذٍ تجمع في هذه القرية بين الظهر والعصر جمع تقديم، فهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: إذا جد به السر.
أي: إذا احتاج إلى الجمع لضرورة وحاجة، وهي كسب الوقت، فحينئذٍ يقولون: يجوز الجمع.
أما إذا لم تكن هناك حاجة أن تجمع وليس هناك جدّ سير فإنك تبقى على الأصل، ولا يجوز لك الجمع.
فهذا بالنسبة لمذهب من يقول بالتفصيل.
هناك مذاهب أخرى ضعيفة تفصّل في الجمع بين الصلاتين تفصيلات لا دليل لها من النصوص.
وهذه أشهر الأقوال في مسألة الجمع بين الصلاتين.
وهناك قول يقول: يجوز جمع التأخير ولا يجوز جمع التقديم.
فيرون أنه يرخص للإنسان أن يجمع جمع تأخير، ولا يرون له أن يجمع جمع التقديم.
والذي يظهر -والعلم عند الله- مشروعية الجمع، سواءٌ أكان جمع تقديم أم جمع تأخير، والسنة في ذلك صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- بين الظهر والعصر، وبين العشاءين: المغرب والعشاء، جمع جمع تقديم وجمع جمع تأخير.
أما الحديث في مسلم فإنه أطلق الجمع، وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين).
وأما بالنسبة لتفصيل الجمع فحديث معاذ ظاهر في ذلك، وقد حسنه غير واحد من الأئمة كـ الترمذي وغيره، فإنه قال: (كان إذا ارتحل -أي: عليه الصلاة والسلام- قبل أن تزول الشمس أخر الظهر فصلاها مع العصر، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً، وكان إذا ارتحل بعد أن تزول الشمس قدم العصر مع الظهر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل بعد أن تغيب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلاهما معاً)، وهذا يدل على مشروعية جمع التقديم وعلى مشروعية جمع التأخير.
وهذا القول الذي يقول بمشروعية الجمع مذهب الجمهور، وذكرنا أن هذا الحديث أصله في صحيح مسلم واضح، فيبقى الإشكال عندنا في القول الذي يقول: لا يجمع إلا إذا جدّ به السير، خاصة وأن الرواية عن معاذ: (كان إذا جدّ به السير)، وهي متكلم فيها، قالوا: ثم إن هذا يقويه النظر، فإن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، والجمع خارج عن الأصل، فلا يجوز إلا عند وجود الحاجة، فيقولون: إذا جدّ به السير جمع.
ويجاب عن هذا القول بحديث تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ولم يجدّ به سير؛ لأنه كان في خيمته وخبائه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن الجمع لا يشترط فيه جدّ السير، وبناء على ذلك يترجح قول من قال من الأئمة رحمة الله عليهم: إن الجمع بين الصلاتين مشروع، سواءٌ أكان يحتاجه لجدّ سير أم لغيره، وسواءٌ أقدم أم أخر، فلا حرج عليه في ذلك كله.
وقوله: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين].
الظهران: هما الظهر والعصر، كما يقال: العمران والقمران.
فكل ذلك من باب التغليب، والعشاءان: هما المغرب والعشاء.
وقوله: [يجوز] يدل على أنه ليس بواجب.
(67/3)
________________________________________
الجمع في عرفة ومزدلفة والحكمة منه
اختلف في الجمع في عرفة ومزدلفة، فقال جمع من العلماء والسلف رحمة الله عليهم بوجوبه ولزومه، خاصة وأنه مرتبط بالنسك.
وقد شرع الله الجمع تخفيفاً عن المسافر، وشرعه أيضاً للعبادة كما هو الحال في الحج، فإن الإنسان يوم عرفة أذن له أن يجمع بين الظهر والعصر حتى يكون الوقت للذكر والعبادة أطول ويتفرغ لذكر الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا صلى الظهر والعصر جمع تقديم كان الوقت لدعائه وذكره لله عز وجل أطول، وكان حظه من الخير أكثر، وهذا يدل على أنه ينبغي على الإنسان إذا انتهى من صلاة الظهر والعصر يوم عرفة أن يقبل على الله عز وجل، وأن يكثر من الدعاء والذكر لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما يفعله بعض الجهلة الذين لا يعرفون مقدار هذا المنسك العظيم وهو الوقوف بعرفة، فإنك تجد بعضهم ينام، ولربما يجلس بعضهم لفضول أحاديث الدنيا.
فانظر رحمك الله إلى عبادة يقدمها الله عن وقتها، ويشرع لعباده أن يقدموها عن وقتها المعتبر، كل ذلك تعظيماً للذكر والدعاء في هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج عرفة)، وأشرف شيء وأفضل شيء في يوم عرفة هي السويعات التي قبل مغيب الشمس ما بين انتهاء الصلاتين إلى مغيب الشمس، هذا أفضل ما يكون في يوم عرفة، حتى إن بعض العلماء يقول: أرجى الناس لفضل الله عز وجل من أعطي القوة على الذكر من بعد الصلاة إلى مغيب الشمس، والمحروم من حرم، ولذلك يقولون: إن الله لما شرع لعباده تقديم العصر عن وقتها وجب على العباد أن يتنبهوا لشرف هذا الموقف.
فهذا الجمع يقصد به المعونة على الذكر لشرف الموقف الذي يباهي الله عز وجل به ملائكته، مع أن الصلاة من أفضل الطاعات وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، وهذا كله يؤكد أن هذا الجمع قصد منه أن يتفرغ لذكر الله عز وجل، ولذلك يجمع أهل مكة، ولو كانوا مع الإمام فإنهم يجمعون، مع أنهم مقيمون وفي حكم المقيم، وبناء على ذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون هذا الجمع يقصد به الاستعانة في هذا الوقت على ذكر الله عز وجل والتفرغ للدعاء.
وأما الجمع ليلة المزدلفة فإنه يجمع بمجرد وصوله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ليرتاح بعد عناء الموقف، ووراءه المنسك الذي يكون بعد الفجر، وهذا الموقف أيضاً له فضله وله شرفه، فهو مشعر وله مكانته، حتى قال بعض السلف: شهدت هذا المكان أكثر من ستين عاماً أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد فردني إليه، وإني أستحيي أن أسأله هذه السنة، فمات من عامه، وكان من أئمة الحديث، فما رد الله دعاءه في هذا الموقف وهو موقف المشعر، فيقولون: إنه شرع أن يجمع بين المغرب والعشاء حتى يتقوى بنومه، فإذا استيقظ استطاع أن يقف للدعاء بنفس مرتاحة وصدر منشرح، فيقوى على الذكر والطاعة.
ولذلك كان الجمعان لقصد النسك، فلهما ارتباط بالنسك، ويؤكد هذا أنه لما قدم عليه الصلاة والسلام منى ما جمع بين الصلاتين، ولو كان الجمع للسفر، أو لشيء آخر منفك عن الحج لجمع في منى عليه الصلاة والسلام، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يخص هذين الموضعين بالجمع يدل على أن الجمع قصد به الاستعانة على الذكر والدعاء في هذين المشعرين العظيمين.
فلما قال: [يجوز] دل على أنه ليس بواجب، أي: يباح لك.
وهذه رخصة، فإن أخذت بها فلا حرج، وإن صليت كل صلاة في وقتها فإن ذلك هو الأصل ولا عتبى ولا حرج عليك، لكن لو أن الإنسان وجد المشقة والحرج في الصلاة لوقتها وإذا جمع وجد التيسير والراحة فإنهم قالوا: إنه ينبغي له أن يستعين برخص الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم برخص الله التي رخص لكم).
فمن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الصلاتين، خاصة إذا وجد ما يوجب الجمع.
فلما قال لنا رحمه الله: [يجوز الجمع]، فهمنا من ذلك أن رخصة الجمع ليست بواجبة ولا بلازمة، وأن المكلف مأذون له بذلك الفعل، فلا هو ملزم به ولا هو واجب عليه، وكذلك ليست بمحرمة ولا مكروهة، فالإذن بها إذن إباحة، بمعنى أنه يجوز له أن يفعل الجمع وأن يتركه، ولكن قال العلماء: إذا كانت هناك حاجة فالأفضل أن يجمع؛ لما فيه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فكونه يجمع تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وكذلك إذا قصد إحياء السنة، كأن يكون بين قوم يجهلون أحكام الجمع، فيحيي هذه السنة بينهم حتى يتعلموا، أو يكون معه طلاب علم وهو ليس بحاجة للجمع في طريقه ولكنه يجمع حتى يعلموا أحكام الجمع، فذلك مستحب له ومندوب.
[في وقت إحداهما في سفر قصر].
وقوله: [في وقت إحداهما] تضمن نوعين من أنواع الجمع: النوع الأول: ما يوصف بكونه جمع تقديم، وذلك بأن توقع الصلاة الثانية في وقت الصلاة الأولى، فتصلي العصر في وقت الظهر، وتصلي العشاء في وقت المغرب، فهذا هو جمع التقديم.
النوع الثاني: جمع التأخير، بأن تكون الصلاة الأولى في وقت الصلاة الثانية، فتؤخر الظهر وتصليها مع العصر، أو تؤخر المغرب وتصليها مع العشاء.
وليعلم أن الأصل في الصلوات أن تصلى كل صلاة في وقتها؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: محدداً.
وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة في مواقيتها، وقال للأعرابي لما صلى له في اليومين: (ما بين هذين وقت)، أي: ألزمه وقتاً للصلاة، فعندنا شيء يسمى: أصل، وشيء يسمى: رخصة، فالشيء الذي هو الأصل أن تصلى كل صلاة في وقتها، فالظهر يصلى في وقته، والعصر يصلى في وقته، والمغرب يصلى في وقته، والعشاء يصلى في وقته، ولكن لما جاء الإذن من الشرع بفعل الجمع كان رخصة من هذا الوجه.
(67/4)
________________________________________
أعذار الترخيص في الجمع بين الصلاتين
(67/5)
________________________________________
السفر
قال رحمه الله تعالى: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين في وقت إحداهما في سفر قصر] أي: محل الرخصة أن يكون الإنسان مسافراً سفر قصر، ولذلك لا يجمع الصحيح في غير السفر على ما اختاره المصنف رحمه الله وهو قول الجماهير، فالجمع من حيث الأصل يكون في السفر، وأما جمع المرض وجمع الخوف فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
ولذلك يجمع على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث معاذ، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر، وكلها في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر.
وسفر القصر ينقسم إلى أقسام: فإما أن يكون سفراً واجباً، وإما أن يكون سفراً مندوباً، وإما أن يكون سفراً مباحاً، فأنت إذا سافرت لحج فريضة فهذا سفر واجب تجمع فيه الصلاة، ويجوز لك أن تجمع قولاً واحداً عند من يقول بالجمع، وإذا سافرت إلى سفر مندوب وسفر طاعة وقربة مندوب إليها كعمرة النافلة، فإن هذا سفر مندوب، وتجمع فيه وجهاً واحداً لأهل العلم، ولكن إذا سافرت سفراً مباحاً كالتجارة وزيارة بعض أحبابك وإخوانك دون أن تكون بقصد القربة، فحينئذٍ اختلف العلماء: فجمهور من يقول بجواز الجمع يقول: لا فرق عندي بين أن يكون السفر سفر طاعة أو سفراً مباحاً.
وهناك من يقول من السلف: إن الجمع يختص بالسفر الذي هو سفر القربة والطاعة، أما لو سافر للتجارة، أو سافر لنزهة وسياحة، أو لصيد فإنه لا يجمع بين الصلاتين، كما يختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.
والصحيح أن كل سفر تقصر فيه الصلاة سواءٌ أكان واجباً أم مندوباً أم مباحاً، حل للإنسان أن يجمع الصلاة فيه.
(67/6)
________________________________________
المرض
[وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].
(وبين العشاءين لمطر يبل الثياب) هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع: المطر، وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين، وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين: كـ سعيد بن المسيب ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين على تفصيل عندهم، رحمة الله على الجميع.
القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر، وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية: لا يجمع في المطر، وهو قول إبراهيم النخعي وكذلك ابن سيرين، رحمة الله على الجميع.
أصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر، وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)، فلما قال: (مطر ولا سفر)، دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع كما أن السفر يوجب ذلك، وعلى هذا لو نزل المطر فمتى يجمع؟ الذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك، رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: (ولمطر بين العشاءين) أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر؛ والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء، والظاهرية استدلون بإطلاق ابن عباس: (من غير مطر ولا سفر)، قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواء كان بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء.
والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك: أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر موجوداً في ثيابهم وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي الصلاة في الرحال، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين أعني: المغرب والعشاء.
ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، فقالوا: فتبقى الظهر والعصر على الأصل ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب: أنه لا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.
ثم إذا جمّع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلاً، كما جاء عن أبان بن عثمان حينما أمّ وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه: كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة، قالوا: هذا أرفق بالناس.
فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم، هذا في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير، لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب، وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين، ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب، أي: يكون الجمع في وقت الأولى.
واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، فإذا كان جمع التأخير أرفق مثل: لو أن إنساناً خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه وأصابهم المطر على وجه المغرب ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فاختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء؛ للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة للمصلين.
(67/7)
________________________________________
المطر
قال رحمه الله تعالى: [وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].
هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع، وهو المطر، وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين.
وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، وفعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين كـ سعيد بن المسيب، ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء، قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين، على تفصيل عندهم رحمة الله على الجميع.
القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر.
وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية، وهو قول إبراهيم النخعي، وكذلك ابن سيرين رحمة الله على الجميع.
وأصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر، وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)، فلما قال: (مطر ولا سفر) دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع، كما أن السفر يوجب ذلك.
والذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان في الصلوات التي يجمع بينها: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء، كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: [وبين العشاءين لمطر.
] أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر.
والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص -وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم- أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء، والظاهرية استدلوا بإطلاق ابن عباس: (من غير مطر ولا سفر)، قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواءٌ أكان بين الظهر والعصر أم بين المغرب والعشاء.
والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر في ثيابهم، وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال)، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين، أعني المغرب والعشاء.
ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، فقالوا: تبقى الظهر والعصر على الأصل، ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب، فلا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.
ثم إذا جمّع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلاً، كما جاء عن أبان بن عثمان -حينما أمّ وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه- أنه كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة.
قالوا: هذا أرفق بالناس.
فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير، لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين، ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر، ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب، أي: يكون الجمع في وقت الأولى.
واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، كما لو أن إنساناً خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه، وأصابهم المطر وقت المغرب، ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فإن اختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة على المصلين.
(67/8)
________________________________________
الوحل والريح الشديدة
قال رحمه الله تعالى: [أو لوحل وريح شديدة باردة].
قوله: [أو لوحل] أي: أن ينقطع المطر ثم تبقى الأرض فيها الزلق والوحل، قالوا: فيجوز أن يجمع، وهذا في الحقيقة فيه خلاف، وإن كان قوّى غير واحد من الأئمة أن الوحل لا يوجب الجمع، وهو من القوة بمكان، لعدم ورود النص بالترخيص في مثله، وإنما رخص في المطر، وشرط المطر الذي يبيح للناس أن يجمعوا بين المغرب والعشاء أن يكون مطراً يبل الثياب، أما لو كان مطراً يسيراً أو خفيفاً فإنه لا يوجب الترخيص في الجمع.
وفي حكم المطر الثلج، ثم يفصل في الثلج مثلما يفصل في المطر، فإن كان الثلج يسيراً وخفيفاً لا يشق على الناس أن يصلوا كل صلاة في وقتها فلا جمع، وإن كان الثلج كثيراً ويؤذي الناس فإنهم يجمعون بين الصلاتين كالحال في المطر.
وقوله: [وريح شديدة باردة].
هذا قول بالقياس، وهو قول ضعيف.
والصحيح أن الريح الشديدة لا توجب الجمع بين الصلاتين، إعمالاً للأصول من النصوص الواردة في الكتاب والسنة بإلزام المكلف بإيقاع كل صلاة في وقتها، واستثني ما استثني من الجمع لورود النص، فلا يقوى القياس ولا الإلحاق.
قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى في بيته أو مسجد طريقه تحت ساباط].
إذا كان العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الناس يرخص لهم أن يجمعوا بين المغرب والعشاء لمكان المطر، فهذه الرخص التي تقع في المطر وفي السفر وفي المرض نظر الشرع فيها إلى غالب أحوال الناس، فأعطى الرخصة بغض النظر عن أفراد لا تتوفر فيهم معاني الرخصة، وتوضيح ذلك أن الأصل في السفر أن فيه مشقة، وأن فيه عناءً وتعباً ونصباً، فلو فرض أن إنساناً سافر ولم يجد عناءً ولا مشقةً ولا نصباً فلا نقول: يبقى على الأصل ولا يفطر ويبقى على موجب الإمساك والصيام، بل نقول: إن الرخصة هنا عامة من الشرع ولا يلتفت فيها إلى الأفراد، كأن الشرع قال: الغالب في السفر أن يكون فيه الضرر، فلا عبرة بالنادر؛ لأن الحكم للغالب، كذلك هنا -إذا قلت: إن المطر يوجب الترخيص- لأن الناس إذا مضوا إلى المسجد تضرروا، فلو فرضنا أن المسجد طريقه مظلل، أو كان الإنسان قريباً من المسجد، أو بيوت الناس كلها تطل على المسجد، فليس هناك وحل، وليس هناك ضرر ببلة الثياب، فهل نقول: لا يجمعون؟ قال بعض العلماء: العبرة عندي بوجود موجب الرخصة، أي: الوصف العام وهو وجود المطر، بغض النظر عن كونه يتضرر أو لا يتضرر، وبغض النظر عن كون طريقه تحت الساباط الذي هو المظلات التي هي مثل ما يكون تحت البيوت، أو الذي يكون ملصقاً بالبيوت يقي الناس الشمس ويقيهم المطر، فيقول: العبرة عندي بوجود المطر، بغض النظر عن كونهم تضرروا أو لم يتضرروا، كالحال الآن، حيث يمكنه أن يركب سيارته ويمضي إلى المسجد فلا يبتل له ثوب ولا يتضرر، قالوا: لا نلتفت إلى هذا؛ لأن الحكم للغالب والنادر لا حكم له.
وهذا أصل في الرخص، فيقولون: ننظر إلى الأصل، وكون بعض الأفراد يتخلف فيهم المعنى الذي هو موجب الرخصة لا نلتفت إليهم، ولذلك لو اعترض عليك معترض وقال: كيف تقولون بالفطر والإنسان قد يسافر في طائرة وقد يسافر في سيارة وهو مستريح؟ تقول له: أذن الله بالفطر في السفر؛ لأن الغالب فيه وجود المشقة، وكون النادر في بعض العصور وفي بعض الأزمنة لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تلتفت إلى عصر دون عصر، ولكن إذا اختلفت العصور فإنك تنظر إلى الغالب، وبناء على ذلك فالغالب أنه إذا نزل المطر تضرر الناس، فكون بعض الناس يكون طريقهم إلى المسجد لا مضرة فيه ولا مشقة لا يلتفت إليه، ويبقى على الأصل من موجب الرخصة.
(67/9)
________________________________________
مسائل في الجمع بين الصلاتين
(67/10)
________________________________________
الأفضل من جمع التأخير أو التقديم
قال رحمه الله تعالى: [والأفضل فعل الأرفق به من تأخير أو تقديم].
الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجمع لسفر أو مرض أو مطر أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن يقدم قدم، وإن كان الأرفق به أن يؤخر أخر؛ لأنها رخصة وسعة، وقد استحب بعض العلماء أن يجمع جمع التأخير، قالوا: لأن جمع التأخير لا خلاف فيه عند من يقول بمشروعية الجمع، ولكن جمع التقديم فيه خلاف، وجمع التأخير تقع فيه الصلاة الثانية وقد دخل وقتها؛ لأنها تقع بعد حكم الشرع بفعلها، ولكن جمع التقديم تكون فيه الصلاة الثانية في غير وقتها، ولذلك قالوا: الأفضل أن يراعي جمع التأخير.
فهذا مذهب بعض العلماء، وهو تفضيل جمع التأخير على جمع التقديم.
والصحيح أن الإنسان ينظر إلى الأرفق؛ لأن الله وسع على عباده بالجمع، فليس لنا أن نحد حداً معيناً، وإنما نقول: ما دام أن الله وسع عليك فإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تقديم فافعل، وإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تأخير فافعل، والدليل على ذلك السنة، فقد روي أنس رضي الله عنه -كما في الصحيح-، وكذلك مثله حديث معاذ في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -يعني: قبل أن تزول- أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما معاً، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معاً)، فقوله: (كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس) يلاحظ فيه أنه إذا ركب قبل أن تزول الشمس وقبل أن يدخل وقت الأولى فالأرفق أن يؤخر، وقوله كذلك: (وكان إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى وقت الظهر فصلاهما معاً)، فدل على أن الأفضل للمكلف أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن ينزل ويصلي في أول الوقت نزل وصلى، وإن كان الأرفق أن يؤخر أخر.
فلو أنك خرجت من مكة تريد المدينة وأذّن للظهر وأنت تريد حاجة وقت العصر، فإنك إن نزلت وصليت ربما تأخرت عن حاجتك، فإذا شئت نزلت وجمعت جمع التقديم ولا حرج، لكن لكون التأخير أفضل لك حتى تدرك الوقت وتحصل جد السير فحينئذٍ تجمع جمع تأخير ولا حرج، والعكس بالعكس أيضاً، فلو أن إنساناً أذن عليه الأذان بعد أن خرج من مكة ويريد أن يقف لزاد ونحو ذلك، فقال: ما دمت أني واقف فالأفضل أن أصلي الصلاتين فصلاهما حتى يكسب الوقت فلا حرج، فلا يقيد الناس ولا يلزمون بتقديم ولا بتأخير.
(67/11)
________________________________________
النية في الجمع بين الصلاتين
قال رحمه الله تعالى: [فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها].
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فإذا أردت أن تجمع فيشترط أن تنوي الجمع في وقت أولاهما، فتكون النية أن تجمع الثانية إلى الأولى، وعلى هذا فإذا نويت كان لك الجمع، وأما إذا لم تنو فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى الجمع كان له، ومن لم ينو لم يكن له.
وقالت طائفة من العلماء: النية ليست بشرط للجمع، ويجوز له أن يجمع ولو لم ينو.
(67/12)
________________________________________
مبطلات الجمع بين الصلاتين
قال رحمه الله تعالى: [ولا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما].
قوله: [ولا يفرق بينهما] يعني: لا يفرق بين الظهر والعصر، ولا بين المغرب والعشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفاصل بين الصلاتين قليلاً، فلما صلى عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء ليلة النحر بمزدلفة تركهم بقدر ما يحط الإنسان رحله، ولذلك قالوا: بقدر ما يتوضأ الإنسان ويفرغ من وضوئه.
وهذا هو الهدي، يقولون: لأن الجمع بين الصلاتين جعل الصلاتين قد صارتا بمثابة الصلاة الواحدة، فلا تدخل بينهما راتبة، ولا تدخل بينهما فاصلاً مؤثراً، كمن ينام نوماً يفصل بين الصلاتين به، أو كشغل يخرج به عن الصلاة، قالوا: فإذا وقع الفاصل فإنه لا جمع، وحينئذٍ يصلي الثانية في وقتها ولا يجمع جمع التقديم.
قوله: [ويبطل براتبة بينهما].
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن بين المغرب والعشاء، فقال: (ولم يسبح على إثر واحدة منهما) كما في الصحيحين، فدل على أنه لا يصلي الراتبة بينهما.
قال رحمه الله تعالى: [وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى].
هذا في المطر، فلو أن الإنسان أراد أن يجمع في المطر بين المغرب والعشاء، فيشترط عند تكبيرة الإحرام أن يكون المطر موجوداً، فيكبر للمغرب والمطر موجود، ويسلم من المغرب والمطر موجود، وحينئذٍ يقيم ويصلي العشاء ويكبر ويكون المطر موجوداً، فلو أنه كبر للمغرب والمطر موجود، ثم بعد ذلك انقطع المطر، فسلم والمطر منقطع، فحينئذٍ لا يجمع؛ لأن موجب الرخصة غير موجود، وينتظر إلى دخول وقت الثانية، لكن لو أنه كبر ثم انقطع المطر بعد تكبيره حتى كان في الركعة الثالثة، فنزل المطر فسلم والمطر ينزل، فأقام وكبر للعشاء والمطر لا زال نازلاً، ثم بعد ذلك انقطع قبل سلامه من العشاء صح فعله وأجزأه.
وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سلم من العشاء والمطر موجود.
وهذا على مسألة: (هل العبرة بالابتداء، أو العبرة بالانتهاء) كمسألة من تيمم ثم رأى الماء أثناء الصلاة، فإن قلنا: العبرة بإحرامه مضت له الرخصة ولا يقطع، وإن قلنا: العبرة بسلامه -وهو أحوط ورجحناه في التيمم- فإنه حينئذٍ لا يعتد بجمعه.
(67/13)
________________________________________
اشتراط النية قبل الجمع بين الصلاتين وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية
قال رحمه الله تعالى: [وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى إن لم يضق عن فعلها واستمر العذر إلى دخول وقت الثانية].
إذا كان الإنسان يريد أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر، أو المغرب إلى وقت العشاء فإنه ينوي عند تأخيره أن يجمع، أما إذا لم ينو فإنه حينئذٍ تخرج عليه الصلاة الأولى، فيكون كأنه ترك الصلاة الأولى، فتعتبر صلاة قضاء لا صلاة جمع، والدليل على ما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛ لأن من ترك الصلاة الأولى حتى دخل وقت الصلاة الثانية لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون معذوراً لنسيان أو نوم ونحو وذلك.
الثانية: أن يكون غير معذور.
فلما لم ينو الجمع دخل في حكم غير المعذور، وبقيت صلاته قضاءً لا جمعاً.
وقوله: [واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية] بمعنى أنه يستمر المطر إلى دخول وقت الثانية، وهكذا السفر، فلو أن جماعة خرجوا لتدريس ونحو ذلك مسافة مائة كيلو، ثم رجعوا بعد انتهاء التدريس وأرادوا أن يجمعوا بين الظهر والعصر -لأنهم إذا دخلوا مكة سيكونون في عناء السفر ومشقة السفر، وقد يصعب عليهم أن يصلوا بعد التعب أو يكون عندهم من الخشوع ما يستحضرون به الصلاة- فنقول: فيه تفصيل: فإن كان دخولهم إلى مكة بعد دخول وقت الثانية فحينئذٍ يصح جمعهم؛ لأن العذر استمر إلى دخول وقت الثانية وهم مسافرون، فترخصوا برخصة لوجود موجبها، وأما لو دخلوا قبل أذان العصر فحينئذٍ لا يعتد بجمعهم، وعليهم أن يصلوا ثم بعد ذلك يرتاحون، فلو شق عليهم أن ينتظروا الجماعة نقول: امضوا إلى بيوتكم وصلوا؛ لأن الإنسان إذا شق عليه حضور الجماعة وانتظار ثلث الساعة أو نصفها الذي بين الأذان والإقامة بحيث يشق عليه فحينئذٍ يجوز له أن يقيم وأن يصلي العصر، ويكون ممن رخص له في الجماعة، كما تقدم معنا في أعذار ترك الجماعة.
(67/14)
________________________________________
الأسئلة
(67/15)
________________________________________
الجمع الصوري بين الصلاتين

السؤال
هل قال بعض العلماء رحمهم الله بأن حديث ابن عباس محمول على الجمع الصوري؟ وما هو الجمع الصوري وحكمه؟

الجواب
حديث ابن عباس حمل على الجمع الصوري عند الجمهور، وهناك من روى الحديث عن ابن عباس فقال: أراد أن يؤخر الظهر إلى قرب وقت العصر فيصلي الظهر فيدخل وقت العصر ويصليها.
وهذا أصح الأقوال.
والحقيقة أن حديث ابن عباس نفسه في صحيح مسلم يؤكد هذا، فـ ابن عباس كان أميراً على الكوفة، ثم خطب الناس في يوم في الظهر، فكانت خطبته طويلة؛ لأن الخطبة في مصالح المسلمين فيها توجيه ويصعب قطعها، فما زال يخطب، فقام له أعرابي وقال: الصلاة.
فسكت عنه ابن عباس واستمر في خطبته، فقام له مرة ثانية وقال: الصلاة.
فسكت عنه، فقام المرة الثالثة وقال: الصلاة، فقال له: (أتعلمنا بالصلاة لا أم لك؟! جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مطر ولا سفر)، فقالوا: إن ابن عباس أخر الظهر إلى آخره، فلما أقام وصلى الظهر دخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، مع أن الأصل يقتضي أن يصلي الظهر في أول وقتها، فهذا وجه الرفق، وهذا وجه دفع الحرج؛ لأن الناس بدل أن يخرجوا للظهر ويرجعوا إلى بيوتهم، ثم يرجعوا إلى العصر ويرجعوا مرة ثانية إلى بيوتهم سهل عليهم بأن يصلوا الصلاتين بخروج واحد ورجوع واحد، وهذا هو وجه قوله: (أراد أن لا يحرج أمته)؛ لأن الأصل يقتضي أن تصلى الصلاة لوقتها، وهذا في الحقيقة هو أقوى الأقوال وأولاها بالصواب، خاصة وأن من روى عن ابن عباس فسره بذلك وقال: أراه ذلك.
وأيضاً عندنا قاعدة، وهذه القاعدة تدل عليها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للصحابة: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) قالت طائفة: النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل، فنبقى على الأصل، فنصلي العصر في وقتها.
وقالت طائفة: نبقى على ظاهر اللفظ.
فلما علم بالطائفتين أخبر أن الذين صلوا في الوقت أصابوا السنة؛ لأنهم نظروا إلى أن الأصل في الصلاة أن تصلى في وقتها، ونظروا إلى أن الحديث: (لا تصلو العصر إلا في بني قريظة) محتمل بين أن يكون للاستعجال وأن يكون على ظاهره، فردوا الأمر إلى أصله فقال: (أصابت السنة)، فالرجوع إلى الأصل هو إصابة للسنة.
فكان عندنا الأصل أن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
ولو قلنا بالجمع بدون حاجة فمعنى ذلك أن الظهر والعصر صار وقتهما واحداً، فحينما تجمع لعذر وغير عذر تصير الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة، وبناء على ذلك سنلغي الأصل بناء على هذا الحديث، فتلغى نصوص الكتاب، وتلغى أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، لكن حينما تبقي أحاديث المواقيت على دلالتها وآيات المواقيت على دلالتها وتقول: الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ومعنى: (أن لا يحرج أمته) على ظاهره تكون جامعاً بين النصوص، والجمع بين النصوص أولى من العمل ببعضها وترك الآخر، والنفس تميل إلى هذا.
يقول العلماء: لو أن شيخاً أو عالماً عنده أمر مهم، أو كان الناس عندهم موضوع مهم لا يستطيعون أن يقطعوه، وهم يتشاورون في أمره فلهم أن يؤخروا الصلاة، فيجلسون يتحدثون حتى يقضوا هذا الأمر وينتهوا منه ويفرغوا منه، ثم يقيمون للصلاة الأولى التي هي الظهر، ثم بعد ذلك يقيمون للعصر ويصلونها، وهكذا المغرب والعشاء، وكل ذلك تيسير من الله عز وجل ولطف بعباده.
(67/16)
________________________________________
العبرة بنية الجمع حال الائتمام

السؤال
إذا دخل الرجل مع إمام يريد أن يجمع ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة الأولى، فهل يحق له الجمع ونية الإمام نية النفل، أم لا يحق له ذلك؟

الجواب
النية معتبرة بالمأموم، فكل مأموم على حده، فإن نوى صح جمعه عند من يقول باشتراط النية، وإن لم ينو لم يصح جمعه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(67/17)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة الخوف
من رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم أنه لم يكلفهم بأداء الصلاة كما هي إذا كان في حال خوف وفزع، بل شرع لهم صلاة الخوف المتضمنة للتيسير والتخفيف، ولها عدة صفات كلها جائزة وصحيحة، وسواء كان الخوف خوف قتال، أو خوفاً من غيره.
(68/1)
________________________________________
أحكام صلاة الخوف
(68/2)
________________________________________
سبب مشروعيتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفات كلها جائزة].
صلاة الخوف: هي صلاة القتال، وهذه الصلاة شرعها الله في كتابه، وكذلك شرعت بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وقال بها جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع، حتى ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله أن لها ثماني عشرة صفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي اشتهر في المرويات -كما أشار إليه الإمام أحمد - سبع صفات وردت عن النبي صلى لله عليه وسلم.
والسبب في صلاة الخوف: أنه لما التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين وكان المشركون يومها بعسفان -كما في حديث أبي عياش الزرقي -، وأصل الحديث في الصحيح عن جابر رضي الله عنه- وكان على المشركين يومها خالد بن الوليد، فصلى المسلمون صلاة الظهر، فلم ينتبه المشركون لغفلة المسلمين فقالوا: لقد أصبنا منهم غرة لو أنّا قتلناهم، فقال بعضهم لبعض: انتظروا فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أهليهم وأولادهم.
وهذا يدل على ما كان لصلاة العصر من مكانة في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فأوحى الله إلى نبيه، وشرعت صلاة الخوف.
(68/3)
________________________________________
صفات صلاة الخوف
صلاة الخوف على صفات، لكن سنذكر منها المشروع: الصفة الأولى: أن يقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيكون الجيش صفين: الصف الأول يلي الإمام، والثاني من بعده، ويصلون وهم حاملون للسلاح، فتقام الصلاة وكل واحد معه سلاحه الذي لا يزعجه في صلاته، كالسلاح الذي يدفع به العدو ولا يمنعه من الركوع والسجود، ولا يمنعه من أداء أركان الصلوات: وقد اختلف العلماء في حكم حملة سلاحه، فقال بعضهم: يجب عليهم أن يأخذوا السلاح لظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، فأمر سبحانه وتعالى بأخذ الحذر بأخذ السلاح، وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102]، فكونه يأمر بأخذ السلاح يدل على الوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة، وهو أقوى القولين، أنهم يأخذون السلاح.
فعند انقسام الجيش إلى صفين تقام الصلاة فيصلي الإمام الركعة الأولى، فإذا ركع الإمام ركع معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفاً، ثم بعد أن ينتهي من الركوع يرفع معه الصف الأول ثم يسجد السجدتين الأوليين من الركعة الأولى والصف الثاني قائم، وهذا وجه في هذه الصفة.
الوجه الثاني وهو الأقوى: أنه يركع الركعة الأولى ويرفع، فإذا رفع الصف الأول ركع الصف الثاني، وينتظر الإمام بعد الركوع بقدر ما يرفع الصف الثاني، ثم بعد ذلك يهوي للسجود الصف الأول ويبقى الصف الثاني في وجه العدو، فإذا سجد الصف الأول مع الإمام السجدتين قام الإمام بهم، فإذا استتم قائماً نزل الصف الثاني وسجد السجدتين، ثم بعد انتهائه من السجود يقوم فيتقدم الصف الثاني إلى مكان الصف الأول، ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فإذا رجع ركع الصف الثاني معه في نفس الركعة الثانية، وبقي الصف الأول الذي كان أولاً وأصبح ثانياً واقفاً في وجه العدو، وهذا من باب العدل، فإذا صلى بهم يعدل بين الطائفتين، فلا يفضل إحداهما على الأخرى، فإذا ركع ورفع ركعت الطائفة التي تليها ثم رفعت، ثم ينزل للسجود وهم وقوف، فإذا سجد السجدتين وجلس للتشهد نزلت الطائفة الثانية وسجدت؛ لأنه في التشهد يكون الصف الأول منتبهاً للعدو، فتسجد الطائفة الثانية ويتشهد بالجميع ويسلم، فهذه الصفة الأولى، وهي التي وردت في حديث عسفان؛ لأنه في عسفان كان المشركون جهة القبلة، فهذه الصفة في حالة أن يكون العدو في جهة القبلة.
وهذه الصفة الأولى جاءت في حديث أبي عياش الزرقي، وأصلها في الصحيح.
الصفة الثانية: وردت في حديث ابن عمر في الصحيحين، وهي مما اتفق عليه البخاري ومسلم، والظاهر -كما يقول جمع من العلماء-: أنها إذا كان العدو في غير القبلة، فلو كان العدو في الظهر والقبلة في الأمام فإنه يقسمهم طائفتين، فيأمر طائفة أن تحرس في وجه العدو، ويأخذ طائفة ويصلي بهم ركعة، فإذا انتهى من الركعة وسجد السجدة الثانية وقام للركعة الثانية انصرفت هذه الطائفة ولم تسلم وكأنها في غير صلاة، فتنصرف وتقف في وجه العدو وهي في صلاة، ويطول الإمام في القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية، فتأتي هذه الطائفة الثانية وتكبر تكبيرة الإحرام وتصف معه ويصلي بهم الركعة الأولى، فإذا انتهى الإمام من هذه الركعة وسجد السجدتين فإنها الثانية بالنسبة له، فيجلس للتشهد فتقوم هذه الطائفة الثانية وتنصرف إلى العدو مثل ما انصرفت الطائفة الأولى، ثم يتشهد الإمام لوحده ويسلم، فترجع الطائفة الأولى وتصلي الركعة الثانية قضاءً، وتكون صلاتهم فرادى، فكلٌ يصلي لوحده ركعة فيتم صلاته، ثم يتشهدون ويسلمون، ثم يرجعون إلى وجه العدو، فتأتي الطائفة الثانية وتصلي أيضاً ركعة كما صلت هذه وينصرفون إلى وجه العدو، فهذه هي الصفة الثانية التي اشتمل عليها حديث عبد الله بن عمر.
الصفة الثالثة: أن يقسمهم الإمام قسمين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين تامتين ويسلم ويسلمون معه، ثم يقيم مرة ثانية ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين ويسلم بهم، وهذه واضحة لا إشكال فيها، وغاية ما فيها أن الإمام يصلي الصلاة الثانية نافلة ومن وراءه مفترضون.
الصفة الرابعة: هي مثل الصفة الثالثة، إلا أن الإمام لا يسلم، فيصلي ويتشهد التشهد الأول ويترك الطائفة الأولى تتم التشهد وتسلم وتنصرف وهو في التشهد، ثم للعلماء وجهان في هذه الصفة: قال بعض العلماء: يثبت في التشهد حتى يحس بالطائفة الثانية، فإذا أحس بالطائفة الثانية يقوم ويكبر، ولا يكبر إلا بعد حضورها.
فهذا وجه.
الوجه الثاني: تبقى معه الطائفة الأولى، فإذا قال: (الله أكبر) قائماً للثالثة سلموا وقام هو وقرأ الفاتحة وأطال في ذكر الله عز وجل حتى تأتي الطائفة الثانية، فهذا بالنسبة إذا جمع وصارت له أربع ركعات.
الصفة الخامسة: هي صفة حديث ابن عباس، وكانت في غزوة ذي قرد، وحديث ابن عباس مشكل عند العلماء، لكن أجاب عنه جمع من الأئمة، فحديث ابن عباس مثل حديث ابن عمر، وهو أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعة فتنصرف إلى العدو وتجزيها عن الركعة الثانية، ويصلي بالطائفة الثانية ركعة وتجزيها عن صلاتها كلها، ولكن هذا الوجه ضعيف على الصحيح.
الصفة الأخيرة: أن يصلي بسهم ركعة ثم يتمون بأنفسهم، ثم يصلي الركعة الثانية بالطائفة الثانية وتتم لنفسها فيتشهد بها ويسلم.
فهذه ست صفات في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الست الصفات قد تصل إلى اثنتي عشرة صفة، فنفس هذه الست تجعلها في صلاة السفر والحضر، ففي السفر يصلي ركعة، وفي الحضر يصلي ركعتين فتصير اثنتي عشرة، صفة، ثم إذا أدخلت صفات المغرب فيها قد تصل إلى ثماني عشرة صورة، فهذا بالنسبة لصلاة الخوف، وهذا أشهر ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أدائها.
(68/4)
________________________________________
حكم صلاة الخوف
صلاة الخوف شرعها الله عز وجل في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وعلى حكمة التشريع، وعلى كمال علم الله سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحلمه بعباده سبحانه وتعالى، فلو أن المسلم كان مطالباً أثناء القتال بفعل الصلاة كما هي لحصل في ذلك من الحرج ما الله به عليم.
وهذه الصلاة مشروعة في قول جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما خالف أبو يوسف رحمه الله وقال: صلاة الخوف لا تشرع إلا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)) [النساء:102]، قال: فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قد تطرأ أمور من التشريع في الصلاة ففيه معنى ليس في غيره.
والصحيح أنها تشرع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وكما أن موجب الترخيص موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك موجود في غير زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة، وأجمع الجماهير على مشروعيتها، وأنه يشرع فعلها على الصفات التي ذكرنا.
(68/5)
________________________________________
تفصيل صفات صلاة الخوف حضراً وسفراً
صلاة الخوف إما أن يكون العدو في وقتها في وجه القبلة، وإما أن يكون في غير القبلة، وإما أن تكون الصلاة سفرية، وإما أن تكون حضرية، وإما أن تكون الصلاة تقصر، وإما أن تكون الصلاة لا تقصر.
فإذا كان العدو في وجه القبلة فإن القول بأنه يقسم الجيش إلى قسمين أو إلى طائفتين أولى وأحرى، فيقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيصلي بالطائفة الأولى وينزل بهم ويركع ويسجد، ثم بعد ذلك يرتفع، فتنزل الطائفة الثانية وتصلي وتتم على الصفة الأولى التي ذكرناها، وإن شاء في حال وقوفه في وجه العدو -إن رأى أنه الأرفق بهم- صلى لوحده ركعة كاملة، ويثبت عند قيامه للركعة الثانية، فتقوم الطائفة الأولى وتتم لنفسها، ثم بعد ذلك تتشهد وتسلم، وتأتي الطائفة الثانية وتصلي الركعة التي بعدها.
وإذا قلنا: إنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعتين فلا إشكال إذا كانوا في جهة القبلة، وإذا صلى بهم وسلم من الركعتين الأوليين وصلى بعد ذلك الركعتين الأخريين نافلة فلا إشكال.
فكونه يصلي بالطائفتين معاً، فتسجد معه الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، أو كونه يصلي بهم ركعتين ركعتين سواء أسلم أم لم يسلم، فكل هذه الصور لا إشكال فيها، وهذا إذا كان العدو في جهة القبلة، وهي أيسر الأحوال.
وإذا كان العدو في جهة القبلة والصلاة حضرية، فإنهم قالوا: يفعل مثلما يفعل في السفرية، فإن شاء جعلها رباعية مجزأة، وإن شاء جزَّأها ركعتين ركعتين، لكن الأولى أن يجزأها على صفة صلاة السفر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم الركعة الأولى، ثم يركع بالصف الأول ويسجد، ثم يرفع فيسجد الصف الثاني، ثم بعد انتهائه من الركعة الأولى يدخل الصف الثاني مكان الصف الأول ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فيتم بهم الركعة الثانية، ويكون قد عدل بين الطائفتين فيتشهد، فينزل الصف الثاني ويسجد ويتشهد معه، ثم يقوم بهم إلى الركعة الثالثة فيتقدم الصف المتأخر مكان المتقدم كالحال في صلاة القصر، ويتم ذلك بنفس الترتيب، لكن بدل أن يفعلها ركعتين يفعلها أربع ركعات على نفس التقسيم ونفس الصورة.
وإذا كانت الصلاة حضرية وقلنا إنه لا يسلم، فإنهم قالوا: يبقى على صفة الصلاة التي يسلم فيها من أربع ركعات، فيصلي بالطائفة الأولى أربع ركعات، ثم يصلي بالطائفة الثانية أربع ركعات، إعمالاً للأصل الموجود في صفة صلاة السفر.
وهكذا الحال بالنسبة لما لو كان العدو في غير جهة القبلة، فأقوى الأقوال إذا كان العدو في غير جهة القبلة أنه يقسم الجيش إلى طائفتين، فيبدأ بالطائفة الأولى ويصلي ركعة كاملة، فإذا قام للركعة الثانية وهم وراءه نووا مفارقته كأنهم فرادى، ويتمون لأنفسهم وينصرفون جهة العدو، ويطوّل الإمام في قراءة الركعة الثانية، فتنصرف الطائفة الأولى بعد انتهاء الركعة التي كانت عليها بمثابة الإتمام إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فتدرك الإمام قد طول في الركعة الثانية وتدخل معه، فإذا انتهى الإمام وركع ورفع وسجد السجدتين يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد فإن هذه الطائفة تقوم وتتم لنفسها، ويطول الإمام في التشهد، ثم تدركه في التشهد فيتشهد بهم ويسلم، فهذا بالنسبة لما إذا كان العدو في غير وجه القبلة.
(68/6)
________________________________________
كيفية الصلاة عند هجوم العدو
المصلون صلاة الخوف في أثناء الصلاة لا يخلون من حالتين: الحالة الأولى: أن تمضي الأمور على سلم وارتفاق، أي: لا يوجد ما يسوء أو يضر.
الحالة الثانية: أن يهجم العدو، فإن هجم العدو عليهم وهم في الصلاة فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون هجومه يمكن دفعه بالطائفة التي وقفت بإزائه، كأن يكون العدد كافياً لصد العدو، فيبقى الأولون في صلاتهم ولا يشتغلون بالعدو.
وإما أن يخشى أو يغلب على الظن أنهم لا يقدرون على العدو فحينئذٍ ينصرفون من صلاتهم ويقاتلونه.
وهم في صلاتهم، فيصلون رجالاً وركباناً وهم يضربون بالسلاح، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فيكبر ويقرأ الفاتحة وهو يضرب العدو، سواء أكان إلى غير القبلة أم إلى القبلة، فهذه رخصة من الله عز وجل وسماحة، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة أمر الصلاة، فإنهم في حالة الخوف والخشية على الأنفس ومع ذلك فإن الله عظّم هذه الشعيرة وأمر أن تؤدى، ولذلك عظّم السلف الصالح رحمهم الله الصلاة، وكانوا يستشهدون على تعظيم الله لها بأن الإنسان لا يعذر في تركها حتى في حال المسايفة والمقاتلة.
(68/7)
________________________________________
كيفية صلاة الخوف في العصر الحديث
إذا عرفنا صفة صلاة الخوف في القديم، فكيف تصلى صلاة الخوف في العصر الحديث؟ أما صلاة الخوف في العصر الحديث فإن العصر الحديث لا يمكن معه في بعض الأحوال أن يفارق الإنسان موضعه، بل إنه لو كان على بعض الأجهزة وغفل طرفة عين فربما يدخل العدو من هذه الثغرة، فالأمر جد خطير، وقد يكون في آلة لا يستطيع أن يفارقها، وقد يكون في خندق لو رفع رأسه يقتل.
فكل إنسان في ثغره وفي موضعه إذا لم يمكنه أن يتحرك بقيام ولا بركوع ولا بسجود، ولم يمكنه أن يؤدي الصلاة على صفتها، فإنه يصلي على أيسر ما يكون، وعلى أقل ما يستطيع من طاقة، وحينئذٍ لو كان في خندقه يضرب العدو فإنه يكبر ويركع ويسجد ولو بالذكر، فإذا كان على سلاحه في وجه العدو كأن يكون مراقباً، بحيث لو غفل لحظة ربما هجم العدو، كما هو موجود في بعض الآلات التي ترصد العدو، فلو كان يراقب بهذه الآلة ولا يمكن أن يفارقها في وقت الصلاة، إذ ربما أنه لو غفل عنها لحظة تدمرت أمة كما هو موجود الآن، فيرخص لمثل هذا أن يصلي ولو كانت عينه على الجهاز، ولو كان يضرب، ولو كان يحرك أصابعه، فيذكر الله عز وجل، فيقول: الله أكبر، ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ويقرأ ذكره وورده على ما هو عليه، ويصلي بالانتقال، كالحال في العاجز عن القيام والركوع والسجود، وذلك متى ما كان الوقت لا يسمح، ولا يمكن لغيره أن يكون في موضعه.
وهكذا لو كان داخل الآلات كالدبابات ونحوها فإنه يصلي بداخلها، سواء أكان على قبلة أم على غير القبلة، خاصة في حال الهجوم، أو حال دفع الهجوم، فإنها -كما يسميها العلماء- حالة المسايفة، وفي حالة المسايفة قرر العلماء رحمهم الله في القديم أنه يصلي على حالته وهو يضرب بالسيف، فلا فرق بين أن يضرب بسيفه، أو برشاشه، أو بمدفعه، أو بقنابله، كل ذلك سائغ؛ لأن المراد المحافظة على النفس والنكاية بالعدو، فيصلي على حالته بشرط أن لا يمكنه إلا ذلك، وبشرط أن يكون وقت الصلاة لا يسع إلا لهذا، أما لو أمكنه أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يصلي على صفتها فيلزمه ذلك ويجب عليه.
(68/8)
________________________________________
حمل السلاح في صلاة الخوف
[ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه].
مذهب الجمهور أن حمل السلاح للطائفة الأولى والثانية مستحب.
والصحيح والأقوى هو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ويقول به جمع من الفقهاء، وهو أن حمل السلاح واجب؛ لأن الغالب أن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى نبه على هذا، ولما ورد الأمر بأخذ السلاح وحمل السلاح فالأصل في هذا الأمر أن يبقى على ظاهره حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، ولذلك لا بد من حمل السلاح، وحمل أقل ما يدفع به العدو من رشاش، أو نحو ذلك من الأسلحة التي يمكن أن يدفع بها العدو لو هجم عليهم، وهكذا لو كان الموضع الذي يصلي فيه يوضع فيه من الآلات والأجهزة ما يمكن به الدفع عند مباغتة العدو، فبعض الأجهزة الآن لا يمكن حملها على جسد الإنسان، كالرشاش الكبير أو نحو ذلك، فيمكن أن يصلي وهو بجواره، بحيث لو دهم العدو يدفعه، أما أن يتركه في موضعه ويتباعد عنه فإن هذا يخالف نص القرآن لقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، فليس من الحذر أن يترك الإنسان سلاحه ومع غلبة الظن بأن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، فليس من الحذر ذلك، فكونه يأمر بحمل السلاح ثم يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، يدل دلالة واضحة على أن الأمر بحمل السلاح على الوجوب، وهذا من القوة بمكان.
(68/9)
________________________________________
حكم صلاة الخوف في القتال المحرم، وحكمها لطائفة من الجيش
ذكر المصنف صلاة الخوف، لكن هذه الصلاة لا تشرع إلا بشرط أن يكون القتال مشروعاً، أما لو كان القتال محرماً فلا، فإن الرخص لا تستباح بالمحرمات، فلو كان القتال قتال بغي، كأن يخرج إنسان باغٍ على المسلمين، أو معتدٍ على المسلمين، أو مفارق جماعة المسلمين -والعياذ بالله-، فمثله لا تشرع في حقه صلاة الخوف.
ثم إن صلاة الخوف لا يشترط فيها أن يصليها كل الجيش، فلو أن طائفة صلت صحت صلاتهم، ولو أن طائفة من المسلمين نزلوا في موضع وطلبهم عدو فإنهم في حكم الجيش، فإذا كانوا ستة أنفار فإنه يقسمهم إلى قسمين: ثلاثة في وجه العدو وثلاثة يصلون معه، ولو كانوا أربعة فإنه يقسمهم، فتكون اثنان في وجه العدو واثنان معه، وقيل: لا يكون المصلون أقل من أربعة، لقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102]، ولكن قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] خرج مخرج الغالب في قتال العدو، وهو أنه لا يكون عددهم أقل من الطائفة، وهي من الثلاثة إلى العشرة.
ولذلك قالوا: أقل ما تنقسم عليه الصفوف ثلاثة.
وعلى هذا فكأنهم يقولون: صلاة الخوف لا تشرع لأقل من ستة؛ لأنه لا يمكن قسمهم إلى صفين، ولكن إذا كانوا ثلاثة ثلاثة فيمكن أن يكونوا طائفة مع الإمام.
والصحيح أنه يمكن أن تكون صلاة الخوف بناء على وجود الوصف الغالب، والقاعدة أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه.
فذكر الطائفة هنا خرج مخرج الغالب، فلو فرضنا أن سبعة خرجوا في مهمة في أرض العدو ثم حضرتهم الصلاة، فإنه يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف.
ولا يشترط في صلاة الخوف أن يصليها الجيش بعامته، بل لو كان بعض الجيش على ثغر من الثغور وعددهم عشرة أو اثنا عشر، فيمكن أن يصلوا صلاة الخوف بهذه الصفة، فلا يشترط فيها أن يصليها الجيش بكماله.
(68/10)
________________________________________
حكم صلاة الخوف في غير خوف القتال
في حكم الخوف في القتال الخوف بغير القتال الذي يكون في الغزوات وغزو الجيوش، فلو كان إنسان مطلوباً من إنسان آخر يريد أن يأخذه، أو أن قوماً بغاة أو قطاع طريق هجموا على طائفة من المسلمين، فإن هؤلاء المظلومين من هؤلاء الذين هجموا عليهم يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فلا يشترط أن يكون في جهاد الدفع أو جهاد الطلب، بل حتى إذا خشي الإنسان على نفسه فإنه يصليها.
وهنا مسألة، وهي صلاة المطلوب، ومثالها: طلبك عدوك وأنت على دابتك، فلو نزلت تصلي أدركك العدو وغلب على ظنك أنك تهلك، فهذه المسألة اختلف فيها العلماء.
والمطلوب هو الذي طلب بالظلم، أما لو طلب بحق فلا، فالمطلوب: هو الذي يخشى على نفسه لو نزل وصلى الصلاة على صفتها في الأرض أن يدرك، فأصح الأقوال في المطلوب أنه يصلي على حالته، فلو كان على سيارة فإنه يصلي ويومئ على قدر ما يستطيع، ولو كان على فرس أو على بعير فإنه يصلي ويومئ على قدر حالته، وهكذا لو فر بقدميه فلو توقف فسيدركه العدو، فإنه يصلي وهو يعدو على حالته، وهكذا لو فر على سيارته، أو فر على دابته، وهذا كله من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده، فالحمد لله على سعة رحمته، والحمد لله الذي جعل هذا الدين دين تيسير لا دين تعسير، وجعل فيه من الخير والرحمة واليسر على عباده، فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(68/11)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [1]
يوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع، ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وقد شرع الله صلاة الجمعة وفرضها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوبها، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.
(69/1)
________________________________________
أحكام صلاة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجمعة].
الجمعة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد الانفراد.
وسميت الجمعة جمعة لأجل اجتماع الناس، وذلك أن الناس يجتمعون للخطبة والصلاة، فوصفت هذه الصلاة بهذا الوصف لاشتمالها على اجتماع الناس.
وقيل: لأن الله عز وجل جمع في هذا اليوم خلق آدم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيه خلق آدم).
وقيل: لاجتماع الخلق فيه بخلق آدم.
وقيل: سميت (جمعة) اسماً إسلامياً، ولم يكن ذلك معروفاً في الجاهلية، وذلك أن هذا اليوم كانوا يسمونه يوم العروبة، ثم إن الإسلام سماه باسم يوم الجمعة وهذا هو الصحيح، فلم يكن اسماً جاهلياً وإنما سمي في عصر الإسلام.
وهذا اليوم هو أفضل أيام الأسبوع، وهو خير أيام الأسبوع، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عز وجل عليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وما من يوم جمعة يصبح العباد فيه إلا وكل دابة مصيخة -أي: مستمعة- تخاف أن تقوم الساعة، ولذلك عظم الله شأن هذا اليوم، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الأيام.
وقد اختلف العلماء في خير الأيام: فقال بعض أهل العلم: خير الأيام هو يوم الجمعة.
وقال بعض العلماء: خير الأيام هو يوم عرفة.
وهذان قولان مشهوران للعلماء، فمنهم من يقول: يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة.
ومنهم من يقول: يوم عرفة أفضل من يوم الجمعة.
وفائدة هذا الخلاف تظهر فميا لو أن إنساناً قال: لله عليَّ أن أعتق عبدي في أفضل أيامه فمن يقول: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام يقول: إنه يقوم بفعل الطاعة في هذا اليوم ويجزيه، ومن يقول: إن يوم عرفة هو أفضل يقول: لا يخرج من نذره ولا تبرأ ذمته إلا بالعتق يوم عرفة.
وأصح الأقوال عند المحققين أن التفضيل نسبي، فيكون يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام العام، وذلك أن الله اختار فكان الاختيار نسبياً، فإن نظر إلى أيام الأسبوع المتكررة فإن أفضل شيء هو يوم الجمعة، على ظاهر النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة إلى العام كله فخيرها وأفضلها يوم عرفة، وهذا التفضيل النسبي فيه جمع بين النصوص، وذلك أن تفضيل كلا اليومين قد خرج من مشكاة واحدة، ولا شك أن الوحي بريء من التعارض، ولذلك يجمع بهذا الجمع، فيقال بتفضيل الجمعة بالنسبة للأسبوع، وبتفضيل يوم عرفة بالنسبة للعام كله.
وقد شرع الله الجمعة وفرضها، ودلّت الأدلة على هذه الفرضية، كما في دليل الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوب الجمعة، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.
أما دليل الكتاب على وجوبها فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فإن قوله تعالى: (فاسعوا) أمر، والأمر دال على الوجوب، فأمر سبحانه وتعالى بالمضي إلى الجمعة، فدل على لزومها وأنها من فروض الأعيان.
كذلك أيضاً ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي دلت على وجوبها، ومن أقوى ما ورد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم -وفي رواية: أو ليختمن الله على قلوبهم- ثم ليكونن من الغافلين)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أنه توعد من ترك الجمعة وتخلف عنها، وهذا يدل على حرمة تركها من غير عذر، وإذا كان تركها من غير عذر حراماً، فإن هذا يدل على وجوبها؛ لأن الوعيد إنما يأتي على ترك الواجب أو فعل المحرم.
وانعقد الإجماع على وجوب الجمعة ولزومها، وهذا على تفصيل سنذكره، فهناك من تلزمه وهناك من لا تلزمه إذا وجد العذر لسقوط الوجوب عنه.
والجمعة يوم فضله الله وشرفه، وقد شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، وفضلها وشرفها بدلالتها على هذا اليوم، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إننا السابقون، وإن أهل الكتاب تبع لنا)، فأضل الله اليهود والنصارى عن هذا اليوم المفضل المكرم المشرف المعظم، وهدى إليه أمة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فأصبحت بهذه المنزلة العظيمة حيث شرّفها الله بهذا اليوم الذي فيه الفضائل العظيمة، حتى ذكر بعض العلماء أن هناك ما يقرب من مائة فضيلة تخص هذا اليوم، فاليهود ضلوا عنه فأصابوا يوم السبت ولم يصيبوا الجمعة، والنصارى ضلوا عنه فأصابوا يوم الأحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (اليهود غداً والنصارى بعد غد)، وهذا يدل على فضل هذا اليوم، وتفضيل الأمة باختياره لها واختيارها لهذا اليوم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فالناس في يوم الجمعة يجتمعون لكي يعرف المسلم إخوانه، وينظر أحوالهم، ويتفقد أمورهم، وقبل ذلك يجتمعون في كل يوم على خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فيجتمعون في أحيائهم، ثم إذا كان يوم الجمعة تداعى الناس من أطراف المدينة، فنظر المسلم إلى إخوانه الذين يعيشون معه في بلدته ومدينته، فإن كان غنياً عطف على الفقراء والضعفاء والمحتاجين وواساهم، وكذلك تنبه لإخوانه المرضى والمنكوبين فزارهم وعادهم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة لكي يشعروا بألفة الإسلام ومودته ومحبته، ويشعر الناس أنهم أمة واحدة بهذا الدين الذي جمع بينهم على اختلاف أحسابهم وأنسابهم وأقطارهم وألوانهم، وكل ذلك من الله سبحانه وتعالى بحكم عظيمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها، فليس هذا الاجتماع يراد به أداء الصلوات مجردة عن هذا الشعور الإسلامي النبيل الذي يحس به المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد يشد من أزره ويعضده ويناصره ويؤازره ويتعاون معه على الخير.
(69/2)
________________________________________
بيان من تجب عليهم صلاة الجمعة
قال رحمه الله تعالى: [تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم].
أي: تجب الجمعة على كل ذكر.
وقلنا: إن اللزوم والوجوب دليله دليل الكتاب والسنة والإجماع.
وقوله: [ذكر] خرج به الأنثى، فالجمعة لا تلزم الأنثى، إذ قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة، ولكن لو حضرت المرأة الجمعة فإنها تصح منها ولذلك تعتبر النساء من الطائفة الذين لا تلزمهم الجمعة، ولكن إذا حضرنها صحت منهن، ولذلك قالوا: إن النساء لا تلزمهن الجمعة ولا الجماعات، فلا تلزمهن الصلوات الخمس جماعة، وكذلك لا تلزمهن الجمعة.
وقوله: [حر].
خرج به العبد، فالعبد لا تلزمه الجمعة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وخالف داود الظاهري فقال بوجوبها ولزومها على العبد، ووافقه الإمام أحمد في رواية، وقالا: إن العبد يجب عليه أن يشهد الجمعة؛ لأنها فرض عيني فاستوى هو والحر.
وقد جاء في سقوط الجمعة عن العبد حديث عن طارق بن شهاب، وهذا الحديث تكلّم العلماء رحمهم الله على سنده؛ لأن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الرواة تكلم فيهم، وتسامح بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فيه؛ لأنه وإن كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صحابي؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فهو صحابي، ويكون حديثه أشبه ما يكون بمرسل الصحابي، وقد دل هذا الحديث على سقوط الجمعة عن العبد والمريض والمسافر والمرأة، فقالوا: إن العبد لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، والله أمره بأن يكون في خدمة سيده، فلذلك لا تجب عليه الجمعة.
والقول بوجوبها على العموم من القوة بمكان، إلا إذا وجد ما يشهد للحديث بالصحة فلا إشكال.
قوله: [مكلف].
التكليف شرطه البلوغ والعقل، فلا نقول للصبي صلِّ الجمعة على سبيل الإلزام، فلا تلزمه الجمعة ولا تنعقد به، والمجنون لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وسنبين معنى الانعقاد.
وأما بالنسبة للصبي فإنها لا تنعقد به ولا تلزمه، ولكن تصح منه إن فعلها، وهذا إذا كان مميزاً لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فدل على أن الصبي لو صلى صحت صلاته وكانت معتبرة، ولكن لا تجب عليه.
فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فالمجانين لا يطالبون بشهود الجمعة، وكذلك الصبيان، ولكن يؤمر الصبيان في قول بعض العلماء بشهود يوم الجمعة أمر تعليم وإرشاد، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر الصبيان بالصلاة، ولم يفرِّق بين الجمعة وغيرها، فلذلك يأمر الوالد ولده إذا بلغ سبع سنين أن يشهد الجمعة ولا يلزمه بها، ثم إذا بلغ العاشرة فإنه يضربه إن تخلف عنها.
والتكليف -كما قلنا- شرطه البلوغ والعقل، ولا يحصل التكليف باختلال أحد الشرطين، وقد نظمها من قال: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر فقوله: مع البلوغ بدم أو حمل أي: علامة البلوغ دم المرأة إذا حاضت، والحمل يعتبر دليلاً على كونها بالغة.
وقوله: أو بمن أراد به الاحتلام لظاهر حديث علي رضي الله عنه.
وقوله: (أو بإنبات الشعر).
أي: يعتبر البلوغ: بإنبات الشعر كذلك، وأصح الأقوال أن الإنبات يعتبر دليلاً على البلوغ، أي: ظهور شعر العارضين، وشعر العانة، وشعر الإبط على خلاف فيه.
وقوله: أو بثمانية عشر حولاً ظهر الصحيح أن سن البلوغ خمسة عشر، وثمانية عشر هو مذهب المالكية والحنفية في الذكور، وسبعة عشر في الإناث، وأما عند الشافعية والحنابلة فخمسة عشر، وهو الصحيح لحديث ابن عمر.
والحاصل أن الإنسان غير مكلف ومأمور بالجمعة أمر إلزام من جهة التكليف إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، فلما قال: (مكلفٍ) أشار إلى هذين الشرطين.
وقوله: [مسلم].
خرج به الكافر، والكافر مختلف فيه، فمن يقول: إنه غير مخاطب بفروع الإسلام يقول: لا تلزمه حتى يسلم.
ومن يقول: إنه مخاطب بفروع الإسلام يرى أن الكافر ممن تلزمه الجمعة ولا تصح منه.
قوله: [مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق].
أي: تلزمه الجمعة إذا كان مستوطناً ببناء، والسبب في ذلك أن الأصل في المكلف أن يصلي صلاة الظهر، فإذا انتقل عن هذا الأصل إلى صلاة الجمعة ركعتين فكأننا بالجمعة نسقط عنه التكليف بالركعتين الأخريين، فلا نسقطها إلا على الصفة التي وردت عليها الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في دليل أن الجمعة يصليها غير المستوطن، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر وزال عنه وصف الإقامة والاستيطان لم يجمِّع صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا على أن الاستيطان شرط، وهناك أحاديث ضعيفة في اشتراط الاستيطان في الجامع، والصحيح أن هذا الاستيطان منتزع من صورة الأصل، ولذلك يقولون: لا تصح الجمعة لغير المستوطنين.
وبناء عليه فأهل البادية الذين يرحلون للمرعى، والذين إذا نزل المطر في موضع ينتقلون إليه ولا يثبتون في مكان، بل ينتقلون على حسب المراعي لا تجب عليهم الجمعة، ولا نلزمهم بها؛ لأنهم غير مستوطنين في موضعهم، ولو استوطنوا صيفاً فإنهم يرتحلون شتاءً، ولو استوطنوا شتاءً فإنهم يرتحلون صيفاً، ولو استوطنوا ربيعاً فإنهم يرتحلون في الخريف، وهكذا، فليسوا بمستوطنين، والاستيطان -كما ذكر المصنف- إنما يعتبر إذا كان ببناء وكانت فيه الجوامع، كالمدن والقرى العامرة، فهذا لا إشكال فيه، أما لو كانوا غير مستوطنين كأهل العمود والخيام فإنه لا يحكم بوجوب الجمعة عليهم، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا في البادية أن يجمِّعوا، فدلّ على أن الجمعة إنما تكون لأهل الجوامع والأمصار والمدن والقرى ونحوها.
قوله: [اسمه واحد ولو تفرق].
أي: يكون هذا البناء اسمه واحد ولو تفرقت بيوت أهله، فبعض المدن تكون فيها المحلات وقد تتباين وتتباعد، لكنها في حكم المدينة الواحدة واسمها واحد، ولو تفرق البنيان بأن تكون في منطقة خمسة بيوت، وفي أخرى خمسة بيوت، وخمسة بيوت في منطقة أخرى، ونحو ذلك لكنها في حكم المدينة الواحدة، فإنهم يعتبرون كالمستوطنين في الجامع، وتجب عليهم الجمعة.
قوله: [ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ].
أي: من شروط إلزام المكلف بالجمعة ألا يكون بين المكلف وبين المسجد الذي فيه الجمعة أكثر من فرسخ، والسبب في ذلك أن الجمعة إنما تجب بسماع النداء، والنداء يسمع في حدود فرسخ إذا كان في زمن ليس بشديد الحر، ولا تتحرك فيه الرياح كالحال في الفجر.
ويقوِّي هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الصحابة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وكذلك من ضواحي المدينة كالعوالي، وهي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال أو أربعة، على حسب قرب المزارع ودنوها من المدينة، فهي في حدود الفرسخ، والفرسخ، ثلاثة أميال، كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع ولفرسخ فثلاثة أميال ضعوا فالفرسخ ثلاثة أميال، وهذا القدر إنما هو نسبي تقريبي، فمن كان في هذه المسافة فإنه يسمع النداء وتلزمه، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً عن المصر أو عن الجامع بهذا القدر يلزمه أن يصلي الجمعة، أما لو كان -مثلاً- على بعد سبعة كيلو مترات فما فوق فإن هذا لا تجب عليه الجمعة، ولكن يصلي ظهراً، فإن نزل وجمَّع فلا حرج فمثل هذا يقال فيه: لا تلزمه، وإن حضرها صحت وانعقدت به، فهو على غير المسألة المعتبرة.
لكن بالنسبة للذين هم داخل المدن ولو كانوا على بعد عشرين كيلو متراً فإنه تلزمهم الجمعة، فلو كانت المدينة طولها -مثلاً- أربعون كيلو متراً وكان بعدهم عن وسط المدينة الذي يكون فيه المسجد قرابة عشرين كيلو متراً، فإنه تلزمهم الجمعة؛ لأنهم في حكم البلد الواحد، وبناء على ذلك يلزم القريب والبعيد داخل المدينة أن يصلي الجمعة، ولا يقال: إن من كان على بعد أحد عشر كيلو متراً من وسط المدينة لا تلزمه الجمعة.
بل نقول: إن من كان على حدود المدينة يلزمه أن يجمِّع مع أهلها.
(69/3)
________________________________________
بيان من لا تجب عليهم صلاة الجمعة
قال رحمه الله تعالى: [ولا تجب على مسافر سفر قصر ولا على عبد وامرأة].
أي: لا يلزم الإنسان إذا كان في السفر أن يصلي الجمعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في السفر، ولم يثبت عنه في أي سفر من أسفاره أنه جمع، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المسافر لا تلزمه الجمعة، ويؤكد ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، فإنه خطب الناس خطبة حجة الوداع، وقد كان بالإمكان أن يصليها جمعة، وقد كان أهل مكة معه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل بهم جمعة.
ومن البدع والغرائب التي يقع فيها من لا ينتبه لهذه الأحكام الشرعية أنه ربما يخرج بعضهم إلى رحلة مبتعدين عن المدينة مسافة قصر ثم يصلون جمعة، وقد يمكثون شهراً أو أسبوعين أو ثلاثة، فجمعتهم باطلة وتلزمهم إعادتها ظهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الناس في السفر، وقد سافر صلوات الله وسلامه عليه ولم يثبت عنه حديث صحيح أنه صلى الجمعة في السفر، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا جمعة على المسافر إذا كان في حال السفر.
أما لو دخل المسافر المدينة، كرجل من أهل المدينة قدم إلى مكة يوم الجمعة، فقد اختلف في هذا العلماء: فمنهم من قال: يلزمه أن يصلي معهم الجمعة.
ومنهم من قال: لا يلزمه، على الخلاف الذي ذكرناه في الجماعة.
وقد استدل العلماء بحديث طارق بن شهاب في ذكره للأربعة الذين لا تجب عليهم الجمعة حين ذكر منهم المسافر، فقالوا: إن المسافر لا تلزمه الجمعة.
قوله: [ولا على عبد].
أي أن العبد لا تلزمه الجمعة، فالمصنف شرع في ذكر عكس الشروط المتقدمة للايجاب من قوله: [ولا تجب على مسافر.
]؛ فلما ذكر لنا أنها تلزم الحر ذكر هنا أنها لا تلزم العبد، فهو عكس ما ذكرناه من الشروط.
قوله: [وامرأة].
أي: لا تجب الجمعة على النساء لما ذكرناه.
قال رحمه الله تعالى: [ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به].
أي: من حضرها من العبيد ومن النساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الجمعة.
قوله: [ولم تنعقد به].
مسألة الانعقاد ترجع إلى اشتراط عدد المصلين للجمعة، فمذهب الجماهير أنه يشترط لها عدد معين، ثم اختلفوا في هذا العدد: فقال بعضهم: أربعون.
وقال بعضهم: اثنا عشر.
وقال بعضهم: أربعة.
وقال بعضهم: اثنان.
فهذه مشهورات الأقوال في هذه المسألة، فلو قلنا: إن العدد يشترط فيه أن يكون أربعين، فإنه إذا حضر تسعة وثلاثون من الرجال البالغين العاقلين وحضرت امرأة، لا تنعقد الجمعة، وكذلك لو حضر عبد على هذا القول الذي ذكرناه، لكن الصحيح أن العبد يلزم بالجمعة وتنعقد به، فلو حضر تسعة وثلاثون وعبد فإنه انعقدت به الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [ولم يصح أن يؤم فيها].
أي: أن امرأة حضرت فلا تصلي ولا تجمِّع بغيرها ولو بنساء، وكذلك العبد، فإنه لا يجمِّع بالأحرار في قول طائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره المصنف.
وذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم إلى أن العبد تصح إمامته في الجمعة.
وقد قررنا أن العبد تصح جمعته ويلزم بها، وعلى ذلك فأنه لو صلى بهم صحت إمامته واعتد بتلك الجمعة وكانت مجزئة.
(69/4)
________________________________________
وجوب صلاة الجمعة على من حضرها إذا سقطت عنه
قال رحمه الله تعالى: [ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه إذا حضرها وانعقدت به].
من مرض مرضاً يعذر به في عدم شهود الجمعة فتحامل على نفسه واحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى حتى جاء ودخل المسجد، فحينئذٍ تجب عليه وتنعقد به وتصح إمامته للناس، فلو أن الإمام مرض فقوى الله سبحانه وتعالى نفسه وعزيمته فقال: أحتسب الأجر عند الله تعالى، وصلى بالناس صحت جمعته وأجزأته وانعقدت به، وعلى هذا فالمريض ممن لا تلزمه الجمعة، وتصح منه وتنعقد به، لا تلزمه الجمعة ولكن تصح منه إن حضرها وتنعقد به.
والعذر بالمرض يشمل المريض والممرض للمريض، فإن الممرض للمريض يعتبر معذوراً، فلو أذن المؤذن للجمعة وكان المكلف قائماً على مريضٍ عنده كوالده أو زوجته أو ابنته أو ابنه، وخشي عليه الضرر وتفاقم المرض، أو كان يحتاج إلى حمله للإسعاف ونحو ذلك، فله أن يجلس مع هذا المريض، ويعذر بترك الجمعة إذا خاف عليه.
وإذا كان المريض يحتاج إليه لسقي دواء وفعل علاج ونحو ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المريض، فإن الشرع يرخص لمثل هذا، ويدل على ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه وهو خارج إلى الجمعة ترك الجمعة وعاد إليه، فقام عليه حتى غسل وكفن ثم صلى عليه رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا فإن الممرض في حكم المريض، ويقال في الممرض مثلما يقال في المريض، فلا تلزمه الجمعة، ولكن إن حضرها انعقدت به وصحت، وأجزأت إمامته لو صلى بالناس.
ومن المعذورين أيضاً من كان بينه وبين الجمعة وحل شديد ومطر، ولو خرج إلى الجمعة في شدة المطر الذي يعذر به وشهد الجمعة صحت جمعته، فيقولون: لا تلزمه، وتصح منه، وتنعقد به.
(69/5)
________________________________________
متى يصلي الظهر تارك الجمعة بغير عذر وتاركها بعذر
قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح].
هذه المسألة -نسأل الله السلامة والعافية- في رجل في مدينة قادر على شهود الجمعة مسلم عاقل بالغ حر مستوطن سمع نداء الجمعة فتخلف -والعياذ بالله- متعمداً بدون عذر، فحينئذ يرد

السؤال
متى يصلي الظهر؟

الجواب
الأصل فيه أن يصلي الجمعة، وبناء على ذلك فالواجب في حقه أن يمضي إلى الجمعة لظاهر قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فإذا لم يسع إلى ذكر الله فإنهم قالوا: هذا المكلف مكلف بالجمعة، فلا يصلي ظهراً حتى تفوته الجمعة؛ لأن الأصل أنه مخاطب بالجمعة وليس مخاطباً بالظهر، فيبقى حتى يفرغ الإمام من صلاة الجمعة، أو يقدر ذلك على غلبة الظن وحينئذٍ يصلي، فلو صلّى قبل أن يصلي الإمام لم تصح منه ظهراً؛ لأنه يصلي الظهر قبل أن يخاطب بها، وفِعْلُ الصلاةِ قبل الخطاب بها موجبٌ للحكم بعدم الاعتداد بها وعدم إجزائها، كما لو صلى قبل أذان الظهر.
وتوضيح ذلك أنه إذا صلى الظهر أثناء صلاة الناس للجمعة فإنه كالمتنفل للظهر؛ لأنه أثناء الصلاة كان بإمكانه أن يلحق ويصلي معهم الجمعة، فلا زال الخطاب متجهاً عليه أن يصلي ركعتي الجمعة وأن يشهد الجمعة، فلا يسقط عنه الخطاب بالجمعة حتى ينتهي وقت الجمعة فيتوجه عليه الخطاب بالظهر، ومن هنا قالوا: من لزمته الجمعة ولم يعذر بتركها لا تصح منه صلاة الظهر إلا بعد انتهاء الإمام من صلاة الجمعة.
لكن من كان معذرواً لا يدخل في حكم هذا، وهو الذي سيذكره المصنف رحمة الله عليه.
قال رحمه الله تعالى: [وتصح ممن لا تجب عليه، والأفضل حتى يصلي الإمام].
قوله: [وتصح] أي: تصح صلاة الظهر.
وقوله: [ممن لا تجب عليه] أي: من عذر بتركها كالمرأة، فلو أن امرأة في بيتها أرادت أن تصلي الظهر يوم الجمعة، جاز لها أن تصلي أثناء صلاة الإمام، ويجوز لها أن تصلي قبل صلاة الإمام؛ لأن الجمعة ليست بواجبة عليها، والخطاب متوجه عليها بفعل صلاة الظهر بمجرد زوال الشمس، وعلى هذا يقولون: إنه يجب عليها أن تصلي الظهر بزوال الشمس فحينئذٍ لا علاقة لها بصلاة الإمام، فيستوي أن تصلي الظهر قبل الإمام وأن تصليه أثناء صلاة الإمام وأن تصليه بعد صلاة الإمام، كالحال في الصلوات العادية، فلو أذّن المؤذن للظهر، وبعد أذان الظهر مباشرة قامت وكبرت وصلت الظهر، فبالإجماع صلاتها صحيحة؛ لأنها مخاطبة بالظهر بمجرد دخول الوقت، وقد أدت الصلاة بعد دخول وقتها.
وهكذا لو أن المريض صلّى بعد زوال الشمس يوم الجمعة فلا حرج عليه، فكل إنسان معذور لا حرج عليه.
لكن قالوا: الأفضل في المعذور أن ينتظر انتهاء الإمام لاحتمال أن يزول عنه العذر، ولذلك قال: [والأفضل حتى يصلي الإمام] لما فيه من الاحتياط.
(69/6)
________________________________________
حكم السفر يوم الجمعة بعد الزوال
قال رحمه الله تعالى: [ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال].
أي: لا يجوز للمكلف الذي تلزمه الجمعة أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، والسبب في هذا واضح، وهو أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فقالوا: هو مكلف بفعل صلاة الجمعة بعد زوال الشمس ودخول وقت الجمعة، فإذا أراد أن يسافر فإنه يسقط هذا الوجوب ويحتال على الشرع.
وبناء على ذلك قالوا: لا يجوز للإنسان أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة؛ لأن ذلك يؤدي إلى فوات صلاة الظهر.
لكن لو كان يريد أن يسافر ويمكنه أن يصلي الجمعة في موضع آخر غير المدينة -كأن يسافر إلى قرية بجوار مدينته بحيث يدرك فيها الجمعة- فإنهم قالوا: لا حرج عليه؛ لأنه لم يقع في المحذور الذي من أجله منع من السفر يوم الجمعة، ولا يكون مخالفاً لأمر الله عز وجل بالمضي إلى صلاة الجمعة.
فاستثنوا من هذا أن يكون بإمكانه أن يصلي الجمعة في المحل الذي يسافر إليه، أو في الطريق، كما لو كان بينه وبين البلد الذي يقصده قرىً تقام فيها الجمعة، أو مواضع يصلى فيها الجمعة ويعتد بهذه الجمعة، فقالوا: يجوز له في هذه الحالة أن يسافر ولا حرج عليه؛ لأنه لم يقع المحذور في تركه للجمعة.
فالذي ذهب إليه بعض العلماء أن المنع يبتدئ من بعد الفجر؛ لأن نهار الجمعة يعتدّ به من طلوع الفجر الصادق.
والاعتداد بطلوع الفجر الصادق أو بعد طلوع الشمس في جريان الأحكام عليه مسألة خلافية بين العلماء: فبعض العلماء يرى أن طلوع الفجر نهار، كما هو معلوم من قوله سبحانه وتعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} [هود:114]، فإن المراد بهذه الصلاة التي في طرفي النهار: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأنهما في طرفي النهار، فالفجر في طرفه الأول، والعصر في طرفه الثاني، فلما قال: (طرفي النهار) قالوا: إن هذا يدل على أن النهار يبتدئ من تبين الفجر الصادق.
وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة تقسيم الليل لمعرفة الثلث الأخير منه، فإن قلت: ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق ويحكم بابتداء النهار بطلوع الفجر الصادق، فحينئذٍ تقسم الساعات من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق على ثلاثة، ويكون الثلث الأخير هو الثلث الذي قبل تبين الفجر الصادق، أما لو قلت: إنه يستمر إلى طلوع الشمس فلا إشكال.
(69/7)
________________________________________
الأسئلة
(69/8)
________________________________________
حكم الخنثى المشكل في وجوب صلاة الجمعة

السؤال
هل تجب الجمعة على الجنثى المشكل؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الخنثى حكمها حكم الأنثى، والسبب في ذلك أن القاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) فالخنثى متردد بين الرجل والمرأة، فلما كان الوصف بالرجولة أعلى قالوا: اليقين أنه أنثى حتى نتأكد أنه رجل.
ولذلك فجماهير العلماء يعطون الخنثى حكم الأنثى، وقالوا: إنه يأخذ حكم الأنثى فلا تجب عليه الجمعة، وإنما تجب على الخنثى الذي استبان أنه رجل، وأما إذا كان خنثى مشكلاً فإنه لا تجب عليه الجمعة.
والله تعالى أعلم.
(69/9)
________________________________________
العامل والأجير لا يأخذان حكم العبيد في إسقاط الجمعة عنهما

السؤال
هل المراد بالعبد الخصوص في سقوط الجمعة عنه، أم يدخل معه العامل والأجير؟

الجواب
لا يأخذ العامل والأجير حكم العبيد، ولكن العامل والأجير فيهما نظر، فلو كان عند الإنسان مال، وكان العامل أو الأجير هو الحارس لهذا المال والقائم عليه، فإنه يجوز له أن يتخلف عن الجمعة إذا غلب على ظنه أنه لو نزل وصلى الجمعة سرق المال أو تلف، وهكذا من كان في حراسة ونحوها، فإنه يشرع له أن يتخلف عن الجمعة إذا كان قائماً على مصالح المسلمين، أو قائماً على حراسة الأنفس، وهكذا الطبيب إذا كان قائماً على علاج المريض، ونحو ذلك، فهؤلاء يرخص لهم في ترك الجمعة، وهم في حكم المعذورين، وقد تقدم معنا في صلاة أهل الأعذار الإشارة إلى مثل هذه المسائل.
فإذا كان العامل يقوم على عمل فيه أموال وفيه مصالح لا يستطيع أن يتركها ويتخلف عنها، أو يغلب على ظنه أنه لو شهد الجمعة سرقت أو تلفت أو تعرضت للأذية والضرر، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يتخلف للقيام عليها، ويكون معذوراً.
والله تعالى أعلم.
(69/10)
________________________________________
ما يتفق فيه الرجل مع المرأة من أحكام الجمعة وما يختلفان فيه

السؤال
هل يجب على المرأة إذا حضرت الجمعة ما يجب على الرجل من الغسل، والصمت عند حضورها، وعدم مس الحصى ونحوها مما يبطل الجمعة؟

الجواب
تشارك المرأة الرجل في عدم جواز الكلام أثناء الخطبة، وكذلك يحكم بكونها لاغية إن تكلمت أو مست الحصى، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من مس الحصى فقد لغى)، والقاعدة في الأصول أن (مَنْ) من صيغ العموم، ولذلك يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من مس الحصى فقد لغى) محمول على العموم، وعلى هذا فإن المرأة لو كانت في المسجد فعبثت أو تكلمت فإنها لاغية، ويحكم عليها بما يحكم على الرجل.
وأما اغتسالها للجمعة فقد قال به بعض العلماء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فقالوا: إن (كل) من ألفاظ العموم.
ولذلك يقولون: إنه يجب عليها أن تغتسل حتى إن بعضهم يقول: تغتسل المرأة ولو لم تشهد الجمعة.
وإن كان الصحيح أن الغسل واجب على من شهد الجمعة؛ لأن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الترمذي يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالغسل من أجل الشهود، فقد قالت: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّال أنفسهم -أي: يقومون على أمورهم بأنفسهم-، وكانوا يغشون المسجد من العالية، وكانت الأرض أرض زرع، فعلت المسجد منهم زهومة، فأمروا أن يغتسلوا.
فدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل ليوم الجمعة إنما هو من أجل النتن، وذلك أن الناس إذا اجتمعوا ربما تضرروا بالرائحة الكريهة، حتى إن بعض العلماء يقول: كل صلاة شرع لها الاجتماع ينبغي أن يتنظف لها الإنسان ويتطيب حتى لا يؤذي الناس، ولذلك أمر بالتطيب صلوات الله وسلامه عليه.
وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إن المرأة إذا شهدت الجمعة فإنها تغتسل -أي: تتنظف- ولكن لا تتطيب كالرجل؛ لأن الطيب ورد للرجال دون النساء، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (مس من طيب امرأته)، وفي رواية: (مس من طيب أهله) كما في الصحيح، فقالوا: إن هذا يدل على أنه للرجال دون النساء، خاصة أنه قد قال صلى الله عليه وسلم:: (أيما امرأة مرت بقوم فوجدوا ريحها أو طيبها فهي زانية) قالوا: هذا يؤكد أنها لا تتطيب.
والله تعالى أعلم.
(69/11)
________________________________________
حكم جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر

السؤال
مسافر صلى الجمعة مع المقيمين، ثم قدّم صلاة العصر وصلاها قصراً، فما حكم صلاته للعصر؟

الجواب
هذه المسألة فيها خلاف، فلو أن مدنياً نزل بمكة يوم الجمعة، فقضى حاجته، وأراد أن يصلي الجمعة ثم يمشي بعد الجمعة مباشرة إلى المدينة، فجمع مع صلاة الجمعة العصر، فإنه قد قال جمع من العلماء رحمة الله عليهم: لا يجمعُ العصر مع الجمعة، وذلك لأن الجمع خارج عن الأصل، وإنما يقتصر فيه على الوارد، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع مع الجمعة صلاة العصر.
قالوا: والرخص تقصر على صورة الإذن والجواز، أي: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يفصل بين الصلاتين إلا بالفاصل اليسير الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، واشترطوا لها شروطاً مخصوصة؛ لأنها خارجة عن الأصل.
وقال جمع من العلماء بجواز ذلك.
ولكن الأحوط ألا يفعله.
(69/12)
________________________________________
الواجب على المسافر إذا لم يصل الجمعة ظهراً

السؤال
كنا نخرج للعمل خارج القرية على بعد خمسة عشر كيلو متراً في البر، ونجتمع ونصلي الجمعة، فهل صلاتنا -على القول الذي رجحتموه- باطلة وتلزمنا إعادتها، أم أنا معذورون بالجهل؟

الجواب
تلزمكم إعادة هذه الجمعات كلها، ولو تعددت إلى سنوات، والجهل لا تعذرون به؛ لأنكم أقدمتم على أحكام شرعية مع إمكان الرجوع إلى العلماء، فليس هذا مسوغاً لإسقاط فرض الله عليكم الذي هو صلاة الظهر، ولذلك يقولون: من قصر عوقب بعاقبة تقصيره.
فإنه كان بالإمكان أن تسألوا العلماء وتستأذنوهم، وأن تعرفوا أنه يحل لكم أن تصلوا الجمعة أو لا، أما أن يقال بالعذر بالجهل مطلقاً فإنه محل نظر، فجمعتكم هذه على غير الوجه الشرعي، ولا يستطيع الإنسان أن يتحمل مسؤولية أمام الله عز وجل، فما دمتم أنكم قصرتم في سؤال العلماء والرجوع إليهم فإنكم تتحملون مسئولية تقصيركم، وتعيدون هذه الصلوات، فإن كنتم لا تستطيعون عدّها فإنكم تبنون على غالب الظن وتقدرون، وغالب الظن كالمحقق، وبناء على ذلك فإنكم تبنون على غالب ظنكم العدد الذي تحسون أنكم أبرأتم به الذمة، فتعيدون صلوات الظهر في هذا كله؛ لأنها جمعة لاغية وغير معتد بها شرعاً.
والله تعالى أعلم.
(69/13)
________________________________________
دخول غسل الجمعة تحت غسل الجنابة

السؤال
من أصابته جنابة يوم الجمعة هل يلزمه غسلان للجنابة والجمعة؟

الجواب
من كان قبل صلاة الجمعة قد أجنب، ثم أراد أن يصلي الجمعة، فأصح الأقوال أن غسل الجمعة يندرج تحت غسل الجنابة بشرط أن ينوي، فينوي بغسل الجنابة غسل الجمعة، ويقع غسل الجمعة تحت غسل الجنابة، وهذه من مسائل الاندراج، فإذا تحقق مقصود الشرع بالاندراج يندرج.
وتوضيح ذلك أن مقصود الشرع من غسل الجمعة أن يكون الإنسان نظيفاً على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة، فإذا اغتسل لجنابته تحقق مقصود الشرع من زوال التفث، وزوال النتن عن البدن، فحينئذٍ إذا نوى بغسله غسل جنابته وغسل الجمعة أجزأه واعتد به.
والله تعالى أعلم.
(69/14)
________________________________________
الواجب على المسافر إذا طلب منه إلقاء خطبة الجمعة

السؤال
بعض طلاب العلم يخرج في سفر، ويطلب منه أن يخطب خطبة الجمعة، فما حكم هذا الفعل؟ وهل فيه خلاف بين أهل العلم؟

الجواب
هذه المسألة على الأصل الذي ذكرناه، فإنه لم يجمِّع عليه الصلاة والسلام بالمقيمين، ألا تراه قد جاء إلى مكة -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- ولم يصل بأهل مكة الجمعة، ولذلك لا يجمِّع المسافر بالمقيمين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المسافر لو حضر وصلى الجمعة فإنها تنعقد وتصح به الجمعة على مذهب طائفة من العلماء.
أي أنه إذا صلى بهم فإن صلاته يعتد بها.
وفي النفس شيء من هذا القول، والذي ينبغي لطلاب العلم دائماً أن يحتاطوا، لكن لو أن الإنسان ترجح عنده القول الذي يرى أن المسافر يجمِّع وجمَّع بالناس فإنه لا حرج عليه في ذلك، خاصة إذا كان طالب علم وجاء إلى قرية أو إلى بادية وأراد أن يفقههم في أمور دينهم، وأن يبين لهم أموراً يحتاجون إليها فقدموه للصلاة بهم، فهذا يرخص فيه بعض العلماء، لكن الذي تميل إليه النفس الاحتياط في صلوات الناس، وعدم تعريضها للمحتمل.
والله تعالى أعلم.
(69/15)
________________________________________
الجمع بين أدلة صلاة النبي للجمعة قبل الزوال وصلاته بعد الزوال

السؤال
كيف نجمع بين حديث جابر: (كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس)، وحديث: (ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به)، وحديث: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)؟

الجواب
حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه هو عمدة، وهو أقوى ما احتج به من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع صلاته وخطبته قبل زوال الشمس، ولكن أجيب عن هذا القول بأن حديث جابر رضي الله عنه معارض بحديثين: أولهما: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ثانيهما: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في صلاته عليه الصلاة والسلام حين تزول الشمس.
والقاعدة أنه إذا تعارض حديثان يحمل المحتمل على الوجه الذي يجمع به بينه وبين غير المحتمل، فإن حديث أنس من أقوى الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى إلا بعد زوال الشمس، فيكون قوله: (نريح نواضحنا) متأخراً عن قوله: (صلى عليه الصلاة والسلام ... ) أي: كنا نصلي حين تزول الشمس، ثم نريح نواضحنا.
لأن إراحة النواضح ليست مقصودة بالذكر، وليس زمانها مقصوداً ولا مبحوثاً عنه، فذكرت تبعاً لا أصلاً، وإنما يستقيم الاستدلال لو كان المعنى المفهوم أنه يخطب ثم يصلي ثم تراح النواضح حين تزول الشمس، وهذا -كما قلنا- ليس مراداً، على أن جابراً رضي الله عنه قصده أنه عليه الصلاة والسلام ابتدأ صلاته وخطبته عند زوال الشمس.
وأما حديث أنهم كانوا يتبعون الفيء فلم يكن للحيطان ظل فهو حديث صحيح، ومعناه أنه ليس لها ظل يستظل به، كما قال جماهير الشرّاح، وهذا صحيح؛ فإن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تزيد على خمس دقائق، وهذا أمر حقيقي وواقعي، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من مئنة فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالجمعة والمنافقين، فإذا جئت تنظر إلى الجمعة فهي صفحة كاملة، وإذا جئت تنظر إلى المنافقين فهي كذلك صفحة كاملة، فمعنى ذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام دون الصفحتين، مع أنه عليه الصلاة والسلام من الفصاحة بمكان، وكلامه من الوضوح في غاية البيان صلوات الله وسلامه عليه، فتقسم الخطبتين على صفحة ونصف، فالخطبة الواحدة لا تبلغ الصفحة الكاملة، فكانت خطبته عليه الصلاة والسلام من القصر بمكان، وصلاته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بالجمعة والمنافقين مع ترتيله وحسن أدائه صلوات الله وسلامه عليه قد لا تعدو ربع ساعة.
والزوال يحتاج إلى حساب دقيق؛ لأن الشمس إذا تحركت من الزوال تحتاج إلى وقت، وهذا التحرك يستغرق قرابة أربع دقائق في انسحاب الشمس عند زوالها، ثم تحسب تبين الزوال، فإذا كان انسحاب الشمس في زوالها في حدود هذا الوقت اليسير فمتى يكون الفيء والظل للحيطان؟!! فإذا ابتدأ صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أو عند زوالها وخطب في هذا القدر اليسير، ثم صلى بالناس عليه الصلاة والسلام -وكان لا يملهم- ثم انصرفوا، فإن الحيطان حينئذٍ لها ظل، ولكن ليس بذاك الظل؛ لأنه إذا كان لها ظل كبير فقد اقترب خروج وقت الظهر.
فالمشكلة أن بعض الأحاديث تفهم بناءً على الواقع؛ لأن الإنسان إن نظر إلى أن الجمعة تأخذ نصف ساعة، وأنه يركب سيارته، ثم يدخل إلى المسجد، ثم ينظر إلى الوقت الذي يضيع، فإنه يظن أن الجمعة تستغرق هذا الوقت الكبير، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج من حجرته إلى المنبر مباشرة، ولا يصلي ولا يتنفل قبل خطبته، ويلغى كلامه على الناس عند ابتداء الزوال، ويؤذن بلال بدون تمطيط ولا أخذ وقت، ثم يقوم عليه الصلاة والسلام ببيانه وفصاحته بالكلمات اليسيرة، ثم يصلي بالناس وتنتهي الجمعة، فهذا القدر إذا جئت تحسبه ربع ساعة أو ثلث ساعة صدق عليه أنه لو انصرف الناس بعده لا يجدون للحيطان ظلاً، وفي رواية: أنهم كانوا يتتبعون الفيء، ومعنى ذلك أن هناك حيطاناً، وأنه قد زالت الشمس.
ثم إننا نقول: إن حديث جابر قد عارضه حديث أنس، فعارض المحتمل غيرُ المحتمل، إضافة إلى حديث سلمة.
وأما حديث: (ما كنا نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة)، فهذا لا إشكال فيه؛ فإن غداء الناس ومقيلهم نسبي، والقيلولة المعروفة قيلولة الضحى؛ لأن الوقت من طلوع الشمس إلى زوالها وقتان: ضُحى وضَحى، فإذا طلعت الشمس فهو الضُحى إلى أن تصل إلى ثلاث ساعات، وبعده يبدأ الضَحى -بالفتح- والضَحى قبل الزوال ما بين الضُحى وزوال الشمس، ثم بعد ذلك إذا زالت الشمس فإنه قد انتهى انتصاف النهار ودخل الإنسان في العشي، وقد كان من عادتهم أنهم ينامون قبل الظهر، وهذه هي القيلولة، وهذه القيلولة تعين على قيام الليل؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا نامها يستعين بها على قيام الليل، وهذا شيء معروف ومجرب، ولذلك تجد كبار السن يسهل عليهم قيام الليل، وهم يحافظون على هذه النومة التي قبل الظهر، وتكون قبل الظهر بحدود الساعة، وهي قائلة الضَحى التي عناها الصحابي بقوله في البخاري: (فنقيل قائلة الضَحى)، فكانوا لأجل اشتغالهم بالجمعة اغتسالاً وتهيؤاً لا يتمكنون من هذا النوم، فكانوا يؤخرونه إلى ما بعد صلاة الجمعة، فقوله: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة) لا علاقة له بالوقت، وليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع الجمعة أثناء وقت الضَحى، ولم يصرح الصحابي بهذا، وإنما قال: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة)، وهذا ليس كصريح حديث أنس رضي الله عنه الذي يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وابتدأ صلاة الجمعة حين زالت الشمس، وأياً ما كان فعندنا أصول، والفقه الرجوع إلى الأصول، ألا ترى الصحابة رضوان الله عليهم لما مضوا إلى بني قريظة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في قوله: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فقالت طائفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل فتصلى العصر في وقتها، وطائفة قالت: لا نصلي إلا في بني قريظة.
فلما قدموا على بني قريظة قدموا بعد غروب الشمس فصلوا العصر بعد الغروب، فلما حكوا للنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم، فعذر الطائفتين؛ لأن الجميع عنده نص، لكن قال صلى الله عليه وسلم للذين صلوا في الوقت: (أصبتم السنة) التفاتاً إلى الأصل.
فإذا كانت الجمعة قائمة مقام الظهر بدليل الشرع وإجماع العلماء على أن من فاتته الجمعة يصلي الظهر، وهي بدل عن الظهر، فالأصل أنها تصلى بعد الزوال، وعندنا نصوص تؤكد أنها بعد الزوال، فإذا جاءت نصوص تدل على أنها تقع قبل الزوال، أو يفهم منها أنها تقع قبل الزوال، فإنه يرجع إلى ما يكون أبرأ وأقرب إلى الأصل، فنقول: إنه لا يجمِّع إلا بعد الزوال، ولكن الأفضل أن يوقع الجمعة عند ابتداء الزوال تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد.
(69/16)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [2]
دخول الوقت هو أحد شروط صلاة الجمعة، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديده، فمنهم من يقول: إن وقت الجمعة يبدأ من حين ارتفاع الشمس قدر رمح، ومنهم من يقول: من حين الزوال، ومنهم من يقول بعده، ويشترط كذلك شهود عدد معين لتقام الصلاة كما هو قول بعض العلماء، ويشترط كذلك الاستيطان في البلد، وأن تقدم الخطبتان على الصلاة، وهناك أمور يستحب أن يفعلها الخطيب في خطبته.
(70/1)
________________________________________
شروط صلاة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يشترط لصحتها شروط ليس منها إذن الإمام].
الجمعة وقعت موقع صلاة الظهر، ولذلك قالوا: إنه لا بد من وجود شروط معتبرة للحكم بالاعتداد بهذه الجمعة، والحكم بصحتها وإجزائها شرعاً.
قوله: [يشترط] الشرط في اللغة: العلامة، وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
قوله: [ليس منها إذن الإمام].
هذه مسألة خلافية، فبعض العلماء يقول: لا تقع الجمعة إلا بالإمام العام أو بإذنه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً عاماً وجمَّع بالناس وصحت الجمعة، فهم يرون أن الأصل أن تصلي الظهر، فلا تنتقل من الظهر إلى الجمعة إلا على الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جمَّع وهو الإمام العام قالوا: لا يعتد بالجمعة مع الإمام العام، ولما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يجمعوا بالمدينة كان هذا بمثابة أصل في الإذن العام، ويشترط الإذن العام الحنفية رحمة الله عليهم ومن وافقهم.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط الإذن العام.
والذي لا شك فيه أنه لا تقام الجمعة حتى يرجعوا إلى من هو موكّل بالنظر في الجمعة؛ لئلا يفتح للناس سبيل التلاعب بالجمعة، فكل جماعة سيفتحون في مسجدهم جمعة، وقد وقع هذا بين الأحياء، فإنهم ربما يتنافسون، وربما يكون فتحهم للجمعة في حيّهم أشبه ما يكون بالاستغناء عن الحي الآخر، فلا يعتد بالجمعة إذا تعددت مساجدها من دون عذر، فلو أن أهل حي قالوا: نفتح مسجداً عندنا ونصلي فيه الجمعة.
وفعلوا ذلك بدون إذن، وبدون وجود فتوى من عالم، أو الرجوع إلى الموكل بالنظر في مثل هذه المساجد فإنه حينئذ لا يعتد بهذه الجمعة ولا تجزئ؛ لأنها أشبه ما تكون بالتلاعب والاحتيال، وقد قرر جمع من العلماء أنه لو أقدم أهل حي على إحداث جمعة في حيهم على سبيل النفرة من الحي الآخر، أو على سبيل الأنفة من الذهاب إلى الجمعة في الحي الآخر دون وجود عذر فإن مسجدهم مسجد ضرار، ولا يعتد بجمعتهم، والجمعة للمسجد الأول القديم، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعتان، بل كانت في مدينته صلوات الله وسلامه عليه جمعة واحدة، مع أنه كان الأنصار في قباء بينهم وبين المسجد ثلاثة أو أربعة أميال، وكانت طائفة منهم من العوالي، ولذلك أُمر الناس بالغسل يوم الجمعة، كما قالت عائشة: كانوا يغشون الجمعة من العالية -والأرض أرض زراعة وفيها الغبار- فعلت منهم زهومة -أي: بسبب العرق في الطريق-، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل العالية أن يجمِّعوا، فقالوا: إنه لم يعرف إقامة جمعتين في بلدة واحدة.
وأول ما وقع ذلك في عهد بني العباس، وإلا فعهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تجمع فيه جمعتان، وكان أهل قباء يصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد بني العباس، فإنه وقعت حادثة حاصلها أن الناس في بغداد كان بعضهم في شط وبعضهم في شطر آخر ليس فيه المسجد الجامع، وكان الناس في يوم الجمعة على الجسر يزدحمون، وربما سقط بعضهم ومات، فاشتكوا إلى الخليفة فاستأذن الخليفة القاضي أبا يوسف رحمه الله صاحب الإمام أبي حنيفة أن يجمع أهل الشط الثاني، وقد كانت بغداد عامرة، فقد قيل: إن فيها ما لا يقل عن ثلاثمائة أو أربعمائة مسجد في ذلك الزمان، ومع ذلك لم يرخص لهم إلا بعد وجود الضرورة، فلما وجدت الضرورة أمرهم أن يجمعوا وأن يعيدوها ظهراً احتياطاً، وكل ذلك خوفاً من هذا التعدد الذي لم يعرف له أصل أن لا يكون معتداً به.
ولكن الصحيح أنه يجوز تعدد الجمعة عند الحاجة وبإذن الإمام، أي: بعد الرجوع إلى أهل العلم، أو أناس مختصين بهذا أذن لهم في مثل هذه الأمور.
أما أن يقيم أهل كل حي وأهل كل منطقة الجمعة في حيهم ومنطقتهم فلا، ولذلك ينبغي الرجوع إلى المساجد المعتد بها، ومن هنا قال العلماء: وإن تعددت الجمعة فالجمعة للعتيق، أي للمسجد القديم، والسبب في هذا أن ما أحدث من بعده دخيل عليه، وقد قال الله في كتابه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فجعل المسجد القديم أحق، فدل على أنه إذا أحدث مسجد ثان من دون حاجة لجمعة أن الجمعة الثانية لاغية.
وذهب بعض العلماء إلى التفصيل، قالوا: لو أحدثوا بدون إذن إمام وجمعوا نظر إلى أسبق الجمعتين، فمن أوقع صلاته قبل الثاني فالجمعة له.
وهذا ضعيف، ويقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.
والصحيح -كما قال جمع من الأئمة- أن العبرة بالمسجد القديم، سواء أوقعت جمعته قبل أم وقعت من بعد، فهو الذي يعتد بجماعته على ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].
أما لو كان الناس في بلد فيه أقلية مسلمة، ويريدون أن يصلوا الجمعة، فقد قال أهل العلم من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: لا حرج إذا كانوا في بلد ليس فيه إمام أن ينتدبوا منهم إماماً ليصلي بهم إذا بلغوا العدد وتوفرت فيهم شروط الجمعة في محل إقامتهم واستيطانهم.
(70/2)
________________________________________
الشرط الأول: الوقت
قال رحمه الله تعالى: [أحدها الوقت].
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ولما كانت صلاة الجمعة صلاة دخلت في هذا العموم، فلا تصح صلاة الجمعة قبل وقتها، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في ميقات معين.
ووقت الجمعة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، يبحث في أوله وآخره، فأول الجمعة للعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: أول وقت صلاة الجمعة هو أول وقت صلاة الظهر، وذلك بزوال الشمس.
وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه.
والدليل على ذلك حديث أنس في الصحيح أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تزول الشمس)، وهذا ثابت وصحيح، وكذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وخطب حين زالت الشمس).
فهذه الأدلة تدل على أن الجمعة يبتدئ وقتها بزوال الشمس؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن الجمعة قائمة مقام الظهر ووقتها في وقت الظهر، فيكون ابتداء وقتها بزوال الشمس.
وذهب الإمام أحمد -في رواية- وطائفة من أصحابه وبعض أهل الحديث إلى أن وقت الجمعة يبتدئ في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فمن ارتفاع الشمس قيد رمح تجوز صلاة الجمعة.
واحتجوا بحديث ابن سيدان أنه شهد الصلاة مع أبي بكر وإن النهار لم ينتصف، وشهدها مع عمر والنهار قد انتصف، وشهدها مع عثمان وذلك بعد زوال النهار.
قالوا: هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أوقعها قبل الزوال، فدل على أن وقتها يبتدئ قبل الزوال، وليس هو وقت الظهر.
وهذا الأثر عن ابن سيدان فيه إشكال، وذلك للكلام في سنده بالطعن بالجهالة، وقال الإمام البخاري: إنه لا يتابع عليه.
كما أنه معارض من وجوه: أولاً: ما في مصنف ابن أبي شيبة عن سلمة رضي الله عنه وأرضاه: أنه شهد الجمعة مع أبي بكر فصلاها حين زالت الشمس.
وهذا يعارض ما ورد عنه، مع أنه أقوى ثبوتاً.
ثانياً: ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في طنفسة عقيل بن أبي طالب التي كانت توضع عند الحجرات، وكانت تفيء عليها الشمس.
وهذا يدل على أنه ما صلى عمر رضي الله عنه إلا بعد بداية الزوال.
ثالثاً: أن نفس هذا الأثر فيه نظر، وذلك أنه من الصعوبة بمكان أن تعرف اللحظة التي عندها تزول الشمس، وهذا أمر معروف، ولا يمكن إدراكه إلا بحسابات دقيقة جداً، وذلك العصر عصر أبي بكر وعمر وعثمان، ولم تكن هناك الموازين والآلات الحاسبة الدقيقة، فالأمور نسبية تقريبية، فقوله: (فصلاها حين زالت الشمس) أي: ابتداء صلاته وخطبته كان عند الزوال، أي أنه كان يعجّل بحيث يجلس على المنبر ويسلم على الناس كأن الشمس لم تتحرك ويتيقن زوالها، ثم جاء عمر -ومعروف احتياط عمر رضي الله عنه- فكان عند الزوال يجعلها بتأخر قليل عن أبي بكر، وكان عثمان رضي الله عنه يجعلها بعد الزوال تحرياً أكثر، ولذلك أحدث النداء الثاني رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا يكون الأثر محتملاً.
ثم لو أنه سلم به فإنه ليس بقوي صحيح؛ لأنه معارض بأثر عن الصحابة أنفسهم أبي بكر وعمر، ثم هو معارض بما هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويبقى الإشكال في حديث جابر: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وخطب حين زالت الشمس).
وجوابه: أن الصلاة والخطبة ابتدأت عند زوال الشمس على الأصل الذي قررناه، ومراد جابر أن ابتداء الصلاة كان على وصف الإنسان بكونه مصلياً بابتداء الخروج، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم من خرج إلى الصلاة بكونه مصلياً، فكأنه يقول: ابتداء الصلاة كان عند الزوال.
لا أنه عليه الصلاة والسلام صلى وخطب حين زالت الشمس، فليست دلالة حديث جابر رضي الله عنه دلالة صريحة، والقاعدة في الأصول: إذا تعارض الصريح وغير الصريح قدّم الصريح على غير الصريح.
فإن حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس) يدل على أن صلاته عليه الصلاة والسلام وقعت عند ابتداء ميل الشمس، بمعنى أنه خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتداء صلاة الجمعة عند الزوال، ثم إن الأصل يؤكد هذا، خاصة أن الجمعة في حكم صلاة الظهر، ولذلك من فاتته الجمعة صلاها ظهراً بالإجماع، وعلى هذا فإنه يقوى القول الذي يقول: إن الجمعة لا تصلى إلا بعد زوال الشمس.
قوله: [وآخره آخر وقت صلاة الظهر].
أي: آخر الجمعة آخر وقت صلاة الظهر، وذلك حين يصير ظل كل شيء مثله، فمن انتهى من صلاته قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فإن صلاة جمعته مجزئة.
ولكن اختلف العلماء لو أنه خطب وطوّل في خطبته، وأحرم بالصلاة بعد أن صار ظل كل شيء مثله، أو خطب وابتدأ الصلاة قبل أن يصير ظل كل شيء مثله، وفي أثناء الصلاة صار ظل كل شيء مثله، فخرج عليه الوقت أثناء الصلاة، فمنهم من يقول: العبرة بخطبته.
ومنهم من يقول: العبرة بتكبيرة الإحرام.
ومنهم من يقول: العبرة بالركعة الأولى.
وهو أقواها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف من أدرك الركعة بكونه مدركاً للصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فأقوى الأقوال أن العبرة لركوعه في الركعة الأولى، فإن كبّر لركوعه في الركعة الأولى قبل أن يصير ظل كل شيء مثله أجزأه، أما لو كبّر للركوع في الركعة الأولى بعد أن صار ظل كل شيء مثله يتمها أربع ركعات، فيتمها ظهراً ولا يتمها جمعة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوها ظهراً وإلا فجمعة].
هذا -على ما ذكرناه- أحد أقوال العلماء، وهو أن العبرة بالتحريمة، والصحيح أن العبرة بالركعة الأولى على ظاهر النص، ولذلك يعتد بإدراك وقته بهذه الركعة، كما لو أدرك الإمام في الركعة الأولى فإنه يعتبر مدركاً لصلاة الجمعة ويتم ركعة معها، وهذا يدل على أن العبرة بإدراك الركعة وليست العبرة بإدراك تكبيرة الإحرام.
(70/3)
________________________________________
الشرط الثاني: حضور عدد معين
يقول المصنف عليه رحمة الله: [الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها].
يشترط لصحة صلاة الجمعة وجود عدد معين إذا وجد حكم باعتبارها، وإذا نقص هذا العدد فإنه عند من يقول باشتراطه لا يحكم بصحتها وانعقادها جمعة، وإنما يلزم هؤلاء الذين لم يكتمل عددهم بالنصاب المعتبر أن يصلوا ظهراً.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم: فقال بعض السلف: الجمعة تصح بواحد مع الإمام.
وبه يقول أبو ثور والطبري رحمهما الله تعالى.
وقال آخرون: تصح باثنين.
وبه يقول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
وقال آخرون: تنعقد بثلاثة مع الإمام.
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره جمع من المحققين.
وقال بعضهم: إن وجود الثلاثين يغني، وهو قول بعض أصحاب الإمام مالك، ويروى عنه أيضاً.
وقال بعضهم: أربعون، فإن نقصوا عن الأربعين بواحد فإنه لا تصح جمعتهم ولا يعتد بها، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وهناك قول باعتبار اثني عشر رجلاً.
وهناك أقوال أخرى، وأوصلها بعض العلماء إلى خمسة عشر قولاً في المسألة.
وهذه الأقوال هي أشهر أقوال أهل العلم رحمهم الله، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح يصرح بأن هناك عدداً معيناً إذا نقص لا يحكم بالاعتداد بالجمعة، وهذا هو الذي دعا العلماء رحمهم الله إلى أن يختلفوا.
فمن قال باشتراط الأربعين فإنما بنى ذلك على حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن كعب بن مالك -كما روى عنه ابنه عبد الرحمن، وثبت في الصحيح- كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة، فذكر له عبد الرحمن ذلك، فقال: إنه أول من جمَّع بنا في هزم المبيت في نقيع الخضمات.
ونقيع الخضمات يقع في حرة بني بياضة، وقد جاء مصرحاً به في سنن الدارقطني في حديث حسنه غير واحد من أهل العلم، وهذا الموضع تقريباً في جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموضع الذي أقيمت فيه أول جمعة في المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة وجمَّعوا فيها، فلما سئلوا: كم كنتم يومئذ؟ قالوا: أربعين رجلاً.
فدل هذا على أن الأربعين هي العدد المعتبر عند من يقول باشتراط الأربعين، وعلى هذا نص المصنف على أن العدد المعتبر لصحة الجمعة هو الأربعون.
والذين يقولون بأنها تصح بثلاثة احتجوا بحديث السنن، وفيه: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)، وهذا المذهب هو أقوى هذه المذاهب، وذلك أن الجمعة صلاة، وتسمى صلاة بإجماع العلماء، وتوصف بهذا الوصف الشرعي، فدل هذا على أن الثلاثة تنعقد بهم الجمعة، كما يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، واختاره جمع من المحققين من الأئمة، وعلى هذا فإنه لو اجتمع ثلاثة من غير الإمام صحّت جمعتهم وأجزأت.
ولكن لو قلنا باشتراط الأربعين فاجتمع تسعة وثلاثون فإن الجمعة لا تنعقد، ويلزمهم أن يصلوها ظهراً.
(70/4)
________________________________________
الشرط الثالث: الاستيطان
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين، وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء].
المراد بهذا إخراج أهل العمود وأهل الخيام، كأهل البادية الذين يرتحلون طلباً للمرعى، فإنهم لا يستقرون ولا يحكم بكونهم مستوطنين، ولكن لو أن الناس كانوا بجوار المدن وفي حكم ما قارب المدينة فإنه يحكم بلزوم الجمعة عليهم إذا كانوا يسمعون النداء، وإلا فالأصل أنها لا تجب على أهل العمود والخيام كأهل البادية.
قوله: [وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء].
أي: تصح الجمعة إذا وقعت في مكان قريب من البنيان، وهذا مبني على القاعدة المعروفة: ما قارب الشيء أخذ حكمه.
ووجه ذلك أن ما قارب البنيان محكوم بكونه في حكم المدينة، وعلى هذا فلو كانوا قريبين من البينان بينهم وبينه ميل أو أقلّ صح أن يجمِّعوا في هذا الموضع.
أما الدليل على هذه المسألة فحديث الدارقطني الذي سبقت الإشارة إليه، وهو أن نقيع الخضمات -وهو أحد الأبقعة والأنقعة التي كانت في المدينة كبقيع الغرقد- كان قريباً من المدينة ولم يكن متصلاً بالبنيان اتصالاً مباشراً، فدل على أنه إذا وقعت الجمعة في مكان قريب من البنيان، ورأى الإمام أن الرفق بالناس أن يصلوا في هذا الموضع، وأنه أرفق بمن كان داخل المدينة وأرفق بمن كان يأتي من البادية، فجعل الجمعة في مكان قريب من البنيان، فحينئذ نقول: الجمعة صحيحة.
فاشتراطهم الاستيطان لا يفهم منه أن الجمعة لا تصح إلا داخل المدن، بل إنها لو وقعت قريبة من المدن فإنها تأخذ حكم ما لو وقعت داخل المدن، وهذا -كما قلنا- دلت عليه السنة في حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن نقيع الخضمان قريب من المدينة، وليس بداخلها.
وتوضيح ذلك أن بنيان المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجاوز المسجد الحالي الموجود الآن، وقد يكون أقل منه بقليل، وكان إلى جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يقع مصلى العيد، وهو المعروف الآن بالغمامة، وبعد الغمامة بمسافة أبعد عن المسجد يقع بقيع أو نقيع الخضمات في حرة بني بياضة، وهو إلى الجنوب أكثر، فهذا الموضع يبعد أكثر من ميل وقليل، وهو يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكونهم جمَّعوا في هذا الموضع البعيد عن البنيان بهذه المسافة التي هي ميل وزيادة يدل على أن ما قارب المدينة يأخذ حكمها، وأنه لا حرج في إقامة الجمع قريبة من البنيان.
(70/5)
________________________________________
حكم النقص من عددها المشترط قبل تمامها
قال رحمه الله تعالى: [فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً].
لو قلنا: يشترط في صحة الجمعة أن يحضرها أربعون رجلاً.
فحضر الأربعون ثم أحدث أحدهم وقام فإنه يكون عددهم تسعة وثلاثين رجلاً، أي: دون النصاب المعتبر، فحينئذٍ يستأنفونها ظهراً، فإن رجع وأرادوا أن يجمِّعوا فلا حرج عليهم في ذلك.
فمراد المصنف أن اشتراط العدد مستصحب، فليس اشتراط الأربعين موقوفاً على الابتداء.
وقال بعض العلماء: العبرة بالابتداء، فلو ابتدأ بهم وهم أربعون ثم نقصوا أثناء الخطبة عن الأربعين صحت الجمعة وأجزأت.
واحتجوا لذلك بحديث التجارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يخطب، وقدمت العير من الشام قاموا عن النبي عليه الصلاة والسلام وتفرقوا حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع خطبته ولم يستأنف جمعته ظهراً، فدل على أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة بالناس وهم على العدد المعتبر، ثم طرأ نقص بعد ذلك عن النصاب المعتبر فذلك لا يؤثر في الجمعة، ولا يلزمهم أن يستأنفوها ظهراً.
وهذا المذهب قوي من جهة الدليل.
وقد بيّنا أن العبرة في العدد بثلاثة للأصل الذي ذكرناه من حديث السنة.
(70/6)
________________________________________
المعتبر في إدراك حكم الجمعة مع الإمام
قال رحمه الله تعالى: [ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة].
الأصل أن من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، وهذا كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، وكذلك قوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجدة، ومن أدركها فقد أدرك الصلاة)، فدل على أن من أدرك الإمام راكعاً ولو في الركعة الأخيرة فهو مدرك للصلاة.
وبناء على ذلك فالعبرة في إدراك الجمعة أن يدرك الإمام قبل أن يرفع من الركعة الأخيرة، فلو أدركه قبل أن يرفع من الركعة الأخيرة ولو بيسير وركع معه فإنه يضيف ركعة واحدة، أي أن صلاته صلاة جمعة، ولكن لو وقف فرفع الإمام قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنه يكبر مع الإمام، حتى إذا سلّم الإمام أتمها ظهراً، وهذا هو أصح الأقوال من مذاهب السلف رحمة الله عليهم، ودليل السنة الذي ذكرناه واضح في الدلالة على أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة.
لكن هنا أمران: أحدهما: إدراك الحكم.
الآخر: إدراك الفضل.
ففي الجمعة والجماعة يدرك الفضل ولو كان قبل تسليم الإمام بلحظة، فمن كبّر قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك الفضل، ولكنه إدراك نسبي يتفاوت الناس فيه على حسب الإدراك كمالاً ونقصاً، فإذا أدرك هذا القدر مع الإمام لا تصح جماعته ولا جمعته، ويعتبر مدركاً للفضل، ولذلك قال العلماء: إنه لو دخل الإنسان المسجد فوجدهم في آخر التشهد فالأفضل له أن يكبّر معهم؛ لأنه إذا كبّر معهم أدرك فضيلة الجماعة الأولى.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (فما أدركتم فصلوا)، فإن هذا النص فيه عموم، أي: أي شيء أدركتمونا عليه فصلوه معنا.
ولم يفرّق بين القليل والكثير، ولذلك قالوا: من أدرك الجماعة ولو قبل التسليم بلحظة فالأفضل أن يصلي معهم، ولا ينتظر إلى سلامهم ليحدث جماعة ثانية؛ فإنه لو أحدث الجماعة الثانية فقد أدرك جماعة في الفضل دون الجماعة الأولى، وعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يدرك الفضيلتين، فيقول لمن بجواره: إذا سلّم الإمام فائتم بي لأنه منفرد، فإذا كبّر ودخل مع الإمام أدرك فضيلة الجماعة الأولى، ثم يكبّر ويقوم إلى الركعة الأولى، وهو في حكم الجماعة المستأنفة مع الرجل الذي دخل معه.
وقد قال بعض العلماءفي حديث: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)، وفي رواية: (بسبع وعشرين): إن الخمس والعشرين هي أقل الفضائل لمن أدرك آخر الجماعة، كأن يدرك الإمام قبل أن يسلم، ورواية: (سبع وعشرين) لمن أدركها من ابتدائها، ويبقى الفضل فيما بينهما على حسب ما أدرك من الصلاة، سواءٌ أكان في أولها أم آخرها، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة.
وأما إدراك الحكم فلا يحكم بكون الإنسان مدركاً للصلاة إلا بركعة فأكثر، وعلى هذا فلو أدرك الإمام في الجمعة وهو راكع في الركعة الأخيرة فإنه قد أدرك الجمعة ويضيف ركعة واحدة، فإذا رفع الإمام من الركعة الأخيرة وأدركه بعد الرفع من الركوع فإنه مدرك لفضل الجمعة وليس بمدرك لحكمها، فيلزمه أن يتمها ظهراً، وإلا فليصلها نافلة إذا لم ينو الظهر، ثم يقيم ويصلي بعد ذلك الظهر، فهذا بالنسبة لمن أدرك الإمام بعد الرفع.
وتتفرع على هذا مسائل: منها: صلاة العيدين، فإن صلاة العيدين -إذا قيل: إنها تقضى- تقضى على الصفة إذا أدرك بعضها، ولا تقضى إذا لم يدرك شيئاً منها، فلو أدرك المأموم الإمام قبل أن يرفع من الركعة الثانية من صلاة العيد -عيد الأضحى أو الفطر- فإنه يضيف ركعة يجعلها الثانية، ويكبر فيها خمساً على صفة الركعة الثانية في صلاة العيدين، لكن لو أدرك الإمام في صلاة العيد بعد رفعه من الركوع من الركعة الثانية فإنه يتمها نافلة، وقال بعض السلف: إنه إذا فاته العيد فإنه يستأنفها أربعاً كالجمعة.
وعلى هذا فرّق العلماء بين إدراك الفضل وبين إدراك الحكم، فإدراك الفضل يكون قبل السلام ولو بلحظة، وإدراك الحكم يشترط فيه أن يدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه، وقبل أن يسمِّع من ركوعه.
وهنا مسألة، وهي: لو أنك دخلت المسجد فرأيت الإمام يريد أن يرفع، فتحرك الإمام للرفع فكبرت قبل أن يقول سمع الله لمن حمده.
فإذا انتهيت من لفظ التكبير قبل أن يبدأ بالسين من التسميع فأنت مدرك للركوع.
أما لو أنك شرعت في التكبير وقبل أن تنتهي من التكبير، بأن قلت: (الله) وقبل أن تقول: (أكبر) قال: (سمع الله لمن حمده)، فحينئذٍ تكون غير مدرك للركوع، ويلزمك أن تتم ظهراً على الأصل الذي قررناه.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً إذا كان نوى الظهر].
أي: من أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية، أو في السجدة الأولى من الركعة الثانية، أو بينهما، أو بين السجدة الأولى والثانية، أو في الثانية، أو في التشهد، أو قبل السلام ولو بيسير أتمها ظهراً إن نوى الظهر، أما إذا لم ينو الظهر فإنه لا يتمها ظهراً وإنما يتمها نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فلا ينعقد ظهره الفرض إلا بنية، فإن نواه اعتد به، وإلا فلا.
(70/7)
________________________________________
الشرط الرابع: تقدم الخطبتين
قال رحمه الله تعالى: [ويشترط تقدم خطبتين، ومن شروط صحتهما حمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله عز وجل، وحضور العدد المشترط].
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة مجردة عن الخطبة، وإليه ذهب جماهير العلماء، وقال بعضهم: إنه كالإجماع.
فلو صلى الناس الجمعة ركعتين جهريتين بدون خطبة لم تنعقد جمعة، فلا بد في صحة الجمعة أن تكون هناك خطبتان، فإذا وقعت الخطبتان فإنه حينئذ يصح لهم أن يجمِّعوا، بمعنى أن لهم أن يصلوا ركعتين تكونان تمام جمعتهم، أما لو صلوا الركعتين مجردتين عن الخطبتين فإنه لا يعتد بذلك، ولا يحكم بكونها جمعة معتبرة.
والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما صلّى جمعة إلا وخطب فيها خطبتين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يجلس بينهما) أي: يفصل بينهما بالجلوس.
فالخطبتان لازمتان لصلاة الجمعة.
قوله: [ومن شروط صحتهما حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: يشترط لصحة الخطبتين أن يستفتحهما بحمد الله.
وهذا هو الأصل في ذكر الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مواعظه أنه كان يستفتحها بالحمد، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فيستفتح بحمد الله.
وأما الصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام، فقد اشترطها بعض العلماء.
والصحيح -كما هو مذهب المالكية والحنفية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي، وكاد يكون قول الجمهور- أنه لا تشترط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الخطبتين، فلو أنه خطب الخطبتين مجردتين عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحكم ببطلان خطبته، بل إن خطبته صحيحة؛ لأن الله يقول: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وذكر الله يتحقق لو تجرد عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا لا ينبغي على الإنسان أن يخطب دون أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [والوصية بتقوى الله عز وجل] أي: الشرط الثالث: الوصية بتقوى الله عز وجل.
بمعنى أن يقول: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل).
وإن جمع بين نفسه والناس وقال: (أوصيكم ونفسي بتقوى الله) فإنه لا حرج، أو قال لهم: (اتقوا الله)، أو قال: (آمركم بتقوى الله)، أو: (آمركم بما أمر الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه)، فكل ذلك من الوصية بتقوى الله.
فالوصية بتقوى الله تكون على ضربين: الضرب الأول: صريح اللفظ بالوصية، كأن يقول: (اتقوا الله)، أو: (أوصيكم ونفسي بتقوى الله)، أو: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل).
الضرب الثاني: أن تكون الوصية بتقوى الله بالمعنى، وذلك كأن يقول: (عباد الله: أوصيكم بفعل أوامر الله وترك نواهي الله، فإنها هي وصية الله عز وجل، وهي تقوى الله) أي: فعل الفرائض وترك المحارم، فكلاهما معتبر عند من يقول باشتراط الوصية بتقوى الله عز وجل.
وأما قراءة آية فإنه ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن في خطبة الجمعة)، وكذلك حديث الصحابية التي كانت تقول: (ما حفظت سورة (ق) إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها على المنبر)، فقالوا: يقرأ آية، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وهذه الشروط مستنبطة، وهناك مذهب لبعض السلف أنه لا يشترط هذه الشروط بتفصيلها، وأنه لو ذكّر الناس فأمرهم بأي أمر من أوامر الله، أو نهاهم عن أي نهي من نواهي الله، واشتملت خطبته على البشارة والنذارة أجزأه ذلك.
وهذا هو الصحيح، فلا تشترط هذه الأمور بأعيانها حتى لا يقال للإنسان لو صلى بالناس ولم يقل لهم: أوصيكم بتقوى الله: إن خطبتك باطلة.
فهذا محل نظر، والصحيح أنه إذا ذكر الناس ووعظهم بأقل ما يصدق عليه أنه ذكر وموعظة فإنه يجزيه؛ لأن الله يقول: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فأطلق، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد خطبته بشيء معين يُلزم الناس به، وعلى هذا فإنه يجزيه أن يوقع الخطبة بما فيه أمر بما أمر الله به، وبما فيه نهي عن ما نهى الله عز وجل عنه، وما يصدق عليه أنه ذكر.
وقال بعض السلف: لو أنه ذكّر بأي ذكر، كقوله: (سبحان الله) فإنه يجزيه.
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه.
ولكن الأقوى والأشبه أن يكون الكلام مؤثراً بالدعوة إلى الخير، أو النهي عن الشر، فإن وقع ما يدل على الأمر بالخير أو النهي عن الشر أجزأه.
لكن لو أن الإنسان حافظ على تلك الشروط حتى تكون خطبته على أتم الوجوه، ليدفع عن الناس الوسوسة والشك بالاعتداد بخطبته فإن هذا أفضل، خاصة وأنه يؤلّف القلوب، ويدعوهم إلى حضور جمعته والتأثر بها، والعمل بما يدعوهم إليه من الخير.
قوله: [وحضور العدد المشترط].
أي: في الخطبة.
وهذا على ما سبق بيانه، وقال بعض العلماء: الشرط مستصحب.
وقال بعضهم: لو أنه أثناء الخطبة نقص العدد لعذر فإن الجمعة معتدٌ بها، ولا يلزمهم أن يستأنفوها ظهراً.
(70/8)
________________________________________
ما لا يشترط في الخطبة
قال رحمه الله تعالى: [ولا تشترط لهما الطهارة، ولا أن يتولاها من يتولى الصلاة].
هذا مذهب طائفة من العلماء، ويقول به أصحاب الإمام أحمد والشافعي.
وقال بعض العلماء رحمهم الله تعالى -كما هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية-: تشترط لها الطهارة.
وسامح بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة كمذهب الحنابلة.
والصحيح أنه تشترط لها الطهارة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يحفظ عنه أنه خطب الناس بدون طهارة، وعلى هذا فإنه لا ينبغي للخطيب أن يخطب الناس وهو على غير طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فحيث حكمنا أن صلاة الجمعة لا يعتد بها إلا بالخطبة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا بطهارته، والصلاة متصلة بالخطبة، فإنه حينئذ لا بد من اشتراط الطهارة.
ويقوّي هذا أن الخطبتين في مذهب بعض العلماء رحمهم الله منزّلة منزلة الركعتين الأوليين من الظهر، بدليل أنه لا يجوز فيهما الكلام، وبدليل أنه يلزم بالجلوس، حتى لو أنه حرك شيئاً من الحصى فقد لغى، كأنه في حكم المصلي.
والذين يقولون بعدم اشتراط الطهارة، يقولون: لو أن الخطيب تكلّم بكلام محرم خرج عن كونه خطيباً.
وهذا كله يؤكد أنها أشبه بالعبادة، وعلى ذلك فإنه تنبغي الطهارة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وهو قد صلى الجمعة -خطبة وصلاة- متطهراً، فمن قال: لا تشترط الطهارة يطالب بدليل يصرفنا عن هذا الأصل، ولا نحفظ دليلاً يدل على الانصراف والخروج عن هذا الأصل، ولذلك لا ينبغي للإمام أن يعرّض جمعة الناس للبطلان، بل عليه أن يحتاط وأن يصلي بهم وهو على أكمل ما تكون عليه الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر.
قوله: [ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة].
أي: لا يشترط أن يتولى الخطبة الأولى والثانية من يتولى الصلاة.
فلو كان هناك رجل قوي في الخطبة، وهذا الرجل إذا خطب أثّر في الناس، والثاني قارئ إذا قرأ انتفع الناس بقراءته، فإنهم قالوا: نترك الخطيب يخطب، والقارئ يقرأ ويصلي بالناس، فيجوز أن يخطب رجل ثم يصلي رجل آخر، بل ويجوز أن يخطب الخطبة الأولى رجل، ويخطب الخطبة الثانية رجل، ويصلي بالناس رجل ثالث.
وفي النفس شيء من هذا؛ فإن صلاة الجمعة عبادة توقيفية وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن تكون بالصفة الواردة، لكن إن وجد عذر أن يتخلّف الخطيب ويتقدم غيره فحينئذٍ يكون كحكم الاستخلاف في الصلاة، وهذا أصح الأقوال عند العلماء، ويختاره جمع من العلماء، كأصحاب الإمام الشافعي، والإمام مالك، وغيرهم رحمة الله على الجميع، فلابد أن تكون صورة الجمعة على ما حفظ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أن يخطب شخص ويصلي بالناس آخر دون وجود حاجة فلا، وبناء على ذلك فإنه لا يوسّع في مثل هذا؛ لأنه يخرج الناس عن صورة السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعته، ويُبقى على الصفة التي أدى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ونقول: إن وجد العذر ووجدت الحاجة -كأن يكون هناك أمر طرأ على الإمام يوجب خروجه كمرض ونحو ذلك- فلا حرج عليه أن يستخلف غيره، وهكذا لو ضاق به حصر أو نحو ذلك فقدّم غيره ليكمل الخطبة، أو ليصلي بالناس، فهذا أصل مقرر لوجود العذر والضرورة، فالأصل في العبادات أن تكون توقيفية على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(70/9)
________________________________________
سنن الخطبة
قال رحمه الله تعالى: [ومن سننهما: أن يخطب على منبر أو موضع عالٍ، ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين، ويخطب قائماً، ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا، ويقصد تلقاء وجهه، ويقصر الخطبة، ويدعو للمسلمين].
قوله: [ومن سننهما] أي: من سنن خطبة الجمعة الأولى والثانية [أن يخطب على موضع عالٍ].
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: (أنا أعلمكم بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة منا -أي: من الأنصار-: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس.
قال: فصنعها)، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام عليه.
فهذا الحديث فيه قصة المنبر، والمنبر: من النبر، وأصله: ارتفاع الصوت.
قالوا: إن المنبر إنما شرع من أجل أن يبلغ صوته.
والسبب في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، وكان المسلمون في المدينة قليلين حينما كانت محصورة على أهلها والمهاجرين الذين هاجروا معه، فلما فتحت مكة وقدم الناس والوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الناس في المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنبر لأجل أن يبلغ صوته في خطبته صلوات الله وسلامه عليه، فصنع هذا المنبر من ثلاث درجات، ثم خطب عليه صلى الله عليه وسلم، فصارت سنة أن يخطب الإمام على منبر، فإن تيسير وجود المنبر فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فإنه يخطب على شيء عالٍ، كأن تكون هناك صخرة يقف عليها، أو يكون هناك درج عالٍ من الخشب، أو وعاء من الحديد عالٍ، فالمهم نشز على الأرض عال يقف عليه، ولو كانوا في البر فوقف على هضبة أو ربوة فخطب عليها فلا حرج، والسبب في هذا أنه إذا علا فإن ذلك أدعى لسماعهم صوته وانتفاعهم بموعظته وخطبته.
قوله: [ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم].
هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فمذهبهم أن السنة إذا رقى الخطيب المنبر والتفت بوجهه إلى الناس أن يسلم عليهم.
وقال بعض السلف: يسلم عند دخوله للمسجد، فإن سلم عند دخوله للمسجد لم يحتج أن يعيد السلام على المنبر.
ولكن المحفوظ من فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان السلام عليهم على المنبر، فالروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سلّم كان إذا رقى المنبر وأقبل على الناس سلّم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد روى أبو النجاد أن أبا بكر وعمر كانا يفعلون ذلك.
وفي رواية منفردة عن عثمان، أنه فعل ذلك، كل ذلك يؤكد على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده السلام بعد رقي المنبر إذا أقبل على الناس.
قوله: [ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين].
أي: إذا سلم جلس حتى يفرغ المؤذن من أذانه، ويردد معه، وبعد الفراغ من الأذان يقول الدعاء المشروع، ثم يبتدئ بخطبته، فهذا هو المسنون والمشروع لظاهر النصوص، كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، هذا يدل على أن السنة أن يسكت أثناء الأذان.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سلّم على الناس وأذّن المؤذن أخذ الصحابة يكلّم بعضهم بعضاً، فإذا ابتدأ عمر خطبته قطعوا الكلام وامتنعوا عن الحديث.
قوله: [ويجلس بين الخطبتين].
هذا كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره أنه: (كان عليه الصلاة والسلام يفصل بين الخطبة الأولى والثانية بالجلوس)، وهذا الجلوس يسير، وضبطه بعض العلماء بقدر ما تحصل به الطمأنينة.
وقال بعضهم: يقارب قراءة سورة الإخلاص، أي: بقدرها من الزمان اليسير.
والصحيح أنه لا يتقيد بهذا، وإنما يكون بأقل ما تحصل به الطمأنينة، فلو جلس جلسة خفيفة تحصل بها الطمأنينة فإنه حينئذٍ يعتد بجلوسه، ولا يصل الخطبتين ببعضهما.
وهنا مسألة، وهي أنه إذا كان يجوز للإنسان أن يخطب جالساً لوجود عذر كمرض ونحوه، فخطب جالساً الخطبة الأولى فإن كيفية فصله بين الخطبة الثانية والأولى- كما قالوا- أن يسكت هنيهة بقدر جلوسه بين الخطبتين، فإذا سكت بين الخطبة الأولى والثانية كان سكوته بمثابة الجلوس.
قوله: [ويخطب قائماً].
ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه خطب قائماً)، ولذلك قبّح الصحابة رضوان الله عليهم وشنّعوا على من خطب جالساً، كما أثر عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولما دخل بعض الصحابة على بعض أهل البدع وهو يخطب جالساً قال: انظروا إلى هذا الخبيث.
وذلك لأنه تمرد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب غيرتهم على سنته صلى الله عليه وسلم، خاصةً وأن الخطبة ينبغي أن تكون على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في صفته وحاله، وهذا يؤكد ما ذكرناه، بدليل أن الصحابة كانوا يشنّعون على كل من خالفه، ولما رؤي مروان بن الحكم وهو يرفع يديه قال الصحابي: (تباً لها من يدين قصيرتين، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على الإشارة)، أي: ما كان يرفع يديه على المنبر في الدعاء إلا في الاستسقاء.
فقوله: [ويخطب قائماً] لأنه أبلغ في الهيبة، وأبلغ في التأثير، وأكثر نفعاً للناس، وذلك برؤيتهم الخطيب، خاصة إذا رآه المستمع وهو ينفعل في كلامه ويتأثر بما يقول، فإن ذلك أدعى لحصول الموعظة في القلوب وتأثرها بها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، وإذا خطب رفع صوته واشتد غضبه، وهذه هي السنة، فلابد أن يكون في الخطيب في هيئته وصورته ومنظره ما يدل على هيبته لذلك المقام، وهو مقام الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، وهو أشرف المقامات وأحبها إلى سبحانه وتعالى، وهو مقام الدعوة إلى الله عز وجل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب -كما في حديث جابر - تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه -أي: عروق رقبته عليه الصلاة والسلام-، ويشتد غضبه، ويعلو صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، قال العلماء: لأنه إذا خطب بهذه الصفة شعر الناس بهيبة الكلام الذي يقوله، أما لو خطب ببرود وخمول وبصوت ضعيف فإن الناس لا تتأثر ولا تتفاعل مع كلامه، ولا تحسب بأن هذا الكلام يخرج من إنسان يتأثر به، فإذا كان الخطيب يتأثر بالكلام الذي يقول، وكانت كلماته خارجة بوقع بليغ يدل على تأثره بالكلمات التي يلقيها على الناس، فإن الناس يستجيبون لذلك، ثم إن صورته من شدة الغضب وتغير وجهه تدعو الناس إلى دفع السآمة والملل والنوم، والإقبال عليه، حتى إنهم يشفقون عليه في حاله، ويحسون حينئذٍ أنه يتكلم عن أمر عظيم، وهذا أدعى إلى هيبة الشرع، بخلاف ما إذا تكلم الإنسان ببرود وبطمأنينة وهدوء، فإن الناس ربما ناموا وربما تكاسلوا وانشغلوا، ولكنه إذا تفاعل مع خطبته كان الأثر أبلغ، وهذا الشيء مجرب، ولذلك حمدت طريقة الإلقاء على طريقة الخطبة من الورقة، فإنه إذا خطب بالإلقاء تفاعلت الناس برؤيته وأحسوا أنه يتفاعل مع الكلام الذي يقول، بخلاف ما إذا كان يخطب من ورقة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يستحب أن يكون الإلقاء مباشرة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك المقصود منه أن يكون الأثر أبلغ في النفوس، حتى يعظم الناس شأن الخطبة وشأن المنبر، ويحس الناس بهيبة المنبر، أما لو علا المنبر ضعيف النفس ضعيف الإلقاء والتحضير فإنه لا يبلغ أثره في القلوب بموعظته، وترى الناس تستهين بالمنبر، وربما يصل إليه من ليس بأهل فلا يحصل المقصود من تأثير الناس في المواعظ والخطب، ويكون هذا مخالفاً لمقصود الشرع ومراده.
قوله: [ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا] فيه حديث اختلف العلماء في سنده، وحسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في اعتماده عليه الصلاة والسلام على العصا.
ولذلك لا ينكر على أحد اعتمد على عصا، ودرج على ذلك العلماء رحمة الله عليهم، ولكن لو خطب بدون عصا فإنهم يقولون: لا حرج عليه ولا ينكر عليه.
وبعض العلماء يرى أنه ما دام الحديث مختلفاً فيه فإنه يخطب بدون عصا.
قوله: [ويقصد تلقاء وجهه].
أي: إذا خطب الخطيب لا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأنه إذا التفت يميناً ظلم أهل اليسار؛ لأن صوته يعزب عنهم، وإذا التفت يساراً ظلم أهل اليمين؛ لأن صوته يعزب عنهم، ولذلك قالوا: يقصد تلقاء وجهه.
أي: يجعل وجهه إلى الأمام، فلا يلتفت يميناً ولا شمالاً.
وفي هذه المسألة دليل خفي أشار إليه بعض المحققين، كالإمام الحافظ ابن الملقن رحمه الله، فقد أشار إليه في حديث أنس في الصحيحين، وهذا يدل على عمق فهمه رحمة الله عليه، وذلك أنه ذكر أن الأعرابي -كما في الرواية الصحيحة- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة التي استسقى فيها، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي للناس، دخل من باب عمر)، وكان يسمى: باب القضاء، وهي دار كانت لـ عمر بيعت وصارت دار قضاء، وهذا الباب كان في الجهة الغربية إلى الشمالية من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منه هذا الأعرابي.
قال أنس: (فمضى حتى صار تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبله).
ووجه الدلالة في انتزاع هذا الحكم -كما قالوا- أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في خطبته لما احتاج الأعرابي أن يتكلف المسير من الجهة الغريبة حتى ينتصف المسجد ويأتي تلقاء وجهه، فقالوا: دل هذا على أنه كان إذا خطب قصد تلقاء وجهه عليه الصلاة والسلام.
واستثنى بعض العلماء الدروس وأثناء المجالس العامة، فقالوا: إنه إذا خشي على الناس أن ينام بعضهم، أو يحصل له ما يدعوه إلى السآمة والملل فلا حرج أن يلتفت، خاصة عند تقرير المسائل وضبطها، أما في الخطب فالسنة أن يقصد تلقاء وجهه، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وقالوا: هذا كله أدعى لهيبة الخطيب ولإقبا
(70/10)
________________________________________
الأسئلة
(70/11)
________________________________________
حكم إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية

السؤال
هل هناك حرج لو كانت الخطبة بلغة غير عربية لكي يفهمها المصلون؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاختلف العلماء رحمهم الله في صحة خطبة الجمعة بغير العربية على قولين مشهورين، والصحيح أنه يبتدئ الخطبة والموعظة بالكلام العربي حتى يحصِّل القدر المعتبر لصحتها، ثم بعد ذلك يخطب بلغة القوم ولا حرج عليه حينئذٍ، أما لو تمحضت بالأعجمية، فإن في صحتها نظراً، ولذلك لا بد من ورودها على الوجه الذي ذكرنا، فيخطب بالعربية على القدر المجزي بما فيه بشارة ونذارة، ثم بعد ذلك شأنه بالقوم يعظهم ويذكرهم.
والله تعالى أعلم.
(70/12)
________________________________________
حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة ومدى تأثيره على الصلاة

السؤال
إذا كان لا يجوز الكلام أثناء الخطبة، فهل معنى ذلك أن من تكلم بطلت جمعته ولا أجر له؟ وهل يؤثر ذلك على صحة صلاته؟

الجواب
إن تكلم أثناء الجمعة فإن جمعته صحيحة ولكنه ينقص في الأجر، ويكون كلامه من اللغو الذي يوجب نقصان أجره في الجمعة، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا جمعة له) أي: لا جمعة كاملة.
والله تعالى أعلم.
(70/13)
________________________________________
الجمع بين السعي المذكور في آية الجمعة والمشي بالسكينة المذكور في الحديث

السؤال
كيف نجمع بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)؟

الجواب
قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: امضوا إلى ذكر الله، وليس المراد به السعي الذي هو الاشتداد في السير، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة دليلاً على أنه يجوز السعي عند إقامة الصلاة، والصحيح أن ذلك خلاف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فدل نهيه عليه الصلاة والسلام عن السعي عند المضي إلى الصلاة على أنه لا ينبغي من المكلف هذا الضرب من السير، وهذا اللفظ في الحديث عام شامل لصلاة الجمعة وغيرها، وتكون الآية: (فاسعوا إلى ذكر الله) المراد بها مطلق السعي الذي هو المضي، كما تقول: سعيت إلى المسجد، بمعنى: مضيت إليه، ويؤكد ذلك قراءة ابن مسعود: (فامضوا إلى ذكر الله)، والقراءة تفسر قراءة، وعلى هذا يكون السعي هنا في الآية الكريمة ليس على ظاهره، ولا يعارض منصوص السنة.
والله تعالى أعلم.
(70/14)
________________________________________
حكم الالتزام بخطبة الحاجة في خطبة الجمعة

السؤال
هل يسن بدء الخطبة يوم الجمعة بخطبة الحاجة؟

الجواب
أما خطبة الحاجة فقد جاءت عنه عليه الصلاة والسلام وهي مطلقة، وأما بالنسبة لخطبة الجمعة فالأمر فيها واسع، وهكذا مجالس الذكر والمحاضرات والندوات، وأما الالتزام والتقيد بخطبة الحاجة إلى حد أن الإنسان لا يكتب رسالة ولا كتاباً، ولا يخطب، ولا يحاضر، ولا يتكلم إلا ويستفتح بخطبة الحاجة، فهذا التقيد الزائد عن الحد لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالثابت في الأحاديث الصحيحة (حمد الله وأثنى عليه)، وهذا فيه حديث عائشة في الصحيحين، وحديث جابر في صحيح مسلم، وكلها بلفظ: (حمد الله وأثنى عليه)، فلم يتقيد بلفظ معين، ولو كان تعتد لقال: (خطب خطبة الحاجة) ولذلك السنة أن ينوع، وانظر إلى كتب الأئمة والسلف ودواوين العلم، فإنك لن تجد أحداً صدّر كتابه بخطبة الحاجة، فالالتزام بها والتقيد يشعر بأنها واجبة، حتى إن بعض طلاب العلم ربما أنكروا على الخطيب، أو على المحاضر، أو على المدرس، أو على الواعظ إذا استفتح موعظته أو خطبته بغير خطبة الحاجة، أو استفتح كتابه بغير خطبة الحاجة، وهذا محل نظر، وحديث خطبة الحاجة يدل على فضل هذه الخطبة، ولكن لا يتقيد بها حيث يشعر أو يظن الناس كأنها واجبة لاستفتاح الذكر.
والله تعالى أعلم.
(70/15)
________________________________________
حكم تقديم الحافظ للصلاة بالناس يوم الجمعة على الخطيب غير الحافظ

السؤال
إذا خطب الإمام الخطبة وكان في القوم من هو أقرأ منه، وهل يقدمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليؤمكم أقرؤكم لكتاب الله)؟

الجواب
لا يقدمه؛ لأن صلاة الجمعة متصلة بخطبتها، وبناء على ذلك يسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خطب بالناس صلى بهم، وعلى هذا فإننا نقول: يغتفر هذا اليسير، وخاصة إذا كان إماماً راتباً فإنه: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وإن كان على عمومه، فلا حرج أن يتقدم ولو كان هناك من هو أقرأ منه، ما دام أنه أقدر على الموعظة والتأثير على الناس، قال العلماء: المهم في صلاة الجمعة يوم الجمعة الخطبة، ولذلك لا يلي الجمعة القارئ، بمعنى أنه لو كان قارئاً لا يحسن الخطبة ولا يحسن توجيه الناس فإنه يقدم من يحسن توجيه الناس على القارئ؛ لأن مقصود الجمعة يوم الجمعة التذكير والخطبة، ولذلك أُمر الناس بالسعي إليها ونهوا عن الكلام أثناء خطبة الخطيب، وكل ذلك تعظيم لشأن الخطبة، الأمر الذي يدل على أن الشرع قصدها، وعلى هذا فإنه إن كان خطيباً مؤثراً وكلامه نافعاً، أو كان فقيهاً عالماً ولكنه دون غيره في القراءة فإنه أولى، والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من ولي الخطبة يلي الصلاة.
والله تعالى أعلم.
(70/16)
________________________________________
حكم الاحتباء يوم الجمعة بالحبل أو باليدين

السؤال
هل النهي عن الاحتباء أثناء الخطبة يختص بمن كانت معه حبوته -أي: الحبل الذي يحتبي به- أم أنه إذا جمع رجليه بيديه يقع في النهي؟

الجواب
النهي عن الاحتباء فيه حديث تكلم العلماء رحمهم على سنده، وقال من يقول به: إن النهي عن الاحتباء لعلتين: العلة الأولى: خوف النوم، وذلك أنه إذا احتبى لم يأمن أن يسترسل في نومه، ثم بعد ذلك ينتقض وضوءه فتبطل صلاته، وكذلك ينشغل عن ذكر الله وعن الموعظة التي ينبغي أن يستمع إليها ويتأثر بها.
العلة الثانية: أنه إذا احتبى انكشفت عورته، وذلك لأن الناس كانوا يأتزرون، والاحتباء مع الائتزار لا يمنع من كشف العورة في كثير من الأحوال والصور، ولذلك قالوا: إنه يبقى النهي على عمومه، سواء، أكانت معه الحبوة أم لم تكن معه.
أما الذين يفرقون بين وجودها وعدمها فقالوا: إن كانت معه حبوته -كأن يكون معه القماش الذي يدار، أو يلف غطاء رأسه عليه ويعقده، أو يأتي بحزام ثم يجمع بالحزام ركبتيه إلى صدره- فإنها تعينه على النوم، فلا يحتبي بها، أما لو لم تكن معه حبوته وإنما احتبى بيديه، فإنه إذا نام سقط واستيقظ، ففرقوا بين أن تكون معه حبوته وبين ألا تكون معه، وهذا راجع إلى العلة؛ لأنهم لما نظروا أن العلة هي النوم قالوا: إذا كانت معه حبوته يسترسل وينام ولا يشعر، ولكن إذا لم تكن معه حبوته فإنه يجمع بيديه، فإذا نام انفكت يديه فيستيقظ.
ففرقوا بين أن تكون معه الحبوة أولاً تكون معه، ولكن ظاهر السنة العموم، ولذلك يكون تخصيص هذا العموم من جهة علته، والتخصيص من جهة العلة إن قويت قوي وإن ضعفت ضعف.
والذي يظهر والله أعلم -عند من يقول باعتبار هذا الحديث- أن النهي على العموم أولى، وعلى ذلك يشمل من جمع بحبوة أو جمع بيديه فقط.
والله تعالى أعلم.
(70/17)
________________________________________
الواجب على الخطيب إذا نسي الخطبة الثانية

السؤال
إذا نسي الخطيب الخطبة الثانية، ونزل من المنبر، وأقيمت الصلاة، فهل يجوز أن يرجع؟ وما الحكم لو صلّى ولم يؤد الخطبة الثانية؟

الجواب
سئل بعض العلماء عن هذه المسألة فقال: من أغرب ما رأيت أن تكون الأمة كلها نائمة، ولا أحد ينبه الخطيب، حتى أثناء إقامة الصلاة، فهي أشبه بقولهم: (إذا لم تغرب الشمس).
ولذلك لا يرون أن هذه المسألة لها حقيقة ووجود.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فبعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، وبناء على ذلك لا يصح أن يخطب خطبة واحدة وينزل ويصلي، ويلزمه حينئذٍ أن يعيد الجمعة إذا صلى.
وبعضهم يقول: يرجع ويخطب الخطبة الثانية، ثم يقيم للصلاة ويصلي، فحينئذٍ يصح بناؤه.
وهذا أقوى في الاعتداد بصلاته، وسقوط الشبهة في الاعتداد بها.
والله تعالى أعلم.
(70/18)
________________________________________
حكم الصلاة على النبي أثناء الخطبة والجهر بها

السؤال
هل يحوز للمأمومين أن يؤمنوا إذا دعا الإمام، أو يجهروا بالصلاة إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون ذلك في أنفسهم بقاءً على الصمت وعدم الكلام؟

الجواب
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال بعض العلماء: إذا صلى يصلي جهراً، ولا حرج عليه؛ لحديث: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين، فقلت: آمين)، فقالوا: يصلي عليه لأنه مأمور بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام عند ذكره، فقالوا: هذا واجب، فيجب عليه، ولا حرج أن يفعل هذا.
وقال جمهور العلماء: يصلي في نفسه.
وهو أقوى، وحينئذٍ يكون أمره عليه الصلاة والسلام دليلاً على سقوط الصلاة عنه، وهو قوله: (إذا قلت لصاحبك -والإمام يخطب- أنصت فقد لغوت)، فتأمل هذا الحديث، فإنه يخاطب صاحبه ويقول: أنصت.
وهذا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهو واجب، ومع ذلك قال: (فقد لغوت)، فدل على أنه لا يتكلم ولو كانت الصلاة واجبة، وهذا يدل على عظم شأن الخطبة، وأنه ينبغي الإنصات لها والتأثر بها، وكذلك أيضاً عقد العزم على العمل بما فيها من الخير.
والله تعالى أعلم.
(70/19)
________________________________________
حكم رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء

السؤال
هل يجوز رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء؟

الجواب
رفع اليدين بالدعاء بين الخطبتين قول طائفة من العلماء، وأنه مما يتحرى لإجابة الدعوة، أي أنه مما يظن أن فيه الساعة التي هي ساعة الجمعة، ولذلك يدعو فيها، ولكن رفع اليدين بقصد القربة يعتبر من الحدث، أما لو أنه دعا دعوة مطلقة فلا حرج عليه في ذلك، أو لم يتخذ ذلك ديمة ولم يعتقد فيه فضلاً فلا حرج عليه؛ لمطلق الأحاديث في جواز رفع اليدين في الدعاء، والوقت الذي بين الخطبة الأولى والخطبة الثانية يشرع فيه الكلام، ويشرع فيه الفعل، وهذا دل عليه الحديث في صحيح البخاري أن الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عمر رضي الله عنه وأرضاه.
والله تعالى أعلم.
(70/20)
________________________________________
مواضيع يستحب الحديث عنها في خطبة الجمعة والتذكير بها

السؤال
ما المواضيع التي ينبغي أن يعتني الأئمة بها في خطبة الجمعة؟ وهل كان من هدي السلف تفقيه الناس ما يجهلونه من الأحكام في خطبة الجمعة، أم يقتصر على الوعظ والإرشاد؟

الجواب
أما ظاهر القرآن فخطبة الجمعة دعوة إلى ذكر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الناس أحوج ما يكونون في خطبة الجمعة إلى من يذكرهم بالله عز وجل، ويذكرهم بوعده ووعيده، وتخويفه وتهديده، وجنته وناره، وبشارته ونذارته، وما عنده من الخير، وما عنده من الشر، وأن الخير لمن أطاعه والشر لمن عصاه، فتذكير الناس بذلك هو المقصود، وإذا وفق الخطيب لأن يمس شغاف قلوب الناس بتذكيرهم بوعد الله عز وجل، وما أعد للأخيار من جنته ودار كرامته، وكذلك تخويفهم وتهديدهم من وعيده، وما أعده للأشرار من ناره وعقوبته، فخرج الناس من الخطبة وقد بلغتهم الموعظة، وهم على الرجاء والخوف في قلوبهم، فإن ذلك أدعى لصلاح أمورهم كلها.
فلو أن خطيباً تكلم بموعظة عن الآخرة، فإنه سيتأثر بها صغير الناس وكبيرهم، وعالمهم وجاهلهم، وسفيههم ورشيدهم، وسيصبح التأثر على جميع طبقات من حضر من أفاضل المجتمع، فإذا خرجوا لسلوكهم وتصرفاتهم، وخرجت هذه الموعظة معهم؛ لأنها لا تتقيد بزمان، ولا تتقيد بمكان، ولا تتقيد بحدث، ولا تتقيد بشيء معين، فلو خرج الواحد منهم من المسجد فرأى عورة من عورات المسلمين قال: أستغفر الله.
فغض بصره، ولو سمع أمراً محرماً.
قال: أستغفر الله.
لأن الجنة والنار جعلت أمام عينيه، ولذلك ينبغي التركيز على تبشير الناس بما عند الله تعالى، وتخويفهم مما عند الله، فإن هذا يدعوهم إلى صلاح جميع أمورهم، وقد قالت أم المؤمنين: (كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار).
فالناس إذا خافت ورجت ما عند الله تركت زمام أمورها لمن خوفها بالله عز وجل وبشرها بما عنده؛ لأن الخوف والرجاء مظنة السلامة، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقال عن عباده الأخيار: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فجمع لهم بين الخوف والطمع، وبناء على ذلك فإن المقصود من الخطبة أن يمس الإنسان شغاف قلوب الناس حتى يكونوا مطيعين لله سبحانه وتعالى، فيفعلون أوامره ويجتنبون نواهيه، ويخرج كل إنسان إن كان أخطأ في أمور دنيوية لكي يصحح هذه الأمور الدنيوية على وفق شرع الله، وإن كان في أمور دينية اتقى الله عز وجل فيها فلزم السنة وترك البدعة والتزم الجماعة، وسار على نهج الكتاب والسنة.
فهذا بالنسبة لأفضل ما يكون من ذكر الله عز وجل، فإذا ذكّر بهذا التذكير، وكانت الخطبة قائمة على الإيمان بالله وقواعد الإيمان به المدعمة بالأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم انتفع الناس على اختلاف طبقاتهم.
أما بالنسبة لما يلي ذلك من الأحكام والأمور التي لها مساس بالفقه والمعاملات فهذا بقدر حاجة الناس، فإذا رأى الناس يحتاجون إلى تفقيههم في العبادات فعل، كمواسم الحج، فإنه يذكرهم ببعض الأمور المهمة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يذكرهم بالمعاملات المحرمة، وكيف يتبايعون، وما الذي يحرم عليهم، خاصة إذا عمت البلوى في بعض المعاملات المحرمة، فإنه يخطب فيها خطبة يبين للناس حرمة هذا النوع من التعامل؛ لأن هذا من التذكير بالله عز وجل.
وكذلك يذكرهم بأمور المسلمين وما يتربص به أعداؤهم من الكيد والأذية لهم، من تشتيت كلمتهم وتفريق صفوفهم، والنيل من ديانتهم وقربهم من الله عز وجل، فهذا أمر مهم ومطلوب.
فلابد للخطيب أن يكون عنده تنويع في مثل هذه الأمور، أما المبالغة في الأشياء، بمعنى أن الإنسان يبالغ في جانب معين، فيأتي الناس إليه خطبته في أشياء معينة يدور فيها، ويحيا ويموت عليها، وكأن الإسلام حصر فيها، فهذا من الغلو، فكونه ينحصر في هذه الجوانب، أو يرى العناية بواقع المسلمين ومشاكلهم فيحقر من يذكر الناس بالجنة والنار، فهذا ليس من السنة في شيء، فهو أقرب إلى البدعة منه إلى السنة؛ لأنه غلا في دين الله عز وجل، وعدّ أن العناية بواقع المسلمين ومشاكلهم هو الإسلام كله، وهذا ليس بصحيح، بل إن الناس يحتاجون إلى عناية؛ لأن صلاح الناس يبتدئ من الناس أنفسهم، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع، وهذا الذي أمامك إن أصلحه الله بموعظتك وتذكيرك فإنه أدعى إلى أن يخرج إلى بيته وإلى زوجه وإلى إخوانه وأخواته فيؤثر فيهم.
فكون الإنسان يعتني بالإسلام عموماً، ولا ينحصر في جانب معين، هو أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
(70/21)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [3]
من الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة: أن صلاتها تكون ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ويسن أن يقرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، ومنها: حكم إقامة أكثر من جمعة في البلد الواحد، ومقدار السنة التي تصلى قبل الجمعة وبعدها.
وللجمعة سنن ينبغي مراعاتها والمحافظة عليها، ومنها: الاغتسال، والتطيب، وليس أحسن الثياب، والتبكير، والدنو من الإمام، وقراءة سورة الكهف، والإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
(71/1)
________________________________________
أحكام صلاة الجمعة
(71/2)
________________________________________
عدد ركعاتها، والسنة فيما يقرأ فيها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الجمعة ركعتان].
أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن الجمعة ركعتان، وهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الأحاديث الصحيحة، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة.
قال رحمه الله تعالى: [يسن أن يقرأ جهراً في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين].
قوله: (يسن) أي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه قرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، أما اختيار الجمعة فالمناسبة في ذلك أنه يوم الجمعة، ولذلك إذا قرأها ختمها بأمرهم بما يدل على أهمية شهود صلاة الجمعة؛ لأن الله ختمها بالأمر بحضور صلاة الجمعة وشهودها والنهي عن التخلف عنها، وأما سورة المنافقون؛ فلأنها تشتمل على صفاتهم المذمومة التي حذّر الله منها عباده المؤمنين، فيكون ذلك أدعى إلى دعوة الناس إلى الإخلاص وترك الرياء وصفات المنافقين التي لا يحبها الله عز وجل، فذكر صفات أهل النفاق فيه قرع للقلوب، وتذكير لها وتحذير لها من سلوك هذا السبيل الذي سمّى الله أهله، ونفّر العباد من اتباعه.
(71/3)
________________________________________
التفصيل في حكم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد
قال رحمه الله تعالى: [وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة].
والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يجمِّعوا أكثر من جمعة واحدة، وكان أهل قباء على أميال من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجدهم له الفضل والمكانة، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمِّعوا، وهذا يدل على أنه لا تشرع أكثر من جمعة في المدينة الواحدة، فإن وجدت الحاجة كاتساع العمران كما هو موجود الآن، وأصبح الناس في مشقة أن يشهدوا الجمعة في مسجد واحد فيجوز التعدد بقدر الحاجة.
وأول تعدد للجمعة وقع في بغداد في عهد بني العباس، وذلك في عصر هارون الرشيد رحمه الله، فإنه ازدحم الناس على جسر دجلة، وشهد أهل جانب بغداد الشرقي الجمعة فكانوا يزدحمون على الجسر، فربما سقطوا بدوابهم في النهر وغرقوا وماتوا، ولربما مات الضعفاء من النساء والأطفال ونحوهم، فاسترخص الناس في أن يقيموا الجمعة في الشط الثاني من بغداد، فأذن لهم ورخص لهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وهي أول مسألة حصل فيها تعدد الجمعة كما يذكر العلماء رحمة الله عليهم، ولما أفتاهم أن يجمِّعوا أمرهم أن يعيدوها ظهراً احتياطاً.
قال رحمه الله تعالى: [فإن فعلوا، فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها].
قوله: [فإن فعلوا] أي: عددوا من دون حاجة فهم آثمون، كأن تكون هناك جمعة في حي وهناك حي قريب منه، فيقول أهل الحي القريب: لو أننا أحدثنا جمعة في حينا، ولا حاجة أن نذهب إلى الحي الثاني.
فإحداثهم للجمعة محرم إذا لم توجد حاجة وضرورة، فحينئذٍ إذا أحدثوها أثموا.
فإن صلوا فهل العبرة بالجمعة القديمة، أم العبرة بالجمعة الحديثة، أم العبرة بالجمعتين وكلتاهما صحيحة؟ هذا فيه تفصيل بين العلماء: فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأول الجمعتين، فأول الجمعتين وقعت هي المجزئة، فلو أن المسجد الحديث بكّر وصلى الجمعة قبل فجمعته هي المعتدّ بها وهي المعتبرة، ولا ينظر إلى قديم ولا إلى جديد وهذا يقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.
القول الثاني: العبرة بالمسجد القديم، وهو قول الجمهور، كما ينص عليه أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وأصحاب الإمام أحمد، وكذلك جمع من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فدل على أن المسجد الذي هو أقدم جمعته هي المعتبرة، وعلى هذا فالجمعة في المسجد الثاني لاغية، سواءٌ أوقعت قبل جمعة المسجد القديم أم وقعت بعده، فالعبرة بالمسجد القديم، سواء أتقدم أم تأخر، ولا حاجة إلى تفصيل العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك وجه آخر -كما درج عليه المصنف- أن العبرة بالجمعة التي أذن فيها الإمام وهذا مشكل؛ لأنه ربما أذن الإمام لأصحاب الجمعة الثانية، والجمعة الأولى في الأصل كانت موجودة قبل إذن الإمام، فحينئذٍ لازم هذا أن يحكم ببطلان الجمعة بالمسجد العتيق وصحتها في المسجد الحديث، وظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، فيستصحب نص القرآن على أن العبرة بالمسجد القديم؛ لأنه أحق، والمسجد الجديد داخل عليه، وأهله ظلموا المسجد القديم بدخولهم عليه، ولذلك يعتد بالجمعة التي تقع في المسجد القديم، ولو كانت متأخرة، أما لو كانت وجدت حاجة لإحداث الجمعة الثانية فلا إشكال، فكلتا الجمعتين صحيحة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة].
لو أذن الإمام بكلتا الجمعتين فقد قيل: العبرة بالأسبق وقوعاً، وهي التي وقعت ولو كانت في الجمعة القديمة، فإنها هي الصحيحة، ولو أن الجمعة التي وقعت في المسجد الحديث وقعت قبل فإنها هي الصحيحة، والصحيح ما ذكرناه أن العبرة بالمسجد القديم سواء أستويا في الإذن أم استويا في الوقت، أم شك في الوقت، فالعبرة بالمسجد القديم على ظاهر آية التوبة، وهي نص قوي في الاعتداد بالمسجد القديم وعدم الاعتداد بالمسجد الحديث الطارئ عليه.
قال رحمه الله تعالى: [وإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا].
إذا كانت العبرة بالوقت فيرد

السؤال
لو وقعتا معاً فما الحكم؟
و
الجواب
تبطل الجمعتان؛ لأنه لا بد من تصحيح إحدى الجمعتين وإلغاء الأخرى، والضابط في التصحيح مستوٍ فيهما، فلا وجه لتصحيح إحداهما دون الأخرى، قال: [بطلتا]، فيصلونها ظهراً.
والصحيح أن العبرة بالجمعة القديمة -كما ذكرنا- حتى ولو استويتا في الوقت.
(71/4)
________________________________________
بيان مقدار السنة بعد الجمعة
شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من السنن التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فمنها ما يتعلق بالصلاة كالسنن الراتبة، ومنها ما يتعلق بالمكلف من ناحية تهيؤه لصلاة الجمعة ومضيه إليها، فقال رحمه الله في بيان السنة الراتبة التي تكون بعد الجمعة: [إن أقلها ركعتان]، وهذا على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه صلى بعد الجمعة ركعتين)، وهاتان الركعتان كان عليه الصلاة والسلام يصليهما في بيته، ولذلك حفظ بعضها من أحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
وكذلك ثبت عنه في حديث ابن عمر: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد الجمعة ست ركعات)، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال: فهناك أحاديث أنه صلى ركعتين، وهناك أحاديث أنه صلى أربعاً، وأنه صلى ست ركعات، وأنه بيّن أن السنة يوم الجمعة ست ركعات.
فبعض العلماء يقول: إذا صلى في المسجد يصلي أربعاً، وإذا تسنن في بيته يصلي ركعتين جمعاً بين النصوص، فما جاء عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن من صلاته عليه الصلاة والسلام بالركعتين يكون في بيته، فنعمل الحديث على ظاهره، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته في المسجد أربعاً بعد الجمعة يكون في المسجد فهذا وجه للجمع.
ومنهم من خير فقال: يصلي تارة ركعتين، ويصلي تارة أربع ركعات، والاختلاف ليس اختلاف تضاد، إنما هو اختلاف تنوع، فإن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعاً، كأنه يرى أن أقصى ما يصلى هو الأربع ركعات.
ومن العلماء من قال: إن السنة هي ست ركعات، كما ثبت في حديث ابن عمر، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات في مسجده وركعتين في بيته، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو أن السنة أقصى ما يكون فيها ست ركعات، وأقل ما يكون فيها الركعتان، ولذلك من أراد أن يصيب السنة على أكمل وجوهها وأتمها، فليصل ركعتين في بيته إذا رجع، ويصلي قبلها أربعاً في المسجد.
ولكن إذا لم يتيسر له أن يصلي الأربع في المسجد فإنه يصلي الست في بيته، وإذا لم يكن له بيت، كأن يكون صلى ويريد أن يرجع إلى ضيافة، أو إلى دعوة ولا يتيسر له الرجوع إلى بيته يصلي في المسجد ستاً، وهذا هو المحفوظ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يصلي ست ركعات في مسجده، كما أثر عنه حينما قدم إلى مكة رضي الله عنه وأرضاه.
والخلاصة من هذا أن للجمعة راتبة، وتختص راتبتها بالبعدية، وليس للجمعة راتبة قبلية، وذهب بعض السلف إلى أن للجمعة راتبة قبلية، وأنه يصلي قبل الجمعة ركعتين، وهذا مأثور عن بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم، وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والأقوى الذي دلت عليه السنة أنه لا يصلى قبل الجمعة راتبة، ولكن الأفضل والسنة للإنسان إذا قدم إلى المسجد قبل صلاة الجمعة أن يكثر من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان بعض الأعمال والفضائل يوم الجمعة: (ثم دخل المسجد فصلى، ثم جلس فأنصت)، ولذلك استحب العلماء أن يكثر من الصلاة، خاصة وأنه قبل الجمعة بعد الزوال، وهناك قول يقول: إنها ساعة إجابة، ولذلك يستكثر من الصلاة ويصلي؛ لأن أفضل الأعمال هي الصلاة، فيستكثر من الصلاة، ولكن لا يتقيد بالسنة الراتبة، أي: ليس لها سنة راتبة.
واختلف العلماء في الصلاة بين الأذان الأول والثاني: فمذهب طائفة من أصحاب الشافعي رحمهم الله أنه يصلي بين الأذان الأول والثاني؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، فقالوا: لا حرج أن يصلي بين الأذان الأول والثاني، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا أذن المؤذن الأول قام فصلى حتى يشرع الخطيب في خطبته، فيصلي بين الأذان الأول والثاني.
وذهب الجمهور إلى أن حديث: (بين كل أذانين صلاة) يختص بالأذان والإقامة، وأنه لا يشمل الجمعة ولكن مع هذا لا ينكر على من يصلي بين الأذان الأول والثاني، وليس هناك نص صحيح في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فلو أن إنساناً صلى لا ينكر عليه، خاصة وأن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) يحتمله، وقد قال به أئمة، والأصل في المسائل الخلافية أنه إذا تمسك أحدهم بظاهر السنة المحتملة فإنه لا ينكر على من فعلها، ولكن إذا اعتقد الفضل بأن قال: أقصد الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فإذا اعتقد مزية الفضل في هذا الوقت يكون قد أحدث، أما لو أنه صلى صلاة مجردة، فإن الصلاة في هذا الوقت النصوص دالة على مشروعيتها وجوازها، ولا ينكر على من فعلها، وليس هناك وجه لتحريم الصلاة إلا بنص من الكتاب أو السنة.
ولذلك يبين في هذه المسألة، فإذا صلى بين الأذان الأول والثاني، وأخذ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والأذان الأول أذان شرعي، وقد أجمعت الأمة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعد عهد عثمان رضي الله عنه على هذا الأذان، وقال: إنني أتأول ظاهر هذا الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فهذا وجه تحتمله السنة، ولذلك لا ينكر على من فعله، إنما ينكر لو اعتقد مزية الفضل، فإذا اعتقد مزية الفضل فقد أحدث في دين الله ما ليس منه باعتقاد فضل لوقت لم يرد النص به عيناً، أما لو صلى مطلق الصلاة، أو صلى لتأول ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فإنه لا ينكر عليه، خاصة أن من أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) السبب فيه أنه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، فشرع أن يصلى بين الأذان والإقامة، ولذلك يستجاب الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك نظراً إلى كونه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء لاشتمال الأذان على أفضل ما يقال وأعظم الكلمات وأجلها عند الله، وهي شهادة التوحيد، فتفتح أبواب السماء، وهذا المعنى ينطبق على الأذان الأول؛ لأنه أذان شرعي أجمعت الأمة على اعتباره والاعتداد به.
قال رحمه الله تعالى: [وأكثره ست].
أي: أكثر هذه السنة الراتبة البعدية ست ركعات، والصحيح -كما قلنا- أنه ليس هناك راتبة قبلية وإنما راتبة بعدية فقط، وهذا مما تختص به الجمعة، بخلاف صلاة الظهر في كل يوم فلها راتبة قبلية وبعدية، وقد تقدم الكلام على هذه الراتبة، وبيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أعدادها عند كلامنا على صلاة السنن الراتبة.
فقوله: [أكثرها ست] أي: أكثر ما يتنفل به كراتبة بعدية، ولكن لو أن إنساناً أراد أن يصلي بعد الجمعة نافلة مطلقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عبسة: (فإذا زالت فأمسك عن الصلاة، فإذا انتصفت في كبد السماء فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم، فإذا زالت فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، ولذلك لم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلا حرج أن يتنفل النفل المطلق، لكن النفل الذي يقصد منه راتبة الجمعة البعدية لا يكون إلا على أقصى درجة، وهي ست ركعات، وهذا هو أقصى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن حديث الست فيه جمع بين الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأربع والذي ورد عنه بالركعتين.
(71/5)
________________________________________
سنن الجمعة
(71/6)
________________________________________
الاغتسال
قال رحمه الله: [ويسن أن يغتسل لها].
أي: يسن للإنسان أن يغتسل لصلاة الجمعة، والسبب في هذا أن بعض الصحابة كانوا يقدمون على الجمعة من العوالي ومن قباء، ومن نحوها من الأماكن التي هي من ضواحي المدينة، وكانت الأرض أرض زراعة، فإذا مشوا في الطريق يغشاهم الغبار والتراب، قالت أم المؤمنين: فَعَلَتِ المسجد منهم زهومة بمعنى أنه مع عرقهم وما يكون في الثياب من عرق فاحت هذه الرائحة في المسجد، وتضرر الناس، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام صغيراً، فتضرر الناس بذلك، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يغتسلوا للجمعة، وهذا يدل على أن السنة أن يغتسل، وهذا الاغتسال فيه حكم عظيمة: أولها: أنه يقوي نفس الإنسان على ذكر الله عز وجل، وذلك أن الاغتسال يقوي الإنسان وينشطه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا دخل إلى مكة اغتسل بذي طوى)، وذي طُوى مثلث الطاء، ويسمى الآن الزاهد، اغتسل فيه عليه الصلاة والسلام ونزل وطاف، وهذه سنة يضيعها كثير من المعتمرين إلا من رحم الله، فمن السنة أن يغتسل الإنسان قبل الطواف؛ لأنه إذا اغتسل قويت نفسه، خاصة وأنه قد جاء من السفر في عناء وتعب، فإذا طاف وهو قوي النفس نشيطاً مرتاح البال، مع وجود الاستجمام بإصابة الماء للبدن، قويت نفسه على ذكر الله واستجمت، وأصبح في جلد على الطواف والسعي، فالاغتسال يقوي النفس.
ثانياً: أن الناس يحضرون ويدخلون يوم الجمعة، فإذا اجتمعوا في المسجد ولم يغتسلوا علت منهم الزهومة، وأضر بعضهم ببعض، وهذا جعل بعض العلماء رحمة الله عليهم ينبه على أن الإنسان إذا دعي إلى حلق الذكر ومجالس العلماء التي يكثر فيها الناس أنه يفضل أن يغتسل لها، لا بقصد العبادة، وإنما بقصد المعنى الذي قصده الشرع من الاجتماع، وفرق بين أن يغتسل بقصد القربة والعبادة، وبين أن يغتسل من أجل دفع ضرر النتن الذي قد يكون في ثيابه، أو يكون بسبب الازدحام مع غيره، فقالوا: إن الغسل يوم الجمعة يدفع عن الناس ضرر الرائحة الكريهة.
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الجمعة والذهاب إليها: (من غسّل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب) إلى آخر الحديث، وقد اختلف العلماء في قوله: (غسل واغتسل): فمنهم من يقول: (غسل واغتسل) معناهما واحد، والمراد به تأكيد الغسل.
ومنهم من يقول: (غسل) أي: تسبب في غسل زوجته، بناء على أنه يصيب أهله قبل أن يذهب إلى الجمعة، فإنه إذا أصاب الأهل قبل ذهابه إلى الجمعة انطفأت الشهوة، فكان أغض لبصره، وأحصن لفرجه، وأبعد له عن الفتنة، فإذا أقبل على الذكر أقبل بنفس مطمئنة، ويكون منشرح الصدر، بعيداً عن الوساوس والخطرات، خاصة وأنه في يوم الجمعة لا يأمن من وجود الاختلاط الذي قد تصاحبه فتنة النظر.
وقال بعض العلماء: (غسل واغتسل) أي: غسل رأسه واغتسل لسائر جسده.
وقال بعضهم: قوله (غسل) أي: أنه توضأ، (واغتسل) أي: غسل جميع بدنه.
وهذه كلها أوجه لها ما يبررها ويدل على اعتبارها، وقال بها جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وقول المصنف: [يسن] السنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فلو قلنا: دعاء الاستفتاح سنة فإن من كبّر وقرأ الفاتحة مباشرة لا يأثم، وهكذا الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) بعد التسميع والتحميد، وكذلك: (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فإن هذه الأدعية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فقوله: [يسن أن يغتسل] أي أنه إذا اغتسل فأفضل، وإذا لم يغتسل فلا إثم عليه، وهذا مذهب طائفة من العلماء.
والصحيح: مذهب الظاهرية ومن وافقهم من أهل الحديث أن غسل الجمعة واجب، وذلك للأمور الآتية: أولاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف صحيح.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
ثالثاً: أننا وجدنا الصحابة قد فهموا اللزوم للغسل، وذلك أن عثمان رضي الله عنه دخل وعمر يخطب في الناس يوم الجمعة، فقال له عمر: (أي ساعة هذه؟) أي: ما بك وما شأنك قد تأخرت عن الجمعة؟ فقال: (يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وقدمت فقال: والوضوء أيضاً) كأنه ينكر عليه، فدل على أن الغسل كان معروفاً أنه لازم لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه يقوى القول بالوجوب.
ثم إن دليل النظر يقوي هذا القول، وهو أنه إذا لم يغتسل أضر بالناس، وذلك بحصول النتن، وإن كان النتن منه يسيراً فاليسير مع اليسير من غيره كثير، والجبال من دقائق الحصى، ومعنى هذا أن دفع هذا الضرر مطلوب شرعاً، وبناء عليه فإنه يعتبر أشبه ما يكون بالوجوب واللزوم منه إلى السنة.
أما الغسل للجمعة فإنه أفضل ما يكون عند إرادة الخروج، فهذا أفضل ما يكون، فمثلاً: لو كان يخرج الساعة التاسعة أو العاشرة، فإنه يؤخر غسل يوم الجمعة إلى هذه الساعة؛ لأنه إذا أخّر غسله إلى هذه الساعة حقق مقصود الشرع من حصول النظافة والنقاء، ومن ثم قال العلماء: الأفضل في غسل الجمعة أن يقع قريباً جداً من الخروج، ولكن إذا كان غسله عند الخروج فيه ضرر عليه كأن يكون في شدة برد، فإنه لا حرج أن يقدمه بوقت على قدر ما يدفع به الضرر عن نفسه.
لكن لو أن إنساناً صلى الفجر واغتسل، أو طلعت عليه الشمس واغتسل، فهل يصدق عليه أنه حقق الواجب من غسل الجمعة؟ الذي يقوى ويظهر أن هذا الغسل ينبغي أن يكون قريباً من الخروج، وذلك للرواية في الصحيح: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، فيكون مطلق قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) مقيداً بقوله: (إذا أتى أحدكم الجمعة)، خاصة وأنه يفهم من النص أو الأمر بهذا الغسل أن يكون نقياً لصلاة الجمعة، فلو أنه اغتسل قبل الجمعة بوقت ربما زال هذا المعنى، فيعتريه ما يعتري الإنسان من العرق ونحو ذلك، فيذهب المقصود من غسله ليوم الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [وتقدم]: أي: تقدمت صفة الغسل، وهذه العبارة تُعقِّب فيها صاحب المتن بأن فيها نظراً، وليس المراد أنها فاسدة من كل وجه، فإذا كان الكلام مستقيماً والحجة مستقيمة وقال الخصم: (فيه نظر)، فإن قوله هذا يكون مكابرة وعناداً، وقد يكون الكلام فيه احتمال الخطأ، فقولهم: (فيه نظر) يعنى أنه يحتمل الخطأ، أو فيه خلل في ضابط من ضوابطه أو أصل من أصوله الذي اعتمدها.
فقول المصنف: [وتقدم] لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، وهذا احتمال، وحينئذٍ على هذا الوجه يكون الذي تقدم حكم غسل الجمعة.
وإما أن يكون معناه: تقدمت صفة الغسل، أو تقدم بيان الغسل، أو بيان ما يتحقق به الغسل الذي يسن.
فإن كان معنى قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، فهذا هو الذي جعلهم يقولون: (فيه نظر)؛ لأنه في باب غسل الجنابة لم يذكر أن غسل الجمعة سنة، فيكون قول الشارح: (فيه نظر)، أي: إن تقدم حكم غسل الجمعة بأنه سنة ففيه نظر.
والواقع أن المصنف رحمه الله قصد بقوله: [وتقدم] بأنه تقدم ضمناً ولم يتقدم صراحة، وتوضيح ذلك أنه لما تكلم في باب الغسل ذكر من موجباته خروج المني دفقاً، وتغييب الحشفة، وإسلام الكافر، والحيض إلى آخره، ولم يذكر يوم الجمعة، فلما لم يذكر الجمعة مع الموجبات فهمنا أن غسل الجمعة مسنون وليس بواجب، وهذه إشارة خفية، ومن هنا لم يتبين لمن تعقب المصنف رحمه الله وجه كونه قدم الحكم، والواقع أنه قدم الحكم، ولكن قدمه بدقة.
وإن كان مراده بقوله: [وتقدم] أي: تقدم بيان ما يتحقق به الغسل المعتبر، فقد تقدم، فإنه في الغسل بيّن ما يتحقق به الغسل في باب غسل الجنابة، وبناء على ذلك فلا وجه لتعقب صاحب المتن، وكلامه صحيح ومعتبر على الوجهين: إن قلنا: أراد الحكم، فلا إشكال.
وإن قلنا: أراد الصفة، فلا إشكال.
(71/7)
________________________________________
التنظف والتطيب
قال رحمه الله تعالى: [ويتنظف ويتطيب].
هذا الأمر بالنظافة يفهم منه الأمر بالغسل، وذلك أنه لما أمر الشرع بالغسل فإن معنى ذلك أن يتنظف الإنسان، وهذا صحيح، فإننا نأخذ الأحكام إما من منطوق الشرع، أو مما نفهمه من الشرع، وهذا من الفقه، فإنه إذا جاء النص يأمرنا بغسل الجمعة فإننا نفهم أن المراد أن يكون الإنسان على نظافة ونقاء، إضافة إلى أن الأصل في شهود المساجد ودخولها أن يكون الإنسان على نقاء، يقول تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] مما يتضمن الزينة المطلقة، سواء أكانت زينة البدن التي يصحبها نقاؤه ونظافته، أم الزينة التي يراد بها ستر العورة، وقد استدل العلماء رحمهم الله بهذه الآية على اشتراط ستر العورة، وقد تقدم معنا.
قوله: [يتنظف].
الغسل قد يكون فيه نظافة وقد لا يكون فيه نظافة، فالإنسان قد يبلّ جسده بأن يدخل في بركة ويغتسل ولكن لا يتنظف، بمعنى أنه لا يدلك جسده، ولا يبالغ في إزالة الشعث عنه، فالنظافة فوق الغسل، وبناء على ذلك فإن السنة والأفضل للإنسان أن يبالغ في نظافة جسده حتى يكون محققاً لمقصود الشرع من زوال الأذى الذي يتضرر به الناس، وهو وجود الرائحة الكريهة.
وقوله: [ويتطيب].
الطيب هو الرائحة، ويشمل الطيب الذي يكون سائلاً، أو يكون له رائحة كالبخور والند والعود، ونحو ذلك، فهذا كله من الطيب، والطيب من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (ومس من طيب أهله)، وهذا يدل على أن السنة أن يتطيب الإنسان، وقد جاء في حديث فضل المضي إلى الجمعة: (ومس طيباً) أي: يمس من طيبه طيب بيته أو طيب أهله، وقالوا: التعبير بطيب الأهل لأن الإنسان إذا أراد أن يتجمل على أبلغ ما يتجمل فإنه يتجمل لزوجه، ولذلك اختار هذا النوع من الطيب الذي يكون به أبلغ ما يكون في زينته، وأحسن ما يكون في رائحته، وكأنه لما قال: (طيب أهله) لأن الإنسان لا يحب أن يضر أهله عند نومه معهم ونحو ذلك، كذلك أيضاً في مخالطته لإخوانه، فإنه يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب وأفضله.
(71/8)
________________________________________
لبس أحسن الثياب
قال رحمه الله تعالى: [ويلبس أحسن ثيابه].
لأنه يوم عيد، والجمعة عيد الأسبوع، ولذلك يلبس أحسن ما يجد، وهي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد شهود صلاة الجمعة، أو الصلاة عموماً فالأفضل له أن يلبس أحسن ما يجد.
ومن الأخطاء الشائعة عند الناس اليوم -وينبغي أن ينبهوا لها- شهود بعض الناس المساجد بملابس نومهم، فهذا أمر لا ينبغي، وهو يخالف أمر الله عز وجل بأخذ الزينة عند دخول المساجد، وإذا رأيت إنساناً يدخل المساجد بهذه الثياب تنبهه، ولا مانع أن تبالغ في بيان أن هذا الأمر لا ينبغي للإنسان الذي يقف بين يدي الله عز وجل، فإنه لو مضى إلى مقابلة إنسان عظيم فإنه يتجمل ويلبس أحسن ما يجد، ولوجد في نفسه المنقصة أن يخرج بمثل هذه الثياب، والأصل عند العلماء وضوابط العلماء التي قرروها أنه لو خرج الإنسان بالثياب الداخلية أمام الناس والملأ عامة فضلاً عن المسجد فإنه تسقط عدالته، ويعد هذا من خوارم المروءة، فالذي يخرج بثياب نومه أمام الناس في الشارع، فضلاً عن أن يدخل بيت الله عز وجل والمساجد التي يشهدها الناس على اختلاف طبقاتهم فإنه قد حرم مروءته.
ومن الحياء والخجل أن يخرج الإنسان بثياب نومه إلى بيوت الله عز وجل، فينبغي إجلال هذه البيوت، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، ولذلك ينبغي للإنسان أن يشهدها وهو على أحسن وأفضل ما يكون، قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم أن يتخذ ليوم جمعته ثوبين سوى ثوبي مهنته) أي: ما عليه من ضرر لو أنه جعل ثوباً لمهنته، وثوباً لجمعته، مع أن ثياب المهنة يقابل بها الناس، فكيف إذا كان بثياب بيته التي لا يقابل بها الناس؟ ولو أنه دعي لمقابلة إنسان يكرمه ويجله ويعظمه لما خرج بثياب نومه، ولأحس هذا الإنسان أنه يزدريه وينتقصه، فكيف بالله جل جلاله؟! ولذلك ينبغي للإنسان أن يظهر نعمة الله عز وجل عليه.
كما أن خروج الناس بمثل هذه الثياب فيه أثر نفسي على الأبناء والأطفال، فإن الأبناء والأطفال إذا رأوا آباءهم، أو رأوا كبار السن يخرجون بمثل هذه الثياب إلى المساجد احتقروا أمر الصلاة، وتقالوا أمر المساجد، ولكنهم إذا رأوهم يأخذون زينة المساجد تأسوا بهم واقتدوا بهم، فكان شعوراً نفسياً يعين على إجلال بيوت الله عز وجل ومساجده، وإجلال شعائره التي من أعظمها الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس، وإذا رأيت إنساناً يصلي بجوارك وعليه هذه الثياب تنبهه، وإذا كان الإنسان له مكانة لا مانع أن تقرعه وتقول: إن هذا لا ينبغي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فالحياء يدعو الإنسان ألا يخرج بمثل هذه الثياب؛ لأن هذه ثياب البيت.
(71/9)
________________________________________
التبكير في الذهاب إلى الصلاة مشياً
قال رحمه الله تعالى: [ويبكر إليها ماشياً].
هذه هي السنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا وأنصت)، فقوله: (من بكر وابتكر) قالوا: بكّر على وزن (فعَّل)، وهذه الصيغة تدل على زيادة المبنى، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، قالوا: إن هذا يدل على تكلف البكور، والبكور في أول النهار، واختلف العلماء رحمة الله في التبكير للجمعة متى يكون؟ فمنهم من يرى أن التبكير للجمعة يكون من بعد الزوال، كما هو قول طائفة من فقهاء المدينة من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني أن التبكير يكون من أول النهار، وهو مذهب الجمهور، فيمشي من بعد طلوع الشمس.
بل قال بعضهم: لو صلى الفجر وجلس كان أبلغ في التبكير، أي: لو أنه بعد صلاة الصبح، وبعد رجوعه إلى بيته وإصابته لطعامه خرج إلى مسجده، فهذا أبلغ ما يكون من البكور.
وإن كان الأقوى أنه بعد طلوع الشمس؛ لأن فيه الساعات الأول التي فيها الفضل، والتي سبق بيانها وأنه: (من خرج في الساعة الأولى كان كأنما قرب بدنة ... ) الحديث، فهذا الفضل لا يكون إلا للمبكر، وهو الذي يخرج في أول الساعات.
فالفضل يكون في البكور، ولأن البكور فيه مسارعة للخير ومسابقة إليه، والله سبحانه وتعالى ندب عباده إلى المسارعة والمسابقة إلى الخير، فقال سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، فالذي يسارع إلى الجمعة يسارع إلى مغفرة من ربه، والذي يسابق إلى الجمعة يسابق إلى مغفرة من ربه، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن دافعه إلى ذلك رجاء رحمة الله، ورجاء عفوه ومغفرته ورضوانه، فالفضل في التبكير للجمعة، وأعظم الناس أجراً في الجمعة أبعدهم إليها ممشى، وأسبقهم إليها تبكيراً.
(71/10)
________________________________________
الدنو من الإمام
قال رحمه الله تعالى: [ويدنو من الإمام].
لأنه في القديم كانت المساجد لا يوجد فيها الأجهزة التي يبلغ فيها الصوت، فكلما دنوت من الإمام كلما كان ذلك أدعى لسماعك، والمقصود من الجمعة أن تسمع الموعظة، ولذلك من أفضل ما يكون للعبد يوم الجمعة أن يكون تأثره بالخطيب بليغاً، حتى ولو كانت خطبته لا يجد فيها تلك الفصاحة وتلك البلاغة، لكن ينبغي أن يتفاعل مع ما يقوله الخطيب وما يأمر به من أوامر الله وما ينهى عنه من زواجر الله، فإنه إذا فعل ذلك، وتأثر بما يقوله الخطيب فإنه من أفضل الناس وأعظمهم أجراً، وكان العلماء رحمهم الله يستبشرون للعبد بذلك، ويعدونه من دلائل الإيمان.
وما جعلت هذه المنابر، وما أمر الأئمة بإلقاء الخطب عليها إلا للعمل وللتأثر بما يقولون، فإذا رزق الله العبد أذناً صاغية وقلباً واعياً، فإن هذا من نعم الله عليه، وقد كانوا يقولون: من أعظم الناس أجراً يوم الجمعة أفضلهم تأثراً بقول الخطيب.
وكان بعضهم يقول: إن من دلائل القبول أنه إذا وجد نفسه في الخطبة تتأثر وينكسر قلبه ويخشع، وربما يبكي، ويحس أن هذه الزواجر تقرعه وتذكره وتعظه، وأنها تنصحه، ويجد لها وقعاً بليغاً على قلبه، فليحمد الله، عز وجل على عظيم نعمة الله عليه، فهذا من نعم الله، ومما يخص الله به من شاء من عباده.
وقد اختلف العلماء في مسألة وهي: لو أن الإنسان يوم الجمعة كان في بادية، أو في مكان ليست فيه أجهزة مكبر الصوت، فلو أنه جاء مبكراً فأدرك الصف الأول في طرفه بحيث لا يسمع الخطبة، ويمكنه أن يأتي في الصف الثاني فيسمع الخطبة، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع بعده عن سماع الإمام، أم يكون في الصف الثاني مع سماعه وتأثره؟ ومثل هذه المسألة أيضاً: صلاة الفجر، فقد اختلفوا فيها: هل الصف الثاني أفضل إذا كان الصف الأول أبعد عن الإمام بحيث لا يسمع قراءته، أم الفضيلة للصف الأول وإن لم يسمع قراءة الإمام؟ فبعض العلماء يقول: إن قربه من الإمام ولو كان في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أفضل من الصفوف الأول، ويرجح ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فقالوا: إن هذا يدل على فضل هذه القراءة، خاصة وقد قيل: إن الفجر تشهده الملائكة وقيل: إنه يشهده الله عز وجل، أي أن النزول إلى السماء الدنيا يستمر إلى قراءة الفجر إعظاماً لهذه الصلاة.
والصحيح: أن قوله: {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، معناه: تشهده الملائكة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار يجتمعون في صلاة الصبح والعشي) التي هي صلاة العصر، فقوله: {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] معناه: تشهده الملائكة.
وفائدة الخلاف أن من يقول: الأفضل أن يكون في الصف الثاني والثالث مع السماع والتأثر، يقول: السماع والتأثر مقصود من الشرع، فكأن صلاة الجمعة قصد منها أن يسعى الإنسان ويتأثر، فيحقق بذلك مقصود الشرع والنفع بها متعدد، خاصة وأنها من جنس العلم، والصف الأول من جنس العبادة، والعلم مقدم على العبادة، ففضل العلم مقدم على العبادة.
ومن يقول: الصف الأول أفضل، فذلك لعموم النصوص.
وثانياً: أن الصف الأول فضيلته متصلة، أي: أنه يتصل بنفس فعل الصلاة، والسماع لا يعتبر في كل الصلاة وإنما في بعضها، فإذا صلى الصلاة كلها في الصف الأول فالفضيلة كاملة له، لكن السماع لا يكون إلا في حال الخطبة، ولا يكون إلا في حال القراءة، كما في صلاة العشاء يكون في الركعتين الأوليين، وفي صلاة المغرب في ثلثي الصلاة وهما الركعتان الأوليان.
فقالوا: الأفضل أن يصلي في الصف الأول.
والحقيقة أن الصف الأول أفضل من جهة النص ومن جهة المعنى، ومقصود الشرع من ناحية الفائدة، فإن القرب من الإمام أفضل، لكن والحمد لله مع وجود الوسائل الموجودة الآن لا شك أنه يرتفع الخلاف، ويكون الصف الأول أفضل مطلقاً؛ لأنه يسمع الإمام ويصيب فضيلة الصف الأول.
(71/11)
________________________________________
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
قال رحمه الله تعالى: [ويقرأ سورة الكهف في يومها].
أي: السورة التي ذكرت فيها قصة أهل الكهف، وتسمى سور القرآن بما يذكر فيها، وقد اختلف السلف في ذلك: فبعضهم يقول: لا يقال: سورة الكهف، ولا يقال سورة البقرة، وإنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها الكهف.
والصحيح أنه يجوز أن يقال: سورة الكهف، وسورة البقرة؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر شفاعة القرآن قال: (تقدمهم سورة البقرة وآل عمران)، وقال: (من قرأ الآيتين من آخر البقرة في ليلته كفتاه)، فهذ يدل على مشروعية تسمية السورة مباشرةً بقوله: سورة البقرة، وسورة آل عمران، ونحو ذلك.
وذكره قراءة سورة الكهف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث -وحسنه غير واحد من الأئمة- قوله: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نوراً كما بين السماء والأرض)، وهذا يدل على فضل قراءة هذه السورة يوم الجمعة.
وللعلماء وجهان في قراءتها: فمنهم من يقول: تقرأ في ليلة الجمعة، ولا حرج أن يقرأها في الليل أو النهار فهو بالخيار.
ومنهم من يقول: لا تكون قراءتها في الليل، وإنما بين طلوع الشمس إلى غروبها.
ويفضل بعض العلماء أن تكون قبل الصلاة، بمعنى أن تكون ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، وهذا أقوى وذلك لأنه يكون في أول النهار، فلما يقرأ القرآن تكون عبادته معينة له على صلاة الجمعة وحضور القلب، فكلما شهد الإنسان الجمعة وهو أكثر خيراً وأكثر براً كلما كان أكثر تأثراً وأكثر انتفاعاً وأرجى للقبول من الله عز وجل، ولكن لا حرج لو قرأها بعد صلاة الجمعة، أو بعد العصر.
وينبغي أن ينبه على أنه لا يعتقد الفضل لوقت معين بعينه لقراءة هذه السورة، فلو قال إنسان: لا تقرأ هذه السورة إلا في الساعة الأولى من الجمعة، فإن تحديده لهذه الساعة بدعة، وذلك لأنه أحدث؛ لأن الشرع أطلق وهو قيد، ولا يجوز تقييد المطلقات من الشرع إلا بدليل يدل على هذا التقييد.
قال العلماء: سبب تخصيص سورة الكهف بالقراءة يوم الجمعة لما فيها من ذكر ابتداء الخلق، وكذلك لما فيها من ذكر مآل الناس من مشاهد يوم القيامة وعرصات يوم القيامة، ولما فيها من التزهيد في الدنيا وضرب الأمثال على حقارة الدنيا، خاصة قصة صاحب البستان، وما كان منه من كفر نعمة الله عز وجل عليه، وكيف أن الله انتقم منه لما كفر نعمة الله سبحانه وتعالى، وبيان حقيقة الدنيا بقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [الكهف:46]، فكون الإنسان يقرأ مثل هذه الآيات، ويتأثر بها ويحس أنها تخاطبه لا شك أن هذا يدل على فضل هذه السورة، وكذلك ما اشتملت عليه من الدعوة إلى طلب العلم وفضل طلب العلم -كما في قصة الخضر وموسى- كل هذا يدل على فضل هذه السورة لما تشتمل عليه من معانٍ جليلة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة بسورتي السجدة والإنسان، قالوا: لما فيهما من ذكر الآخرة، والتذكير بمآل الناس يوم القيامة من نعيم وجحيم.
(71/12)
________________________________________
الإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى: [ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم].
قوله: [ويكثر الدعاء] أي: يوم الجمعة، والسبب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم -أو قال: مؤمن- يسأل الله شيئاً إلا أعطاه) أياً كان هذا الشيء من خيري الدنيا والآخرة.
ومعنى ذلك أنه يشرع الإكثار من الدعاء يوم الجمعة، ويسن الإكثار منه، ولذلك لما كان قيام ليلة القدر له فضله شرع في العشر الأواخر أن يحيا ليلها بالقيام، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شد المئزر وأحيا ليله، فلما نبه الشرع على أن: (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه) دل على أنه يشرع ويسن الإكثار من الدعاء حتى يصيب الإنسان هذه الساعة، يقول العلماء: التنبيه على الساعة دعوة إلى الإكثار من الدعاء؛ لأنه لما نبه على أن هناك ساعة فكأنه يقول: ادعوا وأكثروا من الدعاء علكم أن توافقوا هذه الساعة.
والعكس بالعكس، فإذا منع الشرع، أو كان هناك رجاء إجابة وخيف من دعوة ظالمة يمنع من الدعاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أولادكم لا توافقوا باباً في السماء مفتوحاً فيستجاب لكم)، فحذر ومنع؛ لأن هناك ساعة يستجاب فيها الدعاء، فمنع من الدعوة التي فيها ضرر.
والساعة التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم قليلة؛ لأن الرواية الصحيحة تقول: (أشار بيده يقللها) حتى قال بعض العلماء: إنها برهة من الوقت وجاء في بعض الأحاديث أنها ساعة كاملة تشمل جزء النهار، والنهار اثنتا عشرة ساعة كما في الصحيح، فهي ساعة بكاملها، وهي ستون دقيقة، وإن كان الأقوى في رواية الصحيح أنها ساعة يقللها عليه الصلاة والسلام.
وقد اختلف العلماء في وقت هذه الساعة: فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنها بعد ارتفاع الشمس بقدر ذراع أي: بعد الارتفاع بقليل، وهذا قول ضعيف؛ لأن هذا الوقت منهي فيه عن الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي)، فدل على كونها في وقت صلاة، وإن كان اعتبر بعض العلماء هذا بأنه إذا جلس بعد صلاة الفجر ينتظر الإشراق وينتظر الصلاة يكون في حكم المصلي ولكن هذا محل نظر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) أي: الصلاة المفروضة، وهذا يجعله لا يوافق هذا الفضل إلا إذا كان جالساً في مصلاه بعد الفجر إلى أن يصلي الجمعة، وهذا من المشقة بمكان.
وقال بعض العلماء: تكون بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة إلى طلوع الشمس، وهذا أيضاً مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مشكل؛ لأن هذا الوقت أيضاً ليس بوقت صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النافلة فيه، ولذلك يضعف أن يكون هذا الوقت وقت إجابة؛ لأن تلك الساعة يكون فيها العبد مصاحباً للصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي)، كما في رواية مسلم.
وقال بعض العلماء: إنها من بعد الزوال مباشرة.
أي: من حين أن يبدأ الزوال تكون هذه الساعة، وهذا القول فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قبل صلاة الظهر أربعاً قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، ولما التقى شيخ الإسلام -رحمه بالله- بالتتار كان يقول للقائد: انتظر -أي: لا تبادر المعركة- حتى تزول الشمس وتهب الرياح، ويكون الوقت أرجى لقبول الدعاء ساعتها، ويدعوا المسلمون على المنابر.
فهذا الوقت من أرجى الأوقات، وهو من بعد زوال الشمس، أو من بداية زوال الشمس.
وبعض أصحاب هذا القول: من بعد الزوال ولو لحظة أي: بعد أن تزول الشمس يقوم الإنسان ويصلي بعد زوالها مباشرة.
القول الرابع: أنها من بعد الزوال إلى أن تنتهي الصلاة.
القول الخامس: أنها من حين يشرع الإمام في الخطبة إلى أن تنتهي الصلاة.
القول السادس: أنها من حين يشرع في الخطبة إلى أن تقام الصلاة.
القول السابع: أنها عند إقامة الصلاة.
القول الثامن: أنها أثناء إقامة صلاة الجمعة، أي: من حين تقام الصلاة ويكبر تكبيرة الإحرام إلى أن يسلم.
القول التاسع: أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس.
القول العاشر: أنها قبل غروب الشمس بساعة.
القول الحادي عشر: أنها في الثلاث الساعات التي قبل غروب الشمس.
والأفضل والأولى وهدي السنة أن يسكت عن هذه الساعة؛ لأن الشرع سكت، وما ورد من الأحاديث فهو متعارض، مثل حديث أبي سعيد مع حديث أبي ذر، فالأحاديث فيها معارضة، مع أن الصحابة كانوا يفهمون هذا.
لكن الأقوى من ناحية النص والدليل أنها تكون في وقت تشرع فيه الصلاة، وهو من طلوع الشمس قيد رمح، إلى أن تصلى صلاة العصر، ويستثنى أثناء الزوال، وبعض العلماء لا يستثني وقت الزوال؛ لأنه يرى أن ساعة الزوال في يوم الجمعة مرتفعة، أي: ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم)، فمن بعد طلوع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر هذا هو الوقت المشتمل، وأما ما عدا هذا من الأقوال فإنه يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي).
وأما القول بأنها بعد العصر فبناءً على أنه إذا جلس ينتظر صلاة المغرب أنه في صلاة، وأما ما أثر عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة فمشكل؛ لأنه قال: (وهو قائم)، ولم يقل: وهو يصلي.
مع أنه جاء في بعض الروايات: (وهو يصلي)، لكن رواية: (وهو قائم يصلي) تؤكد على أنها صلاة ذات ركوع وسجود، وكونه يقال: إنه إذا انتظر الصلاة فهو في صلاة فهذا حكم الصلاة، وفرق بين الحكم والوصف، فلو قال عليه الصلاة والسلام: (وهو يصلي) لاستقام القول، لكن لما قال: (وهو قائم يصلي) فالقيام يدل على وجود الفعل للصلاة بذاتها.
والذي تطمئن له النفس أنها ساعة من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر، ما خلا ساعة الزوال، على أصح أقوال العلماء من أن ساعة الزوال في يوم الجمعة وفي غيرها على حد سواء يمسك فيها عن الصلاة، خلافاً للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد استدل بحديث رواه في مسنده وهو حديث ضعيف، وفيه استثناء يوم الجمعة، والصحيح: أن ساعة الزوال أو ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء لا يصلى فيها للإطلاق في النصوص، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده من الأدلة الصحيحة.
كما أن الذي تطمئن إليه النفس أنه يمسك عن تحديد هذه الساعة؛ لأنه منهج الشرع، ولذلك جاء في ليلة القدر أن الأفضل أن يمسك عنها؛ لأنه أدعى إلى اجتهاد الناس وإقبالهم على العبادة، وبعض العلماء رحمة الله عليهم كان يستغرب من إهمال أول النهار، فيقول: إن الأقوال كلها انصبت على آخر النهار، وانصبت من بعد الزوال، مع أن ساعة الضحى تعتبر من ساعات الغفلة، ويوم الجمعة الناس فيه أكثر بيعاً وشراءً ولهواً في الدنيا، ولا يقبل على العبادة في مثل هذا الوقت إلا من كان حاضراً فقط، مع أنها ساعات فضل بالتبكير إلى الجمعة، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يطمئن إلى الساعات في أول النهار، ولكن الأفضل والأولى أنه شيء سكت عنه الشرع، فإذا لم يرد الدليل الصحيح الصريح فإنه يبقى على الإطلاق الذي أطلق الشرع فيه هذه الساعة، خاصة وأنهم لما قالوا: بعد صلاة العصر فإن ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت طويل، وقد جاء في الحديث: (أشار بيده يقللها)، وكذلك من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فقد يصل إلى أكثر من ساعة، ولذلك يضعف هذا القول، ويقوى القول الذي يقول: إنها في ساعة تباح فيها الصلاة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.
قوله: [ويكثر الدعاء]، هذا أمر يضيعه كثير إلا من رحم الله، فالناس عندما كانت قلوبهم مملوءة بالخير وبإعظام الله جل جلاله، وكان الدين قوياً كانوا في مثل هذه الأيام المباركة يكثرون من ذكر الله عز وجل، ومن سؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، ولكن قلّ أن تجد اليوم من يعمر أوقاته في يوم الجمعة بذكر الله عز وجل، وهذا من الغفلة، وقد كان السلف يكثرون من تلاوة القرآن، وكذلك من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لو تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) وسألت نفسك: كم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لوجدتها صلوات معدودة، بل إنك قد تجد من الناس من لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صلاته، أو حين يأمر الخطيب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غفلة الناس.
فهذا اليوم مأمور بالإكثار فيه من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستحي العالم وطالب العلم والعامي أن يعرض اسمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه إلا النزر القليل، ولذلك على الإنسان أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، ويأمر أبناءه وأهله بهذه السنة التي أضاعها الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً)، وهذا فضل عظيم، وفيه أجر كثير للإنسان، فعلى الإنسان أن يكثر من الصلاة والسلام على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكانوا يقولون: من نعم الله التي أنعم بها على أهل الحديث ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يكثرون الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
واختلف العلماء في الأفضلية في يوم الجمعة: هل هي أن يكثر من تلاوة القرآن، أو من ا
(71/13)
________________________________________
الأسئلة
(71/14)
________________________________________
التنفل يوم الجمعة في وقت النهي

السؤال
كيف يكثر المصلي من النوافل يوم الجمعة، مع كون بعض أوقاتها منهياً عن الصلاة فيه؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن معنى السؤال أن يوم الجمعة لو أن إنساناً أكثر فيه من النوافل فإنه ربما صلى أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وبناءً على ذلك يقولون: كيف يُكثر من النوافل مع أنه ربما يوافق وقت النهي؟! والجواب أن وقت النهي في يوم الجمعة للعلماء فيه قولان: فمذهب طائفة من العلماء -كالشافعية ومن وافقهم- أن يوم الجمعة يجوز للإنسان أن يصلي فيه النافلة ولو كان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وفيه حديث رواه الشافعي في مسنده، ولكنه ضعيف.
والذي يظهر أن يوم الجمعة وغيره على حدٍ سواء، وأنه لا يتنفل إذا انتصف النهار؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في هذه الساعة، وهي ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، وقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها جهنم) نسأل الله السلامة والعافية.
قالوا: هذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، فإنه لم يقل: إلا يوم الجمعة.
وهذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، ولا يصلي الإنسان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء.
وتعرف هذا الوقت المنهي عن الصلاة فهي بأن تنظر إلى الوقت الذي يكون فيه إشراق الشمس، والوقت الذي يكون فيه غروب الشمس، وتحسب ما بينهما من الزمان، ثم تقسمه على اثنين، فذلك هو وقت انتصاف النهار.
فإذا كان طلوع الشمس الساعة السادسة، وغروبها الساعة السادسة، فإن المجموع سيكون اثنتي عشرة ساعة، فحينئذٍ تقسمها على اثنين فتكون ست ساعات، فعند بلوغ الساعة الثانية عشرة والنصف حينئذ تمسك عن الصلاة، ويبقى هذا القدر الذي يقارب عشر دقائق إلى سبع دقائق لا تصلي فيه، فتحسب ما يبن الإشراق -أي: الإشراق المحض، وليست صلاة الإشراق الموجودة في التقاويم- ووقت غروب الشمس؛ لأن صلاة الإشراق قد يُحتاط فيها بارتفاع الشمس قيد رمح، فلا بد وأن يكون الوقت دقيقاً في الإشراق ودقيقاًً في الغروب، فتحسب ما بينهما وتقسمه على اثنين، فيكون الناتج هو وقت انتصاف الشمس في كبد السماء، ففي هذه اللحظة تقف عن الصلاة، وإنما تصلي قبلها أو بعدها، والسبب في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مثل هذا الوقت، والنصوص عامة، ويوم الجمعة وغيره على حدٍ سواء، والله تعالى أعلم.
(71/15)
________________________________________
الجمع بين القول بوجوب الغسل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت)

السؤال
إذا قلنا بوجوب غسل الجمعة فكيف نجيب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وهل يقتضي كونه واجباً إثم من لم يغتسل؟

الجواب
اختلف العلماء في ثبوت هذا الحديث، فمن أهل العلم من ضعَّفه، وإن كان تحسينه قوياً عند طائفة من المحدثين، لكن القول بثبوته وكونه حسناً لا يعارض ما ثبت في الصحيح، فيجاب من وجهين: الوجه الأول: ما اختاره العلماء بأنه يحتمل أن يكون قبل أمر العزيمة، وهذا من أقوى الأجوبة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موسِّعاً على الناس، فقال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) قالت أم المؤمنين عائشة: (فلما علت المسجد منهم زهومة)، وهذا يدل على أنه أمرٌ متأخر لازدحام الناس، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على الجذع، فلما كان في آخر حياته خطب على المنبر -كما في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه- لأجل كثرة الناس وامتلاء المسجد، وهذا يؤكد أنه كان في أواخر العصر المدني.
وعلى هذا يكون الجمع بين الحديثين أنه كان رخصة في أول الأمر.
الوجه الثاني: إذا قيل بالمعارضة فإن هذا الحديث لا يقوى على معارضة النص الذي معنا، وذلك أن النص الذي معنا مما اتفق عليه الشيخان، والقاعدة في الأصول أنه إذا تعارض الصحيح والحسن يُقدَّم الصحيح على الحسن، كما قال صاحب الطلعة في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح أي: الحديث الحسن نحتج به كما نحتج بالحديث الصحيح، ولكن إذا عارض الصحيح فإننا نسقطه في مقابل ما هو أصح منه وأثبت، وبناءً على ذلك فلا إشكال باعتماد القول الذي يقول برجحان وجوب غسل الجمعة، خاصة وأن هناك عدة أحاديث: منها: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، وحديث عائشة: (فأُمِر الناس أن يغتسلوا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فهذه الأحاديث قوية جداً في التأكيد واللزوم، وعلى هذا فإنه يقدم القول الذي يقول بوجوبه، مع أن بعض العلماء يقول: إن متن حديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لا يخلو من نظر من ناحية دقة تركيبه اللغوي، وبعده عن الجزالة ودقة البلاغة في التعبير، ولذلك يقولون: إنه لا يبلغ ما بلغه ما هو أصح منه من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن مما يقوي هذا الترجيح أننا وجدنا الصحابة يرجِّحون جانب الغسل، ووجه ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما تأخر عثمان قال: أي ساعة هذه؟! قال: يا أمير المؤمنين: كنت في السوق، فما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت ثم غدوت.
قال: والوضوء أيضاً! والإنكار لا يكون إلا في ترك واجبٍ أو محرم، فقوله: [والوضوء أيضاً!] دل على أنه كان معروفاً أنه لا جمعة حتى يغتسل من أراد أن يجمِّع، وهذا قاله أمير المؤمنين -رضي الله عنه- على حضور ملأ من الصحابة، وكان ذلك الزمن غضاً طرياً قريباً من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول قائل: إن هذا يدل على السنية لأنه جاء بأسلوب الإنكار.
وبناء على ذلك يقوى القول الذي يقول بأنه إذا تعارض النصَّان وعمل الخلفاء الراشدون أو أحد منهم بأحد النصين كان مرجِّحاً له على غيره، فهذا يقوي ترجيح الأمر على حديث السعة والرخصة، والله تعالى أعلم.
(71/16)
________________________________________
الواجب على من شرع في الطواف يوم الجمعة ثم بدأت الخطبة

السؤال
ما حكم من شرع في الطواف يوم الجمعة، وقبل أن يكمل شرع الإمام في الخطبة، هل يُتِم طوافه، أو ينتظر حتى ينتهي الإمام من الخطبة والصلاة؟

الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: فالأطوفة تختلف، فما كان من الأطوفة واجباً وفرضاً لازماً فالمختار أنه لا يقطعه، ويستمر فيه حتى ينتهي؛ لأنه يمكنه أن يستمع الخطبة، مع أنه في الغالب إذا كان الطواف عليه واجباً أن يكون من المسافرين الذين لا تلزمهم الجمعة.
ولذلك يقولون في مثل هذا: يستمر حتى ينتهي من طوافه، ثم بعد ذلك إذا أقيمت الصلاة دخل مع الإمام وصلَّى.
أما إذا كان الطواف سنة أو مستحباً، فحينئذٍ يقولون: إنه يقطعه، ويُنصِت للإمام ويستمع، ولا حرج عليه في ذلك واختار بعض العلماء أنه يُتِم الطواف، سواء أكان نفلاً أم فريضةً؛ لأن الله يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، ولأنه يمكنه أن يجمع بين الإنصات بالسكوت عن أذكار الطواف، ويكون مشتغلاً بالسماع للخطيب أثناء طوافه، ولا حرج عليه في إتمام الطواف على هذه الصورة.
والله تعالى أعلم.
(71/17)
________________________________________
كيفية صلاة السنة البعدية يوم الجمعة لمن صلاها ستاً

السؤال
من صلى السنة الراتبة بعد الجمعة أربعاً أو ستاً، فهل يصليها ركعتين ركعتين، أم يجعلها متصلة بسلام واحد؟

الجواب
من صلى هذه الست التي وردت في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره، فإنه يجوز له أن يصلي الأربع الأُوَل بتسليمة واحدة، ثم يصلي ركعتين، ويجوز له أن يصليها ركعتين ركعتين، فهذان وجهان يخير بينهما، والله تعالى أعلم.
(71/18)
________________________________________
أفضلية ترديد الأذان الأول لمن دخل المسجد وأراد أن يصلي التحية

السؤال
رجل دخل المسجد في وقت أذان الجمعة، فهل يصلي تحية المسجد، أم يستمع ويردد الأذان؟

الجواب
يردد الأذان لإمكانه بعد الأذان الأول أن يصلي تحية المسجد دون أن يفوته فضل المصاحبة والموافقة للمؤذن في ذكره، وأما إذا دخل أثناء الأذان الثاني فإننا إذا قلنا: إنه ينتظر فإنه يكون منشغلاً بالفضيلة التي يردد فيها وراء المؤذن، ويفوته ما هو أفضل من استماعه وإنصاته لخطبة الجمعة، وعلى هذا فإنه يصلي ولو كان ذلك أثناء الأذان لكي يدرك الإنصات للجمعة بكمالها، وهذا عند بعض العلماء آكد وألزم، والله تعالى أعلم.
(71/19)
________________________________________
صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

السؤال
هل للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صفة معينة، وذلك للإكثار منها يوم الجمعة؟

الجواب
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما تكون إذا كانت بالصيغة الإبراهيمية التي دل عليه الصلاة والسلام أمته وأصحابه عليها، فإذا صلى الصلاة الإبراهيمية فذلك أفضل وأكمل ما يكون؛ لأن القاعدة في الشرع: (الوارد أفضل من غير الوارد)، فالصلاة بهذه الصيغة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل.
وأما بالنسبة للصيغة في الصلاة، فالأفضل أن يجمع بين الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فأمرنا أن نجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(71/20)
________________________________________
حكم الصلاة على النبي أثناء الصلاة

السؤال
إذا قرأ الإمام قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فهل يجوز للمأموم أن يتلفظ بالصلاة، أم يجعلها في نفسه، أم لا يقول شيئاً على الإطلاق؟

الجواب
من فقه الإمامة التي ينبِّه عليها بعض العلماء أن لا يوقع الإمام المصلين وراءه في الحرج، ومن هنا قالوا: إنه لا يقرأ بسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] لأنه إذا كبر للركوع ذهبوا إلى السجود وسجدوا.
وكذلك أيضاً قالوا: إنه لا يتعاطى الأمور التي توجِب اختلاج صلاة الناس.
ومثل هذه المسألة الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه سيعرض المأمومين إلى التكلم في الصلاة، ولذلك يقولون: إن الأفضل أن لا يتعاطى مثل هذه الأمور التي قد توقع الجاهل في الأمور المحظورة، فإن الإنسان إذا صلى وراء إمام وقرأ آية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه في نفسه، ولا يتلفظ بالصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن في الصلاة لشغلاً).
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا).
وأما بالنسبة للنافلة فقد قال بعض العلماء: يُشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ)، ففرَّقوا بين الفرض والنفل.
قالوا: في الفريضة لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقف عند آية العذاب أو آية الرحمة ويتكلم، إنما كان يسرد قراءته، مع أنه ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قراءته في الفرض من السور التي ذُكِرت في يوم الجمعة والصلوات، ومع ذلك لم يُحفظ عنه حديث واحد أنه توقف لآية عذاب، أو آية رحمة، وأما في قيام الليل فثبت عنه أنه توقَّف لآية الرحمة وسأل الله من فضله، وتوقف عند آية العذاب واستعاذ بالله عز وجل، فدلّ على الفرق بين الفرض والنفل، وقد يجوز الشيء في النفل ولا يجوز في الفرض، فلذلك يجوز للإنسان أن يصلي النافلة في السفر على الدابة، ولا يجوز له أن يصلي الفريضة، فالفرض أعلى مرتبة من النفل.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس المداومة على قراءة هذه الآية ليلة الجمعة، وهذا من البدع فينصح الإمام بعدم تكرار هذا والمداومة عليه، وإذا سمع الناس يتلفظون وراءه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فإن عليه أن يكون أشد محافظةً على صلاة الناس كي لا تبطل، خاصة وأن بعض العلماء يرى عدم جواز التلفظ في مثل هذه الحالة كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
(71/21)
________________________________________
اختلاف العلماء في أخذ المصلى حكم المسجد

السؤال
هل يأخذ المصلَّى حكم المسجد في صلاة ركعتين قبل الجلوس؟

الجواب
بعض العلماء يقول: إن المصلَّى لا يأخذ حكم المسجد وهذا قوي من ناحية أن المصلَّى لا يأخذ حكم المسجد من كل وجه، ولكن هناك أدلة تشير إلى أن المصلى قد يلتحق بالمسجد، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما الحيض فيعتزلن المصلَّى)، وفي رواية (الصلاة)، فهذا يدل على أنه يأخذ حكم المسجد، ويقوي قول من قال: إن الحائض لا تدخل المصلى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
(71/22)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [4]
دلت الأدلة الصحيحة من السنة على أن هناك مكروهات ومحذورات يجب على المسلم أن يجتنبها في يوم الجمعة حتى لا تخدش في صلاته ولا في أجره، ومن تلك المحذورات: تخطي رقاب الناس، وإقامة أحد الجالسين من مكانه، والكلام أثناء الخطبة أو اللهو والعبث، والبيع والشراء بعد الأذان الثاني، ونحوها.
(72/1)
________________________________________
محذورات خطبة الجمعة وما قبلها
(72/2)
________________________________________
تخطي رقاب الناس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو إلى فُرْجةٍ].
أي: إذا دخل يوم الجمعة لا يتخطى رقاب الناس.
وقوله: (إلا إذا كان إماماً)؛ لأن الإمام لا يستطيع أن يبلغ المنبر إلا عن طريق التخطي، وخاصة أن الإمام لا يدخل إلا وقت الصلاة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل إلى السلالم مباشرة، ولم يكن يصلي تحية المسجد، ولذلك مذهب المحققين من العلماء، أن السنة للإمام أن يدخل مباشرة إلى المنبر، وألا يصلي تحية المسجد، لكن لو كان هناك وقت وأراد أن يصلي تحية المسجد وأن يجلس فلا حرج، لكن لو دخل في وقت الصلاة فالسنة له أن يدخل إلى المنبر مباشرة، وأن يبتدئ بالسلام على الناس، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، ويعتبر مستثنىً من العموم بالأمر بتحية المسجد.
بعض العلماء يجيب في هذه المسألة بجواب لطيف، فيقول: إن جلوسه عليه الصلاة والسلام كان في آخر الزوال.
أي: جلس في وقت منهي عنه، وهذا يقوي مذهب من يقول: إنه من دخل في وقت منهي عنه يجلس ولا يصلي.
وتوضيح ذلك أن حديث ابن سيدان حمله العلماء على أنه عند الزوال، بمعنى أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان في وقت منهي عنه.
ضبط الزوال ضبطاً دقيقاً يحتاج إلى شيء من الموازين الدقيقة جداً، ولذلك حدده الصحابة بالتقريب، فقال جابر: حين تزول الشمس، وكان حديث أنس كذلك: (حين يصلي ويخطب) أي: حين تزول الشمس، وهذا -كما يقول العلماء- يرخص فيه، لكن على هذا الوجه الأخير أنه (كان دخوله أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء).
فمن دخل أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وكان يرى هذا القول لا يصلي ويجلس.
ومن دخل قبل أو بعد فإنه يتسنن إعمالاً للأصل الذي يأمر بتحية المسجد.
وقوله: (ولا يتخطى رقاب الناس) لأن فيه وعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعدّه بعض العلماء أنه من كبائر الذنوب؛ لما فيه من أذية المصلين والتشويش عليهم، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يؤذي المصلين، ويستثنى الإمام، أو من له فرجة، بمعنى أنه لو خرج لقضاء حاجة -كإنسان أصابه الحصر فخرج للوضوء ثم رجع إلى مجلسه- فهو أحق به، كما في الصحيح: (إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به)، فهذا نص، فكونه يخرج لقضاء حاجته ثم يعود فهو أحق بمجلسه، فلما أذن له الشرع بهذا المجلس جاز له أن يتخطى؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلما كان من لازمه أن يتخطى فلا حرج عليه أن يتخطى، ولا إثم عليه في ذلك.
وقالوا: لو رأى فرجة في الصف الأول، أو في الصف الثاني فإنه يمضي إليها ويتخطى؛ لأن من وراء هذه الفرجة من الصفوف مقصر في سد هذه الفرجة، فيجوز له أن يتخطى وهذا محل إشكال.
والذي يظهر أن من الأولى والأحرى أن يحتاط الإنسان وأن لا يتخطى، حتى ولو رأى فرجة؛ لأن المعنى الذي من أجله منع موجود في التخطي للفرجة، وتقصير غيره لا يوجب الاعتداء عليه بالتخطي.
واختلف العلماء في كون النهي عن التخطي مخصوصاً بيوم الجمعة، أو يشمل.
فقالوا: لو كان هناك حلقة ذكر وجاء إنسان يتخطى؟ يشرع منعه؛ لأن المعنى موجود، فلو جاء إنسان في حلقة كبيرة ورأى الناس مجتمعين، وجعل يتخطى رقابهم حتى يصل إلى المقدمة، فهذا فيه ظلم لهم؛ لأنه تأخر، والمتأخر يجلس حيث انتهى به المجلس -كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم- أما كونه يتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإنه يذهب الخشوع، فربما سمعت الإمام وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الموعظة فتأثرت بالموعظة والقرآن، ثم تفاجأ بمن يأتيك فجأة فيضع رجله على عاتقك، أو يضع رجله بجوار كتفك، فإن هذا يزعج، والنفس البشرية ضعيفة، فإن الناس إذا تخطيت رقابهم انشغلوا عن الخطيب وتأثروا بذلك، وقال العلماء: المعنى موجود حال الخطبة وغير الخطبة، ولكنه حال الخطبة أشد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للرجل لما جاء متأخراً وتخطى وهو يخطب: (اجلس فقد آنيت وآذيت)، ومعنى: (آنيت) جئت متأخراً، وليس هذا وقتك التي تبحث فيه عن الصفوف الأول، (وآذيت) أي: بتخطيك لرقاب الناس.
فالصحيح أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، وأن التشويش على المصلين بتخطي رقابهم وأذيتهم لا يجوز.
واستثنى العلماء لو أنه أراد أن يمر واستأذن وأذنوا له، أو رأى فرجة بينهم قليلة يستطيع أن يمر منها؛ فقالوا: لا حرج، فهذا ليس من التخطي؛ لأن التخطي المراد به المجاوزة حيث لا توجد الفرجة، أما لو وجددت الفرجة وانخرط فيها، أو سلك فيها فلا حرج.
(72/3)
________________________________________
حرمة إقامة من سبق إلى مكان والجلوس مكانه
قال رحمه الله تعالى: [وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له].
قوله: (وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه) أراد بـ (غيره) أي: من المصلين؛ لأن هذا نهى عنه عليه الصلاة والسلام لما فيه من الظلم، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، ومن آداب المجالس التي أدب الله بها عباده المؤمنين أن الإنسان إذا سبق إلى مجلسه وجلس فيه فهو أحق به، ولذلك لا يجوز لأحد أن يقيمه، ولا أن يضايقه حتى يقوم.
والتشويش على من يصلي على وجه الأذية والإضرار حتى يفسح له، أو يأتي ويبرك عليه حتى يفسح وكل ذلك لا يجوز، سواء أأقامه أم ضايقه حتى يقوم، فكل ذلك من الأذية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).
واختلف العلماء في الأب والابن، فلو أراد الأب أن يقيم ابنه ويجلس مكانه، فهل من البر أن يتنازل الابن عن الصف الأول ويتركه لأبيه؟ قال بعض العلماء: الأفضل له أن يتأخر ويقدّم أباه، وذلك لأنه إذا تأخر وقدّم أباه أصاب البر الذي هو أفضل من الصف الأول، ووجه ذلك أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله بعد التوحيد بر الوالدين، فقد قال أحد الصحابة: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها -أي: أول الوقت- قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) قالوا: فمن أفضل الأعمال وأحبها أن يتأخر الابن لأجل أن يجلس الأب.
وقال بعض العلماء: لا إيثار في القرب ولو للقريب حتى ولو كان الأب، ويدل على ذلك أن صحابياً أراد الجهاد في غزوة فطلب من ابنه أن يبقى ليخرج هو للجهاد، فقال: كل شيء لك إلا هذا.
إني أرجو الجنة.
وخرج رضي الله عنه حتى قتل قبل أبيه رضي الله عنه وأرضاه، فكانوا لا يؤثرون في القرب، والقاعدة: (لا إيثار في القرب)، فقالوا: لا يقدم الأب من هذا الوجه؛ لأنه إذا قدمه فكأنه زاهد في الخير.
والصحيح أن له أن يقدمه، وأنه إذا قدم أباه أصاب الفضيلتين: فضيلة الصف الأول بوجود البر، وفضيلة البر التي هي من الفضل بمكان، وقولهم: لا إيثار في القرب؛ لأن فيه زهداً.
فإن تقديم الأب ليس على سبيل الزهد، وإنما لرجاء فضيلة ولرجاء طاعة، فلا حرج عليه في مثل هذا.
كما اختلف في غير الوالد، مثل كبير السن، أو العالم، أو من له حق كالوالي الذي له فضل، ونحو ذلك، فقال بعض العلماء: لا حرج أن يقدمه، وهو في حكم الوالدين.
وبعض العلماء يخص الوالدين لورود النص، ودلالة النصوص بتفضيلهما على غيرهما.
قوله: [إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضعه يحفظه له].
هذه المسألة تعرف عن السلف الصالح رحمة الله عليهم من التابعين، فقد كان الواحد منهم كـ محمد بن سيرين وغيرهم ربما يبعث مولاه، فيجلس في مكان، والمولى لا تجب عليه الجمعة، فإذا حضر محمد قام المولى فجلس مكانه وصلى، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا كان أيام الموالي، لأنهم لا تجب عليهم الجمعة، وكذلك يحكى عن أبي هريرة رضي الله عنه مثل هذا.
وإن كان الأقوى والأشبه أنه لا يفعل هذا، وأنه لا يجلس إلا في موضع يريد أن يصلي فيه، فإما أن يبكر ويكون له حق السبق، وإما أن يترك المكان لغيره، حتى ولو كان عالماً، كما يقع في بعض الأحيان في المحاضرات والندوات حينما يأتي الإنسان متأخراً -خاصة إذا كان على سفر، وكان قدومه في وقت الإقامة- فإنه يريد أن يدخل إلى الصفوف الأولى وربما يزعج المصلين، ولو كان هو المحاضر أو صاحب الندوة فعليه أن يترك الناس على أماكنهم ومصافهم، وإنما له حق التقدم في درسه وفي موعظته، فإذا جلس مكان كرسيه بعد درسه فلا حرج؛ لأنه بعد محاضرته في حكم الجالس في مكانه، فإذا جاء متأخراً وعاق أصحاب الصفوف الأولى، وربما خرج منهم من لا يستطيع الركوع ولا السجود، ولربما ازدحم الناس إلى درجة لا يستطيعون معها الصلاة أو الركوع، فالأفضل أنه يتأخر إلى ما بعد الصلاة، أو يصلي في ناحية المسجد إذا أمكنه، إلا إذا خشي تشويش الناس بالسلام عليه وإعاقته، فإذا دخل يدخل بعد الصلاة مباشرة، حتى يكون أسلم له، وصلاته بجوار الإمام إذا لم يجد مكاناً في الصف الأول أفضل من أن يزعج أهل الصف الأول، خاصة وفيهم المبكر، وفيهم من لا يستطيع السجود لو دخل معه، فكونه يحتاط ويتورع، خاصة أهل العلم فهذا أفضل وأولى؛ لأنهم القدوة.
فلا يجوز لأحد أن يحتكر مكاناً في مصلاه ولو كان مؤذناً أو إماماً، فلا يجوز له أن يحتكر هذا المكان إلا في الحدود الشرعية، كخطيب يوم الجمعة، فله أن يحتكر مكانه على منبره، ونحو ذلك، أما أن يأتي متأخراً ويؤذي الناس ويضرهم فلا، والمؤذن كذلك، فإذا أذن المؤذن وكان الناس في مصافهم، ثم خرج من المسجد، وعند الإقامة يأتي ويزاحم أهل الصفوف الأولى، فهذا ليس من حقه؛ لأن هذا المكان استحقاق شرعي لمن سبق، ولا يجوز أذية أحد فيه، وهذه الأمور يغفل عنها كثير من الناس إلا من رحم الله.
فالذي ينبغي أن يحتاط في مثل هذه الأمور ويتناصح الناس؛ لأن هذه المساجد أمرها عظيم، فلا يجوز لأحد أن يؤذي فيها مسلماً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه المصلون) فالذين يأتون إلى الصفوف الأولى -خاصة الذين هم من وراء الإمام- هم أسبق الناس.
وقد يكون فيهم كبار السن، وقد يكون فيهم الضعفة والحطمة، فأمثال هؤلاء لا يجوز التضييق عليهم وإزعاجهم.
ومن الأخطاء أيضاً: حجز الأماكن في مجالس العلماء، أو مجالس الذكر، كأن يأتي مبكراً فيرمي بكتابه، أو يضع شيئاً ثم ينصرف ويجلس في مكان غير المكان الذي هو فيه، فالذي يظهر عدم جواز هذا، وأن الذي ينبغي للناس أن يصلوا ثم ينطلقوا إلى حلق الذكر الأسبق فالأسبق، حتى يكون الناس في هذه الأمور على حد سواء، لا فضل لغنيهم على فقيرهم، ولا لرفيعهم على سوقتهم، إلا بتقوى الله عز وجل والمبادرة للخير، فمن سبق فهو أحق، ومن تأخر نال حظه على قدر ما وصل إليه من الخير، وبناء على ذلك ينبغي للإنسان أن يعمل الأصل، وهو أن السابق أحق، سواء في الصفوف، أم في مجالس العلماء، ولا يجوز لأحد أن يتخطى على أحد، ولا أن يضيق على أحد من المصلين، ما دام أن الأصل يقتضي أنه أحق بهذا المجلس وأولى به.
ولا يجوز له أن يحجز المكان لغيره، وهذا من الأمور المحرمة، خاصة إذا كان ذلك عن عوض، كأن يقول لرجل: احجز لي مكاناً بجوارك.
وربما يتواطأ الرجلان على أنهما إذا جلسا كان مجلسهما على توسع حتى يأتي الثالث فيجلس ويصلي بينهما.
ومن الأمور المحرمة أنه قد تكون هناك فرجة بين الرجلين، فيمتنعان من إدخال أي شخص فيها، إلا من يعرفان، أو من يحبان، فهذا من الظلم، فقد قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114]، فهذه البقعة خير لهذا الرجل أن يصلي فيها، وأن يذكر الله عز وجل، وأن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذكره سبحانه في هذه البقع، فكونه يحجزها، أو يتوسع في مجلسه، أو يمنع أحداً من الجلوس بجواره فهذا كله من الظلم الذي لا يجوز للمسلم أن يفعله.
وعلى الناس أن يستشعروا عظمة هذه المساجد، وأنه ينبغي ألا يضار أحد فيها، فإن أذية المسلم لا خير فيها، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: من الأمور التي تمنع قبول الصلاة: كثرة مظالمهم، وأذية بعضهم لبعض، فلربما يدخلون في المساجد فيقع منهم من الأذية والظلم ما يجعل الإنسان محروماً من قبول الصلاة -نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك ينبغي التورع في مثل هذه الأمور، فلا يجوز أذية الناس، كأن يأتي الإنسان متأخراً، فيحاول أن يدخل بين الناس وهم في ضيق، ويحاول أن يشعر الناس بأنه صاحب حق لكونه عالماً، أو شيخاً، أو مؤذناً، أو غير ذلك، فليس هناك حق إلا بالتقوى، وهي المبادرة والمسابقة، وإذا كان الإنسان يريد أن يؤذن أو يؤم الناس فيبكر وليبادر إلى المسجد، فإن هذا أبلغ في البعد عن ظلمهم وأذيتهم.
قال رحمه الله تعالى: [وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة].
أي: لا يجوز لأحد أن يرفع المصلى المفروش لأحد مالم تحضر الصلاة؛ لأنه يحتمل أن يكون صاحبه معذوراً، كأن يذهب لقضاء حاجة أو نحو ذلك، فلا يجوز أن يرفع مصلاه؛ لأن مصلاه فرش لحفظ حقه، وهذا الحق مستحق شرعاً فيترك، لكن لو كان هذا المصلى لإنسان غير مستحق، كمن يفعل هذا لإنسان يعطيه مالاً أو نحو ذلك، فإنه يشرع لك أن ترفعه وتصلي في مكانه، وهذا نص عليه الأئمة رحمة الله عليهم وأفتوا به، ولـ شيخ الإسلام رحمة الله عليه كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وهو أنه لا يجوز مثل هذا إلا عند وجود الضرورة والحاجة.
(72/4)
________________________________________
حكم القيام من مكان لعارض والعودة إليه
قال رحمه الله تعالى: [ومن قام من مكانه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به].
هذا لوجود النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، فإن عاد إلى مكانه فهو أحق به، خاصة عند الضرورة، وكأن يخرج لقضاء حاجته، أو أصابه حصر، أو خرج منه ريح فخرج يتوضأ، لكن لو أنه انتقل من دون حاجة، كأن ينتقل ليجلس مع صاحبه فلا، فإما أن يجلس بالمكان ويعمره بذكر الله عز وجل، وإما أن يتركه لغيره من المسلمين، خاصة في الصفوف الأولى.
ومن هنا كان على من يريد الاعتكاف في الصفوف الأولى في المساجد في رمضان إذا كان يريد أن ينام في ذلك المكان أنه يتركه إذا كان هناك من يُريد أن يصلي فيه، خاصة إذا كانت بقعة لها فضل الصلاة، كأن تكون قرب المقام، أو تكون في روضة المسجد النبوي أو نحو ذلك، فلا ينام فيها؛ لأنه إذا نام عطلها عن ذكر الله عز وجل.
فالمساجد إنما بنيت من أجل ذكر الله، وإذا أراد أن ينام فله أن ينام في آخر المسجد، أما أن يأتي إلى الصفوف الأولى وينام فيها عند حاجة الناس فلا، بخلاف ما لو كان الناس ليسوا بحاجة إلى ذلك المكان، مثل أوقات الضحى، فليس هناك من يريد الصف الأول، وليس هناك من يطمع في الصف الأول، فإذا نام في مكانه يريد أن يحرص على هذا الخير وهذا الفضل فلا حرج عليه، أما أن يأتي في الأماكن التي يحتاجها الناس فينام فيها، ويتخذها مكاناً لراحته واستجمامه فيعطلها عن ذكر الله فلا، ولذلك لا يكون له حق إلا إذا عمرها بذكر الله عز وجل.
ولكن لو أنه خرج لتشييع جنازة، فهل له أن يحجز المكان؟ الصحيح أنه لا يحجز، ومن أراد أن يشيع الجنازة فهو مخير بين فضيلتين: إما أن يبقى في هذا المكان عامراً له بالذكر والطاعة والصلاة والقربة، وإما أن يمضي لتشييع الجنازة، فإن اختار الخروج لتشييع الجنازة ترك المحل لعامة الناس، فهم فيه سواء، وإن اختار الجلوس فلا إشكال، فحينئذٍ يكون مستحقاً لمكانه بشغله له.
(72/5)
________________________________________
حكم تحية المسجد حال الخطبة
قال رحمه الله: [ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما].
ذهب المصنف إلى هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وهذا أصح أقوال العلماء، وهو قول الشافعية والحنابلة، خلافاً للحنفية والمالكية، فإنهم يحتجون بأمره عليه الصلاة والسلام، حيث أمر المتخطي للرقاب بقوله: (اجلس)، وقالوا: إن هذا يدل على عدم لزوم ركعتي تحية المسجد أثناء الخطبة، ولأن الإنصات واجب والتحية عندهم سنة، ولا يشتغل بالسنة عن الواجب.
والصحيح: أنه يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك فقال: (من دخل والإمام يخطب فليصل ركعتين)، وفي رواية: (وليتجوز فيهما)، أي: يقرأ قصار السور، أو قصار الآيات حتى يجلس للاستماع والإنصات.
(72/6)
________________________________________
حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه].
هذا إشارة إلى عظيم شأن خطبة الجمعة وصلاتها، فقد عظمها الله تعالى حيث أمر سبحانه وتعالى بالسعي إليها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ووصفها بكونها ذكراً له سبحانه وتعالى، وهذا يتضمن التعظيم والإجلال لهذه الموعظة والخطبة.
كما عظَّم شأنها حينما عُدَّ المتكلم أثناء خطبة الخطيب لاغياً، ومن لغا فلا جمعة كاملة له، ولذلك ينقص أجره بكلامه إذا لم يكن معذوراً في ذلك الكلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والسبب في هذا واضح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل للإنسان في جوفه قلبين، فإذا انشغل وتكلَّم بأي شيء خارج عن الخطبة، ولم يكن متصلاً بالخطيب فإن هذا مظنة لأن يشغل عن الكلام والموعظة، ومظنة لأن يشغل غيره، ولذلك مُنِع أن يكلم غيره، أو ينشغل بشيء كمس الحصى، ونحو ذلك مما يصرف قلبه عن التأثر والإقبال على الخطيب، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع الانتباه لهذا الخطيب.
وفي هذا دلالة على فضل العلم، فقد قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: من فضائل العلم أن ترى الخطيب يوم الجمعة وقد رقى على أكتاف الناس، وما رفعه إلا فضل الله سبحانه وتعالى، ثم العلم الذي تعلم، ولذلك يؤمر الناس بالإنصات له والسماع له، وأعظمهم أجراً في الجمعة من تأثر بكلامه وأتبعه بالعمل.
فلذلك يُنهى عن الكلام، فلا يتكلم مع أحد حتى ولو كان الكلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، فقولك لصاحبك والإمام يخطب: (أنصت) أمر بمعروف، والأمر بالمعروف واجب، ومع أنك إذا أمرته بالإنصات حصلت المصلحة للجماعة، فإذا كنت مع كونك آمراً بهذا الواجب تُعتبر لاغياً، فمن باب أولى إذا انصرفت إلى شيء آخر.
ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يُشمَّت العاطس، فلو عطس العاطس وقال: (الحمد لله) لا تشمِّته؛ لأنه إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كون مصلحته تنفع الناس في سماع الخطبة يُعد من اللغو، فمن باب أولى وأحرى ما انفك عن ذات الجمعة وذات الخطبة، وبناءً على ذلك قالوا: لا يشمت العاطس، ولا يرد السلام، كما لو كان في فريضة.
وأكدوا ذلك فقالوا: لمسنا من الشرع أن الخطبتين كأنهما قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك أُمِر بالسعي للجمعة بعد النداء الثاني، وكذلك أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنصات والإقبال على الخطيب، قالوا: هذا يؤكِّد أنه في حكم المصلي، ولذلك لا يرد السلام، ولا يشمِّت العاطس.
فقوله رحمه الله: [ولا يجوز الكلام] أي: للمأموم إذا جلس أثناء خطبة الخطيب، ويبتدئ هذا الحظر من ابتداء الخطيب في الخطبة، أما لو سلَّم أثناء سلامه، أو أثناء الأذان الثاني، أو أثناء جلوسه بين الخطبتين فلا حرج.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يتكلمون وعمر جالس على المنبر، بعد سلامه أثناء أذان المؤذن، وكذلك كانوا يتكلمون بين الخطبتين.
إلا أن الكلام بين الخطبتين ضيَّق فيه بعض العلماء، فقالوا: والأولى والأحرى أن يشتغل بما هو فيه من ذكر الله عز وجل، خاصة وأن بعض العلماء يرى أن بين الخطبتين مظنة أن تكون ساعة إجابة.
فقوله: [لا يجوز الكلام] أي: لا يتكلم مع غيره، ولا يجيب غيره ولو كان بذكر الله.
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الخطيب، أو أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا كذلك إذا ذكر المأموم الله عز وجل أثناء الخطبة: فقال بعض العلماء: إنه يجوز للمأموم أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمِّن ولا حرج عليه في ذلك.
والسبب في هذا أنهم يرون أن المأموم إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حكم الذاكر، وكأنه متصل بالخطبة؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت أثناء الخطبة.
ولذلك يقولون: هذا في حكم المتصل بالخطبة كما لو كلمه الخطيب، وهكذا إذا أمرهم الخطيب، وأكدوا بتأكُّد الصلاة عليه أثناء ذكره، فقالوا: يُشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره.
والأقوى والأرجح ما ذهب إليه جمع من العلماء رحمة الله عليهم أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، والسبب في هذا واضح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) فإذا كان هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن باب أولى في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وما اعتذروا به محل نظر، لكن غاية ما يقال: إنه لو صلَّى أحد على النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، ومن صلى عليه جهرة فلا حرج، ومن أنصت فلا حرج، لكن الأفضل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهكذا التأمين، فإنه يؤمن في نفسه، فكلما دعا الخطيب أمن المأموم في نفسه على دعائه، وسأل الله أن يستجيب هذا الدعاء من قلبه، ويكون هذا في حكم التأمين، ويكون إنصاته لمكان الاشتغال بما هو أولى وأهم من الإنصات.
والذين يقولون: يؤمِّن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الحديث يدل على هذا، وذلك أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب)، وإذا دعا وشرع في الدعاء فليس بخطيب، إنما هو داعٍ وسائل.
ولكن رُدَّ هذا القول؛ إذ كيف يقال: إن من الأمور اللازمة للخطبة أن يدعو، ثم يقال: إن هذا ليس من الخطبة.
فهذا تعارض، فإنهم يعتبرون الدعاء من الأمور التي ينبغي للخطيب أن يحافظ عليها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم لورود حديث الاستسقاء، وذلك أن الصحابي سأله أن يستسقي فدعا، فدل على أنه كان من عادته أن يدعو آخر خطبته، قالوا: فإذا كان هذا فإنه من السنة والهدي.
فالذي يترجح ويقوى أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكذلك يؤمن على الدعاء في نفسه دون حدوث صوت أو كلام مسموع.
قوله: (إلا له) أي إذا خاطب الخطيب، أو كلَّمه الخطيب فأجاب فلا حرج، كأن يسأله الخطيب عن أمرٍ فيرد عليه، أو يسأل الخطيب أن يستسقي وأن يسأل الله عز وجل الغيث والرحمة بالناس، ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي وهو يخطب فقال: ادع الله أن يغيثنا.
قال بعض العلماء: هو عباس بن مرداس السُّلمي رضي الله عنه وأرضاه، والرواية مبهمة في الصحيحين.
ووجه الدلالة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكذلك إذا خاطبه الخطيب، كأن يقول له: أصلَّيت؟ -أي: التحية- فيقول: نعم، صليت، إذا كان قد صلى، أو يقول: لم أصلِّ، إذا لم يكن صلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين).
فهذا يدل على مشروعية مخاطبة المأموم للإمام.
أيضاً: حديث أنس في الصحيحين أنه لما أُمطِر الناس سبتاً -أي أسبوعاً- جاء الأعرابي من الجمعة القادمة وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فاسأل الله أن يصرف الغيث، قال: فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)، فما أشار إلى ناحية إلا تفرقت.
فأخذ من هذين الحديثين حكمان: الحكم الأول: أنه لا حرج على المأموم أن يخاطب الإمام.
الحكم الثاني: لا حرج على المأموم أن يرُدَّ إذا سأله الإمام.
ومن هنا أخذ بعض العلماء مشروعية الفتح على الإمام إذا أخطأ في الخطبة، قالوا: لأنه في حكم المتكلم مع الإمام، فلو أن الخطيب قرأ الآية وأخطأ فيها شُرِع لك أن تنبهه على الخطأ وأن تفتح عليه، أو نسي تمام الآية، فتفتح عليه بما يُتمها.
(72/7)
________________________________________
جواز الكلام قبل الخطبة وبعدها
قال رحمه الله تعالى: [ويجوز قبل الخطبة وبعدها] قوله: [ويجوز قبل الخطبة] أي: يجوز له أن يتكلم قبل أن يخطب الخطيب، وذلك في حالة جلوس الخطيب بعد السلام وقبل ابتداء الخطبة.
وقوله: [وبعدها] أي: بعد الخطبة، وذلك حين ينتهي من خطبته وقبل دخوله في الصلاة، فلا حرج إذا قام الناس أن تشير لرجل وتقول له: تقدم.
أو تشير لرجل وتقول له: تأخر، لأجل تسوية الصفوف، فإن هذا الكلام لا حرج فيه.
فإذا كان الأصل أنه لا يتكلم الإنسان في حال خطبة الخطيب، فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو كان الإنسان أصم لا يسمع، فإن عموم النص يقتضي أنه لا يتكلم؛ لأن الأمر فيه معنى وفيه عبادة، فإن انتفى المعنى فالتعبد موجود فيه، ولذلك يُلزم الأصم بالسماع للخطبة والإنصات ولو لم يكن يسمع.
المسألة الثانية: لو قلنا: إن الخطيب يجوز له أن يخطب بغير اللسان العربي، فخطب بغير اللسان العربي، وكان المستمع عربياً، فإنه يُنصِت ويسمع؛ لمقام التعبد، كما لو صلى أعجميٌ وسمع الإمام يقرأ القرآن فإنه يُنصِت، مع أنه لا يفقه شيئاً من كتاب الله عز وجل.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في هذا الحكم: هي يختص بمن سمع الخطيب دون من كان بعيداً لا يسمع، أم هو عام؟ ومثال ذلك: لو كان المسجد صغيراً كما هو الحال في الأيام القديمة، وامتلأ بالناس حتى صلى المأموم خارج المسجد، بحيث لا يسمع صوت الخطيب، أو صلى داخله ولم يسمع صوت الخطيب.
فقال بعض العلماء: إذا كان لا يسمع الخطيب فيجوز له أن يتكلم، ولا حرج عليه في ذلك.
وهذا اجتهاد مبنيٌ على المعنى، وذلك أنهم رأوا أن المقصود أن يستفيد من الخطبة وينتفع، وأنه إذا لم يسمع الإمام ولم يسمع الخطبة، فإن إنصاته لا معنى له.
والصحيح أن فيه معنى التعبد، ولذلك يُلزم بالإنصات والسكوت، سواء أسمع الخطيب أم لم يسمع، على المختار من أقوال العلماء رحمة الله عليهم.
المسألة الرابعة: لو كان بجوارك من يتكلم والإمام يخطب، وأردت أن تُسكِته، فإذا قلت له أنصت فقد لغوت، وإن سكتَّ شوش عليك بحيث لا تسمع.
ففي هذه الحالة اختار جمع من السلف أن تشير إليه بإصبعك أن: اصمت.
وذلك بأن ترفع السبابة وتضعها على الفم، إشارة إلى السكوت والإنصات، قالوا: فإذا أشار إليه بهذا فقد كفاه.
وهذا يختاره بعض العلماء، وممن اختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، وبعض السلف ينصُّون على هذا، وأنه لا حرج أن يخاطب بالإشارة.
وقال بعض العلماء: الإشارة منزَّلةٌ منزلة العبارة.
والصحيح أن الإشارة لا تأخذ هذا الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، والقول لا يكون إلا باللفظ المسموع، وبناءً على ذلك فإنه لا يؤثر أن يشير إليه بالإنصات، ولأن الإشارة بالإنصات ليس فيها انصراف، خاصة وأنه يسمع للخطيب.
وإذا نُظِر إلى المعنى ومقصود الشرع فإنه صحيح، فإنك لو تركته يتكلم ويشوش عليك فكأنك لم تنصت إلى الإمام أصلاً، فإنه بكلامه سيضيِّع عليك، ويجوز ارتكاب المفسدة الدنيا لمصلحة أعلى منها.
ولذلك نقول: إن إقباله على هذا وإشارته له بالإنصات أخف من كونه يسكت عنه، حتى يُضيِّع عليه الذكر والإنصات.
المسألة الخامسة: لو سأل سائل مالاً أثناء الخطبة فقد اختلف العلماء في جواز إعطائه وعدمه: فبعض العلماء يمنع من السؤال في المسجد، ولا يرى جواز أن يسأل السائل داخل المسجد، وهذا القول من القوة بمكان، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) فقد لا يجد ظهراً، وينشد ضالته في هذه الحالة مع وجود هذا الاضطرار والحاجة، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (فليقل: لا ردها الله عليك)، ويعزر بالتوبيخ والتقريع والدعاء عليه، فضياع الدابة بمثابة فقد المال، وطلبه للدابة كطلب المال، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن المساجد لم تبن لهذا)، والأصوليون يقولون: إن جملة: (فإن المساجد)، كأنها تعليل لنهيه عن نشد الضالة في المسجد، قالوا: فلما قال: (فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، فمعناه: أن المساجد لم تبن للسؤال، وبعبارة أجمع: المساجد لم تبن إلا لذكر الله ولم تبن للدنيا، وهذا سائل دنيا.
ورخَّص بعض العلماء في سؤال السائل في المسجد، وفيه حديث علي المشهور أنه أعطى سائلاً يسأل في المسجد وهو راكع، فأنزل الله الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فأُثنِي عليه مع أنه أعطاه في المسجد.
والذي تطمئن له النفس التضييق على هؤلاء، وينبغي أن يكون بأسلوب مؤدب إذا أمكن، لكن الإنسان لو تورع عن منعهم، فإنه قد يكون أفضل له من ناحية الورع، والسبب في منعه -خاصة في هذه الأزمنة التي يقوم فيها الرجل ويتكلم كلاماً كثيراً- أنه يشغل الناس عن الأذكار بعد الصلاة، وقد يزعجهم ويقلقهم بأمورٍ الله أعلم هل هو صادق فيها أو كاذب، مع أن الأمر توسع أكثر من اللازم، وقد يكون فيه شيء من الكذب والاحتيال على الناس، ولو أن هذا الأمر نُظِّم ورتب عن طريق أئمة المساجد، بحيث لا يسأل إلا من كانت له بطاقة معينة لكان هذا أولى، حتى لا يكون فتحاً لباب أذية الناس في صلاتهم، فإنه إذا قام أمام الناس وذكر فجائعه ونكباته، وما نزَل به ضَيَّق على الناس وشوش عليهم، وأذهب الخشوع عنهم، وأشغلهم عن ذكر الله، خاصة أن القلوب طرية ندية قريبة من ذكر الله ومن الصلاة والعبادة، ومن الإقبال على الله عز وجل، وقد يصيح صياحاً يزعج الناس ويقلقهم، وقد يشوش على المصلين، وعلى من يقضي صلاته، فلأجل هذه المفاسد كلها يقوى القول أن يُصرف، فيقال له: إن شئت أن تسأل فاذهب إلى الباب، ولا تتكلم، فهذا الذي تطمئن إليه النفس، وإن امتنع الإنسان عن منعهم لقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] فهذا تورع، لكن الحكم شيء والورع شيء آخر، فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يَسأل.
وعلى القول بأنه يجوز له أن يسأل، فلو سأل أثناء الجمعة، وكان الإنسان يستمع للجمعة، وأراد أن يعطيه فإنه ورد في هذه المسألة أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا رأى السائل يسأل أثناء الجمعة في المسجد حصَبه.
واستُشكِل هذا، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس الحصى فقد لغا)، واعتذر لهذا بأنه مسٌ لمقصودٍ شرعي، ولا يخلو هذا الاعتذار من نظر، لكن الذي يظهر صرفهم وعدم إعطائهم، والأقوى أنه لا يُعطى أثناء الخطبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
(72/8)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة العيدين [1]
شرع الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عيد الفطر وعيد الأضحى لكي يتوسعوا فيهما بالمباحات ويتقربوا إلى ربهم بالطاعات، ويشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم به من تسهيل صيام رمضان في عيد الفطر وسؤال قبوله، وعلى ما يسر لهم في أداء المناسك في عيد الأضحى.
وقد شرع لهم الاجتماع للصلاة في هذين العيدين ليتعارفوا ويتواصلوا ويهنئ بعضهم بعضاً.
وهناك شروط ومستحبات في صلاة العيد ينبغي الإلمام بها ومعرفتها.
(73/1)
________________________________________
صلاة العيدين وأحكامها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة العيدين].
هذا الباب يقصد المصنف منه أن يبين لنا أحكام صلاة العيدين، أي: في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين.
والمناسبة في ذكره بعد باب صلاة الجمعة أن الجمعة عيد الأسبوع، والعيدان يُعتبر كل واحد منهما عيد للمسلمين يُشرع في كل عام مرة.
والعيد مأخوذ من العود، سُمي بذلك لأنه يعود ويتكرر كل عام، وبهذا قال بعض العلماء.
وقيل: لأنه يعود بالفرح والسرور على الناس.
وقال بعض أئمة اللغة: الأصل أن العرب تصف الشيء الذي فيه اجتماع بكونه عيداً، ولذلك يقولون: إنه سمي عيداً لاجتماع الناس فيه.
وعبر المصنف بقوله: [باب صلاة العيدين] لأن للمسلمين عيدين لا ثالث لهما، فلم يقل: باب صلاة الأعياد، وإنما شرع الله عيدين، وصلاتين لهذين العيدين، ولم يشرع عيداً ثالثاً إلا عيد الأسبوع المعروف الذي هو يوم الجمعة، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى الجمعة عيداً.
قال بعض العلماء في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، إن قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) المراد به زكاة الفطر، وقوله تعالى: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي: كبر ليلة عيد الفطر، وقوله تعالى: (فَصَلَّى) أي: صلاة عيد الفطر، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: صلِّ صلاة عيد الأضحى وانحر الأضحية.
فالآية الأولى في سورة (الأعلى) تدل على مشروعية عيد الفطر، والآية الثانية في سورة الكوثر تدل على مشروعية صلاة عيد الأضحى.
[باب صلاة العيدين] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين.
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان للأنصار يومان في الجاهلية يلعبون فيهما بمثابة العيد لهم، ثم إن الله أبدلهما بهذين اليومين يومي عيد الفطر والأضحى، عوضاً عما كان الأنصار عليه في الجاهلية.
وقال بعض العلماء: إن أول صلاة للعيد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك أن افتراض الصيام كان فيها.
(73/2)
________________________________________
حكم صلاة العيدين
قال رحمه الله تعالى: قوله: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين فرض كفاية، والفرض إما عيني وإما كفائي، والعيني: هو الذي يجب على كل مكلف بعينه كالصلاة، فإنه يقوم بها المكلف بعينه ويُخاطب بها بعينه إن توفرت فيه الشروط التي تدل على لزوم الصلاة عليه، وأما فرض الكفاية فإنه يُعتبر وجوبه متعلقاً ببعض المكلفين، بحيث لو قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين.
فقال المصنف: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين، وهذه المسالة فيها ثلاثة أقوال للعلماء أصحها وأقواها -كما هو مذهب الحنفية وبعض المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله- أنها فرض عيني، أي: من الفروض اللازمة على المكلف عيناً.
والدليل على لزومها آية الكوثر، فإن المراد بها عيد الأضحى بلا إشكال؛ لأن قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أمر، والأمر يدل على الوجوب واللزوم، ومن أقوى الأدلة على ذلك حديث: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحُيَّض، وقال: أما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين -وفي رواية:- ودعوة الناس).
قالوا: فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العواتق وذوات الخدور والحيض أن يخرجن يؤكد لزومها وفرضيتها وهذا القول من القوة بمكان، أي أنها واجبة ولازمة، ولا يجوز للإنسان أن يتخلف عنها إلا بعذر.
وقوله: [فرض كفاية] أي: إذا صلَّى بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقين، بحيث لو صلَّت جماعة سقط الإثم عن أهل المدينة كلهم، ولو امتنع أهل المدينة ولم يصل أحد منهم صار الإثم على الجميع.
وقوله: [إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام] أي: إذا ترك أهل بلد صلاة العيد قاتلهم الإمام، وذلك لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وشعائر الإسلام الظاهرة يقاتل عليها الإنسان، ولا يدل ذلك على كفره، أي: كوننا نقاتلهم لا يدل على كفرهم، ولذلك أمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية من المسلمين، ومع هذا لا يُحكم بكونها كافرة، فالأمر بمقاتلتهم لا يستلزم كونهم كافرين؛ لأنهم تركوا هذه الشعيرة الظاهرة من شعائر الإسلام، ويقاتلهم ولي الأمر ولا يكون قتالهم من الأفراد.
ومن أمثلة ذلك: الأذان، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزوا قوماً انتظر حتى تحضر الصلاة، فإذا سمع أذاناً كف عن قتالهم، وإن لم يسمع ركب القوم وقاتلهم، فهذه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلو أن أهل بلد قالوا: لا نصلي العيد شُرِع لولي الأمر أن يقاتلهم حتى يحيوا هذه الشعيرة التي تعتبر شعاراً ظاهراً للمسلمين.
(73/3)
________________________________________
وقت صلاة العيدين
قال رحمه الله تعالى: [ووقتها كصلاة الضحى] أي: وقت صلاة العيدين كصلاة الضحى، وصلاة الضحى يبتدئ وقتها -كما تقدم معنا- من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الضحى، والضحى يمتد إلى ما قبل الزوال، فهنا التشبيه بصلاة الضحى ابتداءً، أي: يبتدئ وقت صلاة العيدين بابتداءٍ وقت صلاة الضحى.
والحقيقة أن الأصل في الضحى أن وقتها إنما هو مبني على صلاة العيدين، فحينما قيل: يبتدئ وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إنما هو مبني على صلاة العيدين، وهنا كأنه تشبيه عكسي، فألحق الأصل بالفرع، وإلا ففي الواقع أن صلاة العيدين هي الأصل في أن تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح.
وتوضيح ذلك أنه إذا صلى المكلف الفجر، فإنه يمسك عن صلاة النافلة حتى تطلع الشمس، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فالصلاة مكتوبة مشهودة)، فظاهره أنه بمجرد طلوعها تجوز الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام تأخر وامتنع أن يُصلي العيد ويُوقِعه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح فهمنا منه أن هذا أقل ما يكون، وتوضيح ذلك أنها أثناء الطلوع بالإجماع لا تجوز الصلاة، وأثناء الغروب كذلك لا تجوز الصلاة؛ لأنه ورد في الحديث الثابت في الصحيح: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا.
وذكر منها: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)، فلما جاء النص (حين تطلع الشمس) أصبح ردءً للنص الذي يقول: (حتى تطلع الشمس)، فيصبح الحديث الأول ناهياً عن النافلة إلى حين الطلوع، والحديث الثاني في قوله: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) ناهياً عن النافلة أثناء الطلوع، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنها تطلع بين قرني الشيطان، فيسجد الكفار لها، وفي الحقيقة هم ساجدون للشيطان -والعياذ بالله-، فنُهِي المسلم عن إيقاع الصلاة في هذا الوقت.
فإذا ثبت هذا فإنه قد يقال: إذا كان الوقت المصاحب للطلوع الأصل فيه عدم جواز الصلاة، فيرد فمتى يجوز به أن يُصلِّي، أي: متى ينتهي الحظر؟
و
الجواب
أنَّ السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يوقع نافلة قبل أن ترتفع الشمس قيد رمح، ففهمنا من هذا أن قيد الرمح هو ابتداء الإذن بالصلاة بعد طلوع الشمس.
وقيد الرمح.
مقداره عند بعض العلماء ما يقارب سبع دقائق من ابتداء الإشراق، فهذا هو ابتداء وقت صلاة العيد إذا ارتفعت قيد رمح، ثم يستمر الوقت بعدها.
وصلاة الضحى سميت بذلك من باب تسمية الشيء بزمانه، ومنه سميت الأضحية أضحية؛ لأنها تقع في ضُحَى يوم النحر.
قال رحمه الله تعالى: [وآخره الزوال].
أي: وآخر وقت صلاة العيد الزوال، والزوال: زوال الشمس.
وظاهر العبارة أنه يجوز أن يصلي إلى أن تزول الشمس، والواقع أنه أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء ينتهي وقت صلاة العيدين، وإذا عُبِّر بالزوال فكأنه يُنبَّه على ما قبله؛ لأنه قد تقدم معنا أن وقت انتصاف الشمس في كبد السماء لا تجوز الصلاة فيه، فلو قال: (إلى انتصاف النهار) كان أبلغ وأدق؛ لأنه هو المراد، فإنه عند انتصاف النهار ينتهي وقت صلاة العيدين.
قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغدِ] بعد أن بين رحمه الله أن الوقت يبتدئ من وقت صلاة الضحى، أي: من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، أو إلى منتصف النهار -كما قلنا- فإنه قد يقال: لو أنهم علِموا أن اليوم يوم عيد في وقت متأخره فما الحكم؟ أي: لو أن الناس أصبحوا صائمين، ولم يعلموا إلا بعد طلوع الشمس.
والجواب: في هذا تفصيل: فإن علموا بعد طلوع الشمس وقبل انتصاف النهار بحيث يسعهم أن يصلوا أفطروا وتهيأوا وصلوا، وأما إذا لم يعلموا إلا قبيل الزوال، أو قبيل انتصاف الشمس في كبد السماء، بحيث لا يتيسر للناس أن يصلوا العيد، فإنهم حينئذ يُفطرون؛ لأنه لا يجوز صيام يوم العيد، ويغدو بهم الإمام من الغد؛ لما ثبت في الحديث الحسن: (أن الهلال غُمَّ على الصحابة فلم يروه، ثم أصبحوا صائمين، ثم جاء ركب في آخر النهار.
فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يُفطروا، وأن يغدوا من الغد إلى المصلى)، وهذا يدل على وجوب صلاة العيد، وبناءً على ذلك يكون الحكم أنه إذا بلغهم الخبر بحيث لا يتمكنون من إيقاع صلاة العيد في وقتها، فإنه يأمرهم بالفطر يومها، ثم يغدو بهم إلى الصلاة في الغد.
(73/4)
________________________________________
مكان صلاة العيدين
قال رحمه الله: [وتسن في صحراء] أي: وتسن صلاة العيد في صحراء، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان له مصلىً، وهو في الموضع الذي يُسمى الآن بجامع الغمامة، وهو في غرب المسجد منحرفاً إلى الجنوب، فهذا هو مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه العيدين، وصلى فيه الاستسقاء، فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يخرج للعيد ولا يصليه في داخل المدينة؛ لما في الخروج من إظهار الفرح بهذا اليوم، وإظهار فضل الله عز وجل على العباد بخروج رجالهم ونسائهم وأطفالهم وكبارهم وصغارهم وأغنيائهم وفقرائهم، فهو أبلغ في شعور الناس بالعيد، بخلاف ما لو دخلوا المسجد الذي ألفوه في الجمعة وألفوه في صلواتهم الخمس، لكنهم عندما يخرجون إلى العراء وإلى الفضاء، فهذا أبلغ في شعورهم بهذا اليوم، فيصحبهم الشعور النفسي الذي يكون معه الشعور بفضل الله عز وجل واجتماع المسلمين، وإظهار عزة الإسلام باجتماعهم في هذا الموضع، مع ما فيه من بالغ القربة بتكلف الخروج إلى المصلى.
فكان هديه عليه الصلاة والسلام الخروج إلى المصلى، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فكانوا يخرجون إلى المصلى رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذه هي السنة، وهذا هو الأفضل.
واستثنى بعض العلماء أهل مكة، فقالوا: أهل مكة الأفضل لهم أن يصلوا في الحرم لفضل المضاعفة فيه، وللشرف العظيم الذي اختص الله عز وجل به أهل مكة في هذا المسجد وهذا القول من القوة بمكان، حيث لم يحفظ أن أهل مكة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كان لهم مصلى خارج مكة، أي: لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يصلون العيدين خارج مكة، لكن المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم.
ولو قلنا: إن السنة أن يخرجوا إلى المصلى فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو صلوا داخل المدينة أو داخل المسجد، فهل تبطل صلاتهم؟

الجواب
بالإجماع صلاتهم صحيحة، أي: إذا صلوا داخل المساجد مع عدم وجود العذر، فبالإجماع صلاتهم صحيحة، لكن فاتهم الأفضل.
المسألة الثانية: يُشرع لهم أن يتركوا المصلى إذا وجد العذر، ولذلك ثبت عن أهل المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه أنهم تركوا المصلى في يوم عيد كان فيه مطر، وصلوا بالمسجد؛ لأن المطر يجحف بالناس ويشق عليهم في الخروج، ولما فيه من التضرر، خاصة أن الإنسان يخرج بثياب عيده، فيكون فيه مشقة وحرج على الناس، مع ما في الطريق من الوحل، وقد جعل الله عز وجل وجود المطر رخصة في ترك الجماعة، ولذلك يقولون: إنهم يصلون داخل المساجد لما فيه من الرفق بهم.
والشافعية رحمة الله عليهم -ويوافقهم بعض أهل العلم- عندهم تفصيل، فيقولون: لا يُوضع ضابط معين، والأفضل الصلاة في الخلاء.
بمعنى: أن يكون هناك مصلى خارج المدينة، ولكن ينظر الإمام فإن وجد أن المصلى لو خرجوا إليه لحصل الضرر والمشقة الضيق على الناس صلى بهم في المسجد؛ لأنه أرفق بهم، ويكون هذا أشبه بالعذر.
ومثل هذا لو كان خروجهم إلى البراز فيه فتن وفيه أذية وضرر، خاصة إذا كثر السفهاء وحصلت الفتن، فلو احتيط بالمساجد لصيانة النساء وحفظهن فلا حرج في مثل هذا.
وعلى هذا يتخرج ما لو رأى الإمام فتناً دينية، أو وجد أن المصلحة أن يصلي في المسجد، فلا حرج عليه في عدم الخروج في هذه الحالة على هذا القول.
(73/5)
________________________________________
أحكام أخرى متعلقة بصلاة العيدين
(73/6)
________________________________________
استحباب تقديم صلاة لأضحى وتأخير صلاة الفطر
قال رحمه الله: [وتقديم صلاة الأضحى] السنة تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى، فكان يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين، وهذا لحكمة أشار إليها بعض العلماء، وهي أنه في الأضحى يحتاج الناس إلى ذبح الأضاحي، والسنة في الأضحية والأفضل والأكمل أن يذبح الإنسان أضحيته في أول الضحى؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقولون: يصيب الناس السنة بالتعجيل بحصول هذه الشعيرة التي شُرِعت في يوم عيد النحر، وأما في الفطر فالناس يحتاجون إلى وقت كاف قبل الصلاة لكي يتمكنوا من إخراج صدقة الفطر، فتؤخر الصلاة إلى قيد رمحين حتى يتسنى للإنسان أن يجد الفقراء، وأن يحسن إليهم، وأن يؤدي زكاة الفطر قبل أن ينتهي وقت زكاة الفطر.
وبناء على ذلك قالوا: السنة في الأضحى أن يُعجَّل وفي الفطر أن يؤخر، ولكن لا يؤخر تأخير مضراً بالناس.
ولذلك أنكر عبد الله بن بسر رضي الله عنه وأرضاه على الإمام لما تأخَّر على الناس يوم العيد، وقال: (إنا كنا في هذه الساعة قد فرغنا من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: ما شأنه يتأخر عن الناس، وقد كنا في مثل هذا الوقت ننتهي من هذه الصلاة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنكاراً عليه لمخالفته هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله تعالى: [وعكسه الفطر].
ذلك لأن الناس يحتاجون إلى وقت كافٍ لكي يخرجوا صدقة الفطر، فإنها تنتهي بالصلاة، فإذا تأخر إلى طلوع الشمس قيد رمحين فإنه أبلغ في حصول التوسعة عليهم.
(73/7)
________________________________________
استحباب الأكل قبل صلاة الفطر دون الأضحى
قال رحمه الله تعالى: [وأكله قبلها وعكسه في الأضحى إن ضحى] أي: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قبل صلاة عيد الفطر، وأن يؤخر أكله في الأضحى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل فطره لكي يكون أبلغ في الخروج عن عبادة الصوم، فإنه قد ألف الناس الصوم، فكان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات، فإن تيسر له أصاب التمرة والتمرتين والثلاث، فإنه فِطْر؛ لأن المراد به أن يفطر فيغدوا إلى المصلى، خاصة إذا كان إماماً، وكذلك المأمومون يُشرع لهم أن يفطروا على تمرٍ ونحوه، ويكون شهودهم الصلاة وهم مفطِرون، حتى يكون أبلغ في الامتثال والطاعة لله سبحانه وتعالى، فسبحان من أمرهم بالصيام قبل وهم اليوم مفطرون.
ولكن السنة في الأضحى أن يؤخر فطره إلى أن يصيب أضحيته، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام، فلا يأكل حتى ينحر أو يذبح أضحيته، ثم يأكل من هذه الأضحية.
(73/8)
________________________________________
كراهية صلاة العيدين في الجامع بلا عذر
قال رحمه الله تعالى: [وتكره في الجامع بلا عذر] أي: يكره أن يصليها في الجامع وفي المدينة بلا عذر، ومفهوم ذلك أنه إذا وُجِد العذر فلا كراهة، كما فعل السلف الصالح ذلك حينما كان في يوم العيد مطر، فصلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
(73/9)
________________________________________
استحباب تبكير المأموم لصلاة العيد وتأخر الإمام
قال رحمه الله تعالى: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح، وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة] قوله: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح].
أي: يسن أن يبكر المأموم إلى صلاة العيد ماشياً بعد الصبح؛ لأن ابن عمر فعل ذلك، وغدا إلى الصلاة وبكر، وهذا أفضل لما فيه من إدراك فضيلة الصف الأول، ولما فيه من إدراك فضيلة انتظار الصلاة، وذلك أنه سيجلس في المصلى ينتظر الصلاة، وهذه زيادة قُربة، ولما فيه من عمارة الوقت بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه جل وعلا، فالأفضل له أن يبكر؛ لأنه مسابقة ومسارعة إلى الخير، وذلك مندوب إليه.
فيغدوا إلى الصلاة مبكراً مكبراً لله عز وجل معظماً، ويُكثِر من التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى، ويرفع صوته بذلك أحياء لهذه الشعيرة في هذا اليوم، ويُسن له أن يخرج على خشوع وسكينة ووقار، وألا يأخذه الكبر، خاصة أن يوم العيد يصحبه التجمل والتزين، فيتواضع لله عز وجل، ويحمد الله سبحانه وتعالى الذي كساه من عُري، فلا يبطر نعمة الله بالتباهي، ولا يغدو على سبيل الكبر والخيلاء، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
وهذا الحديث يدل على أن التبختر والتباهي إذا لبس الإنسان أحسن ما يجد، أو تجمَّل أنه من الفتنة له، ولذلك عد العلماء الاختيال في المشية والتكبر فيها أنه من كبائر الذنوب، لورود هذا الوعيد -والعياذ بالله- الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا، وأن يكون بعيداً في خروجه إلى المصلى عن الكبر والاختيال والتعالي على الناس، وإنما يخرج خاشعاً متذللاً لله سبحانه وتعالى، حامداً ذاكراً شاكراً لنعمة الله عز وجل وإحسانه عليه.
وكذلك المرأة تخرج إلى صلاة العيد بعيدة عن الفتنة، فلا تتطيب طيباً يُشم منها، لا تتزين زينة تفتن الناس، فإنه إن رجعت من الصلاة رجعت بوزر قد يكون أكثر من أجرها، وخير لمثل هذه التي تفتن وتُفتن أن تلزم بيتها، فقرارها في بيتها خير لها من الخروج.
ولذلك ينبه العلماء على أنه ينبغي الاحتياط واتقاء الفتنة، فليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهود الصلاة مطلقاً، ولكنه مقيد بالضوابط الشرعية، فينبغي المحافظة على ذلك في الملبس وفي الهيئة، وفي صفة الخروج، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [وتأخُّر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة].
أي: ويتأخر الإمام فلا يخرج إلى المصلى إلا متأخراً؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا في الجمعة، فالأفضل له أن يأتي وقت الخطبة أو قريباً منه، إلا إذا كان بعيداً عن المسجد ويخشى من العوارض أو ما يطرأ عليه فيبكِّر بقدر، فهذا يقيَّد بقدر الحاجة، وإلا فالأصل من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يبكر قبل الجمعة، وكذلك أيضاً قبل الصلاة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمضي وقت الجمعة أو الصلاة.
والسبب في هذا أن تكبيرهم -على أحد القولين- ينقطع عند رؤية الإمام، وهذا فعله بعض الصحابة، فكانوا إذا رأوا الإمام قطعوا التكبير، ولذلك قالوا: الخروج سنة، وفيه شعيرة ويتصل به حكم.
ولذلك ينبغي أن يتأخر خروجه إلى وقت الصلاة، ولا يُسن في حقه أن يبكر وأن يمضي مع الناس وأن يجلس معهم في الصحراء؛ لأن ذلك أبلغ في الهيبة والإجلال للإمامة وتعظيمها، فيخرج عند دنو وقت الصلاة، ولا يقرب من المصلَّى إلا وقد أزف الوقت، بحيث يقيم للناس صلاتهم وشعيرة العيد.
ويخرج الإمام بأحسن ما يجد من الثياب؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى حلة حمراء وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله: ابتع هذه تجمَّل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)، فلم يُنكر عليه قوله: (تجمَّل بها للعيد والوفود).
فهذا يدل على أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتجمل للعيد، وإنما أنكر كونها حمراء، على تفصيل سيأتي إن شاء الله في حكم اللباس الأحمر.
فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه قصد التجمل لصلاة العيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال يوم الجمعة ولبس أحسن الثياب وقال: (إنه عيد)، فدل على أنه يسن التنظف وإبداء الهيئة الحسنة في الملبس، حتى يكون ذلك أبلغ في شهوده للعيد على أكمل وأحسن حال.
وكان صلى الله عليه وسلم يتجمل للعيد ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، ولذلك ينص العلماء على هذه السنة، وهي أن الإمام يتجمل لصلاة العيد، فيلبس أحسن ما يجد، دون أن يبالغ في زينته، خاصة وأن الأئمة وأهل العلم قدوة لغيرهم.
وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستحب للأئمة والخطباء والوعاظ ومن يلي توجيه الناس أن يكون ملبسه وسطاً بين الابتذال وبين الشهرة، أي: المبالغة، والسبب في ذلك أنه لو لبس لباس الأغنياء لم يستطع أن يقرب منه الفقراء، وإذا لبس لباس الفقراء امتهنه الأغنياء والعظماء، فلذلك يلبس الوسط؛ ولأنه إن كان متواضعاً ولبس الغالي والنفيس فإن الفقير إذا جاء بجواره تضرر وشعر بالنقص بقربه منه لضيق حاله وضيق يده، ولذلك كان العلماء والأخيار يوصون بأنه ينبغي ألا يُبالغ أهل الفضل وأهل العلم في زِيهم، حتى لا يكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء مما يوجب نفرتهم وبعدهم عنهم.
قال رحمه الله تعالى: [إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه].
أي: إلا المعتكف فيشهد العيد بثياب اعتكافه، وليس ثَمَّ نص يدل على هذا، وقد كان بعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إنه إذا شهد العيد بثياب اعتكافه فربما كانت نتنة فآذى الناس، وربما أضرَّهم، ثم إنه يتميز عن الناس بذلك، والذي يظهر أنه يُشرع له أن يغتسل وأن يلبس أحسن ما يجد كغيره سواءً بسواء، وليس ثَمَّ دليل يخص المعتكف بهذا الحكم، والأصل أن السنة للجميع -رجالاً ونساءً- أن يتطيبوا ويتجملوا ويكونوا على أحسن هيئة، دون فرق بين معتكف وغيره.
(73/10)
________________________________________
شروط صحة صلاة العيدين
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي يُحكم باعتبار صلاة العيدين، فقال رحمه الله: [من شرطها الاستيطان]، وقد تقدم أن الاستيطان يعتبر من شروط صحة الجمعة، وبيّنا حقيقة الاستيطان هناك، وعلى هذا فلا تصح صلاة العيد من مسافر؛ لأنه غير مستوطن، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه عيد النحر وهو على سفر، وذلك في حجته للوداع صلوات الله وسلامه عليه ولم يعّيد، وكذلك أيضاً لما فتح مكة صلوات الله وسلامه عليه لم يعيد، فدل هذا على أنه من شروط صحة صلاة العيد أن يكون الإنسان مستوطناً.
قال رحمه الله تعالى: [وعدد الجمعة]: وذلك أنهم ألحقوا العيدين بالجمعة، وقد تقدم الكلام على اشتراط العدد لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه إذا تقرر أن الجمعة تصح بثلاثة فكذلك صلاة العيدين فإنها تصح بهذا العدد؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعين الأربعين، أو تعين اثني عشر رجلاً، فحينئذٍ لو صلى ثلاثة وتوفرت فيهم باقي الشروط فإن عيدهم معتبر.
قال رحمه الله تعالى: [ليس منها إذن الإمام]: أي: لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام، وهذا قول الجماهير رحمة الله عليهم، والعيدان أخص من الجمعة، وإن كان العيد يلتحق بالجمعة في مسائل وأحكام لكنه لا يأخذ الشبه من كل وجه، وعلى هذا قالوا: إنه لا يلتحق بالجمعة من هذا الوجه، أي: لا يشترط في صحة العيد أن يأذن الإمام به، فلو أن جماعة اجتمعوا في ضاحية المدينة، وكانوا مستوطنين وصلوا العيد، فإنه يجزيهم ذلك ويصح منهم، وتعتبر صلاتهم صلاة صحيحة.
(73/11)
________________________________________
استحباب مخالفة الطريق
قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يرجع من طريق آخر]: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يذهب من طريق ويرجع من آخر).
واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب من طريق ويخالف في الرجوع فيرجع من طريق آخر، لكي يمر على أكثر عدد من المساكين والضعفاء، فيحسن إليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم، خاصة أن يوم العيد يندب فيه إدخال السرور على ضعفة المسلمين من المساكين والفقراء ونحوهم، فقال أصحاب هذا القول: إن ذهابه عليه الصلاة والسلام -كما في حديث جابر - من طريق ورجوعه من طريق آخر يعتبر من هذا الوجه سنة يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتدى بهديه، وليست من السنن الخاصة به عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فإنه يسن للإنسان إذا مضى للعيد أن يمضي من طريق وأن يرجع من طريق آخر، حتى يمر على عدد كبير من الضعفة والفقراء، فيحسن إليهم ويواسيهم، فهذا استحبه جمع من العلماء رحمة الله عليهم.
لكن على هذا التخريج لو كان الإنسان راكباً دابته، أو على السيارة كما هو موجود في عصرنا اليوم، أو ما في حكمها، فإنه قد يتعذر عليه صلة المساكين والإحسان إليهم، فيكون أمر السنة فيه من هذا الوجه أضعف.
الوجه الثاني: قالوا: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ورجع من طريق آخر حتى تكون شهادة الخير له من الأرض أكثر، وذلك أن الأرض تشهد بما عليها من الخير، وتحب أن يوطأ عليها إذا كانت تلك الخطوة أو ذلك المشي في طاعة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، قالوا: إن العبد الصالح تبكيه الأرض من كثرة ما كان يعمل عليها من خير، وتبكيه السماء لما كان يصعد من عمله الصالح إلى الله جل وعلا، ويكون فقده على هذا الوجه موجب لبكاء السماء والأرض عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مضى للعيد من طريق ورجع من طريق آخر، قصد من هذا أن تكثر الخطا على الأرض، فبدل أن تكون من طريق واحد وتكون الشهادة لطريق واحد، تكون الشهادة لأكثر من طريق، وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا بني سلمة: ديارَكم تُكتبْ آثارُكم، ديارَكُمْ تُكْتبْ آثارُكُمْ، دياركْمْ تُكْتَبْ آثارُكُمْ) أي: الزموا دياركم البعيدة عن المسجد، فإن الله عز وجل يكتب لكم هذه الآثار إلى طاعتكم.
وأفضل الطاعات الصلاة، فكأنهم يقولون: كون الإنسان يمضي لصلاة العيد من طريق ويرجع من طريق آخر يكون شهود الأرض له بأرض غير التي شهدت بذهابه، فهذا أفضل في الخير وأكثر، وعلى هذا الوجه تكون الفضيلة والسنة آكد لمن يمشي على قدميه لشهود الخير، ومن ركب على دابته فإنه دون ذلك.
الوجه الثالث: قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر من أجل أنه أرفق به عليه الصلاة والسلام، أي: أخف عليه، فكأنه ذهب من طريق لأنه أضيق، ورجع من طريق آخر لأنه أيسر في الرجوع، وبعض الطرق أخف في الذهاب ولكنه أثقل في الرجوع، وبعضها أخف في الرجوع ولكنه أثقل في الذهاب.
والصحيح من هذه الأقوال الأول، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا أكثر من مرة، فلما دخل مكة دخلها عليه الصلاة والسلام من ثنية كداء من جهة القبور والمعلاة، وخرج من أسفلها، وإن كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية القبور التي تسمى الآن الحجون.
قالوا: والسبب في هذا أنه فعله من أجل إعزاز الإسلام، أي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الهجرة متخفياً في ظلام الليل وسواده، ودخل في وضح النهار من أعلى مكة حتى يكون أبلغ في عزة الإسلام وإظهاره.
كذلك قال بعض العلماء: إنه ذهب للعيد من طريق ورجع من طريق آخر لإغاظة المنافقين، وذلك أن شعائر الإسلام تغيظهم، وكان المنافقون في المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتنطوي قلوبهم على ما لا خير فيه للإسلام والمسلمين، فقصد إغارة صدورهم.
والصحيح أنه لكثرة شهود الخير، ولكثرة الإحسان إلى الناس، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى عرفات من طريق ضب، ورجع إلى المزدلفة من طريق المأزمين، وهذا سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره، وقد تكرر هذا في حجه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك أيضاً في ذهابه للعيدين.
وبعض العلماء يقول: هذه سنة جبلية محضة، خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأسى به، والصحيح أنها من السنن التي يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهبت إلى عرفات من طريق ضب، ورجعت من طريق المأزمين فإنك تكون مصيباً للسنة ومتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرع الاقتداء والتأسي بمثل هذا.
والسبب في هذا وأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يشرع التأسي به بالإجماع، ومنها ما يكون جبلياً خاصاً به، ومنها ما يحتمل أن يكون جبلياً ويحتمل أن يكون هدياً، فهذا الفعل وهو ذهابه إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر اختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: هذا سنة جبلية لا يتأسى ولا يقتدى به فيه؛ لأنه أرفق به، فغيره لا يشاركه في هذا، وهذا قول ضعيف.
والصحيح مذهب الجمهور أنه سنة يتأسى ويقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع لك أن تذهب من طريق، وأن ترجع من طريق آخر لعمارة الطرق بذكر الله، ولكي تشهد لك الأرض بما يكون عليها من الخير.
وقد أخذ العلماء من هذا سنة عامة، فقالوا: إذا ذهبت إلى أي عمل خير كصلة رحم، وبر والدين، وطلب علم، ونحو ذلك من الخير فلتذهب من طريق ولترجع من طريق آخر؛ لأنك لا تزال في خير حتى ترجع إلى بيتك، فمن خرج إلى طاعة الله عز وجل فهو في طاعة، ويكون في رحمة الله حتى يرجع إلى مكانه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تكفل لمن خرج في سبيله -أي: للجهاد- لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أدخله الجنة أو أرده إلى بيته بما نال من أجر أو غنيمة)، فهذا كله من ضمان الله عز وجل للعبد، فيشرع للإنسان إذا ذهب إلى طاعة أن يذهب من طريق وأن يرجع من طريق آخر.
(73/12)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب صلاة العيدين [2]
لصلاة العيدين صفة مخصوصة جاءت في السنة النبوية، وهي أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهي ركعتان يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، يقرأ فيهما بالأعلى والغاشية، ثم يخطب بعدهما خطبتين كخطبتي الجمعة، وهناك مستحبات في الخطبة وفي يوم العيد ينبغي المحافظة عليها، ومنها: التكبير في يوم العيد وليلته، وله صفة مخصوصة ووقت معلوم.
(74/1)
________________________________________
صفة صلاة العيدين وخطبتهما
(74/2)
________________________________________
تقديم الصلاة على الخطبة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة سنناً، وفي الثانية قبيل القراءة خمساً].
قوله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة].
السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا هو فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهو فعله وفعل الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وأول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم عفا الله عنا وعنه، فإنه كان إذا خطب مروان ففي آخر الخطبة كان يشتم علياً كما كان يفعله بنو أمية حتى عهد عمر بن عبد العزيز، فكانوا يشتمون علياً على المنابر في خطب الجمعة والعيدين، وقد قيل: إن معاوية كان منه ذلك لأنه بلغه أن علياً سبه، فكان من باب رد الأذى بالأذى، وعلى العموم فهذه السنة السيئة بقيت في أعيادهم وفي جمعهم، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون عن مروان إذا ذكر علياً رضي الله عنه ونال منه، فكأنه أخذ في نفسه، فصار يقدم الخطبة على الصلاة، فلما مضى إلى صلاته ذات يوم، وكان معه أبو سعيد رضي الله عنه، فلما أراد أن يصعد المنبر جذبه أبو سعيد، فقال له: غيرتم! -أي: غيرتم السنة- فقال: إن الناس ليسوا كما تعهد.
أي: ليس الناس كما تعهد يصبرون على الخطبة، فكأنه اجتهد في تقديم الخطبة على الصلاة حتى يسمع الناس خطبته وما يكون فيها، ولا شك أن هذا من البدع المحدثات، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.
فمن قدم الخطبة على الصلاة فإن هذه الخطبة لا يعتد بها ولا تصح؛ لأنه خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله واقع في غير موقعه، ووجوده وعدمه على حد سواء، وإنما تصح الخطبة إذا وقعت بعد صلاة العيدين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه.
(74/3)
________________________________________
تكبيراتها وحكم الرفع فيها
فيقول المصنف رحمه الله: [يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً، وفي الثانية قبل القراءة خمساً]: هذا هو الثابت من هديه صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وقد كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، فقد كان هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه في صلاة العيدين: عيد الأضحى وعيد الفطر.
قال رحمه الله تعالى: [يرفع يديه مع كل تكبيرة].
رفع اليدين مع كل تكبيرة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم في مواضع، منها: صلاة العيدين وصلاة الجنازة.
فالمأثور عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يرفع يديه، وكذلك ابن عمر، وكانوا يقولون: إنه لا يضم.
فـ ابن عمر -خاصة مع شدة تحريه للسنة- لن يرفع يديه إلا وله أصل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح ابن خزيمة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في تكبيرات الجنائز، والصحيح أنه من رفع فلا حرج عليه ومن ترك فلا حرج عليه، وكلٌ على خير، فمن رفع فله أصل وله سنة، خاصة وأن الأثرم روى بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في هذه التكبيرات، ولكني لم أطلع على سنده، بحيث فلم أجد من جزم بصحة هذه الرواية، فإن صحت فلا إشكال أنها السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها الأفضل.
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً].
هذا القول المأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد روي عنه أنه كان يقوله بين التكبيرات، فاستحب بعض العلماء أن يقول هذا؛ لأنه أثر عنه رضي الله عنه، والذي اختاره بعض العلماء أنه يتوقف في الذكر، لكن لو كبر هذا التكبير فإنه يثاب؛ لأن له أصلاً من حديث أبي هريرة أن رجلاً في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر، ثم قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها إلى السماء أيهم يصعد بها)، وهذا يدل على فضل هذه المعقبات العظيمة.
وهذا من أعظم ما يكون من الثناء على الله عز وجل وإجلاله سبحانه وتعظيمه، فلذلك قالوا: يقوله بين التكبيرات أفضل من أن يسكت، ولكن لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مرفوع، فمن سكت فهو على سنة، ومن قال هذا تأسياً بما أثر عن ابن مسعود -والظن به أن يكون له شبهة التأسي، أو يكون له أصل- فإنه لا حرج عليه، ولا ينكر عليه؛ لأن له سلفاً، خاصة أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب طائفة الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أحب قال غير ذلك]: هذا بناءٌ على أن قول الصحابي حجة، فإذا كان قول الصحابي حجة فكأنهم يرون مشروعية الذكر بين التكبيرات، وأن المحفوظ أن يذكر بينهما، وألا تخلو من وجود ذكر، فإذا كان الأصل الذكر والثناء على الله فلو قال غيرها من الأذكار التي فيها ثناء على الله فلا حرج.
ولكن الأقوى والأولى والأقرب -إن شاء الله- إلى السنة أن يسكت.
(74/4)
________________________________________
السنة في القراءة فيها
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ جهراً بعد الفاتحة بسبح في الأولى، وبالغاشية في الثانية]: كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي صلاة العيدين جهريةً، وهذا مما توافق فيه صلاة النهار صلاة الليل، وإلا فالأصل في الصلاة السرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في النهار ما عدا الفجر، وكذلك صلاة العيدين فقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وكذلك أيضاً ثبت عنه أنه قرأ بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وللإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلام نفيس في هذه المسألة، فقد بين أن اختيار هاتين السورتين للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة أن فيهما ذكر البعث والنشور ونهاية الدنيا وصيرورة الإنسان إلى الآخرة، وما يعين على رقة قلبه وخشوعه وخضوعه، وخاصة في يوم العيد حيث الناس قد لبسوا أحسن ما يجدون من الثياب، فلربما دخل في الإنسان الغرور ولهو الدنيا والركون إلى شيء مما يصرفه عن ذكر الله عز وجل، فعندما يقرأ الإمام هاتين السورتين فكأنه يوحي إلى القلوب أن تكون على قرب وخوف من الله سبحانه وتعالى، فمع أنه يوم عيد يشرع تذكيرهم بالله عز وجل، ولذلك اختار هذه السورة لما فيها من بالغ العظة والذكرى، خاصة وأن سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] تشتمل على نهاية الإنسان وحال السعداء والأشقياء، وما ينتهي إليه حال الناس من الخروج من قبورهم إلى لقاء الله جل جلاله، فتذكير الناس في مثل هذا اليوم الذي يغلب فيه الفرح والسرور أدعى إلى الموازنة والبعد عن الغلو في الفرح، والإسلام دين الوسط، فإنه في الأعياد لا يفتح الباب على مصراعيه حتى يسترسل الناس في غيهم وفي فجورهم، ويقعون في أمور حرمها الله، وكذلك لا يضيق على الناس، فبأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام لما كان يوم العيد، ودخل الحبشة يلعبون بالسلاح في المسجد سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم، فقام على قدميه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه، وهي تنظر إليهم من وراء ظهره، وهو صلوات الله وسلامه عليه سيد الأمة وأفضل الخلق، فمع فضله وعلو مكانته يقف لها من أجل أن تنظر إليهم وهم يلعبون؛ لأنه يوم عيد، ويوم فرحة ويوم سرور، ولم يعتب عليها، ذلك لأن الحال يقتضي التوسعة، تقول أم المؤمنين عائشة: وهو يقول لي: (هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ وأقول: لا بعد).
صلوات الله وسلامه عليه، ولما دخل أبو بكر رضي الله عنه وجاريتان تضربان بالدف لـ عائشة رضي الله عنها تغنيان لها، فأراد أن يضربهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يوم عيد) أي: لا تؤذهما فإنه يوم عيد.
ولما دخل عمر على الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فأراد أن يحصبهم، قال: (يا عمر! إنه يوم عيدنا)، فهذا يدل على التوسعة، لكن إذا زاد الأمر فإنه يخشى أن الناس يفرطون في اللهو المباح، وفي الأمور التي توجب الوقوع في سخط الله وغضبه وكفران نعمه وبطر عيشه، فقرأ عليه الصلاة والسلام بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، وكذلك {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فإن هاتين السورتين -خاصة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]- فيهما تذكير بحال الأمم الماضية، وكيف كانت في عزة ومنعة ثم آلت إلى ما آلت إليه من سوء الخاتمة -والعياذ بالله- بعصيان الله جل وعلا، فهذا شيء عجيب من الموازنة والانضباط لكي يكون المسلم بين الإفراط والتفريط، فهو الوسط الذي يحمد صاحبه، وتكون به عواقب الخير في دينه ودنياه وآخرته.
(74/5)
________________________________________
صفة الخطبة ومحلها وما يقول فيها
قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة].
هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه وغيره فخطبه عليه الصلاة والسلام يوم الفطر والأضحى كانت تشتمل على تعليم الناس، كما سيأتي.
فالخطبة في هذا اليوم يقصد منها بيان الأحكام الشرعية، وكذلك أيضاً تذكير الناس ووعظهم والأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب أتى النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء: تصدقن ولو من حليكن، فإني أريتكن أكثر حطب جهنم.
قلن: يا رسول الله! ولِمَ؟ قال: بكفركن.
قلن: نكفر بالله؟ قال: لا.
إنما تكفرن العشير) إلى آخر الحديث.
فهذا يدل على أنه ينبغي وعظ الناس في خطبة العيد، سواءٌ أكان عيد الأضحى أم عيد الفطر.
قال رحمه الله تعالى: [يستفتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع].
هذا فيه حديث ضعيف في السنن عنه عليه الصلاة والسلام متكلم على سنده، إلا أن جمعاً من العلماء تسامحوا فيه، وإن كان بعضهم يقول: السنة والأولى أن يستفتح بالحمد، فإن خشي نفرة القلوب وحصول بعض المفاسد من استفتاحه بالحمد، فإنه لا بأس له أن يستفتح بالتكبير تأليفاً للقلوب كما يختاره بعض المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسائل السنن حين يخشى معها حصول الفتنة وما لا يحمد عقباه.
قال رحمه الله تعالى: [يحثهم في الفطر على الصدقة، ويبين لهم ما يخرجون].
قوله: [يحثهم في الفطر على الصدقة] هذا قياس على خطبة الأضحى إذا قصد بهذه الصدقة صدقة الفطر كما هو ظاهر من قوله: [ويبين لهم ما يخرجون].
ووجه القياس أن حديث البراء بن عازب في خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر أنه خطب وبيّن لهم كيف الأضحية، وأي السن يجزي، وبين وقتها عليه الصلاة والسلام، فقالوا: كما أنه في يوم النحر بين للناس أحكام الأضحية، كذلك يوم الفطر يبين للناس أحكام صدقة الفطر.
ولكن هذا محل نظر؛ لأن صدقة الفطر تنتهي بالصلاة، والنحر يُبتدأ بانتهاء الصلاة كما سيأتي إن شاء الله بيانه، وبناء على ذلك اختلف الحالان، فكان القياس قياساً مع الفارق، ولذلك يقوى أن تكون موعظة، وهذا هو الأشبه؛ لأن الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في يوم العيد مضى إلى النساء ووعظهن، فدل على أن خطبة العيد الأفضل فيها أن تكون موعظة، ولا يبالغ في الموعظة حتى يخرج الناس عن فرحهم، ولكن تكون موعظة فيها نوع من القصد والاعتدال، حتى يبعد الناس من الغرور، ولا ينفرهم من الفرحة ويخرجهم مما هم فيه من يوم عز في ذلك اليوم الذي هو عز للإسلام والمسلمين.
قال رحمه الله تعالى: [ويرغبهم في الأضحى في الأضحية، ويبين لهم حكمها]: أما في الأضحى فالثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، وفي رواية: (من ذبح قبل الصلاة فلا تجزيه وليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فدل هذا الحديث أن من السنة أن يبين للناس أحكام الذبح والنحر في يوم النحر؛ لأن الناس فيهم العوام، وفيهم الجاهل، وفيهم من قد يكون لأول مرة يضحي عن نفسه وعن أهله، خاصة إذا كان قد توفي أبوه، أو تلبس بهذا الأمر لسفر أبيه إلى حجه ونحو ذلك، فبيانه للأحكام الشرعية يعين الناس على تحقيق مقصود الشرع من ذبح الهدي المعتبر في هذا اليوم، وبناء على ذلك يسن أن يبين للناس هذه الأحكام.
وهذا مأخوذ من حديث البراء في الصحيحين من خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر الذي ذكرناه وتقدمت الإشارة إليه، فقال العلماء: يسن في خطبة عيد النحر أن تشتمل على بيان أحكام الأضحية.
والأفضل أن يجمع بين بيان الأمور التي يحتاج الناس إليها، خاصة إذا كانت هناك أمور عامة، أو تعم بها البلوى، أو يحتاج الناس إليها، فلا حرج أن ينبه عليها، وينبه أيضاً على أحكام الأضحية، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام.
(74/6)
________________________________________
حكم تكبيرات صلاة العيدين وحكم الخطبتين
قال رحمه الله تعالى: [والتكبيرات الزوائد والوقف بينهما والخطبتان سنة].
أي: أنها ليست بواجبة ولازمة، وعلى هذا فلو نسي التكبير في صلاته فلا يلزمه سجود السهو، فلو أن الإمام قال: الله أكبر، ودخل ثم قال: (الحمد لله رب العالمين) فسها عن التكبير، فإنه لا يلزمه أن يسجد سجود السهو؛ لأن هذه التكبيرات الزوائد من السنة، وكذلك إذا قام من سجوده، فالتكبيرة الأولى تكبيرة انتقال، والخمس بعدها تعتبر من التكبيرات المسنونة، فإن فعلها أصاب، وإن تركها فإنه لا يلزم بتركها بسجود السهو؛ لأنها ليست بواجبة.
قوله: [والخطبتان سنة].
أي: كذلك الخطبتان سنة عنه صلى الله عليه وسلم لا تشترطان لصحة الصلاة، فلو أنه صلى ولم يخطب فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة، ولكن العلماء رحمة الله عليهم ينصون على أنه أساء بمخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المصنف رحمه الله ومن وافقه قالوا: إنه يتسامح في الخطبة، ولا تعتبر واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الصحابة حينما قام يخطب -كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة - فقال: (من شاء أن يقعد فليقعد، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف)، فخيرهم بين أن يقعدوا وبين أن ينصرفوا، فدل على أن الخطبة ليست بلازمة، ولكن هذا محل نظر عند العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قد يكون الشيء لازماً في حق الإمام، ولكنه ليس بلازم في حق المأمومين.
(74/7)
________________________________________
حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها
قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها]: يكره للإنسان إذا مضى إلى المصلى في يوم العيد أن يتنفل قبل صلاة العيد، حتى ولو طلعت الشمس، ففي عيد الفطر يؤخر إلى ارتفاع الشمس قدر رمحين، فيخرج وقت الكراهة بارتفاع الشمس بقدر رمح، فلو أنه أراد أن يتنفل فيما بين قيد الرمح وقيد الرمحين فإنه يكره له ذلك، بل نص بعض السلف على أنه بدعة محدثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهديه عليه الصلاة والسلام أنه لم يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها، فبعد العيد ينصرف الإنسان مباشرة، حتى قالوا: إن صلاة العيد تغني عن ركعتي الضحى في يوم العيد، وهذا اختيار بعض العلماء؛ لأن ركعتي الضحى تعتبر تحتها، أو كأنها مندرجة تحتها، ولكن إذا رجع إلى بيته وأراد أن يصلي الضحى فلا حرج، أما في المصلى فلا، فالتأسي برسول الله والاقتداء به أفضل وأكمل، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من هذا اليوم التوسعة على الناس، فهو يوم عيد ويوم فرحة، يشرع للناس فيه أن يتفرغوا للفرحة بنعمة الله عز وجل عليهم، حتى أنه في الخطبة خيرهم بين أن يجلسوا وبين أن ينصرفوا، ولما وافق يوم العيد يوم الجمعة خيرهم بين أن يأتوا الجمعة وبين أن يصلوها ظهراً، وهذا يدل على التوسعة، وأن مقصود الشرع فرح الناس بهذا اليوم الذي هو يوم عز للإسلام والمسلمين.
(74/8)
________________________________________
من فاتته صلاة العيدين أو بعضها
قال رحمه الله تعالى: [ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها]: قوله: [ويسن لمن فاتته] أي: الصلاة كلها أو بعضها، كأن تأتي والإمام في الركعة الثانية، فإنه يسن بعد سلام الإمام أن تقوم وتقضي، وللعلماء قولان: فقال بعض العلماء: إذا قمت إلى الركعة الثانية فإنك تحتسبها الركعة الأولى لأنك قاضٍ، فتكبر السبع التكبيرات، أي: تكون أشبه بالقضاء، وهذا مذهب من يقول: ما فات يقضى، أي: الذي فات المسبوق يقضى.
والقول الثاني: أن يقوم ويتم، فيكبر كتكبيرات الركعة الثانية ست تكبيرات مع تكبيرة الانتقال، أو خمساً بتكبيرة الانتقال، وجهان للصحابة رضوان الله عليهم في هذا.
فعلى هذا الوجه إذا قمت إلى الركعة الثانية تقضي فإنك تحتسبها الركعة الثانية، وهذا هو الأصح؛ لأن الخلاف بين العلماء في المسبوق هل يقضي أو يبني، فإن قلنا: إنك تقضي فكأنك تعيد الركعة الأولى بصورتها، وكانت صورتها مع الإمام سبع تكبيرات، فتعيد السبع، وإن قلنا: تبني، فهو الأقوى من جهة السند والمتن؛ لأن روايات أبي هريرة من طريق الزهري وأصحاب الزهري أقوى، وهي رواية: في رواية: (فأتموا)، ونص الحديث: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (فاقضوا)، فعلى رواية: (فاقضوا) تكبر سبعاً، وعلى رواية: (فأتموا) تكبير خمساً أو ستاً على الوجهين الذين ذكرناهما.
والصحيح أن رواية: (فأتموا) أقوى من وجوه: أولاً: من جهة السند، فإن رواتها أوثق وأقوى.
ثانياً: من جهة المتن، فإن الإتمام يستعمل القضاء بمعناه، فإن رواية: (وما فاتكم فاقضوا) محمولة على معنى: (فأتموا)؛ لأن العرب تسمي تمام الشيء قضاءً، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] أي: أتممتموها، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]، أي أتممتموها، فأصبح متن رواية: (فاقضوا) لا يقوى على معارضة رواية: (فأتموا)؛ لأنه متردد بين معنى التمام وبين معنى القضاء.
والقاعدة: إذا تعارض النصان المحتمل والصريح فإنه يقدم الصريح على المحتمل.
وعلى هذا فإن الأقوى أن يتم، وعليه فإنك لا تكبر سبعاً، وإنما تكبر ستاً أو خمساً على الوجهين الذين ذكرناهما عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(74/9)
________________________________________
التكبير المطلق والمقيد في العيدين وأحكامه
قال رحمه الله تعالى: [ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين]: أي: يسن أن يكبر تكبيراً مطلقاً في ليلتي العيدين، أما ليلة عيد الفطر فالتكبير فيها آكد؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، فأمر سبحانه وتعالى بالتكبير بعد تمام العدة، أي: بعد تمام شهر رمضان، ولذلك إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإنك تكبر، حتى قال بعض العلماء بوجوبه، لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة:185]، لكن لو كانت الليلة ليلة شك، كليلة الثلاثين التي يحتمل أن تكون من رمضان ويحتمل أن تكون ليلة عيد الفطر فإنه يُبتدأ التكبير عند العلم بأنها ليلة عيد الفطر حتى يكون ذلك أبلغ في تحقيق هذا الأمر، أو امتثال هذا الأمر الذي أمر الله عز وجل به عند تمام العدة، وكذلك الحال بالنسبة لعيد النحر، فإن العشر من حيث هي يشرع فيها التكبير، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، قال بعض السلف: إن المراد بها عشر ذي الحجة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء)، فهذا يدل على فضل ذكر الله في هذه الأيام المعدودات، وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما في هذه العشر يدخل إلى السوق وليس له حاجة في السوق أن يبيع ويشتري، ولكن يدخل ويكبر ويرفع صوته، حتى يتذكر الناس التكبير فيكبر الناس بتكبيره.
وهذا يدل على تأكد التكبير في هذه العشر، وذكر الله عز وجل فيها، وهذا هو التكبير المطلق، والمطلق: أصله من الإطلاق، يقال أطلقت الدابة: إذا حللت وثاقها، وضده المقيد، والتكبير المطلق: هو الذي لا يتقيد بالصلوات، والتكبير المقيد: هو الذي يتقيد بالصلوات، وسيأتي.
قال رحمه الله تعالى: [وفي فطر آكد، وفي كل عشر ذي الحجة]: قوله: [وفي فطر آكد] أي: تكبيرك ليلة عيد الفطر آكد من تكبيرك ليلة عيد النحر؛ لأن في ليلة عيد الفطر أمراً هو قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185].
وقوله: [وفي كل عشر ذي الحجة] لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، فيشرع أن يستكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى بالتكبير، وهذا هو فعل السلف، كما ذكرنا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكذلك أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه.
قال رحمه الله تعالى: [والمقيد عقب كل فريضة في جماعة].
سمي مقيداً لتقيده بالفرائض، وللعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: يتقيد بالفريضة بشرط أن تكون في جماعة، فإذا صلى في جماعة كبر، أما لو صلى وحده فلا يكبر، وهذا يقول به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويحكى عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
الوجه الثاني: يشرع أن يكبر أدبار الصلوات، سواءٌ كان في جماعة أم لم يكن في جماعة، وعلى هذا الوجه فلو صلى لوحده فإنه بعد الانتهاء من الصلاة يكبر الله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق]: قوله: [من صلاة الفجر يوم عرفة] هذا يعتبر تكبيراً مقيداً، وهذا عند جمع من العلماء، وقال بعضهم: من ظهر يوم عرفة، كما يقول به فقهاء المدينة السبعة، إذ يقولون: إنه يُبتدأ التكبير المقيد من ظهر يوم عرفة.
وقد قوى جمع من العلماء ابتداءه من فجر يوم عرفة، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنهم غدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منهم المكبر ومنهم الملبي ومنهم المهلل، فلم يعب أحدهم على الآخر، وقد قوى بعض المحققين أنه يُبتدأ بالتكبير المقيد من فجر يوم عرفة، ويكون بعد الصلوات بعد أن ينتهي الإمام ويسلم، ويلتفت إلى الناس ويكبر، وعلى هذا جرى العمل في عهد السلف الصالح، ولم ينكره أحد، بل جرى على ذلك العمل، وأقره العلماء رحمة الله عليهم، وهي سنة باقية؛ أي: أنه يكبر أدبار الصلوات.
قوله: [وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق]: أي: بعد أن يصلي صلاة الظهر يوم النحر يبتدئ الإمام فيكبر ويكبر الناس بتكبيره، ولكن السنة أن يكبر كل إنسان على حده، وأما إذا اشتركت الأصوات فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الاشتراك قصداً ويطلب ذلك الاشتراك، وأشد ما يكون أن يبتدئ الرجل فيقول اللفظ فيقولون وراءه، فهذا من أشد الأنواع، وأقرب إلى الحدث، وشدد فيه العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، لا في تلبية ولا في تكبير، فلو أن جماعة قام رجل فيهم وصار هو الذي يكبر وهم يكبرون وراءه فإنه إلى الحدث أقرب منه إلى السنة.
أما لو أنك كبرت وصار الناس معك يكبرون فاتفقت الأصوات، ولم يكن ذلك بسبيل القطع، ولم يكن ذلك متابعة لواحد منهم، فلا حرج، فإنه يجوز الشيء بدون قصد ولكنه لا يجوز عند القصد، ويستدل بعض من يجيز أن يكبر الرجل ويُكبر وراءه، ويُلبي ويلبى معه بما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، من أنه كان يدخل السوق فيكبر فيكبر الناس بتكبيره، أي: كان يكبر فيكبرون وراءه، وهذا ضعيف فإن الباء في قوله: (بتكبيره) سببية، أي: يكبرون بسبب تكبيره، كأن تكبيره ذكرهم التكبير، وليس المراد به المصاحبة، أي: مع تكبيره، وإنما المراد أنهم يكبرون إذا سمعوا تكبيره، فهو أشبه ما يكون أنه قصد إعلامهم وتنبيههم، وهذا هو الأشبه بالأثر؛ لأن ابن عمر أصلاً لم يكن يدخل السوق لحاجة، وإنما دخله لأن الناس في غفلة الدنيا، فأراد أن يذكرهم بهذه السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن نسيه قضاه، ما لم يحدث أو يخرج من المسجد].
أي: إن نسيه فصلى وذكر الأذكار ونسي التكبير قضاه، فبمجرد أن يتذكر يقضي ما دام في مصلاه، فإن خرج من مصلاه فإنه حينئذ يفوت القضاء ولا وجه لأن يقضيه؛ لأنه مقيد بالصلاة، فما دام في مصلاه كأنه لم يبرح المصلى، فهو في حكم من انفتل من صلاته، وهذه المسألة تعتبر اجتهادية، كأنهم يرون أنه لما انفتل من صلاته ولم يكبر مباشرة لوجود العذر، فإذا زال العذر رجع إلى الأصل من التكبير ومطالبته بهذه الشعيرة.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يسن عقب صلاة عيد].
أي: ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد، وقال بعضهم: لا حرج أن يكبر ما لم يستفتح الإمام الخطبة ولكن الأقوى والأشبه عند الجماهير أن التكبير يكون إلى وقت دخول الإمام في الصلاة.
ففي يوم النحر يكبر الإنسان عند غدوه إلى المصلى، ويكثر من التكبير ويرفع صوته، وإذا جلس في المصلى أظهر التكبير ورفع صوته، وهذه السنة قد تغافل الناس عنها وإلى الله المشتكى، وقد كان الناس في القديم إذا كان يوم العيد ارتجت مساجدهم بالتكبير وذكر الله عز وجل والتسبيح على أحسن وأجمل وأكمل ما أنت راءٍ، حتى إنك تشعر بعزة الإسلام، وهذا إلى عهد قريب قد لا يقل عن خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، ولكن الناس اليوم قلّ أن يكبروا إلا إذا أخذت (المسمع) أو (المذياع) فذكرتهم، وإلا إذا تركوا فهم في غفلة إلا من رحم الله، وهذا يدل على ضعف هذه السنة وذهابها عن الكثير، وينبغي على الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على أنه ينبغي في يوم العيد إظهار هذه السنة، ورفع الأصوات بها حمداً وثناءً وذكراً وإجلالاً وإعظاماً وإكباراً لله سبحانه وتعالى، فهو يوم شكر لنعم الله عز وجل.
فإذا أظهر الناس هذه الشعائر وحمدوا الله عز وجل على نعمه أغدق الله عليهم من فضله؛ لأن من أجلَّ الله أجلَّه الله، وإذا كان الإنسان في غفلة عن ذكر الله عز وجل لم يبال الله عز وجل به؛ لأن الله يذكر من ذكره، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على السنة، ويحرص على أدائها إلا أحيا الله ذكره في الناس، وأحيا محبته وتوقيره وإجلاله، وانظر إلى أهل العلم فإنهم لما أثنوا على الله سبحانه وتعالى، وكانت منهم المواعظ والخطب والتذكير ألقى الله في قلوب العباد حبهم، ونشر بين الناس ذكرهم، وكانوا في حمد وثناء بين الناس لما كان لهم من ذكر الله عز وجل، والفضل والمنُّ لله عز وجل على كل حال.
فكذلك الحال في الناس عامة، فينبغي أن يحيا فيهم الإكثار من ذكر الله ورفع الأصوات بذلك، حتى يكون في ذلك إظهارٌ لعزة الإسلام، خاصة إذا كان هناك أعداء للإسلام، أو كانت البلاد فيها كفار ومسلمون، فإذا كان يوم العيد وخرج المسلمون يكبرون ويثنون على الله، حتى ترتج الشوارع وهم يثنون ويكبرون، فإن هذا يدخل الهيبة في قلوب الأعداء، ويشعرهم بعزة هذا الإسلام وتلاحم المسلمين وتراحمهم وتعاطفهم وتكاتفهم، وهذا خير كثير، فينبغي إحياء مثل هذه السنن، وندب الناس إلى رفع الأصوات بها، سواءٌ في المصلى أم في الطريق، فكل ذلك كان من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: [وصفته شفعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد]: قوله: [صفته شفعاً] لأن لفظ التكبير تكرر أربع مرات، والأربع شفع، وإن كان وتراً يكون قوله: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد)؛ لأن التكبير يكون فيه وتر، والشفع اختيار طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، ويحكى فيه بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر فيه واسع، فإن أوتر فلا حرج، وكان بعض العلماء يستحبه؛ لأن الوتر محبوب، وإن شفع فلا حرج، وكل على خير وبركه.
(74/10)
________________________________________
الأسئلة
(74/11)
________________________________________
فرضية صلاة العيدين

السؤال
بماذا يجيب القائلون بأن صلاة العيدين فرض عين عن حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل عليّ شيء غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)؟

الجواب
حديث أبي طلحة في الصحيحين في قصة الأعرابي: (هل عليّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع) المراد به الفرض المصاحب لليوم، بمعنى أنه هل عليّ غيرها من الصلوات تكون في كل يوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا.
إلا أن تطوع)، وصلاة العيد ليست متكررة كل يوم، وإنما هي في العام مرة، ولذلك يقولون بوجوب ركعتي الطواف مع أنها من غير الصلوات الخمس، ولذلك لا تعارض بين قولنا بوجوب هذه الصلاة، وكذلك بوجوب غيرها من الصلوات التي ورد النص والأمر بها مع هذا الحديث الذي يُقصد به ما كان في اليوم بعينه، والله تعالى أعلم.
(74/12)
________________________________________
وقت دعاء الاستفتاح في صلاة العيد

السؤال
هل يقرأ دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، أم بعد السبع التكبيرات؟

الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فللعلماء قولان في هذه المسألة: فبعضهم يرى أن دعاء الاستفتاح يكون بين تكبيرة الإحرام وبين بقية التكبيرات.
وبعضهم يرى -وهو الأقوى والأقرب إلى السنة- أنه يكون استفتاحه بعد انتهاء جميع التكبيرات وقبل الابتداء بالقراءة، وأما بعد التكبيرة الأولى فإما أن يذكر الذكر الذي ذكرناه، وإما أن يسكت، وهذا هو الأولى والأصح، والله تعالى أعلم.
(74/13)
________________________________________
وقت التكبير المقيد

السؤال
هل يكون التكبير المقيد قبل أذكار الصلاة أم بعدها؟

الجواب
التكبير المقيد يكون بعد الصلاة مباشرة، ولذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير بعد الصلاة مباشرة، وفي الحديث التكبير ثلاثاً بعد انفتاله من الصلاة، ولذلك يكبر بعد سلامه مباشرة، وإذا أخره إلى بعد قوله: (استغفر الله) فإن هذا يفعله بعض العلماء، ولكن قالوا: إن هذا مقيد وتقيده بالصلاة، والأفضل أن يوقعه بعد الصلاة مباشرة وقبل استغفاره، وبعد ذلك يشرع في الأذكار التي من عادتها أن يقولها بعد السلام، والله تعالى أعلم.
(74/14)
________________________________________
حكم من قدم القراءة على التكبيرات

السؤال
ما حكم من قدم القراءة على التكبيرات في العيدين، وهل هذا من السنة في شيء؟

الجواب
من قدم القراءة على التكبيرات فإن التكبيرات تسقط بشروعه في القراءة، وقد أساء بمخالفته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك قصداً، أما لو سها وكبر تكبيرة الإحرام ثم استفتح وقرأ الفاتحة فإنه تسقط عنه التكبيرات ولا يعتبر آثماً، ولا تكون مخالفته للسنة على سبيل القصد بهذا الوجه، والله تعالى أعلم.
(74/15)
________________________________________
حكم شهود الكفار صلاة العيد وغيرها مع المسلمين

السؤال
إذا أراد أهل الكتاب حضور صلاة العيد -أو غيرهم من الكفار-، فهل يسمح لهم؟

الجواب
إذا كانت الصلاة في مصلى وأرادوا أن ينظروا إلى حال المسلمين في صلاتهم فلا حرج، فإن المنافقين شهدوا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الكفر، ولذلك فلا حرج في شهودهم، وأما إذا كانت الصلاة في مسجد فإنهم لا يدخلون المساجد؛ لأنهم ممنوعون منها.
وأما بالنسبة للاستسقاء فللعلماء فيه قولان؛ لأن العيد أمره أخف، وأما الاستسقاء فهو أشد، قالوا: في الاستسقاء إذا شهدوا مع المسلمين عزلوا؛ لأنهم إذا سقوا امتنوا على المسلمين، وظنوا أن لهم يد فضل في هذا، فيكون الشعار الأغلب للمسلمين، وتكون الصلاة للمسلمين منفردة، ويؤمرون أن يعتزلوا المسلمين.
لكن لا حرج أن يصلوا صلاتهم، أو يذكروا أذكارهم، أو يظهروا الفاقة لله سبحانه وتعالى؛ لأن المقصود تضرع الجميع، فلا حرج في هذا ولا يعترض عليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قريش في صلح الحديبية: (والذي نفسي بيده، لا يسومونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها).
أي: إذا كانوا في تعظيم لله عز وجل يجيبهم إليه، فهم إذا خرجوا إلى الاستسقاء فإن إظهار الفاقة والحاجة والفقر لله سبحانه وتعالى يشرع من البر والفاجر، ومن المؤمن والكافر، فلا حرج، لكنهم يتميزون عن المسلمين، أي: يؤمرون بأن يتنحوا عن المسلمين ولا يكونوا معهم في صلاتهم وشعيرتهم، والله تعالى أعلم.
(74/16)
________________________________________
تعارض قضاء صلاة العيد مع فرضيتها

السؤال
كيف نجمع بين القول بأن صلاة العيد فرض عين، وبين قولهم: لا تقضى إذا فاتت؟

الجواب
قد يكون الشيء لازماً على الصورة التي وردت في الشرع، وهي صورة الجماعة ويسقط في غير الجماعة، وكأن صلاة العيد إنما شرعت على هذا الوجه، وهي بالجماعة، فإذا فاتت جماعتها فإنه في هذه الحال لا يطالب بالقضاء عند من يقول بعدم قضائها، وكان بعض السلف يقول: من فاتته صلاة العيدين يشرع له أن يصلي مع غيره كالصلاة المعروفة، وكان بعض الصحابة كـ ابن مسعود رضي الله عنه يأمر بعض مواليه أن يجمع بعض أهله ويصلي بهم إذا فاتته صلاة العيد، ويصلي بهم كصلاة الإمام، لكنه لا يخطب.
وقال بعضهم: على هذا الوجه فلو حضرت والإمام في التشهد تقوم وتأتي بركعتين، أو حضرت بعد سلام الإمام تقوم وتأتي بركعتين على صفة ركعتي الإمام، وهذا الوجه لا يشترط الجماعة.
الوجه الثاني: من فاتته صلاة العيد فإنه يصلي أربع ركعات، وهو محكي عن بعض السلف رحمة الله عليهم.
وبعضهم يرى أنه يصلي ركعتين نافلة مطلقة.
وكل هذه الأقوال لها وجه، ومن فعل بأي واحد منها فله سلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر عليه، والله تعالى أعلم.
(74/17)
________________________________________
حكم الكلام أثناء خطبة العيد

السؤال
هل الكلام أثناء خطبة العيد، محرم كالكلام في خطبة الجمعة؟

الجواب
إذا كان الإنسان في المصلى يتكلم فإنه يشوش على المستمعين، ولذلك يكون المنع من الكلام لأذية الغير، وأما إذا كان لا أذية فيه ولا ضرر فإنه لا حرج؛ لأنه مخير بين أن يجلس وبين أن يمضي، وبناء على ذلك فلو تكلم فلا حرج، ومن هنا قال بعض العلماء: لا حرج أن يجهر بالتأمين عند دعاء الإمام في خطبة العيدين، ولكنه لا يجهر به في خطبة الجمعة، كما سبق بيانه في أحكام صلاة الجمعة وخطبتها، والله تعالى أعلم.
(74/18)
________________________________________
حكم الاكتفاء في العيد بخطبة واحدة

السؤال
هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب للعيد خطبة واحدة، فإن بعض الخطباء يفعل هذا، ويقول: إنها سنة؟

الجواب
حكي عن بعض السلف رحمة الله عليهم أنه يقول بهذا القول، لكن الصحيح أنها كصلاة الجمعة يخطب لها خطبتان، ويفصل بينهما بالجلوس، كالحال في الجمعة سواء بسواء، وهذا هو الهدي الذي ينبغي للإنسان أن يلتزمه لما فيه من تأليف القلوب، وإذا كانت السنة الظاهرة المشهورة أنه يخطب كخطبة الجمعة، والناس عرفوا ذلك وألفوه، فإن تأليف قلوب العامة أولى من أن يأتي بالأمر الغريب عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -ويروى موقوفاً على علي علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله) أي: لا تتسببوا في اعتداء الناس على السنة إذا كانت السنة غريبة عليهم، أنها لو وقعت عليهم من السنن التي يرغب فيها سنن الأنواع، وليس المراد بها السنن التي تقصد وتطلب في سنن الأنواع، إذا قلنا: إنه يشرع للإنسان أن يخطب خطبة واحدة، على الروايات في خطبته عليه الصلاة والسلام، يصبح هذا الحال من التنويع، ويحمل الحديث المشهور من الخطبة كخطبة الجمعة على الأصل، بمعنى أننا نقول: إن الإنسان يحافظ عليه؛ لأن الناس ألفوه وعرفوه، فلو جاء يخطب خطبة واحدة فإن الناس تنفر، ولربما عدت أن صلاته خاطئة، فيتهجمون على السنة بسببه، فهو وإن أحيا سنة من وجه فإنه يضيع عليهم أجوراً كثيرة ويوقعهم في غيبته، ويجعلهم في نفرة منه، ولربما نسبوه إلى الشذوذ، فإن جاءهم بحق بعد ذلك لم يقبلوه.
لكن لو أنه خطب أو بيّن السنة المعمولة المعروفة بالفعل، ثم بين بالقول بعض السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم الناس بوجود شيء من الشذوذ، وكذلك أيضاً الإيغال في ترك السنن، وذم أصحابها، والله تعالى أعلم.
(74/19)
________________________________________