المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تاريخ الجزائر الثقافي.doc الجــــزء الثاني


الصفحات : 1 [2]

ساسو
08-25-2016, 03:17 PM
النبوية، والفرق بين شاعر وآخر هو في الجودة وصدق العبارة، فابن سحنون الذي تفرغ لخدمة الباي محمد الكبير لم ينس المدينة المنورة فأورد قصيدة طويلة في ذلك في شرحه على العقيقة (1)، وحين افتخر ابن حمادوش بأنه لم يجعل شعره في مدح الأمراء أشار إلى أنه قد جعل شعره في أغراض أخرى منها مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكنه لم يذكر في رحلته التي بين أيدينا نموذجا
لشعره في ذلك، والغالب أن شعره النبوي لا يرقى إلى أشعار بعض معاصريه، لأن النماذج التي ساقها في أغراض أخرى ضعيفة ومكسورة، ومن أبرز شعراء المديح النبوي أحمد المقري الذي حج أكثر من خمس مرات، وألف بعض كتبه، كما أشرنا، في المدينة المنورة، بالإضافة إلى تمتعه بموهبة شعرية نادرة، وقد اطلعنا له على مجموعة من القصائد في هذا المعنى (المدائم النبوية) ما تزال مخطوطة (2).
ولا شك أن التوسل إلى الله برسوله (صلى الله عليه وسلم) يدخل في هذا الباب، وقد شاع هذا عند المتصوفة عموما، وعند بعض الفقهاء، وحتى عند الشعراء، وللفكون في هذا الجانب عدة قصائد منها (سلاح الذليل في دفع الباغي المستطيل) و (شافية الأمراض لمن التجأ إلى الله بلا اعتراض)، وقد ذكرنا ذلك في ترجمته. وللمفتي محمد بن الشاهد قصيدة في هذا المعنى:
بأسمائك الحسنى فتحت توسلي ... ومنك رجوت العفو أسمى مطالبي (3)
كما أورد محمد بن سليمان في كتابه (كعبة الطائفين) شعرا لنفسه في
__________
(1) (الأزهار الشقيقة) ورقة 207.
(2) المكتبة الملكية. الرباط، رقم 6735، في هذا المجموع خمس قصائد على الأقل اثنتان ميميتان، وواحدة دالية، ورابعة عينية، وخامسة حائية، وكلها قيلت بين 1033 و 1037، أي بعد هجرته إلى المشرق.
(3) ضمن مجموع في مكتبة جامع البرواقية (الجزائر) رقم 49، وقد كان ابن الشاهد، الذي عاش حتى أدرك الاحتلال الفرنسي، من الشعراء الكبار في غير ذلك الغرض أيضا.

ساسو
08-25-2016, 03:18 PM
هذا المعنى (1)، ونعتقد أن الوثائق ما زالت تحفظ الكثير من هذا الشعر الذي يخاطب العبد فيه ربه مباشرة أو من خلال رسله وأنبيائه وأوليائه في حالة الشدة والكرب، طالبا منه كشف الهموم ودفع الظلم.
ولعله مما يدخل في هذا المعنى نظرة بعض رجال الدين إلى الإنسان كونه ريشة في مهب الريح ليس لها خيار فيما تختار، وقد شغلت قضية الإنسان، مجبرا أو مخيرا، حيزا كبيرا من مناقشات الفلاسفة والمتكلمين منذ أمد سحيق، ولكن الشعراء لم يبقوا بمعزل عن هذه المناقشات، وممن نظم شعرا في كون الإنسان مجبرا على فعل ما يفعله أحمد البوني الذي تنسب إليه بعض الأبيات في هذا المعنى:
كل الأمور لمبديها وخالقها ... فما على العبد تخيير وتدبير
فالله يعلم ما للعبد مصلحة ... فيه وقد يصحب التعسير تيسير (2)
ومن تاريخ الشعر الديني والتصوف في الجزائر إظهار عبد الرحمن الأخضري لنبوة خالد بن سنان العبسي بقصيدة طويلة وهامة في ميدانها، فبفضل هذه القصيدة وتبني الأخضري لفكرة نبوة النبي خالد، واعتقاده أنه دفين البلدة المعروفة اليوم بـ (سيدي خالد)، أصبح الضريح مزار الناس من كل فج، وتذكر المصادر أن الأخضري قد أظهر نبوة خالد بن سنان (بطريقي
الكشف أي السر والتربيع، وانتشر خبر الظهور والإظهار، وعم وطم كل أهل الوبر والمدر ذوي الأمصار، ومن ذلك الوقت صار نبي الله خالد بن سنان يزار ويتبرك به) (3)، وقصيدة الأخضري هذه متينة العبارة، ومنها:
سر يا خليلي إلى رسم شغفت به ... طوبى لزائر ذاك الرسم والطلل
جلت شواهده عزت دوائره ... ما خاب زائره في الصبح والأصل
وفي نبوءته وشواهدها يقول الأخضري صراحة:
__________
(1) انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2) ضمن مجموع بالمكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2266.
(3) أبو محمد أحمد بن داود (العقد الجوهري)، ورقة 4، مخطوط، وتبلغ القصيدة 42 بيتا.

ساسو
08-25-2016, 03:18 PM
إن النبوة قد لاحت شواهدها ... كيف المحالة والأنوار لم تزل
في خالد بن سنان البدر ... سيدنا أخصه بسلام رائق حفل
لله ما حاز من عز ومن ... شرف نال الرسالة يا ناهيك بالرسل
أنواره سطعت فوق الربى وبدت ... على الفيافى وفوق السهل والجبل
وقد أكد الأخضري أن النبي خالد قد سكن الغرب (يعني الجزائر) وأن قومه قد ضيعوه وأن أهل الجزائر أيضا لم يحتفظوا به وأنهم قوم يحتقرون العظماء، لذلك دعا إلى تعظيمه والتبرك به وزيارته والاستغاثة به عند الشدائد (1)، وقد انتشرت القصيدة وأثرت في الناس. كما أن أحد تلاميذ الأخضري، وهو عبد العزيز بن مسلم، قد قام بتخميسها. ومما جاء في تخميس البيت الثاني قوله:
كم من غشوم ظلوم ظل قاهره ... وكم ضعيف عفيف ظل ناصره هذا الرفيع المنيع الجار حاضره ... جلت مشاهده عزت دوائره
ما خاب زائره في الصبح والأصل (2)
وقد انتشر أيضا الشعر الصوفي. ومن ذلك قصيدة (حزب العارفين) الملحونة التي نظمها موسى بن علي اللالتي، وهي التي شرحها، كما عرفنا، محمد بن سليمان في كتابه (كعبة الطائفين)، وقصيدة حزب العارفين تتحدث
عن أهل الصلاح من الأولياء والصالحين وعن أهل الطلاح من الأشرار
الفاسدين، ويتأسف صاحبها على العهود الغابرة حين كانت الكلمة للأولياء ورجال الخير. كما اشتهر بشعر التصوف محمد ساسي البوبي. فقد أخبر عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية) أن لمحمد ساسي شعرا
__________
(1) القصيدة مذكورة في المصدر السابق، وكذلك في (الرحلة الكبرى) للناصري، مصورة في الخزانة العامة بالرباط، رقم 2651 د، وقد زار الناصري سيدي خالد واجتمع بطلبتها، 83 - 84، وعدد أبياتها ورسمها يختلف من مصدر إلى آخر.
(2) (العقد الجوهري)، مخطوط، وقد اكتفى أحمد بن داود بإيراد تخميس خمسة أبيات فقط وقال إنه تخميس (قليل الوجود).

ساسو
08-25-2016, 03:19 PM
كثيرا فيه عبارات الدنان والحان وغيرها مما كان يستعمله أهل التصوف، كابن الفارض، ويقصدون به السكر بالخمرة الإلهية، وكان محمد ساسي ينشد الأشعار والأزجال في الحضرة الصوفية والمواكب الدينية (1).
والغالب أن تكون قصيدة محمد بن محمد الموفق المشهور بابن حوا المسماة (الريحانة المروحة على القلوب المقترحة) من هذا النوع أيضا. فقد كان هو من أهل الخير والصلاح، وتشهد أرجوزته (سبيكة العقيان) على أنه كان مهتما بحياة الأولياء والصلحاء كما فعل ابن مريم
والمغوفل والمازوني (2) ومن جهة أخرى روى ابن مريم أن محمد بن عبد الجبار المسعودي الفجيجي الذي بلغ درجة القطابة في التصوف والذي كانت له زاوية بوطنه (حدوش)، كان أيضا (شاعرا ماهرا في الشعر) وكانت له منظومات في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى (كتب عنه مجلد كبير في مدح النبي (3))، وقد كان محمد الفجيجي صديقا حميما لأحمد بن يوسف الملياني المتصوف.
ولا شك أن الشعر الديني بجميع أغراضه كثير في العهد الذي ندرسه،
ولم نأت منه هنا إلا على نماذج للتعرف على غرضه، وقوة أو ضعف الوسيلة التي قدم بها. ومن نافلة القول ان هذا الشعر كان مرآة لثقافة أصحابه. بقي أن نشير إلى أن المراثي الأخرى العامة قد تناولناها في الشعر الاجتماعي وليس في الشعر الديني.

الشعر السياسي
لم يرتبط الشعر بالسياسة في الجزائر خلال العهد العثماني إلا في
__________
(1) انظر عنه الفصل السادس من الجزء الأول.
(2) عن ابن حوا انظر بودان (مجلة جغرافية وهران) 1933، 237، وقد توفي ابن حوا بأحواز مستغانم بعد سنة 1176.
(3) ابن مريم (البستان)، 287. توفي محمد الفجيجي سنة 950.

ساسو
08-25-2016, 03:19 PM
مناسبات محدودة نستطيع حصرها في الجهاد ضد الأجانب، وخصوصا الإسبان، ومدح بعض الأمراء طمعا في مالهم، والموقف من الأتراك مدحا وذما. وقد عرفنا أن الأمراء لم يكونوا يتذوقون الشعر فلم يشجعوا على قوله، كما أن بقاءهم في الحكم كان مرهونا بظروف طارئة فهم لا يبقون فيه إلا فترات قصيرة تكون عادة مليئة بالصراعات وغالبا ما تنتهي نهاية دموية، والشعر السياسي يعيش عادة في ظروف هادئة يدوم فيها حكم الأمير فترة معقولة يعرف الناس خلالها أخلاقه ومواقفه ليمدحوه عليها أو يذموه. كما أن الشعر السياسي يحتاج إلى تذوق الأمراء له وتشجيعهم عليه، وهذه الظروف كانت كلها تقريبا مفقودة في الجزائر خلال العهد المدروس.
وكان عبد الكريم الفكون قد انتقد علماء وقته في تقربهم إلى الولاة وتنافسهم على رضاهم وخدمتهم، ومن الواضح أن هؤلاء العلماء كانوا يتنافسون عن طريق الدس والفتنة والوشاية وليس عن طريق الكلمة المكتوبة نثرا أو شعرا، ولو وجد هؤلاء العلماء مجالا للتنافس بالشعر لاتخذوه وسيلة للرقي والشهرة بدل المؤامرة والدس، ومن سوء الحظ أن هذه الظاهرة، ظاهرة الصراع المكتوم أو الصامت بين المثقفين، ما تزال موجودة في الجزائر، لأن العهد الفرنسي أيضا لم يفتح شهية الشعراء للتنافس بالقصيد. ونستثنى من هذا الحكم شعراء محمد بكداش باشا وشعراء الباي محمد
الكبير، الذين وجدوا في ممدوحيهم إرادة خيرة في إكرامهم والإنعام
عليهم، وقد قيل عن أحمد المقري أنه قد اتخذ شعره سلما للدنيا وأنه مدح به الأمراء والحكام، ورغم أننا لم نجد له كثيرا من هذا النوع، فإنه في الواقع لم يمدح بشعره أمراء بلاده الجهلة بلغته وإنما مدح به بعض وجهاء مصر والشام، ولعله قد مدح به أيضا بعض أمراء المغرب الأقصى، ورغم أن الشعر السياسي في أغلبه غير صادق، فقد كنا نود أن تتفتح أمام الشعراء مجالات في بلادهم حتى نتعرف من خلاله على كثير من تطوراتها
ومواقف رجالها، ذلك أن الشعر السياسي اليوم يدرس من وجهتين رئيسيتين
فنية وتاريخية.

ساسو
08-25-2016, 03:20 PM
ولنبدأ بشعر الجهاد. فقد شكلت ذكريات سقوط الأندلس وأثر ذلك على المسلمين هناك وتهديد الإسبان باحتلال المغرب العربي، العمود الفقري للعاطفة الدينية - السياسية التي نسميها الجهاد، ورغم أن الجهاد عموما يقصد به هنا مجابهة غير المسلمين وردهم على أعقابهم، فإنه قد انحصر تدريجيا في رد غارات الإسبان خصوصا وطردهم من الجيوب التي نزلوا بها على السواحل، ولاسيما وهران ومرساها، وإذا كان العثمانيون قد ساعدوا الأهالي في طرد الإسبان من المدن الساحلية (مدينة الجزائر، بجاية، شرشال، جيجل، عنابة، مستغانم الخ.) فإنهم قد توقفوا عن طردهم من وهران ونواحيها، لذلك ظل الوجود الإسباني هناك كأنه رمز لاستمرار الجهاد والدعوة إليه من قبل رجال الدين والشعراء، ويمكن القول بأن معظم الشعر السياسي، بما في ذلك مدح بكداش باشا والباي محمد الكبير، قد تمحور حول هذه النقطة، بل أصبح عند بعض الشعراء هو ميزان الولاء أو الثورة ضد
العثمانيين.
وقد قيل الكثير من الشعر في التحريض على الجهاد وفي التهنئة بالنصر، فمن الذين مدحوا حسن بن خير الدين باشا على فتح حصن مرسى
وهران الأعلى وهروب الإسبان إلى الجزء الأسفل منه، الشاعر
عبد الرحمن بن موسى في قصيدته التي مطلعها (1): هنيئا لك باشا الجزائر والغرب ... بفتح أساس الكفر مرسى قرى الكلب وله غيرها في نفس المناسبة. وهو من أوائل الشعراء المؤيدين للعثمانيين لجهادهم ضد الأسبان، ولذلك وصفه بأنه باشا الجزائر وإقليم وهران أو الغرب، ولكن حسن باشا لم يستطع أن يطرد الإسبان نهائيا، وظل وجودهم يثير مشاعر الشعراء كلما حانت المناسبة، ولو جمعنا من الشعر ما
ذكره الجامعي وابن ميمون وابن سحنون وغيرهم في فتح وهران وطرد
__________
(1) (البستان) لابن مريم، 131، وقد تم هذا الفتح سنة 1007، حسب ابن مريم. وهو تاريخ فيه نظر.

ساسو
08-25-2016, 03:20 PM
الإسبان منها لجاء ذلك في ديوان كبير (1).
وفي أوائل القرن الحادي عشر اتجهت الهمة من جديد إلى الضغط على
الإسبان وظهرت علامات الاستعداد لحربهم، وكان ذلك على عهد حسين خوجة الشريف باشا الذي تولى سنة 1117، وقد أظهر هذا الباشا استعدادا للجهاد حين أرسل الأخبية لوهران، لذلك انطلق الشعراء يستحثونه ويصفون سوء أحوال المسلمين تحت حكم الإسبان، ولا سيما النساء، استثارة للعواطف الدينية والنفسية: ومن هؤلاء الشاعر البارع محمد بن محمد بن علي المعروف بابن آقوجيل، فله في ذلك قصيدة مؤثرة (2) هنأ فيها أولا الباشا بتوليته على الجزائر ثم التفت إلى الغرض المقصود في قوله:
جهز جيوشا كالأسود وسرحن ... تلك الجواري في عباب بحور
أضرم على الكفار نار الحرب لا ... تقلع ولا تمهلهم بفتور
وبقربنا وهران ضرس مؤلم ... سهل اقتلاع في اعتناء يسير
كم قد أذت من مسلمين وكم سبت ... منهم بقهر أسيرة وأسير
وهي قصيدة طويلة ومؤثرة، بلغت نحو سبعين بيتا، وفيها أيضا نصائح للباشا ووصف لأحوال العلماء السيئة.
ولكن مدة حسين خوجة الشريف باشا لم تطل (3)، فقد عزل وتولى مكانه محمد بكداش باشا سنة 1118، وتمكن هذا من فتح وهران سنة 1119، فانطلقت ألسنة الشعراء من عقالها مدوية، ذلك أن الشعر الذي قيل
__________
(1) انظر عن الجهاد والعلاقة السياسية بين الجزائريين والعثمانيين الفصل الثاني من الجزء الأول.
(2) انظرها في (التحفة المرضية) لابن ميمون، 112 - 117، مخطوط باريس. كان ابن آقوجيل حيا سنة 1142، فقد وجدنا له كتابا بخطه منسوخا في تلك السنة، وقد تولى أيضا القضاء في عهد بكداش باشا.
(3) توجد بين هذا الباشا وأحمد بن قاسم البوني أيضا مراسلة بالشعر، انظر ذلك في المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 1847، ورقات 79 - 81. كذلك مجلة (الثقافة) عدد 51، 1979.

ساسو
08-25-2016, 03:21 PM
في هذا الباشا لم يقل مثله في أي حاكم في الجزائر خلال العهد العثماني، إذا حكمنا على الأقل من المصادر التي اطلعنا عليها، ويبدو أن سبب هذا السيل من الشعر فيه قد جاء نتيجة انتصاره على الإسبان وكونه على ما قيل من أصل عربي. فأما دوره في الجهاد فواضح، وأما كونه عربيا فيظهر أن ذلك كان محض ادعاء. كما أشرنا سابقا. ولعل من أسباب رضى الشعراء عنه إدراكه لنفسياتهم وقضاء حوائجهم وتقديم العلماء إليه، ويبدو أن ذلك قد جاءه من تجربته في الإدارة إذ أنه قد تولى عدة وظائف قبل توليه الباشوية، ومن بينها وظيفة خوجة (أو كاتب). ولعل من حسن حظ بكداش باشا أنه وجد ابن ميمون يدون له الشعر الذي قيل فيه وفي جهاده، إذ لولا ابن ميمون لربما ضاع هذا الشعر كما ضاع غيره، ولكان هذا الباشا مجرد اسم جامد في قائمة الولاة العثمانيين بالجزائر.
وليس من هدفنا إحصاء ما مدح به الشعراء، محمد بكداش باشا، فقد تكفل بذلك ابن ميمون في كتابه (التحفة المرضية) وحسبنا أن نحيل على هذا الكتاب، غير أننا نود أن نذكر أن الشعر الذي قيل فيه يختلف جودة ورداءة، وأن المدح قد تناول سيرته وأصله ومواقفه وجهاده وكرمه وشجاعته، وهناك من جاء ناصحا، ومن جاءه متنبئا له بفتح وهران على يده، ومن الشعراء الذين أكثروا من مدحه والتقرب منه أحمد بن قاسم البوني، بالإضافة إلى عالمين آخرين من أسرة البوني (مصطفي بن عبد الله، ومحمد بن أحمد)،
ومنهم يحيى بن أحمد بن أبي راشد، وابن علي، ومحمد بن أحمد الحلفاوي، مفتي تلمسان، الذي خص فتح وهران برجز طويل (1)، ولنذكر من شعراء بكداش أيضا عبد الرحمن الجامعي المغربي، وإبراهيم القنيلي الطرابلسي، ومما يلفت النظر في هذه المناسبة هو أولا كثرة الشعراء الذين لا نجدهم قد تجمعوا في فترة من فترات التاريخ العثماني كما تجمعوا في هذه الفترة القصيرة، وثانيا تغني الشعراء بالجزائر مدينة وقطرا، فهذا الشاعر ابن
__________
(1) سنتناول هذا الرجز وشرحه للجامعي في فصل التاريخ من هذا الجزء.

ساسو
08-25-2016, 03:21 PM
أبي راشد يشير إلى الجزائر القطر بقوله وهو يتحدث عن الباشا:
تاهت به أرض الجزائر واغتدت ... زهوا به عن غيرها تختال (1)
وهذا محمد المستغانمي قد نظم قصيدة في بكداش جعل عنوانها (الكوكب النائر في مدح أمير الجزائر)، وهو هنا يعني القطر أيضا (2) أما مدينة الجزائر البكداشية فقد تغنى بها الجامعي، خصوصا في قوله:
فدعني من غرناطة وربوعها ... وشنيل فالحسن انتهى للجزائر
فما تفضل الحمراء بيضاء غادة ... مقرطة بالبدر ذات غدائر (3)
ولم يكن الجامعي وحده في هذا الميدان، فقد أقبل الشعراء على مدينة الجرائر ووصفوها في شعرهم، ولو طال عهد بكداش لدخلت مدينة الجزائر، كعاصمة لقطر كبير، ميدان الأدب من أوسع أبوابه، ولكن أيام الباشا كانت، كأيام غيره من الحكام، محدودة، إذ لم يبق في الحكم إلا حوالي أربع سنوات (1118 - 1122).
والحادث الثالث (بعد الجهاد ومدح بكداش) الذي أطلق أقلام الشعراء هو فتح وهران الثاني على يد الباي محمد الكبير سنة 1205، فقد كان هذا الباي متنورا إلى حد كبير فجمع حوله نخبة من الأدباء والكتاب ينسخون له الكتب ويسجلون أحداثه اليومية ويدرسون وينوهون بأعماله، وقد أغدق عليهم المال والرعاية فنشطت الحركة الأدبية على عهده، ولا سيما الشعر، وجاءه الشعراء من البليدة والجزائر والمغرب يستمنحونه العطايا، وخلافا لعهد بكداش باشا فإن عهد الباي قد طال، وقد سجل لنا أحمد بن سحنون في (الثغر الجماني) نماذج من الشعر الذي قيل في هذا الباي ولعله قد سجل أيضا بعض ذلك في (عقود المحاسن) الذي لم نطلع عليه.
__________
(1) (التحفة المرضية)، مخطوط باريس، 57 - 59.
(2) نفس المصدر، 89 - 92.
(3) نفس المصدر، 93 - 108، وعن القنيلي انظر (شرح الجامعي) على الحلفاوية، مخطوط باريس، 5113.

ساسو
08-25-2016, 03:22 PM
وأول شعرائه هو أحمد بن سحنون نفسه الذي كان أحد كتابه، فقد قال فيه وفي ولده عثمان أكثر من قصيدة، وابن سحنون من الشعراء البارزين في عهده، رغم صغر سنه عندئذ، وقد عرفنا رأيه في الشعر الفصيح والملحون وفي حركة الشعر عموما في الحزائر في بداية هذا الفصل، وكان الباي قد حظي بقصائد ابن سحنون حتى قبل فتح وهران، فله فيه قصيدة عندما تولى
الحكم وأخرى في جهاده وسيرته قبل الفتح، ومدحه حين أكرم ضيفه يزيد بن
سلطان المغرب آنئذ، في قصيدة طويلة جيدة النسج والموضوع، بدأها بالغزل على العادة:
حنانيك ماذا الصد ماذا التجانب ... وقلبي من شوقي لوجهك ذائب
وفيها يقول:
وإن كان ذنبي في هواك محبتي ... فما أنا من ذنبي مدى الدهر تائب
ثم تخلص من الغزل إلى مدح الباي بما يناسب المقام، ويجعله في مقدمة الملوك الكرام. وابن سحنون مولع بالغزل في مطالع قصائده، فقد مدح عثمان بن محمد الكبير (وكان صديقا له) بقصيدة أيضا بدأها بهذا الطالع: ألم المحبة للحشاشة موجع ... والصبر للصب المروع مرجع
لولا التصبر والتبصر في الهوى ... لرأيت سلوى في الأسى يتروع
وكان ابن سحنون يتتبع آثار الباي ويمدحها بقصائده الجميلة. فقد مدح
دار سكنى الباي ووصفها كما سنرى، ووصف الجامع الكبير الذي بناه في معسكر والمدرسة التابعة له، بل إنه مدح ومازح أصهار الباي ورثى قضاته، وبعبارة أخرى كان ابن سحنون هو متنبي الباي محمد الكبير , وإذا درس شعره وقورنت آثاره الأدبية الأحرى كـ (الأزهار الشقيقة) و (عقود المحاسن) ظهر ابن سحنون في طليعة أدباء عصره وأكثرهم تمكنا في القصيدة التقليدية بعد ابن علي وابن الشاهد، ولسوء الحظ أن حياته وآثاره ما تزال مجهولة (1).
__________
(1) سجل ابن سحنون في (الأزهار الشقيقة) وفي (الثغر الجماني) عددا من قصائده في =

ساسو
08-25-2016, 03:22 PM
ومن شعراء الباي المذكور أيضا أبو راس وأحمد القرومي ومحمد بن الطيب المازري وغيرهم، وإذا نحن قسنا بحجم القصائد فإن أبا راس يأتي عقب ابن سحنون، ولكن شعر أبي راس كان شعرا تاريخيا وفقهيا. ذلك أن غلبة علوم الفقه والتاريخ عليه جعلت شاعريته تستسلم أمام تحدي الحفظ والذاكرة، بالإضافة إلى أن شعر أبي راس في أغلبه مكسور ومختل، وقد قال في فتح وهران على يد الباي المذكور قصيدة سينية طويلة شرحها فيما بعد بطلب من الباي فأصبحت هي والشرح جزءا من تاريخ الحادثة (1)، على أن أبا راس قال إنه اختار لقصيدته قافية السين لأنها محبوبة لدى الأدباء والأمراء، وقد كان الباي هو ولي نعمة أبي راس، ولذلك مدحه في عدة مناسبات وهنأه بالنصر.
فنم هنيئا وبك النصر مقترن ... بقصر وهران دار لك محلالا
وفي إحدى قصائده فيه حاول أبو راس، رغم ركاكة القصيدة، أن يربط بين فتح وهران وضياع الأندلس، وذكر أن هذا الفتح قد اهتزت له أراضي الإسلام من مصر إلى الحجاز والشام، وأبو راس يعتبر هذه القصيدة مع ذلك، (من بديع ما قلته في فتح وهران) (2) ومطلعها:
خليلي قد طاب الشراب المورد ... لما أن صار الأمير في الثغر يقصد
وهو يقصد بالثغر مرسى وهران، وأن الباي لم يعد يقصده الناس في معسكر، التي كانت العاصمة قبل الفتح، ولكنه أصبح مقصد الناس في وهران بعد تحريرها من الإسبان. وله في مدح هذا الباي أكثر من عشر قصائد أخرى، وكلها في نفس المستوى (3)، ومن ذلك قصيدة له في غزوة الباي
__________
= الباي وفي غيره من الأغراض (أهمها الغزل، الوصف، الدين، السياسة، الطاعون، الشكوى)، وقد ذكرنا في فصل النثر تقريظ بعض أدباء الجزائر له على كتابه الأول.
(1) من هذه القصيدة وشرحها خرج كتاب أبي رأس (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) الذي سنتحدث عنه في فصل التاريخ من هذا الجزء.
(2) أبو رأس (عجانب الأسفار) مخطوط الجزائر، 15.
(3) كلها مثبتة في نفس المصدر.

ساسو
08-25-2016, 03:24 PM
للأغواط، وهي الغزوة التي انتهت بمد نفوذه على جانب كبير من الصحراء الغربية، بما في ذلك مدينة عين ماضي (1)، كما أن أبا راس وصف بعض آثار الباي العمرانية وسجل إعجابه بها ورفعه بسببها إلى مصاف الملوك.
وقد وفد على الباي أحمد بن محمد بن علال القرومي (2) في مدينة معسكر، وسجل رحلته في قصيدة حسنة تدل على أن الشعر لو وجد مناخا طيبا لنما وازدهر:
لما التقيت بوافد الحسن البهي ... يزجى المطايا مغربا في عسكر خاطبته أين المسير فإنني ... أبصرت ما أدهى وأدهش منظري وقد خاطب بهذه القصيدة الباي ومدحه على أعماله، ثم تخلص إلى وصف الجامع الذي شيده في معسكر: وترى المدرس قد علا كرسيه ... يلقى على العلماء حب الجوهر
تحويه مدرسة غدت آثارها ... تحييه بالعلم الشريف الأشعري
تمحى رسوم الجهل من ألواحه ... تحمي شمائله من الزور السرى
وإثر غزوة الأغواط مدح القرومي الباي أيضا وهنأه بالنصر بقصيدة تبدأ
هكذا:
لقد أنجز الآمال وعدا من النصر ... كما أبرز الإقبال ما كان في الصدر
وأهدت وفود الفتح عذراء بلدة ... مثقلة الأرداف في الحلل الخضر (3)
أما محمد بن الطيب المازري البليدي فقد قدم في مدح الباي قصيدة تدل على ضعف صاحبها في الشعر وكان رائده، على ما يظهر، نيل عطايا الباي الذي كان كريما معه، ومطلع هذه القصيدة:
__________
(1) عن هذه الغزوة انظر (رحلة الباي محمد الكبير) لأحمد بن هطال، وهو أيضا أحد كتاب الباي، تحقيق محمد بن عبد الكريم، القاهرة. 1969.
(2) قرومة، قرب مدينة الأخضرية، والجدير بالذكر أن أحد أفراد عائلة القرومي كان قد مدح أيضا محمد بكداش من قبل، انظر عنه (التحفة المرضية) لابن ميمون.
(3) انظر ذلك في (الثغر الجماني) مخطوط باريس، 11 - 12 - 15.

ساسو
08-25-2016, 03:25 PM
أهل هلال العز في طالع السعد ... تكامل بدرا في سما الفضل والمجد (1) وقبل أن ننتقل إلى الشعر السياسي المضاد للترك نود أن نشير إلى
قصيدة محمد بن ميمون في الحاج محمد خوجة، وهو ابن عبدي باشا، سنة
1141. ففي هذا التاريخ عاد الحاج محمد خوجة من حملة له ضد ثورة وقعت بالغرب الجزائري، فهنأه ابن ميمون بقصيدة قوية في بابها ووصف الاحتفالات التي أقيمت في العاصمة عند مقدم ممدوحه، ومطلعها:
بشرى، كما انبلج الصباح البادي ... بقدوم مولانا ضحى الميلاد
في ساعة بركاتها فاضت على ... كل الورى من حاضر أو بادي (2)
وبالإضافة إلى مدح الأفراد من العثمانيين في الجزائر، هناك من الشعراء من مدح (الأتراك) عموما ونوهوا بفصلهم على الإسلام وجهادهم في سبيله، كما مدحوا الوجود العثماني في الجزائر وتوحيد البلاد في عهدهم والقضاء على الفتن الداخلية، ونحو ذلك. حقا إن هذا النوع من المدح قليل نسبيا، ولكنه يدل على أن بعض الشعراء الجزائريين كانوا يتعاطفون مع الوجود العثماني وينظرون إليه نظرة إيجابية.
وكان الشاعر ابن محلى من الذين هزتهم الغيرة على بنات المسلمين وهن في يد اليهود بوهران حين رخص النصارى لهم في حكمها، كما يقول أبو راس، فوجه الشاعر خطابه إلى بني عامر الذين كان بعضهم يتعاملون مع الاسبان يستثير نخوتهم وكرامتهم:
فمن مبلغ عني قبائل عامر ... ولا سيما من قد ثوى تحت كافر
أيا معشر الإسلام أين فحولكم؟ ... أما ابصروا في السبت عبد الحرائر
وتحت اليهودي غادة عربية ... يعالجها الخنزير فوق المزابر (3)
__________
(1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس.
(2) انظر دراستي عن هذه القصيدة في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(3) أبو رأس (عجائب الأسفار) مخطوط الجزائر، ورقة 11 - 12، وفي أصل الأبيات
فساد في النسخ.

ساسو
08-25-2016, 03:25 PM
ويشبه هذا الشعر تحتذير محمد بن سليمان عربان وهران من التعامل مع الكفار هناك، سواء كانوا من الإسبان أو اليهود، وانذارهم بأنهم إن فعلوا ذلك سيصبحون (رعية) لهم، ودعوتهم لليقظة ومخافة الله في ذلك:
فكيف يا قبائل العربان ... عافاكم الله من الشيطان
اتخدموا هارون في وهران ... يهوديا ملعونا في القرآن
مع ديك كافر نصراني ... يعبد، يا ويلاه، عودا فإني
تبايعونهم على الأثمان ... نسيتم الله لدى الإحسان
تيقظوا، فكيف يا برية ... توافقوا تعطونهم رمية!؟ (1)
ومن الشعر السياسي - الديني قصيدة الشاعر محمد بن آقوجيل في أنواع الشهداء، وهذه القصيدة تبلغ عشرين بيتا عدد فيها نماذج الشهداء، فكانوا حسب رأيه، عشرين نوعا.
إن ترد حصر عداد الشهدا ... فعلى العشرين فاقوا عددا
فقتيل كان في معركة ... ضاق طعم الموت من أيدي العدا
وهي قصيدة على العموم جيدة (2).
وهناك من الشعراء من مدح أمراء المسلمين في غير الجزائر توددا أو طمعا، وقد عرفنا أن أحمد المقري كان يمدح الوجهاء ولكننا لم نعرف أنه مدح أيضا الأمراء. أما الذي سجل على نفسه أنه مدح الأمراء فهو عبد الرزاق بن حمادوش، فقد قال في رحلته إنه مدح سلطان المغرب عبد الله مرتين الأولى سنة 1145 والثانية سنة 1156، وكان ابن حمادوش قد نظم القصيدتين وأراد الدخول على السلطان بهما ولكن الحجاب منعوه أو كانوا غلاظا معه فأمسك بالقصيدتين عنده، فقال عن المرة الأولى (أغناني الله عن
__________
(1) (كعبة الطائفين) 1/ 305، نسخة باريس.
(2) كناش رقم 529 المكتبة الوطنية - توس. كان ابن آقوجيل حيا سنة 1142. يوجد خطه على نسخة من (المنح البادية). دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 463.

ساسو
08-25-2016, 03:26 PM
لقياه) وعن الثانية (لما رأيت غلظ حجابه مسكتها عندي) ومطلع الأولى: قطعت بحارا موهلات ودونها قفار لا تأويها الوحوش مع الطير ويبدو من طالعها أنه أراد أن يبرر للسلطان المشاق التي تعرض لها أثناء السفر من الجزائر إلى المغرب لعله يظفر منه بعطية. أما مطلع الثانية، التي قالها في تهنئة السلطان بالقضاء على ثورة أحمد الريفي ضده فهو: أمولاي عبد الله بشرك الهنا ... بكل الذي تبغي من الفتح والنصر وقد أثبت القصيدتين في الرحلة قائلا إن الأدب هو الذي حمله على قولهما وأنه لم يقل غيرهما فيه ولا في غيره،. (فخلدتهما في ديوان الأدب). وقال بهذه المناسبة أنه لم يجعل علمه وسيلة للدنيا، ولكننا نعرف أنه مدح طبيب السلطان عبد الوهاب أدراق (1) الذي كان من الوجهاء. وشعر ابن حمادوش، كما لاحظنا، ضعيف النسج مختل العروض مقصوص الخيال.
وإذا كان ابن حمادوش يمدح سلاطين المغرب في أيام عز العثمانيين في الجزائر (دون أن نجد له مدحا في أحد ولاة الجزائر فإن محمد بن مالك الجزائري قد مدح أحمد، باي تونس بعد أن احتل الفرنسيون الجزائر. فقد
كان ابن مالك من قضاة الجزائر في العهد العثماني، وكان يشتغل بالسياسة والأدب والدين، ويبدو أنه هاجر إلى تونس وتقدم إلى الباي هناك يستمنحه الصلات، وقد بدأ قصيدته فيه بالغزل والخمر على العادة ثم تخلص إلى مدح
الباي ومدح تونس في عهده، مستعملا الجناس مع المذاهب الثلاثة (المالكي
والشافعى والحنفي).
يا مالكي كن شافعي ... لدي أمير حنفي يبسط قبض اليد في ... صلاته لمعتفي دم أحمد الناس لنا ... وجد بوصل واعطف تونس بالأنس به ... تهش للمسعطف
__________
(1) انظر مقالتي (أشعار ومقامات ابن حمادوش الجزائري) في مجلة (الثقافة) 49، 1979،
وابن حمادوش (الرحلة).

ساسو
08-25-2016, 03:27 PM
لا زلت يا شمس العلا ... تحل برج الشرف (1)
وقد سبق ابن مالك إلى تونس أحمد بن عمار كما عرفنا، وأشرنا إلى أن ابن عمار قد مدح الباي عندئذ، بالنثر وجعل فيه كتابا، ولكننا لا ندري إن كان ابن عمار قد مدح هذا الباي أيضا بالشعر، والغالب أنه ضمن نثره بعضم الشعر على عادته.
ومن أبرز الشعراء الذين وقفوا موقفا مضاد للترك في الجزائر وهجوهم هجاء مرا الشاعر سعيد المنداسي وهو من شعراء القرن الحادي عشر، الذي ثارت فيه تلمسان عدة مرات على قوادها الأتراك، كما عرفنا، وكان المنداسي يعيش في تلمسان لكننا لا نعرف نوع حياته، فقد كان من شعراء المدائح النبوية وكان متمكنا في اللغة والأدب، وكان أيضا على صلة بعلماء المغرب ورجال دولته، ولا شك أن أديبا كالمنداسي لا تناسبه الجزائر في العهد العثماني كل ما فيها بعض العلماء المتنافسين والمتصوفة الدراويش، ولا شيء بعد ذلك يخصب مواهب الشعراء ويبعث الحياة في نفوسهم، وقد كان المغرب مقصد العلماء الجزائريين للدراسة، كما كان ملجأ للهاربين من ظلم وتعسف العثمانيين، ولا ندري ما الذي حمل المنداسي مباشرة على هجاء الأتراك جملة وتفصيلا:
فما دب فوق الأرض كالترك مجرم ... ولا ولدت حواء كالترك إنسانا فقد وصفهم بأبشع الأوصاف وأقذعها، واتهمهم بالفحش والشره في حب المال، وارتكاب الجرائم، كما أنه تحدث عما عانت تلمسان منهم، وعرض بالمفتي التلمساني في عهده، أحمد بن زاغو، الذي انقاد في نظر المنداسي، إلى الترك واتهمه بالضلال في الدين وأنه قد هدم دار العلم، وأنه كان يسكر، ولا غرابة بعد ذلك أن يموت المنداسي في سجلماسة هاربا من الأتراك، بسبب قصيدته التي تعتبر من أقذع ما قيل فيهم (2).
__________
(1) (كناش) رقم 9240 المكتبة الوطنية - تونس، والقصيدة في أربعين بيتا.
(2) الخزانة العامة بالرباط، رقم 1656 د. وهي في 27 بيتا، وقد نسب فايسات الفرنسي =

ساسو
08-25-2016, 03:28 PM
ولم يكن المنداسي وحده في ذم الترك، فقد كان هناك غيره ولكن الحكم العثماني لم يسمح بهذا الشعر أن يظهر طبعا، كما ظهر الشعر المادح لهم، ولكن الكتب والوثائق والذواكر قد حفظت لنا نماذج أخرى من الشعر المعارض للأتراك، ومن ذلك قصيدة سيدي دح السنوسي بن عبد القادر في الشيخ محيي الدين والد الأمير عبد القادر، عندما أخذه الباي حسن (باي وهران) شبه أسير ليمنعه من التوجه إلى الحج، خوفا منه (1)، وكان محيي الدين قد اعتقله العثمانيون، رفقة ولده عبد القادر، وقادوه إلى وهران حيث أبقوه حوالي سنتين، وقد قال أبو حامد المشرفي عن الشاعر دح السنوسي بأنه كان (إمام الشعراء وصدر المصادر)، ولا شك أن الناس قد تناقلوا هذه القصيدة السياسية بأفواههم لأنها جاءت في وقت اشتد فيه النزاع بين سلطة العثمانيين والطرق الصوفية.
ولو تتبعنا الشعر السياسي في العهد العثماني لوجدناه، على قلته، غنيا بالتجارب، ولكن طموحات الشعراء فيه ظلت محدودة لأن أصحاب الحل والعقد في الدولة كانوا لا يهتمون بالشعر فكيف يهتمون بأهله؟

الشعر الاجتماعي
نعني بالشعر الاجتماعي شعر الإخوانيات الذي يشاطر فيه العلماء بعضهم بعضا في مناسبات معينة، وشعر الرثاء والتقريظ والمدح لغير الأمراء ورجال الدين، وشعر المجون ونحو ذلك، وإذا حكمنا من الإنتاج الذي لدينا
__________
= قطعة شعرية في هجاء الترك إلى سعيد المقري، وهو خطأ منه في نظرنا، فقد اختلط عليه سعيد المنداسي بسعيد المقري، ذلك أن المقري ظل مفتيا أربعين سنة في تلمسان على عهد العثمانيين. انظر ترجمة سعيد المقري في فصل التعليم من الجزء الأول وانظر فايسات (روكاي) 1888، 389، هامش.
(1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول) 8، وقد ذكر القصيدة ولكنها في جزء مفقود من الكتاب.

ساسو
08-25-2016, 03:29 PM
فإننا نجد أن شعر الإخوانيات قد سيطر على البيئة، فالشعراء كانوا يتبادلون المدح والنكت وحتى الهجاء والفخر، والعجيب أن شعر الرثاء قليل جدا رغم العاطفة القوية التي يتميز بها الناس عند فقد الأقارب والأحبة والشيوخ، كما أن شعر المجون قليل، ولكن لا غرابة في ذلك فإن المجتمع على العموم مجتمع منقبض قاس على نفسه، تقل فيه الطرف والنكت والشعر الخفيف، وقد عرفنا أن المرأة كانت في المقام الثاني وكانت مشاركتها قليلة في الظاهر، فلم تدخل ميدان الشعر الاجتماعي لا منتجة ولا موضوعا.

المجون والمزاح:
ويبدو أن محمد بن أحمد بن راس العين، الذي لا نعرف عنه إلا القليل والذي كان محل تقدير الشعراء والعلماء، ممن اشتهر بشعر المجون، ففي الوقت الذي كان فيه الفقهاء يلعنون شجرة الدخان ويفتون بعدم شربها أو تدخينها، كان ابن رأس العين يسخر من فتاواهم ويخاطب (التباغة) كما يخاطب الخمر المحرمة، وينادي النادل أن يسقيه إياها في غليون ممتاز لأن شربها في الليل في جلسات السمر مع الإخوان ينعش النفس والفؤاد، وهو يقول للنادل إن الفتوى بعدم شربها كلام باطل، وإنها عنده حلال طيب، وأن ضوءها يغني عن الصباح، وإن تعاطيها لا يفسد العقل كما يزعمون، وأن من لم يشربها لا يدرك حقيقتها.
اسقنيها تباغة تجلا ... في حلى السبسى
شربها في الدجا مع الإخوان ... جالب الأنس
اسقنيها ودع كلام السلاح ... فهو عندي محال
لا تعطل شرابها يا صاح ... فهي عندي حلال
شمعها يغني عن الصباح ... في ظلام الليال
شربها ليس يفسد العقلا ... لذوي الحس
كل من ذم شربها جهلا ... فهو في بخس (1)
__________
(1) كان ابن رأس العين حيا سنة 1058 كما وجدناه على بطاقة من (رقم الحلل) لابن الخطيب من أنه من نسخ هذا الشاعر. انظر مكتبة رضوان، المكتبة الوطنية - تونس، =

ساسو
08-25-2016, 03:29 PM
ومن الواضح أن ابن رأس العين متأثر بالمدرسة الأندلسية في نظم الموشحات، وأنه يعد مقدمة لابن علي في شعر المجون، كما سنرى، غير أننا نعرف أن ابن علي كان مفتيا أيضا، أما ابن رأس العين فلم يكن كذلك. فهو أحق بالمجون من صاحبه، ولكن اختلاف العصر (ابن رأس العين في القرن الحادي عشر وابن علي في الثاني عشر) يجعل المقارنة بينهما هامة في هذا الباب، وسنترجم لابن علي بعد حين.
ويدخل في شعر اللهو الاجتماعي التلغيز أو استخدام الألغاز عن طريق الشعر، تخفيفا من عبء الحياة، واختبارا للذكاء وتنشيطا للذهن، ونعرف أن سعيد قدورة قد تبادل الألغاز مع أحمد المقري في لغز (هاج الصنبر). ويحدثنا الفكون أن المقري قد عجز عن الجواب في الأول ولكنه وجد حله في المرة الثانية، وأنه قد نظم الإجابة شعرا (1).
وألف بركات بن باديس عملا في الألغاز سماه (نزع الجلباب في جمع بعض ما خفي في الظاهر عن الجواب) كما سماه في مكان آخر (بالمسائل السبعينية) لأنه جمع فيه كما قال سبعين مسألة في الألغاز نثرا وشعرا. وقال في أوله (وبعد فهذه سبعون مسألة كانت حاضرة على البال، وضعتها هنا
__________
=…7059، أما الموشح أعلاه فهو من (كناش) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 529،
وفي هذا الكناش أخبار أخرى عنه، وقد كتب الموشح سنة 1027، كما جاء ذكر ابن رأس العين في (ديوان ابن علي)، وسماه هناك (الكاتب البليغ) ووصفه (بالشيخ
الرئيس)، ووجدنا في بعض الوثائق أن ابن رأس العين كان نائبا عن سعيد قدورة
(توفي سنة 1066) في الخطابة بالجامع الكبير بالعاصمة، كما وجدنا في الأرشيف. (172) 31 - 228 Mi، أن ابن رأس العين كان بذمته مبالغ مالية محددة وأنه كان أمينا لأوقاف الحرمين، وذلك سنة 1114، فإذا صحت التواريخ المذكورة فإنه يكون قد عاش مدة طويلة. يبقى أن نشك في أن التاريخ الأخير قد يكون لأحد أفراد العائلة (ابن رأس العين) وليس بالضرورة تاريخ الشاعر الذي نتحدث عنه. انظر أيضا (مختارات مجهولة).
(1) (منشور الهداية)، مخطوط.

ساسو
08-25-2016, 03:30 PM
تقييدا خوف النسيان والإهمال، مفيدا لأهل العرفان والكمال)، وقد اطلعت على نسخة من هذا العمل فوجدت فيه الألغاز التي ذكرها الفكون والتي ذكرها أيضا ابن حمادوش والتي كانت متداولة، فيما يبدو، بين علماء وأدباء الوقت (1).
كما يحدثنا عبد الرزاق بن حمادوش، في الرحلة أن لأحمد البوني كتابا في الألغاز، وأن عددا من الأدباء قد حاولوا الإجابة وفشلوا، حتى اضطروا إلى الكتابة إلى ابنه أحمد الزروق بعنابة يطلبون منه توضيح الجواب بمقتضى ما قصد إليه والده (2)، وقد اشترك في حل هذا اللغز بالشعر أيضا يحيى
الشاوي وسحنون بن عثمان الونشريسي، ومن جهة أخرى يذكر ابن ميمون في
(التحفة المرضية) أنه كانت لإبراهيم القنيلي الطرابلسي (قوة الألغاز والأحاجي .. وكان كثيرا ما يخاطب بها صاحبه الأول (محمد بكداش باشا) أمير المؤمنين بالدار السلطانية، وقعت بينهما في هذا الفن طرف تستلمح فتستملح، وأعاجيب تستلحظ فتستحفظ) (3)، ونفهم من هذا أن بكداش باشا كان يلاغز أيضا.
وقد حدثنا أحمد بن سحنون أيضا عن أنه كان يمازح الأمير عثمان ابن الباي محمد الكبير قبل توليه الحكم، ومن ذلك أنه قال فيه قصيدة (أثناء مزاح
أدبي، ومنزع عربي)، وهي:
عسى الليث عثمان يعذرنه ... ويجري على خطة الكرم
وقد استعمل ابن سحنون نفس العبارة السابقة مع صهر الباي أيضا،
وهو محمد بن إبراهيم، الذي كان صديقا له، فقال فيه مرة عند غيابه عنه من قصيدة طويلة.
__________
(1) يقع العمل في واحد وعشرين صفحة، وهو من نسخ سالم بن محمد إلى شعبان بن
جلول، سنة 1146، والسخة التي رأيناها من مكتبة الشيخ المولود بن الموهوب (عند السيد ماضوي). وكان بركات بن باديس حيا سنة 1107.
(2) ابن حمادوش (الرحلة)، مخطوط، وقد ذكر ابن حمادوش نماذج من الإجابات، وبعضها جيد المستوى.
(3) (التحفة المرضية) مخطوط باريس، 64.

ساسو
08-25-2016, 03:31 PM
حديث شوقي لكم في شرحه طول ... يا جيرة رحلوا والجسم معلول
وقال يمازحه:
فلولا جمالك يا زينب ... لما انجاب من أفقنا غيهب ولعل مما يدخل في هذا الباب، مدح حسين خوجة الشريف باشا لأحمد البوني. فقد نسبت قصيدة إلى البوني في الباشا أجابه عليها الباشا بقصيدة أيضا، ونعتقد أن الباشا لم يكن شاعرا وإنما كتبها أحد الشعراء على لسانه.
ثبت الجمال لبونة بجليلها ... وترنحت أرجاؤها بالسؤدد
ابني تميم جدتم بتميمكم ... فتمامكم في ذا التميم الأمجد (1)
و (بقاسم) فازت بحظ وافر ... سعدت به رغما لأنف الملحد و (بأحمد) الجد الإمام تجددت ... صفحات مجد سيد عن سيد
ملك السيادة واقتفى آثار من ... لهم العلا أهل المقام الأسعد (2)
وتنسب إلى محمد القوجيلي عدة قصائد في المزاح ونحوه. من ذلك الشعر الذي تبادله مع الأديب التونسي محمد بن عثمان ضاي، وذلك الذي تبادله أيضا مع الشريف السوسي حول السماع (الموسيقى)، والقصيدة التي قالها ممتعضا من دخول غير الفصحاء على الفصحاء (3).

المدح والفخر:
وإذا كان الشعر الاجتماعي في جملته محدود الأغراض في العهد العثماني للظروف التي شرحناها، فإن العلاقات الشخصية ظلت تلعب دورا هاما في تحريك القرائح والتعبير عن ذللث بشعر جيد أحيانا، وقد كثرت الأشعار بين إخوان العلماء والأدباء معبرين بها عن حالات النفس من شكوى
__________
(1) تنسب أسرة البوني نفسها لبني تميم العربية، ومن ثمة هذا التلاعب بالألفاظ.
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1847 مجموع، والقصيدة طويلة، وقاسم هو والد أحمد البوني، وكان من أهل التصوف.
(3) (ديوان ابن علي) مخطوط. وكذلك (مختارات مجهولة).

ساسو
08-25-2016, 03:32 PM
وطموح وفخر، وعن التلطف والإطراء والتنويه. ولعلماء وأدباء الجزائر علاقات كثيرة مع بعضهم ومع علماء وأدباء المشرق والمغرب، وسوف لا نأتي على تفاصيل كل العلاقات وملابساتها، وحسبنا هنا الإشارة إلى عدد من الحالات التي تكشف عما كنا نقول.
فهذا العياشي المغربي يمدح شيخه عيسى الثعالبي بقصيدة طيبة اللفظ والمعنى مطلعها:
إذا غالبتك النائبات فغالب ... بفخر فحول العلم عيسى الثعالبي
فيرد عليه الثعالبي بقصيدة من بحرها وقافيتها ولكن أقل منها حجما،
جاء فيها:
حبا بابنة الفخر العلى والمناقب ... فريدة فرد في امتطاء المناصب
أتت تتهادى في مروط ملاحة ... تجررها تيها على كل كاعب
وتأنف إذ كانت يتيمة دهرها ... جمالا بديعا عن إجابة خاطب
وبعد هذه المقدمة الغزلية التي لا علاقة لها بالعياشي ولا بالثعالبي المحدث والعالم الشهير قال:
فيا روح آداب وشخص فضائل ... وناظر أحداق الذكاء لطالب
جزيت بما أسديت أفضل منحة ... وبلغت من رغباك أسنى المطالب (1)
وكان يمكن للثعالبي أن يكون من أبرز الشعراء لو كرس حياته للشعر،
فنفسه هنا يدل على ملكة قوية في بحور الخليل.
وكان لقاء العياشي بشيخه الثعالبي في مصر ثم في الحجاز، أما لقاء عبد السلام القادري المغربي ومحمد بن أحمد القسنطيني المعروف بالكمال، فقد كان بالمغرب، وقد تبادل الرجلان المدح والثناء والإشادة بالعلم وأهله، فقد قرأ القادري على شيخه القسنطيني وأعجب به، فأرسل إليه قصيدة ينوه بفضله جاء فيها:
__________
(1) رحلة العياشي 2/ 131.

ساسو
08-25-2016, 03:33 PM
إلى العالم النحرير والحجة التي ... روى فضلها عز السراة الجماهر
ألست الذي إن عز في العلم مشكل ... تلقاه فهم منك في زي باتر
فأجابه شيخه الكماد بقصيدة على وزنها وقافيتها مدح فيها تلميذه بالفضل وأصالة النسب والحسب وتشوق فيها إلى الديار المقدسة:
خليلي عج بالركب عن أم عامر ... وعرج على كثبان نجد وحاجر (1)
وقد ورد على الجزائر عدد من علماء المغرب وشعرائه وتبادلوا مع علماء وشعراء الجزائر الإجازات والشعر والرسائل، ومن هؤلاء نذكر
الجامعي وابن زاكور وأحمد الورززي وأحمد الغزال وغيرهم، وكنا قد أشرنا إلى بعض آراء ونشاط الجامعي وابن زاكور، ولنشر الآن إلى زيارة الورززي والغزال. كان الورززي، على ما يظهر من أخباره، يزور الجزائر من وقت لآخر، ونحن نعرف من ذلك زيارتين على الأقل الأولى سنة 1159 والثانية 1162، وقد سجل ابن حمادوش الزيارة الأولى في رحلته وذكر نشاط الورززي والتفاف علماء الجزائر من حوله، ولكنه لم يذكر شعرا قاله فيه أحد عندئذ، أما الزيارة الثانية فقد سجلها أحمد بن عمار وأورد أن شيخه ابن علي قد قال قصيدة بارعة في الورززي بمناسبة هذه الزيارة (عند وفوده علينا بمحروسة الجزائر سنة 1162)، وقصيدة ابن علي تشير إلى أن الورززي كان يتردد على الجزائر، فقد بدأها هكذا: خليلي عاد الأنس والعود أحمد ... فقد زارنا شيخ المشائخ (أحمد) رأينا محياه السعيد ويا له ... محيا بدت أنواره تتوقد
فأشهد أن الشمس قد طلمت لنا ... من المغرب الأقصى ولا أتردد وقد فتحت أبواب توبتنا بها ... وذا عكس ما قد كان للشمس يعهد
فما لك قد أصبحت (مالك) علمه ... وفي خلدي أنت الإمام المجدد
__________
(1) (الإعلام بمن حل مراكش) 5/ 13 - 15. وعبد السلام القادري هو صاحب (نشر المثاني).

ساسو
08-25-2016, 03:34 PM
فجد لي بما أرجوه منك فإنني ... رأيتك كنزا للذخائر يقصد (1)
أما أحمد الغزال فقد مدح شيخه أحمد بن عمار، وكان الغزال قد جاء في سفارة إلى الجزائر موفدا من قبل السلطان عبد الله للتوسط بين الجزائر وإسبانيا، وذلك سنة 1182، وكان الغزال أيضا شاعرا ودبلوماسيا لأن سلطان المغرب كان قد أرسله أيضا في سفارة إلى إسبانيا، والغزال هو صاحب الرحلة المعروفة (نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد) (2)، وقد اتصل الغزال بعلماء الجزائر، وعلى رأسهم أحمد بن عمار الذي كان عندئذ ذائع الصيت موفور القدر. وقيل إن الغزال حضر عليه درسا في الحديث بالجامع الكبير فارتجل قصيدة في شيخه:
روينا الأحاديث الألى ورثوا العلا ... قديما ففازوا بالثناء المؤبد هلموا إلى مأوى المفاخر والعلا ... هلموا إلى الأسمى ابن عمار أحمد بوالده دينا وعلما قد اقتدى ... لقد جد نجل كان بالأب يقتدي
وقد جاء فيها على الخصوص:
فما سمعت أذني ولا العين أبصرت ... شبيها له غربا وشرقا بمعهد (3) ومن هذا نعرف مكانة ابن عمار من رجل طوف كثيرا وخبر العلماء شرقا وغربا، كما نعرف منها الإشارة إلى أن ابن عمار قد اقتدى بوالده في
العلم والدين.
وعندما اطلع محمد بن الشاهد على قصيدة الغزال في ابن عمار كتب
__________
(1) محمد داود (تاريخ تطوان) القسم الأول، المجلد 3، تطوان، 1962 89 - 90. والظاهر أن ابن علي كان يطلب في البيت الأخير الإجازة من الورززي.
(2) طبعت بالعرائش سنة 1941.
(3) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف) 2/ 314، وقصيدة الغزال في عشرين بيتا، والغالب أنه قد ارتجل بعضها فقط وكتب الباقي فيما بعد، وفي (المجلة الإفريقية) 1961، 456، أن الغزال قدم إلى الجزائر سنة 1179 (1766)، أما المهدي البوعبدلي فيذكر أنه جاء سنة 1182، انظر (الثغر الجماني)، 76 المقدمة.

ساسو
08-25-2016, 03:35 PM
أيضا قصيدة قوية في مدح الغزال والإشادة بابن عمار الذي هو أستاذ ابن الشاهد أيضا:
عسى أن يلم الشمل بعد تبدد ... عشية هذا اليوم أو ضحوة الغد وقد جاء فيها:
أغزال هذا العصر من رق غزله ... له العذر إن لم يكفه غير عسجد
كمدحك مولانا وقطب بلادنا ... وبدر علاها بين نسر وفرقد
فلست وقد أبصرته وسمعته ... وخاطبته فى مدحه بمقلد
ولابن الشاهد أيضا قصيدة طويلة خاطب بها أحد علماء فاس، وقد جاء فيها:
رفعت بدمع العين حكم عواذلي ... ومطلقه في الخد غيره الدم دم طاهر سود العيون سفكته ... إزالته عن ميتة الخد تحرم (1) كما أن له أشعارا ومدائح دينية.
وابن الشاهد من كبار شعراء الجزائر في العهد العثماني، وكان كأستاذه ابن عمار يجمع بين الشعر والعلم (الفقه)، فقد تولى أيضا الفتوى والتدريس بجامع حسين ميزمورطو باشا سنة 1196، وكان يسمى (أديب العصر وريحان المصر) وله قصائد رائعة ما زالت موجودة منها تلك التي رثى بها مدينة الجزائر بعد سقوطها في يد الفرنسيين والتي سنتحدث عنها في الأجزاء اللاحقة (2).
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2241.
(2) عن ابن الشاهد انظر الأرشيف الفرنسي (344) 46 - 228 Mi، و (تعريف الخلف) 2/ 216 و (المجلة الآسيوي) 8 سنة 1839، 503. وتثبت الوثائق أنه كان أيضا من
موظفي الجامع الكبير وكان يتقاضى مرتبا من أوقاف جامع حسين ميزمورطو باشا من
أحزاب الجامع الكبير، وكان له أخ، وهو إبراهيم بن الشاهد، من علماء الوقت أيضا ولكنه لم يصل إلى ما وصل إليه محمد، والغالب أن ابن الشاهد الذي هاجر إلى تونس بعد الاحتلال من أولاد محمد المذكور، وقد رأيت خطه على نسخة بخطه من كتاب (سراج القارئ المبتدئ) في القراءات سنة 1192، وتوقيعه فيه هكذا (محمد بن الشاهد، كان له الإله الواحد)، المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2254.

ساسو
08-25-2016, 03:36 PM
وقبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى نود أن نشير إلى أن لابن حمادوش عدة
قصائد في علماء المغرب قالها حين زيارته الثانية لهم، وكانت موضوعاتها
هي طلب الإجازة، لذلك فهي في مدحهم على كل حال، ومن هؤلاء محمد
البناني وعبد الوهاب أدراق وأحمد بن المبارك، والملاحظ أنه لم يطلب
إجازة من أدراق وإنما طلب الدخول عليه وحضور مجلسه العلمي، ولكن
شعر ابن حمادوش الإخواني ضعيف.
وقد جاء في قصيدته في عبد الوهالب أدراق:
أيا سيدي عبد الوهاب تحية ... وبشرى لكم أهدى وأندى من الطل
أتيتك يا ملجا البرية كلها ... تنولني علما فنبرأ من الجهل
وخلقت أمي والعيال وصبية ... كأنها أفراخ الحمام لدى الوصل (1) ورغم ضعف شعر ابن حمادوش فقد افتخر بنفسه على الشاعر المفتي ابن
علي، وسبب ذلك أن ابن حمادوش كان ذات مرة في دار صديقه وشيخه
محمد بن ميمون فدخل عليهما المفتي ابن علي فلم يقم له ابن حمادوش احتراما
فغضب وخرج. هذه هي رواية ابن حمادوش على كل حال، وقد كتب ابن
حمادوش قصيدة طويلة هجا فيها ابن علي وافتخر بنفسه وشرفه العلوي الهاشمي.
وأقام هجاءه لابن علي على كونه غير عربي وكونه يحب الدنيا وأنه متكبر
متصلف، ومما جاء في هذه القصيدة الغريبة والضعيفة أيضا قول ابن حمادوش: خرجت ذليلا لا أعود لمثلها ... وهل يجمع السيفان، ويحك، في غمد
فإني من اللائي فوق الثرى ترى ... وأنفسنا في العرش تابعة المجد
فلا يدرك المجد المؤثل غيرنا ... وإن أدرك الدنيا وحازها في الأيدي (2)
__________
(1) ابن حمادوش (الرحلة) وهي في عشرة أبيات، ونشير إلى أن من بين المبادلات
الشعرية بين علماء الجزائر والمغرب ما ذكره ابن القاضي في (جذوة الاقتباس)
95 - 96 من أن عبد الله العنابي البوني كتب قصيدة لامية سماها (جواهر الجلال في استجلاب مودة ابن هلال) فرد عليه هذا (إبراهيم بن هلال السجلماسي المتوفي سنة 903) بقصيدة جيدة مذكورة في الجذوة.
(2) ابن حمادوش (الرحلة)، وله أيضا شعر في الحنين إلى الوطن والأهل وقطع ضمنها =

ساسو
08-25-2016, 03:36 PM
وهيهات أن يصل شعر ابن حمادوش إلى شعر ابن علي! ولكنها الطبيعة
الإنسانية القائمة على الحسد والمنافسة بين المتعاصرين، والمعروف أن ابن ميمون كان صديق الاثنين، فنحن نجده أيضا يقول شعرا جيدا في ابن علي سنعرض له. وكانت أيضا بين ابن عمار وابن علي علاقات ودية ومبادلات شعرية راقية سنعرض لها.
وفي (نفح الطيب) (1) لأحمد المقري نماذج من الشعر الإخواني الذي تبادله مع علماء ووجهاء الشام، من ذلك ما كتبه عبد الرحمن العمالي يمدح المقري من قصيدة طويلة كنا أشرنا إليها:
شمس هدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب
فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب
وكان المقري يجيبه ويجيب أحمد بن الشاهين أيضا على مطارحاتهم،
وشعر المقري رقيق في أغلبه، ولا سيما في ميدان الإخوانيات والوجدانيات، ولا غرابة في ذلك فهو من خريجي المدرسة الأندلسية في بلاد المغرب. أما محمد العربي بن مصباح فقد جمع ديوانا في مدح شيخه محمد بن علي الشريف اليلولي، شيخ زاوية شلاطة. وقد ضمنه ثلاثين قصيده لعلماء الوقت وتلامنة الشيخ وكلها في مدحه. وأضاف إليها ابن مصباح ثلاثا من عنده. وفي هذا المجموع قصيدة محمد بن الحفاف، مفتي المالكية في وقته بمدينة الجزائر. وسمي ابن مصباح عمله (توشيح طراز الخياطة). ويذكر أن شيخه قد سلمه القصائد التي قيلت في مدحه (وعددها 36 قصيدة) وطلب إليه أن يصححها ويشرحها ويعلق عليها، فقام بذلك طاعة للشيخ وخدمة للشعر (2).
__________
= مقاماته ورثاء في شيخه أحمد بن المبارك المغربي (1) انظر خصوصا الجزء الثالث منه، 168 وغيرها.
(2) قام الشيخ المهدي البوعبدلي بتقديم دراسة عن (توشيح طراز الخياطة) إلى المؤتمر الذي انعقد ببرلين - ربيع 1980 - حول (المؤسسات الدينية في المجتمع المغربي) =

ساسو
08-25-2016, 03:37 PM
وقد أكثر محمد القوجيلي من مدح أستاذه علي بن عبد الواحد الأنصاري فقال فيه عدة قصائد، كما مدح مفتي إسطانبول أسعد أفندي حين دخل عليه مستأذنا، وكان القوجيلي قد توجه إلى إسطانبول في مهمة من الجزائر. كما أن أحمد المانجلاتي قد أرسل قصيدة قوية إلى المفتي أسعد أفندي معرفا له فيها بقيمة سعيد قدورة حين أرسله وجق الجزائر إلى إسطانبول غاضبين عليه، وهي أيضا قصيدة مدح في كلا الرجلين (1)، وقد جاء فيها:
سرب القطا سر بالسلام وأسعد ... وانهض إلى قمر السعادة أسعد مفتي البسيطة شمسها وهلالها ... وإمامها وهمامها والمهتدي إلى أن يقول فيها يخاطب المفتي أسعد أفندي:
قدام بابكم فقيه جزائر ... بانت فضائله لمن لم يحسد
أستاذنا علامة الغرب الذي ... بعلومه يحكى سراج المسجد
قد كلفوه ركوب بحر غيرة ... من علمه بإشارة من حسد
بحر يعرض أهله لمكاره ... إن التخلص منه يوم المولد (2)
ويمكن أن نضيف إلى شعر المدح ذلك الشعر الذي قيل في تقريظ الكتب ونحوها، ومن ذلك تقريظ ابن عمار لكتاب (الدرر على المختصر) لابن حمادوش وتقريظه لكتاب حمودة بن عبد العزيز التونسي الذي أجاب به على أسئلة علماء قسنطينة. ففي هذه المناسبة قال ابن عمار قصيدة جيدة على عادته، جاء فيها:
شمس تجلت فما أسنى تجليها ... لاحت على غرة الدنيا تحليها
أبدت مطالعها أسنى طوالعها ... من أين للشمس تجلى في مجاليها
__________
= وهي الدراسة التي استفدنا منها هنا.
(1) قصيدتا القوجيلي والمانجلاتي في (ديوان ابن علي) مخطوط، وللقوجيلي أيضا قصيدة مدح بها المفتي محمد بن قرواش، وقد أصاب الجزائر زلزال عند توليه الفتوى.
(2) (ديوان ابن علي)، مخطوط. وكذلك (مختارات مجهولة).

ساسو
08-25-2016, 03:37 PM
قوي بها عضد التوحيد منشئها ... فالسعد يكتبها والفخر يجليها (1)

الرثاء:
وإذا كانت الحياة رابطة قوية بين الشعراء، فإن الموت أيضا كان يقوي تلك الرابطة، بل يكشف عن أصالتها أو زيفها، فكما تبادل الشعراء
الإخوانيات أثناء الحياة جادوا بالشعر عند وقوع مصاب بأحد العلماء أو الشيوخ، وشعر الرثاء، على خلاف شعر المدح، قليل، ومما يذكر أننا لا نكاد نجد قصيدة فيما يمكن أن نسميه بالرثاء السياسي , ذلك أن جميع المراثي، على قلتها، لا تخرج عن بكاء بعض الشيوخ ورجال الدين، فكأن نهاية الحاكم كانت تعتبر بشرى للأمة وليس نكبة قد حلت بها، وما دامت حياة معظم الولاة كانت تنتهي بمأساة (بما في ذلك حياة بكداش باشا الذي مدحه الشعراء) فإن رثاءه قد يجلب النقمة على الشاعر. ثم إن نفاق الحياة قد جعل الحاكم مهابا أثناء حكمه عندما تكون يده مبسوطة للعطاء ولكن الموت ينهي كل ذلك، فما فائدة الشاعر المنافق أثناء الحياة من رثاء واهبه بعد وفاته؟ وعلى كل حال فإن الرثاء السياسي يكاد يكون معدوما في الوثائق التي عندنا، وحتى الأبيات التي وجدت على ضريح صالح باي لم يكتب الشاعر اسمه تحتها فظلت غفلا، ولعل ذلك كان خوفا من الانتقام لأن صالح باي، رغم ما قيل عن شعبيته، قد مات مقتولا مغضوبا عليه من باشا الجزائر، ومع ذلك فنحن نسجل هذه الأبيات:
ضريح لاح (في) أوج السعادة ... كما عقد الجواهر (في) النضادة (2)
باي الزمان أخو المعالي ... به قد راح (صالحه) رشاده
أمير عاش في الدنيا سعيدا ... وعند الموت قد حاز الشهادة
فكم منن له في الله جلت ... وكم أجرى لطاعته جواده
__________
(1) (الكتاب الباشي)، 20.
(2) في الأصل بدون (في) الموجودة ين القوسين.

ساسو
08-25-2016, 03:39 PM
وجاهد في سبيل الله فوزا ... فأفنى الفنش (1) واستوفى جهاده
مدارس قد بنى لله فضلا ... وكم للخير بلغه مراده
بشهر محرم قد مات أرخ ... أمير حاز مفتاح السعادة (2)
ولا شك أن الرثاء يكون أصدق إذا قيل في الشيوخ والأصدقاء والأقارب، ولكننا لا نجد من هذا إلا القليل كما ذكرنا، ومن ذلك رثاء مصطفى الرماصي القلعي لشيخه عمرو التراري بن أحمد المشرفي، وهي قصيدة جيدة وطويلة (150 بيتا)، ويقال إن الرماصي قد نسج فيها على منوال أبي حيان في رثاء شيخه أيضا في وزنها وقافيتها وعدد أبياتها، وتبدأ قصيدة الرماصي هكذا (3):
خليلي عوجا بي على طلل عفا ... معالمه قد غيرت ومعاهده وأسفت عليه السافيات بعيدنا ... دقاق الحصا فانحط منها أجالده (4) وأثناء حصار وهران الثاني (1205) أصيب قاصي معسكر، الطاهر بن حوا، برصاصة فأردته قتيلا، وكان ابن حوا قد عينه الباي عندئذ ليقود الطلبة، رفقة زميله محمد بن جلال (الجلالي)، لمجاهدة العدو، وقد كان لمقتله أكثر كبير في نفس الشاعر المجيد أحمد بن سحنون فرثاه بقصيدة قوية مطلعها:
عز نفسك عن صروف الزمان ... كل شيء على البسيطة فان (5)
وقد سجل عبد الكريم الفكون بعض الأبيات التي رثى بها الشيخ علي
__________
(1) يشير بالفنش إلى الإسبان ومشاركة صالح باي في رد غارتهم على الجزائر بقيادة
أوريلي سنة 1775 (1189).
(2) أوردها شيربونو في (روكاي) 57 - 1856، 114 - 115.
(3) مذكورة كاملة ني (كناش) أبي حامد المشرفي، ك 471 الخزانة العامة بالرباط، ص 435 - 438، وفي الخزانة العامة نسخة أخرى منها أيضا برقم 2787 د.
(4) تبدأ قصيدة أبي حيان هكذا:
هو العلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
(5) (الثغر الجماني)، مخطوط باريس.

ساسو
08-25-2016, 03:39 PM
آبهلول (ويسميه أحيانا البهلولي) وقدم لها بقوله إن البهلولي كان (فطنا لقنا صاحب شعر كثير وفصاحة وفهم وله إنشادات شعر كثير) (1)، وكان الفكون صديقا له كما كان صديقا لأخيه عبد الرحمن البهلولي، لذلك كان صادق العاطفة في رثائه.
أما سعيد قدورة فقد رثى شيخه محمد بن علي آبهلول المجاجي بقصيدة طويلة ذكر فيها أن شيخه قد توفي شهيدا بعد أن طعنه رجل من بني نائل، الذين قال عنهم إنهم قوم خوارج، وأشاد فيها بنسبه وشرفه وعلمه، وأنه كان بالخصوص عالما بالنحو والتوحيد والفقه والمنطق، ومطلع هذه القصيدة: مصاب جسيم كاد يصمى مقاتلي ... ورزء عظيم قاطع للمفاصل وقد شكا قدورة من الدهر الذي أذل العلماء بحكم الجهال وتطاولهم عليهم، وبكى شيخه آبهلول على لسان الأرامل واليتامى والضعفاء، والأسرى المسلمين الذين كان الشيخ المجاجي يساعد على افتدائهم، كما بكى فيه العلم والتقى، وذكر أن الطلبة كانوا يشدون الرحال للقراءة عليه في زاويته: لمنزله كانت تشد رحالنا ... فمن راكمب يسعى إليها وراجل وأخيرا وجه قدورة خطابه إلى قاتل الشيخ وتوعده بسوء المغبة، وقال عنه إنه (خارجي) لا يدين بسنة عموم المسلمين.
أحقا قتلت الألمعي محمدا ... على قول حق لا على قول باطل (2) قتلت امرءا من شأنه العلم والتقى ... فيا خير مقتول ويا شر قاتل
فإنك من أشرار قوم خوارج ... بني نائل لا فزت يوما بنائل (3)
__________
(1) انظر ذلك والقصيدة في (منشور الهداية).
(2) يشير بذلك إلى فتوى الشيخ بعدم جواز زواج القاتل من إحدى النساء، وهو سبب القتل.
(3) نقل القصيدة أبو حامد المشرفي في (ياقوتة النسب الوهاجة)، 149 - 159 مخطوط، وذكرها سعيد قدورة في ترجمته لنفسه أيضا، المكتبة الوطنية. تونس، رقم 422 مجموع. وهي في 62 بيتا. وقد وجدنا القصيدة في مصدر آخر منسوبة إلى
المانجلاتي وليس إلى قدورة.

ساسو
08-25-2016, 03:40 PM
وقد حظي عبد الرحمن الثعالبي بعدد من المراثي ليس في عصره فقط
ولكن حتى في عصور متأخرة (1)، ومن ذلك قصيدة القاضي محمد بن مالك فيه، وهي قصيدة جيدة وطويلة لولا أن النسخة التي اطلعنا عليها منها قد أساء إليها النساخ أيما إساءة، وقد بدأها ابن مالك بالغزل جريا على العادة، رغم
أنه قاض، وغزله فيها رقيق على كل حال، ثم تخلص من ذلك إلى مدح
الثعالبي وأخلاقه، وكون مدينة الجزائر قد أصبحت به مأوى الأولياء وموطن السعادة، كما عدد مؤلفات الثعالبي وأسانيده وقدرته على رواية الحديث، ووصف ضريحه ومقامه في نفوس الناس، وبعد ذلك انطلق ابن مالك في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتعداد معجزاته مستنجدا به ومستنصرا، ونظرا للأخطاء الفادحة التي في القصيدة نكتفي هنا بمطلعها، راجين أن يعثر الباحثون على نسخة أوفى وأصح مما اطلعنا عليه:
أيا جيرة حلرا بخير مقام ... لكم قد صبا قلبي وطاب مقامي
ثم خلص إلى القول:
وما صبوتي فيمن رأوه حقيقة ... ولكنني أصبو لحب إمام
أبو زيد القطب الأجل الثعالبي ... إمام الورى طرا بكل مقام (2)
وقبل أن نترك الحديث عن المراثي نشير إلى مرثية محمد القوجيلي في المفتي أحمد الزروق بن عمار بن داود (3)، وقصيدة عبد الرزاق بن حمادوش
__________
(1) أشرنا إلى قصيدة تلميذه أحمد بن عبد الله الجزائري فيه، في الفصل الأول من الجزء
الأول.
(2) اطلعنا من هذه القصيدة على نسختين، نسخة مكتبة جامع البرواقية رقم 49 مجموع، ونسخة الخزانة العامة بالرباط رقم ك 2867، وهي في مائة وثلاثة أبيات، وبعد ذلك اطلعنا على نصها في (تعريف الخلف) 2/ 254 وفيه أنها لعلي بن أحمد الشريف بن مالك الجزائري.
(3) جاء ذلك في (ديوان ابن علي) مخطوط، وكان أحمد الزروق متوليا للفتوى حوالي سنة 1028 بمدينة الجزائر.

ساسو
08-25-2016, 03:40 PM
في رثاء شيخه أحمد بن المبارك المغربي (1)، ومن جهة أخرى رثى الورتلاني
بعض رجال التصوف، مثل أحمد زروق البرنوسي، وذلك في قصيدته الطويلة:
ألا أيها القطب الهمام تعلقت ... مجامع قلبي بالسعيد المنور وقد أخبر أنه نظم هذه القصيدة (لتزول عنا حجب الغفلة، وكدرات النفس وغطاء البشريات، ولعلي أرقى إلى مراتب التجليات، وأشرب من عين
اليقين، وأتحلى بحلية المعارف) (2).
كما أن محمد بن سليمان صاحب (كعبة الطائفين) ذكر نماذج مختلفة من أشعاره في شيوخه مثل محمد العبدلي وموسى بن علي اللالتي
وبلقاسم بن صابر، ومن ذلك قصيدته:
أقول وقول الحق في النفس أوقع ... وفي القول ما يصغي إليه ويتبع
أدافع عن عرض الكرام تكرما ... لعل كريما في النوائب ينفع (3)

وصف المنشآت العمرانية:
ورغم قلة المنشآت العمرانية والمدنية في العهد العثماني فإن الشعراء قد مجدوا المؤسسات التي أقامها بعص الولاة، ويدل ذلك على أن الشعر كان مستعدا للتنويه بالعاملين لنشر العلم والعمران، ولكن الولاة العثمانيين كانوا بعيدين عن ذلك، فقد عرفنا أن همهم الرئيسي كان المحافظة على السلطة بأي ثمن والاستثراء بكل الطرق والمحافظة على بقاء عنصرهم بكل السبل، وليس عليهم بعد ذلك تعلم السكان أو جهلوا، اغتنوا أو افتقروا، سعدوا أو نكبوا، وقد حظيت المنشآت التي أقامها محمد الكبير وصالح باي خصوصا بتنويه الشعراء، فالمدارس والمساجد ونحوها اعتبرها الشعراء دليلا
__________
(1) ذكرها في رحلته المخطوطة، وهي طويلة، وقال إنه أول من رثاه، وكان حاضرا لوفاته سنة 1157.
(2) الورتلاني (الرحلة)، 203، وهي في 108 أبيات.
(3) (كعبة الطائفين) 2/ 95.

ساسو
08-25-2016, 03:41 PM
على اهتمام الولاة بالشعب والصالح العام، ولكن بينما نجد محمد الكبير يجمع حوله الأدباء والشعراء للتنويه بأعماله ومواقفه كان صالح باي يعمل بدون أن يدنى منه هذه الفئة، لذلك وجدنا أسماء الشعراء الذين أشادوا بمشاريع الأول، أما الشعراء الذين أشادوا بمشاريع صالح باي فما تزال غفلا، ولا نعرف أن شاعرا معينا قد رافق أو جالس صالح باي بخلاف محمد الكبير.
أشاد الشعراء إذن بما بناه محمد الكبير من الجامع الكبير بمعسكر إلى المدرسة المحمدية الملحقة به، إلى المحكمة، بل أشادوا بداره الخاصة ووصفوها وصفا حيا، ففي الجامع يقول شاعر الباي وكاتبه ابن سحنون: انظر رعاك إله الخلق واعتبر ... لمسجد رائق قد لاح للبشر وفي نفس الجامع والمدرسة يقول أحمد القرومي من قصيدة طويلة
جيدة.
وترى المدرس قد علا كرسيه ... يلقى على العلماء حب الجوهر تحويه مدرسة غدت آثارها ... تحييه بالعلم الشريف الأشعري تمحى رسوم الجهل من ألواحه ... تحمي شمائله من الزور السرى وقد صدق مؤلف (الثغر الجماني) حين قال عن هذه القصيدة بأنها غراء تؤنس في الليلة القمراء) (1)، وكان أبو راس وغيره قد أشادوا أيضا بمنشآت هذا الباي، من ذلك وصف أبي راس للمحكمة:
فلله مبناها الجميل فإنه ... يفوق على حكم السعود يمانيا
تمد لها الجوزاء كف مصافح ... ويدنو لها بدر السماء مناجيا
هي القبلة الغراء عز نظيرها ... ترى الحسن فيها مكتسيا وعاريا
ولا عجب إن فاقت الشهب في العلا ... وقد جاوزت فيها المدار المضاهيا
بها معمر حاز البهاء وقد غدا ... بها القصر قد فاق المبانى مباهيا (2)
__________
(1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 15.
(2) (عجانب الأسفار) مخطوط الجزائر، ورقة 11.

ساسو
08-25-2016, 03:41 PM
وفي دار الباي بضواحي معسكر يقول ابن سحنون من قصيدة:
أهذه هالة للبدر أم دار ... ضاءت عليها من الأكوان أنوار وألبستها يمين الصائغين حلى ... كأنها في سماء الحسن أقمار أما منشآت صالح باي في قسنطينة فلم تحظ بهذه العناية من الشعراء،
ويعود ذلك في نظرنا إلى أن صالح باي لم يقرب إليه الشعراء ثم أن نهايته لم تشجعهم، إن كانوا، على نشر ما قالوا فيه وفي أعماله، وعلى كل حال فإن أحد الشعراء المجهولين قد كتب قطعة نقشت على اللوحة التي وضعت عند مدخل المدرسة المعروفة بالمدرسة الكتانية، أو مدرسة سيدي الكتاني، التي أمر صالح باي ببنائها سنة 1189، وفي القصيدة مدح الباي أيضا:
طاب الزمان بمن يوالي نفعه ... للمسلمين وزاد في علياه
ملك يؤم الصالحات بعدله ... فاختار آخرته (1) على دنياه
أحيى دروس العلم بعد اندراسها (2) ... وبنى لها دارا زكى مبناها
يعني مدرسة لاحت أشعة نورها ... لم لا وهي الدر في معناه (3)
جادلت بها نفس المعظم صالح ... ذاك المجاهد يبتغي مولاه
فالله يرزقه السعادة دائما ... وينيله يوم القيامة (4) مناه
قد بين التاريخ في قول لنا ... فخر المجاهد بالهنا مبناه (5)
ومن الواضح أن هذا الشعر (تسجيلي) وليس عاطفيا وأن صاحبه قاله لينقش على جدار لا لكي يتذوقه الناس ويحفظوه، ومع ذلك ذكرناه لنبرهن على أن الشعراء كانوا بالمرصاد لكل ما فيه الخير وصلاح البلاد.
ومن هذا الشعر (التسجيلي) الذي يكاد يخلو من العاطفة الأبيات التي
__________
(1) كذا في الأصل ولعل صوابها (أخراه).
(2) في الأصل (درسها).
(3) هذا البيت محتل فلم نصلحه.
(4) كذا في الأصل، ولكن الوزن لا يستقيم، ولعل صوابه (يوم القيام) بحذف التاء.
(5) نشرها شيربونو في (روكاي)، 57 - 1856، 108 - 109.

ساسو
08-25-2016, 03:43 PM
نقشت على القصر الذي بناه الحاج أحمد آخر بايات قسنطينة، وهو قصر عظيم قل نظيره في وقته، وصفه الأجانب ونوهوا بفن عمارته وذوق بانيه. وقد وصفه الشاعر بقوله:
لمالكه السعادة والعلامة ... وطول العمر ما سجعت حمامه
وعز لا يخالطه هوان ... وأفراح إلى يوم القيامة (1)
وهذا الوصف لا يدل على فضله ولا يعطى الصورة الحقيقية عنه. بل إن الزمن لم يمهل الحاج أحمد ليتمتع بقصره. فقد حاربه الفرنسيون وتغلبوا عليه وأخرجوه منه مهانا مدحورا.
وشبيه بهذا ما وجد منقوشا أيضا على لوحة مرمرية على مدخل جامع سوق الغزل بقسنطينة (2)، فقد بنى عباس بن جلول، أحد كتاب حكومة الباي
حسين بوكمية، هذا الجامع سنة 1143، ويقال إن الباي، قد غار من هذا العمل فاشترط على كاتبه أن يكون الجامع مشتركا بينهما. ومهما كان الأمر فإن الأبيات تسجيلية أيضا، ولعلها من صنع بعض الفقهاء: غرف المحامد أم قصور تعبد ... أم جنة الرضوان للمتهجد
أم جامع جمع المحاسن فانثنت ... في جيد منشيه أعز مقلد
بيت يقام بها عماد الدين في ... ظل امتثال للاله الأوحد
كالشمس إلا أن تلك إلى الأفول ... وهذه في البر ذات تخلد
وسعت بما وسعت يدا حسين ضا ... حكمة بما للراكعين السجد
يرجو بها من يسبل الستر المنال ... على العصاة إذا أتوه في غد
يا خير من يرجى لكل مؤمل ... نوله ني الدارين أسعد مقصد
ولئن تسل تاريخه فأتى به ... بأي الزمان حسين بن محمد (3)
__________
(1) نفس المصدر، 134 - 135.
(2) عن هذا الجامع الذي تحول إلى كنيسة وعن قصة بنائه انظر الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب.
(3) شيربونو (روكاي) 55 - 1854، 102 - 107.

ساسو
08-25-2016, 03:43 PM
وقد أسهم الشاعر ابن علي في ذلك بوصف مخزن للحبوب بناه محمد باشا عند باب عزون، فقال أربعة أبيات منها هذان: لئن كانت الأهرام من مصر أودعت ... خزائنها درا نفيسا وياقوتا
فذا الهرم الأعلى أجل لأنه ... جميع البرايا منه يلتمس القوتا (1)
ومن سوء حظ الشعراء أن العصر كان عصر ركود عمراني وإلا لانطلقوا يصفون ويمدحون، فكان ذلك سببا في اقتصار الشعر الاجتماعي على الإخوانيات، ولبرودة الشعر التسجيلي ذكرناه في الشعر الاجتماعي وليس في شعر الوصف. وإذا كان الشعر مرآة العصر فإن الشعر الاجتماعي منه يدل على أن الجزائر في العهد العثماني لم تعرف من المؤسسات العمرانية والثقافيةالرسمية إلا قليلا.

الألغاز:
كان التلغيز نوعا من الرياضة الأدبية يتعاطاه الفقهاء والشعراء على السواء. ففي وقت انعدمت فيه أو كادت وسائل الترفيه والتسلية كان اللجوء إلى التلغيز بالشعر إحدى هذه الوسائل، وكان الملغز يعبر عن حادثته بالبيت أو الأبيات ولكنه لا يلجأ إلى القصيدة الطويلة، وليس من الضروري أن ينظم الملغزون ألغازا جديدة، فقد كان بعضهم يعود إلى كتب الأدب العربي ويأخذ منها نموذجا أو أكثر ويرسل به إلى زملائه فيعملون فيه الرأي والذكاء محاولين الإجابة التي قلما تكون صائبة، كما أن بعضهم كان يلغز تقية أو تلميحا أو نحو ذلك من الأغراض.
وليس من غرضنا هنا تتبع هذا النوع من الشعر لأنه في الواقع يعتمد على النقل من جهة ولأنه من جهة أخرى قائم على التكلف والتمحل. غير أننا نذكر، ونحن بصدد الحديث عن وثائق الأدب الجزائري، بعض المؤلفات التي عالجت هذا النوع من الشعر. من ذلك تأليف بركات بن باديس الذي
أشرنا إليه والذي سماه (نزع الجلباب) والذي جمع فيه بين الشعر والنثر،
__________
(1) (ديوان ابن علي)، مخطوط.

ساسو
08-25-2016, 03:44 PM
وكذلك تأليف الألغاز الذي ألفه أحمد بن قاسم البوني والذي لا نعرف له عنوانا، كما أن عبد الرزاق بن حمادوش قد ذكر نماذج من الألغاز في رحلته
بعضها لجزائريين وبعضها لغيرهم.
وبالإضافة إلى من ذكرنا كان سعيد قدورة وعبد الكريم الفكون وأحمد المقري ومحمد بن ميمون وسحنون بن عثمان ويحيى الشاوي قد جربوا التلغيز، ولا شك أن هناك مؤلفات أخرى جمعت بعض هذه الألغاز، مثل ديوان ابن علي، كما أن معظم العلماء والأدباء كانوا يتلاغزون.
من ذلك هذا اللغز:
ألا أيها الغادي على ظهر أجرد ... يشق الفيافي فدفدا بعد فدفد
تحمل رعاك الله مني تحية ... تحيي بها أهل المجالس في غد
وقل لهم ما سبعة خلقوا معا ... وما سبعة في ثوب خز مورد
حواجبهم سبعون في وجه واحد ... وأعينهم تسعون في خلق هدهد
أبوهم له حرفان من اسم جعفر ... وحرفان من اسمي علي وأحمد
فقد أجاب عنه يحيى الشاوي بقوله:
هم سبعة من بيضة خلقوا معا ... ومثلهم في ثوب خز مورد حواجبهم سبعون في كل واحد ... وأعينهم تسعون صورة هدهد
أبوهم رجيم مارد متمرد ... وقد جمعت من لفظ لغز مقيد
وقد نظم بركات بن باديس لغزا بعث به من قسنطينة إلى علماء الجزائر يسألهم فكه، بدأه بقوله:
أيا سائرا نحو الجزائر في غد ... ومن لجلاليب السلامة مرتدى
وهو طويل، وقد حاول الإجابة عليه سحنون بن عثمان الونشريسي (1). وهناك لغز في الميراث تبادله محمد الطبني ومحمد القوجيلي وكانت
__________
(1) جوابه، وكذلك النماذج المذكورة، في رحلة ابن حمادوش، مخطوطة وهي الآن مطبوعة.

ساسو
08-25-2016, 03:45 PM
إجابة القوجيلي فيه طويلة بدأها بقوله:
طربت لما بدا لي ... نظم عقود اللآل فرائد الحسن فيها ... دارت بجيد غزال (1) ومن الألغاز التي شاعت بين علماء الجزائر (2) لغز (هاج الصنبر) الذي امتحن به سعيد قدورة زميله أحمد المقري عندما حل (المقري) بمدينة الجزائر قادما إليها من فاس، وقد عيب على المقري أنه لم يفهم الجواب من المرة الأولى (والألغاز إنما هي لاختبار الذكاء وسرعة الإجابة) ولذلك أعاد عليه قدورة السؤال:
أبدرا بدا من غربنا بجزائر ... وبحرا عبابا من نفيس جواهر
أحاجيك يا فخر الزمان بلفظة ... أتت في مقام الرفع دون محاذر
فأبدل بالخفض المغير وصفه ... ولا سبب يبدو لرؤية ناظر
فليس مضافا أو بحرف يجره ... ولا اتبع المخفوض أو بمجاور
وليس بمحكي فيقبل جره ... فرد فأنت اليوم زين المحاضر
فكان جواب المقري الأول:
أتاني نظام من فقيه الجزائر ... فحييته إذ كان أكرم زائر
أشار به، فيما أظن، للفظة ... عراها من الاتباع حكم مغاير
وذلك مثل (الحمد لله) دائما ... فكسرك دال الحمد ليس بضائر
وما كان تأخيري جوابكم قلى ... وقد يترك المطلوب عند الضرائر
وعذرا فإن الشجو شتت فكرتي ... ولله أشكو ما تكن ضمائري (3)
وقد راجعه قدورة بالأبيات الآتية لعدم إدراكه كنه الجواب:
رأيت جواب الحبر خير مؤازر ... وعيبة أسراري ومرآة ناظري
__________
(1) نصه الكامل في (جليس الزائر) المنسوب لمحمد قدورة، المكتبة الوطنية - الجزائر، مخطوط غير مرقم.
(2) أشار الفكون في (منشور الهداية) إلى قصة هذا اللغز ولكنه لم يذكر كل نصه.
(3) في دراستنا لحياة المقري في الفصل السابق أشرنا إلى الظروف التي جعلته يشكو هذه الشكوى.

ساسو
08-25-2016, 03:45 PM
ولكنه عن صرف قصدي نازح ... لقولي في نظمي (ولا بمجاور)
ولا فرق بين (؟) تابع ومجاور ... بنص الدماميني صدور الأكابر
وحصرهم التحريك في عد ستة ... يدل على الإرداف ياذا المآثر
فأجابه المقري من جديد:
حبا بسلوك من نفيس جواهر ... إمام بدا من نظمه كل باهر
يؤمل تجديد الجواب لأنه ... تقدم قول ليس فيه بظاهر
فقلنا أردت (الصنبر)، إذ هي لفظة ... أتت بعد حين هاج في شعر ماهر
ومن يتوهم فليقف مع نقله ... فيبدل بخفض الطرف رفع المظاهر (1)

الشعر الذاتي
يعتبر الشعر الذاتي من أصدق ألوان الشعر، لأن الشاعر فيه يستمد وحيه من عالمه الخاص، فلا مغريات ولا مناسبات ولا مطالب تلح عليه لقرض الشعر، وقد جرت العادة أن نعد من الشعر الذاتي شعر الوصف والغزل والتأمل والشكوى والحنين إلى الأوطان والكشف عن أحوال النفس عند الانقباض أو الانبساط، ولكن الشعر الذاتي ليس كله أو ليس بالضرورة صادقا دائما، فهناك من الشعراء من كان يتكلف الوصف أو الغزل فيأتي شعره باهتا باردا لا حياة فيه، ومنهم أيضا من لا تطاوعه اللغة والخيال فيقصر عن
التأثر في نفوس الآخرين، وقد حفل الشعر في العهد العثماني بعدد من القصائد الذاتية التي قيلت في الأغراض التي ذكرنا، فجاء بعضها جيدا وبعضها وسطا، ومن أبرز الشعراء الذاتيين محمد بن محمد المعروف بابن علي الذي سنتحدث عنه بعد قليل وأحمد بن عمار وسعيد المنداسي وأحمد المقري، وكان بعضهم يعالج هذه الموضوعات بالقصيدة التقليدية وبعضهم
بطريق الموشح، ومن أشهر من استعمل الموشح ونجح فيه ابن رأس العين
__________
(1) أخدنا نص هذا اللغز من (جليس الزائر) المنسوب إلى محمد قدورة، المكتبة الوطنية - الجزائر، مخطوط، بدون ترقيم.

ساسو
08-25-2016, 03:46 PM
أما ابن علي، فرغم براعته في الشعر، فقد غلبت عليه القصيدة.

الشعر والمرأة:
ولعل غياب المرأة في المجتمع الجزائري هو الذي جعل شعر الغزل قليلا نسبيا، فالشعراء كانوا لا يتحدثون عن المرأة بعينها حين يتغزلون وإنما يصفون المرأة من الوجهة المجردة، فكانت صورهم الشعرية إما مأخوذة من
الماضي، وإما غير منطبقة على الواقع، وإما خيالية قل من يحس بها، وقد عزا بعض الكتاب الأوروبيين ما وجده من خشونة في الطبائع والألفاظ لدى الجزائريين إلى كون المرأة لا تتحرك وسط المجتمع، فقال ما معناه إن فراغ مجتمعهم من نشاط المرأة هو السبب في انعدام الذوق والمشاعر الرقيقة عندهم، لذلك فهم (وهو هنا يعني الشعراء) يتركون أنفسهم يسبحون في الخيال المجنح ولا يتكلمون إلا بلغة العبودية الخشنة بدل لغة الحرية الرقيقة، وهذا ما جعل الشعر عند الجزائريين في نظر هذا الكاتب يفتقر إلى الفكرة القوية والعاطفة الشريفة (1). ومهما كان في هذا القول من صدق أو من تجن فإن الذي لا شك فيه هو أن شعر الغزل عند الجزائريين يفتقر إلى حرارة الصدق وقوة العاطفة، كما يفتقر إلى الواقعية، إذا صح التعبير، ولعل غياب المرأة وتحركها داخل المجتمع هو الذي جعل بعض الشعراء يعمدون أيضا
إلى الغزل بالمذكر، كما فعل ابن علي رغم مقامه عي العلم والمجتمع.
يضاف إلى ذلك أن وسائل اللهو البريء التي تحرك المشاعر وتوحي للشعراء بالقول كانت قليلة أو غير معلنة, فالمسارح والنوادي تكاد تكون معدومة، والصحف غير موجودة أصلا، والشباب كان يقضي أوقاته في
صمت وعزلة قاتلة،
فالمجتمع كان مجتمع الكبار وليس فيه للشباب مكان
وكانت دور الخنا متوقرة ولكن بشكل سري ورسمي، وما يقال عن شدة عقوبة الزنا إنما يصح بالنسبة للمتزوجين. أما الشباب فالحبل له كان متروكا
__________
(1) بانانتي، 252، ويوجد رأي شبيه بهذا عند توماس كامبل (رسائل من الجنوب) انظر الفصل الذي ترجمناه عنه في كتابنا (دراسات في الأدب الجزائري الحديث) ط 3، 1983.

ساسو
08-25-2016, 03:48 PM
على الغارب. حقا إن المجتمع كان يعالج ذلك بالزواج المبكر، فالعقود تتحدث عن الزواج بين الثامنة عشر للفتيان والرابعة عشر للفتيات. ولصغر السن أحيانا كانت العقود لا تسجل وتعلن إلا بعد مضي سنوات على الزواج (1). ومع ذلك فقد كان الفساد شائعا على المستوى الرسمي والشعبي
كما أشرنا سابقا. وكان تعدد الزوجات شائعا أيضا، بالإضافة إلى ما ملكت اليد من الوصيفات البيضاوات من الأسرى المسيحيين، والزنجيات من إفريقية، ويبدو أنه ليس صحيحا كل الصحة ما يقال عن تعفف الناس، سيما في المدن، فالعلماء قد سجلوا لنا، وهم في حالة منافسة واتهام، إن بعضهم كان يشرب الخمر ويأخذ الرشوة. كما إن بعض الشعراء قد سجلوا عواطفهم
في العشق والغزل.
فلم يبق من وسائل اللهو والتسلية للشباب ونحوه إلا ميادين محدودة (2). فهناك المقاهي المعتمة التي تتصاعد منها سحب دخان النرجيلة والتباغة، وهناك التجمع حول مداح أو منشد يروي قصص ألف ليلة وليلة
وأساطير عنتر وأبطال الإسلام، وكان هناك، بالإضافة إلى ذلك، شعراء
شعبيون ينددون بالمظالم ويصفون فقر الناس وصبرهم ويعدون المحرومين بيوم الفرج القريب، ولم يكن يصحب هذا المنظر ضجيح ولا صراخ.
فالعيون جاحظة والآذان تسمع والفكر شارد، وحين ينتهي المنشد أو الراوي تجمع له الأموال ثم يفترق الحفل الساهر في جنح الليل، ولولا المواسم الدينية وزيارات الدنوش الموسمية لاختنقت المدينة بالحزن والصمت والكبت. هذا إذن حظ الناس عموما.
أما الشعراء والأدباء فقد كان أمامهم بعض المتنفس. فكثيرا ما كانوا
__________
(1) انظر نماذج من ذلك في رحلة ابن حمادوش.
(2) يروي توماس شو Shaw أن الشبان كانوا يأخذون خليلاتهم إلى الحقول ويلهون معهن، كما كان الكبار من الحضر ورجال الدولة يخرجون إلى منازلهم الريفية حيث يقضون راحة الأسبوع، وبعضهم كان يعزف الموسيقى بنفسه ويتلهى بأنواع الصيد ونحوه، انظر أيضا الفصل الثاني من الجزء الأول من هذا الكتاب.

ساسو
08-25-2016, 03:50 PM
يجتمعون في دار أحدهم، كدار ابن ميمون التي تحدث عنها ابن حمادوش، ودار ابن عبد اللطيف التي وصفها ابن عمار، أو نادي الشرب الذي ذكره الفكون. وقد يخرجون إلى الطبيعة فيقضون ساعات في المنتزهات يتغنون بالورود وأنواع الزهور، يصفون مساقط المياه وأصوات الطيور، ويتبادلون النكت والشعر والأخبار، وهم في ذلك يشكلون أحزابا وشيعا لأن كل جماعة تتنافس مع الأخرى ليس في الشعر فقط ولكن في الوظيفة أيضا، وقد يكون موضوع حديث الأدباء والشعراء في هذه الملتقيات رحلاتهم إلى خارج القطر للحج أو للعلم وما شاهدوه أو سيشاهدونه من ذلك. وقد يرحبون بزائر لهم من بلاد المشرق أو المغرب فيعقدون له الجلسات ويتنادمون معه ويتشاعرون من إنتاجهم أو من حفظهم، وبهذه الطرق فقط كان الشعراء والأدباء يتنفسون ويلقون عن عاتقهم عبء الحياة الثقيل ولو بعض الوقت.
ولدينا أمثلة كثيرة على هذه المنازع التي كان ينزع إليه الشعراء تخفيفا عن أنفسهم وترويحا لها من عناء الحياة. فقد أحب المفتي الشاعر ابن علي امرأة ولكنه لم يظفر بها فحزن لذلك وقال شعرا سنورده في ترجمته، وعندما علم صديقه ابن ميمون كتب إليه قصيدة في هذا المعنى جاء فيها: أمن فتك ذات القلب للقلب حاجب ... وأسهمها الألحاظ والقوس حاجب (1)
وكان ابن علي، كما أخبر ابن عمار، قد خطب هذه المرأة فأبته فظل على حبها إلى أن مات. ويدل شعر ابن علي الذي أجاب به ابن ميمون على مرارة دفينة وألم حاد، وكثيرا ما كان يخرج إلى المنتزهات رفقة ابن عمار وغيره، ولهما في ذلك أشعار جيدة.
وقد كان القاضي محمد القوجيلي من أبرز شعراء القرن الحادي عشر،
عالج أغراص الشعر المختلفة، ومن بينها الغزل، وكان القوجيلي بالإضافة إلى ذلك من العلماء المنافسين للمفتي سعيد قدورة، حتى أنه كان لا يسلم عليه إذا التقى به في جماعة، رغم اعتراف الجمع تقريبا بمكانة قدورة
__________
(1) ابن عمار (نحلة اللبيب) 64، وأيضا (ديوان ابن علي) مخطوط.

ساسو
08-25-2016, 03:53 PM
عندئذ، ومن غزل القوجيلي (1):
والدمع باح بذا الهوى وأبانه ... الحب صعب والرقيب أعانه والحب يستدعي القلوب إلى الهوى ... فتجيبه منقادة ولهانة
والصب يطمع في وصال حبيبه ... بعد التذلل لا يمل إهانة
حتى ليقنعه المرور صبابة ... يستنشق الأطلال كالريحانة
وهناك عدد من الشعراء كانوا يتغزلون ولا يبوحون، وهناك آخرون كانوا يفتتحون قصائدهم في المديح وغيره بأبيات غزلية قوية حتى كأنها هي المقصودة، كما فعل أحمد بن سحنون ومحمد بن الشاهد وغيرهما، ومع ذلك فقد سيطرت روح العصر، فكان الشعراء يتعففون وهم غير عفيفين وإنما يتكلفون ذلك تكلفا، وقد احتار ابن علي بين الغزل والمنصب (وظيفة الفتيا) وشعر أن منصبه لا يليق به الغزل فقال صراحة إنه لولا خطة الفتوى والخطابة
لكان مثل مجنون ليلى في عشقه:
لولا، وحقك، خطة قلدتها ... زهرت بها في الخافقين شموعي ومنابر فيها رقيت إلى العلى ... وقد استدار بها كثيف جموع
لنحوت منحى العامري صبابة ... ولكان من حرق الجوى مشفوعي (2)
وهذا بالطبع يكشف عن التناقض بين الإحساس الشخصي والمسؤولية،
بين الفرد والمجتمع، وإذا كان ابن علي، وقليل غيره، قد تركوا لنا بعض أشعار الغزل، فإن الآخرين قد كبتوا عواطفهم أولا وأخفوا أشعارهم الغزلية ثانيا. وتظاهروا بالورع حتى يقبلهم المجتمع.

الوصف:
وكثيرا ما كان وصف الحبيبة طريقا إلى وصف الطبيعة والعكس، ومن شعراء وصف الطبيعة بلا منازع أحمد بن عمار، فقد وصف الرياض
__________
(1) (ديوان ابن علي) مخطوط، وقد توفي القوجيلي سنة 1080.
(2) ابن عمار (النحلة)، 77. وسنعرض إلى غزل ابن الشاهد في الأجزاء الأخرى من الكتاب.

ساسو
08-25-2016, 03:54 PM
والمنتزهات وما فيها من جمال ظاهري يسحر العين ويثلج الصدر.
كما وصف الزهور وغيرها، وفي قصيدة طويلة نسجها على منوال قصيدة ابن زمرك الأندلسي ونظمها، كما قال، ببعض المنتزهات، واعتبرها
من أولياته، وطالعها (1):
أدر الكؤرس مع الأصائل والبكر ... واشرب على نغم البلابل والوتر ولم يكن ابن عمار وحده في هذه النزهة بل كان معه جماعة لم يكشف عنهم، ولعلهم أصدقاؤه من الشعراء والأدباء الذين أشرنا إليهم:
مع فتية متعاقدين على الوفا ... فكأنهم في منظر الدنيا غرر
من كل مشتمل ببرد مروءة ... أو كل ملتحف بثوب من خفر
الروض يهوى منهم أخلاقهم ... والبدر يعشق منهم حسن الصور
ولنلاحظ هذا الإلحاح من ابن عمار على المروءة والخفر والأخلاق،
ولا عجب في ذلك فابن عمار، مع علمه وشعره، كان متعففا.
ونظم ابن عمار في الورد وشقائق النعمان وزهر الليمون، إما بالشعر التقليدي أو بالمواليا الذي قال عنه إنه (طراز شرقي) اخترعه أهل بغداد ثم برع فيه أهل مصر، فقال في زهر الليمون: لله أدواح جلسنا تحتها ... نثرت علينا من أزاهرها درر
وبدا بها الليمون زهر كواكب ... والنار من نارنجها ترمي الشرر (2)
أما في شقائق النعمان فقد قال البيتين التاليين على طريقة المواليا: هاروت لحظك وسحر لفظك الفتان ... والورد خدك وسيف اليزن بالأجفان
قد كان يحمي الشقائق قبلك النعمان ... وأنت فينا حميت الورد يا سلطان (3)
ولم يتفنن ابن عمار في وصف مظاهر الطبيعة فقط بل وصف غير ذلك
__________
(1) ابن عمار (النحلة) 92، وقد ذكر منها 24 بيتا ثم قال: (وهي طويلة اقتصرت منها على هذا القدر).
(2) نفس المصدر، 252.
(3) نفس المصدر، 247.

ساسو
08-25-2016, 03:55 PM
أيضا، ومن أشهر وصفه ما كتبه عن قصر ابن عبد اللطيف، وقد قال في ذلك أكثر من قصيدة، ومن ذلك ما قاله بطلب من صديقه وشيخه ابن علي (1)، وقد جاء في إحدى قصائد ابن عمار في هذا القصر:
وليلة أنس لذ فيها جنى السمر ... فناهيك من أنس جنيناه بالسهر ويعتبر ابن عمار بدون شك من كبار الأدباء وأبرز الشعراء، وخصوصا في ميدان الوصف، فهو فيه كشيخه ابن علي في الغزل.
ولكن الوصف لا يقتصر، على الطبيعة، فلدينا شعراء قد وصفوا المدن وأجادوا، وصوروا أحوالهم النفسية إزاءها كما فعل أحمد المقري في وصف تلمسان.
ومن أجود قصائد وصف المدن قصيدة ابن أبي راشد في مدينة الجزائر وحدائقها خلال الربيع، ولعل هذا الوصف هو الأول من نوعه في هذه المدينة التي اشتهرت منذ القديم ببياض بنيانها وكثرة البساتين حولها والأبراج ووفرة الزهور على مختلف الأشكال، ورغم أن الشاعر انبهر بالمنظر الخارجي للمدينة والطبيعة المحيطة بها، فإننا نورد شعره لأهميته في الوصف ولأوليته في وصف المدينة وجمال مناظرها في فصل الحب والشباب
والخصب:
سقى المطر الهطال أرضا تشرفت ... بمصر غدت للفضل والفخر جامعه
بمزغنة الفيحاء تظهر من مدى ... ترى كسقيط الثلج بيضاء ناصعه
برج السما أبراجها قد تألقت ... تروقك من أفق الأجنة طالعه
تراها على وجه البسيطة أنجما ... وأغصان أشجار ترنح نافعه
وحيث الريع الغض ثم شبابه ... ترى أرضها تبدي الغضارة يانعه
وحيث بدا كسرى الرياض متوجا ... بثلج نوار فهي صفراء فاقعة تريك احمرار في ابيضاض كأنها ... دماء على أرض من الثلج واقعه دواليبها تسقى الغصون فتنثني ... حمائمها تشدو على القضب ساجعه
__________
(1) القصيدتان - قصيدة ابن علي وقصيدة ابن عمار - في (ديوان ابن علي) مخطوط.

ساسو
08-25-2016, 03:56 PM
فتبصر أغصان الحدائق سجدا ... تميد من الصوت الحنين وراكعه سقى روضها عهد السحائب فانثنت ... أزاهره بالماء تضحك دامعه وما هي إلا جنة قد تارجت ... مباخرها بالطيب والمسك ساطعه (1)
وقبل أن نختم الحديث عن الوصف نشير إلى قصيدة إبراهيم بن عبد الجبار الفجيجي التلمساني التي قالها في الصيد ومنافعه وشروطه وظروفه، وهي المشهورة بـ (روضة السلوان). وقد عرفنا أنه قد شرحها في القرن العاشر أبو القاسم بن محمد الفجيجي وفي القرن الثالث عشر أبو راس الناصر، وكان ناظم القصيدة مغرما بالصيد، وتدل متانتها ولغتها على تمكنه من نظم الشعر، وقد قال ابن عسكر عنها إنها كانت في أيدي الناس جميعا، وأنها قصيدة معجبة (2).

الحنين والشكوى:
وعاطفة الحنين إلى الوطن عاطفة قديمة في الإنسان ولكن الشعراء جعلوا منها أحيانا عاطفة وطنية في عصر ليس هو عصر القوميات، وقد كان الوطن عند بعض الشعراء القدماء هو مربع القبيلة ومرتع الصبا، ثم صار عند المتأخرين منهم هو البلد الذي فيه قوم الشاعر وتحده حدود سياسية ويرفرف عليه علم ذلك البلد ورمزه، ونحن حين نتحدث عن الحنين إلى الوطن عند الشعراء الجزائريين في العهد العثماني فإننا نتحدث عن هذه العاطفة التي تقف
بين الحنين إلى موطن القبيلة وموطن العلم والقوم. فقد شعر الجزائريون
خارج قطرهم بعاطفة تجذبهم إلى المدينة التي ربوا فيها والشيوخ الذين
درسوا عليهم والطبيعة التي شكلت طباعهم وأذواقهم، ثم وسعوا هذا
المفهوم الضيق فأصبح يشمل، في نوع من الغموض مع ذلك، القطر
الجزائري بأسره. وكان الكتاب والشعراء ينسبون أنفسهم، خارج قطرهم، للجزائر، وبدأت تختفي تدريجيا عبارة التلمساني والقسنطيني والزواوي
__________
(1) عبد الرحمن الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوطة باريس، رقم 5113، ورقة
31 - 32.
(2) ابن عسكر (دوحة الناشر) 227، وانظر فصل النثر من هذا الجزء.

ساسو
08-25-2016, 03:56 PM
والعنابي وغيرها من أسمائهم.
ومن أوائل من نظم الشعر في هذا المعنى أحمد المقري الذي عرفنا في ترجمته سبب شوقه إلى وطنه ووصفه له بأوصاف التقدير والروعة. وشاع ذلك عند أحمد بن عمار وابن حمادوش وغيرهما. والأخير، رغم أنه لم يكن شاعرا فحلا فقد عبر عن هذه العاطفة حين كان في المغرب الأقصى في مناسبتين الأولى حين حل عيد الأضحى وهو بتطوان واجتمع الناس للأفراح وتبادل التهاني ولكنه ظل وحيدا غريبا سلعته كاسدة والطبيعة غاضبة، فقال عندئذ قصيدة طويلة تشوق فيها لأهله ووطنه ووصف حاله:
لقد كنت قبل اليوم أصبر صابر ... وها أنا في هذا الزمان ذليل أما المناسبة الثانية فقد كانت بتطوان أيضا حين تحطمت السفينة التي كانت ستقله إلى الجزائر، وطال به السأم والانتظار، وكاد ينقطع رجاؤه في العودة إلى الوطن والأهل، وقد جاء في هذه القصيدة الرجزية قوله يخاطب أهله:
لحمي قوتي ودماغي شربي ... وفكرتي فيكم ورغبي ربي (1) وهذا الشعور بالغربة في الخارج والحنين إلى الوطن والالتفات إليه قد شاع عند الجزائريين، لأنهم كما قلنا، قصدوا في البداية طلب العلم والهجرة لأسباب سياسية ودينية، فإذا بهم يشعرون أن الحبل يتقطع بهم وأن الديار تبعد والأحباب يختفون، بل إن بعضهم كان يحس أنه لم يجد ما كان يصبو إليه من التقدير والاحترام، وقد عبر أحمد المقري عن ذلك في الأبيات التي أوردناها له والتي يقول فيها:
تركت رسوم عزي في بلادي ... وصرت بمصر منسى الرسوم
وفي هذا المعنى قال محمد بن أحمد الكماد لما كان في تطوان وشعر بالغربة والنزول من المقام اللائق به:
لهف نفسي على كسوف ... شمس العلوم وذلة الغرباء
__________
(1) ابن حمادوش (الرحلة)، مخطوط.

ساسو
08-25-2016, 03:58 PM
لهف نفسي على زمان عبوس ... قمطرير ذي قسمة ضيزاء (1)
وحين أحس محمد بن مالك بغربة في تونس وبإهانة بعض الذين لم
يعرفوا قدره عبر عن ذلك وافتخر بنفسه، ولكن أنى له ذلك وهو لاجئ وغريب، والقصيدة جيدة رغم الأخطاء النسخية التي فيها: إن يذهب المال من در ومن ذهب ... لم يذهب الفخر من علم ومن أدب أما شعوره بالغربة فقد عبر عنه بقوله:
لم يحترم أسد في غير غابته ... لولا التعصب لا أخشى من الغلب (2) والشكوى من الزمان وأهله شائعة في الشعر الجزائري، ولا نكاد نجد قصيدة لشاعر دون أن يضمنها شيئا من هذا المعنى، مهما كان الغرض الذي يتناوله. ومصادر الشكوى تختلف ولكنها جميعا تلتقي في التأثير على الشاعر وتأزمه. فقد تجعله ييأس وينزوي أو يلجأ إلى المدح وطلب المعونة والنوال، وقد تجعله غاضبا مفاخرا بنفسه رغم سوء حاله. وعلى كل حال فإن الشاكي أحيانا يلجأ إلى الله ويحذر من الركون إلى الناس فيتخذ شعره طابع الموعظة والاعتبار. ومن أبرز القصائد في هذا المعنى الأخير قصيدة سعيد المنداسي في تقلبات الزمان، وهي قصيدة طويلة عميقة ومتينة، تقع في أكثر من أربعين بيتا، وقد نالت حظا وافرا من عناية الأدباء كأختها (العقيقة)، ومطلعها:
سروج العلى للحرب تشتد بالحزم ... وسيف الوغى يبلى شباه لدى السلم
فلا يتأنى المرء في بسطة الرضى ... فإن الزمان الصعب يرصد بالحلم
وفي الحديث عن مكر الناس وخداعهم وعن العصر وأهله يقول
المنداسي بالخصوص:
فهذا زمان المكر من لك بالرضى ... وفي كل قلب ما كناه من السم
__________
(1) الأبيات في الأفراني (صفوة من انتشر)، 218.
(2) تقع القصيدة في 15 بيتا، وهي في (كناش) رقم 9240، ورقة 57، بالمكتبة
الوطنية - تونس.

ساسو
08-25-2016, 03:58 PM
كأن قوافي الشعر مني جنادل ... وكف الزمان منجنيق بها يرمى (1)

وهي من أحكم الشعر وأقواه في وقتها، ولعل هذه النغمة توضح لماذا غادر المنداسي الجزائر ساخطأ واستقر بالمغرب، رغم أننا لا ندري هل قال هذه القصيدة قبل أو بعد هجرته، وبالإضافة إلى ذلك فإن (ديوان ابن علي) يحتوي على بعض الشعر في الشكوى والاستغاثة. ومن ذلك قطع لجده ووالده في الشكوى، وشعر آخر لمحمد سعيد الشباح التلمساني في الاستغاثة، ونحو ذلك (2).
ومن الشعراء الذين اشتكوا أيضا من الزمان وأهله بمرارة، المفتي الحنفي ابن علي، وهو يستحق منا وقفة مطولة هنا لأنه كان من أقوى شعراءوقته.

ابن علي
مصادر ابن علي قليلة جدا. فالذي يريد أن يدرس حياته لا يكاد يجد ما يساعده في هذا الباب سوى مصدرين الأول ما كتبه عنه معاصره وزميله وتلميذه أحمد بن عمار في (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب). ونحن نعرف أن ما كتبه عنه هنا هو ملخص ما كتبه عنه مطولا في كتابه (لواء النصر في فضلاء العصر) الذي يعتبر الآن مفقودا. وقد نوه ابن عمار بابن علي كثيرا
__________
(1) المكتبة الملكية - الرباط. رقم 7382، مجموع. ومنها أيضا نسخة في تطوان رقم 256 مجموع، وقد ذكر أبو حامد المشرقي قصيدة في التشكي أيضا كتبها السنوسي بن عبد القادر بن دحو. انظر كذلك ك 471، الخزانة العامة الرباط، 451 - 452.
(2) كان جد ووالد ابن علي من الشعراء أيضا، أما محمد صعيد الشباح التنسي الأصل التلمساني المنشأ فلا ندري عنه الآن سوى أنه كان من الأدباء والشعراء، وأنه كان حيا سنة 1051 حيث وجدنا خطه على نسخة من كتاب (سحر البلاغة وسر البراعة)
لأبي منصور الثعالبي، وكانت بينه وبين ابن راس العين مراسلات انظر (مختارات مجهولة).

ساسو
08-25-2016, 03:59 PM
واعتبره إماما في الشعر وافتخر بأنه بدأ به تراجم من ترجم لهم في (لواء النصر). والثاني (ديوان ابن علي)، وهو عبارة عن مجموعة من الأشعار المختلفة والنقول المنسوبة له والمتعلقة بأسرته وحياته الخاصة، بالإضافة إلى بعض الأشعار المنسوبة إلى شعراء جزائريين متقدمين عنه أو معامرين له، ولذلك يسمى هذا المصدر أحيانا (أشعار جزائرية) وأحيانا (أشعار مختلفة).
وهناك أيضا مصادر أخرى تتحدث عن ابن علي، بأهمية أقل. من ذلك تقييد أو تاريخ ابن المفتي الذي تحدث فيه عن علماء عصره وعن الباشوات، وقد ختم ابن المفتي تاريخه حوالي سنة 1157 وقال في قائمة أسماء المفتين
الحنفيين التي أوردها أن ابن علي هو المتولي الآن وأن له في الفتوى أكثر من
ست سنوات (1)، وفي رحلة ابن حمادوش حديث قصير عن ابن علي أيضا، وقد سبقت الإشارة إليه (2). ومن مصادره أيضا رحلة عبد الرحمن الجامعي المغربي المسماة (نظم الدرر المديحية) التي تعتبر في حكم المفقودة، وقد نوه الجامعي، الذي تبادل الشعر مع ابن علي وأعجب به وبفضل ابن علي على الشعر واعتبره مجدد طريقة ابن الخطيب (3). كما أن الجامعي قد تبادل
الشعر مع ابن علي ونوه به في شرحه على رجز الحلفاوي.
وفي ضوء هذه المصادر نستطيع أن نترجم لابن علي. فهو محمد بن
محمد المهدي بن رمضان بن يوسف العلج، وهو مشهور بابن علي، ويبدو أن أجداده قد نزحوا إلى الجزائر مع العثمانيين الأوائل، فنحن نجد في الوثائق أن جده محمد المهدي قد تولى الإفتاء الحنفي سنة 1045 وأنه كان معاصرا لمفتي المالكية سعيد قدورة، كما نجده يتعاطى الشعر أيضا. ففي (ديوان ابن علي) مختارات شعرية لجده المذكور، قالها في مناسبات عديدة.
__________
(1) نور الدين (صفحات)، 277. انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 147.
(2) رحلة ابن حمادوش، مخطوط.
(3) الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 290، من رسالة بعثها له الكتاني. انظر أيضا محمد المنوني (دعوة الحق)، مارس 1974، فقد تحدث عن ديوان ابن علي وعلاقته برحلة الجامعي.

ساسو
08-26-2016, 10:36 AM
من ذلك أنه بعث إلى علماء القسطنطينية يشكو لهم شيئا ألم به، وأنه قال قصيدة يمدح فيها السادة العلوية، وأنه مدح الشيخ علي بن عبد الواحد الأنصاري (توفي سنة 1057) بقصيدة، وتدل القصائد التي اطلعنا عليها لمحمد المهدي، جد ابن علي، أن له باعا قويا في الشعر، رغم الصفة الملحقة باسمه، وهي (العلج) التي توحي بأنه كان من أصل غير عربي، وكان جد ابن علي صديقا للقاضي محمد القوجيلي، وهو أيضا شاعر ماهر كما عرفنا، فقد روى ابن علي في ديوانه أن جده حكى له أنه كان ذات يوم مع الشيخ القوجيلي فمر بهما سعيد قدورة فانحرف عنه القوجيلي وسلم على جده (1)، كما أن والد ابن علي كان ينظم الشعر أيضا.
ويهمنا مما ذكرنا أعلاه عدة أمور تهم ابن علي نفسه. إن أسرة ابن علي كانت على صلة بالفتوى والوظائف الرسمية منذ عهد مبكر للحكم العثماني، وقد كان ابن علي يشير إلى ذلك في شعره. وأن الشعر عريق في أسرته أيضا. ذلك أن شعر جده ووالده شعر مقبول، ومن جهة أخرى نجد أن ابن علي قد تولى الفتوى وطال عهده فيها، وهي ظاهرة قليلا ما تتكرر في العهد العثماني للتقلبات التي حدثت فيه، ولولا بعض الإشارات السريعة في ديوانه لما عرفنا شيئا عن والده.
تولى ابن علي وظيفة الفتوى سنة 1150 خلفا لحسين بن محتمد العنابي الذي توفي في هذه السنة، وقد استمر في الوظيفة إلى حوالي سنة 1169 بدليلين: الأول أن ابن عمار قد تحدث عنه بعد سنة 1166 (وهي السنة التي حج فيها ابن عمار) وسماه (شيخنا وأستاذنا شيخ الإسلام)، وكانت عبارة
__________
(1) (ديوان ابن علي). انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 143، أما الجامعي فقد ذكر نسب ابن علي هكذا: (أديب مصره، وفريد عصره، الأديب النابغ، فرقد البلاغة البازغ، أبو عبد الله سيدي محمد ابن العالم الناسك أبي عبد الله سيدي محمد المعروف بن علي، ابن ذي المقام العلي، علامة أوانه وشيخ الإسلام في زمانه أبي عبد الله سيدي المهدي الجزائري، برد الله ضريحه)، الجامعي (شرح رجز الحلفاوي) مخطوط باريس، رقم 5113.

ساسو
08-26-2016, 10:37 AM
(شيخ الإسلام) هي لقب المفتي الحنفي في الجزائر كما كانت في إسطانبول، والدليل الثاني أن المفتي الجديد، حسين بن مصطفي، قد تولى في هذه السنة
(1169) دون أن نجد في قائمة المفتين من توسط بينه وبين ابن علي (1)، فهل
عزل ابن علي عندئذ أو توفي؟ ذلك ما لا نعلمه الآن، فإذا نظرنا إلى تاريخ ولاية جده الفتوى (سنة 1045) وسنة 1169 أمكننا أن نقدر أن تاريخ ميلاد
ابن علي كان حوالي 1090، غير أننا لا نجد في الوثائق ما يساعدنا على تحديد سنة الميلاد أو الوفاة، وهناك حادثتان تساعدان على تحديد أوليات ابن علي، فهو من الذين مدحوا محمد بكداش باشا وهنأوه بفتح وهران الذي وقع سنة 1119، ولو لم يكن ابن علي متقدما في السن وفي صناعة الشعر لما قال قصيدته الرائعة في هذه المناسبة التي لعلها أفضل القصائد التي قيلت في
الفتح وظروفه:
وإني وإن أحجمت أول مرة ... على خوض هذا البحر والغير عائم
فما هي إلا هيبة الملك قلما ... على مثلها في الناس يقدم قادم
وعهدي قوافي الشعر عني أذودها ... زمانا وفكري موجه متلاطم ولولاك ما كان التفات لفكرة ... ولا سام نظم الشعر كالدر سائم (2)
أما الحادثة الثانية فهي خصومة ابن علي مع محمد بن نيكرو مفتي المالكية سنة 1150، وهي الخصومة التي أدت إلى وفاة ابن نيكرو سنة 1152 (3).
استمد ابن علي حينئذ من أسرته تقاليد الشعر وتقاليد الفتوى، وكان المفتي الحنفي صاحب مكانة هامة في الدولة مما جعله أحيانا هدفا لسهام السياسة، كما رأينا، فالمنصب لم يكن مجرد وظيفة دينية بل كان وظيفة سياسية كبيرة، وكان المفتي الحنفي يدخل على الباشا ويحضر جلسات
__________
(1) ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 148.
(2) انظر هذه القصيدة في شرح الجامعي على رجز الحلفاوي، وتبلغ 77 بيتا.
(3) ذكر تفاصيل هذه الخصومة ابن المفتي، وقد اشترك فيها أيضا محمد بن ميمون ومحمد بن سيدي هدى وقال ابن المفتي ان ابن علي كان يقدح بلسانه في ابن نيكرو.

ساسو
08-26-2016, 10:37 AM
الديوان وله الكلمة العليا في المجلس الشرعي الأعلى، ولكن أهم من ذلك في نظرنا أن المفتي كان أيضا خطيب الجامع الجديد (الحنفي) ومدرسه الكبير، وكان ابن علي يشعر بثقل هذه المسؤولية عليه حين نازعته نفسه على قول العزل واتباع خيال الشعر، فقال يخاطب الحبيب:
لولا، وحقك، خطة قلدتها ... زهرت بها في الخافقين شموعي ومنابر فيها رقيت إلى العلى ... وقد استدار بها كثيف جموع
لنحوت منحى العامري صبابة ... ولكان من حرق الجوى مشفوعي (1)
فابن علي يعرف أن سمعته كانت قائمة على الفتوى والمنبر حيث يقف خطيبا كل جمعة تحوطه الجماهير وهو يعظ ويرشد أو حلقة الدرس حيث يلتف حوله الطلبة والعلماء، ولولا هذه القيود الثلاثة لغدا في الشعر والحب كمجنون ليلى، ولكن ابن علي يعرف أيضا أن شموعه قد توقدت وسمعته قد ارتفعت بسبب هذه الوظائف وليس بقول الشعر.
تعتبر ثقافة ابن علي وابن عمار الأدبية ثقافة تثير الدهشة في وقت كان فيه الأدب، والشعر خصوصا، بضاعة غير رائجة. فقد جمعا بين أدب المغرب والأندلس وأدب المشرق، طريفه وتليده، وكان بطلهما هو لسان الدين بن الخطيب، كما كان هو بطل أحمد المقري أيضا، ولكن تأثير ابن
سهل والفتح بن خاقان وابن زمرك والبحتري وأبي تمام والمتنبي عليهما لم
يكن قليلا أيضا، ورغم طول القطعة التالية فإننا نوردها لما فيها من حكم على ثقافة ابن علي، فقد مدحه فيها ابن عمار وقارنه في أغراضه الشعرية بعدد من الشعراء الذين عرف كل واحد منهم بالإجابة فيما قال، ولكن ابن علي، بناء على ابن عمار، قد فاق هؤلاء الشعراء:
وإذا تكلم فوق منبر وعظه ... جلى لنا البصري في أزمانه
فإذا يشبب فهو عروة رقة ... يهدي رقيق النسج من غيلانه
وإذا يصوغ
المدح فهو زهيره ... مهما انبرى للقول في ابن سنانه
__________
(1) ابن عمار (النحلة)، 77.

ساسو
08-26-2016, 10:38 AM
وإذا اغتدى يصف المباني والذرى ... خر ابن حمديس على أذقانه
أو جال في وصف الرياض أو الربى ... أعرى أبا إسحاق من إحسانه
أخملت ذكر ابن الحسين وفقت من ... في عصره يعزى إلى حمدانه
ولقد تركت البحتري مقيدا ... بسلاسل قد صاغ من عقيانه
كما قارنه ابن عمار في قول الحكمة بسقراط وهرمس (1)، ونلمس من هذه الأبيات أغراض شعر ابن علي كما كانت معروفة عند عالم معاصر له وصديق وتلميذ، وهو ابن عمار، وهي: التشبيب، والوصف، والمدح.
ورغم ما في حديث ابن عمار عن شيخه من عبارات الولاء والمدح فإننا نصل منها إلى صورة عامة عن شخص ابن علي، فهو موصوف بالحفظ الغزير، ورواية الحديث النبوي، والمهارة في التفسير وتأويل الآيات، بالإضافة إلى جودة الشعر والنثر، والفصاحة في الخطابة، وكان ابن علي، مع ذلك، يقوم الليل ويتهجد ويقرأ القرآن ويجمع المهابة إلى الدعابة، والبسط إلى الورع، والأدب إلى النسك، وهذه ميزات جليلة قلما تجتمع في واحد، وكان ابن علي، بحكم شاعريته، يجتمع بالأدباء ويرتاح إليهم، وقد عرفنا أنه كان يزور بيت ابن ميمون، وهو أديب وشاعر مثله. وكانت له مجالس أنس وعلم ومطارحات مع أحمد بن عمار، يخرجان فيها للتنزه في الرياض ويتزاوران في الديار، وكلاهما عبر في شعره عن هذه الصداقة الأدبية الجميلة، وكان إعجاب كل منهما بشعر الآخر يدفع بهما إلى المزيد والإجادة، وكان ذلك وسيلتهما الوحيدة في شحذ القرائح وتحريك القوافي، لأن الشعر، كما قلنا، كان بدون مشجعات سياسية ولا اجتماعية.
أعجب ابن علي باللغة العربية إعجابا كبيرا فأجابها شعرا ونثرا، وقد شكا من كون البعض لا يعرف مكانتها ولا مكانة الشعر فيها على الخصوص، ونحن نعرف رأيه في ذلك من حادثة رواها هو في ديوانه، فقد أتى فيه بأبيات نظمها المفتي الحنفي العثماني، أسعد أفندي، في المقام النبوي، ثم علق ابن
__________
(1) ابن عمار (النحلة)، 47.

ساسو
08-26-2016, 10:39 AM
علي على ذلك بقوله: (وها أنا أذكرها هنا تبركا، وليعلم الواقب عليها أن الممدوح (يقصد أسعد أفندي) كان ممن يحاول الصناعة الشعرية ويتحيز إلى الفئة الأدبية، فانظر هذه الهمة حيث تكلف هذا العجمي معرفة اللسان العربي، مقدما على ما أحجم عنه أكابر العلماء وهو نظم الشعر الذي هو أجمل ما التحفته الهمة، وعرفته هذه الأمة، فإنه مطلق اللسان من عقال، ومنطق الإنسان بصواب المقال) (1). وكأن ابن علي يدعو الناس إلى العناية باللغة العربية ويدعو المثقفين خصوصا إلى الاهتمام بالشعر متخذا من هذه القصة حجة له، ونعرف من مصدر آخر أن ابن علي هو الذي أمر، وهو المفتي المطاع، بترجمة (غزوات عروج وخير الدين) من التركية إلى العربية (2) لأنه لم يكن يحذق اللسان التركي.
نظم ابن علي كثيرا من الشعر في الأغراض التي ذكرناها وغيرها،
وقد قال ابن عمار عنه ان (أيدي الناس ممتلئة من شعره)، وأخبر أن ابن علي قد ناوله ديوانه مخطوطا فنقل منه بعض قصائد الغزل في (نحلة اللبيب) واقتصر على ذلك، لأن (الديوان غزير المادة) في الأغراض
الأخرى (3)، ويفهم من كلام ابن عمار أن ديوان ابن علي كله من شعره،
ولكن يبدو أن الموضوع في حاجة إلى توضيح، فالديوان، على ما يبدو،
جمع بين شعر ابن علي وشعر غيره، وكان ابن علي قد اختار من شعر غيره، سيما شعر القرن السابق له (الحادي عشر) في ديوانه. فذكر قصائد لجده
ووالده ومحمد القوجيلي وأحمد المانجلاني، وابن رأس العين ومحمد بن
ميمون وغيرهم، وأضاف إلى ذلك بعض شعره الخاص، وقد أوضح ابن علي في مقدمة ديوانه سبب جمعه لهذه الأشعار فقال: (دعاني لجمع هذا الديوان،
__________
(1) (ديوان ابن علي)، مخطوط.
(2) نور الدين عبد القادر (صفحات) 200، كذلك (غزوات عروج وخير الدين) له، ط. الجزائر 1934، 128. انظر أيضا المكتبة الوطنية - باريس رقم 1878 وكذلك الملحق رقم 852 مكرر.
(3) ابن عمار (النحلة)، 81.

ساسو
08-26-2016, 10:39 AM
ما منيت به من أبناء الزمان، من شماتة ان ألمت مصيبة، وسهام من نكايتهم مصيبة، فجنحت إلى صرف تلك البلابل، بما يفوق عن احتساء البلابل .. وهو ما صيغ من ألسن بعض أهل العصر، وربما أضفت إلى ذلك ما سمحت به القريحة الجامدة، فجاء نزهة من نزه الأفكار، ومجتلى خرائد وأبكار) (1). فواضح من هذا أنه جمع في ديوانه شعره ومختارات من شعر غيره.
ولكن هذا الديوان اليوم معقود بالطريقة التي وضعه عليها صاحبه، ذلك أن الموجود الآن منه عبارة عن نماذج بعضها بصيغة المتكلم، مما يدل على أنه ابن علي، وبعضها بصيغة الغائب مما يدل على أن أحدهم هو الذي يورد النماذج ويتصرف في اختيارها، وكأن الموجود من الديوان اليوم هو مختار المختار. وهناك مشكلة أخرى تثار حول هذا المختار، وهي من اختاره؟ هل اختاره أحمد بن عمار، وبذلك يكون الديوان جزءا من كتابه (لواء النصر) المفقود أيضا؟ ويؤكد هذا أن ابن علي قد ناول ابن عمار ديوانه كما أسلفنا فأخذ منه الغراميات في (النحلة) وسكت عن الباقي، مضيفا أنه ترجم لابن علي مطولا في (لواء النصر)، أو هل اختاره عبد الرحمن الجامعي الذي عرف ابن علي أيضا وصادقه وتبادل معه الشعر والمدح؟ وبذلك يكون الموجود من الديوان جزءا من رحلة الجامعي المفقودة والمسماة (الدرر المديحية) (2) ونحن نرجح أن يكون جزءا من (لواء النصر) لابن عمار، لأن هذا هو الذي عاصر طويلا ابن علي ولازمه إلى أن تقدم العمر بكليهما، ولأن في الديوان
تعاليق وأخبارا لابن عمار أيضا، أما الجامعي فلم يطل الإقامة في الجزائر فهو
قد خرج قبل سنة 1136، والمعروف أنه قد توفي سنة 1141، بينما عاش
ابن علي بعده حوالي ثلاثين سنة.
ومهما كان الأمر، فإن الديوان يضم عددا من قصائد ابن علي في الغزل وغيره، كما يضم عددا من القصائد التي اختارها لغيره، ولكي يخرج المرء
__________
(1) (ديوان ابن علي)، المقدمة.
(2) ناقش هذه النقطة أيضا محمد المنوني في (دعوة الحق)، مارس 1974، وهو يميل إلى كون الديوان جزءا من رحلة الجامعي المفقودة.

ساسو
08-26-2016, 10:40 AM
بصورة واضحة عن محتوى هذا الديوان عليه أيضا أن يعود إلى (نحلة اللبيب)
لابن عمار ليقارن بين ما أورده له فيها وما هو موجود في الديوان أو الباقي منه، وما زلنا لم نفعل ذلك حتى الآن (1)، وفي المصدرين عدد من قصائد وأبيات الغزل التي قالها ابن علي في مناسبات مختلفة.
ومن ذلك قوله:
ومهفهف حلو الشمائل قادني ... نحو الصبابة قده المياس ومنه أيضا من قصيدة أخرى طويلة:
أقصى، فدمعي من جفوني مهرق ... وقسا فرق لي العدو الأزرق
وعندما كتب له ابن ميمون قصيدته المشار إليها في المرأة التي أحبها
ابن علي ولم ينلها، قال ابن علي مجيبا: أسهم رماني من لحاظك صائب ... فجاءت إلى قلبي تحث المصائب كما أجابه بقصيدة أخرى في الغرض نفسه:
يمينا لقد عزت علي المطالب ... ولي أبدا من سحر عينيك طالب وفي مناسبة أخرى تغزل ابن علي على هذا النحو: شقائي بعينيه ألذ مدامة ... فيا طيبها لو لم تؤد إلى الحتف
فيا راحتي ما أنت في طي راحتي ... ويا مهجتي عما تدرينه كفي
وغزل ابن علي كثير ومتنوع كما قلنا، وكان يصف في المرأة الأشياء الظاهرة، وشاعريته قوية في هذا الباب، وتدل على تمكنه من الشعر، وقد صدق ابن عمار حين قال فيه: (هذا الإمام هو خاتمة الشعراء العظام بهذا الصقع، ليس لغليل الأدب بعده نقع) (2)، وهو جيد في وصف حالة العاشق، خصوصا عند اليأس والشكوى من الرقيب وهجر الحبيب، ولم يكتف بصب غزله في القصيدة التقليدية فقط بل صبه أيضا في موشحات رقيقة، وسبق أن
__________
(1) قمنا بذلك، ونشرنا عملنا في (مختارات مجهولة من الشعر العربي)، ط. 2، 1992.
(2) ابن عمار (النحلة)، 39.

ساسو
08-26-2016, 10:40 AM
قلنا إنه تغزل في المذكر أيضا، ومن وصف أحواله النفسية قوله: ولي كبد تناهى الوجد فيها ... وكانت قبل ذلك لا ترام
زهى ورد الجمال لها فحلت ... بساحته وطاب لها المقام
ومن قصائده الغزلية الجميلة قوله:
قسما بصبح جبينك الوهاج ... ما أنت إلا راحتي وعلاجي
وفي أحواله الاجتماعية والدينية وصراعه مع نفسه يقول:
يلومونني في العشق والكأس والغنا ... وقالوا سفيه الرأي غير مصيب
وهل لذة الدنيا سوى صوت مطرب ... ونشوة خمر أو عناق حبيب
ولكنه في النهاية تاب كما تاب معظم الشعراء ودعا الله أن يغفر له هذا الانجراف نحو اللذات:
إلهي أطعت النفس والغي والصبا ... وقد حجبتني عن رضاك ذنوب
فإن كان ذنبي أزعج القلب خوفه ... قحسن رجائي فيك كيف يخيب (1)
وبالإضافة إلى الغزل الذي برع فيه ابن علي، فقد أجاد أيضا في الوصف والمدح والشكوى والرثاء والإخوانيات، ومن أجود قصائده في الرثاء ما قاله في زوجته حين توفيت عنه:
رأيت بها عصر الشباب معاصري ... وخيلت أني كنت من ساكني عدن
فما راعني إلا النوى صاح صيحة ... فزعزع من عرشي وضعضع من ركني
وقال لمن كانت حياتي وراحتي ... وريحانتي: قومي إلى منزل الدفن
فحالت يد الأقدار بيني وبينها ... فأصبحت مسلوب الحجا ذاهل الذهن (2) وقد افتخر ابن علي ينفسه وعرف أن المثل القائل بأن (مطربة الحي لا تطرب) يصدق عليه، فقد كثر حساده وناقدوه الذين طعنوا في فضله ودعوه (سفيه الرأي) كما قال في شعره، ولكنه مع ذلك انتصب لهم ودافع عن نفسه
__________
(1) هذه الأبيات وغيرها موجودة في (نحلة اللبيب).
(2) (ديوان ابن علي) و (نحلة اللبيب) لابن عمار، 67.

ساسو
08-26-2016, 10:41 AM
بأنه كالنجم لن ينالوه بسوء، وهاجمهم بأنهم أجلاف لا يفقهون وأنهم
مغترون موتورون:
وإذا نسوا فضلي فكم من فاضل ... قبلي سقوه السم في كيسانه
نصبوا حبائل مكرهم وتعرضوا ... بسهامهم للنجم في كيوانه
من كل أرعن أهوج الأخلاق قد ... أربى على فرعون مع هامانه
أو لم ير المغتر أن العز لا ... يبقى ملابسه على فتيانه
أجلاف هذا العصر حقا لو رأوا ... حسان ما جنحوا إلى إحسانه
إن أنكروا فضلي لخبث طباعهم ... فالدر ليس يعز في أوطانه (1)
لا ندري إن كان ابن علي قد خرج من الجزائر لأغراض دينية كالحج أو
علمية أو سياسية إذ أن المصادر صامتة عن ذلك، فإذا ثبت أنه برع في الشعر على هذا النحو دون أن يدرس اللغة والأدب في غير الجزائر فذلك يزيد من إعجابنا به، وقد كانت له صلات بعلماء المغرب نذكر منهم الجامعي والورززي، وكان لابن علي شعر في كليهما، أما الأول فقد تبادل معه الشعر والنثر وكتب عنه في شرحه لرجز الحلفاوي وفي رحلته المفقودة، وأما الثاني فنعرف ما قاله فيه ابن علي حيث طلب منه الإجازة، ولكننا لا نعرف ما قال الورززي
في ان علي. وفي الديوان إشارة إلى أن ابن علي قد أجاب عن قطعة مدحه
بها أحد علماء فاس بقوله:
يمينا لقد أظهرت سحر بيان ... بلفظ بديع رائع ومعان
ويبدو مما قرأناه أن ابن علي يتفوق في شعره الذاتي على شعره الاجتماعي كالمدح. فشعره الغزلي والوصفي وفي أحوال النفس أقوى بكثير من الشعر الذي قاله مثلا في الورززي والجامعي. غير أن قصيدته الميمية في فتح وهران تظل بلا نظير، وقد أعجب الجامعي بابن علي، وسماه (أديب العلماء، وعالم الأدباء، محيي طريقة لسان الدين ابن الخطيب، الإمام الخطيب ابن الإمام الخطيب). وفي الجامعي قال ابن علي قصيدة على منوال
__________
(1) ابن عمار (النحلة)، 43.

ساسو
08-26-2016, 10:42 AM
قصيدة ابن زمرك، ولكن الجامعي انتقد ابن علي في بعض التعابير التي وردت
فيها، فانبرى له ابن عمار يوضح خطأه وينتصر لأستاذه ويصوبه (1)، وكما أشاد ابن عمار بشيخه ابن علي أشاد هذا بابن عمار كثيرا. فهو القائل فيه:
ما كل من صاغ القريض يجيده ... معنى ويصرفه على أوزانه
إلا ابن عمار فحسبك من فتى ... زان النشيد وعد في أعيانه وكان ابن علي يرتاح لابن عمار ويجالسه كما أشرنا، وكان ابن عمار وفيا له ويعرف قيمته، وكان يزوره إذا مرض ويمازحه وينشده الشعر ويسليه، من ذلك زيارته لابن علي عندما مرض بالكبد وعجز عن تذوق الطعام. وبالجملة فأصدقاء ابن علي قليلون إذا حكمنا من المصادر، ولكن يبدو أن الذين عرفوه على حقيقته قد اعترفوا له بالفضل والتقدم في الأدب، والشعر
على الخصوص، ومن هؤلاء محمد بن ميمون وأحمد بن عمار من الجزائريين والجامعي والورززي من المغاربة، ورغم أن ابن المفتي كان كثير
النقد لعلماء عصره فإنه عندما ذكر ابن علي، وهو معاصر له، لم يقل عنه ما
يشينة، ولكن يفهم من تعبيره أنه كان ينتصر لابن نيكرو ضد ابن علي. أما ابن
حمادوش فقد عرفنا أنه كان ضده، حتى قال عنه (المفتي الحنفي في الوقت، ابن علي المستحق المقت).
والواقع أن حياة وشعر ابن علي ما تزال في حاجة إلى دراسة عميقة بعد الاطلاع على مصادر إضافية، فحياته تكاد تكون مجهولة رغم غناها وتعدد جوانبها العائلية والاجتماعية والدينية والسياسية، وشعره ما يزال ضائعا ومتفرقا رغم أهميته الأدبية، وحسبنا هنا أننا سلطنا عليه بعض الأضواء بما يتسع له هذا الكتاب.

الشعر الشعبي
الهدف من الحديث قليلا عن الشعر الشعبي أو الملحون هنا هو تحديد علاقته بالثقافة وتحديد علاقة الثقافة به، وليس الغرض دراسة هذا الشعر في
__________
(1) نفس المصدر، 84 - 85.

ساسو
08-26-2016, 10:42 AM
حد ذاته، لأن ذلك يهم غيرنا أكثر، ذلك أن الثقافة التي نتناولها في هذا الكتاب تعني نتائج الفكر والذوق والشعور بعد الصقل بالدراسة والتعب، وطلب العلم بجميع أنواعه وتحصيل الملكة عن طريق الممارسة والنصب، ولا يحتاج الشعر الشعبي إلى كل ذلك أو شيء منه، بل أن ضعف الثقافة بالمفهوم الأول هو الذي ساعد الشعر الشعبي على الانتشار والذيوع، وبذلك يكون رواج الشعر الشعبي دلالة على ضعف الثقافة الأدبية في البلاد، فهو، من الناحية الجدلية المحضة، ضد الثقافة ودليل على انحطاطها.
وهذه الظاهرة، ظاهرة شيوع الشعر الشعبي بدل الشعر الفصيح وضعف الثقافة الأدبية، قديمة ولا تخص العهد العثماني وحده. فقد لاحظ ابن خلدون ذلك وعزا عدم عناية المغاربة بأنسابهم إلى شيوع الشعر الشعبي الذي لا يحفظ كما يحفظ الشعر الفصيح، ولكن الضعف استمر وازداد، وقد تفاقم أيام العثمانيين. فإبعاد اللغة العربية عن الإدارة وجهل الحكام، بما في ذلك الجزائريون التابعون للعثمانيين، بها، وعدم وجود جامعة أو مركز إسلامي عتيق في البلاد، وكون خريجي التعليم القرآني لا يجدون وظائف إلا في مجالات محدودة، كل هذه عوامل ساعدت على إضعاف الثقافة الأدبية وتشجيع الشعر الشعبي والأدب الشعبي بدلا منها.
وعندما ألف مؤلفون أدباء ومؤرخون أمثال الجامعي وأبي راس وابن سحنون وجدوا أنفسهم أمام سيل من الأدب الشعبي لا يمكن التخلص منه، كما وجدوا الأدب في حالة ضعف وتقهقر، ولم يسع الجامعي إلا أن يورد، بعد أن اعتذر وذكر الأسباب، نماذج من الشعر الشعبي في شرحه لرجز الحلفاوي، بعضه منسوب وبعضه غير منسوب. كما لم يسع ابن سحنون، وهو الأديب الناقد الشاعر، إلا أن يذكر أن ممدوحه قد مدح بالكثير من الشعر الشعبي، مبينا أن (ذلك أمر خارج عن مقصد الأديب، لا يخصب روض البلاغة الجديب) كما عزا أكثر الشعر الملحون إلى غلبة العجمة على الألسن وذهاب سر الحكمة منها (فصار الناس إنما يتغنون بالملحون، وبه

ساسو
08-26-2016, 10:43 AM
يهجون ويمدحون (1)، وقد وقف أبو راس موقفا شبيها بذلك، إلا أنه كان أقل حماسة للشعر الفني من زميله، لأنه هو نفسه كان ضعيف الشعر، فأبو راس هو القائل، نقلا عن الجامعي (وما في الملحون من بأس، فإنه في هذا العصر لسان الكثير من الناس) (2).
وهكذا طغى الأدب الشعبي على الأدب الفني في العهد العثماني،
وكان الذين يمثلون الأدب الأخير قلة وسط كثرة، وعندما حل الفرنسيون بالجزائر نشروا من الشعر الشعبي نماذج متعددة وترجموها في مجلاتهم، لأنها في نظرهم تساعد على فهم ظروف العهد العثماني ولغة السكان وعلاقة هؤلاء بالحكام العثمانيين. حقا ان الشعر الشعبي قد سجل كثيرا من الحوادث السياسية والعسكرية كما كان سجلا للنبض الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وبذلك يمكن القول من الناحية التاريخية أنه كان أشمل وأقرب إلى الحقيقة من الشعر الفني، فبينما كان الشعر الفني شعر بلاط أو شعر نفس مهزومة أو شعر مدائح نبوية ونحوها، كان الشعر الشعبي يدون ما يجري في جميع المستويات تقريبا، ويصف ردود الفعل بآلة تسجيل أمينة، غير أن قارئه وإن وجد فيه الفعل ورد الفعل فإنه لن يجد فيه المتعة الروحية ولا الجمال الفني الذي يجده في الشعر الفصيح، ولا سيما إذا بعد العهد. ذلك أن لكل فترة مفاهيمها اللغوية وتعابيرها في الأدب الشعبي، وليس الحال كذلك بالنسبة للفصيح.
خاض الشعر الشعبي إذن عددا من الأغراض: هجومات الأجانب على الجزائر والانتصار عليهم، حالة السكان الاقتصادية والمعاشية، والأزمات الاقتصادية والنكبات الطبيعية، أحوال التصوف والمتصوفين، رثاء رجال الدين ورجال السياسة، ونحو ذلك من الأغراض. كما أن الشعر الشعبي قد
__________
(1) ابن سحنون (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 16، ورأيه هنا جدير بالدراسة
من مؤرخي النقد الأدبي.
(2) أبو راس مقدمة شرح (العقيقة) مخطوط، باريس، ورقة 2، وقد سبق أن أشرنا إلى
رأي الورتلاني في الشعر أيضا.

ساسو
08-26-2016, 10:43 AM
وقف أحيانا مع العثمانيين وأحيانا ضدهم، وأكثر ما بقي من الشعر الملحون هو الذي يمجد انتصارات العثمانيين، ومن الجدير بالذكر أن الشعر الملحون قد دخله التحريف، فمن الصعب القول بأن ما بقي منه هو بالضبط ما قاله أصحابه، ثم إن كتابته نفسها تختلف عن إنشاده، فهو شعر قيل لينشد وتتناقله الأفواه لا لكي يسجل على الورق ويدون. ثم إن اختلاف اللهجات يجعل من الصعب فهم قصيدة شعبية قيلت مثلا في وهران من أهل قسنطينة والعكس، ومن ثمة كان الشعر الفصيح أسير وأخلد. ومن جهة أخرى فإن الاهتمام بالشعر الشعبي لا يخدم فكرة الوطنية ولا القومية. فهو في عصرنا يخدم فى الواقع الجهوية والقبلية والإقليمية. ولذلك استغله الاستعمار استغلالا بشعا ضد الفكرة الوطنية في الجزائر وضد الفكرة القومية في الوطن العربي.
فإذا عرفنا هذه المقدمات أمكننا أن نذكر نماذج كنا قد أشرنا إليها من قبل في مناسبات أخرى، ولعل من أقدم القصائد الشعبية الموالية للعثمانيين والتي سجل صاحبها، وهو الأكحل بن خلوف (المشهور الأخضر) المعركة التي دارت بمرسى مستغانم بين المسلمين والإسبان، وهي المعروفة (بوقعة مزغران) والجدير بالذكر أن ابن خلوف، الذي اشتهر أيضا بقصائده الدينية، قد ربط بين جهاد المسلمين في الجزائر وجهادهم في غرناطة، ثم فصل القول
بما جرى بين جيش المسلمين بقيادة حسن باشا وجيش الإسبان بقيادة الكونت دالكادوت، وكان الشاعر متحمسا لأن المسلمين قد انتصروا في هذه المعركة انتصارا باهرا. وقد بدأها بقوله:
يا سايلني عن طراد الروم ... قصة مزغران معلومة (1) وفي أوائل القرن الثاني عشر الهجري أبى أحد الشعراء، وهو محمد بن
__________
(1) …وقعت المعركة سنة 965 هـ. انظر مقدمة (الثغر الجماني) نشر المهدي البوعبدلي، 23. انظر أيضا مجلة (آمال) العدد الخاص بالشعر الملحون، 1969. وتعرف القصيدة أيضا بقصة أو يوم مزغران. انظر أيضا عن الشاعر ابن خلوف، مارسيل بودان (مجلة جغرافية وهران)، 1933، 253 - 262. ولابن خلوف ديوان معظمه في المدائح النبوية. ط) الرباط، 1958.

ساسو
08-26-2016, 10:44 AM
درمش الشرشالي، إلا أن يخرج من نطاق الجزائر وينتصر للعثمانيين في البلقان، فقد أشاد باستيلاء جيش السلطان أحمد الثالث (1115 - 1143) على مورية سنة 1127. عالج الشرشالي في قصيدته الشعبية عدة موضوعات مثل فرمان السلطان إلى عسكر الجزائر يطلب منهم إرسال قوات عسكرية، وكون الجزائر استجابت وأرسلت ثلاث سفن محملة بالعساكر (ومنهم الشاعر نفسه)، ووصف الطريق والمعركة التي دارت بين العثمانيين وخصومهم، كما وصف الانتصار الإسلامي، وقد مجد فيها العلاقات الإسلامية وشكر الله ورسوله على توفيقه، وفاتحتها:
صلوا كلكم يا معشر الإخوان ... على المصطفى الهادي رفيع الشان
سبحان الإله المالك الدائم ... الفرد الجليل العادل الحاكم
ثم جاء فيها:
من بعد الرضى عن جملة الأعوان ... اصغوا وافهموا يا معشر الإخوان
فنحكي لكم قصة لها برهان ... صارت ذا الزمان في مدة السلطان (1)
وللشرشالي قصائد أخرى في غير ذلك الغرض.
ومن القصائد التي سجل أصحابها جهاد الجزائر قصيدة لشاعر مجهول تحدث فيها عن هجوم الدانمارك على الجزائر سنة 1184، وقد وصف فيها الشاعر ضرب مدينة الجزائر بالقنابل من قبل الدانماركيين، وبناء على الشاعر، فإن ذلك كان ليلة المولد النبوي حين أوقد المسلمون الشموع ليحتفلوا به، فظن الدانماركيون أن الجزائريين قد قاموا بهجوم ضدهم، فظلوا يطلقون القنابل على المدينة طول الليل حتى نفدت ذخيرتهم. وبالطبع نجد الشاعر متفائلا لأن النصر في هذه المعركة للجزائريين بفضل بركات الأولياء والصالحين المدفونين في المدينة، وقد نوه الشاعر أيضا برجال الدولة العثمانية، وتبدأ القصيدة هكذا:
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1045. وتبلغ القصيدة 570 بيتا، وهي مبتورة الآخر.

ساسو
08-26-2016, 10:44 AM
باسم الله نبدي على وفا ... ذا القصة تعيانا قصة ذا البونبة المتلفة ... كيف جابوها أعدانا (1) ورغم أن قصيدة بلقاسم الرحموني الحداد قد صورت أحوال قسنطينة عموما فإنها لم تكن سياسية كلها، كما أنها لم تكن كلها ضد العثمانيين، بل كانت ضد الدخلاء على مدينة قسنطينة مهما كانوا. فقد صور في قصيدته الحياة الاجتماعية من فساد أخلاق ودين، والحياة السياسية من ظلم وطغيان، والحياة الاقتصادية من نقص في أحوال المعيشة والغلاء، وكان الشاعر في هذه القصيدة يتكلم على لسان أهل الطرق الصوفية، وهو أيضا ضد التجار الذين وردوا على قسنطينة من داخل البلاد ونافسوا أهلها، وتبدأ هذه القصيدة: عام مكبرة هاي سيدي ... بالكساد وغلات النعما (2) ولعل الشاعر نفسه كان يتغنى بهذه القصيدة وغيرها في مقاهي قسنطينة ومجالسها، وقد أشرنا إلى أن بلقاسم الحداد كان شاعرا في غير هذا الموضوع أيضا.
أما الشعراء الذين وقفوا ضد العثمانيين مستعملين الشعر الملحون وسيلة وسلاحا فهم، أيضا كثيرون، وحسبنا أن نذكر هنا ابن السويكت، الشاعر الذي سجل انتصار أهل سويد بالغرب الجزائري على العثمانيين في حروب طويلة قاسية، وهذه الحروب تعرف جماعيا باسم (ثورة المحال) التي كانت تتقد تارة وتخبو تارة أخرى حوالي قرنين، وللشاعر في ذلك عدة قصائد، منها تلك التي يقول فيها:
الترك جاروا واسويد عقابهم طافحين ... والترك شاربين الهبال في سطلة (3)
__________
(1) (المجلة الإفريقية)، 1894، 325 - 345، قارن ذلك بما ذكره ابن حمادوش عن الدانمارك، والمقصود بالبونبة، القنبلة.
(2) (المجلة الإفريقية)، 1919، 224 - 240. انظر عن هذا الشاعر الفصل السادس من
الجزء الأول.
(3) مقدمة (الثغر الجماني)، 34، وتعرضنا من قبل إلى تفاصيل هذه القصيدة، انظر الفصل الثاني من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 10:45 AM
وهناك الشاعر بوعلام بن الطيب السجراري الذي تحدث عن ثورة درقاوة ضد العثمانيين، ولما كنا قد أشرنا إلى هذه الثورة في السابق فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى القصيدة فقط، ذلك أن الشاعر كان متحمسا ضد الأتراك وكان يطعن فيهم وفي سياستهم وأخلاقهم، وقد صور كل ذلك خير تصوير وأنفذه، وخصوصا انهزام الأتراك على يد الدرقاويين بقيادة عبد القادر بن الشريف:
كي قصة الأجواد مع أتراك النوبة ... يوم أن فزعهم ابن الشريف أو جاو (1) ولا شك أن الشعراء الشعبيين كانوا بالمرصاد لالتقاط الأحداث السياسية والاقتصادية وغيرها كما أشرنا، فقد قالوا في فتح وهران الأول والثاني، وقالوا في المجاعات والطواعين والزلازل التي حلت بالبلاد، ومدحوا بعض الحكام وهجوا آخرين منهم، وانتصروا لبعض الثورات وكانوا ضد أخرى، وليس من غرضنا هنا تتع ذلك أو إحصاؤه.
وكما اهتم الشعر الشعبي بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
اهتم أيضا بالدين ورجاله، فقد عرفنا أن شاعرا كبيرا في الفصيح، وهو سعيد المنداسي، عالج المدائح النبوية وغيرها من النواحي الدينية في قصيدة ملحونة تعرف بـ (العقيقة) وهي التي شرحها أبو راس وابن سحنون، وكانت موضع حديث الناس مثقفين وغير مثقفين (2). وكتب أحد الصالحين، وهو موسى اللالتي قصيدته المشهورة (حزب العارفين) بالملحون أيضا، تعرض فيها ليس فقط لرجال التصرف وأهل الصلاح، ولكن أيضا إلى رجال السياسة
__________
(1) مقدمة (الثغر الجماني)، 38. وكذلك (در الأعيان في أخبار مدينة وهران) لحسين خوجة (مخطوط)، ترجمة روسو سنة 1855 في جريدة (لومونيتور الجيريان). رقم 1395 - 1398.
(2) للمنداسي أيضا شعر ملحون يوجد في المكتبة الملكية - الرباط، رقم 10305، وله ديوان مطبوع، وقد ترجم (العقيقة) إلى الفرنسية الجنرال الفرنسي، فور بيكي، ونشرها مع دراسة سنة 1901.

ساسو
08-26-2016, 10:45 AM
أو من سماهم برجال الشر والطلاح، وقد شرح هذه القصيدة العامية تلميذه الشيخ محمد بن سليمان، ومن حسن الحظ أننا اطلعنا ودرسنا هذه القصيدة وشرحها (1)، وقد اشتهر في تلمسان خلال القرن الثاني عشر ثلاثة شعراء شعبيين وهم: محمد بن مسائب، وابن التريكي والزناقي، ونظموا جميعا بالخصوص في المسائل الدينية، كما نظم كل منهم رحلة حجازية (2)، ونعتقد أن للشعر الملحون مجالات أخرى لم نشر إليها كالغزل. أما الرثاء فالمعروف أن أحد الشعرء قد نظم قصيدة (قالوا العرب قالوا) في رثاء صالح باي الذي كان محبوبا عند معظم أهل قسنطينة لأن مأساة وفاته قد أثارت عواطفهم نحوه.
ورغم أن الشعر الشعبي ليس من أهداف هذه الدراسة لخروجه عن الثقافة الأدبية كما لاحظنا، فإن دراسته تكشف عن كثير من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد في العهد العثماني. فالقصيدة الشعبية من هذه الزاوية وثيقة هامة تدرس من خلالها الحياة كما صورها الشاعر وتؤخذ منها المعلومات والمواقف ثم تترك. والشعر الشعبي مهم من حيث تسجيله لمشاعر الناس ضد أو مع العثمانيين، ومواقف الجهاد ضد العدو الخارجي، وتطور الحياة الدينية، فالعودة إلى الشعر الشعبي ضرورة من ضرورات البحث، ولكنه لا يدرس كنموذج أدبي أو فني نستشف من خلاله رقي الثقافة وسمو الذوق والمشاعر وجمال التعبير والتصوير، أو نستدل به على تقدم الشعب.
__________
(1) انظر دراستنا عن كتاب (كعبة الطائفين) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر 1978، وقد أثار إلى قصيدة (حزب العارفين) أيضا أبو راس وابن سحنون.
(2) انظر دراستنا (الرحلات الجزائرية الحجازية في العهد العثماني) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) وعن ابن مسائب بالخصوص انظر محمد بن أبي شنب (المجلة الإفريقية)، 1900، 259 - 282. انظر أيضا مجلة (آمال) عدد خاص بالشعر الملحون عدد 4، 1969، وتوفي ابن مسائب سنة 1170. وكان في صغره ينظم الشعر المعروف بالحوزي ثم تحول إلى الشعر الديني.

ساسو
08-26-2016, 10:46 AM
فراغ فى الأصل

ساسو
08-26-2016, 10:46 AM
الفصل الخامس
التاريخ - التراجم - الرحلات

ساسو
08-26-2016, 10:47 AM
فراغ فى الأصل

ساسو
08-26-2016, 10:47 AM
ندرس في هذا الفصل مفهوم التاريخ عند الجزائريين وإنتاجهم فيه وفي
التراجم والسيرة والتواريخ المحلية والرحلات ونحو ذلك كالجفرافية، ومما يلفت النظر ندرة الكتب التاريخية في القرنين العاشر (16 م) والحادي عشر (17 م)، بينما حفل القرن الثاني عشر (18 م) بعدد من التآليف فيه، كما أننا لا نكاد نجد رحلة حجازية خارج القرن الثاني عشر، أما التراجم فقد عمت جميع العهد العثماني ولكنها كانت في القرن العاشر قليلة أيضا، ومن جهة أخرى لا نكاد نجد كتابا في الجغرافية من تأليف الجزائريين اللهم إلا ما جاء عرضا في كتب التاريخ والرحلات من وصف المسالك وتخطيط البلدان وتنسيب القبائل، ونحو ذلك.

مفهوم التاريخ
ويبدو أن سيطرة التصوف والروح الدينية السلبية قد أضعفت العناية بعلم التاريخ والسير وأخبار الأولين، ومن ثمة أضعفت دافع التأليف فيها. ذلك أن كثيرا من الجزائريين الذين كتبوا في التاريخ، رغم ذلك، قد لاحظوا الضعف وعدم الاهتمام بعلم التاريخ. فقد قال ابن المفتي بأن (تلك الأخبار رسمها بالجزائر مندرس، وما كتبه ذوو الرحلة في شأنها وشأن العلم فيها غير مقتبس) (1)، وهو يشير بذلك إلى أن التأليف والعناية بالتاريخ والأخبار لم تكن تحظى بالاهتمام، كما أن ما كان منها مكتوبا منذ القديم لم يقلده المقلدون أو يرجع إليه الراغبون، ورغم تصوف الورتلاني فقد لاحظ أن الجزائريين كانوا يحسبون التاريخ أمرا مضحكا لا يدرسه أهل الجد والدين،
__________
(1) نقله عنه نور الدين عبد القادر (صفحات)، 9.

ساسو
08-26-2016, 10:48 AM
بل هو عند البعض ضد الدين والأخلاق. لذلك حكم الورتلاني بأن علم التاريخ (منعدم) عند أهل الجزائر، وهذه هي عبارته (علم التاريخ منعدم فيه وساقط عندهم فيحسبونه كالاستهزاء، أو اشتغالا بما لا يعني، أو من المضحكات المنهي عنها. فترى المتوجه منهم إلى الله يرى الكلام فيه مسقطا من عين الله تعالى .. ليس (هو عندهم) من علم يذكر، إذ لا طائل فيه أصلا بل بنفس ذكره عندهم ينكر) (1).
ولعل الذي أضر بالتاريخ عند الجزائريين المتدينين كونه منسوبا عندهم إلى الأخبار والسير العامة ومتصلا بالأدب والمجون، والغريب أن آراء ابن خلدون في التاريخ كانت معروفة عند بعضهم، وأن كتب التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية كانت متوفرة، كما لاحظنا من دراستنا عن المكتبات. فكيف يسقط التاريخ عندهم إلى هذه المنزلة من الإهمال؟. ليس هناك من تفسير إلا سيطرة التصوف من جهة والخوف من الحكام من جهة أخرى. أما علاقة التاريخ بالتصوف فقد أشار إليها الورتلاني، وأما الخوف من الحكام فالمعروف أن التاريخ عندئذ كان تاريخا لكبار السياسيين، وأنه كان لا يدرس للثقافة والمتعة والعبرة والتقليد. وسنعرف أن معظم الذين كتبوا في التاريخ أثناء العهد العثماني كانوا مؤيدين بل كانوا يكتبون على لسان الأمراء والولاة، ولم يكن لأهل الصلاح فائدة من دراسة علم لا يعرض إلا لحياة الملوك
والأمراء وكبار المسؤولين.
ومع ذلك فإن تعريف التاريخ عند المؤرخين الجزائريين ظل غامضا،
فهم يخلطونه بالدين تارة والسيرة تارة أخرى، وبالعلم أحيانا وبقيمة الإنسان وسمعته الاجتماعية أحيانا أخرى. فقد قال ابن المفتي في تعريف التاريخ ما يلي: (وبعد، فإن علم التاريخ عبادة ومنة جزيلة، ومعرفة أخبار العلماء منقبة جليلة) (2)، وكان هذا تمهيدا من ابن المفتي لدراسة أخبار العلماء وأخبار الباشوات الذين ألف رسالته فيهم، بينما عرف أبو راس علم التاريخ والأخبار
__________
(1) الورتلاني (الرحلة)، 597.
(2) نور الدين عبد القادر، 9.

ساسو
08-26-2016, 10:49 AM
بأنه (تحفة المجالس، المفتي عن الأنيس والمجالس) (1) وكان أبو راس يريد بذلك قصص الأولين وسير الأنبياء وأخبار الحكام، ذلك أن هذا المفهوم (القصصي) للتاريخ هو الذي كان شائعا حتى أن من عرف بالحفظ وطلاقة اللسان وسرعة البديهة يقال له عالم بالأخبار والسير، مثل ما أشيع عن محمد بن عبد المؤمن ومحمد بن عبد الكريم الجزائري، وقد بين أبو راس أهمية علم التاريخ فقال لقد اعتنى به الأدباء الأفاضل وجهابذة كل طبقة وملة (من صلحاء السلف، وحذاق الخلف، في كل عصر .. فألفوا وأفادوا وصنفوا وأجادوا)، ثم ذكر أهم أسماء المؤرخين المسلمين إلى أن وصل إلى السيوطي وأحمد المقري، كما ذكر عددا من المؤرخين قبل الإسلام (2).
أما الورتلاني فقد دافع عن التاريخ وبين فضله ومنزلته بين العلوم، وقد قال إن علم السير لم يكن سوى جزء من التاريخ، فكيف يدرس الجزائريون حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقصص الأنبياء ولا يدرسون التاريخ الذي امتلأت به كتب السيرة بل القرآن نفسه؟ ألم يقل الله تعالى {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}؟ ألم يرو في الحديث الشريف أن التفكير في الماضي ساعة أفضل من عبادة سنوات عديدة؟ ثم إن (مرتبة العلماء تزيد أو تنقص بقدر معرفتهم للتاريخ) لأنه علم يزيد الإنسان في الفضائل ويبعد عنه القبائح، انه علم تعلو به همة الإنسان، لأنه يدفع إلى المعالي من الأمور، أليس أكثر القرآن من علم التاريخ؟ ومن الممكن أن يعتبر ذام التاريخ مرتدا لأن ذمه يقود إلى ذم القرآن نفسه وهو الذي يحتوي على أخبار الماضين وأحوال الجبابرة المنقرضين، وأولياء الله الصالحين، لذلك نصح الورتلاني القارئ بأن لا يهمل علم التاريخ وأن يصحح علمه به، بشرط الاعتماد على الكتب الصحيحة والنقول السليمة (3).
ومما يلفت النظر أن المؤرخين الجزائريين بالمفهوم السابق قد قصروا
__________
(1) أبو راس (الحلل السندسية)، مخطوط باريس، 4619.
(2) أبو راس، مقدمة (عجائب الأسفار) مخطوط الجزائر وباريس.
(3) الورتلاني (الرحلة)، 597.

ساسو
08-26-2016, 10:49 AM
أعمالهم على التواريخ المحلية والتراجم والرحلات، ولم يكتب واحد منهم تاريخا عاما للجزائر كلها غطى فيه أخبارها داخل حدودها من القديم إلى الحديث أو حتى في القرن الذي يعيشه. فالمؤرخ كان يعيش حدودا ضيقة فرضتها عليه السياسة والثقافة والجغرافية. فالعثمانيون لم يطوروا فكرة التواصل بين المؤرخ وبيئته فظلت البيئة عنده هي حدود القرية أو الناحية أو الحادث إذا كان مثلا يكتب عن فتح وهران من خلال حياة الوالي المسؤول عن ذلك. كما أن المؤرخ أو المترجم ظل حبيس الزاوية أو المدرسة التي تخرج منها فلا يترجم أو يكتب إلا في نطاق محصور، تمليه عليه ثقافته. وكانت الجغرافية عاملا هاما في الموضوع، فالقطر الجزائري في عصر المواصلات البدائية كان يبدو وكأنه قارة بذاتها، واسع الأطراف من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن نجد (الحس الوطني) قد ظهر إلى حد كبير عند الورتلاني الذي طاف معظم القطر وسجل انطباعاته للأجيال اللاحقة، ولعل نفس الظاهرة نجدها عند أبي راس. وهكذا افتقر التاريخ الجزائري إلى عمل تناول فيه أصحابه، بنظرة شاملة، تاريخ القطر وحياة أهله حتى على أساس النظرة القديمة للتاريخ من كونه تاريخ أمراء وملوك.
وكما افتقر المؤرخون الجزائريون إلى النظرة الشمولية للتاريخ الوطني افتقروا إلى النظرة الشمولية أيضا في التاريخ للإسلام، ذلك أنه باستثناء الأعمال الجزئية التي تناولت السيرة النبوية، لا نجد مؤرخا جزائريا قد أرخ للإسلام أو العرب بالمعنى العام (1)، وأقرب من توسع في هذا المعنى هو أحمد المقري في موسوعته (نفح الطيب) وأبو راس في (الحلل السندسية)
وبعض أعماله الأخرى، غير أن تاريخ الرجلين ظل مركزا على الأندلس،
__________
(1) ينسب إلى ابن أبي حجلة كتاب في التاريخ العام وصل في جزئه الثالث إلى ملوك
العرب وأنسابهم (انظر تيمور 984 تاريخ، 485 صفحة). ولكن ابن أبي حجلة عاش قبل العهد العثماني بمدة طويلة، ونفس الشيء يقال عن المشروع الضخم الذي كان يعده ناصر بن مزني البسكري عن التاريخ وأخبار الرواة المسلمين. انظر عنه ابن حجر (أنباء الغمر) 3/ 235. انظر عنه أيضا الفصل الأول من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 10:50 AM
والغريب أن علماء الجزائر قد اشتهروا بالحفظ، وكان علم التاريخ بالمفهوم القديم يقوم على الحافظة القوية للمؤرخ، ونحن نجد عالما كأبي راس يسرد قائمة المؤرخين المسلمين ولكنه، رغم كثرة تأليفه، لم يخصص مجلدا لتاريخ العرب أو المسلمين، وحين أراد ابن حمادوش الاستفادة من كتب
التاريخ الإسلامي رجع إلى ابن الكردبوس وابن العبري والعليمي، وغيرهم ولم نعرف أنه ألف هو في التاريخ العام.
وهناك نقطة أخرى بهذا الصدد نود أن نشير إليها وهي اعتماد معظم الذين تناولوا قضايا تاريخية أو تراجم، على شرح القصيدة أو الرجز. فأساس التأليف التاريخي إذن هو الأدب، إذا حكمنا من الوزن والقافية. وبذلك يصبح التاريخ عند هؤلاء هو تفسير ما عجز أو ضاق عنه الأدب. فالمؤرخ كان يقوم بعمل يعتمد على الحافظة أكثر من الذكاء والموهبة، ولا يعني هذا أن القصائد أو الأراجيز التي تناولت موضوعات تاريخية كانت قمة في الأدب، ولكن يعني فقط أن العمل الأول للمؤرخ قد وضعت خطوطه أو تصميماته من خلال العمل الأدبي. وكثير من شراح القصائد والأراجيز التاريخية، والتراجم، سواء منها التي تتناول حوادث كفتح وهران أو سيرة بعض الناس، كانت قد وضعت أساسا في شكل قصيدة أو رجز.
ويكفي أن نشير هنا إلى رجز المفتي محمد الحلفاوي في فتح وهران
الأول وقصيدة أبي راس في فتح وهران الثاني، ورجز التجاني المسمى
بـ (عقد الجمان النفيس)، وبعض هذه الأراجيز والقصائد قد شرحها أصحابها أنفسهم كما فعل ابن سحنون. وأبو راس، وبعضها شرحها غير أصحابها كما فعل الجامعي مع أرجوزة الحلفاوي، ومحمد المزيلي مع منظومة عقد الجمان، ولكن بعض القصائد والأراجيز ظلت دون شرح أصلا كـ (الدرة المصونة) للبوني، و (سبيكة العقيان) لابن حوا، وهذا لا يعني أن جميع الأعمال التاريخية كان أساسها الرجز أو القصيدة، فهناك أعمال أخرى كتبها أصحابها مباشرة نثرا تاريخيا، أو مجموعة من التراجم، مثل (القول البسيط) لابن بابا حيدة، و (البستان) لابن مريم، وقد شذ محمد بن ميمون فجعل

ساسو
08-26-2016, 10:50 AM
تاريخه قائما على عدد من المقامات كما أسلفنا.
والتواريخ التي تحدثنا عنها، بجميع أقسامها وأنواعها، ليست كلها متوفرة كما أنها ليست جميعا أعمالا كبيرة. ذلك أن بعضها قد ضلع مثل العديد من تآليف أبي راس وأجزاء من رحلة ابن حمادوش ومعظم مؤلفات أحمد بن عمار، غير أن الجزء الباقي من هذه الأعمال يعطينا فكرة عن نشاط الجزائريين في مجال التاريخ. ثم إن بعض هذه الأعمال صغيرة الحجم لا يتعدى عدة ورقات، وبعضها ضخم حجمها حتى عد بالأجزاء، والظاهر أن معظم الكتاب الذين تناولوا حوادث تاريخية أو تناولوا التراجم لم يكونوا واعين أنهم يكتبون (تاريخا) أو (تراجم) بالمعنى الذي نستعمله اليوم للعبارتين، فالذين ترجموا لعدد من الرجال كانوا في الغالب يقصدون وجه الأدب. كما فعل ابن عمار في (لواء النصر) أو يتبركون بالمترجمين كما فعل ابن مريم، أو يقصدون إلى نقد أوضاعهم ويحاربون الفساد الاجتماعي والديني كما فعل عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية). ففكرة التاريخ كانت بعيدة من أذهان الأغلبية منهم، كما أن فكرة الترجمة الحقيقية التي تعطيك حياة ونشاط وأفكار ومواقف المترجم له بعيدا عن المدح والتبرك أو النقد والتجريح كانت أيضا بعيدة من أذهان معظم المترجمين، ومع ذلك فإننا سنتناول الجميع، مما عثرنا عليه، على أنه تراث تاريخي تجب العناية به وليس على أنه يلبي المقاييس التاريخية التي نقيس بها اليوم.

في السيرة النبوية
ألف الجزائريون في السيرة النبوية عدة أعمال ونظموا فيها الأشعار والأراجيز، ومن الممكن أن نعد كل ما قيل من شعر في المدائح النبوية جزءا من تاريخ سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) (1)، كما أننا نعتبر ما كتب أو نظم في الرحلات
__________
(1) انظر المدخل الذي كتبناه للرحلات الحجازية الجزائرية في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

ساسو
08-26-2016, 10:51 AM
الحجازية على أنه من صميم السيرة، فمجال السيرة إذن واسع. فإذا ذهبنا مع الورتلاني على أن علم السير هو (سير الأنبياء وشمائلهم ووقائعهم وبعوثهم وسراياهم وصحبهم وخصائصهم وقصصهم) أمكننا أن ندرك أن كثيرا مما ألفه أحمد المقري وأبو راس وأحمد البوني وأمثالهم يدخل في قسم السيرة النبوية.
ومن أقدم الأعمال التي نشير إليها في العهد العثماني شرح أحمد بن محمد البجائي التلمساني على (الشقراطسية)، وهي القصيدة التي نظمها
محمد بن علي بن شباط التوزري في السيرة، ونحن نعرف أن التوزري قد
وضع هو نفسه شرحا على قصيدته سماه (صلة السمط وسمة الربط) ضمنه أدبا وتاريخا أيضا (1)، ويبدو أن شرح التلمساني عمل مهم، فقد وصفه ابن عسكر بأنه (شرح عجيب) (2)، وكان محمد المغوفل قد اشتهر بقرض الشعر الذي تناول فيه حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقد اعتبره أبو راس (أحد أعجوبات الدهر في علمه وورعه وكراماته، يشهد لعلمه قصيدة مدح بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيها سبعون بيتا، وليس فيها حرف يستحق النقط، بل كلها عواطل من النقط، وكفى به حجة) (3)، ورغم شهرة هذه القصيدة وأهميتها وشيوع الشروح في ذلك العصر فإننا لا نعرف أن أحدا قد تناولها بالشرح، وقد أشرنا من قبل إلى موقف العثمانيين من الشيخ المغوفل (4)، كما أشرنا إلى أشعاره في المدائح النبوية في فصل الشعر. والظاهر أن لغة المغوفل إما ضعيفة أصلا وإما أضر بها نساخ أشعاره.
وحتى لا نكرر هنا ما تناولناه في شعر المدائح النبوية نكتفي بالإشارة
إلى بعض الأعمال التي تدخل من جهة في شعر المدح ومن جهة أخرى في
السيرة النبوية، ونعنى بذلك ديوان عبد الكريم الفكون الذي خصصه
__________
(1) الإعلام 7/ 172، وقد توفي التوزري سنة 681.
(2) (دوحة الناشر)، 219 - 221.
(3) أبو راس (عجائب الأسفار) ورقة 26 مخطوط الجزائر.
(4) انظر الفصل الثاني من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 10:51 AM
لمدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو ديوان كبير، والمعروف أن الفكون كان أمير ركب الحج الجزائري مدة طويلة وكان مؤلفا وشاعرا ومدرسا، فصلته بالحجاز وبالحرمين صلة وطيدة.
وكان أحمد المقري قد ألف، كما أشرنا، في السيرة النبوية عدة تآليف، وكان أيضا يكثر من الحج حتى بلغت حجاته حوالي سبع مرات، وألف كتبه في السيرة وهو في الحرمين، وخصوصا عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن أهم أعماله في ذلك (فتح المتعال) في نعال الرسول، و (أزهار الكمامة) في عمامته، و (الدر الثمين) في أسمائه، وله أيضا كتاب سماه (الأنوار وكنز الأسرار فى نسب آل النبي المختار)، ولا شك أن له غير ذلك فى السيرة أيضا.
ويأتي بعد المقري في كثرة التأليف في السيرة النبوية أحمد بن قاسم البوني، ولا غرابة في ذلك فقد جمع البوني بين الصلاح والدين والعلم، وقد حج أيضا، وله رحلة حجازية سنعرض لها، وكان كثير التأليف حتى عدت كتبه أكثر من مائة، كما ذكرنا في ترجمته، ويلاحظ أن بعض تآليف البوني في السيرة كان نظما وبعضها كان نثرا، ومن ذلك (نظم الخصائص النبوية)، ومن نثره (تنوير السريرة بذكر أعظم سيرة) (1)، ولأحمد البوني تآليف أخرى في الحديث وغيره مما يتصل بحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم).
أما أبو راس فقد عرفت عنه العناية بالتاريخ والنسب والسيرة (2) ومن جهة أخرى ألف محمد بن علي الشلاطي المعروف بابن علي الشريف كتابا في السيرة سماه (سيرة المصطفى وسيرة الخلفاء ومن بعدهم من الملوك والعرفاء)، ويعتبر جزء كبير من الرحلات الحجازية في تاريخ السيرة النبوية أيضا، وسنعرض إلى ذلك في قسم الرحلات من هذا الفصل.
وهكذا نجد تاريخ السيرة النبوية قد اختلط عند الكثير من الجزائريين
__________
(1) الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 170.
(2) انظر ترجمته بعد قليل.

ساسو
08-26-2016, 10:52 AM
بشعر المديح النبوي وبالحديث وفروعه وبرحلات الحج. على أن كثيرين ممن تعلقوا بشمائل الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا من شعراء الملحون وكانوا في نظمهم يسبقون العاطفة على التاريخ ويخاطبون المشاعر لا العقول، كما سنرى في الرحلات.

تواريخ عامة وتواريخ محلية
نعني بالتاريخ العام ما لا يتناول الجزائر بل يتناول الظواهر التاريخية التي حدثت في منطقة واسعة أو فترة طويلة، أما التاريخ المحلي فنعني به ما تناول ناحية خاصة من نواحي القطر الجزائري أو حادثة معينة جرت فيه، وقد قلنا في بداية هذا الفصل بأن الجزائريين لم يكتبوا في التاريخ العام إلا قليلا بينما نجد لهم عدة أعمال في التاريخ المحلي.
ومن أبرز من كتب في التاريخ العام أحمد المقري صاحب (نفح الطيب)، فقد قسم هذا الكتاب الموسوعي قسمين رئيسيين الأول في تاريخ الأندلس الإسلامية، والثاني في حياة ابن الخطيب، ويهمنا هنا القسم الأول، فقد جعله المقري في ثمانية أبواب، وصف في أوله جزيرة الأندلس من طبيعة ومناخ وعمران ونبات ومآثر، وفي الباب الثاني تحدث عن فتح الأندلس على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد وما تلا ذلك من تطورات، وتناول في الباب الثالث ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وجهاد أهله وما جرى هناك من حروب، وخص الباب الرابع بأخبار مدينة قرطبة لمكانة الخلافة فيها ووصف جامعها الكبير وحدائقها ومنشآتها، وعرف في الباب الخامس بالذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق وتوسع في ذلك إلى عصره هو، وكان الباب السادس في الذين هاجروا من المشرق إلى الأندلس وطاب لهم فيها المقام، وجعل الباب السابع في الحديث عن أهل الأندلس وما أعطاهم الله من مواهب وعلوم وصفات تميزوا بها عن غيرهم، أما الباب الثامن فقد خصصه
لتغلب الإسبان على المسلمين هناك وما جرى بين الطرفين من حروب وما

ساسو
08-26-2016, 10:52 AM
ارتكبه الإسبان ضد المسلمين من فظائع.
وبذلك كان القسم الأول من (نفح الطيب) في منتهى الأهمية بالنسبة لدارس تاريخ الأنداس، فهو، كما قلنا، موسوعة ثرية في هذا الباب. ومن ثمة اهتم به العرب والأجانب الذين تهمهم حياة الأندلس. وكان (نفح الطيب) معروفا قبل عصر الطباعة في العالم الإسلامي يتناسخه الناسخون ويتبادله العلماء، ومنذ ظهرت الطباعة طبع الكتاب كما ترجم القسم الذي نتناوله إلى عدة لغات أوروبية، أما ترجمة ابن الخطيب فلا تهمنا هنا، وسنشير إليها في الحديث عن التراجم، والمعروف أن المقري قد ألف (نفح الطيب) في المشرق بإلحاح من أهل الشام الذين كانوا يتطلعون أكثر من غيرهم إلى معرفة أخبار الأندلس التي تربطهم بأهلها روابط عديدة، ولكن عمل المقري هذا لا يخلو من نقد. فقد قيل عنه انه محشو بالاستطرادات وتكرار المعلومات ومثقل بالسجع، مع ضعف في بعض النواحي الإخبارية، ومع ذلك فالكتاب كان وسيظل مرجعا أساسيا في تاريخ الأندلس كما كان تاريخ ابن خلدون مرجعا أساسيا في تاريخ المغرب العربي.
وكان المقري في الواقع قد بدأ يؤلف عن الأندلس وأهلها منذ كان في تلمسان وفاس، ففي هذا التاريخ ألف (أزهار الرياض) الذي ملأه أيضا بأخبار الأندلس وأهلها رغم أنه في ترجمة القاضي عياض. لذلك تكررت حوادث الكتابين عند المقري فكان (نفح الطيب) هو النسخة المنقحة الأخيرة في هذا الباب لأنه ألفه بين سنوات 1037 و 1039، وقد صدق هو حيث قال في نهاية (نفح الطيب) (اعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان والسحر، وفيه من المواعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقوله تزكية له) (1).
والملاحظ هنا أن المقري قد ركز على أهمية كتابه الأدبي أكثر من أهميته التاريخية.
__________
(1) (نفح الطيب) 10/ 363. انظر ترجمتنا للمقري في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء.

ساسو
08-26-2016, 10:56 AM
ويأتي أبو راس بعد المقري في تناول التاريخ العام. فقد وضع أبو راس
كتابا في حياة الأندلس وعلاقة أهلها بالمغرب العربي وما جرى بين المسلمين والإسبان من نزاع منذ العهد الإسلامي في الأندلس إلى فتح وهران الثاني أي إلى عصر المؤلف، وكان دافعه إلى كتابة هذا العمل هو فتح وهران المذكور، فوضع قصيدة (غريبة الشكل. أجرت جواريها بريح البلاغة في بحر البسيط) سماها (الحلل السندسية في شأن وهران والجزيرة الأندلسية) ثم وضع على هذه القصيدة شرحا تبسط فيه وأظهر مواهبه ومحفوظاته التاريخية، وقد كتب هذا الشرح (وهو واحد من ثلاثة شروح، كلها من عمله) في مرسى تطوان وبعث به إلى السلطان سليمان ودعا له باسترداد سبتة وبريرا وثغر ابن عكاشة من أيدي الإسبان أيضا، كما استرد مسلمو الجزائر وهران منهم، وسمى أبو راس هذا الشرح (روضة السلوان المؤلفة بمرسى تيطوان). وهكذا كتب أبو راس، سواء في القصيدة أو في الشرح، عن الأندلس فذكرها بلدا بلدا وتناول علماءها وتاريخها وقبائلها وما جرى فيها من حوادث وخطوب (1)، كما ضمن الشرح حديثا طويلا عن قبائل المغرب الأوسط وأنسابها، وقد ترجم هذا العمل إلى الفرنسية السيد فور بيقي (2)، ولأبي راس كتب أخرى يمكن أن تدخل في التاريخ العام مثل (الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة).
أما التاريخ المحلي فلدينا منه عدة مؤلفات بعضها صغير الحجم وبعضها كبير. سنذكر هنا ما عثرنا عليه من الجميع لأن غرضنا هو تاريخ الثقافة وليس اختيار الجيد منها، ومن أوائل ذلك هو التاريخ المعروف باسم (كتاب العدواني)، والمؤلف غير معروف باسمه الكامل، فهو عند الناسخين والرواة الشيخ محمد بن محمد بن عمر القسنطيني العدواني السلمي (السالمي)، وقد كتب العدواني، على ما يبدو، كتابا ضخما حشاه بأخبار الحروب التي جرت بين طرود وجيرانهم ولا سيما قبيلة عدوان، والحياة
__________
(1) نسخة باريس رقم 4619، انظر أيضا (دليل مؤرخ المغرب)، 428.
(2) الجزائر، 1903.

ساسو
08-26-2016, 10:58 AM
الاجتماعية والدينية في القرنين التاسع والعاشر، وفي الكتاب قسم كبير مما ليس بتاريخ ولكنه أساطير وخرافات شعبية، وقد تصرفت الأيدي في هذا الكتاب فاختصره المختصرون ورووه بالمشافهة إلى أن ضاع الأصل ولم يبق منه إلا المختصرات والمرويات الشفوية، ومن النسخ المختصرة التي وصلت إلينا نسخة إبراهيم بن محمد التاغزوتي (نسبة إلى تاغزوت، بوادي سوف
أيضا)، وأول من اطلع عليه من الأوروبيين، فيما يظهر الباحث الفرنسي بيرو
بروجر سنة 1850 حين حصل منه على نسخة من أحد شيوخ كوينين، بوادي سوف. ثم ترجم فيرو الفرنسي (كتاب العدواني) إلى الفرنسية من نسخة أخرى حصل عليها من السيد علي باي بن فرحات قائد تقرت وسوف عندئذ، ونشر ذلك سنة 1868 في مجلة (روكاي) القسنطينية، وتوجد عدة نسخ مخطوطة من كتاب العدواني بالعربية أيضا (1).
وبناء على السيد فيرو الذي درس وترجم (كتاب العدواني) فإنه كتاب
يتناول تاريخ سوف وصحراء قسنطينة وغرب تونس وطرابلس، وقد قال عنه إن العدواني كتبه بأسلوب خيالي وبسيط يكاد يكون شعبيا، وهو يؤرخ ويذكر التقاليد الشعبية للسكان والحوادث التي كان شاهد عيان عليها، أو التي جمعها من أفواه الناس، وتدل طريقته وتفاصيله على أنه كان معاصرا لما كان
يرويه، وكان موضوعه الرئيسي هو دخول قبيلة طرود إلى إفريقية ووصولها إلى سوف وحروبها مع السكان الآخرين. ويرى السيد علي الشابي أن كتاب
العدواني هام أيضا لأنه يؤرخ لحروب الشابية بعد سقوط دولتهم في القيروان
__________
(1) اطلعنا منه على نسخة عند الشيخ محمد الطاهر التليلي بقمار، وهي في مجلد، ونسخة أخرى في معرض المخطوطات الذي أقامته المكتبة الوطنية بالجزائر على ملك السيد ابن حبيب بن علي (من وهران) وقد صورت المكتبة هذه النسخة الجيدة على الميكروفيلم واحتفظت بها برقم 32، كما توجد نسخة أخرى مخطوطة من كتاب العدواني في المكتبة الوطنية، وذكر باصي أنه اطلع على نسخة منه في تماسين، انظر ريني باصي (المخطوطات العربية ..)، الجزائر 1885. وقد حققنا كتاب العدواني على عدة نسخ، ونشرناه سنة 1996، وصدر عن دار الغرب الإسلامي، بيروت.

ساسو
08-26-2016, 10:58 AM
سنة 965، وهو يذكر أن العدواني قد غطى أيضا حروب عبد الصمد الشابي وابنه علي، وقد توفي الأول سنة 1025 والثاني سنة 1041 (1).
ولكننا نستبعد أن يكون العدواني قد عاش إلى هذا التاريخ، ويمكن مقارنة ما رواه من وقائع بما رواه أيضا ابن خلدون والقيرواني عن نفس الموضوع، وبالإضافة إلى ذلك تحدث العدواني عن دور النساء في الحروب، وعن مكانة الدين لدى أهل القرنين المذكورين، وقد ذكر أن المرابطين كانوا يفرون من القبائل الصحراوية لعنادها، وفي (كتاب العدواني) أيضا وصف لأصول أسماء الأماكن التي تحدث عنها وبعض المعلومات عن دخول الأتراك إلى الجزائر وتونس وتصرفاتهم (2)، وقد اعتبره فيرو من أهم الوثائق الأهلية النادرة في العهد العثماني، أما الشيخ محمد الطاهر التليلي فقد قال عن (كتاب العدواني) بأنه (أشبه بقصة عامية من قاص بين جماعة أميين بلغة دارجة محلية، لا تتعدى سرد الغرائب والنوادر وحكايات أصحاب البوادي ومجالسهم العامة، فلا يعول على أكثر ما فيه .. إلا مع عاضد من غيره) (3).
وتدخل قصيدة الأكحل (الأخضر) ابن خلوف التاريخية عن واقعة (مازغران) في باب التاريخ المحلي أيضا. وهي قصيدة ضعيفة النسج رديئة وتكاد تشبه النثر المسجوع، وهي في نفس الوقت غامضة المعاني، بالنسبة إلينا اليوم، والمهم أن المرء يقرأ فيها أخبارا هامة عن وهران ومدينة الجزائر
وسلطان الترك، وبني ميزاب، وعبد الرحمن الثعالبي، وهي في حوالي ثماني
ورقات، تتناول العلاقات الإسلامية الإسبانية في القرن العاشر (4).
والظاهر أن أبا علي إبراهيم المريني (البجائي؟) قد ألف عمله (عنوان
__________
(1) انظر علي الشابي (المجلة التاريخية المغربية) 1979، 80.
(2) فيرو (روكاي)، 1868، 175 صفحة، وأضاف له فيرو ملحقا عن الزيبان وورقلة وما حولهما.
(3) من نسخة مخطوطة من كتاب العدواني أعطاها لي الشيخ التليلي مشكورا.
(4) نسختان منها في المكتبة الوطنية - الجزائر، 1635، 1636. انظر عن ابن خلوف فصل الشعر من هذا الجزء، فقرة الشعر الشعبي.

ساسو
08-26-2016, 10:59 AM
الأخبار فيما مر على بجاية) في القرن العاشر أيضا، وما تزال معلوماتنا عن المؤلف وعن الكتاب غير دقيقة، ولكن ما ذكره عنه السيد فيرو يدل على أنه كتاب هام تناول فيه المريني تاريخ بجاية في العهد الإسلامي والإسباني، واستيلاء العثمانيين عليها في عهد صالح رايس باشا سنة 962 ووصف لأحوالها الاجتماعية والسياسية، وكذلك أحوال قسنطينة وما حولها. وقد حصل منه السيد فيرو على نسخة من أحد علماء بني يعلى، ويدل العنوان الذي ذكره للكتاب أنه غير كامل لأن من عادة المسلمين تسجيع العناوين، وهذا غير مسجع، وقد عالج فيه المريني أيضا ما ارتكبه الإسبان من الفظائع ضد المعالم والآثار الإسلامية ببجاية، وقال فيرو ان المعلومات التي في هذا الكتاب تصحح المعلومات التي أوردها عن بجاية أمثال مارمول وليون الإفريقي (حسن الوزان) (1).
ومن المؤلفين الذين ما يزالون مجهولين، بركات الشريف الذي كتب عملا هاما في تاريخ الجزائر، ولا سيما تاريخ العثمانيين فيها، ولا ندري الآن حتى عنوانه بالضبط. والغالب أن يكون بركات الشريف قد عاش خلال القرن الحادي عشر لأن ابن أبي دينار مؤلف (المؤنس) قد نقل عنه، بينما انتهى ابن أبي دينار من كتابه سنة 1092. وفي كل مرة ينقل منه يقول عنه (رحمة الله عليه) وهي عبارة توحي بأن بركات الشريف قد
توفي. ومما نقل عنه ابن أبي دينار غزوة أبي فارس عبد العزيز الحفصي مدينة فاس، وتولى عروج بربروس على الجزائر وهزيمة شارل الخامس
أمام الجزائر، ووفاة السلطان الحسن الحفصي، وغير ذلك من الأخبار (2). ومن هنا يتبين خطأ السيد فيرو عندما قال إن الورقة التي
وجد فيها أخبارا عن أحوال الجزائر في القرن الثاني عشر هي من تأليف
ضائع لبركات الشريف (3). والظاهر أن بير بروجر قد تبعه في
__________
(1) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 245. انظر أيضا فقرة المكتبات من فصل المؤسسات الثقافية في الجزء الأول.
(2) ابن أبي دينار (المؤنس) ط. تونس، 145، 151، 158.
(3) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1866، 180.

ساسو
08-26-2016, 11:00 AM
ذلك (1). ومهما كان الأمر فإن بركات الشريف قد كتب أيضا عن ثورة قسنطينة سنة 971، وسنة 975، وعن ثورة ابن الصخري سنة 1047، وأرخ لباشوات الجزائر إلى وقته هو، وقد كان مواليا للعثمانيين حتى اعتبره أحمد
الأنبيري (مؤرخ عروج والولاة الأتراك الذين خلفوه على حكم الجزائر) (2)، وقال بير بروجر انه قد يكون هو الذي ترجم غزوات عروج وخير الدين من التركية إلى العربية. ولكن هذا خطأ أيضا لأننا عرفنا أن الذي أمر بترجمة الغزوات إلى العربية هو الشاعر المفتي ابن علي في القرن الثاني عشر. ومهما كان الأمر فإن تأليف بركات الشريف يعتبر هاما في هذا الميدان لأن ما اطلعنا عليه منه يدل على عنايته بدقائق الأمور واتباعه طريقة السنوات، وتسجيل مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها الجزائر.
وقد حظيت ثورة ابن الصخري بتأليف في شكل (مذكرات) كتبها الشيخ عيسى الثعالبي الذي كان، كما قلنا، مناصرا للأتراك ضد الثوار. وكان الثعالبي قد بعث بهذه المذكرات إلى أستاذه بعنابة (أو قسنطينة) عندما كان هو في نقاوس. وكان أستاذه هو علي بن محمد ساسي البوني. ومما ذكره في المذكرات معركة كجال الشهيرة التي كانت بين العرب والترك، كما ذكر تجمع الثوار عند أبواب قسنطينة، ووصف خسائر العرب والترك. ومما يؤسف له أن هذه المذكرات في حكم الضائعة الآن (3).
وفي أوائل القرن الحادي عشر بدأ أحمد المقري يكتب تاريخ تلمسان،
وهو في المغرب الأقصى، ثم توقف عن ذلك لأسباب لم يفصلها، ولعلها هي الحوادث التي جرت بالمغرب وأجبرته على الهجرة إلى المشرق باسم الحج، كما أشرنا. وقد سمي المقري هذا الكتاب (أنواء نيسان في أنباء تلمسان). وأخبر هو عن ذلك في كتابه (نفح الطيب)، بأنه كتب بعضه عندما كان بالمغرب ثم حالت بينه وبين إتمامه عوائق (حالت بيني وبين ذلك العزم
__________
(1) نفس المصدر، 352.
(2) (علاج السفينة في بحر قسنطينة) مخطوط خاص.
(3) اطلع على بعضها فايسات وترجم منها إلى الفرنسية، انظر (روكاي)، 1867، 339.

ساسو
08-26-2016, 11:01 AM
الأقدار) (1). ولو أتيح لهذا الكتاب أن يتم لجاء هاما في بابه وموسوعة تشبه موسرعته عن الأندلس. ولكن هذا العمل قد ضاع كما ضاع عمله الذي سماه (عرف النشق في أخبار دمشق) الذي يبدو أنه خصصه لتاريخ دمشق وأهلها.
ومن الحوادث الهامة التي ألف فيها الجزائريون فتح وهران الأول سنة 1119. فبالإضافة إلى القصائد الكثيرة التي أشرنا إليها في الأدب السياسي وغيره، ألف محمد بن ميمون كتابه (التحفة المرضية في الدولة البكداشية) الذي تحدث فيه، بأسلوب أدبي، عن سيرة محمد بكداش باشا ودولته والفتح والجيش ونحو ذلك مما يتصل بهذا الحادث الكبير. ولا نود أن نطيل في وصف هذا العمل لأننا ذكرناه في باب الأدب أيضا. وتدل عناوين المقامات على نوعية العمل الذي عالجه ابن ميمون: فالمقامة الأولى عنوانها (في نبذة من أخلاقه المرضية، ومما أشار به عليه بعض السادات الصوفية) والمقامة الثانية عنوانها (في كونه سانجاق دار، بلغة المجاهدين الأخيار). والثالثة (في توليته عنى تقسيم خبز العسكر، وكيف نزع الظالم حين طغى وتجبر). والرابعة (على أنه يتصدى ملكا للإيراد والإصدار، فزحلق نفسه إلى تفتردار)، والخامسة (في تغريبه من الجزائر، وعودته إليها بقدرة الحكيم القادر). وهكذا إلى نهاية الست عشرة مقامة. فهو إذن عمل أدبي من ناحية وتاريخي
من ناحية أخرى (2).
وقد أوحى النصر في وهران إلى مفتي تلمسان عندئذ، الشيخ محمد بن أحمد الحلفاوي برجز طويل وهام احتوى على 72 بيتا ومقسم إلى خمسة فصول، الأول، في ذكر دولة محمد بكداش، والثاني في وصف تجهيزه الجيش وتاريخ الهجوم وقائد الحملة ونحو ذلك، والثالث في محاصرة القلاع والحصون ووصف ذلك، والرابع في ما آل إليه أمر المسلمين والإسبان، والخامس والأخير في الثناء على الله والصلاة على النبي والرضى عن صحابته
__________
(1) (نفح الطيب) 9/ 342.
(2) ذكر ديفوكس في (التشريفات)، 12 أن الفونس روسو الفرنسي قد ترجم (التحفة المرضية) إلى الفرنسية. والمعروف أن محمد بن عبد الكريم قد حققها ونشرها سنة 1972.

ساسو
08-26-2016, 11:01 AM
وتسمية الناظم. وكان الحلفاوي هو الذي طلب من عبد الرحمن الجامعي شرح الأرجوزة. وقد انتقد الجامعي شيخه الحلفاوي في أنه لم يضع فصلا عن السلطان العثماني الذي تم الفتح في عهده أيضا (1). ولذلك قام الجامعي بوضع أبيات من عنده في هذا المعنى وشرحها أيضا، وأشاد الجامعي بآل عثمان وفضلهم على الإسلام، كما انتقد الجامعي شيخه (الذي كان قد توفي عند كتابة الشرح) بأنه اعتنى كثيرا بالمحسنات البديعية، مما أدى به إلى ارتكاب محظورات شعرية (2).
ولم يكن الحلفاوي وابن ميمون فقط هما اللذان ألفا في حادث وهران الأول، ولكن ذلك هو ما وصل إلينا. ويشير الجامعي إلى أن أحمد الفيلالي التلمساني قد دون أيضا تاريخا حول هذا الحادث. فهو يقول إنه استفاد من تاريخ الفيلالي عند شرح أرجوزة الحلفاوي، مضيفا بأنه لم يحضر (أي الجامعي) المعارك بنفسه ولكنه سجل ما رواه من أفواه المجاهدين وقال بالخصوص أن الفلالي قد (اعتنى بتدوين هذا الفتح الكريم وجمع من سيرة المجاهدين بين نثير ونظيم). وربما استعان بالشعر الملحون الذي قيل في هذا الحادث، كما نقل عن الشعر الموزون. ونحن نفهم من هذا أن أحمد الفيلالي قد ألف في تاريخ فتح وهران وأنه اعتمد في تأليفه على السماع والمشاهدة وعلى ما جمعه من شعر موزون وملحون في هذه المناسبة (3).
ولكن فرحة الانتصار بهذا الفتح لم تدم طويلا. فقد قتل الباشا بكداش سنة 1122، وتطورت الأمور في اتجاه آخر، وكان من نتيجتها أن عاد
__________
(1) وهو أحمد الثالث، 1115 - 1143.
(2) الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوطات باريس 5113. في هذا الشرح أخبار
عن الشعراء الجزائريين أيضا أمثال ابن علي والقوجيلي وابن راشد وابن محلي ومحمد بن يوسف الجزائري وابن ساسي البوني وابن ميمون الخ. والمعروف أن
الجامعي لم يحضر حوادث الفتح وإنما جاء بعدها بقليل.
(3) الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوط باريس، وقد لاحظ الجامعي أن الفيلالي كان يستطرد في تأليفه وأن كلامه فيه لحن واختلال.

ساسو
08-26-2016, 11:02 AM
الإسبان إلى احتلال وهران سنة 1145. وكان بعض المسلمين يتعاونون مع الإسبان المحتلين. وفي هذا الموضوع الف عبد القادر المشرفي رسالته المسماة (بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الإسبانيين بوهران كبني عامر) (1). وكان المشرفي من كبار علماء وقته وهو أستاذ أبي راس وغيره. وقد استعرض المشرفي تاريخ الوجود الإسباني في وهران وعلاقة الجزائريين
المجاورين به وذكر أهم الحوادث التي عرفتها وهران تحت الحكم الإسباني، وفي هذه الرسالة أخبار قصيرة عن علماء الوقت أيضا ورجال الدولة. وقد انتهى منها سنة 1178. وهي باختصار، تشنيع على من كان يتعاون من المسلمين مع المحتلين الإسبان ومع أهل الذمة كاليهود. وهي رسالة قد هيأت النفوس لفتح وهران الثاني.
وقبل أن نتحدث عن فتح وهران الثاني وما تركه من مؤلفات تاريخية نذكر أن حملة إسبانيا على الجزائر سنة 1189 (1775) قد دونها بعض الكتاب أيضا في عدة أعمال هامة. من ذلك الرسالة التي كتبها أحمد العنتري القسنطيني عن حملة أوريلي. وكان العنتري شاهد عيان لأنه رافق الجيش الذي جاء على رأسه صالح باي من قسنطينة لمساعدة الجيش الرئيسي في مرسى الجزائر. وقد روى ما شاهد بالتفصيل، وهو كموظف في إدارة إقليم قسنطينة ومن التجار الكبار في مدينة عنابة ووكلاء الباي لدى الأوروبيين فيها، كان يعرف الكثير عن الجيشين وعن الظروف التي أحاطت بالحادث. ولم يحاول أن يذكر خسائر المسلمين في هذه الواقعة. وقد تحدث عن عدد أسطول الإسبان الذي بلغ 480 سفينة عند وادي الحراش ووصف معسكرهم ومعسكر المسلمين، كما وصف مواقع كل جيش: فصالح باي كان عند قنطرة الحراش، وخوجة الخيل كان في باب الواد، وخليفة باي الغرب الجزائري كان في عين الربط، والخزناجي عند وادي الخميس (الحميز)، ووصف كذلك حضور الأهالي للجهاد وقد تدفقوا من كل حدب وصوب، ومن كل
__________
(1) نشر هذه الرسالة محمد بن عبد الكريم (بدون تاريخ)، وكانت قد ترجمت إلى الفرنسية. انظر (المجلة الإفريقية) 1924.

ساسو
08-26-2016, 11:03 AM
الطبقات الاجتماعية أيضا، بمن في ذلك العلماء والطلبة الذين جاء بهم صالح باي من قسنطينة. وكانت مشاركة الطلبة والعلماء تتمثل في الدعاء إلى الله بالنصر والنجدة وقراءة البخاري. وأعطى العنتري أهمية خاصة لدور
صالح باي. فهو الذي اقترح تعديل خطة الجيش وطريقة الهجوم حتى حصل النصر. وأضاف بعض الوصف للمعارك التي كانت دواليك، ولم يهمل دور الطبيعة في الموضوع فوجدناه يتحدث عن البرق والرعد وقوة العاصفة التي جعلت الإسبان ينسحبون، وجاء بشيء من الخيال في ذلك أيضا حتى أن بعضهم قد رأى ليلة العاصفة محاربين على خيول بيضاء يحاربون الإسبان، وعندما سأله قال له إنه علي بن أبي طالب (1). ومما يذكر أن العنتري ذكر أن اليهود أيضا قد انتقموا من الإسبان خلال هذه الواقعة. وفي هذه الرسالة أخبار عن الداي محمد باشا.
وبناء على العنتري فإن خسائر الإسبان كانت كبيرة. فقد جاء أحد التجار الفرنسيين من تونس إلى الجزائر وأخبر الباشا، بعد أن سمح له بالمقابلة، إن حالة الإسبان عند الانسحاب، حسبما حكوا له، سيئة وأنهم خسروا 3.000 (ثلاثة آلاف) قتيل وأربعة آلاف جريح، ومن موتاهم قائدان كبيران. وذكر له أيضا أن الناجين منهم لا يستطيعون الظهور أمام ملكهم أو أمام الأوروبيين عموما، لأنهم تخلوا عن مواقعهم وأسلحتهم (2). والملاحظ أن العنتري قد كتب الرسالة بعد ثلاث سنوات من الحملة.
وإذا كان أحمد العنتري قد كتب عن حملة أوريلي باعتباره مرافقا لصالح باي، فإن محمد بن عبد الرحمن الجيلالي بن رقية التلمساني قد كتب
__________
(1) حول هذه الخرافة انظر أيضا قصة المرابط أحمد الزواوي الذي قيل إنه أرسل فرسه الرقطاء تحارب مع المسلمين ثم عادت إليه، انظر الفصل السادس من الجزء الأول.
(2) ترجمها فيرو عن العربية ولم يذكر نصها العربي، ونشرت في (المجلة الإفريقية) 1865، 180 - 192. وفي (روكاي) أيضا، 1865, 47 - 63، ثلاث عشرة صفحة، وأحمد العنتري هو قريب (أو والد) محمد صالح العنتري الذي كتب تاريخ قسنطينة في العهد الفرنسي.

ساسو
08-26-2016, 11:03 AM
عن نفس الموضوع بأمر من الباي محمد بن عثمان. وعنوان رسالة ابن رقية هو (الزهرة النيرة فيما جرى في الجزائر حين أغارت عليها جنود الكفرة). وقد كتبها بعد الحادثة بوقت، أي سنة 1194. ويبدو أن رسالة ابن رقية أكثر أهمية من رسالة العنتري، لأنه ضمنها عدة وقائع هامة وأخبارا أخرى عن باشوات الجزائر ونشاطهم أيضا. وهي تنتهي بالواقعة التاسعة. ولعل ابن رقية قد بدأ رسالته سنة الحملة وهي 1189، وانتهى منها سنة 1194 كما ذكرنا. وقد نشرت هذه الرسالة بالعربية، كما ترجمت إلى الفرنسية (1).
وتتمة لهذه النقطة نلاحظ أن مصطفى بن حسن خوجة الذي كان إماما بجامع خضر باشا بمدينة الجزائر وضع رسالة بالتركية في ثلاث عشرة ورقة حول علاقات الجزائر بإسبانيا، ولا سيما حملة أوريلي. وقد وضع لرسالته مقدمة بالعربية جاء فيها (... أما بعد فإني أردت أن أألف تاريخا أبين (فيه) مصالحة الجزائر مع إسبانيول بعد ما استولى على الجزائر ثلاث مرات،
واحدة منها في البر واثنين منها في البحر وهزمهم الله بأنواع التهزيمات). وقد سمى مصطفى خوجة عمله (رسالة مضحكات وعجائبات) (2). وهو نفسه مؤلف كتاب (التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر والملوك) بالتركية أيضا. وكان مصطفى خوجة قد جاء إلى الجزائر سنة 1168 وعين إماما في جامع خضر باشا. وبعد ثماني عشرة سنة عين (علام دار) أو حامل الراية ثم (خوجة التذاكر) أو كاتب التذكرات. وقد شارك في الحرب الجزائرية الإسبانية بنفسه وقال إنه رمى عدة قنابل بالمدفع. وسبق أن تحدثنا عن كتابة (التبر المسبوك)، الذي هو أيضا في الحرب المذكورة، في الجزء الأول (3).
__________
(1) اطلعنا على مخطوطة منها ضمن مكتبة محمد بن أبي شنب في المكتبة الوطنية بالجزائر، وهي في حوالي خمسين ورقة، ونشرها بالفرنسية السيد روسو، سنة 1841 بالجزائر، وهي في مدح الترك، ثم نشرها بالعربية ابن بابا عمر.
(2) مخطوط بمكتبة توبكابي (إسطانبول رقم 1412. E.h، ومن نسخ الحاج محمد الطاهر سنة 1200 م.
(3) انظر عنه أيضا دراية تيريز شلابوا في (مجلة فوليو أوريانتاليا) البولندية، 1976، 1977.

ساسو
08-26-2016, 11:04 AM
ولكن فتح وهران الثاني والأخير هو الذي حظي بعدة مؤلفات. ومعظم هذه المؤلفات كتبها أنصار الباي محمد الكبير الذي تم على عهده وعلى يديه هذا الفتح. فالمؤلفات إذن كانت تاريخا للحادث الكبير ولكنها أيضا كانت تاريخا لسيرة الباي وأعماله ومكانته بين الناس. وسنرى أن بعض هذه المؤلفات تتناول نشاط الباي في نواحي أخرى أيضا غير وهران. وقد كان للباي محمد الكبير إحساس كبير بالتاريخ لم يكن لغيره. فقد شجع الأدباء والكتاب على مدحه وقربهم إليه لكي يخلدوا اسمه في أشعارهم ومؤلفاتهم. كما شجع بعضهم على كتابة تاريخ ما يقوم به من أعمال وتدوين الأحداث التي كان يشترك فيها أو لها علاقة بمجده. من ذلك عمل ابن رقية المشار إليه. ومنه أيضا أنه كلف، أثناء محاصرة الإسبان بوهران، كاتبه الخاص محمد المصطفى بن عبد الله المعروف بابن زرفة أن يقيد الحوادث المتعلقة بالجهاد وما يصل إلى الطلبة المشاركين في الحصار من أطعمة وغيرها (1). وهو الذي أشار أيضا على أبي راس بشرح قصيدته السينية في الفتح، وعلى كاتبه الآخر ابن سحنون بوضع تأليف في الموضوع نفسه، وهكذا.
وبعد أن أكمل ابن زرفة عمله المذكور سماه (الرحلة القمرية في السيرة المحمدية) (2). والواقع أن الكتاب ليس رحلة، كما يوحي عنوانه، وإنما هو في سيرة الباي محمد الكبير وجهاده. فقد بدأ في تقييده كما ذكرنا أثناء الحصار ثم توقف عن ذلك لأسباب لا نعرفها ولكنه ظل يجمع الأخبار والرسائل وغيرها، وكان له سبيل للوصول إلى الوثائق الرسمية أيضا باعتباره
__________
(1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس.
(2) لخصها هوداس في (مجموعة الأبحاث الشرقية) التي قدمت إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي انعقد بمدينة الجزائر سنة 1905، وقد اطلع هوداس منها على نسختين واحدة في 186 ورقة وهي بتاريخ 1207، والأخرى في 155 ورقة، وهي بتاريخ 1296. وقد أعطاني الأستاذ علي أمقران السحنوني مشكورا نسخة من هذه الرحلة مضروبة على الآلة الراقنة.

ساسو
08-26-2016, 11:04 AM
أحد الكتاب في إدارة الباي. ولا شك أنه أضاف إلى مصادره الشفوية والمكتوبة تجربته هو الخاصة. ولم يقسمه إلى فصول أو أبواب لأنه في الواقع كان يسجل الحوادث في شكل يوميات أو مذكرات، وإنما اختار لعمله ترتيبا آخر وهو الحوادث مرتبة أيضا على الشهور. فقد ابتدأ من الحصار خلال شهر صفر سنة 1205، وانتهى بالاستيلاء على وهران من قبل المسلمين في 27 فبراير 1792. وقد اختار لكتابته أسلوب السجع، كما أنه استعمل النثر العادي. وجاء في الكتاب أيضا باستطرادات وحشو مما أثقل النص. ولكن ابن زرفة كان على اطلاع واسع ويتمتع بحافظة قوية، فكتابه إذن ليس مجرد سرد لحياة الباي وحركة الفتح.
فقد بدأ العمل بغزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليظهر تطابق ما قام به الباي مع سيرة الرسول، وأورد الأحاديث النبوية الدالة على الجهاد ونصرة الإسلام، وجاء ببعض الرسائل التي بعث بها الباي وأوامره، بالإضافة إلى بيان أسباب الحملة على وهران، ومدح الباي بما يناسب مقامه عنده، وأخذ عن ابن خلدون معظم الأخبار المتعلقة بمدينة وهران، ومن هذه المقدمة العامة التي تدل على حفظه واطلاعه انتقل إلى موضوعه الرئيسي مبتدئا بشهر صفر سنة 1205، وهو يمثل بداية الحملة، والملاحظ أن ابن زرفة، الذي كان يرافق جيش الطلبة وليس الجيش العام، قد ركز في كتابه على دور الطلبة ومشاكلهم
ومطالبهم وحتى نزاعاتهم، وكان ذلك على حساب الحوادث العسكرية التي دارت بين الجيش الإسلامي والجيش الإسباني، وقد ختم كتابه بقصيدة في الفتح ومدح الباي.
ويعتبر أحمد بن سحنون من أبرز من خلد فتح وهران الثاني ومناقب الباي محمد الكبير. فأثناء الفتح نظم ابن سحنون أرجوزة أشاد فيها بالباي وبالفتح على يديه، بدأها بقوله:
حمدا لمن أزر نصر الدين ... ودان ناصريه أسنى الدين وفتح الأظار بالجهاد ... حتى غدت لينة المهاد

ساسو
08-26-2016, 11:05 AM
وكان يقوم بشرح القصيدة أثناء عمليات الفتح أيضا إلى أن انتهى منها بانتهاء الجهاد واسترداد وهران، فهو يقول عن نفسه انه تبين أن القصيدة في حاجة إلى شرح يبين ألفاظها ويحل غوامضها، وأن (لسان النظم محصور، وأن مؤداه لا بد فيه من قصور، والنثر أشد منه بيانا، إذ به يصير الخبر عيانا، وبتذليل النظم به تزداد عبارته تبينا، فعزمت على أن أشرح تلك القصيدة
الخ.) (1).
وقد سمى ابن سحنون شرحه الأدبي - التاريخي (الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني)، والعنوان على هذا النحو يوحي بأن المقصود هو الفتح وأن سيرة الباي تأتي عرضا، ولكن أحد المعاصرين لابن سحنون اقترح عليه تسميته (الدر والعسجد في مناقب الباي محمد). والتسمية الثانية أدل إذا عرفنا أن ابن سحنون قد خص هذا الباي بمعظم الكتاب وأنه قد مجده وتناول جوانب حياته المختلفة. غير أن اختيار ابن سحنون نفسه للعنوان الأول يدل على أنه كان يولي اهتماما أكبر من سيرة الباي، ولم يقسم الكتاب إلى فصول أيضا وإنما سار فيه على وحدة البيت من الأرجوزة، فهو يشرح كل بيت بما يناسب من البديع ثم يحل الألفاظ ويشرح المعاني، وقد استطرد في الكتاب فذكر الولاة الذين لم يوفقوا في الفتح قبل الباي محمد الكبير، واستفظع ما ارتكبه الإسبان ضد المسلمين ومقدساتهم، وجاء بالأحاديث الدالة على فضل الجهاد، كما ذكر أخبار الشعراء الذين مدحوا الباي وعلاقاته العامة، ولا غرابة في ذلك فقد قال عن عمله (قصدت بذلك تخليد مآثره، (يعني الباي محمد) وتدوين بعض محامده ومفاخره). وابن سحنون يستعمل السجع أحيانا في شرحه ولكنه سجع خفيف لا يثقل المعنى ولا يفسده، وكانت له صلة بالجهاد في المنطقة منذ أجداده، فقد أخبر أن عمه قد حضر فتح وهران الأول.
وكان ابن سحنون يؤمن بقيمة التدوين التاريخي، فقد نقل عن ابن
__________
(1) مقدمة (الثغر الجماني)، مخطوط باريس.

ساسو
08-26-2016, 11:05 AM
خلدون عتابه لأهل المغرب على أنهم قد أهملوا رواية أخبارهم وأنسابهم، وهو يقول إن (آفة الحفظ عدم التقييد) ونقل عن الفرس أنهم كانوا يكتبون سير ملوكهم ويتدارسونها، وهذا رأي هام إذا لاحظنا أن تدوين التاريخ في الجزائر العثمانية كان قليلا جدا، والغريب أن ابن سحنون كان ما يزال صغير السن عند كتابة القصيدة والشرح الذي أتمه سنة 1207، وقد عرفنا أن مكانته الأدبية قد نالت تقدير علماء مدينة الجزائر الذين لاحظوا في تقريظهم لكتابه (الأزهار الشقيقة) أنه كان ما يزال غض العود، والواقع أن في (الثغر الجماني) أخبارا هامة ليس فقط عن فتح وهران والباي وحاشيته ومناصريه ولكن عن حياة الشاعر الأديب نفسه وعن المؤلفات الأخرى التي تتعلق بالغرب الجزائري وأخبار العلماء والمتصوفة في المنطقة، بالإضافة إلى أخبار أخرى لا تتعلق بالجزائر كحديثه عن الثورة الفرنسية ومقتل لويس السادس عشر (1).
وقد قام أبو راس بعمل شبيه بما قام به ابن سحنون. فقد كتب أيضا قصيدة في فتح وهران ثم شرحها بطلب من الباي نفسه، وسمي القصيدة (نفيسة الجمان في فتح ثغر وهران)، أما شرحه لها فقد سماه (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار)، فالشرح إذن أعم من القصيدة. وتفاصيل ذلك أن أبا راس كان عائدا من الحج سنة 1205 فسمع وهو بجزيرة جربة عن الجهاد في وهران فأسرع بالعودة عبر تونس وقسنطينة لكي يشارك فيه، وعند وصوله كتب قصيدة سينية، لأن الأمراء والأدباء يحبون قافية السين على حد قوله، أشاد فيها بالباي وبالجهاد والنصر وقدمها لولي نعمته، الباي محمد الكبير،
__________
(1) اطلعنا منه على نسختين مخطوطتين، واحدة في باريس رقم 5114، والأخرى في القاهرة، التيمورية، رقم 2186 تاريخ، وبين النسختين نقص وزيادة لأن المؤلف قد نقح عمله، وقد نشره المهدي البوعبدلي، سنة 1973 اعتمادا على نسخة أخرى، فاستفدنا من المقدمة التي كتبها له، ولابن سحنون كتاب سماه (عقود المحاسن) يبدو أنه ديوان أدب، وقد قال عنه ان الظروف لم تسمح بتقديمه إلى الباي، وهذا الكتاب الآن في حكم المفقود.

ساسو
08-26-2016, 11:18 AM
ويبدو أن الباي قد لاحظ أن القصيدة مكسورة الوزن ركيكة العبارة وأن أبا راس يجيد النثر أكثر مما يجيد الشعر فأشار عليه بوضع شرح للقصيدة يحل ألفاظها ويقرب معانيها، فقام أبو راس بذلك وانتهى من عمله سنة 1206 أي خلال سنة واحدة تقريبا.
قسم أبو راس شرحه على القصيدة إلى جزئين، تناول في الأول قيمة التاريخ وتدوينه ومدونيه من المسلمين والفرس والروم وبني إسرائيل والبربر،
وذكر الدافع إلى تأليف الشرح وكيف نظم القصيدة وتسمية الشرح بـ (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار)، وتعرض في الجزء الأول أيضا إلى إنشاء وهران والدول التي تداولت عليها وما دهاها من (الأمور العظام الطوام، والنوائب العظام ومدة الكفر وأهل الإسلام) (1)، والواقع أن أبا راس قد أظهر في هذا الجزء قدرته على الحفظ والسرد، فقد تكلم عن حدود المغرب القديمة وعن البحر الأبيض، ومصر وبرقة وفزان، وعلاقة بني إسرائيل بالروم، وأنساب
الأولين، ثم انتقل إلى بايات الغرب الجزائري, وكفاحهم ضد الإسبان، وهو يشيد بالعثمانيين، وخصوصا خير الدين وخلفه، وينقل عن كتب القدماء مثل ابن خلكان والتنسي، ويتحدث عن قبائل المغرب وسكان الأندلس، ونحو ذلك من الأخبار العامة، ولكنها متصلة بما كان يكتب عنه.
أما الجزء الثاني من (عجائب الأسفار)، فهو يكاد يكون خاصا بفتح وهران وسيرة الباي، ولكنه مع ذلك لم يسلم من الأخبار العامة والاستطراد، فقد قال عن هذا الجزء انه يشتمل (على الفتح العظيم والفخر الجسيم، ومدح من .. فتحها (يعني وهران) الباي سيدي محمد بن عثمان). غير أنه تناول فيه أيضا أخبار بلاد السودان وعادات الطوارق والصحراء والتجارة بين المنطقتين، وتحدث عن ملوك الثعالبة، وتاريخ تلمسان، وكان قد أورد في هذا الجزء أيضا بعض أخباره الخاصة في الحج، ولذلك يعتبر هذا الجزء هاما في دراسة حياة أبي راس نفسه.
__________
(1) ورقة 80 من الجزء الأول، مخطوط الجزائر.

ساسو
08-26-2016, 11:19 AM
وأسلوب أبي راس على العموم بسيط ويكاد يشبه العامي أحيانا، فهو يأتي بالنقود الكثيرة عن غيره، وأحيانا يسجع، ولكن شتان بين سجعه وسجع ابن سحنون، وإذا كان هذا يعتمد على ذوقه فإن أبا راس كان يعتمد على حفظه. فكتابه هام من جهة أنه يؤرخ للقبائل التي سكنت المنطقة، ويذكر أنسابها ويسند أخباره فلا يذكرها جزافا، بالإضافة إلى تناوله تاريخ علاقات المسلمين بغيرهم في حوض البحر الأبيض، ولا سيما الأندلس، وأبو راس يقف موققا مؤيدا ملتزما مع الباي ومع العثمانيين عامة، وكان في ذلك وفيا للنعمة، لأنه عاش في أكنافهم، ولولا رعايتهم له لوجد نفسه مهاجرا أو ضائعا كما هاجر وضاع غيره من علماء بلاده، ومع ذلك لم يسلم من العناء في أخريات أيامه (1).
ولدينا على الأقل ثلاثة تآليف أخرى تناولت هذه الفترة وأشادت بالباي محمد الكبير، وهي (رحلة الباي محمد الكبير) لأحمد بن هطال، أحد كتاب الباي المذكور، و (أنيس الغريب والمسافر في طرائف الحكايات والنوادر) (2) لمسلم بن عبد القادر، و (الاكتفاء في حكم جوائز الأمراء والخلفاء) لمحمد المصطفى بن زرفة، أما الأول فقد تناول فيه ابن هطال غزوة الباي محمد الكبير للأغواط وعين ماضي وشلالة وغيرها من بلدات النواحي الغربية وتغلبه هناك على أتباع الطريقة التجانية الناشئة، وكان الباي يريد من غزوته إظهار عضلاته وقوته وتوسع إدارته وأوامره، وقد نجح في ذلك.
ولم يكن (أنيس الغريب والمسافر) لمسلم بن عبد القادر إلا رسالة في الحوادث التي مرت بها الناحية الغربية منذ حوالي سنة 1192 إلى حوالي سنة
__________
(1) اطلعنا على نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2003، وقد ترجم الكتاب إلى الفرنسية السيد أرنو (المجلة الإفريقية). انظر دراستنا عن أبي راس (مؤرخ جزائري معاصر للجبرتي: أبو راس الناصر) في (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) عدد 12 - 1974، نشرت الدراسة أيضا في وقائع ندوة الجبرتي، القاهرة 1976، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2317.

ساسو
08-26-2016, 11:19 AM
1247، والظاهر أنه ألفه بعد دخول الفرنسيين، ولذلك ألقي فيه مسؤولية التدهور والهزيمة التي حلت بالجزائر على الأتراك، وعلى كل حال فإنه لا يبلغ فيه مبلغ أعمال ابن زرفة ولا ابن سحنون ولا أبي راس، وكان مسلم بن عبد القادر من كتاب الباي حسن، وكان شاهد عيان على ما حدث في الغرب الجزائري في الفترة المذكورة، كما كان صاحب نشاط أدبي ملحوظ في الناحية، متأثرا في الظاهر بسيرة الباي محمد الكبير فقد جمع حوله نخبة من أدباء وكتاب الناحية وجعلهم، بحكم مقامه السياسي، يخدمونه وينوهون به
ويشرحون إنتاجه ويتقربون إليه، ومن هؤلاء أبو راس ومحمود بن الطاهر بن
حوا، والظاهر أن مسلم بن عبد القادر قد خطط لكتابة تاريخ هام للدولة الإسلامية، إذ قسم عمله إلى أبواب وخاتمة، وبدأه ببعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ووصلت أبوابه اثني عشر بابا، أما الخاتمة فقد خصصها لتاريخ بايات الغرب الجزائري منذ حوالي سنة 1192. غير أن الباحثين لم يعثروا حتى الآن إلا على الخاتمة التي انتهى منها صاحبها سنة 1230، وقد سار في تأليفه على الطريقة التقليدية الموسوعية فذكر فيه الحكم والأمثال والمناقب والقصص إلى جانب التاريخ (1)، وإذا حكمنا من الخاتمة المطبوعة فإنه كان لا يمل من الاستطراد إذ يذكر فيها، بالإضافة إلى حكم البايات، (فوائد) عامة كقدوم الجراد، والمجاعة ونزول الثلج والثورات ونحو ذلك.
وأما (الاكتفاء) لابن زرفة فهو عمل هام ولكنه لا يدخل في باب التاريخ كثيرا، لأن موضوعه الأساسي تاريخ القضاء الإسلامي ومواقف الحكام والعلماء من الشعوب والقبائل المغلوبة وأراضيها وممتلكاتها، وقد كان الباي محمد الكبير في أوليات حكمه عندما أشار سنة 1199 على ابن زرفة بجمع هذا التأليف، وكان الباي، الذي كان يخطط لمشاريعه الكبيرة
__________
(1) نشر الخاتمة المرحوم رابح بونار، الجزائر 1974. وجعل له مقدمة شرح فيها ظروف تأليف الكتاب وحياة المؤلف، ولكن هذا العمل ما يزال في حاجة إلى دراسة أشمل وكذلك البحث عن أصوله، وقد توفي مسلم بن عبد القادر بعين تموشنت سنة 1248 هـ.

ساسو
08-26-2016, 11:20 AM
وخصوصا غزو وهران وغزو الصحراء، في حاجة إلى وثائق تاريخية وشرعية
تسانده عندما يواجه المتعاملين مع الإسبان أو المتمردين عن دفع الضرائب، وتعود أهمية هذا الكتاب أيضا إلى أنه يؤرخ للباي وعائلته قبل فتح وهران وشهرة الباي، كما أنه مهم لاحتوائه على أخبار تتعلق بحياة مؤلفه التي ما تزال مجهولة، فقد دخل خدمة محمد الكردي (محمد الكبير فيما بعد) منذ كان خليفة للباي الحاج خليل، ورافقه في حملته على تلمسان عندما ثار فيها الدرقاويون، وأصبح هو القاضي بعد تولي محمد الكردي وظيفة الباي، وقد أشاد بتاريخ الباي وحملاته الداخلية وحصاره لوهران وتجديده لمستغانم ومعسكر، ورافقه أيضا عندما ذهب إلى مدينة الجزائر لرد غارة إسبانية عليها سنة 1783، أما كتابه (الاكتفاء) فهو في الحقيقة رد على العلماء الذين تحركوا، بعد نجاح الباي، للحد من نشاطه وتدخلاته، فكان ابن زرفة هو لسان الباي لإسكاتهم بنقول وآراء جاء بها من كتب الأقدمين تساند ما كان الباي قد اتخذه أو يزمع عليه ضد الثائرين والمتمردين وغيرهم من المخالفين لسلطته، ولذلك تعرضنا إلى محتواه في فصل العلوم الشرعية (1).
وهناك عملان آخران جديران بالذكر هنا، رغم أنهما لا يتعلقان بفتح وهران ولا بسيرة أحد البايات وهما (تقييد ابن المفتي) و (القول البسيط في أخبار تمنطيط). فقد كتب ابن المفتي عمله الصغير والهام لا في شكل تراجم لعلماء وباشوات مدينة الجزائر ولكن في شكل ملاحظات ونقد لأوضاع العلماء وعلاقتهم بالولاة وحياتهم الخاصة والعامة ووظائفهم، كما أبدى ملاحظات هامة عن الباشوات والحياة السياسية والاقتصادية قلما توجد في غير كتابه، وسنفصل القول عن (تقييد ابن المفتي) في ترجمتنا له بعد قليل. أما (القول البسيط) فمؤلفه هو الطيب بن الحاج عبد الرحيم التمنطيطي المعروف بابن بابا حيدة، وهو خاص بتاريخ توات (تمنطيط)، وقد قسم المؤلف عمله إلى مقدمة وفصول، فجعل الفصل الأول في أول من نزل توات
__________
(1) أخذنا معلوماتنا عن هذا الكتاب من الخلاصة التي كتبها عنه إيرنست ميرسييه في (روكاي) 1898، 312 - 340.

ساسو
08-26-2016, 11:22 AM
وبنى بها القصور، والفصل الثاني في اندراس أولاد يحيى وقدوم الشريف بن الزبير، والفصل الثالث في ذكر أولاد علي بن موسى، والفصل الرابع في ذكر
علماء توات، والفصل الأخير هو الرئيسي والطويل في التأليف، وهو ينتهي بخاتمة عما يطلب من أهل البيت، ونحن لا نعرف عن مؤلف (القول البسيط) إلا أنه من أهل القرن الثاني عشر (1)، وكان التواتيون قد اهتموا بتاريخ بلادهم فكتبوا في مناقب أهلها وتواريخها وتجارتها وحياتها العلمية (2).
ونود أن نختم الحديث عن التواريخ العامة والمحلية بكلمة عن التأليف في الأنساب، ويبدو أنه منذ ابن خلدون لم يهتم الكتاب الجزائريون بالأنساب اهتماما كافيا، ويذكر أبو حامد المشرفي أن محمد بن أحمد المغراوي له كتاب سماه (تمييز الأنساب) (3)، ولكننا لم نطلع على هذا الكتاب ولم يفصل المشرفي الحديث عنه وإنما نقل عنه نسب محمد بن علي أبهلول المجاجي الذي توفي سنة 1008. وقد أخذ المشرفي أيضا عن كتابين آخرين في الأنساب، ولكنه لم يذكر مؤلفيهما. الأول هو (سمط اللآل في معرفة الآل) (4)، والثاني هو (كمال البغية)، وقد نقل عنهما أيضا أخبار محمد بن علي آبهلول المجاجي، وألف في نفس الموضوع عبد القادر الراشدي القسنطيني، فقد نسب إليه عمل عن أصول القبائل والعائلات الكبيرة في قسنطينة ونواحيها، ولكننا لا نعرف الآن العنوان بالعربية، ومما تحدث عنه
الراشدي أصل عائلة الفكون التي أرجعها إلى (فكونة) بالأوراس وليس إلى
بني تميم كما تدعى عائلة الفكون (5).
__________
(1) مخطوطة باريس، رقم 6399 مجموع، وهو في عشرين ورقة.
(2) انظر أطروحة فرج محمود فرج عن توات في القرنين 18 و 19 (مخطوطة) قسم التاريخ - جامعة الجزائر، وهي الآن مطبوعة.
(3) المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط.
(4) ينسب إلى الشيخ محمد قويسم التونسي المتوفى سنة 1114 كتاب بعنوان (سمط اللآل في التعريف بالرجال). والغالب على الظن أن الكتاب الأول لمؤلف آخر من أهل الجزائر.
(5) أشار إلى ذلك فايسات الفرنسي في (روكاي)، 1868, 260، وقد اطلع على عمل الراشدي مخطوطا.

ساسو
08-26-2016, 11:23 AM
ولكن الذي اهتم بالأنساب، بعد ابن خلدون، هو أبو راس، فقد ألف فيها عدة أعمال وانتقد عدم العناية بها، ومن تأليفه في النسب (مروج الذهب في نبذة النسب ومن إلى الشرف انتمى وذهب) (1)، تكلم فيه عن أنساب الأدارسة بالمغرب وغيرهم، ولعل هذه العناية لأبي راس بالنسب والكتابة فيه هي التي جلبت عليه نقمة بعض السكان، في نواحي معسكر لأنه قد جرد بعضهم من الشرف بعد أن حلل أصولهم، وكان أبو راس شديد الولع بالأنساب يكثر من ذكر القبائل ومواطنها وفروعها وأصولها. وقد نسب إليه بعضهم كتابا عن أرهاط الجن أيضا سماه (تحفة الإخوان في أرهاط وقبائل الجان)، وقد نعى عدم العناية بالنسب بقوله: (إن امتياز النسب اندرس في هذا الزمان، فلا يكاد يتفق فيه اثنان حتى يقع اختلافا كثيرا (كذا) في الأمة الواحدة لاختلاط الأنساب وتباين الدعاوى) (2). والواقع أن أبا راس كان وفيا لفكرته، فهو لا يكاد يكتب كتابا إلا ويظهر فيه محفوظه عن الأنساب العربية والعجمية، كما يقول.

تراجم عامة
نعني بالتراجم العامة التآليف التي اشتملت على أكثر من ترجمة سواء كانت تتناول تراجم مدينة معينة أو ناحية أو عصر، في مقابل ذلك سنخصص حيزا في هذا الفصل للتراجم الخاصة، وهي التي كتبها أصحابها هادفين إلى ترجمة شخص بعينه كترجمة المقري لابن الخطيب، ويوجد في الوثائق التي اطلعنا عليها عدد من التراجم العامة بعضها قصير لا يغطي سوى بضع صفحات، وبعضها كبير، حتى أنه تجاوز الثلاثمائة صفحة، كما أن بعضها أراد به أصحابه الترجمة لعلماء وصلحاء ناحية معينة في فترة خاصة، وبعضها أرادوا له أن يغطي علماء وصلحاء مدينة ما، ومن الضروري أن نذكر بأن
__________
(1) (دليل مؤرخ المغرب) 127.
(2) مقدمة (عجائب الأسفار) ورقة 3، مخطوط الجزائر.

ساسو
08-26-2016, 11:24 AM
هدفنا ليس الإحصاء ولكن ذكر ما عثرنا عليه من نماذج، ومن جهة أخرى فإن بعض هذه الأعمال مكتوب أصلا نثرا والبعض الآخر مكتوب في شكل رجز.
ونبدأ بتأليف عبد الله بن محمد المغوفل الذي سماه (الفلك الكواكبي وسلم الراقي إلى المراتب)، وهو رجز في تراجم صلحاء وأولياء منطقة الشلف، مبتدئا بالقرن السادس ومنتهيا بالقرن التاسع، وطريقته أنه يذكر الولي بالاسم الذي اشتهر به وإن لم يكن كذلك سماه بما اشتهر به من صفة أو نسب حتى يأتي من يعرفه باسمه.
وقد قال إن الغرض من ترجمة هؤلاء هو التبرك بمن مضى، والحث
على الانتفاع بهم وتنبيه الغافل عنهم لكي يرقى بسببهم إلى الصلاح، ومن
هؤلاء علماء سكنوا (البطحاء)، مثل أبي عمران موسى الشاذلي، وأبي
أيوب، وابن أبي العافية، والسعدي، وأحمدوش، وممن ترجم لهم المغوفل
شيوخ شيوخه أيضا، وبالإضافة إلى صلحاء البطحاء ذكر نفرا ممن سكنوا غرب وشرق وجنوب القلعة (الراشدية) ودافعوا عن البلاد، وحرسوها ضد ظلم الحكام، ولكن (انعكس الأمر بسوء الحال) فذل العزيز، وفقر الغني،
فإلى أين المصير؟
فلعل الفرج سيكون ... واليسر بعد العسر يستبين وقد كنا ذكرنا أن المغوفل عاش في بداية العهد العثماني، ورجزه قصير وبسيط، ومن سوء حظه أن أحدا لم يعمد إلى شرحه وتوضيح التراجم التي لمح إليها أو اختصرها، وبذلك ظل محتوى الرجز غامضا، فكثير من الأسماء التي وردت فيه غير معروفة إلا للناظم (1).
وشبيه بذلك أرجوزة محمد بن حوا (سبيكة العقيان فيمن حل بمستغانم وأحوازها من الأعيان)، فهي أيضا ظلت بدون شرح وفيها غموض كثير،
__________
(1) الرجز مخطوط في المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2259 في سبع صفحات، وفي المجموع قصائد أخرى لنفس الشاعر، منها قصيدته العاطلة من النقط والتي مدح بها أحد أمراء الوقت.

ساسو
08-26-2016, 11:25 AM
وهي، كما يدل عنوانها، تتحدث عن علماء وصلحاء المنطقة المذكورة في مختلف العصور، ولكنها بالنسبة إلى (الفلك الكواكبي) متأخرة، ذلك أن ابن حوا قد عاش إلى أواخر القرن الثاني عشر الهجري (18 م)، وبذلك تضمنت سبيكته تراجم لم يتضمنها فلك المغوفل (1).
ورغم قدرة أحمد بن قاسم البوني على الكتابة نثرا ققد عمد إلى نظم رجز طويل في علماء وصلحاء مدينة عنابة سماه (الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة)، والواقع أن هذا الرجز الذي بلغ ألف بيت يعرف بالألفية الصغرى، أما الألفية الكبرى التي قيل إنها بلغت ثلاثة آلاف بيت فلم نطلع عليها، وهي في نفس الموضوع، ومن المتوقع أن يترجم البوني في الألفية
الصغرى لصلحاء وعلماء عنابة، وهم كثيرون، في مختلف العصور، ولا سيما عصره هو، وشيوخه. وقد قسم (الدرة المصونة) إلى أبواب وفصول، فترجم في الباب الرابع لشيوخه وجعل فيه فصولا لذكر شيوخه
المغاربة وشيوخه في باجة وعنابة وتونس وتستور والقيروان، وغيرها من مدن تونس. والمعروف أن البوني قد رحل إلى المشرق أيضا وأخذ عن مشائخه كما أخذوا عنه، ومن المدن التي زارها وأقام بها مدينة رشيد المصرية، وقد عد البوني شيوخه في مناسبات أخرى مثل إجازته لابنه التي
نقلنا عنها، ومثل رحلته الحجازية التي قيل إنه ذكر فيها حوالي عشرين شيخا، ولم يشرح البوني ولا غيره أرجوزته الهامة فظلت أيضا غامضة على العلماء فما بالك بالقارئ العادي (2).
وللبوني تأليف في التراجم العامة خرج فيه عن نطاق الجزائر تماما
__________
(1) الخزانة العامة - الرباط رقم ك 1233، وكان ابن حوا حيا سنة 1176.
(2) نشرت (الدرة المصونة) في (التقويم الجزائري) سنة 1913، ص 87 - 128 مع بعض التعاليق لمحمد بن أبي شنب، انظر أيضا الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 170،
ومن ذلك أيضا أرجوزة عيسى التوجيني التي ترجم فيها لمعاصريه من أهل القرن
العاشر. انظر المهدي البوعبدلي، مقدمة (الثغر الجماني) 67، وقد سمى التوجيني أرجوزته (بغية الطالب في ذكر الكواكب).

ساسو
08-26-2016, 11:25 AM
حيث ترجم للنحاة وعلماء اللغة العربية عموما، وقد سماه (فتح المتين بتراجم بعض مشاهير النحاة واللغويين). وقد سبق الحديث عنه وعن كتاب أستاذه ابن باديس (التنقيح في التعريف ببعض أقوال رجال طالعة التصريح على التوضيح) وذلك في فصل اللغة والنثر.
وهناك من ألف مختصرا في التراجم نثرا يشبه المتن الذي يحتاج إلى تعليق وتوضيح، كما فعل عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد التجاني في عمله الذي سماه (عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أشراف أغريس) (1). من العنوان يتضح أن هذا العمل يتناول الأولياء والصلحاء والعلماء والأشراف، في ناحية أغريس بالذات، وقد شعر مؤلفه أن عمله يحتاج إلى تبسيط وبيان فأشار على تلميذه محمد الجوزي الراشدي بشرحه فرحب بالفكرة وشرحه شرحا طويلا تجاوز الألف ورقة، وسماه (فتح الرحمن في شرح عقد الجمان)، وأخبر محمد الجوزي أنه قد وشح شرحه (بأحاديث رائقة، وقصص لائقة، وأخبار فائقة، وختمته بتكميل ذكرت فيه الخلفاء الأبرار، والملوك والثوار، في كل النواحي والأقطار). وهو أيضا قد ألفه في غريس التي شكا من حالها في عهده. ولعل تلك الاستطرادات هي التي ضخمت الكتاب فضاعت الفائدة من المتن والشرح معا (2)، ولعل قصر المتن وطول الشرح هو الذي حمل أبا راس على وضع شرح آخر (لعقد الجمان النفيس)، سماه (إيضاح الغميس وأنوار البرجيس بشرح عقد الجمان النفيس) (3)، وقد
سار فيه أبو راس سيره في شروحه الأخرى التي جعلها على (العقيقة) وعلى
__________
(1) ترجمه إلى الفرنسية السيد ل. قان Guin ونشره في (المجلة الإفريقية) 1891، 241 - 280، وبناء عليه فإن مؤلف (عقد الجمان) قد عاش في حوالي القرن الحادي عشر (17 م).
(2) اطلعنا على شرح محمد الجوزي في مكتبة زاوية طولقة، وهو بدون ترقيم وبخط
جيد.
(3) ذكره المؤلف نفسه في (فتح الإله) وعده من كتب التصوف، كما نسبه إليه السيد ل. قان في (المجلة الإفريقية) 1887، 72.

ساسو
08-26-2016, 11:27 AM
(مقامات الحريري) وعلى (إسماع الأصم) ونحوها، ومهما كان الأمر فإن (عقد الجمان النفيس) محسوب من تراجم المتصوفين.
ويعتبر كتاب (البستان) لابن مريم المديوني من أهم المعاجم في تراجم الرجال، فقد كتبه في بداية القرن الحادي عشر ورتبه على حروف المعجم مبتدئا بمن اسمه أحمد. والمفروض أن الكتاب خاص بالتراجم التلمسانية
ولكن قارئه يجد فيه تراجم لمصريين وشاميين وقيراونيين وفاسيين وأندلسيين
أصلا، وكان ابن مريم وفيا لعنوان كتابه (1)، فقد حشاه بأخبار العلماء العاملين أصحاب التدريس والمؤلفات والوظائف، وبأخبار الصلحاء والأولياء من دراويش وخرافيين. ولم تكن هذه التراجم مقصورة على قرن بعينه، فنحن نجد ابن مريم يترجم لمن كان في القرن السادس ومن كان في القرن الحادي عشر. وكان المؤلف نفسه يعتقد في ولاية الأولياء وكراماتهم، لذلك حشا كتابه بأخبار هذه الكرامات والخوارق. ونلاحظ أنه كلما اقترب من عصره اختصر الترجمة وزادت أخبار الدراويش. وأسلوبه بسيط سهل، وهو يستعمل أحيانا عبارات عامية مثل حملوا منه (شوامي) وهو يعني أحمالا، ومثل (رد الناس إليه بالهم) وهو يعني انتبهوا إليه أو حذروا منه. ثم أن التراجم غير متوازنة فبعضها لا يزيد عن السطر والسطرين وبعضها وصل إلى العشرين صفحة، وحين لم يجد ابن مريم شخصا تلمسانيا اسمه خليل ترجم للشيخ خليل بن إسحاق المصري. وحين لم يجد شخصا اسمه يوسف ترجم لرجلين اسمهما يوسف من غير تلمسان (تبركا بهما)، ويكشف ما ذكرناه إذن على أن خطة ابن مريم ليست منسجمة، فقد كان مدفوعا بالروح الدينية أكثر من الروح العلمية.
ومع ذلك يظل (البستان) وثيقة تاريخية هامة، فقد اعتمد فيه ابن مريم
__________
(1) جاء في مخطوط (مطلب الفوز والفلاح) للبطيوي، تلميذ ابن مريم، أن عنوان كتاب البستان. هو (البستان في مناقب أولياء تلمسان)، وهو عنوان يناسب في الواقع روح مؤلفه. ج 2 المكتبة الملكية - الرباط 1667. انظر عن ابن مريم أيضا الفصل السادس من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 11:27 AM
على مؤلفات كثيرة، ومن ذلك (بغية الرواد) و (النجم الثاقب) و (رحلة) القلصادي، و (نيل الابتهاج) و (المواهب القدسية) للملالي، بالإضافة إلى عدد من المجاميع والكنانيش والمشافهة (ومن كتب عديدة). ثم إنه قد (أحس) بجو العصر من خلال تجربته هو الخاصة الطويلة في التعليم وممارسة التصوف، ومن خلال تجربة والده الذي كان يمتهن أيضا تعليم الصبيان. فكان ابن مريم معاصرا يكثر من التحولات السياسية والاجتماعية والدينية التي ساعدت على ظهور من ترجم لهم، وقد ألف ابن مريم غير (البستان) أيضا، فعد له تلميذه البطيوي في (مطلب الفوز والفلاح) نحو ثلاثة عشر كتابا، كلها في التصوف والفقه، ولا شك أن (البستان) هو أهم أعماله وما زال مرجعا ريسيا لتراجم الجزائريين، وخصوصا التلمسانيين، في العهد العثماني والذي قبله (1).
ورغم أن تراجم عبد الكريم الفكون لم تنشر بعد فإنها على درجة كبيرة من الأهمية، ربما تفوق أهمية تراجم ابن مريم. والغريب أنه لا يفصل الكتابين سوى بضع سنوات فقط. فقد ألف ابن مريم كتابه سنة 1011 وألف الفكون كتابه حوالي سنة 1064. وكان الأول في تلمسان والثاني في قسنطينة. وكلاهما تعرض لرجال العلم ورجال الصلاح. ولكن بينما كان ابن مريم محبذا للتصوف، واصفا لأحوال العلماء والمتصوفين على ما كانت عليه، كان الفكون ناقدا للعلماء المنحرفين والصلحاء والأدعياء، ناقما عليهم ما كانوا عليه من شعوذة وحب للدنيا والمتاجرة بعقول العوام. وهكذا يصبح كتاب الفكون مكملا للبستان في وضع كثير من الأمور في نصابها.
سمى عبد الكريم الفكون كتابه (منشور الهداية في كشف حال من ادعى
__________
(1) ترجم البستان إلى الفرنسية السيد فنزالي وأخذ منه الأب بارجيس كثيرا في كتاباته عن تلمسان، ونشر نصه بالعربية محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1908. ونعتقد أن أول
من ترجم لابن مريم وعرف بعصره هو تلميذه عيسى البطيوي، ولكن كتابه لم يكن
معروفا، لذلك ظلت حياة ابن مريم مجهولة حتى الآن، انظر عنه أيضا كتاب (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان.

ساسو
08-26-2016, 11:28 AM
العلم والولاية). وترجم فيه لأكثر من سبعين شخصا من العلماء الصالحين والمتصوفة الحقيقيين إلى العلماء الجهال والأولياء الدراويش. وغطى فيه تراجم القرن العاشر وبداية الحادي عشر فقط، أي إلى وقته هو، مبتدئا بجده وعمر الوزان ومحمد التواتي، وخاتما بمعاصريه أمثال أحمد المقري ومحمد ساسي البوني. وقد قسم الكتاب إلى فصول، ولم يتبع فيه التظام الأبجدي. فكأنه كان يدرس ظواهر وموضوعات ولا يكتب تراجم جافة وسيرا جامدة فيها الولادة والوفاة، وبعض الأعمال والمؤلفات. رتب الفكون كتابه على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. ففي المقدمة بين دافع التأليف، وهو تكاثر أدعياء العلم وأدعياء التصوف. وجعل الفصل الأول (فيمن لقيناه من العلماء والصلحاء المقتدى بهم، ومن قبل زمنهم، ممن نقلت إلينا أحوالهم وصفاتهم تواترا، أردنا التنبيه عليهم، وذكر ما كانوا عليه وزمانهم وتواريخ وفاتهم). وخص الفصل الثاني بـ (المتشبهين بالعلماء، وهم الذين قصدنا بهذا التقييد إيضاح أحوالهم). وجعل الفصل الثالث (في المبتدعة الدجاجلة الكذابين على طريق الصوفية المرضية). أما الخاتمة فقد خص بها (إخوان العصر وما هم عليه) (1).
وطريقة الفكون في هذه التراجم أنه يبرز معالم الشخص الذي يترجم له تحسيتا أو تقبيحا. فهو يذكر الشخص وأصله وبلده وتعلمه وشيوخه ومواقفه وعلاقاته. ويروي بعد ذلك أخبارا عنه وحكايات جرت له مع معاصريه ومع الحكام، حسب عنوان الفصل الذي جاءت فيه الترجمة. فإن تحدث عن أهل الصلاح جاء بأخبارهم وكراماتهم وإنصافهم للحق ومواقفهم المتشددة من أجل الدين والحقيقة. وإن كان يصف أهل الدنيا والجاه من العلماء الجهال جاء بأخبار صلاتهم بالأمراء والحكام والمناصب وقبولهم الرشوة والتهاون في الدين والأخلاق. وإن كان يتحدث عن أهل الولاية الكاذبة ذكر أخبار دجلهم وخرافاتهم وابتداعهم ونفاقهم وأكلهم أموال الناس بالباطل وحتى
__________
(1) (منشور الهداية) 5. مخطوط بالمكتبة الوطنية - الجزائر، غير مرقم. عن ترجمة الفكون انظر الفصل السادس من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 11:29 AM
أحوالهم العقلية والنفسية كالجنون والتوتر العصبي ونحو ذلك. وهو في كل ذلك يقارن الصالح بالطالح فيقول انظر كيف تصرف فلان، أما أهل الفساد اليوم فيفعلون كذا وكذا، أو هذا في زمانهم فما بالك بزماننا.
ولعل أبرز ما في (منشور الهداية) حديث مؤلفه عن العلاقات العامة في عصره. فنحن نجد فيه ما نجده في غيره عن صلات العائلات القسنطينية وروابط العلماء، وعلاقات هؤلاء وأولئك بالحاكمين العثمانيين. كما نجد فيه وصفا لبعض الثورات ضد الحكام. بالإضافة إلى وصف هام للأحوال الاجتماعية والاقتصادية في الريف والمدينة. ولذلك قلنا إنه ليس كتاب تراجم جافة وإنما هو وثيقة حية تصف العصر وأهله. والذين قالوا عن الكتاب بأنه في (أحوال فقراء العصر) مثل العياشي، لم يقرأوه ولم يرضوا عن مؤلفه الذي كان في نظرهم ضد تيارهم وطريقتهم. ولذلك قال العياشي عن مؤلفه إنه عدل عن علوم أهل الرسوم في آخر عمره وأصبح من المتزمتين المنزوين عن الناس (1). ومهما كان موقف الفكون في نهاية حياته فإن كتابه (منشور الهداية) قد أصبح بالنسبة إلينا نحن جيل هذا القرن مرآة نرى منها جانبا من حياة أجدادنا في عصر ساد فيه الغموض والغوضى (2).
ومن سوء حظ الباحثين أن تراجم أحمد بن عمار قد ضاعت ولم يبق منها سوى نتف مذكورة في (نحلة اللبيب). ذلك أن كتاب ابن عمار الذي سماه (لواء النصر في فضلاء العصر) لم يعثر له على أثر حتى الآن، مثله في ذلك مثل رحلة المؤلف الحجازية. وكان ابن عمار قد ترجم في كتابه الضائع (لفضلاء) عهده والقرن السابق له، ولم يترجم لصلحاء الوقت كما فعل ابن مريم وأمثاله، مما يوحي أن مختاراته كانت على رجال العلم والأدب
__________
(1) العياشي (الرحلة) 2/ 396.
(2) اطلع السيد فايسات (روكاي) 1868، 263، على صفحات من كتاب الفكون. وقال انه (مذكرات عن رجال وحوادث عصره). وحاول الحصول على نسخة منه، وبعد جهد جهيد أيس عازيا ذلك إلى اللامبالاة وسوء نية المالكين للكتاب وقلنا إن هذا الكتاب قد حقق ونشر في بيروت، 1987.

ساسو
08-26-2016, 11:30 AM
والقضاء والشعر، وليس عن أهل التصوف والولاية. فنحن نجد في الأمثلة التي ساقها في (نحلة اللبيب) أنه تحدث عن ابن علي وأحمد المانجلاتي. وكلاهما شاعر وأديب وعالم بالفقه واللغة. ويبدو أن ابن عمار لم يقتصر في تراجمه على أهل الجزائر فحسب، رغم أننا لا نملك الدليل على ذلك الآن. وكان يطيل في التراجم ويذكر النصوص الطويلة من الأشعار والموشحات والأخبار الأدبية والشخصية. فترجمته حينئذ لم تكن باردة. ويمكننا أن نغامر فنقول إنه قد يكون ترجم في كتابه الضائع للقوجيلي وقدورة والأنصاري
وعيسى الثعالبي وابن ميمون وابن عبد المؤمن والجامعي وابن زاكور والمنور التلمساني والفكون وأضرابهم من العلماء والأدباء والقضاة والمفتين، ولو استطعنا العثور على (لواء النصر) لكان نصرا للأدب الجزائري في العهد العثماني لمكانة ابن عمار الأدبية وحذقه وذوقه فيما يختار من التراجم والنصوص (1).

تراجم خاصة
قصدنا بالتراجم الخاصة، كما قلنا سابقا، المؤلفات التي وضعت لتترجم لشخص بعينه. فتدرس عصره وعلمه ونشاطه وعلاقاته وأثره. ولدينا عدد من هذه الأعمال. من ذلك ترجمة أحمد العبادي التلمساني لمحمد بن يوسف السنوسي. والواقع أن هناك عباديين كلاهم يدعى أحمد، أحدهما توفي في الأربعينات من القرن العاشر والآخر توفي بعد 986. والأول هو الوالد والثاني هو الولد. وكلاهما عالم مشار إليه. ولكن الإشكال هو: أيهما كتب سيرة السنوسي (2)؟ والغالب على الظن أن الذي فعل ذلك هو الوالد لأنه
__________
(1) ذكره ابن عمار نفسه في (نحلة اللبيب)، وقال إنه صدره بترجمة شيخه ابن علي، بينما ذكر له أبو راس (الرحلة) ولم يشر إلى كتابه (لواء النصر).
(2) ترجم ابن عسكر في (دوحة الناشر) لكليهما، 200 - 203 من الترجمة الفرنسية. وذكر أن أحمد العبادي (الولد) هو أستاذه وأنه ما يزال حيا عند كتابة (الدوحة) سنة 968. انظر أيضا (الإعلام بمن حل بمراكش) 2/ 37.

ساسو
08-26-2016, 11:31 AM
يشير في المقدمة إلى أنه قد عرف السنوسي وهو يافع وحضر آخر درس له وأنه تتلمذ حقيقة على محمد بن عمر الملالي (1)، تلميذ السنوسي.
فإذا صح ما رشحناه فإن أحمد العبادي (الوالد) قد عاش في تلمسان الزيانية ورحل إلى فاس الوطاسية وأنه تولى التدريس في جامع القرويين
باقتراح من السلطان. وكانت له علاقة وطيدة بالسلاطين الوطاسيين مما أورثه عداوة فقهاء فاس، وكان عليه أن يواجه صعوبات جمة. وقد توفي، كما قلنا، في تلمسان في أوائل العقد الرابع من القرن العاشر. ولم يذكر ابن عسكر الذي ترجم له باختصار؛ بينما ترجم لولده مطولا نسبيا، أنه كتب شيئا عن السنوسي. ولكن أحد الباحثين وجد رسالة للعبادي كتبها عن السنوسي بطلب من بعض علماء فاس سنة 926. ورغم أننا لم نطلع على نص هذه الرسالة العربي، فالذي لا شك فيه أن العبادي كان يعرف عن السنوسي الكثير بحكم معرفته الشخصية له وبحكم تتلمذه على الملالي، وأخيرا بحكم عيشه في تلمسان التي كانت تحفظ للسنوسي ذكريات كثيرة يعرفها الخاص والعام. وعلى الباحثين أن يجدوا في العثور على النص العربي لرسالة العبادي عن
السنوسي (2).
وقد اختص محمد الصباغ القلعي بترجمة شيخ والده، أحمد بن يوسف الملياني. وكان الصباغ، كما أشرنا، قد عرف الملياني معرفة جيدة ولكن الذي عرفه أكثر ولازمه وتأثر به هو والده. فالصباغ إذن قد تأثر بالملياني مباشرة وعن طريق والده أيضا. وقد كتب عمله (بستان الأزهار) موسوعة عن حياة الملياني فيها الغث والسمين، الحقيقي والأسطوري، المقبول والمرفوض علميا .. فجاء كتابه وكأنه نوع من الذكريات والحكايات المتفرقة عن الملياني. وهو على كل حال مصدر أساسي عن هذا الشيخ الذي كثرت حوله الأساطير والأقاويل. وقد بدأ الصباغ كتابه على هذا النحو (.. وبعد __________
(1) عن ترجمة الملالي للسنوسي انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) ما اطلعنا عليه هو ترجمة لها قام بها بروسلار في (المجلة الإفريقية) 1861، 243 - 248. ولم يذكر بروسلار النص العربي لهذه الرسالة.

ساسو
08-26-2016, 11:31 AM
فإني لما رأيت أهل قلعتنا وسائر مجاشر (مداشر؟) هوارة وبني راشد وغيرهم محبين في الشيخ الولي الصالح القطب الغوث .. سيدي أحمد بن يوسف الراشدي .. أردت أن أقيد لهم مجموعا في ذكر شيء من مناقبه، ممزوجا بأحاديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وحكايات الصوفية وما وقع من كرامات وخوارق العادات للأولياء مثل ما وقع للشيخ زروق وشيء من كلامه، وذكر تلامذته الأخيار). وقد رجع في هذه المعلومات إلى مصادر مكتوبة وشفوية كما رجع إلى كتب الصوفية القديمة. وفي الكتاب أخبار هامة عن أحوال العصر والمجتمع أيضا (1).
ويعتبر أحمد المقري من أبرز الذين أجادوا الترجمة الخاصة. فقد برع في رسم خطة الترجمة بحيث يتتبع أخبار المترجم حتى قبل ولادته، ويتجسس عن أوليته وأسرته ونشأته وصباه وكهولته، ويذكر شيوخه ومؤلفاته، ويعتني بإنتاج المترجم وأخباره في الحياة العامة وخدماته للسلطان إن كان قد فعل ذلك، ثم وفاته، وآراء الناس فيه. وقد قيل انه قد تأثر في ذلك بمنهج لسان الدين بن الخطيب في (الإحاطة) لأن هناك تشابها في عناصر الترجمة والأسلوب والإنشاء. غير أن ابن الخطيب كان أقل استطرادا من المقري (2).
وقد ترجم المقري لعالمين بارزين كلاهما يستحق ما بذله فيهما من جهد، وهما: القاضي عياض ولسان الدين بن الخطيب وكلاهما أصبح، بفضل المقري، معروفا للباحثين مدروسا من جميع الجوانب تقريبا، فلا يكاد المتأخرون يجدون ما يضيفون إلى ما قاله فيهما. ومن الطبيعي أن يبدأ المقري بترجمة القاضي عياض الذي كان حجة في المذهب المالكي بالمغرب العربي، فقد رغب منه أهل تلمسان أن يعرفهم بالقاضي عياض فأجابهم إلى
__________
(1) (بستان الأزهار) منه نسخ كثيرة مخطوطة، وقد طبع. انظر عن القلعي أيضا الفصل الثاني من هذا الجزء. انظر أيضا دراسة بودان بالفرنسية (المجلة الإفريقية) 1925. 131 - 180، ورجعنا أيضا إلى نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1708.
(2) مقدمة المحققين لكتاب (أزهار الرياض) 1/ د - هـ.

ساسو
08-26-2016, 11:32 AM
ذلك، وهو في المغرب الأقصى. واشتغل على هذا الكتاب المتعدد الأجزاء بين 1013 و 1027، وهو تاريخ رحيله إلى المشرق الذي لم يعد منه. ومن الحديث عن القاضي عياض استطرد المقري فتحدث عن الأندلس، وأخبار لسان الدين بن الخطيب وأحوال المسلمين في نهاية حكم الأندلس، كما ترجم أثناء الكتاب لعدد من الشخصيات الهامة مثل ابن الأزرق والقلصادي. فرغم أن الكتاب عن القاضي عياضى فإنه في الواقع موسوعة أدبية وتاريخية للأندلس والمغرب تضم نصوصا كثيرة لا توجد في غيره.
وما دام المقري قد ألف الأزهار وهو في أول عهده بالتأليف وفي وضع سياسي خطير حيث قال وكانت (الأرض تميد اضطرابا واختلالا)، فإن كتابه قد ضعف من وجهين: ضعف المنهجية والاستطراد. فقد سماه (أزهار الرياض، في أخبار عياض، وما يناسبها مما يحصل به ارتياح وارتياض). ولا شك أن تعبير الشطر الثاني من العنوان قد جعل المؤلف يجلب لكتابه كل ما يعتقد أنه يأتي فعلا بالراحة والارتياض على حساب وحدة الموضوع وتسلسل الأحداث. وهو لذلك قسمه إلى رياض وليس إلى فصول أو أبواب. وكان المقري يدرك ذلك لأنه لاحظ أنه لم يسبق إلى مثل طريقته وأنه لم يقلد ما عرف في التراجم. وهكذا جاء الكتاب في ثماني رياض على النحو التالي: روضة الورد في أولية هذا العالم الفرد، وروضة الأقحوان في ذكر حاله في النشأة والعنفوان، وروضة البهار في ذكر جملة من شيوخه الذين فضلهم أظهر من شمس النهار، وروضة المنثور في بعض ما له من منظوم ومنثور، وروضة النسرين في تصانيفه العديمة النظير والقرين، وروضة الآس في وفاته وما قابله به الدهر الذي ليس لجرحه من آس، وروضة الشقيق في جمل من فوائده ولمع من فرائده المنظومة نظم الدر والعقيق،
وروضة النيلوفر في ثناء الناس عليه وذكر بعض مناقبه التي هي أعطر من المسك الأذفر (1). فكأن المقري أراد أن يأتي بجديد في طريقة تأليفه
__________
(1) من مقدمة المؤلف في (أزهار الرياض)، 18.

ساسو
08-26-2016, 11:32 AM
ويتوسع في الأدبيات بطريقة لم يسبقه إليها غيره (1).
وقد عدل المقري عن هذه الطريقة قليلا في ترجمته الطويلة أيضا للسان الدين بن الخطيب في كتابه (نفح الطيب). فقد خصص له القسم الثاني من هذا الكتاب وتتبع حياته كما فعل مع القاضي عياض، ولكنه كان أكثر منهجية هنا رغم كثرة الاستطرادات التي ظلت تميز أسلوب المقري وطريقته. وقد عرفنا أنه ألف (نفح الطيب) بطلب من أهل دمشق. وقسم المقري ترجمة ابن الخطيب إلى ثمانية أبواب (ولم يسمها رياض) فتحدث في الأول عن أولية وأسلاف ابن الخطيب، وفي الثاني عن نشأته وترقيته ووزارته وما لقي من ذلك من أيام عز وأيام هوان، وقصوره وأمواله وتقلبات الزمان ضده، وفي الثالث عن مشائخه وثقافته وما يتصل بذلك. وفي الرابع عن مخاطبات الملوك والأكابر الموجهة إليه وثناء أهل العصر عليه. وفي الخامس في جملة من نثره وشعره وأزجاله وموشحاته. وفي السادس عن تلاميذه، وأخيرا عن أولاده ووصيته لهم (وما يتبع ذلك من المناسبات القوية والأمداح النبوية) (2).
وفي كلا الترجمتين يسير المقري في الواقع على طريقة أهل العصر.
فقد عرفنا أن الاستطراد كان يعتبر من فضائل التأليف، وأن الالتزام بمنهج محدود يسبب في نظر الكتاب الملل للقاري فلا يتابع القراءة وتضيع الفائدة. فكان لا بد أيضا من حكايات ولطائف وأخبار إضافية تروح عن النفس في القراءة. وبقدر ما يحذق المؤلف طريقة جلب لطائفه وأخباره بقدر ما يكثر قراؤه ويبرهن على محفوظه وذوقه. وإذا كنا نحن اليوم نستثقل هذه الطريقة فإنها كانت لمعاصري المقري محببة ومطلوبة. ولذلك تكاثرت، كما لاحظنا، الاستطرادات عنده وتضخمت نقوله في كلا العملين، بل إن في (نفح الطيب) كثيرا من التكرار لما في (أزهار الرياض). ولكن دور المقري
__________
(1) انظر ترجمة أحمد المقري في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء.
(2) (نفح الطيب) 1 / المقدمة.

ساسو
08-26-2016, 11:33 AM
في الترجمتين عظيم. ولذلك ما يزال كتاباه مصدرين رئيسيين للباحثين في تاريخ الأندلس والمغرب العربي.
وهناك بعض المؤلفات التي خص بها أصحابها حياة رجال التصوف.
فلدينا كتابان تناول كل منهما حياة الشيخ محمد بن أبي زيان مؤسس الطريقة الزيانية الشاذلية كما عرفنا، فقد كتب أحدهم كتابا بعنوان (فتح المنان في سيرة الشيخ سيدي الحاج محمد بن أبي زيان) تحدث فيه عن حياة الشيخ وأعماله وفضائله والأشعار التي قيلت فيه ونحو ذلك. ولا نعرف الآن من هو المؤلف ولا متى ألفه ولا طريقته في التأليف. أما الكتاب الثاني المتعلق بحياة وزاوية أبي زيان فهو من تأليف مصطفى بن الحاج البشير، وعنوانه (طهارة الأنفاس والأرواح الجسمانية في الطريقة الزيانية الشاذلية). وهذا الكتاب في حجم وسط. غير أننا لا نعرف أيضا عصر المؤلف. فحسبنا هنا الإشارة إلى هذين العملين في باب التراجم، إلى أن نعثر على معلومات إضافية عنهما (1).
ورغم أن كتاب (كعبة الطائفين) لمحمد بن سليمان لبس ترجمة شخصية واضحة فإننا نشير إليه هنا لأنه عبارة عن أخبار الشيخ موسى بن علي اللالتي، ناظم قصيدة (حزب العارفين) التي كانت منطلق (كعبة الطائفين). فكما ترجم الملالي لشيخه السنوسي بطريقته، ومحمد الصباغ القلعي لشيخه الملياني، كذلك ترجم محمد بن سليمان لشيخه اللالتي بطريقته، أي في ثنايا شرحه على القصيدة، ومع ذلك فالشرح، كما عرفنا، من الأعمال الهامة في باب التصوف ولذلك ذكرناه هناك (2).
ويمكننا أن نعد (تاريخ علي باي) الذي كتبه أحمد بن عمار في تونس
__________
(1) انظر كور (مجلة العالم الإسلامي) بالفرنسية، 1910، 359 - 360. انظر عنهما فصلي الطرق الصوفية في الأجزاء اللاحقة.
(2) انظر الفصل الثاني من هذا الجزء، وكذلك دراستي عن (كعبة الطائفين) في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

ساسو
08-26-2016, 11:33 AM
من جملة التراجم الخاصة. فقد أخبر إبراهيم السيالة، تلميذ أحمد بن عمار، أن شيخه قد وضع رسالة هامة أجاب بها بعض علماء تونس الذين سألوه رأيه في إحدى الآيات، وأنه قد ضمن هذه الرسالة (في تاريخ ألفه) عن الباي. أما ابن عمار نفسه فقد قال عن هذه النقطة (ونظمت في سلك دولة هذا الملك السعيد .. عقد لبة وتاج مفرق، مما فتح الفتاح العليم .. من هذه الرسالة الغريبة المبنى، الوثيقة المعنى، البعيدة المرنى، القريبة المجنى .. فلينظرها
المولى، بعين القبول والرضى، وليعرضها على الخواص من أدباء دولته
الميمونة وعلمائها وفقهائها وزعمائها .. وأما العوام فكالهوام، وليس المقصودون بهذه الرسالة، بل بهذا الكتاب كله ..) (1)، ويتضح من عبارة ابن عمار أن هناك الرسالة التي أجاب بها العلماء، وهناك الكتاب الذي وضعه في سيرة الباي ودولته. ولا شك أن الذي يهمنا هنا هو الكتاب وليس الرسالة. والغريب أن السيالة لم يذكر عنوان كتاب ابن عمار في الباي، وإنما قال عنه (في تاريخ ألفه). وهو لا شك من كتب ابن عمار الضائعة. ولذلك نكتفي الآن بما قلناه عنه.
وقد عالج محمد بن أحمد الشريف الجزائري موضوع السيرة أيضا فترجم للصحابي أبي أيوب الأنصاري دفين القسطنطينية، وسمى تأليفه فيه (مسك الحبوب في بعض ما نقل من أخبار أبي أيوب). ورغم أن الترجمة تتناول شخصية إسلامية عظيمة ومجاهدة من أجل انتشار الدين الإسلامي فإن المؤلف قد جعل عمله وكأنه سيرة لأحد المتصوفين الدراويش. ولكن عمله مع ذلك يظل مساهمة هامة في باب التاريخ والسيرة. وكان المؤلف قد أجبر، على ما يظهر على الخروج من الجزائر واستيطان أزمير، فكان يتردد على قبر أبي أيوب الأنصاري بالقسطنطينية ويتسلى، كما يقول، بزيارة ضريحه وكتابة الأخبار عنه ابتداء من حياة هذا الصحابي الأولى إلى وفاته سنة 50 (أو 52) للهجرة غازيا.
__________
(1) (مباهج أو مباسم الأزهار ودوحة الأفكار) لإبراهيم السيالة، مخطوط تونس، رقم 260، ومن الأسف أن ما بعد العبارة الأخيرة منزع من المخطوط تماما.

ساسو
08-26-2016, 11:34 AM
وقد شرح المؤلف ظروف عمله فيما يلي (هذا، ولما جرى القضاء وحكمت الأقدار، بإقامتي بناحية من بلاد الروم وتوطيني بتلك الديار، فكان تأنيسي واستئناسي من وحشة الهموم والأكدار، بترديد الرحلة لزيارة مقام أبي أيوب فخر الخزرج والأنصار، رضي الله عنه وأرضاه .. وقد كنت جعلته عمدة لنجاح المقاصد والأوطار، وملجأ لدفع المكائد من المتمردة والحسدة والأشرار، استخرت الله في جمع ما وقفت عليه من أخباره وعرائس مناقبه الأبكار، وما بلغني من شمائله وسيرته وما اشتهر به من نسبه في بني النجار، ونويت تسميته بعد ما يسود بياضه مسك الحبوب الخ) (1).
وفي هذا الصدد نذكر أن علي بن محمد البهلولي قد وضع تقييدا في حياة أحمد بن عبد الله الذي ثار في الجهة الغربية من الجزائر والذي كانت له حروب ضد ثائر آخر هناك لعله كان أيضا ثائرا ضد الحكام الأتراك. وقد أرسل البهلولي تقييده إلى صديقه عبد الكريم الفكون. وكان البهلولي، حسب رأي الفكون، يعتقد في أحمد بن عبد الله (أنه الفاطمي على ترهات كثيرة نشأت فيه من المغرب .. ويظنون أنه لم يمت وأنه غيب إلى وقته المعلوم فيخرج ..) ولا نعرف الآن عن هذا التقييد أكثر مما أخبر به عنه الفكون. والمفيد منه في الوقت الحاضر عقائد العلماء في المرابطين وفي الثائرين وانتشار فكرة المهدي المنتظر في هذا العصر (2).
وقد ترجم محمد العربي بن مصباح في كتابه (توشيح طراز الخياطة)
لشيخه محمد بن علي الشريف، شيخ زاوية شلاطة. وجاء في كتابه بقصائد عديدة، بعضها له ومعظمها لغيره، وكلها في مدح ابن علي الشريف وزاويته.
__________
(1) من مخطوط صورته من مكتبة جامعة برستون الأمريكية، رقم 1021 مجموع (قسم
يهودا).
(2) الفكون (منشور الهداية)، انظر الثورات ضد العثمانيين في الفصل الثاني من الجزء
الأول.

ساسو
08-26-2016, 11:35 AM
ابن المفتي وتقييده
من الغريب أن المؤلفين الجزائريين المعاصرين لابن المفتي لم يشيروا إليه ولا إلى كتابه في مؤلفاتهم المعروفة لدينا. فلا ابن حمادوش ولا ابن عمار ولا الورتلاني ولا غيرهم من مؤلفي القرن الثاني عشر (18 م) قد ذكر شيئا فيما نعلم، عن هذا الرجل وعمله، رغم أهمية ملاحظاته وأحكامه كما سنرى. وأول من نقل عنه نصوصا كاملة وترجمها إلى الفرنسية هو الباحث الفرنسي ألبير ديفوكس خلال القرن الماضي، أي بعد قرن من وفاة ابن المفتي والظاهر أن الكاتب الإسباني غونزاليز عاد إلى كتاب ابن المفتي بخصوص باشوات وعلماء الجزائر خلال العهد العثماني، رغم أنه لم يذكره من بين مصادره. أما الذي قدم عمله إلى القراء ودرسه بشيء من التفصيل فهو الكاتب الفرنسي ديلفان سنة 1922. وقد حصل السيد نور الدين عبد القادر على نسخة من عمل ابن المفتي ونشر منه مقتطفات في كتابه (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر) المطبوع سنة 1964 (1).
اهتم ديفوكس بالناحية العلمية والدينية من كتاب ابن المفتي فأخذ عنه ما كتبه عن المفتين الحنفيين والمالكيين أثناء العهد العثماني وما قيده بشأن علاقات العلماء والفقهاء بعضهم ببعض من جهة وعلاقاتهم بالسلطة الحاكمة من جهة أخرى. وقد نشر ديفوكس بعض النصوص منه مترجمة إلى الفرنسية في (المجلة الإفريقية) أولا ثم جمع مقالاته ونشرها في كتابه (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر). ولكن ما قام به ديفوكس حول هذا الكتاب ما زال ناقصا لأنه لم يعرف بالمؤلف (ابن المفتي) ولا بكتابه ولم يهتم بالجزء السياسي والاقتصادي منه المتعلق بالباشوات والحياة الاجتماعية. فظلت الصورة التي نعرفها عن ابن المفتي وكتابه غامضة وناقصة. ولسنا متأكدين أن
__________
(1) نذكر أيضا أن كاتبا مجهولا قد كتب سنة 1923، تعليقا على ما كتبه ديلفان عن ابن المفتي، ونشر ذلك في (مجلة المستعمرات الفرنسية) 1923، 318 - 324 معنونا مقاله هكذا (مؤرخ عربي من مدينة الجزائر في القرن 18).

ساسو
08-26-2016, 11:37 AM
غونزاليز قد عاد إلى عمل ابن المفتي في رسالته المسماة (مشاهير مسلمي مدينة الجزائر). ثم إنه إذا صح أنه رجع إليه فإنه لم يأخذ منه سوى قائمة جافة من أسماء الباشوات الذين تولوا الحكم في الجزائر وبعض مشاهير العلماء على عهدهم مع ذكر وظائفهم ووفياتهم. ومن جهة أخرى فهو لم يشر أصلا إلى ابن المفتي في مصادره كما ذكرنا، رغم أنه أشار إلى غيره كابن حمادوش.
أما ديلفان الذي نشر عمله في (المجلة الآسيوية) فقد عرف قليلا بابن المفتي وكتابه من خلال ما كتبه ابن المفتي نفسه عن أسرته وحالته وتأليفه. كما أشار ديلفان إلى كيف حصل على نسخة من تأليف ابن المفتي التي لا تضم، حسب رأيه سوى الجزء الخاص بالباشوات، وهي من نسخ أحد النساخ الذين وظفتهم فرنسا في بداية عهدها بحكم الجزائر، وليست هي النسخة التي كتبها ابن المفتي على كل حال. وبذلك كانت نسخة ديلفان خالية من الجزء المتعلق بالعلماء والحياة الدينية. وأما نور الدين عبد القادر فقد عوض ما فقده عمل ديلفان حين حصل على نسخة غير جيدة من كتاب ابن المفتي تضم حياة المفتين والعلماء. وبينما وجدنا ديلفان يشيد بخط وأسلوب النسخة التي حصل عليها، وجدنا نور الدين عبد القادر ينتقد خط وأسلوب النسخة التي اطلع عليها، ومن سوء الحظ أن نور الدين بدل أن يقدم لنا النسخة كما هي حتى نشاركه في التعرف على أسلوب المؤلف، عمد إلى صياغته فاعلا، كما قال، ما فعل الشيخ الدردير مع مختصر الشيخ خليل.
وهكذا يتضح أن كتاب ابن المفتي، رغم أهميته في نظر كل الذين رأوه وأخذوا عنه، لم يقدم كله كعمل موحد ولم يدرس دراسة تاريخية منهجية تبين محاسنه وعيوبه وتضعه في مكانه من بين الأعمال التاريخية التي نحن بصددها. ولم نحصل نحن على نسخة جديدة من هذا العمل، ولكننا سنحاول أن نجمع المعلومات المتفرقة التي قيلت عن ابن المفتي وكتابه وندرسها ونخرج منها بنتيجة.

ساسو
08-26-2016, 11:40 AM
ولد ابن المفتي (وهو الاسم الذي اختاره لنفسه) في مدينة الجزائر بتاريخ لا نعرفه بالضبط من عائلة كانت متصلة بالحكم اتصالا مباشرا. فهو من الكراغلة المنحدرين من نسل عثماني وجزائري. فإذا عرفنا أنه أنهى كتابه بذكر تولية المفتي المالكي الحاج أحمد الزروق بن محي الدين بن عبد اللطيف سنة 1166 وأنه لم يكتب كتابه إلا بدافع الكبر والحزن أمكننا أن نتصوره قد ولد أواخر القرن الحادي عشر، وليكن ذلك حوالي سنة 1095 (1). ومن جهة أخرى فإن والده، المفتي حسين بن رجب شاوش بن محمد، قد ولد أيضا بالجزائر. وتولى الفتوى سنة 1102، وعمره ثلاثون سنة، ومعنى هذا أنه قد ولد سنة 1072. وبذلك يكون قد أنجب ابنه (المؤلف) وهو في حوالي الثالثة والعشرين من عمره. وقد توفي المفتي حسين بن رجب شاوش في مدينة الجزائر ودفن بها. والعجيب أنه بالرغم من حرص ابن المفتي على ذكر التواريخ فإنه لم يذكر متى ولد وتوفي والده ولا متى ولد هو.
أما جده، رجب بن محمد، فقد ولد في قارة حصار، بالقرب من أزمير في آسيا الصغرى. وجاء إلى الجزائر مع أخيه الأكبر، ضمن الشبان المغامرين الذين كانوا يلتحقون بالجيش العثماني في الجزائر، وكثير من هؤلاء الشبان المغامرين كانوا يصلون إلى مراتب عالية في الدولة إذا كانوا يتمتعون بالذكاء والتعرف على طرق الصعود، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى صعود نجم محمد بكداش باشا وصالح باي. ولم يصل رجب بن محمد إلى تولي الولاية ولكنه وصل إلى مرتبة قد تفوقها من بعض النواحي. فقد أصبح قرصانا أو بحارا يعمل على سفينتين تملكهما زهرة باي، أرثا عن أبيها وزوجها. ثم أصبح (شاوش) العسكر، وهي وظيفة سامية، تسمح لصاحبها بالتعرف على أسرار الدولة والتدخل في التولية والعزل والتأثير على الولاة أنفسهم، ثم
__________
(1) ما يؤكد هذا أنه قال إنه شاهد في صباه مدى شهرة المفتي محمد بن سعيد قدورة، والمعروف أن محمد قدورة قد توفي سنة 1107، فيكون عمر ابن المفتي حينئذ حوالي اثني عشرة سنة.

ساسو
08-26-2016, 11:40 AM
أصبح بولكباشيا أو عسكريا متقاعدا. وظل كذلك إلى أن توفي بحصر البول ودفن في باب الواد. وقد أنجب رجب بن محمد، الذي أصبح يدعى بعد الوظيفة رجب شاوش، ابنه حسينا حوالي سنة 1072 كما أسلفنا. ولعل زوجه كانت من الجزائريات وبذلك تكون جدة المؤلف جزائرية، ولكن هذا أمر غير واضح. وكان رجب شاوش الذي عرف الدولة وأسرارها قد حرص على أن ينشأ ابنه حسين نشأة علمية وأن يهيئه لتولي وظيفة سامية أرقى معنويا من وظيفته هو، وهي الفتوى الحنفية، وكذلك كان الأمر.
وتحدث ابن المفتي عن والده، حسين بن رجب شاوش، فقال إنه تولى الفتوى سنة 1102 عن ثلاثين سنة، كما أشرنا. ووصفه أوصافا جليلة تليق بمقام الوالد وبمقام المفتي أيضا. فقد أخبر عنه أنه أول كرغلي تولى الفتوى الحنفية في الجزائر، بينما كانت من قبل في أيدي علماء الحنفية الموفدين من إسطانبول. وكان معاصر والده في الفتوى المالكية هو أحمد بن سعيد قدورة. وكلاهما، في نظر ابن المفتي، قد ملأ مكانه كما يجب، وقد مدح والده بأنه زان وظيفته فكان خطيبا ماهرا ومفتيا وقورا. وكانت الأسئلة ترد عليه من مختلف الناس، ولا سيما في الخريف عندما تكثر الخصومات بينهم على أراضي الفلاحة. وأهم من ذلك أن الباشوات كانوا يجلونه، بل كانوا يقفون له ويقبلون يده احتراما. وكان يفضل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، حتى أن شؤونه الخاصة كانت مهملة. ونحن قد نفهم من ذلك أن المفتي حسين بن رجب كان مهملا لولده - المؤلف - أيضا ما دام يقضي أوقاته في خدمة الآخرين. ودام حسين بن رجب شاوش على تلك الحال ثماني سنوات أو اثني عشر سنة (1)، إلى أن تولى الباشوية عطشى
__________
(1) في النص جاء مرة أنه بقي ثماني سنوات ومرة أنه بقي اثني عشر سنة، والمعروف أن عطشى مصطفى قد تولى سنة 1112 وظل إلى سنة 1117 حين قتل بعد هزيمته في تونس، وبذلك تكون مدة حسين بن جرب أكثر من ثماني سنوات، فإذا كان الباشا قد عزله عند توليه فتكون مدته عشر سنوات، أما إذا عزله بعد ذلك فالقول بأنه ظل اثني عشرة سنة أصح.

ساسو
08-26-2016, 11:45 AM
مصطفى (1) فعزل والد ابن المفتي وعين بدله محمد النيار. ومن المفهوم أن ابن المفتي كان قاسيا جدا على محمد النيار. فقد اتهمه بأنه أهان وظيفة الفتوى وأنه كان هو الذي يقف للباشا وينحني لتقبيل يده مرارا وأنه هو الذي سن هذه السنة السيئة التي بقيت منذئذ، كما اتهمه بالجهل ورقة الدين.
في هذا الجو نشأ ابن المفتي، وتعلم العلم المعروف في عصره، كما تعلم السياسة والمؤامرات التي كان يديرها الجنود والعلماء للوصول إلى الحكم والجاه. ولا شك أن من أساتذته في ذلك والده نفسه. فهو بحكم وظيفة الفتوى كان عليه أن يكون مدرسا في الجامع الجديد كما عرفنا. وقد ذكر ابن المفتي بعض تلاميذ والده الذين تولوا الفتوى أيضا، ومنهم محمد بن الماستجي الذي تولاها وعمره أقل من ثلاثين سنة. وهناك عدد من الشيوخ الذين تلقى ابن المفتي عليهم العلم أيضا، بالإضافة إلى والده. وقد ذكر هو منهم ثلاثة كانوا جميعا من أبرز العلماء في وقتهم، وتولوا جميعا وظائف عالية، وهم: محمد بن نيكرو وعمار المستغانمي، وكلاهما تولى الفتوى، ومصطفى العنابي الذي تولى القضاء. وتربى ابن المفتى مع جيل من العلماء أيضا. فحين ذكر المفتى الحاج أحمد الزروق بن عبد اللطيف، وهو آخر من ذكره في كتابه، كما أشرنا، قال عنه إنه كان شريكه في مجلس درس عمار المستغانمي ومحمد بن نيكرو. ويفهم من سياق ابن المفتي أن والده لم يهيئه لتولي الفتوى بعده. كما يفهم أيضا أنه لم يتول وظائف عالية شأن زملائه وأساتذته. ولكن هذه قضية ما تزال غامضة.
ومهما كان الأمر فإن ابن المفتي كان على ثقافة عملية. فبالإضافة إلى مكانته داخل المجتمع والسياسة كان شديد الملاحظة لما يجري حوله. فقد أخبر أنه حضر جلسة الديوان عندما كان والده متقلدا للفتوى وشاهد كيف يقوم الباشا إجلالا لوالده ويقبل يده. وذكر أنه ذهب إلى آسيا الصغرى
__________
(1) مات مقتولا في القليعة عند زاوية أولاد سيدي مبارك سنة 1117.

ساسو
08-26-2016, 11:48 AM
وغيرها حين قال إنه زار سنة 1128 قارة حصار، مسقط رأس جده، كما أخبر عن نفسه أنه زار قبر حسين ميزو مورتو في جزيرة شيو (1). ولا ندري أين حملته رجلاه أيضا، فلعله قد زار إسطانبول وسورية (التي قال إن الجزائر تقارن بها في الثروة) كما قد يكون حج وزار مصر وغيرها. ولكنه لا يذكر هو نفسه سوى مسقط رأس جده وقبر الباشا ميزو مورتو في شيو.
إن هذه الخلفية عن حياة وأسرة ابن المفتي تعطى فكرة عن عمله أيضا. فهو كرجل من رجال الدولة والعلم جدير بأن يكون نافذ الملاحظة وثيق المصدر. وقد اعتمد في تأليفه على مصادر عديدة منها المكتوب ومنها الشفوي ومنها التجربة الشخصية. فأسرته كانت عريقة في خدمة الدولة، كما لاحظنا، ولا شك أنه كان يملك الوثائق الرسمية النادرة التي كانت لجده ووالده. وكان له شيوخ بارزون وأصدقاء في مقام عال في المجتمع والحكم. ومن مصادره جدته لأمه التي كانت تخبره ببعض حوادث القرن السابق له (القرن الحادي عشر)، بالإضافة إلى ما عاشه هو من أحداث وما شاهده من أمور وسجله من ملاحظات. ونفهم من مقدمة كتابه أنه عاش حتى كبرت سنه ونضجت تجربته. كما نفهم منها أنه قد فقد أسرته وأطفاله وبقي وحيدا يعاني الوحدة والحزن والكبر. وهذا أقسى ما يصيب الإنسان في آخر عمره.
فقد ذكر أن الوحدة والحزن والكبر وفقد الأولاد هي التي دفعته إلى تقييد ما قيد. ولم يكن دافعه الشهرة أو التشهير بأحد، بل ولم يكن التأليف العلمي من هوايته، وإنما أراد التسلي والتأسي، والاشتغال بشيء ينسيه، مؤقتا على الأقل، بعض حزنه وشعوره بالوحدة، فكان هذا الشيء هو العمل الذي نحن بصدده والذي تناوله الكتاب المذكورون بطريقة مبعثرة كما لاحظنا. والغريب أيضا أن ابن المفتي الذي أخفى اسمه، تواضعا أو لسبب آخر لا نعلمه، لم يجعل عنوانا لما قام به أيضا. ولعل أقرب إلى الصواب
__________
(1) تولى باشوية الجزائر سنة 1094، ثم هرب بحياته بعد أكثر من ست سنوات إلى شرشال ومنها ركب البحر إلى إسطانبول حيث أصبح قبطان الأسطول العثماني، وقد استولى عل جزيرة شيو، ودفن بها، حيث زار ابن المفتي قبره.

ساسو
08-26-2016, 11:51 AM
تسمية عمله (تقييدات)، لأنها في الواقع كذلك. فهو لم يقم بتأليف تقليدي فيه المقدمة والأبواب والفصول والخاتمة. كما أنه لم يكتب جريدة أو مذكرات، كما فعل ابن حمادوش، وإنما سجل ما ظهر له وما تذكره من أمور تتعلق بالحكام والعلماء والمجتمع والعلاقات الخارجية والحياة الاقتصادية والثقافية وهو في مركز هام مثل مدينة الجزائر عاصمة أكبر دولة عندئذ في المغرب العربي.
ومما نشر حتى الآن عن ابن المفتي نفهم أن تقييداته قد قسمت إلى ثلاثة أقسام: مقدمة، وقسم العلماء والمجتمع، وقسم الباشوات والحياة السياسية والاقتصادية. وفي خطبة الكتاب أو المقدمة تحدث عن دوافع التأليف وحالته النفسية والعائلية وصلته هو بالكتابة. وقال على سبيل التواضع انه غير مؤهل لمثل هذا العمل وإنه ليس أفضل من يكتبه. ومع ذلك أقدم عليه لأنه لم يجد ما يفعله غير الكتابة. كما أنه ذكر الأشياء التي أوردناها عن والده وجده وزيارة مسقط رأس جده وغير ذلك من الأمور المتصلة بالعائلة. ولا ندري أي القسمين ورد الأول: قسم العلماء أو قسم الباشوات (1). ذلك أن ديفوكس ونور الدين عبد القادر اللذين استفادا من القسم الأول لم يوضحا هذه النقطة. ويبدو أن كلا منهما قد اطلع على قسم العلماء مستقلا تماما عن بقية الكتاب. ونحن نرجح، رغم أن الدليل يعوزنا، أن ابن المفتي قد انتقل، بعد الخطبة، إلى الحديث عن قسم العلماء لأن ذلك متصل بحياة والده الذي كان منهم، ثم جاء بقسم الباشوات باعتباره قسما ثالثا في الكتاب. ولا ندري أيضا ما إذا كان للكتاب خاتمة.
وما دام الكتاب لم يعثر عليه كله بين دفتين فمن الصعب وصف حجمه وأسلوب صاحبه وطريقة بدايته ونهايته، فقد أخبر ديلفان أن النسخة التي عثر عليها معروضة للبيع ضمن أوراق ديفوكس، تحتوي على تسع ورقات
__________
(1) ذكرنا من قبل أن ديلفان قال إنه وجد في نسخته خطبة الكتاب متبوعة بتاريخ الباشوات.

ساسو
08-26-2016, 11:52 AM
وعنوانها (تاريخ الباشوات الذين حكموا جزائر الغرب) (1)، ويفهم من هذا أن هذه النسخة تضم قسما فقط من تقييدات ابن المفتي، ولم يخبر ديفوكس، الذي كان أول المستفيدين من التقييدات، عن حجم الكتاب، كما أن نور الدين عبد القادر لم يصف حجم النسخة التي قال إنه قد عثر عليها عند أحد الأصدقاء، ونتصور أن كل التقييدات (بما فيها الخطبة وقسم العلماء وقسم الباشوات) لا تتجاوز خمسين ورقة (2).
أما الخط فالظاهر أنه لا أحد من الباحثين المذكورين قد عثر على نسخة ابن المفتي الأصلية. فنسخة ديفوكس لا نعرف عن خطها شيئا لأنه لم يصفها. ونسخة ديلفان قال عنها ان خطها شرقي جميل كتبها أحد النساخين الذين دخلوا في خدمة الفرنسيين بعد الاحتلال، وقد أخبر نور الدين عبد القادر أن نسخته رديئة الخط لا تكاد تقرأ وأن فيها بعض البياض، وأنها مليئة بالأخطاء الفاحشة. أما الأسلوب فنور الدين يرى أن تعبير النسخة التي حصل عليها (في غاية البساطة والسذاجة، يستعمل كثيرا من عبارات اللغة الدارجة)، وكان المؤلف يستعمل أيضا بعض العبارات التركية، بينما ذكر ديلفان أن نسخته حسنة الأسلوب واضحة، فهل يمكن لابن المفتي، الذي تتلمذ على شيوخ جلة ذكرنا بعضهم، أن يكتب بأسلوب (في غاية البساطة
__________
(1) جاء في قائمة الكتب التي قيدها البارون ديسلان في الجزائر عنوان هو (بيان ملوك الجزائر)، كان قد حمله بيروبرجر معه في قسنطينة، فهل يكون هذا هو جزءا من عمل ابن المفتي. انظر فقرة المكتبات من الفصل الثالث من الجزء الأول.
(2) الظاهر أن النسخة الأصلية من الكتاب مفقودة كما فقد الكثير من مؤلفات هذا العصر، ولم يبق منه إلا شذرات نقلها بعض النساخ هنا وهناك لأغراض مختلفة. وقد ذكر ديلفان أنه بذل قصارى جهده في الحصول على نسخة كاملة منه فلم يستطع، كما أنه لم يستطع أن يرى نصا أصليا منه، وفي مراسلة بيني وبين الشيخ البوعبدلي ذكر لي أن نسخة من تقييدات ابن المفتي كانت عند المرحوم أحمد الأكحل الذي توفي منذ أربع سنوات بالجزائر، وفي مكالمة هاتفية مع الشيخ عبد الرحمن الجيلالي ذكر لي أن نسخة منه عند السيد نور الدين عبد القادر. وقد اجتمعت أنا مع نور الدين سنة 1968، ولم أساله عن تقييدات ابن المفتي لعدم اهتمامي بها عندئذ.

ساسو
08-26-2016, 11:54 AM
والسذاجة) كما يقول نور الدين؟ ويبدو ذلك بعيدا الآن، اللهم إلا إذا قلنا ان ابن المفتي لم يكن من صنف المثقفين أصلا.
وقد أخبر ابن المفتي في البداية بأن علم التاريخ عبادة ومنة جزيلة، وأن معرفة أخبار العلماء منقبة جليلة. ومن رأيه أن الجزائريين لم يهتموا بعلم التاريخ وأخبار العلماء، وأن ما كتبه الكتاب في ذلك غير مدروس ولا معروف. وهذه حقيقة، لأن أبا راس والورتلاني وغيرهما قد ذهبوا نفس المذهب، وعلى هذا الأساس أراد ابن المفتي أن يملأ هذا الفراغ، فكتب عن الحياة السياسية في قسم الباشوات، وتحدث عن مدينة الجزائر وسكانها ونظامها السياسي ووسائل عيش السكان، والكوارث الطبيعية التي أصابتها وعلاقة سكانها بالأتراك والإسبان، ونظام الأمناء والمؤسسات الدينية، وأما الباشوات فقد ذكر منهم 54 باشا من إسحاق سنة 921 هـ إلى إبراهيم خوجة سنة 1158 (1)، ولم يذكر الباشا إلا مرة واحدة رغم أن بعضهم قد حكم عدة مرات، ووصف ما وقع في عهد كل واحد من ثورات داخلية وحروب خارجية وقضية الكراغلة التي أفاض فيها (وهو منهم)، وما قام به كل منهم من أعمال خيرية واجتماعية، وعلاقة الباشوات بالسلطان، وتقاليد التولية والعزل والصراع الذي يصحب ذلك، وذكر أن السكان كانوا ضحية شره الولاة وأن هؤلاء كانوا أحيانا يفرضون ضرائب على العلماء والأعيان، ومدح حكم الحاج علي آغا الذي قال عنه ان الناس فيه قد اقتنوا كل ثمين وبنوا المنازل الفخمة وركبوا الخيول والبغال الفارهة وأنشأوا الحدائق الجميلة وتوفر عندهم الذهب والفضة وعم الرخاء، وكان رخاء الجزائر مضرب المثل حتى أصبحت تقارن بسورية، كما وصف ما أصاب الجزائر من أزمات اقتصادية نتيجة هجوم الأجانب والزلازل والطاعون.
أما في قسم العلماء والأعيان فقد أفاض في الحديث عنهم وعن
__________
(1) الغريب أن القائمة التي أوردها عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته لهؤلاء الباشوات الذين ذكر منهم 69، تبدأ أيضا بإسحاق وتنتهي بإبراهيم سنة 1158، غير أن ابن حمادوش يذكر تاريخ ولاية إسحاق سنة 915، وليس 921.

ساسو
08-26-2016, 11:54 AM
أخلاقهم ووظائفهم، وقد ذكر أصل وظيفة الفتوى عموما، وفتوى الحنفية خصوصا، وذكر قائمة المفتين المالكية والحنفية، وفصل القول في بعضهم مثل عائلة قدورة (سعيد، ومحمد، وأحمد، وصهرهم عبد الرحمن المرتضى الخ)، وأوضح ما بين هؤلاء العلماء من تحاسد وصراع على الوظيفة، وما هناك من مؤامرات يسندها إلى بعض أساتذته وكبار المتصلين بهم، ولكنه كان ينصف المظلوم في أحكامه ويظهر الحقيقة الخفية، وهو الذي ذكر الخلاف الشديد الذي وقع بين محمد بن ميمون وابن علي ومحمد بن سيدي هدى ضد ابن نيكرو، وكيف تجادل المفتي الحنفي والمفتي المالكي في عهده حتى انتهى الأمر إلى تدخل الباشا وعزل المفتي الثاني، ووصف من كان في مستوى المسؤولية المسندة إليه ومن كان دونها، وكان كثير النقد شديد الملاحظة، معتمدا على مصادر قلما يحصل عليها غيره، بل كان يتدخل أحيانا في الحياة الخاصة للعلماء ليقدم صورة واضحة عنهم، فقد ذكر أن أستاذه محمد بن نيكرو كان يعاني من زوجه التي لم تكن أم أولاده ومن ابنه الأكبر، كما ذكر أن أستاذه عمار المستغانمي كان خطيبا عييا وأنه كان يعاني من زوجه التي كانت تكثر من الضيفان حتى افتقر ولم يعد يملك سوى القميص الذي يلبسه وكثرت عليه الديون.
كل الذين اطلعوا على تقييدات ابن المفتي حكموا بأن صاحبها قد قام بعمل هام لم يسبق إليه. فهو أولا كان رجلا واعيا مسؤولا عما يقول، وكان، كما يقول ديلفان، مستقل الفكر لا يقبل أي معلومات بدون مناقشة، وكان يرد الحكايات والخرافات غير المقبولة، بل كان يحاول أن يرد الإنسان المتهم ظلما إلى مكانه الحقيقي، وأخبر ديفوكس أن ابن المفتي كان في عمله مخلصا وجادا وأنه جمع معلومات هامة عن العصر وأهله لا تتوفر في غير كتابه، وأنها معلومات لا يمكن أن تكون مختلقة، ولذلك اعتمد عليه في وصف المفتين رغم أنه عادة لا يثق فيما كتبه الجزائريون، أما نور الدين فقد أعجب بالفوائد الجمة التي يجنيها قارئ كتابه لتفاصيلها عن حياة العلماء والأعيان خصوصا.
والواقع أن ابن المفتي، الذي لا نعرف حتى الآن اسمه الحقيقي، قد

ساسو
08-26-2016, 11:55 AM
كتب عملا جديرا بالتقدير، وهو لم يكن يكتب كتابا بالمعنى التقليدي للكلمة ولكنه كان يقيد ملاحظات وآراء وتأملات، فإذا بها تصبح بالنسبة إلينا اليوم مصدرا قويا عن عصره وأهله، ولكن قيمة عمله تظل مرهونة بقيمة عمل الآخرين. ذلك أن الكتابة عن النواحي التي عالجها تكاد تكون مفقودة، والذين كتبوا، أمثال ابن ميمون وابن سحنون، كانوا مادحين لا ملاحظين، ولعل أقرب إلى عمل ابن المفتي في القيمة هي مذكرات ابن حمادوش أو رحلته، فقد وجدنا هناك تشابها كبيرا بين الرجلين والطريقتين، فكلاهما كان خارج مراكز القوة في الدولة، وكلاهما كان شديد الملاحظة، وكلاهما تحدث عن الباشوات والعلماء، حقا إن قائمة ابن حمادوش في ذلك قليلة التعاليق، خلافا لابن المفتي، كما أن ملاحظات هذا على العلماء أعمق وأكثر دقة وتنظيما، ولكن رحلة ابن حمادوش تحتوي أيضا، كما بينا في دراستنا عنه (1)، على أمور هامة، تزيد في الواقع من قيمة عمل ابن المفتي، فعسى أن يعثر الباحثون على كتابه كاملا وفي نسخته الأصلية (2).

أبو راس الناصر
لا يمكن أن نكتب فصلا عن التاريخ والتراجم في الجزائر خلال العهد العثماني دون الترجمة لأبي راس الناصر، فقد كان على رأس المؤرخين إنتاجا وإدراكا لأبعاد الدراسة التاريخية، وكنا قد نشرنا عنه، سنة 1974، بحثا قارنا فيه حياته وأعماله بحياة وأعمال عبد الرحمن الجبرتي المصري المعاصر له، ثم اننا قد أشرنا إليه في عدة مناسبات من كتابنا هذا، ولذلك
__________
(1) درسنا رحلته في بحث نشرناه في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، إبريل 1975. انظر أيضا كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2) في دراستنا عن ابن المفتي رجعنا، بالإضافة إلى ما ذكرناه، إلى (المؤسسات الدينية) لديفوكس، وديلفان (المجلة الآسيوية) 1922، ونور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر).

ساسو
08-26-2016, 11:56 AM
ستكون ترجمتنا له هنا ملخصة ومختصرة لأنه يمكن الرجوع إلى دراستنا المطولة المذكورة عنه (1).
ولد أبو راس سنة 1165 وتوفي سنة 1238، ومعنى ذلك أنه قد عاصر أحداثا هامة في حياة بلاده وفي حياة العالم الإسلامي قاطبة، ومن ذلك حملة أوريلي وحملة اللورد اكسموث الأوروبيين على الجزائر، وفتح وهران الثاني، وثورة درقاوة ضد العثمانيين، أما بالنسبة للعالم الإسلامي فلنذكر ظهور الدعوة الوهابية والحملة الفرنسية على مصر وصعود محمد علي، وبداية الإصلاح في الدولة العثمانية، وقد أثرت هذه الأحداث وغيرها على مزاجه وأحكامه.
واسمه الكامل هو محمد بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن الناصر الجليلي (2)، وبعض المؤلفين يقول (الناصري) بالنسبة رغم أن سلسلة نسبه التي كان حريصا عليها تذكره (الناصر) فقط بدون نسبة، وقد ولد في بيئة فقيرة جدا، نواحي جبل كرسوط (بالغرب الجزائري)، ورغم أن الحظ قد ابتسم له عدة مرات على يد بعض البايات، فإنه قد ظل حليف الفقر طول سنواته التسعين، ورحل به والده إلى نواحي متيجة قرب مدينة الجزائر، حيث عرف عن كثب الحكم العثماني، وهناك فقد والدته، زولة وهو صغير، وهو يقول عنها إنها كانت كرابعة العدوية علما وورعا. ثم انتقل به والده إلى نواحي مجاجة حيث كان الوالد يعلم القرآن للصبيان وحيث تزوج أيضا فرأى محمد أبو راس الصغير امرأة أخرى في البيت غير والدته، ولعله قد نفر من
__________
(1) نشرت في (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) عدد 12، 1974، كما نشرت في وقائع ندوة الجبرتي بمصر، القاهرة، 1976، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2) كنا قد ذكرناه فيما كتبنا عنه، بالنسبة (الناصري) ولكن لما تأكدنا من نسبه العائلي ومن نسخة شرحه (الشقائق النعمانية) الذي شرح به قصيدة (روضة السلوان) للفجيجي، رأينا ألا نذكره منسوبا، وهكذا استعملناه (الناصر) في كل هذا الكتاب.

ساسو
08-26-2016, 11:57 AM
ذلك وتعلم من والده القسوة، ولكن هذا الوالد سرعان ما توفي أيضا فأصاب أبا راس اليتم والفقر.
ولا ندري لماذا توجه عبد القادر، الأخ الأكبر لأبي راس، إلى المغرب، ولكن الظاهر أنه كان يبحث عن عمل، ومهما كان الأمر فقد كفل عبد القادر أخاه أبا راس وأخذه معه إلى المغرب، وهناك حفظ القرآن وشب، وعاد إلى معسكر بالفقر أيضا وبشيء من العلم، فوجد عالما قد طبقت شهرته آفاق الناحية، وهو عبد القادر المشرفي، الذي اشتهر بالإضافة إلى العلم التقليدي، بالأخبار والتاريخ. فتتلمذ عليه أبو راس وتأثر به كثيرا، ولازمه مدة، وكان أبو راس هو الذي يغسل ثياب الشيخ ويكويها كما يقول عن نفسه، ثم أحس أبو راس بشيء من الاستقلال العلمي فخرج إلى الريف وتزوج وبدأ ينشر علمه الذي حصل عليه، كما تولى القضاء، وقد دام على هذه الحال سنتين فقط، ثم عاد إلى معسكر لأنه أحس بمعلوماته تضعف في الريف، فاستقر بمعسكر ستا وثلاثين سنة. ففيها بلغت شهرته أقصاها وفيها انتصب للتدريس والفتوى وعرف بالحفظ والصوت الجهوري، وكان مجلسه العلمي كبيرا حتى بلغ، كما قيل، سبعمائة وثمانين مستمعا أحيانا. وكان شيخه عبد القادر المشرفي هو الذي رشحه ليكون خليفة له في التدريس.
وبالإضافة إلى المشرفي الذي كان له المربي والموجه والمشجع على شق حياته، درس أبو راس على مشائخ آخرين كثيرين ذكرهم في ثبته ورحلته، تتلمذ على بعضهم وهو في معسكر والمغرب ومدينة الجزائر وقسنطينة وتونس، وعلى آخرين حين توجه إلى الحج مرتين، في مصر والحرمين، ولا نريد هنا أن نثقل على القارئ بذكرهم، وحسبنا أن نحيل إلى دراستنا عنه المشار إليها وإلى رحلته المسماة (فتح الإله)، ولنذكر هنا من مشائخه أحمد بن عمار مفتي مدينة الجزائر الذي تأثر به، ومحمد مرتضى الزبيدي الذي خصه بكتاب سماه (السيف المنتضى فيما رويته بأسانيد الشيخ مرتضى)، وقد أخرج أبو راس عددا كبيرا من التلاميذ من أبرزهم أبو حامد المشرفي صاحب التآليف العديدة في التاريخ والأدب والرحلات.

ساسو
08-26-2016, 11:58 AM
كانت ثقافة أبي راس ثقافة عامة غير مركزة وثقافة محلية، وكانت تقوم على المجهود الشخصي أكثر من أي وسيلة أخرى، يعززها ذكاء حاد وذاكرة قوية وطموح بعيد المدى، وكان أبو راس معتدا بنفسه فخورا بما أنجز من تآليف وما جلب إليه من جمهور في الدرس وما يحفظه من الأسانيد والأخبار. فهو لا يراجع الدروس، ولا يبالي بقواعد النحو، وقد فاق جميع المؤلفين كثرة ما عدا السيوطي، وقد قيل في وصفه بأنه كان متوسط القامة، نحيف الجسم، أبيض البشرة، خفيف اللحية، صغير العينين، طويل الأنف نحيفه، كبير الرأس، ولعل كنيته (أبو راس) قد لصقت به لذلك.
تنقل أبو راس كثيرا بالنسبة لمعظم علماء عصره، ولعله كان يتردد على مدينة الجزائر التي سكن قربها وهو صغير، فقد وصف لنا علماءها في رحلته وتتلمذه على بعضهم، كأحمد بن عمار في تاريخ لم يحدده، ومهما كان الأمر فقد زارها بالتأكيد سنة 1214 لأنه سجل ذلك في رحلته، كما وجدنا نفس التاريخ على تقريظ ابن الأمين له عندئذ، والغالب أنه قد زار مدينة الجزائر أيضا وقسنطينة أثناء حجته الأولى، سنة 1204 والثانية سنة 1226، وكذلك زار تونس ومصر والحرمين وسورية وغزة والقدس، كما زار المغرب طالبا للعلم في تاريخ لا نعرفه ثم زاره سنة 1216، وخصوصا مدينة فاس وتطوان، وتناقش مع العلماء وحضر مجلس السلطان هناك، وقد ألف في تطوان بعض كتبه وأهداه إلى السلطان سليمان، ولعله قد رجع إلى المغرب أيضا بعد ثورة الطريقة الدرقاوية المشار إليها، وسواء كان في المغرب أو في تونس أو المشرق فإن أبا راس كان يجادل العلماء ويناقشهم ويدعوه الحكام ويناقشونه، وقد سجل ذلك في رحلته، فهو كما قلنا كان معتدا بنفسه، وكان على صلة وطيدة ببايات الغرب الجزائري ولا سيما محمد الكبير الذي خصه أبو راس بالقصائد والتأليف. وبنى له بعضهم قبة سماها (قبة المذاهب الأربعة) لأن أبا راس كان يفتي بها، كما أن بعضهم قد بنى له مكتبة وقدم له كرسيا يجلس عليه عند الدرس لكثرة المزدحمين عليه، بالإضافة إلى النقود والحاجات الأخرى الضرورية لمعاشه، ولذلك نجد أبا راس يشيد في كتبه

ساسو
08-26-2016, 11:59 AM
بولاة آل عثمان وبدورهم الإسلامي، فهو حينئذ من المؤرخين الموالين للدولة العثمانية وولاتها في الجزائر.
كتب أبو راس أكثر من غيره من الكتاب الجزائريين، ورغم أنه ألف تقريبا في كل فرع من العلوم المعروفة في وقته فإن أغلب كتبه في التاريخ والأنساب والأخبار، وقد ذكر هو نفسه في رحلته ثلاثة وستين كتابا بين صغير وكبير وقسمها إلى ثلاثة عشر قسما مبتدئا بالقرآن ومنتهيا بالشعر، ونسب إليه بعضهم 137 كتابا (1)، ومن كتبه التي لم يذكرها في رحلته عشرون كتابا معظمها في التاريخ والأنساب أيضا، وكثير من هذه الكتب قد ضاع، وتمكنا من الاطلاع على عدد منها ما يزال مخطوطا مثل رحلته (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) التي رأينا منها نسختين في المغرب، و (الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية) في مصر، و (عجائب الأسفار) في الجزائر وباريس، و (الدرة الأنيقة)، و (إسماع الأصم) و (الحلل السندسية) وغيرها، ومن الغريب أن بعض مؤلفات أبي راس قد ترجمت ونشرت بالفرنسية بينما لم تنشر إلى الآن كتبه بالعربية (2)، ومن الكتب المنسوبة لأبي راس والتي لم نطلع عليها كتاب في أخبار ملوك الترك والروم، وآخر في ملوك فرنسا، وآخر في أنساب الجن الخ.
وفي دراستنا المذكورة عنه حللنا كتابيه (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) و (الحلل السندسية)، وقد بينا أيضا هناك طريقة المؤلف في الكتابة
__________
(1) جاء ذلك في مؤلف وجده فور بيقي عند زميله ديلفان (المجلة الآسيوية) 1899، 306 - 309.
(2) باستثناء (الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة) الذي نشر مع ترجمة فرنسية في تونس سنة 1301 (1884 م)، وهناك شخص آخر يدعى أيضا محمد بوراس، قال عنه محمد المرزوقي أنه من أهل جربة تونس وأنه كان حيا سنة 1222 وأن له تأليفا بعنوان (مؤنس الأحبة في أخبار جربة) نشره المرزوقي بتونس سنة 1960، وقد خلط المرزوقي فيه بين محمد بوراس الناصر الجزائري، وأحمد بن ناصر الدرعي، فانظره.

ساسو
08-26-2016, 11:59 AM
ورأيه في التاريخ والمؤرخين، ومواقفه من العصر وأهله، فلا نريد أن نعود إلى ذلك هنا، وحسبنا الإشارة في آخر هذه الترجمة القصيرة له أن نذكر أن أبا راس انتقد علماء الوهابية الذين لقيهم بمكة سنة 1226، ومن جهة أخرى كان يحن لعودة الأندلس إلى أحضان الأمة الإسلامية، واعتبر فتح وهران بداية لتحقيق تلك الغاية، ولعل ذلك الفتح هو الذي حمله على أن ينظر إلى آل عثمان على أنهم ما يزالون يواصلون رسالتهم التي جاؤوا إلى شمال إفريقية من أجلها أوائل القرن العاشر (16 م)، ولا ندري ما إذا كان أبو راس قد غير رأيه فيهم بعد ثورة الطريقة الدرقاوية وبعد ما شاهد الولاة العثمانيين ينقلبون على العلماء أمثاله، ثم إن حديثه عن نابليون وعن الفرنسيين وعن الإنكليز والهولانديين يدل على أنه كان يعيش بعض أحداث العصر، ولا سيما ما تركته الثورة الفرنسية من آثار على أوروبا والعالم الإسلامي حتى إلى ذلك الحين (1)، وهكذا يتضح أن مساهمة أبي راس في تاريخ الجزائر والتاريخ العام مساهمة عظيمة وأن آثاره جديرة بالدرس والنشر وأن شخصيته تحتاج إلى إظهار واعتبار يليقان به (2).

الرحلات
أسهم الجزائريون مساهمة واضحة في كتابة الرحلات ولا سيما خلال القرن الثاني عشر (18 م)، وكانت بعض رحلاتهم نتيجة للحج، وبذلك تكون رحلات حجازية، وبعضها نتيجة لطلب العلم وبذلك تكون رحلات علمية، ولكن الجزائريين، بالقياس إلى كتاب الرحلات المغاربة، كانوا قليلي
__________
(1) نسخنا له نصا من كتابه (الحلل السندسية) تناول فيه أثر الحملة الفرنسية على مصر والشام، وقد نشرناه في (المجلة التاريخية المغربية) عدد 21 - 22، 1881. انظر علاقة بعض مؤلفات أبي راس بمؤلفات منسوبة إلى محمد بن يوسف الزياني. في فصل التاريخ خلال الاحتلال الفرنسي، لاحقا.
(2) بالإضافة إلى المصادر المذكورة في دراستنا عنه، نشير إلى دراسة فور بيقي (المجلة الاسيوية) 1899، وقد قارنه بيقي بابن خلدون في بعض النواحي.

ساسو
08-26-2016, 12:00 PM
الإنتاج. ولعل ذلك راجع إلى أن عددا من العلماء الذين توزعوا في العالم الإسلامي لم يعودوا إلى الجزائر ليكتبوا ملاحظاتهم إلى مواطنيهم، فلو رجع عيسى الثعالبي ويحيى الشاوي وأحمد المقري وأحمد بن عمار وأضرابهم لكتبوا رحلاتهم، ولكنهم لم يفعلوا، ومن جهة أخرى نود أن نلاحظ أن بعض هذه الرحلات كان مختصرا وبعضها مطولا، كما أن بعضها قد كتب شعرا فصيحا أو ملحونا وبعضها قد كتب نثرا مسجوعا أو مرسلا، على أن بعض الرحلات لا نعرف إلا أسماءها وبعضها لم يصل إلينا منها إلا القليل، غير أن بعضها وصل إلينا كاملا.
ومن الملاحظ أن كتب الجغرافية المحضة لا تكاد توجد عندنا، باستثناء رحلة ابن الدين وبعض إشارات الورتلاني وابن حمادوش، ويبدو أن الجزائريين لم يحفلوا كثيرا بالرحلات حتى خلال العهد السابق للعثمانيين، ومن أقدم الرحلات التي تنسب إلى ذلك العهد (رحلة التوجيبي) التلمساني التي قال عنها عبد الحي الكتاني إنها في عدة مجلدات وأنه قد اطلع عليها بتونس واعتبر الكتاني مؤلفها (مفخرة تلمسان) (1)، كما أن أحمد المقري قد ساق في (أزهار الرياض) رحلة لجده محمد المقري التلمساني أستاذ ابن خلدون (2)، وتنسب إلى أحمد القسنطيني المعروف بابن القنفذ رحلة تعتبر في حكم الضائعة، ولعلها موجودة في تونس (3).
أما الرحلات خلال العهد العثماني فمن الممكن تقسيمها إلى علمية وحجازية، ولنبدأ بالعلمية، والمقصود بها تلك الرحلات التي قام بها
__________
(1) (دليل الحج والسياحة) لأحمد الهواري، 293، وصاحب الرحلة هو أبو القاسم بن يوسف التوجيبي الأندلسي التلمساني، وهي التي حقق منها الأستاذ عبد الحفيظ منصور الجزء الثاني ونشره بعنوان (مستفاد الرحلة والاغتراب) تونس، 1975.
(2) نفس المصدر، 294.
(3) بروكلمان 2/ 711، الظاهر أن هناك خلطا في اسم ابن الخطيب الذي تنسب إليه الرحلة، ما زلنا لم نتوصل إلى توضيحه، ويكفي التنبيه عليه. انظر ترجمة حياة ابن القنفذ، وكذلك ما نشره له محمد الفاسي وما نشره عنه عادل نويهض.

ساسو
08-26-2016, 12:00 PM
أصحابها بغرض طلب العلم والزيارة والاطلاع على البلدان عموما والأخذ عن علمائها وممارسة التجارة فيها أحيانا، ومن أقدم من فعل ذلك عاشور بن موسى القسنطيني المعروف بالفكيرين (بضم الفاء وفتح الكاف - وهو لقب والده)، فقد نشأ في قسنطينة وأخذ العلم عن والده وغيره، ولاحظ عنه عبد الكريم الفكون أنه كان ذكيا، وتوفي والده سنة 1054، فشد الرحال لطلب العلم في عدة بلدان وطالت غيبته عن بلاده نحو العشرين سنة، وهي مدة طويلة بالطبع، سمحت له بالاطلاع والملاحظة وحذق لهجات ومعرفة قبائل وشعوب وبلدان، ومن هذه البلدان التي قصدها تلمسان التي لقي فيها سنة 1055 محمد بن سليمان مؤلف (كعبة الطائفين)، وكذلك زار المغرب الأقصى، ثم (جال في ملك الله إلى أن توغل في أرض السودان ولقى بها أجلة من علماء)، وعندما رجع إلى بلاده (أخبر بغرائب ما شاهد وعجائب ما رأى وما أخذ عن أولئك العلماء وأرباب الأسرار، وحصل منهم فن القراءات وجانبا عظيما من (فن) الأدب)، وبعد أن مكث بقسنطينة فترة لا نعرفها بالضبط ارتحل عنها من جديد (لظلمة أصابته منها) فذهب إلى تونس واستقر بها مدة وانتصب للتدريس بالزيتونة، وقد كان يحكي لتلاميذه غرائب ما رأى (من غريب البلاد وأهلها ويذكر عجائب المسموعات من زي أهلها لباسا وحكما وفوتا ويصف أنواع القوت)، وكان عاشور بن موسى (يكثر الحكايات واستحضار قطع الشعر). ومن تونس توجه بأهله إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فأدركه الموت بعد سنة 1074 (1).
هذه هي المعلومات التي استقيناها من هنا وهناك عن عاشور
__________
(1) أخذنا هذه المعلومات من محمد بن محمد الوزير السراج (الحلل السندسية) 2/ قسم 2، 1973، 248 - و 24. انظر كذلك (بشائر أهل الإيمان) لحسين خوجة، مخطوط الجزائر، فقد وصف عاشور بأنه (علم الأعلام) وقال عنه إن أمراء البلدان التي زارها كرموه، وأنه قد لقي شخصا يملك ثمانية عشر شرحا على (مقامات الحريري) الخ. انظر عنه أيضا كتاب (كعبة الطائفين) لابن سليمان 3/ 99، 94، 111، وكذلك العياشي 2/ 382. و (شجرة النور) لمحمد مخلوف، 310.

ساسو
08-26-2016, 12:01 PM
القسنطيني، فهو أديب جم المعارف، وهو ذكي شديد الفطنة والحفظ، وهو رحالة دامت رحلته عشرين سنة، وهو مدرس بارع له تلاميذ ومعجبون، ومنهم تلميذه محمد الحجيج الأندلسي المتوفي سنة 1108، ومحمد بن سليمان مؤلف (كعبلا الطائفين) والعياشي صاحب الرحلة، ومحمد قويسم، وعبد العزيز الفراتي. وكان كريما يطعم من عنده حتى اشتهر ذلك عنه كما كان يرفض العطايا التي كانت ترد عليه، ووصفه من يعرفه بأنه كان حسن الحديث والمجالسة والخلق، ذلق اللسان، لا يتكلم إلا إذا أتى بشاهد من القرآن والحديث والشعر، واشتهر خاصة بعلم النحو والصرف، وأخبر عنه محمد بن سليمان أنه كان أيضا عالما بالفلك، ومع ذلك هاجر من بلاده مرتين: مرة حين قصد الرحلة لطلب العلم وغاب مدة طويلة، ومرة حين أصابته أذاية، فاختار تونس ثم الحجاز، ورغم هذه القدرة على الدرس والتأليف فإننا لا نعرف أن عاشور قد ترك رحلة مكتوبة، فهل كتب رحلته أو اكتفى بقصها شفويا على تلاميذه وغيرهم؟ ذلك ما لا نعلمه أيضا، فإذا كان قد كتبها فهي لم تصل إلينا، وإذا كان لم يكتبها فالغالب أنها قد أمليت على بعض التلاميذ الذين كانوا يعجبون بأخباره وغرائبه، ومهما كان الأمر فإن رحلة عاشور رحلة (مسموعة) وغير مقروءة حتى الآن، فهل يتمكن الباحثون من معرفة آثاره في مستقبل الأيام (1)؟.
ولكن الرحلة غير الحجازية المكتوبة هي رحلة عبد الرزاق بن حمادوش الذي عاش في القرن الثاني عشر، فهي رحلة قام بها المؤلف لطلب العلم والتجارة من مدينة الجزائر إلى تطوان ومكناس وفاس، ثم عاد إلى الجزائر من تطوان، وقد وصف ابن حمادوش الحياة العلمية وجوانب من الحياة السياسية والاقتصادية في المغرب الذي زاره مرتين على الأقل، مرة
__________
(1) عاش محمد بن عبد الرحمن الأزهري (مؤسس الطريقة الرحمانية) حوالي ربع قرن في المشرق العربي والسودان خلال القرن 12 هـ (18 م). وقد ذكر شخصيا أنه عاش في دارفور ست سنوات يعلم سلطانها. ومع ذلك لا نعرف أنه ترك رحلة مكتوبة شبيهة برحلة معاصره الورتلاني.
(

ساسو
08-26-2016, 12:02 PM
سنة 1145 وأخرى سنة 1156، وسجل ملاحظاته وإجازاته وأحكامه في مذكراته أو رحلته التي تعرف أيضاب بـ (لسان المقال) (1)، ويجب التنبيه إلى أنه ليس كل الكتاب، الذي يحمل عبارة الجزء الثاني، خاصا بالمغرب، إذ فيه أخبار أيضا عن تونس والجزائر وغيرهما، ولكن جانب الرحلة منه يتعلق بالمغرب، ولعله قد سجل في الجزء الثاني أمورا أخرى عن المغرب لم نطلع عليها، ولا شك أن رحلة ابن حمادوش المغربية تعتبر مصدرا هاما عن المغرب في ذلك العهد لأهمية النصوص التي أوردها فيها ومشاهداته عيانا ما حدث من ثورات وتقاليد اجتماعية ونشاط العلماء ونحو ذلك.
ولم يكن ابن حمادوش هو وحده الذي رحل إلى المغرب الأقصى وسجل ملاحظاته عنه وأخباره، فقد كان العلماء الجزائريون كثيرا ما يذهبون إلى هناك للدرس والإقامة والتجارة ونحو ذلك من الأغراض، ولكن القليل منهم فقط هو الذي كتب عن ذلك في رحلة لمواطنيه وللتاريخ، ومن هؤلاء القلة محمد الزجاي الذي ذكرناه في هذا الكتاب عدة مرات، وكان معاصرا للباي محمد الكبير، ومن أبرز علماء تلمسان. فقد قيل عنه إنه صاحب (الرحلة الفاسية) (2) التي لم نطلع عليها، كما أننا لم نعرف أن أحدا تحدث عنها أو وصفها، ويقال إن لعبد القادر المشرفي، أستاذ أبي راس، (رحلة) مخطوطة بزاوية الهامل بالجزائر، ولكننا لم نطلع عليها ولم نعرف عنها أكثر من ذلك (3)، فقد تكون أيضا رحلة فاسية أو مغربية وقد تكون حجازية مشرقية.
__________
(1) درسنا هذه الرحلة في البحث الذي قدمناه للمؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارته، تونس 1974 - 1975، ونشر البحث في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، أبريل 1975، وغيرها، كما نشر في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). انظر ترجمة ابن حمادوش أيضا في فصل العلوم والفنون من هذا الكتاب.
(2) انظر محمد بن علي التلمساني (إتمام الوطر) مخطوط باريس. كما كان لأبي القاسم بن سلطان القسنطيني رحلة حجازية وأخرى نحو تطوان لا ندري مكانها.
(3) أشار إلى ذلك عبد الله ركيبي (تطور النثر الجزائري)، القاهرة 1976، 47، هامش 3.

ساسو
08-26-2016, 12:02 PM
ولعل آخر هذه الرحلات غير الحجازية هي رحلة الحاج ابن الدين الأغواطي إلى الصحراء، والواقع أن عمل ابن الدين هذا ما زال غامضا، ذلك أن معلوماته هامة، ولكننا ما زلنا في حاجة إلى معلومات إضافية عنه. فقد جمع بين الأخبار عن الصحراء وقراها وواحاتها وعاداتها وبين الحديث عن جزء من الجزيرة العربية وجربة وقابس وشنقيط ونحوها، ثم إنه ليس من الواضح أنه قد زار الأماكن التي وصفها، ولعله سمع عنها فقط باعتباره من سكان الأغواط إحدى مدن الصحراء التي تحدث عنها. حقا إنه قد حج، وهذا يؤهله للحديث عن الجزيرة العربية ولا سيما الحجاز وبعض أخبار تونس التي قد يكون مر بها، ولكن يكاد يكون من المؤكد أنه لم يزر الدرعية السعودية عندئذ، كما أنه من غير المؤكد أنه زار أيضا شنقيط وغدامس وغيرهما من المناطق النائية التي تحدث عنها.
فإذا أخذنا في الاعتبار هذه الملاحظات وجدنا أن رحلة ابن الدين الأغواطي على غاية من الأهمية. فهي مكتوبة سنة 1242 رغم أن بعضهم قد ذكر أن هناك خطأ في هذا التاريخ، وأنه قد كتبها بطلب من قنصل أمريكا عندئذ بالجزائر، السيد وليام هودسون، وهي تقع في كراسة تحتوي على أربع عشرة صفحة، وكان القنصل قد طلب منه المزيد والتفصيل ولكن ابن الدين اكتفى بذلك القدر، ونحن نتصور أن ابن الدين قد كتب أكثر من ذلك لنفسه ولكنه لخص للقنصل ما رآه كافيا، وقد ترجم القنصل هذه الصفحات إلى الإنكليزية ونشرها (1). كما ترجمها السيد دافيزاك إلى الفرنسية عن النص الإنكليزي ونشرها أيضا مع تعاليق وتصحيحات هامة (2)، وأهم المناطق التي ذكرها ابن الدين في رحلته: الأغواط، وتاقدامت، وعين ماضي، وجبل
__________
(1) طبعت في لندن، بدون تاريخ، ثم لخصت ذلك تلخيصا وافيا (مجلة أمريكا الشمالية) يوليو 1832، وقد ترجمت هذه الخلاصة إلى الفرنسية في (حوليات الرحلات الجديدة) نوفمبر 1832 أيضا.
(2) نشر ذلك في مجلة (الجمعية الجغرافية الباريسية) سنة 1836. عن هذه الرحلة انظر ترجمتنا لها في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، ج 2.

ساسو
08-26-2016, 12:03 PM
عمور، ومتليلي، ووادي ميزاب، والقليعة (المنيعة) وورقلة، وتقرت، وتوات، وتميمون، وعين صالح، وشنقيط، وغدامس، والدرعية، وقابس، وجزيرة جربة، وقد استفاد الأوروبيون والأمريكيون، أثناء اهتمامهم بالصحراء ومحاولة اكتشافها، من هذه المعلومات التي كتبها الحاج ابن الدين عن قراها وعادات أهلها ومسالكها، وإذا كان ما نشر من هذه الرحلة حتى الآن مهما، فإن أهم منه هو العثور على الرحلة كاملة، إذا كان ابن الدين قد تابع الكتابة عن مغامراته واطلاعاته في المشرق والصحراء (1).
أما الرحلات الحجازية فهي أكثر وفرة نسبيا (2)، وسنقسمها إلى قسمين شعرية ونثرية، وقبل الحديث عن القسمين نقول إن توجه الجزائريين إلى الحجاز كان عادة نتيجة توق روحي نحو الحرمين وزيارة البقاع التي وطئتها أقدام الرسول صلوات الله عليه وسلم وصحابته، فالحجاز في نظرهم ليس مجرد بقعة جغرافية تزار للسياحة والعلم ونحو ذلك، ولكنها كانت قطعة أرض طاهرة تضم تاريخ الوحي والدعوة والأمة الإسلامية، ولذلك فهم يسجلون عواطفهم المتأججة لرؤية الحجاز وأهله والتبرك بترابه وهوائه، والذي يقرأ مقدمة رحلة ابن عمار يدرك هذه الحقيقة. كما أن الرحلات الشعرية تشترك في ذلك إن لم تفق الرحلات النثرية في وصف الأحاسيس الدينية والروحية، ألم يقل عبد الله بن عمر البسكري في مطلع قصيدته:
دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها
__________
(1) أخبرني محمد السويدي الأغواطي أن رحلة الحاج بن الدين كانت، على ما يظن، توجد كاملة عند رئيس بلدية الجزائر في أوائل الاحتلال، وقد استقى السويدي ذلك من أحد أقرباء ابن الدين.
(2) تناولنا (الرحلات الحجازية الجزائرية) في بحث مطول قدمناه إلى الندوة العالمية لتاريخ الجزئر العربية التي انعقدت بالرياض في المملكة العربية السعودية، خلال شهر أبريل 1977، وقد ترجم البحث إلى الإنكليزية أيضا لنشره في وقائع الندوة المذكورة، وهو منشور في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). ج 1. وكذلك في وقائع الندوة.

ساسو
08-26-2016, 12:03 PM
وعندما حل محمد بن عبد الكريم المغيلي بالحرم اهتزت نفسه ونطق بقصيد مؤثر افتتحه بقوله:
بشراك يا قلب هذا سيد الأمم ... وهذه حضرة المختار في الحرم
أما في العهد العثماني فقد كانت الموشحات والقصائد تسبق الزيارة الواقعية. ولكن روح الشعر عندهم قد حلت محلها براعة النثر، كما فعل ابن عمار والورتلاني.
والملاحظ أن الرحلات الشعرية معظمها من الغرب الجزائري. وكان بعضها مكتوبا بشعر فصيح وبعضها بشعر ملحون. ومما كتب بالفصيح قصيدة محمد بن محمد بن منصور العامري التلمساني التي فرغ منها سنة 1152 وهي قصيدة همزية متوسطة الجودة وصف فيها مراحل رحلته من تازة، حيث كان يقيم، إلى الحرمين الشريفين ثم منهما إلى الشام. والقصيدة تبدأ هكذا:
أزمع السير إن دهت أدواء ... لشفيع الأنام فهو الدواء (1)
كما نظم عبد الرحمن بن محمد بن الخروب المجاجي رحلته من مجاجة إلى مكة المكرمة في قصيدة مطولة فصيحة سنة 1063 (2). وهي تبدأ على النحو التالي:
نشق الفيافي فدفدا بعد فدفد ... جبالا وأوعارا وأرضا وطية
وقد أخبر المجاجي فيها أنه التقى بالشيخ علي الأجهوري بمصر، وزار في الإسكندرية قبر أبي العباس أحمد المرسي وقبر ابن الحاجب. ومن الذين حجوا معه أبو الحسن بن ناجي، صاحب الخنقة، الذي كانت له قرابة مع أمير ركب الحجاج الجزائريين. وأخبر أن ابن ناجي قد فارقهم عند بلدة ليانة ووصف مكانته في قومه ومكانة أمير الركب وأملاكه في الزيبان وعلاقته
__________
(1) (دليل مؤرخ المغرب) 2/ 433.
(2) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 1564 ورقم 1565، وهي في حوالي أحد عشرة ورقة، ولكن مبتورة الأول.

ساسو
08-26-2016, 12:04 PM
بالسلطة (1). وفي القصيدة أخبار أخرى عن الجزائر وتونس ومصر وطرابلس.
ولنذكر من الشعر الملحون قصيدة محمد بن مسائب التلمساني في القرن الثاني عشر. فقد نظم قصيدة قص فيها رحلته من تلمسان إلى مكة المكرمة عبر مدن وقرى الجزائر من غربها إلى شرقها مارا بالطريق التقليدي الذي كان يسلكه حجاج الغرب (مليانه فالبليدة فمدينة الجزائر فمجانة فقصر الطير فقسنطينة فالكاف، ثم تونس) وقد قام ابن مسائب برحلة برية مر فيها بعد المدن المذكورة بطرابلس ثم مصر، بينما كان الذين يأخذون طريق البحر يركبون من تونس وينزلون في الإسكندرية (2). وتبدأ رحلة ابن مسائب الشعرية بهذا الطالع:
يا الورشان أقصد طيبه ... وسلم على الساكن فيها
وكان لابن مسائب رفيقان في هذا الفن هما: ابن التريكي والزناقي، فكلاهما رحل مثله من تلمسان إلى مكة، وكلاهما كتب مثله رحلته شعرا ملحونا (3). ومن الممكن أن نعد (عقيقة) المنداسي من هذا اللون. فهي أيضا قصيدة ملحونة وفي مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما عرفنا، ولكنها لا تسجل رحلة وإنما تصف الأشواق الشخصية والأماكن الأثرية في الحجاز بتفصيل وبراعة (4).
__________
(1) أمير ركب الحج عندئذ هو عبد الكريم الفكون، ولكن الاسم غير واضح في النص. انظر حياة الفكون، سابقا.
(2) محمد بن أبي شنب (المجلة الإفريقية) 1955، 259 - 282، في هذا المصدر نص القصيدة بالعربية والفرنسية.
(3) يرى ابن أبي شنب في نفس المصدر أن شعر محمد بن التريكي أقل قيمة من شعر ابن مسايب، ولكنه قال عن شعر الزناقي (وهو في النص الزقاقي) أنه يمتاز بالوضوح والدقة.
(4) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 4564، تحدثنا في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء عن شرح (العقيقة) من قبل أبي راس وابن سحنون، انظر أيضا فصل الشعر، فقرة الشعر الشعبي.

ساسو
08-26-2016, 12:04 PM
ولكن الرحلات المصطلح عليها عادة هي الرحلات النثرية لا الشعرية:
ذلك أن الأولى هي التي يسجل فيها أصحابها انطباعاتهم عما شاهدوه وسمعوه ليس فقط في الحجاز ولكن في مختلف المدن والأقطار التي مروا بها من الجزائر إلى بغداد، مرورا بتونس وطرابلس ومصر والجزيرة العربية وسورية والقدس وهلم جرا. ولا ندري أن أحدا من الجزائريين قد سجل انطباعاته في كل هذه الأماكن، غير أن أقرب الرحلات في ذلك هي رحلة الورتلاني ورحلة أبي راس. وقد قلنا إن معظم هذه الرحلات من إنتاج القرن الثاني عشر (18 م). ذلك أننا لا نعلم أن أحد العلماء قد سجل رحلة حجازية نثرية خلال القرن العاشر أو الحادي عشر. وهذا مثلا عبد الكريم الفكون الذي ظل طول حياته تقريبا يقود ركب الحج من قسنطينة إلى الحرمين لا نعرف أنه كتب رحلة رغم أنه كتب في النحو والصرف والتراجم والشعر الديني وغيره.
وأول رحلة حجازية مذكورة في المصادر هي رحلة البوني المسماة (الروضة الشهية في الرحلة الحجازية). ومؤلفها هو أحمد بن قاسم بن محمد ساسي البوني الذي تحدثنا عنه في هذا الكتاب عدة مرات. فقد عاش البوني في المشرق، لا سيما مصر والحرمين، كما عاش طويلا في تونس. وقرأ على عدد من الأساتذة هنا وهناك وأجاز وأجيز. وقد ذكر الجبرتي أن البوني قد ورد مدينة رشيد وأجاز بها الشيخ حسن بن سلامة الطيبي المالكي المتوفى سنة 1176 (1). وذكر أحمد الزروق، نجل البوني، الذي أصبح بعد والده من العلماء البارزين في عنابة، أن والده قد تحدث عن شيوخه في رحلته الحجازية، وعددهم يزيد عن العشرين شيخا. وقد نصح أحمد الزروق القارئ بقراءة هذه الرحلة بقوله (فعليك به (أي التأليف) فإن فيه طرفا وظرفا) (2). ولكن رحلة البوني تعتبر اليوم ضائعة، فلا ندري بالضبط ما كتب
__________
(1) الجبرتي (عجائب الآثار) 1/ 266.
(2) مخطوط المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2160 من تعليق له على فتوى لوالده، انظر سابقا.

ساسو
08-26-2016, 12:05 PM
فيها. هل هي مثل رحلة أبي راس يعدد فيها تنقلاته وشيوخه والمسائل العلمية التي عرضت له، أو هل هي مثل رحلة الورتلاني يسجل فيها مسالكه ومنازله ودراساته وأخباره والمرافقين له والحوادث التي جرت له ومشاهداته ونحو ذلك. غير أن قول ولده بأن فيها طرفا وظرفا يدل على أن الرحلة لم تكن كلها عن المسائل العلمية والشيوخ.
ورغم أننا تحدثنا عن رحلة ابن حمادوش في المغرب فإننا نود أن نشير هنا إلى ما يمكن أن يكون قد كتب عن الحجاز وغيره أيضا. حقا إن ما وصل إلينا من رحلته هو قطعة من الجزء الثاني، وهو كما أشرنا يضم أخباره في المغرب والجزائر، ولكن ابن حمادوش كان قد حج سنة 1125، أي قبل ذهابه إلى المغرب، ثم توجه إلى المشرق من جديد سنة 1161 حيث وجدناه في هذا التاريخ في مدينة رشيد أيضا، ولعله قد تجول في مصر وعاود الحج وتنقل في أرض الله، كما أننا لا ندري. هل رجع إلى الجزائر أو ظل في المشرق. ثم إنه كتب الجزء الأول من رحلته وهو ضائع، ولعله واصل كتابة الرحلة في الجزء الثالث أيضا لأن التاريخ الذي كتب فيه الجزء الثانى هو 1156 - 1161. ويغلب على الظن أن لابن حمادوش أيضا رحلة حجازية أو مشرقية سجلها إما في الجزء الأول من (لسان المقال في النبا عن الحسب والنسب والآل) أو في الجزء الثالث. فقد عاش عمرا طويلا بعد الجزء الذي كتبه، بلغ عند البعض ثلاثين سنة (1).
أما رحلة ابن عمار المسماة (نحلة اللبيب في أخبار الرحلة إلى الحبيب) فأمرها يختلف. فابن عمار قد حج لأول مرة سنة 1166 وقد جاور بالحرمين حوالي اثني عشر سنة. وتنقل بين الجزائر والمشرق عدة مرات. فقد وجدناه بتونس سنة 1195 التي جاءها بقصد الإقامة، كما ذكرنا. ووجدناه سنة 1205 يجيز محمد خليل المرادي في مكان لا نعرفه ولعله مكة
__________
(1) ولد ابن حمادوش سنة 1107 كما ذكر ذلك عن نفسه وعاش حوالي تسعين سنة فيكون قد عاش إلى حوالي سنة 1197، انظر ترجمتنا له في فصل العلوم والفنون من
هذا الجزء.

ساسو
08-26-2016, 12:06 PM
المكرمة. كما تحدث زميله حسين الورتلاني صاحب الرحلة أنه كان رفيقه في مصر سنة 1166. هذا ما نعرفه عنه من تواريخ، ولكن ما لا نعرفه أكثر من ذلك.
قسم ابن عمار رحلته إلى ثلاثة أقسام: مقدمة وغرض مقصود (وهو الرحلة) وخاتمة. وفي المقدمة، التي هي القسم الوحيد الموجود، والمطبوع أيضا، من هذه الرحلة، وصف ابن عمار أشواقه إلى الحرمين وإلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتحدث بالمناسبة عن شعر الموشحات المولدية والمدائح النبوية وعادات أهل الجزائر أثناء الاحتفال بالمولد النبوي. وقد تناول ابن عمار في القسم الثاني، أي الغرض المقصود، (ما يحدثه السفر إلى الإياب وحط الرحال). ومعنى هذا أنه تحدث في هذا القسم عن رحلته من الجزائر عبر تونس وطرابلس ومصر إلى الحجاز والعودة، كما فعل زميله ورفيقه الورتلاني. ولكن هذا القسم الهام مفقود الآن. كما أن الخاتمة التي جعلها فيما (نشأ عن ذلك (يعني السفر) بعد السكون وانضم إليه) ضائعة بدورها. ومن المرجح أن ابن عمار قد أكمل الرحلة لسببين: الأول أن تلميذه أبا راس وصفه بما يدل على أنه أكملها وأصبح معروفا بها وذلك في قوله عند الحديث عنه (مؤلف الرحلة) (1). فلو لم يكن ابن عمار قد أكملها لما قال أبو راس تلك العبارة عنه. والثاني أن ابن عمار قد عاش حوالي أربعين سنة بعد حجته سنة 1166. فلا يمكن نظريا أن لا يكمل رحلته خلال هذه المدة كلها (2). ولعل بقية رحلته توجد في الحرمين أو القاهرة أو تونس، لأنه عاش في هذه الديار وأطال الإقامة بها.
وكان أبو راس من الذين أكثروا الترحال في بلاده وخارجها. فقد حج
__________
(1) أبو راس (فتح الإله) مخطوط. وعبارة أبي راس هي (صاحب الرحلة، الجمة الفوائد، حلوة الموائد، عذبة الموارد).
(2) وجدنا له إجازة لمحمد خيل المرادي مؤرخة بـ 1205، وبذلك يكون ابن عمار قد عاش على الأقل 39 سنة بعد الحجة، انظر ترجمتنا له في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء.

ساسو
08-26-2016, 12:06 PM
مرتين كما أسلفنا. وكان اهتمامه بالتاريخ والأنساب وحافظته القوية يساعدانه على التقاط ما قد يفوت الآخرين عن الأماكن التي زارها. تجول أبو راس في المغرب الأقصى عدة مرات، وأثناء حجتيه تجول في تونس ومصر والحرمين وسورية والقدس وغيرها. بالإضافة إلى تنقلاته في وطنه الجزائر وكان في كل ذلك يجادل ويسجل الحوادث ويروي العلوم ويطلع. وهذه هي بعض التواريخ الهامة في حياته قد تساعدنا على فهم رحلته، فقد توجه إلى المغرب للدراسة وهو يافع أثناء تاريخ لا نعرفه بالضبط، وقد يكون بين 1175 و 1180، وكان في مدينة الجزائر عدة مرات منها مرة سنة 1214. وكان حجه الأول سنة 1204 وحجه الثاني سنة 1226. وكلاهما على ما يظهر كان بحرا. وكان في رحلته يحاول أن يقتدي بابن رشيد وابن مرزوق الخطيب والعياشي والدرعي. ولكن شتان ما كتب وما كتبوا. فقد كتب (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) وخصص فيه فصلا عن رحلاته في المغرب والمشرق. فإذا به لا يتحدث إلا عن شيوخه الذين درس عنهم والقضايا العلمية التي عرضت له هنا وهناك وبعض الأخبار عن العلماء وعن حركة محمد بن عبد الوهاب، ونحو ذلك. ولذلك قال أحد الباحثين إن رحلة أبي راس غير مهمة (1). ولعل أبا راس، الذي اشتهر بتكرار الشروح على نفس العمل، قد تحدث عن رحلته المقصودة في كتابه المفقود (عدتي ونحلتي في تعداد رحلتي).

الورتلاني ورحلته
أسهم الورتلاني بعمل كبير في التاريخ، وهو لذلك يستحق منا وقفة قصيرة نختم بها هذا الفصل. ونود أن نشير إلى أن دراستنا عن (الرحلات الحجازية الجزائرية) قد تضمنت نبذة عن حياته وتحليلا لما كتبه بالخصوص
__________
(1) فور بيقي (المجلة الآسيويمة)، 1899، 316، وانظر عن أبي راس ما كتبناه عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).

ساسو
08-26-2016, 12:07 PM
عن الجزيرة العربية ومصادره في ذلك.
ولد الحسين بن محمد السعيد في بني ورثلان، ومن ثمة نسبته الورثلاني، سنة 1125 وتوفي بنفس المكان سنة 1193. ويذهب الورثلاني إلى أنه من أسرة عربية شريفة. وكان جده قد جاء من ميلة وصاهر أسرة محمد أمقران حاكم منطقة قنزات وأصبح شيخ علم معترفا له وأسس نفوذ الأسرة الروحي في المنطقة حتى أنه بعد أن توفي أقيمت له قبة باعتباره من كبار المرابطين، وهكذا اجتمع في أصول الورثلاني الدين والدنيا: الدين عن طريق جده ووالده اللذين كانا أيضا من المرابطين، والدنيا عن طريق أخواله أولاد أمقران الذين كانوا حكاما ورجال سيف. وقد تزوج الورثلاني نفسه من إحدى بنات هذه الأسر الكبيرة، وهي أسرة المسعود بن عبد الرحمن من بني عيدل. كما كانت أسرته على صلة بعائلات قسنطينة.
ومع ذلك فإن الورثلاني نشأ نشأة فقيرة أساسها التقشف الصوفي. وفي المدرسة القرآنية، التي كان يديرها والده، حفظ الورثلاني القرآن الكريم وهو في سن مبكرة. وبعد أن شب ذهب يبحث عن العلم في مختلف الزوايا، فتعلم الفقه والنحو ثم أضاف إلى ذلك علمي التصوف والتوحيد، ولا شك أنه نال حظا من اللغة والأدب والعروض والتاريخ. وهكذا أصبح الورثلاني، كجده ووالده، من علماء المنطقة البارزين، ومن الذين يدين لهم الناس بالطاعة الروحية والاحترام. وقد أصبح بعد ذلك من المدرسين وشيخ زاوية الأسرة. وكان يذهب للتدريس في بجاية وغيرها. وتخرج على يديه عدد كبير من التلاميذ الذين تولوا بدورهم وظائف دينية سامية. وغلبت على الورتلاني الروح الصوفية أكثر من الروح الفقهية، ومع ذلك فقد كان يجمع بين علوم الظاهر والباطن. وكان يسير في مذهبه الصوفي على مبادئ الطريقة الشاذلية. وكان لا يهتم باللباس ولكنه كان يبدي اهتماما بأحوال الدنيا. كما كان يكره أهل الحضر والحكام العثمانيين. وأصبح كمرابط يتدخل بين الناس لإصلاح ذات البين ويعلم مبادئ الدين التي حرفها البعض عن مواضعها. وقد ذكر أنه أثناء رحلته الأخيرة أخذ معه زوجتيه: عيوشة التي كانت من

ساسو
08-26-2016, 12:08 PM
عائلة المسعود بن عبد الرحمن، وعائشة. وقد قال عن عيوشة التي توفيت له في تونس أثناء عودته من الحج، إنها كانت تحفظ ربع القرآن وتحفظ أيضا الوظيفة الزروقية وجزءا من رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان له أبناء أحدهم، هو محمد كان متزوجا من فاطمة، أخت عيوشة المذكورة. وقد ذهب معه إلى الحج وروى كيف كان خائفا عليه من اللصوص في الجزيرة العربية.
ألف الورثلاني عدة كتب معظمها في الفقه والتصوف والتوحيد وقد أشرنا إليها في مكانها من هذا الكتاب. وأكبر عمل ألفه في التاريخ والأخبار هو الرحلة التي نحن بصددها. وكان له شعور قوي بالتاريخ، خلافا لبعض علماء عصره. فعزم على أن يكتب عملا ضخما يضاهي به أو يفوق عمل الدرعي والعياشي وغيرهما من كتاب الرحلة المغاربة. وقد سمى رحلته تسمية تلفت نظرنا ونحن بصدد دراسة التاريخ، وهي (نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار). وانتقد في المقدمة، كما مر في بداية هذا الفصل، عدم اهتمام أهل بلاده بالتاريخ وسخريتهم من دراسته ودارسيه، بينما علم السيرة النبوية جزء منه. واعتبر هو علم التاريخ من العلوم التي تزيد في فضل الإنسان وتبعده عن القبائح. فكان هذا رأيا غريبا من الورثلاني الذي كان مهتما بالتصوف وعلوم الباطن أيضا.
حج الورثلاني مرتين (أو ثلاث مرات) الأولى سنة 1153 والثانية سنة 1166 والثالثة سنة و 117. وفي إحدى هذه الحجات اضطر إلى الرجوع من تونس. وكان قد سافر بالبر لأنه وصف طريقه بالتفصيل. وقد مر الورثلاني في طريقه، بعد أن ودع وداعا حارا عائليا وشعبيا، بقصر الطير حيث آلاف الحجاج من جميع الطبقات والجهات. وقصد سيدي خالد وأولاد جلال وبسكرة، ومنها إلى سيدي عقبة فزريبة الوادي فزريبة حامد، ثم توزر وقابس. وبعد ذلك تابع سيره على الساحل الليبي متوقفا بطرابلس وبرقة. وقد وصف الورثلاني هذه الأماكن بالتفصيل، كما وصف مصر وأهلها وعلماءها وعاداتها. ومن مصر توجه إلى الجزيرة العربية وتحدث عن ساحل

ساسو
08-26-2016, 12:09 PM
البحر الأحمر وعن القرى والمدن التي تحاذيه وعادات القبائل هناك مع ركب الحجيج المغربي والمصري. كما تحدث، كلما اقترب من مكة، عن العيون والآبار والحياة السياسية والزراعية في المناطق التي مروا بها. وبالإضافة إلى ذلك تحدث عن مكة أيام موسم الحج وعن المدينة وحياتها، وعن العلماء الذين لقيهم. وكان يرغب في الإقامة بالمدينة غير أن أهله لم يتركوه يفعل فاضطر إلى العودة معهم. وقد تحدث هناك عن فقدان الأمن في الطريق ووفرة الماء وقلته ومقابلته لأمير مكة ولأمير فزان، وعن عادات المصريين مع المغاربة.
اعتمد الورثلاني في هذه الرحلة على مصادر كثيرة، فعن الجزائر اعتمد بالطبع على مشاهداته الخاصة، وعلى ما رواه له العلماء الذين لقيهم فيها. وقد طاف فيها كثيرا من غربها إلى شرقها. وكان يهتم خاصة بالزوايا والمرابطين وحياة العامة مع السلطة العثمانية. ومن الكتب التي اعتمد عليها أيضا (عنوان الدراية) للغبريني، و (النبذة المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة) و (الوغليسية) بشرح عبد الكريم الزواوي. أما عن أخبار طريق الحج وتونس ومصر وطرابلس والجزيرة العربية فقد اعتمد على (رحلة) الدرعي بالخصوص، ثم العياشي وعلى (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) و (الأدلة السنية) لابن الشماع وكذلك اعتمد على مؤلفات المقريزي والبكري، والعبدري، والسمهودي وابن فرحون، والشطيبي. كما أنه رجع إلى مصادر أخرى لم يذكرها. وقد أكثر الورثلاني من النقل على الدرعى الذي كان أحيانا ينقل عنه الصفحات كاملة، ويسميه (شيخ شيوخنا).
وقد بين الورثلاني في المقدمة أنه كان ينوي كتابة رحلة عظيمة تكون مفخرة له ولبلاده، ولكنه سرعان ما ظهر عليه الفتور، وأكثر من النقل والاستطراد، وتداخلت معلوماته. (وبعد فإني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار، والرباع والقفار والديار، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياف والقرى والمزارع والأمصار، والعلماء والفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار، والأشياخ العارفين والأخوان والمحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار، من المشرق

ساسو
08-26-2016, 12:13 PM
إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم مع غير الله قرار - أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار، مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة والحكايات المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية، مع ما فيها من التصوف مما فتح به علي أو منقولا من الكتب المعتبرة) (1) ولا ندري إن كان الورثلاني قد ألف هذه الرحلة دفعة واحدة أو على مرات. فهو يذكر أن دفترا قد ضاع منه في ليبيا أثناء عودته وكان يحتوي على ملاحظات حول أماكن الماء ببرقة. كما أخبر كذلك أنه كان يغتنم فرصة استراحة القافلة ويكتب ملاحظاته. ولعل الورثلاني كان يأخذ أثناء الحج ملاحظات في شكل مذكرات وتقاييد حتى لا تفلت منه المعلومات، وعندما عاد إلى وطنه أخذ في كتابة الرحلة أو في إملائها. ويبدو أنه كان يمليها على تلاميذه وأنه لم يراجع ما أملاه، لذلك كثر التكرار والأخطاء وتداخل المناسبات (2). ولعل الكبر قد حال دون المراجعة، رغم أن الإملاء قد تم سنة 1182.
وكان الورثلاني عند كلمته، ولا سيما بالنسبة لأخبار المتصوفة. فقد خصص قسما كبيرا من رحلته لأخبارهم في الجزائر وغيرها. وتحدث أيضا عن الخرافات والغيبيات والكرامة المنسوبة إليهم. وتحدث عن شروط الساعة، وكتب بعض مذكراته عند قبر بعضهم تبركا به، وعزم على صيام الدهر، وقال عن الحمى التي أصابته في المدينة إنها هدية من الرسول إليه، وأقر بنبوة خالد بن سنان العبسي، وتوجه بقلبه وروحه لزيارة قبر عبد الرحمن الأخضري، وقبر عقبة بن نافع، وغيرهم من الأولياء والصالحين. وناقش
__________
(1) الورتلاني، المقدمة، 3.
(2) يذهب الحاج صادق في دراسته لرحلة الورتلاني إلى أن هذا لم يكن يعرف العربية جيدا، وهو ادعاء غير صحيح في نظرنا، لأن الورتلاني كان من الفقهاء العاملين، ولم تكن الأخطاء نتيجة جهله بقواعد اللغة ولكن لعدم مراجعة الكتاب بعد الفراغ منه، وكان قد أملاه على من لم يكن يحذق اللغة. انظر الحاج صادق (المجلة الإفريقية)، 1951، 390 - 391.

ساسو
08-26-2016, 12:14 PM
قضية شرب القهوة وتناول الدخان وسماع الموسيقى، واستنكر خروج المرأة متبرجة، وقطع الميراث عنها في بعض الجهات، وغير ذلك من العادات القبيحة في نظره والتي سماها عمل الجاهلية. كما استنكر طريقة الحكم العثماني وقلة العلم في عهده وشيوع الرشوة والاستيلاء على الأوقاف وانتشار الظلم. وقال عن أهل الجزائر أثناء الحج إن (أهل وطننا فيهم الغلظة والجفاء وسوء الأدب وعدم إذعانهم للحكم)، وفي مكان آخر قال عنهم أيضا (وأما الركب الجزائري فلا حكم عندهم أصلا، ولا يتوقفون عند الأمر والنهي). وقارن بين الجزائر وتونس وطرابلس فوجد أن الحياة الاقتصادية في البلدين الأوليين أغنى وأخصب، بينما كانت ليبيا تعيش على ما يرد إليها من الخارج وليس فيها من المناطق الخصبة سوى جزء ضئيل. وهذه الملاحظات نفسها أبداها بالنسبة لمصر والحجاز إذ أكثر من الحديث هناك عن فساد الأمن وقلة المياه وحالة الزراعة ونحو ذلك.
وهكذا يتضح أن رحلة الورثلاني، رغم كل ما فيها، تعتبر موسوعة أخبار عن جزء كبير من العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر (18 م). فهي من المراجع التي لا غنى عنها في هذا المجال. وكان تكرار حجه وإتقانه للعربية ومعرفته بعادات الشرق والغرب قد جعلت الورثلاني حكما منصفا على العصر وأهله في كثير من المناسبات، وقد يكون من المفيد للتاريخ أن نعثر على كناشاته التي كان يسجل فيها ملاحظاته أو على النسخة الأصلية المملاة من الرحلة. فرجل كالورثلاني تضم أوراقه هاتيك الملاحظات والانطباعات والأحكام جدير بالدراسة والبحث بطريقة أكثر عمقا وشمولا مما درس به حتى الآن (1).
__________
(1) عدنا في هذا التعريف بالورتلاني وعمله إلى رحلته المطبوعة، وإلى ما كتبه عنه الحاج صادق في عمله المذكور، وكذلك دراستنا عنه التي قدمناها لندوة تاريخ الجزيرة العربية، وعلى من يرغب في معرفة ما كتبه الورتلاني عن الجزيرة العربية والمشرق عموما، أن يعود إلى هذه الدراسة. وقد ظهرت عده بحوث عن الورتلاني منذ كتبنا عنه هنا، مثل بحث المختار فيلالي، جامعة قسنطينة.

ساسو
08-26-2016, 12:15 PM
الفصل السادس
العلوم - الفنون

ساسو
08-26-2016, 12:16 PM
فارغة فى الأصل

ساسو
08-26-2016, 12:16 PM
مقدمة
إذا كان الحكم على ازدهار الحياة الثقافية في عصر من العصور يقوم على تقدم العلوم والفنون فيه، فإن العهد العثماني في الجزائر يعتبر فقيرا في هذه الناحية. فقد عرفنا عناية العلماء بالعلوم الشرعية والأدب والتواريخ المحلية والتصوف، ولكن عنايتهم بتدوين الطب والحساب والفلك والرسم والعمارة والموسيقى قليلة. ذلك أن ما كان متداولا من هذه العلوم والفنون لم يكن يخرج عن تقليد السابقين ولم يكن ممارسوه يتمتعون بالاستقلال العقلي وروح الابتكار. ولعل هذا هو ما جعل الرحالة الأجانب الذين عاشوا في الجزائر خلال العهد المذكور يحكمون، عن حق، حكما قاسيا على علماء الجزائر ويتهمونهم حتى بممارسة السحر والشعوذة والتخلي عن تراث أجدادهم وأفكارهم الإبداعية التي شاعت في العصر العباسي في المشرق وفي العصر الأموي بالأندلس. فقد اختفت أو كادت الكتابة في علوم الملاحة والكيمياء والجراحة والموسيقى خلال هذا العهد، وحل محل الحساب معلومات سطحية عن التعديل وقسمة التركات، ومحل الطب والجراحة ممارسة الخرافات والسحر والتمائم، وأصبحت الكيمياء، كما قال بعض الناقدين، عبارة عن محلول ماء الورد. وظلت الموسيقى حية ولكنها كانت تعزف بدون قواعد ولا تدوين للنوطة. فإذا ظهر عالم مهتم ببعض هذه العلوم والفنون نظر إليه على أنه شاذ وغير منسجم مع روح العصر والمجتمع. وهكذا كتب ابن حمادوش نفسه ذات مرة بعد أن اطلع في الطب على أحد الكتب المترجمة إلى العربية (وهو كتاب عجيب التأليف حسن الصنيع، لولا

ساسو
08-26-2016, 12:17 PM
أنه محشو كفرا تزل فيه الأقدام، فيجب التحذير منه ..) (1).
وقد لاحظ العلماء أنفسهم ظاهرة ضعف العناية بالحساب والفرائض، فقد ذكر عبد الكريم الفكون، وهو يتحدث عن ابن نعمون وولديه، أن (معهم معرفة مبادئ الفرائض قسمة، وبعض مسائل وصايا الصحيح، ومناسخات دون ما عدى ذلك من أبوابها ومشكلاتها لانقراض العلم في كل الأقطار فيما أعلمه، اللهم إلا ما شذ) (2). ولا يشير الفكون بعبارة (كل الأقطار) إلى الجزائر وحسب، ولكن إلى ما يعرفه من البلاد الإسلامية. حقا إننا نجد أحد العلماء يبرع في الحساب فيلفت النظر إلى نفسه لحاجة الناس إلى هذا العلم في التجارة وفي الوصايا والتركات ونحو ذلك. فعبد الكريم الفكون نفسه يشير إلى براعة أبي الحسن الغربي في الحساب والتعديل (3). كما أن ابن مريم قد ذكر أن محمد عاشور السلكسيني كان ماهرا في الحساب والفرائض (4). ولكن معظم ما كان يدرسه العلماء عندئذ في هذا العلم هو تلخيص ابن البنا المراكشي ومؤلفات القلصادي. فإذا زاد أحدهم شيئا عن ذلك فمن باب المهارة الشخصية وليس من باب الدرس والتحصيل.
لذلك لاحظ الأجانب أيضا ضعف علم الحساب والفلك وما إليهما في العهد العثماني. فقد أخبر الدكتور شو، الذي عاش فترة طويلة في الجزائر، أن العلماء هناك كانوا لا يعرفون إلا قليلا من الحساب، وأن الآلات الحاسبية، مثل الأسطرلاب، كان ينظر إليها نظرة فضولية لا عملية. كما لاحظ أن الجبر والحساب العددي لم يكونا معروفين لشخص واحد من بين عشرين ألف نسمة. فالتجار كانوا، كما لاحظ، يحسبون بالأصابع. ومع ذلك فالمفروض أن العلماء وأمثالهم يدعون معرفة أسرار الحروف والأعداد
__________
(1) ابن حمادوش (الرحلة)، وهو يشير إلى (كتاب الدول) للملطي الذي قال عنه إنه رتبه على عشر دول، مبتدئا بآدم ومنتهيا فيه إلى أوائل القرن السابع.
(2) (منشور الهداية)، 61.
(3) نفس المصدر، 29.
(4) (البستان)، 287.

ساسو
08-26-2016, 12:18 PM
وأنهم باستعمال هذه الأسرار يصلون إلى تحقيق أغراضهم كطرد الأرواح الشريرة وإيقاع الهزيمة بالعدو وجلب الحظ ونحو ذلك (1).
ونفس الشيء يقال عن علم الفلك. ذلك أن رصيد المعرفة في هذا الباب عند العلماء هو تأليف محمد بن أحمد الحباك وابن أبي الرجال القيرواني، وشرح السنوسي على الأول وشرح ابن القنفذ على الثاني. كما أن أرجوزة محمد بن علي المعروف بابن أبي مقرع كانت متداولة، ولكن التقدم في هذا الميدان كان متوقفا. فقد كادت تنحصر الأعمال الفلكية في تقويم الصلوات وحركة الليل والنهار وتعديل بعض الكواكب، ورغم دقة مزاول الشمس وحركة الظل فإن علم الملاحة لم يكن متطورا، وهو العلم الذي كنا نتوقع البراعة فيه لشهرة الجزائر في العهد العثماني بالنشاط البحري، فبالإضافة إلى البحر الأبيض خرج الأسطول الجزائري إلى المحيط الأطلسي وبحر الشمال وسواحل إيسلاندا، ومع ذلك فإن البحارة كانوا، حسبما لاحظ أحد الأجانب، يقتصرون على الخريطة البسيطة وعلى تمييز النقط الثماني الرئيسية من البوصلة (2). كما أنهم قد تعلموا خط العرض بملاحظة الشمس عند منتصف النهار، وقاموا بترجمة الجداول الخاصة بهذا الموضوع إلى اللغة العربية، وإذا أعوزتهم المعرفة بعلم الملاحة وهم في المحيط أجبروا خبيرا من سفينة أوروبية على توجيههم إلى أن يعودوا إلى البحر الأبيض (3).
وقد أصبح علم الكيمياء عملا يهرب منه العلماء بعد أن كان محببا في عصر الازدهار العلمي. فقد حكى الورتلاني أنه لم يكن يستعمله كما أنه لم يكن يستعمل أسرار الحروف والأوفاق، وهو هنا ينفي ذلك لأن غيره كان يلجأ إليها طلبا لفائدتها العاجلة أو الآجلة، أي أنهم كانوا يمارسون بها نوعا من السحر وليس نوعا من العلم. وقد تعجب الورتلاني حين وجد نقيب كسوة الكعبة في مصر يتعاطى علم الكيمياء كما أن النقيب قد تعجب من أن
__________
(1) شو (الرحلة) 1/ 364.
(2) نفس المصدر، 356.
(3) شيلر 57.

ساسو
08-26-2016, 12:19 PM
الورتلاني لا يستعمل العلم المذكور (1)، فلا غرابة إذن أن يحكم شو بأن علم الكيمياء لم يعد في الجزائر سوى صناعة ماء الورد بعد أن كان محببا عند العلماء المسلمين الاوائل (2).

الحساب والفلك
فإذا عدنا إلى دراسة الإنتاج العلمي وجدنا منه كمية ضئيلة خلال العهد العثماني بالقياس مثلا إلى الإنتاج العلمي الذي عرفه القرن التاسع (15 م)، ولولا بعض الأعمال التي كتبها عبد الرحمن الأخضري وسحنون بن عثمان الونشريسي وابن حمادوش لخلا هذا العهد أو كاد من التأليف في العلوم الحسابية والفلكية ونحوها، ومع ذلك فإن هؤلاء كانوا يستمدون موادهم من تراث الحباك والسنوسي وابن القنفذ والقلصادي. فقد ظلت قصيدة علي بن أبي الرجال القيرواني في الفلك وشرح أحمد بن القنفذ عليها مصدرا هاما للمهتمين بهذا العلم (3). كما أن عمل الحباك (نيل المطلوب في العمل بربع الجيوب) كان يرجع إليه علماء الفلك خلال العهد المدروس (4)، ونفس الشيء يقال عن شرح محمد بن يوسف السنوسي (بغية الطلاب في علم الإسطرلاب) لأستاذه الحباك (5)، وكأن العقول في العهد العثماني قد تحجرت فلم تعد تنتج وإنما تستوحي من هذه الأعمال السابقة ما تحتاج إليه من غذاء، وبالإضافة إلى ذلك كان عمل ابن البنا في الحساب وشرح الحباك وشرح ابن القنفذ وكذلك شرح عبد الواحد الونشريسي عليه هي المادة التي يعود إليها
__________
(1) الورتلاني (الرحلة)، 261.
(2) شو، 1/ 356.
(3) انظر نسخة الخزانة العامة - الرباط، ح 31 مجموع، وكذلك فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق، علم الهيئة، 4905 مجموع.
(4) المكتبة الملكية - الرباط، 5266، فيه ست ورقات.
(5) المكتبة الملكية - الرباط، 6678 مجموع، ويقع الشرح في 155 ورقة.

ساسو
08-26-2016, 12:19 PM
طلاب الحساب وعلماؤه (1)، ولكن مهما أجاد ابن البنا وشراحه فإن جمود العقول عند هؤلاء العلماء وعدم الاستفادة من تقدم العلوم الحسابية عند الأوروبيين مثلا يعتبر ظاهرة غريبة في حد ذاته. وقد مهر في الحساب، بعد ابن البنا، علي القلصادي، ولكن آثاره في الحساب طمست، كما طمست مقدمة ابن خلدون في العلوم الاجتماعية، فلم يستفد علماء العهد العثماني من عبقرية هذا ولا نبوغ ذاك (2).
عاش علماء الفلك والحساب في العهد العثماني إذن على تراث القرن التاسع. ومن أبرز من ألف في علم الحساب والفرائض في العهد العثماني عبد الرحمن الأخضري. فقد نظم خمسمائة بيت في هذا المعنى سماها (الدرة البيضاء) وقسمها إلى ثلاثة أقسام الأول خاص بالحساب، والثاني خاص بقواعد الفرائض، والثالث خاص بالقسمة العملية للتركات، وقد وضع الأحضري نفسه شرحا على الدرة البيضاء ولكنه لم يكمله، ويبدو أنه قد شرح القسم الثاني منه على الأقل. ذلك أن المخطوطة كانت قد ضاعت منه وهو في أثناء عمله ثم عثر عليها فأكمل، كما أخبر بنفسه، شرح القسم الثاني. وقد أكمل عبد اللطيف المسبح القسنطيني هذا الشرح كما أخبرت بذلك عدة مصادر (3)، وكان عبد اللطيف المسبح من علماء الحساب والفرائض أيضا حتى اشتهر بذلك في وقته (توفي حوالي 980)، وحين طبعت (الدرة البيضاء) وشرحها في القاهرة سنة 1891 نص على أن القسم الثاني والقسم الثالث (ما عدا الفصول الثلاثة الأخيرة) قد شرحهما الأخضري بنفسه، وأن
__________
(1) عن شرح ابن القنفذ على ابن البنا. انظر الخزانة العامة - الرباط، 939، وعن شرح الحباك على ابن البنا. انظر (البستان) 219، وعن شرح الونشريسي على ابن البنا.
انظر (سلوة الأنفاس) 2/ 147.
(2) انظر ما كتبه أبو راس عن القلصادي في شرح (الحلل السندسية)، مخطوط باريس، 4619، وقد ترجم له أيضا أحمد المقري في (أزهار الرياض)، وطالما تناوله ابن حمادوش في التدريس والمطالعة.
(3) انظر (منشور الهداية) لعبد الكريم الفكون، 16 - 17. أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 77.

ساسو
08-26-2016, 12:20 PM
القسم الأول ليس من شرح الأخضري دون أن تشير إلى من قام بالشرح (1). والغالب على الظن أن المسبح هو الذي أكمل النقص كما أشرنا بإكمال القسم الثالث وشرح القسم الأول. وقد ظلت (الدرة البيضاء) وشرحها متداولة بين الطلاب والعلماء في المشرق والمغرب إلى عهد قريب، وهي تعتبر من أهم الأعمال التي قدمها الأخضري للعلم.
وكما ألف الأخضري في الحساب ألف أيضا في الفلك، ولكن يبدو أن عمله في الفلك، رغم شيوعه، لم يحرز شهرة (الدرة البيضاء). فقد وضع الأخضري نظما سماه (السراج) في علم الفلك، ولكنه لم يشرحه أو شرحه ولكن لم يتمه (انتهى منه نظما سنة 939)، فقام تلميذه عبد العزيز بن أحمد بن مسلم الفارسي بشرحه شرحا ما يزال نادر الوجود، ويبدو أن أحدا لم يطلع على هذا الشرح سوى قلة، منهم سحنون بن عثمان الراشدي الونشريسي الذي قام هو أيضا بشرح (السراج) ونقل في ذلك عن شرح عبد العزيز بن مسلم، وقد سمى شرحه (مفيد المحتاج في شرح السراج) (2)، وبدأه هكذا (وبعد، يقول العبد الذليل، المفتقر إلى مولاه الجليل، سحنون بن عثمان بن سليمان بن أحمد بن أبي بكر الميدوي (أو اليديري). لما رأيت تأليف الشيخ العالم المتقي، سيدي عبد الرحمن بن محمد الأخضري، المسمى بـ (السراج) في علم الفلك، من أنفس الكلام، وهو مفيد لمن احتاج إليه من الأنام، وكان قليلا من تكلم عليه، جعلت هذا التقييد تكميلا لفوائده، ومبينا لبعض ما أنبهم عليه من ألفاظه، وأضفت إليه زوائد من غيره، وسميته (مفيد المحتاج في شرح السراج) (3).
ولما كانت حياة سحنون بن عثمان ما تزال غامضة فإننا نود أن نقف
__________
(1) لوسياني، الجزائر 1921، 10 - 11.
(2) عن سحنون بن عثمان. انظر رحلة ابن حمادوش. وبروكلمان 2/ 706، 715. انظر أيضا مخطوط مكتبة طولقة بعنوان (جواهر المحتاج في شرح السراج)، وقد طبع شرح سحنون بن عثمان في القاهرة، 1314، مع متن الأخضري.
(3) مخطوط باريس، 2568.

ساسو
08-26-2016, 12:20 PM
عندها قليلا بما جمعناه حولها من معلومات. فقد كان من العلماء الذين اهتموا بالفلك والرياضيات والنجوم في وقت اهتم فيه طلبة العلم بالفقه والتصوف. ولذلك أهمله المترجمون إلا النوادر، ومن الذين تحدثوا عنه ونقلوا من كتابه (السراج) محمد بن سليمان صاحب كتاب (كعبة الطائفين) الذي يسميه (شيخ شيوخنا) (1) فإذا عرفنا أن ابن سليمان كان حيا سنة 1068 أدركنا أن سحنون بن عثمان قد يكون عاش فترة في القرن الحادي عشر، والظاهر أن سحنون بن عثمان قد تثقف في مدينة الجزائر ومليانة ومجاجة التي كانت في وقته قد اكتسبت شهرة علمية بفضل زاويتها، ولعله قرأ أيضا بتلمسان والمغرب، وقد نقل الحفناوي عن الشيخ ابن دوبة (؟) أن سحنون بن عثمان مدفون في بني وعزان نواحي الونشريس وأن قبره هناك مشهور (2).
وقد أورد له ابن حمادوش، الذي اهتم مثله بعلوم الفلك والرياضيات، نظما في حل أحد الألغاز، ونقل عنه أيضا ابن سليمان كثيرا في مسائل الفلك في الجزء الثالث من كتابه، وسنعرف أن محمد بن علي الشريف الشلاطي قد نقل عنه أيضا. كما نقل عنه مؤلف (جواهر المحتاج في شرح السراج). فقال إنه ضمن كتابه شرح سحنون بن عثمان على (السراج) وأضاف إليه زوائد لغيره. وكل ما نعرفه الآن عن مؤلف (جواهر المحتاج) أنه كان حيا سنة 1189، وهناك مؤلف آخر استفاد من عمل سحنون بن عثمان في الفلك ولكن اسمه مجهول لدينا، وكل ما نعرفه الآن هو اسم كتابه الذي سماه (شرح الرضى على نهاية ما يرتضى) وهو أيضا شرح على السراج للأخضري يعود إلى منتصف القرن الحادي عشر حيث جاءت فيه عبارة (في عشرة الأربعين من القرن الحادي عشر) (3)، وهكذا
__________
(1) ابن سليمان (كعبة الطائمين) 3/ 84، وقد نقل عنه في عدة أماكن أخرى، وضبط نسبه هكذا: (شيخ شيوخنا العالم العلم سيدي سحنون بن عثمان اليديري).
(2) (تعريف الخلف) 2/ 148، ونسبه فيه هكذا: سحنون بن عثمان بن سليمان بن أحمد ابن أبي بكر المداوي.
(3) ناسخه هو محمد بن أحمد الملقب بالمحفوظ الزواوي مسكنا المثنيشي (؟) نسبا سنة 1219، وفيه حوالي أربعين صفحة.

ساسو
08-26-2016, 12:21 PM
يظهر أن سحنون بن عثمان، رغم أنه مغمور عندنا اليوم، لم يكن مغمورا عند علماء وقته، بل كاد عمله في الفلك يكون مصدرا أساسيا لهم لا يشبهه إلا عودتهم إلى شرح الأخضري نفسه على السلم المرونق.
ولسحنون بن عثمان تأليف آخر سماه (سهام الربط في المخمس خالي الوسط). وقد اطلعنا منه على نسخة فإذا فيه أن بعض الإخوان طلب منه تحرير مقالة عن كيفية استعمال المخمس خالي القلب وتصحيح أوتاره فأجابهم إلى ذلك، وقسمه إلى فصول، فجعل قسما في موافقة أسماء الله إلى حاجة الإنسان ومناسبة الوقت لها، مثل طلب الرزق الذي يناسبه الرزاق، الفتاح، الغني، الكافي، الخ ... وإذا كان الموضوع العطف فإن ما يناسبه هو العطوف الرؤوف، الرحيم. وإذا كان عن المطر فإن ما يناسبه هو قوله تعالى: {واستغفروا ربكم إنه كان غفارا} الآية. وإن كان طلب صحو فقوله تعالى: {يا أرض ابلعي ماءك} الآية. وتأتي الفصول بعد ذلك تباعا: في طرح ما تدخل به في الوفق، في كيفية الدخول في الطروحات، في تعمير البيت الوسط، في البخور بعد الصلاة، فإن كان للخير فالتبخر بالجاوي والعود، وإن كان للشر فبالكبريت والحنتيت والثوم، بالإضافة إلى فصل في موافقة الأعداد، وقد ضمنه أبياتا لامية في طريق الوصول إلى سر الروح بالتطهر والتزهد والعمل بالعلم وتجنب السفهاء، بالإضافة إلى تقييد عن جلب الأفلاك الآبقة بالبخور ونحوه (1).
ولكن ما كتبه سحنون بن عثمان هنا لا يخلو من خرافة وسحر رغم أنه حاول أن يصل فيه إلى نتيجة علمية. فقد ولع أشباه العلماء باستخدام الروحانيات واستعمال الحروف والأعداد حتى اختلط عندهم السحر بالعلم والشعوذة بالحقيقة، وتغلب، مع الجهل، روح الشعوذة على روح العلم. وساد ذلك الخاصة والعامة إلا ما ندر.
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، 1535 وفيه ست أوراق، وانتهى منه المؤلف في 14 صفر سنة 1018. ذكر بروكلمان 2/ 715 أن منه نسخة أخرى بليدن 1235.

ساسو
08-26-2016, 12:21 PM
ومن الذين نقلوا من (مفيد المحتاج) لسحنون بن عثمان واستفادوا منه محمد بن علي الشلاطي المعروف بابن علي الشريف في كتابه (معالم الاستبصار بتفصيل الأزمان ومنافع البوادي والأمصار) (1). وهو كتاب في الفلك والتنجيم ألفه سنة 1192 بالجزائر. وكان هدفه من تأليفه، كما قال توضيح ما لم يوضحه أحمد بن علي السوسي المعروف بأبي مقرع (2). ولذلك قال ابن علي الشريف عن كتابه (فهو، بحمد الله، كتاب جامع، وبما يحتاج إليه المبتدئ كفيل ونافع .. وينفتح (به) منغلق السوسي ويتضح ما أهمله، وبينت ما أشار إليه وذكرت ما أغفله .. ورتبته على نمط عجيب غريب. يحتوي على فوائد مهمة .. من معرفة أوقات الصلاة والأذكار، وتحديد القبلة من جميع الأقطار، والتذكر في عجائب العلويات وغرائب السفليات، ومعرفة العام العربي وشهوره .. ومدخل السنة العجمية وكبسها، بضابط قريب .. ومجاري الشمس .. وزمان الحر والقر .. وكذا سائر الدراري وترجلها في البروج والمنازل، وأشير إلى الرياح والأرواح، والبروق والرعد والزلازل).
وبالإضافة إلى النقل عن سحنون بن عثمان وعبد العزيز بن مسلم والأخضري نقل الشلاطي أيضا عن والده، وعن محمد بن يوسف السنوسي، وابن البنا، وعلي بن محمد الدساسي صاحب (شرح اليواقيت) وعن ابن عباد
__________
(1) نسخة منه، ولعلها الأصلية، توجد في مكتبة الكونغرس الأمريكي، وهي بدون رقم، وعندي منه نسخة بالميكروفيلم. وهو غير كامل وضمن مجموع، والذي اطلعنا منه ينتهي إلى ورقه 34، ولكن خطة المؤلف فيه تجعله كتابا ضخما لو أنه وصل إلينا كاملا، ذكره صلاح الدين المنجد في فهرس مخطوطات مكتبة الكونغرس العربية، بيروت 1969. وبعد كتابة هذا الفصل اطلعت منه أيضا على نسخة كاملة عند الأستاذ علي أمقران السحنوني تاريخ نسخها سنة 1205.
(2) ألف أحمد بن علي (البطيوي؟) المعروف بأبي مقرع أرجوزة في التوقيت. ثم جاء محمد بن سعيد السوسي المرغيتي وشرحها عدة شروح منها (المقنع في اختصار علم أبي مقرع)، وقد توفي أبو مقرع أوائل القرن الثامن الهجري.

ساسو
08-26-2016, 12:23 PM
في رسالته، وأحمد الونشريسي، وعن أحمد بن بلقاسم الزواوي وغيرهم من علماء الجزائر وعلماء المشرق والمغرب الذين ألفوا أو شرحوا في علم الفلك والتنجيم. ومما نقله عن أحمد بن بلقاسم الزواوي، الذي كان حيا سنة 1105، جدول في الكبس والازدلاف لمدة القرن الثاني عشر، كما نقل عنه تصحيحه غفلة أحمد بن مزيان عن الازدلاف في السنة. ولم يقسم الشلاطي كتابه إلى فصول وإنما جعل له عناوين داخلية حسب الموضوعات التي تناولها. وقد تحدث فيه عن خطوط عرض بسكرة والقلعة وقسنطينة ومدينة الجزائر وزواوة ومليانة. وآخر حديث له فيه كان عن السماوات. ولو عثرنا على بقية كتاب (معالم الاستبصار) لوجدنا فيه فوائد جمة ليس فقط عن الموضوع الذي عالجه المؤلف ولكن ربما عن العصر وأهله أيضا. فقد شكا الشلاطي كثيرا من الظلم والجور وقلة العلم وتغير أحوال الناس. وقال إنه ألفه رغم ازدحام الناس، رجالا ونساء، على زاويته، واشتغاله بتدريس العلم للطلبة وإعطاء الأوراد والأذكار إلى المريدين (1).
وقد أسهم عدد من التلمسانيين في الفلك ونحوه كالتنجيم والحروف المتصلة بالتصوف وعلوم الغيبيات. ومن هؤلاء أحمد بن محمد بن عيسى المرصاوي المعروف بقائد الجيوش. فقد كتب حوالي سنة 960، كتابا سماه (لسان الفلك) وهو في علم حساب الحروف والطبائع والبروج وما إلى ذلك. وقد افتتحه بقوله: (الحمد لله الذي أدار الأفلاك الدائرات، وأطلع فيها النجوم الزاهرات، وبعد فقد اختلج في صدري أن أبين ما تضمنته الجداول الأربعة المتشكلة في الزيارج السبتية (2) من أوتاد البيوت وحروف العدد والمقابلة والمناظرة والوجه والحد). وقد قسمه إلى أبواب وفصول وجاء فيه بجداول كثيرة وغنية. ومن موضوعاته أيضا مصادقة الكواكب
__________
(1) يبدو أن النسخة التي اطلعنا عليها كانت في ملك أحد علماء الجزائر الذين انتقلوا إلى الإسكندرية أمثال ابن العنابي والكبابطي، فقد وجدنا عليه تملكا ممحوا يعود إلى سنة 1205 مع ختم (المكتبة الحجازية بالإسكندرية).
(2) نسبة إلى أبي العباس أحمد البستي المتوفى سنة 601.

ساسو
08-26-2016, 12:24 PM
وعداوتها، والسعود والنحوس، وكشف الضمائر والمغيبات (1).
أما عبد الله بن عزوز المراكشي التلمساني فقد عرف بالكتابات التي جمعت بين علوم التصوف وعلوم الحكمة، ومنها الطب والفلك وغيره. ومن كتبه في ذلك:
1 - لباب الحكمة في علم الحروف ونعم الأسماء الإلهية.
2 - الأجوبة النورانية.
3 - أثمد البصائر في معرفة حكمة المظاهر.
4 - ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطب والطبائع والحكمة (2).
وقد اطلعنا على الكتاب الأخير فإذا معظمه في الطب. وقد قسمه المؤلف إلى سبعين بابا منها أبواب في الطبيعة وعناصرها، وفي العلم والحكمة، وفي علم التوليد بسبب المزاجات والأخلاط. وفي حديثه عن الطب فصل في ذكر العلاج لكل مرض، وكان آخر باب في الكتاب في صفة المعدة وأمراضها وعلاجاتها. أما بدايته فهي: (الحمد لله الذي أفاض على قلوب عباده المحبوبين فنون العلوم والمعاني الكثيفة واللطيفه، وأطلعهم
__________
(1) اطلعنا منه على نسخة باريس رقم 2595 المنسوخة سنة 1075، وهي في 58 ورقة، ومنه نسخة في برلين رقم 4231.
(2) بروكلمان 2/ 704، انظر أيضا (مجلة المراسل الإفريقي)، 1884، 374. ويوجد من الكتاب الثاني والثالث نسخ في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 927، 1519/ 20، ومن الكتاب الأخير نسخة في باريس رقم 4758 وهي التي اطلعنا عليها، وهي في 118 ورقة وبخط جيد، وهو مؤلف حوالي 1178، غير أن النسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1288، ونسب له محمد الأخضر (الحياة الأدبية في المغرب على عهد العلويين) 253 كتابا آخر بعنوان (كشف الرموز) في النباتات، وقال إنه مخطوط رقم د 1551، وقد توفي عبد الله بن عزوز سنة 1204، وكان شاذلي الطريقة ويدعى أيضا سيدي بللا، وقد أشرنا إلى كتابه (تنبيه التلميذ المحتاج) في التصوف.

ساسو
08-26-2016, 12:25 PM
على الحكم والمعاني، وأدخلهم حضرتهم القدسية). ولا شك أن هذه العبارات وأمثالها هي التي جعلت بعضهم يصنف الكتاب في علم التصوف. والواقع أن عبد الله التلمساني كان ملما بالفلسفة القديمة غاية الإلمام، ولكنه في عصر يرتبط فيه كل شيء بالتصوف كان كلامه لا يخلو من مزالق في هذا الباب. وكان في عمله عميق النظر متحررا بالنسبة إلى علماء عصره. وقد ناقش في كتابه مجموعة من القضايا التي كانت تعتبر محل جدال ونظر بين العلماء، ولا سيما في كتابه (تنبيه التلميذ) الذي حاول فيه التوفيق بين الشريعة والحقيقة والطريقة.
وفي هذا الباب أيضا نجد أحد التلمسانيين يقوم بشرح رجز أبي مقرع في الفلك. ونحن وإن كنا لا ندري الآن اسم هذا المؤلف فإنه يغلب على الظن أنه من أهل القرن العاشر أو الحادي عشر. واسم هذا الكتاب أو الشرح الكبير هو (التاج المرصع في شرح رجز أبي مقرع). ورغم أن هذا الكتاب مبتور الأول قليلا فإنه من الواضح أنه يبدأ بمولد الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد ضمنه المؤلف جداول كثيرة، وجاء بالخصوص بجدول لعرض مدينة تلمسان التي كان شديد الارتباط بها، حتى أنه كلما ذكرها في الكتاب قال: (أبقاها الله دار إيمان). ومن الذين نقل عنهم في ذلك محمد بن يوسف السنوسي وابن أبي حجلة (وكلاهما من علماء تلمسان) والجادري ونحوهم (1). وينسب إلى أحمد المقري أيضا عمل في علوم الجفر والزيارجة بعنوان (النمط الأكمل في ذكر المستقبل) (2). ولكننا عرفنا أن ميدان المقري هو الأدب والتاريخ والحديث وليس علوم الغيبيات وأسرار الحروف والكواكب. ولعل هذا التأليف منسوب إليه خطأ.
__________
(1) ولكونه مبتور الأول لم نستطع أن نتعرف على اسم المؤلف، وهو ضخم الحجم وغير مرقم، والنسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1191، وناسخها هو السيد علي بن عمرو نصر. مخطوط باريس رقم 2568.
(2) منه نسخة في مكتبة جامعة برنستون (قسم يهودا) رقم 4621 مجموع، وقد صورناه من هناك، وفيه فصلان، وهو في 11 ورقة.

ساسو
08-26-2016, 12:25 PM
وفي هذا الصدد نظم أحد الجزائريين أرجوزة سماها (تعديل الكواكب لعرض بلد الجزائر) (1) وهي في علم الفلك كما يظهر من العنوان، ومذيلة بجداول فلكية. ونحن وإن كنا لا ندري من هو صاحب الأرجوزة الذي تشير إليه المصادر فقط باسم (الجزائري)، إلا أننا لا نستبعد أن يكون صاحبها هو محمد بن أحمد الصخري الآتي ذكره.
ومن علماء مدينة الجزائر الذين أسهموا أيضا في علم الفلك والميقات محمد بن أحمد الصخري الأندلسي الأصل الجزائري المولد كما يقول عن نفسه. وكان الشيخ الصخري من علماء المالكية القائمين بتوقيت الجامع الكبير بالعاصمة. وقد أرخ تأليف كتابه بحساب الجمل وهو (بلوغ أمل) (1043؟). أما عنوانه فهو (القلادة الجوهرية في العمل بالصفيحة العجمية). ويبدو أن الشيخ الصخري كان ولوعا، بحسب المهنة، بالأشكال الهندسية ودوران الكواكب ومعرفة الظل ونحو ذلك من الربط بين التغيرات الطبيعية وحاجات الإنسان. فقد بدأ كتابه، بعد الديباجة على النحو التالي: (أنه لما اتفق لي في سنة (بلوغ أمل) أن منحت بصفيحة بديعة عجيبة من آلات الوقت الشعاعية، لها أسلوب (؟) غريب، ورقم عجيب، اسمها مكتوم، وطلعها مختوم .. ونادى لسان الوصل الحال أهلا ومرحبا .. فلبيت مجيبا للدعاء، لتحققي أن ذلك من أهم الأشياء .. وأوردتها مجموعة في مقدمة وخمسة عشر بابا وخاتمة .. وسميتها بالقلادة الجوهرية في العمل بالصفيحة العجمية) (2).
وفي المقدمة عرف الشيخ الصخري بالصفيحة الشعاعية وبأعمالها وأجزائها وأشكالها. أما الأبواب فهي على النحو التالي:
__________
(1) الخزانة العامة، الرباط، رقم 2245 د مجموع.
(2) اطلعنا على نسخة باريس رقم 2568، وفي آخره تاريخ يغلب على الظن أنه تاريخ التأليف وهو 1043. أما تاريخ نسخ النسخة التي اطلعنا عليها فهو سنة 1222. انظر أيضا بروكلمان 2/ 1022، وقد ذكر المؤلف هكذا: محمد بن أحمد الدخري الجزائري، ولم يذكر عنوان كتابه.

ساسو
08-26-2016, 12:26 PM
1) في معرفة تعديل الشمس وميلها وموضع القمر وما فيه من النور ومطرح شعاعه.
2) في معرفة وضع الشمس ونظيرها على مداري جزء كل منهما في خط الطول ومعرفة المطالع الاستوائية لكل منهما.
3) في معرفة أخذ الارتفاع، أي ارتفاع الشمس.
4) في معرفة استخراج العرض.
5) في معرفة غاية ارتفاع الشمس في دائرة نصف نهار مفروض.
6) في معرفة ما في كل واحد من النهار والليل من ساعة مستوية وكم كل واحد منهما، الخ.
7) في معرفة فضل الدوائر والماضي من النهار، الخ.
8) في معرفة سمت القبلة.
9) في معرفة استخراج الجهات الأربع ونصب القبلة.
15) في معرفة ارتفاع الشمس لوقت الظهر، الخ.
11) في الدائر وفضله.
12) في المطالع.
13) في مطالع الكواكب الاستوائية في الفلك المستقيم وأبعادها.
14) في العمل بالكواكب التي لها طلوع وغروب.
15) في الماضي والباقي من الليل.
أما الخاتمة فقد جعلها في التفنن بهذه الصفيحة وذلك باستخراج المجهول بها من المعلوم، ونحو ذلك.
والظاهر أن عمل الشيخ الصخري أكثر علمية من بعض الأعمال التي عرضت لنا حتى الآن. فهو غير مختلط بالأفكار الصوفية والغيبيات واستخدام الروحانيات. وإذا ثبت أن تاريخ تأليفه يعود إلى سنة 1043 فإن ما كتبه أيضا عبد الرزاق بن حمادوش، الذي جاء بعده بحوالي قرن، عن العمل بالصفيحة الشعاعية يعتبر مكملا له. فقد ألف ابن حمادوش، كما سنرى في ترجمته، أعما لا في الأسطرلاب، والروزنامة، والتواريخ، والرخامة الظلية، وصورة

ساسو
08-26-2016, 12:26 PM
الكرة الأرضية، وعلم الملاحة البحرية، والقوس الذي ترصد به الشمس، وغيرها. وكان ولوعا أيضا برسم الجداول ووضع الأشكال الهندسية واستخراج النتائج العلمية منها. وهو بالإضافة إلى ذلك كان مغرما بعلم الطب والصيدلة.
وشبيه بعمل محمد الصخري في الفلك ما ألفه علي بن محمد بن علي البجائي، وهو (تبصرة المبتدئي وتذكرة المنتهى) الذي قال عنه إنه في معرفة الأوقات بالحساب من غير آلة ولا كتابة. وإذا كان محمد الصخري من الموقتين بالمهنة فإن الشيخ علي البجائي كان من المقرئين ومؤدبي الصبيان في مدينة بجاية. غير أن معلوماتنا عن علي البجائي ما تزال قليلة. فنحن لا نعرف عن تأليفه إلا هذا القدر الذي جاء عرضا في أحد المؤلفات الأخرى (1). وقد ذكرنا من قبل أن أحمد بن بلقاسم الزواوي قد وضع عدة جداول، منها جدول في الكبس والازدلاف وآخر في مدخل السنة العجمية، كما صحح خطأ الشيخ أحمد بن مزيان في الازدلاف (2). وهناك عمل ينسب إلى عبد القادر الراشدي القسنطيني بعنوان (متسعات الميدان في إثبات وجه الوزن وآلات الميزان). وهو العمل الذي ذكره له بروكلمان في باب الطب والعلوم الطبيعية، ولكنه أخطأ حين جعل الراشدي من أهل القرن الحادي عشر الهجري (3) (17 م).
__________
(1) عثرنا على هذه المعلومات في مجموع مخطوطة (معالم الاستبصار) تأليف ابن علي الشريف الشلاطي، وقد أشرنا إلى هذا الكتاب، كما ذكره سحنون بن عثمان في كتابه (مفيد المحتاج) المطبوع، 11، وقد سماه فيه أبا الحسن علي بن مجمد بن علي المغربي.
(2) أشير إلى هذا الكتاب ضمن المجموع السابق. بمكتبة الكونغرس الأمريكي، وما زلنا غير متأكدين من ذلك.
(3) بروكلمان 2/ 713. انظر أيضا (تعريف الخلف) 2/ 219، ولم يذكر الحفناوي عنوان كتاب الراشدي واكتفي بقوله وله تأليف في وزن الأعمال. وهو، حسب الظاهر، في المكاييل وليس في المقاييس الفلكية، ولعل الراشدي قصد بعمله الموازين الطبية والشرعية. غير أن هذا ما يزال غير واضح لأننا لم نطلع على التأليف.

ساسو
08-26-2016, 12:27 PM
ومن جهة أخرى ألف أحد الجزائريين رسالة في الفلك أيضا سماها (الحاشية الاختصارية الرملية الفلكية)، وهو علي بن حسن الجزائري. والظاهر أن المؤلف كان من أتراك أو كراغلة الجزائر ثم استوطن مصر وبها ألف الكتاب لأنه يذكر في بدايتها عبارات تدل على ذلك مثل (الجزائرلي بلدة، الحنفي مذهبا) وأخبر أنه تلقى علم الفلك والحروف على بعض الصالحين فأراد أن يسهم في هذا الفن في وقت لحق فيه الناس، كما يقول، (التمدين واتخذوا البلاغة معدنه) ومما يدل على نسبته المذكورة أيضا ضعف لغته وعجمتها. ومهما كان الأمر فقد ألف عمله، كما قلنا، في مصر، وليس في عمله إلا إشارة واحدة إلى تاريخ وهو 11 ربيع الآخر سنة 85 (والظاهر أنه يعني سنة 1185). وقد اطلعنا على هذا التأليف فوجدناه أقرب إلى خطوط الرمل منه إلى العلم. ومما جاء فيه هذه العبارات ذات الدلالات الخاصة مثل (النار بيت السلطان والهواء بيت الوزير والماء بيت العمال والتراب بيت الرعايا والعساكر والدراويش .. النار تركي اللسان والهواء عربي اللسان والتراب هندي اللسان والماء فارسي اللسان. النار درهم والهواء نصف درهم والماء ربع درهم والتراب ثمن درهم. النار أبيض والهواء أحمر والماء أخضر والتراب أسود الخ) (1).

الطب والجراحة والصيدلة
ولكن العناية بالعلوم الطبية كانت أكبر من العناية بالعلوم الأخرى (ما عدا الفلك) خلال العهد العثماني. ذلك أن الإنسان كان في حاجة إلى
__________
(1) صورنا نسخة منه من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا)، رقم 954، في حوالي 38 ورقة، خطها جيد وكاملة. انظر أيضا بروكلمان 2/ 1038، ونشير أيضا إلى عملين في هذا الموضوع لا ندري بالضبط عصرهما ولا نسبتهما، وهما (كاشفات المحيط والمحاط لانضباط أحواله من سمو والتواء وانحطاط) لأحمد بن يوسف بن عبد القادر الجزائري (؟)، بروكلمان 2/ 1019 و (مرآة الإعلام) في الفلك للحافظ أحمد بن الشيخ التلمساني (؟) بروكلمان 2/ 1019.

ساسو
08-26-2016, 12:28 PM
المعالجة، سواء كان في أعلى مكان أو أدناه. حقا أن الإيمان بالقضاء والقدر في هذا الميدان كان مسيطرا على العقول بصفة عامة ولكن بعض الناس كانوا يؤمنون بالعلاج والتداوي واتخاذ الوسائل والأسباب للمحافظة على الصحة، وهم أولئك المؤمنون بالحديث المنسوب إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم): (العلم علمان، علم الأديان وعلم الأبدان). ولذلك وجدنا بعض التآليف والرسائل والأراجيز في علم الطب وفروعه، ووجدنا عددا من المتطببين أيضا. ومع ذلك فإن الخرافة قد اختلطت بالطب في معظم الأحيان. فالعامة كانت تؤمن بالتداوي بالشرب من بئر معينة أو بتعليق تميمة، أو بزيارة ولي، كما أن النسوة خصوصا كن يؤمن ببعض الأسباب غير الطبية للبرء من العقم وحفظ الولاء بين الزوجين، ونحو ذلك.
ومعظم الأدوية الشائعة كانت تتناول الجانب الخارجي من جسم الإنسان. فالجراحة ونحوها كانت شبه معدومة. وكلمة حكيم كانت هي الشائعة عند الناس، وكان الطبيب محل احترام وتبجيل. وكان بعض العلماء وأشباههم يركبون الأدوية من النباتات المتوفرة في البلاد ويصنعون المعاجين والأشربة ويستعملون وسائل الكي والحجامة، ونحو ذلك. وقد وضعوا مجموعة من الوصفات للتغلب على بعض الأمراض الشائعة كوجع الرأس والمعدة والحروق والإصابات الجلدية وضعف الأعضاء التناسلية ووجع المفاصل وغيرها. كما نجدهم قد عينوا أدوية خاصة للتغلب على السموم والتأثيرات الخارجية الأخرى كالإصابة من حرارة الشمس. ونحن نجد في (كشف الرموز) لابن حمادوش وبعض مؤلفات أحمد البوني نماذج حية عن ذلك. والغريب أنه بالرغم من تقدم علم الطب في تاريخ الحضارة الإسلامية واشتغال علماء المسلمين بالجراحة والصيدلة، فإن أهل الجزائر، بمن في ذلك علماؤهم، كانوا يؤمنون بأن الطب مقصور على الأوروبيين (1).
__________
(1) لاحظ بانانتي الإيطالي، 260 - 261 أن أهل الجزائر يعتقدون أن كل أوروبي طبيب كما يعتقد الأوروبيون أن كل إيطالي مغن، ومن جهة أخرى نجد هذه العقيدة في قصر =

ساسو
08-26-2016, 12:28 PM
وقد لاحظ الأوروبيون العناية بأنواع العلاج الخارجي في الجزائر. فقد كاذ الجزائريون يتغلبون على الحمى بنبات الشندقورة ونحوه، والرضوض بالكي، والجروح بصب الزبدة الساخنة، والجدري بحفظ المريض في حالة دفء وإعطائه حبات من الكرميس في العسل. كما يعالجون للتورم والالتهاب بأوراق بعض النباتات. وكانت الحناء وسيلة لعارج الحروق والجروح البسيطة (1) وقد فصل ابن حمادوش في معجمه (كشف الرموز) القول في أنواع النباتات والعقاقير وكمياتها وطريقة استعمالها. وكانوا يتغلبون على لدغة العقرب والأفعى بوضع البصل والثوم على مكان اللدغة. كما كان العسل وسيلة كبيرة للعلاج. وكانت للنساء قوابل معروفات بالمهارة. أما على المستوى العام فإن الحكومة كانت تلجأ لحفظ الصحة إلى الحجر الصحي عندما تعلم بانتشار الطاعون والأمراض المعدية في إحدى السفن الداخلة إلى الجزائر.
وكان كبار المسؤولين في الدولة يهتمون بشؤون صحتهم الخاصة ويصطنعون لهم الأطباء كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا. حقا إنهم لم يشجعوا دراسة الطب في المدارس ولم ينشئوا أكاديميات طبية للبحث، لكنهم كانوا مهتمين فقط بالأسباب العاجلة. لذلك نقرأ في الوثائق أن بعض الباشوات والبايات قد جلبوا أطباء أوروبيين بالشراء ونحوه. ومعظم هؤلاء الأطباء كانوا يأتون أسرى عند النزاع البحري، ولكن بعضهم كان قد استجلب من بلاده أو كان مقيما في الجزائر لأغراض تجارية أو سياسية. فقد روى لوجي دى تاسي أنه كان للباشا بابا علي طبيب جراح فرنسي كان قد وقع أسيرا (2). كما قيل إن الطبيب الإنكليزي بودوين كان طبيبا للباشا حسين (3). وقد عرف
__________
= الطب على الأوروبيين موجودة أيضا عند ابن العنابي وحمدان خوجة. انظر كتابنا (المفتي الجزائري ابن العنابي)، الجزائر 1977، ط 2، 1990.
(1) شو، 357 - 362.
(2) لوجي دي تاسي (تاريخ)، 225.
(3) انظر (قصة وصول الباخرة لابروفانس إلى مرسى الجزائر) باريس 1830، 69 تعليق 1.

ساسو
08-26-2016, 12:29 PM
عن صالح باي أنه اشترى طبيبا إيطاليا يدعى باسكال قاميزو بألف محبوب عندما وقع هذا الطبيب في أسر الرئيس محمد الإسلامي (1). كما أن الباي حسين بوكمية، باي قسنطينة، كان له طبيب هولاندي يدعى سانسون، وكان سانسون هذا على صلة بالطبيب الانكليزي الرحالة توماس شو وهو الذي قدم له معلومات جغرافية وغيرها عن قسنطينة عندما زار شو هذه المدينة (2)، ويظهر أنه بينما كان الباشوات والبايات يجلبون الأطباء لأنفسهم ويؤمنون بقيمة الطب (الأوروبي)، كانوا لا يهتمون بصحة السكان عموما، تاركين العامة للطب التقليدي الذي تحدثنا عنه.
ومن أخبار الباي محمد الكبير أنه كان يعتني بالطب ويشجع العلماء على التأليف فيه واختصار المطولات منه. فكاتبه أحمد بن سحنون يقول عنه إنه كانت للباي في الطب اليد الطولى، وإنه كان يصف للناس الدواء ويدفع لهم ما حضر منه، حتى أن المساكين كانوا يفزعون إليه كما يفزعون إلى طبيب ماهر. ويدل هذا على عناية الباي بالطب عموما واهتمامه بصحة الناس. كما يدل على أن الناس كانوا يعتقدون في الدواء إذا توفر لهم. وبفضل عناية هذا الباي بالطب قام بعض العلماء بالتأليف فيه واختصار المطولات الطبية منه. فهو الذي أوحى إلى أحد الشيوخ، ويدعى عبد اللطيف (؟)، بوضع كتاب سماه (المنهل الروي والمنهج السوي في الطب النبوي). كما أمر كاتبه ابن سحنون بجمع طب القاموس، فجمعه له وزاد عليه من كلام الأطباء حتى صار تأليفا هاما. وكان الباي يجيز من يفعل ذلك بالمال الجزيل (3). ويظهر من هذا الخبر أن الباي كان يؤمن بالطب عموما والطب النبوي خصوصا، وأنه كان يقتدي بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في طبه، وأنه كان (يصف الدواء لأصحابه ويتداوى في نفسه من عوارض الأمراض) كما يقول ابن سحنون. وقد قيل عن الباي محمد الكبير بأنه كان يفخر بوصف
__________
(1) دايفوكس (التشريفات) 90.
(2) فايساث (روكاي) 1868، 367.
(3) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ورقة 15 - 16.

ساسو
08-26-2016, 12:29 PM
نفسه بأنه (طبيب الفقراء) (1).
وقد كانت مصادر الطب العربي متوفرة في الجزائر، وكنا لاحظنا من دراستنا للمكتبات وفرة الكتب الطبية ولا سيما تآليف ابن رشد وابن سينا وداود الأنطاكي وابن البيطار. وفي رحلة ابن حمادوش أسماء مؤلفات طبية بالعربية وأخرى مترجمة كان يرجع إليها هو وأمثاله، كما أن مدرسة تلمسان الطبية لم تأفل تماما، ولا شك أن كتابات إبراهيم بن أحمد التلمساني ومحمد بن يوسف السنوسي في الطب كانت معروفة ومتداولة (2)، ورغم أننا لا نعرف تأليفا في الطب لسعيد المقري فإن تلاميذه ومعاصريه يقولون عنه إنه كان يجمع بين العلوم النقلية والعقلية، ولا سيما الطب والتشريح والهندسة والفلاحة والتنجيم (3).
والجمع بين التأليف في التصوف والطب لم يكن مقصورا على السنوسي. فهذا محمد بن سليمان الذي وضع موسوعة ضخمة في التصوف، وكان ممن جمع بين العلم والتصوف، قد نظم رجزا في الموازين والمكاييل الطبية والشرعية جاء فيه:
ودانق حبوبه ثمان ... من أوسط الشعير لانقصان
ورطلهم في الطب بالبغدادي ... والوزن في الزكاة قال الهادي
يكون بالمكي والمكيال ... بالمدني مدمن ماء قالوا
كما نقل عن محمد السنوسي في شرحه لحديث المعدة، وعن بعض
__________
(1) أحمد توفيق المدني (محمد عثمان باشا) 160.
(2) انظر الفصل الأول من الجزء الأول من هذا الكتاب، فقرة الطب والعلوم الأخرى.
(3) ابن مريم (البستان)، 105. يبدو أن ابن مريم قد اشتهر بين معاصريه بكتاب (فتح الجليل في أدوية العليل) أكثر من اشتهاره بكتاب (البستان). ذلك أن ابن سليمان في (كعبة الطائفين) 2/ 222 حين أراد تعريف ابن مريم قال عنه (مؤلف الشيخ الرقعي)،
ولم يقل عنه صاحب كتاب (البستان) مثلا. وبعد اطلاعنا على (فتح الجليل) وجدناه كتابا في العقائد والتصوف، انظر نسخة المكتبة الوطنية - تونس رقم 4412، أوراقها 178.

ساسو
08-26-2016, 12:30 PM
المعاصرين له أمورا سحرية كتعليق المصاب بالحمى اسمي فرعون وهامان. والطب والسحر في هذا العصر كانا مختلطين، ومن جهة أخرى نقل ابن سليمان عن محمد البوني كلاما طويلا في الرياضة البدنية والصوفية (1)، وقد عرفنا أن ابن سليمان عاش في منتصف القرن الحادي عشر.
ورغم اشتهار محمد بن أحمد الشريف بكتب المناقب والتصوف فإنه قد ألف أيضا رسالة في الطب النبوي سماها (المن والسلوى في تحقيق معنى حديث لا عدوى). وهي رسالة صغيرة تقع في ثلاث عشرة ورقة حلل فيها معنى الحديث المذكور وانتصر فيها للطب النبوي، وقد أهداها بنفسه إلى السلطان العثماني أحمد باشا سنة 1149 (2)، كما أن عبد الله بن عزوز المراكشي التلمساني قد جمع في كتابه: (ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطلب والطبائع والحكمة) (3) بين التصوف والفلسفة والطب، كما ذكرنا سابقا.
ولكن أبرز من ألف في الطب، بعد ابن حمادوش، هو أحمد بن قاسم البوني (4). وقد خلط البوني أيضا بين الطب المعروف والطب الروحاني، وله عدة أعمال في هذا المعنى. من ذلك تأليفه المسمى (إعلام أهل القريحة في الأدوية الصحيحة) الذي ألفه سنة 1116، والجزء الذي عثرنا عليه من هذا التأليف ناقص من أوله، لأن أوله هو نهاية الحديث عن أمراض العين، ويأتي بعد ذلك الحديث عن أمراض الأذن والأنف والأسنان والفم والسعال والسل، وقد تحدث البوني فيه أيضا عن أمراض الرحم والذكر وأدوية الجماع وحفظ الأجنة، وتكلم عن الأدوية المسمنة، وعن الحمى، ولدغة الحيات، وأشهى أنواع اللحم، ونحو ذلك، وهو يصف الداء والدواء، ولكنه يأتي بالخرافة وبالعلم معا. فعن سقوط الأجنة نصح المرأة بشرب كمون أو تعليقه، وكذلك
__________
(1) (كعبة الطائفين) 2/ 46.
(2) مخطوطة مكتبة كوبروللو (إسطانبول)، رقم 69.
(3) بروكلمان 2/ 704، 713. انظر أيضا فقرة الفلك وغيره في هذا الفصل.
(4) عن حياته انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

ساسو
08-26-2016, 12:31 PM
تعليق لؤلؤ أو مرجان أو زبد حر وأضاف بأن العقرب الميتة إذا علق على حامل بعد جعلها في خرقة لا تسقط أبدا، ولو كان من عادتها الإسقاط، وقال انه جرب فكتب كتابا وعلق في رقبة المحموم جوزة الطيب فزالت عنه الحمى. كما ذكر أنه عند إقامته بتونس، وهي كثيرة العقارب صيفا، كان يردد عبارة ذكرها تمنع العقارب من دخول البيت، ونحو ذلك. وقد نقل عن جده، محمد ساسي، بيتين فى الطب الروحاني، وعلق البوني على ذلك بقوله: (وهذا بحر واسع تكفي منه رشفة) (1)، ولعل هذا الخلط بين الطب والخرافة هو الذي جعل بروكلمان يذكر تأليف البوني هذا في باب التصوف والأسرار.
وللبوني تأليف آخر في الطب سماه (مبين المسارب في الأكل والطب مع المشارب). وكان قد وضعه نظما في آخر حياته (سنة 1172). وهو تأليف أكبر من الأول حجما ولكنه جمع فيه بين عدة مصادر كالأول وخلط فيه أيضا بين العلم والخرافة. فهو في الواقع قد نقل عن غيره ما كتبوه في أسماء الأدوية وطريقة التدوي، وأنواع المأكولات والمشروبات، أمثال ابن البيطار والسيوطي وعلي الأجهوري وابن العماد والسنوسي والشعراني والأنطاكي، وأحمد زروق، وغيرهم، وقد بلغ نظمه هذا أكثر من ألفي بيت (2)، وجمع فيه نظم غيره أيضا، مثل نظم الأجهوري وصاحب المستطرف والخراطي، قائلا:
وقد أكرر كأهل الفن ... زيادة في النفع دون من
وقد بدأ نظمه بداية تقليدية مبينا أن دافعه هو الحديث القائل بأن الطب نصف العلم وأنه أراد أن ينفع بعلمه في هذا الباب:
يقول أحمد الفقير البوني ... هو ابن قاسم الرضى المصون
الحمد لله الذي أباحا ... الطيبات زادنا أرباحا
جاعل علم الطب نصف العلم ... كما أتى عن النبي ذي الحلم
وقد تحدث فيه عن المأكولات المستطابة والمفضلة وعن أدب الضيف
__________
(1) المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 1759 مجموع.
(2) نفس المصدر، رقم 1775. انظر أيضا بروكلمان 2/ 715.

ساسو
08-26-2016, 12:32 PM
مع المضيف، وما أكله النبي (صلى الله عليه وسلم)، وما فيه منفعة طبية. وقسمه إلى فصول لها عناوين، مثل: أنواع المأكولات والمشروبات، آداب الضيف، مأكولات الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومشروباته، شرب القهوة والدخان، ونحو ذلك. ومن أخباره الطبية أن أكل التين يذهب مرض القولنج، وشرب العسل على الريق أمان من الفالج، وأكل السفرجل مفيد للأطفال، وأن الرمان ينفع الكبد، وأكل الزبيب مذهب للوصب، وأكل الكرميس يقوي المعدة، وأن أطيب اللحم لحم الظهر وأفضله المشوي لا المطبوخ، وأن أكل الأرز يزيد في العمر، ولا سيما الأرز الأبيض بالزبدة والسكر. وأشار إلى أن شر الطعام الباذنجان، كما تحدث في تأليفه عن الأمراض المعنوية كالنسيان.
ومن الموضوعات التي حظيت بالتأليف، الطاعون ومضاره والتغلب عليه. فقد ألف فيه ابن حمادوش رسالة سنعرض إليها. وذكر أحمد بن سحنون أنه نظم قصيدة في الطاعون الذي هاجمهم سنة 1202، واضطره هو للجلاء عن معسكر تاركا أوراقه ورقاعه (1)، وألف أبو راس الناصر كذلك كتابا سماه (ما رواه الواعون في أخبار الطاعون) ويبدو أنه جمع فيه ما قيل عن الطاعون وأضراره، ولعله قد استوحاه أيضا من طاعون سنة 1202، لأنه كان عندئذ بمعسكر، وكثيرا ما أصاب الطاعون الجزائر، شرقا وغربا، وتسبب لها في جوائع ووفيات كثيرة، والذي يقرأ (البستان) لابن مريم و (منشور الهداية) للفكون سيجد أن كثيرا من العلماء قد أودى بحياتهم الطاعون. وقد عانت منه تلمسان ومدينة الجزائر وقسنطينة حيث يزدحم السكان وتنتشر الأوبئة بسرعة.
ومن الذين ألفوا في الوباء الذي أصاب مدينة الجزائر بالخصوص، محمد بن رجب الجزائري الذي لا نعرف الآن أن له مؤلفات أخرى. فقد جمع سنة 1200 رسالة سماها (الدر المصون في تدبر الوباء والطاعون) (2)، ولا ندري الآن حجم هذه الرسالة ولكن يبدو أنها مهمة. فقد طالع صاحبها
__________
(1) ذكرها في كتابه (الأزهار الشقيقة) ورقة 277 - 278.
(2) (تعريف الخلف) 2/ 467.

ساسو
08-26-2016, 12:33 PM
كتبا عديدة في الطب مثل قانون ابن سينا وتذكرة الإنطاكي ومفردات ابن البيطار حول الوباء والطاعون، وقد رآها صاحب (تعريف الخلف) فوجد أن محمود بن علي بن الأمين قد أضاف إليها مقدمة من سبعة فصول وخاتمة. ومهما كان الأمر فإن رسالة ابن رجب عبارة عن جمع وتلخيص لأقوال الحكماء السابقين حول الطاعون، ولا ندري هل المقدمة التي كتبها لها محمود بن الأمين تعتبر هي أيضا جمعا وتلخيصا لما فات ابن رجب أو أنها كانت تضم تجاربه ومشاهداته الخاصة في الموضوع (1).
وفي آخر هذه النقطة نشير إلى أن محمد بن علي بن باديس الصنهاجي قد ألف كتابا في الأدوية ومنافعها سماه (المنافع البينة وما يصلح بالأربعة أزمنة). وقد بنى عمله أيضا على قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) (العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان). وجمع فيه ما اختصره من كتب الطب المختلفة والأحاديث المسندة، واعتمد على كتب الأقدمين في الأدوية كالرقا والخواتم ووقوع المرض في الشهور العجمية، ومعرفة النبض والبول، وما يستدل به على الأمزجة من الأحلام والفصد والحجامة والإنذار بالحوادث الرديئة. ومن مصادره في ذلك الرازي والطبري وابن زكريا والمنصوري وحنين بن إسحاق وأفلاطون وهرموس، ودقيوس وجالينوس. وقسمه إلى ثمانية أبواب على النحو التالي: في الأربعة أزمنة وما يستعمل فيها من حفظ الصحة، في علاج الرأس، في علاج العينين والوجه، في علاج الأذنين والأضراس والحلق، في علاج القلب والصدر والرئة والطحال، في علاج البطن والسرة والمعدة والكبد، في علاج الكلى والخاصرة، والحصا وحرقة البول، ومن يقعد بالدم ومن وجع الظهر، وعلل أرحام النساء ومقويات الجماع، ثم علاج الوركين والفخذين والركبتين والساقين والقدمين (2)، ولا شك أنه من التآليف المفيدة لو عرفنا عصر صاحبه.
__________
(1) عن هذا الموضوع انظر فصل العلوم التجريبية لاحقا.
(2) رأيت منه نسختين في المكتبة الملكية بالرباط رقم 9250 ورقم 8544 وهو صغير الحجم في حوالي ثلاثين صفحة. انظر أيضا مقالة لعبد الله كنون عن مخطوطات تطوان في (مجلة المخطوطات العربية).

ساسو
08-26-2016, 12:34 PM
عبد الرزاق بن حمادوش
ولد عبد الرزاق بن محمد بن حمادوش الجزائري في مدينة الجزائر سنة 1107 وعاش إلى أن تجاوز التسعين، حسب بعض الباحثين، ولكننا لا ندري متى توفي بالضبط، والغالب على الظن أن الوفاة قد أدركته بالمشرق بين 1197 و 1200 (1). وقد نشأ بمدينة الجزائر وتعلم بها العلوم الشائعة عندئذ، وكان من أسرة متوسطة الحال تلقب بأسرة الدباغ لأن والده وعمه، كما يظهر، كانا يشتغلان بالدباغة. وقد تجوز عبد الرزاق صغيرا من ابنة عمه حسب العائلات المحافظة، وكانت أسرته على صلة بطبقة التجار والحرفيين في مدينة الجزائر، لذلك تزوجت أخته من عائلة تشتغل بالحرارة، وتزوج هو مرة ثانية من عائلة تحترف صناعة النحاس وتلميعه، ويبدو أن والده قد توفي وهو ما يزال صغيرا لأنه لم يذكره في عقد زواجه الأول ولا الثاني بينما ذكره في عقد زواج أخته. وبعد زواجه من ابنة عمه ظل عبد الرزاق في رعاية عمه يسكن عنده، ولكن هذا الزواج مجهول القيمة بالنسبة لحياة ابن حمادوش، فهو لم يذكر أنه أنجب أطفالا من ابنة عمه كما تحدث عن أطفاله من زوجه الثانية. فهل تحدث عن ذلك في الجزء الأول المفقود من رحلته؟ وعلى كل حال فإن عبد الرزاق قد عاش حياة مليئة بالفقر والضيق ولم يستطع أن يشق طريقه إلى الثروة والجاه كما كان يفعل المتصلون بالولاة وأرباب السلطة من العلماء. وقد كان الفقر سببا في شقاء زواجه أيضا حتى هربت منه زوجه الثانية وطلبت الطلاق وفارقته أمه وأخوه. وحاول الجمع بين العلم والتجارة فلم يحالفه النجاح، لأنه، كما قال، كان لا يفارق الكتب.
تعلم ابن حمادوش عن طريق الدرس والإجازة والرحلة، ومن سوء
__________
(1) انظر عنه كتابنا (الطبيب الرحالة)، الجزائر، 1982، ورحلة ابن حمادوش (لسان المقال)، الجزائر، 1983. كما أننا نشرنا عنه بحثا في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، أبريل 1975، وهو منشور أيضا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، الجزائر، 1978.

ساسو
08-26-2016, 12:34 PM
الحظ أن المصادر التي لدينا لا تتحدث عن ثقافته الأولى في الجزائر، ولكنه قد صرح فيما بعد أن كل العلوم تلقاها بالدرس إلا الكيمياء والسيمياء والموسيقى فقد أخذها بالإجازة. ومعنى ذلك أنه جلس للدرس في الجزائر وغيرها على مشائخ الوقت، أمثال المفتي محمد بن نيكرو، والقاضي مصطفى بن رمضان العنابي، والقاضي الأديب محمد بن ميمون الذي كان يسميه (شيخنا). ومن المؤكد أنه درس في المغرب على أحمد الورززي ومحمد البناني، وأحمد السرائري، وأحمد بن المبارك، وحصل منهم على إجازات سجلها في الجزء الثاني من رحلته، وتتلمذ في الطب على عبد الوهاب أدراق طبيب السلطان اسماعيل وأولاده، كما درس على الشيخ محمد زيتونة التونسي، وكان أيضا يسميه (شيخنا)، في مكان لا نعرفه، ولعله الإسكندرية أو تونس. وكان ابن حمادوش معاصرا في الجزائر لعلماء بارزين ذكرنا بعضهم، وخصوصا أحمد بن عمار وابن علي والحسين الورتلاني. فهو إذن من إنتاج القرن الثاني عشر (18 م) الذي عرفت فيه الحركة الثقافية نشاطا ملحوظا.
ولكن ثقافة ابن حمادوش كانت تقوم أساسا على عنصرين هامين الأول الرحلة، والثاني قوة الملاحظة والتجربة. فقد بدأ الرحلة وهو صغير السن، فحج سنة 1130 بالبر عبر تونس، ولا ندري كم بقي في المشرق هذه المرة ومن لاقى من العلماء في تونس وطرابلس ومصر والحرمين، وما الإجازات والدروس التي حضرها. غير أننا نجده سنة 1145 في المغرب الأقصى حيث جاء في رحلته التي اطلعنا عليها أنه كان هناك عندئذ وأنه كتب قصيدة ليقدمها إلى السلطان عبد الله، غير أنه عدل عن ذلك لسبب غير واضح، ولعله يعود إلى خشونة الحجاب أو لضعف الشعر أو خمول الشهرة، وقد اكتفى ابن حمادوش بقوله (أغناني الله عن لقياه). ويبدو أنه كان يتردد على المغرب للتجارة والعلم. فقد وجدناه أيضا هناك سنة 1156، حين أطال فيه الإقامة، ووصف نشاطه. فقد درس على عدة مشائخ في تطوان وفاس ومكناس وأجازوه وجلس للتدريس بعض الوقت، واشترى وطالع ونسخ الكتب

ساسو
08-26-2016, 12:35 PM
الكثيرة، وعاين الثورات السياسية والعادات الاجتماعية والتطورات الاقتصادية في المغرب ووصف وكتب عن كل ذلك. وبعد أكثر من عام عاد ابن حمادوش إلى وطنه وقد اكتسب علما غزيرا ولكن تجارته كسدت وأوشك على الهلاك كما صرح بذلك، فاكتفى من الغنيمة بالإياب، وآخر تاريخ نعرفه عن تحركاته هو سنة 1161، ففيه كان في مدينة رشيد يؤلف رسالته (تعديل المزاج). والغالب على الظن أنه غادر الجزائر للحج أو نحوه في تلك السنة، ولا ندري إن كان قد عاد إلى الجزائر أو مات في المشرق (1).
ورغم أن ابن حمادوش قد تثقف ثقافة معاصريه من لغة وفقه وأدب وتصوف وتوحيد، فإنه كان بطبعه ميالا إلى الكتب العلمية، وقد روى أنه درس تأليف القلصادي في الحساب، وشرح محمد السنوسي على الحباك في الإسطرلاب، والقانون والنجاح والطلاسم لابن سينا، ومقالات أقليدس، وشرح ابن رشد على منظومة ابن سينا، وتاريخ الدول للملطي وهو في أخبار العلماء والأطباء، وكتاب السطي في ذوات الأسماء والمنفصلات. وطالع عمل عبد الرحمن الفاسي في علم البونبة. كما ولع بكتب المنطق وألف فيه. وبالإضافة إلى هذه المصادر اعتمد ابن حمادوش على التجربة والمشاهدة. فقد كان يخرج للجبال المجاورة لمدينة الجزائر لإجراء التجارب والتقاط الأعشاب والتدرب على رمي البونبة ووزنها وبارودها ومسافة انطلاقها. وعندما كان في المغرب سجل ملاحظات علمية هامة أثناء مروره من تطوان إلى فاس والعكس. فلاحظ عذوبة وملوحة الأمياه، وأنواع الأشجار والطيور
__________
(1) وجدنا في أحد المخطوطات الفلكية، باريس رقم 2568، ورقة 75، نقلا عن ابن حمادوش جاء فيه أنه قام بتعديل الكواكب على طول الجزائر سنة 1168، وهذه هي العبارة (نقلتها - أي الكواكب - لتمام سبعة بموحدة بعد الثمانية وستين ومائة وألف، وعلى طول الجزائر، فيكون التعديل من نصف يوم الخميس بتاريخ عام ثمانية وستين ومائة وألف). ولعل هذه العبارة مأخوذة من رحلة ابن حمادوش المفقودة لأنها تشبه ما عندنا منه في الجزء الثاني من رحلته ولأنه يتحدث فيها بصيغة الماضي، أي أنه كان يكتب ذلك بعد سنة 1168.

ساسو
08-26-2016, 12:35 PM
والحيوانات وغرائبها، كما لاحظ حركات النجوم وعالج التغلب على الحمى، ونفس الشيء فعله عندما كان في الجزائر ومصر أيضا حيث سجل في كتابه (كشف الرموز) ما شاهده من غرائب النبات هناك، كما وضع ميزانا للماء وهو في الجزائر.
ومن بين أنواع العلوم اهتم ابن حمادوش خصوصا بالطب والفلك، وألف في ذلك عدة تآليف سنذكرها، وقد كتب عن نفسه، وهو ما يزال في شبابه (سنة 1145) بأنه أصبح طبيبا وصيدليا وعشابا، وافتخر ذات مرة بأن الأعشاب التي قيدها في تأليفه كلها معروفة لديه، وكان كثير القراءة في كتب الطب القديمة، عربية وأجنبية. فقرأ ولخص ودرس تآليف ابن سينا وابن البيطار والأنطاكي. وقال عن كتاب الدول للملطي أنه (لم ير مثله في التراكيب العربية وأساليبها فيما عرب من كتب النصارى). ونقل عنه تراجم عدد من الأطباء، مسلمين وغيرهم، أمثال الرازي والفارابي، والبيروني، وابن سهل صاحب بيمارستان جند سابور، والمنجم أبي معشر البلخي، ومحمد بن جابر البتاني، ومحمد البوزجاني، وإقليدس. وقد أراد أن يؤلف كتابا كبيرا في علم الطب وفروعه فكان (الجوهر المكنون من بحر القانون)، الذي يبدو من عنوانه أنه اعتمد فيه على كتاب القانون لابن سينا.
وقد تحدث ابن حمادوش في رحلته عن هذا الكتاب فقال إنه قد رتبه على أربعة كتب. الكتاب الأول في السموم وذوات السموم والعلاج منها، والكتاب الثاني في الترياقات وما يجري مجراها ... وبعض المعاجين التي يضطر إليها، والكتاب الثالث في الأمراض بناه على جدول حنين ابن إسحاق، أما الكتاب الرابع فقد خصصه لحل ألفاظ المفردات وتعريبها (1)، وقد قال ابن حمادوش عن كتابه (الجوهر المكنون) بأنه (كتاب جليل .. يتوشح به الأصاغر ولا تمجه الأكابر. فيه الأسباب والعلامات والعلاجات)،
__________
(1) نرجح أن يكون الكتاب الرابع هو المنشور اليوم بعنوان (كشف الرموز) لأن هذا يبدأ بالكتاب الرابع، كما سنرى وبذلك يكون (كشف الرموز) في الواقع عبارة عن جزء صغير من (الجوهر المكنون من بحر القانون).

ساسو
08-26-2016, 12:36 PM
كما جاء في رحلته بأنه قد أتمه بعد أكثر من سنة من العمل فيه، وبالإضافة إلى هذا الكتاب ألف ابن حمادوش في الطب رسالة سماها (تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج) والظاهر أنه ألفها عندما كان في مدينة رشيد بمصر، وهي في أمراض وعلاج الأعضاء التناسلية ونحوها (1).
كما ألف عدة رسائل وكتب في الفلك. فقد وضع تأليفا أضاف فيه ما تعلمه من كتاب عبد الرحمن الفاسي عن البونبة، وخرج بنفسه إلى ضاحية العاصمة وتعلم الرمي والمقاسات والأحجام ثم كتب ما كتب في الموضوع قائلا (فتممت ما بقي لي (من هذا العلم) .. وأخذت علم البونبة بارتفاعها وتعميرها ورميها وعجن بارودها، فأنا من علمائها). ودرس ابن حمادوش علم الطرق البحرية (وهو يسميه علم البلوط) وقال إن (يدي صحت في هذا العلم " وألف في ذلك، كما وضع خريطة توضح اتجاه الرياح ووصف طريقة استعمالها. وألف عملا آخر في صورة الأرض قال عنه (لم أسبق به). وسنذكر تآليفه في هذه العلوم وغيرها بعد قليل. لكن نلاحظ أن تآليف ابن حمادوش يغلب عليها اختصار المطولات وصغر الحجم. ومع ذلك فإنها تدل على أن اتجاه صاحبها كان اتجاها صحيحا سابقا لعصره، وأن ابن حمادوش لو وجد حكومة رشيدة ترعى العلوم والعلماء لكان له شأن آخر في وقته. ويمكن مقارنة ابن حمادوش الجزائري بقليليو الإيطالي ونيوتن الإنكليزي في الروح والتمرد على معايير العصر والإيمان بالعلم.
ولنورد هنا قائمة تآليف ابن حمادوش في العلوم فقط (2) ليقف المتتبع لحياته على أنواعها وأهميتها:
1 - شرح على قصيدة الربع على كردفر.
__________
(1) ذكر لي الشيخ المهدي البوعبدلي أن لديه نسخة منه، وكان ليكليرك الفرنسي قد اطلع على نسخة منه ووصفها كما سيأتي.
(2) ذكرنا في دراستنا المطولة عنه تآليفه في التخصصات الأخرى كالأدب والمنطق والرحلة، وقد أشرنا إلى تآليفه أيضا في أبوابها من هذا الكتاب.

ساسو
08-26-2016, 12:37 PM
2 - تأليف في الروزنامة.
3 - تأليف في الأعشاب لم يذكر عنوانه وإنما قال عنه (فإن الأعشاب المقيدة في تأليفي كلها معروفة عندي). ولعل هذا التأليف هو بعينه الكتاب الرابع من (الجوهر المكنون) الآتي ذكره.
4 - الجوهر المكنون من بحر القانون (في الطب). وهو التأليف الذي جعله في أربعة كتب، كما أسلفنا، أحدها (وهو الرابع) في الأعشاب.
5 - تأليف في الفلك جمع فيه التواريخ السبعة التي تعلمها. وقال في رحلته عنه (وسميته) ولكنه ترك بياضا بعد هذه الكلمة.
6 - تأليف في الإسطرلاب والربع المقنطر لم يذكر له عنوانا.
7 - تأليف في القوس الذي يأخذ به الأوروبيون (النصارى) حركة الشمس، ولم يذكر له عنوانا أيضا.
8 - تأليف في الرخامة الظلية بالحساب استخرجه من كتاب للأوروبيين، ولم يذكر له عنوانا.
9 - تأليف في صورة الكرة الأرضية مستوحى من مطالعته لكتاب رضوان أفندي في صورة الكرة، أشار إلى أنه (ساع في إكماله) ولم يذكر له عنوانا.
10 - تأليف في علم البلوط (أو معرفة الطرق البحرية)، لم يشر إلى عنوانه.
11 - كارطة (أو خارطة؟) لرسم اتجاهات رياح البحر، دون ذكر عنوان لها، ولكنه رسمها بدقة.
12 - تعليق على ألفاظ الديباجة الواردة في منظومة ابن سينا (؟) ولم يذكر لذلك عنوانا.
13 - بغية الأديب من علم التكعيب، أتمه سنة 1143.
14 - فتح المجيب في علم التكعيب، ألفه بعد أن اطلع على كتاب للأوروبيين في المساحة والهندسة وانتهى منه سنة 1160. ويبدو أنه تنقيح وتوسيع لكتابه (بغية الأديب).

ساسو
08-26-2016, 12:37 PM
15 - شرح على منظومة ابن غرنوط، والظاهر أنه هو نفسه (بغية الأديب).
16 - تأليف في عمل البونبة أضافه إلى ما كان قد تعلمه من تأليف عبد الرحمن الفاسي في نفس الموضوع.
17 - تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج، أتمه على ما يظهر سنة 1161 في مدينة رشيد بمصر.
18 - تأليف في الطاعون الذي أصاب الجزائر في وقته، لا نعرف عنوانه.
ولابن حمادوش، بالإضافة إلى هذه الكتب العلمية، مؤلفات أخرى في الأدب والرحلة والمنطق والنحو والشعر. وباستثناء التأليفين الأخيرين، فإن جميع بقية التآليف قد ذكرها في الجزء الثاني من رحلته ومعظم هذه الكتب غير معروفة الآن وهي في حكم الضائعة. وقد تناولنا في دراستنا الجزء الثاني من رحلته وفصلنا القول فيه لأنه موجود. وبقي أن نتحدث عن (كشف الرموز) الذي طبع عدة مرات وعن (تعديل المزاج) الذي وصفه من اطلع عليه (1).

كتابه كشف الرموز:
سبق أن أشرنا إلى أن الكتاب المطبوع بعنوان (كشف الرموز) لابن حمادوش هو في الواقع الكتاب الرابع من مؤلفه الكبير في الطب الذي سماه (الجوهر المكنون من بحر القانون). ولم يهتد إلى ذلك ليكليرك الذي ترجم
__________
(1) كتب عن ابن حمادوش أيضا وترجم عمله (كشف الرموز) لوسيان ليكلجرك الفرنسي، باريس 1874، وقد اطلعت على النسخة الأصلية الخطية لترجمته في المكتبة الوطنية - باريىس - كما ترجم له وحلل كتابه المذكور، قابريال كولان الفرنسي أيضا ونال على ذلك رسالة الدكتوراه في الطب من جامعة الجزائر، سنة 1905، ودراسته مطبوعة أيضا في نفس السنة. وعن ابن حمادوش انظر أيضا (تاريخ الطب العربي) لليكليرك، وكتابات إبراهيم بن مراد. وقد أعيد نشر كتاب (كشف الرموز) في بيروت، سنة 1996، دون تقديم جديد أو تحقيق.

ساسو
08-26-2016, 12:38 PM
الكتاب إلى الفرنسية ولا كولان الذي درس الكتاب وحصل به على الدكتوراه في الطب ولا ناشره بالعربية السيد أحمد بن مراد التركي المعروف برودوسي. غير أن كولان ورودوسي تفطنا إلى أن الكتاب غير مستقل بذاته نظرا لبدايته التي لا تتماشى مع ما اعتاده المؤلفون المسلمون من الديباجة المتضمنة للغرض من التأليف واسم الكتاب وخطته ونحو ذلك. ذلك أن (كشف الرموز) يبدأ مباشرة بالكتاب الرابع وينقل عن ابن سينا عدة صفحات ثم ترد فيه قائمة أسماء النباتات وغيرها والأدوية من الأمراض. وحين وصف ابن حمادوش في الرحلة الكتاب الرابع من (الجوهر المكنون) قال عنه (ونويت أن أجعل الكتاب الرابع في حل ألفاظ المفردات وتعريبها ما أمكن). وقد علمنا أنه قد انتهى من الكتاب ووفى فيه بما نوى، وشرح المفردات وعرب ما شاء. والذي كشف لنا عن هذه الحقيقة هو الجزء الثاني من رحلته. ولعل حرص الناس على التداوي بالأعشاب هو الذي جعل بعض النساخ يفصلون الكتاب الرابع عن بقية (الجوهر المكنون) الذي لا يهم في بقيته إلا الخاصة وأمثالهم، فكثر تداول الكتاب الرابع ونسي أصل الكتاب. لذلك كثرت نسخ الكتاب الرابع إذ نجد منها في الجزائر (1) وفي المغرب الأقصى (2) وفي باريس، وهكذا، بينما لا نعرف شيئا عن بقية (الجوهر المكنون) إلا ما وصفه به مؤلفه في الجزء الثاني من رحلته (لسان المقال).
ومهما كان الأمر فإن (كشف الزموز) عبارة عن قاموس طبي سار فيه ابن حمادوش على طريقة المعاجم الأبجدية. وضمنه بعد مدخل في أنواع وأوصاف الأدوية، أسماء النباتات والعقاقير والحيوانات والمعادن أيضا. ولذلك فإنه من الخطأ إضافة عبارة (في بيان الأعشاب) التي ظهرت في الطبعة العربية، فالكتاب يتناول غير النباتات أيضا. ولم يذكر المؤلف حرفي الغين والضاد في معجمه، ربما لعدم توفر أسماء الأدوية ونحوها في هذين الحرفين. وقد ذكر فيه أسماء بتعريفات ومصطلحات الأطباء السابقين له.
__________
(1) مثلا رقم 1764 و 1765 المكتبة الوطنية - الجزائر.
(2) الخزانة العامة، الرباط، مكتبة الأوقاف رقم 337 مجموع.

ساسو
08-26-2016, 12:38 PM
وكان يكثر من تأصيل كل اسم وما يعرفه عنه فيقول (عندنا) كذا، وفي مصر يسمى كذا، وفي سورية كيت وكيت، وهكذا. وجاء فيه عدد من أسماء الأدوية وغيرها التي وردت على الجزائر من أوروبا في العهد العثماني أيضا، بالإضافة إلى أسماء بعضها في اللهجات المحلية. والكتاب يضم حوالي ألف مادة (987 مادة) في مختلف الأنواع المذكورة، ويشتمل على جميع الأدوية والأمراض المعروفة في الجزائر في وقته.
وقد اعتمد ابن حمادوش على مصادر كثيرة لكتابة عمله، حتى أن ليكليرك زعم أن ابن حمادوش قد اختصر أعمال الأقدمين في الطب وأنه سار على نفس طريقتهم الأبجدية، ولكنه أضاف إلى ذلك ما استحدث عند قومه وما ورد عليهم من الأسماء من أوروبا. وقد رجع ابن حمادوش إلى مؤلفين مسلمين ويونان. ولنذكر من هؤلاء داود الأنطاكي صاحب (التذكرة) الذي قيل إن ما أخذه عنه ابن حمادوش بلغ أربعين مادة. وأخذ أيضا عن ابن البيطار، كما استعان بابن سينا ولا سيما بكتابه (القانون) الذي طبع في رومة قبل ميلاد ابن حمادوش. ويرجح ليكليرك أن ابن حمادوش قد أخذ عن نسخة رومة، لأنه وجد نسخة في الجزائر وأخرى في وهران من هذه الطبعة. ولكن هذا غير مؤكد، فقد يكون أخذ عن نسخة مخطوطة من (القانون). ومن جهة أخرى أخذ ابن حمادوش عن علماء اليونان وغيرهم مثل: بول، وغاليان، وديوسكوريدس وغيرهم بطريقة غير مباشرة، أي أنه رجع في ذلك إلى مؤلفات المسلمين السابقة له. وأخيرا اعتمد ابن حمادوش على مؤلفين مسلمين آخرين أمثال ابن ماسويه، والإدريسي، والسنوسي، وزروق، والقزويني. ولكننا قد عرفنا أن أغنى مصدر رجع إليه ابن حمادوش هو التجربة الشخصية. كما عرفنا أنه كان يعود أيضا إلى الكتب المعربة عن الكتب الأوروبية وأنه قد أكثر من الإشارة إلى ذلك في رحلته.
وقد أشاد كل من ليكليرك وكولان بأصالة فكر ابن حمادوش وأهمية العمل الذي قام به في (كشف الرموز) فقد قال الأول ان ابن حمادوش لم يستند إلى الخرافات في عمله وإن فيه إضافات جديدة في المواد الطبية التي

ساسو
08-26-2016, 12:39 PM
لا علاقة لها بالأدوية الأوروبية، وإن قرب تأليفه من وقت دخول فرنسا للجزائر هو الذي جعله يقدم على ترجمته، لأهمية موضوعه في التعرف على عادات التداوي عند السكان (1). وفي مكان آخر ذكر ليكليرك بأن عمل ابن حمادوش لم يكن مجرد اختصار لعمل غيره لأنه ضمنه أدوية لم تكن معروفة للأنطاكي وأمثاله وأنه ذكر فيه أدوية أوروبية أصبحت متداولة في الجزائر، ولذلك قال ليكليرك بأن (كشف الرموز) يشكل صفحة هامة في تاريخ الطب، وقال عن مؤلفه إنه يعد في نظره من أواخر الممثلين للطب العربي (2). أما كولان فقد أشاد (بعصرية) تفكير ابن حمادوش لبعده عن التصوف والخرافات. وقال عن (كشف الرموز) بأنه من الكتب التي تركت أثرا عميقا في تقاليد الطب في القطر الجزائري، وأنه مرجع للسكان في علاج الأمراض الشائعة عندهم (3).
ولعل مصدر الإعجاب بـ (كشف الرموز) يعود إلى كون ابن حمادوش قد سار فيه على طريقة واضحة. فبعد المدخل أي النقل عن ابن سينا، والترتيب الأبجدي، يأخذ في تعريف الدواء ووصفه وأنواع الأسماء الأخرى التي تطلق عليه في مختلف البقاع، وذكر خصائصه وفوائده العامة وفوائده الخاصة، وكيفية استعماله والكمية الضرورية منه ومشتقاته. ومن جهة أخرى يذكر الأمراض التي يستعمل لها الدواء ويتعرض لها الجسم ويحدد منافع كل نبات أو غيره، فيقول إن كذا صالح لوجع كذا. وكان ابن حمادوش يذكر عبر كل ذلك مقادير كل دواء بالموازين الشائعة عندئذ، ولعل ذلك هو ما حبب الكتاب إلى الناس أيضا. وبناء على (كشف الرموز) فإن الموازين وما يقابلها بالغرامات هي ما يلي (4):
__________
(1) ليكليرك (تاريخ الطب العربي) 2/ 309.
(2) ليكليرك ترجمة (كشف الرموز) 4 - 5.
(3) كولان، 35، 39، وهذا ما يؤكد ما ذهبنا إليه من فصل النساخ للباب الرابع من كتابه (الجوهر المكنون) لحاجة الناس إلى ما في الباب الرابع - أي المفردات.
(4) انظر جدول طبعة رودوسي سنة 1928 وكذلك كولان، 42 - 43.

ساسو
08-26-2016, 12:39 PM
القمحة .......... وحدة الوزن .......... 0.0488 غرام
القراط .......... 4 قمحات .......... 0.1954=
الدرهم .......... 16 قراط .......... 3.1266 =
المثقال .......... 1 درهم ونصف .......... 4.6899 =
الوقية .......... 12 درهما .......... 37.5192 =
الرطل .......... 12 وقية .......... 450.2304 =
الدانق .......... سدس الدرهم .......... 0.5211 =
الأسطار .......... 6 دراهم ونصف .......... 19.8018 =
وإذا كان هذا هو شأن الكتاب الرابع من (الجوهر المكنون) فإننا نتوقع أن يكون ابن حمادوش قد بذل جهدا مضاهيا في بقية الأقسام التي لم نطلع عليها منه. ولعل الأيام تكشف عن هذا الكتاب لنعرف ما قام به ابن حمادوش في باب الطب، الذي يعتبر بحق من أبرز ممثليه من العرب والمسلمين في القرن الثاني عشر (18 م).

كتابه تعديل المزاج:
ومن الموضوعات الطبية التي عالجها ابن حمادوش أيضا الأعضاء التناسلية ووظائفها وأمراضها وأدويتها. ورسالته (تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج) تتناول ذلك. ويظهر من العنوان أن مؤلفها تناول فيها المزاج البشري وأحواله وأسباب علاجه. وقد ألف ابن حمادوش هذه الرسالة في مدينة رشيد بمصر سنة 1161، أي بعد سفره من الجزائر بقليل. وقد وصلت منها نسختان إلى الجزائر الأولى اطلع عليها واستافاد منها السيد لوسيان ليكليرك، وهي التي استفدنا منها أيضا، والثانية توجد، حسبما علمنا، عند الشيخ المهدي البوعبدلي (1). وبناء على معلوماتنا فإن الرسالة في حجم صغير لا يتجاوز الكراستين.
__________
(1) اخبرني بذلك بنفسه ووصفه بأنه كتاب صغير. ولكن بعد اطلاعي عليه أثر كتابة هذا الفصل تبين لي أنه هو (كشف الرموز).

ساسو
08-26-2016, 12:40 PM
فالموضوع الرئيسي لرسالة (تعديل المزاج) هو وظائف الأعضاء التناسلية والاضطرابات التي تصيبها، وعلاجها وكيفية المحافظة عليها في حالة سليمة. وبناء على ابن حمادوش فإن الاضطرابات التي تصيب الأعضاء التناسلية نوعان: نوع غير عادي أو خارج عن قدرة الإنسان، ونوع عادي مثل تعكر أو توعك القلب والمخ والكبد. ويصف ابن حمادوش العلاج للنوع الأول فيذهب إلى استعمال الوسائل التقليدية مثل التمائم والرقى. كما يصف علاج النوع الثاني وطريقة رده إلى حالته العادية التي تؤدي إلى تعديل الأمزجة المصابة. وهو يصف لذلك أدوية بسيطة ومركبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كما أنه يذكر الأدوية أو العناصر التي تضعف الأعضاء التناسلية، وتلك التي تهيج اللذة لكلا الجنسين.
وقد ذكر ابن حمادوش المصادر التي استقى منها معلوماته، بالإضافة إلى التجربة الشخصية. فعاد إلى كتابات العياشي وأبيقراط وغاليان وابن سينا وحنين ابن إسحاق، وابن رشد والدميري والقزويني وداود الأنطاكي والجاحظ والعطار، والبرزلي والشاذلي والبسكري. وقد اعتمد ابن حمادوش في هذا الكتاب، خلافا لما فعله في (كشف الرموز) على الأحاديث النبوية. كما أنه أوصى باستعمال بعض الأدوية مثل الكينة. وهكذا نجده متنوع المصادر هنا كما في كتبه الأخرى. فهو يعتمد على كتب الأولين من جزائريين وغيرهم، كما يعتمد على التجربة والمشاهدة. وقد لاحظ ليكليرك، الذي نوه بعقلانية ابن حمادوش في (كشف الرموز)، اعتماده على الوسائل غير العلمية في (تعديل المزاج) كلجوئه إلى التمائم والرقى. غير أن قيمة هذه الرسالة تظل هامة في موضوعها، لأنها رسالة متخصصة من جهة ولأنها متأخرة إذا قيست بكتب الطب العربي الأخرى (1).
__________
(1) عالج ليكليرك (تعديل المزاج) في مصدرين الأول في الجزء الثاني من كتابه (تاريخ الطب العربي)، 308 - 310، والثاني في آخر ترجمته لـ (كشف الرموز)، 380. انظر عن مصادر ابن حمادوش أول هذه الفقرة، وكذلك فصل العلوم التجريبية، لاحقا.

ساسو
08-26-2016, 12:40 PM
الفنون
رغم حديث بعض العلماء الجزائريين عن الموسيقى والغناء والرقص ونحوها فإنهم لم يخصوها بتأليف يؤرخ لها ويصفها ويحدد أنواعها ووظيفتها الفنية والاجتماعية.

رأي العلماء والمتصوفة في الموسيقى:
ومن الذين تحدثوا عن الموسيقى أحمد الونشريسي في كتابه (المعيار) حين روى أن أحد العلماء سئل في حكم الغناء والرقص بعد أن ثبت أن جماعة من أهل الخير والصلاح قد اجتمعوا وأنشدهم منشد شعرا في الحب وغيره فتواجد بعضهم ورقص، ومنهم من أصبح يصيح ويبكي، ومنهم من غشيته شبه غيبة. فهل هذا مكروه لهم؟ فأجاب العالم الفقيه بأن الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل وهو لا يصلح إلا للنساء. وأما سماع الإنشاد الذي يحرك المشاعر السامية، والذي يذكر الإنسان بأهوال الآخرة والتعلق بها فلا بأس به، بل هو مندوب عند فتور النفس. وأضاف صاحب الفتوى أن السماع أو الإنشاد لا يحضره من في قلبه هوى خبيث، ذلك أن (السماع يحرك ما في القلوب من هوى محبوب أو مكروه). وقد أضاف الونشريسي بأن معظم العلماء يكرهون الغناء بغير آلة طرب. أما بآلة ذات أوتار كالعود والطنبور والزمار فممنوع. وقال إن بعضهم قد استثنى من ذلك الغناء في الأعراس والحفلات التي لا تقدم شرابا مسكرا. أما الغناء (بصوت رقيق فيه تمطيط)، وهو الغناء العربي المسمى بالنصف، فقد أجازه الجميع لأن الصحابة قد أجازوه وفعلوه بحضرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) (1).
وفي القرن الحادي عشر (17 م) استنكر عبد الكريم الفكون لجوء بعض أهل التصوف إلى استعمال الموسيقى في الحضرة والإنشاد الذي ترافقه
__________
(1) (المعيار) 11/ 22 - 23، 61.

ساسو
08-26-2016, 12:41 PM
آلات وتصفيق وشطح أو رقص فيه تواجد ووله. وروى أن عالم عنابة في وقته، الشيخ محمد ساسي، قد استعمل ذلك حين ورد عليهم أحد متصوفة المغرب فأقاموا له في عنابة حفلات ساهرة تشبه على حد تعبير الفكون، ما كان يفعله أمثالهم في قسنطينة أيضا، وهم الذين سماهم (نادي جماعة الشرب)، في زعاقهم وآلات طربهم ولهوهم الذي يجعلونه بابا لدخول الحضرة الصوفية. وذكر الفكون أنه حين حان سفر الرجل المغربي من عنابة ودعه الناس وعلى رأسهم الشيخ محمد ساسي الذي رفع الصوفي المغربي على كتفيه، وكان ينشد الأشعار والجميع يردون عليه، وأضاف الفكون وقد (خرج جميع أهل البلدة وتراكمت السطوح واختلط النساء بالرجال)، بينما كان الرجل المغربي من جهته يزجل بأزجاله و (الكل يصفق ويشطح، ويصيح ومما عنده يطفح) (1).
وخلال نفس الفترة (القرن الحادي عشر) أكد أحد الباحثين جواز السماع (الموسيقى) عند الصوفيين واعتبر هذا العلم من العلوم التي تجمع بين المعاملة والمكاشفة، ونقل جوازه عن بعض الزهاد والعلماء أمثال أبي مدين وأبي القاسم الجموعي وأبي الحسن الشاذلي والشطيبي. فقد أخبر محمد بن سليمان عن جواز سماع الموسيقى للصوفي الحقيقي. وأخبر أن شيخه موسى بن علي اللالتي كان حسن الإنشاد وأنه إذا أسمع وأنشد يكاد قلب السامع من تأثيره ينفطر وينهذ وأن شيخه كان يقول: (ورثنا هذا المقام عن داود عليه السلام).
وكان أخوه (أخ محمد بن سليمان) محمد القاضي قد سمع بعض كلام الشيخ اللالتي فتواجد منه حتى قال: (سمعت بأذن قلبي خطاب الحق يقول: كلام موسى بن علي برق المحبوبين، وبرقه جالب لأحوال المجذوبين، وكلام المحبوب سلب للقلوب، فناهيك بهذا شرف؟). وكان اللالتي يشتكي
__________
(1) (منشور الهداية) 184، واسم الصوفي المغربي المشار إليه هو علي خنجل، وقد سبقت إليه الإشارة في فصل المرابطين من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 12:44 PM
لبعض تلاميذه من غلبة الحال والوجد عليه حتى أنه كان يقول لتلميذه (محمد بن سليمان) (يا ولدي، هذا عذاب عذبني الله به). وأخبر عنه أنه كان ذات يوم في رفقته فأنشده أبياتا لعبد القادر الجيلاني منها:
رأيت ربي بعين قلبي ... فقلت لاشك أنت أنت
فتواجد الشيخ اللالتي كثيرا. ولما أنشده قول الجيلاني أيضا:
فمن بالعفو يا إلهي ... وليس أرجو سواك أنت
سكن الشيخ وبرد وانطفأ عشقه وقال: ألا ما أحسن هذا الكلام! (1).
وبعد حوالي قرن فصل الورثلاني في هذه القضية. فهو كرجل من أهل التصوف أباح استعمال الموسيقى والإنشاد لأهل التصوف ومنعه على غيرهم لأنه يؤدي، في نظره، إلى الاختلاط والفساد. وفي رحلته أمثلة عديدة على وصفه الفجور في البلدان التي زارها في الجزائر، فالغناء في نظره دواء لأهل العشق الصوفي ولكنه وسيلة من وسائل الشيطان لغيرهم، وفي حديثه عن نساء ورجال إحدى القرى التي زارها قال إنهم كانوا يجتمعون (عند الرقص والبكاء والتباكي والصياح وذكر الشوق من غير اشتياق والعشق من غير عشق والحب كذلك وغيرها من الزهد). أما المباح في نظره فهو أن يكون (مع أهله بشروطه الخالية من المحرمات. ومع ذلك انه دواء للمرضى من أهل الوله) (2)، وهو يعني (بأهله) أصحاب الحضرة الصوفية.
وهناك من العلماء (غير المتصوفة) من كان يتذوق الموسيقى في ذاتها ويحلو له الإنشاد، فقد روي عن عبد الواحد الونشريسي (وهو ابن أحمد الونشريسي) أنه كانت له أزجال وموشحات وكان (رقيق الطبع يهتز عند سماع الألحان وآلات الطرب لاعتدال مزاجه وقوام طبعه) (3)، وقد كان عبد الواحد الونشريسي من كبار العلماء في وقته ولم يكن من رجال الصوفية. وأخبر ابن
__________
(1) ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 52.
(2) الورتلاني، 40 - 41.
(3) (سلوة الأنفاس) 2/ 47.

ساسو
08-26-2016, 12:45 PM
حمادوش في رحلته عن نفسه أنه يعلم علوما شتى من بينها علم الموسيقى الذي قال إنه تعلمه بطريق الإجازة (1) وفي (الرحلة القمرية) لابن زرفة أنه قد ورد على الباي محمد الكبير عالمان حنفيان من مليانة، أحدهما مفتي البلدة والثاني فقيهها، وإن كليهما كان من الموسيقيين المهرة (2)، وقد عرفنا من حياة المفتي أحمد بن عمار أن بعض علماء مدينة الجزائر، وهو منهم، كانوا يصوغون الموشحات المولدية ونحوها وينشدونها في المولد النبوي بالألحان المطربة، وتذكر المصادر أن العالم محمد القوجيلي قد استأذنه أحد علماء تونس في سماع الموسيقى فأجابه القوجيلي:
فالقلب فيه اشتياق للسماع توى ... إذكل ذي كرم من شأنه الطرب (3)

ممارسة الموسيقى والغناء:
ويظهر أنه رغم اختلاف وجهة نظر العلماء حول الموسيقى والغناء، فإن المجتمع كان لا يستغني عنهما، وهناك ثلاث مناسبات على الأقل تشيع فيها الموسيقى والغناء والرقص: المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج ولقاء السيدات في الحمام والختان، والمناسبات الدينية كالمولد النبوي وتجمع ركب الحج وليلة القدر، والمناسبات الرسمية كتولي الباشا الجديد وحفلة الدنوش والاحتفال بانتصار كبير على الأعداء.
وتذكر بعض المصادر أن السلطة كانت تجازي العازفين بهدايا وعطايا مناسبة. فقد كان رئيس الموسيقيين (أو الباشزرناجي) يتقاضى بمناسبة المولد النبوي عشرة بوجات، وكانت هدية الموسيقيين في هذه المناسب ترقى إلى خمسة وأربعين سلطانيا. أما حين يلبس الباشا الجديد القفطان الرسمي فعطية الموسيقيين تبلغ أحيانا مائة دورو فضية، وذلك بعد ثلاث ليال من
__________
(1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة، ولنلاحظ أنه قد اهتم في نقله عن تاريخ الكردبوس بأخبار الموسيقيين والمغنين.
(2) خلاصة (الرحلة القمرية) كما لخصها هوداس في (المجموعة الشرقية) الجزائر 1905، 53.
(3) (ديوان ابن علي)، مخطوط.

ساسو
08-26-2016, 12:46 PM
الاحتفالات (1)، وروى الزهار أن النساء أيضا كن يعزفن الموسيقى أثناء حفلات الدنوش، بالإضافة إلى عازفين من الرجال، أتراك وجزائريين. وهذا بالطبع خارج نطاق الموسيقى العسكرية المعروفة بالنوبة، وأثناء ذلك كانت تعزف الألحان الجزائرية والتركية. كما كان البايات يجازون هؤلاء الموسيقيين والموسيقيات بالمكافآت السخية (2).
وتثبت بعض الوثائق أن هناك عازفين كانوا يتنقلون من بلد إلى بلد حتى على المستوى الرسمي، وأن الحفلات الموسيقية الرسمية كانت تقام أيضا في الأقاليم إذا دعت المناسبة. وأن بعض هؤلاء العازفين قد بلغوا درجة من الشهرة والتقدير بين المعاصرين، حتى أصبحوا يلقبون (بالأساتذة). فقد روى المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني أنه عندما حل بقسنطينة دعاه الباي حسن هناك إلى حفلة سمر وموسيقى جاءه عازفوها من مدينة الجزائر، وقد وصف الزياني عندئذ قصر الباي بأنه كان مزينا بالفرش والتحف الفضية والذهبية والساعات والأثاث الفاخر والأواني. ولاحظ أيضا أن الباي كان يخرج من وقت لآخر من الحفلة ثم يعود إليها، وأنه في كل مرة كانت تقوى عنده رائحة الخمر حتى عرفها الحاضرون جميعا (3)، ولا شك أن هذا النوع من الموسيقى هو الذي نهى عنه أهل التصوف، أمثال الورتلاني، لأنه في نظرهم يؤدي إلى المجون وتعاطي الخمر والتبذير والاختلاط.
وكان المغنون والعازفون والراقصون يجازون أيضا في الحفلات الخاصة مجازاة سخية، ذلك أن الأهالي كانوا شديدي الحرص على سماع الموسيقى والتمتع بالإنشاد، وكان كثير منهم، ولا سيما أهل الحضر، يحتفظ بآلات موسيقية عنده يعزفها عندما ينفرد بنفسه كنوع من أنواع التسلية والهواية، وكان بعضهم يصطحب الموسيقيين معه إلى الريف حيث منازل
__________
(1) (التشريفات) 39.
(2) الزهار (مذكرات) 37 - 38.
(3) الزياني (الترجمانة الكبرى) 156. انظر ما قلناه عن أحوال الترك في الجزائر في الفصل الثاني من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 12:47 PM
الحضر الأغنياء، وكان الركب يتوقف من وقت لآخر فيعزف الموسيقيون ألحانهم، بينما الحضريون جالسين على مصطبة عالية غارقين تحت تأثير الموسيقى اللذيذ. وقد ذكر أحد الأوروبيين أن عازف الموسيقى في الجزائر يربح من عزفه أكثر مما يربحه عشرة من الأدباء (1). وكان هناك كثير من الهواة المشتغلين بالموسيقى، ولكن الذين كانوا يعزفون أمام العامة هم الذين يكسبون قوت يومهم من هذه الحرفة. أما الآخرون فيعزفونها في أوقات فراغهم ولأنفسهم، كما أشرنا، وذكر الورتلاني أن الشيخ علي المهاجري كان زمارا مشهورا بلغ الغاية في صنعته حتى أصبح الناس يشترطونه في الأعراس، ولا شك أنه كان يأخذ أموالا طائلة على ذلك، رغم أن الورتلاني قد حكم بحرمة صنعته لأن (زمارته تلهى كل اللهو)، لانضمام (النساء والشبان والرقص وذكر الخدود والقدود) إليها (2)، وبالإضافة إلى (الموبقات) التي فصلها الورتلاني، نشير إلى ما ذكره الدكتور شو من أن الشبان كانوا يقضون أوقاتهم في المقاهي يلعبون الشطرنج أو يأخذون خليلاتهم إلى الحقول حاملين معهم الخمر والآلات الموسيقية، بينما كان بعضهم يظلون في الحانات أو في دكان الحلاقين يشربون ويتجاذبون أطراف الحديث (3).
ومهما كان الأمر فقد كان هناك على الأقل ثلاثة أنواع من الموسيقى، موسيقى الحضر أو الأندلسية، وموسيقى البدو، وموسيقى العثمانيين، ويمتاز كل نوع ببعض الخصائص وبعض الآلات الموسيقية. وتعتبر الموسيقى الحضرية أكثر تنوعا وتنغيما من موسيقى البدو، حسب الذين درسوها، ذلك أن معظم أنغامها حية ولذيذة، وهي أيضا تعزف بعدد من الآلات يفوق عدد آلات النوعين الآخرين، ومن جهة أخرى كان العزف يتم من الذاكرة وليس من نوطة يتعلمها العازفون، كما أنها قد بلغت من التعدد والتنوع أن أصبحت
__________
(1) بانانتي، 266.
(2) الورتلاني، 70.
(3) شو 1/ 421. انظر أيضا ما قلناه عن الحياة الاجتماعية في الفصل الثاني من الجزء الأول.

ساسو
08-26-2016, 12:47 PM
لها الفرق الضخمة البالغة العشرين أو الثلاثين عازفا، وكان العزف يطول ولكن السامعين يظلون طول الليل يستمتعون دون أن تحدث خلال ذلك ضجة أو هرج. أما آلاتها فالرباب ذو الوترين والذي يلامس بقوس، ثم العود الذي يحتوي على أوتار أكثر من عدد أوتار الرباب. وهناك أيضا أحجام مختلفة من القيثار الذي يعطي لكل حجم منه نغما أعلى من الآخر. وقد أدخل الحضر أيضا الصنج على الطار البدوي فتنوعت نغماته بتعدد ضرباته (1).
ويستعمل عازفو البدو أيضا آلات موسيقية تناسب عقليتهم ووسائلهم المعيشية. وهم أيضا لا يكتبون موسيقاهم، وآلاتهم هي الربابة ذات الوتر الواحد والقصبة، وكذلك الطار أو البندار، ولا تختلف أنغامهم كثيرا بل هي متواصلة بالقصبة ورتيبة، أما الربابة فهي التي تبدأ بها النغمة وتنتهي، ويشترك في هذه الطريقة من العزف المداحون وبعض الدراويش أيضا، وكان هؤلاء وأمثالهم يجتمعون في حلقة في مكان قريب من السوق ونحوه ثم يشرعون في الغناء والعزف على الآلات المذكورة، ومعظم إنشادهم خلال ذلك يعتمد على المدائح النبوية وسيرة الصحابة والسلف والقصص العربي البطولي. أما العزف على الطار أو البندار المتكون من جلد ناعم وخشب رقيق فيستعملونه في الحفلات العامة، وهو بالإضافة إلى القصبة والربابة، يعطي أنغاما لطيفة ناعمة أحيانا وعالية أحيانا أخرى، حسب المناسبة (2).
أما موسيقى الأتراك التي جاؤوا بها معهم إلى الجزائر بعد استقرارهم بها فقد شاعت أيضا ولكن في حدود ضيقة، وهي لا ترقى إلى موسيقى الحضر أو الأندلسية، وتمتاز موسيقى الترك، غير العسكرية، بحزن نغمتها، ومن آلاتهم الفضل وهو آلة طويلة العنق تشبه الربابة، وهناك آلة أخرى ذات أوتار تلامس بأصابع اليد أو بعصى رقيقة. وبالإضافة إلى ذلك شاعت عند
__________
(1) نفس المصدر، ص 368، انظر مقالة لعمر راسم (الموسيقى الأندلسية، بالجزائر)، مجلة المباحث التونسية 13، أبريل 1945، وبانانتي، ص 267، وقد ذكر الزهار (مذكرات) 38 من أنواع الآلة الموسيقية الحضرية الربابة والكامنجة والعيدان.
(2) شو 1/ 367.

ساسو
08-26-2016, 12:48 PM
ذوي السلطة كالباشوات والبايات آلات محلية كالقصبة والطنبور والمزمار (1). ولهم أيضا فرق موسيقية تعزف لهم في المناسبات السياسية والحربية والاجتماعية، وكانوا كما أشرنا، يكافئون الموسيقيين على عزفهم مكافآت جيدة، ولعل ذلك يدل على تأثر العثمانيين بالبيئة المحلية التي وجدوا أنفسهم يتعايشون معها.
وقد أشرنا إلى أن مصدر الأغنية هو التاريخ الإسلامي، ولا سيما سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة والسلف الصالح، بالإضافة إلى القصص البطولي الذي يمجد تاريخ العرب والمسلمين. وكثير من القصص الغرامي - الملحمي كان مستمدا من ألف ليلة وليلة وأمثالها من القصص الشعبي (2). وكان المغنون يبدأون قصتهم بفاصل ناعم يعزف على الربابة المرفقة بالقصبة ثم تعلو النغمة وتتواصل القصة في بساطة ونعومة، بينما السامعون مندمجون في سحر الموسيقى وتيار القصة.
ولم يكن الرقص شائعا بين الرجال اللهم إلا رجال البادية. أما في المدن فالرقص مقصور على النساء غير الحرائر، وقد جرت العادة أن يمارس الرقص بنات الهوى والوصيفات، وكن يستدعين للحفلات ويعطين أجورا عالية. كما كن يرقصن في خيام خاصة خلال النهار تحدث عنها بعض الأوروبيين، وقال إن قضاء ساعة فيها كان يعد من أفضل المتع عند السكان. وكان الرجال أثناء ذلك يدخنون أوراق الورد أو يشربون القهوة اليمنية القوية. وقد لاحظ هذا الأوروبي أن الحفلة كانت تجري في هدوء تام فلا صخب ولا صياح، وقد تنتهي الحفلة ويفترق الجمع دون أن ينبس الحاضرون ببنت شفة (3). ولعل عادة الصمت هذه هي التي ورثها الجزائريون إلى اليوم.
__________
(1) نفس المصدر، 370.
(2) بانانتي، 267، شبه بانانتي الأغاني الشعبية الجزائرية بالأناشيد الوطنية لسكان ويلز وموسيقى الرعاة عند أهل اسكتلاندا.
(3) نفس المصدر، 222.

ساسو
08-26-2016, 12:50 PM
أما الرقص النسائي نفسه فيتكون من تحريك الجسم حركات رشيقة مع هز البطن والأرداف والتلاعب بالأذرع والتمايل ذات اليمين وذات الشمال، ويرافق كل ذلك ابتسامات ناعمة واهتزاز للشعر وغمزات بالعين، ونحو ذلك، ولا شك أن بعض هذا الرقص يعتمد على الإثارة الجنسية، وهو بالطبع خارج نطاق الأخلاق العامة وتعاليم الدين، وهو الذي رفضه العلماء والمتصوفة، كما لاحظنا. ويبدو أن السلطات كانت تتغاضى عن ذلك في سبيل الترفيه العام. وهناك أنواع أخرى من الرقص لا تنزل إلى ذلك المستوى. ذلك أن لأهل البادية رقصا رجاليا ونسائيا أكثر احتشاما، كما أن لنساء الحضر رقصا ترفيهيا في الحمامات ونحوها، بالإضافة إلى رقص الدراويش وأهل التصوف الذين كانوا يرقصون حتى تعتريهم غيبوبة ووجد. ورغم ما قلناه عن الموسيقى بأنواعها وعن الغناء والرقص فإننا لا نجد أحدا من العلماء خلال العهد المدروس قد تناولها ببحث أو تأليف. ولعل النقد الاجتماعي لمتعاطي هذه الفنون في ذلك العهد هو الذي منع الباحثين من التأليف فيها، رغم أن أجدادهم (1) قد ألفوا فيها ومارسوها وداووا بها المرضى، فالفنون، كالعلوم، عانت في الجزائر خلال العهد العثمانى من الإجحاف والجهل بقيمتها وتاريخها.

العمارة والخط والرسم:
ونفس الشيء يقال عن فن العمارة. فرغم كثرة المباني وجمالها وتنوعها فإن العلماء الجزائريين لم يؤلفوا في هذا الفرع من فروع المعرفة. (1) من أقدم من ألف في الموسيقى من الجزائريين أحمد التيفاشي الذي وضع كتابه (متعة الأسماع في علم الاستماع). وهو من أهل القرن السابع (13 م). ومن أحدث التآليف في الموسيقى الأندلسية بالمغرب العربي أطروحة السيد محمد قطاط التونسي التي نال بها دكتوراه الدور الثالث من السوربون، سنة 1977، وهي في جزئين وقد أرخ فيها للموسيقى الأندلسية منذ ظهورها إلى العصر الحديث، وسنعود للاستفادة منها في الأجزاء اللاحقة إن شاء الله. انظر كذلك مقالة السيد علي الجندوبي في مجلة (المناظر) جوان 1961، 18.

ساسو
08-26-2016, 12:58 PM
ولا نكاد نجد في كتب الجزائريين إلا بعض الإشارات النادرة، التي تكتفي فقط بالتاريخ ووصف البناء وصفا أدبيا. فإذا أرخوا مثلا لأعمال الباي محمد الكبير قالوا إنه بنى المسجد الأعظم بمعسكر والمدرسة المحمدية وبعض الأضرحة والقباب على الأولياء، وإذا تحدثوا عن أعمال صالح باي قالوا إنه بنى المدرسة الكتانية ومد الجسر المشهور ونحو ذلك، وقد وصف بعض الشعراء هذه الأعمال، كما وصف ابن عمار قصر ابن عبد اللطيف، ولكننا الآن لا نريد هذا النوع من الحديث والوصف، بل نريد تاريخ المآثر العمرانية في الجزائر وأشكالها وأنواعها وبناتها وطريقتهم في ذلك، ومدى تأثرهم بغيرهم وتأثيرهم، ومهارتهم، وتفاضلهم. وهذا هو الذي نفتقده في هذا الميدان.
وتتمثل العمارة الجزائرية في المساجد ونحوها (الزوايا، قباب أهل التصوف) والقلاع والجسور والثكنات والدور والقصور. وقد استمد البناة طريقتهم من حضارتهم القديمة التي شاعت أيام الأغالبة والحفصيين والزيانيين. كما استمدوها من حضارة الأندلس التي تشترك في كثير من الخصائص مع حضارتهم. وقد هاجر الأندلسيون أنفسهم إلى الجزائر وجلبوا معهم صناعة البناء فكان تأثيرهم عظيما ولا سيما في القلاع والقصور. أما الأثر العثماني فقد ظهر خصوصا في بعض المساجد والقلاع والثكنات، وكانت البيئة وراء طريقة العمارة في الجزائر. فالحرارة والبرودة من جهة وعدم ظهور المرأة هي التي أملت كثيرا من أساليب بناء المنازل والمساجد والزوايا، وكان الغزو البحري وتعرض السواحل الجزائرية للهجمات المتكررة قد أملى طريقة بناء القلاع والحصون والمنائر للمراقبة والدفاع، ومن جهة أخرى أدت وفرة الجنود العزاب إلى كثرة بناء الثكنات ولا سيما في مدينة الجزائر التي كانت تضم على الأقل ثماني ثكنات كبيرة.
وقد تحدث الكتاب الأوروبيون عن كيفية البناء وجلب مواده وأبرز من قام به من الأمراء والبناة. فنسبوا إلى عرب أحمد باشا بناء الأسوار الحصينة والفوارات والعيون وقلعة الفنار. ونسبوا إلى حسن باشا بن خير الدين بناء

ساسو
08-26-2016, 12:59 PM
قلعة حسن في الموضع الذي أقام فيه شارل الخامس، وبناء مستشفى وحمام كبير على غرار الحمام الذي بناه والده في إسطانبول (1)، ووصف بعضهم أيضا جامع السيدة وجامع علي بيتشين وجامع كيتشاوة ونحوها من المساجد التي اشتهرت بالجمال وثراء المادة وحسن الذوق (2)، كما أطال بعضهم في وصف قصر أحمد باي بقسنطينة (3)، وتحدث آخرون عن مآثر صالح باي العمرانية (4)، كما وصف بعضهم قصر أهجي مصطفى باشا الجميل (5). وقد لفت نظر بعض الأوروبيين طريقة البناء ومادة البناء أصلا عند الجزائريين فوجد أن المنازل على الخصوص كانت تمتاز بالأبواب الواسعة والغرف الفسيحة والأرضية الرخامية والردهة والباحة التي تنصب فيها في العادة فوارة، ولاحظ أن كل هذا يليق بالطقس الحار، وأن الغيرة على المرأة وفكرة الحريم قد أدت إلى قلة النوافذ في المنازل وندرة الشرفات التي قد تطل على الشوارع والمحلات العامة، وغالبا ما تفتح النوافذ، إذا وجدت، من الداخل، أما من الخارج فلا تفتح إلا في الحفلات ونحوها (6).
وقد برع الصناع الجزائريون في بناء المساجد والقصور على الخصوص. وأهم ما يميز المسجد الصومعة والمحراب والمنبر والعرصات. وكانت الزرابي التي تفرش بها بعض المساجد من النوع الجيد. كما أن بعض المساجد، مثل التي ذكرنا، مبنية بالرخام والزليج المجلوب من الخارج ولا سيما من تونس وإيطاليا، ويضاف إلى ذلك الثريات الجميلة وقناديل الزيت والشموع في المناسبات الدينية. أما في القصور فقد استعملوا أيضا
__________
(1) مورقان، 368، 513.
(2) ديفوكس (المجلة الإفريقية) 1862، 375، وكذلك سنة 1867، 451.
(3) فيرو (روكاي) 1867 ج 11.
(4) بنى صالح باي قصرا خاصا بحريمه، بالإضافة إلى مبانيه الدينية والعلمية والمدنية.
(5) قتل سنة 1117 كما أشرنا من قبل، وقد أطال السيد لافاي (رحلة في شمال إفريقية)، 12، في وصف طبقاته وأبهائه وأجنحته وزخارفه ونقوشه. انظر أيضا هنري كلاين (أوراق الجزائر) في حديثه عن قصر الصيف (قصر الشعب اليوم).
(6) شو، 1/ 373.

ساسو
08-26-2016, 01:03 PM
النقوش الرشيقة والحدائق والمياه وتماثيل الحيوانات والفوارات، بالإضافة إلى جلب المواد المرمرية الملونة والتفنن في الأشكال الهندسية.
وقد انتشرت عند الحضر وأثرياء المدن والموظفين السامين وبعض رجال العلم عادة بناء الأحواش في بساتينهم التي يملكونها خارج المدينة، وكانوا يزينونها بأنواع الأسلحة الثمينة وبعض الآلات الموسيقية والزرابي الرفيعة وجلود الحيوانات النادرة والتحف الفضية والذهبية والساعات.
وقد لاحظ الأوروبيون طريقة إعداد مواد البناء الواقية من الرطوبة والحرارة فوجدوا أن الجزائريين كانوا يمزجون رماد الخشب والجير والرمل ويخلطونها ثم يرشون عليها الزيت والماء في فترات معينة فتأتي من ذلك مادة بنائية جيدة تستعمل للأقواس والسقوف ونحوها من الأماكن التي يخشى منها تسرب الرطوبة وتقلبات الطقس. وكان الصانع الماهر في البناء يدعى (المعلم) تقديرا لمكانته في المجتمع. أما الحصون والقلاع ونحوها فلم يكن يراعى فيها الذوق بقدر ما كانت تراعى الصلابة والمقاومة، وفي بعض المنشآت العمرانية كان المسؤولون يستعينون ببعض الصناع المسلمين، ولا سيما من تونس والمغرب، وحتى ببعض الأوروبيين، كما استعمل صالح باي على مد جسر قسنطينة أحد المهندسين الإسبان.
وكان التفنن في الخط والكتابة من وسائل التعبير الجمالي في هذا العهد. ففي الوقت الذي غاب فيه التصوير لعب الخط دورا بارزا في إظهار المواهب الفنية المحلية، وقد تحدثنا في فصل سابق (1) عن براعة الخطاطين والنساخين وانتشار مهنتهم وتقديرها بين الناس. ونضيف هنا فقط أن الكتابة المنحوتة أو المنقوشة على جدران المساجد وأبوابها ومحاريبها، وكذلك القصور ونحوها من المنشآت، كانت تجمع بين فن الخط والتصوير والنحت التي تشيع اليوم، ومع ذلك فلا نجد تأليفا خاصا بهذا الفن من علماء الجزائر خلال العهد المدروس.
__________
(1) انظر الفصل الثالث من الجزء الأول - فقرة المكتبات.

ساسو
08-26-2016, 01:03 PM
وقد اشتهرت أسرة ابن صارمشق التلمسانية بهندسة البناء والنقش والخطوط، ونذكر منها المعلم أحمد بن محمد بن صارمشق الذي بنى جامع العين البيضاء في معسكر سنة 1175 والمهندس الهاشمي بن صارمشق الذي رسم جامع سيدي بومدين في تلمسان، سنة 1208، وعرف من فناني هذه الأسرة وخطاطيها محمد بن صارمشق الذي وجدت نقوشه على عدة آثار عمرانية، وكان موجودا سنة 1164. ومن النقاشين أيضا الأصطا حسين وعلي بن محمد التونسي وأحمد بن عمر التونسي أيضا الذين وجدت خطوطهم على مسجد ومدرسة الخنقة. وكذلك إبراهيم الجركلي الذي نقش الآيات المحفورة في جامع كتشاوة، والمعلم اللبلابشي الذي نقش باب جامع علي بتشين. وهكذا.
ولم يكن الرسم منعدما كما كان يعتقد بعض الناس إلى وقت قريب.
حقا إن الفنانين لم يجدوا تشجيعا كالذي وجده فنانو عصر النهضة في إيطاليا وغيرها، ولكنهم مع ذلك استطاعوا أن يعبروا بالوسائل المسموح بها دينيا وذوقيا. وعلى كل حال فليس صحيحا ما يقال من أن الجزائريين كانوا لا ينتجون الرسوم الفنية لأن الدين قد حرمها أو أنهم لم يكونوا يفهمون البعد وتناسق الألوان في الصور (1). فقد عثر على لوحة رسمها بعض الجزائريين سنة 1824 بطلب من حسين باشا. وهي تصور المعركة التي جرت بين الجزائريين والإنكليز في السنة المذكورة. وكان الباشا قد وضع اللوحة في قصره حيث ظلت إلى أن جاء الكونت دي بورمون، قائد الحملة الفرنسية على الجزائر سنة 1830، فأخذها وسلمها إلى قائد أركانه تولوزي. وقد وضعت نسخة من هذه اللوحة في مكتبة الجزائر. أما اللوحة الأصلية فلا ندري الآن ما مصيرها (2).
__________
(1) بانانتي، 263.
(2) بليفير (جلادة المسيحية)، 299. وقد كتب بليفير تحت هذه اللوحة عباره (قصف مدينة الجزائر سنة 1824 مأخوذة من رسم محلي).

ساسو
08-26-2016, 01:14 PM
وهكذا فإننا إذا حكمنا من التراث المكتوب فإن مساهمة المؤلفين الجزائريين في الفنون تكاد تكون معدومة. أما في العلوم فإن مساهمتهم طيبة، ولكنها لم تبلغ مبلغ تآليفهم في العلوم الشرعية والعقلية الأخرى. ولكل ذلك مبررات اجتماعية وسياسية تحدثنا عنها.

انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث

ساسو
08-26-2016, 01:15 PM
المحتوى
__________
تنبيهات .................................................. ........... 5
الفصل الأول: العلوم الشرعية ........................................ 7
حول التقليد والتجديد ................................................ 9
التفسير .................................................. .......... 12
القراءات .................................................. ........ 20
الحديث .................................................. ........ 25
الأثابت .................................................. ........ 31
الإجازات .................................................. ...... 39
أحمد البوني .................................................. .. 60
الفقه .................................................. ......... 65
الآثار الفقهية .................................................. 66
- عبد العزيز الثميني - خليفة بن حسن القماري
النوازل والفتاوى والفرائض ...................................... 79
الفصل الثاني: علم الكلام والتصوف والمنطق ................... 89
علم الكلام .................................................. .. 91
يحيى الشاوي ................................................. 102
التصوف .................................................. .... 111
المناقب الصوفية ............................................. 113
شروح في التصوف ........................................... 128
المواعظ والردود ............................................. 133

ساسو
08-26-2016, 01:15 PM
__________
المنطق .................................................. ....... 149
الفصل الثالث: علوم اللغة، النثر الفني ........................... 155
علوم اللغة ونحوها ............................................... 157
البيان والمعاني (البلاغة) والعروض .............................. 167
الشروح الأدبية - التقاريظ والإجازات والعقود -
الرسائل - الوصف - الخطابة - القص والمقامات
أحمد المقري .................................................. . 212
أحمد بن عمار ................................................ 224
الفصل الرابع: الشعر .......................................... 237
مدخل .................................................. ..... 239
الشعر الديني ................................................ 245
الشعر السياسي ............................................. 253
الشعر الاجتماعي .......................................... 266
المجون والمزاح - المدح والفخر - الرثاء - وصف
المنشآت العمرانية - الألفاز
الشعر الذاتي ............................................... 289
الوصف - الحنين والشكوى
ابن علي ................................................. 299
الشعر الشعبي ........................................... 310
الفصل الخامس: التاريخ، التراجم، الرحلات ................. 319
مفهوم التاريخ .......................................... 321
السيرة النبوية .......................................... 326
تواريخ عامة وتواريخ محلية ............................ 329
تراجم عامة .......................................... 350
تراجم خاصة ........................................ 358
ابن المفتي وتقييده .................................. 366

ساسو
08-26-2016, 01:16 PM
__________
أبو راس الناصر ........................................... 376
الرحلات .................................................. 381
الورتلاني ورحلته .......................................... 393
الفصل السادس: العلوم والفنون ........................... 399
مقدمة .................................................. . 401
الحساب والفلك .......................................... 404
الطب والجراحة والصيدلة ................................ 416
عبد الرزاق بن حمادوش ................................ 425
كشف الرموز - تعديل المزاج
الفنون ................................................. 437
رأي العلماء والمتصوفة في الموسيقى ................... 437
ممارسة الموسيقى والغناء ............................. 440
العمارة والخط والرسم .................................. 445

ساسو
08-26-2016, 01:17 PM
دار الغرب الإسلامي
بيروت - لبنان
لصاحبها: الجيب اللمسي
شارع الصوراتي (المعماري) - الحمراء، بناية الأسود
تلفون: 350331 - 009611: Tel / خلوي: 638535 - 009613: Cellulair
فاكس: 742587 - 009611: Fax / ص. ب. 5787 - 113 يروت، لبنان
DAR AL - GHARB AL - ISLAMI B.P.: 113 - 5787 Beyrouth, LIBAN

الرقم: 337/ 2000/ 11/ 1998
التنضيد: كومبيوتايب - بيروت
الطباعة: دار صادر، ص. ب , 10 - بيروت

ساسو
08-26-2016, 01:17 PM
فراغ فى الأصل

ساسو
08-26-2016, 01:18 PM
HISTOIRE CULTURELLE
DE
L'ALGERIE
PAR
Professeur Aboul Kacem SaadaWah
Université d Alger
Tome 2
1500 - 1830
DAR AL - GHARB AL - ISLAMI