المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني


hania
10-18-2019, 09:10 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ)
المحقق: علي عبد الباري عطية
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1415 هـ
عدد الأجزاء: 16 (15 ومجلد فهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
سورة الفتح
نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال: «أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما، وقيل: عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1]
وأخرج أحمد والبخار والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ

[الفتح: 1، 2] وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود. وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان، ونقل ذلك عن البقاعي، وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة، ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار، والمكي ما نزل قبل الهجرة، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد. وبدر. وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع، ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال، وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه، وقد ذكر أيضا في الأول الأمر بالاستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة، وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها، وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك. وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد: 38] الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى. وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها.
وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه
(13/238)
________________________________________
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال: نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون،
ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروي ذلك عن ابن عباس وانس والشعبي والزهري قال ابن عطية: وهو الصحيح، وأصل الفتح إزالة الاغلاق، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح، وسمي ذلك الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى أدخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سببا لفتح مكة، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام، قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها، والتسمية على الأول من باب الاستعارة التبعية كيفما قررت، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعا من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه عزّ وجلّ مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجود، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه لا يقال: قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول: ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقا له تعالى أو لغيره عزّ وجلّ كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كان كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازا وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما.
وقال المحقق ميرزا جان: يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح
(13/239)
________________________________________
وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه ما فيه، ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازا عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام.
أخرج البيهقي عن عروة قال: «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا وعكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا
، وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلّى الله عليه وسلّم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل.
وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول، وقيل:
الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحا كما يشعر به الخبر، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والإخبار به بذلك الاعتبار.
وقال بعض المحققين: لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم أيضا، وأقول: قد صرحوا بأنه كثيرا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: 36] رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 59] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها هاهنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول.
وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وان المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي، وبعضهم يقول: هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية، وتحقيقه في موضعه.
والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار. وقيل: لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحا، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك، وقال مجاهد: المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، وكان خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قال ابن إسحق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست، وجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة: إن غزوة خيبر كانت سنة خمس وهم، وقول ابن سعد. وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري، انها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع
(13/240)
________________________________________
هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعا يوم النزول بناء على ما روي عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلا على المشهور أو الأول نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:
36] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ به بلده وطهر حرمه واستبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس بعده في دين الله عز وجل أفواجا وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجا، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف، وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روي عن الزهري، وروي عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين عشرة آلاف وقيل: إثنا عشر ألفا، والجمع ممكن، وكان الفتح عند الشافعي صلحا وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد
وقوله، عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار»
ولا يسمى ذلك التأمين صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشا لم يلتزموا، وترك القسمة لا يستلزم عدة العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم.
وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي، وتسع عشرة في رواية بعض، وتمام الكلام في كتب السير، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ [محمد: 38] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضا لما قال سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: 35] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين، وأيضا لما قال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: 35] كان ذلك في فتح مكة ظاهرا حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك، ورجح بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعدم فتح مكة يجيء صريحا في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيدا بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيسا والتأسيس خير من التأكيد، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضا، وللبحث في ذلك مجال، وان التكرير لما تقدم، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل: إن اسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى:
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وهذا خلاف ظاهر، والمشهور أن في الكلام مجازا عقليا وفيه الاحتمالات السابقة.
وقال بعض المحققين: يمكن أن يقال: لعل الإرادة هاهنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل
(13/241)
________________________________________
كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] الآية، وقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] عند أكثر الأئمة، ومثل هذا التأويل قيل: مطرد في الأفعال الاختيارية، وزعم بعضهم أن الفتح مجاز عن تيسيره، وذكر بعض الصدور في توجيه التأكيد بأن هاهنا أنه قد يجعل غير السائل بمنزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر، وصرحوا بأن الملوح لا يلزم أن يكون كلاما، وقد ذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن عليه الصلاة والسلام رأى في المنام أنه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة آمنين فصار المقام مقام أن يتردد في الفتح فألقي إليه عليه الصلاة والسلام الكلام مؤكدا كما يلقى إلى السائل كذلك، وجوز أن يكون لرد الإنكار بناء على تحققه من المشركين فإنهم كانوا يزعمون أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يستولي على مكة كما لم يستول عليها من أراد الاستيلاء عليها قبله عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى، وذكر بعض أجلة القائلين بأن المراد به فتح مكة أن الكلام وعد بفتحها فقيل إن الجملة حينئذ إخبار، وقيل: إنها إنشاء، واستشكل بما صرح به الرضي من أن الجمل الإنشائية منحصرة بالاستقراء في الطلبية والإيقاعية والوعد ليس شيئا منهما أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن مجرد قولك لأكرمنك مثلا لا يقع به الإكرام، وقال بعض الصدور إن كلامهم مضطرب في كون الوعد إنشاء أو إخبارا، ويمكن التوفيق بأن يقال: أصل الوعد إنشاء لأنه إظهار أمر في النفس يوجب سرورة المخاطب وما يتعلق به الوعد وهو الموعود إخبار نظيره قول النحاة كأن لإنشاء التشبيه مع أن مدخولها جملة خبرية.
وقال الخفاجي: هذا ناشىء من عدم فهم المراد منه. فإن قيل: المراد من لأكرمنك مثلا إكرام في المستقبل فهو خبر بلا مرية، وإن قيل: معناه العزم على إكرامه وتعجيل المسرة له بإعلامه فهو إنشاء، وأقول لا يخفى أن الإخبار أصل للإنشاء، وقد صرح بذلك العلامة التفتازاني في المطول وليست هيئة المركب دالة على أنه إنشاء وليس فيه ما يدل بمادته على ذلك فيمكن أن يقال: إنه إخبار قصد به تعجيل المسرة وإن ذلك لا يخرجه عن الإخبار نظير ما قيل في قوله تعالى:
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: 36] ونحوه فتدبر، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وفيه من تسلية قلوب الأصحاب وتسليتهم حيث صاروا محزونين غاية الحزن من تأخير الفتح ما فيه، وهذا التعبير من قبيل الاستعارة التبعية على ما حققه السيد السند في حواشي المطول حيث قال: اعلم أن التعبير عن المضارع بالماضي وعكسه يعد من باب الاستعارة بأن يشبه غير الحاصل بالحاصل في تحقق الوقوع ويشبه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين واجب المشاهدة ثم يستعار لفظ أحدهما للآخر فعلى هذا تكون استعارة الفعل على قسمين: أحدهما أن يشبه الضرب الشديد مثلا بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل بمعنى ضرب ضربا شديدا. والثاني أن يشبه الضرب المستقبل بالضرب في الماضي مثلا في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب فيكون المعنى المصدري أعني الضرب موجودا في كل واحد من المشبه والمشبه به لكنه قيد في كل منهما بقيد يغار الآخر فصح التشبيه لذلك. وقال المحقق ميرزا جان يمكن توجيه الاستعارة هاهنا بوجه آخر وهو أن يشبه الزمان المستقبل بالزمان الماضي ووجه الشبه أنه كما أن الثاني ظرف أمر محقق الوقوع كذلك الزمان الأول واللفظ الدال على الزمان الثاني وهو لفظ الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالا على الزمان المستقبل مستعملا فيه، ومن البيّن أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الاستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الاستعارة في الفعل كما كانت الاستعارة في الفعل بواسطة المصدر، والفرق أن هذه الاستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته، لا يقال: الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأنا نقول: يجري هذا الاحتمال في الاستعارة التبعية المشهورة بأن يقال: الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب.
(13/242)
________________________________________
فإن قلت: المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت: لفظ الزمان الماضي أيضا، كذلك فلا فرق في كل منهما: نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له، ولا يبعد أن يسمى مثل هذا استعارة تبعية، والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه، ولعلهم إنما جعلوا الاستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الاعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان بالزمان حتى تصير الاستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضا في كون الصيغة والهيئة جزءا للفظ تأمل، وأيضا الهيئة ليست جزءا مستقلا كالمصدر، وأيضا الهيئة ليست لفظا والاستعارة قسم للفظ، ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى، وفيه بحث، وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام، وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الاستعارة التبعية، ومال إلى أن الهيئة لفظ محتجا بما نقله من شرح المختصر العضدي ومن شرح الشرح للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلو عن فائدة.
والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ ولكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعيا بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الاستعارة، وقول الصدر في الفرق: إن العلاقة في الاستعارة ملحوظة حين الإطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه به لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للانتقال وليست ملحوظة حين الاستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعا فافهم، وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي هاهنا على حقيقته بناء على أن الفتح مجاز عن تيسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلا بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه تعالى بقوله: يَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها، وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] ولم يباشر بعد شيئا، وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ، وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في الكشاف، وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وان منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمرا تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة، وقيل غير ذلك. واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل، وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان. وتعقب بأن تحقق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جدا، وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم. وأجاب بعضهم بأن العسر لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له وليس كذلك عندهم بل هي دلالة الأثر على المؤثر، ولا يلزم من اعتبار شيء في الأثر اعتباره في المؤثر، ولا يخفى أن كون الدلالة دلالة الأثر على المؤثر خلاف الظاهر، وقال ابن الصدر في ذلك: إن اشتمال الكلام اللفظي على المضي والحضور والاستقبال إنما هو بالنظر إلى زمان المخاطب لا إلى زمان المتكلم كما إذا أرسلت زيدا إلى عمرو تكتب في مكتوبك إليه إني أرسلت إليك زيدا مع أنه حين ما تكتبه لم يتحقق الإرسال فتلاحظ حال المخاطب، وكما تقدر في نفسك مخاطبا وتقول: لم تفعل الآن كذا وكان قبل ذلك كذا، ولا شك أن هذا المضي والحضور والاستقبال بالنسبة إلى زمان الوجود المقدر لهذا المخاطب لا بالنسبة إلى زمان
(13/243)
________________________________________
المتكلم بالكلام النفسي لكونه متوجها لمخاطب مقدر لا يلاحظ فيه إلا أزمنة المخاطبين المقدرين، وما اعتبره أئمة العربية من حكاية الحال الماضية واعتبار المضي والحضور والاستقبال في الجملة الحالية بالقياس إلى زمان الفعل لا زمان التكلم قريب منه جدا انتهى، وللمحقق ميرزا جان كلام في هذا المقام يطلب من حواشيه على الشرح العضدي.
وقيل: المراد بالفتح فتح الروم على إضافة المصدر إلى الفعل فإنهم غلبوا على الفرس في عام النزول، وكونه فتحا له عليه الصلاة والسلام لأنه أخبر عن الغيب فتحقق ما أخبر به في ذلك العام ولأنه تفاءل به لغلبة أهل الكتاب المؤمنين وفي ذلك من ظهور أمره صلّى الله عليه وسلّم ما هو بمنزلة الفتح، قيل: ففي الفتح استعارة لتشبيه ظهوره صلّى الله عليه وسلّم بالفتح، وقيل:
لا تجوز فيه وإنما التجوز في تعلقه به عليه الصلاة والسلام، وقيل: لا تجوز أصلا والمعنى فتحنا على الروم لأجلك.
وأنت تعلم أن حمل الفتح على ما ذكره في نفسه بعيد جدا.
وأورد عليه أن فتح الروم لم يكن مسببا على الجهاد ونحوه فلا يصح ما ذكروه في توجيه التعليل الآتي، وعن قتادة أن فَتَحْنا من الفتاحة بالضم وهي الحكومة أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت وهو بعيد أيضا، وقيل: المراد به فتح الله تعالى له صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف وقريب منه ما نقله الرغب من أنه فتحه عز وجل له عليه الصلاة والسلام بالعلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وأمره في البعد كما سبق، وأيا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح، وتقديم لَكَ على المفعول المطلق أعني قوله تعالى: فَتْحاً مُبِيناً مع أن الأصل تقديمه على سائر المفاعيل كما صرح به العلامة التفتازاني للاهتمام بكون ذلك لنفعه عليه الصلاة والسلام، وقيل: لأنه مدار الفائدة، و «مبين» من أبان بمعنى بان اللازم أن فتحا بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفر على الفتح من حيث إن فيه سعيا منه صلّى الله عليه وسلّم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز وجل، وفي شرح المقاصد للعلامة التفتازاني أن من بعض أدلتهم- أي الأشاعرة- ومن وافقهم على هذا المطلب يفهم أنهم أرادوا عموم السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم، ثم قال: الحق أن بعض أفعاله تعالى معلل بالحكم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به، وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث، وذكر الأصفهاني في شرح الطوالع في هذه المسألة خلافا للمعتزلة وأكثر الفقهاء، وأنا أقول: بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث والتزام تأويل جميعها خروج عن الإنصاف، وما يذكره الحاضرون من الأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى على من طالع كتب السلفيين عليهم الرحمة. وفي الكشاف لم يجعل الفتح علة للمغفرة لكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين واغراض العاجل والآجل، وحاصله كما قال العلامة أن الفتح لم يجعل علة لكل من المتعاطفات بعد اللام أعني المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر بل لاجتماعها، ويكفي في ذلك أن يكون له دخل في حصول البعض كإتمام النعمة والنصر العزيز، وتحقيقه كما قال إن العطف على المجرور باللام قد يكون للاشتراك في متعلق اللام مثل جئتك لأفوز بلقياك وأحوز عطاياك ويكون بمنزلة تكرير اللام وعطف جار ومجرور على جار ومجرور، وقد يكون للاشتراك في معنى اللام
(13/244)
________________________________________
كجئتك لتستقر في مقامك وتفيض علي من إنعامك أي لاجتماع الأمرين، ويكون من قبيل جاءني غلام زيد وعمرو أي الغلام الذي لهما. واستظهر دفعا لتوهم أنه إذا كان المقصود البعض فذكر الباقي لغو أن يقال: لا يخلو كل منهما أن يكون مقصودا بالذات وهو ظاهر أو المقصود البعض وحينئذ فذكر غيره إما لتوقفه عليه أو لشدة ارتباطه به أو ترتبه عليه فيذكر للإشعار بأنهما كشيء واحد كقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] وقولك: أعددت الخشب ليميل الحائط فأدعمه ولازمت غريمي لأستوفي حقي وأخليه. وظاهر كلام الزمخشري أن المقصود فيما نحن فيه تعليل الهيئة الاجتماعية فحسب فتأمل لتعرف أنه من أي الأقسام هو. واعلم أن المشهور كون العلة ما دخلته اللام لا ما تعلقت به كما هو ظاهر عبارة الكشاف لكن حقق أنها إذا دخلت على الغاية صح أن يقال:
إن ما بعدها علة ويراد بحسب التعقل وأن يقال: ما تعلقت به علة ويراد بحسب الوجود فلا تغفل. وزعم صاحب الغنيان أن اللام هاهنا هي لام القسم وكسرت وحذف النون من الفعل تشبيها بلام كي. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها فإنه لم يسمع والله ليقوم زيد على معنى ليقومن زيد، وانتصر له بأن الكسر قد علل بتشبيهها بلام كي.
وأما النصف فله أن يقول فيه: بأنه ليس نصبا وإنما هو الحركة التي تكون مع وجود النون بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف. وأنت تعلم أنه لا يجدي نفعا مع عدم السماع، هذا والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات قيل: للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه عز وجل من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته جل شأنه.
وقال الصدر لا يبعد أن يقال: إن التعبير عنه تعالى في مقام المغفرة بالاسم الجليل المشعر بصفات الجمال والجلال يشعر بسبق مغفرته تعالى على عذابه. وفي البحر لما كان الغفران وما بعده يشترك في إطلاقه الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره لقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] وقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40، 47، 122] وقوله عز وجل: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 142 وغيرها] وقوله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 172] وكان الفتح مختصا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أسنده الله تعالى إلى نون العظمة تفخيما لشأنه وأسند تلك الأشياء إلى الاسم الظاهر وضميره وهو كما ترى وإن قاله الإمام أيضا، وأقول: يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالاسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة مما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط، وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم، ولا يعترض بأن النصر كالفتح وقد أسند إلى الاسم الجليل لما لا يخفى عليك، وتقديم لَكَ على المفعول الصريح أعني قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ لما مر غير مرة، وما للعموم والمتقدم والمتأخر للإحاطة كناية عن الكل، والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام فهو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد يقال: المراد ما هو ذنب في نظره العالي صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده تعالى كما يرمز إلى ذلك الإضافة.
وقال الصدر: يمكن أن يكون قوله تعالى: لِيَغْفِرَ إلخ كناية عن عدم المؤاخذة أو من باب الاستعارة التمثيلية من غير تحقق معاني المفردات. وأخرج ابن المنذر عن عامر. وأبي جعفر أنهما قالا: ما تقدم في الجاهلية وما تأخر في الإسلام، وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد وليس بشيء مع أن العكس أولى لأن حديث امرأة زيد متقدم. وفي الآية مع ما عهد من حاله صلّى الله عليه وسلّم من كثرة العبادة ما يدل على شرف مقامه إلى حيث لا تحيط به عبارة،
وقد
(13/245)
________________________________________
صح أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت صام وصلّى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك أو ما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبدا شكورا
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد وغير ذلك مما أفاضه تعالى عليه صلّى الله عليه وسلّم من النعم الدينية والدنيوية «ويهديك صراطا مستقيما» في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود، قيل: إن أصل الاستقامة وإن كان حاصلا قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبل وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ إظهار الاسم الجليل مع النصر قيل: لكونه خاتمة العلل أو الغايات ولإظهار كمال العناية بشأنه كما يعرب عنه إردافه بقوله تعالى: نَصْراً عَزِيزاً وقال الصدر: أظهر الاسم في الصدر وهنا لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أشير بإسناد المغفرة والنصر إلى صريح اسمه تعالى إلى أن الله عز وجل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة، وقال الإمام:
أظهرت الجلالة هنا إشارة إلى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى كما قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 126، الأنفال: 10] وذلك لأن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:
127] لأنه سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] والعزيز بحسب الظاهر هو المنصور، وحيث وصف به النصر فهو إما للنسبة وإن كان المعروف فيها فاعلا كلابن وفعالا كبزاز أي نصرا فيه عز ومنعة، أو فيه تجوز في الإسناد من باب وصف المصدر بصيغة المفعول وهو المنصور هنا نحو عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10] في قول لا الفاعل وهو الناصر لما قيل من عدم مناسبته للمقام وقلة فائدته إذ الكلام في شأن المخاطب المنصور، لا المتكلم الناصر وفيه شيء، وقيل: الكلام بتقدير مضاف أي عزيز صاحبه وهو المنصور وفيه تكلف الحذف والإيصال.
وقد يقال: يحتاج إلى شيء مما ذكر إذ لا مانع من وصف النصر بالعزيز على ما هو الظاهر بناء على أحد معاني العزة وهو قلة الوجود وصعوبة المنال، والمعنى ينصرك الله نصرا يقل وجود مثله ويصعب مناله، وقد قال الراغب بهذا في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] ورأيت ذلك للصدر بعد أن كتبته من الصدر فتأمل ولا تكن ذا عجز.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بيان لما أفاض سبحانه عليهم من مبادئ الفتح، والمراد بالسكينة الطمأنينة والثبات من السكون أي أنزلها في قلوبهم بسبب الصلح والأمن إظهارا لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها.
وقال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبد إعطاؤه تعالى إياها وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه، وقيل: أَنْزَلَ من نزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزله غيره، فالمعنى حط السكينة في قلوبهم فكان قلوبهم منزلا لها ومأوى، وقيل: السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما
روي أن عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال: إن السكينة لتنطق على لسان عمر،
وأمر الإنزال عليه ظاهر جدا.
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: السكينة هي الرحمة، وقيل: هي العقل ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب، وقيل: هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي من سكن إلى كذا مال إليه أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الشرائع، وأرجح التفاسير هنا على ما قال الخفاجي: الأول، وما ذكره بعضهم من أن السكينة شيء له رأس كرأس الهرة فما أراه
(13/246)
________________________________________
قولا يصح لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها على أن الإيمان لما ثبت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة تجدده وازدياده فاستعير له ذلك ورشح بكلمة مع، وقيل: ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومن قال: الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه أي الإيمان المركب من ذلك وغيره يزيد وينقص ولم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلا له، وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص ونقل ذلك عن الشافعي ومالك، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم، وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى، منها الآية المذكورة، ومنها ما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا: يا رسول الله ان الإيمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار
، ومنها ما
روي عن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به»
واعترض بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده.
أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل من مقولة الكم وإنما قيل هو كيف أو انفعال أو إضافة وتعلق بين العالم والمعلوم أو صفة ذات إضافة والأشهر أنه كيف فمتى صح ذلك وقلنا بمغايرة الشدة والضعف للزيادة والنقص فلا بأس بحملهما في النصوص وغيرها على الشدة والضعف وذلك مجاز مشهور، وإنكار اتصاف الإيمان بهما يكاد يلحق بالمكابرة فتأمل، وذكر بعضهم هنا أن الإيمان الذي هو مدخول مع هو الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله الإيمان الاستدلالي فكأنه قيل: ليزدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري، وفيه من الخفاء ما فيه وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبر أمرها كيفما يريد فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع سبحانه بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ومن قضية ذلك ما وقع في الحديبية وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم بجميع الأمور حَكِيماً في تقديره وتدبيره عز وجل.
وقوله سبحانه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له جل شأنه من معنى التصرف والتدبير، وقد صرح بعض الأفاضل بأنه كناية عنه أي دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله تعالى في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة فالعلة في الحقيقة معرفة النعمة وشكرها لكنها لما كانت سببا لدخول الجنة أقيم المسبب مقام السبب. وقيل: متعلق بفتحنا، وقيل: بأنزل، وتعلقه بذلك مع تعلق اللام الأخرى به مبني على تعلق الأول به مطلقا والثاني مقيدا وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين وإلا فلا يتعلق بعامل واحد حرفا جر بمعنى واحد من غير اتباع، وقيل: متعلق بينصرك، وقيل:
بيزداد، وقيل: بجميع ما ذكر إما على التنازع والتقدير أو بتقدير ما يشمل ذلك كفعل سبحانه ما ذكر ليدخل إلخ، وقيل: هو بدل من ليزداد بدل اشتمال فإن إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة وكذا ما عطف عليه مستلزم لزيادة الإيمان وبدل الاشتمال يعتمد على ملابسة ما بين المبدل والمبدل منه بحيث يشعر أحدهما بالآخر غير الكلية والبعضية، ولعل
(13/247)
________________________________________
الأظهر الوجه الأول، وضم المؤمنات هاهنا إلى المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور لأجل الجهاد والفتح على أيديهم، وكذا في كل موضع يوهم الاختصاص يصرح بذكر النساء، ويقال نحو ذلك فيما بعد كذا قيل.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن أنس قال: «أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال: لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله قد بين الله تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات حتى بلغ فوزا عظيما» .
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي يغطيها ولا يظهرها، والمراد يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها، وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلوب إلا على كذا قال غير واحد، ويجوز عندي أن يكون التفكير في الجنة على أن المعنى يدخلهم الجنة ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم فلا تمر لهم ببال ولا يذكرونها أصلا لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم، وقد مر مثل ذلك.
وَكانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإدخال والتكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره لأنه منتهى ما تمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر، وعِنْدَ اللَّهِ حال من فَوْزاً لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، والجماعة إنما يقولون: إنها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الانتفاء إلا انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان.
وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام: إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكا.
ودفع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنها لا شك معها وممن وافق النووي على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه، وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وكثير من المتكلمين الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة. وأجابوا عما تمسك به الأولون بوجوه، منها ما أشرنا إليه أولا من أن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والأوقات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين:
النبي صلّى الله عليه وسلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي عليه الصلاة والسلام متوالية ولغيره على الفترات فثبتت للنبي صلّى الله عليه وسلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه صلّى الله عليه وسلّم أكثر، والزيادة بهذا المعنى قيل مما لا نزاع فيها.
واعترض بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم، ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، ومنها ما أشرنا إليه ثانيا من أن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين آمنوا أولا بما آمنوا به وكانت الشريعة لم تتم وكانت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصره صلّى الله عليه وسلّم لإمكان الاطلاع على التفاصيل في غيره من العصور أيضا، ومنها أن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نور
(13/248)
________________________________________
الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، قيل: وهذا إنما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التصديق الزيادة والنقص ومتى لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظواهر على حالها، وقال الخطابي: الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص وعمل وهو يزيد وينقص واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص فإذا نقص ذهب واعترض أنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب.
ودفع بأن مراده أن الاعتقاد باعتبار أول مراتبه يزيد ولا ينقص لا أن الاعتقاد مطلقا كذلك، وذهب جماعة منهم الإمام الرازي. وإمام الحرمين إلى أن الخلاف لفظي وذلك بحمل قول النفي على أصل الإيمان وهو التصديق فلا يزيد ولا ينقص وحمل قول الإثبات على ما به كماله وهو الأعمال فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان، والحق أنه حقيقي لما سمعت عن الإمام النووي ومن معه من أن التصديق نفسه يزيد وينقص.
وقال بعض المحققين: إن الزيادة والنقص من خواص الحكم والتصديق قسم من العلم ولم يقل أحد بأنه أعربت حالا، وكونه يجوز فيه الحالية إذا تأخر عن عَظِيماً لا ضير فيه كما توهم أي كائنا عند الله تعالى أي في علمه سبحانه وقضائه جل شأنه، والجملة اعتراض مقرر لما قبله، وقوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ عطف على يدخل أي وليعذب المنافقين إلخ ليغيظهم من ذلك، وهو ظاهر على جميع الأوجه السابقة في لِيُدْخِلَ حتى وجه البدلية فإن بدل الاشتمال تصححه الملابسة كما مر، وازدياد الإيمان على ما ذكرنا في تفسيره مما يغيظهم بلا ريب، وقيل: إنه على هذا الوجه يكون عطفا على المبدل منه، وتقديم المنافقين على المشركين لأنهم أكثر ضررا على المسلمين فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة.
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أنه عز وجل لا ينصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وقيل: المراد به ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك أو غيره عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دائرة السّوء» بالضم، والفرق بينه وبين السَّوْءِ بالفتح على ما في الصحاح أن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر بمعنى المساءة.
وقال غير واحد: هما لغتان بمعنى كالكره والكره عند الكسائي وكلاهما في الأصل مصدر غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر، ولما كانت الدائرة هنا محمودة وأضيفت إلى المفتوح في قراءة الأكثر تعين على هذا أن يقال: إن ذاك على تأويل أنها مذمومة بالنسبة إلى من دارت عليه من المنافقين والمشركين واستعمالها في المكروه أكثر وهي مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل، وإضافتها على ما قال الطيبي من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة، وفي الكشف الإضافة بمعنى من على نحو دائرة ذهب فتدبر.
والكلام إما إخبار عن وقوع السوء بهم أو دعاء عليهم، وقوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف على ذلك، وكان الظاهر فلعنهم فأعد بالفاء في الموضعين لكنه عدل عنه للإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل في الوعيد به من غير اعتبار للسببية فيه وَساءَتْ مَصِيراً جهنم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكر سابقا على أن المراد أنه عز وجل المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته فلذلك ذيل بقوله تعالى: عَلِيماً حَكِيماً وهاهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ولذا ذيل بقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فلا تكرار كما قال الشهاب، وقيل: إن الجنود جنود رحمة وجنود عذاب، والمراد به هنا الثاني كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة.
(13/249)
________________________________________
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على أمتك لقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة شاهدا على أمتك وشاهدا على الأنبياء عليهم السلام أنهم قد بلغوا وَمُبَشِّراً بالثواب على الطاعة وَنَذِيراً بالعذاب على المعصية لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته كقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] وهو من باب التغليب غلب فيه المخاطب على الغيب فيفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بالإيمان برسالته كالأمة وهو كذلك، وقال الواحدي: الخطاب في أَرْسَلْناكَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفي لِتُؤْمِنُوا لأمته فعلى هذا إن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفا أي لتؤمنوا بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال أو للأمر على طريقة فبذلك فلتفرحوا [يونس: 58] على قراءة التاء الفوقانية فقيل هو على معنى قل لهم: لتؤمنوا إلخ، وقيل: هو للأمة على أن خطابه صلّى الله عليه وسلّم منزل منزلة خطابهم فهو عينه ادعاء، واللام متعلقة بأرسلنا، ولا يعترض عليه بما قرره الرضي وغيره من أنه يمتنع أن يخاطب في كلام واحد اثنان من غير عطف أو تثنية أو جمع لأنه بعد التنزيل لا تعدد، وجوز أن يكون ذلك لأنهم حينئذ غير مخاطبين في الحقيقة فخطابهم في حكم الغيبة، وقيل:
الامتناع المذكور مشروط بأن يكون كل من المخاطبين مستقلا أما إذا كان أحدهما داخلا في خطاب الآخر برسالته فلا امتناع كما يعلم من تتبع كلامهم، وحينئذ يجوز أن يراد خطاب الأمة أيضا من غير تغليب، والكلام في ذلك طويل وما ذكر سابقا سالم عن القال والقيل
وَتُعَزِّرُوهُ أي تنصروه كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعا
وأخرجه جماعة
(13/250)
________________________________________
عن قتادة، والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظموه كما قال قتادة وغيره، والضمير له تعالى أيضا، وقيل: كلا الضميرين للرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي عن ابن عباس، وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في تُعَزِّرُوهُ للرسول عليه الصلاة والسلام لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن الأولى كون الضميرين فيما تقدم لله تعالى أيضا لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة أي وتنزهوا الله تعالى أو تصلوا له سبحانه من السبحة بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشيا، والمراد ظاهرهما أو جميع النهار ويكنى عن جميع الشيء بطرفيه كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر، وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة. أعني لتؤمنوا وما بعده. بياء الغيبة، وعن ابن مسعود. وابن جبير كذلك إلا أنهما قرءا «ويسبحوا الله» بالاسم الجليل مكان الضمير، وقرأ الجحدري «تعزروه» بفتح التاء الفوقية وضم الزاي مخففا، وفي رواية عنه
فتح التاء وكسر الزاي مخففا وروي هذا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه
، وقرىء بضم التاء وكسر الزاي مخففا، وقرأ ابن عباس ومحمد بن اليماني «تعزّروه» بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزا وذلك بالنسبة إليه سبحانه بجعل دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كذلك. وقرىء «وتوقروه» من أوقره بمعنى وقره إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم، وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية، وهي مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذلك الطاعة له بما رضخ له، وكثيرا ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ، وما وقع للمؤمنين قيل يشير إلى ما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 111] الآية إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأن المقصود من بيعة الرسول عليه الصلاة والسلام وإطاعته إطاعة الله تعالى وامتثال أوامره سبحانه لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه مشاكلة أو هو صرف مجاز، وقرىء «إنما يبايعون لله» أي لأجل الله تعالى ولوجهه، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استئناف مؤكد لما قبله لأنه عبارة عن المبايعة. قال في الكشاف لما قال سبحانه: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أكده على طريقة التخييل فقال تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وأنه سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما. وفي المفتاح أما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الاستعارة بالكناية متى كانت تابعة لها كما في قولك: فلان بين أنياب المنية ومخالبها تم إذا انضم إليها المشاكلة كما في يَدُ اللَّهِ إلخ كانت أحسن وأحسن، يعني أن في اسم الله تعالى استعارة بالكناية تشبيها له سبحانه وتعالى بالمبايع واليد استعارة تخييلية مع أن فيها أيضا مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس، وامتناع الاستعارة في اسم الله تعالى إنما هو في الاستعارة التصريحية دون المكنية لأنه لا يلزم إطلاق اسمه تعالى على غيره سبحانه، وروى الواحدي عن ابن كيسان اليد القوة أي قوة الله تعالى ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي ثق بنصرة الله تعالى لك لا بنصرتهم وإن بايعوك.
وقال الزجاج: المعنى يد الله في الوفاء فوق أيديهم أو في الثواب فوق أيديهم في الطاعة أو يد الله سبحانه في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، وقيل: المعنى نعمة الله تعالى عليهم بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم وهي مبايعتهم إياك وأعظم منها، وفيه شيء من قوله تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] وكل ذلك تأويلات ارتكبها الخلف وأحسنها ما ذكر أولا، والسلف يمرون الآية كما جاءت
(13/251)
________________________________________
مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون: إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأنى ذلك وهيهات هيهات، وجوز أن تكون الجملة خبرا بعد خبر لإن، وكذا جوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل في يُبايِعُونَكَ وفي جواز ذلك مع كونها اسمية غير مقترنة بالواو كلام فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، وروى الزمخشري عن جابر بن عبد الله أنه ما نكث أحد البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا، والذي نقله الطيبي عن مسلم يدل على أن الرجل لم يبايع لا أنه بايع ونكث قال: سئل جابر كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشر مائة فبايعناه وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم، ولعل هذا هو الأوفق لظاهر قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ [الفتح: 18] .
وقرأ زيد بن علي «ينكث» بكسر الكاف وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويقال: وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه وأوفى لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] . وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ [البقرة: 177] وقرىء «بما عهد» ثلاثيا.
وقرأ الجمهور «عليه» بكسر الهاء كما هو الشائع وضمها حفص هنا، قيل: وجه الضم أنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه، ووجه الكسر رعاية الياء وكذا في إليه وفيه وكذا فيما إذا كان قبلها كسرة نحو به ومررت بغلامه لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام، وأيضا إبقاء ما كان على ما كان ملائم للوفاء بالعهد وإبقائه وعدم نقضه، وقد سألت كثيرا من الأجلة وأنا قريب عهد بفتح فمي للتكلم عن وجه هذا الضم هنا فلم أجب بما يسكن إليه قلبي ثم ظفرت بما سمعت والله تعالى الهادي إلى ما هو خير منه، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح وزيد بن علي «فسنؤتيه» بالنون.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال مجاهد وغيره ودخل كلام بعضهم في بعض المخلفون من الاعراب هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة والسلام يستقبل عددا عظيما من قريش. وثقيف.
وكنانة. والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتخلفوا وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا: لن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقولهم اعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك، والْمُخَلَّفُونَ جمع مخلف، قال الطبرسي: هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدم، والْأَعْرابِ في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذرين إليك شَغَلَتْنا عن الذهاب معك أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال.
وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان «شغّلتنا» بتشديد الغين المعجمة للتكثير فَاسْتَغْفِرْ لَنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا
(13/252)
________________________________________
عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان، وهو كناية عن كذبهم، فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلا من سَيَقُولُ غير ظاهر، والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة والسلام، وكذا راجع لما تضمنه (استغفر) الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلّى الله عليه وسلّم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، أو تسمية ذلك كذبا ليس لعدم مطابقة نسبة الاعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطابقته الواقع بحسب الاعتقاد وفرق بين الأمرين قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل، والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم، ومنه لا أملك رأس البعير وملكت العجين إذا شددت عجنته، وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما، وإذا قلت: لا أملك كان نفيا للاستطاعة والطاقة إمساكا ومنعا، فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم إلخ، واللام من لَكُمْ إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الاستطاعة مختصة بهم ولأجلهم، ومِنَ اللَّهِ حال من النكرة. أعني شيئا. مقدمة، وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازا عنه أو مضمنا إياه واللام زائدة كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] ومِنَ متعلقة بيملك كما قيل، والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف.
وقرأ حمزة والكسائي «ضرّا» بضم الضاد وهو لغة فيه، وحاصل معنى الآية قل لهم إذ لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى فليس الشغل بالأهل والمال عذرا فلا ذاك يدفع الضر ان أراده عز وجل ولا مغافصة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعا، وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديدا بقوله تعالى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أي بكل ما تعملونه خَبِيراً فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك، ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه: بَلْ ظَنَنْتُمْ إلى قوله تعالى: بُوراً وفي الانتصاف ان في قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ إلخ لفا ونشرا والأصل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو من يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ [المائدة: 16] وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: 41] فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ [الأحقاف: 8] . ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث: «إني لا أملك لكم شيئا»
يخاطب عشيرته وأمثاله كثير، وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 17] فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة، فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى، والوجه ما ذكرناه أولا في الآية، وفي تسمية مثل هذا لفا ونشرا نظر، ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع، وقال شيخ الإسلام أبو السعود: المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فإنه إضراب عما قالوه وبيان
(13/253)
________________________________________
لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه انتهى، وهو كلام أوهى من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة، والظاهر أن كلا من الإضرابات الثلاثة مقصود، وقال شيخ الإسلام: إن قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ إلخ بدل من كانَ اللَّهُ إلخ مفسر لما فيه من الإبهام. وفي البحر أنه بيان للعلة في تخلفهم أي بل ظننتم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أي لن يرجع من ذلك السفر الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أي عشائرهم وذوي قرباهم أَبَداً بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فحسبتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما يصيبهم فلأجل ذلك تحلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. والأهلون جمع أهل وجمعه جمع السلامة على خلاف القياس لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل ويجمع على اهلات بملاحظة تاء التأنيث في مفرده تقديرا فيجمع كتمرة وتمرات ونحوه أرض وأرضات، وقد جاء على ما في الكشاف أهلة بالتاء ويجوز تحريك عينه أيضا فيقال: اهلات بفتح الهاء، وكذا يجمع على أهال كليال، وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع وقيل: وهو إطلاق منه في الجمع الوارد على خلاف القياس وإلا فاسم الجمع شرطه عند النحاة أن يكون على وزن المفردات سواء كان له مفرد أم لا. وقرأ عبد الله «إلى أهلهم» بغير ياء، والآية ظاهرة في أن لَنْ ليست للتأبيد ومن زعم إفادتها إياه جعل أَبَداً للتأكيد وَزُيِّنَ أي حسن ذلِكَ أي الظن المفهوم من ظننتم فِي قُلُوبِكُمْ فلم تسعوا في إزالته فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وقيل: الإشارة إلى المظنون وهو عدم انقلاب الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إلى أهليهم أبدا أي حسن ذلك في قلوبكم فاحببتموه والمراد من ذلك تقريعهم ببغضهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين والمناسب للسياق ما تقدم. وقرىء «زيّن» بالبناء للفاعل بإسناده إلى الله تعالى أو إلى الشيطان وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وهو ظنهم السابق فتعريفه للعهد الذكرى وأعيد لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو هو عام فيشمل ذلك الظن وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم رسالته عليه الصلاة والسلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذكر من الاستئصال فذكر ذلك للتعميم بعد التخصيص.
وَكُنْتُمْ في علم الله تعالى الأزلي قَوْماً بُوراً أي هالكين لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم مستوجبين سخطه تعالى وعقابه جل شأنه، وقيل: أي فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم، والظاهر على ما في البحر أن بورا في الأصل مصدر كالهلك ولذا وصف به المفرد المذكر في قول ابن الزبعرى:
يا رسول الله المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
والمؤنث حكى أبو عبيدة امرأة بور والمثنى والمجموع، وجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وعائذ وعوذ وبازل وبزل، وعلى المصدرية هو مؤول باسم الفاعل، وجوز أن تكون كان بمعنى صار أي وصرتم بذلك الظن قوما هالكين مستوجبين السخط والعقاب والظاهر إبقاؤها على بابها والمضي باعتبار العلم كما أشرنا إليه، وقيل: أي كنتم قبل الظن فاسدين، وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ كلام مبتدأ من جهته عز وجل غير داخل في الكلام الملقن مقرر لبوارهم ومبين لكيفيته أي ومن لم يصدق بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كدأب هؤلاء المخلفين فَإِنَّا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً نارا مسعورة موقدة ملتهبة وكان الظاهر. لهم. فعدل عنه إلى ما ذكر إيذانا من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره لمكان التعليق بالمشتق.
وتنكير سعير للتهويل لما فيه من الإشارة إلى أنها لا يمكن معرفتها واكتناه كنهها، وقيل: لأنها نار مخصوصة فالتنكير للتنويع ومَنْ يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون شرطية والعائد من الخبر أو من جواب الشرط هو الظاهر القائم مقام المضمر وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو عز وجل المتصرف في الكل كما يشاء يَغْفِرُ لِمَنْ
(13/254)
________________________________________
يَشاءُ
أن يغفر له وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه تعالى وتعذيبه جل وعلا وجودا وعدما وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً مبالغا في المغفرة لمن يشاء ولا يشاء سبحانه إلا لمن تقتضي الحكمة المغفرة له ممن يؤمن به سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأما من عداه من الكافرين المجاهرين والمنافقين فهم بمعزل من ذلك قطعا وفي تقديم المغفرة والتذييل بكونه تعالى غفورا بصيغة المبالغة وضم رحيما إليه الدال على المبالغة أيضا دون التذيل بما يفيد كونه سبحانه معذبا مما يدل على سبق الرحمة ما فيه.
وفي الحديث كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت غضبي
وهذا السبق على ما أشار إليه في أنوار التنزيل ذاتي وذلك لأن الغفران والرحمة بحسب الذات والتعذيب بالعرض وتبعيته للقضاء والعصيان المقتضي لذلك وقد صرح غير واحد بأن الخير هو المقضي بالذات والشر بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي الا وهو متضمن لخير كلي، وفصل ذلك في شرح الهياكل، وقال بعض الأجلة: المراد بالسبق في الحديث كثرة الرحمة وشمولها وكذا المراد بالغلبة الواقعة في بعض الروايات، وذلك نظير ما يقال: غلب على فلان الكرم ومن جعل الرحمة والغضب من صفات الأفعال لم يشكل عليه أمر السبق ولم يحتج إلى جعلن ذاتيا كما لا يخفى والآية على ما قال أبو حيان لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة، وقيل: لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره عليه الصلاة والسلام لهم، وفسر الزمخشري مَنْ يَشاءُ الأول بالتائب والثاني بالمصرّ ثم قال: يكفر سبحانه السيئات باجتناب الكبائر ويغفر الكبائر بالتوبة وهو اعتزال منه مخالف لظاهر الآية، وقال الطيبي يمكن أن يقال: ان قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ إلخ موقعه موقع التذييل لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية على أن يقدر له ما يقابله من قوله ومن آمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للمؤمنين الجنان مثلا فلا يقيد شيء مما قيده ليؤذن بالتصرف التام والمشيئة النافذة والغفران الكامل والرحمة الشاملة فتأمل ولا تغفل سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون من الاعراب فاللام للعهد وقوله تعالى: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ظرف لما قبله لا شرط لما بعده والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين ولم نقف على خلاف في ذلك وأيد بأن السين تدل على القرب وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية كما علمت فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا وخص سبحانه ذلك بهم أي سيقولون عند إطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها طمعا في عرض الدنيا لما أنهم يرون ضعف العدو ويتحققون النصرة ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية وحاصله يريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، والجملة استئناف لبيان مرادهم بذلك القول، وقيل: يجوز أن تكون حالا من المخلفين وهو خلاف الظاهر ولا ينافي خبر التخصيص إعطاؤه عليه الصلاة والسلام بعض مهاجري الحبشة القادمين مع جعفر وبعض الدوسيين والأشعريين من ذلك وهم أصحاب السفينة كما في البخاري فإنه كان استنزالا للمسلمين عن بعض حقوقهم لهم أو أن بعضها فتح صلحا وما أعطاه عليه الصلاة والسلام فهو بعض مما صالح عليه وكل هذا مذكور في السير لكن الذي صححه المحدثون أنه لا صلح فيها.
وقال الكرماني: إنما أعطاهم صلّى الله عليه وسلّم برضا أصحاب الوقعة أو أعطاهم من الخمس الذي هو حقه عليه الصلاة والسلام، وميل البخاري إلى الثاني وحمل كلام الله تعالى على وعده بتلك الغنائم لهم خاصة هو الذي عليه مجاهد وقتادة وعامة المفسرين، وقال ابن زيد: كلام الله قوله سبحانه وتعالى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: 83]
(13/255)
________________________________________
ووافقه الجبائي على ذلك وشنع عليهما غير واحد بأن ذلك نازل في المخلفين في غزوة تبوك من المنافقين وكانت تلك الغزوة يوم الخميس في رجب سنة تسع بلا خلاف كما قال القسطلاني والحديبية في سنة ست كما قاله ابن الجوزي. وغيره وهذه إنما نزلت بعيد الانصراف من الحديبية كما علمت وأيضا قال في البحر: قد غزت مزينة وجهينة من هؤلاء المخلفين بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام وفضلهم صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب، وفي الكشف لعل القائل بذلك أراد أن هؤلاء المحلفين لما كانوا منافقين مثل المخلفين عن تبوك كان حكم الله تعالى فيهم واحدا، ألا ترى أن المعنى الموجب مشترك وهو رضاهم بالقعود أول مرة، فكلام الله تعالى أريد به حكمه السابق وهو أن المنافق لا يستصحب في الغزو، ولم يرد أن هذا الحكم منقاس على ذلك الأصل أو الآية نازلة فيهم أيضا فهذا ما يمكن في تصحيحه انتهى، ويقال عما في البحر: إن الذين غزوا بعد لم يغزوا حتى أخلصوا ولم يبقوا منافقين والله تعالى أعلم. وقرأ حمزة. والكسائي «كلم الله» وهو اسم جنس جمعي واحده كلمة قُلْ إقناطا لهم لَنْ تَتَّبِعُونا أي لا تتبعونا فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة، وقيل: المراد ولا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، وعن مجاهد كان الموعد أي الموعد الذي تغييره تبديل كلام الله تعالى وهو موعده سبحانه لأهل الحديبية أنهم لا يتبعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم فكأنه قيل: لن تتبعونا إلا متطوعين، وقيل: المراد التأبيد، وظاهر السياق الأول كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن تهيأتم للخروج معنا وذلك عند الانصراف من الحديبية فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم، وهو إضراب عن كونه بحكم الله تعالى أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا. وقرأ أبو حيوة «تحسدوننا» بكسر السين بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون إِلَّا قَلِيلًا أي إلا فهما قليلا وهو فهمهم لأمور الدنيا، وهو رد لقولهم الباطل في المؤمنين ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم وهو الجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى وإثباتهم الحسد لأولئك السادة من الجهل وقلة التفكر قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري بنو حنيفة مسيلمة وقومه أهل اليمامة، وعليه جماعة، وفي رواية عنه زيادة أهل الردة وروي ذلك عن الكلبي، وعن رافع بن خديج إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، وعن عطاء بن أبي رباح. ومجاهد في رواية. وعطاء الخراساني. وابن أبي ليلى هم الفرس، وأخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل. وغيرهما عن ابن عباس، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لقتال فارس أعراب المدينة جهينة ومزينة الذين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاهم للخروج إلى مكة، وقال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حنين، وفي رواية ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة التصريح بثقيف مع هوازن، وفي رواية الفريابي. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هم هوازن وبنو حنيفة، وقال كعب: هم
الروم الذي خرج إليهم صلّى الله عليه وسلّم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة، وأخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر عن الحسن قال: هم فارس والروم، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: البارز يعني الأكراد كما في الدر المنثور، وأخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن مجاهد قال: اعراب فارس وأكراد العجم، وظاهر العطف أن أكراد العجم ليسوا من اعراب فارس، وظاهر إضافة أكراد إلى العجم يشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب، ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلا من الناس يقال لهم أكراد من غير إضافة إلى عرب أو عجم، وللعلماء اختلاف
(13/256)
________________________________________
في كونهم في الأصل عربا أو غيرهم فقيل: ليسوا من العرب، وقيل منهم، قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد ابن خلكان في ترجمة المهلب بن أبي صفرة ما نصه: حكى أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه القصد والأمم في انساب العرب والعجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء (1) وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البر:
لعمرك ما الأكراد أبناء فارس ... ولكنه كرد بن عمرو بن عامر
انتهى، وفي القاموس الكرد بالضم جيل من الناس معروف والجمع أكراد وجدهم كرد بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء انتهى، وعامر هذا من العرب بلا شبهة فإنه ابن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ويقال له الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويسمى عامرا وهو عند الأكثر ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، وقيل: من ولد هود، وقيل: هو هود نفسه، وقيل:
ابن أخيه، وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل، والذي رجحه ابن حجر أن قبائل اليمن كلها ومنها قبيلة عمرو مزيقيا من ولد إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ذكر ذلك السيد نور الدين على السمهودي في تاريخ المدينة، وفيه أن الأنصار الأوس. والخزرج من أولاد ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا المذكور وكان له ثلاثة عشر ولدا ذكورا منهم ثعلبة المذكور. وحارثة والد خزاعة. وجفنة والد غسان. ووداعة وأبو حارثة وعوف وكعب ومالك وعمران وكرد كما في القاموس انتهى.
وفائدة الخلاف تظهر في أمور منها الكفاءة في النكاح والعامة لا يعدونهم من العرب فلا تغفل، والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب وليس من أولاد عمرو المذكور إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلا، وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال: إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال: إنهم من ذرية معاذ بن جبل وآخرون يقال: إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال: إنهم من بني أمية ولا يصح عندي من ذلك شيء بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم وكذا في جلالة حسبهم، وبالجملة الأكراد مشهورون باليأس وقد كان منهم كثير من أهل الفضل بل ثبت لبعضهم الصحبة، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم: جابان والد ميمون روى ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مرة حتى بلغ عشرا وذكر الحديث،
وقد أخرج نحوه الطبراني في المعجم الصغير عن ميمون الكردي عن أبيه أيضا وهو أتم منه ولفظه «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهوز ان وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق»
ويكنى ميمون هذا بأبي بصير بفتح الموحدة، وقيل: بالنون، وهو كما في التقريب مقبول، هذا وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.
__________
(1) قوله ابن ماء السماء قالوا الصواب إسقاط ابن لأن عامرا هو الملقب بماء السماء لا أن ماء السماء اب لعامر.
(13/257)
________________________________________
وقال أبو حيان: الذي أقوله إن هذه الأقوال تمثيلات من قائلها لا تعيين القوم، وهذا وإن حصل به الجمع بين تلك الأقوال خلاف الظاهر، وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير، ويدل لذلك قراءة أبي وزيد بن علي «أو يسلموا» بحذف النون لأن ذلك للناصب وهو يقتضي أن أو بمعنى إلا أي إلا أن يسلموا فيفيد الحصر أو بمعنى إلى أي إلى أن يسلموا، والغاية تقتضي أنه لا ينقطع القتال بغير الإسلام فيفيده أيضا كما قيل: والجملة مستأنفة للتعليل كما في قولك: سيدعوك الأمير يكرمك أو يكبت عدوك، قال في الكشف: ولا يجوز أن تكون صفة لقوم لأنهم دعوا إلى قتال القوم لا أنهم دعوا إلى قوم موصوف بالمقاتلة أو الإسلام.
وجوز بعضهم كونها حالية وحاله كحال الوصفية، وأصل الكلام ستدعون إلى قوم أولي بأس لتقاتلوهم أو يسلموا فعدل إلى الاستئناف لأنه أعظم الوصلين، ثم فيه أنهم فعلوا ذلك وحصلوا الغرض فهو يخبر عنه واقعا.
والاعتراض بأنه يلزم أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق إخباره تعالى ونحن نرى الانفكاك بأن يتركوا سدى أو بالهدنة فينبغي أن يؤول بأنه في معنى الأمر على ما في أمالي ابن الحاجب غير سديد لأن القوم مخصوصون لا عموم فيهم، وكان الواقع أنهم قوتلوا إلى أن أسلموا سواء فسر القوم ببني حنيفة أو بثقيف وهوازن أو فارس والروم على أن الإسلام الانقياد فما انفك الوجود عن أحدهما وقعا، وأما امتناع الانفكاك فليس من مقتضى الوضع ولا الاستعمال بل ذلك في الكلام الاستدلالي قد يتفق.
وأطال الطيبي الكلام في هذا المقام ثم قال: الذي يقتضيه المقام ما ذهب إليه صاحب التحبير من أن يُسْلِمُونَ عطف على تُقاتِلُونَهُمْ إما على الظاهر أو بتقديرهم يسلمون ليكون من عطف الاسمية على الفعلية وحينئذ تكون المناسبة أكثر إذ تخرج الجملة إلى باب الكناية، والمعنى تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون، وقد وضع فيه أَوْ يُسْلِمُونَ
موضع أولا تقاتلونهم لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة، والاستدعاء عليه ليس إلا للاختبار، وأَوْ للترديد على سبيل الاستعارة وفيه ما فيه، وشاع الاستدلال بالآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ووجه ذلك الإمام فقال: الداعي في قوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو الأئمة الأربعة أو من بعدهم لا يجوز الأول لقوله سبحانه قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا إلخ ولا أن يكون عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه لأنه إنما قاتل البغاة والخوارج وتلك المقاتلة للإسلام لقوله عز وجل: «أو يسلمون» ولا من ملك بعدهم لأنهم عندنا على الخطأ وعند الشيعة على الكفر ولما بطلت الأقسام تعين أن يكون المراد بالداعي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، ثم إنه تعالى أوجب طاعته وأوعد على مخالفته وذلك يقتضي إمامته وأي الثلاثة كان ثبت المطلوب، أما إذا كان أبا بكر فظاهر، وأما إذا كان عمر أو عثمان فلأن إمامته فرع إمامته رضي الله تعالى عنه. وتعقب بأن الداعي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويشعر بذلك السين قوله: لا يجوز لقوله سبحانه: لن تَتَّبِعُونا إلخ فيه أن لَنْ لا تفيد التأبيد على الصحيح وظاهر السياق يدل على أن المراد به لن تتبعونا في الانطلاق إلى خيبر كما سمعت عن محيي السنة أو هو مقيد بما روي عن مجاهد أو بما حكي عن بعض، وقال أبو حيان: القول بأنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بصحيح فقد حضر كثير منهم مع جعفر في مؤتة وحضروا حرب هوازن معه عليه الصلاة والسلام وحضروا معه صلّى الله عليه وسلّم أيضا في سفرة تبوك انتهى، ولا يخفى أن هذا إذا صح ينفي حمل النفي على التأييد.
ومن الشيعة من اقتصر في رد الاستدلال على الدعوة في تبوك. وتعقب بأنه لم يقع فيها ما أخبر الله تعالى به في قوله سبحانه: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ومنهم من زعم أن الداعي علي كرم الله تعالى وجهه وزعم كفر البغاة
(13/258)
________________________________________
والخوارج عليه رضي الله تعالى عنه وأنه لو سلّم إسلامهم يراد بالإسلام في الآية الانقياد إلى الطاعة وموالاة الأمير، وفيه ما لا يخفى، والإنصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلا على إمامة الصديق رضي الله تعالى عنه إلا إن صح غير مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ودون ذلك خرط القتاد، ونفى بعضهم صحة كون المراد بالقوم فارسا والروم لأن المراد في قوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على ما سمعت وفارس مجوس والروم نصارى فلا يتعين فيهم أحد الأمرين من المقاتلة والإسلام إذ يقبل منهم الجزية، وكذا اليوم ومشركو العجم والصابئة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: يتعين كونهم مرتدين أو مشركي العرب لأنهم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومثل مشركي العرب مشركو العجم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فعنده لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وأنت تعلم ان من فسر القوم بذلك يفسر الإسلام بالانقياد وهو يكون بقبول الجزية فلا يتم له أمر النفي فلا تغفل فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي فيما دعاكم إليه يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو على ما قيل الغنيمة في الدنيا والجنة في الأخرى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن الدعوة كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم، وهذا التعذيب قال في البحر: يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة، ويحتمل عندي وهو الأوفق بما قبله على ما قيل كونه فيهما ولا بأس بكون كل من الإيتاء والتعذيب في الآخرة بل لعله المتبادر لكثرة استعمالهما في ذلك، ولا يحسن كون الأمرين في الدنيا ولا كون الأول في الآخرة أو فيها وفي الدنيا والثاني في الدنيا فقط لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ أي إثم وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي في التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة، وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة، وليس في نفي ذلك عنهم نهي لهم عن الغزو بل قالوا: إن أجرهم مضاعف في الغزو، وقد غزا ابن أم مكتوم وكان أعمى رضي الله تعالى عنه وحضر في بعض حروب القادسية وكان يمسك الراية. وفي البحر لو حصر المسلمون فالفرض متوجه بحسب الوسع في الجهاد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما ذكر من الأوامر والنواهي.
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ عن الطاعة يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً لا يقادر قدره والمعنى بالوعد والوعيد هنا أعم من المعنى بهما فيما سبق كما ينبىء عن ذلك التعبير بمن هنا وبضمير الخطاب هناك، وقيل في الوعيد يُعَذِّبْهُ إلخ دون يدخله نارا ونحوه مما هو أظهر في المقابلة لقوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إلخ اعتناء بأمره من حيث إن التعذيب يوم القيامة عذابا أليما يستلزم إدخال النار وإدخالها لا يستلزم ذلك، واعتنى به لأن المقام يقتضيه ولذا جيء به كالمكرر مع الوعيد السابق، ويكفي في الإشارة إلى سبق الرحمة إخراج الوعد هاهنا كالتفصيل لما تقدم والتعبير هناك بإيتاء الأجر الحسن الظاهر في الاستحقاق مع إسناد الإيتاء إلى الاسم الجليل نفسه فتأمل فلمسلك الذهن اتساع. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة وابن عامر ونافع «ندخله» و «نعذبه» بالنون فيهما، ولما ذكر سبحانه حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وهم أهل الحديبية إلا جد بن قيس فإنه كان منافقا ولم يبايع.
وأصل هذه البيعة وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها: لَقَدْ رَضِيَ إلخ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث خراشا بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة ابن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له: الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمرا لا يريد قتالا فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فدعا عمر رضي الله تعالى عنه ليبعثه فقال: يا رسول الله إن القوم
(13/259)
________________________________________
قد عرفوا عداوتي لهم وغلظي عليهم وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان ابن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه وأنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان فأرسله إلى قريش
وقال: أخبرهم أنّا لم نأت بقتال وإنما جئنا عمارا وادعهم إلى الإسلام
وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى قريبا يظهر دينه بمكة فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشا فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقد رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتبسوه فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أن عثمان قد قتل
فقال عليه الصلاة والسلام: لا نبرح حتى نناجز القوم
ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام إلا أن روح القدس قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبايعوه، قال جابر كما في صحيح مسلم وغيره: بايعناه صلّى الله عليه وسلّم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، قيل:
على أي شيء تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت
وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبايع الناس وكان أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ أبا سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان،
وروى الأول البيهقي في الدلائل عن الشعبي وأنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ابسط يدك أبايعك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: علام تبايعني؟ قال: على ما في نفسك
. وفي حديث جابر الذي أخرجه مسلم أنه قال: بايعناه عليه الصلاة والسلام وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده، ولعل ذلك ليس في مبدأ البيعة وإلا ففي صحيح البخاري عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر رضي الله تعالى عنه يستلئم للقتال فأخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم ضرب بيده اليمنى على يده الأخرى وقال: هذه بيعة عثمان
ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله تعالى عنه وجماعة من المسلمين وكانت عدة المؤمنين ألفا وأربعمائة على الأصح عند أكثر المحدثين ورواه البخاري عن جابر، وروي عن سعيد بن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعه أبو داود. وروي أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وعند أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفا وسبعمائة، وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وحكى ابن سعد أنهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون، وجمع بين الروايات بأنها بناء على عد الجميع أو ترك الأصاغر والأتباع والأوساط أو نحو ذلك وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر: تنحر البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم كأبي قتادة لم يكن أحرم أصلا، والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فأمر بقطعها خشية الفتنة بها لقرب الجاهلية وعبادة غير الله تعالى فيهم.
وفي الصحيحين من حديث طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال: حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر
(13/260)
________________________________________
عليها ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأيكم أعلم، والرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدى بنفسه وهو مع عن إنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وما في الآية من هذا القسم، والمعنى الموجب للرضا فيها هو المبايعة، وإذا ذكر مع العين معنى بالباء فقيل رضيت عن زيد بإحسانه كانت الباء للسببية وجاز أن تكون صلة وتتعين للسببية مع مقابلة نحو سخطت عليه بإساءته وهو مع الباء نحو رضيت به يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ فتقول رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله تعالى ربا وقاضيا، وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضي بتلك الخصلة، وفيه مبالغة، وجاز دخوله على المعنى كرضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالا، وإذا استعمل مع اللام تعدى بنفسه كقولك: رضيت لك التجارة، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا عن الاستحماد وإما لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك مبالغة في أنه في نفسه مرضي محمود وانك تختار له ما تختار لنفسك وهذا أبلغ، ثم هو في حق الحق تعالى شأنه محال عند الخلف قالوا: لأن سبحانه لا تحدث له صفة عقيب أمر البتة، فهو عندهم مجاز إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده، وأما من أسماء الأفعال إذا فسر بالإثابة وكذا إذا أريد الاستحماد وفي البحر أن العامل بإذ في الآية هو رضي وهو هنا بمعنى إظهار عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات ليتقيد بالزمان، وأنت تعلم أن السلف لا يؤولون مثل ذلك ويثبتونه له تعالى على الوجه اللائق به سبحانه ويصرفون الحدوث الذي يستدعيه التقييد بالزمان إلى التعلق، ثم إن تقييد الرضا بزمان المبايعة يشعر بعلّيتها له فلا حاجة إلى جعل إذ للتعليل، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة المبايعة، وقوله سبحانه: تَحْتَ الشَّجَرَةِ إما متعلق بيبايعونك أو بمحذوف هو حال من مفعوله، وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة وأنها لم تكن عن خوف منه عليه الصلاة والسلام ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ويكفي فيما ترتب على ذلك ما
أخرج أحمد عن جابر. ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة»
وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت: بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] .
وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من
حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: أنتم خير أهل الأرض
فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وعثمان منهم بل كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له رضي الله تعالى عنه. كما قال أنس. خيرا من أيديهم لأنفسهم فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الصدق والإخلاص في مبايعتهم، وروي نحو ذلك عن قتادة وابن جريج وعن الفراء، وقال الطبري. ومنذر بن سعيد: من الإيمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم، واستحسنه أبو حيان والأول عندي أحسن.
وهو عطف على يُبايِعُونَكَ لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، وجوز عطفه على رَضِيَ بتأويله بظهر علمه فيصير مسببا عن الرضا مترتبا عليه فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي الطمأنينة والأمن وسكون النفس والربط على قلوبهم بالتشجيع، وقيل: بالصلح وليس بذاك، والظاهر أنه عطف على فَعَلِمَ.
وفي الإرشاد أنه عطف على رَضِيَ وظاهر كلام أبي حيان الأول وحيث استحسن تفسير ما في القلوب بما سمعت آنفا قال: إن السكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من
(13/261)
________________________________________
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلّى الله عليه وسلّم على الموت فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا وتفسر السَّكِينَةَ بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها، ولعمري إن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال ابن عباس وعكرمة وقتادة وابن أبي ليلى وغيرهم: هو فتح خيبر وكان غب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، والمراد هجر البحرين وكان فتح في زمانه صلّى الله عليه وسلّم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات.
وفي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر والفتح لا يستدعي سابقة الغزو كما علمت مما سبق في تفسيره فسقط قول الطيبي معترضا على الحسن: إنه لم يذكر أحد من الأئمة أنه صلّى الله عليه وسلّم غزا هجرا. نعم إطلاق الفتح على مثل ذلك قليل غير شائع بل قيل هو معنى مجازي له، وقيل: هو فتح مكة والقرب أمر نسي، وقرأ الحسن. ونوح القاري «وآتاهم» أي أعطاهم.
(13/262)
________________________________________
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها هي مغانم خيبر كما قال غير واحد وقسمها عليه الصلاة والسلام كما في حديث أحمد وأبي داود والحاكم وصححه عن مجمع بن جارية الأنصاري فأعطى للفارس سهمين وكان منهم ثلاثمائة فارس وللراجل سهما، وقيل: مغانم هجر، وقرأ الأعمش وطلحة ورويس عن يعقوب، ودلبة عن يونس عن ورش وأبو دحية وسقلاب عن نافع والانطاكي عن أبي جعفر «تأخذونها» بالتاء الفوقية والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا حَكِيماً مراعيا لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً هي على ما قال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ما وعد الله تعالى المؤمنين من المغانم إلى يوم القيامة تَأْخُذُونَها في أوقاتها المقدرة لكل واحدة منها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي مغانم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقال مجاهد: كف أيدي أهل مكة بالصلح، وقال الطبري: كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية وإلى خيبر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة الموعودة مغانم خيبر والمعجلة البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح، والجمهور على ما قدمناه، والمناسبة لما مر من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق الخطاب وغيره بطريق الغيبة كقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تقتضي على ما نقل عن بعض الأفاضل أن هذا جار على نهج التغليب وإن احتمل تلوين الخطاب فيه، وذكر الجلبي في قوله تعالى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ إلخ إنه إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر لا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجعه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية وإن كان قبله على أنها من الإخبار عن الغيب فالإشارة بهذه لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة والتعبير بالمضي للتحقق انتهى، واختير الشق الأول، وقولهم: نزلت في مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية باعتبار الأكثر أو على ظاهره لكن يجعل المرجع اسم زمان ممتد. وتعقب بأن ظاهر الأخبار يقتضي عدم الامتداد وأنها نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة فلعل الأولى اختيار الشق الثاني، والإشارة بهذه إلى المغانم التي أثابهم إياها المذكورة في قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وهي مغانم خيبر، وإذا جعلت الإشارة إلى البيعة كما سمعت عن زيد وابنه وروي ذلك عن ابن عباس لم يحتج إلى تأويل نزولها في مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الضمير المستتر، قيل: للكف المفهوم من كَفَّ والتأنيث باعتبار الخبر، وقيل: للكفة فأمر التأنيث ظاهر.
وجوز أن يكون لمغانم خيبر المشار إليها بهذه والآية الامارة أي ولتكون إمارة للمؤمنين يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان أو يعرفون بها صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في وعده إياهم فتح خيبر وما ذكر من المغانم وفتح مكة ودخول المسجد الحرام، واللام متعلقة إما بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل أو بما تعلق به علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين السابقين أي فعجل لكم هذه أو كف أيدي الناس عنكم لتنتفعوا بذلك ولتكون آية، فالواو. كما في الإرشاد على الأول اعتراضية وعلى الثاني عاطفة، وعند الكوفيين الواو زائدة واللام متعلقة بكف أو بعجل وَيَهْدِيَكُمْ بتلك الآية صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في ما تأتون وتذرون.
وَأُخْرى عطف على هذِهِ في فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فكأنه قيل فعجل لكم هذه المغانم وعجل لكم مغانم أخرى وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، والتعجيل بالنسبة إلى ما بعد فيجوز تعدد المعجل كالابتداء بشيئين، وقوله تعالى: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها في موضع الصفة ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها، وقوله تعالى: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها في موضع صفة أخرى. لأخرى. مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته عز وجل بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى قدرتهم، والإحاطة مجاز عن الاستيلاء التام أي قد قدر الله تعالى
(13/263)
________________________________________
عليها واستولى فهي في قبض قدرته تعالى يظهر عليها من أراد، وقد أظهر كم جل شأنه عليها وأظفركم بها، وقيل:
مجاز عن الحفظ أي قد حفظها لكم ومنعها من غيركم، والتذييل بقوله سبحانه: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أوفق بالأول، وعموم قدرته تعالى لكونها مقتضى الذات فلا يمكن أن تتغير ولا أن تتخلف وتزول عن الذات بسبب ما كما تقرر في موضعه، فتكون نسبتها إلى جميع المقدورات على سواء من غير اختصاص ببعض منها دون بعض وإلا كانت متغايرة بل مختلفة، وجوز كون أُخْرى منصوبة بفعل يفسره قد أحاط الله بها مثل قضى.
وتعقب بأن الإخبار بقضاء الله تعالى بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعود بها بقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ليس فيه مزيد فائدة وإنما الفائدة في بيان تعجيلها، وأورد عليه أن المغانم الكثيرة الموعودة ليست معينة ليدخل فيها الأخرى، ولو سلم فليس المقصود بالإفادة كونها مقضية بل ما بعده فتدبر، وجوز كونها مرفوعة بالابتداء والجملة بعدها صفة وجملة قد أحاط إلخ خبرها، واستظهر هذا الوجه أبو حيان، وقال بعض: الخبر محذوف تقديره ثمت أو نحوه، وجوز الزمخشري كونها مجرورة بإضمار رب كما في قوله: وليل كموج البحر أرخى سدوله. وتعقبه أبو حيان بأن فيه غرابة لأن رب لم تأت في القرآن العظيم جارة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف تضمر هنا، وأنت تعلم أن مثل هذه الغرابة لا تضر، هذا وتفسير الأخرى بمغانم هوازن قد أخرجه عبد بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس واختاره غير واحد، وقال قتادة. والحسن: هي مكة وقد حاولوها عام الحديبية ولم يدركوها فأخبروا بأن الله تعالى سيظفرهم بها ويظهرهم عليها، وفي رواية أخرى عن ابن عباس والحسن، ورويت عن مقاتل أنها بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون، وهو غير ظاهر على تفسير المغانم الكثيرة الموعودة فيما سبق بما وعد الله تعالى به المسلمين من المغانم إلى يوم القيامة، وأيضا تعقبه بعضهم بأن لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يشعر بتقدم محاولة لتلك البلاد وفوات دركها المطلوب مع أنه لم تتقدم محاولة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هي خيبر، وروي ذلك عن الضحاك وإسحق وابن زيد أيضا، وفيه خفاء فلا تغفل وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من أهل مكة ولم يصالحوكم كما روي عن قتادة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنهم حليفا أهل خيبر أسد: وغطفان، وقيل: اليهود وليس بذاك لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي لانهزموا فتولية الدبر كناية عن الهزيمة ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم، وذكر الخفاجي أن الحارس أحد معاني الولي، وتفسيره هنا بذلك لمناسبته للمنهزم، وقال الراغب: كل من ولي أمر آخر فهو وليه، وعليه فالحارس ولي لأنه يلي أمر المحروس، والتنكير للتعميم أي لا يجدون فردا ما من الأولياء وَلا نَصِيراً ولا فردا ما من الناصرين ينصرهم، وقال الإمام: أريد بالولي: من ينفع باللطف وبالنصير من ينفع بالعنف سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ نصب على المصدرية بفعل محذوف أي سن سبحانه غلبة أنبيائه عليهم السلام سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال سبحانه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] على ما هو المتبادر من معناه، ولعل المراد أن سنته تعالى أن تكون العاقبة لأنبيائه عليهم السلام لا أنهم كلما قاتلوا الكفار غلبوهم وهزموهم وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي أيدي كفار مكة، وفي التعبير- بكف- دون منع ونحوه لطف لا يخفى وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ يعني الحديبية كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وقد تقدم أن بعضها من حرم مكة، وان لم يسلم فالقرب التام كاف ويكون إطلاق بطن مَكَّةَ عليها مبالغة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ مظهرا لكم عَلَيْهِمْ فتعدية الفعل بعلى لتضمنه ما يتعدى به وهو الإظهار والاعلاء أي جعلكم ذوي غلبة تامة. أخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في آخرين عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
(13/264)
________________________________________
ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية وَهُوَ الَّذِي كَفَّ إلخ،
وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن معقل قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن إلى أن قال: فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا إلى وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله تعالى بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا: لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ

إلخ.
وأخرج أحمد وغيره عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن أربع عشرة مائة ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا إلى الصلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في ظلها فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل ما للمهاجرين قتل بن زنيم فاخترطت سيفي فاشتدت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم وجعلته في يدي ثم قلت: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجاء عمي عامر برجل يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال:
دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَ

إلخ، وهذا كله يؤيد ما قلناه،
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن أبزى قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهدى وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمي: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع فبعث إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى فنزل بها فأتاه عينه أن عكرمة ابن أبي جهل قد جمع عليك في خمسمائة فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمى سيف الله يا رسول الله ارم بي إن شئت فبعثه على خيل فلقيه عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي الآية
. وفي البحر أن خالدا هزمهم حتى دخلوا بيوت مكة وأسر منهم جملة فسيقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنّ عليهم وأطلقهم، والخبر غير صحيح لأن إسلام خالد رضي الله تعالى عنه بعد الحديبية قبل عمرة القضاء، وقيل بعدها وهي في السنة السابعة.
وروى ابن إسحاق وغيره أن خالدا كان يوم الحديبية على خيل قريش في مائتي فارس قدم بهم إلى كراع الغميم فدنا حتى نظر إلى أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباد بن بشر فتقدم بخيله فقام بإزائه وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الخوف، وعن ابن عباس أن أهل مكة أرسلوا جملة من الفوارس في الحديبية يريدون الوقيعة بالمسلمين فأظهرهم الله تعالى عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت، وأنكر بعضهم ذلك والله تعالى أعلم بصحة الخبر.
وقيل: كان هذا الكف يوم فتح مكة، واستشهد الإمام أبو حنيفة بما في الآية من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ بناء على هذا القول لفتح مكة عنوة. واعترض القول المذكور والاستشهاد بالآية بناء عليه، أما الأول فلأن الآية نزلت قبل فتح مكة. وتعقب بأنه إن أريد أنها نزلت بتمامها قبله فليس بثابت بل بعض الآثار يشعر بخلافه وإلا فلا يفيد مع أنه يجوز أن يكون هذا إخبارا عن الغيب كما قيل ذلك في غيره من بعض آيات السورة، وأما الثاني فلأن دلالتها على العنوة ممنوعة، فقد قال الزمخشري: الفتح هو الظفر بالشيء سواء كان عنوة أو صلحا، والفرق بين الظفر
(13/265)
________________________________________
على الشيء والظفر به من حيث الاستعلاء وهو كائن لأنهم اصطلحوا وهم مضطرون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه مختارون، وفيه دغدغة لا تخفى وكذا فيما تعقب به الأول. وبالجملة هذا القول وكذا الاستشهاد بما في الآية بناء غير بعيد إلا أن أكثر الاخبار الصحيحة وكذا ما بعد يؤيد ما قلناه أولا في تفسير الآية وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بعملكم أو بجميع ما تعملونه ومنه العفو بعد الظفر بَصِيراً فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة فالكلام عليه تهديد للكفار.
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تصلوا إليه وتطوفوا به وَالْهَدْيَ بالنصب عطف على الضمير المنصوب في صَدُّوكُمْ أي وصدوا الهدى وهو ما يهدى إلى البيت، قال الأخفش: الواحدة هدية ويقال للأنثى هدى كأنه مصدر وصف به. وفي البحر إسكان داله لغة قريش وبها قرأ الجمهور، وقرأ ابن هرمز والحسن وعصمة عن عاصم واللؤلؤي وخارجة عن أبي عمرو بكسر الدال وتشديد الياء وذلك لغة، وهو فعيل بمعنى مفعول على ما صرح به غير واحد، وكان هذا الهدي سبعين بدنة على ما هو المشهور، وقال مقاتل: كان مائة بدنة. وقرأ الجعفي عن أبي عمرو «الهدي» بالجر على أنه عطف على المسجد الحرام بحذف المضاف أي ونحر الهدي. وقرىء بالرفع على إضمار وصد الهدي، وقوله سبحانه: مَعْكُوفاً حال من الْهَدْيَ على جميع القراءات، وقيل: على قراءة الرفع يجوز أن يكون الْهَدْيَ مبتدأ والكلام نحو حكمك مسمطا، وقوله تعالى: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف: 8، 14] علي قراءة النصب وهو كما ترى، والمعكوف المحبوس يقال: عكفت الرجل عن حاجته حبسته عنها، وأنكر أبو علي تعدية عكف وحكاها ابن سيده. والأزهري. وغيرهما، وظاهر ما في الآية معهم، وقوله تعالى: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ بدل اشتمال من الْهَدْيَ كأنه قيل: وصدوا بلوغ الهدي محله أو صدوا عن بلوغ الهدي أو وصد بلوغ الهدي حسب اختلاف القراءات، وجوز أن يكون مفعولا من أجله للصد أي كراهة أن يبلغ محله، وأن يكون مفعولا من أجله مجرورا بلام مقدرة. لمعكوفا. أي محبوسا لأجل أن يبلغ محله ويكون الحبس من المسلمين، وأن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو من أو عن أي محبوسا من أو عن أن يبلغ محله فيكون الحبس من المشركين على ما هو الظاهر، ومحل الهدي مكان يحل فيه نحره أي يسوغ أو مكان حلوله أي وجوبه ووقوعه كما نقل عن الزمخشري، والمراد مكانه المعهود وهو منى، أما على رأي الشافعي رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه لمن منع حيث منع فيكون قد بلغ محله بالنسبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه ولذا نحروا هناك أعني في الحديبية، وأما على رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه الحرم مطلقا وبعض الحديبية حرم عنده وقد رووا أن مضارب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت في الحل منها ومصلاه في الحرم والنحر قد وقع فيما هو حرم فيكون الهدي بالغا محله غير معكوف عن بلوغه فلا بد من إرادة المعهود ليتسنى ذلك، وزعم الزمخشري أن الآية دليل لأبي حنيفة على أن الممنوع محل هديه الحرم ثم تكلم بما لا يخفى حاله على من راجعه. ومن الناس من قرر الاستدلال بأن المسجد الحرام يكون بمعنى الحرم وهم لما صدوهم عنه ومنعوا هديهم أن يدخله فيصل إلى محله دل بحسب الظاهر على أنه محله، ثم قال: ولا ينافيه أنه عليه الصلاة والسلام نحر في طرف منه كما لا ينافى الصد عنه كون مصلاه عليه الصلاة والسلام فيه لأنهم منعوهم فلم يمتنعوا بالكلية وهو كما ترى.
والإنصاف أنه لا يتم الاستدلال بالآية على هذا المطلب أصلا. وطعن بعض أجلة الشافعية في كون شيء من الحديبية من الحرم فقال: إنه خلاف ما عليه الجمهور وحدود الحرم مشهورة من زمن إبراهيم عليه السلام، ولا يعتد برواية شذبها الواقدي كيف وقد صرح بخلافها البخاري في صحيحه عن الثقات، والرواية عن الزهري ليست بثبت انتهى، ولعل من قال: بأن بعضها من الحرم استند في ذلك إلى خبر صحيح. ومن قواعدهم أن المثبت مقدم على
(13/266)
________________________________________
النافي والله تعالى أعلم وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة رِجالٌ ونِساءٌ على تغليب المذكر على المؤنث. وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد. وغيره عن أبي جمعة جنبذ بن سبع تسعة نفر سبعة رجال وهو منهم وامرأتين، وقوله تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال منهم وجوز كونه بدلا من الضمير المنصوب في تَعْلَمُوهُمْ واستبعده أبو حيان، والوطء الدوس واستعير هنا للإهلاك وهي استعارة حسنة واردة في كلامهم قديما وحديثا، ومن ذلك قول الحارث بن وعلة الذهلي:
ووطئتنا وطأ على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم
وقوله صلّى الله عليه وسلّم من حديث: «وإن آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج»
وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم اشدد وطأتك على مضر»
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ أي من جهتهم مَعَرَّةٌ أي مكروه ومشقة مأخوذ من العر والعرة وهو الجرب الصعب اللازم، وقال غير واحد: هي مفعلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكره، والمراد بها هنا على ما روي عن منذر بن سعيد تعيير الكفار وقولهم في المؤمنين: إنهم قتلوا أهل دينهم، وقيل: التأسف عليهم وتألم النفس مما أصابهم.
وقال ابن زيد: المأثم بقتلهم. وقال ابن إسحق: الدية، قال ابن عطية: وكلا القولين ضعيف لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب: وقال الطبري، هي الكفارة. وتعقب بعضهم هذا أيضا بأن في وجوب الكفارة خلافا بين الأئمة. وفي الفصول العمادية ذكر في تأسيس النظائر في الفقه قال أصحابنا: دار الحرب تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات لأن أحكامنا لا تجري في دارهم وحكم دارهم لا يجري في دارنا. وعند الشافعي دار الحرب لا تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات، بيان ذلك حربي أسلم في دار الحرب وقتل مسلما دخل دارهم بأمان لا قصاص عليه عندنا ولا دية وعند الشافعي عليه القصاص وعلى هذا لو أن مسلمين متسامنين دخلا دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه عندنا وعند الشافعي عليه ذلك، ثم ذكر مسألة مختلفا فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فقال: إذا قتل أحد الأسيرين صاحبه في دار الحرب لا شيء عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا الكفارة لأنه تبع لهم فصار كواحد من أهل الحرب، وعند محمد تجب الدية لأن له حكم نفسه فاعتبر حكم نفسه على حدة انتهى.
ونقل عن الكافي أن من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون ثم لا يضمن شيئا إن كان عمدا وإن كان خطأ ضمن الكفارة دون الدية انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله، والزمخشري فسر المعرة بوجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير وهو كما نرى.
بِغَيْرِ عِلْمٍ في موضع الحال من ضمير المخاطبين في تَطَؤُهُمْ قيل ولا تكرار مع قوله تعالى لَمْ تَعْلَمُوهُمْ سواء كان أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال من رِجالٌ ونِساءٌ أو بدلا من المنصوب في لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أما على الثاني فلأن حاصل المعنى ولولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم لأن احتمال أنهم يهلكون من غير شعور مع إيمانهم سبب الكف فيعتبر فيه العلماء فمتعلق العلم في الأول الوطأة وفي الثاني أنفسهم باعتبار الإيمان، وأما على الأول فلأن قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ لما كان حالا من فاعل تَطَؤُهُمْ كان العلم بهم راجعا إلى العلم باعتبار الإهلاك كما تقول أهلكته من غير علم فلا الإهلاك من غير شعور ولا العلم بإيمانهم حاصل والأمران لكونهما مقصودين بالذات صرح بهما وإن تقاربا أو تلازما في الجملة.
(13/267)
________________________________________
وجوز أن يجعل لَمْ تَعْلَمُوهُمْ كناية عن الاختلاط كما يلوح إليه كلام الكشاف، وفيه ما يدفع التكرار أيضا، وفي ذلك بحث يدفع بالتأمل وجوز أن يكون حالا من ضمير مِنْهُمْ وأن يكون متعلقا بتصيبكم. أو صفة لمعرة قيل: وهو على معنى فتصيبكم منهم معرة بغير علم من الذي يعركم ويعيب عليكم، يعني إن وطئتموهم غير عالمين لزمكم سبة من الكفار بغير علم أي لا يعلمون أنكم معزورون فيه أو على معنى لم تعلموا أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرفة بغير علم منكم أي فتقتلوهم بغير علم منكم أو تؤذوهم بغير علم فافهم ولا تغفل. وجواب لَوْلا محذوف لدلالة الكلام عليه، والمعنى على ما سمعت أولا لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني الكفار جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم، وحاصله أنه تعالى ولو لم يكف أيديكم عنهم لا نجر الأمر إلى إهلاك مؤمنين بين ظهرانيهم فيصيبكم من ذلك مكروه وهو عز وجل يكره ذلك.
وقال ابن جريج: دفع الله تعالى عن المشركين يوم الحديبية بأناس من المسلمين بين أظهرهم، وظاهر الأول على ما قيل أن علة الكف صون المخاطبين عن إصابة المعرة، وظاهر هذا أن علته صون أولئك المؤمنين عن الوطء والأمر فيه سهل، وقوله تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علة لما يدل عليه الجواب المحذوف على ما اختاره في الإرشاد كأنه قيل: لكنه سبحانه كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة مَنْ يَشاءُ وهم أولئك المؤمنون وذلك بأمنهم وإزالة استضعافهم تحت أيدي المشركين وبتوفيقهم لإقامة مراسم العبادة على الوجه الأتم، والتعبير عنهم بمن يشاء دون الضمير بأن يقال: ليدخلهم الله رحمته للإشارة إلى أن علة الإدخال المشيئة المبنية على الحكم الجمة والمصالح، وجعله بعضهم علة لما يفهم من صون من بمكة من المؤمنين والرحمة توفيقهم لزيادة الخير والطاعة بإبقائهم على عملهم وطاعتهم، وجوز أن يراد بمن يشاء، بعض المشركين ويراد بالرحمة الإسلام فإن أولئك المؤمنين إذا صانهم الكف المذكور أظهروا إيمانهم لمعاينة قوة الدين فيقتدي بهم الصائرون للإسلام، واستحسن بعضهم كونه علة للكف المعلل بالصون.
وجوز أن يراد بمن يشاء، المؤمنون فيراد بالرحمة التوفيق لزيادة الخير، والمشركون فيراد بها الإسلام، وبين وجه التعليل بأنهم إذا شاهدوا منع تعذيبهم بعد الظفر عليهم لاختلاط المؤمنين بهم اعتناء بشأنهم رغبوا في الإسلام والانخراط في سلك المرحومين وان المؤمنين إذا علموا منع تعذيب المشركين بعد الظفر عليهم لاختلاطهم بهم أظهروا إيمانهم فيقتدى بهم، وقال: لا وجه لجعل اللام مستعارة من معنى التعليل لما يترتب على الشيء لأنه عدول عن الحقيقة المتبادرة من غير داع، وما يظن من أن تعليل الكف بما ذكر مع أنه معلل بالصون فاسد لما فيه من اجتماع علتين على معلول واحد شخصي فاسد لأن العلل إذا لم تكن تامة حقيقة لا يضر تعددها وما هنا كذلك.
هذا وجعل ذلك علة لما دل عليه الجواب على ما سمعت أولا أولى عندي لما فيه من شدة التحام النظم الجليل، وحمل مَنْ يَشاءُ على المؤمنين المستضعفين دون بعض المشركين أوفق بقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً والتزيل التفرق والتميز، وجوز في ضمير تَزَيَّلُوا كونه للمؤمنين المذكورين فيما سبق أي لو تفرق أولئك المؤمنون والمؤمنات وتميزوا عن الكفار وخرجوا من مكة ولم يبقوا بينهم لعذبنا إلخ، وكونه للمؤمنين والكفار أي لو افترق بعضهم من بعض ولم يبقوا مختلطين لعذبنا إلخ.
واختار غير واحد الأول فمنهم للبيان، والمراد تعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما قال مجاهد وغيره والألم يكن- للو- موقع. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا كالتكرار لقوله تعالى: لَوْلا رِجالٌ لأن مرجعهما في المعنى شيء واحد ويكون لعذبنا هو الجواب. للولا. السابقة. واعترضه
(13/268)
________________________________________
أبو حيان بأن التغاير ظاهر فلا يكون تكرارا ولا مشابها. وأجيب بأن كراهة وطئهم لعدم تميزهم عن الكفار الذي هو مدلول الثاني فيكون كبدل الاشتمال ويكفي ذلك في كونه كالتكرار، وقال ابن المنير: إنما كان مرجعهما واحدا وإن كانت لَوْلا تدل على امتناع لوجود ولَوْ تدل على امتناع لامتناع وبين هذين تناف ظاهر لأن «لولا» هاهنا دخلت على وجود ولو دخلت على تَزَيَّلُوا وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود ثبوت فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه قال: وكان جدي يختار هذا الوجه ويسميه تطرية وأكثر ما يكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى بناء الآخر على الأول فمرة يطري بلفظه ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤداه انتهى.
وأنت تعلم أن في حذف الجواب دليلا على شدة غضب الله تعالى وأنه لولا حق المؤمنين لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس، ومنه يعلم أن ذلك الوجه أرجح من جعل لَوْ تَزَيَّلُوا بمنزلة التكرار للتطرية فتطرية الجواب وتقويته أولى وأوفق لمقتضى المقام، واختار الطيبي الأول أيضا معللا له بأنه حينئذ يقرب من باب الطرد والعكس لأن التقدير لولا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم لوقع ما كان جزاء لكفرهم وصدهم ولو حصل التمييز وارتفع الاختلاط لحصل التعذيب، ثم إن تقدير الجواب ما تقدم عند القائلين بالحذف هو الذي ذهب إليه كثير، وجوز بعضهم تقديره لعجل لهم ما يستحقون وجعل قوله تعالى (1) : هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ فكأنه قيل:
هم الذين كفروا واستحقوا التعجيل في إهلاكهم ولولا رجال مؤمنون إلخ لعجل لهم ذلك وهو أيضا أولى من حديث التكرار، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم وأبو حيوة وابن عون «لو تزايلوا» على وزن تفاعلوا.
وفي الآية على ما قال الكيا دليل على أنه لا يجوز خرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى من المسلمين وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها والكفار إذا تترسوا بهم، وفيه كلام في كتب الفروع إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا منصوب باذكر على المفعولية أو- بعذبنا- على الظرفية أو- بصدوكم- كذلك، وقيل: بمضمر هو أحسن الله تعالى إليكم. وأيا ما كان. فالذين. فاعل جَعَلَ ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليل الحكم به، والجعل إما بمعنى الإلقاء فقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ متعلق به أو بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف هو مفعول ثان له أي جعلوا الحمية راسخة في قلوبهم ولكونها مكتسبة لهم من وجه نسب جعلها إليهم، وقال النيسابوري:
يجوز أن يكون فاعل جَعَلَ ضمير الله تعالى وفِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الجعل ومآل المعنى إذ جعل الله في قلوب الذين كفروا الحمية وهو كما ترى، والحمية الآنفة يقال: حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار منه.
وقال الراغب: عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل: حميت على فلان أي غضبت عليه، وقوله تعالى: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ بدل من الحمية أي حمية الملة الجاهلية أو الحمية الناشئة من الجاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها، وقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ عطف على جَعَلَ على تقدير جعل إِذْ معمولا لأذكر، والمراد تذكير حسن صنيع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع المشركين وعلى ما يدل عليه الجملة الامتناعية على تقدير جعلها ظرفا لعذبنا. كأنه قيل: فلم يتزيلوا فلم نعذب فأنزل إلخ، وعلى مضمر عامل فيها على الوجه الأخير المحكي ويكون هذا كالتفسير لذاك، وأما على جعلها ظرفا.
لصدوكم. فقيل: العطف على جَعَلَ وقيل: على صَدُّوكُمْ وهو نظير الطائر فيغضب زيد الذباب والأولى من هذه الأوجه لا يخفى، والسكينة الاطمئنان والوقار،
روى غير واحد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج بمن معه إلى الحديبية حتى إذا
__________
(1) قوله وجعل قوله إلخ كذا في أصل المؤلف ولا يخفى ما فيه.
(13/269)
________________________________________
كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا من خزاعة يخبره عن قريش وسار عليه الصلاة والسلام حتى كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فاستشار الناس في الإغارة على ذراري من أعانهم فقال أبو بكر: الله تعالى ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجىء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال صلّى الله عليه وسلّم:
امضوا على اسم الله فسار حتى نزل بأقصى الحديبية فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فقال له إني قد تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا قريبا معهم كالعوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لم نجىء لقتال أحد ولكن معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلتهم وبهم قوة فما تظن قريش فو الله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهره الله تعالى أو تنفرد هذه السالفة فقال بديل: سأبلغهم ما تقول فبلغهم فقال عروة بن مسعود الثقفي لهم: دعوني آته فأتاه عليه الصلاة والسلام فقال له نحو ما قال لبديل وجرى من الكلام ما جرى ورأى من احترام الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمهم إياه ما رأى فرجع إلى أصحابه فأخبرهم بذلك وقال لهم: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فلما أشرف على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قال عليه الصلاة والسلام: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فرجع وأخبر أصحابه فقال رجل يقال له مكرز بن حفص: دعوني آته فلما أشرف قال عليه الصلاة والسلام: هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي فقال صلّى الله عليه وسلّم: قد سهل لكم من أمركم وكان قد بعثه قريش وقالوا له: ائت محمدا فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا فلما انتهى إليه عليه الصلاة والسلام تكلم فأطال وانتهى الأمر إلى الصلح وكتابة كتاب في ذلك فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتب باسمك اللهم فكتبها ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال عليه الصلاة والسلام: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو صلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وإن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا أغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وان محمدا يرجع عن مكة عامه هذا فلا يدخلها وانه إذا كان عام قابل خرج أهل مكة فدخلها بأصحابه فأقام بها ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب لا يدخلها بغيرها.
وظاهر هذا الخبر أن سهيلا لم يرض أن يكتب محمد رسول الله قبل أن يكتب
وجاء في رواية أنه كتب فلم يرض فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي كرم الله تعالى وجهه: امحه فقال: ما أنا بالذي أمحاه
، وجاء هذا
في رواية للبخاري، ولمسلم وفي رواية للبخاري في المغازي فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله
، وكذا
أخرجه النسائي وأحمد ولفظه فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب مكان
(13/270)
________________________________________
رسول الله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله
، وتمسك بظاهر هذه الرواية كما في فتح الباري أبو الوليد الباجي على أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب ووافقه على ذلك شيخه أبو ذر الهروي. وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء افريقية، والجمهور على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب، وان قوله: وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب لبيان أنه عليه الصلاة والسلام احتاج لأن يريه علي كرم الله تعالى وجهه موضع الكلمة التي امتنع من محوها لكونه كان لا يحسن الكتابة، وقوله: فكتب بتقدير فمحاها فأعاد الكتاب لعلي فكتب أو أطلق فيه كتب علي أمر بالكتابة، وتمام الكلام في محلة فكانت حميتهم على ما في الدر المنثور عن جماعة أنهم لم يقروا أنه صلّى الله عليه وسلّم رسول ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بين المسلمين والبيت وقد هم المؤمنون لذلك أن يبطشوا بهم فأنزل الله تعالى سكينته عليهم فتوقروا وحلموا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في حمية الجاهلية: حمت قريش أن يدخل عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: لا يدخلها علينا أبدا، وقال ابن بحر- كما في البحر- حميتهم عصبيتهم لآلهتهم والانفة أن يعبدوا غيرها، وفي توسيط علي بين الرسول والمؤمنين إيماء إلى أنه سبحانه أنزل على كل سكينة لائقة به.
ووجه تقديم الإنزال على الرسول عليه الصلاة والسلام لا يخفى وقال الإمام: في هذه الآية لطائف معنوية وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين المؤمنين والكافرين حيث باين بين الفاعلين إذ فاعل جَعَلَ هو الكفار وفاعل (انزل) هو الله تعالى، وبين المفعولين إذ تلك حمية وهذه سكينة. وبين الإضافتين إضافة الحمية إلى الجاهلية وإضافة السكينة إليه تعالى، وبين الفعلين جَعَلَ و (أنزل) فالحمية مجعولة في الحال كالعرض الذي لا يبقى والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا بالإضافة إلى الجاهلية والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله عز وجل، والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة والمجازاة تقول: أكرمني زيد فأكرمته فيدل على أن إنزال السكينة لجعلهم الحمية في قلوبهم حتى أن المؤمنين لم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا، وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى انتهى وهو مما لا بأس به
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى هي لا إله إلا الله كما أخرج ذلك الترمذي. وعبد الله بن أحمد. والدارقطني. وغيرهم عن أبي بن كعب مرفوعا وكما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع
كذلك
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن حرمان أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من شيئا قلبه الا حرم على النار فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنا أحدثكم ما هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله سبحانه محمدا وأصحابه وهي كلمة التقوى التي ألاص (1) عليها نبي الله صلّى الله عليه وسلّم عمه أبا طالب عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله» وروي ذلك أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه على ما نقل أبو حيان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير في آخرين، وأخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء الخراساني بزيادة محمد رسول الله
، وأضيفت إلى التقوى لأنها بها يتقى الشرك ومن هنا قال ابن عباس فيما أخرجه ابن المنذر وغيره: هي رأس كل تقوى، وظاهر كلام عمر رضي الله تعالى عنه أن ضمير- هم- في أَلْزَمَهُمْ للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه وإلزامهم إياها بالحكم والأمر بها،
وأخرج عبد الرزاق. والحاكم وصححه.
والبيهقي في الأسماء والصفات وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي لا إله إلا الله والله أكبر
، وروي عن ابن عمر أيضا نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن المسور بن مخرمة قال: هي لا إله إلا الله وحده لا
__________
(1) يقال الاصه على الشيء أراده عليه وأراده منه اهـ منه.
(13/271)
________________________________________
شريك له وأخرج ابن أبي رباح. ومجاهد أيضا أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن الزهري قال: هي بسم الله الرحمن الرحيم، وضم بعضهم إلى هذا محمد رسول الله، والمراد بإلزامهم إياها اختيارها لهم دون من عدل عنها إلى باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله، وقيل: هي الثبات والوفاء بالعهد، ونسبه الخفاجي إلى الحسن، وإلزامهم إياه آمرهم به، وإطلاق الكلمة على الثبات على العهد والوفاء به قيل: لما أن كلا يتوصل به إلى الغرض وهو نظير ما قيل في إطلاق الكلمة على عيسى عليه السلام من أن ذلك لأن كلا منهما يهتدى به، وجعلت الإضافة على كونها بمعنى الثبات من باب إضافة السبب إلى المسبب فهي إضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن تكون اختصاصية حقيقية بتقدير مضاف أي كلمة أهل التقوى، وأريد بالعهد على ما يقتضيه ظاهر سبب النزول عهد الصلح الذي وقع بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين أهل مكة وقيل: ما يعم ذلك وسائر عهودهم معه عز وجل.
وأنت تعلم أن الوجه المذكور في نفسه غير ظاهر، ومثله ما قيل: المراد بالكلمة قولهم في الأصلاب: بلى مقرين بوحدانيته جل شأنه، وبالإلزام الأمر بالثبات والوفاء بها، وقيل: هي قول المؤمنين سمعا وطاعة حين يؤمرون أو ينهون، والظاهر عليه كون الضمير للمؤمنين، وأرجح الأقوال في هذه الكلمة ما روي مرفوعا وذهب إليه الجم الغفير، ولعل ما ذكر في الأخبار السابقة من باب الاكتفاء، والمراد لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وَكانُوا عطف على ما تقدم أو حال من المنصوب في أَلْزَمَهُمْ بتقدير قد أو بدونه والظاهر في الضمير عوده كسابقه كما اقتضاه كلام عمر رضي الله تعالى عنه على الرسول والمؤمنين، واستظهر بعضهم عوده على المؤمنين وكأنه اعتبر الأول عائدا عليهم أيضا وهو مما لا بأس فيه، ولعله اعتبر الأقربية. فالمعنى وكان المؤمنون في علم الله تعالى أَحَقَّ بِها أي بكلمة التقوى، وأفعل لزيادة الحقية في نفسها أي متصفين بمزيد استحقاق لها أو على ما هو المشهور فيه والمفضل عليه محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقيل: من اليهود والنصارى، وقيل من جميع الأمم لأنهم خير أمة أخرجت للناس.
وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد منهم أن يقول: لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك، وكان قائلها يمد بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركا بذكر الله تعالى، وقد جعل الله عز وجل لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤوا وهو قوله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا وكانوا أحق بها، وهذا مما لم يثبت، وجوز الإمام كون التفضيل بالنسبة إلى غير كلمة التقوى أي أحق بها من كلمة غير كلمة تقوى وقال: وهذا كما تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة، وقولك إذا سئل شخص عن زيد بالطب أعلم أو بالفقه: زيد أعلم بالفقه أي من الطب، وفيه غفلة لا تخفى وَأَهْلَها أي المستأهل لها وهو أبلغ من الأحق حتى قيل بينه وبين الأحق كما بين الأحق والحق، وقيل: إن أحقيتهم بها من الكفار تفهم رجحانهم رجحانا ما عليهم ولا تثبت الأهلية كما إذا اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له لكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فيقال للأقرب إليه إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال: الحبس أهون من القتل، ولدفع توهم مثل هذا فيما نحن فيه قال سبحانه: وَأَهْلَها وقيل: أريد أنهم أحق بها في الدنيا وأهلها بالثواب في الآخرة، وقيل: في الآية تقديم وتأخير والأصل وكانوا أهلها وأحق بها، وكذلك هي في مصحف الحارث بن سويد صاحب ابن مسعود وهو الذي دفن مصحفه لمخالفته الإمام أيام الحجاج وكان من كبار تابعي الكوفة وثقاتهم، وقيل: ضمير كانُوا عائد على كفار مكة أي وكان أولئك لكفار الذين جعلوا في قلوبهم الحمية أحق بكلمة التقوى لأنهم أهل حرم الله تعالى ومنهم رسوله
(13/272)
________________________________________
صلّى الله عليه وسلّم وقد تقدم إنذارهم لولا ما سلبوا من التوفيق، وفيه ما فيه سواء رجح ضمير أَلْزَمَهُمْ إلى كفار مكة أيضا أم لا، وأظن في قائله نزغة رافضية دعته إلى ذلك لكنه لا يتم به غرضه، وقيل: ضمير كانُوا للمؤمنين إلا أن ضميري بِها وَأَهْلَها للسكينة، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع، وقيل: هما لمكة أي وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها، وأشعر بذكر مكة ذكر المسجد الحرام في قوله تعالى: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وكذا محل الهدي في قوله سبحانه: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وفيه ما لا يخفى وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم سبحانه حق كل شيء واستئهاله لما يستأهله فيسوق عز وجل الحق إلى مستحقه والمستأهل إلى مستأهله أو فيعلم هذا ويعلم ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إنزال السكينة والرضا بالصلح فيكون تذييلا للجميع ما تقدم.
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه عليه الصلاة والسلام رأى وهو في الحديبية، والأول أصح، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق فلما تأخر ذلك قال على طريق الاعتراض عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه، وفي رواية أن رؤياه صلّى الله عليه وسلّم إنما كانت أن ملكا جاءه فقال له: لَتَدْخُلُنَّ إلخ، والمعنى لقد صدقه سبحانه في رؤياه على أنه من باب الحذف والإيصال كما في قولهم: صدقني سن بكره، وتحقيقه أنه تعالى أراه الرؤيا الصادقة.
وقال الراغب: الصدق يكون بالقول ويكون بالفعل وما في الآية صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق سبحانه رؤيته. وفي شرح الكرماني كذب يعتدي إلى مفعولين يقال: كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية، وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين انتهى. وفي البحر صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدا الحديث وصدقته في الحديث، وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر والمشهور ما أشرنا إليه أولا بِالْحَقِّ صفة لمصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق أي بالفرض الصحيح والحكمة البالغة وهو ظهور حال المتزلزل في الإيمان والراسخ فيه، ولأجل ذلك أخر وقوع الرؤيا إلى العام القابل أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام، وجوز كونه حالا من الاسم الجليل وكونه حالا من رَسُولَهُ وكونه ظرفا لغوا.
لصدق. وكونه قسما بالحق الذي هو من أسمائه عز وجل أو بنقيض الباطل، وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ عليه جواب القسم والوقف على الرُّؤْيا وهو على جميع ما تقدم جواب قسم مقدر والوقف على بِالْحَقِّ أي والله لتدخلن إلخ، وقوله سبحانه: إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد، وبه ينحل ما يقال:
إنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق منه سبحانه بالمشيئة، وفي معنى ما ذكر قول ثعلب: استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون.
وفيه تعريض بأن وقوع الدخول من مشيئته تعالى لا من جلادتهم وتدبيرهم، وذكر الخفاجي أنه قد وضع فيه الظاهر موضع الضمير وأصله لتدخلنه لا محالة إلا إن شاء عدم الدخول فهو وعد لهم عدل به عن ظاهره لأجل التعريض بهم والإنكار على المعترضين على الرؤيا فيكون من باب الكناية انتهى. وقد أجيب عن السؤال بغير ذلك فقيل: الشك راجع إلى المخاطبين، وفيه شيء ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى وقال الحسين بن الفضل: إن التعليق راجع إلى دخولهم جميعا وحكي ذلك عن الجبائي، وقيل: إنه ناظر إلى الأمن فهو مقدم من تأخير أي لتدخلنه حال كونكم
(13/273)
________________________________________
آمِنِينَ من العدو إن شاء الله. وردهما في الكشف فقال: أما جعله قيد دخولهم بالأسر أو الأمن ففيه أن السؤال بعد باق لأن الدخول المخصوص أيضا خبر من الله تعالى وهو ينافي الشك، وليس نظير قول يوسف عليه السلام: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: 99] إذ لا يبعد أن لا يعرف عليه السلام مستقر الأمر من الأمن أو الخوف فإما أن يؤول بأن الشك راجع إلى المخاطبين أو بأنه تعليم، والثاني أولى لأن تغليب الشاكين لا يناسب هذا المساق بل الأمر بالعكس. ودفع وروده على الحسين بأن المراد أنه في معنى ليدخلنه من شاء الله دخوله منكم فيكون كناية عن أن منهم من لا يدخله لأن أجله يمنعه منه فلا يلزم الرجوع لما ذكر.
وقيل: هو حكاية لما قاله ملك الرؤيا له صلّى الله عليه وسلّم وإليه ذهب ابن كيسان أو لما قاله هو عليه الصلاة والسلام لأصحابه. ورده صاحب التقريب بأنه كيف يدخل في كلامه تعالى ما ليس منه بدون حكاية. ودفع بأن المراد أن جواب القسم بيان للرؤيا وقائلها في المنام الملك وفي اليقظة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهي في حكم المحكي في دقيق النظر كأنه قيل: وهي قول الملك أو الرسول لتدخلن إلخ، وأنت تعلم أن هذا وإن صحح النظم الكريم لا يدفع البعد، وقد اعترض به على ذلك صاحب الكشف لكنه ادعى أن كونه حكاية ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أقل بعدا من جعله من قول الملك، وقال أبو عبيدة. وقوم من النحاة: إِنْ بمعنى إذ وجعلوا من ذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في زيارة القبور: «أنتم السابقون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون»
والبصريون لا يرتضون ذلك، وقوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ حال كآمنين من الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين من قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ إلا أن آمنين حال مقارنة وهذا حال مقدرة لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وجوز أن يكون حالا من ضمير آمِنِينَ والمراد محلقا بعضكم رأس بعض ومقصرا آخرون ففي الكلام تقدير أو فيه نسبة ما للجزء إلى الكل، والقرينة عليه أنه لا يجتمع الحلق وهو معروف والتقصير وهو أخذ بعض الشعر فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم، وقوله تعالى: لا تَخافُونَ حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ أيضا لبيان الأمن بعد تمام الحج وآمِنِينَ فيما تقدم لبيان الأمن وقت الدخول فلا تكرار أو حال من الضمير المستتر في آمِنِينَ فإن أريد به معنى آمنين كان حالا مؤكدة، وإن أريد لا تخافون تبعة في الحلق أو التقصير ولا نقص ثواب فهو حال مؤسسة، ولا يخفى الحال إذا جعل حالا من الضمير في مُحَلِّقِينَ أو مُقَصِّرِينَ، وجوز أن يكون استئنافا بيانيا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فكيف الحال بعد الدخول؟ فقيل: لا تخافون أي بعد الدخول.
واستدل بالآية على أن الحلق غير متعين في النسك بل يجزىء عنه التقصير، وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء.
أخرج الشيخان وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: والمقصرين»
وأما في النساء
فقد أخرج أبو داود والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير»
والسنة في الحلق أن يبدأ بالجانب الأيمن،
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للحلاق هكذا وأشار بيده إلى جانب الأيمن
وإن يبلغ به إلى العظمين كما قال عطاء.
وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنهما كانا يقولان للحلاق ابدأ بالأيمن وابلغ بالحلق العظمين، واستدل بالآية أيضا على أن التقصير بالرأس دون اللحية وسائر شعر البدن إذ الظاهر أن المراد ومقصرين رؤوسكم أي شعرها لظهور أن الرؤوس أنفسها لا تقصر فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا الظاهر عطفه على لَقَدْ صَدَقَ فالترتيب باعتبار التعلق الفعلي بالمعلوم أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية
(13/274)
________________________________________
لتقديم ما يشهد للصدق علما فعليا، وقيل: الفاء للترتيب الذكري فَجَعَلَ لأجل هذا العلم مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام آمنين إلخ، وقيل: أي من دون فتح مكة، والأول أظهر، وهذا أنسب بقوله تعالى: فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر كما قال ابن زيد وغيره، والمراد بجعله وعده تعالى وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا وتستروح قلوب المؤمنين إلى تيسر وقوعها.
وقال في الكشاف: ما لَمْ تَعْلَمُوا أي من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، وفيه أمران: الأول أن فتح مكة لم يقع في العام الذي قاله بل في السنة الثامنة، والتجوز في العام القابل أو تأويل الفتح بدخول المؤمنين مكة معتمرين لا يخفى حاله. الثاني إباء الفاء عما ذكر لأن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعا.
وأجيب عن هذا بالتزام كون الفاء للترتيب الذكري أو كون المراد فأظهر معلومه لكم وهو الحكمة فتدبر.
ونقل عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الفتح القريب في الآية هو بيعة الرضوان، وقال مجاهد، وابن إسحق: هو فتح الحديبية، ومن الغريب ما قيل: إن المراد به فتح مكة مع أنه لم يكن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه دون مكة على أنه مناف للسياق كما لا يخفى.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي ملتبسا به على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من المفعول، والتباسه بالهدى بمعنى أنه هاد، وقيل: أي مصاحبا للهدى، والمراد به الدليل الواضح والحجة الساطعة أو القرآن، وجوز أن تكون الباء للسببية أو للتعليل وهما متقاربان، والجار والمجرور متعلق بأرسل أي أرسله بسبب الهدى أو لأجله وَدِينِ الْحَقِّ وبدين الإسلام، والظاهر أن المراد به ما يعم الأصول والفروع، وجوز أن يراد بالهدى الأصول وبدين الحق الفروع فإن من الرسل عليهم السلام من لم يرسل بالفروع وإنما أرسل بالأصول وتبيانها، والظاهر أن المراد بالحق نقيض الباطل، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي ودين الله الحق، وجوز الإمام غير ذلك أيضا لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده أي ما يدان به من الشرائع والملل فيشمل الحق والباطل، وأصل الإظهار جعل الشيء على الظهر فلذا كني به عن الإعلاء وعن جعله باديا للرائي ثم شاع في ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وإظهاره على الحق بنسخ بعض أحكامه المتبدلة بتبدل الاعصار، وعلى الباطل ببيان بطلانه، وجوز غير واحد، ولعله الأظهر بحسب المقام، أن يكون إظهاره على الدين بتسليط المسلمين على جميع أهل الأديان وقالوا:
ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكر زمانا معتدا به كما لا يخفى على الواقفين على كتب التواريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الاعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي رضي الله تعالى عنه حيث لا يبقى حينئذ دين سوى الإسلام، ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر اما لنحو ما سمعت وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء، وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما عده عز وجل من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح كائن لا محالة أو كفى بالله شهيدا على رسالته صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام ادعاها وأظهر الله تعالى المعجزة على يده وذلك شهادة منه تعالى عليها، واقتصر على هذا الوجه الرازي وجعل ذلك تسلية عما وقع من سهيل بن عمرو إذ لم يرض بكتابة محمد رسول الله وقال ما قال.
وجعل بعض الأفاضل إظهار المعجزة شهادة منه تعالى على تحقق وعده عز وجل أيضا ولا يظهر إلا بضم إخباره عليه الصلاة والسلام به.
(13/275)
________________________________________
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد على أن الاسم الشريف خبر مبتدأ محذوف ورَسُولُ اللَّهِ عطف بيان أو نعت أو بدل، والجملة استئناف مبين لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء الله تعالى قراءة ابن عامر في رواية رَسُولُ بالنصب على المدح، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ مَعَهُ مبتدأ خبره قوله سبحانه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ وقال أبو حيان: الظاهر أن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبر والجملة عليه مبينة للمشهود به، أما على كونه الرسالة فظاهر، وأما على كونه محقق الوعد فقيل: لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول الله إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق.
وجوز كون مُحَمَّدٌ مبتدأ ورَسُولُ تابعا له وَالَّذِينَ مَعَهُ عطفا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى:
أَشِدَّاءُ إلخ.
وقرأ الحسن «أشدّاء» . «رحماء» بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال، والعامل فيهما العامل في مَعَهُ فيكون الخبر على هذا الوجه جملة تَراهُمْ الآتي وكذا خبر الَّذِينَ على الوجه الأول، والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهد الحديبية، وقال الجمهور: جميع أصحابه صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله تعالى عنهم، وأَشِدَّاءُ جمع شديد ورُحَماءُ جمع رحيم، والمعنى أن فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه لو اكتفى بالوصف الأول لربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر فيتوهم الفظاظة والغلظة مطلقا فدفع بإرداف الوصف الثاني، ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الاخوان، ونحوه قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] وعلى هذا قوله:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... على أنه عند العدو مهيب
وقد بلغ كما روي عن الحسن من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء.
أخرج أبو داود عن البراء قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما»
وفي رواية الترمذي «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا»
وفي الاذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء وأما ما اعتاده الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها، وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة، وأطال الشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره الكلام في ذلك، وأما المعانقة فقال الزمخشري: كرهها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذلك التقبيل قال: لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده، ورخص أبو يوسف عليه الرحمة المعانقة ويؤيد ما
روي عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: «سمعت رجلا يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا قال: أيأخذ بيده ويصافحه؟ قال:
نعم»
وفي الاذكار التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، وللأمرد الحسن حرام بكل حال.
أخرج الترمذي وحسنه عن عائشة قالت: قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله، وزاد رزين في حديث أنس السابق بعد قوله: ويقبله قال: «لا إلا أن يأتي
(13/276)
________________________________________
من سفره»
وروى أبو داود سئل أبو ذر هل كان صلّى الله عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود
، وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا»
وأخرجاهما. وأحمد وابن حبان والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي»
ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع. وقرأ يحيى بن يعمر «أشدا» بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله:
لا بد من صنعا وإن طال السفر وقوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً خبر آخر- للذين- أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من تتأتى منه، ورُكَّعاً سُجَّداً حال من المفعول، والمراد تراهم مصلين، والتعبير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل، والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي، ومن هنا قال في البحر:
هذا دليل على كثرة الصلاة منهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي ثوابا ورضا، والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول تَراهُمْ أو من المستتر في رُكَّعاً سُجَّداً أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل: ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: يبتغون فضلا إلخ.
وقرأ عمرو بن عبيد «ورضوانا» بضم الراء سِيماهُمْ أي علامتهم وقرىء «سيمياؤهم» بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر
وجاء سيماء بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: فِي وُجُوهِهِمْ أي في جباههم أو هي على ظاهرها، وقوله سبحانه: مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود، ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود، وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي وثفنة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الاملاك رضي الله تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ، وما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعلبوا صوركم»
أي لا تسموها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر، وقول ابن عمر وقد رأى رجلا بأنفه أثر السجود: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذاك محض رياء ونفاق يستعاذ بالله تعالى منه، والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عز وجل، وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك.
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال: لقد أفسد هذا وجهه أما والله ما هي السيما التي سمى الله تعالى ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عينيّ، وربما يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدا لذلك فنفى أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمى الله تعالى، ونظيره ما حكي عن بعض المتقدمين قال: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض.
(13/277)
________________________________________
وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: هذه السيما ندى الطهور وتراب الأرض، وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: ليس له أثر في الوجه ولكنه الخشوع، وفي رواية هي الخشوع والتواضع، وقال منصور: سألت مجاهدا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل قال: لا وقد يكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبا من الحجارة، وقيل: هي صفرة الوجه من سهر الليل وروي ذلك عن عكرمة والضحاك، وروى السلمي عن عبد العزيز المكي ليس ذاك هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجي أو حبشي، وقال عطاء: والربيع ابن أنس: هو حسن يعتري وجوه المصلين، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: السمت الحسن، وعن بعضهم ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم، والذاهبون إلى هذه الأقوال قائلون: إن المراد علامتهم في وجوههم وهم في الدنيا، وقال غير واحد: هذه السيما في الآخرة، أخرج البخاري في تاريخه. وابن نصر عن ابن عباس أنه قال في الآية: بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج ابن نصر وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن مثله، وأخرجوا عن عطية العوفي قال: موضع السجود أشد وجوههم بياضا،
وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ النور يوم القيامة» النور يوم القيامة»
ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذكر، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. وقرأ ابن هرمز «إثر» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهو لغة في أثر. وقرأ قتادة من «آثار» بالجمع ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته في الفضل، وقيل: البعد باعتبار المبتدأ أعني أَشِدَّاءُ ولو قيل هذا لتوهم أن المشار إليه هو النعت الأخير. أعني سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: مَثَلُهُمْ أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، وقوله سبحانه وتعالى: فِي التَّوْراةِ حال من مَثَلُهُمْ والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف على مَثَلُهُمْ الأول كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير مَثَلُهُمْ لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها، وقرىء «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقوله عز وجل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلخ تمثيل مستأنف أي هم أو مثلهم كزرع إلخ فالوقف على الْإِنْجِيلِ وهذا مروي عن مجاهد، وقيل:
مَثَلُهُمْ الثاني مبتدأ وقوله تعالى: كَزَرْعٍ إلخ خبره فالوقف على التَّوْراةِ وهذا مروي عن الضحاك وأبي حاتم وقتادة، وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى: كَزَرْعٍ إلخ كقوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر: 66] فعلى الأول والثالث «مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل» شيء واحد إلا أنه على الأول أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ إلخ، وعلى الثالث كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلخ وعلى الثاني مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ شيء وهو أَشِدَّاءُ إلخ ومثلهم في الإنجيل شيء آخر وهو كَزَرْعٍ إلخ.
واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الإشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتا لاسم الإشارة نحو ذلِكَ الْكِتابُ، وفيه أن الحصر ممنوع، والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه كما قال الراغب اشطاء، وقال قطرب: شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، وقال الكسائي. والأخفش: طرفه، وأنشدوا:
اخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر
(13/278)
________________________________________
وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير، وقال صاحب اللوامح: شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما، وفي البحر أشطأ الزرع افرخ والشجرة أخرجت غصونها.
وفي القاموس الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه جمعه شطوء، وشطأ كمنع شطأ وشطوأ أخرجها، ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه اشطاء، وأشطأ أخرجها اهـ، وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان «شطأه» بفتح الطاء وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي كذلك وبالمد. وقرأ زيد بن علي كذلك أيضا وبألف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصورا وإن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا كما قالوا في المرأة والكمأة المراة والكماة، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه، وقرأ أبو جعفر «شطه» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء، ورويت عن شيبة ونافع والجحدري، وعن الجحدري أيضا «شطوه» بإسكان الطاء وواو بعدها، قال أبو الفتح: هي لغة أو بدل من الهمزة فَآزَرَهُ أي أعانه وقواه قاله الحسن وغيره، قال الراغب: وأصله من شد الإزار كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز وجل بعيد، وضمير مِنْهُمْ لمن عاد عليه الضمائر السابقة، و (من) للبيان مثلها في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وليس مجيئها كذلك مخصوصا بما إذا كانت داخلة على ظاهر كما توهم صاحب التحفة الاثني عشرية في الكلام على قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] فقال: حمل «من» للبيان إذا كان داخلا على الضمير مخالف لاستعمال العرب، وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال: لو ادعى هذا الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد.
ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عند القائلين بأن ضمير تَزَيَّلُوا للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم، فإن مدحهم السابق بما يدل على الاستمرار كقوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ووصفهم بما يدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين، ويزيد زعمهم هذا سقوطا عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السموات والأرض، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم، وإذا قلنا: إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به وَالَّذِينَ مَعَهُ لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلّى الله عليه وسلّم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعالى وجهه بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكيف يكون ذاك ارتدادا والله عز وجل حين رضي عنهم على أنهم يفعلونه، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقا لأجلها خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما نفي، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلا كالارتداد والعياذ بالله تعالى، وبالجملة جعل (من) للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة. وفي التحفة الاثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نورا على نور، ويا سبحان الله أين جعل (من) للتبعيض من دعوى الارتداد، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، وتأخير مِنْهُمْ هنا عن عَمِلُوا الصَّالِحاتِ
(13/279)
________________________________________
وتقديم مِنْكُمْ عليه في آية النور التي ذكرناها آنفا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم، وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق، وقال ابن جرير: مِنْهُمْ يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده.
وهذا وفي المواهب أن الإمام مالكا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء انتهى. وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ. من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم، وفي كلام عائشة يقال: أزرته أي شددت إزاره ويقال: آزرت البناء وأزرته قويت أسافله، وتأزر النبات طال وقوي.
وذكر غير واحد أنه إما من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة. وفي البحر «آزر» أفعل كما حكي عن الأخفش، وقول مجاهد وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه ألا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر.
وتعقب بأن هذه الشهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير، مع أن السرقسطي نقله عن المازني لكنه قال: يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه، وأنشد لامرىء القيس:
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... بجر جيوش غانمين وخيب
وجعل ما في الآية من ذلك، وهو مروي أيضا عن السدي قال: آزره صار مثل الأصل في الطول، والجمهور على ما نقل أولا، والضمير المرفوع في (آزره) للشطء والمنصوب للزرع أي فقوي ذلك الشطء الزرع، والظاهر أن الإسناد في أَخْرَجَ و «آزر» مجازي وكون ذلك من الاسناد إلى الموجب، وهو حقيقة على ما ذهب إليه السالكوتي في حواشيه على المطول حيث قال في قولهم: سرتني رؤيتك. هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند الرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخفى حاله. وقرأ ابن ذكوان «فآزره» ثلاثيا. وقرىء «فأزّره» بشد الزاي أي فشد أزره وقواه فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقة إلى الغلظ وهو من باب استنوق الجمل، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه، وأوثر الأول لأن المساق ينبىء عن التدرج فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور. وقرأ ابن كثير «سوقه» بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة، قيل: وهي لغة ضعيفة، ومن ذلك قوله:
أحب المؤقدين إلي موسى يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره، والجملة في موضع الحال أي معجبا لهم، وخصهم تعالى بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهو أحرى أن يعجب غيرهم، وهنا تم المثل وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة رضي الله تعالى عنهم قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس، وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير وابن المنذر، عن الضحاك وابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة، وذكرا عنه أنه قال أيضا: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي الكشاف هو مثل ضربه الله تعالى لبدء ملة الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي
(13/280)
________________________________________
واستحكم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها، وظاهره أن الزرع هو النبي صلّى الله عليه وسلّم والشطء أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون مثلا له عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكل وجهة، وروي الثاني عن الواقدي، وفي خبر أخرجه ابن جرير. وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه.
وقوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ علة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعالى لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل، وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك، وقيل: علة لما بعده من قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك، وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر علي رضي الله تعالى عنه ما يشير إليه أيضا، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قالت: أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عكرمة أنه قال: أَخْرَجَ شَطْأَهُ بأبي بكر فَآزَرَهُ بعمر فَاسْتَغْلَظَ بعثمان فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأخرج ابن مردويه والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة. والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً علي كرم الله تعالى وجهه يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً طلحة والزبير سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ بعمر فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعثمان يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ بعلي كرم الله تعالى وجهه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جميع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضا في قوله تعالى: كَزَرْعٍ قال: أصل الزرع عبد المطلب أَخْرَجَ شَطْأَهُ محمد صلّى الله عليه وسلّم فَآزَرَهُ بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ بعمر فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعثمان لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ بعلي رضي الله تعالى عنه، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من شطأه أوفى من حظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضا، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل، فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ومن باب الإشارة في بعض الآيات: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بإدخال الأعيان الثابتة ظاهرة بنور الوجود فيها أي إظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام لَكَ للتعليل، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما
يروونه من قوله سبحانه: «لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك»
وقيل: يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلّى الله عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإثبات جميع حسنات العالم في
(13/281)
________________________________________
صحيفتك إذ كنت العلة في إظهاره وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً بدعوة الخلق على وجه الجمع والفرق وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على النفوس الأمّارة ممن تدعوهم إلى الحق نَصْراً عَزِيزاً قلما يشبهه نصر، ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلّم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعا، وكان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته عليه الصلاة والسلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأرواحهم، والمراد ليجمع لك هذه الأمور فلا تغفل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فسروها بشيء يجمع نورا وقوة وروحا بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش، وقالوا: لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولي لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق، ومن هنا أحاط صلّى الله عليه وسلّم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة والسلام شاهد خلق جميعها، ومن هذا المقام
قال عليه الصلاة والسلام: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً إذ كنت أعلم الخلق بصفات الجمال والجلال إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلّى الله عليه وسلّم وبقائه بالله عز وجل، وأيد ذلك بقوله سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الأمارة مِنَ الْأَعْرابِ من سكان بوادي الطبيعة شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا العوائق والعلائق فَاسْتَغْفِرْ لَنا اطلب من الله عز وجل ستر ذلك عن ليتأتى لنا السير يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها:
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والانس إلى ما كانوا عليه من إدراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ بالله تعالى وشؤونه عز وجل وَكُنْتُمْ في نفس الأمر قَوْماً بُوراً هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الاستعداد سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ دعونا نسلك مسلككم لننال منالكم يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ حكم وقضى مِنْ قَبْلُ إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة فَسَيَقُولُونَ منكرين لذلك بَلْ تَحْسُدُونَنا ولهذا تمنعوننا عن الاتباع بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ولذلك نسبوا الحسد وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ولا تتركون سدى إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وهم النفس وقواها تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً من أنواع المعارف والتجليات وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب الحرمان والحجاب لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى وهو من لم ير في الدار غيره ديارا حَرَجٌ في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ وهو من فقد شيخا كاملا سالما عن عيب في كيفية التسليك والإيصال حَرَجٌ في ترك السلوك أيضا، وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السلوك على يد
(13/282)
________________________________________
ناقص وَلا عَلَى الْمَرِيضِ بمرض العشق والهيام حَرَجٌ في ذاك أيضا لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الانفراد عن الأهل والمال، ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أعداء الله عز وجل في مقام الفرق رُحَماءُ فيما بَيْنَهُمْ لقوة مناسبة بعضهم بعضا فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ له عز وجل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السيما خلع الأنوار الإلهية، قال عامر بن عبد قيس: كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً سترا لصفاتهم بصفاته عز وجل وَأَجْراً عَظِيماً وهو أن يتجلى سبحانه لهم بأعظم تجلياته وإلا فكل شيء دونه جل جلاله ليس بعظيم، وسبحانه من إله رحيم وملك كريم.
(13/283)
________________________________________
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
سورة الحجرات
مدنية كما قال الحسن وقتادة، وعكرمة وغيرهم وفي مجمع البيان عن ابن عباس إلا آية وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] ولعل من يعتبر ما أخرجه الحاكم في مستدركه. والبيهقي في الدلائل. والبزار في مسنده من طريق الأعمش عن علقمة عن عبد الله قال: ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات: 1، 2، 6، 11، 12، 15] أنزل بالمدينة وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ فبمكة يقول بمكية ما استثنى، والحق أن هذا ليس بمطرد. وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية، وهي ثماني عشرة آية بالإجماع، ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام وتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة، وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا، وتلك تضمنت تشريفات له صلّى الله عليه وسلّم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة والسلام، وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر لأنه عز وجل ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ثم قال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح: 29] إلخ فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وتصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ورادع عن الإخلال به.
وتُقَدِّمُوا من قدم المتعدي، ومعناه جعل الشيء قادما أي متقدما على غيره، وكان مقتضاه أن يتعدى إلى
(13/284)
________________________________________
مفعولين لكن الأكثر في الاستعمال تعديته إلى الثاني بعلى تقول: قدمت فلانا على فلان، وهو هنا محتمل احتمالين:
الأول أن يكون مفعوله نسيا والقصد فيه إلى نفس الفعل وهو التقديم من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ولا نظر إلى أن المقدم ماذا هو على طريقة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [المؤمنون: 80، غافر: 68] وقولهم: يعطي ويمنع، فالمعنى لا تفعلوا التقديم ولا تتلبسوا به ولا تجعلوه منكم بسبيل. والثاني أن يكون قد حذف مفعوله قصدا إلى تعميمه لأنه لاحتماله لأمور لو قدر أحدها كان ترجيحا بلا مرجح يقدر أمرا عاما لأنه أفيد مع الاختصار، فالمعنى لا تقدموا أمرا من الأمور، والأول قيل أوفى بحق المقام لإفادته النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني، ورجح الثاني بأنه أكثر استعمالا، وبأن في الأول تنزيل المتعدي منزلة اللازم وهو خلاف الأصل والثاني سالم منه، والحذف وإن كان خلاف الأصل أيضا أهون من التنزيل المذكور لكثرته بالنسبة إليه، وبغضهم لم يفرق بينهما لتعارض الترجيح عنده وكون مآل المعنى عليهما العموم المناسب للمقام، وذكر أن في الكلام تجوزين، أحدهما في «بين» إلخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان ما بين العضوين فتجوز بذلك عن الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل. ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيما نهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي سيده في سيره حيث لا مصلحة، فالمراد من لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تقطعوا أمرا وتجزموا به وتجترؤوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ويأذنا فيه، وحاصله النهي عن الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة.
وجوز أن يكون تُقَدِّمُوا من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين، ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه، ويعضده قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم «لا تقدموا» بفتح التاء والقاف والدال، وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم، ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال اعرف اللغتين وأشهرهما، لا يقال: الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل منزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في «مالك يوم الدين» فليكن الظرف هاهنا بمنزلة مفعول التقدم مغنيا غناءه، والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حسا فهو أوفق للاستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس، فتخريج لا تُقَدِّمُوا على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم الأبلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة، والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرء أن تجعل أحدا إما نفسك أو غيرك متقدما بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجانا للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها عنه كيفما اتفق فافهم ولا تغفل.
وجوز أن يكون بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: لا تقدموا بين يدي رسول الله، وذكر الله تعالى لتعظيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل ومزيد اختصاصه به سبحانه، وأمر التجوز عليه على حاله، وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده، فإن الكلام مسوق لإجلاله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان استحقاق هذا الإجلال لاختصاصه بالله جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي الله عز شأنه أدخل في النهي وأدخل، وإن جعل مقصودا بنفسه على ما مر فالنهي عن الاستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقا من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة، وعليه تفسير ابن عباس على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال: أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وكذا ما أخرجه
(13/285)
________________________________________
ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا.
ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة والسلام أريد به ما ينقله عنه تعالى ولفظه أيضا، وما اللفظ من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإن كان المعنى من الوحي أو أراد كلام كل واحد من الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام، وما أخرج عبد بن حميد. والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن مجاهد أنه قال في ذلك: لا تفتأتوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام ابن عباس ويكون مؤيدا له، وبعضهم يروى أنه قال: لا تفتاتوا على الله تعالى شيئا حتى يقصه على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعل مؤيدا لكلام ابن عباس أيضا، وفسر التقدم بين يدي الله تعالى لأن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام مكشوف المعنى، ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة.
وفي الدر المنثور بعد ذكر المروي عن مجاهد حسبما ذكرنا قال الحفاظ: هذا التفسير على قراءة «تقدموا» بفتح التاء والدال وهي قراءة لبعضهم حكاها الزمخشري وأبو حيان وغيرهما، وكأن ذلك مبني على أن تُقَدِّمُوا على هذه القراءة من قدم كعلم إذا مضى في الحرب ويأتي من باب نصر أيضا إذ الافتيات وهو السبق دون ائتمار من يؤتمر أنسب بذلك.
واختار بعض الأجلة جعله من قدم من سفره من باب علم لا غير كما يقتضيه عبارة القاموس، وعليه يكون قد شبه تعجيلهم في قطع الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر من سفره إيذانا بشدة رغبتهم فيه نحو وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] واختلف في سبب النزول، فأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: «قدم ركب من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى انقضت الآية» وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن أن أناسا ذبحوا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يعيدوا ذبحا فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، وفي الكشاف عنه أن أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يعيدوا ذبحا آخر، والأول ظاهر في أن النزول بعد الأمر والذبح قبل الصلاة يستلزم الذبح قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينحر بعدها كما نطقت به الأخبار، وإلى عدم الاجزاء قبل ذهب الإمام أبو حنيفة والأخبار تؤيده،
أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن البراء قال: «ذبح أبو بردة بن نيار قبل الصلاة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أبدلها فقال: يا رسول الله ليس عندي إلا جذعة فقال صلّى الله عليه وسلّم: اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك»
وفي رواية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء»
وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح قبل الصلاة الحديث، وفي المسألة كلام طويل محله كتب الفروع فراجعه إن أردته، وعن الحسن أيضا لما استقر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدئوه بالمسألة حتى يكون عليه الصلاة والسلام هو المبتدئ، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا لكان كذا وكذا فكره الله تعالى ذلك وقدم فيه.
وقيل: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا لهم إلى بني عامر لأنهم أعز
(13/286)
________________________________________
من سليم فقتلوهما وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بئسما صنعتم كانا من سليم أي كانا من أهل العهد لأنهم كانوا معاهدين والسلب ما كسوتهما فوداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ونزلت أي لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
. وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي رواية عن مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت قد تبنته في اليوم الذي يشك فيه فقالت للجارية: اسقيه عسلا فقلت: إني صائم فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا إلخ، فالمعنى كما في المعالم لا تصوموا قبل صوم نبيكم، وأول هذا صاحب الكشف فقال: الظاهر عندي أنها استدلت بالآية على أنه ينبغي أن يمتثل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونهيه، وقد نهى عليه الصلاة والسلام وفيه نزلت أي في مثل هذا لدلالتها على وجوب الاتباع والنهي عن الاستبداد إذ لا يلوح ذلك التفسير على وجه ينطبق على يوم الشك وحده إلا بتكلف، وهذا نظير ما نقل عن ابن مسعود في جواب المرأة التي اعترضت عليه أنها قرأت كتاب الله وما وجدت اللعن على الواشمة كما ادعاه رضي الله تعالى عنه من قوله: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما رأيت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] قالت: بلى قال: فإنه نهى عنه.
وأنت تعلم بعد الرواية الأولى عن هذا التأويل، ويعلم من هذه الروايات وغيرها أنهم اختلفوا أيضا في تفسير التقدم، وفي كثير منها تفسيره بخاص، وقال بعضهم: إن الآية عامة في كل قول وفعل ويدخل فيها أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يسبقوه في الجواب، وأن لا يمشي بين يديه إلا للحاجة، وأن يستأتي في الافتتاح بالطعام، ورجح بأنه الموافق للسياق ولما عرف في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي الكلام عليه بناء على ما قاله الطيبي مجاز باعتبار القدر المشترك الصادق على الحقيقة أيضا دون التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس ويسمى في الأصول بعموم المجاز وفي الصناعة بالكناية لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أيضا ومن هنا يجوز إرادة لا تمشوا بين يديه صلّى الله عليه وسلّم وذكر عليه الرحمة أنه لا يقدر على هذا القول مفعول بل يتوجه النهي إلى نفس الفعل فتأمل، ويحتج بالآية على اتباع الشرع في كل شيء وهو ظاهر مما تقدم، وربما احتج بها نفاة القياس وهو كما قال الكيا باطل منهم. نعم قال الجلال السيوطي: يحتج بها على تقديم النص على القياس، ولعله مبني على أن العمل بالنص أبعد من التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في كل ما تأتون وتذرون من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما نحن فيه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل مسموع ومنه أقوالكم عَلِيمٌ بكل المعلومات ومنها أفعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته.
وقرأ ابن مسعود لا ترفعوا بأصواتكم بتشديد «ترفّعوا» وزيادة الباء وقد شدد الأعلم الهذلي في قوله:
رفعت عيني بالحجا ... ز إلى أناس بالمناقب
والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون، وهو نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] .
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم، فالأول نهى عن
(13/287)
________________________________________
رفع الصوت فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة والسلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض، ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الأول مخصوص بمكالمته صلّى الله عليه وسلّم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم، ويفهم أيضا وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة والسلام، فأيا ما كان يكون المآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلّى الله عليه وسلّم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، ومن هنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة: «والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى» .
وفي رواية أنه قال: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى، وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري. وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه، وقيل: معنى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إلخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول، والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه، وكان الظاهر أن يقال مثلا: ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضا.
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ تعليل لما قبله من النهيين على طريق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهي عنه، وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط، والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهي عنه، ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوط لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى، وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهي في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الأداء إلى حبوط العمل، وقراءة ابن مسعود. وزيد بن علي «فتحبط» بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الإحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبلها، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حال من فاعل تَحْبَطَ ومفعول تَشْعُرُونَ محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة، وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقا قد تحبط الأعمال الصالحة، ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير، والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري: قد دلت الآية على أمرين هائلين: أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام يحبط عمل المؤمن، والثاني أن في أعماله ما لا يدرى أنه محبط ولعله عند الله تعالى محبط.
وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسما للمادة، ثم لما كان هذا النهي عنه منقسما إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهرا يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وإلا فلو كان الأمر على
(13/288)
________________________________________
ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق إذن فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا، ثم قال عليه الرحمة: وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة: إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام.
ثانيتهما أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر وهذا ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ولا تقبل توبته فما أتاه أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى.
وحاصل الجواب أنه لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي إلى الإحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الاستهانة فنهاهم عز وجل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون، وقيل: يمكن نظرا للمقام أن ينزل إذا همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظا إجلالا لمجلسه صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرتب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الإحباط كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إلى قوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] ومعنى وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ عليه وأنتم لا تشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي، ولا يتم بدون الأول، وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: 86] مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف، وقال أبو حيان: إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلّى الله عليه وسلّم وغض الصوت عنده ان لو فعل ذلك كأنه قيل: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التكلف البارد، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاندا أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولى المسلمون يوم حنين: ناد أصحاب السمرة فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة، وكان رجلا صيتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة:
زجر أبي عروة السباع إذا ... اشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم؟ فقال: لأنها ألفت صوته،
وروى البخاري ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ قال سعد: إنه جاري وما علمت له بشكوى فأتاه سعد فقال: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل هو من أهل الجنة،
وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما شأن ثابت؟ قالوا: يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه فسأله ما شأنك؟ قال: يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلّى الله عليه وسلّم: لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير
، والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي، وهو أيضا أجل من أن يكون ممن كان يقصد الاستهانة والإيذاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم برفع الصوت وهم المنافقون الذين
(13/289)
________________________________________
نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت، والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة،
فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي ابن العجلان أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة والسلام: أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ قال: رضيت ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلّى الله عليه وسلّم، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام لأن حرمته ميتا كحرمته حيا. وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقا لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى والجملة خبر إن، وأصل معنى الامتحان التجربة والاختبار، والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى التمرين بعلاقة اللزوم أي إنهم مرن الله تعالى قلوبهم للتقوى. وفي الكشف الامتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للاضطلاع، والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين، ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الإسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين الله تعالى لهم، وكأنه إنما اعتبر ذلك لأنه لا يجوز إرادة المعنى الموضوع له هنا فلا يصح كونه كناية عند من يشترط فيها إرادة الحقيقة، ومن اكتفى فيها بجواز الإرادة وإن امتنعت في محل الاستعمال لم يحتج إلى ذلك الاعتبار. واختار الشهاب كون الامتحان مجازا عن الصبر بعلاقة اللزوم، وحاصل المعنى عليه كحاصله على الكناية أي إنهم صبر على التقوى أقوياء على مشاقها أو المراد بالامتحان المعرفة كما حكي عن الجبائي مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى عرف الله قلوبهم للتقوى، وإسناد المعرفة إليه عز وجل بغير لفظها غير ممتنع وهو في القرآن الكريم شائع، على أن الصحيح جواز الإسناد مطلقا لما في نهج البلاغة من إطلاق العارف عليه تعالى، وقد ورد في الحديث أيضا على ما ادعاه بعض الأجلة، واللام صلة لمحذوف وقع حالا من قُلُوبَهُمْ أي كائنة للتقوى مختصة بها، فهو نحو اللام في قوله:
وقصيدة رائقة ضوعتها ... أنت لها أحمد من بين البشر
وقوله:
أعداء من لليعملات على الوجى ... وأضياف ليل بيتوا للنزول
أو هي صلة لامتحن، باعتبار معنى الاعتياد أو المراد ضرب الله تعالى قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى أي لتظهر ويعلم أنهم متقون إذ لا تعلم حقيقة التقوى إلا عند المحن والاصطبار عليها، وعلى هذا فالامتحان هو الضرب بالمحن، واللام للتعليل على معنى أن ظهور التقوى هو الغرض والعلة وإلا فالصبر على المحنة مستفاد من التقوى لا العكس، أو المراد أخلصها للتقوى أي جعلها خالصة لأجل التقوى أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى، وهذا أبلغ وهو استعارة من امتحان الذهب وإذابته ليخلص ابريزه من خبثه وينقى أو تمثيل، وتفسير امْتَحَنَ بأخلص رواه ابن جرير وجماعة عن مجاهد، وروي ذلك أيضا عن
(13/290)
________________________________________
الكعبي وأبي مسلم، وقال الواحدي: تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه وليس بذاك. واختار صاحب الكشف ما نقل عنه أولا فقال: الأول أرجح الوجوه لكثرة فائدته من الكناية والإسناد والدلالة على أن مثل هذا الغض لا يتأتى إلا ممن هو مدرب للتقوى صبور عليها فتأمل لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لغضهم أصواتهم عند النبي عليه الصلاة والسلام ولسائر طاعاتهم، وتنكير مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ للتعظيم، ففي وصف أجر بعظيم مبالغة في عظمه فإنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجملة لَهُمْ إلخ مستأنفة لبيان جزاء الغاضين احمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بعضهم والارتضاء له وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وإن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك، وقيل الجملة خبر ثان لإن وليس بذاك، والآية قيل: أنزلت في الشيخين رضي الله تعالى عنهما لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار بعد نزول الآية السابقة وفي حديث الحاكم. وغيره عن محمد بن ثابت بن قيس أنه قال بعد حكاية قصة أبيه وقوله: لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية.
وأنت تعلم أن حكمها عام ويدخل الشيخان في عمومها وكذا ثابت بن قيس.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: منهم ثابت بن قيس ابن شماس
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها خلفها أو قدامها على أن وَراءِ من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفا كان أو قداما إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك، فالوراء بالنسبة إلى من في الحجرات ما كان خارجها لتواريه عمن فيها، وقال بعض أهل اللغة إن وراء من الأضداد فهو مشترك لفظي عليه ومشترك معنوي على الأول وهو الذي ذهب إليه الآمدي وجماعة.
والْحُجُراتِ جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط، وتسمى حظيرة الإبل وهي ما تجمع فيه وتكون محجورة بحطب ونحوه حجرة أيضا فهي بمعنى اسم المفعول كالغرفة لما يغرف باليد من الماء، وفي جمعها هنا ثلاثة أوجه، ضم العين اتباعا للفاء كقراءة الجمهور، وفتحها وبه قرأ أبو جعفر. وشيبة. وتسكينها للتخفيف وبه قرأ ابن أبي عبلة.
وهذه الأوجه جائزة في جمع كل اسم جامد جاء على هذا الوزن، والمراد حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام وكانت تسعة لكل منهن حجرة، وكانت كما أخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. وأخرج البخاري في الأدب. وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت ست أو سبع أذرع، وأحزر البيت الداخل عشرة أذرع، وأظن السمك بين الثمان والسبع.
وأخرجوا عن الحسن أنه قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وبكى الناس لذلك، وقال سعيد بن المسيب يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها لينشو أناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها، وقال نحو ذلك أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وفي ذكر الْحُجُراتِ كناية عن خلوته عليه الصلاة والسلام بنسائه لأنها معدة
(13/291)
________________________________________
لها، ولم يقل: حجرات نسائك ولا حجراتك توقيرا له صلّى الله عليه وسلّم وتحاشيا عما يوحشه عليه الصلاة والسلام، ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها فيكون القصد إلى الاستغراق العرفي أي جميع حجرات نسائه صلّى الله عليه وسلّم أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام على أن الاستغراق إفرادي لا شمولي مجموعي ولا أنه من مقابلة الجمع بالجمع المقتضية لانقسام الآحاد على الآحاد لأن من ناداه صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجرة منها فقد ناداه من وراء الجميع على ما قيل، وعلى هذا يكون إسناد النداء من إسناد فعل الأبعاض إلى الكل، وقيل: إن الذي نادى رجل واحد كما هو ظاهر خبر أخرجه الترمذي وحسنه. وجماعة عن البراء بن عازب، وما
أخرجه أحمد وابن جرير وأبو القاسم البغوي والطبراني وابن مردويه بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد اخرج إلينا فلم يجبه عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال: ذاك الله فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ

إلخ، وعليه يكون الإسناد إلى الكل لأنهم رضوا بذلك وأمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم، وظاهر الآية أن المنادى جمع وكذا جمع من الأخبار، وسنذكر إن شاء الله تعالى بعضا منها، وحمل الْحُجُراتِ على الجمع الحقيقي هو الظاهر الذي عليه غير واحد من المفسرين، وجوز كون الحجرة واحدة وهي التي كان فيها الرسول عليه الصلاة والسلام وجمعت إجلالا له صلّى الله عليه وسلّم على أسلوب حرمت النساء سواكم، وأيضا لأن حجرته عليه الصلاة والسلام لأنها أم الحجرات وأشرفها بمنزلة الكل على نحو أحد الوجهين في قوله تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [البقرة: 114] .
وفرق الزمخشري بين مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ بإثبات مِنْ وراء الحجرات بإسقاطها بأنه على الثاني يجوز أن يجمع المنادي والمنادى الوراء، وعلى الأول لا يجوز ذلك، وعلله بأن الوراء يصير بدخول من مبتدأ الغاية ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. واعترضه في البحر بأنه قد صرح الأصحاب في معاني مِنْ أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد وأن الشيء الواحد يكون محلا لهما ونسبوا ذلك إلى سيبويه وقالوا: إن منه قولهم: أخذت الدرهم من زيد فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معا قالوا: فمن، تكون في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معا.
وصاحب التقريب بقوله فيه نظر، لأن المبدأ والمنتهى إما المنادي والمنادى على ما هو التحقيق أو الجهة، فإن كان الأول جاز أن يجمعها الوراء في إثبات مِنْ وفي إسقاطها لتغاير المبدأ والمنتهى، وإن كان الثاني فالجهة إما ذات أجزاء أو عديمتها، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات من أيضا باعتبار أجزاء الجهة، وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما لا في إثبات من ولا في إسقاطها لاتحاد المورد. ورد الأول بأن محل الانتهاء هو المتكلم ليس إلا كما ذكره ابن هشام في المغني، وذكر أن ابن مالك قال: إن مِنْ في المثال للمجاوزة، والثاني غير قادح في الفرق على ما ذكره صاحب الكشف قال: الحاصل أن المبدأ الجهة باعتبار تلبسها بالفاعل لأن حرف الابتداء دخل على الجهة والفعل مما ليست المسافة داخلة في مفهومه فيعتبر الأمر أن تحقيقا لمقتضى الفعل والحرف، ولما أوقع جميع الجهة مبدأ لم يجز أن يكون منتهى سواء كان منقسما أو لا، ثم لما كان الوراء مبهما لم يكن مثل سرت من البصرة إلى جامعها إذ لا يتعين بعضها مبدأ وبعضها منتهى، على أن ذلك أيضا إذا أطلق يجب أن يحمل على أن المنتهى غير البصرة، أما إذا عينت فيجوز مع تجوز والأصل عدم إلا بدليل، ثم هذا الجواز فيما كانت النهاية مكانا أيضا أما إذا اعتبرت باعتبار التلبس بالمفعول فلا، وإذا لم يذكر حرف الابتداء لم يؤد هذا المعنى.
فهذا فرق محقق ومنه يظهر أن المذكور في التقريب من النظر غير قادح، وما ذكر من أن التحقيق أن الفعل
(13/292)
________________________________________
يبتدىء من الفاعل وينتهي إلى المفعول ويقع في الظرف وأن مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ووراءها كلاهما ظرف كصلّيت من خلف الإمام وخلفه ومن قبل اليوم وقبله ومعنى الابتداء غير محقق والفرق تعسف ظاهر في أن من زائدة لا فرق بين دخولها وخروجها وهو خلاف الظاهر وإلا لما اختلفوا في زيادتها في الإثبات لشيوع نحو هذا الكلام فيما بينهم، ومتى لم تكن زائدة فلا بد من الفرق بين الكلامين لا سيما إذا كانا من كلامه عز وجل فتدبر. والتعبير عن النداء بصيغة المضارع مع تقدمه على النزول لاستحضار الصورة الماضية لغرابتها.
والموصول اسم إن، وجملة قوله تعالى: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ خبرها وتكرار الإسناد للمبالغة، والمراد أنهم لا يجرون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب لا سيما مع أجل خلق الله تعالى وأعظمهم عنده سبحانه صلّى الله عليه وسلّم وكثيرا ما ينزل وجود الشيء منزلة عدمه لمقتض، والحكم على الأكثر دون الكل بذلك لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب بل نادى لأمر ما على ما قيل، وجوز أن يكون المراد بالقلة التي يدل عليها نفي الكثرة للعدم فإنه يكنى بها عنه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك في صريح القلة لا في المفهوم من نفي الكثرة، وكان هؤلاء من بني تميم كما صرح به أكثر أهل السير.
أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن ابن عباس قال قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا منهم الزبرقان بن بدر: وعطارد بن حاجب بن زرارة وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث وعمرو بن الأهتم المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق معهم عينية بن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سوأة حتى أتوا منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف يا محمد اخرج إلينا ثلاثا فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين نحن أكرم العرب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كذبتم بل مدح الله تعالى الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقالوا: إنا أتيناك لنفاخرك فذكره بطوله وقال في آخره: فقال التميميون والله إن هذا الرجل لمصنوع له لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا وفاه شاعره فكان أشعر من شاعرنا وفيهم أنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من بني تميم أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ

هذا في القراءة الأولى.
وذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق الخبر بطوله وعد منهم الأقرع بن حابس وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة وحنينا والطائف، وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم في ظهرهم وان خطيبهم عطارد بن حاجب وخطيبه صلّى الله عليه وسلّم ثابت بن قيس بن شماس وشاعرهم الزبرقان بن بدر وشاعره عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت وذكر الخطبتين وما قيل من الشعر وأنه لما فرغ حسان قال الأقرع: وأبي ان هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأنه لما فرغوا أسلموا وجوزهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسن جوائزهم وأرسل لعمرو جائزته كالقوم، وتعقب ابن هشام الشعر بعض التعقب.
وفي البحر أيضا ذكر الخبر بطوله مع مخالفة كلية لما ذكره ابن إسحاق، وفيه أن الأقرع قام بعد أن أنشد الزبرقان ما أنشد وأجابه حسان بما أجاب فقال: إني والله لقد جئت لأمر وقد قلت شعرا فاسمعه فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم وأنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان: قم فأجبه فقال:
بني دارم لا تفخرون إن فخركم يصير وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
(13/293)
________________________________________
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه فكان قوله عليه الصلاة والسلام: أشد عليهم من جميع ما قال حسان ثم رجع حسان إلى شعره فقال:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن يقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ولا تفخروا عند النبي بدارم وإلا ورب البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصوارم فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا، ثم دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما يضرك ما كان قبل هذا
انتهى، وهذا ظاهر في أن إسلام الأقرع يومئذ، ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين كانتا قبل ذلك، وتقدم عن ابن إسحق أن الأقرع شهدهما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتوهم منه أنه كان مسلما إذ ذاك فيتناقض مع هذا بل في أول كلام ابن إسحق وآخره ما يوهم التناقض، والمذكور في الصحاح أنه وكذا عيينة كان إذ ذاك من المؤلفة قلوبهم.
وقد روى ابن إسحاق نفسه عن محمد بن إبراهيم أن قائلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه يوم قسمة ما أفاء الله تعالى عليه يوم حنين: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه
، وجاء ما يدل على أنهم من بني تميم مرفوعا.
أخرج ابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ إلخ فقال: هم الجفاة من بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله تعالى عليهم أن يهلكهم
، وفي الصحيحين ما يشهد بأنهم من أشد الأمة على الدجال وجعله أبو هريرة أحد أسباب حبهم، وظاهر كثير من الأخبار أن سبب وفودهم المفاخرة، وقال الواقدي. وهو حاطب ليل: إن سببه هو أنهم كانوا قد جهروا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فقد رؤساؤهم بسبب أسرائهم ويقال: قدم منهم سبعون أو ثمانون رجلا في ذلك منهم عطارد والزبرقان وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد والأقرع بن حابس ورياح بن الحارث وعمرو بن الأهتم فدخلوا المسجد وقد أذّن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخرج إليهم فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل، ثم ذكر أنه صلّى الله عليه وسلّم أجازهم كل رجل اثنتي عشرة أوقية وكساء ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه انتهى، ولعل زيادة جائزته لما نيل منه أيضا فقد ذكر ابن إسحاق أن عاصم بن قيس كان يبغض عمرا فقال: يا رسول الله إنه قد كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وأزرى به فقال لما بلغه ذلك يخاطب قيسا:
ظللت مفترش الهلباء تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

سدناكم سؤددا رهوا وسؤددكم ... باد نواجذه مقع على الذنب
وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنهم ناس من بني العنبر أصاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فجعلوا يقولون: يا محمد اخرج إلينا،
(13/294)
________________________________________
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
وذكر الخفاجي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسباهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة والسلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلّى الله عليه وسلّم فأطلق النصف وفادى الباقي، وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم، ويقال: إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن بن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهرا في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناسا آخرين، وفي القاموس العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيرا له من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسئول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناء على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة والسلام الجميع من غير فداء، فأن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام، فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضيا. وضمير (كان) للمصدر الدال عليه صَبَرُوا كما في قولك: من كذب كان شرا له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل:
خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل: لا خبر له وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء لَوْ على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به، وجوز كون ضمير (كان) لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم، وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته.
وأوثرت حَتَّى هنا على- إلى- لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعينة وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل، وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم: إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقيا له نحو سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 5] ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلّى الله عليه وسلّم أمر لازم
(13/295)
________________________________________
ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه، فإن الخروج لما جعله الله تعالى غاية كان كذلك في الواقع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره، واعترض عليه بقوله:
عينت ليلة فما زلت حتى ... نصفها راجيا فعدت يؤوسا
وأجيب بأنه على تسليم أنه من كلام من يعتد به مع أنه نادر شاذ لا يرد مثله نقضا مدفوع بأن معنى عينت ليلة عينت وقتا للزيارة وزيارة الأحباب يتعارف فيها أن تقع في أول الليل فقوله: حتى نصفها بيان لغاية الوقت المتعارف للزيارة الذي هو أول الليل والنصف ملاق له، وهو أولى من قول ابن هشام في المغني: إن هذا ليس محل الاشتراط إذ لم يقل: فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى عليه، وحاصله أن الاشتراط مخصوص فيما إذا صرح بذي الغاية إذ لا دليل على هذا التخصيص، وخفاء عدم الاكتفاء بتقديم ليلة في صدر البيت. نعم ما ذكر من أصله لا يخلو عن كلام كما يشير إليه كلام صاحب الكشف، ولذا قال الأظهر: إنه أوثر حتى تخرج اختصارا لوجوب حذف أن ووجوب الإظهار في إلى مع أن حتى أظهر دلالة على الغاية المناسبة للحكم وتخالف ما بعدها وما قبلها ولهذا جاءت للتعليل دون إلى، وفي قوله تعالى: إِلَيْهِمْ إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم فليس زائدا بل قيد لا بد منه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ المغفرة والرحمة فلذا اقتصر سبحانه على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد كان مقتضى ذلك أن يعذبهم أو يهلكهم أو فلم تضق ساحة مغفرته ورحمته عز وجل عن هؤلاء ان تابوا وأصلحوا، ويشير إلى هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم للأقرع بعد أن دنا منه عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله: ما يضرك ما كان قبل هذا، وفي الآيات من الدلالة على قبح سوء الأدب مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، ومن هذا وأمثاله تقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب كما يحكى عن أبي عبيد وهو في الفضل هو أنه قال: ما دققت بابا على عالم حتى يخرج في وقت خروجه، ونقله بعضهم عن القاسم بن سلام الكوفي، ورأيت في بعض الكتب أن الحبر ابن عباس كان يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القرآن العظيم عنه فيقف عند الباب ولا يدق الباب عليه حتى يخرج فاستعظم ذلك أبي منه فقال له يوما: هلا دققت الباب يا ابن عباس؟ فقال: العالم في قومه كالنبي في أمته وقد قال الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وقد رأيت هذه القصة صغيرا فعملت بموجبها مع مشايخي والحمد لله تعالى على ذلك.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أخرج أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب
(13/296)
________________________________________
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبله الحارث وقد فصل عن المدينة قالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ إلى قوله سبحانه: حَكِيمٌ

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إن بني فلان حيا من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكان حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال: ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فإذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد: ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال: لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئا من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤونه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا: ما هذا؟ قالوا: خالد بن الوليد قالوا: يا خالد ما شأنك؟ قال: أنتم والله شأني أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا: نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبدا فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية
قال الحسن: فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء، والرواية السابقة أصح وأشهر، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال، والقائل بذلك قال: إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع، والخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شامل للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعده إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم: فسق الرطب إذا خرج عن قشرة، قال الراغب: والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب والكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة.
ووصف الإنسان به- على ما قال ابن الأعرابي- لم يسمع في كلام العرب، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروة بناء على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل، والتبين طلب البيان والتعرف وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود وحمزة، والكسائي «فتثبتوا» وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوم نزلت الآية: التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان»
وتنكير فاسِقٌ للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ، وهو- كما في القاموس- الخبر، وقال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة
(13/297)
________________________________________
يحصل به علم أو غلبة ظن، وقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئا عظيما وما له قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين، ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين معن بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل: إِنْ جاءَكُمْ بحرف الشك، وفي النداء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن» والمؤمن لا يكذب، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافا للشافعي. وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد، وقرره الأصوليون بوجهين: أحدهما أنه لو لم يقبل خبره لما كان عدم قبوله معللا بالفسق، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير إذ لو كان معللا به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللا بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردودا وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به. ثانيهما أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا لأن الظن يعمل به هنا، والقول بالواسطة منتف والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطا على ما قرر في الأصول. نعم قال ابن الحاجب وعضد الدين: قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكرا من ذلك الآية المذكورة، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافا كثيرا مذكورا في محله.
واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وهاهنا قد انتفى الفسق ظاهرا ونحن نحكم به فلا يجب التثبت.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه هاهنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له، قال العضد: إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر. واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال: إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف. وثانيها أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين. وثالثها أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حيث قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها. ورابعها أنهم عدول إلا من قاتل عليا كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة.
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون: إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عما بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار، فلا
(13/298)
________________________________________
يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقا بأنه مات على الفسق. ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقا لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم كقوله سبحانه وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أي عدولا وقوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] إلى غير ذلك، وحينئذ إن أريد بقوله: إن من الصحابة من ليس بعدل ان منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها. هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان: فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي والقاضي، ومنهم من قبلهما، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين، والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: نحن نحكم بالظاهر
وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذاب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم فاحترازه من الكذب عليه صلّى الله عليه وسلّم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيبا أو ترهيبا كالكرامية أو ترويجا لمذهبه كابن الراوندي، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة. ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود، والحديث خص منه خبر الكافر.
وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب. وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده، ولذا قال: أحده وأقبل شهادته، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ.
أَنْ تُصِيبُوا تعليل للأمر بالتبين أن فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا قَوْماً أي قوم كانوا بِجَهالَةٍ ملتبسين بجهالة لحالهم، ومآله جاهلين حالهم، فَتُصْبِحُوا فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به عَلى ما فَعَلْتُمْ في حقهم نادِمِينَ مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء، وفي الكشف التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب، وان تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ عطف على ما قبله، وأَنَّ بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعْلَمُوا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز وجل: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين، وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ، وصيغة المضارع للاستمرار- فلو- لامتناع استمرار طاعته
(13/299)
________________________________________
عليه الصلاة والسلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور، وكون المراد استمرار الامتناع نظير قيل في قوله تعالى:
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38 وغيرها] من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم فقيل: واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت، وفيه مبالغات من أوجه: أحدها إيثار لَوْ ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات، والثاني ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجينه من التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضا فضلا عن الوقوع، والثالث ما في العنت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة. والرابع ما في تعميم الخطاب والحري به غير الكمل من التمريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الإطلاق فيقع هو ويقع غيره في العنت والإرهاق واعلموا جلالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات، وقوله عز وجل:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام فان لَوْ يُطِيعُكُمْ خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكورة والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل: ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به، وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، والإشارة بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إليهم، وفيه نوع من الالتفات، والخطاب فيه للرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة والسلام ما هم فيه من سبق القدم في الرشاد أي إصابة الطريق السوي، فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم برآء لأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان إلخ، وهذا أولى من جعل لَوْ يُطِيعُكُمْ إلخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضا سديد الشيوع التصرف في الأواخر في مثله، وجعله بعضهم استدراكا ببيان عذرهم فيما بدر منهم، ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك، والمناسب لما بعد ما ذكرناه.
وجوز غير واحد من المعربين أن لَوْ يُطِيعُكُمْ استئناف على معنى أنه لما قيل وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ دالا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة والسلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضرة؟ فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويومىء إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة، وهو حسن لولا أن وَاعْلَمُوا كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعا على الاستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط، وأيضا يفوت التعريض وإن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام، هذا وَكَرَّهَ يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه
(13/300)
________________________________________
مقابلته لحبب أو نزل إِلَيْكُمُ منزلة مفعول آخر، والْكُفْرَ تغطية نعم الله تعالى بالجحود، والْفُسُوقَ الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم، وَالْعِصْيانَ الامتناع عن الانقياد، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت، والكلام أعني قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ إلخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيئات على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا، وقيل:
الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم. وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف العرب والعجم، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله، وإليه الإشارة في قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل للأفعال المستندة إليه عز وجل في قوله سبحانه: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلخ وما في البين اعتراض، وجوز كونه تعليلا للراشدين، وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدا له أولا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلا حبب إليكم الإيمان فضلا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال: أولئك هم الراشدون فضلا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلا أو لأن الرشد هاهنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدا إذ هو مطاوع أرشد، وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرعد: 12] فيتحد الفاعل ويصح النصب، وجوز كونه مصدرا لغير فعله فهو منصوب إما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل الله تعالى وانعامه» وقيل:
مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلا وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل من أفضال وإنعام وغيرهما بموجب الحكمة.
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي تقاتلوا، وكان الظاهر. اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى:
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم الله عز وجل، والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظهما ثانيا على عكس المشهور في الاستعمال، والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير. وقرأ ابن أبي عبلة «اقتتلتا» بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير «اقتتلا» بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما تعدت وطلبت العلو بغير الحق عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري حتى «تفي» بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجيء بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى بفي مضارع وفي شذوذا، وفي تعليق القتال بالموصول للإشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذرا من قتالكم فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، وتقييد الإصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى: وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فيجازيهم أحسن الجزاء. وفي الكشاف في الإصلاح بالعدل والقسط تفاصيل، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت
(13/301)
________________________________________
بعد الفيئة ما جنت، وأن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الإصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا من أن الفرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال في الكشف، لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى: فَإِنْ فاءَتْ لأنه من ضرورات التوبة، فاعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال: والأولى على قول الجمهور أن يقال: الإصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي الفائي، هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر. والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال: إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله تعالى فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ الآية
،
وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبي بن سلول فقال ما قال فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه نغضب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم فاصطلحوا
وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبي أوسيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم
وقاموا إلى أمر الله عز وجل، والخطاب فيها على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الإصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت،
وجاء في حديث رواه الحاكم. وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله تعالى ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها»
وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيرا إلى مقاتلتهما، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة واطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة، وقيل: الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد، فقد أخرج الحاكم وصححه. والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني وَإِنْ طائِفَتانِ إلخ إني لم أقاتل هذه
(13/302)
________________________________________
الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى- يعني بها معاوية ومن معه الباغين- على علي كرم الله تعالى وجهه، وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجا بأن عليا كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد، والحق أن ذلك ليس على إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد، وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجهل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين. نعم الباغي على الإمام ولو جائرا فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان. والمعتزلة يقولون في مثله: إنه فاسق مخلد في النار إن مات بلا توبة، والخوارج يقولون: إنه كافر، والإمامية أكفروا الباغي على علي كرم الله تعالى وجهه المقاتل له واحتجوا بما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم له: «حربك حربي»
وفيه بحث. وقرأ ابن مسعود «حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط» إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، وإطلاق الاخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالاخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، والفاء في قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأن الاخوة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه، وقيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمي كلا منهما أخا لاجتماعهم في الجد الأعلى.
وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن بخلاف عنه «إخوانكم» جمعا على وزن غلمان.
وقرأ ابن سيرين «إخوتكم» جمعا على وزن غلمة، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو القراءات الثلاث، قال أبو الفتح: وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا، والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك، ويغلب الاخوان في الصداقة والاخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح، والظاهر أن هذا عطف على فَأَصْلِحُوا وقال الطيبي: هو تذييل للكلام كأنه قيل: هذا الإصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل، ويجوز أن يكون عطفا على فَأَصْلِحُوا أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا الله تعالى من أن تتهاونوا فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لأجل أن ترحموا على تقواكم أو راجين أن ترحموا عليها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم أيضا، فالتنكير في الموضعية للتبعيض، والسخر الهزؤ كما في القاموس، وفي الزواجر النظر إلى المسخور منه بعين النقص، وقال القرطبي: السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الاشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته، واختير أنه احتقاره قولا أو فعلا بحضرته على الوجه المذكور، وعليه ما قيل المعنى: لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال.
وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها: كأنه لسان كلب فنزلت، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت، وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن
(13/303)
________________________________________
أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت، وقيل غير ذلك وقوله عز وجل: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين فرب اشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضا عسى أن يصير المحتقر- اسم مفعول- عزيز أو يصير المحتقر ذليلا فينتقم منه، فهو نظير قوله:
لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه: وَلا نِساءٌ أي ولا يسخر نساء من المؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي المسخورات خَيْراً مِنْهُنَّ أي من الساخرات، وعلى هذا جاء قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما نعت به فشاع في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر، وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، ووجه الاختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: 34] وقد يراد به الرجال والنساء تغليبا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والإناث وقيل: المراد بهم الذكور أيضا ودل عليهن بالالتزام العادي لعدم الانفكاك عادة، والنساء على ما قال الراغب وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها، وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك بمنزلة تعدد الساخر والمسخور منه، وقيل: لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] وعموم الحكم لعموم علته، وعَسى في نحو هذا التركيب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل قيل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية، وقيل: إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلان باعتبارين أو محله الرفع، والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر.
وقرأ عبد الله وأبيّ «عسوا أن يكونوا» . «وعسين عن أن يكن» فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة، وفيه الاخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخبر، وقيل: هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه، فضمير تَلْمِزُوا للجميع بتقدير مضاف، وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] وقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص
(13/304)
________________________________________
لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا، ومنهم من يقول:
السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل: اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة، واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص.
وقال الطيبي: هو من دليل الخطاب لكن ان في هذا الوجه تعسفا والوجه الآخر. يعني ما تقدم. أوجه لموافقته لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل: ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الإيمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف، وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل: لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل، والإنصاف أن المتبادر ما تقدم، وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فانفسكم على ظاهره والتجوز في تَلْمِزُوا أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى: وَلا تَنابَزُوا وكونه من التجوز في الإسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما
في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه»
وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا.
وقرأ الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو «لا تلمزوا» بضم الميم وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب، قال في القاموس: التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب.
وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح، والنبز في الذم خاصة، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب، ومن الغريب ما قيل: التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا.
قال النووي: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد
روي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسمع فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال لرجل: تنح فلم يفعل فقال: من هذا؟ فقال الرجل:
أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت
فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا.
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن جبير وابن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله انه يكرهه فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله، وعن ابن مسعود هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا
(13/305)
________________________________________
يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي، وعن الحسن نحوه، ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال لها: هلا قلت: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما، ومعنى قوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان يأبى الفسق كقولهم: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن.
والِاسْمُ هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا، وفيها تسميته فسوقا، وقيل: بَعْدَ الْإِيمانِ أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة، وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان، وهذا خلاف الظاهر. وذكر الزمخشري له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة، وقيل: معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعد ما اتصفوا بضده، فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك، والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر، وقيل: هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أو بجميع ما تقدم من النهي، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر.
ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين: سليمان الأعمش وواصل الأحدب، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة: تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز، ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن سليمان الذي يقال له الأعمش، هذا وغوير بين صيغتي تَلْمِزُوا وتَنابَزُوا لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر، وقيل: قيل تَنابَزُوا لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم، ويعلم من الآية أن التلقيب ليس محرما على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء، وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه، وقد لقب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالعتيق
لقوله عليه الصلاة والسلام له: «أنت عتيق الله من النار»
وعمر رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه، وحمزة رضي الله تعالى عنه بأسد الله لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به، وخالد بسيف الله
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله»
إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة وألقاب علي كرم الله وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم ويراعى فيها المعنى بخلاف العلم، ولذلك قال الشاعر: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب. إلا ومعناه أن فتشت في لقبه بدخوله في مفهومه لكن الشائع غير ذلك،
وفي الحديث «كنّوا أولادكم»
قال عطاء: مخافة الألقاب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أشيعوا الكنى فإنها سنة، ولنا في
(13/306)
________________________________________
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب، والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي تباعدوا منه، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له، وتنكير كَثِيراً ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعاشية، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عز وجل، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين،
ففي الحديث «أن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء»
وعن عائشة مرفوعا من أسماء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولا يعبث بالشباب. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي بعض اخواني من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ولا تهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت، واعلم
(13/307)
________________________________________
أن ظن السوء إن كان اختياريا فالأمر واضح، وإذا لم يكن اختياريا فالمنهي عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري، ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه يريد به سوءا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص، وهو محمل
خبر «إن من الحزم سوء الظن»
وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن»
، وقيل:
المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف،
وفي الحديث «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض»
أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال، قال الشاعر:
لقد فعلت هذي النوى بي فعلة ... أصاب النوى قبل الممات أثامها
والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعا: وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول: إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام، وإن أثم من باب علم، ووثم من باب ضرب، وإنه ذكره في باب الهمزة في الأساس، والواوي متعد وهذا لازم.
وَلا تَجَسَّسُوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه، واستعمال التفعل للمبالغة وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين «ولا تحسسوا» بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار، وقيل:
التجسس بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن، وقيل: الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك، وقيل:
الأول في الشر والثاني في الخير، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقا وعدوه من الكبائر.
أخرج أبو داود وابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته»
وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى الله عليه وسلّم نادى بذلك حتى اسمع العواتق في الخدر.
وأخرج أبو داود وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود:
قد نهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به.
وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدو الله أظننت أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا وقد تجسست وقال الله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [البقرة 189:] وقد تسورت وقال جل شأنه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهل عندكم من خير ان عفوت عنك؟ قال:
(13/308)
________________________________________
نعم فعفا عنه وخرج وتركه. وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه: إن فلانا لا يصحو فقال: انظر إلى الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال: قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر: والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال: يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك الله تعالى أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجا بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي أيضا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر: وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم، ولعل القصة إن صحت غير واحدة، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضا.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته
فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟
قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذا أدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الإفهام، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم، واحتج على ذلك
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس»
وما ذكره لا يعول، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره. والمراد بقولنا: غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرا في مجلس الذكر أو لا، وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد، وقد يقال شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهو لما كان عن ترك ما يسجد له عمدا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث إنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى- أحد- إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها، وفي المثل السائر كني عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الاعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له، وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها، وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل، والفاء في فَكَرِهْتُمُوهُ
(13/309)
________________________________________
فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، والجزائية باعتبار التبين، والضمير المنصوب للأكل وقيل: للحم، وقيل: للميت وليس بذاك، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل، وعبر بالماضي للمبالغة، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد، وانتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان.
وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة
«فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء، ورواها الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قيل عطف على محذوف كأنه قيل: امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله.
وقال الفراء التقدير ان صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ كان الجواب لا متعينا فكأنهم قالوا: لا نحب فقيل لهم فَكَرِهْتُمُوهُ ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر، وقيل: هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظا أمر معنى كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك: وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهي عنه وتاب مما فرط منه، وتواب أي مبالغة في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت.
وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا:
ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال: إنهما ائتدما فجاءا فقالا: يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثنايا كما فقالا: استغفر لنا يا رسول الله قال:
مراه فليستغفر لكما
وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما ان تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل: هذا والآية دالة على حرمة الغيبة. وقد نقل القرطبي وغيره الإجماع على أنها من الكبائر، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشو المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالإجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في
(13/310)
________________________________________
عظم الحرج السابق، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما
رواه أحمد. وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال: «بينما أنا أماشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول»
ولا يتم أيضا، فقد قال ابن الأثير: المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير، وكيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه، فالحق أنها من الكبائر. نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرا نحو عيب الملبوس والدابة، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا ليحله فيخرج عن مظلمته، وقال الحسن: يكفيه الاستغفار عن الاستحلال، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» ، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال: نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره، وقال الزركشي: هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما.
قال في الخادم: الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيا والمجنون مجنونا ويسقط من حق الله تعالى بالندم، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا؟ وجهان، والذي رجحه في الإذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة، وكلام الحليمي. وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة، ويؤيد الأول
خبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: إني تصدقت بعرضي على الناس» .
ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال: هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل: الإيذاء، وتنقيص خلق الله تعالى، وتضييع الوقت بما لا يعني. والأولى تقتضي التحريم، والثانية الكراهة، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله.
وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار»
ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى وتكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروها.
وقال ابن المنذر
في قوله صلّى الله عليه وسلّم في تفسير الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره»
: فيه دليل على أن من ليس أخا لك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر
(13/311)
________________________________________
وذلك الدليل كما لا يخفى، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب.
الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه لا تخفيفه. الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك والأفضل أن يبهمه.
الرابع تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعا بل تحب، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة، والخامس أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربه الخمر ظاهرا فيجوز ذكره بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر.
السادس للتعريف بنحو لقب كالأعور، والأعمش فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره. نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون: هي صابون القلوب وإن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما
قال ابن عباس وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم: الغيبة إدام كلاب الناس
نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إلخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله: جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب، وقال ابن حجر عليه الرحمة: إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في وَمَنْ لَمْ يَتُبْ لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في اجْتَنِبُوا ختمت به في وَاتَّقُوا اللَّهَ إلى إلخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ إلخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالخسرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا انتهى فلا تغفل.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله:
الناس في عالم التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
وجوز أن يكون المراد هنا إنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبي عنه ما بعد، وقيل: هو تقرير للاخوة المانعة عن الاغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون، والبطن تجمع
(13/312)
________________________________________
الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال:
قبيلة فوقها شعب وبعدهما ... عمارة ثم بطن تلوه فخذ

وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ... ولا سداد لسهم ما له قذذ
وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال:
اقصد الشعب فهو أكثر حي ... عددا في الحساب ثم القبيلة

ثم يتلوهما العمارة ثم البطن ... ثم الفخذ وبعد الفصيلة

ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرنا قليله
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه، وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل، وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل: وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي، ومنهم أبو عبيدة وكان خارجيا وقد ألف كتابا في مثالب العرب، وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة.
وقيل: الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان، وقال قتادة ومجاهد والضحاك:
الشعب النسب إلا بعد والقبيلة الأقرب، وقيل: الشعوب الموالي والقبائل العرب، وقال أبو روق: الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم لِتَعارَفُوا علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان. وقرأ الأعمش «لتتعارفوا» بتاءين على الأصل، ومجاهد. وابن كثير في رواية وابن محيصن بإدغام التاء في التاء، وابن عباس وأبان عن عاصم «لتعرفوا» بكسر الراء مضارع عرف، قال ابن جني: والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله:
وما علم الإنسان إلا ليعلما أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه.
واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض، وقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل: إن أكرمكم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وقرأ ابن عباس «أن» بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل: لم لا تتفاخروا بالأنساب؟ فقيل: لأن أكرمكم عند الله تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.
وفي البحر أن ابن عباس قرأ «لتعرفوا وأن أكرمكم» بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون «أن أكرمكم» إلخ معمولا لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى
(13/313)
________________________________________
إذ ليس جعلهم شعوبا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولا لتعرفوا محذوفا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام ان تكون لام كي اهـ وهو كما ترى.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم وبأعمالكم خَبِيرٌ بباطن أحوالكم. روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحارث بن هشام. وعتاب بن أسيد وقالا: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت.
وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى ونزلت
وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه وعن البيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلّى الله عليه وسلّم
وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية
في ذلك،
وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال: محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال: هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت
، وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم. وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار.
أخرج ابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان. وعبد بن حميد.
والترمذي. وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: الحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى إلى قوله تعالى: خَبِيرٌ ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
،
وأخرج البيهقي وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ألا هل بلغت؟ قالوا:
بلى يا رسول الله قال: فليبلغ الشاهد الغائب
،
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه» وأخرج أحمد وجماعة نحوه لكن ليس فيه «فمن أتاكم» إلخ.
وأخرج البزار عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان»
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون» وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعا.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والبغوي وابن قانع والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكبرا فهو عاشرهم في النار»
وأخرج
(13/314)
________________________________________
البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه، ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعالى الواحد، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارا للثواب عند الله عز وجل، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها تكمل النفس وتتفاضل الأشخاص، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط، وبنو إسرائيل أفضل من القبط.
وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم»
لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة، فشرف العرب على العجم مثلا ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الأرب في فضائل العرب، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع، ثم إن أشرف العرب نسبا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كما صرح به جمع من الفقهاء.
وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم»
وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم» ونوزع في صحة ذلك، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن، وتعقب وليس الأمر موقوفا على ما ذكر لظهور دليله.
وقد أخرج أحمد. والحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه. قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري»
وحديث بضعية فاطمة رضي الله تعالى عنها مخرج في صحيح البخاري أيضا، قال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا غاية الشرف لأولادها، وعدم انقطاع نسبه صلّى الله عليه وسلّم جاء أيضا
في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا نسبي وصهري»
والذهبي وإن تعقبه بقوله فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن، ويعلم مما ذكر ونحوه. كما قال المناوي. عظيم نفع الانتساب إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا حرصا على إرشادهم وتحذيرا لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام
بقوله: «لا أغني عنكم من الله شيئا»
والمراد لا أغني عنكم شيئا بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بتمليك الله تعالى، والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف.
فعلى هذا لا بأس بقوله الرجل: أنا من ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية. وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرا
(13/315)
________________________________________
واحتقار مسلم، وعلى ما ذكرناه أولا
جاء قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» الحديث،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»
إلى غير ذلك، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلا عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وربما ينكر نسبه. وعليه قيل لشريف سيىء الأفعال:
قال النبي مقال صدق لم يزل ... يحلو لدى الاسماع والأفواه

إن فاتكم أصل امرئ ففعاله ... تنبيكم عن أصله المتناهي

وأراك تسفر عن فعال لم تزل ... بين الأنام عديمة الأشباه

وتقول إني من سلالة أحمد ... أفأنت تصدق أم رسول الله
ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل، كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير أنه كان فاسقا ظاهر الفسق وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يوما من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك، ولهذا ونحوه قيل:
ولا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله
أي لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية، فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها، وقيل: بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جدا حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهليا وتدخل الجنة فقال: لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي، وقيل:
إذا قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من شؤم هذا النسب

ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر، فإن النص أعني «إن العرب بعضهم أكفاء لبعض» لم يفصل مع أنه صلّى الله عليه وسلّم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق وليس كل باهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال:
مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس. فمتى عدوا الباهلية عارا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص دارا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاما، أما جاهلية فأظهر من
(13/316)
________________________________________
أن يبرهن عليه، وأما إسلاما فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك والثوري والكرخي من الحنفية، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترطها فيها كون الإمام قرشيا، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي، ولا اعتبار بضرار. وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس، وقال الشافعية: فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه السلام في ابنه كنعان: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «سلمان منا أهل البيت»
فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدا وعلق على جيد الحسناء عقدا ولا يكتفى بمجرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال. ويقول: كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، ومن هنا قيل:
وأعجب شيء إلى عاقل ... أناس عن الفضل مستأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا ... أشاروا إلى أعظم ناخره
وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري:
أقول لمن غدا في كل وقت ... يباهينا بأسلاف عظام

أتقنع بالعظام وأنت تدري ... بأن الكلب يقنع بالعظام
وما ألطف قوله:
لم يجدك الحسب العالي بغير تقى ... مولاك شيئا فحاذر واتق الله

وابغ الكرامة في نيل الفخار به ... فأكرم الناس عند الله أتقاها
وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناسا فاقوهم حسبا ونسبا وشرفوهم أما وأبا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد، ولولا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم.
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا، ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون بذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا: آمنا فاستحقينا الكرامة فرد الله تعالى عليهم، وأيا ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما قد صرح به قتادة. وغيره، والحلق الفعل علامة التأنيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل:
(13/317)
________________________________________
لا تبالي بجمعهم ... كل جمع مؤنث
والنكتة في اعتباره هاهنا الإشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ [يوسف: 30] .
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به، وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد، بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منّهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أولا وبأنهم الممتنون إن صدقوا ثانيا، فالأصل في الإرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب، وفيه حمل له عليه الصلاة والسلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه.
ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريضا بأن الكذب منحصر فيهم، وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لا سيما من النبي صلّى الله عليه وسلّم المبعوث للدعوة إلى الإيمان، على أن إفادة لَمْ تُؤْمِنُوا لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى، ثم قوبل بقوله سبحانه: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا كأنه قيل: قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل: ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى، وفيه تلويح بأن إسلامهم وهو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل ولكن أسلمتم لكان ذلك موهما أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال: القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم، وقيل: في الآية احتباك. والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ حال من ضمير قُولُوا كأنه قيل: قولوا أسلمنا ما دمتم على هذه الصفة، وفيه إشارة إلى توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكررا مع قوله تعالى: لَمْ تُؤْمِنُوا وقيل: الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضا لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالإجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافا لأبي حيان ولم- لا تفيد شيئا من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتا للقول المأمور به وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم شَيْئاً من أجورها أو شيئا من النقص يقال لاته يليته ليتا إذا نقصه، ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو «لا يألتكم» من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتا وهي لغة أسد وغطفان، قال الحطيئة:
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء، وحكى أبو عبيدة ألات يليت إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بالتفضل عليهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الارتياب متراخيا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل: آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين، وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم يحدث لهم ارتياب ثانيا، والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني، وقال بعض الأجلة: عطف عدم الارتياب على الإيمان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] تنبيها على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه، وأوثر ثُمَّ على الواو
(13/318)
________________________________________
للدلالة على أن هذا الأصل حديثه وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدا على طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينا بعد حين، ولا بأس بأن يجعل ترشيحا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرا نبه على أنه ليس تغاير ما بين الاستمرار والحدوث بل تغاير شيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنا فآنا، أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر، وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان، والفرق بين الاستمرارين أن الاستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت:
30، الأحقاف: 13] أي استمر بذلك إيمانهم مع عدم الارتياب، وعلى الثاني الاستمرار معتبر في الجزء الأخير، وهذا الوجه أوجه، وأيا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته عز وجل على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا كالحج والجهاد، وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ويجوز بأن يقال: قدم الأموال لحرص الكثير عليها حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرا إلى التعريض بأولئك حيث إنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاؤوا أو أظهروا الإسلام حبا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى جاهَدُوا بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب. روي أنه لما نزلت الآية جاؤوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم آمنا. فتعلمون. من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر، وقيل: إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ حال من مفعول تُعَلِّمُونَ وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته، وقال الراغب: هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها، وأَنْ أَسْلَمُوا في موضع المفعول. ليمنون. لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم، وجوز أبو حيان أن يكون أَنْ أَسْلَمُوا مفعولا من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي ما زعمتم في قولكم آمنا فلا ينافي هذا قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق.
وقرأ عبد الله. وزيد بن علي «إذ هداكم» بإذ التعليلية، وقرىء «إن هداكم» بإن الشرطية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعالى إسلاما إظهارا لكذبهم في قولهم: آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانا فلما منوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام: يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم: لا تعتدوا علي إسلامكم أي حديثكم المسمى
(13/319)
________________________________________
إسلاما عندي لا إيمانا، ثم قال تعالى: بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وفي قوله تعالى: إِسْلامَكُمْ بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عز وجل، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ على أن ذلك كذب منهم، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عز وجل خواص عباده من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه رضي الله تعالى عنهم. وقرأ ابن كثير. وابان، عن عاصم «يعملون» بياء الغيبة والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في بعض الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبإ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً من القلوب وصفاتها بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا صباح يوم القيامة عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إلخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها، ويشير قوله تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفي عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إشارة إلى رعاية حق الاخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه.
(13/320)
________________________________________
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
سورة ق
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك، وفي التحرير عن ابن عباس. وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [ق: 38] الآية فهي مدنية نزلت في اليهود، وآيها خمس وأربعون بالإجماع. ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم. وغيره عن جابر ابن سمرة، وفي رواية ابن ماجه. وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت،
وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت: «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] الا من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس»
وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد»
وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور.
(13/321)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها، وقال الراغب: المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله، فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] يجري هاهنا حتى أنه قيل: يجوز أن يكون ق أمرا من مفاعلة قفا أثره أي تبعه، والمعنى اتبع القرآن واعمل بما فيه، ولم يسمع مأثورا، ومثله ما قيل: إنه أمر بمعنى قف أي قف عند ما شرع لك ولا تجاوزه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ومن وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال: وذلك قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات. وأبو الشيخ عنه أيضا أنه قال: خلق الله تعالى جبلا يقال له قاف محيطا بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة. والحاكم. وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية: قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضا قال: هو جبل محيط بالأرض، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال: ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه. وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال: «يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ان وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف إلى آخر ما تقدم، ثم قال: وكما يندفع بذلك قوله: لا وجود له يندفع قوله: ولا يجوز اعتقاد إلخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الامارة فهذه عليه أدلة أو الامارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان، وأمر الزلزلة لا يتوقف على
(13/322)
________________________________________
ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف والله تعالى أعلم.
واختلف في جواب القسم فقيل: محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل: والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذرا بالبعث ونحو ما قيل: هو إنك لمنذر وقيل: ما ردوا أمرك بحجة.
وقال الأخفش والمبرد والزجاج: تقديره لتبعثن، وقيل: هو مذكور، فعن الأخفش قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] وحذفت اللام لطول الكلام، وعنه أيضا. وعن ابن كيسان ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق: 18] وقيل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى [ق: 37] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي، وقيل: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وما ذكر أولا هو المعول عليه، وبَلْ للإضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول، وقيل: التقدير إنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل: ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم، ونبه بقوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه.
قال في الكشف: وهو وجه حسن، وأَنْ جاءَهُمْ بتقدير لأن جاءهم، ومعنى مِنْهُمْ من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب، وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار، وقيل: عائد على الناس وليس بذاك.
وقوله تعالى: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب، وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم، وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضا، على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية، ودل عليه السياق أيضا لأنه دل على أن ثم منذرا به، ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه.
ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز وجل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا، وقوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار أو بيان لموضع تعجبهم، والعامل في إِذا مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ، وقوله سبحانه: ذلِكَ إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع رَجْعٌ بَعِيدٌ أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان، وقيل: الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها، والإشارة عليه إلى أَإِذا مِتْنا إلخ، والجملة من كلام الله تعالى، والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم، وناصب إِذا حينئذ ما ينبىء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا ترابا بعثنا، وقد يقال: إنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جوابا له فهو دليل أيضا على المقدر، فالقول بأنه إذا كان
(13/323)
________________________________________
الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب إِذا مندفع. نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان: إنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثاب والأعمش وابن عتبة عن ابن عامر «إذا» بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبرا، قال في البحر: وأضمر جواب إِذا أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا، وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقا إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة.
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد، وقيل: ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم، ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس. وقتادة، وقوله تعالى:
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير، والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه.
هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم وفي البعث لذلك بناء على أن أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط، وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والعوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملا عليه ويكون مرجحا للحكم المذكور ويندفع التحكم.
وحاصل الرد أن الله تعالى عليم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكمله. فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فلا يلزم التحكم، ويكون ذلك نظير انحفاظ وحدة الصورة الخيالية فينا بعد غيبة المحسوس عن الحس كما إذا رأينا شخصا فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانيا فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقا وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعا ولا ينكره إلا مكابر، وقال بعض الأشاعرة: إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد وهو الله تعالى، وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى، وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه.
وأيضا لا يتم عند القائلين بعدم رؤية الله سبحانه المعدومات مطلقا إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزا ذاتيا حال العدم فلا ترد عليهم الشبهة السابقة، وقد يقال: إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقا خاصا بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الامتياز ويندفع التحكم، ويقال على مذهب الحكماء: إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية
(13/324)
________________________________________
والسافلة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفا وربما يدعي الإسلامي المتفلسف في قوله تعالى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ رمزا إلى ذلك، وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام، ثم إن البعث لا يتوقف على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية، ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه: «أئذا متنا وكنا ترابا» إشارة إلى ذلك،
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة»
وليس نصا في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبقى على العظيمة وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب، ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وآخر ما يخلق بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا، وكون التكذيب المذكور أفظع قيل: من حيث إن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضا وهو البعث وغيره، وقيل: لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث، وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء، على أن من الجائز أن يكونوا قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة والسلام خاصة، وقيل: المراد بالحق الإخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم، وقيل: المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وجعل كبدل البداء من الإضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجيء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وإن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل. وقرأ الجحدري لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك: كتبه لخمس خلون مثلا، و (ما) مصدرية أي بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال، والإسناد مجازي كما فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه، وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبىء عنه قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وأنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة والسلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك أَفَلَمْ يَنْظُرُوا أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كل وقت، قيل: وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف. وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام: إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلا، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدا لمن وصل إليه، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها
(13/325)
________________________________________
ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائه ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون، بل قيل: إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره.
وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذ يؤولونها، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء، وأنا أقول: لا بأس بتأويل ظاهر تأويلا قريبا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية، وأرى الإنصاف من الدين، ورد القول احتقارا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين، هذا وحمل بعض السَّماءِ هاهنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا كَيْفَ بَنَيْناها أحكمناها ورفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من فتوق وشقوق، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابا. وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل.
وقيل هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء وفي موضع آخر أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الأعراف: 185] بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه، وجيء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادا لاستبعادهم فكأنه قيل:
النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام، واحتج بقوله سبحانه ما لَها مِنْ فُرُوجٍ للفلاسفة على امتناع الخرق، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه، على أنك قد سمعت المراد بذلك، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقيا لشيوعه وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى:
رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15، لقمان: 10] وهو ظاهر في عدم حركة الأرض، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن يبهج ويسر من نظر إليه تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها، وتَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال السابقة معنى وان انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا، وقال أبو حيان: منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى.
وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكرى» بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى، وقوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج، وهو عطف على أَنْبَتْنا وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجارا ذات ثمار وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، فالإضافة لما بينهما من الملابسة، والْحَصِيدِ بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات وَالنَّخْلَ عطف على جَنَّاتٍ وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجميع، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في
(13/326)
________________________________________
الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل، ونصبه على أنه حال مقدرة.
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «باصقات»
بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أوقاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسِقاتٍ على التداخل، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور وطَلْعٌ مرتفع به على الفاعلية، وقوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي ليرزقهم علة لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أَنْبَتْنا الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق، وجوز أن يكون رِزْقاً مصدرا من معنى أَنْبَتْنا لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسا، وأن يكون حالا بمعنى مرزوقا وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت أو أنبتت وتذكير مَيْتاً لأن البلدة بمعنى البلد والمكان، وقرأ أبو جعفر. وخالد «ميّتا» بالتثقيل كَذلِكَ الْخُرُوجُ جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء الْخُرُوجُ خبر، ونقل عن الزمخشري أنه قال: كَذلِكَ الخبر وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال: ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف واقع موقع مثل في قولك: مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف.
وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها، وفي ذلك أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهديد للكفرة، وَأَصْحابُ الرَّسِّ هو البئر التي لم تبن، وقيل: هو واد وأصحابه قيل: هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وقيل: قوم حنظلة ابن صفوان وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده، وهذا كما تسمى القبيلة تميما مثلا باسم أبيها وَإِخْوانُ لُوطٍ قيل: كانوا من أصهاره عليه السلام. فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل: هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغبطة فسموا بها وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري وكان مؤمنا وقومه كفرة ولذا لم يذم وهو ذم قومه، وقد سبق في الحجر. والدخان. والفرقان تمام الكلام فيما يتعلق بما في هذه الآية.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل، والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم، ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى
(13/327)
________________________________________
تكذيب وقومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبع.
فَحَقَّ وَعِيدِ أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة، والعي بالأمر العجز عنه لا التعب، قال الكسائي:
تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر، وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل: أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا من الإعادة، وجوز الإمام أن يكون المراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:
33] ويؤيده قوله تعالى بعد: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وهو كما ترى، وعن الحسن «الخلق الأول» آدم عليه السلام وليس بالحسن، وقرأ ابن أبي عبلة. والوليد بن مسلم. والقورصي عن أبي جعفر والسمسار عن شيبة وأبو بحر عن نافع «أفعيّنا» بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال: عي في عي وحي في حي فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الإدغام فقال: عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت «نا» ضمير نصب فالعرب جميعهم على الإدغام نحو ردنا زيد بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لإنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيها على مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه: جَدِيدٍ وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ، والتعظيم ليس راجعا إلى الخلق من حيث هو.
هو- حتى يقال: إنه أهون من الخلق الأول بل إلى ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو- هو- وقال بعض المحققين: نكر لأنه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما، وجوز أن يكون التنكير للإبهام إشارة إلى أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس، وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الإعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبقى زمانين، ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني على القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي، وضمير بِهِ لما وهي موصولة والباء صلة تُوَسْوِسُ وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك، ويجوز أن تكون ما مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال، وحَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في فرط القرب كقولهم: مقعد القابلة ومعقد الإزار قال ذو الرمة على ما في الكشاف:
(13/328)
________________________________________
والموت أدنى لي من حبل الوريد والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الأراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء، والْوَرِيدِ عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا وفي الخنصر الأسلم.
والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقا يقال له وريد. ففي الكشاف الوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل، وقيل: هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب: الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح، وقال في الآية: أي نحن أقرب إليه من روحه، وحكي ذلك عن بعضهم أيضا إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة، وإِذْ قيل: ظرف. لا قرب. وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملا في غيرها فاعلا أو مفعولا به أي هو سبحانه أعلم بحال الإنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه عز وجل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الاشهاد، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله تعالى بعمله من زيادة لطف في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات، وجوز أن تكون إِذْ لتعليل القرب، وفيه أن تعليل قربه عز وجل العلمي باطلاع الحفظة الكتبة بعيد، واختار بعضهم كونها مفعولا به لأذكر مقدرا لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف والكلام مسوق لتقرير قدرته عز وجل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومنه قوله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني
وقال المبرد: إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه، والقعيد عليهما فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم، وذهب الفراء إلى أن قعيدا يدل على الاثنين والجمع، وقد أريد منه هنا الاثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير. واعترض بأن فعيلا يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول، واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل: هما على الناجذين،
فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعا «إن الله لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما»
وقيل: على العاتقين، وقيل: على طرفي الحنك عند العنفقة وفي البحر أنهم اختلفوا في ذلك ولا يصح فيه شيء، وأنا أقول أيضا لم يصح عندي أكثر مما أخبر الله تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان، وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر أن الكتب حقيقي:
علم ذلك مفوض إلى الله عز وجل، وأقول الظاهر إنهما في سائر أحوال الإنسان عن يمينه وعن شماله.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن عباس أنه قال: إن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فاحدهما أمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه خيرا كان أو شرا، وقرأ محمد بن أبي معدان «ما يلفظ» بفتح الفاء إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان
(13/329)
________________________________________
خيرا فهو صاحب اليمين وإن كان شرا فهو صاحب الشمال عَتِيدٌ معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك. وجماعة:
يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض، وفي شرح الجوهرة للقاني مما يجب اعتقاده أن لله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولا كانت أو عملا أو اعتقادا هما كانت أو عزما أو تقريرا اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئا فعلوه قصدا وتعمدا أو ذهولا ونسيانا صدر منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى. وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب، أخرج البيهقي في الشعب عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وإن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكما من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء، وقال بعضهم: يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محي منها المباحات وكتب ثانيا ماله ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجها للجمع بين القولين القول بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحوه عن ابن عباس. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به. ما أخرجه ابن أبي شيبة. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلا كان على حمار فعثر به فقال: تعست فقال صاحب اليمين: ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فاكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال،
وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه. والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعا، وفيه «فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئا وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة»
ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر، وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضا ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ما له الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة.
وفي شرح الجوهرة الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام، قال اللقاني بعد نقله: ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكي عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] الحفظة على الملائكة، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل.
وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في
(13/330)
________________________________________
الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمنا.
أخرج أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكّلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان: أنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا.
وقال الحسن: الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه.
وقال بعضهم: إن ملك الحسنات يتبدل تنويها بشأن الطائع وملك السيئات لا يتبدل سترا على العاصي في الجملة، والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا: يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين، وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب،
أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في الإخلاص. وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة بن حبيب قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال: ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين»
وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول: يا رب انه لم يعمله فيقول: سبحانه وتعالى إنه نواه، وقد يقال: إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المئوية
جمعا بين الأخبار، وجاء أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات.
أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي»
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»
وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين، ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين، فعن عثمان أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كم ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا قاله المهدوي في الفيصل، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى:
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] غير الكاتبين بلا خلاف، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك، والله تعالى أعلم بصحة ذلك.
وروى ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال: وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلا ولا نهارا، وقوله تعالى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين
(13/331)
________________________________________
دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لا قوه فخذوا حذركم، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع، وسَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهما يصيب العقل بما يصيب، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا، وليس بذاك، والباء إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، وقيل: حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وقيل:
بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له، وإما للملابسة كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر، وقيل: بالحكمة والغاية الجميلة، وقرىء «سكرة الحق بالموت» والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن (الحق) من أسمائه عز وجل، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم. وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا، ويوافق ذلك ما
أخرج البخاري. والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات»
وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت»
ذلِكَ أي الحق ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتعدل، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقا والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة، وإنما جيء بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ إلخ يناسب خطاب هؤلاء، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى.
وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق: 31] الآيات، وقال بعض الأجلة: الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا.
وقال الطيبي: إن كان قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ متصلا بقوله سبحانه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9] فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر، وإن كان متصلا بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ إلخ، وتفصيله بقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] . وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وفيه ما يعلم مما قدمنا. وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر، ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا هو للبر والفاجر، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي. وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم
أخرج ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت:
يا عين فابكي الوليد بن الوليد بن المغيرة ... كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
(13/332)
________________________________________
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
وأخرج أحمد. وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال رضي الله تعالى عنه: بل جاءت سكرة الموت إلخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى النفخ المفهوم من نُفِخَ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الواقع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وجوز أن تكون الإشارة إلى الزمان المفهوم من نُفِخَ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء، لكن قيل عليه: إن الإشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له، وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للإنسان مطلقا مع أنه يوم الوعد أيضا بالنسبة إليه للتهويل.
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرة والفاجر كما هو الظاهر مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وإن اختلفت كيفية السوق
(13/333)
________________________________________
والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها، وروي ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى، وقيل: الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا، وعن ابن عباس. والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان، وتعقبه ابن عطية بقوله: وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ يعم الصالحين، وقيل: السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها، وقيل: السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه. وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد، وفيه أيضا ما تقدم آنفا عن ابن عطية، وقال أبو مسلم: السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف، وقال أبو حيان: الظاهران سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع،
وفي الحديث «لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة»
ومَعَها صفة نَفْسٍ أو كُلُّ وما بعده فاعل به لاعتماده أو مَعَها خبر مقدم وما بعده مبتدأ. والجملة في موضع الصفة، واختير كونها مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به. وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم.
وقال الزمخشري. محل مَعَها سائِقٌ النصب على الحال من كُلُّ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل: كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدل عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الإفرادي والمجموعي، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية، وقد قال عليه في البحر: إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها، وأيضا كُلُّ تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل. وقرأ طلحة «محا سائق» بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقلبتا حاء كما قالوا: ذهب محم يريدون معهم، وقوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا محكي بإضمار قول، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس. وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل: الجملة محكية بإضمار قول هو صفة- لنفس- أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها: لقد كنت، والمراد بالغفلة الذهول مطلقا سواء كان بعد العلم أم لا، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها، وجوز الاستئناف على عموم الخطاب أيضا. وقرأ الجحدري «لقد كنت» بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله: يا نفس إنك باللذات مسرور.
على تأويلها بالشخص، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكي كما لا يخفى.
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحجاب المغطي لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها، وجعل ذلك غطاء مجازا، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين، وعلى كليهما يصح قوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي نافذ لزوال المانع للإبصار، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما. وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى
(13/334)
________________________________________
كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون، ولعمري إنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق. وفي البحر وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث، وقرأ الجحدري. وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف عَنْكَ وما بعده على خطاب النفس، ولم ينقل صاحب اللوامح الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال:
لم أجد عنه في لَقَدْ كُنْتَ الكسر فإن كسر فيه أيضا فذاك وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ كُلُّ وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى نَفْسٍ وهو مثل قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة: 112] وقوله سبحانه بعده وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 112] انتهى وَقالَ قَرِينُهُ أي شيطانه المقيض له في الدنيا كما قال مجاهد،
وفي الحديث «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي، ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي:
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأن هذا نظير قول الشيطان: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء: 119] وقوله: وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم: 22] وذاك نظير قوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] .
وقال قتادة وابن زيد: قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيرا إليه: هذا ما لدي حاضر، وقال الحسن: هو كاتب سيئاته يقول مشيرا إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض، وقيل: قرينه هنا عمله قلبا وجوارح وليس بشيء، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أو موصولة والظرف صلتها وعَتِيدٌ خبر بعد خبر لاسم الإشارة أو خبر لمبتدأ محذوف، وجوز أن يكون بدلا من ما بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها، وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو إن ما الموصول لإبهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة، والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخصمين. وقرأ عبد الله «عتيدا» بالنصب على الحال أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد بناء على أنهما اثنان لا واحد جامع للوصفين أو للملكين من خزنة النار أو لواحد على أن الألف بدل من نون التوكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، وأيد بقراءة الحسن «ألقينّ» بنون التوكيد الخفيفة، وقيل: إن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين فكثر على ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا واسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، وما في الآية محمول على ذلك كما حكي عن الفراء أو على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل بأن يكون أصله ألق ألق ثم حذف الفعل الثاني وأبقى ضميره مع الفعل الأولى فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر كما في قوله:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وحكي ذلك عن المازني والمبرد، ولا يخفى بعده، ولينظر هل هو حقيقة أو مجاز والأظهر أنه خطاب لاثنين وهو المروي عن مجاهد. وجماعة، وأيا ما كان فالكلام على تقدير القول كما مر، والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح أي اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم والنعمة عَنِيدٍ مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، وقريب منه قول الحسن: جاحد متمرد، وقال قتادة: أي منحرف عن الطاعة يقال: عند عن الطريق عدل عنه، وقال السدي: المشاق من العند وهو عظم يعرض في الحلق، وقال ابن بحر: المعجب بما عنده
(13/335)
________________________________________
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع للمال عن حقوقه المفروضة، قال قتادة. ومجاهد. وعكرمة: يعني الزكاة، وقيل: المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه: من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بشيء ما عشت، والمبالغة باعتبار كثرة بني أخيه أو باعتبار تكرر منعه لهم.
وضعف بأنه لو كان المراد ذلك كان مقتضى الظاهر مناع عن الخير، وفي البحر الأحسن عموم الخير في المال وغيره مُعْتَدٍ ظالم متخط للحق متجاوز له مُرِيبٍ شاك في الله تعالى ودينه، وقيل: في البعث.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بتأويل فيقال في حقه ألقياه أو لكونه في معنى جواب الشرط لا يحتاج للتأويل أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ أو من كَفَّارٍ وقوله تعالى: فَأَلْقِياهُ تكرير للتوكيد فهو نظير فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران: 188] بعد قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران: 188] والفاء هاهنا للإشعار بأن الإلقاء للصفات المذكورة أو من باب وحقك ثم حقك ينزل التغاير بين المؤكد والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي، ولا يدعي التغاير الحقيقي لأن التأكيد يأباه، وقول أهل المعاني: أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف ليس على إطلاقه بسديد، والنحويون على خلافه، فقد قال ابن مالك في التسهيل: فصل الجملتين في التأكيد بثم أن أمن اللبس أجود من وصلهما، وذكر بعض النحاة الفاء والزمخشري في الجاثية الواو أيضا، وجعلوا ذلك من التأكيد الاصطلاحي، ولو جعل الْعَذابِ الشَّدِيدِ نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله فكان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] دون تكرير لكان كما قال صاحب الكشف حسنا.
وجوز أن يكون مفعولا بمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ وقال ابن عطية: أن يكون صفة كَفَّارٍ وجاز وصفه بالمعرفة لتخصصه بالأوصاف المذكورة. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز وصف النكرة بالمعرفة ولو وصفت بأوصاف كثيرة قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت هذه الجملة استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنها جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فإنه مبني على سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال: هو أطغاني فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه: وَلكِنْ كانَ هو بالذات فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير قسر ولا الجاء، فهو كما قدمنا نظير وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: 22] إلخ قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال عز وجل: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطمعوا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، والجملة حال فيها تعليل للنهي ويلاحظ معنى العلم لتحصل المقارنة التي تقتضيها الحالية أي لا تختصموا لدي عالمين أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [ص: 85] فاتبعتموه معرضين عن الحق والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم وهو لازم يعدى بالباء، وجوز أن يكون قَدَّمْتُ واقعا على قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ ويكون بِالْوَعِيدِ متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول قدم عليه أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي، والأظهر استئناف هذه الجملة. وفي لَدَيَّ على ما قال الإمام وجهان: الأول أن يكون متعلقا بالقول أي ما يبدل القول الذي عنده.
(13/336)
________________________________________
الثاني أن يكون متعلقا بالفعل قبل أي لا يقع التبديل عندي، قال: وعلى الأول في القول الذي لديه تعالى وجوه.
أحدها قوله تعالى: أَلْقِيا أرادوا باعتذارهم أن يبدل ويقول سبحانه: لا تلقيا فرد عليهم.
ثانيها قوله سبحانه لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ إلخ. ثالثها الإيعاد مطلقا. رابعها القول السابق يوم خلق العباد هذا سعيد وهذا شقي. وعلى الثاني في معنى الآية وجوه أيضا. أحدها لا يكذب لدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى فلا يفيد قولكم أطغاني شيطاني وقول الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ثانيها لو أردتم أن لا أقول: فَأَلْقِياهُ كنتم أبدلتم الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي. ثالثها لا يبدل القول الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم: ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله: ربنا ما أشركنا وقوله: ربنا آمنا. والمشهور أن لَدَيَّ متعلق بالفعل على أن المراد بالقول ما يشمل الوعد والوعيد.
واستدل به بعض من قال بعدم جواز تخلفهما مطلقا. وأجاب من قال بجواز العفو عن بعض المذنبين بأن ذلك العفو ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وقال بعض المحققين: المراد نفي أن يوقع أحد التبديل لديه تعالى أي في علمه سبحانه أو يبدل القول الذي علمه عز وجل، فإن ما عنده تبارك وتعالى هو ما في نفس الأمر وهو لا يقبل التبديل أصلا، وأكثر الوعيدات معلقة بشرط المشيئة على ما يقتضيه الكرم وإن لم يذكر على ما يقتضيه الترهيب، فمتى حصل العفو لعدم مشيئته التعذيب لم يكن هناك تبديل ما في نفس الأمر فتدبره فإنه دقيق وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه، وفيه إشارة إلى أن تعذيب من يعذب من العبيد إنما هو عن استحقاق في نفس الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في هذه الجملة فتذكر.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي اذكر أو أنذر يوم إلخ. فيوم. مفعول به لمقدر، وقيل: هو ظرف. لظلام، وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب. بنفخ. كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم، وعليه يشار بذلك إلى يَوْمَ نَقُولُ لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لا سيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل: ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد، ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ.
وهذا الوجه كما قال في الكشف: فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضا على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلا على سبيل فرضه ممتدا واقعا ذلك في جزء منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت.
وقال أبو حيان: هو بعيد جدا قد فصل عليه بين العامل والمعمول بجمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما، وكذا في نظير ذلك من اشتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا.
وقال الرماني: الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم، وليس بشيء.
وقال غير واحد: هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنّة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة، فالاستفهام للإنكار أي لا مزيد على امتلائها وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أو مجازا عن الاستكثار، وقيل: المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فالاستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها، وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم.
(13/337)
________________________________________
واستشكل دعوى أن فيها فراغا بأنه مناف لصريح قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية. وأجيب بأنه لا منافاة لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أن ذلك باعتبار حالين فالفراغ في أول الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلىء، هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتلىء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة» .
وأخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله تعالى ينشىء لها خلقا»
وأول أهل التأويل ذلك، فقال النضر بن شميل: إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى: قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ولعل في الأخبار ما ينافيه.
وقال ابن الأثير: قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى، ويبعده ما
في حديث أحمد. وعبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعا «فيلقى فيها، أي النار، أهلها فتقول: هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليه فتنزوي وتقول: قدني قدني»
وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد، والإضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك، وقيل: وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل: يأتيها أمر الله تعالى فيكفها من طلب المزيد.
وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية ان القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال، وقيل: أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر: تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أو تحت رجلي، وهذان القولان أولى مما تقدم والله تعالى أعلم. والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعلّ إعلال المبيع.
وقرأ الأعرج وشيبة ونافع وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش «يوم يقول» بياء الغيبة. وقرأ عبد الله.
والحسن. والأعمش أيضا «يقال» . مبنيا للمفعول.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أخذ في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم وفيه مبالغة ليست في التخلية عن الظرف- فغير بعيد- صفة لظرف متعلق بأزلفت حذف فقام مقامه وانتصب انتصابه، ولذلك لم يقل غير بعيدة، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية والأصل وأزلفت إزلافا غير بعيد، قال الإمام: أي عن قدرتنا وإن يكون حالا من الجنة قصد به التوكيد كما تقول: عزيز غير ذليل لأن العزة تنافي الذل ونفي مضاد الشيء تأكيد إثباته، وفيه دفع توهم أن ثم تجوزا أو شوبا من الضد ولم يقل: غير بعيدة عليه قيل: لتأويل الجنة بالبستان، وقيل: لأن البعيد على
(13/338)
________________________________________
زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المؤنث والمذكر كالزئير والصليل فعومل معاملته وأجري مجراه، وقيل: لأن فعيلا بمعنى فاعل قد يجري مجرى فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الأمران، وللإمام في تقريب الجنة أوجه. منها طي المسافة التي بينها وبين المتقين مع بقاء كل في مكانه وعدم انتقاله عنه ولكرامة المتقين قيل: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ دون وأزلف المتقون للجنة، ومنها أن المراد تقريب حصولها والدخول فيها دون التقريب المكاني، وفيه ما فيه، ومنها أن التقريب على ظاهره والله عز وجل قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض أي إلى جهة السفل أو الأرض المعروفة بعد مدها، وقول بعض: إن المراد إظهارها قريبة منها على نحو إظهارها للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عرض حائط مسجده الشريف على ما فيه منزع صوفي هذا ما تُوعَدُونَ إشارة إلى الجنة، والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير قصد لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى:
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] وقوله سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22] ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر، وقيل: هو إشارة إلى الثواب. وقيل: إلى مصدر أُزْلِفَتِ والجملة بتقدير قول وقع حالا من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون، أو اعتراض بين المبدل منه أعني لِلْمُتَّقِينَ والبدل أعني الجار والمجرور وفيه بعد.
وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة، والجملة على هذه القراءة قيل: اعتراض أو حال من الجنة وقال أبو حيان: هي اعتراض، والمراد هذا القول هو الذي وقع الوعد به وهو كما ترى، وقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار أو من لِلْمُتَّقِينَ على أن يكون الجار والمجرور بدلا من الجار والمجرور حَفِيظٍ حفظ ذنوبه حتى رجع عنها كما روي عن ابن عباس وسعيد بن سنان، وقريب منه ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله تعالى منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: أي حفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه ونعمته.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير كنا نعد الأواب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أن يقوم قال: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقيل: هو الحافظ لتوبته من النقض ولا ينافيه صيغة أَوَّابٍ كما لا يخفى. وقوله تعالى شأنه: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل من كل المبدل من المتقين أو بدل ثان من المتقين بناء على جواز تعدد البدل والمبدل منه واحد. وقول أبي حيان: تكرر البدل والمبدل منه واحد لا يجوز في غير بدل البداء، وسره أنه في نية الطرح فلا يبدل منه مرة أخرى غير مسلم، وقد جوزه ابن الحاجب في أماليه، ونقله الدماميني في أول شرحه للخزرجية وأطال فيه، وكون المبدل منه في نية الطرح ليس على ظاهره، أو بدل من موصوف أَوَّابٍ أي لكل شخص أواب بناء على جواز حذف المبدل منه، وقد جوزه ابن هشام في المغني لا سيما وقد قامت صفته مقامه حتى كأنه لم يحذف ولم يبدل من أَوَّابٍ نفسه لأن أوابا صفة لمحذوف كما سمعت فلو أبدل منه كان للبدل حكمه فيكون صفة مثله، و «من» اسم موصول والأسماء الموصولة لا يقع منها صفة إلا الذي على الأصح، وجوز بعض الوصف بمن أيضا لكنه قول ضعيف أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها بتأويل يقال لهم ادخلوها لمكان الإنشائية والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى بِالْغَيْبِ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خَشِيَ أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه سبحانه وهو غائب عنه أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد، وقيل: الياء للآلة، والمراد بالغيب القلب لأنه مستور أي من خشي الرحمن بقلبه دون جوارحه بأن يظهر الخشية ليس في قلبه منها شيء وليس بشيء.
(13/339)
________________________________________
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز وجل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهم بسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه، وقال الإمام: يجوز أن يكون لفظ الرَّحْمنَ إشارة إلى مقتضى الخشية لأن معنى الرحمن واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو سبحانه في الدنيا رحمن حيث أوجدنا ورحيم حيث أبقانا بالرزق فمن يكون منه الوجود ينبغي أن يكون هو المخشي وما تقدم أولى.
والباء في قوله تعالى: بِقَلْبٍ للمصاحبة، وجوز أن تكون للتعدية أي أحضر قلبا منيبا. ووصف القلب بالإنابة مع أنها يوصف بها صاحبه لما أن العبرة رجوعه إلى الله تعالى، وأغرب الإمام فجوز كون الباء للسببية فكأنه قيل: ما جاء إلا بسبب آثار العلم في قلبه أن لا مرجع إلا الله تعالى فجاء بسبب قلبه المنيب وهو كما ترى، وقوله تعالى:
بِسَلامٍ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادْخُلُوها والباء للملابسة، والسلام إما من السلام أو من التسليم أي ادخلوها ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بتسليم وتحية من الله تعالى وملائكته ذلِكَ إشارة إلى أن الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور يَوْمُ الْخُلُودِ البقاء الذي لا انتهاء له أبدا أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت السلام بتقدير مضاف أيضا أي ذلك يوم إعلام الخلود أي الإعلام به لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المطالب كائنا ما كان فِيها متعلق بيشاؤون، وقيل: بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومنه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة أن تمر السحابة بهم فتقول: ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم.
وأخرج البيهقي في الرؤية. والديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: «يتجلى لهم الرب عز وجل» .
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن أنس أنه قال في ذلك أيضا: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة،
وجاء في حديث أخرجه الشافعي في الأم وغيره أن يوم الجمعة يدعى يوم المزيد
، وقيل: المزيد أزواج من الحور العين عليهن تيجان أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب وعلى كل سبعون حلة وان الناظر لينفذ بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وقيل: هو مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي كثيرا أهلكنا قبل قومك مِنْ قَرْنٍ قوما مقترنين في زمن واحد هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة كما قيل أو أخذا شديدا في كل شيء كعاد وقوم فرعون فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت، فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب. وغيره، وأنشدوا للحارث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال
ولامرىء القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي وقد طوفت، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: هو هربوا بلغة اليمن، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لهدى بن زيد، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله، ومنه قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد
(13/340)
________________________________________
مسبب عن اشتداد بطشهم وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا وقيل: هي على ما تقدم أيضا للسببية والعطف على أَهْلَكْنا على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ على إضمار قول هو حال من واو (نقبوا) أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالى أو من الموت؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من الله عز وجل أو من الموت، وقيل: ضمير (نقبوا) لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم.
وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن سيار وأبي حيوة والأصمعي عن أبي عمرو على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير، والأصل توافق القراءتين وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب. قرأ ابن عباس أيضا وعبيد عن ابن عمرو «فنقّبوا» بفتح القاف مخففة، والمعنى كما في المشددة، وقرىء بكسر القاف خفيفة من النقب محركا، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير، قال الراجز:
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم، ونقب الإقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤول المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أو نقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضا، وقد يستغنى عن التقدير بجعل الإسناد مجازيا إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك أو ما ذكر في السورة لَذِكْرى لتذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يدرك الحقائق فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم، وفي الكشف لِمَنْ كانَ إلخ تمثيل أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر على أنه من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به المتفطن لأن غير المتفطن منزل منزلة الغائب فهو إما استعارة أو مجاز مرسل والأول أولى، وجوز أن يكون من الشهادة وصفا للمؤمن لأنه شاهد على صحة المنزل وكونه وحيا من الله تعالى فيبعثه على حسن الإصغاء أو وصفا له من قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] كأنه قيل: وهو من جملة الشهداء أي المؤمنين من هذه الأمة فهو كناية على الوجهين، وجوز على الأول منهما أن لا يكون كناية على أن المراد وهو شاهد شهادة عن إيقان لا كشهادة أهل الكتاب.
وعن قتادة المعنى لمن سمع القرآن من أهل الكتاب وهو شاهد على صدقه لما يجده في كتابه من نعته، والأنسب بالمساق وإلا ملأ بالفائدة الأخذ من الشهود، والوجه جعل وَهُوَ شَهِيدٌ حالا من ضمير الملقى لا عطفا على أَلْقَى كما لا يخفى على من له قلب أو القى السمع وهو شهيد، والمراد أن فيما فعل بسوالف الأمم أو في المذكور إماما من الآيات لذكرى لإحدى طائفتين من له قلب يفقه عن الله عز وجل ومن له سمع مصغ مع ذهن حاضر أي لمن له استعداد القبول عن الفقيه إن لم يكن فقيها في نفسه، وأَوْ لمنع الخلو من حيث إنه يجوز أن يكون الشخص فقيها ومستعدا للقبول من الفقيه، وذكر بعضهم أنها لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع أو إلى فقيه ومتعلم أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها فتأمل.
وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهسم «أو ألقي» مبنيا للمفعول «السّمع» بالرفع على النيابة عن الفاعل والفاعل المحذوف أما المعبر عنه بالموصول أولا، وعلى الثاني معناه لمن ألقى غيره السمع وفتح أذنه ولم يحضر
(13/341)
________________________________________
ذهنه، وأما هو فقد ألقي وهو شاهد متفطن محضر ذهنه، فالوصف أعني الشهود معتمد الكلام، وإنما أخرج في الآية بهذه العبارة للمبالغة في تفطنه وحضوره، وعلى الأول معناه لمن ألقى سمعه وهو حاضر متفطن، ثم لو قدر موصول آخر بعد أَوْ فذو القلب والملقى غير أن شخصا ولو لم يقدر جاز أن يكونا شخصين وأن يكونا شخصا باعتبار حالين حال تفطنه بنفسه وحال القائه السمع عن حضور إلى متفطن بنفسه لأن (من) عام يتناول كل واحد واحد وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقدم الكلام فيها وَما مَسَّنا وما أصابنا بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر مِنْ لُغُوبٍ تعب ما فالتنوين للتحقير، وهذا كما قال قتادة. وغيره رد على جهلة اليهود زعموا أنه تعالى شأنه بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وعن الضحاك أن الآية نزلت لما قالوا ذلك، ويحكى أنهم يزعمون أنه مذكور في التوراة، وجملة وَما مَسَّنا إلخ تحتمل أن تكون حالية وأن تكون استئنافية، وقرأ السلمي وطلحة ويعقوب «لغوب» بفتح اللام بزنة القبول والولوع وهو مصدر غير مقيس بخلاف مضموم اللام فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقول المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الاستبعاد والإنكار فإن من قدر على خلق العالم في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء قادر على بعثهم والانتقام منهم، أو على ما يقول اليهود من مقالة الكفر والتشبيه.
والكلام متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا إلخ على الوجهين، وفي الكشف أنه على الأول متعلق بأول السورة إلى هذا الموضع وأنه أنسب من تعلقه، بلقد خلقنا، الآية لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض إلى هاهنا على ما لا يخفى على المسترشد.
وأنت تعلم أن الأقرب تعلقه على الوجهين بما ذكرنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه عز وجل بما يوجب التشبيه، أو نزهه عن كل نقص ومنه ما ذكر حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة وَمِنَ اللَّيْلِ مفعول لفعل محذوف يفسره فَسَبِّحْهُ باعتبار الاتحاد النوعي، والعطف للتغاير الشخصي أي وسبحه بعض الليل فسبحه أو مفعول لقوله تعالى: «سبحه» على أن الفاء جزائية والتقدير مهما يكن من شيء فسبحه بعض الليل، وقدم المفعول للاهتمام به وليكون كالعوض عن المحذوف ولتتوسط الفاء الجزائية كما هو حقها، ولعل المراد بهذا البعض السحر فإن فضله مشهور وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلاة جمع دبر بضم فسكون أو دبر بضمتين.
وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة وشبل والحرميان «إدبار» بكسر الهمزة وهو مصدر تقول: أدبرت الصلاة إدبارا انقضت وتمت، والمعنى ووقت انقضاء السجود كقولهم: آتيك خفوق النجم. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم، وعليه
فالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور، وأخرجه الطبراني في الأوسط. وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعا
، ومن الليل صلاة العتمة وإدبار السجود النوافل بعد المكتوبات أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وقال ابن عباس:
الصلاة قبل الطلوع الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان وإدبار السجود النوافل بعد الفرائض، وفي رواية أخرى عنه الوتر بعد العشاء، وفي أخرى عنه أيضا وعن عمر وعلي وابنه الحسن وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.
والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي ركعتان بعد المغرب، وأخرجه مسدد في مسنده. وابن المنذر وابن مردويه عن
(13/342)
________________________________________
علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا، وقال مقاتل: ركعتان بعد العشاء يقرأ في الأولى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وفي الثانية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ، وقيل: من الليل صلاة العشاءين والتهجد. وعن مجاهد صلاة الليل، وفيه احتمال العموم لصلاة العشاءين والخصوص بالتهجد وهو الأظهر وَاسْتَمِعْ أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريد به حقيقته، والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من أهوال يوم القيامة، وبين ذلك بقوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إلى آخره، وسلك هذا لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتعظيم لشأن المخبر به، وانتصب يَوْمَ بما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور، وقيل: المفعول محذوف تقديره نداء المنادى، وقيل: تقديره نداء الكافرين بالويل والثبور ويَوْمَ ظرف لذلك المحذوف، وقيل: لا يحتاج ذلك إلى مفعول والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا، وقيل: معنى استمع انتظر، والخطاب لكل سامع، وقيل: للرسول عليه الصلاة والسلام ويَوْمَ منتصب على أنه مفعول به لاستمع أي انتظر يوم ينادي المنادي فإن فيه تبين صحة ما قلته كما تقول لمن تعده بورود فتح: استمع كذا وكذا. والمنادي على ما في بعض الآثار جبريل عليه السلام ينفخ إسرافيل في الصور وينادي جبريل يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والشعور المتقطعة إن الله يأمرك بأن تجتمعي لفصل الحساب. وأخرج ابن عساكر. والواسط في فضائل بيت المقدس عن يزيد بن جابر أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيقول: يا أيتها العظام النخرة إلى آخره فيكون المراد بالمنادي هو عليه السلام. وفي الحواشي الشهابية الأول هو الأصح مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ هو صخرة بيت المقدس على ما روي عن يزيد بن جابر وكعب وابن عباس وبريدة وقتادة، وهي على ما روي عن كعب أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وفي الكشاف أنها أقرب إليها باثني عشر ميلا وهي وسط الأرض، وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل إلا بوحي، ثم إن كونها وسط الأرض مما تأباه القواعد في معرفة العروض والأطوال، ومن هنا قيل: المراد قريب ممن يناديهم فقيل:
ينادي من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم فيسمع من كل شعرة يا أيتها العظام النخرة إلخ، ومن الناس من قال: المراد بقربه كون النداء منه لا يخفى على أحد بل يستوي في سماعه كل أحد، والنداء في كل ذلك على حقيقته، وجوز أن يكون في الإعادة نظير كن في الابتداء على المشهور فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ولا نداء ولا صوت حقيقة، ثم إن ما ذكرناه من أن المنادي ملك وأنه ينادي بما سمعت هو المأثور، وجوز أن يكون نداؤه بقوله للنفس: ارجعي إلى ربك لتدخلن مكانك من الجنة أو النار أو هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وأن يكون المنادي هو الله تعالى ينادي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] أو أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] مع قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر: 46، ق: 34] أو خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة: 30] أو أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27، القصص: 62، 74، فصلت: 47] أو غير ذلك، وأن يكون غيره تعالى وغير الملك من المكلفين ينادي يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] أو أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 50] أو غير ذلك، والمعول عليه ما تقدم يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي النفخة الثانية، ويَوْمَ بدل من يَوْمَ يُنادِ إلخ، والعامل فيهما ما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ كما تقدم، وجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه ذلك ويَوْمَ يُنادِ غير معمول له بل لغيره على ما مر، وأن يكون ظرفا لينادي، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ في موضع الحال من الصَّيْحَةَ أي يسمعونها ملتبسة بالحق الذي هو البعث، وجوز أن يكون (الحق) بمعنى اليقين والكلام نظير صاح بيقين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصدى وغيره فكأنه قيل: الصيحة المحققة، وجوز أن يكون الجار متعلقا بيسمعون على أن المعنى يسمعون بيقين، وأن يكون الباء للقسم و (الحق) هو الله تعالى أي يسمعون الصيحة أقسم بالله وهو كما ترى ذلِكَ أي اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور وهو من أسماء يوم القيامة.
(13/343)
________________________________________
وقيل: الإشارة إلى النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر، أو الكلام على حذف مضاف أي ذلك النداء نداء يوم الخروج أو وقت ذلك النداء يوم الخروج إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ بدل بعد بدل، ويحتمل أن يكون ظرفا للمصير أي إلينا مصيرهم في ذلك اليوم أو لما دل عليه ذلِكَ حَشْرٌ أي يحشرون يوم تشقق. وقرأ نافع وابن عامر «تشّق» بشد الشين وقرىء «تشقّق» بضم التاء مضارع شققت على البناء للمفعول و «تنشّق» مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي «تتشقّق» بتاءين، وقوله تعالى:
سِراعاً مصدر وقع حالا من الضمير في «عنهم» بتأويل مسرعين والعامل «تشقق» وقيل: التقدير يخرجون سراعا فتكون حالا من الواو والعامل يخرج، وحكاه أبو حيان عن الحوفي ثم قال: ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يَوْمَ تَشَقَّقُ أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: تمطر السماء عليهم حتى تنشق الأرض عنهم، وجاء إن أول من تنشق عنه الأرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر وعمر ثم أهل البقيع فيحشرون معي ثم انتظر أهل مكة وتلا ابن عمر يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً»
ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به عز وجل فإنه سبحانه العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة وغير ذلك مما لا خير فيه، وهذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي ما أنت مسلط عليهم تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت منذر، فالباء زائدة في الخبر وعَلَيْهِمْ متعلق به.
ويفهم من كلام بعض الأجلة جواز كون (جبار) من جبره على الأمر قهره عليه بمعنى أجبره لا من أجبره إذ لم يجىء فعال بمعنى مفعل من أفعل إلا فيما قل كدراك وسراع، وقال علي بن عيسى: لم يسمع ذلك إلا في دراك.
وقيل: جبار من جبر بمعنى أجبر لغة كنانة وإن «عليهم» متعلق بمحذوف وقع حال أي ما أنت جبار تجبرهم على الإيمان واليا عليهم، وهو محتمل للتضمين وعدمه فلا تغفل، وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم، وعليه قيل: الآية منسوخة، وقيل: هي منسوخة على غيره أيضا بآية السيف فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»
وما أنسب هذا الاختتام بالافتتاح بقوله سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] هذا وللشيخ الأكبر قدس سره في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ولغير واحد من الصوفية في قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] كلام أشرنا إليه فيما سبق، ومنهم من يجعل ق إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات والله من ورائهم محيط، وقيل: هو إشارة إلى مقامات القرب، وقيل: غير ذلك، وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(13/344)
________________________________________
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
سورة الذّاريات
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما- ولم يحك في ذلك خلاف- وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق، وأن الجزاء لواقع، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أي الرياح التي تذرو التراب وغيره من- ذرا- المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر.
فَالْجارِياتِ يُسْراً أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (1)
__________
(1) (تنبيه) جرينا هنا في تقسيم هذا الجزء هكذا لما هو المشهور من تجزئة الأجزاء الأربعة الأواخر لذلك ليكون أو كل جزء منها أو سورة وإن كانت تجزئة المصاحف في هذا الجزء هي قوله «قال فما خطبكم أيها المرسلون» .
(14/3)
________________________________________
أخرج البزار والدارقطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الحاملات وقرا» قال: هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الجاريات يسرا» قال: هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «المقسمات أمرا» قال: هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس» .
ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع.
وفي رواية عن ابن عباس أن- الحاملات- هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم، وقيل: هي الحوامل من جميع الحيوانات، وقيل: الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز وجل، وقيل: هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه، وقيل: هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة، وقيل: الذَّارِياتِ النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا، وقيل: الذَّارِياتِ هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها، وقيل: الحاملات الرياح الحاملة للسحاب، وقيل: هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا، وقيل: الجاريات الرياح تجري في مهابها، وقيل: المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد، وقيل: هي الكواكب السبعة السيارة- وهو قول باطل- لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد، وفي صحيح البخاري عن قتادة «خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين.
وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم» وزاد رزين «وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة» وعن الربيع مثله وزاد «والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم» ذكره صاحب جامع الأصول، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها- كما تذر- وما تذروه تثير السحاب وتحمله، وتجري في الجوّ جريا سهلا- وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار- والمعول عليه ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعا له من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر- وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأين منه الامام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقول صاحب الكشف: إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها
(14/4)
________________________________________
من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح، وقيل: الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره، وقيل: إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.
ونصب ذَرْواً على أنه مفعول مطلق، ووِقْراً على أنه مفعول به، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا، ويُسْراً على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه، وأَمْراً على أنه مفعول به وهو واحد الأمور، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر، وقيل على أنه حال أي مأمورة، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال، وقرىء «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله- كما أفاده كلام الزمخشري- وناهيك به إماما في اللغة، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق- لحاملات- من معناها كأنه قيل:
فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب للقسم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه، أو توعدون به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد، وأن يكون مضارع أوعد، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] ولأن المقصود التخويف والتهويل، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه، وفي الكشاف وعد صادق- ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21]- والدِّينَ الجزاء ووقوعه حصوله، والأكثرون على أن الموعود هو البعث، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق جمع حبيكة كطريقة، أو حباك كمثال ومثل، ويقال: حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح، وعليه قول زهير يصف غديرا:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك (1)
وحبك الشعر لآثار تثنية وتكسره، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر، وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع: ذات الخلق المستوي الجيد، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان، وقيل: ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم:
حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها، وفرس محبوك المعاقم- وهي المفاصل- أي محكمها، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر، وعن الحسن- حبكها- نجومها، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل: ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة
__________
(1) قوله: «مكلل» مجرور على الوصف في قوله: قبله ثم استعانت- ماء مكلل- ذلك الماء بأصول النبات وصارت حوله كالإكليل، «والخريق» الريح الباردة الشديدة الهبوب و «الضاحي» الظاهر، و «حبك الماء طرائفة» . اهـ.
(14/5)
________________________________________
منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته، أو متقنة البنيان أو صفيقة، أو ذات طرق معقولة ظاهر، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السماوات، فممراتها باعتبار المسامتة طرق، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناء على أن السماوات شفافة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه،
وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي السماء السابعة
، وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل.
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ممالك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو «الحبك» بإسكان الباء على زنة القفل، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة (1) وبرق، وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء- كالإبل- وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا، وأبو مالك والحسن وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء- كالسلك- وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع- قاله في البحر- وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما- كالجبل- قال أبو الفضل الرازي: فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال: هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء (2) وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول، وقال صاحب اللوامح: هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى.
وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة، وقال أبو حيان: الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحياء لحركة تاء ذاتِ في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض في أمر الله عز وجل حيث تقولون: إنه جل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه، وفي أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فتقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا، وفي أمر الحشر فتقولون: تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالإيمان به، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيئاتها، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة، أو ليست قوية محكمة، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه، وقال الحسن وقتادة: عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال غير واحد: عن القرآن، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم، ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل: يُصْرَفْ عَنْهُ [الأنعام: 16] المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي
__________
(1) هي أرض ذات حجارة.
(2) هكذا بالتاء الفوقية والظاهر أنها بالباء الموحدة.
(14/6)
________________________________________
في الموصول، وهو قريب من قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] وقيل: المراد يُصْرَفْ عَنْهُ في الوجود الخارجي من فَصَرَفَ عَنْهُ [يوسف: 34] في علم الله تعالى وقضائه سبحانه، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عز وجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما تُوعَدُونَ أو- للدين- أقسم سبحانه- بالذاريات- على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا: يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه، وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلاؤم الكلام، وقيل: يجوز أن يكون الضمير- لقول مختلف- وعن- للتعليل كما في قوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] وقوله:
ينهون عن أكل وعن شرب ... مثل المها يرتعن في خصب (1)
أي يصرف بسبب ذلك القول المختلف من أراد الإسلام، وقال الزمخشري: حقيقة يصدر إفكهم عن القول المختلف، وهذا محتمل لبقاء- عن- على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة، وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال: المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق الله تعالى للإسلام من غلبت سعادته، وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الاستعمال في الإفك الصرف من خير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين، ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار- وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره- واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر، واستظهر العموم فيما سبق أيضا، والقول المختلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقول الكفار بنقيض ذلك، وقرأ ابن جبير وقتادة «من أفك» مبينا للفاعل أي من أفك الناس عنه وهم قريش، وقرأ زيد بن علي- يأفك عنه من أفك- أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب، وقرىء «يؤفن عنه من أفن» بالنون فيهما أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له، وقال الراغب: حقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له: خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون: 1] الآية انتهى.
وفيه بحث وحقيقة- القتل- معروفة، والمراد- بقتل- الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك، وقرىء «قتل الخراصين» أي قتل الله الخراصين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه ساهُونَ غافلون عما أمروا به، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.
__________
(1) يصف الشاعر مضيافا يصدر الأضياف عنه شباعا يتباهون في السمن بسبب الأكل والشرب وقالوا جمل ناه إذا كان عريقا في السمن اهـ.
(14/7)
________________________________________
يَسْئَلُونَ أي بطريق الاستعجال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول، أو لقول مقدر- أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء- وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في أَيَّانَ ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: 10] صار ملحقا بالزمانيات وكذلك- كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز- وهذا جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه، وقرىء «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يحرقون، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك، ويَوْمَ نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده- أي يقع يوم الدين يوم هم على النار- إلخ، وقال الزجاج: ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع، أو كائن يوم إلخ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل- أي هو يوم هم- إلخ، والضمير قيل: راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو- سيقولون لله- في جواب مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 16] لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع، وجوابه الأصلي في يوم كذا، وإذا قلت: وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه.
ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى، فالتقدير يوم الجزاء- يوم تعذيب الكفار- ويؤيد- كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف- قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني «يوم هم» بالرفع، وزعم بعض النحاة أن- يوم- بدل من يَوْمُ الدِّينِ وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء، ويَوْمَ وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاء، وحكي على المعنى، ولو حكي على اللفظ لقيل: يوم نحن على النار نفتن، وهو في غاية البعد كما لا يخفى، وقوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يُفْتَنُونَ أي مقولا لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم المعدّ لكم، وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب- كالكفر- فتنة، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل: ذوقوا كفركم- أي جزاء كفركم- أو بجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر- أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء- وجوز أن يكون هذا بدلا من فِتْنَتَكُمْ بتأويل العذاب، وفيه بعد إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منّه تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب آخِذِينَ على الحال من الضمير في الصرف إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ حصل بها تفسير، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الفرائض إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر، ولا يكاد تجعل جملة كانُوا إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
(14/8)
________________________________________
و الهجوع- النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلا، وغيره بالقليل، وما إما مزيدة- فقليلا- معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي- هجوعا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة، أو لغو متعلق- بيهجعون- ومِنَ للابتداء، وجملة يَهْجَعُونَ خير- كان- أو قَلِيلًا صفة لظرف محذوف- أي زمانا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة على نحو- قليل من المال عندي- وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل قَلِيلًا وهو خبر- كان- ومِنَ اللَّيْلِ حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار مِنَ اللَّيْلِ وإما مصدرية فالمصدر فاعل قَلِيلًا وهو خبر كان أيضا، ومِنَ اللَّيْلِ بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، ومِنَ الابتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن مِنَ على زيادة- ما- بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في مِنَ اللَّيْلِ كونه صفة، أو بيانا- للقليل- لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره يَهْجَعُونَ وجوز أن يكون ما يَهْجَعُونَ على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قليلا وهو بعيد، وجوز في ما أن تكون نافية، وقَلِيلًا منصوب- بيهجعون- والمعنى- كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله- ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو- عوتب بلا جرم- ولم ولن- لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه
بقوله:
ونحن عن فضلك ما استغنينا نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] وقال الضحاك: كانُوا قَلِيلًا في عددهم، وتم الكلام عند قَلِيلًا ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ على أن ما نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب قَلِيلًا على الظرفية، ومِنَ اللَّيْلِ صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: قَلِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها.
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا، وفسر أنس ابن مالك الآية- كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم- فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.
(14/9)
________________________________________
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الاحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.
وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر- وبه قال الحسن.
أخرج عنه ابن جرير وغيره أنه قال: صلوا فلما كان السحر استغفروا، وقيل: المراد طلبهم المغفرة بالصلاة، وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال:
يَسْتَغْفِرُونَ يصلون، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا
ولا أراه يصح، وأخرج أيضا عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله تعالى يقول: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله عز وجل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. لِلسَّائِلِ الطالب منهم وَالْمَحْرُومِ وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس.
أخرج ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم»
وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، وقيل: هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان، وقال زيد بن أسلم: هو الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: من ماتت ماشيته، وقيل: من ليس له سهم في الإسلام، وقيل: الذي لا ينمو له مال، وقيل: غير ذلك- قال في البحر: وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه- وأنا بقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقول- وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة، وقيل: أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم، وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم، والجمهور على الأول.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط
(14/10)
________________________________________
رحمته عز وجل لِلْمُوقِنِينَ للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، وقرأ قتادة- آية- بالإفراد وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى، وقيل: أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية، وقيل: في الأخير وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبّب، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهو سماء لغة، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن- أرزاقكم- على الجمع.
وَما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك- ما توعدون- الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف، وقال بعضهم: هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقيل: أمر الساعة، وقيل: الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها، وقيل: إنه مستأنف خبره.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ على أن ضمير إِنَّهُ ل ما وعلى ما تقدم، فإما له أو للرزق، أو لله تعالى، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو للقرآن، أو للدين في إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] أو لليوم المذكور في أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] أو لجميع المذكور أما ما أقوال، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جرير أي إن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع، ونصب مِثْلَ على الحالية من المستكن في لَحَقٌّ وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم، وقيل: إنه مبني على الفتح فقال المازني:
لتركبه مع ما حتى صارا شيئا واحدا نحو- ويحما- وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر:
أثور ما أصيدكم أو ثورين ... أم هذه الجماء ذات القرنين
وقال غيره: لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي وأَنَّكُمْ إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو أَنَّكُمْ إلخ، والجملة صفة، أو صلة، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت ما زائدة، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة لَحَقٌّ أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم مِثْلَ بالرفع، وفي البحر أن الكوفيين يجعلون- مثلا- ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية- واستدلالهم، والرد عليهم مذكور على النحو- وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى،
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا»
وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: ممن
(14/11)
________________________________________
الرجل؟ قلت: من بني أصمع قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علي فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال:
وهل غير هذا؟ فقرأت فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد، وفي الكشف فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظا للقسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مديحا فيه صدق المبلغ، وقضى الوطر من تفصيله مهّد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالإتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه: هَلْ أَتاكَ إلخ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى: وَفِي مُوسى عطفا على قوله سبحانه وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجى مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم- والترجيح مع الأول انتهى- وسيأتي إن شاء الله تعالى ما سيتعلق بقوله سبحانه: وَفِي مُوسى، و (الضيف) في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد، قيل: كانوا اثني عشر ملكا، وقيل: ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية الْمُكْرَمِينَ أي عند الله عز وجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار، وقرأ عكرمة «المكرّمين» بالتشديد إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل، أو للضيف، أو ل الْمُكْرَمِينَ إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد، أو منصوب بإضمار اذكر فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، وأوجب في البحر حذف الفعل لأن المصدر سادّ مسدّه فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها، وقال ابن عطية:
يتجه أن يعمل في سَلاماً قالوا: على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا: تحية وقولا معناه «سلام» ونسب إلى مجاهد وليس بذاك.
قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام، وقيل: سَلامٌ خبر مبتدأ محذوف أي أمري سَلامٌ وقرئا مرفوعين، وقرىء- سلاما قال سلما- بكسر السين وإسكان اللام والنصب، والسلم السلام، وقرأ ابن وثاب والنخعي وابن جبير وطلحة- سلاما قال سلم- بالكسر والإسكان والرفع، وجعله في البحر على معنى نحن أو أنتم سلم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام، أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، وقَوْمٌ خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها، وذهب بعض المحققين إلى
(14/12)
________________________________________
أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وأنه عليه السلام قاله في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك. وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية، وقال: يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى، قال ابن المنير: وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، وقال الراغب: الروغ الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو أمر يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا، وتشعر الفاء بأنه عليه السلام يبادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يمنعه الضيف، أو يصير منتظرا فَجاءَ بِعِجْلٍ هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا سَمِينٍ ممتلىء الجسد بالشحم واللحم يقال: سمن- كسمع- سمانة بالفتح وسمنا- كعنب- فهو سامن وسمين، وكحسن السمين خلقة كذا في القاموس، وفي البحر يقال: سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر، واسم الفاعل والقياس سمن وسمن، وقالوا: سامن إذا حدث له السمن انتهى، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذقت ثقة بدلالة الحال عليها، وإيذانا بكمال سرعة المجيء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به، وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هيء من الطعام قبل وروده، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منه لأكرمهم به.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه لديهم، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، قيل: عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف، وقيل: إنكار لعدم تعرضهم للأكل،
وفي بعض الآثار أنهم قالوا: إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام: إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا: وما هو؟ قال: أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عز وجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض: بحق اتخذه الله تعالى خليلا
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر. وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف قالُوا لا تَخَفْ إنا رسل الله تعالى، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم، وعلى ما روي عن الحبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام، وقيل: مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما بإطلاع الله تعالى إياهم عليه، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن وَبَشَّرُوهُ وفي سورة [الصافات: 112] وَبَشَّرْناهُ أي بواسطتهم بِغُلامٍ هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود، والقصة واحدة، وقال مجاهد: إسماعيل بن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح عَلِيمٍ عند بلوغه واستوائه، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي
(14/13)
________________________________________
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة الجميلة والقوة ونحوهما، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور، وعن الحسن عَلِيمٍ نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب.
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أي سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار عن الملائكة، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة هاهنا تصححها، وقيل: أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني فِي صَرَّةٍ في صيحة من الصرير قاله ابن عباس، وقال قتادة وعكرمة: صرتها رنتها، وقيل: قولها أوه، وقيل: يا ويلتي، وقيل: في شدة، وقيل: الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء- وإلى هذا ذهب ابن بحر- قال: أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظرا إلى الملائكة عليهم السلام، والجار والمجرور في موضع الحال، أو المفعول به إن فسر (أقبلت) بأخذت قيل: إن فِي عليه زائدة كما في قوله:
يجرح في عراقيبها نصلي والتقدير أخذت صيحة، وقيل: بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذ من أفعال المقاربة فَصَكَّتْ وَجْهَها قال مجاهد: ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتاه، وقيل: إنها وجدت حرارة الدم فلطمت
(14/14)
________________________________________
وجهها من الحياء، وقيل: إنها لطمته تعجبا وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء وَقالَتْ عَجُوزٌ أي أنا عجوز عَقِيمٌ عاقر فكيف ألد، وعقيم فعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس قالُوا كَذلِكَ أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به قالَ رَبُّكِ وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز وجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا، وروي أن جبريل عليه السلام قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله عز وجل حقا وفعله سبحانه متقنا لا محالة، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر، وإنما لم يذكر هاهنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر- هاهنا وفي سورة هود..
قالَ أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر فَما خَطْبُكُمْ أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط عليه السلام لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي طين متحجر وهو السجيل وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردا فان بعض الناس يسمي البرد حجارة مُسَوَّمَةً معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب، وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا، وقيل: مسومة مرسلة من أسمت الإبل في المرعى، ومنه قوله تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] عِنْدَ رَبِّكَ أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عز وجل، والمراد أنها معلمة في أول خلقها، وقيل: المعنى أنها في علم الله تعالى معدّة لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد في الفجور، وأل- عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين، ووضع الظاهر. موضع الضمير ذمّا لهم بالإسراف بعد ذمّهم بالإجرام، وإشارة إلى علة الحكم، وقوله تعالى: فَأَخْرَجْنا إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليهم السلام من الكلام، والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل: فقاموا منه وجاؤوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [الحجر: 65] إلخ مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط عليه السلام فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى: مِنَ الْمُسْلِمِينَ فالكلام بتقدير مضاف، وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازا، والمراد بهم- كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم- عن مجاهد لوط وابنتاه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: كانوا ثلاثة عشر، واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى: مَنْ كانَ أولا، وغَيْرَ بَيْتٍ ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ مَنْ كانَ وأين كان إلى غير ذلك، ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال: ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فما وجد ملائكتنا
(14/15)
________________________________________
فيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل.
وَتَرَكْنا فِيها أي في القرى آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من العذاب، قال ابن جريج: هي أحجار كثيرة منضودة، وقيل: تلك الأحجار التي أهلكوا بها، وقيل: ماء منتن قال الشهاب: كأنه بحيرة طبرية، وجوز أبو حيان كون ضمير فِيها عائدا على الاهلاكة التي أهلكوا فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل، وإمطار الحجارة، والظاهر هو الأول لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية وَفِي مُوسى عطف على وَتَرَكْنا فِيها بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى، والجملة معطوفة على الجملة، أو هو عطف على فِيها بتغليب معنى عامل الآية، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو:
علفتها تبنا وماء باردا لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه: وَفِي مُوسى فقول أبي حيان: لا حاجة إلى إضمار تَرَكْنا لانه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الاول فيه بحث، وقيل: فِي مُوسى خبر لمبتدأ محذوف أي وَفِي مُوسى آية، وجوز ابن عطية. وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ وما بينهما اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر، وتعقبه في البحر بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله إِذْ أَرْسَلْناهُ قيل: بدل من مُوسى، وقيل: هو منصوب بآية، وقيل: بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا، وقيل: بتركنا.
إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية لأن معناه ثنى عطفه، أو للملابسة، وقال قتادة:
تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه، وقيل: تولى بقوته وسلطانه، والركن يستعار للقوة- كما قال الراغب- وقرىء بركنه بضم الكاف اتباعا للراء وَقالَ ساحِرٌ أي هو ساحر أَوْ مَجْنُونٌ كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا، أو بغير اختياره فيكون جنونا، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله- فأو- للشك، وقيل: للإبهام، وقال أبو عبيدة: هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 109، الشعراء: 34] وقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] وأنت تعلم أن اللعين يتلوّن تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواوأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ
طرحناهم غير معتّدين بهم ي الْيَمِ
في البحر، والمراد فأغرقناهم فيه، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى هُوَ مُلِيمٌ
أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالافعال هنا للاتيان بما يقتضي معنى ثلاثيه كأغرب إذا أتى أمرا غريبا، وقيل: الصيغة للنسب، أو الإسناد للسبب- وهو كما ترى- وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا على طرز ما تقدم عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة ففعيل بمعنى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة، وقال بعضهم وهو
(14/16)
________________________________________
حسن: سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم، وفعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول، وهذه الريح كانت الدبور لما
صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور»
وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء
، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا، والمعول عليه ما ذكرنا أولا، ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ ما تدع شيئا أَتَتْ عَلَيْهِ جرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الشيء البالي من عظم، أو نبات، أو غير ذلك من رمّ الشيء بلي، ويقال للبالي: رمام كغراب، وأرم أيضا لكن قال الراغب يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي، والرمة بالضم بالحبل البالي، وفسره السدي هنا بالتراب، وقتادة بالهشيم، وقطرب بالرماد، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب، والجملة بعد إِلَّا حالية. والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس. أو ديار. أو شجر. أو غير ذلك، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ أخرج البيهقي في سنة عن قتادة أنه ثلاثة أيام- وإليه ذهب الفراء وجماعة- قال: تفسيره قوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا [هود: 65] ، وقوله تعالى: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يدل على أن العتو مؤخر، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل: وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر، فالفاء للتفصيل قال في الكشف. وهو الظاهر من هذا المساق، وكذلك قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جيء بالظرف مجيء الفضلة حيث جعل فيه الآية، والقصة من توليهم إلى هلاكهم انتهى، وقال الحسن: هذا أي- القول لهم تمتعوا حتى حين- كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم- ثم عتوا بعد ذلك- قال في البحر: ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال: قال بعض المفسرين: المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور، فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له. تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب انتهى، وما تقدم أبعد مغزى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي أهلكتهم، روي أن صالحا عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام، وقال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب. ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء، وقيل: صيحة منها فهلكوا، وقرأ عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما والكسائي الصعقة وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا، أو الصيحة وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها، وقال مجاهد: يَنْظُرُونَ بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف: 78، 91، العنكبوت: 37] وقيل: هو من قولهم: ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه، وروي
(14/17)
________________________________________
ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم، فإن ما قبله يدل عليه، أو واذكر، وقيل: عطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ، وقيل: في نَبَذْناهُمْ
لأن معنى كل فأهلكناهم- وهو كما ترى- وجوز أن يكون عطفا على محل وَفِي عادٍ أو وَفِي ثَمُودَ وأيد بقراءة عبد الله وأبي عمرو وحمزة والكسائي
وقوم بالجر، وقرأ عبد الوارث ومحبوب والأصمعي عن أبي عمرو وأبو السمال وابن مقسم. وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء، والخبر محذوف أي أهلكناهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المهلكين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وَالسَّماءَ أي وبنينا السماء بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، ومثله- الآد- وليس جمع «يد» وجوزه الامام وإن صحت التورية به وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة، فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلا عن السماء، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، وعن الحسن لَمُوسِعُونَ الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ إلى ما تقدم من قوله سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مبالغة في المن ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام، وقيل: أي لموسعوها بحيث إن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، وقيل: أي لجاعلون بينها وبين الأرض سعة، والمراد السعة المكانية، وفيه على القولين تتميم أيضا وَالْأَرْضَ أي وفرشنا الأرض فَرَشْناها أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن، وقرأ أبو السمال ومجاهد وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين ذكرا وأنثى- قاله ابن زيد وغيره- وقال مجاهد: هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض إلى غير ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة، وقيل: أريد بالجنس المنطقي، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلا المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد، ومن النامي المدرك والنبات، ومن المدرك الصامت والناطق وهو كما ترى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عز وجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه، وقيل: خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام، وقيل: المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه، وقرأ أبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ تفريع على قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل، والمعنى قل يا محمد:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ لمكان إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه منذرا من الله سبحانه بالمعجزات، أو مُبِينٌ ما يجب أن يحذر عنه.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عطف على الأمر، وهو نهي عن الإشراك صريحا على نحو وحدوده ولا تشركوا، ومن الأذكار المأثورة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكرر قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة، وقيل: إن
(14/18)
________________________________________
المراد بقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر وَلا تَجْعَلُوا إلخ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه، وإِنِّي لَكُمْ إلخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري: في الآية: فروا إِلَى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر إِنِّي لَكُمْ إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الايمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف: 110] ، وقوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله.
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: 8] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه: الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل: ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال: الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه يأتي على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من رسول إتيانا مثل إتيانهم إِلَّا قالُوا إلخ لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعلم لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولا لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحرا أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان ما وضمير قبلهم لقريش أي ما أتى الذين من قبل قريش مِنْ رَسُولٍ أي رسول من رسل الله تعالى إِلَّا قالُوا في حقه ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، وأو- قيل: من الحكاية أي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ، أو قالوا مَجْنُونٌ وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض: ساحر وقال بعض: مجنون وقال بعض: ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت- أو- على التفصيل انتهى فلا تغفل.
واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الامام بقوله: لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم
(14/19)
________________________________________
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتى به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد- ما أتى الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا- إلخ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن في حين أرسل إلا زوجته حواء، ولعله أولى مما قيل: إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك، واستشكلت أيضا بأن إِلَّا قالُوا يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال: الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا- وفيه ما فيه- وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين- وفيه ما لا يخفى- فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعن النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك أَتَواصَوْا بِهِ تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا، وقيل: إنكار للتواصي أي ما تواصوا به.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباء وعنادا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على التولي بعد ما بذلت الجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود.
وَذَكِّرْ آدم على فعل التذكير والموعظة ولا تدع ذلك فالأمر بالتذكير للدوام عليه والفعل منزل منزلة اللازم، وجوز أن يكون المفعول محذوفا أي فذكرهم وحذف لظهور الأمر.
فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم، أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين، وفي البحر يدل ظاهر الآية على الموادعة وهي منسوخة بآية السيف، وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلخ، وقال: أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال سبحانه: وَذَكِّرْ إلخ فنسختها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى وَذَكِّرْ إلخ.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم
(14/20)
________________________________________
الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل: لأن الأمر فيهم مسلم، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل، وقيل:
لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة، وقيل: المراد بالجن ما يتناولهم لأنه من الاستتار وهم مستترون عن الإنس، وقيل: لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق، وقد أشير إليهما بقوله تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ورد بقوله سبحانه: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102، الرعد: 16، الزمر: 62، غافر: 62] ولَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وأل في الجن والإنس على المشهور للاستغراق، واللام قيل: للغاية والعبادة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لأجلها أي لإرادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف بالمشاهدة، وأيضا ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيا بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف، ألا تراهم يقولون للقويّ جسمه: هو مخلوق للمصارعة، وللبقر: هي مخلوقة للحرث.
وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك، وأما الارادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم، وتعوّق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وهذا معنى مكشوف انتهى. فتأمل، وقيل: المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، ونحوه ما قيل: المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي، وقيل: المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي، ويراد بالعبد العبد بالإيجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] لكن قيل عليه: إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء، وقيل: العبادة بمعنى التوحيد بناء على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وعليه قول من قال: لا يدخل النار كافر، أو المراد كما قال الكلبي: إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال عز وجل: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة: 5] فذكر العبادة المسببة
(14/21)
________________________________________
شرعا عن الأمر أو اللازمة له، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذي يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم، وقال مجاهد: إن معنى لِيَعْبُدُونِ ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد، ولعل السر فيه التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل: وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى،
وقد جاء «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين الفرغاني في منتهى المدارك، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وكذا قال الزركشي والحافظ بن حجر وغيرهما: ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول: إنه ثابت كشفا، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل: أل في الْجِنَّ وَالْإِنْسَ للعهد، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا الآية أي بناء على أن اللام فيها ليست للعاقبة، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان، وأيد بقوله تعالى قيل: فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وأيده
في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما
، ومن الناس من جعلها للجنس، وقال: يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنين الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير- كما ذهب إليه كثير من السلف، والمحدثين- وقد سمعت أن منهم من يقسم الارادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها، وعليه يجوز أن يبقى الْجِنَّ وَالْإِنْسَ على شمولهما للعاصين، ويقال: إن العبادة مرادة منهم أيضا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذا الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة.
هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذا الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى:
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] على تقدير كون الاشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها، ودفعه بعضهم يكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك ملاك العبيد نفى عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي، وذكر الإمام فيه وجهين: الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين:
قسم يتخذونه لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها، فكأنه قال سبحانه: إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل
(14/22)
________________________________________
هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومن يقرب الطعام؟ وليسوا كذلك وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فإذا هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وإليه ذهب الامام، وذكر في الآية لطائف: الاولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء حوائجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه. فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الارادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه: لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم، الثالثة أنه سبحانه قال: ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل، وقال سبحانه: ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة اليه للفعل نفسه، الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل:
ما أريد منهم من عين ولا عمل، الخامسة أن ما لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى، فتأمله.
ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى، ونحوه ما قيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه،
وفي الحديث «يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني»
فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه وقيل: الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام: 90] والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبة والخطاب، وقد قرىء بهما في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:
12] ، وقيل: المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في مِنْهُمْ ويُطْعِمُونِ ولا ينافي ذلك قراءة- أني أنا الرزاق- فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول، أو الائتمار لا لعدم الإرادة، نعم لا شك في أنه قول بعيد جدا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز وجل عن الرزق ذُو الْقُوَّةِ أي القدرة الْمَتِينُ شديد القوة، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الامام: كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا وكونه عز وجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل: ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين، وكان الظاهر- أني أنا الرزاق- كما جاء في قراءة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى العبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر، وتحتاج القراءة الاخرى إلى ما ذكرناه آنفا، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل: لأن في ذُو كما قال ابن حجر الهيتمي وغيره تعظيم ما أضيف إليه، والموصوف بها والمقام يقتضيه
(14/23)
________________________________________
ولذا جيء بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة: وقال الإمام: لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، ثم قال: إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25] وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ إلخ لما اقتضى المقام ذلك، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر، وقرأ ابن محيصن- الرازق- بزنة الفاعل، وقرأ الأعمش وابن وثاب- المتين- بالجر، وخرج على أنه صفة القوة، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، أو لإجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة- لذو- وجر على الجوار- كقولهم هذا جحر ضب خرب- وضعف فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أي نصيب أَصْحابِهِمْ أي نظرائهم من الأمم السالفة، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، قال الجوهري: ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
يروى أن الحارث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة (1) ومن استعمالها في النصيب قول الآخر:
لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب
وهو استعمال شائع، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز:
إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
وإن أبيتم فلنا القليب فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الإتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه، ويقال: استعجلت كذا إن طلبت وقوعه بالعجلة، ومنه قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 48، الأنبياء: 38، النمل: 71، سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فويل لهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما
__________
(1) «شأس» هو جد علقمة بن عبدة مدح بهذه القصيدة الحارث بن أبي شمر الغساني لما كان عنده أسيرا فأمر بإطلاقه وجميع أسرى بني تميم و «الخابط» الطالب، ومعنى البيت أنت الذي أنعمت على كل حي بنعمة واستحق من نداك ذنوبا اهـ.
(14/24)
________________________________________
أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. ومِنْ في قوله سبحانه: مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ للتعليل والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول، والمراد بذلك اليوم قيل: يوم بدر، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوي، وقيل: يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والله تعالى أعلم.
ومما قاله بعض أهل الاشارة في بعض الآيات: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة فَالْحامِلاتِ وِقْراً إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين فَالْجارِياتِ يُسْراً إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب، وقد قال العاشق المجازي:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... نسيم كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
ومنها فَالْحامِلاتِ وِقْراً دواء قلوب العاشقين كما قيل:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها

إن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها
ومنها «الجاريات» من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الإنس بسهولة لتنعش قلوبهم، ومنها «المقسمات» ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز وجل إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الإمكان، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليعرفون، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا
من روايته صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني»
وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلفظ «كنت كنزا لا أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني» إلى غير ذلك، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء، وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها غير معروف لها معرفة وجودية- فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث- فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب
(14/25)
________________________________________
تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه، وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله: لا أعرف بدل مخفيا، وثالثا بأن مخفيا بمعنى ظاهر من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه، وترتيب قوله سبحانه: «فأحببت أن أعرف» إلخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد، روى الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين، والشيخ محيي الدين قدس سره ذكر في معنى- الكنز- غير ذلك فقال في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته: لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم بالحادث في قوله: «كنت كنزا» إلخ فجعل نفسه كنزا، والكنز لا يكون إلا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما لبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه.
(14/26)
________________________________________
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
سورة الطّور
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي، وثمان وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الحجازي، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد، وقال الجلال السيوطي: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ الطور اسم لكل جبل على ما قيل: في اللغة العربية عند الجمهور، وفي اللغة السريانية عند بعض، ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا طُورِ سِينِينَ [التين: 2] الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده، ويقال له: طور سيناء أيضا، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة، وقال أبو حيان في تفسير سورة «التين» : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، وقال في تفسيره: هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف
(14/27)
________________________________________
البكالي: إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال، قيل: وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي، وقيل: جبل من جبال الجنة، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة، وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين، وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته.
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى:
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء: 13] ، وقال الكلبي: هو التوراة، وقيل: هي. والإنجيل.
والزبور وقيل: القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ، وفي البحر لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الاحتمال، والتنكير قيل: للإفراد نوعا، وذلك على القول بتعدده، أو للإفراد شخصا، وذلك على القول المقابل، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: 14] ففي التنكير كمال التعريف، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكّر أو عرف، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ والرق بالفتح ويكسر، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال: ترقرق الشيء إذا لمع. أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها. والمنشور المبسوط والوصف به قيل: للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضا لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه، وقيل: هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناء على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظهر للملائكة عليهم السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناء على أنه اللوح، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناء على الأقوال الأخر، وفي البحر مَنْشُورٍ منسوخ ما بين المشرق والمغرب
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إلخ
،
وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها.
وروي عن مجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت، وقال الحسن: هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة، وأنت تعلم أن من المجاز المشهور- مكان معمور- بمعنى مأهول مسكون يحل الناس في محل هو فيه، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ أي السماء كما رواه جماعة، وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه
، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة، وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد، وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي الموقد نارا.
(14/28)
________________________________________
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه لرجل من اليهود: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: البحر فقال كرم الله تعالى وجهه: ما أراه إلا صادقا، وقرأ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ

[التكوير: 6] وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش، وقال قتادة: المسجور المملوء يقال: سجره أي ملأه، والمراد به عند جمع البحر المحيط، وقيل:
بحر في السماء تحت العرش، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وفي البحر أنهما قالا فيه ماء غليظ، ويقال له: بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به القضاء الواسع المملوء ملائكة، وعن ابن عباس «المسجور» الذي ذهب ماؤه، وروى ذو الرمة الشاعر، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الاضداد، وحمل كلامه رضي الله تعالى عنه على إرادة البحر المعروف، وأن ذهاب مائه يوم القيامة، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عنى المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه، وقيل الْمَسْجُورِ المختلط، وهو نحو قولهم للخليل المخالط: سجير، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودّة صاحبه، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها، وقيل: اختلاطها بحيوانات الماء، وقيل: المفجور أخذا من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار: 3] ويحتمله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الاضداد أيضا، وقال منبه بن سعيد، هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموأها، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا- وبه أقول- وبأن المسجور بمعنى الموقد، ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح، وهو هاهنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز وجل مع كونها متعلقة بالمبدأ والمعاد، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه السلام، ومهبط آيات البدء والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق، ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ لأنه مطاف الرسل السماوية، ومظهر لعظمته تعالى، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات، وفيه الجنة: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ لأنه محل النار، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن- الرق المنشور- لا يناسبها لأنها كانت في الألواح، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في- رق- وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم، وقال الإمام: يحتمل أن تكون الحكمة في القسم- بالطور والبيت المعمور والبحر المسجور- أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه، أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز وجل بما خاطب، وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وقد قال عنده: «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
وأما البحر فليونس عليه السلام قال فيه: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها، وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم ذكر وجها آخر، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما، والواو الاولى للقسم وما بعدها على
(14/29)
________________________________________
ما قال أبو حيان للعطف، والجملة المقسم عليها قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أي لكائن على شدّة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- واقع- بدون لام، وقوله تعالى: ما لَهُ مِنْ دافِعٍ خبر ثان- لأن- أو صفة لَواقِعٌ أو هو جملة معترضة، ومِنْ دافِعٍ إما مبتدأ للظرف أم مرتفع به على الفاعلية، ومِنْ مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما، وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب، وهو لا يأتي أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة «ومن غريب ما يحكى» أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال: تهيأ لما لا يسر فقال له: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قوله عز وجل: وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص، وقوله سبحانه: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً منصوب على الظرفية (1) وناصبه (واقع) أو دافِعٍ أو معنى النفي وإبهام أنه لا ينتفي دفعه غير ذلك اليوم بناء على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم، ومنع مكي أن يعمل فيه- واقع- ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر، ومعنى تَمُورُ تضطرب كما قال ابن عباس أي ترتج وهي في مكانها، وفي رواية عنه تشقق، وقال مجاهد: تدور، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب، وقيل: التحرك في تموج، وقيل: الجريان السريع، ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً عن وجه الأرض فتكون هباء منبثّا، والإتيان بالمصدرين الإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي إذا وقع ذلك (2) أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطر كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها، وقرأ زيد بن علي والسيلمي وأبو رجاء «يدعّون» بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون دَعًّا حالا أي ينادون إليها مدعوعين (3) ويَوْمَ إما بدل من يوم تَمُورُ أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك يَوْمَ إلخ،
__________
(1) لأنه مفعول فيه.
(2) يشير إلى أن الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر. اهـ. [.....]
(3) الحال مقدرة لأن الدفع بعد الدعوة، وقيل: إنها مقارنة بإجراء قرب الوقوع مجرى المقارنة وفيه نظر.
(14/30)
________________________________________
ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها، وقوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هذا توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل: كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحر أيضا وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ.
أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذا جملة واردة تقريعا مثل هذا النار إلخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره، ودل عليه قوله تعالى: فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ وقوله سبحانه: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم: هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول:
أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ، وأَمْ كما هو الظاهر منقطعة، وفي البحر لما قيل لهم: هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال، والظاهر أنه جعل أَمْ معادلة والأول أبعد مغزى.
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه.
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه- فسواء- خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك، وقوله تعالى: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب، وجوز أن يكون من جملة المقبول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوي كما لا يخفى.
فاكِهِينَ متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الإحسان، وقرىء- فكهين- بلا ألف، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني من جنات الواقع خبرا لأن، وقرأ خالد- فاكهون- بالرفع على أنه الخبر، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام، ومن أجاز بعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على «في جنات» على تقدير كونه خبرا كأنه قيل: استقروا فِي جَنَّاتٍ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ إلخ، أو على آتاهُمْ إن جعلت (ما) مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة، وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا. والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن، وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال. وإما من فاعل آتى أو من مفعوله. أو منهما، وإظهار الرب في موقع
(14/31)
________________________________________
الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة «وقّاهم» بتشديد القاف كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا، فالكلام بتقدير القول: وهَنِيئاً نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر. أو على أنه مفعول به، وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق- بكلوا واشربوا، على التنازع، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت (1)
فإن ما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال كأنه قيل: هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلا على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله، وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل كفى على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم إلخ، وفيه نوع تكلف مُتَّكِئِينَ نصب على الحال قال أبو البقاء: من الضمير في كُلُوا أو في وَقاهُمْ أو في آتاهُمْ أو في فاكِهِينَ أو في الظرف يعني في جنات، واستظهر أبو حيان الأخير عَلى سُرُرٍ جمع سرير معروف، ويجمع على أسرّة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف.
مَصْفُوفَةٍ مجعولة على صف وخط مستو وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن- قاله الراغب- ثم قال: ولم يجىء في القرآن زوجناهم حورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين، وقيل: فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الإلصاق، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم، وقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ عطف على آمنوا، وقيل اعتراض للتعليل، وقوله تعالى: بِإِيمانٍ متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناء على تفاوت مراتب نفس الإيمان، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء اليه، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل: هو حال من الذرية، وقيل: من الضمير وتنوينه للتعظيم، وقيل: منهما وتنوينه للتنكير
__________
(1) هذا البيت من قصيدة مشهورة لكثير أولها
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم احللا حيث حلت
قيل كان كثير في حلقة البصرة ينشد أشعاره فمرت به عزة مع زوجها فقال لها: أغضبيه فاستحيت من ذلك فقال لتغضبنه أو لأضربنك فدنت من الحلقة فأغضبته، وذلك أن قالت: هذا وهذا بفم الشاعر فقال ذلك.
(14/32)
________________________________________
والمعول عليه ما قدمنا أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الدرجة.
أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية» وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
،
وفي رواية ابن مردويه والطبرائي عنه أنه قال: «إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به»
وقرأ ابن عباس الآية، وظاهر الاخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصاله بهم أحيانا ولو للزيارة. وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل، وما قيل: لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه، وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته وَما أَلَتْناهُمْ أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ أي من ثواب عملهم مِنْ شَيْءٍ أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان، وقال ابن زيد- الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا- وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار.
وروي عن الحبر والضحاك أنهما قالا: إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل: وكأن من يقول بذلك يفسر اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى، وقيل:
الموصول معطوف على حور، والمعنى قرنّاهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ عطف على زَوَّجْناهُمْ وقوله سبحانه:
بِإِيمانٍ متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره، وقيل عليه: إنه تعصب منه، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم.
وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بقطع الهمزة وفتحها، وإسكان التاء، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا، وابن عامر كذلك رفعا، وقرأ «ذرّيّاتهم» بكسر الذال «واتبعتهم ذريتهم» بتاء الفاعل، ونصب ذريتهم على المفعولية، وقرأ الحسن وابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب، وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت، وابن مسعود وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش، ورويت عن شبل وابن كثير، وعن طلحة والأعمش أيضا- لتناهم- بفتح
(14/33)
________________________________________
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
اللام، قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد، وقال: لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية- وليس كما قال- بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز، وقرىء وما ولتناهم من ولت يلت، ومعنى الكل واحد، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال: لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ أي بكسبه وعمله رَهِينٌ أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب، ولذا قال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر: 38، 39] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى: هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 28] ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين- المدعوعين. والمتقين- وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم، قال في الكشف: ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداء لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد، وقيل: رَهِينٌ فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت، وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء، فالجملة تعليل لما قبلها، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى.
(14/34)
________________________________________
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء، وأصل المدّ الجر، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاعر في الزيادة، وغلب الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المدّ نفسه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل:
نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

وقيل: التنازع مجاز عن التعاطي، والكأس مؤنث سماعي كالخمر، ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الامتلاء، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازا لعلاقة المجاورة، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر، وبعضهم بالخمر، والاول أوفق بالتجاذب، والثاني بقوله سبحانه: لا لَغْوٌ فِيها أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام وَلا تَأْثِيمٌ ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا لغو» «ولا تأثيم» بفتحهما وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي بالكأس غِلْمانٌ لَهُمْ أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، وقيل: أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف لم تنله الأيدي- كما قال ابن جبير- ووجه الشبه البياض والصفاء، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن،
أخرج عبد الرزاق ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
«والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»
وروي «أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيء ألف ببابه لبيك لبيك» .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسؤولا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جدا قالُوا أي المسئولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل هذا الحال فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله عز وجل معتنين بطاعته سبحانه، أو وجلين من العاقبة، وفِي أَهْلِنا قيل: يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون بيانا لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى: فَمَنَّ
(14/35)
________________________________________
اللَّهُ عَلَيْنا
أي بالرحمة والتوفيق وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به، وقال الحسن: السَّمُومِ اسم من أسماء جهنم عاما لهم ولأهلهم، فالمراد بيان ما منّ الله تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم، وقيل: ذكر فِي أَهْلِنا لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأسا، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليست بشيء، وقيل: لعل الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز وجل: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بيانا للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي المحسن ما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان- كبرّ في يمينه- أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير، وأبرّ الله تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة، وأبرّ فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس، أو العالي في صفاته، أو خالق البرّ، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات، أو غايات ذلك البر؟ الرَّحِيمُ الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب، وقرأ أبو حيوة «ووقّانا» بتشديد القاف، والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي «أنّه» بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه فَذَكِّرْ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل.
فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب، والباء في بِكاهِنٍ مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن وَلا مَجْنُونٍ واختلف في باء بِنِعْمَةِ فقال أبو البقاء: للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن، أو مجنون، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبسا بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه عز وجل، وقيل: للقسم فنعمة ربك مقسم به، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو- ما أنت بكاهن ولا مجنون- وهذا كما تقول: ما زيد والله بقائم وهو بعيد، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه، والمراد الرد على قائل ذلك، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس، وقيل: الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله تعالى عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وممن قال كاهن: شيبة بن ربيعة، وممن قال مجنون: عقبة بن أبي معيط أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ أي ننتظر بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي الدهر، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها، ومنه حبل منين أي مقطوع، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل، والمراد بنزوله إهلاكه، وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر:
(14/36)
________________________________________
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت حليلها
وبيت أبي ذؤيب
أمن المنون وريبه يتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
قيل: ظاهره ذلك، وكذلك قول الأعشى:
أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر متبل خبل
ولهذا أنشده الجوهري شاهدا له، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا: المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه، وقد يراد به المنية فيؤنث، وقد روي ريبها، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل، وهو أيضا من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات، ولذا قيل: المنية تقطع الأمنية، وريب المنون عليه نزول المنية، وجوز أن يكون معنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار- كما قال الضحاك- تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك ما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت، وقرأ زيد بن علي «يتربّص» بالياء مبنيا للمفعول، وقرىء «ريب» بالرفع على النيابة.
قُلْ تَرَبَّصُوا تهكم بهم، وتهديد لهم فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى- وذلك على ما قال الجاحظ- لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة، وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟! فقال: تلك عقول كادها الله عز وجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا- وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم- ولعلها تدل على ضد ذلك بِهذا التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل، وقيل: جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيها مضمرا في النفس، وتثبت له الأمر على طريق التخييل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحصنة الخارجة عن دائرة العقول، وقرأ مجاهد «بل هم» أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه.
وقال ابن عطية: معناه قال عن الغير إنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص، وضمير المفعول للقرآن بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى إِنْ كانُوا صادِقِينَ فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة
(14/37)
________________________________________
على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدّعى، وجوز أن يكون ردّا لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادا منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم، وقرأ الجحدري، وأبو السمال بحديث مثله على الاضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدا منهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق، وقال الطبري: المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات، وقيل: المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون، ومِنْ عليه للسببية، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح له، ويؤيده قوله سبحانه: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى:
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الطور: 36] إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا، وقال ابن عطية: المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل وانقاد له أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا، ويمسكوها عمن شاؤوا، وقال الرماني: خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه، وقال ابن عطية: المعنى أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن الله تعالى، وقال الزهري: يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب، وفي معناه قول ابن عباس:
المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغرا كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات، وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر، وواحد من الأسماء وهو مجيمر اسم جبل، وقرأ الأكثر الْمُصَيْطِرُونَ بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالا والظرفية على حقيقتها، وقيل: هو متعلق- بيستمعون- على تضمينه معنى الصعود.
وقال أبو حيان: أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول يَسْتَمِعُونَ محذوف أي كلام الله تعالى، قيل: ولو نزل منزلة اللازم جاز فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدق استماعه أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ تسفيه لهم وتركيك لعقولهم، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ مصدر ميمي
(14/38)
________________________________________
من الغرم والغرامة وهو- كما قال الراغب- ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير- لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول- مُثْقَلُونَ أي محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ويخبرون به الناس- قاله ابن عباس- وقال ابن عطية: أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم، وقال قتادة: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يتربصون به، وفسر بعضهم يَكْتُبُونَ بيحكمون أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلّى الله عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار فَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل: ولذا وقعت كلمة أَمْ مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر، ومثله على ما قال الشهاب: لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه عز وجل.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة فهو مفرد وقد قرىء في جميع القرآن كسفا وكسفا جمعا وإفرادا إلا هنا فإنه على الإفراد وحده، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفا عظيما مِنَ السَّماءِ ساقِطاً لتعذيبهم يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم سَحابٌ أي هو سحاب مَرْكُومٌ متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم فَذَرْهُمْ فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقى يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد: من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل: يصعقون بفتح الياء والعين، والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوم يوم بدر، وقيل: وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم، ولا يخفى أن التعرّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعا بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر، وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى في مدافعته الكيد والحيل، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضا يصعقون وهم داخلون في عموم «من» وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح، عن الثاني بأن الكلام على نهج قوله:
(14/39)
________________________________________
على لا حب لا يهتدى بمناره فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان، وقيل: هو يوم القيامة- وعليه الجمهور- وفيه بحث، وقيل: هو يوم موتهم، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفع العذاب عنهم وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولا أوليا عَذاباً آخر دُونَ ذلِكَ دون ما لا قوه من القتل أي قبله وهو- كما قال مجاهد- القحط الذي أصابهم سبع سنين.
وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح، وفسر دُونَ ذلِكَ بقبل يوم القيامة بناء على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك، وعنه أيضا. وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير، وذهب إليه بعضهم بناء على أن دُونَ ذلِكَ بمعنى وراء ذلك كما في قوله:
يريك القذى من دونها وهو دونها وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه، ودُونَ ذلِكَ بقبله، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر، أو المصائب الدنيوية، وفي مصحف عبد الله- دون ذلك تقريبا- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا، أو لا يعملون شيئا.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي في حفظنا وحراستنا، فالعين مجاز عن الحفظ، ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور، وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في «طه» لإضافته إلى ضمير الواحد، ولوح الزمخشري- في سورة المؤمنين- إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظا يكلؤونه بأعينهم، وقال العلامة الطيبي: إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام، وهاهنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل انتهى، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور، وقرأ أبو السمال «بأعينّا» بنون مشددة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر، والمراد سبحه تعالى واحمده حِينَ تَقُومُ من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير،
وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس:
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال: كفارة لما يكون في المجلس»
والآثار في ذلك كثيرة، وقيل: حين تقوم إلى الصلاة، أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: «حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول: سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية:
حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» وحكاه في البحر عن ابن عباس وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: «سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة» وروي نحوه عن ابن السائب، وقال زيد أسلم: «حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر» وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما
(14/40)
________________________________________
يلوح به تقديمه على الفعل وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح، وقيل:
التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، وَإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر، وعن عمر رضي الله تعالى عنه وعلي كرم الله تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل: وإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر، وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب- أدبار- بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقد أي في أعقابها إذا غربت، أو خفيت بشعاع الشمس.
هذا ونظم الآيات من قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطور: 30] إلى قوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ إلخ فيه غرابة ولم أر أحدا كشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه الله تعالى خيرا، ولغاية حسنه- وكونه مما لا مزيد عليه- أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار ما، فأقول: قال: أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى:
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الأنبياء: 5] : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه، والثاني أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاء لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به، فالمتعين هو الثاني، ووجهه- والله تعالى أعلم- أن قوله: فَذَكِّرْ معناه إذ ثبت كون العذاب واقعا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار، ومن قوله تعالى: فَما أَنْتَ إلى قوله سبحانه: هُمُ الْمَكِيدُونَ تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي، وقوله سبحانه: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [الطور: 29] إلخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولا على فساد آرائهم ويجعله دستورا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيا وأرجحهم عقلا وأبينهم آيا منذ ترعرع الى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون، ثم ترقى مضربا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقديما قيل: أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم، وقوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور: 31] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولا تلويحا بقوله تعالى: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ [الطور: 32] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة، ثم قيل: لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراء وعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر- في الأحقاف- ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته، ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار، والتدرج عن الشعر هاهنا عكس التدرج اليه في الأنبياء لأن بناء الكلام هاهنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل: إن افتراءه لا
(14/41)
________________________________________
يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءات كثيرة، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الاضراب في الردّ فقيل: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ [الطور: 33] وعقب بقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا [الطور: 34] ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما، ثم الشعر، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فهو ينسبه الى الافتراء حيث لم يرسله، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور: 36] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بمازن، فكأنه قيل: مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه
لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم، فالأول لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث إن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته، والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا البتة، وأدمج فيه إنكارهم للمعاد، ونسبتهم إياه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [الطور: 41] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 37] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبيّن فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل: لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم، وقيل: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ [الطور: 38] وذيل بقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ [الطور:
39] إشعارا بأنه من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل: ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما، ثم قيل: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً [الطور:
40] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا، أو جاها، أو ذكرا، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث، ثم قيل أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ على معنى بل أعندهم اللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز الى الأخير: ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاء لحق الإعجاز، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث إنهم لم يرسلوه، وهذا من تلك الحيثية، ومن حيث إنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا لا يقفون على هذا المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إله غيره، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا
(14/42)
________________________________________
أظهر في هذا المساق انتهى، وكأن ما بعد تأكيدا لأمر (1) طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية، ويعلم مما ذكره- لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة- أن أَمْ في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية، والإضراب هاهنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم.
ومما ذكروه من باب الاشارة في بعض الآيات وَالطُّورِ إشارة إلى قالب الإنسان وَكِتابٍ مَسْطُورٍ إشارة إلى سره فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ إشارة إلى قلبه وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى روحه وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى صفته وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر، وقيل:- الطور- إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك- والكتاب المسطور في الرق المنشور- إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى بحر القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى، وقيل: إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون، ووصفه- بالمسجور- إما لأنه مملوء منهم، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز وجل، وقيل: غير ذلك فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي يخوضون في غمرات البحر اللجى الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وهو عذاب الحجاب كُلُوا من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية وَاشْرَبُوا من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي مقام العبودية وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي عند نزول السكينة عليك وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عند ظهور نور شمس الوجه، وتسبيحة سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) هكذا الأصل وصوابه «تأكيد لأمر طغيانهم» برفع تأكيد.
(14/43)
________________________________________
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
سورة النجم
وتسمى أيضا سورة- النجم- بدون واو وهي «مكية» على الإطلاق، وفي الإتقان استثنى منها الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ إلى اتَّقى [النجم: 32] ، وقيل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم: 33] الآيات التسع، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي، وإحدى وستون في غيره، وهي كما
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون
،
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا»
وهو أمية بن خلف،
وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال: يكفي هذا
، فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى: إِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 49] وافتتحت هذه بقوله سبحانه: «والنجم» وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم: 32] الآية
فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحارث الأنصاري «قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية كلها»
وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] إلخ قال سبحانه هنا في الكفار، أو في الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار، ثم قال: وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد، وفي صحة كون قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية نزل لما ذكر نظر عندي، وكون قوله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل.
(14/44)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روي عن الحسن ومعمر بن المثنى، ومنه قوله:
فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها

ومعنى هَوى غرب، وقيل: طلع يقال هوى يهوي كرمى يرمي هويا بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له وهويا بالضم للعلو، والطلوع، وقيل: الهوى بالفتح للإصعاد والهوى بالضم للانحدار وقيل: الهوى بالفتح والضم للسقوط ويقال أهوى بمعنى هوى، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد، وأهوى إذا انقض له، وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي: أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة، وعن ابن عباس في رواية أقسم عز وجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين، وقيل: المراد بالنجم معين فقال مجاهد وسفيان: هو الثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها،
ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا طلع النجم صباحا ارتفعت العاهة»
وقول العرب:- طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كساء، طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسية- وفسر هويها بسقوطها مع الفجر، وقيل: هو الشعرى المرادة بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النجم: 49] والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها، وقيل: الزهرة وكانت تعبد، وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد: النَّجْمِ المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإِذا هَوى بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه السلام،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج
، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين، وقيل: هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: العلماء على إرادة الجنس، والمراد بهويهم قيل: عروجهم في معارج التوفيق إلى حظائر التحقيق. وقيل:
غوصهم في بحار الافكار لاستخراج درر الأسرار. وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف بأن أصله اسم جنس لكل كوكب، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبه الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل: وَالنَّجْمِ الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله وَما غَوى أي وما اعتقد باطلا قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ما ضَلَّ من عطف الخاص على العام اعتناء بالاعتقاد، وإشارة إلى أنه المدار.
وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل:
وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ما ضَلَّ عنها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وَما غَوى فهو من باب:
(14/45)
________________________________________
وثناياك إنها إغريض والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما نفي عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم: فاوضت جار الله في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقال: العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟! وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا، فرجع وقال: العامل فيه مصدر محذوف، والتقدير- وهوى النجم إذا هوى- فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره، وقال عبد القاهر: إخبار الله تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع إذا لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي، وقيل: إنه متعلق بعامل هو حال من النجم، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا، وأن إِذا للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالا مقدرة أو تجرد إِذا لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدا به، فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الإطلاق كما ذكره النحاة، أو النجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث، والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه، وإنما الوجه،- على ما قيل- ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في المغني، وتخصيص القسم بوقت الهوي ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة، وأما على الأولين فقيل: لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب، وإنما يهتدي به عند هبوطه، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو، وقيل: لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عز وجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل وَما يَنْطِقُ أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه:
صاحِبُكُمْ والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعن في قوله تعالى: عَنِ الْهَوى وقيل: هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار النفي كما مر مرارا في نظائره إِنْ هُوَ أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق إِلَّا وَحْيٌ من الله عز وجل يُوحى يوحيه سبحانه إليه، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي، وقيل: ضمير يَنْطِقُ للقرآن فالآية كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا.
واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحيا لا نطقا عن الهوى، وحاصله منع كبر القياس، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي يستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين، وقال القاضي البيضاوي: إنه حينئذ
(14/46)
________________________________________
بالوحي لا وحي، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحيا حقيقة، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى على العموم فإن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة لا يقول بأن ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه استمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل؟ فقيل: ما هو إلا وحي يوحيه الله عز وجل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فتأمل، وفي الكشف أن في قوله تعالى: ما يَنْطِقُ مضارعا مع قوله سبحانه: ما ضَلَّ وَما غَوى ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبىء، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم عَلَّمَهُ الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن، أو الوحي، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام شَدِيدُ الْقُوى هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع- فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة ذُو مِرَّةٍ ذو حصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل: إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوي العقل والرأي ذُو مِرَّةٍ من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين، وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال: ذو شدة في أمر الله عز وجل واستشهد له، وحكى الطيبي عنه أنه قال: ذو منظر حسن واستصوبه الطبري، وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن: وهو في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى»
بمعنى ذي قوة، وفي الكشف إن المرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فَاسْتَوى أي فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادئ النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود- ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي كلام على ما قال الخفاجي: طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل:
فهل رآه على صورته الحقيقية؟ فقيل: نعم رآه فاستوى إلخ، وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى: ما أَوْحى
بيان لكيفية التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل: إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على عَلَّمَهُ على معنى
(14/47)
________________________________________
علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام، وقيل: استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن: هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل استوى، وقال الفراء والطبري: إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبرائيل عليه السلام، وجوز العكس، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين ثُمَّ دَنا أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فَتَدَلَّى فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل:
تدلى عليها بين سب وخيطة ... بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

ومن أسجاع ابنة الخس- كن حذرا كالقرلى إن رأى خيرا تدلى، وإن رأى شرا تولى- فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح، نعم إن جعل بمعنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه فَكانَ أي جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قابَ قَوْسَيْنِ أي من قسي العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم، والقاب، وكذا القيب والقاد والقيد، والقيس المقدار، وقرأ زيد بن علي قاد، وقرىء قيد وقدر، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان، وفسر به هنا قيل: وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابي قوس، وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب، وعن مجاهد والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال الخفاجي: إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز، وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف- أي فكان ذا قاب قوسين- ونحوه قوله:
فأدرك إبقاء العرادة ظلعها ... وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبا منه، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة الى اعتبار الحذف وليس بذاك أَوْ أَدْنى أي أو أقرب من ذلك، وأَوْ للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول: هو قاب قوسين أو أدنى، والمراد إفادة شدة القرب فَأَوْحى
أي جبريل عليه السلام إِلى عَبْدِهِ
أي عبد الله وهو النبي صلّى الله عليه وسلم، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام، ومنه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ما أَوْحى
أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] وقال أبو زيد: الضمير المستتر لله عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مروي عن الحسن
(14/48)
________________________________________
وهو الأحسن، وقيل: ضمير (أوحى) الأول والثاني لله تعالى والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى ما كَذَبَ الْفُؤادُ أي فؤاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما رَأى ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب، وقيل: أي ما كَذَبَ الْفُؤادُ البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر. قرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر ما كَذَبَ مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أي من عند الله تعالى يُوحى ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحي وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى علم صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات، وقوله تعالى:
فَاسْتَوى وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه، وقوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل، وقوله سبحانه: فَأَوْحى
أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه:- ما أوحى- ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن، وإيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدا إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد، ثم قال سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل، فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنه وسيأتي ذلك إن شاء الله عز وجل بما له وعليه أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال: مريته حقه إذا جحدته، وأنشدوا لذلك قول الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدي الفعل بعلى وكان حقه أن يعدى بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم، وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه والشعبي فيما ذكر شعبة «أفتمرونه» بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم:
وهو غلط، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، وقيل: المراد
(14/49)
________________________________________
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره وَلَقَدْ رَآهُ أي رأى النبي جبريل صلّى الله عليه وسلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها نَزْلَةً أُخْرى أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصب نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مرّ يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر، وقال الحوفي وابن عطية: إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة، وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية- لرأى- من معناه أي رؤية أخرى وفيه نظر، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور، وفي حديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم في السماء السادسة نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها،
وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة»
والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقية.
والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم، ويقيل: إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة، والْمُنْتَهى اسم مكان وجوز كونه مصدرا ميميا، وقيل: لها سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله تعالى عندها أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقا. أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها، وإضافة سِدْرَةِ إلى الْمُنْتَهى من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي سِدْرَةِ الله الذي إليه الْمُنْتَهى كما قال سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد عِنْدَها أي عند السدرة، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن، واستدل به على أن الجنة في السماء، وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون، وقيل: هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية، وقيل: من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به، والجملة حالية، وقيل: الحال هو الظرف، وجَنَّةُ مرتفع به على الفاعلية، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة: «جنه» بهاء الضمير وهو ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء الله تعالى: وجميل صنعه به، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن الْمَأْوى مصدر ميمي، أو اسم مكان، وجنه بمعنى ستره، قال أبو البقاء: شاذ والمستعمل أجنه، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها وكذا جمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: من قرأ به فأجنه الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر،
(14/50)
________________________________________
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
وأنت تعلم أنه إذا صح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الاستعمال، وعائشة قد حكي عنها الاجازة أيضا.
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى متعلق برآه: وقيل: بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على ما النافية للتوسع في الظرف. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام، وفي إبهام ما يَغْشى من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه، وعن ابن عباس غشيها رب العزة وجل وهو من المتشابه، وقال ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم: يغشاها جراد من ذهب، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا.
وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال: استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأذن له فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام،
وفي حديث «رأت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله تعالى»
وقيل: يغشاها رفرف من طير خضر، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم.
ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول الله صلى الله تعالى عليه عما رآه وَما طَغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي والله رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج- فالكبرى- صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه معد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع،
(14/51)
________________________________________
وجوّز أن تكون الْكُبْرى صفة المذكور على معنى، ولَقَدْ رَأى بعضا من الآيات الكبرى، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرئي الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة مع كون من مزيدة، وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس مجمعا على جوازه، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام، أخرج البخاري، وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى «هذا وفي الآيات» أقوال غير ما تقدم، فعن الحسن أن شَدِيدُ الْقُوى هو الله تعالى، وجمع الْقُوى للتعظيم ويفسر ذُو مِرَّةٍ عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عز وجل، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى:
فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عليه له سبحانه أيضا. وقال: إن ذلك على معنى العظمة والقدرة السلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى له عز وجل أيضا، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى، لقد رأى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلّى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتألهين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه.
ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى على ما روي عن الحسن للنبي صلّى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى والضمائر في فَأَوْحى
إلخ لله تعالى، وقيل: إِلى عَبْدِهِ
ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم، وذهب غير واحد في قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى إلى قوله سبحانه: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في دَنا و (تدلى) و (كان) وأَوْحى
وكذا الضمير المنصوب في رَآهُ لله عز وجل، ويشهد لهذا ما
في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» الحديث
، فإنه ظاهر فيما ذكر.
واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك،
أخرج مسلم عن مسروق قال: «كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال:
وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، الحديث
،
وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق «فقالت:
أنا أول من سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت
(14/52)
________________________________________
جبريل منهبطا»
ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في رَآهُ ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاعر أنها تنفي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا، وتستدل لذلك بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] وقوله سبحانه وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى: 51] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة، وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق.
وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والإنصاف أن الاخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقا، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله، والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع،
وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: رأيت ربي»
ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى:
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر،
أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن ذر قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نوراني أراه»
ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد الله قال: قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: «رأيت نورا»
فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نوراني» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة
في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: «حجابه النور»
وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.
ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروى ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره» وكذا
روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى»
وفي حديث عن ابن عباس يرفعه «فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت اليه بفؤادي»
وكأن التقدير في الآية على هذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ فيما رَأى، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني وابن مردويه
(14/53)
________________________________________
عنه أنه قال: إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي في الرؤية بالعين، وقال: إنه ليس عليه دليل واضح قال في الكشف: لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه، واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب الكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئي هو جبريل عليه السلام، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به، وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم، ومن قوله سبحانه: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلى قوله سبحانه: مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، ثم قال: ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام فَأَوْحى
الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أَوْحى
إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] إلى مخدع قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف
، وذلك قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سرّ أرق من النسيم إذا سرى
ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عز وجل من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك، وقال بعضهم في قوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى: ما زاغ بصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق وَما طَغى عن الصراط المستقيم، وقال أبو حفص السهروردي: ما زاغ البصر حيث لم يختلف عن البصيرة ولم يتقاصر وَما طَغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه، وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف، وفسر سِدْرَةِ الْمُنْتَهى بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق، وقالوا في قابَ قَوْسَيْنِ ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهب فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلى ما قاله الطيبي فتأمل والله تعالى الموفق.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة: لثقيف بالطائف، وأنشدوا:
وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر
(14/54)
________________________________________
وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة، وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش، ورجح ابن عطية قول قتادة، وقال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناما فأخبر عن كل صنم بمكانه، والتاء فيه قيل:
أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة «ل ي ت» موجودة فإن وجدت مادة «ل وت» جاز أن تكون منقلبة من واو، وقيل: تاء العوض، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة، أو يلتوون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفا، وعوض عن الياء تاء فصارت كتاء أخت وبنت، ولذا وقف عليها بالتاء، وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل: كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمرّ من الناس فلما مات عبدوه، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنا، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان، وقيل:
غير ذلك وَالْعُزَّى لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة- كما قال قتادة- وأصلها ثأنيث الأعز،
وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: «لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى»
وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليها خالدا فقطعها فخرجت منه شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ورجع فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك العزى ولن تعبد أبدا»
وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف، وقال أبو عبيدة: كان بالكعبة، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم، وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم، وَمَناةَ قيل: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وعن ابن عباس لثقيف، وعن قتادة للأنصار بقديد، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضا، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال: لأن المخاطب في قوله تعالى: أفرأيتم قريش؟ وفيه بحث، ومناة مقصورة قيل: وزنها فعلة، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمزة كما في قوله:
ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة ... على النأي فيما بيننا ابن تميم
ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها، والظاهر أن الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة وهما على ما قيل: للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان، وقال بعض الأجلة: الثَّالِثَةَ للتأكيد، والْأُخْرى للذم بأنها
(14/55)
________________________________________