المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني


hania
10-18-2019, 09:02 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ)
المحقق: علي عبد الباري عطية
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1415 هـ
عدد الأجزاء: 16 (15 ومجلد فهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
وخالق كل شيء عنه وعن كل نقص علوا كبيرا، ومنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم جعل إظهار المعجزة على يديه من باب العبث واللعب ففيه إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وفساد تلك المطاعن كلها.
وقوله سبحانه: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما، ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع.
وقوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الامتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ما يوصف بفعله باللهو فكهذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحا بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسنا بالغا انتهى، وقال الزمخشري: مِنْ لَدُنَّا أي من جهة قدرتنا، وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا أنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه، وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين، وقد فسره به أيضا البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة، وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعا ذاتيا والممتنع لا يصلح متعلقا للقدرة، وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافى أن يفعل فعلا يكون هو سبحانه بنفسه لاهيا به فلا امتناع في الاتخاذ بل في وصفه انتهى.
والحق عندي أن العبث لكونه نقصا مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لكنا قائلون بالوجوب عنه عز وجل، قال أفضل المتأخرين الكلنبوي: إن مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع إنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فلذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه ولا واجب عليه عز وجل، وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم كالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فلذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى.
ومن أنكر أن كون العبث نقصا كالكذب فقد كابر عقله، وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليه سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الأصحاب الوجوب عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة، ولعله حينئذ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناء على استلزامه محالا بعد صدور موجبه اختيارا لا مطلقا ولا بشرط تمام الاستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الاختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلا، ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم.
وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى.
ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه من المجردات بل هو فيها أظهر في الاستحالة، وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تبادرا مما في الكشف وذلك أبعد مغزى، وقال الإمام الواحدي: اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهوا وكذا الولد لأنه يستروح بكل منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه، والمعنى لو أردنا أن نتخذ امرأة ذات لهو أو ولدا ذا لهو
(9/19)
________________________________________
لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: 4] وقال المفسرون: أي من الحور العين، ولهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه السلام ولدا وكونها صاحبة، ومعنى مِنْ لَدُنَّا من عندنا بحيث لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى.
وتفسير اللهو هنا بالولد مروي عن ابن عباس والسدي، وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت، وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه، وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع وأنشد قول امرئ القيس:
الا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وان لا يحسن اللهو أمثالي
والظاهر حمل اللهو على ما سمعت أولا لقوله تعالى: وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ولأن نفي الولد سيجيء مصرحا إن شاء الله تعالى، ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا، ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قيل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسنا معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد والحسن وقتادة وابن جريج استدرك عليه بعضهم بأن أكثر مجيء إن النافية مع اللام الفارقة لكن الأمر في ذلك سهل، وقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الاتخاذ كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شؤونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد، وعن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره، والعموم هو الأولى، وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل.
فَيَدْمَغُهُ أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة، وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق.
وجوّز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه، وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فان، وجوز أيضا أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجيء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل، ولعل القول بالتمثيل أمثل، وقرأ عيسى بن عمر «فيدمغه» بالنصب، وضعف بأن ما بعد الفاء إنما ينتصب بإضمار أن لا بالفاء خلافا للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم ير مثله إلا في الشعر كقوله:
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا
على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوبا بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف، ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقبل وهو يشبه التمني في الترقب، ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل، وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذا والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء، والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به.
وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبنا وماء باردا صح، واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل القذف فالدمغ، وقرىء «فيدمغه» بضم الميم والغين فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة
(9/20)
________________________________________
الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل.
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب، وما تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر، وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائنا مما تصفونه عز وجل به، وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد، وأبعد كل البعد من قال: إنه خطاب لأهل القرى على طريق الالتفات من الغيبة في قوله تعالى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ إليه.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمة بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل، وقيل هو عديل لقوله تعالى: وَلَكُمُ الْوَيْلُ وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك ما استقلالا واستتباعا، وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجيء بالسماوات جمعا على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السماوات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جيء بصيغة الإفراد دون الجمع.
وفي الإتقان حيث يراد العدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة وَمَنْ عِنْدَهُ وهم الملائكة مطلقا عليهم السلام على ما روي عن قتادة وغيره، والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة.
وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلا لهم لكرامتهم عليه عز وجل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل، والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبراء وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ويقال أيضا أحسرته بالهمز.
والظاهر أن الاستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، والمراد من الاتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الاتحاد في أصل المعنى، والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة، ونظير ذلك قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] على أحد الأوجه المشهورة فيه.
وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفا على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم السلام على حاله، وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله، وقيل: إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه، وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوّء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام، وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات. والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقا لا بتجرد بعض دون بعض.
ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ على هذا الوجه أن يكون حالا من الأولى والثانية على
(9/21)
________________________________________
قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في عِنْدَهُ ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجيء الحال من المبتدأ ولا يخفى.
وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبرا لمن عنده، وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى، وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ استئناف وقع جوابا عما نشأ قبله كأنه قيل ماذا يصنعون في عبادتهم أو كيف يعبدون فقيل يُسَبِّحُونَ إلخ.
وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير لا يَسْتَحْسِرُونَ وقوله سبحانه: لا يَفْتُرُونَ في موضع الحال من ضمير يُسَبِّحُونَ على تقديري الاستئناف والحالية، وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالا من ضمير لا يَسْتَحْسِرُونَ أيضا ولا يجوز على تقدير الاستئناف كونه حالا منه للفصل وجوز أن يكون استئنافا والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو شغل آخر، واستشكل كون الملائكة مطلقا كذلك مع أن منهم رسلا يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية آخري. وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعبا عن ذلك كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر. وتعقب بأن فيه بعدا، وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلا ببعض أخر، وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه إن لم يحمل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك انتهى. ولا يخفى حسنه، ويجوز أن يقال: إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة، ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف، وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً حكاية الجناية أخرى من جنايات أولئك الكفرة هي أعظم من جناية طعنهم في النبوة، وأم هي المنقطعة وتقدر ببل الإضرابية والهمزة الإنكارية هي لإنكار الوقوع لا إنكار الواقع، وقوله تعالى: مِنَ الْأَرْضِ متعلق باتخذوا ومن ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية.
وقال أبو البقاء وغيره: يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض، وأيا ما كان فالمراد التحقير لا التخصيص، ومن جوزه التزم تخصيص الإنكار بالشديد وهو غير سديد. وقوله تعالى: هُمْ يُنْشِرُونَ أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الاتخاذ فإنه واقع لا محالة أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوه آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكنهم حيث ادعوا لها الالهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتما ومعنى التخصيص في تقديم الضمير وما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما أن تقديم الجار والمجرور في قوله أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] للتنبيه على كمال لمباينة أمره تعالى لأن يشك فيه، ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل فإن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء، والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لهم الاستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار قاله المولى أبو السعود، وقال بعضهم: تقديم الضمير للتقوى، وما ذهب إليه من إفادته معنى التخصيص
(9/22)
________________________________________
تبع فيه الزمخشري، وفي الكشف الداعي إلى ترجيحه على التقوى أنه ترشيح لما أبداه أولا من أن الإلهية لا تصح دون القدرة على الإنشار ولا وجه لتجوير كونه فصلا انتهى، وجوز أن تكون جملة هُمْ يُنْشِرُونَ مستأنفة مقدرا معها استفهام إنكاري لبيان علة إنكار الاتخاذ، ولعل مجوز ذلك لا يسلم لزوم كون معنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الوقوع ويجوز كونه إنكار الواقع، وتفسير يُنْشِرُونَ يبعثون هو المشهور وعليه الجمهور، وقال قطرب: هو بمعنى يخلقون.
وقرأ الحسن، ومجاهد «ينشرون» بفتح الياء على أنه من نشر وهو وأنشر بمعنى وقد يجيء نشر لازما يقال أنشر الله تعالى الموتى فنشروا، وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا إبطال لتعدد الإله وضمير فِيهِما للسماء والأرض والمراد بهما العالم كله علوية وسفلية والمراد بالكون فيهما التمكن للبالغ من التصرف والتدبير لا التمكن والاستقرار فيهما كما توهمه الفاضل الكلنبوي، والظرف على هذا متعلق بمكان، وقال الطيبي: إنه ظرف لآلهة على حد قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ. إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] وقوله سبحانه: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] وجعل تعلق الظرف بما ذكر هاهنا باعتبار تضمنه معنى الخالقية والمؤثرية.
وأنت تعلم أن الظاهر ما ذكر أولا، و «إلا» المغايرة ما بعدها لما قبلها فهي بمنزلة غير، وفي المعنى أنها تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه ومثل للأول بهذه الآية، وقد صرح غير واحد من المفسرين أن المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله وجعل ذلك الخفاجي إشارة إلى أن إِلَّا هنا اسم بمعنى صفة لما قبلها وظهر إعرابها فيما بعدها لكونها على صورة الحرف كما في ال الموصولة في اسم الفاعل مثلا.
وأنكر الفاضل الشمني كونها بمنزلة غير في الاسمية لما في حواشي العلامة الثاني عند قوله تعالى: لا فارِضٌ [البقرة: 68] من أنه ذاتا أو صفة، ففي شرح الكافية للرضي أصل غير أن تكون صفة مفيدة لمغايرة ومجرورها لموصوفها إما بالذات نحو مررت برجل غير زيد وإما بالصفة نحو دخلت بوجه غير الذي خرجت به، وأصل إلا التي هي أم أدوات الاستثناء مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيا أو إثباتا فلما اجتمع ما بعد إلا وما بعد غير في معنى المغايرة حملت الأعلى غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة من غير اعتبار مغايرته له نفيا أو إثباتا وحملت غير على إلا في الاستثناء فصار ما بعدها مغايرا لما قبلها نفيا أو إثباتا من غير مغايرته له ذاتا أو صفة إلا أن حمل غير على إلا أكثر من حمل إلا على غير لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فلذلك تقع غير في جميع مواقع إلا انتهى.
وأنت تعلم أن المتبادر كون إلا حين إفادتها معنى غير اسما وفي وبقائها على الحرفية مع كونها وحدها أو مع بعدها بجعلهما كالشيء الواحد صفة لما قبلها نظر ظاهر وهو في كونها وحدها كذلك أظهر، ولعل الخفاجي لم يقل ما قال إلا وهو مطلع على قائل باسميتها، ويحتمل أنه اضطره إلى القول بذلك ما يرد على القول ببقائها على الحرفية، ولعمري إنه أصاب المحزوان قال العلامة ما قال، كلام الرضي ليس نصا في أحد الأمرين كما لا يخفى على المنصف. ولا يصح أن تكون للاستثناء من جهة العربية عند الجمهور لأن آلِهَةٌ جمع منكر في الإثبات ومذهب الأكثرين كما صرح به في التلويح أنه لا استغراق له فلا يدخل فيه ما بعدها حتى يحتاج لإخراجه بها وهم يوجبون دخول المستثنى في المستثنى منه في الاستثناء المتصل ولا يكتفون بجواز الدخول كما ذهب إليه المبرد وبعض الأصوليين فلا يجوز عندهم قام رجال إلا زيدا على كون الاستثناء متصلا وكذا على كونه منقطعا بناء على أنه لا بد فيه من الجزم بعدم الدخول وهو مفقود جزما، ومن أجاز الاستثناء في مثل هذا التركيب كالمبرد جعل الرفع في الاسم
(9/23)
________________________________________
الجليل على البدلية، واعترض بعدم تقدم النفي، وأجيب بأن لو للشرط وهو كالنفي، وعنه أنه أجاب بأنها تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وأن نحو لو كان معنا إلا زيد لكان أجود كلام وخالف في ذلك سيبويه فإنه قال لو قلت لو كان معنا المثال لكنت قد أحلت.
ورد بأنهم لا يقولون لو جاءني ديار أكرمته ولا لو جاءني من أحد أكرمته ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد، وتعقبه الدماميني بأن للمبرد أن يقول: قد أجمعنا على إجراء أبي مجرى النفي الصريح وأجزنا التفريغ فيه قال الله تعالى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الإسراء: 89] ، وقال سبحانه: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] مع أنه لا يجوز أبي ديار المجيء وأبي من أحد الذهاب فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا.
وقال الرضي: أجاز المبرد الرفع في الآية على البدل لأن في لو معنى النفي وهذا كما أجاز الزجاج البدل في قَوْمَ يُونُسَ في قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس: 98] الآية إجراء للتخصيص مجرى النفي والأولى عدم إجراء ذينك في جواز الإبدال والتفريغ معهما مجراه إذا لم يثبت انتهى.
وذكر المالكي في شرح التسهيل أن كلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه وأن التفريغ والبدل بعد لو غير جائز، وكذا لا يصح الاستثناء من جهة المعنى ففي الكشف أن البدل والاستثناء في الآية ممتنعان معنى لأنه إذ ذاك لا يفيد ما سيق له الكلام من انتفاء التعدد ويؤدي إلى كون الآلهة بحيث لا يدخل في عدادهم الإله الحق مفض إلى الفساد فنفي الفساد يدل على دخوله فيهم وهو من الفساد بمكان ثم إن الصفة على ما ذهب إليه ابن هشام مؤكدة صالحة للإسقاط مثلها في قوله تعالى: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13] فلو قيل لو كان فيهما آلهة لفسدتا لصح وتأتى المراد. وقال الشلوبين. وابن الصائغ: لا يصح المعنى حتى تكون إلا بمعنى غير التي يراد بها البدل والعوض، ورد بأنه يصير المعنى حينئذ لو كان فيهما عدد من الآلهة بدل وعوض منه تعالى شأنه لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما اثنان هو عز وجل أحدهما لم تفسدا وذلك باطل.
وأجيب بأن معنى الآية حينئذ لا يقتضي هذا المفهوم لأن معناها لو كان فيهما عدد من الآلهة دونه أو به سبحانه بدلا منه وحده عز وجل لفسدتا وذلك مما لا غبار عليه فاعرف، والذي عليه الجمهور إرادة المغايرة، والمراد بالفساد البطلان والاضمحلال أو عدم التكون، والآية كما قال غير واحد مشيرة إلى دليل عقلي على نفي تعدد الإله وهو قياس استثنائي استثني فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم فكأنه قيل لو تعدد الإله في العالم لفسد لكنه لم يفسد ينتج أنه لم يتعدد الإله. وفي هذا استعمال للو غير الاستعمال المشهور.
قال السيد السند: إن لو قد تستعمل في مقام الاستدلال فيفهم منها ارتباط وجود الحالي بوجود المقدم مع انتفاء التالي فيعلم منه انتفاء المقدم وهو على قلته موجود في اللغة يقال: لو كان زيد في البلد لجاءنا ليعلم منه أنه ليس فيه، ومنه قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا: وقال العلامة الثاني: إن أرباب المعقول قد جعلوا لو أداة للتلازم دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفهائهما ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم فهم يستعملونها للدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لأنهم يستعملونها في القياسات لاكتساب العلوم والتصديقات ولا شك أن العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل الأمر بالعكس وإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على قاعدة اللغة أكثر لكن قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما إلخ لظهور أن الغرض منه التصديق
(9/24)
________________________________________
بانتفاء تعدد الآلهة لا بيان سبب انتفاء الفساد اهـ. وفيه بحث يدفع بالعناية، ولا يخفى عليك أن لبعض النحويين نحو هذا القول فقد قال الشلوبين، وابن عصفور: إن لو لمجرد التعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأول والثاني كما أن إن لمجرد التعليق في الاستقبال والظاهر أن خصوصية المضي هاهنا غير معتبرة.
وزعم بعضهم: إن لو هنا الانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما هو المشهور فيها ويتم الاستدلال ولا يخفى ما فيه على من دقق النظر، ثم إن العلامة قال في شرح العقائد: إن الحجة إقناعية والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات فإن العادة جارية بوقوع التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم وإلا فإن أريد الفساد بالفعل أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه لجواز الاتفاق على هذا النظام وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه بل النصوص شاهدة بطيّ السماوات ورفع هذا النظام فيكون ممكنا لا محالة.
وكذا لو أريد بفسادهما عدم تكونهما بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال فلم يكن أحدهما صانعا فلم يوجد مصنوع لا تكون الملازمة قطعية لأن إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان انتهى.
فنفى أن تكون الآية برهانا سواء حمل الفساد على الخروج عن النظام أو على عدم التكون، وفيه قدح لما أشار إليه في شرح المقاصد من كون كونها برهانا على الثاني فإنه بعد ما قرر برهان التمانع قال: وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ فإن أريد عدم التكون فتقريره أن يقال: لو تعدد الآلهة لم تتكون السماء والأرض لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة وأما الأخيران فلما مر من التوارد والرجحان من غير مرجح، وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أن يقال: إنه لو تعددت الآلهة لكان بينهما التنازع والتغالب وتمييز صنيع كل منهما عن الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد ويختل أمر النظام الذي فيه بقاء الأنواع وترتب الآثار انتهى، وذلك القدح بأن يقال: تعدد الإله لا يستلزم التمانع بالفعل بطريق إرادة كل منهما وجود العالم بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر بل إمكان ذلك التمانع والإمكان لا يستلزم الوقوع فيجوز أن لا يقع بل يتفقان على الإيجاد بالاشتراك أو يفوض أحدهما إلى الآخر، وبحث فيه المولى الخيالي بغير ذلك أيضا ثم قال: التحقيق في هذا المقام أنه إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقا فهي حجة إقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض إذ ليس المراد من الكون فيهما التمكن فيهما بل التصرف والتأثر فالحق أن الملازمة قطعية إذ التوارد باطل فتأثيرهما إما على سبيل الاجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعا لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي لا يوجد هذا المحسوس كلا أو بعضا، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق وهو أن يقال: لو تعدد الإله لم يكن العالم ممكنا فضلا عن الوجود وإلا لأمكن التمانع بينهما المستلزم للمحال لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال انتهى.
وأورد الفاضل الكلنبوي على الأول خمسة أبحاث فيها الغث والسمين ثم قال: فالحق أن توجيهه الثاني لقطعية الملازمة صحيح دون الأول، وللعلامة الدواني كلام في هذا المقام قد ذكر الفاضل المذكور ما له وما عليه من النقض والإبرام، ثم ذكر أن للتمانع عندهم معنيين، أحدهما إرادة أحد القادرين وجود المقدور والآخر عدمه وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع، وثانيهما إرادة كل منهما إيجاده بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر
(9/25)
________________________________________
فيه وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين، وقولهم: لو تعدد الإله لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادر وإما الترجيح بلا مرجح مبني على هذا، وحاصل البرهان عليه أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال لأمكن بينهما تمانع واللازم باطل إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم إما أن لا يقع مصنوع أصلا أو يقع بقدرة كل منهما أو بأحدهما والكل باطل ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما لتخلف مراد كل منهما عن إرادته فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال وفد فرضا كذلك ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين إما إمكان التوارد وإما إمكان الرجحان من غير مرجح والكل محال، وبهذا الاعتبار مع حمل الفساد على عدم الكون قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه ودليل قطعي من وجه آخر والأول أنسب إلى العوام والثاني بالنسبة إلى الخواص، وقال مصلح الدين اللاري بعد كلام طويل وقال وقيل أقول أقرر الحجة المستفادة من الآية الكريمة على وجه أوجه مما عداه وهو أن الإله المستحق للعبادة لا بد أن يكون واجب الوجود، وواجب الوجود وجوده عين ذاته عند أرباب التحقيق إذ لو غايره لكان ممكنا لاحتياجه في موجوديته إلى غيره الذي هو الوجود فلو تعدد لزم أن لا يكون وجودا فلا تكون الأشياء موجودة لأن موجودية الأشياء بارتباطها بالوجود فظهر فساد السماء والأرض بالمعنى الظاهر لا بمعنى عدم التكون لأنه تكلف ظاهر انتهى.
وأنت تعلم أن إرادة عدم التكون أظهر على هذا الاستدلال، ثم إن هذا النحو من الاستدلال مما ذهب إليه الحكماء بل أكثر براهينهم الدالة على التوحيد الذي هو أجلّ المطالب الإلهية بل جميعها يتوقف على أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت القائم بذاته المعبر عنه بالوجوب الذاتي والوجود المتأكد وأن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد نفسه ممكن ووجوده كوجوبه يستفاد من الغير فلا يكون واجبا ومن أشهرها أنه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود ومتغايرين بأمر من الأمور وإلا لم يكونا اثنين، وما به الامتياز إما أن يكون تمام الحقيقة أو جزءها لا سبيل إلى الأول لأن الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجا عن حقيقة كل منهما أو عن حقيقة أحدهما وهو محال لما تقرر من أن وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود لذاته، ولا سبيل إلى الثاني لأن كل واحد منهما يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز وكل مركب محتاج فلا يكون واجبا لإمكانه فيكون كل من الواجبين أو أحدهما ممكنا هذا خلف، واعترض بأن معنى قولهم وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود أنه يظهر من نفس تلك الحقيقة إثر صفة وجوب الوجود لا أن تلك الحقيقة عين هذه الصفة فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلا أن يظهر من نفس كل منهما إثر صفة الوجوب فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود وتمايزهما بتمام الحقيقة، وأجيب بأن المراد العينية، ومعنى قولهم إن وجوب الوجود عين حقيقة الواجب هو أن ذاته بنفس ذاته مصداق هذا الحكم ومنشأ انتزاعه من دون انضمام أمر آخر ومن غير ملاحظة حيثية أخرى غير ذاته تعالى أية حيثية كانت حقيقية أو إضافية أو سلبية، وكذلك قياس سائر صفاته سبحانه عند القائلين بعينيتها من أهل التحقيق، وتوضيح لك على مشربهم أنك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو المتصل كالمادة فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقه في الأول حقيقة الموضوع وذاته فقط، وفي الثاني هي مع حيثية أخرى هي صفة قائمة بالموضوع حقيقية أو انتزاعية وكل واجب الوجود لم يكن نفس واجب الوجود بل يكون له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجبة الوجود ففي اتصافها تحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها بحيث ينتزع منها هذا الأمر فهي في حد
(9/26)
________________________________________
ذاتها ممكنة الوجود وبه صارت واجبة الوجود فلا تكون واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته وليقس على ذلك سائر صفاته تعالى الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة وغيرهما. واعترض أيضا بأنه لم يجوز أن يكون ما به الامتياز أمرا عارضا لا مقوما حتى يلزم التركيب. وأجيب بأن ذلك يوجب أن يكون التعين عارضا وهو خلاف ما ثبت بالبرهان، ولابن كمونة في هذا المقام شبهة شاع أنها عويصة الدفع عسيرة الحل حتى أن بعضهم سماه لابدائها بافتخار الشياطين وهي أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية يكون كل منهما واجبا بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما مقولا عليها قولا عرضيا، وقد رأيت في ملخص الإمام عليه الرحمة نحوها، ولعلك إذا أحطت خبرا بحقيقة ما ذكرنا يسهل عليك حلها وإن أردت التوضيح فاستمع لما قيل في ذلك إن مفهوم واجب الوجود لا يخلو إما أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كل منهما من دون اعتبار حيثية خارجة أية حيثية كانت أو مع اعتبار تلك الحيثية وكلا الشقين محال، أما الثاني فلما تقرر أن كل ما لم يكن ذاته مجرد حيثية انتزاع الوجوب فهو ممكن من ذاته، وأما الأول فلأن مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا، ولعل كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة ولو في أمر سلبي بل نقول لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن
حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق الوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد إذ كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود فرضا مباينة أصلا ولا تغاير فلا يكون اثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد كما لوح إليه صاحب التلويحات بقوله: صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء فوجوب وجوده تعالى الذي هو ذاته سبحانه تدل على وحدته جل وعلا انتهى فتأمل.
ولا يخفى عليك أن أكثر البراهين على هذا المطلب الجليل الشأن يمكن تخريج الآية الكريمة عليه ويحمل حينئذ الفساد على عدم التكون فعليك بالتخريج وإن أحوجك إلى بعض تكلف وإياك أن تقنع بجعلها حجة إقناعية كما ذهب إليه كثير فإن هذا المطلب الجليل أجل من أن يكتفى فيه بالإقناعات المبنية على الشهرة والعادة، ولصاحب الكشف طاب ثراه كلام يلوح عليه مخايل التحقيق في هذا المقام سنذكره إن شاء الله تعالى كما اختاره في تفسير قوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] ثم لا تتوهمن أنه لا يلزم من الآية نفي الاثنين والواحد لأن نفي آلهة تغاير الواحد المعين شخصا يستلزم بالضرورة أن كل واحد واحد منهم يغايره شخصا وهو أبلغ من نفي واحد يغاير المعين في الشخص على أنه طوبق به قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ وقيام الملازمة كاف في نفي الواحد والاثنين أيضا واستشكل سياق الآية الكريمة بأن الظاهر أنها إنما سيقت لإبطال عبادة الأصنام المشار إليه بقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لذكرها بعده، وهي لا تبطل إلا تعدد الإله الخالق القادر المدبر التام الألوهية وهو غير متعدد عند المشركين، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وهم يقولون في آلهتهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فما قالوا به لا تبطله الآية وما تبطله الآية لم يقولوا به ومن هنا قيل معنى الآية لو كان في السماء والأرض آلهة كما يقول عبدة الأوثان: لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم، وأجيب بأن قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا إلخ مسوق للزجر عن عبادة الأصنام وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك وبعد الزجر عن ذلك أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا
(9/27)
________________________________________
واحدا على أن شرح اسم الإله هو الواجب الوجود لذاته الحي العالم المريد القادر الخالق المدبر فمتى أطلقوه على شيء لزمهم وصفه بذلك شاؤوا أو أبوا فالآية لإبطال ما يلزم قولهم على أتم وجه فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي نزهوه أكمل تنزيه عن أن يكون من دونه تعالى آلهة كما يزعمون فالفاء لترتيب ما بعده على ما قبلها من ثبوت الوحدانية، وإبراز الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات الكمال التي من جملتها تنزهه تعالى عن الشركة لتربية المهابة وإدخال الروعة، والوصف برب العرش لتأكد التنزه مع ما في ذلك من تربية المهابة، والظاهر أن المراد حقيقة الأمر بالتنزيه، وقيل: المراد بالتعجيب ممن عبد تلك المعبودات الخسيسة وعدها شريكا مع وجود المعبود العظيم الخالق لأعظم الأشياء، والكلام عليه أيضا كالنتيجة لما قبله من الدليل، وقوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ يمكن أن يكون جواب سؤال مقدر ناشىء من إثبات توحده سبحانه في الألوهية المتضمن توحده تعالى في الخلق والتصرف ووصف الكفرة إياه سبحانه بما لا يليق كأنه قيل إذا كان الله تعالى هو الإله الخالق المتصرف فلم خلق أولئك الكفرة ولم يصرفهم عما يقولون فأجيب بقوله سبحانه: لا يُسْئَلُ إلخ وحاصله أنه تعالى لا ينبغي لأحد أن يعترض عليه في شيء من أفعاله إذ هو حكيم مطلق لا يفعل ما يرد عليه الاعتراض وَهُمْ يُسْئَلُونَ عما يفعلون ويعترض عليهم، وهذا الحكم في حقه تعالى عام لجميع أفعاله سبحانه ويندرج فيه خلق الكفرة وإيجادهم على ما هم عليه، ووجه حل السؤال الناشئ مما تقدم بناء على ما يشير إليه هذا الجواب الإجمالي أنه تعالى خلق الكفرة بل جميع المكلفين على حسب ما علمهم مما هم عليه في أنفسهم لأن الخلق مسبوق بالإرادة والإرادة مسبوقة بالعلم والعلم تابع للمعلوم فيتعلق به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي، وقد يشير إلى بعض ذلك قول الشافعي عليه الرحمة من أبيات:
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
ثم بعد أن خلقهم على حسب ذلك كلفهم لاستخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا يكون للناس على الله تعالى حجة فلا يتوجه على الله تعالى اعتراض بخلق الكافر وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر بكفره حيث إنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المجعول، وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 118]
وقوله عليه الصلاة والسلام «فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»
وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاه كثير من المحققين والأجلة العارفين، وقال البعض: إن ذلك استئناف بيان أنه تعالى لقوة عظمته الباهرة وعزة سلطنته القاهرة بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله أثر بيان أن ليس له شريك في الألوهية، وضمير «هم» للعباد أي والعباد يسئلون عما يفعلون نقيرا وقطميرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون، وفي هذا وعيد للكفرة، والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان أي لا يسأل سبحانه في وقت من الأوقات عما يفعل، وخص ذلك الزجاج بيوم القيامة والأول أولى وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر واستدل بالآية على أن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات فلا يقال فعل كذا لكذا إذ لو كانت معللة لكان للعبد أن يسأل فيقول لم فعل؟ وإلى ذلك ذهب الأشاعرة ولهم عليه أدلة عقلية أيضا وأولوا ما ظاهره التعليل بالحمل على المجاز أو جعل الأداة فيه للعاقبة، ومذهب الماتريدية كما في شرح المقاصد والمعتزلة أنها تعلل بذلك وإليه ذهب الحنابلة كما قال الوفي وغيره.
وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل: إن الله
(9/28)
________________________________________
سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها وساق اثنين وعشرين نوعا في بضعة عشرة ورقة ثم قال: لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ثم قال: وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جملة؟ وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل. وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ ثم قال: والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر هذا قول جمهور أهل الإسلام. وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة اهـ.
والظاهر أن ابن القيم وأضرابه من أهل السنة القائلين بتعليل أفعاله تعالى لا يجعلون كالأشاعرة المخصص لأحد الضدين بالوقوع محض تعلق الإرادة بالمعنى المشهور ومحققو المعتزلة كأبي الحسن والنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي، وغيرهم يقولون: إن العلم بترتب النفع على إيجاد النافع هو المخصص للنافع بالوقوع ويسمون ذلك العلم بالداعي وهو الإرادة عندهم. وأورد عليهم أن الواجب تعالى موجب في تعلق علمه سبحانه بجميع المعلومات فلو كان المخصص الموجب للوقوع هو العلم بالنفع كان ذلك المخصص لازما لذاته تعالى فيكون فعله سبحانه واجبا لأمر خارج ضروري للفاعل وهو ينافي الاختيار بالمعنى الأخص قطعا فلا يكون الواجب مختارا بهذا المعنى بل يؤول إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من الاختيار المجامع للإيجاب، ولا يرد ذلك على القائلين بأن المخصص هو تعلق الإرادة الأزلية لأن ذلك التعلق غير لازم لذات الواجب تعالى وإن كان أزليا دائما لإمكان تعلقها بالضد الآخر بدل الضد الواقع، نعم يرد عليهم ما يصعب التقصي عنه مما هو مذكور في الكتب الكلامية، وأورد نظير ما ذكر على الحنفية فإنهم ذهبوا إلى التعليل وجعلوا العلم بترتب المصالح علة لتعلق العلم بالوقوع فلا يتسنى لهم القول بكون الواجب تعالى مختارا بالمعنى الأخص لأن الذات يوجب العلم والعلم يوجب تعلق الإرادة وتعلق الإرادة يوجب الفعل ولا مخلص إلا بأن يقال: إن إيجاب العلم بالنفع والمصلحة لتعلق الإرادة ممنوع عندهم بل هو مرجح ترجيحا غير بالغ إلى حد الوجوب وما قيل إذا لم يبلغ الترجيح إلى حد الوجوب جاز وقوع الراجح وفي وقت وعدم وقوعه في وقت آخر مع ذلك المرجح فإن كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع بانضمام شيء آخر إلى ذلك المرجح لم يكن المرجح مرجحا وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح بل يلزم ترجيح المرجوح عدمه في الوقت الآخر لأن الوقوع كان راجحا بذلك المرجح فمدفوع بوجهين إلا أنه إنما يجري في العلة التامة بالنسبة إلى معلولها لا في الفاعل المختار بالنسبة إلى فعله فإنه إن أريد لزوم الرجحان من غير مرجح كما هو اللازم في العلة التامة فعدم اللزوم ظاهر وإن أريد الترجيح من غير مرجح فبطلان اللازم في الفاعل المختار ممنوع وإلا فما الفرق بين الفاعل الموجب والمختار، الثاني أن المرجح بالنسبة إلى وقت ربما لا يكون مرجحا بالنسبة إلى وقت آخر بل منافيا للمصلحة فلا يلزم ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح في وقت آخر بل يلزم ترجيح الراجح في كل وقت وهو تعالى عالم بجميع المصالح اللائقة بالأوقات فتتعلق إرادته سبحانه بوقوع كل ممكن في وقت لترتب المصالح اللائقة بذلك الوقت على عدمه فلا إشكال، وهذا هو المعول عليه إذ لقائل أن يقول على الأول أن ترجيح المرجوح مستحيل في حق الواجب الحكيم وإن جاز في حق غيره من أفراد الفاعل بالاختبار.
(9/29)
________________________________________
هذا ووقع في كلام الفلاسفة أن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والغايات ومرادهم على ما قاله بعضهم ففي التعليل عن فعله سبحانه بما هو غير ذاته لأنه جل شأنه تام الفاعلية لا يتوقف فيها على غيره ولا يلزم من ذلك نفي الغاية والغرض عن فعله تعالى مطلقا ولذا صح أن يقولوا علمه تعالى بنظام الخير الذي هو عين ذاته تعالى علة غائية وغرض في الإيجاد ومرادهم بالاقتضاء في قولهم في تعريف العلة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل مطلق عدم الانفكاك لكنهم تسامحوا في ذلك اعتمادا على فهم المتدرب في العلوم وصرحوا بأنه تعالى ليس له غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها لأن كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته فهو فقير إلى ذلك الغرض مستكمل به والمكمل يجب أن يكون أشرف فغرض الفاعل يجب أن يكون ما هو فوقه وإن كان بحسب الظن وليس له غرض فيما دونه وحصول وجود الممكنات منه تعالى على غاية من الإتقان ونهاية من الأحكام ليس إلا لأن ذاته تعالى ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يمكن من المصالح فالواجب سبحانه عندهم يلزم من تعقله لذاته الذي هو مبدأ كل خير وكمال حصول الممكنات على الوجه الأتم والنظام الأقوم واللوازم غايات عرضية إن أريد بالغاية ما يقتضي فاعلية الفاعل وذاتية إن أريد بها ما يترتب على الفعل ترتبا ذاتيا لا عرضيا كوجود مبادئ الشر وغيرها في الطبائع الهيولانية ثم كما أنه تعالى غاية بالمعنى الذي أشير إليه فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء
طالبة له متشوقة إليه طبعا وإرادة لأنه الخير المحض والمعشوق الحقيقي جل جلاله وعم نواله.
والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر، وتمام الكلام في هذا المقام على مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله. وقرأ الحسن «لا يسل» و «يسلون» بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة حقيقية بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القطعي على استحالة تعدد الإله مطلقا وتفرده سبحانه بالألوهية إلى بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله تعالى شأنه وتبكيتهم بإلجائهم إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك. وجوز أن يكون هذا انتقالا لإظهار بطلان الآلهة مطلقا بعد إظهار بطلان الآلهة الأرضية، والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا، والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور أنها عارية عن خواص الألوهية بالكلية.
قُلْ لهم بطريق التبكيت وإلقام الحجر هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تدعونه من جهة العقل الصريح أو النقل الصحيح فإنه لا يصح القول بمثل ذلك من غير دليل عليه، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا ضرب من التهكم بهم، وقوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وعظتهم وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم، وأعيد لفظ ذِكْرُ ولم يكتف بعطف الموصول على الموصول المستدعي للانسحاب لأن كون المشخص ذكر من معه وكونه ذكر من قبله باعتبار اتحاده بالحقيقة مع الوحي المتضمن ذلك.
وقيل: المراد بالذكر الكتاب أي هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيت لهم
(9/30)
________________________________________
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
متضمن لنقيض مدعاهم وقرىء بتنوين ذكر الأول والثاني وجعل ما بعده منصوب المحل على المفعولية له لأنه مصدر وأعماله هو الأصل نحو أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14] .
وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بالتنوين وكسر ميم «من» فهي على هذا حرف جر ومع مجروره بها وهي اسم يدل على الصحبة والاجتماع جعلت هنا ظرفا كقبل وبعد فجاز إدخال من عليها كما جاز إدخالها عليهما لكن دخولها عليها نادر، ونص أبو حيان أنها حينئذ بمعنى عند. وقيل: من داخلة على موصوفها أي عظة من كتاب معي وعظة من كتاب من قبلي، وأبو حاتم ضعف هذه القراءة لما فيها من دخول من على مع ولم ير له وجها وعن طلحة أنه قرأ «هذا ذكر معي وذكر قبلي» بتنوين «ذكر» وإسقاط «من» وقرأت فرقة «هذا ذكر من» بالإضافة «وذكر من قبلي» بالتنوين وكسر الميم، وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالعة البرهان إلى بيان أن الاحتجاج عليهم لا ينفع لفقدهم التمييز بين الحق والباطل فَهُمْ لأجل ذلك مُعْرِضُونَ مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحج أو فهم معرضون عما ألقي عليهم من البراهين العقلية والنقلية.
وقرأ الحسن وحميد وابن محيض «الحقّ» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، والجملة معترضة بين السبب والمسبب تأكيدا للربط بينهما، وجوز الزمخشري أن يكون المنصوب أيضا على معنى التأكيد كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل، والظاهر أنه منصوب على أنه مفعول به ليعلمون والعلم بمعنى المعرفة.
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ استئناف مقرر لما سبق من آي التوحيد وقد يقال إن فيه تعميما بعد تخصيص إذا أريد من ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي الكتب الثلاثة، ولما كان مِنْ رَسُولٍ عاما معنى فكان هناك لفظ ومعنى أفرد على اللفظ في نوحي إليه ثم جمع على المعنى في فَاعْبُدُونِ ولم يأت التركيب فاعبدني وهذا بناء على أن فَاعْبُدُونِ داخل في الموحي وجوز عدم الدخول على الأمر له صلّى الله عليه وسلّم
(9/31)
________________________________________
ولأمته، وقرأ أكثر السبعة «يوحي» على صيغة الغائب مبنيا للمفعول، وأيا ما كان فصيغة المصارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحي وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً حكاية لجناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها وبيان تنزهه سبحانه عن ذلك إثر بيان تنزهه جلا وعلا عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة قالوا الملائكة بنات الله سبحانه. ونقل الواحدي أن قريشا وبعض العرب جهينة وبني سلامة وخزاعة وبني مليح قالوا ذلك.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال قالت اليهود إن الله عز وجل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة فنزلت والمشهور الأول. والآية مشنعة على كل من نسب إليه ذلك كالنصارى القائلين عيسى ابن الله واليهود القائلين عزيز ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن جميع ما سواه تعالى مربوبا له تعالى لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة سُبْحانَهُ أي تنزهه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر سبح أي بعد أن أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحة. وقوله تعالى: بَلْ عِبادٌ إضراب وإبطال لما قالوا كأنه قيل: ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون له تعالى فهم ملكه سبحانه والولد لا يصح تملكه، وفي قوله تعالى: مُكْرَمُونَ أي مقربون عنده تعالى تعالى تنبيه على منشأ غلطهم وقرأ عكرمة مكرمون بالتشديد لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو دين العبيد المؤدبين ففيه تنبيه على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره عز وجل وتأدبهم معه تعالى، والأصل لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبا إليه تعالى تنزيلا لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إياه عز وجل لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون ما لم يقله تعالى، وجعل القول محل السبق وآلته التي يسبق بها وأنيبت اللام عن الإضافة إلى الضمير على ما ذهب إليه الكوفيون للاختصاص والتجافي عن التكرار. وقرىء «لا يسبقونه» بضم الباء الموحدة على أنه من باب المغالبة يقال سابقني فسبقته وأسبقه ويلزم فيه ضم عين المضارع ما لم تكن عينه أو لامه ياء، وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بأن من سبق قوله قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق وزيادة تنزيه عما نفي عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فأنى يتوهم صدوره عنهم وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له سبحانه في الأقوال كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره تعالى أصلا بأن يعملوا من تلقاء أنفسهم، فالحصر المستفاد من تقديم الجار بالنسبة إلى غير أمره تعالى لا إلى أمر غيره سبحانه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ استئناف وقع تعليلا لما قبله وتمهيدا لما بعده كأنه قيل إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه سبحانه لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى الله تعالى أن يشفع له.
وهو كما أخرج ابن جرير والمنذر والبيهقي في البعث. وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قال لا إله إلا الله وشفاعتهم الاستغفار، وهي كما في الصحيح تكون في الدنيا والآخرة ولا متمسك للمعتزلة في الآية على أن الشفاعة لا تكون لأصحاب الكبائر فإنها لا تدل على أكثر من أن لا يشفعوا لمن لا ترتضى الشفاعة له مع أن عدم شفاعة الملائكة لا تدل على عدم شفاعة غيرهم وَهُمْ مع ذلك مِنْ خَشْيَتِهِ أي بسبب خوف عذابه عز وجل مُشْفِقُونَ متوقعون من إمارة ضعيفة كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله تعالى، فمن تعليلية والكلام على حذف مضاف، وقد يراد من خشيته تعالى ذلك فلا حاجة إليه.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى أنهم يخشون الله تعالى ومع ذلك يحذرون من وقوع تقصير خشيتهم وعلى هذا تكون مِنْ صلة لمشفقون، وفرق بين الخشية والإشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به
(9/32)
________________________________________
العلماء في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] والثاني خوف مع اعتناء ويعدى بمن كما يعدى الخوف وقد يعدى بعلى بملاحظة الحنو والعطف، وزعم بعضهم أن الخشية هاهنا مجاز عن سببها وأن المراد من الإشفاق شدة الخوف أي وهم من مهابته تعالى شديد والخوف، والحق أنه لا ضرورة لارتكاب المجاز، وجوز أن يكون المعنى وهم خائفون من خوف عذابه تعالى على أن من صلة لما بعدها وإضافة خشية إلى المضاف المحذوف من إضافة الصفة إلى الموصوف أي خائفون من العذاب المخوف، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه، ثم إن هذا الإشفاق صفة لهم دنيا وأخرى كما يشعر به الجملة الاسمية، وقد كثرت الأخبار الدالة على شدة خوفهم، ومن ذلك ما
أخرج ابن أبي حاتم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري بي ومررت بجبريل عليه السلام وهو بالملأ الأعلى ملقى كالحلس البالي من خشية الله تعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ

أي من الملائكة عليهم السلام، وقيل من الخلائق، والأول هو الذي يقتضيه السياق إذ الكلام في الملائكة عليهم السلام وفي كونهم بمعزل عما قالوه في حقهم، والمراد من يقل منهم على سبيل الفرض إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي متجاوزا إياه تعالى فَذلِكَ أي الذي فرض قوله ما ذكر فرض محال نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كسائر المجرمين ولا يغني عنه ما سبق من الصفات السنية والأفعال المرضية وعن الضحاك وقتادة عدم اعتبار الفرض وقالا: إن الآية خاصة بإبليس عليه اللعنة فإنه دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر، والمعول عليه ما ذكرنا، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما يتوهم أولئك الكفرة ما لا يخفى.
وقرأ أبو عبد الرحمن المقري «نجزيه» بضم النون أراد نجزئه بالهمز من أجزأني كذا كفاني ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذي يضعون الأشياء في غير مواضعها ويتعدون أطوارهم، والقصر المستفاد من التقديم يعتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لأجزاء أنقص منه أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا تجهيل لهم بتقصيرهم عن التدبر في الآيات التكوينية الدالة على عظيم قدرته وتصرفه وكون جميع ما سواه مقهورا تحت ملكوته على وجه ينتفعون به ويعلمون أن من كان كذلك لا ينبغي أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه مما لا يضر ولا ينفع، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر.
وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن بغير واو، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا الضمير للسماوات والأرض، والمراد من السموات طائفتها ولذا ثني الضمير ولم يجمع، ومثل ذلك قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] وكذا قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما ... دون المحارم يرقبان سوادي
وأفرد الخبر أعني قوله تعالى: رَتْقاً ولم يثن لأنه مصدر، والحمل إما بتأويله بمشتق أو لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أي ذاتي رتق، وهو في الأصل الضم والالتحام خلقة كأن أم صنعة، ومنه الرتقاء الملتحمة محل الجماع وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رتقا» بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنقض والنقض فكان قياسه أن يثنّى هنا ليطابق الاسم فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئا رتقا وشيء اسم جنس شامل للقليل والكثير فيصح الإخبار به عن المثنى كالجمع ويحسنه أنه في حال الرتقية لا تعدد فيه.
وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسما بمعنى المفعول والساكن مصدرا وقد يكونان مصدرين، والأولى هنا كونهما كذلك وحينئذ لا حاجة إلى ما قاله الزمخشري في توجيه الأخبار، وقد أريد بالرتق على ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني حالة العدم إذ ليس فيه ذوات متميزة فكان السموات والأرض أمر واحد
(9/33)
________________________________________
متصل متشابه وأريد بالفتق وأصله الفصل في قوله تعالى: فَفَتَقْناهُما الإيجاد الحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض به فيكون كقوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14، يوسف: 101، إبراهيم: 10، فاطر: 1، الزمر: 46، الشورى: 11] بناء على أن الفطر الشق وظاهره نفي تمايز المعدومات، والذي حققه مولانا الكوراني في جلاء الفهوم وذب عنه حسب جهده أن المعدوم الممكن متميز في نفس الأمر لأنه متصور ولا يمكن تصور الشيء إلا بتميزه عن غيره وإلا لم يكن بكونه متصورا أولى من غيره ولأن بعض المعدومات قد يكون مرادا دون بعض ولولا التمييز بينها لما عقل ذلك إذ القصد إلى إيجاد غير المتعين ممتنع لأن ما ليس بمتعين في نفسه لم يتيمز القصد إليه عن القصد إلى غيره، وقد يقال على هذا: يكفي في تلك الإرادة عدم تمايز السموات والأرض في حالة العدم نظرا إلى الخارج المشاهد، وأيا ما كان فمعنى الآية لم يعلموا أن السموات والأرض كانتا معدومتين فأوجدناهما، ومعنى علمهم بذلك تمكنهم من العلم به بأدنى نظر لأنهما ممكنان، والممكن باعتبار ذاته وحدها يكون معدوما واتصافه بالوجود لا يكون إلا من واجب الوجود.
قال ابن سينا في المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء: سائر الأشياء غير واجب الوجود لا تستحق الوجود بل هي في أنفسها ومع قطع إضافتها إلى الواجب تستحق العدم ولا يعقل أن يكون وجود السموات والأرض مع إمكانهما الضروري عن غير علة، وأما ما ذهب إليه ديمقرطيس من أن وجود العالم إنما كان بالإتفاق وذلك لأن مبادية أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها وهي مبثوثة في خلاء غير متناه وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الأشكال دائمة الحركة فاتفق أن تضامت جملة منه واجتمعت على هيئة مخصوصة فتكون منها هذا العالم فضرب من الهذيان، ووافقه عليه على ما قيل أنباذقلس لكن الأول زعم أن تكون الحيوان والنبات ليس بالاتفاق وهذا زعم أن تكون الأجرام الأسطقسية بالإتفاق أيضا إلا أن ما اتفق إن كان ذاهيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي وما اتفق إن لم يكن كذلك لم يبق، وهذا الهذيان بعيد من هذا الرجل فإنهم ذكروا أنه من رؤساء يونان كان في زمن داود عليه السلام وتلقى العلم منه واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة، ثم إن وجودهما عن العلة حادث بل العالم المحسوس منه وغيره حادث حدوثا زمانيا بإجماع المسلمين وما يتوهم من بعض عبارات بعض الصوفية من أنه حادث بالذات قديم بالزمان مصروف عن ظاهره إذ هم أجل من أن يقولوا به لما أنه كفر. والفلاسفة في هذه المسألة على ثلاثة آراء فجماعة من الأوائل الذين هم أساطين من الملطية وساميا صاروا إلى القول بحدوث موجودات العالم مباديها وبسائطها ومركباتها وطائفة من الأتينينية وأصحاب الرواق صاروا إلى قدم مباديها من العقل والنفس والمفارقات والبسائط دون المتوسطات والمركبات فإن المبادي عندهم فوق الدهر والزمان فلا يتحقق فيها حدوث زماني بخلاف المركبات التي هي تحت الدهر والزمان ومنعوا كون الحركات سرمدية، ومذهب أرسطو ومن تابعه من تلامذته أن العالم قديم وأن الحركات الدورية سرمدية، وهذا بناء على المشهور عنه وإلا فقد ذكر في الأسفار أن أساطين الحكمة المعتبرين عند الطائفة ثمانية ثلاثة من الملطيين ثالس وانكسيمائس واغاثاذيمون، وخمسة من اليونانيين أنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكلهم قائلون بما قال به الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وأفلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته، ونقل عن كل كلمات تؤيد ذلك، وكذا نقل عن غير أولئك من الفلاسفة وأطال الكلام في هذا المقام، ولولا مخافة السآمة لنقلت ذلك ولعلي أنقل شيئا منه في محله الأليق به إن شاء الله تعالى، وجاء عن ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وابن جبير أن السموات والأرض كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. وقال كعب: خلق الله تعالى السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا فتوسطهما ففتقهما. وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان
(9/34)
________________________________________
ملتصق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما فجعل سبع سموات، وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين، والمراد من العلم على هذه الأقوال التمكن منه أيضا إلا أن ذلك ليس بطريق النظر بل بالاستفسار من علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم وقيل بذلك أو بمطالعة الكتب السماوية ويدخل فيها القرآن وإن لم يقبلوه لكونه معجزة في نفسه وفي ذلك دغدغة لا تخفى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمران رجلا أتاه فسأله عن الآية فقال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني وكان ابن عباس فذهب إليه فسأله فقال: نعم كانت السموات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما خلق الله تعالى للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر: الآن علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما صدق ابن عباس هكذا كانت، وروي عنه ما هو بمعنى ذلك جماعة منهم الحاكم وصححه وإليه ذهب أكثر المفسرين.
وقال ابن عطية: هو قول حسن يجمع العبرة والحجة وتعديد النعمة ويناسب ما يذكر بعد والرتق والفتق مجازيان عليه كما هما كذلك على الوجه الأول، والمراد بالسماوات جهة العلو أو سماء الدنيا، والجمع باعتبار الآفاق أو من باب ثوب أخلاق، وقيل هو على ظاهره ولكل من السموات مدخل في المطر، والمراد بالرؤية العلم أيضا وعلم الكفرة بذلك ظاهر.
وجوز أن تكون الرؤية بصرية وجعلها علمية أولى، ومن البعيد ما نقل عن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة وتمييز الفصول بل لا يكاد يصح على الأصول الإسلامية التي أصلها السلف الصالح كما لا يخفى.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ عطف على أَنَّ السَّماواتِ إلخ ولا حاجة إلى تكلف عطفه على فتقنا، والجعل بمعنى الخلق المتعدي لمفعول واحد، ومن ابتدائية والماء هو المعروف أي خلقنا من الماء كل حيوان أي متصف بالحياة الحقيقية. ونقل ذلك عن الكلبي. وجماعة ويؤيده قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 45] ووجه كون الماء مبدأ ومادة للحيوان وتخصيصه بذلك أنه أعظم مواده وفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ولا بد من تخصيص العام لأن الملائكة عليهم السلام وكذا الجن أحياء وليسوا مخلوقين من الماء ولا محتاجين إليه على الصحيح.
وقال قتادة: المعنى خلقنا كل نام من الماء فيدخل النبات ويراد بالحياة النمو أو نحوه، ولعل من زعم أن في النبات حسا وشعورا أبقى الحياة على ظاهرها، وقال قطرب، وجماعة: المراد بالماء النطفة ولا بد من التخصيص بما سوى الملائكة عليهم السلام والجن أيضا بل بما سوى ذلك والحيوانات المخلوقة من غير نطفة كأكثر الحشرات الأرضية. ويجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين وهما هنا كُلَّ ومِنَ الْماءِ وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به ومن اتصالية كما قيل في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنا من دد ولا الدد مني»
والمعنى صيرنا كل شيء حي متصلا بالماء أي مخالطا له غير منفك عنه، والمراد أنه لا يحيا دونه، وجوّز أبو البقاء على الوجه الأول أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من كُلَّ وجعل الطيبي من على هذا بيانية تجريدية فيكون قد جرد من الماء الحي مبالغة كأنه هو، وقرأ حميد «حيا» بالنصب على أنه صفة كُلَّ أو مفعول ثان لجعل، والظرف متعلق بما عنده لا يحيا، والشيء مخصوص بالحيوان لأنه الموصوف بالحياة، وجوّز تعميمه للنبات.
(9/35)
________________________________________
وأنت تعلم أن من الناس من يقول: إن كل شيء من العلويات والسفليات حي حياة لائقة به وهم الذين ذهبوا إلى أن تسبيح الأشياء المفاد بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] قالي لا حالي، وإذا قيل بذلك فلا بد من تخصيص الشيء أيضا إذا لم يجعل من الماء كل شيء حيا ولم أقف على مخالف في ذلك منا، نعم نقل عن ثالس الملطي وهو أول من تفلسف بملطية أن أصل الموجودات الماء حيث قال: الماء قابل كل صورة ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض انتهى.
ويمكن تخريجه على مشرب صوفي بأن يقال إنه أراد بالماء الوجود الانبساطي المعبر عنه في اصطلاح الصوفية بالنفس الرحماني، وحينئذ لو جعلت الإشارة في الآية إلى ذلك عندهم لم يبعد أَفَلا يُؤْمِنُونَ إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكار أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مما لا ريب في صحته أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أو لئلا تميد فحذف اللام ولا لعدم الإلباس، وهذا مذهب الكوفيين والأول أولى، وفي الانتصاف أولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط على ما قال سيبويه من أن معناه أن أدعم الحائط بها إذا مال، وقدم ذكر الميد عناية بأمره ولأنه السبب في الادعام والادعام سبب إعداد الخشبة فعومل سبب السبب معاملة السبب فكذا فيما نحن فيه يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي أن نثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثال سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم فنثبتها ثم حذف فنثبتها لأمن الإلباس إيجازا، وهذا أقرب إلى الواقع مما ذكر أولا فإن مقتضاه أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله تعالى كره ذلك ومحال أن يقع ما يكرهه سبحانه والمشاهدة بخلافه فكم من زلزلة أمادت الأرض حتى كادت تنقلب وعلى ما ذكرنا يكون المراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى وقوع الميد لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلزال إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى انتهى.
وفي الكشف أن قولهم كراهة أن تميد بيان للمعنى لا أن هناك إضمار البتة ولهذا كان مذهب الكوفيين خليقا بالرد، وما في الانتصاف من أن الأولى أن يكون من باب أعددت الخشبة أن يميل الحائط على ما قرر راجع إلى ما ذكرناه ولا مخالف له، أما ما ذكره من الرد بمخالفة الواقع المشاهد فليس بالوجه لأن ميدودة الأرض غير كائنة البتة وليست هذه الزلازل منها في شيء انتهى، وهو كلام رصين كما لا يخفى، وقد طعن بعض الكفرة المعاصرين فيما دلت عليه الآية الكريمة بأن الأرض لطلبها المركز طبعا ساكنة لا يتصور فيها الميد ولو لم يكن فيها الجبال. وأجيب أولا بعد الإغماض عما في دعوى طلبها المركز طبعا وسكونها عنده من القيل والقال يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق الأرض يوم خلقها عرية عن الجبال مختلفة الأجزاء ثقلا وخفة اختلافا تاما أو عرض لها الاختلاف المذكور ومع هذا لم يجعل سبحانه لمجموعها من الثقل ما لا يظهر بالنسبة إليه ثقل ما علم جل وعلا أنه يتحرك عليها من الأجسام الثقيلة فيكون لها مركزان متغايران مركز حجم ومركز ثقل وهي إنما تطلب بطبعها عندهم أن ينطبق مركز ثقلها على مركز العالم وذلك وإن اقتضى سكونها إلا أنه يلزم أن تتحرك بتحرك هاتيك الأجسام فخلق جل جلاله الجبال فيها ليحصل لها من الثقل ما لا يظهر معه ثقل المتحرك فلا تتحرك بتحركه أصلا، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطرها كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع إنما ينفع في أمر الكرية الحسية وأما أنه يلزم منه أن لا يكون لمجموع الجبال ثقل معتد به بالنسبة إلى ثقل الأرض فلا.
(9/36)
________________________________________
ثم ليس خلق الجبال لهذه الحكمة فقط بل لحكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى فلا يقال إنه يغني عن الجبال خلقها بحيث لا يظهر للأجسام الثقيلة المتحركة عليها أثر بالنسبة إلى ثقلها، وثانيا أنها بحسب طبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء بحيث تكون الخطوط الخارجة من مركزها المنطبق على مركز العالم إلى محدب الماء متساوية من جميع الجوانب فبروز هذا المقدار المعمور منها قسري، ويجوز أن يكون للجبال مدخل في القسر باحتباس الأبخرة فيها وصيرورة الأرض بسبب ذلك كزق في الماء نفخ نفخا ظهر به شيء منه على وجه الماء ولولا ذلك لم يكن القسر قويا بحيث لا يعارضه ما يكون فوق الأرض من الحيوانات وغيرها وذلك يوجب الميد الذي قد يفضي بها إلى الانغمار فتأمل، وقد مر لك ما يتعلق بهذا المطلب فتذكر وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض، وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين مع ما فيه من الإشارة إلى كمال الامتنان أو في الرواسي على ما أخرجه ابن جرير والمنذر عن ابن عباس ويؤيده أنها المحتاجة لأن يجعل سبحانه فيها فِجاجاً جمع فج قال الراغب: هو شقة يكتنفها جبلان، وقال الزجاج:
كل مخترق بين جبلين فهو فج، وقال بعضهم: هو مطلق الواسع سواء كان طريقا بين جبلين أم لا ولذا يقال جرح فج، والظاهر أن «فجاجا» نصب على المفعولية لجعل، وقوله سبحانه: سُبُلًا بدل منه فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقا وقال في الكشاف: هو حال من سُبُلًا ولو تأخر لكان صفة كما في قوله تعالى في سورة [نوح: 20] لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً وإنما لم يؤت به كذلك بل قدم فصار حالا ليدل على أنه في حال جعلها سبلا كانت واسعة ولو أتى به صفة لم يدل على ذلك. وأوجب بعضهم كونه مفعولا وكون سُبُلًا بدلا منه وكذا أوجب في قوله تعالى: لِتَسْلُكُوا إلخ كون سُبُلًا مفعولا وكون فِجاجاً بدلا قائلا: إن الفج اسم لا صفة لدلالته على ذات معينة وهو الطريق الواسع والاسم يوصف ولا يوصف به ولذا وقع موصوفا في قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] والحمل على تجريده عن دلالته على ذات معينة لا قرينة عليه.
وتعقب بأنا لا نسلم أن معناه ذلك بل معناه مطلق الواسع وتخصيصه بالطريق عارض وهو لا يمنع الوصفية ولو سلم فمراد من قال إنه وصف أنه في معنى الوصف بالنسبة إلى السبيل لأن السبيل الطريق وهو الطريق الواسع فإذا قدم عليه يكون ذكره بعد لغوا لو لم يكن حالا، وظاهر كلام الفاضل اليمني في المطلع أن سُبُلًا عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال: هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة فقد يكون الفج غير نافذ وقدم هنا وأخر في آية سورة نوح لأن تلك الآية واردة للامتنان على سبيل الإجمال وهذه للاعتبار والحث على إمعان النظر وذلك يقتضي التفصيل، ومن ثم ذكرت عقب قوله تعالى كانتا رَتْقاً إلخ انتهى، وأنت تعلم أن الأظهر نصب فِجاجاً هنا على المفعولية لجعل ووجه التغاير بين الآيتين لا يخفى فتأمل لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الاستدلال على التوحيد وكمال القدرة والحكمة، وقيل: إلى مصالحهم ومهماتهم. ورد على ما تقدم بأنه يغني عن ذلك قوله تعالى فيما بعد وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وبأن خلق السبل لا تظهر دلالته على ما ذكر انتهى، وفيه ما فيه، وجوّز أن يكون المراد ما هو أعم من الاهتداء إلى الاستدلال والاهتداء إلى المصالح:
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من البلى والتغير على طول الدهر كما روي عن قتادة، والمراد أنها جعلت محفوظة عن ذلك الدهر الطويل، ولا ينافيه أنها تطوى يوم القيامة طي السجل للكتب وإلى تغيرها ودثورها ذهب جميع المسلمين ومعظم أجلة الفلاسفة كما برهن عليه صدر الدين الشيرازي في أسفاره وسنذكره إن شاء الله تعالى في محله.
(9/37)
________________________________________
وقيل: من الوقوع، وقال الفراء: من استراق السمع بالرجوم، وقيل عليه: إنه يكون ذكر السقف لغوا لا يناسب البلاغة فضلا عن الإعجاز، وذكر في وجهه أن المراد أن حفظها ليس كحفظ دور الأرض فإن السرّاق ربما تسلقت من سقوفها بخلاف هذه، وقيل: إنه للدلالة على حفظها عمن تحتها ويدل على حفظها عنهم على أتم وجه،
وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى السماء فقال: «إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف تجري كما يجري السهم محفوظة من الشياطين»
وهو إذا صح لا يكون نصا في معنى الآية كما زعم أبو حيان، وقيل: من الشرك والمعاصي، ويرد عليه ما أورد على سابقه كما لا يخفى.
وَهُمْ عَنْ آياتِها الدالة على وحدانيتنا وعلمنا وحكمتنا وقدرتنا وإرادتنا التي بعضها ظاهر كالشمس وبعضها معلوم بالبحث عنه مُعْرِضُونَ ذاهلون عنها لا يجيلون قداح الفكر فيها، وقرأ مجاهد. وحميد «عن آيتها» بالإفراد ووجه بأنه لما كان كل واحد مما فيها كافيا في الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وحدت الآية لذلك، وجعل الإعراض على هذه القراءة بمعنى إنكار كونها آية بينة دالة على الخالق كما يشير إليه قوله في الكشاف أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع وهم عن كونها آية بينة على الخالق معرضون وليس بلازم.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ اللذين هما آيتاهما ولذا لم يعد الفعل بيانا لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون بطريق الالتفات الموجب لتأكيد الاعتناء بفحوى الكلام، ولما كان إيجاد الليل والنهار ليس على نمط إيجاد الحيوانات وإيجاد الرواسي لم يتحد اللفظ الدال على ذلك بل جيء بالجعل هناك وبالخلق هنا وكذا قيل وهو كما ترى، وقوله تعالى: كُلٌّ مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، واعتبره صاحب الكشاف مفردا نكرة أي كل واحد من الشمس والقمر. واعترض بأنه قد صرح ابن هشام في المغني بأن المقدر إذا كان مفردا نكرة يجب الإفراد في الضمير العائد على كل كما لو صرح به وهنا قد جمع فيجب على اعتباره جمعا معرفا أي كلهم ومتى اعتبر كذلك وجب عند ابن هشام جمع العائد وإن كان لو ذكر لم يجب، ووجوب الإفراد في المسألة الأولى والجمع في الثانية للتنبيه على حال المحذوف.
وأبو حيان يجوز الإفراد والجمع مطلقا فيجوز هنا اعتبار المضاف إليه مفردا نكرة مع جمع الضمير بعد كما فعل الزمخشري وهو من تعلم علو شأنه في العربية، وقوله سبحانه: فِي فَلَكٍ خبره، ووجه إفراده ظاهر لأن النكرة المقدرة للعموم البدلي لا الشمولي، ومن قدر جمعا معرفا قال: المراد به الجنس الكلي المؤول بالجمع نحو كساهم حلة بناء على أن المجموع ليس في فلك واحد. وقوله عز وجل: يَسْبَحُونَ حال ويجوز أن يكون الخبر وفِي فَلَكٍ حالا أو متعلقا به وجملة كُلٌّ إلخ حال من الشمس والقمر والرابط الضمير دون واو بناء على جواز ذلك من غير قبح، ومن استقبحه جعلها مستأنفة وكان ضميرهما جمعا اعتبارا للتكثير يتكاثر المطالع فيكون لهما نظرا إلى مفهومهما الوضعي أفراد خارجية بهذا الاعتبار لا حقيقة، ولهذا السبب يقال شموس وأقمار وإن لم يكن في الخارج إلا شمس واحدة وقمر واحد والذي حسن ذلك هنا توافق الفواصل، وزعم بعضهم أنه غلب القمران لشرفهما على سائر الكواكب فجمع الضمير لذلك. وقيل: الضمير للنجوم وإن لم تذكر لدلالة ما ذكر عليها.
وقيل الضمير للشمس والقمر والليل والنهار، وفيه أن الليل والنهار لا يحسن وصفهما بالسباحة وإن كانت مجازا عن السير، واختيار ضمير العقلاء إما لأنهما عقلاء حقيقة كما ذهب إليه بعض المسلمين كالفلاسفة، وإما لأنهما عقلاء ادعاء وتنزيلا حيث نسب إليهما السباحة وهي من صنائع العقلاء، والفلك في الأصل كل شيء دائر ومنه فلكة المغزل والمراد به هنا على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم السماء.
(9/38)
________________________________________
وقال أكثر المفسرين: هو موج مكفوف تحت السماء يجري فيه الشمس والقمر. وقال الضحاك: هو ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم، والمشهور ما روي عن ابن عباس والسدي وفيه القول باستدارة السماء وفي «كل في فلك» رمز خفي إليه فإنه لا يستحيل بالانقلاب وعليه أدلة جمة. وكونها سقفا لا يأبى ذلك، وقد وقع في كلام الفلاسفة إطلاق الفلك على السماء ووصفوه بأنه حي عالم متحرك بالإرادة حركة مستديرة لا غير ولا يقبل الكون والفساد والنمو والذبول والخرق والالتئام ونوعه منحصر في شخصه وأنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس ولا خفيف ولا ثقيل، وأكثر هذه الأوصاف متفرع على أنه ليس في طباعه ميل مستقيم، وقد رد ذلك في الكتب الكلامية وبنوا على امتناع الخرق والالتئام أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة الفلك ولما رأوا حركات مختلفة قالوا بتعدد الأفلاك، والمشهور أن الأفلاك الكلية تسعة سبعة للسبع السيارة وواحد للثوابت وآخر لتحريك الجميع الحركة اليومية، والحق أنه لا قاطع على نفي ما عدا ذلك ألا ترى أن الشيخ الرئيس لم يظهر له أن الثوابت في كرة واحدة أو في كرات منطو بعضها على بعض، وقولهم إن حركات الثوابت متشابهة ومتى كانت كذلك كانت مركوزة في فلك واحد غير يقيني أما صغراه فلأن حركاتها وإن كانت في الحس متشابهة لكن لعلها لا تكون في الحقيقة كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحدة منها تتم الدورة في ست وثلاثين ألف سنة والأخرى تتممها في هذا الزمان لكن بنقصان عاشرة أو أقل فالذي يخص الدرجة الواحدة من هذا القدر من التفاوت يقل جدا بحيث لا تفي أعمارنا بضبطه وإذا احتمل ذلك سقط القطع بالتشابه، ومما يزيد ذلك سقوطا والاحتمال قوة وجدان المتأخرين من أهل الأرصاد كوكبا أسرع حركة من الثوابت وأبطأ من السيارة سموه بهرشل ولم يظفر به أحد من المتقدمين في الدهور الماضية، وأما كبراه فلاحتمال اشتراك الأشياء المختلفة في كثير من اللوازم فيجوز أن لكل فلكا على حدة وتكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وبطنا، ثم إن الاحتمال غير مختص بفلك الثوابت بل حاصل في كل الأفلاك فيجوز أن يكون بين أفلاك السيارة أفلاك أخر، وما يقال في إبطاله من أن أقرب قرب كل كوكب يساوي أبعد بعد كل الكواكب التي فرضت تحته ليس بشيء لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر، وقد ذكر المحققون من أصحاب الهيئة أن الفلك التدوير لكل من العلوية ثلاث أكر محيط بعضها ببعض وجرم الكوكب مركوز في الكرة الداخلة فيكون مقدار ثخن أربع كرات من تلك التداوير من كل واحد من السافل والعالي ثخن كرتين حائلا بين أقرب قرب العالي وأبعد بعد السافل، وأثبتوا للسفلية خمسة تداوير فيكون بين أقرب قرب الزهرة وأبعد بعد عطارد ثخن ثمان كرات على أنهم إنما اعتقدوا أن أقرب قرب العالي مساو لأبعد بعد السافل لاعتقادهم أولا أنه ليس بين هذه الأفلاك ما يتخللها فليس يمكنهم بناء ذلك عليه وإلا لزم الدور بل لا بد فيه من دليل آخر، وقولهم لا فضل في الفلكيات مع أنه كما ترى يبطله ما قالوا في عظم ثخن المحدد ويجوز أيضا أن يكون فوق التاسع من الأفلاك ما لا يعلمه إلا الله تعالى بل يحتمل أن يكون هذا الفلك التاسع بما فيه من الكرات مركوزا في ثخن كرة أخرى عظيمة ويكون في ثخن تلك الكرة ألف ألف كرة مثل الكرات وليس ذلك مستبعدا فإن تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس فإذا عقل ذلك فأي بأس بأن يفرض مثله مما هو أعظم منه. ويجوز أيضا كما قيل أن تكون الأفلاك الكلية ثمانية لا مكان كون جميع الثوابت مركوزة في
محدث ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أن يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة بل قيل من الجائز أن تكون سبعة بأن تفرض الثوابت ودوائر البروج على محدب ممثل زحل ونفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين السريعة والبطيئة والأخرى بالفلك السابع وتحركه الأخرى فلا قاطع أيضا على نفي أن تكون الأفلاك أقل من تسعة.
(9/39)
________________________________________
ثم الظاهر من الآية أن كلا من الشمس والقمر يجري في ثخن فلكه ولا مانع منه عقلا ودليل امتناع الخرق والالتئام وهو أنه لو كان الفلك قابلا لذلك لكان قابلا للحركة المستقيمة وهي محال عليه غير تام وعلى فرض تمامه إنما يتم في المحدد على أنه يجوز أن يحصل الخرق في الفلك من جهة بعض أجزائه على الاستدارة فلا مانع من أن يقال:
الكواكب مطلقا متحركة في أفلاكها حركة الحيتان في الماء ولا يبطل به علم الهيئة لأن حركاتها يلزم أن تكون متشابهة حول مراكز أفلاكها أي لا تسرع ولا تبطئ ولا تقف ولا ترجع ولا تنعطف، وقول السهروردي في المطارحات: لو كانت الأفلاك قابلة للخرق وقد برهن على كونها ذات حياة فعند حصول الخرق فيها وتبدد الأجزاء فإن لم تحس فليس جزؤها المنخرق له نسبة إلى الآخر بجامع إدراكي ولا خبر لها عن أجزائها وما سرى لنفسها قوة في بدنها جامعة لتلك الأجزاء فلا علاقة لنفسها مع بدنها، وقد قيل إنها ذات حياة وإن كانت تحس فلا بد من التألم بتبديد الأجزاء فإنه شعور بالمنافي وكل شعور بالمنافي إما ألم أو موجب لألم وإذا كان كذا وكانت الكواكب تخرقها بجريها كانت في عذاب دائم، وسنبرهن على أن الأمور الدائمة غير الممكنة الإشراف لا يتصور عليها لا يخفى أنه من الخطابيات بل مما هو أدون منها.
وزعم بعضهم أنه من البراهين القوية مما لا برهان عليه من البراهين الضعيفة، وادّعى الإمام أنها كما تدل على جري الكوكب تدل على سكون الفلك، والحق أنها مجملة بالنسبة إلى السكون غير ظاهرة فيه، وإلى حركته وسكون الفلك بأسره ذهب بعض المسلمين ويحكى عن الشيخ الأكبر قدس سره، ويجوز أن يكون الفلك متحركا والكوكب يتحرك فيه إما مخالفا لجهة حركته أو موافقا لها إما بحركة مساوية في السرعة والبطء لحركة الفلك أو مخالفة، ويجوز أيضا أن يكون الكوكب مغروزا في الفلك ساكنا فيه كما هو عند أكثر الفلاسفة أو متحركا على نفسه كما هو عند محققيهم والفلك بأسره متحركا وهو الذي أوجبه الفلاسفة لما لا يسلم لهم ولا يتم عليه برهان منهم.
ويجوز أيضا أن يكون الكوكب في جسم منفصل عن ثخن الفلك شبيه بحلقة قطرة مساو لقطر الكوكب وهو الذي يتحرك به ويكون الفلك ساكنا ويجوز أيضا أن يكون في ثخن الفلك خلاء يدور الكوكب فيه مع سكون الفلك أو حركته وليس في هذا قول بالخرق والالتئام بل فيه القول بالخلاء وهو عندنا وعند أكثر الفلاسفة جائز خلافا لأرسطاطاليس وأتباعه، ودليل الجواز أقوى من صخرة ملساء، والقول بأن الفلك بسيط فبساطته مانعة من أن يكون في ثخنه ذلك ليس بشيء فما ذكروه من الدليل على البساطة على ضعفه لا يتأتى إلا في المحدد دون سائر الأفلاك، وأيضا متى جاز أن يكون الفلك مجوفا مع بساطته فليجز ما ذكر معها ولا يكاد يتم لهم التقصي عن ذلك، وجاء في بعض الآثار أن الكواكب جميعها معلقة بسلاسل من نور تحت سماء الدنيا بأيدي ملائكة يجرونها حيث شاء الله تعالى، ولا يكاد يصح وإن كان الله عز وجل على كل شيء قديرا، والذي عليه معظم الفلاسفة والهيئيين أن الحركة الخاصة بالكوكب الثابتة لفلكه أولا وبالذات آخذه من المغرب إلى المشرق وهي الحركة على توالي البروج وتسمى الحركة الثانية والحركة البطيئة وهي ظاهرة في السيارات وفي القمر منها في غاية الظهور وفي الثوابت خفية ولهذا لم يثبتها المتقدمون منهم، وغير الخاصة به الثابتة لفلكه ثانيا وبالعرض آخذة من المشرق إلى المغرب وتسمى الحركة الأولى والحركة السريعة وهي بواسطة حركة المحدد وبها يكون الليل والنهار في سائر المعمورة، وأما في عرض تسعين ونحوه ففي الحركة الثانية فعندهم للكوكب حركتان مختلفتان جهة وبطأ ومثلوهما بحركة رحى إلى جهة سريعا وحركة نملة عليها إلى خلاف تلك الجهة بطيئا.
وذهب بعض الأوائل إلى أنه لا حركة في الأجرام العلوية من المغرب إلى المشرق بل حركاتها كلها من
(9/40)
________________________________________
المشرق إلى المغرب لأنها أولى بهذه الأجرام لكونها أقل مخالفة ولأن غاية الحركة للجرم الأقصى وغاية السكون للأرض فيجب أن يكون ما هو أقرب إلى الأقصى أسرع مما هو أبعد ولأنه لو كان بعضها من المشرق وبعضها من المغرب يلزم أن يتحرك الكوكب بحركتين مختلفتين جهة وذلك محال لأن الحركة إلى جهة تقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحركتان طبيعيتين أو قسريتين أو إحداهما طبيعية والأخرى قسرية.
ولا يدفع هذا بما يشاهد من حركة النملة على الرحى إلى جهة حال حركة الرحى إلى خلافها لأنه مثال والمثال لا يقدح في البرهان ولأن القطع على مثل هذه الحركات جائز أما على الحركات الفلكية فمحال، وما استدل به على أن غير الحركة السريعة من المغرب إلى المشرق لا يدل عليه لجواز أن تكون من المشرق ويظن أنها من المغرب وبيانه أن المتحركين إلى جهة واحدة حركة دورية متى كان أحدهما أسرع من حركة الآخر فإنهما إذا تحركا إلى تلك الجهة رؤي الإبطاء منهما متخلفا فيظن أنه متحرك إلى خلاف تلك الجهة لأنهما إذا اقترنا ثم تحركا في الجهة بما لهما من الحركة فسار السريع دورة تامة وسار البطيء دورة الأقوى صار البطيء متخلفا عن السريع في الجهة المخالفة لجهة حركتهما بتلك القوس، وقالوا: يجب المصير إلى ذلك لما أن البرهان يقتضيه ولا يبطله شيء من الأعمال النجومية.
وقد أورد الإمام في الملخص ما ذكر في الاستدلال على محالية الحركتين المختلفتي الجهة للجسم الواحد إشكالا على القائلين بهما ثم قال: ولقوة هذا الكلام أثبت بعضهم الحركة اليومية لكرة الأرض لا لكرة السماء وإن كان ذلك باطلا وأورده في التفسير وسماه برهانا قاطعا وذهب فيه إلى ما ذهب إليه هذا البعض من أن الحركات كلها من المشرق إلى المغرب لكنها مختلفة سرعة وبطأ وفيما ذكروه نظر لأن الشبهتين الأوليين اقناعيتان والثالثة وإن كانت برهانية لكن فسادها أظهر من أن يخفى، وأما أن شيئا من الأعمال النجومية لا يبطله فباطل لأن هذه الحركة الخاصة للكوكب أعني حركة القمر من المشرق إلى المغرب مثلا دورة إلا قوسا لا يجوز أن تكون على قطبي البروج لأنها توجد موازية لمعدل النهار ولا على قطبي المعدل وإلا لما زالت عن موازنة ولما انتظمت من القسي التي تتأخر فيها كل يوم دائرة عظيمة مقاطعة للمعدل كدائرة البروج من القسي التي تأخرت الشمس فيها بل انتظمت صغيرة موازية له اللهم إلا إذا كان الكوكب على المعدل مقدار ما يتمم بحركته دورة فإن المنتظمة حينئذ تكون نفس المعدل لكن هذا غير موجود في الكواكب التي نعرفها ولا على قطبين غير قطبيهما وإلا لكان يرى مسيره فوق الأرض على دائرة مقاطعة للدوائر المتوازية ولم تكن دائرة نصف النهار تفصل الزمان الذي من حين يطلع إلى حين يغرب بنصفين لأن قطبي فلكه المائل لا يكون دائما على دائرة نصف النهار فلا تنفصل قسيّ مداراته الظاهرة بنصفين، ولأنه لو كان الأمر كما توهموا لكانت الشمس تصل إلى أوجها وحضيضها وبعديها الأوسطين بل إلى الشمال والجنوب فيجب أن تحصل جميع الأظلال اللائقة بكون الشمس في هذه المواضع في اليوم الواحد والوجود بخلافه.
وقول من قال يجوز أن يكون حركة الشمس في دائرة البروج إلى المغرب ظاهر الفساد لأنه لو كان كذلك لكان اليوم الواحد بليلته ينقص عن دور معدل النهار بقدر القوس التي قطعتها الشمس بالتقريب بخلاف ما هو الواقع لأنه يزيد على دور المعدل بذلك القدر ولكان يرى قطعها البروج على خلاف التوالي وليس كذلك لتأخرها عن الجزء الذي يتوسط معها من المعدل في كل يوم نحو المشرق، فإذا حركات الأفلاك الشاملة للأرض ثنتان حركة إلى التوالي وأخرى إلى خلافه، وأما حركات التداوير فخارجة عن القسمين لأن حركات أعاليها مخالفة لحركات أسافلها لا محالة
(9/41)
________________________________________
لكونها غير شاملة للأرض، فإن كانت حركة الأعلى من المغرب إلى المشرق فحركة الأسفل بالعكس كما في المتحيرة، وإن كانت حركة الأعلى من المشرق إلى المغرب كانت حركة الأسفل بالعكس كما في القمر. هذا وقصارى ما نقول في هذا المقام: إن ما ذكره الفلاسفة في أمر الأفلاك الكلية والجزئية وكيفية حركاتها وأوضاعها أمر ممكن في نفسه ولا دليل على أنه هو الواقع لا غير، وقد ذهب إلى خلافة أهل لندن وغيرهم من أصحاب الأرصاد اليوم، وكذا أصحاب القلبية والمعارج المعنوية كالشيخ الأكبر قدس سره وقد أطال الكلام في ذلك في الفتوحات المكية. وأما السالف الصالح فلم يصح عنهم تفصيل الكلام في ذلك لما أنه قليل الجدوى ووقفوا حيث صح الخبر وقالوا: إن اختلاف الحركات ونحوه بتقدير العزيز العليم وتشبثوا فيما صح وخفي سببه بأذيال التسليم، والذي أميل إليه أن السموات على طبق ما صحت به الأخبار النبوية في أمر الثخن وما بين كل سماء وسماء ولا أخرج عن دائرة هذا الميل، وأقول يجوز أن يكون ثخن كل سماء فلك لكل واحدة من السيارات على نحو الفلك الذي أثبته الفلاسفة لها وحركته الذاتية على نحو حركته عندهم وحركته العرضية بواسطة حركة سمائه إلى المغرب الحركة اليومية فتكون حركات السموات متساوية، وإن أبيت تحرك السماء بجميع ما فيها لإباء بعض الأخبار عنه مع عدم دليل قطعي يوجبه قلت: يجوز أن يكون هناك محرك في ثخن السماء أيضا ويبقى ما يبقى منها ساكنا بقدرة الله تعالى على سطحه الأعلى ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وللفلاسفة في تحقيق أن المحيط كيف يحرك المحاط به كلام تعقبه الإمام ثم قال: الصحيح أن المحرك للكل هو الله تعالى باختياره وإن ثبت على قانون قولهم كون الحاوي محركا للمحوي فإنه يكون محركا بقوة نفسه لا بالمماسة، وأما الثوابت فيحتمل أن تكون في فلك فوق السموات السبع ويحتمل أن يكون في ثخن السماء السابعة فوق فلك زحل بل إذا قيل بأن جميع الكواكب الثوابت والسيارات في ثخن السماء الدنيا تتحرك على أفلاك مماثلة للأفلاك التي أثبتها لها الفلاسفة ويكون لها حركتان على نحو ما يقولون لم يبعد، وفيه حفظ الظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] وما ذكروه في علم الأجرام والأبعاد على اضطرابه لا يلزمنا تسليمه فلا يراد أنهم قالوا بعد الثوابت عن مركز الأرض خمسة وعشرون ألف ألف وأربعمائة واثنا عشر ألفا وثمانمائة وتسع وتسعون فرسخا، وما ورد في الخبر من أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وسمك السماء كذلك يقتضي أن يكون بين وجه الأرض والثوابت على هذا التقدير ألف عام وفراسخ مسيرة ذلك مع فراسخ نصف قطر الأرض وهي ألف ومائتان وثلاثة وسبعون تقريبا على ما قيل دون ما ذكر بكثير.
ولا حاجة إلى أن يقال: العدد لا مفهوم له واختيار خمسمائة لما أن الخمسة عدد دائر فيكون في ذلك رمز خفي إلى الاستدارة كما قيل في كل فلك، ويشير إلى صحة احتمال أن يكون الفلك في ثخن السماء ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر، والأخبار المرفوعة والموقوفة في أمر الكواكب والسموات والأرض كثيرة.
وقد ذكر الجلال السيوطي منها ما ذكر في رسالة ألفها في بيان الهيئة السنية، وإذا رصدتها رأيت أكثرها مائلا عن دائرة بروج القبول، وفيها ما يشعر بأن للكوكب حركة قسرية نحو ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة ما طلعت الشمس حتى يوتر لها كما توتر القوس، ثم الظاهر أن يراد بالسباحة الحركة الذاتية ويجوز أن يراد بها الحركة العرضية بل قيل هذا أولى لأن تلك غير مشاهدة مشاهدة هذه بل عوام الناس لا يعرفونها، وقيل يجوز أن يراد بها ما يعم الحركتين، واستنبط بعضهم من نسبة السباحة إلى الكوكب أن ليس هناك حامل له يتحرك بحركته مطلقا بل هو
(9/42)
________________________________________
متحرك بنفسه في الفلك تحرك السمكة في الماء إذ لا يقال للجالس في صندوق أو جذع يجري في الماء إنه يسبح، واختار أنه يجري في مجرى قابل للخرق والالتئام كالماء ودون إثبات استحالة ذلك العروج إلى السماء السابعة، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وهو سبحانه ولي التوفيق وعلى محور هدايته تدور كرة التحقيق، وهذه نبذة مما رأينا إيراده مناسبا لهذا المقام، وسيأتي إن شاء الله تعالى نبذة أخرى مما يتعلق بذلك من الكلام وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ كائنا من كان مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي الخلود والبقاء في الدنيا لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية، وقيل الخلد المكث الطويل ومنه قولهم للأثافي خوالد، واستدل بذلك على عدم حياة الخضر عليه السلام، وفيه نظر أَفَإِنْ مِتَّ بمقتضى حكمتنا فَهُمُ الْخالِدُونَ نزلت حين قالوا نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] والفاء الأولى لتعليق الجملة الشرطية بما قبلها والهمزة لإنكار مضمونها وهي في الحقيقة لإنكار جزائها أعني ما بعد الفاء الثانية. وزعم يونس أن تلك الجملة مصب الإنكار والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف تدل عليه الجملة وليس بذاك، ويتضمن إنكار ما ذكر إنكار ما هو مدار له وجودا وعدما من شماتتهم بموته صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل أفإن مت فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك، وفي معنى ذلك قول الإمام الشافعي عليه الرحمة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تزود لأخرى مثلها فكأن قد
وقول ذي الإصبع العدواني:
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وذكر العلامة الطيبي ونقله صاحب الكشف بأدنى زيادة أن هذا رجوع إلى ما سيق له السورة الكريمة من حيث النبوة ليتخلص منه إلى تقرير مشرع آخر، وذلك لأنه تعالى لما أفحم القائلين باتخاذ الولد والمتخذين له سبحانه شركاء وبكتهم ذكر ما يدل على إفحامهم وهو قوله تعالى: أَفَإِنْ إلخ لأن الخصم إذا لم يبق له متشبث تمنى هلاك خصمه.
وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ برهان على ما أنكر من خلودهم وفيه تأكيد لقوله سبحانه: وَما جَعَلْنا إلخ، والموت عند الشيخ الأشعري كيفية وجودية تضاد الحياة، وعند الإسفرايني وعزي للأكثرين أنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة بالفعل فيكون عدم تلك الحياة كما في العمى الطارئ على البصر لا مطلق العمى فلا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتا، وقيل عدم الحياة عما من شأنه الحياة مطلقا فيلزم ذلك ولا ضير لقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] واستدل الأشعري على كونه وجوديا بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] فإن الخلق هو الإيجاد والإخراج من العدم وبأنه جائز والجائز لا بد له من فاعل والعدم لا يفعل. وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون بمعنى التقدير وهو أعم من الإيجاد ولو سلم كونه بمعنى الإيجاد فيجوز أن يراد بخلق الموت إيجاد أسبابه أو يقدر المضاف وهو غير عزيز في الكلام، وعن الأستاذ أن المراد بالموت الآخرة والحياة الدنيا لما روي عن ابن عباس تفسيرهما بذلك، وعن الثاني بأن الفاعل قد يريد العدم كما يريد الحياة فالفاعل يعدم الحياة كما يعدم البصر مثلا.
وقال اللقاني: الظاهر قاض بما عليه الأشعري والعدول عن الظاهر من غير داع غير مرضي عند العدول، وكلامه صرح في أنه عرض وتوقف بعض العلماء القائلين بأنه وجودي في أنه جوهر أو عرض لما أن في بعض الأحاديث أنه
(9/43)
________________________________________
معنى خلقه الله تعالى في كف ملك الموت، وفي بعضها أن الله تعالى خلقه على صورة كبش لا يمر بشيء يجد ريحه إلا مات، وجل عبارات العلماء أنه عرض يعقب الحياة أو فساد بنية الحيوان، والأول غير مانع والثاني رسم بالثمرة، وقريب منه ما قاله بعض الأفاضل: إنه تعطل القوى لانطفاء الحرارة الغريزية التي هي آلتها فإن كان ذلك لانطفاء الرطوبة الغريزية فهو الموت الطبيعي وإلا فهو الغير الطبيعي، والناس لا يعرفون من الموت إلا انقطاع تعلق الروح بالبدن التعلق المخصوص ومفارقتها إياه، والمراد بالنفس النفس الحيوانية وهي مطلقا أعم من النفس الإنسانية كما أن الحيوان مطلقا أعم من الإنسان.
والنفوس عند الفلاسفة ومن حذا حذوهم ثلاثة: النباتية والحيوانية والفلكية والنفس مقولة على الثلاثة بالاشتراك اللفظي على ما حكاه الإمام في الملخص عن المحققين. وبالاشتراك المعنوي على ما يقتضيه كلام الشيخ في الشفاء، وتحقيق ذلك في محله، وإرادة ما يشمل الجميع هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقال بعضهم: المراد بها النفس الإنسانية لأن الكلام مسوق لنفي خلود البشر، واختير عمومها لتشمل نفوس البشر والجن وسائر أنواع الحيوان ولا يضر ذلك بالسوق بل هو أنفع فيه، ولا شك في موت كل من أفراد تلك الأنواع نعم اختلف في أنه هل يصح إرادة عمومها بحيث تشمل نفس كل حي كالملك وغيره أم لا بناء على الاختلاف في موت الملائكة عليهم السلام والحور العين فقال بعضهم: إن الكل يموتون ولو لحظة لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقال بعضهم: إنهم لا يموتون لدلالة بعض الأخبار على ذلك، والمراد من كل نفس النفوس الأرضية والآية التي استدل بها مؤولة بما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى وهم داخلون في المستثنى في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] أولا يسلم أن كل صعق موت، وقال بعضهم: إن الملائكة يموتون والحور لا تموت، وقال آخرون: إن بعض الملائكة عليهم السلام يموتون وبعضهم لا يموت كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام ورجح قول البعض، ولا يرد أن الموت يقتضي مفارقة الروح البدن والملائكة عليهم السلام لا أبدان لهم لأن القائل بموتهم يقول بأن لهم أبدانا لكنها لطيفة كما هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وربما يمنع اقتضاء الموت البدن.
وبالغ بعضهم فادعى أن النفوس أنفسها تموت بعد مفارقتها للبدن وإن لم تكن بعد المفارقة ذات بدن، وكأنه يلتزم تفسير الموت بالعدم والاضمحلال، والحق أنها لا تموت سواء فسر الموت بما ذكر أم لا، وقد أشار أحمد بن الحسين الكندي إلى هذا الاختلاف بقوله:
تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في شجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
وذهب الإمام إلى العموم في الآية إلا أنه قال: هو مخصوص فإن له تعالى نفسا كما قال سبحانه حكاية عن عيسى عليه السلام تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت، ثم قال: والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية إنها لا تموت اهـ، وفيه أنه إن أراد بالنفس الجوهر المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف كما قاله الفلاسفة ومن وافقهم أو الجسم النوراني الخفيف الحي المتحرك النافذ في الأعضاء الساري فيها سريان ماء الورد كما عليه جمهور المحدثين وذكر له ابن القيم مائة دليل فالله تعالى منزه عن ذلك أصلا.
(9/44)
________________________________________
وكذا الجمادات لا تتصف بها على الشائع، وأيضا ليس للأرواح البشرية والعقول المفارقة عند الفلاسفة نفسا بأحد ذينك المعنيين فكيف يبطل بالآية الكريمة قولهم، وإن أراد بها الذات كما هو أحد معانيها جاز أن تثبت لله تعالى وقد قيل به في الآية التي ذكرها، وكذا هي ثابتة للجمادات لكن يرد عليه أنه إن أراد بالموت مفارقة الروح للبدن أو نحو ذلك يبطل قوله وذلك يبطل إلخ لأن الأرواح والعقول المذكورة لا أبدان لها عند الفلاسفة فلا يتصور فيها الموت بذلك المعنى، وإن أراد به العدم والاضمحلال يرد عليه أن الجمادات تتصف به فلا يصح قوله وهي لا تموت، وبالجملة لا يخفى على المتذكر أن الإمام سها في هذا المقام، ثم إن معنى كون النفس ذائقة الموت أنها تلابسه على وجه تتألم به أو تلتذ من حيث إنها تخلص به من مضيق الدنيا الدنيئة إلى عالم الملكوت وحظائر القدس كذا قيل.
والظاهر أن كل نفس تتألم بالموت لكن ذلك مختلف شدة وضعفا،
وفي الحديث «إن للموت سكرات»
ولا يلزم من التخلص المذكور لبعض الناس عدم التألم، ولعل في اختيار الذوق إيماء إلى ذلك لمن له ذوق فإن أكثر ما جاء في العذاب، وقال الإمام: إن الذوق إدراك خاص وهو هاهنا مجاز عن أصل الإدراك ولا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس الطعام حتى يذاق، وذكر أن المراد من الموت مقدماته من الآلام العظيمة لأنه قيل دخوله في الوجود ممتنع الإدراك وحال وجوده يصير الشخص ميتا والميت لا يدرك، وتعقب بأن المدرك النفس المفارقة وتدرك ألم مفارقتها البدن وَنَبْلُوكُمْ الخطاب إما للناس كافة بطريق التلوين أو للكفرة بطريق الالتفات أي نعاملكم معاملة من يختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ بالمكروه والمحبوب هل تصبرون وتشكرون أو لا.
وتفسير الشر والخير بما ذكر مروي عن ابن زيد، وروي عن ابن عباس أنهما الشدة والرخاء، وقال الضحاك:
الفقر والمرض والغنى والصحة، والتعميم أولى، وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم أو لأنه ألصق بالموت المذكور قبله، وذكر الراغب أن اختيار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فالمنحة والمحنة جميعا بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فالمحنة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه: بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال علي كرم الله تعالى وجهه: من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله اهـ، ولعله يعلم منه وجه لتقديم الشر فِتْنَةً أي ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم على غير لفظه.
وجوز أن يكون مفعولا له أو حالا على معنى نبلوكم بالشر والخير لأجل إظهار جودتكم ورداءتكم أو مظهرين ذلك فتأمل ولا تغفل وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال، فهو على الأول من وجهي الخطاب وعد ووعيد وعلى الثاني منهما وعيد محض، وفي الآية إيماء إلى أن المراد من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب. وقرىء «يرجعون» بياء الغيبة على الالتفات وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي المشركون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا مهزوا به على معنى قصر معاملتهم معه صلّى الله عليه وسلّم على اتخاذهم إياه عاملهم الله تعالى بعدله هزوا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزوا كما هو المتبادر كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا.
والظاهر أن جملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إلخ جواب إِذا ولم يحتج إلى الفاء كما لم يحتج جوابها المقترن بما إليها في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ [الجاثية: 25] وهذا بخلاف جواب غير إذا من أدوات الشرط المقترن بما فإنه يلزم فيه الاقتران بالفاء نحو إن تزورنا فما نسيء إليك، وقيل الجواب محذوف وهو يقولون المحكي به قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وقوله سبحانه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إلخ اعتراض وليس
(9/45)
________________________________________
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
بذاك، نعم لا بدّ من تقدير القول فيما ذكر وهو إما معطوف على جملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أو حال أي ويقولون أو قائلين والاستفهام للإنكار والتعجب ويفيدان أن المراد يذكر آلهتكم بسوء وقد يكتفى بدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء: 60] فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء وقد تحاشوا عن التصريح أدبا مع آلهتهم. وفي مجمع البيان تقول العرب ذكرت فلانا أي عبته، وعليه قول عنترة:
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
انتهى والإشارة مثلها في قوله:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم
فيكون في ذلك نوع بيان للاتخاذ هزوا، وقوله تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ في حيز النصب على الحالية من ضمير القول المقدر، والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة والسلام أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم بالقرآن الذي أنزل رحمة كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار، فالضمير الأول مبتدأ خبره كافِرُونَ وبه يتعلق بِذِكْرِ وقدم رعاية للفاصلة وإضافته لامية، والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول، والفصل بين العامل والمعمول بالمؤكد وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول جائز، ويجوز أن يراد بِذِكْرِ الرَّحْمنِ توحيده على أن ذكر مصدر مضاف إلى المفعول أي وهم كافرون بتوحيد الرحمن المنعم عليهم بما يستدعي توحيده والإيمان به سبحانه، وأن يراد به عظته تعالى وإرشاده الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب على أنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وقيل المراد بذكر الرحمن ذكره صلّى الله عليه وسلّم هذا اللفظ وإطلاقه عليه تعالى، والراد بكفرهم به قولهم ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فهو مصدر مضاف إلى المفعول لا غير وليس بشيء كما لا يخفى.
وجعل الزمخشري الجملة حالا من ضمير يَتَّخِذُونَكَ أي يتخذونك هزوا وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بذكر الرحمن. وسبب نزول الآية على ما
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه صلّى الله عليه وسلّم مر على أبي سفيان. وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكر أن يكون لبني عبد مناف فسمعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة وقال لأبي سفيان: أما أنك لم تقل ما قلت إلا حمية، وأنا أرى أن القلب لا يثلج
لكون هذا سببا للنزول والله تعالى أعلم.
(9/46)
________________________________________
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وهو طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، والمراد بالإنسان جنسه جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من نفس العجل تزيلا لما طبع عليه من الأخلاف منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه، وقال أبو عمرو وأبو عبيدة وقطرب: في ذلك قلب والتقدير خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل من طبائعه وأخلاقه للزومه له، وبذلك قرأ عبد الله وهو قلب غير مقبول، وقد شاع في كلامهم مثل ذلك عند إرادة المبالغة فيقولون لمن لازم اللعب أنت من لعب، ومنه قوله:
وأنا لمما يضرب الكبش ضربة ... على رأسه يلقي اللسان من الفم
وقيل المراد بالإنسان النضر بن الحرث لأن الآية نزلت فيه حين استعجل العذاب بقوله اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ [الأنفال: 32] إلخ، وقال مجاهد. وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والضحاك ومقاتل والكلبي: المراد به آدم عليه السلام أراد أن يقوم قبل أن يتم نفخ الروح فيه وتصل إلى رجليه، وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة فلما أجري الروح في عينيه ولسانه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وروي ذلك عن مجاهد، وقيل المراد أنه خلق بسرعة على غير ترتيب خلق بنيه حيث تدرج في خلقهم، وذكر ذلك لبيان أن خلقه كذلك من دواعي عجلته في الأمور، والأظهر إرادة الجنس وإن كان خلقه عليه السلام وما يقتضيه ساريا إلى أولاده وما تقدم في سبب النزول لا يأباه كما لا يخفى، وقيل العجل الطين بلغة حمير، وأنشد أبو عبيدة لبعضهم:
النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل منبته في الماء والعجل
واعترض بأنه لا تقريب لهذا المعنى هاهنا وقال الطيبي: يكون القصد عليه تحقير شأن جنس الإنسان تتميما لمعنى التهديد في قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ والمعول عليه المعنى الأول، والخطاب للكفرة المستعجلين، والمراد بآياته تعالى نقماته عز وجل، والمراد بإراءتهم إياها إصابته تعالى إياهم بها، وتلك الإراءة في
(9/47)
________________________________________
الآخرة على ما يشير إليه ما بعد، وقيل فيها وفي الدنيا، والنهي عن استعجالهم إياه تعالى بالإتيان بها مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق لأن الله تعالى أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ويرجع هذا النهي إلى الأمر بالصبر، وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم «خلق الإنسان» ببناء «خلق» للفاعل ونصب «الإنسان» .
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وقت وقوع الساعة الموعود بها، وكانوا يقولون ذلك استعجالا لمجيئه بطريق الاستهزاء والإنكار كما يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك، ومَتى في موضع رفع على أنه خبر لهذا.
ونقل عن بعض الكوفيين أنه في موضع نصب على الظرفية والعامل فيه فعل مقدر أي متى يأتي هذا الوعد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنه يأتي والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن إتيان الساعة، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه فإن قولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ حيث كان استبطاء منهم للموعود وطلبا لإتيانه بطريق العجلة في قوة طلب إتيانه العجلة فكأنه قيل إن كنتم صادقين فليأتنا بسرعة، وقوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه، وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم بحسب المقام وإلا فكثيرا ما يفيد المضارع المنفي انتفاء الاستمرار، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم.
وقوله تعالى: حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ مفعول يَعْلَمُ على ما اختاره الزمخشري وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه، وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضا مع إنكار الكفرة ذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة إلى الإخبار به وإنما حقه الانتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها، وجواب لَوْ محذوف أي لو لم يستمر عدم علمهم بالوقت الذي يستعجلونه بقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب، وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب واستلزام الإحاطة بهما للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على رفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفعها إلخ لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال، وقدر الحوفي لسارعوا إلى الإيمان وبعضهم لعلموا صحة البعث وكلاهما ليس بشيء، وقيل إن لَوْ للتمني لا جواب لها وهو كما ترى.
وجوز أن يكون يَعْلَمُ متروك المفعول منزلا منزلة اللام أي لو كان لهم علم لما فعلوا ذلك، وقوله تعالى:
حِينَ إلخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل: حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال، وفي الكشف كأنه استئناف بياني وذلك أنه لما نفي العلم كان مظنة أن يسأل فأي وقت يعلمون؟ فأجيب حين لا ينفعهم، والظاهر كون حِينَ إلخ مفعولا به ليعلم.
وقال أبو حيان: الذي يظهر أن مفعوله محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطؤوه وحِينَ منصوب بذلك المفعول وليس عندي بظاهر بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً عطف على لا يَكُفُّونَ وزعم ابن عطية أنه استدراك مقدر قبله نفي والتقدير إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة،
(9/48)
________________________________________
وقيل: إنه استدراك عن قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ إلخ وهو منفي معنى كأنه قيل: لا يعلمون ذلك بل تأتيهم إلخ، وبينه وبين ما زعمه ابن عطية كما بين السماء الأرض. والمضمر في تَأْتِيهِمْ عائد على الْوَعْدُ لتأويله بالعدة أو الموعدة أو الحين لتأويله بالساعة أو على النَّارَ واستظهره في البحر، بَغْتَةً أي فجأة مصدر في موضع الحال أو مفعول مطلق لتأتيهم وهو مصدر من غير لفظه فَتَبْهَتُهُمْ تدهشهم وتحيرهم أو تغلبهم على أنه معنى كنائي.
وقرأ الأعمش «بل يأتيهم» بياء الغيبة «بغتة» بفتح الغين وهو لغة فيها، وقيل: إنه يجوز في كل ما عينه حرف حلق «فيبهتهم» بياء الغيبة أيضا، فالضمير المستتر في كل من الفعلين للوعد أو للحين على ما قال الزمخشري.
وقال أبو الفضل الرازي: يحتمل أن يكون للنار بجعلها بمعنى العذاب فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها الضمير المجرور عائد على ما عاد عليه ضمير المؤنث فيما قبله، وقيل: على البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين، وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ إلخ تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم عن استهزائهم بعد أن قضى الوطر من ذكر الأجوبة الحكمية عن مطاعنهم في النبوة وما أدمج فيها من المعاني التي هي لباب المقاصد وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قضى ما عليه من عهدة الإبلاغ وأنه المنصور في العاقبة ولهذا بدىء بذكر أجلة الأنبياء عليهم السلام للتأسي وختم بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء: 105] إلخ، وتصدير ذلك بالقسم لزيادة تحقيق مضمونه، وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير، ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فَحاقَ أي أحاط عقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، وقيل: أصل حاق حق كزال وزل وذام وذم. وقوله تعالى: بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق. وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم، وما إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد عليها والجار متعلق بالفعل بعده وتقديمه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أهلكوا لأجله. وإما مصدرية فالضمير راجع إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا. ولعل إيثار الأفراد على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد منهم عليهم السلام لأجزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع المسبب إيذانا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروي بناء على ظهور الأعمال في النشأة الأخروية بصور مناسبة لها في الحسن والقبح قُلْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل أولئك المستهزئين سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغتروا بما غشيهم من نعم الله تعالى ويقول مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه بقرينة الحفظ، وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا.
وفي التعرض لعنوان الرحمانية تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته تعالى وتلقين للجواب كما قيل في قوله تعالى:
ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وقيل إن ذلك إيماء إلى أن بأسه تعالى إذا أراد شديد أليم ولذا يقال نعوذ بالله عز وجل من غضب الحليم وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته ودلالة على شدة خبثهم.
وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة «يكلوكم» بضمة خفيفة من غير همز، وحكى الكسائي والفراء «يكلوكم» بفتح اللام وإسكان الواو، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ إضراب عن ذلك تسجيلا عليهم بأنهم ليسوا
(9/49)
________________________________________
من أهل السماع وأنهم قوم ألهتهم النعم عن المنعم فلا يذكرونه عز وجل حتى يخافوا بأسه أو يعدوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة ليسألوا عن الكالئ على طريقة قوله:
عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار ... ماذا تحيون من نوء وأحجار
وفيه أنهم مستمرون على الأعراض ذكروا ونبهوا أولا، وفي تعليق الأعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبئ عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي ما لا يخفى، وقيل إنه إضراب عن مقدر أي إنهم غير غافلين عن الله تعالى حتى لا يجدي السؤال عنه سبحانه كيف وهم إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتشفع لهم عنده تعالى وتقربهم إليه زلفى بل هم معرضون عن ذكره عز وجل فالتذكير يناسبهم، وهذا مع ظهوره من مساق الكلام ووضوح انطباقه على مقتضى المقام قد خفي عن الناظرين وغفلوا عنه أجمعين اهـ.
وتعقب بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل عليهم بأنهم إذا ذكروا لا يذكرون ألا يرى قوله تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ [الأنبياء: 45] وما ذكر يقتضي العكس لتضمنه وصفهم بإجداء الإنذار والدعاء مع أن قوله غير غافلين مناف لما يدل عليه النظم الكريم فالحق ما تقدم، وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إعراض عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها، فأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة ولَهُمْ خبر مقدم وآلِهَةٌ مبتدأ وجملة تَمْنَعُهُمْ صفته ومِنْ دُونِنا قيل صفة بعد صفة أي بل ألهم آلهة مانعة لهم متجاوزة منعنا أو حفظنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وعليه يكون مِنْ دُونِنا صفة أيضا، وقال الحوفي: إنه متعلق بتمنعهم أي بل ألهم آلهة تمنعهم من عذاب من عندنا، والاستفهام لإنكار أن يكون لهم آلهة كذلك، وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم إلخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلا عن رتبة المنع ما لا يخفى.
وقال بعض الأجلة: إن الإضراب الذي تضمنته أَمْ عائد على الأمر بالسؤال كالإضراب السابق لكنه أبلغ منه من حيث إن سؤال الغافل عن الشيء بعيد وسؤال المعتقد لنقيضه أبعد، وفهم منه بعضهم أن الهمزة عليه للتقرير بما في زعم الكفرة تهكما.
وتعقب أنه ليس بمتعين فيجوز أن يكون للإنكار لا بمعنى أنه لم يكن منهم زعم ذلك بل بمعنى أنه لم كان مثله مما لا حقيقة له، والأظهر عندي جعله عائدا على الوصف بالإعراض كما سمعت أولا، وفي الكشف ضمن الإعراض عن وصفهم بالإعراض إنكاره أبلغ الإنكار بأنهم في إعراضهم عن ذكره تعالى كمن له كالىء يمنعه عن بأسنا معرضا فيه بجانب آلهتهم وأنهم أعرضوا عنه تعالى واشتغلوا بهم ولهذا رشح بما بعد كأنه قيل دع حديث الإعراض وانظر إلى من أعرضوا عن ربهم سبحانه إليه فإن هذا أطم وأطم فتأمله فإنه دقيق.
وقوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ استئناف مقرر لما قبله من الإنكار أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم ذلك من جهتنا فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم، فالضمائر للآلهة بتنزيلهم منزلة العقلاء وروي عن قتادة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها للكفرة على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم ولا يصحبهم
(9/50)
________________________________________
نصر من جهتنا، والأول أولى بالمقام وإن كان هذا أبعد عن التفكيك، ومِنَّا على القولين يحتمل أن يتعلق بالفعل بعده وأن يتعلق بمقدر وقع صفة لمحذوف.
وقوله تعالى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إلخ إضراب على ما في الكشف عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الاستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم، وفي غير كتاب إنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم.
ويحتمل أن يكون إضرابا عما يدل عليه الاستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا متعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا وأعرضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب أَفَلا يَرَوْنَ أي ألا ينظرون فلا يرون أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الكفرة أو أرضهم نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم، والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في النظم الجليل لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم، وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيما لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه، وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين.
والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال: إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال: إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة، وقيل ننقصها بموت العلماء وهذا إن صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظرا إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.
والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بعد ما بيّن من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعي عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار وغير ذلك من مساويهم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم: إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة بِالْوَحْيِ الصادق الناطق بإثباتها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية فإن الإيمان برهان لأعياني.
وقوله تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر صلّى الله عليه وسلّم بأن يقوله لهم توبيخا وتقريعا وتسجيلا عليهم بكمال الجهل والعناد، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله سبحانه: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ كأنه قيل قل لهم ذلك وهم بمعزل عن السماع، واللام في الصم إما للجنس المنتظم لهؤلاء الكفرة انتظاما أوليا وإما للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصامم، وتقييد نفي السماع بقوله تعالى: إِذا ما يُنْذَرُونَ مع أن الصم لا يسمعون مطلقا لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هو
(9/51)
________________________________________
عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك، فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكن صممهم في غاية لم يسمع بمثلها، وقيل لأن الكلام في الإنذار ألا ترى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وفيه دغدغة لا تخفى.
وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص «تسمع» بالتاء على الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسماع «الصمّ الدعاء» بنصبهما على المفعولية، وهذه القراءة تؤيد احتمال كون الجملة من جهته تعالى وقرىء «يسمع» بالياء على الغيبة وإسناد الفعل إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم «الصم الدعاء» بنصبهما على ما مر. وذكر ابن خالويه أنه قرىء «يسمع» مبنيا للمفعول «الصم» بالرفع على النيابة عن الفاعل «الدعاء» بالنصب على المفعولية. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو «يسمع» بضم ياء الغيبة وكسر الميم «الصمّ» بالنصب على المفعولية «الدعاء» بالرفع على الفاعلية يسمع، وإسناد الأسماع إليه من باب الاتساع والمفعول الثاني محذوف كأنه قيل ولا يسمع الصم الدعاء شيئا، وقوله تعالى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ بيان لسرعة تأثرهم من مجيء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبره على نهج التوكيد القسمي أي وبالله لئن مسهم أدنى شيء من عذابه تعالى: لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن عليها بالظلم السابق، وفي مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ ثلاث مبالغات كما قال الزمخشري وهي كما في الكشف ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما، وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء ويقال نفحته الدابة ضربته بحد حافرها ونفحه بعطية رضخه وأعطاه يسيرا، وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم، وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير، واستفادة ذلك إن سلمت من بناء المرة ونفس الكلمة لا يعكر عليه كما زعم صاحب الإيضاح.
واعترض بعضهم المبالغة في المس بأنه أقوى من الإصابة لما فيه من الدلالة على تأثر حاسة الممسوس ومما ذكر في الكشف يعلم اندفاعه لمن مسته نفحة عناية، ولعل في الآية مبالغة خامسة تظهر بالتأمل ثم الظاهر أن هذا المس يوم القيامة كما رمزنا إليه، وقيل في الدنيا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من تفسير النفحة بالجوع الذي نزل بمكة وقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه.
وجعل الطيبي الجملة حالا من الضمير في لَيَقُولُنَّ بتقدير ونحن نضع، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة، ويجوز أن يقال: أقيم العموم في نَفْسٌ الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل، وتظهر بصور جوهرية مشرقة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان، وقيل لكل مكلف ميزان، وقيل للمؤمن موازين بعد خيراته وأنواع حسناته، والأصح أشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفّتاه كأطباق السموات، والأرض لصحة الأخبار بذلك، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً [المؤمنون: 99] وقوله فارحموني يا إله محمّد، وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في نوادر الأصول، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غدا؟.
قال اللقاني: لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو اهـ، وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ
(9/52)
________________________________________
كفته حسنات؟ فقال تعالى: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر.
وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا: يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف، ووضع الموازين عندهم تمثيل لأرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال، وروي هذا عن الضحاك وقتادة ومجاهد والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر، وأفراد القسط مع كونه صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط، وجوز أبو حيان أن يكون مفعولا لأجله نحو قوله:
لا أقعد الجبن عن الهيجاء وحينئذ يستغني عن توجيه أفراده. وقرىء «القصط» بالصاد، واللام في قوله تعالى: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما مضى من قبل عاد وتبع
وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستجعلونها وقال غير واحد: هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام بمعنى في: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ من النفوس شَيْئاً من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود. فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور.
وجوّز أن يكون شَيْئاً مفعولا به على الحذف والإيصال والظلم بحالة أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثوابا أو تزاد عذابا، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوّز في شَيْئاً المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئا من النقص أو شيئا من الثواب، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم، والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين.
وربما يفهم من ذلك أن كل أحد من توزن أعماله، وقال القرطبي: الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] وقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: 105] . وقوله سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] . وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين.
وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العموم، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الأنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبي واستنبطه من عدة آيات، وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن وَإِنْ كانَ أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين، وقيل الضمير راجع لشيئا بناء على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور
(9/53)
________________________________________
متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، وأبو جعفر وشيبة ونافع «مثقال» بالرفع على أن كان تامة أَتَيْنا بِها أي جئنا بها وبه قرأ أبي، والمراد أحضرناها، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأن لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية، وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني «آتينا» بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفا، والمراد جازينا أيضا مجازا ولذا عدي بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدي بنفسه كما قال ابن جني وغيره. وقرأ حميد «أثبنا» من الثواب وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مرادا به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة. وذكر اللقاني أن لحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثني منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرا كانت أو شرا تفصيلا لا بالوزن، وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار قبل الوزن، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في البحر.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ إلخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكر في جلاله وجماله سبحانه ساهية، وفي قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية وَكَمْ قَصَمْنا قبلهم مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب، وفي قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار وَمَنْ عِنْدَهُ قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس، وفي قوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئا بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوفّ حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الجواهر واليواقيت وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قد تقدم ما فيه من الإشارة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قال الجنيد قدس سره: من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك، ولا يخفى أنه كثيرا ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت في كل عما يحطه عن درجته، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ وَنَضَعُ
(9/54)
________________________________________
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ
قال بعض الصوفية: الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفسا منها السموات والأرض.
وذكروا أن في الدنيا موازين أيضا أعظم موازينها الشريعة وكفتا الكتاب والسنة، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال إنه عز وجل المتفضل بأنواع الأفضال.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ إلى قوله سبحانه: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء: 7. 9] وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم، وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه، والمراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر، والعطف كما في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم

ونقل الطيبي أنه أدخل الواو على ضِياءً وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظا كقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال: 49، الأحزاب: 12] وقال سيبويه: إذا قلت مررت بزيد وصاحبك جاز وإن قلت مررت بزيد فصاحبك بالفاء لم يجز كما جاز بالواو لأن الفاء تقتضي التعقب وتأخير الاسم عن المعطوف عليه بخلاف الواو، وأما قول القائل:
يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب
فإنما ذكر بالفاء وجاد لأنه ليس بصفة على ذلك الحد لأن أل بمعنى الذي أي فالذي صبح فالذي غنم فالذي آب، وأبو الحسن يجيز المسألة بالفاء كما يجيزها بالواو انتهى، والمعنى وبالله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس ويتذكرون، وتخصيص للمتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به أو ذكر ما يحتاجون به من الشرائع والأحكام أو شرف لهم.
وقيل: الفرقان النصر كما في قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: 41] وأطلق عليه لفرقه بين الولي والعدو وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس، والضياء حينئذ إما التوراة أو الشريعة أو اليد البيضاء. والذكر بأحد المعاني المذكورة.
وعن الضحاك أن الفرقان فلق البحر والفرق والفلق اخوان، وإلى الأول ذهب مجاهد وقتادة وهو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترح الكفرة مثله بقولهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] .
وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك «ضياء» بغير واو على أنه حال من «الفرقان» وهذه القراءة تؤيد أيضا التفسير الأول، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مجرور المحل على أنه صفة مادحة المتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح، والمراد على كل تقدير يخشون عذاب ربهم. وقوله سبحانه بِالْغَيْبِ حال من المفعول أي يخشون ذلك وهو غائب عنهم غير مرئي لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه.
وقال الزجاج: حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عن أعين الناس ورجحه ابن عطية. وقيل: يخشونه بقلوبهم وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي خائفون بطريق الاعتناء، والجملة تحتمل العطف على الصلة وتحتمل الاستئناف، وتقديم الجار لرعاية الفواصل، وتخصيص إشفاقهم من الساعة بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان
(9/55)
________________________________________
بكونها معظم المخلوقات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على أن حالتهم فيما يتعلق بالآخرة الإشفاق الدائم وَهذا أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا للإيذان بسهولة تناوله ووضوح أمره، وقيل: لقرب زمانه ذِكْرٌ يتذكر به من تذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة مع انطواء جميع ما تقدم في وصفه بقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع ولقد عاد علينا والله تعالى الحمد من بركته ما عاد.
وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر لهذا، وفيه على التقديرين من تعظيم أمر القرآن الكريم ما فيه أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ إنكار لإنكارهم بعد ظهور كونه كالتوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل أو للحصر لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية وقيل: الصحف، وقيل: الحكمة، وقيل: التوفيق للخير صغيرا، واختار بعضهم التعميم.
وقرأ عيسى الثقفي «رشده» بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم والأول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في الكشف: وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى عليهم السلام لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام، وقيل مِنْ قَبْلُ لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 76] أي من قبل هؤلاء المذكورين، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اهـ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي بأحواله وما فيه من الكمالات، وهذا كقولك في خير من الناس:
أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل.
وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك: علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله، وجوّز أن يكون ظرفا لرشد أو لعالمين، وأن يكون بدلا من موضع مِنْ قَبْلُ وأن ينتصب بإضمار أعني أو أذكر، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام وفي النصيحة والإنقاذ من الضلال.
والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا أنه عبر عنها بالتماثيل تحقيرا لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبّهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به. وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به للقريب إشارة إلى التحقير أيضا، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل اللزوم
(9/56)
________________________________________
والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع، واللام في لَها للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف:
43] أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138] وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف.
واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة عاكِفُونَ محذوفة أي عاكفون على عبادتها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية.
وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا وعاكِفُونَ خبر بعد خبر، وأنت تعلم أنه نفي بعده مكابرة، ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفى خير له من أن يمسها
، وفيه نظر لا يخفى، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بألطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجئوا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ وأبطل عليه السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين وجدتموهم كذلك فِي ضَلالٍ عجيب لا يقادر قدره مُبِينٍ ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالا لاستنادكم وإياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، وأَنْتُمْ تأكيد للضمير المتصل في كُنْتُمْ ولا بد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير، ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم، وفي اختيار فِي ضَلالٍ على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم، وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المتمسكين به قالُوا لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعادا لكون ما هم عليه ضلالا وتعجبا من تضليله عليه السلام إياهم على أتم وجه أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالجد أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي الهازلين فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب، وقولهم أَمْ أَنْتَ إلخ عديله كلام منصف مومىء فيه بألطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة، وأشار في الكشاف كما في الكشف إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه.
وقال صاحب المفتاح: أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطي الحق أم أحوال الصبا بعد على الاستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهر أو بيان المراد بالمجيء وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة. واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال: إنهم لما سمعوا منه عليه السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه السلام البرهان فكأنهم قالوا هب أنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وجاؤوا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فاضربوا ببل عما أثبتوا له وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت، وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غرق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوى اللعب واللهو على سبيل الكناية إلا بمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان، وهذه الكناية توقفك
(9/57)
________________________________________
على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعا وكذا بل فيما بعد انتهى والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه، وأما وجوبه ففيه ما فيه.
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه. وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة، وضمير فَطَرَهُنَّ أما للسموات والأرض واستظهره أبو حيان، ووصفه تعالى بإيجادهن أثر وصفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقا للحق تنبيها على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة. وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل، وقوله تعالى: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل، والإشارة إلى المذكور، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده، وإن كان في صلة أل لاتساعهم في المظروف أقوال مشهورة، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها.
وقال شيخ الإسلام: إن قوله: بَلْ رَبُّكُمْ إلخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أربابا لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم إلخ وقال القاضي: هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه، وجعله الطيبي إضرابا عن ذلك أيضا قال: وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله: بَلْ رَبُّكُمْ الآية لينبه به على أن إبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه.
وقوله: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم: أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال: لست من اللاعبين في الدعاوى بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوى اهـ، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الاضراب أولى وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأجتهدن في كسرها، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه، وفيه إيذان بصعوبة لانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليحتاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت، وكان هذا منه عليه السلام عزما على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر، ولا يأباه ما روي عن قتادة أنه قال:
نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين: وقيل اثنين وسبعين.
وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل «بالله» بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث إن الواو تفيد معنى قريبا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة.
(9/58)
________________________________________
وتعقبه في البحر بأنه لا يقوم على ذلك دليل، وقدره السهيلي، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلا لآخر، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة. ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم، وفرق آخرون بينهما استعمالا بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافا إلى الكعبة على قلة بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ من عبادتها إلى عيدكم. وقرأ عيسى بن عمر تُوَلُّوا من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات: 90] والفاء في قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه السلام والأصنام فجعلهم جُذاذاً أي قطعا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر:
بنو المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف
فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر، وقرأ الكسائي وابن محيض وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية «جذاذا» بكسر الجيم، وابن عباس وابن نهيك وأبو السمال «جذاذا» بالفتح، والضم قراءة الجمهور، وهي كما روي عن ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع، وقال اليزيدي: جذاذا بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة، وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام، وقيل: هو بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود.
وقرأ يحيى بن وثاب «جذذا» بضمتين مع جمع جذيذ كسرير وسرر، وقرىء «جذذا» بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين. وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه السلام في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال إني سقيم فدخل فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كان في يده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه، وقيل: في يده وذلك قوله تعالى: إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة، والكبر إما في المنزلة على زعمهم أيضا أو في الجثة، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون الضمير للعبدة، قيل: ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير، وضمير إِلَيْهِ عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى، وقيل: الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه السلام فيجيبهم، ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه: إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ليس أجنبيا في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده.
وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس في عنقك أو في يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها، ويحتمل أنه عليه السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لكن ذلك من باب الاستهزاء
(9/59)
________________________________________
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
والاستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل، وعلى الاحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام، ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادرا لكن جمهور المفسرين على الأول، والجار والمجرور متعلق بيرجعون، والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ما قيل، وقيل: هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل.
وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلا من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور.
(9/60)
________________________________________
قالُوا أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا مَنْ فَعَلَ هذا الأمر العظيم بِآلِهَتِنا قالوه على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع، والتعبير عنه بالآلهة دون الأصنام أو هؤلاء للمبالغة في التشنيع، وقوله تعالى: إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئناف مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن تكون مَنْ موصولة مبتدأ وهذه الجملة في محل الرفع خبره أي الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة إما لجرأته على إهانتها وهي الحفية بالإعظام أو لتعريض نفسه للهلكة أو لإفراطه في الكسر والحطم، والظلم على الأوجه الثلاثة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه قالُوا أي بعضهم منهم وهم الذين سمعوا قوله عليه السلام: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ عند بعض سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يعيبهم فلعله الذي فعل ذلك بهم وسمع. كما قال بعض الأجلة. حقه أن يتعدى إلى واحد كسائر أفعال الحواس كما قرره السهيلي ويتعدى إليه بنفسه كثيرا وقد يتعدى إليه بإلى أو اللام أو الباء، وتعديه إلى مفعولين مما اختلف فيه فذهب الأخفش. والفارسي في الإيضاح وابن مالك وغيرهم إلى أنه إن وليه ما يسمع تعدى إلى واحد كسمعت الحديث وهذا متفق عليه وإن وليه ما لا يسمع تعدي إلى اثنين ثانيهما مما يدل على صوت.
واشترط بعضهم كونه جملة كسمعت زيدا يقول كذا دون قائلا كذا لأنه دال على ذات لا تسمع، وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء: 72] فعلى تقدير مضاف أي هل يسمعون دعاءكم، وقيل ما أضيف إليه الظرف مغن عنه، وفيه نظر، وقال بعضهم: إنه ناصب لواحد بتقدير مضاف مسموع قبل اسم الذات، والجملة إن كانت حال بعد المعرفة صفة بعد النكرة ولا تكون مفعولا ثانيا لأنها لا تكون كذلك إلا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وليس هذا منها.
وتعقب بأنه من الملحقات برأي العلمية لأن السمع طريق العلم كما في لتسهيل وشروحه فجوز هنا كون فَتًى مفعولا أولا وجملة يَذْكُرُهُمْ مفعولا ثانيا، وكونه مفعولا والجملة صفة له لأنه نكرة، وقيل إنها بدل منه، ورجحه بعضهم باستغنائه عن التجوز والإضمار إذ هي مسموعة والبدل هو المقصود بالنسبة وإبدال الجملة من المفرد جائز، وفي الهمع أن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال، وفي التصريح قد تبدل الجملة من المفرد بدل كل من كل فلا تغفل، وقال بعضهم إن كون الجملة صفة أبلغ في نسبة الذكر إليه عليه السلام لما في ذلك من إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة فيفيد أنهم سمعوه بدون واسطة.
ووجه بعضهم الأبلغية بغير ما ذكر مما بحث فيه، ولعل الوجه المذكور مما يتأتى على احتمال البدلية فلا تفوت المبالغة عليه، وقد يقال: إن هذا التركيب كيفما أعرب أبلغ من قولك سمعنا ذكر فتى ونحوه ما لا يحتاج فيه إلى مفعولين اتفاقا لما أن سَمِعْنا لما تعلق بفتى أفاد إجمالا أن المسموع نحو ذكره إذ لا معنى لأن يكون نفس الذات مسموعا ثم إذا ذكر يَذْكُرُهُمْ علم ذلك مرة أخرى ولما فيه من تقوى الحكم بتكرر الإسناد على ما بين في علم المعاني ولهذا رجح أسلوب الآية على غيره فتدبر.
وقوله تعالى: يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ صفة لفتى، وجوز أن يكون استئنافا بيانيا والأول أظهر، ورفع إِبْراهِيمُ على أنه نائب الفاعل ليقال على اختيار الزمخشري وابن عطية، والمراد لفظه أي يطلق عليه هذا اللفظ، وقد اختلف في
(9/61)
________________________________________
جواز كون مفعول القول مفردا لا يؤدي معناه جملة كقلت قصيدة وخطبة ولا هو مصدر القول أو صفته كقلت قولا أو حقا فذهب الزجاج والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى الجواز إذا أريد بالمفرد ولفظه بل ذكر الدنوشري أنه إذا كان المراد بالمفرد الواقع بعد القول نفس لفظه تجب حكايته ورعاية إعرابه، وآخرون إلى المنع قال أبو حيان: وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلأن زيد ولا قال ضرب وإنما وقع القول في كلامهم لحكاية الجمل وما في معناها، وجعل المانعون إِبْراهِيمُ مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذا إبراهيم والجملة محكية بالقول كما في قوله: إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة.
وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي إبراهيم فاعله وأن يكون منادى حذف منه حرف النداء أي يقال له حين يدعى يا إبراهيم، وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري وابن عطية ويكفي الظهور مرجحا في أمثال هذه المطالب، وذهب الأعلم إلى أن إِبْراهِيمُ ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه إذا القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض، ولا يخفى أن كلام هذا الأعلم لا يقوله إلا الأجهل ولأن يكون الرجل أفلح أعلم خير له من أن ينطق بمثله ويتكلم.
قالُوا أولئك القائلون مَنْ فَعَلَ إلخ إذا كان الأمر كذا فَأْتُوا بِهِ أي أحضروه عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ مشاهدا معاينا لهم على أتم وجه كما تفيده على المستعارة لتمكن الرؤية لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي يحضرون عقوبتنا له، وقيل يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مبهم أو معهود والأول مروي عن ابن عباس والضحاك، والثاني عن الحسن وقتادة، والترجي أوفق به قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أو لا؟ فقيل قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ اقتصارا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان، والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه السلام على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان (1) بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا وأيضا قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل، واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام، وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام فد حلف بقوله: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ إلخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا: مَنْ فَعَلَ هذا إلخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام ولقائل أن يقول: إن الحلف كما قاله كثير كان سرا أو سمعه رجل واحد، وقوله سبحانه: قالُوا سَمِعْنا إلخ من قوله تعالى: قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا إلخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون أَأَنْتَ فَعَلْتَ كلام ذلك البعض. وقد يقال: إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر أفأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل، وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكا تعريضيا يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من الترقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولا في معرض المباشر للفعل
__________
(1) أي منه يدل عليه لفظ الإقرار فاندفع ما توهمه بعضهم في هذا المقام اهـ منه.
(9/62)
________________________________________
بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلا يجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده اليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسنادا مجازيا عقليا باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا، وإنما لم يكسره وأن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة، وتسمية ذلك كذبا كما
ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز
لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقيل في توجيه ذلك أيضا: إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة.
ويحكى أنه عليه السلام قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها، قيل: فيكون حينئذ تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام، وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له: بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك.
وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائر بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثا.
ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في أَأَنْتَ فَعَلْتَ تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري، نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا، وقيل إن فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ جواب قوله: إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ معنى وقوله: «فاسألوا» جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله: «فاعلم فعلم المرء ينفعه» فيكون كون الكبير فاعلا مشروطا بكونهم ناطقين ومعلقا به وهو محال فالمعلق به كذلك، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر، وقيل: إن الكلام تم عند قوله: فَعَلَهُ والضمير المستتر فيه يعود على فَتًى أو إلى إبراهيم، ولا يخفى أن كلام من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذ والمناسب في الجواب نعم، ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزي إلى الكسائي أنه جعل الوقف على فَعَلَهُ أيضا إلا أنه قال: الفاعل محذوف أي فعله من فعله.
وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه.
وقيل يجوز أن يقال: إنه أراد بالحذف الإضمار، وأكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء، وقيل الوقف على كَبِيرُهُمْ وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان، ومثله أن يراد به الله عز وجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها، ويعزى للفراء أن الفاء في فَعَلَهُ عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف.
واستدل عليه بقراءة ابن السميقع «فعلّه» مشدد اللام، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا
(9/63)
________________________________________
التخريج، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها، وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلا وأن في المعارض لمندوحة عن الكذب، وإنما قال عليه السلام إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل، وقد حصل ذلك حسبما نطق به قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا.
فَقالُوا أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه السلام وعدو لكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه السلام حيث كان متضمنا التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه السلام والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل، وابن إسحق، والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أصل النكس قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله، ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد، وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح.
وذكر الزمخشري على ما في الكشف في المراد به هنا ثلاثة أوجه، الأول أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الاعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلا أن تكون في معرض الإلهية فمعنى لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما اتخذناها آلهة مع العلم بالوصف، والدليل عليه جواب إبراهيم عليه السلام الآتي، والثاني أنه الرجوع عن الجدل معه عليه السلام بالباطل في قولهم: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا وقولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ إلى الجدال عنه بالحق في قولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ لأنه نفي للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للإلهية وسمي نكسا وإن كان حقا لأنه ما أفادهم عقدا فهو نكس بالنسبة إلى ما كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا. وفي لباب التفسير ما يقرب منه مأخذا لكنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إلى الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ والثالث أن النكس مبالغة في إطراقهم رؤوسهم خجلا وقولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ إلخ رمي عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة، قال في الكشف. وهذا وجه حسن وكذلك والأول، وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حاتم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين، وقال مجاهد: معنى نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ردت السفلة السفلة على الرؤساء. فالمراد بالرؤوس الرؤساء، والأظهر عندي الوجه الثالث، وأيا ما كان فالجار متعلق بنكسوا.
وجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا، والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين لَقَدْ إلخ، والخطاب في عَلِمْتَ لإبراهيم عليه السلام لا لكل من يصلح للخطاب، والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما يوهمه صيغة المضارع، وقرأ أبو حيوة. وابن أبي عبلة. وابن مقسم. وابن الجارود. والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف «نكّسوا» ، وقرأ
(9/64)
________________________________________
رضوان بن عبد المعبود «نكسوا» بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل: رجعوا على رؤسائهم بناء على ما يقتضيه تفسير مجاهد.
قالَ عليه السلام مبكتا لهم أَفَتَعْبُدُونَ أي أتعلمون ذلك فتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزين عبادته تعالى ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع، وقيل: بشيء وَلا يَضُرُّكُمْ فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعا أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق، وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة، واللام لبيان المتأفف له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا أَفَلا تَعْقِلُونَ أي لا تتفكرون فلا تعقلون قبح صنيعكم قالُوا أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة يفزع إلى المناصبة حَرِّقُوهُ فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئا ما فيها، ويشعر بذلك العدول عن أن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في النظم الكريم، وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه السلام.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت: لا. قال: رجل من أعراب فارس يعني الأكراد (1) ونص على أنه من الأكراد ابن عطية، وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، واسمه على ما أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون، وقيل: هدير. وفي البحر أنهم ذكروا له اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة، روي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما فأوقدوا نارا عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه، وقيل: صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى ابراهيم عليه السلام فوضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا: إن استغاث بأحد منكم فلينصره وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار
فقال عليه السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل
،
وروي عن أبيّ بن كعب قال: حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا ابراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
قال: جبريل عليه السلام: فاسأل ربك فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي
،
ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار، وقد جاء ذلك في رواية البخاري.
__________
(1) هذا ظاهر في أن الأكراد من الفرس وقد ذهب كثير إلى أنهم من العرب وذكر أن منهم أبا ميمون جابان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحقيق الكلام فيهم في محله اهـ منه.
(9/65)
________________________________________
وفي البحر ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك، فلما وصل عليه السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه السلام روضة، وذلك قوله سبحانه وتعالى:
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار، ولذا
قال علي كرّم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عند أحمد وغيره: لو لم يقل سبحانه وَسَلاماً لقتله بردها
، وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقيل: نصب سَلاماً بفعله أي وسلمنا سلاما عليه، والجملة عطف على قُلْنا وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار. روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي ابراهيم عليه السلام فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب،
وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين يوما، وقال عليه السلام: ما كنت أطيب عيشا مني إذ كنت فيها
، قال ابن إسحاق: وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليه السلام يؤنسه، قالوا: وبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه،
وقال جبريل عليه السلام يا ابراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا ابراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا ابراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال ابراهيم عليه السلام: نعم قال: هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك؟ قال: لا. قال: فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه، وقال له: يا ابراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها فقال: يا ابراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له ابراهيم عليه السلام: إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن ابراهيم عليه السلام
. وكان ابراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قالوا: إنه سحر النار فرموا فيها شيخا منهم فاحترق، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالما لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام: إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هاران فأحرقته، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أبا لوط قال وكان عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقا من النار فأحرقه، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في البحر:
قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام بردا وسلاما.
ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها: كُونِي بَرْداً إلخ وأن هناك قولا حقيقة، وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه، وقيل قول ذلك مجازا عن جعلها باردة، والظاهر أيضا أن الله عز وجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق، وقيل إنها انقلبت هواء طيبا وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى: عَلى إِبْراهِيمَ وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظرا إلى مفهوم القلب إذ الأكثرون على عدم اعتباره. وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده، وأيا ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين
(9/66)
________________________________________
إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارا فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفرا وإن كان معها ما لا كفر فيه، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلّى الله عليه وسلّم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعا للسنة وأشدهم تجنبا عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ، قال في العبر: قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا ما لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى.
والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلا، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر.
والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون، وقد رأيت منهم من يأخذ زرق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنورا كبيرا تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء، وأقرب ما يقال في مثل ذلك: إنه استدراج وابتلاء، وأما أن يقال: إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة.
هذا واستدل بالآية من قال: إن لله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلا بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلا وفي تلك خاصة الإحراق مثلا لكن لا تحرق هذه ولا يروي ذاك إلا بإذنه عز وجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال. ولا قائل بالفرق فتأمل.
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً مكرا عظيما في الإضرار به ومغلوبيته فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق قولا وفعلا برهانا قاطعا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجبا لارتفاع درجته عليه السلام واستحقاقهم لأشد العذاب، وقيل: جعلهم الأخسرين من حيث إنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضا فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى، والمعول عليه التفسير الأول وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً وهو على ما تقدم ابن عمه، وقيل:
هو ابن أخيه وروي ذلك في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ضمن نَجَّيْناهُ معنى أخرجناه فلذا عدي بإلى في قوله سبحانه:
(9/67)
________________________________________
إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وقيل: هي متعلقة بمحذوف وقع حالا أي منتهيا إلى الأرض فلا تضمين، والمراد بهذه الأرض أرض الشام، وقيل: أرض مكة، وقيل: مصر والصحيح الأول، ووصفها بعموم البركة لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيها وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية ولم يقل التي باركناها للمبالغة بجعلها محيطة بالبركة، وقيل: المراد بالبركات النعم الدنيوية من الخصب وغيره، والأول أظهر وأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام، وروي أنه عليه السلام خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر وقد كانا مؤمنين به عليه السلام يلتمس الفرار بدينه فنزل حران فمكث بها ما شاء الله تعالى. وزعم بعضهم أن سارة بنت ملك حران تزوجها عليه السلام هناك وشرط أبوها أن لا يغيرها عن دينها والصحيح الأول، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب، وفي الآية من مدح الشام ما فيها،
وفي الحديث «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم» أخرجه أبو داود.
وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لأهل الشام فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليها» أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده
. وأما العراق فقد ذكر الغزالي عليه الرحمة في باب المحنة من الأحياء اتفاق جماعة من العلماء على ذمه وكراهة سكناه واستحباب الفرار منه ولعل وجه ذلك غني عن البيان فلا ننقب فيه البنان.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي عطية كما روي عن مجاهد. وعطاء من نفله بمعنى أعطاه، وهو على ما اختاره أبو حيان مصدر كالعاقبة والعافية منصوب بوهبنا على حد قعدت جلوسا، واختار جمع كونه حالا من إسحاق ويعقوب أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل عليه السلام وهو إسحاق فيكون حالا من يعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة وَكُلًّا من المذكورين. وهم ابراهيم. ولوط. وإسحاق. ويعقوب عليهم السلام لا بعضهم دون بعض جَعَلْنا صالِحِينَ بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في أمور الدين يَهْدُونَ أي الأمة إلى الحق بِأَمْرِنا لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ليتم الكمال بانضمام العمل إلى العلم، وأصله على ما ذهب إليه الزمخشري ومن تابعه أن يفعل الخيرات ببناء الفعل لما لم يسم فاعله ورفع الخيرات على النيابة عن الفاعل ثم فعلا الخيرات بتنوين المصدر ورفع الخيرات أيضا على أنه نائب الفاعل لمصدر المجهول ثم فعل الخيرات بحذف التنوين وإضافة المصدر لمعموله القائم مقام فاعله، والداعي كما قيل إن فِعْلَ الْخَيْراتِ بالمعنى المصدري ليس موحى إنما الموحى أن يفعل، ومصدر المبني للمفعول والحاصل بالمصدر كالمترادفين، وأيضا الوحي عام للأنبياء المذكورين عليهم السلام وأممهم فلذا بني المجهول.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن بناء المصدر لما لم يسم فاعله مختلف فيه فأجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، وما ذكر من عموم الوحي لا يوجب ذلك هنا إذ يجوز أن يكون المصدر مبنيا للفاعل ومضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليه وغيرهم أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فاتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به انتهى.
وانتصر للزمخشري بأن ما ذكره بيان لأمر مقرر في النحو والداعي إليه أمران ثانيهما ما ذكر من عموم الوحي الذي اعترض عليه والأول سالم عن الاعتراض ذكر أكثر ذلك الخفاجي ثم قال: الظاهر أن المصدر هنا للأمر كضرب
(9/68)
________________________________________
الرقاب، وحينئذ فالظاهر أن الخطاب للأنبياء عليهم السلام فيكون الموحى قول الله تعالى افعلوا الخيرات، وكان ذلك لأن الوحي مما فيه معنى القول كما قالوا فيتعلق به لا بالفعل إلا أنه قيل يرد عليه ما أشير أولا إليه من أن ما ذكر ليس من الأحكام المختصة بالأنبياء عليهم السلام ولا يخفى أن الأمر فيه سهل، وجوّز أن يكون المراد شرعنا لهم فعل ذلك بالإيحاء إليهم فتأمل، والكلام في قوله تعالى: وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ على هذا الطرز، وهو كما قال غير واحد من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته، وأصل إِقامَ أقوام فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها لما قبلها وحذف إحدى ألفيه لالتقاء الساكنين، والأكثر تعويض التاء عنها فيقال إقامة وقد تترك التاء إما مطلقا كما ذهب إليه سيبويه والسماع يشهد له، وإما بشرط الإضافة ليكون المضاف سادا مسدها كما ذهب إليه الفراء وهو كما قال أبو حيان مذهب مرجوح، والذي حسن الحذف هنا المشاكلة، والآية ظاهرة في أنه كان في الأمم السالفة صلاة وزكاة وهو مما تضافرت عليه النصوص إلا أنهما ليسا كالصلاة والزكاة المفروضتين على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وَكانُوا لَنا خاصة دون غيرنا عابِدِينَ لا يخطر ببالهم غير عبادتنا كأنه تعالى أشار بذلك إلى أنهم وفوا بعهد العبودية بعد أن أشار إلى أنه سبحانه وفى لهم بعهد الربوبية وَلُوطاً قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: آتَيْناهُ أي وآتينا لوطا آتيناه والجملة عطف على وَهَبْنا لَهُ جمع سبحانه ابراهيم ولوطا في قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً ثم بين ما أنعم به على كل منهما بالخصوص وما وقع في البين بيان على وجه العموم. والطبرسي جعل المراد من قوله تعالى: وَكُلًّا إلخ أي كلا من إبراهيم وولديه إسحاق. ويعقوب جعلنا إلخ فلا اندراج للوط عليه السلام هناك وله وجه، وأما كون المراد وكلا من إسحاق ويعقوب فلا وجه له ويحتاج إلى تكليف توجيه الجمع فيما بعده، وقيل بأذكر مقدرا وجملة آتَيْناهُ مستأنفة حُكْماً أي حكمة، والمراد بها ما يجب فعله أو نبوة فإن النبي حاكم على أمته أو الفصل بين الخصوم في القضاء، وقيل حفظ صحف ابراهيم عليه السلام وفيه بعد وَعِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ قيل أي اللواطة، والجمع باعتبار تعدد المواد، وقيل المراد الأعمال الخبيثة مطلقا إلا أن أشنعها اللواطة،
فقد أخرج إسحاق بن بشير. والخطيب، وابن عساكر عن الحسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عشر خصال عملتها قوم لوط بها أهلكوا إتيان الرجال بعضهم بعضا ورميهم بالجلاهق والخذف ولعبهم بالحمام وضرب الدفوف وشرب الخمور وقص اللحية وطول الشارب والصفر والتصفيق ولباس الحرير وتزيدها أمتي بخلة إتيان النساء بعضهن بعضا» .
وأسند ذلك إلى القرية على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فالنعت سببي نحو جاءني رجل زنى غلامه، ولو جعل الإسناد مجازيا بدون تقدير أو القرية مجازا عن أهلها جاز، واسم القرية سدوم، وقيل: كانت قراهم سبعا فعبر عنها ببعضها لأنها أشهرها. وفي البحر أنه عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ويروى أنها كلها قلبت إلا زغر لأنها كانت محل من آمن بلوط عليه السلام، والمشهور قلب الجميع.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أي خارجين عن الطاعة غير منقادين للوط عليه السلام، والجملة تعليل لتعمل الخبائث، وقيل: لنجيناه وهو كما ترى وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي في أهل رحمتنا أي جعلناه في جملتهم وعدادهم فالظرفية مجازية أو في جنتنا فالظرفية حقيقة والرحمة مجاز كما في حديث الصحيحين قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويجوز أن تكون الرحمة مجازا عن النبوة وتكون الظرفية مجازية أيضا فتأمل إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى، والجملة تعليل لما قبلها.
وَنُوحاً أي واذكر نوحا أي نبأه عليه السلام، وزعم ابن عطية أن نوحا عطف على لواط المفعول لآتينا على
(9/69)
________________________________________
معنى وآتينا نوحا ولم يستبعد ذلك أبو حيان وليس بشيء، قيل ولما ذكر سبحانه «قصة ابراهيم» عليه السلام وهو أبو العرب أردفها جل شأنه بقصة أبي البشر وهو الأب الثاني كما أن آدم عليه السلام الأب الأول بناء على المشهور من أن جميع الناس الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس فيما يقال وهو أطول الأنبياء عليهم السلام على ما في التهذيب عمرا، وذكر الحاكم في المستدرك أن اسمه عبد الغفار وأنه قيل له نوح لكثرة بكائه على نفسه، وقال الجواليقي: إن لفظ نوح أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن إِذْ نادى أي دعا الله تعالى بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] وقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] وإذ ظرف للمضاف المقدر كما أشرنا إليه ومن لم يقدر يجعله بدل اشتمال من نوح.
مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين، وذكرنا قبل قولا آخر فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الطوفان أو أذية قومه وأصل الكرب الغم الشديد وكأنه على ما قيل من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب فإن الغم الشديد تكاد شمس الروح تغرب منه أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو فإن الغم كعقدة على القلب، وفي وصفه بالعظيم تأكيد لما يدل هو عليه وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي منعناه وحميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه، وقيل: أي نصرناه عليهم فمن بمعنى على، وقال بعضهم: إن النصر يتعدى بعلى ومن، ففي الأساس نصره الله تعالى على عدوه ونصره من عدوه، وفرق بينهما بأن المتعدى بعلى يدل على مجرد الإعانة والمتعدى بمن يدل على استتباع ذلك للانتقام من العدو والانتصار إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ منهمكين في الشر، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعد من قوله تعالى:
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فإن تكذيب الحق والانهماك في الشر مما يترتب عليه الإهلاك قطعا في الأمم السابقة، ونصب أَجْمَعِينَ قيل على الحالية من الضمير المنصوب وهو كما ترى، وقال أبو حيان: على أنه تأكيد له وقد كثر التأكيد بأجمعين غير تابع لكل في القرآن فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد به كذلك قليل والكثير استعماله تابعا لكل انتهى.
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إما عطف على نُوحاً معمول لعامله أعني أذكر عليه على ما زعم ابن عطية، وإما مفعول لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف أي نبأ داود وسليمان. وداود بن ايشا (1) بن عوبر بن باعر ابن سلمون بن يخشون بن عمي بن يا رب بن حضرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام كان، كما روي عن كعب أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت وجمع له بين النبوة والملك، ونقل النووي عن أهل التاريخ أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون، وكان له اثنا عشر ابنا وسليمان عليه السلام أحد أبنائه وكان عليه السلام يشاور في كثير من أموره مع صغر سنه لوفور عقله وعلمه.
وذكر كعب أنه كان أبيض جسيما وسيما وضيئا خاشعا متواضعا، وملك كما قال المؤرخون وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وله ثلاث وخمسون سنة، وقوله تعالى: إِذْ يَحْكُمانِ ظرف لذلك المقدر، وجوزت البدلية على طرز ما مر، والمراد إذ حكما فِي الْحَرْثِ إلا أنه جيء بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها، والمراد بالحرث هنا الزرع.
وأخرج جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه الكرم، وقيل إنه يقال فيهما إلا أنه في الزرع أكثر، وقال
__________
(1) قوله «بن ايشا» إلى آخر النسب هكذا في نسخة المؤلف هو مغاير لما في كثير من كتب التواريخ وحرر اهـ.
(9/70)
________________________________________
الخفاجي: لعله بمعنى الكرم مجاز على التشبيه بالزرع، والمعنى إذ يحكمان في حق الحرث إِذْ نَفَشَتْ ظرف للحكم، والنفش رعي الماشية في الليل بغير راع كما أن الهمل رعيها في النهار كذلك، وكان أصله الانتشار والتفرق أي إذ تفرقت وانتشرت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ليلا بلا راع فرعته وأفسدته وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي حاضرين علما، وضمير الجمع قيل: لداود وسليمان ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لحكمهما» بضمير التثنية، واستدل بذلك من قال: إن أقل الجمع اثنان، وجوز أن يكون الجمع للتعظيم كما في رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] .
وقيل: هو للحاكمين والمتحاكمين، واعترض بأن إضافة حكم إلى الفاعل على سبيل القيام وإلى المفعول على سبيل الوقوع وهما في المعنى معمولان له فكيف يصح سلكهما في قرن. وأجيب بأن الحكم في معنى القضية لا نظر هاهنا إلى علمه وإنما ينظر إليه إذا كان مصدرا صرفا، وأظهر منه كما في الكشف أن الاختصاص يجمع القيام والوقوع وهو معنى الإضافة ولم يبق النظر إلى العمل بعدها لا لفظا ولا معنى فالمعنى وكنا للحكم الواقع بينهم شاهدين، والجملة اعتراض مقرر للحكم، وقد يقال: إنه مادح له كأنه قيل: وكنا مراقبين لحكمهم لا نقرهم على خلل فيه، وهذا على طريقة قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] في إفادة العناية والحفظ، وقوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ عطف على يَحْكُمانِ فإنه في حكم الماضي كما مضى.
وقرأ عكرمة «فأفهمناها» بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق. روي أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت إحداهما للأخرى: قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشرّ ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذنا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا أنها قد بغت وكان من زنى فيهم حده الرجم فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها فقال سليمان: ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتى بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه السلام فأحبه جدا فاتفق أن دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال: كيف قضى بينكما أبي؟ فأخبراه فقال: غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه السلام فدعاه فقال له: بحق النبوة والأبوة ألا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادا فقال: القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما السلام كان بالاجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم السلام كما بين في الأصول وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق، ثم قوله: أرى أن تدفع إلخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهر بداء وحرم عليه كتمه، مع أن الظاهر أنه عليه السلام لم يكن نبيا في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد، وفي الكشف أن القول بأن كلا الحكمين عن اجتهاد باطل لأن حكم سليمان نقض حكم داود عليهما السلام والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد البتة فدل على أنهما جميعا حكما بالوحي ويكون ما أوحي به لسليمان عليه السلام ناسخا لحكم داود عليه السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي، وقوله تعالى: فَفَهَّمْناها لا يدل على أن ذلك اجتهاد.
(9/71)
________________________________________
وتعقب بأنه إن أراد بعدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه، وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانيا وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه في مسألة قولان كمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون، وقيل: يجوز أن يكون أوحي إلى داود عليه السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه السلام عن اجتهاد، وقيل: إن عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد من خصائص شريعتنا، على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه السلام ما سمع، وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس سره ثم قال: بل أقول والله تعالى أعلم: إن رأى سليمان عليه السلام استحسانا كما ينبىء عنه قوله: أرفق بالجانبين ورأى داود عليه السلام قياسا كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفديه ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت، وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا انتهى.
وأما حكم المسألة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «جرح العجماء جبار»
ولا تقييد فيه بليل أو نهار، وعند الشافعي يجب الضمان ليلا لا نهارا لما في السنن من أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل.
وأجيب بأن في الحديث اضطرابا، وفي رجال سنده كلاما مع أنه يجوز أن يكون البراء أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه وَكُلًّا من داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً كثيرا ومنه العلم بطريق الاجتهاد لا سليمان عليه السلام وحده، فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا، وقيل: إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسألة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الاجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري، والقاضي، ومن المعتزلة كأبي الهذيل، والجبائي وأتباعهم، ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحدة الحق وتخطئة البعض، وعد في الأحكام الأشعري ممن يقول كذلك. ورد بأن الله تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وذلك يدل على عدم فهم داود عليه السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيدا. وتعقبه الآمدي بقوله: ولقائل أن يقول: إن غاية ما في قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما بالنص حكما واحدا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه، والذي يدل على هذا قوله تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفا لكن يحتمل أنهما حكما بالاجتهاد مع الإذن
(9/72)
________________________________________
فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان عليه السلام فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص أطلع عليه سليمان دون داود، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى.
وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام يُسَبِّحْنَ يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمعه الناس، وكان عند الأكثرين يقول: سبحان الله تعالى، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام، وقيل: يسمعه كل أحد وقيل: بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدى () فليس بشيء أصلا ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال، وقيل: يُسَبِّحْنَ بمعنى يسرن من السباحة. وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى أو خبر سير الجبال معه عليه السلام.
وقيل: إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى.
وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه، والجملة في موضع الحال من الْجِبالَ أو استئناف مبين لكيفية التسخير ومَعَ متعلقة بالتسخير، وقال أبو البقاء: يسبحن وهو نظير قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدى وَالطَّيْرَ عطف على الْجِبالَ أو مفعول معه، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال. وقرىء «والطير» بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات، وقيل: على العطف على الضمير في يُسَبِّحْنَ ومثله جائز عند الكوفيين، وقوله تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:
البس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها
وقيل: هو اسم للسلاح كله درعا كان أو غيره، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحا:
ومعي لبوس (1) للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج محفل
قال قتادة: كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع، وقرىء «لبوس» بضم اللام لَكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة.
وقوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من لَكُمْ بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص
__________
(1) أي الشجاع وروق أي قرن اهـ منه.
(9/73)
________________________________________
والمنفعة المستفادة من لام لَكُمْ والضمير المستتر للبوس، والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة.
وقرأ جماعة «ليحصنكم» بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه السلام قيل أو التعليم، وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الالتفات، وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم «لنحصنكم» بالنون، وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو، وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد مِنْ بَأْسِكُمْ قيل أي من حرب عدوكم، والمراد مما يقع فيها، وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أمر وارد صورة الاستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا له الريح، وجيء باللام هنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه بخلاف تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فإنه كان بطريق التبعية والاقتداء به عليه السلام في عبادة الله عز وجل عاصِفَةً حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب، ولا ينافي وصفها بذلك هنا وصفها في موضع آخر بأنها رخاء بمعنى طيبة لينة لأن الرخاء وصف لها باعتبار نفسها والعصف وصف لها باعتبار قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير كالعاصفة في نفسها فهي مع كونها لينة تفعل فعل العاصفة.
ويجوز أن يكون وصفها بكل من الوصفين بالنسبة إلى الوقت الذي يريده سليمان عليه السلام فيه، وقيل وصفها بالرخاء في الذهاب ووصفها بالعصف بالإياب على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن. فهي عاصفة في وقت رخاء في آخر. وقرأ ابن هرمز. وأبو بكر في رواية «الريح» بالرفع مع الإفراد.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «الرياح» بالنصب والجمع، وأبو حيوة بالرفع والجمع، ووجه النصب ظاهر، وأما الرفع فعلى أن المرفوع مبتدأ والخبر هو الظرف المقدم وعاصِفَةً
حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار تَجْرِي بِأَمْرِهِ أي بمشيئته وعلى وفق إرادته وهو استعمال شائع، ويجوز أن يأمرها حقيقة ويخلق الله تعالى لها فهما لأمره كما قيل في مجيء الشجرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين دعاها، والجملة إما حال ثانية أو بدل من الأولى على ما قيل وقد مر لك غير بعيد الكلام في إبدال الجملة من المفرد فتذكر أو حال من ضمير الأولى إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي الشام كما أخرج ابن عساكر عن السدي، وكان عليه السلام مسكنه فيها فالمراد أنها تجري بأمره إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منها بكرة، ولشيوع كونه عليه السلام ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان، وقيل كان مسكنه إصطخر وكان عليه السلام يركب الريح منها فتجري بأمره إلى الشام.
وقيل: يحتمل أن تكون الأرض أعم من الشام، ووصفها بالبركة لأنه عليه السلام إذا حل أرضا أمر بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ولا بركة أعظم من ذلك، ويبعد أن المتبادر كون تلك الأرض مباركا فيها قبل الوصول إليها وما ذكر يقتضي أن تكون مباركا فيها من بعده وأبعد جدا منذر بن سعيد بقوله: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى:
إِلى الْأَرْضِ والتي باركنا فيها صفة للريح وفي الآية تقديم وتأخير، والأصل ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره بل لا يخفى أنه لا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى العزيز على مثل ذلك وكلام أدنى البلغاء يجل عنه، ثم الظاهر أن المراد بالريح هذا العنصر المعروف العام لجميع أصنافه المشهورة، وقيل: المراد بها الصبا.
وفي بعض الأخبار ما ظاهره ذلك، فعن مقاتل أنه قال: نسجت لسليمان عليه السلام الشياطين بساطا من ذهب
(9/74)
________________________________________
وإبريسم فرسخا في فرسخ ووضعت له منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح.
وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: كان لسليمان عليه السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود، وقيل في وجه الجمع إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك.
وذكر عن الحسن أن إكرام الله تعالى لسليمان عليه السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيرا منها من حيث السرعة مع الراحة، ومن العجب أن أهل لندن قد أتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاؤوا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغترارا بما ظهر منذ سنوات من عمل سفينة تجري في الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها فلم يتم لهم ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاؤوا بل إلى حيث ألقت رحلها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ فما أعطيناه ما أعطيناه إلا لما نعلمه من الحكمة وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فمن في موضع نصب لسخرنا، وجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء وخبره ما قبله، وهي على الوجهين على ما استظهره أبو حيان موصولة وعلى ما اختاره جمع نكرة موصوفة، ووجه اختيار ذلك على الموصولية أنه لا عهد هنا، وكون الموصول قد يكون للعهد الذهني خلاف الظاهر، وجيء بضمير الجمع نظرا للمعنى، وحسنه تقدم جمع قبله، والغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه، ولما كان الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره قيل: لَهُ للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه السلام.
وقد كان عليه السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه وَيَعْمَلُونَ له عَمَلًا كثيرا دُونَ ذلِكَ أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ: 13] الآية، قيل: إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم، وذكر ذلك الإمام الرازي في التفسير، لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافا. ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر. وقيل: من صناعة بقراط وجالينوس انتهى. وقيل: هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك، وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم، ثم هؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة مِنَ كأنه قيل: ومن يعملون، والشياطين أجسام لطيفة نارية عاقلة، وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نظير قلع الهواء الأجسام الثقيلة، وقال الجبائي:
إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام فلما توفي ردّهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي إبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط عن درجة القبول كما لا يخفى.
والظاهر أن المسخرين كانوا كفارا لأن لفظ الشياطين أكثر إطلاقا عليهم، وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا، وقال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار، وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحدا والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم
(9/75)
________________________________________
أنه وكل بهم جمعا من الملائكة عليهم السلام وجمعا من مؤمني الجن، هذا وفي قصتي داود وسليمان عليهما السلام ما يدل على عظم قدرة الله تعالى.
قال الإمام: وتسخير أكثف الأجسام لداود عليه السلام وهو الحجر إذ أنطقه الله تعالى بالتسبيح والحديد إذ ألانه سبحانه له وتسخير ألطف الأجسام لسليمان عليه السلام وهو الريح والشياطين وهم من نار وكانوا يغوصون في الماء فلا يضرهم دليل واضح على باهر قدرته سبحانه وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر الصادق بوقوعه وجب قبوله واعتقاده وَأَيُّوبَ الكلام فيه كما مر في قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي أي بأني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وقرأ عيس بن عمر بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين أي قائلا إني، ومذهب الكوفيين إجراء نادى مجرى قال، والضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي وأنت أعظم رحمة من كل من يتصف بالرحمة في الجملة وإلا فلا راحم في الحقيقة سواه جل شأنه وعلا، ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها مكتفيا بذلك عن عرض الطلب من استمطار سحائب الرحمة على ألطف وجه.
ويحكى في التلطف في الطلب أن امرأة شكت إلى بعض ولد سعد بن عبادة قلة الفار في بيتها فقال: املؤوا بيتها خبزا وسمنا ولحما، وهو عليه السلام على ما قال ابن جرير: ابن اموص بن رزاح بن عيص بن إسحاق، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام فعلى هذا كان قبل موسى عليه السلام، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب عليه السلام، وقال ابن أبي خيثمة، كان بعد سليمان عليه السلام.
وأخرج ابن سعد عن الكلبي قال أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى. وهارون ثم الياس ثم اليسع ثم يونس ثم أيوب عليهم السلام، وقال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أموص.
وكان عليه السلام على ما أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب طويلا جعد الشعر واسع العينين حسن الخلق قصير العنق عريض الصدر غليظ الساقين والساعدين وكان قد اصطفاه الله تعالى وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله فكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده بهدم بيت عليهم وبذهاب أمواله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات أو ثلاث سنين، وعمره إذ ذاك سبعون سنة، وقيل ثمانون سنة، وقيل أكثر، ومدة عمره على ما روى الطبراني ثلاث وتسعون سنة وقيل أكثر.
روي أن امرأته وكونها ماضر بنت ميشا بن يوسف عليه السلام أو رحمة بنت إفرائيم بن يوسف إنما يتسنى على بعض الروايات السابقة في زمانه عليه السلام. قالت له يوما: لو دعوت الله تعالى فقال: كم كانت مدة الرخاء فذكرت مدة كثيرة وفي بعض الروايات ثمانين سنة فقال عليه السلام: أستحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي
.
وروي أن إبليس عليه اللعنة أتاها على هيئة عظيمة فقال لها: أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة رددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما.
وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرددت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب عليه السلام وكان ملقى في الكناسة ببيت المقدس لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام: لعلك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله عز وجل لأضربنك مائة سوط وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا من طعامك وشرابك شيئا فطردها فبقي طريحا
(9/76)
________________________________________
في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجدا فقال: رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه عليه السلام قال ذلك حين مر به رجلان فقال أحدهما لصاحبه: ولو كان لله تعالى في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله فسمع عليه السلام فشق عليه فقال: (رب) إلخ،
وروى أنس مرفوعا أنه عليه السلام نهض مرة ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال (رب)
إلخ وقيل غير ذلك ولعل هذا الأخير أمثل الأقوال، وكان عليه السلام بلاؤه في بدنه في غاية الشدة، فقد أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه قال: كان يخرج في بدنه مثل ثدي النساء ثم يتفقأ، وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال: ما كان بقي من أيوب عليه السلام إلا عيناه وقلبه ولسانه فكانت الدواب تختلف في جسده، وأخرج أبو نعيم.
وابن عساكر عنه أن الدودة لتقع من جسد أيوب عليه السلام فيعيدها إلى مكانها ويقول: كلي من رزق الله تعالى،
وما أصاب منه إبليس في مرضه كما أخرج البيهقي في الشعب إلا الأنين، وسبب ابتلائه على ما خرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه استعان به مسكين على درء ظلم عنه فلم يعنه.
وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني في ذلك أن الشام أجدب فكتب فرعون إليه عليه السلام أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعة فأقبل بما عنده فأقطعه أرضا فاتفق أن دخل شعيب على فرعون وأيوب عليه السلام عنده فقال:
أما تخاف أن يغضب الله تعالى غضبه فيغضب لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال والبحار فسكت أيوب فلما خرجا من عنده أوحى الله تعالى إلى أيوب أوسكتّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه استعد للبلاء قال: فديني قال سبحانه: أسلمه لك قال: لا أبالي، والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، ثم إنه عليه السلام لما سجد فقال ذلك قيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك أركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحا ورجع إليه شبابه وجماله وذلك قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ثم كسى حلة وجلس على مكان مشرف ولم تعلم امرأته بذلك فأدركتها الرقة عليه فقالت في نفسها: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعن فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال فجعلت تطوف حيث الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله فدعاها أيوب عليه السلام فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أريد ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة قال لها: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعلي قال: أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى عليّ فتبسم فقال: أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقته
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ الظاهر أنه عطف على (كشفنا) فيلزم أن يكون داخلا معه في حيز تفصيل استجابة الدعاء، وفيه خفاء لعدم ظهور كون الإتيان المذكور مدعوا به وإذا عطف على (استجبنا) لا يلزم ذلك، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية،
أخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: وَآتَيْناهُ إلخ قال: رد الله تعالى امرأته إليه وزاد في شبابها حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا»
فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر، وقال ابن مسعود والحسن وقتادة في الآية: إن الله تعالى أحيى له أولاده الذين هلكوا في بلائه وأوتي مثلهم في الدنيا، والظاهر أن المثل من صلبه عليه السلام أيضا، وقيل: كانوا نوافل وجاء في خبر أنه عليه السلام كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فأفرغت أحداهما في أندر القمح الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض،
وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أيوب عليه السلام يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه السلام يحثي في ثوبه فناداه ربه سبحانه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى: قال: بلى وعزتك لكن لا غنى بي عن
(9/77)
________________________________________
بركتك
، وعاش عليه السلام بعد الخلاص من البلاء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعين سنة، ويظهر من هذا مع القول بأن عمره حين أصابه البلاء سبعون أن مدة عمره فوق ثلاث وتسعين بكثير، ولما مات عليه السلام أوصى إلى ابنه حرمل كما روي عن وهب، والآية ظاهرة في أن الأهل ليس المرأة رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي وآتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب عليه السلام وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب، فرحمة نصب على أنه مفعول له ولِلْعابِدِينَ متعلق بذكرى، وجوز أن يكون رَحْمَةً وَذِكْرى تنازعا فيه على معنى وآتيناه العابدين الذين من جملتهم أيوب عليه السلام وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم.
وجوّز أبو البقاء نصب «رحمة» على المصدر وهو كما ترى وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ أي واذكرهم وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم السلام أنه منهم وهو الذي ذهب إليه الأكثر، واختلف في اسمه فقيل بشر وهو ابن أيوب عليه السلام بعثه الله تعالى نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل وأمره سبحانه بالدعاء إلى توحيده، وكان مقيما بالشام عمره ومات وهو ابن خمس وسبعين سنة وأوصى إلى ابنه عبدان (1) وأخرج ذلك الحاكم عن وهب، وقيل هو الياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام، وصنيع بعضهم يشعر باختياره، وقيل يوشع بن نون، وقيل اسمه ذو الكفل، وقيل هو زكريا حكى كل ذلك الكرماني في العجائب، وقيل هو اليسع بن أخطوب بن العجوز، وزعمت اليهود أنه حزقيال وجاءته النبوة وهو في وسط سبي بختنصر على نهر خوبار.
وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: لم يكن نبيا وكان عبدا صالحا استخلفه. على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. اليسع عليه السلام بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل ولم يذكر مجاهد ما اسمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: كان قاضيا في بني إسرائيل فحضره الموت فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب؟ فقال رجل: أنا يسمى ذا الكفل الخبر، وأخرج عن ابن حجيرة الأكبر كان ملك من ملوك بني إسرائيل فحضرته الوفاة فأتاه رؤوس بني إسرائيل فقالوا: استخلف علينا ملكا نفزع إليه فقال: من تكفل لي بثلاث فأوليه ملكي؟
فلم يتكلم إلا فتى من القوم قال: أنا فقال: اجلس ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد إلا الفتى فقال: تكفل لي بثلاث وأوليك ملكي تقوم الليل فلا ترقد وتصوم فلا تفطر وتحكم فلا تغضب قال: نعم قال: قد وليتك ملكي الخبر، وفيه كذا في الخبر السابق قصة إرادة إبليس عليه اللعنة إغضابه وحفظ الله تعالى إياه منه، والكفل الكفالة والحظ والضعف، وإطلاق ذلك عليه إن لم يكن اسمه إما لأنه تكفل بأمر فوفى به، وإما لأنه كان له ذا حظ من الله تعالى، وقيل لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم.
ومن قال إنه زكريا عليه السلام قال: إن إطلاق ذلك عليه لكفالته مريم وهو داخل في الوجه الأول، وفي البحر وقيل: في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح والله تعالى أعلم.
كُلٌّ أي كل واحد من هؤلاء مِنَ الصَّابِرِينَ أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب ويعلم هذا من ذكر هؤلاء بعد أيوب عليهم السلام، والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا الكلام فيه على طرز ما سبق من نظيره آنفا.
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح لعصمتهم من الذنوب. والجملة في موضع التعليل وليس فيه تعليل الشيء بنفسه من غيره حاجة إلى جعل من ابتدائية كما يظهر بأدنى نظر وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت
__________
(1) ثم بعث الله تعالى شعيبا اهـ منه.
(9/78)
________________________________________
يونس عليه السلام ابن متى وهو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري وغيره وصححه ابن حجر قال: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس، وقال ابن الأثير كغيره إنه، اسم أمه ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره وغير عيسى عليهما السلام.
واليهود قالوا بما تقدم إلا أنهم سموه يونه بن اميتاي، وبعضهم يقول يونان بن امافي، والنون الحوت كما أشرنا إليه ويجمع على نينان كما في البحر وأنوان أيضا كما في القاموس.
إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي غضبان على قومه لشدة شكيمتهم وتمادى إصرارهم مع طول دعوته إياهم، وكان ذهابه هذا هجرة عنهم لكنه لم يؤمر به. وقيل: غضبان على الملك حزقيل،
فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا فأوحى الله تعالى إلى شعياء النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له يوجه خمسة من الأنبياء لقتال هذا الملك فقال: أوجه يونس بن متى فإنه قوي أمين فدعاه الملك يخرج فقال يونس: هل أمرك الله تعالى بإخراجي؟ قال: لا قال: هل سماني لك؟ قال: لا فقال يونس: فها هنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا فأتى بحر الروم فوجد قوما هيؤوا سفينة فركب معهم فلما وصلوا اللجة تكفأت بهم السفينة وأشرفت على الغرق فقال الملاحون: معنا رجل عاص أو عبد آبق ومن رسمنا إذا ابتلينا بذلك أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر لئن يغرق أحدنا خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فها كلها على يونس عليه السلام فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاءت حوت فابتلعته فأوحى الله تعالى إليها أن لا تؤذيه بشعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما ثم نجاه الله تعالى من بطنها ونبذه بالعراء وقد رق جلده فأنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقال له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم؟ فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم وقال لملكهم: إن الله تعالى أرسلني إليك فأرسل معي بني إسرائيل قالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا علمنا أنك صادق لفعلنا وقد آتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان الأمر كما تقول لمنعنا الله تعالى عنكم فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم يؤمنوا جاءهم العذاب فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس عليه السلام للعلماء الذين عندهم فقالوا: انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس كما ذكر من نزول العذاب وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم: إنه خرج العشية فلما أيسوا غلقوا باب مدينتهم ولم يدخلوا فيها دوابهم ولا غيرها وعزلوا كل واحدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح نزل العذاب من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاحت الصبيان والدواب فرفع الله تعالى العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس حتى لقوه فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل
، وقيل مغاضبا لربه عز وجل، وحكي في هذه المغاضبة كيفيات وتعقب ذلك في البحر بأنه يجب إطراح هذا القول إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين. وابن مسعود من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى وحمية لدينه، فاللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به انتهى.
وكون المراد مغاضبا لربه عز وجل مقتضى زعم اليهود فإنهم زعموا أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى نينوى وينذر أهلها فهرب إلى ترسيس من ذلك وانحدر إلى يافا ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على
(9/79)
________________________________________
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
الغرق فاقترع أهلها فوقعت القرعة عليه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت ثم ألقاه وذهب إلى نينوى فكان ما كان، ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت.
ونصب مُغاضِباً على الحال وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص وسافرت، وكأنه استعمل ذلك هنا للمبالغة وقيل المفاعلة على ظاهرها فإنه عليه السلام غضب على قومه لكفرهم وهم غضبوا عليه بالذهاب لخوفهم لحوق العذاب. وقرأ أبو سرف «مغضبا» اسم مفعول فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي إنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه، ويؤيد الأول قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري
«نقدّر» بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة، وقراءة علي كرم الله تعالى وجهه
. واليماني «يقدّر» بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة فإن الفعل فيهما من التقدير بمعنى القضاء والحكم كما هو المشهور، ويجوز أن يكون بمعنى التضيق فإنه ورد بهذا المعنى أيضا كما ذكره الراغب، وظن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه من القدرة فاستشكل ذلك إذ لا يظن أحد فضلا عن النبي عليه السلام عدم قدرة الله تعالى عليه وفزع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه بما ذكرناه أولا وجوّز أن يكون من القدرة وتكون مجازا عن أعمالها أي فظن أن لن نعمل قدرتنا فيه أو يكون الكلام من باب التمثيل أي فعل فعل من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا، وقيل: يجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه عليه السلام بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرد بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق نزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت، ومنه وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 8] والخطاب للمؤمنين.
وتعقبه صاحب الفرائد بأن مثله عن المؤمن بعيد فضلا عن النبي المعصوم لأنه كفر، وقوله تعالى: تَظُنُّونَ إلخ ليس من هذا القبيل على أنه شامل للخاص وغيرهم، وبأن ما هجس ولم يستقر لا يسمى ظنا، وبأن الخواطر لا عتب عليها، وبأنه لو كان حامله على الخروج لم يكن من قبيل الوسوسة. وأجيب بأن الظن بمعنى الهجس في الخاطر من غير ترجيح مجاز مستعمل والعتب على ذهابه مغاضبا ولا وجه لجعله حاملا على الخروج ومع هذا هو وجه لا وجاهة له.
وقرأ ابن أبي ليلى وأبو سرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يقدّر» بضم الياء وفتح الدال مخففا، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال.
فَنادى الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى فِي الظُّلُماتِ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات، وأنشد السيرافي:
وليل تقول الناس في ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها
أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه لا إله إلا أنت على أن أن مخففة من الثقيلة والجار مقدر وضمير الشأن محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسرة سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا من غير سبب من جهتي إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بتعريضهم للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة من غير أمر على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام، وهذا اعتراف منه عليه السلام بذنبه وإظهار لتوبته ليفرج عنه كربته.
(9/80)
________________________________________
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف وإظهار التوبة على ألطف وجه وأحسنه.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن جرير والبيهقي في الشعب وجماعة عن سعد ابن أبي وقاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوه ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له»
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن ذلك اسم الله تعالى الأعظم، وأخرج ذلك الحاكم عن سعد مرفوعا
، وقد شاهدت أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد حين أمرني بذلك من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به وفي شرحه طول وأنت ملول.
وجاء عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحف بالعرش فقالت الملائكة عليهم السلام: هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال: ذاك عبدي يونس قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال: بلى فأمر الحوت فطرحه
وذلك قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات. قال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية، وعن قتادة أنه بقي في بطنه ثلاثة أيام وهو الذي زعمته اليهود،
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه بقي سبعة أيام.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوما، وقيل المراد بالغم غم الخطيئة وما تقدم أظهر، ولم يقل جل شأنه فنجيناه كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام فكشفنا. قال بعض الأجلة. لأنه دعا بالخلاص من الضر فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. ورد بأن الفاء في قصة أيوب عليه السلام تفسيرية والعطف هنا أيضا تفسيري والتفنن طريقة مسلوكة في البلاغة، ثم لا نسلم أن يونس عليه السلام لم يدع ولو لم يكن منه دعاء لم تتحقق الاستجابة اهـ.
(9/81)
________________________________________
وتعقبه الخفاجي بأنه لا محصل له، وكونه تفسيرا لا يدفع السؤال لأن حاصله لم أتى بالفاء ثمت ولم يؤت بها هنا؟ فالظاهر أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر على وجه التلطف فلما أجمل في الاستجابة وكان السؤال بطريق الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية، وأما هنا فلما هاجر عليه السلام من غير أمر كان ذلك ذنبا بالنسبة إليه عليه السلام كما أشار إليه بقوله: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فما أوحي إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته، وليس ما بعده تفسيرا له بل زيادة إحسان على مطلوبه ولذا عطف بالواو اهـ ولا يخفى أن ما ذكره لا يتسنى في قوله تعالى: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76] وقوله سبحانه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى [الأنبياء: 90] إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه قال تعالى في قصته فَنَجَّيْناهُ بالفاء وزكريا عليه السلام لم يصدر منه ما يعد ذنبا بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته وَوَهَبْنا بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة، وربما يقال: إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصتي نوح وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الاستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جدا، ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحا عليه السلام حيث قال عز وجل فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ولا كذلك ما كان فيه ذو النون وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفسير لكن مجيء الفاء لذلك أكثر. ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الاستجابة عبارة عن قبول توبته عليه السلام والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه.
وقرأ الجحدري «ننجّي» مشددا مضارع نجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر «نجّي» بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء، واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة، وقال أبو علي في الحجة: روي عن أبي عمرو «نجي» بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ، ومن قال: تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين. الضاد وتبيينها لحر فلما أخفي ظن السامع أنه مدغم انتهى.
وقال أبو الفتح ابن جني: أصله ننجي كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في تُظاهِرُونَ [الأحزاب: 4] ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء: إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين، أحدهما أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جدا، والثاني أن حركتها غير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف تُظاهِرُونَ ليس في حيز القبول، وإنما امتنع الحذف في تَتَجافى [السجدة: 16] لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ماضيا لم يسكن آخره، وكونه سكن تخفيفا خلاف الظاهر، وقيل هو فعل ماضى مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] وقوله:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
(9/82)
________________________________________
ونائب الفاعل ضمير المصدر والْمُؤْمِنِينَ مفعول به، وقد أجاز قيام المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به الأخفش والكوفيون وأبو عبيد، وخرجوا على ذلك قراءة أبي جعفر لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: 14] وقوله:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الكلب الكلابا
والمشهور عن البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره مقام الفاعل، وقيل إن الْمُؤْمِنِينَ منصوب بإضمار فعل أي وكذلك نجي هو أي الانجاء ننجي المؤمنين، وقيل هو منصوب بضمير المصدر والكل كما ترى وَزَكَرِيَّا أي واذكر خبره عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين، والمراد بقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وأنت خير حي يبقى بعد ميت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل، وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال: إن لم ترزقني ولدا يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت.
واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه.
ففي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا أحدكم فلا يقل: «اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له»
،
وفي رواية في صحيح مسلم «ولكن يعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه»
ويمكن أن يقال: ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وقد مر بيان كيفية ذلك وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للمعاشرة بتحسن خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روي عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومحمد ابن كعب القرظي وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولودا وكانت لا تلد كما روي عن ابن جبير وقتادة، وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفا على جملة (استجبنا) لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه.
قال الخفاجي: ويجوز عطفها على وَهَبْنا وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية، وعلى الثاني العطف على وَهَبْنا وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم، والواو لا تقتضي ترتيبا فلا حاجة لما قيل: المراد بالهبة إرادتها، قال الخفاجي: ولم يقل سبحانه:
فوهبنا لأن المراد الامتنان لا التفسير لعدم الاحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى، ولا يخفى ما فيه فتدبر، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقا عليهم السلام، فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين.
وقيل: لزكريا. وزوجه ويحيى، والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جوابا عن سؤال تقديره ما حالهم؟ والمعول عليه ما تقدم، والمعنى إنهم كانوا يجدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيرا ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في بمعنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل.
يجرح في عراقيبها نصلي وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي راغبين في نعمنا وراهبين من نقمنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها، فرغبا ورهبا مصدران في موضع الحال بتأويلهما باسم الفاعل، ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب،
(9/83)
________________________________________
ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة، وجوز أن يكونا جمعين كخدم جمع خادم لكن قالوا: إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة، وجوّز أن يكونا نصبا على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة، وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوسا وهو كما ترى.
وحكى في مجمع البيان أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها، وقد قال به بعض علمائنا، والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة يُسارِعُونَ فهي داخلة معها في حيز كانُوا، وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة، وقرأت فرقة «يدعونا» بحذف نون الرفع، وقرأ طلحة «يدعونا» بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب، وقرأ «رغبا» «ورهبا» بفتح الراء وإسكان ما بعدها و «رغبا» «ورهبا» بالضم والإسكان وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي مخبتين متصرعين أو دائمي الوجل، وحاصل التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة.
وقوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها نصب نصب نظائره السابقة، وقيل رفع على الابتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا والفاء زائدة عند من يجيزه، والمراد بالموصول مريم عليها السلام، والإحصان بمعناه اللغوي وهو المنع مطلقا. والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بين الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد به هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم: 20] وكان التبتل إذ ذاك مشروعا للنساء والرجال، وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه.
وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها، والمراد من الروح معناه المعروف، والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة. ثم هذا الإحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بطنها صح أن يقال: نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس بمراد، وهذا كما يقول الزمار. نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقال أبو حيان: الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها.
ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: 17] ومن ابتدائية وهنك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجاز أي فنفخنا فيها من جهة روحنا، وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ، ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح.
وقد جاء في ذلك بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الاطلاع وَجَعَلْناها وَابْنَها أي جعلنا قصتهما أو حالهما آيَةً لِلْعالَمِينَ فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز وجل، فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر.
وفيه أنه لا يلزم ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام، وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ خطاب للناس قاطبة، والإشارة إلى ملة التوحيد والإسلام وذلك من باب هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن
(9/84)
________________________________________
وأشير إليه، وفيه أنه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف، والأمة على ما قاله صاحب المطلع أصلها القوم يجتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها حتى أطلقت على نفس الدين، والأشهر أنها الناس المجتمعون على أمر أو في زمان وإطلاقها على نفس الدين مجاز، وظاهر كلام الراغب أنه حقيقة أيضا وهو المراد هنا، وأريد بالجملة الخبرية الأمر بالمحافظة على تلك الملة ومراعاة حقوقها، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها فافعلوا ذلك، وقوله تعالى: أُمَّةً واحِدَةً نصب على الحال من أُمَّةً والعامل فيها اسم الإشارة، ويجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في صاحبها وإن كان الأكثر الاتحاد كما في شرح التسهيل لأبي حيان، وقيل بدل من هذِهِ ومعنى وحدتها اتفاق الأنبياء عليهم السلام عليها أي إن هذه أمتكم أمة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام بل أجمعوا كلهم عليها فلم تتبدل في عصر من الأعصار كما تبدلت الفروع، وقيل: معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها وهو الشرك لها في القبول وصحة الأتباع.
وجوز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والمراد بها التوحيد أيضا، وقيل: هي إشارة إلى طريقة ابراهيم عليه السلام والكلام متصل بقصته وهو بعيد جدا، وأبعد منه بمراحل ما قيل إنها إشارة إلى ملة عيسى عليه السلام والكلام متصل بما عنده كأنه قيل وجعلناها وابنها آية للعالمين قائلين لهم: إن هذه أي الملة التي بعث بها عيسى أمتكم إلخ بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، وقيل: إن هذِهِ إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والأمة بمعنى الجماعة أي إن هؤلاء جماعتكم التي يلزمكم الاقتداء بهم مجتمعين على الحق غير مختلفين، وفيه جهة حسن كما لا يخفى، والأول أحسن وعليه جمهور المفسرين وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وجوز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافة، وجعله الطيبي للمعاندين خاصة حيث قال في وجه ترتيب النظم الكريم: إن هذه السورة نازلة في بيان النبوة وما يتعلق بها والمخاطبون المعاندون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغ من بيان النبوة وتكريره تقريرا ومن ذكر الأنبياء عليهم السلام مسليا عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ إلخ أي هذه الملة التي كررتها عليكم ملة واحدة أختارها لكم لتتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ لأن سائر الكتب نازلة في شأنها والأنبياء كلهم مبعثون للدعوة إليها ومتفقون عليها، ثم لما علم إصرارهم قيل: وَتَقَطَّعُوا إلخ، وحاصل المعنى الملة واحدة والرب واحد والأنبياء عليهم السلام متفقون عليها وهؤلاء البعداء جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد انتهى، والأظهر العموم، وأمر النظم عليه يؤخذ من كلام الطيبي بأدنى التفات وقرأ الحسن «أمّتكم» بالنصب على أنه بدل من هذِهِ أو عطف بيان عليه و «أمة واحدة» بالرفع على أنه خبر إن. وقرأ هو أيضا وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو. والزعفراني برفعهما على أنهما خبر إن، وقيل: الأول خبر والثاني بدل منه بدل نكرة من معرفة أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هي أمة واحدة وَأَنَا رَبُّكُمْ أي أنا إلهكم إله واحد فَاعْبُدُونِ خاصة، وتفسير الرب بالإله لأنه رتب عليه الأمر بالعبادة، والدلالة على الوحدة من حدة الملة، وفي لفظ الرب إشعار بذلك من حيث إن الرب إن توهم جواز تعدده في نفسه لا يمكن أن يكون لكل مربوب إلا رب واحد لأنه مفيض الوجود وكمالاته معا، وفي العدول إلى لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة وأنه تعالى يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط قاله في الكشف.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا على أن تقطع مضمن معنى الجعل فلذا تعدى إلى أَمْرَهُمْ بنفسه، وقال أبو البقاء: تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا، وقيل: عدي بنفسه لأنه بمعنى قطعوا أي فرقوا، وقيل. أَمْرَهُمْ تمييز محول عن الفاعل أي تقطع أمرهم انتهى، وما ذكر أولا أظهر وأمر التمييز لا يخفى على
(9/85)
________________________________________
ذي تمييز، ثم أصل الكلام وتقطعتم أمركم بينهم على الخطاب فالتفت إلى الغيبة لينعى عليهم ما فعلوا من التفرق في الدين وجعله قطعا موزعة وينهي ذلك إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام وفي ذلك ذم للاختلاف في الأصول.
كُلٌّ أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أو كل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق إِلَيْنا راجِعُونَ بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم، ولا يخفى ما في الجملة من الدلالة على الثبوت والتحقق.
وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ تفضيل للجزاء أي فمن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ بما يجب الإيمان به فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا حرمان لثواب عمله ذلك، عبر عنه بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من القبائح، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفى نفي الجنس المفيد للعموم للمبالغة في التنزيه، والظاهر أن التركيب على طرز «لا مانع لما أعطيت» والكلام فيه مشهور بين علماء العربية وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به، وفي حرف عبد الله «فلا كفر» والمعنى واحد وَإِنَّا لَهُ أي لسعيه، وقيل: الضمير لمن وليس بشيء كاتِبُونَ أي مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما، واستدل بالآية على أن قبول العمل الصالح مطلقا مشروط بالإيمان وهو قول لبعضهم، وقال آخرون: الإيمان شرط لقبول ما يحتاج إلى النية من الأعمال، وتحقيقه في موضعه.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي على أهل قرية. فالكلام على تقدير مضاف أو القرية مجاز عن أهلها. والحرام مستعار للممتنع وجوده بجامع أن كل واحد منهما غير مرجو الحصول، وقال الراغب: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي وإما بمنع قهري وإما بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، وذكر أنه قد حمل في هذه الآية على التحريم بالتسخير كما في قوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص: 12] وقرأ أبو حنيفة وحمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «وحرم» بكسر الحاء وسكون الراء اهـ.
وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء، وقرأ عكرمة «وحرم» الحاء وكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضا وابن المسيب وقتادة أيضا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي وقرأ ابن عباس وعكرمة بخلاف عنهما وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي أيضا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قرأ بفتح الحاء والراء والميم على المضي أيضا.
وقرأ اليماني «وحرّم» بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم على أنه فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله.
أَهْلَكْناها أي قدرنا هلاكها أو حكمنا به في الأزل لغاية طغيانهم وعتوهم فيما لا يزال.
وقرأ السلمي وقتادة «أهلكتها» بتاء المتكلم، وقوله تعالى: أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ في تأويل اسم مرفوع على الابتداء خبره «حرام» قال ابن الحاجب في أماليه: ويجب حينئذ تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن أن يجب تقديمه، وجوز أن يكون «حرام» مبتدأ و «أنهم» فاعل له سد مسد خبره وإن لم يعتمد على نفي أو استفهام بناء على مذهب الأخفش فإنه لا يشترط في ذلك الاعتماد خلافا للجمهور كما هو المشهور.
وذهب ابن مالك أن رفع الوصف الواقع مبتدأ لمكتفى به عن الخبر من غير اعتماد جائز بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستحسان وعدمه فسيبويه يقول: هو ليس بحسن والأخفش يقول: هو حسن وكذا الكوفيون كما شرح التسهيل والجملة لتقرير ما قبلها من قوله تعالى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وما في أن من معنى التحقيق معتبر في النفي
(9/86)
________________________________________
المستفاد في حَرامٌ لا في المنفي أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع، وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم، وهذا المعنى محكي عن ابي مسلم بن بحر، ونقله أبو حيان عنه لكنه قال: إن الغرض من الجملة على ذلك إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة، ولا يخفى ما فيه.
وقال أبو عتبة: المعنى وممتنع على قرية قدرنا هلاكها أو حكمنا به رجوعهم إلينا أي توبتهم على أن لا سيف خطيب مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] في قول، وقيل حَرامٌ بمعنى واجب كما في قول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوة إلا بكيت على صخر
ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151] إلخ فإن ترك الشرك واجب، وعلى هذا قال مجاهد والحسن لا يَرْجِعُونَ لا يتوبون عن الشرك.
وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون إلى الدنيا، والظاهر على هذا أن المراد بأهلكناها أوجدنا إهلاكها بالفعل، والمراد بالهلاك الهلاك الحسي، ويجوز على القول بأن المراد بعدم الرجوع عدم التوبة أن يراد به الهلاك المعنوي بالكفر والمعاصي. وقرىء «إنهم» بكسر الهمزة على أن الجملة استئناف تعليلي لما قبلها فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى:
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ عماهم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك، ويجوز حمل الكلام على قراءة الجمهور بالفتح على هذا المعنى بحذف حرف التعليل أي لأنهم لا يرجعون. والزجاج قدر المبتدأ في ذلك أن يتقبل عملهم فقال: المعنى وحرام على قرية حكمنا بهلاكها أن يتقبل عملهم لأنهم لا يتوبون ودل على ذلك قوله تعالى قبل: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ حيث إن المراد منه يتقبل عمله وحَتَّى في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ابتدائية والكلام بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا إلخ أو غاية للحرمة أي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها وذلك حين لا ينفعهم الرجوع أو غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه وهو حين لا ينفعهم ذلك، وهذا بحسب تعدد الأقوال في معنى الآية المتقدمة والتوزيع غير خفي، وقال ابن عطية حتى متعلقة بقوله تعالى: تَقَطَّعُوا إلخ قال أبو حيان: وفيه بعد من كثرة الفصل لكنه من جهة المعنى جيد، وحاصله أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي كان دين التوحيد، ونسبة الفتح إلى يأجوج ومأجوج مجاز وهي حقيقة إلى السد أو الكلام على حذف المضاف وهو السد وإقامة المضاف إليه مقامه. وقرأت فرقة «فتّحت» بالتشديد، وتقدم الكلام في يأجوج ومأجوج وَهُمْ أي يأجوج ومأجوج، وقيل الناس وروي عن مجاهد مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي مرتفع من الأرض كجبل وأكمة. وقرأ ابن عباس «جدث» بالجيم الثاء المثلثة وهو القبر، وهذه القراءة تؤيد رجوع الضمير إلى الناس، وقرىء بالجيم والفاء وهي بدل الثاء عند تميم ولا يختص إبدالها عندهم في آخر الكلمة فإنهم يقولون مغثور مكان مغفور يَنْسِلُونَ أي يسرعون، وأصل النسلان بفتحتين مقاربة الخطو مع الإسراع، وقيل ويختص وضعا بالذئاب وعليه يكون مجازا هنا. وقرأ ابن إسحاق وأبو السمال بضم السين وَاقْتَرَبَ أي قرب،
(9/87)
________________________________________
وقيل هو أبلغ في القرب من قرب الْوَعْدُ الْحَقُّ وهو ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى، والجملة عطف على فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ثم إن هذا الفتح في زمن نزول عيسى عليه السلام من السماء وبعد قتله الدجال عند باب لد الشرقي،
فقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث طويل «إن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بعد أن يقتل الدجال إني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور فيبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيرغب عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى عليه السلام وأصحابه فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ويرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه نبت مدر ولا وبر أربعين يوما فيغسل الأرض حتى يتركها زلفة ويقال للأرض انبتي ثمرتك فيومئذ يأكل النفر من الرماية ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ والشاة من الغنم تكفي البيت فبينما هم على ذلك إذ بعث الله تعالى ريحا طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة»
وجاء من حديث رواه أحمد وجماعة «إن الساعة بعد أن يهلك يأجوج ومأجوج كالحامل المتم لا يدري أهلها حتى تفجأهم بولادها ليلا أو نهارا»
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو نتجت فرس عند خروجهم ما ركب فلوها حتى تقوم الساعة»
وهذا مبالغة في القرب كالخبر الذي قبله.
فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب الشرط، وإذا للمفاجأة وهي تسد مسد الفاء الجزائية في الربط وليست عوضا عنها فمتى كانت الجملة الاسمية الواقعة جزاء مقترنة بها لم تحتج إلى الفاء نحو إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36] وإذا جيء بهما معا كما هنا يتقوى الربط، والضمير للقصة هو الشأن هو مبتدأ وشاخِصَةٌ خبر مقدم وأَبْصارُ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الضمير، ولا يجوز أن يكون شاخِصَةٌ الخبر وأَبْصارُ مرفوعا به لأن خبر الضمير الشأن لا يكون إلا جملة مصرحا بجزأيها، وأجاز بعض الكوفيين كونه مفردا فيجوز ما ذكر عنده.
وعن الفراء أن هِيَ ضمير الأبصار فهو ضمير مبهم يفسره ما في حيز خبره وعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مثل ذلك جائز عند ابن مالك. وغيره كما في ضمير الشأن، ومن ذلك قوله:
هو الجد حتى تفضل العين أختها بل نقل عن الفراء أنه متى دل الكلام على المرجع وذكر بعده ما يفسره وإن لم يكن في حيز خبره لا يضر تقدمه، وأنشد قوله:
فلا وأبيها لا تقول خليلتي ... ألا فرّ عني مالك بن أبي كعب
ونقل عنه أيضا أن هِيَ ضمير فصل وعماد يصلح موضعه هو وأنشد قوله:
بثوب ودينار وشاة ودرهم ... فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس
وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي من إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ وقول من أجاز كونه قبل خبر نكرة، وذكر الثعلبي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: فَإِذا هِيَ أي فإذا هي أي الساعة حاصلة أو بارزة أو واقعة ثم ابتدئ فقيل «شاخصة أبصار الذين كفروا» وهو وجه متكلف متنافر التركيب، وقيل: جواب الشرط اقْتَرَبَ والواو سيف خطيب. ونقل ذلك في مجمع البيان عن الفراء.
(9/88)
________________________________________
ونقل عن الزجاج أن البصريين لا يجوزون زيادة الواو وأن الجواب عندهم قوله تعالى: يا وَيْلَنا أي القول المقدر قبله فإنه بتقدير قالوا يا ويلنا، ومن جعل الجواب ما تقدم قدر القول هاهنا أيضا وجعله حالا من الموصول يقولون أو قائلين «يا ويلنا» وجوز كون جملة يقولون يا ويلنا استئنافا، وشخوص الأبصار رفع أجفانها إلى فوق من دون أن تطرف وذلك للكفرة يوم القيامة من شدة الهول، وأرادوا من نداء الويل التحسر وكأنهم قالوا: يا ولينا تعال فهذا أوان حضورك قَدْ كُنَّا في الدنيا فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه عز وجل للجزاء، وقيل: من هذا اليوم ولم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن في غفلة منه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بترك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.
وقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ خطاب لكفار مكة وتصريح بمآل أمرهم مع كونه معلوما مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الأعذار، فما عبارة عن أصنامهم، والتعبير عنها بما على بابه لأنها على المشهور لما لا يعقل فلا يرد أن عيسى وعزيرا والملائكة عليهم الصلاة والسلام عبدوا من دون الله تعالى مع أن الحكم لا يشملهم
وشاع أن عبد الله بن الزبعري (1) القرشي اعترض بذلك قبل إسلامه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت وَما تَعْبُدُونَ وما لما لم يعقل ولم أقل ومن تعبدون.
وتعقبه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأنه أشهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم (2) وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندا ولا غير مسند والوضع عليه ظاهر والعجب ممن نقله من المحدثين انتهى، ويشكل على ما قلنا ما
أخرجه أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن مردويه والطبراني عن ابن عباس قال: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ إلخ شق ذلك على أهل مكة وقالوا: أتشتم آلهتنا فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله تعالى؟ قال:
بل لكل من عبد من دون الله تعالى فقال ابن الزبعرى: خصمت ورب هذه البنية. يعني الكعبة. ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح وأن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح (3) تعبد الملائكة فضج أهل مكة وفرحوا فنزلت إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى

إلخ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] إلخ، وجاء في روايات أخر ما يعضده فإن ظاهر ذلك أن ما هنا شامل للعقلاء وغيرهم. وأجيب بأن الشمول للعقلاء الذي ادعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون الله تعالى فلما أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى عموم الآية بطريق الدلالة اعترض ابن الزبعري بما اعترض وتوهم أنه قد بلغ الغرض فتولى الله تعالى الجواب بنفسه بقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، وحاصله تخصيص العموم المفهوم من دلالة النص بما سوى الصلحاء الذين سبقت لهم الحسنى فيبقى الشياطين الذين عبدوا من دون الله سبحانه داخلين في الحكم بحكم دلالة النص فيفيد النص بعد هذا التخصيص عبارة ودلالة حكم الأصنام والشياطين ويندفع الاعتراض، وقال بعضهم: إن ما تعم العقلاء وغيرهم وهو
__________
(1) أي سيء الخلق اهـ منه.
(2) كشرح المواقف وغيره مما لا يحصى اهـ منه.
(3) بالتصغير بطن من خزاعة اهـ منه.
(9/89)
________________________________________
مذهب جمهور أئمة اللغة كما قال العلامة الثاني في التلويح ودليل ذلك النص والإطلاق والمعنى، أما النص فقوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3] وقوله سبحانه: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وقوله سبحانه: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3] وأما الإطلاق فمن وجهين، الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة والذي يصح إطلاقه على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيدا فما كذلك، الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار، وأما المعنى فمن وجهين أيضا، الأول أن مشركي قريش كما جاء من عدة طرق عن ابن عباس لما سمعوا هذه الآية اعترضوا بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام. وهم من فصحاء العرب فلو لم يفهموا العموم لما اعترضوا، الثاني أن ما لو كانت مختصة بغير العالم لما احتيج إلى قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ وحيث كانت بعمومها متناولة له عز وجل احتيج إلى التقييد بقوله سبحانه مِنْ دُونِ اللَّهِ وحينئذ تكون الآية شاملة عبادة لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام ويكون الجواب الذي تولاه الله تعالى بنفسه جوابا بالتخصيص، وفي ذلك حجة للشافعي في قوله بجواز تخصيص العام بكلام مستقل متراخ خلافا للحنفية. وأجيب بأن ما ذكر من النصوص والإطلاقات فغايته جواز اطلاق ما على من يعلم لا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه أو فيما يعمه بل هي ظاهرة في غير العالم لا سيما هنا لأن الخطاب مع عبدة الأصنام وإذا كانت ظاهرة فيما لا يعقل وجب تنزيلها عليه، وما ذكر من الوجه الأول في المعنى فليس بنص في أن المعترضين إنما اعترضوا لفهمهم العموم من ما وضعا لجواز أن يكون ذلك لفهمهم إياه من دلالة النص كما مر، وما ذكر من الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنما يصح أن لو لم تكن فيه فائدة، وفائدته مع التأكيد تقبيح ما كانوا عليه، وإن سلمنا أن ما حقيقة فيمن يعقل فلا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارنا للآية فإن دليل العقل صالح للتخصيص خلافا لطائفة شاذة من المتكلمين، والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضيا بجرم ذلك الغير، وأحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام بعبادة من عبدهم وما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية، وأما قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا، وعدم تعرضه صلّى الله عليه وسلّم للدليل العقلي لم يكن لأنه لم يكن بل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رآهم لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فاعترضوا بما اعترضوا مع ظهوره انتظر ما يقويه من الدليل السمعي أو لأن الوحي سبقه عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية قبل أن ينبههم على ذلك، وقيل: إنهم تعنتوا بنوع من المجاز فنزل ما يدفعه، وقيل: إن هذا خبر لا تكليف فيه والاختلاف في جواز تأخير البيان مخصوص بما فيه تكليف، وفيه نظر، وقال العلامة ابن الكمال: لا خلاف بيننا وبين الشافعي في قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام مستقل متراخ إنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام به ظنيا في الباقي أو نسخ حتى يبقى على ما كان فلا وجه للاحتجاج بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الثابت به على تقدير التمام قصر العام بالمتراخي والخلاف فيما وراءه والدليل قاصر عن بيانه ولا للجواب بأن تعبدون لا يتناول عيسى وعزيرا والملائكة عليهم السلام لا لأن ما لغير العقلاء لما أنه على خلاف ما عليه الجمهور بل لأنهم ما عبدوا حقيقة على ما أفصح عنه صلّى الله عليه وسلّم حين قال ابن الزبعري: أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك
فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ الآية لدفع ذهاب الوهم إلى التناول لهم نظرا إلى الظاهر.
وجوابه صلّى الله عليه وسلّم بذلك مما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ الآية، وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً
(9/90)
________________________________________
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ
[سبأ: 4، 41] والجمع بي هذه الرواية والرواية السابقة أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن ذكر لابن الزبعري أن الآية عامة لكل من عبد من دون الله تعالى بطريق دلالة النص وقال ابن الزبعري: أليس اليهود إلخ ذكر عدم تناولها المذكورين عليهم السلام من حيث إنهم لم يشاركوا الأصنام في المعبودية من دون الله تعالى لعدم أمرهم ولأرضاهم بما كان الكفرة يفعلون، ولعل فيه رمزا خفيا إلى الدليل العقلي على عدم مؤاخذتهم ثم نزلت الآية تأكيدا لعدم التناول، لكن لا يخفى أن هذه الرواية إن صحت تقتضي أن لا تكون الأصنام معبودة أيضا لأنها لم تأمرهم بالعبادة فلا تكون ما مطلقة عليها بل على الشياطين بناء على أنها هي الآمرة الراضية بذلك فهي معبوداتهم، ولذا قال إبراهيم عليه السلام يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ [مريم:
44] مع أنه كان يعبد الأصنام ظاهرا.
ووجه إطلاقها عليها بناء على أنها ليست لذوي العقول أنها أجريت مجرى الجمادات لكفرها، وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم التي أمرتهم دون الذين أمروهم إشارة إلى ذلك، ثم في عدم تناول الآية الأصنام هنا من البعد ما فيه فلعل هذه الرواية لم تثبت، ولمولانا أبي السعود كلام مبناه خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم رد على ابن الزبعرى بقوله ما أجهلك بلغة قومك إلخ، وقد علمت ما قاله الحافظ ابن حجر فيه وهو وأمثاله المعول عليهم في أمثال ذلك فلا ينبغي الاغترار بذكره في أحكام الآمدي وشرح المواقف وفصول البدائع للفناري وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان. وأورد على القول بأن العموم بدلالة النص والتخصيص بما نزل بعد حديث الخلاف في التخصيص بالمستقل المتراخي ويعلم الجواب عنه مما تقدم، وقيل هنا زيادة على ذلك إن ذلك ليس من تخصيص العام المختلف فيه لأن العام هناك هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعدا مطلقا معا وهو ظاهر فيما فيه الدلالة عبارة والعموم هنا إنما فهم من دلالة النص، ولا يخفى أن الأمر المانع من التأخير ظاهر في عدم الفرق فتدبر فالمقام حري به، والحصب ما يرمى به وتهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة فهو خاص وضعا عام استعمالا. وعن ابن عباس أنه الحطب بالزنجية. وقرأ علي وأبي وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «حطب بالطاء. وقرأ ابن أبي السميقع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن بشير «حضب» بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو مصدر وصف به للمبالغة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ «حصب» بالضاد المعجمة المفتوحة، وجاء عنه أيضا إسكانها وبه قرأ كثير عزة، ومعنى الكل واحد وهو معنى الحصب بالصاد أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ استئناف نحوي مؤكد لما قبله أو بدل من حَصَبُ جَهَنَّمَ وتبدل الجملة من المفرد ولا يضر كونه في حكم النتيجة، وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا من جَهَنَّمَ وهو كما ترى، واللام معوضة من على للدلالة على الاختصاص وأن ورودهم لأجلها وهذا مبني على أن الأصل تعدى الورود إلى ذلك بعلى كما أشار إليه في القاموس بتفسيره بالإشراف على الماء وهو في الاستعمال كثير وإلا فقد قيل إنه متعد بنفسه كما في قوله تعالى: وَرَدُوها فاللام للتقوية لكون المعمول مقدما والعامل فرعي، وقيل إن اللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] وليس بذلك.
والظاهر أن الورود هنا ورود دخول والخطاب للكفرة وما يعبدون تغليبا لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما تزعمون أيها العابدون إياها ما وَرَدُوها وحيث تبين ورودهم إياها على أتم وجه حيث إنهم حصب جهنم امتنع كونهم آلهة بالضرورة، وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين لأن المراد به إثبات نقيض ما يدعونه وهم يدعون إلهية الأصنام لا إلهيتها حتى يحتج بورودها النار على عدمها، نعم الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة فلا تغفل.
(9/91)
________________________________________
وَكُلٌّ من العبدة والمعبودين فِيها خالِدُونَ باقون إلى الأبد لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ هو صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، وأصل الزفر كما قال الراغب: ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع، والظاهر أن ضمير لَهُمْ للكل أعني العبدة والمعبودين، وفيه تغليب العقلاء على غيرهم من الأصنام حيث جيء بضمير العقلاء راجعا إلى الكل، ويجري ذلك في خالِدُونَ أيضا، وكذا غلب من يتأتى منه الزفير ممن فيه حياة على غيره من الأصنام أيضا حيث نسب الزفير للجميع، وجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون حالها حال من معها ولها ما لهم فلا تغليب، وقيل: الضمير للمخاطبين في إِنَّكُمْ خاصة على سبيل الالتفات فلا حاجة إلى القول بالتغليب أصلا. ورد بأنه يوجب تنافر النظم الكريم ألا ترى قوله تعالى: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ كيف يجمع بينهم تغليبا للمخاطبين فلو خص لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ لزم التفكيك، وكذا الكلام في قوله تعالى: وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب على ما قيل، وقيل: لا يسمعون لو نودي عليهم لشدة زفيرهم، وقيل:
لا يسمعون ما يسرهم من الكلام إذ لا يكلمون إلا بما يكرهون، وقيل: إنهم يبتلون بالصمم حقيقة لظاهر قوله تعالى:
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] وهو كما ترى، وذكر في حكمة إدخال المشركين النار مع معبوداتهم أنها زيادة غمهم برؤيتهم إياها معذبة مثلهم وقد كانوا يرجون شفاعتها، وقيل: زيادة غمهم برؤيتها معهم وهي السبب في عذابهم فقد قيل:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضنى به الأجسام
وظاهر بعض الأخبار أن نهاية المخلدين أن لا يرى بعضهم بعضا فقد روى ابن جرير وجماعة عن ابن مسعود أنه قال: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره ثم قرأ الآية لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ومنه يعلم قول آخر في «لا يسمعون» والله تعالى أعلم.
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي الخصلة المفضلة في الحسن وهي السعادة، وقيل: التوفيق للطاعة، والمراد من سبق ذلك تقديره في الأول، وقيل: الحسنى الكلمة الحسنى وهي المتضمنة للبشارة بثوابهم وشكر أعمالهم، والمراد من سبق ذلك تقدمه في قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ [الأنبياء: 94] وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد من الموصول كل من اتصف بعنوان الصلة وخصوص السبب لا يخصص، وما ذكر في بعض الآثار من تفسيره بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام فهو من الاقتصار على بعض أفراد العام حيث إنه السبب في النزول. وينبغي أن يجعل من باب الاقتصار ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن محمد بن حاطب عن عليّ كرم لله تعالى وجهه أنه فسر الموصول بعثمان وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
وروى ابن أبي حاتم وجماعة عن النعمان بن بشير أن عليّا كرم الله تعالى وجهه قرأ الآية فقال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وسعد وعبد الرحمن منهم كذا رأيته في الدر المنثور، ورأيت في غيره عد العشرة المبشرة رضي الله تعالى عنهم
، والجدران متعلقان بسبقت.
وجوز أبو البقاء في الثاني كونه متعلقا بمحذوف ووقع حالا من الْحُسْنى وقوله تعالى: أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم، وبعد منزلتهم في الشرف والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت عَنْها أي عن جهنم مُبْعَدُونَ لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار.
(9/92)
________________________________________
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي صوتها الذي يحس من حركتها، والجملة بدل من «مبعدون» ، وجوز أن تكون حالا من ضميره، وأن تكون خبرا بعد خبر، واستظهر كونها مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من بعدهم عنها، وقيل إن الأبعاد يكون بعد القرب فيفهم منه أنه أوردها أولا، ولما كان مظنة التأذي بها دفع بقوله سبحانه لا يَسْمَعُونَ فهي مستأنفة لدفع ذلك، فعلى هذا يكون عدم سماع الحسيس قبل الدخول إلى الجنة، ومن قال به قال: إن ذلك حين المرور على الصراط وذلك لأنهم على ما
ورد في بعض الآثار يمرون عليها وهي خامدة لا حركة لها حتى أنهم يظنون وهم في الجنة أنهم لم يمروا عليها
، وقيل لا يسمعون ذلك لسرعة مرورهم وهو ظاهر ما
أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: أولئك أولياء الله تعالى يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق فلا تصيبهم ولا يسمعون حسيسها ويبقى الكفار جثيا
، لكن
جاء في خبر آخر رواه عنه ابن أبي حاتم أيضا وابن جرير أنه قال في لا يَسْمَعُونَ إلخ لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منازلهم في الجنة
، وقيل إن الابعاد عنها قبل الدخول إلى الجنة ايضا، والمراد بذلك حفظ الله تعالى إياهم عن الوقوع فيها كما يقال أبعد الله تعالى فلانا عن فعل الشر، والأظهر أن كلا الأمرين بعد دخول الجنة وذلك بيان لخلاصهم عن المهالك والمعاطب.
وقوله تعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ بيان بفوزهم بالمطالب بعد ذلك الخلاص، والمراد أنهم دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للقصر والاهتمام ورعاية الفواصل.
وقوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ بيان لنجاتهم من الإفزاع بالكلية بعد نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الإفزاع لم يحزنهم ما عداه بالضرورة كذا قيل، وليلاحظ ذلك مع ما جاء في الاخبار أن النار تزفر في الموقف زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه فإن قلنا: إن ذلك لا ينافي عدم الحزن فلا إشكال وإذا قلنا: إنه ينافي فهو مشكل إلا أن يقال: إن ذلك لقلة زمانه وسرعة الأمن مما يترتب عليه نزل منزلة العدم فتأمل، والفزع كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ويطلق على الذهاب بسرعة لما يهول.
واختلف في وقت هذا الفزع فعن الحسن وابن جبير وابن جريج أنه حين انصراف أهل النار إلى النار.
ونقل عن الحسن أنه فسر الفزع الأكبر بنفس هذا الانصراف فيكون الفزع بمعنى الذهاب المتقدم، وعن الضحاك أنه حين وقوع طبق جهنم عليها وغلقها على من فيها، وجاء ذلك في رواية ابن أبي الدنيا عن ابن عباس، وقيل
(9/93)
________________________________________
حين ينادى أهل النار اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وقيل حين يذبح الموت بين الجنة والنار، وقيل يوم تطوى السماء، وقيل حين النفخة الأخيرة، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، والظاهر أن المراد بها النفخة للقيام من القبور لرب العالمين، وقال في قوله تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم بالرحمة عند قيامهم من قبورهم، وقيل بالسلام عليهم حينئذ قائلين هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا مجيئه وتبشرون بما فيه لكم من المثوبات على الإيمان والطاعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: تتلقاهم الملائكة الذين كانوا قرناءهم في الدنيا يوم القيامة فيقولون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة، وقيل تتلقاهم عند باب الجنة بالهدايا أو بالسلام، والأظهر أن ذلك عند القيام من القبور وهو كالقرينة على أن عدم الحزن حين النفخة الأخيرة، وظاهر أكثر الجمل يقتضي عدم دخول الملائكة في الموصول السابق بل قوله تعالى: «وتتلقاهم» إلخ نص في ذلك فلعل الإسناد في ذلك عند من أدرج الملائكة عليهم السلام في عموم الموصول لسبب النزول على سبيل التغليب أو يقال: إن استثناءهم من العموم السابق لهذه الآية بطريق دلالة النص كما أن دخولهم فيما قبل كان كذلك. وقرأ أبو جعفر «لا يحزنهم» مضارع أحزن وهي لغة تميم وحزن لغة قريش.
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ منصوب بأذكر، وقيل ظرف للا يحزنهم، وقيل للفزع، والمصدر المعرف وإن كان ضعيفا في العمل لا سيما وقد فصل بينه وبين معموله بأجنبي إلا أن الظرف محل التوسع قاله في الكشف.
وقال الخفاجي: إن المصدر الموصوف لا يعمل على الصحيح وإن كان الظرف قد يتوسع فيه، وقيل ظرف لتتلقاهم، وقيل هو بدل من العائد المحذوف من تُوعَدُونَ بدل كل من كل وتوهم أنه بدل اشتمال، وقيل حال مقدرة من ذلك العائد لأن يوم الطي بعد الوعد.
وقرأ شيبة بن نصاح وجماعة «يطوي» بالياء والبناء للفاعل وهو الله عز وجل وقرأ أبو جعفر وأخرى بالتاء الفوقية والبناء للمفعول ورفع «السماء» على النيابة، والطي ضد النشر، وقيل (1) الإفناء والإزالة من قولك: اطو عني هذا الحديث، وأنكر ابن القيم إفناء السماء وإعدامها إعداما صرفا وادعى أن النصوص إنما تدل على تبديلها وتغييرها من حال إلى حال، ويبعد القول بالإفناء ظاهر التشبيه في قوله تعالى: كَطَيِّ السِّجِلِّ وهو الصحيفة على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد ونسبه في مجمع البيان إلى ابن عباس وقتادة والكلبي أيضا، وخصه بعضهم بصحيفة العهد، وقيل: هو في الأصل حجر يكتب فيه ثم سمي به كل ما يكتب فيه من قرطاس وغيره، والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي طيا كطي الصحيفة، وقرأ أبو هريرة، وصاحبه أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السجل» بضمتين وشد اللام، والأعمش وطلحة وأبو السمال «السّجلّ» بفتح السين، والحسن وعيسى بكسرها والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة، وقرأ أبو عمرو: قرأ أهل مكة كالحسن، واللام في قوله تعالى: لِلْكُتُبِ متعلق بمحذوف هو حال من السِّجِلِّ أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي كطي السجل كائنا للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة، وقرأ الأعمش «للكتب» بإسكان التاء، وقرأ الأكثر «للكتاب» بالإفراد وهو إما مصدر واللام للتعليل أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه وذلك كناية عن اتخاذه لها ووضعه مسوى مطويا حتى إذا احتيج إلى الكتابة لم يحتج إلى تسويته فلا يرد أن المعهود نشر الطومار للكتابة لا طيه لها، وإما اسم كالإمام فاللام كما ذكر أولا.
__________
(1) وروي عن الحسن اهـ منه.
(9/94)
________________________________________
وأخرج عبد بن حميد عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن السجل اسم ملك
،
وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن عساكر عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي نحوه إلا أنه قال: إنه موكل بالصحف فإذا مات الإنسان وقع كتابه إليه فطواه ورفعه إلى يوم القيامة
، واللام على هذا قيل متعلقة بطي، وقيل سيف خطيب، وكونها بمعنى على كما ترى. واعترض هذا القول بأنه لا يحسن التشبيه عليه إذ ليس المشبه به أقوى ولا أشهر. وأجيب بأنه أقوى نظرا لما في أذهان العامة من قوة الطاوي وضعف المطوي وصغر حجمه بالنسبة للسماء أي نظرا لما في أذهانهم من مجموع الأمرين فتأمل، وأخرج أبو داود والنسائي وجماعة منهم البيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس أن السجل كاتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأخرج جماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه، وضعف ذلك بل قيل إنه قول واه جدا لأنه لم يعرف أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم اسمه السجل ولا حسن للتشبيه عليه أيضا، وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الرجل زاد ابن مردويه بلغة الحبشة ونقل ذلك عن الزجاج، وقال بعضهم: يمكن حمل الرواية السابقة عن ابن عباس على هذا والأكثر على ما قيل على تفسير السجل بالصحيفة. واختلف في أنه عربي أو معرب فذهب البصريون إلى أنه عربي، وقال أبو الفضل الرازي الأصح أنه فارسي معرب، هذا ثم إن الآية نص في دثور السماء وهو خلاف ما شاع عن الفلاسفة، نعم ذكر صدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار أن مذهب أساطين الفلاسفة المتقدمين القول بالدثور والقول بخلاف ذلك إنما هو لمتأخريهم لقصور أنظارهم وعدم صفاء ضمائرهم، فمن الأساطين انكسيمائس الملطي قال: إنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وأراد به عالم المجردات المحضة وإلا لما ثبت طرفة عين، ويبقى ثباته إلى أن يصفى جزؤه الممتزج جزأها المختلط فإذا صفي الجزءان عند ذلك دثرت أجزاء هذا العالم وفسدت وبقيت مظلمة وبقيت الأنفس الدنسة في هذه الظلمة لا نور لها ولا سرور ولا راحة ولا سكون ولا سلوة.
ومنهم فيثاغورس نقل عنه أنه قيل له: لم قلت بإبطال العالم؟ فقال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته، ومنهم أفلاطون حكى الشيخ أبو الحسن العامري أنه ذكر في كتابه المعروف بطيماوس أن العالم مكون وأن الباري تعالى قد صرفه من لا نظام إلى نظام وأن جواهره كلها مركبة من المادة والصورة وأن كل مركب معرض للانحلال، نعم إنه قال في أسولوطيقوس أي تدبير البدن. إن العالم أبدي غير مكون دائم البقاء وتعلق بهذا ابرقلس فبين كلاميه تناف، قد وفق بينهما تلميذه أرسطاطاليس بما فيه نظر، ولعل الأوفق أن يقال على مشربهم: أراد بالعالم الأبدي عالم المفارقات المحضة، ومنهم أرسطاطاليس قال في كتاب أثولوجيا إن الأشياء العقلية تلزم الأشياء الحسية والباري سبحانه لا يلزم الأشياء الحسية والعقلية بل هو سبحانه ممسك لجميع الأشياء غير أن الأشياء العقلية هي آنيات حقية لأنها مبتدعة من العلة الأولى بغير وسط وأما الأشياء الحسية فهي آنيات دائرة لأنها رسوم الآنيات الحقية ومثالها وإنما قوامها ودوامها بالكون (1) والتناسل كي تدوم وتبقى تشبيها بالأشياء العقلية الثابتة الدائمة، وقال في كتاب الربوبية: أبدع العقل صورة النفس من غير أن يتحرك تشبيها بالواحد الحق وذلك أن العقل أبدعه الواحد الحق وهو ساكن فكك النفس ابدعها العقل وهو ساكن أيضا غير أن الواحد الحق أبدع هوية العقل وأبدع العقل صورة النفس ولما كانت معلولة من معلول لم تقو أن تفعل فعلها بغير حركة بل فعلته بحركة وأبدعت صنما وإنما سمي صنما
__________
(1) قيل أراد بالكون الوجود التدريجي على نعت الاتصال كما في الفلكيات وبالتناسل التعاقب في الكون على نهج الانفصال كما في العنصريات من الطبائع المنتشرة الشخصيات مثل الحيوان والنبات اهـ منه.
(9/95)
________________________________________
لأنه فعل داثر غير ثابت ولا باق لأنه كان بحركة والحركة لا تأتي بالشيء الثابت الباقي بل إنما تأتي بالشيء الداثر وإلا لكان فعلها أكرم منها وهو قبيح جدا، وسأله بعض الدهرية إذا كان المبدع لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال: لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة عليه من معل فوقه وليس بمركب يتحمل ذاته العلل فلم عنه منفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل يجب أن يكون فاعلا لم يزل لأنه جواد لم يزل فقال:
معنى لم يزل لا أول له وفعل فاعل يقتضي أولا واجتماع يكون ما لا أول له وذا أول في القول والذات محض متناقض، فقيل: فهل يبطل هذا العالم؟ قال: نعم فقيل: فإذا أبطله بطل الجود فقال: يبطل ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد، ومنهم فرفوريوس واضع ايساغوجي قال المكونات كلها إنما تتكون بتكون الصورة على سبيل التغير وتفسد بخلو الصورة إلى غير ذلك من الفلاسفة وأقوالهم.
وذكر جميع ذلك مما يفضي إلى الملل، ومن أراده فليرجع إلى الاسفار وغيره من كتب الصدر، والحق أنه قد وقع في كلام متقدمي الفلاسفة كثيرا مما هو ظاهر في مخالفة مدلول الآية الكريمة ولا يكاد يحتمل التأويل وهو مقتضى أصولهم وما يتراءى منه الموافقة فإنما يتراءى منه الموافقة في الجملة والتزام التوفيق بين ما يقوله المسلمون في أمر العالم بأسره وما يقوله الفلاسفة في ذلك كالتزام التوفيق بين الضب والنون بل كالتزام الجمع بين الحركة والسكون.
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا ما استقل يماني
فعليك بما نطق به الكتاب المبين أو صح عن الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم، وما عليك إذا خالفت الفلاسفة فأغلب ما جاؤوا به جهل وسفه ولعمري لقد ضل بكلامهم كثير من الناس وباض وفرخ في صدورهم الوسواس الخناس، وهو جعجعة بلا طحن وقعقعة كقعقعة شن ولولا الضرورة التي لا أبديها والعلة التي عز مداويها لما أضعت في درسه وتدريسه شرخ شبابي ولما ذكرت شيئا منه خلال سطور كتابي، هذا وأنا أسأل الله تعالى التوفيق للتمسك بحبل الحق الوثيق، ثم إن الظاهر من الأخبار الصحيحة أن العرش لا يطوى كما تطوى السماء فإن كان هو المحدد كما يزعمه الفلاسفة ومن تبع آثارهم فعدم دثوره بخصوصه مما صرح به من الفلاسفة الإسكندر الافروديسي من كبار اصحاب أرسطاطاليس وإن خالفه في بعض المسائل ومن حمل كلامه على خلاف ذلك فقد تعسف وأتى بما لا يسلم له، وظاهر الآية الكريمة أيضا مشعر بعدم طيه للاقتصار فيها على طي السماء. والشائع عدم إطلاقها على العرش، ثم إن الطي لا يختص بسماء دون سماء بل تطوى جميعها لقوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] .
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الظاهر أن الكاف جارة وما مصدرية والمصدر مجرور بها والجار والمجرور صفة مصدر مقدر وأَوَّلَ مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثله بدئنا إياه أي في السهولة وعدم التعذر وقيل: أي في كونها إيجادا بعد العدم أو جمعا من الأجزاء المتفرقة، ولا يخفى أن في كون الإعادة إيجادا بعد العدم مطلقا بحثا، نعم قال اللقاني: مذهب الأكثرين أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وهو قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء على الأجسام بل وقوعه.
وقال البدر الزركشي والآمدي: إنه الصحيح. والقول بأن الإعادة عن تفريق محض قول الأقل وحكاه جمع بصيغة التمريض لكن في المواقف وشرحه هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التآلف؟
الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء بلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين.
(9/96)
________________________________________
وفي الاقتصاد لحجة الإسلام الغزالي فإن قيل هل تعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الاعراض دون الجواهر وتعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات.
وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بأعراضه، وأنت تعلم أن الأخبار صحت ببقاء عجب الذنب من الإنسان فإعادة الإنسان ليست كبدئه، وكذا
روي أن الله تعالى عز وجل حرّم على الأرض أجساد الأنبياء وهو حديث حسن عند ابن العربي
، وقال غيره: صحيح، وجاء نحو ذلك في المؤذنين احتسابا وحديثهم في الطبراني وفي حملة القرآن وحديثهم عند ابن منده، وفيمن لم يعمل خطيئة قط وحديثهم عن المروزي فلا تغفل، وكذا في كون البدء جمعا من الأجزاء المتفرقة إن صح في المركب من العناصر كالإنسان لا يصح في نفس العناصر مثلا لأنها لم تخلق أولا من أجزاء متفرقة بإجماع المسلمين فلعل ما ذكرناه في وجه الشبه أبعد عن القال والقيل.
واعترض جعل أَوَّلَ مفعول بدأنا بأن تعلق البداءة بأول الشيء المشروع فيه ركيك لا يقال بدأت أول كذا وإنما يقال بدأت كذا وذلك لأن بداية الشيء هي المشروع فيه والمشروع يلاقي الأول لا محالة فيكون ذكره تكرارا.
ونظر فيه بأن المراد بدأنا ما كان أولا سابقا في الوجود وليس المراد بالأول أول الأجزاء حتى يتوهم ما ذكر، وقيل:
أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ والكاف مكفوفة بما أي نعيد أول خلق نعيده وقد تم الكلام بذلك ويكون كَما بَدَأْنا جملة منقطعة عن ذلك على معنى تحقق ذلك مثل تحققه، وليس المعنى على إعادة مثل البدء، ومحل الكاف في مثل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف جيء به تأكيدا، والمقام يقتضيه كما يشعر به التذنيب فلا يقال: إنه لا داعي إلى ارتكاب خلاف الظاهر، وتنكير خَلْقٍ لإرادة التفصيل وهو قائم مقام الجمع في إفادة تناول الجميع فكأنه قيل نعيد المخلوقين الأولين.
وجوز أن تنصب الكاف بفعل مضمر يفسره نُعِيدُهُ وما موصولة وأَوَّلَ ظرف لبدأنا لأن الموصول يستدعي عائدا فإذا قدر هنا يكون مفعولا، ولأول قابلية النصب على الظرفية فينصب عليها، ويجوز أن يكون في موضع الحال من ذلك العائد، وحاصل المعنى نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق أو كائنا أول خلق، والخلق على الأول مصدر وعلى الثاني بمعنى المخلوق، وجوز كون ما موصوفة وباقي الكلام بحاله.
وتعقب أبو حيان نصب الكاف بأنه قول باسميتها وليس مذهب الجمهور وإنما ذهب إليه الأخفش، ومذهب البصريين سواه أن كونها اسما مخصوص بالشعر، وأورد نحوه على القول بأن محلها الرفع في الوجه السابق، وإذا قيل بأن للمكفوفة متعلقا كما اختاره بعضهم خلافا للرضي ومن معه فليكن متعلقها خبر مبتدأ محذوف هناك، ورجح كون المراد نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق بما
أخرجه ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي عجوز من بني عامر فقال: من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت: إحدى خالاتي فقالت: ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال عليه الصلاة والسلام: إن الجنة لا يدخلها العجز فأخذ العجوز ما أخذها فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى ينشئهن خلقا غير خلقهن ثم قال: تحشرون حفاة عراة غلفا فقالت: حاش لله تعالى من ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بلى إن الله تعالى قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ

ومثل هذا المعنى حاصل على ما جوزه ابن الحاجب من كون كَما بَدَأْنا في موضع الحال من ضمير نُعِيدُهُ أي نعيد أول خلق مماثلا للذي بدأناه، ولا تغفل عما يقتضيه التشبيه من مغايرة الطرفين، وأيا ما كان فالمراد الإخبار بالبعث وليست ما في شيء من الأوجه خاصة بالسماء إذ ليس المعنى عليه ولا اللفظ يساعده.
(9/97)
________________________________________
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية نهلك كل شيء كما كان أول مرة ويحتاج ذلك إلى تدبر فتدبر.
وَعْداً مصدر منصوب بفعله المحذوف تأكيدا له، والجملة مؤكدة لما قبلها أو منصوب بنعيد لأنه عدة بالإعادة وإلى هذا ذهب الزجاج، واستجود الأول الطبرسي بأن القراء يقفون على نُعِيدُهُ عَلَيْنا في موضع الصفة لوعدا أي وعدا لازما علينا، والمراد لزم إنجازه من غير حاجة إلى تكلف الاستخدام إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك بالفعل لا محالة، والأفعال المستقبلة التي علم الله تعالى وقوعها كالماضية في التحقق ولذا عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز أو قادرين على أن نغفل ذلك واختاره الزمخشري، وقيل عليه: إنه خلاف الظاهر وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ الظاهر أنه زبور داود عليه السلام وروي ذلك عن الشعبي.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه الكتب، والذكر في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ التوراة. وروي تفسيره بذلك عن الضحاك أيضا. وقال في الزبور: الكتب من بعد التوراة. وأخرج عن ابن جبير أن الذكر التوراة والزبور القرآن.
وأخرج عن ابن زيد أن الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك وهو اللوح المحفوظ كما في بعض الآثار، واختار تفسيره بذلك الزجاج وإطلاق الذكر عليه مجاز. وقد وقع
في حديث البخاري عنه صلّى الله عليه وسلّم «كان الله تعالى ولم يكن قبله شيء وكان عرشه على الماء ثم خلق الله السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء»
وقيل: الذكر العلم وهو المراد بأم الكتاب، وأصل الزبور كل كتاب غليظ الكتابة من زبرت الكتاب أزبر بفتح الموحدة وضمها كما في المحكم إذا كتبته كتابة غليظة وخص في المشهور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام، وقال بعضهم: هو اسم للكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية ولهذا يقال للمنزل على داود عليه السلام إذ لا يتضمن شيئا من الأحكام الشرعية.
والظاهر أنه اسم عربي بمعنى المزبور، ولذا جوز تعلق مِنْ بَعْدِ به كما جوز تعلقه بكتبنا، وقال حمزة: هو اسم سرياني، وأيا ما كان فإذا أريد منه الكتب كان اللام فيه للجنس أي كتبنا في جنس الزبور.
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس أن المراد بالأرض أرض الجنة قال الإمام: ويؤيده قوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] وإنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع وأن الآية ذكرت عقيب ذكر الإعادة وليس بعد الإعادة أرض يستقر بها الصالحون ويمتن بها عليهم سوى أرض الجنة، وروي هذا القول عن مجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها ارض الدنيا يرثها المؤمنون ويستولون عليها وهو قول الكلبي وأيد بقوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور:
55] .
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها»
وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله واستيلائهم على أكثر المعمورة التي يكثر تردد المسافرين إليها وإلا فمن الأرض ما لم يطأها المؤمنون كالأرض الشهيرة بالدنيا الجديدة وبالهند الغربي، وإن قلنا بأن جميع ذلك يكون في حوزة المؤمنين أيام المهدي رضي الله تعالى عنه ونزول عيسى عليه السلام فلا حاجة إلى ما ذكر، وقيل: المراد بها الأرض المقدسة، وقيل: الشام ولعل بقاء الكفار وحدهم في الأرض جميعها في آخر الزمان كما صحت به الأخبار لا يضر في هذه الوراثة لما أن بين استقلالهم في الأرض
(9/98)
________________________________________
حينئذ وقيام الساعة زمنا يسيرا لا يعتد به وقد عد ذلك من المبادئ القريبة ليوم القيامة، والأولى أن تفسر الأرض بأرض الجنة كما ذهب إليه الأكثرون وهو أوفق بالمقام.
ومن الغرائب قصة تفاؤل السلطان سليم بهذه الآية حين أضمر محاربته للغوري وبشارة ابن كمال له أخذا مما رمزت إليه الآية بملكة مصر في سنة كذا ووقوع الأمر كما بشر وهي قصة شهيرة وذلك من الأمور الاتفاقية ومثله لا يعول عليه إِنَّ فِي هذا أي فيما ذكر في هذه السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة، وقيل: الإشارة إلى القرآن كله لَبَلاغاً أي كفاية أو سبب بلوغ إلى البغية أو نفس البلوغ إليها على سبيل المبالغة لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي لقوم همهم العبادة دون العادة، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنهم الذين يصلون الصلوات الخمس بالجماعة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ ذلك فقال: هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة
، وضمير «هي» للعبادة المفهومة من «عابدين» وقال أبو هريرة. ومحمد بن كعب ومجاهد: هي الصلوات الخمس ولم يقيدوا بشيء، وعن كعب الأحبار تفسيرها بصيام شهر رمضان وصلاة الخمس والظاهر العموم وأن ما ذكر من باب الاقتصار على بعض الأفراد لنكتة وَما أَرْسَلْناكَ بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك مما هو مناط لسعادة الدارين إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك. أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو راحما لهم ببيان ما أرسلت به، والظاهر أن المراد بالعالمين ما يشمل الكفار، ووجه ذلك عليه أنه عليه الصلاة والسلام أرسل بما هو سبب لسعادة الدارين، ومصلحة النشأتين إلا أن الكافر فوت على نفسه الانتفاع بذلك وأعرض لفساد استعداده عما هنالك، فلا يضر ذلك في كونه صلى الله تعالى عليه وسلّم أرسل رحمة بالنسبة إليه أيضا كما لا يضر في كون العين العذبة مثلا نافعة عدم انتفاع الكسلان بها لكسله وهذا ظاهر خلافا لمن ناقش فيه، وهل يراد بالعالمين ما يشمل الملائكة عليهم السلام أيضا فيه خلاف مبني على الخلاف في عموم بعثة صلّى الله عليه وسلّم لهم، فإذا قلنا بالعموم كما رجحه من الشافعية البارزي. وتقي الدين السبكي والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن حامد وابن مفلح في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق قلنا بشمول العالمين لهم هنا. وكونه صلّى الله عليه وسلّم أرسل رحمة بالنسبة إليهم لأنه جاء عليه الصلاة والسلام أيضا بما فيه تكليفهم من الأوامر والنواهي وإن لم نعلم ما هنا، ولا شك أن في امتثال المكلف ما كلف به نفعا له وسعادة، وإن قلنا بعدم العموم كما جزم به الحليمي والبيهقي والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وزين الدين العراقي في نكتة على ابن الصلاح من الشافعية ومحمود بن حمزة في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وإن لم يسلم قلنا بعدم شموله لهم هنا وإرادة من عداهم منه، وقيل: هم داخلون هنا في العموم وإن لم نقل ببعثته صلّى الله عليه وسلّم إليهم لأنهم وقفوا بواسطة إرساله عليه الصلاة والسلام على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع في كتابه الذي فيه بناء ما كان وما يكون عبارة وإشارة وأي سعادة أعظم من التحلي بزينة العلم؟ وكونهم عليهم السلام لا يجهلون شيئا مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين، وقيل: لأنهم أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهر.
وقال بعضهم: إن الرحمة في حق الكفار أمنهم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم من الخسف والمسخ والقذف والاستئصال، وأخرج ذلك الطبراني والبيهقي وجماعة عن ابن عباس، وذكر أنها في حق الملائكة عليهم السلام الأمن من نحو ما ابتلي به هاروت وماروت، وأيد بما
ذكره صاحب الشفاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السلام: هل أصابك من هذه الرحمة
(9/99)
________________________________________
شيء؟ قال: نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله سبحانه: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20]
وإذا صح هذا الحديث لزم القول بشمول العالمين للملائكة عليهم السلام إلا أن الجلال السيوطي ذكر في تزيين الأرائك أنه لم يوقف له على إسناد، وقيل المراد بالعالمين جميع الخلق فإن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته جل شأنه، وجمع جمع العقلاء تغليبا للأشرف على غيره.
وكونه صلّى الله عليه وسلّم رحمة للجميع باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام واسطة الفيض الإلهي على الممكنات على حسب القوابل، ولذا كان نوره صلّى الله عليه وسلّم أول المخلوقات،
ففي الخبر أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر
،
وجاء «الله تعالى المعطي وأنا القاسم»
وللصوفية قدست أسرارهم في هذا الفصل كلام فوق ذلك، وفي مفتاح السعادة لابن القيم أنه لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيشة ولا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم فمن آثار النبوة وكل شر وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه، ولهذا إذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها البتة انشقت سماؤه وانتشرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة اهـ وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى الله عليه وسلّم أكمل النبيين وما جاء به أجل مما جاؤوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف وجه كونه عليه الصلاة والسلام أرسل رحمة للعالمين أيضا لكن لا يخلو ذلك عن بحث.
وزعم بعضهم أن العالمين هنا خاص بالمؤمنين وليس بشيء، ولواحد من الفضلاء كلام طويل في هذه الآية الكريمة نقض فيه وأبرم ومنع وسلم ولا أرى منشأ سوى قلة الاطلاع على الحق الحقيق بالاتباع، وأنت متى أخذت العناية بيدك بعد الاطلاع عليه سهل عليك رده ولم يهولك هزله وجده، والذي أختاره أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما بعث رحمة لكل فرد فرد من العالمين ملائكتهم وإنسهم وجنهم ولا فرق بين المؤمن والكافر من الانس والجن في ذلك، والرحمة متفاوتة ولبعض من العالمين المعلى والرقيب منها، وما يرى أنه ليس من الرحمة فهو إما منها في النظر الدقيق أو ليس مقصودا بالقصد الأولى كسائر الشرور الواقعة في العالم بناء على ما حقق في محله أن الشر ليس داخلا في قضاء الله تعالى بالذات، ومما هو ظاهر في عموم العالمين الكفار ما
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة»
ولعله يؤيد نصب رَحْمَةً في الآية على الحال
كقوله صلّى الله عليه وسلّم الذي أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة «إنما أنا رحمة مهداة»
ولا يشين احتمال التعليل ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تعليل أفعاله عز وجل فإن الماتريدية وكذا الحنابلة ذهبوا إلى خلافه وردوه بما لا مزيد عليه، على أنه لا مانع من أن يقال فيه كما قيل في سائر ما ظاهره التعليل ووجود المانع هنا توهم محض فتدبر ثم لا يخفى أن تعلق لِلْعالَمِينَ برحمة هو الظاهر.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بأرسلناك، وفي البحر لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد.
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ذهب جماعة إلى أن في الآية حصرين بناء على أن أنما المفتوحة تفيد ذلك كالمكسورة، والأول لقصر الصفة على الموصوف والثاني لقصر الموصوف على الصفة فالثاني قصر فيه الله تعالى على الوحدانية والأول قصر فيه الوحي على الوحدانية، والمعنى ما يوحى إليّ إلا اختصاص الله تعالى بالوحدانية.
(9/100)
________________________________________
واعترض بأنه كيف يقصر الوحي على الوحدانية وقد أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم أمور كثيرة غير ذلك كالتكاليف والقصص، وأجيب بوجهين: الأول أن معنى قصره عليه أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه أو غير منظور إليه في جنبه فهو قصر ادعائي، والثاني أنه قصر قلب بالنسبة إلى الشرك الصادر من الكفار، وكذا الكلام في القصر الثاني.
وأنكر أبو حيان إفادة أنما المفتوحة الحصر لأنها مؤولة بمصدر واسم مفرد وليست كالمكسورة المؤولة بما وإلا وقال: لا نعلم خلافا في عدم إفادتها ذلك والخلاف إنما هو في إفادة إنما المكسورة إياه.
وأنت تعلم أن الزمخشري وأكثر المفسرين ذهبوا إلى إفادتها ذلك، والحق مع الجماعة ويؤيده هنا أنها بمعنى المكسورة لوقوعها بعد الوحي الذي هو في معنى القول ولأنها مقولة قُلْ في الحقيقة ولا شك في إفادتها التأكيد فإذا اقتضى المقام القصر كما فيما نحن فيه انضم إلى التأكيد لكنه ليس بالوضع كما في المكسورة فقد جاء ما لا يحتمله كقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ [ص: 24] ولذا فسره الزمخشري بقوله ابتليناه لا محالة مع تصريحه بالحصر هنا، نعم في توجيه القصر هنا بما سمعت من كونه قصر الله تعالى على الوحدانية ما سمعته في آخر سورة الكهف فتذكر.
وجوز في. ما. إِنَّما يُوحى أن تكون موصولة وهو خلاف الظاهر. وتجويزه فيما بعد بعيد جدا موجب لتكلف لا يخفى فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون لما يوحى إليّ من التوحيد، وهو استفهام يتضمن الأمر بالانقياد، وبعضهم فسر الإسلام بلازمه وهو إخلاص العبادة له تعالى وما أشرنا إليه أولى.
والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها قالوا: فيه دلالة على أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع بخلاف إثبات الواجب فإن طريقه العقل لئلا يلزم الدور.
قال في شرح المقاصد: إن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصدقهم لا يتوقف على الوحدانية فيجوز التمسك بالأدلة السمعية كإجماع الأنبياء عليهم السلام على الدعوة إلى التوحيد ونفي الشريك وكالنصوص القطعية من كتاب الله تعالى على ذلك، وما قيل إن التعدد يستلزم الإمكان لما عرفت من أدلة التوحيد وما لم تعرف أن الله تعالى واجب الوجود خارج عن جميع الممكنات لم يتأت إثبات البعثة والرسالة ليس بشيء لأن غاية استلزام الوجوب الوحدة لا استلزام معرفته معرفتها فضلا عن التوقف، وسبب الغلط عدم التفرقة بين ثبوت الشيء والعلم بثبوته انتهى.
وتفريع الاستفهام هنا صريح في ثبوت الوحدانية بما ذكر، وقول صاحب الكشف: إن الآية لا تصلح دليلا لذلك لأنه إنما يوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم ذلك مبرهنا لا على قانون الخطابة فلعل نزولها كان مصحوبا بالبرهان العقلي ليس بشيء لظهور أن التفريع على نفس هذا الموحى، وكون نزوله مصحوبا بالبرهان العقلي والتفريع باعتباره غير ظاهر فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه فَقُلْ لهم آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم، والإيذان إفعال من الإذن وأصله العلم بالإجازة في شيء وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم وصيغ منه الأفعال، وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير، والإنذار وهو يتعدى لمفعولين الثاني منهما مقدر كما أشير إليه. وقوله تعالى: عَلى سَواءٍ في موضع الحال من المفعول الأول أي كائنين على سواء في الاعلام بذلك لم أخص أحدا منكم دون أحد.
وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل والمفعول معا أي مستويا أنا وأنتم في المعاداة أو في العلم بما أعلمتكم به من وحدانية الله تعالى لقيام الأدلة عليها. وقيل ما أعلمهم صلّى الله عليه وسلّم به يجوز أن يكون ذلك وأن يكون وقوع الحرب في البين واستوائهم في العلم بذلك جاء من إعلامهم به وهم يعلمون أنه عليه الصلاة والسلام الصادق الأمين وإن كانوا يجحدون بعض ما يخبر به عنادا فتدبر.
(9/101)
________________________________________
وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي إيذانا على سواء. وأن يكون في موضع الخبر لأن مقدرة أي أعلمتكم أني على سواء أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير وهذا خلاف المتبادر جدا.
وفي الكشاف أن قوله تعالى: آذَنْتُكُمْ إلخ استعارة تمثيلية شبه بمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس بغدرهم فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وإشاعة وآذانهم جميعا بذلك وهو من الحسن بمكان وَإِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتيا لا محالة، والجملة في موضع نصب بأدري. ولم يجىء التركيب أقريب ما توعدون أم بعيد لرعاية الفواصل.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ما تجهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من الاحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيرا وقطميرا وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي ما أدري لعل تأخير جزائكم (1) استدراج لكم وزيادة في افتنانكم أو امتحان لكم لينظر كيف تعملون. وجملة لَعَلَّهُ إلخ في موضع المفعول على قياس ما تقدم.
والكوفيون يجرون لعل مجرى هل في كونها معلقة. قال أبو حيان: ولا أعلم أحدا ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهرا فيها. وعن ابن عباس في رواية أنه قرأ «أدري» بفتح الياء في الموضعين تشبيها لها بياء الإضافة لفظا وإن كانت لام الفعل ولا تفتح إلا بعامل. وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء.
وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي وتمتيع لكم وتأخير إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم. وقيل المراد بالحين يوم بدر. وقيل يوم القيامة قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ حكاية لدعائه صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ الأكثر «قل» على صيغة الأمر. والحكم القضاء. والحق العدل أي رب اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لتعجيل العذاب والتشديد عليهم فهو دعاء بالتعجيل والتشديد وإلا فكل قضائه تعالى عدل وحق. وقد استجيب ذلك حيث عذبوا ببدر أي تعذيب.
وقرأ أبو جعفر «ربّ» بالضم على أنه منادى مفرد كما قال صاحب اللوامح، وتعقبه بأن حذف حرف النداء من اسم الجنس شاذ بابه الشعر. وقال أبو حيان: إنه ليس بمنادى مفرد بل هو منادى مضاف إلى الياء حذف المضاف إليه وبني على الضم كقبل وبعد وذلك لغة حكاها سيبويه في المضاف إلى ياء المتكلم حال ندائه ولا شذوذ فيه. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن «ربّي» بياء ساكنة «أحكم» على صيغة التفضيل أي أنفذ أو أعدل حكما أو أعظم حكمة. فربي أحكم مبتدأ وخبر.
وقرأت فرقة «أحكم» فعلا ماضيا وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ مبتدأ وخبر أي كثير الرحمة على عباده. وقوله سبحانه:
الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون خبر آخر للمبتدأ. وجوز كونه صفة للرحمن بناء على إجرائه مجرى العلم.
وإضافة الرب فيما سبق إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم خاصة لما أن الدعاء من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام كما أن إضافته هاهنا إلى ضمير الجمع المنتظم للمؤمنين أيضا لما أن الاستعانة من الوظائف العامة لهم.
عَلى ما تَصِفُونَ من الحال فإنهم كانوا يقولون: إن الشركة تكون لهم وإن راية الإسلام تخفق ثم تسكن
__________
(1) فالضمير لما علم من الكلام اهـ منه.
(9/102)
________________________________________
وإن المتوعد به لو كان حقا لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيه فاستجاب الله عز وجل دعوة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر أولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ على أبيّ رضي الله تعالى عنه «يصفون» بياء الغيبة ورويت عن ابن عامر وعاصم. هذا وفي جعل خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يتعلق به خاتمة لسورة الأنبياء طيب كما قال الطيبي يتضوع منه مسك الختام.
ومن باب الإشارة في الآيات وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ قيل ذلك الرشد إيثار الحق جل شأنه على ما سواه سبحانه، وسئل الجنيد متى أتاه ذلك؟ فقال: حين لا متى قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ فيه إشارة إلى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله اهـ.
وقال حمدون القصار: استعانة الخلق بالخلق كاستعانة المسجون بالمسجون قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال ابن عطاء: كان ذلك لسلامة قلب ابراهيم عليه السلام وخلوه من الالتفات إلى الأسباب وصحة توكله على الله تعالى، ولذا
قال عليه السلام حين قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ أما إليك فلا
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فيه إشارة إلى أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا تعلق له بالصغر والكبر فكم من صغير أفضل من كبير بكثير وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً قيل معرفة بأحكام الربوبية وَعِلْماً معرفة بأحكام العبودية وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ قيل كان عليه السلام يخلو في الكهوف لذكره تعالى وتسبيحه فيشاركه في ذلك الجبال ويسبحن معه، وذكر بعضهم أن الجبال لكونها خالية عن صنع الخلق حالية بأنوار قدره الحق يحب العاشقون الخلوة فيها، ولذا تحنث صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء.
واختار كثير من الصالحين الانقطاع للعبادة فيها وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ذكر أنه عليه السلام قال ذلك حين قصدت دودة قلبه ودودة لسانه فخاف أن يشغل موضع فكره وموضع ذكره، وقال جعفر: كان ذلك منه عليه السلام استدعاء للجواب من الحق سبحانه ليسكن إليه ولم يكن شكوى وكيف يشكو المحب حبيبه وكل ما فعل المحبوب محبوب وقد حفظ عليه السلام آداب الخطاب وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قيل إن ذلك رشحة من دن خمر الدلال، وذكروا أن مقام الدل دون مقام العبودية المحضة لعدم فناء الإرادة فيه ولذا نادى عليه السلام لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي حيث اختلج في سري أن أريد غيره ما أردت وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ قيل إنه عليه السلام أراد ولدا يصلح لأن يكون محلا لإفشاء الأسرار الإلهية إليه فإن العارف متى كان فردا غير واجد من يفشي إليه السر ضاق ذرعه وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قيل أي رغبة فينا ورهبة عما سوانا أو رغبة في لقائنا ورهبة من الاحتجاب عنا وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ.
قال أبو يزيد: الخشوع خمود القلب عن الدعاوى، وقيل الفناء تحت أذيال العظمة ورداء الكبرياء وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أكثر الصوفية قدست أسرارهم على أن المراد من العالمين جميع الخلق وهو صلّى الله عليه وسلّم رحمة لكل منهم إلا أن الحظوظ متفاوتة ويشترك الجميع في أنه عليه الصلاة والسلام سبب لوجودهم بل قالوا: إن العالم كله مخلوق من نوره صلّى الله عليه وسلّم، وقد صرح بذلك الشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره في قوله وقد تقدم غير مرة:
طه النبي تكونت من نوره ... كل الخليقة ثم لو ترك القطا
(9/103)
________________________________________
وأشار بقوله لو ترك القطا إلى أن الجميع من نوره عليه الصلاة والسلام وجه الانقسام إلى المؤمن والكافر بعد تكونه فتأمل، هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من رحمته الحظ الوافر وأن ييسر لنا أمور الدنيا والآخرة بلطفه المتواتر.
(9/104)
________________________________________
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
سورة الحجّ
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير، رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بالمدينة وهو قول الضحاك وقيل كلها مكية، وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات هذانِ خَصْمانِ [الحج:
19] إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة، وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22] .
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربع آيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ- إلى- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج: 52. 55] فإنها مكيات، والأصح القول بأنها مختلطة فيها مدني ومكي وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور. وعدة آياتها ثمان وتسعون في الكوفي وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري وأربع وتسعون في الشامي. ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر، وجاء في فضلها ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما.
والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور، نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال: في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية.
(9/105)
________________________________________
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم بعد من الموجودين القاصرين عن رتبة التكليف والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة لكن لا بطريق الحقيقة عندنا بل بطريق التغليب أو تعميم الحكم بدليل خارجي فإن خطاب المشافهة لا يتناول من لم يكلف بعد وهو خاص بالمكلفين الموجودين عند النزول خلافا للحنابلة وطائفة من السلفيين والفقهاء حيث ذهبوا إلى تناوله الجميع حقيقة، ولا خلاف في دخول الإناث كما قال الآمدي في نحو الناس مما يدل على الجمع ولم يظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث وإنما الخلاف في دخولهن في نحو ضمير اتَّقُوا والمسلمين فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه، وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته، والدخول هنا عندنا بطريق التغليب.
وزعم بعضهم أن الخطاب خاص بأهل مكة وليس بذاك، والمأمور به مطلق التقوى الذي هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك ويندرج فيه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر حسبما ورد به الشرع اندراجا أوليا لكن على وجه يعم الإيجاد والدوام، والمناسب لتخصيص الخطاب بأهل مكة أن يراد بالتقوى المرتبة الأولى منها وهي التوقي عن الشرك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترهيبا وترغيبا أي احذروا عقوبة مالك أمركم ومربيكم، وقوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تعليل لموجب الأمر بذكر أمر هائل فإن ملاحظة عظم ذلك وهوله وفظاعة ما هو من مبادئه ومقدماته من الأحوال والأهوال التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مركزها، وإضافتها إلى الساعة إما من إضافة المصدر إلى فاعله لكن على سبيل المجاز في النسبة كما قيل في قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] لأن المحرك
(9/106)
________________________________________
حقيقة هو الله تعالى والمفعول الأرض أو الناس أو من إضافته إلى المفعول لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله:
يا سارق الليلة أهل الدار وجوز أن تكون الإضافة على معنى في وقد أثبتها بعضهم وقال بها في الآية السابقة، وهي عند بعض المذكورة في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] وتكون على ما قيل عند النفخة الثانية وقيام الساعة بل روي عن ابن عباس أن زلزلة الساعة قيامها.
وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال: لما نزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ- إلى- وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
كان صلّى الله عليه وسلّم في سفر (1) فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟
قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا، وحديث البعث مذكور في الصحيحين
وغيرهما لكن بلفظ آخر وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة وهو المروي عن الحسن.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن علقمة والشعبي وعبيد بن عمير أنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة على هذا لكونها من أماراتها، وقد وردت آثار كثيرة في حدوث زلزلة عظيمة قبل قيام الساعة هي من أشراطها إلا أن في كون تلك الزلزلة هي المراد هنا نظرا إذ لا يناسب ذلك كون الجملة تعليلا لموجب أمر جميع الناس بالتقوى، ثم إنها على هذا القول على معناها الحقيقي وهو حركة الأرض العنيفة، وتحدث هذه الحركة بتحريك ملك بناء على ما
روي أن في الأرض عروقا تنتهي إلى جبل قاف وهي بيد ملك هناك فإذا أراد الله عز وجل أمرا أن يحرك عرقا فإذا حركه زلزلت الأرض.
وعند الفلاسفة أن البحار إذا احتبس في الأرض وغلظ بحيث لا ينفد في مجاريها لشدة استحصافها وتكاثفها اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه فزلزت الأرض، وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض فيخرج نار لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لا سيما إذا امتزجا امتزاجا مقربا إلى الدهنية، وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة، وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدأت في باطن الأرض فيتموج بها الهواء المحتقن فتزلزل به الأرض، وقليلا ما فتتزلزل بسقوط قلل الجبال عليها لبعض الأسباب.
ومما يستأنس به للقول بأن سببها احتباس البخار الغليظ وطلبه للخروج وعدم تيسره له كثرة الزلازل في الأرض الصلبة وشدتها بالنسبة إلى الأرض الرخوة، ولا يخفى أنه إذا صح حديث في بيان سبب الزلزلة لا ينبغي العدول عنه وإلا فلا بأس بالقول برأي الفلاسفة في ذلك وهو لا ينافي القول بالفاعل المختار كما ظن بعضهم، وهي على القول بأنها يوم القيامة قال بعضهم على حقيقتها أيضا، وقال آخرون: هي مجاز عن الأهوال والشدائد التي تكون في ذلك
__________
(1) وذلك في غزوة بني المصطلق كما صرح به في بعض الروايات اهـ منه. [.....]
(9/107)
________________________________________
اليوم، وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. وفي البحر أن إطلاق الشيء عليها مع أنه لم توجد بعد يدل على أنه يطلق على المعدوم، ومن منع ذلك قال:
إن إطلاقه عليها ليتقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود لا محالة.
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
الظاهر أن الضمير المنصوب في تَرَوْنَها
للزلزلة لأنها المحدث عنها، وقيل هو للساعة وهو كما ترى، ويَوْمَ
منتصب بتذهل قدم عليه للاهتمام، وقيل بعظيم، وقيل:
بإضمار اذكر وقيل هو بدل من السَّاعَةِ وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ [المائدة: 119] على قراءة يوم بالفتح، وقيل بدل من زَلْزَلَةَ أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر، وجملة تَذْهَلُ
على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا، والمرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد
والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول، والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته، والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لأنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها، والأول دل على شدة الهول وكمال الانزعاج، والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد، وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة إن لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فنحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار، وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته، ولا يضر في كونه تمثيلا أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف وأطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفى على المنصف النبيل.
وقرىء «تذهل» من الإذهال مبنيا للمفعول، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني «تذهل» منه مبنيا للفاعل وكُلُ
بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة، وقيل: الساعة كل مرضعة وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي تلقي كل ذات جنين جنينها لغير تمام، وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصا في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد، وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة، وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل. وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وان إطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحثا ففي البحر الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وفي القاموس الحمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل علقت ولا يقال حملت به أو قليل وهي حامل وحاملة، والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر ما لم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه أحمال وحمول وحمال اهـ، وقيل: المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في
(9/108)
________________________________________
التهويل من حامل أو حاملة لإشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعر الكلام بأن الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالمفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع.
وَتَرَى النَّاسَ
بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والاختلاف بالجمعية والأفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى إلخ، وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد.
وجوز بعضهم كون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والأول أبلغ في التهويل، والرؤية بصرية والنَّاسَ
مفعولها، وقوله تعالى: سُكارى
حال منه أي يراهم كل واحد مشابهين للسكارى، وقوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى
أي حقيقة حال أيضا لكنها مؤكدة والحال المؤكد تقترن بالواو لا سيما إذا كانت جملة اسمية. فلا يقال: إنه إذا كان معنى قوله تعالى: تَرَى النَّاسَ سُكارى
على التشبيه يكون وَما هُمْ بِسُكارى
بالمعنى المذكور مستغنى عنه، ولا وجه لجعله حالا مؤكدة لمكان الواو، وجوز أن يكون تَرَى
بمعنى تظن فسكارى مفعول ثان، وحينئذ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الاسمية في موضع الحال المؤكدة ويجوز أن يكون على الحقيقة فلا تأكيد هنا، وأمر أفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحالة، وأيا ما كان فالمراد في قوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى
استمرار النفي، وأكد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، وأشير إليه سببه بقوله تعالى: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى، وهو استدراك على ما في الانتصاف راجع إلى قوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى
وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينة ولكن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جدا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تري» بضم التاء وكسر الراء أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وقرأ الزعفراني «ترى» بضم التاء وفتح الراء «الناس» بالرفع على إسناد الفعل المجهول اليه، والتأنيث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا النَّاسَ
وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في البحر الأول الضمير المستتر وهو نائب الفاعل، والثاني النَّاسَ
والثالث سُكارى
وقرأ أبو هريرة وابن نهيك سُكارى
بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير واحده سكران، وقال أبو حاتم: هي لغة تميم،
وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ «سكرى» كعطشى في الموضعين،
وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح، وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمراض كقتلى وموتى وحمقى، ولكون السكر جاريا مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران وقال أبو علي الفارسي: يصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش «سكرى» بضم السين فيهما، قال الزمخشري: وهو غريب، وقال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عنه انتهى.
(9/109)
________________________________________
وإلى كونه اسما مفردا ذهب أبو الفضل الرازي فقال: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد، وعن أبي زرعة «سكرى» بفتح السين «بسكرى» بضمها، وعن ابن جبير «سكرى» بفتح السين من غير ألف بِسُكارى
بالضم والألف كما في قراءة الجمهور، والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله تعالى عنه في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه والقرآن أساطير الأولين ولا يقدر الله تعالى شأنه على إحياء من بلي وصار ترابا، وقيل في أبي جهل، وقيل في أبيّ بن خلف وهي عامة في كل من تعاطى الجدل فيما يجوز وما لا يجوز على الله سبحانه من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان ولا نصفة، وخصوص السبب لا يخرجها عن العموم، وكان ذكرها أثر بيان عظم شأن الساعة المنبئة عن البعث لبيان حال بعض المنكرين لها ومحل الجار الرفع على الابتداء إما بحمله على المعنى أو بتقدير ما يتعلق به، وبِغَيْرِ عِلْمٍ في موضع الحال من ضمير يُجادِلُ لإيضاح ما تشعر به المجادلة من الجهل أي وبعض الناس أو بعض كائن من الناس من ينازع في شأن عز وجل ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل ملابسا الجهل وَيَتَّبِعُ فيما يتعاطاه من المجادلة أو في كل ما يأتي وما يذر من الأمور الباطلة التي من جملتها ذلك كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ متجرد للفساد معرى من الخير من قولهم: شجرة مرداء لا ورق لها، ومنه قيل: رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر، وقال الزجاج:
أصل المريد والمارد المرتفع الأملس وفيه معنى التجرد والتعري، والمراد به إما إبليس وجنوده وإما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَيَتَّبِعُ خفيفا.
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ضمير عَلَيْهِ للشيطان وكذا الضمير المنصوب في تَوَلَّاهُ والضمير في فَأَنَّهُ والضميران المستتران في يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ وضمير أَنَّهُ للشأن وباقي الضمائر لمن. واختلف في إعراب الآية فقيل إن أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ إلخ نائب فاعل كُتِبَ والجملة في موضع الصفة الثانية لشيطان ومَنْ جزائية وجزاؤها محذوف وفَأَنَّهُ يُضِلُّهُ إلخ عطف على أَنَّهُ مع ما في حيزها وما يتصل بها أي كتب على الشيطان أن الشأن من تولاه أي اتخذه وليا وتبعه يهلكه فإنه يضله عن طريق الجنة وثوابها ويهديه إلى طريق السعير وعذابها، والفاء لتفصيل الإهلاك كما في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:
54] وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف وهو وجه حسن إلا أن في كونه مراد الزمخشري خفاء، وقيل مَنْ موصولة مبتدأ وجملة تَوَلَّاهُ صلته والضمير المستتر عائده وأنه يُضِلُّهُ في تأويل مصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة خبر الموصول، ودخول الفاء في خبره على التشبيه بالشرط أي كتب عليه أن الشأن من تولاه فشأنه أو فحق أنه يضله إلخ. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابية وما بعدها مع القدر جواب الشرط. وقيل ضمير أَنَّهُ للشيطان وهو اسم أن ومَنْ موصولة أو موصوفة. والأول أظهر. خبرها والضمير المستتر في تَوَلَّاهُ لبعض الناس والضمير البارز لمن والجملة صلة أو صفة، وقوله تعالى: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ عطف على أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ والمعنى ويتبع كل شيطان كتب عليه أنه هو الذي اتخذه بعد الناس وليا وأنه يضل من اتخذه وليا فالأول كأنه توطئة للثاني أي يتبع شيطانا مختصا به مكتوبا عليه أنه وليه وأنه مضله فهو لا يألو جهدا في إضلاله، وهذا المعنى أبلغ من المعنى السابق على احتمال كون من جزائية لدلالته على أن لكل واحد من المجادلين واحدا من مردة الشياطين، وارتضى هذا في الكشف وحمل عليه مراد صاحب الكشاف.
(9/110)
________________________________________
وعن بعض الفضلاء أن الضمير في أَنَّهُ للمجادل أي كتب على الشيطان أن المجادل من تولاه وقوله تعالى:
فَأَنَّهُ إلخ عطف على أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ واعترض بأن اتصاف الشيطان بتولي المجادل إياه مقتضى المقام لا العكس وأنه لو جعلت من في مَنْ تَوَلَّاهُ موصولة كما هو الظاهر لزم أن لا يتولاه غير المجادل وهذا الحصر يفوت المبالغة.
وفي البحر الظاهر أن الضمير في عَلَيْهِ عائد على من لأنه المحدث عنه، وفي أنه وتولاه وفي فإنه عائد عليه أيضا والفاعل بتولي ضمير من وكذا الهاء في يضله، ويجوز أن يكون الهاء في أنه على هذا الوجد ضمير الشأن والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه فشأنه أن يضل من يتولاه انتهى. وعليه تكون جملة كتب إلخ مستأنفة لا صفة لشيطان، والأظهر جعل ضمير عَلَيْهِ عائدا على الشيطان وهو المروي عن قتادة، وأيّا ما كان فكتب بمعنى مضى وقدر ويجوز أن يكون على ظاهره، وفي الكشاف أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب عليه ذلك لظهوره في حاله، ولا يخفى ما في يَهْدِيهِ من الاستعارة التمثيلية التهكمية.
وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل أي كتب الله. وقرىء «فإنه» بكسر الهمزة فالجملة خبر من أو جواب لها، وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو «إنه» «فإنّه» بكسر الهمزة فيهما ووجهه الكسر في الثانية ظاهر، وأما وجهه في الأولى فهو كما استظهر أبو حيان إسناد كُتِبَ إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتبت أن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان أو تقدير قول وجعل الجملة معمولة له أو تضمين الفعل معنى ذلك أي كتب عليه مقولا في شأنه أنه من تولاه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ إلخ إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرا إثر الإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم، واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه، وإما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع، وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها. وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة للريب، واستظهر أن المراد في ريب من إمكان البعث لأنه الذي يقتضيه ما بعد، وجوز أن يكون المراد من وقوع البعث، واعترض بأن الدليل المشار إليه فيما بعد إنما يدل على الإمكان مع ما يلزم من التكرار مع قوله تعالى الآتي أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وفيه تأمل فتأمل، وقرأ الحسن «من البعث» بفتح العين وهي لغة فيه كالجلب والطرد في الجلب والطرد عند البصريين، وعند الكوفيين إسكان العين تخفيف وهو قياسي في كل ما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر.
وقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل جواب الشرط أو هو الجواب بتأويل أي وإن كنتم في ريب من البعث فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فإنا خلقناكم إلخ، وقيل: التقدير فأخبركم وأعلمكم أنا خلقناكم إلخ وليس بذاك، وخلقهم من تراب في ضمن خلق آدم عليه السلام منه أو بخلق الأغذية التي يتكون منها المني منه وهي وإن تكونت من سائر العناصر معه إلا أنه أعظم الأجزاء على ما قيل فلذلك خصه بالذكر من بينها، واختير الأول وجعل
(9/111)
________________________________________
المعنى خلقناكم خلقا إجماليا من تراب ثُمَّ خلقناكم خلقا تفصيليا مِنْ نُطْفَةٍ أي مني من النطف بمعنى التقاطر، وقال الراغب: النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل، قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل، والحق أن النطفة كما يعبر بها عن مني الرجل يعبر بها عن المني مطلقا وكلام الراغب ليس نصا في نفي ذلك، والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة، وقيل:
المراد نطفة آدم عليه السلام وحكي ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته.
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المني ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضع مُخَلَّقَةٍ بالجر صفة مُضْغَةٍ وكذا قوله تعالى: وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.
وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه، والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة، وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة، وقيل: المخلقة المسوأة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجبل أخلق أي أملس، فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وعن مجاهد وقتادة والشعبي وأبي العالية وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال: يا رب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دما وإن قيل: مخلقة قال: يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق، وبأي أرض تموت؟ الخبر وهو في حكم المرفوع، والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر، وكأن التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بخلقنا، وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفما أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس، وقدر بعضهم المفعول خاصا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك.
وأبعد جدا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل المختار ولولا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق، وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» بالباء على طريق الالتفات وكذا قرأ قوله تعالى:
(9/112)
________________________________________
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ وقرأ الجمهور بالنون، والجملة استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وتوارد الأطوار عليهم أي ونقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه عندنا سنتان وعند الشافعي عليه الرحمة أربع سنين، وعن يعقوب أنه قرأ «ونقرّ» بفتح النون وضم القاف من قررت الماء إذا صببته، وقرأ يحيى بن وثاب ما نشاء بكسر النون.
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي من الأرحام بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى طِفْلًا حال من ضمير المخاطبين، والأفراد إما باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس الصادق على الكثير أو لأنه مصدر فيستوي فيه الواحد وغيره كما قال المبرد أو لأن المراد طفلا طفلا فاختصر كما نقله الجلال السيوطي في الأشباه النحوية.
وقرأ عمر بن شبة «يخرجكم» بالياء ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمالكم في القوة والعقل والتمييز، وفي القاموس حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أي قياسا فلا يرد نعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما بمسموعين بل قياس ولِتَبْلُغُوا، قال العلامة أبو السعود: علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلخ، وقيل علة المحذوف والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا إلخ.
وجوز العلامة الطيبي أن يكون التقدير ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ كان ذلك الإقرار والإخراج وقيل إنه عطف على نبين، وتعقبه العلامة بأنه مخل بجزالة النظم الكريم وجعله كغيره عطفا عليه على قراءة نقر. ونخرج بالنصب وهي قراءة المفضل وأبي حاتم إلا أن الأول قرأ بالنون والثاني قرأ بالياء، وكذا جعل الفعلين عطفا عليه وقال: المعنى خلقناكم على التدريج المذكور لأمرين، أحدهما أن نبين شؤوننا، والثاني أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم، وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات، وإعادة اللام في لِتَبْلُغُوا مع تجريد نقر «ونخرج» عنها للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة، وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال اهـ.
وما ذكره من عطف وو نقر و (نخرج) بالنصب على (نبين) لم يرتضه الشيخ ابن الحاجب، قال في شرح المفصل: إنه مما يتعذر فيه النصب إذ لو نصب عطفا على (نبين) ضعف المعنى إذا اللام في لنبين للتعليل لما تقدم والمقدم سبب للتبيين فلو عطف وَنُقِرُّ عليه لكان داخلا في مسببية فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ إلخ وخلقهم من تراب ثم ما تلاه لا يصلح سببا للإقرار في الأرحام، وقال الزجاج: لا يجوز في وَنُقِرُّ إلا الرفع ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام وإنما خلقهم ليدلهم على رشدهم وصلاحهم وهو قول بعدم جواز عطفه على نبين.
وأجيب بأن الغرض في الحقيقة هو بلوغ الأشد والصلوح للتكليف لكن لما كان الإقرار وما تلاه من مقدماته صح إدخاله في التعليل، وما ذكره من أن العطف على نبين على قراءة الرفع مخل بجزالة النظم الكريم فالظاهر أنه تعريض بالزمخشري حيث جعل العطف على ذلك وقال فإن قلت: كيف يصح عطف لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ على لِنُبَيِّنَ ولا طباق قلت الطباق حاصل لأن قوله تعالى: وَنُقِرُّ قرين للتعليل ومقارنته له والتباسه به ينزلانه منزلة نفسه فهو راجع من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب اهـ. وفيه ما يومىء إلى أن قراءة النصب أوضح كما أنها أمتن،
(9/113)
________________________________________
ولم يرتض ذلك المحققون ففي الكشف أن القراءة بالرفع هي المشهورة الثابتة في السبع وهي الأولى وقد أصيب بتركيبها هكذا شاكلة الرمي حتى لم يجعل الإقرار في الأرحام علة بل جعل الغرض منه بلوغ الأشد وهو حال الاستكمال علما وعملا وحيث لم يعطف على لِنُبَيِّنَ إلا بعد أن قدم عليه وَنُقِرُّ ثم نخرج مجعولا نُقِرُّ عطفا على إنا خَلَقْناكُمْ والعدول إلى المضارع لتطوير الحال والدلالة على زيادة الاختصاص فالطباق حاصل لفظا ومعنى مع أن في الفصل بين العلتين من النكتة ما لا يخفى على ذي لب حسن موقعها بعد التأمل، وكذلك في الإتيان بثم في قوله سبحانه: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا دلالة على أنه الغرض الأصيل الذي خلق الإنسان له وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ولما كانت الأوائل في الدلالة على البعث أظهر قدم قوله تعالى: لِنُبَيِّنَ على الإقرار والإخراج اهـ.
ويعلم منه ما في قول العلامة: إن عطف «لتبلغوا» إلخ على «لنبين» مخل بجزالة النظم الكريم وأنه لا يتعين الاستئناف في وَنُقِرُّ وفيه أيضا أن قوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى إلخ استئناف لبيان أقسام الإخراج من الرحم كما استوفى أقسام الأول وفيه تبيين تفضيل حال بلوغ الأشد وأنها الحقيق بأن تكون مقصودة من الإنشاء لكن منهم من لا يصل إليها فيحتضر ومنهم من يجاوزها فيحتقر أي منكم من يموت قبل بلوغ الأشد وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أرداه وأدناه، والمراد يرد إلى مثل زمن الطفولية لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ أي علم كثير شَيْئاً أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم، واللام متعلقة بيرد وهي لام العاقبة والمراد المبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله وليس لزمان ذلك الرد حد محدود بل هو مختلف باختلاف الأمزجة على ما في البحر وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعين الفاعل كما في إرشاد العقل السليم، وفي شرح الكشاف للطيبي بعد تجويز أن يكون ثُمَّ لِتَبْلُغُوا بتقدير ثُمَّ لِتَبْلُغُوا كان ذلك الإقرار والإخراج أن فائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال والإخراج أبدعها والرد إلى أرذل العمر أسوؤها وتغيير العبارة لذلك ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته تعالى المقدسة وحذف المعلل في الثاني ولم ينسب الثالث إلى فاعله وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المؤمي إليه بالأشد كأنه قيل ثم يخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلا إنشاء غريبا كما قال سبحانه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] ثم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب لأنه أوان رسوخ العلم والمعرفة والتمكن من العمل المقصودين من الإنشاء ثم يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل اهـ.
ويفهم منه جواز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى بعد بلوغ الأشد، ومن الناس من جوز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى عند البلوغ، وقيل: إن ذلك يجعل الجملة حالية ومن صيغة المضارع وهو كما ترى. وقرىء «يتوفّى» على صيغة المعلوم وفاعله ضمير الله تعالى أي من يتوفاه الله تعالى، وجوز أن يكون ضمير من أي «من» يستوفي مدة عمره، وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر، هذا ثم لا يخفى ما في اختلاف أحوال الإنسان بعد الإخراج من الرحم من التنبيه على صحة البعث كما في اختلافها قبل فتأمل جميع ما ذكر ولله تعالى در التنزيل ما أكثر احتمالاته وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً حجة أخرى على صحة البعث معطوفة على إنا خَلَقْناكُمْ وهي حجة آفاقية وما تقدم حجة أنفسية والخطاب لكل أحد من تتأتى منه الرؤية، وقيل: للمجادل، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وهي بصرية لا علمية كما قيل، وهامِدَةً حال من الْأَرْضَ أي ميتة يابسة يقال همدت الأرض إذا يبست ودرست وهمد الثوب إذا بلي وقال الأعشى:
(9/114)
________________________________________
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همّدا
وأصله من همدت النار إذا صارت رمادا فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي ماء، المطر، وقيل: ما يعمه وماء العيون والأنهار وظاهر الإنزال يقتضي الأول اهْتَزَّتْ تحرك نباتها فالإسناد مجازي أو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لأجل خروج النبات وحمل الاهتزاز على الحركة في الكيف بعيد وَرَبَتْ ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات.
وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن الياس وأبو عمرو في رواية «وربأت» بالهمز أي ارتفعت يقال فلان يربأ بنفسه عن كذا أي يرتفع بها عنه، وقال ابن عطية: هو من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة عليهم فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف بَهِيجٍ حسن سار للناظر ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ كلام مستأنف جيء به إثر تحقيق حقية البعث وإقامة البرهان عليه على أتم وجه لبيان أن ما ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أحوال متباينة وإحياء الأرض بعد موتها الكاشف عن حقية ذلك من آثار ألوهيته تعالى وأحكام شؤونه الذاتية والوصفية والفعلية وأن ما ينكرونه من إتيان الساعة والبعث من أسباب تلك الآثار العجيبة المعلومة لهم ومبادئ صدورها عنه تعالى، وفيه من الإيذان بقوة الدليل وأصالة المدلول في التحقق وإظهار بطلان إنكاره ما لا يخفى فإن إنكار تحقق السبب مع الجزم بتحقق المسبب مما يقضي ببطلانه بديهة العقول فذلك إشارة إلى خلق الإنسان على أطوار مختلفة وما معه والإفراد باعتبار المذكور وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الكمال وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محالة لكونه لذاته لا الثابت مطلقا فوجه الحصر ظاهر أي ما ذكر من الصنع البديع حاصل بسبب أنه تعالى هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق لما سواه من الأشياء وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي شأنه وعادته تعالى إحياء الموتى، وحاصله أنه تعالى قادر على إحيائها بدءا وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرة بعد مرة وما تفيده صيغة المضارع من التجدد إنما هو باعتبار تعلق القدرة ومتعلقها لا باعتبار نفسها لأن القدم الشخصي ينافي ذلك. وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة للحصر التي من جملتها ما ذكر، وتخصيص إحياء الموتى بالذكر مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع والدفع في نحور المنكرين، وتقديمه لإبراز الاعتناء به وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي فيما سيأتي، والتعبير بذلك دون الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقرر البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة، وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيها إما خبر ثان لأن أو حال من ضمير السَّاعَةَ في الخبر، ومعنى نفي الريب عنها أنها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها.
وأن وما بعدها في تأويل مصدر عطف على المصدر المجرور بياء السببية داخل معه في حيزها كالمصدرين الحاصلين من قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وقوله سبحانه: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكذا قوله عز وجل:
وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكن لا من حيث إن إتيان الساعة وبعث من في القبور مؤثر أن فيما ذكر من أفاعيله تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث إن كلا منهما بسبب داع له عز وجل بموجب رأفته بالعباد المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للاستشهاد به على إمكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به عليه أو على وقوعهما ويصدقوا بذلك لينالوا السعادة الأبدية ولولا ذلك لما فعل بل لما خلق العالم رأسا، وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال هذا ما اختاره العلامة أبو السعود في تفسير ذلك وهو مما يميل اليه الطبع
(9/115)
________________________________________
السليم، وجعل صاحب الكشاف الإشارة إلى ما ذكر أيضا إلا أنه بحسب الظاهر جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور حيث إن ذلك من روادف الحكمة كناية عنها فكأن الأصل ذلك حاصل بسبب أن الله تعالى هو الحق الثابت الموجود وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم فاكتفى بمقتضى الحكمة عن الوصف بالحكمة لما في الكناية من النكتة خصوصا والكلام مع منكري البعث للدفع في نحورهم ولا يخلو عن بعد، ونقل النيسابوري عبارة الكشاف واعترضها بما لا يخفى رده وأبدى وجها في الآية ذكر أنه مما لم يخطر لغيره ورجا أن يكون صوابا وهو مع اقتضائه حمل الباء على ما يعم السببية الفاعلية والسببية الغائية مما لا يخفى ما فيه، وقيل: ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ إلخ ليس معطوفا على المجرور بالياء ولا داخلا في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والأمر أن الساعة آتية إلخ، وعليه اقتصر أبو حيان وفيه قطع للكلام عن الانتظام، وقيل: ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن الباء صلة لكون خاص وليست سببية مشعر بأن الله هو الحق إلخ، وفيه أنه لا قرينة على هذا الكون الخاص وقيل: المعنى ذلك ليعلموا أن الله هو الحق إلخ، وفيه تلويح ما إلى معنى الحديث القدسي المشهور على الألسنة وفي كتب الصوفية وإن لم يثبت عند المحدثين وهو
«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وهو كما ترى، وقيل: الإشارة إلى البعث المستدل عليه بما سبق واستظهره بعضهم، ولا يخفى عليك ما يحتاج إليه من التكلف، ونقل في البحر أن ذلك منصوب بفعل مضمر أي فعلنا ذلك بأن إلخ. وأبو علي اقتصر على القول بأنه مرفوع على الابتداء والجار والمجرور خبره وقال: لا يجوز غير ذلك وكأنه عنى بالغير ما ذكر، وما نقله العكبري من أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والحق الجواز إلا أنه خلاف الظاهر جدا، ثم إن المراد من الساعة قيل يوم القيامة المشتمل على النشر والحشر وغيرهما، وقال سعدي جلبي: المراد بها هنا فناء العالم بالكلية لئلا تتكرر مع البعث، وقول الطيني: إن سبيل قوله تعالى أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ من قوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ سبيل قوله جل وعلا: إن الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من قوله عز وجل: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل ظاهر في الأول، هذا وفي الإتقان للجلال السيوطي أن الإسلاميين من أهل المنطق ذكروا أن في أول سورة الحج إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات ثم بين ذلك بما يقضي منه العجب ويدل على قصور باعه في ذلك العلم، وقد يقال في بيان ذلك: إن النتائج الخمس هي الجمل المتعاطفة الداخلة في حيز الباء، واستنتاج الأولى بأنه لو لم يكن الله سبحانه هو الحق أي الواجب الوجود لذاته لما شوهد بعض الممكنات من الإنسان والنبات وغيرها والتالي باطل ضرورة فالله تعالى هو الحق، ودليل الملازمة برهان التمانع، واستنتاج الثانية بأنه لو لم يكن سبحانه قادرا على إحياء الموتى لما طور الإنسان في أطوار مختلفة حتى جعله حيا وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والتالي باطل ضرورة أن الخصم لا ينكر أنه تعالى أحيا الإنسان وأحيا الأرض فالله تعالى قادر على إحياء الموتى ووجه الملازمة ظاهر. واستنتاج الثالثة بأنه إذا كان الله تعالى قادرا على إحياء الموتى فهو سبحانه على كل شيء قدير لكنه تعالى قادر على إحياء الموتى فهو على كل شيء قدير، ووجه الملازمة أن المراد من الشيء الممكن وإحياء الموتى ممكن والقدرة على بعض الممكنات دون بعض تنافي وجوب وجوده تعالى الذاتي وأيضا إحياء الموتى أصعب الأمور عند الخصم المجادل حتى زعم أنه من الممتنعات فإذا ثبت أنه سبحانه قادر عليه بما سبق ثبت أنه تعالى قادر على سائر الممكنات بالطريق الأولى. واستنتاج الرابعة بأن الساعة أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه وكل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فالساعة آتية إما أن الساعة أمر ممكن فلأنه لا يلزم من فرض وقوعها محال وإما أنها وعد الصادق بإتيانها فللآيات القرآنية المتحدى بها وإما أن كل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فلاستحالة الكذب واستنتاج الخامسة بنحو ذلك ولا يتعين استنتاج
(9/116)
________________________________________
كل بما ذكر بل يمكن بغير ذلك واختياره لتسارعه إلى الذهن، وربما يقتصر على ثلاث من هذه الخمس بناء على ما علمت بين قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وقوله تعالى: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكذا بين قوله سبحانه وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وقوله سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ويعد من الخمس قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ واستنتاجها بأن يقال: زلزلة الساعة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكل ما هذا شأنه فهو شيء عظيم فزلزلة الساعة شيء عظيم، والتقوى واجبة عليكم المدلول عليه بقوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ واستنتاجه بأن يقال:
التقوى يندفع بها ضرر الساعة وكل ما يندفع به الضرر واجب عليكم فالتقوى واجبة عليكم، ولا يخفى أن ما ذكر أولا أولى إلا أنه لو كان مرادهم لكان الظاهر أن يقولوا: إن في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إلى قوله سبحانه وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خمس نتائج دون أن يقولوا: إن في أول سورة الحج إلى آخره ويناسب هذا القول ما ذكر ثانيا إلا أنه يرد عليه أن المتبادر من كلامهم كون كل من النتائج مذكورا صريحا، ولا شك أن التقوى واجبة عليكم ليس مذكورا كذلك وإنما المذكور ما يدل عليه في الجملة وهو أيضا ليس بقضية كما لا يخفى، وقد تكلف بعض الناس لبيان ذلك غير ما ذكرنا رأينا ترك ذكره أولى فتأمل.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت على ما روي عن محمد بن كعب في الأخنس بن شريق وعلى ما روي عن ابن عباس في أبي جهل، وعلى ما ذهب إليه جمع في النضر كالآية السابقة فإذا اتحد المجادل في الآيتين فالتكرار مبالغة في الذم أو لكون كل من الآيتين مشتملة على زيادة ليست في الأخرى، وقال ابن عطية: كررت الآية على جهة التوبيخ فكأنه قيل هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل إلى آخره فالواو هنا واو الحال وفي الآية المتقدمة واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها على معنى الأخبار لا للتوبيخ انتهى، وهو كما ترى. وفي الكشف أن الأظهر في النظم والأوفق للمقام كون هذه الآية في المقلدين بفتح اللام وتلك في المقلدين بكسر اللام فالواو للعطف على الآية الأولى، والمراد بالعلم الضروري كما أن المراد بالهدي في قوله تعالى:
وَلا هُدىً الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى شأنه من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة ولا ببرهان سمعي.
ثانِيَ عِطْفِهِ حال من ضمير «يجادل» كالجار والمجرور السابق أي لا ويا لجانبه وهو كناية عن عدم قبوله، وهو مراد ابن عباس بقوله متكبرا والضحاك بقوله شامخا بأنفه وابن جريج بقوله معرضا عن الحق.
وقرأ الحسن «عطفه» بفتح العين أي مانعا لتعطفه وترحمه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ متعلق بيجادل علة له فإن غرضه من الجدال الإضلال عن سبيله تعالى وإن لم يعترف بأنه إضلال، وجوز أبو البقاء تعلقه بثاني وليس بذاك، والمراد بالإضلال إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادله من المؤمنين أو الناس جميعا بتغليب المؤمنين على غيرهم وأما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازا فالمفعول هم الكفرة خاصة.
وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية «ليضل» بفتح الياء أي ليضل في نفسه والتعبير بصيغة المضارع مع أنه لم يكن مهتديا لجعل تمكنه من الهدى كالهدى لكونه هدى بالقوة، يجوز أن يراد ليستمر على الضلال أو ليزيد ضلاله، وقيل: إن ذلك لجعل ضلاله الأول كالاضلال، وأيا ما كان فاللام للعاقبة لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ جملة مستأنفة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريق، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا مقدرة أو مقارنة على معنى استحقاق ذلك والأول أظهر أي ثابت له في الدنيا بسبب ما فعله ذل وهوان، والمراد به عند القائلين بأن هذا المجادل النضر أو أبو
(9/117)
________________________________________
جهل ما أصابه يوم بدر، ومن عمم. وهو الأولى. حمله على ذم المؤمنين إياه وإفحامهم له عند البحث وعدم إدلائه بحجة أصلا أو على هذا مع ما يناله من النكال كالقتل لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد.
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار البالغة في الإحراق، والإضافة على ما قيل من إضافة المسبب إلى السبب، وفسر الحريق أيضا بطبقة من طباق جهنم، وجوز أن تكون الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والمراد العذاب الحريق أي المحرق جدا، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه تعالى «وأذيقه» بهمزة المتكلم.
ذلِكَ أي ما ذكر من ثبوت الخزي له في الدنيا وإذاقة عذاب الحريق في الأخرى، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي بسبب ما اكتسبته من الكفر والمعاصي، وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي، وجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وأن يكون مفعولا لفعل محذوف أي فعلنا ذلك إلخ وهو خلاف الظاهر، والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في محل نصب مفعولة لقول محذوف وقع حالا أي قائلين أو مقولا له ذلك إلخ، وعلى الأول يكون في الكلام التفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الظاهر أنه عطف على ما وبه قال بعضهم، وفائدته الدلالة على أن سببية ما اقترفوا من الذنوب لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ما اقترفوه إلا أن لا يعذبهم بما اقترفوا، وحاصله أن تعذيب العصاة يحتمل أن يكون لذنوبهم ويحتمل أن يكون لمجرد إرادة عذابهم من غير ذنب فجيء بهذا لرفع الاحتمال الثاني وتعيين الأول للسببية لا لرفع احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم لأنه جائز بل بعض الآيات تدل على وقوعه في حق بعض العصاة، ومرجع ذلك في الآخرة إلى تقريع الكفر وتبكيتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم كأنه قيل: إن ذلك العذاب إنما نشأ من ذنوبكم التي اكتسبتموها لا من شيء آخر.
واختار العلامة أبو السعود أن محل أن وما بعدها الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، وقال في العطف: للدلالة على أن سببية إلخ أنه ليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه، نعم لو كان المدعي كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك انتهى. وتعقب قوله: إن إمكان إلخ بأن الكلام ليس في منافاة ذينك الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وقوله نعم لو كان المدعي إلخ بأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المذنبين بأنه لا سبب لتعذيبهم إلا من قبلهم فالقول بالاحتياج في صورة الجميع وبعدمه في صورة الخصوصية ركيك جدا، وتعقب أيضا بغير ذلك، والقول بالاعتراض وإن كان لا يخلو عن بعد أبعد عن الاعتراض، والتعبير عن نفي تعذيبه تعالى لعبيده من غير ذنب، بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، وقيل: هي لرعاية جمعية العبيد فتكون للمبالغة كمّا لا كيفا. واعترض بأن نفي المبالغة كفيما كانت توهم المحال، وقيل: ويجوز أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفيا للمبالغة، واعترض بأن ذلك ليس مثل القيد المنفصل الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي، وجعله قيدا في التقدير لأنه بمعنى
(9/118)
________________________________________
ليس بذي ظلم عظيم أو كثير تكلف لا نظير له، وقيل: إن ظلاما للنسبية أي ليس بذي ظلم ولا يختص ذلك بصيغة فاعل فقد جاء «وليست بذي رمح ولست بنبال» وقيل غير ذلك.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائنا على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية، وقوله تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ إلخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه، والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاصف وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه وأهله أو ماله انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي مستوليا على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يمينا وشمالا ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبال، وهو معنى قوله في الكشاف: طار على وجهه وجعله في الكشف كناية عن الهزيمة، وقيل هو هاهنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن، وأيّا ما كان فالمراد ارتد رجع عن دينه إلى الكفر.
أخرج البخاري وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.
وأخرج ابن مردويه عن ابي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أقلني فقال عليه الصلاة والسلام: إن الإسلام لا يقال فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت هذه الآية،
وضعف هذا ابن حجر، وقيل: نزلت في شيبة ابن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة والسلام وارتد بعد ظهوره وروي ذلك عن ابن عباس، وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ جملة مستأنفة أو بدل من «انقلب» كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي ابي حيان، والمعنى فقد الدنيا والآخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم «خاسر» بزنة فاعل منصوبا على الحال لأن إضافته لفظية، وقرىء «خاسر» بالرفع على أنه فاعل «انقلب» وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه، وقيل: إنه من التجريد ففيه مبالغة، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر، والجملة واردة على الذم والشتم ذلِكَ أي ما ذكر من الخسران، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون، وقيل إن أداة البعد لكون المشار إليه غير مذكور صريحا هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الواضح كونه خسرانا لا غير يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل استئناف ناع عليه بعض قبائحه، وقيل استئناف مبين لعظم الخسران، ويجوز أن يكون حالا من فاعل انْقَلَبَ وما تقدمه اعتراض، وأيا ما كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى: ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ والمراد بالدعاء العبادة أي يعبد متجاوزا عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده، وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جمادا ليس من شأنه الضر والنفع، ويلوح بكون المراد جمادا كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما ذلِكَ أي الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق.
(9/119)
________________________________________
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا مع إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة ونفيه عنه بطريق التسبب أيضا فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولا له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ وضَرُّهُ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر والجملة صلة له، وقوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر (من) أي يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققا من نفعه: والله لبئس الذي يتخذ ناصرا ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمّه ما لا يخفى، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل، وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه.
وقد ذهب إليه أيضا جار الله، جوز أن يكون يَدْعُوا هنا إعادة ليدعو السابق تأكيدا له وتمهيدا لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا والله لبئس المولى إلخ، ولا تناقض عليه أيضا إذا الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخبارا من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به. ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه.
واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولا سيما في التوكيد اللفظي، وقال الأخفش: إن يَدْعُوا بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي، والجملة محكية بالقول. واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها.
وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم. نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أدل عليه، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه، وقيل:
يَدْعُوا مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولا مع اعتقاد. واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق، والجملة في محل نصب بيدعو، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه.
وقال الفراء: إن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو. وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول، وقال ابن الحاجب: قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله يَدْعُوا من ضره بإسقاط اللام، وقيل يَدْعُوا بمعنى يسمي (ومن) مفعوله الأول
(9/120)
________________________________________
ومفعوله الثاني محذوف أي إلها، ولا يخفى عليك ما فيه، وقيل إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي، ونقل هذا عن الفارسي أيضا، وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقا أن يكون موصولا، وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من، وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي دعوه، والجملة في موضع الحال والتقدير ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ مدعوا وفيه مع بعده أن يَدْعُوا لا يقدر بمدعوا وإنما يقدر بداعيا والذي يقدر بمدعوا إنما هو يدعى المبني للمفعول، وقيل يَدْعُوا عطف على يدعو الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و (من) مفعول يَدْعُوا وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبادة وإما بمعنى النداء، والمراد وما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه، وإما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى، وبالجملة أحسن الوجوه أولها.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ استئناف لبيان كمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى وأنه تعالى يتفضل عليهم بالنعيم الدائم إثر بيان غاية سوء حال الكفرة. وجملة تَجْرِي إلخ صفة لجنات فإن أريد بها الأشجار المتكاثفة السائرة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وإن جعلت عبارة عن مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل كما في إرشاد العقل السليم.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ تعليل لما قبله وتقرير يطريق التحقيق أي هو تعالى يفعل البتة كل ما يريده من الأفعال المتقنة المبنية على الحكم الرائقة التي من جملتها إثابة من آمن به وصدق برسوله صلّى الله عليه وسلّم وعقاب من كفر به وكذب برسوله عليه الصلاة والسلام.
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الضمير في يَنْصُرَهُ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما روي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختاره الفراء والزجاج كأنه لما ذكر المجادل بالباطل وخذلانه في الدنيا لأنه لا يدلي بحجة ما ضرورية أو نظرية أو سمعية ولما يؤول إليه أمره من النكال، وفي الآخرة بما هو أطم وأطم ثم ذكر سبحانه مشايعيه وعمم خسارهم في الدارين ذكر في مقابلهم المؤمنين وأتبعه ذكر المجادل عنهم وعن دين الله تعالى بالتي هي أحسن وهو رسوله عليه الصلاة والسلام، وبالغ في كونه منصورا بما لا مزيد عليه، واختصر الكلام دلالة على أنه صلّى الله عليه وسلّم العلم الذي لا يشتبه وأن الكلام فيه وله ومعه وإن ذكر غيره بتبعية ذكره، فالمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته وإدخال من صدقه جنات تجري من تحتها الأنهار والانتقام ممن كذبه وإذاقته عذاب الحريق لا يصرفه سبحانه عن ذلك صارف ولا يعطفه عنه عاطف فمن كان يفيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يريده من المكائد فليبالغ في استفراغ المجهود وليتجاوز في الجد كل حد معهود فقصارى أمره خيبة مساعيه وعقم مقدماته ومباديه وبقاء ما يغيظ على حاله ودوام شجوه وبلباله، وقد وضع مقام هذا الجزاء.
قوله سبحانه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلخ أي فليمدد حبلا إِلَى السَّماءِ أي إلى سقف بيته كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي ليختنق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من قطع إذا اختنق كان أصله قطع نفسه بفتحتين أو أجله ثم ترك المفعول نسيا منسيا فصار بمعنى اختنق لازم خنقه، وذكروا أن
(9/121)
________________________________________
قطع النفس كناية عن الاختناق، وقيل المعنى ليقطع الحبل بعد الاختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ تقدير النظر وتصويره وإلا فبعد الاختناق لا يتأتى منه ذلك أي فليقدر في نفسه النظر هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر، ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه، وجوز أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأول ممن يصح منه النظر، وأن يكون الكلام خارجا مخرج التهكم كما قيل إن تسمية فعله ذلك كيدا خارجة هذا المخرج، وقال جمع: إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهه به فإن الكائد إذا كاد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه ذلك العدو الحسود، ونقل عن ابن زيد أن المعنى فليمدد حبلا إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي عنه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ليقطع المسافة حتى يبلغ عنان السماء فيجهد في دفع نصره عليه الصلاة والسلام النازل من جهتها. وتعقبه المولى أبو السعود بأنه يأباه مساق النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعا، ونوقش في ذلك بما لا يخفى على الناظر، نعم المعنى السابق هو الأولى، وأيا ما كان فمن يظن ذلك هم الكفرة الحاسدون له صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: أعراب من أسلم. وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد عليه الصلاة والسلام فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا، وقيل: قوم من المسلمين كانوا لشدة غيظهم من المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من النصر والمعنى عليه وكذا على سابقه أن قيل إن أولئك الأعراب كانوا يستبطئون النصر أيضا من استبطأ نصر الله تعالى وطلبه عاجلا فليقتل نفسه لأن له وقتا اقتضت الحكمة وقوعه فيه فلا يقع في غيره، وأنت تعلم بعد هذين القولين وأن ثانيهما أبعده.
واستظهر أبو حيان كون ضمير ينصره عائدا على من لأنه المذكور وحق الضمير أن يعود على مذكور، وهو قول مجاهد وإليه ذهب بعضهم وفسر النصر بالرزق، قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصرة الله تعالى وقالوا: أرض منصورة أي ممطورة، وقال الفقعسي:
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ... ولا تملك الشيء الذي أنت ناصره
أي معطيه وكأنه مستعار من النصر بمعنى العون فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا والغرض الحث على الرضا بما قسم الله تعالى لا كمن يعبده على حرف وكأنه سبحانه لما ذكر المؤمنين عقيبهم على ما مر حذرهم عن مثل حالهم لطفا في شأنهم. ولا يخلو عن بعد وإن كان ربط الآية بما قبلها عليه قريبا، وقيل: الضمير لمن والنصر على المتبادر منه والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله تعالى فيغتاظ لانتفاء نصره فليحتل بأعظم حيلة في نصر الله تعالى إياه وليستفرغ جهده في إيصال النصر إليه فلينظر هل يذهبن ذلك ما يغيظه من انتفاء النصر. ولا يخفى ما في وجه الربط على هذا من الخفاء.
ومن كما أشرنا إليه شرطية، وجوز أن تكون موصولة والفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط وهل يذهبن في محل نصب بينظر، وذكر أنه على إسقاط الخافض، وقرأ البصريون وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بسكونها على تشبيه ثم بالواو والفاء لأن الجميع عواطف وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الكريم كله آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فالمشار إليه الإنزال المذكور بعد اسم الإشارة، ويجوز أن يكون المراد انزل الآيات السابقة. وأيا ما كان ففيه أن القرآن الكريم في
(9/122)
________________________________________
جميع أبوابه كامل البيان لا في أمر البعث وحده. ونصب آياتٍ على الحال من الضمير المنصوب وقوله تعالى:
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ بتقدير اللام وهو متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا إفادة للحصر الإضافي أي ولأن الله تعالى يهدي به ابتداء أو يثبت على الهدى أو يزيد فيه من يريد هدايته أو ثباته أو زيادته فيها أنزله كذلك أو في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله يهدي إلخ.
وجوز أن يكون معطوفا على محل مفعول أَنْزَلْناهُ أي وأنزلناه أن الله يهدي إلخ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بما ذكر من المنزل بهداية الله تعالى أو بكل ما يجب أن يؤمن به ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ هم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور، وفي القاموس هم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار، وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الصابئة كانوا على عهد ابراهيم عليه السلام ويقال لمقابليهم الحنفاء وكانوا يقولون: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأمره وأحكامه جل شأنه إلى متوسط روحاني لا جسماني.
ومدار مذاهبهم على التعصب للروحانيات وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها ولما لم يتيسر لهم التقرب إلى أعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السبع السيارات وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات وصائبة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام. وقد أفحم إبراهيم عليه السلام كلتا الفرقتين وألزمهم الحجة.
وذكر في موضع آخر أن ظهورهم كان في أول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس، ولفظ الصابئة عربي من صبا كمنع وكرم صبا وصبوءا خرج من دين إلى آخر وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ هم على ما روي عن قتادة أيضا قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، واقتصر بعضهم على وصفهم بعبادة الشمس والقمر، وآخرون على وصفهم بعبادة النيران. وقيل: هم قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح. وقيل: قوم أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا وهم قائلون بأن للعالم أصلين نورا وظلمة. وفي كتاب الملل والنحل ما يدل على أنهم طوائف وأنهم كانوا قبل اليهود والنصارى وأنهم يقولون بالشرائع على خلاف الصابئة وأن لهم شبهة كتاب وأنهم يعظمون النار، وفيه أن بيوت النيران للمجوس كثيرة فأول بيت بناه أفريدون بيت نار بطوس، وآخر بمدينة بخارى هو بردسون، واتخذ بهمن بيتا بسجستان يدعى كركو، ولهم بيت نار ببخارى أيضا يدعى قبادان وبيت نار يسمى كونشه بين فارس وأصفهان بناه كيخسرد.
وآخر بقومش يسمى جرير. وبيت نار كيكدر بناه في مشرق الصين، وآخر بأرجان من فارس اتخذه أرجان جد كشتاسف، وكل هذه البيوت كانت قبل زرادشت. ثم جدد زرادشت بيت نار بنيسا بعد كشتاسف أن تطلب النار التي كان يعظمها جم فوجدوها بمدينة خوارزم فنقلها إلى دارابجرد والمجوس يعظمونها أكثر من غيرها وكيخسرد، ولما غزا افراسياب عظمها وسجد لها. ويقال: إن أنوشروان هو الذي نقلها إلى كارشان فتركوا بعضها هناك وحملوا بعضها إلى نسا. وفي بلاد الروم على باب قسطنطينية بيت نار اتخذه شابور بن أزدشير فلم تزل كذلك إلى أيام المهدي.
وبيت نار باسفيتا على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى. وفي الهند والصين بيوت نيران أيضا والمجوس إنما يعظمون النار لمعان. منها أنها جوهر شريف علوي يظنون أن ذلك ينجيهم من عذاب نار يوم القيامة ولم يدروا أن ذلك السبب الأعظم لعذابهم اهـ.
وفيه ما لا يخفى على من راجع التواريخ. وفي القاموس مجوس كصبور رجل صغير الأذنين وضع دينا ودعا إليه
(9/123)
________________________________________
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
معرب ميخ وكوش. وفي الصحاح المجوسية نحلة والمجوسي نسبة إليها والجمع المجوس. قال أبو علي النحوي:
المجوس واليهود إنما عرفا على حد يهودي ويهود ومجوسي ومجوس فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما لأنهما معرفتان مؤنثان فجريا في كلامهم مجرى القبلتين ولم يجعلا كالحيين في باب الصرف. وأنشد:
أحار أريك برقا هبّ وهنا ... كنار مجوس يستعر استعارا
انتهى. وذكر بعضهم أن مجوس معرب موكوش وأطلق على أولئك القوم لأنهم كانوا يرسلون شعور رؤوسهم إلى آذانهم. ونقل في البحر أن الميم بدل من النون، وأطلق ذلك عليهم لاستعمالهم النجاسات وهو قول لا يعول عليه وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا المشهور أنهم عبدة الأوثان، وقيل ما يعمهم وسائر من عبد مع الله تعالى إلها آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة وأدخلت إن على كل واحد من جزئي الجملة لزيادة التأكيد كما في قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
وقيل: خبر إن الأولى محذوف أي مفترقون يوم القيامة أو نحو ذلك مما يدل عليه قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلخ فإن قولك: إن زيدا إن عمرا يضربه رديء، والبيت لا يتعين فيه جعل الجملة المقترنة بأن خبرا بل يجوز أن تكون معترضة والخبر جملة به تزجى الخواتيم، ولا يخفى عليك بعد تسليم الرداءة أن الآية ليست كالمثال المذكور لطول الفاصل فيها، قال في البحر: وحسن دخول إن في الجملة الواقعة خبرا في الآية طول الفصل بالمعاطيف، وقال الزجاج: زعم قوم أن قولك: إن زيدا أنه قائم رديء وأن هذه الآية إنما صلحت بتقدم الموصول ولا فرق بين الموصول وغيره في باب إن وليس بين البصريين خلاف في أن إن تدخل على كل مبتدأ وخبر فعلى هذا لا ينبغي العدول عن الوجه المتبادر، والمراد بالفصل القضاء أي إنه تعالى يقضي بين المؤمنين والفرق الخمس المتفقة على الكفر بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما، وقيل: المراد أنه تعالى يفصل بين الفرق الست في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بلا تفاوت بل يجزي المؤمنين بما يليق واليهود بما يليق بهم وهكذا ولا يجمعهم في موطن واحد بل يجعل المؤمنين في الجنة وكلا من الفرق الكافرة في طبقة من طبقات النار، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تعليل لما قبله من الفصل أي إنه تعالى عالم بكل شيء من الأشياء ومراقب لأحواله ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة وإجراء جزائه اللائق به عليه.
(9/124)
________________________________________
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلخ بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق مع الاشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة، وجوز أن يكون تنويرا لكونه تعالى شهيدا على كل شيء، وقيل: هو تقريع على اختلاف الكفرة واستبعاد له لوجوب الصارف، والمراد بالرؤية العلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك. والمراد بالسجود دخول الأشياء تحت تسخيره تعالى وإرادته سبحانه وقابليتها لما يحدث فيها عزّ وجلّ، وظاهر كلام الآمدي أنه معنى حقيقي للسجود. وفي مفردات الراغب السجود في الأصل التطامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد. وذلك ضربان بأن سجود باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات. وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر انتهى.
وذكر بعضهم أنه كما خص في الشريعة بذلك خص في عرف اللغة به. وقال ابن كمال: إن حقيقته على ما نص عليه في المجمل وضع الرأس، وقال العلامة الثاني: حقيقته وضع الجبهة لا الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجدا، وعلى هذين القولين على علاتهما قيل السجود هنا مجاز عن الدخول تحت تسخيره تعالى والانقياد لإرادته سبحانه. وجوز أن يكون مجازا عن دلالة لسان حال الأشياء بذلتها وافتقارها على صانعها وعظمته جلت عظمته، ووجه التنوير على هذا ظاهر وكذا التقريع على الاختلاف. ومَنْ إما خاصة بالعقلاء وإما عامة لهم ولغيرهم بطريق التغليب وهو الأولى لأنه الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم لكل ما فيهما بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما، ويكون قوله تعالى:
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ أفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها بحسب الظاهر في بادىء النظر القاصر كما قيل أو لأنها قد عبدت من دون الله تعالى إما باعتبار شخصها أو جنسها.
فالشمس عبدتها حمير والقمر عبدته كنانة وعبد الدبران من النجوم تميم والشعري لخم وقريش، والثريا طيىء، وعطاردا أسد والمرزم ربيعة، وعبد أكثر العرب الأصنام المنحوتة من الجبال. وعبدت غطفان العزى وهي سمرة واحدة السمر شجر معروف، ومن الناس من عبد البقر. وقرأ الزهري وابن وثاب «الدّواب» بتخفيف الباء. وخص ابن جني في المحتسب هذه القراءة بالزهري، وقال: لا أعلم من خففها سواء وهو قليل ضعيف قياسا وسماعا لأن التقاء الساكنين على حده وعذره كراهة التضعيف ولذا قالوا في ظللت ظلت وقالوا جان بالتخفيف وذكر له نظائر كثيرة.
(9/125)
________________________________________
وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس سجود الطاعة المعروف. واعترض بأنه صرح في المغني بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقة لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف. وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدر قد يكون لازما للمذكور نحو زيدا ضربت غلامه أي أهنت زيدا ولا يكون مشتركا كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمة فيصح إذا اتحدا لفظا وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى، وعطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه.
واستدل بذلك على جواز استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والجواب ما علمت، ولا يجوز العطف وجعل السجود في الجميع بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على العظمة لأن ذلك عام لجميع الناس فلا يليق حينئذ ذكر كَثِيرٌ وغير العام إنما هو السجود بالمعنى المعروف فيفيد ذكر كَثِيرٌ إذا أريد أن منهم من لم يتصف بذلك وهو كذلك، وما قيل: إنه يجوز أن يكون تخصيص الكثير على إرادة السجود العام للدلالة على شرفهم والتنويه بهم ليس بشيء إذ كيف يتأتى التنويه وقد قرن بهم غير العقلاء كالدواب، وقال ابن كمال:
تمسك من جوز حمل المشترك في استعمال واحد على أكثر من معنى بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ الآية بناء على أن المراد بالسجود المنسوب إلى غير العقلاء الانقياد لتعذر السجود المعهود في حقه ومن المنسوب إليهم ما هو المعهود دون الانقياد لأنه شامل للكل غير مخصوص بالكثير ولا متمسك لهم في ذلك لأن كلا من التعليلين في معرض المنع، أما الأول فلأن حقيقة السجود وضع الرأس ولا تعذر في نسبته إلى غير العقلاء ولا حاجة إلى إثبات حقيقة الرأس في الكل لأن التغليب سائغ شائع، وأما الثاني فلأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا حظ لهم من الانقياد لأن المراد منه الإطاعة بما ورد في حقه من الأمر تكليفيا كان أو تكوينيا على وجه ورد به الأمر وتقدير فعل آخر في هذا المقام من ضيق العطن كما لا يخفى على أرباب الفطن انتهى. وفيه القول بجواز العطف على كلا معنى السجود وضع الرأس والانقياد وبيان فائدة تخصيص الكثير على الثاني، ولا يخفى أن المتبادر من معتبرات كتب اللغة أن السجود حقيقة لغوية في الخضوع مطلقا وأن ما ذكره من حديث التغليب خلاف الظاهر وكذا حمل الانقياد على ما ذكره، وقد أخذ رحمه الله تعالى كلا المعنيين من التوضيح وقد أسقط مما فيه ما عنه غنى، وما زعم أنه من ضيق العطن هو الذي ذهب إليه أكثر القوم وعليه يكون مِنَ النَّاسِ صفة كَثِيرٌ وأورد أنه حينئذ يرد أن سجود الطاعة المعروف لا يختص بكثير من الناس فإن كثيرا من الجن متصف به أيضا، وكونهم غير مكلفين خلاف القول الأصح. نعم يمكن أن يقال: إنهم لم يكونوا مأمورين بالسجود عند نزول الآية وعلى مدعيه البيان، والقول بأنه يجوز أن يراد بالناس ما يعم الجن فإنه يطلق عليهم حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ليس بشيء. ومن الناس من أجاب عن ذلك بأن يسجد المقدر داخل في الرؤية وقد قالوا: المراد بها العلم والتعبير بها عنه للإشعار بظهور المعلوم وظهور السجود بمعنى الدخول تحت التسخير في الأشياء المنسوب هو إليها مما لا سترة عليها وكذا ظهوره بمعنى السجود المعروف في كثير من الناس، وأما في الجن فليس كذلك فلذا وصف الكثير بكونه من الناس. وتعقب بأن الخطاب في أَلَمْ تَرَ لمن يتأتى منه ذلك ولا سترة في ظهور أمر السجود مطلقا بالنسبة إليه. ورد بأن مراد المجيب في أن سجود الجن ليس بظاهر في نفس الأمر ومع قطع النظر عن المخاطب كائنا من كان ظهور دخول
(9/126)
________________________________________
الأشياء المذكورة أولا تحت التسخير بخلاف سجود كثير من الناس فإنه ظاهر ظهور ذلك في نفس الأمر فخص الكثير بكونه من الناس ليكون الداخل في حيز الرؤية من صقع واحد من الظهور في نفس الأمر.
وقيل المقام يقتضي تكثير الرائين لما يذكر في حيز الرؤية والتخصيص أوفق بذلك فلذا خص الكثير بكونهم من الناس والكل كما ترى، والأولى أن يقال: تخصيص الكثير من الناس بنسبة السجود بالمعنى المعروف إليهم على القول بأن كثيرا من الجن كذلك للتنويه بهم، ولا يرد عليه ما مر لأنه لم يقرن بهم في هذا السجود غير العقلاء فتأمل، وقيل:
إن كَثِيرٌ مرفوع على الابتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حق له الثواب ويفيد الكلام كثرة الفريقين والأول أولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة للحق المعبود، وجوز أن يكون كَثِيرٌ مبتدأ ومِنَ النَّاسِ خبره والتعريف فيه للحقيقة والجنس أي وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون، وقال الراغب: قد يذكر الناس ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا، وذلك إذا اعتبر معنى الانسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه والمخصص للمبتدأ النكرة أنه صفة محذوف بالحقيقة على أن المعادلة من المخصصات إذا قلت رجال مكرمون ورجال مهانون لأنه تفصيل مجمل فهو موصوف تقديرا ولأن كلا من المقابلين موصوف بمغايرة الآخر فهذا داخل في الوصف المعنوي، وأن يكون كَثِيرٌ مبتدأ ومِنَ النَّاسِ صفته وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ معطوف عليه وقوله سبحانه: حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي ثبت وتقرر خبر، ويكون الكلام على حد قولك: عندي ألف وألف أي ألوف كثيرة ومثله شائع في كلامهم فيفيد كثرة من حق عليه العذاب من الناس، وهذان الوجهان بعيدان، وقال في البحر: ضعيفان.
والظاهر أن كَثِيرٌ الثاني مبتدأ والجملة بعده خبره وقد أقيمت مقام لا يسجد فكأنه قيل ويسجد كثير من الناس ولا يسجد كثير منهم، ولا يخفى ما في تلك الإقامة من الترهيب عن ترك السجود والطاعة، ولا يخفى ما في عدم التصريح بتقييد الكثير بكونه من الناس مما يقوي دعوى أن التقييد فيما تقدم للتنويه، وحمل عدم التقييد ليعم الكثير من الجن خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون معطوفا على من والسجود بأحد المعنيين السابقين وجملة حَقَّ إلخ صفته ويقدر وصف لكثير الأول بقرينة مقابله أي حق له الثواب ومِنَ النَّاسِ صفة له أيضا، ولا يخفى ما فيه، وقرىء «حقّ» بضم الحاء و «حقا» أي حق عليه العذاب حقا فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن كتب الله تعالى عليه الشقاء حسبما استعدت له ذاته من الشر، ومن مفعول مقدر ليهن فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بالسعادة.
وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر ميمي كما في القاموس أي مما له إكرام، وقيل اسم مفعول بمعنى المصدر ولا حاجة إلى التزامه، وقيل يجوز أن يكون باقيا على ما هو الشائع في هذه الصيغة من كونه اسم مفعول، والمعنى ما له من يكرم ويشفع فيه ليخلص من الإهانة. ولا يخفى بعده إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة، وهذا أولى من تخصيص ما بقرينة السياق بهما.
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ تعيين لطرفي الخصام وتحرير لمحله فالمراد بهذان فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي ما يؤيد ذلك وبه يتعين كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع من عطف عليهم، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة جاء اخْتَصَمُوا بصيغة الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» مراعاة اللفظ خَصْمانِ وهو تثنية خصم وذكروا أنه في الأصل مصدر يستوي
(9/127)
________________________________________
فيه الواحد المذكر وغيره، قال أبو البقاء: وأكثر الاستعمال توحيده فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء، وعن الكسائي أنه قرأ «خصمان» بكسر الخاء، ومعنى اختصامهم في ربهم اختصامهم في شأنه عزّ شأنه، وقيل في دينه، وقيل في ذاته وصفاته والكل من شؤونه تعالى واعتقاد كل من الفريقين حقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أقواله وأفعاله عليه يكفي في تحقق خصومته للفريق الآخر ولا يتوقف عن التحاور.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: تخاصمت المؤمنون واليهود فقالت اليهود: نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله تعالى آمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله تعالى من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت.
وأخرج جماعة عن قتادة نحو ذلك واعترض بأن الخصام على هذا ليس في الله تعالى بل في أيهما أقرب منه عزّ شأنه. وأجيب بأنه يستلزم ذلك وهو كما ترى وقيل عليه أيضا: إن تخصيص اليهود خلاف مساق الكلام في هذا المقام. وفي الكشف قالوا: إن هذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس من أن الآية ترجع إلى أهل الأديان الستة في التحقيق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر هم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأنت تعلم أن هذا الاختصام ليس اختصاما في الله تعالى بل منشؤه ذلك فتأمل ولا تغفل.
وأما ما قيل من أن المراد بهذين الخصمين الجنة والنار فلا ينبغي أن يختلف في عدم قبوله خصمان أو ينتطح فيه كبشان، وفي الكلام كما قال غير واحد تقسيم وجمع وتفريق فالتقسيم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله تعالى- وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا والجمع إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلى قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والتفريق في قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ إلخ أي أعد لهم ذلك، وكأنه شبه أعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا ثياب حقيقة، وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم وكون بعضها فوق بعض.
وجوز أن يكون ذلك لمقابلة الجمع بالجمع والأول أبلغ، وعبر بالماضي لأن الأعداد قد وقع فليس من التعبير بالماضي لتحققه كما في «نفخ في الصور» .
وأخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب وليس شيء حمي في النار أشد حرارة منه فليست الثياب من نفس النار بل من شيء يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أقبحها كسوة. ولذا قال وهب:
يكسى أهل النار والعري خير لهم. وقرأ الزعفراني في اختياره «قطعت» بالتخفيف والتشديد أبلغ.
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار الذي انتهت حرارته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو سقط من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، وفسره ابن جبير بالنحاس المذاب، والمشهور التفسير السابق، ولعله إنما جيء بمن ليؤذن بشدة الوقوع والجملة مستأنفة أو خبر ثان للموصول أو في موضع الحال المقدرة من ضمير لَهُمْ يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ من الأمعاء والأحشاء.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وجماعة عن أبي هريرة أنه تلا هذه
(9/128)
________________________________________
الآية فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق إلى قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» .
وقرأ الحسن وفرقة «يصهّر» بفتح الصاد وتشديد الهاء، والظاهر أن قوله تعالى: وَالْجُلُودُ عطف على ما وتأخيره عنه قيل إما لمراعاة الفواصل أو للإشعار بغاية شدة الحرارة بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر مع أن ملابستها على العكس، وقيل إن التأثير في الظاهر غني عن البيان وإنما ذكر للإشارة إلى تساويهما ولذا قدم الباطن لأنه المقصود الأهم، وقيل التقدير ويحرق الجلود لأن الجلود لا تذاب وإنما تجتمع على النار وتنكمش، وفي البحر أن هذا من باب علفتها تبنا وماء باردا. وقال بعضهم: لا حاجة إلى التزام ذلك فإن أحوال تلك النشأة أمر آخر، وقيل يُصْهَرُ بمعنى ينضج، وأنشد:
تصهره الشمس ولا ينصهر وحينئذ لا كلام في نسبته إلى الجلود، والجملة حال من الْحَمِيمُ أو مستأنفة.
وَلَهُمْ أي للكفرة، وكون الضمير للزبانية بعيد، واللام للاستحقاق أو للفائدة تهكما بهم، وقيل للأجل، والكلام على حذف مضاف أي لتعذيبهم، وقيل بمعنى على كما في قوله تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ [غافر: 52] أي وعليهم.
مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف. وفي مجمع البيان هي مدقة الرأس من قمعه قمعا إذا ردعه، وفسرها الضحاك وجماعة بالمطارق، وبعضهم بالسياط.
وفي الحديث «لو وضع مقمع منها في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض»
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي أشرفوا على الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهبها فترفعهم فإذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا، فالإرادة مجاز عن الإشراف والقرب كما في قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] وجعل بعضهم ضمير مِنْها للثياب وهو ركيك، وقوله تعالى: مِنْ غَمٍّ بدل اشتمال من ضمير مِنْها بإعادة الجار والرابط محذوف والتنكير للتفخيم، والمراد من غم عظيم من غمومها أو مفعول له للخروج أي كلما أرادوا الخروج منها لأجل غم عظيم يلحقهم من عذابها، والغم أخو الهم وهو معروف، وقال بعضهم: هو هنا مصدر غممت الشيء أي غطيته أي كلما أرادوا أن يخرجوا من تغطية العذاب لهم أو مما يغطيهم من العذاب أُعِيدُوا فِيها أي في قعرها بأن ردوا من أعاليها إلى أسافلها من غير أن يخرجوا منها إذ لا خروج لهم كما هو المشهور من حالهم، واستدل له بقوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ [البقرة: 167، المائدة: 37] وفي اختيار فِيها دون إليها إشعار بذلك، وقيل الإعادة مجاز عن الإبقاء، وقيل التقدير كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا أعيدوا فيها فالإعادة معلقة على الخروج وحذف للإشعار بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة ويجوز أن يحصل لهم، والمراد من قوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ نفي الاستمرار أي لا يستمرون على الخروج لا استمرار النفي، وكثيرا ما يعدى العود بفي لمجرد الدلالة على التمكن والاستقرار، وقال بعضهم: إن الخروج ليس من النار وإنما هو من الأماكن المعدة لتعذيبهم فيها، والمعنى كلما أراد أحدهم أن يخرج من مكانه المعد له في النار إلى مكان آخر منها فخرج منه أعيد فيه وهو كما ترى، وهذه الإعادة على ما قيل بضرب الزبانية إياهم بالمقامع، وقوله تعالى: وَذُوقُوا على تقدير قول معطوف على أُعِيدُوا أي وقيل لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ قد مر الكلام فيه، والأمر للاهانة.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بيان لحسن حال
(9/129)
________________________________________
المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة، وغير الأسلوب فيه بإسناد الإدخال إلى الاسم الجامع وتصدير الجملة بحرف التحقيق وفصلها للاستئناف إيذانا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهارا لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقيق مضمون الكلام يُحَلَّوْنَ فِيها بالبناء للمفعول والتشديد من التحلية بالحلي أي تحليهم الملائكة عليهم السلام بأمره تعالى، وقوله تعالى: مِنْ أَساوِرَ قيل متعلق بيحلون، ومِنْ ابتدائية والفعل متعد لواحد وهو النائب عن الفاعل، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول محذوف ومن للبيان والفعل متعد لاثنين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر الموصوف المحذوف أي يحلون حليا أو شيئا من أساور، وعلى القول بتعدي هذا الفعل لاثنين جوز أن تكون من للتبعيض واقعة موقع المفعول، وأن تكون زائدة على مذهب الأخفش من جواز زيادتها في الإيجاب وأَساوِرَ مفعول يُحَلَّوْنَ وقوله تعالى: مِنْ ذَهَبٍ صفة لأساور، ومِنْ للبيان، وقيل: لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب، وقيل: للتبعيض، وتعلقه بيحلون لا يخفى حاله، وقرىء «يحلون» بضم الياء والتخفيف، وهو على ما في البحر بمعنى المشدد، ويشعر كلام بعض أنه متعد لواحد وهو النائب الفاعل فمن أساور متعلق به ومن ابتدائية.
وقرأ ابن عباس «يحلون» بفتح الياء واللام وسكون الحاء من حليت المرأة إذا لبست حليها. وقال أبو حيان: إذا صارت ذات حلي، وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حلي بعيني يحلى إذا استحسنته وهو في الأصل من الحلاوة وتكون من حينئذ زائدة، والمعنى يستحسنون فيها الأساور، وقيل: هذا الفعل لازم ومن سببية، والمعنى يحلى بعضهم بعين بعض بسبب لباس أساور الذهب.
وجوز أبو الفضل أن يكون من حليت به إذا ظفرت به، ومنه قولهم: لم يحل فلان بطائل، ومن حينئذ بمعنى الباء أي يظفرون فيها بأساور من ذهب. وقرأ ابن عباس «من أسور» بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرف لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنع الصرف، قد تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف فتذكر، وقوله تعالى: وَلُؤْلُؤاً عطف على محل مِنْ أَساوِرَ أو على الموصوف المحذوف، وحمله أبو الفتح على إضمار فعل أي ويؤتون لؤلؤا أو نحو ذلك.
وقرأ أكثر السبعة والحسن في رواية وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة «ولؤلؤا» بالخفض عطفا على أَساوِرَ أو على ذَهَبٍ لأن السوار قد يكون من ذهب مرصع بلؤلؤ وقد يكون من لؤلؤ فقط كما رأيناه ويسمى في ديارنا حضرا أو أكثر ما يكون من المرجان. واختلفوا هل في الإمام ألف بعد الواو فقال الجحدري: نعم، وقال الأصمعي: لا، وروى يحيى عن أبي بكر همز الآخر وقلب الهمزة الأولى واوا، وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك.
وقرأ الفياض «لوليا» قلب الهمزتين واوين فصارت الثانية واوا قبلها ضمة وحيث لم يكن في كلامهم اسم متمكن آخره واو قبلها ضمة قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس «وليليا» بقلب الهمزتين واوين ثم قبلهما ياءين، أما قلب الثانية فلما علمت وأما قلب الأولى فللاتباع. وقرأ طلحة «ولول» كادل في جمع دلو قلبت الهمزتان واوين ثم قلبت ضمة اللام كسرة والواو ياء ثم أعل إعلال قاض وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف التحلية فإنها ليست من لوازمهم الضرورية فلذا جعل بيانها مقصودا بالذات. ولعل هذا هو السر في تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس قاله العلامة شيخ الإسلام، ولم يرتض ما قيل: إن التغيير لدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل، وظاهر كلامهم أن الجملة معطوفة على السابقة، وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير يُحَلَّوْنَ ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة،
(9/130)
________________________________________
وقيل هو باعتبار الأغلب لما
أخرج النسائي وابن حبان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه»
وحديث عدم لبس ذلك له في الآخرة مذكور في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
والظاهر أن حرمة استعمال الحرير للرجال في غير ما استثني مجمع عليها وأنه يكفر من استحل ذلك غير متأول، ولعل
خبر البيهقي في سننه. وغيره عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولم يدخل الجنة»
إن صح محمول على ما إذا كان اللبس محرما بالإجماع وقد استحله فاعله من غير تأويل أو على أن المراد لم يدخل الجنة مع السابقين وإلا فعدم دخول اللابس مطلقا الجنة مشكل.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر: 74] كما روي عن ابن عباس، وقيل: ما يعمه وسائر ما يقع في محاورة أهل الجنة بعضا لبعض، وقيل: إن هذه الهداية في الدنيا فالطيب قول لا إله إلا الله، وفي رواية عن ابن عباس ذلك مع زيادة والحمد لله، وزاد ابن زيد والله أكبر، وعن السدي هو القرآن، وحكى الماوردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: ما يعم ذلك وسائر الأذكار وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي المحمود جدا، وإضافة صِراطِ إليه قيل بيانية. والمراد به الإسلام فإنه صراط محمود من يسلكه أو محمود هو نفسه أو عاقبته، وقيل: الجنة وإطلاق الصراط عليها باعتبار أنها طريق للفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل: الْحَمِيدِ هو الجنة والإضافة على ظاهرها، والمراد بصراطها الإسلام أو الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة، واستظهر أن المراد من الحميد هو الله عز وجل المستحق لذاته لغاية الحمد. والمراد بصراطه تعالى الإسلام فإنه طريق إلى رضوانه تعالى. وقيل: الجنة فإنها طريق للفوز بما تقدم وأضيفت إليه تعالى للتشريف. وحاصل ما قالوه هنا أن الهداية تحتمل أن تكون في الآخرة وأن تكون في الدنيا. وأن المراد بالحميد إما الحق تعالى شأنه وإما الجنة وإما الصراط نفسه، وبالصراط إما الإسلام وإما الجنة وإما الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة.
ووجهوا تأخير هذه الجملة عن الجملة الأولى تارة بأنه لرعاية الفواصل وأخرى بأن ذكر الحمد الذي تضمنته الأولى يستدعي ذكر المحمود ولا يبعد أن يقال: إن الهداية في الجملتين في الآخرة بعد دخول الجنة وإن الإضافة هنا بيانية وإن المراد بالقول الطيب القول الذي تستلذه النفوس الواقع في محاورة أهل الجنة بعضهم لبعض. وبالصراط الحميد ما يسلكه أهل الجنة في معاملة بعضهم بعضا من الأفعال التي يحمدون عليها أو مما أعم من ذلك. فحاصل الجملة الأولى وصف أهل الجنة بحسن الأقوال. وحاصل الثانية وصفهم بحسن الأفعال أو مما هو أعم منها ومن الأقوال. وكأنه تعالى بعد أن ذكر حسن مسكنهم وحليهم ولباسهم ذيل ذلك بحسن معاملة بعضهم بعضا في الأقوال والأفعال إيماء إلى أن ما هم فيه لا يخرجهم إلى خشونة المقال ورداءة الأفعال المشينتين لحسن ما هم فيه والمنفضتين للذة الاجتماع. ووجه التقديم والتأخير على هذا غير خفي على الفطن. والذي اختاره أن القول الطيب قولهم بعد دخول الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر: 34، 35] لقوله تعالى: في سورة [فاطر: 33، 34] بعد قوله سبحانه: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلخ والقرآن يفسر بعضه بعضا. وأن المراد بالصراط الحميد ما يعم الأقوال والأفعال الجارية بين أهل الجنة مما يحمد سلوكه في المعاشرة
(9/131)
________________________________________
والاجتماع في هاتيك البقاع فرارا من شائبة التأكيد كما لا يخفى على ذكر فكر سديد فتأمل هديت إلى صراط الحميد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وعيد لصنف من الكفرة، وحسن عطف المضارع على الماضي لما أنه لم يرد بالمضارع حال أو استقبال كما في قولهم: فلان يحسن إلى الفقراء فإن المراد به استمرار وجود الإحسان، وقيل يَصُدُّونَ بمعنى صدوا إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية تهويلا لأمر الصد، وقيل لا عطف بل الجملة خبر مبتدأ محذوف والمجموع في موضع الحال من فاعل كَفَرُوا أي وهم يصدون، وجوز أن تكون الجملة حالا من غير تقدير مبتدأ لشبهها بالجملة الاسمية معنى وخبر إن محذوف للدلالة آخر الآية الكريمة عليه أي نذيقهم من عذاب أليم، وقدره الزمخشري بعد الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لما فيه من الفصل بين الصفة وهو الْمَسْجِدِ والموصوف وهو الَّذِي.
وأجيب باحتمال أنه جعل الَّذِي نعتا مقطوعا، وقدره ابن عطية بعد وَالْبادِ هو أولى إلا أنه قدر خسروا أو هلكوا وتقدير نذيقهم إلخ أولى منه، وقيل الواو في وَيَصُدُّونَ زائدة والجملة بعده خبر إن.
وتعقبه ابن عطية بأنه مفسد للمعنى المراد وغيره بأن البصريين لا يجيزون زيادة الواو والقول بجواز زيادتها قول كوفي مرغوب عنه، والظاهر أن الْمَسْجِدِ عطف على سَبِيلِ وجوز أن يكون معطوفا على الاسم الجليل، والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم عام الحديبية عن المسجد الحرام فكره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل، والمراد بالمسجد الحرام مكة وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها، ويدل على ذلك قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي كائنا من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي المقيم فيه والطارئ فإن الإقامة لا تكون في المسجد نفسه بل في منازل مكة وفي وصفه بذلك زيادة التشنيع على الصادين عنه، وقد استشهد بعض الأئمة بالآية على عدم جواز بيع دور مكة وإجارتها وإلا لما استوى العاكف فيها والباد، وقد ورد التصريح بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة،
فروي من عدة طرق أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مكة حرمها الله تعالى لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها»
وذكر ابن سابط أن دور أهل مكة كانت بغير أبواب حتى كثرة السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه قال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وأخرج ابن ماجه وابن أبي شيبة عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه لأن الناس في الانتفاع بها سواء، وجاء صدره من رواية الدارقطني مرفوعا وفي النهاية لا بأس ببيع بناء مكة ويكره بيع أرضها وهذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عنه أيضا وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وعليه الفتوى. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وجاز بيع بناء بيوت مكة وأرضها بلا كراهة وبه قال الشافعي وبه يفتي عيني. وفي البرهان في باب العشر ولا يكره بيع أرضها كبنائها وبه يعمل. وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية لا بأس ببيع بنائها وإجارتها لكن في الزيلعي وغيره يكره إجارتها، وفي آخر الفصل الخامس من التتار خانية وإجارة الوهبانية قال أبو حنيفة: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم وكان يفتي لهم أن
(9/132)
________________________________________
ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ورخص فيها في غير أيام الموسم انتهى فليحفظ، قلت: وبهذا يظهر الفرق والتوفيق انتهى.
والذي يفهم من غاية البيان أن القول بكراهة إجازة بيوتها أيام الموسم مما لم ينفرد به الإمام بل وافقه عليه صاحباه حيث نقل عن تقريب الإمام الكرخي ما نصه وروى هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غيره، وكذا قال أبو يوسف، وقال هشام: أخبرني محمد عن أبي حنيفة أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم ويقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إن كان فيها فضل وإن لم يكن فلا وهو قول محمد انتهى.
والذي تحرر مما رأيناه من أكثر معتبرات كتب ساداتنا الحنفية أن جواز بيع بناء البيوت متفق عليه لأنه ملك لمن بناه كمن بنى في أرض الوقف بإذن المتولي، ولا يقال: إنه بناء غاصب كمن بنى بيتا في جامع لظهور الإذن هنا دونه ثمة، وكذا كراهة الإجارة في أيام الموسم وأما بيع الأرض فعند الإمامين جائز بلا كراهة قولا واحدا وعن الإمام روايتان الجواز وعدمه والمفتي به الجواز، ومستند من يجوز من الكتاب الجليل هذه الآية. وأجاب أصحاب الشافعي عنها أن المسجد الحرام في المطاف والعاكف في المعتكف للعبادة المعدود من أهل المسجد لملازمته له أظهر، وكذلك المساواة في أنه من شعائر الله تعالى المنصوبة لكل عاكف وباد أوضح وهو المقابل للموصوف بالصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام خاصة فما كانوا يصدون عن مكة ولا أن الصد عنها لغير مريد النسك معصية وأي مدخل لحديث التمليك وعدمه في هذا المساق.
والاستدراك بأن له مدخلا على سبيل الإدماج وإشارة النص كلام لا طائل تحته، وقد فسر سَواءً بما فسر كذا في الكشف، وقد جرت مناظرة بمكة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه الحنظلي وكان إسحاق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: 4] فأضيفت الديار إلى مالكيها
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»
وبأنه قد اشترى عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها قال إسحاق: فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي، وأجاب بعضهم أن الإضافة إلى مالكي منفعة السكنى وأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى البناء دون الأرض وأرضى بالثمن من أنفق مالا فيه لحاجة العامة وللإمام من ذلك ما ليس لغيره. وتعقب بأن الاستدلال بالظاهر والعدول عن الظاهر دون سند أقوى غير ملتفت إليه، ولذا قال ابن راهويه: وهو أحد أركان المسلمين وعلم من أعلام الدين ما قال.
والظاهر أن الأخبار المصرحة بتحريم البيع والإجارة لم تصح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعند من قال بمثل قوله ونصب سَواءً على أنه مفعول ثان لجعلنا، والأول الضمير الغائب المتصل والْعاكِفُ مرتفع به لأنه بمعنى مستو وإن كان في الأصل مصدرا، ومن كلامهم مررت برجل سواء هو والعدم، واللام ظرف لما عنده.
وجوز أن يكون لِلنَّاسِ في موضع المفعول الثاني أي جعلناه مباحا للناس أو معبدا لهم وسَواءً حالا من الهاء وكذا يكون حالا إذا لم يعد الجعل إلى مفعولين.
وقرأ الجمهور «سواء» بالرفع على أنه خبر «والعاكف» مبتدأ، وضعف العكس لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة، والجملة في موضع المفعول الثاني أو الحال، وجوز أن تكون تفسيرية لجعله للناس وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي «سواء» بالنصب «العاكف» فيه بالجر، ووجه النصب ما تقدم، ووجه جر «العاكف» أنه بدل تفصيل
(9/133)
________________________________________
من الناس، وقيل: هو عطف بيان. وقرىء «والبادي» بإثبات الياء وصلا ووقفا، وقرىء بتركها فيهما وبإثباتها وصلا وحذفها وقفا وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول أي ومن يرد فيه شيئا ما أو مرادا ما، وقدر ابن عطية المفعول الناس أي ومن يرد فيه الناس.
وقوله تعالى: بِإِلْحادٍ أي عدول عن القصد أي الاستقامة المعنوية، وأصله إلحاد الحافر بِظُلْمٍ بغير حق حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار والباء فيهما للملابسة، أو الأول حال والثاني متعلق به والباء فيه للسببية أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام، وقال أبو عبيدة: الباء زائدة و «إلحاد» مفعول يُرِدْ وأنشد عليه قول الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وأيد بقراءة الحسن «ومن يرد إلحاده بظلم» وهي على معنى إلحادا فيه إلا أنه توسع فقيل إلحاده، وقال أبو حيان: الأولى أن يضمن يُرِدْ معنى يتلبس وتجعل الباء للتعدية. وقرأت فرقة يرد بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء أي من أتى فيه بإلحاد إلخ، وتفسير الإلحاد بما ذكر هو الظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام، وكذا المراد بالظلم عند جمع وجمعهما على هذا للتأكيد، وقيل: المراد بذلك الشرك ولم يرتضه ابن أبي مليكة، فقد أخرج عبد ابن حميد أنه سئل عن قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ إلخ فقال: ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء أعلاج من أهل البصرة إلى أعلاج من أهل الكوفة فزعموا أنها الشرك.
وأخرج أبو داود وغيره عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه
، وهو من ذكر بعض الأفراد لاقتضاء الحال إياه، وجعل بعضهم من ذلك دخوله من غير إحرام، وروي عن عطاء تفسير الإلحاد به.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد قال: كان لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل فقيل له فقال: نحدث أن من الإلحاد فيه لا والله بلى والله نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جواب لمن الشرطية. والظاهر أن الوعيد على إرادة ذلك مطلقا فيفيد أن من أراد سيئة في مكة ولم يعملها يحاسب على مجرد الإرادة وهو قول ابن مسعود وعكرمة وأبي الحجاج، وقال الخفاجي: الوعيد على الإرادة المقارنة للفعل لا على مجرد الإرادة لكن في التعبير بها إشارة إلى مضاعفة السيئات هناك والإرادة المصممة مما يؤاخذ عليها أيضا وإن قيل إنها ليست كبيرة، وقد روي عن مالك كراهة المجاورة بمكة انتهى. وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد، فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات، وقال رحمه الله تعالى. سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده.
والظاهر أن هذه الإذاقة في الآخرة، وقيل كان قبل أن يستحله أهله تعجل العقوبة في الدنيا لمن قصده بسوء:
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية. حدثنا رجل سمعه من عقب المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه أن أيما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال: إنما يوفى استحلاله من قبل أهله، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما ينفعك في هذا المطلب، وحد بعضهم الحرام بقوله:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه

وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانه
(9/134)
________________________________________
ومن يمن سبع بتقديم سينه ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
وأما المسجد الحرام فيطلق على الحرم كله عند عطاء فيكون حده ما ذكره. وفي البحر العميق عن أبي هريرة قال: إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام إلى آخر المسعى، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزوة إلى مخرج مسيل جياد، وقد ذكروا أن طول المسجد اليوم أربعمائة ذراع وأربعة أذرع وعرضه ثلاثمائة ذراع. وحكي أنه لم يكن كذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن له جدار يحيط به فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وسع المسجد واشترى دورا فهدمها وأدخلها فيه ثم أحاط عليه جدارا قصيرا دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه، ثم لما استخلف عثمان اشترى دورا أيضا ووسع بها وبنى المسجد والأروقة، ثم إن عبد الله بن الزبير زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته، ومن ذلك بعض دار الأزرقي اشتراه بسبعة آلاف دينار، ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه لكن رفع جدار المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام، ثم إن المنصور زاد في شقه الشامي وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام، ثم زاد المهدي بعده مرتين وكانت الكعبة في جانب المسجد فأحب أن تكون في الوسط فاشترى دورا وزاد في المسجد ووسطها كذا ذكره النووي.
وفي البحر العميق أن زيادة المهدي هي التي تلي دار الندوة خلف مقام الحنفي، ثم لما انتهت الدولة إلى سلاطين آل عثمان أبقى الله تعالى دولتهم ما دام الدوران لم يألوا جهدا في خدمته والسعي في مرمته.
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي اذكر لهؤلاء الكفرة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام وقت جعلنا مكان البيت مباءة لجدهم إبراهيم عليه السلام أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ويقال بوأه منزلا إذا أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول جيء باللام فهي للتعدية، ومَكانَ مفعول به.
وقال الزجاج: المعنى بيتا له مكان البيت ليبنيه ويكون مباءة له ولعقبه يرجعون إليه ويحجونه، والأول مروي عن ابن عباس، وقيل: اللام زائدة في المفعول به ومَكانَ ظرف لبوأنا. واعترض بأن اللام إنما تزاد إذا قدم المعمول أو كان العامل فرعا وشيء منهما متحقق هاهنا وأن مَكانَ الْبَيْتِ ظرف معين فحقه أن يتعدى الفعل إليه بفي، وفيه نظر كما يعلم من كتب العربية، وقيل: مفعول بَوَّأْنا محذوف أي بوأنا الناس واللام في لِإِبْراهِيمَ لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له والمعول عليه ما قدمنا، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة، والمكان المتعارف ما يستقر عليه الشيء ويمنعه من النزول والعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها، وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر، ويعبر عن مكان الشيء ببيته، والمراد بالبيت بيت الله عز وجل الكعبة المكرمة، وقد بنيت خمس مرات، إحداها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان، والثانية بناء إبراهيم عليه السلام. روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشفت عن أسه القديم فبنى عليه، والثالثة بناء قريش في الجاهلية، وقد حضره النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من خرج فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلّى الله عليه وسلّم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة، والرابعة بناء عبد
(9/135)
________________________________________
الله بن الزبير، والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع والذراع أربع وعشرون إصبعا والإصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون: وأما طوها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعا وكذا ما بين اليماني والغربي، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعا، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبّب بالصفائح من الفضة، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع، والميزاب في وسط جدار الحجر. وعرض الملزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبعا، وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة، وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلا للملتزم أربعة أذرع وخمس أصابع، وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع، وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي. وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذرعا وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة، والباقي كان زر بالغنم سيدنا إسماعيل عليه السلام فأدخلوه في الحجر، وما بين بابي الحجر عشرون ذراعا، وعرض جدار الحجر ذراعان، وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعا ومن خارجه أربعون ذراعا وست أصابع، وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حول الكعبة، والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا، وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآمدي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه، وإنا لنرجو من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه، وأَنْ في قوله تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً قيل مفسرة، والتفسير باعتبار أن
التبوئة من أجل العبادة فكأنه قيل أمرنا إبراهيم عليه السلام بالعبادة وذلك فيه معنى القول دون حروفه أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ، وقال ابن عطية: مخففة من الثقيلة وكأنه لتأويل بوأناه بأعلمناه فلا يرد عليه أنه لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح.
وقال أبو حيان: الأولى أن تكون الناصبة وكما توصل بالمضارع توصل بالماضي والأمر والنهي انتهى، وحينئذ لا تنصب لفظا، وقول أبي حاتم: لا بد من نصب الكاف على هذا رده في الدر المصون أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئا، والظاهر أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام، ويؤيده قراءة عكرمة وأبي نهيك «أن لا يشرك» بالياء التحتية وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ المراد بالطهارة ما يشمل الحسية والمعنوية أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي عنده، ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء التطهير أو التبوئة على ما قيل: فكيف وقد اجتمعت أو للتنصيص على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية إذ اجتماع هذه الأركان ليس إلا في صلاتهم، ولم يعطف السجود لأنه من جنس الركوع في الخضوع، ويجوز أن يكون الْقائِمِينَ بمعنى المقيمين و (الطائفين) بمعنى الطارئين فيكون المراد بالركع السجود فقط المصلين إلا أن المتبادر من الطائفين ما ذكر أولا وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ أي ناد فيهم بِالْحَجِّ بدعوة الحج والأمر به،
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «لما فرغ ابراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: رب قد فرغت فقال:
أذن في الناس بالحج قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ قال: رب كيف أقول؟ قال: قل يا أيها الناس
(9/136)
________________________________________
كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه أهل السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد يلبون»
وجاء في رواية أخرى عنه أنه عليه السلام صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجاب أهل اليمن فليس حاج بحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من أجاب يومئذ إبراهيم عليه السلام، وفي رواية أنه قام على الحجر فنادى، وعن مجاهد أنه عليه السلام قام على الصفا، وفي رواية أخرى عنه أنه عليه السلام تطاول به المقام حتى كان كأطول جبل في الأرض فأذن بالحج
، ويمكن الجمع بتكرر النداء، وأيا ما كان فالخطاب لإبراهيم عليه السلام. وزعم بعضهم أنه لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك في حجة الوداع وروي ذلك عن الحسن وهو خلاف الظاهر جدا ولا قرينة عليه، وقيل: يأباه كون السورة مكية وقد علمت ما فيه أولها.
وقرأ الحسن وابن محيصن و «آذن» بالمد والتخفيف أي أعلم كما قال البعض، وقال آخرون: المراد به هنا أوقع الإيذان لأنه على الأول كان ينبغي أن يتعدى بنفسه لا بفي فهو كقوله: «يجرح في عراقيبها نصلي» .
وقال ابن عطية: قد تصحفت هذه القراءة على ابن جني فإنه حكي عنهما «وآذن» فعلا ماضيا وجعله معطوفا على بَوَّأْنا وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بتصحيف بل قد حكى ذلك أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه، وقرأ ابن أبي إسحاق «بالحج» بكسر الحاء حيث وقع، وقوله تعالى: يَأْتُوكَ جزم في جواب الأمر وهو أَذِّنْ على القراءتين وطَهِّرْ على الثالثة كما قال صاحب اللوامح: وإيقاع الإتيان على ضميره عليه السلام لكون ذلك بندائه، والمراد يأتوا بيتك، وقوله سبحانه: رِجالًا في موضع الحال أي مشاة جمع راجل كقيام جمع قائم.
وقرأ ابن أبي إسحاق «رجالا» بضم الراء والتخفيف وروي ذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع لراجل كطؤار لطائر أو هو جمع نادر، وروي عن هؤلاء وابن عباس ومحمد بن جعفر ومجاهد رضي الله تعالى عنهم «رجالا» بالضم والتشديد على أنه جمع راجل كتاجر وتجار، وعن عكرمة أنه قرأ «رجالى» كسكارى وهو جمع رجلان أو راجل، وعن ابن عباس وعطاء وابن حدير مثل ذلك إلا أنهم شددوا الجيم. وقوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عطف على رِجالًا أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد الشقة فهزله أو زاد هزاله، والضامر يطلق على المذكر والمؤنث، وعدل عن ركبانا الأخضر للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة.
وفي الآية دليل على جواز المشي والركوب في الحج، قال ابن العربي: واستدل علماؤنا بتقديم رِجالًا على أن المشي أفضل، وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة أنه قال: ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر أسمع الله تعالى يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فبدأ بالرجال قبل الركبان، وفي ذلك
حديث مرفوع فقد أخرج ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عنه أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة مائة ألف حسنة»
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أن ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجّا وهما ماشيان.
وقال ابن الفرس: واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجب الحج على من في طريقه بحر ولا طريق له سواه لكونه لم يذكر في الآية. وتعقب بأنه استدلال ضعيف لأن مكة ليست على بحر وإنما يتوصل إليها على إحدى الحالين مشي
(9/137)
________________________________________
أو ركوب، وأيضا في دلالة عدم الذكر على عدم الوجوب نظر، وقوله تعالى: يَأْتِينَ صفة لضامر أو لكل، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل وركبانا على ضوامر يأتين، وكُلِّ هنا للتكثير لا للإحاطة وما قيل من أنها إذا أضيفت لنكرة لم يراع معناها إلا قليلا ردوه بهذه الآية ونظائرها، وكذا ما قيل إنه يجوز إذا كانا في جملتين لأن هذه جملة واحدة.
وجوز أبو حيان أن يكون الضمير شاملا لرجال وكُلِّ ضامِرٍ والجملة صفة لذلك على معنى الجماعات والرفاق. وتعقب بأنه يلزمه تغليب غير العقلاء عليهم وقد صرحوا بمنعه. نعم قرأ عبيد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة «يأتون» واعتبار التغليب فيه على بابه، والمشهور جعل الضمير لرجالا وركبانا فلا تغليب، وجوز جعل الضمير للناس والجملة استئنافية مِنْ كُلِّ فَجٍّ أي طريق كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وأبي العالية وهو في الأصل شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع وكأنهم جردوه عن معنى السعة لأنه لا يناسب هنا بل لا يخلو من خلل عَمِيقٍ أي بعيد وبه فسره الجماعة أيضا، وأصله البعيد سفلا وهو غير مناسب هنا.
وقرأ ابن مسعود «معيق» قال الليث: يقال عميق معيق لتميم وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقة ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق لِيَشْهَدُوا متعلق بيأتوك، وجوز أبو البقاء تعلقه. بأذن. أي ليحضروا مَنافِعَ عظيمة الخطر كثيرة العدد فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير. ويجوز أن يكون للتنويع أي نوعا من المنافع الدينية والدنيوية، وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين مما ذهب إليه جمع وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات، وخص مجاهد منافع الدنيا بالتجارة فهي جائزة للحاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر، واعترض بأن نداءهم ودعوتهم لذلك مستبعد، وفيه نظر، على أنه إنما يتأتى على ما جوزه أبو البقاء، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه تخصيص المنافع بالأخروية، وفي رواية عن ابن عباس تخصيصها بالدنيوية والتعميم أولى لَهُمْ في موضع الصفة لمنافع أي منافع كائنة لهم وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند النحر فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ أي مخصوصات وهي أيام النحر كما ذهب إليه جماعة منهم أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة وعدتها ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده عندنا وعند الثوري وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس. وأنس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها، وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار التي يعول عليها تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وقال الشافعي والحسن وعطاء: أربعة أيام يوم العيد وثلاثة بعده
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق كلها أيام ذبح»
وعند النخعي وقت النحر يومان، وعند ابن سيرين يوم واحد، وعند أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم ولم نجد في ذلك مستندا يعول عليه. واستدل بذكر الأيام على أن الذبح لا يجوز ليلا، قال أبو حيان:
وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي انتهى. والمذكور في كتب الأصحاب أنه يجوز الذبح إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل.
وأما الاستدلال على عدم الجواز بذكر الأيام فكما ترى، وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وإليه ذهب أبو حنيفة عليه الرحمة وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة ولعل المراد بذكر اسمه تعالى على هذا ما قيل حمده وشكره عز وجل وعلى الأول قول الذابح: بسم الله والله أكبر على ما روي عن قتادة، وذكر أنه يقال مع ذلك:
اللهم منك ولك عن فلان، وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر. ورجح كونه بمعنى الشكر بأنه أوفق بقوله تعالى: عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.
(9/138)
________________________________________
واختار الزمخشري أن الذكر على بهيمة الأنعام أو مطلقا على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم كناية عن النحر، وذكر أنه دل بذلك على المقصود الأصلي من النحر وما يميزه عن العادات. وأومأ فيه إلى أن الأعمال الحجية كلها شرعت للذكر. وأنه قيل: عَلى ما رَزَقَهُمْ إلى آخره تشويقا في التقرب ببهيمة الأنعام المراد بها الإبل والبقر والضأن والمعز إلى الرازق وتهوينا عليهم في الإنفاق مع ما في ذلك من الإجمال والتفسير، وظرفية الأيام المعلومات على القول بأنها عشر ذي الحجة للنحر باعتبار أن يوم النحر منها، وقد يقال مثل ذلك على تقدير إيفاء الذكر على ما يتبادر منه فَكُلُوا مِنْها التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة أي فاذكروا اسم الله تعالى على ضحاياكم فكلوا من لحومها، والأمر للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا. وقد قالوا: إن الأمر بعد المنع يقتضي الإباحة، ويدل على سبق النهي
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادّخروا»
وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها، وهذا على ما قال الخفاجي مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، وعن مجاهد وعكرمة تفسيره بالذي يمد كفيه إلى الناس يسأل الْفَقِيرَ أي المحتاج، والأمر للندب عند الإمام على ذكره الخفاجي أيضا، ويستحب كما في الهداية أن لا ينقص ما يطعم عن الثلث لأن الجهات الأكل والإطعام الثابتان بالآية والادخار الثابت بالحديث فتقسم الأضحية عليها أثلاثا وقال بعضهم: لا تحديد فيما يؤكل أو يطعم لإطلاق الآية، وأوجب الشافعية الإطعام وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب أيضا. وتخصيص البائس الفقير بالإطعام لا ينفي جواز إطعام الغني، وقد يستدل على الجواز بالأمر الأول لإفادته جواز أكل الذابح ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ هو في الأصل الوسخ والقذر، وعن قطرب تفث الرجل كثر وسخه في سفره، وقال أبو محمد البصري: التفث من التف وهو وسخ الأظفار وقلبت الفاء ثاء كما في مغثور، وفسره جمع هنا بالشعور والأظفار الزائدة ونحو ذلك، والقضاء في الأصل القطع والفصل وأريد به الإزالة مجازا أي ليزيلوا ذلك بتقليم الأظفار والأخذ من الشوارب والعارضين كما في رواية عن ابن عباس ونتف الإبط وحلق الرأس والعانة، وقيل: القضاء مقابل الأداء والكلام على حذف مضاف أي ليقضوا إزالة تفثهم، والتعبير بذلك لأنه لمضي زمان إزالته عد الفعل قضاء لما فات. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه قال: التفث النسك كله من الوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، والقضاء على هذا بمعنى الأداء كأنه قيل: ثم ليؤدوا نسكهم. وكان التعبير عن النسك بالتفث لما أنه يستدعي حصوله فإن الحجاج ما لم يحلوا شعث غبر وهو كما ترى، وقد يقال: إن المراد من إزالة التفث بالمعنى السابق قضاء المناسك كلها لأنها لا تكون إلا بعده فكأنه أراد أن قضاء التفث هو قضاء النسك كله بضرب من التجوز ويؤيده ما أخرجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قضاء التفث قضاء النسك كله.
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، وعن ابن عباس تخصيص ذلك بما ينذرونه من نحر البدن، وعن عكرمة هي مواجب الحج، وعن مجاهد ما وجب من الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج فالنذر بمعنى الواجب مطلقا مجازا. وقرأ شعبة عن عاصم «وليوفوا» مشددا وَلْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث بالمعنى السابق، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وجماعة بل قال الطبري وإن لم يسلم له: لا خلاف بين المتأولين في أنه طواف الإفاضة ويكون ذلك يوم النحر، وقيل: طواف الصدر وهو طواف الوداع وفي عدة من المناسك خلاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(9/139)
________________________________________
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سمى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط»
وإلى هذا ذهب ابن أبي نجيح وقتادة وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل: له رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصد أبرهة فأصابه ما أصابه، وأما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولعل ما وقع من القرامطة وإن أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم سنين من هذا القبيل، ويقال فيما يكون آخر الزمان من هدم الحبشة إياه وإلقاء أحجاره في البحر إن صح: إن ذلك من أشراط الساعة التي لا ترد نقضا على الأمور التي قيل باطرادها، وقيل: في الجواب غير ذلك. وعن مجاهد أنه إنما سمي بذلك لأنه لم يملك موضعه قط، وفي رواية أخرى عنه أن ذلك لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان، وعن ابن جبير أن العتيق بمعنى الجيد من قولهم:
عتاق الخيل وعتاق الطير، وقيل: فقيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ونسبة الإعتاق إليه مجاز لأنه تعالى يعتق رقابهم بسبب الطواف به، وقال الحسن وابن زيد: العتيق القديم فإنه أول بيت وضع للناس وهذا هو المتبادر إلا أنك تعلم أنه إذا صح الحديث لا يعدل عنه، ثم إن حفظه من الجبابرة وبقاءه الدهر الطويل معظما يؤتى من كل فج عميق بمحض إرادة الله تعالى المبنية على الحكم الباهرة.
وبعض الملحدين زعموا أنه بنى في شرف زحل والطالع الدلو أحد بيتيه وله مناظرات سعيدة فاقتضى ذلك حفظه من الجبابرة وبقاءه معظما الدهر الطويل ويسمونه لذلك بيت زحل، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا، وسنبين إن شاء الله تعالى خطأ من يقول بتأثير الطالع أتم بيان والله تعالى المستعان
(9/140)
________________________________________
ذلِكَ أي الأمر، وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد، والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] وكقول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط النديّ إذا ما ناطق نطقا
واختيار ذلِكَ هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الاقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله، وقيل: هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة وهو ما يحترم شرعا، والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه، وقال جمع: هي ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد، وتعظيمها أن لا يحوم حولها، وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام والمسجد الحرام، والبيت الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل فَهُوَ أي فالتعظيم خَيْرٌ لَهُ من غيره على أن خَيْرٌ اسم تفضيل. وقال أبو حيان: الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق، ومعنى كونه خيرا له عِنْدَ رَبِّهِ أنه يثاب عليه يوم القيامة، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير مَنْ لتشريفه والإشعار بعلة الحكم.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة، والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق، وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن ما عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى. وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بناء على أن ما عبارة عما حرم في قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] الآية، وفيه ما ليس من جنس الأنعام، والفعل على الوجهين لم يرد منه لاستقبال لسبق تلاوة آية التحريم، وكأن التعبير بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لمزيد الاعتناء، وقيل: التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أي القذر مِنَ الْأَوْثانِ أي الذي هو الأوثان على أن من بيانية.
وفي تعريف الرِّجْسَ بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الاجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من المبالغة في التنفير عن عبادتها، وقيل: من لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عاما ثم عين سبحانه
(9/141)
________________________________________
لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وفي البحر يمكن أن تكون للتبعيض بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكان للوثن جهات، منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية: إن من جعل من للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى. ولا يخفى ما في كلا الوجهين الابتداء والتبعيض من التكلف المستغني عنه، وهاهنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريبا، والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ إلخ من جوب مراعاة الحرمات والاجتناب عن هتكها.
وذكر أن بالاستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل الأنعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغني عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وهو عبادة الأوثان، وقيل: الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر، والإشراك بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن مَنْ سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى ويؤيده قوله تعالى: فيما بعد غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكرارا انتهى. وأورد على ما ادعى ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه. وأما ما ادعى عدم بعده فبعيد جدا وإنكار ذلك مكابرة فتأمل.
وقوله تعالى وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الاستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، ولم يعطف قول الزور على الرجس بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء، والمراد من الزور مطلق الكذب وهو من الزور بمعنى الانحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية، وقيل: هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائما قال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية.
وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالتخصيص. ولا يخفى أن التعميم أو منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام حُنَفاءَ لِلَّهِ مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي شيئا من الأشياء فيدخل في ذلك الأوثان دخولا أوليا وهما حالان مؤكدتان من واو فاجتنبوا. وجوز أن يكون حالا من واو وَاجْتَنِبُوا وأخر التبري عن التولي ليتصل بقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ وهي جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الاجتناب من الإشراك، وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الإشراك، وقد شبه الإيمان بالسماء لعلوه
(9/142)
________________________________________
والإشراك بالسقوط منها فالمشرك ساقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفرة وهذا السقوط إن كان في حق المرتد فظاهره وهو في حق غيره باعتبار الفطرة وجعل التمكن والقوة بمنزلة الفعل كما قيل في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وفي ذلك تشبيه الأفكار الموزعة بخطف جوارح الطير وهو مأخوذ من قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: 29] وأصل الخطف الاختلاس بسرعة.
وقرأ نافع «فتخطّفه» بفتح الخاء والطاء مشددة وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش «فتخطّفه» بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضا «تخطفه» بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة، والجملة على هذه القراءة في موضع الحال، وأما على القراءات الأول فالفاء للعطف وما بعدها عطف على خَرَّ وفي إيثار المضارع إشعار باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهدة المخاطب تعجيبا له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدير فهو يخطفه والعطف من عطف الجملة على الجملة أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تسقطه وتقذفه. وقرأ أبو جعفر وأبو رجاء «الرياح» فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة، وفي ذلك تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية وهو مأخوذ من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] فالتشبيه في الآية مفرق. والظاهر أن تَهْوِي عطف على «تخطف» وأو للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار، وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتخطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوي به الريح من مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلا، والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد، وقال ابن المنير: إن الكافر قسمان لا غير، مذبذب متمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفه الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على قطعة منه إلا انتهبها منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قراره على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الاحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر.
وجوز غير واحد أن يكون من التشبيهات المركبة فكأنه سبحانه قال: من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وجعل في الكشف أو على هذا للتخير وليس بمتعين فيما يظهر، وعلى الوجهين تفريق التشبيه وتركيبه في الآية تشبيهان.
وذكر الطيبي أن فيها على التركيب تشبيهين، وتَهْوِي عطف على خَرَّ وعلى التفريق تشبيها واحدا وتَهْوِي عطف على «تخطف» وزعم أن في عبارة الكشاف ما يؤذن بذلك وهو غير مسلم ذلِكَ أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي البدن الهدايا كما روي عن ابن عباس ومجاهد وجماعة وهي جمع شعيرة
(9/143)
________________________________________
أو شعارة بمعنى العلامة كالشعار، وأطلقت على البدن الهدايا لأنها من معالم الحج أو علامات طاعته تعالى وهدايته.
وقال الراغب: لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة يشعر بها، ووجه الإضافة على الأوجه الثلاثة لا يخفى، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان،
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب
، وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار وقد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال: بل اهدها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست الصفا والمروة والبدن والجمار والمسجد الحرام وعرفة والركن، وتعظيمها إتمام ما يفعل بها، وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد: الشعائر مواضع الحج كلها من منى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك وهو نحو قول زيد.
وقيل: هي شرائع دينه تعالى وتعظيمها التزامها، والجمهور على الأول وهو أوفق لما بعد، ومَنْ إما شرطية أو موصولة وعلى التقديرين لا بد في قوله تعالى: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ من ضمير يعود إليها أو ما يقوم مقامه فقيل إن التقدير فإن تعظيمها إلخ، والتعظيم مصدر مضاف إلى مفعوله ولا بد له من فاعل وهو ليس إلا ضميرا يعود إلى مَنْ فكأنه قيل فإن تعظيمه إياها، ومَنْ تحتمل أن تكون للتعليل أي فإن تعظيمها لأجل تقوى القلوب وأن تكون لابتداء الغاية أي فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب، وتقدير هذا المضاف واجب على ما قيل من حيث إن الشعائر نفسها لا يصح الإخبار عنها بأنها من التقوى بأي معنى كانت مَنْ. وقال الزمخشري: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بدّ من راجع من الجزاء إلى مَنْ ليرتبط به اهـ.
وتعقبه أبو حيان بأن ما قدره عار من راجع إلى مَنْ ولذا لما سلك جمع مسلكه في تقدير المضافات قبل التقدير فإن تعظيمها منه من أفعال إلخ أو فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب منهم فجاؤوا بضمير مجرور عائد إلى مَنْ في آخر الكلام أو في أثنائه، بعض من سلك ذلك لم يقدر منه ولا منهم لكن التزم جعل اللام في الْقُلُوبِ بدلا من الضمير المضاف إليه على رأي الكوفيين للربط أي تقوى قلوبهم. والدماميني جعل الرابط في تقدير الزمخشري فاعل المصدر المحذوف لفهم المعنى فلا يكون ما قدره عاريا عن الراجع إلى مَنْ كما زعمه أبو حيان فإن المحذوف المفهوم بمنزلة المذكور.
وقال صاحب الكشف: في الانتصار له أيضا أراد أنه على ما قدره يكون عموم ذوي تقوى القلوب بمنزلة الضمير فتقدير منه كما فعل البيضاوي ليس بالوجه. واعترض صاحب التقريب تقدير المضافين الأخيرين أعني أفعال وذوي بأنه إنما يحتاج إليه إذا جعل (من) للتبعيض وأما إذا جعل للابتداء فلا إذ المعنى حينئذ فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب وهو قول بأحد الوجهين اللذين سمعتهما أولا، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف قال: إن إضمار الأفعال لأن المعنى أن التعظيم باب من التقوى ومن أعظم أبوابها لا أن التعظيم صادر من ذوي تقوى. ومنه يظهر أن الحمل على أن التعظيم ناشىء من تقوى القلوب والاعتراض بأن قول الزمخشري: إنما يستقيم إذا حمل على التبعيض ليس على ما ينبغي على أنه حينئذ إن قدر من تقوى قلوبهم على المذهب الكوفي أو من تقوى القلوب منهم اتسع الخرق على الراقع، ثم التقوى إن جعلت متناولة للأفعال والتروك على العرف الشرعي فالتعظيم بعض البتة وإن جعلت خاصة بالتروك فمنشأ التعظيم منها غير لائح إلا على التجوز انتهى.
(9/144)
________________________________________
واعترض بأن دعواه أن المعنى على أن التعظيم باب من التقوى دون أن التعظيم صادر من ذي تقوى دعوى بلا شاهد. وبأنه لا تظهر الدلالة على أنه من أعظم أبواب التقوى كما ذكره، وبأن القول بعدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير أن يكون التعظيم بعضا من التقوى صلح لا يرضى به الخصم. وبأنه إذا صح الكلام على التجوز لا يستقيم قول الزمخشري: لا يستقيم إلخ.
وتعقب بأنه غير وارد، أما الأول فلأن السياق للتحريض على تعظيم الشعائر وهو يقتضي عده من التقوى بل من أعظمها وكونه ناشئا منها لا يقتضي كونه منها بل ربما يشعر بخلافه، وأما الثاني فلأن الدلالة على الأعظمية مفهومة من السياق كما إذا قلت: هذا من أفعال المتقين والعفو من شيم الكرام والظلم من شيم النفوس كما يشهد به الذوق، وأما الثالث فلأنه لم يدع عدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير كون التعظيم بعضا بل يقول الرابط العموم كما قال أولا، وأما الرابع فلأن صحة الكلام بدون تقدير على التجوز لكونه خفيا في قوة الخطأ إذ لا قرينة عليه والتبعيض متبادر منه فلا غبار إلا على نظر المعترض، وأقول: لا يخفى أنه كلما كان التقدير أقل كان أولى فيكون قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من تقوى القلوب أولى من قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. ومن في ذلك للتبعيض، وما يقتضيه السياق من تعظيم أمر هذا التعظيم يفهم من جعله بعض تقوى القلوب بناء على أن تقييد التقوى بالقلوب للإشارة إلى أن التقوى قسمان: تقوى القلوب والمراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق، وتقوى الأعضاء والمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرا ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه. والتركيب أشبه التراكيب بقولهم: العفو من شيم الكرام فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم من أعظم أبواب التقوى والفرق تحكم. ولعل كون الإضافة لهذه الإشارة أولى من كونها لأن القلوب منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما فتدبر. ومن الناس من لم يوجب تقدر التعظيم وأرجع ضمير فَإِنَّها إلى الحرمة أو الخصلة كما قيل نحو ذلك في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت»
أو إلى مصدر مؤنث مفهوم من يُعَظِّمْ أي التعظيمة.
واعترض هذا بأن المصدر الذي تضمنه الفعل لا يؤنث إلا إذا اشتهر تأنيثه كرحمة وهذا ليس كذلك ونظر فيه.
نعم إن اعتبار ذلك مما لا يستلذه الذوق السليم، ومنه يعلم حال اعتبار التعظيمات بصيغة الجمع، على أنه قيل عليه:
إنه يوهم أن التعظيمة الواحدة ليست من التقوى، ولا يدفعه أنه لا اعتبار بالمفهوم أو أن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى.
وإذا اعتبر المذهب الكوفي في لام الْقُلُوبِ لم يحتج في الآية إلى إضمار شيء أصلا. وذهب بعض أهل الكمال أن إلى الجزاء محذوف تقديره فهم متقون حقا لدلالة التعليل القائم مقامه عليه. وتعقب بأن الحذف خلاف الأصل وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الأعلام والأخبار كما عرف في أمثاله، وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن ومثله كثير في الكتاب الجليل. وقرىء «القلوب» بالرفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو تَقْوَى، واستدل الشيعة ومن يحذو حذوهم بالآية على مشروعية تعظيم قبور الأئمة وسائر الصالحين بإيقاد السرج عليها وتعليق مصنوعات الذهب والفضة ونحو ذلك مما فاقوا به عبدة الأصنام ولا يخفى ما فيه لَكُمْ فِيها أي في الشعائر بالمعنى السابق مَنافِعُ هي درها ونسلها وصوفها وركوب ظهورها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت أن يسميها ويوجبها هديا وحينئذ ليس لهم شيء من منافعها قاله ابن عباس في رواية مقسم ومجاهد وقتادة والضحاك، وكذا عند الإمام أبي حنيفة فإن المهدي عنده بعد التسمية والإيجاب لا يملك منافع الهدي أصلا لأنه لو ملك ذلك لجاز له أن
(9/145)
________________________________________
يؤجره للركوب وليس له ذلك اتفاقا، نعم يجوز له الانتفاع عند الضرورة وعليه يحمل ما
روي عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل يسوق هديه وهو في جهاد فقال عليه الصلاة والسلام: اركبها فقال يا رسول الله: إنها هدي فقال: اركبها ويلك
. وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هديا أن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة إلى أجل مسمى وهو وقت أن تنحر وإلى ذلك ذهب الشافعي،
فعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا»
واعترض على ما تقدم بأن مولى أم الولد يملك الانتفاع بها وليس له أن يبيعها فلم لا يجوز أن يكون الهدي كذلك لا يملك المهدي بيعه وإجارته ويملك الانتفاع به بغير ذلك، وقيل الأجل المسمى وقت أن تشعر فلا تركب حينئذ إلا عند الضرورة.
وروى أبو رزين عن ابن عباس الأجل المسمى وقت الخروج من مكة، وفي رواية أخرى عنه وقت الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها، وقيل الأجل المسمى يوم القيامة ولا يخفى ضعفه. ثُمَّ مَحِلُّها أي وجوب نحرها على أن يكون محل مصدرا ميما بمعنى الوجوب من حل الدين إذا وجب أو وقت نحرها على أن يكون اسم زمان، وهو على الاحتمالين معطوف على مَنافِعُ والكلام على تقدير مضاف.
وقوله تعالى: إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ في موضع الحال أي منتهية إلى البيت، والمراد به ما يليه بعلاقة المجاورة فإنها لا تنتهي إلى البيت نفسه وإنما تنتهي إلى ما يقرب منه، وقد جعلت منى منحرا
ففي الحديث «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر»
وقال القفال: هذا في الهدايا التي تبلغ منى وأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فمنحره موضعه، وقالت الإمامية: منحر هدي الحج منى ومنحر هدي العمرة المفردة مكة قبالة الكعبة بالحزورة، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي وهو وجوب نحرها أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة في كون نفس النحر منفعة، والتراخي الرتبي ظاهر وأما التراخي الزماني فهو باعتبار أول زمان الثبوت فلا تغفل.
والمعنى على القول بأن المراد من الشعائر مواضع الحج لكم في تلك المواضع منافع بالأجر والثواب الحاصل بأداء ما يلزم أداؤه فيها إلى أجل مسمى هو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد أداء ما يلزم في هاتيك المواضع فإضافة المحل إليها لأدنى ملابسة وروي نحو ذلك عن مالك في الموطأ أو لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة أو لكم منافع دنيوية وأخروية إلى وقت المراجعة إلخ، وهكذا يقال على ما روي عن زيد بن أسلم من تخصيصها بالست، وعلى القول بأن المراد بها شرائع الدين لكم في مراعاتها منافع دنيوية وأخروية إلى انقطاع التكليف ثم محلها الذي توصل إليه إذا روعيت منته إلى البيت العتيق وهو الجنة أو محل رعايتها منته إلى البيت العتيق وهو معبد للملائكة عليهم السلام، وكونه منتهى لأنه ترفع إليه الأعمال، وقيل كون محلها منتهيا إلى البيت العتيق أي الكعبة كما هو المتبادر باعتبار أن محل بعضها كالصلاة والحج منته إلى ذلك، وقيل: غير ذلك والكل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الناس فضلا عن كلام رب العالمين، وأهون ما قيل: إن الكلام على هاتيك الروايات متصل بقوله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وضمير فِيها لها وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً عطف على قوله سبحانه: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أو على قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ إلخ وما في البين اعتراض على ما قيل، وكأني بك تختار الأول وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام عليه عند نظير الآية، والمنسك موضع
(9/146)
________________________________________
النسك إذا كان اسم مكان أو النسك إذا كان مصدرا، وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى فجعله مصدرا وحمل النسك على عبادة خاصة وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنى العبادة مطلقا وشاع في أعمال الحج. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير وبر وفسره هنا بالعيد، وقال قتادة: هو الحج. وقال ابن عرفة مَنْسَكاً أي مذهبا من طاعته تعالى.
واختار الزمخشري ما روي عن مجاهد وهو الأوفق أي شرع لكل أهل دين أن يذبحوا له تعالى على وجه التقرب لا لبعض منهم، فتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص. وقرأ الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث «منسكا» بكسر السين، قال ابن عطية وهو في هذا شاذ ولا يجوز في القياس ويشبه (1) أن يكون الكسائي سمعه من العرب، قال الأزهري: الفتح والكسر فيه لغتان مسموعتان لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ خاصة دون غيره تعالى كما يفهمه السياق والسباق، وفي تعليل الجعل بذلك فقط تنبيه على أن المقصود الأهم من شرعية النسك ذكره عز وجل عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فلا يجوز بالخيل ونحوها. والفاء في قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قيل للتعليل وما بعدها علة لتخصيص اسم الله تعالى بالذكر، والفاء في قوله سبحانه: فَلَهُ أَسْلِمُوا لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته عز وجل، وقيل: الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أيضا فإن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكا يدل على وحدانيته جل وعلا، ولا يخفى ما في وجه الدلالة من الخفاء، وتكلف بعضهم في بيانه بأن شرع المنسك لكل أمة ليذكروا اسم الله تعالى يقتضي أن يكون سبحانه إلها لهم لئلا يلزم السفه ويلزم من كونه تعالى إلها لهم أن يكون عز وجل واحدا لأنه لا يستحق الألوهية أصلا من لم يتفرد بها فإن الشركة نقص وهو كما ترى، وفي الكشف لما كانت العلة لقوله سبحانه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ذكر اسمه تعالى على المناسك ومعلوم أن الذكر إنما يكون ذكرا عند مواطأة القلب اللسان وذكر القلب إشعار بالتعظيم جاء قوله تعالى: فَلَهُ أَسْلِمُوا مسببا عنه تسببا حسنا. واعترض بقوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لأنه يؤكد الأمر بالإخلاص ويقوي السبب تقوية بالغة ويؤكد أيضا كون الذكر هو المقصود من شرعية النسك انتهى، وهو يشعر بأن الفاء الأولى للاعتراض والفاء الثانية للترتيب. ولعل ما ذكر أولا أظهر، وأما ما قيل من أن الفاء الأولى للتعليل والمعلل محذوف والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله فإن إلهكم إله واحد فما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى الجليل كما لا يخفى، وإنما قيل: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته وتقديم الجار على الأمر للقصر، والمراد أخلصوا له تعالى الذكر خاصة واجعلوه لوجهه سالما خالصا لا تشوبه بإشراك وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم، والمخبتون المطمئنون كما روي عن مجاهد أو المتواضعون كما روي عن الضحاك. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال سفيان: هم الراضون بقضاء الله. وقال الكلبي: هم المجتهدون في العبارة، وهو من الإخبات وأصله كما قال الراغب: نزول الخبت وهو المطمئن من الأرض، ولا يخفى حسن وقع ذلك هنا من حيث إن نزول الخبت مناسب للحاج الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ أي خافت قُلُوبُهُمْ منه عز وجل لإشراق أشعة الجلال عليها وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكاليف ومؤونات النوائب كالأمراض والمحن والغربة عن الأوطان ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا أيضا، والظاهر أن الصبر
__________
(1) فيه أن القراءة بالرواية فلا تغفل اهـ منه.
(9/147)
________________________________________
على المكاره مطلقا ممدوح. وقال الرازي: يجب الصبر على ما كان من قبل الله تعالى، وأما على ما يكون من قبل الظلمة فغير واجب بل يجب دفعه على من يمكنه ذلك ولو بالقتال انتهى وفيه نظر وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها، ولعل ذكر ذلك هنا لأن السفر مظنة التقصير في إقامة الصلاة. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية «الصلاة» بالنصب على المفعولية لمقيمي وحذفت النون منه تخفيفا كما في بيت الكتاب:
الحافظو عورة العشيرة لا ... تأتيهم من ورائهم نطف (1)
بنصب عورة ونظير ذلك قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم مالك
وقوله:
ابني كليب إن عميّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وقرأ ابن مسعود والأعمش «والمقيمين الصلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل، وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة» بالإفراد والإضافة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فيها وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى، والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهري ناقة أو بقرة تنحر بمكة، وفي القاموس هي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها، وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو ندر نحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن، وقال صاحب البارع من اللغويين: إنها لا تطلق على ما يكون من البقر، وروي ذلك عن مجاهد والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزى عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة، وأيد بما
رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة»
فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخرا تأييد لذلك أيضا، والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الإجزاء متحدا.
ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك، ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر: إن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية، ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما إذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال: أوصى إليّ رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلا أوصى إليّ وأوصى ببدنة فهل تجزي عني بقرة؟ قال: نعم ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت: من رياح قال: ومتى اقتنى بنو رياح البقر إلى الإبل وهم صاحبكم إنما البقر لأسد وعبد القيس فتدبر.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى «البدن» بضم الباء والدال، وقيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه، ورويت هذه القراءة عن نافع وأبي جعفر.
__________
(1) التلطخ بالعيب اهـ منه.
(9/148)
________________________________________
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسما مفردا بني على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب الْبُدْنَ على الاشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها، وقرىء بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: لَكُمْ ظرف متعلق بالجعل، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ في موضع المفعول الثاني له، وقوله تعالى: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس، وعن السدي الاقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك. وقد أخرج ذلك جماعة عن ابن عباس، وفي البحر بأن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك.
صَوافَّ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر. وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن مسعود والباقر ومجاهد وقتادة وعطاء والكلبي والأعمش بخلاف عنه «صوافن» بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون بمعنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وعقلها عند النحر سنّة، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والأكثرون على عقل اليد اليسرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة (1) عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها. وأخرج عن الحسن قيل له: كيف تنحر البدنة؟ قال: تعقل يدها اليسرى إذا أريد نحرها، وذهب بعض إلى عقل اليمنى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى، وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء قال: اعقل أي اليدين شئت.
وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر صَوافَّ بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلا، لكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز وجل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك، ونون الياء عمر وابن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن «صوافي» ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وخرج على وجهين: أحدهما أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلا من الألف، وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا يصرف لا سيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم:
والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا
وقرأ الحسن أيضا «صواف» بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل صَوافَّ صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفي بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها بالتنوين ونحوه.
ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
__________
(1) وكذا أبو اهـ منه.
(9/149)
________________________________________
وقد تبقى الياء ساكنة كما في قوله:
يا باري القوس بريا لست تحسنها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها
وعلى ذلك قراءة بعضهم «صوافي» بإثبات الياء ساكنة بناء على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير عَلَيْها ولو جعل كما قيل بدلا من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة، وأيد به كون البدن من الإبل دون البقر لأنه لم تجر عادة بذبحها قائمة وإنما تذبح مضطجعة وقلما شوهد نحر الإبل وهي مضطجعة فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ولا تعرض لها، وعليه حمل قول لبيد:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع
وَالْمُعْتَرَّ أي المعترض للسؤال من اعتره إذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروي عن ابن عباس وجماعة وقال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي: الْقانِعَ السائل كما في قول عدي بن زيد:
وما خنت ذا عهد وأيت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
وَالْمُعْتَرَّ المعترض من غير سؤال، فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعا إذا رضي بما عنده من غير سؤال، وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظا ومعنى قنوعا. وعلى ذلك جاء قول الشاعر:
العبد حر إن قنع ... والحر عبد إن قنع

فاقنع ولا تطمع فما ... شيء يشين سوى الطمع
فلا يكون الْقانِعَ على هذا من الأضداد لاختلاف الفعلين، ونص على ذلك الخفاجي حاكما بتوهم من يقول بخلافه. وفي الصحاح نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء، ونقل عنه أيضا أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعا لأنه يرضى بما يعطى قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعا إلى الرضى، وإلى كون قنع بالكسر بمعنى رضي وقنع بالفتح بمعنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقنعانا ومصدر الثاني قنوعا. ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساترا لفقره كقولهم: خفي إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعه كاشفا لفقره بالسؤال نحو خفي إذا رفع الخفاء، وأيد كون القانع بمعنى الراضي بقراءة أبي رجاء «القنع» بوزن الحذر بناء على أنه لم يرد بمعنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات، وعن مجاهد «القانع» الجار وإن كان غنيا. وأخرج ابن أبي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس، وقيل: المعتر الصديق الزائر، والذي أختاره من هذه الأقوال أولها.
وقرأ الحسن «والمعتري» اسم فاعل من اعترى وهو واعتر بمعنى. وقرأ عمرو وإسماعيل كما نقل ابن خالويه «المعتر» بكسر الراء بدون ياء، وروي ذلك المقري عن ابن عباس، وجاء ذلك أيضا عن أبي رجاء وحذفت الياء تخفيفا منه واستغناء بالكسرة عنها. واستدل بالآية على أن الهدي يقسم أثلاثا ثلث لصاحبه وثلث للقانع وثلث للمعتر وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال محمد بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بقسمته أثلاثا أيضا إلا أنه قال: أطعم القانع والمعتر ثلثا والبائس الفقير ثلثا وأهلي ثلثا وفي القلب من صحته شيء.
وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما
(9/150)
________________________________________
ترى، قال ابن عطية: وهذا كله على جهة الاستحسان لا الفرض، وكأنه أراد بالاستحسان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب.
وفي التيسير أمر (كلوا) للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر أَطْعِمُوا للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئا، وهذا في كل هدي نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية، وأما الكفارة فعليه التصديق بجميعها فما أكله أو أهداه لغني ضمنه. وفي الهداية يستحب له أن يأكل من هدي التطوع والمتعة والقرآن وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب إلّا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر، وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه كَذلِكَ أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: صَوافَّ سَخَّرْناها لَكُمْ مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصي عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها ولولا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة.
وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لن يصيب رضا الله تعالى اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ولكن يصيبه ما يصحب ذلك من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيمه تعالى والتقرب له سبحانه والإخلاص له عز وجل.
وقال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيما لها وتقربا إليه تعالى فنزلت هذه الآية، وروي نحوه عن ابن عباس. وغيره. وقرأ يعقوب وجماعة «أن تنال» . «ولكن تناله» بالتاء. وقرأ أبو جعفر الأول بالتاء والثاني آخر الحروف، وعن يحيى بن يعمر والجحدري أنهما قرءآ بعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لن ينال» «ولكن يناله» بالبناء لما يسم فاعله في الموضعين ولحومها ولا دماءها بالنصب كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرره سبحانه تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله تعالى:
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي لتعرفوا عظمته تعالى باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل فتوحدوه بالكبرياء، وقيل: أي لتقولوا الله أكبر عند الإحلال أو الذبح عَلى ما هَداكُمْ أي على هدايته وإرشاده إياكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، فما مصدرية، وجوز أن تكون موصوفة وأن تكون موصولة والعائد محذوف، ولا بد أن يعتبر منصوبا عند من يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وعَلى متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر أو الحمد كأنه قيل: لتكبروه تعالى شاكرين أو حامدين على ما هداكم، وقال بعضهم: على بمعنى اللام التعليلية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين، ويؤيد ذلك قول الداعي على الصفا: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله تعالى على ما أولانا، ولا يخفى أن لعدم اعتبار التضمين هنا وجها ليس فيما نحن فيه فافهم وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وعن ابن عباس هم الموحدون.
ومن باب الإشارة في الآيات يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بالإعراض عن السوي وطلب الجزاء إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ وهي مبادئ القيامة الكبرى يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
وهي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه في مهد الاستعداد وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
وهي الهيولات حَمْلَها
وهي الصور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
الحيرة وَما هُمْ بِسُكارى
المحبة،
(9/151)
________________________________________
قيل سكر الأعداء من رؤية القهريات. وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال. وسكر المريدين من لمعان الأنوار.
وسكر المحبين من كشوف الأسرار. وسكر المشتاقين من ظهور سني الصفات. وسكر العاشقين من مكاشفة الذات.
وسكر المقربين من الهيبة والجلال. وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال. وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية. وسكر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من اطلاعهم على أسرار الأزلية:
ألم بنا ساق يجل عن الوصف ... وفي طرفه خمر وخمر على الكف

فأسكر أصحابي بخمرة كفه ... وأسكرني والله من خمرة الطرف
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية يدخل فيه من يعبد الله تعالى طمعا في الكرامات ومحمدة الخلق ونيل دنياهم فإن رأى شيئا من ذلك سكن إلى العبادة وإن لم ير تركها وتهاون فيها خَسِرَ الدُّنْيا بفقدان الجاه والقبول والافتضاح عند الخلق وَالْآخِرَةَ ببقائه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنار البعد مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ الآية فيه إشارة إلى حسن مقام التسليم والرضى بما فعل الحكيم جل جلاله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فيه من تعظيم أمر الكعبة ما فيه، وقد جعلها الله تعالى مثالا لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز وجل بكلمات إلهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثنائهم بتلك الكلمات من حيث إنها كلماته تعالى نوابا عنه عز وجل ذلك في ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته، وللكعبة أيضا امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز وجل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمي الكعبة تشبيها بالكعب، ولما جعل الله تعالى له بيتا في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن، وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت
«وما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»
وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم، وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل، وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام، وقد يقال: محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي، وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده: أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام، وأودع سبحانه فيه كنزا أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها، وكذا أراد عمر فامتنع اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز وجل.
وارتفاع البيت على ما مر سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع. وقال بعضهم: ثمانية وعشرون ذراعا، وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي إلى ما يليه فإن النحر بمنى وجعلت محلا للقرابين على ما ذكر الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره لأنها من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد
(9/152)
________________________________________
بلغ الغاية. وفي نحر القرابين إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلا أو بقرا، وهذه مسألة دقيقة لم يفطن لها إلا من نور الله تعالى بصيرته من أهل الله تعالى انتهى. وتعقله مفوض إلى أهله فاجهد أن تكون منهم.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ حسبما يحصل لهم من التجلي عند ذلك، وقد يحصل من الذكر طمأنينة القلب لاقتضاء التجلي إذ ذلك، وذكر بعضهم أن لكل اسم تجليا خاصا فإذا ذكر الله تعالى حصل حسب الاستعداد ومن هاهنا يحصل تارة وجل وتارة طمأنينة وإِذا لا تقتضي الكلية بل كثيرا ما يؤتى بها في الشرطية الجزئية، وقيل العارف متى سمع الذكر من غيره تعالى وجل قلبه ومتى سمعه منه عز وجل اطمأن. ويفهم من ظاهر كلامهم أن السامع للذكر إما وجل أو مطمئن ولم يصرح بقسم آخر فإن كان فالباقي على حاله قبل السماع، وأكثر مشايخ زماننا يرقصون عند سماع الذكر فما أدري أن يشأ رقصهم عن وجل منه تعالى أم عن طمأنينة؟ وسيظهر ذلك يوم تبلى السرائر وتظهر الضمائر وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قد تقدم لك أنهم ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وذكروا في سر ذلك أنه لما كان نحرها قربة أراد صلّى الله عليه وسلّم المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أو الإفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضا، وجعلها قائمة لأن القيومية مثل الوترية صفة إلهية فيذكر الذي ينحرها مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت، وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، وشفع الرجلين لقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة: 29] وهو اجتماع أمر الدنيا بالآخرة، وأفرد اليمين من يد البدن حتى لا تعتمد إلا على وتر له الاقتدار. وكان العقل في اليد اليسرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون إلا عن قوة.
وقد أخرج مسلم عن ابن عباس أنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته» الحديث.
والسر في كون هديه عليه الصلاة والسلام من الإبل مع أنه جاء فيها أنها شياطين ولذا كرهت الصلاة في معاطنها الإشارة إلى أن مقامه عليه الصلاة والسلام رد البعداء من الله تعالى إلى حال التقريب. وفي إشعارها في سنامها الذي هو أرفع ما فيها إشعار منه صلّى الله عليه وسلّم بأنه عليه الصلاة والسلام أتى عليهم من صفة الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فليتجنبوها فإن الدار الآخرة إنما جعلت للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ووقع الإشعار في الصفحة اليمنى لأن اليمين محل الاقتدار والقوة، والصفحة من الصفح ففي ذلك إشعار بأن الله تعالى يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله تعالى وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد، وجعل عليه الصلاة والسلام الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن في تعليق النعال في رقابها إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والمذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء تشهد، وعلق النعال بقلائد العهن ليتذكر بذلك ما أراد الله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وقد ذكروا لجميع أفعال الحج أسرارا من هذا القبيل، وعندي أن أكثرها تعبدية وأن أكثر ما ذكروه من قبيل الشعر والله تعالى الموفق للسداد.
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ [الحج: 25] وإن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطردا لمزيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد
(9/153)
________________________________________
تعظيم ما صد عنه، وتصديره لكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه، وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من جملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع» والمفعول محذوف كما أشير إليه، وفي البحر أنه لم يذكر ما يدفعه سبحانه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي العموم بل هو غير صحيح.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي. وقيل: تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن أن العلة في ذلك الخيانة والكفر، وأوثر لا يُحِبُّ على يبغض تنبيها على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى، ولعل الأول أولى لإيهام هذا إن الآية من قبيل قولك: إني أدفع زيدا عن عمرو لبغضي زيدا وليس في ذلك كثير عناية بعمرو أي إن الله تعالى يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره تعالى شأنه ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمه عز وجل، وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك لا للتقيد المشعر بمحبة الخائن والكافر أو لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين بل هما أمران عظيمان أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات وما كفروا به من النعم أو للمبالغة في نفي المحبة على اعتبار النفي أولا وإيراد معنى المبالغة ثانيا كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] وقد علمت ما فيه.
وأيا ما كان فالمراد نفي الحب عن كل فرد فرد من الخونة الكفرة أُذِنَ أي رخص، وقرأ ابن عباس وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي أُذِنَ بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة.
وقرأ أبو عمر وأبو بكر ويعقوب «يقاتلون» على صيغة المبني للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا. والمراد بالموصول أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين في مكة فقد نقل الواحدي وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 19] ، وفي الإكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] ، وروى البيهقي في الدلائل وجماعة أنها نزلت في أناس مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشيا عن ذكره.
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والابتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيدا بليغا زيادة في توطين نفوس المؤمنين
(9/154)
________________________________________
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ، والجملة مرفوعة على المدح، والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة بِغَيْرِ حَقٍّ متعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم.
وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجا كائنا بهذه الصفة، واختار الطبرسي كونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ استثناء متصل من حَقٍّ وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وجوز أن يكون الابدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا إلخ وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلا وكون ما بعد إلا بدلا من حَقٍّ بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون إلا بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ إلخ قيل فليقاتل المؤمنون فلولا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدمت متعبداتهم ولذهبوا شذر مذر، وقيل: المعنى لولا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك، وقال مجاهد: أي لولا دفع ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت إلخ.
وقال قوم: أي لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقالت فرقة: أي لولا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار، وقال قطرب: أي لولا الدفع بالقصاص عن النفوس. وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الافهام. والصوامع جمع صومعة بوزن فعولة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول، وقال الراغب: هي كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقه والأصمع اللاصقة إذنه برأسه وهو قريب من قريب، وكانت قبل الإسلام كما قال قتادة مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئة ثم استعملت في مئذنة المسلمين، والمراد بها هنا متعبد الرهبان عند أبي العالية ومتعبد الصابئة عند قتادة ولا يخفى أنه لا ينبغي إرادة ذلك حيث لم تكن الصابئة ذات ملة حقة في وقت من الأوقات، والبيع واحدها بيعة بوزن فعلة وهي مصلى النصارى ولا تختص برهبانهم كالصومعة، قال الراغب: فإن يكن ذلك عربيا في الأصل فوجه التسمية به لما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية، وقيل هي كنيسة اليهود.
وقرأ أهل المدينة ويعقوب «ولولا دفاع» بالألف. وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني «لهدمت» بالتخفيف، والتضعيف باعتبار كثرة المواضع.
(9/155)
________________________________________
وَصَلَواتٌ جمع صلاة وهي كنيسة اليهود. وقيل: معبد للنصارى دون البيعة والأول أشهر، وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلى فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال، وقيل: هي بمعناها الحقيقي وهدمت بمعنى عطلت أو في الكلام مضاف مقدر وليس بذاك، وقيل: صَلَواتٌ معرب صلوثا بالثاء المثلثة والقصر ومعناها بالعبرانية المصلى. وروي عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد أنهم قرؤوا بذلك، والظاهر أنه على هذا القول اسم جنس لا علم قبل التعريب وبعده لكن ما رواه هارون عن أبي عمرو من عدم تنوينه ومنع صرفه للعلمية والعجمة يقتضي أنه علم جنس إذ كونه اسم موضع بعينه كما قيل بعيد فعليه كان ينبغي منع صرفه على القراءة المشهورة فلذا قيل إنه صرف لمشابهته للجمع لفظا فيكون كعرفات، والظاهر أنه نكر إذ جعل عاما لما عرب، وأما القول بأن القائل به لا ينونه فتكلف قاله الخفاجي.
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما: صَلَواتٌ بضم الصاد واللام،
وحكى عنه ابن خالويه بكسر الصاد وسكون اللام وحكيت عن الجحدري، وحكي عنه أيضا «صلوات» بضم الصاد وفتح اللام وحكيت عن الكلبي، وقرأ أبو العالية في رواية «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأ الحجاج بن يوسف صلوات بضم الصاد واللام من غير ألف وحكيت عن الجحدري أيضا، وقرأ مجاهد «صلوتا» بضمتين وتاء مثناة بعدها ألف، وقرأ الضحاك والكلبي «صلوث» بضمتين من غير ألف وبثاء مثلثة، وقرأ عكرمة «صلويثا» بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف، وحكي عن الجحدري أيضا «صلواث» بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة، وحكي عن مجاهد أنه قرأ كذلك إلا أنه بكسر الصاد، وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري «صلوب» بضمتين وباء موحدة على أنه جمع صليب كظريف وظروف وجمع فعيل على فعول شاذ فهذه عدة قراءات قلما يوجد مثلها في كلمة واحدة وَمَساجِدُ جمع مسجد وهو معبد معروف للمسلمين، وخص بهذا الاسم اعتناء بشأنه من حيث إن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه عزّ وجلّ، وقيل: لاختصاص السجود في الصلاة بالمسلمين، ورد بقوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] مع الراكعين وحمل السجود فيها على المعنى اللغوي بعيد، وقال ابن عطية: الأسماء المذكورة تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف كل لغة، والأكثرون على أن الصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين.
ولعل تأخير ذكرها مع أن الظاهر تقديمها لشرفها لأن الترتب الوجودي كذلك أو لتقع في جوار مدح أهلها أو للتبعيد من قرب التهديم، ولعل تأخير صَلَواتٌ عن بِيَعٌ مع مخالفة الترتيب الوجودي له للمناسبة بينها وبين المساجد كذا قيل، وقيل إنما جيء بهذه المتعبدات على هذا النسق للانتقال من شريف إلى أشرف فإنه البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها معبد للرهبان وغيرهم والصوامع معبد للرهبان فقط وكنائس اليهود أشرف من البيع لأن حدوثها أقدم وزمان العبادة فيها أطول، والمساجد أشرف من الجميع لأنه الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها ولعل المراد من قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ إلخ المبالغة في ظهور الفساد ووقوع الاختلال في أمر العباد لولا تسليط الله تعالى المحقين على المبطلين لا مجرد تهديم متعبدات للمليين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمساجد، وقال الضحاك ومقاتل والكلبي: في موضع الصفة للجميع واستظهره أبو حيان، وكون كون بيان ذكر الله عزّ وجلّ في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ليس بشيء لأن الانتساخ لا ينافي بقاءها ببركة ذكر الله تعالى فيها مع أن معنى الآية عام لما قبل الانتساخ كما مر.
(9/156)
________________________________________
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وبالله أي لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على كل ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم عَزِيزٌ لا يمانعه شيء ولا يدافعه الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع. وجوز أن يكون بدلا، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر، والمراد بالأرض جنسها، وقيل مكة، والمراد بالصلاة الصلاة المكتوبة وبالزكاة الزكاة المفروضة وبالمعروف التوحيد وبالمنكر الشرك على ما روي عن زيد بن أسلم.
ولعل الأولى في الأخيرين التعميم، والوصف بما ذكر كما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء يعني أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا: وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذلك على ما في الكشف لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين لأنهم المخرجون بغير حق والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله سبحانه عنه لدلالته على أن كل ممكن منهم يلزمه التوالي لعموم اللفظ، ولما كان التمكين واقعا تم الاستدلال دون نظر إلى استدعاء الشرطية الوقوع كالكلام المقرون بلعل وعسى من العظماء فإن لزوم التالي مقتضى اللفظ لا محالة ولما وقع المقدم لزم وقوعه أيضا، وفي ثبوت التالي ثبوت حقية الخلافة البتة وهي واردة على صيغة الجمع المنافية للتخصيص بعليّ وحده رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن وأبي العالية هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأولى على هذا أن يجعل الموصول بدلا من قوله تعالى: مَنْ يَنْصُرُهُ كما أعربه الزجاج، وكذا يقال على ما روي عن ابن عباس أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون، وعلى ما روي عن أبي نجيح أنهم الولاة.
وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي إلا الأول وَلِلَّهِ خاصة عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإن مرجعها إلى حكمه تعالى وتقديره فقط، وفيه تأكيد للوعد بإعلاء كلمته وإظهار أوليائه وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسلية عليه الصلاة والسلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق (كذب) تاء التأنيث لأن الفاعل وهو قَوْمُ اسم جمع يجوز تذكيره وتأنيه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه، وفي اختيار التأنيث حط لقدر المكذبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد.
وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء، ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون، وتكذيب هؤلاء أيضا أسبق وأشد، والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام عن تكذيب قومه أن وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح إلخ وَكُذِّبَ مُوسى المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل: (قَوْمُ نُوحٍ وقَوْمُ إِبْراهِيمَ وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنيا
(9/157)
________________________________________
للمفعول فللإيذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة والسلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل. ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله. والأخذ كناية عن الإهلاك فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلا يردعه بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار. وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء، والاستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم، وفي الجملة إرهاب لقريش، وقوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: أَهْلَكْناها أي فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها، والجملة بدل من قوله سبحانه: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أو مرفوع على الابتداء وجملة أَهْلَكْناها خبره أي فكثير من القرى أهلكناها، واختار هذا أبو حيان:
الأجود في إعراب (كأين) أن تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل.
وقرأ أبو عمرو وجماعة «أهلكتها» بتاء المتكلم على وفق فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثم أخذتهم ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها، ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف، وقيل: الإهلاك استعارة لعدم الانتفاع بها بإهلاك أهلها، وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية من مفعول أهلكنا، وقوله تعالى: فَهِيَ خاوِيَةٌ عطف على أَهْلَكْناها فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه، ويجوز عطفه على جملة (كأين) إلخ الاسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل، والفاء غير مانعة بناء على ترتيب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك، وجوز عطفه على الجملة الحالية، واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده، وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال هي حال مقارنة أيضا بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم، ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر، والخواء إما بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط، وقوله تعالى: عَلى عُرُوشِها متعلق به، والمراد بالعروش السقوف، والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سفوقها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وإما بمعنى الخلو من خوت الدار تخوي خواء إذا خلت من أهلها، ويقال:
خوي البطن يخوي خوى إذا خلا من الطعام، وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوي النجم من ذلك فقال:
يقال خوي النجم وأخوي إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيها بذلك فقوله تعالى: عَلى عُرُوشِها إما متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا، وعَلى بمعنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها، ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون عَلى عُرُوشِها خبرا بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة، وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عطف على قَرْيَةٍ والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على أبار وآبار وأبؤر وآبر وبيار، وتعطيل الشيء إبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يسقى منها لهلاك أهلها. وقرأ الجحدري والحسن وجماعة «معطلة» بها لتخفيف من أعطله بمعنى عطله.
وَقَصْرٍ مَشِيدٍ عطف على ما تقدم أيضا أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبني بالشيد بالكسر أي الجص
(9/158)
________________________________________
أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل، وهذا يؤيد وكون معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها، وفي البحر ينبغي أن يكون بِئْرٍ. وقَصْرٍ من حيث عطفها على قَرْيَةٍ داخلين معها في حيز الإهلاك مخبرا به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما.
وزعم بعضهم عطفهما على عُرُوشِها وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني.
وعن الضحاك وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرموت والبئر بسفحه وأن صالحا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبنى ويضاف لأن صالحا عليه السلام (1) حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم.
وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حيث لهم على السفر للنظر والاعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار، وذكر المسير لتوقفه عليه، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير، وأيا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله تعالى:
فَتَكُونَ لَهُمْ منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية. وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على يَسِيرُوا وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى. ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها.
وقرأ مبشر بن عبيد «فيكون» بالياء التحتية قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول يَعْقِلُونَ محذوف لدلالة المقام عليه، وكذا يقال في قوله تعالى: أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
ضمير فَإِنَّها للقصة فهو مفسر بالجملة بعده، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشأن، وعلى ذلك قراءة عبد الله «فإنه» وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده، وقيل: يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بالأبصار، وكأن الأصل فإنها الأبصار لا تعمى على أن جملة لا تَعْمَى من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرا فصار فاعلا مفسرا للضمير. واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدأ والخبر وما هنا ليس منها. ورد بأنه من باب المبتدأ والخبر نحو إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29، المؤمنون: 37، الجاثية: 24] ولا يضره دخول الناسخ، وفيه نظر، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل: أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر
__________
(1) فالظاهر أن قبره عليه السلام هناك، وقيل: هو بعكا وعليه الإمام أبو القاسم الأنصاري والله تعالى أعلم اهـ منه.
(9/159)
________________________________________
قلوبهم لا بإبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها، ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران:
167] وقولك: نظرت بعيني.
وقال الزمخشري قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول:
ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك وهو في حكم قولك: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.
وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن أم مكتوم حين سمع قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: 72] فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ وربما يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جدا فكأنه قيل له: أنت لا تدخل تحت عموم وَمَنْ كانَ إلخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلب، وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر، نعم في صحة الرواية نظر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم، ولا يخفى حكم الخبر إذا روي هكذا. واستدل بقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا إلخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا، وبقوله تعالى:
فَتَكُونَ إلخ على أن محل العقل القلب لا الرأس، قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم.
وقال الإمام الرازي: في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب، وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحاق الإسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئا علمه ولمن علم شيئا عقله، وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلا من فاته بعض العلوم مع كونه محصلا لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الاستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل وهما متلازمان. وقال الأشعري: لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل فالعقل إذا علم مخصوص فقيل: هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي، وقيل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضا ولهم أقوال أخر، والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما أو حادثا ونحو ذلك. واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآمدي في إبكار الأفكار بما له وعليه. واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة، ورد بأنه
(9/160)
________________________________________
إن أراد بالغريزة العلم لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة.
وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل: والحق أنه نور روحاني بي تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى، ثم إن في محلية القلب للعلم خلافا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور.
وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا. وفي أبكار الأفكار بعد نقل قول الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم، وكون ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] وقوله سبحانه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وقوله عز وجل أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] انتهى، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلا تاما في الإدراك، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضا، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلا دون الآخر وجها، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير لقريش كان صلّى الله عليه وسلّم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم مجيئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزا له صلّى الله عليه وسلّم فأنكر عليهم ذلك، فالجملة خبر لفظا واستفهام وإنشاء معنى، وقوله تعالى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل: كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه أو اعتراضية لما ذكر أيضا. وقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وإظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددا طوالا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] ولذا يرون مجيئه بعيدا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترؤون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعا وإخبار عما عنده من المقدار.
وقراءة الأخوين. وابن كثير «يعدّون» على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضا بطريق الالتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين، وقيل: المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت: 53] فتكون الجملة الأولى مطلقا مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لإنكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال، ويكتفى في رد
(9/161)
________________________________________
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم، وأيا ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق. وقيل: المراد بالعذاب العذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل:
تمتع بأيام السرور فإنها ... قصار وأيام الهموم طوال
وعلى ذلك جاء قوله:
ليلي وليلى ففي نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل: كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلا بد من مجيئه حتما وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالا أو أنها تستطال لشدة عذابها.
واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق، وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى.
واستدل المعتزلة بقوله تعالى: لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى.
وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو إخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه وهي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترهيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض إخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلا كمواعيد المؤمنين، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقا متى وعد به، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به. وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والإمهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدى به خبر محض لا شرط فيه وقيل: المراد به وعده تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث إن فيه خيرا له عليه الصلاة والسلام، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرا وشرا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم.
(9/162)
________________________________________
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كم من سكنة قرية أَمْلَيْتُ لَها كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزا لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل: لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية، وقيل: جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجأ بها هنا لعدم الترتب، وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي إلى حكمي مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أجد غيري لا استقلالا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضا ما ذكر من الأخذ الوبيل.
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل: قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذارا بينا بما أوحي إليّ من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الاقتصار على الإنذار ظاهر، وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فالزيادة هي إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار، ويجوز أن يقال: إن قوله سبحانه:
فَالَّذِينَ آمَنُوا الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجع فيه ذلك كأنه قيل: أنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن دوام على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا، واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلا في المقول بخلاف الوجه الأول.
وقال بعض المحققين: الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة، وإنما كان صلّى الله عليه وسلّم نذيرا مبينا لأن بعثه عليه الصلاة والسلام من أشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله: أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
كقوله صلّى الله عليه وسلّم الثابت في الصحيحين «أنا النذير العريان»
وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها اهـ.
(9/163)
________________________________________
ولا مانع منه لولا ظاهر السياق، وكون المؤمنين لا ينذرون لا سيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له، ومن منع من العموم لذلك قال: التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات، وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه، والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرآن على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحرا وتارة شعرا وتارة أساطير الأولين.
وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الإصلاح والإفساد يقال: سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه مُعاجِزِينَ أي مسابقين للمؤمنين والمراد بمسابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني «معجزّين» بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان.
وقال أبو علي الفارسي: ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول: فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وقرأ ابن الزبير «معجزين» بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك، قال صاحب اللوامح: والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون، وفسر مُعاجِزِينَ
في قراءة الجمهور بمثل ذلك، والوصف على جميع القراءات حال من ضمير سَعَوْا وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للمتأمل أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ملازمو النار الشديدة التأجج، وقيل هو اسم دركة من دركات النار.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مِنْ الأولى ابتدائية والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان، وقيل: في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] والظاهر أن إِذا شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا: إن إِلَّا في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا [الحجر: 11] إلخ أو (1) يكون الماضي مصحوبا بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذا لم يلها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في البحر بأن إِذا جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو أَلْقَى وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف «نبي» على رَسُولٍ يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضا ما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا، وقد أخرج ذلك. كما قال السيوطي. أحمد. وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة، وأخرجه ابن حيان في صحيحه. والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر.
وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة
وجاء في رواية الرسل
__________
(1) أو المنع الخلو اهـ منه.
(9/164)
________________________________________
ثلاثمائة وخمسة عشر
، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدا في نفسه كإسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا النبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل: الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانا وتفصيلا لشرع سابق والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول، وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول (1) من يأته الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير: وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا مناما وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي.
وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورا بالتبليغ فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما، والتمني. على ما قال أبو مسلم. نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد: التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل
وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئا فشيئا، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] وقال سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة: 173، النحل: 115] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلّى الله عليه وسلّم لرده أو بإنزال ما يرده ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، وثُمَّ للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلى رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في
__________
(1) قائله الإمام الرازي.
(9/165)
________________________________________
الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة. ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار الشَّيْطانُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه حَكِيمٌ في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي الذي يلقيه. وقيل: إلقاءه فِتْنَةً أي عذابا. وفي البحر ابتلاء واختبار لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار المجاهرين، وقيل: المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة، وحمل الأولين على الكفار مطلقا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي عداوة شديدة ومخالفة تامة، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، ولام لِيَجْعَلَ للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بيحكم وعند ابن عطية بينسخ وعند غيرهما بألقي لكن التعليل لما ينبىء عنه إلقاء الشيطان من تمكينه تعالى إياه من ذلك في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة لعطف قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وكون ضمير أَنَّهُ للقرآن، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير أَنَّهُ لتمكين الشيطان من الإلقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الإنس من لدن آدم عليه السلام، وضميرا بِهِ ولَهُ في قوله تعالى: فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانا فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم، وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له.
ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابا للمنافقين والكافرين أي سببا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبارا لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: لِيَجْعَلَ إلخ متعلقا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل إلخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل لِيَجْعَلَ علة النسخ وَلِيَعْلَمَ علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل لِيَجْعَلَ علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد، ويجوز أيضا أن ترجع الضمائر في أَنَّهُ. وبِهِ ولَهُ للموحي الذي يقرؤه كل من الرسل والأنبياء عليهم السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص، وأيا ما كان فقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ اعتراض مقرر لما قبله، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقا على تقدير التعميم، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عز وجل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «لهاد» بالتنوين.
(9/166)
________________________________________
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْهُ أي من القرآن وقيل: من الرسول، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحي على ما سمعت و «من» على جميع ذلك ابتدائية، وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان واختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحي من الشبه والتخيلات فتأمل حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى: بَغْتَةً أي فجأة فإنها الموصوفة بالإتيان كذلك، وقيل: أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز. وقيل: الموت على أن التعريف في السَّاعَةُ للعهد أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي منفرد عن سائر الأيام لا مثيل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيما والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف. و «أو» في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية، وقيل: المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم، وقيل المراد به يوم حرب يقتلون فيه، ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم، وفيه على الأول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقما، وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هي الحرب على سبيل الاستعارة بالكناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازا في الإسناد، ومن ثم قيل: إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان، وقيل: هو الذي لا خير فيه يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا، وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم، وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم، ويصح أيضا أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم السلام فيه، وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة، هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر ابن الحرث كان يلقي الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام، وقيل: ضمير أُمْنِيَّتِهِ للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و «في» للسببية مثلها في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات» . وقيل: «تمنى» قرأ و «أمنيته» قراءته والضمير للنبي أو الرسول وفِي على ظاهرها، والمراد بما يلقي الشيطان ما يقع للقارىء من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهوا، وقيل: المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الاحتمالات التي ليست مرادا لله تعالى، وقيل: تمنى هيأ وقدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ قراءته، والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبها فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها، وقيل: تَمَنَّى قدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ تشبيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا، وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الاشتغال بأمور الدنيا، ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يريده.
وقيل: تَمَنَّى قرأ وأُمْنِيَّتِهِ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي، وقد روي أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة والسلام أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فألقي الشيطان في سكتته محاكيا نغمته عليه الصلاة والسلام بحيث يسمعه من حوله تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فظن المشركون أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة، وقيل: المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم به، وقيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم هو الذي تكلم بذلك عامدا لكن مستفهما على سبيل الإنكار والاحتجاج على المشركين، وجعل من إلقاء الشيطان
(9/167)
________________________________________
لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم، ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزا إذ ذاك، وقيل: بل كان ساهيا،
فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 89، 20] قال: إن شفاعتهن ترتجى وسها رسول الله عليه الصلاة والسلام ففرح المشركون بذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا- حتى بلغ- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

، قال الجلال السيوطي: وهو خبر مرسل صحيح الإسناد، وقيل: تكلم بذلك ناعسا. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: بينا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان (1) على لسانه كلمة فتكلم بها فقال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلا فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قد قرأها فزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآية، وقيل: تَمَنَّى قدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي نرتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا، إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآيات، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا أنها وحي حتى نبهه جبريل عليه السلام،
ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة النجم فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال: أعرض على ما جئتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قال له جبريل عليهما السلام: لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآية.
وأخرج البزار والطبري وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك
لكن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضا مغايرة يسيرة غير ذلك، وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزار وابن مردويه أيضا من طريق أمية بن خالد عن شعبة لكن قال في إسناده: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله،
وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه السلام قال له عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه ذلك: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه وَما أَرْسَلْنا

الآية قيل: والمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لكن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الأخبار فلا بدّ من تأويل ما
__________
(1) قيل يقال لذلك الشيطان الأبيض اهـ منه.
(9/168)
________________________________________
لذلك، وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال القاضي عياض في الشفاء: يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتابا. وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله: تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور. منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلّم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42، الإسراء: 65] وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: 99] إلى غير ذلك، ومنها زيادته صلّى الله عليه وسلّم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة، ومنها اعتقاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الالتئام متناقضا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلّى الله عليه وسلّم، ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك معتقدا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلّى الله عليه وسلّم وإما أن يكون معتقدا معنى آخر مخالفا لما اعتقدوه ومباينا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرا لهم على الباطل وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم أن يقر على ذلك.
ومنها كونه صلّى الله عليه وسلّم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة.
وقال ابن العربي: تصور الشيطان في صورة الملك ملبسا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسا على الخلق وتسليط الله تعالى على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك. ومنها التقول على الله تعالى إما عمدا أو خطأ أو سهوا. وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلّى الله عليه وسلّم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الإخبار بخلاف الواقع لا قصدا ولا سهوا، ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، لأنه أيضا يحتمل إلى غير ذلك. وذهب إلى صحتها الحافظ بن حجر في شرح البخاري وساق طرقا عن ابن عباس وغيره ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا مع أن لها طريقا متصلا بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم أخذ في الرد على أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في إنكارهما الصحة.
وذهب إلى صحة القصة أيضا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني، وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن
(9/169)
________________________________________
عبد الرحمن وأبو العالية، وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول: قال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح وغيره ثم قال: ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في هذه القصة مسندا من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلا مرفوعا من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله، وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام تمنى هدي الكل ولم يكن ذلك مراد الله تعالى والأكمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة والسلام الإلقاء حالة تمنى هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة والسلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا ليس كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبا أن يعود لمثل تلك الحالة، وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذ لا يكون بعيد الالتئام ولا متناقضا ولا ممتزج المدح بالذم ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه: لِيَجْعَلَ إلخ، وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناء على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول، وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة والسلام معتقدا لمعنى مخالف لما اعتقدوه ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23] فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطانا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى
[النجم: 26] .
وأما عن الخامس فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلّى الله عليه وسلّم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة، وأما قول القاضي عياض: لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة والسلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسا قادحا فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقا ولو كان غير مخل فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية. وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسا على النبي بما لا يكون منافيا
(9/170)
________________________________________
للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبا ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة.
وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا ما يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادا ناشئا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلا ما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة والسلام في الإلقاء في حالة التمني تأديبا كإيقاع السهو عليه صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعا والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك تلبيسا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقدا أنه مطابق للواقع بناء على اعتقاد التمام سهوا، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والأحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ بن حجر متعقب.
وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظا ومعنى إذا قيل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ إلخ لأنه أيضا يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ إلخ على انتقاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل.
هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فيكف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلّى الله عليه وسلّم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال: والذي نفسي بيده ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرّتي هذه وما عرفته حتى ولى إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلّى الله عليه وسلّم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضا لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلا إن قلنا بحياتهما.
وأيضا قال المحققون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد
(9/171)
________________________________________
إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى: أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا، وأيضا حفظه صلّى الله عليه وسلّم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193، 194] وقلنا: إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلّى الله عليه وسلّم من خلو قلبه واشتغال لسانه على أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلّى الله عليه وسلّم في إرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام: 35] ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى: إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
ويرد على قوله: إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن: 27] قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن- كان- في ذلك للاستمرار.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنو منه فبينما هو يتلوها وهو يقول أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله: فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقي في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا.
ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر، وقد يقال: إن إعجاز القرآن معلوم له صلّى الله عليه وسلّم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي: إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان
(9/172)
________________________________________
بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد أن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلاوان شفاعتهن لهي التي ترتجى الوارد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب.
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي: هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى ترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما حرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذ سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى أيضا لا سيما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والقول بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب.
وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلّاء عارفون بالغث والسمين من الأخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] والمراد بالباطل كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلّى الله عليه وسلّم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الاستمرار.
وقال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] فجيء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه.
(9/173)
________________________________________
وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زمانا يسيرا لا يخلو عن نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يقتضيه ذلك الاعتناء، ثم إن قيل: بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنا في اعتقاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين زمانا طويلا والقول بذلك من الشناعة بمكان، وقال جل وعلا: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 4] والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالدين ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: كان جبريل عليه السلام ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن.
والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة والسلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضا، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلّى الله عليه وسلّم حين سجد آخر النجم، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخا (1) من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا.
وروى البخاري أيضا. والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس
إلى غير ذلك، وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم: 50- 45] إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحا به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الإتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] أمسك على فم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: كيف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل. وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] بناء على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النجم: 21] وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثا والحب للشيء يعمي ويصم، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلا
__________
(1) جاء في رواية أنه أمية بن خلف اهـ منه.
(9/174)
________________________________________
وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين.
واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخرا بعد سماع قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23] فكان ينبغي التنبيه بعد السجود، ولعلهم أرجعوا ضمير هِيَ للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به، وحينئذ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع.
واعترض على قوله في الجواب الخامس: إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلّى الله عليه وسلّم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة والسلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة والسلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد.
وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام، الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلّى الله عليه وسلّم بعد علمه بالمبلغ بأية قاطعة والمراد كما قال ابن ملك: العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل، والثاني ما وضح له صلّى الله عليه وسلّم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما
قال عليه الصلاة والسلام «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها» الحديث
وهذا يسمى خاطر الملك، والثالث ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره، وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال، وهو ظاهر في أنه صلّى الله عليه وسلّم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلّى الله عليه وسلّم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة والسلام قرآنا ووحيا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علم ذلك علما ضروريا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلا، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة.
ويجوز أن يقال: إنه أراد أنه إذا وقع الاشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة والسلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأنه احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوقب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] الآية، وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن
(9/175)
________________________________________
وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء المشروط بالتمني أو في وقته بناء على الخلاف في أن «إذا» للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت.
ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلّى الله عليه وسلّم في كل وحي متوقفا غير جازم بأنه وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه.
واعترض على قوله في الجواب أيضا: إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق إلخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول: خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي»
والظاهر أنه لا يتمثل به صلّى الله عليه وسلّم أصلا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم. من. ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناما فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولي، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل.
وقالت الصوفية في ذلك: إن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحمق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر، والنبي صلّى الله عليه وسلّم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلّى الله عليه وسلّم عن أن يظهر بها شيطان اهـ، ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلّم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناما لأحد من أمته مخلصا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر.
وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاده ما ليس قرآنا للتلبيس الناشئ عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه.
وأورد على قوله في الجواب السابع: إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع. وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتقاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضا ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب.
ولا يجدي نفعا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلّى الله عليه وسلّم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق.
(9/176)
________________________________________
وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلّى الله عليه وسلّم نطق بما نطق عمدا معتقدا للتلبيس أنه حاملا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها. وفي شرح الجوهرة الأوسط أن حديث تلك الغرانيق إلخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تأويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة والسلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] وكان منه عليه الصلاة والسلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكيا صوته صلّى الله عليه وسلّم فظن أنه من قوله عليه الصلاة والسلام وليس به انتهى، والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبرا وأخذت العناية بيديه، وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه صلّى الله عليه وسلّم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بما نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعني قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا إلخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه، وقيل: هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم، هذا وأخرج عبد ابن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث» فنسخ «ولا محدث» والمحدثون صاحب يس ولقمان، ومؤمن من آل فرعون وصاحب موسى عليه السلام. الْمُلْكُ أي السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تأتيهم الساعة أو عذابها وقيل أي يوم إذ تزول مريتهم وليس بذلك، ومثله ما قيل أي يوم إذ يؤمنون لِلَّهِ وحده بلا شريك أصلا بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجاز أو لا صورة ولا معنى كما في الدنيا فإن للبعض فيها تصرفا صوريا في الجملة والتنوين في إذ عوض عن المضاف إليه، وإضافة يوم إليه من إضافة العام إلى الخاص وهو متعلق بالاستقرار الواقع خبرا، وقوله سبحانه: يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال نشأ من الأخبار بكون الملك يومئذ لله، وضمير الجمع للفريقين المؤمنين والكافرين لذكرهما أولا واشتمال التفصيل عليهما آخرا، نعم ذكر الكافرين قبيله ربما يوهم تخصيصه بهم كأنه قيل: فماذا يصنع سبحانه بالفريقين حينئذ؟ فقيل: يحكم بينهم بالمجازاة، وجوز أن تكون حالا من الاسم الجليل فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وهم الذين لا مرية لهم فيما أشير إليه سباقا كيفما كان متعلق الإيمان فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي مستقرون في جنات مشتملة على النعم الكثيرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وهم الذين لا يزالون في مرية من ذلك، وفي متعلق الكفر احتمالات كاحتمالات متعلق الإيمان وزيادة وهي احتمال أن يكون متعلقة الآيات، والظاهر أن المراد بها الآيات التنزيلية، وجوز أن يراد بها الأدلة وأن يراد بها الأعم ويتحصل مما ذكر خمسة عشر
احتمالا في الآية، ولعل أولاها ما قرب به العطف إلى التأسيس فتأمل، والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى: فَأُولئِكَ مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الشر والفساد. وقوله سبحانه: لَهُمْ عَذابٌ جملة اسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبرا للمبتدأ الثاني أو لَهُمْ خبر له وعَذابٌ مرتفع على الفاعلية بالاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، وتصديره بالفاء قيل للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب فبائحهم ولذا جيء بأولئك.
(9/177)
________________________________________
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
وقيل لهم عذاب بلام الاستحقاق وكان الظاهر في عذاب كما قيل: فِي جَنَّاتِ وجعل تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بأن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لإيجاب محاسنهم إياها، ولا ينافي ذلك قوله تعالى:
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: 6] ونحوه لأنها بمقتضى وعده تعالى على الإثابة عليها قد تجعل سببا، وقيل جيء بالفاء لأن الكلام لخروجه مخرج التفصيل بتقدير أما فكأنه قيل: فأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك إلخ وليس بشيء لأن ذلك يقتضي تقدير أما في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ ولا يتسنى فيه لعدم الفاء في الخبر وقوله تعالى:
مُهِينٌ صفة لعذاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة، ولم يتعرض لوصف هؤلاء الكفرة بعمل السيئات كما تعرض لوصف المؤمنين بعمل الصالحات قيل لظهور عدم اتصافهم بغيره أعني العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى علس لسان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كفرهم وتكذيبهم بالآيات، وقيل مبالغة في تهويل أمر الكفر حيث أخبر سبحانه أن للمتصف به دون عمل السيئات عذابا مهينا ولو تعرض لذلك لأفاد أن ذلك العذاب للمتصف بالمجموع فيضعف التهويل، والقول بأن المراد من التكذيب بالآيات عمل السيئات أو في الكلام صنعة الاحتباك والأصل فالذين آمنوا وصدقوا بآياتنا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وعملوا السيئات فأولئك لهم عذاب مهين خلاف الظاهر كما لا يخفى.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا أي في تضاعيف المهاجرة، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبرا، ومن منع أضمر قولا هو الخبر والجملة محكية به، وقوله سبحانه: رِزْقاً حَسَناً إما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقا حسنا أو مصدر مبين للنوع، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق ويؤيده ما
أخرجه ابن
(9/178)
________________________________________
أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات مرابطا أجري عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرؤوا إن شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا- إلى قوله تعالى- حَلِيمٌ»
وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون: المراد به ما لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة، ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم.
وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير رِزْقاً يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين، وقيل: المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلق الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر.
وقال الكلبي: هو الغنيمة، وقال الأصم: هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هود: 88] ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو موتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا، ولعل قائل ذلك يقول: إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضا.
وظاهر الآية على ما قيل: استواء من قتل ومن مات مهاجرا في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم، وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا الآية.
ويؤيد ذلك بما
روي عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان»
فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجرا في سبيل الله تعالى شهيدا كالقتيل وبه صرح بعضهم، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطي ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى، وما تقدم في سبب النزول غير مجمع عليه، فقد روي أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت، واستدل بعضهم بهذا أيضا على التسوية، وقال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد، وأيا ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل، ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولا أولياء في الذين آمنوا وعملوا الصالحات تفخيما لشأنهم وهو كما ترى، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه.
واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد.
وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلانا من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما
(9/179)
________________________________________
لا بأس به، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله.
وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه «ليرزقنهم الله» أو بدل منه مقصود منه تأكيده ومُدْخَلًا إما اسم. مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، أو مصدر ميمي، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل على الثاني: إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام.
وقرأ أهل المدينة «مدخلا» بالفتح والباقون بالضم وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم حَلِيمٌ فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضا مناسبة لما بعد ذلِكَ قد حقق أمره وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي من جازى الجاني مثل ما جني به عليه، وتسمية ما وقع ابتداء عقابا مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سببا للجزاء أطلق عليه مجازا مرسلا بعلاقة السببية، وقال بعض المحققين: يجوز أن يقال: لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية، ومَنْ موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها، والجملة مستأنفة، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للإله وإليه ذهب أبو البقاء، وقال الخفاجي: باء بِمِثْلِ آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى: بِهِ والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للإله وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ بالمعاودة إلى العقاب لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] . وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 237] . وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعي الشريطة وهي عدم العدوان، وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية.
وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع، وثانيها أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
قال في الكشف: فهو أي إِنَّ اللَّهَ إلخ على هذا أيضا تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه، وفيه إدماج أيضا للحث على العفو وهذا وجه وجيه اهـ، وثالثها أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولا إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى: مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ والخبر الآخر قوله تعالى: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إحلاله ثانيا بذلك.
وجعل ذلك بعضهم من التقدم والتأخير ولا ضرورة إليه، وقيل: إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى
(9/180)
________________________________________