المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تاريخ نزول القرآن


hania
10-18-2019, 08:07 PM
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: تاريخ نزول القرآن
المؤلف: محمد رأفت سعيد
الناشر: دار الوفاء - المنصورة، مصر
الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2002 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72).
وهذا نبى الله صالح أرسله الله إلى ثمود فدعاهم إلى التوحيد، وقال لهم ما قاله نوح وما قاله هو: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وجاءهم بآية خارقة ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فكان للناقة شرب ولهم شرب يوم معلوم، فكان عندهم بئر كبيرة يتناوبونها هم والناقة وهى المعروفة ببئر الناقة، فللناقة يوم تشربها، ويشربون اللبن من ضرعها، ولهم يوم يردونها، وتصدر الناقة عنهم. وقال لهم نبيهم صالح عليه السّلام ذروها تأكل فى أرض الله فلا عليكم من مئونتها شىء، ولا تمسوها بسوء، وذكّرهم بنعم الله عليهم حيث مكّن لهم فى الأرض، ويسّر لهم الأسباب التى توصلهم إلى ما يريدون فاتخذوا القصور ونحتوا الجبال بيوتا، وجاءوا بعد عاد وعرفوا ما حدث لهم ونهاهم عن الفساد. فتصدى له كذلك الملأ الذين استكبروا، وحاول الملأ أن يشككوا المستضعفين ويتنوهم عن الإيمان بنبى الله صالح عليه السّلام وعقروا الناقة ولم يستجيبوا لأمر ربهم وتعجّلوا العذاب فأبادهم الله وقطع دابرهم، قال تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79).
وقد حذر الرسول الناس من سلوك سبيل هؤلاء، فأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى فى الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال: «يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات. فإن قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحتلبون من لبنها
(1/276)
________________________________________
مثل الذى كانوا يأخذون من مائها يوم غبّها، وتصدر من هذا الفجّ فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدا من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا كان فى حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله»، فقيل: يا رسول الله من هو؟ فقال:
«أبو رغال؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» قال ابن كثير: هذا الحديث على شرط مسلم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبى الطفيل مرفوعا مثله.
وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم». وأصل الحديث فى الصحيحين من غير وجه، وفى لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود.
وتناولت سورة الأعراف كذلك لوطا مع قومه الذين وقعوا فى الفاحشة التى ما سبقوا إليها، وهى: إتيان أدبار الرجال لقضاء الشهوة دون أن يمنعهم حياء وكانوا كالبهائم التى ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة، ويتجاوزون فى فعلهم هذا الزوجات من النساء اللاتى هن محل لقضاء الشهوة. ولما فسدت حالهم فى هذه العلاقات الآثمة فسدت نظرتهم إلى الأمور، والحكم على الناس فقالوا: أخرجوا آل لوط وأتباعه من قريتكم؛ لأنهم يتطهرون عن الإتيان فى هذا المأتى قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب. وأصبح فى نظرهم الطهر عيبا يستوجب العقوبة. فأنجى الله لوطا وأهله إلا امرأته كانت من الباقين فى عذاب الله. قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84).
وجاء بعد ذكر لوط عليه السّلام وقومه ذكر شعيب وإرساله إلى مدين، وأمره لهم بعبادة الله سبحانه وحده وحثّه لهم على الاستقامة فى البيع والشراء بإتمام الكيل والميزان، وألّا
(1/277)
________________________________________
ينقصوا الناس أشياءهم، وألا يفسدوا فى الأرض، وألا يصدوا الناس عن الحق والهدى، وألا يبغوها عوجا، وأن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن ينتفعوا بعاقبة المفسدين.
وتناولت السورة شعيبا عليه السّلام وإرساله إلى مدين وأمره لهم بعبادة الله سبحانه وحده والإصلاح الاقتصادى، وعدم الإفساد فى الأرض، وعدم الصدّ عن الحق وتذكّر نعم الله عليهم والانتفاع بما وقع لغيرهم قال تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93).
ولقد قدّمت سورة الأعراف نماذج متعددة من سلوك الناس مع رسل الله فى شركهم واستهانتهم بالحق وسخريتهم وفساد تصوراتهم وكبرهم وتكذيبهم، ووقوعهم فى الفاحشة، وسوء معاملاتهم الاقتصادية، وصدّهم عن سبيل الهدى، وإرادتهم للفساد فى الأرض وعدم انتفاعهم بما حدث لغيرهم، وكل هذا يمثل دروسا نافعة للناس؛ كى يفيدوا من أحداث السابقين والسعيد من وعظ بغيره. ولذلك كان التعقيب القرآنى بعد ذكر هذا القصص الحق: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95).
وإذا كان العقلاء هم الذين ينتفعون بما يحدث لغيرهم على مرّ الأيام والليالى فإن
(1/278)
________________________________________
الغافلين عن سنة الله فى خلقه لا يفيدون من حالات البأساء والضراء والتقلب فى الغنى والصحة بعد العذاب، ويعدّون هذا من قبيل العادات حتى يفاجئهم العذاب.
وتذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك سبيل الفتح والبركات لأهل القرى فى الإيمان والتقوى، وسبيل العذاب فى التكذيب والذنوب وعدم الوفاء، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ
أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ
(102).
وبعد هذا البيان الشافى والمبيّن لسنة الله فى خلقه عبر التاريخ يأتى التفصيل فى سورة الأعراف لما حدث من فرعون الذى يمثل قمة الطغيان البشرى، وكيف واجهه موسى عليه السّلام بالآيات والبراهين؛ ليرجع عن طغيانه وإفساده، ولكنه كذّب وأبى فأغرقه الله وأذاقه وآله العذاب الأليم، وتعرض الآيات الكريمة تفصيلا للمواقف التى حدثت مع نبى الله موسى ومن آمن معه من فرعون وملئه، قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122).
(1/279)
________________________________________
ولو كان فرعون على بصيرة لأذعن من رؤيته لموقف سحرته، وأن ما جاء به موسى ليس من قبيل سحرهم، ولكنه لم يفد من هذا، وادعى لنفسه السلطة على عقول الناس وقلوبهم فلا ينبغى أن يرى أحد إلا ما يراه فرعون، قال جل شأنه: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126).
ثم تذكر الآيات تسلط فرعون على قومه فى عقولهم وقلوبهم، وموقف السحرة بعد إيمانهم بآيات ربهم، واستعلائهم على عذاب فرعون وطلبهم من ربهم رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك إغراء الملأ من قوم فرعون له بموسى ومن آمن معه لإيقاع المزيد من الأذى بهم، واستجابة فرعون لهذا، وموقفه من ضعاف القوم من الأبناء والنساء ويأمر موسى قومه بالاستعانة بالله والصبر والأمل فى العاقبة الطيبة. وتصريح قوم موسى بوقوع الأذى بهم من قبل أن يأتيهم ومن بعد إيمانهم به وتعقيب موسى عليه السّلام بالرجاء فى استخلافهم فى الأرض، وإهلاك عدوّهم فماذا سيعمل هؤلاء بعد هذه المنّة. وأما آل فرعون فقد أخذهم الله بالقحط فلم يتعظوا، وإذا جاءهم الخصب والغنى لم يشكروا، وإذا جاءهم الجدب تشاءموا بموسى ومن آمن معه، وكان بعد ذلك إصرارهم على الكفر، وأنهم مهما جاءهم موسى بآية فلن يؤمنوا فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكان منهم الاستكبار والإجرام، فلما وقع عليهم العذاب بالإضافة إلى ما سبق من الآيات، وقيل فى العذاب: إنه الطاعون طلبوا من موسى أن يدعو ربّه إن كشف عنهم العذاب أن يؤمنوا فلما كشف عنهم العذاب إلى أجل نقضوا عهدهم، وأصروا على كفرهم، فأغرقهم الله فى البحر بتكذيبهم، وأورث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها.
وفى هذا العرض لما حدث لموسى وقومه وفرعون وقومه بيان للناس؛ حتى يفيدوا من تجارب السابقين وفى الوقت نفسه بيان لطبيعة بنى إسرائيل ليتهيأ المؤمنون فى معاملتهم بعد تأسيس الدولة بالمدينة المنورة فسيجدون اليهود- هناك- قال تعالى:
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا
(1/280)
________________________________________
إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137).
وبعد هذا الإنعام من الله تعالى على بنى إسرائيل وعبورهم البحر يأتون على قوم يقيمون على عبادة الأصنام فيقولون لموسى عليه السّلام: اجعل لنا صنما نعبده كما لهم آلهة، وهذا يدل على جهلهم وعدم استيعابهم لدعوة موسى عليه السّلام فذكّرهم موسى عليه السّلام بنعمة الله عليهم، وضلال أهل الوثنية، وأن المعبود بحق هو الله وحده، وتذكر الآيات ما كان من تهيؤ موسى لميقات ربّه، واستخلافه لهارون فى قومه ووصيته له بالإصلاح والتحذير من سبيل المفسدين. وهذه الأمور من الغيب الماضى الذى لا يعلمه إلا الله، وهو دليل على أن هذا القرآن كلام الله. وتقصّ الآيات ما كان من مطلب موسى عليه السّلام بعد أن كلّمه ربّه فى النظر إليه سبحانه، وكان بيان الحكمة من
عدم تحقيق هذه الرؤية لموسى عليه السّلام فى الدنيا بتجلى الله سبحانه للجبل، وهو أشدّ خلقا من الإنسان فلم يقو الجبل على ذلك، فكيف يطيق الإنسان فى الدنيا النظر إلى خالقه سبحانه. قال تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ
(1/281)
________________________________________
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143).
ويأتى بعد ذلك ذكر اصطفاء الله سبحانه لموسى عليه السّلام برسالاته وبكلامه وتوجيه موسى إلى أخذ ما أوتى والشكر لله عليه: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) فالذى أوتى موسى نعمة كبرى تستوجب الشكر ففيها الإنقاذ لقومه مما حلّ بهم من فرعون وملئه، وفيه الشفاء مما أصاب عقولهم ونفوسهم من الضلال فى العقيدة حيث تشوّفوا إلى عبادة غير الله، وحيث استبدت بهم الجوانب المادية وملكت نفوسهم فجعلوها محورهم الذى عليه يدورون.
وتبين الآيات الكريمة فى سياقها التعليمى للأمة الخاتمة أن الانتفاع بما أوتى موسى لن يكون إلا بأخذه بقوة وهمة ونشاط وأخذ أحسن ما يسمع قال تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145).
وتبين الآيات الكريمة فى توجيهاتها الحكيمة الصوارف للناس عن الانتفاع بالآيات، ومن أخطرها الكبر فى الأرض بغير الحق مما يدفع المتكبرين إلى عدم الإذعان لوحى الله، والميل والاختيار لطريق الغىّ فى الوقت الذى يرون فيه الطريقين، وهؤلاء الذين لم ينتفعوا بالآيات لتكذيبهم بها وغفلتهم عنها، وعما تضمّنته من الوعد والوعيد فى لقاء الآخرة خسروا أعمالهم وسيجدون جزاء موقفهم هذا، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا
(1/282)
________________________________________
يَعْمَلُونَ (147) وفى بيان ما ضلّ فيه بنو إسرائيل من أمر العقيدة تذكر الآيات الكريمة صنيع قوم موسى للعجل من حليّهم دون أن يعملوا عقولهم فى حالهم، وكيف أنقذهم الله بالتوحيد الذى جاء به موسى، ولما وقعوا فى الضلال استدركوا فلولا رحمة الله ومغفرته لكانوا من الخاسرين، قال جل شأنه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149).
ورجع موسى عليه السّلام ليجد هذه الحالة المؤسفة فى قومه فيذمهم بغضب على ما صنعوا، وأخذ برأس أخيه ولكنّ أخاه عبر عن موقفه مع القوم بأنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه. ومعنى ذلك أنه قاومهم ولم يحدث منه إقرار لهم على صنيعهم فليس من هؤلاء الظالمين، فدعا موسى لنفسه ولأخيه بالمغفرة والرحمة. وأما الذين اتخذوا العجل فسينالهم الغضب من ربهم والذلة. وأما الذين عملوا السيئات ثم استدركوا أنفسهم بالتوبة وصدق الإيمان فإن الله غفور رحيم.
وذكر هذه الأحداث بهذه السورة المكية تهيئ النفوس لمعرفة طبيعة قوم سيكون لهم خطر شديد، وبيان حقيقة نفوسهم تجعل المؤمنين على بصيرة من أمرهم، وهذا التجاور الذى سيتحقق فى المدينة بعد الهجرة ينبغى أن يحسب حسابه، ليجنب الله عباده المؤمنين كيد اليهود، وليدرك من شاء من اليهود حقيقة الوحى المنزل على رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم والذى يذكر ما حدث لهم مع نبى الله موسى عليه السّلام ولا يعلم ذلك إلا أحبارهم على ما فى أيديهم من بقايا التوراة التى عبثوا بها وغيروها وبدّلوها، ومن هذه التفصيلات كذلك أن موسى عليه السّلام لما سكت عنه الغضب أخذ الألواح بما فيها من هدى ورحمة، واختار سبعين رجلا لميقات ربه، فلما أخذتهم الرجفة كان تذكر موسى عليه السّلام لأفعال السفهاء من قومه قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ.
قال تعالى فى بيان ذلك من سورة الأعرف: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ
(1/283)
________________________________________
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ
(156).
ومع ذكر هذه العبرة التاريخية للأمة الخاتمة فى دعاء موسى عليه السّلام من أن عذاب الله يصيب به من يشاء، وأن رحمته سبحانه وسعت كلّ شىء، وأنه سيكتبها لأهل التقوى والزكاة وأهل الإيمان بآياته. يأتى الوصل اللطيف والذى يوجه للناس جميعا، ومنهم هؤلاء اليهود فالدعوة عامة وذكرهم قد تحقق قبل الهجرة فقد نزل قدر عظيم من القرآن الكريم، فليهيئوا أنفسهم لاستقبال الرسالة الخاتمة، فإن رحمة الله التى وسعت كل شىء، والتى ذكرت بعد دعاء موسى عليه السّلام ستكتب لهؤلاء المتقين ومن أبرز علاماتهم كذلك: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) وفى هذا توجيه لليهود وللنصارى كذلك: وبيان لهم وللناس أجمعين أن الرسول الكريم جاءهم برسالته العظيمة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويحقق للإنسان كرامته ويضع عنه الأغلال التى كبّل بها. وأن الواجب على من أراد الفلاح أن يؤمن به، وأن يقف بجانبه مؤيدا ونصيرا وأن يتبع النور الذى أنزل معه.
وهذا الحال للناس جميعا فرسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين من المشركين واليهود والنصارى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
(1/284)
________________________________________
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) فالله سبحانه له ملك السماوات والأرض وهو المعبود بحق وهو يحيى ويميت ومنّ على خلقه السابقين والحاضرين برسله وخاتمهم النبى الأمىّ الذى جاء مصدّقا بكلمات ربه فليس أمام من يريد الهدى من العالمين إلا أتباعه صلّى الله عليه وسلم.
وتذكر الآيات المنزلة بعد ذلك ما كان من شأن قوم موسى من وجود أمة يهدون بالحق، وما كان من فضل الله عليهم بموسى وسقيهم بالماء وتظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى وطيبات الرزق، وتوجيه القول لهم بسكنى هذه القرية، وماذا يصنعون لتحقيق المغفرة، لكن بدّل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فكان العذاب قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162).
وأما قوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ فقد نزلت بالمدينة على نحو ما فصّلنا فى بداية السورة الكريمة وفيها ذكر صنيع اليهود فى التحايل وصولا إلى ما يريدون: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وفيها ذكر موقفهم من المواعظ وقسوة قلوبهم ونسيانهم، مما جعلهم أهلا للعقوبة الشديدة والمسخ وتسليط غيرهم عليهم وتقطيعهم فى الأرض، قال تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ
(1/285)
________________________________________
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170).
وتستمر الآيات الكريمة من سورة الأعراف فى بيان ما حدث مع قوم موسى لكشف ما كانوا عليه من ناحية، ولبيان أن رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين، وأن مسيرة الوحى منذ آدم عليه السّلام مستمرة إلى خاتمة الوحى فى رسالة رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم إلى العالمين، وتؤكد الآيات على معنى الأخذ بهمة وقوة لوحى الله؛ حتى يثمر فى الأخذ كما تأخذ الآيات على من يفصل بين العلم والعمل فلا يأخذها للعمل بهمة ونشاط، فلا ينتفع بها، ولا يتجمل بها ويصبح كالإنسان الذى انسلخ من جلده، فصار فى منظر كريه تشمئز منه النفس السوية فالجلد يجمّل الإنسان، وبه عناصر الحسّ الإنسانى فمن ينسلخ منه يفقد زينته، ويفقد حسّه وكذلك الذى تأتيه الآيات، فلا يحسن فى أخذها والانتفاع بها والعمل بما تضمنته من المعانى.
ويخرج كذلك الإنسان بهذا الإهمال وهذا التعطيل من دائرة التكريم الذى جعل الله عليه الإنسان، فهو تكريم مرتبط بمدى استجابة الإنسان لربّه، وإذا لم يستجب خرج من دائرة التكريم إلى دوائر مهينة- كما ذكر فى الآيات الكريمة هنا- حيث يكون كالكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ كما تحذر الآيات من الغفلة والتقليد الأعمى للمبطلين وأن هذا لا يصلح للتبرير يوم الحساب قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا
إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ
(1/286)
________________________________________
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178).
وتستمر الآيات الكريمة فى بيان أن الإنسان يبقى فى دائرة التكريم الإلهى ما دام مستجيبا لوحى ربه فإذا لم يكن كذلك خرج من هذه الدائرة إلى دوائر أخرى مهينة فالذى آتاه الله قلبا ولكن لا يفقه به وآتاه عينا ولكن لا يبصر بها الحق وآتاه الله أذنا ولكن لا يسمع بها. إن الذى أوتى هذه الأجهزة، ورزق هذه النعم فلم يحسن الانتفاع بها فى حسن تلقيها لوحى ربها خرج من دائرة التكريم وصار فى دائرة الأنعام، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179).
وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك تعريفا للناس بالله سبحانه فله جل شأنه الأسماء الحسنى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180).
وتبين الآيات الكريمة انقسام الخلق إلى أمة تهدى بالحق، وإلى المكذبين بالآيات وهؤلاء يستدرجون من حيث لا يعلمون. ثم تنبه المخاطبين بالوحى فى أن يفكروا، لأنهم بالفكر السليم والنظر الثاقب سيدركون خطورة تكذيبهم وسيعلمون منّة الله عليهم فى بعثة الرسول من أنفسهم لينذرهم، قال تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186).
وتقدم الآيات بعد ذلك جوابا عن سؤال وجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الساعة ومتى هى فتبين الآيتان علمها عند الله وأنها ستأتى فجأة. وفى هذا بيان للناس أن ما يتعلق بعلم الغيب فلا أحد يعلم عنه إلا ما شاء الله وأن رسوله صلّى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ
(1/287)
________________________________________
إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188).
تأتى بعد ذلك الآيات الكريمة لتنبه الناس إلى حقيقة الخلق وما ينبغى أن يكون الإنسان عليه مع تذكّره، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) فالخالق هو الله سبحانه وتعالى فله الخلق وحده. والناس جميعا خلقهم الله من نفس واحدة، ومنّ الله على الإنسان بنعمة السكن النفسى فجعل من آدم عليه السّلام زوجة ليسكن إليها فهذه بداية البشرية. فالكل يعود إلى أصل واحد «كلكم لآدم» وزوجته منه، وليست من شىء آخر منفصل عنه. فلا تمايز- إذن- بين الناس من ناحية الخلق يجعلهم فى تحاسد وتباغض وكبر وأمراض تدفع بهم إلى الصدود عن الهدى، وعدم الاستجابة للداعى إلى الحق والرشاد. والخالق سبحانه الذى أنعم على الإنسان بنعمة الخلق والسكن والذرية من حقه على خلقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ولكنّ البشرية قد نكبت بوقوع الشرك فيها من الشرك فى التسمية، كأن يسمّى الإنسان بعبد الحارث وعبد العزى وهكذا، أو ما حدث من بعض البشر من الشرك فى العبادة. وقد نبّه المفسرون إلى الانتقال من النوع إلى الجنس، فإن أوّل الكلام فى آدم وحواء ثم انتقل الكلام فى الجنس أى ما حدث من الذرية.
وتقدم الآيات الكريمة ما يعين الإنسان على التخلى عن عبادة غير الله سبحانه والتطهر من الشرك. فإن هؤلاء الشركاء لا يخلقون شيئا بل هم مخلوقون ولا
(1/288)
________________________________________
يستطيعون دفع مكروه عمن يعبدونهم ولا عن أنفسهم. إنهم لا يسمعون ولا يبصرون.
إنهم يشتركون مع عابديهم فى أنهم مملوكون لله سبحانه فهى مخلوقة كذلك. بل الإنسان له رجل يمشى عليها وله يد يبطش بها وله عين يبصر بها وله أذن يسمع بها، أما هؤلاء فحجارة وأخشاب فكيف تعبد من الإنسان.
وإذا ذكّرت الآيات الكريمة الإنسان بهذه الحقائق فإنها توجهه إلى العبودية الحقّة لله سبحانه وحده إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ كما ترشده إلى سبيل الصلاح وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196).
ومن المعانى التى تذكر فى الآيات الكريمة بعد بيان بطلان الشركاء ما يدعّم مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) ونزول الآية الكريمة بهذه المعانى فى الفترة المكية تعين الرسول صلّى الله عليه وسلم على مواجهة الأذى من المشركين، كما تعين المؤمنين على ذلك، قال جابر بن سليم أبو جرىّ: ركبت قعودى ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنخت قعودى بباب المسجد فدلّونى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام». فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلّمنى كلمات ينفعنى الله بها. قال: «ادن» ثلاثا، فدنوت، فقال: «أعد علىّ» فأعدت عليه، فقال: «اتق الله ولا تحقرنّ من المعروف شيئا، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط، وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستسقى وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبّن شيئا مما خوّلك الله تعالى» قال أبو جرىّ: فو الذى نفسى بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار فى مسنده بمعناه «1». فهذه الأخلاق التى تبلغ الذروة من المكارم يوجّه الناس إليها فى مواجهة الجاهليين والمسيئين والقاطعين. روى البخارى من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير فى قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا فى أخلاق الناس. وجاء فى تفسيرها: «إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك وتصل من قطعك» «2».
وبعد ذكر هذه المكارم الخلقية يأتى التوجيه إلى التحصين من الشيطان إذا استثار الإنسان ليغضبه أو ليأمره بالسوء والفحشاء أو القول على الله بما لا يعلم الإنسان. وأن
__________
(1) القرطبى 7/ 233، 345.
(2) القرطبى 7/ 345.
(1/289)
________________________________________
المتقين على بصيرة ووعى، لا يستطيع الشيطان أن يدخل إليهم وأما إخوانه الشياطين وأولياؤهم فإنهم إذا اقترفوا الذنوب لا يزالون يمدونهم فى الغى ذنبا بعد ذنب. قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202).
وتختم سورة الأعراف بذكر قضية كبرى ينبغى أن يعرفها الناس، وهى أن الوحى يتنزل بأمر ربك وأن مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم التبليغ واتباع الوحى بما فيه من حجج وهدى ورحمة. وأن الواجب مع القرآن الكريم الاستماع والإنصات حتى يؤخذ بهمة، وينال المتلقى رحمة الله. وأن يتحصن الإنسان بذكر ربه وألا يقع فى دائرة الغفلة، وأن ما يؤديه المرء من وجوه العبادات، فإنما هى لخيره وسعادته، فالناس فى أشد الحاجة إلى عبادتهم لله سبحانه وهو الغنى عنهم، قال تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206).
(1/290)
________________________________________
سورة «الجن»
نزلت بعد سورة «الأعراف» فهى مكية، قال القرطبى: فى قول الجميع وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة «الجن» بمكة «1»، وعن عائشة رضي الله عنها وابن الزبير مثله «2».
وقد أخرج أحمد والبخارى ومسلم والترمذى وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «انطلق النبى صلّى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شىء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعرفوا ما هذا الأمر الذى حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا والله الذى حال بينكم وبين خبر السماء، فهنا لك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: «يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا» فأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وإنما أوحى إليه قول الجنّ».
وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذى وصححه والنسائى وابن جرير والطبرانى وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
«كانت الشياطين لهم مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم: ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذى حدث فى الأرض» «3».
وأما ما تضمنته سورة الجن من المعانى على ترتيب نزولها فإنها تعالج معارف الناس عن نوع من مخلوقات الله سبحانه قد اختلط على الناس الفهم لحقيقة هذا النوع المتمثل
__________
(1) فتح القدير 5/ 302 وقد أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقى.
(2) أخرجه ابن مردويه- المرجع السابق 5/ 302.
(3) فتح القدير 5/ 306، 307.
(1/291)
________________________________________
فى الجن. فنظرا لكون الجن يمثل للإنسان غيبا مجهولا فإن نظرة الناس إلى الجنّ شابها كثير من الأخطاء حيث تصور البعض من الناس أن الجن يعلم الغيب، واستعاذ بعض الإنس بالجن، واستعان بعضهم كالشعراء مثلا بالجن فى قرض الشعر، وهكذا نزلت سورة الجن لتبرز هذه المعانى المتصلة بالجن فهم أمة كالإنس منهم المؤمنون ومنهم غير ذلك، ومنهم المخدوعون بأكاذيب الإنس والجن عن الله سبحانه ونسبة الصاحب والولد إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5).
وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من استعاذة الإنس بالجن وعاقبة ذلك. قال الحسن وابن زيد وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيد هذا الوادى من شرّ سفهاء قومه فيبيت فى جواره حتى يصبح فنزلت هذه الآية «1»: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بنى حنيفة، ثم فشا ذلك فى العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم «1»، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القوم فى الجاهلية إذا نزلوا بالوادى قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادى من شرّ ما فيه، فلا يكون بشيء أشدّ ولعا منهم بهم فذلك قوله فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) «3».
كما تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك وقوع بعض الجن فى التكذيب بالبعث قال تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7).
كما تذكر الآيات تحصين السماء من استراق السمع وخاصة بعد بعثة النبى صلّى الله عليه وسلم قال تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9).
وقد ذكر الإمام الشوكانى أنهم قد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك. وحكى الواحدى عن معمر قال: قلت للزهرى: أكان يرمى بالنجوم فى الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها ... الآية، قال: غلّظت وشدّد أمرها حين بعث محمد صلّى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكن لم يكن مثله فى شدة الحراسة بعد مبعثه
__________
(1) فتح القدير 5/ 305.
(3) المرجع السابق 5/ 307.
(1/292)
________________________________________
وكانوا يسترقون فى بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلا «1».
وفى مواجهة ظن بعض الناس أن الجن تعلم غيبا جاء قوله تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10).
وعلى ذلك فلا يلجأ إلى الجن لطلب معرفة الغيب فهم لا يعلمون شيئا.
ثم يأتى بعد ذلك تعريف الناس بحقيقة الجن فى قول الله تعالى فى شأن الجن:
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) فالجن جماعات متفرقة وأصناف مختلفة، قال السدى والضحاك: على أديان مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة، وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس، وكذا قال مجاهد.
وقال الحسن: الجنّ أمثالكم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة «2». وعلى ذلك فليسوا سواء فمنهم الصالحون ومنهم غير الصالحين على اختلاف درجات السوء.
وهؤلاء الذين يعرفون حقيقة أنفسهم ويعترفون بما هم فيه من اختلاف يقرّرون كذلك ضعفهم وعجزهم أمام قدرة الخالق جل جلاله قال تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12). وهذه المجموعة المؤمنة من الجن تحكى كيف آمنت بعد سماعها للهدى كما تذكر الآية الكريمة عاقبة هذا الإيمان قال تعالى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) بل تذكر الآية الكريمة بعد ذلك إدراك هؤلاء الجن لمعنى الإسلام كذلك كما أدركوا من قبل معنى الإيمان كما تنبه الآية الكريمة إلى عاقبة الإسلام أيضا، وعاقبة من حاد عن الطريق الحق. قال تعالى:
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وبعد هذا التعريف بالجن وحقيقته حتى لا يضل الناس
الفهم لهذا النوع من المخلوقات يأتى تذكير الناس بأن الاستقامة على وحى الله وهديه هى سبيل الرزق الحسن الذى يتطلع إليه الناس مع تعريف الناس بأن ما يرزق به الإنسان يكون موضع اختبار لهم. وفى مقابل هذه الاستقامة الإعراض عن ذكر الله، وهذا الإعراض سبيل لدخول الإنسان فى العذاب الشاق. قال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17).
وبعد ذكر هذا التوجيه الكريم للإنس وللجن. يقول سعيد بن جبير: قالت الجنّ:
كيف لنا أن نأتى المساجد ونشهد معك الصلاة، ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: وَأَنَ
__________
(1) فتح القدير 5/ 305، 306.
(2) فتح القدير 5/ 306.
(1/293)
________________________________________
الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وعلى ذلك يكون ذكر المساجد هنا يعنى المواضع التى بنيت للصلاة فيها، وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلّها مسجد، وقال سعيد بن المسيب: أراد بالمساجد الأعضاء التى يسجد عليها العبد وهى القدمان والركبتان واليدان والجبهة، يقول هذه أعضاء أنعم الله بها عليك فلا يسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما فى قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال: لم يكن يوم نزلت هذه الآية فى الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيلياء ببيت المقدس.
وتذكر الآية الكريمة بعد ذلك كيف كان ازدحام الجن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يعبد ربّه ويقرأ القرآن الكريم، وفى هذا توجيه للإنس للإقبال على القرآن الكريم وسماعه، قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19).
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس فى الآية قال: لما سمعوا النبى صلّى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى آتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وأخرج عبد بن حميد والترمذى وصححه وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء فى المختارة عنه أيضا فى الآية قال: «لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلى بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا.
ثم تذكر الآية بعد ذلك التأكيد على توحيد الربوبية والألوهية فى هذا الأمر الإلهى فى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً وأنه لتخليص هذا التوحيد فلا يعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يملك لأحد ضرا ولا رشدا، قال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) وسبب نزول هذه الآية: أن كفار قريش قالوا للنبى صلّى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذ فنحن نجيرك قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) أى لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا، ولا أسوق إليكم خيرا كما تؤكد آيات السورة الكريمة أن الناس جميعا أمام الله فى الطاعة والمعصية سواء، وأن مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم هى البلاغ. وعلى ذلك فتكون آيات سورة الجن لتخليص المخلوقين: من الجن والإنس من كل شوائب الشرك والتعلق بغير الله رغبة ورهبة، قال تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23).
(1/294)
________________________________________
كما حذرت الآيات من المعصية ببيان عاقبتها، وأن وعد الله ووعيده يتحققان، وأن وعيد الله سبحانه لا يقربه استعجال أحد، وإنما ينزله الله إن شاء، وأن هذا فى الغيب الذى لا يعلمه إلا الله. وأن الله سبحانه لا يطلع على غيبه إلا من شاء من رسله ولا تستطيع أى قوة أن تأخذ من هذا الغيب شيئا فيتحقق إبلاغ رسالات الله فى أمن تام.
قال الله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28).
(1/295)
________________________________________
سورة «يس»
نزلت بعد سورة «الجن» وهى مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) نزلت فى بنى سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم أى أنها مدنية «1». أخرج عبد الرزاق والترمذى وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى فى الشعب عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: «كان بنو سلمة فى ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنه يكتب آثاركم». ثم قرأ عليهم الآية، فتركوا «2» وأخرج الفريابى وأحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس
نحوه. وفى صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه قال:
إن بنى سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحوّلوا قريبا من المسجد، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنى سلمة دياركم تكتب آثاركم» «2» وعلى ذلك فالآية مدنية وأما بقية السورة فمكية.
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فى المسجد فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمى لا يبصرون، فجاءوا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا للنبى صلّى الله عليه وسلّم فيهم قرابة، فدعا النبى صلّى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد يقول الإمام الشوكانى رحمه الله:
وفى الباب روايات فى سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة «4».
__________
(1) القرطبى 15/ 5، وفتح القدير 4/ 362، 363.
(2) فتح القدير 4/ 362، 363.
(4) فتح القدير 4/ 362.
(1/296)
________________________________________
وعلى ذلك فإن الآيات الكريمة تؤكد بهذا القسم صدق الرسول فى رسالته، ووصف القرآن الكريم بالحكمة فهو يهدى للتى هى أقوم، ويضع أمور الناس فى مواضعها لتستقيم حياتهم فى شتى صورها، وأن رسوله صلّى الله عليه وسلّم على صراط مستقيم فى كل شىء فيما جاء به من عقيدة التوحيد، وفيما دعا إليه من مكارم الأخلاق، وفيما يبسطه للناس من وحى ربه ليخرجهم فى معاملاتهم من الظلمات إلى النور. وأن الله سبحانه هو الذى أنزل على رسوله كتابه وهو العزيز الذى يحمى كتابه بعزته عن التغيير والتبديل وهو الرحيم بعباده فى بعثة رسوله إليهم بهذا الكتاب الكريم، لينذر الناس الذين غرقوا فى الغفلة والجهالة وعمتهم الضلالة. وتكاشفهم الآيات الكريمة بما صاروا إليه مع التنزيل الحكيم فمنهم من أعرض ورفض الحق وهؤلاء حق القول عليهم فلم يؤمنوا وظلوا على شركهم وكفرهم وكان فيهم قول الله تعالى بعد ذلك: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10).
وأما الآخرون الذين يفيدون من البشير النذير صلّى الله عليه وسلّم فهم الذين يخشون الرحمن بالغيب وهم الذين يتبعون النبىّ الكريم وهؤلاء لهم البشرى بالمغفرة والأجر الكريم، قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11).
تأتى بعد ذلك الآية الكريمة المدنية لتقرر ما سبق تأكيده فى السور الكريمة السابقة من إحياء الله سبحانه للموتى وتذكر ما يصحب هذا الإحياء من المحاسبة على ما قدّم الإنسان من أعمال وعلى آثار هذه الأعمال. فالمسئولية ليست عن العمل فحسب وإنما المسئولية عن العمل وعن أثر هذا العمل. وهذا تنبيه للفريقين معا فإن من استجاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستكتب استجابته وسيكتب عمله الصالح، فإن دعا غيره إلى الاستجابة والهدى فله من الأجر مثل أجور من اتبعه. ومن أعرض وكذب وعمل سوءا فسيكتب إعراضه وسيكتب عمله. فإذا ما صدّ عن سبيل الله وآذى غيره فسيكتب أثر عمله فمن دعا إلى ضلالة فعليه مثل آثام من اتبعه. قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12).
ويضرب المثل لهؤلاء المكذبين بما يشبه حالهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتكذيبهم وكيف كانت عاقبة المكذبين بعد حرص الرسل على هدايتهم، وفى هذا المثل كشف لفساد تصور المكذبين للرسل، واصطفاء الله لهم من البشر، وبيان مهمة الرسل فى التبليغ.
وسوء ظن المكذبين وتطيرهم وإيذائهم للرسل. وموقف بعض العقلاء فى القوم الذين يدركون حقائق الأمور وينصحون أقوامهم ليهتدوا، ويسلكون فى نصحهم الأدلّة
(1/297)
________________________________________
القوية. فهذا رجل يسعى لنصح قومه ويأمرهم باتباع المرسلين ويذكر لهم أن المرسلين لا يريدون منهم مقابل دعوتهم أجرا وأنهم مهتدون، وكيف لا يعبد من خلقه ومن إليه المرجع وهو الذى بيده ملكوت كل شىء وليس للشركاء نفع ولا ضر. وعاقبة أمثال هذا الرجل الجنة ويتمنى هؤلاء أن يعرف القوم هذه العاقبة حتى يهتدوا. ولكنّ المكذبين لا ينتفعون حتى يقع بهم الهلاك، فليعتبر المخاطبون بالقرآن الكريم بهذا المثل.
وفى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي
شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ
(29).
إن العباد تدركهم الحسرة فى الدنيا والآخرة إن استقبلوا دعوة الرسل بالاستهزاء، ولم يبصروا عبرة التاريخ وما حدث للسابقين عبر القرون، قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32).
وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك آيات بينات تجمع بين دلائل القدرة وتحقيق البعث الذى ينكره المكذبون. فالأرض الميتة يشاهدونها ويشاهدون الحياة تدب فيها، إن الذى أحياها هو الله القادر سبحانه وهو الذى أخرج منها حبا يأكل منه هؤلاء. أى أنهم يلمسون موتها ويلمسون حياتها بالرؤية والأكل وما يتبعه من حواس. وجعل الله سبحانه فيها ما يجدونه من جنات ومن عيون. ومع الإيمان بقدرة الخالق سبحانه الذى لا يعجزه شىء تنبه الآيات الكريمة إلى مظاهر النعمة فى هذه الآيات، فهذه الخيرات التى جعلها الله فى الأرض ليأكل منها هؤلاء وليؤدوا حق الشكر للمنعم جل جلاله،
(1/298)
________________________________________
فسبحانه خلق الأزواج كلها مما يعلمه الناس من الأرض ومن أنفسهم وكذلك مما لا يعلمون. فهذه مظاهر القدرة والنعمة والإحياء بعد الموت فيما يشاهد الناس فى الأرض، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36).
ثم تقدم الآيات الكريمة آية أخرى تتصل بالسماء وما فيها من آيتى الشمس والقمر وما يتبع ذلك من آيتى الليل والنهار، وفيها كذلك آيات القدرة والنعمة والإحياء والإحكام، فالليل يسلخ منه النهار فتكون الظلمة والشمس تجرى فيكون النهار، وتغيب فيكون الليل ومعه القمر بمنازله، والكل يسبح وفق تقدير الخالق سبحانه. قال تعالى:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40).
ثم تقدم الآيات الكريمة آية أخرى فى الفلك المشحون وما يكون من أمر تطورها بفضل الله فى تعليم الإنسان وتوجيهه ليصل إلى تسييرها بما يكتشف من قوى حتى يصل بها إلى أقصى سرعة مستطاعة فى السير، ثم ما يكون على شاكلتها من مخترعات أخرى، فيحمل الإنسان على الماء كما يحمل فى الهواء وهذه من الآيات الباهرات كذلك والدالة على قدرة الله سبحانه فى تسيير الإنسان فى البر والبحر والجو برعايته وعنايته وحفظه، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44).
وتكشف الآيات الكريمة بعد ذلك لهؤلاء المكذبين حقيقة موقفهم مع هذه الآيات البينة وأن نظرهم إليها لا يثمر؛ لأنهم معرضون ولا تجعلهم كذلك أهلا للنصح بل يظل هؤلاء فى تخبط أفكارهم الباطلة.
فإذا دعوا إلى التقوى لا يتقون، وإذا دعوا إلى ملء بطون الجائعين أعماهم فكرهم السقيم. قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
(1/299)
________________________________________
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47).
فمن المعانى على ترتيب نزولها، كشف الآيات الكريمة لحال المعرضين المكذبين وكيف فسدت تصوراتهم وضلّ فكرهم، ومن هذا ما حكاه القرآن الكريم من قولهم:
أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بمكة زنادقة؛ فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئة فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، لو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب فخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولون من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى «1»، وقيل:
إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال:
ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال:
والله يا أبا بكر ما أنت إلا فى ضلال، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه الآية «1».
وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك قول المكذبين بالبعث، واستبعادهم وقوعه وأن ذلك قريب وسيجدون أنفسهم مأخوذين فجأة وهم فى لهوهم وجدالهم، وسيجدون أنفسهم بعد نفخة الصور مسرعين إلى ربهم للحساب العادل، قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54).
وبعد ذكر الحساب العادل تذكر الآيات الكريمة ما يصير إليه الناس من فريقين:
فريق الجنة وما أعدّ لهم من نعيم، وفريق المجرمين الذين اتبعوا الشيطان كفرا وضلالا ليجدوا عاقبة كفرهم جهنم وليجدوا أن جوارحهم تنطق بما صنع هؤلاء فى حياتهم.
قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى
__________
(1) القرطبى 15/ 37.
(1/300)
________________________________________
الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) ومن آيات القدرة المشاهدة فى خلق الإنسان أن الإنسان إذا بلغ ثمانين سنة- مثلا- تغير جسمه وضعفت قوته فطول العمر لا تتبعه زيادة فى القوة بل يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا. إن الإنسان فى هذه السنن يرد إلى أرذل العمر. فالآية تذكر هؤلاء بأن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم.
قال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68).
وتستمر الآيات الكريمة في معالجة البعث والإحياء وإقناع الإنسان عقلا بالبعث وتحريكه قلبا ليعمل بمقتضى هذا الاقتناع وتتناول الآيات الذكر المنذر به صلّى الله عليه وسلّم ومعجزته، فدليل إعجازه هذا الذكر وهذا القرآن الكريم، وليس كما ألف الناس الشعر فما علّمه ربه الشعر وما ينبغى له. كما تذكر الآيات الكريمة أن من يفيد من الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو من كان له قلب وفيه حياة، وأما الكافرون فلا ينتفعون وأمرهم عجب حيث يعيشون بين مظاهر النعم والقدرة، ولا يهتدون بل يتخذون من دون الله آلهة يستنصرون بها.
فالأنعام نعمة ودليل قدرة لخالقها سبحانه وتذليلها حتى يستطيع الناس جميعا الانتفاع بها مع قوتها وضخامتها كذلك، وما جعل فيها من منافع ومشارب كذلك أيضا فلماذا لا يشكرون ويستجيبون؟ وإذا كان هذا الموقف العجيب يحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن الآيات تسليه، قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76).
وتنبه الآيات الكريمة الإنسان إلى خلقه الأول وأنه من نطفة ونسيان هذا الخلق من أسباب إنكار البعث؛ لأن الإنسان لو تذكر كيف خلق من ماء مهين، ورأى مظاهر قدرة الله فى تحوّل الماء إلى علقة ثم إلى مضغة ثم خلق العظام المتعددة فى أشكالها وطبيعتها
(1/301)
________________________________________
ثم كسو العظام لحما. والتصوير فى هذا القرار المكين وكيف يسّر للإنسان سبيل الخروج. إذا تذكر كل هذا الخلق الأول لن يسأل هذا السؤال: من يحيى العظام وهى رميم؟ ولكن الإنسان الكافر سأل بعد نسيانه وتأتى الإجابة القرآنية الكريمة فى سورة «يس» لتخاطبه عقلا فى أن الذى خلق أوّل مرة هو الذى سيعيد الإنسان فى المرة الثانية فهل هذا مستحيل عقلا؟ ثم بعد هذا الإقناع العقلى تأخذ الآيات الكريمة الإنسان فى جولة فكرية فى السموات والأرض ليرى مظاهر قدرة الخالق سبحانه فى السموات كيف رفعت؟ وهل خلق الإنسان وبعثه أشدّ من خلق السموات؟ وفى الأرض كيف سطحت. ثم ما يراه فى الأرض فالذى خلق ويبعث خلقه هو الذى جعل من الشجر الأخضر نارا. إن الإنسان يخرج من هذه الجولة الفكرية بقوله: أعلم أن الله على كل شىء قدير. فإذا أيقن بهذا لم يستبعد أن يعود إلى الحياة مرة أخرى. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم فى معجمه والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقى فى البعث والضياء فى المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعظم حائل ففتّه بيده، فقال: يا محمد، أيحيى الله هذا بعد ما أرى؟، قال: «نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنّم» فنزلت الآيات الكريمة: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83).
(1/302)
________________________________________
سورة «الفرقان»
وبعد سورة «يس» وما قدمته من إحياء القلوب بالقرآن كما تحيا الأرض بالغيث، وإحياء الناس بعد الموت وحال الناس مع هذا الكتاب الحكيم، تنزل سورة الفرقان لتفصّل القول فى التوحيد فهو الأهم، وهو الأساسى وكذلك تفصّل القول فى النبوة وتصحح مفهومها للناس ثم فى المعاد وما يتعلق به، فسورة الفرقان مكية كلّها فى قول الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70).
وقد أخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أى الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت: ثم أى؟ قال:
«أن تزانى حليلة جارك»، فأنزل الله تصديق ذلك: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وأخرجا وغيرهما أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناسا من أهل الشرك قد قتّلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم: فقالوا: إن الذى تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفارة، فنزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ الآية، ونزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... الآية [الزمر: 53]. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية اشتد ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا فى الشرك، ثم نزلت هذه الآية: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم، وأخرج ابن المنذر والطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) ثم نزلت: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
(1/303)
________________________________________
وتبدأ السورة الكريمة فى بيان عظمة الخالق الكاملة وتفرده بالوحدانية وكثرة خيراته وإحسانه، ومن أعظم هذه الخيرات أن ينزل الفرقان علي عبده ليكون فارقا بين الحق والباطل فى كل شىء، وهاديا للتى هى أقوم فى كل أمر: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1).
ومع بيان التوحيد الخالص يذكر وصف المنزّل عليه، وخير وصف له وصفه بالعبودية لله سبحانه، كما يعرّف الناس بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنزل عليه الفرقان لينذر العالمين فرسالته عامة وليست لقومه فحسب. وأساس هذه الرسالة التوحيد الخالص ويذكر من جوانبه: أنه سبحانه له ملك السموات والأرض، فله التصرف فيهما وحده وكل من فيهما عبيد له خاضعون لربوبيته فقراء إلى رحمته، وأنه سبحانه منزه عما وصفه به الضالون من نسبة الولد إليه أو الشركاء فى الملك. وتجاور هذه الصفات الجليلة لله سبحانه تعين السامع والقارئ على التنزيه، فكيف يكون له الملك والكل عبيد له خاضعون لربوبيته ثم يزعم قوم أن له ولدا أو شريكا وهو القاهر وغيره مقهور والغنى والمخلوقون مفتقرون إليه قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3).
ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك مزاعم الكافرين الذين واجهوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه. فطعنوا فى القرآن الكريم وطعنوا فى المنزّل عليه صلّى الله عليه وسلم. وهى مطاعن مزيّفة قادهم إليها الهوى والحقد والحسد وخشية فوات المغانم المادية، وسوء فهمهم للنبوة واصطفاء الله سبحانه لمن شاء من خلقه ليكون للناس رسولا.
فوصفوا القرآن وهو أصدق الكلام وأعظمه وأجلّه بأنه كذب وافتراء، ووصفوا الرسول صلّى الله عليه وسلم- وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين، وأقروا بصدقه وأمانته نتيجة عشرة ومعرفة بحقيقته أكثر من أربعين سنة «1» - بالكذب على الله، وأنه ينسب هذا الكلام إلى الله وقد علّمه إياه قوم آخرون، وترد الآيات عليهم بأنهم ظالمون كاذبون فى مطاعنهم هذه. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6).
وتذكر الآيات بعد ذلك فساد تصور هؤلاء عن الرسالة والرسول وصفاته وما يكون
__________
(1) القرطبى 10/ 329.
(1/304)
________________________________________
عليه. ذكر ابن إسحاق وغيره أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة اجتمع رؤساء قريش بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلي محمد صلّى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فآتهم، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فكان مما قالوه فى هذا المجلس: «سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة» يغنيك بها عما زاك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى تعرف فضلك ومنزلتك من ربّك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«وما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن بعثنى بشيرا ونذيرا- أو كما قال- فإن تقبلوا فى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة
وإن تردوا علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بينى وبينكم» «1».
فهؤلاء عيّروا الرسول صلّى الله عليه وسلم بأكل الطعام؛ لأنهم تصوروا أن يكون الرسول ملكا، وعيّروه بالمشى فى الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة يترفعون عن الأسواق وكان عليه الصلاة والسلام- يخالطهم فى أسواقهم ويأمرهم وينهاهم فكان ردّ القرآن الكريم عليهم مع تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10).
وتبين الآيات الكريمة بعد ذلك أن سبب هذا الفساد لدى المشركين تكذيبهم بالساعة، وجهل هؤلاء الوعيد الشديد من الله سبحانه لمن كذب بالساعة، فإن التكذيب بالساعة يفعل بالإنسان مثل ما حدث من هؤلاء المشركين من ظنون فاسدة وأعمال سيئة، ويعقبه ويل وهلاك. وفى نفسه ينعم المؤمنون المتقون بوعد الله الصادق جزاء إيمانهم وتقواهم واستقامتهم قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ
__________
(1) القرطبى 13/ 8، 9.
(1/305)
________________________________________
عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا (16).
ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك- كيف تتقطع الأسباب بين الضالين المكذبين ومن عبدوهم من دون الله. وكيف يتبرأ هؤلاء المعبودون بالباطل من عابديهم الضالين. وأن السبب فى ضلالهم وافتراءاتهم انغماسهم فى المتع التى غمرهم الله بها ولكن بدلا من أن يشكروا ربّهم نسوا الذكر وكانوا من الهالكين. ويقع المكذبون فى العذاب ولا يستطيعون أو يستطيع أحد أن يصرفه عنهم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19).
وتخاطب الآيات بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسلّية له فى مواجهة المكذبين وافتراءاتهم وبيان حكمة الله فى اختبار خلقه فالكل يبتلى والله بصير بعباده ويعلم من يظفر فى الاختبار ومن لا يوفق فيه قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20).
قال ابن عباس: لما عيّر المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ... الآية حزن النبى صلّى الله عليه وسلم لذلك، فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السّلام:
السلام عليك يا رسول الله، الله ربّك يقرئك السلام ويقول لك: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أى يبتغون المعايش فى الدنيا «1». وأما قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ فقد نزلت فى أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل، وعقبة بن أبى معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذرّ وعبد الله بن مسعود وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وسالما مولى أبى حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمى، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟
فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أى اختبارا لهم.
ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا [المؤمنون: 111] «2».
__________
(1) القرطبى 13/ 12، 13.
(2) القرطبى 13/ 18، 19.
(1/306)
________________________________________
كما تستمر الآيات الكريمة فى بيان تصورات الكافرين الفاسدة فى أن الرسالة تكون عن طريق الملائكة، أو تشهد الملائكة للرسول بالرسالة، أو أن يكلمهم الله سبحانه ويقول: هذا رسولى فاتبعوه، وهذا منطق الكبر والعتوّ، ويوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلن تكون الرؤية البشرى لكفرهم وعنادهم كما أن أعمالهم التى بنيت على الكفر لن ننفعهم شيئا فى الآخرة. فى الوقت الذى ينعم فيه المؤمنون الصالحون بالجنة، قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ
اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً
(26).
ومن المعانى التى تضمنتها سورة الفرقان على ترتيب نزولها ما جاء فى قوله تعالى:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) بعد ذلك تذكر الآيات نوعا من الكافرين الظالمين الذين يشتد ندمهم وتشتدّ حسرتهم لأنهم كفروا بعد إيمانهم وكان كفرهم بسبب سماعهم لخليل السوء الذى يحرّض خليله على الضلال وفى هذا تنبيه للناس إلى عداوة شياطين الإنس وشياطين الجن الذين يحرصون على إضلال من آمن واهتدى، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل بسند قال السيوطى: صحيح من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبى صلّى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبى معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته:
ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشدّ ما كان أمرا، فقال: ما فعل خليلى أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحيّاه فلم يردّ عليه التحية، فقال: مالك لا تردّ علىّ تحيتى؟ فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبوت؟
قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: مما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال:
تأتيه فى مجلسه فتبزق فى وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: «إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا»، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن
(1/307)
________________________________________
يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: وعدنى هذا الرجل إن وجدنى خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقى صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله فى جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أسيرا فى سبعين من قريش، وقدّم إليه أبو معيط، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: «نعم بما بزقت فى وجهى»، وفى رواية قال:
«نعم بكفرك وعتوّك» «1» فأنزل الله فى أبى معيط وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) «2» وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبى معيط هو أبىّ بن خلف.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضا فى قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال: أبىّ بن خلف وعقبة بن أبى معيط، وهما الخيلان فى جهنم «3».
ومع إعراض الكافرين عن وحى ربهم ونكوصهم، ومع حرص الرسول على هداية الناس أجمعين يأتى ذكر القرآن الكريم لحال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشكو إلى الله إعراض هؤلاء. ويسلّيه القرآن الكريم بما حدث لكل نبى من وجود هذا الفريق الذى أجرم ولم يهتد، قال تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31).
ومع الإعراض من الكافرين يكون التصور الفاسد للأشياء وما يتعلق بالوحى والنبوة ومن هذا نظرهم إلى نزول القرآن الكريم مفرّقا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعدوّا ذلك نوعا من التعذيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وغاب عنهم ما يكون من الحكم المصاحبة لنزول القرآن الكريم مفرقا فمنها: ما يتصل برسول الله صلّى الله عليه وسلم لتثبيت فؤاده وتقويته فى مواجهة التحديات الشديدة والمستمرة، ومنها: ما يتصل بالناس وتلقيهم للقرآن الكريم ليحسنوا سماعه وفهم معانيه وحفظه والعمل به، ومنها: ما يتصل بالمنهج الذى يتم به نقل هؤلاء الناس من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور بصورة مناسبة تجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
وكان إعراض هؤلاء الكافرين وفساد تصورهم حاجبا لهم عن رؤية هذه الحكم وغيرها، وإعراضهم هذا وكفرهم يصل بهم إلى جهنم. أخرج ابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء فى المختارة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال
__________
(1) القرطبى 13/ 25.
(2) فتح القدير للشوكانى 4/ 74.
(3) المرجع السابق 4/ 75.
(1/308)
________________________________________
المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبيا فلم يعذّبه ربّه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34).
ومع سوء فهم الكافرين لحكمة نزول القرآن الكريم مفرقا وإعراضهم الذى وصل بهم إلى جهنم. تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما حدث مع أنبياء الله ورسله من أقوامهم وكيف كان إعراضهم وعاقبة هذا الإعراض، وكيف أن هؤلاء الكافرين يرون آثار ما وقع بهؤلاء الكافرين السابقين، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40).
وتذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك أسلوبا وصورة من صور التحدى التى يراد بها التأثير على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهو أسلوب السخرية والاستهزاء. فكان أبو جهل يقول للنبى صلّى الله عليه وسلم مستهزئا: «أهذا الذى بعث الله رسولا» فنزل فيه قوله تعالى:
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41).
كما تذكر الآيات ما كان من شأن الكافرين فى قلب الحقائق حيث يصفون من يهدى إلى التوحيد وإلى الصراط المستقيم بأنه يضلهم عن آلهتهم، ولكنهم صبروا واستمسكوا بآلهتهم، ويكشف القرآن ضلالهم فى أنهم يتبعون أهواءهم فى عبادتهم لهذه الآلهة المزعومة، ومن هنا يكون العجب من إضمارهم الشرك، وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه سبحانه خالقهم ورازقهم، ثم يقصدون حجرا يعبدونه من غير حجّة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر فى الجاهلية، فإذا وجد حجرا أحسن منه رمى به وعبد الآخر «1». قال تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43).
__________
(1) فتح القدير 4/ 78، 79.
(1/309)
________________________________________
وتبين الآيات الكريمة بعد ذلك ضلال هؤلاء الكافرين الذين لا يسمعون الوحى سماع قبول والذين لا يفكرون فيما يقوله الرسول فيعقلونه فصاروا بمنزلة الأنعام فى الأكل والشرب ولا يفكرون فى الآخرة، وفيما ينفعهم بل هم أضل من الأنعام إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام، والأنعام تمضى فيما سخّرت له، وإن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك. وعلى ذلك فإن الآيات الكريمة تربط كرامة الإنسان باستجابته لوحى ربّه وحسن تلقيه له بالسمع والفهم والطاعة وإلا خرج من دائرة الإنسان إلى دوائر الأنعام المهينة، قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
وللسموّ بالعقل الإنسانى ليخرج من دائرة الضلال، وللوقوف به على آيات القدرة والنعمة فى هذا الكون الذى يعيش فيه الإنسان، ووصولا إلى الحبّ والخشية للمنعم القادر سبحانه تبسط الآيات الكريمة بعد ذلك آية الظل وكيف مدّه الله سبحانه لينتفع الناس به، وآية الليل ليسكن الناس فيه، وآية النوم ليستريح الناس به، وآية النهار ليسعى الناس فيه، وآية الرياح وما تحمل من آثار رحمة الله بخلقه وآية الماء الطهور الذى تحيا به البلاد ويشرب منه الناس والأنعام، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50).
فهكذا تكون الآيات للتذكير ولكن لا ينتفع بها من الناس إلا من كان له سمع وتدبر وعقل وهؤلاء من الناس قليلون. وإذا كانت هذه الآيات تحمل مظاهر النعمة والقدرة من الله على خلقه فإن أجلّ هذه النعم من الله على عباده نعمة الوحى لخلقه واختيار المنذرين منهم ليرشدوهم ولو شاء الله لبعث فى كل قرية نذيرا منهم ولكن شاء الله أن تكون معية الرسول صلّى الله عليه وسلم نعمة عامة للناس أجمعين قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52).
وتستمر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك فى تذكير الناس بآيات النعم والقدرة فهذان البحران يلتقيان بقدرة الخالق سبحانه، ويحافظ كل منهما على خصائصه لينتفع الناس من كل بحر بما جعل الله فيه من خصائص دون أن يبغى بحر على بحر. وهو سبحانه القادر الذى خلق من الماء البشر على كثرتهم.
وكل هذه الآيات تقتضى من البشر أن يعبدوا الله وحده، ولكن الكافرين لم
(1/310)
________________________________________
ينتفعوا بالآيات قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55).
ومع وقوفنا عند آيات القدرة والنعمة التى يفيد منها المؤمنون ولا ينتفع بها الكافرون فيعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذا يحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الحريص على هداية الناس، تخاطبه الآيات الكريمة بعد ذلك بما يخفف عنه هذا وبما يوقظ فى نفوس الناس رغبة اتباع الرسول الذى لا يطلب منهم على هدايتهم أجرا. فهو يدعو إلى الله وحده ويتوكل عليه ويسبح بحمده وكل ذلك من أسباب تقوية النفس «فى مواجهة هذه المواقف من الناس، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59).
وفى هذه الآيات تعريف للناس بكيفية معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا فليس الأمر فيها على الهوى، وإنما نثبت ما أثبته الله سبحانه لنفسه وما أثبته رسوله صلّى الله عليه وسلم، وننفى ما نفاه عن نفسه سبحانه من غير تأويل أو تعطيل أو تشبيه. فالله سبحانه الخبير الذى عرفنا بنفسه فى كتابه الكريم وفى سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأهل العلم النافع هم الذين يلتزمون بهذا ويسألون من قبل غيرهم ليخبروهم بهذا. وإذا كان هذا منهج سلف الأمة فإن الكافرين المستكبرين الجاحدين يتساءلون كبرا عن الرحمن سبحانه، وهو الذى خلق ورزق ورحم عباده ببعثه رسوله، وكثر خيره على خلقه فجعل لهم ما يرونه فى السماء من بروج، وجعل فيها شمسا وقمرا وجعل لهم الليل والنهار. وإذا كان موقف الكافرين الاستكبار فإن للرحمن عبادا زانهم إيمانهم بربهم فعاملوا الناس بمكارم الأخلاق، وعبدوا الله بصدق وإخلاص فصلوا بالليل والناس نيام وعرفوا عاقبة الكافرين والمعرضين فاستعاذوا بالله من النار وعرفوا الوسطية فى إنفاقهم. قال تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
(1/311)
________________________________________
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67).
وأما الآيات الثلاث التى تلا الآية السابقة فى سورة الفرقان والتى تذكر من صفات عباد الرحمن، قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) فإنها آيات مدنية فى قول ابن عباس وقتادة.
وأما بقية آيات سورة الفرقان فتذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور الذى يمكن أن يقع فيه غيرهم، ومعنى ذلك أنهم لا يقولون الزور ولا يفعلونه وأنهم كرام لا يشهدون لغوا ولا يأتونه، وأنهم يحسنون الإقبال على آيات الله بكل ما أوتوا من قدرات. وهم الذين يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يهبهم من المحيطين بهم من أزواج وذرية ما تقر به أعينهم، وأن يجعلهم فى الخير أئمة يقتدى بهم، وجملة هذه الصفات تدل على سمو حال هؤلاء وصلاحهم مع ربهم ومع أقرب الناس إليهم ومع الذين يتعاملون معهم، ولذلك استحقوا الجزاء من جنس حالهم فجزاهم الله الغرفة بهذه الخصال التى لا ينال إلا بالصبر فبمثل هذه الخصال يكون قدر الإنسان عند الله سبحانه قال تعالى: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77).
(1/312)
________________________________________
سورة «فاطر»
نزلت بعد سورة الفرقان، وهى مكية، قال القرطبى: فى قول الجميع، وأخرج البخارى وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزلت سورة فاطر بمكة.
وتوجه السورة الكريمة أنظارنا من الآية الأولى فيها إلى جملة من المعانى التى توقظ فى القلب الإحساس بالنعم، والعرفان بالجميل من الخيرات التى منّ الله بها على خلقه والتى تقتضى إفراد الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه بالعبودية فلا إله إلا هو سبحانه. فالآية الأولى تعلمنا هذا المعنى من تقدير النعم والثناء على المنعم سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ، ويقترن الحمد فى الآية الأولى وما بعدها من آيات السورة الكريمة بدلائل النعم ودلائل القدرة، لتؤكد معنى الحب والخشية، وليكون توجّه العباد إلى الله وحده رغبة ورهبة. فهو سبحانه فاطر السموات والأرض، وهو الذى جعل الملائكة بهذا الخلق العظيم وأرسلها لتنفيذ ما أمروا به فهو سبحانه على كل شىء قدير، ولا ينبغى لأحد من خلقه أن يتعلق بغيره سبحانه فرحمته تصل لمن شاء من خلقه لا يقوى على إمساكها أحد، وما يمسك فلا قوة تستطيع إرسال ذلك فهو سبحانه القاهر فوق عباده وهو الذى يضع الأشياء فى موضعها. فلا عبودية إلا له سبحانه. هذا المعنى الذى تفتتح به السورة الكريمة يدعّم فى السورة كلّها بعد ذلك، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2).
ويأتى بعد ذلك الأمر الصريح بتذكر هذه النعم؛ لأن بعض الناس يمرّ بالآيات مرور الغافلين اللاهين، وبعضهم يغمر بالنعم فينسى المنعم سبحانه، ولذلك فإنه بعد ذكر السموات والأرض وما يتعلق بهما من آيات النعم والقدرة يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فهو الخالق سبحانه ومظاهر الخلق دالة على كمال قدرته وهو الرازق سبحانه ولا رازق سواه فكيف يتوجه إلى غيره بالعبودية. فإذا حدث هذا ولم يفده مع بعض الناس التصريح بذلك فلا تحزن فقد حدث مثل هذا مع المرسلين قبلك: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4).
(1/313)
________________________________________
ولكن رحمة بهذه الأمة فإن الله سبحانه قد ذكر لها من أنباء السابقين ومن سائر صنوف التنبيه ما يعينها على تخطّى العقبات وتجاوز المعوقات التى تقف فى طريقها وتريد فتنتها. فوعد الله حق فلا ينبغى أن تفتن الدنيا الإنسان، لتصرفه عن مصيره ومرجعه إلى ربه ووصوله إلى الآخرة وصولا حسنا فتؤخذ بمنهج الله ويسعى فيها
الإنسان بما أمر به ونهى عنه، ولا ينبغى كذلك أن يفتنه الشيطان فهو عدوّ وغايته واضحة، وهو يريد بمدعوّيه الوصول إلى السعير. وأمام هذا التنبيه كذلك توقف الآيات المنزلة الناس على حالهم وانقسامهم إلى كافرين لهم عذاب شديد وإلى مؤمنين صالحين لهم المغفرة والأجر الكبير، وإلى من وقع تحت فتنة تزيين الشيطان للسوء فيراه الغافلون حسنا، وإلى أهل البصيرة الذين لا يقعون تحت تأثيره ولذلك فلا تحزن عليهم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8).
وتعين الآيات الكريمة المنزلة الناس على حسن السير فى الطريق المستقيم فتمزج بين الآيات الدالة على قدرة الله سبحانه، ليثق الناس بوعد الله وأن مظاهر البعث يشاهدونها فى آيات قدرة الخالق سبحانه، وبين آيات النعم السابغة وما يقتضى ذلك من صلاح الكلمة والعمل وتجنب السيئات، فآية الرياح وما تثيره من السحاب والذى يسوقه الله لإحياء البلاد والأرض بعد موتها آية قدرة ودليل على النشور. ومقتضى ذلك أن يسلك الإنسان سبيل الاستقامة فى الكلمة والعمل فتكتب له العزة، لأنها لله سبحانه وكتبها لأهل طاعته، وخلق الإنسان من تراب ثم من ماء، والزوجية والحمل والوضع والعمر المتعدد طولا وقصرا للإنسان آيات قدرة قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11).
وتستمر الآيات الكريمة المنزلة فى بيان هذه الآيات الموجهة إلى مظاهر نعم الله على الإنسان، ومظاهر قدرة الخالق سبحانه فى هذه الآيات وما يقتضى ذلك. فهذان بحران أحدهما: عذب فرات، والآخر: ملح أجاج منهما يأكل الناس اللحم الطرى ويستخرجون
(1/314)
________________________________________
ما يتحلوا به لبسا، وفيهما تسير الفلك التى تحمل الناس فى أسفارهم، ويقتضى مع هذه النعم ومظاهر قدرة الله فيها أن يعرف الإنسان فضل الله عليه فيشكره. وهذا الإيلاج لليل فى النهار وللنهار فى الليل وتسخير الشمس والقمر فيهما، وهذا الجرى للأجل المسمى دليل على قدرة الرب الخالق سبحانه وعظيم نعمه وفضله على خلقه، ومقتضى ذلك التوجه الخالص إليه بالعبادة، فله الملك والذين يدعون من دونه لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء المشركين؛ لأن هؤلاء المدعوّين جمادات أو أموات أو ملائكة مشغولون بطاعة ربهم، ولو سمع هؤلاء فإنهم لا يملكون شيئا ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولذلك سيتبرءون من عابديهم يوم القيامة وبهذا تجتث الآيات القرآنية الكريمة ما وقع فيه بعض الناس من الشرك، وتوجه القلوب إلى المعبود بحق سبحانه ولا يستحق سواه شيئا من العبادة وأن عبادة ما سواه باطلة ومتعلقة بباطل. قال تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14).
وتقرّر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك مجموعة من المبادئ والحقائق التى لا غنى للناس عنها منها: الافتقار إلى الله سبحانه فى كل شىء فى الخلق والرزق والهداية والنجاة وغير ذلك فهو الغنى الحميد، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) وفيها أن الناس لا يملكون وجودهم فالله وحده الذى خلقهم هو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم وهو القادر على أن يذهبهم- إن شاء- وأن يأتى بخلق جديد يكونون أحسن حالا منهم. قال جل شأنه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17). ومنها تقرير المسئولية الشخصية، ولا تفريط فيها ولو مع الأقربين، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18).
ومن هذه الحقائق: أن الذى ينتفع بوحى الله هو الذى يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة، ومنها: أن منافع الهداية بوحى الله تعود على النفس فى ذاتها وفى علاقاتها بغيرها، ومنها: اليقين فى أن مصير الناس إلى الله سبحانه الذى خلقهم ورزقهم وأمرهم
(1/315)
________________________________________
ونهاهم وهو سائلهم ومحاسبهم ومجازيهم.
وأمام هذه الحقائق وغيرها بما فصّل للناس فمنهم المؤمن ومنهم الكافر ومنهم المستجيب ومنهم المعرض ومنهم السعيد ومنهم الشقى. وإذا كانت الأضداد لا تتساوى فإن هذه المعانى السابقة لا تتساوى كذلك، قال تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً (24).
وتعطى الآيات الكريمة ما يدعّم النبى صلّى الله عليه وسلم فى مواجهته لقومه بالتأكيد على بعثته بشيرا ونذيرا. وأن سنة الله مع الأمم أن يرسل فى كل أمة نذيرا، وإن وجد الرسول من أمته من يكذّب فإن الأمم السابقة قد حدث فيها هذا أيضا. وقد أخذ الكافرون أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26).
وتوجّه الآيات الكريمة الأنظار بعد ذلك فى آيات قدرة الله سبحانه فيما يشاهده الناس فالماء ينزل من السماء بقدرة الله سبحانه فيخرج به ثمرات مختلفة فالمادة واحدة والأصل واحد ويرى التفاوت واضحا فيما يخرج من هذا الأصل الواحد، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28). هذه الآيات يقف أمامها العقلاء موقف التأمل والتدبر فتغرس فى نفوسهم الخشية وبقدر العلم بالله سبحانه وآيات قدرته تكون الخشية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28).
ومع مظاهر قدرة الله سبحانه فى تعدد الأشكال والألوان وغيرها والأصل واحد والمادة واحدة وأن أهل العلم هم أهل الخشية الذين ينتفعون بهذه الآيات. بعد ذلك تعرض الآيات تجارة رابحة لمن يقوم بعناصرها المتمثلة فى الإقبال على كتاب الله سبحانه تلاوة، وفى إقامة الصلاة، وفى الإنفاق مما رزقه الله سبحانه سرا وعلانية. وسيجد التاجر مع الله سبحانه الأجر العظيم والفضل الكبير ومغفرة الذنوب. قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30).
وتذكر الآيات المنزلة بعد ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ينبغى أن يعيه الجميع من أن
(1/316)
________________________________________
الموحى به من الكتاب هو الحق الذى يوافق ما كان من وحى سابق فى كتب سابقة، وجاء به رسل سابقون وقد بشّر بهذا الحق فى هذه الكتب وعلى ألسنة هؤلاء الرسل فمسيرة وحى الله فى خلقه سابقة منذ الجماعة البشرية الأولى فى آدم وزوجته وخاتمة الوحى فى هذا الكتاب العزيز، وعلى لسان رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم. وضمّن الله وحيه ما يناسب خلقه وما يسعدهم فى شئون حياتهم ومعادهم، فهو سبحانه الخبير البصير وكان من فضل الله الكبير على هذه الأمة أن اصطفاها واصطفى لها الإسلام دينا، وأورثها الكتاب المهيمن والمصدق لما قبله ولكن تعادت أفراد هذه الأمة فمنهم من ظلم نفسه بالمعاصى، ومنهم من اقتصر على أداء الواجبات ومنهم من سارع فى الخيرات واجتهد فسبق بتوفيق الله له. وشملهم جميعا فضل الله فأسكنهم جنات عدن على درجاتهم، وفى هذا حثّ لهذه الأمة أن تكون من القسم السابق بالخيرات بإذن الله، قال تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35).
ومع ذكر أهل الجنة مع تفاوت مراتبهم تذكر الآيات الكريمة الكافرين وجزاءهم الذى يصيرون إليه فى نار جهنم، وحالتهم الشديدة فى هذا العذاب والذى يتفق مع تماديهم فى الكفر وإصرارهم عليه، وكيف يطلبون العودة فى غير وقتها وتنبه الآيات الناس إلى هذه الحقيقة، وتضع أمامهم مثل هذا المطلب ليكون فى أدائه ويتدارك الإنسان موقفه قبل أن تضيع فرصة العمل فى هذه الحياة، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37).
وتعين الآيات المنزلة بعد ذلك الناس للنجاة من الكفر وأعماله فإن الكفر لا سند له من العقل أو النقل، وأنه لا معبود بحق إلا الله. فهو عالم غيب السموات والأرض، وهو الذى خلقهما وخلق ما فيهما وما بينهما، ويعلم ما تكنّه صدور الناس ويعلم أن الذين يطلبون العودة إلى الدنيا بعد فوات الأوان كاذبون، وأنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. ولذلك فإن من أراد النجاة من الكفر فلينظر إلى حقيقة أمره وكيف كانت مسيرة
(1/317)
________________________________________
الخلق فقد جعل الله الناس خلائف فى الأرض خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن وقد رأى الناس عاقبة من كفر فى الدنيا من الضلال والهلاك والمقت والغضب والخسران.
ثم لينظر الكافر إلى من اتخذه معبودا له من دون الله هل خلق شيئا من الأرض أم له مشاركة فى خلق السموات وتدبيرها؟. فإن لم يكن هؤلاء المعبودون قد خلقوا بل خلقوا بأيدى عابديهم من الكافرين فكيف يعبدون؟ وهل زعم أحد أن الله سبحانه أمر أحدا من خلقه باتخاذ هؤلاء شركاء له فى العبادة سبحانه؟. الأمر إذن ليس إلا تزيين الشيطان لضعاف العقول باتخاذ هؤلاء شركاء لله سبحانه واستمرار هؤلاء المغرورين بتزيين الشيطان فى توارث هذا الضلال والكفر. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40).
ومع تزيين الشيطان لضعاف العقول باتخاذ الشركاء واستمرار هؤلاء المغرورين فى توارث هذا الضلال والكفر، وأن آلهتهم المزعومة لا تقدر على خلق شىء من السموات والأرض. بعد ذلك تخبر الآيات الكريمة أن خالق السموات والأرض وممسكهما هو الله فلا يوجد حادث إلا بإيجاده ولا يبقى إلا ببقائه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (40).
فالآية الكريمة تحرّك العقول والقلوب أمام هذا الخلق العظيم الذى لا يقدر عليه إلا الله، وهذه النعمة الكبرى فى أنه سبحانه يمسك السموات والأرض عن الزوال ليحصل لخلقه القرار والانتفاع بهما، فيتحقق للناظر المعتبر ما يكون من الإجلال والتعظيم للقادر العظيم جل جلاله، والحب له تبارك وتعالى لعظيم نعمه على خلقه، وليستحى
الكافرون من التعلق بالضعفاء العاجزين ولتتوجّه قلوبهم إلى الخالق المنعم الرحيم بعباده سبحانه.
كما يمكن أن يفهم السامع لهذا التقرير الكريم شؤم الشرك والمخالفة لأمر الله سبحانه فشركهم يقتضى زوال السموات والأرض كما جاء فى قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) [مريم]. ولكنه سبحانه وتعالى حليم ويمهل ولا يهمل، كما سيتضح من المعانى الآتية فى هذه السورة الكريمة. فقد كشفت الآيات المنزلة بعد ذلك حال هؤلاء المشركين، ومنه ما كان من غيّهم أن يكون منهم رسول كما كان الرسل فى بنى
(1/318)
________________________________________
إسرائيل فلما جاءهم رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم ما وفّوا بما أقسموا عليه بالأيمان الغليظة بل زادهم مجيئه نفورا وتوقف الآيات الكريمة الناس على سببين خطيرين لهذا الموقف من المشركين وهما سببان نفسيان خطيران: إنهما الاستكبار فى الأرض، والمكر السيئ.
فالاستكبار جاء من تصورهم الفاسد للنبوة، وأنها تكون لمن كان عظيما فى تصورهم بكثرة المال والعصبة وهذا العتوّ والاستكبار تبعه السبب الثانى، وهو المكر وخداع الضعفاء من الناس حتى يتبعوهم ويصدوهم عن الإيمان برسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم. ومع ذكر السببين تذكر الآيات الكريمة خطورة مسلك هؤلاء المشركين، وفى الوقت نفسه تطهّر المؤمنين من مثل هذه الأخلاق المرذولة ففي الحديث: «المكر والخديعة فى النار».
وهذا يعنى دخول أصحابها فى النار لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ولهذا جاء فى سياق هذا الحديث: «وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة» «1».
والآية الكريمة تؤكد للناس هذا المعنى فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعبا قال له: إنى أجد فى التوراة: «من حفر لأخيه حفرة وقع فيها» فقال ابن عباس: فإنى أوجدك فى القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «2» وفى أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا». وروى الزهرى أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال:
«لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح: 10] وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» [يونس: 23] «3».
ومعنى هذا أن الآيات الكريمة ترسى القيم الخلقية المؤسسة على التوحيد الخالص فى نفوس الناس. قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) وإذا لم يجد مع هؤلاء نصح بعد كشف حالهم وكذلك فإن سنة الله ماضية لا تتخلف فقد أنزل العذاب بالكافرين، وجعل ذلك سنة فيهم فهو سبحانه يعذب بمثله من استحق لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره.
وهذه السنة الإلهية يراها هؤلاء فى الذين من قبلهم وعليهم أن يسيروا وينظروا ماذا
__________
(1) القرطبى 14/ 360.
(2) القرطبى 14/ 359.
(3) القرطبى 14/ 360.
(1/319)
________________________________________
حدث بعاد وثمود وبمدين وأمثالهم لما كذّبوا الرسل، وهذه مساكنهم ودورهم وهؤلاء المشركون ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى، قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44).
وتختم السور الكريمة ببيان عظيم حلم الله سبحانه بخلقه مع بيان شؤم المعصية والمخالفة لأمر الله سبحانه. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أما بنو آدم فلذنوبهم وأما غيرهم فلشؤم معاصى بنى آدم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل أن يعذّب فى جحره، بذنب ابن آدم، وقال يحيى بن أبى كثير:
أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك؛ فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت؟ والله الذى لا إله إلا هو- ثم قال: والذى نفسى بيده، إن الحبارى لتموت هزلا فى وكرها بظلم ظالم. وقال الثّمالى ويحيى بن سلام فى هذه الآية: يحبس الله المطر فيهلك كل شىء «1».
قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45).
__________
(1) القرطبى 14/ 361.
(1/320)
________________________________________
سورة «مريم»
نزلت بعد فاطر فهى مكية بإجماع، ومما يدل على مكيتها ما ذكره أبو داود «1»: لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: «إن ثأركم بأرض
الحبشة، فأهدوا إلى النجاشى، وابعثوا إليه رجلين من ذوى رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو ابن أمية الضّمرىّ، وكتب معه إلى النجاشى فقدم على النجاشى، فقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم: كهيعص (1) وقاموا تفيض أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82). وقرأ إلى قوله تعالى:
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83). وفى السيرة «2» فقال النجاشىّ: هل معك مما جاء به عبد الله شىء؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشى: اقرأه علىّ. قال: فقرأ: كهيعص (1) فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا «2». فهذا يدل على نزول سورة «مريم» فى مكة وحفظ الصحابة لها قبل ذهابهم إلى الحبشة وهجرتهم إليها فكانت قراءة جعفر لها على النجاشى والقسيسين.
وقد قيل: إن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58). آية مدنية، ذكر ذلك مقاتل «4» وقيل كذلك: إن قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) آية مدنية. ولكن ليس مع القولين دليل قوىّ مما جعل القرطبى يحكى أنها مكية بإجماع دون أن يستثنى وكذلك الشوكانى فذكر ما أخرجه النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة كهيعص (1) وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة «5».
__________
(1) القرطبى 11/ 72، 73.
(2) القرطبى 11/ 73.
(4) قلائد المرجان فى بيان الناسخ والمنسوخ فى القرآن: مرعى بن يوسف الكرمى 137.
(5) فتح القدير 3/ 320.
(1/321)
________________________________________
وتقرر السورة الكريمة فى هذه الفترة التوحيد الخالص لله سبحانه، وكمال قدرته وتنزهه جل شأنه عما لا يليق بجلاله مما انحرف فيه وضل أهل الكتاب من نسبة الولد والشريك لله سبحانه وتعالى عن قولهم، وتتناول السورة الكريمة فى هذا البيان جانبين الأول: قصص الأنبياء بدءا بزكريا عليه السّلام وما كان من توحيدهم الخالص وما حدث معهم من مظاهر العبودية الصادقة فى حسن التوجه إلى الله، والطمع فى رحمته مع بيان مظاهر قدرة الله سبحانه فى تحقيق ما طلبوا، وكذلك آيات قدرته فى خلقه حتى وجدنا اسم السورة الكريمة مبرزا هذا المعنى فى «مريم» عليها السلام.
والجانب الثانى: فى بيان انحراف الناس وضلالهم فى فطرتهم إلى أنبيائهم، ورسل الله إليهم ودعوتهم إلى الصواب الذى يتفق مع ما جاء به هؤلاء الأنبياء. فهذا زكريا عليه السّلام يدعو ربّه ويذكر حاله ولا يستبعد أن يحقق الله له رغبته فى الذرية الصالحة على الرغم من حالته وحالة زوجته فيبشّر بالغلام ويسمّى ونقف على آيات قدرته سبحانه فى هذا الخلق وكيف يكون الإنجاب فى مثل هذه الحالة وكيف يكون غلاما زكيا ويكون برا بوالديه ويكون تقيا، وهذه عاقبة الاستقامة مع الله سبحانه فى الحياة الدنيا وفى الآخرة قال جل شأنه: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15).
وفى عرض هذه القصة تعليم وتوجيه للناس فى التوجه إلى الله سبحانه لتحقيق المراد، والثقة الكاملة فى فضل الله ورحمته، وكمال قدرته والخضوع والتذلل له، وذكر نعمه وآلائه يصاحب الدعاء والمسألة وفى ذكر القصة بتفصيلاتها وجوانبها الخفية ما يدلّ على أن هذا كلام الله سبحانه وحده، فلا علم بهذه الجزئيات الخفية لدى الناس.
وبعد ذكر قصة زكريا ويحيى عليهما السلام وما كان من حالهما، وتناول ذكر مريم عليها السلام والتى سميت السورة الكريمة باسمها، وما كان من شأنها فى انقطاعها لعبادة
(1/322)
________________________________________
ربّها، وكيف جاءها الملك ليبشّرها بالولد وتتعجب كيف يكون الولد من غير أن يمسسها بشر وهنا يكون الحال مدعّما لما سبق ذكره مع زكريا عليه السّلام وزوجته حيث رزقه الله بالغلام وليسا فى حالة تسمح بالإنجاب، وكان الغلام مظهرا من مظاهر قدرة الله سبحانه، ويكون الغلام هنا كذلك من مريم آية على قدرة الله جل شأنه وكانت المواجهة بعد أن ظهر الحمل وكان الموقف النفسى شديدا مع مريم عليها السلام: ويطمئن كذلك من الجانب المعنوى حيث تكون آية القدرة الأخرى بعد الولادة فى
كلام عيسى عليه السّلام فى المهد، وكلامه يبرئ أمه الطاهرة ويدعّم العبودية لله سبحانه، وأنه عبد الله ورسوله والمؤدى لما يطلب منه من صلاة وزكاة، وبارّ بوالدته فهو بشر ولد وسيموت وسيبعث، فليس كما زعم الضالون ولدا لله سبحانه فما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه، قال تعالى فى بيان ذلك: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36).
ومع بيان هذه الحقائق فى شأن عيسى عليه السّلام وأمه وتصحيح المفاهيم الخاطئة نحوهما وتنزيه الله سبحانه عن افتراء الضالين وكذبهم تكشف الآيات الكريمة بعد ذلك حال الناس بعد هذا البيان وتذكر الوعيد الذى ينتظر الظالمين، قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) وبعد الوصول إلى الوعيد
(1/323)
________________________________________
مع سمع قوى وبصر قوى يقفون بهما على الحقائق يبقى الظالمون فى ضلالهم المبين لا يستطيعون عودة لتصحيح عقيدة أو سلوك: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) وأىّ حسرة أشد ممن يقع فى هذا الوعيد ويفوته رضا الله وجنته وسيتحقق سخطه وعذابه ولا يستطيع الرجوع ليستأنف العمل: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40).
وأخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ... الآية وأشار بيده، قال: أهل الدنيا فى غفلة» «1». وأخرج النسائى وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا نحوه.
وفى تجلية هذه الحقائق للناس تخليص للإيمان من الشوائب التى ضل فيها البشر من اتخاذ الشركاء، أو من نسبة الولد إلى الله سبحانه فأى ضلال أبين من أن يعتقد المرء فى إنسان حمله الرحم وأكل وشرب وأحدث واحتاج أنه إله أو ابن لله، وينسى أن الله سبحانه قادر يفعل ما يشاء وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
وبعد وقوفنا عند قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام وتصحيح المفاهيم نحوهما، والوقوف على مظاهر قدرة الله فى خلقه وفى كلامه فى المهد، وفى تقريره لعبوديته لله سبحانه- تذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك قصة إبراهيم عليه السّلام وما كان من موقفه مع أبيه الذى وقع فى الشرك، فعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنه شيئا وكيف تلطف إبراهيم عليه السّلام فى دعوته لأبيه فقدمها فى رفق وضمّنها حججه القوية، وحذّره من عبادة الشيطان بطاعته كما أنذره وخوّفه من عذاب الله، وكان موقف أبيه الإعراض والتهديد لإبراهيم بالرجم، قال تعالى فى بيان ذلك لرسوله صلّى الله عليه وسلم حتى يدرك الناس حرص الابن على هداية أبيه وكيف يكون الإعراض من الأب، وأن عاقبة الطاعة لله الخير والبركة وعاقبة الكفر العذاب والهلاك: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ
__________
(1) فتح القدير 3/ 334، 335.
(1/324)
________________________________________
لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50).
وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك مجموعة من أنبياء الله ورسله، وتبرز فى الوقت نفسه مجموعة من الصفات والمنح والعطايا من الله سبحانه لهم فموسى عليه السّلام كان مخلصا وكان رسولا نبيا وكلّمه الله ووهب له هارون نبيا يساعده على أمره قال تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53).
وهذا إسماعيل عليه السّلام تبرز الآيات الكريمة فيه صدق الوعد مع الرسالة والنبوة وأمره لأهله بالصلاة والزكاة وكان عند الله رضيا زاكيا صالحا، قال تعالى: وَاذْكُرْ
فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا
(55).
فهذه مجموعة من الأخلاق التى تجعل الإنسان صالحا فى حياته مع الله وفى حياته مع الناس.
وهذا إدريس عليه السّلام يقول الله فيه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57).
وبعد ذكر هؤلاء الصفوة تفصيلا يذكرون إجمالا بإنعام الله عليهم: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) ومعنى ذلك أن هؤلاء التقوا بصلاحهم على تباعد ما بينهم من زمن وأنهم جميعا يشتركون فى صدق توجههم إلى ربهم وحسن تلقيهم لآيات الرحمن بالسجود والبكاء.
وبعد ذكر هؤلاء المخلصين يأتى الإخبار والتحذير من خلف أتى بعدهم، ولم يكن على حالهم فبدّلوا وغيروا وصاروا إلى فساد يتمثل فى إضاعة الصلاة ومن ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع «1»، واتبعوا شهوات أنفسهم فنفوسهم ليس لها ضابط بتضييعهم للصلاة، واتباع شهوات النفس والإسراف فيها يزيدهم بعدا، وسيوقعهم فى العذاب
__________
(1) قول لعمر، انظر: القرطبى 11/ 122.
(1/325)
________________________________________
الشديد إن لم يتداركوا أنفسهم بالتوبة الصادقة النصوح والإيمان الصحيح وما يتبعه من عمل صالح فإن تداركوا أنفسهم بذلك وجدوا رحمة الله واسعة، ووجدوا أنفسهم فى جنات عدن وعدا من الله سبحانه لا يتخلف وهذا ما وعد الله به عباده المتقين قال جل شأنه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63).
وبعد ذكر الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وما ذكر من وعيدهم، وفتح الباب أمامهم كى يتوبوا ويؤمنوا ويعملوا صالحا؛ ليجدوا رحمة الله ونعيمه فى جنات عدن.
بعد ذلك نجد الآيات الكريمة تضع الناس أمام مجموعة من الحقائق منها: أن نزول الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما يكون بأمر الله سبحانه فى الوقت الذى يريد وبالأمر الذى يريد سبحانه، ومنها: ارتباط هذا التنزيل بما وصف الله سبحانه به نفسه، فله الأمر كله ماضيا وحاضرا ومستقبلا فى الزمان والمكان، وأنه سبحانه لا ينسى شيئا، وهو ربّ السموات والأرض وما بينهما خلقا وتدبيرا، وهو وحده المستحق للعبادة، والعبادة تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وليس لله سبحانه نظير حتى يشاركه فى العبادة. ومع هذه الحقائق التى تملأ قلب الإنسان يقينا فى قدرة الخالق الرازق الذى بيده ملكوت كل شىء لا يستكثر الإنسان أن يخرج حيا بعد الموت، وقد خلق من قبل ولم يك شيئا أصلا فإعادته بعد أن صار شيئا أيسر وأسهل فى حساباته العقلية. فإذا لم يفد الإنسان من هذه الآيات الباهرات فأمامه من الوعيد الشديد حيث يحضر جاثيا على ركبتيه من شدة الهول وسينزع من كل طائفة وفرقة من الظالمين أشدهم ظلما فهم قادة الظلم والكفر فى الدنيا، والمقدّمون إلى العذاب يوم القيامة، وينجى الله الذين اتقوا من هذا العذاب. «1»
تبسط هذه الحقائق فى قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ
__________
(1) القرطبى 11/ 128، وفتح القدير 3/ 345.
(1/326)
________________________________________
هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) أخرج البخارى رحمه الله وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا»؟
فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... الآية، وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وكان ذلك الجواب لمحمد «1».
وبعد بيان هذه الحقائق السابقة وما يتنزل بأمر الله من الوحى، تذكر الآيات الكريمة مقالة الكافرين للذين آمنوا فى المقارنة بين فقراء أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من خشونة فى العيش، والمشركين وما كانوا فيه من ترف، وخدعوا فى هذه المقارنة فلم يبصروا القيم التى تجعل الإنسان إنسانا كريما فرأوا أن أصحابهم أحسن مظهرا، ونسى هؤلاء سنة الله فى الإمهال، وأن من كان فى الضلالة مثلهم فليدعه فى طغيانه، جهله وكفره، ليجد مصيره الأليم وهذا غاية فى التهديد والوعيد، وهذا المصير قد يكون فى الدنيا فيعذبون بالنصر عليهم وقد يكون فى الآخرة، قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76).
وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك صورة من الغرور والجهل الذى كان عليه المشركون فقد روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن خباب قال: كان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لى: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: فقلت له: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث، قال: وإنى لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش فنزلت هذه الآية: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وفى رواية قال: كنت قينا فى الجاهلية أى كان حدادا فعملت للعاص بن وائل عملا فأتيته أتقاضاه. خرّجه البخارى- أيضا- وقال الكلبى ومقاتل: «كان خباب قينا فصاغ للعاص حليّا ثم تقاضاه أجرته، فقال العاص: ما عندى اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضينى، فقال العاص: يا خباب مالك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لحسن الطلب فقال خباب: إنى كنت على دينك فأما اليوم فأنا على دين الإسلام مفارق لدينك. قال
__________
(1) القرطبى 11/ 145، 146.
(1/327)
________________________________________
أولستم تزعمون أن فى الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى. قال فأخّرنى حتى أقضيك فى الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا إنى لأقضيك فيها فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها منى فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا يعنى العاص بن وائل- الآيات» «1».
ومع ذكر النموذج المغرور الذى كفر بآيات الله، وطمع مع كفره فى المال والولد وسخر واستهزأ وتوعّده الله بالعذاب.
تنزل الآيات الكريمة بعد ذلك لتبين سببا من أسباب اتخاذ الآلهة من دون الله، وذلك لينالوا بها العز ويمتنعوا بها من عذاب الله وأنها ستكون عليهم بلاء: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) لقد ترك هؤلاء الكافرون لأهوائهم كما أرسلت الشياطين عليهم تعرفهم بالكفر والشر، وتقول للواحد منهم: امض امض فى هذا الأمر حتى توقعه فى النار.
وبقاء الكافرين فى الحياة على ما قدّر الله سبحانه وكل ما يتصل بهم من لحظات وأعمال معدود عليهم عدا: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)، وتقدم الآيات الكريمة هذا المشهد الذى يدعو إلى التفكير كيف يحشر المتقون فى صورة كريمة إلى النعيم وكيف يساق المجرمون إلى الجحيم: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وليس للمشركين عهد عند الله، وفى ختام السورة الكريمة تذكير بأهم ما تعالجه سورة مريم من تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بجلاله من نسبة الولد إليه سبحانه نتيجة قصور الفهم لدى الضالين الذين لم يدركوا أن الله يخلق ما يشاء، وهو القادر الذى يقول للشيء كن فيكون، فتعرض الآيات الكريمة لقول هؤلاء الضالين وأنه منكر من القول وزورا تتفطر منه السموات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، والحق أن كلّ من فى السموات والأرض عبد لله من خلقه وتحت قدرته ومشيئته، وسيأتى كل إنسان إلى ربّه يوم القيامة فردا، قال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95).
وبعد ذلك تبين الآيات الكريمة مكانة المؤمنين الذين يعملون الصالحات عند الله
__________
(1) فتح القدير 3/ 345.
(1/328)
________________________________________
سبحانه فى قوله الكريم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) ولقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن ابن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد فى نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية وهذه الرواية لا تستقيم ولا تصح، لأن السورة الكريمة كما ذكرنا من قبل مكية كلها، وقال ابن كثير معلقا على هذه الرواية: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شىء منها بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك «1».
وأخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت فى علىّ بن أبى طالب إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) قال: محبة فى قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمى عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلىّ: «قل اللهم اجعل لى عندك عهدا واجعل لى عندك ودّا واجعل لى فى صدور المؤمنين مودة» فأنزل الله الآية فى على وأخرج عبد الرزاق والفريابى وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس: «ودا» قال: محبة فى الناس فى الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذى وابن مردويه عن علىّ قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) ما هو؟ قال: «المحبة الصادقة فى صدور المؤمنين» وثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى فى السماء، ثم ينزل له المحبة فى أهل الأرض فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إنى قد أبغضت فلانا فينادى فى أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء فى الأرض».
وتجمل الآيتان الأخيرتان من سورة مريم ما قصّه الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم فى كتابه الكريم من أنباء السابقين ممن اصطفاهم الله من خلقه، وكيف كان صلاحهم، وممن خالف وكفر وصار ذلك ميسّرا لمن أراده يبشّر به المتقون وينذر به المبطلون، كما تقدّم عبرة التاريخ التى يجدونها والتى ينبغى أن يفيدوا منها فقد أهلك هؤلاء من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من المعاندين المكذبين لما استمروا فى طغيانهم فلا صوت لهم ولا حركة، قال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98).
__________
(1) فتح القدير 3/ 345.
(1/329)
________________________________________
سورة «طه»
وهى مكية فى قول الجميع نزلت بعد سورة «مريم»، وكان نزولها قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطنى فى سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خبّاب، وكانوا يقرءون «طه» فقال: أعطونى الكتاب الذى عندكم فأقرأه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسّه إلا المطهّرون، فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ: «طه».
وذكره ابن إسحاق مطولا: فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقتله، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ الذى فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأىّ أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خبّاب بن الأرتّ معه صحيفة فيها «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب فى مخدع لهم أو فى بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبّاب عليهما، لما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت؟ (والهينمة: الكلام الخفىّ الذى لا يفهم) قالا له:
ما سمعت شيئا. قال: بلى والله لقد أخبرت أنّكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفّه عن زوجها فضربها فشجّها.
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته:
أعطنى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءونها آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد. وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال لها: لا تخافى وحلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه، فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها
(1/330)
________________________________________
طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبّاب خرج إليه، فقال له: يا عمر والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه فإنى سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلنى يا خبّاب على محمد حتى آتيه فأسلم، وذكر الحديث «1».
وعلى ذلك فإن سورة «طه» مكية نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه وأما ما ذكره بعض الناس من أن الآيتين الكريمتين: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131). مدنيّتان فليس لهذا القول دليل يعتدّ به، وقد أشار إلى ذلك القرطبى رحمه الله فى مسألة ذكر فيها قول ابن عطية فقال القرطبى: «قال بعض الناس: سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: نزل ضيف برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسلنى عليه الصلاة والسلام إلى رجل من اليهود، وقال: قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذى يصلحه فبعنى كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفنى إلى هلال رجب»، فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:
«والله إنى لأمين فى السماء، أمين فى الأرض، ولو أسلفنى أو باعنى لأدّيت إليه، اذهب بدرعى إليه» ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا، قال ابن عطية: وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية فى آخر عمر النبى صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودى بهذه القصة التى ذكرت وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبّخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعّدهم بالعذاب المؤجّل، ثم أمر نبيه بالاحتقار بشأنهم والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما فى أيديهم من الدنيا، إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزى «2».
وعند ما نتناول ما تضمنته سورة «طه» من المعانى على ترتيب نزولها فأول ما نظفر به من هذه المعانى، ما خوطب به النبى صلّى الله عليه وسلم من بيان خصائص الوحى المنزل عليه، وأنه يرفع الحرج ويدفع المشقة وهو اليسر كلّه ومع بيان الغاية من تنزيل القرآن الكريم، وأنه تذكرة يأتى البيان بأن أهل التذكرة والانتفاع به هم أهل
الخشية. كما يأتى البيان الذى يطمئن الناس على كمال هذا الوحى وشموله وعلاجه لما خفى وما ظهر، وهدايته العامة
__________
(1) القرطبى 11/ 163، 164.
(2) القرطبى 11/ 262.
(1/331)
________________________________________
للتى هى أقوم فى كل شىء تذكر الآيات الكريمة صفات من أنزله سبحانه، قال جل شأنه: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8).
وهذا التنزيل المبارك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم امتداد لفضل الله على عباده منذ آدم عليه السّلام، ولكنّ الناس مع الوحى المبارك مختلفون، فتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك قصة الوحى مع نبى الله موسى عليه السّلام وكيف بدأ نزوله معه، فكما بدأ نزول الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غار حراء فكانت أولى آيات القرآن الكريم فإنه بدأ مع نبى الله موسى بالواد المقدس طوى وأن ما خوطب به موسى عليه السّلام هو ما خوطب به رسل الله جميعا عليهم الصلاة والسلام من توحيد الله سبحانه، وعبادته وحده، والاستقامة على وحيه، والاستعداد لليوم الآخر، والتحذير من المعوقات التى تقف فى طريق الدعاة إلى الله من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16).
وبعد هذا تذكر الآيات الكريمة سنة الله مع رسله من تأييدهم بالآيات الدالة على صدقهم ومعرفة رسل الله بهذه الآيات التى يجريها الله على أيديهم ومن هذه الآيات- هنا- العصا. واليد. ومع هذه الآيات لا غنى للداعى إلى الله من شرح صدر الله له وتيسير أمره. كما تدل الآيات الداعين على أهمية التعاون والتآزر فى تبليغ الدعوة وعبادة الله سبحانه قال تعالى لنبيه موسى عليه السّلام بعد ذكر اختياره: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)
(1/332)
________________________________________
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36).
ومن بيان أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يختارون لتبليغ رسالات الله وتشملهم عنايته ورعايته فى جميع أحوالهم، وحياتهم يأتى ذكر منّة الله على موسى عليه السّلام طفلا حيث أنقذه من عدو الله فرعون وعدو موسى الذى أراد ذبحه باعتباره طفلا من أطفال بنى إسرائيل، وأما كيف تم الإنقاذ؟ فإنه توجيه آخر لبيان كيفية إنفاذ الله لما يريد بقدرته وكيف يتم المراد بالإمهال على عكس ما يتصور البشر، فإلقاء الطفل فى التابوت ثم إلقاؤه فى اليم ثم وصول التابوت إلى مصدر الخطر. كل ذلك فى نظر الناس إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولكن مع رعاية الله سبحانه تتحول المخاطر إلى وسائل للنجاة فألقى الله المحبة فى قلب زوج فرعون ليلغى الأمر بالذبح، وحرّم الله عليه المراضع ودلّت أخته على أمّه باعتبارها مرضعة لا تعرفه ليتحقق وعد الله، ويعود موسى إلى أمه. كما يذكّر الله سبحانه بما يدل على عنايته به فى حياته إذ نجاه من القتل عند ما وكز الرجل، وكان فيها القضاء وكيف رعاه وهو فى أهل مدين ليجد أهلا وترحيبا وأمنا.
كل هذه النعم دلالة على الاختيار للرسل وفيه ما يطمئن المرسل إليهم إلى اصطفاء الله لرسلهم، قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41).
ومع ذكر مظاهر عناية الله بالمرسلين فى حياتهم كلها، وذكّر الله نبيه موسى عليه السّلام بذلك. تذكر الآيات الكريمة بعد هذا تكليف موسى وأخيه بالذهاب إلى فرعون، ومداومة ذكر الله سبحانه مع بيان منهج الدعوة الذى ييسر للمدعو سبيل التذكر والخشية، وهو القول الليّن الذى يجعل المستمع فى هدوء أما القول المعبر عن الشدة فإنه يشغل المدعو بمواجهة الداعى، ولا يترك له فرصة التفكير فيما يدعى إليه.
ولكن قد يحدث أن يكون المدعو فى قمة الطغيان التى يتوقع معها أن يفرط على الداعى، ويكون سبيل الأمان أن يستشعر الداعى إلى الله سبحانه أن الله معه يسمع ويرى، كما تبين الآيات الكريمة بعد هذا الأهداف التى من أجلها يبعث الرسل والمذكور منها- هنا- إنقاذ البشر من ظلم الطغاة، وإشاعة السلام بين الناس باتباع الهدى، وإنذارهم من التكذيب والإعراض، ومواجهة المدعوين بالحجة وبيان ما غمض عليهم
(1/333)
________________________________________
وإقحامهم إذا أرادوا الجدل بالباطل ببيان ما ينبغى أن يشغل الإنسان به مما يعود عليه بالمنفعة، وبعد هذا البيان لكل الدعاة ينبغى أن يعلموا أن من الناس من يعرض على الرغم من الالتزام بالمنهج الرشيد فى الدعوة فإذا حدث ذلك لرسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم فإن الآيات الكريمة تذكّره بما حدث من فرعون مع قوة الآيات ووضوحها فلا يحزن قال جل شأنه مخاطبا موسى عليه السّلام: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56).
بل قد لا يكتفى المدعو بالإعراض وإنما يوجّه التهم إلى الداعى، ويقلب حقائق الأمور. فرماه بمثل ما عرف من تخييل السحرة، وأنه سحرهم بهذه الآيات ليخرجهم من الأرض وأيّد الله رسوله فى اللقاء الجامع الذى جمع فيه فرعون كيده ثم أتى.
وأبطل الله ما صنع السحرة على الرغم من شدة التمويه، وإحكام الصنعة حتى أوجس فى نفسه خيفة موسى وثبّته الله. وأيّده بالعصا التى تلقف ما صنع هؤلاء. وأدرك السحرة أن ما جرى على يد موسى ليس من قبيل سحرهم وبضاعتهم، ولذلك آمنوا برب هارون وموسى.
وهنا يظهر الطغيان فى صورته التى لا يقبلها عقل، فإن فرعون بطغيانه تصوّر أنه يملك قلوب الناس وعقولهم، فكيف يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم فرعون بالإيمان ثم أكّد اتهامه وقوّاه بزعم لا سند له من الواقع فى أن موسى عليه السّلام هو كبيرهم الذى علمهم السحر ثم هدد بالتعذيب البدنى، وهذه نهاية الإفلاس لدى الطغاة أن يهددوا بالتعذيب، ولكنّ صدق إيمان السحرة جعلهم يستهينون بتهديد فرعون ولا يعبئون به ويرون قصر الحياة الدنيا، ويرجون ربهم أن يغفر لهم ما بدر منهم. ثم تذكر الآيات عاقبة من أجرم، وعاقبة من آمن: قال تعالى فى موقف فرعون: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
(1/334)
________________________________________
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73).
ومع بيان نتيجة الإجرام ونتيجة الإيمان تعقيبا على موقف فرعون من موسى وهارون عليهما السلام والموقف من السحرة الذين آمنوا وذلك فى قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (47) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76).
فإنه قبل أن يلقى فرعون مصيره يرى آية أخرى فى الطريق الذى جعله الله لموسى ومن آمن معه فى البحر، ولكن العمى كان قد تحكم من فرعون فلم ينتفع بالآيات كلّها بل أضلّ قومه وكان مصيره أن يموت فى البحر. قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79).
وإذا كان هذا نذيرا للطغاة فى كل عصر فإن الآيات الكريمة بعد ذلك تحكى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما حدث من قوم موسى؛ ليقف على ما كان من أمر بنى اسرائيل، وما كان من شأن هذه الأمة. لقد ذكرت الآيات ما منّ الله به على بنى إسرائيل من النجاة من عدوهم وما نزّل عليهم من المنّ والسلوى وطيبات الرزق، ولكن بعد نجاتهم من إضلال فرعون وقعوا تحت تأثير إضلال السامرىّ لهم، فلما تركهم موسى أضلّهم السامرىّ بالعجل ونهاهم هارون ولكن لم يستجيبوا له. وعاقب الله المضلّ وحرّق العجل ونسف
(1/335)
________________________________________
فى اليمّ نسفا، قال تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ
رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
(97).
وبعد هذا تستخلص العبرة وصولا إلى التوحيد الخالص والتأكيد على أهمية الذكر الحكيم وعدم الإعراض عنه، والتذكير بيوم القيامة وما يحدث فيه. والعود إلى ذكر التنزيل وغايته، وبيان شوق الرسول صلّى الله عليه وسلم إليه، وضمان جمعه فى صدره تأكيدا لما ذكر فى أول السورة الكريمة، قال تعالى: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104).
أخرج «1» ابن المنذر وابن جريج قال: قالت قريش: كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107). وتستمر الآيات فى بيان ما سيحدث يوم القيامة فيقول الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ
__________
(1) فتح القدير 3/ 387.
(1/336)
________________________________________
فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114).
وتستمر الآيات الكريمة لتعطى الأمة الخاتمة خلاصة تجارب السابقين وما كان منهم فتذكر لنا ما كان من أبى البشر آدم عليه السّلام حيث عهد إليه وأمر فالتزم وأذعن ومع ذلك نسى وانتقضت عزيمته وتاب وتاب الله عليه كما تبصّر الآيات الكريمة بنى آدم بتكريم الله لأبيهم وعداوة إبليس وإغوائه لآدم عليه السّلام وأسلوبه فى الإغواء ونزول الوحى والهدى وانقسام الناس فى قبول الوحى إلى قسمين. قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127).
وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك العبرة التاريخية فيما حدث للسابقين وكيف تكون سنة الله فى خلقه فى الإمهال. قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
ثم توجه الآيات الكريمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتقويته فى مواجهة التحديات بالصبر على ما يقولون، والتسبيح بحمد الله وصولا إلى الرضا، والرضا بما قسم الله، وأمر الأهل بالصلاة والاطمئنان على رزق الله، وهذه سبل تدعيم الشخصية لكل مؤمن. قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ
(1/337)
________________________________________
اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132).
وتختم السورة الكريمة بذكر مطلب المشركين فى أن يأتيهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بآية كالناقة والعصا، أو أن يأتيهم بالآيات التى يقترحونها كما جاء فى قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً
رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا
(94) [الإسراء].
وهذا مطلب عجيب فقد جاءهم البينات فى هذا الذكر الحكيم فهو كتاب معجز وقص عليهم أخبار السابقين وأحوالهم؛ ومنها: ما ذكر فى سورة «طه» من ظهور الآيات أمام فرعون ولم ينتفع بها. فمع التعنت والعناد والظلم لا تغنى الآيات.
لقد أقيمت الحجة عليهم بما جاءهم من الحق والبينات، وليس لديهم ما يتعللون به حين يرون العذاب والخزى. وإذا كان المشركون يتربصون بالنبى صلّى الله عليه وسلم فإن العاقبة ستظهر من كان على صراط مستقيم ومن اهتدى، قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135).
(1/338)
________________________________________
سورة «الواقعة»
نزلت بعد سورة «طه» فهى مكية فى قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وأما ابن عباس وقتادة فيستثنيان آية منها نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)، وأما الكلبى فيقول: إنها مكية إلا أربع آيات منها آيتان نزلتا فى سفره صلّى الله عليه وسلم إلى مكة وهما قوله تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)، وآيتان نزلتا فى سفره صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وهما قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) «1».
وفى صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مطر الناس على عهد النبى صلّى الله عليه وسلم فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا»، قال: فنزلت هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) «2».
وعلى ذلك تكون الآيات المدنية عشر آيات منها: هذه الآيات الثمانية والآيتان:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبى صلّى الله عليه وسلم خرج فى سفر فعطشوا، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم:
«أرأيتم إن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون: هذا المطر بنوء كذا» فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلّى ركعتين ودعا ربّه فهاجت ريح، ثم هاجت سحابة فمطروا، فمرّ النبى صلّى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول: سقينا بنوء كذا ولم يقل: هذا من رزق الله فنزلت: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) أى: شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة وتقولون: سقينا بنوء كذا.
وفى الموطأ عن زيد بن خالد الجهنىّ أنه قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل (أى بعد مطر) فلما انصرف أقبل على
__________
(1) القرطبى 17/ 194.
(2) القرطبى 17/ 228، 229، وفتح القدير 5/ 163.
(1/339)
________________________________________
الناس وقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر بالكوكب ... فأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بى» «1».
وعلى ذلك فإن سورة الواقعة تتضمن تصحيح نظرة الإنسان إلى آيات الله الكونية، فإن هذا الكون بما فيه من آيات كونية من خلق الله سبحانه فهو الذى خلقها وهو الذى يسيرها وفق حكمته ومشيئته فلا يتوجّه إلى الآيات، ولا ينسب إليها فعل، فلا حول لها ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ونستطيع أن نجد تأسيس النظرة الصحيحة إلى الكون فى سورة الواقعة فيما يلى:
أولا: نظرة التوافق والانسجام، فالكون بآياته يسبح لله، طائع له، فإذا كان الإنسان كذلك طائعا لربه مستجيبا لأمره ونهيه شعر بالألفة والحب نحو هذا الكون للتوافق فيما بينهما.
ثانيا: نظرة التأمل والاعتبار فلا يمر المؤمن عليها بغفلة، وإنما يستدل منها على قدرة خالقها سبحانه وعظيم صنعه فيؤمن بقدرة الله سبحانه فلا يستصعب البعث والحساب وما يكون إذا وقعت الواقعة.
ثالثا: نظرة التسخير والانتفاع فإن الله سبحانه جعل فى هذه الآيات ما يستمتع به الإنسان وينتفع به فى حياته فيزداد بالتفكير فى آيات النعمة حبا للمنعم سبحانه والعمل لمرضاته.
نتعلم هذا من سورة الواقعة فيما تثيره من تساؤلات عن النطفة وعن الحرث وعن النار التى ينتفع بها الإنسان وهكذا. فإذا ما استقامت نظرة الإنسان إلى الكون بهذه الصورة تهيأ لما سيكون بعد الموت وما سيكون إذا وقعت الواقعة.
ولذلك سيكون فى حياته عابدا لربه شاكرا له فيكافأ بالعطاء فى الدنيا والجزاء العظيم فى الآخرة؛ لهذا جاء فى فضل تلاوة سورة «الواقعة» ما أخرجه البيهقى فى الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة، كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا» وذكر ذلك أيضا ابن عبد البر فى التمهيد كما سميت فى روايات أخرى بأنها سورة الغنى «2».
ومما تضمنته سورة «الواقعة» من المعانى على ترتيب نزولها، بعد أن نزلت آيات كثيرة فى السور الكريمة السابقة تذكر يوم القيامة وما يحدث فيه من بعث ونشور وما
__________
(1) القرطبى 17/ 229.
(2) فتح القدير 5/ 146.
(1/340)
________________________________________
يكون من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وجنة ونار، وتخاطب فى كل ذلك ما يقنع العقل ويحرّك القلب حتى أصبح الأمر لمن أراد الهداية يقينا لا شك فيه تنزل سورة الواقعة لتذكّر بهذا اليقين، ولتذكر نتيجة وقوع الواقعة من الخفض لقوم والرفع لآخرين وارتباط هذا الخفض والرفع بأعمال المكلّفين، ومظاهر هذه الواقعة من الرّج والبسّ وتغيّر الأحوال وانقسام الناس بأعمالهم إلى ثلاثة أقسام. يقول الله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) تذكر الأصناف الثلاثة.
أما المقربون فيذكرون بصفتهم ومصيرهم وحجمهم من الأمة فى أوّلها وآخرها ومن غيرهم، ومظاهر نعيمهم، قال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26). أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) شق على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثانى» «1».
غير أن هذا الوصف لحجم المنعمين يأتى مع أصحاب اليمين، فيذكرون بمظاهر نعيمهم، وأنهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين.
فيقول تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40).
وأما أصحاب الشمال فيذكرون بمصيرهم ومظاهر عذابهم وصور من أعمالهم وسلوكهم، قال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا
__________
(1) فتح القدير 5/ 151.
(1/341)
________________________________________
يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56).
ولما ذكر فى الآيات السابقة ما كان من أصحاب الشمال من التكذيب بيوم الدين، وما يحدث فيه، وما يتبع ذلك من عدم استقامة المكذب فى التعلق بالدنيا والاشتغال فيها بالباطل وارتكاب كبائر الذنوب، كانت الآيات الكريمة بعد ذلك معينة على سبيل الاستقامة وذلك بعرض مجموعة من آيات الله الكونية المشاهدة، والتى تتناول خلق الإنسان وأصله ونهايته، وما يكون من الزرع الذى لا غنى له عنه، والماء الذى يشربه وكيف ينزله الخالق المنعم سبحانه عذبا فراتا برحمته، والنار التى تشاهد وينتفع بها.
كل هذه الآيات المشاهدة للإنسان تنطق بعظيم قدرة خالقها جل جلاله فإذا تأملها الإنسان آمن بأنه سبحانه على كل شىء قدير فلا يستكثر الإنسان أن يعيده الله سبحانه مرة أخرى بعد أن يموت ويكون ترابا وعظاما، وأن يحاسبه على ما قدم، قال تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
(74).
وهذا التدبر والتأمل فى آيات الله الدالة على قدرته سبحانه، وعلى عظيم نعمه تورث فى القلب اليقين، وحسن التلقى لآيات الكتاب العزيز.
ومما تضمنته سورة الواقعة من المعانى على ترتيب نزولها من تقدم الآيات الكريمة ما يعين الإنسان على بلوغ اليقين من تأمله وتدبره فى آيات الله الكونية، والتى يعيش فيها وينعم بها ولا يستطيع الحياة بدونها. فإذا بلغ الإنسان هذا اليقين بهذه المشاهدة وجد القسم الذى يزيده يقينا فى كتاب الله سبحانه، وأنه كلامه الذى يعتز الإنسان به وأنه محفوظ ممن نزله سبحانه وعلى هذا تكون قوة المؤمنين فى الاعتزاز والجهر به أمام العالمين، قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
(1/342)
________________________________________
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82).
فالآيات الكريمة تربط الإنسان بمشاهد الكون الدالة على قدرة الخالق سبحانه وعظمته وأن القرآن الكريم كلامه الذى أنزله وحفظه فلا ينبغى أن يشعر المرء بضعف وهو يحمل كلام القوى العزيز، ولا ينبغى أن يقابل نعم الله الغامرة بالتكذيب باليقين الذى لا ريب فيه وخاصة عند مواجهة الأعداء، وكما أشرنا أن نزول الآيتين: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) كان فى سفر النبى صلّى الله عليه وسلم إلى مكة.
وتقدم الآيات الكريمة- بعد ذلك- مظهرا من مظاهر قدرة الله سبحانه فى وقوع الموت ببنى آدم وعجز الإنسان أمام هذا الحق الذى لا مفر منه، وإبراز هذا الجانب من مظاهر القدرة المشاهدة فى الموت يسلم للحقيقة التى بعده والتى تتعلق بالبعث بعد الموت وانقسام الناس إلى: المنعّمين على درجاتهم من المقربين ومن أصحاب اليمين، وإلى:
المعذبين من المكذبين الضالين.
وعلى هذا فإن سورة الواقعة تقدم للناس حق اليقين فى كل ما أخبر الله عنه من أمور الغيب ودعم هذا اليقين بإثارة الفكر ليتأمل الإنسان آيات القدرة والنعمة فى حياته والتى تجعله يسبح باسم ربه العظيم من قلبه، قال تعالى: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96).
(1/343)
________________________________________
سورة «الشعراء»
وبعد سورة الواقعة وما تضمنته من المعانى التى تؤسس اليقين فى القلوب نحو اليوم الآخر، وتأخذ بالعقول للتفكير فى آيات الله الكونية، وما يكون من وقع الموت بالإنسان ومصيره فى الآخرة تنزل سورة الشعراء، لتدعم اليقين، فى آيات الكتاب المبين، وكيف حفظه من أنزله سبحانه على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلم، وتبيّن موقف الناس منه، وما تضمنه من وجوه الإعجاز، وتنزهه عن المشابهة بكلام البشر، فسورة الشعراء مكية عند الجمهور وقال مقاتل: منها مدني؛ الآية التى يذكر فيها الشعراء، وقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة «1» وهى قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227).
وتبدأ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الكريم، وأنه كتاب مبين ولكنّ موقف الناس منه عجيب فقد كذّب به- مع وضوحه- فريق منهم، وهذا الموقف أحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حزنا شديدا.
وهم بهذا الإعراض مع التكذيب والاستهزاء يعرّضون أنفسهم لعذاب الله، قال تعالى: طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6).
فهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله مع وضوحها عمى عن آيات الله الكونية، لم يفتحوا عيونهم ليروا تحت أقدامهم الأرض، وما أنبت الله فيها من كل زوج بهيج ليكون فى هذا النظر فتح لقلوبهم، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9).
__________
(1) القرطبى 13/ 87، فتح القدير 4/ 92.
(1/344)
________________________________________
ومع بيان وصف الكتاب العزيز بأنه مبين، ومع هذا كان موقف بعض الناس منه الإعراض والتكذيب، لأنهم لم يفتحوا عيونهم على آيات الله الكونية فعميت قلوبهم عن آيات الله القرآنية، وتقدّم الآيات الكريمة- بعد ذلك- وجها من وجوه الإعجاز فى هذا الكتاب المبين وهو الإخبار عن السابقين وما كان من موقف الأمم السابقة مع رسلهم، وهى أخبار لا يعلمها إلا الله سبحانه الذى نزّل الكتاب على عبده. وفى الوقت نفسه يكون فى هذه الأخبار ما يفيد من أراد الهداية والانتفاع من تجارب الآخرين، والسعيد من وعظ بغيره فبدأت الآيات بالحديث عن موسى عليه السّلام، وقد سبق الحديث عنه فى آيات كريمات من سور سابقة ولكن نجد أن تجدّد ذكر الأنبياء مع أقوامهم فى مواضع متعددة يكون مصحوبا بجوانب تربوية ومواقف تتناسب مع السياق الذى ترد فيه. ففي موضع تذكر جزئيات خاصة وفى موضع آخر يفصّل فى غيرها وهكذا فتعرض الآيات الكريمة- هنا- شيئا مما يتعلق بنبى الله موسى عليه السّلام وقد ذكر من قبل- مثلا- فى سورة طه فى جوانب من نعم الله عليه منذ ولادته إلى بعثته، وما جرى مع قومه- وهنا تأتى جوانب من حياته لتعين الناس على استخلاص العبرة من قصة موسى مع القوم الظالمين وضيق صدره من مواجهة الطاغين، وكيف أيده الله وأعانه وشد أزره بأخيه هارون، قال تعالى: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17).
ثم تبين الآيات بعد ذلك موقف فرعون منهما ومحاولته صرف موسى عن دعوته بذكر ما صنعه معه وليدا، وما فعله موسى عند ما استغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى، قال تعالى: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)، وكان جواب موسى عليه السّلام مبصّرا لفرعون ومبينا له حقيقة استعباده لشعب بنى إسرائيل فى مقابل ما يذكره من صنيعه بموسى عليه السّلام، قال تعالى: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22).
ثم تعرض الآيات الكريمة سؤال فرعون لموسى عن ربّ العالمين، وكان جوابه عليه السلام مصححا لما أوقعه فرعون فى الناس من ضلال فأجابه بأنه سبحانه ربّ هذا الكون بسمائه وأرضه وما بينهما، ورب الناس الذين يعيشون فى هذا الكون، وربّ الزمان والمكان، ولا شريك له فى ذلك، وهو الذى يستحق العبادة وحده فلا إله إلا هو، قال
(1/345)
________________________________________
تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29).
وقدّم موسى الآيات الدالة على صدقه فى العصا واليد ولكنّ فرعون رماه بالسحر وبالتآمر على الناس، قال تعالى: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35). ولما وجد الناس رمى فرعون لموسى عليه السّلام بالسحر أشاروا عليه بجمع السحرة ومواجهته بهم، وتمت المواجهة ووعد السحرة بالأجر والمكانة وتحرك الباطل، فخدع الناس وخيّل إليهم من سحرهم أن عصيهم تسعى ولكنّ الحق تحرّك أيضا بإلقاء موسى للعصا التي أسكنت بالباطل ودفعته، وأدرك السحرة أنه الحق فآمنوا. قال تعالى:
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48).
ولكن شأن الطغاة أن يتصوروا أنهم يملكون الناس ظاهرا وباطنا، وأنه لا ينبغى للإنسان أن يفكر إلا إذا أذن له سيده، ولا أن يؤمن إلا إذا سمح له فرعون، وتبع هذا التصور الباطل رمى فرعون لموسى عليه السّلام بالسحر، وأنه كبير السحرة، وأنهم تعلموا على يديه ثم اتّجه إلى السحرة وتوعّدهم بالتعذيب، وقابله السحرة بالإيمان والثبات والتفكير فى المصير والطمع فى مغفرة الله. قال تعالى: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51).
ويؤمر موسى عليه السّلام بالسير ليلا لأنهم متّبعون، ويقوم فرعون بحشد إعلامى ليشتد غيظ الناس على بنى إسرائيل، وتكون العاقبة فى إخراج الظالمين من النعم الكثيرة وتمكين الضعفاء المستعبدين منها. وتأتى العاقبة فى بيان يشدّ انتباه السامعين إلى هذا
(1/346)
________________________________________
الموقف الذى يتراءى فيه الجمعان: جمع الطغاة، وجمع المؤمنين ويخشى المؤمنون الموقف، ولكن موسى يطمئنهم: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)، ويكون الأمر بضرب البحر بالعصا لتتحقق هذه الآية العظيمة فى وجود الطريق بين جبلين من الماء الجامد لينجو المؤمنون بهذا الطريق، ويعود البحر إلى حالته الأولى لإغراق الظالمين. قال تعالى:
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(68).
ثم تقدم الآيات الكريمة المنزلة بعد هذا ما كان من نبأ إبراهيم عليه السّلام مع أبيه وقومه ومواجهتهم فى العبادة، وبيان بطلان ما هم عليه بيانا عقليا ليجدوا أنفسهم فى دائرة التقليد الأعمى للآباء فحسب. قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77).
ويعرّف إبراهيم عليه السّلام الناس بمجموعة من النعم التى تغمرهم، وينبّه إلى مجموعة من الأمور التى ينبغى أن يحرص الناس عليها وأن يشتغلوا بتحقيقها، وأن يتضرعوا إلى الله ليعينهم على تحقيقها. فهو سبحانه الذى خلق، وهو الذى يهدى، وهو الذى يطعم ويسقى، وهو الذى يشفى إذا قدّر المرض، وهو الذى يميت، وهو الذى يحيى وهو الذى يرجى فى التطهر من الخطايا لخطورتها فى الدنيا وفى يوم الدين. فهذه ينعم بها عباد الله وعليهم أن يجتهدوا فيما يحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة من طلب العلم النافع الذى جاء فى وحى الله، وأن يجد نفسه مع الصالحين، وأن تكون آثاره فى الناس طيبة ليجد الذكر الحسن، وأن يكون من أهل الجنة، وأن يدرك واجبه نحو والديه فى طلب المغفرة والرحمة لهما، وكان دعاء إبراهيم بالمغفرة لأبيه عن موعدة وعدها إياه. ومن الأمور التى يحرص عليها كذلك ويدركها الناس من دعاء إبراهيم عليه السّلام أن يجنّب الله الإنسان الخزى يوم يبعثون وذلك بتجنيب أسباب الخزى وأن هذا اليوم لا
(1/347)
________________________________________
ينفع فيه إلا الذين تعهدوا قلوبهم بالصقل والتنقية بالإيمان الصحيح والاستغفار وذكر الله سبحانه والأعمال الصالحة وتطهيره من الأمراض التى تصيبه، قال جل شأنه فيما ذكره إبراهيم فى مواجهة قومه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89).
وبعد هذا التعريف بالنعم والحضّ على ما يغتنم يأتى التنبيه بما سيكون من تقريب الجنة للمتقين، وإظهار الجحيم للغاوين الكافرين الذين يندمون ويتلاومون على اتخاذهم الأنداد من دون الله حيث يدركون فى وقت لا ينفعهم فيه الإدراك أنهم كانوا فى ضلال، وأنه لا شفيع ولا صديق ويتمنى هؤلاء العودة مرة أخرى ليكونوا من المؤمنين ولكن لا ينفعهم التمنى فتزداد الحسرة. قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104).
ومع التنبيه والتذكير بما سيكون من مصير المتقين ومصير الغاوين الكافرين. تتناول الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما كان من قوم نوح من التكذيب وعدم الاستجابة والنظرة المتكبرة إلى المؤمنين، والاشمئزاز منهم والتهديد والوعيد بالرجم لمن يدعوهم إلى الهدى والتقوى، قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116).
ولما وصل الأمر إلى هذه النتيجة المؤسفة دعا نوح ربّه أن يحكم بينه وبينهم، وأن ينجيه ومن معه ونجّاه الله ومن معه فى الفلك، وأغرق الكافرين. قال تعالى: قالَ
(1/348)
________________________________________
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122).
ثم تقدم الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من تكذيب عاد، وكيف دعاهم أخوهم هود إلى تقوى الله والطاعة وأنه لا يريد مقابل ذلك أجرا منهم ونبّههم إلى ما هم عليه من بطش وتجبّر، وعرّفهم بنعم الله عليهم وحذرهم من عذابه، ولكنهم مع كل هذا كذّبوا فأهلكهم الله، قال تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140).
وهذا التعقيب الكريم الذى يذكر من صفات الله سبحانه العزة والرحمة تنبيه للمخاطبين بأنه سبحانه لا يغلب وأنه رحيم بعباده يقص عليهم هذه الأنباء، ليفيدوا منها وليدركوا أنفسهم قبل أن يقع العذاب بهم مثلما وقع بغيرهم.
ثم تذكر الآيات الكريمة- بعد ذلك- ما كان من ثمود من تكذيب، وقد دعاهم أخوهم صالح إلى تقوى الله والطاعة وأنه لا يريد منهم أجرا على نصحه ودعوته، فجزاؤه على ربّ العالمين سبحانه، وأنهم لن يتركوا فى نعيم مع الكفر فإن الكفر عاقبته وخيمة وحذرهم من طاعة المسرفين المفسدين فى الأرض فرموه بالسحر، وطلبوا منه آية تدل على صدقه وأيده الله بالآية فكانت الناقة، ولكنهم عقروها فاستحقوا العذاب ووقعوا فى الندامة. قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ
(1/349)
________________________________________
ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159).
وبعد ذلك تتناول الآيات الكريمة المنزلة ما كان من قوم لوط من تكذيب ودعاهم أخوهم لوط إلى تقوى الله والطاعة، وأنه لا يريد منهم أجرا فأجره على رب العالمين وحذّرهم من سوء الخلق وإتيان الذكران من العالمين، ودعاهم إلى الطّهر والعفة فتوعدوه بالإخراج، وتبرأ من عملهم وعبّر عن كرهه له ودعا ربّه لينجّيه وأهله مما يعملون فاستجاب الله له وتحققت النجاة له ولأهله إلا عجوزا بقيت فى العذاب وأهلك الآخرون بالخسف والحصب «1». قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175).
وتتناول الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من أصحاب الأيكة (والأيك: الشجر الكثير الملتف، والواحدة أيكة، وكانت فى البادية). وقد أرسل إليهم شعيب عليه السّلام ودعاهم إلى تقوى الله وأنه لا يريد منهم أجرا فأجره على رب العالمين، ودعاهم إلى الإصلاح الاقتصادى المتمثل فى سلامة الميزان والكيل وعدم البخس والتحذير من الفساد فى الأرض بصوره، فرموه بالسحر وكذبوه وطلبوا العذاب، فأخذهم عذاب يوم الظلة.
قال ابن عباس: أصابهم حرّ شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا، وقيل: أقامها الله فوق رءوسهم وألهبها حرّا حتى ماتوا من الرّمد، وكان من أعظم يوم فى الدنيا عذابا «1»، قال تعالى:
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
__________
(1) القرطبى 13/ 132.
(1/350)
________________________________________
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191).
إن تقديم هذه الصور للأمم السابقة مع رسلهم وبيان حالة كل أمة، وكيف كانت عاقبتها تعليم وتوجيه وتربية لهذه الأمة الخاتمة، ففرعون صورة للطغيان والاستبداد والفساد فى الأرض وقوم فرعون يمثلون الضلال واتخاذ الأنداد ووجهوا بالحجة، وقوم نوح يمثلون نظرة السخرية والتنكير على المؤمنين، وعاد يمثلون العلوّ والكبر والتعلق بالدنيا، وكذلك ثمود بإسرافهم وفسادهم وقوم لوط بفاحشتهم وشذوذهم، وأصحاب الأيكة بفسادهم الاقتصادى. فهذا الفساد المتعدد يتكرر على مرّ الأيام والناس فى حاجة إلى معرفة النتائج لهذه الأعمال الفاسدة، وقد نبأنا الله من أخبار هؤلاء فى كتابه الكريم، فمع إمكانية الانتفاع بهذه المواقف بالتدبر والتأمل، واستخلاص العبر تأتى الأوامر المباشرة ليحمل الناس على صلاحهم حملا. تتناول الآيات الكريمة بعد هذا الحديث عن القرآن الكريم وبيان مسيرته الآمنة حيث نزل به الروح الأمين لينزل على أطهر مكان وأحكمه على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم. وليس للشياطين عليه من سبيل فلا يستطيعون سرقة شىء منه. وهو فى وضوح تام؛ لأنه بلسان عربى مبين، وقد تضمّن كل أسباب الهداية، فهو يهدى للتى هى أقوم فى كل شىء ففيه الدعوة إلى التوحيد والعبودية الخالصة لله وحده، وفيه خفض الجناح للمؤمنين، وفيه التحذير من المعصية والمخالفة، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196).
وأما الآية التى قال مقاتل إنها مدنية فهى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197). فإن مجاهدا يقول: يعنى عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما
ممّن أسلم، وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد- عليه الصلاة والسلام- فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد فى التوراة نعته وصفته. يقول القرطبى: فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذا القول، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون فى أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم «1».
وتحذّر الآيات الكريمة من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من التكذيب بالحق
__________
(1) القرطبى 13/ 138، 139.
(1/351)
________________________________________
واستعجال العذاب، فإن قلوب المجرمين لا تذعن إلا إذا تطهرت، وفى حالة إجرامها فلن تؤمن بالقرآن الكريم وإعجازه ولو أنزله الله على أعجمى، ولن يؤمنوا به حتى ينزل عليهم العذاب. ولو كان تكذيبهم لانغماسهم فى الشهوات فهل المتعة بالشهوات تغنى إذا وقع العذاب؟. قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)، قال مقاتل: قال المشركون للنبى صلّى الله عليه وسلم: يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتى به؟ فنزلت: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)، ثم ينزل هذا التساؤل الذى يجعل متع الدنيا لا قيمة لها مع وقوع العذاب فيقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207).
وتبين الآيات بعد ذلك سنة الله مع خلقه فى أنه سبحانه ما أهلك قرية من القرى إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليذّكر هؤلاء قال تعالى:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209).
وتنبّه الآيات الكريمة بعد ذلك إلى أمور جديرة بالعناية حتى يتخلص الناس من الأوهام والظنون التى شغلوا أنفسهم بها نحو وحى الله سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلم، فبعد الاطمئنان السابق على تنزيل القرآن الكريم من رب العالمين على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلم عن طريق الروح الأمين عليه السّلام يأتى النفى والرد لما زعمه الكفرة فى القرآن الكريم أنّه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة. فهذا الزعم مردود لأن الله حفظ كتابه، قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212). ولو أن هؤلاء آمنوا وفتحوا قلوبهم للتوحيد لتطهّرت قلوبهم من هذه الأوهام ولذلك يأتى الخطاب إلى النبى صلّى الله عليه وسلم بالتوحيد مع كونه منزّها عنه معصوما منه لحثّ العباد على التوحيد ونهيهم عن شوائب الشرك وكأنه قال: أنت أكرم الخلق علىّ وأعزّهم عندى، ولو اتخذت معى إلها لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد «1».
قال تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وإذا كان هذا تنبيها إلى إقامة الناس على التوحيد، فإن الأمر الذى يلى هذا أن ينذر الرسول صلّى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين، وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلم سينذر عشيرته الأقربين فليس معنى ذلك أن دعوته لهم وحدهم كما تصوّر بعض الناس، بل إن ذلك من التدرج الصحيح فى الدعوة والتى تبدأ بالداعى ثم الذى يليه فقد ذكر قبلها مباشرة: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 4/ 119.
(1/352)
________________________________________
الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214). وإذا كان رسول الله يبعث بلسان قومه فرسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم بعث كذلك بلسان قومه، وأنزل عليه القرآن الكريم بلسان عربى مبين ليفهم عنه من ستبدأ الدعوة بهم، ثم يقوم هؤلاء بمهمتهم فى دعوة غيرهم، وهكذا تتسع الدائرة من العشيرة الأقربين إلى أمّ القرى ثم من حولها لتشمل العالمين.
روى مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعمّ وخصّ فقال: «يا بنى كعب ابن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذى نفسك من النار فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها». أى أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا «1».
ولو فهم الناس أن هذه الدعوة خاصة بعشيرته فحسب لاستجاب له الأقربون بدافع العصبية ولكنّ الأقربين أنفسهم أدركوا أن الدعوة لهم ولغيرهم أى ليست من قبيل الدعوات العنصرية وإنما تنظر إلى الناس جميعا نظرة المساواة وتعمّ بخيرها العالمين.
ولذلك رأينا من الأقربين المستجيب والمعرض، قال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220).
ولإزالة الوهم ودفعه تنبه الآيات الكريمة بعد ذلك إلى تنزّه القرآن الكريم عن المشابهة لكلام البشر فيما عرفه الناس من كلام الكهان وشعر الشعراء، وصلة الشياطين
بهذين النوعين من الناس، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس بكاهن وليس بشاعر، وما أنزل إليه ليس من قبيل سجع الكهان وشعر الشعراء، قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227).
ولما كان الشعر يمثل جانبا كبيرا وخطيرا من أساليب العرب فى القول وجدنا هذا التفصيل المذكور فى الآيات الكريمة بعد نفى المشابهة بين القرآن الكريم والشعر من جهة وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم والشعراء والكهان من جهة أخرى. وهذا يرجع إلى مكانة الشعر فى
__________
(1) القرطبى 13/ 143.
(1/353)
________________________________________
حياة الناس عند نزول الوحى، وكيف عنى العرب بفنّ القول، وأجادوا فيه وأنزل الله كلامه الذى أعجزهم بيانه فلم يستطيعوا الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، ولو تظاهر فى ذلك الإنس والجن. فأسلوب المخلوق يستحيل أن يرقى إلى كلام الخالق سبحانه.
ولكنّ عدم المشابهة بين القرآن الكريم والشعر وغيره من الكلام الفصيح والبليغ لا يفهم منها محاربة القرآن الكريم للشعر والشعراء بصورة عامة بل إن إعجاز القرآن الكريم فى جانبه البيانى يكون أكثر وضوحا عند ما يعتاد الناس جيد القول نثرا وشعرا، وعند ما يفشو فيهم تذوق الكلمة، ولذلك فإن هذه السورة الكريمة التى سميت بسورة الشعراء تلفت الانتباه إلى حقيقة التفضيل فى أمر الشعر والشعراء. وأن الشعر وإن كان كلاما موزونا مقفى، فإنه لا ينبغى أن يخرج عن دائرة الضوابط الشرعية التى ترشد الكلمة، لتكون طيبة نافعة تؤتى ثمارها، فجيّد الشعر كجيد الكلام مقبول، وقبيح الشعر كقبيح الكلام مذموم ومرفوض، ويرتبط الكلام بقائله فى الحالتين شعرا ونثرا.
ولقد وجد الناس هذا المعنى فى نظرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء ولا يفهم من هذا أن الإسلام ضيّق الأمر على الشعراء أو أثّر على شاعريتهم تأثيرا سلبيا كلا؛ بل إنه أطلق لهم الإبداع فى التعبير عن المعانى المستحسنة شرعا وطبعا وفى ظل ضوابطه كان إنتاج الكثير من الشعراء موافقا لتصور الإسلام للشعر والشعراء.
روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبى الصّلت شىء؟، قلت: نعم. قال:
«هيه» فأنشدته بيتا. فقال: «هيه» ثم أنشدته بيتا، فقال: «هيه» حتى أنشدته مائة بيت «1». يقول القرطبىّ: وفى هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعانى المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبى صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: «وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم».
ولذلك أطلق العلماء على الشعر الأحكام الفقهية من الحل والحرمة والندب والكراهة والإباحة. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدرة إلا وقد قال
__________
(1) القرطبى 13/ 145.
(1/354)
________________________________________
الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله؛ وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل» أخرجه مسلم وزاد: «وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» وروى عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع، وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا فى القوافى، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
وأما ما رواه مسلم رحمه الله عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يملئ شعرا» وفى الصحيح- أيضا- على أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خذوا الشيطان- أو أمسكوا الشيطان- لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» فإن للعلماء توجيها لهذا قالوا فيه: إنما فعل النبى صلّى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعلّ هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب فيفرط فى المدح إذا أعطى، وفى الهجو والذم إذا منع، فيؤذى الناس فى أموالهم وأعراضهم ولا خلاف فى أن من كان على مثل هذه الحالة، فكلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه.
وقيل كذلك: إن الذى غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شىء من الذكر ممن يخوض به فى الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذى أشار إليه البخارى فى صحيحه لما بوّب على هذا الحديث: «باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر».
وقد ذكرت الآيات الكريمة تعليلا لمذمة الشعراء الذين يتبعهم الغاوون فى أنهم فى كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما
(1/355)
________________________________________
يقوله تثبّت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالى ما قال.
والآيات الكريمة تستثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، ولذلك لما نزلت: وَالشُّعَراءُ جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبى الله، أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء؟ فقال: «اقرءوا ما بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية- أنتم وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أنتم» أى بالرد على المشركين. قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات».
(1/356)
________________________________________
سورة «النمل»
وهى مكية كلّها فى قول جميع العلماء «1» نزلت بعد سورة الشعراء، وتبدأ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الكريم، كما بدأت من قبل سورة الشعراء؛ لأن معالجة هذا الأمر يمثل أساسا عظيما للإيمان وما يتبعه من استجابة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وسلم، فإذا تجلّت حقيقة الوحى وعرف الناس قدر نعمة القرآن الكريم، وأنه كتاب الله المبين، وأنه يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين ويثمر فيهم صلاحا مع الله سبحانه فى إقامة الصلاة يتبعه صلاح مع الناس فى إيتاء الزكاة مع اليقين فى اليوم الآخر، وما يكون فيه من حساب، إذا عرف الناس ذلك أدركوا سبب الفساد الذى يقع فيه من لا يؤمن، قال تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5).
فهذا القرآن الكريم أساس كل خير وهو كلام العليم الحكيم سبحانه، هذه الحقيقة تقدّم فى بداية سورة النمل وقبل أن تبسط أحوال الأمم السابقة مع رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6).
وإذا كان موسى عليه السّلام قد مرّ بنا ذكره فى مواضع سابقة من القرآن الكريم فكما أشرنا فى أن هذا التكرار لذكر اسمه عليه السّلام مصحوب بمناسبة الجزئية التى تذكر من حياته ومواقفه مع السياق الذى وردت فيه. وهنا يذكر من هذا الجانب ما يتعلق بموضوع الوحى وما يقترن به من الخير وما يصحب الرسل من آيات تدل على صدقهم. فالقرآن الذى أنزله الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم فيه آيات إعجازه ومنها هذه القصص التى تساق لتدل على أن الذى أخبر بها رسوله على هذا النحو الدقيق إنما هو الحكيم العليم سبحانه. وهذا الوحى مصدر كل خير فموسى عليه السّلام يريد لأهله الخير والدفء فوجد الخير الأعم فى وحى الله سبحانه: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9).
__________
(1) القرطبى 13/ 154.
(1/357)
________________________________________
ويؤيد الله نبيه بالمعجزة وتذكر الآيات القرآنية الكريمة ما يفيد أن هذه المعجزة التى يؤيد الله بها رسولا من رسله ليست من صنع الرسول، وإنما يجريها الله سبحانه على يديه تأييدا له ودليلا على صدقه، والدليل على ذلك أن موسى عليه السّلام لما أمر بإلقاء العصا ورآها تهتز كأنها جانّ ولّى مدبرا، وطمأنه الله فلو كانت من صنعه لما خاف. قال تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11).
وأمر الله سبحانه موسى عليه السّلام بإدخال يده في جيبه ليريه آية أخرى، ومع كثرة الآيات وقوتها ووضوحها تلقاها القوم الفاسقون بالجحود والكبر مع تيقنهم من أنها من عند الله سبحانه، قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14).
ثم تخبرنا الآيات الكريمة بعد ذلك عن وحى الله ونعمته على داود وسليمان ومقابلة هذه النعم بالحمد، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18). وفى الوقت الذى تعرض فيه هذه الصورة للملك الكبير والذى كان عليه سليمان عليه السّلام ومع هذا الملك يكون الخضوع لأمر الله والثناء عليه وعدم الكبر وعدم البطش بالضعفاء ولذلك سرّ سليمان عليه السّلام من قول النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) أى لن يفعلوا ذلك بعلم منهم لعدلهم ورحمتهم بالنمل وغيره: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19).
وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك موقفا لسليمان عليه السّلام مع الطير وهو موقف تعليمىّ فى العلاقة بين القائد وجنده، وكيف يكون القائد عارفا بأحوال جنده، وكيف يعرف الجند النظام والطاعة فسليمان عليه السّلام يتفقد الطير فلم يجد الهدهد ومعنى ذلك أنه غاب بغير إذن وتكون العقوبة على قدر ما فعل، فقد تكون تعذيبا وقد تكون ذبحا، وقد يأتى بما يرفع عنه العقوبة من عمل عظيم أو عذر مقبول. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما
(1/358)
________________________________________
لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21).
ومع ذكر موقف القائد من جنده فى تفقدهم وتعويدهم النظام فيما يعملون وكيف فصّل سليمان عليه السّلام العقوبة المتوقعة لصنيع الهدهد. ولكنّ الهدهد جاء بعلم لم يحط به نبىّ الله سليمان عليه السّلام وهو فى صالح الدعوة وعلى ذلك يدفع الهدهد عن نفسه العقوبة التى فصّلت فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23). وهذه المرأة التى ملّكت وآتاها الله من كل شىء ومكّن لها. كان الموقف الذى يراه الهدهد ضروريا ومناسبا أن تعرف الله وحده وأن تخلص العبودية له ولكنّه وجدها على غير ذلك وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26). وهذا الإحساس من الهدهد التابع لمملكة سليمان عليه السّلام يدل على معرفة يقينية بما ينبغى من العباد نحو الإله الحق سبحانه، ومن المخلوق نحو الخالق جل جلاله وأن الهدهد يعرف من حياته كيف يسّر الله له ولأمثاله من الطيور إخراج الخفىّ من الأرض، وأنّ علم الغيب لله وحده ويطلع عليه من شاء من خلقه.
والموقف التعليمى الآخر الذى يتمثل فى تلقى القائد للأخبار وأنّ عليه أن يتثبت من صحة الخبر الذى يلقى إليه، وأن يسلك السبيل إلى اليقين فى الأخبار ولذلك كان موقف سليمان عليه السّلام: قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)، وإذا كان هذا الموقف يمثل الحال فى مملكة الإيمان والاستقامة على وحى الله فللقائد أن يتفقد وله أن يحاسب، وللجند أن يعبر عن موقفه وأن يدافع عن نفسه، وأن القائد والجند يغارون على دين الله، فإن الحال فى المملكة التى لا تعرف التوحيد على غير هذا يتبين ذلك فى موقف الملكة مع رعيتها: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)، بعد أن قرأت الرسالة ووصفت الكتاب بأنه كريم وأنه من سليمان وفيه التصدير بالرحمة والدعوة إلى الله وعدم الكبر طلبت منهم الرأى: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33).
وهذا الموقف ليس مستقيما؛ لأنها طلبت رأيهم وماذا تصنع، ولم يعطوا لها رأيا
(1/359)
________________________________________
بل سلموا لها الرأى والتفكير، وأما هم فأصحاب قوة وبأس شديد. وكانت نظرتها إلى الأمر بما عرفت عن الملوك الذين لا يعرفون الله ولا يلتزمون وحيه وأنهم بهذه الصفة إذا دخلوا قرية أفسدوها. ولم تعرف نموذج الملك الصالح الذى يعرف الله سبحانه:
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35). ولم تفلح فى هذا الرأى فما أوتى سليمان عليه السّلام من فضل ربه أعظم من هديتهم وما دام الأمر لم يجد معه الخطاب الكريم فليكن الموقف الذى يتلاءم مع عدم الاستجابة للحق، قال تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37). وأراد سليمان عليه السلام أن يريها آية قدرة الله سبحانه وتأييده له: قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40). ولكى تفكر بالأمر ويرى مدى نضجها الفكرى ولتكون النتيجة بعد الفكر قوية الأثر قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43).
ورأت كيف تكون آيات القدرة والجمال فى مملكة الإيمان: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44).
ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من إرسال صالح عليه السّلام إلى ثمود وأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده وانقسم قومه إلى فريقين: مؤمن وكافر. ووجّه صالح النصح إليهم ودلّهم على الاستغفار ليكونوا أهلا لرحمة الله بهم ولكنهم تشاءموا من الداعى إلى الحق ومن الذين آمنوا معه. بل لم يكتفوا بذلك ومكر المفسدون منهم وتآمروا على قتل نبى الله صالح عليه السّلام وجعل الله كيدهم فى نحورهم ووقع عليهم العذاب ودمّر المفسدون ونجّى الله عباده المتقين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
(1/360)
________________________________________
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53).
ثم تتناول الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما كان من قوم لوط من ارتكاب الفاحشة واستنكار لوط عليه السّلام لفعلهم هذا ونهيه لهم، ولكنهم قابلوا هذا بالتآمر لإخراج لوط عليه السّلام من القرية لطهره ووقع عليهم العذاب ونجى الله لوطا وأهله إلا امرأته، قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58).
وبعد هذا تذكر الآيات الكريمة ما يعين الناس على استخلاص العبر من قصص السابقين فى الثناء على الله سبحانه، والسلام على عباد الله المرسلين والدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك وتوجيه النظر إلى مظاهر قدرة الله لتدعيم إيمان المؤمنين.
وهذه المظاهر فى الكون الذى خلقه الله فى النفس الإنسانية، وما تتعرض له من الحاجة، وأن الله وحده هو الذى يعلم الغيب، قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65).
ومع هذه الأدلة والبراهين الساطعة على قدرة الله سبحانه، والتى تجعل المؤمن على يقين من البعث. على الرغم من تكامل هذا العلم فى أمر الآخرة، فإن هؤلاء المكذبين فى شك منها واستبعدوا أن يعودوا مرة أخرى بعد أن صاروا ترابا هم وآباؤهم، وخطورة هذا التكذيب تكمن فى الفساد الذى يصحبه، لأن المكذب بالبعث ينطلق فى حياته ظلما وعلوا، لا يحجزهم خوف حساب ولا يمنعهم من الظلم خشية عقاب، قال
(1/361)
________________________________________
تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72).
وإذا لم يقع بهم ما استعجلوه فليعلموا أن هذا من فضل الله على عباده أن يمهلهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وهو سبحانه أعلم بما فى صدورهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75).
تحدثنا الآيات الكريمة بعد ذلك عن نعمة القرآن الكريم وأنه كلام الله سبحانه، وأنّه من آيات إعجازه أن يقصّ على أهل الكتاب ما اختلفوا فيه من المسائل الكثيرة التى تعمّدوا إخفاءها بعد تحريفها: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78).
وإذا كان التكذيب والإعراض يحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحرصه على هداية الناس، فإنّ الآيات الكريمة تخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ذلك: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81).
وإذا وصل الناس إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح عليه السّلام من أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فقد وقع القول عليهم وعلامة ذلك خروج الدابة التى تكلّمهم، وإذا حشر المكذبون من كلّ أمة وسئلوا عن المبرّر لهذا التكذيب، فلن يستطيعوا الجواب وسيدركون أنهم ظلموا أنفسهم بالتكذيب بما لم يحيطوا به علما، وأنهم حرموا من الانتفاع بآيات الله التى تحيط بهم فى ليلهم ونهارهم، قال تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86).
وتحدثنا الآيات الكريمة بعد ذلك عن مشاهد يوم القيامة وما يكون من حال الناس معها فمنهم: من جاء بالحسنة ومنهم: من جاء بالسيئة، قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي
(1/362)
________________________________________
الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(90).
وتبين الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما أمر الناس به فى صورة الأمر والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من عبادة الله وحده الذى منّ على الناس بجعل مكة المكرمة بلدا حراما وله كلّ شىء كما أمر الناس جميعا باتباع الإسلام دينا، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن الكريم على الناس، والذى يهتدى منهم فلنفسه، والذى يضل فعليها ورسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أنذر وحذر من هذا الضلال، ومن فضل الله على عباده دوام توجيههم إلى النظر فى آياته، لينتفعوا بها وهو العليم بما يعمله الناس أجمعون. قال تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93).
(1/363)
________________________________________